لـمسـتـقـبل الـقـوش
ــ زاهـر دودا (( اخترت القوش نموذجا إلى إخوتي السورايي ويمكن أن تعمم الفكرة في باقي بلداتنا العزيزات والمحترمات ))
في البدء لو سألنا أي فرد من أهالي القوش , هل تحب بلدتك ؟!
أكيد ، الجواب يكون يقينا بنعم والى حد التضحية في سبيلها .. وحتى لو سألنا نفس السؤال إلى من غير أهلها بمجرد أن تـكون لديهم معرفة بسيطة عنها, فحتما ستكون اغلب أجوبتهم بالإيجاب, بل يكنّون للبلدة ( القوش ) ولأهلها كل التقدير والاحترام وبالتأكيد عندهم أسبابٌ تختلف كل حسب مقدار معرفته بها .
كلمة الحب هذه لا تكفي لسد حاجات البلدة عندما تمر بالصعاب والتحديات, إن لم يوازي أو يقترن الحب فعلٌ وعملٌ يقدمونه أبنائها لتلمسه واقعا على الأرض بدلا من الغناء وإلقاء القصائد بحبها بعيدا عنها خارج أسوارها وتُـترَك وحدَها تواجه رياح هذا الزمن الصعب, فمَن سيملأ حُضنُها ويَـسند ظهرها وهي تمر في اخطر مرحلة من وجودها بسبب هجرة أبنائها وضياعهم في مختلف بقاع العالم .!؟
هل سيدوم صمودها وتحافظ على نقاوتها بوجه الغريب أن يدخلها ويثبت فيها فيشوه تركيبتها التاريخية وخصوصيتها الاجتماعية ؟. في الأمس كان يدخلها ويخرج منها حاملا كل الاحترام لها متلقـيا منها دروسا إنسانية بما يـتلمسه من غيرة وحب أبنائها إلى بلدتهم, وقدسية الرابطة الالقوشية التي تجمعهم مع بعضهم البعض ومع ترابها المقدس الذي ينتمون إليه، ويفتخرون بهذه الصفة أكثر من غيرهم . وربما غدا سيدخلها ويثبت فيها ولن يخرج منها وتبقى الصفات الغريبة التي جلبها تنتشر ليستعملها غيره فتبدل ما قد حافظت عليه من خصوصيتها وتركيبتها .
كثيرة هي المحن والأحداث المؤلمة التي مرت عبر تاريخها القديم والحديث إن كانت من صنع الإنسان الحاقد وطغيانه على مقدرات غيره من التجمعات البشرية المسالمة, قـبـل هجمات هولاكو وتيمورلنك, وحملات القتل والاضطهاد لنادر شاه وميركور وما بعدها و.. وإضافة إلى الكوارث الطبيعية والمجاعات الناتجة من الآفات الزراعية والأوبئة التي طالت الحيوان قبل الإنسان مهلكة مصدر قوت ورزق أغلب سـكانها .
أغلب الكوارث والفواجع كانت تعصف عليها آخذة قدرا من إمكانياتها المختلفة ومن خيرة أولادها، ولكنها مرّت .. وهي بقت مستمدة من ما أصابها ومضى، دروسا وعِـبَر لمستقبلها حيث شـّد أوصالها أكثر وزاد من عزيمتها على البقاء كما هي ويتمنون أبنائها البررة في الصمود والحفاظ على استمرار وجودهم مجتمعين في ارض أجدادهم, ومسقط رأسهم .
ما يحدث ونلاحظه اليوم ويدمي القلب, تنامي ظاهرة وثقافة الهجرة في مجتمعنا وبالأخص بين شبابنا, اعتقادا منهم بأن الهجرة هو الحل السهل والممتع في نفس الوقت، أفضل من البقاء لمصير مبهم ومستقبل مجهول، لهذا يفكر كل فرد أن يجد مفـّرا وملاذا لنفسه وإن كان على حساب الآخرين لأنه يضر ببنية المجتمع ويفقد مميزاته وخواص تركيبته مستقبلا .
من الأشياء التي لم نعر اهتماما لها في الماضي، وللأسف نحن فقدناها ومن الصعب إعادتها إلى ما كانت عليه عند أجدادنا، هي اللغة التي هي الأساس في إثبات الهوية، إن لم نحافظ على ما تبقى من لغة آبائنا والدليل في إثبات وجودنا ... فإلى ماذا سنحاول العثور وإثباته بعدما ننصهر ونمحو من الوجود بإرادتنا من خلال عدم فهم وإدراك لواقع أفعالنا في الثقافة السلبية التي تجتاحنا وهي ثقافة ( الهروب ) التي ستضعفنا وستقلل من تواجدنا .
مَن سيبقى ليشارك أفراحنا التي ستقل هي الأخرى, ومن الذي سيخفف عنّا أحزاننا ويواسينا في آلامنا التي ستغمرنا وستحتويننا من جراء هجرة أحبتنا وأهلنا. فلا الذي يبقى في أرضه سيكون سعيدا ومرتاحا وكذلك الذي في بلاد الغربة وبمعاناته وكفاحه من اجل لقمة العيش سيرى الراحة والسعادة وان تمر عليه ستكون كسحابة صيف سرعان ما ستنقلب إلى هم لحزن كابت في أعماقه لإحساسه بالوحدة والغربة بعيدا عن جذوره ومن أحبته الحقيقيين وأهله الأصليين. ( ربما لست دقيقا وصائبا في وصف حياة المغترب )..
نعيش اليوم تحت تأثير ثقافة تبث أفكارا ، تضعف المجتمع وتهدم معنوياته وخاصة لدى الأجيال الصاعدة بإشاعة نوع من الفزع والخوف إن كان مقصودا أم غير مقصود ولكن نتيجته ثابتة وواضحة في إفراغ المنطقة من الوجود بسبب الهجرة إلى المجهول.
ثقافة الهروب من الواقع وترك الواجب الأخلاقي والإنساني والاجتماعي ليتحمله غيره أو أن يترك إلى المجهول والى المصير المظلم لينفذ بنفسه وعدم النظر إلى الوراء كأنه لا يخصه ولا ينتمي إليه وسوف لن يعود يوما .. وان يوما جاء للزيارة أو يأتيها للسياحة فعلى حساب مَنْ ( هذا إن وجد مما سيبقى ) سيأخذ راحته ويستمتع وهو قد تركها بإرادته وأدبر عنها للرياح .!؟
نعلم أن في الصمود والبقاء بوجه المتغيرات دائما ينتج عنه خسائر حسب حجم التحديات وأشكالها, ونحن ألآن نمر في اخطر مرحلة من الوجود والبقاء أمام غزو فكر التخلي وثقافة الهجرة التي تنخر في الجسم إذا كان على صعيد العائلة الواحدة أو على صعيد البلدة والذي نلاحظه بخسارة فردا بعد الآخر, وبعدما يستقر في الغربة يحاول جذب باقي أقربائه إليه, ونتيجة للهجرات المتلاحقة لأفراد العائلة الواحدة بين فترات متعددة فقد أفرغت من القوش أسماء لعـوائل بالأمس كان لها مكانتها ووزنها من خلال ثقل عدد أفرادها والآن لا يوجد منها غير أطلال لمبانيها وأسماءها أصبحت تذكر من تاريخ البلدة أسفل الصفحات في ألحواش .
ويمكن أن نسال أنفسنا بعض الأسئلة، لنعالج بعض الشروخ التي تصدع بنيان ارادتنا وعزيمتنا التي قهرنا كل المحن السابقة التي مرّت :
ـ لِـما لا نقوم بدل الهجرة والاغتراب بالاصطياف والسفر من اجل التمتع والتعارف للاستفادة من ثقافة الآخرين ومن مزاياهم الايجابية في التطور والتقدم وليس من بعض الأفعال السلبية التي يروج عنها أصحاب نفس الميول المتشابهة .
ـ لما لا يذهب أولادنا ببعثات دراسية إلى الدول المتقدمة ذات الجامعات المعروفة ويكون من يُسهّـل إجراءات الطلب والتقديم إخوتهم المتواجدون في تلك الدول بدلا من أن ينفقوا أموالا طائلة لسحبهم, إن كانت بطريقة شرعية أو بغيرها, وتعريض حياتهم إلى المخاطرة والمجازفة, وحينما يغتربون يستقبلهم العمل الذي لا يليق بهم وبطموحهم الذي كانوا يتمنوه .
ـ لما لا يقدموا المغتربين مما اكتسبوه من خبرات في مشاريع تخدم بلدتهم بما يحتاج واقعها وتراثها الإنساني والاجتماعي .
إذا الخلل يكون أولا في الذين ما زالوا في البلدة وخاصة المثقفين منهم على اختلاف المسميات إذا كانوا ذو ثقافة تاريخية , دينية , اجتماعية , سياسية أو .... الخ من عدم اتخاذ إجراء مضاد للخلل والمرض الذي يداهمنا والسكوت عنه يعتبر خلل بعينه, فعلينا مقاومته ومحاربته بأي شكل من الأشكال لكي لا يؤدي إلى انهيار بنية مجتمعنا أو ربما إلى إنهائه كما حدث لغيرنا ونكون قد خُـننا الأمانة التي في أعناقنا بعدم المحافظة على ارث أجدادنا منذ مئات بل آلاف السنيين .
