عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - سهر العامري

صفحات: [1]
1
المنبر الحر / رجل في محطات
« في: 23:33 25/07/2017  »
رجل في محطات

سهر العامري

في ليلة من ليالي شهر شباط الباردة هجمت مجموعة من شرطة المدينة على دار مسلم النجار ، ومن دون سابق إنذار ، ولا معرفة بسبب هذا الهجوم المباغت الذي أرعب أفراد العائلة جمعاء ، الصغير منها والكبير ، وصار الواحد منهم يلوذ بالآخر فزعين مبهوتين ، لا يعرف أي واحد منهم كيف يتصرف ، وكيف يرد على هذا الهجوم الذي سلب عقولهم ، وحال كل واحد منهم الى قطعة من خوف ، يرتعش كلما جاءت أصوات الشرطة العالية التي تطالبهم بالوقوف جميعا في باحة دارهم القديمة التي مر على بنائها العشرات من السنين ، والتي أشادها مسلم النجار في طرف من أطراف مدينة كربلاء القريب من مركز المدينة ، وكان ذلك حين استطاع من تجميع قدر من المال من عمله في مهنة النجارة ، وكذلك من بعض معارفه الذين أقرضوه جزءً يسيرا من المال نفسه .
لم تكن تلك الدار تختلف كثيرا عن الدور المجاورة لها ، فهي متواضعة في طريقة بنائها ، وعدد حجراتها ، وصغر باحتها ، وضيق بابها الذي يطل على زقاق ضيق ، يتوسط أرضه مجرى للمياه الآسنة المتدفقة من تلك البيوت المتلاصقة ، هذا المجرى الذي كان يضايق أطفال تلك البيوت ، ويحرمهم أحيانا من اللعب بكرة يتقاذفونها فيما بينهم ، وذلك حين تسقط تلك الكرة في ذلك المجرى فتتلوث به ، ويصبح من الصعب على أولئك الأطفال من حملها واللعب بها ثانية .
كان سرحان واحدا من هؤلاء الأطفال ، وهو الابن الصغير من أبناء مسلم النجار الخمسة ، وقد شب وفيه نوع من الغباء ، ولكنه كثيرا ما كان يظهر للآخرين بأنه هو الأقوى ، ليس في القوة الجسدية وحسب ، وإنما بالقوة العقلية ، وخاصة حين يدخل في نقاش سياسي مع الآخرين عن مسألة معينة تهم الوطن أو الناس ، أو عن حدث وقع في بلد قريب أو بعيد رغم أنه لم يتمتع بمستوى ثقافي مقبول ، أو تحصيل دراسي عال ٍ ، ومع ذلك ظل في هذه الساعات واقفا ، ينتظر ما يصدر لهم من أوامر تعدها الشرطة التي اقتحمت الدار عليهم قبل فترة من الزمن .
- هاتوا وثائقكم العراقية ، ليسلم كل واحد منكم هويته الشخصية وشهادة جنسية العراقية ، وأية وثيقة عراقية أخرى . قال ذلك قائد المجموعة المهاجمة .
لم ينبس أحد منهم بكلمة ردا على طلب قائد المجموعة ، كما لم يسأل آخر عن سبب تسليم وثائقهم العراقية ، وبدلا عن ذلك سلم الجميع ما لديهم من وثائق عراقية ، وراح قائد المجموعة ، وبعض من أفرادها يدققون بتلك الوثائق للتأكد من صحتها .
- هيا ! لتخرجوا أمامنا من الدار الواحد بعد الآخر ، ولا نريد لأي واحد منكم أن يلتفت يمينا أو يسارا ، الكل يجب أن يسير الى الأمام ، وبدون تردد ، هيا اسرعوا !
سار الجميع واحدا بعد الآخر ، وحين خرجوا من عنق ذاك الزقاق ، وجدوا في الشارع العريض سيارة كبيرة بانتظارهم ، يحيط بها أفراد من الشرطة مدججين بالأسلحة .
- اركبوا ! هيا اركبوا من هنا ! صاح بهم شرطي كان واقفا أمام الباب الأمامي لتلك السيارة .
لم يتخلف أي واحد منهم ، ركب الجميع واحدا بعد الآخر امتثالا لأوامر الشرطة ، ثم ركبت معهم مجموعة مسلحة من الشرطة ذاتها .
سارت السيارة في ظلام دامس ، لا يمكن للأسرة أن تتبين الاتجاه الذي تسير به تلك السيارة ، ولا المكان الذي تقصده ، وبعد مسيرة أكثر من ساعة توقف السيارة أمام بناية محصنة ، ومحروسة من قبل حراس كان كل واحد منهم يحمل بندقية كلاشنكوف ، ولم تمر سوى دقائق معدودة حتى فتح أولئك الحراس بابا في تلك البناية فتدفقت منه مجموعة من الرجال والنساء والأطفال سرعان ما صعد أفرادها الى السيارة التي كانت تقل من قبل مسلم النجار وأسرته .
تحركت السيارة من جديد ، وفي اتجاه غير معلوم ، وبعد مرور ساعات توقفت السيارة عند ربية عسكرية ، وصاح واحد من أفراد الشرطة المرافقين بصوت عال ٍ:
- هيا نزلوا ! اسرعوا !
تدافع الجميع نحو باب السيارة ، وهم في حالة من خوف شديد بعد أن شعروا أنهم سينزلون في أرض مفتوحة لا يقوم فيها بناء سوى تلك الربية العسكرية ، ولكن بعضهم عرف أنهم أصبحوا قبالة الحدود الايرانية .
- سيروا جميعا على أقدام ، وبعد مدة زمنية قصيرة ستجدون الخميني في استقبالكم في الجانب الآخر من الحدود . قال أحد شرطة ثم أطلق ضحكة عالية نمت عن فرح مصطنع ملأ تقاسيم وجهه ، بدا ذلك واضحا لبعض المسفرين الى إيران ، فقد تصاعدت في الأفق تباشير صباح كئيب ، لم يروا صباحا مثله من قبل .
ساروا بخطى مثقلة ، وقلوب محملة بالحزن ، ونفوس حائرة ينتظرها مجهول من الأيام ، تصوروا أنهم يسيرون على أرض لا يمكنهم أن يعودوا لها ثانية ، وربما ستكون قبورهم في أرض أخرى لم تسقط عليها رؤوسهم ، واعتقد البعض منهم أنه لن يستطيع الوصل سالما الى الجانب الآخر من الحدود ، فلربما تعجز قدماه عن حمله لها ، وربما يتعرضون لهجوم من حيوانات مفترسة ، أو من قطاع طرق ولصوص ، حتى أن البعض منهم خاف على النقود القليلة التي يحملها معه ، فراح يدسها بين ثنايا ما يحمله من متاع .
 لكنهم رغم هذه المخاوف قد غذوا السير حتى لاحت لهم من بعيد بعض المفارز العسكرية الايرانية المنتشرة على الحدود ، فالحرب الاعلامية كانت مستعرة بين النظامين في العراق وفي إيران ، وكل واحد منهما يتوعد الآخر بالويل والثبور ، والكثيرون صاروا على قناعة أكيدة أن الحرب ستنشب بين النظامين بين يوم وآخر ، والمسألة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل .
عند إحدى المفارز العسكرية الإيرانية توقف الجميع ، وكان من حسن حظهم أنهم لم يكونوا المجموعة الأولى التي تمر عبر هذا الطريق ، وهذا ما سهل عليهم الدخول الى إيران بعد أن تعرضوا الى تفتيش قام به حرس الحدود من الجنود الإيرانيين ، وبعد وقت قصير حملتهم سيارة كبيرة لمعسكر الى معسكرات اللاجئين التي أعدت من قبل .
كان سرحان الابن الأكبر لمسلم النجار قد وقعت عينه على فتاة وسيمة تقطن مع أسرتها في ذات المعسكر الذي سكنوا فيه ، وقد سمع أمها تناديها بشادية حين خرجت هي من كرفانة يسكنونها ، وذلك من أجل أن تتطلع الى القادمين الجديد ، فقد اعتقدت أن بعضا من معارفها قد وصلوا معهم ، وبدلا من هؤلاء فقد التقت عيناها بعيني سرحان الذي صار يحدق فيها ، وكأنه يعرفها منذ سنوات طويلة خلت ، فقد دب في نفسه شيء من سحر عينيها الناعستين الجميلتين ، وقد شده هذا السحر شدا قويا لها ، فكان يوزع نظراته بين الطريق مرة ، وبينها مرة أخرى .
من تلك الساعات صارت شادية الحلم الوحيد الذي يراوده دوما ، فقد ملأت صورتها عقله ، وشغلت باله ، وصارت تأوي معه الى الفراش كلما وضع رأسه على الوسادة ، يحضنها أحيانا بكلتا يديه ، يضمها الى صدره ، يستاف عبير صدرها ، وأحيانا يمتص شفتيها بقبلة طويلة يسري خمرها بكل مفصل من مفاصله ، حتى أنه بعدها لا يقوى على النهوض من فراشه .
كثير ما كان يردد مع نفسه كيف أصل لها ، وبأية وسيلة استطيع أن أبادها أطراف الحديث ، حتى لو كان هذا الحديث قصيرا جدا ، ولكنه خيرا دارت في رأسه فكرة يستطيع من خلالها تحقيق أمنيته تلك ، وهي أن يحمل وعاء الماء بنفسه بدلا من أخته ، ويذهب به الى الحنفية التي تشترك بمائها عدد من العوائل من بينها عائلة شادية التي اعتادت هي أن تجلب الماء لأسرتها من الحنفية ذاتها ، وبذلك تهيأت لسرحان فرصة سانحة يستطيع من خلالها اللقاء بنادية ، وتحدث لها طوال المدة الزمنية التي تملأ الحنفية الواقفة الماء في الإناء الذي تأتي به هي .
على هذا الحال صارا يلتقيان في اليوم الواحد أكثر من مرة ، وكان كل واحد منهما يتمنى أن تحل حاجة أسريتيهما الى الماء كل ساعة ، فقد كان هو متلهف لهذا اللقاء ، مثلما كانت هي كذلك ، فلطالما حدثته عن مصاعب الطريق في تلك الرحلة الشاقة التي حملتها من محافظة بابل في العراق ، والى أطراف مدينة كرمنشاه في إيران حيث المعسكر الذي يعيشان فيه سوية الآن ، لكنه كان يلقي في مسامعها خلال هذا الحديث جملة غرامية تعبر عن حبه لها ، وهيامه بها ، وغالبا ما كانت ترد عليه بابتسامة مشرقة تزيح شيئا من ظلمة الهوم التي تخيم على نفسه ، فهو يفكر بالرحيل من إيران ، ولا يريد البقاء بها مطلقا ، وبصريح العبارة كان يكره الحياة والعيش فيها رغم أنه يجيد لغة أهلها ، وأن جذور الأسرية تمتد لهذه المجتمع الذي أرغم على العيش فيه .
لم يكن حبه لشادية يمنعه عن الرحيل من هذه الأرض التي لم يشعر برابط يشده لها ، ولهذا صار يراسل أصدقاءً له في طهران  ويطلب منهم أن يجدوا له طريقا يأخذه الى بلد عربي مثل سورية ، أو أي بلد عربي آخر ، وحين حانت هذه الفرصة شد الرحال على عجل ، وتوجه الى طهران ، وهناك التقى بصديقه عدنان الذي أعد مخطط الخروج لهما من إيران ، فقد استطاع عدنان التعرف على شخص يبيع جوازات سفر مزور في زقاق من أزقت طهران يسمى : كوجه مروي ، وهو زقاق تصطف على جانبين حوانيت قديمة البناء متهالك استأجر بعضها بعض العراقيين المرحلين والمهاجرين الى إيران ، وكان عدنان قد جمعته صداقة مع واحد من هؤلاء كان يعمل في بيع الوثائق العراقية المزورة .
لقد حمل سرحان بعض المال معه من العراق ، مثلما حمل عدنان مثله دنانير عراقية ساعدتهما على شراء جوازين عراقيين مزورين .
كان الطيران الايراني المدني قد توقف بشكل شبه تام بسبب من سيطرة الطيران الحربي العراقي على الأجواء الإيرانية ، ولم تبق إلا الطائرة الإيرانية التي تقوم برحلات ما بين طهران ودمشق ، وكذلك الطائرة السورية ، وقد كانت كلتا الطائرتين يتجنبان المرور قريبا من العراق ، فهما يتجهان شمالا صوب الأجواء التركية ، ومن هناك يدخلان في الأجواء السورية ، والعكس صحيح كذلك .
ظلت مسألة حصولهما على تذكرة سفر تؤرق كل من سرحان وعدنان ، ليس فقط بسبب ثمنها المكلف بالنسبة لهما ، ولكن بالحصول على تاريخ حجز قريب على الطائرة الإيرانية التي كانت أكبر حجما من الطائرة السورية ، يضاف الى ذلك كثرة المسافرين الى دمشق الذين تزداد أعدادهم يوما بعد يوم ، وبسبب من أن الكثير من العراقيين يريدون الخروج من إيران التي كانوا يلاقون فيها ظروف عيش صعبة ، ومعاملة احتقار من قبل السلطات الإيرانية ، وحتى من بعض المواطنين العادين الذين كانوا ناقمين على العراقيين بشتى توجهاتهم السياسية ، وحتى العراقيون الذين باعوا أنفسهم للمخابرات الإيرانية ، وتعاونوا معها ضد بلدهم ، هؤلاء النفر الذين كان عدنان يزدريهم بشدة رغم أنه كان من معارضي النظام في العراق ، وكثيرا ما كان يطلق قولة الزعيم الالماني هتلر على مثل هؤلاء حين يقول ( أحقر الناس هم أولئك الذين ساعدوني على احتلال بلدانهم )
تذكر عدنان أنه يعرف شخصا مسفرا مع أسرته منذ السبعينيات ، وهذا الشخص يعمل في مطار طهران ، وله علاقات عمل مع الموظفين العاملين في المطار ، فرأى من الأفضل له أن يتصل به ، ويعرض عليه أمر حصولهما على تذكرتي سفر مع حجز مؤكد الى دمشق ، حتى لو طلب رشوة منهما ، ولهذا قرر عدنان ومعه سرحان الذهاب الى حسين وهذا هو اسمه ، والذي يجلس مساءً في محل تجاري يقع في شارع لاله زار في القلب من العاصمة طهران .
مثلما توقع عدنان فقد وجد حسين جالسا في المحل ، وحينما شاهدهما حسين توقع أن رزق ما سينزل عليه ، فقد كان هو يمضي ساعتين في هذا المحل منتظرا الناس الذين يودون السفر الى الدول الأخرى ، وقد اعتاد البعض من معارفه على وجوده في المكان هذا ، حيث يتم عقد صفقات بيع التذاكر والحصول على حجوزات السفر على قارعة الشارع المذكور ، وذلك بعد أن يوقع حسين ذلك العقد بنداء : يا حسين ! ويقصد بهذا النداء الحسين بن علي .
ودع حسين كلا من عدنان وسرحان بعد أن وقع عقد الصفقة معهم ، وطالبهم بالحضور مبكرين غدا صباحا الى مطار طهران ، فغدا ستطير طائرة إيرانية كبيرة الى دمشق ، ويتوقع حسين بخبرته وجود مقاعد سفر شاغرة فيها ، اعتادت مكتب الخطوط الجوية الإيرانية أن يتركها شاغرة ، حتى ينتفع من بيعها بعض الموظفين العاملين في تلك الخطوط ، ومقابل رشى مختلفة السعر ، وهذه الحقيقة يعرفها حسين معرفة جيدة في قد أمضى سنوات طويلة بالعمل في المطار المذكور ، ومر بدربه الكثير من المسافرين الذين كانوا لا يحصلون على تذاكر سفر من مكاتب الخطوط الجوية المنتشرة في شوارع العاصمة طهران ، خاصة مكتبها الرئيس في شارع طالقاني من العاصمة والذي اعتاد المسافرون أن يتجمعوا بالمئات في بابه ومنذ الساعات الأولى للصباح ، وقبل أن يفتح أبوابه بساعتين أو أكثر وحين يباشر العمل يصطف المسافرون في طوابير طويلة انتظارا للدقائق التي سيقفون بها أمام باعة التذاكر الجالسين أمام طاولة طويلة ، يحاول كل واحد منهم أن ينجز عمله في بيع التذاكر للواقفين أمامه في ذلك الطابور ، والذي قد يمتد وقت وصول احد المسافرين لأحد الباعة من الساعة الثامنة صباحا والى الساعة السادسة مساءً .
في صباح اليوم التالي ، وفي ساعة مبكرة التقى عدنان وسرحان بحسين الذي كان ينتظرهما في الباب الخارجي لمطار طهران الدولي ، ثم اصطحبهما الى داخل المطار ، وطلب منهما الجلوس في القاعة الواسعة التي اعتاد المسافرون الجلوس بها قبل انجاز اجراءات سفرهم ، وبعد انجازهم لتلك الاجراءات يتحولون الى قاعدة المغادرة ، وبعد أن أتم حسين جميع اجراءات سفر عدنان وسرحان اصطحبهما الى قاعة صغيرة ، وهناك وجدا وجبات الأكل بانتظارهما ، وبعد أن تناولا وجبتين شهيتين صحبهما حسين الى داخل الطائرة المغادرة الى دمشق قبل صعود المسافرين لها ، ومن دون أن يمرا على عسكري أو حاجز في المطار مثلما اعتاد المسافرون المرور بهما .
لقد أدى لهما حسين عملا كبيرا ، لا يمكن نسيانه أبدا ، عملا يفوق كثيرا ما قدما له من مبلغ زهيد ، فالخروج من ايران بالنسبة لهما هو خروج من سجن رهيب تحيط به أسوار من الظلم واضطهاد الناس ولا فرق في ذلك بين انسان زائر أو مواطن إيراني ، فعدنان لازال يتذكر صورة رجل الدين العراقي الذي طارت عمامته من على رأسه حين ضربها رجل إيراني بقوة عندما رفع يده ، وكان الرجل هذا يخوض غمار زحام من المسافرين في واحد من مكاتب الخطوط الجوية الإيرانية ، فقد رأى عدنان صورة رجل الدين ذلك بجبته ، وهو فارع الرأس ، ويصرخ بصوت عالٍ : عند من نشتكي ؟ الى أين أذهب ؟ من يعيد لي عمامتي ، لقد أخذتها أرجل هذا الطوفان العاتي من البشر !
لقد استغرق عدنان وقتها في ضحك مسموع ، وهو يشاهد رجل الدين فارع الرأس ، منزوع العمامة ، ويكرر بين الحين والآخر : أريد مغادرة هذا البلد ! أريد الذهاب الى بلد الكفر ! لقد حصلت على تأشيرة دخول الى كندا ، ولكن كيف لي أن أصل لها ، وقد سلب هذا البلد مني حتى عمامتي .
- انظر لي ! أأنت عراقي ؟
- نعم . رد عدنان . ومثلك أريد السفر ، ولكن ليس الى كندا ، إنما أريد الذهاب الى سورية ، ومن هناك سأفكر بالبلد الذي أتوجه له .
- يا أخي ! أنا الان تركت الحصول على تذكرت السفر ، أريد فقط عمامتي ، ماذا أقول لزوجتي حين تسألني عنها ، هل تعتقد أنها ستصدقني حين أقول لها إن عمامتي طارت من على رأسي  ، عندها ستسألني سؤالا آخر ، وتقول لي : أين حطت ؟ فكل طائر لا بد له أن يحط !
كان منظر رجل الدين ، وهو منزوع العمامة يثير الضحك والشفقة في نفس عدنان في وقت واحد ، حتى خيل إليه أنه لا يستطيع الخروج من هذا البلد بهذه الطريقة ، وهي الوقوف كل يوم مع هذه الطوابير من البشر التي لا نهاية لها ، ولهذا تيقن أن هناك طريقا آخر سيستطيع من خلاله أن يغادر إيران دون رجعة ، والى الأبد . ولهذا عثر على حسين الذي أنجز له اجراءات سفره ، وهو بانتظار اقلاع الطائرة .
أقلعت الطائرة الايرانية بعد أن اكتمل صعود ركابها ، وهي تحلق في الجو شاهد بعض الركاب من بعيد طائرتين حربيتين عراقيتين حينما اقتربت الطائرة من الأجواء التركية ، فقد كان الطيران العراقي قد فرض سيطرته على الاجواء الايرانية ، وكان الايرانيون في العاصمة طهران يهتفوا كلما حلقت الطائرات الحربية العراقية بأجواء مدينتهم : جاء صدام ! حتى صار هذا لديهم منظرا مألوفا يمكن مشاهدته على حين غرة ، ومن دون وقت محدد .
حين أعلن قائد الطائرة مطالبا الركاب بشد الأحزم ، وأن الطائرة تتهيأ للهبوط بمطار دمشق ، غمر الفرح نفس عدنان وبذات القدر ملأ الفرح نفس سرحان الذي لم يكن يحلم في يوم ما أنه سيغادر معسكر اللاجئين البائس في مدينة كرمنشاه الايرانية ، والقريبة من الحدود العراقية . فقد تصور هو أنه لم يكن بمقدور أن يخرج من إيران في يوم ما ، ولولا صديقه عدنان الذي قدم له مساعدة سخية لما نزلت قدما على أرض مطار دمشق الذي نزل مرة واحدة فيه قبل هذه المرة قادما له من مطار بغداد حين كان يعيش في العراق ، وهو على ذلك لن ينسى فضل عدنان عليه طوال حياته ، كيف لا ؟ وهو الذي سهل عليه الوصول الى أرض هي شبيهة بأرض العراق ، والى شعب لا يختلف عن الشعب العراقي مثلما يعتقد هو ، حتى أنه لا يشعر بغربة أبدا حين يكون بين أوساط السوريين .
لقد كان سرحان يعرف دمشق من قبل ، ويعرف الكثير من مناطقها ، فساحة المرجة ليست غريبة عليه ، ولطالما سار في سوق الحميدية ، أو سوق البزورية المجاور له ، مثلما أمضى بعض الأماسي في مصايف فيجا ، وسكن في ضاحية السيدة زينب التي توجه لها هو عدنان بعد خروجهما من مطار دمشق مباشرة ، تلك الضاحية التي وجدا فيها الكثير من العراقيين ، خاصة من أبناء مدينتهم كربلاء في العراق ، ومن الساعات الاولى لوصولها تلك الضاحية صادفا صديقا قديما لهما يدعى علي الذي اصطحبهما الى مقهى الروضة القريبة من ضريح السيدة زينب ، وهناك وجدا حسين السراج عاملا في المقهى يقدم الشاي لروادها ، فحسين السراج هو الآخر قد هُجر الى إيران ، لكنه لم يتحمل البقاء فيها ، واستطاع أن يغادرها الى دمشق على عجل ، فإيران على حد قوله : ملة لا يمكن العيش معها ، وربما هو في قوله هذا قد قرأ بيتا للشاعر المتنبي قاله في زياره له الى إيران ( ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان ِ )
رحب بهما حسين السراج ترحيبا حارا ، وهنأهما من كل قلبه على سلامة الوصول ، وخروجهم من ظلمات بئر عميق مثلما يدعي ، وفي الوقت نفسه طلب منه علي أن يجلب لهم ثلاثة أقداح من الشاي الذي كان يصنعه حسين السراج بنفسه رغم أنه ليس مالك المقهى ، فمالكها رجل سوري يدعى أبو عادل الذي يعمل لديه حسين السراج بأجر يومي هو عشر ليرات سورية فقط ، ولكن أبا عادل يشركه معهم بوجبة الغداء التي يحملها ابنه عادل من دارهم والى المقهى .
لقد كان حسين السراج مع قلة الأجر سعيدا جدا ، فهو يعيش بين بشر طالما عاش معهم ، وطالما بادلهم نفس المشاعر والأحاسيس ، فاغلب القاطنين في ضاحية السيدة ، هم من أبناء مدينة كربلاء في العراق ، تلك المدينة التي ولد فيها ، وتعلم في مدارسها ، ثم مارس العمل بها بعد أن أسس فرن خبز في أحد أحيائها ، وبنى دارا له فيها .
باشر كل من عدنان وسرحان في البحث عن عمل يستطيعان من خلال توفير لقمة الخبز لهما ، وادخار القليل منه لرحلات قادمة تحملهما الى البلدان الاوربية بعد أن يوفرا مستلزمات السفر لرحلاتهم تلك التي ستبدأ في أقرب الأوقات ، فهما لا يريدان البقاء في دمشق .
المشكلة التي توجههما هي كيف يحصلان على عمل يوفر لهم سداد ايجار الغرفة التي أجرها لهم صديقهم علي ، وبنفس البيت الذي يسكن فيه ، والواقع في مفرق حجيرة القريب من ضريح السيدة ، ثم كيف لهما أن يوفرا لهما مبلغا من المال يستطيعان من خلال شراء جواز سفر عراقي لكل واحد منهما من أجل أن يحصلا على تأشيرة سفر لدولة ألمانيا الشرقية مثلا ، تلك الدولة التي وصل لها بعض العراقيين ومنها عبروا الى ألمانيا الغربية ، فكل هذه الأفكار التي تدور برأسيهما تحتاج الى مبلغ كبير من الليرات السورية حتى يمكن لكل واحد منهما أن يحول تلك الأفكار الى واقع ملموس .
- مستحيل نصل الى ألمانيا الشرقية حتى لو حصلنا على تأشيرتها ! قال عدنان ذلك وهو يعد وجبة فطور صباحي على مصدر حراري متهالك أعاره لهما علي الذي يسكن في غرفة مجاورة لهما ، مع صديق له كذلك .
لقد انتبه عدنان حين شاهد غرفة علي الى ما موجود فيها من أثاث ثمينة ، تكلف آلاف الليرات ، فهناك تلفزيون ملون ، وثلاجة صغيرة خضراء اللون ، وطباخ يعمل على الغاز ، وفراش وثير يمتد على حصير من النايلون ، والحصير ممدود على أرض الغرفة الاسمنتية . هذه الأثاث هي التي أجبرت عدنان على أن يسأل علي عن الكيفية التي استطاع من خلالها أن يوفر أثمان تلك المقتنيات التي يعادل ثمن الواحدة منها إجرة سفر الى ألمانيا الشرقية .
- وفرت أنا أثمانها من عملي هنا في السيدة زينب !
- هل تملك أنت محلا تجاريا هنا ؟ سأل عدنان.
- لا . لا أملك أنا محلا ، ولكن لدي محل طائر ربما ستتعرف على عنوانه في القادم من الأيام .
- ولماذا لا أعرف عنوانه الآن ، وأنت تعلم أنني ثقة لا يمكن لي أن أضرك في يوم من الأيام .
ضحك علي ضحكة عالية من جواب دار في رأسه فجأة ، ثم قال : يا أخي عليك أن تدبر لك مئتين وخمسين دولار لتشتري بها جوازا من الحجاج صولاغ ممثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق هنا في سورية .
- عجيب ! رد عدنان باستغراب ، وهل ممثل المجلس يبيع جوازات سفر ؟
- كل الأحزاب الدينية الموجودة في سيدة زينب ، ومن دون استثناء تبيع جوازات سفر عراقية مزورة ، ووثائق عراقية أخرى ، من هوية الأحوال المدنية العراقية ، وحتى أعلى شهادة من الجامعات العراقية ، فأنا نفسي اشتريت منهم !
- ماذا اشتريت ؟
- اشتريت جوازا عراقيا ، وشهادة جامعية صادرة من كلية الآداب – جامعة بغداد – قسم التاريخ ، فأنا أحب التاريخ كثيرا ، وربما سأسافر الى الجزائر للعمل بها هناك كمدرس .
- ومن أين اشتريت كل هذا ؟ سال عدنان عليا ، فهو لم يعرف عن ذلك شيئا رغم أنه كان قد سمع عن بيع بعض الوثائق المزورة في احدى الأزقة الضيقة من طهران العاصمة ، بالإضافة الى حسين الذي أنجز لهما اجراءات السفر الى دمشق ، تلك الاجراءات التي لا يعرف عنها شيئا .
- اشتريتها من دكاكين الأحزاب الدينية في السيدة زينب ! قال علي ذلك ضاحكا ثم أضاف : سترى يا عدنان العجاب هنا ، كل شيء هنا يمكن أن يباع وأن يشترى ، حتى البشر !
- كيف حتى البشر ؟
- ما زلت يا عدنان لا تعرف كيف يباع البشر ، لكنك ستعرف هذا عما قريب .
بهت عدنان وغاب قليلا عن علي الذي تشاغل باخراج علبة سجاير مالبورو ، خرج واحدة وقدمها لعدنان ولكن عدنان رفضها شاكرا ، فهو لم يعتد على التدخين ، ولا يريد أن يدخن ، فما كان من علي إلا أن رد السيجارة الى فمه ، ثم أوقدها بقداحة كتب اسمه عليها .
- قل لي يا علي كيف سيكون العراق لو قدر لهؤلاء أن يحكموا العراق ؟
ضحك علي من أعماقه ثم قال : وهل تعتقد أن هؤلاء سيحكمون العراق في يوم ما ؟ فأنا لا أعتقد بذلك أبدا ،  لكن ربما تحملهم قوى دولية للحكم في العراق ، وفي حالة مثل هذه الحالة سينقلون ثقافتهم في التزوير وبيع الجوازات والوثائق معهم الى العراق ، فهؤلاء اعتادوا على التزوير والاحتيال والسرقة والتهريب ، حتى انهم اصبحوا يهربون البشر الى خارج سورية .
- الى أين يهربونهم ؟
- الى لبنان مثلا حيث يجد بعض العراقيين عملا فيه بعد أن عجزوا عن إيجاد فرصة عمل لهم هنا في سورية .
- ومن ذا الذي يقوم بتهريبهم ؟
- سيارة الحزب موجودة ، وأبو حريجة موجود هو الآخر ، وما عليك إلا أن تدفع لتصل خلال ساعتين الى بيروت عن طريق الخط الخاص .
- أنا نفسي اريد الخروج من سورية ، هل بإمكانك أن تعرفني بأبو حريجة هذا المهرب الذي تتحدث عنه . قال ذلك عدنان .
- دعك من أبو حريجة ، هناك عمل مثمر ينتظرك ، ستعملان معي ، وستجمعان مبلغا مهما من المال يساعدكما في الوصول الى البلدان الأوربية .
- هذا حلم ! قال سرحان ذلك ، ثم عاد الى حالة السكون التي كان قد عاش فيها طوال الحديث بين علي وعدنان .
- ليس حلما ! رد علي بامتعاض ، ثم أضاف : غدا ستخرجان معي ، وستباشران العمل فورا ، وستحصلان على أجر كبير .
- ما طبيعة العمل الذي ينتظرنا ، نريد أن نعرف شيئا عنه قبل المباشرة فيه .
- ستعملان بالتجارة ، ومن دون رأسمال !
- كيف تكون التجارة من دون رأسمال ؟ سأل سرحان .
- الكثيرون هنا يتمنون مثل هذا العمل المربح ، ولكنهم لم يحصلوا عليه ، فهم لا يعرفون كيف يصلون له مثلما وصلت أنا إليه ، ناموا الآن وغدا سننهض الساعة السادسة صباحا ، وسنتوجه جميعا الى مكان العمل وهناك ستعرفان كل شيء عنه.
قبيل الساعة السادسة صباحا نهض علي ، وتوجه الى الغرفة المجاورة ، وقام بإيقاظ عدنان وسرحان ، وفي تمام الساعة السادسة صباحا توقفت سيارة متوسط الحجم في الشارع الرئيس لضاحية السيدة زينب ، وأما حسينية الزينبية ، وحين شاهدها علي توجه هو وصديقاها نحوها ، وصاح علي محييا سائق السيارة بصوت عالٍ : صباح الخير أبو غوار !
- أهلين وسهلين أبو حسين ! شو اليوم معك أصحابك ، بدهم يعملوا معنا !
- نعم يا أبو غوار ! السوق نشطة هذه الأيام والكثير من الناس أعجبتهم كثيرا بضاعة ابو غوار الورد !
ضحك أبو غوار على كلمة الورد ثم سأل علي قائلا : أكلوا الشباب شيئا ؟
- لا لم يأكل أي أحد منهم .
- هيا ! عند باب ضريح السيدة زينب سنتناول بعضا من الخبز ، مع كأس ساخن من الحليب .
تحركت السيارة بالجميع الى باب ضريح السيدة زينب القريب ، فهناك تجلس بعض النسوة على الرصيف المجاور للضريح مباشرة ، وتضع كل واحدة منهن قدرا متوسط الحجم فيه كمية من الحليب تغلي فوق مصدر حراري ، والى جانبهن يقف باعة الخبز . هذا الطقس الصباحي يتكرر كل يوم ، ويستمر لمدة ساعتين تقريبا ، ثم يتغيير مشهد الرصيف من نساء وحليب وباعة خبز الى باعة الملابس ، والأقمشة ، والأحذية وغيرها .
هذا المشهدان تشكلا من دون سابق تخطيط ، ولا يعلم أحد متى تشكلا ، ولكن الأكيد إنهما تشكلا منذ مدة قصيرة ، أو منذ أن سكنت السيدة زينب أعداد غفيرة من المهجرين والمهاجرين العراقيين الذين اضطرهم النظام في العراق على ترك وطنهم ، والرحيل الى البلدان الأخرى حفاظا على أرواحهم ، فالحكم في العراق لم يترك أمامهم فرصة سوى الموت أو الرحيل بظروف قاسية حيث تكون الغربة التي تحملها الكثير من العراقيين بصبر ، وقوة عزيمة ، وابداع في العمل .
سيارة السيارة بعد ذلك باتجاه قرية الزبداني على طريق دمشق وبيروت ، ومن هناك انحرفت الى طريق فرعي ، ونحو قرية تقع قرب الحدود السورية اللبنانية ، ويبدو أن الأمر كان ملتبسا على عدنان وسرحان ، فهما لا يعرفان هذا الطريق ، ولا هذه القرية ، ولم يمرا عليها من قبل على العكس من علي الذي ظهر لهما على أنه يعرفها جيدا ، حيث كان يسير ماشيا أمامهما دون أن يلتفت الى شيء ، ومن دون أن يسأل أبو غوار عن المكان الذي يتجهون له .
طرق أبو غوار باب بيت ريفي متداع ِ ، صائحا بصوت مسموع دونما تردد : هون أبو الزبد ؟
- نعم هون ، من بدو ؟
فتح أبو الزبد الباب بقوة ، ثم أخرج رأسه منه دون بقية جسده ، وحين لمح أبو غوار أمامه صاح : أهلين أبو الغور ، وين غبت ؟ انتظرتك أمس ولم تأت ِ ، يا عيب الشوم يا ابو غوار ثم أطلق ضحكة عالية حين شاهد أبو غوار وهو يخرج من كيس معه حزمة من الليرات السورية تعد بالآلاف .
- خذ يا أبو زبد ! هذا حق الوجبة السابقة .
- عاشت الأيادي ، رد أبو الزبد على أبو غوار شاكرا إياه بحرارة .
- ولو تكرم يا أبو زبد ، أنت حبيبنا !
دار هذا الشريط التمثيلي أمام أعين عدنان وسرحان ، وهما لا يعلمان عن تفاصيله شيئا ، ولكنهما استغربا من حجم المبلغ الكبير الذي سلمه أبو غوار لأبو زبد ، فهما لا يبدوان من الرجال الأغنياء ، فالغنى بعيد عنهما جدا ، وربما لم يمر بهما أبدا ، فمن أين جاءت لهم هذه الأموال الطائلة .
- شو أبو غوار كملت بناء بيتك الجديد ؟
- ويش بدك من هذا السؤال ! قل لي هل لديك حاجة سخن للشباب الجدد هؤلاء ؟
- تكرم أنت والشباب ، على عيني ورأسي ، أيش ما بدك موجود ولو !
- مثلا ، سأل أبو غوار .
- أيش بدك ؟
- عندك ملون صغير الحجم ؟
- تكرم ، كم واحد بدك ؟
- عشرون ، ثلاثون .
- خذ أربعين ، والرزق على الله .
- مثل ما بدك يا أبو زبد ! أربعين أربعين !
- الشباب يمشوا معنا ، سأل أبو زبد .
- نعم . هم معنا .
- من وين هم ؟
- عراقية !
- أهلين وسهلين قال أبو زبد مرحبا بعدنان ، وسرحان ، وقد استثنى علي فهو قد تعرف عليه قبل هذا الوقت .
بعد ذلك طلب أبو زبد من الجميع مرافقته الى بيت آخر مهجور ، وحين فتح الباب اندفع الجميع داخل البيت ، ثم الى غرفة من غرفه القريبة من الباب ، بينما كان أبو زبد قد ترك سيارة حمل واقفة في باب البيت نفسه ، وهي السيارة التي طلب أبو غوار من علي وعدنان وسرحان حمل الصناديق الكارتونية التي يحمل كل واحد منها تلفزيونا ملونا ، ثم بعد أن فرغوا من حمل هذه الصناديق عادوا الى غرفة أخرى ونقلوا منها الى السيارة ذاتها صناديق كارتونية أصغر حجما يحمل كل واحد منها طباخا ، وحين تمت عملية النقل ركبوا جميعا السيارة التي حملتهم الى ضاحية السيدة زينب من القرية التي يسكنها أبو زبد ، وما هي إلا دقائق معدودة حتى وصلوا الى تلك الضاحية ، وخلف ضريح السيدة زينب توقفت السيارة عند باب بيت صغير ، وسارع جميعهم الى نقل البضاعة الى داخلة .
لقد كان هذا اليوم هو اليوم الأول الذي يمارس به عدنان وسرحان عملا من هذا النوع ، ومن دون أن يعرفا طبيعته ، ولا المخاطر التي تترتب عليه . ولكن بعض الخوف الذي تسرب الى نفس عدنان وسرحان قد زال عنهما حين أخرج أبو غوار محفظة من جيبه ، وسلم كل واحد منهما الف ليرة ، قائلا لهما أن أجرهما سيزداد بزيادة البضاعة التي سينقلانها من القرى السورية الحدودية مع لبنان ، والى ضاحية السيدة زينب التي يعيشان فيها.
لم يصدق عدنان ولا سرحان كلام علي حين قال لهما إنكما ستعملان بالتجارة ، ومن دون رأس مال ، كما أنهما قد اعتقدا أن أجر الواحد منها سوف لن يزيد عن خمسين ليرة لليوم الواحد  فقد عرفا أن أجر حسين السراج في مقهى الروضة هو عشر ليرات لليوم الواحد ، ولكن علي قد أخبرهما لاحقا أن طبيعة عملهما تختلف عن طبيعة عمل رجل يعمل في مقهى ، وقد أذاع لهما سرا ما كان يعرفانه عنه من قبل ، وذلك حين أخبرهما بأنه استطاع شراء بيت بنفس الضاحية من عمل سنة أمضاها مع أبو غوار في هذا العمل المربح .
لقد اختار ابو غوار عليا للعمل معه لكون علي عراقي الجنسية ، وهو يحتاجه بتصريف بضاعته على العراقيين الساكنين في دمشق أو خارجها ، فالكثير منهم بحاجة الى تلفزيون ملون رخيص السعر ، مثلما هم كذلك بحاجة الى طباخ صغير ، أو ثلاجة صغير ، فعند علي سيجدون كل ذلك ، وبأسعار رخيصة قياسا بالأسعار التي عليها هذه السلع في أسواق دمشق .
واصل عدنان وسرحان عملاهما بمثابرة ، وجمعا منه مبلغا مهما يستطيعان به شراء جواز سفر عراقي مزور لا يختلف في طباعته واخراجه عن الجواز العراقي الرسمي ، وقال البعض إن الجواز هذا يطبع في لبنان لجهة سورية مهمة ، ثم تقوم الأحزاب الدينية العراقية ببيعه على العراقيين .
- من أي حزب سنشتري جوازا لكل واحد منا . سأل عدنان عليا هذا السؤال بعد أن توفر مبلغ شراء الجواز عند كل واحد منهما ، وعلى اعتبار من أن علي يعيش منذ مدة في ضاحية السيدة زينب .
- كل الأحزاب في السيدة تبيع وثائق عراقية خاصة الجوازات . رد علي .
- كم سعر الجواز ؟
- ثلاثمئة دولار ! عند جماعة الدعوة ، وجماعة حركة المجاهدين العراقيين ، ولكن يقال أن صولاغ ممثل المجلس يبيع بمئتين وخمسين دولارا ، وعني أنا فقد اشتريت جوازا لي من حركة المجاهدين العراقيين بثلاثمئة دولار ، لأن هؤلاء يسلمونك الجواز بوقت أقصر من وقت بقية الأحزاب .
- هل تعرف أحدا يساعدنا على شراء الجواز ؟
- نعم . أعرف ، لكن هذا الوسيط يريد خمسة وعشرين دولارا عن الجواز الواحد .
الآن صارت قناعة راسخة لدى عدنان أن هذه الأحزاب التي تبيع الجوازات العراقية ستبيع العراق للأجانب بشرط أن يكفل لها هذا الأجنبي مصلحتها الخاصة ، ولهذا خيم حزن ثقيل على نفسه ، وصار ينظر الى مستقبل العراق في ظل حكم هؤلاء الذين سينهبون خيرات الوطن ، ويبيعون ثروته النفطية ، ويشيعون الفساد في كل حدب وصوب من العراق ، فهؤلاء الحكام يكرهون العمل ، يحبون الجلوس في الحسينيات والجوامع ، فكيف يرجى من هؤلاء تقدما للعراق ؟ كيف يرجى وهم يكرهون العمل ، ويعشقون الجلوس ، بينما تجد أعلب العراقيين يعملون طوال اليوم من أجل توفير لقمة عيشهم ، ففي سورية لا تتوفر فرص عمل كثيرة لهم ، وإذا ما توفرت فهي قليلة المردود .
لقد فضل عدنان أن يشتري جوازا له من حركة المجاهدين العراقيين ، وبثلامئة دولار بدلا من صولاغ ممثل المجلس الذي يبيع الجواز الواحد بمئتين وخمسين دولار ، والسبب أن حركة المجاهدين تنجز الجواز وتسلمه بسرعة ، وعلى العكس من صولاغ الذي يظل يماطل طويلا بالرغم من أنه يستلم ثمن الجواز نقدا ، وبالدولار الأمريكي .
لم تمض ِ أيام كثير حتى حصل عدنان وسرحان على جوازين جديدين لا يختلفان اطلاقا عن الجواز الرسمي العراقي الذي تصدره الحكومة في العراقي ، ثم باشرا مراجعة السفارات فورا للحصول على تأشيرة سفر لكل واحد منها ، فقد حصلا أولا على تأشيرة ألمانيا الشرقية ، ثم على تأشيرة تركية ، وصار بإمكانهما السفر الى تركيا وبالسيارة من دون عائق ، ولهذا سارع سرحان بكتابة رسالة الى صديقته شادية التي سكنت الآن في مدينة اصفهان ، وذلك بعد أن استطاعت هي وأسرتها الخروج من معسكر اللاجئين في مدينة كرمنشاه حيث كانا يعيشان متجاورين .
شادية نفسها كانت تمني نفسها بالخروج من إيران ، فهي مثل الكثيرات من البنات يرغبن بالعيش في الدول الأوربية حيث تتوفر لهن حرية القرار في كل أمر من أمور حياتهن الخاصة والعامة ، وكانت تتمنى أن يحل سرحان في بلد أوربي كي تلتحق به حين يستقر هو في هذا البلد ، ولهذا فقد ملأ نفسها فرح غامر حين استلمت الرسالة الأخيرة منه ، والتي حملت لها خبر نيته بالتوجه الى جمهورية ألمانيا الشرقية ، ومنها الى دولة أوربية أخرى .
كانت شادية تسمع أخبارا سعيدة عن البنات اللائي سبقنها في الذهاب الى الدول الأوربية ، وعن الطرق التي يتم وصلولهن بها الى تلك الدول ، وكيف يقوم الرجل المقيم بتلك الدول بطلب يد الفتات من أهلها في إيران ثم يتزوجها ، وبعد ذلك يجري معاملة جمع شمل لها في سفارة تلك الدولة بطهران ، وفي دوائر الدولة المختصة بجمع الشمل . وبذا ستكون هي عما قريب واحدة من هؤلاء البنات ، وذلك حين يعود لها سرحان بجواز سفر أوربي ، ثم يعقد عليها بشكل رسمي في إيران ، حتى أنها صارت تعيش في حلم جميل ، تارة تجد نفسها فيه في أحضان سرحان ، وأخرى تجلس الى جنبه في طائرة تشق الغيوم ، وتحلق بهما في سموات من السعادة الأبدية .

بعد رحلة شاقة ومتعبة انتقل فيها عدنان وسرحان من سيارة الى أخرى وصلا أخيرا الى مدينة اسطنبول التركية ، وبعد يومين من مكوثهما في فندق يقع بمنطقة أكسراي قطعا تذاكر سفر باتجاه ألمانيا الشرقية ، ومن هناك تحولا الى ألمانيا الغربية ، وتوجه عدنان الى صديق له يعيش في برلين الغربية يدعى سمير الذي كان يراسله منذ أن كان عدنان يعيش في طهران ، وسمير نفسه هو الذي رسم له هذا الطريق الذي أوصلهما الى ألمانيا ، لكن لا عدنان ولا سرحان يريد البقاء في ألمانيا ، فعدنان يريد الالتحاق بأخ له يعيش في الدنمارك ، بينما يريد سرحان الالتحاق بابن عم له يعيش في مدينة مالمو السويدية التي تقابل كوبنهاجن العاصمة الدنماراكية من الضفة الثانية لبحر الشمال ، والتي ترتبط معها بجسر طويل وعال ٍتمر السيارات والقطارات من فوقه .
وصل كل واحد منهما الى مبغاه ، وقدما طلب لجوء لكل واحد منهما ، وبعد مرور ثلاثة أشهر على تقديم سرحان لطلبه تمت الموافقة على منحه الإقامة الدائمة في السويد ، مع جواز سفر خاصة باللاجئين الجدد يستطيع بواسطته السفر الى أية دولة يريد .
استقر سرحال بعد أن نزل في أكثر من منطقة في مدينة مالمو في شقة صغيرة تقع على مقربة من ساحة الملك كوستاف ، وصار يذهب الى أحد المراكز التعليمية لكي يتعلم اللغة السويدية ، ولكنه كان مشغول البال بأمر التحاق شادية به ، ولهذا قرر السفر الى أيران ثانية ، فقام بحجزة تذكرة سفر على الخطوط الجوية النمساوية التي تقلع طائرتها من مطار كوبنهاجن في الدنمارك ، وكان هو قد أخبر شادية وأسرته التي تقيم في اصفهان كذلك من أنه سيصل لهم في غضون ثلاثة أيام .
عاش شادية تعد الساعات والدقائق ، تتطلع للحظة التي سينزل بها سرحان مدينة اصفهان التي تود الخروج منها دون العودة لها مطلقا ، فهي تعيش في أجواء يخيم عليها الحزن والكآبة ، وتفرض الحياة عليها فيها قيودا لا تطاق ، ثم أنها صارت مهيأة للزواج من رجل تعرفه ويعرفها ، وتود الرحيل معه الى أرض أخرى ، يحترم فيها الناس ، وتقدر فيها المرأة ، فهي قد سمعت من كثيرين أن السويد دولة تديرها النساء ، فالمرأة السويدية متواجدة في كل مكان ومجال من أمكنة العمل ومجالاته ، فهي وزيرة ، ومدرسة ، وطبيبة ، وسائقة قطار مثلما هي سائق تكسي ، وبائعة في محل ، ومهندس تعتمر خوذة العمل في البناء والتشييد.
حضر سرحان في الموعد الذي قرره هو بنفسه ، وكان موضع ترحاب كبير من قبل أسرته ، وجيرانها ، فقد أحاطوا بهم جميعا وانهالت عليه الاسئلة من أفواه الجميع ، بينما كان الجميع يصغي باهتمام لكل ما يقوله ، وكان أكثر الصاغين إليه هي شادية التي كانت لديها أسئلة كثيرة رغبت أن تطرحها عليه ، لكن منعها من ذلك الحياء الذي ستولى عليها ، وعقد لسانها ، ولكنها أجلت تلك الأسئلة للساعة التي ستكون هي في حضنه ، وقتها ستطلق كل أسئلتها عليه ، وتريد منه أجوبة عن الحياة في السويد ، وخاصة حياة النساء فيها ، وهل من المعقول أن المرأة في السويد تقود دراجة هوائية حين تريد الذهاب الى العمل ، أو الى سوق من الأسواق الملآى بالبضاعة والمواد الغذائية ، وهل من المعقول أن مطابخ البيوت لا تعرف رائحة الغاز الكريهة ، فكل مصادر الطبخ تعتمد على الطاقة الكهربائية النظيفة ؟
بعد يومين من وصول سرحان بادر الى خطبة شادية من أهلها الذين وافقوا مرحبين ، ثم تم عقد القران بعد الخطبة ، وبعدها اصطحب شادية معه لمراجعة السفارة السويدية في العاصمة طهران ، وذلك من أجل البدء باجراءات التحاق شادية به .
بعد تقديم كل الأوراق المطلوبة حددت الموظفة المسؤولة موعدا لمقابلة شادية ، تلك المقابلة التي ستتم في السفارة نفسها ، وبعد شهرين من تقديم طلب جمع الشمل ، وحين تجرى تلك المقابلة سترسل أورقها الى دائرة الهجرة في السويد ، تلك الدائرة التي ستصدر القرار بالقبول أو الرفض ، ولهذا السبب قرر سرحان العودة الى السويد ، انتظارا لصدور ذلك القرار ، ومن ثمة سيرسل تذكرة السفر الى شادية لكي تلتحق به ، هذا في الوقت الذي راح يفكر في المنطقة التي سينتقل لها بعد وصولها ، وكذلك في سعة البيت الذي سيسكنان فيه سوية .
حال وصول سرحال الى السويد صارت تستولي على عقله بعض المشاعر الغريبة ، وراح يفكر بطريقة عيشه مع شادية ، وهل سيكون ناجحا في زواجه منها ، خاصة وهو قد عرف أن زواج أكثر من عراقي واحد انتهى الى الفشل ، ولأسباب تبدو تافهة عند بعض الناس ، وهم سبب من بين هذه الأسباب هو لمن من الزوجين تكون المالية الشهرية المتحققة من المساعدات الشهرية التي تقدمها الدولة السويدية للاجئين الجدد القادمين للسويد ، فالرجل يريدها له ، بينما المرأة في السويد من حقها الحصول على المساعدة الخاصة بها ، وبالأطفال ، وفي هذه الحال يرفض الزوج ذلك ، مما يؤدي السبب هذا الى الطلاق ، والى أن يعيش كل واحد منهم بعيدا عن الآخر ، وعندها سيزداد راتب الواحد منهما ، فراتب الرجل الأعزب أكثر من راتب الرجل المتزوج ، ويزيد عليه بألفين كرونة سويدية تقريبا ، ولكن هناك بعض اللاجئين فضلا الطلاق الكاذب بالمحاكم السويد من أجل أن يحصل الزوج وكذلك الزوجة على راتب أكثر ، وعلى اعتبار أن الدولة السويدية دولة كافرة ، مثلما يعتقد هؤلاء ، والطلاق في محاكمها لا قيمة له ما داموا هم مسلمون ، ولكن بعض النساء والرجال استغلوا هذا النوع من الطلاق ، وحولوه الى طلاق دائم ، ثم تزوجوا من جديد ، وهذا التصرف يحق لهم وفقا للقانون السويدي مادام هم قد انفصلوا بإرادتهم في المحاكم السويدية .
لقد سار سرحان على ذات النهج الذي سلكه قبله بعض من المتزوجين المتدينين ، وبسبب من أن السويد دولة كافرة ، لا يعتد بطلاق محاكمها ، ولابد أن يقع الطلاق الرسمي في محكمة بدولة اسلامية ، وبهذه الطريقة يمكن للمسلم أن ينفصل في المحكمة السويد ، ويظل زواجه قائما على الرغم من أن الزوج والزوجة سيعيش كل واحد منهما في دار خاصة به ، ولكنهما سيحصلان على دخل أكثر ، فالمتزوج يحصل على دخل أقل من الرجل أو المرأة الغير متزوجين أو منفصلين ، وهذا هو الدافع الأساسي لهذا الطلاق الذي تم بين سرحان وزوجته شادية ، وبعد سنوات جمعتهم في دار واحدة ، وصار لديهم أربعة من الأبناء ، ولكن في يوم ما ، وحين كان سرحان منفصلا عن زوجته انفصالا كاذبا وردت له من صديقه ابراهيم الذي يعيش معه في نفس المدينة مكالمة هاتفية يخبره فيها أن ابن اخته قد وصل المدينة قادما لها من تركيا ، ويطلب منه القدوم الى داره ليصطحبه معه ، فقد كان ابراهيم قد التقى بابن اخته بالقطار العابر من العاصمة كوبنهاجن الى مدينة مالمو السويد .
رغب سرحان أن ينزل ابن اخته سميح مع أبنائه ، فسميح لازال فتى يافعا ، لم يتجاوز عمره العشرين سنة، ولهذا السبب على ما يبدو تعلقت به شادية ، وصارت تتقرب منه ، وأحيانا صارت تحضنه ، وتضمه الى صدرها ، ثم بعد ذلك صارت تقاسمه الفراش ، ولم تقف عند هذا الحد بل اصطحبته ذات صباح الى محكمة سويدية وعقدت عليه على أنه زوج جديد لها . فالقانون السويدي يبيح لها الزواج من رجل آخر مادامت هي مسجلة في السجل المدني السويدي على أنها امرأة مطلقة ، أما سرحان فلم يقدر أن يفعل شيئا مقابل ما فعلته زوجته ، فالطلاق الكاذب الذي أراد من ورائه أن يحصل على بعض المال تحول الى طلاق حقيقي ، ولهذا ظل يعيش هو في دوامة من الحيرة والندم .




 






 






2
المنبر الحر / في مثل هذا اليوم !
« في: 14:46 11/06/2017  »
في مثل هذا اليوم !

سهر العامري
في صبيحة مثل هذا اليوم وهو الخامس من حزيران سنة 1967م تحركت القوات المصرية ، وأعلن جمال عبد الناصرية ساعتها الاستيلاء على مضايق تيران في البحر الأحمر ، وعلى إثر ذلك تعطلت الدراسة في جامعة بغداد حيث كنا طلابا فيها ، وعدنا الى بيوتنا ، وصرنا نتحرق لسماع أخبار الحرب ، خاصة وأن الجيش العراقي قد تقدمت قطعات منه باتجاه سوريا ، وانتشرت وحداته في البساتين المحيطة بمقام السيدة زينب في الضاحية المعروفة بهذا الاسم من دمشق العاصمة ، وقد أخبرني بعض سكانها من السوريين انهم شعروا بالأمان لوجد الجيش العراقي قريبا من بيوتهم ، ولهذا صاروا هم يقدمون وجبات غذائية للجنود العراقيين الذين تعرضت طلائهم لقصف الطيران الاسرائيلي وهي ماتزال في الأراضي العراقية بعد أن كان الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف قد ودعهم بخطبة لا تمت الى روح العصر ، وإنما هي خطبة عمر بن الخطاب التي كان يودع فيها الجيوش العربية الاسلامية المتجهة الى إيران وما وراءها ، فقد أوصى عمر جنوده بعدم قتل شيخ أو امرأة ، وبعدم قطع شجرة ، وإذا كانت وصايا عمر مقبولة في ذلك الزمان فكيف سيتجنب الجندي العراقي المسلح بالمدفع والدبابة قتل امرأة ، أو قطع شجرة :
(ـ يا أبا عمار ـ ! سل سالماً عن أخبار الحرب . 

ــ: لم أحصل على جديد ، الحقيقة مغيبة ، والمدينة لاهية ، والصحف لا وجود لها ، قالوا إنها لم تصل بسبب اندلاع الحرب ! والمذياع لا أحد يستطيع سماعه . إنكم هنا تسمعون الأخبار بشكل أفضل ، هدوء المدن الصغرى وهدوء القرى يوفر فرصة سماعها بصورة حسنة ، فالمقاهي في المدن ضاجة ، لاهية، والشوارع مزدحمة بالمارة والسيارات، كلّ شيء 
في المدن يقف ضدّ سماع المذياع !
 لكنّ سالماً كان يتبسم خلال حديثه كلما خطر بباله وجه ذلك الرجل الرزين صاحب الخبر الذي سيفاجئهم به ، وهذا ما لاحظه بعض من الجالسين ، مما حدا بأحدهم أن يسأل سالماً سؤالاً عن سرّ هذا التبسم الطافح على وجهه :ــ سمعت خبراً عن الحرب سيسركم جميعاً !
قال سالم ذلك ، وراح يضحك بصوت مسموع ، بينما استولت الهفة على الحاضرين الذين أخذ بعضهم يرمي سالماً بأسئلة لم يمعن النظر فيها كثيراً
:ــ هل سقطت ستون طائرة كما تقول إذاعة صوت العرب ؟

:- لا .

: - هل وصل الجيش العراقي الى الجبهة ؟ سمعنا أن الطائرات الإسرائيلية ضربت قطعات منه ، وهي في الطريق إليها .

: - لا . لا .

: - هل هناك إنذار من السوفيت ،
:
ــ لا . كذلك .

: - إذاً ماذا ؟
                                 
:- حملت حقيبتي، أريد الخروج من الفندق، وحين وصلت بابه سمعت
رجلاً يقول : إن بعض الدول العربية تستعد لمهاجمة إسرائيل بخطة جديدة . تلهفت لسماع الخبر ، عدت الى باحة الفندق ، وفي الحال تجمع نفر من نزلائه ، أحاطوا بذلك الرجل البدوي ، مصدقين مكذبين
 :
ــ من أين جئت بهذا الخبر ؟ سأل أحدهم .
ــ: سمعته أنا .

:ــ من أين سمعته ؟ قل ما هي الخطة ؟
خيم على المقهى صمت رهيب ، وحبس انتظار الخبر أنفاس الجميع، وعادت نفوسهم رهائن عند سالم ، بينما راح هو يثير فيهم الحماسة والجدّ لما يرويه ، ويضعهم في جوّ مفاجأة كانت حصاداً لرحلة خائبة .
: 
ــ قل ، أحرقت قلوبنا ، قل ما هي خطة العرب الجديدة ؟

:ــ إنهم سيهاجمون إسرائيل ليلاً بالجنود السودانيين وهم عراة !
ضجت المقهى بضحك متواصل، رفس بعضهم الأرض بأرجله، وضرب الأخر جبهته بيده ، وعلا لغط الجالسين ، وكثرت الأحاديث الجانبية :
ــ: هذا ليس بدوياً عادياً !

:ــ هذا بدوي يفهم .
ــ: أين وجدته ـ يا سالم ـ !
                                     
:ــ ماذا ترى ـ يا أبا عمار ـ !؟

: ــ أنا أرى أنه حكم على نتيجة الحرب سلفاً . العرب خاسرون ! البدوي هذا يصدر حكم الشارع العربي الذي غيبه الحكام العرب .
إنه يقول : الحكام العرب لم ولن يفعلوا شيئاً . إنهم يحاربون بأداة وعقلية متخلفتين .
ــ: أنت محق ـ يا أبا عمار ـ! كأنك سمعت خطاب رئيسنا، وهو يودع قطعات الجيش المتحركة من معسكر الرشيد الى الجبهة . 
أصاب الفزع قلوب البعض، وحدقت الأبصار في وجه سالم، إنه سيقول شيئاً خطيراً، لذا طاف بوجه كاظم القهوجي ، والذي كان يراقبه بحذر، لون من ألوان الخوف، فتمنى على سالم ألا يقوله، وألا يتعرض لسيرة الرئيس ،أهو خوف على سالم ؟ أهو خوف على نفسه حيث الجدل يدور في مقهاه ؟ ربما تراءت له صورة المفوض حياوي ، والتي مازالت معلقة
في مركز شرطة المدينة الصغيرة منذ عهد الزعيم الراحل ، فحياوي لا يريد مغادرة المدينة التي أشادت له بيتاً سامقاً ، هناك حيث يسمو تمثال الحبوبي في السماء أبداً. هذا السبب أو ذاك كان وراء خوف كاظم الذي 
خاب تمنيه حين سأل أحدهم سالماً : ماذا قال الرئيس ؟ 
ــ: ألم تسمعوه ؟ 
                              :ـ
ــ بلى . سمعناه ، لكن ماذا ترى فيه أنت ؟
:ــ كان يوصي الجنود والضباط بـ” ألا تقطعوا شجرة ، وألا تقتلوا شيخاً “ .

:ــ وما عيب ذلك ؟
:
ــ أأنت غير مدرك لما يعيب الرئيس بعد ؟ ألم يكن هذا بعضاً من التخلف الذي تحدث عنه أبو عمار ؟ هذه قولة عمر بن الخطاب ، ألقاها على جند المسلمين المتجهين صوب بلاد فارس حينها ، وهذا بعض من أخلاق الحرب وقتهم ، وعمر يدرك أنه ليس مستحيلاً ألا يقطع المحارب شجرة ، وألا يقتل شيخاً ، ما دام سلاحه السيف والرمح، لكن أسألكم باللّه ، قال سالم ذلك ، بعد أن رفع قدميه على التخت، وجلس منتصباً، وقد سرى فيض من دم في وجهه ، وازدادت نبرات صوته حدة ، ويبدو أن الجدل بدأ يسير نحو الجد ، كيف يجانب جندي هذا الزمان قطع شجرة ، أو قتل شيخ ؟ وأنتم تعرفون أنّ سلاحه المدفعية والدبابات والطائرات ، هذه الحمم التي تحيل البيوت والأشجار الى أكوام من رماد . قولوا لي ، واصل سالم حديثه ، هل فيكم من يرى رأياً غير رأي هذا ؟
تململ أستاذ خلف في جلسته ، حرك يديه ، رمى عينيه في وجه سالم ، 
لكنّ الصمت المخيم ، والخوف من المجهول كانا يلحان عليه بالسكوت، ومن أجل ذلك غير مجرى الحديث .
هل نسيت ـ يا سالم ـ الدور الأمريكي في هذه الحرب ؟

:ــ أنا لم أنسه قطّ ، والحكام العرب يعرفون هذه الحقيقة ، أولم يكن العدوان الثلاثي ماثلاً في أذهانهم ؟ من يدخل الحرب لا بدّ أن يحسب كلّ حساب لها .
ــ: إنّ الدعم الأمريكي لإسرائيل هو الذي غير مجرى الحرب .

:ــ لا . لا . أنت واهم ، كرر أبو عمار ذلك أكثر من مرة ، وكان واقفاً غاضباً ، لا ـ يا استاذ خلف ـ إنّ سالم على حق . لقد أعدت إسرائيل جيشاً متطوراً حديثاً، فهي تلاحق التطور المستمر في الجيوش الحديثة، وتستفيد من الدعم الأمريكي والغربي، ومن عمالة الأنظمة العربية التي تخشى من حرب ثورية ، ربما تكون نتائجها وخيمة عليها . إن الحكام العرب لا يريدون حرباً حقيقية ، يريدون أنصاف حلول ، يريدون حفظ ماء الوجه . أنت تنسى العامل الذاتي الإسرائيلي حين تقول إنّ أمريكا هي التي أتت بالنصر لإسرائيل . إنّ إسرائيل أعدت نفسها ليوم كهذا اليوم طوال عشرين سنة ، ثمّ وجهت ضربتها الآن ، بعد أن قدم لها الرئيس مبرراً مقبولاً ، ذلك حين قام بإغلاق مضايق تيران دون أن 
يوفر الوسيلة الكفيلة بتأمين هذا الإغلاق . إنّ الذي قاتل في هذه الحرب ضدنا هم الجنود الإسرائيليون وليس الأمريكان .
:
ــ إسكت ـ يا أبا عمار ـ إسكت !
نزل صوت قوي غير متوقع على مسامع أبي عمار، توقع أنه سيأتي من
استاذ خلف الذي أعاد الى الجدل جديته ، أو من الاستاذ أبي إسحاق الملتاذ بسجف صمت كثيف ، وهو الذي اعتاد أن يمدّ لساناً طويلاً أحياناً في نقاش تافه، توقع أن يأتيه الصوت من هؤلاء أو من عداهما  وما كان يتوقع أن الردّ الحاد سيأتي من عليوي الفلاح الذي ما شارك على وجه الإطلاق في أيّ جدل شهدته مقهى البوهة ، لكن يبدو أن حديث الحرب وتحمسه لها هما اللذان دفعاه هذه المرة الى أن يلقي بنفسه في خضم هائج من معمعة قد لا يخرج سالماً منها .
:
ــ الكلام ليس لكم وحدكم ـ يا أبا عمار ـ! دعونا نشارككم الحديث.
:
ــ تفضل ـ يا عم ـ تفضل . قال ذلك ، وقد انبسطت أسارير وجهه، وعلاها شيء من الحفر ، ثم أضاف : نحن لم نمنع أحداً من المشاركة .

:ــ أتريد الصدق ـ يا أبا عمار ـ ! ؟
:
ــ نعم . ومن منا لا يريده ؟
:
ــ: الصدق كلّ الصدق هو أنّ أمريكا كلها بعثية ، ولهذا السبب هاجمتنا !
غاص الكلّ في ضحك عميق ، تمدد البعض على ظهورهم ، وراح الآخر يمسح دموعه بأطراف ثوبه ، بينما فرش أبو عمار منديله على وجهه ، غارقاً في بحر من ضحك مكبوت .
ــ: بروح أبيك ـ يا عم عليوي ـ من أين جاءتك هذه الفكرة ؟
ــ: أنتم أردتم الصدق ـ يا حسين ـ وهذا هو الصدق !
عاد عليوي الى صمته المعتاد ، متشبثاً برأيه الذي أثار ضحك الآخرين، دون أن يدري هو ما المضحك في كلامه ؟ فكلمة بعثي هي مرادف لكلمة أمريكي عند الفلاح الجنوبي ، ولهذا ظلّ عليوي رابط الجأش ، محتفظاً باعتدال جلسته ، وملامح وجهه الصارمة .
لم يسأل عليوي أحد من الجالسين سؤالاً آخر، واكتفوا بالسؤال الذي وجهه حسين له، مداراة منهم لشعور أبي إسحاق وسليم المعلم فكلاهما كان بعثياً.)*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقطع من روايتي المقهى والجدل . 


3
المنبر الحر / امرأة لم تولد بعد
« في: 22:09 09/02/2017  »
امرأة لم تولد بعد
كان ملك بابل ، نبوخذنصر الثاني ، يظن أن مدينته سيشهد ولادة امرأة لا تضاهيها امرأة أخرى في هذا الكون غنجا ودلا وجمالا ، ولهذا أراد هو أن يعرف تاريخ ولادة تلك الفتاة ، وفي أية سنة من السنوات سيقع تاريخ تلك الولادة . ولأجل ذلك قرر أن يجمع المنجمين في مدينته كي يعلم منهم إطلالة تلك الساعة التي صارت تلازمه في يقظته وفي منامه ، فقد كان يرى هو تلك المرأة الباهرة الجمال في كل يوم وليلة ، تارة تقف أمامه ، وأخرى ترسل له ابتسامة عذبة تسلب اللب منه ، ولكنه حين يقترب منها تفر مسرعة من بين يديه ، ويظل هو يلاحقها ببصره ، بينما تقف هي تحت ظل شجرة من جنائنه المعلقة التي ابتناها لزوجته أميديا الميدية ، وأحيانا يشاهدها كاشفة عن ساقيها الممتلئين تحت شلال ماء صهريج متدفق من أعلى مكان في تلك الحدائق ، ولطالما أشرقت هي مثل نجمة مشعة حين يهبط الليل ويضم بأجنحته مدينة بابل العصية .
لقد صار هو يبحر في قلق دائم ، يتسرب شيء من الخوف لنفسه ، هذا رغم أنه قاد الجيوش الجرارة ، وخاض معارك ضارية ، واستولى على بلدان بعيدة ، فهو الذي قاتل في حران والجزيرة ، مثلما قاتل في فلسطين ومصر ، ووقف على شواطئ قورينا ، واغتسل بمياه البحر المتوسط ، واستنشق نسيم البحار ، واستاف عطر زهور الجبال .
هو نبوخذنصر ، ملك بابل العظيم ، الحاكم العزيز المفضل لدى الإله مردوخ محبوب الإله نابو صاحب الفطنة والذكاء ، هو الأبن البكر لنبوبلاصر الذي جعل مردوخ رأسه شامخا وأعطاه حكم الناس القاطنين في الأقاليم القصية ، ولذلك فهو يتردد من أجل الإله مردوخ على معابد نابو ، أبن مردوخ ، وريثه الشرعي ، ويتحدث بما يسرهما ، كما انه شيد معبدا لمردوخ في بابل ، وقد جلب له مواد البناء من خشب الأرز والصنوبر اللبناني وصفائح النحاس الفينيقي ، حتى صار معبداً علويا نظيفا ، ومخدعاً للآلهة ، ثم بعد أن أكمل بناء المعبد كان هو اول من صلى به قائلا : سيدي مردوخ ! يا عظيم الآلهة ، يا جبار ! تنفيذا لأمركم الإلهي بنيت مدينة الآلهة ، وشيدت الجدران ، جددت المخدع ، وأكملت المعبد ، وبناءا على أمرك السامي الذي لا يخالف وصلت أنا الأوتاد الخشبية بيدي ، كل ذلك من أجل أن يبقى قائما خالدا على مر العصور.
حين خطا نحو باب المعبد عائدا الى قصره ظهرت له تلك المرأة ، ولهذا تراجع هو الى الوراء قليلا ، ثم وضع يده على صدره صاحبت ذلك انحناءة واضحة شاهدها مرافقوه المدججون بالحراب والسيوف ، وهذا ما أثار استغرابهم ، فكيف لملك عظيم مثله ينحي بتواضع لا يعرفون سببا له ؟ وهذا ما اضطر أكبر مستشاريه أن يطرح عليه سؤالا عن ذلك حال دخوله الى القصر الجنوبي الذي أعاد هو بناءه من جديد ، وجعله من أكبر وفخم قصور الدنيا قاطبة ، يضاهي بفخامته بوابة عشتار التي أشادها بهندسة بناء رائعة ، لم تعرف الدنيا لها مثيلا ، ثم وبطريقة اللصوص المحترفين من العثمانيين والألمان انتقلت هذه البوابة الرائعة الى برلين العاصمة الألمانية ، وبأمر من القصير الألماني الذي كان يحب الجاه والعظمة التي سرقها من نبوخذنصر الثاني ملك بابل العظيم .
طرح المستشار الكبير سؤاله على الملك ، وقد خامرته سورة من الخوف ، وكان هو يخشى أن نبوخذنصر سينهره ، ولن يجيبه عن سؤال يتعلق بشأن شخصي يتعلق به وحده ، ولا يهم أحدا غيره ، لكنه وجد شيئا من الارتياح قد غزا وجه الملك ، طاف فيه انشراح واضح مبين ، وهذا ما جعل المستشار الكبير في موقف محرج ، ولكن الملك بادره قائلا :
- ربما أنت لا تعلم ايها المستشار أنني أعيش في محنة كبيرة منذ سنوات ، وذلك حدث لي بعد أن تزوجت أنا من الفتاة الميدية بنت أحد قادة الجيش الإيراني .
- أمل أن تقول لي أيها الملك العظيم شيئا مما حل بك ، فلربما أشرت أنا عليك ببعض الأفكار التي قد تساهم في تقديم حلا للمحنة التي تعيش فيها أنت ، مثلما تقول .
- رد الملك العظيم دون تردد إني ومنذ سنوات أطارد صورة امرأة قاسمت جميع نساء الدنيا بجمالها ، فهي حلوة المبسم ، لها شفتان رفيعتان رقيقتان يزدان بهما وجهها الباسم ، مثلما يزدان بعينيها الساحرتين حين تتدلى عليها خصلات من شعرها الحريري . وليكن في علمك أيها المستشار أنني سأظل ألاحقها في أي مكان كانت هي ، ولن أهدأ الى أن أظفر بها في يوم من الأيام .
لاذ المستشار الكبير بالصمت ، وراح يقلب بيديه ، ثم يلتفت يمينا وشمال ، يبحث عن كلمات يرد بها على الملك العظيم ، أو عن سؤال يزيل جوابه الغموض الذي يلف أمر هذه المرأة التي استولت على مشاعر الملك ، وهو الذي استولى على الممالك الكثيرة ، وحطم أسوارها . ولكن نطق أخيرا سائلا :
- من تكون هذه المرأة ؟ ومن أي مدينة هي ؟
- أنا لا أعرفها ، لكنها بابلية ، تظهر لي دائما مبتسمة ، وأحيانا من دون أية ابتسامة ،  أراها  واقفة في شارع الموكب صباحا ، وبالقرب من بوابة عشتار مساءا ، وفي أوقات بالقرب من الزقورة ، وهذا يعني أنها من بابل ، وقد تكون هي قد انتقلت من مكان آخر ، فأنا لا أعرف شيئا عنها سوى جمالها الساحر الذي استولت به على مشاعري ، حتى أنني توجهت مرات عدة الى المعبد ، ودعوت الإله مردوخ أن يحقق منيتي بلقائها ، وفي أي مكان من هذا العالم الفسيح . فأنني أريد أن أحدق في عينيها الخضراوين ، مثلما أريد أن أنظر الى شفتيها ، وهي تلفظ الكلمات برقة متناهية .
كان ذكر الإله مردوخ من قبل الملك العظيم قد جعل من اليسر على المستشار الكبير أن يقدم اقتراحا مقبولا يمكن للملك أن يأخذ به ، فهو يعرف أن المعبد الكبير الذي ابتناه الملك للإله مردوخ يتعبد فيه الكثير من الكاهنات والكهان ، مثلما يتعبد به المنجمون والمنجمات ، فهؤلاء يتخذون من معابد المملكة أماكن تجارية يبيعون فيها تجارتهم على المتعبدين من سكان مدينة بابل خاصة في مواسم حصاد الغلة ، وجني ثمر النخيل ، فالكثير من العاملين في الزراعة يتوجهون صوب المعابد يطلبون النصح والإرشاد من المشعوذين الذين يوهمونهم بأنهم على معرفة بكل ما يريده سكان بابل من أجوبة على أسئلة تتعلق بصحة أجسادهم ، أو تتعلق بما تخبئ لهم الأيام .
- يطيب لي أن أقترح على ملك بابل العظيم الذي قاد الجيوش ، وأذل الملوك أن يسأل عن تلك المرأة كبيرة كاهنات المعبد ، وليس كبير الكهنة ، فالنساء يعرفن بعضهن البعض أكثر من الرجال الذين قد يجهلون ما يدور في عقول النساء في الكثير من الأحيان ، ولهذا هم يرتكبون الكثير من الأخطاء في تعاملهم معهن .
في صباح اليوم الثاني احتشد المنجمون والكهنة والكاهنات في المعبد الكبير ، فقد علموا أن الملك العظيم قد طلب منهم الحضور الى المعبد الذي سيزوره لأمر خطير وهام ، لا يعلم به أحد سواه ، وربما علم به بعض من المقربين له ، ولهذا ظل الجميع يضرب الأخماس بالأسداس ، يسأل كل واحد منهم الآخر عن الهدف الحقيقي من وراء زيارة الملك المزمعة ، وعن دعوتهم للحضور فيه .
البعض منهم اعتقد أن الملك يعد العدة للقيام بحملة عسكرية يؤدب فيها ملكا من ملوك الممالك المجاورة لمملكة بابل ، والذي تمرد عليه في الآونة الأخيرة ، وامتنع عن دفع الجزية له ، مثلما جرت عليه العادة ، بينما اعتقد آخرون أن الملك العظيم يريد أن يشق قناة عظيمة من نهر الفرات حيث الأراضي التي تقع على الضفة الغربية منه ، كما ظن آخرون أنه يريد أن يشيد قصرا جديدا ، أو ربما جنائن معلقة أخرى ، لكن البعض منهم قطع هذه الظنون عليهم ، وطلب منهم الانتظار ، فما هي إلا ساعات وينجلي الأمر بحضور الملك بنفسه الى المعبد ، وسيصرح هو بما يريده منهم .
مرت ساعة على ذلك حتى ظهرت من بعيد طلائع موكب الملك العظيم ، حيث كان يعتلى صهوة حصان قوي الشكيمة ، تحف بها الفرسان يمينا ويسارا ، بينما احتشد بعض من سكان مدينة بابل على طوال جانبي شارع الموكب مرحبين بقدوم الملك ، فلطالما وقفوا به هم حين تشهد المدينة احتفالات في أعيادها الدينية ، أو حين تنزل بها أخبار انتصارات جيوشها المظفرة بقيادة الملك العظيم، نبوخذنصر الثاني .
صمت الجميع حال أن وطأت أقدام الملك عتبة باب المعبد ، وصارت عيون الجميع معلقة به ، مثلما كانت النفوس تتلهف لسماع ما يريد قوله ، حتى أن البعض ظن أن الملك لا يلقي بتصريح إلا بعض مشاورات يجريها مع بعض من مرافقيه ، ولكن هذا لم يحدث فسرعان ما طلب هو من الجميع أن يصغوا له جيدا .
- على جميع المشعوذين والمنجمين الخروج من المعبد حالا ، ومن يتخلف منهم سيكون مصيره الموت بسيوف الجند القاطعة .
فر جميع المشعوذين والمنجمين ، ولم يبق أحد منهم ، وصار الواحد منهم يسقط فوق الآخر من شدة تزاحمهم على أبواب المعبد ، وفي هذه الأثناء شاهد الملك العظيم كبيرة الكاهنات وهي تسر بخبر لكبير الكهنة ، وهذا ما دفع بالملك العظيم أن يطلب منه الوقوف قائلا له بصوت حاد :
- قلْ ، أيها الكاهن الكبير ، ماذا قالت لك كبيرة الكاهنات ؟ وعن أي أمر حدثتك ؟
- رد وهو يرتجف قالت لي الكاهنة ، أنها تعرف ما يريده الملك العظيم منا .
على الفور وبصوت مخيف طلب الملك من كبيرة الكاهنات أن تقول ما تعرف هي عن غاية حضوره الى المعبد ، وبشيء من الخوف والرهبة وقفت هي ، ولكنها قالت دونما ترد :
- لن تستطيع الظفر بأنوار البابلية يا ملك بابل العظيم ، وهذه أمنية ستموت دون أن تحققها أنت أبدا ، فالوصول الى أنوار البابلية مستحيل ثم مستحيل !
ثارت ثورة الملك ، وأراد قطع لسان هذه الكاهنة ، فهو قد اعتقد أنها استهانت بقدرته على الظفر بأنوار البابلية الجميلة التي ملأت عليه عقله وكيانه بعينها الساحرتين ، وقوامها الرائع ، ولكنه قرر في نهاية الأمر أن يستعرض قوته أمام الجميع .
- تعلمين أنت أيتها الكاهنة الغبية أنني من قاتل الميديين الفرس الإيرانيين ، وسقتهم أسرى كالأغنام الى بابل العظيمة ، والآن يسيرون أذلاء في شارع الموكب أمام عينيك ، وأمام عين الجميع ، وهم الآن عبيد عند أهل بابل ، وهذا العبد الذي يقف في خدمتك هو واحد منهم ، ثم أنك تعلمين أنا نبوخذنصر ، أنا ملك بابل العظيم ، أنا الملقب بمقيم المدن ، فكم من مدينة فتحتها ، وكم من ملك خضع صاغرا لي ، أنا الذي هزمت الفراعنة بمعركة كركميش حين قادهم ملكهم نخاو الثاني فيها ، ووقت أن استنجد به الآشوريون ، أنا الذي بسطت سيطرتي على سوريا وفينقيا ، أنا الذي هد أسوار مملكة عسقلان وسبيت بعضا من سكانها ، وذلك حين عصت أمري ، أنا الذي اقتحم مدينة اورشليم ملكها مسبيا مع الكثير من مواطنيها ، ثم قمت بتنصب ابنه " صدقيا " ملكا عليها بدلا عنه ، ولكنه حين عصاني ، ورفض دفع الجزية لمملكة بابل سبيته هو وحشدا من سكانها ، وهم الآن مثلما تلاحظين صاروا عبيدا في بابل ، لا يختلفون عن الايرانيين العبيد الذين سبيتهم من قبل.
عليك أن تسألي نفسك من بنى الزقورة ، ومن أشاد الجنائن المعلق ، ورفع الماء الى سطوحها لتنعم سيدات البلاط بظلال الشجر ، وبرود النسيم حين يحل الصيف على بابل العظيمة ، أنا الذي رصع باب عشتار بالبلاط الأزرق ، ذلك الباب الذي سيزين مدينة برلين بعد أن يسطو عليه لصوص الغرب ، وينقلونه من بلاد الرافدين الى بلاد الألمان ، مثلما يقول دنيال مفسر الاحلام اليوم .
بعد كل هذا وغيره كيف تريدينني لا أصل الى أنوار البابلية ؟ هل عميت بصيرتك ، وخف عقلك ، أيتها الكاهنة الغبية ! عليك أن تثقي أن أنوار ستكون هنا في بابل ، وستعيش في بابل ، ولن يستطيع أحد أن يحرمها من رؤية عظمة مدينة بابل ، ومن رؤيتي كذلك ، فأنا وهي ، على أكثر الظن ، ولدنا في هذه المدينة ، وتعانقت روحي وروحها في سماء العشق الأبدي.
- أيها الملك العظيم ! يا مقيم المدن ! لم أقصد الحط من قيمة انجازاتك العظيمة ، ولم أرد أن أصفك بالعجز ، ولكن مقصدي هو أن أنوار البابلية لم تولد بعد ، وتفصلك عنها مسافة زمنية مقدارها أكثر من ألفين وستمئة سنة ، ولو كانت هذه مسافة أرضية لما توانيت أنت عن قطعها ، ومن ثمة الظفر بأنوار الجميلة التي ستنير بجمالها مدينة بابل ، مدينتك هذه العظيمة ، ولكنها ستكون في بابل حين تعود هي أطلالا ، لا يقطنها بشر ، ولا يحيط بها سور تجري عليها العربات ، مثلما يفعل سكانها اليوم ، ستكون بابل مدينة لا يهابها أحد ، ولا يخشى سطوتها حاكم ، أو ملك ، سيعبث جنود أمريكان بأسوارها ، وسيدوسون على بلاطك العظيم بأقدامهم القذرة ، وهو البلاط الذي لم يدس عليه فاتح في زمنك وزمن أجدادك ، هؤلاء وحوش المال سيصلون لها من بلاد قصية ، ويعبرون في طريقهم إليها بحارا ومحيطات ، وقت أن يخذلك أهلها ويخذلونها ، وحين يرقص البعض منهم فرحا ساعة احتلالها ، وأعلم أيها الملك العظيم أن هناك رجل كبير من بينهم يأمر بعدم مقاومة المحتلين الغاصبين ، كل هذا سيحدث يا ملك بابل العظيم ، كل هذا الذي يحز بالنفس ، ويدمي القلب ستشهده مملكتك ، وبلادك التي سيحكمها الإيرانيون العبيد ممن يدورون في طرقات بابل اليوم ، سيكون هؤلاء العبيد هم من ينصب الحكام أمثال رجل يدعى المالكي كما تقول لي النجوم ، وينصبون من بعده رجلا آخر يدعى العبادي ، وهناك آخرون  من عبيد المال والمناصب يجرون خلفهما ، أنا أعرف أن حديثي هذا سيهز مشاعرك ، ويثير غضبك ، خاصة حين تكون حبيبتك أنوار البابلية تعيش في فترة حكمهم المظلمة ، أنا أعرف أن ذلك سيصعب عليك ، سيقض مضاجعك ، ويزيد همك ، حين أقول لك مثلما تقول لي النجوم إن حبيبتك أنوار رأت الظلم بعينها ، حرموها لذة العيش ، وعرضوها لسوء معاملة ، أسقطت على إثرها حملها وهو في شهوره الأخيرة ، ستقول لي إنك ستبني لها أربعا من الجنائن المعلقة ، وبعدد فصول السنة ، مثلما بنيت لزوجتك أميديا الميدية الجنائن الحالية ، ولكن هذا سيكون عليك جد متعذر ، ولا يمكنك تحقيقه لها ، صحيح أنك ترى أنوار البابلية بيقظتك ومنامك ، ولكنك لن تصل لها ، فهي لا تزال في رحم الزمان ، وفي القادم من الأيام ، ولم تلد إلا حين يحل الخراب جنائنك المعلقة التي ستعد من عجائب الدنيا السبعة ، ووقت أن تدوس عليها عجلات الأعداء ، وتحوم عليها غربان الأمريكان ، وساعة أن تضام فيها أنوار البابلية الحبيبة التي لم تولد بعد ! 
- يا ويلتاه ! ياويلتاه ! يا ويلتاه ! صرخ ملك بابل العظيم ، ووراءه رددت جدران بابل العصية صوته المدوي ، وهي ذات الصرخة التي أطلقها من قبل جلجامش ، ملك سومر العظيم في مدينة أورك ، حين رأى الدود يتساقط من أنف صديقه أنيكيدو في اليوم السابع من وفاته ، حيث عز على جلجامش دفنه .
 

4
مع الفنان وليم موريس

 سهر العامري
على عدد المرات الكثيرة التي سافرت بها الى لندن كانت ضاحية همرسميث هي الضاحية الوحيدة التي تستهويني كثيرا ، ولهذا كنت أصرف أكثر ساعات يومي فيها ، وقد قادتني إليها في المرة الأولى الصدفة ، وذلك حين سألت ساعتها موظف استعلامات الفندق الذي نزلت فيه عن أفضل طريق توصلني الى ضاحية بريفيل " Perivale " التي كنت أريد الوصول الى مصرف يقع فيها ، كان لي حساب قديم فيه ، فتحته منذ سنوات طويلة ، حين كنت أعمل في مدينة بنغازي من ليبيا بعد أن غادرت أنا وطني ، العراق .
أشار علي موظف استعلامات الفندق الذي يقع في ضاحية هاونسلو " Hounslow "  أن أركب الحافلة التي تقف عند باب الفندق ، وحين تقف في آخر محطة لها في ضاحية همرسميث علي أن أركب من هناك قطار الانفاق " المترو " كي يصل الى بغيتي ، وكان موظف الاستعلامات قد ارتكب خطأ في اشارته تلك ، فقد اكتشفت فيما بعد أن هناك حافلة ركاب يمكن أن أصل بها من على مقربة من الفندق ، والى ضاحية بريفيل التي يقع فيها المصرف المشار إليه .
عن طريق هذا الخطأ الذي ارتكبه موظف الاستعلامات تعرفت على ضاحية همرسميث التي تقع في غرب لندن ، وهي ضاحية جميلة ، غير مكتظة بالسكان ، خارطتها تذكر بخارطة المدن المدورة في القرون الوسطى ، فجميع الشوارع فيها ، ومن جميع الجهات تفضي الى مركزها الذي تقوم فيه اسواق ومطاعم ومحطة للحافلات ولقطارات الأنفاق التي تحملك الى جميع الضواحي في مدينة لندن حتى الريفية منها.
قبالة هذا المركز التجاري تقوم بناية عتيقة ظهرت عليها تصاميم بنايات القرون الوسطى، مثلما ارتفعت بها شبابيك طويلة ، وأبواب عالية صنعت من خشب يذكر بخشب الأبنوس ، مثلما انتظمت فيها طاولات تحيط بها كراسي من ذات الخشب ، وطالما كانت هذه البناية مكتظة بالرواد ، ويصل الحال فيهم أحيانا الى تناول طعامهم ومشروباتهم وقوفا ، فالبناية هذه المتكونة من طابقين هي حانة ومطعم في نفس الوقت ، لها نكهتان ، نكهة القدم ، ونكهة كونها شعبية يرتادها النساء والرجال على حد سواء.
كلما جلست أنا فيها جال في تفكير سؤال مهم عن المالك الأول لها ، أو عن الساكن الأول ، وبالتأكد سيكون مالكها الأول من أغنياء ذلك الزمان ، ثم تعاقب على السكن فيها أكثر من ساكن ، حتى وصل بها الحال الى تصبح حانة ومطعم في الوقت نفسه ، وعلى هذا ظللت أبحث عن أولئك البشر الذين سكنوها قبل أن تؤول الى المصير الذي هي عليه اليوم .
من بين أولئك تعرفت على أحد منهم، كان هو الفنان ، والشاعر ، والأديب ، والمصمم ، والمعماري ، الانجليزي الاشتراكي الذي كان يسميه كارل ماركس بالحالم لأنه كان يرى أن النظام الاشتراكي يمكن أن يقوم من القاعد صعودا الى تحطيم هرم السلطة بمعنى آخر هو أن الصراع الطبقي يمكن أن يكون بين القاعدة العريضة من الناس ، وليس بين الناس والنظام الرأسمالي ، ويبدو أن تصوره هذا هو الذي دفع بماركس الى قوله ذاك من أن وليم موريس رجل يحلم ، أما فردريك انجلز فقد تنبأ بأن حركة الاشتراكيين التي كان وليم موريس من بين أبرز أعضائها ستفشل ، ولن يكتب لها النجاح .
يبدو أن الخلافات الفكرية  في الأهداف وطرق العمل بين أعضاء حركة الاشتراكيين الانجليز هي التي قادت وليم موريس الى تركها رغم أنه كان من أبرز المؤسسين لها عام 1884م ، وفي سنوات حياته الأخير انصرف هو كلية للعمل في مطبعة كِيلْمسكوت"  Kelmscott " المتخصصة بطباعة الكتب الفنية الفخمة، والتي  أسسها سنة 1891م في ضاحية هميرسمث " Hammersmith" ، تلك الضاحية التي كانت حتى مطلع الثلاثينيات من القرن المنصرم عبارة عن قرية من القرى التي تحيط بالعاصمة البريطانية لندن ، والتي أصبحت فيما بعد ضاحية من الضواحي التي تقع في الغرب من لندن .
وفي شهر كانون الثاني من سنة 1891م ، استأجر وليم موريس بيتا خشبيا رقمه 16 في مول العليا ، وبالقرب من البيت الريفي المسمى "  Kelmscott "، وفي ضاحية همرسميث ذاتها ، والتي كان يريد منه هو أن يكون بمثابة المقر الأول لدار طباعة  Kelmscott للصحافة ، قبل أن تنتقل إلى بناء مجاور رقمه 14 في شهر مايس من ذات السنة ، وهو الشهر الذي تم فيه تأسيس الشركة المكرسة لإنتاج الكتب التي يراها هو جميلة الشكل ، فقد أثرت فيه فنيا المخطوطات المصورة ، والكتب المطبوعة في وقت مبكر من العصور الوسطى ، وكذلك الكتب الجديدة المطبوعة في طلائع سنوات أوروبا الحديثة.
كلتا البنايتين القديمتين المرقمتين برقمي 14 و 16 ، وبعد أن أجريت عليهما عمليات تجديد الى حد ما ، قد تحولتا الى حانتين ومطعمين في الوقت ذاته ، ولكنهما لا يزالان يشعرنا الجالس بهما بتلك الساعات التي أمضى فيهما الأديب والفنان الانجليزي وليم موريس قطعة من أيام حياة الأخيرة ، تلك الأيام التي لا تزال معلقة على أبوابهما ، أو من خلال المواد التي بنيتا منها ، أو الخزان الخشبي الذي ترتفع فوقه صورة الفنان في حيز أعد لهذا الخصوص ، لقد ارتفعت تلك الصورة الكبيرة للفنان الأديب على جداره وقت أن كانت الصور لا تعرف الألوان ، وقد أحيطت هي بإطار خشبي يبدو أنه قد حظي بعناية الفنان نفسه ، كما وضعت على الطاولة بعض من أشياء الفنان مثل الكأس الزجاجي الذي يشرب الماء فيه .
يضاف الى ذلك وجود حيز آخر في الطابق الخشبي نفسه يشتمل على صورة ومخلفات فنان ومصمم انجليزي آخر هو إدوارد جونستون " Adward Johnston" الذي عاش ما بين سنتي 1872 م-1944م ، وعلى هذا يكون هو أحد الفنانين المعاصرين للفنان الأديب وليم موريس ، وهو واحد من الذين تعاقبوا على المكوث في تلك البناية التي تحولت فيما بعد الى حانة ومطعم مثلما ذكرت ذلك من قبل ، والتي لا زالت تحمل اسم الفنان وليم موريس " Willim Morris " على احدى واجهاتها المطلة على شارع رئيس ينتهي بمقاطعته لشارع يمر من أمام البناية التي تضم مركزا تجارية ، ومحطة قطار أنفاق ، وكذلك محطة حافلات حديثة .
وباعتقادي أن هذه البناية ، والتي كانت تدعى كوخا خشبيا على الأيام التي أمضى فيها وليم موريس آخر نشاط فني وأدبي له فيها ، لا يمكنها أن تصمد في المنظور القريبة من الأيام رغم أهميتها التاريخية التي كانت السبب الرئيس في المحافظة عليها للآن ، فكل جالس فيها يشاهد اليوم البنايات القريبة منها ، وهي تتهاوى الواحدة بعد الأخرى ، وتقوم مكانها بنايات حديثة مادة بنائها الأساسية الحديد والزجاج ، فقد شمخت في أكثر من ضاحية من ضواحي لندن العمارة الجديدة التي هي بنايات زجاجية شاهقة ، لا تعرف الحجر والطابوق والاسمنت ، وبأشكال معمارية غاية في الحداثة والجمال ، وهذه الهندسة المعمارية الحديثة ، وهذا اللون من البناء هما اللذان سيسودان في هذا العصر على الأشكال القديمة للبناء التي لم تعد تواكب التطور السريع في حياة البشر خاصة في الدول المتقدمة صناعيا التي راحت تنتشر فيها هذه العمارة متنقلة من دولة الى دولة أخرى ، ومن مدينة الى مدينة بعيدة عنها ، فقد قامت أول عمارة زجاجية في المدينة السويدية التي أعيش فيها ، مثلما قامت عمارات زجاجية في مدن أخرى من السويد.

5
المالكي والتهديد بصولة خرفان جديدة !
           

سهر العامري
كل العراقيين سمعوا بتهديدات مختار العصر ، المالكي ، بصولة فرسان جديدة يشنها على فقراء أهل البصرة ، وربما فقراء العراق قاطبة ، وقد حرص المالكي أن لا يتفوه هو بهذا التهديد الأجوف فرماه على عموم حزب الدعوة ببيان رنان لم يرَ العراقيون منه غير دخان بقية من رماد .
الكثير من العراقيين لا يعرفون لماذا تحرك المالكي في جولته الأخيرة بين محافظات الناصرية ، والعمارة ، والبصرة ، وعلى حين غرة ، ومن دون سابق إنذار ؟ ولماذا أراد المالكي أن يلقي بهذيانه على مسامع ممن يسمون أنفسهم بشيوخ العشائر في المحافظات الثلاث المذكورة دون غيرهم من أبناء تلك المحافظات ؟
قد يقول البعض إن المالكي ذهب لحشد التأييد له أولا ولحزبه ثانيا ، وذلك بسبب قرب ساعة انتخابات مجالس المحافظات التي ستجري في الشهر الرابع ، نيسان ، من السنة الجديدة 2017م ، ويضيف هذا البعض : إن توجه المالكي نحو بعض من شيوخ العشائر كان بسبب من أن المالكي قد قدم لهم الكثير من الرشى على مدى السنوات الثمان التي شغل بها منصب رئاسة الوزارة ، وها هو يعود لهم اليوم كي يمنيهم بتلك الرشى التي ذاقوا حلاوتها في سالف الأيام . لكلا القولين بعض من الوجاهة ، وليس الوجاهة كلها .
المراقب لما يجري على الساحة من أحداث في العراق يعرف أن زيارة المالكي للمحافظات الجنوبية الثلاث جاء بعد يومين من مقابلة السفير الأمريكي في العراق له ، تلك المقابلة التي استدعاه السفير الأمريكي ذاك لها . فغب هذه المقابلة سار موكب المالكي بسياراته السود نحو تلك المحافظات ليبيع تجارته البائرة على بعض أصحاب النفوس الضعيفة التي سماهم أبناء الجنوب بكلمة " اللوكية " وهي كلمة تليق بأولئك الشيوخ الحالمين برشى المالكي .
حدثني صديق ينتمي لحزب ديني خارج منظومة التحالف الشيعي يقول : توجهت لاحد شيوخ العشائر ، أحمل له دعوة لحضور احتفال ديني نقيمه بعد أيام ، حين فتح الشيخ المظروف الذي يحمل الدعوة ، وهو عبارة عن ورقة مكتوب فيها اسمه ومكان وتاريخ ذلك الاحتفال ، التفت لي هو وملامح السخرية تغطي وجهه قائلا : خذ ورقتك وانصرف من هنا ، وأضاف كنا نفتح المظروف زمن صدام نجد فيه الخمسة آلاف دينار ! وأنت اليوم أتيتني بورقة . خذها واذهب ، ولن تعود لي ثانية بمثلها !
هذه هو الجمهور الذي راهن عليه المالكي ومن وراءه حزبه ، فهو يعلم علم اليقين أن عموم جماهير المحافظات الثلاث ، وكذلك عموم الجماهير في العراق ، اكتشفت اللعبة الأمريكية التي كان المالكي كعميل واحدا من رجالاتها ، فعادت تلك الجماهير تبتعد شيئا فشيئا عن فرسان تلك اللعبة التي استغفلت الناس بالطائفية المقيتة ، وبالديمقراطية الأمريكية المزيفة التي لم يحصد منها عموم الناس في العراق سوى الدمار والخراب ، والقتل والموت المتواصل على مدى أكثر من ثلاث عشرة سنة ، ومن دون أمل بالخلاص من هذا الوضع المزري الذي تعيش فيه الجماهير العراقية حيث الفقر والبطالة وقلة الخدمات وفقدان الأمن ، وامتهان كرامة الوطن ، وضياع خيراته ، وحرمان أغلبية أبناء الشعب العراقي من العيش الكريم .
وعلى هذا يبدو أن السفارة الأمريكية في العراق صارت على اطلاع أكيد بالوضع السياسي في العراق ، بتردي شعبية الأحزاب والشخصيات التي حملتها الى الحكم في العراق على دباباتها ، ولشعورها بهذا الخطر ، وبخطر تصاعد العداء لأمريكا وسياستها المدمرة في العراق ، ذلك العداء الذي صار ينتشر بين أوساط كثيرة خاصة في جنوب العراق لهذا عادت أمريكا وجندت حصانا خاسرا لطالما ركبت عليه من قبل ، ذلك الحصان الذي حاصرته الجماهير الغاضبة في المحافظات الجنوبية ، ففر هاربا الى بغداد ينشد الأمان بحضن السفارة الأمريكية ، وهو يطلق التهديد بصولة خرفان جديدة ، لن تقع ثانية أبدا لسبب واحد لا غير هو عدم وجود جندي أمريكي على أرض البصرة اليوم ، هذا الجندي هو الذي أمر المالكي بصولة الخرفان الأولى ، وهو الذي حماه وقتها .

6
المنبر الحر / ملك الحمام
« في: 21:26 24/11/2016  »
ملك الحمام

سهر العامري
مئات العيون تسقط نظرها عليه كل يوم ، وهو يدور في مملكة شيد بيوتها بنفسه تحت مجسر يقع في نهايات طريق طويل ، تذهب منه تلك النهايات متفرعة الى عدة ضواحي من مدينة لندن ، وأهمها ضاحية همرسميث الواقعة في الغرب من تلك المدينة المشهورة ، والتي يرتادها الناس في جميع مواسم السنة ، ومن بلدان شتى .
الملفت للنظر أن ذاك المجسر الضخم الذي اختاره جون أو ملك الحمام ليبني تحته مملكة الحمام كان ردئ البناء ، فلطالما تساقطت بعض القطع الاسمنتية منه على السيارات المارة من تحته ، أو كثيرا ما كانت مياه الأمطار الساقطة عليه تتسرب منه تاركة آثارها عليه ، والسبب في ذلك مثلما يظهر لكل عابر لذلك الطريق هو رداءة مادة الاسمنت التي دخلت في تكوينه وبنائه ، ومع ذلك فقد حاول من يعنيه الأمر أن يقوم باصلاح هذا الخلل البين فيه ، ولكنه ظل اصلاحا ملفقا لا يمكن أن يعمر طويلا .
لا أحد يعرف لماذا اختار جون هذا المكان للعيش فيه ، مع المئات من طيور الحمام على مختلف صنوفها وألونها ، رغم أنه رجل يعيش في أطراف العمر ، قد أحنت السنون قامته على قصرها ، فراح يمشي محدودبا ، واضعا على عينيه الصغيرتين ، الزرقاوين ، نظارة كبيرة سوداء ، مثلما يضع على رأسه طاقية بلون نظارته وملابسه القادمة من القرون الوسطى .
تقوم مملكة جون على بيوت صغيرة من خشب عتيق ، يصطف بعضها الى بعض بشكل عشوائي ، وتمتد على مسافة صغيرة تحت رصيف ذلك المجسر ، ولا يعاني المارة من ذلك الطريق من معرفة ما في داخل تلك البيوت الخشبية ، فهي بيوت دون سقوف يستطيع أي واحد أن يرى فيها بعضا من أكياس النايلون المتسخة ، جمع فيها جون أشياء من نفايات القمامة التي توضع في أماكن معين في شوارع تلك المدينة ، وخاصة تلك النفايات التي تحتوي على بقايا الأكل ، حيث تشكل قطع الخبز أكثرها ، وقد كان هدفه من جمع بقايا الخبز من صناديق النفايات هو تقديمه كطعام للحمام الذي يشكل جزءا مهما من مملكته تلك ، ولكن طريقة تقديم تلك القطع تتخذ طقسا معدا بعناية من قبله ، فهو حين يريد اطعام الحمام بفتات الخبز ذاك يقوم بلباس رداء خفيف ، رمادي اللون ، يشابه الى حد بعيد لون الحمام الذي يجول فوق رأسه ، أو يحط على جدران بيوته الخشبية الواهية التي تتقدمها نجمة داود مرسومة على الأرض الاسمنتية بلون أبيض ، ولا يعرف أحد لماذا قام جون برسم نجمة داود على أرض مملكته ، فهل كان يظن أنها شعار ديني يصون له تلك الجدران الخشبية ؟ أم أنه يريد أن يمثل مملكته بمملكة داود ؟ تلك المملكة التي ينحشر لها الطير ويؤب . ثم إن جون نفسه يشبه داود في زرقة عينيه وقصر قامته ، ولهذا يجلس هو على الارض محدودبا ، ويطأطأ برأسه مرة ، ثم يرفعه بحركة سريعة ، بينما تباشر يداه برمي فتات الخبز الى الأعلى ، فيهب الحمام نحوها ، يلتهمها وهي طائرة ، أو وهي ساقطة على جنبي جون ، وهو في هذا الطقس الغريب يتحد تماما مع الحمام فلا يفرق بينه ، وبين ذاك الحمام سواء هيئته كواحد من البشر ، وليس من الطيور .
بعض من العابرين بالسيارات من ذلك الطريق يظنون أن الرجل فقير لا يملك شيئا ، حتى أنه يجلس في بيت خشبي لا تزيد مساحته عن نصف متر مربع ، يضع أمامه علبة صفيح يشعل بها نارا يتصاعد منها دخان كثيف ، وتفسير فعله هذا يظل سرا في صدره ، فلا أحد من المارة يعلم لماذا يشعل النار ، ويجلس في هذا الحيز الضيق . ومع ذلك فقد اعتقدت نجلاء ، وهي تمر عليه كل يوم في باص من باصات لندن ذوات الطابقين ، أنه رجل فقير ، ولهذا طلبت من زوجها بالحاح أن يقدما له مساعدة مادية قد تنفعه في شيء ما ، خاصة وهما قد شاهداه على حاله هذا على مدى سنوات طويلة ، وقد كانا حائرين في تقديم تفسير لذلك الحال الذي عليه هو .
كانا هما مقتنعين من أن الرجل كان فقيرا في مجتمع تدور فيه عجلة الرأسمال دونما التفاتة لهؤلاء الذين يعيشون على قارعة الطريق ، فهما لا زالا يتذكران تلك الليلة التي كانا جالسين فيها في مقهى من العاصمة البلغارية صوفيا ، وفي ساعة متأخرة من الليل في زمن الاشتراكية ، كيف وقف شرطيان أمام طاولة يجلس حولها شابان ، وفي عجالة سألهما أحد الشرطين عن سبب تأخرهما الى هذه الساعة المتأخرة من الليل ، فرد أحدهما أنهما لا يملكان عملا ما .
أخرج الشرطي دفترا صغيرا من جيبه ، ثم دون فيه معلومات عنهما ، وطلب منهما مرافقته الى مكان ما
يتم من خلاله في اليوم التالي توفير عمل لهما .
قناعة نجلاء بأن جون كان رجلا فقيرا دفعتها الى الطلب من زوجها أن يترجلا من الحافلة في اليوم التالي ، وفي محطة توقف تلك الحافلة التي تقابل مملكته ، ثم يتوجهان له وهو بين الحمام ، ويقدمان له عشرين جنيها يصرفها مثلما يحلو له ، ولهذه الغاية نزلا في صباح اليوم التالي في المكان المحدد ، واتجها صوب الرجل ، الملك :
-   هلو ! حياه زوج نجلاء بلغته الانجليزية ومثله حييته نجلاء .
بعدها أخرج الزوج من جيبه عشرين جنيها ، وسلمها لجون الذي خلع نظارته السوداء ، فبدت عيونه الصغيرة الزرقاء المختفية وراء سواد تلك النظارة التي لا تفارق عينيه ، وراح يتفحص ورقة العشرين جنيها التي تقبلها من نجلاء وزوجها بطيبة خاطر .
لكن الأمر المثير والغريب حدث بعد ذلك حين عبرت نجلاء وزوجها الى رصيف الشارع الآخر كي يستقلا الحافلة القادمة من جديد رغم زحام مرور السيارات في ساعات الصباح الأولى ، حيث يهب العمال والطلاب والموظفون الى أماكن أعمالهم ، فالكل يجب أن يتوجه لعمله ، فالطلاب مثلا كانوا يتوجهون الى مدارس تبعد عن بيوتهم مسافات بعيدة ، وأحيانا تتعاكس حشودهم ، فبعضهم يتوجه من شرق المدينة الى غربها ، والبعض الآخر يتوجه من غربها الى شرقها ، وفي حركة تعاكس يفهم منها أن الطالب ليس حرا في اختيار المدرسة التي يريد ، أو التي تقع على مقربة من سكناه ، يضاف الى ذلك أن معاناة الطلبة الصغار أكبر من معاناة الكبار ، والى الحد الذي يتطلب من الأم أن ترافق بنيها الى المدرسة ، مثلما تتبرع نساء أخر بالوقوف في منطقة ما من الشارع من أجل مساعدة الطلاب على عبورهم خوفا عليهم من السيارات المارة . ولكن جون رغم زحام حركة مرور السيارات اندفع نحو الرصيف المقابل للشارع الذي يقف عليه زوج نجلاء ، والذي كان يحاول أخذ صورة له ، وهو يتوسط حشد من الحمام قرب مدينة بناها على شكل بيوت استعاض عن سقوفها ، على ما يبدو ، لقلة حيلته بسقف ذلك المجسر .
صار وجها لوجه مع الزوج ، وهو يرتعش ويهذي بكلمات غير مفهومة ، ويده تمتد الى محفظة صغيرة أخرجها من أحد جيوبه ، وراح يفتش بين أوراق عادية فيها على العشرين جنيها التي منحها زوج نجلاء له ، وحين عثر عليها ردها له ، وهو في حالة غضب قائلا : خذها لا أريدها .
لم يكتف هو بذلك بل ظل يلاحق نجلاء وزوجها رغم انهما تفاديا غضبه وانزعاجه بهدوء وبرودة أعصاب ، ويبدو أن هذا الرد هو الذي شجعه على ملاحقتهما رغم أنهما ابتعادا عنه مسافة ليست بالقصيرة ، ولكنه مع ذلك ظل على ملاحقته لهما وهذيانه ، وهذا ما اضطر زوج نجلاء أن يعود الى ملاقاته من جديد ، ويحذره هذه المرة بأنه سيتصل بالشرطة إذا لم يكف عن ملاحقته تلك ، وبهذا التحذير خمد هو ، ولم ينبس ببنت شفة بعدها ، وعاد من حيث أتى صامتا .
صمت تماما حين خرجت كلمة "police" من فم الزوج ، تلك الكلمة التي أصابته في مقتل حتى أن الزوج بعدها تأكد أن هذا الرجل ليس فقيرا ، وإنما هو رجل معتوه ، تعرض لآخرين غير نجلاء وزوجها ، ولهذا فقد زار هو من قبل مراكز الشرطة ، ولقن فيها أكثر من درس ، عاد بعدها يخاف أشد الخوف من كلمة شرطي ، ولم يقف الحال عند هذا الحد بل ربما قامت الشرطة بإزالة مملكته من أماكن أخرى كان قد شيد فيها تلك المملكة ، وحرم من أجواء غرام كان يعيش فيها بين أجنحة الحمام .
لم يكن زوج نجلاء يهدف من أخذ صورة لمملكة الحمام تلك سوى الاحتفاظ بها كذكرى ، وليس لشيء آخر ، ولكن الملك المعتوه ، جون ، اعتقد أن هذه الصورة ستأخذ طريقها الى الصحافة ، وحال نشرها، ثم معرفة شرطة المدينة بها ستكون تلك المملكة قد سقطت وأزيحت من تحت سقف ذلك المجسر الخرب بأمر من شرطة المدينة .

7
ترامب ابن أمين للبراغماتية !
قامت سلطة المال في الدولة الأمريكية على فلسفة جون دوي المعروفة بالبراغماتية أو النفعية حين يترجمها البعض الى لغتنا العربية ، تلك الفلسفة التي تسيطر على المدرسة الأمريكية ، وكذلك قامت على المبدأ الرأسمالي الشهير ، مبدأ الفيلسوف والباحث الاقتصادي الأسكتلندي آدم سميث : دعه يعمل دعه يمر ! ، وهذا المبدأ يبيح لأصحاب رؤوس الأموال العمل بحرية تامة وفق قوانين تراعي مصلحة الطبقة الرأسمالية المتحكمة بشؤون البلاد دون النظر كثيرا لمصلحة الطبقات الاجتماعية الأخرى خاصة طبقة العمال .
جون دوي نفسه ، وطبقا لفلسفته ، حين يقدم لك طاولة تكتب عليها يطالبك أن تسأل نفسك عن مقدار الربح أو النفع الذي ستحققه من خلال استغلالك لتلك الطاولة بمقالة أو كتاب تنجزه عليها ، ومن ثمة تبيعه لتحصل على ثمنه ، فهو لا يطالبك أبدا أن تسأله عن خالق أو صانع تلك الطاولة ، فهذه مسألة لا تهمه كثيرا ، ولا يريد لمريده أن يشغل باله بها . وهو هنا يقطع صلة الفلسفة بالمسألة الرئيسة فيها التي تثيرها جل المدارس الفلسفة على مختلف مشاربها ، تلك المسألة التي تتجسد بالسؤال التالي : هل الكون مادة أم عقل ؟ كما إنه لا يهتم بإثارة السؤال التالي : هل يمكن ادراك الكون أم لا يمكن ادراكه ؟ وهذا السؤال يمثل المسألة الثانوية عند المدارس الفلسفية الأخرى .
 حين يطالب دونالد ترامب اليوم الكويت مثلا بتقديم 25% من نفطيها ثمنا لحماية الولايات المتحدة الامريكية لها ، فهو ينسجم في مطالبته هذه مع فلسفة جون دوي تماما ، فالحروب التي تخوضها الامبريالية الأمريكية لا بد لها من الحصول على ثمن لها ، أما الاعتبارات الأخرى من مثل صد العدوان ، ونصرة المظلومين وغيرهما لا وجود لهما في عالم تلك الفلسفة التي ربت أجيالا على هذا النهج ، وخرجت أساتذة من جامعاتها حملوا ألويتها بإخلاص وبأمانة .
كانت الحرب الأمريكية التي شنتها الامبريالية الأمريكية على الشعب الفيتنامي البطل على أشدها بداية أعوام السبعينيات من القرن المنصرم ، وكنا وقتها طلابا في كلية التربية من جامعة بغداد نتلقى دروسا في المدارس الفلسفية ، ومنها الفلسفة البراغماتية ، وحينها كان يدور جدل حار في قاعة الدرس بيني وبين الاستاذ المحاضر المتخرج في احدى الجامعات الامريكية ، والذي كان يبرر الحرب الأمريكية الظالمة التي كانت تشنها الطبقة الرأسمالية الأمريكية على الشعب الفيتنامي ، وكان الأستاذ يقول لي : إن الحرب مبررة ما دمت الطبقة الرأسمالية تربح من الفحم الفيتنامي أكثر مما تخسره في تلك الحرب . أما الرؤوس الكثيرة للفيتناميين التي كان يقطعها الجنود الأمريكان في أحراش الريف الفيتنامي ، ويرفعونها على أسنة حراب بنادقهم فقد كانت لا توخز ضمير الأستاذ ذاك .
فلسفة الربح والمال هذه استردت على عجل جميع الأموال التي أنفقتها الطبقة الرأسمالية الأمريكية في الحرب التي شنتها تلك الطبقة على العراق ، وذلك بعد أن سحقت الدبابات الأمريكية أكبر انجاز حققه الشعب العراقي هو تأميم النفط في العراق ، وحرمان الشركات الأمريكية والبريطانية من نهبه ، ذلك النهب  الذي تواصل على مدى عقود من السنوات ، وأنا هنا لا أنسى تلك الليلة التي جاءنا بها الى درانا في منطقة حسين داي من العاصمة الجزائرية ، وفي ساعة متأخرة منها ، بعض من موظفي السفارة العراقية هناك بقرارات تأميم النفط التي صدرت في العراق ساعتها ، فقد كان التأميم هذا مطلبا جماهيريا هتفت به الجماهير العراقية في المظاهرات الكبيرة التي كانت تسير في شوارع المدن في هذه المناسبة أو تلك ، ولكن بعد الحرب تلك صار النفط العراقي يتدفق من أنابيب النفط العراقية ذهبا والى جيوب الرأسماليين الذين دفعوا بجيوشهم لغزو العراق ، ومن دون عدادات تعد مقدار ما تدفق منه ، ثم توج هذا الوضع باتفاقية نفطية مجحفة بين العراق وبين تجار النفط من الرأسماليين عرفت بـ " بعقود التراخيص " تلك الاتفاقية التي لم تلتفت الى قرارات التأميم تلك ، والتي صار العراق بموجبها يدفع الملايين من الدولارات لشركات النفط الرأسمالية حتى ولو لم يكن النفط قد تدفق من الآبار التي حفرتها تلك الشركات .
خلال حملته الانتخابية رحب دونالد ترامب بنهب النفط العراقي، مثلما اثني على السعوديين بقوله : إنه يحبهم لأنهم أصحاب ثروات يستطيعون بها شراء بعض العقارات التي يبنيها هو في أمريكا أو خارج أمريكا . فدونالد ترامب ابن أمين لتلك الفلسفة التي قامت على المال والربح ، وحتى لو تطلب الأمر خوض غمار معارك شرسة تبعد آلاف الكيلومترات عن حي المال والأعمال في الول ستريت من منطقة مانهاتن في نيويورك عاصمة المال الأمريكية حيث تنتصب هناك ناطحة سحاب للرئيس المنتخب دونالد ترامب تتكون من خمسة وستين طابقا ، وقفت أمامها أنا ذات مساء حين زرت آثار ما تهدم من ناطحات سحاب أخرى بسبب من غزوة ابن لادن لهذا الحي .




8
رحلة في السياسية والأدب ( 11 )

سهر العامري
حين وصلنا الى بناية البلاط الملكي وجدنا أعدادا غفيرة من الطلاب قد وصلت قبلنا ، والسبب في كثرة عددهم هو أن جميع طلاب كليات جامعة بغداد البالغ عددهم اثنين وثلاثين ألفا في سنة 1968م قد أعلنوا الإضراب تضامنا مع طلاب كلية التربية في اليوم التالي لليوم الذي شن به الجيش هجومه علينا نحن طلاب كلية التربية .
كان الطلاب ساعتها يهتفون مطالبين رئيس جامعة بغداد ، عبد العزيز الدوري ، بالاستقالة بعد أن لاذ هو بالصمت ، ولم يستنكر الهجوم الغاشم الذي قام به الجيش على طلاب عزل لا يملكون من وسائل المقاومة غير الحجارة مقابل الرصاص الذي كان ينهمر من كل حدب وصوب عليهم ، ولهذا كان الطلاب على حق حين كانوا يهتفون بهتاف واحد وصل الى آذان رئيس جامعة بغداد الذي كان قابعا في غرفة من غرف تلك البناية . والهتاف ذاك هو : " كوم "قم " استقيل يا عزيز الدوري !
في البناية تلك ، بناية البلاط الملكي ، التي تحولت الى رئاسة جامعة بغداد بعد سقوط الملكية وقفت ذات ليل كوكب الشرق ، أم كلثوم ، تغني بعضا من أغانيها الساحرة ، ولم يتذكر الحاج اسماعيل عبيد* ، الجندي الحارس الواقف في باب البلاط ، غير أغنيتها الشهيرة التي جعلته يتمايل مع كل كلمة فيها كانت تقولها أم كلثوم : " غني لي .. شوي شوي ! غني لي .. وأخذ عيني ! كان ذلك في سنة 1949م ، حين كان الحاج إسماعيل عائدا من الحرب في فلسطين للتو وقت أن أعلنت الهدنة فيها ، وهي الهدنة التي جعلت بعض الضباط العراقيين العائدين من تلك الحرب يفكرون بالثورة على الحكم الملكي في العراق ، وقد كان الزعيم عبد الكريم قاسم في طليعة هؤلاء الضباط ، وقد أقسم بأغلظ الأيمان وهو في الطريق من فلسطين الى العراق على إزاحة الحكم الملكي عن صدر العراق ، فكان له ما أقسم عليه حين قادة ثورة الرابع عشر من تموز سنة 1958 م .
كانت أم كلثوم قد زارت العراق زيارتين قبل الزيارة التي ذكرتها ، فقد زارته سنة 1932م وكانت هذه زيارتها الأولى ، ثم زارته سنة 1946 م وهذه زيارتها الثانية ، وقد حظيت في الزيارات الثلاث باستقبال منقطع النظير من كل العراقيين ، وعلى مختلف مشاربهم وشرائحهم ، وقد كتبت هي عن زيارتها الأولى لبغداد رسالة الى علي بك البارودي ذلك الرجل الذي وصف بأنه مستشارها المالي ، جاء فيها :
( عزيزي علي بك
اهدي سلامي وشوقي وأتمنى لك مزيد من الصحة والسرور وبعد ، أعرفك أني قمت بالطيارة الفخمة من مصر . وكنت مستريحة طول الطريق لم اشعر بأي شيء الى أن وصلت طبرية في فلسطين . وهناك تتقابل الطائرات القادمة من أوربا للسفر الى بغداد ، فتأخرت هذه الطيارات عن الموعد المقرر لها فاضطرت الشركة لنقلنا بطيارة أخرى كانت صغيرة جدا جدا بالنسبة الى الأولى ، فأخذت العواصف تلعب بها والرياح تهبط بها تارة وتصعد أخرى ، مما حرك أمعاء الركاب جميعا الا أنا واخذوا يطرشون وأغمي على البعض منهم وعلت وجوههم صفرة الموت . وفي الواقع كان منظرا مؤلما الى أن وصلنا بغداد ، فوجدت في مطارها حشدا عظيما من كبار العراقيين يتقدمهم مندوب الحكومة وقنصل مصر وعلي بك العمروسي ورجال المحاماة والطب والصحافة والشعراء وعلى رأسهم الشاعر الكبير الأستاذ الرصافي .
وقدموا لي باقة الورد ثم ركبت السيارة الخصوصية وكانت مزدانة بالأعلام والأزهار . وسارت حتى وصلت الى قصر بديع في ضواحي بغداد اعد خاصة لضيافتي ، وعند وصولي باب القصر نحرت الذبائح تحت قدمي ودخلت فاستقبلت وفود المهنئين . وفي المساء أقامت لي القنصلية المصرية مأدبة عشاء دعي اليها رؤساء الوزارات ورئيس البلاط الملكي وقناصل الدول ، وكانت حفلة بديعة .
وفي اليوم التالي دعيت لتناول الشاي في قصر جلالة الملك علي شقيق جلالة الملك فيصل فاستقبلني بالحفاوة وقدمني الى صاحبة الجلالة حرمه والأميرات كريماته ، فتناولت معهن الشاي ، وأبى جلالة الملك الا أن أتناول العشاء مع أصحاب الجلالة ( وكان العشاء على كيفك يا سيد علي ) . ثم بدأت بأذن الله وقوته اولى حفلاتي في مساء السبت 19 الجاري ، وتلتها الثانية في مساء الاحد 20 منه ، فكان التوفيق من الله عظيما حيث كان الإقبال والاعجاب يفوقان الوصف. وقد حضر الحفلتين الوزراء ومحافظ المدينة وكبار الموظفين . وكان النظام بديعا . وأخذت الجرائد هنا تفيض بالاطراء والاعجاب ( بفنانة الشرق انا ) . ثم يتوافد على قصري كل يوم كبار الاعيان ورجال البلاط والوزراء مظهرين شديد اعجابهم وسرورهم بحلولي في بغداد .
أما امس فقد تشرفت بدعوة جلالة الملك فيصل للغناء في حفلة خاصة حضرها الملك وسمو ولي العهد غازي ورئيس الوزراء ورئيس مجلس الاعيان وكبار رجال البلاط وهناك غنت ام كلثوم غناءا بديعا أخرجهم عن صوابهم من شدة ما نال منهم الطرب ، فكانوا يتسابقون الى اظهار إعجابهم بي وتقديرهم لفني وهذا كله من فضل ربي يا سيد علي .
أرسلت لك أمس تلغرافا أطمئنك بوصولي ، وسبب تأخيره كان في إدارة البرق لأنه غير منتظم بسبب رداءة الجو هنا .وختاما أهديك تحياتي وخالد والسيد يهدونك السلام .
عن مجلة الراديو المصري 1932 )
في هذا البلاط ، وبعد أن اكتشف بعض الطلاب من الذين أرادوا مقابلة رئيس جامعة بغداد قد هرب من باب خلفي يؤدي الى نهر دجلة ، صعدت أنا على أكتاف الطالب الذي ذكرته من قبل ، وهو نبيل العماري الذي كان فارعا في الطول ، وقمت بإلقاء قصيدة لي على مسامع الطلاب المتجمهرين ، وأمام عدسات تصوير رجال المخابرات  العسكرية الذين اندسوا بين المتظاهرين .
كنت أنا قد كتبت القصيدة تلك في صباح ذلك اليوم ، والتي لم يستقر منها في ذاكرتي غير هذه الأبيات التي سأذكرها هنا ، والتي كنت هاجمت فيها النظام ، وأتيت فيها على ما جرى لطلاب كلية التربية ، وأنا واحدا منهم ، كما ذكرت فيها اسم طالبة هي ميسون من محافظة القادسية " الديوانية " التي سقطت جريحة برصاص القوة العسكرية التي هاجمتنا :
لا خير في هذا الشجاع وسيفه ِ... إذ راح يقتل في بنيه ِ ويعقر ُ
حمدا يريد وما جنينا منهم   ...... إلا الشقاء ولا شقاءً يشكر ُ
.......         ....      ...     .......     ...... ..........
قم يا أخي واكتب حروف نضالنا ... مادام نجع من رفاقك يقطرُ
وارسم على لوح الوجود وخطها ..... آيات نصر من دم تتعطر ُ
ميسون خير هدية قدمتها............. للنصر حتى جاءنا يتبختر ُ
وقد زدت على بداية هذه القصيدة أبياتا بعد ذلك حين تخلصت من قبضة رجال المخابرات العسكرية وسافرت الى البصرة لحث طلابها على الإضراب بعد أن كان التردد مسيطر عليهم ، فكتبت فيما كتبت ، وأنا في الطريق الى البصرة :
للبصرة الفيحاء جئت ُ أبشر ُ .... صوتا يهز ُ الظالمين ويقبر ُ
أم الرشيد تضرجت بدمائنا ....... أفما أتاك حديثها والمخبر ُ
بعد أن ألقيت القصيدة المذكورة في بناية رئاسة جامعة بغداد " البلاط الملكي " قرر الطلاب السير بمسيرة صامتة الى الباب الشرقي من بغداد مرورا بشارع الرشيد ، وعلى أن ينظم الطلاب فيها سيرهم بخطوط متتابعة كل خط يتكون من ستة طلاب ، وإذا ما قررت قوات الشرطة وأفراد المخابرات العسكرية مهاجمة المسيرة تلك فإن الطلاب وقتها سيحولونها الى مسيرة صائتة .
وقفت أنا على طرف الخط الذي يضم ستة طلاب ، كان من بينهم صديقي ، أمين قاسم الموسوي الذي كان على يميني من ذلك الخط ، ولكنني سرعان ما اكتشفت أن رجل المخابرات الذي قام بتصويري حين كنت ألقي قصيدتي يسير الى جانبي ولكن على رصيف الشارع ، ولهذا طلبت من الطلاب أن يبادلوني المكان فصرت أسير في وسط ذلك الخط بدلا من طرفه ، وكان هدفي من ذلك هو حمايتي من رجل المخابرات الذي كان متأهبا لاعتقالي ، حالما تتوفر له الفرصة المناسبة .
حين اقتربت المسيرة من وزارة الدفاع العراقية في منطقة الميدان من بغداد وجدنا انتشارا لبعض الدبابات في الشارع الذي تطل عليه تلك الوزارة ، وحين زدنا في تقدمنا نزل بعض الضباط والجنود الى الشارع ، وحاولوا منعنا من السير ، حينها اشتبكنا معهم ، ثم تحولت المسيرة الى مسيرة صائتة ، وصرنا نهتف : " لازم تنتصر إرادة الطلاب " .
كانت الترجمة الحقيقية لهذا الهتاف هى أننا كنا نريد من الحكومة الاعتراف بنتائج الانتخابات الطلابية التي دعت لها الحكومة نفسها ، والتي سارعت هي نفسها الى إلغائها  حال ظهور نتائجها التي كانت لصالح الاتحاد العام لطلبة العراق الذي هو منظمة مهنية من المنظمات المهنية ذات العلاقة بالحزب الشيوعي العراقي ، ولم تكتف ِ الحكومة بذلك بل أنها شنت حملة شعواء على صفحات جرائدها ضد الطلاب وتوجهاتهم السياسية ، وقد عبر عن وجهة نظر الحكومة تلك أستاذ مادة النقد الأدبي في كلية التربية داود سلوم حين قال لنا ذات صباح أثناء محاضرة له : هل من المعقول أن يكون الحزب الشيوعي العراقي قد سيطر على ثانويات العراق كلها ؟ فأكثر توجهات الطلبة الذين ينتقلون من تلك الثانويات الى كلية التربية هي توجهات شيوعية "
ولي أن أقول بعد هذه السنوات الطويلة التي مرت على إجراء تلك الانتخابات إن هناك أطرافا في حكومة عبد الرحمن عارف تتعاون مع دوائر المخابرات الغربية خاصة البريطانية والأمريكية منها ، فدوائر المخابرات الغربية كانت تريد أن تعرف ما مدى تأثير الحزب الشيوعي العراقي في الشارع العراقي ، وما مقدار نشاطه بين الناس في العراق ، فكانت تلك الانتخابات هي المحرار الذي قاست به تلك الدوائر حرارة ذلك الشارع ، ولهذا عملت بنشاط وعلى عجالة من أجل القيام بانقلاب السابع عشر من تموز الذي حمل عناصر مشبوهة من الجيش مثل عبد الرزاق النايف وإبراهيم الداود الى السلطة مثلما حمل شخصيات بعثية كانت قد تبرأت من حزب البعث مثلما مر ذلك سابقا ، وكان في طليعة هؤلاء أحمد حسن البكر وصدام الى الحكم ثانية .
من البصرة ذهبت الى هور الحمّار الذي صرفت به أكثر من أسبوع ، كنت أمارس هواية صيد الطيور المائية ببندقية صيد في أيام منها ، وبقيت على هذه الحالة الى أن استلمت رسالة من صديقي أمين قاسم الموسوي يخبرني فيها بإمكانية السفر الى بغداد بعد هدوء الوضع فيها رغم استمرار الإضراب . " يتبع "
----------------------
* الحاج اسماعيل عبيد هو أبو علي اسماعيل عبيد رئيس جامعة ذي قار سابقا .


9
رحلة في السياسية والأدب ( 10 )
                   

سهر العامري

المزاجية أو الاستعداد النفسي التي تحدثت عنهما فيما مضى من هذه الرحلة عرفت عند شعراء كثيرين ، وفي عهود مختلفة كانوا يرفضون فيها أن يقف في طريق مزاجيتهم تلك الحكام والولاة الذين يعترضون على سلوكهم وتصرفاتهم التي تبدو غير مقبولة من قبل الآخرين ، تلك التصرفات التي قادت بعضهم الى الموت ، فقد مررت أنا على شاعرين من هؤلاء في كتاب صدر لي منذ سنوات تحت عنوان : ظرف الشعراء ، كان أحدهم هو أبو الهندي الذي كان مغرما بالشراب ، مستهترا به ، فقد شرب ذات يوم وهو على قارعة الطريق بخراسان ، فمر به ساعتها نصر الليثي ، حاكمها ، فقال له : ويحك - يا أبا الهندي – ألا تصوننّ نفسك ؟ فقال له : لو صنت نفسي أنا لما حكمت خراسان أنت !
شرب هو ذات ليل مع نفر على سطح دار ليس فيه ستر في قرية من قرى مرو ، وقد سكروا فخشوا على أبي الهندي أن يسقط من على سطح الدار حين أرادوا النوم ، فربطوه بحبل من رجله ، وطولوا فيه ، فقام أبو الهندي في بعض الليل ليتبول ، فسقط وظل متدليا بالحبل ، وهم لا يشعرون ، فلما أصبحوا وجدوه متدليا ، ميتا !
أوصى أبو الهندي أن تكتب أبياته التالية على قبره بعد موته :
اجعلوا إن متّ يوما كفني
ورق الكرم وقبري معصره
ودفنوني ودفنوا الراح معي
واجعلوا الأقداح حول المقبره
إنني أرجو من الله غدا
بعد شرب الراح حسن المغفره
وهذا ابن هرمة الشاعر الذي كان شرّابا ، مغرما في الخمرة ، مدمنا عليها ، أتى أبا عمرو بن أبي راشد ، فأكرمه ، وسقاه إياها أياما ثلاثة ، ثم طلب ابن هرمة النبيذ ، فقال غلام أبي عمرو : لقد نفد نبيذنا ! فنزع ابن هرمة رداءه عن ظهره ، وقال للغلام : اذهب به الى النّباذ ( بائع الشراب ) ، وارهنه عنده ، واتِنا بنبيذ ، ففعل ، وجاء أبو عمرو ، وشرب معه من ذلك النبيذ ، وقال له : أين رداؤك يا أبا أسحاق ! ؟ فقال : نصف في القدح ، ونصف في بطنك !
كان ابن هرمة يقول :
أسأل الله سكرة قبل موتي
وصياح الصبيان : يا سكرانُ !
كان ابن هرمة قد مدح المنصور مرة ، فأعطاه عشرة آلاف درهم على بخل المنصور ، لكن ابن هرمة رفضها ، فقال له المنصور : إنها كثيرة ! فقال : إن أردت إسعادي فأبحْ لي الشراب ، فاني مغرم به ! فقال الخليفة: ويحك ! هذا حد من حدود الله ، فقال : إحتل لي بحيلة عليه يا أمير المؤمنين ! قال : نعم . فكتب الى والي المدينة : من أتاك بابن هرمة سكرانا ، فاضربه مئة سوط ، واضرب ابن هرمة ثمانين سوطا ، فصارت شرطة المدينة تمرّ به ، وهو سكران ، فينادي الواحد منهم : من يشتري الثمانين بالمئة !
إذا كان أبو الهندي قد مات ليلا ، وهو متدليا من سطح دار بحبل ، فقد مات بعده الشاعر عبد الأمير الحصيري الذي رفض وظيفة وزير الإعلام العراقي على أيام حكم الرئيس أحمد حسن البكر ، مثلما رفض ابن هرمة العشرة آلاف درهم التي قدمها له الخليفة أبو جعفر المنصور ، مات وهو على سرير في غرفة حقيرة في فندق من فنادق جانب الكرخ من بغداد ، ولم يقف على رأسه سوى الشاعر المعروف سعدي يوسف ، كما مات الشاعر قيس لفتة مراد ذات الميتة في غرفة حقيرة أخرى في جانب الرصافة من بغداد بعد أن كان قد هجر زوجته وابنته من قبل .
لقد عرفت أنا الشاعر عبد الأمير الحصيري بعد أن انتقلت للدراسة في كلية التربية من جامعة بغداد بعد أن أنهيت دراستي في ثانوية الناصرية ، وقد قررت الدخول الى تلك الكلية وأنا لازلت طالبا في تلك الثانوية ، ومازلت أذكر أنني قلت لجمع من زملائي الطلاب ، وكنا واقفين في ساحة الثانوية المذكور ، وقبل أن تنتهي السنة الدراسية الأخيرة بأشهر ، قلت لهم إنني في مثل هذا الوقت من السنة القادمة سأكون أحد طلاب كلية التربية ، وقد حققت ما قلته لهم بعد أن ثابرت على الدراسة في الأيام الأخيرة من تلك السنة الدراسي ، فقد صرت أخرج صباحا من تلك الأيام للقراءة في بستان نخيل لرجل يدعى زامل يقع على مقربة من جسر الناصرية ، ومازلت أذكر ذلك اليوم من تلك الأيام ، وهو اليوم الثالث عشر من شهر نيسان سنة 1966 حين جاءني زميل لي من الطلاب الدارسين معي راكضا يطفح وجهه بخليط من الدهشة والفرح قائلا لي : إترك القراءة ، وتعال معي ، لقد مات الرئيس عبد السلام عارف !
تركت القراءة وعدت معه ، وفي الطريق تحدث لي عن الرواية التي سمعها هو عن موت عارف من خلال إذاعة بغداد التي أعلنت في صباح ذلك اليوم عن سقوط واحتراق الطائرة التي كانت تقل الرئيس عبد السلام عارف مما تسبب بموته وموت رفاقه ، وكان مكان سقوطها في ناحية من نواحي البصرة تدعى " النشوة " .
كان عبد السلام عارف يجول في تلك الأيام في بعض المحافظات العراقية ، ويحاول أن يتقرب الى الناس فيها ، وهو لهذا الهدف كان يستخدم بعض الأمثال والمقولات الشعبية التي يعتقد أنها تقربه من الناس فيها ، ولذلك فقد خطب في محافظة بابل " الحلة " وهو في معرض حديثه عن تعبيد طريق يربط ما بين تلك المدينة ، ومدينة الشوملي القريبة منها فقال : " أما طريق الشمولي ، نارك ولا جنة هلي" ، فسيباشر بتعبيده بعد العيد ، ومثلما هو معروف فإن " نارك ولا جنة هلي " شطر مجتزأ من أغنية عراقية شعبية هي :
عل شوملي عل شوملي
نارك ولا جنة هلي .
وحين وصل البصرة قال خلال خطاب له : " طاسة بطن طاسة وبالبحر ركاسه " وهذا التعبير الشعبي هو ما نعده في علم البلاغة كناية عن موصوف ، والموصوف هنا هو : السلحفاة . ومثله قوله في الآية : " وحملناه على ذات ألواح ودسر " ففيها كناية عن موصوف هو السفينة .
باشرت أنا الدراسة في كلية التربية في بغداد التي آل الحكم فيها بعد موت عبد السلام عارف الى أخيه عبد الرحمن عارف الذي ضعفت فيه صرامة الاستبداد ، ولهذا السبب نشطت الحركة السياسية في بغداد والمدن العراقية الأخرى ، وصار لبعض القوى الدينية بعض النشاط السياسي الملحوظ ، ولكنه بشكل عام لم يكن نشاطا سياسيا معارضا للحكومة ورئيس عبد الرحمن عارف الذي كان يتعاطف مع تلك القوى المتمثلة بأخوان المسلمين وكذلك بالتنظيم الديني الشيعي الذي كان يتصدره مهدي الحكيم ، فكلا التنظيمين كان لهما نشاط محسوس في أوساط الحركة الطلابية ، ولكن ليس لدرجة النشاط الواضح للأحزاب اليسارية في صفوف تلك الحركة ، ذلك النشاط الذي كان الحزب الشيوعي العراقي يتصدره بدرجة كبيرة جدا ، فقد فازت القائمة الطلابية التي كانت تمثل الاتحاد العام لطلبة العراق فوزا ساحقا في الانتخابات الطلابية التي جرت بموافقة حكومة عبد الرحمن عارف ، وفي جميع كليات جامعة بغداد ، وبنسبة تخطت التسعين بالمئة في بعض الكليات ، وأمام هذه النتيجة التي أرعبت الحكومة وأجهزتها الأمنية والعسكرية ، مثلما أرعبت أجهزت المخابرات الغربية ، بادرت تلك الحكومة الى إلغاء نتائج تلك الانتخابات التي دعت لها هي نفسها . وردا على ذلك أعلن طلاب كلية التربية الإضراب عن الدوام في اليوم الخامس من شهر كانون ثاني " يناير " ، وشكل الطلاب في الوقت نفسه فرق تفتيش تقف على أبواب الكلية المذكور خوفا من دخول عناصر الاستخبارات العسكرية الى داخل حرم الكلية ، وكنت أنا شاهد على تسلل ضابطين من الاستخبارات العسكرية حاولا  الدخول من باب فرعي للكلية يربطها بمكتبة الكلية التي تقع على الجانب الثاني من خط سكة الحديد الذي يخترق أرض الكلية بعد أن يعبر جسر الصرافية .
جرد الطلاب الواقفون في ذاك الباب الضابطين من أسلحتهما ، وهي عبارة عن مسدسين ، ثم قاموا بضربهما ضربا شديدا ، فرا هما على إثر ذلك نحو الباب الرئيس للكلية بينما لاحقهم بعض  الطلاب بالركلات على مؤخرتيهما ، ومن بين هؤلاء الطلاب كان الطالب نبيل العماري الذي ظل يلاحقهما حتى خروجهما من الباب المذكور .
لم تمض على ذلك أكثر من ساعة حتى وصلت قوة من المدرعات العسكرية الواقفة في باحة وزارة الدفاع يتقدمها آمر الانضباط العسكري صعب الحردان الى الكلية وتوقفت عند  بابها الرئيس ، ومن هناك راح جنود تلك القوة يطلقون النار على الطلاب الذين ردوا عليهم  بالحجارة من داخل حرم الكلية .. ولكن بعد أن سقط ثلاثة طلاب وطالبة واحدة برصاص أولئك الجنود انسحب الطلاب الى داخل البنايات الدراسية ، وقاموا بغلق أبوابها بإحكام ، خوفا من دخول القوة العسكرية التي اجتاحت الكلية الى داخل تلك البنايات .
من داخل البناية التي كنت فيها أنا اتصل بعض الطلاب برئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف تلفونيا ، وقالوا له لتسمع أصوات الرصاص الذي لم ينقطع منذ ساعات ! وعد هو بوضع حل للمشكلة تمخض عن اتفاق بين الطلاب والقوة العسكرية المهاجمة يقضي بالسماح للطلاب أن يغادروا الكلية بعد تفتيشهم عن المسدسين اللذين أخذا من الضابطين في صباح ذلك اليوم ، ولكن بعد أن تعرضنا للتفتيش صار الجنود يفردون الطلاب الذين يجدون على ملابسهم بعض من أثر لدم الضابطين اللذين أشبعهما الطلاب ضربا ، وقد بلغ عدد هؤلاء الطلاب المفردين قرابة الخمسين طالبا نقلوا من الكلية الى وزارة الدفاع ، وأمضوا هناك ليلة تعرضوا فيها الى تعذيب شديد من قبل المخابرات العسكرية ، ورغم كل هذا التفتيش لم يعثروا هم على المسدسين اللذين أخفاهما الطلاب في قسم علوم الحياة من أقسام كلية التربية.
أبلغ النشطاء من الطلاب سرا في مساء ذلك اليوم بضرورة المشاركة الفاعلة في التظاهرة الضخمة التي ستنطلق في اليوم التالي من أمام رئاسة جامعة بغداد " البلاط الملكي سابقا " الواقعة في منطقة الوزيرة من بغداد ، وعلى أن يكون التجمع في بناية كلية التربية بالنسبة لطلابها ، ثم السير منها على شكل مجموعات صغير لا تتعدى خمسة أو ستة طلاب ، وذلك لضمان عدم منع الطلاب من الوصول الى مكان انطلاق المظاهرة ، وهذا ما جعل المخابرات العسكرية تتساءل عن الكيفية التي استطاع بها الطلاب من الوصول الى مكان انطلاق المظاهرة ، مثلما أخبر بذلك أحد العسكريين العاملين في محطة لاسلكي وزارة الدفاع العراقية " يتبع "








10
رحلة في السياسة والأدب (9)
               

سهر العامري
خفت الصخب السياسي في العراق بعد زوال حكم حزب البعث الأول ، وقد حاول عبد السلام عارف ، رغم أنه كان واحدا من رجال ذاك الانقلاب الأسود الذي حدث في اليوم الثامن من شهر شباط 1963، أن يبتعد عن سياسة الحزب ذاك ، وما قام به من مجازر رهيبة بحق الألوف من العراقيين ، ولهذا قامت الدوائر الإعلامية المرتبطة بنظامه الجديد بإصدار كتاب وبأعداد من نسخ كثيرة غطت محافظات العراق ، يحمل اسم : المنحرفون ! ويتحدث عن الجرائم التي ارتكبها الحرس القومي على مدى الأشهر القليلة التي حكم بها حزب البعث العراق . مثلما حاول أن يحد من غلواء التسلط الرهيب ، فسعى الى إطلاق سراح البعض من الشيوعيين التي مضت عليهم سنوات طويلة ، وهم نزلاء في السجون ، خاصة أولئك الذين مرت عليها سنوات في سجن نقرة السلمان الصحراوي ، ولكن بالشروط التي يريدها هو ، تلك الشروط التي تمثلت بتقديم كل سجين من الشيوعيين براءة من الحزب الشيوعي ، مثلما جرى الحال مع البعثيين الذين بادروا الى تقديم براآتهم من حزب البعث مثلما مر علينا ذلك من قبل .
في يوم صيفي نما الى مسامعي خبر يقول إن أعدادا من السجناء الشيوعيين قد نزلوا سجن سراي محافظة الناصرية قادمين من سجن نقرة السلمان الذي يقع على مقربة من الحدود العراقية السعودية ، وكان الهدف من ذلك هو إطلاق سراحهم .
كنت أنا واحدا من طلاب الصف الرابع من ثانوية الناصرية وقتها ، وقد علمت أن صديقي المعلم كاظم داود كان من بين السجناء القادمين من سجن نقرة السلمان ، وقد دخل هو السجن على أيام الزعيم عبد الكريم قاسم على إثر حادثة سجنت أنا أيضا بسببها ، وهي حادثة سقوط بريد للحزب بأيدي الشرطة زمن قاسم ، وكنت أنا وقتها قد أنهيت دراستي الابتدائية للتو.
بادرت أنا حالا لزيارة السجناء المذكورين بعد أن سمح لي الشرطي الواقف على باب السجن بمقابلة صديقي وشابا آخر هو الطالب خليل الفخري ، وقد جرت تلك المقابلة من باب السجن الذي كنت أنا نزيلا فيه قبل أشهر ، ومن خلال تلك المقابلة علمت أن لا أمل بإطلاق سراحهما وسراح السجناء الآخرين ، فجهاز الأمن يساومهم على تقديم براءات من الحزب الشيوعي ، وحين رفض جميع السجناء تقديم تلك البراءات قررت أجهزة الأمن في المدينة إعادتهم الى سجن نقرة السلمان الصحرواي ثانية ، ولهذا طلب مني صديقي كاظم وكذلك خليل أن أغسل ما اتسخ لهما من ملابس على وجه السرعة ، وعلى أن أعيادها لهم في اليوم الثاني .
حملت الملابس معي ، وصعدت الى سطح فندق الهاشمي في شارع الجمهورية ، وهناك قمت بغسل الملابس جميعها ، ثم قمت بنشرها حيث الشمس الحارقة ، والرياح النشطة ، بعد ذلك حملتها صباحا الى السجن حيث كان السجناء يستعدون للرحيل ثانية الى السجن الصحراوي الذي جاءوا منه قبل يومين ، لكن بعد أشهر من ذلك أطلق سراح البعض من أولئك السجناء ، وأعيد من كان موظفا منهم الى وظيفته من دون أن يطالبوا بتقديم براءة من الحزب الشيوعي .
أما نحن الذين قد أطلق سراحنا بكفالة من قبل فقد كنا بانتظار وصول الحاكم العسكري العام، المدعو شمس الدين عبد الله ، وبينما كنت أسير ذات يوم في الشارع مساءً التقى بي سجين كان معي في السجن غب انقلاب البعث عام 1963 ، هو المرحوم  السيد عدنان السيد جابر  الذي سرني قائلا : إن الحاكم العسكري العام على وشك الوصول الى مدينة الناصرية لإجراء محاكمات لكل من أطلق سراحه بكفالة وكنت أنا والمجموعة التي اشتركت معي في كتابة وتوزيع المنشورات التي هاجمنا في انقلاب 8 شباط 1963 من بين هؤلاء ، فقد حكم علينا وقتها بموجب مادة تقول إننا متآمرون على حياة الجمهورية ، ولكن لكوننا قاصرين فقد أطلق سرحنا الى حين بلوغنا سن الثامنة عشرة من العمر .
ومما سرني به السيد عدنان هو الطلب مني أن أقوم بإخبار والدي بأن يتصل بمديرية أمن الناصرية من أجل ضمان عدم إحالة أوراقي قضيتي ومن شاركني فيها من تلك المجموعة الى الحاكم العسكري العام لقاء مبلغ مقداره ثلاثون دينارا دفعه والدي فيما بعد الى مديرية أمن الناصرية نيابة عن المجموعة كلها ، وبذلك فقد نجونا من رؤية الحاكم العسكري العام شمس الدين عبد الله الذي أقام له محكمة خاصة في بناية القسم الداخلي التي تقابل بناية بهو الناصرية اليوم ، تلك المحكمة التي أصدرت أحكاما عديدة على الكثير من الشيوعيين في مدينة الناصرية.
بعد ذلك هدأت الأوضاع في العراق ، وصارت الأحزاب التي كان لها حضور بين الناس بعيدة عن الحكم ، ورغم أن عبد السلام عارف قام بتأسيس حزب هو الاتحاد الاشتراكي العربي الذي وهو بمثابة فرع من الاتحاد الاشتراكي العربي المصري الذي أسسه الرئيس جمال عبد الناصر ، وكان عبد الناصر يريد أن يميز نفسه من خلال تأسيس هذا عن بقية التنظيمات القومية العربية ، لكن هذا الحزب لم يلق نجاحا يذكر في العراق خاصة في مدينة الناصرية ، ولم يبرز من بين صفوفه من أبناء تلك المدينة غير السيد معاذ عبد الرحيم الذي تسلم رئاسة تحرير جريدة الجمهورية التي تصدر من بغداد ، وقد رأيت أنا وقتها صورة تجمع بين السيد معاذ عبد الرحيم وبين الرئيس جمال عبد الناصر معلقة في غرفة الضيوف من دار والده في مدينة الناصرية ، كما إن السيد معاذ عبد الرحيم كان على علاقة طيبة مع الشيوعيين ، وكان في بعض الأحيان يطلب مساعدتهم ، خاصة حين كانت تجري انتخابات نقابة المعلمين ، ويشتد التنافس بين البعثيين وبين القوميين فيها ، ولا يفوتني هنا أن اذكر أنني عملت في هيئة حزبية واحدة من هيئات الحزب الشيوعي العراقي في إحدى الدول العربية مع أخيه المدرس نوري عبد الرحيم وعلى مدى عدة سنوات.
في هذه الأيام من حكم الرئيس عبد السلام عارف كنت أنا وآخرون غيري نتابع جريدة صدرت في بغداد تدعى : كل شيء ، وقد كانت تفرد صفحات منها لقصائد من الشعر الشعبي ، وفي هذه السنة الدراسية وهي سنة الرابع ثانوي مثلما ذكرت ذلك من قبل كلفت من قبل مدرس اللغة العربية ، حسن السنجاري ، المبعد الى مدينة الناصرية بسبب من نشاطه في الحركة الكردية المسلحة ، وبسبب من عضويته في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، كلفني أن أكتب موضوعا مختصرا عن الشاعر عمر بن ربيعة ، فصرت أذهب على مدى أيام الى المكتبة العامة في مدينة الناصرية من أجل كتابة ذاك الموضوع ، وخلال هذه الأيام كنت أشاهد الشاعر قيس لفتة مراد ، وهو بملابس العمل يجلس الى طاولة لا تبعد كثيرا عن الطاولة التي أجلس الى جوارها أنا ، وكان هو يثابر في قراءته ، ولم أره يوما يكلم أحدا من القراء الذين يتوافدون للمطالعة في تلك المكتبة ، ويبدو لي أنه كان يعيش بمزاجية خاصة كثير ما اتصف بها بعض الشعراء قديما وحديثا ، فهو بمزاجيته هذه لا يختلف عن مزاجية الشاعر عبد الأمير الحصيري الذي هجر الوظيفة في وزارة الإعلام العراقية ، مثلما هجر الملابس الأنيقة التي منحتها له تلك الوزارة مفضلا عليها حياة التشرد ، والتجوال في الشوارع والدوار على حانات الخمور والمقاهي في شارع أبي نؤاس وفي غيره من شوارع بغداد ، وكان يعجز أحيانا عن حمل حقيبته التي تحمل بعضا من أوراقه بيده ، ولهذا كان يربطها بحبل يشده الى بطنه فتظل تجري وراءه في منظر يلفت انتباه كل من يشاهده ،  ومع هذا فقد كان يرى نفسه هو مثل إله في ديوانه الصغير " أنا الشريد " الذي اشتريته أنا منه بخمسين فلسا ، فقد اعتاد هو العيش على ما يبيع من شعره خاصة بين أوساط طلاب جامعة بغداد ، يقول :
أنا الإله وندماني ملائكة .. والحانة الكون والجلاس من خلقوا
والنادلون وقد غنـّت كؤوسهم ..كالانبياء بنور الخمر قد غبقوا 
أما قيس لفتة مراد فقد صار الشعر لديه سافلا بسبب من نظمه له هو ، أو نظم معلم من أهل الناصرية اسمه عناية الحسيناوي فيقول :
تسافل الشعر حتى صار ينظمُه ُ... قيس بن لفتة وعنايه الحسيناوي .
ثم يتغزل بصبي مسيحي وسيم فيقول :
فدى جفنيك أجفان العذارى .. وكل المسلمين مع النصارى
وقبلهما كان أبو نواس قد قال :
حياة ٌ ثم موتُ ثم بعث ٌ .. حديثُ خرافة يا أم عمرو !
هذه المزاجية أو الاستعداد النفسي درج عليهما بعض الشعراء في القول والتصرف قديما وحديثا ، وكان في الطليعة من هؤلاء الشاعر أبو نواس الذي فضل حياة اللهو والمجون على ما سواها ، ومما أتذكره هنا هو أنني اختلف مع أستاذ الأدب العباسي في كلية التربية الدكتور محسن غياض حول قول للدكتور طه حسين في كتابه حديث الأربعاء الذي يرى فيه أن والبة بن الحباب هو الذي علم تلميذه أبا نؤاس الإباحية كلها حين اصطحبه معه من البصرة الى الكوفة ، والحقيقة هي ليس تلك التي أتى عليها الدكتور طه حسين ، وإنما الاستعداد النفسي ومزاجية الشاعر هي التي تفعل فعلها هنا ، وهذا ما نعده نحن في الفلسفة من " الذاتي " وليس من " الموضوعي " فلو كان ذلك من الموضوعي لكذبنا واقع مدينة الكوفة وقال لنا : لا توجد في الكوفة حوانيت إباحية حتى يبتاع منها أبو نؤاس تلك الإباحية التي جاء عليها الدكتور طه حسين ، ثم أوضحت وقتها : إن هذا الموضوعي قد غاب عن السلوك والتصرف عند شاعرين بصريين عاشا في بيت واحد ، وتربيا على يد أستاذ واحد هو الأخفش ، وهما الشاعر عبد الصمد بن المعذل ، وأخو الشاعر أحمد بن المعذل ، فبينما كان عبد الصمد يعد مما يسمون بالشعراء المجان نجد أخاه أحمد من الشعراء المتهجدين المصلين رغم أنهما كان يعيشان في بيئة واحدة ، ودرسا على يد أستاذ واحد ، وتربيا في دار واحدة ، كان أحمد يطل من شرفة داخلية في طابقها الثاني على أخيه عبد الصمد حين يعلو صوته هو ومن معه وقت أن تلعب الخمرة في رؤوسهم ، يطل ليقول لهم آية قرائية هي : " أ فأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض " فيخرج له عبد الصمد من غرفته مترنحا ، يرد عليه ساخرا بآية قرآنية كذلك " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " !















11
المنبر الحر / رسالة الرئيس
« في: 20:36 17/11/2015  »
رسالة الرئيس
سهر العامري
كان الوجوم مخيما على وجه الرئيس رغم أن البيت أبيض  زادت في اشراقته أشعة شمس خجولة ، مثلما تخيلها الرئيس الذي نهض مبكرا صباح ذاك اليوم الباهت ، مع أنه لم ينم ليلته البارحة إلا في ساعة متأخرة ، وكنت أنا وأياه ساعاتها في حال واحدة ، فهو كان يتابع الأخبار المصورة القادمة من الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي ، بينما كنت أنا أتابعها بشغف مثله من أوربا.
كان قلق الرئيس باديا بصورة جلية على أسطر الرسالة التي بعثها لي صباح تلك الليلة المشؤمة ، فقد كان هو يبكي فيها على باريس ، يبكي على القيم العالمية المشتركة ، ولا ينسى كذلك أن يبكي على مبادئ الثورة الفرنسية في  الحرية والإخاء والمساواة ، فأحداث تلك الليلة جعلت الرئيس يضع التاريخ القريب أمامه ، ولهذا استحضر روسو وفولتير من قبريهما ، مثلما استحضر أيام حرب الاستقلال التي وقفت فيها باريس مع الثائرين من أبناء شعبه ، ذلك الوقوف الذي أغرقها بالديون ، هذا الغرق الذي كان من بين أهم الأسباب التي أشعلت نيران الثورة في شوارعها ، ثم حصدت حرب الارهاب خلالها آلافا من الناس ، وأخيرا تمخضت تلك الثورة فولدت رجلا مجنونا راحت جيوشه تجوب أنحاء الأرض المترامية ، تبطش هنا وتدمر هناك ، وبذلك جعلت الكثير من البلدان مستعمرات لها ، أطلق عليها الإمبرياليون الفرنسيون اسم فرنسا ما وراء البحار :
مشت لك باريس ُ أم الحقوق وحشا يدبّ على أربع ِ
( دعا جندي في جيش الاحتلال الفرنسي السابق للجزائر الرئيسَ الفرنسي الجديد فرانسوا هولاند إلى تشريف فرنسا بالاعتذار إلى الجزائر عن الجرائم التي ارتكبتها في هذا البلد ، وذكر أن فرنسا انتهجت "قمعاً مركّزاً ضد أية محاولة للثورة، ونهبت ثروات الجزائريين لفائدة المعمّرين ورجال المال، الذين كانوا مسيطرين على الحياة الاقتصادية والسياسية للمستعمرات )
لكن الرئيس لم يلتفت لكل ذلك ، لم يلتفت الى سايكس – بيكو ، ولم يلتفت الى مجاز مدينة سطيف ، ونسى أن أفريقيا نهبت حتى أقاموا على جماجم أهلها برج إيفل ، وهم أنفسهم من نهب كنوز الفراعنة ، والبابليين ، وهم أنفسهم من سرقوا لسان سي علال ، ذاك الفتى الذي أنكروا على آبائهم داره وموطنه ، فهل من المعقول أن ينسى الرئيس كل ذلك ، ولم يكتب لي عنه شيئا ؟ هل فقد عقله تلك الليلة أم أنه كان يقرأ التاريخ بعين واحدة .
كان هناك عصفور يزقزق على شجرة عود سامقة وقت أن كان الرئيس يكتب رسالته الحزينة لي في صبيحة تلك الليلة المشؤمة ، وبين الفينة والفينة كانت زقزقة ذلك الطائر ترتفع ، وكان الرئيس يسمعها بوضوح رغم أن العصفور كان معلقا في غصن من أغصان أعلى الشجرة التي كانت فارعة الطول ، وتقع خلف جدار سميك لغرفة الرئيس في بيته الأبيض .
تخيل الرئيس أن العصفور ذا العقل الصغير يسخر منه كلما وضع كلمة على سطر من رسالته تلك ، ولكن مع هذا ظل الرئيس يكذب فيما يكتب ، ولم يراجع نفسه مرة واحدة ، فهو مهتم بأمر الارهاب الذي يطال المدنيين من الناس في تلك الليلة ، وينغص الحياة في عاصمة النور .
 اهتمام الرئيس الزائد جعل العصفور أن يسأل شجرة العود عن أصلها ، وعن مكان ولادتها قبل أن تهاجر مثل الرئيس الى الضفاف الغربية للمحيط الأطلسي ، وقد أثار هذا السؤال استغراب الشجرة ، فردت بغضب عليه ، قائلة له : إنها لم تهاجر أبدا ! إنها شجرة مسبية منذ سنوات خلت ، اقتلعها من أرضها جندي من جيش الرئيس ، وأتى بها الى هذا المكان الذي خرجت منه خطط كثيرة أزهقت أرواح الناس في اصقاع كثيرة من العالم.
- قبلي أيها العصفور سبوا الكثير من أشجار القرنفل والعود من باريس آسيا ، هانوي ، وحملوها الى باريس أوربا ، وصنعوا منها أفضل العطور ، كي يتعطر بها رجال ونساء تجار المال والحروب .
- أنا من هناك أيضا . رد العصفور.
- من هانوي ؟
- كلا . من سايكون .
- وكيف وصلت الى البيت الأبيض ؟
- قولي لي أنت كيف وصلت ؟
- بعد أن سبوني ، حملوني بسفينة حربية ، قطعت بي بحورا عدة ، وشاهدت من الأمواج العاتية ما يخيف كل حي في هذا الوجود ، وحين رست تلك السفينة قرب نصب الحرية في خليج نيويورك حملت بطائرة من هناك ، وكنت وقتها ما زلت صغيرة في السن ، بعدها غرسوني قرب غرفة الرئيس مثلما تشاهد .
- يبدو أن رحلتك استغرقت أياما طويلة !
- نعم . طالت كثيرا ، وعلى ما أتذكر فقد زادت على شهر .
- ربما كنت أنا أسعد حظا منك ، فقد حملني جند الرئيس بطائرة ، وبعد ساعات أطلق سراحي في باحة البيت الأبيض ، لكن شعورا ما في الارتياح هو الذي قادني نحوك ، وفضلت أنا أن تكوني لي وكرا في هذه الديار الغريبة ، والبعيدة .
- من هانوي أنت ؟
- لا . من سايكون قلت لك !
- قل من مدينة هو ش منه ، فقد تبدل اسمها ، وحملت اسم ذلك الطباخ الفيتنامي الذي طالما اضطهد من قبل تجار المال والحروب من الفرنسيين ، حين كان يطبخ لهم الكثير من الطعام في مطاعم سفنهم ، ولمثلهم فقد طبخ لرئیس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل حين كان يعمل هو في فندق كارلتون بلندن في الشهور الأولى من الحرب العالمیة الاولى. 
ذاك الاضطهاد هو الذي قاد هو شي منه الى يقاد مشاعل الثورة دفاعا عن وطنه الذي يهيمن عليه تجار الحروب ، ونهبوا ثروته ، ثم لاحقوه بتهمة الارهاب ، فراحت تتساقط قنابل طائراتهم المحرقة على القرى والمدن الفيتنامية ، ولم يسلم من قنابلهم الحارقة تلك حتى الأطفال الصغار الذين هاموا على وجوههم في الشوارع ، والطرقات ، وهم يحملون على ظهورهم نيران تلك القنابل التي ألقت بها عليهم طائرات جند الرئيس الذي بعث لي رسالة أغفل فيها ذكر الكثير من الحقائق التاريخية ، تلك الرسالة التي وصلتني في صباح ليلة مشؤمة فر فيها رجال وأطفال ونساء في شوارع باريس أوربا ، وهم في حال لا يختلف عن حال الطفلة الفيتنامية ، كيم وان ، التي فرت مثلهم عارية من نيران قنابل النابالم التي لازالت تحمل آثارها على ظهرها للآن رغم مرور سنوات طويلة على ذلك ، ولكن كل هذه الفظائع أغفلها الرئيس ، ولم يدونها في رسالته التي أرسلها لي ، بينما حدثني عن فظاعة الترويع الذي أصاب الناس المدنيين في عاصمة النور في تلك الليلة ، وقد عد الرئيس الاعتداء ذاك هو اعتداء على البشرية جمعاء ، وعلى القيم العالمية التي يتقاسمها معها ، ولكنه وبكل صلافة لم يتحدث عن القيم التي قتل بها جيشه الناس المدنيين ، وهم يسيرون مسالمين في شوارع بغداد ! والناس المدنيين في غزة الذين تنهال على بيوتهم قنابل الفانتوم الأمريكية ، وهم ينامون فيها ، كما أنه نسى أن يحدد لي القيم التي على هديها غزت جيوش حلفائه بلدانا عدة طمعا بثرواتها.

