عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - nori mando

صفحات: [1]
1
شرِّعوا الأبواب أمام الآتي باسم الرب
الشماس نوري إيشوع مندو
   ما أن خرج الدخان الأبيض صبيحة يوم الخميس 31 كانون الثاني 2013 من قاعة اجتماعات السينودس الكلداني المنعقد في روما 2013، معلناً انتخاب المطران مار لويس ساكو السامي الاحترام بطريركاً على كرسي بابل للكلدان، حتى تنفس أبناء الكنيسة الكلدانية الصعداء، لما يحمله المنتخب من صفات تؤهله ليكون راعياً لكنيسة الشهداء في هذه المرحلة الدقيقة والهامة.
   وفي أول تصريح لغبطة أبينا البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو الكليّ الطوبى، البطريرك السادس بعد المئة على كرسي مار أدي ومار ماري متلمذي المشرق، حدد غبطته بشفافيته المعهودة شعاره البطريركي ( الأصالة _ الوحدة _ التجديد ) ليكون برنامج عمل لمرحلة بطريركيته. وإذا ما تمعّنا بهذا الشعار نجد أن غبطته وضع إصبعه على الجرح، لينطلق بهمّته القعساء التي لا تنضب مضمداً هذه الجراح، من خلال ما يحمله من مؤهلات أخلاقية واجتماعية وعلمية وإدارية مشهوداً لها خلال فترتي كهنوته وأسقفيته. ولا بد لنا أن نقف متأملين عند كل كلمة من هذا الشعار، علّنا نستشف ما يدور في خاطر غبطته، ليحقق أماني أبناء هذه الكنيسة.
   1_ الأصالة: بالعودة إلى تاريخ كنيسة المشرق منذ البدايات، نجد أن هذه الكنيسة حملت لواء التبشير إلى بلاد بعيدة وشعوب كثيرة منذ بداية تأسيسها. وفي بداية القرن الثالث عشر بلغت عصرها الذهبي، وتوسع حدودها بشكل مثير، حتى بلغ عدد المؤمنين التابعين لها ما يقارب الثمانين مليون نسمة، موزعين على ثلاثين رئاسة أسقفية ومئتين وخمسين أبرشية،  تمتد من بلاد الصين والهند، ومادي وآشور وبابل وكل بلاد ما بين النهرين، مروراً بسوريا وفلسطين وقبرص ومصر، إلى بلاد الجزيرة العربية والخليج حتى أرمينيا وبلاد الكرج. وكانت جميع هذه الأبرشيات خاضعة لسلطة مركزية قوية، هي سلطة جاثليق ساليق وقطيسفون. وقد تقلصت هذه المراكز  تدريجياً بسبب عوامل عديدة لا مجال لذكرها.
   ويعتبر تراث هذه الكنيسة غنياً جداً بسبب ما قدمه آباؤها الميامين من درر ثمينة، لا زلنا نفتخر بمؤلفاتهم وتصانيفهم أمثال: يعقوب أفراهاط الحكيم ومار أفرام النصيبيني ونرساي النوهدري وباباي الكبير وإسحق النينوي  ويوحنا دلياثا وبرشينايا وبربهلول ويوسف حزايا والمرجي والصوباوي وغيرهم كثيرون. أمام هذا الكم الهائل من التراث العظيم نجد كنيستنا في العصر الحديث في خمول وجمود، فهل يجوز لنا أن نفتخر بما قدمه لنا الآباء فقط؟ مثل من يغني على الأطلال وكأنه في عالم أخر! أليس من الواجب علينا أن نحذو حذوهم لنكون بحق وحقيقة أبناء أولئك الجهابذة الذين أفنوا العمر ليعطوننا هذا الكنز الثمين.
   من هنا لابد لرئاسة الكنيسة أن تقود وتدعم بكل ما تملك المسيرة الثقافية في هذه الكنيسة، من خلال تنشئة الجيل الجديد من الكهنة على جميع أصناف العلوم والمعرفة، ليؤَدوا رسالتهم الروحية على أكمل وجه، بدل أن يتحولوا إلى معقّبي معاملات أو إداريّي أوقاف، وكأن الكنيسة قد تحولت إلى شركة استثمارية وهي بحاجة إلى موظفين لإدارتها؟. وكما طرد يسوع تجار الهيكل الذين انتهكوا قدسيته، هكذا يجب أن تطهر كنيستنا من الذين عاثوا بها فساداً.
   وعليه يتوجب على الرئاسة الكنسية أن تعمل على إنعاش الدعوات الكهنوتية المثمرة والفعالة، ويجب أن تضع معايير لقبول المنتسبين لهذا السلك، ليكونوا على قدر المسؤولية المناطة بهم، لأنهم رعاة النفوس في عصر تتسارع فيه الأحداث بشكل مثير. 
   كما يجب أن توجه الرئاسة الاهتمام البالغ لإنعاش الحياة الرهبانية، لأن قوة الكنيسة تكمن في قوة وفعالية الرهبانية فيها. وأعتقد أن هذا الأمر يتطلب بذل جهود مضنية وحثيثة، لكن إذا تعاون المصفّ الأسقفي مع بطريركنا الجليل، فإنهم سوف يحققون معاً هذا الهدف السامي.
   ولابد من الرئاسة الكنسية أن تبذل جهد المستطاع لإعادة الكهنة الذين تركوا كنيستهم والتحقوا بكنائس أخرى، من خلال معالجة الأسباب التي جعلتهم يتركون مراكزهم.
   2_ الوحدة: من المعلوم أن كنيسة المشرق اليوم يرعاها ثلاثة بطاركة. وهذا أمر مؤسف جداً، وجرح بليغ يؤلم أبناء هذه الكنيسة منذ الانقسام وحتى يومنا هذا. فهل يجوز أن تبقى هذه الكنيسة منقسمة على نفسها، علماً أن تاريخها واحد، ولغتها واحدة، وتراثها واحد. فالذي يجمعها هو أكثر بكثير مما يفرقها. وعليه يجب على الرئاسات الثلاث الجلوس على طاولة الحوار، ومناقشة كل الأسباب التي أدت إلى هذا الانقسام بشفافية ومصداقية. بعيداً عن العصبية والاعتبارات الغير جوهرية. بحيث تحترم كل الخصوصيات، والعمل بشكل جدي لإعادة الوحدة لهذه الكنيسة الرسولية، لتعود إلى سابق عهدها منارة تنير المتعثرين في دياجير الظلمة، ومركز إشعاع لنور الإنجيل البهي. وأشدد على تسمية كنيسة المشرق لأنه الإسم التاريخي لهذه الكنيسة منذ تأسيسها. وعندما تتم هذه الوحدة بالتعاون بين الجميع، نستطيع بكل فخر واعتزاز التوجه نحو جميع الكنائس الشقيقة لنكمل مسيرة الوحدة معهم. وبهذا نحقق وصية الرب يسوع: " ليكونوا واحداً ". 
   3_ التجديد: أعتقد أن هذا الهدف هام جداً لنهضة الكنيسة. فالفوضى الطقسية تعمّ كنيستنا، وكل رعية تؤدي الطقوس حسب مزاج راعيها، متناسين أننا نملك أغنى وأعرق تراث طقسي، يعود إلى زمن الرسل. من هنا ننتظر من رئاستنا أن تشكل لجنة من المختصين الأكفاء، تقوم بدراسة علمية وعميقة ورصينة لهذه الطقوس وبالعودة إلى الينابيع، حتى تحقق أمانينا بتوحيد الطقوس في جميع رعايا هذه الكنيسة. كما يجب أن تجهد رئاستنا على وضع نظام عصري ينظم الشؤون المالية والإدارية بشكل دقيق.
   وأدعو رئاستنا إلى التفكير بجدية لتأسيس رابطة كلدانية عالمية، ليتواصل أبناء الكنيسة في المشرق والمغتربات بشكل دوري، حتى يعملوا بما هو مفيد لخير كنيستهم، ويتعاونوا بروح الأخوة خصوصاً في القضايا المصيرية والهامة.
   وأتمنى أن تمنع رئاستنا رجال الدين من الانغماس في أمور السياسة، وتحويل منابر كنائسنا إلى أبواق للدعايات السياسية، فلتبقَ السياسة للسياسيين، أمّا هم فرسالتهم روحية تقود النفوس إلى مراعي الإيمان.
  وحيث أن بطريركنا الجليل دعانا إلى إعادة البيت الكلداني، لتكون الكنيسة الكلدانية علامة للشهادة والأمل والشّركة بالرغم من كل الصعوبات. فلنلبّي هذه الدعوة الكريمة، ملتفّين جميعاً حول غبطته، أساقفة وكهنة، رهبان وراهبات، شمامسة وعلمانيين. لنحقق معاً هذه الأماني الطيبة، لمجد الله وخير النفوس، ولنشرّع الأبواب أمام الآتي باسم الرب.               

2
الكنيسة الكلدانية تنتظر بطريركاً جديداً
الشماس نوري إيشوع مندو
   بعد أن قدم صاحب الغبطة والنيافة مار عمانوئيل الثالث دلي الكلي الطوبى استقالته من رئاسة الكنيسة الكلدانية بسبب تقدمه بالسن، نشر العديد من أبناء الكنيسة مقالات على صفحات المواقع أللإلكترونية، يعبرون فيها عن رأيهم في مواصفات البطريرك الجديد، ليقود الكنيسة في هذه المرحلة الهامة والمصيرية من تاريخها. حتى أن بعضهم دخل في مجال التسويق لفلان من الأساقفة مستعرضاً إنجازاته خلال فترة أسقفيته.
   ونحن كأبناء لهذه الكنيسة، علينا أن نعي أن دورنا في هذا الحدث يقتصر على الصوم والصلاة والتضرع إلى الله ليرسل روحه القدوس، ليحل على آباء السينودس الكلداني، لكي يختاروا الراعي الصالح الذي يقود الكنيسة إلى المراعي الخصبة.
    مع بداية القرن الحادي والعشرين علينا أن نتوقف قليلاً لنستعرض ما آلت إليه أوضاع هذه الكنيسة خلال القرن الماضي، علّنا من خلال هذا الاستعراض نحدد مواصفات البطريرك المنتظر، الذي تنتظره مهام جسام حتى يعيد لهذه الكنيسة حضورها كما كانت في سالف الزمان. 
   ففي بدايات القرن العشرين وبسبب مذابح السفر برلك خسرت الكنيسة الكلدانية أهم وأعرق الأبرشيات وهي: آمد    ( ديار بكر ) وسعرت وبازبداي ( جزيرة أبن عمر ) وماردين والنيابة البطريركية في وان. وخلال هذه الأحداث استشهد مطرانان هما: مار أدي شير مطران سعرت ومار يعقوب أوراهام مطران الجزيرة العمرية بالإضافة إلى العشرات من الكهنة وعشرات الآلاف من المؤمنين، وفقدت الكنيسة الكلدانية أهم ممتلكاتها من كنائس وأديار وأوقاف وغيرها. أما من أفلت من مؤمنيها من سيف القتل فقد هرب إلى العراق وسوريا ولبنان تاركاً كل ما يملك حاملاً وديعة الإيمان فقط ليحافظ عليها، ويسلمها لأبنائه وأحفاده من بعده. فشمر أنذاك السعيد الذكر البطريرك مار عمانوئيل الثاني توما عن ساعد الجد مهتماً بالنازحين مضمداً جراحهم بما يملك من غالي ونفيس. وحتى لا ننسى ما فعله هذا العظيم لا بد من ذكر ما قاله لمعاونه أنذاك الخوري داؤد رمو، عندما أعلمه أن العديد من النازحين في دار البطريركية ينتظرون المساعدة، لكن لا نملك شيء لنعطيهم كي يسدوا حاجاتهم. وقف البطريرك على شرفة البطريركية متأملاً تلك الجموع المتألمة، ثم دخل إلى غرفته وأحضر كأساً وبيلاساً للقداس كان قد أهداهما له الحبر الأعظم وأعطاهما للخوري رمو، وطلب منه أن يبيعهما ويوزع ثمنهما على هؤلاء الأبناء المتألمين. وقال قوله المشهور: " لن أصرف وجهي عن هؤلاء حتى أصبح متسولاً مثلهم ". وبعد هدوء العاصفة الهوجاء أخذ البطريرك يفتح مراكز للتجمعات الجديدة، ويرسل لهم خيرة الكهنة ليرعوا شؤونهم الروحية، ويساعدوهم على تنظيم حياتهم من جديد.
  وفي سنة 1917 حلت النكبة بأبرشيتي أورمية وسلاماس بسبب ما لحق بالمسيحيين من قتل ودمار، فاستشهد مار توما أودو مطران أورمية والعديد من الكهنة والآلاف من المؤمنين، وهجر أغلب من أفلت من سيف القتل إلى العراق. وهكذا خسرت الكنيسة الكلدانية أبرشيتين هامتين من أبرشياتها. وأيضاً أسعف البطريرك عمانوئيل الهاربين من هاتين الأبرشيتين بكل ما يملك من إمكانيات.
   أما ما جرى في العراق من أحداث منذ الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي وحتى سقوط بغداد سنة 2003، فقد أنهك الكنيسة الكلدانية بسبب هجرة أبنائها هرباً من جحيم ما يجري من أحداث. وقد انعكس ذلك سلباً على جغرافية هذه الكنيسة. فقد خسرت أبرشية الأهواز العريقة بعد أن غادرها مار حنا زورا مطرانها، حيث عين لاحقاً مطراناً لأبرشية كندا الحديثة. وأيضاً أبرشية ميشان ( البصرة ) حيث غادرها أغلب أبنائها، ونقل مار جبرائيل كساب مطرانها إلى أبرشية أستراليا الحديثة. أما أبرشية الموصل فقد خسرت أغلب أبنائها ضمن المدينة، حيث غادروها إما إلى القرى الممتدة في سهل نينوى أو إلى خارج العراق.أما الأبرشية البطريركية في بغداد فقد أغلقت أغلب مركزها بسبب نقص المؤمنين. وأغلق المعهد الكهنوتي وكلية بابل الحبرية بسبب الأوضاع السائدة، وتم نقلهما إلى أبرشية أربيل في عينكاوا. ونقلت رئاسة الرهبنة الهرمزدية الأنطونية من بغداد إلى دير السيدة قرب ألقوش. كذلك حدث الكثير من التغيرات في جميع الأبرشيات الكلدانية داخل العراق.
   أما ما يحز في النفس ترك العديد من الكهنة كنيستهم الأم وانضمامهم إلى كنائس أخرى.وأيضاً ترك العديد من الرهبان رهبانيتهم ليتحولوا إلى كهنة رعايا في بلاد الاغتراب، حيث من المعروف أن قوة الكنيسة هي من قوة رهبنياتها.ولنا مثال على ذلك تلك الفتوحات التبشيرية التي حمل لوائها رهبان كنيسة المشرق، حيث انطلق رهبان الدير الكبير في جبل إيزلا قرب نصيبيين ( دير إبراهيم الكشكري ) فوصلوا إلى بلاد الهند والصين وزرعوا بذار الإيمان المسيحي بين شعوب تلك البلاد.حتى أن البطريرك طيمثاوس الكبير هتف من نشوة الفرح: " لم يبق بقعة في العالم وإلا لنا فيها مركز ".
   مما سبق ومن خلال ما استعرضنا من بعض الحقائق لا بد من القول أن الكنيسة الكلدانية هي على مفترق طرق، ولا بد من شخصية فريدة متميزة تقود هذه الكنيسة إلى بر الأمان. فإذا استمرينا في حالة السبات فسوف نفقد حضورنا في موطن الآباء والأجداد. فتاريخ الكنيسة الكلدانية نبت ونمى في هذا المشرق، واستمراريته وديمومته رهينة بالحفاظ على من تبقى على هذه الأرض. لأنه مخطئ من يفكر أن عدد الكلدان في المهجر أضحى أضعاف من تبقى في المشرق. وهنا نتوقف عند تلك الأصوات التي تدعوا إلى نقل الكرسي البطريركي إلى الغرب، لهؤلاء نقول بصريح العبارة أن هكذا خطوة هي دمار وزوال لهذه الكنيسة العريقة. لأن حضورنا في الغرب سوف ينصهر في المستقبل شئنا أم أبينا في تلك المجتمعات الكبيرة، والمختلفة مع عاداتنا وتقاليدنا.
   ومن الواجب تقييم المرحلة الممتدة منذ انتخاب البطريرك عمانوئيل دلي سنة 2003 وحتى تاريخ تقديم استقالته نهاية سنة 2012 لنجد وبكل صراحة أن رئاسة كنيستنا كانت في سبات عميق في ظل ما يجري من أحداث مهمة في المنطقة. ويبدو أنها عاجزة من اتخاذ القرارات اللازمة للمحافظة على حيوية الكنيسة في الظروف الراهنة. فبعض الأبرشيات فقدت أساقفتها بسبب الموت أو النقل وبقيت دون أسقف لأسباب نجهلها، مثل أبرشيات زاخو ونوهدرا والبصرة وديار بكر والقاهرة. أليس هذا عجز واضح في إدارة الكنيسة؟. وبعض الأساقفة بلغوا السن القانوني الذي يستوجب عليهم تقديم استقالتهم وقد غض النظر عنهم لغاية لم ندركها. وبعض الأساقفة الذين وصلوا إلى مشارف السن القانوني قاموا وبطرق غير شرعية بتغيير تاريخ ولادتهم لتبقى الفرصة سانحة أمامهم لخوض غمار معركة البطريركية. كل ما يجري والبطريركية في سبات عميق، غاضة الطرف عما يجري في الأبرشيات التي تتبعها. ويمكن القول أن كل أبرشية أضحت دولة مستقلة لا علاقة لها بالرئاسة البطريركية.
   وهل من المقبول والمعقول وفي ظل ما يجري من أحداث وتطورات في المنطقة والعالم، لم يستطع سينودس الأساقفة الكلدان من الانعقاد منذ خمس سنوات خلت. فهل وضع الكنيسة الكلدانية على ما يرام، وليس هناك من مستجدات تستوجب انعقاد السينودس؟. 
   إن ما يحز بالنفس هو عجز رئاسة الكنيسة عن مواكبة مجريات الأحداث. وهنا أذكر حدث مهم جرى بحق هذه الكنيسة حيث استشهد مار بولس رحو مطران أبرشية الموصل والأب رغيد كني والعديد من الشمامسة وهذا الحدث لم تعطيه رئاستنا حقه في الأوساط الداخلية والخارجية. بينما الكنيسة السريانية الكاثوليكية وما أن جرت حادثة كنيسة سيدة النجاة في بغداد نجدها توظف هذا الحدث على جميع الأصعدة حتى تعطي الحدث حقه.
   أين رئاسة كنيستنا من ملف تطويب شهداءها العظام أمثال مار أدي شير ومار يعقوب أوراهام ومار توما أودو ومار فرج رحو والأب رغيد كني، ألا يستحقوا من رئاسة الكنيسة أن تعمل على تكريمهم على مذابح الكنيسة الجامعة.
  أين رئاسة كنيستنا من الفوضى الطقسية حيث كل أبرشية أو رعية تُحدث وتغير ما يحلو لها وحسب مزاجية المسؤول، وكأن لا حسيب ولا رقيب؟. إلا متى سنبقى مشرذمين نعيش على هامش ما يجري حولنا.ويطول بنا الحديث إذا استعرضنا التسيب الإداري والمالي في العديد من المراكز. متناسين أن الكنيسة هي مملكة المسيح على الأرض، وليست إمارة لمن يقودها كائن من كان.
   من هنا تقع المسؤولية أمام الله والتاريخ على عاتق آباء سينودس كنيستنا السامي احترامهم، فهم القادرون وحدهم فقط بعد يستلهموا الروح القدس بإيمان وتجرد، على اختيار الراعي الصالح لهذه المرحلة المصيرية، بعيداً عن سلطان المال الفاسد والمفسد، والروح العشائرية المقيتة والمدمرة، والمصالح الشخصية الرخيصة والبخيسة، والكيدية الهدامة والمخربة. عليهم المتاجرة بالوزنات التي سلمهم إياها الرب بالشكل الصحيح، لأنهم سوف يسألون في يوم الدين من الديان العادل عما فعلوا.فهذه هي الرسالة التي كرسوا أنفسهم من أجلها، حيث هجروا العالم وملذاته ليخدموا شعب الله بأمانة وتجرد وتضحية.
   فكم نحن اليوم بحاجة ماسة إلى بطريرك يحمل صفات البطريرك مار طيمثاوس الكبير، من إدارة محنكة وسياسة مرنة تشمل مختلف الأصعدة الدينية والمدنية.
   وأيضاً إلى بطريرك يحمل صفات البطريرك مار يوسف السادس أودو، من غيرة عارمة على كرامة هذه الكنيسة، والمحافظة على أصالتها وثراتها.
   وأيضاً إلى بطريرك يحمل صفات البطريرك مار عمانوئيل الثاني توما، من تجرد وتواضع ومتابعة لأحوال الأبناء، والعمل على تضميد جروحهم بكل ما تملك الكنيسة من إمكانيات.
   فإذا أختار الأساقفة راعياً بهذه الصفات فسوف يقود الكنيسة دون شك بحكمة ودراية، ويبلغ بها إلى أوج مجدها وازدهارها، ويذود عنها في الفترات الصعبة عندما تثار عليها عواصف المحن والاضطهادات.
   ونحن نعيش زمن الانتظار هذا نرافق أساقفتنا الأجلاء بالصوم والصلاة لكيما الراعي الصالح يسوع له المجد يهبنا من خلالهم راعياً صالحاً لنهتف مهللين مباركاً الآتي باسم الرب.     


