عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - المطران بشار متي وردة

صفحات: [1]
1
مقالات في القيادة
اللقاء الاول
القيادة الرعوية في ظل جائحة كرونا

المطران بشار متي وردة
رئيس أساقفة ايبارشية أربيل الكلدانية
المُقدّمة
كشفت أزمة جائحة كرونا عن الحاجة إلى التأمل عميقاً في أبعاد الخدمة الرعوية للكنيسة، ومضمونها وعن المواقف التي على الخدام الرعاة التحلّي بها. لا ينكر أي مؤمنٍ أهمية حضور الخادم الرعوي (الأسقف والكاهن أو المكرس) ومكانتهِ في ديمومةِ مسيرة الإيمان في الجماعة وإنعاشها لاسيما في مثل هذه الظروف، التي شكلّت تحدياً كبيراً للإكليروس أنفسهم وصلت بهم الى مرحلة التساؤل حول معنى تكريسهم الكهنوتي وفعاليتهِ، وحتّى مدى ضرورته لحياة المؤمنين.
فقد وجد هؤلاء الخُدّام، وعلى نحو مُفاجئ، أنفسهم من دون رعيّةٍ يلتقونها وجهاً لوجهٍ، وممنوعين من الإحتفال بالليتورجيا أو القيام بفعاليات وأنشطة رعوية تخدم المؤمنين. البقاء في البيت أثارَ في أنفسهم تساؤلاتٍ كثيرة منها: مَن أنا؟ وما نفعُ خدمتي الكهنوتية إن لم أحتفل بالذبيحةِ الإلهية وبقيّة الأسرار؟ وهل يُمكن إستبدال الإحتفالات الليتورجية في الرعايا، بمجردّ قداس يُنقل عبر شبكات التواصل الإجتماعي؟ وما الذي يُميّز لاهوت الكهنوت في الكنيسة الكاثوليكية؟ وما الذي يُمكن أن يُقدّمهُ للكنيسة وللمؤمنين في مثل هذه الظروف العصيبةِ؟ ولا أبالغ إذ أقول أنَّ بعضهم خلقَ لدى المؤمنين والناس عامةً تساؤلات مُشكِّكة بسبب مواقف وسلوكيات وفعّاليات وأنشطة قدّمها هؤلاء بحسن نيّة، إلا أنها افتقرت إلى أُسس كتابية أو لاهوتية رصينة.
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها كثير، سنتامل، ومن خلال سلسلةِ مقالات قصيرةٍ، في حياة الكنيسة الأولى، ونتوقف عند أحداثٍ مهمّةٍ شكلّت تحديا للكنيسة قيادةً ومؤمنين، ونحاول أن نُصغي إلى الدروس المهمّة فيها لنتعرّف على شكّل القيادة في الكنيسة في مثل هذه الظروف.
بولس: رسائل من الحبس
وصلَ بولس إلى روماً مُكبلاً لا يُسمَح له بلقاء جماعةِ المؤمنين فيها، ومحروماً مقاسمة الكلمة وكسر الخبز معهم، واعياً أنَّ عليه التحضيرَ لمواجهةِ محاكمةٍ ولربما الُحكمُ بالإعدام بسبب اختيار المسيح يسوع له. هذه الحالة لم تمنعهُ من تمييز الخدمة التي يُريدها الله منه في الظرفِ الذي يعيشهُ، ولم تكن السجونُ بأحسنِ حالٍ مما هي عليه الآن، فصلّى ودرس كلمة الله وقدّم للكنيسة رسائل مهمّة من حبسهِ. تأمل واستعرض فيها معنى أن يكون مؤمناً بالمسيح: "لماذا هو عبدٌ للمسيح ورسولٌ له لإعلان البُشرى السّارة؟ (روم 1: 1)، ما أهمّيةُ أن يكونَ الإنسان مسيحياً؟ وما الذي يُميّزهُ عن غيرهِ من الناس؟ أهي أفكارٌ أم رؤيةٌ أم سلوكٌ أم رؤيةٌ للحياة؟
لم يخلق الحبس أزمةَ إيمانٍ لدى بولس، بل حفّزته هذه الخبرة العصيبة ليُراجع حياتهُ كلّها لاسيما لقاءه ربّنا يسوع الذي انتشلهُ من موقفِ "الفريسي المُكمِل للشرائع" ليكونَ "المعلّم والمتأمِل في كلمةِ الله". لم يمنعهُ حبسهُ من أن يواصِل تبشير الحُراس أنفسهم، فدخلَ معهم في نقاشاتٍ نالت إستحسانهم، كما لم ينل الحبس من الفرح الذي يختبرهُ لأنَّ ربَّنا يسوع المسيح كان قادرًا على تغييرِ حياتِهِ كلِّيًّا. وعبارةُ الفرحِ هي أكثرُ العباراتِ المتكرِّرةِ في رسالته إلى كنيسة فيلبي (14 مرَّة). فعلى الرَّغمِ من أنَّهُ كان يُعاني من الحبسَ والضِّيقَ والاضطهادَ والعوزَ، وهو مُكبَّلٌ بالأغلالِ، إلاَّ أنَّهُ كان قادرًا على أن يجدَ ما يُفرِحُ قلبَهُ ليشكرَ اللهَ عليه.
هنا، نكتشِف النُضج الإنساني والروحي الذي ميّز بولس كقائدٍ فلم يجد صعوبة في التخلي عن القيادة الإدارية والتوجيهيةِ للجماعةِ، لتكونَ هذه الفترة فرصة للتبشير عن بُعدٍ وتوجيه شعبهِ، وشجّعهم ليواصلوا المسيرةَ ليُوقِظَ فيهم، ومن وسطِ الشدائد الرجاء الذي لا يُخيّب (روم 5: 2- 5).
القيادة: القُدرة على التعلّم والتعليم
الكنيسة( أساقفة وكهنة ومكرسين) مُلزمةٌ دوماً، لاسيما في الأوقات الحرجةِ أن تعلّم المؤمنين وتعرّفهم على دعوتهم ومضمونها، ولماذا هم مُميزون في إيمانهم؟ أن تساعدتهم في الاجابة عن السؤال: لماذا أنا مؤمن بالمسيح يسوع، والذي يسبق السؤال: كيف لي أن أُظهِر إيماني بالمسيح يسوع؟ فالسؤال الأول هو سؤال "الهوية" ويحمل معه حياة الروح، والسؤال الثاني هو سؤال "المظهَر"؛ إمكانية التعبير عن الهويّة، وهو آني ومؤقت ومتغيّر، ومؤسسٌ على جواب السؤال الأول.
بولس، قدّم للمؤمنين "الهوية" التي تجعلهم يستوعبونَ معنى كل ما يختبرونه من شدائدَ، وكيف يُمكن أن تكون هذه التحديات فرصة للنمو في الإيمان وإنتعاشهِ. علّم جماعة الإيمان أنَّ إنجيل ربّنا يسوع يتجاوز أُطر اليهودية ومُشترعاتها ليستوعِب الجميع، وهو، أي الإنجيل، يتطلّب إستجابة أمينةً في حياة كلِّ مَن يقبلهُ. لم تكن الطقوس والليتورجيات ذات أهميّة مقارنةً بالدوافعِ التي تجعلنا نُكرِمُ الله على نحو يُميّزنا عن غيرنا. كتبَ موجهاً على ضرورة الاستعداد المُلائم للإحتفال الأفخارستي (1: كور 11: 17- 22)، إلاّ أنَّ الأمرَ الأهم كان: لماذا هذا الاحتفال؟ وما أثرهُ في حياة الجماعةِ؟
   
بذلك كشفَ عن ميزة أساسية لكلّ قائدٍ رعوي وهي القدرة على إكتشاف مسؤوليته في الحاضِر الذي يجد نفسه فيه من أجل خير مَن يقودهم، حتّى لو اُضطُرَ إلى تغيير جذري في أسلوب القيادة من أجل رفاهية حياةِ الآخر الذي يتبعهُ، فلكلَّ قائدٍ فردٌ أو جماعةٌ تتبعهُ. ليس المهم أن يكون الخادم الرعوي، وهو قائدٌ لجماعةِ الإيمان، مؤدياً للطقوس التي يجب أن تتوفّر لها أجواء ملائمة، بل الأهم هو قُدرتُه على تعليم الجماعة وتثقيفهم ليحتفظوا بحماسةِ الإيمان في ظلّ الظروفِ المُحيطةِ بهم، وبذلك يكون لخدمتهِ القيادية معنى وتأثير في حياة الجماعةِ. عليهِ أن يكون مُبدعاً في التعبير عن جوهرِ الإيمان ومُصداقيتهِ، إيمان يُبشّر الحضارة والمجتمع ويُؤثِر فيهما، لا أن يتأثر هو بهما. الإتكاء على الطقوس يُعبّر أحيانا، وأقول أحياناً، عن عجزٍ في تفهّم واقع جماعةُ الإيمان وحاجاتهم الروحية والرعوية، فتُصبح الطقوس والممارسات الرعوية المُعتاد عليها ملجأً آمناً للخادم الرعوي، وكأنها هي هويّته.
إنّه قائد، بمعنى، هو باحِث دوماً عن كيفية أن يكون "مؤثراً: قيادة" وليس "قوياً: سُلطة" مثلما يسعى الملوك والسلاطين، ليزرع في قلوب الجماعة الرجاء والعزيمة من خلال وضوح الرؤية، وعندما ينجح في أن يكون مُعلماً ومُثقفاً، عندها، فحسب، سيكون قادراً على تغير حياة الجماعة لتستقبل جديد الله. فإستخدام القوّة المتسلّطة بكلّ أشكالها أمرٌ مُحبطٌ للغاية ويُعيقُ نمو حياةِ الإيمان لدى الجماعة الكنسيّة، بخلاف التأثير فيهم عبر التثقيف والتعليم إذ يجعلهم ينضجون على نحو إنساني وروحي.

 

2
أزمة البارات والكافتريات في عنكاوا ... كيف لنا إنهاء الأزمة

هي أزمة مزمنة بكل معنى الكلمة، فهناك أكثر من 140 مرفق سياحي وترفيهي في عنكاوا، وكلّها مرخص من قبل دائرة السياحة في محافظة أربيل، وسيزداد العدد مع السنوات القادمة مع إكتمال المرافق السياحية والترفيهية التي هي قيد الإنشاء، إذا لم تتخذ إجراءات صارمةٌ بهذا الخصوص. 
ناشدتُ شخصيا وعلى نحو شفهي ومكتوب ومنذ تموز 2010 لوضع قواعد وضوابط تحد من زيادة هذه المرافق السياحية والترفيهة في منطقة سكنية لها هوية متميزة مثل عنكاوا، من خلال الإلتزام بالقوانين المرعية وإيقاف منح رخص جديدة، ولم تلقَ مناشداتي آذاناً صاغيةً لدى المعنين، بل إزداد عدد الفنادق والمطاعم والكافتريات والموتيلات على نحوٍ غير مسبوق.   
الشكر كل الشكر لكل الذين ساندوا ودعموا هذه المناشدات، لاسيما شبابنا الغيارى، الذين وبشهامة مسيحية عالية طالبوا في أكثر من مناسبة بوضع حدّ لهذه الظاهرة المُسيئة لبلدة مسيحية عريقة في التاريخ، لتتجلّى  صورتها الحقيقية، بلدة لها أثر وتأثير ثقافي متميّز وتمتلِك كفاءات يُشار إليها دوما، ولكن لم يكن هناك إستجابات جديّة لهذه المُطالبات.
اليوم، في بلدة عنكاوا، هناك 40 محل لبيع المشروبات الكحولية، 16 مطعم، 6 أندية إجتماعية، و30 كافتريا، 40 فندق وموتيل، و12 بار، 6 قاعات للحفلات والأعراس. وهذه مرافق سياحية وترفيهية كثيرة العدد ومُبالغ فيها، بالنسبة لحجمِ بلدة صغيرة مثل عنكاوا. إضافة إلى عدم إلتزام بعضها بضوابط ممارسة المهنة وفسح المجال أمام ممارسات غير أخلاقية غريبة عن مجتمعنا المتحضّر. فصارَ لزما علينا جميعا، وحفاظاً على سلامة العيش في عنكاوا والمحافظة على قيمها الإجتماعية الرفيعة العمل معاً، بعيداً عن المزايدات الإعلامية، للحد من تفاقم هذه الأزمة.   
السؤال هو: كيف لنا أن نواجه هذه الظاهرة على نحو سلمي وماهي الإجراءات التي يُمكن أن تتخذها الحكومة للحد من زيادة عدد هذه المرافق السياحية ولما لهذه الظاهرة من أثار سلبية على المجتمع خاصّة العائلة؟
1.   أن نتكاتف جميعاً لمواجهة هذه الأزمة المُهينةَ وإستغلال كل القنوات والعلاقات التي لنا مع المسؤولين والمعنيين وذوو العلاقة لمواجهة هذه الظاهرة المُسيئة لنا، كلٌّ حسب تخصصه ومسؤولياتهِ. فليس من المعقول أن نلقي كل المسؤولية على جهةٍ معينة دون أخرى، وليس بمقدور الكنيسة وحدها القيام بهذه الإجراءات الإدارية بسبب وجود قوانين وتوصيات تعيق مثل هذا التوجه. علينا أن نُشكل فريق ضغط متعدد الجوانب والجهات موحدين في موقفنا في ضرورة إنهاء هذه الحالة الشاذة إجتماعياً. الكنيسة كمرجعية روحية وما لها من علاقاتٍ مع الحكومة، والدوائر الحكومية المعنية في عنكاوا وأربيل، ومنظمات المجتمع المدني كصوت صادق للشارع ولهمومهِ، والإفراد من خلال علاقاتهم الجيّدة في المجتمع الأربيلي ومع المسؤولين. هكذا، تتوحد جهودنا جميعاً نحو تحقيق هدف واحدة: سلامة بلدتنا عنكاوا الدينية والإجتماعية والثقافية. 
2.   أن تلتزم جميع العوائل الساكنة في البلدة بعدم تأجير ممتلكاتها لمثل هذه المشاريع السياحية، إذ تعود ملكية معظم محلات بيع المشروب والمطاعم والكفتريات والفنادق والموتيلات والبارات وقاعات الأعراس إلى عوائل مسيحية من عنكاوا (89 مُلك)، شقلاوة (12) وكرمليس (1) وبغداد (7) والموصل (1) وأربيل والبصرة. ويديرها متعهدون تختلف إنتمائاتهم العرقية. علينا أن نُجمِع على قرار واحد وحاسم إزاء هذه الخطوة.
3.   أن تلتزم الدوائر الحكومية في عنكاوا ومديرية سياحة أربيل بإيقاف منح رخضة العمل (إجازة) لمحلات بيع الكحول والبارات والمطاعم والنوادي الليلية والفنادق. مثلما فعلت وزارة التربية بإيقاف منح رخص فتح المدارس الأهلية لضبط مسيرتها التربوية ومتابعة شؤونها عن كثب وضبط المخالفات.   
4.   الإلتزام بالضوابط التي حددتها الدوائر الحكومية ذات العلاقة فيما يتعلّق برخصة العمل لمحلات المشروب بيع الكحول والبارات والمطاعم والنوادي الليلية القريبة من الكنائس والمدارس ضمن المسافة المسموح بها.
5.   الإلتزام بالساعات المحددة للعمل في بلدة سكنية ضمن عنكاوا ومتابعة الدوائر الأمنية لهذه الضوابط وسحب رخصة كل مَن لا يلتزم بذلك.
6.   إعادة النظر في الرخص الممنوحة لمحلات بيع الكحول والبارات والمطاعم والنوادي الليلية والفنادق وبيان مدى إلتزامهم بضوابط الرخصة، وغلق المخالفين للضوابط حتّى لو كانت مدعومة من شخصيات حقيقة أو وهيمة ومُخيفة للبعض.
7.   أن تتعهد العوائل بالتبليغ عن حالات البيع الغير المرخض للمشروبات الكحولية خارج الأوقات المحددة من قبل الناحية، وإلزام الجهات الحكومية ذات العلاقة غلق المحل وسحب إجازة المخالفين، وبخلافة تُقدم شكاوى للجهات الحكومية ذات الصلاحية.
8.   أن تعمل العوائل على إنهاء حالات الفساد الأخلاقي من خلال التبليغ المكتوب والخطي إلى الدوائر الأمنية المعنية حول ممارسة الدعارة في أي بيت أو فندق أو مرفق سياحي في عنكاوا. تصلنا شكاوى ونقوم بالتبليغ عنها، ولكن، نحن بحاجة إلى تكاتف إجتماعي يُشكل ضغطاً قوياً على المعنيين لإنهاء هذه الحالة المُشينة.   
9.   أن تقوم الأندية العائلية بتقديم أسماء العوائل المُشتركة في أنديتها العائلية إلى إدارة الناحية للمُصادقة عليها، وحصر حضور هذه العوائل لهذه المرافق الإجتماعية ضمن ضوابط تلتزم بها إدارة هذه الأندية، ويُمكن للعائلة المُشتركة في أي نادي عائلي التردد إلى الأندية العائلية الأخرى.
إني أدعو الجميع للتكاتف معاً لمواجهة هذه الآفة الخطيرة على مجتمعنا، وأنا واثق من أننا قادرون على تغيير هذه الواقع المرير. توجيه الإنتقادات والتطاول على هذا وذاك وإختلاق الأكاذيب لن يحل المشكلة، وإهمالها سيُزيد من شرورها وأثارها السلبية على عائلاتنا جميعاً.
الكنيسة في أربيل ستبقى داعمة لمثل هذه المبادرات التي تهدف إلى المحافظة على القيم العائلية التي تربينا عليها، مرحبين بكل خطوة من شأنها معالجة الأزمة بواقعية وعقلانية.
المطران بشار متي وردة
رئيس أساقفة إيبارشية أربيل الكلدانية