كان الأستاذ أحمد الحلي كثير الخصومة معي حين كنت طالبا عنده ، أتلقى منه دروسا في الفلسفة البراغماتية التي أخذت لب الأستاذ ذاك ، فهام بها غراما ، وراح يبذل جهودا جبارة من أجل أن يتعلق طلابه بها ، ولكنني كنت أنا الطالب الوحيد الذي يعتبرني مشاكسا له ، ولا أريد ، مثلما يزعم ، أن أقترب من فلسفة المال والربح ، ولهذا كثيرا ما كانت تدور مناقشات حامية الوطيس في قاعة الدرس بيني وبينه ، وهو القادم من عاصمة المال حيث يقبع الرئيس صاحب الرسالة .
- نعم . هذه الحرب مبررة في عرف ديوي !
- كيف مبرر يا أستاذ وهي تطحن كل اليوم مئات من الشعب الفيتنامي بقنابل النابالم ؟ ألم تشاهد أنت صور أطفال فيتنام ، وهم يفرون الى الشوارع عراة ، بينما راح جنود المال يلاحقونهم بقنابلهم ؟
- قلت لك هذه الحرب مبررة في فلسفة ديوي ، ولكنها ستكون عقيمة حين ينعدم ربح تجار الحروب منها .
- ومتى ستكون عقيمة برأيك ؟
- عندما تكون الخسارة في هذه الحرب تفوق أرباح الفحم الفيتنامي ، تلك الأرباح التي تدخل جيوب أصحاب المال والثروة الجالسين على المقاعد في الكونغرس الأمريكي .
- قل لي يا أستاذ علام يتبجح الرئيس بقيم النهب هذه ، مثلما يتبجح بحقوق الأنسان ، وحرية الأفراد .
- هم يعملون ويصرحون وفقا لشعارهم : دعه يعمل ! دعه يمر ! يضاف الى ذلك أنهم يفكرون ، ونحن لا نفكر !
- نحن نفكر يا أستاذ لكن القمع يطاردنا ، هذا هو الفرق .

مما ورد في رسالة الرئيس لي كذلك أنه سيحارب الارهاب والتطرف ، وسيطارد الارهابيين في كل مكان من العالم ، والى أن يلقى القبض عليهم ، ويحالون الى المحاكم لينالوا ما يستحقون من عقاب ، ولكن الرئيس لم يكتب لي كلمة واحدة عن ارهاب جنوده ، وما ارتكبوه من جرائم في أكثر من بلد ، وأكثر من مكان ، ومع ذلك يريد الرئيس من الاجيال الصاعدة أن تنسى ، وهو يعلم علم اليقين أن الشعوب لا تنسى أبدا !

في مساء صيفي ، رخي النسائم ، أنهيت عملي في مدرسة ثانوية لا تبعد كثيرا عن ضفاف البحر المتوسط ، صادفت في الطريق زميلة لي قادمة من اسبانيا ، وتعمل معي في المدرسة ذاتها ، وبينما كنا نسير سوية تخلف عنها ولدها الصغير الذي كان برفقتها ، ولهذا  صاحت به : جاءك موشى !
هب الطفل مذعورا نحوها ، وصار يلوذ بها ، متلفتا يمينا ويسارا ، وهذا ما ثار دهشتي واستغرابي ، فقررت أن أسألها بسبب من أنه خطر لي أنها ذكرت اسما لشخص أنا على معرفة به حين صاحت هي بولدها :
- سمعتك تقولين لولدك : جاءك موشى ، من هو موشى هذا ؟
ردت علي هي بكل ثقة ، ودون تردد أو وجل ، وبرحابة صدر متناهية :
- هو موسى بن نصير !
أخذتني سورة من خجل لثوانيٍ ، ثم قلت :
- لا زلتم تذكرون موسى بن نصير بعد هذه السنين الطويلة التي عبرت في عدها الألف سنة ويزيد.
- الشعوب لن تنسى أبدا ، والتاريخ لن يرحم أحدا .






















12
المنبر الحر / العبور الى أيثاكا !
« في: 11:10 09/11/2015  »
العبور الى أيثاكا !

سهر العامري
كلما مدت فنار بصرها ، ورمت به على الأفق المحمل بغبار أحمر داكن ، حملته رياح الهجير الحارة من أعماق الصحراء التي تطوق مدينة البصرة من جهات عدة ، تمنت أن ينجح زوجها وطفلتها في الوصول الى برلين ، فقد ظلت تعيش على هذا الأمل لياليا طويلة ، فهي تعلم أنها ستلتحق بهما في نهاية المطاف ، وعندها سترى أفاقا أكثر اشراقة ، وأنصع زرقة ، تزهو بألوان ضياء الشمس ، لا يلوثها نقع العواصف الكريهة التي كانت تهب من كل الاتجاهات حتى يخيل إليها أحيانا أن الأرض وما عليها قد تحولت الى عواصف ترابية لا ترحم .
لم تكن البصرة هكذا قبل هذه السنوات العجاف التي عاشت فنار فيها ، ثم صارت تبحث هي وأسرتها عن موطأ قدم أمين  جديد ، فقد رحل الأمان عن المدينة ، وصارت عصابات الموت تطوف في شوارعها ، وزخرت ساعات الزمان فيها بعمليات القتل على الهوية ، فذبح المسيحي فيها لا لشيء إلا لأنه مسيحي ، وقتل المسلم السني لأنه سني ، وأزهقت أرواح الصابئة فيها للسبب ذاته ، ثم دارت في شوارعها وأطرافها معارك ضارية بين تلك العشيرة والعشيرة الأخرى ، وبذلك خيم الخوف على بيوت أهل المدينة ، وصار علي زوج فنار لا ينام من ليله ساعة ، عندها فر بنفسه وطفلة من بناته الثلاث ، وعلى أمل أن تلتحق به زوجته ، وبناته الأخريات ، وحين فشل في مسعاه الأول تحول الى بلد آخر غير الأردن ، ونزل بيروت العاصمة ، وعلى أرضها التحقت فنار به .
كان الأفق في أعين فنار ، وهي تمدها بعيدا على البحر المتوسط ، أفقا آخر عميق النقاء ، ملونا بألوان البنفسج والبرتقال ، فهو ليست ذاك الأفق الذي كانت تراها مغبرا كالحا في مدينتها البصرة ، حتى أنها في أحيان كثيرة تبحر في تاريخ سواحل هذا البحر ، فتتراءى  لها من بعيد أشرعت سفن البحارة الفنيقيين المبحرة نحو الشواطئ الغربية من ذلك البحر ، تلك الشواطئ التي تنشد هي وزوجها النزول عليها ، فهي تدرك أن هذه الأرض ببحارها وجبالها وسهولها ووديانها هي ملك لهذا الانسان المسافر أبدا في حركة لم تحدها حدود ، ولم يمنعها توقف ، ورغم ذلك فقد عانت هي وأسرتها كثيرا ، وفشلت أكثر من محاولة عبور لهم ، فقد سدت أبواب الموانئ بوجوههم ، وأغلقت المطارات دونهم ، رغم أنهم حاولوا ثم حاولوا دون جدوى، حتى ظنوا أن العبور الى الضفاف الغربية من ذلك البحر صار ضربا من المستحيل .
تنقلت هي وأسرتها على طول الساحل الفينيقي ، نزلوا مدينة بيروت من مدنه ، عاشوا فيها أياما بين الأمل والقلق ، ثم انتقلوا منها الى صيدا ، ثم صور ، ثم الى بيروت ثانية، وحين تيقنوا أنه ليس بإمكانهم العبور من هذا الساحل شدوا الرحال الى سواحل شرقية أخرى ، وكان شعارهم الأرض وما عليها هي ملك الإنسان ، ولن تستطيع كل حراب الجبابرة أن تمنعه من الترحال في ربوعها.
إيثاكا منحتك الرحلة الجميلة.
لولاها ما كنت شددت الرحال.
وليس لديها ما تمنحك أكثر من ذلك.
حتى وإن بدت لك ايثاكا فقيرة،
فإنها لم تخدعك،
ما دمت قد صرت حكيما، حائزاً كل هذه الخبرة * !
نزلوا هذه المرة في مدينة اسطنبول على أمل الانتقال منها الى مدينة تركية تقع على سواحل البحر المتوسط بعد أن يجدوا طريقة ما للوصول الى احدى الجزرة اليونانية التي تتناثر في ذلك البحر مثل قطيع حيوانات خلق من صخور ، ولكنهم في بادئ الأمر فكروا بالسفر جوا حتى لو كلفهم ذلك مبالغ مالية طائلة ، ولهذا السبب راحوا يبحثون في المدينة عن مكتب سفر يحقق لهم هذه الغاية ، خاصة وأنهم سكنوا في منطقة تدعى"آكسراي" المكتظة بالعرب ، وهذا ما جعل الأتراك يطلقون عليها مدينة العرب الصغيرة فهي تشبه بعض الأحياء العربية القديمة في سوريا أو مصر أو العراق ، كما أن المنطقة تعج بالأحاديث عن الهجرة مثلما تعج بسماسرة الهجرة الغير الشرعية الذين يمنون المهاجرين بسفرة نحو بلدان الشمال الأوربي .

واحد من هؤلاء السماسرة التقاه علي وفنار ، وحين علم أنهما لا يريدان الرحيل عبر البحر ، وينشدان السفر جوا حفاظا على حياتهما وحياة بناتهما الثلاث ، قادهما نحو مكتب من مكاتب السفر الموجودة في الحي ذاته ، ويبدو أن هذا السمسار كان على علاقة بصاحب المكتب الذي يحمل الجنسية السورية ، والذي يحاول أن يظهر لزبائنه من أنه رجل على قدر كبير من الهيبة والاحترام ، وأنه رجل يتمتع بعلاقات وثيقة مع رجال المخابرات الذين يتحكمون بحركة السفر في مطارات المدينة .
- السفر عبر المطار يكلفكم كثيرا ؟ قال صاحب المكتب .
- نحن نريد سفرا آمنا ، هذا ما يهمنا . رد عليه علي ، وهو ينتظر إجابة منه تحقق له حلم العبور الى الضفاف الغربية من البحر المتوسط .
- الى أية دولة ترومون الوصول ؟
- ألمانيا !
- كنت أحسب أنكم تريدون السفر الى اليونان ، أو بلغاريا ، فالسفرة الى ألمانيا فيها تعقيدات كثيرة ، وتتطلب مبالغ كبيرة ، وانتظارا قد يطول عليكم .
- كم المبلغ المطلوب ؟ سأله علي ، وهو يتوقع أنه يستطيع أن يدفع له ما يريده .
- للكبير خمسة عشر ألف دولار ، وللصغير عشرة آلاف دولار ، هذه هي الأسعار السائدة الآن ، والمعروفة بين المهاجرين ، وعليكم أن تعرفوا أن المكتب لم يحصل من هذه المبالغ إلا الشيء النزر ، فهي ستوزع بين ثمن الجوازات المزورة ، وتذاكر السفر ، وشرطة المطار ، وربما غيرهم .

في محلة آكسراي ، التي تحولت الى حي عربي غابت عنه اللغة التركية ، وحلت محلها اللغة العربية ، كان الحديث يجري غالبا حول الوصول الى الضفاف الأخرى ، وحين يلتقي لاجئ بآخر مثله يأخذهما حديث طويل متشعب عن محاولاته التي بذلها في مواصلة الترحال ، وعن تجارب الآخرين الناجحة والفاشلة كذلك ، وعن أولئك الذين ابتلعتهم مياه البحر ، وعن تكلفة الهجرة، وعن أفضل المدن التركية التي يصل منها المهاجر الى احدى الجزر اليونانية، ثم تتوالى التحذيرات من غدر المهربين ، وسوء وسائط النقل ، فهذا يبحث عن مركب كبير الحجم ، فهو يخشى على نفسه وأسرته ، وآخر يبحث عن بلم أو زورق مطاطي فهو لا يملك من المال الكثير ، خاصة وأنه قد أمضى أياما ، وهو يجول في شوارع آكسراي ، يبيع علب دخان ، أو ملابس رخيصة ، أو بعض الفاكهة والخضار ، وكل هذا من أجل أن يجمع مبلغا من المال كي يضعه في جيب مهرب محتال .   

كثيرا ما مرت فنار وعلي حذاء جامع والدة السلطان في آسكراي ، ولكنهما لم يشغلا نفسيهما بالسؤال عنه ، فسلاطين الامبراطورية العثمانية كثر ، ولا حاجة لهما بالسؤال عنهم ، فهما مشغولان بسؤال العبور الى أيثاكا ، أو أية جزيرة يونانية أخرى ، هما لا يريدان التمتع بجمال الرحلة ، يريدان الوصول فقط ، هذا هو شغلهم الشاغل ، ولذلك فهما لم يلتفتا الى تلك الشرفة التي كانت تطل منها والدة السلطان محمد الفاتح من أجل أن تمتع بصرها برؤية العمال الذين يحملون على ظهورهم الصخور التي سيشاد بها جامع يحمل اسمها دوما ، جامع يتجمع حوله الكسبَة من العرب والأفغان والايرانيين وغيرهم ، يعرضون في جواره ، وأمام زواره بضاعتهم المتواضعة ، ولا يبالي البعض منهم إذا ما نادى بلغته العربية ، فلقد اعتاد الاتراك على تسمية آكسراي بمدينة العرب الصغيرة حتى أنهم يشعرون بشيء من الغربة حين يتجولون فيها.
- لن يستطيع أحد أن يقلعني من هذا الرصيف ، لا الرئيس ساركوزي ولا غيره . قال بائع البطيخ العربي الواقف على الرصيف من ساحة سانت لازار في قلب باريس لمحدثه الذي استفزه بسؤال عن مناداة بعض الأوساط في فرنسا بإرجاع المهاجرين الى بلدانهم ثم أضاف :
- هذه أرضنا ، دافع آباؤنا عنها ضد النازيين ببسالة ! نحن نزلنا عليها قبل أن ينزل الرئيس الفرنسي عليها ! ليعد هو الى هنغاريا التي آتى منها قبل سنوات خلت .
- من أين أنت ؟ سأل بائع البطيخ العربي الجزائري محدثه .
- من العراق . قال محدثه .
مد بائع البطيخ يده الى صندوق كبير من الورق المقوى ، وراح يبحث عن أحسن بطيخة موجودة بين البطيخ الذي يحتويه ذاك الصندوق ، ثم رفع واحدة منه قائلا :
- خذها ! هي هدية مني لك ، فلقد خذلكم العرب والعالم أيها العراقيون !
لقد شاهد الأستاذ حامد الكثير من هؤلاء العرب الذين صاروا يشكلون نسبا كبيرة من سكان الدول الأوربية ، وإنهم لم يتركوا مهنة أو وظيفة إلا وقد رآهم فيها ، فقد يكون الواحد منهم أستاذا في أرقى الجامعات الأوربية ، مثلما تراه بائع فاكهة وخضار في ساحة من ساحات المدن الأوربية .
- نعم . يا أستاذ ! نحن اقتحمنا بلدانهم سلما ، ولم نقتحمها حربا ، وعلى عكس ما فعلوا هم ، فقد اقتحموا جل البلدان العربية بالقوة والسلاح ، ونهبوا خيراتنا وثرواتنا التي أشادوا بها حضارتهم الحديثة ، وذلك بعد أن قتلوا الكثير منا ، وشردوا وسجنوا الكثير كذلك ، هذه بلادي ، ولن يستطع أحد منهم أن يزحزحني شبرا عنها ، سأبقى على هذا الرصيف ، وأزرع البطيخ في هذه الأرض .
- انظر يا أستاذ أنظر ! قطع علال ، بائع البطيخ ، حديثه الأول ، وطلب من أستاذ حامد أن ينظر الى المقهى القريبة منهما ، والتي تصطف على رصيفها مجموعة من الكراسي ، كل كرسي يقابل الآخر ، وبينما طاولة صغيرة بيضاء ، تغطيهما مظلة تقي الجلاس من أشعة شمس الصيف ، كانت هناك امرأة فرنسية تجلس على واحد من كرسين ، بينما بقي الكرسي الثاني فارغا ، ولهذا بادر رجل عربي الى الجلوس عليه ، وفتح جريدة باللغة الفرنسية ، ولكن المرأة سرعان ما احتجت عليه قائلة : إذا لم تتركني أجلس منفردة على هذه الطاولة سأغادر أنا ، فرد عليها الرجل العربي : هذا المكان يسع شخصين ، وليس لك وحدك ، وبإمكانك أن تغادري ، فأنا لن أبرح مكاني !
- رأيت يا أستاذ ! رأيت هذه المراة القاورية** كيف ترفض الجلوس في مكان عام ، وعلى قارعة الطريق قبالة رجل عربي ، وقد بلغت بها الوقاحة الى حد هددت به الرجل بالمغادرة وترك المكان له !
- نعم . رأيت ! قال الأستاذ حامد وقد استبد به العجب .
- هكذا نحن معهم ، لن نبرح هذه الأرض ، ليغادروا هم إن أرادوا ، مثلما غادرت هذه المرأة مكانها بعد أن رفض الرجل العربي طلبها بحق في عدم الجلوس على الكرسي الذي يقابل كرسيها.
الجو في باريس بنسائمه الباردة ، وبقطع الغيوم المتناثرة علي جبين سمائها ، يذكر الأستاذ حامد بالجو في مدينة اسطنبول التركية ، تلك المدينة التي فشلت فيها كل محاولات فنار وزوجها علي في العبور منها الى شواطئ البحر المتوسط الأخرى ، وذلك بسبب من غدر مكتب السفر بهما ، فبعد مماطلات كثيرة من ابو ابراهيم السوري ، صاحب المكتب ، وبعد أن أخذ منهما ، ومن غيرهما ، آلافا من الدولارات ، بلغت أكثر من سبعمئة الف دولار ، فر هو ومن معه الى مكان مجهول ، تاركا وراء محلا مهجورا ، خاويا من كل شيء.
حلت بهما صدمة كبيرة ، فقد جاءا هما صباحا الى مكتب السفر أملا في الحصول على موعد سفرهما ، ذلك الموعد الذي ماطل ابو إبراهيم السوري اعطاءه لهما كثيرا بهدف أن يحصل منهما على أموال إضافية في لعبة كررها معهما أكثر من مرة ، وكان في كل مرة يطلب منهما عدم البوح لأي شخص كان عن ما كان يدور بينه وبينهما ، ولكنهما حين شاهدا المحل مغلقا صباح ذاك اليوم على غير عادته ساورهما شكك بهروب أبو ابراهيم ، وضياع المبلغ الكبير الذي سرقه منهما ، وهذا ما حدث فعلا ، وهو ذاته الذي دفعهما للعودة الى البصرة من جديد بعد أن طافا بأكثر من عاصمة دولة بحثا عن طريق يحملها الى بلد أوربي، هذه الأمنية التي قرر علي أن يحققها له ولأسرته رغم كل الصعاب التي وقفت في وجهه، فعلي ليس أوديسيوس*** الجوال الذي لم يهتم في الوصول إلى جزيرة إيثاكا اليونانية بقدر ما كانت تهمه متعة المسير في الطريق الموصل لها ، وأن يجرب كل ما يروق له من التجارب ، وحين يصل إليها لا يهمه إذا ما وجدها فقيرة ، قفراء ، جرداء ، فكل ما يكفيه هو أنها منحته متعة الدرب ، وتجربة الترحال .
لم يمكثا في البصرة طويلا ، فقد عادا منها الى اسطنبول بعد أيام قلائل ، ومن اسطنبول توجها نحو مدينة بودروم التركية الساحلية ، فهما قد قررا ركوب ظهر البحر بعد أن فشلت جميع محاولاتهم الأولى بالسفر جوا ، ولكنهما في هذه المرة قد أحاطا رحلتهم بكثير من الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس لهما خشية من عدم نجاحهما في العبور ، ولهذا فقد فاجأت فنار عمها حين أخبرته أنها عادت الى تركيا ، وأنها تتصل به الآن من مدينة بودروم الساحلية ، ووقتها أعلمته أنهما يريدان السفر عن طريق البحر ، ولكن على ظهر مركب خشبي ، وليس على ظهر زورق مطاطي خشية على نفسيهما وأطفالهما من الغرق .
كانت ليلة العبور ليلة ليلاء ، غاب عنها القمر ، ولف السماء فيها سجف من ظلام حندس ، مثلما نزل وقتها برد قارص بأجساد الحالمين في العبور الذين حملتهم سيارات عدة نحو منطقة جبلية تبعد مسافة ليس بالقصيرة عن مركز مدينة بودروم ، وحين وصلت تلك السيارات الى نقطة معينة في تلك المنطقة ترجل منها جميع الركاب من الرجال والنساء ، ومن الكبار والصغار ، وطلب منهم أحد المهربين النزول من قمة الأرض الوعرة والمرتفعة الى ساحل البحر حيث المركب الخشبي العتيق الذي ينتظرهم .
لقد تعرض الكثير من الركاب الى مشقة النزول نحو الساحل ، خاصة الأطفال الذين يعد نزولهم إليه أشبه بالمستحيل ، فانحدار الأرض الصخرية كان حاد ، يتخللها الكثير من الصخور الحادة والحفر الكثيرة ، يضاف الى ذلك ساعات من ليل مظلم مدلهم ، لا تتبين فيه عيونهم مواضع أقدامهم ، ولكنهم رغم كل ذلك وصلوا الى المركب الموعود الذي بدا هرما ، أغبر اللون ، بني على ظهره طابق آخر سيء الصنعة والصورة .
توزع الحالمون بالعبور الذين يعدون بالمئات على قاع المركب ، وعلى سطحه ، وكان كل واحد منهم يشد سترة نجاة حمراء على جسده ، ويحمل حقيبة صغيرة فيها ما خف حمله ، وقد ظل الجميع ينتظرون الوصول وقوفا ، فالمكان ضيق ، والمسافة الى جزيرة كوس اليونانية لا تتعدى خمسة كيلومترات ، لكن مناورات ربان المركب في سيره طالت من ساعات قطع تلك المسافة القصيرة ، فقد كان هو يناور خوفا من خفر السواحل التركية ، ولكن مع ذلك ارتكب خطأ فظيعا ، عده بعض الركاب أنه كان متعمدا ، وذلك حين بادر هو الى إيقاد مصباح من مصابيح المركب في عتمة الليل تلك.
- قف ! جاءه الصوت باللغة التركية من بعيد.
- اخرجوا أطفالكم ! دعوا حرس السواحل يراهم ! صاح الربان بالركاب.
بادر بعض من الركاب بعرض أطفالهم قرب أعطاف المركب ، كي يستدروا عطف خفر السواحل ، مثلما كان ربان المركب يعتقد بذلك ، فهو يعتقد أن الحراس أولئك لن يطلقوا النار على المركب حين يرون الأطفال فيه ، ولكن سرعان ما خاب اعتقاده بعد أن أصابت المركب الرصاصة الأولى التي أطلقها خفر السواحل عليه ، حين كان هو يواصل السير بالمركب دون توقف ، ثم توالت الرصاصة تلو الأخرى تاركة أكثر من ثقب على جسد المركب الذي تسرب منه المياه حتى امتلأ قاعه بها ، وهذا ما اضطر علي الى الاندفاع بواحدة من بناته الصغار الى خارج المركب ، ثم الى سفينة انقاذ حضرت حالا بعد أن تلقت اشارة طلب نجدة من هاتف راكب من ركاب المركب ، ثم بعد علي اندفعت فنار ، وهي تحمل الطفلة الثانية ، بعدها حمل الطفلة الثالثة راكب معهم ، ولكن علي وآخرون عادوا الى المركب ثانية لمساعدة ما تبقى فيه من الركاب ، وحين هدهم التعب والاجهاد لم يتبق من أولئك الركاب غير ثلاثين راكبا أخذهم المركب معه الى أعماق البحر ، وقد راع فنار وقتها صورة امرأة كانت واقفت في مؤخرة المركب وقد تعلقت بها ابنتان لها غطستا معها حين غطس ذلك المركب بدءً من مؤخرته ، بينما استطاع علي انقاذ البنت الثالثة التي ظلت تشتمه كلما التقت به ، وتلومه على أنه لم يتركها تغرق في البحر ، مثلما غرقت أمها واختاها الاثنتان .
كان الفزع والخوف يجتاح النفوس ، مثلما كان البرد يعصف بها ، هذا في الوقت الذي وقف فيه خفر السواحل التركي يتفرجون على هذه المأساة التي تسببوا بها هم لا غيرهم ، وفي تصرف خلا من أية نزعة انسانية ، وسلوك لا يعرف الرحمة والعطف ، وقد ختم المشهد ذلك كله باعتقال جميع الركاب صغارا وكبارا ، وحملهم الى الساحل التركي ، ومن هناك بسيارات خاصة بنقل السجناء الى معسكر أشبه بسجن يقع في مدينة أدنة الجنوبية.
لثلاثة أيام صمت هاتف علي ، مثلما صمت هاتف فنار ، عن التحدث لكل من يعرفهما ، أو لكل من كان يتواصل معهما قبل هذه الأيام التي انقطعت أخبارهم فيها ، ورغم المحاولات الكثيرة التي بذلها الأستاذ حامد في الوصول لهما عبر الهاتف ، لكن كل تلك المحاولات دفنها الفشل ، ولم تعد تنفع بشيء ما ، ومع ذلك لم يدع الأستاذ حامد اليأس يتسرب الى نفسه ، فهو قد ظن أن حادث ما قد تعرض له علي وفنار ، وهذا الحادث هو الذي أنزل الصمت بهاتفيهما ، ولكنه لم يقدر حجم ومقدار ذلك الحادث ، فقد اعتقد أن الرجل المهرب هو من قام بمنع الركاب من الحديث عبر هواتفهم خوفا من أن ينفضح أمره ، كما وردت له أخبار عن غرق زورق ركاب في البحر ، لكن هذا الزورق لم ينطلق من السواحل القريبة من مدينة بودروم .
- أهلا فنار !
- أهلا بك ، أنا بخير ، كلنا بخير !
- لماذا لم تتصلي بي ، ولا تردي على الاتصال بك طوال هذه الأيام ؟
- لقد وقعت منا هواتفنا بالماء .
- في أي ماء ؟ وكيف وقعت ؟
لم تستطيع فنار أن تخفي الأمر على الأستاذ حامد ، ولهذا راحت تروي له ما جرى لهم بنوع من الحماس ، والانفعال الزائد يشوبهما شيء من الخوف نتيجة لصورة الموت التي لا زالت تتراءى لها ، والتي استحوذت على مشاعرها ، وتظهر لها في أحلامها ، وهي ترى كيف ابتلع البحر المركب بما تبقى فيه من الركاب ، وكيف طوقت أيادي الفتاتين خصر أمهما ، وغصن كلهن مع ذلك المركب الى أعماق البحر الذي لا زالت تحمل له صوره في هاتفها المحمول ، ولكن مع حالة الرعب هذه ، فقد أظهرت هي وزوجها علي وآخرون من الركاب الشباب غيرهما قدرا كبيرا من الشجاعة ، فقد ساهموا جميعا في إنقاذ أطفالهما ، وإنقاذ بعض آخر من الركاب الذين كانوا بأمس الحاجة للخروج من بحر الموت الذي يحيط بهم من كل الجوانب .
بعد أيام قلائل مضت عليهم في المعسكر بمدينة أدنة أطلق سراحهم ، وعاد الكثير منهم الى مدينة اسطنبول بسيارة كبيرة اتصل علي ، وهو على ظهرها ، بالأستاذ حامد طالبا منه رقم هاتف لصديق يعرفه ، ولكن الأستاذ حامد فضل أن يعطيه رقم هاتف صديق آخر ، يمكنه مساعدتهما إذا ما قررا العبور من جديد الى الضفاف الأخرى ، فالصديق هذا على تجربة جيدة بأفضل طريق عبور ، إذ أنه استطاع أن ينقل ولده الى تلك الضفاف بسلام قبل أيام قلائل خلت ، هذا في وقت بادر فيه الاستاذ حامد بصديقه ذاك ، وأعطاه رقم هاتف علي وطلب منه أن يتصل به .
تم اللقاء في اليوم الثاني من صول علي وفنار الى اسطنبول بين علي وفنار وصدقاء لهم ، وبين صديق الأستاذ حامد الذي رحب بهم كثيرا ، وطمأنهم على سلامة الوصول الى واحدة من الجزر اليونانية التي نزل عليها ولده من قبل ، ولكن الخوف من البحر لا زال يطارد فنار حتى وهي تقف قبالة صديق الأستاذ حامد في شارع من شوارع مدينة اسطنبول ، ولهذا راحت تؤكد عليه المرة تلو المرة بأنها رأت الموت رأي عين ، ولا تريد أن تخوض تجربة فاشلة أخرى ، تعرض فيها نفسها وأطفالها وزوجها الى الغرق في البحر ، مثلما غرق الكثيرون غيرهم ، وهم ينشدون الحياة الكريمة في الضفاف الأخرى للبحر المتوسط .
- دع عنك ركوب البحر ، فأنت إنسان معوق ، تسير على عربة ، فكيف لك أن تركب زورقا مطاطيا في بحر هائج ، وأنت على هذه الحالة .
- ما الذي يعنيك أنت ؟ لقد جئت أنا من العراق من أجل أن أموت في البحر الهائج الذي تتحدث عنه أنت .
- ولكنني سأتحمل ذنوبك حين يأخذك البحر !
- قلت لك إنني أفضل الموت في البحر على أن أموت في البصرة التي يترصدنا الموت في شوارعها في كل حين ، فعلام ترديني أن أعيش في مدينة رعب متواصل ؟ هذا الرعب الذي وفرته على طول أيام السنة مليشيات الجارة المسلمة ، إيران ، التي ما برحت تطاردت العراقيين في عقر دارهم ، ولهذا أريد الموت في البحر ، أو العبور الى الضفاف الأخرى ، من أجل أن أشعر بإنسانيتي ، ومن أجل أن تزورني أحلام جميلة ، فأنا مللت كوابيس الرعب المستمرة كلما وضعت رأسي على وسادتي هناك في البصرة.
بعد يومين مضيا على هذا الحديث ، وردت مكالمة هاتفية من أحمد المعوق الى أبو جميل صديق الأستاذ حامد يخبره فيها أنه يسير مزهوا الآن على الأرض من جزيرة ليمنوس التي هاجرت لها القديسة ميليتيني ميتة على ظهر مركب منذ آلاف السنين بعد أن قطع رأسها حاكم مدينة ماركيانوبوليس ، أنتيوخوس ، بعد أن رفضت هي عبادة الأوثان ، ومنذ ذلك الحين ظل قبرها شاهدا على جرائم الحكام ، ومنارة لكل من يريد العبور الى الضفاف الأخرى .
فجأة ، وفي ساعة تقترب من ضحى يوم مشمس ، رنّ هاتف الأستاذ حامد ، وجاء صوت من علي يملأه فرح عظيم ، وسرور جم.
- وصلنا نحن ! قال علي .
- الى أين وصلتم ؟
- نحن على ظهر جزيرة ليمنوس الآن !
- كلكم ؟
- نعم . كلنا ، وهذان زورقان يقتربان من ساحل الجزيرة وراءنا .
بعد ذلك سلم علي التلفون لفنار ، كانت في غاية السرور والفرح ، وكل كلمة تغادر شفتيها كانت تنم عن غبطة لا يمكن أن توصف ، فقد نجحت هذه المحاولة بعد أن فشلت قبلها محاولات عدة ، وهي التي عاش قبل أيام ساعات عصيبة من الخوف حين أغرق خفر السواحل التركي المركب الذي كان يستقله المئات من المهاجرين .
- أهلا "عمو " وصلنا ، أنا سعيدة جدا !
- يعني يمكنني الآن أن أقول : هنا رودس ، هنا إذن نرقص ! رد الأستاذ حامد عليها مستذكرا المثل اليوناني القديم الذي ردده كل من هيغل وماركس من قبل وهو يعني اثبات وقوع الحدث ، فرودس جزيرة يونانية لا تبعد كثيرا عن الساحل التركي كذلك . وهي الجزيرة التي قفز عليها أحدهم قفزة هائلة حسب الاسطورة اليونانية .
ها هما يضعان الخطوة الأولى على الضفة الأخرى ، وعليهما أن يحثا الخطى تلو الخطى ، فالطريق ما زالت طويلة ، وعليهما أن يقررا على أية أرض ستقف أقدامهما في هذه الرحلة الغنية بالتجارب الكثيرة.
عندما تتهيأ للرحيل إلى إيثاكا،
تمن أن يكون الطريق طويلاً،
حافلاً بالمغامرات ، عامراً بالمعرفة.
. . . . . . .
تمن أن يكون الطريق طويلاً،
أن تكون صباحات الصيف عديدة،
فتدخل المرافئ التي ترى لأول مرة،
منشرحاً، جذلا.
__________________
* هذه الأشطر الشعرية والأشطر في نهاية القصة هي للشاعر اليوناني - المصري ، قسطنطين كفافيس.
**الجزائريون يطلقون على الرجل الفرنسي تسمية : قاوري ، وعلى المرأة الفرنسية قاورية.
***أوديسيوس هو ملك إيثاكا الأسطوري، ترك بلده كي يكون من قادة حرب طروادة ، وهو صاحب فكرة حصان طروادة الذي ضرب به المثل .

13
الهجرة الى دول الكفر !


سهر العامري
هاجر الانسان في هذه الأرض منذ أن عرفها وعرفته ، وكانت أسباب تلك الهجرة متباينة ، فأوضح سبب من بين تلك الأسباب هو الملاحقة والاضطهاد ، ذلك السبب الذي دفع الإنسان الى الهجرة كي يحمي نفسه أولا ، أو يحافظ على ما يؤمن به من أفكار وعقائد ثانيا ، تلك الأفكار والعقائد التي أراد طغاة البشر اجبار الناس على التخلي عنها وتركها مرغمين .
لم تحرم الهجرة على امتداد التاريخ البشري من قبل مذهب أو دين أو مصلح أو نبي ، فقد هاجر من الانبياء أبو الأنبياء ابراهيم الخليل بعد أن أنزل به الملك نمرود من ظلم ما أنزل حين كان يعيش هو في مدينة أور من جنوب العراق ، وبعده بقرون عديدة هاجر لينين الى ألمانيا من ملاحقة واضطهاد القيصر في روسيا له ولغيره .
لم يهتم المهاجر كثيرا بهوية المكان أو القوم الذين سيهاجر لهم ، فالمسلمون وتحت اضطهاد رجال السلطة في مكة هاجروا الى الحبشة المسيحية ، ولم نسمع من النبي محمد قولة ترى أن الحبشة على زمن حاكمها النجاشي أنها كانت دولة كافرة .
في نهاية العقد السابع من القرن الماضي شن نظام صدام حملة بطش لا مثيل لها من قبل في العراق ضد أعضاء وأنصار الاحزاب التي تدعي الدين ، ومنها حزب الدعوة ، والاحزاب اللادينية التي منها الحزب الشيوعي العراقي ، ولم يترك نظام صدام غير أحد خيارين للمعارضين لحكمه ، أما الموت ، وأما التنازل عن أفكارهم ، وارغامهم على الانتماء لحزب البعث ، ولهذا الهدف صارت شرطة أمن صدام ، وبالتعاون مع أعضاء حزبه ، حزب البعث ، يلاحقون المعارضين لهم في الشوارع والبيوت وفي أماكن عملهم حتى صار العراق وكأنه سجن كبير ، وأنا واحد من هؤلاء الملاحقين الذين تعرضوا الى الملاحقة والاعتقال ، حتى أنني اعتقلت في واحدة من أربعة مرات جرى اعتقالي فيها من قبل مدير أمن المحافظة التي أعيش فيها ، وذلك أثناء الدوام الرسمي ، وأنا ألقي درسا على الطلاب في المدرسة التي كنت أعمل فيها .
على إثر ذلك وجدت أن لا خلاص لي من الموت إلا بالهجرة من العراق مثل الكثيرين غيري من العراقيين ، وعلى مختلف انتماءاتهم السياسية ، وحال خروجنا من العراق تفرقنا في بلدان عربية على الأعم الأغلب ، فقد حرمت الأحزاب العراقية وقتها الهجرة الى دول أوربا الغربية في بادئ الأمر ، وصارت تلك الأحزاب تنظر الى اللجوء من زاويتين اثنتين ، إذ نظرت الأحزاب اللادينية الى فتح باب اللجوء للعراقيين من قبل تلك الدول ، إنما هو مساعدة لصدام ونظامه ، وذلك بإبعاد المعارضين عنه ، بينما حذرت الاحزاب الدينية الشيعية أعضاءها وأنصارها من الهجرة الى دول الكفر ، وشنت حملات ظالمة على كل عراقي يريد الوصول الى دول أوربا الغربية الكافرة على حد زعم تلك الأحزاب .
لم يمض وقت طويل على تلك الحملات التي سرعان ما تبددت بعد توقف الحرب ما بين العراق وايران في صيف سنة 1988م ، ومع هذا التوقف أصيبت الحركات والأحزاب الدينية الشيعية العراقية بصدمة كبيرة ، فقد انهارت الآمال التي علقتها على انتصار الجيش الإيراني في تلك الحرب ، ذلك الجيش الذي أملت عليه تلك الحركات والأحزاب أن يسلمها مفاتيح الحكم في بغداد ، وبدلا من ذلك وجدنا أن إيران بعد توقف الحرب قد عملت على تطبيع علاقتها مع نظام صدام ، وذلك بفتح سفارة للنظامين في كلا البلدين ، وصار ياسر ابن هاشمي رفسنجاني ، رئيس الجمهورية الإيرانية وقتها ، صديقا حميما لعدي بن صدام حسين ، ثم ومن على شاشة التلفزيون الإيراني الرسمي أعلن حسن حبيبي ، نائب رئيس الجمهورية الإيرانية قائلا : " العراقيون ضيوف غير مرحب بهم في إيران " ومن هنا أنزلت إيران خذلانا رهيبا بالأحزاب الدينية الشيعية ، فحمل الكثير من قياداتها وأتباعها حقائبهم في رحلة مجهولة نحو الدول العربية أولا ، ثم نحو الدول التي كانوا يسمونها للأمس القريب بدول الكفر ، ومن بين هؤلاء الراحلين والذين شاهدتهم عن قرب في دمشق العاصمة السورية ، هو سكرتير حزب الدعوة ، ابراهيم الاشيقر ، ولم يكن وقتها معروفا بـ " الجعفري" فقد حمل هو هذا اللقب بعد وصوله مع الدبابة الأمريكية الى بغداد ليشكل فيها حكومة إلهية تحفها الملائكة ! ويباركها جورج بوش الابن !
كان هو وقتها رجلا رث الملابس ، لا تبدو عليه مظاهر نعمة ، وغير معروف في أوساط المعارضة العراقية ، وقد كان هدفه من الوصول الى دمشق هو طلب اللجوء في بريطانيا ، تماما مثلما طلب فيها الكثير من قادة الأحزاب اللادينية العراقية اللجوء فيها ، أولئك القادة الذين ناصبوا لندن العداء على مدى سنين عديدة ، حينما كان الإتحاد السوفيتي يفئ بفيئه عليهم .
في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم أطلقت الأحزاب العراقية التي كانت تعارض نظام صدام لاتباعها مراسيم السماح بالهجرة لـ " دول الكفر " وحين وصلها الكثير منهم اكتشفوا مقدار الزيف الذي كانت قيادات تلك الأحزاب تقوله لهم ، فدول اللجوء لم تسخر اللاجئين فيها لغايات غير نزيهة ، مثلما ادعت الاحزاب اللادينية وقتها ، ولم تحرم الصلاة والصوم على أتباع الأحزاب الدينية بل ساعدتهم على فتح مساجد وحسينيات وقدمت لهم أموالا من أجل ذلك ، وقد تحولت بعض تلك المساجد والحسينيات الى التجمع والثرثرة . هذا على الرغم أن البعض من الاحزاب الدينية اباح لاتباعه حتى السرقة باعتبار أن الدول التي يعيشون فيها هي دول كافرة وتجوز السرقة فيها .
واليوم وبعد الفشل الذريع الذي حل بالدولة العراقية على جميع الصعد ، وبسبب من سياسات الأحزاب الدينية التي أوصلتها أمريكا الى حكم العراق رغم عدم مقدرة تلك الأحزاب الدينية على ادارة دولة كالعراق يخرج لنا وزير الخارجية ، ابراهيم الاشيقر ، فيه ليعلن أن ألمانيا تريد أن تسرق الطاقات الشبابية من العراق ، وذلك بعد تدفق الناس في العراق الى دول أوربا الغربية وغيرها طلبا للعيش فيها ، وقد نسى الاشيقر أن أسرته لا تزال لليوم لاجئة في لندن ، ونسى كذلك أن العراق والعراقيين وعلى مدى ثلاث عشرة سنة يعيشون تحت رحى الموت التي لا تفرق بين صغير وكبير ، ولا بين رجل وامرأة ، هذا بالإضافة الى استخدام آلة القمع والموت ذاتها التي استخدمها صدام من قبل ، لا بل أن تلك الآلة زادت في قوتها على أيام حكم أحزابهم الدينية التي تفننت بطرق الموت ، وأشكاله ، وإذا كان صدام يقتل الناس في السجون ، فقد أصبحت المنظمات الارهابية والمليشيات " الوقحة " اليوم تقتل الناس في العراق بالهواء الطلق  ودونما مبرر ، بل أنها تدعي أن عمليات القتل التي تقوم بها إنما هي قربة لله الذي صارت تمثله هي دون غيرها على هذه الأرض ، يضاف الى ذلك أن السجون قد ازدهرت في العراق ، وفاق عدد السجناء عددهم في عهد صدام البائد .
تحت ظروف الاضطهاد والموت هذه ، وتحت ظروف الجوع والفاقة ، وعدم توفر لقمة العيش الشريفة اضطرت الناس في العراق الى الهجرة بعد أن أعدمت فرصة العمل أمامها ، وصارت الفرصة الوحيدة المتوفرة هي أن يكون الانسان جنديا أو شرطيا ليأتي بعد أيام لأسرته ملفوفا بكفن ، ومحمولا بتابوت ، يرقص حوله نفر من باعة الضمائر الذين يحثون الشباب في العراق على الموت والقتل ، رغم أن القاتل والمقتول هم من أبناء شعب واحد فرقته أحزاب طائفية متخلفة اهتمت بمصالها أكثر مما اهتمت بمصلحة الشعب ذاك .
تلك الأحزاب هي التي أجبرت الناس بسياستها الخرقاء على ترك العراق ، والبحث عن مكان آمن لا يرون فيه حكومة ابراهيم الاشيقر الملائكية التي تخطى أفكارها المتخلفة الشاعر الشنفرى في قصيدته لامية العرب ، قبل أن يخلق الاشيقر بألوف السنين ، وذلك حين قال وهو ابن القرن السادس ، وليس ابن القرن الواحد والعشرين :
وفي الأرض مَنْأىً  للكريم  عن الأذى ... وفيها  لمن خاف القِلى  مُتعزَّلُ



14
مرضان مستبدان في العراق : أمريكا وإيران

سهر العامري
يخطئ من يقول أن الأمر في العراق متروك لحكومة يترأسها حيدر العبادي ، ولبرلمان يقوده سليم الجبوري ، فالاثنان ، الحكومة والبرلمان ، هما عبارة عن هيكلين أقيما على جدث النظام السابق ، وبتصميم أمريكي ، وتعاون إيراني ، وظل الحال على ما هو عليه رغم طلاء الزينة الذي حاول الأمريكان ومعهم الايرانيون أن يختاروا اللون الذي يراد لذلك الهيكل رغم تقاطع ألوان كلا الطرفين في أحيان قليلة ، ولكن هذا التقاطع سرعان ما يزول حين يحوز كل منهما حصته من الضرع العراقي الذي يدر المال والنفط .
لو تساءل كل واحد منا عن مقدار تأثير أحد العاملين : الموضوعي والذاتي في ما يجري في عراق اليوم ، لكان الجواب حتما هو أن الريادة تظل للعامل الموضوعي " الأمريكي والإيراني " وليس للعامل الذاتي " العبادي وحكومته والجبوري ومجلسه ، ومن ورائهما مهدي الكربلائي ! " فالعامل الموضوعي هو الفاعل في مجمل ما يحدث للعراق والعراقيين ، ومنذ الساعة التي سقط بها النظام السابق .
لقد كانت إيران منذ ظهور الاستعمار الحديث دولة مشاركة في كل ما أصاب دول المنطقة وخاصة العراق من دمار ونكوص ، ففي العام 1508م ، تعهدت إيران للإنجليز أن تقوم بالمهمة التي طلبوها منها ، وهي احتلال بغداد التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية عدوة الانجليز اللدود بهدف وقف زحف الجيوش العثمانية التي اجتاحت أوربا ، ووقفت على شواطئ بحر البلطيق من جمهورية مولدافيا الحالية ، وكان الثمن الذي دفعه الانجليز لإيران مقابل تعاونها ضد دول المنطقة هو استبدال اسلحة الجيش الايراني من السيوف وقتها بالبنادق ، وذلك على أيام الشاه اسماعيل الصفوي الأول ، مثلما طلب الانجليز من الشاه نفسه ابتداع قاعدة فكرية يقوم عليها نظامه مغايرة لتلك القاعدة الفكرية التي تقوم عليها الدولة العثمانية ، فظهر للوجود ما عرف في تاريخ إيران والمنطقة مذهب " التشيع الصفوي " الذي سلب من العثمانيين قاعدتهم الفكرية في إيران بعد أن أجبر الشاه اسماعيل الصفوي أغلبية الشعب الإيراني على ترك تلك القاعدة الفكرية السنية ، والتحول منها الى القاعدة الشيعية الصفوية الجديدة التي أرادها الانجليز ، والتي رفضها رجال الدين الشيعة في النجف ، مثلما رفضوا التعاون مع الشاه ذاك ، بينما غنى لها رجال الدين الشيعة في جبل عامل من لبنان بعد أن أجزل الشاه اسماعيل الكثير من الهدايا عليهم ومنحهم عديد الوظائف .
هذا التعاون الغير نزيه لا يمكن للغرب أن ينساه بسهولة رغم مرور سيل من السنوات على ذلك ، ولا يمكن للإيرانيين أن ينسوه كذلك رغم أنهم أبدلوا التيجان بالعمائم ، ولبسوا الجبة بدلا من السروال ، فلقد عاد هذا التعاون الى الوجود في السنوات القريبة مرتين ، في المرة الأولى عاد إبان حرب الخليج الثانية أو حرب الكويت ، فعن وزير الخارجية الأمريكي ، جيمس بيكر ، على أيام حكم الرئيس الامريكي بوش الأب قال : أيقظت في ساعة متأخرة من نومي قبيل نشوب الحرب تلك ، وقالوا لي أن وزير الخارجية في الاتحاد السوفيتي شيفرنادزه ينتظرك على التلفون ، ويضيف كذلك أنه قد ظن وقتها بأن صدام قد وافق على سحب جيشه من الكويت ، لكنه فوجئ بأن شيفرنادزه ينقل له تأكيدا من الرئيس الايراني ، هاشمي رفسنجاني ، فحواه هو أن ايران لن تحرك ساكنا إذا ما أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على مهاجمة العراق .
ذاك التعاون الأول أما التعاون الثاني بين أمريكا وإيران فقد حدث حين عزم الرئيس الأمريكي ، جورج بوش الابن، على غزو العراق واسقاط النظام فيه مطلع العام 2003م،  وذلك قبيل الحرب حين رعت الولايات المتحدة مؤتمر المعارضة في العراق الذي انعقد في لندن ، ذاك المؤتمر الذي كان من المستحيل على السيد عبد العزيز الحكيم المقيم مع أخيه محمد باقر الحكيم وأخرين من حضوره لولا الموافقة الإيرانية عليه ، وبعد الحرب صار التفاهم الأمريكي الإيراني هو من يشكل الحكومة في العراق ، وعلى مدى السنوات التي اعقبت تلك الحرب ، والى يومنا هذا.
واليوم فلا غرابة حين يجد المتظاهرون الثائرون في العراق أن رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي ، الذي علقوا آمالهم عليه في تحقيق مطالهم هو عاجز ، وغير قادر على تحقيق الكثير من تلك المطالب التي ترفض كل من أمريكا وإيران تحقيقها ، وأقرب الأمثلة على ذلك هو عدم قدرته وقدرة برلمان سليم الجبوري على عزل مدحت المحمود رئيس مجلس القضاء الأعلى ، فمدحت المحمود عينه حاكم العراق الأمريكي بول بريمر، ثم صار ذلك التعين من ضمن التفاهم الأمريكي الإيراني الذي بنى الهيكل الحكومي في العراق ، ففي الوقت الذي نسمع فيه هتافات الملايين من العراقيين في كثير من المدن العراقية تطالب فيها باستقالة مدحت المحمود أو تنحيته نجد هادي العامري قائد منظمة بدر ، وهو واحد من جنود إيران في العراق ، يقوم هو وبعض من رجالات إيران فيه بزيارة مدحت المحمود في مقر عمله ، لكي يمنحوه تأييدهم نيابة عن إيران ، وعلى الضد من إرادة الشعب العراقي الذي يطالب بتنحيته . وكيف ينحى وهو من الرجالات الذين اختارتهم أمريكا وبالتفاهم مع إيران ، وذلك من أجل تمرير مشاريعها في العراق التي قدمت من أجلها لهم رشى طائلة تمثلت برواتب ضخمة سُلبت من أموال فقراء العراق ، وأوضح مثال على ذلك هو إقرار قانون النفط والغاز من قبل الحكومة في العراق ، ذلك القانون الذي فرط بالكثير من مكاسب حفظ الثروة النفطية الوطنية التي حققها العراقيون بنضالهم العنيد ضد الشركات النفطية الأجنبية ، ومنذ صدور قانون (80) على أيام عبد الكريم قاسم .
لا بد لي ان اذكر هنا أن سياسة الأمريكية القائمة على احتواء ايران سياسة قديمة ، لم يتبناها الحزب الديمقراطي الأمريكي ، ولا الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ، وإنما تبناها الحزب الجمهوري ، والرئيس الجمهوري ، بوش الأب ، ووزير خارجيته جيمس بيكر الذي عبر عن هذه السياسة بصورة علنية وقتها ، وذلك بعد أن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها في العام 1991 م .
ومما تقدم يتوجب على ثوار العراق اليوم أن يدركوا أن النفر الذي يدير الحكم في العراق هو نفر مقبول من قبل إيران وأمريكا في وقت واحد ، ولهذا لا يمكن لحيدر العبادي ومن على شاكلته أن يقيل أحدا قد أتت به إيران أو أمريكا الى كرسي الوظيفة ، فحيدر العبادي المزكى من قبل المخابرات البريطانية ، والمقبول من طرفي التفاهم ، إيران وأمريكا ، لا يمكن أن يذهب بعيدا في قراراته الإصلاحية ، إذا كانت قرارات إصلاحية هناك ، ولا يمكنه أن يقفز خارج الدائرة المرسومة له سلفا ، والتي جلس على كرسي الحكم فيها . ولي أن أذكر هنا حادثة من تاريخنا القريب ، مثلما روها الأديب العراقي ، عبد الكريم الدجيلي ، في كتابه : الجواهري شاعر العربية ، إذ يقول : اصطحبت الجواهري على أيام الحكم الملكي في العراق الى السفارة الأمريكية في بغداد ، وحال دخولي على السفير الأمريكي قدمت الجواهري له قائلا : أقدم لك شاعر العرب الأكبر ، والنائب عن كربلاء في الدورة البرلمانية القادمة ! فما كان من السفير الأمريكي إلا أن رد عليّ بلغة الواثق من نفسه : شاعر العرب الأكبر فبها ، أما أنه نائب عن كربلاء فلا !
على هذا يتوجب على المتظاهرين أن يرفعوا أصواتهم عاليا ضد التدخل الفض في شؤون العراق ، وضد تحركهم الميمون ، من قبل إيران وأمريكا في وقت واحد ، وليعلموا أن ايران قد روضت الآن من قبل الغرب أكثر فأكثر ، وزمن شعارها " الموت لأمريكا " قد مضى وانقضى ، فقد أزيل هذا الشعار من جميع شوارع المدن الإيرانية ، ومن على جدران الأبنية المهمة فيها ، ولم يعد ذاك الشعار يتصاعد في خطب صلاة الجمعة في المساجد أو الساحات الكبيرة، وعلى المتظاهرين أن يدركوا كذلك أن مطامع إيران لم تنته ِ في العراق ، مثلما هي مطامع أمريكا التي عادت شركاتها النفطية لنهب ثروة فقراء العراق بعد أن حرمت منها على مدى سنوات طويلة ، وعليهم أيضا أن لا يعلقوا آمالا على حيدر العبادي ، فهو من ذات الركب الذي جاءت به أمريكا وإيران الى كراسي الحكم في العراق .


15
المنبر الحر / الدين والحكم (2)
« في: 20:02 29/08/2015  »
الدين والحكم (2)

 سهر العامري
من بين أهم الدواعي التي دعت الكثير من المؤرخين العرب أن ينسبوا الحقبة الزمنية القصيرة التي سبقت ظهور الدين الإسلامي الى الجهل هو قولهم أن عرب تلك الحقبة كانوا يجهلون الدين ، هذا على الرغم من أن أولئك المؤرخين يدركون أو لا يدركون أن الديانة التي تنادي بوحدانية الإله كانت معروفة في شبه جزيرة العرب ، وفي مكة على وجه التحديد ، وهي المدينة التي ظهرت فيها الدعوة للإسلام.
ففي يثرب من الحجاز مثلما الحال في نجران في اليمن وغيرهما من الحواضر تواجد اليهود بغض النظر عن الأصول العرقية التي انحدروا منها سواء كانت تلك الأصول عبرانية أم عربية ، فوجود بني قريضة ، وبني النضير ، وبني قينقاع في شمال شبه جزيرة العرب هو مثل وجود يهود بني حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة في جنوب شبه الجزيرة تلك ، وإذا كان هذا هو الحال مع الديانة اليهودية في تلك الحقبة الزمنية فهو الحال نفسه مع الديانة المسيحية ، فقد عرف الدين المسيحي في مكة وفي يثرب ونجران ، وقد اعتنقته بعض القبائل العربية مثل قبيلة تغلب وبني تميم وبني كندة ، ومن أشهر الأسماء التي اعتنقت الديانة هذه هو الشاعر الاعشى ، والشاعر أمرؤ القيس ، وورقة بن نوفل ، وخديجة بنت خويلد ، وآخرون غيرهم .
وبالإضافة الى الديانتين السالفتين كان هناك الأحناف الموحدون كذلك ، وكانوا يعدون في حقيقة الأمر من مثقفي تلك الحقبة الزمنية ، فقد برز منهم الشعراء ، مثلما برز منهم الحكماء والخطباء ، وصاروا يلقون خطبهم على الناس في المحافل العامة ، يطرحون فيها أفكارهم عن مصائر الناس ، مثلما كانوا يؤدون الكثير من الطقوس التي أخذ بها المسلمون بعد ظهور الدعوة الاسلامية ، فكانوا يحجون الى البيت العتيق ، ويؤدون طقوس ذلك الحج ، وهي في أغلبها ذات الطقوس التي أداها المسلمون فيما بعد ، كما أنهم كانوا يوجهون وجوههم صوب الكعبة في صلواتهم ، وهم بعد ذلك على ملة النبي ابراهيم ، فقد اعتزلوا عبادة الأصنام ، وصار ختن الرجال وغسل الجنابة والصوم وتحريم الخمرة من الأمور المعروفة بينهم ، كما كان البعض منهم يجيد القراءة والكتابة التي استغلوها في المراسلات بينهم ، وبين أشباههم من عرب العراق ، مثل رسالة أكثم بن صيفي إلى ملوك المناذرة في مدينة الحيرة من العراق ، ولم يكن تعلم القراءة والكتابة مقتصرا على الرجال بل تعداه الى النساء اللائي كانت من بينهن الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية العدوية التي طلب النبي محمد منها أن تعلّم  حفصة بنت عمر  الكتابة والقراءة .
يضاف الى تلك الرسائل والخطب التي كانوا يتلونها شفاها في مواسم الحج أو في اسواق العرب ، ومنها سوق عكاظ الذي تأسس في السنة الخامسة عشرة بعد عام الفيل ، والذي كان من أشهر الخطباء فيه قس بن ساعدة الايادي وأكثم بن صيفي ، وكان من بين المستمعين لهما محمد بن عبد الله قبل النبوة ، وأبو بكر بن أبي قحافة  اللذان جمعتهما صداقة الترحال في التجارة الى بلاد الشام .
لقد شكل أحناف مكة وغيرها شريحة اجتماعية مثقفة بمفهوم اليوم ، وكان يطلق على الواحد منهم في تلك الحقبة الزمنية لفظ : الكامل ، وجمعها : الكملة ، ولكن أفراد هذه الشريحة ظلوا على علاقة قريبة من الطبقة الارستقراطية العربية المتمثلة بتجار وأعيان مكة ، ولم يدخلوا في صراع معها ، فكانوا هم ينهجون منهج الزهاد الذين يذكرون الناس بوحدانية الله ، وبالموت الذي هو مصير كل حي على وجه الأرض ، وهم بمنهجهم هذا يختلفون اختلافا كليا عن حركة اجتماعية أخرى ظهرت في الصحراء العربية ، واتخذت من جبالها ووديانها حصونا يقاتلون منها أغنياء قريش والقبائل الأخرى ، ويغيرون على قوافلهم التجارية القادمة من مدن الشام أو الصاعدة لها من الهند والخليج العربي ، وقد طرحت حركة الفقراء " الصعاليك " هذه فكرها من خلال شعر شعرائها الذي يفيض بنهج القوة ، وامتشاق السيوف ، ودفع غائلة الجوع المميت عن فقراء الناس ، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية ، ومن أشهر هؤلاء الشعراء هو الشاعر عروة بن الورد ، والشنفرى الأزدي ، وتأبط شرا وآخرون ، ومع كل ما تقدم تظل هناك في مكة طائفة من الناس كانت تؤمن بالتوحيد لكنها في نفس الوقت كانت تشرك بالله ، وذلك من خلال مجموعة من الاصنام نصبوها في البيت الحرام ، والقرآن هو من أطلق عليهم تسمية الشرك في الكثير من آياتها ( أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون).
ومن الدواعي الأخرى التي من أجلها نسبت تلك الحقبة الزمنية الى الجهل هو الجهل ضد الحلم بكسر الحاء ، والمراد بالحلم هنا هو العقل والأناة والرشد ، ويبدو لي أن هذا الداعي لا يصمد أمام المعارف التي تحققت للإنسان العربي في تلك الحقبة ، فقد ذكرت قبل قليل معرفة العرب بالقراءة والكتابة ، وبالتجارة والتبادل السلعي بينهم وبين ما جاورهم من الشعوب والأمم ، كما أن الكثير منهم امتهن حرفة الزراعة ، وهي حرفة متقدمة في ذلك الزمان ، كما تركوا لنا أدبا ناضجا في الشعر والخطابة . وبالإضافة الى ذلك فقد ألصقت تهمة الجهل بهم كذلك بسبب من أنهم كانوا يشربون الخمر مع أن العرب لم ينتهوا عن شربها لا في صدر الإسلام على زمن النبي محمد والخلفاء الراشدين ، ولا في زمن الدولتين الأموية والعباسية ، وليس هذا فحسب فقد أجازت شربها بعض المذاهب الاسلامية ، وراح شعراء الدولتين يتغنون بها ، ويصورونها أجمل تصوير :
راق الزجاج ُوراقت الخمرُ ... فتشابها وتشاكلَ الأمر ُ
فكأنما خمر ولا قدح ٌ .... ..... وكأنما قدح ٌ ولا خمر ُ
ومع ذلك لم تنسب العصور السابقة لتلك الحقبة الزمنية ولا اللاحقة لها بما فيها عصرنا الحالي الى الجهل رغم أن الإنسان في كل هذه العصور قد عبّ في جوفه الكثير من الخمر ، وتفنن في صنعها ، وطرق تناولها .
ثم قالوا أن عرب تلك الحقبة كان يئدون أولادهم ، لكن لم يكن العرب كلهم من يقوم بهذه الفعلة ، وإنما قامت بها بعض الأسر المعدمة والفقيرة في عشائر من ربيعه ، وكندة ، وطي ، وتميم. ، تلك العشائر التي كانت تعيش خارج الحواضر العربية ، فالحرفة السائدة خارج تلك الحواضر في تلك الحقبة كانت هي حرفة الرعي التي طالما شهدت سنوات جوع قاتلة ، وقد ذكر القرآن بصورة جلية السبب الذي كان يدفع نفر من العرب الى وأد أولادهم فقال : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) أو ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) ، ثم أن الوأد في الآيتين السالفتين قد شمل الإناث والذكور من الأولاد ، يضاف الى ذلك أن المرأة لم تكن عنصرا منتجا في حرفة الرعي ، ولم تلعب دورا مهما فيها نتيجة لظروف الصحراء القاسية  ، يضاف الى ذلك أن وأد البنات في زمننا الحالي أخذ شكل اجهاض الجنين من بطن أمه إذا كانت بنتا مثلما عليه الحال في بعض دول جنوب شرق آسيا ، وربما في دول غيرها .
وإذا كانت تلك الدواعي وربما غيرها لم تبرر تسمية تلك الحقبة الزمنية بالعصر الجاهلي فمن أين جاءت تلك التسمية التي شاعت في بطون الكتب قديما وحديثا ، مثلما امتلأت بها مناهج الدراسة في الوطن العربي من شرقه الى غربه ؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من القول إن تسمية العصر الجاهلي بصيغة النسب المعروفة في الصرف والنحو العربيين ظهرت بظهور التدوين عند العرب في نهاية القرن الثاني الهجري والقرون اللاحقة ، ففي هذا الوقت قامت الدولة العباسية ، وقامت معها مدن نهضت بها معارف كثيرة ، وتأتي في طليعة تلك المدن بغداد العاصمة ، والبصرة ثم الكوفة ، مثلما سادت في تلك الدولة حرفة الزراعة ، وصار العراق يسمى بلد السواد لكثرة ما فيه من زرع ، هذا بالإضافة الى تأسيس المدارس ، وانتشار الكتاب ، وبناء المكتبات ، وظهور حركات أدبية فكرية نشطة ، وحركة تدوين كان أغلب المشتغلين فيها من أبناء الطبقة العربية الارستقراطية ، أو من القريبين منها ، وقد نظر هؤلاء لتلك الحقبة الزمنية نظرة كان فيها كثير من الاحتقار والازدراء لعرب تلك الحقبة الزمنية ، فشحنوا بعض الالفاظ بمعاني جديدة ، أو أنهم غيروا بصيغها ، فلفظ " صعاليك " الذي كان يعني الفقراء من الناس في الحقبة المشار لها هنا صارت تعني اللصوص وقطاع الطرق عند هؤلاء المدونين ، ومثل ذاك فقد استعاروا لفظ " الجاهلية " التي وردت في القرآن ، وفي الحديث النبوي ، وقاموا بتحويل صيغتها من المصدرية الصناعية في اللغة الى صيغة النسب .
لقد ورد لفظ الجاهلية في القرآن بصيغتين اثنتين هما صيغة المصدرية الصناعية فقالت الآية : أفحكم الجاهلية يبغون ، أو بصيغة : اسم الفاعل : واعرض عن الجاهلين ، كما أنها أتت بصيغة المصدرية الصناعية نفسها على لسان النبي محمد حين سمع أبا ذر الغفاري يعير رجلا بأمه فقال له : أنت أمرؤ فيك جاهلية ، ولم يرد لفظ جاهل بصيغة النسب لا في القرآن ولا في الحديث النبوي أبدا ، مثلما ادعى البعض زورا . وللتفريق ما بين المصدر الصناعي واسم الفاعل وبين صيغة النسب أقول : إن المصدر الصناعي هو اسم لحقته ياء مشددة ، وتاء مربوطة : مثل إنسانية ، اشتراكية ، ثورية ، علمانية ويدل على صفة في ذاته ، فحين خاطب النبي محمد أبا ذر الغفاري بقوله : أنت أمرؤ فيك جاهلية ، يريد أن يقول له فيك بعض الخصائص من تلك الحقبة ، بدليل أن النبي لم ينسب أبا ذر الى الجهل ، ولكنه ذكره بخصيصة هي النيل من رجل بالتعرض الى أمه ، وهذه الخصائص الغير حميدة موجودة في كل زمان ومكان ، ثم أن لفظ الجاهلية في قول النبي محمد يعرب مبتدأ مؤخر ، بينما لو قلنا : " القصيدة الجاهلية محكمة البناء " لكانت القصيدة هنا منسوبة الى الجهل ، وذلك لأنها وقعت نعتا ، فالمنسوب هو الاسم الذي تلحقه ياء مشددة ، ويقع نعتا أبدا ، وهذا النعت او الصفة لم يطلقها لا القرآن ولا النبي أبدا مثلما أسلفت ، وإنما جاءت من المدونين العرب في العصر العباسي الذين نظروا الى فقراء عرب الصحراء العربية بعيون احتقار الطبقة الاستقراطية لهم في زمن الدولة العباسية التي نعتت العامة من الناس بأقذر النعوت ، فكيف نريدها أن تصف لنا العرب الذين عاشوا الفقر والحرمان وشظف العيش في الصحراء العربية بغير تلك النعوت ، فهذا ابو حيان التوحيدي يرمي كل الالفاظ النابية على رؤوس فقراء الناس في العراق فيقول " همج ، ورِعاع ، وأوباش ، وأوناش ، ولفيف ، وزعائف ، وداصّة ، وسُقَاط ، وأنذال ، وغوغاء ، لأنّهم من دقة الهمم وخساسة النفوس ، ولؤم الطباع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين"
خلاصة القول هي أنه لا يوجد عصر جاهلي في تاريخ العرب قديما وحديثا أبدا ، وإنما هو من اختراعات بعض المدونين الذين كانوا في خدمة السلطة والحكم في زمن الدولة العباسية ، والذين ربطوا مصائرهم بمصائر الحكام الذين جلسوا على ثروات طائلة من المال ، وتفننوا بمظاهر الأبهة والبذخ ، وعلى ذلك تظل تسمية عصر ما قبل الإسلام التي درج عليها بعض المدونين هي أفضل تسمية لتلك الحقبة التي أشرت أنا إليها من قبل .





16
المنبر الحر / الدين والحكم (1)
« في: 23:49 22/08/2015  »
الدين والحكم (1)

سهر العامري
ما الدين إلا اجابة ساذجة في بادئ الأمر عن المسألة الرئيسة التي قالت بها الفلسفة فيما بعد ، والتي حملها السؤال الآتي : هل الكون عقل أم مادة ؟ بمعنى آخر هل وراء تكوين الكون عقل أو إله صنعه وأشاده ، أم أنه مادي جاء نتيجة للانفجار العظيم الذي حدث صدفة ، مثلما يرى الكثير من علماء هذا الزمان ؟
في ديانات الشرق القديم ، ومنها الديانة العراقية على وجه الخصوص ، ارتبطت فكرة الإله أو الرب بقوى الطبيعة ، فكان الانسان الأول في سومر ، وهي من بين أولى الممالك التي قامت في جنوب العراق ، قد اعتقد أن الرياح يقف خلفها إله هو " أنليل " ، مثلما يقف إله خلف وجود الماء هو " أنكى "، ومثلهما تموز إله الزرع والخصب والنماء ، ولم يقف الحال عند هؤلاء الثلاثة ، بل تعددت الآلهة في الديانة العراقية القديمة بتعدد بعض الظواهر الطبيعية.
ورغم أن العراقيين القدامى ، لم يعتقدوا وقتها ببعث بعد الموت ، مثلما اعتقد المصريون بذلك ، ولكنهم بنوا المعابد التي تضرعوا بها للآلهة التي تخيلوها هم ، كما صاروا يقدمون لها الهدايا والنذور ، وعاد المعبد مكانا مقدسا يحظى باحترام على المستوى الشعبي والرسمي ، خاصة بعد أن اقتربت فكرة التعدد من التوحد في أذهان الناس ، وصار هناك إله واحد مثل " مردوخ " يتزعم التعدد ذاك ، ويرد ذلك الى أن الناس الذين كانوا يعيشون في الممالك العراقية القديمة يخلعون صفات الإنسان في السلوك والتصرف على آلهتهم ، فما دام هناك ملك واحد يخضع له جميع الحكام في مملكته ، وربما في الممالك الأخرى ، فلا بد أن يكون هناك إله كبير تخضع له الآلهة المتعددة .
ومع ذلك ظل الدين ، والحال هذه ، بعيدا عن الحكم كمصدر للسلطة ، فلم يظهر لنا إنسان من بين رجاله يدعي بعلاقة ما مع رب من الأرباب ، أو مع زعيم لهم ، وإنما الملك نفسه هو الذي كان يدعي هذا الشرف لنفسه ، ففي مسلة حمورابي أو " خليل الرب " التي كتب هو شريعته المدنية فيها لم يفته أن يترك فيها صورة تضمه مع إله الشمس لكي يضفي على تلك الشريعة شيئا من القدسية بأعين المجتمع البابلي ، ويثبت للجميع أن لا واسطة هناك بينه وبين الإله ، وإنه هو ممثل الله في حكمه ومملكته ، وما المعبد والكهنة سوى تبع له لا غير ، وهو في زمن تعدد الآلهة هذا لا يختلف ، عن الملوك الذين جاءوا في زمن وحدانية الله التي بدأت مع دعوة النبي إبراهيم لها زمن الملك نمرود التي رفضها لأنها دعوة تهدد حكمه ، وتسلب منه ملكه على حد قول الملك المذكور ، وهو هنا لا يختلف عن الخليفة أبو جعفر المنصور حين خاطب العراقيين قائلا : "  أيها النـاس، إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسـديده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقـد جعلنى اللـه عليه قفلا، إذا شـاء أن يفتحنى فتحنى لإعطائكم، وإذا شـاء أن يقفلني عليـه قفلني" .! وبعده بمئات السنين قال ملك فرنسا ، لويس السادس عشر للشعب الفرنسي ، إنه ظل الله على هذه الأرض .
حين نافس الأنبياء الملوك في علاقتهم مع الله بعد أن بشروا الناس بأنهم هم الذين انتدبهم الرب لتبليغ رسائله لهم بعيدا عن حاكميه ثارت ثائرة أولئك الملوك والحكام ، واعتبروا ذلك تعديا عليهم ، وعلى مصالحهم التي قد يفقدونها ، ومن يمثلهم في الرقعة الجغرافية التي يتحكمون بها .
والملاحظ هنا أن الأنبياء هؤلاء الذين حملوا رسالة السماء ظهروا في مجتمعات متقدمة من حيث الحرفة ومستقرة بسبب من كونها مجتمعات زراعية تعيش على فلاحة الأرض ، وكانت تقدم الكثير مما تنتجه الى المعبد والملك وحاشيته ، وبذا أصبح ظهور الدعوات الدينية الجديدة تهديدا جديا للحكم والحكام بدء ً من حكومة نمرود والمجتمع السومري في مدينة أور من جنوب العراق ، حينما بشر ابراهيم بدعوته الجديدة ثم موسى في مصر ، وعيسى في فلسطين ، وانتهاءً بالنبي محمد الذي تفردت دعوته بأنها ظهرت في مجتمع رعوي " بواد غير ذي زرع " أي في مكة التي كانت تعد مركزا دينيا وتجاريا ، ولكن مع ذلك كان المجتمع المكي منقسما بشكل حاد أكثر مما كان عليه المجتمع السومري في مدينة أور من جنوب العراق ، ولهذا صادفت دعوته قبولا لدى الكثير من فقراء مكة خاصة بعد اعلان النبي محمد لمبدأ المساواة الذي رحب به صعاليك مكة من الذين كان الواحد منهم لا يجد قوت يومه فيذهب الى وديان مكة ليموت هناك بعيدا عن أعين الناس ، هذا في وقت لاقت فيه تلك الدعوة رفضا قاطعا من قبل رجال السلطة في تلك المدينة وكان في طليعتهم ابو سيفيان الذي قال بصوت عال ٍ : " أيريد محمد أن يساوينا بعبيدنا "
وإذا كان النبي ابراهيم قد فر بجلده من الملك نمرود وظلمه نجد أن النبي محمد قد فر وله اتباع اصطحبوه ، وآخرون تخلفوا عنه ، لكنهم لحقوا به فيما بعد حين حل بيثرب المدينة التي نهض فيها مجتمع زراعي خلافا للمجتمع الرعوي الذي كان سائدا في شبه جزيرة العرب ، وذلك بعد أن استوطنت تلك المدينة بطون وقبائل جاءت من مجتمعات زراعية ، مثل تلك الاقوام التي قدمت لها من بابل في العراق ، أو قبيلتي الأوس والخزرج اللتين قدمتا من اليمن بعد خراب سد مأرب ، وأهل اليمن ، مثلما هو معروف ، كانوا قد احترفوا الزراعة التي استخدموا فيها المحراث الحديدي ، بينما كان المجتمع السومري في جنوب العراق يستخدم فكوك الحيوانات في حراثة الأرض ، وذلك لاختلاف طبيعة الأرض في كل من العراق الجنوبي واليمن .
في هذا المجتمع الزراعي الجديد أستقبل النبي وأتباعه بحفاوة ، وسرعان ما أخذ يقود هو السلطة في مدينة يثرب التي لم تقدها سلطة قبله ، فقد بادر الى بناء أول مسجد يشاد بها بعد أن احتز قسما منه ، وجعله مسكنا لفقراء المسلمين ، ذلك الجزء الذي عرف فيما بعد بـ " الصفة " مثلما عرف من سكن به بأصحاب الصفة ، وهم الفقراء الذين ناصروا النبي محمد ودعوته التي بشرت بمبدأ المساواة بين الناس ، ولولا هذه الدعوة لما عرفت اسماء من فقراء مكة " الصعاليك " في تاريخ تلك الحقبة من الزمان ، ولا في تاريخ الاسلام ، مثل بلال الحبشي وعمار بن ياسر وصهيب الرومي وآخرين غيرهم .
لقد كسر مبدأ المساواة ذاك حدة الصراع الذي كان قائما بين تجار مكة وبين صعاليكها ، وصار هو الدافع الأساسي لدخول الفقراء في الدين الجديد أفواجا ، ولم تكن العوامل الأخرى مثل مبدأ التوحيد هي التي لعبت ذلك الدور الأساسي ، فشبه جزيرة العرب قد عرفت التوحيد قبل أن يبشر النبي محمد بالدعوة الإسلامية ، إذ المعروف أن الديانتين المسيحية واليهودية كانتا معروفتين فيها ، ولها أتباع كثيرون ، يضاف لهما الأحناف الموحدون من أتباع النبي ابراهيم الخليل ، والذين كان أبو النبي محمد واحدا منهم . وهذا الأمر يقودنا بعد ذلك الى مسألة مهمة أخرى ، وهي نعت الحقبة الزمنية التي سبقت الإسلام ، والتي استظهرها الجاحظ بمئة وخمسين سنة ، أو بمئتي سنة ، بـ "العصر الجاهلي " ، والحقيقة هي أنه لا يوجد عصر منسوب الى الجهل عند العرب قبل الإسلام أبدا ، وإنني سآتي على ذلك في الجزء الثاني من مقالتي هذه .



17
لا وجود لدولة اسلامية أبدا !
             

سهر العامري
لطالما شغلت الأحزاب الدينية ، وعلى مدى سنوات طويلة ، عقول الناس بطروحات تدعي أنها مستمدة من القرآن وسنة النبي والصحابة ذلك عند أحزاب أهل السنة ، وكذلك من القران والسنة وما نطق به الأئمة عند أحزاب الشيعة ، وأشهر الأحزاب السنية هما حزبا اخوان المسلمين وحزب التحرير ، ومثلما حزب الله وحزب الدعوة عند الشيعة ، وكل واحد من هذه الأحزاب كان يدعو الى قيام دولة اسلامية لم تر النور لا في الماضي ، ولا في الحاضر ، فعلى عهد النبي والخلفاء الراشدين ظهرت سلطة دينية اتخذت مركزا لها من مدينة يثرب " المدينة " حاليا ، وهي سلطة تفتقر الى مقومات الدولة القديمة كالدول في العراق القديم على أيام السومريين والبابليين والآشوريين ، أو الدولة القديمة في مصر على عهد ملوك الفراعنة بناة الاهرامات.
فسلطة المدينة لم تعرف الدواوين ، أو الوزارات ، مثلما لم تشهد تنظيما إداريا واضحا ، ولم تضع القوانين التي تنظم الحياة المدنية ـ الاجتماعية ، ولا القوانين التي تعتني بالجوانب الاقتصادية ، وكانت خلوا من الأجهزة الأمنية كالشرطة مثلا ، وعلى هذا الاساس لم ير التاريخ دولة اسلامية بمفهوم الدولة القديمة أو الحديثة .
ورب سائل يسأل أن العرب والمسلمين شهدوا قيام دولا مثل الدولة الأموية ، والدولة العباسية ، والدولة العثمانية وغيرها ، والحقيقة هي أن هذه الدول ، ومن اسمائها لا يمكن أن تسمى دولا اسلامية ، فهي دول  قامت على انقاض دول قديمة ، فالدولة الأموية مثلا قامت على انقاض الدولة البيزنطية في الشام ، ومثلها الدولتان العباسية والعثمانية ، فالأولى تأثرت بنظم وقوانين الدولة الفارسية ، والأخيرة تأثرت بما ورثته عن العباسية وعن بيزنطة .
وعلى هذا يمكن القول أن العرب والمسلمين لم يشهدوا قيام دولة اسلامية مثل تلك الدولة التي تبتدعها الأحزاب الدينية الحالية ، وتحاول أن تبنيها بصور متخيلة على أوهام في عقول مؤيديها ، وهي تعلم علم اليقين أن لا أسس واضحة لمعالم تلك الدولة في عقول قادة تلك الأحزاب ، والدليل على عدم هذا الوضوح ، وعدم الدراية في تلك الأسس هو السقوط المريع لتجربة حكم اخوان المسلمين في مصر ، تلك التجربة التي ماتت بعد أشهر من قيامها رغم حصولها على دعم قوي من دول غربية خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية التي أرادت عن غباء أن تبتدع لنا دولة الاسلام المعتدل الذي تمثله حركة أخوان المسلمين ، مثلما تعتقد الإدارة الامريكية مقابل الاسلام العنيف الذي تمثله القاعدة واخواتها ، ولكن الواقع المصري المتقدم في وعيه على طروحات الطامعين في الحكم من الاخوان رفض تلك التجربة رفضا قويا اتاح المجال لهزيمة الاحزاب الدينية في المعترك السياسي الدائر في ساحات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وإذا كانت الجماهير المصرية هي التي رفضت تجربة أخوان المسلمين في مصر رأينا بعد ذلك كيف اسقطت الجماهير التونسية ، وعبر صناديق الانتخابات ، حكومة اخوان تونس ، واستبدلتها بحكومة مدنية ، وذات الامر ينطبق على الوضع في ليبيا المجاورة التي تحولت فيها حركة اخوان المسلمين واخواتها الى عصابات ارهابية تقاتل الشعب الليبي الذي صار يترحم على أيام القذافي علنا ، وبعد أن رأى ما رأى من ظلم الحركات الدينية ، ومن سوء ادارتها للحكم .
ثم ها هي تجربة الاحزاب الدينية من الشق الشيعي في العراق تترنح تحت صيحات الرفض الشعبي العارم الذي يجتاح مدن جنوب ووسط العراق بعد أن فشلت تجربة حكم الاحزاب والحركات الدينية الشيعية فشلا ذريعا ، تلك التجربة التي قامات على أوهام قيام دولة اسلامية في العراق غير واضحة حتى في عقول الداعين لها من حكام تلك التجربة التي امتدت على مدى سنوات طويلة ، والتي قادت العراق الى كارثة حقيقية رغم ما قدمته الولايات المتحدة من دعم مادي ومعنوي ، وهي تعلم علم اليقين أنها تدعم تجربة حكم غريبة عن هذا الزمان ، وليست من بناته ، مثلما تدعم رجال حكم ليس لهم معرفة بنجاح العمل السياسي ، لا حين كانوا في المعارضة ، ولا بعد أن حملتهم بدباباتها الى المنطقة الخضراء من بغداد ، فهم والحال هذه حكام معوقون وغير قادرين على ادارة دولة مثل العراق ، وإنما هم جماعة جمعتهم المخابرات الأمريكية من شوارع مدن بعض الدول ، على حد تعبير بول بريمر حاكم العراق أيام الاحتلال ، وذلك من اجل أن يستقبلوا جند المنصور بالمال والسلاح ، السيد جورج بوش الابن ، في بغداد !
والدليل الملموس على جهل هؤلاء في الحكم والحكومة هو هذا الفشل المريع الذي نزل بالعراق والعراقيين على أيديهم بعد أن تركوا العمل المجد في خدمة الناس ، وبناء الوطن المدمر ، وانشغلوا بسرقة أكبر قدر من أموال فقراء العراق ، وقد عاونتهم جهات أجنبية على هذه السرقة خاصة المصارف في بعض الدول الأوربية ، وفي بعض مصارف الولايات المتحدة ، تلك المصارف التي رحبت بهذه الأموال المنهوبة مع علمها الأكيد انها أموال قد سرقت بهذه الطريقة أو تلك ، أو هي عبارة عن رشى قدمت للمسؤولين الجهلة في العراق من خلال بعض الشركات الأجنبية والمحلية .
إن الحال المتردي في العراق اليوم يبرهن بما لا يدع مجال للشك على أن الشعارات التي رفعتها الأحزاب الدينية الشيعية هي شعارات كانت ترفع من أجل الضحك على ذقون الناس ، هدفها في الأساس الوصول الى الحكم ، ومن ثمة الاستحواذ على المناصب في الدولة ، وعلى أموال الشعب العراقي ، وقد تجسد هذا في الثراء الفاحش الذي أصاب هؤلاء النفر من الحكام سواء في الحكومة ، أو البرلمان ، أو في مواقع الدولة الأخرى ، إذ لبس هؤلاء أفخر الملابس المستوردة خصيصا لهم من باريس ، مثلما امتلكوا قصورا فارهة على ضفاف دجلة ، واقتنى الواحد منهم عشرات السيارات ، ومئات من رجال الحماية ، وصار كل واحد منهم إذا ما مر بسيارته وسيارات حمايته في شارع ما يقطع ذلك الشارع أمام حركة السابلة .
تلك هي بعض من مظاهر الدولة الاسلامية ! التي نادت بها الأحزاب الدينية الشيعية ، والاحزاب الدينية السنية ، ولا فرق بين الاثنين أبدا إلا بمقدار ما نهبوا من خزينة الدولة العراقية ، وقد ظل هؤلاء على مدى هذه المدة الطويلة سادرين في غيهم ، متمادين في احتقارهم لعموم الناس في العراق خاصة الفقراء منهم ، ونسوا ان شعاراتهم في اقامة دولة العدل ، أو دولة " القائد الجعفري " تهرأت أمام أعين المواطنين العراقيين بتصرفاتهم المقيتة ، وبعدم درايتهم في تصريف أمور الناس ، خاصة أمام جيل الشباب العراقي الجديد الذي شبّ دون أن يعرف الخوف الذي جثم على صدور العراقيين زمن صدام ونظامه ، فقد زاد عمر هؤلاء الشباب على العشرين سنة الآن ، وهم يرون بأم أعينهم الحرمان والجوع ، فلا عمل يساعدهم في إدامة حياتهم ، ولا دراسة تؤدي الى وظيفة يكسبون من ورائها قوتهم .
وخلاصة القول أقول لكل الحالمين بقيام نظام اسلامي ، أو دولة اسلامية ، لا تعلقوا انفسكم بأضغاث أحلام ، فالدولة الاسلامية لم تقم في الماضي ، ولم تقم في الحاضر ، وسوف لن تقوم في المستقبل .

18
الحل في الثورة الشعبية !

سهر العامري
في مثل هذا الشهر من العام 2014م كتبت أنا مقالة تحت عنوان " الأزمات في العراق تجاوزت الحلول " ، وقتها كان الشارع العراقي ساكنا ، لا حراكا فيه ، ولا يسمع في فضائه صوت هاتف يريد أن يضع حلا لكم هائل من أزمات تطبق على رقاب الناس في العراق خاصة الفقراء منهم . وصارت هذه الأزمات تتصاعد يوما بعد يوم ، وشهر بعد شهر ، وطوال تلك المدة الطويلة كانت الناس تتطلع الى حلول مخلصة تقدمها الحكومة في العراق ، أو البرلمان العراقي ، هذا في الوقت الذي راح فيه أكثر من رجل سياسي أو كاتب يقترح شيئا من تلك الحلول التي تجاوزتها الأزمات الكثيرة التي صارت تحيط بالناس من كل جهة ، ولا أراني بحاجة الى تذكير القراء الفضلاء بها ، فهم يعرفون معي حالة الفقر المدقع الذي حط بكلكله على صدور أكثر من سبعة ملايين عراقيا ، مثلما يرون مثلي انعدام فرص العمل ، وشحة موارد الدولة ، علاوة على الحرب المشتعلة ما بين الجيش العراقي ومن يقف الى جانبه ، وبين قوى الارهاب في العراق ، والى الكثير الكثير عدا ذلك .
لم يستطع أحد أن يقدم حلا واحدا ، فالحكام في العراق ، ومعهم أعضاء البرلمان مشغولون بأمور حياتهم الخاصة ، وهم بين جاهل غبي ، وبين من تعوزه التجربة السياسية ، وإدارة الحكم ، وصار الشغل الشاغل لهؤلاء هو الحرص على تجميع أكبر قدر من أموال فقراء العراق ، ونقلها الى مصارف الدول الغربية التي أشرعت أبوابها بترحاب زائد ، فالدول الغربية ، وفي مقدمتها أمريكا غزت العراق لنهب أمواله وثرواته النفطية التي حرمت منها بعد قرارات تأميم النفط التي ناضلت الجماهير العراقية طويلا من أجل تحقيقها ، فبعد قانون 80 الذي صدر في زمن الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم صدرت قوانين تأميم النفط زمن الرئيس أحمد حسن البكر ، والتي كانت واحدا من شروط الحزب الشيوعي العراقي على قيادة حزب البعث للموافقة على الدخول في الجبهة التي كان البعث يدعو لها .
واليوم ها هو الشارع العراقي يتحرك في الكثير من مدن العراق ، مثلما صارت الجماهير العراقية هي التي تطرح الحلول في شعاراتها وهتافاتها ، وذلك بعد أن شعرت أن لا الحكومة ، ولا البرلمان يستطيعان أن يقدما الحلول تلك ، وعلى هذا يجب على الناس في العراق أن تعي الواقع الذي عليه العراق الآن ، مثلما تتلمس طريق خلاص يقوم على أسس واضحة من بينها ما يأتي :
* العمل بمثابرة على اسقاط تجربة الحكم القائمة في العراق الآن ، وإزاحة كل وجوه العملية السياسية فيه ، وإقصائهم من المشهد السياسي نهائيا ، فقد خبرت جماهير الشعب العراقي على مدى اثنتي عشرة سنة تلك التجربة ومؤسساتها ورموزها ووجدت بالدليل القاطع أنها تجربة فاشلة ميتة قادت العراق الى كارثة من الويلات والمصائب ، وإذا كان هذا هو الحال فلماذا يُطالب الناس في العراق أن يتمسكوا بتجربة فاشلة ، كلفت الشعب الكثير ، وقضت على آماله في مستقبل زاهر ، وبددت ثرواته الطائلة بالسرقة وسوء الإدارة ، وتخلف البلد .
* العمل على إيجاد بديل للحكم تقوم الجماهير ذاتها بوضع أسسه عن دراية ووعي ، لا تلتفت في ذلك لرأي رجل دين ، أو رجل سياسي يريد أن يمرر آراءه وأفكاره على الآخرين من دون قناعة بها ، وقد مرت على الناس في العراق تجربة اقرار الدستور الحالي المثقل بالمغالطات ، والنصوص الغامضة .
* أن تزكي تلك الجماهير قيادات شابة وواعية ، قادرة على إدارة المعركة التي قد تطول لسنين ، قيادات تصغي الى الجماهير ، وتعيش في أوساطها ، وتتلمس مطالبها وهمومها ، ولا تنعزل عنها في منطقة خضراء أو غبراء ، قيادات نزيهة مضحية همها مصلحة الشعب ، وغايتها رفاهه واسعاده ، قيادات تؤمن بالعلم والتخطيط في إدارة الدولة ، وفي تنفيذ المشاريع التي تهم الناس ، وتعود بالنفع عليها ، قيادات تحارب الفساد دون هوادة ، وتسعى مخلصة لرفع الحيف والظلم عن ملايين العراقيين ، قيادات تلاحق لصوص المال العام المسروق داخل وخارج العراق .
* أن تمتلك تلك القيادات برنامج عمل واضح الاهداف ، وقابل للتطبيق ، يراعي الوضع الاقتصادي الذي عليه العراق الآن ، وينظر في الأساس الى ما تريده الجماهير الغفيرة سواء في نظام الحكم ، وإدارة الدولة ، أو في حل المعضلات المعيشية التي تجابه عموم الناس خاصة الفقراء منهم .
* أن تحرص تلك القيادات على كسب ثقة الناس فيها خلال هذه المرحلة العصيبة من تاريخ العراق ، أو في المراحل اللاحقة التي يفترض فيها أن تشهد قيام دولة مدنية في العراق ، أساسها العلم والتخطيط السليم ، والاستفادة من التجارب الناجحة في البلدان الاخرى .
* أن تسعى لزج الجماهير الغفيرة صاحبة المصلحة في التغيير الذي تنتظره الأغلبية المطلقة من الشعب العراقي ، وأن تعمل على مواصلة النضال وديمومته ، وأن تبتعد عن كل ما يسئ لنضالها هذا ، مثلما لا تلتفت الى تخرصات أعدائها من رموز النظام الحالي والمنتفعين منه .
* الاصرار على التغيير مهما كلف ذلك ، ورفض القبول بالحلول الوسط التي يسعى لها النظام القائم بكل مكوناته التي شكلت شريحة سياسية تجمعهم مصلحة واحدة هي مصلحة المال والمنصب ، فهؤلاء رغم تظاهرهم بخلافات سياسية بينهم ، لكنهم على وفاق دائم تشدهم فيه الرواتب الضخمة التي يتقاضونها ، والتي سيحرمون منها بفعل نجاح التغيير المنتظر ، فها هي أصواتهم الخافتة بدأت تعلو ضد المتظاهرين في شوارع مدن العراق من مثال صوت بهاء الأعرجي ، وعلي العلاق ، ووزير الداخلية سالم الغبان المحسوب على منظمة بدر التي يريد أمينها هادي العامري ركوب موجة التظاهرات الحالية في العراق.
* ابتداع أساليب نضال مختلفة ، وعدم الاكتفاء بأسلوب التظاهر ، وتقريب تواريخ خروج التظاهرات ، والمراوحة فيما بين تظاهرة في هذه المدينة وتلك ، وهذا يتطلب من تلك القيادات أن تتفق على قيادة واحدة مع ظل لها يواصل قيادة الانتفاضة في حال تعرض أفراد القيادة الحقيقية للسجن أو القتل .
* العمل على اصدار نشرات يومية واسبوعية تغطي نشاطات المتظاهرين ، وتنقل أخبارهم الى الناس في عموم العراق خاصة أولئك المتربصين الذين لم يحسموا أمر المشاركة في تلك التظاهرات ، وحث هؤلاء على النزول الى الشوارع بدلا من التفرج على أرصفتها .
* السعي الى الاتصال بوسائل الاعلام المحلية والدولية من أجل نقل أخبار الانتفاضة يوما بيوم ، ومن أي مكان تنطلق فيه المظاهرات ، وكذلك العمل على مد تلك الوسائل بالصور الحية التي تقوم بتصويرها الهواتف المحمولة ، فأعداء تلك المظاهرات سيعمدون منذ الآن الى حرمان وسائل الإعلام تلك من الوصول الى أماكن التظاهر .
* عدم الالتفات الى ما تقوله الدول التي ساهمت في صنع الكارثة التي يعيشها العراق اليوم ، والتي أدت الى إزهاق أرواح الملايين من العراقيين وللآن ، وفي مقدمة هذه الدول دولتان هما : أمريكا وحليفتها إيران ، هذا في الوقت الذي يجب فيه الترحيب بأية مساعدة نزيه من أية جهة كانت شرط أن لا يرتهن مصير الانتفاضة عندها .
* وأخيرا يجب على قيادة المظاهرات أن تضع في حسابها أن النظام القائم هو صنيعة لدول معروفة ستقوم هي بحثه على استخدام لغة السلاح ضد المتظاهرين ، وفي هذه الحالة يجب على تلك القيادات أن تحمي جماهير الانتفاضة ، وذلك بتحويلها الى انتفاضة مسلحة تستطيع من خلال سلاحها أن تدافع عن نفسها ، وأمام تلك القيادات مثال حي هو الحراك الشعبي السلمي في جنوب اليمن الذي لم يستطع حماية نفسه من أزلام صالح وأعوانه إلا بعد أن تحول الى مقاومة شعبية دافعت بالسلاح عن نفسها ، وعن مدنها وجماهيرها .




19
الأزمات في العراق تجاوزت الحلول !

سهر العامري
يوهم نفسه كل من يقول أن هناك حلا ما سيضع حدا للمأساة التي يعيش الشعب العراقي ، وقولي هذا ليس ضربا من التشاؤم ، وإنما هي الحقيقة المرة التي تتمشى في شوارع العراق ، وتعايش العراقيين في بيوتهم ، فالعراقيون في الوقت الحاضر قد تقسموا جغرافيا ، مثلما تقسموا ، وبشكل صارخ ، مذهبيا وقوميا ، وصار كل طرف من الأطراف يستقوي بهذه الدولة أو تلك ، وعادت هذه الدولة هي التي ترسم لهذا الطرف حدود علاقة بالطرف الآخر ، ويجب عليه ، والحال هذه ، أن يخطو نحو هذا الطرف بالمقدار التي تسمح به تلك الدولة ، وهنا تجتلي حقيقة مفادها هي أن العراقيين في حمى الطائفية  أصبحوا في أغلبهم فاقدين للوطنية التي دفنت في قبور الطائفية المقيتة ، أو لحود التعصب القومي ، ولهذا صار كل واحد من تلك الأطراف يسعى الى مصلحته هو دون الأطراف الأخرى ، وعادوا ينبشون أضرحة الماضي القديمة ، فهذا رافضي لا يحب بعضا من الخلفاء الراشدين ، بينما صار الثاني ناصبيا معاديا لأهل البيت ، ورغم أن هذا الصراع أججته دول أخرى تأتي في طليعتها إيران حاضرا وماضيا خدمة لمصالحها القومية خاصة بعد الانكسارات التي تعرضت لها في الفتوحات التي أطلق عليها اسم " الفتوحات الاسلامية " تلك الفتوحات التي قدمت الموت أو الخنوع والخضوع للبلدان المفتوحة وحتى هذا الخنوع رفض أحيانا من قبل المسلمين وطالبوا  بدفع الجزية وحسب ، فمثلا رفض الحجاج بن يوسف الثقفي اسلام فلاحي العراق من أهل الذمة مقابل اسقاط الجزية عنهم ، وأمر بوسمهم كيا بالنار على سواعدهم ، وطلب منهم العمل في أرضهم مع دفع الجزية كرها . وهذا يقودني الى القول في أن كل واحد من المتسلطين كان يفسر آيات القرآن بما ينسجم مع تطلعاته في استغلال الرعية ، وحكم البلدان المفتوحة ، فقد أزهقت تحت هذه الآية " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير " أرواح الالوف من البشر ، هذا على الرغم من أن الامام علي كان قد وصى عبد الله بن العباس في أن يجادل الخوارج بالسنة وليس بالقرآن ، وذلك لأن القرآن حمال أوجه على حد تعبيره ، وعلى ذلك صارت " الغلظة " هي السلاح الفتاك بيد المسلمين ضد أعدائهم ، وهي وحدها التي جلبت لهم الانتصارات ، وليس الخيول العربية السريعة العدو كما يعتقد بعض المؤرخين الغربيين ، ولا عجب أن تشاهد المسلمين فيما بعد يستخدمون هذه الغلظة ضد بعضهم البعض معتقدين أن لا حل في الخلاف إذا وقع إلا بإسالة الدماء ، وتعليق الرؤوس ، وهذا ما نشاهده اليوم في العراق ، ومن جميع الأطراف المتحاربة ، حتى صارت جرائم صدام تخجل من جرائمهم .
مع مبدأ الغلظة هذا الذي يغري المتصارعين على الساحة العراقية بالانتصارات سيظل أوار الحرب بينهم مشتعلا ، وستظل أزمة العراق متجاوزة لكل الحلول ، هذا التجاوز الذي تغذيه دول أخرى في صراعها على امتلاك ثروات العراق الهائلة التي وصل الكثير منها الى تلك الدول وبطرق شتى ، وبوجود مثل هذه الثروة الهائلة ، ووجود ضباع تحوم حولها سيجعل الأزمات في العراق تمتد الى سنوات قادمة أخرى ، وسيظل الصراع الدولي والإقليمي حول تلك الثروات واحد من العوامل المهمة التي توقد نيران تلك الأزمات ، فإطفاء تلك نيران يتعارض مع مصالحها في العراق ، وأما ما يراه العراقيون من دموع تذرف من عيون بعض الدول على سيل الدماء في شوارعهم هو في حقيقة الأمر دموع تماسيح لا غير !
لي على ذاك شاهدان : الأول هو الموقف الأمريكي الذي عبر عنه في الآونة الأخيرة أحد المسؤولين الأمريكيين بقوله : رغم أننا نحاول نسيان العراق إلا أن شبحه مازال يلاحقنا . وهذا القول يوضح أن أمريكا وغيرها من الدول تريد ثروات العراق ولا تريد أن تتدخل في معمعة حرب الطوائف الدائرة فيه ، فها هي شركات النفط الأمريكية قد عادت الى العراق بعد أن حرمت من التنقيب واستخراج النفط العراقي على مدى أكثر من ثلاثين سنة ، وهذه هي بغية الرأسماليين على امتداد تاريخهم الأسود.
الشاهد الثاني : هو أن إيران الدولة الاقليمية التي فقات أمريكا في حصتها من الثروات العراقية قد عبرت بشكل واضح عن مصلحتها في استغلال حرب الطوائف في العراق وذلك بردها على الدول الغربية التي طلبت منها المشاركة في الحرب ضد داعش ، فقد صرح وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف، قائلا : إن إيران ستقبل بـ"القيام بخطوة" في محاربة تنظيم داعش لقاء تقدم في المفاوضات النووية مع الدول الكبرى.
ويحضرني هنا قول شاعرنا العظيم أبي الطيب المتنبي واصفا في حال سيف الدولة :
وسوى الروم خلف ظهرك رومُ ... فعلى أي جانبيك تميل ُ
وأنا هنا أقرن حال سيف الدولة الحمداني أمس بحال العراق اليوم ، فالروم الذين خلف ظهر سيف الدولة الحمداني سوى روم بيزنطة هم الفرس البويهيون الذين يحكمون بغداد ، ويديرون شؤون الخليفة والخلافة ، ويعبثون بمقدرات العراق وأهله ، فعلى أي جانب يميل العراق اليوم وكل الجوانب طامعة به ، تريد قتله ؟
حين يقارن المرء بين حرب الطوائف في لبنان التي تواصلت على مدى خمس عشرة سنة يجد أن حرب الطوائف في العراق ستتجاوز هذه السنين لسبب واحد لا غير هو أن لبنان بلد فقير سرعان ما أكلت الحرب أموال المتحاربين واموال الدافعين عنهم بالنيابة ، ولهذا خرّ الجميع سجدا عند طاولة المفاوضات في مدينة الطائف من المملكة العربية السعودية ، بينما في العراق يختلف الحال فجميع أطراف الحرب فيه صارت تملك ثروات طائلة بعد أن امتلك جميعها أبارا كثيرة من النفط الذي عاد مصدرا مهما ومشجعا على مواصلة القتال ، وعلى عدم الالتفات للأصوات القليلة التي تنادي بوقفه ، وفي ظل حالة مريبة من سكوت مطبق يلف الناس وشوارع في العراق .
هناك أمر آخر لا بد من المرور عليه هو أن بعض الناس في العراق يعول على الساسة من العراقيين في حل المأزق الذي يعيشون فيه برغم من أن هؤلاء البعض قد جرب الكثيرين من أولئك الساسة سواء كانوا أعضاءً في الحكومة أم في البرلمان ، ولكنهم لم يجدوا أحدا من هؤلاء قد بادر الى فعل يعتد به ، والسبب في ذلك هو أن الساسة أولئك ما هم سوى طبقة من البيروقراط متجانسة الدخل على حد تعبير ماركس تهمهم مصالحهم الخاصة قبل مصلحة الشعب ومصلحة العراق ، وقد يكون البعض من هؤلاء هو من يضرم نيران الأزمات ، ويمنع إطفاءها فهو لا يعدو عن كونه أداة بيد هذا الطرف من الدول أو ذاك ، فلا يتأملنّ أحد في العراق خيرا من شريحة سياسية فاسدة !
وأخيرا تساءل رجل ألماني من عامة الناس في السنة الأخيرة من سنوات الحرب العالمية الثانية قائلا : أما آن لهذه الحرب أن تضع أوزارها ؟ فرد عليه آخر : انظر لمداخن المعامل تلك فحين يتوقف انبعاث دخانها ستتوقف الحرب !
فمتى ما توقفت مداخن المال في العراق ، واصاب الوهن المتقاتلين ،  ستتوقف حرب الطوائف فيه ؟

 

20
المنبر الحر / السقوط المذل !
« في: 21:11 12/08/2014  »
السقوط المذل ! 

سهر العامري
بعد سقوط أخوان مصر ، وفشلهم المريع في إدارة دفة الحكم في مصر ، ها هو حزب الدعوة في العراق يلاقي ذات المصير في عدم تمكنه من السير بالعراق نحو الأمن والاستقرار السياسي ، والتطور الاقتصادي ، فلا العراق استقر سياسيا ، ولا تطور اقتصاديا ، بل شهد العراق تحت حكم الحزب المذكور تراجعا ونكوصا فظيعين لم يشهد العراق مثيلا لهما على امتداد تاريخه القريب ، هذا رغم الأموال الطائلة التي توفرت للخزينة العراقية من عائدات النفط الضخمة ، والتي بددها حكام الحزب المذكور في وجوه صرف لم يحصل المواطن العائدي على الشيء الكثير منها حتى نسبة العراقيين الذين يعيشون تحت خط الفقر قد زادت على ثلاثين بالمئة ، وصارت ميزانية الدولة تنفق في أغلبها على الجانب التشغيلي منها كرواتب ضخمة لأعضاء البرلمان والوزراء ومن بدرجة وزير ، وكذلك على أصحاب الدرجات العليا والدنيا من موظفي الدولة ، يضاف لهم منتسبو القوات المسلحة الذين يتمتعون برواتب ضخمة لا تتناسب مع الرتب التي يحملونها ، فالعراق البلد الوحيد في المنطقة والعالم الذي يزيد فيه راتب الشرطي بتحصيله الدراسي المتواضع على الطبيب وغير الطبيب من موظفي الدولة ومن حملة الشهادات الجامعية ، ومع ذلك فقد انهارت تلك القوات في أول معركة لها مع داعش في الموصل ، وهزمت هزيمة نكراء ، ولت بعدها هاربة لا تلوي على شيء رغم ضخامة المبالغ التي صرفت على اعدادها وتدريبها .
ولكي أبرهن للقارئ العزيز على أن المالكي وحزبه حزب الدعوة لم يحصدا في حكمهم للعراق غير الفشل على جميع الصعد ، ففي فترة حكمهما نهبت ثروات البلاد ، وتحطم اقتصادها ، ودمرت بشكل متعمد صناعتها وزراعتها ، وساد الفساد ، وعم الخراب ، وقد توقعت أنا ذلك في اليوم الأول من صعود المالكي للحكم ، فأنا قد مضيت شطرا من حياتي قريب من هؤلاء ، وتيقنت مع طول معايشة أن هؤلاء يكرهون العمل ، ويقضون جل أوقاتهم في الحسينيات ، والأماكن التي يتوفر لهم الحديث بها . ويبدو أنهم ظلوا على أطباعهم هذه حين وصلوا الى الحكم ، فكيف يرجى تقدم للعراق من هؤلاء بعد ذلك .

اقول لكي أبرهن على وهن وعجز المالكي ومن معه أعيد بعضا مما كتبته في الساعات الأولى لتسنم المالكي للحكم في دورته الأولى ، وذلك حين قمت بنشر مقالة بتاريخ الثاني والعشرين من شهر مايس سنة 2006م ، وهي السنة التي صعد بها المالكي للحكم وللمرة الأولى .

كان عنوان تلك المقالة : " المالكي والقصيدة الرومانسية" ، وكنت أعني بالقصيدة برنامجه الذي استعرضه ووعد بتحقيقه مع أن البرنامج ذلك لا يمكن تحقيق من قبل رجل مثل المالكي يجهل الحكومة والحكم ، وليس لديه مؤهل يعتد به ويمكنه من تحقيق برنامجه الذي وعد العراقيين بإنجازه ، ففي تلك اللحظات كتبت الآتي ( لقد تغنى نوري المالكي ، رئيس الوزراء الجديد ، وأمام الأعضاء والضيوف ، بقصيدة رومانسية ، ضمت أربعة وثلاثين بيتا ، هي جل عماد برنامجه الحكومي المقترح ، والذي يروم عرضه على البرلمان نفسه لاحقا ، ولي هنا أن أذكر للقارئ بعضا من تلك الأبيات ليقف هو بنفسه على جسامة المهمة التي تنتظر من المالكي وحكومته العمل المخلص والجاد ، والمستحيل أحيانا ، في تحويل تلك القصيدة الرومانسية الى واقع ملموس ، تعيشه الناس في العراق ، وفي غضون فترة زمنية قصيرة ، تقل عن السنوات الأربعة التي هي عمر حكومة المالكي الحالية ، فمن الأبيات تلك الآتي : * تشكيل حكومة الوحدة يعتمد على اساس مبدأ المشاركة وتمثيل المكونات العراقية بحسب الاستحقاق الانتخابي ومقتضيات المصلحة الوطنية * العمل وفق الدستور والالتزام به وان اية تعديلات لاحقة ستجري وفق المادة 142 منه * السير قدما في الحوار الوطني وتوسيع دائرة المشاركة في العملية السياسية بما ينسجم مع الدستور ويبني عراقا حرا تعدديا اتحاديا ديمقراطيا ، وبروح المصالحة والمصارحة * نبذ العنف وادانة منهج التكفير والارهاب بكل أشكاله ، والاصطفاف لمكافحته وتطبيق قوانين مكافحة الارهاب بشكل فعال وعبر مؤسسات القضاء ومؤسسات الدولة، واحترام المعايير الدولية لحقوق الانسان * صيانة سيادة العراق وتعزيز استقلاله ووحدته والتعامل مع مسألة وجود القوات المتعددة الجنسيات في اطار قرار مجلس الأمن 1546 والاسراع في خطط استكمال القوات العراقية وفق الدستور وعلى أساس المهنية والولاء الوطني ، والاسراع في نقل المسؤوليات الأمنية الى الجيش والشرطة والأمن العراقي، والتعاون بين العراق والقوات متعددة الجنسيات لاستكمال المستلزمات الذاتية وفق جدول زمني موضوعي لتسلم القوات العراقية المهام الأمنية كاملة وعودة القوات المتعددة الى بلدانها * ترسيخ دولة المؤسسات والقانون واتباع الاصول الادارية والمؤسساتية ورفض التفرد والدكتاتورية والطائفية والعنصرية والقرارات الارتجالية * المرأة نصف المجتمع ومربية النصف الآخر، لذلك يجب ان تأخذ دورها الفاعل في المجتمع والمجالات المختلفة .)

ثم أضفت الى ما تقدم من تلك المقالة الآتي (أقول هذا بعض من القصيدة الرومانسية التي ابتعد بها المالكي عن النزعة الطائفية التي قام عليها الائتلاف العراقي الموحد " الشيعي " الذي ينتمي إليه هو ، وهي ، مثلما يلاحظ القارئ ، أماني يطمح بتحقيقها الناس في العراق وربما يطمحون بتحقيق أبيات منها فقط ، خاصة في حالين : الأمن والفاقة ، ولكن هل بمقدور المالكي وحكومته أن يحققوا للناس تلك الأماني ؟ أو هل يملك هو من الآليات ما يمكنه من خلالها تحول تلك الأحلام الرومانسية الى حقائق تسير على الأرض في العراق المدمر الآن ؟ )

لم يحقق المالكي من أبيات قصيدته الرومانسية تلك بيتا واحدا ، وأما انسحاب الأمريكان فقد جاء بسبب الخسائر الفادحة التي تعرض لها الجيش الأمريكي في العراق ، فقد خرج بأكثر من خمسة آلاف قتيل ، وأكثر من ثلاثين الف جريح ، بالإضافة الى المبالغ الطائلة التي انفقت على تلك الحرب ، والتي ستستردها الأمبريالية الأمريكية في غضون سنوات قليل من خلال استغلالها النشط للثروات الطبيعية في العراق ، ويأتي في مقدمة تلك الثروات الغاز والنفط اللذان يصدران  الان من دون عدادات ، وبشكل مستباح ، وأمام انظار الناس في العراق.
لقد عجلت ظروف موضوعية بالسقوط المذل للمالكي وحزبه في حكم العراق ، وأهم هذه الظروف هو تخلي إيران والولايات المتحدة عنه ، فهو قد أتى للحكم في ولايته الأولى باقتراح من مستشار السفراء الأمريكان في العراق ، علي الخضيري ، الذي تقرب له المالكي مثلما يقول هو من خلال حديث للمالكي مع الأمريكان عن معاناة العراقيين الذين عاشوا في إيران إبان حكم صدام للعراق ، ويروي لهم أن الإيرانيين كانوا يعادون كل العراقيين العرب ويعتبرونهم مخلوقات من درجة ثانية  وهم من الدرجة الأولى ، ثم كما يقول المستشار وجدنا فيه زعيما شيعيا مستعدا لشن حرب على الميليشيات الشيعية في البصرة فيما سميناه بصولة الخرفان "الفرسان" ، تلك الصولة التي قتل فيها الكثير من فقراء الشيعة ، لكي يظهر المالكي اخلاصه للمحتل الأمريكي . هذا كان في الدورة الأولى من حكم المالكي ، أما في الدورة الثانية ، فالكثيرون يعرفون أن حكومته قد تشكلت في السفارة الأمريكية .

أما الظروف الذاتية مثلما يقول المستشار علي الخضيري هي أن المالكي كان ضعيفا سياسيا ، كثير الشكوك بالآخرين ، وعديم الثقة بهم ، ولكن المستشار نسى أن المالكي غير اجتماعي ، عاش مبتعدا عن الآخرين ، ولا يريد أن يلتقي بهم ، وهذا السلوك عرف به المالكي منذ أن كان يسكن ضاحية السيدة زينب في دمشق ، فأنا مثلا كنت أزور صديقا لي في مقر حزب الدعوة في المنطقة الصناعية من العاصمة دمشق لكنني لم ألق ِ عليه تحية أبدا ، وشخص بهذه المواصفات لا يمكنه أن يقود بلدا مثل العراق الذي أوصى معاوية بن سفيان فيه ابنه يزيد قائلا : لو سألك أهل العراق أن تولي عليهم كل يوم واليا ففعل !


 

21
الى بلاد العم سام (3)
سهر العامري
انتقلنا بسفينة صغيرة أخرى من جزيرة الحرية الى جزيرة إيليس " Illis Island " التي لا تبعد عنها كثيرا ، وعلى الجزيرة هذه ينتصب بناء ضخم يذكر بقلاع القرون الوسطى ، والبناء هذا هو متحف الهجرة الذي شيد من الخشب عام 1882م ، كمحطة يعبر من خلالها المهاجرين الجدد القادمين الى الولايات المتحدة ، ففيها تدون أسماؤهم ، مثلما تجرى لهم فحوص طيبة كذلك ، ولكن هذه المحطة احترقت تماما في 15 حزيران عام 1897م ، ثم أعيد بناؤها من جديد ، وعلى هيئته الحالية ، وافتتحت في 17 كانون الأول " ديسمبر "عام 1900م.
ليس في المتحف من أثار تذكر سوى بعض الحقائب ، والملابس ، وجوازات السفر وغير ذلك ، مما تركه القادمون وراءهم في محطة التفتيش هذه ، ويضاف الى ذلك الكثير من الصور التي يعود تاريخها للأيام الأولى التي هبط فيها المستكشفون الأوائل على الأراضي الأمريكية ، وأول هذه الصورة التي جلبت انتباهي ، هي صورة كريستوف كولومبوس Christophorus Columbus) ‏) المولود في31  تشرين الأول " أكتوبر " سنة  1451 م والمتوفي في 20 مايس " مايو " سنة   1506م وهو رحالة إيطالي مشهور ، ويعد من أوائل المستكشفين للقارة الأمريكية ، لكن اكتشافه لأمريكا الشمالية كان في رحلته الثانية عام 1498م .
ومع ذلك يعتقد أن (أبوبكر الثاني) إمبراطور مالي الأفريقية ، التي كانت ذات ثراء فاحش بسبب من كثرة مناجم الذهب فيها ، هو من سبق كريستوف كولومبوس في رحلته الى القارة الأمريكية ، وذلك حين تخلى عن العرش لأخيه عام 1311م ، وقام برحلة عبر فيها المحيط الأطلسي بعد أن جهز نحو 200 سفينة يصاحبها نحو 2000 زورق إضافي ، وعلى هذا يكون أبو بكر الثاني قد سبق كولمبوس برحلته بنحو 200 عام ، وقد أكد كولمبوس تلك الرحلة بمخطوطة كتبها بيده ذكر فيها أن الأفارقة سبقوه في الوصول إلى القارة الأميركية بدليل أن السكان الأصليين تعلموا كيفية صهر الذهب ومزجه بالمعادن الأخرى، وأضاف كولومبوس : إن تلك طريقة إفريقية خالصة ، ومن غير المعقول أن يكون سكان أميركا تعلموها مصادفة . ويضاف الى ذلك أن كولمبوس قد ذكر كذلك أنه عندما وصل إلى العالم الجديد وجد أناساً يشبهون الأفارقة في أشكالهم وهيئتهم.
في العودة بسفينة صغيرة أخرى من جزيرة إيليس " Illis Island "  الى محطة ساوث فري " South Ferry " نظرت الى ماء البحر الذي هو ماء خليج نيويورك وجدته داكنا ، مغبر اللون على خلاف زرقة البحار المعهودة ، وتيقنت أن هذا اللون يعود الى تلوث الماء في هذا الخليج ، وقد يكون هذا التلوث سببا من أسباب قتل الأحياء المائية فيه ، وهو سبب كاف ٍ ، حسب اعتقادي ، في عدم وجود أي طائر يحلق في سماء هذا الخليج ، حتى تلك الطيور التي اعتدنا أن نراها دائما حاطة أو محلقة عند سواحل البحار مثل طائر النورس أو الغراب الأسود ، ولكنني رأيت بعضا من العصافير على شجر التكي في حديقة صغيرة من الحي الصيني ، كانت محل جلوس لأبناء الجالية الصينية من كبار السن نساءً ورجالا ، يصرفون فيها ساعات من يومهم في لعب النرد أو الشطرنج ، وقد ذكرني هؤلاء بكبار السن في العاصمة بكين ، أولئك الذين يجلسون على ضفاف نهر صغير في منطقة ديامين من تلك العاصمة ، ويصرفون وقتهم بلعبة من اللعب التي ذكرتها آنفا .
ومن الحدائق الأخرى التي زرتها هي حديقة براينت بارك " Bryant Park" التي حملت اسم الشاعر الأمريكي ، ويليام كولين براينت " William Cullen Bryant ، منذ سنة 1884م ، والتي تقع ما بين الشارع 40 والشارع 42 في الوسط من مانهاتن ، والشاعر المذكور ولد في 3 تشرين الثاني " نوفمبر " سنة 1794م ، وتوفي في 12 حزيران " يونيو" سنة 1887م ، وقد عرف عنه أنه كان مدافعا قويا عن المهاجرين الجدد ، كما دافع عن العمال ، وطالب باحترام حقوقهم في تشكيل نقابات عمالية تخصهم.
في الحديقة تلك شاهدت عرضا مسرحيا حديثا ، يؤدي فيه الممثلون والممثلات حركات إيمائية ، وهم صامتون دون أن ينبسوا بكلمة واحدة ، بينما افترش جمهور كبير من المشاهدين أرض تلك الحديقة المعشوشبة كي يستمتع بهذه المشاهد ، ويبدو أنها من تجارب المسرح الحديثة ، فحركة كل ممثل وممثلة تجبرك على أن تفكر بما يريد هؤلاء الشبان والشابات أن يقولوه لك ولغيرك ، وبلغة جديدة ، والظريف في الأمر أن الجمهور كله كان يصفق لهؤلاء بحماسة شديدة ، فهل كان الجمهور هذا قد فهم كل ما قاله هؤلاء الممثلون عبر اللغة الإيمائية التي عبروا فيها عن مضامين نصوص عروضهم ؟ تساءلت أنا معي نفسي ، وكنت جالسا في المقدمة منهم ، وعلى الأرض مثلهم .
والحديقة الثالثة التي زرتها كذلك هي الحديقة التي قامت مكان برج مركز التجارة العالمي الجنوبي الذي دمر في هجوم الحادي عشر من شهر أيلول " سبتمبر " سنة 2001م ، وهو البرج الذي يفضي له شارع المال الشهير ، الوول ستريت " Wall Street" ، وسعة الشارع وطوله لا يصلان الى الشهرة الكبيرة التي حظي بها ، ولكن المنطقة التي يقع فيها تعد من أنظف المناطق في مدينة نيويوك ، كما تصعد فيها بنايات وأبراج عالية على خلاف من المناطق الأخرى ، يضاف الى ذلك أن شوارعها قد اكتست ببلاط حديث ، جيد الصنعة والشكل ، بل حتى عربات بيع وجبات الأكل السريعة تميزت بنظافتها عن بقية العربات التي تماثلها والمنتشرة في شوارع مانهاتن ، والتي يقدر عددها في مدينة نيويورك بأربعة آلاف عربة تقف عند أرصفة الشوارع ، أو عند الحدائق ، وأغلب العاملين فيها ، مثلما تبين لي من كلام أصحابها ، هم من المصريين المهاجرين ، هذا في الوقت الذي لم أشاهد فيه كناس شوارع في منطقة الشارع المذكور ، ولكنني شاهدته في مناطق أخرى من مانهاتن ، وهذا يدل على أن المهن القذرة ، كما يسميها السويديون ، والتي اختفت عندهم ، لازال لها وجود في أكبر دولة رأسمالية في العالم .
في وسط الحديقة المذكورة ، وبحدود مساحة البرج المدمر ، على ما أظن ، صنعوا بركة مستطيلة الشكل ، وبعمق يزيد على أكثر من مترين ، تتدفق من حواشيها مياه تصب في قاعة البركة ، ثم سرعان ما تختفي ، ويلف تلك الحواشي طوق من حديد مميز ، كتبت عليه أسماء الضحايا الذين قتلوا في ذلك الهجوم ، وكانت من بين تلك الأسماء أسماء لعرب كان أصحابها قد قضوا في ذلك الهجوم الرهيب الذي لا يعادله أي هجوم شن على الولايات المتحدة من قبل ، حتى ذلك الهجوم الذي شنته الطائرات اليابانية على السفن الحربية الامريكية الراسية في الموانئ الأمريكية أبان الحرب العالمية الثانية.
المنطقة الأخرى التي زرتها بعد مانهاتن هي منطقة بروكلين " Breukelen " التي أخذت اسمها من مدينة هولندية بهذا الاسم ، وذلك لأن المستعمرين الهولنديين هم من أسس هذه المستعمرة سنة 1646م ، ولكنها دمجت في سنة 1898م مع نيويورك ، وتعتبر ثاني أكبر مناطق نيويورك من حيث المساحة ، ويقطنها حوالي مليون ونصف نسمة ، ينحدرون من أصول مختلفة ، حتى أنني وجدت حضورا عربيا واضحا فيها ، فقد تناولت وجبة طعام شرقية في مطعم لبناني اسمه " طرابلس " فصاحب المطعم يرد في أصله الى مدينة طرابلس في شمال لبنان ، وقد رحب بنا الرجل ، بي أنا ومن معي ، ترحيبا حارا ، وحين قدم عمه الى المطعم أصر على أن يقدم لنا طبقا من حلويات لبنانية مجانا ، وهذا على خلاف رجل عراقي صاحب حانوت باعنا ليفتين من تلك التي يستخدمها العراقيون في غسل أجسادهم في الحمام بسعر مبالغ فيه ، هو خمسة عشر دولارا لليفتين ، واللتين لا تستحقان من السعر غير دولارين اثنين لا أكثر . 
حدثني واحد من الذين يرافقونني بأن الجرائم تكثر في هذه المنطقة ، وقد أشار بيده الى سجن يتألف من طوابق متعددة ، وهذه المرة الأولى التي أشاهد بها سجنا على هذه الشاكلة، ولهذا حرصت على تصويره بكامرتي التي أحملها معي ، وبعد أن فرغت من التصوير انطلق صوت سيارة شرطة سرية كانت تطارد سيارة مشبوهة مع أن الليل كان في أوله ، وصوت السيارة هذه دفع بالشخص الذي يرافقني الى القول : " الشرطة هنا يتركون سياراتهم في عدة نقاط من هذه المنطقة ، ومن دون أن يكون أحد فيها ، والهدف من ذلك هو إيهام اللصوص والمجرمين بأنهم يتواجدون على مقربة منهم . 
ختمت رحلتي هذه بعد عدة أيام في العودة الى السويد من مطار جون إف كينيدي الدولي " John F. Kennedy International Airport  " الذي يقع في مقاطعة كوينز " Queens" وهي واحدة من المقاطعات الخمسة التي تتكون منها ولاية نيويورك مثلما مر علينا ذلك من قبل ، وكنت متجها هذه المرة الى مدينة فرانكفورت الألمانية بدلا من مدينة ميونخ كما في رحلة الذهاب.
الطريق الى المطار كان عكرا ، وقد أثار تعجبي كثرة المطبات فيه ، مثلما أثار تعجبي من قبل قلة ما يتقاضاه عمال المطاعم من راتب ، فقد سألت أحدهم عن راتبه وراتب الآخرين الذين يعملون معه في المطعم ذاته ، فأجاب أن الاجور هنا تتراوح بين 70 الى 90 دولارا لساعة واحدة ، وبذلك يتراوح الراتب الشهري لهؤلاء العمال بين 1500 الى 2000 دولار شهريا ، وهو راتب متواضع قياسا لمستوى الأسعار في نيويورك وفي ظل فجوة كبيرة من التفاوت الطبقي ما بين الفقراء والأغنياء رغم محاولات الرئيس باراك أوباما الخائبة في ردم تلك الفجوة من خلال منح الحكومة الأمريكية دورا في إدارة دفة الاقتصاد الأمريكي ، وكأنه يريد من وراء ذلك الاقتراب من نظم حكم الاشتراكيين الديمقراطيين في بعض دول أوربا ، ولهذا فقد شرع هو قانون صحي جديد " Obama Care " واستبدل التدخل العسكري في شؤون البلدان الأخرى بـ "مبدأ القيادة من خلف " مثلما عمل على تشجيع السياحة ، وفرض ضرائب تصاعدية على أصحاب الدخول الكبيرة ، وتشجيع الهجرة الى الولايات المتحدة ، مع منح الجنسية الأمريكية للمقيمين في أمريكا بشكل غير شرعي ، وغير ذلك مما يلاقي معارضة شديدة من قبل الكثيرين من زعامات الحزب الجمهوري الذين يشكلون الأغلبية في الكونغرس " البرلمان " الأمريكي .


22
الى بلاد العم سام (2)
سهر العامري
في اليوم الثاني من زيارتي لمدينة نيويورك نهضت مبكرا عند الساعة الرابعة صباحا ، ويبدو أن هذا النهوض المبكر سببه هو الفرق في الوقت ما بين القارة الأوربية ، والقارة الأمريكية ، فأنا لم اعتد بعد على العيش في مكان اختلف فيه زمان بزوغ الشمس وغروبها ، وهذه حالة تمر بكل العابرين الى المحيط الأطلسي ، ففارق الوقت بين ضفتي هذا المحيط قد يصل الى ست أو سبع ساعات تزيد أو تنقص حسب المكان الذي تنتقل منه في أوربا ميمما وجهك الى الشواطئ الأمريكية .
نزلت من غرفتي كي أتعرف على حركة الناس في باحة الفندق عند الساعة الخامس صباحا ، فوجد الكثير من النزلاء قد سبقوني الى الجلوس في تلك الباحة ، أو لإجراء بعض مما يتعلق بسكناهم مع ادارة الفندق ، ولهذا السبب عزمت على الخروج الى الشارع قبيل الساعة السادسة ، فوجدت المطعم ، الذي تناولنا فيه الافطار أنا وزوجتي في اليوم الأول ، مشرع الأبواب ، وقد سبقنا إليه بعض الزبائن ، وهذا ما جعلني أوقن أن هذه المدينة لا تعرف النوم ، فهي في حركة دائبة ، ليس في أيام العمل فقط ، وإنما حتى في أيام العمل والعطل الاسبوعية .
أول الناهضين من النوم في هذه المدينة هم الشريحة الرثة من الطبقة العاملة ، مثلما يسميها كارل ماركس ، هؤلاء الذين يتمثلون بعمال المطاعم والمقاهي ، وكذلك كناسي الشوارع الذي تعتمد عليهم بلدية نيويورك في تنظيف شوارعها التي لم شاهد فيها سيارة تنظيف خاصة ، مثلما عليه الحال في السويد التي تسخر شوارعها النظيفة من شوارع مدينة نيويورك المتسخة باستمرار ، ولهذا شاهدت أصحاب الحوانيت يهبون مبكرين لتنظيف ما يقع من الرصيف في مواجهة تلك الحوانيت ، وبخراطيم مياه تستمد مياها من حنفيات مياه تقف عند جدران البنايات التي تشتمل على تلك المحلات . ولا يفوتني أن أذكر هنا أن من بين الناهضين أولئك كذلك سواق الحافلات وسيارات الأجرة والعاملين في قطع التذاكر في محطات قطارات الأنفاق ، وسواق القطارات نفسها ، والذي جلب انتباهي هو أن هؤلاء العمال خاصة سواق حافلات نقل الركاب ينحدرون من أصول أفريقية سواء كان هؤلاء السواق رجالا أم نساءً ، فما شاهدت قط سائقا أبيض يقود حافلة من حافلات النقل العام ، ورغم أن المجتمع الأمريكي يحاول تخطي مشكلة " التمييز العنصري " بانتخاب الرئيس ، باركا أوباما ، الذي ينحدر من أصول أفريقية ، لكن تلك المشكلة لازالت مستحكمة بسبب من أن الأسر الفقيرة لا تستطيع إرسال أبنائها الى الجامعات الأمريكية التي تكلف الدراسة فيها مبالغ طائلة لا تقوى تلك الأسر على دفعها ، ولهذا يظل أبناء الأسر الغنية هم من يستحوذ على المراكز المهمة في الدولة والحكومة ، يضاف الى ذلك أن قضية التمييز العنصري لا يمكن حلها بسهولة بسبب من أنها لصيقة بالانقسام الطبقي في المجتمع الأمريكي ، وهذه القضية تشكل مظهرا من مظاهر مساوئ النظام الرأسمالي.
سارعت الى محطة قطار الانفاق القريبة ، وركبت القطار رقم واحد على الخط الاحمر ، وهو ذات القطار الذي يحملني الى الحي الصيني أو شارع القناة (Canal Street) والذي صرت أذهب إليه فيما بعد ، ومن ذات المكان بالحافلة رقم (20 ) بدلا من قطار الانفاق المشار إليه ، ولكن في هذه المرة علي أن اتجاوز تلك المحطة بعدد قليل من محطات التوقف والى أن يصل بي القطار الى محطة وقوفه الأخيرة ، وهي المحطة التي تدعى ساوث فري (South Ferry) ، واسم هذه المحطة يتعلق بالسفن البخارية أو العبارات التي تنقل السياح من سواحل مانهاتن (Manhattan)* والى جزيرة الحرية حيث ينتصب فيها تمثال الحرية الشهير .
حال خروجي من تلك المحطة صرت أمام حديقة فسيحة يخترقها طريق ضيق يؤدي الى أماكن قطع تذاكر ركوب العبارات تلك ، قطعت تذكرة لركوب واحدة من السفن الصغيرة المصطفة على ذلك الساحل بقيمة ثمانية عشر دولارا ، وهذا المبلغ على صغره يشكل ثروة طائلة ، ودخل عظيم للولايات المتحدة الأمريكية ، فقد بلغ إجمالي ما جنته الولايات المتحدة الأمريكية من السياحة للسنة الماضية 2013م هو 7ر180 مليار دولار ، إذ دخلها في هذه السنة أكثر من سبعين مليون سائح ، وهذا ما حدا بالرئيس الأمريكي ، باراك أوباما ، الى أن يطالب بتسريع اجراءات اتمام معاملات المسافرين لدى وصولهم الى المطارات بهدف تشجيع المزيد من السياح الأجانب على زيارة الولايات المتحدة ، ومن أجل إنعاش الاقتصاد الأمريكي ، وقال ما نصه : "اريد ان ننتقل من السبعين مليون سائح الذين جاؤوا العام الماضي الى مئة مليون سائح سنويا بحلول مطلع العقد المقبل".
وقفت برهة على الساحل قبل ركوبي السفينة ، وهو ذات الساحل الذي نزل عليه المستكشف الأول له ، الإيطالي جيوفاني دي فيرازانو في عام 1524م ، ثم أعقبه الانجليزي هنري هدسون الذي وصله في 11 سبتمر 1609م ، وكان يعمل لحساب شركة الهند الشرقية الهولندية ، وعلى إثر ذلك أقام الهولنديون مستعمرة فراء تجارية في ذات المكان سميت " بنيو أمستردام " وكان ذلك سنة 1625م ، وبعد أن قام مدير تلك المستعمرة ، بيتر مينوت ، بشراء جزيرة مانهاتن بحلى وخرز تعادل قيمتها 24 دولارا من الهنود الحمر سكانها الأصلين الذين لم أرَ وجها من وجوههم لا في مانهاتن ، ولا في المناطق الأخرى من نيويورك ، وذلك بسبب من أن القوات البريطانية أبادتهم إبادة تامة بعد أن طردت الهولنديين من تلك الجزيرة ، واستولت عليها في شهر تشرين الأول " اكتوبر " عام 1664م .
من هذا الساحل وحتى جزيرة الحرية "Liberty Island " تفصلك مسافة تستغرق ابحارا دقائق معدودة بإحدى السفن البخارية الراسية عند الساحل الذي يبعد عن تلك الجزيرة كيلومترين ونصف ، وحال وصولك رصيف الرسو على تلك الجزيرة الغير مأهولة يشمخ أمامك تمثال الحرية " The Statue of Liberty " ، الذي كان مقدرا له أن يقف على ضفاف قناة السويس في مصر ، وذلك حين بادر الفنان الفرنسي فريدريك بارتولدي سنة 1869 م بتصميم نموذج صغير لتمثال يمثل سيدة تحمل بيدها مشعلا ، وقام بعرضه على الخديوي إسماعيل كي يتم نصبه في مدخل قناة السويس التي أفتتحت في ذات السنة ، لكن الخديوي إسماعيل اعتذر عن قبول اقتراح بارتولدي نظرا للتكاليف الباهظة التي يتطلبها هذا المشروع ، حيث لم تتوفر لمصر  السيولة اللازمة التي تغطي تكاليف انجاز هذا المشروع خاصة بعد أن انفقت الدولة المصرية أموالا طائلة على حفر القناة ثم على حفل افتتاحها.
كانت الجمهورية الفرنسية الثالثة (1870-1940) تتملكها فكرة إهداء هدايا تذكارية لدول صديقة عبر البحار من أجل تأصيل أواصر الصداقة بها ، لذلك تم التفكير في إهداء الولايات المتحدة الأمريكية هذا التمثال في احتفالات الذكري المئوية لإعلان الاستقلال ، والتي يحين موعدها في 4 من تموز " يوليو" سنة  1876م ، ويبدو أن الحافز الآخر ، الذي دفع الفرنسيين لتقديم هذه الهدية للولايات المتحدة الأمريكية ، وبمناسبة الذكرى المئوية لنجاح الثورة الامريكية التي قامت ضد بريطانيا ، هو مساهمة الجيش الفرنسي المتواجد على الأراضي الأمريكية في نجاح تلك الثورة حين نشبت في 19 أبريل 1775م ، واستمرت ثماني سنوات ، انتصرت في 3 سبتمبر 1783م عند توقيع معاهدة باريس بين بريطانيا والولايات المتحدة التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة ، وكما أن هذه الهدية هي كذلك نكاية بالبريطانيين الذين دخلوا في حروب طويلة مع الفرنسيين في تلك السنوات ، خاصة حرب السنوات السبع  التي امتدت ما بين سنة 1756-1763 م ، وكان من بين أسبابها التنافس الاستعماري ما بين فرنسا وبريطانيا على الثروات الطائلة في أمريكا الشمالية.
نزلنا أرض جزيرة الحرية ، ثم طفنا حول التمثال وقاعدته التي صممها المعماري الأمريكي ريتشارد موريس هنت" Richard Morris Hunt " وانتهى منها في آب من العام 1885م ، وقد أخذت القاعدة تلك شكل نجمة من عشرة رؤوس ، لكن الذي يراها أول الأمر يظن أنها نجمة داود المعروفة ، وهذا ما يحمل المرء على الاعتقاد من أنه قد يكون لليهود في مدينة نيويورك ، الذي يبلغ تعدادهم الآن حوالي ربع سكان المدينة ، والذي يزيد عن ثمانية ملايين نسمة ، مساهمة مالية في الحملة التي جمعت بها أموال تصميم وبناء تلك القاعدة ، بينما تحمل الشعب الفرنسي تصميم وبناء التمثال نفسه ، وبعد سنوات من عمل متواصل تم الافتتاح الرسمي لهذا التمثال في 28 تشرين الأول " أكتوبر " 1886م .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* مانهاتن " Manhattan " تعني بلهجات الهنود الحمر ، سكانها الأصليون ، جزيرة التلال او الكثبان الرملية.






23
الى بلاد العم سام* (1)   
سهر العامري
في اليوم السادس عشر من الشهر السادس من سنتنا هذه حملتني أجنحة الطائرة الألمانية " اللوفتهانزا " الى الضفاف الأخرى من المحيط الأطلسي ، وقد كانت نقطة الانطلاق الى تلك الضفاف هي مطار مدينة ميونخ الألمانية الذي نزلته قادما إليه من مطار العاصمة الدانماركية ، كوبنهاجن .
حطت بنا الطائرة بعد طيران متواصل ، أخذ مساء ألمانيا وصباح وعصر نيويورك ، على أرض مطار نيوآرك ليبرتي الدولي (Newark Liberty International Airport ) وبحساب الساعات تقدر رحلة الطيران المتواصلة هذه بتسع ساعات قد تقل أو قد تكثر ، يضاف لها بعض من الوقت ، يتوقف فيه زائر تلك المدينة في حاجز جوازات المطار المذكور ، وهو الحاجز الذي لم أطل أنا الوقوف فيه سوى دقائق معدودة .
من السويد كنت قد قمت بحجز سيارة إجرة ، وغرفة في فندق كارتر (Hotel Carter ) وحال وصولي الى ذلك المطار حملتني تلك السيارة الى الفندق المذكور الذي يقع بالقرب من ساحة تايمز سكوير "Times square" وهي ساحة تقع في مانهاتن الذي يعد من أشهر المناطق الخمسة التي تتكون منها مدينة نيويورك ، والساحة تلك تقع عند تقاطع شارع برودواي "   Broadway" والشارع السابع. وقد سميت بالتايمز سكوير لوجود مبنى مكاتب جريدة النيويورك تايمز فيها سابقا.
أنا الآن في وسط ذلك الحي من تلك المدينة التي حملت اسم مدينة يورك البريطانية التي تقع إلى الشمال الغربي من انكلترا ، وذلك بعد قيام تشارلز الثاني ملك انكلترا بمنح الأراضي فيها لأخيه ، دوق يورك بعيد الاستيلاء عليها من قبل قوات الملك المذكور في أكتوبر من سنة 1664 حين طردت تلك القوات الهولنديين منها ، بعد ذلك بدل الانجليز اسمها من " نيو امستردام " إلى "نيويورك" ، ولقد كانت المدينة في الأصل موطنا لقبيلتين من الهنود الحمر هما : الجونغيان ، الأروكيوس قبل الاستعمار الهولندي لها عام 1624م ، ثم الاستعمار الانجليزي عام 1664م ، وكان هدف هذين الاستعمارين يتجسد في الاتجار بثروات المستعمرة من الفراء والجلود. ولكن بعد ذلك ازداد عدد سكان المدينة نتيجة للموجات البشرية المهاجرة من أصقاع بعيدة عنها ، فصار البعض من المهاجرين يقوم بإنشاء حي خاص به ، فظهرت  أحياء مثل المدينة الصينية ، أو ايطاليا الصغيرة .
قبل وصولي الى نيويورك كنت قد قررت زيارة المدينة الصينية ، وكذلك جزيرة الحرية التي ينتصب بها تمثال الحرية الشهير ، وعلى عادتي قمت بشراء تذكرة تصلح لركوب قطارات الانفاق والحافلات لمدة اسبوع واحد من أقرب محطة قطار انفاق التي تسمى هناك بـ (Subway ) ، وقد دفعت لقاء ذلك واحدا وثلاثين دولار ، وهي قيمة تلك التذكرة وللفرد الواحد .
في صباح اليوم التالي من وصولنا توجهت أنا وزوجتي من الفندق الى مطعم قريب ، تناولنا فيه فطورا كلفنا عشر دولارات ، ثم بعدها ركبنا قطار انفاق من ساحة التايمز الى شارع يدعى قنال ستريت ( Canal Street ) وهو الشارع الرئيس الذي يخترق الحي الصيني الذي يبدو لمن زار الصين من قبل أنه شارع من شوارع مدينة صينية ، وليس شارع من شوارع نيويورك ، فالبشر الذين يقطنون هذه الحي غالبيتهم ، إن لم يكن كلهم ، هم من أصل صيني ، حتى لكأنهم حملوا قطعة أرض صينية بما فيها من حوانيت وأسواق وبيوت ، وعبروا فيها المحيطات من ضفاف مغارب الأرض ثم الى ضفاف مشارقها ، والعجيب في الأمر أن هذا الحي يكاد يخلو من البناء الشاهق مثلما جرت العادة عليه في الأبنية الصينية التي لا ترتفع كثيرا في الفضاء ، وهذه العادة درج عليها ملوك الصين القدماء الذين حرموا على مواطنيهم بناء دور عالية تعلو على بيوتهم التي تتكون في العادة من طابق أرضي واحد في الأغلب ، والذي يزور المدينة المحرمة في بكين العاصمة يلمس هذه الحقيقة لمس اليد.
كل ما تريده وتطلبه من صناعة صينية تجده في هذا الحي ، بل زد على ذلك كل المواد الغذائية الصينية متوفرة فيه ، وهي رخيصة السعر ، فوجبة الفطور المتكون من الخبز والبيض وقدحين من الشاي التي كلفتنا عشرة دولارات عند ساحة التايمز كلفتنا في الحي الصيني ثلاثة دولارات ونصف الدولار ، وكأن هذا الحال يشير الى عالمين : عالم الرأسمالية حيث التايمز سكوير ، وعالم الاشتراكية حيث قنال ستريت ، رغم أن هذين العالمين لا يفصلها عن بعضهما البعض سوى خمس محطات لقطار الانفاق الذي يحمل رقم واحد في الأغلب الأعم ، وعلى الخط الملون باللون الأحمر على خارطة أنفاق مدينة نيويورك. وعلى ذلك يمكنني القول أن المدينة الصينية في مانهاتن من نيويورك ما هي إلا قطعة أرض حملت من الصين وحطت بالولايات المتحدة الأمريكية ، وهذه الحقيقة عبرت عنها بائعة صينية حين ساومتها على شراء قميصا ، طالبا منها تخفيض ثمنه فما كان منها إلا أن قالت لي : الأسعار هنا رخيصة جدا ، فأنت الآن في السوق الصينية وليس في السوق الأمريكية !
هذه هي الحقيقة التي تبين بوضوح أن أمريكا ما هي إلا بلد مهاجرين جاءوا الى هذه الأرض من أصقاع قريبة وبعيدة عنها ، وقد شكل هؤلاء المهاجرون قوة عمل عظيمة صعدت بها الرأسمالية الأمريكية على أرضها في بادئ الأمر ، ثم عبرت بها كقوة امبريالية البحار والمحيطات ، حتى صارت بوارجها وسفنها الحربية تجوب سواحل الأرض شرقا وغربا. كما أفرزت قوة العمل تلك علاقات اجتماعية بين مجتمع المهاجرين هذا لا تقوم على أساس من دين أو مذهب أو قومية ، وإنما على أساس العمل ذاته ، وما يفرزه من علاقات اجتماعية يكون السيد فيها المال والثروة ، ويكون النقيض الكدح والفقر والتسول ، فأنا نفسي ما شاهدت إلا كنيسة قديمة واحدة في زقاق ضيق على مقربة من شارع المال" Wall street " هي كنيسة " Trinity Church " مثلما شاهدت جامعا صغيرا يقع على قارعة الطريق الذاهب الى مطار جون كندي ، ومثل ذلك لا يمكن لك أن تنافس الآخرين في مجتمع المهاجرين هذا على أساس قومي فتقول : أنا عربي ! ويقول الآخر : أنا تركي أو جرماني . فالمجتمع الأمريكي لم ينشأ من تكوين قبلي كما هي الحال في آسيا أو أوربا ، وإنما كانت نشأته قد قامت على تجمعات زراعية أو عمالية ، فلقد انصهرت الأعراق ، والديانات ، والمذاهب في مشروع زراعي أو في مشروع لمد سكة حديدية ، وعلى هذا الاساس صارت نشأة مجتمع المهاجرين هؤلاء على أساس من علاقات العمل ، وعلى أي طرف تقف أنت من علاقة العملية الانتاجية .
حدثني مهاجر لبناني هو واحد من مجتمع المهاجرين هذا قال : إنني أعجب من أن الناس في الشرق ، وفي المنطقة العربية تتقاتل على أساس مذهبي ، هذا شيعي وذاك سني ، أليست هذه مهزلة ؟ تساءل هو ثم أضاف : انظر الى الناس هنا ! الكل متجه نحو العمل والانتاج ، حتى أنهم يسخرون منا حين يسمعون من أننا نتقاتل بدوافع طائفية.
ثم في حانوت آخر سألني صاحباه المهاجران من المغرب العربي بعد أن عرفا أنني قادم من الشرق مثلما اعتقدا : ما الشيعة ؟ وما السنة ؟ لماذا هذا القتل المستمر عندكم ؟ لقد رأينا رؤوسا تقطع ، وبيوتا تدكها الطائرات على رؤوس ساكنيها ؟
على بساطة التكوين الثقافي للمتسائلين خرجت بتصور هو أن هؤلاء الناس المهاجرين قد تخلصوا من أدران الشرق نتيجة لتواجدهم في مجتمع نشأ بصورة تختلف كلية عن نشأة مجتمعاتنا الشرقية التي قامت على أساس قبلي ثم بعد ذلك تغطت كل واحدة من تلك القبائل أو أفخاذ منها بخرقة من هذا المذهب أو ذاك . لكن سيظل التمايز الطبقي وليس العنصري هو المشكلة التي يعاني منها مجتمع المهاجرين هذا ، فاذا كان شارع القناة المار الذكر يعكس واحدة من صور الفقر في هذا المجتمع ، فإنك ترى صورة الغنى واضحة في شارع المال أو الوول ستريت ( Wall Street ) والذي لا يبعد كثيرا عن الحي الصيني أو شارع القناة المذكور ، والذي ترد تسميته الى الحائط الذي قام على أكتاف الزنوج الأفارقة حين أراد الهولنديون من وراء بنائه صد هجوم للقوات البريطانية وقت أن كانت نيويورك مستعمرة هولندية. ورغم أن الجيش البريطاني أزال هذا الحائط بعد انتصاره عام 1699م إلا أن الشارع ظل محتفظا باسمه.
.............................................................                                                 
* العم سام : يعود اسم العم سام إلى بداية القرن التاسع عشر ، وتحديدا إلى حرب سنة 1812م التي دارت بين أمريكا من جهة وبين بريطانيا وإيرلندا وكندا من جهة أخرى ، وقد أخذ الاسم من اسم جزار محلي أميركي يدعى صموئيل ويلسون Samuel Wilson. وقد كان هذا الجزار يزود القوات الأميركية المتواجدة بقاعدة عسكرية بمدينة تروي الواقعة بولاية نيويورك، بلحم البقر، وكان يطبع براميل هذا اللحم بحرفي (U.S) أي الولايات المتحدة) إشارة إلى أنها ملك الدولة. فأطلقوا لقب العم سام على التاجر. فحرف U يرمز إلى   Uncle اي العم و S إلى Sam أي سام..
 

24
التعصب الطائفي صنو التعصب القومي (3)

سهر العامري
لقد أراد حزب البعث من وراء تظاهرته ، التي خرجت في مساء اليوم الخامس من شهر حزيران سنة 1968م المصادف للذكرى الثانية لنكسة حزيران ، أن يثبت أنه حزب جماهيري ، فاعل في أوساط الشعب العراقي ، هذا مع أن الكل كان يدرك تعاظم نفوذ الحزب الشيوعي بين أوساط الجماهير العراقية رغم كل الصعاب التي تعرض لها الحزب ، ورغم الملاحقات المستمرة لأعضائه ومنظماته ، وقد دلت الانتخابات الطلابية ، التي جرت في جامعة بغداد التي أشرت لها فيما سبق من حلقات هذه المقالة ، على سعة نفوذ الحزب حيث فازت القائمة الطلابية التي تمثل الشيوعيين العراقيين بنسبة زادت على التسعين بالمئة حتى في كلية الشريعة ، وهذا ما حدا بالحكومة العراقية الى إلغاء نتائج تلك الانتخابات ، مع أنها هي التي سمحت بإجرائها ، وهذا ما جعل الكثيرين يعتقدون أن موافقة الحكومة على إجراء تلك الانتخابات ما هو إلا " بالون " اختبار أطلقته الدوائر الغربية مع بعض عملائها من العراقيين في تلك الحكومة لقياس مدى شعبية الحزب الشيوعي حتى يُعجل بانقلاب 17 تموز عام 1968م ، وهذا ما أشار له صلاح عمر العلي ، أحد المشاركين في ذاك الانقلاب من طرف خفي خلال مقابلة أجرتها معه قناة العربية .
 رد الطلاب على إلغاء نتائج تلك الانتخابات بإضراب بدأ من كلية التربية ، ليتحول بعد ذلك الى اضراب عام شمل جميع كليات جامعة بغداد ، وذلك حين قام الجيش بالهجوم علينا ، ونحن داخل حرم الكلية المذكورة ، ذلك الهجوم الذي أدى الى سقوط أربعة جرحى من الطلاب ، كانت من بينهم طالبة واحدة ، مثلما أدى الى التنكيل ببعض الطلبة ، واعتقال الكثيرين منهم ، ونقلهم الى وزارة الدفاع .
لقد أفزع النفوذ المتعاظم للحزب الشيوعي الذي دلت عليه الانتخابات الطلابية المشار إليها دوائر المخابرات الغربية ، وخاصة الأمريكية ، فكان انقلاب تموز عام 1968م المشار إليه قبلا ، ليعود حزب البعث للحكم من جديد ، وليجلس أحمد حسن البكر في القصر الجمهوري كرئيس للعراق ، وبعد ذلك التاريخ بأيام قليلة اتصل به عزة مصطفى، وزير الصحة الجديد ، قائلا له : إن السيد مكرم جمال الطالباني ، ممثل الحزب الشيوعي العراقي معي في الوزارة الآن ، فرد عليه البكر بوجوب اصطحابه حالا الى حيث يجلس ، وحين التقى الثلاثة في القصر الجمهوري سأل أحمد حسن البكر ممثل الحزب الشيوعي عن رد الحزب الشيوعي بشأن طلب حزب البعث القديم في مسألة التعاون فيما بينهما . فأجابه مكرم الطالباني : ماذا تريدون بعد من الحزب ، لقد اجتمعت بك في غرفة معتمة في دارك قبل السابع عشر من تموز ، واليوم اجتمع معك في القصر الجمهوري !
ويبدو لي أن السوفيت مثلما دفعوا الزعيم الكردي مصطفى البرزاني الى المفاوضات مع حزب البعث والحكومة العراقية الجديدة دفعوا الحزب الشيوعي للقبول بالتعاون مع النظام الجديد كذلك ، ولكن الحزب لم يقدم على تلك الخطوة إلا بعد أن أختبر نوايا حزب البعث ، فقدم أربعة مطالب لهم لتحقيقها وهي : اطلاق سراح السجناء الشيوعيين الذين مضت سنوات طويلة على اعتقالهم ، وإعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم ، والاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية التي لم تعترف بها دول كثيرة من خارج المنظومة الاشتراكية بسبب من مشروع مارشال الامريكي الذي يحرم ذلك الاعتراف عليها ، وأخيرا تأميم الصناعة النفطية في العراق .
تحقق المطلب الأول والثاني والثالث على عجل ، بينما تأخر تنفيذ تأميم النفط العراقي بعض الوقت ، وإني ما زلت أذكر ، وكنت وقتها منتدبا للتدريس في القطر الجزائري ، كيف طرق باب الدار التي كنت اسكنها مع صديقين آخرين في ضاحية حسين داي من الجزائر العاصمة وفي ساعة متأخر من الليل ، وكان الطارق ثلاثة من موظفي السفارة العراقية في الجزائر ، يحملون معهم لنا قرارات مجلس قيادة الثورة التي صدرت بذات الليلة في العراق ، والخاصة بتأميم النفط ، وكأنهم كانوا يريدون أن يقولوا لنا : ماذا تريدون بعد هذا ؟
تحقيق مطالب الحزب الشيوعي الأربعة المارة الذكر من قبل حكومة البكر هو الذي سوّق النظام الجديد في سوق السياسة العربية والدولية ، وفي نفس الوقت أظهر قرار تأميم النفط البكر ونائبه صداما على أنهما يتحديان الغرب وأمريكا ، فذلك التأميم يعد قرارا خطيرا أسقط أنظمة دول نفطية في العالم ، وفي مقدمة هذه الدول نظام عبد الكريم قاسم في العراق ، وقبله نظام محمد مصدق في إيران .
يضاف الى ما تقدم أن الحزب الشيوعي في تقاربه مع حزب البعث كان يراهن على بعض البعثيين الذين صاروا يميلون الى اليسار،  وفي المقدمة من أولئك عبد الخالق السامرائي ، عضو القيادة القطرية والقومية لحزب البعث ، ولكن صعود صدام السريع جعل الكثيرين يعتقدون أن رهان الحزب ذاك لم يكن في محله ، فاستلام صدام لمنصب نائب رئيس الجمهورية جاء ، ليس بسبب تأثير خاله خير الله طلفاح على رئيس الجمهورية ، أحمد حسن البكر ، مثلما يذكر صلاح عمر العلي في مقابلة مع قناة العربية ، وإنما جاء لعلاقته القديمة الجديدة بالمخابرات الأمريكية ، وهذا ما أكده هذه الأيام عميل لتلك المخابرات في شريط فيديو موجود على شبكة الإنترنيت ، يضاف الى ذلك أنني قرأت في لقاء صحفي مع وزير الدفاع السوري السابق ، مصطفى طلاس ، قوله : إن الرئيس جمال عبد الناصر قال لهم في واحد من اجتماعهم به : إن المخابرات الأمريكية قد جندت صداما عندما كان لاجئا في مصر وعلى أيام حكم عبد الناصر نفسه ، وهذا يعني أن عبد الرزاق النايف ، وهو أحد المساهمين في انقلاب 17 تموز 1967م ، لم يكن هو العميل الوحيد لدوائر المخابرات الغربية من بين رجال ذلك الانقلاب ، ولكن وكما دلت الأحداث فيما بعد أن صدام كان هو المعد سلفا من قبل دوائر المخابرات الغربية ليتسلم زمام الحكم في العراق .
يضاف الى ذلك توجهاته السريعة نحو المعسكر الاشتراكي  خاصة بعد الاعتراف بجمهورية المانيا الديمقراطية ، ثم تأميم النفط ، وانفتاحه السريع على كل حركات التحرر العربية والعالمية ، ومناداته المستمرة بوجب دعم كفاح الشعب الفلسطيني ، ويضاف الى ذاك خوض الجيش العراقي لمعارك حرب 1973م الى جانب الجيش السوري ، وقبل ذلك كان حزب البعث قد وقع مع الحزب الشيوعي في تموز 1973 ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ، كل هذا وربما غيره قد تحقق في غضون خمس سنوات من استلام حزب البعث للحكم في العراق مرة أخرى. لكن كل تلك الإجراءات قد انهارت حال تمكن صدام من إدارة الحكم في العراق ، فبدلا من تعصبه القومي صار يتعصب لعشيرته ثم لأفراد أسرته وأخيرا لنفسه فقط  وبذلك تجلت الدكتاتورية بأفظع صورها في شخصيته، فقد بادر الى عزل رئيس الجمهورية،  أحمد حسن البكر ، ثم استولى على رئاسة الجمهورية ، وقام بإعدام الكثيرين من رفاقه الذين يشك في ولائهم له ، ثم وراح يبطش ذات اليمين وذات اليسار .
انتهى نظام صدام ساعة اجتياح القوات الأمريكية للعراق ، وأحل الأمريكان نظاما آخر محله انبثقت عنه في آخر صفحة من صفحاتها حكومة يقودها رئيس وزراء متعصب طائفي هو المالكي الذي سرعان ما عزل قيادة حزب الدعوة المتمثلة بالسيد إبراهيم الجعفري ، وراح يتفرد باتخاذ القرارات ، ثم فرض سطوته على الهيئات المستقلة التي نص عليها الدستور الذي أقسم هو على تطبيقه ، كما زاد عدد السجون المشيدة في عهده عما كانت عليه في العهود السابقة ، وراح يتدرج في صعود سلم الدكتاتورية الذي ارتقاه صدام من قبل ، وإذا كان صدام قد تربى في أحضان حزب قومي ، هو حزب البعث ، ورضع التعصب القومي من صدر ذلك الحزب ، فإن المالكي تربى في حزب ديني طائفي ، هو حزب الدعوة ، ورضع كذلك من صدر الحزب ذاك، ولهذا يشاهد الناس في العراق اليوم أن المالكي وحزبه يستنسخان الكثير من تجربة حزب البعث في الحكم ، فهما لا يملكان تجربة في الحكم أبدا ، ثم أن حزبه ليس له امتداد في دول أخرى مثل حزب البعث ، ولا يضم في صفوفه عناصر من غير اللون الشيعي ، لا في العراق ولا خارج العراق ، وإنك قد تجد عراقيا مسيحيا في حزب البعث، لكنك لا تجد مثل هذا العراقي في صفوف حزب الدعوة الذي يتزعمه المالكي ، ويتحكم بمصير العراقيين اليوم ، ففي الأمس كان صدام يقاتل الأكراد لمجرد أنهم كانوا يطالبون بحقوق لأبناء جلدتهم ، وهذا ما جعلهم في قاموس ماكنة الاعلام البعثية عبارة عن "جيب عميل" كما كان يحلو لإعلام صدام أن يسميهم ، وها أنت اليوم تشاهد الحرب التي يشنها المالكي على العشائر العربية السنية في غرب العراق بعد أن اتهم المنتفضين من أبنائها المطالبين بحقوقهم بأنهم ليسوا عراقيين ! وهو في ذلك على قدم المساواة مع صدام حين أدعى أن عرب أهوار جنوب العراق هم هنود ساقهم القائد الميداني ، محمد بن القاسم الثقفي مع جواميسهم من الهند الى العراق . ولم يقف المالكي عند هذا فراح يتمادى كثيرا حين وصف المنتفضين من أبناء العشائر العربية بـ " الفقاعات " وقد وصل به الحال الى أن يطلق عليهم في آخر كلماته من بذيء الكلام لفظ " جرذان " مقتديا بمعمر القذافي الذي سبقه الى ذلك حين أطلق ذات اللفظ على الليبيين ، يضاف الى كل ما تقدم هو أن المالكي لم يترك فصيلا سياسيا عراقيا إلا ودخل في خصومة معه ، وحتى تلك الحركات والأحزاب المنضوية مع حزب الدعوة ، حزب المالكي ، تحت خيمة الاتحاد الوطني " الشيعي " ، وهذا أسطع دليل على أن تعصب المالكي الطائفي بات يدفعه الى التعصب لنفسه كي يرتقي ظهر الدكتاتورية ، مثلما ارتقاه من قبل صدام حسين الذي انتهى به تعصبه القومي الى تعصبه لنفسه كذلك ، عندها عادت الناس في العراق تخوض في بحر من الويلات ، وها هو المالكي يقود العراق ذاك الى نفس المصير ، فالدماء سيل جارف في الشوارع ، ومال الفقراء مسروق ومنهوب ، والتخلف والفساد يضربان أطنابهما في كل حدب وصوب ، ونفر نهاز للفرص يرقص في حلبة المالكي الطائفية ، وهم في ذلك لا يختلفون عن النهازين في زمن صدام حسين .
من جانب آخر يبدو أن تعصب المالكي الطائفي أثار عليه كره وبغض العرب حكاما وشعوبا، وهو وسط لا يملك فيه المالكي رصيدا يذكر ، ولأسباب مذهبية خاصة بعد أن راح يجاهر بطائفيته علنا ، وكأن العراق يعيش في بقعة منعزلة عن محيطه العربي ، وعن العالم من حوله ، ولهذا فقد نفر دخان طائفية المالكي حتى الأمريكان منه ، وهو لولاهم لما جلس على كرسي الحكم في العراق ، فهذه صحيفة الغارديان البريطانية تكتب : إن " الولايات المتحدة سرّعت من مبيعات أسلحة لبغداد من أجل محاربة مقاتلي القاعدة على الرغم من النفور من سياسات رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي الطائفية".