لكل مشكلة لها حل مهما تكن إن كانت بتقديم الأرواح أو بالدماء أم بالأموال ما دامت النيات سليمة وصادقة. وإننا نعلم أن الإنسان الألقوشي غنيٌ بما يحمل من الأفكار الخلاقة والمبدعة حيث أعطى منها لغيره في المنطقة أشياء كثيرة ومفيدة, فلا بد أن يجد له حلولا ناجعة يكون قدوة وعبرة لمن هم بحاجة إلى حلٍ لنفس المعضلة وربما مستعصية عليهم .
كل الشعوب العريقة تفتخر بتاريخها وبانجازات أسلافها من ما تركوه من الآثار الشامخة والشاخصة للعيان, فيكون من واجب الأبناء ومسؤولية الدولة الحفاظ عليها لأنها جزء من الإرث الإنساني والتاريخي الذي يدل على مشاركتهم للجنس البشري في مسيرة تطوره وتقدمه, لذلك يعتبر أي أثر تاريخي لثقافة أية رقعة جغرافية من العالم هو جزء من تاريخ الإنسانية كلها, مع الاحتفاظ بخصوصية ومرجعية ذلك الأثر إلى تلك البقعة من الأرض ولشعبها .
وكل دولة تــسخّـر قسما من ميزانيتها وجهدها للحفاظ على الأماكن الأثرية, وتُـسن قوانين للحد من العبث بها وسرقتها, وبنفس الوقت تـدرّ على الدولة من المواقع الأثرية مورد اقتصادي جيد لاستقطابها السياح الأجانب من المهتمين في دراسة التاريخ والحضارات القديمة . فعندما تشكل أو تخصص الدولة وزارة أو مؤسسة كبيرة تعنى بشؤون الآثار لصيانتها وحراستها وغير ذلك من الواجبات, فأنها لا تأتي بالغريب من خارج حدودها لكي يحافظ ويحرس آثارها وممتلكاتها, وإنما تختار وتعيّن من خيرة أبنائها الغيورين والحريصين على تاريخهم وتـراثهم ..
وبلدة القوش تعتبر من المواقع الأثرية والتاريخية القديمة المهمة .
ومن هذا المنطلق فان أبناء البلدة الباقين فيها هم الأولى في الحرص والحفاظ على ارثهم وما موجود حولهم من التاريخ العائد لأجدادهم, وعليهم تقع ثقل المسؤولية في إدارة شؤون حياتهم ومصالحهم دون غيرهم حتى من الذين فضلوا الهجرة والهروب في الفترة التي لم يتحملوا خطورة ومقدار المسؤولية التاريخية التي هي على عاتق كل فرد ينتمي إلى هذه الأرض ويدعي انه من احد أبنائها, فمهما يكون له من شان وأينما يتواجد فلا يستطيع أن يمحو من الحقيقة قيد أنملة ولا يغير من الواقع شيئا, ومثال على ذلك الرئيس الأمريكي اوباما هل استطاع أن ينفي أصله الكيني بعدما أصبح ما هو عليه !؟.
ومن بعض الإجراءات القاسية علينا، ويمكن العمل بها، هي في تثقيف مجتمعنا والامتناع أو عدم الترويج في ترغيب بناتنا بـتزويجهنّ لمن يقيم في الخارج لكي لا يزداد ضعفنا في الداخل ويحرم من هو الأحق فيهن والأقرب إليهن واقعيا ومصيريا من الذي هاجر وتجنـّس جنسية أخرى, وحلّ الارتباط والالتزام تجاه أهله واسقط حقه في الوطن بإرادته, وصوته الانتخابي لم يعد يحسب ليدعم من هو بحاجة إليه من بني قومه, ومثال ذلك أبناء بلدتنا القوش لمن يعرفها ويقدر عدد نفوسها فقط من المهاجرين إلى بقاع العالم تقريبا بعشرات الآلاف, بينما المتواجدون فيها لم يتجاوزوا في أحسن الظروف على السبعة آلاف . حيث تضيع ( أي لا وجود لها ) أصوات العشرات الآلاف في الانتخابات عند اختيار من يكون المسؤول على إدارة شؤوننا ؟ بينما جيراننا من القرى وبسبب أصوات أعداد نفوسها المتزايد سيترأس منها في إدارة شؤون كافة أمورنا، وهذا ليس تقليلا من شأن الآخرين، وإنما لنعلم أسباب هذا التغيير والتحول في أحوال من كانوا أصحاب فكر ومشاعل ثقافة بما نشر إلى تلك القرى وهم يشهدون فضل ابن القوش عليهم وعلى غيرهم في عموم المنطقة كلها . وبالتالي سنصبح أقلية مهمشة وحقوقها منتهكة كما حصل لغيرنا من البلدات والمدن المعروفة لكل من له ابسط نظرة للماضي القريب .