3
الجامعة الكاثوليكية في أربيل (ECU)
((We believe that change starts here))
(( نحن نؤمن بأن التغيير يبدأ من هنا))
الاسباب الموجبة:
نظراً لأن المسيحية في العراق خصوصاً، وفي المشرق عموماً تعيش مرحلة مصيرية خطيرة من تاريخها، تجعل وجودها ووجود المؤمنين بها أمام تهديد حقيقي، ونظراً لنزيف الهجرة الذي يجعل قضية وجودنا على أرض اجدادنا مسألة في غاية الخطورة، ونظرا للتحديات الكبيرة التي تواجه شعبنا في ارض ابائه واجداده حيث يواجه تقتلع جذوره، وتُقهَر ارادته، وتمحى ذاكرته، وتُمزّق هويته، تأتي الجامعة الكاثوليكية في اربيل لتسهم في انقاذ ما يمكن انقاذه للحفاظ على هذا الشعب وهويته الحضارية والثقافية وتراثه الغني بوصفه مؤسساً لحضارات عريقة مرت على أرض النهرين والمشرق عموما، مهديةً الى العالم الحرف والابجدية والكتابة والعجلة والمدرسة والادب والموسيقا، وبوصفه جسراً انتقلت عبره الفلسفة اليونانية الى المشرق، ومنبعا غنياً أمدّ الشرق بالعلوم والثقافة والفكر طيلة قرون، وحاملاً (البشرى السارة) الى ارض النهرين ومنها الى محيطنا والى اواسط الشرق حتى الهند والصين، ناشراً روح المسيحية عبر الشهادة.
إن الجامعة الكاثوليكية في اربيل(ECU) تأتي لتقول لمن يريد ان يطرحنا خارج دائرة التاريخ: إننا سنبقى، فجذورنا راسخة في عمق هذه التربة منذ الاف السنين، فما تحت الارض وفوقها ينطق بما أبدع فكرنا، وخلقت أيدينا، وبالدماء التي سالت لتكون شاهدة وشهيدة على عمق رسوخنا، ونصاعة ماضينا الذي نستلهم منه لتجاوز محنة حاضرنا لنعبر الى ضفة المستقبل بالسلام والتعايش والتاخي.
المهمة:
الجامعة الكاثوليكية في اربيل(ECU)، هي مؤسسة مسيحية كاثوليكية، تستوحي حياة يسوع المسيح وتعاليمه، تعزز التعلم  ضمن التقاليد الكاثوليكية والقيم المنبثقة عنها، بالاستناد الى ارضية كنيسة المشرق العريقة والغنية بتراثها وفكرها الروحي، تهدف الى التفوق الاكاديمي، وتوسيع المعرفة الليبرالية والمهنية وخلق مجتمع متنوع وشامل، واعداد قادة مختصين اخلاقيا ووجدانيا واداريا لخدمة المجتمع والصالح العام، قادرين على الانخراط في عالم متنوع ومتغير، وتسعى الى النمو المتوازن في العقل، الجسم والروح  لكل اعضاء مجتمعها، وتقدم المعرفة والمهارات اللازمة لتحقيق النجاح كأشخاص وكمهنيين، تربي الطلاب على تحمل المسؤوليات مدى الحياة نحو الرب، والمجتمع والذات، وتهدف - في جو من الحرية والكفاءة الاكاديمية-  الى اكتشاف الحقيقة ونقلها من خلال التميز في التدريس والبحث، خدمة للكنيسة والوطن والعالم.
وتميز الجامعة نفسها على أنها متنوعة ومفتوحة أمام الايديولوجيات الاخرى، تستقبل الطلبة والتدريسيين والموظفين من مختلف التقاليد والخلفيات الدينية، في جو من الثقة والامان والاحترام في مجتمع يتميز بالتنوع الغني في الناس والافكار. تدعم التنمية المستدامة  للطلاب والموظفين والمجتمع في التفاعل المتبادل، وتسعى إلى التميز دائما للحصول على أفضل النتائج من الجميع، مراعية الجودة العالية والصرامة الاكاديمية، ومستفيدة من الموارد الثقافية والفكرية والاقتصادية للمنطقة وتنوعها، والارضية الحضارية والتاريخية التي يقف عليها شعبنا بوصفه مؤسساً للحضارات العظيمة التي تناوبت على هذه الارض المعطاء، ولدوره الفاعل في ديمومة هذه الحضارات، لاثراء برامجها التعليمية وتعزيزها.
الرؤية:
تطمح الجامعة الكاثوليكية في اربيل(ECU) لتكون جامعة مدنية بمنظور عالمي تسعى من خلاله الى اعداد قادة مهيئين اخلاقيا ووجدانيا ومهنيا لتشكيل عالمهم المحلي والوطني، ليكون اكثر عدلا وانسانية وكرامة.
 وتهدف الجامعة الكاثوليكية في اربيل(ECU)  لإعطاء الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الفرصة لاكتشاف مواهبهم ومواصلة تطوير هذه المواهب. ونحن نعتقد بقوة أن العمل الجماعي يسمح لكل من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس لاكتساب الكفاءات مثل المعارف والمهارات والخبرات والمواقف التي لا غنى عنها في سياق العمل وكذلك في السياق الأوسع لمجتمعنا، واهم هذه الكفاءات هي القدرة على بذل الجهود لأولئك الذين، بسبب ظروف معينة، ليسوا قادرين على تطوير كامل مواهبهم.
القيم الاساسية ( Core Values) :
•    مجتمع العائلة: في سعيها لتنفيذ مهامها ترحب الجامعة الكاثوليكية في اربيل(ECU) بالطلبة واعضاء هيأة التدريس والموظفين، وتهتم بهم كأعضاء متنوعين ولكن مترابطين في عائلة واحدة. إن المجتمع يتوحد بمهمة مشتركة، الجامعة تخلق فضاءاً من الاهتمام المتبادل والانتباه الى الاحتياجات الروحية والفكرية والاجتماعية والعاطفية والمادية لجميع اولئك الذين تقوم بخدمتهم.
•   الكرامة: تؤكد الجامعة الكاثوليكية في اربيل(ECU) على كرامة الشخص من خلال الانفتاح على وجهات النظر المتعددة، الخبرات والتقاليد، الانتباه الشخصي، الحوار المتبادل في عملية التعلم والتفاعل بين اعضاء المجتمع الجامعي، بوصفها مكونات اساسية لجودة التعليم.
•   التنوع: تسعى الجامعة الى غرس تقدير الاختلافات واحترامها كي يتمكن خريجوها من العمل بنجاح في سياقات متعددة الثقافات.
•   البعد الاخلاقي: النية على تربية الاشخاص على النزاهة، بحيث يدركون أهمية التعلم مدى الحياة. تدعو الجامعة الى السعي الحر والمستند الى الضمير من اجل الحقيقة، والاستخدام المسؤول للمعرفة. إنها تبني التعليم على أساس الفنون الحرة التي تسلط الضوء على العلوم الانسانية والطبيعية والاجتماعية. وتماشياً مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية تهتم الجامعة بالقيم الاخلاقية والعدالة الاجتماعية وتستند اليها في برامجها وأنشطتها.
•   الخدمة: ترفع الجامعة شعار(( أنا مقيّد بمسؤولياتي)) في البرامج المنهجية والمشتركة  واللامنهجية. الخبرات التعليمية في الجامعة تعمل على تطبيق النظرية لتجربة لتخدم الحاجات البشرية. الجامعة تربي الافراد ليصبحوا أكفاء مهنيين ومواطنين مسؤولين.
•   الحقيقة: تسعى الجامعة الى ان تغرس في الطلبة شغف الحقيقة والالتزام من اجل السعي الى الحكمة. إنها تشجع التعليم المبني على القيم، المنح الدراسية الابداعية، الاستخدام البليغ والخيالي للبحث والتكنولوجيا، وفرص التعليم العملية. وتسعى الجامعة الى تعزيز التفكير الاخلاقي، المنطقي الخلاَق؛ لتطوير مهارات الاتصال الفعّال؛ ولتنمية الاحساس الجمالي؛ ولتعميق الوعي العالمي والاجتماعي والتاريخي.
•   الانسنة: تنظر الى التعلم بوصفه أنسنةَ ونشاطاً اجتماعياً، أكثر من كونه ممارسة تنافسية.
•   العقل والايمان: رؤية الجامعة للتعليم تنطلق من كونه تبادلا ديناميكيا ومثمرا بين المصادر التقليدية للحكمة والتطورات المعاصرة للمعرفة. تسعى عبر عمليات التعليم والتعلم الجامعة الى تجسيد وجهات النظر الفلسفية واللاهوتية المسيحية. إنها تقدم التربية المتأصلة في النظرة الكتابية (البيبلية)، التي هي الأساس الذي تقوم عليه معالجة المشكلات المعاصرة ولبناء رؤية للمستقبل.
•   الامانة: إن التزام الجامعة بالتميز يتطلب أن يعيش أعضاؤها رسالتها ويكونوا اوفياء لوعودها. اعضاء هياة التدريس والموظفين والطلبة يتعهدون ليكونوا امناء، منصفين، ومتوافقين في القول والفعل.






4
حضرة الأخ العزيز الأستاذ أمير المالح

بكل أسف تلقينا نبأ وافاة الأستاذ سعدي المالح يوم أمس، والذي سيترك فراغاً في الأوساط الثقافية، والتي سعى ليرسم فيها أسلوبه الخاص والمميّز، وحقق فيها إنجازات قيّمة.
لقد إجتهد المرحوم ليثبت مؤسسة ثقافية تستوعب كل الثقافات مهما تمايزت واختلفت، لاسيما فيما يتعلّق بحضارة شعبنا وإرثه الغني، فبادر بعقد حلقات دراسية وأنشطة ثقافية للتعريف بحضارتنا وإسهاماتها الكبيرة.
تقبل أخينا العزيز تعازينا القلبية، مشفوعة بصلاتنا لتكون خاتمة الأحزان عليكم. متمنياً أن تنقلوا تعازينا إلى العائلة جميعاً.
بارككم ربّنا بالتعزية والسلوان وأنعم عليكم بسلامهِ محبتهِ.

المطران بشار متّي وردة
رئيس أساقفة إيبارشية أربيل الكلدانية

5
المنبر الحر / الرسالة الراعوية
« في: 12:52 10/07/2013  »








6
تأمل للميلاد
ليكون ميلاد هذا العام مميزاً بالرؤية

 
وإليكم هذه الهلامة: تجدون طِفلاً مُقمّطاً مُضجعاً في مذودٍ (لوقا 2: 12)
 
هذه هي العلامة التي أشار إليها ملاك الرب وهو يُبشّر الرعاة الذين يبيتون الليل ساهرين على رعيّتهم. علامة غريبة نوعاً ما، ولكنها علامة مألوفة لنا، كيف؟
ماتحملّه إلينا الأخبار يومياً من أنباء حروب واقتتال ونزعات يجعل هذه العلامة مألوفة. فلطالما تركت هذه النزعات، وهذا الاقتتال وتلك الحروب العشرات، بل قُل مئات المُضجعين على الساحات والشوارع من دون كرامة أو قماط إنساني. ألم نلحظ ذلك؟
ما تتناقله الفضائيات عن صرعات عنصرية وحرب عصابات وإجرام يُخلّف ورائه عشرات الضحايا البرئية، يبكوّن ما قاسوه من ظلم ومهانة من دون سند أو عدالة. ألم نسمع بذلك حتى الآن؟
وغيرها كثير من خبرات تمر بنا أو نمر بها ونُريد التهّرب منها لأنها تتطلب تحّركاً وإلتزاماً مسؤولاً منّا وجُلَّ ما نستطيع الإقدام عليه: تصريحات جوفاء لا نؤمن بها شخصياً، بل تأتي على سبيل الواجب والضرورة الإعلامية ليس إلا. ألم نرى ذلك؟
لماذا كل هذا التنكر للحقيقة: ربنا مُصجعٌ في مذودٍ يُاشرك الإنسان آلامه، فهل سألنا أنفسنا يوماً: لماذا يرى غُيرنا ما لا نلاحظه نحن؟ أين المُشكلة؟ هل أن الآخرين يُبالغون أم إننا عُميان؟
الجواب في بدء القصة: رُعاة الميلاد كانوا ساهرين، مُتيقظين، وحالنا نيامٌ أو في غفلة مُتعمدة، والنائم يفوته الكثير. فالسهر هو ما يجعل الرؤية ممكنة. نحن متعوّدون على السهر ولكن لنُرّفه عن أنفسنا وبالتالي نبتعد عن كل ما يُزعجنا ويُقلق راحتنا. وإذا ما أُضطررنا لننتبه إلى الآخرين فوَجَبَ أن يكون بأقل التكاليف النفسية والإجتماعية والمادية. كيف لا وكُلٌّ منّا يُفكّر بخلاص نفسه.
سأل البابا يوحنا الثالث والعشرون كبار مستشاريه من الإكليروس: "ماذا تظنون عن الهدف من الحياة؟" فقدم مستمعوه – وهم مكبار اللاهوتيين آنذاك- العديد من الأجوبة من كتب التعليم المسيحي الأساسي والتقليد اللاهوتي كُلّها تؤكد على أن الهدف من الحياة هو: "أن تعرف، أن تُحب، أن تخدم الله في هذه الحياة لكي تكون سعيداً في السماء وإلى الأبد".
فإبتسمَّ البابا وهزَّ راسه، ثم أعطى هو الجواب: "صحيح ما تقولون، هدف الحياة هو أن تعرف، أن تُحِب، أن تخدم الله، ولكن هذا ليس كافياً. علينا أن نُساعد الناس ليعرفوا، ليُحبوا وليخدمو الله".
علينا أن نُساعد الناس ... كلمات تٌفسّر لنا معنى حدث الميلاد اليوم. ربنا جاء إلينا ليُساعدنا: لنعرف، لنُحب، ولنخدُم وهذا ممكن إذا ما كان فينا إستعداد للسهر، لمَن رضي الله عنه، واختبر هذا الرضى فلا يستطيع أن يحفظه لنفسه، بل ينطلق به لآخرين. رضى الرب الذي يدفعنا للإنطلاق.
قد تمنعنا خطايانا من السهر، الإصغاء والعمل، ولكن لنتذكّر أن أعظم تجربة يُمكن أن نُجرّب بها هو شعورنا بأن الله غير راضٍ عنّا، فلنجيء لعمل ما يُرضيه وفقاً لما نتصوّره هو الصحيح، وفي ذلك نُخطئ إذ نجعل الآخرين يدفعون ثمن تصوراتنا الواهية عن الله ومحبته وخدمته. في حين أن كُل ما يطلبه الربُ منّا هو قابلية السهر ليس إلا.
فلنسعَ، وكُلنا إرادة طيبة، لأن نستقطع من سهريات الميلاد وما يتبعها عشر دقائق لنسهر مع يسوع، نسمع بُشراه، نُصغي إليه، نراه في عيون ووجه الإنسان المُضجع على الشوارع والساعت من دون حب أو رعاية. ننتبه إلى شعبه: إخوتنا وأخواتنا، مؤمنين برسالته، مُنطلقنين وكُلنا عزيمة لنحمل للجميع هذا الخبر السار: المجد لله في العُلى، وعلى الأرض السلام للحائزين على رضاه (لو 2: 14).
 الأب بشار متي وردة للفادي الأقدس

7
نداء إلى شبيبتنا المسيحية

جميعكم يرى ويتلمس مدى حاجة شعبنا اليوم إلى مَن يقف إلى جانبه في أزماته. وأنتم يا شبابنا المُبارك بالغيرة والحماس والتقوى، أكثر الناس تحسساً لذلك لما تختبرونه من تحديات وفي مختلف المجالات. أنتم واعون أن مثل هذه الأوقات إنما هي أوقات نعمة إذ فيها يصرخ الله مثلما قالها لموسى: "إني قد رايت مذلة شعبي ... وسمعتُ صُراخه بسبب مُسَخريه، وعلمتُ بآلامه، فنزلتُ لأنقذه ... (خر 3: 7 – 8). فالرب يدعونا جميعاً لنلتزم مسؤوليتنا تجاه شعبنا الذي يبحث عن مَن يُكرسون له ذواتهم وحياتهم في خدمة أصيلة وصادقة ليرافقوهم في مسيرة الحياة الإنمسانية والاجتماعية والثقافية والإيمانية. وباتت هذه الحاجة تتعظم يوماً بعد آخر. ويكفيكم أن تتجولوا في قرانا المسيحية، وتزوروا كنائسنا في الداخل والخارج، ووتلتقوا أناسها الطيبون لتشعروا أن  ربنا يدعوكم من خلالهم لتتبعوه وتُرشدوهم لتبعاته، فتُسهوا أنتم أيضاً معه في شفاء جراح شعبه في تعبّد صادق ومُحب.

من هنا أوجه النداء إلى شبيبتنا المباركة وفي هذا الزمن الصعب حيث يسعى البعض لإسكات صوت الخدمة الكهنوتية والرهبانية بقتل وإضطهاد مكرسيه كما فعلوا مع ابونا بولس وابونا رغيد وشمامسته، وأهانوا غيرهم كثيرون. أوجه النداء إلى الشباب والشابات ليُفكروا جديا في تكريس الحياة الكلي في خدمة كهنوتية أو رهبانية في عهد شركة مع ربنا لحمل بُشرى إنجيله إلى فقراءه. دماء الشهداء، ودموع المٌضطهّدين، رعاية الأب بولس وإبتسامة الأب رغيد كلها دعوة من إلهنا وملكنا لنكون معه ومع شعبه.

كما وأطلب من الجميع حثَّ أبناءهم وبناتهم عبر التشجيع والكتابة والإعلان والإعلام ليكون لشعبنا خُدام كما يليق بتاريخ وأرث ومكانة كنيستنا. رعاية الدعوات ونمّوها ليست مسؤولية الكنيسة فحسب، بل مسؤولية الأب والأم والأخ والأخت والصديق، وكل مؤمن مُلتزمٌ بإيمانه ويُريد لهذه الكنيسة أن تنمو وتأخذ دورها ومكانتها.

فإلى كل مَن أنهى الدراسة الإعدادية بكل فروعها فما فوق، ويشعر بأنه قادرٌ على أن يُسهم بما أعطاه الله من نِعمٍ وبركات، ويحس أنه مدعو للتباعة في طريق الخدمة له الإتصال بكاهن الرعية ليُدله حول كيف له أن يُواصل المسيرة. أو أن يتصل بنا في مقر الدير الكهنوتي المؤقت في عنكاوا (مبنى مطرانية الكلدان) وسنكون على استعداد للقاءه وسماعه وإرشاده، فننتظركم.