25
التعصب الطائفي صنو التعصب القومي (2)

سهر العامري
في رحلة الاغتراب هذه شاهدت عن كثب ثلاثة من مسؤولي حزب الدعوة خلال مكوثي في ضاحية السيدة زينب من دمشق العاصمة ، وعلى فترات متقطعة بدءً من العام 1981م وحتى العام 2001 م ، وكان المسؤول الأول من بين هؤلاء الثلاثة شخص يدعى أبو نبوغ ، وقد كان هذا الشخص أكثر حركة ونشاطا من الآخرين ، ولكنني رأيته ذات صباح يقوم بعمل مشين يبعده عن كل ادعاء بالوطنية .
والشخص الثاني كان قد نزل دمشق قادما من طهران ، وكان يريد اللجوء في بريطانيا مثلما تأكد لي ذلك فيما بعد ، وهذا الشخص هو ابراهيم الإشيقر* ، مثلما سماه لي صديق كان على قرب من منظمة العمل الإسلامي ، وكان هذا الرجل يحضر تجمعات العراقيين في باحة مقام السيدة زينب ، وهو المكان الذي رأيته به ، ويبدو أن خروجه من إيران حدث بعد أن شكلت السلطات الإيرانية في السنوات الأولى من ثمانينيات القرن المنصرم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، وقد انيطت مسؤولية قيادته للسيد محمد باقر الحكيم ، ويبدو أن تشكيل هيكلية المجلس المذكور بالطريقة التي أرادها الإيرانيون كانت سببا من الاسباب التي أدت الى انشطار حزب الدعوة الى أكثر من شطر ، مثلما دفعت بالسيد الإشيقر الى طلب اللجوء في بريطانيا بعد أن صار يقود أحد أشطر الحزب المذكور .
حين وضعت الحرب بين ايران والعراق أوزارها أصيبت الحركة الدينية الشيعية بخيبة أمل كبيرة ، فقد شعرت أن الإيرانيين قد تخلوا عنها ، وهم الذين أقسموا لها بأغلظ الايمان من أنهم لا يوقفون الحرب حتى اسقاط نظام صدام ، ولكن ذلك الهدف لم يتحقق ، وصار ياسر بن هاشمي رفسنجاني فيما بعد يهرب النفط العراقي لصالح عدي بن صدام حسين حين كان العراق يئن تحت حصار قاتل ، هذا في الوقت الذي عادت فيه العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الى سابق عهدها ، ثم جاء الاعلان الصريح للحكومة الإيرانية بعدم رغبتها في بقاء العراقيين المعارضين على أراضيها، وذلك حين صرح نائب رئيس الجمهورية الإيرانية ، حسن حبيبي وقتها قائلا : إن العراقيين في إيران ضيوف غير مرحب بهم !!
بعد هذه الخيبة المريرة شد الكثير من أتباع الاحزاب الدينية الشيعية في العراق الرحال الى دول أخرى ، وصار الكثير منهم يطلب اللجوء في بلدان أوربا وأستراليا ، وهي بلدان كفر مثلما كانوا يسمونها ، وقد تفرد عن هؤلاء نفرد من حزب الدعوة كان بينهم نوري المالكي شدوا رحالهم من الأهواز ، تلك المدينة التي أجبروا على العيش فيها من قبل السلطات الإيرانية ، الى كردستان العراق ، ونزلوا أربيل منها بضيافة أكرادها ، وحين نشبت الحرب بين جزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطلباني الذي قيل أنه استعان بقوات ولي الفقيه ، علي خامنئي ، وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود برزاني الذي استعان بقوات صدام حسين ، تلك القوات التي اجتاحت أربيل خلال ساعات معدودة في صبيحة 31 اب 1996 م  ، لتزيح عنها قوات جلال التي احتلتها من قبل نحو مدينة السليمانية ، فما كان من رجال المعارضة العراقية من العرب إلا الفرار الى أعالي الجبال ، أو التوجه نحو الأراضي السورية ، وكان من بين هؤلاء الفارين نوري المالكي الذي صرت أشاهده في ضاحية السيدة زينب بعد أن صار هو مسؤولا عن إدارة شؤون مكتب حزب الدعوة الكائن في المنطقة الصناعية من دمشق العاصمة ، ذلك المكتب الذي زرته مرة للقاء صديق يعمل فيه لكن من دون أن ألقي التحية على المالكي نفسه .
لقد تيقنت من خلال مشاهداتي للمالكي أنه كان رجلا منطويا على نفسه ، يحب العزلة ، لم أره يكلم أحدا ، ولا أحد يكلمه ، يسير وحده في الطريق ، وهو لابس  دشداشة ( ثوب ) وينتعل نعالا جلديا ، وإذا ما دخل مقام السيدة زينب للصلاة يصلي وحده ، ثم يعود من حيث أتى دون أن يتحدث مع العراقيين الذين كانوا يقفون عادة في باحة المقام المذكور ، فهو والحال هذه رجل غير اجتماعي ، وأنا واثق من أن المالكي لو عرض على طبيب نفسي لما خرج وصف تقريره كثيرا عن الحال التي عليها شخصية المالكي الانطوائية ، والتي أشرت إليها من قبل ، وأكثر الظن أن سبب هذه الانطوائية هو فطري ، وليس بسبب ظروف العمل الحزبي السري ، أو الخوف من المجهول الذي يطارد السياسيين عادة ، وهذا ما جعل من المالكي رجلا مجهولا لجل المعارضين العراقيين ، فضلا عن عامة الناس ، حتى أن السيد أياد علاوي قال مرة إنه لم يكن على معرفة بالسيد المالكي زمن معارضتهما لنظام صدام . ومن هنا يمكنني أن أضع السؤال التالي : هل باستطاعة أمريكا أو إيران أو غيرهما من الدول أن تسوّق شخصا كالمالكي في سوق السياسة الدولية ؟ هذا سؤال سأجيب عليه بعدما أمر على أهم العوامل التي ساعدت صدام على حكم العراق حكما مطلقا.
يقول يفغيني بريماكوف الذي شغل منصب وزير الخارجية الروسي في اعوام 1996- 1998م ثم رئيس وزراء روسيا الاتحادية نهاية عام 1998م : "نحن أي السوفيت والأمريكان من صنع صدام !" عبارة بريماكوف هذه على قدر كبير من الصحة ، فصدام ، رغم معرفة الشارع العراقي والعربي به بسبب من مشاركته في عملية اطلاق الرصاص على الزعيم عبد الكريم قاسم ، ومن ثم هروبه الى سورية فمصر أيام عبد الناصر ، لكنه مع هذه المعرفة لم يكن على قدر كبير من التعليم ، كما أنه لم يخض تجربة عمل حكومي أو مهني ، ورغم ذلك صار نائبا لرئيس الجمهورية في العراق ، وهو مازال طالبا في السنة الأخيرة من دراسته بكلية الحقوق من جامعة بغداد ، وقد شاهدته أنا هو وناظم كزار** قبل أشهر من تسنمه لذلك المنصب في كلية التربية التي كنت أدرس فيها ، وكانا هما يأملان من زيارتهما هذه الانضمام للجبهة الطلابية التي تشكلت على إثر الإضراب العام الذي بدأه طلاب تلك الكلية  ، ثم شمل جميع كليات جامعة بغداد ، وذلك احتجاجا على إلغاء نتائج الانتخابات من قبل حكومة عارف ، تلك الانتخابات التي فاز بها الاتحاد العام لطلبة العراق فوزا ساحقا.
رفضت القيادة الطلابية انضمام صدام حسين للجبهة الطلابية بصفته ممثلا عن حزب البعث ، وذلك بسبب من أن تلك الجبهة كانت تضم يسار البعث " جماعة سورية " بالإضافة الى الحركة الإشتراكية العربية ، هذا بالإضافة الى الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يتصدى لقيادة تلك الجبهة ، وقد أخبر صدام وقتها من قبل ممثلي الجبهة الطلابية تلك بأنه لا يمكنها قبوله بصفته ممثلا لحزب البعث ، فحزب البعث ممثل بيساره فيها ، بينما كان صدام يمثل يمين البعث وقت أن كان ذلك الحزب منقسما على نفسه الى يمين ويسار ، ولكن لم تمر أشهر على تلك الزيارة حتى أصبح صدام نائبا لرئيس الجمهورية ، أحمد حسن البكر بعيد انقلاب 17 تموز عام 1968م ، ومع ذلك استطاع هو وبسرعة أن يظهر للعالم بانه رجل مناضل وثوري ، وراح يتشبه بالقيادات الثورية في العالم ، ويدخن السيجار الكوبي ، ثم توجه صوب المعسكر الاشتراكي خاصة الإتحاد السوفيتي منه ، فالتقى عام 1969م بيفغيني بريماكوف الذي كان يعمل في صحيفة "برافدا" السوفيتية مراقبا سياسيا في قسم آسيا وإفريقيا، وكان بريماكوف على علاقة بالملا مصطفى البرزاني ، حيث كان يسعى بطلب من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي  في الاتحاد السوفيتي الى دفع أكراد العراق للتقارب مع الحكومة الجديدة في بغداد ، والتي فوضت صدام حسين نيابة عنها ليقود الجانب الحكومي في المفاوضات بينها وبين أكراد العراق ، تلك المفاوضات التي أفضت الى بيان آذار عام 1970م وهو البيان الذي تمخض عنه الحكم الذاتي لأكراد العراق .
لكن بريماكوف ينسى أن أكبر من سوّق صدام حسين على المسرح الدولي في بادئ الأمر، وبصورة غير مباشرة ، هو الحزب الشيوعي العراقي الذي خاض مع حزب البعث بقيادة أحمد حسن البكر مفاوضات شاقة وصعبة وسرية استمرت على مدى سنوات ، ومنذ أن طرح عليه حزب البعث فكرة تحضيرهم  للقيام بانقلاب عسكري على حكومة عبد الرحمن عارف ، تلك الفكرة التي أبلغها أحمد حسن البكر نفسه ، وفي داره ، لممثل الحزب الشيوعي ، الدكتور مكرم جمال الطالباني ، ولكن الحزب لم يرد عليه وقتها لا سلبا ولا ايجابا ، وذلك لوجود قرار متخذ من قبل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بعدم التعاون مع حزب البعث بسبب من المجازر الدموية التي ارتكبها البعثيون بحق الشيوعيين والوطنيين العراقيين غب انقلابهم الاسود في 8 شباط عام 1963م ، وعلى هذا لم يعط ِ الحزب موافقة على القيام بانقلاب 17 تموز عام 1968م ، وهو الانقلاب الذي حمل حزب البعث الى الحكم في العراق ثانية ، وإن ما ذكره السيد صلاح عمر العلي في مقابلة أجرتها معه قناة العربية من أن الحزب الشيوعي ، اللجنة المركزية ، قد أعطى الموافقة تلك ليس له أساس من الصحة أبدا ، وسآتي على هذا فيما بعد .
في صباح اليوم الخامس من حزيران سنة 1968م خرجت أنا مع نفر من طلاب كلية التربية الكائنة في باب المعظم ، عددهم لا يزيد عن اربعة عشر طالبا ، وكانا نحمل معنا لافتات كتبت عليها شعارات سياسية في قسم علوم الحياة من الكلية المذكورة ، توجهنا بها الى طرف شارع الرشيد عند لقائه بساحة الميدان ، وذلك من أجل المشاركة في التظاهرة التي دعا لها الحزب الشيوعي في الذكرى الثانية لنكسة حزيران التي خسر بها العرب الحرب مع اسرائيل في الخامس من حزيران سنة 1967م .
وقفنا على الرصيف لدقائق بعد وصولنا ، وإذا بأحد الشيوعيين ينزل الى وسط الشارع ، وهو يصفق بكلتا يديه بقوة ، هاتفا : " فيتنام وفلسطين مقبرة للغادرين !" بادرنا نحن بنشر اللافتات أمام جموع المتظاهرين الذين صاروا يتدفقون من رصيفي الشارع المذكور ، ثم سارت التظاهرة الضخمة باتجاه الباب الشرقي ، وبعد وقت قليل تبعتنا تظاهرة أخرى سار فيها الناصريون والقوميون الآخرون ، وفي مساء ذلك اليوم فوجئنا بتظاهرة قادمة من باب المعظم يتصدرها أحمد حسن البكر ، وصدام حسين وآخرون من يمين البعث ، وقد مرت تلك التظاهرة  بشارع الرشيد دون أن تهاجمها الشرطة ، مثلما هاجمت تظاهرتنا ، ومنعتنا من الوصول الى ساحة التحرير في الباب الشرقي ، بينما سمحت لمظاهرة حزب البعث في الوصول الى تلك الساحة التي ارتقى فيها احمد حسن البكر منصة الخطابة ليلقي فيها كلمة نقلتها الإذاعة العراقية ، وكأنه هو رئيس الجمهورية ، وليس عبد الرحمن عارف.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
* إبراهيم الإشيقر : من أسرة كربلائية تمت الى أصول باكستانية ، والإشيقر هي تصغير لكلمة الأشقر وقد جاءت هذه التسمية بسبب من أن شعر الكثير من أفراد هذه الأسرة يميل الى الشقرة ، وقد لقب إبراهيم نفسه بالجعفري بعد سقوط صدام حسين مثل غيره ممن يحكمون في العراق الآن ، والذين حملوا ألقابا عربية مع أنهم يمتون في اصولهم الى القومية الفارسية ، حتى أن البعض منهم طالب أن يعترف لهم بقوميتهم التي لا تشكل حتى أقل من واحد بالمئة من نسبة القوميات الأخرى ، ولكنهم تسنموا مناصب في الحكومة والبرلمان بحصة تفوق في نسبتها نسبة جميع المكونات العراقية الأخرى .
** كان ناظم كزار طالبا في معهد الهندسة التطبيقية ، وأصبح مديرا للأمن العام في العراق بعد انقلاب 17 تموز مباشرة ، وهو من عتاة مجرمي حزب البعث ، كان يعذب الشيوعيين وغيرهم من الوطنيين بيده في قصر النهاية ، وسبق له أن تفنن في قتل الشيوعيين ، فقد كتب حسن العلوي إن ناظم كزار وضع أحد الشيوعيين العراقيين في تابوت بعد انقلاب البعثيين الاسود عام 1963 ، ثم قام بنشر التابوت بمنشار من وسطة وبمن فيه ، كما أنه هو الذي قتل زميلي خالد الأمين من أهل مدينة الناصرية ، ونفسه هو من عذب صديقي باهر عبد الكريم الخزاعي من أهل مدينة الديوانية بيده ، وقد رأيت أنا أثار التعذيب بينة على جسده ، ولكنه لازال على قيد الحياة ، وكنت سأكون أنا أحد ضحاياه بعد أن حملت برقية صادرة منه أمرا موجها الى مدير أمن الناصرية بوجوب اعتقالي ، وحملي الى بغداد ، ولكن المرحوم صالح فنجان مسؤول منظمة حزب البعث في مدينة الفهود منع تنفيذ ذاك الأمر لوجود أمر سابق لديهم ، صادر من رئيس الجمهورية، أحمد حسن البكر ، يحرم فيه اعتقال أي شيوعي عراقي، ولأي سبب كان ، وذلك لأن الحزب الشيوعي كان السبب في احباط مؤامرة المجرم عبد الغني الراوي .


26
التعصب الطائفي صنو التعصب القومي (1)

سهر العامري
لا يستطيع أحد أن ينكر أن التعصب من أي لون وشكل هو مرض يستبد في نفوس بعض الناس ، فيحجب الحقيقة عن عقولهم ، ويعمي أبصارهم عن رؤية الواقع ، ويتفاقم خطر هذا المرض حين يصيب حركة سياسية ، أو شخص يقود بلدا ما ، مما يتسبب بكوارث رهيبة تصيب البلد ذاك ، والناس فيه .
ولا أراني بحاجة الى طرح الكثير من الأمثلة هنا ، ولكن المثال الصارخ في عصرنا الحالي هو تلك الكارثة الرهيبة التي تسبب بها مهوس ألماني هو هتلر الذي وضع العنصر الجرماني فوق بقية البشر ، وهذا ما أدى الى دمار فظيع لم يصب شعوبا كثرا فحسب وإنما أصاب الشعب الألماني نفسه .
في العراق ابتلى الشعب العراقي بهذا الداء حين صعد حزب البعث الى الحكم فيه ، خاصة حين آلت القيادة فيه الى صدام حسين الذي أعماه تعصبه القومي عن رؤية الواقع السياسي في العراق بعين صحيحة لا قذى فيها ، فراح يشن حربه على كل من يخالفه في الرؤية والفكر ، وصارت هذه المخالفة سببا كافيا لقتل الناس في العراق ، والدوس على كراماتهم بأحط الصور وأخسها .
وسأضع أمام القارئ العزيز هذه الحادثة ، وهي واحدة من عدة حوادث تعرضت لها أنا أيام صدام ، لا لشيء إلا لأنني كنت أختلف عن البعث وصدام في التوجهات أو الفكر ، فهم عرب متعصبون ، وأنا عربي غير متعصب ، لكن عدم تعصبي هذا ، ووقوفي ضد حرب صدام مع أكراد العراق صارا تهمة تطاردني عليها أجهزة المخابرات والأمن في عهد صدام ، ويقينا أنهم طاردوا غيري بسببها ، ممن هم على شاكلتي .
لا زالت أتذكر تلك الليلة السوداء التي نزلت بي ، وكانت الساعة قد ( رمت نفسها نحو الثانية بعد منتصف الليل ، هببت  مسرعا نحو الباب ، وصحت.
- من الطارق ؟
- افتح الباب !
- من أنتم ؟
- نحن ضيوف ونريد أن نشرب الشاي عندك !!
- ضيوف في هذه الساعة المتأخرة من الليل ، وتريدون أن تشربوا الشاي كذلك ؟ رددتُ متهكما .
- افتح الباب . لن يطول حديثنا معك كثيرا.
تيقنت أن طراق الباب هم عناصر من الشرطة السرية  ولهذا بادرت الى فتح باب الدار ، ليندفع من خلالها ثلاثة رجال كان يقودهم رجل كبير الرأس ، كثيف الشعر ، منتفخ البطن ، طويل القامة ، فظ اللسان ، ويبدو أنه هو من يقود تلك العصابة التي اشترك فيها الى جانبه شخصان من حزب السلطة .
- لماذا تقف - يا أستاذ - ضد الوحدة العربية ؟ سألني الرجل الضخم بلسان قوي وفظ ، تصحبه نظرات شزر حادة ، يريد من ورائها بث الرعب في نفسي.
- أنا أقف ضد الوحدة العربية ؟ تساءلت .
- نعم أنت .
- هل لديك مشروع في جيبك لتلك الوحدة ؟ سألت شرطي الأمن الضخم .
- ماذا تقصد ؟
- قلت هل تحمل معك مشروعا لتلك الوحدة .
- ولكن ماذا تقصد . كرر الرجل القول ثانية .
- إذا كنت تحمل مشروعا للوحدة العربية أخرجه من جيبك الآن وسأوقع موافقا عليه بأصابعي العشرة هذه. قلت ذلك رافعا يديّ أمام وجه الرجل ، فاتحا أصابعي العشرة ، وهذا ما جعل أحدهم ينفجر بضحكة مسموعة .
- لكنكم على أية حال تعادون الوحدة العربية.
- يا أخي ! نحن لم نعاد ِ الوحدة العربية ، نحن نطالب بالوحدة المادية ، وليس بالوحدة التي يتحدث عنها الرؤساء العرب .
- ماذا تعني بالوحدة المادية يا أستاذ ؟ سألني أحدهم.
- أعني بها الوحدة التي تقوم على مد طرق السيارات ، والسكك الحديدية بين الأقطار العربية ، ربط الوطن العربي بشبكة كهربائية واحدة ، إقامة مشاريع مشتركة بين الدول العربية ، توحيد النظم الكمركية والإدارية ، وغير ذلك من المشاريع التي تعود بالنفع على الناس في هذه الرقعة الجغرافية المسماة بالوطن العربي. فهل أنا متهم بمعاداة الوحدة بعد ذلك ؟ تساءلت في نهاية حديثي .
- ولكنك تؤيد الأكراد في الانفصال عن العراق ! قال شرطي الأمن في تهمة أخرى يلقي بها على مسامعي.
- أنا لم أأيد انفصال الأكراد عن العراق ، ولكن الأكراد أمة كما تعلم حالهم في ذلك حال الأمة العربية، مثلما يعرفها مؤسس حزبكم ميشيل عفلق ،هل قرأت كتابه في سبيل البعث ؟ فتعريف الأمة عنده لا يختلف كثيرا عن تعريف ماركس لها ، وكما تلاحظ أن الأكراد ينتمون الى قومية واحدة ودم واحد، ويقطنون رقعة جغرافية واحدة ، وبهذا هم أمة واحدة ، فلماذا تحللون أن يكون العرب أمة واحدة ، بينما تحرمون على الأكراد أن يكون مثل العرب أمة واحدة كذلك . ومع هذا أنا لا أأيد انفصالهم عن العراق إلا إذا تحررت أجزاء كردستان الأخرى في إيران وتركيا ، وعادت كردستان واحدة .
- يبدو أنك لا تريد أن تقتنع بما أقوله لك . قال شرطي الأمن ذلك ثم استوى واقفا .
- لكنك لم تقل لي شيئا . رددت .
- لتعلم أننا نملك أساليب أخرى ستجعلك تقتنع بما نريده منك !! قال ذلك ، ثم توجه هو ومرافقوه نحو باب الدار الخارجي .)*
هذا شيء عن حديث العراق أيام التعصب القومي عند صدام وحزب البعث ، فكيف هو حديث العراق أيام التعصب الطائفي عند المالكي وحزب الدعوة ؟ هذا ما سآتي عليه في الحلقة الثانية .
* المقطع بين الأقواس من روايتي : مدن أخرى ، التي صدرت في السويد ، ولكن بتصرف.
 

27
المالكي في أمريكا !

سهر العامري
قبل أيام قلائل كنت أصغي السمع لأحمد الجلبي ، وهو يدلي بأخبار منقولة له من طرف أمريكي مطلع عن زيارة المالكي الأخيرة لأمريكا ، وذلك من خلال لقاء معه على قناة البغدادية ، وفي برنامج " حوار عراقي " .
ضمت الزيارة تلك عددا من المرافقين له ناف على الثلاثين رجلا ، جلهم أعضاء في الحكومة والبرلمان ، وكان هدف الزيارة تلك هو طلب المزيد من المساعدات العسكرية من الجانب الأمريكي ، أو تلك التي تخص المجالات الأمنية ، وذلك من أجل مواجهة العمليات المسلحة التي تدور رحاها في شوارع العراق ، ويبدو ، وعلى ذمة الجلبي ، أن المالكي لم يحصل على شيء مما أراد ، وبدلا من ذلك فقد تعرض الى حملة نقد جارح من أصحاب الدوائر الأمريكية الذين التقاهم ، خاصة نائب الرئيس الامريكي ، جون بايدن الذي أتهم المالكي بالفشل على جميع الصعد ، أو الرئيس الأمريكي ، باراك أوباما ، الذي لم يسمح إلا لشخص واحد من الثلاثين بمرافقة المالكي عند مقابلته له ، والتي دامت على مدى سبع عشرة دقيقة لا غير ، تعرض فيها المالكي الى تأنيب من قبل الرئيس الأمريكي حين حثه على تعديل سلوكه مع شركائه في الحكم ، وقد حرص الرئيس الأمريكي ، وعلى ذمة الجلبي كذلك ، على عدم النهوض له حين أراد المالكي توديعه .
هذا الجفاء الواضح الذي تعرض له المالكي من قبل الإدارة الامريكية هو الذي دفعه الى قطع زيارته على ما بيدو ، وتوجهه الى الفندق الذي يقيم فيه هو والوفد المرافق له ، ومن هناك أرادوا حمل حقائبهم متوجهين الى المطار حيث تجثو طائرتهم الخاصة على أرضه ، لكن إدارة الفندق ، وعلى ذمة الجلبي مرة ثالثة، اعترضتهم قائلة : هاتوا أجور مبيتكم في الفندق !
لقد اضطر المالكي ومرافقوه أخيرا على الى دفع تلك الأجور رغم أنهم حضروا بدعوة رسمية من قبل الحكومة الأمريكية . وأضيف أنا الى ذلك أن المالكي حين توجه الى روسيا في زيارة رسمية سابقة له أسكن في فندق متواضع ، يسكن فيه الكثير من العراقيين الذهابين كسياح الى العاصمة موسكو ، وعلى العكس من ذلك فقد أسكن الزعيم الكردي العراقي ، مسعود برزاني ، في دار ضيافة من قصور الكرملين الشهيرة ، مثلما أخبرني صديق عن ذلك .
حكاية المالكي ووفده هذه ذكرتني بحكاية أخرى رواها الرحالة الإنجليزية ولفريد ثيسجر في كتابه : عرب الأهوار ، نقلها هو عن صحين شيخ عشيرة الفريجات ، وقمت أنا بترجمتها عن اللغة الإنجليزية في كتابي : عرب الأهوار ، الضيف والشاهد .
فعن صحين رئيس عشيرة الفريجات ذاك ينقل ولفريد ثيسجر فيكتب : ( حدثنا صحين إنّه قبل سنوات قليلة زار ثلاثة من معدان الجبور ، وهم أهل قرية على مقربة من عشيرتهم ، مدينة البصرة ، وكانوا شبابا ، ولم يكن أحد منهم قد غادر الأهوار من قبل ، ساروا في الشارع الرئيس من المدينة مذهولين ، مرعبين ، فهم لا يعرفون أحدا فيها ، وقد كانوا جياعا يفتشون عن مضيف ، فجأة صاح رجل مرح ، ذو بطن كبيرة وسمينة ، كان يقف خارج بيت في زقاق: مرحبا ، ألف مرحب ، تعالوا ، من هنا الطريق ، ثمّ قادهم الى غرفة كبيرة حيث كان عدد من الناس جالسين على الكراسي ، يأكلون على طاولات صغيرة.

:- احسبوا أنفسكم في بيوتكم ! ماذا تريدون أن أقدم لكم ؟ مرق، خضار، سمك، لحم ، حلويات ؟ أتريدون شربتا ؟ قولوا فقط ، وسأجلب لكم ايّ شيء تأمرون به ! مرحباً، مرحبا ! 
لقد أعتقد الشبان الثلاثة أنّ هذه طريقة في تصرف غريب ، فمن كان قد سمع مضيفا يسأل ضيوفه عمّا يريدون من أكل ؟ إنّه ودود ، وهذا يدلّ بوضوح كيف يتصرف الناس المتمدنون.
:
- نحن نريد كلّ ما ذكرت.

- حسناً ، حسنا ، مرق ، وسمك ، وخضار، ودجاج ، أهذا فقط ؟ وطبعاً حلويات وشربت كشراب ، دقيقة بالتمام إن سمحتم.

واحد من المعدان التفت للآخرين قائلا : والله إنّ رجال المدن طيبون ، أين تجدون مثل هذه الضيافة في الأهوار ؟ ماذا يقصد آباؤنا حين كانوا يحذروننا من أن رجال المدن أرذال؟

عاد مضيفهم حاملا عددا من صحون الطعام التي غطت الطاولة بعد ذلك ، ثمّ جلب الماء لغسل أيديهم ،
 لكنهم لم يسمحوا له بسكب الماء على أيديهم ، بعدها قال: هيا ، تفضلوا، كلوا ، احسبوا أنفسكم في بيوتكم ، أبداً ، لم يكونوا قد تناولوا مثل هذه الوجبة من الطعام. لقد أكلوا ثم أكلوا.

:- دعوني أجلب لكم مزيدا من المرق ، مزيدا من الدجاج !

:- شكراً لك ، شكرا لك ، أيّ رجل هذا ؟ إنّه يقدم الكثير من الأكل!

وأخيراً أقنعوه بأنهم شبعوا ، وبعد أن غسلوا أيديهم جلب لهم القهوة والشاي ، بعدها نهضوا منصرفين ، قائلين للرجل : اللّه يجازيك.

:- قفوا ، انتظروا دقيقة ، الله يجازيكم أنتم ، أين فلوسي ؟ ديناران ذلك هو حقي.

:- ماذا تقصد ؟ هل لديك فلوس عندنا ؟ هذا هو مضيفك ، وأنت دعوتنا
للدخول إليه ، حين كنا مارين به.

:- كلاب ، أعطوني مالي ، معدان ، كلاب ، لصوص ، انتظروا حتى أخبر الشرطة.

لقد أجبروا على دفع دينار ونصف في نهاية الأمر ، ولم يتبقَ لديهم من المال ما يركبون به السيارة ، ولذا عادوا سيرا على الأقدام حتى مدينة القرنة.)
انتهت حكاية صحين عند هذا الحد ، ولي أن اقول : إنه لو لم يكن مع المالكي والوفد المرافق طائرة خاصة ، ثمنها وهو أموال فقراء العراق ، لكانوا قد ساروا على الأقدام من واشنطن الى قضاء طويريج ، حالهم في ذلك حال معدان الجبور الذين ساروا على أقدامهم من البصرة الى قضاء القرنة !

28
الارستوقراطيون هم قتلة الحسين !

سهر العامري

كثيرون هم من كتبوا عن ثورة الإمام الحسين التي تمر ذكراها هذه الأيام حسب التقويم الهجوي ، وقد أطنب الكثير من هؤلاء في تفاصيل الأحداث التي رافقتها ، وقد بالغ البعض فراح يمزج حقيقة تلك الأحداث بخيال مكذوب التحمت فيه الملائكة مع الناس في تراجيديا حملت أكثر مما حملته الساعات القلائل التي دارت فيها معركة اليوم العاشر من محرم والتي بدأت منذ صباح ذلك اليوم لتنتهي في ضحاه وتسفر عن استشهاد رجال الثورة الذين آثروا الموت على الحياة ببسالة نادرة .
لقد تخطى المشاركون فيها مثلما هي عليه الحال في معارك الإسلام الأولى كمعركة بدر الكبرى حاجز القبلية ، ذلك الحاجز الذي انهار أمام مبدأ " المساواة " الذي رفعه المسلمون الأوائل ، وهو المبدأ الذي أثار حفيظة الارستوقراطية القريشية فما كان منها إلا أن رفضت ذاك المبدأ " يريد محمد أن يساوينا بعبيدنا ! " هكذا صرح أبو سفيان ذات يوم ، وعلى الضد من ذلك ظهر في صفوف الحركة الجديدة عبيد وفقراء ما كان لهم أن يحتلوا مكانة في التاريخ لولا ذلك المبدأ ، هذا التاريخ الذي جاء لنا بأسماء : بلال الحبشي ، أبو ذر الغفاري ، صهيب الرومي ، وسلمان الفارسي وآخرون غيرهم .
أذعن الارستوقراطيين من قريش وغيرها بعد نجاح الدعوة الاسلامية للأمر الواقع ، وصار بيت أبي سفيان آمنا بحديث عن النبي ، وهذا ما مكن هؤلاء أن يتحينوا الفرص للعودة الى سابق عهدهم ، ولكن بعد حالة نفي للقديم ووصول الى حالة اقتصادية ـ اجتماعية أرقى ، وذلك بقيام الدولة الأموية في الشام ، واستلام معاوية للحكم فيها ، لقد هيأ التطور الجديد وضعا اقتصاديا واجتماعيا للأغنياء من المسلمين ، وصارت الملكية الخاصة بالنسبة لهم شيئا مقدسا يجب الذود عنه بالسيوف ، وتجيش الجيوش من أجله ، فحين صرخ عبيد الله بن زياد بمحمد بن الأشعث الذي يعد من بين كبار الارستوقراطيين من أهل الكوفة قائلا : أنت بين خيارين ، قطع نخيل بساتينك أو صد أهل الكوفة عن الحسين بن علي ! نهض هو ومن على شاكلته بإنجاز المهمة بعد أن بذل بعض المال هنا وهناك ، وليس هذا غريبا ، فقد اشترى القرآن " المؤلفة قلوبهم بالمال " من قبل ، كما أن المختار طلب من ابراهيم بن الأشتر المتوجه لقتال أهل الشام شراء عبيد الله بن الحر بالمال بعد أن صرح ابراهيم بخوفه من تمرد عبيد الله بن الحر عليه وهو من بين جنوده المبرزين .
لقد تراجع الوازع القبلي الذي كان سائدا بين القبائل العربية في مرحلة الرعي على أيامهم في شبه الجزيرة العربية أمام الوازع الطبقي الجديد حين ظهرت عندهم الزراعة وملكية الأرض ، فصار المرادي عبد الرحمن بن ملجم مقاتلا في صفوف الارستوقراطيين من المسلمين ، بينما صار المرادي هاني بن عروة مقاتلا مع مسلم بن عقيل رسول الحسين لأهل الكوفة .
واذا كان الحال ذاك مع قبيلة المرادي فهو ذاته مع قبيلة كندة حيث وقف محمد بن الأشعث الكندي مع قتلة الحسين من الارستوقراطيين بينما استشهد الحارث بن امرئ القيس ويزيد بن بدر بن المهاصر مع الحسين وهما من قبيلة كندة التي استوطنت العراق قبل الفتح له .
لكن ذاك لا يمنع من أن الجيش الذي قاتل الحسين ، والذي بلغ تعداده أكثر من عشرين ألفا على بعض الروايات من أن يكون بين صفوف جنود من الموالي من غير العرب وكانوا يعدون بالآلاف ، وقد استخدمهم أغنياء الكوفة كمقاتلين أجراء ، فمن بين الذين هموا بحز رأس الحسين بن علي بعد سقوطه على أرض المعركة هو خولي بن يزيد الأصبحي الذي تصفه بعض الروايات بأنه كان أزرق العينين ، كما أن قاتل هاني بن عروة المرادي كان مواليا تركيا عند عبيد الله بن زياد يدعى رشيد ، ومثل هذا فقد انتدب المختار الثقفي أحد مواليه ويدعى رزين لقتال أحد قتلة الحسين من ارستوقراطيي الكوفة الذين هربوا منها ، وأعني به شمر بن ذي الجوشن العامري ، لكن شمر قتله ، وهذا ما اضطر المختار الى أن يرسل عشرة من خير رجاله بقيادة عبد الرحمن بن عبيد الذي قتله وكان يرجز حوله :
يا أيها الكلب العوي العامري * أبشر بخزي وبموت حاضر ِ
 وعلى ذاك يمكن تشبيه هؤلاء الموالي الذين كان أغلبهم من الفرس ، والذين اشتركوا في قتل الحسين بن علي بجنود مرتزقة في جيش الارستوقراطية العربية التي كانت تحكم مجتمع ما قبل الاسلام في مكة وشبه جزيرة العرب ، والتي حكمت فيما بعد زمن الاسلام ، وإذا كانت تلك الارستوقراطية قد رفضت مساواتها بعبيدها أيام محمد فها هي على زمن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ترفض ولذات السبب القبول بحكم الفقراء الذي بشرت به ثورة الحسين بن علي ، والذين سقطوا جميعا مضرجين بدمائهم في ساحة المعركة من كربلاء .
خلاصة القول هي أن المعركة التي دارت في كربلاء يوم العاشر من محرم لم تكن بين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية وحسب ، وإنما كانت بين فقراء المسلمين وبين أغنيائهم في صراع هو أشبه ما يكون بالصراع الطبقي على أيامنا الحالية ، وهذه هي سنة التاريخ لعمري .

29
التغلغل الإيراني في بلاد الشام (3) 

سهر العامري
يرى المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي أن الصفوية الجديدة قامت على انقاض الحركة الشعوبية الإيرانية التي تقول بأفضلية الفرس على العرب ، ولكنها تجاوزت الخطأ الذي وقعت به الحركة الشعوبية المتمثل بتبنيها لفكرة القومية فقط ، بينما اعتمدت الحركة الصفوية قديما وحديثا ركنين أساسين في نشاطها السياسي هما : القومية الفارسية والمذهب الشيعي ، وقد تم هذا التزاوج الغريب بين الأفكار القومية الفارسية ، وبين الفكر الشيعي العربي – الإسلامي عن طريق تزويج الصفويين لشاه زنان بنت كسرى "يزدجرد" المنكسر في معركة القادسية من الإمام الحسين بن الإمام علي ، وذلك بعد استشهاد الإمام الحسين في واقعة كربلاء بسنين طويلة .
يكتب الدكتور علي شريعتي عن هذا الزواج الخرافي فيقول : ( النبي محمد بهذه الصورة السامية والخلق العظيم ترسم له الصفوية صورة متفاوتة تماما يُتباهى فيها بأنه حين ولد بمكة كان هناك مَلك عادل في مكان بعيد ، وأنه يؤمن بأن بعض الأقوام لها مزايا ذاتية وصفات وراثية واختارها الله دون سواها من أجل تلك المزايا والصفات ، كل تلك الأقاويل هي مقدمات تمهيدية لعقد قران بين الإسلام والقومية الفارسية ومجيء العروس من " المدائن " الى " المدينة ، وزواج بنت الملك يزدجرد آخر حلقة من سلسلة السلطنة من ابن علي (ع) اول حلقة في سلسة الإمامة )
ويضيف : ( إن توظيف الشعائر الخاصة بالشيعة ، واستثمار الحالة الوطنية والأعراف القومية الإيرانية أسهما معا في عزل إيران عزلا تاما عن جسد الأمة الإسلامية الكبير ، واخراجها بشكل كامل عن اطار هيمنة الدولة العثمانية التي كانت تتوشح بوشاح الإسلام ، والتي أصبحت الدولة الصفوية فيما بعد عدوها اللدود.)
حالة العزلة تلك هي ذاتها العزلة التي تعيشها إيران اليوم ، فالدولة الإيرانية بعد انتصار الثورة فيها ظلت أمينة على تلك المبادئ التي تطفح بحب السيطرة والهيمنة على مقدرات الشعوب الأخرى ، ولكنها حين عجزت عن احتواء منظمة التحرير الفلسطينية مثلا عمدت الى شق الفلسطينيين ، ودعمت قيام تنظيمين فلسطينيين هما : حماس ، ومنظمة الجهاد اللتان ساءت علاقتها بهما في الآونة الأخيرة بسبب من عدم تأييد المنظمتين للنظام السوري في الحرب الدائرة في سورية اليوم  .
دعا أتباع إيران الى قيام جمهورية اسلامية في لبنان كذلك لكن هذه الدعوة رفضت ليس من الأطراف المسيحية والسنية وحسب ، وإنما من أوساط شيعية كثيرة ، وهذا ما أدى بإيران الى شق شيعة لبنان ، وتشكيل حزبا جديدا بدلا من حركة أمل هو حزب الله ، وبإشراف من سفيرها في دمشق علي أكبر محتشمي بور ، وظل هذا الحزب بقيادة جماعية الى انتخاب أمينه العام صبحي الطفيلي 1989م وبعد سنتين تقريبا تم عزله من قبل إيران ليتولى أمانة الحزب من بعده عباس الموسوي الذي اغتالته اسرائيل بعد أشهر قليلة لتؤول أمانة الحزب لحسن نصر الله أمينه الحالي الذي هو في نفس الوقت الوكيل الشرعي لعلي خامنئي ، مرشد الجمهورية الإيرانية.
ذاك عن لبنان وفلسطين ، أما عن سورية فقد كان الأمر مختلفا ، فسورية ليست منظمة ، أو حزب ، سورية هي دولة عربية لم تستطع إيران على عهد الرئيس حافظ الأسد أن تتدخل في شؤونها بشكل علني حالها في ذلك حال بقية الدول العربية التي رفضت أي تدخل إيراني رغم أن يران حاولت بهذه الطريقة ، أو تلك القفز على المواثيق التي تنظم العلاقات بينها وبين الدول العربية ، مثل تحريض مواطنيها على القيام بمظاهرات في مواسم الحج ، أو نشر صورة قادتها ، أو توزيع ما يصدر فيها من كتب ونشرات تحريضية ، أو القيام بتنظيم بؤر لحركات وأحزاب تدور في فلكها ، وإذا كانت إيران قد فشلت في مسعاها هذا في دول الخليج العربي ، وفي مصر والجزائر والمغرب ، فإنها فشلت كذلك في سورية أيام الرئيس حافظ الأسد الذي لم يسمح للتبشير الإيرانية القادم من عصور التخلف بالتسلل إلى سوريا ، كما أنه استطاع  أن يدير العلاقات مع إيران لصالحه في كل الأحوال ، ولكن إيران مع ذلك سخرت نشاط بعض الحركات والأحزاب الشيعية العربية المتواجدة على الأرض السورية في بث الدعاية الإيرانية ، أو العمل على تجنيد بعض العناصر من تلك الحركات والأحزاب في جهاز استخباراتها " اطلاعات " الذي هو في حقيقة الأمر جهاز " السافاك " على زمن شاه إيران ، وإنني ما زلت أتذكر باشمئزاز صورة ذلك الرجل العراقي الذي كان يعيش في دمشق ممثلا لأحد الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق اليوم ، وهو يصطحب بعض الجنود العراقيين الفارين من جبهة الحرب بين العراق وإيران الى فرع " اطلاعات " في السفارة الإيرانية بدمشق من أجل أن يدلوا بمعلومات عن أماكن تواجد وحداتهم العسكرية على الجبهة ، وعن طبيعة عدتها وأعدادها.
يبدو أن إيران كانت على علم بموقف حافظ الأسد ذاك بغض النظر عن شجبه العلني والصريح للحرب التي اشعلها صدام عدوه اللدود ، فالرئيس السوري كان لا يرد لسورية أن تكون دولة تهيمن إيران على قرارها ، كما أنه لا يريد أن يبتعد عن العرب خاصة مع دول الخليج العربي الذي أعلن أكثر من مرة أنه سيقف الى جانب أية دولة عربية خليجية إذا ما حاولت إيران الاعتداء عليها . ولهذا ولغيره راحت إيران تتغلل بشكل متدرج ، وهادئ في الشؤون السورية انتظارا للظرف المناسب الذي يتيح لها القول أنها تتمتع بنفوذ كبير في كل من سورية والعراق ولبنان ، مثلما صرح بذلك قبل أيام قاسم سليماني ، قائد فيلق القدس الإيراني الذي صار يعد الجيوش ويرسلها للقتال في الحرب الدائرة في سورية اليوم تحت هذه الذريعة الواهية أو تلك .
لقد خسرت إيران رغم تغلغلها ذاك خسارة فادحة حين عزلت نفسها بسلوكها العدواني عن العالم العربي والإسلامي ، ذلك العالم الذي حاولت هي في بداية الثورة أن تظهر له على أنها جاءت بثورتها تلك لنصرة المسلمين فيه على مختلف مذاهبهم ، وتعدد قومياته ، ولكنها سرعان ما تحولت الى دولة تحلم ببناء امبراطورية فارسية سيرا على هدى الصفويين الأوائل .
لا يفوتني أن أذكر في هذا الصدد ما كتبه لي بعض من العراقيين من أتباع الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق اليوم ، والذين نزحوا من العراق ، واستوطنوا مدينة قم الإيرانية ، وأولئك البعض الذين ما زلت احتفظ برسائلهم للآن ، كتبوا لي يقولون : " لم نجد اسلاما في إيران !!"
ذاك القول يعود بي الى قيام الدولة الصفوية في أيامها الأولى ، حين أعلنت تلك الدولة الحرب على الدولة العثمانية المتشحة بوشاح الإسلام على حد تعبير الدكتور علي شريعتي ، وصارت تستولي على بعض من أراضيها ، وهذا ما دفع بالسلطان سليم الأول الى شن حرب ضروس على الشاه اسماعيل الصفوي تمثلت تلك الحرب في معركة جالديران التي دارت رحاها في اليوم الثالث من شهر آب سنة 1514 م ، وقد أخذت تلك المعركة اسمها من المكان الذي وقعت به .
كانت نتائج تلك الحرب مدمرة بالنسبة للدولة الصفوية ، فقد احتل الجيش العثماني عاصمتها تبريز ، ونقل ذاك الجيش كل ما في خزائنها من ذهب ومال الى العاصمة " القسطنطينية "  اسطنبول اليوم ، هذا بالإضافة الى أن الصفويين فقدوا الكثيرة من الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها ، كما إن الشاه اسماعيل نفسه جرح في تلك المعركة ، ولاذ بالفرار نحو المستعمرين البرتغاليين في مضيق هرمز مخلفا وراءه زوجته التي وقعت أسيرة بيد السلطان العثماني سليم الأول الذي أنف من الزواج بها ، وبدلا عن ذلك زوجها لواحد من كتبة ديوانه انتقاما من الشاه اسماعيل ، وإذلالا له.
لقد عزل الشاه اسماعيل الصفوي الدولة الإيرانية بعدائه للمسلمين في الدولة العثمانية ، وراح ينشد العون والمساعدة من البرتغاليين الذين مثلت أساطيلهم طلائع الاستعمار الغربي الأولى في مضيق هرمز ، والخليج العربي ، وقد أظهر الشاه اسماعيل الصفوي بلجوئه الى المستعمرين البرتغاليين زيف ادعائه بتبجيل النبي محمد وأهل بيته ، كما أنه فيما بعد تناسى الاسلام ، وراح يهدم الجوامع، ويشيد الكنائس بدلا عنها، وها هو سفير البرتغال في الصين ، بيريس تومي ، الذي زار إيران في الفترة ما بين سنة 1511م إلى 1512م يكتب  : ( إنه ، أي إسماعيل، يقوم بإصلاح كنائسنا ويدمر مساجد السنة.) ، ويبدو لي بعد ذلك أن هوس الإيرانيين بالتدخل في شؤون الدول الأخرى خاصة العربية منها قد جر عليها كره ونفور تلك الدولة منها ، كما صار الشيعة العرب ، نتيجة لتعاون أطراف منهم معها ، موطن شك وريبة ، فلا غرابة في أن نرى أن رجل دين مثل صبحي الطفيلي ، أول أمين عام لحزب الله في لبنان، يصرح بملء شدقيه : " إن يران ستنحر الشيعة !" وأنا أضيف : خاصة العرب منهم .



30
التغلغل الإيراني في بلاد الشام (2) 

سهر العامري
في طريقي الى اليمن الجنوبي من القاهرة مررت مرورا بالكويت ، وكنت ليلتها في ضيافة الخطوط الجوية الكويتية التي حملتني بإحدى سيارتها الى فندق المسيلة ، وأنا في الطريق الى ذلك الفندق شاهدت من خلال شباك السيارة ، وكانت الساعة تشير الى ما بعد الواحدة من ليلة الحادي عشر من شباط 1979م ، صورا كثيرة للخميني وهي ملصقة على جدران المباني ، فقلت لمن معي في السيارة : يبدو أن الثورة الإيرانية قد انتصرت !
رحبت بعض الدولة العربية بهذا الانتصار بدرجات متفاوتة ، فسوريا وليبيا كانتا من بين الدول العربية التي رحبت بحرارة بهذا الانتصار ، بينما رحبت اليمن الجنوبي والجزائر بشيء من التحفظ ، أما دول الخليج العربي والعراق ومصر والاردن فقد ظلت على ريبة من هذا الانتصار خاصة حين رفع حكام إيران الجدد شعار تصدير الثورة ، وحين رفع الشيعة العرب صور الخميني في بلدانهم ، فذاك الشعار ، وتلك الصور ، وبعض التظاهرات التي قام بها الشيعة العرب في بلدانهم سببت قلقا كبيرا لحكام تلك البلدان ، وقد تجلى هذا القلق بشكل واضح في العراق أيام صدام ، أفضى الى الحرب العراقية الإيرانية فيما بعد.
في جمهورية اليمن الديمقراطية كان هناك ارتياح واضح لنجاح تلك الثورة ، فاليمن الجنوبي كان داعما قويا لثوار ظفار في حربهم مع السلطان قابوس الذي استعان بجيش شاه إيران للوقوف بوجههم ، وبتأييد أمريكي قوي ، وبذاك الانتصار يكون اليمن الجنوبي قد تخلص من عدو لدود يحارب جنده على حدوده ، ومع هذا فقد ظلت القيادة اليمنية الجنوبية على ارتياحها ذاك حتى بعد نشوب الحرب ما بين إيران والعراق والسبب في ذلك هو موقف صدام العدواني من تلك القيادة ، واتهامه لها بخروجها عن الخط القومي العربي حين تبنت الفكر الماركسي كمرشد لها في إدارة الدولة ، وما زاد صدام وعفلق حنقا هو تبني حزب البعث في جنوب اليمن لذات الفكر ، وقبوله بالانضمام الى الجبهة القومية ، وحزب الشعب ليلد منهم جميعا حزب جديد في جنوب اليمن ، هو الحزب الاشتراكي اليمني.
عملت أنا في جريدة 14 اكتوبر العدنية مسؤولا عن القسم الثقافي فيها بعد اسبوع من وصولي الى عدن ، هذا بالإضافة الى عملي في التعليم ، ومن خلال عملي في تلك الجريدة تعرفت على بعض الشخصيات اليمنية التي كانت تزورنا في مقرها بالمعلا من عدن ، وكان من بين هؤلاء الشيخ المرحوم ، عبد الله محمد حاتم ، مفتي الجمهورية الذي ظل مرافقا لرسول الخميني الى القيادة اليمنية في زيارته الى عدن ، وكان هدف الرسول من تلك الزيارة الطلب من القيادة اليمنية مساعدة إيران في تكرير نفطها بمصافي عدن بعد أن دمر صدام مصافي عبدان في الأيام الأولى من الحرب ، وقد أثمرت زيارة مبعوث الخميني المذكور عن موافقة تلك القيادة على ذلك الطلب .
رسول الخميني ذاك كان الشيخ حسن روحاني ، رئيس الجمهورية الإيرانية الذي انتخب حديثا ، وكان هو وقتها شابا في مقتبل العمر ، نحيفا لم تظهر عليه بعد علامات السلطة في الملبس ، أو تصرف على عادة الحكام في الشرق الأوسط ، ويبدو أن تلك الزيارة هي التي حفزت كل من علي ناصر محمد ، رئيس وزراء جنوب اليمن وقتها ، وكذلك علي سالم البيض المنتسب لآل البيت ، وعضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني السابق ، على إرسال برقيتي تهنئة الى الشيخ حسن روحاني بمناسبة تسنمه لمنصبه الجديد ، هذا المنصب الذي وصله ليس بعدد المصوتين له وحسب ، وإنما لمكانته عند الخميني التي هي جواز مرور المسؤولين الكبار في إيران الى تسنم المناصب المهمة في الدولة الإيرانية.
وعلى ذات المبدأ تسنم علي أكبر محتشمي بور منصبه كسفير لإيران في سورية ، وبأمر من الخميني نفسه ، وهو السفير الذي رأيته في مجلس ذهبت له أنا تحقيقا لرغبة رجل دين عراقي كان صديقا لي بعد أن طلب مني رجل الدين هذا مصاحبته للتعرف والسلام على السفير المذكور حين كان هو في زيارة لبيت رجل دين عراقي آخر من أصول إيرانية ، وبدرجة دينية يعبر عنها بـ " آية الله " ، ويقطن ضاحية السيدة زينب من دمشق. وقد شاءت الصدف أن التقي أنا آية الله هذا ، فيما بعد ، في مطار طهران ، وهو في موقف صعب ، وذلك حين خرجت زوجته من غرفة صغيرة لتفتيش النساء مولولة باكية بسبب من  أن المفتشات الإيرانيات سلبن منها حليها الذهبية ، وهي حلي عراقية المعدن والصنعة ، ولكن أولئك المفتشات قمن بمصادرتها بحجة أنها من الذهب الإيراني ، وليس من الذهب العراقي ، هذا الحال دفعني للتوجه نحو زوجها متسائلا عن سبب قسوة المعاملة التي تعرضت لها زوجته ، فرد علي قال : أدعوا من الله أن يعيدنا الى وطننا العراق ، ولم يزد على ذلك كلمة أخرى .
سألت الشيخ الذي رافقته في تلك الزيارة بعد فراغنا منها عن المؤهلات الدراسية التي يحملها السفير ، علي أكبر محتشمي بور ! فأجابني على الفور ومن دون تردد بقوله : إنه كان يحمل " بقشة " الخميني ، حينما يريد الخميني أن يسافر !
 كان السفير شابا ، قصير القامة ، ممتلىء الجسم، يطفح بالحيوية ، معتما بعمامة سوداء ، ومرتدينا جبة بلونها ، وهو اللباس الذي اعتاد رجال الدين أن يلبسوه . أما البقشة فهي عبارة قطعة قماش مربعة في الغالب تلف من زواياها الأربعة على بعض من ملابس الرجل حين يعزم هو على السفر .
وقعت زيارتنا تلك في صيف سنة 1981م بعد وصولي الى سورية بأيام ، وهي سنة حدثت فيها بعض تغيرات عمرانية وغير عمرانية في ضاحية السيدة زينب ، إذ قامت فيها دور حديثة ، ومحلات تجارية ، وعمارات سكنية ، مثلما بنيت فيها بعض الحسينيات التي لم تشهد مثلها تلك الضاحية من قبل ، كما أن ضريح السيدة زينب نفسه قد حظي بتحسن في بنائه ، ولكن أكبر أثرين جديدين شهدتهما أنا خلال تواجدي في دمشق هما : مستشفى الخميني الذي أشيد في تلك الضاحية ، وتوسيع ضريح السيدة رقية بنت الحسين الواقع بالقرب من سوق الحمدية في مركز العاصمة دمشق ، فقد قامت إيران على عهد الخميني بشراء بعضا من البيوت المحيطة بذلك الضريح ، وبمبلغ ثمانين ألف دولار على ما ذكر لي وقتها ، وقد حاول الإيرانيون ، بالإضافة الى ذلك ، شراء بعضا من الدكاكين القريبة منه لكنهم فشلوا ، هذا في الوقت الذي نجحوا فيه بالحصول على موطىء قدم في الأسواق المحيطة بضريح السيدة زينب ، فالإيرانيون اعتادوا استغلال أضرحة أهل البيت في التجارة لأنفسهم هم ، ولا يريدون للزوار الإيرانيين ولا لغيرهم من الزوار أن ينفقوا أموالهم في التسوق عند آخرين لا تشدهم علاقة بهم ، ومن الطريف أن أذكر هنا أن الشاه عباس الصفوي الأول حاول منع الإيرانيين من الحج والذهاب الى مكة بحجة أنهم سيدفعون رسم عبور للدولة العثمانية عدوته اللدودة ، ولهذا أراد منهم الحج الى ضريح الإمام علي بن موسى الرضا في مشهد من خراسان بدلا عن مكة ، وقد قام هو نفسه بهذا الحج المبتكر حين قطع مسافة 1300كيلومتر سيرا على الأقدام ، وهي مسافة الطريق ما بين مدينة أصفهان ومشهد حيث قبر الإمام الرضا ، ويبدو أنه هو الذي سنّ سنة المشي لزيارة أضرحة الأئمة من أهل البيت فيما بعد ، وليس زيادة في الأجر كما يدعي نفر من الناس اليوم ، وإنما هي سنة صفوية هدفها حرمان الدولة العثمانية من رسوم عبور كان الإيرانيون يدفعونها لقاء مرورهم بالأراضي التي تسيطر عليها تلك الدولة ، وبذا يكون ابتكار الحج هذا يذكرنا بابتكارات الشاه اسماعيل الأول الكثيرة في هذا الصدد.
حقيقة الأمر أن الدولة الصفوية في إيران سخرت التشيع ، وحب المسلمين لأهل البيت في خدمة مشروعها القومي السياسي ، مثلما سخرته في صرعها مع الدولة العثمانية ، وهو صراع مرير تواصل على مدى سنين طويلة بين الدولتين ، وهو بمعتقدي إرث من الصراع الذي دار بين الإمبراطورية الساسانية الفارسية ، والإمبراطورية البيزنطينية قبل ظهور الإسلام ، ثم استمر بعده ، وذلك حين امتشقت الدولة الفارسية سيف التشيع بوجه الدولة العثمانية التي امتشقت هي الأخرى سيف التسنن في معركة كانت دوافعها الحقيقية حيازة المال والأرض ، أما رفع أعلام المذاهب في هذه المعركة فكان يراد منه بث الحماس في نفوس الجند السذج لبذل المزيد من الدماء.
لقد فزع ياسر عرفات في أول لقاء له مع الخميني بعد انتصار الثورة في إيران ، وهو يسمع منه قوله: إن أضرحة أهل البيت في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء تقع في مدن محتلة ، ولا بد من تحريرها ! وإن الجزر الاماراتية في الخليج العربي ستظل إيرانية على مدى التاريخ . من هنا صار المرحوم ياسر عرفات وغيره من حكام العرب المؤيدين للثورة الإيرانية على حذر كبير في تعاملهم مع القادة الإيرانيين الجدد ، ولم يقف هذا الحذر عند الحكام العرب وحسب بل امتد ليشمل كل الحركات اليسارية في الوطن العربي التي استبشرت خيرا بانتصار الثورة في إيران ، وذلك بسبب من المجازر الرهيبة التي أنزلها النظام الإيراني الثيوقراطي بعموم الحركات اليسارية الإيرانية ، وبصورة فظيعة لا تختلف عن أية مجاز بشعة قام بها نظام ظالم ، مستبد قبله.
يضاف الى ذلك أن بعض الأطراف الشيعية العربية المعارضة لأنظمتها قد أدركت أن الحكم الإيراني الجديد لا يختلف أبدا في نزوعه القومي العنصري عن نزوع نظام شاه إيران ، وهذا ما دفع بالمعارضين الشيعة السعوديين القاطنين في سورية الى قبول وساطة الصلح الذي  قام بها الرئيس حافظ الأسد بينهم وبين الملك فهد بن عبد العزيز ، وقد تكلل هذا الصلح بعودتهم الى وطنهم . وأكثر الظن أن الشيخ حسن الصفار كان من بين أولئك ، ذاك ما سره لي صديقي ، رجل الدين العراقي الذي سمعته ذات ليل يخاطب مجموعة من الشيعة الزيدية " الحوثيين " من أنصار حزب الحق القاطنين في ضاحية السيدة زينب قائلا : عودوا الى وطنكم مثلما فعل شيعة السعودية قبلكم .. لا ترجوا خيرا من إيران .. إيران تسخركم لخدمة مصالحها فقط ، ولا شيء غير هذا .

31
التغلغل الإيراني في بلاد الشام (1)
سهر العامري
عرفت سورية وجودا إيرانيا معارضا للشاه قبل نجاح الثورة فيها شباط عام 1979م ، وقد بدأ هذا الوجود الجديد بعد قيام حركة أمل بزعامة موسى الصدر في لبنان ، وكان أشهر من انضم الى هذه الحركة من الإيرانيين عدا موسى الصدر هو مصطفى جمران الذي قتل وهو يقود القوات الشعبية الإيرانية المعروفة بـ " البسيج " على الجبهة العراقية الايرانية في الحرب ما بين العراق وايران . أما العلاقة التاريخية التي تشد الشيعة في جنوب لبنان وخاصة في جبل عامل فتذهب الى الايام الاولى لقيام الدولة الصفوية في ايران سنة 1501م، وذلك حين دعت تلك الدولة ، وهي بصدد تبني المذهب الشيعي ، بعضا من رجال الدين الشيعة في لبنان للقدوم الى ايران بعد أن رُفضت تلك الدعوة من قبل رجال الدين الشيعة في النجف من العراق .
ذاك في لبنان ، أما في سورية فقد تبنى الحكام فيها خطا قوميا اقترب كثيرا بسورية من مصر زمن عبد الناصر الذي يعد من أكبر دعاة القومية العربية في الوطن العربي ، وقد وصل الحال بالدولتين الى اعلان اتحاد تحت مسمى : الجمهورية العربية المتحدة سنة 1958م . ولكن هذه الوحدة لم تعمر طويلا ، فقد اتى عليها انقلاب عسكري في سورية سنة 1961م ، وبعد هذا الانقلاب حدث انقلاب آخر جاء بحزب البعث الى السلطة في سورية في آذار سنة 1963م .
بعد ذلك توالت انقلابات وحركات تغيير في سورية كان آخرها ما عرف بالحركة التصحيحية التي قام بها جناح في حزب البعث بقيادة حافظ الاسد ، وزير الدفاع ، ورئيس الأركان مصطفى طلاس ، ثم ما لبث الأمر حتى صار حافظ الأسد رئيسا للجمهورية سنة 1971م . وطوال فترة السبعينيات من القرن الماضي ، وعند زياراتي المتكررة لسورية لم أشعر أن هناك نظاما طائفيا يتحكم بمصير الناس فيها ، فقد عرف عن حزب البعث أنه حزب علماني التوجهات حتى عند أولئك الأعضاء الذين ينحدرون من أصول علوية ، كما أن النظام في سورية وقتها كان على حالة عداء مع ايران حاله في ذلك حال الأنظمة العربية الأخرى ، فالشاه كان شرطيا في الخليج العربي ، وصديقا حميما لإسرائيل عدوة العرب ، والعلاقة بينه وبين الكثير من الدولة العربية ، بما فيها العراق ، كانت على درجة كبيرة من التوتر في مطلع السبعينيات خاصة بعد احتلال الشاه للجزر الامارتية في الخليج العربي عام 1971م . وإنني إن أنسَ فلا أنسى ذلك اليوم الذي عزلتنا فيه الشرطة اليونانية بقاعة من قاعات مطار أثينا ، وكان عددنا نحو ثلاثمئة مدرس ومدرسة عراقي وعراقية متوجهين الى الجزائر ، عن الركاب الإيرانيين والاسرائيليين نساءً ورجالا ، والذين ضمتهم قاعة واحدة أخرى . يضاف الى ذلك أنني كنت في ذات الفترة الزمنية على علم بتسرب البضاعة المصنوعة في اسرائيل الى الأسواق العراقية التي كانت تصل الى العراق عبر إيران وبطرق غير مشروعة .
المواقف المعادية للعرب من قبل شاه إيران ردت عليها بعض الانظمة العربية بطرق شتى ، فليبيا مثلا قامت بتأميم شركة النفط البريطانية (British Petroleum) 1971م ردا على تسليم بريطانيا الجزر الاماراتية الثلاث الى شاه إيران ، كما أنها قامت باطلاق اسم الخليج العربي على شركة النفط الوطنية الليبية ، وصارت سورية في هذا الوقت حالها حال العراق تستقبل الإيرانيين المعارضين للشاه وحكومته ، ففي عام 1977م استقبلت سورية جثمان الدكتور علي شريعتي الذي قتله عملاء المخابرات الايرانية ( السافاك ) في العاصمة البريطانية ، لندن ، زمن الشاه ، وكان علي شريعتي من المعارضين البارزين ليس للشاه وحزبه حزب النهضة أو البعث كما يحلو للبعض أن يسميه ، وإنما لكل القوميين الايرانيين الذين حاولوا تطويع التشيع كسلاح فكري يخدم المشروع القومي الإيراني التوسعي في المنطقة العربية ، وهو ذات الحلم الذي تسعى القيادة الإيرانية الحالية الى تحقيقه اليوم في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين . واذا كان الشاه قد طارد المفكر الايراني الدكتور علي شريعتي ، الذي فضح المتشيعة الفرس في كتابه : التشيع العلوي والتشيع الصفوي ، حيا ، فإن أتباع الخميني لاحقوه ميتا ، فبدلا من اطلاق لقب "معلم الثورة" عليه غب انتصار الثورة الايرانية عام 1979م مثلما قرأت أنا ذلك مخطوطا على ضريحه في زيارة قمت بها الى قبره في المقبرة المجاورة لضريح السيدة زينب في دمشق ، صار بعد أشهر من قيام تلك الثورة ، ومن وجهة نظر أتباع الخميني ، شيوعيا، ملحدا، ومع ذلك فإن الدكتور علي شريعتي تأثر ، ولا شك ، بحركة اليسار الفرنسي حين كان يواصل دراسة الدكتوراه بجامعة السوربون في باريس أيام ستينيات القرن الماضي ، وقد سجن وقتها بسبب من مشاركته بتظاهرة تستنكر اغتيال الزعيم الوطني الافريقي باتريس لومومبا من قبل المخابرات البلجيكية على ما يعتقد.
كنت أنا قد نزلت ضاحية السيدة زينب من دمشق في بداية شهر شباط عام 1979م مهاجرا من العراق بعد أن ناء الظلم بكلكله عليه زمن حكم البعث ، وقبيل انتصار الثورة في ايران بأيام قليلة . لم أجد ساعتها في تلك الضاحية عمرانا كبيرا يذكر ، ولكنني حين عدت لها بعد ما يزيد عن سنتين أمضيتها في جنوب اليمن وجدت حالها قد اختلف كثيرا ، فقد ازداد عدد سكانها زيادة كبيرة نتيجة لازدياد عدد المهاجرين العراقيين من العراق أو العراقيين من ذوي الأصول الإيرانية ممن هجرهم النظام في العراق الى إيران ، وكنت أنا على معرفة بالكثير منهم خاصة بعض الطلاب الذين درستهم في العراق.
سألت طالبا مهجّرا الى إيران من طلابي عن سبب تركه إيران وقدومه الى سورية رغم أنه يجيد اللغة الفارسية اجادة جيدة ، فهو قد تربي في كنف أسرة إيرانية استوطنت العراق على مدى سنوات طويلة . أجابني من دون تردد قائلا : أستاذ ! إيران ملة لا يمكن العيش معها ! وهذه الحقيقة التي عبر عنها هذا الطالب تلمستها أنا عن كثب في زيارتين لي قمت بهما الى إيران بعد نجاح الثورة فيها ، ورأيت سوء المعاملة التي يتعرض لها العراقيون هناك حتى أولئك الذين ينحدرون من أصول إيرانية ، ولا زلت أذكر كيف عرقلت سلطات مطار طهران مغادرة امرأة عراقية من أصول إيرانية ، تجيد اللغة الفارسية من ذلك المطار باتجاه أوربا ، والسبب هو مطالبة تلك المرأة بدفع رشوة قائلين لها أنت امرأة عربية ، والعرب لديهم أموال طائلة !! وقد اضطرت تلك المرأة في نهاية الأمر أن تدفع لهم أربعين ألف تومان إيراني ، وقت أن كان التومان على قوة مقابل العملات الأجنبية .
في ضاحية السيدة زينب عرفني صديق مهجّر على دار طينية تقع في زقاق يفضي الى ضريح السيدة زينب قائلا : هذه الدار كان يسكن فيها نفر ممن يحكمون إيران الآن ، لكنه لم يذكر لي أسماءهم ، والمؤكد هو أن هؤلاء كانوا من المعارضين لنظام الشاه ، ومن الذين استقبلهم النظام السوري على عهد الرئيس حافظ الاسد ردا على مواقف شاه إيران اتجاه العرب خاصة موقفه من القضية الفلسطينية ، ومناصرته لإسرائيل ، وهو موقف ردت عليه المقاومة الفلسطينية في بيروت كذلك بتدريب عناصر من المعارضة الايرانية على السلاح ، مثلما قدمته ، أي السلاح ، لبعض من فصائل تلك المعارضة وأخص بالذكر من هؤلاء مجموعة محمد منتظري الذي يعتبر من المؤسسين الأوائل للحرس الثوري الإيراني الحالي ، هذا الحرس الذي يقاتل العرب في ديارهم اليوم ، سواء كان ذلك في العراق أم في الشام أم في اليمن والبحرين.
كان محمد منتظري هذا ، على ما يبدو ، هو من بين الايرانيين المعارضين لنظام الشاه ، ومن الذين نزلوا في البيت الطيني من ضاحية السيدة زينب ، والذي أشرت إليه من قبل ، ومع ذات الصديق الذي مر ذكره ، والذي هو قريب من منظمة العمل الاسلامي ، رأيت لمحمد منتظري صورا كان فيها الرجل على هيئات مختلفة ، مرة تشاهده معتما بعمامة ، وأخرى واضعا على رأسه العقال العربي ، وثالثة الطربوش الباكستاني ، والسبب في ذلك هو أنه كان يتنقل بين سورية ودول الخليج العربي والباكستان وغيرها من الدول الأخرى ، كما أنني رأيته في صورة مع المرحوم ياسر عرفات في بيروت ، وهو يرد له بعد انتصار الثورة الإيرانية بندقية من البنادق التي كانت الثورة الفلسطينية قد قدمتها للمعارضين الإيرانيين زمن النضال ضد حكم الشاه.


32
انهيار ركن من أركان " الشرق الأوسط الجديد "

سهر العامري
الحقيقة الماثلة للعيان الآن هي أن أحد أركان المشروع الأمريكي في المنطقة العربية ، والمسمى بمشروع " الشرق الأوسط الجديد " قد انهد بسقوط حكم الاخوان في مصر تحت ضربات الجيش المصري ، وبالمساندة العظيمة من قبل الجماهير المصرية رغم الدعم الكبير والسخي الذي قدم للاخوان من قبل الدوائر الغربية ، ويأتي في مقدمة هؤلاء الداعمين الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد تجسد هذا الدعم بالتدخل المباشر لحكومات تلك الدوائر عن طريق ارسال وفود متعددة ومتلاحقة الى مصر من أكثر من دولة أوربية بالإضافة الى الوفود الأمريكية المدنية والعسكرية منها ، وقد صاحب وصول هذه الوفود الى القاهرة تهديدات مبطنة وعلنية للحكومة المصرية وللجيش المصري ، وقد تمثلت تلك التهديدات بقطع المعونات الاقتصادية والعسكرية عن مصر ، كما صاحبها حملة اعلامية واسعة النطاق على صفحات الجرائد الغربية ووسائل الاعلام المختلفة الأخرى ، تلك الحملة التي تباكت على حكم اخوان المسلمين المسلوب بانقلاب عسكري ! على حد زعم تلك الأبواق ، كما تعدت تلك الحملة الى وزير الدفاع المصري ، الفريق أول عبد الفتاح السيسي ، والى الحد الذي وصفه أحد المعلقين من على شاشة تلفزيون أوربي بأنه ، أي الوزير ، يعمل على اعادة مصر الى زمن الشيوعية في فترة الستينيات من القرن الماضي!
والغريب في الأمر هو أن أعداء الأمس في الظاهر قد اجتمعوا كلهم على دعم ومساندة اخوان مصر هذه المرة ، فقد خرجت مظاهرات في اسرائيل أمام السفارة المصرية في العاصمة منها تبكي على مصير اخوان المسلمين تماما مثلما ناحت الحكومة الايرانية في طهران وصرخ أوردغان في أنقرة على التوالي في وقت كانت فيه حماس تذرف الدموع في غزة ومثلها حزب الله في الضاحية الجنوبية من بيروت ، وعلى هذا يمكن القول أن النكبة التي حلت بأخوان مصر ، وهي نكبة عظيمة دونما ريب ، قد أظهرت زيف العداء بين تلك الأطراف ، مثلما أظهرت دعمها الخفي لمشروع الشرق الأوسط الجديد المصمم من قبل أمريكا والغرب للمنطقة العربية ، والذي بدأ تطبيقه الفعلي حين شنت الولايات المتحدة حربها على العراق عام 2003م .
لنبدأ من اسرائيل التي ترى هي والأمريكان في هذا المشروع ما يحفظ أمنها ، ويزيد من استقرارها ضمن نطاق دول جوار سيطر الاخوان على الحكم فيها ، وتحت هيمنة أمريكية لا يمكن لها أن تفرط بأمن حليفتها بالمنطقة ، أما تركيا فهي تنشد قيام حكومات عربية منسجمة في التوجهات والأهداف معها رغم أن بعض تلك الأهداف يراد منها ايهام المتدينين بقيام "دولة الخلافة الاسلامية" من جديد ، تلك الدولة التي لم تبصر النور أبدا لا في الماضي ولا في الحاضر ولا حتى في المستقبل ، ولا أريد الوقوف هنا عند الموضوع المختلف عن موضوع مقالتي هذه.
ومن المتباكين الآخرين على ما أصاب أخوان مصر من مصاب جلل هي إيران المساهم الحقيقي في المشروع الأمريكي في المنطقة العربية ، وقد بدأت مساهمتها في ذلك المشروع بوقوفها مع الأمريكان في حربهم التي شنوها على العراق ، والتي ربحت هي من خلال تلك المشاركة بمكاسب كثيرة منها على سبيل المثال : تحطيم العراق كبلد قوي لا يستطيع أن يقف عائقا أمام تحقيق مآرب إيران في البلدان العربية خاصة الدول العربية الخليجية التي تريد هي الانتقام منها لوقوفها مع العراق في حرب الثماني سنوات ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر إنها تهيمن اليوم بشكل واضح وجلي على شؤون حكومة المالكي التي تدير الحكم في العراق.
لقد هبت أمريكا والدول الأوربية الأخرى كذلك لنجدة أخوان مصر ، تلك الهبة التي تهدف وبكلمات واضحة الى صون وحفظ المصالح الغربية في المنطقة العربية ، وبالطريقة التي نشاهدها الآن في كل من العراق وليبيا وتونس ، فقد أصبحت هذه البلدان الثلاثة مفتوحة أمام النهب المنظم للشركات الرأسمالية الغربية حين بسطت تلك الشركات نفوذها على الثروة النفطية في كل من العراق وليبيا ، وتتطلع الى الشمس والمعادن في تونس ، وتحت ظلال ترحيب حكومات خانعة لا تختلف في خنوعها عن خنوع اخوان مصر الذين كان يراد لهم أن يكونوا ركانا مهما من أركان مشروع الشرق الأوسط الجديد في دولة لها مكانة كبيرة في الوطن العربي خاصة بعد أن استبدلت الادارة الامريكية في عهد الديمقراطيين برئاسة باراك أوباما أدوات ذاك المشروع التنفيذية من شن حرب مباشرة على زمن الجمهوريين بزعامة جورج بوش الابن ، مثلما هي الحال مع العراق ، الى تحريك الشارع العربي الذي ملّ حكم دكتاتوريات ساهمت الحكومات الغربية نفسها في تنصيبها ثم تخلت عنها. هذا التحريك الذي كان يهدف الى أن يتسلم الحكم اخوان المسلمين في البلدان التي تجري فيها ثورات ما سمي بثورات الربيع العربي !
لقد اختار الامريكان جماعة الاخوان لحكم مصر حين دعموا حملة إعادة مرشحها محمد مرسي المعزول بخمسين مليون دولارا على ذمة عضو الكونجرس الأمريكي، فرانك وولف الذي طالب بفتح تحقيق مع أوباما ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون بتهمة الخمسين مليون تلك ، وقد ندد وولف بما اعتبره ممارسات البيت الأبيض لخلق مناخ من الفوضى فى المنطقة من خلال دعم جماعة الإخوان لأجل انجاح مشروع الإسلام السياسي الذي ستكون مصر محطته في مراحله الأولى ثم يتحول الى الدول العربية الخليجية ، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية التي أخذت موقفا حذرا من اسقاط نظام الرئيس حسني مبارك بعد أن تنامى الى أذهان القادة فيها خبر اقامة أمريكا لعلاقات سرية بينها وبين اخوان المسلمين في داخل المؤسسات الدينية السعودية ، وهذا ما دفع بالحكومة السعودية الى تقديم دعم قوي لرئيس جمهورية مصر الجديد عدلي منصور الذي شغل منصب مستشار وزير التجارة في المملكة العربية السعودية بين سنة 1983م ، وسنة 1990م . وهو ذات الدعم الذي قدم الى وزير الدفاع ، عبد الفتاح السيسي الذي شغل من بين ما شغل منصب ملحق عسكري في السفارة المصرية بالمملكة العربية السعودية كذلك .
يبدو أن السعودية إنما قدمت ذاك الدعم للرجلين ليس لمعرفتها بشخصيهما وحسب بل لأنها أدركت أن تسلم أخوان المسلمين للحكم في مصر خطوة من خطوات مشروع يزحف نحو دول الخليج العربي باستثناء دويلة قطر التي اندفعت مشاركة في هذا المشروع ردا منها على موقف السعودية المنحاز للبحرين ، مثلما ترى قطر ذلك ، في قضية الجزر المتنازع عليها بين الدويلتين .
لقد أخطأت الإدارة الأمريكية في تقدير حجم وقوة الجماهيرية التي عليها جماعة الاخوان في مصر ، ونست أن التيار العلماني فيها تيار راسخ ، وواسع ، ومتجذر ، أبصر النور قبل أن تفتح تلك الحركة عيونها على الحياة في مصر سنة 1928م وبدعم من المستعمرين الانجليز ، فالمعروف أن حركة التجديد والاصلاح في مصر قد نهضت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يد مصلحين مشهورين من أمثال قاسم أمين الذي حاز كتابه "تحرير المرأة" الذي نشره سنة 1899 على دعم الشيخ محمد عبده ، وسعد زغلول ، وأحمد لطفي السيد ، ولم يقف تأثير هذا التيار عند الحدود المصرية بل امتد تأثيره الى بقية البلدان العربية.
خلاصة القول أن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أراد التحكم بالنفط والشمس العربية قد أصيب بنكسة حادة ، كما أصابت جموع الشعب المصري الهادرة اخوان مصر بنكبة ما أصابتهم نكبة مثلها على مدى تاريخهم الذميم ، وإذا ما كانت الحكومات المصرية هي التي طاردتهم فيما خلا من السنين فها هو الشعب المصري يطاردهم اليوم في شوارع المدن المصرية رغم صراخ أوباما ، ونعيق القرضاوي .
 
 


33
المتدينون والاستبداد الديني

سهر العامري
عايشت أنا الكثيرين من المتدينين على مدى سنوات طويلة ، وجمعتني وأياهم رفقة في هذا المكان أو ذاك من هذه الدولة أو تلك ، وكانوا هم على مذاهب دينية شتى ، ومنهم من كان من أئمة الجوامع ، أو من أصحاب العمائم ، ومنهم من كان يبحث عن مساعدة في لغة القرآن ، ولازلت أذكر عظيم فرح أحدهم حين نزلت مدينته بعد غيبة مني ، وكيف أخذني بالأحضان ، ثم أجلسني على جنب منه ، ولم يطل بنا الجلوس كثيرا حتى سألني : كيف ارتفعت هذان بالألف في قوله تعالى : " إن هذان لساحران" وحقها النصب " هذين " أجبت : هذه لغة تميم تعامل أسماء الاشارة بالحركات المقدرة على الألف في الأحوال الثلاثة : الرفع والنصب والجر ، فالقرآن أخذ من لهجات العرب ولم يقف على لهجة قريش وحسب ، تلك اللهجة التي كانت سائدة بينهم لسبب مادي هو كون مكة مركزا تجاريا مهما كان القريشيون فيها يتبادلون الألفاظ مع المتبضعين منها ، مثلما يتبادلون البضاعة معهم كذلك .
وفي مكان آخر من بلد آخر جمعتني رفقة بشيخ معتم بعمامة كان يأنس بي وآنس به ، وفي ساعة خلت ، وحين كنا نجلس على قارعة طريق قال لي : أترى هذا البشر الذي يمر أمامنا ؟ قلت : نعم . قال : كل هؤلاء مسخوا قرودا ، لكنك تراهم بشرا ! أخذني عجب جارف ، وقلت في نفسي كيف لرجل دين أن يستهين بالإنسان الذي كرمه قرآن يتلى ليلا ونهارا ؟ ثم كيف سيكون حال الناس حين يصعد هؤلاء الى الحكم ؟
كان الشيخ هذا يتهم علي خامنئي المرشد الأعلى في إيران الحالية بالشيوعية ، ولم أبادره وقتها بسؤال عن دواعي هذا الاتهام ، ولكنه ربما كان يشير الى أن خامنئي شارك الشيوعيين الإيرانيين السجن ، فقد كان يقاسم صحفي إيراني شيوعي يدعى : هوشانك أسدي ، زنزانة ضيقة في سجن من سجون الشاه ، وقد وصلت بهم الرفقة الى أن يتنازل ذاك الشيوعي لصاحب العمامة ، خامنئي ، عن سيجارته التي تقدم له من إدارة السجن في كل يوم ، فقد كانت تلك الإدارة تقدم سيجارة واحدة كل يوم لكل سجين ، ولما كان السيد علي خامنئي شديد الشغف بالتدخين فقد رأى الشيوعي ذاك أن يتنازل له عن حقه في تلك السيجارة عطفا عليه ، وبرا بصداقته  بعد أن وحدتهم محنة السجن واضطهاد أجهزة الشاه القمعية لهما .
لقد سمع هوشانك أسدي ذات مرة عليا يقول له ، وهو يذرف دموع وداع له في وقت نقله عنه الى زنزانة أخرى : " في الجمهورية الإسلامية لن يذرف بريء دمعة !!" ولكم أن تروا عظيم النفاق في ذلك القول حين تواصلون قراءة قصة أسدي التي وردت في كتابه : رسائل الى معذبي : فقد كان شابا تواقا للحرية ، يؤمن بتبدل العالم وتغيره ، مثلما يؤمن بأن النظم الدكتاتورية ستزول الى الأبد ، ولهذا كان قد ساند الثورة الإيرانية بقوة واخلاص ، ولكن سرعان ما ألقي به من جديد بجحيم السجن الذي عانى فيه ما عانى ، وتعرض لشتى أنواع التعذيب الى الحد الذي أجبر فيه على تناول الغائط . كان معذبه " حميد " يرى في نفسه أنه ظل الله على هذه الأرض ، لكنه أصبح فيما بعد سفيرا للجمهورية الايرانية في إحدى الدول مكافأة له على خدماته الجليلة في تعذيب البشر.
يقول هوشانك أسدي : إن السلطة هي التي غيرت علي خامنئي من رجل دين متواضع قاسمه زنزانة واحدة في السجن الى حاكم مستبد ألقى به فيما بعد في غياهب ذلك السجن من جديد ، وعرضه فيه لتعذيب فظيع ، تواصل على مدى سنوات من دون أن يقترف هو ذنبا . والحق هو أن السلطة قد تغير سلوك الانسان ، لكن التكوين الثقافي لرجل دين هو العامل الحاسم في هذا التغيير فرجل الدين يتصور من خلال ذلك التكوين أنه ممثل الله على هذه الأرض ، ولهذا يكون قتل الناس مبررا عنده ، أو أن القتل هذا هو قربة الى الله ، مثلما يرى ذلك آية الله صادق خلخالي الذي كان يردد بصوت عال ٍ حين يطلق النار من مسدسه على جبهة الرجل الإهوازي العربي قائلا : " أتقرب الى الله في قتلك " !!
لقد عُين خلخالي رئيسا لمحكمة الثورة التي تشكلت بعد نجاح تلك الثورة في إيران بيوم واحد ، وكان يطوف مدن إيران ويصدر أحكاما اعتباطية بحق السجناء ، وذات مرة دخل الى سجن في مدينة الاهواز فقام بإعدام خمسة رجال من دون سؤال ، وأطلق سراح خمسة آخرين من دون سؤال كذلك ، وعندما سألوه : لماذا أعدمت خمسة وطلقت سراح خمسة ؟ فقال : " إنه قد اكتشف في عيون الخمسة الأوائل شعلة الخبث والخيانة ، فيما كانت عيون الخمسة المفرج عنهم بريئة كعيون الأطفال !" يضاف الى ما كتبه في بيان صادر عنه : " أنه أعدم ما يقارب ألفي شخص ، ومن المحتمل أن يكون بين هؤلاء بعض الأبرياء ممن سيكافئهم الله بمنحهم غرفة أكثر سعة من الغرف العادية في الجنة ، وحوريات أكثر جمالا من حوريات الجنة."
أحيانا يبلغ الأمر برجل الدين مبلغا عظيما فيسئ الى المقدس لديه ، فقد شبه المرشد الحالي للإخوان المسلمين في مصر ، محمد بديع ، أن تنحية محمد مرسي من رئاسة جمهورية مصر العربية هو بمثابة هدم للكعبة ، ومعلوم للداني والقاصي أن ملايين الوجوه من البشر تتجه كل يوم نحو الكعبة ، لكن لا وجه يتجه صوب وجه محمد مرسي !
هذا المنهج هو وحده الذي يستطيع أن يفسر لنا عمليات القتل الجارية والمستمرة في كل من العراق ومصر وتونس وليبيا ، وإذا كنا لأيام نسمع عن ظلم صدام وحسني مبارك والقذافي وما يجري في سجونهم من اعدامات فإننا نرى اليوم رأي عين التصفيات الجسدية التي تجري في الشوارع ، وفي الهواء الطلق ، وبعيدا عن ظلمة السجون ، وأكثر من يقوم بهذا القتل الممنهج هم دعاة الدين على شتى مذاهبهم ، فهم يرون في أنفسهم أنهم وحدهم أبناء الله ، أما الآخرون فهم أبناء الشيطان ، أو أنهم مسخوا قرودا على حد تعبير صديقي الذي مر بنا قبل أسطر .
يقول عاصم عبد الماجد ، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية ، " إن مصر تتعرض إلى ما سماه "تسونامى" من البلطجة السياسية والإعلامية والقضائية ، تهدف إلى إسقاط الرئيس الشرعي المنتخب من خلال إعلام يشوه الحقائق ويلبس الحق بالباطل ، وإننا سوف نغلظ على هؤلاء العلمانيين تنفيذاً لأوامر ربنا فى القرآن الكريم واغلظ عليهم " يشير هو هنا الى الآية القرآنية " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير " لقد نقل عاصم عبد الماجد "الغلظة" من الكفار والمنافقين في الآية الى العلمانيين الذين يشكلون الملايين من المصريين والمصريات الذين يرد هو قتلهم جميعا لمخالفتهم له بالرأي " تنفيذا لأوامر ربنا في القرآن الكريم ! " وعلى هذا فهو يجسد هنا بوضوح كيف يرى رجل الدين في نفسه أنه ممثل الله على هذه الأرض ، وهذه - لعمري - هي الطامة كبرى !
التطرف هذا والغلظة تلك هي التي جعلت من الدوائر الغربية خاصة الأمريكية منها تقوم بتجنيد الكثير من هؤلاء في حرب الجهاد الأمريكية في أفغانستان أبان الحرب الباردة ، وعلى هذا الأساس يكون أسامة بن لادن وملا عمر ومن على شاكلتهما أبناءً شرعيين لتلك الحرب التي قدمت فيها أمريكا صنوفا من الدعم المادي والعسكري لهؤلاء بهدف كسر الجيش السوفيتي الذي يقاتل جنوده في أفغانستان بعد أن نجح انقلاب عسكري فيها كان مدعوما بقوة من قبل الحكومة في الاتحاد السوفيتي ، والتي دعمت من قبل انقلابا عسكريا في اثيوبيا ، وهذا ما أفزع الأمريكان وجعلهم يفكرون مليا بمصير حليف قوي لهم في المنطقة هو شاه إيران ، فقد كانوا يخشون كثيرا من قيام انقلاب عسكري فيها على غرار ما حدثت في أفغانستان وأثيوبيا .
تقول زوجة الشاه الثالثة والأخيرة ، فرح بهلوي ، حين تصاعدت نيران الثورة في ايران زارنا السفير الأمريكي في بيتنا من طهران طالبا من الشاه منع الجيش من التصدي للمتظاهرين ، ثم وجوب مغادرتنا إيران حالا . ويبدو أن أمريكا كانت تريد قيام نظام قوي في إيران ولهذا وجدت أن النظام الديني هو أفضل نظام سيقف بوجه الزحف السوفيتي نحو مياه الخليج العربي الدافئة مثلما كانوا يرددون ، وقد أكد هذه الحقيقة الكاتب المصري الشهير ، محمد حسنين هيكل ، في كتابه " مدافع آية الله " حين ذكر أن عملاء المخابرات الأمريكية كانوا قد وصلوا لكل المحيطين بآية الله الخميني ، وهو جالس في قبة الخضراء في إحدى الضواحي من العاصمة الفرنسية ، باريس .
هؤلاء وأولئك المتطرفون من المتدينين ، الذين أعدتهم واعتنت بهم الدوائر الأمريكية ، قد انقلب بعض منهم على الأمريكان فيما بعد ، وقد تجسد هذا الانقلاب في أقسى صور بعمليات الحادي عشر من شهر أيلول " سبتمبر " سنة 2001م ، تلك العمليات التي أطاحت بأبراج المال في عاصمته نيويورك ، وقد جاءت هذه العمليات بعد أن شعر المخططون لها أن أمريكا قد تركتهم في منتصف الطريق حين تحقق هدفها في أفغانستان خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ، العدو الحقيقي للدول الرأسمالية .
بعد انسحاب الجيش السوفيتي من افغانستان عمدت أمريكا الى كبح جماح التطرف الديني في المنطقة ، فعاقبت حكومة الخميني بصدام ، ومن ثمة طاردت القاعدة ورجالها ، وقامت بوضع صناديد الدعوة للجهاد الأمريكي في سجونها ، ويأتي في مقدمة هؤلاء الشيخ عمر عبد الرحمن،  ثم ذهبت الى استبدال التطرف بالاعتدال الديني ، ووجدت أخيرا أن خير من يساعدها في انجاز هذه المهمة هو قيام أنظمة حكم دينية معتدلة تستطيع أن تكبح المنظمات المتطرفة ، وتحافظ على مصالح أمريكا والدول الأوربية في المنطقة العربية ، فكان الربيع العربي ! الذي قادت أمريكا فصوله من خلف ، ولكن هبة الجموع المصرية ، وبإسناد من الجيش المصري في الثلاثين من شهر حزيران " يونيو " المنصرم ، قد عطل المشروع الأمريكي ذاك ، وهذا ما قد يضطرها الى إعادة النظر فيه من جديد ، وذلك بسبب من اكتشاف الملايين من الناس زيف الربيع العربي ذاك الذاهب الى نظم الاستبداد الديني ، استبداد يصبح فيه وجه محمد مرسي المعتم كوجه بلاط الكعبة المشرق !!

 


34
انحسار وباء انفلونزا الاخوان !

سهر العامري
شرع وباء انفلونزا الاخوان بالانحسار عن الديار المصرية بعد هبة الشعب المصري العظيمة في الثلاثين من شهر حزيران المنصرم حين اكتظت الشوارع في تلك الديار بأكثر من ثلاثة وثلاثين مليون متظاهر ومتظاهرة ، تلك الملايين التي عرّت زيف الاخوان في مصر أمام الراي العام العربي والدولي ، وبصورة لم يتخيلها الكثيرون من البشر في مشارق الأرض ومغاربها، عدا أولئك الذين عرفوا حقيقة الاخوان في مصر ، وعاش على مقربة منهم ، فهم على طول تاريخهم الأسود الذي امتد على أكثر من ثمانين سنة ظلوا يرتدون عباءة الدين زيفا ونفاقا ، وكان هدفهم الأول والأخير هو الحكم والتسلط ، وقد استغلوا الدين كأداة للوصول الى ذاك الهدف .
لقد اتضح هدف الاخوان ذاك بصورة جلية للصغير والكبير في مصر من خلال السنة التي حكموا فيها مصر ، فقد عمدوا على عجالة بالانفراد في السلطة ، وتقسيم غنائمها بينهم في الوقت الذي خضعوا فيه للإرادة الدولية ، خاصة الإرادة الأمريكية ، مثلما تبادلوا الرسائل الحميمة بينهم وبين اسرائيل التي طالما شنعوا بها ، واعتبروا أي تقارب معها كفرا وشنارا ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر قاموا بالاعتداء على الشعب المصري ، وناصبوا الجيش في مصر العداوة والبغضاء وهو الجيش الذي ظل صامدا رغم تهاوي الكثير من الجيوش العربية حين زجّ بها في حروب مع شعوبها مثلما هي الحال مع الجيش في سورية والعراق ، وكذلك الحال مع الجيش في ليبيا .
إن العدوان على الشعب المصري من قبل الاخوان هو العامل الحاسم الذي أدى الى سقوطهم ، وقد تحدثت أنا عن ذلك بمقالة حملت عنوان : "سقوط الاخوان في مصر"*  قبل زوال سلطتهم في اليوم الثلاثين من حزيران بستة أشهر ، وذلك لأنني عشت في مصر ، وعرفتهم عن قرب ، فقد خرجوا هم متأخرين من مقاعد برلمان الرئيس حسني مبارك ، والتحقوا بثورة الشعب المصري في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني سنة 2011م بعد أيام طويلة من قيامها ، لكنهم استطاعوا الاندساس بين صفوف جماهير تلك الثورة ، وقطف ثمارها لهم وحدهم فيما بعد ، تعاونهم في ذلك الدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية ، وبمبدأ أوباما " القيادة من خلف " والذي لا يختلف في أهدافه عن أهداف مبدأ جورج بوش الابن في التدخل المباشر الذي قاد فيه الجيوش الامريكية ، وشن الحرب على العراق وأفغانستان .
وفقا  لهذينك المبدئين كان مخططو السياسة الأمريكية يرون أن أفضل من يحكم المنطقة العربية هي الأحزاب والقوى الدينية التي تتسم بالاعتدال ، والتي تقبل بما ترسمه الدوائر الغربية من مشاريع اقتصادية تخدم مصالح تلك الدوائر في هذه المنطقة ، وكان المخططون أولئك يرون كذلك أن تلك الأحزاب المتمسحة بالدين يمكن لها أن تظل في الحكم مدة تتراوح بين 25 – 30 سنة تستطيع امريكا والدول الغربية أن تعود من خلالها الى المنطقة بقوة ، وأن تتحكم بمقدراتها وثروتها ، ويأتي في المقدمة من ذلك الطاقة والسوق المفتوحة ، فالمنطقة تزخر بمكامن النفط والغاز ، مثلما هي مكمن واسع جدا للطاقة الشمسية التي بدأت ارهاصات مشاريعها تظهر في كل من مصر ودولة الامارات العربية والمملكة العربية السعودية ، هذا في وقت عادت به شركات النفط الغربية لتبسط سيطرتها من جديد على مكامن النفط والغاز في كل من العراق وليبيا بعد أن حرمت من استغلالها في كلتا الدولتين على مدى سنوات طويلة نتيجة لتأميم الصناعة النفطية فيهما ، وهي تجربة مريرة أصابت أرباب المال بالصميم ، ولهذا يريد هؤلاء الآن أن تحكم الاحزاب الدينية التي تفتقر الى النظرة العلمية في ادارة شؤون العملية الاقتصادية في البلدان التي تحكمها ، وتجهل في الوقت ذاته المفاهيم العلمية الحديثة السائدة في الدول المتقدمة ، فهؤلاء يعلمون أن الاحزاب والحركات الدينية في المنطقة تنشد قيام دولة الخلافة الاسلامية مع العلم أن دولة الخلافة تلك لم تحمل من سمات الدولة الكثير حتى بالنسبة للدول التي سبقتها في كل من مصر والعراق كدول ملوك السومريين والبابليين وفراعنة الدولة المصرية ، أما الحقب الزمنية التي تخطت السنوات القليلة لدولة الخلافة تلك فقد شهدت قيام ثلاث دول أو امبراطوريات كبيرة هي الدول الأموية فالعباسية ثم الدولة العثمانية ، وهي دولة أخذت بنظم الدول القديمة في المنطقة خاصة فيما يتعلق بالأرض ورقبتها التي ظلت بيد الدول أو أنها أخذت ببعض التجارب من دول مجاورة كالدولة البيزنطية والفارسية .
إن تجربة حكم الأحزاب الدينية في كل من العراق ومصر وتونس شاهد على تخلف الأداة السياسية التي تقود الدولة وترسم السياسة الاقتصادية فيها ، فعلى مدى اكثر من عشر سنوات في حكم العراق من قبل المتدينين حين شاءت الإرادة الأمريكية ذلك ظل العراقيون يعانون من شحة شديدة في الكهرباء رغم أن الدولة المتدينة أنفقت أكثر من ستين مليار دولار على مشاريع كهربائية فاشلة بعد سنة 2003م ، وهي سنة الغزو الامريكي للعراق ، وهذا الرقم الرهيب أفصح عنه رئيس لجنة الطاقة في البرلمان العراقي عدنان الجنابي ، أما في مصر وبلدان ما عرف بالربيع العربي فلم يكن بأفضل مما حل بالعراق ، ففي غضون سنة من حكم الاخوان في مصر ارتفعت المديونية المصرية من 34.4 مليار دولار الى 45.4 مليار دولار ، كما أن الاحتياطي النقدي تراجع من 36 مليار دولار الى 500 مليون دولار فقط ، هذا بالإضافة الى اغلاق الكثير من المصانع والوحدات الانتاجية وصارت مصر تستورد حتى المواد الغذائية التي لم تكن تستوردها قبل حكم الاخوان وفقا لسياسة السوق المفتوحة وهي ذات السياسة التي أدت بالعراق الى استيراد البصل ! من دول الجوار ، والماء من المملكة العربية السعودية والكويت مع أن دجلة والفرات لا زالا يتدفقان على أرض العراق!!
لقد وجد الأمريكان وصناع السياسة في الدول الغربية أن افضل السبل لتعويض الخسائر الجسيمة التي تعرض لها أصحاب رؤوس الأموال في تلك الدول نتيجة للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجتاح بلدانهم ، هو من خلال السيطرة من جديدة على مصادر الطاقة في البلدان العربية ، والسيطرة على أسواقها من خلال سياسة تصديرية مجحفة تؤدي الى تحطيم أي نهوض زراعي أو صناعي فيها ، وتحت ظلال حكم أحزاب متخلفة مشغولة بصراع قديم يقوم على أحقية أيّ من الخلفاء الراشدين في الحكم أولا !؟ ذاك الصراع الذي مر عليه أكثر من ألف وأربعمئة سنة.
إزاء هذا الواقع المر نهضت جماهير مصر الغفيرة في اليوم الثلاثين من شهر حزيران المنصرم، لتطيح بحكم الاخوان وبإسناد من الجيش المصري الذي تحدى الإرادة الأمريكية مثلما تحدى  على زمن الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر الدول الاستعمارية وقام بـتأميم قناة السويس رغم العدوان الثلاثي الذي تعرضت له مصر على إثر ذلك التأميم ، وإذا كان تأميم قناة السويس قد أغضب كل من بريطانيا وفرنسا واسرائيل وقتها ، فإن مساندة الجيش المصري لملايين المصريين الذين خرجوا في الثلاثين من شهر حزيران الى الشوارع قد أغضب الإدارة الأمريكية الحالية ، ومن ورائها الدول الغربية التي رأت في تلك المساندة تخريبا للمشروع الأمريكي الغربي في المنطقة والقاضي بعودة البلدان العربية الى حقب التخلف من خلال تنصيب انظمة حكم متخلف فيها ، وتحت مسميات براقة سرعان ما تختفي وتتلاشى ، فلم نعد نسمع اليوم بالشرق الاوسط الجديد الذي بشرت به إدارة بوش ، كما أننا وجدنا أن الربيع العربي قد انقلب الى خريف أمريكي أنيطت قيادته الى أخوان مصر ، ومن على شاكلتهم في بقية البلدان العربية ، هذا الخريف الذي ظل أوباما يقوده من خلف ، ولكن نهوض الشعب المصري المشهود هو الذي أدى وسيؤدي الى انحسار وباء الاخوان ، ومن على شاكلتهم ليس من على أرض مصر ، وإنما من الأرض العربية جمعاء مشرقا ومغربا .

35
الجزائر : عين ميناس ومختار الأعور ! (1)
               

سهر العامري
كان البحر المتوسط عميق الزرقة ، فسيح الأرجاء ، جميل المنظر ، يبسط ذراعيه بفرح باذخ ، حين كان ماركس يتلو القرآن على ساحله كي يزيد من معرفته بنمط الانتاج الآسيوي ، ولكنه في الوقت نفسه  كان يرمي نظراته على وجوه الجزائريين الحزانى من نافذة في غرفة من فندق تطل على ذلك البحر  في سنين من أواخر سني حياته ، حينها خط قلمه : لا خلاص لهذا الشعب من مستعمريه إلا بالثورة !
بعد مرور أكثر من نصف قرن على ذلك لعلعت رصاصة الثورة الجزائرية الأولى من حي  (القصبة) حي الفقراء المتعبين  ليلة اليوم الأول من تشرين الثاني سنة 1954م . ومعلوم أن لكل ثورة غذاءين ، السلاح والفكر ، وبذا اعتمد ثوار الجزائر البندقية ، مثلهم في ذلك مثل ثوار الأرض  في آسيا ، في أفريقيا ، في أمريكا الوسطى والجنوبية ، وقد تعلم ثوارها دروسا في الثورة من الذين سبقوهم إليها ، أو من الذين عاصروهم ، فكانت حرب العصابات أسلوبا مدت من خلاله الثورة الجزائرية أذرعها إلى الريف الجزائري وبعض المدن .
ولا أغفل هنا الهبات الجماهيرية في المدن الكبرى ، حيث الكادحون من الشغيلة . إلا أن الثورة الجزائرية ـ في الغالب الأعم ـ خالفت الثورات الأخرى التي عاصرتها ، كثورة الشعب الفيتنامي ، أو ثورة الشعب الكوبي ، في اعتمادها على الدين كسلاح فكري ، بينما تسلحت ثورتا الشعبين الكوبي والفيتنامي بالفلسفة الماركسية .
ولا يستطيع أحد أن ينكر إن الدين الإسلامي كان عاملا مهما في حشد الجماهير الجزائرية خلف الثورة ، خاصة في الريف الجزائري ، حيث كان جند الثورة هم فلاحو الجزائر الذين كانوا ـ إلى حد بعيد ـ شبها بجند أسبارتكوس ، أو زنج البصرة . وقد ترتب على ذلك أن يأخذ الصراع في ظاهره مظهر صراع بين ديانتين : الشعب الجزائري المسلم المضطهد ، والامبريالية الفرنسية النصرانية العاتية .
لقد غارت هذه الصورة لهذا الصراع عميقا في أذهان الأغلبية الساحقة من الجزائريين ، وأقصد بذلك فقراءها  وفي هذا الخضم أبحرت الثورة ، وتحت هذه الراية سار جندها ، الشعب الجزائري بسائر طبقاته وشرائحه(1) في الضد من الامبريالية الفرنسية وحلفائها في "الناتو" ، وكان هدف الشعب الجزائري من خلال ثورته تلك هو نيل حريته ، ورفع الظلم الذي خيم عليه لقرون خلت ، قرون الهيمنة الفرنسية.
لقد لهجت ألسن الجزائريين بحكايات جمة عن هذا الظلم إذ حرم المستعمر البغيض فيه السير على أقدام الجزائريين في بعض شوارع العاصمة ، أو الجلوس في بعض مقاهيها. كان الجندي الفرنسي "المتحضر" يفتح أي باب من أبواب بيوت حي القصبة وغيره عنوة ، ثم يغتصب امرأة تحمل طفلا في هذا البيت ، وبكرا عذراء في تلك الدار . فأنت تذهل حين تصغي لامرأة عجوز ، وهي تروي لك حكاية الجندي "المتحضر" هذا! ويسحقك الألم وانت تستمع لشيخ هرم في مقهى من مقاهي محلة باب الواد من الجزائر العاصمة ، وهو يروي لك حكاية بتر كف يده اليمنى ، ثم يهمس لك عن الثورة التي سُرقت !
كان هذا في صباح صيفي من سنة 1971 ، وكنت أنا قد هبطت على الأرض الجزائرية صيف سنة 1970 ، قادما من العراق جنديا مشاركا في معركة التعريب التي دارت رحاها بعيد العام الثاني من انتصار الثورة الجزائرية ، أي سنة 1963 م.
لقد فجرت معركة التعريب الصراع الحقيقي ، صراع الفقراء ضد الأغنياء ، فهو الجذوة التي أججت نيران هذا الصراع ، ولو لم يكن التعريب هو الجذوة ، لكانت هناك جذوة أخرى بكل تأكيد .فالتعريب حينها أصبح شعارا قريبا من قلوب فقراء الجزائر ، بغيضا على قلوب أغنيائها ، حتى ولو كان لبعضهم لسان قحطان جد العرب ، ولهذا رفعت البرجوازية الجزائرية التي ارتبطت مصلحتها بالبرجوازية الفرنسية بعد التحرير أكثر من شعار في الضد من شعار التعريب.
قالوا : إذا عربت خربت !
قالوا : اللغة العربية لغة القرآن والجامع ، والفرنسية لغة العلم والمصنع .
قلت لأحدهم : لكن "جاجارين" رائد الفضاء الروسي طاف حول الأرض ، كأول رائد فضاء ، وحادثها بلسان روسي مبين ، وليس بلسان فرنسي .
قال : أنت شيوعي !
رددت عليه وعليهم من قصيدة أنشدتها في قاعة " الموقار" في الجزائر العاصمة وأنا أقصد اللغة العربية فيها :

تفتحت في ربـوع والســـقاء دمٌ ......رغم الأنوف وعادت وهي أزهارُ
أريجها ملءَ هذا الأنف يسكرني .....خمرا ، وما ذاقها في الدهر خمّارُ


من المعلوم للقاصي والداني ، وفي هذا الصدد بالذات أن اللغة وسيلة لنقل المعارف ، ولم يُسمع أن هناك لغة علم  وأخرى لغة دين على مر العصور . فقد كان للعربية في العصور الوسطى اليد الطولى في نقل وتدوين المعارف داخل فرنسا وعلى تخومها ، وذلك حين كان العرب في الأندلس ، ولم تكن اللغة الفرنسية وقتها تضاهي العربية لا في التحدث ولا في الدرس ، فالتاريخ يحفظ لنا بين صفحاته ، أن رهبان تلك الأصقاع نسوا لغاتهم الأصلية وتحولوا عنها إلى العربية . فمتى كانت العربية لغة القرآن وجامع فقط ؟ ومتى كانت الفرنسية لغة علم ومصنع فقط !؟ لكن المشكل لم يكن هكذا أبدا ، ولو إنه كان  يبدو في ظاهره على هذه الشاكلة.
لقد رحل الاستعمار الفرنسي عن الجزائر خوذة ودبابة ، ولم يرحل أبدا ثقافة ومصالح ، ألم يقل المستعمرون الفرنسيون : " إن الجزائر هي فرنسا ما وراء البحار " هكذا هم أرادوا للجزائر أن تكون ، وربما لساعتنا هذه يريدونها هكذا!
لم يرحل الاستعمار الفرنسي ، ظل ممثلا بجيش من المدرسين والمدرسات ، والكوادر الفرنسية العاملة الأخرى ، ظل ممثلا بآلاف الكتب، وبالعشرات من الجرائد والمجلات ، ظل ممثلا بشريحة من المثقفين الجزائريين " المتفرنسين " كما يسمونهم في الجزائر ، وبجهاز إداري متغطرس يجيد التعامل والتحدث بالفرنسية ويجري المعاملات بها ، ويعجز عن كل ذلك باللغة العربية التي صار ينظر لها مثل كابوس يتهدد وظيفته وعمله ، يضاف الى كل ذلك أن ذلك الاستعمار ظل ممثلا كذلك بأغنياء الجزائر المتفرنسين وغير المتفرنسين الذين أعلنوا نهاية حربهم مع الامبريالية الفرنسية بعد انتصار الثورة ، وانحازوا لعدوهم القديم بعد أن أداروا ظهورهم لرفاق السلاح من الفقراء الذين شكلوا السواد الأعظم للثورة الجزائرية ، والذين رأى فيهم الأغنياء عدوهم الجديد . لقد خطف الأغنياء ثمار الثورة على عجل بعد انتصارها ، أما حشود الفقراء من المجاهدين فقد شكلوا لهم وزارة أسموها بـ " وزارة المجاهدين". بسبب من أنهم لم يكونوا على معرفة بالقلم والكتاب. ولا يختلف الحال مع شهداء الثورة من الفقراء فقد أباحت الحكومة لذويهم حيازة إجازة سيارة أجرة "تاكسي" هكذا سرقت الثورة ، هكذا كان يردد ذلك الشيخ ـ شيخ باب الواد ـ وهو يشرح لي سرقة الثورة ثم أضاف : نزلت من الجبل صبيحة إعلان انتصار الثورة ، ومثل بقية المجاهدين ، اندفعت نحو بيت " قاوري" (2) بعد أن علمنا أن الفرنسيين قد تركوا البيوت وارتحلوا، وجدت الباب موصدا، فتحته عنوة ، فانفجر بوجهي ، وأخذ انفجاره مني كف يدي اليمنى .
كان صاحب البيت قد لغمه قبل رحيله ! فهذه هي حصيلتي من الثورة ، بيت مقابل يد مبتورة ، لقد تركتنا الثورة للجهل فأغلب المجاهدين من الفلاحين الذين لا يجيدون القراءة والكتابة . وهاهم أبناء فرنسا يتربعون على الكراسي في دوائر الدولة ، إننا بحاجة إلى ثورة أخرى ، صفق الطاولة التي أشاركه فيها بيده ، ثم غاب بصمت عميق .
أقول هذا وقد مرت سنوات طويلة على حديثي مع شيخ محلة باب الواد من الجزائر العاصمة ، مرت محملة بأسباب الثورة يوما بعد آخر ، وسنة تلو أخرى ، وأنا بذلك لا أريد أن أكون خبيرا في الشؤون الجزائرية ، فالخبراء موجودون في إذاعتي لندن وفرنسا الدولية ! وعلى صفحات بعض الجرائد العربية المؤجرة ، لا أريد هذا أبدا ، إنما أنا تقريت التراب الجزائري عن كثب ، وقفت مترحما أمام قبر عقبة بن نافع في صحرائها ، وحبست صوتي في مسجد طارق بن زياد في تلمسانها ، وأقسمت ذات صباح بسيدي عبد الرحمن في قصبتها ، جلست طويلا استمع لحديث " صالحة " تلك المرأة العجوز ، وألقيت مسامعي لذلك الهرم "علال" وأنا على يقين في أن الكثير من الجزائريين لا يفقهون في الدين الكثير ، وربما لا يفقهون شيئا منه سوى بعض طقوسه المعروفة وأن دافعهم للتمرد هو الجوع والفقر.
دخلت حانوتا ذات ضحى ، أريد شراء بيض ، وكان الحانوتي يبيع البيض والخمرة ، وحين هممت بالخروج نودي علي بصوت مسموع :" يا شيخ(3) وقتيش العيد ؟ "يريد صاحب الحانوت أن يسألني : متى العيد ؟ فالشهر شهر رمضان والعيد على الأبواب ، والحانوتي صائم ويبيع الخمرة !
في الذاكرة خزين من أمثلة كهذا ، ولو لم تكن جبهة الإنقاذ الجزائرية قد تصدرت المخاض الذي عاشته الجزائر في سنوات التسعينيات من القرن المنصرم ، لتصدرها حزب آخر بكل تأكيد. رغم أن جبهة الانقاذ الجزائرية قد نهضت على أرضية مهدها النظام نفسه لها بعد انتصار الثورة الجزائرية حيث كانت الحركة الدينية نشطة ، ولها وجود ظاهر بين أبناء عموم الشعب الجزائري على الضد من الأحزاب اليسارية التي انحسر دورها بسبب من محاربة السلطات لها بالإضافة الى الأخطاء التي ارتكبتها أيام الكفاح المرير ضد المستعمرين الفرنسيين . هذا في الوقت الذي ظلت فيه جبهة التحرير الجزائرية الحاكمة تتمتع بمغانم الحكم والحكومة حين انتقل جل أعضاء قيادتها من واقع طبقي متواضع الى واقع طبقي برجوازي قربهم من البرجوازية الجزائرية التي رأت أن مصلحتها الآن تتطلب منها التصالح والعمل مع البرجوازية الفرنسية عدوتها للأمس القريب حين كانت تستولي على خيرات الجزائر كلها ، ولم تترك للبرجوازية الجزائرية غير الفتات من تلك الخيرات .
في هذا الجو المكفهر(4) ولدت الحركة الدينية المسلحة بعد أن ألغيت الانتخابات العامة التي فازت بها جبهة الانقاذ الدينية ، وتسلم الجيش الجزائري على إثر ذلك مقاليد الحكم بعد أن استقال رئيس الجمهورية الجزائرية ، الشاذلي بن جديد ، وقتها ، والذي كان قبيل انضمامه لجبهة التحرير الجزائرية زمن الثورة ضابطا في الجيش الفرنسي.
بعد ذلك دارت معارك حامية الوطيس بين الجيش الجزائري ، وبين التنظيمات الدينية التي حملت السلاح ، ولكنها هزمت أمام تفوق الجيش الجزائري عدة وعددا ، وكان من نتيجة ذلك أن بعضا من تلك العناصر فرت الى جبال الجزائر الشاهقة ، أو الى الصحراء الجزائرية الكبرى أو صحارى الدول المجاورة مثل مالي أو ليبيا وموريتانيا والنيجر ، وهي صحارى تمثل امتدادا طبيعيا للصحراء الجزائرية التي أصبحت فيما بعد موطأ قدم " للمجاهد " مختار بن مختار(5) الأعور العائد من حرب الجهاد الأمريكي في أفغانستان ، تلك الحرب التي فقد هو في إحدى المعارك منها عينيه اليسرى ، ثم ليظهر من جديد في عين ميناس تلك البقعة الصحراوية التي هي عبارة عن حقل نفط وغاز جزائري أمضيت فيه أنا ليلة واحدة ، وكنت في الطريق الى مدينة غدامس الليبية التي لا تبعد كثيرا عنه.

هوامش:
1ـ ساندت بعض الدول العربية كفاح الشعب الجزائري ومن بين هذه الدول مصر في زمن جمال عبد الناصر ، والعراق زمن عبد الكريم قاسم الذي وجدت له صورا معلقة على جدران غرف بيوت بعض الجزائريين عام 1972 ، أي بعد قتل عبد الكريم قاسم بسنوات عدة .
2ـ القاوري : في العامي الجزائري هو الرجل الفرنسي ، والقاورية : هي المرأة الفرنسية .
3- اعتاد الجزائريون أن يطلقوا لفظ شيخ على كل مدرس قادم من الشرق العربي.
4- بعد مظاهرات مدينة سطيف الجزائرية الدامية التي اندلعت في الثامن من الشهر الخامس سنة 1945م ضد الاستعمار الفرنسي كان الشاعر الجزائري مولود فرعون يردد : السماء مازالت مكفهرة مع أن الوقت ربيع !
5- درجت بعض وسائل الاعلام العربية والغربية أن تسميه : مختار بلمختار ، وحقيقة الباء واللام اللتين لحقتا اسم مختار الثاني هما باء ( بن ) ونوه التي قلبت الى لام . ففي شبه جزيرة العرب وفي المغرب العربي يقال للرجل مثلا : سالم بن عبد الله ، ولا يقال : سالم عبد الله مثلما هي عليه الحال في العراق ومصر وسوريا .

36
نقمة الأمطار في العراق

سهر العامري
كان العرب يتفاءلون خيرا بهطول الامطار ، فهي سبب الخضرة والنماء ، ولم يقفوا عند هذا الحد بل دعوا الى أن تسقي تلك الأمطار الأرض التي تحل بها قبور موتاهم مثلما يقول متمم بن نويرة في أخيه مالك :
سقى الله أرضا حلها قبر مالك * * ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا
كتبت بعد خروجي من العراق ، وكنت قد زرته بعد اثنتين وثلاثين سنة ، أن القوم الحاكمين هناك لا يملكون رؤية واضحة في إدارة الحكومة والحكم ، وكل زائر للعراق مثلي يتلمس هذه الحقيقة من خلال سيره في شارع ما ، أو مراجعته لدائرة من الدوائر فيه ، فالشوارع تحولت الى حفر وبرك ، والدوائر الى فوضى وقصور في العمل ، والجيش تحول الى شرطة داخل المدن وخارجها .
كان سبب ذلك واضحا ، فالدولة العراقية انهارت بكل مؤسساتها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ، وقد حلها الخطأ بدل الصواب ، وصار القوم الذين يديرون الحكم فيها يجانبون الصحيح والقويم من الفعل ، فهم على جهل بالحكومة ، ونقص بالمؤهل ، وانعدام في الخبرة ، وصار الواحد منهم ينظر الى المنصب على أنه غنيمة يجب أن يستأثر فيها دون غيره ، فقد سمعت مسؤولا في تلك الدولة يقول : جئنا نحن الى الحكم من أجل تعويض "المجاهدين" والمجاهدون عنده لون واحد ، وليس الألوف من العراقيين الذين جاهدوا أكثر مما جاهد الرجال الذين يعنيهم هذا المجاهد ، ونسى هذا المسؤول أن المجاهد الأول هو الشعب العراقي الذي تعرض للظلم والاضطهاد على مدى عقود من الزمن .
تحت منطوق نظرية : تعويض المجاهدين ، ضاعت الدولة بعد أن عوض المجاهدون بمناصب حكومية هم ليس أهلا لها أبدا ، وإنما وصلوها عن طريق شهادة مزورة ، أو عن طريق شهادة من كتاتيب دينية لا يرقى تحصيلها الى شهادة المدرسة الحديثة لا في القيمة العلمية ولا في الاختصاص ، ومن هنا صار الجهاز الإداري في العراق أعمى لا يفرق بين الخطأ والصواب ، أو بين الصالح والطالح ، فضاعت أموال الشعب ، وصارت نهبا للسراق من متحيني الفرص .
انتدبت أنا للعمل في القطر الجزائري مع ثلاثمئة مدرس ومدرسة عراقي وعراقية ، كان الهدف من انتدابنا هو المشاركة في عملية تعريب الثانويات الجزائرية ، وكان هذا بعد سنوات قليلة من طرد المستعمرين الفرنسيين ، وبزوغ فجر انتصار الثورة الجزائرية ، تلك الثورة التي نهض فيها الفلاحون في الأرياف بالدرجة الأولى ، وكانوا هؤلاء على حظ قليل من التعليم أو أن البعض منهم لا يعرف القراءة والكتابة ، ولكن الجميع كانوا يسمون بالمجاهدين كذلك.
ظهر وقتها سؤال صعب : أين يذهب هؤلاء المجاهدون بعد الانتصار ؟ هل تسلمهم حكومة الثورة مناصب مهمة في الدولة ، وهم لا يحملون مؤهلات لذلك ؟ هذا في الوقت الذي كان فيه جهاز الدولة الجزائري في تطوره وانتظامه يوازي تطور وانتظام الجهاز الفرنسي ، فقد اعتبر المستعمرون الفرنسيون أن الجزائر هي فرنسا ما وراء البحار ، فكيف لمجاهد متدني التعليم ومنعدم الخبرة أن يدير ماكنة جهاز إداري ارتقت به العقلية الرأسمالية الفرنسية مراحل متقدمة في العلم والمعرفة ؟ ولهذا وجدت حكومة الثورة أنه من الحكمة أن تبقي على الجهاز الإداري الذي نشأ زمن المستعمرين من أجل أن يقوم بإدارة الدولة الجزائرية بعد تحررها ، ولا تعمد الى تزوير شهادات للمجاهدين ، وتضعهم في مناصب حكومية هم غير قادرين على إدارتها أبدا.
إزاء هذا الوضع عمدت حكومة الثورة الى تأسيس وزارة جديدة اسمتها وزارة المجاهدين أخذت على عاتقها العناية بحياة مجاهدي الثورة ممن كانوا على قيد الحياة ، أو العناية بأسرهم ممن كانوا من الأموات ، كما خصتهم بأفضلية الحصول على عمل يتوافق مع قدراتهم الثقافية فعلى سبيل المثال يمنح المجاهد إجازة سوق سيارة إجرة بأفضلية على متقدم مثله الى هذه الفرصة من العمل حين يكون ذاك المتقدم ليس من مجاهدي الثورة .
على هذه الشاكلة وعلى الاستعانة بخبرات البلدان الأخرى ، وضمن ضوابط محددة ، لم تبذر فيها أموال الشعب على لون واحد من المجاهدين مثلما هي الحال في عراق اليوم ، استطاعت الجزائر أن تتجاوز المحن التي لاقتها بعد انتصار الثورة على المستعمرين الفرنسيين الذين جثموا على صدر الجزائر لمدة زادت على مئة وثلاثين سنة .
إن ضعف الجهاز الإداري في العراق ، والقضاء على السمة العصرية فيه ، هما سببان يكفيان لتفسير حالة التدهور التي تعيشها الدولة العراقية اليوم ، فالجهاز الإداري العراقي فقد المسميات الوظيفية العصرية من مثل : مدير دائرة ، أو معاون مدير ، أو محاسب ..الخ ، فقد استبد بي العجب حين كنت أراجع دائرة من دوائر ذلك الجهاز ، طرحت فيها سؤالا عن الجهة التي يمكنني أن أقدم طلبي لها ، فجاءني الجواب حالا : إذهب الى الحجي ( الحاج ) قلت للمجيب من يكون هذا الحجي ، قال مدير الدائرة ! ضحكت في سري وقتها ولم أزد على ذلك حرفا . وعلى هذا فأنت الآن تسمع في الدوائر العراقية مسميات لا تمت بصلة لأجهزة الدولة الحديثة التي وصلت لها البشرية بعد مكابدة طويلة ، فهناك سيقال لك : إذهب للشيخ ! أو إذهب للسيد ( أي الذي ينتسب الى أل البيت )
تلكم هي الأسباب التي أدت الى غرق المدن العراقية بما فيها العاصمة بغداد هذه الأيام ، وليس كمية الأمطار التي تساقطت في الساعات الأخيرة ، والتي عرفتها مدن العراق في سنوات خلت لكن دون غرق ، ودون أن تسقط البيوت على ساكنيها فتميت بعضهم وتجرح البعض الآخر منهم .

37
سقوط الاخوان في مصر
                   

سهر العامري

على طوال مسيرة الاخوان التنظيمية في مصر ، وبغض النظر عن دواعي نشأتهم ، وعلاقاتهم التي لم تنقطع في الدوائر الغربية ، وبغض النظر كذلك عن استخدامهم للدين كوسيلة للوصول للحكم ، لم يعمدوا أبدا الى الوقوف بوجه الشعب المصري ، فقد كانوا على الدوام يظهرون أنفسهم على أنهم هم الأقرب إليه ، والى فقرائه على وجه الخصوص ، متذرعين بأسباب أولها قربهم لله ، وثانيها وصايتهم على الدين دون سواهم من البشر مثلما يعتقدون هم .
يضاف الى ذلك تأسيسهم لبعض الجمعيات التي تمد بعضا من فقراء مصر ، خاصة أولئك الذين يقطنون الأرياف منهم ، بشيء من المساعدات المادية التي تأتي في الغالب من مصادر في دول الخليج العربية ، وبهذين العاملين ، الدين والمال ، صاروا قريبين من فقراء المدن والأرياف على حد سواء باستثناء فقراء أقباط مصر الذين لم يمسهم منهم غير الشر في الكثير من الأحيان خاصة في هباتهم الهوجاء ضدهم بين حين وآخر .

لقد انتعشت حركتهم زمن ردة الرئيس محمد أنور السادات عن كل ما حققه الشعب المصري من منجزات على عهد الرئيس جمال عبد الناصر ، وصاروا قريبين منه هذه المرة ، ولكن ليس للحد الذي يتطاولون فيه عليه حتى في بعض المظاهر التي يريدون من خلالها التدليل على وجود واضح لهم في الشوارع ، والمحلات العامة ، وكانوا هم أول المصفقين له ساعة البيان الذي أذاعه السادات من الإذاعات المصرية ، ذلك البيان الذي قرر فيه طرد الخبراء العسكريين القادمين من الاتحاد السوفيتي الذين ساهموا بإخلاص في عبور الجيش المصري الى الضفة الثانية من قناة السويس ، وتحطيم خط بارليف الدفاعي الذي أقامه الجيش الاسرائيلي بعد هزيمة الجيوش العربية على جميع الجبهات في الخامس من شهر حزيران سنة 1967م ، والتي أطلق عليها اسم " النكسة " فيما بعد.

وقت إذاعة البيان ذاك كنت أنا جالسا في مقهى من مقاهي القاهرة ، وكان يجلس الى جانبي رجل مصري من الذين غسل الاخوان أدمغتهم فقد أظهر أمامي الكثير من الفرح ببيان السادات المذكور ، وهذا ما دفعني لسؤاله عن الجريرة التي اقترفها الخبراء السوفيت أولئك بحق مصر ، وهم الذين قاتلوا ليلا ونهارا من أجل أن ينهض الجيش المصري من جديد كي يحطم خط بارليف في الساعة الأولى من اليوم السادس من شهر اكتوبر عام 1973م ، ذلك الخط الذي صورته الدعاية الصهيونية على أنه حصن منيع لا تستطيع أية قوة على الأرض أن تحطمه بتلك السهولة التي تهاوى فيها تحت ضربات الجنود المصريين ، وبالخبرة والسلاح السوفيتي .
صار السادات بعد ذاك البيان يسمى بالرئيس المؤمن ، وراح هو يتقمص شخصية رجال الدين المشعوذين ، تماما مثلما تقمص العقيد القذافي شخصية رجال الفكر المتطفلين من الاشتراكيين ، وبذاك التقمص اقترب السادات من أخوان مصر مثلما اقترب اخوانها منه ، وصاروا يجدون في عهده متنفسا رحبا ، لكنه لا يصل في رحابته الى المتنفس الكبير الذي وصلوه في عهد خليفة السادات ، الرئيس محمد حسني مبارك .   

في هذا العهد ، وفي سنة 2005 م زرت أنا القاهرة من جديد ، وجدت أن الرئيس مبارك يتحكم في الدولة بكل مفاصلها ، بينما كان الاخوان يتحكمون في الشارع المصري ، وتحت سطوة الدين هذه المرة ، فبرغم من أن المساجد كانت على كثرة في تلك المدينة ، ويمكن لأي إنسان يريد الصلاة أن يصلي فيها ، لكنني وجدت عوضا عنها بعضا من الشوارع التي كانت تسد بوجه المارة من أجل أن يصلي فيها نفر من الناس ، وفي مظهر لا يخلو من التحدي للحكم والحكومة ، هذا على الرغم من أن الاخوان في مصر كانوا يشاركون حزب الرئيس حسني مبارك ، الحزب الوطني ، في الجلوس على مقاعد برلمانه .

يضاف الى مظهر التحدي ذاك مظهر آخر شاهدته بعيني ، وهو التعرض الوقح للنساء السافرات ، هذا التعرض الذي يصل بعض الأحيان الى ضربهن ، وأمام أعين المارة ، وهو الأمر الذي حد من حركتهن ، وصرن يخشين على أنفسهن من السير في الشوارع العامة والأسواق.
في مساء يوم من أيام هذه الزيارة جالست شخصا على مقربة من الاخوان في دار لأسرة كنت على معرفة قديمة بها ، ويبدو أنه كان يريد أن يبرر لي تلك التصرفات المشينة ، وبطريقة خبيثة ، فقال : أجرت منظمة ، لم يسمها ، إحصائية للنساء المتحجبات في مصر ، وقد وجدت تلك المنظمة أن نسبة 98% منهن كن قد تحجبن برغبة خالصة منهن ، ومن دون إكراه . فما كان مني إلا أن أقول له : إن النسبة التي ذكرتها أنت تشابه الى حد بعيد نسبة فوز الرؤساء العرب في الانتخابات التي تجري تحت اشراف أجهزة مخابراتهم ، ومع ذلك فإنك لم تحدثني عن صاحبات نسبة 2% ، هل كن مكرهات أم كن مجنونات مثلما أجاب نائب رئيس عربي مرة عن سؤال يطلب تفسيرا عن امتناع ما نسبته 1% من التصويت لرئيسه الذي فاز بنسبة 99% ، فقال : الممتنع ذاك كان مجنونا !؟

في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول ( يناير ) سنة 2011م اندلعت الثورة التي يتطاير شرارها لليوم ، وكان الاخوان ساعتها يغطون عنها في نوم عميق يدثرهم فيه نص قرآني هو : أطيعوا...أولي الأمر منكم...، ولهذا جاءت مشاركتهم في تلك الثورة بعد أشهر من اندلاعها . بعدها صار الواحد منهم يردد ألفاظا وكلمات ليس لها أي وجود في قاموس الحركات الرجعية ، فسمعنا منهم للمرة الاولى وفي هذه الأيام كلمات مثل: الثورية ، الثوار ، الثورة المضادة الخ ، ثم جاءت انتخابات رئيس الجمهورية التي فاز فيها ممثلهم ، محمد مرسي بفارق قليل عن أحمد شفيق ، وكان هذا الفوز ليس بسبب من كثرة المصوتين له ، وإنما بسبب فرقة القوى الوطنية المصرية ، فمثلا لو كانت تلك القوى الوطنية قد اتحدت في جبهة واحدة مثل جبهة الانقاذ التي ولدت من رحم رفض الاعلان الدستوري الذي اصدره محمد مرسي قبل أيام لما استطاع ممثل الاخوان من تحقيق الفوز في تلك الانتخابات التي كان من ثمرتها دستور ظلامي ، واعلان دستوري رفع محمد مرسي الى درجة فرعون لكنه من طينة أخرى ، وفي القرن الحادي والعشرين ما بعد الميلاد ، وهذا ما ثار حفيظة الشعب المصري ، وفي طليعته القوى الوطنية التي بادرت الى تشكيل جبهة الانقاذ الوطني التي دعت الشعب الى القيام بمظاهرات مليونية انطلقت في كل المحافظات المصرية ، مطالبة بإلغاء الاعلان الدستوري وتأجيل التصويت على الدستور ، ولم تكتف ِ تلك المطالبة بذلك فقط بل دعت الى إسقاط حكم الاخوان وحكم المرشد .

لقد وقفت حركة الاخوان المسلمين في مصر بضد من إرادة الشعب المصري ، وبالضد من أهداف ثورة 25 يناير التي نادت من خلالها ملايين الحناجر المصرية بالحرية والعدالة الاجتماعية ، ورفض الظلم ، وبهذا الوقوف سقطت تلك الحركة في أعين الأغلبية العظمى من الشعب المصري بعد أن كانت متسترة بالدين لسنوات طويلة ، ولكن بعد أشهر من حكمها تكشفت حقيقتها ، وفضحت نفسها بنفسها كحركة دينية استبدادية عفا الزمن على افكارها ومفاهيمها.
إن تجارب الحكومات الدينية المستبدة ، التي يراد لها أن تقود دولا في العالم العربي ، لن يكتب لها النجاح رغم الدعم الكبير الذي تحظى به تلك الحكومات من الدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية ، وذلك بسبب من أن تلك الحكومات تعيش في زمان غير زمانها ، وفي وجود اجتماعي لا يتماشى مع وجودها .
 

38
المنبر الحر / القذافي حيّا !
« في: 20:33 17/09/2012  »
القذافي حيّا ! 
                 

سهر العامري
لم تكن النتيجة التي تمخضت عنها الانتخابات الأخيرة في ليبيا مفاجئة بالنسبة لي ، وذلك بسبب من أنني أعرف مقدار الكم الهائل من الوسائل التربوية المختلفة التي كانت تحض على معاداة أمريكا ، والغرب بشكل عام ، تلك الوسائل التي حرص معمر القذافي على أن يتبناها طوال عقود من حكمه ، فعلى سبيل المثال لا الحصر درّست أنا كتابا ذا مضمون فلسفي لطالبات ليبيات في معهد عال ٍللمدرسات لا يبتعد كثيرا عن كتاب فلسفي ينحو منحى ماركسيا درسّته أنا كذلك لطلاب السنة المنتهية من المرحلة الثانوية في جمهورية اليمن الديمقراطية وقتها ، ولازلت أذكر ذاك الصباح الذي جاءني به طلاب الصف المنتهي من إحدى الثانويات في الجزائر حين كنت أعمل مدرسا هناك ، جاءوا لي متسائلين : كيف اتفقت أنت والأستاذ الفرنسي ، الذي يدرسنا باللغة الفرنسية ، بالطروحات الفلسفية التي تتناول بعضا من جوانب الحياة والطبيعة والكون ؟
من السؤال المذكور عرفت ، ومن دون سابق معرفة بالأستاذ الفرنسي ، أنه ماركسي الهوى مثلي ، وعلى هذا يمكنني القول : إن أجيالا ليبية تربت على ثقافة هذا العصر تبتعد كثيرا عن الثقافة السالفة التي تنادي بها الجماعات الإسلامية المعتدلة منها ، مثلما تريد تلك الدوائر الغربية ، والسلفية مثلما لا تريد ذاك تلك الدوائر . ومن هنا جاءت نتيجة الانتخابات في ليبيا على عكس ما جاءت به تلك الانتخابات في كل من تونس ومصر رغم أن المجتمع المصري والمجتمع التونسي أكثر درجة في تطوره المادي ، ففوز الحركة الليبرالية في انتخابات ليبيا مرده لتلك الثقافة التي هي حصيلة أعوام من التربية المدرسية ، ومن وسائل الإعلام المختلفة التي عرفتها الحقبة القذافية ، والتي مهدت لفوز تلك الحركة ، وعلى العكس من الحملة الإيمانية في عهد صدام التي مهدت لفوز الحركة الدينية المعتدلة بالمقياس الأمريكي.
ذاك وجه ، والوجه الآخر الذي يظهر للقذافي هنا هو الهجوم الذي شُن على القنصلية الليبية في بنغازي ، والذي أدى الى مقتل السفير الأمريكي وعدد من طاقم تلك القنصلية ، فالهجوم ذاك انطلقت رصاصاته من أيادي تربية معاداة أمريكا على زمن القذافي قبل أن تنطلق من أيادي المهاجمين ، ويمكن للسيدة هيلاري كلينتون أن تزيل حيرتها التي تجسدت في تساؤلها : كيف يمكن لشعب ساعدناه في التخلص من الدكتاتورية أن يقوم بمهاجمة سفارتنا ؟ من خلال تقريّها لأسباب تلك الحادثة عن كثب .
ورب قائل يقول : إن أمريكا هي التي عملت على إقصاء الحركة الدينية الليبية عن الفوز في تلك الانتخابات لصالح الحركة الليبرالية الليبية ! ومع ذلك يظل وجه القذافي مطلا بسنواته الأربعين التي أمضى الكثير منها في حرب مع المتلبسين بالدين من الليبيين الذين تنكرت لهم أمريكا اليوم بعد أن كانوا أصدقاء حميمين لها ، فهي تبحث اليوم عن متدينين معتدلين يسيرون الحكم في بلدانهم مثلما تريد هي ، ويحافظون على مصالحها مثلما يحافظون على سفارتها بما تضمه من سجلات لعملائها ، وكذلك لعقود شركاتها النفطية ، فأكثر ما أغاض الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته هو استيلاء المهاجمين الليبيين على سجلات عملاء دائرة المخابرات الأمريكية من الليبيين وعلى عقود الشركات النفطية الأمريكية ، تلك السجلات والعقود التي حملها المهاجمون معهم.
ومثلما لم ترد أمريكا وصول المتدينين المتطرفين في ليبيا أرادت كذلك عدم وصولهم في مصر ، ولهذا حرصت على أن يستلم الاخوان المسلمون الحكم فيها بدلا من الحركة السلفية ، فالإخوان المسلمون تاريخيا هم صناعة أمريكية الى هذا الحد أو ذاك ، وهم في ذلك يشاطرون أخوانا لهم في بقية البلدان العربية والإسلامية ، فهم الآن من وجهة النظر الأمريكية يمثلون حركة دينية معتدلة شأنهم في ذلك شأن حزب الدعوة الحاكم في العراق ، فهو بالنسبة لأمريكا يمثل حركة اعتدال إذا ما قيس بالتيار الصدري مثلا.
صفق الأمريكان طويلا للتيار القومي العربي طويلا منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، ولكنهم جدوا في السنوات الأخيرة ، وخاصة بعد حربهم الجهادية في أفغانستان ، أن القوميين العرب يلفظون أنفاسهم ، وما عليهم إلا التوجه الى أخدانهم القدماء من بين المتدينين ، وحلفائهم في النضال ضد الشيوعية والاتحاد السوفيتي ، لكن بعد زوال الاتحاد السوفيتي ، وخفوت الشيوعية لم تحتج الدوائر الإمبريالية في أمريكا الى مقاتلين متدينين أشداء مثلما هي الحال مع جنودهم السابقين في منظمة القاعدة ، فتوجهوا صوب حركات دينية نشأت تحت رعايتهم ، استلمت الحكم في بلدانها تحت الشعار الأمريكي : الاعتدال ، وهذا ما ثار حفيظة المتدينين السلفيين الذين قادوا حملة الهجوم على السفارات الأمريكية في مصر ، وتونس ، واليمن ، والسودان ، وفي بلدان غير عربية أخرى ، ولكن الشرارة الأولى انطلقت من ليبيا للعوامل التي ذكرتها من قبل.


39
وما أدراك ما لندن ! (4 )
                سهر العامري
صرت كلما أردت الذهاب الى ضاحية ساوث هول ( Southall ) ركبت بالحافلة رقم E32 من على مقربة من الفندق الذي أسكنه ، ومنها بالحافلة رقم E5 ، وهي حافلة من ذات طابق واحد ، الى ضاحية كرين فورد ( Greenford ) ، كما صار يمكنني الركوب من ضاحية ساوث هول (Southall ) الى ضاحية أكتون ( Acton ) بالحافلة رقم 607 ، ومن هناك الى ضاحية همر سمث ( Hammersmith ) بالحافلة 266 كي أعود الى الفندق بالحافلة رقم H91 . هذا الدوران كان يرافقه دوران لسؤالين مهمين في ذهني ، كانا يتطلبان الإجابة مني .
السؤال الأول هو : أين رحل الإنجليز عن هذه الضواحي ، بل عن أغلب أحياء لندن ؟ ولماذا ؟ فأنت حين تسير في هذه الأحياء والضواحي تجدها عبارة عن مدن صغيرة هبطت من بلدان العالم الثالث ، فالشوارع غير متسعة ، لا تخلو من كسور وحفر ، والبيوت متلاصقة ، ضيقة المساحات ، تقادم عمرها ، وانهدت أركانها ، ولا غرابة في أن تجد هوائيات التلفزيونات قد اعتلت سطوحها مثلما اعتلت سطوح البيوت في البلدان المتخلفة ، كما أن جدران مقدمات بعضها قد تهدمت وتداعت بشكل جلي ، وبعضها الآخر تذكرك طريقة بنائه ببناء البيوت القديمة التي تقوم على ألواح من الخشب ، تحشى المسافات بينها بالصخر أو الطابوق الذي يشد بالجص عادة ، وهذه الطريقة هي طريقة قديمة عرفتها مدن الشرق القديمة مثل بغداد ودمشق ، وتعرف : ببناء ( التيغة ) ، ولكن مع هذا فإنني رأيت بعض العمارات الحديثة في طريق Great west مبنية بالطريقة ذاتها بعد أن أستبدلت ألواح الخشب فيها بقضبان الحديد التي تنتصب على الأرض بهياكل ضخمة ، ثم تحشى الفراغات في هذه الهياكل بألواح من مواد مصنعة بطرق حديثة ، أو بألواح من زجاج ، وهي طريقة بناء شاهدت مثلها في ضاحية شمرانات من العاصمة الإيرانية ، طهران ، ولكن الايرانيون كانوا يملؤون الفراغات ما بين القضبان بالطابوق .
لم يكن تقادم تلك الضواحي هو الدافع الذي حدا بالمواطنين الإنجليز الى هجرها ، وإنما السبب المهم الذي تعلو قامته على الأسباب الاخرى هو أن أغلب الأنجليز لا يروق لهم العيش مع مواطني البلدان التي استعمروها ، فهم ينظرون لهؤلاء البشر نظرة دونية ، ويعاملونهم باحتقار واضح ، ولا يريدون الاقتراب منهم ، وقد وصل بهم الحال الى تصفيتهم جسديا ، إن وقف هؤلاء بوجوههم أو لم يقفوا ، وهذا ما يفسر لنا الحروب العنصرية التي خاضوها في أمريكا ، وفي أستراليا ، وافريقيا ضد سكانها الاصليين ، وليس هذا وحسب ، بل تعالوا معي لنقرأ ما سطره منصف منهم ، هو الانجليزي يونغ جيفين رفيق الرحالة المعروف ، ولفريد ثيسجر ، وذلك حين كتب : (  كانت علاقة الجالية البريطانية بالسكان المحليين شبه معدومة ، وفي عام 1954م ، أي قبل اندلاع الثورة التي أطاحت بالحكم الملكي في العراق بأربع سنوات ، أتذكر وقوع شجار في النادي أدى الى انقسام تلك الجالية الى فئتين ، وقد حدث هذا عندما اقترح أحد أعضاء النادي دعوة محافظ البصرة ، ومدير الشرطة فيها الى حفل رأس السنة ، لقد جاء اقتراحه كالصاعقة في إحدى الليالي التي كانوا يلعبون بها البريدج ، فقد رد عليه أحدهم : ماذا تقول ؟ وصاح آخرون أيها الأحمق ! .. وبعد مرور أربع سنوات على هذا الحادث اندلعت ثورة 14 تموز عام 1958 م لتحول القضية فجأة الى وجه آخر ، من مسألة السماح لمسؤول عراقي بالدخول الى النادي البريطاني لمدة ساعتين في السنة الى مسألة السماح لأي بريطاني بالبقاء في العراق ) راجع كتابي : عرب الأهوار ص 23 . وعلى هذا يمكننا أن نتلمس أسباب هجرة المواطنين الانجليز لتلك الضواحي الى أماكن أخرى في المملكة المتحدة أو الى خارجها.
 أما السؤال الثاني فهو : أين ذهبت الثروات الطائلة التي نهبها الإنجليز من البلدان التي استعمروها على مدى العشرات والمئات من السنين ؟ فالمعروف أن الإنجليز استعمروا بلدانا كثيرة ، بل قارات بكامل ثرواتها الطبيعية ، منذ أن تطورت الرأسمالية إبان الثورة الصناعية في بلدهم حتى وصلت الى مرحلة الإمبريالية التي تمثل أعلى مراحلها مثل يرى ذلك لينين ، وبعد أن  تسلحت جيوش تلك الامبريالية الغازية بسلاح فكري قدمه لها واحد من أعتى مجرمي التنظير الفكري في التاريخ منذ أن شرع الفيلسوف اليوناني ، افلاطون ، نظريته في التقسيم الطبقي في كتابه الجمهورية ، هذا التقسيم الذي أباح إبادة العبيد من قبل أسيادهم ، مثلما أباح وضعا معاشيا بائسا للفقراء ، منصوصا عليه من قبل السماء في نظرية المثل التي حملها كتاب افلاطون المذكور من قبل .
كان المنظر الفكري ذاك هو الانجليزي ، توماس روبرت مالثوس المولود سنة 1776م الذي بشر بنظرية اقتصادية عرفت بـ "النظرية التشاؤمية" ، تلك النظرية التي شرعت الحروب ، وإبادة الفقراء من أجل أن تتوازن المعادلة الهندسية التي يتكاثر بموجبها السكان في هذه الأرض مع المعادلة العددية التي يتوفر فيها الغذاء لهم مثلما زعم هذا المنظر . ووفقا لهذه النظرية اندفعت جيوش المستعمرين البريطانيين بأساطيلها شرقا وغربا ، وذلك من أجل أن تقوم الطبيعة بإعادة توازنها عن طريق إنهاء حياة عدد كبير من البشر من خلال هذه الحروب المبررة التي تسحق فيها الطبقات الفقيرة  ، فالرجل الذي لا معيل له - حسب مالثوس -  ولا يستطيع أن يجد له عملا ليس له نصيب من الغذاء في هذه الأرض ، ولهذا تأمره الطبيعة بمغادرة الزمن بالموت في مجاعة أو في حرب أو في مرض أو في كوارث طبيعة كالبراكين والزلازل والفيضانات .
لقد أدت نظرية مالثوس إلى حدوث كوارث إنسانية رهيبة حين استخدمت سلاحا للإبادة الجماعية في الكثير من المستعمرات الإنجليزية ، ففي أمريكا مثلا ، ولكي يحدوا من تناسل الفقراء قامت السلطات الرأسمالية فيها بإخصاء الآلاف من أبناء العرقيات المضطهدة كالسود والهنود الحمر ، وقد عرف هذا الإخصاء بالتعقيم القسري ، ومع كل هذا لم تصمد نظرية مالثوس أمام التيار الهادر للتاريخ الذي يدفعه الصراع الطبقي ، فقد ظهرت تلك النظرية ، مثلما قال عنها ماركس ، عبارة عن سرقات أدبية كتلك التي يقوم بها طلاب المدارس ، فمالثوس قد أخذ جلها من سير جيميس ستيوارت وتاونسيند وفرانكلين وغيرهم ، وقد رأى ماركس أن الفقر سببه هو تركيز المال والثروة عند الرأسماليين ، وليس تكاثر السكان بالنسبة لما يتوفر لهم من غذاء على هذه الأرض ، فالعلم ، وفقا لماركس ، يستطيع أن يتدخل في هذه المسألة عن طريق تطوير أساليب الزراعة ، والعناية بالتربة وخصوبتها ، وهذا ما حدث فعلا ، ففي الوقت الذي بلغ فيه عدد سكان الأرض في عهد مالثوس قرابة المليار نسمة نجد أن هذا الرقم قد تضاعف في أيامنا هذه حتى بلغ قرابة سبعة مليارات نسمة ، هذا في الوقت الذي نشاهد فيه أن كميات الغذاء في المعمورة قد تضاعفت مرات عدة كذلك ، ولو قدر لمالثوس أن يخرج من قبره اليوم لشاهد بأم أعينه الكميات الهائلة من الأغذية المعروضة في أسواق لندن ، ليس للإنسان فحسب ، وإنما للحيوان هذه المرة ، فهناك من الأسواق ما تحمل الرفوف فيها كميات كبيرة من أنواع أغذية معدة بشكل خاص للقطط ، والكلاب ، يضاف الى تلك الأنواع الكميات الهائلة من الأعلاف المصنعة التي أوجدها العلم في السنوات الأخيرة للحيوانات الأخرى .
لم يقف التطور في المواد الغذائية عند حد كثرة أسواقها التي تزدان بها شوارع العاصمة البريطانية ، وإنما يتعدى ذلك الى بقية أسواق السلع المنزلية من أواني الأكل ، والأدوات الكهربائية ، وبعض الملابس ، والقرطاسية ، وما شابه . وأنك لتجد الكثير من المحلات التجارية التي كتبت على أبوابها : أرض الباوند ( Poundland ) ويعني ذلك أن كل ما موجود في هذا المحل يباع بباوند واحد ، أي ما يعادل دولارا أمريكيا ونصفا لا غير ، وبسهولة يمكن أن تلاحظ أن جل العاملين في هذه المحلات ، وتلك الأسواق هم من المهاجرين . وعلى عادتي في الاطلاع على دخول العاملين في بعض الدول فقد سألت شابا مهاجرا من هؤلاء يقف محاسبا في واحد من تلك الأسواق عن مقدار ما يتقاضاه من أجر شهري ، فرد علي أنه رغم عدم امتلاكه لمؤهل دراسي متقدم لكنه يتقاضى شهريا (1400) باوند ، أي ما يعادل (2200 ) ألفين ومئتي دولار ، وهذا يمثل ثلاثة أضعاف ونصف من راتب شاب لبناني يعمل في سوق للمواد الاستهلاكية في بيروت كنت قد سألته عن راتبه حين كنت في زيارة للبنان ، وهو يمثل كذلك ضعفين ونصف الضعف من راتب طبيب عراقي في السنين الأولى من عمله .
يبدو لي أن حركة السوق هذه في مدينة لندن لا تختلف عن حركة أية سوق أخرى في بلد آخر لم يقم مواطنوه باستعمار بلدان أخرى ، ولم ينهبوا ثرواتها ، وحسب صحيفة التايمز البريطانية فإن السائح السعودي ينفق في "يوم من المشتريات" بلندن خلال صيف هذه السنة ما معدله 1900 جنيه استرليني مقارنة بمعدل ما ينفقه السائح الأميركي وهو 550 جنيها استرلينيا في اليوم الشرائي الواحد ، ويصل معدل ما ينفقه السائح  الإماراتي الى 1194 جنيها استرلينيا ، بينما معدل ما ينفقه البريطاني هو 120 جنيها استرلينيا.
ومن هنا يظهر  أن الفرد البريطاني هو الأفقر في هذه المجموعة ، هذا بعد أن كان رأسماليو بريطانيا قد استغلوا ثروات ضخمة نهبت من البلدان التي استعمروها ، ولكنها تبددت في أوجه مختلفة خاصة في التوسع والحروب الأزمات الاقتصادية ، والى الحد الذي صارت فيه الحكومة البريطانية الحالية ، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم الرأسمالي ، تقايض حق الإقامة والسكن في بريطانيا مقابل مقدار من المال يقدمه مستثمر مصري يريد الرحيل بثروته لها من بلده بعد أحداث "الربيع العربي" في البلدان العربية ، هذا الربيع الذي أرادت من ورائه صانعو القرارات في البلدان الغربية أن يقيموا بناء سياسيا فوقيا متخلفا في تلك البلدان التي أطالها ذلك الربيع مستغلين كره الشعوب للحكومات الاستبدادية فيها ، وهي حكومات قاموا هم بدعمها ومساندتها من قبل ، وعلى مدى سنوات طويلة .

40
وما أدراك ما لندن ! (3 )
 

 سهر العامري

وصلت الى ضاحية كرين فورد (Greenford) من ضاحية همرسميث ( Hammersmith ) بعد ساعة ويزيد تقريبا ، توجهت الى مصرف هناك لقضاء أمرا ما فيه ، وحال لقائي بشخص يرد الى أصول باكستانية سألني عن اللغات التي يمكن لي الحديث بها عدا الإنجليزية ، فأجبته أنه يمكنني التحدث بالعربية والسويدية ، قال انتظرني لدقائق وسأعود لك ، كان الرجل دمث الأخلاق ، هادئ الطبع ، يتنقل في المصرف من مكان الى آخر ، ولهذا تركني وهب مسرعا الى طابق أعلى من المصرف ذاك ، ثم عاد ومعه امرأة عربية رحبت بي وعرفتني باسمها ، فرددت عليها بذكر اسمي لها ، بعدها سألتني عن حاجتي التي أمرت بتنفيذها حالا بعد اقتراح منها قبلته أنا على الفور ، وكان الاقتراح جديرا بالقبول ويراعي مصلحتي بالدرجة الأولى.
عرفت بعد ذلك من موظفة أخرى أن المرأة التي تحدثت معها هي مدير فرع المصرف ، وهنا تذكرت معاملة الموظفين في العالم الثالث لمواطنيهم خاصة في العراق حيث يظل المواطن المراجع لأية دائرة حكومية خارج جدرانها تأكله الشمس ، ويعضه الانتظار الممل ، أما أن ينزل مدير دائرة من طابق أعلى ليقابل مراجعا مثلي فهذه معجزة لم تتحقق ليس في العراق وحسب ، وإنما في الشرق المتخلف كله الذي تنفخ وسائل أعلامه بالمسؤولين فيه على تخلفهم وتفاهتهم كل ساعة ، فهذا فخامة ، وذاك دولة ، وآخر معالي وهلمجرا ، مع أن هؤلاء جميعا يتصاغرون أمام أي مسؤول غربي متواضع يقابلونه في بلده أو في بلدانهم .
كانت ضاحية كرين فورد (Greenford) أقل كثافة سكانية ، وأنظف بدرجة واضحة من ضاحية ساوث هول (Southall) القريبة منها ، كما أن سكان الضاحيتين يختلفون بانحداراتهم العرقية ، فأغلب سكان ساوث هول (Southall) ينحدرون من أصول هندية سيخية يعتمون بعمائهم المعروفة بطريقة لفها ، وهم ، بالإضافة الى الهنود من الشيعة الاسماعيلية ، أحفاد لأولئك الذين جندهم الجيش البريطاني في صفوفه إبان احتلاله للهند التي اعتبرها المستعمرون الإنجليز الدرة في التاج الملكي البريطاني ، ولم يكتف ِالجيش البريطاني بتجنيدهم ذاك بل نقلهم الى المستعمرات الأخرى كالعراق حيث كانت مدينة البصرة الجنوبية التي دخلتها القوات البريطانية إبان الحرب العالمية الأولى تعج بالهنود ، وصار واحد من أسواقها يسمى بسوق الهنود ، كما أنني التقيت بهنود من طائفة الشيعة الإسماعلية الذين حمل الجيش البريطاني أجدادهم الى عدن ، عاصمة اليمن الجنوبي وقتها ، وقد امتهن الكثير منهم مهنة التجارة ، بالإضافة الى أن بعضهم عمل في دوائر الشرطة ، والمصارف ، وقد زرت أنا والملحن العراقي المرحوم كمال السيد واحدا من جوامعهم في ضاحية كريتر في عدن ، وقدم لهم كمال السيد هدية هي عبارة عن شريطة مسجل عن مقتل الإمام الحسين بصوت القارئ العراقي الشهير ، عبد الزهرة الكعبي .
شيد الهنود السيخ معبدا كبيرا لهم في ضاحية ساوث هول (Southall) من لندن ، مثلما رأيت مسجدا خطت كلمة الشهادة على بابه : ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ) ساعتها تذكرت معاوية بن أبي سفيان الذي كان يطلق قولة ، كلما صعد صوت المؤذن باسم النبي محمد في سماء دمشق ، العاصمة السورية ، فيقول مشككا برسالة النبي محمد : ( لله درك يا ابن عبد الله ما رضيت إلا أن يذكر اسمك خمس مرات في اليوم ) وكان معاوية يقصد في الخمس مرات الصلوات الخمسة التي يتكرر فيها اسم النبي ، ولكنني على ثقة من أن معاوية ما اعتقد يوما أن اسم النبي محمد سيخط على جدران بعيدة تقع في لندن أو عواصم غيرها.
هذه المفارقة التاريخية ذكرتني بشيء آخر يتعلق بالاستعمار أيا كان لون الاستعمار هذا ، فالمستعمرون الانجليز لم يخلفوا وراءهم ذكرى حميدة لدى الشعوب في البلدان التي احتلوها بل على العكس من ذلك ، إذ ما زالت تلك الشعوب تفيض بالكره والبغض لهم رغم سنوات طويلة مضت على احتلالهم ، فما من شيء مسر أبقوه بعد رحليهم يمكن أن يُحتفى به ، وحتى بعض المشاريع التي أقاموها في مستعمراتهم كالسكك الحديدية مثلا ، إنما أقاموها خدمة لجيوشهم الغازية ، وذلك على خلاف مع الاستعمار العربي زمن الدولة الأموية لجنوب اسبانيا (الأندلس) فإنني وجدت أن الأسبان يعتبرون ما خلفه العرب وراهم من إرث ثقافي ومعماري جزءا من تراثهم ، ولهذا اهتموا بقصر الحمراء في غرناطة ، مثلما قاموا بترميم مدينة الزهراء ، هذا بالإضافة الى النصب والتماثيل التي أقاموها للفيلسوف ابن رشد أو ابن حزم وغيرهما من الذين وقفت أنا عندهما في مدينة قرطبة الاسبانية .
إن هدف المستعمرين الانجليزي تمثل بقهر الشعوب التي استعمروها ، ونهب ثروات ، وخيرات بلدانها ، ففي مصر مثلا اهتموا بزراعة القطن كمادة خام لمصانع النسيج لديهم في الوقت الذي قضوا على الصناعات النسيجية المصرية عن طريق فرض ضرائب باهظة عليها ، وبذلك صارت لا تقوى على منافسة المنتوج الانجليزي المستورد رغم أن صناعة النسيج في مصر كانت تعد من أفضل واحسن الصناعات في العصور الوسطي ، فهذا الرحالة العراقي التاجر ، ابن حوقل ، يقول في كتابه : صورة الأرض ، إن مدينتي تنيس ودمياط كانتا تزودان العراق برفيع الكتان وثياب الشرب والدبيقي والمصبغات من الحلل بما تتراوح قيمته في ذلك الزمان ما بين عشرين ألف الى ثلاثين ألف دينار ، بينما يمضي الرحالة الإيراني ، ناصر خسرو ، الذي زار مصر في نهاية النصف الأول من القرن الحادي عشر ميلادي فيذكر في كتابه سفر نامه إنهم ينسجون في مدينة تنيس البوقلمون الذي لا ينسج في مكان آخر من جميع العالم ، وهو قماش يتغير لونه بتغير ساعات النهار . ولم يقف نهب الثروات وتدمير الصناعة المحلية من قبل المستعمرين الإنجليز عند مصر وحدها بل تخطاها الى بلدان أخرى مثل الهند والعراق ودول الخليج العربي وغيرها من الدول .
تجولت لبعض الوقت في ضاحية كرين فورد (Greenford) ، وكنت وقتها أبحث عن المطعم الأمريكي (ماكدونالدز) كي أتناول طعام الغذاء فيه ، لا لشيء إلا لمعرفتي بطبيعة طعامه ، واطمئناني له من الناحية الصحية ، خاصة وأنني رأيت اعلانا دعائيا له في شارع من شوارع تلك الضاحية ، ومع ذلك فإنني لم استطع العثور عليه ، وبينما كنت واقفا على رصيف الشارع مرت بي فتاة عراقية مسيحية من أهل الموصل تعرفت عليها من خلال حديثها مع طفلها الصغير التي كانت تدفع عربته على الرصيف ذاك ، وبعد سلامي عليها سألتها عن مكان المطعم المذكور فأنكرت معرفتها به رغم أن الاعلان الدعائي كان يحدد المسافة إليه من المكان الذي أقف به بثلاث دقائق .
كانت الفتاة العراقية هذه من المهاجرات الجدد الى لندن عن طريق الزواج ، فقد مضت سنة ونصف من الزمن على وجودها فيها ، ومثلما قالت لي فإن زوجها يملك معملا لتصنيع الكبة الموصلية ، ومن ثمة يقوم بتوزيعها على أصحاب المحلات من العراقيين ، وقد أشارت بيدها الى محلين لعراقيين يقعان على مقربة منا ، كانا عامرين بالفواكه المختلفة ، والمواد الغذائية المنوعة ثم قالت : هذان المحلان لعراقيين ، وهما من بين المحلات التي يبيع عليها زوجي كبة البرغل الموصلية التي يقوم بتصنيعها إن صحت الكلمة !
سرت بالاتجاه الذي يشير له سهم في الاعلان الدعائي المذكور ، وبعيد دقائق مررت بالقرب من ثانوية خرج طلابها منها للتو ، فسألت مجموعة منهم عن المطعم ، فقالوا لي ستجده في نهاية هذا الشارع الطويل . واصلت السير على الأقدام لعشر دقائق أخرى حتى وصلته ، ويبدو أن الدقائق الثلاث التي حددها الاعلان كانت لأصحاب السيارات ، وليس للذين يسيرون على أقدامهم مثلي .
كان المطعم يقع في تقاطع طرق ، وقرب مجموعة من المعامل ، يرتاده بعض من عملها ، ومن ذاك التقاطع تمر الكثير من الحافلات المتجهة نحو ضاحية أكتون ( Acton ) أو الذاهبة الى ضاحية ساوث هول (Southall) ، ولهذا وبعد فراغي من تناول الغداء المتأخر ركبت الحافلة رقم 607 التي حملتني الى تلك الضاحية ، ولأنني قررت عدم ركوب قطار الانفاق ركبت بدلا عنه الحافلة رقم E32 التي أوصلتني الى تقاطع مع طريق Great west الذي يقع فيه الفندق الذي أسكنه ، وبذلك اختصرت عشرات المحطات التي كنت سأمر بها لو كنت قد ركبت قطار الأنفاق .
 