إن من واجب إخوتنا المغتربين الذين لا زالت القوش في ضمائرهم ومكانتها عميقة في قلوبهم ـ بدون أي شك ـ وحاملين اسمها بفخر واعتزاز معبرين عن انتمائهم إليها وهي تزيد أصالة وعراقة بهم بما يكنـّون من حب لها, أن يعملوا لأجلها ويبرهنوا ذلك الآن في هذه الفترة . وخاصة المتواجدين والمجتمعين بكثافة في بعض المدن في دول العالم .
وأن نبادر نحن المتواجدون في البلدة ومع مَن في الخارج في تشكيل جمعية أو رابطة أو منظمة يكون على عاتقها في البدء تعداد عدد العائلات مع أفرادها ويؤسس فرع في كل دولة, يكون اتصاله بالمركز العام المتواجد في البلدة القوش .
ولكل فرع ينشأ صندوق للتبرعات المالية يكون شبه إلزامي وبما يتيسر من الفرد البالغ بمبلغ يدفعه سنويا أو نصف سنوي, تـُجمع الأموال وتسجل في سجلات مع أسماء المتبرعين وترسل نسخة إلى المركز العام ليوثق في سجلاتها وتعلن بين فترة وأخرى في نشرات المركز العام ضمن نشاطاته الذي يحتوي على لجان متعددة منها اجتماعية واقتصادية وثقافية فنية ومالية إضافة إلى لجنة للعلاقات العامة تربط المركز العام ( منظمة أبناء القوش ) مع الفروع المنتشرة في دول العالم .
على الذين يقومون بإدارتها أشخاص لهم قدرة وكفاءة عاليتين ويولون جُـل اهتمامهم في شؤون أهلهم ويقدمون كل ما يلزم، وان يكون التركيز على مساعدة الشباب لتذليل العقبات التي تعرقل طموحهم ورغباتهم على سبيل المثال لا الحصر, الشباب المقبلين على الزواج بمساعدتهم ماديا, ولأبنائنا الطلبة من توفير مستلزمات الدراسة وما يخدم أنشطتهم الفنية والرياضية والترفيهية من خلال تقديم الدعم وتمويل أنشطة الشباب الاجتماعية والثقافية الموجودة في البلدة .
كلنا نعلم أن البطالة, هي من ضمن الأسباب الرئيسة للهجرة. ولكي نعالج هذا السبب علينا أن نعلم أن اغلب الأعمال التجارية ( الاقتصادية ) يكون مصيرها الفشل في أية منطقة كثافة سكانها يتناقص تدريجيا بسبب قلة كميات البيع والشراء وكذلك سيكون حال أصحاب الحِـَرف والمهن أشبه بالعاطلين أيضا نتيجة قلة حركة العمل فتزداد بالتالي نسبة البطالة تدريجيا وسيكون خيار الهجرة (إن كانت داخلية الى المدن أو خارجية الى دول العالم) من أحد الحلول الفردية ( الشخصية ) للأزمة, والتي هي أساس المشكلة والكارثة في تناقص الأعداد, والذي سيدمر المجتمع من فقدان وإزالة سكانه الأصليين وقـدوم أناس مدعـوميـن من غـيـرهم في ملأ الفراغ .
لذلك ينبغي النظر في هذه المسألة باهتمام وتخصيص مبالغ تدفع للعاطلين وخاصة لأصحاب العائلات, وكذلك تقديم خدمات أخرى لأبناء البلدة يكون حافزا يجعلهم يتشبثون ويصمدون أكثر في ارض آبائهم وارث جميع إخوتهم المغتربين بما سيقدمون من عون مادي ومعنوي يكون دليل محبة في مكافئة و مؤازرة إخوتهم المتواجدين الباقين في القوش لمواصلة واستمرار الحفاظ على تراثهم الاجتماعي والإنساني والتاريخي. إلى أن تستقر الأوضاع وتزول مخاوف الاباء ليطمئنوا على الأبناء، وحينها لكل حادث حديث ...
التاريخ سـيذكر بـفخـر كل من يـزرع عنـدما ستـُجنى الثمار
والتاريخ لـن ينسى وسيلعن كل من يـقلع عندما سيلـفّ العار
بعـدها لــن يفـيـد العـويل والـبـكاء على الأنـقاض بعد الدمار
وأمام أعيـنـنــا سـيـتاجـر بـماضيـنـا وحاضـرنـا السـمـسـار
.. عاشت القوش حـرّة أبيـّـة بسواعد ابنائها البررة الشجعان ..
ـــ زاهـر دودا ـــ