3
المنبر السياسي / عيد سيدة فاطيما
« في: 17:21 14/05/2012  »
عيد سيدة فاطيما
13 أيار
الشماس نوري إيشوع مندو
   سيدة فاطيما: تقع بلدة فاطيما شمالي لشبونة  عاصمة البرتغال  على بعد 100 كم منها. وعلى بعد 1350 م من بلدة فاطيما تقع قرية الجستريل، وهذه القرية كانت تضم عشرة بيوت.
   وفي هذه القرية تصاهر رجلان، أقترن كل منهما بأخت الآخر وهما أنطونيو دوس سنتس، ومانوئيل بيدرو مرتو. فالأول أقترن بماريا روزا مرتو، والثاني بالمبيا سنتس. وقد رزق أنطونيوا من زوجته أبناً وخمس بنات، أحدهن ولدت في 22 آذار سنة 1907 ودعيت لوسيا.
   أما مانوئيل فقد رزق من زوجته تسعة أولاد منهما فرنسوا الذي ولد في 11 حزيران 1908، وأخته هياسنت التي ولدت في 10 آذار سنة 1910. وقد وقع اختيار البتول مريم على لوسيا وفرانسوا وهياسنت لتلتقي معهم.
   كان فرنسوا وأخته هياسنت منذ نعومة أظفارهما، يمحضان ابنة خالهما لوسيا حباً فريداً. وكان ميلهما إليها بتدبير إلهي خفي، إذ كانا ينفران من عشرة بقية الأولاد ويرتاحان إلى صحبتها.
   ولما بلغت لوسيا الثامنة من عمرها، عهدت إليها والدتها رعاية قطيع صغير للأسرة. وما أن علم فرانسوا وهياسنت بذلك، حتى ذهبا يتضرعان إلى والدتهما أن تفسح لهما بمرافقة لوسيا إلى الجبل وراء القطيع. فرفضت طلبهما في البداية، لكنها وافقت أخيراً بسبب إلحاحهما. فوكلت إليهما رعاية بعض النعاج كانت تملكها. ومن ذلك الحين، كان أولئك الرعيان الثلاثة يجمعون قطيعهم الصغير، ويذهبوا به إلى الجبل. وكانوا عصر كل يوم يتلون معاً مسبحة الوردية، قبل أن يعودوا بالقطيع إلى البيت.
   وأرادت العذراء سلطانة السماء قبل ترائيها لفتيان فاطيما، أن ترسل لهم من قبلها سفيراً سماوياً، يعد لها السبيل إلى نفوسهم الغضة، ويهيئهم لرسالتهم السامية بروح العبادة والتضحية. وذات يوم من أواخر سنة 1915 بينما كن يتلون سبحة الوردية، إذا بهن يبصرن فجأة شكلاً يحاكي تمثال ثلج، تخللته أشعة الشمس وجعلته شفافاً. وقد تجلى ذلك الشكل على شجيرة صغيرة من شجيرات الوادي المتحدر أمامهن. وما أن فرغن من الصلاة حتى توارت الرؤيا. وخلال أسابيع قلائل تكررت الرؤيا دفعتين متواليتين. 
   وتتحدث الأخت لوسي في مذكراتها ما حدث لهم خلال الظهور الثالث للملاك قائلة: عندما وصلنا إلى المكان ركعنا وصوّبنا وجوهنا نحو الأرض بدأنا نردد الصلاة التي علمنا إياها الملاك: " إلهي أنا أؤمن وأسجد، أرجو وأحب، وأستميحك المغفرة لمن لا يؤمنون ولا يسجدون، ولا يرجون ولا يحبون ". لا أدري كم رددنا هذه الصلاة حتى رأينا فوق رؤوسنا نوراً غريباً يلمع. وقفنا كي نرى ماذا يحدث فرأينا الملاك يحمل بيده اليسرى كأساًَ كانت معلقة عليها قربانة يقطر منها بعض قطرات الدم في الكأس. ترك الملاك الكأس معلقة في الهواء. فركع قربنا وجعلنا نردد ثلاث مرات: " أيها الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس. أسجد لك بتجلّة وأقدم لك جسد سيدنا يسوع المسيح، الحاضر على هياكل الدنيا بأسرها. ودمه الكريم نفسه ولاهوته، كفّارة عن الإهانات التي تغيظه. وباستحقاقات قلبه الأقدس غير المتناهية، وبشفاعة قلب مريم الطاهر، ألتمس منك عودة الخطأة البائسين إلى التوبة ". بعدها نهض وحمل بين يديه الكأس والقربانة فناولني القربانة المقدسة وقسم الدم في الكأس بين هياسنت وفرانسوا وهو يقول: " خذوا كلوا واشربوا جسد ودم سيدنا يسوع المسيح الذي يهينه البشر الجاحدون بشكل فظيع. عوضوا عن جرائمهم وآسوا إلهكم ". ثم سجد من جديد على الأرض وردد معنا ثلاث مرات أيضاً " أيها الثالوث . . . " واختفى. بقينا على حالنا نردد دائماً الكلمات ذاتها، ولما نهضنا رأينا بأن الليل قد حل وبأنه حان وقت العودة إلى المنزل.   
   وقد كتمت لوسيا ما حدث، لكن رفيقاها بُحن بالأمر، فبلغ إلى مسامع أمها. وقد سألتها أمها عما جرى، فقصت عليها سياق الحوادث الثلاث. فاستخفت الوالدة أقوال أبنتها، وعدتها مهزلة صبيانية.
   وفي يوم الأحد 13 أيار سنة 1917 كان الأطفال الثلاثة يرعون أغنامهم في المكان المعروف بــ " كوفادي إريا "، وعندما دق جرس الكنيسة المجاورة ظهراً داعياً لصلاة التبشير الملائكي، ترك الأطفال ألعابهم وبكل خشوع وتقوى أخذوا يتلون التبشير الملائكي. وما كادوا ينتهون من الصلاة حتى خطف أبصارهم برق باهر، فقررت لوسيا العودة مع الأخوين إلى المنزل خوفاً من حدوث عاصفة. وإذا ببرق آخر أقوى من السابق أوقفهم مرتعدين مضطربين وعلى يمينهم، وسط النور الساطع الخاطف للأبصار، رأوا على شجرة سنديان صغيرة، سيدة أية في الجمال والبهاء واقفة وبإشارة منها طمأنتهم حيث قالت: " لا تخافوا فإني لن أسيء إليكم ". ذهل الأطفال وأخذوا يحدقون النظر في تلك السيدة التي لا يزيد عمرها على الثماني عشر سنة، ذات الوجه الجميل الأخاذ، والذي تحيط برأسه هالة من نور، علته مسحة من الكآبة والألم الدفين. وكانت تلك السيدة ضامة يديها على صدرها في موقف من يصلي، كما كان ثوبها ناصع البياض كالثلج ينزل لآخر رجليها وفي عنقها سلسلة من ذهب تتدلى إلى وسط الجسم، وغطاء رأسها رداء أبيض مطرز بالذهب ينزل إلى القدمين، وبيدها اليمنى مسبحة ذات لآلئ وصليب من الفضة. وهنا قطعت لوسيا السكوت سائلة تلك السيدة: " من أين أنتِ ؟ ". فأجابتها السيدة: " من السماء ! ". ثم سألتها لوسي: " وماذا أتيتِ تصنعين هنا ؟ ". فأجابتها السيدة: " أتيت لأطلب منكم أن تكونوا هنا ستة أشهر متوالية في اليوم الثالث عشر من كل شهر وفي مثل هذه الساعة ! ". وبعد ذلك بدأت السيدة تسأل الأطفال موضحة لهم ما تريد منهم قائلة: " هل تريدون تقدمة أنفسكم لله محتملين كافة الآلام التي يرى سبحانه وتعالى تحميلكم إياها تعويضاً وكفّارة عن الخطأة حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله ؟ ". فأجابوا: " نعم نريد ". وهنا قالت لهم السيدة: " إذاً ستتعذبون كثيراً، ولكن نعمة الله ستكون معكم وهي تسندكم وتثبتكم فثابروا يا أولادي على تلاوة المسبحة كما كنتم تفعلون الآن ". بعد ذلك إبتعدت السيدة رويداً رويداً نحو الشرق واختفت في نور الشمس. وقد أستمرت هذه الرؤيا وهي الأولى حوالي عشر دقائق. 
   وبعد عودتهم إلى المنزل روت هياسنت لأمها كل شيء رغم تحذير لوسيا إياها  وفرانسوا. فخاف أهالي الأطفال أن يكونوا يلهون بمثل هذه الأمور، وأن لا يكون كل ما يسردونه إلا عبث أحداث، فأضطروا لأن يؤنبوهم بكل شدة. وكانت لوسيا أكثر الأطفال تعرضاً للأذى حيث ضربها والداها ضرباً مبرحاً، وعُيرت منهما ومن أهالي البلدة بأنها كاذبة مرائية وخادعة ومنافقة. لكن الأطفال تحملوا كل الآلام بصبر وتواضع مصممين على رؤيتهم ومصرين على الذهاب إلى الموعد المحدد للقاء السيدة.
   وفي يوم 13 حزيران سنة 1917 توجه الأطفال الثلاثة يصحبهم ستون شخصاً من الأهالي إلى المكان الذي وعدت العذراء بالظهور فيه. وبعد أن صلى الجميع المسبحة، وقفت لوسي وتطلعت نحو الشرق، ثم صرخت قائلة: " لقد رأينا البريق الذي يسبق مجيئها، فالسيدة سوف تحضر حالاًَ ". ثم توجهت لوسي لناحية شجرة السنديان، وفي أعقابها فرانسوا وهياسنت. وهنا ظهرت السيدة من جديد، وشددت على الأطفال بضرورة الثبات على صلاة المسبحة مراراً على قدر المستطاع. وهنا سألتها لوسيا: " ماذا تريدين مني أيتها السيدة ".  فردت السيدة: " أريد أن تحضروا هنا في الثالث عشر من الشهر القادم ". ثم قالت السيدة للوسيا: " أريد أن تتعلمي القراءة لأتمكن من إطلاعك فيما بعد على ما أبغي ". ثم أقترحت لوسيا على السيدة أن تأخذها مع رفيقيها إلى السماء. فقالت لها السيدة: " أجل سآتي عن قريب لآخذ هياسنت وفرانسوا. وأما أنتِ فستبقين على هذه الأرض زماناً أطول، لأن يسوع يريد أن يجعلك أداة يعرفني الناس بها ويحبونني. بوده أن ينشر في العالم إكرام قلبي الأطهر ". فأجابت لوسيا بلهفة: " سأبقى إذاً وحدي؟ ". فردت عليها السيدة: " كلا يا بنيتي! لن أهملك البتة، لأن قلبي المنزه عن كل عيب يكون لك مأوى، وسبيلاً يقودك إلى الله ". قالت هذا وأفرجت يديها. فتدفق النور منها، وشمل الرؤاة. فعاينوا ذواتهم غارقين في لجة الله. وبدا لهم أن جدولاً من الضياء يقل فرانسوا وهياسنت إلى السماء، وأن جدولاً آخر ينصبّ على بلوسيا على الأرض. ورأوا قلبها أحدقت به الأشواك وآلمته ففهموا أنه قلب البتول الأطهر يطلب التوبة والتعويض، إذ قد أوجعته خطايا البشر. ثم أودعت كل طفل من الأطفال الثلاثة سراً مع التنبيه عليه بأن لا يفشيه لأي إنسان. وعندئذ تلاشت الرؤيا وهي الثانية.
   في 13 تموز سنة 1917 حضر إلى مكان الظهور أكثر من خمسة آلاف شخص، وعندما ظهرت السيدة طلبت لوسيا من الجموع الركوع باحترام. فأوصت السيدة الأطفال الثلاثة بصلاة الوردية حتى تنتهي الحرب العالمية الأولى قائلة: " إن شفاعة البتول النقية وحدها تقدر أن تنال للعالم هذه النعمة ". فسألت  لوسيا السيدة عن اسمها، كما طلبت منها بناء على إلحاح الحاضرين أن تصنع معجزة تثبت حقيقة ظهورها، فأجابت السيدة: " ثابروا على المجيء هنا يوم 13 من كل شهر. وفي يوم 13 تشرين الأول سنة 1917 سأقول لكم من أنا، كما سأعمل معجزة عظيمة حتى يؤمن الجميع بحقيقة ظهوري ". وهنا طلبت لوسيا منها بعض النعم فكررت لها توصيتها بتلاوة الوردية. ثم قالت للأولاد الثلاثة: " قدموا تضحياتكم لأجل الخطأة قائلين: يا يسوع هذا حباً لك، ولإرتداد الخطأة، وتعويضاً عن الإهانات التي تلحق قلب مريم الطاهر ". ثم أودعت الأطفال سراً جديداً عرف فيما بعد جزء منه المتعلق بتأسيس إكرام قلب مريم الطاهر. ثم فتحت السيدة يديها كما فعلت سابقاً فرأى الأطفال شعاع النور يخترق الأرض وعاينوا جهنم، حيث مصير نفوس الخطأة البائسين وقالت لهم: " الرب يريد أن يخلص النفوس بتأسيس إكرام قلب مريم الأطهر ". ثم قالت لهم: " أضيفوا بعد تلاوة المجد للآب والابن والروح القدس من كل سر من أسرار المسبحة الصلاة التالية: يا يسوع أغفر لنا خطايانا ونجنا من نار جهنم، وخذ إلى السماء كل الأنفس خاصة الأكثر احتياجاً إلى رحمتك ". وقد لاحظ الحضور أثناء الرؤيا تضاؤلاً عظيماً في نور الشمس، كما رأوا غمامة بيضاء كانت تظلل الأطفال الثلاثة وكان الرؤيا. وعندئذ تلاشت الرؤيا وهي الثالثة.
   بعد الرؤيا الثالثة تكاثرت المضايقات للأطفال الثلاثة، فقد أجرت الجهات الرسمية تحقيقات حول الموضوع. أما الصحافة اللادينية فقد اعتبرت الرؤيا مجرد هواجس أو خزعبلات من اختراع بعض الكهنة. وأخذ حاكم مركز أوليم وهو ماسوني ، والذي تتبعه بلدة فاتيما على عاتقه أن يقتل في المهد تلك الروحانيات. لذلك جمع الأطفال ووالديهم وأمطرهم بوابل من الأسئلة والاستجوابات، وأشبعهم وعيداً وتهديداً عله يصل إلى تراجع الأطفال عن إصرارهم على توكيد حوادث الظهور فلم يفلح. ولما يئس وأعيته الحيل لم يتورع عن توعيد الأطفال بالقتل إذا لم يقلعوا عن إصرارهم، فجاوبه الأطفال ببطولة وبسالة وإيمان: " إذا كنت تقتلنا فهذا لا يهم لأننا سنذهب فوراً إلى السماء ".
   وفي يوم 13 آب سنة 1917 وهو اليوم المحدد للظهور الرابع، تجمهر في المكان حوالي الثمانية عشر ألف شخص من المؤمنين الأتقياء، فبادروا بالصلاة والتراتيل وتلاوة المسبحة. ولما كان الظهر لم يحضر الأطفال كالمعتاد. فتعجب الحاضرون واستفسروا عن السبب، فعلموا أن حاكم المنطقة أخذهم عنوة، فهاجت الجموع وماجت وصممت على التظاهر أمام مركز الحكومة لإعلان سخطها واحتجاجها. وهنا سمع الجميع دوي الرعد، وازدانت السماء ببرق لامع، فتضاءل نور الشمس، ومال لون الجو إلى الإصفرار، وتكونت سحابة بيضاء جميلة فوق شجيرة السنديان ثم ارتفعت وتلاشت. وفي تلك الأثناء كان الحاكم قابضاً على الأطفال وأبقاهم محجوزين ثلاثة أيام. ولما أعيته الحيل عن معرفة ما اؤتمنوا عليه من الأسرار قال لهم: " إما أن تقولوا الحق أو ألقي بكم في موقد الغرفة فتحترقوا ". وأخذ كل طفل على حدة مظهراً أنه سينفذ تهديده فعلاً ! فلم يفلح أيضاً. ولما يئس أمام بطولة هؤلاء الأطفال واستعدادهم للاستشهاد، أضطر لتسليمهم إلى كاهن البلدة ليوصلهم إلى أهاليهم. 
   ولما تغيب الأطفال مكرهين عن ميعاد 13 آب أعتقدوا أنهم لن يروا السيدة. ولكن حدث أنه في يوم 190 آب وفي مكان آخر يسمى " فالينيوس " ظهرت لهم السيدة، واستنكرت تصرف الحاكم ومنعه إياهم من ميعاد 13 آب في المكان المعتاد. ثم دعتهم للصلاة دائماً وتقديم التضحيات وإماتة النفس لارتداد الخطأة قائلة: " صلوا صلوا كثيراً وابذلو التضحيات وإماتة النفس لأجل الخطأة فما أكثر الأنفس التي تذهب إلى جهنم لعدم وجود من يضحي لأجل الخطأة قبل           موتهم ". وكان هذا الظهور الرابع.
   وفي يوم 13 أيلول سنة 1917 توجه إلى بلدة فاطيما ما يربو على الثلاثين ألف شخص، فازدحمت الطرق الموصلة إلى مكان الظهور. وقبيل الظهر حضر الأطفال الثلاثة ولما أستقر بهم المقام صرخت لوسيا في الجموع قائلة: " يجب أن تصلوا ". وفي الحال ركع الجمع كله تلبية لنداء هذه الطفلة، مصلياً ومستعطفاً أم الرحمة. وفي الظهر تماماً بدأت الشمس تفقد بهاءها، ومال لون الجو إلى الإصفرار الذهبي فاندهشت الجموع. وقد رأى غالبية الحاضرين كرة من النور تسير بعظمة وجلال من الشرق إلى الغرب في الفضاء المتسع. ثم ظللت سحابة بيضاء شجرة السنديان الأخضر والثلاثة أطفال. ولاحظ الجمع كله أن لوسيا كانت تتحدث بصوت مرتفع مع شخص غير مرئي دون أن يسمع أحد الحاضرين ما عدا لوسيا والطفلين الآخرين كلام هذا الشخص أو يتمتع بمشاهدته. فقالت السيدة للأطفال: " واظبوا على صلاة الوردية لنوال نعمة انتهاء الحرب ". ثم وعدتهم بالعودة في يوم تشرين الأول بصحبة القديس يوسف والطفل يسوع، ووعدتهم بمعجزة ليؤمن الجميع. وهنا سألتها لوسيا نعمة الشفاء للمرضى فأجابت: " سأشفي البعض ولكن الباقين لن يشفوا لأن السيد المسيح غير راض عنهم ". وكان هذا الظهور الخامس.
   وفي صباح يوم 13 تشرين الأول سنة 1917 ازدحمت الطرق المؤدية لبلدة فاطيما بالناس ، ورغم البرد القارص والمطر الغزير بلغ عدد القادمين سبعين ألف نسمة. وفي انتظار ما سيحدث كان شاغل كل واحد منهم الصلاة والتضرع إلى الله. وبكل مشقة وصل الأطفال الثلاثة برفقة والديهم وشقوا لهم طريقاً وسط الجموع التي كانت تحييهم بكل إحترام. وبناء على طلب لوسيا وقفت هذه الكتل البشرية تصلي المسبحة. وفي الظهر تماماً قطعت لوسيا الصلاة صارخة: " ها هي تأتي ". فشاهدت الجموع وعلى ثلاث دفعات متوالية سحابة بيضاء تظلل الأطفال الثلاثة طول مدة الظهور التي أستمرت من إثني عشر إلى خمسة عشر دقيقة.
   وخلال الظهور قالت العذراء للأطفال الثلاثة ما يلي: "  أنا سيدة الوردية، ويجب على الناس أن يتوبوا ويغيروا عيشة المعاصي، وأن يكفوا عن إهانة سيدنا يسوع المسيح المهان كثيراً، وعليهم أن يتلوا الوردية ". ثم أضافت العذراء أنها تريد أن تقام هناك كنيسة إكراماً لها. ووعدت بقبول تضرعات الناس لإنهاء الحرب سريعاً إذا ما غيروا سيرتهم. وعندما أرادت العذراء الإنصراف أشارت بأصبعها إلى السماء، فصرخت لوسيا قائلة: " انظروا إلى الشمس ". وفي الحال إستطاع جميع الحاضرين أن يشاهدوا لمدة إثني عشر دقيقة منظراً مروعاً ومدهشاً لم تره عين. فلقد انقطع المطر فجأة، وانقشعت الغيوم، وأضحت الشمس بيضاء مثل كرة من الفضة يمكن التحديق فيها دون خوف من الإغشاء. وفي اللحظة ذاتها كعجلة من نار أخذت الشمس تدور حول نفسها مترنحة. ومثل كشاف جبار كانت ترسل في جميع الجهات باقات من الأنوار الخضراء والحمراء والزرقاء ومن كافة الألوان لتسرح فوق السحب وفوق جمهور النظارة وفوق الأرض. ثم وقفت حركة الشمس فجأة بعد مضي أربع دقائق، لتعود مرة ثانية وثالثة إلى رقصتها العجيبة المترنحة وسط أنوار خيالية مبهرة.