 






41
وما أدراك ما لندن (2 ) !   
             

سهر العامري
حللت الفندق بعد رحلة من المطار إليه أخذت مني أكثر من نصف ساعة ، كان أغلب سير سيارة الإجرة عبر الطريق الأوربي A4 . وجدت الغرفة رقم 3 بانتظاري بعد أن كنت قد حجزتها ، وأنا في السويد ، وقبل أن تسلمني فتاة من أصول هندية ، ملونة العينين ، كانت تعمل في استعلامات الفندق ، مفتاح الغرفة ، أخبرتني أن مطعم الفندق يفتح على تمام الساعة السابعة صباحا ، وبإمكاني تناول طعام الفطور المدفوع الثمن من ضمن إجرة الغرفة البالغة ستين جنيها أي ما يعادل تقريبا تسعين دولارا لليلة الواحد عند هذا الوقت من كل يوم.
كان مفتاح الغرفة على شكل بطاقة ممغنطة يتم بواسطتها فتح باب الغرف ، استخدمتها أنا للمرة الأولى في فندق من العاصمة الفرنسية ، باريس ، مثلما استخدمتها فيما بعد في واحد من فنادق العاصمة اللبنانية ، بيروت التي رأيت صديقا لي فيها ، وأنا في طريقي الى العراق منها .
كان مطعم الفندق على سعة ، يضم قاعتين للإنترنت ومشاهدة التلفزيون وللطعام الذي يستطيع المسافر أن  يتناول منه مواد غذائية ، وأشربة كثيرة مرة ، أو مرتين ، أو اكثر ، وهو من يقوم بخدمة نفسه ، أما عمال المطعم فما عليهم إلا جلب الطعام ووضع كل نوع منه في المكان المخصص له . تناولت طعامي بتلك الطريق ثم غادرت المطعم نحو الحافلة رقم H 91 المتجهة الى ضاحية همرسميث ( Hammersmith ) ، وكان في نيتي الذهاب منها عبر قطار الانفاق الى ضاحية كرين فورد (Greenford) التي تتطلب مني أكثر من النزول في أكثر من محطة لتغيير الخط من أجل الوصول لها .
قبل خروجي من الفندق رأيت صاحبه الأيرلندي الذي ذكرني بفراعة طوله بالرحالة الإنجليزي المعروف ، ولفريد ثيسجر  الذي أمضى سبع سنوات بين عرب الاهوار في جنوب العراق ، وكان ينزل ضيفا مكرما عندنا في كل صيف من كل سنة من تلك السنوات ، وقد كان هو يحس بالظلم الذي أنزله أصحاب الجشع والثروة من أبناء جلدته بالعراق والشعب العراقي ، ففي الوقت الذي كانت شركات النفط البريطانية تنهب الثروة النفطية العراقية من حقول كركوك في شمال العراق ، ومن حقول الشعيبة في البصرة جنوبا كان هو يشاهد أبناء الشعب العراقي يرتدون الملابس القديمة ، المستعملة ( اللنكات ) القادمة من عواصم الغرب ، تلك الملابس التي كان أبناء الأهوار على فقرهم يأنفون من لبسها . نسمعه يقول : ( وهنا - شكرا لله- لا توجد علامة من علامات العصرية المملة ، كزي الملابس الأوربية المستعملة ، والمنتشرة مثل فساد في سائر الأنحاء من العراق .) راجع كتابي : عرب الأهوار ص : 23
يقصد ولفريد ثيسجر بـ (هنا ) أهوار جنوب العراق التي أحرقت الطائرات الإنجليزية الكثير من قراها ، حين كانت الجيوش الإنجليزية تتقدم نحو بغداد في الحرب العالمية الأولى ، لتنتزعها عنوة من قبضة الأتراك العثمانيين ، ولتنصب فيها حكومة عراقية تدور في فلكها ، يقف على رأسها الملك فيصل الأول الذي أطلق شكوى مرة أمام شاعر العرب ، محمد مهدي الجواهري ، حين عاتبه ، مثلما يروي الجواهري نفسه ، على بعض قصائده التي كانت تنال من الملك وحكومته .
يقول الجواهري : إن الملك فيصل الأول فتح خزينة الدولة أمامي قائلا : إنظر ! هذه أربعمئة مليون دينار عراقي ، هي حصة العراق السنوية من ثروته النفطية التي انتجتها الشركات النفطية البريطانية وباعتها ، فماذا تريدني أن أعمل بها ؟ هل أعطيها رواتب للجيش والشرطة أم رواتب للعاملين في الدولة ؟ وماذا سيبقى منها للمشاريع العمرانية ؟
يظهر الملك فيصل الأول من خلال كلامه المار الذكر أن لا حول ولا قوة له أمام عتاة المال من المجرمين الإنجليز ، مثله في ذلك مثل رئيس وزراء العراق السابق ، عبد المحسن السعدون الذي طلب الموت لنفسه بطلقة أطلقها من مسدسه على رأسه ، تاركا وراءه كلمات قليلة دونها على ورقة يقول فيها : الانجليز يريدون شيئا والشعب يريد شيئا آخر !!
واليوم يشبه البارحة حيث يقف رئيس وزراء العراق ، نوري المالكي ، دون حول أو قوة أمام شركات النفط الأمريكية التي بسطت نفوذها من جديد على ثروات الشعب العراقي النفطية ، فكل ما فعله المالكي في خلافه مع شركة أكسون موبيل النفطية الأمريكية بشأن العقود التي وقعتها مع حكومة إقليم كردستان العراق هو تقديم شكوى ضدها عند الرئيس الأمريكي باراك أوباما ، وقد يعلم المالكي أو لا يعلم أن الرئيس الأمريكي أوباما لن يستطيع أن يمنع تلك الشركة من العمل في كردستان العراق ، فسيف الرأسمالية مسلط على رقبة الرئيس نفسه ، وفقا للمبدأ الرأسمالي الشهير القائل : دعه يعمل ! دعه يمر !
وصلت الى محطة أنفاق همر سميث ، توجهت نحو شباك قطع تذاكر الركوب ، بعد أن لاقيت صعوبة في دفع إجرة ركوبي في الحافلة رقم H 91 ، وذلك حين دفعت للسائق عملة ورقية من عشرين جنيها ، فقد كان هو لا يملك صرفا لها ، وخلال حديث مع السائق تدخلت امرأة من الركاب في هذا الحديث سائلة : كم يوما ستبقى في لندن ؟ قلت لها : ما يزيد عن أسبوع . صمت المرأة ، ولم تزد على سوائلها كلمة ، ولكنني فهمت من سؤالها هو أن الأفضل لي أن أشتري تذكرة أو بطاقة ركوب للمدة التي سأمضيها في المدينة ، ولهذا قلت لبائعة التذاكر : إنني اريد تذكرة لمدة أسبوع  واحد ! كلفتني تلك التذكرة أربعة وثلاثين جنيها ، ولم تنس بائعة التذاكر أن تنبهني الى أنه بإمكاني إعادة التذكرة أو البطاقة لأي شباك من شبابيك قطع التذاكر كي أسترد خمسة جنيهات من قيمتها ، وقد فعلت ذلك عند شباك قطع البطاقات في محطة قطار الأنفاق في مطار هيثرو حين وصلته عائدا الى السويد في الحافلة رقم 111 ، فالبطاقة تلك تسمح لي بركوب الحافلات الى جانب قطارات الأنفاق .
من همر سميث وحتى كرين فور بدلت قطار الأنفاق ثلاث مرات في ثلاث محطات هي على التوالي :Picadilly line  و Circle line و Central line وقد مررت بما يزيد عن ثمانية عشرة محطة توقف كان زحام الركاب في بعضها على أشده حتى يخيل للمرء أنه يركب في قطار هندي ، وليس في قطار بعاصمة الضباب ، والى الحد الذي وصل فيه الحال الى أن بعض بوابات عربات الركاب كانت تغلق بصعوبة بالغة عند تحرك القطار من كل محطة توقف ، ساعتها تذكرت قطار انفاق العاصمة الصينية بكين الذي هو على نقيض من قطار انفاق لندن من حيث النظافة والسعة وسهولة الركوب ، مثلما تذكرت الجمالية العالية التي عليها قطار أنفاق مدينة مالمو السويدية حيث تشاهد الطبيعة كلها ببحارها وغاباتها وجبالها تتحرك أمامك في شرائط أفلام تتحرك باستمرار على جدران نفق كل محطة توقف ، وأنت بانتظار القادم من القطارات العابرة للبحر ما بين تلك المدينة والعاصمة الدانماركية ، كوبنهاجن . وعلى هذا قررت أن لا أركب قطار أنفاق لندن ثانية ، واستعضت عنه بركوب الحافلات من ذوات الطابقين التي تمنحك متعة رؤية الشوارع والطرقات التي تمر بها خاصة إذا جلست في المقاعد الامامية من الطابق الثاني .





42
وما أدراك ما لندن (1 ) ! 

سهر العامري
كان نزول الركاب من الطائرة الى قاعة الخروج من الجناح الثالث ( التيرمينال ) في مطار هيثرو سلسا ، لم يمر عليّ نزول مثله في مطار آخر ، قدمت جوازي الى الشرطي الذي سألني عن رحلتي فيما إذا كانت مريحة أم لا ، فأجبته بالإيجاب ، بعدها سلمني جوازي الأوربي متمنيا لي أياما سعيدة أقضيها في عاصمة الضباب ، لندن ، وما أن خطيت خطوات قليلة حتى استقبلتني فتاة انجليزية تحمل بيدها أوراق إحصاء على ما يبدو .
سألتني عن جنسيتي ، وعن اسمي ، وعن الدولة التي قدمت منها ، أجبتها عن كل اسئلتها ثم ودعتها وانصرفت بحاثا عن واسطة نقل تقلني الى فندق : Master Robert الذي حجزت غرفة فيه ، قبل مغادرتي للسويد بإسبوع تقريبا ، وقد عرفت حين وصولي الى مطار من رجل هندي يعمل في شركة نقل خاصة أن صاحب الفندق ذاك رجل إيرلندي ، وأنه سبق وأن عمل فيه قبل مدة من الزمن ، وأن الفندق في حالة جيدة ، ويقع في منطقة نظيفة ، ولكنه أضاف : أن لا واسطة نقل تمر عليه من المطار مباشرة .
كنت أنا قد عودت نفسي أن أقوم بالتعرف على البلد الذي أزوره من خلال ركوبي في حافلاته العامة ، ومنذ اللحظة التي أغادر بها مطار ذلك البلد ، ولهذا خاب أملي في ركوب حافلة ما حين اخبرني ذلك الرجل بعدم توفرها ، رغم أنه لم يكن صادقا ، ولم يكن كاذبا في الوقت نفسه ، فقد كان باستطاعتي أن أركب الحافلة 111التي تقطع طريق : Great west الذي يقع فيه الفندق المذكور ، ومن هذا التقاطع كان بإمكاني ركوب الحافلة رقم : H 91 التي تقف أمام الفندق المذكور ، مثلما فعلت ذلك ، وأنا في طريق العودة الى المطار.
وعلى ما تقدم فقد اضطررت الى تأجير سيارة إجرة ( تكسي ) كان صاحبها طالبا صوماليا ، يجيد اللغة العربية ، ومضى على وجوده في لندن أكثر من إحدى عشرة سنة ، فقد جاءها لاجئا هو وأسرته من دولة قطر  ، وهو يواصل ألآن دراسته في علم برمجة الكمبيوتر في واحدة من جامعات لندن ، وبعيد مغادرتنا للمطار بقليل أشار الى بقعة أرض تقابلك وانت خارج من نفق صغير ، وتقف عليها طائرة عبارة عن دعاية إعلانية لطيران دولة الأمارات العربية ، وقال : لاحظ ! إنهم يدفعون ملايين الدولارات على هذه الدعاية البائسة ! ثم أردف قائلا : ثق أن الإنجليز لا يعرفون دولة الأمارات العربية ، لكنهم يعرفون دبي أكثر منها ، فهم بعد أن فقدوا هونغ كونغ لصالح الصين توجهوا الآن نحو دبي التي حلت محل هونغ كونغ بالنسبة لهم.
قلت له : نعم . لقد كان الانجليز على مدى سنوات طويلة يعيشون على نهب ثروات الشعوب الأخرى ، فلقد نهبوا الثروة النفطية لبلدي العراق على مدى عقود ، مثلما استعمروا بلدان كثيرة أخرى كان من بينها بلدك ، الصومال ، كما احتلوا قارات بأكملها ، وسحقوا دون رحمة شعوبها الأصلية مثلما هي الحال مع الهنود الحمر في أمريكا ، أو أستراليا ، وذلك بعد أن امتلكوا آلة الموت والدمار حين اخترعوا الأسلحة النارية على مختلف صنوفها ، كما أنهم مهدوا لأساطيلهم الغازية بجيوش من الجواسيس ، ولم يتركوا  أية وسيلة قذرة تحقق لهم أطماعهم إلا واستخدموها بمهارة ، فلكي يصدوا الجيوش العثمانية التي كانت ترفع الرايات الإسلامية عن أوربا دفعوا شاه إيران ، اسماعيل الصفوي ، الى اسقاط العاصمة بغداد التي كانت تحت السيطرة العثمانية ، وذلك مقابل تسليح الجيش الصفوي الإيراني بالأسلحة النارية ، وقد كان لهم ما أرادوا حيث اضطرت الجيوش العثمانية التوقف عن زحفها في أوربا ، والتوجه نحو بغداد لإعادة السيطرة عليها من جديد ، وذلك حين زحفت الجيوش العثمانية تلك من الشارع الذي يعرف اليوم بشارع بغداد ، ويمتد على مسافة تصل في طولها الى تسعة كيلومترات ، ويقع في القسم الآسيوي من مدينة اسطنبول الحالية .
وها أنت تشاهد الآن آلافا من الهنود السيخ وغير السيخ ، وكذلك من الباكستانيين والأفارقة يعيشون في بريطانيا ، فكل هؤلاء هم أحفاد لأولئك الرجال الذين جندتهم الجيوش البريطانية الغازية في صفوفها ، وقضوا في نيران حروبها ، وأنت لو قمت بزيارة مقبرة من مقابر الجيوش البريطانية في شرق الأرض كالعراق مثلا لوجدت أن شواهد قبور الجنود القتلى من تلك الجيوش تحمل أسماء عربية اسلامية كثيرة ، ولكن مع ذلك فقد عاد الإنجليز ليمنوا على أحفاد هؤلاء القتلى بالعيش في بريطانيا العظمى ، الإمبراطورية التي لا تغرب عن أرضها الشمس مثلما كانوا يقولون عنها .
لقد انتشر الانجليز في أصقاع كثيرة من المعمورة ، وأشادوا دولا عظيمة بعيدة عن بلدهم ، فتجدهم في أقاصي الأرض شرقا حيث نيوزلندا وأستراليا ، مثلما تجدهم غربا حيث الولايات المتحدة ، هذا بالإضافة الى جنوب أفريقيا ، وجبل طارق ، وجزر الفوكلاند في أمريكا الجنوبية وغير ذلك من الدول والبلدان ، حتى صار الإنسان الانجليزي يعتقد أن الثروة والمال والغنى موجودة هناك حيث البلدان القصية التي لم يخرجوا منها إلا بالمقاومة المشروعة لشعوبها ، أو بضمور قوة امبراطوريتهم نتيجة للحروب الكثيرة خاضوها مع تلك الشعوب ، أو الحرب العالمية التي دخلوا طرفا رئيسا فيها كالحربين العالميتين ، الأولى والثانية ، تلك الحروب التي عادت عليهم بكوارث كبيرة تحولت معها دولتهم من بريطانيا العظمى الى بريطانيا العجوز .
هكذا سيرى الزائر العاصمة البريطانية ، لندن ، مدينة عجوز دبّت في أحيائها الشيخوخة ، وتدنت في درجة عمرانها عن عواصم فتية صاعدة كبكين ، العاصمة الصينية ، التي تنساب فيها حركة السير بيسر وسهولة ، وليس بزحام واكتظاظ مثلما عليه الحال في قطار انفاق لندن العريق الذي فاقه بالطول قطار انفاق مدينة شنغهاي العاصمة الاقتصادية للصين ، والتي يقترب عدد سكانها من اثنين وثلاثين مليون نسمة كما يزيد سكان بكين على العشرين مليون ، بينما يداني عدد سكان لندن ثمانية ملايين نسمة .
في بكين يسير المرء في شوارع فسيحة نظيفة لا تدانها شوارع لندن في السعة والنظافة ، مثلما لا تدانيها في جودة التعبيد المتين الذي يندر أن تجد فيه حفرا أو مطبات مثلما هي الحال في شوارع لندن ، وحتى نظافة الأحياء الشعبية في بكين تتفوق على نظافة ذات الأحياء في العاصمة لندن ، مثلما يتفوق مطار بكين في كبره وسعته وتنظيمه وجماليته عن مطار هيثرو في لندن ، فمن حاجز الجوازات في مطار بكين ينقلك قطار جميل الصنعة مجانا الى المكان المخصص لحقائب سفرك ، والذي يقع عند الباب الخارجي للمطار. وعلى العموم لا تتمتع الهندسة الإنجليزية بذات المسحة الجمالية التي عليها الهندسة الصينية أو السويدية مثلا .

43
الطبقات والصراع الطبقي

سهر العامري
يظل الصراع الطبقي العلامة الاكثر وضوحا على تناحر الطبقات الاجتماعية في هذه الدولة أو تلك وعلى هذا يمكن لي القول أن التراجع الحاصل في دور الطبقة العاملة بعملية الانتاج كما ونوعا لا يلغي أبدا ذلك الصراع الذي بدأ قبل ظهور الطبقة العاملة ، تلك الطبقة التي قادته تاريخيا بشكل أفضل بكثير عن قيادة الفلاحين له في ثوراتهم ضد الاقطاع ، وفي سنوات ما قبل التصنيع التي لم تفض ِالى نتائج حاسمة ، مثلما أفضت إليه ثورات الطبقة العاملة وممثلوها في اعتلاء دفة الحكم واستلام زمام السلطة في أكثر من بلد .
إن امتلاك وسيلة الانتاج ، والدخل الذي يحصل عليه الفرد هما من أهم السمات التي تأخذ بهذا الفرد نحو هذه الطبقة أو تلك من الطبقات المتصارعة في مجتمع ما ، وفي وقتنا الحالي يتركز هذا الصراع بين الطبقة العاملة من جهة ، وبين أرباب العمل من جهة أخرى ، ورغم النقص الحاصل في اعداد الطبقة العاملة في البلدان الغربية عموما لأسباب عدة ليس من بينها التطور التكنلوجي فحسب حيث حلت الآلة محل قوة العامل في الكثير من مواقع الانتاج ، وإنما لجملة من أسباب أخرى تتمثل بالأعداد الكبيرة للدارسين والمتقاعدين مقارنة مع أعدادهم قبل خمسين سنة منذ الآن ، يضاف الى ذلك الزيادة الكبيرة في أعداد العاملين في القطاع العام ( الدولة ) من مثل المعلمين والمدرسين والكوادر الصحية على مختلف عناوينهم . مثلما أدى انتقال الكثير من المصانع في الدول الغربية الى البلدان الأقل تطورا منها الى تقليص عدد العمال في تلك البلدان وزيادتها في البلدان الصاعدة في النمو مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية .
هذا التبدل بوضع الطبقة العاملة في البلدان الغربية لم يقف عند هذا الحد ، وإنما صاحبه تبدل آخر في حياة العمل تمثل بتركيز الثروة عند أسر معروفة من خلال امتلاكها للبنوك ، أو لصناديق الائتمان ، كما زاد عدد الشركات الصغيرة والمتوسطة منذ مطلع السبعينيات في السويد مثلا ، وقد تراوحت حصتها من قوة العمل ما بين 8- 10 ، يضاف الى هذا التبدل تبدل آخر هو أن النساء تشكل الأكثرية الغالبة من العاملين في القطاع العام في السويد الآن مقارنة بعدد العمال الذين كانوا يعملون في المصانع في بداية الستينيات من القرن المنصرم . ويمكنني القول : إن السويد دولة تديرها النساء!!
مما لا شك فيه أن الظروف الاجتماعية بالنسبة للطبقة العاملة قد تحسنت في البلدان الصناعية في الوقت الحاضر عن تلك الظروف التي عاشتها قبل نصف قرن من الزمان ، فقد بلغ الراتب الشهري لعامل سويدي ، خريج مرحلة التعليم الأساسي ( المتوسطة ) ، يعمل في مطبعة ، أكثر من أربعة آلاف وخمسمئة دولار شهريا ، في حين بلغ راتب موظفة عراقية ، خريجة الجامعة التكنلوجية ، وامضت ثلاث عشرة سنة في الخدمة ستمئة دولار . هذا التحسن لم يقتصر على الدخل الشهري فقط ، وإنما شمل ظروف العمل ، العطل ، الرعاية الصحية ، السكن ، النقل ..الخ ، ولكن مع هذا تظل الطبقة المتنفذة في البلدان الغربية تتمتع بدخول شهرية أعلى بكثير من تلك الدخول التي كانت تتوفر عليها قبل خمسين سنة من الآن .
لقد عادل راتب أحد مدراء المصانع في الوقت الحالي رواتب أكثر من خمسين عاملا في ذلك المصنع ذاته ، بينما كان راتب مثل هذا المدير في مطلع الخمسينيات يساوي رواتب ثلاثين عاملا تقريبا ، وهذا الفرق الشاسع في الدخول الشهرية بين العمال والمتنفذين من أرباب المصانع هو الزيت الذي سيظل يوقد نيران الصراع الطبقي ما بين العمال من جهة ، وبين أرباب العمل من جهة أخرى خاصة في هذا الوقت الذي يتزايد فيه ضيق حلقات ماركس الحلزونية في الأزمة الاقتصادية التي تطوق عنق الرأسمالية في البلدان الصناعية المتطورة ، تلك الأزمة التي أدت الى افلاس الكثير من البنوك ، والشركات ، مثلما زاد في عدد العاطلين عن العمل خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهذا بدوره أدى الى ظهور أعداد غفيرة من الفقراء الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء .
لقد شاهدت مرة ، وأنا في زيارة للعاصمة الفرنسية ، باريس ، أعدادا كبيرة من الفقراء ، رجالا ونساء ، في حديقة تقع في قلب العاصمة تلك ، وكان هؤلاء يقفون في طابور طويل من أجل الظفر بقطعة من خبر وعلبة من حساء ساخن تقدمه جمعية " خيرية " ! لهم على المذهب الاشتراكي للفيلسوف الانجليزي جورج بركلي القائل : الأغنياء يساعدون الفقراء !! 
حينما رغبت بتصوير طابور الفقراء ذاك بكامرتي التي أحملها معي هرع نحوي اثنان من الرجال يريدون منعي من التصوير ، ولكنني رغم محاولة المنع هذه قمت بتصوير ذلك الكم الكبير من ضحايا الرأسمالية ، والتفاوت الطبقي ، هذا المنظر الذي راح ينتشر الآن بصورة أكثر وضوحا في شوارع وساحات المدن الأمريكية سيدة الرأسمالية العالمية بعد أن ازداد عدد العاطلين فيها على أكثر من ثلاثين مليون انسان من الذين لهم مقدرة على العمل.
تلك هي صورة البطالة في البلدان الرأسمالية ، ولكننا نراها بوجه بشع آخر في بعض البلدان العربية خاصة في مصر والعراق حيث تتزايد أعداد الخريجين في الجامعات سنوية دون أن تتوفر لهم فرص عمل في مجال اختصاصهم أو حتى في مجالات ليس من اختصاصاتهم الجامعية ، وعلى العكس من ذلك فقد تقلد بدلا عنهم اشباه الأميين مناصب مهمة في الدولة ، وصار نصيب الكثير منهم في أحسن الأحوال هو أن يتحول الكثير منهم الى باعة رصيف ، بينما راح البعض الآخر منهم ينضم الى صفوف البروليتارية الرثة كعمال في المطاعم مثلا ، هذا عن الذكور أما عن الإناث فحدث ولا حرج ، فالغالبية العظمى منهن تقطن البيوت .
إذا كانت الزيادة الكبيرة في نسبة الفقر والفقراء مفهومة في مصر لأسباب تتعلق بشح الموارد فيها مقارنة بالعراق ، فإن ازدياد تلك النسبة بشكل مخيف في العراق غير مبرر ، وذلك لعظيم الموارد النفطية العراقية التي تعد بمئات المليارات من الدولارات سنويا ، ومع هذا فقد صار الكثير من العراقيين يسكنون المقابر في أكثر من مدينة عراقية ، حتى أن نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر قد بلغت ما يعادل ثلث مجموع السكان . وهذا الوضع انعكس بنتائجه المزرية على قطاعات واسعة من الناس خاصة على الطبقة العاملة العراقية بعد أن تعطلت الصناعة في العراق إلا فيما ندر ، مثلما تعطلت الزراعة الحديثة التي تعتمد على المكننة والعمال الزراعيين .
إن فقر الصناعة والزراعة في العراق ، وسوء التخطيط والإدارة ، وانعدام الرؤية الصحيحة في ترسيخ أركان الدولة ، وانتهاج سياسة استيراد مدمرة ، والاعتماد الشبه كلي على واردات النفط أدى كل هذا وغيره الى ضمور كبير في أعداد العمال بالعراق ، وهذا بدوره قد أدى الى ضعف تأثيرهم في الحياة السياسية ، وصار من الصعب عليهم قيادة عمل جماهيري منظم يؤدي الى تغيير مهم  في البناء السياسي للدولة التي تبيع النفط وتعيش على وارداته في ظل قولة ما انفكت ابواق الحكومة في العراق ترددها بمناسبة أو دون مناسبة وهي أن انتاج النفط سيزداد في العراق ليبلغ اثني عشر مليون برميل في اليوم ، وقد نست تلك الأبواق أن الزيادات الحاصلة في انتاجه لم توفر فرص عمل للآلاف الكثيرة من العاطلين عن العمل ، مثلما لم تقلل عدد من القاطنين مع الموتى في مقابر النجف أو ديالى .
وفي النهاية لا بد من التسليم بحقيقة تقول : إن الصراع الطبقي لن يختفي أبدا ما دام التفاوت في الدخول ظل قائما ، وما دامت هناك قلة تأكل ، وأخرى تتضور جوعا ، وليس شرطا أن يحتدم هذا الصراع في ساحات وشوارع المدن ، وإنما قد يحتدم على صعيد سن التشريعات والقوانين التي تحفظ للعمال والكادحين حقوقهم في ثروة بلد ما ، ولا بد لهؤلاء من أن ينظموا صفوفهم في حركة سياسية تقودهم في صراعهم المستمر ذاك ، تلك الحركة التي يقع على عاتقها النصيب الأكبر من الكيفية التي يمكن لها أن تدير بها الصراع المذكور بنجاح جلي ، يؤشر على صواب سياسة هذا الحزب أو ذاك في قيادته للطبقة العاملة ، وفي أي بلد من البلدان التي تمر بمرحلة من التحولات السياسية والاقتصادية المتسارعة ، وعلى هذا الأساس يجب على هذا الحزب عدم السماح بقيادة ذلك الصراع من قبل قوى خارجية ، مثلما هي الحال في البلدان العربية ، والكثير من بلدان العالم الثالث حيث استطاعت تلك القوى الخارجية على مدى سنوات طويلة أن ترسم هي شكل وطبيعة الحكم في هذا البلد أو ذاك ، ففي الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية استطاعت تلك القوى أن تنصب حكومات في العراق وفي بلدان العالم الثالث تنحدر من الطبقة البرجوازية الصغيرة ومن ممثلي الطبقة الوسطى وبنزعة قومية ، وهي القوى ذاتها التي تعمل اليوم على تنصيب ذات الحكومات ، ومن المنحدرات المذكور ، ولكن بنزعة الاسلام المعتدل ، وهذا ما يتجلى يشكل واضح في العراق وتونس وليبيا ومصر التي لا تزال عملية التنصيب جارية فيها للآن .









44
حال المرأة بعد الثورات العربية  !  
                   
سهر العامري
ليس المرأة هي وحدها التي ستصاب بخيبة أمل كبيرة ، وإنما الكثير من القوى الديمقراطية والتقدمية التي ساهمت مساهمة مباشرة في الثورات الشعبية التي نزلت في بعض من البلدان العربية ، والسبب في ذلك هو أن نتائج تلك الثورات خضعت لإرادات سياسية خارج إرادة الناس ، نساء ورجالا ، أولئك الذين هبوا الى الشوارع من أجل تغيير ما استطاعوا تغييره من واقع سئموا العيش فيه ، ولكن هذا التغيير كان محسوب النتائج إن لم أقل كان مضبوطا حسب تفاهمات داخلية وخارجية لعبت دورا مهما ومؤثرا في سير أحداث تلك الثورات وبشكل مباشر ( الحالة الليبية مثلا ) ، حتى يخيل للمرء أن ضبط نتائج تلك الثورات يضارع الى حد بعيد ضبط نتائج الانقلابات العسكرية التي جرت في البلدان العربية بعيد الحرب العالمية الثانية ، والتي سارت باتجاه القومية العربية كشعار وحسب ، بينما نرى أن ثورات اليوم تضبط بذات الشاكلة ، ولكن باتجاه ما يسمى الإسلام المعتدل !
وإذا كانت المرأة قد تمتعت ببعض المكانة الاجتماعية من حيث المظهر في الأكثر وببعض من المكانة الاقتصادية في الأقل على مدى حقبة نتائج الانقلابات العسكرية المذكورة نجدها اليوم في توجهات أسلمة المجتمع الغارقة في ردة رجعية تحارب لا لشيء إلا بسبب مظهرها الخارجي ، وهذه المرة وفق تشريعات رسمية مثلما يظهر ذلك جليا في تعليمات وزارة المرأة العراقية الخاصة بملبس النساء اللائي يزاولن العمل في دوائر الدولة.
والشيء بالشيء يذكر هنا فقد كنت واقفا بعيد الثورة في إيران في تقاطع شارع طالقاني مع شارع آخر من العاصمة الإيرانية ، طهران ، وفي مواجهة بناية حكومية ، وإذا بفتاة إيرانية يانعة تطلب مني أن أمسك كيسا كانت تحمله بيدها ، لبيت رغبتها أنا لكن سرعان ما تبين لي أنها استبدلت الحذاء الذي كانت تلبسه بالحذاء الموجود في الكيس ، وحين سألتها عن السبب وعن حالة الرعب التي تعيشها قالت : ( إنني اعمل في دائرة حكومية من هذه البناية ، وهي دائرة  تحرم  على النساء لبس الأحذية النسائية العالية ، وتريدنا أن نلبس أحذية رياضية مسطحة بدلا عن ذلك!)
لقد صارت المرأة بعيد تلك الثورات العربية المضبوطة تعامل وفقا للمظهر ، حتى أن ذلك صار شرطا مفروضا عليها إن هي أرادت الحصول على عمل ، أو وظيفة حكومية ، أو مراجعة دائرة ما من دوائر الدولة ، وربما مضى الحال بها بعيدا عن ذلك حتى وصل الى النواحي الاجتماعية كالزواج مثلا ، فوفقا لتلك النتائج المضبوط  صار من الافضل لها أن تبدل مظهرها الحديث بالمظهر القديم ( الحجاب ) إذا ما أرادت أن تحصل على زوج ، وهذا ما حدا بالكثيرات أن يرضخن لهذا الواقع بل صار البعض منهن يدافع عنه رهبة في غالب الأحيان ، ورغبة في أقلها.
إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمرأة العربية يشهد نكوصا بينا ، وتراجعا واضحا بعد النتائج التي أفضت إليها تلك الثورات ، وقد استسلم الكثير من النساء ، إن لم أقل الأغلبية المطلقة لهذا النكوص ، وذاك التراجع ، وصرن في أفضل الحالات صورا تغاير صور الرجال في ديكور بعض البرلمانات العربية ، أو قل إن الحصة ( الكوتا ) هي وحدها التي صعدت بهن لتزين الديكور المذكور من أجل إخفاء الواقع المر الذي تعيشه ملايين النساء في البلدان العربية ، ولهذا السبب لم نسمع لامرأة ما في البرلمانات العربية صوتا عاليا يدافع عن المعاناة الاجتماعية التي تعيشها الناس أو لم نسمع لها صوتا ، في الأقل ، يدافع عن بنات جنسها ، فهي في أفضل الحالات تردد ما يريده الحزب منها ، فهو الذي وفر لها تلك  الحصة كي تجلس على مقعد برلماني ، وعلى العكس من ذلك فقد سمعنا أصواتا لنساء قليلات العدد يدافعن بجدارة عن الناس الفقراء المحرومين وعن النساء المعذبات بالفاقة والظلم ومن مواقع اجتماعية لا تمت لـ ( لكوتا ) بصلة .
إن أقسى مظاهر الردة الرجعية التي تتعرض لها المرأة من قبل الكثير من الحركات المتأسلمة تتمثل في حرمان المرأة من مزاولة العمل والدراسة ، وقد وصل الحال ببعض تلك الحركات الإسلامية ! الى تحريم تعليم النساء ومنع الفتيات من الذهاب الى المدرسة ، بينما راحت حركات أخرى تحث الناس على تزويج بناتهم في سن مبكرة ، وعدم السماح لهن بمواصلة دراستهن ، وذلك صونا لأعراضهن مثلما يعتقد منظرو تلك الحركات ، ولهذا تشاهد في بلدان الثورات العربية أو تلك البلدان العربية السائر على ذات النهج فيضا كبيرا من النساء خارج النشاط الاجتماعي - الاقتصادي في مجتمعاتهن ، حتى صارت الأغلبية منهن تعيش على التسول من هذه الجهة أو تلك ، حكومية كانت تلك الجهة أم اجتماعية ، والذنب ليس ذنبهن إنما ذنب السياسة المنتهجة في هذا البلد أو ذاك ، والتي لا تخلو من التبريرات المملة حين يتعلق الأمر بحالة النساء أو بغيرها ، وسيكون المسؤول عن ذلك في غالب الأحوال هو صدام حسين أو حسني مبارك !
يظل التحرر الاقتصادي هو العامل الرئيس في تحرر المرأة اجتماعيا ، وهو ضمان تخلصها من تبعيتها المادية للرجل ، وعلى ذلك يتوجب على الحركات النسوية والقوى التقدمية المناصرة لتحرير المرأة أن تحث النساء على التعلم ومواصلته وتبيان فوائده بالنسبة لها وللمجتمع الذي تعيش فيه ، وأن تحث النساء كذلك على العمل الذي يشكل خلاصها الوحيد من النظرة الاجتماعية التي تراها على أنها مخلوق ضعيف خلق من ضلع زائد في الرجل .
يظهر من كل ما تقدم أن هناك مهمة غاية في الصعوبة أمام كل المناضلين والمدافعين عن حقوق النساء في المجتمعات العربية التي طرأت عليها تغييرات سياسية في الحكم تتمثل تلك المهمة في التصدي لكل الأساليب والأفكار التي تريد أن تعود بالمرأة الى أيام ما قبل العصر الحديث ، وعلى المرأة وأولئك العودة والتعلم من التراث العالمي والتراث العربي المناصر لحقوق النساء العربيات خاصة تلك الأفكار التقدمية التي حملتها ظهور الصحف والمجلات العربية في أواخر القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين وما أعقبه من سنوات . عليهم وعليهن مراجعة أفكار قاسم أمين ، في كتابه تحرير المرأة الذي نشر سنة 1899 وبدعم من الشيخ محمد عبده وسعد زغلول لطفي السيد والذي رأى فيه أن حجاب المرأة ليس من الإسلام وإن الدعوة الى السفور ليست خروجا عن الدين . علينا قراءة قصائد الشعراء من أمثال جميل صديقي الزهاوي :
اسفري فالحجاب يا ابنة فهر .... هو داء في الاجتماع وخيمُ
كل شيء الى التجدد ماض ٍ.....فلماذا يُقــر هـــذا القديــــــمُ
علينا أن نقتنع تماما أن الصراع بين القديم والجديد صراع أزلي ، ولكن يجب علينا كذلك أن نثق بحتمية انتصار الجديد أبدا ، فالإمام علي عليه السلام يقول :
لا تعلموا أبناءكم على أخلاقكم ، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم .

45
المنبر الحر / حديث ليبيا ( 5 )
« في: 00:24 08/11/2011  »
حديث ليبيا ( 5 ) 
           سهر العامري
في ليلة من ليالي شهر نيسان " أبريل " الجميل ، وفي الساعة الثانية بعد منتصفها من سنة 1986م اهتزت بي العمارة التي كنت أسكنها في حي من أحياء مدينة بنغازي هزا عنيفا ، نهضت من فوري ، واتجهت صوب غرفة الأطفال ، وجدتهم نياما ، سألتني أمهم التي استيقظت هي الأخرى : ماذا حدث ؟ قلت لها : هذه غارات طيران الأمريكان الكلاب ، دعي الأطفال على نومتهم،  وأنا خارج من الشقة كي أطفئ أضواء العمارة .
كانت الضربة الأمريكية متوقعة ، فنباح رجل البيت الأبيض ، رولاند ريغان ، كان مسموعا في ليبيا لكل من يتابع الأخبار ، ولهذا لم تكن غارات الطائرات الأمريكية التي استمرت على مدى ساعتين مفاجئة للكثيرين ، وها هي تتأكد الليلة من خلال أزيز محركات الطائرات ، وهي تمرق من فوق رؤوسنا نحن المدرسين العرب الذين تركنا شققنا ، ووقفنا في ساحة تقع أمامها ، وتطل على الطريق العام الذاهب الى مطار بنغازي الذي يسمى " مطار بنينة " وهو قطعة الأرض الليبية الأخيرة التي تركت آخر خطىً عليها ، وأنا أغادر ليبيا بشكل نهائي .
كان الطريق العام ذاك قد شهد زحاما شديدا في حركة مروره تلك الليلة بعد أن كان يغط بسبات عميق ، فقد أيقظت الضربات الجوية تلك الكثير من الأسر الليبية من نومها ، وفي حومة من الفزع والرعب والخوف تركت بيوتها ، وتوجهت كل أسرة منها الى جهة ما ، وعلى غير هدى ، فالأسر التي كانت تسكن غرب المدينة توجهت الى شرقها ، بينما كانت الأسرة التي تسكن غربها سارت نحو شرقها ، وفي حالة من الإرباك ظهرت بشكل جليّ على حركة تلك السيارة ، حتى أنني سمعت في اليوم الثاني أن ضحايا حوادث السيارات في تلك الليلة كان أكثر من ضحايا القصف الأمريكي لمواقع محدد من تلك المدينة .
انتعش مناوئو القذافي للغارات تلك ، وراحوا بعدها يملؤون شوارع مدينة بنغازي بالإشاعات الكاذبة التي تؤكد للناس أن أمريكا ستعاود القصف هذه الليلة أو الليلة القادمة ، وإذا ما انقضت الليلتان دون أن تشهدا قصفا آخر ، قالوا في ليلة قادمة أخرى ، وهكذا عاش الناس البسطاء تحت وابل تلك الإشاعات لأيام معدودة أخرى ، وراحت بعض العوائل تنام خارج بيوتها ، وفي كهف كبير يقع على أطراف مدينة بنغازي باتجاه الشرق ، ولهول تلك الإشاعات ، وفي صبيحة القصف من تلك الليلة خرجت أنا للعمل ، رغم أن بعضا من المدرسين امتنع من الذهاب الى مدارسهم ، وجدت الثانوية التي أعمل بها شبه معطلة ، مكثت بعض الوقت ، ثم خرجت مع مدرس فلسطيني بسيارته لنرى ما حل بالمدينة .
كان هذا المدرس من ( فتح الانتفاضة ) جماعة أبو موسى ، وكان الرجل على خلق قويم ، طيب المعشر ، نقي السريرة ، تجولنا أنا وإياه في المدينة التي كانت مقفرة من أهلها إلا من رجل كان يبيع أكياسا من البرتقال يزيد وزن الكيس منها على عشرة كيلوات ، ويقف على قارعة الطريق ، أشترى كل واحد منا كيسا ، ثم انصرفنا الى بيوتنا .
قرأت في كتاب " بنغازي عبر التاريخ " لمؤلفه القدير محمد مصطفى بازامة ، وهو من أهل بنغازي ما نصه تقريبا : إن الجنود الإيطاليين كانوا يرمون بجثث الشهداء الليبيين على شاطئ البحر المتوسط عند حي الصابري من تلك المدينة ، ولم يجرؤ أحد من أهل المدينة على حملها ، ومن ثمة دفنها ، وتظل في مكانها أياما تنهش بها الكلاب السائبة التي تأتي على جميعها ، وتساءلت مع نفسي وقتها : هل الفزع المبالغ فيه من قبل سكان تلك المدينة في ليلة قصف الطائرات الأمريكية ، هو الخوف الذي منع ذات السكان من دفن جثث ذويهم الملقاة على شاطئ المتوسط  ؟ وهل كان الاثنان ، الفزع والخوف ، مردهما لإشاعات الرعب التي راح الطابور الخامس يملأ بها عقول ونفوس سكان المدينة خاصة السذج منهم .
عدت الى بنغازي بعد أن أمضيت العطلة الصيفية على عادتي خارج ليبيا ، التقيت صدفة في الطريق بمهندس عراقي يعمل في المدينة ذاتها مع أبناء الطبقة البرجوازية التجارية في مؤسسة من مؤسسات الدولة ، ويبدو أنه كان شديد التأثر بما يقولونه له ، فقد كان متحمسا جدا للعملية التي قام بها نفر من المناوئين للقذافي تمثلت بقتل رجل من أعضاء اللجان الثورية ، ذلك التنظيم الذي قام في ليبيا للمرة الأولى سنة 1976م ، ويقال أن أول لجنة ثورية منه تشكلت في جامعة طرابلس ، والأكيد أن هذا التنظيم بناه القذافي نفسه ، متأثرا بما بنته من قبل أكثر من حركة ثورية في العالم ، خاصة بعد أن توطدت علاقة ليبيا باليمن الجنوبي بقيادة عبد الفتاح إسماعيل ، وبأثيوبيا بقيادة منغستو هيلا ميريام ، وكان كلا البلدين يملكان أحزابا ومليشيات شعبية ، وعليه لم تكن فكرة تشكيل تلك اللجان من بنات تفكير القذافي أبدا.
كان محدثي يرى أن المعارضة الليبية قد فاقت المعارضة العراقية بتلك العملية التي أدت الى قتل رجل واحد لا غير ، هو أحمد مصباح الورفلي الذي يثني عليه الكثيرون من أهل المدينة ويذمه آخرون . لقد نسى محدثي ذاك ساعتها أن المعارضة العراقية كانت تملك جيشا كبيرة ، وتحتل مساحة من أرض العراق تقدر بحجم مساحة لبنان ، وحين طرحت هذه الحقيقة عليه لاذ بالصمت ، ولم يرد عليّ بكلمة واحدة.
جاء مقتل أحمد مصباح الورفلي بعد أن مرت ثلاثة أشهر تقريبا على التاريخ الذي شنت فيه الغارات الأمريكية على مدينتي طرابلس وبنغازي ، وقد ساعدت تلك الغارات المناوئين للقذافي على التنفس بصوت عالٍ ، ولهذا شهدت مدينة بنغازي للمرة الأولى طوال مدة عملي فيها أول عملية صدام مسلح يقوم به أنصار الطبقة البرجوازية التجارية ضد عضو في اللجان الثورية هو أحمد مصباح الورفلي ، أمين اللجنة الشعبية للزراعة ، والذي كان يتحمل مسؤولية الإشراف على سوق الفندق لبيع الخضار والفاكهة بعد تأميمه .
نفذ الجريمة تلك تسعة رجال يبدو لي أن ثلاثة منهم كانوا عسكريين ، وذلك لأنهم أعدموا رميا بالرصاص ، ولم يشاهد أحد عملية إعدامهم ، وستة كانوا مدنيين وقد تم إعدامهم في الهواء الطلق من قبل أعضاء في اللجان الثورية بمدينة بنغازي ، وأمام أنظار جمهور كان حاضرا في ساحة الإعدام ، أو أمام أنظار مشاهدي التلفزيون الليبي الذي نقل وقائع تلك المجزرة نقلا مباشرا ، وقد جرى ذلك في شهر شباط " فبراير " سنة 1987م. أي بعد خمسة أشهر ويزيد على مقتل أحمد مصباح الورفلي .
كانت عملية الإعدام تلك عملية بشعة خاصة وهي تنفذ أمام أعين الملايين من الناس ، وبطريقة تخلو من الرفق والرحمة بالمعدوم ، فقد شاهدت أنا رجلا من المنفذين يضرب الرجل المعدوم بكفه على وجهه بعد أن فرغ من تعليقه بحبل المشنقة ، فما كان من ذلك الرجل الذي يتدلى بحبل المشنقة تلك إلا أن بصق بوجه قاتله ، وهو في اللحظات الأخيرة من حياته . لقد  هزني ذلك المنظر مثلما هز الكثيرين غيري ، ولهذا كنت أول المستنكرين لعملية القتل تلك حين كنت جالسا في غرفة المدرسين مع مجموعة منهم في الثانوية التي نعمل بها ، وقلت وقتها لهم : كان من الممكن أن تنفذ عملية الموت تلك بعيدا عن أعين الناس ، وإذا كان يعتقد أن الغرض من نقلها على شاشة التلفزيون هو تخويف الناس ، فهذا قد يتحقق على مدى أيام قليلة ، ولكنه على المدى البعيد سيحول هؤلاء الى حزب نتيجة لتعاطف الناس معهم.
كل الذين كنتم أعرفهم من تنظيم اللجان الثورية ممن يعملون معي في اللجان الثورية كانوا على خلق حميد ، لم تبدر منهم بادرة سوء ضدي أو ضد العاملين معي ، وعلى العكس فقد كنا محل احترام لما نقدمه من عمل ناجح في نتائجه ، مثلما كنا نشارك الأخوة الليبيين العاملين معهم أفراحهم ، وأتراحهم ، وكثير ما نقلتنا سيارة المدرسة كي نعزي زميلا لنا منهم بوفاة ، أو نقدم له التهاني بفرح ما ، ولكن لا يفوتني أن أذكر أنه كان معنا مدرس سمج المعشر ، قليل التواجد في العمل ، وفي نفس الوقت  كان ينتمي الى تلك اللجان . ومع هذا فقد سمعت وقتها أن بعض الطلبة من أعضاء اللجان الثورية في جامعة قار يونس في بنغازي كانوا يتصرفون بشكل متهور مع أنني لم أشاهد طالبا من هؤلاء في الثانوية التي كنت أعمل فيها كان يسئ التصرف ، بل كان هؤلاء يتصرفون بهدوء ، ولن أشاهد كذلك أحدا منهم كان يمييز نفسه عن بقية الطلبة.
والآن وبعد أن مضى معمر القذافي وحكمه ، ها هي الطبقة البرجوازية التجارية تعود لحكم ليبيا بعد أن استظلت لسنوات طويلة بظلال الدول الرأسمالية ، فرئيس وزراء ليبيا الجديد  وهو أبن بار ، أمين من أبناء تلك الطبقة ، فأبوه كان من كبار تجار طرابلس ، ولا زالت بعض عقاراته فيها تحمل اسمه لليوم ، وهو تاجر لا يشق له غبار ، ومن أسرة ثرية نزل فيهم مرض التأميم ، فضاعت ثروتها حين ارتفعت في سماء اغلب المدن الليبية الأسواق الحكومية الحديثة التي دعاها القذافي بالقلاع الاشتراكية .
لقد عادت تلك الطبقة للحكم في ليبيا متمثلة بشخص عبد الرحيم الكيب الذي هجر ليبيا الى أمريكا منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم ، وهناك انضم الى الاحتياطي الأمريكي من أبناء الطبقة البرجوازية التجارية الليبية ، فاستقى من مياه الرأسمالية ما استقى بعد أن تجنس بجنسيتها ، تلك الجنسية التي جعلت منه رجلا أمريكا ، يتساءل الآن الكثير من الليبيين عن مشروعية حكم رجل مزدوج الجنسية يتسنم أعلى منصب سيادي في الدولة الليبية بعد رحيل القذافي عنها !؟ لكنها المشيئة الأمريكية التي فرضتها طائرات الفانتوم ، وصواريخ كروز المدمرة، تلك الطائرات التي جاء معها بابن الطبقة البرجوازية التجارية البار ، أما أولئك الذين ضحكوا عليهم بالدين من فقراء ليبيا فإن نصيبهم من ليبيا " الجديدة " الكثير من الصلاة والصوم بهدوء وسكينة ، أو عليهم أن يتحولوا الى الدين الأمريكي ، مثلما تحول أخدان لهم في العراق ، وفي تونس ، وربما في مصر ، وإلا فستطاردهم الطائرات الأمريكية من دون طيار في رمال الصحراء الليبية مثلما طاردت رفاقا لهم في مغاور جبال إفغانستان ، أو مثلما قتلت رفيقهم العولقي في صحاري اليمن ، أو تنقض عليهم طيور أبابيل البيت الأبيض الأمريكي في عقر دورهم مثلما انقضت على زعيمهم أسامة بن لادن الذي حرموه حتى من قبر يُزار بعد أن رموا جثته في أعالي البحار .

 


46
المنبر الحر / حديث ليبيا (4)
« في: 01:14 04/11/2011  »
حديث ليبيا (4)
                    سهر العامري
توزع التقسيم الطبقي في ليبيا ، مثلما ذكرت ذلك من قبل ، بين مجموعات بشرية محدودة العدد تراوحت بين رعاة الماشية ، فالفلاحين ، ثم البرجوازية التجارية حين لاحظت أنا ذلك في زيارتي الأولى لليبيا وقت أن كانت الطبقة البرجوازية الصغيرة لا زالت صغيرة العدد ، وذلك لجملة من العوامل أهمها هو أن عدد نفوس ليبيا كان في بداية الاستقلال من مطلع خمسينيات القرن المنصرم لا يتعدى مليون إنسان ، بينما صعد هذا الرقم في بداية الثمانينات من القرن نفسه الى ستة ملايين ، وهذا ما ساعد على اتساع الطبقة البرجوازية الصغيرة التي عملت الثروة النفطية الليبية المؤممة بشكل فاعل على تبلورها في دوائر الدولة ومؤسساتها الاقتصادية . أما الطبقة العاملة الليبية فتكاد تكون شبه غائبة ، وذلك بسبب من أن هذا الطبقة كان جل أفرادها من العمالة الوافدة الى ليبيا من بلدان مختلفة ، حتى أنني اعتقدت ساعتها أن ليبيا فاقت دول الخليج العربي بكثرة تعدد جنسيات العمال الوافدين لها ، وفي السنوات الأخيرة من ثمانينيات القرن المنصرم ضمرت هذه الطبقة ، وذلك حين عمد العقيد القذافي الى تمليك معامل مهمة ومصانع صغيرة الى العمال الليبيين أنفسهم ، وبذا تحول هؤلاء بين ليلة وضحاها من عمال أجراء الى ملاك شركاء ، صاروا ساعتها يحرصون على العمل ، ويحافظون على ملكيتهم الجديدة التي ما كانوا ليحلموا بالمردودات الكبيرة التي كانت تدرها عليهم ، وهم الذين كانوا للأمس القريب لا يملكون غير قوة عملهم .
وجهت واحدا من طلابي ، اسمه محمد عبد الله من أهل بنغازي ، الى مواصلة دراسته في أحد المعاهد الفنية بسبب عدم مقدرته من مواصلة دراسته في فروع دراسية أخرى ، وبعد أن مرت سنوات قليلة على ذلك التقاني في شارع من شوارع  تلك المدينة ليشكرني بحرارة على توجيهي ذلك ، فقد تخرج هو في ذلك المعهد ، وبفرع الكهرباء منه ، وعُين عاملا فنيا بعد تخرجه مباشرة في منشأة الأول من سبتمبر الكائنة بمحلة الرويسات على ما أذكر ، لكنه بعد ذلك صار يملك حصة في ذلك المعمل بعد التمليك المشار إليه من قبل ، وقال لي وقتها : لقد أصبحت يا أستاذ من أصحاب الثروة ، وأملك لنفسي سيارتين الآن .
أضيف الى ذلك أنني في عودتي الثانية الى ليبيا نهاية سنة 1981م لم أشاهد تلك الخيام التي شاهدتها صيف سنة 1973م ، ويبدو لي أن سبب ذلك يعود الى أن حجم البشر العاملين في الرعي قد تقلص كثيرا حالهم في ذلك حال الطبقة البرجوازية التجارية التي أتى عليها تأميم التجارة الداخلية والخارجية ، وعلى هذا يكون حماة النظام سواء كانوا في الجيش ، أو في الجهاز الإداري ، أو في اللجان الشعبية أو الثورية هم من أبناء الطبقة البرجوازية الصغيرة التي كان العقيد نفسه ينتمي إليها ، وبغض النظر عن الأصل القبلي الذي انحدر منه أبناء هذه الطبقة ، أو الشرائح الفقيرة التي جاءوا منها ، وإنني على ثقة من أن هؤلاء ومن على شاكلتهم من الليبيين لن يكون لهم ذات المواقع المهمة في الحياة الإقتصادية الليبية ، وفي المواقع المهمة من الجهاز الإداري بعد أن عاد ممثلو الطبقات المهزومة للحكم بفعل حمم طائرات الناتو.
أما التقسيم القومي في ليبيا فيقوم على العرب الذين يشكلون أكبر قومية فيها ، تتوزع بين قبائل عربية متعددة تنحدر من جنوب شبه جزيرة العرب ( اليمن ) في أغلبها ، حالها في ذلك حال القبائل العربية التي خرجت من اليمن واستوطنت في وسط وجنوب العراق ، ولهذا تشاهد أناسا من أبناء قبيلة ربيعة في ليبيا ، مثلما تشاهدهم في العراق ، وتشاهد أبناء قبيلة العريبي في جنوب العراق مثلما تشاهد أبناءها كذلك في ليبيا ، ومن الطريف أن أذكر هنا هو أنني كنت على معرفة بطالب عراقي اسمه " إشتيوي " كان يدرس معي في المرحلة الإبتدائية في جنوب العراق ، ولكن بعد سنوات صرت على معرفة بطالب ليبي يحمل الاسم نفسه في أول مدرسة عملت بها في مدينة بنغازي ، وعلى ذلك يمكنني القول إن القبائل العربية هذه هي التي نهضت بما عرف في التاريخ العربي الإسلامي بالفتوحات الإسلامية سواء كان ذلك شرقا نحو إيران وأقاصي السند الهند أو غربا نحو الأندلس وجنوب فرنسا ، أما ما استقر من هذه القبائل العربية في ليبيا فينتشر الآن على أغلب الأراضي الليبية ، في الشمال مثلما في الجنوب وفي الشرق مثلما في الغرب.
أما أبناء القومية الثانية فهم البربر الذين استوطنوا غرب ليبيا باتجاه الحدود التونسية ، وهم أقلية يقل عنها أبناء قومية أخرى هم الشراكسة الوافدين من جبال القفقاس زمن الإمبراطورية العثمانية التي حكمت البلاد العربية ، والذين باعوا خدماتهم لسلاطين تلك الإمبراطورية مقابل تنصيبهم حكاما كمماليك على بعض من أقطار عربية مثل العراق وسورية وليبيا ، ويقطن هؤلاء في أغلبهم في مدينة مصراتة ، وهم الذين انتقموا من كل عربي في سرت شر انتقام ، حتى أن كتيبتهم المعروفة بالنمر عاثت فسادا في تلك المدينة ، وقتلت أعدادا غفيرة من أبنائها ، مثلما دمرت الكثير من بيوتها بسبب ودون سبب ، وبين يدي شهادة لعدد غير محدود من الشهود عن الأعمال الدنيئة التي قام بها ما عرفوا بصبيان الناتو القادمين من مدينة مصراتة ، وبقيادة كتيبة النمر تلك . يقول أحد الشهود وهو ( فرج الهمالي الذي كان يعمل في مطعم فندق مهاري سرت إن متطوعين نقلوا 80 جثة من ساحة في ذلك الفندق ، فيما تحدثت منظمة مراقبة حقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتش" عن 53 جثة. ونقلت صحيفة كريستيان ساينس مونتر عن الهمالي قوله إن ثوار مصراتة أعدموا الضحايا مضيفا إن هؤلاء الثوار أسوأ من القذافي.)
كانت كتيبة النمر هي التي سيطرت على الفندق المذكور ، وهي المسؤولة عن قتل أولئك وغيرهم ، وعلى ما يبدو أنهم هم الذين حملوا جثة القذافي وابنه المعتصم الى مدينة مصراتة ، و مثلوا بجثته حتى أنهم أدخلوا أنبوبا في شرجه ، ولهذا أشارت صحيفة الغارديان البريطانية حين كتبت : إن ( صور اللحظات الأخيرة من حياة القذافي ، بما فيها صور للقذافي الجريح وهو يغتصب بشيء يشبه المدية  أثارت اشمئزازا واسع النطاق خارج البلاد ). ( يمكن للقاريء مشاهدة ذلك من خلال الرابط التالي ) : http://www.youtube.com/watch?v=ZLGY5czS1XQ&feature=player_embedded&oref=http&skipcontrinter=1
إن وسيلة التعذيب عن طريق الخوزقة ، أو القوقزة قد عرفت على نطاق واسع زمن حكم المماليك في البلدان العربية ، حيث كانوا يدخلون قضيبا من حديد في شرج الضحية ، ويتركونه يتعذب الى أن يموت ، وكان أول من استخدم طريق التعذيب والموت هذه ، مثلما يشير الى ذلك أبو التاريخ ، هيرودوت هو الملك الفارسي داريوس الأول حين قام بإعدام ثلاثة آلاف عراقي حين استولى على مدينة بابل العراقية . والسؤال الآن هل أراد أبناء شراكسة مدينة مصراتة أن يذكروا العرب والعالم بالفعل الشنيع ، والدنيء لأجدادهم المماليك خدم سلاطين بني عثمان بدق قضيب بمؤخرة القذافي ؟ أنا نفسي أجيب بنعم عن هذا السؤال .
ولي أن أنقل هذه الشهادة ثانية عن صحيفة كريستيان ساينس مونيتر التي نقلتها عن الحاج عثمان بلحاج وهو قائد عسكري ينتمي إلى كتيبة مصراتية أخرى يقول ( إن " الثوار " كانوا يدمرون المبنى إذا كان فيه قناص موال للقذافي ولكن كتيبة النمر كانت تفجر المباني بلا سبب.) وتضيف الصحيفة المذكورة تلك ( إن المسؤولين في مصراتة صاروا ينظرون إلى الحديث عن إجراء تحقيق في مقتل القذافي باعتباره محاولة من قبل المجلس الوطني الانتقالي المهيمن عليه من قبل بنغازي ليظهر أهمية له في مرحلة ما بعد القذافي.) وتواصل فتكتب : ( إن هوية الرجل الذي يعتقد أنه أخرج مسدسه من عيار 9 ملم من حزامه وأطلق النار على الدكتاتور الجريح ، معروفة على نطاق واسع في مصراتة .)
أما ما تبقى من الليبيين فهم الملونون سواء كانوا ليبيين أم أفارقة ، هؤلاء الذين يتعرضون الآن للموت والملاحقة بحجة أنهم كانوا يدافعون عن القذافي ونظامه وهذا ما حدا ببعض المنظمات الدولية الى استنكار هذه الجرائم البشعة بحق هؤلاء ، والتي ترتكب على أساس اللون والعرق وليس على أساس جريرة وذنب . وبعد هذا وذاك يمكنني أن أضيف الى سكان ليبيا ، عدا ما ذكرت ، بعض البيوتات التي ينحدر أفرادها من عنصر فارسي ، وهؤلاء لازالوا يحملون هذا اللقب لليوم فيها.
مع كل ما تقدم ، ووفقا للمنهج المادي الجدلي الفلسفي ، وليس لمفاهيم الحرب الباردة ، تظل البرجوازية التجارية الليبية بمختلف منحدراتها القومية هي من قادت المعارضة منذ الساعة التي أنزل معمر القذافي مرض التأميم بجسدها فأصيبت بحمى العطش الى المال المفقود ، فمات من مات منها ، وعبر الآخرون البحر الى ضفاف أخرى ، لكنهم لم يلقوا السلاح أبدا ، وقد وجدوا في الدين خير وسيلة يمكن لهم أن يحاربوا القذافي وجنده بها ، ولهذا تركز نشاط تلك الطبقة على تحريض الشباب ، والطلاب بخاصة منهم ، مثلما عملت على تخريب ، وإفشال بعض المشاريع الحكومية من خلال أبنائها العاملين في الجهاز الإداري ، والذين صاروا يشككون بنجاح أي مشروع خدمي كانت الدولة تسعى للقيام به ، مستغلين في ذلك عدم رصانة ذلك الجهاز ، وعدم تعود المواطن الليبي على العمل المنضبط بساعات عمل محددة ، فالدولة الليبية كانت حديثة العهد ، والعامل الليبي فيها كان لأيام قريبة يمد الطرف منه الى أعماق الأفق الرحب في قبيلة يعمل جل أفرادها في رعي الماشية أو في زراعة الأرض .
توقف معمل لتصنيع المشروبات الغازية في مدينة بنغازي بسبب من سوء إدارة ذلك المعمل ، وتسيب عماله الذين كان جلهم من الليبيين ، ولهذا أنتدب مدير الثانوية التي كنت أعمل فيها لاستلام إدارة ذلك المعمل ، وكان هو رجلا مخلصا جدا في عمله ، مثابرا عليه بشكل يثير الإعجاب ، متواضعا يعمد الى حمل سطل مصنوع من المطاط ، ثم يدور في ساحات تلك الثانوية لجمع الأوراق المتناثرة التي يتركها الطلاب وراءهم بعد الفرص التي تتخلل دروسهم، وهو بالإضافة الى ذلك كان عضوا متقدما في تنظيم اللجان الثورية التي سيأتي الحديث عنها ، وإنني على مدى السنوات التي أمضيتها في مدينة بنغازي لم أشاهد رجلا ليبيا أو امرأة ليبية بمثل مثابرة هذا الرجل ، وحبه الدائم للعمل .
لم تمض ِأيام قليلة على تسنمه منصب إدارة ذلك المعمل حتى صارت المشروبات الغازية ، ومن أنواع مختلفة ، وليس فقط الببسي كولا ، تغطي مدينة بنغازي وضواحيها ، لا بل إن إنتاج هذا المعمل صار يصل الى مدن بعيدة أخرى عن مدينة بنغازي كطرابلس مثلا . وكان سبب هذا النجاح هو أن المدير الجديد قد اكتشف أن المدير السابق وعماله هم من ساهم في إفشال هذا المشروع ، وكان همهم الوحيد هو استلام رواتبهم الشهرية دون أن يقدموا ساعة عمل مخلصة مقابل ذلك ، ولهذا قرر طردهم جميعا من العمل ، وإحلال عمال جدد بدلا عنهم.
كان القذافي هو الآخر يرد على النشاط المحموم لتلك الطبقة ، لكن تلك الردود لم تكن موفقة في أحيان كثيرة ، فمثلا ولكي يبعد هو شرور تلك الطبقة عن الطلاب قام بتحويل المدارس الى ثكنات عسكرية ، وبإدارتين : مدينة ، وعسكرية ، وصار الدارسون فيها طلابا وجنودا في الوقت نفسه ، وهذا ما كان مثار تذمر وإزعاج للكثير منهم رغم أن ذلك حد من تأثير ذلك النشاط على عموم الطلاب ، ولكنه انعكس على صحة الطلاب المناوئين له ، فأصيبوا بأمراض نفسية ، تركوا على إثرها الدراسة وتوجهوا صوب حبوب الهلوسة ، وكان من بين هؤلاء طلاب أذكياء عندي ، كنت أحترمهم كثيرا ، وقد حاولت مرارا أن أقنعهم بالعودة الى الدراسة ولكنني لم أفلح ، رغم أنني أفلحت مع طالب ذكي آخر ، كان يتيم الأب ، ترك الدراسة ، بسبب من رفض أخيه الإنفاق عليه ، وحين علمت ذلك من زملائه الطلاب بسبب تغيبه في يوم ما من أيام الدراسة توجهت الى مدير الثانوية ، وقلت له أنا مستعد أن أقدم جزءً من راتبي له على أن يعود الى الدراسة ، فرد المدير عليّ قائلا : الثانوية تمتلك بعض المال من حانوت المدرسة ، ومن تلك الأموال ستقوم بالإنفاق عليه ، وإنني سأتصل به اليوم ، وسيكون عندك غدا .




47
المنبر الحر / حديث ليبيا (3)
« في: 23:10 29/10/2011  »
حديث ليبيا (3)
                          سهر العامري
غربت شمس جمال عبد الناصر بعد موته عند العقيد معمر القذافي ، وتبعها نتائج حرب أكتوبر بين العرب والإسرائليين سنة 1973م ، تلك النتائج التي أدت الى وقف إطلاق النار الذي رفضته بعض الأقطار العربية المتمثلة بجبهة الصمود والتصدي ، والتي كانت ليبيا بقيادة معمر القذافي طرفا فيها ، حيث عقدت أول اجتماع لها في طرابلس في اليوم الثاني من شهر كانون الأول " ديسمبر " عام 1977م. وبذلك ابتعدت ليبيا عن مصر  بعد أن تقرر نقل مقر الجامعة العربية منها الى تونس.
قبيل ذلك دارت مناوشات عسكرية على الحدود ما بين مصر وليبيا ، مثلما دارت حرب إعلامية شعواء ، كان من نتائجها أن السادات قرب الكثير من طلائع المعارضين الليبيين من العسكريين كالرائد عمر المحيشي ، وغيره من أزلام النظام الملكي البائد الذين خرجوا من ليبيا مبكرين لها ، ثم تبعتهم أعداد أخرى فيما بعد من ممثلي الطبقة البرجوازية التجارية ( الكمبدرالية ) على إثر التأميمات التي طالت التجارة الداخلية والخارجية في ليبيا، هذا بالإضافة الى تأميم شركات النفط العاملة فيها ، والتي تمت على مراحل بدءً بالعام 1971م. والأغلبية الساحقة من ممثلي هذه الطبقة استطاعوا العيش في كنف النظم الرأسمالية الغربية في بلدان مثل : إيطاليا ، بريطانيا ، فرنسا ، وأمريكا وفي دول الخليج العربية وغيرها ، والذي ساعدهم في ذلك معرفتهم وعلاقاتهم التجارية بتلك البلدان . وهذا لا يعني أن كل الذين حل بهم مرض التأميم من أبناء هذه الطبقة قد تركوا ليبيا ، وإنما ظل فيها من ظل ، ومات على إثر ذلك من مات .
في أول وصولي الى مدينة بنغازي نهاية سنة 1981م ، زرت مدرسا ليبيا في داره ، طالبا منه أن يدلني على بيت مدير المدرسة التي نعمل بها سوية ، خرج معي سيرا على الأقدام ، وبعد مسافة قصير ، سألني قائلا :
هل ترى هذه البيوت العالية التي أمامك ؟ قلت له : نعم . ما بها ؟ قال : يا أستاذ والله أنا لا أعلم أن الإنسان يحب المال الى درجة العبادة والموت ! قلت كيف ؟ قال على إثر تبديل العملة الليبية ، كان الواحد من أصحاب هذه البيوت يخرج من بيته وهو حامل كميات كبيرة من العملة الليبية القديمة ، وحين يصل بها الى المصرف من أجل استبدالها بالعملة الليبية الجديدة  يفتحون له حسابا خاصا به ، يدون فيه المبلغ كله ، لكنه لا يستطيع أن يسترد تلك الأموال في الحال ، وإنما المسموح له هو سحب 500 دينار كل شهر ، فصار الواحد منهم حين يعود الى داره يصاب بسكتة قلبية ويموت .
حضرتني وقتها قولة كارل ماركس التي تقول : إن صاحب رأس المال إذا ما بلغت أرباحه من ثروته 300% فإنه مستعد لاقتراف أي جريمة بحق أي شخص يحاول منعه من تحقيق ذلك الربح ، ولكنني بدلا من ذلك قلت لمحدثي : إن والدتي كانت تقول دائما : إن المال وسخ دنيا ! فقال لي : والله ما كنت أنا وغيري نصدق أن هناك بعض من البشر يحبون المال الى درجة الموت.
لقد قادت تلك الطبقة التي ارتبطت مصالحها بمصالح البرجوازيات الغربية الصراع ضد العقيد القذافي ، وقد لجأت الى الدين زيفا كسلاح فكري تحارب به كل كلمة يقول القذافي وتعتبرها خروقا عن الدين ، مثلما تعتبر صاحبها رجلا كافرا ، ولا يتوانون من نعته بالشيوعي الكافر .
طلبت من صاحب سيارة إجرة استأجرتها من بنغازي الى طرابلس أن ينزلني في الساحة الخضراء ، فرد على عجل : قل – يا رجل – الساحة الحمراء ! ويريد هو تشبيها بالساحة الحمراء في موسكو رغم أن القذافي ما كان ليكون شيوعيا أو حتى ماركسيا في يوم من الأيام بل أنه أراد أن يكون بديلا عن الإشتراكيين في نظرية العالمية الثالثة مثلما سماها في كتابه الأخضر ، ولهذا الغرض حارب هو الماركسيين اللليبيين بجد كما قيل لي ، مع أنني لم أقابل ليبيا واحدا كان ماركسيا طوال السنوات الطويلة التي عشتها في مدينة بنغازي الجميلة.
وفقا لنظريته الثالثة أراد معمر القذافي أن يميز نفسه حتى بلون كتابه ، وبلون علمه الأخضر ، وهذا اللون في حقيقة الأمر هو لون شعار تبنته الدولة الفاطمية التي حكمت المغرب العربي الكبير الى جانب مصر من قبل ، وربما كان التبني لهذا اللون بتأثير من هذا الموروث التاريخي ، زد على ذلك أن القذافي ، كما قيل لي ، كان يدعي أن قبيلة القذاذفة ترد في أصولها الى الأمام موسى الكاظم ، ولهذا كان يحصر على التوجه الى زيارة ضريح الإمام موسى الكاظم في بغداد حين كان يحضر مؤتمرالقمة العربية فيها . 
لقد استثمرت طبقة البرجوازية التجارية الليبية الدين الى أقصى حد ، ونجحت في الاستحواذ على أفكار الكثير من الشباب خاصة الطلاب منهم عن طريق ذلك ، وقد وقع في حبائلها الكثير منهم مع أنهم ينحدرون من طبقات كانت لوقت قريب تعيش في فاقة وحرمان وتسكن في أكواخ تحولت فيما بعد الى أحياء ، وقرى عامرة ، وعمارات شاهقة بنيت على طرز حديثة، وتوفرت لها المياه الصحية والكهرباء المتواصلة ، والطرق والساحات المعبدة.
فاجأني مرة طالب من هؤلاء ، وأنا خارج من الدرس سائلا : هل يجوز يا أستاذ ذكر اسم الله في المرافق !!؟ قلت له : عليك أن تذكر اسم الله قبل دخولك المرافق تحوطا ! وكنت ساعتها أستهجن هذه الوسيلة التي كان يساق بها هؤلاء الشباب نحو كمائن معدة بعناية ينصبها لهم ممثلو تلك الطبقة المحطمة بالتأميم ، والتي هي في حقيقة الأمر تأنف من الفقر وفقراء الناس ، ولا تريد لأحد أن يساويها بهم .
تعرفت على مدرس ومترجم من أبناء تلك الطبقة ، كانا باستمرار يسخران من انحدار معمر القذافي الطبقي ، فهو بدوي ، غير متحضر ، قادم من الصحراء ، هو " أبو نويقة " ويعنون بذلك صاحب الناقة ( البعير ) ، وكان أحدهم يقول لي أن أمريكا ستقضي عليه في العاجل من الأيام ، ويردد هازئا : هم ثلاثة : قضت أمريكا على نوريقه ، وعلى أورتيقه وبقي لها أن تقضي على ثالثهم : أبو نويقه ! يعني بالأول رئيس جمهورية بنما ، وشرطي دائرة المخابرات المركزية الأمريكية الذي تمرد على أوامرها ، فما كان من الرئيس الأمريكي رولاند ريغن إلا أن القى القبض عليه في قصره الجمهوري ، ليضعه في سجن تحت الأرض في مدينة ميامي ، هو والشيخ الضرير عمر عبد الرحمن المجند من قبل تلك الدائرة في حرب الجهاد الأمريكي في أفغانستان . أما الثاني فهو زعيم الساندنيستا بقيادة أورتيجا في نيكاراغوا الذي أزاحته عن السلطة في بداية الأمر عصابات الكونترا الأمريكية  والممولة بأموال الشعب في المملكة العربية السعودية . أما الثالث : فهو معمر القذافي الذي قتلته طائرات الحلف الأطلسي شر قتلة ستظل وصمة عار في جبين من يدعون الديمقراطية وحكم القانون من تجار الحروب والدمار . قتلة تشهد على بربرية القادمين للحكم في ليبيا ، وعلى نفاق شيخهم مصطفى عبد الجليل الذي كان لأيام يسبح بحمد القذافي ثم سرعان ما صار يسبح بحمد أمريكا ، وهذا شاهد من أهل ليبيا يقول بحق هذا الانتهازي الجاهل الذي سرعان ما تراجع عن تصريحاته في الخطاب الذي ألقاه باحتفال في يوم سموه يوم تحرير ليبيا ، وذلك بعد أن زأر عليه أسياده في الغرب خاصة فيما قاله من كلام يتعلق بالمرأة وتعدد الزوجات . يقول محمد عبد المطلب الهوني عنه ( السيد مصطفى عبد الجليل رجل جاهل لا يصلح إلا أن يكون مأذونًا شرعيًّا للتّزويج والتّطليق. ففي يوم إعلان التحرير لم يكن في ذهنه غير شيء واحد هو إلغاء القانون الذي يحدد تعدد الزوجات، وهذا القانون لم يكن منّة من القذافي، بل كان نتيجة نضالات المرأة الليبية، ولأكثر من ستة عقود. وإن محاولة إلغاء قانون الفوائد في المصارف التي يعتبرها "ربويّة"، متناسيًا أنه بدون مصارف وطنية وأجنبية لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد مزدهر، ولن يكون في مقدور العاطلين من الشباب أن يحققوا أحلامهم في الرخاء الذي يأمّلونه بعد الثورة.
إن عبد الجليل لا يؤمن بالديمقراطية، ويعتبر أن أحكام الدستور يمكن أن يدلى بها من على منصة الخطيب فتصبح سارية المفعول. وهو معذور، لأنه لم يكن في يوم من الأيام دارسًا للقانون أو عارفًا في فقهه ، وإنما كان متخرجًا من الجامعة الإسلامية، فلا يعرف غير أحكام الحيض والنفاس ونواقض الوضوء.أما عن أحكام الدساتير، ونواقض الديمقراطية، فهذا ما لم يكن يعنيه في أي وقت من الأوقات. إن مصطفى عبد الجليل سار على النّهج نفسه الذي انتهجه معمّر القذافي، وهو نهج كان عورة ليبيا المكشوفة بإطلالتها القبيحة على العالم، جاعلاً من الثورة والثوار أضحوكة العالم في يوم انتصارهم، وكأن ليبيا لا تنجب إلا الزعماء السذّج والمشوهين لإثراء جلسات التنكيت والتندر.)

تلك القتلة كذلك قال عنها الرئيس الكوبي ما نصه إن : ( هذا الحلف العسكري المتوحش قد أصبح أكثر أدوات القمع غدرا في تاريخ البشرية.) وأضاف إن جثمان القذافي : ( سُرق وعرض وكأنه غنيمة من غنائم الحرب في تصرف ينتهك حتى ابسط مبادئ الدين الإسلامي وغيره من الأديان والمعتقدات.)
قلت بعد أن خبا وهج عبد الناصر بأعين القذافي صار يبحث عن رفاق جدد ، ومن منطلقات موقعه الطبقي البرجوازي الصغير ، المحكوم بالتذبب شأنه في ذلك شأن أي برجوازي صغير ينحدر من هذه الطبقة ، لكن ثقافته الدينية والاجتماعية التي أمضاها مع أسرة في الجنوب الليبي المتخلف ( سبها ) منعته من يتحول فكريا الى أكثر مما تحول إليه حيث هيمنت أفكار عبد الناصر عليه في بداية الأمر ، والذي يقول : إن القذافي نهج نهجا ثوريا  أو تحول تحولا فكريا بعد الزيارة التي قام بها الزعيم الكوبي الثوري فيديل كاسترو فهو واهم ، لقد شهد كاسترو ، كضيف شرف ، وقائع الإجتماع الإستثنائي الأول الذي عقده مؤتمر الشعب العام في مدينة سبها المشار إليها من قبل ، وذلك في اليوم الثامن والعشرين من شهر شباط " فبراير " من سنة 1977م ، وهو الاجتماع الذي شهد اعلان قيام "سلطة الشعب" و "والنظام الجماهيري" على أساس ما رآه القذافي في الفصل الأول من كتابه الأخضر الذي نشر في الخامس عشر من آذار " مارس " من نفس السنة.
إن بحث القذافي ذلك قاده الى مدّ وشائج العلاقة مع حركات التحرر في الوطن العربي ، وفي العالم كذلك ، ففي الوطن العربي كانت له علاقات في مد وجزر مع منظمة التحرير الفلسطينية حين كانت تتخذ من بيروت مقرا لها ، مثلما كانت له علاقات مع أحزاب يسارية لبنانية من بينها الحزب الشيوعي اللبناني ، ومنظمة العمل الشيوعية جماعة " محسن إبراهيم " وقد قاتلت بعض من هذه الفصائل معه في حرب تشاد التي خسرها جيشه ، كما ارتبط بعلاقات مع حركات كردية في كل من العراق وتركيا ، وكان حزب العمال الكرستاني في تركيا يعمل بشكل علني بين العمال الأتراك وقت أن كنت أنا أعمل في مدينة بنغازي ، هذا بالإضافه الى ارتباطه بحركات أخرى في العالم ، ويبدو أنه كان يريد من هذه الحركات أن تتبنى نظريته الثالثة التي جاء فيها كتابه الأخضر الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
سألني عضو لجنة تعليمية ليبية لاستقدام مدرسين عرب من عمان في الأردن الى ليبيا ، وكنت أنا وقتها في بنغازي قائلا : لماذا أنتم العراقيون لا تؤمنون بالكتاب الأخضر ؟ قلت له : ومن قال لك ذلك ؟ قال : كنت أحدث أحد المدرسين العراقيين في عمان من الأردن عن الكتاب الأخضر ، لكنه سرعان ما ردّ هازئا : إن الكتاب الأخضر بحاجة الى أسمدة كيمياوية حتى يصير أخضر !
مع هذا أنا لم أقابل رجلا أو امرأة في ليبيا له قدرة القذافي على المناورة ، واستيعاب الواقع السياسي في بلده ، وفي المحيط الدولي ، وكثيرا ما كان يصيب في تحليله السياسي ، ويبدو أن مرد ذلك يعود الى اطلاعه على واقع ذلك البلد ، وعلى الظروف السياسية المحيطة به من حيث كونه هو رئيس الدولة ، كما إنه في المناورة يستطيع أن يتراجع عن أي قرار يتخذه في لحظة ما ، رغم أن كلامه من خلال التلفزيون أو المذياع يتحول الى قرارات بفعل بعض المسؤولين الذين يهبون الى تطبيقها ساعة قولها من أجل إرضائه على ما يبدو .
سأل مرة الحاضرين في اجتماع ما : لماذا يسافر الليبيون بكثرة الى دمشق ؟ جاء الرد من أحد الحضور : أنهم يذهبون هناك من أجل شراء الشيكولاتة ! رد هو : باهي : ابنوا لهم هنا مصنع للشيوكلاتة ! لم تمر إلا أشهر معدودة حتى قام مصنع متطور لصنع الشيكولاتة تلك في مدينة بنغازي ، صار يبيعها بسيارة حديثة تطوف شوارع المدينة . وهذا مثال واحد ، وهناك الكثير غيره .


48
المنبر الحر / حديث ليبيا (2)
« في: 16:09 26/10/2011  »
حديث ليبيا (2)   
                   سهر العامري
كانت السفارة التونسية في الجزائر العاصمة هي التي تسببت في ركوبي ذاك الطريق الوعر والطويل جدا ، وذلك برفضها منحي تأشير مرور عبر الأراضي التونسية الى ليبيا ، وطلبت مني عوضا عن ذلك تقديم كتاب رسمي من السفارة العراقية في الجزائر ، ومن شخص السفير العراقي فيها ، يتضمن ما يشبه طلبا منها بمنحي تأشيرة المرور تلك .
قدرت أنا أن السفارة التونسية لا تريد أن تلبي طلبي ، ولا طلب أي عراقي آخر ، فقد كانت العلاقات بين تونس والعراق على ما لا يرام ، ولكنني مع ذلك توجهت الى سفارتنا في ضاحية حيدرة من الجزائر العاصمة ، وطلبت مقابلة السفير عبد الملك الياسين الذي أصبح فيما بعد رئيس ديوان التشريفات زمن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر ، وحال دخولي على السفير وعرضت عليه ما طالبت به سفارة تونس رد السفير وقتها ، وفي وجهه شيء من الحنق بأن هؤلاء لا يستحقون سطرا واحدا ، فضلا عن كتاب رسمي ثم أطلق عليهم كلمة نابية على ما أتذكر !
حال خروجي من غرفة السفير صرت وجها لوجه مع مسؤول البعثة التعليمية رافع التكريتي الذي أصبح سفيرا للعراق في تركيا على ما اعتقد ثم اختفى فيما بعد ، وكان هو قادم للسفارة بأمر ما ، سألني ماذا تعمل الآن بعد رفض السفير ؟ قلت وبي شيء من الغضب : سأعتصم هنا وفي هذا المكان من السفارة ! قال هو : اعتصم أنت ، وسأعتصم معك ! عند ذاك قلبت الأمر ، وفكرت مليا بكلام مسؤول البعثية التعليمية ، وتبادر لذهني أن السفير العراقي كان محسوبا على التيار القومي في العراق ، وهو من بقايا النظام العارفي في الخارج ، بينما كان مسؤول البعثة بعثيا ، وقد أرسلته الحكومة العراقية هو ومجموعة معه من أجل مراقبة المدرسين العراقيين في الجزائر ، والذين كان في أغلبهم من ذوي ميول يسارية ، فهم ما زالوا غير ملطخين بأوضار البرجوازية الصغيرة ، ولا زالوا يحملون نفسا ثوريا اعتاد الشباب حمله في مراحل الدراسة المتقدمة.
هل كان اندفاع رافع التكريتي للاعتصام معي يقع ضمن الصراع الدائر بين القوميين من جهة وبين البعثيين من جهة أخرى؟ أو بعبارة أخرى ، هل كان ذاك الاندفاع يقع ضمن صراع بين السفير العراقي القومي ، وبين مسؤول البعثة التعليمية البعثي ؟ كان جوابي : نعم . ولهذا رفضت الاعتصام ، وفضلت أن أسلك طريقا يزيد على خمسة آلاف كيلومترا يأخذني الى جنوب الجزائر ، ثم الى جنوب ليبيا الذي كانت وقتها تسمح لأي عربي بالدخول الى أراضيها دونما تاشيرة مرور أو سفر .
مرت ثماني سنوات صحاح على ذلك وجدت نفسي بعدها في مدينة بنغازي الليبية أعمل بعقد مع اللجنة الشعبية للتعليم في بنغازي بعد أن غادرت العراق مكرها نتيجة للحملة الشرسة التي شنها صدام على الشيوعيين العراقيين ، وخاصة أولئك العاملين منهم في سلك التعليم على مختلف مستوياته ، حيث رفع النظام المقبور شعارا يوجب تبعيث التعليم في العراق بنهاية عام 1980م ، ولهذا اعتقلت أربع مرات من قبل مديرية أمن كربلاء ، وقد جرى اعتقالي في مرة من تلك المرات على يد مدير امن كربلاء ، العقيد صلاح التكريتي ، حين كنت ألقي درسا على طلابي في متوسطة الكرامة بمركز مدينة كربلاء ، ومن دون أن يمر المدير المذكور على إدارة المدرسة لأخذ الأذن منها . ولكن بعد خروجي من المعتقل في هذه المرة استطعت الخروج من العراق الى سورية ليلا ، وفي رحلة لم تخلُ من المخاطر .
في اليوم الثاني من وصولي الى بنغازي ، وهو اليوم الذي صادف الثامن والعشرين من شهر كانون الأول " ديسمبر " 1981م عينت في مدرسة إعدادية تقع في مركز مدينة بنغازي ، وفي محلة منها تدعى " السلماني الشرقي " وكنت أنا ونفر من المدرسين العراقيين قد تعاقدنا مع اللجنة الشعبية للتعليم في بنغازي في سفارة الجماهيرية الليبية بدمشق التي وصلتها من عدن حيث صرفت هناك أقل من سنتين من سنوات عمري .
تمّ تعيني في هذه المدرسة القريبة على أساس النجاح الباهر الذي حققته في المقابلة التي أجرها معي خمسة من المختصين الليبيين ، وأخص بالذكر منهم الأستاذ أحمد حنبلي السنوسي ، وكان رجلا دمث الأخلاق ، طيب الطوية ، وهو الذي أخبرني بنتيجة تلك المقابلة التي تواصلت على مدى أكثر من ثلاث ساعات ، والتي لم يتركوا شيئا يدور في خواطرهم مما يخص اللغة العربية وآدابها إلا وسألوني فيه ، حتى أنهم سألوني إن كنت أحفظ شيئا من المعلقات السبعة أو العشرة ، وقد تلوت عليهم عشرين بيتا من معلقة امرئ القيس .
لوصولي المتأخر عن بدء الدوام في المدارس الليبية اقترح عليه معاون مدير المدرسة المذكورة أن أقوم بتدريس التربية الإسلامية كي أزيل تعب بعض الحصص عن بقية المدرسين في جميع صفوف تلك الإعدادية ، والذين كان أغلبهم من المصريين ، لكنني رفضت ذلك بإصرار ، وقلت له : إنني كي أنجح لا بد لي أن أقوم بتدريس اختصاصي رغم أنني قمت بتدريس مادة التربية الإسلامية في أكثر من مرحلة ، وأكثر من دولة.
استغرب الرجل قائلا لي : لأول مرة أشاهد مدرسا يعرض عليه عملا سهلا ويرفضه ! بعدها توصلنا الى اتفاق يقوم على أن أدرس ثماني حصص فقط خلال الأسبوع الواحد ولصفوف محددة ، على أن استلم جدولا جديدا حين تبدأ السنة الدراسية القادمة التي بدأتها في مدرسة ثانوية تدعى ثانوية الأول من سبتمبر ، وكانت تقع في مركز المدينة كذلك ، وفي حي منها يدعى " المحيشي "
يحمل هذا الحي اسم فرع من فروع شراكسة ليبيا الذين استوطنوا الوطن العربي زمن الدولة العثمانية بعد أن جلبتهم من جبال القفقاس ، وجندتهم في جيوشها حتى صار الكثير منهم ولاة لها في الكثير من العواصم العربية عرف حكمهم فيها بحكم المماليك العثمانيين ، تلك الكلمة التي تعادل في معناها كلمة خادم عند الناس ، وكان المملوكي الواحد من هؤلاء يعرض خدماته على السلاطين العثمانيين  في حكم أي بلد عربي لقاء مبالغ طائلة يتعهد بدفعها للسلطان العثماني في الباب العالي حيث القسطنطينية أو مدينة اسطنبول الحالية ، وقد كان هؤلاء قساة على الرعية في فرضهم ضرائب باهظة عليها من أجل توفير المال الذي يجب تقديمه للسلاطين العثمانيين ، كما أنهم كانوا يقمعون اي احتجاجات يقوم بها الفلاحون العرب على تلك الضرائب الباهظة بأشد اساليب الموت قساوة ، فقد أشاد واحد منهم تلا من جماجم فلاحي الفرات الأوسط من العراق ظل قائما على مدى أربعين عاما ، ولا يشترط في أن يكون المملوكي شركسيا فقط ، وإنما قد يكون ألبانيا وغيره مثلما هو حال مع ممالك مصر الذين اشتهر منهم ملكها محمد علي باشا الكبير .
يضاف الى ذلك أن الشراكسة في ليبيا هم مجموعة عائلات ليبية تنحدر من أصول شركسية ، وليس عربية ، وقد عمل الكثير منهم في التجارة ، وفي بيع وشراء العقارات ، وخاصة في ليبيا زمن الاستعمار الإيطالي ، وأيام النظام الملكي ، وحتى بعد الانقلاب العسكري الذي قاده معمر القذافي مع مجموعة من الضباط الصغار الذين كان من بينهم ضابط صغير يُرد في نسبه الى شراكسة ليبيا ، ويحمل لقب أحد بيوتهم ، هو الرائد عمر المحيشي ، الذي قاد بعد ستة سنوات من ذاك الانقلاب ، وبعد أن اصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة ، ووزير التخطيط والبحث العلمي فيه ، مؤامرة ضد العقيد القذافي في شهر آب " اغسطس " من سنة 1975م ، والرائد هذا ، بعد ذلك ، كان من الشراكسة القاطنين في مدينة مصراته  ، والذين يشكلون نسبة كبيرة من سكنها قياسا بعددهم القليل في مدينة بنغازي التي عملت بها ، والذين ظلوا ينظرون الى ابنهم ، الرائد عمر المحيشي ، على أنه بطل من أبطالهم.
بعد هذه المؤامرة حدث تحول كبير في علاقة القذافي بالجيش  ، مثلما يرى ذلك الرائد عبد السلام جلود ، الرجل الثاني بعد القذافي كما يسمونه في ليبيا والمنطقة العربية ، وذلك في آخر تصريح له خص به بعض وسائل الإعلام بعد مقتل معمر القذافي بتلك الطريقة البشعة التي لن ينساه التاريخ أبدا. والتي أراد من ورائها تجار الحروب والنفط أخذ ثارا لهم منه ، مثلما أرادوا أن يجعلوا منهم عبرة لكل حاكم عربي يحاول أن يصد عن خيرات بلاده نهب القوى الاستعمارية الجديدة التي تتخبط في أزماتها الإقتصادية مستغلين تسلط الحكام العرب على شعوبهم رغم أن ذات الدوائر الغربية هي التي حملتهم الى كراسي الحكم زمن ما عرف بالمد القومي المزيف ، ذاك المد الذي راحوا يستبدلونهم الآن بحكام المد الديني المتخلف .
يكتب الجنرال غوابه الفرنسي ، قائد الحملة الفرنسية على دمشق سنة 1920م في  مذكراته  ( أنا إذن في دمشق....هذا الاسم كان يمثل لي شيئا أسطوريا وخرافيا ، كنت أسمع اسمها من أسرتي وأنا بعد في سن الطفولة... سأنتقم لك يا جدي العزيز من أحفاد الرجال الذين أسروك خلال الحروب الصليبية الثانية عام 1147م.)‏ ويضيف ( إن جان مونغوليه، الجد البعيد لجدتي من جهة أبي (لونر)، كان قد وقع في الأسر خلال حروب عام ،1147 ونقل إلى دمشق.. أو ليست العدالة العليا هي التي سمحت لحفيد أسير الحروب الماضية أن يدخل المدينة المقدسة ظافرا منصورا )!.  أما قائده الجنرال هنري غورو الذي دخل إلى دمشق عقب انتصارهم في معركة ميسلون على المقاتلين السوريين بقيادة البطل الشهيد يوسف العظمة ، وهو في حالة هذيان لا يلوي على شيء ، اتجه إلى مكان ضريح البطل صلاح الدين الأيوبي، القريب من الجامع الأموي الكبير، واضعا قدمه عليه هاتفا : ها قد عدنا يا صلاح الدين ثانية!!
أما اليوم فسيهتف ساركوسي الفرنسي ، وسيهتف من بعده برلسكوني الإيطالي صائحين : ها قد عدنا يا عمر المختار !!


49
المنبر الحر / حديث ليبيا (1)
« في: 22:08 22/10/2011  »
حديث ليبيا (1)
                      سهر العامري

كانت أول زيارة لي لليبيا قد جرت صيف سنة 1973م ، فقد قدمت لها بسيارتي من الصحراء الكبرى الجزائرية عبر مدينة عين ميناس النفطية التي لا تبعد كثيرا عن مدينة غدامس الليبية ، تلك الواحة الراقدة في جوف الصحراء ، والتي كانت أول مدينة ليبية أدخلها كي أواصل رحلتي الطويلة نحو العاصمة المصرية ، القاهرة .
لقد كان الحر على أشده ، وكان الزمن هو شهر تموز " يوليو " ، حتى أنني حينما كنت أضغط على جسد السيارة بإصبعي يتعلق بعضا من ذلك الصبغ به ، ولا فرق في حر هذا الشهر بين نهار أو ليل في تلك المناطق الصحراوية إلا إن الجو يعتدل قليلا عند خيوط الفجر الأولى ، وبعدها تتميز الأرض والسماء من الحر القاتل.
دخلت مدينة غدامس مساءً بعد غياب الشمس ، استقبلني بعض من شباب المدينة في مقهى كانوا يجلسون فيها ، دار حديث قصير بيني وبينهم ، ثم واصلت المسير شمالا نحو مدينة طرابلس ، العاصمة التي وصلتها ليلا بعد أن قطعت مئات الكيلومترات في طريق لم يكن السير فيها سهلا وقتها.
وصلت العاصمة صباحا كانت عبارة عن مدينة لا زالت تحمل على ظهرها شيئا من الماضي القريب ، لم يحل فيها بعد شيء من العمران الملفت للنظر ، فالتغيير في نظام الحكم الذي حمله مجموعة من الضباط الصغار ، يقودهم ضابط يدعى معمر القذافي لم تمض ِ عليه ثلاث سنوات ويزيد ، ولكن كان أفراد من الشعب ، على ما يبدو ، مندفعين في الذود عن هذا النظام الجديد حتى أن مجموعة من باعة في سوق قديم من طرابلس خرجوا من حوانيتهم ، وقاموا باعتقالي لمجرد أنني كنت أصور ذلك السوق بعدسة كامرة كنت أحملها معي ، ولكن الضابط المسؤول في مركز الشرطة الذي جيء بي إليه سرعان ما أمر بإطلاق سراحي ، ويبدو أنه أعتبر هذه المجموعة التي تنحدر طبقيا من البرجوازية التجارية (الكموبدرالية ) عبارة عن مجموعة من الإنتهازيين الذين يظهروا ولاءً للتغيير الجديد نفاقا ، وليس حقيقة ، فهذا التغيير لم يطرق أبواب الشريحة الإجتماعية هذه بعد ، حتى العملة التي تجري فيها هذه الشريحة عمليات التبادل البضاعي لا زالت هي العملية الملكية التي كانت تسمى بالجنيه الليبي الذي ربطه النظام الملكي بالجنيه الإنجليزي حينها.
لم تطب لي الإقامة في هذه المدينة التي غادرتها على عجل في صبيحة اليوم الثاني نحو مدينة بنغازي مرورا بمدن مصراته ثم سرت وإجدابيا ، وكان هذا الطريق الذي يمتد على مسافة طولها الف وخمسون كليومترا خلوا من مظاهر الحياة ، لكنني شاهدت على جوانبه بعض الخيم السوداء المصنوعة من شعر الحيوانات ، والتي هي على شاكلة خيم عرب جنوب العراق من رعاة الماشية .
من ذلك يظهر أنه لازالت هناك في المجتمع الليبي شريحة تعيش على رعي الحيوانات ، رغم علمي بوجود شريحة فلاحية تعتاش على زراعة بعض المحاصيل الزراعية خاصة الخضار والفاكهة والنخيل الذي رأيت منه الكثير في مدينة غدامس ، وعلى هذا يكون المجتمع الليبي إذاك الزمان يتكون من البرجوازية التجارية التي ارتبطت مصالحها بالدوائر البرجوازية في الدول الرأسمالية ، ومن شريحتي الرعاة والفلاحين ، بالإضافة الى البرجوازية الصغيرة المتمثلة بموظفي الدولة وعسكرييها من أصحاب الرواتب الشهرية .
من رحم البرجوازية الصغيرة ولد الضابط معمر القذافي محملا بثقافة دينية واجتماعية متواضعة ، وبنزعة قومية طاغية ، تشذحها شخصية الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي ظل معمر القذافي على حب دائم له منذ أن كان طالبا في المدرسة الثانوية الوحيدة في مدينة سبها الجنوبية حيث كثير ما كان يتباهى بصورة تلك المظاهرة التي قادها نصرة لعبد الناصر ولمصر في اليوم الخامس من شهر تشرين الأول " أكتوبر " سنة 1961م ، ردا على إسقاط الوحدة ما بين مصر وسورية التي أطاح بها انقلاب للجيش السوري في اليوم الثامن والعشرين من شهر أيلول " سبتمبر " سنة 1961م ، وقد كان نصيب القذافي بعد هذه المظاهرة الطرد من تلك الثانوية ، مما اضطره الى التحول للدراسة في مدينة مصراتة الساحلية التي شهدت أول زواج للرحالة ابن بطوطة ، والتي يرقد فيها القذافي الآن جثة هامدة بعد أن تعرضت سيارته لقصف مباشر من قبل طائرات حلف الناتو، تحقيقا للرغبة الأمريكية ، التي عبرت عنها هلاري كلينتون ، وزيرة الخارجية الأمريكية ، في زيارتها الى طرابلس التي سبقت مقتل القذافي بيومين اثنين ، قائلة : " نود أن نرى القذافي ميتا " ويبدو أنها هي التي أبلغت جماعة المجلس بمكان وجوده الأكيد في مدينة سرت الليبية حينها اشتد القصف الثقيل على ذاك المكان مما اضطره هو ونفر من أتباعه للفرار بسياراتهم التي كانت على موعد مع حمم طائرات الناتو التي كانت تحوم في سماء المدينة ، ليسقط القذافي بعدها مضرجا بدمه ، مدافعا عن نفسه بيدين عاريتين بعد أن تعرض لعملية قتل همجية زادت عن همجية قتله لمعارضيه من قبل ، وبعيد التأكد من مقتله أقامت شركات النفط الغربية أعراسا في كل مكان ، وعلى أظهر وسائلها الإعلامية المختلفة ، كيف لا ؟ وهو أول زعيم عربي يقوم بتأميم شركات النفط الغربية العاملة في ليبيا سنة 1969م ، وعلى إثر تسليم بريطانيا الجزر الإماراتية الثلاثة لشاه إيران ، والغريب أن دولة الأمارات لم تذكر هذا الموقف المشرف له ، بل على العكس فقد ساهمت بشكل فعال في الحرب التي شنها طيران الناتو عليه ، هذه الحرب التي تكن بها الزعيم الثوري الكوبي ، فيديل كاسترو ، حين كتب قبل وقوعها بأيام متأملا : (ما هو واضح إطلاقا بالنسبة لي هو أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لا يهمها السلام في ليبيا على الإطلاق، ولن تتردد في اعطاء الأمر لحلف الناتو بغزو هذا البلد الغني ، وربما يكون ذلك خلال ساعات أو أيام معدودة.) ثم أضاف : (الإنسان النزيه يقف دائما ضد أي ظلم يتم ارتكابه بحق أي شعب في العالم، وأسوأ هذه المظالم في هذه اللحظة هو إطباق الصمت على الجريمة التي يستعد حلف شمال الاطلسي لارتكابها بحق الشعب الليبي. ان قيادة هذا الحلف الحربي متعجّلة للقيام بذلك. فلا بدّ من فضحها!) فيدل كاسترو 21   شباط/فبراير 2011م.
وصلت بنغازي ضحى بعد أن كنت غادرت طرابلس عصر يوم سابق ، لم أكن أعرف الطريق التي تؤدي بي الى الحدود المصرية ، ولهذا سألت شرطي مرور كان واقفا في مدخل المدينة ، فقال لي : احملني معك ، وسأدلك على الطريق . ذهبنا سوية مرورا بحي عرفت فيما بعد أنه يدعى " الصابري " وبعده بمسافة قصيرة طلب مني شرطي المرور التوقف عند قرية صغيرة تجثو على ساحل البحر المتوسط تدعى " اللثامة " ، وبعيد نزول الشرطي في تلك القرية أخذني طريق بحري معبد بتواضع نحو الحدود المصرية ، وهو الطريق الذي أشار علي الشرطي بوجوب سلوكه.
لم تكن مدينة بنغازي في تطورها وعمرانها تختلف عن مدينة طرابلس ، فكلتاهما مدينتان مرت عليهما من السنون ألوف ، وكلتاهما ميناءان يقعان على ساحل البحر المتوسط ، وهو الساحل الذي تقوم عليه أغلب المدن الليبية المهمة ، ومثلما لم أشاهد حركة عمران تذكر في طرابلس ، لم أشاهد كذلك هذه الحركة في بنغازي كذلك ، رغم أن بنغازي تتمتع بأرياف كثيرة وضواحي مهمة يشتغل بعض أهلها بزراعة أصناف من المحاصيل الزراعية ، وآخر ما رأيت من نخيل ليبيا على ما تذكر وقتها وهو تلك النخلات المتناثرات اللائي وقفن في توديعي في قرية " اللثامة " الساحلية.
كان الجبل الأخضر اسما على مسمى رغم أنه لم يطاول جبال الجزائر في ارتفاعه ، فهو جبل متطامن عنها كثيرا ، ولكن العرب ، على ما يبدو ، سمته بهذا الاسم لتفرده في ارتفاعه في الشرق الليبي ، ولإطلالته على شواطئ المتوسط ، زد على ذلك اخضرار أرضه التي تلفت النظر.
غذيت السير حتى وصلت الى طبرق ، تلك المدينة التي دارت بالقرب منها أشد معارك الحرب العالمية الثانية بين الجيش الألماني والإيطالي بقيادة أرفين رومل الملقب بثعلب الصحراء ، وبين الجيش البريطاني بقيادة برنالد منتغمري ، والتي كانت الأراضي الليبية والمصرية مسرحا لها . ومن هذه المدينة وصلت الى نقطة الحدود الليبية المصرية التي تدعى " مساعد " والتي تقابلها على الحدود المصرية مدينة السلوم التي منها دخلت الأراضي المصرية ليلا.
بعد خروجي من ليبيا ذاك ما كنت أحسبت أنني سأعود لها في يوم من الأيام ، ولم يخطر ببالي يوما ما أنني سأترك وطني العراق ، وأتوجه الى العمل فيها ، خاصة وأنني أمضيت ثلاث سنوات متواصلة من العمل في القطر الجزائري ضمن بعثة تدريسية رسمية وفقا لاتفاق جرى بين الحكومتين العراقية زمن أحمد حسن البكر ، والحكومة الجزائرية أيام هواري بومدين ، وعلى إثر ذاك الاتفاق تمّ إرسلنا من العراق الى الجزائر غب تخرجنا مباشرة من جامعة بغداد ومن كلية التربية فيها على وجه الخصوص ، وكانت هذه هي رغبة الحكومة الجزائرية التي أرادت أن يكون المدرسون العراقيون المبعوثون لها من الشباب ، ومن الخريجين الجدد.


50
الأسماء المكروهة !
    سهر العامري

لا أحد يعلم التاريخ الأكيد الذي نزلت به أسرة كوكز ضفاف الهور ، وسكنت في عشيرة من عشائره يقطن الكثير من أفراها في مدينة النجف التي تبعد عن ضفاف ذلك الهور مئات الكيلومترات ، ويبدو أن أحدا ما قد أشار على تلك الأسرة أن تتخذ لها بيتا من القصب بين بيوت تلك العشيرة قبل مجيئها للعيش على تلك الضفاف التي فتح هو عينيه فيها على الدنيا.
لم يهتم أحد باسمه الغريب ، فالأسماء الغريبة يحملها أهل تلك العشائر ، وهي ترد الى مفردات عربية ، وليس الى مفردات لغة أخرى كما كان يظن البعض ، إلا إن اسم كوكز شذ عن هذه القاعدة ، فهو لم يمت بصلة الى المفردة العربية ، مثلما لا يمت الى مفردات لغات قديمة سادت في مناطق الأهوار التي استوطنها السومريون ، ومرّ بها الاسكندر المقدوني وهو عائد من الهند في طريقه الى مدينة بابل التي مات فيها ، بعد أن قتلته بعوضة من بعوض تلك الأهوار ، وهو الرجل الذي أخاف الشجعان من الرجال ، وتهاوت أمامه أسوار المدن الحصينة الواحدة تلو الأخرى.
كانت صورة كوكز تبدو وكأنها نتاج أعراق مختلفة اتحدت في العراق ، فالمعروف أن العراقيين كثير ما غزوا بلدانا أخرى ، وعادوا بالسبي الكثير من النساء التي تزوجوا منها فيما بعد ، أو كثير ما استوطنت معهم أقوام أخرى حين تحولت دولتهم الى إمبراطوريات عظيمة تمتد من مشارق الأرض الى مغاربها ، أو حين سقطت دولتهم كذلك أكثر من مرة بيد فاتحين قساة تزاوجوا معهم كرها أو طوعا. ولهذا شبّ في مدن العراق أطفال هم ثمرة إتحاد الأعراق ذاك الذي يبدو بشكل جلي في مدن معينة مثل كربلاء والنجف وبغداد وسامراء ، تلك المدن التي اتحد فيها العرق العربي بالتركي و بالفارسي كذلك .
ولد الطفل كوكز ملون العينين بلون يميل الى الخضرة ، أحمر الوجه ، ذا شعر يخالطه شيء من الشقرة ، وحين شبّ عرفته عشيرته رجلا انطوت نفسه على طيبة جمة ، مثلما نمّت عن دعابة تثير ضحك الناس ، وتسهم في حل مشاكله هو ، وتخلصه من مواقف تكاد تقوده الى السجن أحيانا ، وقد ظل هو على هذه السجية حتى في الظروف الصعبة التي تطبق على العراق ، وتنزل ويلاتها في كل شارع وبيت منه .
في انقلاب 8 شباط الأسود هبّ الحرس القومي ، الذي تشكل في كل مدن العراق على إثر ذاك الانقلاب ، لاعتقال كل من كان يُعتقد أنه شيوعي ، أو أنه على علاقة بالشيوعيين ، الذين زج بالعشرات منهم في سجن المنطقة تقع على مقربة منها بيوت عشيرة كوكز ، وبستان نخيل له.
جلس آمر الحرس القومي في اجتماع ضم أفرادا من تشكيل الحرس ذاك ، ودار في مقره الواقع على شاطئ نهر صغير ينحدر بمائه نحو الجنوب ومن ثم يصب في الهور . وفي شاطئ هذا النهر ، وعلى بعد مسافة خمسة كيلومترات منه يقع بستان نخيل كوكز الذي اعتاد العمل فيه صبيحة بعض الأيام ، تاركا نعاجا قليلة له لترعى بعضا من نباتات ذاك الشاطئ التي تنمو بشكل طبيعي.
- هل هناك أحد من الشيوعيين لم نلق ِعليه القبض بعد ؟ سأل آمر الحرس بصوت مسموع ، ثم أضاف : تذكروا ذلك جيدا !
ظل أفراد الحرس يلتفت بعضهم لبعض ، أو يحدق بعضهم بوجه الآخر ، وكل واحد منهم يحاول أن يبحث في عقله عن صورة رجل شيوعي من أهل المنطقة لم يدخل السجن بعد .
لم يمر وقت طويل حتى جاء صوت من آخر قاعة الاجتماع يقول : كوكز !  نعم كوكز !
التفت الجميع نحو صاحب الصوت ، أثنى البعض عليه ، مثلما أيد البعض الآخر ذلك بحرارة  يضاف الى ذلك أن صاحب الصوت ، ولكي يقنع الجميع بشيوعية كوكز سرد لهم قصته معها قائلا :
- بعد أن قامت ثورة 14 تموز ، وتشكلت منظمة الشبيبة الديمقراطية في المنطقة ، وفي مدن العراق الأخرى ، جاء كوكز في يوم من الأيام الى مقر تلك المنظمة شاكيا لها سرقة نعجة من نعاجه من قبل اللصوص اعتادوا على سرقة الأغنام من بعض القرويين .
قدر كوكز أن تقديم الشكوى الى مركز شرطة المدينة لا ينفعه في شيء ، فسلطة الشرطة ضعفت بعد قيام تلك الثورة ، وصارت الناس تتجه في شكاواهم لمنظمة الشبيبة الديمقراطية التي اتخذت من إحدى مقاهي سوق صغير مقرا لها ، ولهذا حمل أعضاؤها علامات تميزهم عن الآخرين ، وذلك بوضع رباط من القماش الأبيض على الزند الأيسر من يد كل واحد منهم ، مكتوب عليه حرفان هما : ق . و ،  وهذا الحرفان يرمزان الى كلمتين هما : قوة وطنية .!
صدر بيان على عجل من قيادة تلك المنظمة ، تدعو فيه جميع أعضائها الى التجمع أمام مقرها حالا . ولم تمرّ دقائق قليلة حتى تجمع عدد كبير من الأعضاء ، مثلما تجمع معهم الكثير من الناس . ومنهم ومن غيرهم انطلقت مظاهرة كبيرة طافت شوارع المدينة ، وهي تندد بتلك السرقة المخزية ، ثم اتجهت صوب عشيرة كوكز لإعلان التضامن معه ، وتطالب باسترداد نعجته التي سرقت منه في وضح النهار .
صدق جميع الحاضرين رواية صاحب الصوت التي كانت دليلا بينا على شيوعية كوكز ، وعلل بعضهم ذلك بالإجراء المهم الذي اتخذته تلك المنظمة ، فلو لم يكن كوكز عضوا مهما في الحزب الشيوعي لما قامت تلك المظاهرة من أجله . وعلى إثر هذا الاستنتاج شكل آمر الحرس على الفور مفرزة من اثني عشر مقاتلا ، وأعطى قيادتها لنائبه الذي علم عن طريق بعض المخبرين أن كوكز يعمل في بستانه على عادته ، ولهذا قرر النائب مباغتته عن طريق توجه المفرزة التي يقودها عبر النهر الذي يقع عليه ذلك البستان ، ولهذه الغاية أحضرت المفرزة تلك زورقا متوسط الحجم ولكنه يسع للجميع الذين ركبوه ، وهم مدججين بالسلاح ، ثم ساروا على عجل نحوه .
كان آمر المفرزة متشككا بكل ما قيل عن كوكز داخل الاجتماع ، ولكنه كان مضطرا لتنفيذ إلقاء القبض عليه ، ولهذا كان أول الناهضين من عناصر المفرزة حينما اقتربوا من البستان ، ولم يدر في خلده أن كوكز سيقوم بتلك المسرحية الهزلية على عادته ، وفي أي ظرف كان هو ، فحين رأى كوكز الزورق وركابه من بعيد ، وشعر أنهم قادمون لاعتقاله ، امتطى هو سور بستانه من الجهة المطلة على ذلك النهر بعد أن صنع له سماعة تلفون من الطين ، وضع طرفها عند أذنه ، بينما وضع الطرف الثاني أمام فمه ، وراح يهتف :
- هلو خروشوف !.. هلو خروشوف !... تسمعني ... إليك .
انفجر قائد المفرزة بالضحك ، وتبعه الآخرون ، وبعد فترة من الضحك المتواصل صاح بهم آمرهم : عودوا من حيث أتيتم !
كان خروشوف وقتها هو رئيس وزراء الإتحاد السوفيتي ، وسكرتير الحزب الشيوعي فيه ، ولهذا أراد كوكز أن يثبت للحرس القومي هزأ أنه ليس شيوعيا فقط  وإنما هو على صلة وثيقة برأس الشيوعية في الإتحاد السوفيتي ، خروشوف ! وهذه النكتة هي التي فجرت ضحك المفرزة وقائدها ، وهي التي أبطلت خطتهم في اعتقاله.
رغم اتهام كوكز بالشيوعية ، ذاك الاتهام الذي ظل يطارده لسنوات عدة ، حتى أن واحدا من شرطة المدنية يدعى موسى كان ينادي عليه في كل مرة يراه فيها في أحد شارعي ذلك السوق  : أحمر ! أحمر ! إشارة للون الأحمر الذي يتخذه شيوعيو العالم شعارا لهم .
ظل كوكز رغم تهمة الشيوعية التي التصقت به يحمل مع ذلك اسم القائد العسكري الانجليزي ، بيرسي كوكس (Percy Cox‏) ، إبان الحرب العالمية الثانية ، والذي شغل مناصب سياسيه مهمة في الخليج العربي وفي إيران ، وصار مندوبا ساميا في العراق فيما بعد ، هو الذي شكل أول حكومة عراقية فيه بالتعاون مع الجنرال مود قائد القوات البريطانية التي زحفت على بغداد من مدينة الكوت ، ولكن الشعب العراقي كان يكره الإنجليز ، وينظر لهم على أنهم مستعمرون لبلدهم ، وهذا الكره قد استولى على نفوس الرجال والنساء في العراق على حد سواء ، ولما كانت النسوة على إيمان راسخ يقول : إن المرأة إذا أرادت أن تبقي وليدها حيا على قيد الحياة فلتمنحه اسما مكروها ، كأن يكون اسم حيوان قبيح مثلا ، لكن أمه أصرت للكره ذاك أن يحمل وليدها اسم المندوب السامي البريطاني ، كوكز ، كرها للإنجليز ، ولذات العلة هذه حمل غير كوكز من العراقيين نساء ورجالا اسم دكسن ، قائد القوات البريطانية في مدينة الكوت التي اندحرت عند مدينة الكوت أمام القوات العثمانية .






51
مقابر تتسع باطراد !
               

                                                                                                                              سهر العامري

ظل سعيد طوال الليل ينتظر شمس صباح اليوم الثاني على حرارة شوق عاصف ، لم يحس بمثلها طوال عمره ، فهو على موعد مع حبيبته سلمى التي اتفق معها على لقائهما الأول في إحدى مقابر المدينة التي دارت فيها رحى أكثر من معركة بين جنود عبروا بحار ومحيطات وبين رجال وجدوا في قتالهم مآرب متفقة أحيانا ، ومتنافرة في أحيان أخرى .

بعد تلك المعارك الضارية اتسعت المقبرة اتساعا كبيرا ، وصارت تضم أمواتا معروفين من أهل المدينة، وآخرين غير معروفين كتب على شاهد كل قبر منها : مجهول الهوية ! هكذا هي طبيعة الحروب حين يستعر أوارها ، وتطول أيامها ، ويكثر المشتركون فيها ، عندها يتساقط ضحاياها من دون أن يتعرف أحدهم على هوياتهم ، وتكريما لهؤلاء المجهولين حملت ساحة عواصم دول هؤلاء نصبا تذكارية لهم تخليدا لذكراهم مثلما يزعم الساسة فيها ، ولكن تلك النصب لا يمكنها أن تغطي على وحشية الإنسان التي لا تختلف عن وحشية الحيوان أبدا في حال مثل هذا الحال.

كانت شمس الصباح تلك تحمل معها عيدا من أعياد المدينة ، مثلما تحمل معها أملا في لقاء حبيبين سيكون مكانه بين أجداث الموتى بعد أن أعدما وجود مكان آخر يلتقيان به ، فسجف ظلام التقليد الاجتماعي تمنعهما من الجلوس في مكان يقع تحت عيون الرقباء من أهل الحبيبة.
- عمدت أن أحضر مبكرا !
- وأنا كذلك .
- في لوعة شوق إليك يا سلمى ! كنت أحلم الليلة البارحة أننا نحلق في سماء صافية زرقاء ، ترف علينا فيها أجنحة السعادة ، ولكننا - كما تشاهدين - نلتقي بين قبور الموتى الذين سيظلون هم وحدهم شهودا على صدق مشاعرنا.
- منذ الليلة البارحة كنت أتطلع لطلوع شمس يوم العيد كي تحملنا معها الى هذا المكان الذي يرقد فيه آلاف من الموتى ، فهي فرصتنا الوحيدة التي يمكننا أن نلتقي بها . ردت سلمى ثم صمتت .
تقع مقبرة الشريف التي تتسع باستمرار على الضفة الغربية من نهر ديالى ، لا تبعد عن مدينة بعقوبة الجديدة كثيرا ، يطل عليها مستشفى البتول الخاص بالولادات الحديثة الذي يفتح فيه الكثير من أبناء المدينة عيونهم على الحياة ، وفي ذات الوقت تبتلع بطون مقبرة الشريف المجاورة الكثيرة منهم نتيجة معارك تدور رحاها على مدى سنوات بين أهل المدينة الواحدة ، تلك المعارك التي أشعلها القتلة القادمون من وراء البحار .
لم تكن المفارقة بين مستشفى البتول للولادة وبين مقبرة الشريف للموتى هي المفارقة الوحيدة ، فهناك مفارقات أخرى ، وتناقض حاد مثلما يبدو ذلك للبعض ، ففي الوقت الذي يبادل فيه سعيد حبيبة سلمى أحاديث الغرام واللوعة ، وهو في غامر الفرح والسرور ، تبث أم مصطفى على مقربة منه شكوى حارة ، وتباريح فيض من الحزن ، وهي تعطر قبر زوجها بأعواد من البخور .
- آهٍ يا حبيبي ! لقد تركتني وحيدة ، ها هم أطفالك الستة يدورون حولك ، يسألني صغيرهم لماذا أنت تنام دوما ، لماذا لا تخرج لتراه مرة ! نعم . يا عزيزي ! لقد انقلبت حياتي رأسا على عقب بعد موتك ، لا أحد يمد لي يدي العون والمساعدة ، لا قريب ولا بعيد .
- والحكومة !؟
- الحكومة مهتمة بحالها ، يلبس الواحد من رجالها كل يوم ملابس جديدة ، كل يوم يبدل الواحد منهم ربطة عنقه ، ويطل علينا من على شاشة التلفزيون مثل ديك نفخ ريشه مرات عدة ، ومن دون حياء يحدثنا عن هذا المشروع ، وذاك .
لا أمل يرجى من وراء حكومة ربطت مصيرها بمصير القراصنة القادمين من وراء البحار ، لا أمل يرجى منها أبدا ، أملي الوحيد هو في أطفالك الذين تركتهم لي ، فهم يتسولون في المقبرة على مقربة منك ، يستجدون هذا وذاك ، هذا هو حالنا مع كل عيد بل مع كل يوم تشرق فيه شمس ، وأنت على رقدتك هذه التي لا نهوض لك بعدها .
- لك أن تبيعي البستان بما فيه من شجر ونخيل !
- عن أي بستان تتحدث ؟ لقد دفنوا الشجر والنخيل مثلما دفنوك ، لم تبق فيه وفي غيره مما تعرفه من البساتين شجرة واقفة ، أو نخلة قائمة ، لقد أعدم النخل والشجر وفقا للمادة رقم ( 4 ) إرهاب ، ولهذا لم يبق من بستانك سوى أرض قاحلة لا نبت فيها ولا شجر .

رغم هذه المأساة المتصلة لكن سعيد وحبيبته سلمى ظلا يعيشان في الجانب الثاني من التناقض  فهما لا يفكران إلا بالكيفية التي سيلتقي بهما جسداهما لقاء تهبط السعادة به عليهما و بعيدا عن مقبرة تضم ثلاثين ألف قبر اعتادا هما اللقاء بها ، حينما تهب الناس في صبيحة العيد للقاء الموتى .
- أنا أغادر البيت فجرا ، أهب نحو المقبرة ، فهذا هو قبر زوجي الذي كان يملأ حياتي بالخير والسعادة والأمل ، وها هو يرقد الآن تحت هذه الكومة من الحجر ، أتحدث له طويلا عما جرى لي بعد قتله ظلما وعدونا من قبل مجرمين عبروا المحيطات كي يهدوا بيوتنا على رؤوسنا ، هم الذين قتلوه وقتلوا معه أطفالي الذين لم يبق منهم غير هذه الطفلة من أبناء ستة ، وها أنا وإياها نستجدي أكف الناس القادمين في زيارة لقبور موتاهم ، فبدلا من أن يفرحوا في مثل هذا اليوم ، ها أنت تسمع أصوات العويل والبكاء يأتيك من كل جانب من هذا المكان الذي يتسع يوما عن يوم باطراد .
- يقولون أنكم تملكون أكبر مقابر في العالم !
- هؤلاء مفلسون ، صاروا يتفاخرون بإفلاسهم بعد أن باعوا وطنهم ، وارتضوا بالمال المغتصب الذي أخذوه مني أنا ، ومن الملايين غيري من فقراء العراقيين ، هذا كل ما جنيناه منهم ، مقابر تتسع باطراد .

صمتت أم وائل التي كانت تنوح هي الأخرى نواحا متصلا ، وتوقفت عن تعفير وجهها بالتراب ثم قالت : لقد بدلت الحرب حياة الناس هنا من حال الى حال ، وصار الجميع يخشى من قادم الأيام ، فأنا واحدة من مئات الألوف من الأمهات اللائي فقدن أزواجهن وأولادهن في نار الديمقراطية! المشتعلة منذ سنوات خلت ، ويبدو أن ألسنة نيرانها ستمتد طويلا ، وستأتي على ما تبقى من هذا الوطن المهدم ، لقد فقدت أولادي الثلاثة في يوم واحد ، وتركوا لي خلفهم خمسة عشر حفيدا ، مازال جلهم أطفالا صغارا تحطم مستقبلهم بمقتل آبائهم الذين كانوا يعملون ليلا ونهارا من أجل سد رمقهم ، فمن لهم بعدهم الآن ؟ تساءلت أم وائل ، ثم عادت للنواح ثانية.

آهٍ يا أم وائل ! ليست أنت الوحيدة التي ضاع مستقبل أحفادها ، هناك الكثيرات الكثيرات اللائي هدرت كرامتهن ، وسفحن ماء حياء وجوههن ، وعزت عليهن لقمة الخبز ، وصرن يتسولن في الشوارع ، وصرن عرضة لحراب أشرعها المستعمر البغيض ، وجعل منها حارسا لمصالحه وأهدافه الخاصة ، نعم . وجوههم مثل وجهك الذي لوحته الشمس ، ولكن قلوبهم ليس كقلبك النقي ، صاروا حراسا بعد أن دربهم عابرو المحيطات من أجل خدمتهم لا خدمتك أنت ، فأنت لا شيء بالنسبة لهؤلاء الخدم ، ثقي ! أنت لا شيء سوى أنك امرأة يلفها الحزن ، ناقص عقل ودين ، ليس لك تعريف آخر في قاموس هؤلاء الخدم ، مهما سمت مراتبهم ، وعلت ألقابهم ، هذا هو حكم التاريخ يا أم وائل ! أما أنت فلا تتأملي خيرا من هؤلاء ، ليس هناك من أمل ، ستظلين تزورين مقبرة الشريف في كل عيد ، تذرفين الدموع ، وتلطمين الخدود ، وتسمعين المسؤول عن المقبرة يقول :
" إن مقبرة الشريف المحاذية لنهر ديالى من الجهة الغربية تعد أكبر مقابر المحافظة ، وقد اتسعت بشكل لافت بعد أحداث العنف الدموية خلال الأعوام الماضية نتيجة للعدد الكبير من القتلى الذي وقع في صفوف المدنيين".

تلك هي مقبرة الشريف ، فكيف تكون سعة المقابر الأخرى ، في المدن الأخرى التي تتساقط فيها الناس يوميا ؟ سألت صديقي عن حاله - يا أم وائل - ! بعد أن نجا من موت محقق ، فقال : ربما سأذهب في التفجير القادم ! فأنا واقف في طابور الموت مثل آخرين كثيرين ! أعرفتِ ما قاله لي صديقي ؟ قال : إنهم " لازمين سره على الموت"




52
المنبر الحر / البلاد العظيمة (5)
« في: 22:44 21/07/2011  »
البلاد العظيمة (5) 
                               

سهر العامري
يقطن العاصمة الصينية ، بكين ، ما يزيد على عشرين مليون إنسان من مليار وأربعمئة ألف نسمة هم عدد سكان الصين قاطبة ، وبذا يكون سكان العاصمة وحدها  يساوي الثلثين من عدد سكان العراق الذين لا يحصلون على تيار كهربائي مستمر ، ولا على ماء عذب نقي ، مثلما يحصل سكان العاصمة بكين التي يتواصل فيها التيار الكهربائي ليلا ونهار ، ويتدفق من مواسيرها الماء عذبا زلالا ، كما إنك لا تشهد ازدحاما للسيارات في شوارعها ، ولا تراكما للنفايات على أرصفتها ، مثلما عليه الحال في العاصمة بغداد رغم صغرها قياسا للعاصمة الصينية .
طوال مكوثي على مدى إسبوعين في بكين لم أسمع صوت سيارة إسعاف فيها ، مثلما لم أسمع صوت سيارة إطفاء حريق ، ورغم الكثافة السكانية العالية التي عليها بكين فالهدوء والنظافة ، وتنظيم المرور ، والعناية الفائقة بالحدائق ، وسعة الشوارع تظل سمات من سماتها التي يحسها كل زائر لها ، ومن سماتها كذلك هو قلة الأبنية الشاهقة ، ويقال إن بكين لم تشهد البناء الشاهق إلا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي حين بدأت عملية الإصلاح الاقتصادي، ويبدو أن سبب انصراف الصينيين للبناء الواطئ هو أن ملوكهم كانوا قد حرموا عليهم بناء دور ترتفع في علوها عن علو بلاطاتهم في المدينة المحرمة التي تحدثت عنها سابقا .
قامت عملية الانفتاح والإصلاح الإقتصادي في الصين على أنقاض الثورة الثقافية التي نادى بها ماو تستوونغ ، تلك الثورة التي لم تسفر عن شيء سوى الفشل الذي دفع بالقيادة الصينية ما بعد وفاة ماو الى التخلي عنها ، والتوجه نحو الحدث الثالث مثلما سماه (هو جين تاو) سكرتير الحزب الشيوعي الصيني في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة الذكرى التسعين لتأسيس الحزب المذكور ، وذلك حين قال : إن الحزب الشيوعى الصينى الذى اختاره التاريخ والشعب، أنجز ثلاثة أحداث كبرى منذ تأسيسه قبل 90 عاما مضت.
وأضاف : إن الحدث الأول هو أن الحزب الشيوعى الصينى باعتماده على الشعب،أكمل الثورة الديمقراطية الجديدة وحقق الاستقلال الوطنى وتحرير الشعب.والحدث الثانى هو أن الحزب الشيوعى الصينى أكمل الثورة الاشتراكية وأقام النظام الاشتراكى الاساسى.وأشار إلى أن الحدث الثالث هو أن الحزب نفذ ثورة عظيمة جديدة للاصلاح والانفتاح تكفلت بخلق ودعم وتطوير الاشتراكية بالخصائص الصينية.

وعلى هذا تكون الصين في سعيها نحو الإشتراكية التي تعيش مراحلها الأولى مثلما يرى سكرتير الحزب الشيوعي الصيني ، هو جين تاو ، قد استطاعت أن تتخطى الكثير من المعضلات الفكرية التي وقف عندها الشيوعيون في العالم أجمع ومنذ ثورة كمونة باريس سنة 1871م التي اقتحمت بها الطبقة العاملة في باريس السماء بأيادي عارية مثلما كتب عنها كارل ماركس ، وهو يعني عدم وجود حزب شيوعي يقود العمال الثائرين وقتئذ ، وعلى هذا يكون من شروط الثورة نحو الإشتراكية هو وجود طبقة عاملة تقودها وتوجهها طليعة هي الحزب الشيوعي ، لتشاد فيما بعد دكتاتورية الطبقة العاملة ( البروليتاريا ) ، لكن الذي حدث في الصين كان خارج هذا التصور ، فقد كان هناك حزب شيوعي ، لكن من دون طبقة عاملة ، وبدلا عنها كانت هناك جموع غفيرة من الفلاحين الفقراء قادهم الحزب الشيوعي ذاك في نضال مرير نحو النصر الذي تحقق في العام 1949م ، ليقوم على إثره حكم الدكتاتورية الشعبية كما يسميه الصينيون والذي لم يخطر على بال ماركس أبدا .
ويبدو أن سياسة الانفتاح الإقتصادي التي تسير عليها الصين اليوم لا تتناقض مع ما جاء في أدبيات الماركسية – اللينينية التي جاء سكرتير الحزب الشيوعي الصيني على ذكرها في خطابه الأخير ثلاثا وعشرين مرة ، ومع ذلك فإن لينين نفسه يقول : ( إن الحق البرجوازي يظل معترفا به حتى في أكثر مراحل الإشتراكية تطورا .)
ويؤكد هو جين تاو أن التمنية السريعة التي تحققت في الصين خلال الثلاثين سنة الماضية كانت بفضل سياسة الإصلاح والإنفتاح التي يجب على الدولة الصينية مواصلتها في المستقبل كذلك ، كما إنه أشار الى أن الصين ما تزال فى المرحلة الاولية من الاشتراكية وسوف تظل هكذا لفترة طويلة قادمة ، وان القضية المبدئية فى المجتمع تظل هى كيفية الوفاء بالاحتياجات المادية والثقافية المتنامية دائما للشعب فى الوقت الذى يتم فيه الارتقاء بالانتاج الاجتماعى المتخلف.
في الوقت الحالي صار بعض من منظري الرأسمالية يرنو بعينه نحو البناء الإشتراكي الصيني ، والذي حققت فيه الصين تمنية إقتصادية سريعة حتى أصبح ، وفي غضون فترة قصيرة من الزمن ، يتربع على المرتبة الثانية في إقتصاديات العالم المعاصر بعد الولايات المتحدة التي لا تزال تعيش في دوامة الأزمة الإقتصادية التي تتعرض لها الأنظمة الإقتصادية الرأسمالية ، تلك الأزمة التي مضى عليها سنوات دون الخروج من حبالها للساعة ، وهذا ما ولد قناعة عند الكثير من المراقبين من أن خرافة اقتصاد السوق الحر الأبدية بشعارها : دعه يعمل دعه يمر ! ما عادت مغرية في أيامنا هذه ، مثلما كان عليه الحال منذ سنوات خلت ، حتى أن بعض المتباكين على النظام الرأسمالي الذاهب الى الزوال اتهموا الرئيس الأمريكي ، بارك أوباما ، باعتناقه الماركسية حين عمل على إصدار تشريعات تخص التأمين الصحي ينتفع منها أكثر من ثلاثين مليون مواطن أمريكي .
لقد بلغ مقدار الديون الصينية على الولاية المتحدة ما يزيد على 1.16 تريليون دولار ، مثلما بلغ الأحتياطي الصيني من القطع الأجنبي ما يقرب من ( 2 ) تريليونين دولار ، كما أن النمو الاقتصادي الصيني بلغ في هذه السنة 2011م ما يقرب من نسبة 9.5% ، وصارت الصين اليوم ملاذا للدول الرأسمالية ، بما فيها أمريكا ، التي راحت تمد يدها طلبا لمساعدتها في الأزمة الإقتصادية التي تشدد الخناق عليها ، ففي الزيارة الأخير التي قام بها رئيس مجلس الدولة الصينى  ، ون جيا باو ، لكل من المجر، وبريطانيا ، وألمانيا ، قدمت الصين قرضا للمجر يبلغ مليار ونصف المليار دولار ، مثلما قدمت قرضا يبلغ حوالى ثلاثة مليارات دولار لألمانيا من أجل دعم التعاون بين الشركات الصغيرة والمتوسطة ، والى جانب ذلك وقع رئيس مجلس الدولة الصيني محضرا للتعاون مع بريطانيا تجاوزت قيمته أربعة مليارات دولار .
والدليل القوي على متانة الأقتصاد الصيني بالاضافة الى ما ذكرت هو قوة العملة الصينية مقابل العملات الأخرى بما فيها الدولار الأمريكي ، حتى صارت هذه القوة مصدر شكوى لدى أوساط أصحاب رؤوس الأموال في أمريكا الذين طالبوا مرارا بكبح جماح الإيوان الصيني الذي صار يباع في الأسواق الأوربية مثلما يباع الدولار فيها ، فأنا قبل أن أرحل الى بكين اشتريت العملة الصينية من المصارف هنا في السويد ، كما شاهدت غيري من السويديين المسافرين لها يشترون تلك العملة من مصارفهم .
في الذكرى التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني سيرت الصناعة الصينية المتطورة ما بين مدينتي بكين وشنغهاي أول قطار في العالم أطلق عليه : القطار فائق السرعة ، والذي يقطع في الساعة الواحدة مسافة ثلاثمئة كيلومتر ، وهذه يعني أن المسافة مثلا ما بين بغداد والبصرة ، والبالغة خمسمئة كيلومتر يقطعها هذا القطار بما يزيد عن ساعة ونصف، وهذه السرعة تضاهي سرعة طائرة تقريبا ، والقطار ، بعد ذلك ، غاية في الروعة والجمال ، ومقاعده تتفوق في روعتها على مقاعد الطائرة ، وقد علمت أن أول الدول التي وقعت اتفاقية مع الصين لتصنيع مثل هذا القطار هي روسيا التي تريد أن تسيره ما بين موسكو وبطرسبورغ . فهل يعود المالكي والوفد المرافق له الى العراق من زيارتهم الحالية للصين بقطار فائق السرعة ؟



53
المنبر الحر / البلاد العظيمة (4)
« في: 19:47 18/07/2011  »
البلاد العظيمة (4)

سهر العامري
لم أصل الى اتفاق مع طالبة الفنون الجميلة بشأن شراء رسم رسمته على قطعة من حرير تشبه الى حد بعيد الورق الشفاف ، ولكنني أسفت فيما بعد لأنني لم أدفع لها الثمن الذي طلبته في ذلك الرسم الجميل الذي صرفت على إنجازه ثلاثة أيام ، وبدقة متناهية عرف بها رسامو الصين منذ زمن بعيد ، فقد نقل لنا ابن بطوطة في رحلة الى الصين ، وبإعجاب شديد ، ما شاهده من براعة فناني الصين ، فكتب : ( وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا سواهم ، فإن لهم فيه اقتدارا عظيما ، ومن عجيب ما شاهدته لهم في ذلك أني ما دخلت مدينة من مدنهم ثم عدت إليها إلا ورأيت صورتي وصورة أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد ، موضوعة في الأسواق ، ولقد دخلت الى مدينة السلطان فمررت على سوق النقاشين ، ووصلت قصر السلطان مع أصحابي ونحن على زي العراقيين ، فلما عدت من القصر عشيا مررت بالسوق المذكور ، فرأيت صورتي وصورة أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط ، فجعل الواحد منا ينظر الى صورة صاحبه، لا يخطئ شيئا من شبه ، وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك ، وأنهم أتوا القصر ونحن به ، فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا ونحن لم نشعر بذلك )
أما فن النحت على الصخور والأحجار الكريمة فلهم فيه حذق يضاهي حذقهم في فن التصوير ، وقد اشتريت أنا قطعتين منحوتتين لسد الصين العظيم من باعة في سوق مزدحم يؤدي إليه زقاق ضيق من الشارع الفسيح الخاص بالمشاة فقط ، والذي تحدثت عنه في ما سبق من هذه المقالة .
يمتد ذلك الزقاق طولا ، ومنه تتفرع أزقة كثير تنتصب على جانبيها حوانيت صغيرة تبيع تحفا وسلع مختلفة أخرى ، وتدير أغلبها بائعات ماهرات في البيع ، بينما وقف باعة الشواء على مختلف ما يبيعون من لحوم مشوية بسفافيد من خشب ، في المقدمة من الزقاق الرئيس ، مثلما وقفوا على رصيف شارع يتقاطع مع بداية شارع المشاة ، والغريب الذي شاهدته هو أنهم كانوا يعرضون لحوم بعض الحيوان والحشرات التي تكرهها النفس ويمجها الذوق ، ومما رأيت هو أنهم كانوا يعرضون أصنافا من العقارب الحية ، وبألوانها المختلفة .
حاولت أن استذوق الطعام الصيني لكنني لم أستطع ، وقد أرغمت نفسي على ذلك مرات لكنني فشلت ، حتى الرز والخضروات الذي يكثر من أكلها الصينيون لم استذوقهما أبدا ، فهم يعدون أنواعا مختلفة من الخضار مرة واحدة ، ولكنهم يضيفون لها مادة سائلة حلوة مثلما يضيفون لها الكثير من الفلفل الأخضر الحار ، كما أنهم يطهون الرز من دون ملح وبطريقة تسهل عليهم تناوله بعيدان خشبية ، والأكل عندهم رخيص السعر ، فقد تناولت مرة طبقا من رز فقط بإيوانين أي ما يعادل كرونتين سويديتين أو ثلثا من الدولار الأمريكي .
ورغم تطور المطعم الصيني في بنائه وتنظيمه لكن المطبخ الصيني على ما يبدو ظل على حاله ، ولم يلحقه تطور بعد ، ولهذا تجد الكثير من المطاعم الأمريكية التي تقدم وجبات سريعة مثل ماكدونالدز  قد انتشرت في العاصمة الصينية ،  وفيها كنت أتناول أغلب وجبات العشاء ، بينما أتناول وجبات الغداء في مطعم تركي يقع في الطرف الشرقي الثاني من الشارع الذي أسكن فيه ، وعلى مقربة من سوق ياشو (Yashow) الذي أشرت إليه من قبل ، وكانت واسطتي للوصول له الحافلة رقم 115 أو 623 وتستغرق الرحلة بين عشرين الى خمس وعشرين دقيقة ، والمطعم التركي هذا يتوسط مطعمين أحدهما سوري باسم ألف ليلة وليلة والثاني إيراني ، وإذا كان لي من رأي أن أدلي به هنا هو أن المطعم التركي يظل بالنسبة لي وبالنسبة للكثيرين غيري أفضل مطاعم الشرق والغرب فيما يقدمه من وجبات طعام مختلفة الصنعة ، عالية الذوق ، والدليل على ذلك هو ما تناولته من طعام في مطاعم مدينة اسطنبول ، وربما يشاركني الرأي في هذا الصدد كل من قام بزيارة الى اسطنبول وأكل في مطاعمها .
تنتشر في العاصمة الصينية ، بكين ، أسواق كبيرة للمواد الغذائية التي يمتد بعضها على مئات الأمتار عرضا وطولا ، وتفيض بكل ما يطلبه الإنسان ويريده ، ويبدو أن الحكومة الصينية مهتمة جدا بإشباع حاجات الناس اهتماما كبيرا ، وهي لا تبخل على شعبها ، رغم ما تنتجه الصين من غذاء كثير ومتنوع ، في استيراد أنواع منه من دول أخرى قريبة وبعيدة، فلقد لفتت نظري، وأنا أفتش عن قنينة ماء في أحد الأسواق الكبيرة ، قنينة ماء يقل حجمها عن نصف لتر مستوردة من فرنسا ، ومعبأة بماء من عيون في جبال الألب الفرنسية ، وكان سعرها يزيد على دولار أمريكي واحد ، بينما سعر قنينة مياه صينية بحجمها يقل عن عشر دولار ، هذا مع العلم أن مياه الصين عذبة ، طيبة المذاق ، ويدل على عذوبتها وطيبتها عصير الثمار والفواكه الصينية .
أما أسواق الملابس والألكترونيات والصناعات الجلدية وغيرها فهي عديدة وكثيرة ، ولكن أكبرها سوق ياشو المار الذكر والواقع في شرق العاصمة وفي منطقة تقع فيها السفارات الأجنبية ، أما السوق الثانية فتقع غرب العاصمة وفي شارع ديامين الذي تمر من عنده الكثير من الحافلات ، وتعد منطقته من المناطق الشعبية وتقع على ضفاف نهر معتنى به يدعى : خُوخة كما قيل لي ، والكثير من فنادقها تلك المنطقة منازل للسياح الأوربيين لرخصها ، وعمليات البناء والتجديد مستمرة فيها نهارا وليلا . ويستطيع الزائر أن يركب الحافلة 107 كي يصل الى السوق الثالثة الواقعة قبالة حديقة الحيوان في العاصمة بكين ، وتظل السوق الرابعة التي تقع في منطقة تدعى بنجامين جنوب بكين ، ويصل لها زائر المدينة بالحافلة رقم 60 ثم برقم 34 ، وفي هذا المنطقة تنتشر أسواق كبيرة متلاصقة تتوزع ما بين بيع الخضار والفواكه ، وما بين بيع الملابس والأحجار الكريمة ، وفيها أيضا أسواق لبيع الكتب القديمة الذي شاهدت فيه صور كل من لينين واستالين وماو تستونغ للمرة الأولى ، ولم أشاهد صور أخرى لرجال الحكم في الصين سوى صورة ماو المعلقة على الجدار الخارجي في مبنى متقدم من المدينة المحرمة يطل على الشارع الفسيح قبالة ساحة تيان – آن – من التي مر ذكرها من قبل ، ويبدو لي أن بهرجة الحكام في العالم الثالث ، ورفع صورهم في شوارع كثيرة من بلدانهم لم تصل الصين ، حتى أنني لم أشاهد مظاهر بذخ في احتفال الحزب الشيوعي الصيني بذكرى ميلاده التسعين التي مرت وأنا هناك ، فمما شاهدته في هذه المناسبة هو الشعار المركزي الجميل للذكرى مرسوما على لوحات تطول ، وتقصر ، منتصبة في بعض حدائق العاصمة ، هذا بالإضافة الى لافتات تحيي تلك الذكرى انتشرت على شوارع قليل ، كما أنني شاهدت الاحتفال المركزي الذي أقيم في قاعة الشعب الكبرى من خلال القناة التاسعة الصينية والتي تبث باللغة الإنجليزية ، وقد أفتتح الاحتفال بالنشيد الوطني الصيني ، وختم بنشيد الأممية : (هبّوا ضحايا الاضطهاد ... ضحايا جوع الاضطرار ) الذي كتبه الشاعر الفرنسي التقدمي : يوجين بوتييه ، ويُنشد بجميع اللغات في العالم بلحن واحد ، وقد كان عدد أفراد فرقة الإنشاد التي أنشدته في هذه الذكرى قد بلغ ستة آلاف شخص منشد !!! فتفكر عزيزي القارئ!

54
البلاد العظيمة ( 3 ) 
                                 

سهر العامري
كنت قد زرت المدينة المحرمة قبل زيارتي لضريح ماو تستونغ بيومين ، تلك المدينة التي تطل على الشارع الفسيح وقبالة ساحة تيان - آن - من التي يقوم بها ذلك الضريح ، والمدينة تلك تتمثل بأقسام من بنايات متعددة بنيت على طراز البناء الصيني القديم ، وقد طليت جدرانها باللون الأحمر ، وهو لون التفاؤل عند أهل الصين ، وهذه المدينة في الأساس عبارة عن بلاطات ملوك وأباطرة الصين من أسرتي : مينغ وتشينغ اللتين تعاقبتا على الحكم فيها ، وقد حرم هؤلاء الملوك دخول عامة الشعب لمدينتهم هذه التي شيدت أول ما شيدت بين عامي : 1406م – 1420م ، وكان ذاك التحريم هو السبب في تسميتها بالمدينة المحرمة ، والتي ما عادت محرمة اليوم بعد أن أصبحت معلما تراثيا يدخلها الداني والقاصي ، ومن دون أذن من وزير أو ملك .
لقد ظل تحريم الدخول على عامة الناس الى هذه المدينة معمولا به الى أن أطاحت ثورة عام 1911 م بقيادة الزعيم الوطني صن يات صن بحكم أسرة تشينغ ، ولكن رجال الثورة سمحوا للإمبراطور الأخير : بو يي ، بالإقامة في الجزء الداخلي من القصر الإمبراطوري ، وهذا هو الاسم الثاني للمدينة.
في عام 1914، أصبح الجزء الأمامي من القصر الإمبراطوري مفتوحا أمام الجماهير. وفي عام 1924 م طرد آخر الأباطرة : بو يي من القصر الإمبراطوري نهائيا. ثم فتح الجزء الداخلي للجماهير عام 1925 م، وتم تسميته بـ (متحف القصر الإمبراطوري) ثم وفي عام 1947 م، دمج الجزءان الأمامي والداخلي تحت نفس المسمى : متحف القصر الإمبراطوري.
بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، ظل الحزب والحكومة الصينية يهتمان بمتحف القصر الإمبراطوري، ويرصدان له كل سنة مبلغ خاص لإصلاحه وإعادة ترميمه. وفي عام 1961، صنفه مجلس الدولة الصيني وحدة أثرية محمية هامة على مستوى البلاد . وأدرج في قائمة التراث الثقافي التي حددتها منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة عام 1987 م.
حال دخولي الى باحة المدينة المحرمة من بابها الرئيس تلقتني فتاة يافعة من عدة فتيات كن منتشرات في تلك الباحة ، كان البعض منهن يعرض على الزوار بعض التحف والمنحوتات الصغير والمداليات ، بينما كانت تلك الفتاة واحدة من عدة طالبات يدرسن في معاهد للفنون الجميلة ، ويقمن بعرض بضاعتهن من رسوم قمن هن برسمها على قطع من حرير رقيق ابيض ، وبألوان زاهية خلابة ، والمعروف أنه يوجد في بكين العاصمة ما يزيد على مئتين جامعة ومعهد عال ٍ ، يلتحق بها أكثر من ألف ومئة مكتبة عامة ، وأشهر هذه الجامعات وأعرقها هي جامعة بكين التي شاهدتها وأنا في الطريق الى سور الصين العظيم .
- يسعدني جدا أن تأتي معي لترى ما قمت بإنجازه من رسوم في هذا الجناح الذي أعرض فيه بعد أن وافقت الحكومة على تخصيصه لنا كمكان للعرض . قالت الفتاة ذلك لي بلغة إنجليزية صافية ، وبصوت رقيق عذب ، وبأدب جم ، وتبادر الى ذهني وقتها أنها لا تريد أن تطلعني على ما ترسمه بقدر ما تريد مني أن أشتري منها بعضا من رسوماتها تلك ، وهي في ذلك لا تختلف عن أقرانها من الفتيات البائعات في أسواق بكين الكبيرة والكثيرة ، واللائي يتمتعن بقدرة فائقة على جذب المشترين ، وعلى إدارة عملية المساومة بينهن وبين المتبضعين ، فكل السلع في الأسواق الصينية ، عدا تلك التي تباع في الأسواق التي وضعت عليها السعر ألكترونيا ، مثلما هي عليه الحال في الأسواق الأوربية الحديثة ( Super market ) ، خاضعة للمساومة التي تعلمت أنا فنها من عملي مع أبي في التجارة لسنوات . ففي سوق كبيرة متعددة الطوابق من العاصمة بكين أسمه ( Yashow ) ساومت بائعة صغيرة في السن على معطف قصير بمواصفات خاصة كنت قد بحثت عنه في أسواق السويد فلم أجده ، وقررت شراءه بأي ثمن أستطيع به الحصول عليه من تلك البائعة .
- بكم ؟ سألتها .
- بثمانمئة وخمسين إيوان ، أي ما يعادل ثمانمئة وخمسين كرونة سويدية ، وبالدولار يقل قليلا عن مئة وخمسين دولارا .
السعر هذا بالنسبة لمن يعيش في السويد مثلي يعد سعرا مقبولا ، ولكنني كنت أعرف مسبقا رخص الأسعار في الصين قياسا لدول أوربا ، فالإنسان في بكين يستطيع أن يذهب الى أي مكان منها ركوبا بإحدى الحافلات بإيوان واحد لا غير تلقيه أنت بنفسك في فتحة صندوق منتصب قرب سائق أو سائقة الحافلة ، والإيوان هذا يعادل كرون سويدي ويعادل أقل من سدس الدولار .
- بمئة إيوان ، أجبت البائعة .
ظهرت علامات التعجب المصطنعة واضحة على وجه الفتاة التي رأت أن ما قدمته لها من سعر لا يعد مالا يساوي قيمة ذلك المعطف الأنيق ، ولكن طلبت مني أن أقدم لها عرضا آخر ، ولكنني بدلا من ذلك طلبت منها أن تقدم لي هي هذا العرض ، وبين الأخذ والرد اتفقنا أخيرا على سعر 150 إيوان فقط ، بعد أن ارتفعت أنا بالسعر خمسين إيوانا وبعد أن نزلت هي به بسبعمئة إيوان .
فن البيع والشراء حذقه أهل الصين بمهارة تفوق كثيرا مهارة الباعة الدمشقيين في سوق الحميدية من دمشق ، وكذلك الباعة الأتراك في السوق الكبير أو السوق المصري من العاصمة اسطنبول ، وكنت قبل وصولي للصين أحسب أن الباعة الأتراك هم أكثر الباعة حذقا لفن المساومة في البيع والشراء .
قامت المدينة المحرمة بعد قيام الحكم الملكي الصيني في آواخر القرن الرابع عشر الميلادي ، وعلى أنقاض الحكم المغولي الذي تفرق الى خانات أي ممالك بعد موت قبلاى خان آخر واكبر ملك من ملوك المغول الذي بسط سيطرته على الصين قاطبة ، وهو الملك ذاته الذي حل في بلاطه الرحال الإيطالي المعروف ، ماركو بولو ، الذي بدأ رحلته من مدينة البندقية الإيطالية سنة 1271م ، وذلك قبل أن يرحل لها إبن بطوطة في بداية العقد الخامس من القرن الرابع عشر ميلادي حين كان الحكم المغولي قد تفرق الى الخانات التي أشرت إليها قبل قليل .
ليس بعيدا كثيرا عن المدينة المحرمة يمتد شارع جميل وفسيح أعد للمشاة دون وسائط النقل ، يستطيع الإنسان أن يصل له بالحافلات رقم: 104 و11 ذات الطابقين ، كما يستطيع الإنسان أن يصل له من شارع ( Deiheyan Dajie ) وبالحافلة رقم 60 وبعد أن ينزل في المحطة الرابعة قبيل تقاطع الشارع بشارع آخر يتجه شرقا نحو شارع المشاة المذكور الذي ألصقت على أرضه ، وفي البداية منه قطعة حديدية دائرية الشكل كتب عليها باللغة الصينية ما يشير الى أن المكان هنا هو المكان الذي كان ينزل به الرحالة الإيطالي ماركو بولو ، وهذا ما يدل عليه البناء الذي حمل اسمه باللغة الإنجليزية (  Marco Polo) والذي ينتصب عند تلك القطعة الحديدية .


55
البلاد العظيمة ( 2 ) 

سهر العامري
انتقلنا بعد زيارة معرض منتوجات الأحجار الكريمة الى معرض للأقمشة الحريرية التي يُعتمد في صناعتها على شرنقة تلف بها دودة القز نفسها حينما تكون معلقة في الأشجار ، ثم تجمع هذه الشرنقات وتحمل ، فيما بعد ، الى معامل صناعة الحرير ، فيعمد الى وضعها في ماء ساخن يقتل دود القز بداخلها وعندها تقوم العاملات بإخراجها من الشرنقات تلك ، وفي الوقت نفسه تقوم الواحدة منهن بمط الشرنقة من أسفلها وتدخلها قضيبا حديديا على شكل حرف ( U ) مقلوبا ، ثم تضع الثانية والثالثة وهكذا .. وقد عمدت أنا الى تصوير بعض  مراحل هذه العملية بعدسة كامرتي مثلما صورت أجزاءً من الأقمشة الحريرية ذات الألوان الزاهية المعروضة في المكان ذاته .
لقد اشتهرت الصين منذ القدم بإنتاج وصناعة الحرير الذي كانت تصدره الى بلدان مختلفة حتى أن الطريق الذي كان تسير عليه القوافل المحملة به والمار بعدة بلدان والمنتهي ببغداد ودمشق كان يسمى طريق الحرير ، وقد شاهدت خريطة لهذا الطريق معلقة في المعرض المذكور ، وتحاول الصين اليوم إحياء هذا الطريق وذلك بمد خطوط سكك حديدية تربطها بالبلدان التي كان يمر بها طريق الحرير القديم .
والحرير كثير في الصين حتى أن الصينيين ما عادوا اليوم يرغبون في لبس الملابس الصينية التقليدية المصنوعة منه ، وهم يفضلون عليه الملابس القطنية ، وذات التصاميم الحديثة في الخياطة ، ولهذا تجد أن المعروض منه في بعض المحلات التجارية قليل جدا ، وهذه الحالة ليست حديثة الوقوع ، وإنما هي قديمة فقد كان الحرير يعد لباس الفقراء والمساكين من أبناء الشعب الصيني منذ قرون خلت ، لنسمع ابن بطوطة وهو يتحدث عن ذلك : ( والحرير عندهم كثير جدا ، لأن الدود يتعلق بالثمار ويأكل منها ، فلا يحتاج الى كثير مؤنة ، ولذلك كثر ، وهو لباس الفقراء والمساكين بها ، ولولا التجار لما كانت له قيمة ، ويباع ثوب القطن عندهم بالأثواب الكثيرة من الحرير )
يقصد ابن بطوطة بعبارته ( ولولا التجار لما كانت له قيمة ) تصدير الحرير الى خارج الصين ، وهذه الحقيقة ماثلة للساعة ، فالصينيون اليوم رجالا ونساء يلبسون الملابس الحديثة التي يشاركون في تصاميمها ، والمواد المصنوعة منها بقية أبناء المعمورة ، وإذا كان هناك استعمال للحرير اليوم في الصين فهو في الأفرشة وأغطية النوم ، وقد اطلعت أنا على ذلك بنفسي، وساعتها رثيت حال الملوك والرؤساء والأغنياء من البشر الذين طالما تباهوا بالحرير والنوم عليه.
اصطحبتنا المرافقة الصينية قبل أن تعود بنا لفنادقنا الى معرض لبيع أنواع متعددة من الشاي الصيني ، وجلسنا حول مائدة هي واحدة من موائد كثيرة أعدت للسياح القادمين من البلدان الأخرى حيث يتجمعون مجموعات مجموعات حول طاولات وضعت عليها أكياس معبئة بأنواع مختلفة من الشاي الصيني ، وتقف عند كل طاولة منها  فتاة صينية تقوم بتقديم شرح باللغة الإنجليزية عن كل نوع من تلك الأنواع ، ثم تباشر بإعداد ذلك النوع بإبريق من الخزف الصيني المعروف ، ومن ثمة تقوم بتوزيعه على الحاضرين بفناجين عجيبة الصنعة صغيرة الحجم ، فإذا استهوى السائح نوعا من تلك الأنواع اشترى من الفتاة علبة شاي من العلب الموضوعة على الطاولة وإلا فقد استذوق هو تلك الأنواع كلها مجانا ، وباليمن والسلامة مع الترحيب الحار من قبل العاملين به وبمقدمه وانصرافه ، وكنت أنا واحد من هذا الصنف ، فأنني لا أرغب إلا في الشاي الأسود الذي لا يزرع في الصين على ما يبدو ، وأكثر ما عندهم هو الشاي الأخضر ، وأشهر أنواعه ما يسمى عندهم بشاي الياسمين ، وقد وجدت منه مظروفين على الطاولة في غرفتي من الفندق موضوعتين قرب إبريق شاي كهربائي ، إذ أن أغلب الفنادق في بكين لا تقدم وجبة إفطار للمسافرين ، وتكتفي بتوفير الشاي وأدوات طبخه .
بدأت رحلتي في اليوم الثاني من وصولي بكين الى سور الصين العظيم الساعة الثامنة صباحا ، وانتهت عند الساعة الثامنة مساء ، حسب البرنامج المعد من قبل المشرفين على ذلك البرنامج ، وفي نهاية رحلتنا تلك طلبت منا المرافقة الصينية أن نقول كلمة نقد فيها سلبا أو إيجابنا ، ولكننا أثنينا عليها ، وعلى ما قامت به من عمل تواصل على مدى اثنتي عشرة ساعة .
هكذا هم الصينيون نساء ورجالا يعملون ليلا ونهارا ، ولذلك لم أرهم  قد خلدوا الى الراحلة في يومي السبت والأحد  المعتمدين كعطلة إسبوعية رسمية عندهم مثلما علمت ذلك قبل أن أضع أقدامي على أرضهم ، ، فالأسواق ظلت فيهما مشرعة الأبواب ، والشوارع تضج بالحركة ومرور السابلة والسيارات ، وعيادات طب الأسنان والمصارف التي تعرفت عليها كانت تعمل في هذين اليومين ، وعمال البناء الذين كانوا يشيدون عمارات ضخمة قرب الفندق الذي أسكنه كانوا يواصلون العمل في مواقعهم ، وعلاوة على ذلك وجدت حركة الناس ووسائط النقل في الشوارع العاصمة بكين تزداد يوم الأحد على وجه الخصوص .
كنت اعتقدت أن يوم الأحد سيكون أفضل يوم بالنسبة لي حين أقوم بزيارة ضريح الزعيم الشيوعي الشهير ماوتستونغ ، فهو واحد من إثني عشر عضوا كانوا قد أسسوا الحزب الشيوعي الصيني في مدينة شنغهاي في الأول من تموز عام 1921م ، والذي كان يضم وقتها سبعين رفيقا لا غير ، بينما أصبح عدد أعضاء الحزب الشيوعي الصيني الآن أكثر من ثمانين مليون عضو ، وهو بذلك يكون أكبر حزب في العالم على الإطلاق .
لقد خاض الحزب منذ تأسيسه معارك دامية ضد القوى الرجعية والقوميين العملاء في الداخل مثلما خاضها ضد القوى الكونيالية اليابانية القادمة بجيوشها من الخارج ، مدعوما بالشعب الصيني ، وجماهير غفيرة من الفلاحين المعدمين في الريف ، وظل هذا النضال مستمرا الى أن تحقق له النصر في الأول من تشرين الأول ، أكتوبر ، عام 1949م ، حين أعلنت جمهورية الصين الشعبية .
كنت أعلم مسبقا أن وقت الزيارة محصورا ما بين الساعة الثامنة صباحا والساعة الثانية عشرة ظهرا ، ولكنني وصلت الى ساحة تيان - آن - من في حدود الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم الواقع في السادس والعشرين من شهر حزيران ، يونيو سنة 2011 م ، وقد كانت واسطة النقل التي حملتني لتلك الساحة التي يقع فيها ضريح ماو هي الحافلة رقم 60 والتي كانت معروفة لدي من قبل ، ولكن المفاجئة أخذتني حين رأيت حشودا عظيمة تقف في طابور طويلة كان كل واحد فيه يريد أن يلقي نظرة على جسد ماو المسجى داخل صندوق زجاجي يبدو فيه وكأنه نائما ، مطمئنا على مستقبل بلاده الذي ساهم هو مساهمة فعالة في صنعه ، وقد برزت من الغطاء الداكن الذي كان يغطي جسده بدلته المتواضعة التي كان يلبسها حين كان على قيد الحياة ، بينما راح أبناء الشعب الصيني رجالا ونساء ، صغار وكبارا يضعون وردة صفراء اللون بساق وورق أخضر قريبا من ضريحه الذي يتصدره تمثال ضخم له كذلك .
كانت شبيبة الحزب من الشبان والشابات ، على ما يبدو ، هم الذين يقيمون بتنظيم تلك الحشود الضخمة من الناس وبروح تملؤها المسؤولية ، وانضباط عال ٍ يشوبه صبر طويل في التعامل مع أية مشكلة تحدث ولأي شخص من الواقفين المتحركين في ذلك الطابور ، كما أنهم كانوا يتصدون بحزم لكل واحد يريد أن يخترق الطابور ذاك بهدف الوصول الى الضريح قبل غيره ، وساعتها لم أشاهد شرطيا أو جنديا يشترك مع هؤلاء الشابات والشبان في تنظيم تلك الحشود التي كانت تمر على هيئة شريط دوار يدخل من باب ليخرج من باب آخر في حركة دائبة غير متوقفة .


