ankawa

المنتدى الثقافي => أدب => الموضوع حرر بواسطة: فهد عنتر الدوخي في 17:50 23/08/2019

العنوان: هلاهل مؤجلة، قصة قصيرة... الدكتور سامي الجبوري
أرسل بواسطة: فهد عنتر الدوخي في 17:50 23/08/2019

هَلاهلٌ مؤجَّلةٌ
قِصَّةٌ قَصيرَةٌ

سامي الجبوري

   بسَط تموزٌ ذِراعيهِ واتكأ في يومه التاسع على رِقَّةِ الماضي وأنين الحاضر ، فقد تناثرتْ من دفاتر طيَّاته آلاف المآثرِ الجميلة عبر أجنحة الخصبِ والنَّماء ؛ عندما كان سَيداً مع عشتاره في الأُسطورة البابلية .. وها هو اليوم يَسوُقُ بسوطهِ جمرات الحرّ اللاهبِ ويُسقطها في ملاعب الناسِ ليرقصوا غاضبين على أنغامه ، وتلك الشوارع تطرُدُ مُرتاديها وتنشدُ آهات الاكتواء ، والمدارس أرسلتْ مبعوثيها إلى مُدن المنازل ليحتموا بها ، وووو .. ويستمر الأنين إلى حيث اللانتهاء .. في هذه العطلةِ التموزيَّة قررتْ جارتنا أمُ حيدر نزع فتيل اللَّهب بإقامة مَراسيم التتويج للملك حيدر الذي تسيَّد على عَرش قلبها  ؛ ودعتْ الأهلَ والأقاربَ وأصدقاءه الذين كنت واحداً منهم لحضور هذه المراسيم ورؤيته مُستلقياً على أريكتهِ كزهو تموز في خصبه ونمائه .
    غداً كُلنا سيفرحُ ويبتسمُ ويضحكُ وسط صخب الأغاني وتمايل الأجساد الراقصة ؛ وهو وحده يتألَّم ويتأوَّه ، سيكون بطلاً استثنائياً يطوف حولهُ الأحباب وتبدأ جلسات المدح لتُعلن عن صولاتهِ وجولاتهِ وخدماتهِ لأهل بيته وحييه .. كانت التحضيراتُ على مستوى عالٍ من التنظيم والترتيب ؛ ابتدأتْ بالتنظيفِ وتجهيز الديكورات وكلّ ما يتعلَّقُ بمستلزمات هذا التتويج ... إنتهى كل شيء والقافلةٌ جاهزةٌ للمسيرِ وموعدها في الصباح الباكر . 
   بدأ الليلُ على امتداده يَجرُّ أذيال ثوبه ويطوي ما تبقى منه خشية أنْ لا يتمزَّق أمام جحافل الفجر الباشطة ؛ ودجنة ظلامه باتتْ تُسرِّح النجوم واحدةً تلو الأُخرى إيذاناً منها بتسليم المواقع كُلّها لتلك الضياءات .. كُتلةٌ بيضاء اجتاحتْ الكونَ كُلَّه وإعلان الصباح بات أمراً واقعاً والمدينة تغصُّ في نومٍ عميقٍ والهدوء يتناثر في الأزقة ؛ حتى تراتيل الديكَة (كككّكو كو) باتتْ خرساءَ في مَهدِها هذا اليوم ، إلاَّ تلك البقعة التي دبَّت فيها الحركةُ لاستقبال الضيوف .         
    أعلنتْ الساعةُ السابعة صباحاً عن أجراس الوجع وترانيم الصُّراخ وهو ينظر إليهم بارتيابٍ وخوفٍ وتتعالى منه صيحات (لا لا لا) ؛ وهم يتبادلون الضحكات ويتهامسون الإبتسامات .. يختبىءُ خلفَ أمه تارةً وتارةً أُخرى في تلك الحُجرة أو تلك ؛ كان صِراعهُ مارثونياً وهو يلوذُ بسطحِ المنزلِ مراتٍ ومرات أثناء فترة استراحتهم واستقبالهم كضيوفٍ يحتسون الشاي كما هي العادات .. إكتملتْ اللوازمُ وصار لِزاماً عليهم الكشفَ عن دستورهم وما يحملهُ من قوانين ، وما هو حُكم الراضخِ له أو العكس .. جهَّزوا كُلَّ ما لديهم أمام الجمع العائلي الذي اندهش لصبرهم وصلابة قلوبهم .. بدأ العدُّ التنازلي وارتفعتْ الهلاهل لتغطية ما يتوارى خلفَ سِتار تلك الكواليس واقتادوا البطلَ حيدر ليصنع لهم التاريخ وأجلسوهُ على أريكةٍ مُزينةٍ مُعطرةٍ ومُحاطةٍ بأصناف الألعاب التي اقتنوها لهذا اليوم .. عندها رُفع السِّتارُ وبات المخبوءُ مكشوفاً عندما أُعلن الخَاتِنُ بدء الإحتفال بخِتان حيدر وفصل اللَّحمة الزائدةِ وإلقائها في جُبِّ الماضي ليبدأ عصرٌ جديدٌ ليس فيه ألمٌ ولا تقرُّحات ولا عُسرٌ في البول .. صِراع الهلاهل فرحاً والصَّرخات وجعاً خيَّمتْ على المكان ونتيجة تلك الحربِ إرضاءُ الخاسرِ الفائزِ بفرحٍ عَارمٍ يعمّ أرجاء الزُّقاق كُلّه ، وتُدوَّن هذه الفعاليَّة في سِجلات الذكرياتِ لتبقى شاهدةً على ذلك الصِراع الأزلي ... لم تبدأ الأغاني ولا الدَّبكات والرَّقصات إلى الآن ؛ لأنَّ بطاقة الدعوة كُتب فيها  سيبدأُ الاحتفالُ في تمام الحاديةِ عشرة وينتهي بوجبة غداءٍ دسمة ... فُرصةٌ سانحةٌ لي ولأصدقائي لنتجهَّز باناقةٍ كَاملةٍ ونُشاركَ ركبَ الجموع فرحهم ونُزيح عن البطلِ المغوار ضجرهُ ووجهه ..
     إستنهضتُ هِممي وترجلتُ فارساً نحو الحمام لأزيل بفيضِ الماء هُموم الليلةِ الماضية ؛ ليلةٌ غزتني فيها الأحلامُ والكوابيس ؛ ومَدَّت يدُ التأملات يدها لعِنان أفكاري واخذتها بجوْلةٍ تتلاطمُ فيها أمواجُ المُتناقضاتِ وأشكالُ الخُرافات .. تذكرتُ وأنا أُقلِّب اللُّقمة في فَمي وأرسلها بين اليمين واليسار ذلك المجنون الذي كان عالماً بكلِّ شيءٍ يُحيط به ؛ بل يتفوَّه بكُنه الأحاسيس ودِراية المُستقبل ، أو ذلك المكفوف الذي كشفَ خِيانة زوجته وأبصر الخائنَ الذي احتل مكانه ، وأرسل الخَائنة إلى عاصفةِ الهلاك ؛ قُلتُ في سِرِّي ماذا يُريد جُبران خليل جُبران من هذين البطلين ؟ ولماذا هذا التخالف والتَّضاد ؟ آآآآه هي حِممٌ وستهدأُ حتماً .. أكملتُ مُتعلقات ما نويتُ عليه وأصبحتُ مُستعداً لِمُلاقاة حلبة الهزل . وبينما أنا مُنشغلٌ بتقليب الصور في ألبومي الخاص ارتفعتْ فجأة الزغاريدُ والهلاهلُ وعلا الصَّخبُ في الزُّقاق ؛ تفرَّستُ في الساعةِ واذا هي تُشيرُ إلى العاشرةِ إلاَّ رُبع وهو ليس مَوعد الإحتفال ؛ خلتُ أنَّ الأمرَ زحفَ بوقته لإلحاح النُّسوة التوَّاقاتِ لنيل شرف المُشاركةِ والتحمَّس لاظهارِ زينتهنَّ وبعض من خفايا أجسادهنَّ ، لم تكن الهلاهلُ صادرةً من مُتفرقات ألسُن النُّسوة في منزلِ أم حيدر ؛ بل هي تصدحُ بالمكان كُلِّه نتيجة تجمهر الحُشود ، نظرتُ من النافذةِ المُطلَّةِ على الحديقةِ الصغيرةِ التي توسَّطت مجموعة العِمارات السكنيَّة وإذ بسياراتٍ كثيرةٍ إكتظ المكانُ بها تصطفُّ هنا وهناك ؛ ونزل منها رجالُ يبكون ونساءُ ترفع الهلاهل ... نزلتُ مُسرعاً نحو هذه الدِّراما عَلَّني أفهم ما يحصل واذا بالحُشودِ لم تكن في منزلِ أمِّ حيدر ؟ ما الذي جرى ؟ ما هذه الرائحةُ النَّتنةُ التي عَبَّئت السماءَ ؟ ولماذا تتراكضُ النساء وهُنَّ يَحملنَ قَناني العُطور الزَّكية مُتَّجهين نحو باحة حديقة المَنطقة العامة ؟ وصلتُ إلى مُبتغاي وأنا ألهثُ من شدِّ الفزعِ والركضِ السريع لأجد مصدر تلك الرائحةِ التي تُشبه شِواء اللَّحم ؛ وهو تفسخ جَسد جارنا ظافر في معركةِ شرق البصرةِ الأخيرة  ؛ حتى إنَّ قنانيَ العُطور التي رُشَّت عليه لم تعد تقوى على طَردِ لعنة تلك الرائحة ... منزلان مُتجاوران هُنا خِتانٌ وفرحُ وهُنا موتٌ وجزعٌ ، إحتار النَّاسُ كيف يواسون أم ظافر ويهنؤون أم حيدر .. إنتهتْ مراسيمُ البكاءِ والتشييع وسِيقَ البطل إلى مثواهُ المحتوم مُتوَّجاً بالبطولة ، وظلَّ حيدر يُصارع ألمهُ من دون فرحٍ يُطفىء جمر لَحمه المُلتهب ، أو هَلاهل تُسعده . 
د. سامي شهاب الجبوري
جماعة كركوك النقدية

د. سامي شهاب الجبوري