   وبينما كان الجمهور مأخوذاً بروعة الحادث، ظهر للأطفال الثلاثة بالقرب من الشمس المشاهد الآتية:
أولاً: العائلة المقدسة مكونة من سيدة الوردية والقديس يوسف والطفل يسوع.
ثانياً: سيدنا يسوع المسيح في سن الرشد مباركاً الجموع بحب وعطف.
ثالثاً: سيدة الآلام أعني الأم الحزينة.
رابعاً: سيدة الكرمل حاملة بين يديها ثوب العذراء.
   ولما قاربت المعجزة لنهايتها حدث ما هو أروع من كل ما سبق، إذ أن الشمس بعد رقصتها الثالثة وسط النار والألوان وقفت لحظة. ومثل عجلة جبارة تفكك رباطها من كثرة دورانها. ثم انفصلت عن الأفق وانحدرت ساقطة فوق النظارة الذين ذعروا، ظناً منهم أنها نهاية العالم التي تنبأ عنها الإنجيل المقدس. وهنا ركعت الجموع على الأرض مرتجفة متضرعة ومبرزة أحر أفعال الندامة. وفي الحال سكنت الشمس مكانها وعاد إليها بهاؤها المعتاد. وكان هذا الظهور السادس والأخير.     
   سنة 1918 أنتشر في أوربا وباء مهول، وفتك فيها فتكاً ذريعاً، وقد دعوه الحمى الإسبانية. وقد أصيب فرانسوا وهياسنت بذاك الوباء. وبعد معاناة فرانسوا من الداء المذكور توفي قي 4 نيسان سنة 1919 عن عمر لم يتجاوز 11 سنة. أما أخته هياسنت فقد توفيت في 20 شباط 1920 عن عمر  لم يتجاوز 10 سنوات. بعد معاناة مريرة من ذاك الوباء.
   أما لوسيا فقد اختارت الحياة الرهبانية، فدخلت دير الكرمل سنة 1926. واستمرت في حياتها الرهبانية حتى توفيت في 13 شباط 2005 عن عمر بلغ 97 سنة.
   سنة 1997 وضعت الأخت لوسيا كتاباً بعنوان " نداءات رسالة فاطيما ". بعد أن تكاثرت الأسئلة الملحة حول موضوع الظهورات، فطلبت من الكرسي الرسولي الإذن بجمع الأجوبة في كتاب يشملها جميعها، وقد حصلت عليه. ومن خلال هذا الكتاب قدمت الأخت لوسيا للعالم خلاصة شاملة ومدروسة للبشرى التي تلقتها من مريم أم الرب. وتقول الأخت لوسي في مقدمة كتابها: " عندما حدثت تلك الظهورات، لم أكن أعرف الشريعة بعد. كان لدي صورة محدودة وغير كاملة، لا أجيد القراءة ولا الكتابة وأعيش في جو بعيد عن الثقافة والعلم. وقد حصلت على تلك المعرفة ببطء كبير، بفضل النور الذي زودني به الله. وبعد أن سمحوا لي بقراءة الكتاب المقدس، حينها فهمت معنى الرسالة الحقيقي ". وقد لخصت الأخت لوسيا رسالة فاطيما بعشرين نداءاً، وعلى الشكل التالي:
   الأول _ نداء إلى الإيمان: الإيمان هو أساس الحياة الروحية، نعترف عبره بوجود الله وقدرته وحكمته ورحمته وفدائه ومغفرته وحبه الأبوي. عبر الإيمان نؤمن بكنيسة الله التي أسسها يسوع المسيح وبالتعليم الذي تنقله إلينا والذي عبره سيتم خلاصنا. إن نور الإيمان هو الذي سيرشدنا ويقودنا في الطريق الضيق الذي يوصلنا إلى السماء. وعبر الإيمان نرى المسيح في إخوتنا ونحبهم ونخدمهم ونساعدهم عندما يكونون بحاجة إلينا. نتأكد كذلك عبر الإيمان، من وجود الله فينا، ونتأكد بأننا دائماً تحت نظره. إنها نظرة نور قديرة وعظيمة تمتد في كل جهة فترى كل شيء، وتخترق كل شيء بوضوح كما النور الإلهي.
   الثاني _ نداء إلى العبادة: من خلال وصية الله الأولى " أنا الرب إلهك . . . " عبر هذه الشريعة يوصينا الله بعبادته هو فقط، ويمنعنا من صنع منحوتات بواسطة الأشياء التي خلقها هو. ولا ينبغي مساواة الأوثان بصور المسيح والعذراء والقديسين، ولا يجوز تقدمة الشعائر والعبادة لأي من تلك الصور. فلذلك نقدر صور يسوع والعذراء والقديسين، لأنها تذكرنا بالأشخاص الذين تمثلهم، وبفضائلهم وتعاليمهم فنندفع للإقتداء بهم. وعليه فعبادة الله هي واجب ووصية، فرضها الله علينا بدافع المحبة لكي يتيح لنا التبرك منه.
   الثالث _ نداء إلى الرجاء: يجب أن نضع رجائنا في الرب، لأنه الإله الوحيد الحق، الذي خلقنا بدافع حب أزلي، وافتدانا بإرساله لنا إبنه الوحيد يسوع المسيح، إلهاً حقاً وإنساناً حقاً، تألم ومات من أجل خلاصنا. فرجاءنا يكمن في الله، في كلمته وفي حبه الأبوي وفي يده المخلصة. ونحن كالأبناء المستسلمين بين ذراعيه، المطمئنين من رحمته اللامتناهية، نعرف بأن ثقتنا لن تخيب.
   الرابع _ نداء إلى حب الله: الله محبة هذا ما يقوله يوحنا الإنجيلي. فهو يحبنا حباً أبدياً منذ الأزل، فعلينا أن نتنبه إلى الوصية التي أعطانا الله وهي أن نحبه. ويظهر حبنا لله ويبرهن بالحب الذي نخص به كل واحد من إخوتنا، لأنهم جميعهم مثلنا أبناء الله، أحبهم وافتداهم بيسوع المسيح. ومن أجل أن يكون حبنا حقيقياً ومقبولاً لدى الله، يجب أن ينعكس على إخوتنا عبر صلاتنا ومثالنا الصالح وأقوالنا وأعمالنا.
   الخامس _ نداء إلى المغفرة: يحملنا هذا النداء على طلب الغفران من الله من أجل إخوتنا ومن أجلنا، ومن أجل الذين يؤمنون ولا يؤمنون، من أجل  الذين لا يعبدون وينحنون أمام الله، ولأجل الذين لا يرجون ولا يثقون، من أجل الذين يحبون ولا يحبون. فجميعنا بحاجة إلى غفران الله من أجل قلة إيماننا وضعفه، ومن أجل رجائنا الذي غالباً ما يكون خامداً، ومن أجل محبتنا الباردة وغير المبالية، ومن أجل عبادتنا الواهنة. ولا نستطيع الحصول على غفران إن لم نغفر لإخوتنا أولاً، لذلك لا يمكننا أن ننمي الشعور بالحقد والإرادة السيئة والمخاصمة وكذلك الشعور بالانتقام بسبب أي إهانة وجهها لنا قريبنا، كبيرة كانت أم صغيرة. 
   السادس _ نداء إلى الصلاة: أوصى يسوع تلاميذه: " اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة ". فعبر التأمل والصلاة نحصل على مغفرة لخطايانا، والقوة والنعمة لكي نقاوم تجارب العالم والشيطان وشهوات الجسد. نحن جداً ضعفاء ومن دون هذه القوة لن نتوصل إلى الفوز. وقد علمنا يسوع أن نصلي " أبانا الذي . . " وهي أجمل ما نتقدم به من صلوات نحو الله، والتي يعلمنا يسوع فيها مناداة الله بالاسم العذب وهو " أب ". وهناك طرائق للصلاة نذكر منها: 1_ صلاة شفهية: أي موجهة مباشرة إلى الله بكلمات نابعة بعفوية من قلبنا. 2_ صلاة عملنا: هي إتمام كل واجبات الحالة الشخصية، بروح خاضع ومتواضع لله. لأنه هو الذي فرض علينا شريعة العمل. 3_ صلاة عقلية: وهي معروفة بــ             " التأمل " وهي ترتكز على التفكير أمام الله بسر من الأسرار الموحى بها، ببعض المراحل من حياة الرب، ببعض نقاط العقيدة، وبشريعة الله، أو بفضيلة ما من الفضائل التي يتحلى بها يسوع المسيح، في السيدة العذراء، أو القديسين، فنقتدي بها.
 السابع _ نداء إلى التضحية: يمكن أن تكون التضحيات من خيرات روحية وفكرية ومعنوية وجسدية ومادية. إن سنحت لنا الأوقات، فلدينا فرصة في تقديم بعضها في وقت ما، وغيرها في وقت آخر. فالمهم أن نكون مستعدين للإستفادة من الفرص التي تتاح لنا. علينا أن نكون قادرين، خصوصاً أن نضحي عندما يكون هذا مطلوباً، طاعة لواجبنا نحو الله والقريب وذواتنا.
   الثامن _ نداء إلى المشاركة في سر الإفخارستيا: يؤكد لنا يسوع حضوره الحقيقي بالجسد والروح، حياً كما هو في السماء، حيثما وجد الخبز والخمر المكرسين فهو يقول: " هذا هو "، لم يقل " هذا كان " أو " هذا سيكون " ولكن " هذا هو "، في أي وقت وأينما كان الخبز والخمر المكرسان، هما جسد ودم يسوع ويبقيان كذلك طالما نحتفظ بهما. فيسوع حي في القربان. ومن أجل أن نتمكن من الغذاء من هذا الخبز، علينا أن نكون في حالة نعمة مع الله. فعلينا أن نفحص ضميرنا، ثم نتطهر معترفين بخطايانا في سر التوبة. وبعد اعتراف متواضع وصادق، مفعم بروح توبة ونية إصلاح، نحصل على مغفرة خطايانا. وعلى هذا الشكل، يمكننا أن نتقبل جسد ودم يسوع المسيح، متأكدين بأن هذا السر هو بالنسبة إلينا ينبوع حياة، وقوة ونعمة. 
   التاسع _ نداء إلى التقرب من الثالوث الأقدس: سر الله الواحد والمثلث الأقانيم في أشخاص الآب والابن والروح القدس. سر الثالوث الأقدس، إله واحد في ثلاثة أقانيم قد أوحي إلينا به، ولكن فقط في السماء يُعطى لنا فهمه كاملاً. نؤمن به لأن الله قد أوحى إلينا به، ونعرف جيداً بأن فهمنا المحدود بعيد كل البعد عن قدرة الله وحكمته. بالنسبة إلينا تظهر الطبيعة بأكملها مكتنفة بالأسرار، كما تبدو بكليتها كإيحاء لسر الله، الذي هو ثالوث في أقانيم الآب والابن والروح القدس، إله واحد حق. إن عظمتنا كبيرة، فالله قد اختارنا، هو حامينا وحضوره يقدسنا بثناء مجده، نحن بيوت قربان حية حيث يسكن الثالوث الأقدس. 
   العاشر _ نداء إلى تلاوة يومية السبحة الوردية: السبحة الوردية هي الصلاة التي أوصى بها الله عبر كنيسته وعبر السيدة العذراء، بإلحاح كبير إلى الجميع، كطريق وباب إلى الخلاص. هناك صلوات عديدة جميلة جداً، يمكنها أن تخدمنا كتحضير لنتقبل المسيح في القربان، ولكي نحافظ على اتصال ودي حميم مع الله. ولكن يبدو لي أنه لا يوجد أي صلاة يمكننا أن ننصح بها، فتكون الأفضل للجميع كصلاة الوردية. لا نعرف لماذا أراد الله، الذي هو أب ويفهم أفضل منا حاجات أبنائه، أن يطلب صلاة الوردية يومياً. لقد خضع لأبسط مستوى من أجلنا كي يسهل لنا طريق الوصول إليه. إن صلاة الوردية يمكن تلاوتها جماعياً، أو فردياً، في الكنيسة أمام القربان الأقدس، أو في المنزل مع العائلة أو بمفردنا، أو في الطريق عندما نذهب في رحلة. يتألف يومنا من 24 ساعة، فليس بالكثير علينا لو وفرنا ربع ساعة للحياة الروحية، لمحادثتنا الحميمة والودية مع الله. 
   الحادي عشر _ نداء لتكريم قلب مريم الطاهر: جميعنا نعرف ما الذي يمثله قلب الأم في العائلة: إنه الحب، فالحب هو الذي يدفع الأم إلى السهر قرب مهد إبنها، وإلى التضحية والعطاء والدفاع عن ولدها. يثق كل الأبناء بقلب الأم، كما يعرفون جميعهم أنهم سيجدون فيه المكان المفضل الحميم، ويحصل الأمر عينه مع العذراء مريم. هذا ما جاء في الرسالة: " قلبي الطاهر سيكون ملجأك والطريق الذي يقودك إلى الله ". إذن فقلب مريم هو بالنسبة لجميع أبنائه الملجأ والطريق إلى الله. إن تثبيت التكريم لقلب مريم الطاهر، يعني حمل الأشخاص على تكريس كامل للارتداد والعطاء والتقدير الحميم والاحترام والحب. إذن يريد الله بروح التكريس والارتداد، أن يثبت في العالم التكريم لقلب مريم الطاهر. 
   الثاني عشر _ نداء لإعطاء أهمية للحياة الأبدية: نرغب جميعنا في المحافظة على الحياة الزمنية التي تمر مع الأيام والسنين والأعمال والأفراح والأحزان والآلام، ولكم كم يقل اهتمامنا بالحياة الأبدية ! ومع ذلك فهي الوحيدة الحاسمة والتي تدوم إلى الأبد. عندما خلق الله الكائنات البشرية، وجهها إلى الحياة الأبدية عبر مشاركته حياته الإلهية. لذلك خلق الله الإنسان على صورته. فالجسد البشري قد استخرج من الأرض، ولكن الإنسان حصل على الحياة من الله ذاته، من نفحة خلاقة من شفتيه. لذلك فإن نفسنا هي كائن روحي تتشارك مع حياة الله وهي خالدة. عندما لا يعود الجسد قادراً على التعاون مع عمل النفس، تتخلى عنه هذه الأخيرة وتطير نحو مركز انجذابها الذي هو الله. ولكن على مشاركتنا في الحياة الأبدية أن تكون حاسمة بين حقيقتين مختلفتين: السماء وجهنم.
   الثالث عشر: نداء إلى الرسالة: الرسالة هي متابعة مهمة المسيح على الأرض، علينا أن نكون معاونين للمسيح في عمله الفادي، أي في خلاص النفوس. هناك رسالة الصلاة التي يجب أن ترتكز عليها كل الرسالات الباقية، لكي تكون فعالة ومثمرة. هناك رسالة التضحية أو الذين يضحون بأنفسهم ويتنكرون لذواتهم من أجل خير إخوتهم. كما أن هناك أيضاً رسالة المحبة التي هي حياة المسيح مولودة من جديد، عندما نسلم أنفسنا إلى الله من أجل خدمة القريب.
   الرابع عشر _ نداء إلى المثابرة على عمل الخير: إن التكريس في الحق يعني تقديم أنفسنا بالكامل لله وللنفوس بدافع حب الله، كما يعني كذلك المثابرة في خدمة الله والقريب وحبهما، ومتابعة السير في الطريق التي رسمها الله في الحق. لأن شعارات العالم هي وهم ورياء. لهذا السبب يكرهنا العالم ويضطهدنا ويتجنى علينا. إن العالم يطوقنا بالحسد والغيرة والكراهية تماماً كما يفعل الشيطان. لذلك تدعونا رسالة فاطيما لمتابعة الصلاة لكي نحصل على السلام.
   الخامس عشر _ نداء إلى التوقف عن إهانة الله: نحن مدعوين إلى احترام أولى وصايا شريعة الله، أي حب الله. إن وصية حب الله لا تأتي فقط بالمرتبة الأولى بالنسبة للعظمة الفريدة للشخص الموجه إليه. ولكن أيضاً لأن هذا الحب عليه أن يدفعنا إلى إتمام بقية الوصايا الأخرى بأمانة. 
   السادس عشر _ نداء إلى تقديس العائلة: لقد أوكل الله إلى العائلة رسالة مقدسة لمشاركته عملية الخلق. إن قراره بإشراك الكائنات الحقيرة بعملية الخلق الخاصة به، هو تجلّ عظيم لطيبة الله الأبوية. فهذا يشبه إشراكهم بقدرته على الخلق، والرغبة في استخدام أبنائه لتكثير حيوات جديدة تزهر على الأرض وتهدف إلى السماء. لقد أراد الخالق الإلهي هكذا أن يؤكل إلى العائلة رسالة مقدسة وهي تحول كائنين إلى واحد، فيشكلان وحدة بحيث لا يسمح بتفرقتهما. ومن جراء هذا الاتحاد يريد الله أن يولد كائنات أخرى، كالنبات الذي يولد الزهور والثمار.
   السابع عشر _ نداء إلى كمال الحياة المسيحية: لم يأتي يسوع إلى العالم فقط كفادٍ، بل أيضاً كمعلم لكي يعلمنا الطريق الذي علينا أن نتبعه لكي نصل إلى الآب. الإرادة التي على يسوع أن يتممها هي عدم خسارة أي فرد من الذين وهبهم له الآب، ولكن تخليصهم ومساعدتهم على إحيائهم في اليوم الآخر. ولكن إحياءهم يتطلب مساهمة منا، أي إيماننا. في مسيرتنا تكون تعاليم المسيح نورنا وحياتنا، فإن تبعناها نتأكد من عدم الخطأ. من خلال ذبيحة يسوع على الصليب وإلى جانبه مريم أم الأحزان، أراد الله أن يظهر لنا عبرها قيمة الألم والتضحية وتقديم الذات من أجل الحب. اليوم في العالم لا نرغب كثيراً في التكلم عن هذه الحقيقة، بحيث نعيش بحثاً عن الملذات والأفراح الباطلة والدنيوية والرفاهية المبالغ فيها. لكن بقدر ما نهرب من الآلام بقدر ما نجد أنفسنا منغمسين في بحر الهموم والغموم والمرارة والمعاناة. فالحياة تحمل معها استشهاد الصليب، فلا يوجد في العالم من لا يتألم. لقد ورثنا سر الألم كنتيجة للخطيئة التي اقترفها أسلاف الجنس البشري. 
   الثامن عشر _ نداء إلى حياة تكريس كاملة لله: يقول الرب إن الذين يتابعون السير في الطريق المؤدي إلى الحياة قليلون، وكثيرون هم الذين يسلكون الطريق الواسع المؤدي إلى الهلاك. لقد اختارنا يسوع لكي نتبعه، هو البتول والمتواضع والمطيع والعفيف والفقير. الذين سمعوا يوماً صوت الله وقرروا قبول دعائه من أجل حياة تكريس كاملة، قد ارتفعوا إلى مستوى أسمى يميزهم عن الإخوة العاديين. ويطلب المعلم الإلهي إلى الذين اختارهم أن يذهبوا ليبشروا الشعوب باسمه.
   التاسع عشر _ نداء إلى القداسة: إنها وصية تجبرنا على إطاعة كل الوصايا الأخرى، لأن انتهاك واحدة منها، يعني الابتعاد عن القداسة. إن واجب التوق إلى القداسة هو واجب على الجميع، حتى على الذين لا يتمتعون بالإيمان. نحن الذين اختارنا الله للقداسة، نجتهد للتجاوب مع هذه الدعوة بأفضل ما فينا، من أجل النمو الشخصي وإفادة الجميع. فعبر استعمالنا الصحيح للهبات التي منحنا إياها الله، تعلوا قداستنا بالحب الذي ندين به إلى الله وإلى القريب ونتطهر ونصبح جديرين بالحياة الأبدية، لأن الحب هو الرباط لكل قداسة حقيقية.
   العشرين: نداء إلى السير على درب السماء: بدءاً من لحظة خلقنا، فإن حياتنا تمتد في السير، نحو طريق الأبدية حيث تقيم. أثناء إقامتنا على الأرض، نحن حجاج على درب السماء، هذا إن تبعنا الطريق التي رسمها الله لنا. هذا هو أهم شيء في حياتنا وهو أن نجيد التصرف، بحيث أنه بعد مغادرتنا هذا العالم وفي نهاية الأزمان، نستحق سماع يسوع يعزينا قائلاً تلك الكلمات: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم.
   وختاماً نجد أن الأخت لوسي بكتابتها ما خاطبها به صوت من السماء، تظهر ضمانةً وتأكيداً جديرين بعكس حقيقة الرؤى التي تأملتها.       