56
البلاد العظيمة ( 1 )
                               


سهر العامري
الصدفة وحدها هي التي حملتني صيف هذا العام على متن طائرة عملاقة من طائرات اللوفتهانزا الإلمانية ، ومن مطار ميونيخ ، والى مطار بكين العاصمة الصينية ، وفي رحلة ليلية امتدت لإحدى عشرة ساعة ، وذلك لأنني عثرت في الانترنت على تذكرة سفر رخيصة الثمن .
حلقت الطائرة بنا في حدود الساعة السابعة مساء من مدينة ميونيخ الألمانية لتهبط بنا في حدود الساعة الثانية عشرة من ظهيرة اليوم التالي بحساب فارق الوقت بين أقصى مغارب الأرض وبين أقصى مشارقها ، وقد كانت الشركة كريمة جدا مع ركاب تلك الرحلة الذين زاد عددهم على خمسمئة راكب ، فعلى امتداد ساعات الرحلة تلك كانت أطباق الأكل والمشروبات المختلفة تقدم للركاب ، حتى لكأننا كنا نجلس في دار ضيافة ملك معلقة في عنان السماء .
بعد أن تمت إجراءات ختم جوازاتنا الروتينية هبطنا سلما الى طابق أرضي من مطار بكين الضخم ليحملنا قطار رائع الصنعة الى مكان متقدم من المطار تقع فيه الأشرطة الدوارة التي تحمل على ظهورها حقائب المسافرين ، وبذلك يستطيع القارئ الكريم تصور كبر مطار بكين في القسم الثالث منه ( Terminal 3 )
على مبعدة قريبة من مكان استلام الحقائب وقفت حافلات نقل الركاب ، ركبنا احدها لننزل على رصيف طريق تحركنا عليه سيرا على الإقدام الى موقف الحافلة رقم 124 التي حملتني الى شارع قريب من الفندق الذي حجزت فيه غرفة قبل مغادرتي من السويد الى الصين ، وكان من عادتني هو أنني لا استأجر سيارة اجرة خاصة ، ولا أركب قطار أنفاق في اي مدينة أنزلها ، وذلك لسببين هما : إن سيارة الاجرة تضيع علي معرفة طرق المدينة ، مثلما يحرمني قطار الأنفاق التمتع بمناظر تلك المدينة ومعرفة شوارعها والأماكن المعروفة فيها.
وصلت الفندق بعد لأي ، تسلمت مفتاح الغرفة الذي كان عبارة عن بطاقة صغيرة الكترونية يستطيع المسافر من خلالها فتح باب غرفته ، وإقفال كل المصابيح الكهربائية فيها ، وهذه البطاقة ( المفتاح ) رأيتها في فنادق مدن الدنيا الأخرى .
حين كنت واقفا في استعلامات الفندق تقدمت مني فتاة عارضة علي المشاركة في رحلة يعدها الفندق مشاركة مع الفنادق الأخرى الى سور الصين العظيم ذلك السور الذي منيت نفسي أن أراه منذ أن كنت فتى يافعا ، وافقت على طلب الفتاة وسلمت المبلغ المطلوب لها ، وقد حددت لي هي الساعة الثامنة صباحا من اليوم التالي لانطلاق تلك الرحلة ، ووقتها حضرت هي مع سيارة نقل ركاب متوسطة الحجم وفيها أربعة من السياح ، وبعد مسيرة ساعة ونصف بتلك السيارة صعدت الدرجات الأولى من ذلك السور العظيم مع الألوف من سياح الدنيا الذين حضروا من بلدان مختلفة نساء ورجالا ، شيوخا وشبانا . ولم أشاهد عند حضيض ذلك السور جمعا يضم نساء ورجالا يغني ويرقص سوى جمع واحد كان عبارة عن مجموعة سياحية قادمة من إيران . وقد صورتهم بعدسة كامرتي مثلما صورت السور العظيم وما عليه من السياح ومن زوايا مختلفة .
بعد نزولنا من السور ركبنا السيارة ثانية كي نعود الى بكين لكن مرافقتنا الصينية التي كانت تتحدث معنا باللغة الانجليزية طلبت منا في منتصف الطريق ما بين السور العظيم وبين مركز مدينة بكين النزول في ضاحية تكثر فيها الأشجار وتمتد على أرضها مزارع كثير ، كان الهدف من نزولنا هو تناول طعام الغداء في أحد المطاعم ويبدو أن ثمنه كان قد عد من ثمن برنامج الرحلة الذي دفعناه مقدما .
لقد أباحت لنا صاحبة المطعم أكل ما نحب وما نريد بعد أن جلسنا في غرفة خاصة ، وكان أغلبنا قد تناول الرز مع بعض أطباق الخضار بعدها قدمت لنا القهوة والجاي وهذا اسمه في اللغة الصينية أما السكر فاسمه تانك ، وبعد الفراغ من تناول الطعام هبطنا الى الشارع فوقعت عيني على جامع للمسلمين في تلك الضاحية وقد خطت على بابه كلمة البسملة مثلما يسميها ابن مالك في ألفيته ، وعلى هذا تكون اللغة العربية هي اللغة الثانية التي تجدها في واجهات المطاعم الصينية بعد اللغة الانجليزية حين يكتبون على تلك الواجهات : المطعم الإسلامي . وقد شاهدت أكثر من ستة مطاعم كتب عليها ذلك ومن بينها كان هناك مطعم يقع قبالة ضريح ماو تستونغ الزعيم الصيني الشهير الذي يؤمه الآلاف من الزوار يوميا ، كما أنني شاهدت الحرف العربي مدونا على العملة الصينية من فئة المئة يوان ، وحين سألت عن هذه اللغة التي تستخدم الحرف العربي وتستخدم الى جانب اللغة الصينية أجابني رجل بعد أن فرغ من صلاته التي أداها في حديقة عامة وعلى المذهب الحنفي في الإسلام ، أجابني من أن هذه لغة تركية تستخدم من قبل قوميات في منطقة كاشغر وغيرها من المناطق ، وكان هذا الرجل قد قرأ النص لي بتلك اللغة ، وكان هو يعرف بعضا من كلمات اللغة العربية ، كما أنه أشار بيده الى جامع قريب مطلقا كلمة مسجد بدلا من كلمة جامع ، ويبدو أنه كان يؤدي صلاته في الحدائق بدلا من الجامع بسبب من كونه يعمل سائق إجرة ويريد أن يوفر لنفسه بعضا من الوقت ، والطريف أن تلك الحديقة تمتد على عدة كيلومترات ، وهي ذاتها التي يرقص فيها الصينيون نساء ورجالا مساء ، وعلى أنغام موسيقية تزيد من نشاط الجسد ، ولم تفتني المشاركة في تلك الحفلات اليومية الراقصة .
أخذتنا السيارة بعد تناول الغداء الى مقابر ملوك وأباطرة الصين التي لم تمس بسوء رغم مرور سيل من السنين عليها ، وكانت تلك القبور قد اتخذت أشكال حيوانات مختلفة ، فالأول منها اتخذ شكل صندوق من الصخر وعلى هيئة سلحفاة ضخمة ثم قام عليها بناء ضخم كذلك، وعند خروجنا من تلك المقبرة قابلتنا فلاحات تلك المنطقة الزراعية الواسعة بمحاصيل مزروعاتهم من الفاكهة والثمار فاشتريت من إحداهن كيلو مشمشا مثلما اشتريت من الأخرى كيلوين من الخوخ ، وكان الخوخ يفيض بعصير وافر طيب المذاق ، وأفضل من الأجاص الذي امتدحه ابن بطوطة في رحلته الى الصين ، ولكنه لا يداني حلاوة وكثرة مياه الرقي (البطيخ الأخضر ) الصيني ، فهو على ذات الصفة التي وصفها به ابن بطوطة .
حملتنا السيارة بعد ذلك الى معرض يبيع الحجارة الكريمة التي تحولت على يد العاملات الصينيات الماهرات الى قلائد ومداليات رائعة الصنعة والهندسة ، وقد ألحقت في هذا المعرض ورشة عمل ضمت بعض مكائن صقل الأحجار الكريمة ونحتها ، تجلس خلف كل ماكنة منها عاملة صينية تنحت على سبيل المثال من صخرة عدة كرات تكون الواحدة في بطن الأخرى وبدقة متناهية ، ويبدأ عمل العاملات هذا منذ الساعة الثامنة صباحا وينتهي عند الخامسة مساء ، أما عمال البناء فعملهم يبدأ عند الساعة السابعة صباحا وينتهي عند منتصف الليل ، وتحت مصابيح كهربائية ضخمة ( بروجكترات ) ولكني لم أشاهد عاملات بين عمال البناء هؤلاء الذين كانوا يعتمرون الخوذ الحمراء والصفراء .


57
العراق بعد اثنتين وثلاثين سنة (4 )


سهر العامري
في الجزء الأول من مقالتي هذه سألت : هل تستطيع حكومة في العراق ..أية حكومة أن تنهض بهذا العبء الثقيل .. عبء بناء الدولة من جديد ؟ والجواب على سؤال كهذا ، وبعد أن يشاهد المرء الحال التي عليها العراق الساعة ، سيكون بالنفي القاطع حتما ، فلا في المئة يوم التي حددها المالكي ، ولا في العقد القادم من السنين سينهض العراق نهوضا مقبولا ، هذا إذا ما ظلت العقلية الحالية التي تسير البلد على حالها ، وبذات طرق العمل المشوهة ، والتي لا تعرف وضوحا في الرؤية ، ولا إخلاصا في التنفيذ .
إن الأمم التي تريد النهوض والتقدم يجب أن تتوفر لها قيادة كفوءة ، مدركة لطبيعة عملها ، ومتفانية في تحقيق أهدافه ... ومستغلة الأموال التي تحقق لها تلك الأهداف استغلالا أمثل ، وأن تعمل على شحذ همم مواطنيها من خلال أن تكون هي القدوة لهم في ذلك العمل ، إضافة الى ما يقدم لهم من حوافز مادية ومعنوية .
إن دور القيادة مهم في مرحلة النهوض تلك ، رغم أنني وغيري يؤمن أن حركة التاريخ تمضي الى الأمام أبدا ( ديالكتيك ماركس ) ، ولكن القائد قد يعمل على كبح التقدم في سير تلك الحركة التاريخية لسنوات عدة ، أو على العكس من ذلك ، فقد يسرّع بسير عجلة التقدم في تلك الحركة من خلال استغلاله الصحيح للزمن ( لينين ) . فصدام مثلا عطل تقدم العراق في تلك الحركة سنوات طويلة بتصرفاته الهوجاء حين زج البلد في بحر من الويلات والحروب ، وعلى العكس من ماوتستونغ والقيادة الصينية التي نهضت بالصين ، مع عوامل أخرى مهمة ، من بلد زراعي متخلف الى بلد طافت مراكبه الفضائية أقطار السماء اليوم ، وبفترة لا تتعدى الستين السنة من نجاح الثورة ، وهي ذات الفترة تقريبا التي مرت على جمهورية مصر العربية ، ولكن شتان بين الصين ومصر ، فالصين تعد اليوم ثاني دولة بعد الولايات المتحدة في تطورها ، وربما ستصبح الدولة المستقلة والمتقدمة الأولى في غضون السنوات العشرة القادمة كما يتوقع لها بعض من علماء الاقتصاد ، بينما لا زالت مصر تعد من بلدان العالم الثالث .
إن البلد الذي يريد النهوض والتطور السريع عليه أن ينهض بالمدرسة أولا ، فالمدرسة في هذا الزمن تمثل الركن المهم والرئيس في عملية النهوض والتطور تلك ، فحين حلق سبوتنيك ، أول قمر سوفيتي في الفضاء الرحب في أعوام الخمسينيات من القرن المنصرم ، صاح الأمريكان : علينا بمراجعة مناهجنا المدرسية !! وعليه يظل للمدرسة دور الكبير في بناء الإنسان خلقا وعقلا شرط أن تبيح تلك المدرسة جوا دراسيا مفعما بالروح العلمية البعيدة عن الخرافات والغيبيات ، فليس من العلم أن يتخرج الطالب في مدرسة ما ، وهو يؤمن أن الأرض مستوية غير كروية ! تماما مثلما يؤمن من يقود العراق اليوم أن كوريا الجنوبية قد طورها معمل للحديد والصلب !! بينما الحقيقة ليس هي كذلك ، فكوريا الجنوبية كانت تملك صناعة تجميعية خلال فترة الاستعمار الياباني وبعد نهاية الحرب الكورية صارت السوق الكورية الجنوبية جزءا من السوق الأمريكية في أكثرها ، وفي أقلها جزءا من السوق اليابانية ، فشركة داوو الكورية على سبيل المثال لا الحصر هي في الأساس شركة أمريكية ، وللقارئ أقدم هذا الخبر (أعلنت شركة جنرال موتورز " General Motors " الأمريكية لصناعة السيارات أنها ستبدأ خططًا قريبة للتخلص التدريجي من اسم "داوو" بحلول نهاية الربع الأول من عام 2011 .
وأكدت "جنرال موتورز" أنها سوف تبقى في كوريا الجنوبية ولكن سيتم استبدال طرازات "داوو" بتشكيلة متنوعة من موديلات "شيفروليه" بما في ذلك "كامارو"، و"أورلاندو"، و"أفيو"، فضلا عن سيارات الدفع الرباعي وسيارات السيدان متوسطة الحجم .)
لقدسعت أمريكا في حربها على النظم الاشتراكية  بكل جهدها الى تطوير البلدان التي تدور في فلكها، والتي تخضع لنفوذها الاقتصادي والسياسي ، شرط أن تظل المشاريع الاقتصادية التي تبنيها هي في تلك البلدان خاضعة لسلطتها واحتكاراتها ، وفي كثير من الأحيان تظل حتى مبيعات تلك المشاريع خاضعة للمشيئة الأمريكية . وعلى هذا تكون كوريا الجنوبية واحدة من تلك البلدان التي لا زالت تدور في الفلك الأمريكي ، ثم هي بلد خلو من الثروات الطبيعة ، وقليل الزراعة لكون أكثر أرضها جبالا ، ولهذا كان طريق الاستثمار الأجنبي ، خاصة الأمريكي ، وبأساليب تربوية وتعليمية غربية صارمة ، هو الطريق المتاح أمامها ، ولكنها مع ذلك قدمت ثمنا باهظا جراء سيرها في ذلك الطريق تمثل ذاك في فقدانها لاستقلالها السياسي ، حيث خضعت كل الحكومات فيها لنفوذ الإرادة الأمريكية ، ولهذا كثير ما نشاهد القمع البوليسي للمظاهرات الاحتجاجية على ظروف العمل والمعيشة الصعبة التي يقوم بها المضطهدون ، المستغلون من أبناء الشعب الكوري الجنوبي ، خاصة العمال منهم ، فأمريكا استطاعت أن تبني في تلك الدولة كذلك جيشا من الجنود والشرطة يقوم على حماية مصالحها في ذلك البلد ، وهذا النموذج من الدول هو ما تريده أمريكا للعراق ، وقد تكون زيارة المالكي لكورية الجنوبية في الأيام القليل الماضية خطوة على هذا الطريق ، ولكن على الشعب العراقي أن يعلم أن العراق بخيراته الكثيرة خاصة في ثرواته النفطية والغازية لم يكن في يوم من الأيام هو كوريا الجنوبية ، وما الدعوة المتصاعدة لجلب الاستثمار الأجنبي الكونيالي الى بناء مشاريع في العراق ما هي إلا دعوة لرهن سيادة ومقدرات الشعب العراقي لدى الدول المستثمرة رغم أن العراق ليس بحاجة الى أموال الاستثمارات تلك ، فهو يملك ما يكفيه من الأموال لتطوير نفسه لو أستغلت أمواله تلك استغلالا حسنا في ظل سياسة حصيفة وتخطيط ناجح تشرف عليهما منظومة قيادية واعية ، تحرص على بناء مدرسة تتوفر فيها وسيلة دراسية متطورة ومنهج علمي قابل للمراجعة في كل سنة ، مثلما تحرص على نشر الثقافة بين عموم الناس من خلال نشر الكتاب ، وتعليم الناس حب القراءة التي عرف بها العراقيون أيام سنوات الستينيات من القرن الماضي ، وذلك من أجل أن لا تشكو تلك القيادة الشكوى المرة التي أطلقها الخليفة أبو جعفر المنصور حين مات ابنه جعفر ، فقد روى أبو فرج الأصبهاني ( أن المنصور لما مات ابنه جعفر ، وانصرف الى قصره بعد دفنه ، قال للربيع وزيره : انظر من في أهلي ينشدني :
أمن المنون وربيها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزعُ . "البيت من قصيدة للشاعر أبي ذؤيب الهذلي"
حتى أتسلى بها " يعني القصيدة " عن مصيبتي ؟ فطلب الربيع ذلك في بني هاشم ، فلم يجد من يستطيعه ، فقال المنصور : والله لمصيبتي في أهل بيتي أن لا يكون فيهم واحد يحفظ هذا لقلة رغبتهم في الأدب ، أعظم وأشد عليّ من مصيبتي بابني ! )
ففي عراق اليوم ليست هناك قلة في أدب وحسب ، وإنما عزوف عن القراءة والكتاب ، ورغبة جامحة عند من يحكمون في إشاعة ثقافة ، إن صلحت التسمية ، الخرافة والشعوذة والغيب ، فالطبيب عاد مشعوذا ، والدواء عصا غليظة يضرب بها المريض كي يخرج الجن من جسده ، والصيدلية امرأة تبيع حبوب الفياغرا والمنشطات الجنسية الأخرى على أرصفة المدن ، والفلسفة أن العالم مقبل على كوارث رهيبة ، وأن الشيعة سيحكمون العالم أجمع ، وسيكون العراق هو ملاذ الشعوب الأخرى ، والشعب عاد أمة في رجل واحد ، هو رجل الدين ، والسماع صار لقول غث وسمين يقوله رجل الدين  ذاك.
وعلى هذا الواقع المظلم هل يستطيع بلد أن ينهض في قريب عاجل ؟ وهل لكاتب مثلي أن يكتب بإسلوب مشرق وهو يرى ذلك الظلام بأم عينيه ، سُئل الشاعر مظفر النواب : لماذا تكتب باسلوب بذئ ؟ فرد : لأن الواقع بذئ !

58
العراق بعد اثنتين وثلاثين سنة (3) 
               

سهر العامري
لم تعد البصرة مثلما عهدتها من قبل ، تلك المدينة التي كنت أزورها أيام الصبا رفقت والدي ، حيث كانت محط رحال التجار القادمين من داخل العراق وخارجها ، وحيث كانت أسواقها مزدهرة ، وأنهارها تحتضن السفن الشراعية والبخارية ، ونخيلها كث ، تطاول أعناقه السماء.
كتب عنها ابن بطوطة فقال : (... قام الخطيب الى الخطبة سردها ، لحن فيها لحنا كثيرا جليا ، فعجبت من أمره ، وذكرتُ ذلك للقاضي حجة الدين ، فقال لي " إن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئا من علم النحو " وهذه عبرة لمن تفكر فيها ، سبحان مغير الأشياء ، ومقلب الأمور . هذه البصرة التي الى أهلها انتهت رياسة النحو ، وفيها أصله وفرعه ، ومن أهلها أمامه الذي لا ينكر سبقه ..)
كان ذاك في القرن الثامن الهجري ، فكيف بها اليوم ومجاري مياها تتدفق نتنا وروائح كريهة وهي تمر مفتوحة كالأنهار في كل صوب وحدب منها ، كيف بها وشوارعها مهدمة تتطاير الأتربة منها ، كيف بها ثالثة ونهر العشار عاد مكبا للنفايات ، آسن الماء بعد أن كان سلسلا عذبا يزهو بالسفن الشراعية !
لم يلفت انتباهي شيء جديد من البصرة ، ألقيت نظري على كل شارع وزاوية مررت بهما ، ومع هذا لم تقع عيني على ذاك الجديد الذي نشدته ... فسبحانه مغير الأشياء ، ومقلب الأمور ، كنا قبلا حين نقترب من مدينة البصرة يطالعنا نخيلها ، فهي المدينة التي قال عنها ابن بطوطة : ( ليس في الدنيا أكثر نخيلا منها .! )
لقد حولت الفوضى الخلاقة بساتين النخيل في مدينة البصرة ، ومدينة كربلاء ، وغيرهما من المدن في العراق الى أرض تباع وتشترى ، فالنخل لم يعد مصدر رزق كبير ، وإنما صارت الأرض التي يقف عليها هذا النخل هي مصدر الرزق الكبير ، وذلك بعدما تفاخر رامسفليد ، وزير الدفاع الأمريكي ، بعلو هامة أسعار العقار في العراق ، مبرهنا على التطور والبركة التي حلت بالعراق وأهله بعد أن قاد هو تلك الفوضى الخلاقة التي نزلت به وبهم ... السلعة التي غلا ثمنها ، وأرتفع ربحها ، وصارت ميدانا لمضاربات قتلة النخيل في عراق اليوم هي الأرض ، وليست كل الأرض ، وإنما أرض بساتين النخيل التي تحيط بمدن العراق المنكوبة بفقدانها باسقات الطلع جمالا وخيرا ، والغرض من ذلك هو تحويل تلك البساتين الى دور سكنية وفنادق تدر مالا كثيرا على المضاربين أولئك ، حتى صار النخيل في العراق اليوم يقتل أمام أنظار الجميع مثلما يقتل الإنسان فيه ، رغم أن العراق بلد شحت الأشجار فيه ، وقلت الزراعة في أرضه ، ففي السويد مثلا ورغم كثرة غابات الأشجار فيها إلا أنهم يغرسون شجرة بدل كل شجرة تقطع . لكنها الفوضى الخلاقة التي أتت على كل شيء جميل في العراق .
أسواق البصرة تقادم بها الزمن ، وساحاتها تعرضت لتخريب متعمد وغير متعمد ، تعلوها أكوام من النفايات ، هي مثل أكوام النفايات التي شاهدتها في ساحات بغداد وأنا في طريقي الى بغداد الجديدة منها ...
إذا رغبت بشراء قنينة ماء من تلك الأسواق ثم سألت عن أفضلها ، قالوا لك : الماء السعودي أو الكويتي هو الأفضل ! عجيب أمر العراق صار لا يصنع الأفضل بل غابت الصناعة عنه ، فالمعامل معطلة ، مهملة ، ورجالها بين البطالة والرحيل ، وإذا كان حال الصناعة هو ذاك ، فحال الزراعة ليس أفضل منه في عراق اليوم ، فالريف قد هجره فلاحه بعد أن شحت مياهه ، وبعد أن عضه الجوع هناك ، فوجه وجهه صوب المدن ينشد لقمة العيش ، بائعا على رصيف ، أو سائق سيارة وهي المهن الأكثر انتشارا في عراق اليوم ... وعلام البقاء في ريف لا تتوفر فيه شروط الحياة المتوفر في المدن ؟ ولذا حين تود شراء ثمار الرقي أو البطيخ الأخضر كما يسميه أهل الشام أو الدلاع مثلما يطلق عليه في بلاد المغرب العربي ، قال لك البائع : هذا إيراني ، أو هذا سوري ، أما رقي الموصل فلا وجود له ، ولا وجود لرقي " إصلين " من البصرة كذلك ... كان هارون الرشيد قد اتخذ من مدينة الرقة في سورية مصيفا في بعض سنوات حكمه ، وكان عرب الشام يزرعون ثمار الرقي في تلك المدينة ، فهب العراقيون قديما الى زراعته في أرضهم ، ونسبوا اسمه الى مدينة الرقة التي عرفوه فيها ، ومن هنا قالوا عليه بطيخ رقي ثم اكتفوا بالصفة فقالوا : رقي .
لم تلفح وجهي ريح باردة ، وأنا عائد من البصرة الى مدينة النجف مرورا بالناصرية إلا بعد أن عبرت بنا السيارة جسر تتقاطع الطرق عنده بعيد مدينة الديوانية ، طوال ذلك الطريق كانت السيارة تسير بنا في صحراء قاحلة ... أهذه هي الأرض السواد التي عرفها العالم القديم ، فكيف أصبحت في العالم الجديد أرضا يبابا ؟ وا حسرتاه ثم وا حسرتاه !!
هبت علينا ريح باردة فجأة ، ونحن نعبر ذاك التقاطع ، عرفت حالا أننا نمر على أرض زراعية تصعد عليها سيقان القمح ، وهناك بعض أشجار لم أتبينها ، لكنها لا تبتعد كثيرا عن شجيرات الكروم ، مثلما هناك بعض من شتلات نخيل ناهضة ، شاهدت مثلها وأنا أقترب من ناحية الفهود في محافظة ذي قار ، وقد سرني ذلك المنظر أيما سرور .
تتفاقم في مدينة البصرة وغيرها من المدن التي زرتها مشكلة التسول والمتسولين خاصة الشابات من النساء على وجه الخصوص ، كن يعترضن أصحاب السيارات وهم يمرون في شوارع تلك المدينة ، وحين لاح مني استفهام عن هذه الظاهرة قال لي محدثي البصري : اعتقد أن هؤلاء من نساء الغجر مثلما يقول البعض ! ولكن أشكالهن تكذب ما يقولونه عنهن . رددت على محدثي .
في عراق اليوم تسحق البطالة الملايين من البشر نساء ورجالا ، فتحيل الكثير منهم الى متسولين رغم أنوفهم بعد أن تشح عليهم فرصة العمل ، فالفوضى الخلاقة خلقت شريحة اجتماعية غنية ، إن لم أقل طبقة ، تعلقت بأذيال المستعمرين الجدد ، وهذا الشريحة تمثلت بأصحاب الوظائف الكبيرة من وزراء وأعضاء برلمان ، وعسكريين برتب عالية ، وموظفين كبارا وصغارا ، يضاف الى هؤلاء التجار الكبار ، وبعض الكسبة الصغار ، حتى صار هؤلاء ينكرون الفقر الذي يستبد بالملايين من العراقيين ، وعادوا لا يشعرون أن هناك من العراقيين من يعيش على الفضلات الملقاة في مكبات النفايات خارج المدن .
مع كل ذلك تظل العواصف الترابية التي تجتاح المدن العراقية مشكلة حقيقة يعاني منها العراقيون اليوم ، ولا أنسى ما حييت تلك العاصفة التي ضربت مدينة كربلاء ، فصار الواحد منها لا يتبين طريقه على مدى خطوات قليلة ، وقد تستمر هذه العواصف لساعات طوال ، تنزل فيها حمولاتها من التراب على الطرقات والبيوت على حد سواء . ومن الطريف هنا أن أذكر أنني ما شاهدت طائرة تنوي الطيران وتخلف وراءها عاصفة من التراب إلا في مطار النجف ، حيث كانت كل طائرة تريد الصعود تترك وراءها مثل تلك العاصفة حتى لكأنها سيارة تسير على طريق ترابي ، والسبب في ذلك أن أرض المطار تغطيه الأتربة التي تحملها عواصف تهب بين حين وآخر.


59
العراق بعد اثنتين وثلاثين سنة ( 2 )   
                     


  سهر العامري
بعد أن مضت علينا ليلة في بغداد الحبيبة عدت وصديقي الهزوء الى مدينة كربلاء . كانت تلك الليلة قد جمعتنا في دار صديقي أمين قاسم الموسوي( أبو أوفى ) من حي التجار في بغداد الجديدة بعد سنوات طويلة فرقت بيننا ، وكنا قبلها طلابا في كلية التربية من جامعة بغداد نذود فيها عن الفكر الماركسي عند احتدام النقاش خلال دروس الفلسفة التي كان يلقيها علينا الدكتور أحمد حقي الحلي العائد من أمريكا لتوه ، والمدافع العنيد عن الفلسفة البراغماتية ، فلسفة النظام الرأسمالي ، مثلما كنا - فيما بعد - مدرسين مساهمين بجد في الأماسي الأدبية والفكرية التي كانت تقام في قاعة الموقار من الجزائر العاصمة وفي مساء كل يوم أربعاء من كل أسبوع ، وكنا على دفاعنا المستميت ذاك عن الفكر الماركسي حين يحتدم النقاش في تلك القاعة ، وقد كان ذاك الدفاع يثير حفيظة أيتام السفارة العراقية في الجزائر ويضاعف حقدهم علينا ... مضت تلك الليلة بعد أن أغدقت علينا أم أوفى أطيب الأكل وألذه بين ساعة وأختها ، حتى أن قسما من ذلك الطعام الذي قدمته لنا لم نتناوله منذ الستينيات من القرن المنصرم ، وهذا ما حدا بصديقي الهزوء أن يقول لها بعد أن سره الطعام ذاك : نحن مقيمون غدا عندكم !
قبل أن تحملنا سيارة إجرة الى مدينة كربلاء كنا قد تناولنا طعام الغداء في يومنا الثاني في مطعم السلطان الواقع في الباب الشرقي ، وفي بداية شارع السعدون منه . أثناء الأكل هب صديقي الهزوء نحو باب المطعم مندفعا الى خارجه ، ثم عاد بعد دقائق ، سألته عن سبب خروجه المفاجئ من المطعم ، فرد قائلا : شاهدت فتاة عراقية يافعة تحدثت مع صاحب المطعم الجالس على كرسيه عند الباب بكلام لم أسمعه ، فما كان من صاحب المطعم إلا القيام بنهرها وطردها باسلوب فظ ، وهذا ما حملني – يتابع صديقي كلامه – على اللحاق بها وسؤالها عن سبب طرد صاحب المطعم لها ، فردت قائلة : قلت له سأقوم بتنظيف مرافق مطعمك ومغاسله لقاء خمسة آلاف دينار ، لكنه رفض ونهرني . وهنا أخرج صديقي الهزوء من جيبه خمسة آلاف دينار ثم سلمها للفتاة وعاد منصرفا لي ، هذا في الوقت الذي شاهدت فيه أكثر من عامل أجنبي يعمل في ذلك المطعم ، بينما تتعرض شابات وشباب العراق لذلك الإذلال الذي تعرضت لبعض منه قبل قليل حينما تحدثت عن حال تلك الفتاة التي تفتش عن لقمة عيش من خلال بحثها عن فرصة عمل .
كان سائق السيارة التي حملتنا الى كربلاء من أهل المدينة ، ويبدو أنه كان يخشى من فوضى الطريق الخلاقة ، فالعراقيون يموت على الطرق الداخلية والخارجية كل يوم ، لا يوجد قانون مرور ينظم السير في العراق ، وربما لا يعرف الكثير من السواق القانون الدولي الذي يتمسك به الكثير من دول العالم ، وعدم معرفة السائق لهذا القانون هو واحد من بين أسباب هذه الكوارث المفجعة التي تحدث كل ساعة مثلما شاهدت ذاك أنا بعيني ، ففي الطريق الى كربلاء تجاوزنا شاب يقود سيارته مع أخيه وأخته ، وعلى معرفة بسائق السيارة التي تحملنا ، تجاوزنا من جهة سيارتنا اليمنى مؤديا التحية لنا ، ثم بعد ربع ساعة تقريبا ، ويبدو أنه تأخر عنا لسبب ما ، عاد وتجاوزنا من الجهة اليسرى لسيارتنا هذه المرة ، وتجاوزه لنا في هذه الحالة صحيح ، بينما كان تجاوزه الأول خطأ واضحا . لم يمض ثلث ساعة على ذلك ، وكنا نقترب من مدينة المسيب ، حتى رأينا الثلاثة جثثا هامدة قامت الشرطة بنقلهم الى مستشفى المسيب القريب بعد أن اصطدموا بسيارة حمل كبيرة ، وهذا ما أدخل الفزع والخوف الى نفس سائق السيارة التي تحملنا ، فالأخوان والأخت هم من بين جيرانه ، ولكننا طلبنا منه أن يتماسك ، ويترك الجزع ، فالطريق غارق في الفوضى الخلاقة ، ويمكن أن نموت نحن لأي خطأ يرتكبه هو .
ليست هي تلك حادثة الموت الوحيدة التي شاهدتها ، فقد شاهدت قبلها حادثتين على الطريق الرابط بين محافظة الديوانية ومحافظة النجف ، واحدة ونحن نقترب من قضاء الشامية ، والأخرى ونحن نمر بعيدا قليلا من قضاء غماس في طريقنا الى الكوفة التي وصلناها بعد دقائق معدودة فوجدنا أغلب الشوارع فيها محطمة .
أهم العوامل المؤدية الى هذا الموت المتصل ، وتلك الحوادث المريعة هو بالدرجة الأولى جهل سواق السيارات بقوانين المرور التي يجب على كل سائق أن يتعلمها ، وأن يؤدي امتحانا نظريا وعمليا فيها ، ولكن في عراق اليوم لا توجد هذه الإمكانية ، فقد أخبرت أنك تستطيع الحصول على إجازة سوق وأنت جالس في دارك لقاء مبلغ لا يزيد عن ثلاثة ورقات باللغة السائدة في العراق اليوم ، والتي هي عبارة عن ثلاثمئة دولار ، هذا الفساد هو سبب آخر في تلك الكوارث المفزعة بالإضافة الى عوامل أخرى منها كثرة السيارات ، رداءة الطرق وضيقها ، وتقادمها ، وعدم صيانتها ، فقد رأيت الكثير من تلك الطرق قد سلبت منها أسيجة الحديد التي تحيط الانحناءات منها ، أو المنحدرات النازلة من بعض الجسور في التقاطعات التي تتخللها دون أن تمتد لها يد الصيانة.
الملفت للنظر هو أن جميع الطرق في العراق على ما رأيت تخلو من العلامات المرورية التي تشكل عاملا مهما في سلامة السير ، والسواق والركاب على حد سواء في الطريق التي يودون السيرة عليها ، أو المدن التي يمرون بها ، ولي هنا أن أطرح هذا المثال فأقول : خرجت على طريق الأهوار من الناصرية قاصدا البصرة ، شاهدت هور الحمّار الجميل وقد حطمته طرق وسدود عديدة بعد أن جف ماؤه ، ومات نباته ، وقل زرعه وضرعه رغم أن الأهوار كانت حائط مبكى بكت عندها المعارضة العراقية على مختلف مشاربها ناشرة دموع الزيف تلك أمام أنظار دول العالم على ما فعل صدام الساقط بالأهوار تلك . وحين وصلت المعارضة هذه الى الحكم في العراق نست دموع الزيف تلك ، وتركت الأهوار وأهلها للمرض والجوع وقلة الرزق والحرمان من أبسط مقومات الحياة ، فقد التقيت أنا ببعض الأسر هناك ، وهي لا تملك قوت يومها ، فعلام خصوا الأهوار بوزارة ووزير ؟ ما نفع ذلك ؟ وأين أصبح برنامج إنعاش الأهوار الذي دوخنا بها علام العراق اليوم ؟
أقول سرت من الناصرية الى سوق الشيوخ مرورا بنواحي كرمة بني سعيد والعكيكة والطار وناحية الفهود ثم ناحية الحمّار ثم قضاء الجبايش بعده دخلنا قضاء المدينة فالقرنة مباشرة ، وبعد خروجي من القرنة جاءني تلفون من أخي في البصرة يطلب مني أن أقول له في أي مكان حللنا !؟
قلت له لا أدري ! كل ما أعرف أننا تركنا مدينة القرنة خلف ظهورنا ، بعدها أغلق التلفون ليعاود الاتصال مرة أخرى معيدا ذات السؤال : أين وصلتم ؟ كيف تريدني أن أجيبك ولا توجد أمامي أية علامة مرورية تشير الى مدينة أو قرية ! أغلق التلفون ثانية ليعاود الكرة ثالثة بعد عشر دقائق أخرى ، وبذات السؤال : أين وصلتم ؟
قلت لك يا أخي لا توجد علامة تقول لنا : إنكم في المكان أو المدينة الفلانية ، ولكنني يمكنني أن أقول لك : إننا وصلنا الى حسينة الرضيع !!! ضحك أخي كثيرا من إجابتي الأخيرة على سؤاله ، فهو مثلي يعلم إن الحسينيات على امتداد الطرق في وسط وجنوب العراق صارت أكثر من علامات المرور .



60
العراق بعد اثنتين وثلاثين سنة (1)   
                   

سهر العامري
هبطت بي الطائرة على أرض مطار النجف بعد غربة عن العراق دامت على مدى اثنتين وثلاثين سنة لم أزر وطني فيها لمرة واحدة قط ، وكانت دواعي تلك القطعية معروفة للكثيرين ، فالظرف السياسي الذي مر به العراق على تلاحق تلك السنوات كان ظرفا مدمرا سواء أكان ذلك أيام حكم الساقط صدام أم حكم حكومات ما بعد الاحتلال ، فقد عاد العراق في ظل ذلك الظرف بلدا محطما في كل جانب من جوانب الحياة فيه ، إذ تكالبت عليه كوارث الطغاة المجرمين مثلما تكالبت عليه كوارث الطبيعة القاسية ، فإذا كان صدام الساقط قد قتل الكثيرين من الناس ، وإذا كان الاحتلال ومن سار في ركبه قد قتلوا الملايين ، فإن الظرف الطبيعي قد قتل مياهه وصحّر أرضه ، ولكن رغم ذلك ظل العراقي صامدا على ما فيه من جروح ، وعلى ما أصابه من أمراض ، وما حل به من فاقة وجوع .
سألني غير ما واحد وأنا أطوف مدنا عراقية عدة امتدت من بغداد ، التي وقفت فيها تحت نصب الحرية من ساحة التحرير تضامنا مع أبناء العراق الميامين في محنتهم التي يعيشونها ، مستذكرا زمنا كنت فيه غير متخلف عن أية مظاهرة تطوف شوارع بغداد وقت تسلط حكومات جائرة ، وحتى البصرة التي جئتها منشدا ذات يوم قصيدة لي حين هبّ طلاب جامعة بغداد في إضرابهم الشهير أواخر الستينيات من القرن المنصرم  :
للبصرة الفيحاء جئتُ أبشرُ .... صوتا يهز الظالمين ويقبرُ
أم الرشيد تضرجت بدمائنا..... أفما أتاك حديثها والمخبرُ ؟
سألني كيف رأيت العراق ! ؟ كأن جوابي على ذاك السؤال كلمة واحد لا غير : محطم !!
نعم . العراق الآن بلد محطم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ... إنه فعلا يعيش الفوضى الخلاقة التي رسمها له الأمريكان ، والتي أحكموا صنيعها ، وأجادوا تنفيذها ، فهم بعد إسقاطهم للدولة العراقية ، وليس إسقاطهم للحكم وحسب ، رموا على العراقيين مهمة جد صعبة وهي بناء دولتهم من جديد بكل مقومات الدولة الحديثة التي تتطلب جهازا إداريا ناجحا ، تتطلب بناء جيش يحمي الوطن ويذود عنه ، تتطلب قيام أجهزة للشرطة والأمن ، هذا بالإضافة الى بناء مرافق الدولة الأخرى التي لا تقل أهمية عما ذكرته قبل قليل ، فالعراق بأمس الحاجة الى مدرسة حديثة ومستشفى متطور ، وطرق معبدة ، ومدن نظيفة غير مكتظة والى الكثير غير ذلك .
والآن يصعد من بين ركام العراق سؤال مهم هو : هل تستطيع حكومة في العراق ..أية حكومة أن تنهض بهذا العبء الثقيل .. عبء بناء الدولة من جديد ؟
رب قائل يقول إن العراق الآن فيه جيش وأجهزة شرطة وفيه دوائر دولة كثيرة فما هو المطلوب بعد ذلك ، والحقيقة هي أن هذا القول فيه شيء من الصحة ، ولكن كل شيء في العراق مخرب ويسير على غير هدى ، فالجندي العراقي هو ليس ذاك الجندي العسكري المنضبط ، وحال الشرطي ليس أفضل من حال أخيه الجندي ، والموظف في كل الدوائر وفي كل المدن التي زرتها هو ليس ذاك الموظف الذي يتمتع بكفاءة معروفة عن الموظفين العراقيين الذين تخرجوا ليس من مدارس العراق وحسب ، وإنما هم صنيع  جهاز إداري له مقدرة على إدارة شؤون الدولة ، هذا في وقت كان الموظف فيه له رادع من نفسه يمنعه من التسيب أو التهاون في عمله ، بينما نجد الموظف اليوم الذي يراد له أن يسير البلد مغرما بكثرة الأوراق ، وكثرة التواقيع ، وعدم الالتزام بأوقات الدوام  ، يضاف الى ذلك عدم احترامه للمواطنين الذين يراجعونه في دوائر الدولة ، وهو بالإضافة الى ذلك يعمل بوعي منه أو من دون وعي على إذلال الناس حين يغلق أبواب الدوائر في وجوههم ويتركهم وقوفا  أمام تلك الأبواب أو حين يجبرهم على الوقوف في سطور طويلة من أجل الظفر بتوقيع على ورقة يريد المراجع من ورائها إنجاز عقد زواج أو تمشية معاملة ما ..
سألت كاتب عدل في أحد المحاكم من مدينة عراقية بعد أن طلب مني أن أمضي بإبهامي الأيسر أربع مرات ، سألته : لماذا أنت مغرم الى هذا الحد بكثرة الإمضاءات ؟ قال : يا أستاذ مع كثرة الإمضاءات هذه وهم يزورون .قلت له : وما ذنب الرجل الصادق الذي لا يزور ؟ ولماذا تحمله وزر غيره ؟ وأنت في محكمة يتطلب منها أن تكون عادلة .!
ليس هذا إلا مثال واحد على انعدام الرؤية الصحيحة التي يجب أن تعالج بها الأحوال المتردية في العراق ، وسبب انعدام الرؤية الصحيحة هذه هو أن أغلب الكادر الذي يدير دولة العراق ما بعد الاحتلال هو كادر حديث العهد بالعمل الوظيفي ولا يملك خبرة تؤهله للقيام بعمله وبتوجه صحيح ، وربما لا يملك الشهادة الدراسية المناسبة لطبيعة العمل ذاك ، وتلك الصفات تنطبق على أولئك الذين يقودون العمل في العراق الآن .
يضاف الى ما تقدم الفساد المستشري في جسد تلك الدولة ، والعمل بروح الطائفية المريضة أو بروح الحزبية الضيقة ، حتى صارت لهذه المفاهيم احترام خاص عند البعض من ضعاف النفوس الذين استبد بهم مرض الطائفية والحزبية الكريهة من جانب ، ومن جانب صارت تلك المفاهيم ممقوتة بدرجة كبيرة من قبل العراقيين الوطنيين الذين يقدمون مصلحة الوطن والشعب على كل مصلحة أخرى ..
بعد أن انصرفت من ساحة التحرير برفقة صديق طفولة هزوء لي ننشد سيارة إجرة تحملنا الى بيت صديق لنا في مكان ما قريب في الباب الشرقي من بغداد ..قلت لصديقي دعنا نسأل السائق فيما إذا كان شيعيا أم سنيا حسب مفهوم المستر بريمر ومن جاء في ركبه .. قال صديقي لتسأل صاحب التكسي هذا !
تقدمت نحوه كان شابا في نهاية العقد الثالث من عمره قد زادت شمس بغداد من سمرة وجهه قلت له : تحملنا الى المكان الفلاني شرط أن تفصح لنا عن هويتك الطائفية .. قال ولماذا ؟ قلت له : أنا شيعي وسأعطيك ألفي دينار إذا كنت شيعيا أما إذا كنت سنيا فسأعطيك خمسة آلاف دينار... ضحك وقال: والله العظيم أنا سني !
أعطيته خمسة آلاف دينار وكان الضحك قد غلبنا حتى ونحن نسير معه في سيارته الى المكان الذي نريد!
 يتبع

61
الحكومة تتظاهر ضد المعارضة !
                 

سهر العامري

تظاهرت الحكومة في العراق أمس ضد المعارضة العراقية المتمثلة بالقائمة العراقية ، التي يقودها الدكتور إياد علاوي وصالح المطلق وطارق الهاشمي وآخرون ، وتلك أول مظاهرة يشهدها العالم في تاريخه ، ذلك حين تقوم حكومة بحشد الشارع ضد معارضين لها ومثل ذاك الحشد تقوم بحشد التاريخ القديم كذلك حيث صار طارق الهاشمي أبا جهل وعاد صالح المطلق أبا سفيان ، تلك الشخصية التي خصها النبي محمد بحديث لازالت الأفواه تردده للآن : من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ! والنبي محمد حين قال ذلك قاله في معرض المصالحة التي تمت بين الفريقين بعد حرب ضروس قطعت فيها الأيدي وتدحرجت فيها الرؤوس ، وأكل فيها كبد عم النبي الحمزة بن عبد المطلب.
أقول إنني للمرة الأولى أشاهد فيها حكومة في العالم تتظاهر ضد معارضيها بحجة أنها تريد أن تمنع البعثيين من الجلوس تحت قبة البرلمان القادم ، ذاك كان هو الهدف المعلن لتلك المظاهرات ، ولكن الحقيقة ليست هي تلك ، فمنذ مدة ليس بالقصيرة كانت الإدارة الأمريكية مهتمة بترتيب أوضاع الحكومة القادمة في العراق التي ستنبثق بعيد إجراء الانتخابات المقررة في السابع من آذار القادم . وحين أتمت تلك الإدارة تخطيط مشروعها ذاك بدأت بتطبيقه من خلال ترشيح شخصيات قيادية عراقية له من بين العراقيين الذين يتولون بعض المسؤوليات في عراق اليوم.
ولهذا الغاية بالذات وضعت الإدارة تلك برنامجا زمنيا محددا تستدعي ( ولا أقول تستقبل) فيه بعضا من المسؤولين العراقيين الحالين ، وكان أول من أستدعي هو نائب الجمهورية، عادل عبد المهدي ، أعقبه مباشرة مسعود البرزاني ، رئيس إقليم كردستان ، ثم طارق الهاشمي ، النائب الثاني لرئيس الجمهورية.
ويبدو لي أن هذا الاستدعاء تمّ وقف ضوابط أمريكية معينة أخذت بنظر الاعتبار أهمية المنصب الذي سيناقش مع كل واحد من هذه الشخصيات ، فعادل عبد المهدي مرشح من قبل الإدارة الأمريكية لمنصب رئاسة الوزارة العراقية وفقا للمشروع الذي نتحدث عنه ، ولذا سمعنا عادل عبد المهدي بعد عودته من الولايات المتحدة يتعرض لحكومة المالكي وللمالكي شخصيا ، ويتهمه بالتفرد في الحكم ، وبلغ الحال عند بعض رجالات الائتلاف الوطني الذي ينتمي له عادل عبد المهدي أن قال : ( إن حكومة المالكي ليست حكومتنا ) مع العلم أن المالكي صعد كرئيس للوزراء من بين صفوف هؤلاء.
ومع ذلك فقد يتبدل ترشيح عادل عبد المهدي عند الإدارة الأمريكية لصالح أياد علاوي ، رئيس الوزراء السابق ، ورئيس القائمة العراقية الحالي في حال ما استطاعت القائمة تلك أن تبلي بلاء حسنا في الانتخابات القادمة ، ذاك البلاء الحسن الذي تخشاه أطراف في صفوف المتدينين على مختلف صنوفهم ، ولهذه عمدت تلك الأطراف الى إثارة مسألة إبعاد الكثيرين عن المشاركة في الانتخابات من قائمته ، أي علاوي ، وعلى هدي من مقالب غوار الطوشي الذي أعدها احمد الجلبي بتخطيط من المخابرات الإيرانية ، خاصة أن القائمة العراقية مفضلة من قبل أمريكا والدول الأوربية وكذلك الدول العربية من حيث كونها قائمة علمانية تضم في صفوفها مكونات تبتعد عن الصبغ الدينية ، وهذه الأفضلية عبر عنها أحد ممثلي الإتحاد الأوربي صراحة لقناة الحرة الأمريكية بقوله : إننا نريد أن نرى حكومة علمانية في العراق.
أما رئاسة الجمهورية فهي حسب المشروع الأمريكي ذاك ستكون لطارق الهاشمي ، نائب رئيس الجمهورية الحالي ، وذلك لجملة من الأسباب ليس من بينها الخبرة التي اكتسبها الهاشمي خلال السنوات الأربعة الماضية فقط ، وإنما المقدرة التي أظهرها في أكثر من منعطف سياسي خاصة موقفه الراسخ في الدفاع عن حق عراقيي الخارج بالمشاركة في الانتخابات ، بينما حرصت بعض القوى الدينية على حرمانهم من المشاركة تلك ، ويبدو لي أن الإعجاب الأمريكي هذا هو الذي دفع الإدارة الأمريكية الى الطلب من الهاشمي ترك الحزب الإسلامي ، وتشكيل حركة سياسية علمانية جديدة عرفت بعد تركه للحزب المذكور : بحركة التجديد ، التي انضمت فيما بعد الى القائمة العراقية ، ذاك من جهة ومن جهة أخرى يأخذ المشروع الأمريكي المعد للعراق بعد الانتخابات القادمة برغبات الدول العربية التي تريد أن ترى في العراق رئيسا عربيا لدولة عربية هي من بين مؤسسي جامعة الدول العربية ، وفي هذا الحال تعديل مهم طرأ على السياسة الأمريكية  اتجاه العراق في زمن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ، ويبدو أن جماعة الائتلاف الوطني قد أدركوا ذلك وقد تجسد هذا الإدراك من خلال قيام عمار الحكيم بزيارات متعددة لأكثر من دولة عربية ، ومن خلال عدم مشاركتهم للمالكي في موقفه من سورية ، وأخيرا من خلال ترحيبهم بعودة البعثيين الى مؤسسات الدولة ، وهو الترحيب الذي أذاعه علانية رئيس المجلس الأعلى ، عمار الحكيم ، نفسه عند زيارته للأردن.
أما رئاسة البرلمان ستؤول على ما يبدو الى الأحزاب الكردية ، وقد تكون مسألة الرئاسة هذه قد نوقشت مع رئيس الإقليم عند استدعائه الى واشنطن مؤخرا مثلما أسلفت من قبل ، فجلال الطالباني على ما ترى الإدارة الأمريكية قد بلغ من العمر عتيا ، رغم أنه كان العصا السحرية التي تظهرها تلك الإدارة وقت ظهور الشدائد والملمات في المشهد العراقي الذي يتقاتل به بعض العراقيين على الماضي وفي أحقية عمر أم علي في الخلافة،بينما يتقاتل العالم المتمدن على المستقبل، وفي أحقية امتلاك هذا الكوكب أو ذاك .
ولذاك السبب لم يستدع َ جلال مع المستدعين ، مثلما لم يستدع َنوري المالكي ، رئيس الوزراء كذلك ، ويبدو أن عدم الاستدعاء هذا ، وعدم ترشيحه لمنصب مهم في الحكومة القادمة من قبل الإدارة الأمريكية هو الذي اضطر نوري المالكي الى إطلاق التصريحات الشديدة اللهجة ضد السفير الأمريكي ، أو دعوته لانعقاد جلس للبرلمان تسبقها جلسه للرئاسات الأربعة ، تلك الجلسة التي لم تلبها رئاسة الجمهورية متمثلة بالرئيس جلال الطالباني ، وبنائبيه : عادل عبد المهدي وطارق الهاشمي ، هؤلاء الذين يعرفون جيدا اتجاه الرياح الأمريكية ، ولهذا السبب ترك المالكي وحده يتابع مقلب الجلبي مثلما تابعه من قبل إبراهيم الاشيقر (الجعفري) ذات المقلب حين أشار عليه الجلبي بزيارة تركيا وقت توتر العلاقة بين الأحزاب الكردية العراقية وبين الحكومة التركية ، وهذا ما جعل تلك الأحزاب أن ترفض تجديد ولاية الجعفري لرئاسة الوزارة العراقية مرة أخرى ..نعم لقد تواروا جمعيا حين علا زئير الأسد الأمريكي ، تاركين المالكي في منتصف الطريق يلوذ بمظاهرات الشوارع وهو نهج ، لعمري ، لم ينفع صدام من قبل أمام طغيان الآلة العسكرية الأمريكية. حتى أن الحال قد بلغت بالمالكي الى طلب النجدة من التيار الصدري للتظاهر معه ، لكن التيار رفض نجدته . ولتقرؤوا معي نص الخبر التالي ( اكد مصدر رفيع الشأن  في التيار الصدري  لـ"إيلاف"، رفض تياره لدعوة وجهها ائتلاف دولة القانون من اجل حشد الشارع ضد  دخول البعثيين البرلمان. وقال المصدر: تلقى التيار الصدري دعوات عديدة  من  ائتلاف دولة القانون الحاكم والذي يتزعمه نوري المالكي للاشتراك سويا في الحشد لمظاهرات كبيرة مناوئة لعودة البعثيين  الى السلطة ودخول البرلمان. والإيحاء للناخب عن توحيد صفوف الائتلافين.
الا انه وحسب المصدر فان التيار الصدري رفض  تلك الدعوات المتكررة التي أطلقها رئيس الوزراء او أعضاء في ائتلاف دولة القانون. وفي الشأن نفسه فقد حمل الشيخ صلاح العبيدي الناطق باسم مكتب "الشهيد الصدر" على رئيس الوزراء نوري المالكي قائلا : ان المظاهرات التي ينوي ائتلاف دولة القانون تسييرها إنما تنطوي على مبادرة وسلوك ازدواجي وأضاف العبيدي في تصريح لإيلاف"   لهذه المظاهرات  ازدواجية واضحة من قبل هذا الحزب الإسلامي الحاكم .وزعيمه نوري المالكي  لان نوري المالكي مسؤول من خلال قيادته لرئاسة الوزراء عن عودة البعثيين وبقوة الى أجهزة الدولة وخصوصا الأجهزة الأمنية . وأردف: رفض نوري المالكي  في أكثر من مبادرة تطبيق اجتثاث البعث على الأجهزة الأمنية.رغم مناشداتنا المستمرة له طوال فترة توليه الحكم. وتأتي دعواته لقيام المظاهرات  المناهضة لعودة البعثيين لمجلس النواب اليوم  محاولة منه للتنصل عن مسؤوليته المباشرة في عودة البعثيين لمؤسسات الدولة والعملية السياسية)




62
مقلب غوار الطوشي يرتد عليه !   
             

 سهر العامري

مثلما جرت عليه العادة فإن المقلب الذي خططت له المخابرات الإيرانية ونفذه أحمد الجلبي بغباء منقطع النظر ارتد عليه اليوم بعدما سمحت الهيئة التميزية التي شكلها البرلمان العراقي لجميع المرشحين والكيانات التي شطبها قلم المخابرات الإيرانية في "هيئة المسألة والعدالة" ، ذلك الشطب المسيس الذي صفقت له الأحزاب الطائفية على مختلف مسمياتها ، ضاربة تبجحاتها الديمقراطية عرض الحائط ، ومهتدية بنظام ولاية الفقيه في إيران وبمجلس صيانة الدستور ، ذلك السيف المسلط على رقاب المرشحين في الانتخابات الإيرانية ، فالذي لا يقبله هذا المجلس يعتبر خارج دائرة المتنافسين حتى لو كانت له حظوظ بين أوساط الناخبين الإيرانيين .
تلك التجربة أرادت إيران أن تنلقها الى العراق وتستخدمها ضد كل من يتعرض الى تدخلها الفض في الشأن العراقي كصالح مطلق مثلا ، ولم يجد العقيد سليماني قائد فيلق القدس والمسؤول عن المنظمات الإرهابية في العراق أفضل من أحمد الجلبي وهيئته التي أكل الدهر عليها وشرب بعد أن تجاوزتها الأحداث في العراق في تنفيذ مهمة التصدي لكل من يتحدى إيران في العراق ، والى كل من يدافع عن العراق ، والى كل من يمقت الطائفية اللعينة التي صفقت لها إيران وتناغمت معها أحزاب طائفية أحلت الحس الطائفي محل الحس الوطني الذي يجمع العراقيين على مختلف مسمياتهم .
في مقلبه هذا فشل أحمد الطوشي ! تماما مثلما فشل في مقالب أخرى من قبل ، ويبدو أنه شعر بفشله هذا قبل أن تتخذ الهيئة التميزية التي شكلها البرلمان العراقي قرارها بشطب قرارات هيئة المسألة والعدالة وتجتثها من جذورها ، ولهذا السبب هجر العراق وسافر الى بيروت خوفا من عواقب الأمور خاصة بعد أن رأى العين الأمريكية الحمراء التي ظلت تترصد علاقاته بالمخابرات الإيرانية ، تلك العلاقة التي تحدث عنها أكثر من مسؤول أمريكي ، وكان آخرهم قائد القوات الأمريكية بالشرق الأوسط ، بترايوس ، الذي اتهم الجلبي ومدير هيئة التنفيذي علي اللامي على رأس الأشهاد بتلك العلاقة المشبوهة.
لكن العجيب في الأمر أن بعض الأحزاب التي تدعي أنها تمثل شيعة العراق انساقت وراء الجلبي ومقالبه ، وراح البعض منها يدافع بحرارة عن مقلب الجلبي الذي لا يقبله أي عقل سياسي ، وذلك لأسباب كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر هو عدم وجود هيئة مسألة وعدالة بشكل قانوني ، مصدق عليها من قبل البرلمان العراقي على علاته ، ثم أن هناك أشخاصا قد رشحهم المالكي لإدارة عمل هذه الهيئة لكن البرلمان رفضهم جميعا بسبب تحزبهم في وقت كان يُراد للهيئة أن تكون مستقلة ، وفوق هذا وذاك هو أن علي اللامي ، المدير التنفيذي لهيئة الطوشي ، كان مسجونا لتخابره مع الإيرانيين وهو اليوم مرشح في الانتخابات المقبلة ، وهذان الحالان لا يؤهلانه لاجتثاث الآخرين ، فالحال الأولى : تحرمه من أن يقود هيئة بهذه الخطورة ، والحال الثانية تنزع عنه صفة الاستقلالية ، ولكنه مع كل هذا تمادى في تصريحات حتى وصل به الحال ليقول ، ردا على تصريحات بترايوس التي مرت علينا من قبل ، لو كان بترايوس عراقيا لجتثثته ! بينما راح أحمد الطوشي يبادله الابتسامة من بيروت ومن على قناة الحرة الأمريكية ، وفات اللامي أن بترايوس هو الذي أزاح صدام ، وهو الذي نصب الحكومة ، وهو الذي سمح أن يكون في العراق برلمانا ، فعلام هذا التطاول الفارغ الذي لا يفهم منه غير إرضاء الجانب الإيراني ، فاللامي رغم تبجحاته تستطيع القوات الأمريكية الآن أن تعيده الى ذات السجن الذي وضعته فيه أكثر من سنة.
وها هو يشاهد ويسمع اليوم أن القرار الأخير الذي شطب على قراراته هو القرار الأمريكي الذي اقترحه نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن قبيل زيارته الأخيرة الى العراق ، والذي رأى فيه أن تؤجل مسألة الاجتثاثات الى ما بعد الانتخابات ، وأن يسمح لجميع العراقيين الذين شطبهم غوار الجلبي أن يشاركوا في الانتخابات القادمة ، وهو ذات القرار الذي أعلن اليوم في بغداد من قبل الهيئة التميزية التي شكلها البرلمان العراقي ، مثلما نقلت ذلك بعض وكالات الأخبار ، وربما ستكون الحال مختلفة بعد الانتخابات حين تختفي هيئة الجلبي وحين يكون اللامي نسيا منسيا ، فالأمريكان لن يغفروا لهما فعلهما هذا الذي جاء على الضد من المشروع الأمريكي الخاص بالعراق ، والذي توجد تصاميمه الأصلية في البيت الأبيض.

63
حديث الفكة ونبوءة موسى النداف
           

 سهر العامري

في أمسية من أماسي أيام السنة الثانية للحرب العراقية-الإيرانية كنت جالسا مع صديق لي ، عراقي من أصول إيرانية ، يعمل ندافا في مدينة كربلاء، وكان رجلا نزر المعرفة ، شحيح التعلم،لكنه كان يتلمس الأشياء عن قرب لخبرته التي اكتسبها من عيشه في إيران ، ومعرفته بطباع نفوس الإيرانيين .
قال لي واثقا ونحن نخرج مساءً من مقهى الروضة في ضاحية السيدة زينب من دمشق العاصمة : إن الإيرانيين لن يعطوا ( إقلاص ماي ) لأحد ، أي كأس ماء ، فكيف يريد صدام منهم أن يعطوه شط العرب ، وهم لا يعترفون حتى بهذا الاسم ويسمونه بدلا من ذلك بنهر : ارواند رود أي نهر الأنهار.!
وقبيل أيام من الآن كنت استمع الى مقابلة أجرتها فضائية الحرة مع وزير الثقافة والإرشاد الإيراني السابق الدكتور سيد عطا مهاجراني ، وكان وزيرا في حكومة رئيس الجمهورية السابق ، محمد خاتمي ، وفي معرض رده عن علاقة إيران بالعراق فقال دونما تردد : حتى اسم العاصمة العراقية ، بغداد ، هو فارسي !!!
ويبدو أن مهاجراني ، وزير الثقافة !  لا يعرف أن بغداد هي قرية بابلية عرفت بهذا الاسم على يد الدولة البابلية التي دمرها ملك فارس كورش خدمة لليهود بعد السبي البابلي لهم على عهد الملك البابلي ، نبوخذ نصر.
والمعروف عن اللغة الفارسية قديما وحديثا أنها عبارة عن لهجات متعددة ، فأهل مدينة رشت في الشمال يتحدثون بطريقة قد لا تكون مفهومة لدى أهل طهران ، يضاف الى ذلك أن اللغة الفارسية شحيحة المفردات ، حتى أن بعضهم قدر أن المفردات الدخيلة عليها خاصة من اللغة العربية تزيد على نسبة ثمانين بالمئة . وفوق هذا متى كانت تسمية مدينة في دولة ما برهانا على ملكية دولة أخرى لها ؟ فلو أن أحدا ما أراد تطبيق نظرية الوزير المثقف والإصلاحي الإيراني التي أشرت لها قبل قليل لوجب علينا أن نرسم خريطة جديدة للعالم اليوم ، فاسطنبول مثلا يجب أن تعود الى اليونان لأن اسمها جاء من اللغة اليونانية ومعناه "إلى المدينة" (is tin polin).
والآن صار لي أن أقول بثقة : إن إيران طامعة الى حد العظم بالعراق وثرواته ، وهي في كل ما قامت به من أعمال قتل وتخريب داخل العراق عن طريق عملائها في الحكومة أو بين الأحزاب العراقية الدينية منها والعلمانية على حد سواء هدفه ليس حماية الدين أو المذهب الشيعي ، وإنما هدفه واحد لا غير هو أن تقدم أمريكا ومن بعدها لندن لإيران حصة من ثروات العراق النفطية تماما مثلما قدم لهم الإنجليز الأحواز بنفطها ، هذا النفط الموشك على النفاذ كما تقول بعض التقارير ، فالإيرانيون أصحاب فضل قديم وحديث على الإنجليز فمن أجل إسقاط الإمبراطورية العثمانية قلب الشاه إسماعيل إيران من المذهب السني الى المذهب الشيعي الصفوي ثم أوجب أن يكون الحج الى مشهد بدلا من مكة ، وهو أول إيراني حج إليها مشيا على الأقدام ثم صار المشي سِنّة عندهم قبل أن ينتقل الى العراق .
لقد تحججت إيران بحجج واهية وهي مطالبتها العراق بتعويضات الحرب التي وافقت إيران صاغرة على إيقافها دون قيد وشرط ، وهذه النهاية الغير مقيدة لا ترتب تعويضا لإيران على العراق.
وإلحاح إيران على دفع هذه التعويضات ( نظرية كأس الماء لدى موسى النداف ) هو الذي جعل أحد عملائها في العراق ، وزير بريمر السابق ، محمد الربيعي أو كريم شهبوري أن يصرح مؤخرا : إن إيران تريد منا أن نعطيها الميناء العميق ! والمعروف أن الميناء العميق هو واحد من الموانيء العراقية في البصرة ، ولهذا السبب بالذات قامت هي باحتلال جزيرة أم الرصاص في شط العرب أكثر من مرة تحقيقا لهذا الهدف .
ورب سائل يسأل لماذا احتلت القوات الإيرانية حقل فكة النفطي الذي يقدر مخزونه بما يزيد عن مليون ونصف مليون برميل من النفط الآن ، وبهذا التوقيت ؟
والجواب يعود لتلك النقمة المتنامية في أوساط العرب الشيعة في وسط وجنوب العراق ضد التدخل الإيراني الفض بالشأن العراقي الداخلي ، ثم حرمان أهل الجنوب من حقهم الطبيعي في المياه التي منعتها هي عليهم بعد أن قامت بتحويل مجاري الأنهار التي تنبع من أراضيها وتنحدر فيما بعد الى الأراضي العراقية في الوسط والجنوب ، هذا المنع الذي أضر بسكان الوسط والجنوب كثيرا خاصة عرب الأهوار الذين رحلوا عن قراهم بعد الجفاف الذي أنزلته إيران بأهوارهم بعد أن حبست الماء عنها ، وهو الحبس الذي حدا بأحد مهندسي بلدية الناصرية أن يحتج عليه احتجاجا علنيا رماه بوجه وفد إيراني زائر برئاسة مستشار رئيس الجمهورية الإيرانية ، المدعو الدكتور حسن دانائي  لمدينة الناصرية مؤخرا . والنقمة المتفاقمة هذه عند العرب الشيعة في العراق هي التي دفعت برئيس المجلس الإسلامي ، عمار الحكيم ، الى القيام بزيارات متعددة الى بلدان عربية في الآونة الأخيرة ، وهي التي دفعته الى أن يبدل في لغته كذلك حيث صار العراق على لسانه بلدا عربيا ، وأنه أي عمار يعتز بعروبته ، وبينما كان المجلس وأتباعه للأمس القريب يرفضون أن يطلق على الشيعة في العراق لفظ العرب ويستعيضون عن ذلك بلفظ شيعة آل البيت ! ويبدو أن التبدل الذي طرأ على لسان عمار الحكيم كان سببه الهزيمة المرة للمجلس في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة ، وكذلك سعيه للضحك على ذقون العراقيين من أجل الفوز في الانتخابات البرلمانية القادمة بعد أن صممت لهم إيران ائتلافا جديدا قديما ألبسته صفة الوطنية بعد أن كان يلبس صفة الطائفية التي صار العراقيون ينفرون منها بعد ما جرت عليهم الموت والدماء والخراب .
ذاك جانب والجانب الآخر هو عدم رغبة إيران في أن يطور العراق علاقاته بالدول العربية ، خاصة علاقاته مع مصر التي ينوي نوري المالكي زيارتها في وقت قريب جدا ، فمن المعلوم إن إيران حاربت أي وجود عربي في العاصمة العراقية بعد سقوط نظام صدام ، وهناك الكثير من الدلائل التي تشير الى أن العصابات المرتبطة بجهاز المخابرات الإيراني ، إطلاعات ، هي التي قامت بخطف وقتل السفير المصري السابق ، إيهاب الشريف في العراق ، وهذه شهادة من صحيفة لوفيجارو الفرنسية التي كتبت :( إن أجهزة الاستخبارات الإيرانية والحرس الثوري الإيراني هما من يقفان وراء خطف واغتيال إيهاب الشريف السفير المصري السابق ببغداد، وذلك للقضاء على دور مصر في العراق.
ونسبت الصحيفة إلى مصادر دبلوماسية قولها، إن الاستخبارات الإيرانية أرادت باغتيال الشريف- الذي لم تعثر على جثته منذ الإعلان عن اختطافه ومن ثم قتله في يونيو من العام الماضي- "قطع الرجل المصرية عن العراق".
وعزت ذلك إلى رغبة إيران في إبعاد مصر عن الشأن العراقي بعد سقوط صدام حسين وفي ضوء وعودها لشخصيات سياسية تربطهم بها علاقات قوية بالعمل على منع تدخل الدول العربية في العراق.)
ولهذا يبدو أن الحكومة في العراق برئاسة نوري المالكي ردت علنا هذه المرة ، وفي مذكرة الى السفير الإيراني في بغداد على ما جاء في الأخبار التي نقلت : ( استدعت وزارة الخارجية العراقية الليلة الماضية السفير الايراني حسن كاظمي قمي وسلمته مذكرة احتجاج شديدة اللهجة ودعته لابلاغ حكومته بضرورة اخلاء الحقل وانسحاب القوة العسكرية منه وانزال العلم الايراني من عليه فورا. كما طلبت الحكومة العراقية من سفيرها في طهران محمد مجيد الشيخ تسليم مذكرة دبلوماسية الى الحكومة الايرانية بضرورة اخلاء الحقل والدخول في مفاوضات معها لانهاء مشكلة الحقل سلميا.)
ومع ذلك فإن الحكومة في العراق لا تملك أكثر من هذا الرد المتضمن الدعوة الى حل سلمي وليس عسكريا لردع العدوان الإيراني واسترداد ما نهب من العراق في وضح النهار ، حتى أن الناطق باسمها ، علي الدباغ ، وهو من بطانة إيران في العراق ، قد قلل من حجم العدوان وسمى القوات المهاجمة بمجموعة مسلحة على الضد مما صرحت به القوات العراقية المرابطة قريبا من حقل فكة حيث قالت : إن القوات الإيرانية هي قوات مدرعة انتشرت حول البئر وقامت بحفر خندق حوله مثلما أقامت تحصينات لها هناك . وعليه يكون رد الحكومة في العراق في ردها ذاك ليس أكثر حظا من حظ المتنبي في بيته القائل :
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ........فليسعدِ النطقُ إن لم تسعدِ الحالُ

وخلاصة القول هي متى تدرك الحكومة في العراق مثلما أدرك موسى النداف منذ سنوات طويلة خلت أن إيران ، وليس اليوم فقط ، طامعة بثروات العراق ؟ متى تدرك الحكومة ذلك ؟

64
شارع المتنبي : المظاهرة والقمع !
 
  سهر العامري

أخذتني المظاهرة التي انطلقت في شارع المتنبي الى ساعات أيام السنوات الأخيرة من ستينيات القرن المنصرم ، فقد كنت أنا وقتها واحدا من سكنة ذلك الشارع حين كنت طالبا في كلية التربية من جامعة بغداد ، وحيث كانت تلك الساعات قد شهدت أكثر من مظاهرة تنطلق بين الحين والآخر مرورا بذلك الشارع ، وذلك حين يطفح الكيل بالناس ، ويستبد بها الظلم والقمع ، فالمظاهرة هي ابنة القمع والظلم في العراق .
أضخم مظاهرتين شاركت أنا بهما في ذلك الزمان هما تلك المظاهرة التي انطلقت من أمام رئاسة جامعة بغداد ( البلاط الملكي القديم ) في الوزيرية من الرصافة ، وكان سببها هو الهجوم الوحشي الذي شنه الجيش على كلية التربية ، ذلك الهجوم الذي سقط فيه أربعة من الطلاب جرحى ، نقلوا على إثرها الى مستشفى الطورائ في شارع الكفاح ، وعلى أثره استقال خمسة وزراء من حكومة طاهر يحيى الذي قام بعيادة الجرحى مساء ذات اليوم الذي حدث فيه ذاك الهجوم .
في تلك المظاهرة ألقيت أنا قصيدة من أمام البناية التي كان يشغلها رئيس الجامعة عبد العزيز الدوري الذي هرب وقتها من بابها الخلفي وذلك بعد أن احتشد آلاف من الطلاب أمام مبنى رئاسة الجامعة مطالبين باستقالته ، فهو لم ينتصر لحرمة الجامعة التي يرأسها  حين انتهكها بشر متوحشون ومدججون بالسلاح يقودهم المجرم العميد صعب الحردان آمر الانضباط العسكري ، والذي أعدمه أحمد حسن البكر بعد نجاح انقلاب 17 تموز عام 1968م مباشرة،  وفي هذا تذكرة لقاسم عطا وأمثاله من العاملين في قيادة عمليات بغداد التي بناها الأمريكيون مثلما بنوا حكومات في العراق من قبل .
لقد هاجمت في قصيدتي تلك المرحوم عبد الرحمن عارف رغم أن الرجل هو الذي أمر بفك الحصار الذي فرضه الجيش علينا في مباني كلية التربية بعد أن اتصل به طالب من الطلاب هاتفيا من البناية ( ج ) من تلك الكلية ، وذلك بعد أن اشتد رمي الرصاص عليهم وهم محاصرون في تلك البناية وفي غيرها من البنايات الأخرى .
ورغم أنني فقدت جميع ما كتبت من شعر بعد خروجي الغير طبيعي من العراق لكن أبياتا من تلك القصيدة لا زالت عالقة في الذهن ، ومنها هذا البيتين والخطاب فيه موجه لعبد الرحمن عارف :
لا خير في هذا الشجاع وسيفهِ....إذ راح يقتل في بنيه ِ ويعقرُ
حمدا يريد وما جنينا منهــمُ....... إلا الشقاءَ ولا شقاءً يُشكــرُ
أما المظاهرة الثانية فهي التي انطلقت من طرف شارع الرشيد حيث ساحة الميدان ، وذلك حين عزمت بعض القوى والأحزاب العراقية تنظيم مظاهرات بمناسبة مرور سنة على نكسة حزيران ، وساعتها خرجت أنا مع مجموعة تتكون من اثني عشر طالبا من كلية التربية متوجهين الى ساحة الميدان ، وكان بعض من أفراد تلك المجموعة يحمل لافتات مطوية على نفسها ، وحال وصولنا الى بداية شارع الرشيد من جهة ساحة الميدان نزل شخص الى وسط الشارع هاتفا : فيتنام وفلسطين مقبرة للغادرين ! فما كان منا إلا الاندفاع الى وسط الشارع ثم قمنا بنشر اللافتات ورفعها ، ولم تمض ِ دقائق معدودة على ذلك حتى تضخمت المظاهرة وصار عدد المشاركين فيها يعدون بالآلاف .
لهذه الذكريات أخذتني مظاهرة المتنبي أمس ، تلك المظاهرة التي قام بها مثقفو العراق وصحفيوه نتيجة للقمع الذي حل بهم من أناس كانوا للأمس القريب يشكون من قمع صدام ويئنون من ظلمه ، وإذا كان جلال الصغير قد هدد الصحفي البطل أحمد عبد الحسين لمقالة كتبها يفضح بها سرقة وقعت على المال العام وذلك بقوله : (سنقاضيهم بطريقتنا الخاصة) فقد سبقه الى لغة الوعيد هذه ضابط أمن اقتحم علي داري في ساعة متأخرة من الليل زمن صدام ، هو وشخصان آخران ، وقد قال لي هذا الضابط في آخر حديث جرى بيني وبينهم ما نصه : ( أنت لم تقتنع بكل ما قلناه لك ، لكننا نملك أساليب خاصة تجعلك تقتنع ) لغة ضابط أمن صدام هذا تتطابق مع لغة معمم جامع براثا .
الليلة البارحة كنت أصغي لشاب صحفي عراقي متحمس يدلي بحديث من على شاشة فضائية الشرقية يصف به ما نزل بالمتظاهرين من مضايقات من قبل ضباط وجنود قوات عمليات بغداد ، ومن تلك المضايقات هو طلبها من منظمي تلك المظاهرة أن يعرضوا البيانات التي سيذيعونها على الناس خلال تلك المظاهرة ، وهذا الأسلوب هو أسلوب منظمات حزب البعث وأجهزة أمن النظام السابق ، فما زلت أتذكر أن أحد أعضاء حزب الدعوة جاءني الى داري طالبا مشاركتي بقصيدة في حفل سيقام في جامع المدينة بمناسبة  ميلاد الإمام الحسين عليه السلام تلك المناسبة التي تصادف في اليوم الثالث من شهر شعبان من كل عام .
لبيت طلبه على الفور وشرعت بكتابة القصيدة من لحظة مفارقته لي ، وذلك بسبب من  ضيق الوقت ، فبيني وبين ساعة الاحتفال ذاك يومان ، ولكن صاحبي هذا عاد لي في اليوم الثاني قائلا : إنه قدم جميع المواد التي ستقال في ذلك الحفل الى مسؤول منظمة حزب البعث في المدينة ، فهم يريدون الإطلاع عليها قبل إذاعتها على الناس ، وهو لهذا السبب يريد قصيدتي ليطلع عليها مسؤول المنظمة المذكور ! قلت له : لتقل لمسؤول المنظمة أن فلان لن يطلب إجازة من أحد على ما يكتب من شعر ، وهو لهذا السبب يرفض أن يعطيك قصيدته للتطلع عليها قبل إلقائها .
رفضي هذا أجبر مسؤول منظمة الحزب وأعضاء تلك المنظمة على التوجه الى مكان الاحتفال من أجل إرهابي ، ومنعي من أن أقول كلمة واحدة ضد حكومتهم وحزبهم ، ولكنني تلوت ما كتبت ولم أبدل حرفا واحدا منه ، وقد طار من تلك القصيدة بيت واحد ظلت أجهزت الأمن تطاردني عليه حتى بعد أن ارتحلت من تلك المدينة ، وهذه القصيدة هي من القصائد المضاعة كذلك ، لكن ابياتا منها لا زالت متعلقة بالذاكرة والخطاب فيها موجها للامام الحسين :
أبا عليّ وذاك الظلم تعرفهُ...............فقد رمتك بأصناف له زمرُ
وقسّمتنا فهذا سيدٌ ألـــــــقٌ.............وآخر من صعاليك بهم خورُ
وفاتهم أننا من معدن ٍ فرد ٍ..................وأننا باختلاف ٍ كلنا بشرُ
رداءة ُ الفكر لاْفلاطون خالقة  ٌ...رداءة َ الحرب حين اجتاحنا التترُ
أسلوب مسؤول منظمة حزب البعث في وجوب الإطلاع على النصوص التي ستقال بمناسبة ذكرى ميلاد الحسين هو ذات الأسلوب الذي يسير عليه جنود قاسم عطا الآن ، ولكنهم معذورون فهم لا يملكون تجربة في حكم العراق غير تلك التي خلفها لهم البعثيون خاصة طرق البعثيين في القمع والكذب .
وخلاصة القول إنه يتوجب على رجل مثل الصغير وآخر مثل عطا أن يتعظوا بمصير المجرمين الذين مروا على الحكم في العراق ، وكيف انتهوا لنهايات غير محمودة ، مثلما يتوجب عليهم أن يدركوا أن أمريكا التي أتت بهم الى الحكم قد أتت هي نفسها بصدام من قبل وهي نفسها التي كانت تسمي صدام وقت ذاك : بوغدنا .
كما يتوجب عليهما معرفة القيمة العظيمة للإنسان المثقف والصحفي ، هذه القيمة التي يتفرد بها المثقفون عن أقرانهم في البلدان المتطورة كالسويد مثلا ، فحين ماتت الكاتبة السويدية المعروفة ، أستريد ليندكرين (Astrid Lindgren) نكست الدولة السويدية أعلامها على موتها لمدة ثلاثة أيام صحاح ، لكنها لم تنكس راية واحدة حين مات وزير الهجرة بعدها ، وقد اكتفى التلفزيون السويدي بإذاعة خبر وفاته فقط .
ويمكنني أن أقول أخيرا : لا خير في حكم يحترمُ معمما جاهلا ، ويحتقرُ مثقفا عالما .!
 


65
إيران : الثورة والبطيخ ( 2 )

سهر العامري

لا ينبغي لي أن أتحول الى قارئ كف ثم أحكم على ما ستؤل له الأوضاع الملتهبة في الشوارع طهران الإلهية مثلما كان الخميني يسميها . هذه الشوارع التي تحولت بعيون ورثته الى شوارع شيطانية يطاردون فيها الفتية والفتيات بالرصاص الحي الذي أعطى للهبة الجماهيرية لون الثورة الحمراء . وإذا ما قدر لي ، وأنا عازم على ذلك ، أن أطل على مستقبل الهبة تلك فلا بد من العودة الى ساعات ثورة 1979م ، تلك الثورة التي تكللت بالنجاح في نهاية الأمر ، ولأسباب مهمة من بينها :
1- ظلم نظام الشاه محمد رضا بهلوي ، المدعوم من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة ، وقد تفاقم ظلمه هذا في أواخر أيام حكمه بثورته التي سماها بالثورة البيضاء ، تلك الثورة التي سلم فيها مفاتح إيران الاقتصادية للشركات الغربية ، وكذلك لإسرته وللحاشية القريبة منها،وهذا ما جعل البرجوازية التجارية الإيرانية تنحاز الى جانب الثوار .
2- الوجود الواضح للقوى اليسارية على مختلف تنظيماتها ، والتي كانت تشعل نيران الثورة هنا وهناك وبشكل منظم ، فالخميني لم يكن وراءه حزب سياسي ، وإنما اعتمد على تاريخه السياسي الطويل في مقارعة نظام الشاه ، وعلى رجال الدين الذين لم ينخرطوا في تنظيم سياسي معروف ، مثلما عليه الحال بالنسبة لأحزاب اليسار الإيرانية ، تلك الأحزاب التي شكل قادتها المتواجدون على أرض الثورة ، وبين نيرانها ، قيادات ميدانية توجه الجماهير الثائرة الوجهة التي تضمن ديمومة الثورة ونجاحها ، بينما كان الخميني يرسل خطاباته عبر أشرطة الكاسيت من العراق أولا ، ثم من باريس ثانيا. هذا بالإضافة الى أن الخميني نفسه كان على صلة ببعض هذه الأحزاب خاصة حزب توده من خلال بعض من أعضاء ذلك الحزب في العراق ، هؤلاء الأعضاء الذين طلب منهم الخميني مرة تزويده بكتب عن الماركسية اللينينية واشترط أن تكون تلك الكتب مترجمة الى الفارسية ، وقد تم له ما أراد بعد أن نقلت إليه تلك الكتب الى داره في النجف.
3- كانت المخابرات الغربية وخاصة الأمريكية ترغب باستبدال النظام الملكي في إيران بنظام ديني متشدد ، لا يخرج عن نفوذها ، وقد تجلت هذه الرغبة واضحة بالطلب من الشاه في عدم زج جيشه اللجب في حرب ضد الجماهير الثائرة التي كانت تجوب شوارع المدن الإلهية! ثم الطلب إليه فيما بعد بالرحيل من إيران هو وأسرته على ما ذكرت ذلك فرح ديبا زوجة الشاه في مقابلة صحفية معها . والدليل الآخر على تلك الرغبة هو أن فرنسا بنت في ضواحي باريس قبة خضراء للخميني القادم من العراق ، والذي صرح هو يغادر مطار بغداد باتجاه تلك المدينة قائلا : سأظل أحارب أمريكا حتى لو جعلتني أنتقل من مطار الى مطار. ورب سأئل يسأل: ما مصلحة أمريكا من نجاح ثورة يقودها رجل دين يريد حربها ؟
لقد تصاعدت نيران الثورة في إيران غبّ دخول الجيش السوفيتي الى أفغانستان دعما للانقلاب العسكري الذي أطاح بنظام الملك محمد ظاهر شاه ، ذلك الانقلاب الذي آل مصيره الى ضباط موالين لموسكو ، وذلك حين صار السوفيت يأخذون بنظرية الانقلابات العسكرية في تغيير أنظمة الحكم بعد أن كانت هذه النظرية حكرا على أمريكا وحلفائها الغربيين .
لقد أفزع ذاك الانقلاب الدوائر الغربية وفي المقدمة منها سيدة العالم الغربي ، أمريكا ، خاصة وأن السوفيت مدوا نفوذهم الى الغرب من مكامن النفط في الخليج العربي عن طريق انقلاب آخر قاده ضباط ماركسي النزعة في الجيش الأثيوبي هو منغستو هليلي مريام الذي يقابله على الضفة الشرقية للبحر الأحمر نظام ماركسي آخر هو نظام الحكم في جمهورية اليمن الديمقراطية ، ولهذا السبب بذات صارت الدوائر الغربية تخشى من أن يقوم ضابط شيوعي في الجيش الإيراني بانقلاب على نظام شاه إيران وعند ذاك تصبح الطريق سالكة أمام السوفيت الى خليج النفط ، ولهذا وجدوا أي الأمريكان أن أفضل ضمانة لهم بالاحتفاظ بإيران وقطع الطريق على السوفيت في تمددهم هو أن يقوم نظام ديني فيها في وقت أعلنت فيه أمريكا الحرب الإسلامية المقدسة ! ضد الروس في أفغانستان ، وذلك عن طريق تجنيد الألوف من المقاتلين المسلمين من العرب ومن غيرهم في حرب جهاد أمريكية دارت رحاها على الأرضة الأفغانية لسنوات ، وقد استعانت  أمريكا هذه  ببعض الدول الإسلامية وكذلك بحركة الأخوان المسلمين في أكثر من بلد إسلامي وعربي ، وهذا في ذات الوقت الذي كانت فيه أمريكا تقدم دعمها المخلص للنظام الديني في إيران حيث قامت المخابرات الغربية بكشف قادة عسكريين شيوعيين من أعضاء حزب الشعب الإيراني ( توده ) في الجيش الإيراني لحكومة الخميني التي قامت بتصفيتهم على الفور رغم أنهم كانوا يشاركون مشاركة فعالة في معارك تحرير مدينة المحمرة من قبضة القوات العراقية . ولم تكتف ِ حكومة الخميني بقتل أولئك الضباط بل عمدت الى تصفية أهم قيادات ذلك الحزب بمن فيهم سكرتير الحزب ، كيانوري .
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن الهبة الجماهيرية الحالية في إيران تختلف عن هبة الجماهير العظيمة الى أفضت الى انتصار الثورة عام 1979م ، وذلك من أوجه كثيرة من أهمها :
1- إن الهبة الجماهيرية الحالية يقودها ممثلو الطبقة المتوسطة الذين خرجوا من معطف النظام نفسه ، وهم على استعداد لمساومة ذلك النظام على حساب تطلعات الجماهير الثائرة عندما يقوم نظام الولي الفقيه بتحقيق بعض من مطالبهم ، ومن هنا تظهر الخشية من ضياع أهداف هذه الحركة الجماهيرية العظيمة في تحقيق نصر مبين يفضي الى تبديل شكل الحكم الثيوقراطي في إيران الى حكم وطني ديمقراطي ، ليس فيه ذكر لولاية الفقيه التي يرفضها الكثيرون من رجال الدين الشيعة .
وعلى ذلك لا يستطيع أحد أن يبخس الدور المهم لقيادة أية حركة جماهيرية في التحولات الاجتماعية الكبرى التي تظهر بفعل قوانين التحول الاجتماعي ، تلك القوانين التي تجري بشكل موضوعي مرن ، وليس بشكل حاد ، مثلما عليه الحال مع القانون الطبيعي الذي يحول الماء الى بخار عند درجة حرارة معينة لا رجوع عنها ، ومن دون أن يلتفت الى صدام أو الى الخميني ، بينما يستطيع قائد دولة ما أن يؤخر حركة اجتماعية في تطورها المتصاعد الى الأمام ، وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك ، منها نكوص تطور الحركة الاجتماعية في العراق على عهد صدام ، وفي الاتحاد السوفيتي على عهد برجنيف ، والى هذه الحقيقة أشار لينين ، رجل روسيا العظيم ، في بعض من كتاباته .
2 - غياب شبه تام تقريبا للأحزاب اليسارية التي ساهمت مساهمة نشطة في نجاح ثورة 1979م ، وذلك لأن رجال الدين في إيران ، وبمباركة من الدول الغربية ، قاموا بقمع جميع الحركات اليسارية الإيرانية قمعا فظيعا قتل من جرائه من قتل ، وفر الى خارج البلاد من فر ، وقد وصل هذا القمع حتى الى بعض رجال الدين الأحياء منهم والأموات ممن كانوا على علاقة بتلك الأحزاب اليسارية ، فمن الأحياء تمت تصفية آية الله محمود الطلقاني بالسم بعد أن خرج من لقاء صاخب مع الخميني ، كما لوحق الدكتور علي شريعي الذي قتله جهاز مخابرات الشاه ( السافاك ) في لندن ، والذي لقبته الجماهير الإيرانية بعد نجاح الثورة 1979م بمعلم الثورة الى قبره الذي يرقد فيه في مقبرة السيدة زينب من دمشق ، وذلك بنزع اسمه من أحد شوارع العاصمة طهران ، وبتهمة هي أنه كان ماركسيا أو قريبا من الأحزاب الماركسية الإيرانية .
3- كان رجال الدين في إيران قبل ثورة 1979م من الفقراء في أغلبهم ، ويعيشون بشكل طفيلي على ما يتبرع لهم به تجار البازار أو أغنياء الشيعة من مال على شكل خمس أو صدقات ، ولهذا كانوا هم وقتذاك قريبين الى الطبقات المعدمة في المجتمع الإيراني ، أما اليوم فقد قعدوا هم على عيون المال في إيران ، وتحولوا من طفيليين الى أسياد في دولة صار فيها رجل الدين المعمم ومن دون علم أو خبرة في السياسة والدبلوماسية سفيرا في هذه الدولة أو تلك ، صار فيها المعمم ذاك رئيس جمهورية أو وزيرا ، ولا شك أن رجال الدين هؤلاء يتمتعون بنفوذ بين أوساط في المجتمع الإيراني خاصة تلك الأوساط المرهبة بالخوف من القيامة واليوم الآخر ، وهي حالة تقابل حالة بعض الناس في روما إبان حكم الكنيسة في العصور الوسطى ، وهؤلاء المرهبون يقفون متربصين للآن ، وينظرون للأحداث الجارية في مدنهم الساعة بعين بعيدة ، وهذا علامة من علامات ضعف الهبة الجماهيرية التي تجري فصولها في شوارع إيران اليوم .
4- غياب العامل الخارجي بهذا الشكل أو ذاك عما يجري في إيران اليوم ، وذلك لأسباب منها غياب الحرب الباردة ، وانهيار الاتحاد السوفيتي ، واختفاء شبح الدولة الشيوعية الذي كان يؤرق أصحاب رؤوس المال في أمريكا ، ولهذا عادت إيران ليست بذات الأهمية الجغرافية الكبيرة بالنسبة الى الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعد أن صارت الأخيرة تحيط بإيران من كل الجهات ، فهي تحتل العراق من جهة إيران الغربية ، وتحتل أفغانستان من جهتها الشرقية ، هذا بالإضافة الى التواجد الأمريكي في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي المنهار والتي تحد إيران من الشمال ، أما من الجنوب فالأساطيل الأمريكية تسبح في خليج العرب وفي بحرهم ، وفي مضيق هرمز الفرس وسواحلهم ، مثلما تسبح كذلك في المحيط الهندي .
وعلى ما مر فأنا أضع في حسابي كل العوامل التي سطرتها قبلا حين أمد البصر الى شوارع إيران اليوم ، وحين أقارن بين الحركة الجماهيرية العارمة سنة 1979م وبين الحركة التي تجري الآن فيها ، ولا أريد لنفسي أن أصبح قارئ كف مثلما أسلفت ، وأتنبأ بنتائج محسومة لحركة اجتماعية قد تقف بها قيادتها عند نصف الطريق وربما عند ربعه ، ومع كل ذلك أستطيع القول من أنه لا يمكن للكاتب أن يقدم للقارئ أمانيه في نجاح او فشل حركة اجتماعية تجري فصولها بشكل موضوعي وخارج ذاته ، فشتان ما بين الأماني والواقع !


66
إيران : الثورة والبطيخ 
 
سهر العامري

من حسينية جمران في شمرانات من طهران العاصمة صرح الخميني ذات صباح ، وأمام حشد من الإيرانيين قائلا : نحن قمنا بالثورة ليس من أجل أن نخفض أسعار البطيخ ! والخميني يشير هنا بعبارته الموجزة هذه الى أهداف الثورة التي لم يجب عليها بشكل علني أمام ذاك الحشد ، ولكنه استبعد أن يكون هدف الثورة هو تحسين حياة الإيرانيين المعيشية وتطويرها خاصة عند الفقراء منهم ، وهم الذين كان عماد الثورة ووقودها ، وقد كنى هو عن عدم تحسين الظروف المعيشية عند الناس بتخفيض أسعار البطيخ .
لقد كان تفكير الخميني منصبا على هدفين رئيسين لتلك الثورة ، هما : إمكانية تكرار تلك الثورة في مكان آخر ، وهو ما عرف فيما بعد بتصدير الثورة الذي تغنى فيه بعض المسؤولين الإيرانيين ، مثلما تغنت به وسائل إعلامهم كذلك ، ولهذه الساعة ، وقد أدى السعي نحو هذا الهدف الى تخريب علاقات إيران مع الكثير من الدول الأخرى وخاصة الدول الإسلامية ، ومنها الدول العربية على وجه الخصوص ، فقد أنفقت إيران أموالا طائلة من ثروات الشعب الإيراني على فرق وجماعات وأحزاب لتحقيق ذلك الهدف ، حتى أنها بنت لتلك الفرق والأحزاب جيوشا نظامية مسلحة بأحدث الأسلحة وأشدها فتكا، وقد وضعت قيادات تلك الجيوش تحت سيطرة حرسها الثوري ، وأفضل مثالين على ذلك هما : الجناح العسكري لحزب الله في لبنان ، وفيلق بدر ، الجناح العسكري للمجلس الأعلى في العراق ، هذا الى جانب رعايتها لبعض التنظيمات في الكثير من الدول الأخرى من بينها مصر ونيجيريا والجزائر ، ودول أخرى كثيرة ، وقد قال لي رجل إيراني متحمس لتحقيق مثل هذا الهدف : إننا نسعى لقيام إمبراطورية إسلامية مثلما كتب الخميني ذلك في وصيته التي تركها لنا ، تلك الوصية التي حُفظت في ضريح الإمام الرضا عليه السلام في مشهد من خراسان ، وكان الخميني على قيد الحياة .
أما الهدف الثاني فهو نشر ثقافة الثورة في المجتمع الإيراني على نطاق واسع حتى إذا اقتضى ذلك النشر استخدام القوة ، والتدخل الفظ في شؤون الناس ، ويحضرني هنا مثال على هذا التدخل ، فقد كنت وافقا مع صديق لي في بداية شارع ( خيابان ) محمود طالقاني من العاصمة طهران وإذا بشابة إيرانية يافعة تندفع نحونا ، وتطلب منا أن نساعدها في حمل كيس صغير كانت هي تحمله بيدها ، ثم سرعان ما خلعت حذائها ، وأخرجت حذاءً آخر من الكيس الذي نحمله ، وكان أقل علوّ من الأول ، احتذته على عجل قائلة لنا : إنني أعمل في هذه الدائرة المقابلة التي تحرم علينا لبس الأحذية العالية .
لقد كانت الثقافة الإسلامية ! مثلما يسمونها هي ثقافة الثورة على ما يدعون ، ولكن نشرهم لتلك الثقافة صار هو التدخل في صغائر الأمور وكبائرها لدى الناس ، والى الحد الذي كان فيه أفراد من قوات الحرس أو التعبئة يستوقفون السيارات على الطرقات، ويدخلون رؤوسهم فيها للنظر في وجوه الركاب ، فإذا ما رؤوا امرأة قد خرجت خصلة شعر عن غطاء رأسها أمروها بإخفاء تلك الخصلة حتى ولو كانت بين أولادها وزوجها.
وعلى هذا يمكن القول إن السلطة الدينية القائمة في إيران على شح ثقافي كبير يكاد لا يلتف إليه أحد ، ولهذا راحت تلزم الناس بالتافه من الأمور ، وإذا كان دعاة تلك السلطة يرون أنهم يسعون الى نشر الثقافة الإسلامية في صوم وصلاة فهم غير صادقين في رؤيتهم تلك ، ذلك لأن الإيرانيين يعرفون القرآن والصلاة والصوم منذ مئات السنين ، ومدنهم زاخرة بالجوامع والحسينيات ، ولديهم من الإسلام والمسلمين إرث ثقافي عظيم يتجاوز حتى ثقافة السلطات الإيرانية الشحيحة التي راحت تكره الناس عليها ، ذلك الإكراه الذي تحول الى نوع من الاستبداد تجلى بشكل واضح فيما بعد بمبدأ ولاية الفقيه الذي أباح لرجل دين ، وراثة وليس علما ، أن يمسك بزمام أمور الناس والدولة بيد واحدة متسلطة ، ومن هنا تحولت الثورة الى إداة للوصل الى سلطة ثيوقراطية مطلقة تذكر العالم بحكومات القرون الوسطى .
ومن هنا كذلك نمت المعارضة القوية ، وصارت انتفاضة تطوف في شوارع المدن الإيرانية اليوم ، فعامل القمع والاستبداد وتبذير أموال الإيراني في هدف بناء إمبراطورية فارسية جديدة لا يمكن تحقيقها أبدا ، وذلك لأن عصر الإمبراطوريات قد أنقضى نحبه ، ومضى دونما رجعة ، هو العامل الذاتي الذي حرك الجماهير الإيرانية في هبتها القوية الحالية بعد إصرار السلطات الدينية على التمسك بحكمها المطلق المستبد من خلال تزويرها للانتخابات التي كان الشارع الإيراني بانتظار أن تحقق له تلك الانتخابات شيئا جديدا يتناغم مع روح هذا العصر ، ويساير التقدم الحاصل في أساليب الحكم والحياة عند الشعوب الأخرى .
أما العامل الموضوعي ( الخارجي ) فيتجسد بالعزلة الدولية التي ألقى حكام طهران الدولة والشعب الإيراني في أتونها ، فدولتهم ليس على وفاق مع الدول المسلمة لكثير تدخلاتهم في شؤون تلك الدول ، ولا مع الدول الغربية ( الكافرة ) على حد تعبيرهم لخروجهم على قرارات المجتمع الدولي فيما يخص قضية الإرهاب والسعي لصناعة القنبلة النووية ، وهذا العامل الخارجي انعكس على الوضع الاقتصادي الإيراني وبدأ يصيب تجار البازار والطبقة الارستقراطية الإيرانية بأضرار ليست بالهينة بعد أن أوقفت دول كثيرة تعاملاتها مع الكثير من البنوك الإيرانية ، تلك البنوك التي أصبحت في وضع لا تحسد عليه خاصة فروعها خارج إيران ، ورغم أن ممثلي الطبقة الوسطى هم الذين يقودون التحرك الجماهيري الحالي في إيران ، لكن ممثلي الارستقراطية الإيرانية يراقبون الوضع عن كثب على ما يظهر ، وهم في مرحلة رجل هنا ورجل هناك ، فإذا كان رجال الدين في إيران يقفون على أعتاب تجار البازار قبل الثورة صار تجار البازار هم الذين يقفون على أعتاب رجال الدين بعد تلك الثورة ، حيث أصبح البعض من رجال الدين هؤلاء حكاما وأصحاب ثروات طائلة في وقت واحد ، ولكن مع كل ذلك يظل ممثلو الاستقراطية الإيرانية يئنون تحت ضربات الحصار الدولي المفروض عليهم وعلى الدولة والشعب الإيراني ، وإذا ما توالت عليهم تلك الضربات وثقلت فأنهم سينضمون في نهاية الأمر الى ممثلي الطبقة الوسطى الذين يقودون التحرك الجماهيري الغفير في إيران اليوم ، رغم أن معاناتهم لم تصل بعد الى معاناة فقراء إيران الذين تطحنهم الأسعار المرتفعة ، وتدهور قيمة العملة الإيرانية ، ونسبتا البطالة والتضخم العاليتان ، هؤلاء الفقراء الذين يستهدفهم النظام الديني المستبد في إيران ، ويحاول جرهم الى صفه عن طريق بعض الصدقات والهدايا التي قام أحمدي نجاد بتوزيعها عليهم أيام الانتخابات بعد تخلى عنهم حين ارتقى كرسي الحكم وهو الذي يسميه أغنياء إيران نكاية للآن بـ ( ابن الحداد ) ، وكذلك جرهم عن طريق الوعود الغيبية في جنة قطوفها دانية تنتظرهم بعد أن يميتهم الحصار والعقوبات الدولية وتبذير أموالهم على الحركات ( الإسلامية ! ) من أجل بناء إمبراطورية فارس المنتظرة !


67
أدب / دونما حب*
« في: 15:52 15/06/2009  »
دونما حب*
               
سهر العامري
في زحام شوارع أثنا ، وفي حر صيف لاهب ، ورغم اختلاف ملامح الوجوه ، ومدة زمنية طويلة من الافتراق لكنها عرفته حين وقعت نظراتها الأولى عليه ، وقالت لنفسها : إنه سامي ! أنا متأكدة من أنه هو بعينه ، لم يتغير فيه شيء كثير ، شاب نحيف البنية ، يميل الى السمرة ، سريع الخطو مثلما عهدته حين كنا ندرس في صف واحد من الكلية التي تخرجنا فيها . ولهذا لم تتوانَ منى من ألحاق به ، وتنادي عليه من على مقربة بعد أن تيقنت أنها لا تستطيع اللحاق به ، وبعد أن أخذتها سورة من التعب في ذلك الجو المفعم بالحرارة :
- سامي ..! سامي ..!
التفت سامي نحو مصدر الصوت بعد أن حبس أقدامه عن السير . ثم قال مع نفسه : من أين عرفتني هذا الفتاة الشقراء ؟ فهو لم يسبق أن تعرف على واحدة من البنات اللائي أمضى معهن شطرا من حياته في تلك الجامعة بهذا الشعر الأشقر الحريري الذي راحت الريح تعبث به على وجه بضي بلون الثلج وعلى عينين حوراوين ضاحكتين ، كما إنه لم يتعرف في حياته على نساء بهذه الصورة في حياته العملية إلا اللهم أولئك المدرسات الأوربيات اللائي زاملهن في ثانوية من ثانويات العاصمة الجزائرية ، ولكن هذه الفتاة ليس واحدة من هن ، فهي من بلده ، وتتحدث بلهجته .
- هل عرفتني ؟
- من أنت ؟ هل أنت سميرة ؟
- كلا . ليس أنا هي !
ظل سامي يتصفح وجوه بعض الطالبات اللائي درس معهن وجها وجها ، وهو يرمي بنظراته بعيدا عنها ، يعلقها تارة في المارة المتراكضين، وتارة على شبابيك البنايات المصطفة على امتداد ذلك الشارع الضيق ، والذاهب نحو الأكروبولص الذي لا يبعد سوى بضع عشرات من الأمتار .
- سأقول لك من أنا ، قالت ذلك ثم ضحكت ضحكة بانت معها أغلب أسنانها ، عندها تذكر سامي صاحبة ذلك الوجه الذي طالما نم عن مرح طفولي .
- أنت منى ! قال ذلك وهو واثق من قوله ، ثم أردف : لقد غيّر صبغك لشعرك كل ملامحك التي اعتدت أنا على رؤيتها ، لقد كان لونه الأسود منسجما تماما مع بياض وجهك الذي كنت تطالعيننا فيه كل صباح ، حينما كنا على مقاعد الدراسة .
- هل تريدين من الآخرين أن ينظروا لك على أنك من الفتيات الأوربيات في هذا البلد الأوربي ؟
- لا . ولكن تلك رغبة ظهرت عند فتيات هذا الزمن .
- هل وصلت وحدك أم أن هناك أخريات معك ؟
- معي أحلام زميلتنا وواحدة أخرى أنت لا تعرفها ، ولهذا آمل أن نلتقي جميعا مساء اليوم وفي تام الساعة السادسة مساء في الطرف الجنوبي من ساحة أمونيا سكوير .
سار سامي في طريقه دون أن يسأل منى عن وجهة سيرها ، فقد كان هو حريصا على رؤية الآثار اليونانية القديمة ، خاصة تلك التي تعلقت في الروابي القريبة من مركز المدينة وبعد أن أمضى فيها ساعات عاد ليلتقي بصديق له تركه وراءه في أحد الفنادق ، ومن هذا الفندق انطلقا الى مكان اللقاء الذي حددته منى من قبل .
الشمس جانحة للغروب ، والشوارع التي تتراكض نحو تلك الساحة تعكس أشعتها بقوة حيث  تمنع البصر من أن يمتد طويلا ، ولكن مع ذلك فقد شاهد سامي من على مقربة ثلاث فتيات يقفن في المكان المحدد مع فتى واحد ، هو ابن عم أحلام .
كان المؤمل أن يسير الجميع الى مقهى ما يمضون فيها بعض ساعات يعيدون فيها ذكريات أيام الدراسة التي فرت سراعا ، ولكن الأمر انقلب الى حالة من وجوم سيطرت على الوجوه بعد أن استبد الغضب والانزعاج بمنى حين سألها سامي عن صديقة لها كانت لا تفارقها دوما ، ففي الصف كانت تجلس الى جانبها ، وفي ساحات تلك الكلية كانتا تتمشيان أو تجلسان معا.
- أرجو منك أن لا تسألني ثانية عنها .. أنا لا أريد أن أسمع عن الماضي شيئا !
- لكنني لم أقصد شيئا مما تتصورينه في سؤالي عنها أبدا ، فهي زميلتي وزوجة صديقي ، وكل ما كنت أطمح فيه هو معرفة مصيرها ومصير زوجها صديقي ، ولا شيء آخر.
كان سامي قد أدرك حالا أن سبب الغضب الذي استبد بمنى هو أنه كان على معرفة من خلال صديقتها تلك بعلاقة حب بينها وبين طالب وسيم الطلعة ، جميل الملابس ، أنيق الحذاء ، يدرس في كلية أخرى ، ولكنه كان بين الحين والآخر يزور صلاح خطيب صديقتها ، ويجلس معهما في حديقة الكلية لساعات مثلما كانت منى هي الأخرى تجلس معهم كذلك ، ومن هنا أعجبت منى بحامد صديق صلاح ، ولكن إعجابها ذلك كان منصبا على ملابسه الجميلة وحذائه البديع المستورد من فرنسا على ما يظهر ، وذات يوم سأل سامي صديقه صلاح عن السبب الذي جعل منى تتعشق طالبا من خارج الكلية وليس من الطلبة الذين تدرس معهم .
- هي تعلقت بحذائه ، فكثير ما كانت تقول لخطيبتي : انظري الى حذائه كم هو رائع وجميل ؟
- أتقول صدقا !؟ رد سامي مندهشا .
- نعم . هذا ما كانت تقوله لخطيبتي صراحة .
لقد كان سامي يدرك أن حامد لم يحب منى أبدا ، فهو مشغول بأمر خطير كان يصرف معظم وقته عليه ، ويبدو أنه لم يوصد بابه بوجه منى حين طرقته عليه عطفا عليها ، أو ربما كان يريد تمضية بعض الوقت معها ، فحامد يخوض غمار معركة كفاح مسلح ، ولهذا فقد كان يخفي تحت قميصه مسدسا معدا لإطلاق النار في أية لحظة بقدر ما هو معرضا للموت في أية لحظة كذلك ، فلقد كانت أجهزة الأمن وشرطة تطارد أعضاء التنظيم الذي ينتسب له هو خاصة بعد تصاعد نيران الكفاح في أهوار الجنوب ، ففتى مثل حامد قد استبد به حب العمل السياسي ، حب الثورة والكفاح كثر من أن يستبد به حب فتاة تعشقته لحذائه الجميل ، وربما كان هو يعرف مبعث هذا الحب عندها .
لقد كانت منى من دون كل الطالبات مغرمة بكل شيء شاذ من الملابس والأحذية وحتى الحلي ، وهذا ما كان يثير استغراب الطلبة والطالبات على حد سواء ، ولكن ظل هناك سؤال معلق على شفاه الجميع دون أن يجد له إجابة : من أين تأتي منى بهذه الشواذ ؟
يبدو أن حبها المفرط للشواذ تلك هو الذي انسجم تماما مع حبها لملابس حامد الغريبة الفصال والصنعة ، مثلما انسجم مع حبها لحذائه الذي لم يحتذ ِمثله طالب من الطلاب الذين كانت منى تدرس معهم ، فحامد على ما يظهر كان يأتي بملابسه وأحذيته عن طريق أقرباء له من خارج البلد ، ومن هنا اكتسبت تلك الملابس والأحذية صفة الشذوذ التي كانت تنشدها منى وتريدها لرجل تطمح في أن يكون لها زوج رغم علمها بأن هذا الزوج مشغول عنها بحب الثورة والكفاح ذلك الحب الذي ذاب فيه فسقط شهيدا تاركا وراءه فتاة تعلقت غراما بإناقته وإناقة حذائه ، ولكنها بعد فقدانها له قررت أن تنشد اللذة بحرية تامة ، وفي أي بلد تريد حتى لو كان ذلك البلد غريبا عليها في كل شيء مثل اليونان ، وهذا ما قالته صراحة لزميلها سامي حين ردت غاضبة عن سؤاله ذاك ، والذي ما كان يقصد به أبدا أن يعود بها الى الماضي حين سألها عن صديقتها ، ولهذا حاول هو أن يهدأ من غضبها قائلا :
- إذا كان سؤالي قد أغضبك - يا منى - ! رغم برأته فأنني سأسحبه أمام الجميع هنا !
لكن يبدو أن السؤال ذاك قد أعادها الى دروب الماضي الجميل ، تلك الدروب التي لم تستطع كل دروب أثنا المتشابكة والمتقاطعة أن تحجب عن فكرها صورة دروب محلة الوزيرة الهادئة التي عرفت خطاها ، وخطا حامد ، وهما يسيران فيها سوية أيام كانت هي تتعشقه لجمال حذائه ، وكان هو يتعشقها تمضية لساعات فراغه .
= = = = = = = = = = =
* قصة قصيرة .

68
الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ (3) 

  سهر العامري

قلت فيما تقدم من الكلام أن بعض الدول العربية كانت تقف بقوة ضد قيام وحدة ما بين جنوب وشمال اليمن يكون الحزب الاشتراكي اليمني طرفا قويا فيها ، وكان من بين تلك الأنظمة العربية نظام صدام في العراق الذي كان يرى أن الجنوبيين خرجوا عن الخط القومي في تبنيهم للفلسفة الماركسية ، وهذه الحقيقة كان صدام يصرح بها علنا ، مثلما كان يصرح بها المقبور عفلق كذلك ، ولهذا عمل صدام ونظامه على إحباط أية خطوة يقوم بها اليمنيون نحو الوحدة ، وهذا الحقيقة واجه فيها المدعي العام الجناة الذين قاموا بجريمة قتل الدكتور توفيق رشدي في مساء اليوم الثاني من شهر حزيران سنة 1979م ، وكان ذلك أثناء انعقاد جلسات المحكمة التي تشكل مباشرة بعد حدوث الجريمة تلك .
لقد كنت أنا العراقي المعارض الوحيد الذي حضر تلك المحكمة لتغطية جلساتها منتدبا من قبل منظمة الحزب الشيوعي العراقي في اليمن هذه المرة ، وليس من قبل جريدة 14 أكتوبر التي كنت أعمل بها . وقد استمعت وقتها الى المدعي العام ، وهو يكيل التهم لنظام صدام في تآمره على اليمنيين ، وكان كيل التهم ذاك يأتي عن طريق أسئلة كان يطرحها هو على المجرمين الثلاثة الذين توزعت وظائفهم في السفارة العراقية في عدن على هذه الشاكلة : سمير ، من أهالي الموصل ، ملحق تجاري ثم عبد الرضا ، السكرتير الثاني وهو الذي قام بإطلاق النار على الشهيد توفيق ، وكان من أهالي قضاء المسيب ، محافظة بابل ، وقد نفذ عملية القتل تلك بعد أن شرب ربع قنينة ويسكي في فندق من فنادق عدن لا يحضرني اسمه الآن ، أما الشخص الثالث فهو من مدينة المحاويل من محافظة بابل كذلك وكان يعمل سائقا في تلك السفارة ، وأكثر الظن أن اسمه كان إبراهيم ، ولكنه كان أكثر الثلاثة صمودا ، بينما انهار الآخران انهيارا تاما وراحا يذرفان دموعا غزيرة على إثر الأسئلة التي كان يوجهها المدعي العام لهما ، حتى أن زميلي الصحفي المرحوم أحمد مفتاح قال في واحد من أيام تلك المحاكمة مستغربا ، مستفهما : أهؤلاء هم جند صدام !؟ ومن الجدير هنا أن أذكر الانتماء الطائفي لهؤلاء الثلاثة بحسب ( النظام الديمقراطية الأمريكي في العراق! ) اليوم ، فقد كان اثنان منهما من الشيعة وواحد من السنة .
كانت بعض أسئلة المدعي العام ذاك تنصب على الهدف من الأموال الطائلة التي كان النظام الصدامي ينفقها على بعض القبائل اليمنية ، وعلى كميات السلاح التي كانت تصل إليها من قبله أو تلك الكميات الكبيرة التي عثر عليها داخل السفارة العراقية بعد اقتحامها ، ومن خارج قاعة المحكمة تلك أخبرني طالب من شمال اليمن كان قد انتقل للدراسة في الثانوية التي كنت أدرس بها في عدن من أن السفارة العراقية في صنعاء كانت تقدم راتبا شهريا ثابتا مقداره عشرة دنانير عراقية لكل طالب يمني يحوز على عضوية الاتحاد الوطني لطلبة اليمن ، ومثله أخبرني الفنان اللبناني المعروف مارسيل خليفة في لقاء صحفي معه أجريته في عدن ، بعد أن حذرني بإخلاص من بطش صدام بي إذا ما واصلت أنا الكتابة ضده وضد نظامه ، قال : إن السفارة العراقية في لبنان كانت هي الأخرى تقدم راتبا مقداره خمسة وعشرون دينار عراقيا لكل طالب ينضم الى الإتحاد الوطني لطلبة لبنان .
وعلى هذا كانت الوحدة اليمنية لدعاة القومية الذين يتباكون عليها اليوم مصدر قلق حين كانت شعارا يرفعه الاشتراكيون في الجنوب ، فعملوا ما في وسعهم على إضعاف ذلك النظام من داخله ، ورغم أن القيادة في الجنوب كانت متنبهة لهذا الخطر لكنها سمحت للتنافس الشخصي أن يأكل وحدتها وتلاحمها ، ولهذا وعلى ما قيل لي وقتها إن رئيس الوزراء ، علي ناصر محمد ، هو الذي قام بتحريض وزير الدفاع ، علي ناصر عنتر على العمل من أجل الإطاحة برئيس الجمهورية ، وسكرتير الحزب ، عبد الفتاح إسماعيل ، وقد تحقق له ذلك في إبعاد عبد الفتاح إسماعيل الى موسكو بحجة تلقي العلاج فيها ، ولهذا راح رئيس الوزراء ، علي ناصر محمد ، يعقد المؤتمرات في هذه المحافظة أو تلك ، وهو معتمر الكوفية ، وكان ذلك من أجل أن يضمن لنفسه منصب رئيس الجمهورية ، وسكرتير الحزب الاشتراكي اليمني ، وقد تحقق له كل ذلك فيما بعد .
ولا يستطيع أحد أن ينكر الدور المشبوه الذي أداه علي ناصر محمد في إضعاف الحزب والدولة مستغلا سذاجة وزير الدفاع ، علي عنتر ، تلك السذاجة التي كانت تعادل سذاجة الفلاحين الذين كان يجالسهم علي سالم البيض على درجات باب اللجنة المركزية في التواهي من عدن .
والدليل على ذلك أن وزير الدفاع ، علي ناصر عنتر ، اكتشف فيما بعد لعبة علي ناصر محمد ، وراح يطالب بعودة عبد الفتاح إسماعيل من موسكو ليتنسم المناصب التي فقدها تحت التهديد ، والدليل الآخر هو تلك المجزرة التي ارتكبها المجرم علي ناصر محمد بحق رفاقه في الحزب بعد عودة عبد الفتاح من جديد الى عدن ، وحضوره اجتماع للجنة المركزية كان منعقدا في مقرها من ضاحية التواهي ، وكان هدف ذلك الاجتماع على ما يبدو هو إعادة عبد الفتاح إسماعيل الى مراكزه الشرعية في الحكومة والحزب بعد أن اغتصبها منه رئيس الوزراء بلعبة مكشوفة ترتبت عليها نتائج وخيمة ليس على مستوى الحكومة والحزب وحسب، وإنما على مستوى الدولة والشعب اليمني في الجنوب .
لقد كان السوفيت ضد عودة عبد الفتاح الى عدن أو الى الحكم من جديد ، ويبدو أنهم وثقوا بعلي ناصر محمد لأسباب أنا لا أعرفها ، وهي تلك الثقة التي أولتها له قيادات بعض الأحزاب الشيوعية العربية ، ومنها قيادة الحزب الشيوعي العراقي وكذلك قيادة الحزب الشيوعي اللبناني ، وقد قيل أن الثقة التي منحتها قيادة الحزبين المذكورين كانت ثمنا للمساعدات المالية التي قدمها علي ناصر محمد لهما ، والتي اعتبرها البعض أنها كانت رشوة وليس مساعدات ، ولكن باعتقادي إن إيلاء الثقة تلك من لدن القيادتين كان مسايرة لموقف السوفيت وليس غير ، فكلتا القيادتين كانتا تتنفسان الريح الباردة القادمة من موسكو .
لقد تمخضت المجزرة ، التي قام بها علي ناصر محمد ضد رفاق دربه في مقر اللجنة المركزية بعد أن أمر الخلص من حرسه بإطلاق النار على المجتمعين قبل قدومه هو الى ذلك المقر ، عن مصرع الكثير من قادة الحزب الاشتراكي اليمني ، ولم يستطع الفرار من نيران بنادق علي ناصر محمد إلا علي سالم البيض الذي تدلى من شباك قاعة الاجتماع المذكور بواسطة بردة الشباك نفسه على ما قيل لي ، بينما استشهد في حمام الدم ذاك عبد الفتاح إسماعيل ، وعلي ناصر عنتر ويبدو أن الرمي كان قد ركز على الاثنين ، ومع ذلك فقد خسر المجرم علي ناصر محمد المعركة نتيجة لتحرك أحدى كتائب الدبابات التي كانت تحت قيادة ضابط يبدو أنه كان موالي لوزير الدفاع علي عنتر رغم أن الطيران كان يشارك في تلك المعركة لصالح علي ناصر محمد الذي لاذ بالفرار أخيرا عن طريق طائرة هليكوبتر كانت قد أعدها للهزيمة على ما يبدو وعبر بها البحر صوب أديس أبابا في الحبشة تاركا أنصاره الذين غرر بهم لهذا السبب أو ذاك صرعى في شوارع عدن ، وكان من بينهم صديقي أحمد سالم محمد ، مدير تحرير جريدة 14 أكتوبر الذي كان يقاتل في صفوفه فهو وعلي ناصر محمد من ذات المحافظة التي هي محافظة أبين .
بعد ذلك آلت القيادة في الحزب والدولة الى علي سالم البيض الذي قاتل ضد علي ناصر محمد بعد فراره الذي أشرت إليه من قبل ، وبذا تحولت القيادات في عموم الدولة والحزب الى الصفوف الثانية وربما الثالثة بعد أن سقط الكثير من قيادات الصف الأول أو القيادات المتقدمة صرعى في معارك توالت على مدى أيام أضرت كثيرا بالحزب والدولة فيما بعد ، هذا في الوقت الذي تهاوى فيه الإتحاد السوفيتي ثم المعسكر الاشتراكي برمته وقد كانا أفضل حليفين للنظام في عدن ، كما أن المجرم علي ناصر محمد انتقل الى شمال اليمن حينها ، وأصبح يشكل ورقة ضغط لعبها علي عبد الله صالح ، رئيس الجمهورية اليمنية بخبث ضد القيادة الجديدة التي لجأت الى الوحدة ضنانا منها أن الوحدة ستحميها في ظرف ضعف كانت تعيشه هي ، وفي وقت غاب فيه أحد أكبر حلفاء جمهورية اليمن الديمقراطية إلا وهو الاتحاد السوفيتي ، ولذلك سلم علي سالم البيض رقبته لجلاد الشمال ، علي عبد الله صالح ، الذي قال في حقه كلمة حق أراد بها باطلا وهي : لو علي سالم البيض لما تحققت الوحدة !!!



69
الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ ( 2 )


سهر العامري
حزّ في نفسي أن أرى سترة ميشيل كامل ، سكرتير الحزب الشيوعي المصري ، قد أكل البلى أطراف أردانها ، ولهذا السبب قاسمته دينارين يمنيين جنوبيين ، كانا هما كل ثروتي ، وقلت وأنا أمد يدي بواحد منهما له : إنك تستطيع شراء أربع علب تبغ علامة ردفان المصنع في جمهورية اليمن الديمقراطية بهذا الدينار !
أخذ هو الدينار الواحد مني عن طيب خاطر ، ثم ودعته تاركا إياه في القاعة التي كانت تدار بها الندوة الموسعة عن الوحدة اليمنية ، وقد كان هو مثلي قد استمع الى مداخلة عبد الفتاح إسماعيل ، رئيس الجمهورية ، وسكرتير الحزب الاشتراكي اليمني ، عن ضرورة قيام الوحدة اليمنية مع عدم تماثل النظامين السياسيين في الدولتين ، ولم يكن عبد الفتاح إسماعيل هو وحده من كان يتبنى هذا الرأي ، وإنما كان هناك الكثير من اليمنيين في الجنوب يرون الرأي ذاته ، حتى أنك تجد الكثير من بينهم من كان يرفض إطلاق كلمة : دولتين على جنوب وشمال اليمن ، ويقولون لك بدلا عن ذلك : نحن شطرنا وليس دولتين !
هنا يبرز العامل الثاني بعد عامل الاندفاع نحو الوحدة ، والذي يتجسد في عدم إدراك الواقع المادي المتمثل في حقيقة تقول إن جنوب اليمن هو دولة قائمة بذاتها ، وهي بالإضافة الى توجهاتها السياسية المختلفة عن تلك التوجهات في شمال اليمن تكون مختلفة كذلك في تطورها المادي (الاقتصادي) ، فالى أشهر من قيام الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الله السلال سنة 1962م على حكم الأئمة في الشمال كان سكان العاصمة صنعاء يشربون الماء من حنفيات تحيط بقصر الإمام (محمد البدر بن حميد الدين) بينما كان سكان العاصمة في عدن يأخذون حاجتهم من الماء عبر أنابيب مياه ممتدة الى بيوتهم .
وعلى أساس من ذلك فإنك حين تنزل جنوب اليمن لا ترى الكثير من مظاهر التخلف التي ترها وأنت تنزل الشمال منه ، وهذا الفارق في التطور على تواضعه ما كان ليحدث لولا التطور المادي الذي حدث بدءً بالفترة الزمنية التي هيمن المستعمرون البريطانيون فيها على جنوب اليمن ثم مرحلة التحرر الوطني التي أعقبت تلك الفترة مباشرة ، فلقد أشاد البريطانيون خدمة لجيوشهم العابرة للبحار ميناء عدن ومصفاتها ، تلك المصفاة التي كانت تعد من أكبر مصافي النفط في الشرق الأوسط ، ومن هنا شهد اليمن لأول مرة في تاريخه ظهور طبقة اجتماعية جديدة هي الطبقة العاملة التي كان من بين أبرز أبنائها البررة ذلك العامل القادم من شمال اليمن وأعني به عبد الفتاح إسماعيل الذي لعب هو ورفاقه من العمال دورا مهما في الكفاح ضد الهيمنة البريطانية أفضى في نهاية الأمر الى النجاح والظفر.
هذه في الوقت الذي ظلت فيه القبلية والفرق الدينية المتخلفة هي السائدة في الشمال اليمن ، وهي تكوينات تذكر بالحقب الرعوية والزراعية الذي عرفها اليمن منذ قرون بعيدة ، تلك الحقب التي لا يمكن مقارنتها بالحقبة الصناعية المتقدمة عليها ليس فقط بوسيلة الإنتاج المتطورة ، وإنما كذلك بما يصاحب تلك الوسيلة من رقي فكري وثقافي عند العاملين عليها ، ولهذا لا يمكن أن تعد عاملا يعمل في صناعة الطائرات من حيث تطوره الفكري ورقيه العقلي مثل عامل ينظف شارعا ووسيلة عمله مكنسة لا غير ، ولهذا أيضا لا يمكن للمرء أن يساوي بين الناس السائرين  في شوارع العاصمة صنعاء وهم منتطقون بالخناجر حتى لكأنهم ذاهبون لخوض معركة ، وبين الناس في شوارع عدن حيث لا وجود لذلك المنظر المقزز الذي يذكر بحقب زمنية متخلفة ، ومن هنا يمكنني أن أنتقل الى العامل الثالث الذي قفز عليه متحمسو دعاة الوحدة من اليمنيين الجنوبيين وهو التطور الفكري الذي هو نتاج للتطور المادي بهذا الشكل أو ذاك ، والذي لعبت في إنضاجه الأحزاب السياسية ذات التوجهات التقدمية التي هي نتاج لذلك التطور المادي ، بينما ظلت الساحة في شمال اليمن ولفترة قريبة خالية من تلك الأحزاب ، فمثلا حزب علي عبد الله صالح شكله هو بنفسه بعد أن نجح باستلام السلطة في انقلاب عسكري إبان ازدهار تجارة الانقلابات العسكرية في العالم الثالث في فترة زمنية تصاعد فيها الصراع الدولي على مراكز النفوذ وهي الفترة الزمنية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ، والتي أصطلح على تسميتها بحقبة الحرب البارد .
هذه الفوارق المختلفة كانت توجب على السياسيين في جنوب اليمن عدم تخطيها ، وأخذها بنظر الاعتبار في حالة ما اتخذت خطوات نحو تحقيق الوحدة اليمنية ، ولا يفوتني هنا أن أذكر أن الإتحاد الأوربي أجل انضمام جمهورية المجر بشكل كامل الى صفوفه بسبب من أن نسبة التضخم في الاقتصاد المجري كانت تفوق نسبة التضخم في بلدان الاتحاد الأخرى المنضوية تحت لوائه ، وعلى هذا الأساس فإن الوحدة التي تقوم على توقع هذا الرئيس أو ذاك لا يمكن لها أن تصمد أبدا حتى لو استخدمت كل أدوات القمع والقتل والتنكيل مثل تلك التي تقوم بها الآن قوات علي عبد الله صالح الملقب من لدن اليمنيين بـ ( بصدام الصغير ) تلك القوات التي راحت تبطش بالشعب اليمني الثائر في مدن الجنوب اليوم .
ليس أنا على يقين تام من أن عبد الفتاح إسماعيل ، ورغم تحمسه للتحقيق الوحدة اليمنية بنظامين مختلفين سياسيا كان سيندفع الى توقيعها بذات قدر اندفاع علي سالم البيض لها فيما بعد حين وقع ميثاقها مع علي عبد الله صالح ، هذان العليان الذي توقع شاعر اليمن الضرير عبد الله البردوني بأن أحدهما سيخصي الثاني بقوله من قصيدة له : أيّ علي سيخصي علي !
لكنني مع ذلك أعرف أن عبد الفتاح إسماعيل كان حاسما فيما يقول وذلك من تجربة عشتها فترة رئاسته للجمهورية اليمن الديمقراطية ، وذلك حين نشرت مقالة مطولة لي على الصفحة الأخيرة من جريد 14 أوكتوبر غب وصولي الى عدن بأيام ، تلك المقالة التي فضحت بها حملة القمع الشرسة التي كانت تشنها جهزة الأمن الصدامية في كل مدن العراق والتي طالت الكثير من العراقيين وفي المقدمة منهم الشيوعيون ، وهي حملة أراد لها صدام أن تجري بهدوء في وقت كان هو يضاحك فيه فيدل كاسترو في هافانا العاصمة الكوبية ، ويقدم له رشوة بلغت ثلاثين مليون دولار ، وكانت تلك واحدة من رشى كان صدام يقدمها لرؤساء دول منظمة عدم الانحياز كي يكون هو رئيسها المقبل .
 لقد حملت مقالتي تلك التي ثارت لها ثائرة السلطات في العراق عنوانا هو : البوهة وتهمة القسمات ! ولهذا فقد أبلغ السفير العراقي في عدن من لدن تلك السلطات بضرورة مقابلة عبد الفتاح إسماعيل شخصيا ، ونقل احتجاج صدام ( ولا أقول الحكومة العراقية ) على مقالتي تلك التي كتبتها دون أن أشير الى اسم البلد ، أو اسم النظام فيه ، ومع ذلك فقد أخبرني الأخ أحمد سالم محمد ، مدير تحرير جريد 14 أكتوبر أن عبد الفتاح إسماعيل قال للسفير العراقي أنه قرأ تلك المقالة ، ولم يجد ما يشير فيها الى اسم العراق أو اسم النظام فيه ، فرد السفير العراقي وكان الغضب يأكل صدره : أنتم لا تعرفون لغة الشيوعيين العراقيين ، نحن وحدنا من يعرف تلك اللغة!! فما كان من عبد الفتاح إسماعيل إلا أن رد عليه بذكاء : أنا أشعر أنكم تخططون لقتل واحد أو أكثر من الشيوعيين العراقيين الذين هم في ضيافتنا ، ولهذا فإنني أحذركم من مغبة التعرض لأي واحد منهم ، وإن عواقب ذلك ستكون وخيمة على العلاقات بين البلدين .
لم تمر أيام على ذلك التحذير الشديد اللهجة حتى قام عملاء النظام العراقي في السفارة العراقية بقتل الشيوعي الدكتور توفيق رشدي ، أستاذ الفلسفة بجامعة عدن ، وبعد مرور ساعتين على حدوث تلك الجريمة شاهدت أنا ، وكانت الساعة تشير الى التاسعة مساء ، سيارة الرئيس عبد الفتاح إسماعيل تمر مسرعة من أمام فندق نادي البحارة في التواهي من عدن ، وهو الفندق الذي كنت أسكن فيه.
كانت سيارة الرئيس متجهة نحو مقر اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني الذي لا يبعد كثيرا عن ذلك الفندق ، وقد انعقد وقتها في ذلك المقر اجتماع طارئ للجنة المركزية تقرر فيه مهاجمة السفارة العراقية ، وإلقاء القبض على الجناة حتى في حال ما قام صدام بتحريض علي عبد الله صالح في الشمال على شن حرب على جمهورية اليمن الديمقراطية .
طوقت السفارة العراقية في الحال من قبل قوات الأمن اليمنية وقوات مليشيا عدن ، وحددت ساعة معلومة للجناة من أجل تسليم أنفسهم وإلا فالبديل هو الاقتحام وإلقاء القبض عليهم بالقوة ، ولكن الجناة تسلموا برقية من بغداد التقطتها المخابرات اليمنية تطلب عدم تسليم أنفسهم وأن أرادوا الاستسلام  فليستسلموا جثثا ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك ، فقد كانوا أجبن من أن (يستسلموا جثثا) ، وبدلا عنه فقد سلموا أنفسهم بعد أول قنبلة مسيلة للدموع أطلقتها القوات اليمنية على باب السفارة العراقية .
السؤال الذي لم أجد إجابة له للآن هو : هل وصلت الى عبد الفتاح إسماعيل معلومات تفيد بأن المخابرات العراقية كانت تخطط لقتل واحد من العراقيين المتواجدين في عدن ، وذلك حين حذر هو السفير العراقي خلال مقابلته له، تلك المقابلة التي أشرت لها من قبل أم أن ذلك كان مجرد توقع منه ؟
هذه الحادثة تكشف مقدار الحزم الذي كان يتمتع به قائد جمهورية اليمن الديمقراطية إزاء قضية لا ترقى الى قضية الوحدة اليمنية بأي شكل من الأشكال . فهل كان هو سيظهر ذات الحزم ويقوم بوضع ضوابط مهمة تراعي الخصوصية السياسية والاقتصادية التي كان عليها الشعب اليمني في الجنوب قبل أن يخطو خطوة واحدة نحو توقيع ميثاق للوحدة مع الشمال أم أن حماسه ذاك ، الذي أشرت إليه قبلا ، سيقوده الى وحدة لا تختلف في مصيرها عن الوحدة التي ذهب إليها رفاقه بعد استشهاده ؟
لقد ذهب رفاق عبد الفتاح إسماعيل الى الوحدة وهم في حالة من الضعف ، وفي ظرف داخلي ودولي غير ملائم ، واعتقدوا أن تلك الوحدة ستحميهم من عدو يتربص بهم الدروب بعد أن خاض معهم معركة خاسرة نتجت عنها خسارة فادحة لهم جميعا ، مثلما نتج عنها ضياع مكتسبات الشعب اليمني في الجنوب ، تلك المكتسبات التي تحققت بعرق وكدح سنوات طويلة ، لتصبح فيما بعد لقمة سائغة بأفواه الضباع القادمة من الشمال . وهذه مسألة سآتي عليها في حلقة قادمة .  

70
الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ (1)
 
  سهر العامري

لا يستطيع أحد أن ينكر أن عرب جنوب اليمن ( جمهورية اليمن الديمقراطية ) كانوا اشد حماسا على الصعيد الرسمي والشعبي للوحدة اليمنية من عرب شمال اليمن (الجمهورية العربية اليمنية ) خاصة حكومة علي عبد الله صالح ، وقد شعرت أنا بهذا الحماس المنقطع النظير حين نزلت عدن في العشرة الثواني من شهر شباط / فبراير سنة 1979م ، فقد كانت أجهزة الإعلام في جمهورية اليمن الديمقراطية تردد باستمرار الشعار القائل : الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية ! وقد كنت أتساءل ساعتها كيف لوحدة أن تقوم بين نظام تقدمي وآخر عسكري رجعي معاد ٍ لكل ما يمت  الى التقدمية بصلة  ، نظام تسيطر عليه حالة من عداء سافر للنظام التقدمي الحاكم في جنوب اليمن بقيادة الحزب الاشتراكي اليمني الذي انبثق عن إتحاد أحزاب يمنية جنوبية ثلاثة شاركت في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني ، وأنجزت مرحلة التحرر الوطني بنجاح ، والأحزاب هذه هي : الجبهة القومية ( الجناح اليساري منها بقيادة عبد الفتاح إسماعيل ) ثم حزب الشعب ( الشيوعي ) فحزب البعث ( اليسار ) وقد سهل اندماج هذه الأحزاب في حزب واحد هو تبني الجبهة القومية وحزب البعث للنظرية الماركسية ، وللخيار الاشتراكي ، وقد كان هذا العامل هو العامل الرئيس الذي سهل قيام الحزب الاشتراكي اليمني ، ذلك الحزب الذي وضع نصب عينيه تحقيق الوحدة اليمنية من خلال توحيد شطري اليمن شمالا وجنوبا .
أما نظام علي عبد الله صالح فقد كان يزايد على الشعب اليمني في الشمال والجنوب حين كان يرفع شعار توحيد اليمن ، وكان يسعى وبالتعاون مع نظم عربية الى القضاء على النظام في الجنوب ، وكان على رأس هذه الأنظمة في ذلك الوقت هو نظام صدام الذي لم يبخل على علي عبد الله صالح بالدعم المادي والمعنوي ، فقد منحه في سنة 1980م على ما أذكر مليار ومئتي ألف دولار ، وذلك خلال زيارة قام بها صالح الى العراق ، تلك الزيارة التي رافقها احتفاءً بالضيف بولغ فيه أيما مبالغة . كما كانت هناك بلدان عربية خليجية حذت حذوا مشابها لحذو نظام صدام ، وكان الهدف من ذلك هو إبعاد نظام صالح عن الوحدة مع الجنوب والعمل على صيانة نظامه من التهاوي أمام قوة المثل الذي كان يضربه الاشتراكيون في الجنوب خاصة على صعيد الإجراءات الاشتراكية التي تطبق في دولتهم ، والتي شملت الآتي :
* تحريم البطالة مثلما هي عليه الحال في الدول الاشتراكية .
* تحديد اجور متوازنة للعاملين في كل مرافق الدولة.
* ربط مستوى أسعار السلع الاستهلاكية وأجور النقل بدخول العاملين في الدولة .
* المثابرة على توفير السكن وبأسعار زهيدة تبلغ ثلاثمئة فلس للبيت وللشهر الواحد (الدينار اليمني الجنوبي يساوي 1000فلس ، ويزيد في صرفه على ثلاثة دولارات أمريكية ، وكان سعر صرفه هذا أكثر بقليل من سعر صرف الدينار العراقي وقتها حيث كان العراق يعيش في أوج تصديره للنفط )
* العلاج والدواء المجاني لجميع المواطنين ( ولقد التقيت أنا بمواطنين قدموا متسللين من اليمن الشمالي الى الجنوب ، وذلك من أجل الحصول على العلاج المجاني فيه ، وقد أبلغت منهم وقتها أن سعر زرقة الإبرة الواحدة في شمال اليمن هو ما يعادل ربع دينار يمني جنوبي .)
* الدراسة المجانية في جميع المراحل الدراسية .
* توفير الكتاب بأسعار زهيدة وبدعم من الدولة ، فالكتاب الذي تشتريه الدولة من لبنان بما يعادل دينار يمني جنوبي تبيعه الدولة نفسها للمواطنين بنصف السعر أي بنصف دينار.
* منح المرأة اليمنية حقوقا لم تتمتع بها أية امرأة في الدول العربية الأخرى . ( لقد شغلت المرأة اليمنية في الجنوب مراكز مهمة سواء كان ذلك في الدولة أم في قيادة الحزب الإشتراكي اليمني ، فقد كنت أعمل أنا بالإضافة الى عملي في جريدة 14 أكتوبر مدرسا لمادة الفلسفة في الصفوف المنتهية من المرحلة الثانوية ، وفي مدرسة مختلطة مديرتها الأخت الفاضلة خولة شرف التي أصبحت فيما بعد عضو في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني )
* هذا بالإضافة الى مشاريع الدولة المثمرة في مجالات الزراعة والتنقيب عن النفط وبعض الصناعات الناشئة ، وقد شاركت في تلك المشاريع معظم الدول الاشتراكية خاصة الاتحاد السوفيتي وقتها ، هذا في الوقت الذي كانت فيه بعض الدول العربية تعمل بهمة على عرقلة إنجاز بعض من تلك المشاريع ، فلقد علمت وقتها أن المملكة العربية السعودية كانت تحبط جهود اليمنيين الجنوبيين في تعاقد مع الشركات الغربية من أجل التنقيب عن النفط سواء كان هذا التنقيب في المناطق اليمنية القريبة من حدودها أو في تلك البعيدة عنها ، وهذا ما جعل المسؤولين في جمهورية اليمن الديمقراطية التوجه نحو الإتحاد السوفيتي الذي باشرت شركاته التنقيب عن النفط في المحافظة السادس التي تسمى محافظة شبوة كذلك .
لقد مكنني عملي كمسؤول عن القسم الثقافي في جريد 14 أكتوبر العدنية بالإضافة الى عملي في تلك الثانوية من أن أكون قريبا الى ما كان يدور في مراكز لا تبعد عن مراكز القيادة في الدولة كثيرا خاصة حينما كنت أكلف من قبل إدارة الجريدة بجراء مقابلة صحفية مع هذا المسؤول أو ذاك سواء كان هذا المسؤول يمنيا أو سواء كان قادما في زيارة الى جمهورية اليمن الديمقراطية ، فذات مرة كلفني الأخ المرحوم مدير التحرير ، أحمد سالم محمد ، الذي تربطني وإياه علاقة وثيقة ، أن أجري مقابلة صحفية مع ميشيل كامل ، سكرتير الحزب الشيوعي المصري ، ورئيس تحرير جريدة اليسار العربي التي كانت تصدر من باريس ، وقد حضر هو ووفود كثيرة من دول أخرى وبدعوة من حكومة جمهورية اليمن الديمقراطية من أجل المشاركة في ندوة دارت البحوث والمناقشات فيها عن أفضل السبل التي يتوجب على رجال الدولة في اليمن الجنوبي أن يسلكوها من أجل تحقيق الوحدة اليمنية .
لقد تمخضت تلك المناقشات عن نهجين متعاكسين ، نهج يرى إمكانية تحقيق الوحدة اليمنية مع عدم التماثل السياسي بين النظامين في شطري اليمن ، وكان عبد الفتاح إسماعيل ، رئيس الجمهورية ، وسكرتير الحزب الاشتراكي اليمني ، على رأس المتحمسين لهذا النهج . أما النهج الآخر فقد كان يرى أن لا إمكانية لتحقيق الوحدة من دون أن يتماثل النظامان سياسيا في كلا الشطرين ، وكان أغلب أصحاب هذا الطرح من الوفود الأجنبية المساهمة في تلك الندوة ، فقد رأى الكثير منهم أنه لا توجد ضمانة أكيدة لقيام وحدة يمنية حقيقية بين نظام ينهج نهجا اشتراكيا ، وبين نظام يتصف بالتسلط والدكتاتورية ، ولا يستند الى قاعدة جماهيرية ، مثلما هي الحال مع نظام علي عبد الله صالح ، كما حذر أصحاب هذا الطرح كذلك بصدق من مغبة ضياع المكاسب السياسية والاقتصادية التي تحققت للشعب اليمني في الجنوب ، تلك المكاسب التي أشرت أنا الى بعض منها ، والتي لم يتوفر شيء منها لعرب شمال اليمن ، وذلك في حال ما قامت وحدة بين الجنوب والشمال ومن دون تمثال سياسي بين النظامين في كل منهما .
لقد كان الحماس الزائد عند القادة في جنوب اليمن من بين أهم الأسباب التي قادت الى توقيع اتفاقية الوحدة اليمنية في 30 شباط / نوفمبر سنة 1989م ، ومن ثمة الإعلان عن قيام الوحدة اليمنية في 22 مايس / مايو 1990م ، تلك الوحدة التي سرعان ما تحولت الى ضم وإلحاق ، وتحت قوة السلاح بعد أن خسر الجيش في الشطر الجنوبي كل مواقعه في 7 تموز / يوليو سنة 1994 م .
ورب سائل يسأل : هل كان الحماس المفرط عند قادة جنوب اليمن هو العامل الوحيد الذي كان يقف وراء قيام الوحدة اليمنية ؟
أبدا ، لم يكن هو العامل الوحيد ، إنما هناك عوامل أخرى سآتي عليها في فرصة أخرى ، رغم أنني موقن بأن الحماس المفرط  الذي كانت تظهره القيادة في جنوب اليمن من أجل تحقيق وحدة اليمنيين كان مرده سعي القيادة تلك الى تحقيق أمنية عزيزة على قلوب الناس في اليمن بشطريه ، وذلك بإزالة تركة بغيضة فرضها الاستعمار البريطاني على الشعب اليمني .

71
المنبر الحر / الدينار*
« في: 14:16 31/05/2009  »
الدينار*   
 
سهر العامري

لم يكن يعلم أن مصيره سيؤول في صبيحة يوم مشمس من أيام بغداد الباردة شتاءً الى خزينة حانوت صغيرة كان صاحبه يبيع فيه الحليب ومشتقاته من جبن وزبدة ، مثلما كان يبيع كذلك أنواعا من الأشربة الملونة ، وأقراصا مدورة من الخبز ، خاصة خبز الشعير الغني بالسعرات الحرارية ، تلك السعرات التي كان صاحب الحانوت لا يفهم معناها ، ولا يدري ما هي ، ولكن طالبا من طلاب الجامعة التي اعتاد على تناول فطوره عنده ألقى تلك الكلمة على مسامع الحاج خليل ، صاحب الحانوت ، والقادم من مدينة اصفهان في إيران قبل ثلاثين سنة على وجه التقريب ، فقد كان أبوه قد انتقل بهم الى بغداد بعد أن عمل حمالا في خان يجمع فيه القماش ويدعى خان الزرور ، وفي سوق ملتصقة بسوق الصفافير المطلة على شارع الرشيد ، وقد كان هذا الوالد يشم الدينار الواحد حين يقع بين يديه ، وينتشي بعطره حتى يعود ثملا لا يتبين الأشياء من حوله ، وذلك بسبب من أن أجره ليوم واحد من عمل متواصل كان قليلا ، لا يتعدى بعض الدراهم المعدودة ، ينفق مقدارا منها على ما يحتاجه هو وما تحتاجه أسرته من غذاء يومي، ويحتفظ بالنزر القيل في كيس قماش شده بإحكام ليضعه بعد ذلك في جيب داخلي من ثوبه يرقد على قلبه تماما ، ورغم ذلك كان يضع كف يده اليمنى عليه بين الحين والآخر حتى وهو ينوء بحمل ثقيل على ظهره .
حين يبلغ هذا النزر القيل ألف فلس يقوم بتحويله الى دينار ورقي واحد يزدهي بصورة حصان عربي أصيل ، يرتقي صهوته ملك العراق ، ولهذا السبب كانت الناس تسمي هذا الدينار (أبو حصان) وكان الفقراء من الناس يعدون من يملك دينارا واحدا من الأثرياء الذين يشار لهم بالبنان ، وذلك لأن جيوبهم ما نزل بها دينار ورقي أبدا، وكل ما كان ينزل بها هو أفلس حمر ، أو دراهم فضية اللون،  وهذا هو السبب الذي جعل الدينار ذلك ينتقل بين جيوب موظفي الدولة الكبار ، أو أصحاب المحلات ، أو ينام في جيب أحد ملاكي المزارع والبساتين الكبيرة .
قبل يومين فقط وصل هو الى بغداد بعد أن كان يعيش في مدينة الموصل متنقلا بين جيوب تجارها ، أو جيوب موظفيها الكبار ، وفي هذا الحي أو ذاك من أحيائها الغنية ، فهو لم يتعرف طوال حياته على حي فقير من أحياها ، فلماذا يعيش هناك في ظلمة البيوت وقذارة شوارعها ، وكثرة ضجيجها ؟ لقد شاء القدر أن يقضي آخر يومين من أيام حياته في حي الزهور من مدينة الموصل بين نهدي امرأة كان زوجها الحاج محمود يعد من بين أغنياء المدينة ، وقد اعتادت زوجته تلك أن تضع ما تحصل عليه من دنانير في صدرها الذي كانت تعفره بالعطر صباحا ومساء ، وهذا ما جعله أن يدخل في نشوة سكر تمنى معها أن يظل أبد الدهر حيث هو لا يبرح مكانه ، كيف لا ؟ وهو يعيش بين رقة نهدين طافحين وبين فيض من عطر يغمر الروح منه بسعادة ما بعدها سعادة .
لكن هذه الحال لم تدم به طويلا ، فقد رحل الحاج محمود بزوجته الى بغداد ، وبينما كانا هما يسيران في شارع النهر منها أخذت لبها قلادة من الذهب في حانوت صائغ صب عقله كله في صياغتها حتى أنها تفرد عن كل قلادة رأتها في محلات ذلك الشارع ، ولهذا قررت أن تشتريها بما لديها من النقود التي كان من بينها ذاك الدينار المعطر والذاهب في سكرة أبدية .
- لا . لن أذهب . أموت هنا ، ولا أعيش هناك !
لم يسمعه أحد ، وكل ما أحس به هو حركة الأيادي التي تلاقفته ، ليستقر هو في نهاية المطاف في خزان صلد حديدي يفيض برائحة كريهة لم يعد باستطاعته أن يتحملها ، ولهذا كان يقضي الوقت كله مبتهلا الى السماء من أجل خلاصه من هذا السجن الذي لم يرَ من قبل سجن مثله رغم كثرة السجون التي مر بها ، ورغم الأيام الكثيرة التي قضاها فيها ، ولهذا لم يرق له من أيام حياته إلا تلك الأيام التي كان يقضيها بين نهود النساء أو في جيوب الرجال .
لقد ظل هو في سجنه هذا سنوات طويلة ، دخلت عليه دنانير على أشكال مختلفة ، ما كان قد رأى دينارا مثلها من قبل ، ولكنه في آخر ما مر به من الدنانير لاحظ أن لا وجود لدينار بينها من فئته هو ، وهذا ما ثار الفزع في نفسه ، وخاف من ضياع ذكره الحميد بين الناس ، كيف لا؟  وهو أبو الحصان الذي كانت الأسرة الواحدة في بغداد تعيش يوما كاملا بربع من أرباعه الأربعة ، فقد كان الواحد من تلك الأسر البغدادية يتباهى وهو يحمل ذلك الربع في جيبه مارا فيه على الحوانيت والمطاعم المصطفة على طوال شارع الرشيد ، فإن شاء أن يتناول وجبة غداء طيبة ولذيذة في مطعم الشباب الشهير كان له ذلك ، وبسعر لا يتجاوز المئة فلس لا غير،  وربما أراد كذلك أن يجلس في مقهى يتناول فيه قدحا من الشاي بعشرة أفلس ، وقد يعمد الى شراء كتاب جيد ، أو مجلة مفيدة من شارع المتنبي ، ومع ذلك يعود الى داره ومعه بقية من ذلك الربع !
- عن أي زمان يتحدث هذا المجنون ؟ تساءلت ورقة نقدية من فئة 250 دينار حلت مساء أمس في ذلك السجن الحديدي ، وأمضت ليلتها الأولى مع أبو حصان الذي راح يفاخر الجميع بتاريخه المجيد ، وكيف أنه أمضى شهرا كاملا في جيب جلالة الملك المفدى مثلما قضى ليلتين اثنتين من ذلك الشهر معه عندما كانت خطيبته ، فاضلة ، في زيارة له ، تلك الأميرة الجميلة التي هي حفيدة آخر السلاطين العثمانيين ، وحيد الدين ، والمولودة في العاصمة الفرنسية ، باريس ، سنة 1940 ، وقد كان جلالته الملك قد تعرف عليها سنة 1954 في حفل أقيم في بغداد صيف ذلك العام ، وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ قام بخطبتها بعد أن سحره منها عينان خضراوان ، وقوام فتان ، وصدر طافح ، وبسمة تشع بالجمال ، وتشرق بالأنوار .
لقد تمت الخطوبة تلك بعد أن أمضى العاشقان ساعات فاضت بالغرام ، هناك على الأراضي التركية ، وهما يقومان بجولات بحرية في مضايق البسفور أو على شطآن مدينة استنبول ، مثلما كانا يقومان بجولات متعددة في الكثير من الدول الأوربية ، وقد كانت صورتاهما تزينان أغلفة المجلات الصادرة في تلك الدول ، وكان الكل بانتظار الساعة التي سيدخلان فيها عش الزوجية ، ولكن خبرا نزل بالأميرة الفاتنة كالصاعقة سمعته من الإذاعة البريطانية يعلن عن قتل الملك الحبيب ، فذهلت ذهولا تاما ، وسالت دموع حرى على وجنتيها الورديتين ، لقد تبخرت الأحلام الجميلة، وصارت سرابا في أرض يباب!
ما كاد أن ينهي أبو حصان روايته عن المأساة المفجعة التي نزلت بالأميرة الحسناء حتى صاح به دينار بريمري من فئة الخمسة والعشرين ألفا :
- تلك فجيعة واحدة أيها الأخ ! لقد حلت على الناس في العراق فجائع لا تعد ولا تحصى ، فقد قتل رؤساء رميا بالرصاص ، مثلما احترق آخرون في نيران الدنيا ، وهم معلقون في الجو ، ثم دارت حروب طاحنة أزهقت فيها أرواح ملايين من البشر ، هذا عدا الألوف الذين أعدموا أو دفنوا في مقابر جماعية ، فلقد كان الرئيس الذي تعلقت رقبته فيما بعد بحبل مشنقة لا يتوانى عن قتل البريء، مثلما لا يبالي في أن يكون هذا البريء امرأة أم طفلا !
تحرك أبو حصان حركة غير طبيعية ، وكأنه أراد بها أن يعبر عن حالة الاختناق التي تستولي على نفوس المستمعين إليه، ولكنه
أخيرا تساءل :
- من أي جيب قدمت أنت ؟
- من جيب صولاغ !
ضحك أبو حصان ضحكة عالية تنم عن سخرية واضحة على ما قاله له أبو الخمسة والعشرين ألفا ، وراح يردد مع نفسه : صولاغ .. صولاغ .. بريمر .. بريمر .. بوش .. بوش ! ورغم محاولاته الكثيرة في تذكر اسما من بين هذه الأسماء عند العراقيين الذين عاش في جيوبهم لسنوات كثر ، لكنه لم يفلح في ذلك ، ولم تسعفه ذاكرته في أنه سمع باسم واحد من هؤلاء من قبل ، ولهذا صار على قناعة تامة من أن هؤلاء غرباء عن العراق ذلك البلد الذي عرف أسماء مثل : حسين وخلف وسالم ومسعود وجاسم وغيرها من الأسماء التي دخل جيوب أصحابها.
- نعم . هم وغيرهم غرباء عن العراق ، ولكنهم حكموا في العراق بجبروت أمريكي وبتواطئ إيراني . قال ذلك أبو الخمسة والعشرين ألفا ثم سكت بينما بدا حزن عميق في عينيه.
- لماذا أنت حزين الى هذه الحد ؟
- حزين لأنني أرى ثروة العراق تنهب كل يوم ، وبطرق شتى يعجز أي إنسان عن عدها بأية صورة كانت ، فأغلب الذين تربعوا على كراسي الحكم أباحوا لأنفسهم سرقة أموال فقراء العراق ، وأولهم وزير المالية !
- عجيب ! تقول وزير المالية ؟
- نعم . وزير المالية نفسه الذي لا يحمل في جيبه دنانير إلا من فئتي أنا ، وكثير ما سمعته متبجحا يقول : أنا مهتم بالدينار أبو الخمسة والعشرين ألفا فما فوق ، وكان يقضي جل وقته مفكرا بالطريقة التي سيحمي بها ثروته التي جمعها بالتحايل والغش ، وعن طريق المكاتب التجارية التي فتحها بتلك الأموال في أكثر من بلد ، وغالبا ما يكون مستغرقا في أفكاره هذه وهو يجلس في مرحاض يقضي فيه حاجته ، ولهذا ، والحق يقال ، أنه ابتدع نظرية اقتصادية مرحاضية تفضي الى اللاشيء ، فقد صرح ذات مرة وبعد خروجه من المرحاض مباشرة أنه وضع للعراق ميزانية انفجارية وربما قد سمعت أنت أن الحكم السابق قد وضع خطة اقتصادية لخمس سنوات في مطلع السبعينيات من القرن الفائت سماها الخطة الانفجارية،ولكن انفجارية صولاغ- أيها الأخ العزيز- رغم تبجحه خمدت بخمود أسعار النفط ، وأنت تعلم - يا أبا حصان - كيف كنت أنت ذا قيمة معتبرة حتى قبل ظهور النفط في العراق .
- نعم . أذكر ذلك ولا أنساه ، واصل كلامك ، فأنا لم أفهم بعد منك الخطوط العامة للنظرية المرحاضية ، ولكنني سمعت من العراقيين الذين كنت أتنقل بين جيوبهم بنظريات اقتصادية حديثة مثل : النظرية التشاؤمية أو التفاؤلية أو فائض القيمة ، ولكنني ما سمعت طوال عمري بهذه النظرية التي تتحدث عنها .
- أتعلم أنني على خجل من أقول لك أن صاحب هذه النظرية المعطرة بالروائح التي تعرفها أنت قد استمد خبرة في علم الاقتصاد من عمله في بيع البهارات مع المرحوم والده في سوق الشورجة من بغداد .
- إني أفهم من كلامك أن النظرية المرحاضية عمودها الفقري هو بيع البهارات شرط أن يكون هذا البيع في سوق الشورجة أو أية سوق أخرى تضارعه ؟
- عذرا - أيها الأخ - أنا نفسي لم أفهم من هذه النظرية شيئا ، فكيف تريدني أن أفهمك ، فالسمة التي تطغى على الوضع في العراق هو أن كل شيء فيه غير مفهوم ! وثق ثانية أن كل شيء في العراق الآن غير مفهوم !
----------------------------------------------------------
*قصة قصيرة

72
رحلة في السياسة والأدب ( 4 )
 
سهر العامري
بعد أن انتهت محاكمتنا في سراي الناصرية بُعيد الساعة العاشرة مساء طافت بنا السيارة الخشبية الكبيرة من الطراز المعروف بالعراق بـ فولفو ( Volvo ) على سجون المدينة جمعاء ، لكننا لم نعثر على مكان واحد لأي سجين منا ، فكل السجون المعدة للموقوفين كانت ملأى بالسجناء ، فمثلا كان سجن موقف سراي الناصرية مكتظا بنزلائه من شيوعيي المدينة ، ذلك الاكتظاظ الذي شاهدت أنا بعيني حين دخلته في المرة الأولى بعد نقلي إليه من سجن الجبايش مع المتهمين معي بذات القضية ولغرض ضبط إفاداتنا ، ولهذا لم يتعب  المفوض ، حياوي ، نفسه في السؤال عن مكان لنا فيه لليلة واحد أو ليلتين على أقل تقدير ثم نغادر بعدها الى سجن الجبايش من جديد .
أخذتنا السيارة تلك ، وفي الساعة تلك كذلك الى سجن الحامية العسكرية الذي يقع في الجانب الثاني من الناصرية ، ولكننا لم نجد كذلك مكانا يأوينا حتى لليلتنا التي لم يتبق َ منها ساعات كثيرة  ولهذا عادت بنا السيارة ثانية الى سجن الخيالة الواقع على مقربة من بناية إعدادية الناصرية ، وحالما ترجلت أنا من السيارة مع نفر من السجناء صاح بي أحد سجناء ذلك السجن : أهلا بمد الجبايش !
كان هذا الشخص هو واحد من أقربائي ، ويدعى المضمد الصحي ، شامخ زيدان ، وقد عرفنني هو رغم أنني لم أكن قريبا جدا منه ، وبمعرفته لي عرف أن السيارة التي دخلت الى بناية سجن الخيالة كانت قادمة من الجبايش ، وقد نادى علي من خلال باب السجن المصنوع على شكل قضبان حديدية قائلا : لا يوجد مكان لكم بيننا أبدا . فقد كانوا هم على كثرة ، والى حد كانوا فيه يتبولون وقوفا من باب السجن ذاك .
عاد المفوض حياوي لنا بعد اتصاله بمسؤولي هذا السجن خالي الوفاض ، وطلب منا الصعود الى السيارة ثانية ، تحركت السيارة مرة أخرى لتقف أمام باب سجن الأحكام الطويلة الذي يلاصق هذا السجن ، ولكن بابه الرئيس كان يقع على شارع آخر يؤدي الى المستشفى الجمهوري في المدينة ، ويقع  كذلك قبالة المدرسة المتوسطة التي كنت أدرس أنا بها ، وكانت في ذلك الوقت تناوب إعدادية الناصرية للبنين في الدوام اليومي .
توقفت بنا السيارة عند باب ذلك السجن في وقت كانت الساعة فيه قد تخطت منتصف تلك الليلة ، مثلما تخطى التعب كل حدود تحملنا بعد أن هدّنا الترحال المتواصل ، فنحن قد غادرنا سجن الجبايش في ساعة مبكرة من ذلك اليوم الذي تناولنا فيه وجبة غذاء واحدة فقط . ومع هذا كنا نأمل في أننا سنحصل على مكان في هذا السجن هذه المرة ، ولكن لم تمض ِ دقائق كثير حتى عاد لنا المفوض حياوي ، وهو في أشد حالات التذمر قائلا لنا وللشرطة الذين يحرسوننا : أنا ذاهب الى داري لأنام فيها ، وما لكم أنتم غير هذا الرصيف لتناموا عليه ، ومن يريد منكم الهروب فليهرب ، وبأمر مني لا يستطيع أحد من أفراد الشرطة هؤلاء أن يمنعكم منه !
دار المفوض حياوي ظهره لنا ، ثم سار على قدميه باتجاه بيته الذي يقع في منتصف شارع الحبوبي من مدينة الناصرية ، أما نحن فقد أنزلنا أفرشتنا البسيطة من على ظهر السيارة ، ومددناها على ذلك الرصيف في ليلة قارصة البرد ، ولهذا اضطررت أنا أن أنام على حصير مصنوع من واحد من أنواع نبات البردي يسمى ( الجولان ) وتغطيت ببطانية خضراء تتقاطع فيها بعض الخطوط البيضاء ، وهي واحدة من البطانيات التي كانت تصلنا من الكويت ، ولكنها ما استطاعت أن تحميني من برد تلك الليلة .
استيقظنا على أصوات طلاب إعدادية الناصرية المتوجهين صباحا للدراسة فيها ، وقد رأيت بعضا من أصدقاء لي بينهم ، ولكنني لم أكلمهم خوفا عليهم ، بينما كانوا هم ينظرون باستغراب الى السجناء الذين حولوا ذلك الرصيف الى فندق ، وفي منظر يثير السخرية والحزن في آن واحد  وربما تساءل البعض منهم كيف لسجناء النوم على قارعة الطريق ذاك ؟
لقد رفض مدير سجن الأحكام الطويلة دخولنا لذلك السجن بحجة قانونية كوننا نحن سجناء موقوفين ، وليس سجناء محكومين ، ولهذا طلب من المفوض حياوي أن ينتظر حتى يحصل هو على موافقة وزارة الداخلية في بغداد ، تلك الموافقة التي وصلت في صبيحة اليوم التالي بعد ليلة أمضيناها نياما على رصيف أكلت من روحه أقدام المارة ، وحال وصول تلك الموافقة أشرعت لنا أبواب ذلك السجن الذي تخيلناه قصرا جميلا ، فقد حططنا الرحال في قاعة فسيحة منه ، وبأرضية إسمنتية صقيلة ، تصطف أمامها  حمامات صغيرة ، ومرافق صحية نظيفة  ، وفي جهة منها تنتصب زنزانات عدت للمحكومين الذين نادى علي محكوم منهم بصوت خفيض في ليلة ذاك اليوم ، ومن كوة صغيرة في زنزانته ، وحين كنت أنا مارا أمامها في طريقي الى المرافق الصحية ، سأل : من أي سجن قدمتم ؟ أجبته : من سجن الجبايش . عاد ليسأل : ومن أية مدينة أنت ؟ قلت : من مدينة الفهود . قال : هل تعرف أنت المعلم كاظم داود سلمان ؟ قلت : نعم . أعرفه وهو صديق لي . وأين هو الآن : قلت : إنه يقبع في سجن نقرة السلمان الصحراوي.ثم أضفت أنا : هل أنت المعلم الذي حمل البريد الحزبي من الناصرية الى مدينة الفهود ، ذاك البريد الذي سقط بيد الشرطة على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم . قال : نعم . أنا ذاك .
في مساء يوم من أيام صيف ، وعلى عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ، جاء هذا المعلم حاملا بريدا الى منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ناحية الفهود ، وقد شاهدته أنا وقتها يسير عصرا مع المعلم كاظم داود سلمان في الشارع الرئيس لتلك الناحية ، وقد جلسا في دكان الصابئي جاري جارح الذي كان هو مسؤول المنظمة تلك ، وكان هناك معلم بعثي توفاه الله الآن يدعى معلك حنون وهو من أبناء الناحية ، وكان يعرف كاظم داود والمعلم حامل البريد الحزبي هذا ، لأنهما درسا معه في دار المعلمين في مدينة الناصرية ، فقام بإخبار الشرطة في الناحية التي بادرت الى نصب كمين لمسؤول منظمة الحزب مساء ذلك اليوم ، فبمجرد وصول هذا المسؤول الى باب داره هاجمه أحد الشرطة ويدعى كاظم أيضا ، وجرده من بريد الحزب ، ثم ألقي القبض ، فيما بعد  على الثلاثة جميعا ، وقد أودع حامل البريد ومسؤول التنظيم في سجون مركز مدينة الناصرية ، بينما سجن المعلم كاظم داود سلمان في سجن نقرة السلمان الصحراوي الذي يقع على مقربة من حدود المملكة العربية السعودية .
وأنا للآن لا أعرف السبب الذي جعل الشرطة أن ترمي المعلم كاظم داود سلمان بسجن في مجاهل الصحراء ، وهو لم يكن وقتها مسؤولا عن التنظيم في تلك الناحية ، ثم لم يكن هو من حمل البريد الى مدينة الفهود ، هذا في الوقت الذي ظل فيه مسؤول التنظيم وحامل البريد الذي لا اعرف اسمه في سجون مدينة الناصرية ، ويبدو لي أن السبب وراء ذلك يفسره النهج الذي سارت عليه دوائر الشرطة في العراق بعد زوال حكم البعث ، ذلك الذي سآتي عليها فيما بعد .
في اليوم الثاني لسقوط البريد الحزبي بيد شرطة الناحية أعتقل من أبناء تلك الناحية خمسة وعشرون شخصا ، وكنت أنا واحدا من بين هؤلاء ، وهذا أول اعتقال لي بتهمة الشيوعية ، وفي زمن حكم الزعيم عبد الكريم قاسم ، وكنت قد تخرجت ساعتها للتو في المرحلة الابتدائية ، وكان عمري وقتها يزيد بأشهر قليلة عن اثنتي عشرة سنة ، وكان السبب في ذلك ، مثلما عرفت فيما بعد ، أن البريد ذاك قد احتوى على خمس وعشرين بطاقة عضوية انضمام للحزب الشيوعي العراقي ، وبقدر عدد بطاقات العضوية تلك أعتقل العدد المذكور ، وكنت أنا أصغر واحد فيهم.
وأنني هنا أنقل هذا الحديث الذي دار بين بعض من هؤلاء الموقوفين ، والذي جاء في روايتي : المقهى والجدل ( السكون مطبق على المكان ، والوجوم يسيطر على الجميع ، تفرد كاظم القهوجي عنهم بكثرته ، فقد كان يسيل على وجهه فيض طاغ ٍمن الكآبة والحزن .