الأب بشار متي وردة المخلصي
مدير المعهد الكهنوتي البطريركي


8
المسيحيون خارج اللعبة

أخيرا كشف المرتبطون أو المتورطون في الشأن السياسي العراقي، سميهم ما شئت، عن نواياهم الحقيقية: فلا مجال لنا كمسيحيين في هذه البلاد، هذا ما يتمنوه اليوم قبل الغد. فأسماء المفوضية العليا المُنحازة للانتخابات تخلو من أي شخص يُمثلنا. لماذا؟
ببساطة لأنهم:

لا يعترفون بوجودنا ولا بانتمائنا الأصيل لهذا الوطن.
لا يعترفون بإسهامنا الإنساني والحضري والفكري والنضالي في هذا الوطن.
لا يعترفون بحقنا إذ أننا مواطنون من الدرجة الأولى.
لا يعترفون بكفاءاتنا الوطنية.
لا يعترفون بتاريخ النضال الطويل الذي خاضه أبناء شعبنا.
إنهم يُقرون بأن ليس لنا سند بلد إقليمي من دور الجوار أو غيره، فنحن عراقيون حالنا حال الملايين التي ابتليت بما يُسمى بالعراق الفئوي الجديد.

الكل يعرف أن جُلَّ ما سنفعله هو عبارات الاستهجان والاستنكار والتنديد ويُمررون ويُملون ما يُريدون من مقررات. المٌشكلة ليست فيهم، المُشكلة فينا نحن المسيحيين: إلى متى نبقى نستجدي حق الحياة في العراق. هم يقولون أنتم خارج اللعبة عام 2009 وبشكل رسمي. وسياسيونا وقادتنا الذين وبٌحسن نية صادقة، وبعزيمة ثابتة سعوا لتجاوز بعض الحقوق فلا يُثقلّوا أجندة الساسة، لأن لهم ما يكفيهم. سياسيونا ورؤساء كنائسنا أرادوا الإسهام الحقيقي في نشر حضارة التسامح والمُصالحة، فغضوا النظر عن مطالبنا، رغبة منهم في تسهيل سير عجلة الحياة في العراق، آملين في استقرار يجعل المطالبة بحقوقنا أمراً ديمقراطياً مقبولاً، ولكنهم اليوم هم أنفسهم مندهشون لهذا التهميش المفضوح.

فأسأل الآن كل الشرفاء من أبناء شعبنا: لما هذا الصمت لمثل هذه التجاوزات على أبسط حقوقنا؟ هم يقولوها: أنتم لا تُشكلون حتى رقما في المعادلة السياسية؟ وإذا كان لكم من مقعد فسنمُنُ عليكم به واسكتوا! فهل هذا ممكن؟ إلى متى نبقى صامتين في دولة الشعارات الفئوية ووباء المحاصصة السرطاني؟ أو لم يحن الوقت لتدويل قضيتنا، لأنهم يفهمون تسامحنا وصمتنا عجزاً؟ تهجير وإقصاء وتقتيل وتذبيح وقطع الأرزاق ... وغيرها كثير يطال العراقيين اليوم، ولكن لم نشهد لأناس يُريدون إقرار مستقبل البلاد من دوننا، فماذا ننتظر؟ مؤشر خطير علينا جميعاً أن نوحّد الجهود للوقوف صفاً واحدا مُعلنين: نحن عراقيون شئتم أم أبيتم.

9
ما غاية الحوار الهادئ؟
الحوار الهادئ منبر ثقافي نريد كلنا من خلاله التثقف من خلال حوار مُتبادل في قضية تهمُنا جميعاً. قضية تمُسنا بالصميم بُغية الوصول على قناعات مُشتركة حولها رُغم اختلاف وجهات النظر. الحوار الهادئ مساحة ثقافية تفسح المجال للجميع لتبادل الأراء إيمانا من بالجميع بأن رأي الآخر مُقيّمٌ مُحترم جداً. بالطبع يتطلب هذا الحوار مصارحة ومُكاشفة استئنائية على أن تجرح الآخر.

وأنا شخصياً إذ أكتب في مواضيع تخصنا وتمسنا بالصميم إنما أريد أن أُبيّن للقارئ الكريم أينما كان موقف الكنيسة التي انطلق منها في العمل الرعوي. ولأن المساحة الحوارية محدودة تمنعنا من إدراج العديد من النصوص المُعلنة في وثائق رسمية للكنيسة والتي تتوفر بالعديد من اللغات ومنها العربية. فما يُطرح للنقاش ليس مواقف شخصية من هذا وذاك، ولن يكون يوماً رأي شخصي في قضية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.

نتطلع كُلنا في الحوار الهادئ لسماع الجميع على أن لا نجرح الآخرين فهذا لن يسمح لنا بتواصل الحوار وبشكل هادئ. ولا نسعى وراء الإطراء والمديح فهذا يُبعدنا عن غاية الحوار والتي تكمن في أن نسمع الجميع ويُسهم هو الآخر في تثقيفنا المُشترك هذا.

الحوار الهادئ فرصة لذوي الشأن ليسمعوا ما يدور في أذهان الشعب انطلاقا من خبرات مُعاشة ليكون الحوار لا من أجل الحوار بل لتكون النقاشات هادفة للجميع.

من هنا أدعو إدارة موقع عنكاوا الأغر أن تُحدد ضوابط للمواضيع المطروحة وللردود التي يتحاور من خلالها القُراء. ليتم نشر كل ما يُغني الحوار من وجهات نظر مع أو ضد الموضوع المطروح للحوار، لم يتمكن الكاتب من طرحها أو تغاضى عنها. فلا يُنشر مديح أو إطراء، ويُحضر كل رد فيه تجريح للآخرين، لنتمكن من مواصلة الحوار.

10
                                              هل تقف الكنيسة مكتوفة الأيدي

إزاء ما يحصل على الساحة السياسية العراقية، وما يعيشه العراقيون بشكل عام والمسيحيون بشكل خاص لا بد للكنيسة من موقف واضح لئلا نستيقظ كما هو حال كل يوم على أزمة جديدة نتخبط في مساراتها، فيغدو الواقع ظلام لا أمل فيه.

فالصراع بين الأحزاب السياسية والذين اختاروا موضوع الطائفية والمذهبية ورقة لجني مكاسب مادية وسلطوية ورّطت الدين في مزالق ومتاهات، هذا الصراع الذي يفتك بحياة المئات من أبناء شعبنا العراقي يومياً، وصل إلى منطقة اللاعودة، وتحتاج العلمية السياسية إلى توبة نصوحة وتغيير جذري في الطروحات والأفكار للمُحافظة على مع تم الحصول عليه حتى الآن، وإلا فالخاسرون هم الساسة أنفسهم في نهاية المطاف، وإننا إذ نُعلن ذلك، إنما لا نكشف سراً، سوى أننا نريد القول إن ساسة العراق اليوم قد نسوا ما حصل قبل أربع وكيف لم يقف معظم أبناء الشعب مع رئيسه المُفدى والذي طالما أخرجهم للاستفتاء والانتخابات والمظاهرات. شعبنا طيب، ولكن لا تستغلوا هذه الطيبة فلربما لن يقف معكم وقت المحنة من جراء تصرفاتكم لتتحملوا أنتم وحدكم مسؤولية ما حصل. فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟
الكنيسة وانطلاقا من رسالتها الإيمانية الذي يُعاش صوتاً صارخاً في برية السياسة يجب أن تفضح ما يحصل من مظالم وانتهاكات لأبناء شعبنا العراقي اليوم. ليكن للكنيسة خطابٌ للساسة أكثر جرأة ولتضم صوتها لأصوات كثيرين يسعون من أجل أن تكون حياة الإنسان العراقي مُكرّمةٌ مُصانة آمنة، وأن يفعل الساسة ما بوسعهم من أجل غدٍ أكثر إنسانية للإنسان العراقي. فالكنيسة تُطالب الدولة بأن تعمل جاهدة لإيجاد السُبل والوسائل الكفيلة لضمان عيش كريم للإنسان، وإذا ما قصرّت الدولة في واجبها فمسؤولية الكنيسة هو الدفاع عن حق المظلوم أينما كان ووُجدَ.
فناهيك عن الصراع السياسي ما بين الأحزاب العراقية، لم تشهد الحالة الاقتصادية للإنسان العراقي أي تحسن، فغلاء المعيشة وقلة فرص العمل حط ككابوس يُهدد بتفكيك العائلة العراقية وشرذمتها، ومسؤولية الكنيسة أن تُدافع عن أهم مؤسسة إنسانية ألا وهي العائلة. العائلة العراقية تُهان وتُنتهك حقوها وهي مُهددة بالضياع، وإذا ما ضاعت فستضيع معها قيم عراقية نُعتزُ بها جميعاً. ومن واجب الكنيسة أن تسأل الدولة والساسة ما الذي قدمتموه للعائلة العراقية حتى الآن؟
الوطن يُحرس ويُصان من قبل أبنائه وكرامة الإنسان هي عندما يعيش في بلد مُستقل آمن له هويته ودوره في المجتمع الدولي. وإذا ما أتينا مع تبرير القوات متعددة الجنسيات من أن قوات الأمن العراقية غير مؤهلة لقيادة المرحلة الراهنة، فهذا يُحتم علينا أن نُطالب بالإسراع في تدريب وتأهيل القوات، وتطهير الحالية من الفساد العابث بها وبسمعتها.
وتُصان حُرمة الأوطان لا بحماية الحدود فحسب، بل بحماية رزق الشعب والكنيسة  ورغم أن لها مواقف جريئة تجاه حالات الفساد المالي والإداري وعلى صعيد عالمي، لم تُسمعنا صوتها إزاء من يجري من حالات سلب ونهب وتبذير عشوائي وبأوراق رسمية لقوت الشعب. ملايين الدولارات تُهدر وبحجج واهية وحال الملايين من أبناء شعبنا العراقي تعيس ومُرعب للفقر والعوز الذي يُهدد إنسانيته. للكنيسة الفرصة الإمكانية لأن تفضح حالات الفساد وتضع يدها بيد العديد من الخيرين من أبناء شعبنا للوقوف بوجه الإرهاب الاقتصادي الخطير الذي يقتل حاضر ومستقبل البلاد.

أما حالنا كمسيحيين، فنحن مع غالبية الشعب العراقي نُعاني تحديات المرحلة. ساستنا المسيحيون ومع أنهم حصلوا على كراسي برلمانية ووزارية محدودة إلا أن ذلك لم ينعكس إيجابا حتى على حياة أقرب المقربين إليهم. فكلهم يحسب ألف حساب قبل أن يوقّع على قبول مسيحي كفوء في وظيفة يستحقها، لماذا أيتها السيدات والسادة؟ مَن سيُدافع عنّا مواطنينا في أزمة كهذه؟ مَن سيحمل قضيتنا أمام الرأي العام الدولي؟ ماذا تنتظرون أكثر مما نلتموه رئاسة دولة؟ نحن متأكدون من أنكم على وعي تام بما يلحق بأبناء شعبنا من مظالم وانتهاكات، وتتداولون مع أعضاء البرلمان خفية وعلناً بكل ما تعرفون، ولكن لم نسمع صوتاً يُقيم الدنيا ولا يُقعدها عن كل ما يحصل لنا. هل تنتظرون من الكنيسة أن تقوم بهذا الدور؟ عندها ستقولون: الكنيسة تتدخل في أمرٍ لا شأن لها فيه.
فنُناشدكم أيتها السيدات والسادة، سياسيونا المسيحيون، بما حملتم من قيم وتعهدات لخدمة قضية شعبنا أن تُعلنوا للجميع واقع قضية أبناء شعبنا في العراق وخاصة أبناء جلدتكم المسيحيون. شعبكم يُطالب بالجزية. شعبكم يُحرم من وظيفة يستحقها. شعبكم يُطرد من بيته. أبناء شعبكم يُخطفون ويُطالبون بالمُستحيل. الضحايا التي سقطت نتيجة أعمال العنف مُشتتة وليس لها من مُعيل. عوائلنا فتكت بها الهجرة من جراء كل ما حصل. هناك مَن يعتبرنا دخلاء على أرض الوطن. فإذا كانت هذه تجاوزت فريدة لا تلتزم بها الدولة فلتُفضَح ويُوضع لها حد. وأرجو أن تُزودكم الوزارات العراقية بقائمة بأسماء المسيحيين الذين تمَّ تعيينهم في مؤسسات الدولة للأعوام الأربع الماضية! الواقع مرير.
وإذا ما طالبَ المسيحي بأن يكون له احترام لكيانه كمكون له تاريخه وحضارته وثقافته من خلال حكم ذاتي في مواقعه وأراضيه التاريخية فهذا يُعد تجاوزاً منه في العملية السياسية. إني أقرأ أن رفع سقف المطالب ليكون حُكماً ذاتياً في عراق موّحد ما هو إلا جواب لهذه الانتهاكات، ومَن يُطالب المسيحيين بالكف عن هذا المطلب، فعلى الساسة المسيحيون أن يُطالبوا الجميع وبشجاعة استثنائية بأن تعمل الدولة وكل مكونات مجتمعنا العراقي للحد من التجاوزات اليومية التي تحصل على أبناء شعبنا المسيحي في العراق. فلا يُطالب شعبنا بالجزية، ولا يُنعت بالكافر، ولا يُحسب على الغرباء، ولا يُوصَف بالعَمَالة، ويُحترم في ثقافته وحضارته، وتُصان إنجازاته وميراثه الثقافي، وتُراعى كفاءاته لأنها للعراق. على العراقيين جميعاً قبول المسيحي مواطنا عراقياً أصيلاً ويُدافعون هو عن جيرته وأن يصونوا بيته وعرضه وماله، وإلا فليس أمام المسيحي إلا خيارات محدودة يجد نفسه مُجبراً عليها.

فمع أن مُعظم الكنائس أعلنت بأنها ستحترم إرادة أبناء شعبنا في اختياراتهم السياسية، أود أن أُشير هنا بأن الكنيسة تلحظ وتفهم مطاليب شعبنا وهي تُطالب كل ذوي الشأن أن يرحموا هذه الشعب بقرارات إنسانية تُطيب حياة الإنسان العراقي. الكنيسة واعية لما يحصل من ظلم وانتهاك، وتتألم لما يُصيب العراقيين من ويلات، وترجو إيماناً منها بطيب نوايا قادة العملية السياسية في العراق أن يكون لهم جواب عراقي للأزمة يفتح أبواب مستقبل مُشرِق للعراق كلّه من شماله إلى جنوب، من غربه إلى شرقه. 

11
إلى مجلس رؤساء كنائس العراق
[/color]

بادء ذي أود أن نُهنئكم لنِعَمِ أعياد الميلاد والعام الميلادي الجديد ونَضُم صلاتنا مع صلاتكم لتكون هذه الأيام بُشرى الخلاص للمظلومين والمُهَمَشين المُعَذَبين.

لاشك أن للكنيسة رسالة ورؤية ودور وشهادة في إصلاح ما أفسده الساسة والمنتفعون والطارؤون وصُناع القرار من حياة الناس من خلال فضح أي ممارسات تطال كرامة وحُرية الإنسان، وتسعى وتُناضل الكنيسة لمساندة مَن أُنتهك حُقوقهم، فتعيش رسالة التضامن معهم وتكون خير عون لهم في أن تُفتح أمام الجميع أبواب العدالة الاجتماعية في ظل نظام يُؤمن بالمواطنة والمساواة. وهذا ليس تدخلاً في السياسية بل عيشٌ للرؤية التي تُؤمن بها الكنيسة من أن السلطة جاءت لخدمة الإنسان لا لتحديد حياة الإنسان.

ولأن المرحلة الحالية تتطلب مثلما كانت في السابق عملاً وجهوداً مُشتركة لرؤساء كنائسنا الكرام، ويؤمن الجميع بالشركة لا في المسيح فقط، لكن في إدارة أزمات شعبنا، لنكون النموذج لقياداتنا السياسية. لذلك نتطلع هذا العام أن توحد جهودكم في رؤية وخطاب صريح وواضح يتبناه مجلسكم المُوقّر، مجلس رؤساء كنائس العراق، إزاء ما يجري على الساحة السياسة، وأن يعلن عمق قلقكم وتأثركم البالغ لما يشهده البلاد من حالات تشرذم اجتماعي يدفع ثمنها مواطنون أبرياء، وعلى الحكومة أن تتطلع بمسؤولياتها الكاملة وتسعى بخطوات جادة لا بخطابات مُزركشة بعبارات ومُصطلحات لا يفهموها هم أنفسهم.

يُضاف إلى ذلك سعي مجلسكم لرسم ملامح خطاب مسيحي وطني أساسه إنتماؤنا لهذه الأرض وأصالة جذورنا وعظمة إسهامنا الحضاري فيه. هناك مَن يسعى لإخفاء هذه الحقيقة، خطابكم الوطني هذا والذي يتجاوز تعابير الأقليات والمُحاصصات الطائفية والتي يحاول البعض فرضها كواقع سياسي ثم اقتصادي، لتكون الحياة على هذه الأرض منية منه علينا، هذا الخطاب الواضح سيُذكر الجميع من أننا لم ولن نكون ضيوف على العراق، بل نحن كُنا وهم جاؤوا. مثل هذا الخطاب ليس تدخلاً في السياسة، بل حث الجميع ليطلع بمسؤولياته ويلتزم عهود الشراكة الاجتماعية التي هي أساس التعايش السلمي البناء في أي مُجتمع إنساني.