4
الكتب الطقسية في كنيسة المشرق الكلدانية
الشماس نوري إيشوع مندو

    كانت كتب الفرض لكنيسة المشرق في الماضي مخطوطة بخط مشرقي كبير الحجم لتتسنى قراءتها للمصلين، وهم ملتفون حولها وقوفاً أو جلوساً حسب الطريقة المتبعة حتى يومنا هذا في بعض الكنائس والأديرة. وقد طبعت هذه الكتب في باريس خلال سنتي 1886_ 1887. ولا بد لنا أن نستعرض محتوى الكتب المخطوطة، ومن ثم محتوى الكتب المطبوعة.
    1_ الكتب المخطوطة:

   أ_ حوذرا " مدار السنة الطقسية ": هو الكتاب العريق والأساسي للسنة الطقسية، ويضم الفروض التالية:
   1_ الصلوات الخاصة بكل من آحاد السنة الطقسية.
   2_ الصلوات الخاصة لكل يوم من أيام الأسبوع البسيطة طيلة السنة الطقسية.
   3_ الصلوات الخاصة بكل عيد من الأعياد والتذكارات الثابتة والمتحولة.
   4_ الرتب التي تقام مساء سبت النور، أي عشية عيد القيامة، منها قداس الرسولين مار أدي  ومار ماري  متلمذي المشرق، ورتبة العماذ، ورتبة الغفران.
   ومن المعلوم أن أقدم كتاب حوذرا مخطوط يرتقي إلى القرن العاشر، وهو محفوظ في كنيسة مار إشعيا الكلدانية  بالموصل.

ب_ كزا " الكنز ": يحتوي على صلوات الأعياد والتذكارات، وخاصة العناصر المتأخرة التي دخلت صلاة الليل " لليا "، كأبيات الجلسة " ماوتبا "، والمداريش " مدراشا "، والتسبحة " تشبوحتا "، والمناداة                    " كاروزوثا ". ويحتوي كتاب الكنز بالإضافة إلى مراسيم الأعياد القديمة التي دخلت في القرون الوسطى، مراسيم الأعياد والتذكارات التي أضيفت على ممر القرون، وحسب المناطق والأديرة المختلفة، وعليه فإن عناصر كتاب الكنز تختلف بين مخطوطة وأخرى. ويعتبر كتاب الكنز ملحق ومكمل لكتاب الحوذرا.

 ج_ كشكول " مجمّع ": يعتبر كتاب كشكول ملحق ومكمل لكتاب الحوذرة، لأنه يحتوي على الصلوات المتغيرة لأيام الأسبوع البسيطة، والتي نجدها في كتاب الحوذرا. والفرق بين الكتابين هو أن كتاب الكشكول يذكر النص الكامل لأبيات الشعر الكنسي " عونياثا " التي ترتل في صلاة المساء " رمشا "، وصلاة جلسة الليل  " ماوتبا ". بينما كتاب الحوذرا يذكر بداية هذه الأبيات الخاصة بأيام الأسبوع البسيطة، لأنها مقتبسة من عناصر صلوات نهار الأحد السابق لهذه الأيام، والمذكورة بنصها الكامل.