ــ: لماذا أنت هكذا ؟

ــ: لماذا أنا هكذا، إنهم سيرسلون جلودنا الى الدباغ ، ردّ كاظم بثقة ، وأضاف: وربما سيودعوننا السجن في مدينة الناصرية ، وعندها ستقفل المقهى ، وستموت الفرس والأطفال .

وهنا عاد الى وجهه شيء من البشر ، إذ شاهد سالما ورحيما يضحكان بارتياح طفولي ، فقد اعتاد كاظم أن يطلق على زوجته كلمة " الفرس " لا لشيء إلا لقبح صورتها ، أو ربما لكثير ما تطلبه منه ، فكم من مرة في اليوم وقفت فيها أمام المقهى ، تريد منه هذا الشيء أو ذاك ، وحين يكون رحيم جالسا في المقهى يناديه : كاظم ! جاءت الفرس !

ــ: ها ، ماذا تريدين ؟

ــ: سكرا ، وشايا .

ــ: إمش ِ ، إمش ِ ، سأبعث بهما ، أنا لم أرَ فرساً تشرب شاياً !

ــ: إنها زوجتك على أيّة حال
ــ: وهل لدي أنا زوجة ؟ لتذهب وتسأل النساء قبل الرجال، هل لدى كاظم زوجة ؟ أنا متأكد من أن الجميع سيقولون لك إنّ كاظم ينام مع فرس ، أنا أنام مع فرس ـ يا سيد ـ !

ــ: لماذا تزوجتها إذا ؟

ــ: أنا لم أرها قبل الزواج أبدا ، أمي هي التي رأتها، وهي نفسها التي أبدت موافقتها أمام أبي الذي حسم الأمر بعد ذلك ، لكنني أسألك ، هل رأيت أنت زوجتك قبل الزواج ؟

ــ: لا . أمي هي التي رأتها ، لكنها أحسنت الاختيار .

ــ: لكن أمي لم تحسن الاختيار كأمك ، ولهذا وقعت فيما وقعت فيه ، إنه ليس من العدل أن لا يرى الإنسان شريكة عمره إلا بعد الزواج منها.

ــ: كلنا تزوجنا بذات الطريقة ، إنه العرف الذي تعارفنا عليه !

ــ: أعرف هذا الذي يجمع بين رجل وفرس ! ؟ )
 لقد قام باعتقالي الشرطي حمدان بينما كنت ألعب مع الأطفال دعبلا ( كرات صغيرة من الزجاج الملون ) وبعد سنوات من هذه الحادثة ، وعند وصولي لدولة السويد سألني الشرطي السويدي الذي حقق معي تمهيدا لمنحي الإقامة فيها فجأة : أين تم اعتقالك الأول ؟ قلت له : بينما كنت ألعب دعبلا مع الأطفال .
فزع الشرطي ، وسقط القلم من يده ، ولكنه عاد بعد لحظات صمت ليسألني : قل لي تاريخ انتمائك للحزب الشيوعي العراقي ! قلت له : لن أقول لك ذلك ! قال لي : هذا سيساعدك في الحصول على الإقامة في السويد ! ؟ قلت : لن أقول لك تاريخ انتمائي هذا حتى لو منحتني الإقامة الآن !
كان لي رفيق شيوعي يقول : أنا أبغض الشرطي حتى لو كان حارسا أمينا على رأس لينين ، بينما لا زلت أنا أبحث عن تفسير للدافع الذي جعل ملك العراق الحكيم ، حمورابي ، أن يضع مهنة الشرطي في أسفل المهن تليها مباشرة مهنة البغاء فقط ، وذلك في دستور مملكته الذي عرف بمسلة حمورابي !
حادثة اعتقالنا هذه تشهد على الحملات المسعورة التي كانت تشنها شرطة الزعيم عبد الكريم قاسم على الشيوعيين العراقيين وعلى أنصارهم ومؤيديهم رغم أن هناك الكثير من قادة الحزب يجلسون جنبا الى جنب الزعيم ، وفيهم أعضاء باللجنة المركزية للحزب المذكور ، ولكنهم كانوا لا يسمعون الصوت العالي للشاعر الشعبي الشيوعي ، مجيد جاسم الخيون ، الذي كان ينشدنا قصيدة له في مقهى شراد التي تقع في شارع الجمهورية من مدينة الناصرية ، وقبالة السراي الحكومي الذي مر علينا ذكره من قبل ، وكنت أنا واحد من بين المستمعين له ، وما زلت للآن أحفظ أبياتا من قصيدته تلك أخذتها من لسانه مباشرة حين كنت أدرس في السنة الأولى من المرحلة المتوسطة .
يقول مجيد جاسم الخيون موجها نداءه الى العقيد ، فاضل عباس المهداوي ، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، ورئيس محكمة الشعب ، والذي كان إذا طرق بمطرقته انقطع الجميع عن الحديث في قاعة تلك المحكمة ، وهو ذاته الذي أعدمه انقلابيو شباط في دار الإذاعة العراقية مع الزعيم عبد الكريم قاسم ، وكان يهتف باسم الحزب الشيوعي ، بينما كان الرصاص الأمريكي يمزق جسده الطاهر :
قلوبنا انطرتْ يمهداوينه.
زمر مأجوره تلفق علينه.
زمر مأجوره يبو عباسها.
شيل المطرقه وكسّر راسها.
شيل المطرقه وخله تصير إبير
إبير مظلم والحيايه ادوسها .
والشاعر هذا هو صاحب القصيدة الغزلية التي كانت تحمل عنوان : شارع الحبوبي الذي أصبح من الشوارع المهمة في مدينة الناصرية بعد أن تحول الى شارع تجاري الآن ، وكان قبلا عبارة عن شارع تقف على جانبيه بيوت المواطنين من أهل الناصرية ، وبرصيفين فسيحين تدوس عليهما الأقدام الناعمة لبنات الناصرية مثلما يقول الشاعر :
يا شارع الحبوبي شكثر داست عليك أجدام ترفه .
يا حمام مكلش وي لكاع زفه .
يا ونين العاشك الماملوم لو ونْ عل ولفه .
هذي نجمات الثريه بشارع الحبوبي صدفه
ما هيْ صدفه !
خوش اسم اسمك اسم شاعر غزل... حافظه العشاك وصفه



73
رحلة في السياسة والأدب (3)
                 

سهر العامري

أعادنا مفوض الشرطة ، حياوي ، ثانية الى سجن الجبايش بعد أن تم ضبط جميع إفاداتنا ، وفي يوم ما طل علينا شرطي من شرطة الجبايش فرحا ، وكأنه يحمل بشرى يريد أن يزفها إلينا نحن الذين أنهكت أجسادنا قطعان لا تعد ولا تحصى من القمل والبرغوث ، وما أحد منا يستطيع النوم مع هذا العذاب الذي استمر طوال مكوثنا في ذلك السجن .
قال الشرطي : لقد تم تعين ثلاثة حكام عسكريين لعموم العراق ، وصارت صلاحية المنطقة الجنوبية من نصيب الحاكم العسكري ،عبد الجبار محيسن !
لم يكترث جل السجناء لهذه البشرى التي لا تعني لهم الشيء الكثير حتى أن  أحد المعلمين المشهورين بالظرف من السجناء رد على ذلك الشرطي ساخرا : و( القلاص ) ! أي كأس الماء ، فصلاحيّة بتشديد اللام والياء تعني في لغة العامة من أهل العراق هي إناء ماء زجاجي يتبعه عدد من الكؤوس الأصغر حجما.
ويبدو أن انقلابيي شباط سنة 1963م وللعدد الهائل من السجناء عينوا ثلاثة حكام كان المعروف منهم هو رشيد مصلح صاحب بيان رقم 13 المشهور الذي أباح فيه قتل الشيوعيين العراقيين في الشوارع ، ولهذا صارت المنطقة الجنوبية التي تشمل محافظات البصرة والناصرية والعمارة تنتظر مجيء الحاكم الجديد ، وذلك من أجل البت بمصير الألوف من السجناء الذين ضاقت عنهم السجون .
لم يكن أمامنا نحن سجناء سجن الجبايش إلا الانتظار في سجن لا تتوفر فيه أبسط الشروط الصحية ، ولكن بعد أسابيع من تلك البشرى نقلنا  سراي مدينة الناصرية الواقع في قلب المدينة ، وقد أجريت لجميعنا محاكمات عاجلة استمرت منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة من مساء اليوم الذي وصلنا به الى ذلك السراي ، وكانت مجموعة من الحرس القومي ، ومن أبناء المدينة ، تدور بين السجناء وتطلب من بعضهم تبديل إفاداتهم الأولى والشهادة ضد نفر معين من بين أولئك السجناء ، وقد كنت أنا واحدا من بين ذاك النفر.
كان مفوض الشرطة حياوي جالسا الى جانب الحاكم ، عبد الجبار محيسن عند دخولي الى قفص الالتهام وما هي إلا لحظات حتى نادى شرطي كان واقفا في باب المحكمة على الشاهد جليل ياسين وهو واحد من الطلاب الذين درسوا معي في المرحلة الابتدائية لكننا افترقنا في المرحلة المتوسطة ، وكان هو يكبرني بالسن ، وقبل أن يدلي الشاهد بشهادته دخلت أنا في جدل مع الحاكم ، فقد كان هو مصرا على تقدير عمري بثماني عشرة سنة ، بينما كان عمري الحقيقي هو خمس عشرة سنة وأشهر ، مثلما هو مدون في الجنسية العراقية التي سميت فيما بعد بهوية الأحوال المدنية ، والتي رفعتها بيدي عاليا ليراها الحاكم ، لكنه أصر على رأيه قائلا لي : أما ترى أن شعر شاربك قد ظهر!؟ فأجبته : ما كان ظهور الشعر أو عدم ظهوره دليلا في يوم ما على تحديد عمر الناس وشهادتي التي تثبت عمري هي جنسيتي هذه ! فرد هو قائلا: جنسيتك لا يمكن أن تثبت عدد سنوات عمرك التي دونت على خطأ ، وإنني أستطيع أن أحيلك الى طبيب يقدر سنوات عمرك . قلت : أنا موافق على ذلك ، وأطلب احالتي الى ذلك الطبيب .
انتهى الجدل بيننا باقتراح سره المفوض حياوي بأذن الحاكم ، وهو أن يكون عمري ست عشرة سنة ، بدلا من ثماني عشرة سنة التي يصر عليها الحاكم ، والذي وافق على اقتراح مفوض الشرطة حياوي في نهاية المطاف ، وكان هدف الحاكم من جعل عمري ثماني عشرة سنة هو أن ينفذ بي حكم الإعدام الذي يخطط له هو ، وربما غيره من جماعة الحرس القومي ، فبعد هذه المحاكمة حكمت بمادة منطوقها يقول : إن ما قمت به من عمل أنا ضد انقلاب شباط الأمريكي في العراق عام 1963 هو تآمر على حياة الجمهورية، ولهذه الغاية فقد أقسم جليل ياسين ، الشاهد الوحيد ، بالقرآن زورا وكذبا ، وذلك حين أدعى من أنني أخطر الشيوعيين على الإطلاق في مدينتي ، وأنني أقود مجموعة من الخلايا الشيوعية في تلك المدينة ، ولكن الحاكم سألني قبله : هل أنت عضو في الحزب الشيوعي ؟ قلت : لا . أنا ليس عضوا في الحزب الشيوعي العراقي ، وذلك لأن النظام الداخلي للحزب يشترط أن يكون العضو فيه قد بلغ ثماني عشرة سنة من العمر. عاد الحاكم ليسألني ثانية : هل أنت عضو في منظمة الشبيبة الديمقراطية ؟ قلت : لا . أيضا ، فالنظام الداخلي لتلك المنظمة يشترط نفس العمر الذي يشترطه النظام الداخلي للحزب الشيوعي .
بعد أن فرغ الشاهد من شهادته طلبت من الحاكم مناقشته إلا أن الحاكم رفض ذلك ، وأشار على الشاهد بالخروج ، ثم نودي على المتهمين معي بنفس القضية ، ولم يتعرضوا الى أسئلة مثل تلك الأسئلة التي تعرضت أنا لها ، كما أنهم لم يتعرضوا الى شهادات ضدهم ، وكان هدف الحاكم وأفراد من الحرس القومي هو أن أتحمل أنا بمفردي مسؤولية توزيع المنشورات المناهضة لذلك الانقلاب المشؤوم الذي سماه الرئيس أحمد حسن البكر بعروس الثورات ، بينما كان هو في حقيقة الأمر عرسا أمريكا قام على جماجم ودماء العراقيين ، تماما مثل العرس الأمريكي التي تجري فصوله اليوم على أرض العراق ، وتحت سرادق ديمقراطية رأس المال المزيفة .
كانت اللغة التي كتبت أنا بها ذلك المنشور متينة ، وكان الأسلوب حصيف ، ثم أنني وقعت المنشور بما يشبه اسم منظمة وهو : الوعي الوطني الديمقراطي ، وكان هذا التوقيع ، ومتانة اللغة تلك هما السبب في جعل الحاكم ونفر من الحرس القومي يشكون من أنني أنا الذي كتبت المنشور المذكور ، وذلك لأنني كنت صغير السن ، وفي السنة الثانية من متوسطة الجمهورية في الناصرية ، لكنني كنت قد عشت مع قصص وروايات نجيب محفوظ ، وكنت أحفظ بعض النصوص منها عن ظهر قلب ، ولا زلت أذكر للآن أن أستاذ اللغة العربية كريم توفيق الذي درسني العربية فيما بعد في إعدادية الناصرية كان يقرأ ما أكتبه في دروس الإنشاء على صفوف تلك الإعدادية ، وذلك حين بلغت أنا السنة الخامسة منها.
لقد قال لي واحد من أتباع الحرس القومي بعد خروجي مباشرة من قاعة المحاكمة : إن الوعي الوطني الديمقراطي هو تشكيل جديد للحزب الشيوعي العراقي ، فالأفضل لك أن تعترف على هذا التشكيل ، ولكنني قلت له : لا يوجد للحزب تشكيل بهذا الاسم ، وأنت تسعى للإيقاع بي على أية حال . فرد علي بأنك لا تستطيع أن تكتب مثل هذا المنشور ، فاللغة والأسلوب فيه ليس لطالب مثل سنك ، وفي مرحلة دراسية غير متقدمة .
لقد فات هذا الشخص الذي رحل الى رحمة الله الآن من أنني كنت أحفظ وقتها العبارة التالية عن ظهر قلب:( نظرت ُ الى الوجود فإذا هو قمة ثلج قد أشرقت عليه شمس الصباح من خلال قوس قزح ملون بألوان البنفسج والبرتقال .) العبارة هذه كانت لونستون تشرشل ، رئيس الوزراء البريطاني زمن الحرب العالمية الثانية أخذتها أنا عن روايته : ( سافرولا ) التي أهدتها لي صديقتي ، وهي طالبة في ذات سني ، وفي نفس مرحلتي الدراسية ، ولكنها كانت تدرس بمدرسة خاصة بالبنات ، و قد أهدتني هي هذه الرواية لعلمها في أنني كنت مولعا بقراءة الشعر والرواية ، فأنا لا زلت أتذكر كيف كنا نتطلع الى وصول جريدة : كل شيء من بغداد الى مدينة الناصرية ، تلك الجريدة التي كانت تخصص أغلب صفحاتها للشعر الشعبي العراقي الذي كنت أقوله أنا في هذه المرحلة ، وكانت بعض من قصائدي قد أذيعت في ركن الشعر الشعبي من إذاعة بغداد
والقصيدة تلك كانت بعنوان : كسرة ضلع ، وقد نقل لي خبر إذاعتها الصديق العزيز صالح البدري الممثل والمسرحي العراقي المعروف ، كما أنني لا زلت للآن أحفظ أبياتا من قصيدة الشاعر كاظم الرويعي التي رثى بها الشاعر بدر شاكر السياب بعد موته مباشرة ، وكانت قد نشرت على صفحات الجريدة المشار إليها من قبل ، وهي قصية نائحة باكية ، تبوح عن ألم ، وتفيض حزنا أثر فينا نحن الجيل اليافع وقتها ، والأبيات التي لا زالت عالقة في الذهن هي :
النخل حزنان واطراف السعف تنعي
وألف حسنه تدك وتنتحب تدعي
تودي للغروب اعتابْ
دوّرْ وين غرقتْ نجمة السيابْ


74
على أطراف المتوسط *
   
سهر العامري

لم يكن البحر المتوسط بعيدا عنهما ، فقد كانا كل صباح يلتقيان قريبا منه ، وهما يسيران بخطى مهمومة نحو الثانوية التي يدرسان فيها ، تلك الثانوية التي كانت تقف على مقربة من ذلك البحر ، والتي تبعد عن داريهما مسافة ليست بالقريبة ، ولكنهما رغم ذلك كان يواصلان تلك الخطى كل يوم من أيام العمل ، ومن دون أن يجلب انتباههما شيء مهم في تلك الصباحات المتكررة بملل أحيانا ، وبغبطة في أحيان أخرى ، ولكنهما مع ذلك كانا يرميان النظر فوق أرض بتول تمتد أمامهما طاهرة دون أن تدنسها قدم إنسان ، أرض يعلوها نبات اختلفت ألوانه ، مثلما اختلفت أصنافه ، تزف فوقه طيور القنبر التي بنت لها أعشاشا بين الشجيرات الشوكية منه ، وكان أجمل ما يشدهما لهذا الطائر الوديع صوته الذي يضيف سحرا لسحر الطبيعة وهي تنهض في الساعات الأولى عند تلك الأطراف .
لقد كان الأستاذ أحمد عبد العال المصري دائم الأسئلة عن الكون والحياة والبعث ، وربما كان يقدر أنه سيجد جوابا شافيا عند رفيقه في المهنة ، سامي العراقي ، فكثير ما كانا يذهبان بعيدا في نقاش فلسفي هادئ يكون محوره أسئلة من مثل : ما الكون ؟ ما عاقبة الحياة ؟ كيف يكون البعث ؟ وهل من المعقول أن يدخل الأستاذ أحمد عبد العال المصري ، الذي يؤم بعض المسلمين في جامع من جوامع المدينة كل يوم جمعة ، الى الجنة ، بينما لا يدخلها من صنع هذه الطائرة التي تحلق فوق رأسيهما ؟
تلك الأسئلة وغيرها كان يطرحها أحمد عبد العال المصري على رفيقه في المهنة بحرارة ، وصدق يجعلان سامي العراقي على قناعة من أن رفيق مهنته يتشوق الى سماع جواب شاف ٍكي يطمئن الى المصير التي ستؤول إليه حياة الإنسان .
- مش معقول من أنني أنا الذي أكذب أحيانا ، ولكنني أصلي خمس صلوات كل يوم ، أدخل الى الجنة ، بينما يدخل صانع هذه الطائرة التي تمرق من فوق رأسينا الى النار مع أنه قدم خدمة جليلة للناس كلها ، وذلك حين قصر المسافات بين أطراف الأرض ! ؟
- مش معقول يفضي الحال بالإنسان بعد هذا الكد والجهد ، وهذا العمل المتواصل الى اللاشيء ، ويعود عظاما نخرة سرعان ما تتحول بمرور الزمن الى تراب !؟
- قل لي هل تؤمن أنت بالبعث بعد الموت ؟
كان الأستاذ سامي العراقي لا يريد أن يجيب زميله على أسئلته إجابة مباشرة ، وبدلا من ذلك كان يحاول أن يقنعه بأن بعضا من أسئلته تلك هي أسئلة طرحها الإنسان قبله منذ ألوف السنين ، وتناولت الإجابة عنها مدارس فلسفية متعددة ، ولا زال الجدل في مواضع تلك الأسئلة مفتوح الأبواب للساعة ، ولكل  مدرسة  آراؤها ونظريتها في ذلك ، وعلى الإنسان نفسه أن يقرر ما يختاره من تلك الأجوبة ، ثم استعرض له بشكل موجز ما قالته بعض من تلك المدارس الفلسفية .
- إديله شكر ! قالها الأستاذ أحمد عبد العال بلهجة مصرية خالصة ، مخاطبا فيها زميله سامي ، وذلك بعد أن ترجل قبله من سيارة رجل حملهما بها الى حيث مكان عملها بعد أن شاهدهما يحثان الخطى على تلك الطريق الطويلة التي اعتادا أن يسيران عليها كل صباح.
لقد حزت كلمات الأستاذ أحمد : ( أعطِ له شكرا ) في نفسي سامي رغم أنه استغرب ذلك ضاحكا ، فالأستاذ أحمد أعتبر أن الشكر هو أجرة صاحب السيارة التي أوصلتهما الى الثانوية ، وهذا الحال لا يخلو من سخرية مضحكة وليس طرفة ، وحين رمى سامي كلمات عتاب في أذني أحمد عبد العال رد هو من فوره قائلا : وهو ماله ! هو حملنا بسيارته ، ونحن لقاء ذلك أعطيناه شكرا ! إيه اللي جرى يا أستاذ سامي!
هكذا يتحول النقاش في أحيان كثيرة بين الأستاذ سامي العراقي وأحمد المصري في الكثير من الأحيان وخلال تجوالهم سوية في أطراف المدينة مساء ، أو في أسواقها في بعض الساعات من الصباح ، وكثيرا ما كان يجلب انتباه سامي العراقي هو أن بعضا من رجال الدين المعتمين بعِمة ، والمتسربلين بجبب كانوا يبادلون زميله أحمد التحية ، ولهذا فقد دفعه فضوله ذات يوم الى توجيه سؤال لأحمد عبد العال عن هوية شيخ كهل ، نحيف البنية ، أسمر اللون ، قصير القامة ، معتم بعمامة ، ومتسربل بجبة كالحة اللون ، كان أحمد قد بادله التحية في سوق المدينة الذي تعارف أبناء المدينة على تسميته بسوق الظلام .
- أين تعرفت على هذا الشيخ ؟ هل هو أمام جامع ؟
كان هذا السؤال قد ذكر الأستاذ سامي العراقي بسؤال عن شيخ معمم ، التقاه صدفة في شارع من شوارع مدينة كربلاء ، وكان صاحب السؤال هو واحد من معلمي الأستاذ سامي في مرحلة الدراسة الإبتدائية ، وقد أحس هو وقتها أن السؤال ذاك كان محملا بشيء من السخرية والاستفزاز ، ولهذا رد قائلا :
- أهو شيخ هذا ؟
- ولكن مظهره يدل على أنه شيخ ، فهو يعتم بعمة ، ويتسربل بعباءة وجبة . قال الأستاذ سيد يحيى .
- نعم . هو شيخ في مظهره ، ولكنه ـ يا أستاذ - مدير دار الثقافة الجماهيرية في المدينة .
- ماذا يريد منك ؟
- يريد غوايتي بمال أو بمنصب كي أصبح واحدا ممن يسبحون بحمد النظام .
لم يكن سيد يحيى يصدق أن النظام استطاع أن يوظف في ماكنته حتى أولئك الذين ارتدوا الدين عباءة وجبة ، وصار بعضهم مديرا يدير دائرة هي اسم من دون مسمى ، وفات سيد يحيى أن النظام نفسه قد وصل الى امرأة تبيع خضارا في سوق المدينة ، وتحاول الإيقاع بالرجال الذين يعتبرهم أعداء له ، مثلما فاته أن انتماءه لحزب السلطة لن يحميه من بطش السلطة نفسها ، فقد قامت السلطة هذه باعتقاله بعد أن فارق الأستاذ سامي بخطوات قليلة ، وذلك لأن الأستاذ سامي العراقي كان مراقبا مراقبة شديدة من قبل عيون النظام أينما سار وأينما اتجه حتى أن أصدقاء له منذ الطفولة صاروا يخشون على أنفسهم من اللقاء به في شارع من شوارع تلك المدينة حين يسير ، أو في مقهى من مقاهيها حين يجلس . هذا رغم أن الشرطة السرية قد اعتقلته أكثر من مرة ، ورغم أنهم دخلوا معه في أكثر من ساعة جدل لم تفض ِ الى النتيجة التي يريدونها هم ، والمتمثلة بنزع الفكر الذي يؤمن به من عقله ، ومن أجل هذه النتيجة استخدموا معه وسائل مختلفة ترغيبا مرة ، وترهيبا أخرى ، ففي أحدى الليالي الحالكة الظلام من شهر شباط اقتحم الدار عليه بعد منتصف الليل ثلاثة من رجال الأمن قائلين له : جئنا لنستقي الشاي عندك !
- سقاية الشاي بعد منتصف الليلة ؟ رد الأستاذ سامي العراقي بتهكم .
دخل الثلاثة الى غرفة الضيوف ثم قدمت لهم أقداحا من الشاي وبعد أن تناولوها بدأت واحدة من معارك الجدل التي اعتاد الأستاذ سامي العراقي الدخول بها معهم من قبل مع علمه أنه لن يستطيع أن يؤثر على المهمة التي جاءوا من أجلها ، والتي تسلحوا لها هذه المرة بأسلحة فتاكة تمثلت باختلاق تهم أملوا أنفسهم أنها ستؤدي الى ثني الأستاذ سامي العراقي عما يؤمن به ويعتقد .
- أنت - يا أستاذ - سامي تقف من الوحدة العربية موقف المعارض لها ! قال رجل منهم كان فارع الطول، ضخم الجثة ، عظيم البطن ، ممتلئ الوجه عابسه ، فض القول قبيحه .
تبسم الأستاذ سامي العراقي إبتسامة تنم عن سخرية خفية ، ورد بلباقة على سائله وبسؤال لم يخطر على بال هذا السائل وعلى بال من يرافقه .
- هل تحمل في جيبك مشروعا للوحدة العربية ؟
- لماذا ؟ رد رجل الشرطة السرية بخشونة .
قلت إذا كان لديك مشروع للوحدة العربية فأنا على أتم الاستعداد أن أبصم عليه بأصابعي العشرة هذه ، حتى أثبت لك أنني متعلق بالوحدة العربية المادية ، ولكن ليس بوحدة ملوك ورؤساء الدول العربية الذين يتشدقون بها من على كراسي حكمهم ، وعلى هذا أطلب منك أن تزيل هذه التهمة عني .
- يا أستاذ سامي ! قل لي ماذا تعني بالوحدة المادية ؟ قال واحد من زميلي رجل الشرطة السرية .
- أنا أعني بالوحدة المادية ، هي تلك المشاريع التي تربط العالم العربي بعضه ببعض مثل : السكك الحديدية ، طرق السيارات المعبدة ، المشاريع الصناعية والزراعية المشتركة ، مناهج التعليم المتقاربة ، التبادل الثقافي والمعرفي ، فبهذا كله نستطيع أن نشد لحمة أجزاء الوطن العربي ، وحين يزعل رئيس دولة على رئيس دولة أخرى فإنه لن يستطيع والحالة تلك أن يرفع السكة الحديدية أو يغلق مشروعا يدر عليه وعلى دولته منافع للناس الذين يتحكم بهم .
على هذه الطريقة استطاع الأستاذ سامي العراقي أن يبيد التهمة المختلقة التي وجهت له من قبل ذلك الرجل الضخم الذي نهض منفعلا قائلا :
- نحن لدينا أساليب أخرى ستجعلك تذعن لكل ما نطلبه منك ! قال ذلك ثم خرج من باب الغرفة باتجاه الباب يتبعه زميلاه ، ومن دون أن يلقوا كلمة وداع على مضيفهم مثلما زعموا !
ورغم مرور سنوات ليس بالقليلة فقد ظلت صورة رجل الدين الدارمي العراقي ، الذي تحول الى رجل في أجهزة الأمن السرية للنظام ، قبالة ناظريه وهو يحدق بوجه رجل الدين محمود الصعيدي المصري رغم الفارق بين الصورتين ، فبينما كان الدارمي ظاهر الثراء ، نظيف العمامة والجبة ، كان محمود الصعيدي رث الثياب ، معتم بعمامة أكلت منها الأيام ما أكلت ، ولهذا أصر الأستاذ سامي العراقي على زميله أحمد عبد العال المصري معرفة المهن التي يمتهنها هذا الرجل .
- لا يدل مظهر هذا الشيخ على أنه إمام جامع !؟
- وأنت مالك وماله ! قالها أحمد المصري بلهجته .
- هل هو متسول ؟
- أبدا .
- هل هو مخبر سري كالشيخ الدارمي ؟
- من يكون هذا ؟ قالها أحمد المصري باستغراب ، فهو لا يعرف الشيخ الدارمي ، ولم يسمع باسمه من قبل ، ولكنه ليس على علم بأن رجال دين كثيرون صاروا موظفين في أجهزة مخابرات دول كثيرة كذلك ، وكلف بعضهم بمهمات غاية في الخطورة ، ولم يبق من الدين عندهم غير العمة والجبة.
- سأحدثك بحديث الشيخ الدارمي بعد أن تحدثني أنت بحديث الشيخ محمود الصعيدي !
- طيب . قالها على مضض .
- الصعيدي هذا يدعي أنه على المذهب المالكي .
- على شاكلة ابن بطوطة !
- وهل كان ابن بطوطة مالكيا ؟
- نعم . كان مالكيا ، وقد شغل مناصب متقدمة في القضاء ، وبأكثر من دولة ، ولكن شاغله الأول ظل النساء والجنس !
- كلهم كده ! قالها أستاذ أحمد المصري متبسما.
- لكن ابن بطوطة فاقهم في هذا المضمار ، فقد قلب من أجساد النساء ما قلب ، وذاق منهن ما ذاق على اختلاف شعوبهن وأممهن ، وما كان ليعجز عن الاثنتين والأربع في اليوم الواحد ، وقد ظل على عادته هذه سنينا طويلة كان لا يتخلف عن ممارسة الجنس فيها كل يوم مع نساء أربع تزوج بهن ، وذلك حين يفرغ من مجالس القضاء التي كان يعقدها في دار القضاء عند سلطان جزائر ذيبة المهل ، وهو نفسه الذي أهدته إحدى ملكات الترك زوجتين تسبحان في بحر من جمال فياض ، هذا في وقت كان هو فيه يلهو بستين جارية حسناء على قاعدة : وما ملكت أيمانكم !
- ما هذا ؟ تساءل الأستاذ أحمد المصري مستغربا من حديث زميله العراقي الذي اعتاد أن يمده بالكتاب والكتابين على سبيل الاستعارة ، ولكنه شذ مرة ، وتمسك بكتاب تمسكا شديدا ، وطلب من الأستاذ سامي العراقي أن يملكه لأنه يريد حمله معه الى القاهرة ، وكان له ما أراد ، فقد كان للكتاب أهمية كبيرة عنده ، فقد تحدث فيه مصطفى المراغي ، وزير داخلية الملك فاروق ، عن الساعات التي سبقت ثورة عام 1952م في مصر.
- أيهما أفضل لديك حديث ابن بطوطة أم حديث المراغي ؟
- زي بعضه !
- لم تقل لي رأيك الحق !؟
- بودي لو رحلت أنا مثلما رحل ابن بطوطة !
- الآن أجبت أنت بصدق .
- ولكنك لم تقل لي لماذا رحل الشيخ محمود الصعيدي ؟
- ثاني ! قالها أحمد المصري بلهجته وبمرارة .
- وما الضير في أن تخبرني عن عمل المعمم هذا ، فأنا مطلع على أمر الكثير منهم .
- أنت تعرف أن بعض المذاهب الإسلامية توجب وقوع الطلاق اللفظي ، ومن دون مراعاة الموقف الذي يدفع الزوج في أن يقول لزوجته أنت طالق بالثلاث ! ولكن الرجل هذا بعد أن يهدأ يندم على ما قاله بصدق ، ويرغب بالعودة الى زوجته ثانية ، ولكن الشرع ، والحال هذه ، يقف حائلا دون ذلك ، إذ لا بد للزوجة أن تتزوج برجل غيره يطلقها فيما بعد لتحل عليه ، وكان الشيخ محمود الصعيدي هو من ينتدب لهذه المهمة في هذه المدينة ، فهو بعد أن يعقد على هذه المرأة كزوجة له يعود في صباح اليوم التالي ليطلقها كي يعقد عليها زوجها الأول.
- وأنت ماذا تقول في هذا ؟
صمت أستاذ أحمد المصري على عادته ، وأراد أن يحتفظ بالجواب لنفسه ، فهو واحد من الذين يؤمون الناس بالصلاة كل جمعة لقاء عشرة دنانير عن إمامة كل صلاة ، وهي تلك العشرة التي ما سكت عنها الأستاذ سامي العراقي ذات مساء حين ألقى سؤالا عليه :
- هل كان بلال الحبشي أو غيره من المسلمين الأوائل يأخذون أجرا على أن يصدح أحدهم بأذان أو يؤم قوما بصلاة ؟
ورغم أن أحمد عبد العال المصري كان على نزع معرفي متقدم لكنه إمتنع عن الإجابة ، فهو يعلم أن الحق والحقيقة مع الأستاذ سامي العراقي.
 = = = = = = = = = = = =
* قصة قصيرة


75
الحريق الأمريكي – الإيراني للعراق


سهر العامري

صدر في السويد وعن دار نشر فيشون ميديا كتاب جديد للكاتب سهر العامري تحت عنوان : الحريق الأمريكي - الإيراني للعراق ، وقد واكب هذا الكتاب الأحداث والفواجع التي حدثت بالعراق جراء الحرب المدمرة التي شنتها الرأسمالية الأمريكية عليه ، وبتأييد ومباركة من حكام طهران الذين سعوا بكل جهدهم ، وعن طريق عملائهم  العراق ، الى الانتقام ليس من صدام ونظامه كما يدعون ، ولكن من العراق أرضا وشعبا ، فالمجازر البشرية التي ارتكبها عملاؤهم في القاعدة وفرق الموت قلّ نظيرها ، تلك المجازر التي ما زالت مستمرة للساعة التي تكتب بها هذه الحروف .
لقد كانت إيران من بين أهم الدول التي اشتركت الى جانب أمريكا في حريق العراق الذي لا زال دخانه يتصاعد للآن وعلى مدى ست سنوات رأى فيها الشعب العراقي ما رأى من أهوال وتدمير مستمرين طالا البشر والحجر والشجر فيه ، وكان كل ذلك بحجة إسقاط النظام الدكتاتوري فيه ، وهو ذات النظام الذي وطدت أمريكا نفسها أركانه ، وعملت على طوال سني وجوده على حمايته ورعايته ، والأدل على ذلك أن وزير الدفاع الأمريكي ، رامسفيلد ، الذي قاد الحرب على العراق كان من بين أهم الشخصيات الأمريكية التي لم تنقطع زياراتها عن صدام حسين بين الحين والحين الآخر .
لقد كان باستطاعة الأمريكان أن يسقطوا صداما في أكثر من فرصة ، وكانت أفضل الفرص التي توفرت لهم هي الحرب التي أعلنتها أمريكا على صدام ونظامه حين كان يحتل الكويت ، تلك الحرب التي عرفت بحرب تحرير الكويت أو عاصفة الصحراء ، ولكن مخططي السياسية الأمريكية عدلوا عن ذلك بسبب عدم توفر ضمانات قوية للسيطرة على الناس في العراق من قوى سياسية عراقية مهمة ومؤثرة تخضع لمشيئتها وتوجهها الوجهة التي تريد ، خاصة بعد قيام انتفاضة آذار سنة 1991م تلك الانتفاضة التي عملت إيران على إشعالها ، مثلما عملت على استغلالها في تحقيق طموحاتها الجديدة القديمة في العراق ، ولهذا السبب رفع أمريكا حصارها عن قطعات مهمة من قوات الحرس الجمهوري في العراق كانت ترابط قرب مدينة البصرة ، سامحة لها بقمع المنتفضين أيّما قمع!
لكن هذه الحال تبدلت بعد هجمات الحادي عشر من شهر أيلول التي أطاحت برموز المال في العاصمة الاقتصادية الأمريكية ، نيويورك ، وعلى زمن إدارة الرئيس الأمريكي ، جورج بوش الابن ، التي عملت على تجنيد بعض القوى السياسية العراقية في مشروع حربها الجديدة ضد العراق ، ومن هنا برزت الحاجة الى إيران التي سمحت لعملائها من العراقيين والذين ينحدر أغلبهم من أصول إيرانية في الحضور الى مؤتمر لندن الذي سعت كل من أمريكا وبريطانيا وبتعاون مع إيران على عقد في عاصمة الضباب ، لندن ، وهو المؤتمر الذي استطاعت أمريكا عن طريقه تحيد الأغلب من سكان العراق ، وأعني بهم شيعته وذلك عن خلال الفتوى التي أصدرها السيد السستاني والتي حرم بموجبها التصدي للقوات الغازية ، تلك الفتوى التي أذاعها على الناس السيد مجيد الخوئي حال وصوله من لندن الى العراق في الساعات الأولى من اجتياح القوات الأمريكية وحلفائها للأرض العراقية ، وقبل أن يقتل هو بساعات قليلة من إعلانه تلك لها ، وقد رأى بعض المحللين أن ذلك تمّ وفق تنسيق تام سبق ساعات نشوب الحريق الذي لا زالت نيرانه تتصاعد للساعة في العراق .
كان دافع إيران للاشتراك مع أمريكا في مؤامرة حرق العراق هو تحطيم العراق والإضرار بالعراقيين ، محملة إياهم مسؤولية الحرب التي دارت بين الخميني وبين صدام في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، وقد ظهر حب الانتقام هذا جليا ، وبوقت مبكر على لسان عملائها ممن حضروا مؤتمر لندن المشار إليه ، مثلما ذكر ذلك مسعود البرزاني ، وهو واحد من الذين حضروا ذلك المؤتمر ، وكان قد حذرهم علنا من مغبة هذا النهج الخطر ، وفي أروقة المؤتمر المذكور. ومع ذلك ما كان لإيران أن تكتفي بالانتقام من العراق والعراقيين وإنما سعت وتسعى الى الانتقام من كل بلد عربي أو منظمة عربية وقفت الى جانب العراق في تلك الحرب ، وبأساليب مكر وخداع مختلفة ، فلقد انتقمت من الكويت بتنشيط العلاقة الدبلوماسية مع صدام ونظامه ، وباستقبال العشرات من طائراته التي هربها لها وقت نشوب حرب عاصفة الصحراء الأمريكية ، وهي الحرب ذاتها التي انتقمت بها من العراق ومن صدام ونظامه ، كما أنها انتقمت كذلك من اليمن بالحوثي وحربه ضد نظام علي عبد الله صالح خدين صدام ، وانتقمت من منظمة التحرير الفلسطينية بمنظمتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين ، ولم يبق أمام الإيراني إيراني سوى مصر والسعودية والأردن ، ولكن هذه الدول على ما يظهر كانت منتبهة لمخططها الرهيب ذاك ، وقد تجسد هذا الانتباه في الموقف المصري من المجزرة الإسرائيلية التي وقعت في غزة في الآونة الأخيرة ، ومن تجاهل الملك عبد الله بن عبد العزيز لرسالة أحمدي نجاد في تفويض المملكة العربية السعودية لقيادة العالم الإسلامي في حرب ضد إسرائيل !!
أعود لأقول : إن قوى سياسية مهمة في المجتمع العراقي قد أدركت خطورة الحريق المعد للعراق من قبل أمريكا للعراق وبالتعاون مع إيران ، ولهذا رفضت بشدة المشاركة في مؤتمر لندن المشار إليه ، والذي أريد لبيادقه المشاركة في الجهد العسكري الأمريكي عند نشوب الحرب التي كانت تسعى لها إدارة جورج بوش الابن بخطى حثيثة ، وتحت ذرائع وحجج شتى ، تبين فيما بعد أن لا وجود لمثل تلك الذرائع والحجج البتة .
لقد كان في مقدمة القوى الرافضة للحرب الأمريكية - الإيرانية على العراق حزبان عراقيان هما : الحزب الشيوعي العراقي وحزب الدعوة الإسلامية جناح المالكي بشكل خاص ، ولكنهما اشتركا طوعا - فيما بعد - بمجلس الحكم الذي صممه حاكم العراق ، بول بريمر ، بعد سقوط النظام ، ذلك السقوط الذي فتح أبواب العراق الشرقية للجمهورية الإسلامية الإيرانية! على مصراعيها  فدفعت بعملائها ، خاصة أولئك الذين ينحدرون من أصول فارسية ، الى العراق ، وبأعداد غفيرة مستحكمين بمراكز السلطة في مدن جنوب ووسط العراق ، وتحت مسميات كثيرة ، والى الحد الذي عادت به تلك المدن تدار من قبل المخابرات الإيرانية وبشكل فاضح ، وصار أحمد فروزنده عميل المخابرات الإيرانية (اطلاعات) يجند العملاء في المدن والقرى  العراقية ، وبحرية تامة ، مثلما صار السفير الإيراني في بغداد هو من يعين هذا ويحرم ذاك من مناصب الدولة في العراق ، مثلما صار سائق سيارة الإجرة الإيرانية ينادى من ساحة وسط مدينة كربلاء العراقية على الركاب الإيرانيين الراغبين في الذهاب الى العاصمة الإيرانية : طهران ! طهران ! طهران !

76
المنهج الدراسي في العراق : تاريخنا وتاريخهم !    
         


سهر العامري

يصعّد الصفويون في العراق هذه الأيام ، وخاصة في مدينة النجف التي أصبحت تحت السيطرة الإيرانية ، من حملتهم على وزارة التربية في العراق من أجل تغيير المنهج الدراسي في المدارس العراقية ، وفي عملية واضحة لتبادل الأدوار بينهم ، وبين وزير التربية ، الملا خضير ، وبدلا من أن يطالب هؤلاء برفع المستوى التعليمي للعملية التربوية التي تنهار يوما عن يوم في العراق ، وبدلا من تحديث بناء المدارس ، وتخليص الطلاب من زرائب القصب والطين التي يدرسون فيها ، راح هذا النفر الإيراني المسعور يطالب تلك الوزارة بالتعجيل في تغيير المنهج الدراسي ، وتحت مفاهيم وتصورات غاية في الخطورة ، وليس لأهداف نبيلة يرجى منها رفع القابلية التعليمية عند الطلاب من خلال مناهج تقدم لهم النافع من العلم والمعرفة ، وليس من خلال العمل على سلخ الهوية القومية العربية للألوف من الطلاب العرب .
ولكي يكون القارئ على بينة من مستوى التردي الذي وصلت له المدرسة العراقية في زمن الملا خضير عليه أن يقرأ معي هذه الخبر الذي جاء من مدينة الناصرية الجنوبية ، والذي نقلته أنا عن موقع سومريون نت ، يقول الخبر ( تظاهر العشرات من اولياء امور طلبة المدارس في الناصرية امام مجلس محافظة ذي قار في فعالية احتجاجية على تدني المستوى التربوي والتعليمي في مدارس المحافظة. وجاء في بيان احتجاجي وزعه المتظاهرون على وسائل الاعلام وتلقت المدى نسخه منه: نحن ابناء مدينة الناصرية من اولياء امور الطلبة نشعر ونلاحظ تدني المستوى التربوي والعملية الدراسية في المدارس وبروز عدة مشاكل من دون اهتمام ومعالجة من مديرية التربية .
واشار بيان المتظاهرين الذين التقى ممثليهم باعضاء اللجنة التربوية في مجلس محافظة ذي قار الى اكتضاض المدارس  وافتقارها الى الماء الصالح للشرب ودورات المياه النظيفة ورداءة الابنية المدرسية وعدم نظافتها  وسوء توزيع المعلمين والمدرسين .
وطالب المتظاهرون بتوفير القرطاسية للطلبة وتأمين المقاعد الدراسية المناسبة لابنائهم مشيرين الى تكسر المقاعد الدراسية والسبورات وعدم صلاحيتها  كما شكوا من غياب التنسيق بين ادارات المدارس واولياء الامور موضحين في بيانهم انه حتى مدير التربية يرفض مقابلة اولياء امور الطلبة حين يلجئون له لحل مشاكل ابنائهم في المدارس.
وكان عدد من اولياء امور طلبة المدارس في ذي قار قد شكوا لـ" المدى " من انتشار ظاهرة ضرب الطلبة من بعض المعلمين والمدرسين حيث اشار احد اولياء الامور الى ان احد المعلمين قد استخدم الضرب المبرح في معاقبة ولده ما ادى ذلك الى تعرضه لاصابات بليغة اضطرته للرقود في المستشفى لعدة ايام . ويقدر عدد مدارس محافظة ذي قار باكثر من 1400 مدرسة اكثر من 170 مدرسة منها مازالت مبنية بمادتي القصب والطين في حين تعاني معظم  المدارس من التقادم ورداءة الابنية. )
هذه الحالة المفجعة للمدرسة العراقية ، وللطلاب العراقيين الذين ينحدر أغلبهم من عوائل فقيرة ، لا تهز ضمائر هؤلاء الذين حكموا العراق في غفلة من الزمن ، وفي مؤامرة نسجت خيوطها بين إيران وأمريكا سرا ، وإنما مسعى هؤلاء الآن ينصب على مسخ الهوية العربية للمدرسة العراقية ، وجعلها تدور تاريخيا في فلك الثقافة والمنهج الصفوي ، بدليل أن هؤلاء راحوا ينادون علنا بأن الشعب العراق صار يملك تاريخين متمايزين : التاريخ الأول هو التاريخ العربي السني ، والتاريخ الثاني هو التاريخ الفارسي الصفوي وتحت غطاء شيعة آل البيت ، فها كم اسمعوا ما يقوله هؤلاء (من حق الانسان الاطلاع على تراثه ودراسة عقيدته ودينه، لكن فترة النظام السابق كانت فترة حصار فكري وعلمي وثقافي وبالاخص للمذهب الشيعي ولا نريد ان نتحدث بالطائفية.. ولكن من حقنا دراسة تاريخنا ومن حق الاخرين فعل ذلك ) واقرؤوا معي ما يقوله آخر ( لدينا مدرسة اهل البيت لماذا تلغى أفكارها ومن حقنا ان ندرس أفكارها وهذه ليست طائفية ومن حق كل طائفة ان تدرس افكار طائفتها في العراق )
من خلال حديث هؤلاء النفر يدرك القاريء النبيه أن الصفويين لا ينسون أن يزينوا أفكارهم بكلمتي : أهل البيت ، مثلما لا ينسون أن يدسوا كلمتي النظام السابق ، وذلك من أجل تمرير مخططاتهم الجهنمية التي ترسم لهم في طهران ، فالعراقيون على مختلف مللهم ونحلهم عاشوا على رقعة جغرافية واحدة ، ومرت عليهم أحداث تاريخية حلوة مرة ، شكلت في نهاية المطاف تاريخا مشتركا لهم ، ولا يمكن لصفوي حاقد أن يأتي بعد هذا سنوات الطويلة من العيش المشترك أن يجعل لكل ملة ونحلة من العراقيين تاريخا خاصا بها ، ففي عصور متقدمة تقاسم العراقيون كلهم تاريخ الدولة السومرية والبابلية والآشورية على سبيل المثال ، كما تقاسموا هذا التاريخ في العصر العربي الإسلامي فيما بعد ، وعليه يكون العرب الشيعة مثل العرب السنة والمسيحيين والأكراد قد نزل بهم حيف وظلم المغول بقيادة هولاكو الذي استباح عاصمتهم بغداد بمعية نصير الدين الطوسي الذي اصطفاه هولاكو وزيرا له .
ومثلك ذلك شهد أرض العراق ، وأرض الكوفة على وجه الخصوص ، أكبر فاجعة عربية إسلامية ، تمثلت بقتل الأمام الحسين عليه السلام ، والكثير من أهل بيته وصحبه ، وقد اشترك بصنع هذه الفاجعة العرب الشيعة من أهل الكوفة ، مثلما اشترك فيها الموالي من الفرس الإيرانيين ، أما العرب السنة فلم يكن لهم وجود ساعتها ، فقد جاءوا بعد أن ظهرت المذاهب على يد رجال دين كان أغلبهم من الفرس حتى المذهب الوهابي الذي يتشكى منه الشيعة اليوم هو من بنات أفكار رجال الدين يردون في محتدهم الى القومية الفارسية ، ويبدو أن هدف هؤلاء كان إثبات وجود أمة هزمتها الجيوش العربية الإسلامية إبان خلافة عمر بن الخطاب ( رض )
هذا التاريخ وغيره دارت رحى أيامه على أرض العراق ، مثلما دارت أمام أنظار العراقيين على مختلف قومياتهم ومذاهبهم ، فكيف يأتينا اليوم نفر مدفوع بعصيبة الفرس ليكتب لأبناء العراق تاريخا مزيفا يهدف من ورائه عزل الشيعة العرب في وسط وجنوب العراق عن بقية العرب ، مثلما يهدف الى سلب هويتهم العربية كي تسهل عملية تحويلهم الى إيرانيين ناطقين بالعربية مثلما تطلق أبواق أعلام الملالي ذلك على العرب في الأحواز العربية .
لقد حدثني مشرف تربوي من بغداد قائلا: أتدري ماذا يقصدون بتغيير المنهج الدراسي ؟ قلت ماذا ؟ قال : كنا نناقش فقرة في كتاب الأدب للصف الخامس الإعدادي تقول : إن المتنبي كان معتزا بعروبته . قلت وماذا في ذلك ، فقد كان المتنبي معتزا بالقومية العربية والى حد كان متعصبا لها ، فهو الذي خاطب ابن خالويه وأمام سيف الدولة الحمداني ، حينما حاول ابن خالويه تخطئة المتنبي ، فما كان من المتنبي إلا أن قال له : أنت أعجمي وأصلك خوزي فمالك وللعربية ! هذا بالإضافة الى غمر قناة الحكام العجم في زمنه بقوله :
وإنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجمُ
لا أدب عندهم ولا حسب ولا عهود لهم ولا ذممُ

قال محدثي من بغداد بعد ذلك : لقد بدلوا تلك الفقرة بقولهم : إن الشاعر العربي أبا الطيب المتنبي كان يعتز بفروسيته ، وليس بعروبته !
هدف الصفويين هؤلاء هو سلخ الأجيال العربية القادمة في العراق عن انتمائها القومي العربي ، وذلك من خلال منهج دراسي مشوه يخفي أصحابه الفرس مخططهم الجهنمي تحت كلمة : أهل البيت ، وهي كلمة حق أريد بها باطل ، وذلك لأن مكانة أهل البيت محفوظة في نفوس العرب ، الشيعة منهم والسنة اليوم وغدا ، ولكي أبرهن على ذلك أقول : نزلت العاصمة الجزائرية ، ورأيت وأنا أسير في شوارعها مكتبة تبيع الكتاب العربي ، دخلتها ثم سلمت على صاحبها الذي سألني عن البلد الذي اتيت منه ؟ قلت له : من العراق . قال : لعنكم الله أنتم الذين قتلتم جدي الحسين ! قلت له لكنني أنا من شيعة العراق . قال : شيعة الكوفه هم من قتله ، ثم نزلت بعد ذلك اليمن وزرت مكتبة الثانوية التي أدرّس فيها ، وحال دخولي لها رحب بي الموظف المسؤول عنها : سألته عن كتاب : ثورة زيد بن علي ، قال لي ومن دون أن أسأله : أنا من السادة أهل البيت ، والجوامع هنا تخط على قبابها أسماء الخلفاء الأربعة بالإضافة الى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء ، ثم نزلت ليبيا فوجدت شوارعهم تحمل أسماء الأئمة الاثنا عشر عند الشيعة الجعفرية ، واقول هنا وأنا على ثقة من أن علم ليبيا بلونه الأخضر هو أثر من تاريخ الدولة الفاطمية في شمال أفريقيا ، كما أنني سمعت أن قبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها معمر القذافي ترد في نسبها الى الإمام موسى الكاظم .
أخيرا نزلت القاهرة ، وقد وجدت المصريين يعلون من مقام أهل البيت كثيرا ويشهد على ذلك عنايتهم الفائقة بمسجد الإمام الحسين ومسجد السيدة زينب ، هذا بالإضافة الى مقام السيدة نفيسة الذي دلني عليه الرحالة السني ، أبن بطوطة ، وذلك حين زار قبرها قبلي بمئات السنين ، وهي زيارة من دون لطم صدور أو خمش خدود ، فابن بطوطة يرفض الخرافة في الدين ، فقد حرص هو على الصلاة في مسجد الأمام علي في البصرة حين نزل فيها في رحلته الشهيرة ، وحين ارتقى مع إمام المسجد ذاك الى سطحه ، قبض الإمام على خشبة تقع تحت منارة المسجد ثم قام بهزها قائلا : اهتزي بقوة الإمام علي ! فاهتزت المنارة ، فعمد ابن بطوطة الى الخشبة نفسها ثم هزها قائلا : اهتزي بقوة الخليفة عمر بن الخطاب فاهتزت المنارة كذلك ثم يضيف ابن بطوطة قوله : لقد أخذهم العجب مما فعلت .
وعلى أساس من ذلك ، وعن سابق تجربة أقول أن مكانة أهل البيت العرب محفوظة عند العرب وعند غيرهم ، وتاريخ أهل البيت هو من تاريخ العرب ومن تاريخ المسلمين وكذلك من تاريخ الأقوام التي استوطنت العراق قبلهم ، أما الدعوة التي يطلقها صفويو هذا الزمان بوجوب تقسيم تاريخ العراق هي دعوة تهدف الى عزل الشيعة العرب فيه وتحويلهم الى إيرانيين ناطقين بالعربية ، وهذا لن يتحقق أبدا ، مهما حاولت إيران وعملاؤها في العراق ذلك.

77
المنبر الحر / مات آشي !*
« في: 19:23 09/11/2008  »
مات آشي !*


سهر العامري

خرج سلام من داره في صباح مكفهر الوجه ، تغطي سماءه سحب رمادية اللون ، تجر بأذيالها على الأرض مع الذاهبين الى أعمالهم في الساعات الأول من ذلك الصباح المعتم ، وعلى عادته توجه الى مرأب سيارته المشاد من الخشب ، والواقف مع مرائب أخرى في صف مستقيم أمام العمارة التي يسكن فيها ، ولكنه بدلا من أن يدس مفتاح ذاك المرأب في المكان المعد له من الباب صاح بصوت مسموع :
- تهانينا !
كان جاره السويدي ، سفين ، يقف أمام باب مرأب سيارته الذي يقع في أول الصف ذاك ، ولكن من بدايته الأخرى ، وكان سلام يهدف من إطلاق كلمة : تهانينا تلك الى استفزاز جاره ، سفين ، الأبيض ، وذلك بمناسبة انتخاب الرئيس الأمريكي الأسود ، أوباما ، ولهذا كان ينتظر منه ردا ، أو استفسارا عن مغزى الكلمة تلك ، ولكن جاره لم ينبس ببنت شفة أبدا ، وبدلا من ذلك تقدم نحو سلام بخطى مثقلة ، وبرأس مطأطأ نحو الأرض ، وبوجه يسيل منه حزن قاتل .
- مات آشي !
- متى ؟
- أمس ِ في المستشفى في مدينة هالمستاد .
- لماذا لم تدخله في مستشفى مدينتا ، فهو قريب عليك ، وأنت تعلم أن مدينة هالمستاد تبعد عنا مسافة ليست بالقصيرة ؟
- المستشفى هناك مستشفى تخصصي ، وهذا هو السبب الذي جعلني أن أحمله الى تلك المدينة البعيدة بعد أن أكل الطريق ثلاث ساعات من وقتي .
- كم عمره ؟
- ثماني سنوات .
كان سلام قد سمع كلمة الثماني على أنها ثمانون سنة ، فلا فرق كثيرا في تلفظ كلمة ثماني باللغة السويدية وكلمة الثمانين ،  خاصة وأن سفين قد نطقها بصوت تخنقه العبرات ، ويعتصره ألم ممض ، ومع ذلك فقد وجد أن آشي قد مات بعد عمر مديد طويل ، ولا بد أن السرطان كان سبب موته ذاك .
- مات بالسرطان ؟
- نعم . بالسرطان ! قال سفين ذلك ، وهو يهز رأسه تعبيرا عن أسف يجتاح كيانه كله ، ولا يستطيع معه منع دموعه التي سالت على خديه ، وانحدر فيض منها على ملابسه ، وهذا ما حمله على إخراج منديله ليزيح بقاياها عن وجهه .
- لماذا أنت حزين الى هذا الحد ؟ تساءل سلام وأضاف : كلنا نموت ! كل شيء ظهر من هذه الأرض سيعود الى هذه الأرض . قال ذلك وهو يشير بيده الى مسافة الأرض التي تفصل بينهما ، وهما يتحادثان وقوفا.
- نعم . لقد أكل السرطان كبده ، ثم انتشر في أنحاء جسده الأخرى ، ولهذا قال لي الطيب المختص لا شفاء يرجى من وراء حالته المميتة تلك .
- لكنه كبير السن ، وبلغ من العمر ثمانين سنة ، فماذا ينتظر الطبيب منه بعد هذا العمر ؟
- لا . أنا لم أقل ثمانين عفوا ، قلت : ثماني سنوات فقط !
أخذ سلام العجب ، فهو لم يعرف ولدا صغيرا لجاره سفين بعمر ثماني سنوات ، كل ما يعرفه عنه أن له ولدين متزوجين ولديه أحفاد من كل واحد منهم ، وهما يسكنان في مدينتين أخريين من مدن السويد ، فهل كان آشي واحدا من هؤلاء الأحفاد ؟ تساءل سلام مع نفسه ، ثم عاد من جديد ليتساءل ثانية : هل مات آشي بالسرطان ، مثلما يدعي سفين ، مع أن مرض السرطان قليلا ما يصيب الصغار في السن ؟ لكنه بعد  ذلك أراد أن يقف على ما ينوي سفين فعله بعد هذه الفجيعة التي حلت به ، وهو الرجل الذي ما كان ليحدثه هذا الحديث الطويل لولا تلك الفجيعة التي نزلت به ، فقد اعتاد هو أن يبادل سلام التحية من بعيد ، وهو ذاهب الى داره ، وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الى سلام حديثا استغرق وقتا طويلا بعد مرور أكثر من سبع عشرة سنة متواصلة من الجيرة .
- أين ستدفنه ؟
- يعز علي دفنه ، فقد كان يملأ الشقة حركة ، وها أنا الآن عدت أراها فارغة تماما ، رغم أن كل مكان منها لا زالت يذكرني به ، فقد كان يخرج من غرفة فيها ليدخل غيرها من الغرف ، ثم يعود ليطوف حولي كثيرا ، ويجلس بالقرب مني أحيانا ، وطالما تناول قطع من الأكل معي ، وحين نفرغ منه يرمي عينيه الجميلتين على وجهي بنظرة طويلة ، وفي إشارة منه يدعوني بها الى الخروج من الشقة ، والقيام بطوافنا المعتاد حول البحيرة ، وبين أشجار الغابة القريبة من دارنا .
- وا حسرتي عليها ! لقد مرت كل تلك الساعات سريعا ، وها هي قد عادت ذكريات تعصر القلب مني ، وتجعلني أغرق في بحار عميقة من الحزن ، تتقاذفني فيها أمواج نيران الحسرات المتصلة ، وتيارات الألم المستمر ، ومن دون أدنى شعور مني صرت أردد مع نفسي : أين أصبحت - يا آشي - مني ! ؟ عدت بعدك غريبا ، لم أجد غيرك رفيق نزهة تأخذنا الى شفق أحمر من شمس يتراءى فوق خط الأفق البعيد ، ونحن نحث الخطى حول البحيرة حين يملأها الماء صيفا ، أو حين تعود ثلجا شتاءً ، وساعتها كنا نعبر على ظهرها دونما خوف ووجل ، مختصرين طريق العودة الى البيت .
- تماسك أيها الرجل ! لقد مات لك واحد بينما يموت لنا المئات كل يوم ، هناك في طرقات مدن العراق ، وفي عمليات قتل أعمى تحصد الأرواح في كل دقيقة تمر ، حتى صارت الناس في بلدي تسمي ساعات الزمن بأسماء من قتلوا فيها ظلما وعدوانا في حرب ليست لها نهاية على ما يبدو .
- نعم . لقد رأيت تلك المجاز الفظيعة ، شاهدت كيف ترمى جثث القتلى عندكم في الطرقات وبوحشية قل نظيرها في التاريخ ، والمحزن بعد ذلك هو أنني أرى صبية يرقصون حول تلك الجثث ببنادقهم ، إنه أمر مخيف في أن يتسافل الأنسان الى هذه الدرجة من الانحطاط في الأخلاق والتصرف.
- ليس هذا فقط - يا سفين - ! ربما رأيت كيف يقتل الجوع عندنا الناس ، ربما رأيتهم يطوفون على أماكن النفايات ، يفتشون فيها عن كسرة خبز ، هذا في وقت لا يخلو سوق عندكم من رفوف تحمل على متونها ما لذ وطاب من طعام خصص لكلابكم وقططكم !
- أمر يبعث على الأسف والحزن . قال سفين ذلك ثم خطرت في عقله صورة آشي من جديد !
- لكنك لم تقل لي ما أنت فاعل بآشي !
- ربما لا تعلم أنت بوجود مقبرة في كل مدينة في السويد مخصصة لدفن الحيوانات التي تعيش معنا في البيوت ، تحاط بالرعاية الدائم ، وتزهو بالشجر والورود ، ولكن دفن آشي في تلك المقبرة ، وبعيدا عني يحز في نفسي ، فأنا لا استطيع فراقه حتى بعد موته ، فقد كان كلبا ودودا ، محبا لي ، ومطيعا في الوقت نفسه !
- هل تريد حرقه على طريقة أجدادكم القراصنة ، أو على عادة البوذيين من الهنود ؟
- نعم . هذا ما سأقوم به ، وقد دفعت لعملية الحرق هذه ألفين من الكرونات ، مثلما دفعت ألفا ثالثة للعلبة التي ستواري بقاياه فيها ، وبعد ذلك ستحمل لي تلك العلبة الزجاجية لأضعها في مكان ما من شقتي ، مكان يسمح لي بمشاهدة بقايا آشي كل ساعة وكل يوم ، فثق أنني حزين عليه غاية الحزن ، رغم أنني اشتريت كلبا بعمر شهرين من شركة تبيع كلابا من ذات فصيلة آشي ، ومن مدينة لوند الجنوبية ، وقد دفعت ثمانية آلاف كرونة ثمنا له ، كما أنني وقعت عقدا مع صاحب الشركة قدم لي فيه ضمانا بسلامته وصحته لمدة سنتين كاملتين . هذا بالإضافة الى ما قدم لي من شهادات تطعيم صادرة من المراكز الصحية المختصة !
عند ذاك الحد من الحديث ودع سلام جاره السويدي ، سفين ، بحرارة ، داعيا له بالصبر والسلوان الجميلين ، ولكنه كان يردد مع نفسه : من للبشر هناك !؟ من للبشر هناك !؟
= = = = = = = = = = = =
* قصة قصيرة


78
السود سيسودون في العالم !    
                       

  سهر العامري

تلك هي نبوءة العقيد معمر القذافي : السود سيسودون في العالم ! هل كان العقيد القذافي يعتقد أنه في اليوم الخامس من شهر تشرين الثاني / نوفمبر سيدخل رئيس أسود الى البيت الأبيض في أكبر دولة في العالم ، أم كان يعتقد أن الأفارقة السود الذين ظلوا مضطهدين على امتداد العصور سيكون لهم شأن بعد أن يكونوا هم قد تخلصوا من الاستعمار الحديث الذي لا زال ينهب بخيراتهم ؟
لقد شكل انتصار باراك أوباما أكبر هزيمة في التاريخ للبيض العنصريين رافعي شعار الميز العنصري السيء الصيت ، سواء أكانوا هؤلاء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في أوربا ، كما شكل هزيمة كبرى لقوى اليمين الجديد الذي صعد الى الحكم في أمريكا بقيادة جورج بوش الإبن كذلك ، وقد تجسدت هذه الهزيمة النكراء من خلال النسبة العالية من الأصوات التي حصل عليها المرشح الأسود عن الحزب الديمقراطي ، باراك أوباما ، بعد أن حاز على 349 صوتا مقابل 162 صوتا لجون مكين ، وهي نسبة ما كانت متوقعة أبدا من قبل أولئك الذين ظلوا يراقبون سير الحملة الانتخابية الأمريكية عن كثب ، أو أولئك الذين حرصوا على متابعة ما كانت تعلنه مصادر استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية ، تلك المصادر التي حصرت الفارق بنسبة قليلة بين المرشحين .
ورب سائل يسأل : لماذا كان الفارق كبيرا والى حد وصل فيه هذا الفارق الى الضعف في تلك النسبة مثلما تشير الى ذلك لغة الأرقام ؟ ثم لماذا هذا الإقبال الكبير على مراكز الاقتراع من قبل الشعب الأمريكي الذي اصطف في طوابير طويلة ، ولساعات عديدة ؟
قد يقول قائل : إن السبب في ذلك هو السياسة الاقتصادية التي اتبعها فريق الرئيس المنصرف جورج بوش في منح السوق الرأسمالية الأمريكية حرية دونما حدود أدت في نهاية المطاف الى كارثة مالية لا زالت تطوق العالم بأسره في حدة روعها ، ونتائجها المدمرة ، وقد يضيف هذا القائل الى ذلك الحروب الغير المبررة التي شنت في أكثر من مكان بالعالم باسم الحرب على الإرهاب كتلك الحرب التي شنت على العراق وقبلها على أفغانستان ، وهما حربا قد أثقلا كاهل الخزينة الأمريكية بتواصل سيستمر الى ما بعد الساعة التي سيودع فيها جورج بوش عتبات البيت الأبيض ، ولكنه وداع من دون ذاك النصر الذي طالما وعد الرئيس بوش الناس في أمريكا بتحقيقه .
وربما يضيف القائل الى ذلك أن الأزمة المالية والحروب التي شنت باسم الحرب على الإرهاب أديا الى ضعف القدر الشرائية لدى الكثير من المواطنين الأمريكان مما دفع بهم الى أن يصوتوا لصالح مرشح هو باراك أوباما الذي وعدهم بالتغيير نحو الأفضل ، ثم يضيف هذا القائل صور نعوش جنود الأمريكان التي كانت تأتي الى المدن الأمريكية من ساحات القتال في العراق وفي أفغانستان ، والتي تسببت بمعارضة الكثير من الأمريكيين لسياسة اليمين الجديد الحاكم بقيادة جورج بوش الذي ظل يبحث عن نصر في حروبه تلك دون أن يعثر عليه ، حتى أن السيدة كوندليزا رايس ما عادت تتذكر مصطلح : الشرق الأوسط الجديد الذي تغنت به كثيرا مثلما تغنت به وسائل الإعلام الأمريكية بعدها ، وذلك قبيل وفي غضون الحرب التي شنت على العراق ، البلد الذي أفقرته تلك الحرب ، وصار الناس فيه يموتون بالآلاف في مجزرة مستمرة تأبى الوحوش أن ترتكب مثلها ، مثلما صار الكثيرون في العراق ذاك يعيشون تحت خط الفقر ، ومع ذلك فهم على موعد مع (الإجراءات المؤلمة) التي بشر بها وزير المالية ، صولاغ ، من العاصمة الأردنية بعد أن تلقى درسا جديدا من ممثلي صندوق النقد الدولي الأمريكي .

أقول : كل تلك الأسباب التي استعرضتها من قبل فيها الكثير من الصحة ، ولكن هناك أسباب أهم منها تجلت بوضوح خلال الحملة الانتخابية الأمريكية التي خاضها باراك أوباما الديمقراطي الى جانب جون مكين الجمهوري ، والأسباب الأهم هذه تتجسد بنمو الطبقة الوسطى في المجتمع الأمريكي في السنوات الأخيرة ، وهي الطبقة التي تضررت كثيرا من جراء سياسة السوق الرأسمالية العبثية التي توجت بالأزمة المالية الرأسمالية التي ما زالت قائمة الى الساعة التي تكتب بها هذه الحروف ، وهذا ما دفع أغلب الناس في تلك الطبقة الى أن يضموا أصواتهم الى أبناء الطبقة المعدمة والفقيرة ، وهي طبقة يتوقع لأبنائها المنحدرين من أصول غير بيضاء أن يشكلوا الأغلبية في المجتمع الأمريكي في حدود سنة 2042 م ، بينما سيعود البيض ،الذي يشكلون الأغلبية في الوقت الحاضر، الى أقلية في حدود ذلك التاريخ ، ولهذا السبب نجد أن مرشح الرئاسة الأمريكية باراك أوباما قد قام بمغازلة الطبقتين المذكورتين أثناء حملته الانتخابية واعدا إياهما بتحسين أحوالهم المعيشية ، ومتحدثا لهم عن الضمانات الاجتماعية والصحية التي ينوي توفيرها لهم.


وعلى أساس من ذلك فإن باراك أوباما قد حصد أصوات أكبر طبقتين متضررتين من سياسات الجمهوريين في المجتمع الأمريكي ، وهذا هو السبب الرئيس الذي جعله أن يحوز على هذا الفارق الكبير في الأصوات مع خصمه جون مكين الجمهوري ، وهو السبب ذاته الذي دفع بتلك الأعداد الكبيرة من الأمريكيين الى مراكز الاقتراع على امتداد الخارطة الأمريكية .
وعلى الرغم من أن الحزبين : الحزب الجمهوري الأمريكي ، والحزب الديمقراطي الأمريكي هما حزبان قد ولدا من رحم الطبقة الرأسمالية التي عاشا ولا يزالان في كنفها طويلا ، لكن الحزب الديمقراطي الأمريكي أميل الى المهادنة الطبقية ، وربما يقترب في وعوده للناخبين بالضمانات الاجتماعية الى أحزاب ما يعرف بالاشتراكية الديمقراطية في أوربا ، وهذا هو مبعث سرور بعض من تلك الأحزاب في فوز باراك أوباما ، كما أن المهادنة الطبقية تلك هي التي حدت بخصمه ، جون مكين ، الى إطلاق صفة الاشتراكي عليه ، جون مكين هذا الذي يعد الابن المخلص للطبقة الرأسمالية الأمريكية التي لاحت طلائع الشيب في رأسها .


79
المنبر الحر / ورطة يا صولاغ !
« في: 18:16 22/10/2008  »
ورطة يا صولاغ ! 
                                 

سهر العامري

حال عودته من الولايات المتحدة الأمريكية استقبل صولاغ ياسر رفسنجاني ، شريك عدي صدام في بيع النفط العراقي المهرب زمن الحصار الذي فرض على العراق ، وهو كذلك ابن تاجر الفستق الإيراني ، هاشمي رفسنجاني ، رئيس مصلحة تشخيص النظام في إيران ، وقد حرص صولاغ في هذا اللقاء أن يستعرض إنجازاته في وزارة المالية في العراق ، تلك الوزارة التي آل مصيرها إليه وفق مبدأ المحاصصة الطائفية ، وليس لمؤهل علمي يحمله هو ، لا في المال وأعماله ، ولا في الاقتصاد وعلمه ، فظاهرة وضع الشخص الغير مناسب في المكان الغير مناسب عرفها العراق بشكل لافت للنظر غب الاحتلال الأمريكي له ، وهي ظاهرة كلفت العراق وشعبه غاليا ، وهدرت ثروات ضخمة نتيجة لسوء تصرف المسؤول في دائرته ، فكيف ستكون عليه حال وزارة مثل وزارة المالية بعد أن صار لها وزير كان لسنوات قريبة يبيع جوازات سفر مزورة ؟ كيف يكون حالها بعد أن أصبح ذاك المزور يتلاعب بمقدرات مالية دولة عظيمة بثروتها ، وهو يجهل مبادئ العمل الأولية في وزارة مثل تلك الوزارة المهمة ؟ ولكنه بدلا من أن يعترف بعجزه ، ويترك مسؤولية تلك الوزارة لمن هو قدير بإدارتها ، راح يلوذ بالكذب المتواصل من خلال وكالة أنباء خاصة به أطلق عليه اسم " المكتب الإعلامي " وذلك بعد أن تيقن أن العراقيين صاروا لا يثقون به أبدا منذ كذبته الكبيرة، تلك الكذبة التي سمها العراقيون بكذبة صولاغ حتى صارت بينهم مضربا للأمثال ، أ فليس هو صولاغ من بنى لهم ناطحات سحاب في معسكري التاجي والرشيد حين كان وزيرا للاعمار والإسكان وقبل أن يصبح وزيرا للداخلية التي صار شعار شرطتها في حينه " الدريل " أي المثقب الكهربائي الذي لعب بأجساد العراقيين الأبرياء ، هؤلاء الذين يطالب ذويهم للان بدمائهم التي أهرقها صولاغ وشرطته مثلما أهرقها صدام من قبل . يضاف الى ذلك أموال العراقيين الكثيرة التي أهدرها صولاغ على تدريب عناصر من شرطة لا تتمتع بحس وطني ، كان هدفها الانتقام من دون مبرر لهذا الانتقام ، وهذا ما حدا بالأمريكان الذين جاءوا به الى الوزارة الى طرد آلآف من عناصر الشرطة الذين عينهم صولاغ من قبل ، وتحت إشراف ضباط إيرانيين اتخذوا من الطابق الرابع في وزارة الداخلية مقرا لهم .
ومع ذلك ظل هذا الرجل على كذبه مستخفا بعقول الناس في العراق ، ففي لقائه مع ياسر رفسنجاني ، ابن وطنه ، إيران ، راح يستعرض عبقريته الفذة ، وعمله الدؤوب في خفض التضخم المالي في العراق الى 14% بعد أن كانت 66% عام 2005 ، أي العام الذي تولى هو مسؤولية وزارة المالية فيه ، وهذا يجافي الحقيقة المرة التي اعترف بها صولاغ نفسه ، والتي تقول إن صندوق النقد الدولي ( الأمريكي ) هو الذي عمل على تخفيض نسبة التضخم في العراق عن طريق فرض سياسة سعرية ارتفعت معها الأسعار بشكل جنوني وعلى مختلف مناحي الحياة الاقتصادية ، وفي القطاعات الثلاثة : الحكومي ، والخاص ، والمختلط ، ولم تبق سلعة معينة من السلع إلا وقد أصابها مس من جنون الارتفاع ذاك ، فمثلا صار سعر كيلوغرام العدس  3500 دينار عراقي بعد أن كان لا يتجاوز الألف دينار ، وهذا ما جعل الكثير من الأسر العراقية تبحث عن غذاء لها ولأطفالها في أماكن طرح النفايات على مشارف المدن .
ذاك سبب أما السبب الثاني فهو أن العراق قد ألقى نسبة كبيرة من الديون التي أثقله بها النظام البائد كاهله ، فدول ما يعرف بنادي باريس شطبت من ديون العراق ما نسبته 90% من تلك الديون ، وباتفاق بينها وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تقف في طليعة تلك الدول ، وذلك لأنها تعتبر نفسها اليوم هي راعية للاقتصاد العراقي ، ولهدف قريب بعيد يتعلق بكنوز النفط والغاز الذي تضمهما أرض العراق بين أحشائها .
ولكي أبرهن على هذه الحقيقة ، تعالوا نقرأ ما قاله التلميذ صولاغ الذي تلقى في الأيام الفائت دروسا في المال وعلمه من أفواه رجال صندوق النقد الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال مقابلة أجرتها معه قناة الحرة الأمريكية ، ونقلتها وكالة أنباء صولاغ نفسها . يقول هو : ( حضرنا في الاجتماع بحضور رئيس صندوق النقد الدولي ونائبيه ومستشارينا وطرحوا اعتراضاتهم حول موازنة 2009 وفي مقدمتها الاعتراض عن زيادة الرواتب ورواتب التصنيع العسكري واعترضوا على البطاقة التموينية التي خصصنا لها (5) مليار دولار وعلى كل الزيادات التي حصلت على الميزانية التشغيلية وطالبوا من الحكومة العراقية إعادة النظر في الموازنة ونحن في حال لم نستجب لهذه المطالب سوف لن يطفئوا الديون المترتبة على العراق في نادي باريس البالغة (30) مليار دولار لا يوجد احد يتحمل عدم إطفاء هذه الديون . )
هذا هو الدرس الأول الذي يجب على صولاغ أن يتعلمه ، والذي يكشف أن من يسير السياسة المالية في العراق اليوم ، هو صندوق النقد الدولي ( ألأمريكي ) ، وليس أنت يا صولاغ ! يا مسكين ! فمع من ورطت أنت وغيرك ؟ هؤلاء دهاقنة رأس المال ، لا يمكن للحيل الإيرانية المتسلح بها أنت أن تنطلي عليهم ، فها هم يريدون منك الآتي ، وأنا هنا أعيد عليك الدرس فيبدو أنك نسيته ، معتبرا سفرك الى أمريكا نزهة سياحية في الوقت الذي تفتك فيه الكوليرا ، وأمراض أخرى بالعراقيين رجالا ونساء ، شيوخا وأطفالا .
الذي يريدونه منك يا صولاغ هو :
* عدم زيادة رواتب العمال والموظفين ( وقد نفذت أنت هذا الأمر صاغرا ، بعد أن سحبت أنت كل الزيادات التي طرأت على رواتبهم ومن دون موافقة مجلس الوزراء ، والناطق الرسمي باسم الحكومة ! وكذلك من دون موافقة أعضاء البرلمان الذي سبق لهم وللمجلس ذاك الموافقة على تلك الزيادات. )
* إلغاء البطاقة التموينية ( وها انتم باشرتم بهذا الإلغاء ، ولكن بشكل تدريجي ، فأغلب الأسر العراقية ، التي كانت تعيش على هذه البطاقة ، عادت تشتكي اليوم من نقص واضح في مفردات تلك البطاقة. )
* إلغاء كل الزيادات في الميزانية التشغيلية ،( ليس هذا فقط فقد طلبوا إيقاف التوظيف في جميع مرافق الدولة ، وقد قمتم أنتم بتنفيذ ذلك.)
* وضع ميزانية تتفق مع السياسات المالية لصندوق النقدي الدولي ، وليس لميزانيات تلهث وراء سعر النفط مثلما يقول صولاغ ذلك بعظمة لسانه : ( اعددنا ثلاث موازنات الأولى قدمناها وكان سعر النفط 147 دولار وسحبنا الموازنة واعددنا موازنة عندما أصبح النفط 120 دولار وقدمناها ثم أصبح النفط 80 دولار وعند اعتراض صندوق النقد على الرواتب سوف نضطر إلى عمل موازنة رابعة ونتمنى من وزارة النفط أن تزيد من صادراتها . )  

ولكن سعر النفط ساعة كتابة هذه الحروف صار 68 دولار ،فماذا يعمل صولاغ الورطان؟ فهل يستطيع وزير النفط ، حسين الشهرستاني ابن إيران هو الآخر أن ينقذ صولاغ بزيادة كمية تصدير النفط عن طريق شبكة أنابيب على وشك الانهيار التام ، وعلى ذمة الأمريكان ، أسياد صولاغ الجدد ، ولكنه بعد تلك الإجابة عاد وتذكر إجابة أخرى حين وجهت له تلك القناة ذاك السؤال ، ولكن وكالة أنباء صولاغ ( المكتب الإعلامي ) أعادة صياغته بعبارة غير سليمة على عادته ، يقول السؤال : ما الحل لمكافحة التضخم من جراء زيادة الرواتب ؟
يجب صولاغ وبلغة السحرة الكذابين فيقول : ( الحل إذا كانت آليات أخرى تعمل في الدولة مثل جمعيات خيرية وهناك جمعيات في الكويت المواطنين أسسوها وتقوم هذه الجمعيات بالبيع للموظفين وبأرباح بسيطة وتكون جمعيات لمختلف الشرائح للشرطة والمتقاعدين فيجب أن يقوم القطاع الخاص بذلك .)
معنى كلام صولاغ هذا هو أن تؤسس جمعيات خيرية تتصدق على العاملين الفقراء في الدولة العراقية ، بدلا من أن تزيد وزارة المالية في رواتبهم ، فالعراق محكوم بسياسات صندوق النقدي الدولي ، وليس بسياسة وزير مالية اسمه صولاغ ، فماذا يعمل ساحر مثله بطل سحره ، وقلة حيلته الإيرانية أمام سحرة المال والثروة في أمريكا ، الذين هم أطول باعا في معرفة نهب ثروة الشعوب ، وسلب خيراتها ؟
ولماذا لا تقام مثل هذه الجمعيات في العراق ؟ يتساءل صولاغ ! فالعراق ليس أفضل من الكويت التي قامت بها جمعيات خيرية تعد قدوة يُقتدى بها بهدف تخليص صولاغ من ورطة وضع نفسه فيها ، وعلى هدي من اشتراكية بركلي البائسة : الأغنياء يعتنون بالفقراء ، تلك الفلسفة التي ما رأت النور يوما ، لأنه لا يمكن لغني أن يتنازل عن سرقة الفقراء من أبناء جلدته أبدا ، وإذا كان صولاغ لا يصدق ما أقول ، فهذا الإمام علي عليه السلام يقول: ( ما وجدتُ نعمة موفورة إلا وبجنبها حق مضيع ! ) فهل أن صولاغ قد سمع بقول الأمام ذاك أم أنه لم يسمع ؟
لقد فضل صولاغ في المقابلة التلفزيونية تلك السوق الحرة على اعتبار أنه عمل مع أبيه في بيع البهارات في سوق الشورجة من بغداد ، وهذا هو مؤهله الوحيد الذي يتباهى به في عالم الاقتصاد ، ولكنه عاد الى تفضيل نموذج السوق الصينية على نموذج السوق الروسية في إجابة على سؤال آخر ، وهنا يظهر أن صولاغ يجهل التوجه الذي تسير عليه السوق الصينية ،فهو يعشق السوق الحرة بنت النظام الرأسمالي ، ولكنه في الوقت نفسه يفضل نموذج السوق الصيني الاشتراكي الذي بفضله صعدت الصين الى الفضاء وفي غضون فترة زمنية قصيرة تخطت الخمسين سنة ، وذلك بعد أن اكتشف ماو أن أنظف الثياب هي ثياب الفلاحين في انسلاخه الطبقي إبان الكفاح المسلح ، ولكي يعرف صولاغ كنه السوق الصينية الاشتراكية الحالية أقول : ظلت الصين منذ نجاح الثوار الشيوعيين في الوصول الى السلطة عام 1949م تتبع نظام الاقتصاد المخطط ، والتخطيط هو صفة من صفات النظام الاشتراكي شأنه في ذلك شأن التأميم الذي تقوم بها دولة ما ، ولكن في نهاية السبعينيات نفذت الصين نظام المقاولة العائلية في الريف منها ، وفي سنة 1984 انتقل هذا الإصلاح الى المدن ، وفي سنة 1992 قررت الصين إقامة نظام اقتصاد السوق الاشتراكي ، وفي أكتوبر عام 2003 أكدت الصين بشكل واضح أهداف تحسين نظام اقتصاد السوق الاشتراكي ومهماته ، وهي تعمل الآن على إقامة السوق الاشتراكية المتكاملة نسبيا حتى سنة 2010 ، ثم يتوقع لهذه السوق أن تكون ناضجة وممتازة سنة 2010 وهي السنة التي ستكون فيها الصين الدولة الرائدة في العالم ، وهذا ما يتوقعه منظرو النظام الرأسمالي في الغرب ، وهو ما صرح به علنا توني بلير ، رئيس الوزراء البريطاني ، في زيارته الأخيرة الى القاهرة .
في تلك المقابلة التلفزيونية لم يستطع صولاغ أن يكذب مثلما اعتاد على ذلك حينما كان يجلس في إحدى الحسينيات ، ويلقي الكلام على عواهنه ، وفي مسامع أناس لم يحالفهم حظ كبير من التعليم ، ولكنه اليوم يقول الحقيقة مرغما ، ها كم إقرؤوا كيف يعترف صولاغ أن صندوق النقد الدولي أو قل الأمريكي هو من يرسم السياسة الاقتصادية في العراق : ( اليوم أنا أمام رئيس صندوق النقد الدولي اعترضت على شرط زيادة نسب الفائدة رغم إنها من سياسة صندوق النقد الدولي وقد طالبوا من البنك المركزي بإصدار تعليمات وهذا ليس له علاقة بوزارة المالية وقد أتوا إلي تجار وطلبوا مني أن اخفض لهم الفوائد وقلت لهم أن وزارة المالية ليس له علاقة بالسياسة المصرفية وأنا اليوم تحدثت بدل محافظ البنك المركزي وقلت لهم أن الفوائد مرتفعة وهذا يمنع الاستثمار في العراق ووعدني رئيس صندوق النقد الدولي سوف يعطي توجيهات إلى الخبراء وسوف نلتقي في عمان . )
أنتم - يا صولاغ - كأنكم ما سمعتم قول الإمام علي عليه السلام : ( ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا !) صار المهم لديكم – يا صولاغ – أن يشتري أحدكم قصرا في لندن ، وعمارات في السيدة زينب من دمشق ، وبيوتا ضخمة في أوتاوا من كندا ، ومشاريع اقتصادية في دبي وطهران ، ووظائف في السلك الدبلوماسي للأبناء والأحفاد والزوجات ، فهذه هي السوق الحرة التي تعرفها أنت ومن على شاكلتك ، أما شيعة آل البيت ! فالمطلوب لهم ومنهم أن يلطموا الصدور ، وأن يسفحوا الدموع في مواسم الردح التي تضحكون فيها على ذقونهم .




80
الدولة في خدمة الطبقة الرأسمالية
                               

                                                                                                     سهر العامري

بعد عبث عتاة الرأسماليين الجدد بأموال الناس ، ليس في الولايات المتحدة وحدها ، وإنما في أصقاع كثيرة من العالم ، حيث امتد اخطبوط العولمة في أسواق كثيرة من العالم ذاك ، وتحت رعاية مباشرة من اليمين الجديد الممسك بزمام السلطة في واشنطن ، بعد العبث هذا أصيبت تلك الأسواق بخسائر مالية جسيمة تخطت مئات المليارات من الدولارات ، تهاوى على إثرها مؤشر أسعار ألأسهم في أكثر من بورصة ، وفي أكثر من دولة ، ولا فرق في هذا بين غني تلك الدول ، وفقيرها .
لقد وقف الاقتصاد العالمي كله على حافة هوة سحيقة من انهيار تام خلال أيام من تصاعد وتائر الأزمة الرأسمالية العميقة التي شهدها العالم في مغرب الدنيا وفي مشرقها ، وصار أولي ألأمر يبحثون عن علاج مسكن يهدئ من الروع الذي أصاب الناس في أكثر من مكان ، خاصة أولئك الذين استثمروا ودائعهم في هذا المصرف أو ذاك من المصارف ، ومع هذه الفاجعة لم يتعرض رؤساء الدول الرأسمالية  الذين عقدوا الاجتماعات الكثيرة ، وأطلقوا التصريحات المطمئنة للمسبب الرئيس لهذه الجريمة البشعة على وجه التحديد ، أو للعقوبة التي تنتظر عتاة رأس المال في الولايات المتحدة الأمريكية ، باستثناء ذاك التصريح البائس الذي جاء على لسان الرئيس الأمريكي ، جورج بوش ، والذي هدد به بعضا من المضاربين ، دون وعد بمحاسبتهم ، وما عدا ذلك فقد هب رؤساء الدول في أمريكا وفي أوربا لنجدة الطبقة الرأسمالية التي طوقتها أزمة عميقة من أزماتها المستديمة والمتكررة أبدا ، والسبب في ذلك أن السلطة في هذه الدول هي بيد ممثلي تلك الطبقة ، هؤلاء الذين هم على استعداد تام على جعل الدولة بما فيها خادما مطيعا بإخلاص للرأسماليين العتاة أولئك .
لقد تجسدت فكرة ماركس في كون أن الدولة أو السلطة السياسية هي ( الإفصاح الرسمي عن تضاد الطبقات في قلب المجتمع البرجوازي ) أو أنها ( لجنة تنفيذية ) بيد الطبقة الرأسمالية الحاكمة خلال هذه الأزمة الرأسمالية بوضوح ، وليس ذاك فقط ، وإنما هي اللجنة التنفيذية التي تهب للدفاع عن الرأسماليين في حالة تعرضهم لأية خسائر مالية مثلما هي الحال في الأزمة المالية التي تمر بها الطبقة الرأسمالية الآن ، وذلك حين نهضت أكثر من دولة لضخ مليارات الدولارات في حسابات البنوك المفلسة ، والمعروف أن هذه الأموال هي أموال عامة الناس ممن يسمونهم في الدولة الرأسمالية بدافعي الضرائب ، والغريب في الأمر أن الرأسماليين العتاة هؤلاء غير راضين عن هذه الخدمة المجانية التي تقدمها لهم الدولة تلك جزاء لهم على جريمتهم التي شملت بحريقها أكثر من صقع من الكرة الأرضية . ها كم أقرؤوا هذا الخبر :
(سيعلن الرئيس بوش عن تفاصيل الخطة اليوم الثلاثاء بعد أن فشلت خطته السابقة في إعادة الثقة الى الأسواق.
ويعتقد أن وزارة الخزانة " المالية " الأمريكية ستشتري أسهما في أكبر 9 بنوك أمريكية بقيمة 250 مليار دولار، في خطوة مشابهة لما قامت به بعض الدول الأوروبية. وتفيد تقارير ان البنوك لم تكن متحمسة للخطة وأن ضغوطا مورست عليها للقبول. )
ويضيف الخبر كذلك قول الرئيس الأمريكي جورج بوش أمام رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني ، أنه أي الرئيس بوش ( يرتب اجتماعا لقادة الدول الثماني الكبرى خلال الأسابيع القادمة لمناقشة الأزمة المالية العالمية. وامتدح بوش الخطوات الأخيرة التي كشفت عنها الدول الأوروبية لاحتواء أزمة الائتمان العالمية، كما امتدح الخطوات التي أعلنت خلال اجتماع وزراء مالية الدول الصناعية السبع الكبار الأسبوع الماضي. وقال بوش إن " الولايات المتحدة ستظل تعمل على تطبيق الاجراءات المالية التي تتفق مع خطة السبع الكبار وأهمها مساعدة المصارف على الحصول على رأس المال، وتقوية النظام المالي وتفعيل أسواق الائتمان وإعادة الثقة إلى نظامنا المالي." )
وعلى أساس من تصريح بوش ذاك فأن مهمة تلك الخطة في حقيقة الأمر هي (مساعدة المصارف على الحصول على رأس المال ) تلك المصارف التي تسببت بتلك الجريمة والتي تسعى الدولة بقمة هرمها ، الرئيس بوش ، على مساعدتها في جرم اقترفته بحق الملايين من بني البشر . أريتم كيف تكون الدولة عبارة عن ( لجنة تنفيذية ) بيد الطبقة الرأسمالية المتحكمة برقاب بني البشر في دولة صارت تبسط نفوذها بالمال على كثير من الدول ، وبالسلاح إن عجز المال عن تحقيق ذاك الهدف ؟
ولكي يعرف القارئ مقدار السرقة الجديدة التي قام بها العتاة هؤلاء وعن طريق نهب الدخل القومي لكل دولة من الدول التي يتواجد فيها هؤلاء أضع هذا الخبر نصب عينه ليرى بنفسه كيف تصبح السرقة شرعة ( اتخذت البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة خطوات منسقة فيما بينها لتزويد البنوك بقروض بغرض تأمين السيولة النقدية في النظام البنكي.
وشارك في هذه الخطوات الاحتياطي الاتحادي " البنك المركزي الأمريكي " والبنك المركزي البريطاني والبنك المركزي الأوروبي والبنك الوطني السويسري. وسيقدم البنك المركزي البريطاني مبلغ 30 مليار دولار إضافية على مدى أسبوع.
أما في اليابان فقد ضخ البنك المركزي مبلغ 1،5 تريليون ين في النظام البنكي، الا أنه عاد وسحب 300 مليار ين منه.
وقالت البنوك المركزية ان الهدف من عملية الضخ هذه مساعدة البنوك مع اقتراب نهاية الربع الثالث من السنة الأسبوع القادم. ولجأت البنوك الى البنوك المركزية للتمويل بسبب المصاعب التي واجهتها في محاولة الاستدانة من بعضها البعض.
وقد أدى انهيار بعض البنوك الى وضع العراقيل في سبيل الاستدانة بسبب الخوف من انهيارات بنكية جديدة. وستتمكن البنوك من استخدام رهوناتها العقارية كضمان للقروض. )
في نهاية الخبر يكتشف القارئ الكريم الكيفية المزيفة التي صارت بها هذه الجريمة الجديدة فعلا شرعيا قامت به الدولة ، العبد الذليل ، وخادم الرأسمالية الجديدة ، وذلك من خلال ضخ المليارات الضخمة من الدولارات في حسابات المصارف المفلسة ، ومقابل ماذا ؟ مقابل ضمان يتجسد برهوناتها العقارية التي هي في الأساس بيوت وعمارات شيدتها المصارف المفلسة بأموال مستدانة من البنوك المركزية ، والتي استردتها من مشتريها بعد أن عجزوا عن تسديد أثمانها نتيجة لضعف في دخولهم السنوية أو نتيجة لمرض البطالة المستشري الذي يلازم النظام الرأسمالية ما بقي النظام هذا . وعطفا على أولئك البشر الذين ينتظرهم سكن الشوارع بعد أن راحت المصارف المفلسة تلك بإجراءات استرداد البيوت منهم فقد أعلن مرشح الرئاسي الأمريكي الجديد عن الحزب الديمقراطي ، باراك أوبا ، أنه في حالة فوزه سيمهل أصحاب البيوت المستردة ثلاثة أشهر كي يتدبروا أمرهم فيها ، وهي - لعمري - منة ما بعدها منة كما تلاحظون ! فدليل القوم الجديد هذا حاله حال الغراب في بيت شاعرنا :
إذا كان الغرابُ دليلَ قوم ٍ.....يمرّ بهم على جيف الكلاب ِ




81
بعد حرب الطوائف حرب العشائر !
 

سهر العامري
منذ أيام خلت يستعر أوار حرب كلامية ما بين حزب الدعوة متمثلا بنوري المالكي ،وبين المجلس الأعلى بقيادة عبد العزيز الحكيم ، وكان سبب هذه الحرب هو السعي من أجل الاستحواذ على أصوات أفراد العشائر العراقية في انتخابات مجالس محافظات الوسط والجنوب القادمة ، خاصة وأن أغلب تلك المحافظات تخضع الآن لسيطرة المجلس الأعلى بعد أن استولى عليها في الانتخابات السابقة ، وذلك لجملة من الأسباب ، أهمها الدعم الذي قدمته له المخابرات الإيرانية على صور مختلفة ، فالمعروف أن عقل المجلس الأعلى ، الذي يرسم سياسته وتحركه في العراق ، موجود في طهران ، وعلى ضوء تلك الخطط التي ترسمها الدوائر الإيرانية للوضع الذي يجب أن يكون عليه العراق يتحرك المجلس ذاك من أعلى رأسه الى أخمص قدمه ، فبعد اللقاء الأخير الذي تم بين السفير الإيراني وبين رئيس المجلس الأعلى ، عبد العزيز الحكيم قام الأخير بلقاء الرئيس الجديد لحزب الفضيلة ، هاشم الهاشمي ، طالبا منه العودة الى الائتلاف الشيعي الموحد الذي خرجوا منه من قبل ، وعلى إثر هذا اللقاء أعلن حسن الشمري ، ممثل الحزب ذاك في البرلمان رفض العودة للتحالفات الطائفية محملا (غياب هوية العراق العربية الي التواطؤ الموجود بين الائتلاف والتحالف الكردستاني.) حقيقة الدعم الإيراني للمجلس الأعلى يدركها المالكي إدراكا جيدا منذ أن كان هو يعيش في إيران ، مثلما يدركها اليوم وهو يعيش ساعات تشرذم حزب الدعوة ، وانقسامه الى فرق وشيع ، وهذا ما دعا المالكي مستغلا  نفوذه على محكمة التمييز الاتحادية في وزارة العدل العراقية بإصدار قرار منها يتم بموجبه حرمان أية فرقة تحمل اسم الدعوة من المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات القادمة ، وبذا صار أنصار الدعوة ، أو كوادر الدعوة وغيرهما من الفرق التي انشقت عن حزب الدعوة خارج المعادلة الانتخابية ( قضت محكمة التمييز الاتحادية في وزارة العدل العراقية، امس، بشطب اسماء 4 كيانات سياسية مسجلة في المفوضية العليا للانتخابات على اثر دعوى اقامها حزب الدعوة الاسلامية ضد «منظمة انصار الدعوة» و«كوادر الدعوة» و«حزب الدعوة العراقي» المنشقة عن الحزب الذي يترأسه رئيس الوزراء نوري المالكي. ووصف مازن مكية الامين العام لمنظمة انصار الدعوة في العراق القرار القضائي بكونه «قرارا سياسيا وقع تحت تأثير السلطة»، مستهجنا الطريقة التي اتبعها حزب الدعوة الاسلامية، وقال «انه لدليل واضح على الفجوة البعيدة التي تفصل بين حزب الدعوة الاسلامية وقاعدة الجماهير عندما يحتمل الحزب التباس المسميات عليه؛ فالعلاقة الوثيقة لا تسمح بالاشتباه ولكن هذا المسعى يؤكد الغربة التي يعيشها الحزب مما دفعه الى هذه المخاوف ). وأضاف مكية في تصريح صحافي ( من الواضح جدا انعدام صفة التطابق بين الاسمين والذي تم على أساسه اتخاذ القرار. فهناك فرق جلي بين مسمى حزب الدعوة الاسلامية ومسمى منظمة انصار الدعوة في العراق، ناهيك من استثناء كيانات سياسية اخرى تحمل اسم الدعوة كحزب الدعوة الاسلامية تنظيم العراق وحركة الدعوة الاسلامية، مما يؤكد بشكل قاطع على ان القرار كان سياسيا صرفا وان القضاء العراقي كان تحت ضغط إرادة سياسية استقوت بالسلطة).
ويظل تيار الإصلاح الوطني ، الذي قام بتأسيسه إبراهيم الاشيقر ( الجعفري ) بعد انشقاقه من حزب الدعوة ، هو الفرقة الناجية من بين تلك الفرق التي انصب عليها عذاب المالكي " القانوني !" والسبب في ذلك أن هذه الفرقة لم تحمل في اسمها من اسم ذاك الحزب حرفا واحدا ، وليس هذا إدراكا من الجعفري لما سيقوم به المالكي من إجراءات ضد كل من يحاول حمل اسم الحزب ذاك ، وإنما لأن الجعفري أدرك أن الهوى في العراق صار يهب بما لا تشتهيه سفن الأحزاب الدينية ، أو على أقل تقدير أن الاشيقر أراد أن يجمع الدنيا والدين في آن واحد.
على العموم لم يبق مع المالكي من أعضاء البرلمان داخل كتلة الائتلاف الشيعي الموحد غير سبعة أعضاء ، وهذه النسبة ضئيلة لا تمكنه من العودة الى كرسي الحكم ثانية ، فالمجلس الأعلى ، الذي يشكل عمود الائتلاف ذاك ، لا يريد المالكي رئيسا للوزراء في انتخابات عامة قادمة ، مثلما لا يريد أن يفقد الحكم في المحافظات الوسطى والجنوبية التي يسيطر عليها الآن لصالح المالكي أو لغيره في انتخابات مجالس المحافظات التي تطل علينا برأسها ، وعلى ذلك حاول المالكي العودة الى حلفاء الأمس في التيار الصدري ، الذين طاردهم مسلحين ومدنيين ، ولأسباب عدة من بينها رغبة أمريكية صرفة في ذلك ، عارضا عليهم بعد تلك المطاردة جملة من المناصب التي رفضوها كلها ، مثلما رفضوا التحالف معه من جديد ، على الرغم من التعازي الحارة التي قدمها هو وحزبه للتيار الصدري بمناسبة استشهاد النائب صالح العقيلي ، وهو عزاء لم يخص به المالكي من قبل أحدا من العراقيين الذين سقطوا صرعى بعد احتلال العراق وعلى كثرتهم الكثيرة .
مع قلة الناصر هذه لم يبق أمام المالكي إلا العشائر العربية الشيعية التي يحاول هو هذه الأيام التفرد بتأيدها عن طريق تسخير إمكانات الدولة ، وليس إمكانات حزب الدعوة ، وذلك من خلال عقد مؤتمر لهذه العشيرة أو تلك ، أو لهذه الشريحة الاجتماعية ولغيرها ، وصار هو الوجه الأول في تلك المؤتمرات التي راح يلقي فيها خطابات مطولة تذكرنا بخطابات صدام من قبل ، فهو رجل عشائري من الطراز الأول مع العشائر ، وهو مهندس مع المهندسين ، وهو أستاذ مع أساتذة الجامعات ، وهو عسكري مع العسكر ، فصدام والمالكي (والشهادة لله) يتشابهان في حال مثل هذا الحال ، حتى صارا مثلما يقول أخواننا المصريون : ( ابتاع كله ) في كاتبي : عرب الأهوار كتبت : (  غالبا ما يكون رئيس العشيرة هذه قد اكتسب لقبه هذا من مزايا حميدة رأتها العشيرة فيه ومن هذه المزايا رجاحة العقل والشجاعة والكرم ) ثم أضفت ( خرج صدام العربي..! على تقاليد القبيلة العربية وأخذ ينصب هو رؤساء للعشائر العربية القاطنة في الاهوار بعد انتفاضة آذار عام 1992م .) ، وكان كل واحد من هؤلاء الشيوخ المعينين يحصل على مقدار معين من المال ، وكذلك على مسدس ، حاله في ذلك حال الشعراء الشعبيين في العراق الذين جمعهم صدام مرة وقدم لكل واحد منهم ثلاثين ألف دينار ( كانت تعادل وقتها تسعين ألف دولار تقريبا ) ، كما أعطى كل واحد منهم مسدسا كذلك ، وحين عاد الشاعر الشعبي ، مجيد جاسم الخيون الى مدينته الناصرية قال لأصدقائه الذين كانوا ينتظرون عودته : لا أدري لماذا أعطاني صدام مسدسا مع أنني لا أستطيع قتل بعوضة ؟ وأضاف : أما الثلاثون ألف دينار فأنني سأزكيها بشراء ثلاثة صناديق عرق ( خمر) ، وسأقوم بتوزيع ما تحتويه من قناني عليكم .
والآن بماذا سيزكي رؤساء العشائر أموال الدولة المغتصبة التي استلموها من المالكي ، على ذمة هادي العامري ، كرواتب شهرية بلغت الملايين من الدنانير ، وهم يعلمون أن هذه الأموال هي أموال فقراء الناس من العراقيين ، وقد اغتصبت لأغراض سياسية مثلما اغتصبت زمن صدام لنفس الأغراض ؟ ومثل ذلك كيف يزكي رؤساء العشائر في مجالس العشائر التي قام بتأسيسها المجلس الأعلى كذلك ، والتي تدار من قبله ؟ وإذا كان هادي العامري يرى أن المجلس الأعلى يدفع لشيوخ مجالسهم من ميزانية المجلس فمن أين جاء المجلس بهذه الأموال الطائلة ؟ هل جاءت هذه الأموال من المخابرات الإيرانية مثلما كان عليه الحال وقت أن كان المجلس الأعلى يستقر في إيران أم أنها جاءت من أموال الشعب العراقي بعد أن أصبحت وزارة المالية في العراق من حصة المجلس الأعلى بقيادة البطل الهمام ، وباني ناطحات السحاب في معسكر الرشيد السيد صولاغ قدس سره !؟ قولوا لنا من أين جاءت هذه الأموال التي صرتم تشترون بها ذمم الناس على هدي من سياسة صدام البائسة التي كان هدفها بالدرجة الأولى هو إفساد النفوس وقتل الضمائر ؟ لقد استخدمت بريطانيا إبان احتلالها للعراق أسلوب الرشوة هذا وقد نجحت به مع أبرز شيوخ عشائر محافظة ميسان ، وهما : مجيد الخليفة ، ومحمد العريبي اللذان تركا العيش بين أفراد قبيلتيهما ، وفضلا العيش قرب السفارة البريطانية في بغداد ، بينما رفض الرشوة تلك نفر من شيوخ الناصرية كالشيخ محيسن بدر الرميض ، والشيخ مزيد بن حمدان شيخ عشيرة ال عيس ، فقد أخذ الاول يحرث الأرض التي أبقاها له الإصلاح الزراعي بعد ثورة 14 تموز بنفسه ، وذلك حين قام بشراء محراث آلي ، بينما قام الثاني بعد أن قلت موارد ثروته الحيوانية بإدارة فندق خاص به في محافظة البصرة ، أما خدم المستعمرين من الشيوخ فقد ظلوا يتهافتون على فتات ما تقدمه لهم ماكنة الدولة العراقية التي كانت تدار من قبل السفارة البريطانية الجاثمة على الجانب الغربي من نهر دجلة في بغداد العاصمة ، ويبدو أن أبناء خدم الانجليز أولئك هم اليوم خدم للسفارة الأمريكية المشادة على ذات الضفة من ذاك النهر ، تلك السفارة التي عادت كدولة داخل دولة ، وبمساحة تزيد عن مساحة دولة الفاتيكان في روما ، العاصمة الإيطالية .
لقد صارت العشائر العربية العراقية غنائم يجب الاستحواذ عليها في الحرب الكلامية المتصاعدة هذه الأيام بين المجلس الأعلى ، وبين حزب الدعوة ، وكلما خطت الساعة خطواتها نحو معركة انتخاب مجالس المحافظات القادمة ، فالمجلس الأعلى يرفض بشدة، وعلى لسان أكثر من متحدث باسمه ، مجالس الإسناد العشائرية التي قام رئيس وزراء الحكومة في العراق ، نوري المالكي ، بتشكيلها مؤخرا ، فهذا هادي العامري يقول : إن ( تشكيل الحكومة لمجالس إسناد من دون التنسيق مع الحكومات المحلية هو أمر غير دستوري ولا قانوني لأن الدستور العراقي ينص على أن الحكومات المحلية هي المسؤولة عن الملف الأمني في المحافظات وأضاف العامري أن تشكيل هذه المجالس يجب أن يكون باقتراح من الحكومات المحلية وبدعم الحكومة الاتحادية وليس يتم تشكيلها من قبل لجنة المصالحة الوطنية التابعة لمجلس الوزراء  . 
وتسائل العامري عن الغرض من تشكيل مجالس الإسناد في المحافظات الآمنة مثل محافظة كربلاء  من دون علم الحكومة المحلية فيها فضلا عن أنها تتبع أحد مسؤولي حزب الدعوة الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي واصفا هذا الأمر بـالخاطئ وغير القانوني واعتبر رئيس منظمة بدر التابعة للمجلس الأعلى أن تشكيل حزب الدعوة لهذه المجالس تحت راية الدولة هو خرق دستوري واضح وغير مبرر لأنها ليست تشكيل تابع لوزارة الداخلية أو أية جهة أمنية، لكي تعمل باسم الدولة .) ولم يتأخر رد حزب الدعوة على متحدثي المجلس الأعلى أولئك كثيرا ، فقد صرح حيدر العبادي وهو واحد قيادي حزب الدعوة ، جناح المالكي ، قائلا : ( إن البعض يحاول أن يتحكم بالمحافظات كيفما يشاء ودون تدخل الدولة على الرغم من أن البلاد تدار بنظام اتحادي فيه سلطة القرار للمركز.
 وأوضح أن البعض يكيل اتهامات غير صحيحة حول مبادرة المالكي بتكوين مجالس إسناد لدعم الأجهزة الأمنية ويحاول أن يشبهها بالمليشيات مضيفا أن هؤلاء لا يريدون للدولة أن تكون قوية ولا يريدون للمليشيات التي ما زال البعض منها يخترق القوات المسلحة أن تقوم الحكومة باجتثاثها.
وأكد العبادي أن المجلس الأعلى الإسلامي يريد أن يدير المحافظات التي يسطير على مجالسها لوحده خارج سلطة الدولة لذا فهو اختار أن يطرح هويته كحزب ، وشدد العبادي على أن التطرف في تطبيق اللا مركزية المطلقة سيكون عاملا لتفتيت العراق لأن كل محافظة ستدخل في صراعات مع المحافظات التي تجاورها، مما يفسح المجال للتدخل الخارجي في قضم البلاد شيئا فشيئا مطالبا الجميع بإسناد الحكومة عبر تعاون المواطنين مع أجهزتها الأمنية.
وأوضح العبادي أن البعض في مجالس المحافظات يتصور أن المحافظة قد أصبحت ملكا لحزبه بحيث يتصرف بأموال وأراضي تلك المحافظة كيفما يشاء كاشفا أن بعض مراكز المحافظات قد تم تمليكها للجهات التابعة لذلك الحزب فضلا عن تعيين قادة الأجهزة الأمنية حصريا من أعضاء ذلك الحزب الواحد.
ولفت العبادي إلى أن البعض أيد عمليات (فرض القانون) في المحافظات الجنوبية، لأنها كانت تستهدف جهة معينة، لكنه عندما شعر أن الجماهير بدأت تتجه نحو الحكومة وترغب بفرض الأمن من خلالها يحاول الآن إيقاف النجاحات المتحققة لاعتقاده أن هذه المحافظات تدار من خلاله فقط . ) من ذلك يظهر أن التنافس القائم الآن بين الحزبين ، الدعوة والمجلس ، على حوز أكبر عدد من أصوات أفراد العشائر العربية في جنوب ووسط العراق ، يُرد في حقيقته الى شعور كلا الطرفين باضمحلال شعبيتهما في أوساط عراقية ليست بالقليلة ، وذلك بعد أن ضاقت هذه الأوساط ذرعا بالتدهور الذي يسود حياتها على مختلف الصعد نتيجة للسياسات التي اتبعها الائتلاف الشيعي الموحد طوال فترة حكمه ، فقد اكتشف الكثير من الناخبين الذي أعطوا أصواتهم لذلك الائتلاف بدوافع طائفية صرفة ، وليس على أساس برنامج سياسي ينهض بحياة الشعب والوطن ، أنهم قد قدموا تلك الأصوات للموت المتواصل الذي يجتاح العراق ، وللأمراض العديدة التي تفشت في أكثر من مدينة وقرية فيه ، والى الفساد الذي استشرى في جسد الدول العراقية ، والى النهب المنظم وغير المنظم للثروة الوطنية ، والى تراجع الخدمات أو انعدامها في الحياة اليومية للناس ، وفوق هذا كله الهيمنة البغيضة للقوات الأمريكية الغازية.
تلك العوامل وغيرها هي التي تمنع الكثيرين من التوجه للانتخابات المقبلة أو ستجعلهم يدلون بأصواتهم الى أحزاب علمانية أو الى مرشحين مستقلين أو الى أحزاب دينية لم تتحمل مسؤولية حكم خلال الفترة الماضية ، خاصة وأن هذا التوجه يسود بشكل واضح في أوساط البرجوازيين الصغار من موظفين وحرفيين متعلمين ، وعمال تأكلهم قلة الأجر وأفواه بطالة مستديمة نتيجة لتدمير الكثير من المعامل والشركات الحكومية التي بناها العراقيون على مدى سنوات طويلة من جهد وتعب ، والى الحد الذي صار فيه العراقيون يستهزئون بسياسات الحكومة التي تكرمت عليهم باستيراد اللبن من إيران ، تلك السياسات التي شهدت عمليات سرقة منظمة للثروة الوطنية ، وتحت شعارات حرية السوق التي بشر بها وزير المالية ، صولاغ ، دون أن يعرف هو ما هية السوق هذه ، أو يعي عواقب هذه السياسة التي تتهاوى صروح مصارفها هذه الأيام في العالم بدءً من أمريكا ، والى أبعد دولة في آسيا ، ولا بد أن يكون العراق بالوجود الأمريكي الاستعماري الكبير على أرضه واحدا من تلك البلدان التي ستعاني من سياسات السوق المنفلتة على الرغم من عدم تأثر البورصة العراقية بالتدهور الذي أصاب الكثير من البورصات في العالم ، والسبب يعود الى تخلف تلك البورصة ، والى قلة الأسهم المتداولة فيها ، والتي تزيد قيمتها على المليون دولار .
وعلى أساس ، مما تقدم ، يعتقد القادة في الحزبين المذكورين ، الدعوة والمجلس الأعلى ، أن خير الأوساط التي يمكن لهما أن يبشرا بطروحاتهم الدينية المسيسة بينها هي أوساط الفلاحين الذين ينهشهم الجوع والتخلف والأمراض ، وذلك عن طريق شراء ذمم شيوخ عشائرهم ، ومن خلال دفع رواتب ضخمة لهم من أموال العراقيين المغتصبة ، وبذلك يستطيع الحزبان المذكوران من الاستحواذ على أصوات كثيرة تحفظ لهما كرسي الحكم الذي لا يريدان التنازل عنه بأي شكل من الأشكال ، أما أولئك الحالمون بتداول السلطة في العراق هم أشبه بعميان لا يعرفون الطريق ، أو متعامين لا يريدون الاعتراف بالحقيقة الماثلة بكل وضوح أمامهم ، وهي أن شعار الحزبين المذكورين وغيرهما من الأحزاب الحاكمة في العراق تحت الحراب الأمريكية هو شعار البعث القديم : جئنا لنبقى !!
والخشية كل الخشية ، بعد ذلك ، هي أن يقود هذا الشعار الناس في العراق الى معارك جديدة تسيل بها دماء كثيرة ، مثلما قادها الى ذلك من قبل ، وبين العشائر العراقية هذه المرة.



82
مقهى البوهة وحلزونية أزمات الرأسمالية !     
                   

  سهر العامري

في ظل الأزمة العارمة التي تجتاح النظام الرأسمالي العالمي هرع الكثيرون الى كارل ماركس بعد أن كان النطق باسم هذا الرجل من المحرمات في مساجد وكنائس الرأسمالية قبل أن يكون محرما في مساجد وكنائس المتدينين من البشر ، لكن مقهى البوهة كانت من شواذ تلك القاعدة ، فقد عرفت جدلا ساخنا عن التطور الحلزوني للأزمات التي أصابت وتصيب النظام الرأسمالية وقت أن كان يزهو في تركيزه الصناعي للسلع في مطلع الستينيات من القرن المنصرم .
كانت مقهى البوهة تقع على ضفاف هور الحمّار من جنوب العراق ، وكان المتجادلون طلاب متوسطة الجمهورية ، وإعدادية الناصرية للبنين ، ودار المعلمين ، وذلك حين تضمهم تلك المقهى في جلسات تطول على مدى ساعات من أيام العطلة الصيفية ، وعلى الرغم من صغر سن هؤلاء ، فقد كانوا تواقين لمعرفة الكيفية التي ستموت بها الرأسمالية كنظام سائد في العالم ، مثله في ذلك مثل أنظمة اقتصادية-اجتماعية تخطتها البشرية في سيرها نحو آفاق العدل والمساواة والحياة الكريمة لجميع الناس .
في مقهى البوهة تلك تعلمنا التطور الحلزوني للأزمات الاقتصادية في النظام الرأسمالي التي ستلتف على عنق النظام ذاك وتقتله ، وكأنه رجل حفر قبره بيده ، وقد عرفنا ساعتها أن التطور الحلزوني يعني فيما يعني هو ضيق حلقة تلك الأزمة كلما تصاعدت مع مرور الأيام والى الحد الذي يتم به خنق النظام ذاك بفعل التناقض الطبقي الذي يفضي الى القضاء عليه بشكل تام شأنه في ذلك شأن النظام الإقطاعي الذي خنقه في نهاية المطاف ذات التناقض الطبقي .
كان النقاش في تلك المقهى يدور بعيد سنة 1963م وهو ذات التاريخ الذي الذي كان يلقي فيه ارنست ماندل ، أحد نشطاء الحركة العمالية الأوربية ، محاضراته في باريس أيام الآحاد عن أزمات النظام الرأسمالي تلك فيقول ( يمكننا أن نميز، في تاريخ الرأسمالية، إلى جانب الأزمات الدورية، التي تقع كل خمس سنوات أو سبع أو عشر سنوات، دورات طويلة المدى، تحدث عنها لأول مرة الاقتصادي الروسي كوندراتييف، ويمكن أن نسميها موجات طويلة المدى تتراوح من 25 إلى 30 سنة. إن موجة طويلة المدى تتسم بمعدلات مرتفعة في النمو تعقبها موجة طويلة المدى تتسم بمعدل نمو أدنى. ويبدو لي واضحا أن الفترة الواقعة بين 1913 و1940 كانت واحدة من هذه الموجات الطويلة المدى من ركود الإنتاج الرأسمالي، واتسمت كل الأزمات التي تعاقبت خلالها، من أزمة 1913 إلى أزمة 1920، من أزمة 1920 إلى أزمة 1929، من أزمة 1929 إلى أزمة 1938، بكونها أزمات كساد قاسية بشكل خاص بحكم أن الاتجاه الطويل المدى كان اتجاه ركود. إن الدورة الطويلة المدى التي بدأت مع الحرب العالمية الثانية والتي ما نزال نعيش فيها – ولنقل دورة 1940-1965 أو 1940-1970 – اتسمت بالعكس بالازدهار " التوسع "، وبسببه اتسع هامش المفاوضة والمناقشة بين البرجوازية والطبقة العاملة. وهكذا وجدت إمكانية تدعيم النظام على أساس تنازلات مُنحت للعمال، وهي سياسة اتبعت على مقياس دولي في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وقد تتبع في المستقبل حتى في بلاد متعددة من أوروبا الجنوبية، وهذه السياسة هي سياسة الرأسمالية الجديدة، التي تقوم على تعاون وثيق نوعا ما بين البرجوازية الصاعدة والقوى المحافظة في الحركة العمالية، أساسه وجود نزوع لرفع مستوى معيشة العمال. ) وعلى هذا الأساس لم نكن نحن أبناء مدينة الناصرية وحدنا نناقش المصير الذي سيؤول إليه النظام الرأسمالية القديم والجديد منه ، وخاصة وأننا اكتشفنا عن طريق ماركس أن الربح ليس هو مصدر غنى الأثرياء من بني البشر ، وأن العرض والطلب ليسا هما من يحدد ثمن السلعة في السوق مثلما كان يقول كتاب الاقتصاد المدرسي للسنة الأولى من المرحلة الثانوية الذي استعرض بحماس النظريات الاقتصادية الرأسمالية عند آدم اسمث أو عند توماس مالثوس ، ولكنه سكت عن ذكر ماركس ، ولم يخصص لنظريته في الاقتصاد إلا حيزا صغيرا تحت عنوان : فائض القيمة ، وهو العنوان الذي قامت عليه النظرية الماركسية في الاقتصاد ، تلك النظرية التي فضحت السرقة الخفية التي كان يقوم بها رجال رأس المال بحق الملايين من البشر ، وذلك حين أعلن ماركس أن ثروة الرأسماليين مصدرها الفائض من قوة عمل العامل ، وهو الوقت الذي يكون خارج الوقت الضروري اجتماعيا لانتاج سلعة ما ، والذي على أساسه تتحدد قيمة السلعة تلك .
وعلى الضد من ذاك الكتاب فقد رأى مدرسنا في مادة الاقتصاد ، وكان نجفيا من بيت الصافي وذا ميول بعثية أن يقدم لنا شرحا وافيا لنظرية فائض القيمة في حصة دراسية خاصة بها ، بعد أن نقوم نحن بكتابتها من مصدر آخر وعد هو بإحضاره معه ، ولكن الكثير منا كان لا يؤمن بما يقوله هو بعد أن عرف طلاب تلك السنة ميوله البعثية ، وصار الكثير من هؤلاء يظهر له نوعا من أنواع المشاكسة ، فبعد أن شرح لنا عناوين اقتصادية من مثل : تعريف علم الاقتصاد ، السلعة ، العرض والطلب ، العمولة في البيع والشراء ، تمسك طالب منا ، واسمه : رياض حميد حميدي بكلمة : العمولة ! التي تعني كذلك عند أهل المدينة قطعة من الكعك ( الخبز ) فكان هذا الطالب يحرص على أن يخرج رأس من باب الغرفة الدراسية التي تضمنا جميعا ، وحين يرى الأستاذ قادما من بعيد يعود لنا مصفقا هاتفا : جعبوله لبو العموله ! فيردد معه الطلاب كلهم نفس الهتاف الذي تضج به غرفة الدرس ، وكثير ما كان هذا الهتاف يقع في أذني أستاذنا ، ولكنه يسكت لأنه يعلم أن هوى الطلاب ليس معه رغم أنه قدم لنا شرحا وافيا عن نظرية فائض القيمة لكارل ماركس ، والتي تعرفت عليها أنا للمرة الأولى في مقهى البوهة !
لم أكن أنا الوحيد الذي عاد لماركس ولنظرية تلك هذه الأيام بعد الأزمة الرأسمالية التي أصابت سوقها في الوول ستريت في مانهايتن من العاصمة الاقتصادية ، نيو يورك ، فهذا روان وليامز كبير أساقفة كانتربري يكتب من مقالة في مجلة : سبيكتاتور ( إن الأمر صار أشبه بما وصف ماركس بأنه نوع من الميثولوجيا " الأساطير''، حيث يستثمر الناس إيمانهم فيه مفترضين أن هذا العمل للصالح العام في حين أنه ليس كذلك في الحقيقة ) كما أن وكالة الأنباء الأمريكية CNN رددت هذه الأيام مقولة كارل ماركس الشهيرة : الرأسمالية مسؤولة عن جوع العالم . وهذا مصرفي بريطاني يعمل في الوول ستريت يقول : ( كلما طال بي الوقت في وول ستريت كنت ازداد اقتناعا ، بأن ماركس على حق ) ويتوقّع الصحافي والكاتب البريطاني فرانسيس وين ( بأنّّ ماركس (1818 ـ 1883) سيغدو المفكر الأشدّ نفوذا في القرن الحادي والعشرين.) فماركس هو القائل (إذا كانت الرأسمالية توجب التنافس فإننا إزاء نظام غير قادر على البقاء أصلاً ، شأنه شأن البهائم التي تلتهم صغارها ) من كل ما تقدم فأن العالم أصبح مشغولا هذه الأيام بماركس حتى أن رجال الثروة في الغرب صاروا يطالعون من جديد كتابه الشهر : رأس المال ، وذلك بعد أن ارتفعت أسعار المواد الغذائية ، ذلك الارتفاع الذي ألقت وسائل الإعلام ، التي تدور في فلك النظام الرأسمالي الغربية ، بمسؤوليته زورا على عاتق الطبقة الوسطى في كل من الهند والصين متهمة إياهما بزيادة استهلاكهما من المواد الغذائية . كما أنهم صاروا يطالعونه كذلك بعد أزمة ضياع الأصول المالية العقارية في المضاربات التي شهدتها البورصة في الوول ستريت ، تلك الأزمة التي لن يتعافى منها الاقتصاد الأمريكي على ما يبدو رغم النجدة المتجسدة في 700 مليار دولار التي بادرت بها حكومة جورج بوش من أجل إنقاذ المصارف المفلسة ، وهي نجدة يرى فيها الرئيس بوش نفسه أنها غير كافية وأن هناك تحديات كثيرة تواجه الاقتصاد الأمريكية ، ومثله قال باراك أوباما مرشح الرئاسة الأمريكية ( إنه يتعين بذل المزيد من الجهد لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي. وقال إنه حتى لو تم تطبيق الخطة بالكامل وحققت الأهداف المرجوة منها فهي " مجرد بداية " مشيرا إلى قضايا مثل البطالة والبيانات التي أظهرت أن زهاء 750 ألف أمريكي فقدوا وظائفهم منذ بداية هذا العام. )



83
المنبر الحر / وحي الكلمات *
« في: 19:13 16/09/2008  »

                                          وحي الكلمات *                                


سهر العامري

لم تكن أم أمين القادمة توا للعيش في بغداد قد سمعت بعدُ بكلمات مثل فخامة الملك ، أو دولة رئيس الوزراء أو معالي الوزير وغيرها من الكلمات التي صارت تسمعها من خلال جهاز مذياع يشبه صندوقا خشبيا صغيرا ، كان يلتقط تلك الكلمات من أفواه المذيعات والمذيعين العاملين في إذاعة بغداد، فهي لم تسمع في سنوات عمرها التي خلت أن أحدا قد تفوه بواحدة منها قطّ ، وذاك حين كانت تعيش في قرية صغيرة تجثو على نهر الكحلاء من الجنوب ، تلك القرية التي كانت قد سمعت بها هي كلمات مثل : الشيخ أو السركال ، أو العشيرة ، وقد كان معنى كل كلمة من هذه الكلمات واضحا في ذهنها وضوح الشمس وهي ترتقي جبهة الأفق في أهوار تلك القرية الجنوبية .
لكنها الساعة ، والحق يقال ، لم تعرف المقصود من كلمة فخامة التي نزلت آذانها للمرة الأولى ، وهي تسكن بيتا صغيرا متواضعا في حي البلديات من العاصمة ، بغداد ، ذلك البيت الذي كان زوجها قد اشتراه بعد أن توفرت له فرصة عمل في تلك المدينة حين  تصاعدت نيران آبار النفط الى الشمال منها ، وكان من جميل الصدف أن جارهم ملا عليوي الذي كان يعيش معهم في قريتهم الجنوبية قد انتقل هو الآخر للعيش في بغداد مع ابنه الذي أصبح جنديا من جنود الجيش العراقي يزاول خدمته في واحدة من كتائب مخابرات ذلك الجيش ، ولهذا فقد تحينت هي الفرصة في أن تسأله عن معاني تلك الكلمات الجديدة حال قدومه لهم في زيارة كان هو قد وعدهم بها .
لقد اعتادت أم أمين أن تسأل ملا عليوي أسئلة غريبة ، لم تخطر على بال أحد من أبناء تلك القرية أحيانا ، حتى على بال الملا عليوي نفسه ، لكنه كان حريصا على أن يجيبها عن كل سؤال تطرحه هي عليه ، ومن دون تردد أبدا ، فالعيب كل العيب في أن يعجز ملا عليوي عن جواب على سؤال امرأة ناقصة عقل ودين ، مثلما كان يردد هو ، ومن على شاكلته من الملالي .
بعض الأسئلة التي كانت تدور في ذهن أم أمين تتعلق أحيانا بالظواهر الطبيعية التي تجري من حولها ، ولكنها لم تحصل على أجوبة تعينها على تفسير تلك الظواهر ، وفي أحيان أخرى تتواضع أسئلتها تلك ، فتكون في الأغلب الأعم عن تاريخ حلول شهر رمضان ، أو عن اتجاه القبلة التي ستصلي عليه خاصة حين تكون في زورق يتوسط المياه العميقة من الهور ، وهي تزاول قص صغار نبات القصب علفا لبقراتها الثلاث ، ومع تنوع هذه الأسئلة فقد كان ملا عليوي يجب عليها برحابة صدر ، بينما كانت أم أمين تفيض على موتاه من النساء والرجال بالترحم ، وأن يمنحه الله الصحة وطول العمر .
- الله يرحم والديك - يا ملا عليوي - هل لك أن تخبرني كيف يكون الليل والنهار ؟
لم تستطع أم أمين ، رغم طيب نيتها ، أن تخيف ملا عليوي بسؤالها هذا ، فالملا رجل قادر على أن يجيب عن كل سؤال حتى لو كان هذا السؤال يتعلق بحدوث ظاهرة طبيعية أكثر تعقيدا من تلك التي يحملها سؤال أم أمين ، فهو قد اعتاد على إجابات يمتزج فيها الكذب مع قلة العقل ، وأحيانا يشوبها شيء من الفخر بنفسه في أنه قد قرأ هذا الكتاب ، وسمع تلك الرواية .
- الأرض محمولة على قرني ثور – يا أم أمين - ! فإذا نقلها على قرنه الأيسر صار اليوم ليلا ، وإذا نقلها الى قرنه الأيمن صار اليوم نهار . هذا هو الجواب ، وأبوك الذي رحمه الله !
- لكن لم تقل لي هل هناك امرأة تقدم لهذا الثور علفا ، مثلما أفعل أنا مع بقراتي عندما أغوص في أعماق الهور مع مطلع فجر كل يوم من أجل أن أجلب لهن الطري من قصب الهور كعلف يمدهن بالصحة والحياة كي أحصل على طيب حليبهن ولذيذ لبنهن ، فمن دونهن لا يمكن لنا أن نعيش حياة يحاصرنا الفقر فيها من جميع نواحيها .
- لا تشركي - يا أم أمين - ! فإن الشرك يؤدي بك الى نار جهنم ، أما علمت أن الثور الذي تقف الأرض على قرنيه يتغذى من ضروع القدرة الربانية !
رجفت أم أمين ساعتها ، وأخذتها رعشة سرت في كل جسدها المتعب ، وندمت ندما شديدا على تماديها في أسئلة أوصلتها الى الشرك بذات الخالق مثلما يرى ملا عليوي ، ولكنها مع كل ذلك فقد طرحت ليلتها هذه على الملا نفسه سؤالا تبتغي من ورائه أن يفسر لها معاني بعض من تلك الكلمات التي يتفوه بها صندوق الخشب مثلما كانت تسمي جهاز الراديو بذلك .
لقد فهمت من جواب الملا ذاك أن الفخافة هي كلمة تعظيم لملك أو رئيس دولة يراد من ورائها تكبير صورته في أذهان الناس الذي يحكمهم رغم أنه لا يملك من أمر الحكم شيئا مهما ، وقد استند هو في شرح معنى الكلمة تلك الى ما قاله صديق لابنه كان يعمل في تنظيم سري عن الاستعمار ، وقد اعتاد صديق الابن هذا ان يزودهم ببعض من الأوراق التي تتحدث عن الوضع السياسي العام في البلاد ، وذلك لأن ملا عليوي نفسه لم يكن قد سمع هو الآخر بهذه الكلمات حين كان يعيش في القرية الجنوبية معهم .
ظلت أم أمين على شك بما قاله لها الملا ، وذلك لأنها كانت تعتقد أن تلك الكلمات ما هي إلا أسماء لنساء ، وليس شيئا آخر ، فهي لا زالت تتذكر أن جارهم زاير محسن كان قد سمى آخر بنت رزق بها باسم : دولة ، وهذا هو السبب الذي دفعها الى الريبة والشك في كل ما قاله لها ملا عليوي في زيارته الأخيرة لهم .
لم تمض ِأيام كثيرة على تلك الزيارة حتى صارت تلك الكلمات ، التي أتعبت أم أمين في البحث عن مدلولاتها ، نسيا منسيا ، فلم تعد تسمعها من الصندوق الخشبي ذاك أبدا ، وبدلا عنها فقد راح هو يردد على مسامعها كلمات جديدة أخرى مثل : الثورة ، الزعيم ، الحرية ، الجمهورية ، المسيرة الجماهيرية ، وغير ذلك من كلمات كثيرة وجديدة أخرى صارت تتقاذفها الأفواه في بغداد والمدن العراقية الأخرى .
لقد ظلت أم أمين على فهمها القديم لبعض من هذه الكلمات الجديدة ، ذلك الفهم الذي حملته معها من قريتها الصغيرة الى العاصمة ، بغداد ، فحين طلبت منها جارتها ، أم حسن ، الذهاب معها الى ساحة الميدان من أجل مشاهدة مسيرة يراد منها أن تحيي زعيم الثورة وأعضاء حكومته لبت هي تلك الدعوة على الفور ، ولهذا الغرض فقد حرصتا على الخروج مبكرا الى تلك الساحة من أجل أن تعثرا على مكان مناسب تستطيعان من خلاله رؤية الزعيم وأعضاء حكومته الذين كانت بينهم وزيرة واحدة ، هي وزيرة البلديات ، وبذلك الخروج المبكر استطاعت أم أمين وجارتها ، أم حسن ، من تحقيق تلك الأمنية حين ملأتا أعينهما بصورة الزعيم الذي كان يرفع يده عاليا في السماء ، محييا جماهير غفيرة كانت تمر من أمامه ، وهي تهتف بحياته وحياة الثورة والثوار ، ولكن أم أمين وعلى العكس من أم حسن كانت تصب نظرها على الوزيرة الواقفة الى جانبه حتى أنها حفظت تفاصيل جسمها جزءً جزءً ، ولكن مؤخرة الوزيرة البارزة كانت هي الجزء الوحيد الذي أثار انتباهها من بين تلك الأجزاء  ، ولهذا ، وحال وصولها الى البيت ، صاحت بزوجها :
- لقد رأيت مسيرة اليوم - يا أبا أمين - ! كانت لها مؤخرة عظيمة ، وبارزة !
ضحك جميع من كان في البيت خاصة وأن الأب والأولاد كانوا قد شاركوا بتلك المسيرة الجماهيرية الحاشدة ، وقد اتضح فيما بعد لأم أمين أن مسيرة ليس اسم مرأة مثلما كانت تظن قبلا ، وعلى ذلك جعلتها هذه الورطة تتحوط في تفسيرها لأية كلمة من الكلمات الجديدة التي تسمع بها من لغة بغداد الزاخرة بالمفردات التي ما طرقت سمعها من قبل . لكن المحير أن أم أمين ، وبعد سنوات طويلة ، راحت تسمع من المذياع ذاته الكلمات القديمة ذاتها ، تلك الكلمات التي ماتت بموت دولة رئيس الوزراء جرا بالحبال في شوارع بغداد وبوحشية مفرطة ، كما أنها قتلت بمقتل فخامة جلالة الملك برصاصة من ضابط متهور ، وحبست بحبس معالي الوزير هذا أو ذاك .
ظلت أم أمين تتساءل مع نفسها : لماذا عادت تلك الكلمات من جديد ؟ هل كان المذياع محقا في العودة الى ترديدها من جديد ثانية ؟ هل أن من تطلق عليه تلك الكلمات هو جدير بحملها ، وإذا كان الأمر كذلك فعلام يكتفي بوش بكلمة رئيس وهو حاكم أكبر دولة في العالم ؟
لقد تمنت أم أمين من صميم قلبها أن تلتقي من جديد بملا عليوي ، الذي غادر هذه الحياة منذ عشر سنوات ، ، وأن تطرح عليه كل الأسئلة التي تدور في رأسها ، والتي سببت لها أرق فظيع حتى أنها كانت لا تنام في بعض من الليالي إلا عند بزوغ أول خيط من خيوط الفجر ، ولكنها في ذات ليل بهيم ، وبينما كان السؤال عن عودة تلك الكلمات الى الحياة من جديد يثقل رأسها ، غطت في بحر نوم عميق رحلت به مع حلم مفرح ، مفزع الى مكان مخيف من أرض يباب لا يوجد فيه غير جذع شجرة رُبط إليها ملا عليوي من رجل واحدة مثلما يُربط حيوان نافر ، وأحيانا كان يتدلى من رجله تلك في هاوية تطل على نيران جهنم الحامية .
فرحت أم أمين بهذا اللقاء فرحا غامرا بالقدر الذي فزعت فيه فزعا شديدا ، ذلك الفزع الذي كان سببه الحال التي كان عليها ملا عليوي ، وهو الرجل الذي أبكاها شجو صوته حين يروي مأساة الحسين في العاشر من شهر محرم كل سنة ، ومع هذا الفزع كله فقد ألقت عليه التحية ، مثلما كانت تفعل ذلك في كل مرة تلتقيه بها ، ولكنها ظلت على فزعها رغم أنه قد رد عليها التحية بصوت مهموم ، قائلا :
- لا تعجبي - يا أم أمين - من حالتي ، فهذا هو جزائي ، فلقد كنت أكذب عليكم حين أقول أن الأرض تقف على قرني ثور ، وإن الإمام علي أرجع الشمس من مغيبها الى مشرقها كي يتم حربه في معركة النهروان مع الخوارج !
- من ذا الذي قال لك أنك كنت تكذب ؟
- في ساعة الحساب قال لي منكر ونكير إنك كذبت على الله وعلى رسله والمؤمنين والناس أجمعين ، فالأرض ما وقفت على قرني ثور مثلما أذعت أنت ، إنما هي أشبه بكرة تسبح في فضاء ، كما أن الإمام علي ليس بمقدوره أن يرجع الشمس من مغيبها الى مشرقها ، فهي لا تدور إلا حول نفسها ، بينما تدور الأرض  حول نفسها فيكون الشروق والغروب ، وتدور حول الشمس فتكون الفصول .
- والآن هل لك أن تخبرني لماذا عادت كلمات الفخامة ودولة رئيس الوزراء ومعالي الوزير ، فقد صار الناس في العراق يسمعونها من الإذاعة ، والتلفزيون ، ويقرؤونها على صفحات الجرائد والمجلات ؟
- لماذا لم تسألي أخي ملا خصاف فهو لم يزل يعيش بينكم ؟
- أنت لا تعلم بأن ملا خصاف صار رئيسا للمجلس البلدي في مدينته ، وقد سمعته مرة يجب عن سؤال لمراسل محطة : CNN التلفزيونية الأمريكية عن مؤهلاته التي مكنته من أن يتبوأ ذلك المنصب ، أتعلم ماذا قال ؟
- من أين يأتيني العلم وأنا مربوط الى هذا الجذع كما ترين ؟
- لقد قال للمراسل ذاك أنه يحمل شهادة الماجستير بحب الإمام الحسين !
- يبدو أن أخي ، ملا خصاف ، سيربط معي على هذا الجذع ، ويتدلى الى سقر مثلما أتدلى أنا ، ولكنني مع كل ذلك سأقول لك قولة حق ، بعد أن حُرم عليّ الكذب هنا تحريما تماما ، هو أن عودة الكلمات تلك الى الحياة من جديد كانت بسبب من أن الذين أطلقت عليهم في المرة الأولى كانوا قد جاءوا مع فوهة المدفع البريطاني حين اجتاحت جيوش الانجليز أرض العراق ، والذين تطلق عليهم ذات الكلمات اليوم قد جاءوا على ظهور الدبابات البريطانية والأمريكية ، هذه هي الحقيقة التي لن يحاسبني أحد على قولها هنا . وثقي بما قلته لك .
= = = = = = = = = =
* قصة قصيرة



84
يحرمون الغزو الثقافي ولا يحرمون الغزو العسكري !    
         

سهر العامري

في زمن الأمريكي الذي يعيشه العراق والعراقيون صار الخطباء كثيرين ، والناطقون باسم الحكومة أو باسم تلك الكتلة أو ذاك الحزب أكثر منهم ، حتى عادت خطبة هذا الشخص تقال عن شطط دون تمعن بما يقول ، وتصريح ذاك الآخر ينطلق عن جهل ببواطن الأمور ، فحين يصرح الناطق باسم الحكومة في عراق اليوم يسارع الناطق باسم القوات الأمريكية المحتلة الى تكذيب مضمون تصريحه على الفور ، وحين يستشري الفساد ويسود النهب ، وتبدد ثروة فقراء العراق يخرج علينا أحد آيات الله محذرا لصوص المال بعاقبة وخيمة تنظرهم في الحياة الأخرى ، وذلك حين تتحول هذه الأموال المسروقة الى عقارب وأفاعي ساعة الحساب تنقض عليهم لدغا وعضا ، ولم أدر ِ أنا كيف تسنى لآية الله هذا أن يتعرف على نظرية تحويل المال المسروق هذا الى عقارب وأفاعي حين تطالع عيون لصوص المال أولئك وجهي منكر ونكير ساعة الحساب تلك ؟ من أين أتاه العلم بذلك ؟ فهل هو نبي مرسل ؟ حتى القرآن يقول على لسان النبي : ( إنما أنا بشر مثلكم ) أو  ( إن هو إلا وحي يوحى ) !
سأل شيخ عشيرة ، أنا على معرفة به ، واحدا من قرّاء المنبر الحسيني كان يقرأ في دار ضيافته عن عقوبة الرجل الذي يمارس الجنس مع إناث الحمير بعد أن نما الى سمع الشيخ ذاك خبر عن بعض من الرجال يقومون بهذه الممارسة في المنطقة التي يسكن بها هو ، وعلى العادة رد قارئ المنبر ذاك حالا ، ومن دون تردد قائلا : سيُؤتى بصاحب الفعل هذا يوم القيامة موثوق اليدين والأرجل ثم يشد الى عمود أمام انثى الحمار  تلك لتقوم بعضه مرات عديدة حتى تحول جسده الى قطع متناثرة ! وما كاد قارئ المنبر هذا يكمل كلامه حتى صرخ به الشيخ ذاك قائلا : لقد ضعنا - والله- موتا بأفواه الحمير !
ومرة كنا ، نحن طلاب كلية التربية ، ندرس سورة (عمّ ) في كتاب الكشاف للزمخشري وهو من خيرة كتب التفسير ، وكان الواحد منا يقرأ القطعة من شرحه لتلك السورة ليقوم أستاذنا القدير عبد الباقي الشواي بشرح وتفسير ما يغمض علينا منها ، وحين وصل أحدنا الى قراءة قطعة من ذلك الشرح تخص عقاب الكافرين وردت فيها رواية تقول ما معناه : إن أجساد الكافرين ستنزف قيحا وصديدا وغسلينا يوم القيامة في الوقت الذي يقوم به جمع من الحمير بلحس تلك الأجساد !
بعد أن فرغ زميلنا من قراءة هذه الفقرة سمعنا صوت تقيء أستاذنا وهو يفرغ كل ما في معدته من طعام ، واقفا بانحناء على جانب من المنصة التي كان يلقي محاضراته علينا  منها ، وكأنه كان يستنكر على الزمخشري إيراده لهذه الفقرة في شرحه للآية تلك.
وعلى هذا الأساس ، ومن دون دراية وربما لغايات وأهداف مقصودة صارت تأتينا خطب وتصريحات من العراق تقف الناس منها موقف المستنكر ، وفي أحوال أخرى موقف المتسائل : هل أن هؤلاء المتفوهين يعوون ما يقولونه ؟ هل أنهم ينظرون الى كل الناس في العراق على أنهم سذج لا يمكنهم التفريق بين طالح الكلام وصالحه ؟ هل لهؤلاء المتحدثين غايات مبيتة يدعون لها ، ولكن من أبواب أخرى ، مستغفلين بها هذا الإنسان أو ذاك ممن سلم القياد لهم ودونما هداية ؟
أمس قرأت في الأخبار مقطعا من خطبة الجمعة التي ألقاها ممثل السستاني ، الشيخ مهدي الكربلائي ، عند ضريح الإمام الحسين عليه السلام  من مدينة كربلاء ، وقد كان نص هذا المقطع هو الآتي : (( أكد ممثل السيستاني الشيخ عبد المهدي الكربلائي خلال خطبة الجمعة في الصحن الحسيني في مدينة كربلاء (110 كم جنوب غرب بغداد)  حرمة مشاهدة المسلسلات الاجنبية المدبلجة باعتبارها غزوا ثقافيا غربيا .
واشار الى ان هناك الكثير من العوائل العراقية المنشدة لمشاهدة المسلسلات وخاصة المدبلجة منها .. وشدد على ان هذه المسلسلات هي جزء من وسائل الغزو الثقافي الكافر لنشر الهتك والتخلف في بلاد المسلمين . وقال ان حرمة هذه المشاهدة تتأتى من الخشية على دين الانسان المسلم وعقله وفكره وأخلاقه من تأثيرها . واوضح ان الإنسان الذي يقع من خلال مشاهدته لتلك المسلسلات تحت تأثير المنكرات فحينئذ تحرم عليه مشاهدتها . وحذر من خطورة الأفكار التي تنطوي عليها بعض المواد التلفزيونية على الأسر العراقية والتي تؤدي إلى هدم القيم الاجتماعية .
وقال إنه يوجد حكمان شرعيان يتعلقان بأمر مشاهدة مثل هذه المسلسلات هما :
1. إذا خشي الإنسان على عقله وعلى فكره وعلى دينه من هذه المسلسلات فانه يحرم مشاهدتها  وأود أن انوه هنا بان آثار هذه المسلسلات ليست آنية بل هي تظهر مستقبلا.
2 .إذا كانت تضع الغير تحت تأثير هذه المنكرات من التحلل والتفسخ الأخلاقي والوقوع في ما يفسد العقيدة فإنه تحرم مشاهدة هذه المسلسلات. واعتبر ان بث هكذا مسلسلات هو" من جملة وسائل الغزو الثقافي الغربي الكافر لبلاد المسلمين والهدف من ذلك نشر تلك القيم والأعراف والتقاليد ونشر التهتك والتحلل في المجتمع الإسلامي من خلال هذه المسلسلات فينبغي أن يكون لدينا وعي والتفات إلى حقيقة الأهداف التي يراد من خلالها عرض هذه المسلسلات فهناك مسؤولية ملقاة على عاتقنا وخصوصا على عاتق رب الأسرة بان يحفظ ويحصن أسرته من التأثيرات الضارة لهذه المسلسلات، ومن جملة الأمور السيئة التي تحملها هذه المسلسلات أن تجعل من الخيانة الزوجية وإقامة العلاقات غير الشرعية أمرا محببا ومتعارفا وغير منكر وأيضا من جملة الآثار الضارة أن الكثير من الأخلاق والأعراف والقيم التي رفضها واستنكرها الإسلام تصورها هذه المسلسلات على أنها من الأمور المتعارف عليها والمقبولة لدى المجتمع بحيث يتقبله وهو لا يشعر به ))
المعروف تاريخيا أن الغزو العسكري يصاحبه حتما غزو ثقافي ، وقد شهدت البلدان الإسلامية ، والعربية منها على وجه الخصوص ، مثل هذا الغزو الثقافي حين وطأت جيوش المستعمرين الغربيين أرض تلك البلدان ، وهذا واضح لكل ذي لب وبصيرة ، وعلى هذا الأساس تدفقت الكتب والجرائد والصحف والأفلام السينمائية الغربية على أسواق بلدان العالم الإسلامي ، ولم تستطع حكومة أو حركة سياسية أو دينية من الوقوف بوجه هذا التلاقح الحضاري بغثه وسمينه حتى بعد أن رحل المستعمرون جيوشا من تلك البلدان ، ولكنها خلفت وراءها آلة الطباعة الحديثة مثلما خلفت الملهى ودار السينما التي عرضت أفلاما تفوق في مشاهدها المثيرة مشاهد المسلسل التركي ( نور) الذي استهوى الكثير من المشاهدين وعلى امتداد المساحة الجغرافية التي يتمدد عليها العرب أو أولئك الذين يجيدون الكلام العربي ، وكان من بين هؤلاء العرب عرب العراق الذين انشد الكثير منهم الى مشاهدة ذاك المسلسل المدبلج والذي كان يحدثهم بلغتهم بعد أن قامت شركة سورية بدبلجته الى العربية .
ورغم وقوف القلة ضد مشاهدة هذا المسلسل قياسا بالكثرة الكثيرة من المشاهدين العرب الذين حرصوا على مشاهدته سواء كانوا في البلدان العربية أو في القارات الخمس من المعمورة ، يظل أمر تلك المشاهدة أمرا شخصيا يتعلق بحرية المشاهد نفسه ، فالعرب والمسلمون سمعوا بتحريم الخمر منذ سنين طويلة خلت ، ولكن الكثيرين منهم لم ينتهوا عن شربها ، والغريب في الأمر هنا هو وقت صدور التحريم المذكور هنا ، فالمسلسلات والأفلام المدبلجة وغير المدبلجة ، والتي عدها التحريم على أنها غزو ثقافي كافر ، قد عرفها العرب والمسلمون منذ عقود خلت ، ولكننا لم نسمع بتحريم مثل هذا التحريم ، وإذا كانت الفتوى لا تصدر إلا بسؤال فليس من المعقول أن مسلما ما لم يسأل رجل دين عن رأيه في مسألة مثل هذه المسألة .
يبدو لي أن النجاح الساحق الذي حققه المسلسل التركي ( نور ) هو السبب الرئيس الذي وقف وراء ذاك التحريم سواء جاء هذا التحريم جوابا على سؤال رجل مسلم أو جاء من دون سؤال أحد ، وهو يندرج ، أي التحريم ، بالحرب الخفية التي ظلت نارا تحت الرماد طوال فترة الصراع والحروب التي دارت بين الدولة الصفوية الإيرانية وبين الدولة العثمانية التركية من أجل السيطرة على العراق . وإذا كان الأمر ليس كذلك فعلامَ لا يحرم مرجع مثل السستاني الغزو العسكري الأمريكي الغربي الكافر للعراق  مثلما يحرم الغزو الثقافي الغربي الكافر له ، ذلك الغزو الذي حمله المسلسل التركي أو غيره من المسلسلات الغربية ؟ وإذا لم يكن هناك من العراقيين لم يسأله الرأي في احتلال العراق من قبل قوات غربية كافرة استوطنت على القرب من الأماكن المقدسة عند العراقيين ، فها أنا أسأله الرأي عن أمر هذه القوة الغربية الغاشمة التي أنزلت الدمار والهلاك بالعراق والعراقيين والى الحد الذي صار فيه النصف من العراقيين مهددا بمرض الكوليرا . هذا بعد أن غابت عنهم الكهرباء ، وانعدمت المياه الصالحة للشرب في بلد كان يسمى بلد السواد لعظيم زرعه ولوفرة مياهه المحمولة على ظهري نهرين خالدين هما دجلة والفرات ، هذا في وقت تغص به سجون العراق بالنساء وصغار السن من الصبية .
ليس من المعقول أبدا ، وليس من العدل والإنصاف قطعا أن يُحرم رجل دين غزوا ثقافيا غربيا كافرا ، ولا يُحرم غزوا عسكريا غربيا كافرا جاثما على أرض العراق الطاهرة ، وعلى صدور العراقيين ومنذ سنوات طويلة خلت !!