كما وأن لا يتناسى المجلس أهمية التأكيد على أن استقلال العراق لن يكون إلا إذا حماه أهله وشبابه. فأبن البلاد، العراقي أينما كان هو مَن يتحمل مسؤولية حماية وصون الأعراض والمُمتلكات، ويدافع عن استقلال البلاد من كل تدخل أجنبي. لذا، سيكون للمجلس أثر طيب إذا ما أشار على ضرورة أن تلتزم الحكومة العراقية بالتعاون مع أصدقاءها وحلفاءها لتأهيل القوات العراقية المُخصصة لحماية أمن البلاد داخليا وخارجياً، من خلال برامج مدروسة تسمح للجميع بالمشاركة في هذه المهام من دون إقصاء لأحد أو طائفة، وتستفيد من خبرة شعوب أخرى ومن أخطاء المرحلة السابقة. هذا ليس تدخلا من قبل الكنيسة بالسياسة بل شعور وطني عالٍ، ورغبة من الكنيسة بأن لا يكون المسيحيون أجانب على أرضهم وأرض أجدادهم. قضية استقلال ووحدة العراق قضية وطنية تخصنا جميعاً كعراقيين، ونطمح لنظام سياسي يقبل تعدديتنا واختيارنا لأسلوب الحكم وتنظيم إدارة البلاد. فما هو موقفنا نحن كمسيحيين من حاضر ومستقبل القوات الأجنبية على أرض العراق؟ 

وإذا ما حاول البعض تناسي ضحايا العنف الطائفي والسياسي فعلى الكنيسة أن تكون صوتاً صارخاً لذوي الضحايا، ونحب أن تتطلع الكنيسة عبر مجلسكم المُوقّر لتكون رائدة في الدفاع عن حقوق هؤلاء، فتُناشد الحكومة لتعمل عبر ديوان الأوقاف لتثبيت أسماء وحياة هؤلاء الضحايا، مُعزز بصور وشهادات عن حياتهم. ثم يسعي الديوان لضمان حقوق عوائلهم فيكون العراق كُله أباً وأمُا وأخاً وأُختاً لهم جميعاً. ليشعر عوائل هؤلاء الضحايا أن العراق فَقَدَ أعزاء وهو مُتأسف لذلك. وهذا ليس تدخلاً في السياسة، بل سير حثيث نحو الالتفات إلى مَن أُنتزعت منهم فرص الحياة الكريمة، فتيتموا وترملوا من جراء صراعات سياسية لبست ثوب الدين والدين براء منها. 

للمجلس دور فعّال ومؤثر على الخطاب القومي والسياسي لأبناء شعبنا في المهجر ليكون عوناً لمَن هم الداخل. الخطأ الفادح الذي سقطت فيه الحكومة العراقية هو أنها تحاول إدارة أزمات البلاد من المنطقة الخضراء، فلا نُريد أن تُدار وتُدار  أزماتنا كمسيحيين من البلدان الخضراء. أنا لا أنكر الدور المُتميز الذي يلعبه مثقفونا وسياسيونا في المهجر وتضامنهم مع قضية الشعب وجروحاته، ولكن عليهم أن يُصدقوا أن الواقع يأتي مُخالفاً لما يُحللون ويتوقعون. فنرجو أن يُلفت المجلس عناية أبناء شعبنا في المهجر ليأخذوا على عاتقهم مهام تدويل وشرح قضية شعبنا لصُناع القرار في بلدانهم، ويُصغوا بتيقظ لواقعنا المُتغير يومياً.

حُكم ذاتي للمسيحيين في سهل نينوى أو إدارة ذاتية لهم في هذا السهل، هذا ليس شأن الكنيسة بل هو اختيار ومطلب شعبي سيُثبثب عبر استفتاء أو اجتماعات بين قادة أحزاب سياسية. ما يهم الكنيسة ويجب أن يشغل حيزاً كبيراً من تفكيرها هو أن هذا السهل يضُم الآن ألآلاف العوائل المسيحية، وينزح إليه يومياً عشرات أخر غيرها مما يُضفي رونقاً وواقعا جديداً على السهل وهو واقع حال يجب أن نتعامل معه. لا يخفى على الجميع تزايد حالات التهجير في المحافظات المُلتهبة مما يُضاعف حجم المشكلات الاجتماعية التي يعيشها أبناء هذا السهل. فهل يُفكر مجلسكم في مواجهة هذه التحديات الجديدة وكيف يكون للمجلس فرصة إسهام في تخفيف حجم المعاناة؟ هل سيكون للمجلس فرصة فتح قنوات اتصال مع جيران هذا السهل لشرح وكشف الواقع الاجتماعي والاقتصادي للعوائل الساكنة فيه؟ هل سيسعى مجلسكم لتشكيل لجان لمُتابعة الطارئ من القضايا والأزمات وكيفية التعامل معها؟ هل هناك إمكانية لتشكيل لجان كفوءة قادرة على رسم ملامح رؤية لمستقبل المنطقة في خضم التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها؟ كيف يُمكن استثمار الفرصة ليكون للمجلس دور ريادي (وليس بالضرورة قيادي) في حياة أبناء المنطقة؟


علاقاتكم طيبة ومُتشعبة في الداخل الخارج وسهل نينوى مُهمل بشكل كبير من ناحية الخدمات والمشاريع الإستراتيجية وبحاجة إلى مدارس نموذجية ومستشفيات مُتميزة ومشاريع صغيرة الحجم تخدم أبناء السهل إذ تفتح أمامهم فرص عمل آمنة ولتكن حصرياً لأبناء السهل، وخدمات متميزة لهم بأجور مُخفضة، فيما تُستقطع أجور تتوافق والخدمة لغير الساكنين في السهل لضمان استمرارية الخدمة. لذلك، يُمكن لمجلسكم أن يستغل هذه العلافات لخدمة أبناء السهل ويُشجع استثمارات أبناء المهجر ليقفوا وقفة تضامن مع أبناء السهل في زمن نحن بحاجة لمساهمة الجميع. فالاقتصاد اليوم لا يهدف إلى زيادة الأرباح المادية للمُستثمر فقط، بل يسعى لأرباح معنية من خلال مشاريع لها غايات إنسانية أيضاَ. النداء الذي يوجهه مجلسكم في هذا الخصوص له تأثيره لاسيما إذا ما رافقه تشجيع لتشكيل هيئة مُخصصة لهذا الشأن، ويُعهد أمر تأسيسها وإدارتها لمُتخصصين أكفاء في الاستثمار والإعمار والإدارة وتتعامل بشفافية مع المشاريع المطروحة أمامها لللتصديق عليها وفق معايير تهدف إلى رفع شأن السهل ليكون له الموقع المُتميز بكل قُراه ونواحيه. ونتمنى أن ترافقوهم بالإرشاد والتوجيه والاقتراحات البناءة التي تسمعونها من قبل أبناء السهل، فلنا من أبناء الجالية متميزون في الإدارة ولهم من الغيرة لأبناء شعبنا وقضيتهم ما يُشفي ويُطيب جراح ويفتح أبواب الأمل لهذا الشعب المسكين. هذا لن يكون ابتعادا عن رسالة الكنيسة وشهادتها في المجتمع إلا إذا طلب رجل دين أن يكون له مركز قيادي في مثل هذه الهيئة. دورنا ككنيسة يتحدد بالتوجيه والإرشاد وفضح الانتهاكات من دون مجاملات.

وأخيراً، وليس آخرا، للمجلس إمكانية تشكيل لجنة لفتح ابواب الحوار الهادف مع الجان المُشرفة على بناء المساكن في القرى المسيحية لتطوير هذه البرامج ورفدها بالمقترحات البناءة وشرح التقصير الحاصل فيها ليأتي العمل مُتكاملاً قدر المُستطاع. نحن نُدرك تماماً أن البرامج المُنفذة في هذا المجال هي برامج طارئة، والتخصيصات المالية لها قد لا تكون عالية، ولكن كُلنا يتطلع لأفضل الخدمات لأبناء شعبنا، فنكون النموذج والمثال حتى في إدارتنا لما يُعهد إلينا كمسيحيين من مشاريع من الدولة أو الجمعيات ذات العلاقة.

هذه جملة اقتراحات، ويُمكن للقارئ أيضا أن يُضيف عليها ما يراه هو مهماً لهذه المرحلة ولمُستقبلنا كمسيحيين. ولا نريد تعليقات تمدح أو تستغل الفرصة لتُمرر انتقادات لهذا وذاك، لأننا نرغب بحوار هادئ ولكن حوار هادف بالدرجة الأولى.[/b][/font][/size]

12
معاناة شعبنا: علامة تجارية



تحت هذا العنوان انطلقت حناجر لتصرخ داعية المعنيين بالوقوف دقيقة حداد على ما يُعانيه الآلاف العوائل من أبناء شعبنا. ولأجل هذا الموضوع راحت أقلام كُتّابنا تشرح وتُفصل لنا مضامين وأوجه وأبعاد هذه المُعاناة. ولم يمر الحدث من دون أن يستغله الوُعاظ  ليُبكوا مُستمعيهم علّ الأيادي تتحرك في الجيوب ويخرج الورق الأخضر ليُخفف من المُعاناة قليلاً. والحال الكل يتحدث عن معاناة شعبنا لأن الموضوع جذاب ولربما يقصد كاتب (بشكل غير واعٍ) هذه الأسطر أن يجذب لمقاله استطرءً واستحسانا ومديحا. ولكن يبقى الحال كما هو: شعبنا يُعاني وهذا ما اتفقَ عليه الجميع.
اتفقَ عليه الجميع ولكني أسأل: دُلني على مَن (شخص أو جماعة) استطاع أن يحتوي ويحتضن هذه الأزمة، لا بالتحليل والتمحيص والشرح والتأويل بل بمواقف عملية يُشار إليها؟
فرؤساء أحزابنا المسيحية لم يألوا جهداً في إيضاح واستبيان أبعاد الأزمة التي تلمُ بأبناء الأمة، هذا الشعب الواحد التي يُهان يومياً على أبواب الوزارات والمؤسسات الحكومية، هذا إن تمَكنَ من الوصول إليها. رؤساء أحزابنا المسيحية استكشفوا أبعاد المُعضلات التي تُحيط بهذا الشعب المسكين ومُستقبله، ونظراً لتحالفاتهم التي نفهم مضامينها حددوا سُبل حل الأزمة لتتوافق ومُستقبل هذه التحالفات، ويبقى الشعب يتألم. رؤساء أحزابنا المسيحية، ورُغمَ كل ما شاهدوا، ولربما ما يُعانوه هم أنفسهم لم يتمكنوا حتى الآن من تقديم التنازلات السياسية لأجل الاتفاق على خطوات عملية للتخفيف عن مُعاناة هذا الشعب المغلوب على أمره. فبقوا يتحاورون ويتصارعون حول قضايا تبقى مُهمة ولكن ثانوية أمام جروحات هذا الشعب المسكين الذي يبقى يُعاني، ويُختطَف الأمل بحياة آمنة كل يوم ليبدأ عشرات العوائل المسير نحو المجهول في متاهات الهجرة.
أما رؤساء كنائسنا فلم يكن الحال أفضل مما هو عليه مع رؤساء احزابنا المسيحية. فالشعب جميعاً كان يتصور أن حال كنائسنا سيكون أفضل ما بعد نيسان 2003 كنسياً، وسيشهد واقعنا الرعوي تقرباً وتفهماً أعمق لقضايانا من أجل توحد الرؤى والتوجهات، إلا أن الواقع أضاف على المُعاناة ألماً وتحسراً وغصة في نفوس المؤمنين لأن الكنائس ابتعدت عن بعضها أكثر فأكثر. رؤساء كنائسنا واصلوا الوعظ عن معاناة شعبنا لتحريك المشاعر وذرف المزيد من الدموع والحسرات، ولكن لم نتلمس منهم خطوات عملية للتخفيف عن هذه المعاناة. وأكرر ما قاله لي أحد المؤمنين يوماً: ابونا لو كُنتم (كهنة ومطارنة وبطاركة) مُتفقين في اجتماعاتكم لما وصل الحال إلى ما هو عليه الآن.

لا أتصور أن مُتحدثي كان يُريد أن يُحمّل الكنيسة أخطاء المرحلة برٌمتها لأني أعرف صدق مشاعره ووسع ثقافته، إلا أنه كان يُعبّر عن وجهة نظر صحيحة من أن المُجتمع كان يتطلع إلى كنائس العراق لتكون نموذجاً في العمل والمسيرة المُشتركة وهذا ما لم يحصل إلى الآن، وهو واقعٌ مُؤلم بحد ذاته. بل تأثرت الكنائس بالواقع الذي يعشه البلاد، وإنعكست سلبيات إدارة الأزمة على واقع الكنائس أيضاً.

فلا نُريد من أهلنا وأصدقاءنا في المهجر إطلاق حملة تبرعات وجمع دولارات للتخفيف عن مُعاناة شعبنا، لأني أقولها وبصراحة إن مُعظمها لن يصل إلى غاياته بل لغايات أخرى غير مُعلنة. ولا نريد مقالات أو ندوات تصول وتجول في جراحات هذا الشعب فهذه مهانة لكرامتنا ولأبسط قيم الاحترام للمجروح والمُتألم. نُريد خطوات عملية تجعل من هذا الشعب وهذه الأمة مكونا إجتماعيا يُشار إليه في المُعادلة السياسية والاقتصادية للعراق، ويُحسَب له ألفُ حساب. تأشيرات السفر حل لمَن قرر الهجرة وبُوركت كل الجهود، ولكن ماذا عن مئات الآلاف الموجودة في أرض الوطن؟ هل حجزنا لهم تأشيرات سفر؟ ربما! ولكن إلى أين؟

 [/b] [/font] [/size]

13

المصالحة وشعبنا المسيحي



حديث الشارع العراقي اليوم هو عن ضرورة المصالحة، والتي تتغذى بالمُصارحة وكشف الأوراق وما خفي من نوايا، وسُتِرَ من مُخططات. ولأن شعبنا العراقي ليس مستعداً لمثل هذه الخطوة الجريئة، وجُل ما سيصل إليه الساسة العراقيون (وأتمنى أن أكون مُخطئاً) هو هدنة ستتحطم متى ما تحققت المصالح الضيقة لفئة أو طائفة من مكونات شعبنا العراقي. فلا فائدة من مؤتمرات أو ندوات ما دامت الانطلاقات والبدايات منقوصة. فمعظم المعنيين بالموضوع يُدركون أهمية المُصالحة لا إيماناً منهم بأنها المخرج الوحيد لأزمة هذه الأمة، بل لأن عجلة الاقتصاد بدأت تتوقف وفي توقفها صارت تُحدد مصالح ومنافع أفراد وجماعات. 

شعبنا المسيحي اليوم يترنحّ تحت وطأة أزمات تُفقده تركيزه وتجعله يتخبط في مسارات ومواقف فوضوية لا يفقه عواقبها، إلا أنه مُجبر عليها ولا خيار آخر أمامه سواها. والسبب: فقدان القيادة الرشيدة التي ترغب بصدق منفعة وخير شعبنا المسيحي بكل ما يحمله من تنوع غني. أفتح اليوم المجال لحوار هادئ مع كل الجميع، ولنسعى جميعاً لإسهام كلٌ من موقعه وحضارته وفكرته وأصالته، لتعميق وتفعيل الحوار للوصول إلى مواقف تُعلي من شأن شعبنا المسيحي وتُظهِر قوّته وأصالته. شاكراً بإمتنان كل إسهام.
 
فهذه المرحلة الخطيرة من تاريخ شعبنا المسيحي في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، تتطلب خطوات جريئة تحاول فِهمَ ما حصل وتسعى لالتزام برؤية واضحة للمرحلة القادمة. لا نريد أن نُدين أحداً أو أن نضع آخرين في قفص الاتهام. ولن تُغرينا تجربة أن نُحمل هذا وذاك كل أخطاء المرحلة، لأننا أقوى وأشجع وأصدق من أن نجعل إنساناً كبش فداء عنّا، فشعبنا العراقي بشكل عام، والمسيحي بشكل خاص دفع ثمن أمنيات وهوس قياداته كافة السياسية والدينية منها، ودفعها غالياً، وبقيت الكراسي لأصحابها يُطلقون الشعارات المُخدرة، غير أباهين لشعب صار حطباً لنار صراعاتهم الشخصية والمصلحية الضيقة الأفق.

ولأن شعبنا المسيحي العراقي مكوّن هام وله دور فعّال لا يُمكن أن يُتجاهل مهما حاول الساسة تغيب هذا الدور ونكرانه. أجد من الضرورة أيضاً أن نكون السباقين في أن تجسيد مُصالحة حقيقية تصل إلى جذور المشكلة فتشفي الجراح وتفتح الأفاق لمُستقبل آمن يحمل بين طيّاتها فرص انتعاش حقيقي وواقعي لأبناء شعبنا وعلى كافة الأصعدة: الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. فالمُصالحة التي تُطرح اليوم منقوصة وفيها انتقاص وإجحاف كبير بحق الضحايا وإجهاض لحياة كريمة وواعدة للأجيال القادمة.

المسيحية هي الجديرة بالحديث عن المصالحة لأننا كوّنا وصرنا بسبب مُصالحة الله لنا والتي مكنتنا من أن نُصالح بعضنا بعضاً. العراق اليوم يُعاني وربنا ينتظر منّا كمسيحيين أن نشهد لإنجيل المُصالحة فلما التراخي والتخاذل عن أداء الشهادة.

ولكن قبل أن نرفع صوتنا كمسيحيين نُعظ الناس ونُعلّمهم عن المُصالحة لنتشجع ونبدأ مسيرة المُصالحة مع أنفسنا، مع شعبنا مع بعضنا البعض كمسيحيين، أبناء الرافدين، شعب أصيل طَبعَ بصمات لن تُمحى في تاريخ ومسيرة العراق. واليوم يسعى ليكون بشجاعة وأصالة الآباء والأجداد. هذه المُصالحة مع الذات (الذات المسيحية)، وأعني بالذات المسيحيين بكل مكوناتهم وثقافتهم لأني أؤمن أننا شعب واحد مهما تنوعت انتماءاتنا، هذه المُصالحة ستكون بالضرورة نموذجاً يُشجع أبناء شعبنا العراقي للمُضي قُدما في عملية المُصالحة بشكل حقيقي من دون خوف أو تحفظ.

البحث عن الهوية وتثبيتها كان وما يزال أحد أبرز الدوافع للصراعات التي نشبت في تاريخ العراق الحديث. ولأن الجميع سعى جاهداً ليُثبّت هويته مٌستغلاً كل الفرص المُتاحة وكل الوسائل المشروعة منها والمُحرّمة، برزت في سماء العراق قصص لشعب، بل شعوب أسهمت في أن يكون العراق بالصورة التي هو عليه اليوم. ووراء كل قصة مُحاولة لتثبيت هوية سعى كثيرون لتنكرها وتهميشها، لا بل محوها من تاريخ العراق. فلم ولن تنجح، والحمد لله، كل السياسات والاستراتيجيات لإزاحة وقبر قصة أصغر مكوّن من مكونات شعبنا العراقي. وأنصح كل المُهتمين بأن لا يُضيعوا الوقت والجهود ويهدروا الطاقات ويستنزفوا حياة أبرياء في محاولة طمس هوية فئة أو طائفة من أبناء شعبنا العراقي، مثلما نلحظه اليوم. بداية المُصالحة أن نقبل واحدنا الآخر بما يحمله من خصوصية وما يتفرّد به من هوية، وما يتميّز به من ثقافة وفكر ومعتقدات حتى وإن اختلفت عن ما نتمناه ونرغب به. هذا هو العراق والعراقيون وليس لنا غيرهم، والكل سواسية في الإنسانية والشخصية العراقية أمام الله وأمام القانون.