 د_ أبو حليم : نسبة إلى لقب البطريرك إيليا الثالث أبو حليم . يحتوي هذا الكتاب على مجموعة الصلاتين التي يقولها الأسقف أو الكاهن في بداية صلاة الصباح " صبرا "، في الأعياد الربانية الكبيرة وبعض التذكارات وبعض الآحاد والمناسبات الأخرى. ولقد وضع البطريرك أبو حليم الكثير من هذه الصلوات، التي ضمها إلى الصلوات التي ألفها غيره من قبله، أمثال بولس الأنباري  وشليطا الرشعيني . وقد دخلت بعض هذه الصلوات في كتب الفرض المطبوعة. إن أسلوب أبو حليم غني بالصور والألوان تكثر فيه المفردات المقتبسة من اللغة اليونانية، تماشياً مع الأسلوب المتبع في تلك العصور، كما أنه أدخل السجع في هذه المؤلفات إقتداءً بالأدب العربي.
ه_ وردا " الورد ": نسبة إلى الشاعر كيوركيس وردة . يحتوي هذا الكتاب على مجموعة من الأبيات الشعرية " عونياثا " في صلاة الليل " لليا "، والتي تبدأ بعبارة من عالم " من الأبد ". وإن الكثير من هذه الأشعار وضعها وردا في مديح العذراء، مما استحق له لقب شاعر العذراء. ومن المعلوم إن البعض من هذه الأشعار هو من وضع مؤلفين آخرين أمثال البطريرك يهبالاها الثاني ، وشليمون مطران البصرة ، وخاميس برقرداحي .
   و_ مزموري " المزامير ": يحتوي هذا الكتاب على المزامير المقسمة بأسلوب طقسي، حسب الترجمة البسيطة " بشيطا "، وترقيمها يختلف قليلاً عن العبرية والسبعينية والفولغاتا اللاتينية.

   ز_ دقذام وذواثر " ما قبل وما بعد ": يحتوي على الصلوات الفرضية في أقسامها المشتركة لجميع أيام السنة والآحاد والأعياد.

   2_ الكتب المطبوعة:

   أ_ صلوثا قانونيتا دخهني أخ طكسا دسورييا مذنحايا دهنون كلدايا " الصلاة الفرضية للكهنة حسب طقس السريان المشارقة وهم الكلدان " ويعرف بالحوذرا: لقد تم جمع الصلاة الفرضية الموزعة في الكتب المخطوطة في كتاب واحد، مؤلف من ثلاثة أجزاء، وذلك في عهد البطريرك إيليا الثاني عشر   ( 1878_ 1894 ) الذي عهد في الأمر إلى مار عبد يشوع خياط  رئيس أساقفة آمد ( ديار بكر )، والذي أصبح بعذئذ بطريركاً باسم عبد يشوع الخامس خياط ( 1894 _ 1899 ). وكان ضليعاً في الأمور الطقسية، فقام بدراسة المخطوطات القديمة، واعتمد أصلحها، ثم عهد في طبعها إلى الأب اللعازري بولص بيجان  الكلداني، فصدر الكتاب في ثلاث مجلدات وبحرف كبير خلال الأعوام 1886، 1887 تباعاً، وقد طبع في مدينة باريس. وقد جمع الأب بيجان في كل جزء من الأجزاء الثلاثة كافة الصلوات والعناصر الضرورية خلال فترة زمنية محددة من السنة الطقسية، والتي كانت منتشرة في مخطوطة عديدة، وقد وزعت كالتالي:
   1_ المجلد الأول: يحتوي على الصلوات التي تتلى من بداية السنة الطقسية، أي من زمن البشارة وإلى زمن الصوم الكبير، وفي نهاية المجلد الأول وضع فرض صوم باعوثا نينوى لأيام الصوم الثلاثة. ويضم فرض الصوم ميامر من أشعار مار نرساي الملفان ومؤلفات مار أفرام النصيبيني.
   2_ المجلد الثاني: يحتوي على الصلوات التي تتلى من زمن الصوم الكبير وإلى أحد البنطقسطي                     ( العنصرة ).
   3_ المجلد الثالث: يحتوي على الصلوات التي تتلى من أحد البنطقسطي وحتى نهاية زمن تقديس البيعة، وهي نهاية السنة الطقسية.
   وقد أعاد المجمع الشرقي طبع الأجزاء الثلاثة طبعة ثانية بحرف أصغر من الطبعة الأولى مجلدة فنياً بشكل أنيق في روما سنة 1938" .
   وأعاد طبعه المجمع المذكور طبعة ثالثة بمجلد جامع للأجزاء الثلاثة، ولكن بحرف أصغر من الطبعة الثانية في روما سنة 2002.
   وأعاد طبعه الأب يعقوب يسو  الكلداني بحرف كبير وذلك سنة 1999 في مدينة ديترويت أمريكا ولكن دون تجليد فني.   
   أما كنيسة المشرق الآشورية فقد طبعته في الهند بمدينة تريشور وذلك سنة 1960.

    ب_ مطبوعات المطبعة البطريركية الكلدانية في الموصل: أسس هذه المطبعة الشماس روفائيل مازجي  الآمدي سنة 1865 في مدينة الموصل، بعد أن اشترى عدة بيوت جانب كنيسة شمعون الصفا، وذلك في عهد البطريرك يوسف السادس أودو ، وتم فيه طباعة الكتب الطقسية التالية:
   1_ مزموري داويذ " مزامير داود " وقد تم طباعته سنة 1866 وأعيد طبعه سنة 1925.
   2_ كتاوا دقذام وذواثر " كتاب ما قبل وما بعد " و تم طباعته سنة 1866 وأعيد طبعه سنة 1924.
   3_ طكسا درازي عم ثلاثا قوذاشا " طقس الأسرار مع القداديس الثلاثة " وتم طبعه سنة 1936.
   4_ الابتهالات القدسية كتيب يضم قداس الرسل، باللغة الكلدانية يقابل كل صفحة ترجمة بالعربية، وقد أعده الأب ( المطران ) سليمان صائغ . وتم طبعه سنة 1936.   

  ج_ مطبوعات مطبعة الآباء الدومنيكان في الموصل: قدمت هذه المطبعة خدمات جليلة للكنيسة الكلدانية من خلال طباعتها الكتب الطقسية التالية:
   1_ قراءات العهد القديم للأيام الممتازة على مدار السنة الطقسية للبيعة المقدسة الكلدانية باللغة العربية، وطبعة أخرى باللغة الكلدانية، وتم طبعهما سنة 1900.
   2_ رسائل بولس الرسول للأيام الممتازة على مدار السنة الطقسية للبيعة المقدسة الكلدانية باللغة العربية، وطبعة أخرى باللغة الكلدانية، وتم طبعهما سنة 1900.
   3_ الأناجيل للأيام الممتازة على مدار السنة الطقسية للبيعة المقدسة الكلدانية باللغة العربية، وطبعة أخرى باللغة الكلدانية، وتم طبعهما سنة 1900.
   4_ طكسا درازي " طقس القداس " وتم طبعه سنة 1901.
   5_ نقبيتا درازي " توابع أو ملحق الأسرار " وتم طبعه سنة 1901. 
   6_ كتاوا دقذام ودواثر " كتاب ما قبل وما بعد " وقد تم طبعه سنة 1903.
   7_ طكسا درازي دمعموديثا " طقس سر  المعمودية " وتم طبعه سنة 1907.
   8_ طكسا دبوركا " طقس البركات الخطبة والإكليل " وتم طبعه سنة 1907.
   9_ طكسا دعنيدي " طقس تجنيز الموتى " وتم طبعه سنة 1907.
   10_ كتاوا دأيدي دكهني " كتاب لأيادي الكهنة " وقد تم طبعه سنة 1907.
   11_ التأملات للشهر المريمي نقله من العربية إلى الكلدانية المطران فرنسيس داود  وتم طبعه                   سنة 1907.
   12_ كتاب العهد القديم باللغة الكلدانية الفصحى بمجلد مستقل، وكتاب العهد الجديد باللغة الكلدانية الفصحى بمجلد مستقل، وتم طبعهما سنة 1950.
    13_ كتاوا دمديحي روحانايا " كتاب المدائح الروحية " ويحتوي التراتيل الروحية التي ألفها الشماس داويذ كورا النوهدري  باللغة الكلدانية المحكية ( السورث )،  وتم طبعه سنة 1954.

   د_ متفرقات: صدر العديد من المطبوعات الطقسية في كل من شطري كنيسة المشرق نذكر منها:
   1_ توركاما وطكسا دمشمشانوثا وسوغيثا " التراجم وطقس الخدمة والتراتيل " حققه القس يوسف قليتا ، وتم طبعه في المطبعة الأثورية بالموصل سنة 1926.
   2_ كتاوا دتشمشتا درازي " كتاب خدمة الأسرار " وضعه الشماس يوسف ميري  سنة 1960، وقد طبع نسخة بالكلدانية الفصحى، ونسخة ثانية بالكرشوني مع تراتيل بالعربية. وأيضاً كتاب كنز العبادة بالعربية. وتراتيل الشعانين بالكلدانية والكرشوني. وكتاب الصوم الكبير بالعربية.
   3_ كتاوا طكسا دكومرايي " كتاب طقس الحبريات " يضم طقس تكريس المذبح بالإضافة إلى الرسامات لكافة الدرجات الكنسية، وقد طبع في روما سنة 1957.
   4_ طكسا درازي عم قوذاشا قدمايا " طقس الأسرار مع القداس الأول "، طبعه البطريرك بولص الثاني شيخو  في بغداد سنة 1971.   
   5_ قيثارا " القيثارة " يضم مجموعة من التراتيل بالكلدانية الفصحى والسورث، حققه الأب عمانوئيل خوشابا ، وتم طبعه في بغداد سنة 1972.
   6_ أعادة مطرانية كركوك الكلدانية طباعة الأناجيل الطقسية باللغة العربية سنة 1979، والذي طبعه الآباء الدومنيكان في الموصل سنة 1900.
   7_ أعادة مطرانية كركوك الكلدانية طباعة رسائل مار بولس الطقسية باللغة العربية سنة 1980، والذي طبعه الآباء الدومنيكان في الموصل سنة 1900.
   8_ أعاد الخور أسقف فرنسيس اليشوران  طباعة الأناجيل الطقسية باللغة الكلدانية، في طبعة أنيقة مذهبة، وتم طبعه في باريس سنة 1977. 
   9_ كتوتا دشاعا دمصلين به ديرايي كلدايي دربن هرمزد " كتيب صلاة الساعات الذي يصلي به رهبان ربان هرمزد الكلدان " وهو مخطوط بيد الشماس بولس قاشا الألقوشي سنة 1935، واهتم بطبعه في بغداد سنة 1988 الأب توما شوريز الراهب  لفائدة أخوته الرهبان.   
   10_ مزموري دذاويد وعمي دقذام وذواثر " مزامير داود ومعه ما قبل وما بعد " طبعه البطريرك روفائيل الأول بيداويد  في بغداد سنة 1998.
   11_ كتاوا دقذام ودواثر " كتاب ما قبل وما بعد " باللهجة المحكية ( السورث ) حققه الأب يوحنا جولخ ، وتم طبعه في بغداد سنة 2000. ونشر أيضاً ميامر صوم الباعوثة بالسورث.
   12_ رسائل مار بولس الطقسية باللهجة المحكية ( السورث ) تم طبعه في مركز جبرائيل دنبو الثقافي بغداد سنة 2005.
   13_ طكسا كومرايي " طقس الحبريات " حققه المطران لويس ساكو  باللغة الكلدانية مع ترجمة مقابلة بالعربية. وتم طبعه في كركوك سنة 2008.
   وهناك العديد من المطبوعات في مختلف الأبرشيات الكلدانية، طبعت باللغات الكلدانية والعربية والكرشوني والسورث والإنكليزية والفرنسية، حسب حاجة مراكز هذه الأبرشيات.








5
تذكار مار كيوركيس الشهيد  " مار جرجس "
الشماس نوري إيشوع مندو
   مار كيوركيس: ولد في مدينة اللد من أعمال فلسطين سنة 280. وكان أبوه من أصحاب الغنى والشهرة الاجتماعية. إلا أن التقوى والأخلاق المسيحية السامية كانت الزينة الكبرى التي تتلألأ في بيتهم. واستقدم الإمبراطور ديوكليسيانس والده ليضمه إلى حاشيته في نيقوميدية العاصمة الشرقية. فغادر بيته تاركاً تربية ابنه لعناية الوالدة. فقامت بواجبها خير قيام، وربت طفلها على المبادئ المسيحية.
   وما أن شب كيوركيس حتى توفي والده، فتركه يتيماً وحيداً، وترك والدته شابة حسناء في مقتبل العمر ووفرة الغنى. لكن تلك المرأة الفاضلة آلت على نفسها ألا تعرف شيئاً من نعيم الدنيا بعد زواجها، سوى إكمال تربية ولدها وتعليمه وتهذيب أخلاقه. فكافأها الرب بأن منحها ولداً أضحى إمام الشهداء، ومجد بلاده، وشفيع الكنيسة جمعاء.
   وما أن بلغ كيوركيس السابعة عشرة من عمره حتى دخل في سلك الجندية. فشاهده الإمبراطور ديوكليسيانس يوماً ممتطياً صهوة جواده، عالي القامة، بهي الطلعة، حاد النظرات. فاستدعاه وكلمه، فوجده لطيف الحديث كثير الأدب. فأحبه وأدخله في فرقة الحرس الملكي. وذكر ما كان لأبيه من الخدمات السالفة أمامه، فرقاه وجعله قائد ألف. فلم يكن بين القواد الرومانيين الفرسان من كان أجمل منظراً، وأعدل قواماً، وأشد حماسة من ذلك الفارس المسيحي.
   وسار ديوكليسيانس على منهاج من تقدمه من الملوك، فأخذ يضطهد المسيحيين ويذيقهم من صنوف العذابات أمرّها. فجرت الدماء كالأنهار في جميع الأمصار. فغضب كيوركيس لما صارت إليه حال المؤمنين، وما نزل بهم من الظلم. فبدأ يجاهر بلوم الإمبراطور، غير هياَّب ولا حاسب لغضب ذلك العاتي حساباً. فنصحه رفاقه أن يقلع عن ذلك، خوفاً من أن يحل به ما حل بغيره من سخط ذلك الجبار المستبد. أما كيوركيس فلم يعبأ بكلامهم، بل أزداد حماسة وانتصاراً لإخوانه في السر والعلانية.
   وعرف كيوركيس أن لا بد له من الوقوع بين يدي ذلك الظالم. لكن عزة نفسه أبت عليه إلا أن يجاهر بإيمانه وينتصر لإخوانه، ولو ناله من ذلك العذاب الشديد والموت الرهيب. وأخذت نفسه الشابة الوثابة تتغنى بعذوبة الاستشهاد، وحلاوة الموت حباً بالمسيح. وكان إذ ذاك ابن عشرين سنة فقط.
   ومن ثم جمع أمواله الكثيرة فوزعها على المساكين، واعتق من كان عنده من العبيد، وأخذ يستعد بالصلاة للموت القريب. ثم دخل على الإمبراطور، وأخذ يدافع بحماسة أمامه عن المسيحيين وعن معتقداتهم، ويدحض بجرأة ما ينسب إليهم من الافتراءات ظلماً وعدواناً. وطلب إلى الإمبراطور أن يترك لهم الحرية يتمتعون بها نظير سائر البشر.
   فغضب الإمبراطور من تلك الجرأة. لكنه كظم غيظه، مأخوذاً بسحر كيوركيس وفتنة كلامه. فقال له بهدوء: " أيها الشاب كن حريصاً على مستقبلك ". 
   فأراد كيوركيس أن يجيب عن ذلك الكلام. فاستشاط الإمبراطور غضباً، وأمر الجند أن يجردوه من سلاحه ويقودوه إلى السجن ويعذبوه. فاقتادوه إلى سجن مظلم، وهناك أخذوا ينكلون به. فأوثقوا رجليه وشدوهما بالحبال، وجعلوا على صدره حجراً عظيماً، وتركوه هكذا مطروحاً على الحضيض. لكن الشهيد البطل أخذ يسبح الله، ويعظم قدرة المسيح الملك. وهكذا قضى الليل يصلي ويترنم بأمجاد الرب يسوع.
   وفي الصباح استقدمه الملك، آملاً أن تكون تلك العذابات والإهانة الفظيعة قد كبحت حماسته، وهدأت ثورته، وأعادته إلى رشده. لكن كيوركيس مثل أمام الملك وظهر أشد صلابة وأكثر جرأة. فأمر الملك أن يوضع على دولاب كله مسامير، ثم أدير ذلك الدولاب بعنف. فتناثرت لحمان كيوركيس وتمزق جسده، وتشوه وجهه الرائع الجمال وتخضب بالدم. وفارت الدماء كالينابيع من كل أعضائه. لكنه احتمل ذلك العذاب بصبر وجلد، ولم يتأوه ولم يسمع له أنين.
   وبينما هو غائص في بحر تلك الآلام، طرق أذنيه صوت سماوي يقول له: " يا كيوركيس لا تخف لأني معك ". وظهر له بغتة رجل ينبعث منه نور، وعليه لباس أبيض، فعانقه وقبله وشجعه. فتقوَّى كيوركيس وأظهر ثباتاً وبأساً. فشدد الجند في عذابه. ولكن لم تخر عزيمته، بل بقي صابراً لا يئن ولا يتأوه، بل يسبح الله ويمجده. فلما رأى الحاضرون من الوثنيين تلك الشجاعة النادرة، آمن كثيرون منهم بالمسيح ونالوا إكليل الشهادة.
   أما الإمبراطور فقد أكبر في ذلك الشاب تلك الشجاعة الفائقة، وعزّ عليه أن يخسر قائد حرسه الهمام وابن صديقه القديم، فعمل على خلاصه. فأمر أن تضمد جراحه. ثم أتى به إلى حضرته، وأخذ يلاطفه ويتملقه بالوعود الأخاذة، لكي يثنيه عن عزمه ويحمله على الرجوع عما كان يظنه فيه عناداً ومكابرة.
   فتظاهر كيوركيس بالإقناع، وطلب إلى الملك أن يسمح له فيذهب إلى معبد الأوثان ويرى الآلهة. ففرح الإمبراطور لظنه أن كيوركيس قد عاد إلى صوابه، وقبِل أن يكفر بدين المسيح. وأراد أن يكون انتحال كيوركيس للوثنية علنياً باحتفال مهيب. فجمع مجلس الأعيان وجمهور الشعب، ليحضروا تقديم القربان للإله " أبولون "  من يد كيوركيس. فاجتمعوا وذهبوا إلى معبد رئيس آلهة المملكة، فغصَّ المعبد بألوف القادمين. واستعد الكهنة، ولبسوا الحلل الذهبية، ووقفوا ينتظرون. فجاء كيوركيس ورأسه معصوب، ويداه ملفوفتان بلفائف. فتقدم إلى تمثال أبولون وتفرس فيه، ثم رسم على نفسه إشارة الصليب، وخاطب الصنم وقال له: " أتريد أن أقدم لك الذبائح كأنك إله السماء والأرض؟ ". فخرج صوت من أحشاء الصنم يقول: " إنني لست إلهاً. بل الإله هو الذي أنت  تعبده ". وفي الحال سقط ذلك الصنم على الأرض، وسقطت معه سائر الأصنام، فتحطمت جميعها. وخرجت من الأرض ومن الجدران أصوات منكرة هائلة أذعرت الحاضرين، فجمد الدم في عروقهم من شدة ما استولى عليهم من الخوف والهلع. فصاح الكهنة: " إن كيوركيس بفعل سحره الشيطاني قد حطم آلهتنا. فالموت الموت لهذا       الساحر ". فثار الشعب على كيوركيس وكاد يمزقه لو لم يتداركه الجند ويخرجوه من بينهم.
   فأمر الملك أن يقطع رأسه ليهدئ بذلك ثائرة الشعب. فركع كيوركيس وشخص إلى السماء وصلى. ثم حنى رأسه أمام السياف وتلقى بخشوع وقع السيف. فطارت تلك النفس الفتية الزكية إلى الأخدار السماوية، لتنعم مع طغمات جنود المسيح الملك. وكان ذلك  سنة 303.
   وبعد استشهاده أخذ المؤمنون يكرمونه ويستشفعونه. وبدأ الرسامون يمثلونه بصورة فارس مغوار، جميل الطلعة، عالي القامة، يطعن برمحه تنيناً هائلاً، ويدوسه بسنابك حصانه، وهكذا يخلص ابنة الملك من براثينه. وترى تلك الأميرة واقفة مرتعدة خائفة من التنين، وأبواها يشرفان عليها من فوق الأسوار، ويمجدان بطولة كيوركيس، ويتهللان خلاص ابنتهما المحبوبة.
   إلا أن هذه الحكاية ليست رواية واقعية، بل هي رمزية. ومعناها أن كيوركيس الفارس البطل والشهيد العظيم، قد انتصر على الشيطان وهدّأ روع الكنيسة الممثلة بابنة الملك.
   وكثرت عجائب القديس مار كيوركيس في طول البلاد وعرضها، حتى قامت الشعوب والأفراد تتسابق إلى إكرامه، وتشييد الكنائس على اسمه، وإقامة المذابح اعترافاً بالجميل لعظيم شفاعته.
   فالكنيسة الكاثوليكية تصلي إليه وتعدّه " نصير الكنيسة الجامعة في الملمات ".
   وتسميه الكنيسة البيزنطية " العظيم في الشهداء ". وكانت المملكة البيزنطية في ما مضى قد اتخذته شفيعاً لها في الحروب، ونسبت إلى شفاعته انتصارات باهرة. وكان الملك يستنيانس قد بنى على اسمه كنيسة فخمة في مدينة اللد مسقط رأسه.
   وامتازت مدينة القسطنطينية بإكرامه، فكان فيها خمس كنائس على اسمه. وقد بنى الملك قسطنطين أول هذه الكنائس.
     ويكرمه الإنكليز إكراماً عظيماً. وقد اتخذته المملكة شفيعاً لها، ودعي كثير من الملوك باسمه. وظهر يوماً للملك ريكردوس الأول  في حروبه ونصره على أعدائه، فانتشرت عبادته في كل بلاد انكلترا. وأمر المجمع الإنكليزي العام الملتئم في أكسفورد  سنة 1222 أن يكون عيده إلزامياً في كل بلاد انكلترا. وجعله الملك أدوار الثالث  الشفيع الأكبر لفرقة حاملي وسام " ربطة الساق " وهو أرفع وسام عند الإنكليز.
   وامتازت بلاد فرنسا بعبادته وإكرامه. فقد شادت القديسة كلوتلدا امرأة ملك الفرنجة كلوفيس هياكل وكنائس عديدة على اسمه. وهو شفيع لكثير من المدن والقرى في فرنسا.
   واتخذته جمهورية جنوى في إيطاليا شفيعها الأول والأكبر. وأنشأت جمهورية البندقية  رهبانية عسكرية على اسمه. 
   أما كنيسة المشرق فتدعوه " مار كيوركيس الشهيد المظفر ". وقد شيدت على اسمه كنائس وأديرة ومزارات في العديد من المدن والقرى التي يتواجد فيها أبناء هذه الكنيسة. ويجتمع الشعب من كل حدب وصوب يوم تذكاره في الكنائس والمزارات المكرسة على اسمه، ليحتفلوا معاً بهذه المناسبة المقدسة، ويضرعوا إلى الرب بشفاعته لينالوا النعم والبركات. ومن بعد الاحتفال يتقاسمون معاً الأكلة الشعبية المعروفة بـ " الهريسة " التي تحضر خصيصاً في يوم تذكاره.   
   ويضم طقس الصباح والمساء في كنيسة المشرق، فرضاً خاصاً بالشهداء يتلى على مدار أيام الأسبوع، ما عدا يوم الأحد. ويضم هذا الفرض صباح مساء كل يوم مقطعاً يتغنى بجهاد الشهيد مار كيوركيس المظفر، وفيما يلي هذه المقاطع:   
    مساء " رمشا " الاثنين : " أطلب من الرب وصلي أمامه: أطلب من ربك أيها الشهيد كيوركيس. الحنان والرحمة ومغفرة الخطايا ". 
   صباح " صبرا " الاثنين: " صدّيقٌ وعادل: صلاة الشهيد كيوركيس. تصبح لنا سوراً عالياً. ترد سهام الشرير. فلا يؤذينا رمح. عدونا البغيض. الذي يريد  هلاكنا ".
   مساء " رمشا " الثلاثاء: " صغاراً وكباراً: نلتجئ إلى مار كيوركيس. لكي بقوة صلاته. يمهد الرب دربنا. ويخفف أحمالنا ". 
   صباح " صبرا " الثلاثاء: " يشفي كسيري القلب ويعصب أوجاعهم: أصبحت طبيباً يا مار كيوركيس. من دون أدوية وعقاقير. فكل من يلتجئ إليك. ينال بصلواتك  الشفاء ". 
   مساء " رمشا " الأربعاء: " الرب يعطي قوة لشعبه: تلك القوة المجاهدة. بها ظفر الشهيد مار كيوركيس. لتكن لنا حارساً. من الشرير وأعوانه ". 
   صباح " صبرا " الأربعاء: " منظره أجمل من البشر: كغصنٍ جميل وزيتونة بهية. مار كيوركيس محب المسيح. بالتواضع وحب سيدك. أحنيت كتفيك وحملت  الصليب ". 
   مساء " رمشا " الخميس: " من شعب بلا رحمة: آلام قاسية وعذابات مرَّة. وأنواعاً من الموت. تحمل الشهيد القديس. مار كيوركيس المظفر. من أجل حبه للمسيح. الذي أحبه وفداه. مبارك الذي كلل الشهيد بانتصاره ". 
   صباح  " صبرا " الخميس: " في السماء وعلى الأرض: جسدك هنا. وروحك في السماء. أيها الشهيد كيوركيس. أطلب الرحمة من لدن سيدك ".   
   مساء " رمشا " الجمعة: " تقلد السيف أيها الجبار: أيها الباسل مار كيوركيس. احتقرت الموت والسيف. والعذابات المتنوعة. المرعبة والقاسية. وصنعت القوات والمعجزات. وأعدت الناس للحق. مباركاً الذي نصرك. بقوته غلبت الضلال ". 
   صباح " صبرا " الجمعة: " فرحوا وأنشدوا وسبحوا: بفرح اسلم نفسه لأنواع الآلام مار كيوركيس. لأنه سمع بولس الرسول يقول. أن آلام هذا الدهر. لا تقاس بالمجد الذي سوف نرثه في اليوم الأخير. فمن ينجح بأعماله. يرث الحياة مع الأبرار ". 
   مساء " رمشا " السبت: " طوباك وطوبى لنفسك: طوبى لروحك أيها الشهيد كيوركيس. لقد أرضيت الرب خلال حياتك في هذا العالم. ونلت أجور أعمالك. مع القديسين في  الملكوت ". 
   صباح " صبرا " السبت: " طوباك وطوبى لنفسك: طوبى لروحك أيها الشهيد كيوركيس. مع الملائكة تسكن في السماء ".   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكاره يوم 24 نيسان من كل سنة. ويضم فرض الصلاة طقساً بديعاً، يتغنى ببطولة هذا الشهيد المظفر، ويرنم بأجمل الألحان. نذكر مقاطع من هذا الفرض:
 فرض المساء: " أعماله بلا لوم: الشهيد القديس كيوركيس. قبل الشهادة من أجل سيده. تضرع من المسيح من أجل الكنيسة وأبنائها. ليكونوا بمحبة وسلام  ووئام ".   
   وأيضاُ: "  أطلب من الرب وصلي أمامه: أيها الشهيد كيوركيس أطلب الرحمة. من سيدك نبع المعونات. لينشر في الكنيسة السلام والأمان. بصلواتك إلى الأبد ".
 وخلال القداس ترتل هذه المقاطع: " ليعطيك الرب حسب قلبك: مار كيوركيس الطوباوي. الشهيد البهي والقديس. أرتضى الموت من أجل سيده. وأنتصر على إساءات وخداع الأشرار. بقوة الصليب ". 
   وأيضاً: " تعالوا نسبح الرب: كلنا بالتقوى نكرم باجتهاد. في يوم تذكار. الشهيد البهي والقديس. مار كيوركيس المظفر. الذي أصبح ذبيحة لله. وقرباناً نقياً لسيده. لتحل علينا المراحم بصلواته ".
   وأيضاً: " طوبى لروحك أيها الشهيد البهي. الشهير والطاهر مار كيوركيس. لقد أسلمت نفسك لكل المحن. من أجل حبك للمسيح الملك. وها نحتفل بتذكارك. في جميع الكنائس بأصوات المجد. هللويا ".   
   