85
حين باع ملا صباح بقرته !     
                         

 سهر العامري

من مهازل تردي الأوضاع في العراق الديمقراطي ! وعلى جميع الصعد أن الرشوة صارت هي القاعدة ، بينما صار نقاء الضمير والإخلاص هما الاستثناء ، ولم يعد المواطن المحاصر بالفاقة والحرمان والموت والدمار في العراق ذاك هو وحده من يقوم بدفع تلك الرشوة لهذا الشرطي أو لذلك الموظف من أجل إنجاز معاملة استخراج جواز سفر من فئة الحرف ( G ) مثلا ، والذي انخفضت قيمة رشوته الآن من سبعمئة دولار الى ثلاثمئة وخمسين دولارا ، شرط أن تكون مدة الإنجاز ذاك لا تزيد عن أربعة أيام فقط ، بينما يظل المواطن، الذي لا يدفع تلك الرشوة ، ينتظر شهورا حتى يحصل على جواز من الفئة المذكورة .
ولكن الغريب في الأمر هو أن هذه الرشوة صارت تدفع من قبل بعض المنظمات والأحزاب السياسية ، التي ظهرت في العراق بعد الاحتلال الأمريكي له ، الى المواطنين على شرط أن ينفذوا ما يطلبه منهم ذاك الحزب ، أو هذه المنظمة ، ويتم ذلك بأساليب بيع وشراء رخيصة تشمئز منها النفوس الأبية ، ولا يرتضيها إنسان شريف مخلص تهمه مصلحة العراق وشعبه .
في زيارة المنتصف من شهر شعبان اعتاد بعض من العراقيين العرب الشيعة القاطنين في مدن الجنوب من العراق على الذهاب فيها الى مرقد الإمام الحسين عليه السلام ، وبشكل متواضع لا غلو فيه، وغير مسخر لمصلحة هذا الحزب أو لغايات تلك المنظمة، وهي عادة جُبل هؤلاء عليها منذ سنوات طويلة خلت ، ولكن الأمر تبدل بعد الاحتلال الأمريكي ذاك ، وخاصة حين أطلق هذا الاحتلال يد بعض الأحزاب والمنظمات في ممارسة العمل العلني ، وكانت منظمة بدر واحدة من بين تلك المنظمات حيث عمدت هذه المنظمة وبإشراف من عبد العزيز الحكيم ومجلسه على استغلال المناسبات الدينية استغلالا سياسيا تجسد في تحشيد أكبر عدد من الناس ، ودفعهم للقيام  بتلك الزيارة ، أو الزيارات الأخرى المماثلة لها ، كي تظهر تلك الحشود للرأي العام المحلي والعالمي الشعبية الكاذبة التي يتمتع بها الحكيم ومجلسه .
يقوم تحشيد أولئك الناس على إغرائهم بما يدفع لهم من مبالغ مالية معينة ، وما يقدم لهم من طعام وشراب ، وذلك من خلال نصب سرادق على طوال الطرق المؤدية الى مدينة كربلاء ، والتي يجتازونها سيرا على الأقدام . هذا على أن تكون عودتهم الى مدنهم في الجنوب بواسطة سيارات مستأجرة من قبل منظمة بدر مثلما وعدتهم هي بذلك .
وعلى هذا الأساس برّت تلك المنظمة بوعدها بعد أن انقضت مراسيم تلك الزيارة ، فقامت بتوفير ثلاثة عشر ألف سيارة نقلت بها الكثير من الذين دفعت بهم نحو قبر الإمام الحسين في كربلاء  ، ولكن ممثلي منظمة بدر في المدينة تلك حرّموا على بعض المجاميع من هؤلاء المحتشدين الركوب بالسيارات تلك ، وكان من بين تلك المجاميع مجموعة من أهالي مدينة الناصرية .
لقد حرمت مجموعة الملا صباح من ركوب تلك السيارات المستأجرة من قبل منظمة بدر ، رغم أن الملا صباح كان من أنشط الرجال الذين حثوا الناس في مدينته على انتخاب القائمة (555 ) التي تمثل عبد العزيز الحكيم وأتباعه ، كما أنه كان أكثر الناس حماسا ورغبة في تأدية مراسم الزيارة الشعبانية تلك ، ولهذا حشد هو مجموعة من بين أبناء مدينته لا يستهان بعددها ، وقد وعدهم بأن عودتهم من كربلاء الى مساكنهم في مدينة الناصرية ستكون بالسيارات ، وليس سيرا على الأقدام ، وذلك وفقا للوعد الذي قطعه له ممثلو منظمة بدر في مدينته ، ولكن أفراد تلك المجموعة ، وبما فيهم ملا صباح نفسه ، قد ذهلوا أشد ذهول حين أصر ممثلو تلك المنظمة ، وهم في مدينة كربلاء ، على عدم السماح لهم بركوب تلك السيارات ، وهذا ما أثار حنقه وغضبه ، وراح هو ومجموعته يسبون هادي العامري وأهله ، مثلما يكيلون الشتائم للحكيم وصحبه .
كيف لا !؟ وها هو ملا صباح قد فقد مصدر رزقه بعد أن أضطر على بيع بقرته  لأحد التجار من أهالي مدينته شرط أن يسلمها له حال عودتهما من كربلاء إليها .
لقد باع ملا صباح بقرته وهو يعوم في بحر من الألم واللوعة ، وذلك من أجل أن يستأجر بثمنها سيارة إجرة تقله هو ومجموعته الى بيوتهم ، وذلك بعد أن تخلت منظمة بدر عن نقلهم إليها بحجة أنهم لهم يهتفوا لعمار بن عبد العزيز الحكيم حين كان يلقي خطابه في جموع الناس المحتشدة عند ضريح الإمام الحسين في مدينة كربلاء ، وهو الهتاف الذي من أجله دفع العراقيون من خزينة دولتهم الملايين من الدنانير ، تلك الملايين التي عن طريقها حشدت منظمة بدر آلافا من الناس من مدن وسط وجنوب العراق كي يهتفوا لعمار وهو يلقي خطابه ذاك : ( علي وياك علي ) !  لكن ملا صباح ومجموعته رفضوا أن يبيعوا ضمائرهم ، رفضوا أن يجعلوا الإمام عليا عليه السلام حارسا لعمار بن عبد العزيز الحكيم ، ومثلما أراد عبد العزيز الحكيم ومنظمة بدر ذلك .
لم يهتف ملا صباح الهتاف ذلك ، ولكنه مع ذلك خسر بقرته منبع رزقه ، ومصدر عيشه وعيش أطفاله في زمن صار شعاره : انحطاط الخلق ، وتفشي الرشى !


 

86
متى يفهم العربي ما يقوله الأعجمي ! ؟       
           

                                                                                             سهر العامري

من سوء حظ العراقيين أن يقعد على عين مالهم رجل مثل صولاغ ، وزير المالية في عراق اليوم ، هذا الرجل الذي تسلح بالكذب حينا ، وبالنفاق والمكر حينا آخر ، فهو حين صار وزيرا للإسكان والإعمار بنى للعراقيين ناطحات سحاب معلقة في الهواء ، وحين صار وزيرا للداخلية أباح أجساد ضحاياه من العراقيين ، الذين غصت بهم سجون تلك الوزارة ، للمزرف الكهربائي ( الدريل ) حتى لقبه العراقيون بـ ( صولاغ حامل الدريل ) ، ثم حين أصبح وزيرا للمالية حطم الصناعة العراقية ، وراح يحارب عمال العراق بأرزاقهم ، وإذا ما هب هؤلاء للدفاع عن تلك الأرزاق تصدى لهم مغاوير العجم الذين يحتمي بهم هو .

الصولاغ هذا ، الذي يلقب نفسه بالزبيدي ولاءً ، هو عضو من أعضاء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية! في العراق ، وذلك بعد أن تأسس هذا المجلس ، وبإشراف مباشر من قبل جهاز المخابرات الإيرانية ( إطلاعات ) ، في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم ، والمعروف أن جهاز المخابرات هذا هو نفسه جهاز السافاك زمن الشاه ، فالخميني لم يأمر بحل هذا الجهاز بعد وصوله للحكم ، وعلى هذا فقد تحول جل العاملين فيه من خدمة حكومة الشاه الى خدمة حكومة الخميني ، وبذات التفكير والتصرف اللذين كانا سائدين زمن الشاه .
لقد كان الجهاز هذا يعمل على وضع يده على كل صغيرة وكبيرة تدور داخل الأحزاب العراقية التي تدعي أنها تمثل الشيعة في العراق ، ولهذا حرصت الحكومة في إيران ، ومن خلال جهازها المذكور ، على أن يضم المجلس الأعلى في صفوفه بصورة خاصة العراقيين المتحدرين من أصول إيرانية ، ومن الذين يجيدون اللغة الفارسية ، ولذلك صار الإنسان الذي يزور مقر المجلس الإسلامي ! الواقع بالقرب من ساحة الفردوس من العاصمة طهران لا يجد شخصا يتكلم العربية فيه ، وحتى أولئك الذين كانوا يحسنونها لم يستطيعوا أن ينبسوا بحرف واحد من حروفها خوفا من السلطات الإيرانية ، وعلى ذلك صارت لغة التخاطب في أروقة ذلك المجلس شفاها وتحريرا هي اللغة الفارسية ، وباتا لزاما على العرب من شيعة العراق ، والذين ارتضوا لأنفسهم خيانة شعبهم ووطنهم ، والعمل في صفوف هذا الجهاز ، أن يتعلموا اللغة الفارسية في غضون أشهرا قلائل .

في صيف هذه السنة التقيت بعربي عراقي شيعي في العاصمة البلجيكية ، بروكسيل ، وقد حدثني عن قصته في رحلة التعب التي مر بها كل العراقيين الذين هجروا العراق ، قائلا : بعد خفوت انتفاضة سنة 1991 التي أشعل نارها في بداية الأمر جهاز المخابرات الإيرانية المذكور بعد أن كانت الحكومة الإيرانية قد أعدت خطة سرية من أجل إسقاط نظام صدام مستغلة الحرب التي شنتها أمريكا على الجيش العراقي في الكويت ، وكانت تلك الخطة تقضي بطمأنة الجانب الأمريكي من خلال الاتصال بوزارة الخارجية في الإتحاد السوفيتي التي نقلت تعهدا واضحا من رئيس جمهورية إيران ، هاشمي رفسنجاني ، ينصّ على  أن إيران ليس من مصلحتها التدخل بشؤون العراق في حال ما عزمت أمريكا على شن الحرب ضد صدام ، وإخراج قواته من الكويت ، ولكن إيران في ذات الوقت كانت تعمل خفاء على إرسال بعض المجاميع الذين دربتهم على استخدام السلاح الى داخل العراق بحجة أن هؤلاء من المعارضين العراقيين ، وكان ذلك تزامنا مع اشتعال نيران الحرب التي سميت بحرب تحرير الكويت أو حرب الخليج الثانية .

لقد قامت تلك المجاميع المسلحة في بداية الأمر بتحريض الشارع العراقي على القيام بالثورة من أجل إسقاط نظام صدام الذي صار مع تلك الحرب في حالة ضعف لا يحسد عليها ، ولكن الأمريكان الأغبياء الذين استطاعت المخابرات الإيرانية تضليلهم عن طريق وزارة الخارجية في الإتحاد السوفيتي وقتها تنبهوا متأخرين فقاموا بفك الحصار عن القوات العراقية المحاصرة عند البصرة ، قائلين لها : إذهبوا كي تحموا وطنكم ! فما كان من هذه القوات إلا أن أنزلت عقابا صارما بالمنتفضين الذين حركتهم المخابرات الإيرانية التي منتهم بحماية من قوات فيلق بدر ، وهو فيلق تشكل في إيران من العراقيين الذين وقعوا في أسر القوات الإيرانية إبان الحرب التي دارت بين العراق وإيران في الثمانينات من القرن الماضي ، وكذلك من العراقيين المتحدرين من أصول إيرانية والمعروفين بالعراق : بأبناء التبعية الإيرانية الذين استولوا على المراكز الحكومية المهمة في عراق أمريكا الديمقراطي الآن !

قال لي العراقي ذاك وهو يروي لي قصته : أنا من أهل الهاشمية ، وهي مدينة تابعة لمحافظة بابل العراقية ، اشتركت بانتفاضة 1991م ، وحين قمعت تلك الانتفاضة هربت الى المملكة العربية السعودية ، وعشت في معسكر لللاجئين بالقرب من مدينة رفحة الحدودية ، وفي الوقت الذي رُحل الكثير من العراقيين من هذا المعسكر الى دول أوربا وكذلك الى أمريكا رفضت أنا الذهاب الى تلك الدول ، وآثرت الذهاب الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية! وحين نزلت فيها طلبوا مني تعلم اللغة الفارسية معللين طلبهم هذا بكوني أحمل شهادة الماجستير بالزراعة من جامعة الموصل ، وهم بحاجة الى مترجمين مثقفين كي يسهل لهم المترجم هذا عملهم مع بقية اللاجئين القادمين من المملكة العربية السعودية أو من غيرها.
بعد أن تعلمت الفارسية في مدة ستة أشهر ، يقول العراقي هذا ، طلبوا مني العمل في جهاز المخابرات الإيرانية ، وعلى أن أقوم بمهمة داخل العراق ، ولكنني رفضت ذلك بقوة قائلا لهم : تريدون مني أن أخون وطني !؟ فقالوا وبلغة حازمة : العمل معنا أو الخروج  من إيران حالا . قلت لهم : ولكنني لا أملك جواز سفر ، فكيف لي أن أخرج من إيران؟ ردوا : لتذهب الى كوجة مروي ( زقاق ضيق يقع بالقرب من شارع ناصر خسرو في طهران ) وتشتري جوازا مزورا على أية حال يكون ، وسنقوم نحن فيما بعد بوضع ختم خروج لك من إيران .
اشتريت جوازا من كوجه مروري وبحالة رثة ، وضعوا عليه ختما يطالبني بالخروج من إيران خلال أسبوع واحد ، قائلين لي عليك أن تحصل تأشيرة دخول لأية دولة ! قلت : لا توجد دولة تعطيني تأشيرة على جواز مثل هذا ! لكنني أخيرا وفي غضون هذا الإسبوع حصلت على تأشيرة من أوغندا الدولة الأفريقية ، دخلتها بعد التفجيرات التي حدثت في العاصمة الكينية ، نايروبي ، ولهذا أعتقلت من قبل الشرطة الأوغندية ومن جهاز الشرطة الأمريكية العامل هناك ، ورميت بالسجن وتعرضت للتحقيق المطول ، وكانت التهمة ، هي أنني إيراني الجنسية وأنني أنا من قام بتفجيرات نايروبي ثم فررت منها الى أوغندا .

هذا هو حال إيران في تعاملها مع كل من يرفض خيانة وطنه ، العراق ، وعلى هذا الأساس تشكل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ! من العناصر التي تنحدر من أصول إيرانية ، ومن أولئك الذين يجيدون التحدث باللغة الفارسية ، وأحد هؤلاء هو وزير المالية في العراق اليوم صولاغ الزبيدي ولاءً وليس صلبية ، وانتسابه الى قبيلة زبيدة العربية هو من باب الضحك على الذقون ، مثلما ضحك هاشمي رفسنجاني على ذقن جورج بوش الأب ، ومثلما يضحكون الآن على ذقون جورج بوش الإبن.

لقد نشر المكتب الإعلامي في وزارة المالية في العراق نص مقابلة مع صولاغ هذا ، يظهر فيها وهو يعوم في بحر من الجهل ، فهو من جهة لا يجيد التحدث باللغة العربية ، ومن جهة أخرى يطرح مبررات سخيفة لتوليه منصب وزير المالية ، كما أن السائل يبدو على شاكلته في عدم فهمه لكلام العرب ، وذلك حين يسأل معالي الوزير صولاغ ! على الشكل التالي :
س/التحويل من وزارة الداخلية إلى وزارة المالية ماذا يعني لكم ؟
لاحظوا كلمة تحويل التي يجب أن تكون التحول وليس التحويل وشتان بين المعنيين ، فيجيب صولاغ مستخفا بعقول العراقيين قائلا :
ج/ أينما توجد الحاجة في المكان الذي اقدم فيه خدمة وأنا سياسي واقتصادي ومالي ورجل أعمال ساهمت في تأسيس الصناعة وعملت في الأعمال التجارية ودخلت في الصناعة ونجحت في صناعة الأقمشة وعملت في الاستيراد والتصدير وكلها لها علاقة بالمالية .
وعلى النظرية الصولاغية هذه سيكون وزيرا للمالية كل من يحمل المؤهلات التالية :
سياسي واقتصادي ومالي ، رجل أعمال ، أسس الصناعة ، عمل في الأعمال التجارية ، دخل بالصناعة ، نجح في صناعة الأقمشة،عمل في الاستيراد والتصدير ، وكلها لها علاقة بالمالية .
المعروف عن صولاغ أنه صرف الجزء الأكبر من سني عمره بين إيران وسورية ولبنان وكان ممثلا للمجلس الأعلى الإيراني في كل من لبنان وسورية ، والعراقيون الذين عرفوه عن قرب يقولون عنه : إنه كان يبيع الجوازات المزورة للعراقيين المقيمين في الخارج ، والذين منع صدام سفاراته من أن تمنحهم جوازات سفر عراقية ، كما أنه بمناسبة أو دون مناسبة كان يقول أنه مهندس ، وبعض الأحيان يصدر أسمه بقوله : المهندس صولاغ ، هذا قبل أن يتحول الى معالي الوزير صولاغ . فهو والحال هذه لم يكن رجل اقتصاد في يوم من الأيام حتى تناط به مهمة مثل مهمة وزارة على قدر كبير من التأثير في حياة العراقيين مثل وزارة المالية ، وإذا كان لكل من يشتغل في البيع والشراء الحق في أن يصبح وزيرا للمالية لصار الكثير من تجار العراق وزراء لها لأنهم يفوقون صولاغ خبرة في هذا المجال بمرات كثيرة .
 
لقد جُبل صولاغ على الكذب ، فهو الذي بنى للعراقيين ناطحات سحاب على الأرض التي يقوم عليها معسكر الرشيد والتاجي حين أعلن هو ذلك بعظمة لسانه حال توليه لوزارة الإسكان والإعمار ، وهو حامل الدريل الذي قضى على الإرهاب والإرهابيين أيام توليه لوزارة الداخلية  ، وها هو اليوم يكذب ولا يريد أن يقول السبب الحقيقي الذي وقف وراء تعينه وزيرا للمالية في العراق ، ذلك السبب الذي تجسد بالرغبة الإيرانية ووفقا للمحاصصة الطائفية * ، ولا شيء غير ذلك ، ولهذا استطاعت إيران من خلال وجوده في وزارة المالية العراقية من تحطيم السوق العراقية وقتل الصناعة المحلية ، فصار كل شيء يستورد من إيران فمثلا عمدت إيران الى إغراق السوق العراقية بمادتي الإسمنت والطابوق وبأسعار تقل عن أسعار المنتج منهما محليا ، وهذا ما دفع المعامل العراقية المنتجة لهاتين المادتين الى غلق أبوابها وتسريح عمالها ، وحين علم سماسرة إيران في  الحكومة وخارج الحكومة خاصة التجار الذين ينحدرون من أصول إيرانية بتوقف المعامل العراقية عن انتاج المادتين المذكورتين عمدوا الى رفع أسعار ما يستوردونه منهما من إيران، وبشكل جنوني . يضاف الى ذلك هو أن صولاغ  قد فتح أبواب العراق للمصارف الإيرانية التي يحاصرها العالم بسبب من العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة ، ولهذا فقد أباح هو فتح فروع للمصارف الإيرانية التالية : ملي ، وسبه ، وصادرات في بغداد والنجف والبصرة ، ولغرض سرقة أموال العراقيين ، إذ أن هذه المصارف تعمل من دون رقابة عراقية عليها .

وعن لغة الأنا الذي يتحدث بها بائع الجوازات المزورة ، ووزير المالية في عراق اليوم ، وكذلك عن ركاكة اللغة ها كم اسمعوا سؤالا وجوابا آخرين من المقابلة التي أجريت معه والتي أشرت لها قبلا :
س/ هناك تقارير تشير إلى عدم تأثير زيادة واردات النفط وزيادة الرواتب عن الشارع العراقي ... هل يوجد تحسن على المبلغ الضخم 79 مليار دولار موازنة العراق؟               .
ج/ هي 70 مليار وهو مبلغ ضخم عندنا 6 مليار دولار بطاقة تموينية انا مخصصها ومليار وربع لشبكة الحماية الاجتماعية وشبكة الحماية يوجد فيها تحسين والدعم الأخر الغير مرئي مثلا" عندك 200 مليون دولار للمهجرين و250 مليار دينار الى العائدين و3 مليار دولار للمحافظات ورواتب الموظفين والمتقاعدين كل هذه تصرف وأنا مخصص لوزارة الكهرباء ما يقارب 3 مليون دولار وهكذا للنفط 3مليار دولار وكذلك بقية الوزارات .
ها انتم تلاحظون أن لا السائل ولا الوزير يحسن التحدث باللغة العربية ولو بشكل مقبول يستطيع القارىء العربي من خلاله أن يفهم المقصود من السؤال والجواب عليه ، ماذا يفهم القارىء من قول السائل(هل يوجد تحسن على المبلغ الضخم 79مليار دولار موازنة العراق ؟) ثم ماذا يفهم القاريء من جواب الوزير غير لغة مشوشة يفهم منها أنه يخرج المال من جيبه ليمن به على العراقيين فيما يعرف بالبطاقة التموينية (عندنا 6 مليار دولار بطاقة تموينية انا مخصصها ).

فهل أراني أجانب الصواب حين أردد مع المتنبي ، ابن الكوفة الحمراء ، على بون المسافة الزمنية بيننا ، وهو الذي عاش في العراق ، ولكنه لم يدخل بغداد حين أحكم الفرس قبضتهم عليها زمن الدولة البويهية ، حين يقول :
وإنما الناس بالملوك وما * تفلح عرب ملوكها عجمُ
لا أدب عندهم ولا حسب * ولا عهود لهم ولا ذممُ
= = = = = = = = = = = = =
*  لقد اشترطت إيران على فخامة ! الرئيس جلال الطلباني عزل مستشاره للشؤون العسكرية ، وفيق السامرائي ، إن هو أراد أن يقوم بزيارة الى طهران ، وذلك لأن إيران تشن حربا خفية وعلنية على كل عراقي اشترك ضدها في الحرب التي دارت بين العراق وإيران في سنوات الثمانينيات من القرن المنصرم ، وعلى هذا يكون وفيق السامرائي مطلوبا على رأسه من قبل إيران نفسها أو من قبل عملائها في العراق . وهذا ما يثبت أن كل الضباط العراقيين الذين سقطوا صرعى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق سقطوا على يد عملاء المخابرات الإيرانية في العراق ، وبمباركة أمريكية .

87
 
    النخيب ما بين عرب العراق وموالي أمريكا  !    
         

  سهر العامري
المعروف تاريخيا أن الجزء الغربي من العراق كان عربيا صرفا وعلى شحط مسافة زمنية طويلة امتدت الى أن حل ما عرف بالفتح الإسلامي له ، وبعد هذا الفتح ازداد تواجد العرب فيه كثيرا ، مثلما تطورت حواضر ومدن كثيرة من حواضره ومدنه ، وكان من بين أشهر هذه المدن مدينتا : البصرة والكوفة التي تحولت الأخيرة منهما الى عاصمة للدولة الإسلامية زمن الخليفة الرابع ، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولكن هذه الحقيقة لا تجافي القول في أن هناك أقواما وفدوا على هذه الحواضر وهذه المدن وسكنوا فيها جنبا الى جنب مع العرب ، وقد عرف هؤلاء تاريخيا بالموالي تميزا لهم عن العرب القاطنين فيها ، ولهذا قالوا عن الواحد من هؤلاء : فلان مولى بني أسد ، وفلان مولى بني تميم  . هذا إذا كان ذاك الوافد لا يرد الى العرب في محتده.
لقد شارك هؤلاء الموالي في الحياة العربية الإسلامية مشاركة فعالة سلبا وإيجابا ، مثلما خاضوا غمار معارك عسكرية وسياسية وفقهية انحازوا فيها أحيانا الى السلطة الحاكمة طمعا في منصب أو في مغنم حملهم من بلدانهم الى أرض السواد ، ولكن البعض منهم قد انحاز في أحيان أخرى الى الحركات السياسية المعارضة .
ففي معركة كربلاء مثلا التي قادها الإمام الحسين عليه السلام ضد الحكم الأموي اشترك من أبناء الموالي هؤلاء ، الذين يتشكل أغلبهم من أبناء فارس ، خمسة آلاف مقاتل الى جانب الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد ذلك الجيش الذي بلغ تعداده عشرين ألف مقاتل على رواية ابن نما في كتابه مثير الأحزان . يضاف الى ذلك أن القائد الأموي موسى بن نصير المولود في قضاء عين تمر من كربلاء كان فارسي المحتد ، ومن بين الموالي هؤلاء ، ومثله كان يزيد الجد الأعلى لابن حزم الأندلسي الفقيه مولى ليزيد بن أبي سفيان الذي هو أخو معاوية بن أبي سفيان ، والفقيه هذا هو الذي نشر المذهب الظاهري في الإسلام إبان القرن الخامس الهجري بعد أن أخذه عن مؤسسه الأول داود بن علي الاصفهاني المولود في الكوفة سنة 200 للهجرة* وكذلك عن ابنه محمد بن داود بن علي الإصفهاني الذي كان هائما بعشق حبيب له يدعى محمد بن زخرف الذي يقول فيه:
 
يا يوسف الحسن تمثيلا وتشبيها......يا طلعة ليس إلا البدر يحكيها
من شك في الحور فلينظر إليك فما صيغت معانيك إلا من معانيها
ما للبدور وللتحذيف يا أملي....... نور البدور عن التحذيف يغنيها**
إن الدنانير لا تجلى وإن عتقت..... ولا يزاد على النقش الذي فيها

والمذهب هذا يفسر القرآن وما ورد من السنة على الظاهر ولا يعتد بالتأويل أو القياس وهو بعد ذلك قد لاقى قبولا واضحا عند ابن تيمية ، ومن ثم عند محمد بن عبد الوهاب على أيامنا هذه ، وعلى هذا تكون الوهابية الحاضرة قد جاءت من ذلك الرجل الاصفهاني الفقيه الذي كان يُريد في أحسابه الى موالي الكوفة ، وهذا دليل آخر على مشاركة هؤلاء الموالي سلبا وإيجابا في الحياة العربية الإسلامية على مختلف وجوهها مثلما أشرت الى ذلك من قبل .
واليوم يلعب الموالي الفرس في العراق ذات الدور السلبي الذي لعبه أسلافهم من قبل ، ولكنهم نقلوا هذا الولاء بالدرجة الأولى الى إيران صدقا ، ومن ثم الى أمريكا نفاقا ، فصاروا يسبحون بحمدها مع تمسحهم بالدين ، وبعد أن كانوا يسمونها لأيام قريبة بالشيطان الأكبر ، وذلك لأن همهم الأول والأخير قد أصبح الآن هو الحفاظ على النعمة التي فاض بها الجندي الأمريكي عليهم حيث جعلهم يتربعون على كراسي الحكم في العراق ، ويقعدون على عيون المال فيه ، فراحوا يتمادون بنهب ثروات العراق وخيرات شعبه ، وصاروا يعملون ليلا ونهارا على تفتيت وحدته الاجتماعية والجغرافية بهدف إضعافه وتحطيمه تنفيذا لمشاريع إيرانية قديمة جديدة معدة لهذا الشأن ، فإيران لا تريد اليوم عراقا قويا يقف على حدودها الغربية ، ولهذا كان أول شرط اشترطته على الأمريكان في محادثاتها السرية معهم  هو أن يظل العراق بلدا ضعيفا غير قادر على تهديد إيران في المستقبل ، وهي من ناحية أخرى ، وبذات الوقت تعمل حثيثا على تحقيق هذا الهدف من خلال مواليها الجدد الذين يتحدرون أنسابا منها ، ولهذا نرى هؤلاء ينادون بقيام فدرالية يقودها عبد العزيز الحكيم وجنده من أبناء التبعية الإيرانية تضم تسعا من المحافظات العراق في الجنوب والوسط ، كي تكون كيانا هزيلا يلحق مستقبلا بإيران كلية ، ولكن هؤلاء لا يملكون الشجاعة الكافية كي يعبروا عن هدفهم هذا علانية مثلما يفعل ذلك أكراد العراق في التعبير عن هدفهم في ضم محافظة كركوك الى كردستانهم لتكون هي أنبوب النفط الذي سيجلب لهم اعترافا دوليا بدولتهم القادمة على حد تعبير أحد منظريهم .
ووفقا للمخطط الإيراني هذا راح الموالي الجدد يطالبون بضم قضاء النخيب العراقي الى محافظة كربلاء الإيرانية حسب زعمهم ، وبحجة واهية هي أن صدام الساقط هو من قام بقطعها من تلك المحافظة وإلحاقها بمحافظة الأنبار العراقية . والحقيقة هي أن تغيير خرائط بعض المدن العراقية على زمن النظام الساقط لم يشمل محافظة كربلاء وحدها ، وإنما شمل مدن ومحافظات عراقية أخرى ، فقد قام النظام ذاك بضم قضاء الهندية ( طوريج ) الى محافظة كربلاء بعد أن كان تابعا الى محافظة بابل ، كما أن خارطة المدن في العراق قد تغيرت وتبدلت في أكثر من حكم وفي أكثر من زمان ، وإذا كان صدام قد قطع النخيب من كربلاء فهو نفسه من قام بقطع قضاء النجف منها وجعله محافظة مستقلة بنفسها ، وهو نفسه الذي قام بقطع قضاء السماوة من محافظة القادسية ، وهو نفسه الذي قام بقطع تكريت وسامراء من بغداد ، فهل يمكن لعاقل أن يأتي الآن ويعيد النجف الى كربلاء ؟ هل يمكن لهذا العاقل أن يعيد السماوة الى الديوانية ؟ أنا أسال موالي أمريكا في عراق اليوم ؟
بعد هذا وذاك يأتي السؤال الوجيه الآخر وهو : ما الهدف من الدعوة المحمومة التي يطلقها موالي إيران صدقا ، وأمريكا نفاقا في ضم قضاء النخيب الصحراوي الى محافظة كربلاء ؟
قبل أسبوع من كتابة مقالتي هذه سألت أحد الموظفين العاملين في أحدى الدوائر المهمة في محافظة كربلاء ، سألته عن حال المدينة وأهلها ، فرد علي ومن دون تردد أن المدينة بما فيها ، وما عليها قد أصبحت تحت النفوذ الإيراني ، ومن هنا يمكن القول إن إيران حققت هدفا طالما سعت إليه منذ قيام الدولة الصفوية فيها ، وعلى امتداد تاريخ معاركها مع الدولة العثمانية ، ذلك الهدف الذي يتجسد في بسط النفوذ الإيراني على مدينتي : كربلاء والنجف ، وهو هدف قد هيأت له الدولة الصفوية مبررات بسط نفوذها ذاك ، وذلك حين قلبت الناس في إيران من مذاهب أهل السنة الى المذهب الشيعي الصفوي تحقيقا لأهداف سياسية كانت تسعى لها في مناطق نفوذ الدولة العثمانية ، تلك المناطق التي كان العراق يأتي في المقدمة منها ، فقد كانت الدولتان تعتبرانه كنزا من الخيرات يمد خزائنهما بأموال طائلة ، ولهذا السبب حاول حكام الدولة الصفوية التقرب الى قلوب العرب الشيعة في العراق بتبنيهم للتشيع أولا ، وثانيا حين عمدوا الى تزوير التاريخ ، فقاموا بتزويج الإمام الحسين عليه السلام وهو في قبره من شاه زنان بنت آخر الأكاسرة المهزوم في معركة القادسية ، وبهذا أوجدوا لهم حصة في إرث الحسين حيث قالوا بأن الأئمة الذين انحدروا من صلب الإمام الحسين هم جميعا قد جاءوا من زوجته الفارسية شاه زنان ، وعلى هذه الشاكلة ، وبتعبير آخر يجب أن تكون مدينة كربلاء مدينة إيرانية وليس عراقية ما دامت تضم هي في ثراها جسد الحسين الذي زوجته الدولة الصفوية بعد أن مرت سنوات طويلة على استشهاده من شاه زنان الفارسية !
إن بسط النفوذ الإيراني على مدينتي : كربلاء والنجف يعني فيما يعنيه هو نقل حدود إيران الحالية وجعلها على مشارف المملكة العربية السعودية . ويحضرني هنا تصريح لأحد القادة الإيرانيين يحذر فيه دول الخليج العربي من مغبة مساعدة صدام وقت أن احتلت إيران مدينة الفاو الواقعة الى الجنوب من مدينة البصرة في الحرب التي دارت بينها وبين العراق في الثمانينيات من القرن المنصرم  قائلا : إننا أصبحنا على حدودكم الآن فاحذرونا !
ذاك هدف أما الهدف الآخر فهو هدف اقتصادي بحت حيث سيوفر طريق الحجيج المار بقضاء النخيب ملايين الدولارات للدولة الإيرانية ولمواليها في العراق ، فالمعروف أن النخيب كانت في الأساس محط قوافل تقع على طريق الحج البري القادم من العراق وإيران ودول بعيدة أخرى من مشرق الأرض ، ومن هنا جاءت أهميته قديما وحديثا ، فهذا الطريق البري التاريخي مر عليه الملايين من البشر قاصدين الديار المقدسة في مكة والمدينة لتأدية فريضة الحج أحيانا ، وللاتجار أحيانا أخرى ، ولهذا السبب كما يبدو فقد نادى قبل أيام مرجع إيراني المحتد يعيش في كربلاء بوجوب إعادة قضاء النخيب الى كربلاء ، وإنشاء سوق حرة فيها ، ربما سيبيع فيها هذا المرجع البضاعة الإيرانية الفاسدة التي ألحقت أضرارا جسيمة بالاقتصاد العراقي ، فقضية الشاي الفاسد الذي أستورد من إيران لازالت ماثلة للعيان ، وعلى أية حال فإن ودعوة المرجع هذا ما هي إلا تحريض واضح يحضّ على شرذمة العراق ، وعلى تفريق كلمة الناس فيه خدمة للمخطط الإيراني الرهيب الذي يجري تنفيذه بشكل هادئ ومدروس ، والقائل بوجوب بقاء العراق بلدا ضعيفا دوما ، وإلا أفما كان لهذه السوق الحرة أن تقوم في قضاء النخيب مع بقائه ضمن محافظة الأنبار العراقية ؟ ثم لماذا لا يدعو هذا المرجع الى إعادة قضاء الهندية ( طويريج ) الى محافظة بابل الذي اقتطع منها زمن النظام الساقط بحسب نظرية الموالي الجدد ؟ ألا تفضح الدعوة الى ضم قضاء النخيب الى محافظة كربلاء وعدم الدعوة الى ضم قضاء الهندية الى محافظة بابل مخطط إيران الرهيب في تفتيت العراق ، والعمل على قيام كيان هزيل في الوسط والجنوب من العراق ، وعلى شكل إمارة تلحق بها مستقبلا ، وتحت ذريعة الفدرالية التي لن تقوم أبدا ما دام العرب الشيعة متواجدين هناك ؟ هؤلاء العرب الشيعة الذين يريد لهم موالي إيران الجدد عدم البوح بقوميتهم مثل بقية البشر ، وعوضا عن ذاك يجب أن ينسوا كونهم عربا ، مثلما يتوجب عليهم أن يطلقوا على أنفسهم تسمية : أتباع آل البيت ، وفقا لما يخطط له الموالي الجدد في العمل على طمس هويتهم القومية ، سيرا على نهج النظام الجائر الحاكم في إيران الذي يصر على تسمية عرب الأهواز بالإيرانيين الناطقين بالعربية !
خلاصة القول هي أن دعوة ضم قضاء النخيب الى محافظة كربلاء تقع ضمن المخطط الإيراني الهادف الى رسم حدود إمارته في وسط وجنوب العراق وتحت ذريعة الفدرالية التي ينادي بها عبد العزيز الحكيم وأتباعه من موالي إيران صدقا ، وأمريكا نفاقا .
= = = = = = = = = = = = = = =
* وفي رواية أخرى سنة 202 للهجرة.
** التحذيف هنا هو التزين ، وذلك حين يقوم الرجل بتحفيف شعر وجهه.   


88
ما يجمع أوسيتيا الجنوبية بكركوك الشمالية  !            سهر العامري

لم يكن رئيس الحكومة الإيطالية سلفيو برلسكوني عبقريا حين أعلن قبل اسبوعين من التاريخ الذي اندلعت فيه حرب ساكاشفيلي القوفازية ما بين جورجيا ، الجمهورية السوفيتية السابقة ، وبين روسيا الإتحادية ، وذلك حين شنت دبابات الرئيس الجورجي ، ميخائيل ساكاشفيلي هجوما كاسحا على مقاطعة أوسيتيا الجنوبية ، واحتلت عاصمتها ، تسخينفالي ، ومن دون أن تأخذ بنظر الأعتبار تواجد قوات السلام الروسية في ذلك الإقليم ، ولا النظر بعين الأعتبار للمواطنين الأوسيتين المتحدرين من أصل روسي  ، خاصة وأن أوسيتيا مشطورة الى شطرين ، أحدهما وهو الشمالي الذي يقع ضمن الأراضي الروسية ، ويسمى أوسيتيا الشمالية ، والثاني هو الذي يقع ضمن الأراضي الجورجية ويسمى أوسيتيا الجنوبية والتي يطمح سكانها الى نوع من الحكم الذاتي،وعلاقات حسنة مع الجار الأكبر روسيا الإتحادية .
ولكن دمية الغرب ، رئيس جورجيا ، ساكاشفيلي ، اندفع نحو الحرب بأمل من أن أمريكا ، وحلف شمال الأطلسي ، وكذلك إسرائيل الطامحة في أن تكون هي المحطة التي تعبر عليها أنابيب نفوط القوقاز في اذربيجان ونفط الشرق الأوسط خاصة نفط مدينة كركوك العراقية التي يراد ضمها بالقوة الى إقليم مسعود .
أقول : لقد اندفع ساكاشفيلي الى تلك الحرب ، التي لن يخرج منها سالما ، بعد أن سمع تصريحا أدلى به الأمين العام لحلف الناتو في مؤتمر بوخارست قبل أشهر عن ثقته بأن جورجيا وأوكرانيا ستنضمان في النهاية إلى الحلف الأطلسي . مثلما جاء ذلك على صفحات جريدة الأوبزرفر البريطانية ، ولكن هذا ليس كل الحقيقة التي تقول : إن الدولة العبرية ( إسرائيل ) قد قدمت وبمباركة أمريكية مساعدات سخية في المجال العسكري للجيش الجورجي ، تمثلت بإرسال أكثر من ألف خبير عسكري عملوا على تدريب القوات الجورجية وإعدادها من أجل شن حرب خاسرة انقلب فيها السحر على الساحر بعد الرد الروسي الذي أثبت لإسرائيل وللغرب ولأمريكا على وجه الخصوص أن روسيا ليست روسيا سنوات التسعينيات من القرن المنصرم ، خاصة بعد تنامي اقتصادها ، وتخلصها من الديون الإتحاد السوفيتي السابق ، ودخولها الى أسواق ما كانت قد دخلتها من قبل مثل السوق السعودية الكبيرة. كما أنها عادت تسبح في مياه الخليج الدافئة ، وإن جيش شاه إيران الذي سلحته أمريكا حتى أسنانه صار اليوم يتسلح بالسلاح الروسي على مختلف أشكاله وصنوفه .
لقد كانت إسرائيل تطمح في أن يتم نقل الغاز من تركمانستان ، والنفط من اذربيجان عبر جورجيا الى ميناء شيحان التركي بدلا من شبكة الأنانبيب الروسية التي تغذي الكثير من الأقطار الأوربية ، وثم من تركيا الى إسرائيل حيث يتم تخزين النفط في ميناء عسقلان ومن هناك الى ميناء ايلات على البحر الأحمر ثم الى أسواق النفط العالمية خاصة تلك الواقعة منها في الشرق الأقصى .
ولكن الطموح الإسرائيلي هذا قد تحطم بقوة الرد الروسي السريع والحاسم مثلما تحطم بالون الاختبار الذي أطلقه الرئيس الجورجي ، ميخائيل ساكاشفيلي ، بدلا عن أمريكا والغرب في معرفة نوايا روسيا ، وردودها المحتملة اتجاه المخططات الأمريكية التي صنفتها في الآونة الأخيرة ، وقبيل إندلاع حرب ساكاشفيلي هذه ، من أنها عدو محتمل للغرب ، ويبدو أن الاستعدادات لاطلاق هذا البالون الإختباري هو الذي جعل رئيس الحكومة الإيطالية سلفيو برلسكوني يتنبأ بحرب ساكاشفيلي القوقازية عن علم ، وليس عن غيب بل عن وحي موحى به من أرباب رأس المال الذين لهم القدرة على شم روائح نفوط الدول وهي لما تزل في أحشاء الأرض ، ولهذا تجدهم يضعون هذه الدمية في هذا البلد أو ذاك من أجل الاستحواذ على خيرات الشعوب ، وبشتى الوسائل القذرة حتى لو كانت تلك الوسائل حروبا يهلك فيها الآلاف من البشر مثلما هي عليه الحال في العراق اليوم.
على أية حال لم يقدر دمية الغرب ، الرئيس الجورجي ، ميخائيل ساكاشفيلي ، الموقف الروسي تقديرا صحيحا حين أقدم على مغامرته الطائشة في ضم أوسيتيا الجنوبية بالقوة ، وبمشاركة من خبراء حرب إسرائيليين وكذلك خبراء من الحلف الأطلسي الذين تتشكل غالبيتهم من الأمريكان ، وها هو الآن يقف وحده بعد أن أمرت أمريكا بسحب عسكرييها من جورجيا ، وبعد أن أعلن رجال الحلف الأطلسي من أنهم لن يدخلوا الحرب بحجة أن جورجيا ليس عضوا في الحلف المذكور ، كما أعلنت إسرائيل من أنها أوقفت جميع شحنات الأسلحة الى جورجيا بعد أن كانت تتحجج من أن الأسلحة التي ترسلها لها كانت أسلحة دفاعية فقط .
والسؤال الوجيه الذي يأتي بعد ذلك هو : ماذا أبقوا هؤلاء لدميتهم الناطقة باللغة الانجليزية غير إعلان طلب الهدنة التي رفضتها روسيا حالا ، وطالبت بسحب القوات الجورجية الى المواقع التي كانت فيها قبل شنها للحرب ، ولهذا اضطر ميخائيل ساكاشفيلي أن يعلن الانسحاب التكتيكي ! مدحورا مذموما ، وربما ستكلفه فعلته هذه مستقبله السياسي ، فروسيا أعلنت أنها ستطالب بقيام محكمة دولية تكون مهمتها محاكمة مجرمي الحرب الجورجيين ، وفي المقدمة منهم ساكاشفيلي ، هؤلاء المجرمون الذين أزهقوا أرواح أكثر من 1500 ضحية من المدنيين في اليوم الأول للحرب فقط  ، مثلما شردوا أكثر من ثلاثين ألف مواطن من بيوتهم ومدنهم في نفس ذلك اليوم.
إن ضم أوسيتيا الجنوبية بالقوة يشابه دعوة نفر من القادة الأكراد بضم كركوك بالقوة الى إقليمهم تحت هذه الذريعة أو تلك ، ويبدو لي أن الضم هذا يتشابه في دوافعه ونتائجه في الحالتين ، فمثلما لعب النفط واسرائيل دورا في الحرب التي انهزم فيها مشعلوها في جورجيا ستلعب إسرائيل والنفط كذلك دورا في الحرب التي يراد إشعالها بين الأكراد في العراق من جهة ، وبين تركيا من جهة أخرى ، فبغض النظر عن الدوافع الأخرى فقد رفعت روسيا شعار الدفاع عن الروس القاطنين في أوسيتيا الجنوبية ، وهو نفس الشعار الذي سترفعه تركيا دفاعا عن تركمان كركوك في حالة ضمها بالقوة واندلاع الحرب فيها ، وليس شرطا أن تحتل تركيا كركوك ذاتها ، وإنما قد تحتل مدن من مثل دهوك أو أربيل ومن ثم تساوم على كركوك ، وقد يراهن الطرف الكردي على حلفائهم الأمريكان في هذه الحرب ! لكنهم سيكونون على خطأ فاحش هذه المرة كذلك ، فهم أعلم منا بمقدار التحالفات التي عقدوها من قبل مع الأمريكان ، والى اية نهاية انتهت تلك التحالفات ، زد على ذلك أن تركيا عضو فاعل في الحلف الأطلسي ولا يمكن لأمريكا أن تفرط بحليف كبير مثل تركيا .
وعلى أساس مما تقدم تكون الحرب في القوقاز ، والتي سيخمد أوارها في الساعات القادمة ، درسا بليغا لكافة الأطراف العراقية ، وفي المقدمة من هذا الأطراف القادة الكرد . درسا يجب أن يستخلصوا منه العبر في المحافظة على أرواح المواطنين العراقيين الذين سالت دماء كثير منهم على مر سنوات خمس قاسية ، هؤلاء المواطنون الذي تسعى إسرائيل ومن ورائها أمريكا الى ضربهم البعض بالبعض الآخر بعد أن تبين لهما أن ضرب الشيعة بالسنة لم يعد كافيا ، ولا بد من ضرب العرب بالأكراد ، وبدلا من أوسيتيا الجنوبية ، ستكون كركوك الشمالية هذه المرة .


89
الأحزاب الكردية ترفع شعار البعث: من ليس معنا فهو ضدنا !           سهر العامري   
   

يبدو أن بعضا من قادة الأحزاب الكردية في العراق يريدون أن يفصّلوا ثوبا للديمقراطية فيه ، وهو يئن تحت نير الاحتلال الأمريكي ، بالطريقة التي تتوافق مع هوسهم  بالاستيلاء على أراضي تخص عموم الشعب العراقي بكل قومياته وطوائفه ، هذا في وقت يدعو في هؤلاء القادة الى قيام عراق ديمقراطي فدرالي تعددي ، ولكن بشروطهم هم ، فإذا لم يعجبهم أمر من أمور الديمقراطية السوداء التي حملتها الدبابة الأمريكية هبوا مولولين رافضين لهذا الأمر الذي لا يتفق مع أهدافهم المبيتة ، والتي لا يمكن لها أن تتحقق في ظل الظرف الدولي الحالي أبدا .
وبالإضافة الى ذلك فإن تحركاتهم تلك ستؤدي حتما الى إثارة حفيظة عرب العراق عموما بشيعتهم وسنتهم وليس حفيظة الشوفينين من العرب فقط والذين لا يختلف عنهم أولئك القادة بمرض الشوفينية ذاك بعد أن صار مرضهم هذا يتجلى للعراقيين يوما بعد يوم. ولي أن أسوق هنا هذا المثال من التاريخ القريب الذي يحضرني الآن بعد أن مضت عليه سنوات عدة ، وذلك حين نما الى سمعي مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم تصريح مسؤول كردي من أحد الأحزاب الكردية ، وذلك خلال زيارة له الى ليبيا بدعوة من السلطات فيها ، وقد كان هو ينتقد في تصريحه ذاك سياسة الإتحاد السوفيتي اتجاه صدام وحكمه ، فيقول : ( لو كان لدى الأكراد أنبوب نفط لما وقف الإتحاد السوفيتي هذا الموقف منهم !)
لقد وقع مني هذا التصريح ومن غيري موقعا مؤلما خاصة وان التقدميين العراقيين ومنهم الشيوعيون كانوا يناصرون القضية الكردية على الدوام ، وقد تعرض الكثير منهم الى  السجن والتعذيب بسبب من مناصرتهم تلك في عهود مختلفة ، وهذا ما حملني وقتها على مناقشة هذا التصريح مع القريبين من قيادة الحزب الشيوعي العراقي في بلد عربي آخر ، وذلك حين قام الحزب بإرسال رفيق متقدم لي بعد أن عجز الرفيق الأول الذي دار بيني وبينه حديث ساخن حول هذا التصريح الذي أخضع سياسات البلدان الخارجية للنفط على ما يبدو ، هو رهان  راهن عليه صدام حينها كذلك ، ولكنه فشل فيه في نهاية الأمر ، مثلما فشل فيه من قبل شاه إيران الذي لم يستطع نفطها أن يدفع عنه المصير الذي آل إليه حكمه ، واليوم يراهن عليه بعض من قادة الأحزاب الكردية في العراق .
كان الرفيق الشيوعي المتقدم ذاك ينحدر من القومية الكردية ، وقد جابهني بالمنطق الصحيح الذي غاب عن الرفيق الأول ، فقد قال لي : لا يغب عن بالك من أن هناك أكرادا شوفينيين تماما مثل الشوفينيين من العرب . وهنا قفلت النقاش أنا معه ، ولكن مع هذا فقد ظل الكثير من الشيوعيين العراقيين يرتابون بسياسة التحالفات مع القوى الكردية القومية خاصة تلك التحالفات التي كان يقيمها الحزب الشيوعي العراقي معها ، ففي ندوة جمعتنا بسكرتير الحزب الشيوعي العراقي السابق ، عزيز محمد ، في المدرسة الاشتراكية العلمية بعدن عاصمة اليمن الجنوبي وقتها أعترض رفيق من رفاق قاعدة الحزب على خبر نقله السكرتير المذكور مفاده أن مسعود البرزاني قد بعث له برقية يطلب فيها منه العمل على قيام جبهة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وبين الحزب الشيوعي العراقي ، وكان ذلك بعد اشتعال الحرب بين العراق وإيران بأشهر ، وعلى هذا الخبر جاء اعتراض الرفيق ذاك على شكل سؤال يقول : ما الفرق بين الجبهة التي أقامها الحزب الشيوعي العراقي مع حزب قومي هو حزب البعث الذي يمثل البرجوازية العراقية الصغير وبين حزب قومي آخر هو الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يمثل البرجوازية الكردية الصغير كذلك ؟
وعلى هذا الأساس يمكن للمتابع أن يتلمس انعدام الفروق بين التصريحات الهوجاء التي يطلقها ممثلو الأحزاب القومية الكردية وبين تلك التي كان يطلقها ممثلو حزب البعث أمثال صدام وطه الجزراوي ، حتى أنك لتجد أحيانا أن البعض من ممثلي الأحزاب القومية الكردية يستعير نفس الكلمات ونفس التعابير من السلف الطالح ، حكام البعث المندحرين ، وأحيانا نفس الممارسات مثلما سيمر علينا ذلك بعد قليل .
بعد أن أقر البرلمان في العراق قانون انتخاب مجالس المحافظات الذي وردت فيه فقرة تنص على تقاسم السلطات بين العرب والتركمان والاكراد بنسبة 32 بالمئة ، وتبقى نسبة الأربعة بالمئة للكلدان والآشوريين ، ويبدو أن طريقة الإقرار تلك قد تمت بإشارة أمريكية خفية إلا أن ممثلي الحزب الديمقراطي الكردستاني قد شنوا هجوما شرسا على كل من شارك في التصويت على هذا القانون وخاصة على رئيس البرلمان ، محمود الهاشمي ، وقد حمل هذا الهجوم تهديدا فجا كنا نسمعه من أبواق صدام قبلا ، حتى وصل الأمر بأصحابه الى التخلي عن الديمقراطية والتعددية والفدرالية واللجوء الى القوة وذلك حين دعوا ( كل الكورد لإعادة حساباتهم في موضوع التحالفات والمناصرات غير المجدية مع من لا يعرفون ولا يقدرون الا لغة القوة والعنف.)
ولكم ثانية ، وعن الموقع الناطق باسم البرزاني ، أن تقرؤوا كلمات سمعناها أيام حكام البعث في العراق من مثل : شد الأحزمة ، أو المنازلة : ( فليكن الفعل المشين للمشهداني دافعاً وحافزاً للتوحد والتكاتف مع أنفسنا ومع الذين يمثلون طموحاتنا و يدركون خطورة مؤمرات وفتن آل عوجة الجدد وليكن هذه الضربة تذكرة لشد الأحزمة وخوض المنازلة بشقها الديموقراطي وبغيرها مع من لا يفهم الا هذا الغير وكان وسيظل أهل كركوك الكورد في المقدمة من أجل الأطاحة بنوايا وخبث الأعداء والحاقدين وعليه يجب دعوة اهلنا وناسنا ومحبينا في كركوك للتحرك والتهيأة لتلك المنازلة).
وبالإضافة الى هذا الإسفاف في القول الذي أعادنا الى زمن العنتريات فقد قررت الإدارة في أربيل سحب الرشى التي قدمتها من قبل الى رئيس البرلمان في العراق ، محمود الهاشمي ، رغم أن محمود الهاشمي لا يملك من الأمر شيئا مهما ، وإن عملية التصويت تلك قد تمت بمباركة أمريكية ، ولهذا السبب فقد طلب السفير الأمريكي ، كروكر ، مقابلة رئيس الجمهورية في العراق ، جلال الطلباني ، بعد أن سمع السفير هذا بالاحتجاجات الكردية على إقرار قانون انتخابات مجالس المحافظات ، ولهذا صدر بيان من مكتب رئيس الجمهورية يقول في بعض منه إن ( الطلباني أشار إلى أن هناك مشاورات مكثفة واجتماعات متواصلة تجري الآن بين ممثلي الكتل النيابية لمعالجة هذه المسألة والوصول الى صيغة مقبولة ومعقولة حول قانون انتخابات مجالس المحافظات بما يتناسب وروح الدستور والتوافقات الوطنية وبما يرضي جميع الأطراف.)
وعلى ذلك فقد اختفت لغة العنتريات التي مرت بنا قبل قليل ، وصار الحديث هذه المرة ينصب على ما يرضي جميع الأطراف ، ومن دون منازلات كلامية عاد الأكراد معها يفقدون التأييد من أغلب العراقيين الذين كان للأمس القريب يؤيدون بعضا من مطالبهم في رفع الظلم والحيف عنهم ، وبدلا من يحافظوا على هذا التأييد راحوا يعولون على أبناء التبعية الإيرانية بقيادة عبد العزيز الحكيم ، هؤلاء الذين يريدون أن يحولوا جنوب العراق الى إمارة إيرانية تستمد وجودها ومقوماتها من حكومة طهران ، وليس من العراق وأهله .
ويبدو أن الإدارة الكردية في أربيل قد فضحت نفسها بعد ذلك قبل أن تفضح محمود المشهداني ، رئيس البرلمان العراقي ، وذلك حين قامت بسحب الرشوة التي قدمتها له من قبل ، ولكم أن تقرؤوا نص الخبر التالي : ( قررت الادارة الكردية في اربيل سحب الدار التي خصصتها لرئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني بعد تصويت مجلس النواب على اقرار قانون انتخابات مجالس المحافظات.
 مدير الادارة المالية في اربيل قال ان المبلغ الذي دفعته محافظة اربيل من الميزانية العامة لتسديد بدل ايجار لسكن اخر للمشهداني والبالغ 90 مليون دينار هو في الواقع سلفة وعليه تسديدها لاحقا. )
والشيء المؤكد هنا أن الرشى الكردية لم تقف عند محمود المشهداني وحسب بل تعدته الى أطراف أخرى طالما تغنت بالوطنية والنزاهة من قبل ، ولكنها ارتضت بيع شرفها أخيرا ببيت يهدى لها ، ووظيفة يمن بها عليها ، وراتب تعد به دولارات خضر ، ونحن وانتم بانتظار القادم من الأيام لتكشف لنا إدارة أربيل عن عدد الذين ارتشوا ، واستحلوا المال الحرام في الوقت الذي يبحث فيه فقراء العراق عن كسرة خبز في قمائم الأغنياء الجدد الذين كانوا لسنوات قريبة يتسولون على أرصفة مدن الدول الأخرى ، ومن دون أن يمارسوا عملا شريفا فيها.





90

     الوزير ملا خضير يطلق النار على الطلاب      
               

  سهر العامري

في اليوم الأول من الإمتحانات العامة للمرحلة الثانوية ( البكلوريا ) وفي بغداد العاصمة أطلق وزير التربية خضير الخزاعي المعروف بملا خضير في أوساط المعلمين والمدرسين العراقيين ، هو وحمايته ، النار على الطلاب الممتحنين في قاعات كلية التربية الأساسية من محلة سبع بكار في بغداد العاصمة ، وذلك ردا على الاحتجاجات التي صدرت من الطلاب ولأسباب تتعلق بالعملية الامتحانية تلك الأسباب التي جاء على ذكرها بعض من أولئك الطلاب وعلى الشكل التالي : 
* عدم وجود مقاعد في بعض القاعات وإن وجدت فهي مغطاة بالأتربة .
* عدم وجود أسماء مثبتة على تلك المقاعد للطلاب الممتحنين الذين لم يتمكنوا من معرفة القاعة والمقعد الذي يجلسون عليه .
* وضعت بعض المقاعد الامتحانية في الممرات حيث الشمس اللاهبة في حر بغداد القاتل .
* عدم توفر الماء البارد أو عدم توفر وسيلة تبريد تساعد الطلاب على تأدية امتحاناتهم بالشكل المطلوب كما درجت عليه العادة في كل الامتحانات العامة التي عرفتها المدرسة الثانوية في العراق .
هذه الأسباب وغيرها هي التي أدت بالطلبة أن يحتجوا على وزير التربية الملا خضير الذي حضر الى المركز الامتحاني المذكور لسبب لا يعرفه الطلاب أنفسهم ، حتى أن بعضهم تساءل عن سبب حضوره الى المركز الامتحاني ذاك .
ولكي يطلع القارئ على الكيفية التي تدار بها الإمتحانات العامة في العراق وبشكل مختصر أقول : حين تناط مسؤولية قاعة امتحانية بمسؤول ما ، وغالبا ما يكون هذا المسؤول مدير ثانوية مقتدرا ، يقوم هو وبعض معاونيه من المدرسين بتهيئة تلك القاعة قبل يوم أو يومين من اليوم الذي تباشر فيه تلك الامتحانات ، وتتجسد هذه التهيئة بوضع المقاعد داخل كل قاعة بشكل متباعد للحد من عمليات الغش المحتملة ، مثلما يمنح هذا التباعد حرية أكثر للطلاب في الحركة ، وشعورا أكبر بالراحة ، ويسهل ذلك كذلك عملية مراقبتهم من قبل المدرسين المرشحين لهذه المهمة .
بعد ترتيب المقاعد تلك تأتي مرحلة تثبيت أسماء الطلاب وأرقام امتحاناتهم في جهة ما من المقعد الذي يجلس عليه كل واحد منهم ، ووفقا لقوائم عدت بأسمائهم وأسماء مدارسهم ، وغالبا ما تكون تلك القوائم مع المدير الذي يدعى ( الممييز ) وقت سير الامتحانات ، أو مع من يعاونه من المدرسين ، هذا بالإضافة الى وضع قائمة في باب كل قاعة امتحانية تحتوي أسماء الطلاب الذين يمتحنون فيها كي يسهل ذلك عليهم العثور على أماكن جلوسهم في اليوم الأول من تلك الامتحانات بسهولة ويسر ، وغالبا ما يعطى لكل قاعة رقما خاصا بها حين تتعدد تلك القاعات .
وتحوطا من حدوث خطأ ما في اسم طالب أو في مكان جلوسه تجرى لهذا الغرض مراجعة يقوم بها بعض المدرسين من الذين لم يشتركوا في لصق أسماء الطلاب على الرَحلات الامتحانية ، وبهذه الإجراءات وبغيرها تكون القاعة أو القاعات الامتحانية قد أعدت مسبقا ، وقد أصبحت جاهزة لاستقبال الطلاب بساعات قبل وقت بدء امتحاناتهم .
وعلى هذه الوصف الوجيز تكون احتجاجات الطلبة الممتحنين في قاعات كلية التربية الأساسية تلك ، والتي جاءت على لسان أحد الطلبة مبررة تماما ، خاصة تلك الاحتجاجات التي تتعلق بمعرفة أماكن جلوسهم والقاعات التي يمتحنون بها .
لقد كان المفترض بملا خضير أن يتلقى تلك الاحتجاجات المبررة برحابة صدر المربي الحصيف ، وليس بعنتريات قائد مليشيا تطلق النار على الطلاب من أبناء العراقيين المنكوبين بالوزير والمحتل الذي نصبه في مكان لا يستحقه هو ، وبالطريقة المتخلفة والبدائية التي وزعت فيها المناصب الحكومية ، تلك الطريقة التي قامت على المحاصصة الطائفية والعرقية ، وعلى أناس ليس لديهم الكفاءة على إدارة مدرسة واحدة ، فكيف بهم وقد أصبحوا يتربعون على عرش وزارة تدير المئات من المدارس على مختلف صنوفها وتخصصاتها ؟ لقد برر ملا خضير اطلاق النار ذاك الذي سقط فيه خمسة طلاب جرحى ، جروح اثنين منهم خطرة ، بمحاولة اغتيال كانت قد دبرت له ، وقد رد بعض الطلاب النابهين على تبرير الوزير الساذج ذاك بقولهم : بأي شيء نغتال الوزير ؟ هل نغتاله بالقلم أم بالكراس ؟ فكل الطلبة الذين دخلوا الى المركز الامتحاني المذكور قد خضعوا لتفتيش دقيق من قبل قوات الحرس الوطني ! التي تحيط بالمركز ذاك ، وهذا قبل أن يدخلوا هم الى القاعات الامتحانية الخاوية . ويبدو أن السبب الحقيقي الذي يقف وراء إطلاق النار ذاك هو تفوه حماية الوزير ملا خضير بكلمات نابية ضد أولئك الطلاب جعلت بعضهم يشتبك بالأيدي مع أفراد تلك الحماية ، ونتيجة للخوف الذي يسيطر على أغلب المسؤولين في العراق اليوم ، وذلك حين يغادرون هم بروجهم المحصنة في المنطقة الخضراء بجند بوش الميامين ! صاروا يبادرون الى إطلاق النار على أبناء الشعب حالا ، ومن دون تريث ، فأغلبهم يشعر في قرارة نفسه أنه غريب على هذا الشعب ، ولذا تجدهم في هروب دائم من الناس والشارع العراقي حتى صار قول الشاعر المتنبي ينطبق عليهم تمام الانطباق :

وضاقت الأرض حتى كان هاربهم.... إذا رأى غير شئ ظنه رجلا

لقد عادوا يرون اللاشيء رجلا يعجلون الفرار منه ، فلا غرابة بعد ذلك من تكرار جرائم مثل هذه الجريمة ، ، ففي نفس يوم جريمة سبع بكار في بغداد حدثت جريمة أخرى في البصرة هذه المرة ، وذلك حين قامت حماية النائب الغريب جلال الصغير الذي ينحدر من أصول إيرانية بالاعتداء على مجموعة من الصحفيين في البصرة عند اجتماع الصغير بمجموعة رجالات العشائر فيها ، وعلى أثر هذا الاعتداء سقط مراسل قناة الفرات أرضا مضرجا بدمه رغم أن تلك القناة تدار من قبل مجلس الحكيم والصغير نفسه وبإشراف من جهاز المخابرات الإيرانية ( اطلاعات ) والسبب الاعتداء على مراسل قناة الفرات هو ، مثلما يقول صحفي من هؤلاء ، كون المراسل ذاك عربيا من أهالي البصرة ، بينما حماية الصغير كلهم من أصول إيرانية . ويرى البعض أن حضور الصغير للبصرة كان بسبب غياب جيش المهدي عنها ، ومن أجل شراء ذمم رجال العشائر فيها بالمال والرشى استعدادا لانتخابات مجالس المحافظات ، فمجلس الحكيم ومن ورائه المخابرات الإيرانية يعملان حثيثا من أجل السيطرة على البصرة بشكل كامل ، وذلك للاستحواذ على نفطها خاصة وأنهم استطاعوا الاستحواذ على نفط ميسان حين قاموا بتأسيس شركة نفط ميسان ، تلك الشركة التي يراد منها أن تكون في أحضان الجارة المسلمة إيران !
والأمر الملفت للنظر هنا هو سكوت جميع الأحزاب والمنظمات العراقية عن إدانة تلك الجريمة النكراء التي ارتكبها الوزير ملا خضير وعناصر حمايته بحق طلاب العراق باستثناء صنيعة من صنائع الاحتلال وهم جماعة أحمد الجلبي الذين استنكروا هذه الجريمة القذرة التي تزيد في قذارتها على تلك الجريمة التي سقط فيها ثلاثة طلاب وطالبة أخرى على عهد الرئيس عبد الرحمن عارف ، وذلك حين قام الجيش بمهاجمتنا نحن طلاب كلية التربية - جامعة بغداد ، وكنا وقتها قد بدأنا إضرابا احتجاجا على إلغاء نتائج الانتخابات التي فاز بها الاتحاد العام لطلبة العراق ، وهي النتائج التي أفزعت الدوائر الغربية فعجلت بانقلاب 17 تموز المشؤوم الذي حمل احمد البكر وصدام الى السلطة في العراق .
ومع أن تلك الجريمة التي وقعت زمن الرئيس عبد الرحمن عارف لم يقم بها وزير تربية من وزراء حكومة رئيس الوزاء طاهر يحيى إلا أن رئيس الوزراء المذكور هبّ مساء يوم حدوث الجريمة تلك ، حاملا باقات من الورد ، وذلك من أجل عيادة الطلاب الجرحى الراقدين بمستشفى الطوارئ الكائن في شارع الكفاح ، وكنت أنا واحد من الطلاب الذين جاءوا لعيادة الطلاب الجرحى الراقدين في المستشفى ذاك . وفوق هذا ، واحتجاجا على تلك الجريمة ، فقد قام خمسة من وزراء تلك الوزارة بتقديم استقالاتهم في مساء اليوم نفسه ، وقد بث خبر الاستقالة هذا من إذاعة بغداد ، فهل بمقدور ملا خضير أن يقتدي بموقف أولئك الوزراء ويقدم استقالته خاصة وأنه مشارك نشط في جريمة اليوم وليس مثل وزراء حكومة طاهر يحيى الذين لا دخل لهم بجريمة الأمس ؟ تلك الجريمة التي فجرت الوضع السياسي في العراق فيما بعد ، وعجلت برحيل الحكم العارفي حيث امتد إضراب كلية التربية ليشمل كل كليات جامعة بغداد مثلما وصل الإضراب نفسه الى جامعتي : البصرة والموصول ، كما كانت تلك الجريمة محل إدانة من أطراف وطنية عراقية كثيرة . فعلام تسكت هذه الأطراف اليوم عن هذه الفواجع التي تنزل بالعراق والعراقيين كل يوم ؟ لماذا صمت القبور هذا عن جريمة الغريب ملا خضير يا سادة ! ؟

91
المنبر الحر / مشاريع ذي قار
« في: 22:27 21/06/2008  »
 
مشاريع ذي قار     
 

                         
سهر العامري

لمن لا يعرف محافظة ذي قار العراقية أقول : إنها مدينة الناصرية الجنوبية التي قامت على ضفتي نهر الفرات ، وقريبا من مدينة أور الأثرية عاصمة السومريين ، وموطن إبراهيم أبي الأنبياء ، وكانت محافظة ذي قار تسمى لسنوات خلت بلواء المنتفق ثم الناصرية ثم محافظة ذي قار وهو الاسم الذي استقرت عليه أخيرا . 
والمحافظة بعد ذلك من المحافظات التي تعرضت الى إهمال واضح من قبل حكومات عراقية متعاقبة خضعت لمشيئة الإنجليز بعد سقوط بغداد على أيديهم إبان الحرب العالمية الأولى وفي في 11 مارس/ آذار1917م ، وخروجها عن سيطرة الدولة العثمانية الى سيطرتهم بشكل تام .
وقيل إن سبب إهمال الإنجليز لهذه المدينة هو وقوف أهلها ، وهم من الشيعة ، بوجوهم أيام اشتعال نيران تلك الحرب حتى أن بعض قادتهم اعترفوا بمذكراتهم أنهم لاقوا من مقاومة أهلها أياما عصيبة فيها ، وهم كانوا يريدون وقتها مواصلة زحفهم عبر الفرات وباتجاه مدينة واسط حيث التقت هذا القوات بقواتهم الزاحفة من البصرة ، وعبر مدينة ميسان ، وباتجاه مدينة واسط كذلك ، لتشكل فيما بعد جبهة حرب واسعة تكبدت فيها هذه القوات خسائر رهيبة في معارك عنيفة ضد القوات التركية عرفت فيما بعد بمعارك الكوت ، وكان هذا قبل أن تسقط بغداد بأيديهم سنة 1917م مثلما ذكرت ذلك من قبل.
ذاك كان سببا ، أما السبب الآخر لحرمان هذه المدينة من نهوض حضاري مثلما قيل هو خروج الشيوعيين في العراق منها بقيادة ابنها، عامل الثلج ، يوسف سلمان يوسف ( فهد ) فصارت الحكومات الإنجليزية المتعاقبة في العراق تنظر الى سكان تلك المدينة من خلال ما عرف بالشينات الثلاثة : شروقي ، شيعي ، شيوعي . 
وعلى ذلك لم ينتصف لهذه المدينة حاكم عراقي إلا الزعيم عبد الكريم قاسم ، ووزيرة بلدياته الشيوعية الدكتورة نزيه الدليمي ، وذلك حين قامت فيها في عهد ذاك الزعيم بنايات جديدة ، وشوارع معبدة ، وساحات وحدائق ، كما شيدت مدارس كثيرة ، وتوسعت أخرى ، ولأول مرة في تاريخ المدينة تخترق طرق السيارات أهوارها ، مثلما اخترقت أعمدة الكهرباء شوارع قراها ومدنها الصغيرة . هذا الى جانب التوسع في الخدمات الصحية والتربوية ، حيث شيدت المستوصفات الصحية ، وبنيت الأقسام الداخلية للطلاب القادمين الى مركز المدينة من أطرافها ، مثلما قام جسر حديث فيها على نهر الفرات ، ومر بها خط سكة حديدية متطور انتقل معه ذاك الخط من خط متري الى خط عريض ، فعاد القطار معه يسير بعربات أحدث وأوسع وبسرعة أكثر . يضاف الى تلك الإنجازات المهمة ما بني من دور سكنية لذوي الدخل المحدود من أهالي المدينة .
لقد تم إنجاز أغلب تلك الأعمال بخبرة عراقية ، وفي غضون أربع سنوات ، وهي فترة قصيرة إذا ما قيست بكثرة ما أنجر من عمل فيها ، ومع كل ذلك لم يطلق أهلها في ذاك الزمان لفظ مشاريع عليها ، مثلما يعمد أبناؤها اليوم من الذين عادوا يتربعون كراسي الحكم فيها على أعمال لا يمكن أن تطلق عليها كلمة : مشاريع ، هذه اللفظة الكبيرة في مبناها ومعناها ، ولكي يكون القارئ على بينة مما أقول سأنقل له نص الخبر مثلما جاء على ظهر أحد المواقع وعن جهات مسؤولية في تلك المحافظة ، ولكن بطريقة لم تحترم فيها عقول القراء ، حيث جاء ذاك الخبر تحت عنوان كبير وضخم تزوغ لرؤيته الأبصار يقول :
ذي قار تنجز388 مشروعا خدميا في قطاع البلديات!
مئات المشاريع تلك جاءت ضمن خطط ثلاث سنوات هي سنة 2006، 2007، 2008. وكانت تلك المشاريع كما جاءت في نص الخبر ذاك هي : ( أعلن في محافظة ذي قار عن انجاز 388 مشروعا خدميا من أصل 546 مشروعا تضمنتها الخطط التنموية والاستثمارية لقطاع البلديات وبكلفة إجمالية تقدر 234,860 مليار دينار. وتشتمل المشاريع التي هي بواقع 256 مشروعا ضمن الخطط التنموية لعام 2006 و138 مشروعا ضمن الخطط التنموية والاستثمارية لعام 2007 وخطة إنعاش الاهوار لعامي 2006 و2007 و152 مشروعا ضمن الخطة التنموية لعام 2008 على 251 كم طول تبليط وأكساء طرق و151 كم طول إنشاء وتأهيل طرق بالترابية والسبيس و120 كم طول مد قالب جانبي و234 ألف متر مربع فرش وتأهيل أرصفة بالانترلك والشتايكر والكونكريت و468 ألف متر مكعب ردم مستنقعات فضلا عن إنشاء وتأهيل حدائق وساحات عامة وتجهيز آليات اختصاصية وحاويات نفايات ومشاريع إنشاء سواقي ومجاري سطحية . )
والمضحك في الخبر المار أعلاه هو أن معده يعتبر حاوية النفايات ، والمجاري السطحية مشاريع مهمة ، أما ( آليات اختصاصية ) فهذه تسمية حديثة للمشاريع أجهلها أنا رغم أنني بحثت عنها في القاموس كثيرا ، وحين عجزت توجهت الى أهل المدينة علني أجد جوابا لديهم ، فأنكروا علي سؤالي وقالوا لم نسمع من قبل بمشروع أسمه ( آليات اختصاصية ) ربما كان هذا مشروعا إيرانيا جديدا وصلنا من الجمهورية الإسلامية ! ونحن لا نعلم به . قلت معهم ربما .
ومن تلك المشاريع مشروع إنعاش الأهوار التي يدرس طلابها للآن في مدارس هي أشبه بزرائب حيوانات لا تليق بعصر الديمقراطية والتعددية والفدرالية والحرامية ...الخ ، هذا رغم أنني قرأت في الأخبار مؤخرا أن هور الحمّار انتكس إنعاشه وزاد انكماشه حتى صارت نسبة المياه فيه الآن 30% من مساحته المعروفة والتي غطتها المياه بنسبة70% في بداية عملية الانعاش تلك .
عند هذا وذاك ترحمت على روح شاعرنا كعب بن زهير ابن أبي سلمى لبيته :

         كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مثلا...... وما مواعيدُهُ إلا الأباطيلُ !

ولكن شيطان الشعر لعب برأسي ، فحال بيت كعب الى هذه الشاكلة :
   
       صارت مشاريع ذي قار لهم مثلا.....وما مشاريعُها إلا الأباطيلُ !






92
المنبر الحر / احتجاج الموتى* !
« في: 19:29 16/06/2008  »
        
  
احتجاج الموتى* !    
                             
سهر لعامري

كان للخبر الذي نقله شرطي قتيل من فوج الطوارئ السريع بعبوة ناسفة من أبناء مركز المحافظة الجنوبية وقع مدو ٍ على أرواح الموتى من أبناء تلك المدينة ، صاحبته ضجة كبيرة غطت سماء أكبر مقبرة في العالم ومع ذلك فهي تزداد اتساعا كل ساعة ، وكان السبب وراء تلك الضجة هي الأصوات العالية التي ارتفعت من أفواه قبور رقد أصحابها في سكرة موت أبدية ، ولكن ذاك الخبر المشؤوم أيقظهم من سباتهم المستديم ، فراح كل واحد منهم يتساءل عن السبب الحقيقي وراء امتشاق محافظ المدينة الجنوبية تلك لسيف الشريعة ، وإعلانه الحرب على الخمرة وعشاقها ، وذلك حين أصدر قرارا منع بموجبه وصول الخمرة الى أفواه اعتادت أن تصل لها منذ عصور غبرت ، هذا في وقت لم يستطع فيه ذاك المحافظ ، الذي قلت بصيرته ، من إصدار قرار يمنع فيه غربانا سودا عبرت المحيطات وظلت تحلق على مدى سنوات في سماء تلك المدينة الوادعة حتى أنها في أحيان كثيرة صارت ترمي علب البيرة الأمريكية الفارغة فوق سطح دار النبي إبراهيم التي هجرها فارا بجلده من ظلم أسود ومن سعير نار حامية كانت عليه بردا وسلاما بقدرة قادر قدير .
لقد سأل المحتجون واحدا من المغرمين بها عن سبب وصفه لمحافظ المدينة بقلة البصيرة بعد إصداره لقرار المنع ذاك ، وعن الأسباب التي وقفت وراء إصدار القرار هذا ، مع علم المحافظ الأكيد أن قراره الذي أزعج الموتى وهم في قبورهم لا يمكن له أن يطبق بأي حال من الأحوال ، فالشريعة التي تذرع بها لم تستطع على امتداد تاريخها الطويل أن تحول بين الخمرة وبين المغرمين بها الذين صلوا لله في أحيان كثيرة ، وهم سكارى ، ولا فرق في ذلك بين رجل من عامة الناس وبين قائد وإمام يؤم المسلمين في مسجد الكوفة ، مثلما هي الحال مع المغيرة الذي سجد ثم نام في سجدته بعد أن أخذته سكرة من عاشقته في حلم جميل .
على تلك الصورة أوضح أولئك المحتجون سؤالهم لكريم حنظل الذي أوضح بإسلوب فلسفي أخاذ البون الشاسع بين التحريم الذي قالت به الشريعة وبين المنع الذي صدر عن المحافظ بقرار ، رغم أن هذا التحريم قد اختلفت حدوده عند هذا الطرف أو ذاك . وأزاد كريم على ذلك قائلا : إن الشريعة قالت بتحريم الخمرة لذاتها ولم تقل أنها ممنوعة على عشاقها لاستحالة متحققة في هذا المنع ، فإنك قد تستطيع أن تحرم الهواء على إنسان ولكنك لا تستطيع أن تمنع الهواء من وجود ليس لك أنت القدرة على إلغائه ، وعلى هذا يكون التحريم في الشريعة ليس هو المنع الذي جاء به ذاك المحافظ على قلة درايته في الجدل الفلسفي الذي حظت به هذه المسألة من مدارس فلسفية وفقهية متعددة ، ومع ذلك ربطت الشريعة ذلك التحريم بإقامة الحد على شاربها مع وجود شهود صدق وليس لتهمة يلفقها هذا الطرف أو ذاك للكيد بالآخرين ، وقد استشهد كريم حنظل في أن التحريم شيء والمنع شيء آخر بموقف الخليفة الرابعة سنوات خلافته في الكوفة ، وذلك حين أقام الخليفة هذا الحد على ثلاثة من اللذين شربوها في شهر رمضان ، وبعد إقامته للحد ذاك زاد كل واحد منهم خمسة سياط في حد ذاك ، وهذا ما جعل هؤلاء العشاق يستنكرون عليه تلك الزيادة ، متسائلين عن سبب ذلك ، فقال لهم : لأنكم اجترأتم على حرمة الشهر !
فهل يستطيع المحافظ ، تساءل كريم أمام حشود المحتجين من الموتى ، أن يبرر للناس في مدينة أور العصية منعه للخمرة ، وليس تحريمها ، وبذات الطريقة التي برر بها الخليفة الرابعة زيادته في الحد برحابة صدر حين طلب منه معاقروها ذلك ؟
بعد ذلك أوضح كريم حنظل أن السبب الحقيقي الذي دفع المحافظ لإصدار مثل هذا القرار هو رغبة جامحة اجتاحت نفسه في ليل معتم بهيم بعد أن وجد أن أهل تلك المدينة عادوا لا يلتفتون الى ما يقول ، فأراد أن يفرض نفوذا عن طريق الشريعة على مدينة منكوبة  ضاقت ذرعا بالفقر والاحتلال وبحكمه .
حاز كريم حنظل ، لجميل قوله ، وحصافة رأيه ، على إعجاب المتسائلين من الموتى الذين أيقظهم قرار المحافظ المجحف من سباتهم العميق بعد أن عبوا ما عبوا من الخمرة في ليالي ملاح هناك على شواطئ الفرات المسافر الى الجنوب أبدا ، تلك الليالي التي لا زالت تراود خيالاتها روح كريم حنظل نفسه ، فقد اعتاد هو أن يفتش عن نديم له يقاسمه شرب كأس منها في منتزه 14 تموز القائم على تلك الشواطئ كلما نزل الى مركز تلك المدينة التي عرفته خطيبا بارعا حالما يعب في جوفه كأسا من عرق العراق الشهير المصنع من تمر نخيله ، فهو لم يتوانَ عن التعرض للحكام وشتمهم أحيانا وعلى رأس الأشهاد في شوارعها ، فذات ليل ، وبينما كان يصعد هو ونديمه حميد سلم جسر تلك المدينة عائدين من ذلك المنتزه في ساعة متأخرة من الليل ، ومتوجهين الى الجانب الكبير منها ، خطب كريم حنظل خطابا ناريا هاجم فيه الحكومة والرئيس المشير ، ولفرط ثورته فقد سقط عقاله من على رأسه دون أن يشعر به هو ، ولا نديمه حميد . وبعد أن قطعا الجزء الأكبر من ذلك الجسر جاءهم صوت صائح من بعيد
- هذا عقال أحدكم قد سقط من على رأسه !
لم يكن حميد النديم يعتمر الكوفية والعقال ، ولكنه حين نظر الى كريم وجد الكوفية على رأسه ومن دون عقال ، فطلب منه أن يكف عن الخطابة ، وأن يأخذ عقاله من الرجل الذي جاء راكضا من أجل تسليمه له . ورغم ذلك ظل كريم يواصل خطابه المفعم بعبارات متطايرة المعاني لا يشبه بعضها البعض ، فتارة تراه يغوص في أعماق التاريخ ، يسرد روايات منه دون أن يتبين صحتها ، أو يتمحص وقوعها ، فحين نزل هو وحميد من سلم ذاك الجسر ، وسارا على رصيف الشارع الممتد على الفرات من ضفته الأخرى كان كريم ما زال يخطب ، ولكن حميد توقع خطرا ما سيقع حتما إذا لم يتوقف كريم عن خطابه ذاك أو على الأقل أن يخفض من صوته .
- إنتبه يا كريم ! أترى أنت مثلي تلك المجموعة من الشباب السكارى الجالسين على تلك الأريكة التي نصبها الزعيم أم أنك لا ترى ؟ ثق - يا كريم - أن هؤلاء سيشيعوننا بالسخرية والعفاط إن لم تكف أنت عن خطابك هذا ، فهم على أية حال سكارى مثلنا ، وفي حالة مثل هذه الحالة فإننا سندخل في عراك معهم ، فهل أنت مستعد لمثل هذا المصير ؟
تراجع كريم حنظل الى الخلف ، وكان شرار الغضب يتطاير من عينيه الجاحظتين ، ثم قال بحدة واضحة : بأية مجموعة تهددني أنت ؟ أما علمت أنت بأنني قاتلت مع النبي في معركة صفين !
انفجر حميد بضحك متواصل ثم بضحك مسموع ، وضع يده على بطنه التي كادت أن تنفجر ، فقد تيقن أن كريم قد غرق بسكرة عميقة ، صار معها يرى نفسه بطلا من أبطال التاريخ ، فهو قد قاتل في معركة صفين الشهيرة ، ولكنه نسى أن معركة صفين وقعت في البصرة ولم يكن النبي طرفا فيها أبدا ، إنما هي معركة الأمام علي من جهة وعائشة من جهة أخرى ، ولهذه المفارقة الغريبة بين التاريخ وبين رواية كريم له ضحك حميد بتواصل ومن دون انقطاع ، ومع ذلك أخذ كريم من أحدى يديه وراد أن يغيير الطريق من أجل أن يبتعدا عن تلك المجموعة ، ولكن كريم حنظل رفض أن يتحول عن الطريق الذي يسيران عليه ، وهو يعيش في حلم يرى نفسه فيه أنه يخوض غمار معركة يتطاير النقع فيها حتى صار كل شيء معتما أمامه إلا ذلك الطريق الذي أصر على السير فيه ، ولكن حميد تذكر أن أحد أبطال الخمرة من أبناء تلك المدينة لا بد له أن يكون جالسا الآن في باحة كازينو النافورة التي تقع على مسافة قريبة من المكان الذي يقفان عليه ، وأن هذا البطل على معرفة قديمة بكريم حنظل ، وذلك حين نزل هذا البطل المدينة الصغيرة التي يعيش فيها كريم ، والتي هي واحدة من المدن التابعة لأور العصية ، ولهذا فقد وجد حميد أن النطق باسم هذا البطل الصنديد كفيل بإقناع كريم في تغيير خط سيره .
- أما تريد أن ترى كاظم شطنان في هذه الساعة ؟
- أين هو ؟ صاح كريم وكأنه قد أفاق من سكرته ، فكاظم شطنان خدين شراب صدوق ، سمح الكف ، طيب النفس ، حلو المعشر ، دائم الابتسامة ، يعتمد على جسم نضدت عضلاته بطريقة محكمة صنعها العمل المثابر في بناء الدور والمحلات التجارية ، ولطالما تباهى كاظم نفسه بتلك العضلات وهو يستعرضها أمام أعين بنات الناصرية حين يقفن على جانبي شارع الحبوبي لمشاهدة مواكب اللطم الحسينية في الأيام العشرة الأولى من شهر عاشور من كل سنة ، تلك المواكب التي حرص هذا البطل على المشاركة فيها ، وكانت الصدفة وحدها هي التي جمعت كريم بكاظم في تلك الليلة المقمرة على شواطئ الهور ، والتي تقاسما فيها قنينة خمر كاملة ، وكان السبب في نزول كاظم شطنان المدينة الصغيرة هو حاجة الحاج عبد الرحمن الذي يعيش فيها الى عامل بناء ماهر ، ولهذا قام هو بزيارة ابنه حميد الذي يدرس في ثانوية الناصرية ، وطلب منه أن يجد له ذاك العامل الحاذق ، فالحاج عبد الرحمن يريد أن يشيد محلا تجاريا كبيرا بعد أن اشترى محلا تجاريا مجاورا لمحله من أبي كريم ، ولذلك عزم على تحويل المحلين الى محل تجاري واسع يكون مخزنا لأكياس تبغ عظيمة الحجم يستوردها من بغداد ثم يبيعها فيما بعد على تجار المفرد في تلك المدينة الصغيرة ، فما كان من حميد الابن إلا أن قاد أباه الى كاظم شطنان الذي اعتاد الجلوس في مقهى شرّاد وقريبا من خمارة داود أبو العرق مثلما يسميه أهل المدينة.
لم يكن الحاج عبد الرحمن يعلم أن كاظم شطنان واحدا من المغرمين بالخمرة ، فكاظم رغم إجادته المتقنة لبناء الدور والمحلات ورغم مثابرته في العمل ، لكنه لم يكن بوسعه أن يستغني عن عشيقته التي طالما أخذته الى عوالم من اللذة حيث أقيمت لفلسفتها مدن خالدة خلود مدينة أور العصية ، ولهذا هرب هو خلسة بعد ثلاثة أيام من نزله في المدينة الصغيرة ، وذلك حين أخذه شوق جارف لخمارة داود أبو العرق بعد أن عزت عليه قطرة خمرة واحدة رغم تفتيشه الكثير عنها في مكان عمله الجديد في تلك المدينة التي تفصلها عن خمارة داود مسافة تقترب من السبعين كيلومترا .
لقد استيقظ الحاج عبد الرحمن مبكرا على عادته لكنه لم يجد كاظم نائما في فراشه ، فتملكته حيرة كبيرة ، هب على إثرها يسأل عنه في كل مكان حتى أنه لم يترك واحدا من العمال الآخرين إلا وسأله عنه ، ولكن الجميع لم يكن لهم علم بسر اختفاء كاظم المفاجئ ، فهو غريب عليهم ، ولم يتعرفوا من قبل على طباعه وعاداته ، وحين عجز الحاج عبد الرحمن من الوصول الى نتيجة في بحثه عنه  قرر السفر الى مركز مدينة الناصرية كي يسأل ابنه عن أمر هذا الرجل الذي تركه وترك العمال وترك البناء على حاله من دون أن يتمه رغم أن الحاج عبد الرحمن قد أعطاه أجرا مجزيا ، مع تكفله بنومه وأكله طوال بقائه معهم في مدينتهم .
فجأة وجد حميد ، الذي كان جالسا مع زملائه الطلاب في مقهى لا تبعد كثيرا عن خمارة داود المطلة على شارع الجمهورية من مركز المدينة ، أباه أمامه صائحا به : أين ذهب كاظم ؟ هل رأيت كاظم ؟
- لا . رد حميد على أبيه ثم أضاف : تعالَ معي فأنا أعرف مكان تواجده المفضل !
- أين تجده ؟ في أي مكان من المدينة يسكن هو ؟
- أنا متأكد من أننا سنجده جالسا الآن في مقهى شرّاد قريبا من خمارة داود ، ويبدو أنه ترككم وترك العمل هناك بعد أن اشتاق للخمرة فهي عشقه الوحيد في هذه الحياة .
في الطريق وهما يسيران حدّث حميد أباه عن ذاك العشق ، وأوضح له أن كاظم اعتاد الجلوس في مقهى شرّاد قريبا من خمارة داود ليتمكن بين الحين والآخر النهوض من مكانه في تلك المقهى ليشرب قدحا صغيرا ( بيك ) من الخمرة يعده له داود على عجل فيقوم هو بشربه دفعة واحدة ، ومن ثم يعود ليجلس في مكانه ذاك ، وكلما صعدت الخمرة الى رأسه بادر ثانية فتناول قدحا آخر منها .
- كان من المفروض أن تقول لي أنني أهيم غراما فيها ، لرأيت ساعتها كيف أشترى لك برميلا منها بحنفيته وأضعه لك أمام محلي الذي تركته على النصف ، وكلما اشتقت لها فتحت أنت حنفية ذاك البرميل وشربت ما طاب لك من خمره .
ضحك كاظم شطنان من أعماقه من مخاطبة الحاج عبد الرحمن له بإسلوبه الساخر ذاك مثلما ضحك آخرون كانوا يجلسون الى جواره . بعدها نهض هو ووضع قبلات متكررة على رأس الحاج عبد الرحمن الذي أخرج من جيبه بعضا من الدنانير قائلا له : هذه أجورك للأيام القادمة ، وتستطيع أن تشتري بها ما تريد من خمرة ، وحملها معك إذا أردت.
بعد سنوات على تلك الحادثة صار كاظم شطنان يستل روح علبة بيرة دنماركية قد حلت ربوع مدينة أور مع حلول الدبابة الأمريكية فيها ، ووقت أن سمع باحتجاج نديم الصدق كريم حنظل ، وآخرين غيره على قرار المنع ذاك ، فهو يعلم أن مدينته أور قد سبقت مدن العالم كلها في تصنيع الخمرة التي أنتجت منها أصنافا كثيرة حتى أن ابنها جلجامش حين رحل عنها باحثا عن سر الخلود ابتاع من أحدى بناتها خمرة صافية كعين الديك بعد أن محضته تلك المرأة السومرية نصائح لا تقدر بثمن وقت أن عزم هو على السير نحو غابة الأرز في رحلة اكتنفتها كثير من المخاطر . ولذلك وعلى هذا التراكم الضخم من تاريخ هذه المدينة صعد كاظم ليصيح بوجه ذاك المحافظ محتجا : لا يمكنك أن تكون نمرودا ثانيا أبدا في وقت تسحق به الدبابة الأمريكية عظام الموتى في أرض عشتار الطاهرة !
--------------------------                                                                       
* قصة قصيرة


93
علموا أولادكم الخط والنط والشط !     
                 
                                                                                                  سهر العامري
بعد الفوز الباهر ، الذي حققه فريق المنتخب الوطني العراقي على المنتخب الوطني الأسترالي في المباراة التي جرت بينهما في دبي ضمن تصفيات كأس العالم في لعبة كرة القدم للدول الآسيوية ، نزلت حشود الجماهير العراقية الى شوارع المدن في العراق من أقصى شماله وحتى أقصى جنوبه وهي تهتف وتصفق لفريقها الذي استطاع أن ينتزع هدفا رائعا من خصمه الأسترالي سجله لاعبه عماد محمد من ضربة طويلة شلت دفاع ذلك الخصم وجعلته يقف خائر القوى دون أن يقوم بأية ردة فعل رغم أن الكثير من مشاهدي اللعبة على شاشة التلفزيون كان بوسعهم معرفة ما يريد عماد محمد فعله قبل أن يمد قدمه الى الكرة لتنطلق مثل سهم وعلى شكل قوس أسقطت حامي الهدف أرضا ولكن من دون أن يصدها .
لقد كان الهدف الذي سجله اللاعب عماد محمد في شباك فريق المنتخب الوطني الأسترالي يذكر عشاق الكرة العراقية بهدف الفوز الذي صنعه حسين سعيد في اللقاء الذي تم بين فريق الشباب العراقي وبين فريق الشباب الإيراني ، ذلك الهدف الذي تم تسجيله في الدقائق الأخير من وقت المباراة تلك ، وهو الهدف الذي كاد أن يسقط ابن شاه إيران وقتها من على كرسيه في منظر غريب سجلته عدسة كامرة التلفزيون وقتها. وقد ترتب على ذاك الهدف نتائج منها :
* صعود نجم اللاعب حسين سعيد الذي كان طالبا يدرس في كلية الزراعة من جامعة بغداد وقتها ، وهو بذلك كان أحد زملائنا في تلك الجامعة ، ومثلما نعرف نحن أنه ما كان محسوبا ساعتها على جهة سياسية عراقية معينة ، لكنه عرف كلاعب محبوب من قبل الجماهير العراقية لا لشيء إلا لأنه كان بارعا في اللعب استطاع هو وزملاؤه الآخرون أن يتقدموا بلعبة كرة القدم أشواطا لم تألفها الكرة العراقية من قبل. ويضاف الى ذلك أن حسين سعيد شب مع الكرة قبل أن يشب عدي صدام مع الحكم ومن ثم يتحكم فيما بعد بمصير اللجنة الأولمبية العراقية ، وهذا الحال ينطبق كذلك على اللاعب عدنان حمد مدرب الفريق الحالي والذي وصل الى الملاعب العراقية قبل أن يصل حزب البعث الى الحكم في العراق صيف 1968م.
أما القول بأن الفريق العراقي الحالي لكرة القدم كان يدار من قبل عدي صدام فهذا قول يتجاهل الحقيقة التي تقول : إن العراق كله كان يدار من قبل عدي وأبيه صدام الذي صعدت به أمريكا الى الحكم عن طريق مخابراتها وعملائها في الجيش العراقي  بانقلاب مشؤوم لم يحصد منه العراقيون سوى الموت والدمار . هذا الموت وذاك الدمار اللذان نزلا اليوم في العراق وبشكل مخيف بعد أن بدلت أمريكا نسختها القديمة من الحكام بنسخة جديدة انتظارا الى اليوم الذي ستشنقهم فيه إن هم شقوا عصا الطاعة عنها. يضاف الى ذلك أن الكثيرين ممن كان عدي يديرهم أو يدورون في فلكه هم اليوم على مقاعد البرلمان وفي مراكز الدولة المتقدمة والذي لا يصدق ذلك لينظر لهؤلاء كيف كانوا يقفون جنبا الى جنب مع صدام وعصاباته وقد غطت الوجوه منهم إبتسامات عريضة وفي صور منشورة في أكثر من جريدة وموقع .
وبعد هذا وذاك كانت الجماهير العراقية المتواجدة في البلدان المجاورة للعراق تهب لتشجيع منتخب الفريق الوطني العراقي حتى وقت أن كان صدام في حكم العراق ، وما كان عراقيو الخارج يشجعون الفريق ذاك تشجيعا لصدام ونظامه وإنما يشجعونه لتشجيع الرياضة في العراق بغض النظر إن كانت اللجنة الأولمبية العراقية فاسدة أم كانت غير فاسدة مثلما يدعي نفر الآن من الذين يتصيدون المناصب في وزارة الشباب والرياضة زمن الديمقراطية الأمريكية ، هذا مع علم هؤلاء أن الفساد قد أنهك جسد الدولة العراقية إنهاكا مستبدا حتى صارت المنظمات الدولية تضرب المثل  بعراق اليوم في سرقة المال العام والفساد والى الحد الذي صار فيه العراق يتربع على عرش الدول التي تعشق الفساد ذاك .
لقد حاول متصيدو المناصب في وزارة الشاب والرياضة في العراق تشويه سمعة المنتخب العراقي بكل ما توفر لهم من وسائل إعلامية حتى أنني قرأت في مقابلة أجريت مع أحد هؤلاء المتصيدين الفاشلين يحاول فيها إلصاق تهمة الإرهاب بفريق المنتخب الوطني العراقي وبوقاحة تخرج بصاحبها عن أصول المهنة والمسؤولية ، كما ادعى بوق آخر أن التراجع عن قرار تجميد اللجنة الأولمبية العراقية يفقد الدول هيبتها ! والحقيقة هي أن الدولة في العراق لا هيبة لها الآن ، فقوات الاحتلال جاثمة على صدر العراق ، وأجواؤه يحكمها الطيران الأمريكي ، وحكامه مسلوبو الإرادة مهما زعقوا وصاحوا أنهم حكام منتخبون ، والنقاط الحدودية يحرسها جند بوش ، فعن أية هيبة تتحدثون أيها المساكين المتصيدون اللاهثون وراء تذكرة السفرة والمنصب !؟
* ومن النتائج الأخرى التي ترتبت على فوز فريق الشاب العراقي على فريق الشاب الإيراني زمن الشاه المقبور هو قيام رئيس الجمهورية العراقية ، أحمد حسن البكر ، وباستعراض لا يخلو من مغزى سياسي ، بتوزيع سيارة لادا روسية الصنع بيضاء اللون على كل لاعب عراقي شارك في ذلك الفوز ومنهم رئيس اتحاد كرة القدم العراقي الحالي ، حسين سعيد ، هذا في وقت كانت العلاقات بين العراق وإيران تشهد تدهورا واضحا يوم عن يوم ، وبذلك كان أحمد حسن البكر يعد انتصار فريق الشاب العراقي انتصارا للحكم بالعراق في الحرب الخفية الدائر بينه وبين إيران وقتها ، ولهذا فقد حرص هو على أن تقف تلك السيارات أمام القصر الجمهوري وبخط واحد وتحت أضواء إعلامية وهاجة ثم تقدم اللاعبون واحدا بعد واحد ليستلموا هدية السيد الرئيس !
* كان سيد صادق الشيوعي ، الذي أكلت سنوات السجون الكثير من عمره وقت أن كان الرئيس يوزع مكارمه مثلما يوزعها الرئيس الحالي ، جالسا في المقهى يتفرج على التلفزيون مثل بقية المحتشدين الذين أسرت أبصارهم مكرمة الرئيس ، ولكنه سمع أحدهم يقول : ماذا يريد اللاعبون من الرئيس بعد ؟ هل يريدون أكثر من السيارة ؟ كلام مثل هذا لا يستطيع سيد صادق السكوت عليه ، ولهذا امتشق لسانه متسائلا : هل جاء الرئيس بأموال هذه السيارات من جيب أمه أم أنه نهبها من أموال الشعب العراقي ؟
لقد فجر سيد صادق قنبلة بوجه الرئيس ، فانبرى كتبة التقارير الذين زادت أعدادهم اليوم في العراق وبزمن الدولة الديمقراطية الفدرالية التعددية..... الخ! للكتابة عنه الى الجهات الأمنية مسطرين بأقلامهم عبارة هي : أن سيد صادق سبّ السيد الرئيس ! يا للهول ! حملوا سيد صادق الشيخ المتهالك الى محكمة الثورة في بغداد على رواية أحد البعثيين المتقدمين في حزب البعث لي ، والذي أضاف قائلا وكان هو من الحضور كشاهد : كنا نقف في باب المحكمة انتظارا لبدء افتتاح جلساتها ولكن نائب ضابط تكريتيا كانت مهمته المناداة على المتهمين سألنا قبل الدخول الى قاعة تلك المحكمة : ما قصة هذا الشيخ الهرم ؟ ولماذا جئتم به الى المحكمة ؟ لقد سبّ الرئيس . أجبناه على سؤاله . فامتلأ غضبا وقال : كان المفروض فيكم أن تخجلوا من أنفسكم ، ليذهب كل واحد منكم الى شوارع بغداد وليسمع هناك كيف يُسب الله فيها ومن دون محاسبة أحد وها أنتم جئتم بشيخ هرم من الجنوب ليحاكم هنا بتهمة أنه سبّ الرئيس . ألا تعسا لكل إنسان منافق متصيد !
خلاصة القول أن الأحزاب الدينية التي لها نفوذ على الشارع العراقي وليس على المحتلين الأمريكان في عراق اليوم بعيدة عن الفن والثقافة والرياضة وبعضها يحرم التصوير وقراءة الفلسفة والبعض الآخر يحرم الركض وراء الكرة لأنها تصد عن ذكر الله ! وكأني بهؤلاء لم يسمعوا بقول النبي الكريم : علموا أولادكم الخط والنط والشط .

94
الإخفاق الأمريكي في مؤتمر الجوار العراقي بالكويت      
         

سهر العامري

منذ سنوات خلت وأمريكا مستمرة بالضغط على العرب من أجل أن ينفتحوا على حكومتها بالعراق وقد بدأ هذا الضغط أول ما بدأ بشكل خفي ثم تصاعد فصار جهارا وبشكل وصل في أحيان حد صراخ أطلقته وزير الخارجية الأمريكية ، كوندليزا رايس ، وهي تحط أول خطوات لها على أرض المطار من ايرلندا في طريقها الى المنطقة العربية لحضور مؤتمر دول الجوار الإقليمي الذي كان هو في الأساس من بنات الفكر الأمريكي سواء كان ذلك في اجتماعاته السابقة أم في انعقاده الأخير.
لغاية الانفتاح هذه شد الرئيس جورج بوش الرحال الى بعض الدول العربية غير ما مرة ، وخاصة تلك الدول التي ترتبط بها أمريكا بعلاقات متينة مثل مصر والمملكة العربية السعودية . ومثل الرئيس جورج بوش رحل الى هذه الدول كذلك نائبه ديك تشيني ثم وزيرة الخارجية الأمريكية ، كوندي !                   
وعلى أساس مما تقدم فقد عملت الإدارة الأمريكية جاهدة على تسويق حكومتها في العراق عربيا وعالميا تماما مثلما فعلت ذلك من قبل حين قامت الإدارة نفسها بتسويق صدام وجعلت منه بطلا قوميا ! على حد تعبير الإعلام العراقي المزيف وقتها.
لقد صرح رئيس وزراء الإتحاد السوفيتي السابق يفغيني بريماكوف قائلا : نحن والأمريكان من سوّق صداما عالميا . وكلام بريماكوف هذا في تسويق رؤساء دول العالم الثالث يظل قائما في السياسة الدولية ليس مع حكومة أمريكا في العراق وحسب وإنما مع دول أخرى وفي أزمنة أخرى كذلك والى الساعة التي تموت فيها المطامع الامبريالية الدولية ، ويظهر على سطح كرتنا الأرضية هذه نظام دولي بديل أكثر عدلا وتوازنا. 
لقد بذلت أمريكا جهودا جبارة من أجل دعم وإسناد حكومتها المحاصرة في المنطقة الخضراء من قبل العراقيين داخليا ، والمحاصرة من قبل العرب والكثير من دول العالم خارجيا ، ورغم تلك الجهود لم تفلح أمريكا بكل جبروتها للآن أن تفك طوق المحاصرة هذه عن تلك الحكومة التي تزداد اختناقا يوما عن يوم .
والسؤال الوجيه الذي يمكن أن يطرح هنا هو لماذا فشلت أمريكا للآن بحمل الدول العربية خاصة دول الخليج العربي منها على فتح سفارات لها في العراق وكذلك رفع حمل الديون الضخمة عن كاهل العراق والعراقيين؟                                                                                                 
والجواب على هذا السؤال يكمن في حقيقة تعرفها الأطراف المتحاورة جميعها لكنهم يتجاهلونها في الوقت نفسه ، ولا يريدون البوح بها علانية لأسباب تخص كل واحد منهم ، وبعبارة أكثر جلاء يمكن لي أن أقول : إن الأمريكان سعوا عند العرب لمد العون لهم في العراق بعد أن تيقنوا من حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي أن أية حكومة في العراق لا يمكنها أن تنعزل عن محيط العراق العربي ، ولهذا راحت أبواق الدعاية الأمريكية في الآونة الأخيرة تردد رغم أنف صولاغ وخدينه الجلبي أن العراق بلد عربي وهو جزء لا يتجزأ من الوطن العربي هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى هو أن الأمريكان عادوا بأمس الحاجة الى دعم العرب للوضع المتهالك في العراق وذلك بعد أن تعاظمت ورطتهم فيه جراء استمرار حربهم على مدى هذه السنوات الطويلة هناك ، ومن دون أن تلوح في الأفق بارقة تبشر بنهاية هذه الكارثة الرهيبة التي أصابت الناس في العراق بأضرار جسيمة فاقت التصور ، مثلما أصابت أحلام رجال البيت الأبيض بخيبة أمل فظيعة ، تلك الأحلام التي رأوا أنفسهم فيها وهم يتربعون على عروش أبار النفط في العراق من خلال حرب خاطفة لا تدوم على تقدير بعض عملاء أمريكا من العراقيين غير أسابيع معدودة ، فالشعب العراقي بتصور موتى الضمير هؤلاء مستعد لتلقي جحافل السيد بوش بالزنابق والورود وإذا ما انعدم الزنبق والورد في العراق فإن ذاك الشعب سيتقبل أولئك الفاتحين بسعف النخيل وما أكثر النخيل في العراق !                                                         
ومع معرفة الأمريكان لتلك الحقيقة لكنهم يقولون بنفاق واضح : أننا نريد حضورا عربيا في العراق من أجل موازنة النفوذ الإيراني فيه وهو نفوذ طالما تشكى منه العرب . وحقيقة هذا النفاق يعرفها الأمريكان قبل أن يعرفها العرب فأمريكا تعلم علم اليقين أنها هي التي سمحت للنفوذ الإيراني أن ينتشر مثل وباء الجرب في الجسد العراقي ، ولولا الأمريكان لما كان لإيران هذا النفوذ الكبير . والكثير من العراقيين صاروا على بينة من أن التمدد الإيراني داخل العراق هو ثمن لتعاون إيران المخلص في شن أمريكا الحرب على العراق ولا أراني بحاجة الى أثبات تعاون إيران ذاك ، فقد  أشار الى ذلك أكثر من مسؤول إيراني . وها هم الأمريكان ومعهم حكومتهم في بغداد يسمعون التصريح الأخير للسفير الإيراني في العراق ، كاظم قمي ، وكيف يبرهن تصريحه ذاك على تدخل إيران في شؤون العراق ، حتى عاد السفير هذا معه وكأنه بوبل بريمر جديد ومن دون أن يرد عليه مستشار واحد من مستشاري حكومة أمريكا في العراق وعلى رغم من كثرتهم التي تعدت المئات.   
لقد ظل العرب ينظرون الى الوضع في العراق بمنظار آخر فهم لا يريدون أن ينجروا الى الوضع فيه كي يكونوا بملاقاة إيران على أرضه تماما مثلما رمت بهم أمريكا في أتون الحرب التي أشعلتها أمريكا بين صدام والخميني والتي دار العرب في فلكها لثماني سنوات مريرة لم يحصدوا منها سوى الخسائر المالية الجسيمة . وعلى سبيل المثال لا الحصر هو أن الاحتياطي النقدي لدى السعودية كان مئة وخمسين مليار دولار أمريكي لم يبق منها غير خمسين مليار دولار ساعة أن وضعت حرب السنوات الثماني أوزارها. 
وعلى هذا يدرك العرب الآن ، مع رفضهم الشديد للتدخل الإيراني الفظ في الشأن العراقي ، أن أمريكا هي المسؤولة بالدرجة الأساس عن نفوذ إيران ذاك ، وهم بعد ذلك ينظروا الى أن حكومة أمريكا في العراق على أنها حكومة تقوم على حزبين إيرانيين نشأة ومحتدا مثلما تقوم على حزبين كرديين وبهذا يكون عرب العراق من حيث النفوذ في حكومتها تلك خارج معادلة الخطأ هذه وهي معادلة جاءت بها أمريكا نفسها ولكنها تريد من العرب الآن أن يمدوا يد العون لحكومة قامت أساسا على معادلة الخطأ تلك.
 ليس من مصلحة العرب الدخول في حرب مع إيران وليس من مصلحتهم أن يساهموا في الطوق الأمريكي ضدها وخارج قرارات الأمم المتحدة وعلى ضوء هذا الفهم نرى أن العرب عمدوا الى أن تكون علاقاتهم بإيران ذات طبيعة هادئة ، هذا الهدوء الذي عملت على تحقيقه  دولتان عربيتان كبيرتان هما مصر والمملكة العربية السعودية وذلك من خلال الزيارات المتكررة للمسؤولين الإيرانيين لهاتين الدولتين والى الحد الذي صارت فيه إيران تحضر القمم العربية ، الصغير منها مثل اجتماعات دول الخليج العربي ، والكبير منها مثل قمم الدولة العربية مجتمعة ، ولكن مع سياسة الهدوء هذه فإن العرب يرفضون تدخل إيران في شؤون العراق الداخلية هذا الرفض الذي انعكس بشكل جلي في تصريحات وزير خارجية المملكة العربية السعودية أثناء اجتماع دول الجوار في الكويت قبل يومين من الآن ، وهو تدخل أرادت من ورائه أمريكا أن تدخل العلاقة العربية بإيران في حالة من التوتر الدائم خاصة بعد تنصيبها لحكومة في العراق ذات هوى إيراني يتشكل أغلب أعضائها من حزبين هما في الأساس حزبان إيرانيان أنشأتهما إيران من أجل تحقيق أهدافها في العراق سواء كان ذلك على زمن الشاه المقبور أو على زمن الولي الفقيه.
من دون قيام حكومة ذات توجهات عربية  في العراق يشعر من خلالها العرب أنها تحرص على وجود العراق بينهم كدولة عربية كانت من بين الأعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربية لا تنتظر أمريكا ولا حكومتها في العراق منهم قيام علاقات دبلوماسية أو إسقاط ديون ، فهاتان هما الورقتان اللتان يحارب بهما العرب إيران داخل العراق ، وإيران مهما بذلت من جهود استثنائية ومهما تمددت في نفوذها داخل العراق لن تستطيع أن تعوض العراقيين الخسارة الجسيمة التي ستلحقهم حين يفقدون العرب خاصة خسارتهم للدول العربية التي تحيط بالعراق والتي يعيش على أراضيها الملايين من العراقيين الآن .                                 
خلاصة القول يجب على أمريكا أن تدرك أن العرب وخاصة دول الخليج العربي ترفض أن تجر رجلها الى معركة مع إيران على أرض العراق مرة أخرى بعد أن استطاع أمريكا أن تجر تلك الرجل في حرب صدام والخميني التي احترقت فيها إيران والعرب كذلك ولم ينتفع أحد من تلك النيران سوى دهاقنة المال في أمريكا الذين استطاعوا إعادة ثروات مالية طائلة توفرت لإيران والعرب أثناء الفورة النفطية في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم بينما تحولت تلك الثروات لدى إيران والعرب في سوح تلك المعارك الطاحنة الى بارود ودخان .


95

                 
   الجواهري وسقط المتاع ! 
                       


 سهر العامري

سمعت لشاعر العرب الأكبر ، محمد مهدي الجواهري ، قصيدتين على لسان صديق لي كان عائدا من دمشق وقتها الى مدينة بنغازي الليبية التي كنت أنا وإياه نعمل ونعيش فيها، وقد نقل لي هذا الصديق ، فيما نقل ، أن الجواهري قد سمع نقدا أو لوما من أطراف المعارضة العراقية التي يعيش الكثير من رجالاتها في سورية قبل أن يعودوا الآن الى العراق ، ليكونوا في استقبال جند المنصور بالمال السيد جورج بوش الابن !
كان مضمون هذا النقد ، وذاك اللوم ، هو سكوت الجواهري عن نظام صدام الذي ارتكب أفظع الجرائم بحق الناس في العراق ، تلك الجرائم الوحشية التي تتضاءل وحشيتها اليوم عن الجرائم الرهيبة التي حدثت بعد سقوط حكمه وخلال زمن الاحتلال الأمريكي المتواصل للعراق ، وذلك بسبب من أنه قد قتل من العراقيين للآن أكثر من مليون مواطن على ذمة إحصاءات الدوائر الانجليزية التي نشرت أيامنا هذه .
وما يزيد في هول هذه الفاجعة الرهيبة هو استمرارها الدائب كل يوم ، ودونما انقطاع . وإذا كان صدام قد بطش بالناس في العراق فقد عاد اليوم أكثر من وحش يفترس هؤلاء الناس ، ودونما ذنب اقترفوه في أغلب الأحوال.
أعود فأقول : من لسان صديقي ذاك حفظت ما تلا عليّ من أبيات تلك القصيدتين ، وقد اعتدت أنا ، وربما غيري ، على حفظ أبيات من قصائد الجواهري من فمه وهو يتلوها ، وما زلت أذكر كيف أجبرنا ، نحن بعض من طلبة جامعة بغداد ، سائق سيارة الأجرة التي حملتنا من مدينة الناصرية على التوقف أمام مقهى تقع في أطراف مدينة الحلة ، مركز محافظة بابل ، وقت أن كان الجواهري يطل من على شاشة تلفزيون بغداد بعد عودته الى العراق من مغتربه الذي طال لسنوات عدة ، ليلقي ساعتها قصيدته التي مطلعها :

أرح ركابك من أين ومن عثر ِ*** كفاك جيلان محمولا على خطر ِ

هذه القصيدة التي حفظنا الكثير من أبياتها ساعة إلقائها ، ورحنا نرددها فيما بيننا في الأيام التالية ، كما أنني لا زلت أحمل في ذاكرتي صورة للناس التي لا تملك في بيوتها جهاز تلفزيون وهي تتدفق الى مقاهي بغداد لسماع الجواهري حين تعلم أنه سيلقي قصيدة في ساعة معلومة من يوم معلوم ، والذي جلب انتباهي مرة هو أن الحمالين من الرجال الذي يعملون في أسواق الشورجة من بغداد كانوا يصلون الى تلك المقاهي قبل أن يصل لها الطلاب الدارسين في كليات ومعاهد جامعة بغداد . والكثير من هؤلاء الطلاب كان يحفظ البيت والبيتين والأبيات شفاهة من فم الشاعر ، وذات مرة هز نفوسنا ونحن نغادر مقهى في شارع الأمين بيت للجواهري يهزأ فيه من حكام العراق يقول فيه :

وما تخاف وما ترجو وقد دلفت *** سبعون مثل خيول السبق تطردُ

وعلى هذا ما كان للجواهري أن يسكت على ضر يمس العراق ، ولكنه كان يرى بأم عينيه الحال المزري الذي وصل له رجال المعارضة العراقية في خارج العراق ، تلك الحال التي لم تدفع الشاعر الى أن يمد يدا لهم ويقول بيتا من الشعر ، وبدلا من ذلك فقد رد هو على هؤلاء المتفوهة من المعارضين ، أولئك الذين أشرت لهم من قبل ، بقصيدة قل عدد أبياتها عن مثيلاتها من قصائد الشاعر الطوال ، وسبب هذه القلة ، على ما اعتقد ، هو أن شاعرنا بلغ من العمر عتيا ، وضعف عن قول القصائد الطوال في السنوات الأخيرة من عمره المديد ، وهذا الأمر يظهر بجلاء في قصيدة الرد تلك التي سأأتي عليها بعد قليل ، كما يظهر كذلك في قصيدة قصيرة أخرى هبّ فيها الجواهري مستنكرا ، على عادته في نصرة الدول العربية ، الغارات الجوية التي شنتها الطائرات الأمريكية ليلا على مدينتي بنغازي وطرابلس زمن حكم الرئيس الأمريكي ريغن ، تلك القصيدة التي حفظت بعض أبياتها أنا من فم صديقي المار الذكر ، والتي تقول في أبياتها الأولى :

يا أمتي يا عصبة الأمـم ِ*** لا تغضبي يا ثلج من ضرم  ِ
لا تغضبي ويدي معطلة *** أن أقذف اللعنات ملءَ فمي

بعد ذلك يهاجم الحكام العرب فيقول :

يا سوءَ حظ دمىً مرقصــــة *** يُلهى بها وتُداسُ بالقـــدم  ِ
إني لأسأل قادة أذنـــــــــــــا *** يتخارسون بحجة الصمم  ِ
فيمَ الحياة- ترى- إذا عَريت *** من أخذ ثأر عن دم بـــدم  ِ

وأخيرا يهزأ من هؤلاء الحكام فيقول :

فلئن تعابثت الجيوش بهم *** فلديهم جيش من الكلم  ِ!

ولكنني سمعت هذه القصيدة فيما بعد من فم الشاعر الجواهري نفسه ، وذلك حين ألقها ، من بين قصائد أخرى في مدينة بنغازي ، على مسامع حشد جماهيري ضخم ضاقت عنه قاعة المسرح البلدي في تلك المدينة ، وما كنت أنا أتصور أن للجواهري هذه الحضور الكبير الذي تزاحمت فيه النساء مع الرجال من أجل أن يسمع الجميع شعره بصوته ، وأن يروا الشاعر بكيانه ، وهو الذي أنشدهم قبلا عن بعد ، وها هو اليوم ينشدهم عن قرب ، ويقف معهم ضد العدوان والغطرسة العسكرية .
لقد أنشد الجواهري أهل بنغازي الكثير من قصائده ، ومنها قصيدة قالها عن فلسطين كتبها في العشرينيات من القرن المنصرم ، وقد كان ينشد هو تلك القصائد جميعها مشافهة بسبب من أن بصره قد ضعف كثيرا ، وصار لا يقوى على قراءة الحروف .
بعد أن فرغ من إلقاء قصائده الوطنية والسياسية طلب ابن الثمانين سنة أن ( يُملح ) تلك الأمسية بقوله الذي انتقل به من الفصحى الى العامية العراقية : خلي نملحها ! ساعتها ضحك الجمهور ، وبدأ هو يقرأ قصائده الغزلية التي بدأها بقصيدة معروفة له مطلعها :

بالذي صاغ واعتنى *** وبنى منك ما بنى

وعلى إثر ذلك قامت فتاة ليبية ممشوقة القامة طويلتها من بين الحضور ، وارتقت خشبة المسرح حيث الجواهري ، وبادرته من فورها بطبع قبلة على خده ، وقدمت له وردة غامقة الحمرة ، فصفق لها الجمهور ، بينما نزلت الغبطة كلها على الشاعر حينها ، فرد هو على تكريمها هذا ملتجأ الى اللهجة العراقية قائلا : طال عمرك ِ !!
أما قصيدته القصيرة الأخرى التي أشرت لها من قبل فهي تلك التي رد بها على المعارضين العراقيين القاطنين في سورية ، أولئك الذين توسم فيهم الفشل حين كانوا في المعارضة ، وحين أصبحوا في الحكم فيما بعد تحت فوهة المدفع الأمريكي ، فالرجل المعارض الفاشل لا يمكن أن يكون رجلا حاكما ناجحا أبدا ، ويبدو لي أن الفشل الذي عليه رجال الحكم في العراق اليوم هو صفة لازمتهم منذ أن كانوا في المعارضة ، ومنذ أن وسمهم الجواهري بسمة ( العطل ) وبدليل أنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا صداما من كرسي حكمه قيد أنملة ، ولكنهم صعدوا الى هذا الكرسي بعد أن جمعتهم مخابرات دولية ، ثم حملهم إليه الرئيس الميمون بوش! فصاروا بذلك وعلى حد وصف الشاعر الجواهري ( دمى مرقصة يلهى بها وتداس بالقدم ) ، ولكنهم مع هذا راحوا ينفشون ريشهم مثل الطواويس مزهوين بما سرقوا من أموال شعب نزل به بلاء عظيم ، شعب أصبحت الملايين من نسائه مرملات ، والملايين من أطفاله أيتاما ، مثلما أصبحت ثرواته نهبا للقريب والبعيد ، وعلى شاكلة وصل فيه هذا النهب الى سرقة خمس عشرة بئرا نفطيا في منطقة الطيب العراقية من قبل جمهورية الإسلام في إيران ! بعد أن استولت عليها وطردت العاملين العراقيين فيها . وعلى ذمة بعض المصادر الخبرية فأن الحكام المزهوين في العراق قد غضوا النظر عن هذه السرقة تعويضا عن الخسائر التي لحقت بإيران جراء الحرب التي قامت في الثمانينات من القرن الفائت بينها وبين العراق ، تلك الخسائر التي قدرها السيد عبد العزيز الحكيم ذات مرة ، وعوضا عن المسؤولين في إيران بمئة مليار دولار عدا ونقدا .
عن هؤلاء المعارضين ماضيا ، والحاكمين حاضرا يصدر الجواهري حكمه دون أن يستثني أحدا منهم فيقول :

قالوا سكت وأنت أفظع ملهـــب ***وعي الجموع لزندها قـــــــداح  ِ   
فأجبتهم أنا ذاك حيث تشابكـــت ***هام الفوارس تحت غاب رماح  ِ
قد كنت أرقب أن أرى راحاتهم ***مُدت لأدفع عنهم بالــــــــــراح  ِ   
لكن وجدتُ سلاحهم في عطلة *** فرميتُ في قعر الجحيم سلاحي

أقول لو كان شاعرنا الجواهري حيا يرزق بيننا اليوم ماذا سيقول عن حكام في عراق محتل يحكمون باسم الرئيس المنصور بوش!؟ هل سيزيد في وصفهم عن قوله الذي قاله عنهم وهو في هذه الحياة :

قد كنت أرقب أن أرى راحاتهم  ** مُدت لأدفع عنهم بالـــــــراح  ِ   
لكن وجدتُ سلاحهم في عطلة ** فرميتُ في قعر الجحيم سلاحي

أو قوله :
يا سوءَ حظ دمىً مرقصة *** يُلهى بها وتُداسُ بالقدم  ِ

96
            أطلال الديمقراطية في العراق  !                  سهر العامري 

عن قريب سيسمع العراقيون البيان رقم واحد صادرا عن القيادة المشتركة للجيش والحرس الوطني ، معلنا صفحة أخرى من توجه أمريكي جديد ـ قديم في الوضع السياسي الذي سيكون عليه العراق منذ عرفته أمريكا في انقلابها الشهير الذي أطلق عليه الرئيس المقبور ، أحمد حسن البكر ، تسمية : عروس الثورات ! هذه العروس التي لازالت بعض البيانات الصادرة من قيادة حزب البعث في العراق تكحل عينيها بين آونة ، وأخرى ، رغم علم الحزب ذاك أنه لا يمكنه أن يتملص من مسؤولية أنهار الدماء التي أدمى هو بها أرض الرافدين الطاهرة ، وهو بالإضافة الى ذلك يعد المسؤول الأول فيما آلت إليه الأوضاع في العراق ، ولا يمكنه أن يبرأ نفسه قيادات وقواعدا  بالقول : إن مسؤولية ذلك تقع على صدام وحده ، أو على صدام والحلقة المحيطة به من قيادي الحزب .
نعم سيكون العراق ، والشعب العراقي على موعد ، مع انقلاب عسكري أمريكي وشيك ، وبهذه الصورة أو تلك ، يقوده الجنرال كيسي ، قائد القوات الأمريكية في العراق ، وبوجوه عسكرية عراقية معروفة ، وسيحدث هذا رغم ذاك النفي الذي أطلقه أحمد الجلبي في استحالة قيام مثل هذا انقلاب في العراق ، قائلا بسخرية : لا يمكن لأحد أن يقوم بانقلاب إلا الجنرال ، كيسي ! وفات الجلبي ، الذي لم يطلع على تاريخ العراق القريب ، على ما يبدو ، أن كل الانقلابات العسكرية التي قامت بالعراق وقفت وراءها دائرة المخابرات المركزية الأمريكية ، وذاك في وقت لم يكن لأمريكا جندي واحد على أرض العراق الطاهرة التي تدنسها أقدام المحتلين اليوم ، فكيف وقد أصبح لأمريكا فيه الساعة جيوش جرارة ، وقواعد عسكرية ، ومصفقون كثر ؟
كيف وقد عاد الجيش ، والحرس الوطني ، والشرطة في العراق جنودا يتسربلون باللباس الأمريكي ، ويتعلمون الفقه العسكري على يدي معلمين أمريكان يرد لهم كل الجهد الذي استطاع أن يبني كل التشكيلات العسكرية خلال السنوات الثلاث الماضية ، وبعد أن مسحوا من على وجه العراق الجيش القديم الذي تبخر في غضون أيام قليلة أمام زحفهم نحو بغداد ، وفر قادته الطائفيون فرار المعزى من وجه الأسد .
وسأطرح للجلبي هنا ولغيره مثلا غنيا واحدا عن السطوة المحكمة التي يتمتع بها الأمريكان في العراق اليوم ، والتي من خلالها يستطيعون تنفيذ ما يودون ، وما يرغبون ، غير مبالين للقيق والقاق الذي يطلقه أعضاء برلمان محمود شماعية ، والمثال هذا حدث واقعته قبل أيام قليلة جدا .
بعد قتل قائد قوات العقرب ، العقيد ، سلام المعموري ، في مقر قيادة تلك القوات في مركز محافظة بابل ، الحلة ، وبمؤامرة نفذها أحد الأطراف الحزبية الشيعية في تلك المدينة ، مثلما قالت بعض المصادر الخبرية ، والسبب في ذلك هو أن المعموري كان مقربا جدا من الأمريكان ، ومرشحا من قبلهم لقيادة تلك القوات ، أمر رئيس الوزراء في العراق ، نوري المالكي ، والذي يعتبر نفسه ، وليس الأمريكان ، من أنه هو القائد العام للقوات المسلحة العراقية ، بتعين واحد من بين أقربائه يحمل رتبة نقيب ، بدلا من القائد المقتول لتلك القوات ، ولكن القوات الأمريكية حرمت على النقيب هذا المعين من القائد العام للقوات المسلحة العراقية ، والذي يقول هو أنه لا يستطيع تحريك كتيبة واحدة من الجيش ، من تولي قيادة قوات العقرب ، وردته على أعقابه ، وذلك لأنه غريب على الأمريكان ، ولم يخرج من تحت إبط رجال القوات المسلحة الأمريكية الذين ألبسوا الجنود العراقيين لباس الجندي الأمريكي ، وخوذوه بذات خوذتهم .
ومع كل هذا نجد حكومة الاحتلال الرابعة في بغداد ، مثلما تصفها المصادر الإعلامية الغربية ، تسعى بين الفينة والفينة الى وضع الكثير من العراقيل ليس أمام أعدائها هي ، وإنما أمام عملها هي كحكومة طالما تغنت بالديمقراطية والوطنية ، ولكنها في حقيقة الأمر حكومة طائفية قومية يسعى كل طرف فيها للتغلب على الطرف الآخر ، أو الحصول منه على مكاسب سياسية لطائفته أو لقوميته ، هذا إذا ما صدقت نوايا الطائفيين والقوميين في ذلك ، ولهذا السبب بالذات تسارع بعض الأطراف في تلك الحكومة الى اتخاذ إجراءات غير مدروسة ، وبتبريرات تافهة تذكر بتبريرات صدام ، كما إنها تزيد من انقسام الناس في العراق ، وتؤدي الى إحباط أي مسعى يخفف من الكارثة التي تجتاح العراق من جنوب الى شماله ، تلك الكارثة التي لم يسلم منها إلا من فر بجلده الى خارج العراق ، وصار يطوف في بلدان العالم بحثا عن مكان أمن يعيش فيه ، وهروبا من جحيم راح يستعر على أكثر من صعيد في بلد أسمه العراق سابقا .
في الأيام الأخيرة اجتاحت تسمية : البطة العرجاء ، وسائل الأعلام الغربية ، وقد أطلقت تلك التسمية على الرئيس الأمريكي ، جورج بوش ، وذلك بسبب خسارة حزبه الجمهوري لكلتا غرفتي الكونغرس الأمريكي : النواب ، والشيوخ ، في الانتخابات التي جرت مؤخرا في الولايات المتحدة الأمريكية ، ولكننا ، رغم ما في تلك التسمية ، البطة العرجاء ، من حط مسئ لشخص الرئيس الأمريكي ، لم نسمع بأن هناك مذكرة اعتقال قد صدرت بحق أحد من الناس ، مثلما هي الحال مع حكومة الاحتلال الرابعة في العراق التي بادرت الى إصدار مذكرة اعتقال بحق الشيخ حارث الضاري لتصريح صدر عنه ، ينتقد فيه بعضا من رموز تلك الحكومة التي سمى وزير داخليتها ، جواد البولاني ، تلك المذكرة بمذكرة اعتقال ، ليأتي بعده الناطق الرسمي باسمها ، علي الدباغ ، وبساعات قليلة ، ليسميها مذكرة تحقيق ، ويبدو أن السبب في هذا التراجع السريع هو الغضب الأمريكي الذي انصب فوق رؤوس أعضاء تلك الحكومة في الوقت المناسب ، وهذا المثال يسمح لي مثلما يسمح لغيري أن يقول : إن الحكومة هذه تسعى بأرجلها الى قبرها ، وذلك في تقريب ساعة الانقلاب العسكري المرتقب ، ذلك الانقلاب الذي صار ضرورة ملحة ، ليس لإنقاذ العراق كبلد فحسب ، وإنما لإنقاذ الناس من الموت المتصل ، ومن فوضى السلاح العارمة ، ومن حكومة صار فيها الرئيس والوزير والشرطي طرفا في الصراع الطائفي والقومي في العراق ، ولم يعد أمام العراقيين غير قيام حكم قوي على أطلال ديمقراطية أثبتت التجربة فشلها ، تمثلت ببرلمان كسيح ، وبدستور متناقض ، وبمجالس مدن يصفهم العراقيون باللصوص .
ورب سائل يسأل : كيف تسنى لك معرفة الغضب الأمريكي الذي بسببه صارت مذكرة الاعتقال مذكرة توقيف على لسان علي الدباغ ، الناطق باسم حكومة الاحتلال الرابعة ؟ وجوابا على ذلك هاكم أقرؤوا ما كتبته صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية التي تقول : ( إن الحكومة العراقية التي يسيطر عليها الشيعة أصدرت أمس مذكرة اعتقال بحق الزعيم الديني السني حارث الضاري بتهمة تواطئه مع المتمردين, مما يعتبر خطوة خطيرة قد تتسبب في مفاقمة التوتر الحاصل بين الطوائف العراقية المتناحرة ويؤدي لمزيد من الانشقاق في صفوف الحكومة العراقية الوطنية الهشة.
وأضافت الصحيفة أن المذكرة بحق الضاري, الذي عرف بانتقاده الحكومة العراقية لحد التهكم أحيانا, ستعزز التهديدات بانسحاب السياسيين السنة من الحكومة, التي لوحوا أكثر من مرة بهجرهم لها.وقالت إن زعماء السنة حذروا من أن مثل هذه الخطوة ستكون لها عواقب وخيمة, إذ ستؤدي إلى انضمام مزيد من العراقيين السنة العاديين إلى التمرد المسلح, فضلا عن كونها ستمثل صفعة مميتة لحكومة الوفاق الوطني, التي كان المسؤولون الأميركيون يودون أن تنشر الأمن والسلام في العراق.
وفي إطار متصل نسبت صحيفة نيويورك تايمز لمسؤول في الرئاسة العراقية قوله إن الرئيس العراقي جلال الطالباني دعا الزعماء العراقيين السياسيين إلى اجتماع طارئ, للحيلولة دون الانهيار الكامل للحكومة العراقية .                           .
وقال المسؤول ، الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنه ليس مخولا بالحديث عن هذا الأمر ، إن ذلك الاجتماع تحول إلى "مباراة كلامية" بين المشاركين من السنة والشيعة.
وأشار مسؤول آخر حضر الاجتماع إلى أن الطالباني, الذي بدت عليه مظاهر الذعر بسبب الضغائن بين الطرفين قال "علينا أن نقرر ما إن كنا نريد دولة أم لا". )


97
          الفيدرالية تصعد من وتائر الموت في العراق !              سهر العامري

صعد إقرار قانون الفيدرالية والأقاليم في العراق من حمى الموت الأعمى التي تجتاح شوارع العراق على مدى سنوات ثلاث ، وذلك عقب ساعات فقط من تصويت نصف الحاضرين من أعضاء البرلمان القابع في المنطقة الخضراء من بغداد على قانون الفيدرالية والأقاليم في العراق بنعم ، ذلك البرلمان الذي فقد أعضاؤه الاتصال بالناس خشية على أرواحهم من موت محقق إن هم خرجوا الى الشوارع التي يطوف بها الموت خارج تلك المنطقة التي تحاصرها الكتل الكونكريتية ، ودبابات جيش الاحتلال الأمريكي .
هذه العزلة ، وبالإضافة الى القناعات المسبقة ، هي التي أدت بأعضاء البرلمان ذلك الى اتخاذ قرارات مصيرية تهدد كيان الدولة في العراق بالانحلال ، مثلما تهدد حياة المواطنين العراقيين بمزيد من الاقتتال ، فقد راح بعض من هؤلاء الأعضاء يردد قناعاته الخاصة التي شكلتها في أغلب الأحيان مساومات رخيصة بين هذا الطرف وذاك ، وبعيدا عن نبض الشارع العراقي . فمن المضحك أن عضوا من الأعضاء هؤلاء ادعي أن الفيدرالية كانت مقرة من قبلُ ، وحين كانوا هم في المعارضة ، وقت أن ضمهم مؤتمر لندن المشين ، وقبل أن تشن أمريكا حربها على العراق الذي حولته الى خراب اليوم ، رغم تبجح بوش بأنه أقام برلمانا به ، وسن دستورا فيه ، ونسى حقيقة مرة ، وهي أن قيام هذا البرلمان أصاب الجسد العراقي بشرخ عظيم ، كان من بين أهم نتائجه تصاعد وتائر الموت في العراق بقوة ، بعد أن وجدت أعداد غفيرة من العراقيين أنها أصبحت خارج اللعبة السياسية التي خططتها أمريكا ، وأصاحب الصيغ الجاهزة من القادة الفاشلين ، والذين لم يتلمسوا عن كثب ما الذي تريده الناس في العراق . ومثلما أدى قيام البرلمان ذاك الى تصاعد تدفق الموت في المدن العراقية ، فقد أدى إقرار الدستور ( الكشكول ) من قبل البرلمان نفسه الى طاعون آخر راح يحصد أرواح الأبرياء من العراقيين الذين هدهم كذب قادتهم القابعين خلف أسيجة من الاسمنت المسلح ، ودروع دبابات العم بوش ، وكان السبب في ذلك عدم الأخذ بوجهات نظر جميع العراقيين في تشريع دستور واقعي ينظم حياة بلدهم ، وبدلا من ذلك فقد صم القادة أولئك الآذان عن سماع آراء العراقيين كل العراقيين ، وقالوا : نحن المنتصرون ! نحن الأغلبية ! مع أن الواقع في العراق يقول أن تلك الأغلبية ما هي إلا صناعة مزيفة ، قامت على الغش ، والدجل ، وإكراه الناس بذات الطرق التي كان صدام يكره الناس فيها ، ليفوز هو بنسبة كانت ستكون مئة بالمئة لولا تلك الأوراق البيضاء التي طرحها المجانين من العراقيين في صناديق الاقتراع على منصب رئاسة الجمهورية ، مثلما قال عزة الدوري يومها . لكن قادة اليوم قد تفننوا في خلق صور جديدة من الإكراه المنظم الآن ، فبدلا من العقاب العاجل الذي كان صدام يعد الناس فيه إن هم عدلوا عن انتخابه ، صار القادة هؤلاء يعدون الناس بعقابين : عقاب عاجل ، وآخر آجل ، وإذا كان العقاب العاجل عند حكام العهد الأمريكي هو عبوة ناسفة ، أو حرق مقر حزب ، أو الحرمان من توفير فرصة عمل ، فإن العقاب الآجل هو نار الله الحامية التي تتوعد بها فتوى تزيف مبدأ الديمقراطية العظيم الذي أشادته البشرية الخيرة بالموت والسجون على مدى ألوف من السنين .
بعد هذا وذاك صوت نصف الحاضرين تقريبا من أعضاء البرلمان بنعم على قانون الفدرالية والأقاليم وفقا للقناعات المسبقة ، وليس وفقا للإستحقاق الدستوري كما أدعى بعض المبررين من المصوتين بنعم على ذلك القانون ، ومع ذلك فأنا أنقل هنا رأي أستاذ له باع في القانون الدستوري هو الدكتور فلاح إسماعيل حاجم الذي يفند فيه نظرية الإستحقاق الدستوري هذه ، فيكتب  : ( ان تثبيت حق تقرير المصير في دستور الدولة الفيدرالية او التشريعات الاخرى ، ذات العلاقة ، لا يعني امكانية تفعيل ذلك الحق في جميع الاحوال ، ذلك ان امكانية تفعيله محكومة بجملة من العوامل ربما يقف في المقدمة منها المناخ الجيو – سياسي وتوازن القوى السائد سواءا على مستوى البلد الفيدرالي ذاته او في دوّل المحيط الاقليمي وحتى الوضع الدوّلي ، بالاضافة الى الاليات المعقدة التي تضعها الدولة لتفعيل حق تقرير المصير لمكوناتها. وليس قليلة الامثلة في التأريخ الدستوري للدوّل الفيدرالية حينما انتهت محاولات انفصال بعض الاقاليم عن جسد الدولة الفيدرالية الى حروب عصفت ، او كادت تعصف ، بكيان الدولة ذاته. )
على هذا الأساس يكون الدستور ليس نصا مقدسا ، يستله أصحاب القناعات المسبقة ، لهذا الدافع أو ذاك ، كسيف بوجوه من يعارضهم ، وهم يمضون عن جهل أو عمد الى تدمير العراق كوطن ، وتصعيد الانقسامات بين الناس فيه ، ومن دون أدنى شعور بالمسؤولية ، ودون أدنى قدرة في معرفة ما يريده الشعب العراقي ، فكل ما يملكه هؤلاء هو الصيغ الجاهزة ، والقناعات المسبقة التي تبتعد عن الواقع الراهن في العراق ، هذا الواقع الذي يسير من تدهور الى تدهور أفظع .
لم تمض ساعات على إقرار قانون الفيدرالية والأقاليم من قبل نصف الحاضرين تقريبا حتى جاء الرد السريع من شوارع العراق ، متمثلا بمزيد من التشرذم والانقسام ، وبمزيد من الموت والدماء ، فقد أعلن على إثر نعم النصف ذاك عن قيام ( جمهورية العراق الإسلامية ) التي راحت جيوشها تستعرض قواها في شوارع بعض المدن العراقية ، وعلى الفور حدد هؤلاء حدود جمهوريتهم تلك بست محافظات ، هي الرمادي ، وديالى ، وتكريت ، وكركوك ، والموصل ، والكوت ، هذا في وقت زادت فيه عمليات القتل الأعمى ، فأصابت الكثير من العراقيين في مدن الرمادي ، وكركوك ، وديالى ، والكوت . ذاك على صعيد جمهورية العراق الإسلامية ، أما على صعيد جمهورية العمارة !  فقد اجتاحت قوات جيش المهدي ، الرافضة لقيام أي شكل من أشكال الفدرالية في العراق ، تلك المدينة ، وأسقطوها خلال ساعات قليل ، وبذلك أزالوا عنها حكومة منظمة بدر التابعة لمجلس عبد العزيز الحكيم ، تلك الحكومة المتمثلة بشرطة المدينة التي قام صولاغ ، وزير الداخلية السابق ، باختيار جل عناصرها من أعضاء منظمة بدر العائدين من إيران ، والذين يتكونون في غالب الأحيان من أبناء التبعية الإيرانية ، أو من الجنود العراقيين الذين وقعوا في أسر القوات الإيرانية إبان الحرب ما بين العراق وإيران ، وذلك بعد أن غسلت المخابرات الإيرانية ( اطلاعات ) أدمغتهم ، وحولتهم من ( بروح بالدم نفديك يا صدام ) الى ( بروح بالدم نفديك يا إمام ) ، والإمام هنا هو الخميني طبعا.
والمعروف لدى العراقيين هو أن عبد العزيز الحكيم من أشد المنادين بالفيدرالية من بين مكونات الائتلاف الشيعي ، وذلك في مسعى منه لقيام أمارة إيرانية في وسط وجنوب العراق ، يكون هو رئيسها بحكم من كونه رئيسا لكتلة الائتلاف الشيعي ذاك الآن ، وهذه الحقيقة هي التي أدت الى اندلاع المعارك الشديدة في مدينة العمارة ، بين شرطتها المنحدرين في الأساس من منظمة بدر التي تأسست في إيران ، وبين جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر الذين يرون أنفسهم أحق من عبد العزيز الحكيم في بسط نفوذهم على الشيعة في الوسط والجنوب من العراق ، ولهذا أرادوهم هم أن يبرهنوا على قدرتهم في بسط ذلك النفوذ في السيطرة على مدينة العمارة ، تدفعهم في ذلك عوامل مهمة منها :
1- نفوذهم في الوسط الشيعي يفوق نفوذ الحكيم بكثير .
2- ثباتهم في الساحة العراقية ، وعدم مغادرتهم للعراق ، رغم تنكيل صدام بهم وبقادتهم ، هذا في الوقت الذي يعتبر فيه مجلس الحكيم ، ومنظمة بدر صناعة خلقت في إيران ، ونشأت وترعرعت في أحضان المخابرات الإيرانية .
3- حرمانهم من التعينات المهمة ، وغير المهمة في جهاز الشرطة في العراق ، بعد أن قام وزير الداخلية الإيراني السابق ، بيان جبر صولاغ ، والمنتمي الى مجلس عبد العزيز الحكيم ، باغداق الوظائف ، والرتب العالية ، وبدرجة عميد فما دون ، على عناصر منظمة بدر ومن دون دراسة في كلية عسكرية ، وقد تم ذلك وفقا لقوائم  كانت تصله إليه من قيادة منظمة بدر نفسها ، تلك القوائم التي كانت تضم أسماء الذين يراد تعينهم في جهاز الشرطة الذي تعرض في الآونة الأخيرة الى طرد العديد من عناصره بعد أن طرد الأمريكان الوزير ذاك نفسه من منصبه ، وذلك على إثر الفضائح الكثيرة التي شهدتها تلك الوزارة بقيادته ، والتي من أهمها : السجون السرية التي أشادها صولاغ لتعذيب العراقيين بأيادي ضباط إيرانيين ، وتحويله للطابق الرابع من بناية وزارة الداخلية الى مقر للمخابرات الإيرانية ، حتى عاد كل من وصل الى هذا الطابق لا يسمع فيه غير اللغة الفارسية .
4- شعورهم المستمر بأن الحكيم يريد أن يفرض هيمنته على الجميع ، خاصة في الخطوات التي اتخذها أخيرا في تشكيل ( بسيج ) إيراني في العراق أي قوات تعبئة شعبية على غرار ما هو حاصل في إيران اليوم ، وهذا ما ثار حفيظة الصدريين الذين كانوا بانتظار اللحظة التي يضعون فيها حدا لنفوذ الحكيم المتنامي من خلال حصوله على إقرار من البرلمان في العراق بشأن الفيدرالية ، يتوج مساعيه الحثيثة في إعلان أمارته تلك .
ويظهر أن المعارك ، التي اندلعت بين أنصار الصدر وأنصار الحكيم في مدينة العمارة ، وبسبب من أصحاب القناعات المسبقة الذين سارعوا الى إقرار قانون الفيدرالية ، لن تقف عند حدود العمارة ، فقد تتعدى الى محافظات أخرى في وسط وجنوب العراق . وهاكم أقرؤوا ما يقوله أحد مقاتلي جيش المهدي لصحيفة الغارديان الانجليزية من مدينة العمارة : ( لقد حررنا العمارة والبصرة هي الهدف القادم ) ، وتضيف الصحيفة إن ( جيش المهدي اثبت أن هذا هو الواقع بعد أن سيطر على شوارع المدينة.)
نعم هو هذا الواقع الذي شرذم المجتمع العراقي بسبب من قوانين المقرة في بناية برلمان معزول عن الناس في العراق بأسيجة من الدبابات ، وبالخرسانات الاسمنتية ، والقول في أن مقتل العقيد علي قاسم التميمي مدير الاستخبارات الجنائية في مدينة العمارة ، وخطف أخ قائد جيش المهدي فيها هما الحدثان اللذان أديا الى نشوب  المعارك الضارية بين منظمة بدر وجيش المهدي هو قول يتجاهل الأسباب الحقيقة الكامنة وراء تصاعد طوفان الموت في العراق ، تلك الأسباب المتمثلة بالقوانين والتشريعات الغير مدروسة بعناية ، والصادرة من برلمان محمية الخضراء في بغداد.

98
              وأخيرا بصق بوش عليهم !                        سهر العامري

يبدو لي أن الرئيس الأمريكي جورج بوش قد وقف طويلا عند عبارة حاكم العراق ، غب سقوط نظام الطاغية صدام ، بول بريمر ، تلك العبارة التي دونها في كتابه : سنتي في العراق . والتي وصف فيها قادته تحت ظلال المدفع الأمريكي بعدم   الوطنية ، وهذا يعني أن بوش صار على قناعة من أن الذين استظلوا بظل الأمريكان من القادة في العراق اليوم ، ما هم إلا أناس تمسك كل واحد منهم بولائه العنصري ، والطائفي ، والحزبي ، وترك الوطنية العراقية جانبا ، والى الحد الذي صار فيه الواحد من هؤلاء يستنكف من أن يقول : أنا عراقي ، فالقادة في كردستان صاروا يسمون أنفسهم على رؤوس الأشهاد من أنهم شعب كردستان ، وليس الشعب العراقي ، هذا في وقت نجد فيه رئيس الجمهورية ، جلال الطالباني ، ورئيس الإتحاد الوطني الكردستاني كذلك الذي هو أحد الحزبين اللذين يتوزعان السلطة في كردستان العراق الآن ، يسمي نفسه ، أو يسميه الآخرون : برئيس جمهورية العراق ، مستظلا بعلمها المرفوض من لدن رئيس الحزب الديمقراطي ، مسعود البرزاني ، وهو الحزب الآخر الحاكم هناك ، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على سياسة التخبط التي يسير عليها القادة في عراق اليوم. أما جنود إيران في العراق فقد رفضوا تسمية الناس في وسط وجنوب العراق بالعراقيين ، فهم بعد أن نفوا عن هؤلاء الناس هويتهم العراقية العربية ، راحوا يسمونهم : بشيعة آل البيت ، وكأنما شيعة آل البيت قد حصروا بالعراق فقط ، ولم تتوزعهم أقطار عربية وإسلامية أخرى ، أو أن هناك شعبا جديدا قد نزل في تلك المناطق من العراق لا يمت للعراقيين بصلة .
مثل أولئك وهؤلاء تمسك قادة السنة بأهداب طائفتهم كذلك ، ولكنهم ، وبغض النظر عن الدوافع ، كانوا الفم الوحيد تقريبا الذي امتلأ بلفظ العراق والعراقيين ، وذلك حين يتحدث الواحد منهم .
يبدو لي أن هذه الحالة هي التي دفعت ببول بريم الى قوله في أنه لم يجد عراقيا وطنيا واحدا من الذين تعامل معهم على مدى عام من الزمان ، وعلى طول العراق وعرضه ، حتى عزيز محمد ، سكرتير الحزب الشيوعي السابق ، والذي جيء به إليه من أجل أن يكون واحدا من بين أعضاء مجلس الحكم ، وجده ينتسب الى الحقبة البريجنيفية ( نسبة الى بريجنيف ) رئيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية الذي أتى عليه غرباشوف فيما بعد.
ورب سائل يسأل من أين تأتى لي أن عرف أن الرئيس الأمريكي ، جورج بوش ، قد وقف طويلا عند وصف حاكمه على العراق ، بول بريمر ، للقادة في العراق من أنهم لا يتصفون بالوطنية ؟
والجواب هو أنني قد قرأت بعد يوم على مؤامرة التصويت بنعم على شرذمة العراق كوطن في برلمان يقوده رجل معتوه ، يسميه الشارع العراق بمحمود شماعية ، من أن الرئيس جورج بوش يرفض ذلك التصويت الذي يريد أن يطيح بالعراق شعبا ووطنا ، وتحت ذرائع واهية لا تصمد أمام الحقائق أبدا ، والغريب أن بوش لم يرفض الفيدرالية الإيرانية المزمع قيامها في الوسط والجنوب من العراق ، وبزعامة المفوض السامي الإيراني ، عبد العزيز الحكيم ! وإنما يرفض هو كذلك الفيدرالية لكردستان العراق ، أو المنطقة الآمنة ، مثلما يسميها الإعلام الأمريكي ، ولكم أن تقرؤوا معي نص ما قاله جورج بوش ، الحاكم الفعلي للعراق في هذه الساعات السود التي يمر بها وطننا ، العراق ، المنكوب بأهله وأرضه : ( رفض الرئيس الاميركي جورج بوش تقسيم العراق الى ثلاث مناطق تتمتع بالحكم الذاتي لان ذلك سيتسبب كما قال "بفوضى" اكبر من التي يشهدها العراق حاليا. وقال بوش في مقابلة مع محطة التلفزيون الاميركية "فوكس نيوز" ستبث في وقت لاحق ان " تقسيم العراق الى ثلاث مناطق تتمتع بالحكم الذاتي امر سيخلق ليس فقط وضعا من شأنه ان يجعل السنة والدول السنية والمتطرفين السنة يتناحرون مع الأصوليين بل ان الاكراد سيخلقون مشاكل مع تركيا وسوريا ". أضاف " وسوف تجدون أنفسكم في فوضى اكبر من التي نشهدها في الوقت الراهن والتي سنتوصل الى حلها حسب ما اعتقد". )
وعلى هذا الأساس تكون أصوات أولئك الذين ارتفعت تحت قبة برلمان محمود شماعية منادية بالفدرالية لم تعد تساوي شيئا بعد الآن ، وإن السفير الأمريكي ، خليل زاده سيقوم بالشطب عليها دون أن نسمع صوتا لمعترض ، وبهذا ستكون آمال أولئك الذين تآمروا على العراق والشعب العراقي حين صوتوا على الفيدرالية بنعم ، وبالشكل الذي رسموه هم ، ستكون أضغاث أحلام ، وإن قيام مثل تلك الفيدرالية في العراق صار أملا بعيدا ، إن لم يكن مستحيلا ، هذا حتى لو صدرت أكثر من فتوى يُراد منها ذبح العراق على القبلة الإيرانية ، وحتى لو تباكى أولئك على الدستور الذي استغفلوا العراقيين به ، فالدستور ليس نجيلا منزلا ، وكل الدساتير في الدنيا تتغير وتتبدل ، وإنني هنا ، كواحد من أبناء هذا الشعب الذي غلب على أمره ، لا أرى بوش حريصا على العراق والعراقيين في رفضه للفيدرالية تلك ، وإنما هناك أسباب أخرى دفعته الى ذلك ، ذكر هو بعضا منها ، وترك البعض الآخر ،  ومنها الآتي :
الأول : الفوضى التي ستعم المنطقة من جراء قيام فيدرالية في العراق تلونت بلونين هما اللون القومي ، واللون الطائفي ، وفيدرالية بهذه الألوان لم يشهدها بلد في العالم من قبل . ومعنى الفوضى الذي يقصده بوش هنا هو أن الأكراد في كل من سورية وتركيا وإيران سيتحركون مطالبين بفيدراليات هناك ، وهذا سيضع الأمريكان في خضم بحور أخرى من الفوضى ، لم يخرجوا هم من واحد مثلها في العراق للآن . والملفت للنظر في تصريح بوش ذاك هو أنه قد رد أسباب الفوضى في العراق ، ليس للسياسة الأمريكية الخاطئة التي مورست على مدى أكثر ثلاث سنوات فيه ، وإنما للشرخ العظيم الذي أصاب المجتمع العراقي ، وأحاله الى أوصال مقطعة ، غير معلن عنها بشكل رسمي للساعة .
الثاني : وهو الأهم ، ويتجسد في أن مواطن الفوضى هذه ستكون على مرمى عصا من منابع النفط في المملكة العربية السعودية ، ودول الخليج العربي الأخرى التي ستصلها نيران تلك الفوضى حتما ، وهذا ما سيؤدي بدوره الى توقف تدفق ذلك النفط الذي يشكل شريان الحياة للآلة الصناعية في الدول الرأسمالية ، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ، وأن أي توقف لتدفق هذا الشريان ، وحتى لو كان لأشهر معدودة ، سيصيب تلك الآلة بأضرار جسيمة ، لا يمكن للناس في الشرق أن تتصور الكارثة التي ستحل بالمجتمعات الغربية من جرائه .
الثالث : ميلان الأذن الأمريكية أخيرا لسماع ما يقوله العرب بشأن العراق ، خاصة بعد أن كانت الإدارة الأمريكية قد سدت تلك الأذن ، وامتنعت عن سماع وجهات نظر بعد الدول العربية من مثل مصر ، والمملكة العربية السعودية ، حين قررت أمريكا غزو العراق قبل ما يزيد على أكثر من ثلاثة سنوات من الآن ، وقد ظهر هذا الميلان في الاجتماع الذي انعقد في القاهرة قبل أيام ، وضم ، بالإضافة الى الولايات المتحدة الأمريكية ، الدولة الخليجية العربية ومصر والأردن ، ذلك الاجتماع الذي أعلنت فيه أمريكا ، وبلسان  وزيرة خارجيتها ، كوندليزا رايس ، أن الأمريكان على استعداد الآن لسماع وجهات نظر الحكام العرب في كل ما يهم منطقة الشرق الأوسط ، وخاصة الوضع في العراق ، ذلك البلد الذي تٌجمع كل الدول العربية على وحدته أرضا وشعبا ، وترفض أي تقسيم له ، وتحت أية ذريعة من الذرائع ، وهذا هو الموقف نفسه الذي عبر عنه عبد الله بن عبد العزيز ، ملك المملكة العربية السعودية ، أمام وزرائه ، وقبيل ساعات من تصريح بوش ذاك ، ومن ارتفاع الأيادي في برلمان محمود شماعية ، معلنة عن البدء بتمزيق العراق .
واللاغريب في الأمر هنا هو أن القادة في العراق ، ورغم تبادلهم لأنخاب النصر ، ووقوف عبد العزيز الحكيم مصفقا بعمامته لهذا الانجاز المدمر ، لم يستطع أحد منهم أن ينبس ببنت شفة واحدة يعارض فيها تصريح بوش ، ولا يرفضه ، على أقل تقدير ، فالكل قد بلعوا ألسنتهم ، مراهقون وغير مراهقون ! لقد صمتوا جميعا ! وموقف هؤلاء من تصريح بوش ذاك يشبه الى حد بعيد موقف أحد المسؤولين الكورد الذي صرح من أن النفط في كردستان ، هو للشعب الكردستاني . ولكن بعيد هبوط وزير الخارجية الأمريكية في مطار اربيل ، وبعيد أن أسمعت الجميع هناك قولها : إننا ننظر للنفط على أنه عامل توحيد ، وليس عامل تفريق . عاد هذا المسؤول الكوردي في اليوم الثاني من زيارة كوندي ( اسم الدلع لكوندليزا رايس ) مباشرة ، ليقول : إن النفط في كردستان هو لعموم الشعب العراقي !
اللهم افضح حتى يتبين الخبيث من الطيب ! كلمة قالها الأمام علي عليه السلام .