نحن أيضاً كمسيحيين سعينا لأنم نُثبت هويتنا وحاولنا أن نُسمِعَ العالم قصتنا، فخلف كل هوية قصة. وما نضال تجمعاتنا الحزبية والسياسية والاجتماعية إلا محاولة في الطريق. لقد بحثنا وفتشنا عميقاً في تاريخ البلاد والمنطقة بحثنا عن الجذور، ووجدنا أن لنا في هذا التاريخ صفحات ناصعة. إسهامات يُشهد ويُشاد بها، ولم ولن تمُحى رُغم كل محاولات إعادة كتابة تاريخ العراق. وأي مُحاولة قصرت في قول حقيقة شعبنا المسيحي دوره في تاريخ العراق، جاءت مُعيبة يعوزها الدقة والأمانة العلمية.

اليوم وقد تثبتت الهوية، وأدرجت في دستور العراق لنطوي صفحة الصراع هذه ولنعتذر بعضنا لبعضٍ عن الأخطاء التي شابت المسيرة. فكمسيحيين، وفي محاولاتنا لتثبيت هويتنا القومية، والتعريف بإرثنا الحضاري أسأنا إلى بعضنا في سعينا هذا، وقصدنا بشكل صريح أو مُبطن الحط من عزيمة الشريك وإفشال مساعيه، وتعكير صفو العلاقات، وحتى افتعال الأزمات التمتع والتفرد بالإنجاز. فلنعتذر بشجاعة، وليكن اعتذارنا صريحا ودقيقا واضحا كي يفهم ويطمئن الشريك لمواقفنا، ويثق بخطوات المُصالحة فيسيرها من دون قلق أو تحفظات لأنه شريك وليس شٍركاً. نحن بحاجة لنتحرر من وهم وكابوس نظرية المؤامرة لأنها ستُبقي وتديم الصراع وتُفقدنا الثقة بالشريك.

فلنعذر ككنيسة لأننا لم نسعَ بما فيه الكفاية لرعاية وقيادة شعبنا كما يجب، وقصرّنا في واجباتنا من جراء تمسكنا بمواقف وقضايا مهمة، تاركين الأهم. شهدنا مراراً لقضايا مُتجاهلين قضية يسوع المسيح. تزمتنا في مواقف جعلت شعبنا يتيه يبحث عن راعٍ يُوضح له ما يعيشه من أزمات فيفهم واقعه. لنعترف أننا كقادة كنسيين كُنّا سبباً ديمومة أزمات هذا إن لم نكن نحن طرفاً فيها، وتعدى الأمر ليصل مرحلة خطيرة في أننا كمسؤولين كنسيين كُنّا سببا رئيساً في تأجيج صراعات وتفعيل أزمات ما بين أطياف شعبنا المسيحي المُبارك. فلنعتذر بشجاعة.[/b]

14
منطقة آمنة للمسيحيين


الاب بشار وردة /لسانس في اللاهوت الادبي


يتردد في الأوساط السياسية والإعلامية اليوم الحديث عن منطقة آمنة للمسيحيين، أو ما يُدعى أحياناً بإقليم خاص للمسيحيين في العراق، ويتهامس هؤلاء حول موضوع اختيار سهل الموصل كاختيار مثالي لهذه المنطقة الآمنة. موضوع شائك في كثير من فقراته ولا يزال الوقت مُبكراً للموافقة أو المُعارضة، لألنا لا نُريد الاستعجال في حسم المواقف، ولكن يبدو من المفيد طرح الموضوع للنقاش بين حُكماء القوم، وسماع رأي ذوو العلاقة في كافة جوانبه، ليتبيّن لاحقاً مدى صلاحيته ومصداقيته ومنفعته لشعبنا المسيحي بشكل خاص والعراقي بشكل عام. فنحن جزء لا يتجزأ من سفينة العراق، لنا مسؤولياتنا وحقوقنا تجاه أرضنا وشعبنا، ولم نعمل يوماً مُستقلين عن هذا الركب.

فأود أن أُشير منذ البدء بأني لست من المُتحمسين للموقف ولا من معارضيه، لكن لنحاول سوية فتح باب النقاش الجاد والحر بعيداً عن الاتهامات والمواقف المُسبقة للوصول إلى قناعات تُفيد شعبنا بعيدة عن حسابات سياسية أو مواقف شخصية. لنسمع ونُصغي ونتفحص كل رأي ونختبر مصداقيته وأهليته كطرحٍ صادق يريد خير شعبنا المسيحي حتى وإن جاء من قنوات أو شخصيات نختلف معها بالرأي. ولتكن عينكاوا كوم طاولة حُرّة وصادقة لهذا الحوار. فأرجو ن كل مَن يُريد المُشركة أن يبتعد عن الهُتافات لأننا لسنا في مُظاهرة شعبية مؤيدة أو رافضة، نريد أن نسمع أراء جادة من الجميع.

نريد إقليما خاصاً بنا

لو أصغيت لمَن يُوافق ويُدافع عن النداء أعلاه لتلمست فيه ألماً على عذابات شعبنا التي يود أن تُوضع لها نهاية. فتراه يستعرض تاريخ وجودنا المسيحي ويختصره لنا بعبارة "قصة الآلام الطويلة". لذلك فهو مُتحمّس ويتطلع لعصر جديد حيث يجتمع فيه شعبنا المسيحي بمختلف طوائفه في منطقة آمنة، ليستثمر طاقته وإمكانياته من دون أن تُجهض وتُهان، ليعيش يوتوبية الوحدة المنشودة.

سيقول لك مَن يُدافِع عن المنطقة الآمنة للمسيحيين: "أننا بالطبع لن نسأل المسيحيين في محافظات العراق الهجرة الجبرية لهذه المنطقة الآمنة، فهناك مَن أسس نفسه اجتماعيا واقتصادياً وسياسياً في مناطق مختلفة من العراق، حاله حال الأكراد في بغداد مثلاً. ولكن وجود اقليم ومنطقة آمنة له في بقعة مُخصصة في العراق، سيُوفّر دعماً اجتماعيا وسياسياً أضافياً حتى للذي لن يسكن فيها.

ولأن شعوبنا الشرقية مازلت ترى الحياة من منظار يتأثر بتدينها وعقائدها الدينية، فالموافقون يرون أن المنطقة الآمنة ستوفر لعوائلهم حاضراً آمناً، ومُستقبلاً زاهراً يحتضن كل الطاقات الفكرية التي قررت الهجرة، ولم يتسنى لها الفرصة لتفعيل إمكانياتها لخير شعبنا المسيحي. واقع الآمان هذا لربما سيدفع بالعديد من العوائل التي هاجرت البلاد مُكرهة ولم يتسنى لها فرصة تأسيس جذور لها في الخارج للعودة إلى البلاد من جديد والاستفادة من هذا الواقع، وإفادة المنطقة بما لها من مؤهلات أكاديمية وعلمية ومهنية مُتميزة.

ستضع المنطقة الآمنة حداً لعذابات شعبنا المسيحي الذي وجد نفسه في صراع لم يختره ولم يُشارك فيه، لكنه صار أشبه ما يكون بحطب المعركة. الآلاف من الأبرياء سقطوا ضحايا مع نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى استقلال إقليم كوردستان. الجميع يُقر بأن المسيحيين يعيشون آمنين اليوم في اقليم كوردستان ويحضون بالرعاية والمكانة، وهذا لم يكن ليكون لولا هذا الصراع الطويل، لكن يبقى أن الشعب المسيحي لم يكن طرفاً رئيساً في النزاع كلّه، ووجد نفسه بين فرقاء دفع ثمن ذلك تهجيراً وانتهاكاً للحُرمات والكرامات.

ستوفر المنطقة الآمنة كل الفرص والإمكانيات اللازمة ليلتزم شعبنا حضارته وثقافته ولغاته المُتميزة والتي أُهملت وأُقصيت عن عمدٍ من قبل الحكومات السابقة، ليُطوّرها ويُستثمرها لخير المنطقة. سيكون بالإمكان فتح مراكز دراسية وفق رؤية مُنفتحة لثقافة وفكر الآخر المُختلف، ومنتديات ثقافية واجتماعية تُسهم في طرح حضارة وفكّر مُتميّز سيُؤثّر إيجاباً على واقع المنطقة ككل. سيكون لهذه المراكز قوّة جذب لكل الإمكانيات الفكرية الوطنية التي بدأت تُعاني ومن عنف خفي ومدروس يوُجه ضدها، فيُقصيها هي الأخرى نحو الصمت الإجباري.
 
ستتمتع المنطقة المُقترحة لتحتضن المسيحيين بالأمان وبفرص عمل مستقرة وباقتصاد يعتمد بالدرجة الأولى على الضريبة واقتصاد البنوك الآمنة وعلى تجارة العقارات والسياحة، والتي ورُغم محدودية مدخولاتها المالية، إلا أنها ستُسهِم بشكل أو بآخر مع الحصة المُخصصة للإقليم المسيحي من الحكومة المركزية الحفاظ على مستوى معايشي آمن للفرد. البعض يذهب بعيداً ليرى في هذه المنطقة سويسرا الشرق الأوسط. هذا إذا ما كُنّا قد شُفينا من داء الفساد الإداري والمالي، وتعاملنا بشفافية في منظومة اقتصاد عالمية.

المنطقة الآمنة: جنون وتهلكة

يقف إزاء هذه الآراء نُخبة من أبناء شعبنا مُعارضين مثل هذه التوجهات لما فيها من خطر يرونه حقيقيا وواقعيا. فلم يحسم الأكراد والعرب بعد موضوع الفدرالية بكل تفاصيله وتشعباته السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. وإذا ما قدّم المسيحيون مشروع فدرالياً جديداً، فهو ورُغم عدم مُعارضة الأكراد المُتوقعة لها، سيُثير ردة فعل مُتحفة لدى العرب الذين يرون في الفدرالية فرصة لتقسيم البلاد، وسيُواجه العراق أزمة سياسية جديدة هو في غنى عنها في هذه المرحلة. فيقول المعارضون: لا للمنطقة الآمنة.

ثم أن المنطقة المُقترحة (سهل الموصل) ستجعل المسيحيين ومساكهم شريطاً حدودياً عازلاً ما بين العرب والأكراد، أو على الأقل سيُؤمن جزءُ مُهماً لإقليم كوردستان. وهذا يعني أننا سنكون عُرضة لصراعات الآخرين على أراضينا الآمنة. مَن سيحمينا من تدخلات الجوار؟ شكل القوات وتمويلها ومرجعياتها؟ أو لا سيكون كل ذلك محاولة لتعزيز وتثبيت نظرية المليشات الطائفية التي يود الجميع التخلّص منها؟ ما هي عاصمة الإقليم ووفق أي أُسس سيتم اختيارها؟ لربما نُطالب بتثبيت حقوقنا الحضارية والثقافية والاجتماعية، أما عن تثبيت منطقة آمنة للمسيحيين، فبالتأكيد الجواب سيكون: لا للمثل هذه المنطقة الآمنة.


ثم أن هذه المنطقة (إن كانت سهل الموصل مثلاً) الآمنة لا تمتاز بمنافذ حدودية نحو العالم الخارجي مفتوحة، فهي مُحاصرة من قبل أطراف لم تُصفي قضاياها الشائكة بعدُ. فليس هناك فرصة حقيقية لاقتصاد حُر وآمن، بل سيبقى مصيرنا مرتبطاً بالواقع السياسي والاقتصادي لمَن هم من حولنا. فلا للمنطقة الآمنة.

وأخيراً وليس آخر: إذا ما قُمنا بتجاوز هذه العقبات بحلول واقعية ليست مُستحيلة في عالمنا المتُغيّر: ما هو أسم هذا الإقليم؟ لا تُسرعوا في الإجابة خبرة الثلاث سنوات التي مضت بيّنت صعوبة الوصول إلى تسمية موحدة لتجمعاتنا السياسية والفكرية والحضارية. وكيف السبيل لتشكيل برلمان يُدير شؤونه؟ ما هو شكل دستوره وأين هو موقع مثل هذا الدستور في دستور العراق الأم؟ فنرجوكم نحن في غنى عن تخبطات جديدة فلا للمنطقة الآمنة. [/b]

15
هذا ما قُلناه ... تخبطات

الأب بشار متي وردة


لربما يتسأل كثيرون آلت بنا الأحداث ليقف سياسي مسيحي ويُصرّح بمواقف يعوزها قراءة سياسية متعمقة للأحداث ومُجرياتها، ولا تمت بصلة للمسيحية. ومع أني لست خبيراً بشؤون السياسة، إلا أنني كنت آمل أن أسمع لخطاب مسيحي التوجه، لاسيما وأن الحدث يُعنى بالوفاق والمُصالحة، وما ذا يستطيع أن يتحدّث عن المُصالحة بإنسانية وعمق ومسؤولية مثل المسيحي؟ 
كان الأجدر بالسيد اليوسفي أن يكون صوتاً يُسهّل ويُمهد للحوار والتوافق لا أن يأخذ موقفاً مع الأطراف، والتي ونظراً لحسابات اجتماعية ودينية وحضارية مُعقدة ستتوحد إزاء الآخر المُختلف يوماً ما. فاليوم الثاني والثالث شهد لقاءات ومُصافحات ونقاشات لم تكن متوقعة للوهلة الأولى، ولكنهم سيتفقون، ويكون اليوسفيي وغيره أطرافاً ثانوية في اللعبة السياسية وواجهات لمُهاترات مصيرها أن تتغير بتغير الظروف والمناصب.
ناهيك عن أن لكل طرف من الأطراف المُتفارقة والمجتمعة حول طاولة النقاش اليوم موقف وتسجيل حافل بانتهاكات الآخر لحقوقه، ولنا نحن أيضا تسجيلنا للمظالم التي عاشها ويعيشها أبناء شعبنا. ولكن المناسبة والحدث تجعلنا نتجاوز ما بين أيدينا مترجين مُستقبلاً أفضل للأجيال القادمة. كرامة شعبنا تُنتهك في ميادين عدّة، ولا من مُصغي ومُستجيب لأنينه، ولكننا رُغم ذلك، نحاول أن نرسم ابتسامة عميقة بعمق تاريخنا وحضارتنا نحن المسيحيون أبنا ء العراق، ساعين لأيام أفضل، ولفرص يكون فيها الحوار ودياً أكثر مما هو عليه الآن.
كُنا نأمل منه كصوت مسيحي أن يحمل للحاضرين فرص وإمكانيات للحوار وتضميد الجراح لا تعميقها. كُنا ننتظر منه أن يُعلي من شأن المُصالحة ويُبين فرص الحياة فيها، وأن يُعين الفرقاء ليلتزموا مسؤوليتهم لا على الماضي فقط، بل تجاه مستقبل الوطن الذي يبحث عن مُخلصين يُريدون بناء سلام عادل. كُنا نريد صوتاً يُوقظ  المُستمعين من الاستغراق في الماضي والاسترسال في الذكريات المؤلمة ليتحاورا لا خلف جدران التحفظات التي بنوها ويُريدون الاحتماء خلفها وحماية مصالح ومناصب، بل يتصافحوا واثقين واحدهم بصدق نوايا الآخر. كنا نطمح لخطاب يُشجع ويحث على الالتزام بمغامرة المصالحة والسلام، لا أن يُوقف المترحلين عند محطات وأحداث مازالت تتكرر.
والآن، وبعد هذا الزلزال المُدوي: أين أنتم يا ساسة المسيحية؟ هل ستكتفون بنشر التنديد والاستنكار وبيانات البراءة من تصريحات ومواقف اليوسفي إلى يوم الدين؟ أو لم يحن الوقت الآن إلى الحضور معاً والتحاور من أجل خطاب سياسي مسيحي صريح من الأحداث ومُجرياتها؟ هل ستنتظرون يوسفي آخر ليُوقظ هموماً أخرى؟ ما الذي ستُهيئونه للمؤتمر القادم من مواقف؟ ماذا ستُقدمون للعراقيين من برامج تُساعدهم على لملمة الفرقاء وتوحيد الصفوف، رغم الاختلافات (هذا أذا استطعتم أنت تجاوز اختلافاتكم)؟
اننا واعون أن الأحداث والمواقف المتباينة من رؤساء الكنائس لم تكن عاملاً مُساعداً في توحيد الصفوف، لكنكم أنتم مَن رغب في الإصغاء إليها رغبة بالمناصب. أننا ندرك حجم المسؤولية المُلقاة على عاتقكم، ولكننا نتطلع إلى مَن يسمو بالمرحلة ليفتح ابواب حياة حقيقية أمام أبناء شعبنا الذين سيعطونكم الثقة لأن تحملوا تطلعاتهم وهمومهم أمام ساسة العراق.
هناك تنازلات ولكنها تسوى لأجل شعبنا الرائع. هناك مجال للحوار كي تتثبت حقوق شعبنا فيواصل رفد العراق بحضارة إنسانية مُتميزة بأنها مسيحية الرؤية والتوجه. إذا كنتم تنتظرون من الكنيسة أن تُشير إليكم بموقف وتوجيه، فأتمنى أن تتعلموا الدرس ولا تحاولوا اقحام الكنيسة (حتى إن أراد رؤساؤها) بشؤونكم، مع أني مُقدّر  لأهمية المرحلة وحاجة الجميع إلى كراسي برلمانية. يتطلب الحدث منكم موقفاً شجاعاً، ووضوح رؤية ووحدة خطاب.
يكفينا تخبطات، فنحن بأمس الحاجة لخطاب واضح وجريء وصريح وموحد لسياسينا المسيحيين فيه ندافع عن كرامة إنسان تُهان بالقتل والاختطاف والابتزاز والفساد. إن أخاف اليوم الذي فيه يتفق فراقاء اليوم على توجه، فيُقدمونا نحن المسيحيون ذبيحة على مذبح السياسة تكفيراً عن اختلافاتهم، ويكون الوقت قد فات للأسفِ. [/b] [/size] [/font]