6
صفحات جلية من تاريخ أبرشية سعرت الكلدانية
                                                                         الشماس نوري إيشوع مندو                                                                                                       
   1_ الاسم والموقع: سعرت أو سعرد بلدة من ديار ربيعه، تقع في سهل فسيح غزير العيون كثير الخصب، ينساب في جنوبه نهر دجلة، ويروي قسمه الغربي نهر البوتان، وترتفع في شماله جبال بتليس العالية. تبدو سعرت للعيان كجنة غناء، يسيح بها الكثير من أشجار التين والرمان والبندق والبطم والكروم. دعيت سعرت قديماً " المتبددة "، وأيضاً " أرزن " باسم مدينة كانت تقع غربي سعرت ، ودعيت أيضاً   " المدينة البيضاء ". جاء في معجم البلدان " أرزن مدينة مشهورة قرب خلاط، ولها قلعة حصينة، وكانت من أعمر نواحي أرمينية، وأما الآن فبلغني أن الخراب ظاهر فيها، وقد نسب إليها قوم من أهل العلم " .
   فتحها العرب المسلمون على يد عياض بن غنم، وفي القرنين الرابع والخامس عشر كانت تابعة لمقاطعة            " حصن كيبا " وتحت حكم الصفويين، حتى أضحت تحت حكم العثمانيين سنة 1553م، حيث تبعت مقاطعة  " ديار بكر "، ومن ثم " بدليس ". وأصبحت مركز قضاء، وحالياً مركز ولاية. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كانت أكبر مدينة في بلاد " البوتان "، التي عرفت قديماً باسم " زوزان ".
   جاء في دائرة المعارف للمعلم بطرس البستاني: " سعرت أو اسعرد، مركز متصرفية باسمها في ولاية بتليس من أملاك الدولة العلية في كردستان. موقعها إلى الجنوب الغربي من تبليس على مسافة نحو 54 ميلاً، وهي في سهل يسقيه نهر الخابور الذي بينه وبينها مسافة ميلين، وهي في 38 درجة من العرض الشمالي، وفي 43,40 درجة من الطول الشرقي، وبالقرب منها كثير من الرمان والتين والكروم، وكله يسقى بماء المطر، سكانها نحو 15 ألفاً، وهي في موقع تيغرا نوسرت أو ديكران كرد، متصرفية سعرت فيها خمسة أقضية وهي 1_ أدوه. 2_ شروان. 3_ غرزان. 4_ برواري. 5_ رضوان " .
   جاء في المنجد في الأعلام: " سعرت أو سعرد، بلدة على حدود أرمينيا وكردستان 5000 نسمة، اشتهرت سابقاً بصناعة الأسلحة والأقمشة، كانت كرسياً أسقفياً للكلدان " .
   2_ نشأة أبرشية سعرت وحدودها: ينسب تقليد كنيسة المشرق تبشير " أرزن " والمناطق المحيطة بها، إلى الرسول أدي ومن ثم لتلميذه مار ماري، وبعد أن بشر أدي أرزن، وأنار أهلها بأشعة الإيمان المسيحي         " شاد كنيسة في أرزن دعيت باسمه " .
   أما ماري " فبعد أن بشر نصيبين انطلق إلى أرزن مستصحباً القس انسيمس الرهاوي والشمامسة فيلبس وملكيشوع وأدا وطوميس وفافا وأيوب، وأجرى الله على يده عجائب جمة، أخصها إبراؤه والي أرزن من مرضه، والذي آمن واعتمد وأبناء بيته، وابتنى كنيسة في أرزن عاصمته، وأقام لها ماري كهنة وشمامسة، وارتحل عنها إلى بيث زبدي وبيث عربايا ونصّر قسماً صالحاً من أهاليها " .
   وفي القرون الأولى للمسيحية كانت أرزن  أسقفية تابعة لكرسي نصيبين الميطرابوليطي،  ومن الأسقفيات الهامة في كنيسة المشرق، أما أبرشية سعرت فيعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، زمن انضمام البطريرك يوحنا سولاقا إلى الكنيسة الكاثوليكية، وعليها لم يجد الباحثون آثاراً تذكر لهذه الأبرشية قبل هذا الزمن. لأن منطقة " البوتان " الواقعة شرق سعرت، كانت تتبع أبرشية " أشي ". ومنطقة " أرزن " الواقعة غرب سعرت، كانت تتبع أبرشية " حصن  كيبا ". وبعد انضمام سعرت والمناطق المحيطة بها " بوتان وأرزن " إلى الكنيسة الكاثوليكية، أصبحت سعرت كرسياً أسقفياً وذلك سنة 1553.
   وفي عهد البطريرك عبديشوع الرابع مارون سنة 1555، أضحت سعرت رئاسة أسقفية، يتبعها أسقف            " أثيل " الواقعة في جبل البوتان . أما أسقفية " زوق " والواقعة غرب سعرت فقد بقيت تابعة للكنيسة النسطورية حتى نهاية القرن التاسع عشر.
   وقد اتخذ البطاركة الثلاثة الذين خلفوا البطريرك الشهيد سولاقا، سعرت مقراً لكرسيهم. وسكنوا في دير مار يعقوب الحبيس الذي بجوارها، وذلك من سنة 1555م وحتى سنة 1600م، وهؤلاء البطاركة هم: عبد يشوع الرابع مارون، ويبالاها الرابع، وشمعون الثامن دنحا. وبعد انفصال سلسلة البطريرك سولاقا عن الكنيسة الكاثوليكية، بقيت أبرشية سعرت خاضعة لبطريركية آمد " ديار بكر " الكاثوليكية. واستمرت حتى دمرت سنة 1915م. وحتى هذا التاريخ كانت الأبرشية تضم المراكز التالية:
1_ سعرت. 2-قوطميس ( قطمس ). 3-مار كوريا. 4-كيداونيس. 5-تل ميشار. 6-بنيكف.  7-دهوك ( دهوكي ).  8-بيركة. 9-راموران. 10-دهربان ( دير ربان ). 11-دهمزيان.                 12-ارجيقانس. 13-اجنبت.  14-قوريج. 15-اوريج. 16-بوريم. 17-شويتا. 18-روما.              19-حاخ. 20-بيروز.  21 دنيتاس.  22- قيرانس. 23-ارتون عليا. 24-ارتون سفلى. 25-طال              ( تل ). 26-أزار. 27-كير أثل ( أثيل ). 28-مار انش. 29-صاداخ ( صدغ ). 30-مار خانس.           31-مار يعقوب. 32-مارت شموني.   33-حديدي ( حديد ). 34-بركي. 35-بيكندي.  36-دير شمش. 37-قب .  هذه القرى ذكرها الأب يوسف تفنكجي في كتابه " الكنيسة الكلدانية سابقاً           وحالياً ". ويبدو أن هذه القرى كان أغلب سكانها كلدان.
   أما القرى التالية فكان سكانها خليط من كلدان وأرمن غريغوريين وسريان يعاقبة وهي:  38_ رضوان.  39_ كوبرتانس.  40_ كلوابيه.  41_ تل نيفرو. 42_ شرنخ. 43_ مار شمعون.  44_ دير مازن.             45_ بنكوف ( بيكوفة ).  46_ ارشنكس. 47_ كيب. 48_ دير شمش. 49_ مسيفرا. 50_ طنزي.                   51_ ديروان. 52_ بنفلا. 53_ عقبي. 54_ حراتا. 55_ ترحام. 56_ بيرس. 57_ عدرى. 58_ عين كوزا.        59_ خوشينا. 60_ دير كولي. 61_ دير غالب. 62_ دهي. 63_ عيتا. 64_ دير شو ( دير شوعا ).  65_ زوق. 66_ مار مارونة. 67_ كوخا. 68_ أرو.
   3_ المطارنة الكلدان في سعرت: تعاقب على رئاسة أبرشية سعرت منذ زمن الاتحاد سنة 1553م، وحتى سنة 1915م زمن دمار الأبرشية. ثلاثة عشر مطراناً هم: 
   1_ المطران يوسف (1553- 1582): رسمه البطريرك سولاقا مطراناً على سعرت سنة 1553م، أرسله البطريرك عبديشوع الرابع مارون إلى الهند سنة 1561م، لزيارة كنيسة المشرق هناك. توفي سنة 1582م.
   2_ المطران إيشوعياب (1582- 1617): رسمه البطريرك إيليا الخامس مطراناً على سعرت، وجد اسمه في رسالة للبابا بولس الخامس سنة 1610م، وقد سمي فيها( إيشوع ديدي ) وهي ترجمة لاتينية لكلمة إيشوعياب.
   3_ المطران إيليا (1617- 1620): رسمه البطريرك إيليا الحادي عشر مطراناً على آمد، وفي سنة 1617م نقل إلى مطرانية سعرت، وقد دون اسمه بين الأساقفة الذين حضروا مجمع آمد سنة 1616م، توفي سنة 1620م، وقد دفن أمام باب دير مار يعقوب الحبيس حسب وصيته.
   4_ المطران إيشوعياب (1620-1652): ورد اسمه كمطران لأبرشية سعرت، في الرسالة الثالثة المرسلة للبابا بولس الخامس سنة 1620م.
   5_ المطران يوحنا (1652- 1673): ذكر اسمه بين أسماء المطارنة، في الرسالة التي بعثها البطريرك إيليا الثالث عشر، للبابا كليمانت التاسع، بعدها ترك الشركة مع الكنيسة الكاثوليكية.
   6_ المطران شمعون (1701-1742): رسمه البطريرك يوسف الثاني مطراناً على سعرت سنة 1701م، وعندما سافر البطريرك يوسف الثالث إلى روما سنة 1731م، كلف المطران شمعون بإدارة شؤون البطريركية خلال غيابه، وخلال وجوده في آمد، اشترى قريتين لأوقاف البطريركية.
   7_ المطران حنا كيمو (1744- 1786): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على سعرت سنة 1744، وقد دبر أبرشيته أكثر من أربعين سنة.
   8_ المطران بطرس شوريز (1793- 1822): ولد في سعرت، رسمه المطران خنيشوع مطراناً على سعرت بطريقة غير شرعية، وفي سنة 1796م سافر إلى روما ليطلب المغفرة على تصرفه، وقد حله البابا بيوس السادس، وثبته مطراناً على سعرت، توفي سنة 1822م .   
   9_ المطران ميخائيل كتولا (1826- 1855): ولد في تلكيف سنة 1792م، ترهب في دير الربان هرمز، رسمه البطريرك يوسف الخامس مطراناً على سعرت سنة 1826م، وتمت رسامته في مدينة سعرت، رمم دير مار يعقوب الحبيس، وأحضر عشرة رهبان من دير الربان هرمز لإعادة الحياة فيه، كان خطيباً متفوهاً وخطاطاً ماهراً، توفي سنة 1855م.
   10_ المطران بطرس برتتر (1858- 1884): ولد في خسرواه سنة 1809م، درس في مجمع انتشار الإيمان في روما، رسم كاهناً سنة 1836م، خدم في بغداد والموصل، حتى رسم مطراناً لسعرت سنة 1858م، بوضع يد البطريرك يوسف السادس أودو. شارك في المجمع الفاتيكاني الأول، فتح إكليركية في دير مار يعقوب الحبيس، وجاب مطبعة كلدانية من روما. شيد دار المطرانية بسعرت. استقال سنة 1884م. توفي في قرية بيروز سنة 1885م، ودفن في دير مار يعقوب الحبيس. 
   11_ المطران يعقوب نعمو (1885- 1888): ولد في الموصل سنة 1827م من عائلة سعرتية، رسمه البطريرك أودو كاهناً سنة 1863م. عين كأول مدير للمعهد البطريركي سنة 1867م، رسمه البطريرك إيليا الثاني عشر عبو اليونان مطراناً على سعرت سنة 1885م. عين نائباً بطريركياً في بغداد سنة 1888م. توفي سنة 1895م.
   12_ المطران يوسف عمانوئيل (1892- 1900): ولد في ألقوش سنة 1852م، أكمل دروسه عند الآباء اليسوعيين في بيروت، رسم كاهناً سنة 1879م. رسمه البطريرك إيليا الثاني عشر عبو اليونان مطراناً على سعرت سنة 1892م، وخلال مطرنته شيد كاتدرائية العائلة المقدسة في سعرت. انتخب بطريركاً سنة 1900م. توفي سنة 1947م. 
   13_ المطران أدي شير (1902-1915): ولد في شقلاوة سنة 1867م، تلقى العلم عند الآباء الدومنيكان في الموصل. سنة 1880م رسم كاهناً، رسمه البطريرك يوسف عمانوئيل مطراناً على سعرت سنة 1902م. خدم الأبرشية بغيرة رسولية، فشيد الكنائس والمدارس في قرى أبرشيته، وعلم وهذب. وإلى جانب مسؤولياته الجسيمة أغنى كنيسة المشرق بمؤلفاته الثمينة. استشهد في قرية دير شو في حزيران 1915م، وباستشهاده انقطعت سلسلة مطارنة الكلدان في سعرت.
   4_ إحصائية أبرشية سعرت الكلدانية: إن عدد أبناء الأبرشية كان بين مد وجزر، وذلك حسب الظروف السائدة في المنطقة، وبحوزتنا عدة إحصائيات لفترات مختلفة.
   ففي تقويم قديم يذكر فيه الحضور الكثيف للمشارقة في سعرت  بداية القرن السابع عشر  وكالتالي: " يضم 3000 بيت في المدينة وجوارها، يخدمهم أسقف و25 كاهناً و80 شماساً، ولهم في المدينة كنيستان هما: 1_  مار كيوركيس. 2_ مار ميخائيل. ولهم ثلاثة أديرة هم: 1_ مار يعقوب الحبيس. 2_ مار كورئيل.  3_ مار صوريشوع. ". 
   أما في سنة 1852م أحصى فقد الأب مارشه كلدان أبرشية سعرت، فبلغوا 1865 نسمة، منهم 375 نسمة في مدينة سعرت، والبقية موزعين على القرى التابعة للأبرشية.
   وفي أرشيف الآباء الدومنيكان بالموصل، تقرير وضعه الأب جاك ريتوري سنة 1881م، وفيه إحصائية مفصلة عن مسيحي سعرت، ويبلغ عدد العائلات الكلدانية في مدينة سعرت مائة عائلة.
   أما الأب مولير سيمونيس الذي مر بمدينة سعرت سنة 1888م، وخلال إقامته وضع إحصائية عن كلدان الأبرشية، فبلغوا بين 3500 إلى 4000 نسمة.
   وفي سنة 1891م وضع الأب فيتال كينه إحصائية جديدة، وفيها بلغ عددهم 2600 نسمة. والجدير بالذكر أنه في سنة 1895م اجتاحت سعرت وجوارها موجة عنف عشواء، أودت بحياة الكثير من أبناء الأبرشية، ودمر قسم كبير من دير مار يعقوب الحبيس، ونهبت مكتبته الضخمة والغنية بالمخطوطات الثمينة، وحرق وأتلف أغلبها. كذلك هدمت أضرحة البطاركة والأساقفة المدفونين في الدير. ومن شدة البطش وقساوة الظلم، اعتنق الإسلام أغلب كلدان قرية كيب .
   في سنة 1896م وضع خياط _ شابو، إحصائية جديدة، وفيها بلغ عدد الكلدان 5000 نسمة، يتوزعون على 22 خورنة، يخدمهم مطران مع 17 كاهناً، وللأبرشية 21 كنيسة مع 18 مدرسة .
   وتعتبر إحصائية الخوري يوسف تفنكجي الأهم، لأنه وضعها سنة 1913م قبل دمار الأبرشية سنة 1915م. وفيها يبلغ عدد الكلدان 5430 نسمة، يتوزعون على 37 خورنة، يخدمهم مطران مع 21 كاهناً، وللأبرشية 31 كنيسة، مع 7 كابلات و9 مدارس .  وحسب اعتقادي أن عدد القرى كان أكثر بسبب انضمام العديد من القرى إلى الكنيسة الكلدانية بعد أن تركت المذهب النسطوري. 
   في سنة 1928 يضع الكردينال تيسران إحصائية عن كلدان أبرشية سعرت، وفيها يبلغ عددهم 1600 نسمة مع عدم ذكر أي وجود لمطران أو كاهن أو كنيسة أو مدرسة. وفي سنة 1938 يضع الأب " المطران " اسطيفان كجو إحصائية عن كلدان أبرشية سعرت، وفيها يبلغ عددهم 3500 نسمة، مع عدم ذكر أية معلومة أخرى .
   وفي سنة 1950 يضع الأب " البطريرك " روفائيل بيداويد إحصائية جديدة عن الكلدان. ولا نجد فيها ذكر عن كلدان أبرشية سعرت. وحسب اعتقادي بسبب عدم وجود كاهن يزوده بالمعلومات المطلوبة .
   ومن المعلوم أن الكثير من أبناء القرى المحيطة بسعرت، استمروا بالعيش في قراهم حتى أوائل الثمانينات من هذا القرن، حتى غادروا نهائياً إلى بلاد الاغتراب وخاصة فرنسا .   
   5_ أبرشية سعرت قبيل سنة 1915م : من المعلوم أن لغة أهل سعرت كانت العربية والكردية، أما لغة كلدان القرى فكانت السورث في منطقة البوتان، والعربية والكردية في منطقة أرزن " غرزان ".  وكان للكلدان في سعرت كنيستان، واحدة قديمة على اسم مار كيوركيس تقع في الحي الأرمني والمعروف بـ تاخا صور " الحي الأحمر ". والثانية كنيسة العائلة المقدسة في حي عين صليب شيدها المطران " البطريرك " عمانوئيل توما سنة 1895م.
   وكان في سعرت دير للآباء الدومنيكان، فيه ثلاثة رهبان، ولهم في المدينة عدة مدارس للفتيان والفتيات، ومدرسة مهنية لتعليم الشبان شيئاً من الصنائع، بالإضافة إلى معمل للسجاد اليدوي. كذلك كان في سعرت ميتمان، تقوم بهما ثلاث من راهبات تقدمة العذراء، تحت يدهن أربع معلمات بلديات.
   وللأبرشية ديران، الأول بالقرب من قرية بيكند بصي نغد   " بيت قند أي مكان الوثب " على اسم مار يوحنا نحلايا، ضبطه السريان الأرثوذكس من الكلدان سنة 1825م بقوة فتاح باشا الغرزي .
    أما الثاني فهو دير مار يعقوب الحبيس قرب سعرت، والواقع على قمة جبل يطل على نهر البوتان، وقد قال عنه أحد المؤرخين العرب " دير أحويشا، دير عظيم فيه أربعمئة راهب يسكنون في قلالي، وحوله بساتين وكروم، وهو في نهاية العمارة وحسن الموقع وكثرة الفواكه والخمور، ويحمل منه الخمر إلى المدن المذكورة، وبقربه عين عظيمة تدير ثلاث أرحاء " . وكان هذا الدير كما ذكرنا سالفاً مقراً للبطاركة الكاثوليك، ومطارنة سعرت حتى شيد المطران برتتر داراً للمطرانية في سعرت. وكان في جوار سعرت العديد من الأديار التي دمرت على مر الأجيال منهم دير مار كوريا جنوب دير مار يعقوب الحبيس، ودير  مار شليطا  الذي يقع على بعد مسيرة يومين جنوب غرب سعرت على ضفة نهر دجلة.
   ولدينا العديد من الشهادات عن هول ما جرى في هذه الأبرشية العريقة: ففي تقرير رفعه البطريرك عمانوئيل إلى قنصل فرنسا في بلاد ما بين النهرين السيد  م. روو بتاريخ 29 كانون الثاني 1919 يبين فيه أسماء القرى الكلدانية المدمرة وعدد الشهداء وحجم الخسائر المادية، ويذكر أسماء العشائر التي اقترفت هذه الجرائم نذكر منهم: عشائر باتوا ومما وسينك ودومان. وآغوات أرو والحلنزي والجوانكية وكند.
   وقد وضع الخوري توما بجاري  الوكيل البطريركي الكلداني في دار السلطنة العثمانية في اسطنبول، قائمة بمراكز الكلدان في أبرشية سعرت، حيث يبلغ عددهم أكثر من عشرين ألف، نذكر منها: سعرت 2000 نسمة. صدغ 2000. تل ميشار 1500. أرتون العليا 1000. قطمس 1000. حديد 1000. مار كوريا 1000. بيروز 1000. أرتون السفلى 500. بيكند 500. بركي 500. مار يعقوب 500 . . . إلخ.
   إن المصائب والمصاعب التي حلت بأبرشية سعرت يعجز اللسان عن وصفها، بسبب خشونة الوحوش البشرية التي انقضت بدون رحمة على أناس ودعاء مسالمين. وفي زمان المذابح كانت سعرت تتبع إدارياً ولاية بتليس. وقد بدأت المجازر بأمر من جودت بك والي وان، الذي ترأس فوجاً من العسكر تغلي في دمائهم مثله شهوة الذبح أطلق عليه  " طابور  القصابين "، هؤلاء الوحوش الذين اندفعوا نحو المسيحيين كالضباع الجائعة ناهبين قراهم متفننين في أساليب الفتك والذبح. لقد شكل قائمقام سعرت أنيس بك كتيبة من جنود قوامها مسلمون، أوكل إليهم مهمة تصفية مسيحيي المدينة.
   ففي رسالة البطريرك الكلداني مار يوسف عمانوئيل الثاني إلى وزير الخارجية الفرنسية السيد ستيفان بيشون والمؤرخة في 29 كانون الثاني 1919 يتحدث فيها عن مذابح سعرت قائلاً:  " اجتيحت أبرشية سعرت ودمرت تماماً، المطران والكهنة وسكانها المسيحيين والثلاثة والستين قرية التابعة لها، ذبحوا بأبشع أساليب الهمجية. دمرت الكنائس والأديرة والصرح الأسقفي والمؤسسات، كما نهبت الممتلكات واستولوا على الأوقاف وعلى أرزاق المؤمنين، وحل الخراب في كل مكان. اخص بالذكر مكتبة المطرانية الغنية بمخطوطاتها القيمة، هذه المكتبة التي كانت قبلة المؤرخين والباحثين والمستشرقين من جميع أنحاء العالم، هذه المكتبة حولت إلى رماد للأسف الشديد ". 
   تأمل أيها القارئ اللبيب 63 قرية كلدانية أبيدت عن بكرة أبيها، فكم كان حجم الكارثة الذي حل في هذه الأبرشية، لو نطق وادي زرياب  عن عدد الجثث التي ألقيت فيه، سوف تذهل من قسوة عديمي الضمير، وهل تعلم أنه حتى يومنا هذا لو زرت الوادي المذكور ستجد بقايا عظام الشهداء.
   ويقول الأب بطرس عابد الكلداني في تقريره المرفوع إلى الكردينال ماريني أمين سر مجمع الكنائس الشرقية والمؤرخ في 18 نيسان 1918، يصف ما جرى في سعرت قائلاً:   " بدأت مذبحة مسيحيي سعرت في شهر أيار سنة 1915، وقد سبقت مذابح بيتليس بثلاثة أشهر فقط. بادئ الأمر سجنوا عدداً كبيراً من المسيحيين مع كهنتهم، ثم أخذ الجنود الأتراك يفتكون بمسيحيي المدينة، وانتقلوا منها إلى الأرياف، حيث عشرات القرى الكلدانية. في هذه المذابح لم يسلم أحد من المسيحيين هناك ". 
   أما مسيحيي القرى فكانت مهمة تصفيتهم منوطاً بالعشائر الكردية، التي عملت على إبادة ما طال أياديهم القذرة، فارتكبوا أبشع جرائم القتل والذبح والاغتيال والسلب والنهب والتدمير. لأن المسيحيين كانوا أصحاب الصناعة والتجارة في المدينة، وملاكي الأراضي الزراعية الخصبة في القرى، يعملون فيها ليل نهار بجد ونشاط، وكانت تدر عليهم الغلال الوفيرة، لقد حولوا قراهم إلى جنات عدن لكثرة ما غرسوا فيها من أشجار مثمرة ومن جميع الأصناف وأجودها. أم المسلمين فكانوا خالين من المؤهلات، وما أن بدأت المذابح وجدوها فرصة سانحة للانقضاض على هؤلاء المسالمين وتصفيتهم وسلب أموالهم وممتلكاتهم. وحسب رواية أحد الناجين من المذابح ويدعى هرمز، فبعد هربه إلى ماردين وهناك قابل المطران إسرائيل أودو حيث حدثه عما جرى في  قرية أرتون  قائلاً:  " بعد أن ذبح الشيخ عبد الله المطران توما رشو  ومعه 180 شخص من أبناء قرية أثيل، تجمع من تبقى من  شباب القرية الكلدان ومعهم شباب من القرى المجاورة وهجموا على الشيخ المذكور وقتلوه، وما أن شاهد عبد الرحمن أخو الشيخ عبد الله ما جرى لأخيه أنتابه الخوف والفزع، فهرب إلى مدينة الموصل وبقي هناك ". 
   وفي رسالة الأب فيليب شوريز السعرتي النائب البطريركي للكلدان في بغداد، إلى الأب الدومنيكي كوفروا حول حوادث سعرت، مؤرخة في 22 أيار 1917، يقول فيها:  " لو عدتم يوماً ما إلى دار الرسالة الدومنيكية لما تعرفتم عليها، كل ما فيها قلب رأساً على عقب. في سعرت حولوا دار الرسالة إلى جامع، ومساكن المسيحيين صار يقطنها المسلمون.  لقد ألقوا القبض على جميع الكلدان، واقتيدوا في الليلة التالية موثقين ببعضهم إلى وادي زرياب، وبعد أن جردوهم من ثيابهم أطلقوا عليهم نار بنادقهم بغزارة، فأردوهم جميعهم قتلى. وقيل عنهم أنهم صمدوا في وجه الجلادين الذين عرضوا عليهم الإسلام فرفضوه قطعاً، وساروا بثبات نحو الاستشهاد وهم يلفظون اسم يسوع المسيح له المجد، صافحين لجلاديهم القساة الخالية قلوبهم من الرحمة.  أما النساء لما أرادوا النيل من فضيلتهن فضلن الموت على العار، لذا ساقوهن إلى خارج المدينة في طرقات مهجورة مجهولة، وكانت أصواتهن تصدح بتراتيل شجية، ويقال أنهن رجمن بالحجارة ومنهن قتلن رمياً بالرصاص. أسرة عبوش  وحدها قدمت قرابة الأربعين شهيداً  ". 
   ويتحدث الأب فيليب شوريز السعرتي عن مقتل الأب جبرائيل عبوش قائلاً:  " غداة هرب المطران أدي شير ألقت الحكومة القبض على جميع كلدان سعرت، باستثناء النساء والأطفال ما دون الخامسة. وكذلك قبضوا على الأب جبرائيل عبوش الذي لم يغادر دار المطرانية، وذهب ليقيم الذبيحة الإلهية في الكاتدرائية لشعب مذعور منتحب محتمِ بالكنيسة، وبعد القداس صعد إلى سطح المطرانية حيث ألقوا القبض عليه، وساقه رجال الجثا  مقيد اليدين وضموه إلى الكلدان الذين كانوا بالسجن. وهناك استمع الأب عبوش إلى اعترافات أبناء رعيته خلال ثلاثة أيام، حاثاً إياهم على الثبات والصمود على إيمانهم المسيحي القويم. وقبل أن يربطوهم إلى بعضهم نزعوا عنهم ثيابهم، ثم اقتادوهم كقطيع أغنام إلى خارج المدينة، وهناك أمطروهم بوابل من الرصاص دون رحمة ولا شفقة. أما الأب جبرائيل عبوش فقد دفعوا به إلى خندق محيط بمنزل أحد الأغوات في سعرت، واخذوا يطعنوه بالخناجر، ثم سكبوا عليه النفط واحرقوه، وقد تحمل أقسى العذابات حتى طارت روحه إلى باريها شهيد إيمانه. وتقول رواية أخرى أنهم غرزوا في جسمه أمشاطاً وسفافيد حديدية حادة، كانت تحمى بالنار حتى تحمر، ثم تغرز في جسمه. وكانت أدعية الشهيد تسمع من بعيد وهو يردد: من أجلك يا يسوع، هلم إلى عوني يا يسوع المسيح ". 
   أما الأختان ستيرا ووارينا بنتا القس حنا شماس كاهن الكلدان في قرية صدغ، فقد تحدثت ستيرا عن قصتها بالقول: " بعد أن قتلوا جميع كلدان قريتنا صدغ بما فيهم والدنا كاهن القرية وجميع أهلي، أخذنا الأكراد كسبايا إلى قرية كواتي، وعندما مر حاكم سعرت من القرية المذكورة وعرف بوجودنا هناك، أخذنا من الأكراد وكنت أنا ستيرا بعمر 18 سنة وأختي وارينا أصغر مني، وهناك في سعرت سخرنا بخدمة البيت. بعد فترة سافر هو وعائلته إلى حلب فأخذنا معه. وفي أحد الأيام كنت أتجول في حي يقال له الصليبي، ورأيت جموع من الناس تخرج من إحدى الأبنية، فسألت عنهم فقالوا أنهم مسيحيون يخرجون من الكنيسة. تفاجئت لأننا في سعرت كنا نسمع من العثمانيين والأكراد أنه لم يبقى على وجه الأرض لا مسيحيين ولا كنائس. وعندما عدت إلى المنزل فكرت في الهروب، وفي صباح اليوم التالي أخذت أختي وهربت بطريقة لم تشعر بها زوجة الحاكم ولا الحرس المرافق. ذهبت إلى تلك الكنيسة والتقيت بكاهنها الأب ميخائيل شعيا،  وبعد أن شرحت له قصتي، أخذنا عند عائلة عبوش الكلدانية السعرتية وبقينا عندهم. وقد بذل الحاكم جهداً كبيراً للعثور علينا، لكنه لم يفلح بذلك حتى غادر حلب إلى القسطنطينية ". 
   وكان الأب جوزيف نعيّم الكلداني الرهاوي  الذي عانى أيضاً من قسوة الاضطهاد، حيث فقد العديد من أفراد أسرته، وذاق مرارة السجن والعذاب مدة 130 يوماً حتى أطلق سراحه في القسطنطينية. وهناك التقى العديد من الكلدان الناجين من مذابح سعرت، منهم المدعوة حلاته حنا التي حدثته عن مقتل المطران أدي شير  والعديد من الكهنة:  " كنت بين نساء سعرت اللواتي سقن إلى الذبح وعددهن حوالي الألف، وفي الطريق قتل عدد كبير من النساء، وعند عبورنا نهر خازر رمت بعضهن  أطفالهن في مياه النهر من جراء إرهاقهن الشديد، وما أن وصلنا إلى قرية بيكند أخذونا إلى المكان الذي قتلوا فيه كلدان القرية لذبحنا هناك. وقد تمكنت من الهروب عن طريق راعي كردي من قرية بيكند كان يتردد إلى بيتنا في سعرت. وبعد أن عدت إلى سعرت عملت طباخة عند حاكم المدينة بيرام فهمي بك. سمعت أن مسلمي المدينة قرروا أن لا يبقى أي مسيحي فيها،  كان دار المطرانية في سعرت قبل مقتل المطران قد أصبح ملجأ لكهنة كنائس القرى هرباً من المذابح الجارية في قراهم، وممن أعرفهم هم الآباء: الأب جورج كاهن قرية بركي، والأب حنا كاهن قرية صداغ، والأبوين موسى ويوسف كاهني قرية كيدوانس، والأب ميشيل كاهن دير مار يعقوب، والأب يوسف كاهن قرية بيكند، والأبوين جرجيس وعازار كاهني  قرية قوطميس، والأبوين عازر وهرمز كاهني سعرت، وسكرتير المطران الأب كبرئيل أدمو. جميعهم قتلوا بوحشية. كما وضعت السلطة المطران أدي شير تحت الإقامة الجبرية في دار المطرانية، بعد أن دفع رشوة لحاكم المدينة قدرها 500 باوند ذهبي بعد أن وعده بإبعاد القبائل الكردية المسلحة عن المدينة. وقد أرسل عثمان آغا الطنزي الرجل الشهم وهو صديق مقرب من المطران خمسة عشر من رجاله الأشداء، وحضروا إلى دار المطرانية ليلاً وأخرجوا المطران بعد تنكره بلباس كردي، وساروا به إلى قرية طنزي في جبال البوتان التي تبعد مسافة ستة ساعات سيراً على الأقدام، وهناك استقبله أحسن استقبال على أمل أن يسفره إلى الموصل للنجاة من مصير محتوم. وفي الصباح وما أن علمت السلطة بالأمر، حتى سيرت كتيبة من الجيش. وقبل وصولها إلى القرية أرسلت خبر للآغا تدعوه لتسليم المطران وألا قتل مع جميع أهل بيته ورجاله، لكنه رفض طلبهم قطعياً وأخذ عائلته وهرب تاركاً رجاله يحرسون المطران المخابئ في  " ديري بسان "، قرب قرية دير شو . وبعد قتال مرير كشفوا المخبأ وألقوا القبض على المطران، فعرضوا عليه الإسلام لقاء بقائه حياً، لكنه رفض طالباً منهم بضعة دقائق ليصلي فسمح له بذلك، وبعد أن انتهى من الصلاة أطلقوا النار عليه فاردوه قتيلاً، وقد رأيت بعيني خاتم المطران في إصبع أحد الضباط خلال تجواله في سعرت. كنت في بعض الأحيان أمر أمام كنيستنا الكبيرة التي حولت إلى إسطبل للحيوانات أشعر بحزن كبير وأجهش بالبكاء، وقد دنسوا مقبرتنا الكلدانية وقلعوا أحجار القبور وعبثوا بجثث الموتى. أينما أدرت وجهي رأيت مشاهد حية لقسوة المتزمتين، وكأن الجحيم فتحت أبوابها على أحيائنا الكلدانية. لقد رأيت بعيني كيف جمعوا الأطفال بين سن السادسة والخامسة عشر، وأخذوهم إلى قمة الجبل المعروف رأس الحجر، وهناك قطعوا رقابهم الواحد تلو الآخر، ورموا جثثهم في الوديان ".
  وبعد المذابح حولت كنيسة مار كيوركيس الكلدانية، إلى قاعة لنشاطات مدرسية. ودار المطرانية حول إلى مدرسة حكومية. أما كاتدرائية العائلة المقدسة، فقد حولت إلى جامع الخليلي ، أما كنيسة الدومنيكان فقد حولت إلى جامع " جامع النبي "، أما دير الدومنيكان فقد حول إلى مشفى عسكري.   
   أما دير مار يعقوب الحبيس فتحول إلى أطلال، ويقال إن بناء الكنيسة لا زال قائماً. كذلك دمرت جميع مراكز الأبرشية من كنائس ومدارس. واليوم لم يبق في سعرت وجوارها أي شخص من أبناء هذه الأبرشية. فقد قتل من قتل، وهاجر من هاجر بشكل تدريجي، إلى العراق وسوريا ولبنان وبلاد الاغتراب.
   وقد قمت بزيارة مدينة سعرت في 18 حزيران 2006، وشاهدت حي عين صليب، ولا زالت العين جارية وتعرف حتى اليوم بنفس الاسم. وزرت جامع النبي الذي كان سابقاً كنيسة الدومنيكان. أما كنيسة العائلة المقدسة الكلدانية فقد حولت إلى جامع. وكنت أنوي زيارة جبال البوتان شرق سعرت والتي كانت تضم العشرات من القرى الكلدانية، لكن الظروف الأمنية حالت دون ذلك. فكم كنت مشتاق أن أحقق الحلم الذي يراودني منذ نعومة أظفاري لزيارة قريتي أرتون العليا، لكن الحلم لم يتحقق. علني أحقق هذا الحلم عندما يستتب الأمن في تلك المنطقة.   
   الخاتمة: إن ذكرى أبرشية سعرت العريقة، تترك في القلب غصة، وفي العين دمعة، لما آلت إليه من دمار وخراب، بعد تاريخ مجيد ومديد، استمر تسعة عشر قرناً من العطاء والإيمان والإشعاع. وفخرها أنها أعطت كنيسة المشرق في الحقبة الأخيرة، رجالاً مشهورين خدموا الكنيسة بغيرة كبيرة أمثال: بطرس شوريز مطران سعرت، وميخائيل شوريز مطران ماردين، وشموئيل شوريز مطران أورمية، ويعقوب نعموا مطران سعرت، وجبرائيل نعموا مطران سوريا ولبنان، ويوحنا نيسان مطران سنا، وجبرائيل آدمو مطران كركوك، ويوسف كوكي مطران البصرة، وأفرام كوكي مطران كركوك، وتوما رشو مطران أثيل،  وفيلبس شوريز المدبر الرسولي على الجزيرة العليا، مع عدد كبير من الكهنة.     