99
       الفيدرالية شرذمت الكتل قبل أن تشرذم الوطن !            سهر العامري

منذ أن كنا صغارا ، مبتدئين في السياسة كان يطرق مسامعنا شعار : الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان  . وكان هذا الشعار من بين أهم الشعارات التي رفعها الحزب الشيوعي العراقي طوال مسيرته النضالية المجيدة ، الطويلة ، ولم نكن نسمع وقتها بشعار يدعو الى حكم ذاتي أو فيدرالية لما تبقى من مناطق العراق الأخرى .
ولكن بعد طرد القوات العراقية من الكويت ، وبعد انعقاد مؤتمر بيروت للمعارضة العراقية ، برزت فكرة الفيدرالية بقوة الى الوجود بدلا من الحكم الذاتي ، وكانت تلك الفكرة أو الشعار تخص منطقة كردستان فقط ، ولا تتعدى الى المناطق الأخرى من العراق ، وقد توازت المطالبة بتلك الفيدرالية ، مع مطالبة أخرى انصبت على حكم ديمقراطي ، يقوم على أساس من انتخابات عامة ، تفضي الى تشكيل جمعية وطنية ، تنبثق عنها حكومة وطنية ، تؤمن بالديمقراطية ، وليس بفرض القانون عن طريق فتوى من رجل دين ، أو عن طريق تهديد ، وحرق مقرات أحزاب ، وتزيف انتخابي .
لكن الأمر انقلب بعد ذلك ، خاصة بعد أن تبنت الصحف الإيرانية ، ومنها صحيفة كيهان الإيرانية الحكومية ، فكرة فيدرالية الوسط والجنوب من العراق ، تلك الفكرة التي تبناها عبد العزيز الحكيم بقوة ، وهو متأكد تماما من نجاحها على أية حال من الأحوال ، سواء أكان ذلك على صعيد البرلمان حيث تجري تحالفات ، ومساومات بعيدة عما تريده الناس في العراق ، أو على صعيد الشارع العراقي ، وذلك حين يضمن هو موافقة المراجع الكبار بإصدار فتوى ترغم الكثير ممن يخافون نار الله الحامية التي تبشر بها تلك الفتوى كل من لا يصوت بنعم عليها ، تماما مثلما جرى ذلك في انتخابات أعضاء البرلمان ، أو وقت أن جرى التصويت على الدستور ، على الرغم من أن نسبة من اطلع على الدستور ذلك لم تتجاوز الواحد بالمئة من المصوتين عليه ، ومن دون أن يعي أغلب المطلعين  ماهية الدستور ذاك الذي تناقض المادة فيه نفسها بنفسها ، وقد ترتب على التصويت ذاك مزيد من الانقسام بين الناس في العراق ، مزيد من الذبح والقتل ، مزيد من التهجير ، مزيد من الهروب الى خارج العراق ، والى الحد الذي زاد فيه عدد المغادرين له عن خمسة ملايين مواطن عراقي ، مثلما ازدادت حصة أوربا وحدها من اللاجئين العراقيين على خمسين بالمئة عن حصتها في السنة الماضية ، وقد نزل من هؤلاء اللاجئين العراقيين أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة لاجئ عراقي السويد وحدها ، وخلال شهر واحد ، هو شهر أيلول / سبتمبر المنصرم من هذه السنة ، وذلك طبقا لإحصائيات دائرة الهجرة في السويد. هذه الشرذمة أصابت المجتمع العراقي ، بعد قيام ذاك البرلمان ، وإقرار ذاك الدستور اللذين يتبجح بإنجازهما للآن السيد بوش وبعض من المصفقين له من العراقيين .
وإذا كانت العجلة في تشكيل البرلمان في العراق ، الذي صار يكلف الدولة العراقية مبالغ مالية كبيرة شهريا بسبب ما ينفق من أموال طائلة على حراسة أعضاء ، وعلى حراسة ذويهم ، وكذلك العجلة في قرار دستور متناقض المواد ، يراد له إعادة صياغة الآن ، قد أديا الى انقسام عميق في المجتمع العراقي ، فإن إقرار قانون الفيدرالية الذي لم يخص  كردستان العراق وحدها زاد من حدة هذا الانقسام المدمر ، وليس على صعيد الشارع العراقي هذه المرة وحسب ، وإنما على صعيد الكتل العراقية التي يتكون منها البرلمان في العراق ، فكتلة الائتلاف الشيعي الموحد انشطرت الى شطرين كبيرين ، وقف شطر منهما مع إقرار ذلك القانون ، بينما وقف الشطر الثاني ضده ، ومثلها انقسمت القائمة العراقية ، ولكن الى أشطر متعددة ، وتمزقت شر تمزيق ، حتى صار الموقف من قرار ذلك القانون موقفا فرديا ، وليس جماعيا ، وقد ظهر هذا جليا من خلال البيانات والتصريحات التي انطلقت على غير هدى من فم هذا المتحدث أو ذاك ، وصار كل واحد من هؤلاء ينطق باسمه ، وليس باسم القائمة تلك ، ففي الوقت الذي نجد فيه مفيد الجزائري ، عضو البرلمان ، وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي ، وهو واحد من مكونات القائمة تلك يقول في تصريح لصحيفة الحياة اللندنية : إن ( العراقية نجحت في تعديل الكثير من المواد التي وردت في مشروع الائتلاف ومنها تعريف الاقليم بأنه يتكون من محافظة واحدة او اكثر بدلاً عن الفقرة التي نصت على ان الاقليم يتكون من اقليمين او اكثر . ) .
ولا أراني بحاجة الى مناقشة هذا التبرير طويلا ، والذي لم يقنع الكثيرين من المتابعين للوضع السياسي في العراق ، ولكنني قرأت في الوقت نفسه تصريحا لعضو آخر من ذات القائمة ، هو الدكتور عدنان الباججي ، يقول فيه : إن دعاة الفيدرالية في العراق يريدونها كونفيدرالية ، وهذا يعني أن الجميع في تلك القائمة لم يحدد بعد ما تعنيه كلمة : فيدرالية ، وإلا فما هي الفدرالية التي تتكون من محافظة واحدة على حد تعبير مفيد الجزائري ؟ وهل هو قادر على ضمان أن تكون تلك الفيدرالية لمحافظة واحدة ، وليس لتسع محافظات مثلما يطالب الحكيم بذلك ؟ ربما سيقول أن الانتخابات هي التي ستقرر ذلك مستقبلا  ، لكن من يضمن نتيجة نزيهة لتلك الانتخابات في حال ما أصدر المراجع الأربعة في النجف ، كما يسميهم محدثي من محافظة بابل ، ومن الأحزاب الشيعية المعارضة للتسلط الإيراني ، فتوى تلزم الناس بالتصويت على فيدرالية المحافظات التسعة ، وليس على المحافظة التي طالبت بها القائمة العراقية على حد تعبير مفيد الجزائري ؟ وبهذا تكون تلك الانتخابات مهزلة ، تماما مثل انتخابات البرلمان الذي أظهروا للناس فيها منكرا ونكيرا ، ووضعوهما في كل مركز انتخابي .
بعد تصريح مفيد الجزائري ذاك  صدر بيان من القائمة العراقية نفسها يصف ما جرى من تصويت على قانون الفدرالية بالمهزلة والمؤامرة ، وهاكم بعضا مما جاء في هذا البيان الذي يقول : إن ( ابناء شعبنا تفاجأوا جميعا ومعهم كافة القوى والقيادات الوطنية العراقية الشريفة بمهزلة جلسة مجلس النواب ليوم الاربعاء 11/10/2006 الخاصة باقرار مشروع تقسيم العراق او ما يسمى بقانون الاقاليم ) ، ويضيف إن ( ما ورد في هذا المشروع إنما يمثل تحديا صارخا لإرادة ابناء شعبنا العراقي المجاهد ومشروعا تقسيميا واضحاً روجت له ارادة خارجية لا تضمر الا روح الشر والخراب للعراق وشعبه ).
واضاف البيان قائلا  ( إننا في حركة الوفاق الوطني العراقي إذ نعتبر ما حدث بجلسة مجلس النواب المذكورة مؤامرة لتقسيم العراق كما ان الحضور لا يمثلون كل الشعب العراقي وان من قام بالتصويت لصالح مشروع التقسيم انما سوف يتحمل تبعات الاضرار بمصالح العراق العليا )
أرأيتم كيف يكون التشرذم ؟ أرأيتم أن ما يصدر من قوانين في العهد الأمريكي- الإيراني في العراق لا يصدر عن قناعات مبدئية صادقة ؟ وإنما يتم عن مساومات يضع الإنسان العراقي الواعي عليها أكثر من علامة استفهام ؟
وبعد هذا البيان الصادر باسم حركة الوفاق التي هي أكبر تكوينات القائمة العراقية يأتي تصريح صفية السهيل ، فتقول ( إن الفدرالية هي نمط اتفقنا عليه بقناعة خلال تواجدنا في المعارضة العراقية ، سواء على مستوى الأحزاب أو على مستوى القيادات المستقلة) وتضيف ( فان ما يصدر من اتهامات لي ولزملائي في القائمة العراقية الوطنية الذين صوتوا لصالح قانون آلية تشكيل الأقاليم لا تنطلق الا من رؤية ضيقة للاشياء , وتتعامل مع الناس وفق المنطق الذي ربى نظام صدام عليه الكثيرين , انه منطق اما ان تكون معي او ضدي ، وهو ما نرفضه ولا نقبل به بأي شكل من الاشكال )
والحقيقة التي يجب أن تقال هنا هو أن أحزاب المعارضة ، والممثلة في البرلمان اليوم ، كانت قد اتفقت على فدرالية لكردستان ، وليس على فدرالية محافظة واحدة ، أو فدرالية لأمارة إيرانية تتشكل من تسع محافظات ، كما تريد إيران نفسها ذلك اليوم . هذا بالإضافة الى أن الناس في العراق لا ينظرون الى هذه المسألة مثلما تنظر لها الأخت صفية السهيل في قولها : أن تكون معي أو ضدي ، مثلما تزعم ، وإنما تنظر لها على أنها قضية مصيرية تتعلق بالعراق كوطن يسعى أكثر من طرف ، وبحماس منقطع النظير الى تقسيمه ، ويأتي في المقدمة من هؤلاء إيران ، وأطراف في الإدارة الأمريكية الحالية ، ولكن مع هذا فالشارع العراقي يرى أن الأخت صفية السهيل صوتت لصالح قانون الفيدرالية ذاك بدفع من زوجها الذي يرد في انتمائه الى القومية الكوردية ، ويؤسفني أن انقل لها هذا الرأي ، ولكنني رأيت من الواجب أن تطلع هي على ما يقوله الناس في العراق بصدد قضية مهمة ، ستسيل بسببها دماء غزيرة ، تزيد من جروح العراق الجريح .
كان المتحدث الأخير من أعضاء القائمة العراقية المشرذمة هو الدكتور مهدي الحافظ الذي طرح تبريرا آخر يختلف عما طرحه مفيد الجزائري ، وصفية السهيل من قبل ، يقول : إن القانون ( ينحصر بشرح التدابير العملية والادارية لتشكيل الاقاليم طبقا لاحكام الدستور الدائم ولا يتضمن تحديد أي صيغة للوحدات الفيدرالية )
عجيب ! وأين فيدرالية المحافظة فأكثر التي تحدث عنها مفيد الجزائري من قبل ، وعضو القائمة العراقية نفسها ؟
يمضي الحافظ ليقول : ( كما جرى الاتفاق على أن ينفذ قانون الاجراءات التنفيذية لاقامة الأقاليم في مدة زمنية لا تقل عن ثمانية عشر شهرا، أي بعد الانتهاء من التعديلات على الدستور الدائم خلال سنة. وبهذا توفرت ضمانة جدية لتأجيل موضوع الأقاليم وتشكيلها في الظروف الراهنة العسيرة التي تمر بها البلاد. )
هنا يمكن لي أن أسال الدكتور مهدي الحافظ ، أما كان من الأفضل أن يؤجل التصويت على قانون الأقاليم والفدرالية الى ما بعد إجراء التعديلات على الدستور ؟ وكيف سيصير مصير هذا القانون لو أن التعديل ذاك حصر الفدرالية بكردستان العراق فقط ودون المناطق الأخرى من العراق ؟
ألم ير الحافظ أن هناك أطرافا خارجية هي التي دعت بعض الكتل الى الاستعجال بإصدار مثل هذا القانون الذي قال عنه متحدث أمريكي أنه تم بضغط ؟ أم أن الحافظ لم يشاهد الحكيم وابنه يدورون بين المدن العراقية لشهور طويلة ، رافعين راية فدرالية أمارة الحكيم الإيرانية في المحافظات التسعة ؟
لقد كتبت في آخر مقالتي : في الطريق الى الشماعية . إن قانون الأقاليم والفدرالية سيُقر في البرلمان رغم أنف رئيسه ، محمود المشهداني ، ورغم زعيقه المتواصل في ذم هذا الطرف أو ذاك ، وهنا أود أن قول للدكتور الحافظ وللآخرين ممن صوت لصالح ذاك القانون من أن فدرالية المحافظات التسعة ستصبح حقيقة ، واقعة ، ليس بالانتخابات الحرة النزيه ، وإنما بفتوى إيرانية سيصدرها واحد أو أكثر من المراجع الأربعة في النجف ، والذين لا تربطهم بالعراق والشعب العراقي أية رابطة ، وعلى أساس من تلك الفتوى سيقسم العراق ، و سيعود التقسيم ذاك بالنفع الى دول مثل إسرائيل ، وإيران ، وتركيا ، وقد يبادر بعض من هذه الدول الى ضم الأقاليم المفدرلة من العراق إليها بهذه الصورة أو تلك ، وسيكون من وقع على قانون الفيدرالية والأقاليم بصيغته الحالية هو من يتحمل وزر ضياع العراق كدولة .




100
          الشاعر الشيوعي  يوسف أتيلا ( 3 )                     سهر العامري
 
مرت السنة العشرون من عمر الشاعر يوسف أتيلا عليه ، وهو طالب في جامعة فينا ، ويبدو أن هناك ثلاثة عوامل دفعت به للرحيل لها ، يأتي في المقدمة منها قرار فصله من جامعة ( Szeged ) ، بينما كان العامل الثاني هو إجادة الشاعر للغة الألمانية التي هي اللغة الرسمية السائدة في النمسا ، أما العمل الثالث فهو قرب العاصمة الهنغارية ، بودابست ، من العاصمة النمساوية ، فينا ، حتى لكأن المسافر من احدهما الى الأخرى يسير في دولة واحدة ، وليس في دولتين اثنتين ، فالمسافة بين العاصمتين لا تأخذ من وقت المسافر ذاك أكثر من ثلاث ساعات بقطار يسير بين مروج سندسية ، غناء ، تسير أنى سار ذلك القطار ، تراها حيثما طاف بصرك ، وامتدت العيون منك الى الأفق البعيد .
ولكن الشاعر حين حل تلك الديار حلها وهو على شظف في العيش ، وحال بائسة في نبذ قاس تعرض لها طوال العشرين سنة من عمره ، كللت بطرده من الدراسة في الجامعة تلك ، لا لشيء إلا لأنه كتب قصيدة ترجم فيها صدق مشاعره الجياشة ، وحرارة معاناته المستعرة ، تلك المعاناة التي تواصل على مدى سنوات طوال ، رأى فيها ما رأى من عذاب متصل ، وهو ما زال طفلا يحبو ، وفي جريمة لم يرتكبها هو على ما يراه الشاعر الفيلسوف ، أبو العلاء المعري ، في بيته الذي خطه على قبره ، والذي ظل على مدى تراكض السنون شاهدا على تلك الجريمة التي ادعاها هو :
           ( هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد )
فيوسف أتيلا ما كان ليكذب حين قال في قصيدته : قلب نظيف ،  إنه لا يملك ما يملكه غيره من الناس ، يعيش في بحر من الحرمان ، تلاطمت أمواجه العاتية إمعانا في تعذيبه ، فبات على الطوى أياما دون أن يذوق فيها طعم الخبز ، ولكنه ، مع ذلك ، ظل متماسكا ، ولم تبلغ به الثورة ما بلغته من أبي العلاء المعري حين ضاق العيش عليه ، وانحبس الرزق عنه ، فقال :
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ....... وترزق مجنونا وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
يستمر الشاعر في عرض تراجيديا حياته تلك ، فيقول : ( بعد أن سمع عميد الكلية : Antal Lábán من أنني أبيع الجرائد خارج مطعم ( Rathus Keller ) من العاصمة ، فينا ، وضع حدا لذلك عن طريق تقديم ثلاثة وجبات غذائية ، مجانية لي في اليوم الواحد ، ومن مطعم الكلية ذاتها ، وزاد على ذلك في أنه هيأ لي فرصة تعليم طالبين أخوين ، هما ولدا : Zoltán Hajdu الذي كان يشغل المدير العام للمصرف الانجليزي النمساوي ) . ويضيف : ( من فينا ، حيث سكني الرهيب الذي أمضيت فيه أربعة أشهر دون غطاء يغطيني ، وصلت مباشرة الى قصر : Hatvan كضيف عند أسرة :  Värdinna، زوجة :Albert Hirsch  التي زودتني باجرة السفر ، وذلك حين عزمت على الرحيل الى باريس في نهاية صيف تلك السنة ، وحال وصولي لها سجلت نفسي كطالب في جامعة " السوربون " ) من باريس ، تلك المدينة التي قرأ فيها الشاعر نفسه الفلسفة عند هيجل ، ثم انتقل الى دراسة يساره ، فاعتنق الفكر الماركسي ، وهذا قبل أن يضم هو الى الحزب الشيوعي المجري . أما في الأدب فقد تعرف هناك على المذهب السوريالي الفرنسي ، ويبدو أن قصائده الشعرية التي كتبها على هدي من هذا المذهب ، وباللغة الفرنسية ، صارت تقرأها الناس على صفحات بعض المجلات الفرنسية هذه المرة .
بعد أن أمضى الشاعر سنة دراسية واحدة في باريس قضى صيفها في قرية صيد سمك تقع في الساحل الجنوبي من فرنسا ، عاد الى بودابست ، ليسجل نفسه في الجامعة من جديد ، ورغم أنه أكمل فيها فصلين دراسيين إلا أنه لم ينجز امتحان التخرج ليصبح مدرسا ، مثلما كان يرغب ، والسبب في ذلك كما يقول هو : ( بعد تهديد البروفسور : Antal Horger لي ما كنت أظن من أنني سأحصل على عمل كمدرس . )
كان تهديد البروفسور ذلك قد جاء بعد أن نشر الشاعر قصيدته : قلب نظيف ، وهو في العشرين من عمره ، ويوم كان طالبا في جامعة ( Szeged ) ، تلك القصيدة التي يقول في بعض من أبياتها :
لا أما لي ، ولا أبا ! 
لا دينا لي ، ولا وطنا ! 
لا حبا لي ، ولا قُبلا ! 
لا مهدا لي ، ولا كفنا ! 
لم آكل لثلاث ليال ٍ
حتى لو كان المأكول قليلا !
سنوات العشرون هباء  ! 
سأبيع سني العشرين .
إن لم يرغب أحد فيها ،
فالشيطان سيشتريها !   
ويبدو أن التهديد بحرمان الشاعر من أن يكون مدرسا ظل قائما حتى بعد اغترابه ، وعودته الى المجر ثانية في صيف سنة 1928م ، قادما من مدينة الكومونة ، باريس ، محملا بالفكر الثوري بعد أن درس الفلسفة الماركسية هناك ، تلك الفلسفة التي قادته الى صفوف الحزب الشيوعي المجري السري بعد تلك العودة مباشرة طبقا لما قالت به بعض المصادر ، بينما ذكرت مصادر أخرى  أن الشاعر قد انظم الى الحزب المذكور سنة 1930 م ، أي حين بلغ هو الخامسة والعشرين من العمر ، هذا في الوقت الذي حصل فيه هو على عمل في معهد التجارة الخارجية كموظف مراسل لهذا المعهد باللغة الفرنسية ، ولكنه سرعان ما ترك العمل في هذا المعهد رغم أنه ، بالإضافة الى إجادته لثلاث لغات ، يمتلك خبرة كبيرة في المراسلات التجارية باللغتين : المجرية ، والفرنسية ، ومع سرعة كبيرة في الكتابة على الآلة الكاتبة ، ومقدرة على الاختزال ، وتكنيك الطباعة ، وكان السبب وراء الترك ذاك هو أنه لم يعد يقاوم المرض الذي ألم به رغم صلابته الجسدية والعقلية ، مثلما يقول هو ، فقد أظهر الفحص الطبي أنه مصاب بإنهاك عصبي ، ولهذا قرر ترك ذلك المعهد خشية من إرهاق العمل المتواصل ، خاصة وإن المعهد المذكور كان حديث النشأة ، وهذا ما ج أن ينصرف  ، بعد ذلك ،  للعيش على ما توفره له كتاباته الأدبية ، قبل أن يصبح مديرا لمجلة تعنى بالنقد الأدبي تدعى ( Szép Szó ) ، ولكنه عاد وترك العمل في تلك المجلة من جديد ، وكان ذلك سنة 1936 م  ، ولكنه ، رغم كل ذلك ، ظل متوقد الشاعرية ، يكتب القصيدة متى ما أشاء ، مثلما رد هو بذلك على صديقته ( Márta Vágó ) التي كانت تخشى من أنه لا يستطيع كتابة قصيدة يرحب بها بالكاتب الألماني الشهير ، والحائز على جائزة نوبل 1929 م ، ( Tomas Mann ) الذي كان في زيارة للعاصمة الهنغارية ، بودابست ، وذلك في كانون الثاني / يناير من سنة 1937 م ، وقد صدق الشاعر في رده ذلك ، رغم أن المسافة الزمنية بينه وبين الموت صارت تعد بالأشهر ، وليس بالسنوات ، فقد كتب هو قصيدة جميلة بتلك المناسبة ، يقول في بعض منها ، مخاطبا الكاتب ذاك :
أنك تعرف أن الشاعر لا يكذب .
والحقيقة المتخفية لا تفي .
افصح عنها ، فهي التي تملأ العقل بالضياء .
ولهذا ، ودونهما ، الكل في ظلام .
يتبع

101
      العشائر العراقية ترفض الفدرالية الإيرانية !                سهر العامري 

أنا لست من أولئك العراقيين الذين يريدون الحط من الوعي عند العشائر العراقية العربية ، الشيعية منها والسنية ، فلقد تميزت العشيرة العراقية بوطنية فطرية ، صادقة ، ورغم الحيف الذي نزل بها على مر سنوات كثيرة ، والذي تجسد في حرمان أبنائها من فرص التعليم ، ومن العيش الكريم ، وكانت وطنيتها تلك تبرز في أحرج المنعطفات التاريخية التي يمر بها العراق ، وحين تستشعر الخطر الداهم هي ، فساعتها تهب هبة رجل واحد للدفاع عن أرضها ووطنها .
ولا أراني بحاجة ماسة الى استعراض الهبات الوطنية والتاريخية الكثيرة التي قامت بها تلك العشائر على مدى تاريخها المجيد ، وتاريخ العراق المحمل بصنوف من الظلم والاضطهاد .
المعروف أن العشائر العراقية الحالية في أغلبها هي امتداد لتلك القبائل العربية التي هاجرت من جنوب شبه الجزيرة العربية ، ( اليمن ) واستوطنت العراق منذ قرون طويلة ، سبقت ظهور الإسلام  ، ولكن هجرتها إليه ازدادت وقت ما سمي بالفتوحات الإسلامية ! زمن الخليفة الثاني ، عمر بن الخطاب ، الذي كان هو السبب الرئيس في زوال الامبراطورية الفارسية ، وتحكم ملوك الفرس في المنطقة ، والى الأبد ، ولهذا حقد حكام إيران على الخليفة ذاك على مدى دهور وأزمان ، واعتبروه هو من أنزل بهم تلك النكبة التاريخية المميتة التي لم تقم بعدها لهم قيامة أخرى .
لقد اسهمت العشائر العربية العراقية المنحدرة في جلها من أصول يمنية اسهاما مباشرا في المعارك التي اسقطت تلك الامبراطورية ، وفي كل المعارك التي خاض العرب المسلمون في الشرق من ديارهم ، بينما ظلت القيادة دائما بيد عرب الشمال ( السعودية حاليا ) ، وخاصة أولئك القادة المنحدرون في أصولهم من القبيلة العربية المعروفة ، قريش ، التي ينحدر النبي الكريم بنسبه منها .
ويبدو لي أن هذا التاريخ الحافل بالتجارب والعبر الذي تحمله العشيرة العربية في العراق على امتداد مسافة زمنية طويلة هو الذي يحرك الروح الوطنية في نفوس أبنائها ، ويجعلهم يلوذون به في كل انكسار يصيبهم ، ويصيب وطنهم ، ويدفعهم الى رص صفوفهم من أجل إنقاذ أنفسهم أولا ، ووطنهم ثانيا ، وهاهم اليوم ، ومثلما كانوا بالأمس يتجاوزون في طروحاتهم طروحات تلك الأحزاب الطائفية ، الشيعية والسنية معا ، والتي مزقت العراق ، وأحالته الى ساحة حرب يتقاتل فيها أبناء الوطن الواحد ، وبإيحاء من دوائر خارجية ما فتأت تؤجج نار الحقد والكراهية بينهم ، وإلا ففي أي عصر كان العراقي يُقتل لأنه يحمل اسم الحسين أو اسم عمر ، وفي مهزلة تذكر بمهازل القرون الوسطى .
لقد هب أبناء العشائر العراقية العربية في محافظة الانبار منذ أيام هبة مشهودة في انتصارهم للعراق وللعراقيين ، وذلك حين طاردت تلك العشائر أفراد تنظيم القاعدة الذين نصبوا أنفسهم حكاما على تلك العشائر ، وراحوا يقتلون هذا ، ويذبحون ذاك ، وكأنهم عادوا هم أبناء الوطن ، وعادت تلك العشائر هي الغريبة على العراق ، وهذا بعد أن أقام أولئك الارهابيون أمارة هنا ، وأمارة هناك ، وراحوا يحكمون العراقيين بقطع الرقاب ، وبحد السيوف ، ولكن بعد أن تكشف للعراقيين من أهل الانبار سفاهة عقول هؤلاء ، وكثرة جرائهم ، هبوا لملاحقتهم ومطاردتهم ، ودفع شرورهم ، ورد كيدهم الى نحورهم  . وفي هذا الوقت بالذات تكشف للعشائر العراقية في الوسط والجنوب زيف ثقافة الضرب بالزنجيل واللطم على الصدور ، تلك الثقافة المستوردة من ايران الاسلام ! خاصة بعد أن وصلت السكين الإيرانية ، التي حملها عملاء إيران معهم منها ، الى رقاب أكثر من شيخ من شيوخ تلك العشائر العربية من الرافضين للتحكم الإيراني فيهم ، وفي شؤون وطنهم ، وبعد أن شاهدت تلك العشائر كذلك أن أبناءها أصبحوا خارج السلطة ، وليس من أصحاب القرار والحكم ، ذاك الحكم الذي صار بيد أولئك الذين حملتهم الدبابات الأمريكية على ظهورها ، والذين ينحدرون في أغلبيتهم من أصول إيرانية ، وفي مؤامرة أعدت بالخفاء ما بين إيران الدولة وأمريكا الغازية ، والتي كان من بين أهم أهدافها ، ليس القضاء على صدام ونظامه وحسب ، وإنما من أجل الانتقام من العراق ، والشعب العراقي عامة ، وما تلك المجازر اليومية التي يشهدها العراق اليوم إلا دليل ساطع على مؤامرة الخفاء تلك ، رغم كل ما يقال عن العداء الإيراني – الأمريكي .
لقد شهدت مدينة كربلاء في الساعة القليلة الماضية تجمعا كبيرا للعشائر العربية في الوسط والجنوب ، وقد ضم هذا التجمع أكثر من ستمئة شيخ عشيرة عراقية قاموا بإصدار وثيقة تجاوزوا فيها طروحات الأحزاب الطائفية الخاسرة التي قادت العراق اليوم الى دمار ما بعده دمار ، ناشرة فيه ثقافة التخلف والانحطاط ، مبتعدة عن الروح الوطنية العراقية التي ابتعد عنها صدام الساقط من قبل .
لقد كان من أبرز بنود تلك الوثيقة هو رفض فدرالية الحكيم الإيرانية رفضا قاطعا ، تلك الفدرالية التي كانت في حقيقة الأمر ما هي إلا مؤامرة يُراد منها ضم الوسط والجنوب من العراق الى الجارة المسلمة إيران ! ، وعلى رغم أنف محمود المشهداني ، وبرلمانه البائس ، وذلك حين سعى عبد العزيز الحكيم ، وأبنه عمار ، الى تنفيذ هذا المشروع الإيراني بشتى السبل ، وبمختلف الحيل ، فقد طاف ابنه ، عمار ، أو عدي الحكيم ( مثلما يسميه العراقيون اليوم ) على العشائر العراقية في الوسط والجنوب ، مبشرا بذلك المشروع الذي ستقوم بقيامه جنة عدن على الأرض في العراق ، وباذلا من المال الحرام قسطا لهذا الطرف او ذاك من ضعاف النفوس هناك ، ولكن رغم كل ذلك جاءتهما الضربة المتوقعة من العشائر العراقية في رفض الفدرالية الإيرانية ، ومن مدينة كربلاء هذه المرة ، تلك المدينة التي استغل عبد العزيز الحكيم تجمع الجماهير فيها بمناسبة الزيارة الشعبانية لمرقد الأمام الحسين عليه السلام قبل أيام قليلة ، وراح يخطب فيها ، طالبا تأييده في مؤامرة التقسيم تلك ، وذلك بعد أن اعتبر هو تلك الجماهير هي جماهير مجلسه الأعلى ، بينما الحقيقة هي أن العراقيين شعة وسنة اعتادوا على زيارة أضرحة الأئمة من أهل البيت في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء قبل أن يخلق الحكيم نفسه .
 واليوم توقع عشائر العراق في الوسط والجنوب في مدينة كربلاء بالذات وثيقة تفرض على الموقعين عليها من بين ما تفرض الآتي :
1 – الدعوة الى وحدة العراق أرضا ، وشعبا ، وحكومة .
2 – نبذ الطائفية المقيتة .
3 – رفض فدرالية تقسيم العراق بكل شكلها ، وتحت أي عنوان .
4 – دعم مشروع صحوة إنقاذ الأنبار والتضامن مع عشائر المحافظة في مواقفها .
وعلى أساس من ذلك تكون الجماهير العراقية في عموم مدن الوسط والجنوب قد رفضت فدرالية أمارة الحكيم الإيرانية جملة وتفصيلا ، كما أنها وجهت في نفس الوقت إنذارا للذين يحاولون اللعب بمصير الشعب العراقي والعراق ، أولئك الذين يجلسون تحت قبة البرلمان من المنطقة الخضراء ، وينشدون مع محمود المشهداني نشيد القنادر على مرأى ومسمع من الناس في العراق ، وفي العالم أجمع .



102
               في الطريق الى  الشماعية !                سهر العامري

في مقالة سبقت مقالتي هذه ذكرت أن محمود المشهداني ، رئيس برلمان الاحتلال في بغداد ، مصاب بحالة من الاكتئاب الشديد نتيجة لعدم تحمله العيش في السجن الذي وضعه فيه أخوه بفظاظة اللسان ، صدام الساقط . ذلك السجن الذي حمل منه عقدة نفسية ، تمثلت بعدائه لكل من يخالفه الرأي والمعتقد ، وكان السبب الذي يكمن وراء تلك العقدة هو تلك الساعات التي عجز فيها المشهداني عن الاستمرار بمجادلة شاب متهم بالانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي ، كان يقطن في السجن معه ، ومن ساعتها ظلت هذه العقدة  ملازمة له حتى بعد خروجه من معتقله ذاك . وقد جئت أنا على ذكر ذلك كله في مقالة سبقت .
ولكنني بعد ذلك قرأت مقابلة صحفية أجرتها جريدة الوطن مع المشهداني ، أمير الطارمية ، أثارت دهشتي ، فقد وجدت فيها الرجل لم يصب بحالة اكتئاب ، وعقدة معادة مخالفة الرأي ، وحسب ، إنما هو مصاب كذلك بمس من جنون ، سيقوده عاجلا أم آجلا الى مصحة الشماعية التي تستقبل منذ سنوات طويلة بعض المجانين ممن هم على شاكلة أمير الطارمية الثائر ! ذلك الأمير الذي حاز على هذا اللقب بفضل من وقوفه المستميت مع جند الزرقاوي ، وبقية الإرهابيين ، ومن على شاكلتهم ، فالمعروف أن هذا اللقب لا يمنح جزافا ، ودونما خدمات جلى ، يقدمها صاحبه للقتلة أولئك ، فكل من حاز عليه ، وكما قال لي رجل خبير بأحوال هؤلاء ، لا بد وأن يكون قد ذبح بيده عشرة من المرتدين عن الدين الإسلامي ، وإذا سألت هؤلاء الذباحين عن المرتدين بعرفهم ، وقوانينهم التي لم تعرفها عهود من قبل ، قالوا لك : هم الشيعة بالدرجة الأولى ، ولا فرق في ذلك بين شيعي عربي ، أو شيعي أعجمي ، فالشيعة على مختلف فرقهم ونحلهم ليس من الإسلام في شيء ، حسب معتقد جنود الإرهاب أولئك ، وإذا قلت لهؤلاء إن الشيعة يعبدون الله الذي تعبدون ، قالوا : نعم . ولكنهم يعبدونه على حرف !
ويبدو أن المشهداني قد حمل هذا اللقب بسبب من كونه ذباح بشر ، أو أن هؤلاء هم الذين منوا عليه بلقب فخري ، فقالوا عنه : أمير الطارمية . وحين قلت لمحدثي : قد يكون المشهداني ، محمود ، أبو شهاب ، واحدا من سكنة منطقة الطارمية من بغداد ، ولهذا أسبغوا هذا اللقب الرفيع عليه من عندهم ، رد هو مستعيذا بالله من قول كهذا ، ثم قال لي : هو في واحد من الاحتمالين المذكورين آنفا ، ولا غير .
ومع هذا فقد ظللت أنا على شك من ذلك ، إذ كيف يبيح قوم لأنفسهم من تأمير رجل عليهم ، وهو مصاب بمس من جنون واضح ؟ ويخبط في كلامه وحديثه خبط عشواء ، ويسل سيوف تافه القول على معارضيه ، خاصة حين يكون هؤلاء المعارضون من النساء اللائي يتفوقن عليه خلقة وأخلاقا ، وعلما وأدبا مثل الدكتورة ميسون الدملوجي ، والسيدة صفية السهيل . ولكن فعله المشين هذا مرده الى أنه لا يزال يعتقد أن المرأة ناقصة عقل ودين ، مع أنه هو نفسه قد خرج من جوف امرأة ، وأن النساء في العالم اليوم قد غزون الفضاء ، وصار البعض منهن يشتري قطعا سكنية على سطح القمر منذ الآن ، بينما لا زال هو يعيش في كهوف الماضي ، معتقدا أن الدين هو في إطالة اللحية ، وقباحة المنطق ، وسوء خلق.
وأنا هنا لا أريد أن أظلم الرجل حين أقول إنه مصاب بمس من الجنون ، فكل من يقرأ المقابلة التي أجرتها تلك الجريدة معه يخرج منها ، بما خرجت به أنا ، فأمير الطارمية يشن فيها حربا كلامية على أمريكا ، وعلى قوات الاحتلال ، ويعتبرهما السبب فيما يسمونه هم بالفوضى الخلاقة ، مثلما ينقل هو عنهم ، وهو في حربه الكلامية هذه لا يختلف كثيرا عن مقتدى الصدر ، فكلاهما قد جلس في حكومة ، وفي مجلس نواب يظلهما المدفع الأمريكي ، وعلى هذا تكون حربهما الكلامية تلك حرب نفاق لا غير ، فالكل يعلم أن مندوبي الصدر ، وبقية النواب ، وبما فيهم رئيسهم المشهداني نفسه ، لا يمكنهم أن يمروا الى قاعة البرلمان ذاك إلا بعد أن يتعرض كل واحد منهم الى تفتيش دقيق من قبل الجنود الأمريكان الذين يقومون بحراسة بناية البرلمان تلك ، والتي يجلس تحتها من هو معمم ، أو حاسر الرأس منهم .
وأمير الطارمية ، بعد ذلك ، يهزأ ممن جاء من العراقيين على ظهور الدبابات الأمريكية الى الحكم في العراق ، ولكنه في الوقت نفسه يجلس الى جنب الكثير من هؤلاء ، يمدحهم تارة ، ثم يعود ليذمهم تارة أخرى ، يعتبرهم هم السبب الحقيقي وراء احتلال العراق من جهة ، ولكنه يسبغ عليهم الشرف والوطنية من جهة أخرى ، وذلك حين يرى أن انقاذ العراق يأتي من رحم البرلمان الذي يترأسه هو ، هذا في الوقت الذي يعلم به أمير الطارمية أن الكثير من أعضاء البرلمان ذاك قد جاءوا على ظهور الدبابات الأمريكية ، وأن منهم من هو عميل للمخابرات الإيرانية ، ولا يحمل من الشرف والوطنية ذرة ، فهل يلام أحد حين يقول ، بعد هذا الخبط في القول من لدن رئيس البرلمان : إن أمير الطارمية قد ركبه الجنون ، وهو في الطريق الى الشماعية !
وقد يجادل البعض ، ويقول : إن المشهداني قد ينافق فيما يقول ، وهو يسخر نفاقه هذا من أجل أهداف سياسية مرسومة ، فهو في الوقت الذي يظهر شديدا على الأمريكان كلاما ، نراها من ناحية أخرى يسير ضمن اتجاه تتبناه جبهة التوافق الذي هو منها ، تلك الجبهة التي ما انفكت تخطب ود الأمريكان ، تماما مثلما يفعل عبد العزيز الحكيم ومجلسه ، وذلك من أجل الوصول الى بعض من تلك الأهداف . ولكن الحقيقة ليست هذه ، فالمشهداني بعيد عن النفاق ، قريب من الجنون ، واسلوب النفاق والكذب والضحك على الذقون مثله عنصران من عناصر الحكم الأمريكي في العراق ، الأول هو أحمد الجلبي الذي آذى بمقالبه نفسه ، مثلما آذى رئيس الوزراء السابق ، والفاشل ، ابراهيم الاشيقر ( الجعفري ) ، والثاني هو بيان جبر صولاغ وزير الاسكان أولا ، والذي خرج من تلك الوزارة دون أن يبني بيتا واحدا ، وثانيا أصبح وزيرا للداخلية فخربها ، وسلمها للإيرانيين ، حتى عاد المراجع من العراقيين الى الطابق الرابع من بناية تلك الوزارة لا يسمع إلا اللغة الفارسية التي عادت لسانا للعاملين فيه ، ولكن في نهاية الأمر صارت شرطته  تُسرح أفواجا أفواجا من الخدمة لوقوفها مع فرق الموت في صف واحد ، وها هو في الوزارة الثالثة ، وزارة المالية التي سيقوم بتخريبها عن قريب بعد أن أطلق كذبته الشهيرة في إصدار ورقة جديدة من الدينار العراقي يقلل فيها عدد ما يُعطى منه مقابل الدولار الواحد ، ولكن صولاغ مع نفاقه وكذبه هذا ما انفك يحمل راية معاداة الشيوعيين العراقيين ، وكل من يخالفه في الرأي ، تماما مثل زميله في المهنة ، أمير الطارمية ، وبفارق أن زميله الأمير ذاك يقف من الارهابيين من جنود الزرقاوي ، بينما يقف هو مع الإرهابيين في فرق الموت ، وجنود ولاية الفقيه . 
هذان الفريقان المسلمان ! فريق صولاغ ، وفريق المشهداني ، هما اللذان يحيلان نهار العراق الى ليل ، وعيشة مواطنيه الى جهنم حامية ، لا تطاق ، وفي وقت يظل الأول فيه سادرا في كذبه ونفاقه ، بينما يظل الثاني مبحرا في هلوسته وجنونه ، ومع هذا فلله في خلقه شؤون !




103
                المشهداني : سلاحنا القنادر *                   سهر العامري   

لمن لا يعرف المشهداني من القراء الكرام أقول : هو محمود المشهداني ، رئيس برلمان الاحتلال في العراق ، والذي وصل الى هذا المنصب عن طريق المحاصصة المقيتة التي وطد أركانها في العراق ، كأسلوب للحكم فيه ، حاكم العراقي الأمريكي ، بول بريمر ، وعن هذا الطريق ، وليس غيره ، اعتلى محمود المشهداني سدة ذاك البرلمان البائس الذي ما شهدت جلسة من جلساته حضورا تاما لأعضائه ، هذا مع أن الواحد منهم يتقاضى أكثر من خمسة آلاف دولار بالشهر الواحد ، وفي الوقت الذي لا يحمل فيه بعض الأعضاء من أعضائه مؤهل معلم عراقي يزيد راتبه أو يقل عن مئتي دولار شهريا في الغالب .
كان المشهداني زمن الطاغية صدام درويشا من دراوشة التكايا ، قادما من عصور الظلام التي عرفتها بغداد في حالات انكسارها ، وسقوطها في أزمنة التخلف والانحطاط ، فبرع هؤلاء باقتناص الفرص ، وراحوا يتمسحون بالدين لدوافع وأغراض معروفة ، لم تعد خافية على أحد  ، ولهذا كانوا هم عرضة لهزأ  شعراء العراق بسبب من ظلمة في تخلفهم ، وقلة في أدبهم ، وشحة في معرفتهم ، فهذا شاعرنا ، عبد الغفار الأخرس يخاطب درويشا من هؤلاء الدراويش قائلا :
أجب عما سألتك واشفي صدري ...... ولو أني عرفتك قبلُ ثورا
وهذا الجواهري ، شاعر العرب الأكبر ، يقول بعد أن طرح عمامته جانبا بعيدا عنهم :
قال لي صاحبي الظريف (م ) وفي الكف ارتعاش وفي اللسان انحباسه
أين غادرت عمة ووقارا ................. قلت إني طرحتها في الكناسه
 لقد انتشر دراويش هذا الزمان ببركات من الأمريكان الذين جندوا من العرب والمسلمين أكثر من عشرين ألف مجاهد ! عن طريق دائرة المخابرات المركزية الأمريكية التي كلفت الحكومة الباكستانية بتدريب هؤلاء الدراويش ، ومن ثم زجهم في حربهم ضد الإتحاد السوفيتي في أفغانستان ، وهذا ما تحدث عنه الرئيس الباكستاني ، برويز مشرف ، قبل أيام من كتابة الأسطر هذه ، ولكن الدروشة في العراق ازدادت بعد الحملة الإيمانية التي تمسح بها في آخر أيامه الرئيس المؤمن ، المنافق ، صدام حسين ، المرمي في أحد السجون الأمريكية من بغداد الآن ،  وذلك بعد أن أحرق الأمريكان أوراقه رغم الخدمات العظيمة التي قدمها لهم ، تماما مثلما أحرقوا الآن أوراق أحمد الجلبي ، بطل تحرير العراق ! وربما ، وعلى هذا الطريق سيحرقون هم في القريب العاجل أوراق المشهداني ، بطل القنادر ، ورئيس البرلمان الحالي ، وقد يرمونه بذات السجن الذي رموا فيه من قبل بطل القومية العربية ، الرئيس المجاهد ، صدام حسين ! والسبب في ذلك ، مثلما يُعتقد ، هو أن الأمريكان ينظرون إليه على أنه رجل غير سوي ، سرعان ما يثور ، ويفور ، فينزل في كلامه الى كلام السوقة ، وتصبح لغته لغة المجانين الذين لا تسيطر عقولهم على ألسنتهم في سورة من غضب ، وفي مقارعة في حجج ، فيجانب الصواب ، ويفقد طيب القول ، وكأنه لم يسمع قول النبي الكريم : أدبني ربي فأحسن تأديبي ، أو قوله : الكلمة الطيب صدقة ، وهو المسلم  ، مثلما يدعي ، والذي طالما اعتبر نفسه لسان الشعب العراقي ، ولكنه لسان قذر على أية حال .
لقد نسى المشهداني أن السفير الأمريكي ، خليل زاده ، يحصي عليه ، وعلى غيره ، ممن يشاركه في انعدام الوطنية العراقية ، كل كلمة يقولها هو ، أو يقولونها هم ، ذلك لأن المشهداني ، والحق يقال ، لا يحكم بحول العراقيين وقوتهم ، وإنما يحكم بمشيئة الأمريكان وإرادتهم ، وهذه الحقيقة يجب أن يدركها دراويش العراق اليوم ، ممن هم على شاكلة المشهداني ، وعليه فإن الحكومة في العراق ، والبرلمان فيه ، ومراكز الحكم الأخرى ، لا تختلف في أي حال من الأحوال عن الحكومة في كوريا الجنوبية ، أو الحكومة في أفغانستان ، وبذلك توجب عليهم أن لا ينفخوا ريشهم علينا ، فنحن العراقيين الذين ملأنا قلب الإمام علي عليه السلام قيحا من قبل ، نعرفهم حق المعرفة ، فهم في نظرنا أناس باعوا دينهم بدنيا ، وصار جلهم سقط متاع ، فعلام يمدوا بألسنة طوال لهم ؟ بعد ما صار القريب والبعيد يعرف مقدار حجم كل واحد منهم ، فهم يُساقون ولا يسوقون ، ويؤمرون ، ولا يأمرون ، وعلى هذا لينظر كل واحد منهم الى عاقبته العاجلة قبل أن ينظر الى عاقبة التاريخ الآجلة التي لا ترحم أحدا بدا .
حكاية الدرويش ، محمود المشهداني ، في معاداته الصريحة لكل من يريد أن يدافع بلسانه ديمقراطيا عن آرائه ، تعود الى حالة اكتئاب سيطرت على عقله منذ أن كان نزيلا في سجن  " أبو غريب " زمن صاحب الحملة الإيمانية ، صدام الساقط ، ومن ساعتها صار يثور لتافه الأسباب ، ويقل الأدب في الحديث ، والمجادلة . ولي أن أعرض على القارئ الكريم هنا رواية واحد من أهل بغداد ، لا زال حيا ، يرزق رغم الحرب الدائرة في العراق الآن ، تلك الحرب التي يخوضها أدعياء الإسلام فيه بشراسة منقطعة النظير ، والتي أزهقت فيها أرواح الألوف من مسلمي العراق ، ومن غير مسلميه ، ومن طرفي القتال على حد سواء ، وفي صور جرائم بشعة ، فاقت بمرات عديدة جريمة جر جثة نوري السعيد ، رئيس وزراء العهد الملكي ، غداة قيام ثورة الرابع عشر من تموز ، حين قامت جموع غفيرة من الناس بجر تلك الجثة في شوارع العاصمة بغداد ، وليس الشيوعيون ، مثلما ادعى المشهداني ذلك مرة كذبا ، ومع ذلك ، فها هو اليوم يشاهد بأم عينيه ما يقترفه أدعياء الإسلام من جرائم فظيعة ، بشعة ، توصم عهد رئاسته لبرلمان يقال إنه يحكم العراق بالعار والشنار ، جرائم لا يمكنه هو ، ولا حكومته أن يتنصلا من مسؤولية حدوثها ، ما داما هما يحكمان العراق بدعاء .
هل يستطيع المشهداني أن يعقد مقارنة ، وبالنسبة التي يراها ، بين ما حدث من قتل في صبيحة ثورة الرابع عشر من تموز ، وبين ما يحدث الآن في زمن حكمه تحت ظلال المدفع الأمريكي ؟ وإذا كان لا يستطيع فعل ذلك فما عليه إلا أن ينظر الى جثث العراقيين المقطوعة الرؤوس ، والتي تطفو صباح كل يوم على سطح ماء نهر دجلة الخالد ، وبسبب من حرب قذرة ، تُخاض باسم الدين ، وإذا كان هو لا يرى جريان إزهاق أرواح العراقيين الذي فاق ما أزهق من أرواحهم زمن صدام القاتل ، فعلام يطيل هو لحيته ؟ ويحفو شاربه ؟ ألم يسمع هو قول المتنبي الذي لا يزال يعيش حيا في معناه للساعة ، رغم المسافة الزمنية التي تفصل بيننا ، وبين المتنبي ، والتي تربو على ألف سنة :
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم ........... يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ ! ؟ 
أقول : أصيب درويشنا ، المشهداني ، بحالة الاكتئاب تلك في سجنه ذاك ، وظل عليها حتى بعد خروجه من السجن في عفو عام أصدر صدام ، وشمل كل نزلاء السجون العراقية في وقتها ، وليس كما يدعي المشهداني من أنه دفع ثلاثة عشر مليون دينار عراقي ، كرشوة ، مقابل إطلاق سراحه ، رغم سماعه بالحديث الكريم : الراشي والمرتشي كلاهما في النار ، ورغم علمه أن المناضلين الأسوياء يرفضون دفع الرشى ، وتاريخ الشعب العراقي حافل بأسماء من ارتقوا تلاع الموت ، وهم متمسكون بأفكارهم وقناعاتهم ، ومن هؤلاء الابطال ، القائد الشيوعي الشجاع ، فهد ، الذي صعد الى أعواد مشنقته ، هاتفا من هناك : الشيوعية أقوى من الموت ، وأعلى من أعواد المشانق .
على أية حال يواصل الرواية حديثه لي فيقول : كان المشهداني في يوم من أيام سنة 1999م ، قد دخل في نقاش صاخب في سجنه ، مع سجين آخر من العراقيين المتهمين بالانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي ** ، ولا زال هذا السجين حيا ، موفور الصحة ، يعيش في بغداد التي تحكمها الآن المليشيات ، والدبابات الأمريكية .
ولكن بعد أن أعيت الحجة رئيس البرلمان في العراق اليوم ، طيب الأسنان ، محمود المشهداني ، لجأ الى لغته السوقية ، ورفع سلاح القنادر عاليا ، ونادى بالويل والثبور ، وشد على سروج تافه الكلام ، وهنا لم يعد للسجين ذاك طاقة على الجلد والتحمل ، فقد مله الصبر بعد تمادي رئيس البرلمان في تطاوله عليه ! فما كان منه إلا أن شد عليه بحزم وقوة ، وأشبعه ضربا مبرحا ، وما تركت جزءً من جسده إلا وقد وصل إليه بيده ، ومن ساعتها صار الرئيس يجن ، ويفور ، ويدخل في هلوسة رهيبة ، حين يعترض على كلام سيادته ! شخص شيوعي مثل حميد مجيد ، سكرتير الحزب الشيوعي الحالي ، هذا رغم أن السيد الرئيس ! يدرك أن أمريكا تريده أن يرقص ديمقراطيا أمام المتفرجين من العراقيين والعالم ، ولكنه ، وبسبب من تلك العقدة النفسية ، لم يستطع أن يحقق لها الرغبة تلك ، فهو ما زال يتذكر تلك الضربات القوية التي سددها له ذاك السجين الشيوعي في سجن " أبو غريب " ، بعد أن أوهنته حجج السجين ذاك وضرباته ، فراح ينادي وا إسلاماه ! ، ولكن ساعتها لم يصفق له أحد من الإمعات الذين استهوتهم لغة القنادر .
= = = = = = = = = = = = =
* القنادر : واحدها قندرة ، وهي لفظ من اللغة التركية ، لا يزال يعيش في لغة العوام ، ويعني : الحذاء . 
** أحتفظ أنا باسم هذا الشخص صونا لسلامته ، وخشية عليه من رجال حماية المشهداني المتهمين بخطف رجل نجفي ، ولا زالوا يفاوضونه أهله على مبلغ كبير من المال لقاء فك أسره ، وفي قصة سأأتي على سردها في القادم من الأيام .

104
المنبر السياسي / دولة أبو درع *
« في: 17:03 30/09/2006  »
               دولة " أبو درع " *                          سهر العامري   

عاد حميد العماري الى داره مهموما ، مغموما ، بعد أن أمضى يوما آخر من أيام حياته التي كان يعدها أمام القريب والبعيد جهنما تتلظى نيرانها الحامية في جسده الواهن الذي أكله الخوف من مجهول لا يعلم هو حقيقته ، مثلما لا يستطيع أن يقدر الساعة التي سينقض بها عليه ، وعندنا ستموت كل الأحلام التي طافت برأسه طوال الساعات التي تأخذه فيها سورة من نوم ، او تلك اللحظات التي كان يحدق فيها بعيني زوجته الجميلتين ، أم هديل ، وهو يقاسمها رغيف خبز في دار متداعية في قاطع من قواطع مدينة الثورة من بغداد .
: - نفسي تحدثني أن شيئا ما سيقع لك ! قالت أم هديل ذلك ، بعد أن وجدت حميدا ساهما ، يطوف بعينيه على جدران غرفة ، أكل سواد دخان الطباخ النفطي الوجه منها ، ففي بيتهما المتداعي لا توجد غرفة خاصة بطهي الطعام ، شأنه في ذلك شأن بيوت السواد الأعظم من سكان تلك المدينة ، أو من سكان المدن التي تقاسمها البؤس والشقاء منذ سنوات طويلة جف ضرعها ، ولم تحلب لأهل تلك البيوت غير مصيبة في إثر مصيبة ، وموت بعد موت .
: - هل خلقنا من أجل أن نغرق في بحر هذا العذاب الطامي ؟
لم ترد أم هديل على سؤاله ، لا لأنها لا تعرف الجواب ، وإنما لأنها غارقة مثله في هذا اللجي الذي لم ير أحد من البشر حدودا له للآن .
: - هل أنت خائف ؟ سألته هي ، ومن دون أن تكشف له عن عميق قلقها عليه ، وكم تمنت من أعماق قلبها أن يظل معها طوال اليوم ، ولن يغادر الدار أبدا .
: - ما علمت أن سلاما ، أبن خالتك ، قد قتل وهو في داره ، فلقد انقضت عليه قنبلة مدفع هاون طائشة ، أحالت رأسه الى قطع متناثرة ، تعلقت في هذا الجدار أو ذاك ، فالبيوت هذه الأيام ، وكما تعلمين ، لا تعصم أحدا من الغرق في خضم هذا البحر المتلاطم بأهوال قطع الرؤوس المتواصل .
: - أتدري كلما قلت لي مع السلامة ، وأنت خارج من البيت ، أو وأنت تقبل هديلا ، يحلني هاجس خوف رهيب ، يمتلك القلب كله ، ويتركني في وساوس لا عد لها ولا حصر ، فتارة أرى سيارة عابرة ، تنفجر على مقربة منك ، وأخرى أراك ملقيا على الرصيف ، وقد خمدت الحياة في جسدك ، إنها صور مرعبة لا يتحملها عقل إنسان .
كل تلك الصور التي تخيلتها أم هديل مرت حقيقة أمام عيني حميد مرات عديدة ، ولكن بأشكال مختلفة ، وبصور غريبة ، وفقا لليد التي أبدعتها ، فقد صارت صور الموت في شوارع العراق إبداعا هذه الأيام ، يقضي أصحابها ساعات طوالا في رسم تخطيط لها قبل أن تصبح حقيقة تتمشى في تلك الشوارع ، وهم بالإضافة الى ذلك ينفقون عليها أموالا طائلة ، تدفقت عليهم من مصادر عدة ، ولكنها كانت لغاية واحدة هي الموت الذي كان يراه حميد بعينيه ، وهو ذاهب الى مكان عمله في محلة البتاوين من بغداد كل يوم  ، فهو واحد من عمال سبعة كانوا يباشرون عملهم في مذخر للأدوية ، يديره شخص يدعى حاتم السماوي ، بينما كان مذخر الأدوية ذاك يسمى : مذخر أدوية الشهد ، هذا في وقت كانت هناك مطبعة شاركت ذلك المذخر بالاسم ، فهي تعرف كذلك باسم : مطبعة الشهد ، لكنها تقع بعيدا عنه بمسافة ليس بالقصيرة .
في صباح يوم من أيام الرعب هذه نهض حميد من فراشه خائفا ، مرتجفا ، تملكته صور من حلم رهيب ، ما خطرت عليه طوال حياة أبدا ، حتى في تلك الليلة السوداء التي حدثته فيها جدته ، أم أبيه ، كيف أنها فرت بأبيه ، قاسم ، مع جده ، كريم ، من مدينة المجر الكبير في محافظة العمارة الجنوبية ، وذلك بعد أن جار عليهم  الإقطاعي المعروف ، مجيد الخليفة ، بظلمه ، ذلك الرجل الذي منت عليه ( المس بل ) بأراضي زراعية ، شاسعة المسافة ، لقاء وقوفه مع المحتلين ، وضد أبناء جلدته ، وأبناء عشيرته .
لا زال حميد يتذكر تلك الليلة القاتمة التي رسمت صورتها له جدته منذ أيام طفولته ، فقد قالت له ساعتها : لقد غادرنا كوخنا في قرية تقع على أطراف المجر الكبير وقت أن كان الليل حندسا ، شديد الظلام ، والطريق موحشة ، كثيرة العثار ، وما هي إلا دقائق حتى انهال علينا رصاص غزير ، وذلك لأن مجيد الخليفة كان قد أعد مجموعة من قطاع الطريق من قبل ، يقودها رجل فظ من رجاله يدعى : صدام ، وكان هدفه من وراء ذلك هو منعنا من الالتحاق بالأعداد الغفيرة من الفلاحين الذين تركوا الأرض له ، وحطوا الرحال فيما بعد قرب بغداد ، وبسبب من أن النفط قد تدفق في العراق ذهبا في جيوب الإنجليز ، ومن أن بغداد شهدت حركة بناء خجلة ، كنا نحن لهوتها ولهاها .
لقد بذل مجيد الخليفة محاولات متكررة ، ومسعورة ، تنكر فيها لرابطة الدم التي تربطه بأبناء عمومته وعشيرته ، وكان يهدف من وراء تلك المحاولات منع الفلاحين من الهجرة ، وإلزامهم بالعمل في أرضه كعبيد أجراء ، ولكن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع ، فرجاله ، الذين يتقدمهم صدام  ، عادوا له صباحا ، وهم يحملون الخيبة والخسران .
: - لقد رحلوا ! عرفت أنا ذلك من وجوهكم التي يطوف بها الفشل والوهن .
: - نعم . يا محفوظ ! لقد رحلوا ، رد صدام على الشيخ مجيد الخليفة بعد أن رأى الشرر يتطاير من عينيه المحمرتين .
: - لا بأس ، سأجد كلابا غيرهم . قال الشيخ مجيد ذلك ، وشاح بوجهه عن صدام صوب باب المضيف .
هذا الفزع الذي غرسته الجدة منذ سنوات طويلة في نفس حميد صار أحلاما مرعبة الآن ، فقد رأى هو في الليلة الماضية سحابة سوداء تطوف على سماء محلة البتاوين من بغداد ، ثم تطامنت شيئا فشيئا ، ليثب منها عشرون كلبا أسود ، سرعان ما اجتاحت تلك الكلاب مذخر أدوية الشهد ، وهاجمت العمال فيه بوحشية قل نظيرها ، وكانت حصة حميد من هذا الهجوم  جرحا غائرا في فخذه الأيمن ، ولكنه طار بقدرة قادر ، وصار بما حمل من خوف وفزع على شرفة من بيت يقع قبالة ذاك المذخر ، ومع ذلك لم يغادره الخوف أبدا ، حتى بعد أن صار هو على تلك الشرفة ، وبعيدا عن أفواه الكلاب الناهشة ، فلقد ازداد خوفه أضعافا مضاعفة ، وذلك بعد أن رأى تلك الكلاب السوداء خارجة من باب ذلك المذخر ، يحمل كل كلب منها بفمه جزءً من جسد مدير المذخر ، حاتم السماوي ، ولكن واحدا من تلك الكلاب ترك رأس المدير المقطوع على الرصيف قبل أن يركب هو السحابة القاتمة التي حلقت بالجميع ، متوارية في أعماق السماء ، ومن دون أن تدركها عينا حميد اللتان ظلتا تلاحقانها من بين كل العيون .
كان رأس حاتم المنتصب على قارعة الطريق ينادي بصوت عال ، يطلب نجدة هذا وذاك من حملة البنادق المنتشرين على طول الشارع ، ولكن من دون جدوى ، فقد كانوا كلهم يشيحون بوجوههم عنه ، فمن ذا الذي سينجد حاتم ؟ من ذا الذي سينجده ؟ وعلى صوت صاحب هذا السؤال فزز حميد من نومه مرعوبا ، مهموما .
كان ذاك كل ما قاله حميد ، وهو يقص ما شاهد في حلمه على زوجته ، أم هديل ، التي سار الخوف في جسدها سريان الدم فيه .
: - هل تملك أنت تفسيرا لحلمك ذاك ؟ سألت هي .
: - ربما ، ولكن ، ثم صمت .
: - أعتقد أنا أن السحابة القاتمة هي المصيبة الكبيرة التي يمر بها العراق اليوم ، وأما الكلاب السود فهي عبارة عن مجموعة من إرهابي الزرقاوي ، فهؤلاء هم الذين يقطعون رؤوس الناس هذه الأيام ، ويرمونها على قارعة الطريق ، هذا ما استطيع أن أقوله لك ، والله أعلم . ثم صمتت ، ولم تزد على ذلك شيئا .
هل اقتنع حميد بتفسير زوجته لحلمه ؟ ذاك الحلم الذي أشاع سجفا من الخوف ، خيمت على البيت كله ، رغم أن شمس ربيع صعدت منذ لحظات فوق جبين بغداد من جهة الشرق ، ولكن العيون الحزينة تظل ترى الدروب أمامها مظلمة ، معتمة أبدا .
ركب حميد أول سيارة إجرة متجهة الى الباب الشرقي من بغداد ، ومنه الى محلة البتاوين ، حيث مذخر أدوية الشهد ، وقد اعتاد هو على طريق السير هذا منذ أن حصل على فرصة العمل هذه ، ولكن الرعب الذي سببه له ذلك الحلم الأسود رمى في نفسه رغبة عارمة في أن يستبدل الطريق هذا بطريق آخر ، ولشدة خوفه كان هو طوال سير تلك السيارة يلقي ببصره ذات اليمين ، وذات اليسار ، فلقد رأى أن الطريق تحول في عينيه الى كلاب سود لاهثة ، تظلها قطع من غيوم داكنة ، تطارد سيارة الإجرة التي كانت تطيح بحفرة لتخرج من أخرى ، فالطريق متعب ، مهموم ، هرم ، مضت على ولادته سنوات طويلة ، حمل فيها على ظهره سيارات كثيرة ، مثلما حمل عليه دبابات ومجنزرات ثقيلة ، وهو مع ذلك ظل صابرا على قسوة الإنسان ، وجور الزمان .
دخل حميد مذخر الشهد ، سلم على حاتم السماوي ، مدير المذخر ، وعلى رفاقه من العمال ، وبعد ساعة من ذلك وجد نفسه مبطوحا على وجهه في الأرض ، هو وجميع من معه في العمل ، ثم طلب منهم النهوض ، وهم مكتفو الأيدي ، معصوبو العيون .
: - الكل الى خارج المدخر ! نبح كلب من الكلاب العشرين ، الذين كانوا ملثمي الوجوه ، تغطي أجسادهم ملابس داكنة السواد ، تماما مثل سواد الغيمة التي رآها حميد في حلمه الليلة البارحة .
لقد غُزي المذخر ذاك على حين غرة في صباح ضاحك من صباحات بغداد الجميلة ، وقد حمل حميد والمدير والعمال الستة الآخرين في سيارة هي عبارة عن صندوق محكم الإقفال ، سارت بهم بحماية سيارة مظللة كانت تسير وراءها .
لقد أشرف حميد ، ومن معه ، على موت محقق ، بعد أن استهلكوا كل أوكسجين هواء الصندوق ذاك ، وما كان لينقذهم من ذلك الموت إلا تلك اليد القوية التي امتدت الى باب ذلك الصندوق ، لتفتحه بعنف .
: - هيا انزلوا ، صرخ كلب من بين الكلاب السود بصوت مبحوح ، كان حميد قد سمع مثله في ذاك الحلم المشؤوم .
اقتادت كبير الكلاب مدير المذخر ، حاتم السماوي ، من بينهم ، وأوقفه جانبا ، ليس بعيدا عنهم كثيرا ، ثم صوب بندقيته نحوه .
: - قل لي لماذا أقمت مجلسا للفاتحة على روح  الزرقاوي الملعون ؟
: - أنا ، أنا ، رد السماوي وجلا ، مرتجفا ، مرتعشا ، ثم أضاف : ما أقمت أنا مجلس فاتحة على روح الزرقاوي حين أزهقت أبدا ، فأنا رجل شيعي ، قدمت الى بغداد من مدينة السماوة ، وكل عشيرتي تقطن هناك .
: - أنت تكذب ، أنت سني من مدينة عانة ، وليس من مدينة السماوة .
:- نحن عراقيون . قال حميد ، والذين بين أيديكم الآن جميعهم من الشيعة .
تراجع ذاك الكلب الذي رآه حميد في حلمه من قبل ، ثم شاهده ينبح عبر هاتف محمول ، يكلم أحدا لم يعرف حميد ومجموعته من هو ، ولكنهم قدروا أنه شخص مهم ، يتولى السلطة الفعلية في شوارع العراق ، بينما تغرق الحكومة فيه بيم من سبات عميق ، هناك في المنطقة الخضراء .
مرت دقائق معدودة على تلك المكالمة الهاتفية قبل أن تصل سيارة مسرعة ، تحمل الحاكم الفعلي لشوارع العراق ، ذلك الحاكم ، الذي حمل الخوف معه ليس لحميد ومجموعته التي كانت واقفة خلف السدة من بغداد مقيدة اليدين ، معصوبة العين للساعة ، وإنما للكلاب السود التي استولى عليها الخوف ساعة أن ترجل أبو درع من سيارته .
:- من أين أتيتم بهؤلاء ؟ سأل أبو درع ، الحاكم الفعلي ، مجموعة الكلاب الرابضة ، والمتوثبة لنهش حميد ، ورفاقه الآخرين ، ومن دون أية جريرة تذكر .
: - من مذخر أدوية الشهد !
: - لقد آمرتكم أنا أن تأتوا بعمال ومدير مطبعة الشهد ! ! 
= = = = = = = = = = = = = = = 
* قصة قصيرة .

105
                المظلوم الذي صار ظالما !                    سهر العامري 

ما معنى أن يذهب جلاد من الحكم في العراق ، ليحل محله جلاد آخر أكثر قذارة ، وأفظع بشاعة ؟ ما معنى أن المظلوم الذي كان يتسكع على أرصفة الدول ، والذي تشكى كثيرا من ظلم صدام الساقط ونظامه ، وأعتبره هو السبب المباشر في تشرد العراقيين في أصقاع كثيرة ، ومتباعدة من العالم ، صار هو الذي يشكو منه العراقيون اليوم ؟ صار هو الذي من سبب لهم الآن تشردا أفظع مما سببه لهم صدام من قبل ، فعاد الناس في عراق اليوم يفرون منه زرافات ووحدانا ، خوفا من الظلم الذي أنزله بهم الحكام الجدد الذين لا يستطيع الواحد منهم ، مهما نفخ ذاته ، ومهما أسبغ على نفسه من صفات تمتد من ( فخامة الرئيس ) ، والى ( مد ظله العالي ) أن يرفع صوته فوق صوت خليل زاده القادم من أفغانستان الى أمريكا لسنوات قليلة خلت .
لقد حل بالعراقيين اليوم ظلم ما عرفوه منذ العصور الوسطى حين كان يتناوب على حكم بلادهم الأجانب من العثمانيين الأتراك تارة ، ومن الصفويين الإيرانيين تارة أخرى ، عندها كانت بغداد تسبح بالدم والدمار ، ويصير العراقي يقتل أخاه العراقي ، لا لشيء إلا لأنه يخالفه في المعتقد والمذهب ، فالمستعمرون ما همهم يوما ما دما يسيل من أعناق الناس الذين يتحكمون بهم أبدا .
صورة الماضي الكريهة هذه عادت اليوم لتخيم على حياة العراقيين من جديد ، فصار لا يمر يوم من الأيام في عراق النكبة إلا وترى الجثث المتناثرة هنا ، وهناك ، ولكن السيد ( قُدس سره ) قام بدفنهم على حسابه الخاص في مقبرة مدينة كربلاء ، بعد أن حٌملوا إليها من بغداد على حسابه الخاص ! والمفزع في الأمر أن عدد هذه الجثث قد فاق الألوف ، وأن الطب العدلي في بغداد لم يتمكن من التعرف على هويات أصحابها لأسباب كثيرة من أهمها التشوه الشديد الذي أصاب تلك الجثث بسبب من تعرض أصحابها الى تعذيب فظيع فاق بدرجات كبيرة ما كان العراقيون يتعرضون له من تعذيب زمن صدام الساقط ، ولكم أن لا تسمعوا مني ، فهاكم اسمعوا ما تقوله الأمم المتحدة التي هي في حال من الأحوال شريك في الجريمة الكبرى التي تجتاح العراق الآن من شماله الى جنوبه ، وذلك بعد أن قامت هي بشرعنة الاحتلال ، وسكتت طويلا عن جرائم كثيرة نالت من العراقيين ما نالت ، لكنها نطقت أخيرا ، بعد أن عظمت المصيبة ، واشتد البلاء .
تقول الأمم المتحدة الآن ، ( وعلى لسان مانفرد نوفاك ، محققها الخاص لشؤون التعذيب : إن التعذيب يمارس في العراق الآن بوتائر أعلى مما كان يمارس ابان حكم الرئيس المخلوع صدام حسين، حيث تتجاهل جهات عدة منها الميليشيات المسلحة والمجموعات الارهابية والحكومة ذاتها القواعد الاساسية لمعاملة السجناء بشكل انساني.
وقال نوفاك لدى اطلاعه مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة في جنيف على اوضاع التعذيب في العالم إن التقارير التي وردته من العراق تشير الى ان التعذيب في ذلك البلد خرج عن السيطرة تماما.
وقال المسؤول الاممي: "ان الوضع بلغ من السوء بحيث يقول كثير من الناس إنه اسوأ مما كان عليه ابان حكم صدام حسين." واضاف: "ان ذلك يعني الشئ الكثير، لأن اساليب التعذيب التي كان يمارسها نظام صدام كانت ابشع ما يمكن تصوره."

وقال نوفاك إن بعض الادعاءات التي وردته بشأن التعذيب لا يرقى اليها الشك، وان الحكومة العراقية متهمة هي الاخرى ببمارسته خصوصا في السجون ومراكز الاعتقال. وجاء في التقرير الذي قدمه نوفاك الى مجلس حقوق الانسان: "إن الحكومة العراقية تواجه انهيارا شاملا في الامن وحكم القانون، مما يشكل تهديدا حقيقيا لكل المؤسسات في البلاد." وجاء في التقرير ايضا ان عدد العراقيين الذين قتلوا في شهري يوليو " تموز" واغسطس (آب) بلغ 6599 شخصا وهو رقم يتجاوز كل التقديرات السابقة. )
أرأيتم الآن هذا الجانب الفريد من تلك المأساة الرهيبة ، والمتواصلة على مدى أكثر من سنوات ثلاث عجاف ؟ هذه المأساة التي تمتد كإخطبوط تضرب كل مدينة وقرية من العراق الآن ، وإذا  كانت هي لم تضرب تلك المدن والقرى بالموت ، وهذا احتمال نادر ، فإنها ستضربها بالجوع ، والفاقة ، وقلة الرزق ، وانعدام الخدمات ، وتكاثر الأمراض ، وغياب الأمن .
ألم أقل لكم إن مأساة العراقيين صارت إخطبوطا اليوم ؟ حتى عاد الواحد منهم ، وهو يبحر في خضمها ، يبحث عن لقمة الخبز بعيدا عن العراق ، هناك في ماليزيا التي رحل لها العراقيون للعمل في قطع أشجار غاباتها ، بعد أن كان الماليزيون يقومون بقطعها بأنفسهم ، ثم يصدرونها لنا ، وكان هذا منذ  زمن أجدادنا ، السومريين ، بناة الحضارة الأولى على هذه الأرض .
سألني بعض من عراقيي الداخل ، ومن أكثر من مدينة عراقية : ما معنى أن يذهب العراقي اليوم الى ماليزيا ليعمل هناك في الأشغال الشاقة المتمثلة بقطع أشجار الغابات فيها ، تلك المهنة التي يرفض الماليزيون أنفسهم العمل بها ؟ ما معنى أن نذهب الى هناك ، وفي جوف أرضنا  ثاني أكبر احتياطي للنفط بعد المملكة العربية السعودية ؟
أجبت أنا أن هذا يعني أن مأساتكم ستطول ، وأن العمر فيها سيمتد لسنوات ، وما تسمعونه من تلفيق إعلامي صادر من هذه الجهة التي تتربع على كرسي الحكم في العراق ، أو من تلك التي تعمل في الخفاء ، ما هو إلا محض كذب ، فالأمريكان وحكومتهم في العراق ، يشعرون الآن أن تذمر الناس فيه قد بلغ حدا لا يطاق ، وأن الكثير من العراقيين ، وخاصة الشباب منهم ، قد ضاقوا ذرعا في حياة لا عمل لأحد منهم  فيها ، سوى أن تعمل شرطيا لتموت بسيارة مفخخة ، أو بعبوة ناسفة قادمة من إيران ، أو من منشأ آخر ، تلك العبوة التي تنتظرك كل يوم في شارع من الشوارع ، أو قريبا منك عند عتبة دارك التي تتطاير فوقها قنابل مدافع الهاون ليل نهار .
هذا هو الحال ، الذي جعل الأمريكان ، والمصفقين لهم في حكومتهم المسماة بالعراقية ، أن يخترعوا حلا فاشلا ، يمتص النقمة المتنامية من صدور العراقيين ، تلك النقمة التي يُخشى أن تتحول الى هبة جماهيرية عارمة ، تطيح بالكثير من الحسابات التي رسمت في دوائر البيروقراطيين في المنطقة الخضراء من بغداد ، أو في البيت الأبيض من واشنطن المعصومة .
والدليل الآخر على تواصل المأساة هذه هو ما تطاير من أخبار خلال الساعات القليلة الماضية ، وذلك حين أخذت سفارات بعض من الدول الغربية في الدول المجاورة للعراق تستقبل طلبات العراقيين الراغبين في اللجوء إليها ، ولهذا فقد هبت أعداد غفيرة من العراقيين سواء أكانوا في الداخل أم في الخارج ، ومن كل محافظات العراقية ، وبما فيها المحافظات التي تسلمت فيها القوات العراقية الملف الأمني ، كما قيل ، رغم أن الملف الأمني سيظل بيد السفارة الأمريكية التي من المؤمل لها أن تكون دولة في بغداد ، تزيد مساحتها عن مساحة دولة الفاتكان من روما ، العاصمة الإيطالية. هبوا متسائلين عن مدى صحة هذه الأخبار ، وحين ترد على هؤلاء المتسائلين من داخل العراق ، أو أولئك الذين يقطنون دول الجوار العراقي متسائلا كذلك : لماذا تريدون الهجرة ؟ أليس العراق اليوم ، كما يقول الأمريكان ، ورجال الحكومة فيه ، يحظى بحكومة منتخبة ، وببرلمان ميمون ، ودستور دائم ، ومجالس بلدية منتخبة ، أغلب أعضائها أميون ، جهلة ، ليس لهم الحظ الكثير من القراءة والكتابة !؟
يرد عليك هؤلاء بقولهم ، وأنا هنا أنقل من أفواههم ما قالوه : إن الوضع في العراق لا يطاق ، صار العراقي فيه يقتل العراقي ، بينما قاتلهم واحد معروف ، قاتلهم واحد معروف ، قاتلهم واحد معروف ، توزعت روحه على مجاميع لم يألفها الناس في العراق من قبل ، وهم في هذا لا يختلفون عما كتبته جريدة الاندبندنت البريطانية في عبارة علت صدر صفحتها الأولى ، تلاها عنوان يقول : العراق حيث الحياة هي عين العذاب . أما العبارة تلك فتقول : (غالبا ما تحمل الأجساد " أي أجساد القتلى الموجودة في مشرحة بغداد " علامات تعذيب شديد : إصابات سببتها مواد حمضية كاوية، حروقا ناجمة عن مواد كيماوية ، جلودا ممزقة ، عظاما مكسرة " عظام الظهر والأيدي والأرجل " ، عيونا وأسنانا مفقودة ، وجروحا سببها استخدام المثقاب الكهربي أو المسامير." )
ومن هذا يظهر أن المظلوم قد جاء من أجل الانتقام من الشعب والوطن ، وليس من النظام وأركانه ،  فسبحان الذي جعل المظلوم ظالما .



106
               هدية إيران للمالكي  !                         سهر العامري     

في الأيام القليلة الماضية خرج العراقيون متظاهرين في أكثر من مدينة عراقية ، سواء أكانت هذه المدينة تقع في شمال ووسط العراق أم في جنوبه ، ويكاد يكون سبب تلك التظاهرات واحدا ، وهو أن الشعب العراقي على مختلف أعراقه وطوائفه قد هده الوضع المتدهور في العراق من جميع وجوهه ، وانعدمت ثقته بحكامه الجدد على مختلف ألوانهم ومشاربهم .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر أخذت أطراف من الذين كانوا للأمس القريب يشكون من ظلم وجور الطاغية صدام ، تصب ظلمها وجورها على رؤوس العراقيين الآن وفي بشاعة تجاوزت كل ما ارتكبه صدام بحقهم من جرائم لسنوات خلت ، فإذا كان صدام يقتل العراقيين من قبل في السجون ، وبعد محاكمات صورية ، فإن حكام العراق الجدد ، ومن خلال مليشياتهم المنتشرة على أرض العراق كجرب ينهش الصدور من العراقيين ، صاروا يقتلون العراقي في الشارع ، أو في البيت ، أو في محل عمله ، وبحجج واهية ، ومن دون سؤال الضحية وجوابه ، فهؤلاء يتقربون الى الله !  بقتل ضحاياهم وفق منطق آية الله خلخالي أو آية الله الآخر ، جنتي ، الذي قال في إحدى خطب الجمعة مستنكرا على الحكومة في العراق ، التي لا تملك من أمرها فتيلا ، إطالة أمد محاكمة صدام ، قال : نحن سألنا عباس هويدي ، رئيس وزراء الشاه ، سؤلا أو سؤالين ثم أفرغنا المسدس برأسه ! 
ولهذا فإن الناس في العراق ، باعتقادي ، صارت تقارن اليوم بين ظلمين اثنين : هما ظلم صدام من قبل ، وظلم الميليشيات ، ومن ورائها اليوم ، فإذا استطاع العراقيون أن يعدوا المقابر الجماعية في زمن صدام الساقط فإنهم اليوم يشاهدون في كل صباح مقبرة جماعية هنا وهناك ، والى الحد الذي عاد فيه صناع توابيت الموتى يشكون من قلة الوقت وعدم كفايته لديهم ، وذلك لزيادة الطلب على التوابيت بكثرة ، تلك البضاعة التي ازدهرت سوقها في كل مدن العراق ، وذلك لكثرة الموت والموتى فيه ، مما اضطرهم الى ابتكار تابوت جديد يتكون من طابقين أو من ثلاثة طوابق أحيانا .
والسبب في ذلك هو أن كل الميليشيات في عراق الدستور ، والبرلمان ، والحكومة المنتخبة بالتزوير للمرة الأولى فيه تمارس صناعة الموت هذه ، لكن الذي يغضب العراقيين ، خاصة في الجنوب منه ، هو أن المخابرات الإيرانية ( اطلاعات ) ، وعملائها الذين صاروا يتفاخرون علنا أمام الناس بانتمائهم لذلك الجهاز ، هم من بين أولئك الذين يقتلون الناس في وضح من النهار ، أو من بين أولئك الذين يهددون كل من يرفض تقديم الطاعة والولاء للجمهورية الإسلامية الإيرانية ! 
إزاء هذا الذل المتصل أخذت الناس تترحم على صدام وأيامه ، ولهذا رفع بعضهم في التظاهرات الأخيرة صوره من جديد ، وراحوا يهزجون الأهزوجة التالية ( الهوسة ) : ( بعدك – صدام – إنذلينا . )
لم تذل إيران العراقيين من عامة الناس فقط ، ومن خلال مخابراتها الناشطة في العراق ، والمتغلغلة في الجيش والشرطة وأجهزة الأمن العراقية ، والمنتشرة في كل حدب وصوب من العراق ، وتحت لافتات مختلفة كثيرة ، وإنما وصل هذا الإذلال المتعمد الى الحكومات التي أعقبت حكومة صدام الساقط في العراق ، ففي عهد حكومة إبراهيم الاشيقر ( الجعفري ) تعدت القوات الإيرانية على حرمة المياه الإقليمية العراقية في شط العرب ، وأسرت مجموعة من الجنود العراقيين كانوا يحاولون التصدي لسفينة تهرب النفط العراقي من البصرة ولصالح أوساط في الحكومة الإيرانية ، ولم تكتف تلك القوات بأسر الجنود أولئك بل قامت بقتل أحدهم ، ولكن الخنع اليراع في حكومة الجعفري لم ينبس أحد منهم بكلمة احتجاجا على هذا الاعتداء الآثم ، خوفا من أن تطردهم إيران من مناصبهم الحكومية في العراق .
واليوم ، وغب أن تسلم رئيس الوزراء في العراق ، نوري المالكي ، زمام قيادة القوات العراقية ، تلك القوات التي تملك طائرة نقل عسكرية واحدة !  نقلت المصادر الخبرية هذا الخبر ، وأنا هنا ضعه نصا أمام أنظار القاريء الكريم ، يقول الخبر :
( ديالى -- عراق نيوز
افاد مصدر عسكري موثوق ان الجيش الايراني اشتبك مع دورية عراقية امريكية مشتركة قرب مخفر هيلة جنوب مندلي مساء اليوم الخميس ,وقال المصدر ان الدورية المشتركة اكتشفت قوة ايرانية عند الحدود الدولية في المنطقة (حوالي 120 كم الى شرق من بعقوبة ) فاشتبكت معها ,وترك الامريكان القوة العراقية لوحدها في الميدان ,واسفر الاشتباك عن اسر 5 عراقين من ضمنهم ضابط والاستيلاء على عجلة عسكرية مع كامل اسلحتها ,فيما لاذت القوة الامريكية بالفرار !!!!!!!!!. ) 
ورغم هذا الذل فإن الحكام في عراق الديمقراطية الأمريكية الكسيحة يقدمون كل يوم فروض الطاعة والولاء لأسيادهم في إيران ، مستخدمين في مخاطبتهم لهم أعذب الألفاظ وأرقها ، فهذا الناطق الرسمي باسم رئيس الوزراء ، الدكتور علي الدباغ القادم قبل أشهر من طهران يسمي إيران : بـ ( الجارة العزيزة ) ، وهذا نائب رئيس الوزراء ، الدكتور الآخر ، برهم صالح ، يشنف أسماع حكام طهران ، أثناء زيارته لإيران على رأس وفد من الحكومة في العراق بغامر الشكر والعرفان لما قدمه هؤلاء الحكام له ولغيره من العراقيين إبان أن كانوا هم في المعارضة من دعم ومساندة ، ولكنه نسى قولة الدكتور حسن حبيبي ، نائب رئيس الجمهورية الإيرانية وقتذاك : ( إن العراقيين في إيران ضيوف غير مرحب بهم ) ، وقد جاءت قولته تلك بعد أن عادت طهران علاقاتها الدافئة بصدام رغم أنه جرعهم السم خلال ثماني سنوات من الحرب .
والحقيقة أن حكام طهران لا يزالون ينظرون للحكام في العراق بعين من الصغار ، فهم ، أي حكام طهران ، ينظرون لهؤلاء على أنهم أولئك العراقيون الذين لا يستطيعون التحرك داخل إيران أو الخروج منها إلا بعد موافقة الشرطي الإيراني الذي يمنحهم تلك الموافقة على هذا التحرك وذاك الخروج ، وهذه النظرة الدونية من قبل حكام طهران للحكام في بغداد هي التي تجعل الإيرانيين لا يحترمون سيادة العراق المنتهكة أصلا بوجود قوات الاحتلال الأمريكي ، وهي التي تدفعهم الى أن يتمادوا كثيرا في تدخلهم بشؤون العراق ، وإذا لم أكن صادقا فيما أقول فلتصدر الحكومة في العراق بيان إدانة واضحة للاعتداء الذي تعرضت القوات العراقية من قبل القوات الإيرانية التي اسر فيه خمسة من الجنود العراقيين ، وداخل الأراضي العراقية ، أو ليصدر القائد العام للقوات المسلحة العراقية ، رئيس الوزراء الحالي ، نوري المالكي بيان الإدانة هذا ، فربما أرادت إيران من وراء هديتها هذه له ، وبعد أن أصبحت قيادة القوات العراقية بيده ، أن تختبر ردود فعله .
وأخيرا رحم الله شاعرنا العراقي الطرماح بن حكيم حين يقول :
                  وما للمرء خير في حياة ........... إذا ما عُد من سقط المتاع

107
 
                     تبلور الصراع الطبقي في العراق !                سهر العامري  

قسموا خير العراق ..... وصارت القسمه حصص *
ناس حصتها بلابل ...... واحنه حصــــتنا القفص  

بعد فوران المد الطائفي والمد القومي اللذين شهدهما العراق حال سقوط الطاغية صدام ، وعلى مدى سنوات ثلاث من ذاك السقوط ، بدأت تتجلى الآن ملامح صورة من اصطفاف طبقي على طول العراق وعرضه ، فارضة بقوة تصاعد الأحداث في العراق تراجعا بينا على المدين المذكورين ، وعلى دعاتهما والمبشرين بهما كذلك .                                  
وفي الوقت الذي نرى فيها الجماهير العراقية في كردستان من العراق وفي وسطه وجنوبه تهب مطالبة بالخبز والبنزين نشاهد من جهة أخرى أن عمار الحكيم ، وحكومة النجف ( مثلما يسميها دعاة تقسيم العراق ) يهبان نحو حكومة اربيل لتعلم دروس السلطة والبقاء في الحكم منها ، هذا بالإضافة الى توثيق الروابط الاقتصادية بين ممثلي الحكومتين ! وخاصة بين عمار الحكيم الذي قيل أنه صار يملك ثروة تقدر بالملايين من الدورات ، وإنه مُنح تفويضيا من قبل السفير الأمريكي في العراق ، خليل زاده ، ببيع نفط العراق كوكيل ، مثلما نشرت ذلك بعض المواقع الالكترونية العراقية مع نص وثيقة التفويض ذاك ، أما نيجيرفان البارزاني  ، رئيس وزراء حكومة اربيل ، فقد تناقل الإخوة الأكراد فيما بينهم روايات كثيرة عن ثروته الكبيرة المتأتية من الاتجار في بيع وشراء العقارات الضخمة ، ومن الموارد الكمركية ، وكذلك من الاتفاقيات الدولية الخاصة بالنقل .
ولا يستطيع أحد نكران ظهور طبقة من الأثرياء في العراق المذكور ، ومن دون أن تبذل تلك الطبقة نشاطا معينا في عمل ما ، ومع ذلك فإنها نمت بسرعة قياسية في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق ، وبمباركة منه ، وبسبب من استيلاء ممثلي تلك الطبقة على المال العام العراقي ، ومن دون وجه حق ، أو بسبب من وضع اليد على مؤسسات الدول في عهد صدام من دور ، ومقرات لحزب البعث المنهار ، ومنتزهات ، وأراضي كثيرة ، وغير ذلك من ثروات الشعب العراقي التي تقدر أثمانها بمليارات الدولارات .
إن ممثلي هذه الطبقة لا تهمهم مصلحة المظلومين من العراقيين الذين طالما بكوهم في بياناتهم ودعاياتهم حين كان هم في صفوف المعارضة ، مرميين على الأرصفة في هذه الدولة وتلك من دول المنطقة والعالم ، وإنما أصبح ما يهمهم الآن هو الإيغال في تحقيق مصلحتهم بالدرجة الأولى ، وتكديس الثروة لهم ولأسرهم ، ولا يهمهم بعد ذلك مصلحة العراق كوطن ، سواء كان هذا الوطن سليما ، معافى ، أو مقسما ، مدمرا على شكل دويلات يريد كل واحد من دعاتها أن يصبح ملكا متوجا يقيم له العراقيون الولائم ، يهتفون له  باستمرار : بالروح بالدم نفديك يا حكيم  ! وعلى طريقة سيء الذكر ، صدام الساقط .
لقد بدأت الجماهير العراقية ، التي تعاني من الموت المستمر ، ومن العوز المتصل ، تدرك هذه الحقيقة ، وما التظاهرات التي اجتاحت وتجتاح العراق من شماله الى جنوبه إلا تعبير صادق عن ذاك الإدراك ، وبدليل أن تلك الهبات صارت تقوم في البيت القومي ، حالة كردستان العراق ، وفي البيت المذهبي ، حالة مدن العراق الأخرى في الوسط والجنوب ، ولم يعد النواح على القومية ، والبكاء على الحسين عليه السلام نافعا الآن ، مثلما كان ممثلو هذه الطبقة المنسجمة في المصلحة والأهداف يستغلون ذاك النواح والبكاء من قبل .
لقد تحدثت بعض الصحف الأمريكية قبل أيام ، وخلال المعارك التي دارت في محافظة كربلاء بين أنصار المرجع الديني ، السيد محمود الحسني البغدادي ، وبين شرطة الحكيم ومؤازريها في جهاز المخابرات الإيرانية ، عن أن النهوض المسلح لأنصار حزب الولاء الإسلامي ، ( حزب السيد المذكور ) ما هو إلا تعبير عن صراع بين الفقراء من الشيعة ، وبين أولئك الذين اثروا بشكل فاحش وسريع على حسابهم  .
ويبدو لي أن الاستنتاج المار الذكر فيه نقص ، جلي ، وبين ، وذلك حين حصر الصراع الطبقي ذاك في حدود المذهب الشيعي ، ورغم أن أتباع السيد الحسيني يمثلون الكثير من المعدمين والمسحوقين الشيعة ، لكن الصراع الطبقي الذي يعيشه المجتمع العراقي الآن بدأ يتبلور بوضوح في عموم الساحة العراقية ، وقد عبرت عنه الإضرابات والمظاهرات التي تخطت حدود المذهب والقومية ، وعمت ، ولازالت ، مدنا كثيرة من العراق . وقد أشرت أنا الى هذه الحقيقة من قبل ، وذلك حين خصصت مقالة لتلك المظاهرات تحت عنوان : إرهاصات الانتفاضة الشعبية القادمة في العراق .  
إن أوضح صور هذا الصراع هي تلك الإرهاصات التي قامت في الأيام الأخيرة ، والمتواصلة بهذا الشكل أو ذاك ، وفي مدن كثيرة من العراق ، ولا فرق في أن تكون هذه المدن في شمال العراق او في وسطه وجنوبه ، فالألم الممض الذي أصاب فقراء العراق الذين يمثلون غالبية مطلقة الآن قد بدأ يوحدهم على ما يبدو ، وبغض النظر عن تلك المسميات التي فرضها عليهم الاحتلال منذ اللحظ التي اعتلى بها بريمر رئاسة مجلس الحكم المشؤوم ، تلك المسميات التي جعلت شوارع العراق للآن تفيض بالدماء .
ولا شك في أن جيش الفقراء هذا قد بدأ يتجه وجهة صحيحة في الكفاح خلاف لتلك الوجهة القبيحة التي صار فيها العراقي يقتل أخاه العراقي خدمة لمخططات دول كثيرة تأتي إيران وأمريكا في المقدمة منها ، كما أن هذا الجيش ، وبعد أن تكشفت له الحقائق ، قادر على خلق قيادة جديرة به ، وجدير بها ، تقوده نحو تحقيق أهدافه في صون العراق ، والدفاع عنه ، والحفاظ على ثرواته التي صارت نهبا بيد طغم كثيرة ومتعددة ، حتى أن الحلاق القادم من شوارع لندن صار في زمن هذه الطغم ، وعلى عهد حكومة الجعفري ، مستشار يتقاضى راتبا مقداره سبعة آلاف دولار أمريكي ، بينما الملايين من العراقيين يعضهم الجوع والفقر ، ويقتلهم المرض والإرهاب ، والبطالة التي بلغت أرقاما مخيفة ، حيث صارت نسبة العاطلين عن العمل في العراق تقدر بأحد عشر مليون عاطل ، وهذه النسبة تمثل نصف مجموع تعداد نفوس العراق تقريبا ، والبالغة خمسة وعشرين مليون نسمة ، وعلى ذمة إحصاءات منظمة كوفي عنان .
= = = = = = = = = = = = = = = = =
* البيتان جاءا لي قبيل ساعات من كتابة المقالة هذه ومن صديق يعيش في بغداد الآن ، ولا أعرف قائلهما .



108
      الصفويون يهددون شيعة عرب البصرة بالرحيل عنها !            سهر العامري

يبدو أن مخطط حكومة الملالي في طهران مستمر على قدم وساق في تحويل مدينة البصرة العراقية العربية الى مدينة إيرانية فارسية ، فالحكومة تلك لم تكتف بزرع شبكة واسعة من مخابرات على شكل منظمات إرهابية أطلقت عليها مسميات التصقت باسم الله أبدا ، من مثل : حزب الله ، أو ثأر الله ، أو بقيت الله ( بالتاء المفتوحة على الكتابة الفارسية ) ، تلك المنظمات التي يعرف أهل البصرة قبل غيرهم عملياتها الإرهابية ، والتي لا تختلف عما تقوم به منظمة القاعدة الإرهابية من عمليات قتل للعراقيين على مختلف ألوانهم ومشاربهم في العراق .
لقد ملأت هذه التنظيمات ، وعلى الطريقة الصدامية ، شوارع البصرة بصور حكام طهران ، وعلى الضد من مشاعر العراقيين الغيوريين على ولائهم العربي والوطني في تلك المدينة ، وقد قيل أن أتباع تلك المنظمات الإرهابية قاموا بلصق صور أولئك الحكام على وجهات القطار الصاعد من البصرة الى بغداد ، كما أنهم عمدوا الى نشر الكتاب الإيراني المحمل بالشعوذات والتخريف ، تماما مثلما أشاعوا هم أنفسهم استخدام العملة الإيرانية ( التومان ) بدلا من العملة الوطنية العراقية ( الدينار ) ، هذا في الوقت الذي استمرت فيه عمليات التصفية لخيرة أبناء البصرة من العرب ، وبحجة واهية هي أنهم كانوا ينتمون الى حزب البعث ، أو أنهم كانوا في صفوف الجيش العراقي الذي دافع عن البصرة خشية من سقوطها في براثن الاحتلال الإيراني ، وآخر تلك العمليات هي محاولتهم قتل ضابط برتبة لواء متقاعد في داره ، ولكنه عاجلهم قبل أن يعاجلوه ، فقتل المهاجمين الاثنين في باب داره الواقعة في حي الضباط من البصرة .
هذا في الوقت الذي كانت تجري فيه ملاحقة أبناء الطائفة السنية ، ودونما أية جريرة ، ومن خلال تلقيهم لرسائل الموت التي تهددهم بالرحيل عن مدينتهم ، البصرة ، رغم أن أهل السنة يشكلون نسبة عالية من سكان المدينة ، ومن سكان قراها وحواضرها ، ورغم هذه النسبة العالية ، فما أنفك عملاء ايران يمارسون الضغط على أهل البصرة من السنة بوجوب الرحيل ، وذلك من أجل تصنيع كيان جنوبي يلحق بايران تحت اسم الفدرالية التي يبشر بها عبد العزيز الحكيم  ، وابنه الذي يسميه العراقيون بـ ( عدي الحكيم ) ، والذي جال قبل ساعات في مدينة الناصرية وحواضرها محاضرا ، على قصر هامته في الثقافة والمعرفة ، عن الفدرالية التي ستخلص الجنوب من السنة العرب العراقيين ومشاكلهم كما يشيعون في أوساط مريديهم ، هذا بعد أن كان قد ألقى محاضرة قبل أيام معدودة على طالبات جامعة الكوفة اقتصر موضوعها على المتعة والتمتع ، وفي خبر نشرته وسائل إعلام كثيرة .
لقد هجرت البصرة أسرة عربية سنية كثيرة ، وبعد أن خيرتهم عصابات الولي الفقيه بين الموت والرحيل ، وقد انتقلت تلك الأسر الى الدول العربية الخليجية ، او الى مناطق داخل العراق ، ومن ضمنها كردستان العراق ، ولكن المخطط الإيراني الذي يدعوا له عبد العزيز الحكيم وابنه ، والقاضي بتحول الجنوب الى إمارة إيرانية ، ما زال مستمرا ، وبذات الإسلوب ، وليس مع السنة العرب من أهل مدينة البصرة هذه المرة ، وإنما مع العرب الشيعة من أهل المدينة ذاتها ، فقد نقلت بعض من وسائل الإعلام نص الخبر التالي الذي أضعه أمام أعين عرب جنوب العراق ، كي يتلمسوا حقيقة تلك الدعوات الباطلة التي تريد لهم أن ينفصلوا عن العراق ، ليعيشوا تحت الظلم الإيراني الذي يعيش تحته ، ومنذ سنين طويلة ، عرب الاهواز ، وذلك بعد أن تواطأت بريطانية مع الشاه المقبور .
يقول الخبر : ( شهدت محافظة البصرة جنوب العراق أمس مظاهرة لطائفة الشيعة الحسائية شارك فيها المئات من أبناء الطائفة احتجاجا على تلقيهم تهديدات مكتوبة، بالهجرة القسرية ومغادرة المدينة. وأكد ناطق باسم الطائفة، طلب عدم ذكر اسمه ان العديد من أبناء الطائفة تلقوا منشورات تهددهم بالقتل إن لم يغادروا البصرة باعتبارهم من شيعة الوافدين إلى البصرة من مناطق نجد والأحساء في السعودية، مشيرا إلى ان التهديد صادر من حزب شيعي معروف بالتطرف. )
المعروف تاريخيا أن البصرة بناها العرب على يد واليها ، عتبة بن غزوان ، زمن الخليفة الثاني ، عمر بن الخطاب ، وقبل أن يمصرها العرب المسلمون ، كأول مدينة ممصرة خارج الجزيرة العربية ، كانت البصرة أرضا يبابا ، وبعد ذاك التمصير سكنتها قبائل عربية عديدة ، وخاصة تلك القبائل التي تجاوزت في وسيلة عيشها مهنة الرعي الى مهنة الزراعة ، تلك المهنة القديمة التي عرفها عرب الجنوب ( أهل اليمن ) ، والذين استخدموا الآلة الحديدية في الحراثة قبل أن يستخدمها سكان العراق القدامى الذين كانوا يستعيضون عنها بفكوك الحيوانات كوسيلة للحرث .
ومن ساعتها ظلت الهجرة المتبادل ما بين البصرة ومدن الجزيرة العربية مستمرة ، خاصة مدن الإحساء والقطيف من المملكة العربية السعودية الحالية ، تلك المدن التي عرف أهلها مهنة الزراعة التي أنكرتها عليهم القبائل العربية الرعوية ، ووجدت فيها منقصة تصيب من يمارسها ، ومنهم بشكل خاص أولئك الذين يزاولون زراعة الخضروات ، وصار لفظ  حساوي ( نسبة الى مدينة الإحساء ) عند أهل جنوب العراق لفظا غير محبوب ، ولكن الأمر تغير بعد ذلك ، وصارت الناس على مختلف أنسابها يزاولون مهنة الزارعة بما فيها زراعة الخضروات التي أنفوا منها لسنوات قليلة خلت .
من مدن الإحساء والقطيف وتوابعهما سكنت العراق ، وعلى مختلف العهود ، قبائل وأسر عربية كثيرة ، وكانت هذه القبائل ، وتلك الأسر شيعية الهوى والمذهب ، ولكنها ظلت على تقليدها للمراجع الشيعية العربية ، ولم تقلد المراجع الشيعية الإيرانية ، أو تلك التي تنحدر من اصول إيرانية حيث أختلط المذهب الجعفري عندها بالرؤى والأفكار الصفوية التي أرادت تسخير المذهب الجعفري لأهداف الحكم الصفوي الإيراني ، وهذا هو السبب الحقيقي الذي دفع الآن بالعصابات التي تعمل لصالح إيران في البصرة الى تهديد الشيعة الحسائية العرب ، والذين يناهز تعدادهم في تلك المدينة وحدها حوالي ربع مليون مواطن عربي عراقي ، بالقتل أو الرحيل عن البصرة ، شأنهم في ذلك شأن إخوتهم من العرب السنة الذين أرغموا على مغادرة المدينة ، وذلك من أجل أن يبني عبد العزيز الحكيم إمارته الإيرانية في جنوب العراق المبتلى بصدام من قبل ، وبعصابات الولي الفقيه في طهران من بعد .


109
          وما أدرى العجم بالعرب !                  سهر العامري 

منذ أن زاولت كتابة المقالة في أكثر من وسيلة إعلامية عراقية أو عربية لم أرد على كاتب آخر كتب مقالة ما ، أو طرح فكرة أو رأي ما ، وحتى لو كانت هذه الفكرة ، وذاك الرأي يستحقان الرد عليهما ، ذلك لأنني لا أريد الدخول في مماحكات فجة لا تغني ولا تسمن . هذا أولا ، وثانيا إيماني العميق بأن الناس على ملل وأهواء ، ولا يمكن أن يجمعها فكر واحد أبدا ، وهذا هو تاريخ البشرية شاهد على ذاك ، ولكن حين يأتي أحدهم ليبزك في عينيك ، مدافعا عن تعصبه القومي الفارسي ، رغم أنه راح يتغطى زورا وبهتانا بلقب تلك العشيرة العربية ، أو يرتدي عباءة ذاك الفكر التقدمي الذي كان لأيام قريبة يسخر من الشيوعيين العراقيين ، ويوجه لهم أقسى التهم ، وعلى رؤوس الأشهاد ، ويعلن تبرأه منهم ، ذلك لأن طروحاتهم لا تنسجم مع طروحاته الطائفية المريضة حين عارضوا الحرب على العراق الذي يتلمس نتائجها المدمرة الآن كل ذي لب لبيب . فمن هو المبدئي إذن ؟ هل ذاك الذي يشرق ويغرب في هذا الاتجاه أو ذاك بين ليلة وضحاها ، أم هو ذاك الذي قاسى ما قاسى من البعثيين الفاشست منذ نعومة أظفاره ، حين حكموه بالإعدام سنة 1963 م ، وعلى صغر سنه ، لأنه نزل الى الشارع مع جموع العراقيين منددا بالانقلاب والانقلابيين ، وبقتل الجمهورية الفتية ، و هو نفسه الذي عرفه العراقيون المتدينون في حزب الدعوة الإسلامية ، والذين يشهدون له قبل أن يشهد له الشيوعيون العراقيون على أنه كان يقف مرفوع الرأس ، ودون أذن من سلطة البعث ، وفي الجوامع التي كان حزب الدعوة يقيم فيها الاحتفالات بمناسبة ميلاد الإمام الحسين عليه السلام منشدا ، وعلى مسامع شرطة أمن صدام وزمره ، قائلا مخاطبا الإمام الحسين : 
أبا علي وذاك الظلم تعرفه ... فقد رمتك بأصناف له زمرُ
.....................................................................
وقسمتنا فهذا سيد ألق .........وآخر من صعاليك بهم خورُ
وفاتهم أننا من معدن فرد.......... وأننا باختلاف كلنا بشرُ
وهذا البيت الأخير صاح على صاحبه واقفا سيد عمران السيد موسى : ( أحسنت . أعد ! ) وسيد عمران السيد موسى هو الشخصية الوطنية التي يعرفها كل من سكن معسكر رفحاء من العراقيين في المملكة العربية السعودية ، تلك الديار التي وارته بترابها بعد موته ، وكان هو والشيخ كاظم ريسان آل قاصد على اتصال دائم بالشاعر ، كاتب هذه الحروف منها .
ثم تمضي القصيدة فتقول في بيت منها :
رداءة الفكر لافلاطون خالقةٌ ...... رداءة الحرب حين اجتاحنا التترُ
لقد ذاع صيت هذه القصيدة في الجنوب ، وسجلتها أحزاب محظورة في عنفوان تسلط البعث أيام مدير الأمن العام الشيعي ، المجرم  ، ناظم كزار الدسبولي ( نسبة الى مدينة دزفول الإيرانية ) ، وظلت شرطة الأمن العفلقي تلاحق الشاعر على هذا البيت الأخير ، متهمة إياه بأنه شبه البعثيين بالتتار ، والى الساعة التي خرج فيها من سجنه في سرداب من سراديب الإمام الحسين ، ومن ثم توجه نحو سورية ليلا ، وكان هذا آخر سجن له من سجون كثيرة ، وقبل خروجه من العراق بثلاثة أيام .
أما حديث البصرة فهو معروف للعراقيين جميعا ، وليس للأقزام الذين تحركهم دوافع طائفية مريضة ، مقيتة ، أو عنصرية إيرانية ، يريدون أن يغطوا على ما تكابده البصرة من ويلات ومصائب تحت من يحكمونها فعليا بسطوة المخابرات الإيرانية التي تسعى لبسط نفوذها على تلك المدينة ، وإلغاء نسبتها لإهلها العرب العراقيين ، تماما مثلما يريد الشوفونيون إلغاء نسبة المدن الكوردية لأهلها الكورد العراقيين ، وأنا بعد ذلك ما كنت الكاتب الوحيد الذي كتب عن تلك المعاناة الفظيعة التي تعيشها مدينة البصرة ، فقد سبقني الى الكتابة عنها كتاب عراقيون كثيرون ، ومنهم من أهل البصرة بالذات ، وفي طليعة هؤلاء الكاتب المعروف : جاسم المطير ، والكاتب رزاق عبود ، فهل كل هؤلاء الكتاب كانوا من (  نفس الأبخرة الخبيثة السامة التي تتصاعد من فتحات مجاري ومستنقعات مواقع البعث والموالين لهم أخذت تنبعث من البعض الذين اخذوا يتسللون إلى المواقع الوطنية العراقية ) ، مثلما يقول الكاتب الجهبذ ! المُشرق مرة والمُغرب أخرى كما يقول أبناء الجنوب الخلص ؟
لقد راح هذا الكاتب الذي يدفع التهمة في كل ما آلت إليه الأوضاع في مدينة البصرة عن إيران ، ومخابراتها وعملائها المأجورين ، ويرميها على أهلها الطيبين ، وخاصة عشائرها التي يسميها على صغر فيه بـ (المعدان ) ، هذه العشائر وغيرها من عشائر الجنوب هي التي وقفت بوجه الغزو الإيراني المتكرر ، وعلى مدى قرون ، وهي نفسها اليوم التي تذود عن حياضها ، ومع هذا فالكاتب لم يسأل نفسه يوما من أين أتت أطنان هذه الأسلحة التي تستخرجها القوات البريطانية كل يوم من بيوت التابعين لإيران في البصرة ؟ أو كأنه لم يسمع بما صرح به رئيس وزراء بريطانية على رأس الأشهاد قائلا : ( إن الأسلحة الإيرانية التي يستخدمها حزب الله في لبنان هي نفسها التي تطلق على قواتنا في مدينة البصرة ) فهل كل هذه المصائب التي نزلت على رؤوس أهل البصرة ، وأطنان الأسلحة الفتاكة والمدمرة جاءت من ( عصابات معروفة ) كما يقول الكاتب القزم ؟ هذا الذي لا يريد أن يعترف أن الشيعة ، ومنذ القدم كانوا على فرق وطوائف ، وهو نفسه الذي كان يسمي نفسه زيفا بـ ( القرمطي ) تارة ، وتارة بالكاتب المتقاعد الذي لا يلبث أن يحنث بوعده الذي قطعه أمام القراء على نفسه بأن لا يعود الى الكتابة ثانية ، وهل كان الكاتب يجهل سبب المحاولات الكثيرة التي قامت بها المخابرات الإيرانية وعملاؤها في العراق ، والتي كانت تهدف الى قتل السيد أياد جمال الدين ؟  أليس لأن السيد المذكور هو من الطائفية الإخبارية الشيعية التي لا يعرفها الكاتب ؟ أليس لأن السيد المذكور ، وبعد أن عاش في إيران وخبُر تجبرهم وكيدهم ، رفض الخضوع للتسلط الإيراني الأهوج الذي لا يختلف عن التسلط الصدامي ، ذاك التسلط الذي قتل الألوف من الوطنيين الإيرانيين ؟ ألم يعلم الكاتب ، الذي يدعي الشيوعية، أن النظام الظالم المتسلط على رقاب الناس في ايران هو من أعدم آلآلاف الشيوعيين الإيرانيين ، وفي المقدمة منهم كيانوري ، سكرتير الحزب الشيوعي الإيراني ( تودة ) ؟ لم يسمع هذا الكاتب المتحمس في دفاعه عن نظام متخلف مناداة حسين الخميني حفيد الخميني من مدينة قم الإيرانية قبل أيام ، داعيا أمريكا لإنقاذ الإيرانيين من جور وظلم النظام الذي يحاول الكاتب تبرئته مما ينزله هو وعملاؤه من حيف وظلم بأهل البصرة الطيبين المسالمين .
وبعد هذا فأنا أملك أسماء لعوائل كثيرة من أهل مدينة البصرة ، وممن أنا على علاقة معرفة ، وقرابة بها ، قد هٌجرت ، ومن دون ذنب ، الى مناطق أخرى من العراق ، والى كردستان العراق كذلك ، وهي خليط من شيعة وسنة ، وذلك خوفا من القتل الأعمى الذي يصفق له الكاتب ، مثلما صفق غيره من قبل للاعتداءات التي طالت طلاب وطالبات البصرة ، او للقتل الذي طال مواطنين عراقيين مسيحيين وصابئة .
العوائل المهجرة تلك ستقول للكاتب من هو القاتل الحقيقي إن رغب ، وليسألها وهاهم يقطنون جماعات في حماية أخوتهم الكورد في أربيل والسليمانية  ، هل يريدنا الكاتب الجهبذ !  أن نسكت عن فضح هذه الأعمال التي لا تليق بالحيوان فضلا عنها بالإنسان ؟ ، هل يريدنا نسكت عن حملة الفكر الطائفي المريض ، وعنه هو بالذات الذي نصب نفسه دكتاتورا كصدام فعنون مقالته بهذا العنوان : ( لتصمت بعض الأفواه الطائفية أو البعثية المغرضة وليدعوا البصرة وشانها ) ؟ اسلوب الكاتب في القاء التهم تعلمه من المخابرات الإيرانية بعد أن تعلمته تلك المخابرات من المخابرات الصهيونية التي حولت كل ألماني يدافع عن وطنه ، ويريد الخلاص من النفوذ الصهيوني ، الى نازي ، وراحت بأساليب الغدر ، وتحت تلك التهمة ، تقتل كل من يرفض هيمنتها على القرار ألماني ، وها هو الكاتب يأخذ بذات الإسلوب المخابراتي الإيراني الذي أخذ بالأصل عن المخابرات الصهيونية ، فصارت تلك المخابرات تلقي تهمة البعثية على كل عراقي يرفض التسلط والهيمنة الإيرانية ، وحين يكون هذا البعثي العراقي يدور في فلك تلك المخابرات وأتباعها يصبح وزيرا في حكومة المحاصصة الوطنية المشكلة حديثا ، وأنا نفسي أعرف أكثر من معمم شيعي انظم الى صفوف البعث من قبل ، وصار الان من أولئك الذين يقال لهم ( دامت افاضاته ) ، كما صار البعض منهم مخبريين صغارا في أجهزة المخابرات الصدامية الكثيرة ، وكاتب الحروف واحد من الذين تعرض الى تحقيق مطول على يد معمم شيعي يعمل في أجهزة الأمن الصدامية .
هدف هؤلاء الأيتام الكتاب ومن ورائهم هو اسكات الوطنيين العراقيين عن تلك المخططات الرهيبة التي تعدها دوائر مخابراتية كثيرة ، وأخطرها مخططات المخابرات الإيرانية ، تلك المخابرات التي راحت تطوف على قرى الجنوب العراقي من أجل تجنيد فقراء الشيعة في مهمات ، هي في حقيقة الأمر مهمات تخدم المصالح الإيرانية ، وليس العراقية .
ولكن الوطنيين العراقيين هؤلاء سيظلون يفضحون مكائد الصفويين مهما كانت ألوانهم وأشكالهم ، مثلما فضحوا من قبل مكائد نظام صدام الساقط ، وعلى مدى سنوات طويلة ، وذلك دفاعا عن شعبهم ووطنهم الذي يريد هذا النفر الضال بيعه للأجانب ، بحجج واهية كالفدرالية التي يسعى لها عمار الحكيم تحقيقا للشرط الذي اشترطته إيران على أمريكا في بداية مفاوضات جس النبض ، والقائل بوجوب أن يظل العراق بلدا ضعيفا وأبدا ، لا يهدد الجارة المسلمة إيران ! 
وبعد هذا وذاك فأغلب العراقيين قد ضحوا بأشكال مختلفة في حربهم الضروس مع الحكم الدكتاتوري طوال سنين عديدة ، وإذا كانت عائلة الحكيم قد قدمت ستين فردا من أبنائها ، فقد أباد صدام من العراق قرى كاملة تنتمي الى محتد واحد ، وهناك أسر عراقية كثيرة قدمت أضعاف ما قدمته أسرة الحكيم صاحبة الفتوى الشهيرة التي أباد بها البعثيون الألوف من الشيوعيين ومن الشيعة على وجه الخصوص ، وليسأل الكاتب نفسه أين أصبحت مدينة الشاكرية من بغداد بعد أن رفع القتلة من البعثيين تلك الفتوى وطافوا بها الشوارع ، وعلقوها على أبواب البيوت والدكاكين مع صورة المفتي بها ؟
واليوم لو انفرد أصحاب تلك الفتوى بحكم العراق لأصبح قتل الشيوعيين والتقدميين الوطنيين العراقيين طقسا يمارسونه كل يوم بذريعة أن هؤلاء الشيوعيين بشيعتهم وسنتهم كفره ( والعياذ بالله ) يحل قتلهم وذبحهم ، فأصحاب تلك الفتوى يعتبرون أنفسهم هم وحدهم أبناء الله ، وآيات الله ، وأحزاب الله ... الخ
لقد كانت أسرة السيد البرزاني الكريمة من بين أكثر الأسر العراقية التي قتل صدام من أفرادها الكثير ، حتى بلغ عددهم ما يزيد عن 1800 شخص . ويشرفني أنا أن أكون من عشيرة عربية ، وثانية من عشيرة عربية شيعية عراقية مسح صدام قرية من قراها من على وجه الأرض تماما ، ولكنني أظل أولا واخيرا عراقيا ينتمي الى شعب العراق العظيم العريق الذي يريد عملاء ايران مسخه بطائفية مريضة مقيتة ، وتحوله الى مجاميع من الشحاذين في أمارة الحكيم الإيرانية .



110

       المالكي : القصيدة الرومانسية وصولاغ !             سهر العامري

منذ أن رُشح نوري المالكي ، وربما قبل هذا الترشيح ، الى رئاسة الوزارة في العراق حفلت أحاديثه عن توجهات وطنية ، وكأنه كان يشعر أن هناك شركاء له في العملية السياسية ، وأن العراقيين ليس هم مثلما كانت تراهم عين إبراهيم الاشيقر حين كان يشنف آذانهم بكلام فارغ ، لا يشد بعضه بعضا ، وفي لغة تشبه الى حد بعيد اللغة التي كان يتشدق ببعض مفرداتها صدام الساقط . وليس كما كانت تراهم عين صولاغ وقت أن كان يكذب عليهم بشكل سافر ، وفج في كل مرة يتحدث بها إليهم ، وعلى مختلف الوزارات التي استلمها ، فهو ما استطاع أن يبني لهم بيتا واحدا حين كان وزيرا للإسكان والإعمار ، مثلما لم يستطع أن يوفر لهم يوما واحدا آمنا حين صار وزيرا للداخلية ، ولكنني ، مع هذا ساترك الحديث عن صولاغ هنا الى أن انتهي من الحديث عن قصيدة رئيس الوزراء الجديد ، نوري المالكي ، الرومانسية التي تلاها أمس على مسامع أعضاء البرلمان في العراق ، وعلى مسامع الضيوف الذين حضروا جلسة إقرار تشكيل الحكومة التي أعلن هو أسماء وزرائها في تلك الجلسة ، هؤلاء الوزراء الذين حازوا على موافقة المجتمعين من أعضاء البرلمان بالأغلبية .
لقد تغنى نوري المالكي ، رئيس الوزراء الجديد ، وأمام الأعضاء والضيوف أولئك ، بقصيدة رومانسية ، ضمت أربعة وثلاثين بيتا ، هي جل عماد برنامجه الحكومي المقترح ، والذي يروم عرضه على البرلمان نفسه لاحقا ، ولي هنا أن أذكر للقارىء بعضا من تلك الأبيات ليقف هو بنفسه على جسامة المهمة التي تنتظر من المالكي وحكومته العمل المخلص والجاد ، والمستحيل أحيانا ، في تحويل تلك القصيدة الرومانسية الى واقع ملموس ، تعيشه الناس في العراق ، وفي غضون فترة زمنية قصيرة ، تقل عن السنوات الأربعة التي هي عمر حكومة المالكي الحالية ، فمن الأبيات تلك الآتي : * تشكيل حكومة الوحدة يعتمد على اساس مبدأ المشاركة وتمثيل المكونات العراقية بحسب الاستحقاق الانتخابي ومقتضيات المصلحة الوطنية * العمل وفق الدستور والالتزام به وان اية تعديلات لاحقة ستجري وفق المادة 142 منه * السير قدما في الحوار الوطني وتوسيع دائرة المشاركة في العملية السياسية بما ينسجم مع الدستور ويبني عراقا حرا تعدديا اتحاديا ديمقراطيا ، وبروح المصالحة والمصارحة * نبذ العنف وادانة منهج التكفير والارهاب بكل أشكاله ، والاصطفاف لمكافحته وتطبيق قوانين مكافحة الارهاب بشكل فعال وعبر مؤسسات القضاء ومؤسسات الدولة، واحترام المعايير الدولية لحقوق الانسان * صيانة سيادة العراق وتعزيز استقلاله ووحدته والتعامل مع مسألة وجود القوات المتعددة الجنسيات في اطار قرار مجلس الأمن 1546 والاسراع في خطط استكمال القوات العراقية وفق الدستور وعلى أساس المهنية والولاء الوطني ، والاسراع في نقل المسؤوليات الأمنية الى الجيش والشرطة والأمن العراقي، والتعاون بين العراق والقوات متعددة الجنسيات لاستكمال المستلزمات الذاتية وفق جدول زمني موضوعي لتسلم القوات العراقية المهام الأمنية كاملة وعودة القوات المتعددة الى بلدانها * ترسيخ دولة المؤسسات والقانون واتباع الاصول الادارية والمؤسساتية ورفض التفرد والدكتاتورية والطائفية والعنصرية والقرارات الارتجالية * المرأة نصف المجتمع ومربية النصف الآخر، لذلك يجب ان تأخذ دورها الفاعل في المجتمع والمجالات المختلفة .
أقول هذا بعض من القصيدة الرومانسية التي ابتعد بها المالكي عن النزعة الطائفية التي قام عليها الائتلاف العراقي الموحد ( الشيعي ) الذي ينتمي إليه هو ، وهي ، مثلما يلاحظ القارىء ، أماني يطمح بتحقيقها الناس في العراق ، وربما يطمحون بتحقيق أبيات منها فقط ، خاصة في حالين : الأمن والفاقة ، ولكن هل بمقدور المالكي وحكومته أن يحققوا للناس تلك الأماني ؟ أو هل يملك هو من الآليات ما يمكنه من خلالها تحول تلك الأحلام الرومانسية الى حقائق تسير على الأرض في العراق المدمر الآن ؟
لقد ردد السفير الأمريكي في العراق بعضا من أبيات تلك القصيدة في تصريح له غب إعلان المالكي لبرنامج حكومته ، فقال : ( يدرك رئيس الوزراء المالكي أن على الحكومة الجديد : اقامة الوحدة والمصالحة بين ابناء الشعب العراق . وتوفير الأمن للشعب العراقي. وتوفير الخدمات الأساسية، والازدهار الأقتصادي ، وسيادة القانون ) ورغم التأييد الكبير الذي حصل عليه رئيس الوزراء الجديد من أطراف دولية عديدة ومهمة ، مثل : الولايات المتحدة ، وبريطانيا ، وايطاليا ، والدول العربية ممثلة بجامعة الدول العربية ، لكن يظل الواقع على الأرض في العراق ، وفي ظل غابات السلاح المزروعة فيها ، هو من بين أهم العقبات التي ستقف بوجه المالكي ووجه حكومته في تحول تلك القصيدة الرومانسية ، وعلى بعض الهنات فيها ، الى واقع مغاير للواقع الذي يعيشه العراقيون الآن . إذ الحقيقة هي أن حكومة المالكي من أضعف الحكومات المنتشرة في العراق الآن ، وهي لهذا لا تملك أورقا رابحة كثيرة للعب بها ضد اللاعبين الأقوياء الآخرين الذين لهم جيوش عديدة قد رسخت أقدامها على أرض ذلك الواقع ، تلك الجيوش التي عجز عن مواجهتها أقوى جيوش الأرض إلا وهو الجيش الأمريكي ، والذي هو واحد من الحكومات التي يجب على المالكي أن يحسب لها حسابا ، وهو يتغني بتلك القصيدة ، مثلما عليه أن يحسب حسابا لجيوش أخرى مثل جيوش : أنصار السنة ، وجيش المهدي ، وجيش محمد ، وفيلق بدر ... الخ ، فكل واحد من هذه الجيوش أقام حكومة خاصة به ، لها محاكمها الشريعة ! مثلما لها سيوف بتارة تحز بها رقاب الناس في العراق ، وقد لا يكون المالكي ووزراؤه في منأىً عن تلك السيوف .
بعد هذا على المالكي أن يحسب حساب إيران ، وأجهزة مخابراتها العاملة على أرض العراق ، ووسائل إعلامها التي تبث سموم دعاياتها من داخله ، فإيران ، ومثلما نقل الدكتور علي نوري زاده ، الخبير بالشؤون الإيرانية ، في جريد الشرق الأوسط اللندنية ، ممتعضة من التشكيلة الوزارية التي قدمها المالكي الى البرلمان في العراق ، وهنا أنقل أنا بعضا مما كتبه زاده في هذا الصدد : ( كشف مصدر قريب من القيادة العليا في ايران في حديث لـ «الشرق الأوسط» عن مساعي السفارة الايرانية في بغداد وممثلي المرشد آية الله علي خامنئي في الساعات الاخيرة، ما قبل اعلان التشكيلة الوزارية الجديدة في العراق، لفرض اسماء على المالكي ومنع تسمية ما لا يقل عن ثلاثة مرشحين ، رغم ان اوساط المالكي سبق ان ابلغت الجهات الايرانية المعنية بالشأن العراقي، تمسك رئيس الوزراء المنتخب باسماء المرشحين الذين قد تم الاتفاق حول الحقائب المسندة اليهم ، خلال المشاورات التي دارت بين زعماء القوائم البرلمانية والاحزاب والتنظيمات السياسية مع المالكي منذ تكليفه من قبل الرئيس العراقي جلال طالباني.
واوضح المصدر، ان القيادة الايرانية بدت منزعجة جدا من نقل وزير الداخلية في حكومة الجعفري، باقر جبر صولاغ من الداخلية، خاصة ان توصيات ممثليها في العراق الى مستشاري المالكي ، وبعض الاحزاب الشيعية القريبة من ايران بتسليم حقيبة الداخلية الى الدكتور احمد الجلبي، قد اصطدمت برفض مباشر وصريح ليس من قبل القوائم السنية فحسب، بل من داخل الائتلاف الموحد، خاصة المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق بقيادة عبد العزيز الحكيم، الذي ينتمي اليه وزير الداخلية السابق، وزير المالية في حكومة المالكي باقر جبر صولاغ . )
وعلى هذا ستكون التدخلات الإيرانية من الآن فصاعدا في شأن حكومة المالكي من أخطر العقبات التي ستقف بوجهها في تطبيق الأحلام التي وردت بقصيدته الرومانسية تلك ، خاصة وأن حكومته تضم وزيرا إيرانيا ، هو صولاغ الفاشل ، وفي موقع وزاري مهم ما كان للمالكي أن يوافق عليه ، فصولاغ علامة من علامات الفشل المتواصل لكل الحكومات التي تبوأ فيها هو منصبا وزاريا ، وها هو يكذب قبل أن يجلس على كرسي وزارة المالية حين يقول : إنني أملك تجربة تجارية منذ نعومة أظفاري ستنفعني في عملي وزيرا للمالية . مع أن القريبين منه يقولون : إن صولاغ كان يبيع الباقلاء المطبوخة ( الفول ) بعربة زمن صباه ، وعلى قارعة الطريق للأطفال الذين يشاكلونه بالسن ، فهل تنفع تجربة بيع باقلاء وزيرا للمالية في عمله ، وفي بلد ضخم الموارد مثل العراق ، ويمر بظروف غاية في التدهور ؟
هذا السؤال نطرحه على رئيس الوزراء الجديد الذي هو وحده من يتحمل مسؤولية تنصيب وزير فاشل ، مثل صولاغ ، في مكان مهم مثل وزارة المالية في العراق ، وربما كان ذلك التنصيب بسبب من ضغوط إيرانية ، رغم أنني أعرف أن المالكي بعيد عن التأثير الإيراني ، فهو وإيران ليس على وئام منذ أن رفض التدخلات الإيرانية المذلة بشؤون العراقيين الذين ، لجؤوا إليها زمن حكم صدام الساقط ، وقت أن كان يعيش هو فيها .

111
      قتل شيوخ العشائر العربية في جنوب العراق !       سهر العامري

منذ ما يزيد على أكثر من سنة بدأت تتوارد أخبار من جنوب العراق عن ملاحقة وقتل بعض شيوخ العشائر فيه ، وقد كانت مدينة البصرة هي المدينة التي شهدت أكثر حالات الملاحقة والقتل هذه ، ولا يشك أحد في أن اليد التي ارتكبت هذه الجريمة هي ذات اليد التي قامت بتصفية الكثيرين من أبناء البصرة المنكوبة من مسلمين على مختلف مذاهبهم ، ومسيحيين ، وصابئة ، ولم تكتف هذه اليد بعمليات القتل والتصفية تلك ، بل فرضت نوعا من السلوك الغريب على الناس في تلك المدينة ، جاءت به من إيران التي حاول عملاؤها تطبيقه فيها بقوة السلاح ، كما وصل الحال بالقتلة هؤلاء الى قطع أرزاق الناس، وذلك من خلال مهاجمتهم في محلات بيعهم ، وفي أماكن عملهم .
لقد كان الهدف من كل هذا هو فرض النفوذ الإيراني على البصرة وأهلها ، ذلك النفوذ الذي عجز حكام إيران فرضه على زمن ملوكها ، وأكاسرتها ، ولسبب واحد لا يريد الإيرانيون ، ولا عملاؤهم في العراق فهمه الساعة هذه ، وهو أن العشائر في جنوب العراق مع أنها على المذهب الشيعي ، لكنها لا تريد للإيرانيين وعملائهم في العراق أن يتحكموا بها ، فالعشائر تلك التي ترى رأي العين كيف يذل حكام طهران الحاليون عرب الأهواز ، وكيف يسلطون ظلمهم وجورهم عليهم رغم أنهم شيعة كذلك . يضاف لذلك أن العشائر العراقية العربية في جنوب العراق هي التي وقفت بوجه الغزو الإيراني للعراق على امتداد تاريخ ذلك الغزو ، وذلك حين أبادت تلك العشائر جيوشا إيرانية جرارة على مشارف أهوار البصرة والناصرية رفضا للهيمنة الإيرانية على أرضها ووطنها .
واليوم تريد إيران ، ووفق مخطط مدروس ينفذه عملاؤها في أجهزة شرطتها التي يقودها ابنها صولاغ ، وزير الداخلية في العراق ، وفي زمن رديء ، أن تثأر من كل عراقي شريف وقف بوجه بسط النفوذ هذا ، مجندة بعضا من باعة الضمائر ، ومن استطابوا خيانة الوطن ، ولهذا فقد طالت عمليات التصفية والترويع تلك ، ووفقا لذلك المخطط ، كل الضباط الذين قاتلوا ضدها في حرب الثماني سنوات ، وكل رجال العلم من الذين سعوا الى تقدم بلدهم وازدهاره ، وكل الرجال من الديانات الأخرى ، ثم جاء المخطط الجهنمي هذا على شيوخ العشائر في جنوب العراق ، وحتى على رجال الدين الشيعة الذين يختلفون في توجهاتهم وآرائهم عن حكام طهران .
يقول ( رجل دين شيعي مستقل من محلة المشراق في البصرة القديمة ان اقطاب الجمهورية الاسلامية الايرانية وخاصة مخابراتهم ورجال الدين يريدون ربط شيعة العراق بهم مع اننا نختلف فقهيا عنهم ولا نؤمن بولاية الفقيه ثم اننا عرب ونفخر بعروبتنا وبعلاقاتنا الاخوية مع السنة والاكراد والمسيحيين في العراق )
وهكذا صار أهل البصرة يشعرون بالخطر الإيراني الذي تصاعد يوما عن يوم ، وبات يستهدف وجودهم ، مثلما يستهدف مدينتهم التي استعصت على حكام طهران ، وعلى مدى محاولاتهم القديمة الجديدة في إخضاعها لنفوذهم ، وبأساليب شتى ، مثل تلك الأساليب التي راح عملاؤها يفرضونها على الناس فيها الآن .
لقد تصرف هؤلاء العملاء في فرض تلك الأساليب البالية والمتخلفة ، وكأن البصرة أصبحت بعرفهم مدينة إيرانية ، وليست عراقية ، وكان كل ذلك قد تمّ تحت أنظار قوات الاحتلال البريطانية التي تتحمل المسؤولية كاملة عن ذلك باعتبارها هي الجهة المسؤولة عن حفظ أمن العراقيين في تلك المدينة ، وفقا للقوانين الدولية .
ولي أن استعرض بعضا نزرا من تلك الأساليب ، والأعمال الرهيبة التي تتصاعد وتائرها يوما عن يوم ،والتي طالت حياة البصريين جمعيا ، وهي :
* قامت المخابرات الإيرانية بتشكيل عصابات قتل أطلقت عليها مسميات اتصلت جميعها باسم الله ، فمنظمات مثل ثائر الله ، وبقيت الله ، وحزب الله ما هي إلا امتداد لأجهزة المخابرات الإيرانية ، مهمتها هي العمل على قتل كل من ينتصر لوطنه العراق ، ويرفض بسط النفوذ الإيراني على المدينة وأهلها ، ولهذا فقد شملت عمليات القتل تلك الكثير من البصريين ، ومن مختلف المذاهب والأديان والشرائح فيها ، ووصلت معدلات القتل تلك الى أرقام مخيفة ، ومرعبة في وقت واحد ، فقد ذكرت صحيفة الإندبندنت الانجليزية ، ونقلا عن مسؤول في وزارة الدفاع العراقية أن معدل القتل في المدينة بلغ شخصا واحدا في الساعة الواحدة ، وهذا الرعب يمثل الكيفية التي تريد من خلالها إيران أن تتحكم برقاب الناس في تلك المدينة ، ويعكس في الوقت نفسه فشل سياسة المهادنة التي اتبعتها قوات الاحتلال البريطانية على مدى سنوات ثلاث مع عملاء طهران في البصرة ، والى الحد الذي حلت به القوات الأمريكية بدلا عنها في كثير من المواقع ، خاصة تلك المواقع الواقعة على الحدود الدولية ما بين البصرة والمدن الإيرانية .
* نهبت إيران من خلال عصابتها المنظمة ثروات طائلة من ثروات المدينة ، خاصة الثروة النفطية ، والتي بلغت معدلات تهريبها أرقاما خيالية ، وبشكل مكشوف ، وتحت إسناد وحماية قوات الحرس الثوري الإيراني العاملة في مياه شط العرب العراقي ، وقد قدرت مريم رجوي ، وأمام لجنة من أعضاء البرلمان الأوربي في بروكسل أن مقدار ما قامت إيران بسرقته من نفط البصرة ، وعن طريق عملائها ، قد بلغ عشرين مليار دولار على مدى السنوات الثلاث التي أعقبت سقوط صدام ، والملفت للنظر إن حكومة إبراهيم الإشيقر الجعفري ، التي يتبارى أعضاؤها في الإدلاء بالتصريحات الطنانة ، لم تجرؤ على تكذيب ما أدلت به رجوي ، فالعلاقة بين هؤلاء ، وبين إيران علاقة سادة بالعبيد .
* قام عملاء إيران في العراق بالضغط على شيوخ العشائر العراقية في العراق ، وأقاموا لها مؤتمرات ، وقدموا لها إغراءات ، وشكلوا مجلس أعيان ، أناطوا رئاسته بالجعفري الذي ليس له عشيرة أو حمولة ، او فخذ بين العشائر العراقية قاطبة ، ومع هذا فقد صار هو رئيس عشائر العراق الفخري ، أما كيف أصبح من لا عشيرة له رئيسا لعشائر العراق ، فالله وحده هو العالم بذلك .
ومع ذلك فالمخطط الإيراني لم يقف عند الضغط وحده ، وإنما تعداه الى قتل كل شيخ عشيرة في جنوب العراق لا يريد أن يخضع للنفوذ الإيراني ، خاصة شيوخ العشائر العربية الشيعية في الجنوب ، ممن يرتبطون بعلاقات قربى ببعض القبائل العربية في دول الخليج العربي ، ويبدو أن قتل شيخ عشيرة الكرامشة ، التي هي فرع من قبيلة العتبان الحجازية ( العتيبي ) ، على يد أفراد يتزيون بزي شرطة صولاغ ، قد سار وفق هذا المخطط الشرير ، ولهذا وجدنا أن أفراد العشيرة تلك قد نزلوا الى شوارع مدينة البصرة مسلحين ، وقاموا بقتل أكثر من أحد عشر شرطيا ، كما قاموا بإحراق مقرين لمجلس الحكيم الأعلى ، وهم بذلك قد حددوا الجهة التي تقف وراء قتل شيخ عشيرتهم ، حسن جارح الكرمشي ، وهذا الرد السريع نذير شؤم لعملاء النظام الإيراني يتجسد في وعي العشائر العراقية الجنوبية بمخططاتهم الشريرة ، ومن ثمّ التصدي لها .




112
      قتل شيوخ العشائر العربية في جنوب العراق !       سهر العامري

منذ ما يزيد على أكثر من سنة بدأت تتوارد أخبار من جنوب العراق عن ملاحقة وقتل بعض شيوخ العشائر فيه ، وقد كانت مدينة البصرة هي المدينة التي شهدت أكثر حالات الملاحقة والقتل هذه ، ولا يشك أحد في أن اليد التي ارتكبت هذه الجريمة هي ذات اليد التي قامت بتصفية الكثيرين من أبناء البصرة المنكوبة من مسلمين على مختلف مذاهبهم ، ومسيحيين ، وصابئة ، ولم تكتف هذه اليد بعمليات القتل والتصفية تلك ، بل فرضت نوعا من السلوك الغريب على الناس في تلك المدينة ، جاءت به من إيران التي حاول عملاؤها تطبيقه فيها بقوة السلاح ، كما وصل الحال بالقتلة هؤلاء الى قطع أرزاق الناس، وذلك من خلال مهاجمتهم في محلات بيعهم ، وفي أماكن عملهم .
لقد كان الهدف من كل هذا هو فرض النفوذ الإيراني على البصرة وأهلها ، ذلك النفوذ الذي عجز حكام إيران فرضه على زمن ملوكها ، وأكاسرتها ، ولسبب واحد لا يريد الإيرانيون ، ولا عملاؤهم في العراق فهمه الساعة هذه ، وهو أن العشائر في جنوب العراق مع أنها على المذهب الشيعي ، لكنها لا تريد للإيرانيين وعملائهم في العراق أن يتحكموا بها ، فالعشائر تلك التي ترى رأي العين كيف يذل حكام طهران الحاليون عرب الأهواز ، وكيف يسلطون ظلمهم وجورهم عليهم رغم أنهم شيعة كذلك . يضاف لذلك أن العشائر العراقية العربية في جنوب العراق هي التي وقفت بوجه الغزو الإيراني للعراق على امتداد تاريخ ذلك الغزو ، وذلك حين أبادت تلك العشائر جيوشا إيرانية جرارة على مشارف أهوار البصرة والناصرية رفضا للهيمنة الإيرانية على أرضها ووطنها .
واليوم تريد إيران ، ووفق مخطط مدروس ينفذه عملاؤها في أجهزة شرطتها التي يقودها ابنها صولاغ ، وزير الداخلية في العراق ، وفي زمن رديء ، أن تثأر من كل عراقي شريف وقف بوجه بسط النفوذ هذا ، مجندة بعضا من باعة الضمائر ، ومن استطابوا خيانة الوطن ، ولهذا فقد طالت عمليات التصفية والترويع تلك ، ووفقا لذلك المخطط ، كل الضباط الذين قاتلوا ضدها في حرب الثماني سنوات ، وكل رجال العلم من الذين سعوا الى تقدم بلدهم وازدهاره ، وكل الرجال من الديانات الأخرى ، ثم جاء المخطط الجهنمي هذا على شيوخ العشائر في جنوب العراق ، وحتى على رجال الدين الشيعة الذين يختلفون في توجهاتهم وآرائهم عن حكام طهران .
يقول ( رجل دين شيعي مستقل من محلة المشراق في البصرة القديمة ان اقطاب الجمهورية الاسلامية الايرانية وخاصة مخابراتهم ورجال الدين يريدون ربط شيعة العراق بهم مع اننا نختلف فقهيا عنهم ولا نؤمن بولاية الفقيه ثم اننا عرب ونفخر بعروبتنا وبعلاقاتنا الاخوية مع السنة والاكراد والمسيحيين في العراق )
وهكذا صار أهل البصرة يشعرون بالخطر الإيراني الذي تصاعد يوما عن يوم ، وبات يستهدف وجودهم ، مثلما يستهدف مدينتهم التي استعصت على حكام طهران ، وعلى مدى محاولاتهم القديمة الجديدة في إخضاعها لنفوذهم ، وبأساليب شتى ، مثل تلك الأساليب التي راح عملاؤها يفرضونها على الناس فيها الآن .
لقد تصرف هؤلاء العملاء في فرض تلك الأساليب البالية والمتخلفة ، وكأن البصرة أصبحت بعرفهم مدينة إيرانية ، وليست عراقية ، وكان كل ذلك قد تمّ تحت أنظار قوات الاحتلال البريطانية التي تتحمل المسؤولية كاملة عن ذلك باعتبارها هي الجهة المسؤولة عن حفظ أمن العراقيين في تلك المدينة ، وفقا للقوانين الدولية .
ولي أن استعرض بعضا نزرا من تلك الأساليب ، والأعمال الرهيبة التي تتصاعد وتائرها يوما عن يوم ،والتي طالت حياة البصريين جمعيا ، وهي :
* قامت المخابرات الإيرانية بتشكيل عصابات قتل أطلقت عليها مسميات اتصلت جميعها باسم الله ، فمنظمات مثل ثائر الله ، وبقيت الله ، وحزب الله ما هي إلا امتداد لأجهزة المخابرات الإيرانية ، مهمتها هي العمل على قتل كل من ينتصر لوطنه العراق ، ويرفض بسط النفوذ الإيراني على المدينة وأهلها ، ولهذا فقد شملت عمليات القتل تلك الكثير من البصريين ، ومن مختلف المذاهب والأديان والشرائح فيها ، ووصلت معدلات القتل تلك الى أرقام مخيفة ، ومرعبة في وقت واحد ، فقد ذكرت صحيفة الإندبندنت الانجليزية ، ونقلا عن مسؤول في وزارة الدفاع العراقية أن معدل القتل في المدينة بلغ شخصا واحدا في الساعة الواحدة ، وهذا الرعب يمثل الكيفية التي تريد من خلالها إيران أن تتحكم برقاب الناس في تلك المدينة ، ويعكس في الوقت نفسه فشل سياسة المهادنة التي اتبعتها قوات الاحتلال البريطانية على مدى سنوات ثلاث مع عملاء طهران في البصرة ، والى الحد الذي حلت به القوات الأمريكية بدلا عنها في كثير من المواقع ، خاصة تلك المواقع الواقعة على الحدود الدولية ما بين البصرة والمدن الإيرانية .
* نهبت إيران من خلال عصابتها المنظمة ثروات طائلة من ثروات المدينة ، خاصة الثروة النفطية ، والتي بلغت معدلات تهريبها أرقاما خيالية ، وبشكل مكشوف ، وتحت إسناد وحماية قوات الحرس الثوري الإيراني العاملة في مياه شط العرب العراقي ، وقد قدرت مريم رجوي ، وأمام لجنة من أعضاء البرلمان الأوربي في بروكسل أن مقدار ما قامت إيران بسرقته من نفط البصرة ، وعن طريق عملائها ، قد بلغ عشرين مليار دولار على مدى السنوات الثلاث التي أعقبت سقوط صدام ، والملفت للنظر إن حكومة إبراهيم الإشيقر الجعفري ، التي يتبارى أعضاؤها في الإدلاء بالتصريحات الطنانة ، لم تجرؤ على تكذيب ما أدلت به رجوي ، فالعلاقة بين هؤلاء ، وبين إيران علاقة سادة بالعبيد .
* قام عملاء إيران في العراق بالضغط على شيوخ العشائر العراقية في العراق ، وأقاموا لها مؤتمرات ، وقدموا لها إغراءات ، وشكلوا مجلس أعيان ، أناطوا رئاسته بالجعفري الذي ليس له عشيرة أو حمولة ، او فخذ بين العشائر العراقية قاطبة ، ومع هذا فقد صار هو رئيس عشائر العراق الفخري ، أما كيف أصبح من لا عشيرة له رئيسا لعشائر العراق ، فالله وحده هو العالم بذلك .
ومع ذلك فالمخطط الإيراني لم يقف عند الضغط وحده ، وإنما تعداه الى قتل كل شيخ عشيرة في جنوب العراق لا يريد أن يخضع للنفوذ الإيراني ، خاصة شيوخ العشائر العربية الشيعية في الجنوب ، ممن يرتبطون بعلاقات قربى ببعض القبائل العربية في دول الخليج العربي ، ويبدو أن قتل شيخ عشيرة الكرامشة ، التي هي فرع من قبيلة العتبان الحجازية ( العتيبي ) ، على يد أفراد يتزيون بزي شرطة صولاغ ، قد سار وفق هذا المخطط الشرير ، ولهذا وجدنا أن أفراد العشيرة تلك قد نزلوا الى شوارع مدينة البصرة مسلحين ، وقاموا بقتل أكثر من أحد عشر شرطيا ، كما قاموا بإحراق مقرين لمجلس الحكيم الأعلى ، وهم بذلك قد حددوا الجهة التي تقف وراء قتل شيخ عشيرتهم ، حسن جارح الكرمشي ، وهذا الرد السريع نذير شؤم لعملاء النظام الإيراني يتجسد في وعي العشائر العراقية الجنوبية بمخططاتهم الشريرة ، ومن ثمّ التصدي لها .




113
أدب / التابوت
« في: 20:18 17/05/2006  »
                             التابوت*                        سهر العامري

كان التابوت الرابع هو التابوت الوحيد الرابض مددا طويلة ، هناك في غرفة صغيرة ، قامت بقيام جامع ابن بنية في الكرخ من بغداد ، والقريب من الكراج العام للسيارات في منطقة علاوي الحلة ، تلك السيارات التي كانت موزعة على صنوف عدة ، مختلفة ، فقد تمايزت أحجامها ، مثلما تمايزت ألوانها ، حتى لكأنها تبدو للعين الفاحصة قطيعا متباينا في غابة من غابات مجاهل أفريقيا . هكذا كان حميد يتخيلها ، ولطالما تبجح بوصفه الغريب هذا مرات عدة بين أقرانه من طلبة جامعة بغداد القادمين من مدن العراق المختلفة ، خاصة تلك المدن التي تقع على الضفة الغربية من نهر الفرات المنحدر منذ زمن بعيد نحو الجنوب العراقي أبدا .
لقد كان حميد هو الطالب الوحيد من بين جميع زملائه الطلاب من يمعن النظر في الأشياء من حوله ، ولهذا كانت أسئلته في أحيان كثيرة تفتح أذهان زملائه من الطلبة على كنه أشياء يمرون بها هم في أوقات كثيرة ، ولكنها لم تحفز أذهانهم بصياغة سؤال مثل سؤاله الذي طرحه عليهم مرة ، وهم مغادرون من ذلك الكراج العام ، متوجهين الى مدينة الناصرية بعد أن انصرم الفصل الدراسي الأول من سنتهم الدراسية في تلك الجامعة .
لقد سأل حميد سؤالا جديرا بالإجابة : متى ينتهي البناء في هذا الجامع ؟ لقد مرت سنوات ليس بالقليلة ، وهو لم ينهض بعد . أضاف هو .
:ـ نعم . هذا سنوات ونحن نمر عليه ، وهو لم يتطاول بعد . أيد حسن حميدا في سؤاله ، بينما راح يعدل من وضع حقيبته الصغيرة على ظهره ، ممسكا بها في يده اليمنى ذات الكف العريض ، والساعد القوي ، المتين .
ورغم أن الطلبة كانوا يسبحون بغمرة من فرح في العودة الى ديارهم ، ورغم أن مزاحهم ، وتصاعد أصواتهم ، كانا يزعجان بعض المارة في ذلك الشارع النازل من جسر الشهداء ، والمار بمقهى المطرب العراقي ، ناصر حكيم ، ابن مدينتهم ، والذاهب نحو تلك الغابة التي خلت من الأشجار ، لكن ، مع كل ذلك ، فقد أشاع سؤال حميد الجد في ذلك الجو الصاخب ، وعاد للحديث حرارة نقاش جاد ، نزلت من ذاك السؤال ، وهيمنت على ألسنة الجميع .
لقد بدأ الجميع يصغي الى إجابة متوقعة من حميد نفسه عن السبب الحقيقي الذي جعل ابن بنية يتأخر في إكمال بناء الجامع كل هذا الوقت الطويل ، هذا التأخر هو الذي أطلق ألسنة بعض الناس في بغداد متسائلين عن السبب الذي تساءل عنه حميد كذلك ، والذي ، على ما يبدو ، كان قد حصل هو على جواب لسؤاله هذا من قبل ، وإنما طرحه الساعة من أجل أن يجعل غيره من الطلاب يدرك الكيفية التي يستغل بها الدين ، طلبا لتكديس الثروة والمال ، وذلك حين فاجأهم هو بإعلان السبب قائلا : إن تأخر إكمال بناء الجامع كل هذه المدة الطويلة يعود الى رغبة ابن بنية نفسه ، الذي استطاع الحصول من الحكومة على إجازة استيراد خاصة ، وتسهيلات مغرية أخرى ، وذلك من أجل استيراد كميات حديد ضخمة من ايطاليا ، وبحجة استخدامها في بناء ذلك الجامع ، ولكنه ، بدلا عن ذلك ، كان يبيع أكثر من نصف الكمية المستوردة في السوق العراقية ، وبأسعار خيالية ، وما تبقى منها يحوله هو الى الجامع الذي صار غطاءًً لتلك السرقة التي أقرتها قوانين الدولة .
لقد تواصلت تلك السرقة على مدى أعوام طويلة ، ولكن ـ والحق يقال ـ أن الرجل ، أي ابن بنية ، كان فاعل خير ! فهو يتصدق على الفقراء ! ويعين الثكالى من النساء اللائي فقدن أزواجهن في حروب الشمال من العراق ! وهو وفوق هذا كله يبني جوامع للمصلين ! مثلما يمد يد الرشوة لهذا الكبير من الموظفين ، أو ذاك الصغير منهم ، ولهذا كان خطيب الجامع الذي عينه هو في هذه المهنة كثير ما كان يثني عليه ، ويدعو له دعاء صادقا في أن يمن الله عليه بتمام الصحة ، وطول العمر ، وذلك في ذيل كل خطبة صلاة جمعة ، فيردد بعده المصلون : آمين ، رب العالمين ! كما لا يفوت هذا الخطيب أن يذيع على المصلين أخبار كل ما يتعلق بالمكارم التي يقدمها ابن بنية للمسلمين المعدمين من حوله ، فقد أثنى الخطيب هذا بعيد أيام من افتتاح الجامع على الفعل الحميد ، الجديد الذي قام به ابن بنية ، والذي تمثل بشراء ستة توابيت لموتى فقراء المسلمين ، يمكن إعارتها لذويهم وقت أن تغادر روح أحدهم جسدها .
لقد ظلت تلك التوابيت الستة تعيش في زنزانتها التي خصصت لها في ركن من أركان الجامع ، وقريبا من الباب الرئيس منه ، والذي أطلق كلمة : زنزانة على تلك الغرفة هو التابوت الرابع ، إذ كان الموت في تلك الأيام قليلا ، لم يحصد الكثير من أرواح فقراء العراق ، وعلى هذا كان كل تابوت يتمنى من أعماق نفسه أن يحل في بطنه إنسان ميت ، لا لشيء إلا من أجل أن يشم نسائم الحرية والنزهة ، حين تطوف به سيارة متجهة الى مقبرة في الشيخ معروف ، أو في الكاظمية من بغداد ، وأسعدهم حظا هو من يتنفس تلك النسائم في رحلة تأخذه مع ميت حيث مقبرة الغري من النجف الأشرف .
لقد كانت تلك أمانيا يطمح بها كل تابوت من التوابيت الستة ، وأحلاما تراود كل واحد منها ، ذاك الواحد الذي اعتاد على الخروج من تلك الغرفة الضيقة في فترات متباعدة ، وهو يحمل في بطنه امرأة أو رجلا ميتا ، ولم يعد الى العمل إلا بعد أشهر طويلة بسبب من شحة الموت ، وقلة الموتى  ، ولهذا صار كل فرد منها صلدا ، قويا ، لم تهلكه الأيام ، ولم يمض فيه التقادم ، ولكن هذه النعمة سرعان ما تحولت الى نقمة ، وسبحان من لا يتغير ! فقد انقلبت تلك الدعة ، وحياة الكسل ، والنوم المستديم في تلك الغرفة الضيقة الى رحيل متواصل من مدينة الى مدينة ، ومن ظهر سيارة الى ظهر أخرى ، وذلك حين شبت نيران الحروب التي أشعلها القائد المنصور عن طيب خاطر ، تلك الحروب التي تواصلت على مدى سنوات طويلة لم تذق فيها جميع التوابيت في العراق طعم الراحة والنوم ، ومنها تلك التوابيت الستة التي لم يتبق منها إلا التابوت الرابع ، وذلك حين احترقت بفعل قذيفة مدفع إيراني سقطت عليها ، وهي في الخطوط الأمامية من الجبهة الوسطى ، حيث كانت المعارك تدور حامية عند مدينة دزفول الإيرانية .
لقد وصلت تلك التوابيت الستة من جامع ابن بنية قبل ليلة من نشوب تلك المعارك التي حشد لها القائد المهيوب كل توابيت العراق ، ولهذا السبب ركبت هي هذه المرة بسيارات عسكرية ، يطلق عليها الجنود أسما غريبا على آذان الناس في العراق ، فيقولون : سيارة زيل عسكرية . 
لقد أحست تلك التوابيت ، وعن سابق تجربة هذه المرة ، بكثرة الموتى الذين يتوجب على كل تابوت منها أن ينقلهم مرغما ، وبالطريقة التي يحددها العسكريون له ، ولكن  لم يدر بخلد أحد منها أنه هو نفسه ذاهب للموت المحقق ، فكيف لتابوت صنع من خشب أن يقاوم نيران مشتعلة ، تصهر حديد الدبابات المقاتلة كتلك الدبابات التي احترقت ساعة وصولها الى الجبهة ، فما كان من أحد الجنود إلا أن اختار ، ودونما قصد ، التابوت الرابع الذي حُمل على عجل لينام فيه بعض من موسى ، صديق حميد الوفي ، والذي صحبه في رحلة الدراسة الابتدائية ، هناك في مدرسة تجثو على ضفاف هور الحمّار من مدينة الناصرية .
لقد كان موسى رجلا فذا ، شجاعا ، أبي النفس ، متواضعا ، افترق عن حميد ، صديق طفولته بعد إنهاء دراستهما في تلك المدرسة ، وذلك حين تطوع هو في الجيش كي يساعد أسرته الفقيرة التي شجعته على هذا التطوع ، مثلما كانت تفعل أغلب الأسر الفقيرة التي تعيش في جنوب العراق ، وكان هذا بعد نجاح الثورة ، وبعد أن عمل زعيمها على تطوير ذاك الجيش ، ومده بتشكيلات قتالية حديثة ، تلك التشكيلات التي انضم إليها موسى في صنف الدبابات منها ، وتحديدا في كتيبة دبابات خالد .
لقد كان فرح أسرته عظيما حين رأته للمرة الأولى ، وهو يرتدي الملابس العسكرية ، وذلك وقت أن جاءهم في إجازة قصيرة ، كان الجنود يحصلون عليها بين الشهرين والشهرين ، ساعتها يأتون فيها محمولين على أجنحة الأشواق للقاء زوجاتهم اللائي تركوهن وراءهم ، يعشن في بيوت أسرهم ، تلك الأسر التي اعتادت على تزويج أبنائها بعيد دخولهم للجيش بأشهر قليلة ، ولم تكن أسرة موسى خارج هذه القاعدة ، ولهذا فقد بادر أبوه الى خطبة سليمة له ، تلك الفتاة التي كانت في سن مبكرة ، لم تبلغ السنة الثامنة عشرة من عمرها بعدُ ، ولكنها عادت جليسة البيت بعد أنهت دراستها الابتدائية في مدرسة لا توجد غيرها مدرسة أخرى للبنات في مدينتهم ، وهي ، بعد ذلك ، ليست من تلك الأسرة الغنية التي اعتادت على إرسال بناتها وأولادها الى مدن أخرى لمواصلة دراساتهم في مراحل دراسية متقدمة ، مثلما عليه الحال مع حميد ، صديق موسى الحميم ، الذي يواصل دراسته في جامعة بغداد ، بينما كان موسى في ذات الوقت جنديا في وحدة عسكرية ، مستقرة في شمال العراق ، وكان كلما جاء بإجازة لرؤية أسرته حرص على زيارة صديقه حميد الساكن في فندق النجوم في الكرخ من بغداد .
لكن موسى قد عاد هذه المرة الى زوجته سليمة بشكل مختلف ، وغريب ، عاد في بطن تابوت يحمل الرقم : 4 ، مكتوب عليه : مغلق ، ممنوع الفتح ! ، ومع كل هذه الصرامة في الأوامر ، ألقت سليمة بنفسها على التابوت ، تشبثت فيه ، طوقته بذراعيها ، بللته بدموعها الغزيرة ، وأقسمت أنها لن تتحرك إلا بعد أن ترى زوجها بعينيها اللتين طالما كحلتهما ببسمة ساحرة من محياه ، وفي ليالٍ ملاح ٍ ، ما مرت هي باليالٍ مثلها طوال عمرها .
كان التابوت الرابع وقتها يسخر في سره من إصرار سليمة على فتحه ، مرددا مع ذاته ، غير ما مرة ، قائلا : ما الذي سترين في بطني يا سليمة ! ؟ إنك لن ترين موسى أبدا ! فلا تحلمي بوهم رؤيته ! ثقي بي !  فأنا لا أحمل إلا بعضا نزرا من موسى ، فموسى قد احترق ـ يا سليمة ـ ! احترق هناك في دزفول ، مثلما احترق رفاقي الذين لم أفارقهم منذ أن تاجر بنا ابن بنية ، ووضعنا هناك في زاوية من جامع تاجر به هو الآخر ، تماما مثلما تاجروا بموسى ، زوجك الذي لن يعود .
لم تقتنع سليمة بكل ما قيل لها ، وظلت مصرة على رؤية العشيق الأول الذي اعتاد أن يأتيها محملا بالحب والحنان ، مثلما هو محمل بالقبل والهدايا التي ما رأت مثلها أبدا ، فكيف يردون منها عدم رؤيته حتى لو كان جثة هامدة في بطن تابوت ؟
لقد أذعن الجنود المرافقون للتابوت في نهاية الأمر ، واضطروا الى فتحه تحت إلحاح من الرجال والنساء الذين تجمعوا على صوت بكاء سليمة الذي يفيض باللوعة والحزن والألم  . إن دمعة هتون من عيني سليمة على موسى كانت لؤلؤة بحر ، لم ير أرضا ، تفوق بقيمتها قيمة كل النياشين وأنواط الشجاعة المسطرة على صدر القائد المهيوب !
صرخت سليمة بحرقة ما تعادلها حرقة ، صرخت صائحة بصوت هال الجمع المحتشد حول التابوت : أهذا هو موسى ؟ هذا هو موسى ؟ لطمت وجهها بقوة ، لطمته ثانية ، شقت جيب ثوبها ، همشت شعر رأسها ، همشته ثانية وثالثة ، ولهذا اندفعت نسوة قريبات منها الى منعنها عن قتل نفسها بهذه الطريقة المفجعة ، ولكنها ، رغم ذلك ، ما كفت ألبتة عن النواح المؤلم والحزين ، منتهية به الى النوم في بطن ذاك التابوت الذي لم يكن يحتوي في حقيقة الأمر إلا على ساقين يُمنين لجنديين اثنين ، كانت إحداهما ساق موسى اليمنى ، أما الساق الثانية فكانت لجندي مجهول ، ساعتها عرف الجمع المتجمهر سر قول سليمة ، وهي تصرخ : أهذا موسى ؟
بعد رحلته الجنوبية عاد التابوت الرابع الى زنزانته في جامع ابن بنية وحيدا هذه المرة ، وتمنى من أعماقه أن يظل محبوسا بعيدا عن أجواء الموت والدماء ، فهو تابوت أعد لأيام السلم ، وليس لأيام الحروب المتواصلة ، واختص بنقل الموتى من البيوت أو من المستشفيات ، وكان أخشى ما يخشى هو أن تشتعل جذوة نار قربه ، فكيف به ، واشتعال نيران الحروب ؟ كيف به وقد صار ينقل جزءً من جسد إنسان ؟ كيف به وقد صار يطوف في العراق شرقا وغربا ، مثلما يطوف شمالا وجنوبا ، وهو ابن بغداد التي ما غادرها إلا الى مدينة النجف في نادر الأحوال ؟
لهذه الأسباب كلها كان يرغب من صميم قلبه أن يظل في سجنه الذي ولد فيه بسبب نطفة اجتمعت من حرام دراهم ابن بنية بعد أن اكتمل بناء جامعه الذي ما صلى هو به أبدا ، فقد شغلته التجارة والبيع عن ذكر الله ، مثلما شُغل بحساب الأرباح التي تحققت له من بيع الحديد ، وبأسئلة ما غادرت خواطره تبحث عن طريقة جديدة يمكنه من خلالها أن يستورد كميات أخرى من الحديد ذاك في زمن الحروب التي أشعل نيرانها الرئيس المهيب ، وربما انصرفت أسئلته تلك الى استيراد الخشب بدلا عنه ، حيث توقع جميع تجار العراق ، والتجار الغرباء عنه ، أن حروب العراق لم تنتهِ بعدُ ، وأن جبهاتها ستنتقل في مستقبل قريب الى شوارع مدنه ، وأزقتها .
لم تخب توقعات التجار تلك ، ولم يتأخر حدوث ما توقعوه كثيرا ، فقد نزل جند الديمقراطية القادمين من وراء البحار تلك الشوارع ، مثلما نزلتها جيوش كثيرة أخرى ، اختلفت مسمياتها ، وتباينت أهدافها ، ولكنها اتفقت على شيء واحد هو الموت المتواصل دوما ، ذلك البحر الذي طغى موجه العاتي ، فصار يجرف الناس صغارا وكبارا ، نساء ورجالا ، عندها ازدهرت صناعة التوابيت ، وتطورت بسرعة ، حتى أن التابوت الرابع أعيد للخدمة من جديد ، رغم تهالكه ، وكبر سنه ، وقد هاله أنه رأى جيلا جديدا من التوابيت في العراق ما كان معروفا من قبل أبدا ، ولكنه عرف في زمن دعاة الدين ، وعباد الرب ، والجنود القادمين من وراء البحار ، فقد شاهد اليوم ، وهو عائد من النجف ، أكثر من تابوت ذي طابقين أثنين ، بعد أن كان هو ، وأجيال كثيرة سبقته تبنى بطابق واحد ، ولهذا فقد تيقن من ساعتها أن صناعة التوابيت في العراق تطورت بتطور صناعة الموت فيه .
= = = = = = = = = =
* قصة قصيرة           

صفحات: [1]