16
شعبنا يُذبح يومياً ... مَن يُصغي إلى صُراخه
الأب بشار متي وردة

هوذا انتهى فصل جديد من فصول المسرحية التي تُقدم على أرض الرافدين وقد قدّم فيها المواطن العراقي المسكين والمغلوب على أمره كلمته مُترجياً أن يكون هناك نهاية لأحزنه مُتفائلاً بغدٍ عسى أن يكون خيراً، وفي ذلك نُصلي كُلنا ونريد أن يشعر العراقي بأن تضحياته لم تذهب سُدى.
ولكني أريد أن أوجه عناية سياسينا المسيحيين الأفاضل وأذكرهم بالمسؤوليات الجسيمة التي تنتظرهم، لاسيما وأنهم عاهدونا بأن يُدفعوا عن حقوقنا مهما كلفهم ذلك من تضحيات حتى وإن كان كرسي البرلمان، فلا تحالفات معَ مَن يحترم ويحمي كرامة شعبنا.
أود أن أُذكرهم بأن شعبنا المسيحي قد قدّم أكثر من 95 شهيد منذ الأول من شهر أيار 2003 ضحايا القتل والإجرام. لم يسقطوا في ساحات القتال، بل في أوقات العمل أو الراحة مع عوائلهم. سقطوا عُزل وخُطفَت منهم الحياة، وخُطف معها مُستقبل وأحلام عوائلهم.
شعبنا المسيحي يُعاني ومنذ الأول من شهر أيار 2003 من اضطهاد خفي مُبرمَج ومدروس من قبل جهات وأحزاب وحركات بعضها فعّال على الساحة السياسية، ويتمثل هذا الاضطهاد في تهجير وترحيل عوائلنا المسيحية من مناطق سُكناها في بغداد والمُحافظات بأشكال وبأساليب تكتيكية عديدة: منها تهديد مُباشر بترك الدار، أُخرى بأوراق مكتوبة، باتصالات هاتفية صريحة، بسطوٍ مُسلّح، باختطاف وابتزاز مُجحف ... ولكم أن تتصورا المزيد.
فصرنا نخسر يومياً ما بين 3- 4 عوائل تترك منازلها مُضطرة إلى قُرى ومناطق لتبدأ من الصفر، أو (وبكل أسف) تُغادر البلاد بألم ورُعب، والاضطهاد مُستمِر.
عراقنا يخسر كفاءات مسيحية لها مكانتها بسبب سياسية المُحاصصة والمحسوبية. فلم يعد أمام هذه الكفاءات مجال كونهم لا يمتلكون سند حزبي يُؤَمِن لهم عملاً يليق وما يحملونه من كفاءات. تصوروا أن بعض المدارس والمراكز الحكومية صارت تطلب كُتب تزكية من أحزابٍ مُعينة دون غيرها!
فلماذا السكوت على مثل هذه التصرفات؟ وهل يُمكن أن نُبرر ذلك بأنه تصرف شخصي من مسؤول غير مُلتزم بمَهام ومُتطلبات وظيفته؟ هذه كلها عوامل سلبية تُسهِم في زيادة الهجرة والتشرّد بين البلدان طالبين الأمان، مُتحسرين على أتعابِ الماضي وجهود سنين. ناهيك من أننا نُعاني كمسيحيين من انحسار مجالات العمل أمامنا.
صار شعبنا وكفاءتنا المسيحية صيداً سهلاً ولقمة سائغة لعصابات الخطف والابتزاز، ولا يُمكن أن نُبرر الأمر بالقول أنها أزمة البلاد، هناك تركيز مُتعمد على شعبنا وعوائلنا يجعلنا نتسأل: مَن المُستفيد من كل هذه العملية؟ وما هي الدوافع خلف عمليات كهذه؟ لنتشجع ونسأل ونُناقش!!!
فيا سياسينا المسيحيين الشرفاء، شعبكم أمانة في أعانقكم، دافعوا وواصلوا النضال من أجل كرامته ورفعته. نُؤَمنُكم قضايانا وثقتنا وكلنا أمل بأن ترفعوا أصواتكم وتُعدلوا مع الخيرين من أبناء العراق من فقرات دستور يعوزه الكثير ليكون عراقياً. لا نريد أن نُنمح الحياة عطية ومِنّةَ من فلان أو فلان، الحياة عطية الله، ونحن أهل العراق قبل غيرنا ولسنا ضيوفاً على أرض الرافدين.
نحن مَن علمنا الفلسفة والطب والرياضيات وعلم الفلك. نحن مَن قدّم التضحيات قبل الأكراد والشيعة والسنة. فلا نريد مَن يتفضّل علينا بأن نُمارس عقائدنا وشعائرنا كمنحة يسلبها متى ما شاء.
تيقظوا يا سياسينا الأعزاء، فهناك مَن يُريد أن نُغمِض العيون لعيون العراق الذي هم يُفصلونها جديداً على مقايسهم. شعبُنا يُضطهَد يا سادة يا كرام. شعبُنا يُذبح خلف كواليس مسرح العملية السياسية والتي يُريدوكم أن تُشاركوا فيها لكسب إعلامي لا غير. والفصول القادمة أشدها ضراوة على المسيحية وعلى العراق.
نريد أصواتاً سياسية مسيحية عالية وجريئة تفضح ما يُنتهك في بلد الحُريات. أصوات شُجاعة تُغزي نواياً بُناة العراق الجديد. فالمسيحية والعراق أمانة تبحث عمَنّ يصونها ويحمها فبوركت مساعي وشجاعة مَن يتقدم ليُخفف عنها الألم والعذاب، ويُطيّب أيامها بالفرح.[/size] [/font]

   

17
الكنيسة وتحديات المرحلة الراهنة



الأب بشار متي وردة
أستاذ الأخلاق في كلية بابل

تواجه كنيسة العراق تحديات عدة في مرحلة حاسمة من تاريخها المُعاصر. وأود هنا أن أواصل ما طُرح من بحوث ومقالات وتأملات في ذات الموضوع من قبل العديد من أبناء الكنيسة الغيارى، في محاولة منّا جميعاً للمُساهمة في ديمومة رسالة الكنيسة من أجل دور أكثر فعّالية في مجتمعنا.

وأريد أن أُشير أولاً وقبل كل شيء أني لستُ من الذين يُشيرون مُنتقدين بل أُحب أن أكون في ركب العاملين، كنيستنا بحاجة إلى عاملين أكثر منها منتقدين. وما انتقادي إلا غيرة لكنيسة العراق ذات الأصالة والتاريخ والبُطولات، وأريدها رائدة في كل المجالات وتُواصل حضارة نفتخر بها جميعاً  بذات الهمة والعزيمة التي جعلت أباءنا يستلمون ويُسلمون الأمانة لنا لتكون منارة تُضيء وتُنير ظلمة مُجتمعاتنا الشرقية. إضافة إلى أن ما سأكتبه ليس رأياً شخصياً فحسب، بل هو جزء من تعليم ورؤية الكنيسة الكاثوليكية في الشؤون الاجتماعية، ونابع أيضاً من تعايشنا لواقعنا العراقي وإصغائنا لأصوات وهموم شعبنا وتطلعاته المُستقبلية.

وصل الجميع إلى قناعة من أن هناك أزمات بدأت تُحرج الكنيسة وتسأل عن تفهمٍ وحلول أود تلخيصها وفق أولويات أرها من وجهة نظري المحدودة بالطبع:-

1.   أزمة رؤية. رؤية مُشتركة لكنائس العراق، خطاب فيه رؤية وقراءة للواقع وللطموحات من منظور كنيسة العراق يأتي مؤثراً على الساحة العراقية. أصدر رؤساء كنائسنا العديد من الرسائل والبيانات، إلا أنها جاءت مُعظمها (إن لم يكن جميعها) كردة فعل لحدث أو ظاهرة، في حين أننا بحاجة إلى خطاب مُبادرة له وزنه في أحداث البلاد وواقعها. كيف ترى كنيسة العراق سير ألأحداث وما الذي ترجوه وتنتظره من الجميع مسؤولين ومواطنين. وكُنا نتوقع أن يأتي خطاب كنيسة العراق مُذكراً الجميع بمبادئ أساسية لأي حضارة تريد الحياة الكريمة: كرامة الإنسان وشرف الحياة، المواطنة، الكفاءة في القيادة، حقوق الإنسان الأساسية، العلاقة والحوار مع الديانات الأخرى  ... اختلاف الطوائف المسيحية لن يمنعها من التجمع والبحث عن قواسم مُشتركة تؤول لتبني رؤية مسيحية لواقع البلاد ومسيرته.
2.   بالطبع إنعكست هذه الظاهرة أيضاً على الخطاب السياسي المسيحي الذي تمنيناه موحدا والذي لم يشهد النور لحد الآن وأعني به خطاب تجمع الأحزاب المسيحية العراقية الذي يتعهد فيه الجميع بالعمل معاً لضمان الحقوق الأساسية لمسيحي العراق، بالرغم من اختلاف توجهات الأحزاب ورؤيتها، ولكني أرى أن هناك أمكانية للاتفاق على الأساسي الذي لن يتنازل عنه أي تجمع سياسي مسيحي. مسيحيونا يُعانون في العراق من إهمال وتجاهل وتنكر لكفاءاتهم ودورهم، هناك مَن يُجبرون على ترك وظائفهم، وآخرون كثيرون لا ينالون المناصب التي يستحقونها. حقوقونا تُهضَم وبأشكال عدّة مَن الذي سيُدافع عنها.
3.   أزمة التعامل مع الشؤون السياسية والقضايا القومية. للكنيسة الكاثوليكية (كما لغيرها) توجيهات واضحة وصريحة في هذا المجال، فهي إذ تحضر إي نشاط سياسي على الإكليروس تُشجع وتحث مؤمنيها لأن يلتزموا دورهم السياسي في البلاد التي يعيشون فيها ليتمكنوا من إظهار تأثير بشارة يسوع المسيح على حياة الإنسان اليومية ولن يسمحوا لأن يُرخص الإنسان من أجل مصالح سياسية واقتصادية. الكنيسة بحاجة لأن ترسم خطوطاً واضحة في هذا المجال، ولا تحاول أن تعلب أدواراً ليست لها. لقد قرءنا العديد من البيانات السياسية التوجه من العديد من رؤساء الكنائس في العراق وخارجه كان الأجدر بهم أن يتأنوا قبل تبنيها رغم ما تحمله من حقائق، إلا أنها تبقى خارج الاختصاص.
4.   أزمة الهجرة التي لم تنفك تتزايد والجميع يتصور خطأً أن الكنيسة ليس بمقدورها أن تفعل شيء إزاء هذه المُشكلة العويصة، وأعتقد أن ذلك هو نُصف الحقيقة. فالكنيسة قادرة على استيعاب وتوجيه الكفاءات المسيحية في مجال التعليم والصحة (والتي والحمد لله) والتي نفتخر جميعاً بكثرتها وكفاءتها. للكنيسة إمكانية وفرصة استثمار مواردها المالية لفتح مراكز أكاديمية (مدراس ومعاهد وجامعات) ومُستشفيات لتُوفر لأبنائها فرص عمل آمنة (أكاديميين وكوادر إدارية من موظفين ومنتسبين)، ناهيك عن التأثير البليغ على ثقافة البلاد وتوجهاتها، نظراً للثقة التي يتحلى بها نظام التعليم المسيحي من قبل جميع فئات البلاد. وتستطيع الكنيسة في ذات الوقت أن تطبع في بحروف من ذهب عظمة حضارتنا المسيحية في العراق وما حوله (تُعلّم لغتها وتاريخها وحضارتها). والحديث يطول في هذا المجال وأتركه للمُختصين في شؤون التربية والثقافة والاقتصاد لاستكشاف جوانبه وإمكانياته. وبذلك سنُسهِم بشكل فعّال في محو الوصمة التي وُسِمنا بها من أننا مُختصون في بيع الخمر.
5.   أزمة البطالة التي ضربت البلاد ومسيحينا بشكل خاص نتيجة الظرف الأمني بالتأكيد، ولكن سياسية المُحاصصة والمحسوبية والفساد الإداري والاضطهاد الغير المُعلن على كفاءاتنا من قبل "بعض" (وليس الجميع) المسؤولين ساهم في تعظيم الأزمة علينا  والتي ستؤول بالتأكيد لزيادة عدد الراغبين في الهجرة. وكما ذكرت أعلاه للكنيسة إمكانية التخفيف عن الأزمة من خلال حوار جدي مع ذوي الإمكانيات المالية المُستقرة لفتح باب الاستثمار وتوجيه رؤوس الأموال المسيحية في هذا المجال، وللمعنيين بشؤون المال والاقتصاد حديث شيّق في هذا المجال.
6.   أزمة التعامل مع التجمعات الإيمانية الجديدة التي بدأت تتغلغل في تجمعاتنا الكنيسة وراحت تستقطب عدداً ليس بالقليل، وليس لنا أن نتعامل معها وكأنها "خراف تبحث عن مراعٍ خصبة" (أي إنهم قوم ضالون يبحثون عن المال) لأننا نلاحظ أن هناك مسيحيون مُلتزمون من كنائسنا يعملون في مُختلف الأنشطة الرعوية وبُمسميات جديدة. على الكنيسة أن تُراجع برامجها التعليمية وأنشطتها التثقيفية المسيحية فتُبادر وتُسخر إمكانياتها في هذا المجال لإعادة هذه الطاقات واستثمار مواهبهم خدمة لكنائسهم. نحمد الله لنا علمانيون يحبون الكنيسة وكلهم غيرة لها يُرخصون الغالي والنفيس لتدوم منارة لمجتمع تفككت أُسسه الإنسانية وينتظر الخلاص.
7.   أزمة تقييم حضارتنا المسيحية العراقية. بالطبع أُسجل بافتخار محاولات قام بها العديد من أبناء كنائسنا العراقية البررة، إلا أن الحاجة باتت ماسة لمشروع تُوظف فيه كنائس العراق خبرائها ومُختصيها في مجال الأدب، والفن والتراث والفلكلور ليُوثق ويتم إحيائه ليكون جزء من تميزنا في الأمة العراقية. نحن مواطنون مميزون بكفاءاتنا ليس فحسب، بل في لغتنا (بلهجاتها) وتراثنا وطقوسنا وعاداتنا وفلكلورنا وفننا، مع أمنياتي لفضائيتنا بالتوفيق في هذا المجال.
8.   أزمة في الحوار مع الآخر المُختلف عني مذهبياً ودينياً وحضارياً. فما زال الخوف من الآخر يُسيّر مسارات الحوار وبالتالي لن يُوصلنا إلى حوار حقيقي. لنا أن نستفيد من خبرات أباءنا الذين واجهوا قدوم الإسلام وانتشاره بنزولهم إلى عاصمة الخلافة الإسلامية والعمل فيها بشكل مؤثر، فلم يخافوهم لأنهم كانوا مُتسلحين بالثقافة والعلوم فعلموهم الفلسفة والطب وغيرها من العلوم . لقد استطاعت المسيحية أن تفتح أبواب الحضارة العالمية أمام الإسلام، فلما لا نستفيد من دروس الماضي؟ 


18
الكنيسة والسياسة والقومية
عندما تختلط المهام
[/b]



الأب بشار متي وردة
أستاذ الأخلاق في كلية بابل

يتسأل كثيرون اليوم: هل يحق للكنيسة أن تُقحِم نفسها في جدالات ونقاشات تتعلق بالسياسة والقومية؟ بالطبع سيكون الجواب: لا ليس من حق الكنيسة ذلك ولا يتوقع مؤمنيها أن تُنصِبَ نفسها مرجعية في شؤون السياسة والاقتصاد والقومية فذلك يُناقض جوهر رسالتها.

فرسالة الكنيسة شاملة وليس لها حدود جغرافية تُحدد نشاطها "إذهبوا وبشروا كل الأمم ... (متى 28:19). لقد كُلفت بأن تشهد لبشارة يسوع في جميع الأمم، وما بين حضارات وثقافات مُنفتحة وفاتحة أبوابها للجميع دون استثناء، مُقيمة عظيماً ثقافة وحضارة الجميع. إنجيل يسوع المسيح خبر سار يفتح آفاقاً واسعة أمام الإنسان، ويسنده في إنفتاحه على الآخر فلا يخاف اختلافه، بل يُحاوره لينتعش اللقاء، فينضج الإنسان في إحساسه بمسؤولياته والتزاماته تجاه الآخر، الخليقة والأجيال القادمة. الكنيسة تعمل إنطلاقاً من ثوابت لا تتغيّر بتغيّر الظروف والمكان، لأن الإنسان يبقى مُحترماً في كرامته، وتلتزم الكنيسة بالدفاع عنها بعيداً عن أية مصالح سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية.

فيما يُؤخذ على جدالات ونقاشات السياسة والاقتصاد مرونة عالية في تغيّر ما تدعي أنها من الثوابت، فحلفاء اليوم قد يكونوا أعداء الغد، وهذه ظاهرة طبيعية جداً. ناهيك عن أن نقاشات القومية تميل إلى التحديد والحصر حتى وإن إدعت أن العالم قرية صغيرة، فهو كذلك ولكن إنطلاقاً من أرض وزمان مُعرّفة، وهو ما يتعارض وتوجهات الكنيسة. فأنا كاهن للجميع دون استثناء، وأتقاسم التأمل في كلمة الله وعيش بشارة يسوع مع كل مؤمن دون تمييز عرقي أو طائفي أو قومي. رعيتي تستقبل الجميع وأنشطتها موجهة لكل مَن يُريد اللقاء بيسوع المسيح مُخلصاً. إني أقف أمام رعيتي مُمثلاً لا نفسي وجماعتي وشعبي وأمتي، بل كنيسة يسوع المسيح كلها. ويوم يتحسس المؤمن لأي نبرة قومية أو طائفية أكون ممن مَن يُشاركون في صلب يسوع من جديد ورفعه بعيداً عن هذا وذاك.