7
 الأب الشهيد حنا شوحا بكر شهداء الإكليروس
خلال مذابح السفر برلك 1915
الشماس: نوري إيشوع مندو
المقدمة: عائلة شوحا هي من العائلات الكلدانية العريقة في ماردين. كان لرجالها مكانة فريدة على الصعيد الاجتماعي في مدينتي ماردين ونصيبين، من خلال ممارستهم الأعمال التجارية والزراعية في المدينتين، فنالوا احترام الناس وثقتهم، بسبب صدق معاملتهم ونظافة كفهم. أما على صعيد السلطات المدنية فكان لهم مكانة خاصة، فوالد الأب شوحا كان قنصل أسبانيا الفخري في ماردين، أما أخ الأب شوحا المدعو عبد الكريم فكان مختار نصيبين وله دوره الفعال أمام السلطات. وعلى الصعيد الكنسي فشهادة أساقفة الكلدان في ماردين تذكر عمق إيمانهم بالكنيسة من خلال ممارساتهم الدائمة لواجباتهم الدينية، وغيرتهم ومحبتهم من خلال اهتمامهم الدائم بالفقراء والمعوزين.
وقد قدموا على مذبح الشهادة خلال مذابح السفر برلك أكثر من خمسين شهيداً، وسلب الطغاة أموالهم وأرزاقهم وممتلكاتهم، وهرب المتبقين منهم إلى سوريا والعراق ولبنان ومصر. وسنتحدث في مقالنا هذا عن الأب الشهيد حنا شوحا من خلال ثلاث شهادات هي لكل من: ا_ المطران إسرائيل أودو. 2_ الأخ إياسنت سيمون. 3_ الأب إسحق أرملة.
1_ شهادة المطران إسرائيل أودو: " ولد هذا الكاهن الوقور في ماردين يوم 2 كانون الأول سنة 1883، دعاه والده في المعمودية حنا، والدته تدعى مريم، وكان والده معروف بمخافة الله. وما أن شد عوده أرسل إلى الموصل للدارسة في معهد يوحنا الحبيب للآباء الدومنيكان، وبعد أن نال قسطاً وافراً من العلم رسمه القاصد الرسولي مار اسطيفانوس كوبري كاهناً وذلك في 15 أيار 1909، وتمت الرسامة في كاتدرائية الشهيدة مسكنتا بالموصل. وبعد السيامة عاد إلى ماردين وبدأ خدمته في كاتدرائية الربان هرمزد، وإلى جانب رعايته النفوس عينته مديراً لمدرسة الطائفة، فكان يعلم فيها التلاميذ اللغتين العربية والفرنسية.
في سنة 1913 أرسلته إلى نصيبين بناء على طلبه، وما أن حل هناك حتى بدأ يعلم ويخدم ويبشر بكل جد ونشاط حتى بداية شهر أيار سنة 1915 حيث ألقي القبض عليه، واتهم بالتحدث عن المذابح التي بدأت بحق المسيحيين سكان السلطنة العثمانية خلال إعطاءه الدروس لتلاميذ مدرسة الطائفة.
أما حقيقة الأمر فهي مخالفة لهذه التهمة، وكل ما في الأمر أن شاباً كلدانياً من بلدة تلكيف حضر في بداية أيار إلى نصيبين قادماً من مدينة أضنة، ولما لم يجد من يرافقه بالسفر إلى بلدته تلكيف، ذهب إلى كنيسة الكلدان شارحاً وضعه للأب حنا شوحا، وطلب منه إن كان هناك مجال للنوم في باحة الكنيسة حتى يجد من يسافر معه، فوافق الأب المذكور على طلبه.
وصباح أحد الأيام خرج إلى السوق عله يجد من يسافر معه، وكان قد تعرف على صاحب حانوت يدعى بهنان ابن فرنسيس برغوث من طائفة الأرمن الكاثوليك. وبينما كان جالساً أمام الحانوت مر من هناك البوليس، وما أن شاهدوه حتى ألقوا القبض عليه وساقوه إلى المخفر. وهناك سألوه من أين هو، ومن أين أتى، وأين ذهب وأكل ونام. وما أن انتهى التحقيق معه حتى احضروا الأب شوحا والحانوتي بهنان ورموهم جميعاً في السجن.
ووجهت للشاب تهمة الهروب من العدالة، وللحانوتي تهمة المهرب، وللكاهن تهمة أخفاء المجرم. وبقوا مدة أسبوع في السجن يعانون أشد العذابات وأقساها. وفي 9 أيار سيقوا إلى ماردين ورموا بهم في السجن، وما أن علمت بذلك حتى أرسلت الكاهنين بولس بيكو ويوسف تفنكجي إلى متصرف ماردين حلمي بك للاستفسار عن وضعهم. ولما علمنا أنهم سيساقون إلى آمد، طلبنا من المتصرف أن يسلمنا الأب شوحا ورفاقه، ونحن بدورنا سوف نرسله إلى آمد على كفالتنا وضمانتنا، لكنه لم يستجيب لطلبنا.
وبعد يومين أخرجوا من السجن وسلموا إلى الجنود ليسوقهم إلى آمد، وكان هذا اليوم يوم أحد، وأخذ الجنود يطوفون بهم وهم مكبلين بالحبال في أسواق المدينة وساحاتها، وكان الأهالي يلقون عليهم طوفان من الشتائم، خاصة أولئك الفتيان الأشرار الذين تبعوا موكبهم حتى خارج المدينة.
وكان آل شوحا من رجال ونساء خارج المدينة ينتظرون مرور الأب حنا ورفيقيه، حتى يشاهدوه ويطلبوا من الجنود أن يسلموه لهم، حتى ينقلوه إلى آمد بطريقة مقبولة. لكن الجنود رفضوا طلبهم بحجة الحفاظ على حياته وحمايته من المسيئين. وعندها قرر زوج أخت الأب شوحا المدعو يوسف مغزل مرافقتهم إلى آمد، وهكذا عاد آل شوحا إلى ماردين خائبين وخائفين على مصير ابنهم.
أما الجنود فأكملوا المسير نحو آمد، وفي الطريق عروا الكاهن من ثيابه، وعندما اقتربوا من المدينة صبغوا وجه الكاهن بالفحم من باب السخرية، وعلقوا في رقبته جرساً مثل الأجراس التي تعلق في رقاب البغال والأغنام، وفي هذه الحالة المشينة أدخلوه هو ورفيقيه إلى المدينة في وضح النهار، وأخذوا يطوفون بهم في الأسواق. وما أن شاهد سكان المدينة هذا المشهد حتى أخذوا يكيلون لهم أبشع الشتائم والكلمات النابية، بينما كان أولاد الشوارع غير المؤدبين يرمونهم بالأتربة والأوحال القذرة، وعلى هذا الشكل استمرت جلجلتهم حتى وصلوا بهم إلى السجن، وهناك زجوهم في غياهب السجن المملوء بالمئات من المسيحيين.
أما يوسف مغزل فبقي في آمد على أمل أن يجد مخرج لهذه المعضلة، ولمدة يومين كان ينقل الطعام إلى السجن صباحاً ومساءً للأب شوحا ورفيقيه. وفي اليوم الثالث ذهب كعادته إلى السجن ومعه الطعام، فألقي القبض عليه وضموه إلى المساجين. وانقطعت الأخبار عنهم، ولم نعرف حتى اليوم كيف قتلوا الأب شوحا ورفيقيه وزوج أخته. ونعتقد أنهم سيقوا مع المسيحيين الذين قتلوا خارج المدينة.
وكانت والدة الأب شوحا المدعوة مريم تسكن آنذاك في نصيبين مع أبنيها عبد الكريم وسليم، وكانت زوجة عبد الكريم تدعى شموني، علماً أن عبد الكريم كان مختاراً لنصيبين. وكانوا جميعاً ينتظرون بفارغ الصبر أخبار الأب حنا، لكنهم لم يتوصلوا إلى نتيجة تذكر، فكانوا يعانون من جراء ذلك حزن وأسى شديدين.
وفي إحدى الليالي جاءهم أحد أصدقائهم من العشائر العربية، وأيقظ عبد الكريم من النوم بهدوء وقال له: قم وأسرع حتى أخذك أنت وجميع أفراد عائلتك إلى بيتي في البرية، وقد جلبت معي بعض الجمال لتحميل أمتعتكم، لأني سمعت أن السلطات مزمعة أن تسوقكم إلى الموت.
فرد عليه عبد الكريم بالقول: أنا مختار السلطان في نصيبين ولدي أملاك وأراضٍ وأرزاق، فإذا هربت كيف سأنجو من شر السلطان.
فرد عليه العربي: أترك كل شيء وخلص نفسك ونفوس عائلتك، لأنه ليس لنا متسع من الوقت، وعلينا الهروب قبل بزوغ الفجر.
لكن عبد الكريم رفض طلب صديقه العربي، فما كان منه إلا أن غادره متألماً لعدم قبوله مشورته.
وفي صباح 15 حزيران تحقق ظن الإعرابي، إذ ألقت السلطات على عبد الكريم وأخيه سليم وضموهما إلى رجال نصيبين الكاثوليك، وسيقوا جميعاً إلى قرية خراب كورث القريبة من نصيبين، وهناك ذبحوا جميعاً. ومن أصل ثلاثين عائلة كلدانية كانت تسكن في نصيبين لم تنجو إلا عائلة واحدة استطاعت الهروب. ونجا من الأرمن الكاثوليك عائلتين فقط. أما رجال السريان الأرثوذكس فقد أعفي عنهم. 
أما مريم والدة الأب شوحا، وشموني زوجة أخيه عبد الكريم والتي أصلها من آمد، فقد سيقتا إلى ماردين، وفي الطريق قتل الجنود مريم أولاً، ثم طلبوا من شموني أن تجحد دينها ليحافظوا على حياتها. لكن الشابة شموني تشجعت وامتلأت من الروح القدس وردت عليهم بالقول: أفضل الموت مع حماتي، ولا أنكر ديني وإيماني حتى أعيش معكم أيها المتوحشون سفاكي دماء الأبرياء. وما أن سمعوها حتى هجموا عليها بالسيوف والسكاكين وقطعوا جسدها الطاهر أرباً أرباً، وبعد أن عروها من ثيابها سحبوا جثتها مع جثة حماتها مريم إلى قارعة الطريق. وكان ضمن هذه القافلة فتاة صغيرة، أخذها الطغاة وأتوا بها إلى ماردين. وبعد مدة قصيرة استطاعت والدتها وتدعى ملكة وهي أخت الأب شوحا أن تحررها من أيدي الأشرار. وقد جاءت ملكة ومعها ابنتها إلى دار المطرانية، وقد سمعت من فم الفتاة قصة قتل مريم وشموني.
وبعد فترة جاء القتلة إلى ماردين ومعهم حصان عبد الكريم وبعض الثياب والبسط وسلموها لأخته ملكة، وقالوا لها أن صاحبها سوف يأتي بعد قليل ليستلمها منك. ولم نعرف سبب هذه المكيدة، وما هي الغاية منها ؟ لأن المجرمين سرقوا كل ممتلكات آل شوحا وتقاسموها فيما بينهم إلا هذه الأشياء البسيطة التي سلموها لأختهم.
وبعد أن سيق العديد من رجال آل شوحا إلى الموت، دعا متصرف ماردين ممدوح كل من جرجس شوحا وابن عمه الياس اللذان نجا من المذابح وأودعاهما في السجن، وطلب من جرجس أن يسلمه زوجة أخيه كبرئيل الذي قتل في القافلة الأولى حتى يرسلها له، ولما علم جرجس بمكيدة ممدوح أعطاه مئة دينار فأخلى سبيله. وطلب من الياس أن يسلمه زوجتي أخويه عبد الأحد وفريد اللذان قتلا في القافلة الأولى مع أولادهم حتى يرسلهم إليهما، فأعطاه مائتي دينار فأخلى سبيله أيضاً. علماً أن مسيحيي ماردين كانوا يعلمون أن الرجال الذين سيقوا في قوافل قد قتلوا جميعاً. أما السلطات الحكومية فكانت تروج بأنهم أحياء وتم نفيهم إلى ولايات بعيدة. وبعد أيام علم المتصرف ممدوح أن آل شوحا لديهم الكثير من المال، وقد استلم القليل من المال منهما مقابل أخلاء سبيلهما، فدعاهما مجدداً حتى يضغط عليهما مجدداً ويستنزفهما ممتصاً دمهما، فما كان منهما إلا أن تركا بيتيهما وهربا إلى جبل سنجار، وهكذا خسرت الأبرشية كريمين من شعبنا "  .
2_ شهادة الأخ إياسنت سيمون: " ينتمي فكتور المولود في السادس من كانون الأول 1883 والذي غدا اسمه حنا يوم سيامته كاهناً عام 1909 إلى الأسرة الكاثوليكية الأقدم والأنبل في ماردين. وهو حافظ منذ دخوله الإكليريكية عام 1898 على شيء ما يعود إلى جذوره ويميزه، وعلى بساطة شبه ساذجة تعود إلى فضيلته، نسي عظمة عائلته وهو ابن قنصل إسبانيا الفخري في ماردين، وارتضى في تواضع ممارسة جميع فروض الإكليريكية. أراد وكان أحد أوائل صفه المحافظة على مرتبته الأولى في ورع. وهنا يكمن سر تأثيره الرسولي في ماردين أولاً، ثم في نصيبين حيث أوفد عام 1911. علم ولفت الأنظار، أما عظاته المغذاة دائماً بالعقيدة، والمستوحاة من احترام الأمور السماوية، والمعطاة بحرارة المقتنع فقد ثبتت لدى البعض الإيمان الديني، ولدى البعض الآخر العودة إلى الكثلكة. عنيد بعض الشيء، لكنه ثابت في مبادئه، متزمت في أخلاقه لدرجة أن يمنع عن نفسه أي زيارة لياقة، نظامي بحيث يضحي بنومه لإنهاء قراءة روحية، حي الضمير لدرجة التردد، وكان فخر رعيته ومثال زملائه.
كان أول كاهن يطاله الاضطهاد في شباط 1915 في نصيبين نفسها. وفي ظل ظروف جداً مؤلمة سجن في ماردين لمدة أسبوع، ثم اقتيد في الحادي والعشرين من آذار إلى ديار بكر، وكانت رحلته بمثابة جلجلة. وإن ماردين التي كانت ما تزال تردد اسم شوحا الأب القنصل، رأت شوحا الابن الكاهن مقيداً بالسلاسل بين كرديين، يضرب بالسوط وبكعب البندقية، يملأه الوحل محقراً. دخل ديار بكر بوجه مسود بالوحل وفي عنقه جريس، ووصل السجن نصف ميت.
وما زلنا إلى الآن نجهل أي تفصيل آخر، وجل ما نعرفه أن الكاهن أخذ خلال شهر أيار، إلى طريق خربوت مع مسيحيين آخرين، واختفى كما يختفي المخفورون. لن تخبرنا مياه النهر، أو أكراد الجبل على أي ضفة، أو أي عقيق ترقد جثة راحلنا. وستبقى ذكرى الأب حنا شوحا بركة، فموته كان صدى حياته، وقد عاش لله ومع الله، ومات في الله وله "  .
3_ شهادة الأب إسحق أرملة: " في التاسع من أيار سنة 1915 احضر شرذمة من الجنود القس حنا شوحا الكلداني من نصيبين، مدعين أنه أخفى عنده بعض الفارين. وعند الظهيرة ألقوا طوقاً حديدياً برقبته، واستاقوه في الجادة العمومية في هرج ومرج، إذ كان الاعلاج يتبعونه ويقذفونه بالحجارة، ويذرون التراب على هامته. وأفضت بهم اللآمة إلى أن ألقوا على قذاله لفائف الدخان وهي مشتعلة ليزيدوه أذى وعذاباً. وما برحوا يجرعونه أكواب الشتم والسب والهزأ، حتى وصلوا به إلى باب البلد الغربي. فعاد الاعلاج الأوغاد إلى بيوتهم، وسار الأب المظلوم في جماعة من الجند إلى ديار بكر ليحاكمه رشيد الوالي الزنديق بما يستحق. وصرف السيد إسرائيل أودو مطرانه الجليل العناية في تخلية سبيله فلم يفلح، فكتب إلى المطران سليمان صباغ بدياربكر ليسعى في تخلية سبيله.
غير أن الأب حنا المشار إليه ما أن وضع قدمه بمدينة دياربكر جرثومة الشرور، حتى لقيه الأنذال السفلة في الأسواق، واشرحفوا لتصويب نبال سخطهم عليه، وإنزال العقوبة به، وألقوا جلجلاً في رقبته تآسياً بالحاكم ابن العزيز العلوي صاحب مصر في أواخر القرن العاشر، فإنه على ما أورد ابن العبري في تاريخه المدني: أمر المنادين أن ينادوا أن من لم يدن بالإسلامية يرذل ويحتقر ويعلق في عنقه خشبة كالصليب وزنها أربعة أرطال بغدادية، وإذا دخل الحمام وجب أن يعلقوا في عنقه جلاجل ليتميز من المسلمين.
غير أن أوباش دياربكر سودت وجوههم ما اكتفوا بذلك كله، بل لطخوا لحية الأب المومأ إليه بالأقذار، وقذفوا عليه الأوساخ حتى بلغوا به إلى أعماق السجن، وهناك أفحشوا في ضربه وتعذيبه حتى فاضت روحه بيد خالقها "  .
الخاتمة: في المسيحية ليس بالفاتح والبطل من شهر سيفاً، وسفك دماً، وفتح فتوحاً، وأنتصر في معركة. بل البطولة في المسيحية هي لمن بذل دمه شهادة لإيمانه. وهكذا نال الأب حنا شوحا إكليل الشهادة، باذلاً دمه حتى أخر قطرة حفاظاً على إيمانه. لقد كان الأب الشهيد حنا شوحا على رأس سلسلة طويلة من الشهداء من الأساقفة والكهنة والمؤمنين سفكت دماؤهم في سبيل الإيمان.
وهنا أتسأل أين الكنيسة الكلدانية من ذكرى هؤلاء الأبطال، أليس من واجبها أن تسعى بجدية لرفعهم على مذابح الكنيسة الجامعة كقديسين مكرمين جزاء إرهاق دمهم الطاهر في سبيل المسيح. علماً أن بين هؤلاء الشهداء أربعة أساقفة عظام هم: مار أدي شير مطران سعرت، ومار يعقوب أوراهام مطران الجزيرة العمرية، ومار توما أودو مطران أورمية، ومار توما رشو مطران أثيل، بالإضافة إلى عشرات الكهنة وخمسين ألف مؤمن. ناهيك عن المعترفين الذين نالوا أشد العذابات وعاشوا أقسى الصعوبات نذكر منهم: مار إسرائيل أودو مطران ماردين، ومار سليمان صباغ مطران آمد، ومار بطرس عزيز مطران سلامس، ومار أوجين منا مطران وان، بالإضافة إلى العديد من الكهنة والآلاف من المؤمنين الذين تركوا كل شيء في سبيل الحفاظ على وديعة الإيمان الثمينة.
وقد عبر عن هذه الأمنية مار إسرائيل أودو في مذكراته بالقول: " نستطيع أن نجزم بأن الذين قتلوا من الكلدان في آمد وسعرت وماردين وبازبدي ونصيبين وجوارهم من أساقفة وكهنة وشمامسة ورجال ونساء وشبان وشابات وأطفال، هم حسب رأيي شهداء حقيقيين للإيمان المسيحي، وتستحق كنيسة المشرق الكلدانية أن تفتخر بهم أمام أمم الأرض قاطبة، لأنه في القرن العشرين كما في أيام الطاغية شابور وغيره قدمت الآلاف من الشهداء للمسيح الشهيد العظيم كهدية ثمينة، ولا تزال مياه الحياة الروحية تجري في جسمها الحي حتى اليوم ".
ويختم المطران أودو مذكراته بقصيدة عصماء باللغة الكلدانية، يتحدث فيها بلغة شعرية بديعة ورصينة عن هذه المذابح النكراء، نذكر منها بعض الأبيات:
الـدم الزكي للأحبار والكهنة وأبناء كنيستنا 
                                         مع دم الرجال والنساء والشابات والشبانا
يصيح من الهضاب والجبال والآبار والوديانا             
                                         يصرخ مـن أعماق الأرض بألم ويدعونا
دم الشهداء المذبوحين لا يكل ولا يمل ينادينا             
                                         قوموا يا مساكين وثبتوا صور اضطهادنا                                             
للأجيال القادمة ليعرف العالم مـا جرى علينا               
                                          من أجل إيماننا أية عذابات وإهانات ذقنا                                             
النسور الخبيثة احتاطوا الحمامة من كل جانبا               
                                           فمزقوا أجنحتها وكسروا ريشها وقتلونا                 
إنه نداء أوجهه من الأعماق إلى القيمين على رئاسة الكنيسة الكلدانية، عله يجد آذان صاغية لتحقيق هذا الهدف السامي احتراماً لذكرى شهدائنا الأبرار ومعترفينا الأوفياء، حتى تبقى ذكراهم خالدة إلى الأبد، ودماؤهم الزكية بذار الحياة تشفع فينا أمام منبر المسيح حتى منتهى الدهر. وفخرنا أننا أبناء أولئك الشهداء والمعترفين.                                   
             