ولكن كيف انتهت بنا الأيام لتكون الكنيسة منبراً لتصريحات سياسية وقومية التوجه؟ مَن يتحمل مسؤولية ما يحدث الآن؟ وما هو ثمن ذلك؟ ومَن سيدفع الثمنَ؟

واقع شعبنا واقع فريد من نوعه، فلسنوات طويلة تعاملت الدولة بشكل قاسٍ مع الأنشطة السياسية التي لا تخضع لسيطرتها المُباشرة فمنعت أي نشاط سياسي وحاربته دون هوادة. وأجبرت الكنيسة على أن تلعب دوراً لم يكن ضمن نطاق مسؤولياتها: أن تكون مُحامية حقوق المسيحيين ومارست ذلك وفق الحدود التي رسمتها لها الدولة. رغم ثُقل المسؤولية وجسامة هذا العمل إلا أننا لا نُنكر أن بعض رجالات "تونسوا" لمثل هذا الدور وراح البعض يُعلن الولاء المُطلق للدولة وأجهزتها ويُدافع عن سياساتها، حتى أنهم البعض منهم عُرّف بالدولة.

اختلفت الظروف وتغير نظام الحكم وهي ظاهرة طبيعية في السياسة والاقتصاد. وكان الأجدر بالكنيسة أن تُعلن إنسحابها من هذا المجال سريعا وتهتم بشكل مُركز بالرعية وشؤونها ومشاكل مُتراكمة شكلت حملاً ثقيلاً على الكنيسة، وتتأسف في ذات الوقت على الدور الذي أُجبرت على أن تلعبه سابقاً وعلى الأخطاء التي رافقت ذلك. وكان حرياً بسياسينا المسيحيين أن لا يطرقوا أبواب الكنيسة طالبين دعماً لتوجهاتهم وقضاياهم المُتشعبة، وتصديقاً لطُروحاتهم الفتية في خطوة لنيل ثقة رجال الدين ومن ثمة أصوات الناخبين وهي هدفهم الأول والأخير بالطبع، رغم أن أصوات الناخبين هي حق طبيعي للساسة وتشرعه القوانين، ولكن يجب أن لا يكون على حساب بشارة الكنيسة ورسالتها.

لقد سقطت الكنيسة في فخ السياسيين الذين أرادوا منها أن تُقدمهم للمؤمنين عوض أن يُقدموا هم أنفسهم من خلال سيرتهم النضالية وبرنامجهم الحزبي وتطلعاتهم السياسية للدفاع عن حقوق الشعب وقضاياه. لقد اكتشف بعض الساسة أن الكنيسة هي أقرب طريق لأصوات الناخبين وللكرسي النيابي، فراح يقترب من رجالاتها في مسعى منه لنيل ثقتهم، وبالتالي تأيدهم له. واتفق ذلك بالطبع مع تكاسل وتنكر الكنيسة في مواجهة تحديات الواقع الغامض والمُتشعِب لمؤمنيها فراحت تواصل اللعبة القديمة.

والحال أن الكنيسة هي التي ستدفع الثمن. لأنها بدأت تفقد ثقة المؤمن الذي بدأ يتعرّف على هيئة جديدة للكنيسة من خلال تصريحات سياسية نارية وخُطبٍ قومية، عوض أن يسمع بشارة يسوع له في واقعه. خُطب يتوقَع المؤمن أن يسمعها من ساسة ومُحللين اقتصاديين وخُبراء في التاريخ والشؤون القومية. ولن يتألم كثيراً أو يتفاجأ إذا ما تغيّرت غداً أو تساقطت مثلما تتساقط كل الشعارات السابقة. كيف للمؤمن أن يثق برسالة الكنيسة وهي تُلتزم الظاهرة السياسية والتي كثيراً ما تُرخص الإنسان وتجعله رقماً في حساباتها عوض أن يكون كرامة وحياة تُصان وتُحترم.

نتوقع من الكنيسة اليوم أن تُعلن إنسحابها مُبكراً، وتترك الساحة السياسية والجدالات القومية للمُختصين في هذا المجال. ننتظر من الكنيسة أن تُشجع سُبل الحوار البناء ما بين أبنائها، وتُعينهم في اللقاء رغم الاختلاف، فلا تلتزم طرفاً على حساب آخر، ولا نريدها محسوبة على هذا التجمع أو ذاك التوجه، إلا لبشارة ربنا يسوع الذي تحدى صريحاً توجهات رؤساء وشيوخ الشعب اليهودي ليدعو جميع الأمم للقاء الله الآب.

وندعو الساسة والمُختصين في شؤون القومية أن يتعاملوا بصدق مع الكنيسة ولا يستغلوا نطاق عملها ليُقحموا "أجندتهم". لهم أن يستفيدوا من وثائق الكنيسة وأدبياتها، على أن لا تكون الدليل المُطلق في أراء وبحوث ما زال البحث متواصلاً فيها. فلا ننسى أن كل أدبيات الكنيسة جاءت إنطلاقا من نظرة إيمانية مسيحية حددت الطرح والبحث والنقاش والاستنتاجات. لهم الحق أيضاً في أن يسألوا الكنيسة العون في فتح أبواب الحوار للوصول إلى رؤية مُشتركة على أن لا تتبنى الكنيسة هذه العملية إجمالاً، بل تُنشط وتحث وتُشجع. فلن يكون بيننا مَن يمتلك الحقيقة كلها، بل ترانا نسعى جاهدين لتلمس الطريق إليها. وربنا يُبارك مساعي الجميع. 

19
المؤسسة الدينية والسياسة



الأب بشار متي وردة
أستاذ الأخلاق في كلية بابل للفلسفة واللاهوت

قد يبدو العنوان غريباً بعض الشيء لكثيرين، فبعضهم، لا سيما في دول العالم الثالث، يفتكرون أنه من الطبيعي جداً لأي مؤسسة دينية أن تتدخل في قيادة سياسة البلاد، غير واعين لاستحالة وجود علاقة حقيقية ما بين تجمع ديني ثابت ومؤمن بالقيم وما بين تجمع متقلّب كالسياسة. فيما يرى آخرون أن الطلاق لا محالة صائر أن يكون ما بين الدولة والمؤسسات الدينية، فزواجهم باطل.

واقع بلادنا يكشف غير ذلك، فما بين معارض ومؤيد للقضية نتطلع إلى حوار مُتبادل ما بين الساسة والمؤسسات الدينية، فهذا من شأنه خدمة البلاد والمواطن بشكل حقيقي وصحي، إذا ما حافظ كل منهم على رسالته ومَهامه في المجتمع. ورغم أن أصوات عدّة بدأت تعلو مُطالبة بعلمنة المؤسسات المدنية والرؤية السياسية للبلاد، إلا أنني ما زلت أرى أن هناك دوراً يُمكن أن تلعبه المؤسسات الدينية في عراقنا، ويؤول حتما إلى خير مواطنينا، لا سيما إذ ما فُسح لها المجال لتُسهم في تثبيت قيم ومفاهيم تُعلي من كرامة الإنسان ونُبل اختياراته. فلا نريد زواجاً أبدياً ما بين الدين والدولة، إلا أننا لا نطمح لعلمنة مُطلقة لتُراثنا وحضارتنا العراقية التي كان ومازال للتدين تأثير بالغ عليها.

نؤمن كلنا بالله الواحد والذي دعانا لأن نعيش على هذه البسيطة ونُخضعها ونطوّرها لخير الناس، فيعيشوا بكرامة وشرف مُصان بما نسنّه من قوانين ومُشترعات تُنظم الحريات والتعايش السلمي ما بين شعوب تختلف في توجهاتها وتراثها. فواقعنا يشهد لحقيقة عالم اجتماعي وحضاري واقتصادي وثقافي مُعقّد ومتأزم أكثر منه سياسي اليوم. ويشهد عالمنا أيضاً تغيرات جذرية غير مُتوقعة لاسيما في المواقف السياسية، فمَن كان إرهابياً حتى الأمس القريب، أصبح اليوم حليفاً يُفاوض ويُستشار. هذه وغيرها تُشكل أحياناً كثيرة تهديداً وتحدياً يقلب كل الموازين وما كان يُعتقد أنه من الثوابت. فالثابت اليوم هو التغيير الدائم. وتجعلنا هذه الحقيقة نواجه العديد من الفرص والمسؤوليات إزاء عالمنا، ويسألنا موقفا ملتزماً مسؤولاً من اقتصاديات وسياسات له تأثيرها البالغ في حياة إنسان اليوم والغد.

إننا مدعوون إذن لأن نُقيم ناقدين هذه السياسات وتلك الاقتصاديات وهاتيك التحالفات، لا فيما تُنتجه فحسب، بل تأثيراتها على حياة الإنسان سواء أكان يحفظ للإنسان كرامته وحقوقه الفردية أم يستهين بها. فلكل القرارات السياسية عواقب إنسانية ومضمون وعواقب خلقية تَمُسُ جسده يف الصميم وتأتيه إما عونا أو جرحاً، تقوي عائلته أو تُضعفها، تنمي العدالة أو تُزيلها من أرضنا. ترانا إذن جميعاً أمام مسؤولية الانتفاع من ينابيعنا الدينية والإيمانية، وقوة الاقتصاد العالمي، وروح المسؤولية المُتنامي لدى الكثيرين، لنُشكّل مجتمعا يحمي ويصون الكرامة والحقوق الأساسية لأخوتنا وأخواتنا أينما كانوا؛ سواء في البيت، المعمل، المدرسة، المُصلى، الجمعيات والمؤسسات الخدمية، الدوائر القضائية … الخ.


الدين ناقد السياسة

ليس بمقدور أي دين أن يُقدم برنامجا سياسيا واقتصاديا مُفصلاً يتوافق والواقع الذي يجد فيه المؤمن به نفسه. ولا يستطيع أيضاً أن يُقدم للإنسانية نُظما اقتصادية تفصيلية تضمن للجميع الرخاء والاستقرار. فللدين مبادئ وثوابت عامّة تُوصي بالاعتناء بالفقراء والمُهَمشين والمظلومين، وينتقد بصراحة وشجاعة أي سياسات واقتصاديات تُسهم في زيادة الفقر والظلم، وهذا ممكن فقط كونه –أي الدين- مستقل ومنفصل عن السياسة. فلولا هذه الاستقلالية التي تتمتع بها المؤسسات الدينية لما كان لها الفرصة للنقد والتوجيه والإرشاد. 

فما هو مؤكد، أن رجل الدين، إذا ما أراد الصدق مع الذات، لن يقبل المساومة مع أي سلطة  مهما كانت إذا ما تعلّق الأمر بالفقراء والمظلومين. لا بل أنه مُجبرٌ بأن يُذكّر السلطات برسالتها تجاه المعوزين والمُضطهَدين والمظلومين ومَن قدّمهم المجتمع ضحايا صفقات تجارية مُربحة. هنا نود أن نُشير إلى القارئ المُتدين العودة إلى جذوره الإيمانية ويتأمل في الأصوات الصادقة (أعني الأنبياء) والتي حثّت مجتمعاتها على التوبة لا سيما في إنصاف الفقراء واليتامى والمظلومين. فلا يكفي أن يكون لرجل الدين أن يُوصي بعدم استهلاك الآخر، بل رؤية الآخر الضحية ونجدته. المتدين الصادق لا يفصل أبداً ما بين الإيمان وواقع الحياة اليومية لأن في ذلك مأساة إيمانية واجتماعية. له رسالة وشهادة عليه الالتزام بما لها من متطلبات. فليس هناك أي انفصال ما بين الإيمان ومتطلباته التعبدية ومضامينه الأخلاقية، وما بين الأنشطة المهنية والاجتماعية والسياسية.

الحياة السياسية جانب حيٌّ وفعّال ليُعلن ويعيش من خلالها كل إنسان رسالته الإنسانية ومبادئه وقيمه، وكل مؤمن إيمانه، ومحبته للإنسان مواجهاً تجارب ومحن بثبات ليُتمم إرادة الله للخليقة جمعاء مُحققاً بذلك دعوته الإيمانية بصدق. فيها يُحقق مواهبه أو يخسرها، يُعلي من آماله  وآمال الإنسانية جمعاء أو يحطمها. السياسة كالاقتصاد تجعله في لقاء تعاون مع الآخرين أو يُبعده عنهم غرباء.

فمع أن الدين لا يمتلك مخططا سياسيا أو اقتصاديا مميزاً بورقة عمل مُفصلة تُلائم جميع الأوقات والظروف، إلا أنه يتميّز بكونه حامل رؤية إنسانية تصلح لتكون أساساً في نقد النظم السياسية والاقتصادية المُعلنة. فللدين دعوة والتزام تجاه الفقراء والمُهَمَشين، ويُطلب من رجل الدين، والمؤسسة الدينية أن تكون صوتاً ينادي بالعدالة لمَن أبعدتهم ظروف وبُنى المجتمع السياسية والاقتصادية. ففي مجتمعاتنا الكثير من الذين جُرحوا، وتُركوا ليُعانوا من البطالة والتهميش، لاجئين ومُعذبين بأمراض شتى، عوائل تُجاهد بقسوة لتصون كرامتها. إنهم في كل مكان وأمام أعيننا ولا يُمكن تجاهلهم أو إنكار واقعهم. وبيننا أيضاً أناس تشعر مع هؤلاء ولهم من الغيرة والكرم والسخاء والإرادة الصالحة ليُعطوا ما يُخفف من ألم وعذاب هؤلاء.

ولأنني من ذوو الرأي من ضرورة إستقلالية المؤسسة الدينية عن الدولة لتتمكن المؤسسة الدينية من أداء مهامها بشكل صحيح، وتبحث عن مصالح المجتمع لأنها مصالح جميع المواطنين، بخلاف ما تبحث عنه الدولة التي تريد دوما وبأي شكل أن تُثبّت سُلطتها. بسبب ذلك، ولأن نجاح أي برنامج سياسي يعتمد بالدرجة الأولى على مقدرة البرنامج على استيعاب وتقديم رؤية اقتصادية واجتماعية عادلة للجميع، يُمكن للمؤسسة الدينية أن تُمارس هنا دوراً هاماً في الدفاع عن حرية وكرامة الإنسان لئلا يُستهلك من قبل أنظمة جائرة، فتكون الصوت الصادق الناقد الذي يُذكر المؤسسات والسلطات السياسية والاقتصادية بواجباتها تجاه مجتمعاتها.

أرى إذن أن مهام المؤسسات الدينية يتحدد بدور الرقيب والناقد لكل ما تُمارسه المؤسسات المدنية والسياسية والاقتصادية في مجتمع يحترم الدين. فيُمكن للمؤسسة الدينية أن:

1.   تُراقب فيما إذا كانت النظم والمواقف السياسة والاقتصادية تحمي وتصون أو تستخف بكرامة الشخص الإنساني. فغاية كل نشاط إنساني هو الحفاظ وصيانة كرامة الإنسان كشخص يُحترم وتُصان كرامته فلا يكون سلعة أو وسيلة أو عدد. فنحن نؤمن أن الشخص الإنسان مُقدسٌ كونه من صنع يد الله الذي ميزّه وحباه بصفات جمّة. كرامته تتجذر في الله لا في نظرية، أو أمة، أو قبيلة، أو طائفة أو جنس أو حالة اقتصادية، أو تبعاً لإنجاز إنساني.

2.   إذا ما ساهمت الدولة في تثبيت وتعزيز العائلة والتي هي المكان الصحي والصحيح لأي إنسان يُترجى منه نموا صحيحاً. فهل تُسهم قرارات الدولة في تشجيع العائلة وصيانة أُسسها فلا يُضطر رب الأسرة على العمل على حساب الحضور بين أبنائه وعائلته.

3.   مدى إمكانية المواطنين جميعاً من دون استثناء للمساهمة في الحياة السياسية والاقتصادية للمجتمع فهاذ حق مشروع لكل مواطن، ويأتي أي نظام سياسي يحرم الإنسان هذا الحق ظلماً وانتهاكاً صريحاً لبسط حقوقه. حق العمل، حق شرعته وثائق حقوق الإنسان، لا سيما لمَن هو قادر على ذلك، وله من الإمكانيات والمؤهلات الفكرية البدنية تُسهم في نمو وتطوير الجماعة.

4.   هل أن الدولة التزمت مسؤولية رعاية الفقراء والمُهَمَشين. فالعدالة في أي مجتمع تقاس وُتفحص بالنظر إلى كيفية تعامل المجتمع مع الفقراء، المُهَمَشين، اليتامى، الأرامل. دفاعاً للضعيف، أن نُقيّم تأثير النُظم والمؤسسات الاقتصادية والسياسية على حياة هؤلاء. وهذا لا يعني إعلاناً صريحاً بشن ثورة جماعة ضد أخرى، بل توطيد أواصر الثقة بين مختلف طبقات المجتمع من خلال مساعدة الأكثر فقراً، فالأكثر حاجة يتطلّب اهتماماً ورعاية أكبر.

5.   حقوق الإنسان هي أقل ما يُطلب من ظروف في حياة أي جماعة. ولا نعني بحقوق الإنسان تلك المتُعلقة بالسياسة والحياة المدنية فقط، بل ما يختص الحياة الاقتصادية أيضاً. فللجميع الحق في الحياة، المأكل، الملبس، المسكن، الراحة، والرعاية الطبية، التثقيف، والعمل. وهذا يعني واقعاً، أنه إذا لم نسعى لتوفير فرصة عمل لإنسان يحصل منها على معيشته، فسنجربه على العيش في جوع وتشّرد، وبالتالي نحرمه من أبسط حقوقه الأساسية. فعلى المجتمع أن يُؤكد على ضرورة وجود أجواء وظروف حياتية تضمن وتحمي هذه الحقوق.

6.   ضرورة توفّر الأجواء الصحيحة ليُمارس كل مواطن نشاطه السياسي لضمان حقوق كل الأفراد وواجباتهم في ممارسة الحرية المدنية بكل جوانبها، ساعين نحو الخير العام للبلاد. فيُدافع عن حق كل فرد في التجمع والشراكة والتعبير عن آرائه الشخصية وممارسة دينه سرا وعلانية، يبذل كل ما في وسعه لحماية حقوق الأقليات ضمن البلاد، فتسود وتعلو صفة المُواطنة لدى الأفراد، ليتساوى الجميع أمام قانون وضعي يضمن حقوق الجميع مُعتمدين صفة الكفاءة في توزيع الوظائف والمهام والوجبات.
 
في ضوء ما جاء أعلاه، تستطيع المؤسسات الدينية أن تُمارس دوراً ناقداً لتفضح سياسات وتُخزي اقتصاديات، كل ذلك لا من أجل إشاعة فتن وحروب، بل تثبيت دعائم سلام حقيقي بين طبقات المجتمع. فالسلام والعدالة وجهان لعملة واحدة، والحروب التي عانت وتعاني منها منطقة الأوسط ناتجة عن الظلم والتعسف الذي يختبرها شعبنا ، فحيث الظلم، ينشأ الغضب والعنف. فبمقدور المؤسسات الدينية أن تتقاسم رؤية مُشتركة لمجتمع تؤدي رسالتها فيه، لتكون هذه الرؤية معيار حقيقياً تفحص "اختبار" وتقيم النُظم الاقتصادية والسياسة المُتبناة من قبل صنّاع القرار السياسي والاقتصادي، فيُعرف ما لهذه الأنظمة من واقع وتأثير وعواقب على حياة الجماعة بشكل عام وعلى حياة الفقير والمتروك بشكل خاص، وبشكل أساسي على توازن العائلة وسلامتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالعائلة تبقى دائماً القلب النابض، والمؤسسة الإنسانية الصحية والصحيحة لنمو الفرد السليم. لذا يُمكن أن نقول أن لمثل هذه الرؤية إمكانية توفير خطوط عريضة في تحديد البُنى الاقتصادية والسياسية لذوي العلاقة، أعني صُنّاع القرار. فهي لا تُقدم قرارات جاهزة، وحلول سحرية، بقدر ما تريد أن تخدم إطاراً للعمل الاقتصادي لأي تجمّع أو رابطة أو حزب.   


نفكر بشكل مختلف

أن نفكر بشكل مختلف ومن ثمة نتصرّف بشكل مختلف أيضاً، هذا ما تصبو إليه المؤسسات الدينية وتترجاه من مؤمنيها. أي تجديد للحياة السياسية والاقتصادية سيعتمد بالدرجة الأولى على اختيارات المؤمن الواعية والتزاماته الذي يحاول جاهداً أن يعيش ويمارس إيمانه في العالم. فلا تستطيع فصل وتمييز ما نؤمن به عمّا نمارسه في جماعتنا العاملة. وهذا يتطلب من كل مؤمن تثقيفاً مستمراً، ومواطنة فعّالة، مستخدمين أصواتنا لنكون صوتاً لمَن لا صوت لهم، أملاً للمظلوم، ولنحمي الفقير والمُهمّش ونتعاون ونطوّر كل ما من شأنه تعزيز الخير العام. لنا كمسيحيين دعوة التدبير ، والخدمة والمواطنة. علينا تقع مسؤولية التثقيف والحوار والقرار والسلوك المتجدد دوماً. 

إننا واعون، كمؤمنين، إنما التزمنا مسؤولية مُعقدة جداً تتطلب تثقيفاً متواصلاً، وحواراً آت عن ذهنية وموقف منفتح، وسلوك يتطابق ويتوافق مع ما نؤمن به. مسؤولية تحاور كل فكر وفعل خلاّق. مسؤولية تجعلنا نُبشر اليوم بحضارة الاعتذار، السلام، الامتنان، العدل، السلام، المساواة والحرية. فلجميعنا مسؤولية لا في رفاهية العالم فحسب، بل فيما يعيشه من سقطات وهفوات وأزمات.

نحن لا ندعو إلى انفصال الدين عن السياسية كلياً، ولا إلى ارتباط مصيري معاً، بل نتطلع إلى الاستقلالية التي تضمن حياة وفعالية المؤسستين معاً. وأكثر من ذلك، تُبقي قنوات الاتصال، فمن ثمة الحوار فعّالة ومثمرة، تؤول في خدمة الصالح العام. وإذا ما حددت دور المؤسسة الدينية بالمراقب، فإني أرى أن للمؤسسة الإمكانية في اقتراح الأفضل للمجتمع إذ أنها في اتصال مع الشعب تسمعه وتُصغي إلى جرواحاته وتطلعاته أيضاً.



مجلس الأديان العراقي 

   
مَنَّ الله على العراق بخيرات عدّة، ولعل التعددية الاجتماعية والدينية التي يمتاز بها مجتمعنا هي واحدة من بركات الله على العراق، فهل لنا الاستفادة منها لخير مواطنينا؟

أجد أنه من الممكن للدولة أن تدعو لتشكيل مجلس أديان عراقي مؤلف من ممثلين عن كل الأديان والمُعتقدات التي ترعرعت على أرض العراق. ويُطلب منها أن تُمارس دورها في إبداء النصح وتقديم الاستشارة ونقد السياسات، وفضح السلوكيات التي قد يغفل عنها ساسة البلاد. كل ذلك من أجل تعزيز وتثبيت إنسانية المواطن العراقي، من خلال أنسنة وتوجيه الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إيماناً منّا من أن هذه الأنشطة الاقتصادية هي وسيلة ليُحقق فيها الإنسان كمال إنسانيته وليست غاية في حد ذاتها. كما ويتمتع كل إنسان بحق في العمل، وعلى المجتمع أن يُساعد مواطنيه لإيجاد فرص عمل تدر أجراً كافياً للإنسان ولعائلته.

   فكلنا يعي أن مجتمعاتنا الإنسانية تشهد لتغيرات جذرية خطيرة، ويتطالب مواكبتها تأملاً وجهداً ناقداً يطال جميع الميادين. ويحاول البعض نسف الثوابت بحجة أن "العالم في تغير مستمر". ونلتفت إلى الدين مراراً مترجين منه صوتاً يُفهمنا: ماذا يحصل؟ هل لنا الحق أن نبني ثوابت في عالم صار فيه الثابت التغير المُستمر؟

   ويؤمن كل دين بأن من ثوابت الحياة الإنسانية الكريمة هو احترام الشخص البشري ككائن يُحترم في حقه في حياة كريمة، وفي اختياراته الوجودية كافة. فلا مجال لاستغلاله أو استعباده أو التلاعب بمصيره، فليس سلعة أو رقماً في حسابات مصرفية أو استثمارات اقتصادية. ومثلما تُطالب الحكومات والمجتمعات الاقتصادية بواجبات من عملائها، عليها أن تحترم حقوقهم وتُثبتها، فلا تأتي قراراتهم لتستخف بها. هو كائن حُر في كل توجهاته، وهو مسؤول عن اختياراته. كائن اجتماعي يحتاج إلى الآخرين ويميل إلى الاتصال بها، متأثراً بهم، ومتأثرين به. فعلينا الانتباه لهذا الواقع وتعزيزه فهو في إنسان صحيح وصحي إذا ما كان في المجتمع، وهذا سيجعله يلتزم الخير العام معياراً لاختياراته، مُدركاً أهمية تضامنه مع أبناء شعبه، والتزامه بقضاياهم، ومن ثمة النمو لواقع التضامن العالمي. فمن ثمة يبدو من كل ما تقدم أن من حق وواجب كل الأفراد في أي تجمع كان أن يُسهموا ويُشاركوا بشكل فعّال وصحيح في نمو التجمع وديمومة الحياة فيه. ومثلما أكدنا على ضرورة فسح المجال للمواطن أن يُشارك في العملية السياسية وصنع القرار، نؤكد أيضاً على ضرورة السماح للمواطن بالمشاركة في اقتصاد البلاد وتطويرها ليكون اقتصادا مُزدهراً ليس فحسب، بل اقتصاداً إنسانياً قدر المُستطاع، اقتصادا يسعى لضمان العدالة للجميع. 

   فإضافة إلى تعزيز وتثبيت سُبل الحوار المتبادل ما بين الطوائف في العراق سعياً نحو سلام حقيقي بين المواطنين، سيسعى المجلس إلى مراقبة معنوية، لا تنفيذية، للرؤية السياسية والاقتصادية لساسة البلاد خدمة للخير العام وترسيخاً لعدالة تشمل جميع المواطنين بما أنهم مواطنو العراق. غير متناسين الغرباء فلا نغفل عن استضافتهم، ولا نسمح لهم لاحتكار عيش المواطن بـ" مصالح البلاد الستراتيجية".


الكنيسة والمرحلة الراهنة

أن تكون سياسياً أو لا؟ سؤال يُقلق مضاجع الكثيرين خاصة مَن لهم التزامات كنسية ودينية. فالكنيسة والمسيحية في العراق تعيش واقعاً متميزاً فيما يتعلق بالعلاقة مع الدولة والمؤسسات السياسية. فلقد منعت الدولة إلى وقت قريب كل تجمع ونشاط سياسي. فتَوَجَبَ على الرئيس الكنسي ن يلعب دوراً لم يختره شخصياً بل وجد نفسه مُجبراً عليه لألا وهو أن يكون الواجهة أمام الدولة فيما يتعلق بحقوق المسيحيين والتزاماتهم. ومع صعوبة المَهَمة وتعقدها نظراً لتقلبات الدولة وسياساتها، إلا أن بعض رجالات الكنيسة "تونسوا" لمثل هذا الأسلوب الحياتي كونه جاء تقوية وتعزيزاً لسلطتهم على الرعية. فصار رجل الدين المسيحي مَرجِعاً يُستشار من قبل الدولة، ويلتجئ الشعب لديه لحسم قضايا حساسة مع الدولة. ويجدر الإشارة هنا، أن الكنيسة لم تنجح في هذا بشكل تام فهناك حالات كثيرة لا مجال لذكرها في هذا المقال، فشلت الدولة فيها في تثبيت حقوق المسيحيين. هذا من جهة.

من جهة أخرى، رأى رجل الدين نفسه سابقاً مُلزما بالطاعة للدولة وأوامرها فهي مصدر الأمن والأمان فشاب الخوف هذا العلاقة، غير متناسين أن البعض من رجال الكنيسة في العراق كان يعتبر الدولة "وَلي نعمته" إذ تمدوه بالسلطة والمال فحاول التودد إليها وجذب انتباهها لتحتضنه وتلتزمه فيزاد قوة وتسلطاً. ومع الأسف تفرعن البعض منهم على رعيته، وكان عون لتُظلم وتقمع الحريات حتى بين أبناء ورعيته. رغم أن البعض الآخر حاول أن يستغل علاقته بالدولة لصالح رعيته فدافع عن حقوقهم وفَضَّ العديد من القضايا المُتعلقة مع الدولة من دون أن يُحسبَ ذلك له ضررا. أننا وبكل أسف نرى بقايا لروح التفرعن هذه لدى البعض من رجالا الكنيسة، متناسين أن ذاك الزمان انتهى وحياة الرعية تغيرت كثيراً وإذا ما واصل رجل الدين بمثل هذه السلوكيات، فأبناء الرعية سيلجون شاء أم أبى إلى كنائس أخرى تُرشدهم في طريق علاقتهم بالله وبالآخرين.

أما رجال السياسة المسيحيين، وبسبب حظر الأنشطة السياسية في الماضي فراحوا يُمارسونها إما في الخارج، أو سراً، فيما اختار الآخرون الصمت خوفاً على التزامات حياتية واجتماعية مُدركين أن الدولة لن تتسامح مع هذه النشاطات بأي شكل من الأشكال.

وبين ليلة وضُحاها تغيير النظام الحاكم في العراق ووجد رجال الدين والساسة أنفسهم أمام واقع جديد. فرجل الدين الذي تعوّد على الأمر والنهي يُطالب بالصمت في قضايا وشؤون لن تكون من صلاحياته بعد اليوم. والسياسي المسيحي يتصارع ليضمن حقوقه وصلاحياته السياسية والتي يجد أن الكنيسة تتدخل بشكل غير مقبول فيها. ولأنه يريد ضمان تصديق الكنيسة له كي تُقدمه للرعية ممثلاً لهم في أي انتخابات، وبسبب مشاعر الاحترام والمهابة للكنيسة ورجالاتها يسكت عن انتقاد سلوكيات رجال الكنيسة في مواقف يشعر بها بشكل صادق بأن الكنيسة تخبن حقه السياسي. فهناك أزمة علاقة حقيقية ما بين الأحزاب المسيحية والكنيسة. وليس هناك حياة أو مستقبل طويل الأمد للعلاقة الحالية.

فكيف لنا الخروج من هذه الأزمة؟

أختم مقالي بجُملة من الاقتراحات يُمكن للقارئ أن ينقدها ويُوسع أُفقها ويُغنيها بأفكار وطُروحات قَصُرَ المقال عن استيعابها:

1.   قبل كل شيء أن نُطالب الكنيسة بالتزام مَهامها ورسالتها الروحية في توجيه ورعاية الشعب في طريق علاقته بالله والآخرين، أن تُثبت وتُعزز تقواه بكل أبعادها وجوانبها.
2.   أن نُذكر الكنيسة بحدود سلطتها في الحياة السياسة فلها صوتها الصريح الناقد من السياسات ورؤية للحياة السياسية ولكن لن يكون لها برنامج سياسي مُطلقاً.
3.   أن نُشجع المؤمنين ليلتزموا دوراً سياسياً في حياة البلد، وللكنيسة أن توفر لهم قضايا وهموم ستكون لهم مادة في العمل السياسي.
4.   أن يعي رجل الدين قيمة وأهمية الرسالة التي يحملها فلا يحاول بأي شكل من الأشكال التودد "التملق" للدولة فهي ليست ولي نعمة مطلقاً. دولة اليوم لن تكون دولة الغد بسبب انتخابات وطُروحات ومصالح سياسية، أما هو فهو باقٍ على رأس الكنيسة له هيبته واحترامه. فعليه أن يُغير أسلوبه مع الدولة ليُطالبها بقوة وبحزم من دون مساومة أن تُحافظ على واجباتها تجاه مواطنيها، ولن تُسدي معروفاً بذلك، هي تُكمل ما تتعهد به للمواطنين.
5.   بسبب ظروف البلد السابقة وسياسات الدولة، ولأننا أمام تحديات حقيقية، يُمكن للكنيسة أن ترعى مؤتمراً للأحزاب والتجمعات السياسية والاجتماعية والمسيحية ليقفوا بشكل حقيقي وصريح أمام هذه التحديات. على أن لا تلتزم الكنيسة مع أي حزب أو تجمع بأي مُعاهدات مهما كان شكلها أو مضمونها. هذه الرعاية لا تعني "وصاية مُطلقة من الكنيسة على السياسيين" بل هي عون تُقدمه الكنيسة في هذه المرحلة وتنسحب منه بشكل تام ما أن يُثبت السياسيون المسيحيون حقوقهم. فالسياسة هي للسياسيين، وتبقى الكنيسة العين الناقدة للسياسة، فلا تتوسخ طهارة الدين بصفقات السياسيين.
6.   أن يُؤمن الجميع بأهمية التعددية الحزبية فهي من مصلحة شعبنا كوننا أقلية سكانية وسنبقى حتى لو سمحت الكنيسة لا سامح الله بتعدد الزوجات. هذه التعددية الحزبية ستضمن لنا تعددية البرامج السياسية، وتنافس مُحترف ما بين الأحزاب لكسب ثقة المواطنين خدمة للصالح العام. فالشعب لن يُصوت لحزب له أدبيات مثالية، بل لحزب له مصداقية في العهود والمواعيد.
7.   أن يُحاول المؤتمرون تشكيل تجمع يضمن الأحزاب المسيحية يجمعهم رؤية واحدة، وتُغنيه برامج وسياسيات متنوعة في الطُروحات والأفكار. سيوفر هذا التجمع فرصة أصيلة لشعبنا المسيحي ليُسمِع صوته ويُعلن رسالته وتُعالج قضاياه بشفافية. ناهيك عن غنى الأفكار لكل مَن سيُمثلنا في البرلمانات الإقليمية والوطنية. ونتطلع في أن لا يحصر المؤتمرون أنفسهم في طُرق طويلة ووعرة ومُهمة (كالتسمية) ويُضيعون الفرص والطاقات والجهود متناسين الأهم ألا وهو: مَن سيُدافع عن مصالح شعبنا المسيحي؟ والجواب لن يكون بالضرورة حزب واحد أو شخص واحد.
8.   كوننا أقلية في البلاد، وبسبب نظام المُحاصصة، أرى من الضروري في هذه المرحلة أن يُمارس السياسيون المسيحيون دورهم ورسالتهم بشكل يُعطي نموذجاً للدور الحقيقي للسياسة في حياة الشعب من خلال التأكيد على مبدأ المواطنة والكفاءة في تولي المهام والمناصب. هنا، يُمكن للمؤتمر المُومأ إليه أعلاه اختيار ممثلي المسيحيين في البرلمانات العراقية الأقليمية والوطنية وفق:
أ‌.   قراءة صحيحة لتوازن القوى السياسية في البلاد،
ب‌.   اختيار الممثلين وفق ضوابط الكفاءة ومتانة العلاقة مع القوى السياسية في البلاد في أي مرحلة تُذكر. فلن يكون في مصلحة المسيحيين اختيار مندوب سيفشل في انتخابات بسبب ضعف علاقته مع تجمع سياسي يُلاحظ أنه يسير نحو تولي السلطة. نريد أن نُثبت حياة كريمة لشعبنا المسيحي وليس كراسي لأشخاص حتى وإن كان الجميع يشهد لهم بالكفاءة.
ت‌.   دراسة السُبل الكفيلة بضمان أكبر عدد ممكن من الممثلين "المسيحيين" من خلال تحالفات استراتيجية مع القوى السياسية ذات الثقل السياسي والاجتماعي في أنتخابات مُزمع التحضير لها.
ث‌.   تثبيت شكل العلاقة ما بين الكنيسة والسياسيين المسيحيين ومحاورها الرئيسة. ويأتي ذلك من خلال رسم ملامح رؤية مُشتركة تُعين الأحزاب السياسية المسيحية في وضع برامجها في مُحاولة منها لتثبيت حقوق المواطنين الذين يتأملون منها خيراً. علينا أن نوسّع دائرة اهتماماتنا لتشمل الآخر المُختلف عنّا.
ج‌.   أن تُشجع الكنيسة مؤمنيها للانخراط في الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وتنشغل هي برسالتها وإتمام مسؤولياتها الروحية تجاه أبناء الكنيسة فتٌبشرهم بالأخبار السارة وتُذكرهم بمسؤولياتهم تجاه وطنهم وشعبهم وأمتهم.


صفحات: [1]