8
خواطر من مذكرات مار إسرائيل أودو مطران أبرشية ماردين الكلدانية 
الشماس نوري إيشوع مندو
هذه الخواطر مقتبسة من كتاب مار إسرائيل أودو مطران أبرشية ماردين الكلدانية                   ( 1910_ 1941 )، الذي جاء تحت عنوان:  عضيبغريا " تأريخ "، حيث يسرد فيه ما شاهد وعانى شخصياً، أو ما سمع من شهود عيان التقى بهم بعد أن أفلتوا من سيف الاضطهاد الذي جرى بحق المسيحيين سكان الإمبراطورية العثمانية سنة 1915 ويعرف بالفرمان أو السفر برلك، ويتحدث في كتابه عما جرى للمسيحيين في ماردين وآمد وسعرد والجزيرة العمرية ونصيبين.
وما يتضمنه هذا المقال هو سرد لما جرى من حوادث مهمة بعد توقف المذابح وهدوء العاصفة الهوجاء. وقد دونها سيادته بشكل مختصر في نهاية كتابه، بدءً من سنة 1921 وحتى سنة 1937. وقد حرصنا على ترجمة النص حرفياً بأمانة حتى يطلع عليه القراء كما خطه سيادته باللغة الكلدانية. أما الهوامش فقد وضعتها لتسهيل المعنى على القراء. وفيما يلي نص ترجمة الخواطر:
 * في صيف سنة 1921 وصل إلى ماردين الشيخ السنوسي  بمعية الألمان، وحل في مكان خارج المدينة يدعى الفردوس، ولم يكن لهذا الرجل أي سلطان ولا صفة رسمية ليحل في السلطنة سوى أنه مسلم، وباعتقادي أن سبب حضوره كان بسبب الخلافات بين السلطنة والدول الأوروبية.
* في تشارين  سنة 1921 استولى الجيش التركي على كنائس وأوقاف المسيحيين في مدينة آمد   " ديار بكر " العائدة لطوائف الأرمن المتحدين  والغير متحدين  والكلدان والسريان الكاثوليك، واسكتوا صوت النواقيس، وأصبحت كاتدرائية مار بثيون  وكل الأوقاف التابعة لها من مدارس ودار الأيتام  بأيدي العسكر، هؤلاء الذين أبادوا كلدان الأبرشية طردوا اليوم طلاب وتلاميذ مدارسها، وشتتوا الأيتام الذين احتضنهم ميتمها، وهجروا كهنتها. 
واستولت الحكومة على أوقاف الأرمن خارج المدينة، كم تم الاستيلاء أيضاً على كنيستنا في ميافرقين  التي شيدها المطران عبد يشوع خياط  عندما كان مطراناً على آمد، هذه الكنيسة الجميلة كانت مشيدة من الحجارة المنحوتة ومكرسة على اسم مار يوسف أضحت بأيدي العسكر.
* سنة 1922 قام كاهن من طائفة اليعاقبة  أصله من بلدة ويران شهر  بزيارة لأبناء جلدته في البلدة المذكورة، إلا أن قائمقام  ديركه  طرده ولم يسمح له بزيارتهم.   
* في بداية سنة 1923 تم طرد الموظفون المسيحيون من مجلس إدارة مدينة ماردين، وذلك بموجب قرار مركزي من أنقرة.
* في 24 تموز سنة 1923 وقفت الحرب وحل السلام بين الدول الأوروبية وتركيا، وعمت الفرحة في ماردين، وقام بطريرك السريان القديم الياس شاكر بزيارة القومندان  خضر بك في بيته، للاطمئنان على صحته بسبب وعكة صحية ألمت به، وليقدم له التهاني والتبريكات بسبب انتهاء الحرب وحلول السلام بين الدول الأوروبية وتركيا. وقد سأل خضر بك البطريرك قائلاً: هل جميع المسيحيين فرحين بهذا السلام. فأجاب البطريرك قائلاً: أنا وشعبي مسرورين، لكن باقي الطوائف النصرانية حزانى، وسبب حزنهم هو أنهم كانوا يأملون أن تقع ماردين تحت حكم الانتداب الفرنسي. وفي نفس الفترة زار البطريرك الياس حاكم ماردين وحيد علاء الدين، ومن هناك زار بيت أحد مسلمي ماردين المدعو حامد الله بك الصوري.
* في بداية سنة 1924 أرسل حاكم ماردين رئيس كُتَّابه  إلى بطريرك اليعاقبة محذراً إياه من المجيء إلى دار الحكومة بشكل رسمي، وإذا كان لديه مراجعة لأمر ما فعليه الحضور لوحده يرافقه شماسه الخاص فقط دون حاشية كما كان يفعل سابقاً. وإذا قدم معروض أو طلب رسمي للدولة فيجب ألا يوقعه كما كان يفعل سابقاً بتوقيع وختم بطريركي، بل عليه أن يوقعه بصفته رئيس دير الزعفران ، لأن الحكومة التركية الجديدة لا تعترف بسلطته البطريركية على مراكز رعيته المنتشرة في البلاد.
* في نهاية كانون الثاني سنة 1924 استولى العسكر في ماردين على بطريركية السريان الكاثوليك، والكنائس والأوقاف التابعة لهم. واستولى أيضاً على كاتدرائية مار يوسف للأرمن الكاثوليك. كما استولى على دير الزعفران الذي يضم الكرسي البطريركي لليعاقبة، لكنهم استطاعوا أن يعيدوا الدير بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب.
* في 6 شباط سنة 1924 نادى مؤذن ماردين أمراً صادراً من العاصمة أنقرة ينص أن الحكومة جعلت يوم الجمعة عطلة رسمية على مدار السنة، وعليه تتوقف جميع الأعمال في هذا اليوم وتغلق جميع المحلات في الأسواق.
* في شباط سنة 1924 وعظ بطريرك اليعاقبة في كنيسة الأربعين شهيداً في ماردين، داعياً جماعته ليرفعوا الصلاة ويشاركوا في القداس لمدة ثلاثة أشهر متتالية لأجل شهر رمضان الذي يصوم فيه المسلمين. كما أوصى جماعته أن يحفظوا عطلة يوم الجمعة بحرص واحترام، معتبرين الأمر الحكومي بهذا الصدد هو أمر إلهي ومقرر من الرسل مستشهداً بقول بولس الرسول: " لتخضع كل نفس للسلطان، لأن كل سلطان هو من الله ".
* وفي هذه السنة 1924 صدر قرار من أنقرة جاء فيه " غير مسموح للمسيحيين بيع بيوتهم أو عقاراتهم ". علماً أن هذا القرار كان قد صدر سابقاً قبل قيام الحكومة الجديدة في أنقرة، ولكن هذا القرار لم يعمل به بعد انعقاد مؤتمر السلام في مدينة لوزان السويسرية ، إلا أنه تم تجديده في آذار من هذه السنة، بعد تعديله بحيث لا يسري على جميع المسيحيين بل على الروم والأرمن فقط.
* في 12 آذار سنة 1924 استولى العسكر على دير مار أفرام للسريان الكاثوليك، وحل فيه قائد الفرسان مع جنوده وأضحى مقراً لهم.
* في 16 آذار 1924 طلب مني قائد الموقع أن أعطيه واردات أوقاف الكلدان من أجل دعم مشاريع عمران مراكز الدولة، وقد أجازت السلطات العليا لقائد الموقع لوضع اليد على مطرانية الأرمن الكاثوليك ومدرستهم وجميع الأوقاف التابعة لهم، ما عدا الكاتدرائية، لكنهم استولوا عليها بعد فترة قصيرة. أما مدرستنا الكلدانية فقد تهدم جزء منها سنة 1916، وكذلك أساسات باحة مدرستنا وباحة مدرسة الأرمن الكاثوليك المتجاورتين والمطلتين على الزقاق الضيق، علماً أننا أعدنا بناء المدرستين سنة 1922 وكانت المصاريف مشتركة بيننا وبين الأرمن الكاثوليك.
* عشية يوم 22 نيسان 1924 وكان هذا التاريخ يوافق اليوم الثالث لعيد القيامة من هذه السنة، أرسلت برقية سرية من أنقرة إلى حاكم ماردين يأمره فيها بطرد جميع المسيحيين من مدينة ماردين وضواحيها، ولم نعلم لماذا صدر هذا القرار.
* ديركه قائمقامية تابعة لماردين فيها أربع كنائس واحدة للأرمن الغير متحدين، وواحدة للأرمن المتحدين، وواحدة لليعاقبة، وواحدة للسريان الكاثوليك. أما الكلدان فكانوا يؤدون واجباتهم الدينية لدى الأرمن الكاثوليك. في شهر آب من سنة 1924 تم الاستيلاء على الكنائس الأربعة، فحولت كنيسة الأرمن الكاثوليك إلى جامع، أما الكنائس الثلاثة الأخرى فقد بيعت لمسلمي البلدة. وكان لمطرانية ماردين الكلدانية في البلدة وقفاً عبارة عن بستان زيتون بيع أيضاً من قبل السلطات الحكومية، وهكذا حرمت الطوائف المسيحية في البلدة من كنائسها وأوقافها. وطرد على أثر ذلك معظم المسيحيين من البلدة، ولم يبقى إلا القليل من الأرمن والسريان.
* في شهر أيلول سنة 1924 تم تدمير بناء قلاياتنا الأسقفية الكلدانية، بحجة توسيع الشارع الرئيسي في ماردين، وقد أصابنا عبء وضيق شديدين، وقد تحملنا ذلك بصبر وجلد لا يوصف.
* وفي هذا الشهر أيضاً علق إعلان على باحة السلطانية في ماردين، يوصي فيه جميع المواطنين بإزالة العقال من الرؤوس، وذلك حسب القرار الصادر من العاصمة أنقرة.
* في تشارين سنة 1924 أعلن بطريرك اليعاقبة الياس شاكر بأنه سيمنح بركة الزواج لأبن أخيه في كنيسة البطريركية، وذلك ظهر يوم الأحد، علماً أن الأكاليل في ماردين كانت تتم في تلك الفترة في البيوت وليس في الكنائس، وفي الليل وليس في النهار خوفاً من المسيئين. ولما علم مسلمي المدينة بالأمر توجهوا إلى الكنيسة لمشاهدة الإكليل، وامتلأت الكنيسة من الرجال والنساء والأولاد وحتى العاهرات منهن تواجدن هناك، وبعضهن كن جالسات فوق البيم  ولم يستطيع أحد ردعهن. وكان الجميع يستمعون لرتبة الزواج التي يترأسها البطريرك ويعاونه فيها الكهنة والرهبان.
* في شهر تشرين الثاني سنة 1924 صدر قرار من الحكومة يوصي المواطنين بأن يضع جميع الناس القبعات فوق رؤوسهم، وعليه لبس جميع فئات الشعب في المدينة القبعة والمعروفة بين العامة " بالشْفقه ".
* وفي تشارين سنة 1924 تم إغلاق جميع التكيات  في ماردين، وقد بلغ عددها مائتي تكية تقريباً.
* منذ بداية سنة 1925 بدأ الجيش التركي بترحيل الرجال المسنون المسيحيون من ماردين، فأرسل قسم منهم إلى أنقرة، وقسم أخر إلى آمد. وقد بلغ عدد المبعدين إلى آمد 103 رجلاً.
* يوم السبت المصادف 5 شباط 1925 قبض على 17 شخص من مشايخ المسلمين في ماردين، وفي يوم الأربعاء المصادف 9 شباط 1925 نقل أربعة من هؤلاء المشايخ إلى آمد وهم: الشيخ محمد علي من آل أنصاري وابنه وابن عمه، والشيخ بشير من آل حامد. وكان هؤلاء المبعدين قد بدأوا بشراء أملاك المسيحيين الذين تم تشتيتهم وأبعدوا عن ديارهم مثل أملاك داود كلي هرمز وهو بروتستانتي إلا أنه من أصل كلداني.
* وفي شهر شباط سنة 1925 بلغ عدد الرجال المبعدين من بلدة مديات  إلى آمد 200 رجلاً، وجميعهم كانوا من اليعاقبة. وخلال مرورهم في خربوط  تم إعدام سبعة منهم شنقاً دون أي ذنب ارتكبوه. علماً أن مشايخ آمد قد أبادوا جميع مسيحيي خربوط واستولوا على أملاكهم كما فعلوا في أماكن عديدة.
* وفي شباط سنة 1925 نادى المؤذن في ماردين وأيضاً في آمد معلناً أن السلطات تدعوا كل من يملك سلاح ومن أي نوع كان، عليه أن يسلمه إلى الجيش خلال 24 ساعة، وكل من لا يمثل لهذا الأمر سوف يلقى القبض عليه ويزج في السجن، وسيحاكم وتصادر كل ممتلكاته. وقد تم تجميع السلاح من جميع القرى الواقعة في الجبال، وعوقب جميع مخاتير ورؤساء هذه القرى وتم نفيهم وتشتيتهم وإبعادهم إلى مناطق بعيدة عن قراهم.
* في تشارين سنة 1925 سافر بطريرك اليعاقبة مار الياس شاكر إلى حلب لتقديس بيعة جديدة شيدت هناك، ثم توجه من هناك إلى أورشليم من أجل بعض الإصلاحات في كنيستهم هناك.
* في شباط سنة 1927 أبعد من بلدة أزخ  إلى آمد جميع كهنة البلدة وعددهم 4 من كهنة اليعاقبة مع أسقف طاعن في السن، وكاهن آخر للسريان الكاثوليك، وأبعد معهم أربعة من وجهاء البلدة. وهذا جرى لهم بسبب رسالة وصلتهم من مدينة الموصل تعلمهم بأنهم قد أرسلوا لهم مساعدات مادية.                               
* في 27 شباط 1927 تم إعدام أحد زعماء اليعاقبة شنقاً في خربوط، ويدعى ملك برصوم. والمدعو ملك هو من بلدة مديات كان قد سجن في خربوط بعد أن حكم عليه بالسجن مدى الحياة، وقد فر من السجن وبعد أن ألقي القبض عليه تم إعدامه.
* في 16 نيسان 1926 ألقي القبض في آمد على الخوري سليمان كوجك أوسطا كاهننا هناك، وسجن مع شخصين من عامة شعبنا " طائفتنا "، وفي اليوم التالي وهو عيد القيامة أطلق سراحه مع الشخصين وذلك بعد أن دفعوا مبلغاً من المال. وسبب القبض على الخوري المذكور هو أن شخصاً أصله من آمد يسكن حالياً في حلب، قد حضر إلى آمد وقابل الخوري سليمان وطلب منه حصة زوجته من ميراث والدها المتوفي القس بطرس قارح أحد كهنتنا في آمد، فرد عليه الخوري سليمان أنه لا يعرف شيء عن ميراث القس المتوفي، فما كان من صهر القس أن اشتكى عند السلطات على الخوري سليمان، مدعياً أنه يعمل ويتدخل بالسياسة، وعليه ألقي القبض عليه وعلى الشخصين، ولم يخرج من السجن إلا بعد دفع مقدار ليس بقليل من المال، كذلك دفع الشخصين أيضاً مبلغاً من المال حتى أطلق سراحهما. لكن الخوري وإن خرج من سجنه واشترى حياته، إلا أنه بعد ذلك كان يعيش بقلق وخوف، ولا يستطيع إغماض عينيه ليل نهار خوفاً من أولئك الذين كانوا يأتون إلى العلية التي كان ينام فيها محاولين خلع بابها، وهكذا ارتأى أنه لا يستطيع الحفاظ على حياته، فخرج هارباً عبر الحدود حتى وصل إلى حلب في 7 أيلول 1929، فنجا بنفسه كما ينجو العصفور من فخ الصياد. ومن حلب سافر إلى بغداد وخدم فيها النفوس لعدة سنوات. ثم أرسل إلى مصر وخدم هناك بصفة نائب بطريركي. وفي 8 أيلول 1939 تمت رسامته أسقفاً على يد البطريرك مار عمانوئيل الثاني وعين نائباً بطريركياً لغبطته. وفي 4 كانون الأول 1939 توفي فجأة حيث لم يمضي على رسامته سوى ثلاثة أشهر.
* في شهر أيلول من سنة 1927 خرجن جميع نساء ماردين مع أولادهن، للبحث عن أزواجهن الذين تم نفيهم وإبعادهم من قبل إلى مناطق بعيدة، كذلك فعلن النساء في المدن المجاورة مثل نصيبين ومديات وديركه وغيرها. وبهذا خلت وفرغت بيوت المسيحيين من سكانها.
* في الأول من تشرين الثاني سنة 1927 اجتمع نواب الدولة التركية والبالغ عددهم 316 نائباً، واتفقوا على انتخاب غازي مصطفى كمال " أتاتورك " لرئاسة الدولة لفترة رئاسية ثانية، بعد انتهاء الفترة الأولى والتي دامت أربع سنوات. وفي اليوم التالي المصادف 2 من تشرين الثاني سنة 1927 وهو يوم معروف في المدينة يحتفل به بالفرح والابتهاج، تم انتخاب مجلس الأمة التركي في أنقرة، علماً أن هذا المجلس قد تشكل للمرة الأولى في 23 نيسان 1920.
* في نهاية تشرين الثاني سنة 1927 منحت الدولة حرية الرجوع لوجهاء الشعب الذين ابعدوا عن بيوتهم ومدنهم وقراهم قسراً أو تحايلاً إلى الولايات الغربية، وسمح لهم بالعودة إلى ديارهم.
* في بداية كانون الأول سنة 1927 دخل الجيش التركي دير الزعفران وأقام فيه، كذلك استولى الجيش على ثلاث كنائس لليعاقبة في ماردين هي: كنيسة مار ميخائيل وكنيسة مار بطرس وبولس وكنيسة مارت شموني.
* في شهر آب بدأ رجال بلدة أزخ وكهنتها ووجهائها بالعودة إلى بلدتهم بموجب إعلان عام أخلى سبيلهم، وعليه رجع الجميع إلى بيوتهم.
* في سنة 1928 قرر المجلس الأعلى في أنقرة تغيير الأحرف العربية في كتابة اللغة التركية، حيث كان يكتب بها حتى هذا التاريخ، وتم اعتماد الأحرف اللاتينية بديلاً عنها. وفي تشرين الأول من هذه السنة بدأ التعليم في جميع المدارس بهذه الأحرف، وصد قراراً يدعو الكتاب والأدباء أن يستخدموا هذه الأحرف من الآن وصاعداً.
* في تشارين سنة 1928 خرج المتبقين الأرمن من بيوتهم في خربوط وملاطية ، مستغيثين لإرسالهم إلى وطنهم، وكان الأرمن في آمد يقيمون الصلوات والقداديس في بيوتهم، لأن الجيش استولى على كنائسهم قبل خمس سنوات.
* في 31 آذار سنة 1929 وكان يصادف عيد القيامة، تم الاستيلاء على جميع الكنائس في مدينة آمد، عدا كنيسة اليعاقبة التي لم يستولى عليها، وهكذا توقفت جميع الصلوات والقداديس والخدمات الكنسية في مدينة آمد.
* في 25 كانون الثاني سنة 1929 ألقي القبض على كاهننا في ماردين أوغسطين خرموش، وأطلق سراحه بعد أن سجن 26 ساعة. وبعد يومين ألقي القبض عليه مرة ثانية وبقي في السجن ثلاثين ساعة ثم أطلق سراحه بعد أن جرح.
* في 4 شباط 1929 ألقي القبض على الأب خرموش مرة ثالثة، وقد تم إطلاق سراحه وإنقاذ حياته بصعوبة بالغة، بعد أن دفُع مبلغاً ليس بقليل من الذهب. كما فتشت قلايته  ونهب محتوياتها من مجلات ورسائل. وبسببه تم تفتيش مقر أسقفيتنا أيضاً، وصودرت منها رسائل وكتابات مختلفة وكثيرة، وأعطيت للمفتشين حتى يفحص محتوياتها، وقد شكرنا الرب لأنهم لم يجدوا كلمة واحدة مسيئة أو مخالفة أو ضد الدولة.
* في 10 تشرين الأول سنة 1929 وصل إلى ماردين كاهناً أرمنياً غريغورياً ومعه العديد من أبناء قومه قادماً من خربوط، وعندما سئل عن سبب حضوره إلى ماردين أجاب بالقول: لقد أمرت السلطة التركية من تبقى من المسيحيين سكان القرى الجلاء عنها وترك بيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم والسفر إلى المدن، ومنها إلى خارج حدود البلاد، فخرجنا من قريتنا قرب آمد وكنا عشرة عائلات نعيش فيها حتى الآن، كي لا نجلى عنها بالقوة.
* شاب من رعيتنا وهو من بيت " بوياغي " كان قد هرب إلى أمريكا في زمن الاضطهاد، فكتب للكاهن أوغسطين خرموش قائلاً: " بلغ الامرأتان اللتان عندكم إن أرادتا المجيء إليَّ في أمريكا، فإنني سوف أستقبلهما وأرسل لهما نفقات الطريق ". وهاتان الامرأتان هما أم الشاب المذكور وأخته الصغيرة. ولما سمعتا أرادتا منه أن يعمل لأخذهما. وعليه أراد الكاهن أوغسطين والراهب أحمراني تهريب الأم وابنتها ومعهم شخصاً يدعى جرجس حنكو، وقد سعى لتحقيق هذا المبتغى الوالي توفيق هادي الذي أذن للراهب أحمراني بالخروج والسفر من ماردين ومعه كاهننا أوغسطين والمدعو جرجس حنكو، وهكذا افلتوا من حكم كان سيصدر بحقهم بسبب تهريبهم النساء المسيحيات إلى خارج الحدود. وكان الراهب المذكور قد هرَّب سابقاً صبيين مسيحيين وعليه سوف ينال جزاء مضاعف، إلا أنه نجا بمساعدة الوالي الذي كان يحسن للمسيحيين ويعاملهم بلطف، وكان الوالي قد قام بنفسه بأخذ الأم وابنتها الصغيرة من الميتم وأرسلهما إلى حلب لكي تلحق ابنها الموجود في أمريكا.
وقد عمل هذا الوالي الكثير لمسيحي ماردين، وفي هذه السنة طلب المدعو فرجو حاجيكو من الكاهن أن يدبر له مبلغاً من المال ليس بقليل يطلب منه لإنقاذ إخوته، وفي حال عدم الدفع سيسلم إلى السلطات التركية، وحيث أن الوالي لا يستطيع أن يخلصه من هذه المعضلة، فكر بالهرب من ماردين، وفي مساء الخميس الواقع في 16 كانون الثاني 1930 تمكن من الهروب إلى سوريا ومنها إلى فلسطين.
* في 7 نيسان 1930 كتبت رسالة للقس أوغسطين خرموش، وكان آنذاك في سوريا بعد أن غادرنا قبل فترة، وقد خولته بإدارة ورعاية جميع أبناء رعيتنا الكلدانية المشتتين هناك، والذين اجتازوا الحدود التركية فارين من ماردين وآمد ومناطق أخرى، وطلبت منه أن يذهب إلى الحسكة ويشتري أرضاً هناك ويبني عليها كنيسة ومسكناً للكاهن، وستكون جميع نفقات البناء والكساء من عندي.
* في 3 حزيران سنة 1930 ألغيت رسوم ضريبة عبور الحدود بين تركيا وسوريا.
* في 17 حزيران سنة 1930 جاء إلى ماردين قادماً من عرب كير كاهن أرمني غريغوري مع أهل بيته، وفور وصوله قام بزيارتي، وبعد أن سألت عن وضعه منحته مساعدة مادية، وفي المساء غادرنا مسافراً إلى حلب.
* في 22 حزيران سنة 1930 غادر كاهن السريان الكاثوليك المدعو أفرام قريته باته في طور عبدين، واجتاز الحدود متوجهاً إلى سوريا، علماً أن رفيقه القسيس داوود قد غادر القرية قبل أربعة أشهر. علماً أن السريان الكاثوليك كانوا قد بنوا في القرية المذكورة منذ ستين سنة إرسالية من أجل عودة أبناء جنسهم إلى حضن الكنيسة الجامعة، وخصصوا من أجل ذلك إمكانيات لا حد لها. كذلك وجد في القرية إرسالية بروتستانتية استطاعت أن تجذب البعض.
* في صيف سنة 1932 بدأ الجيش بالاستيلاء على السلاح الموجود عند الأكراد في جميع القرى التي يسكنون فيها، وقد نال الأكراد من جرى ذلك عذابات شديدة، ومن كان ينكر وجود سلاح لديه يفتش بيته وما أن يجدوه لديه يضرب ضرباً مبرحاً، حتى البعض اسلم الروح من قسوة الضرب. وكأن العدالة الإلهية أرادت أن تجازيهم عن كل ما فعلوه مع المسيحيين خلال زمن الاضطهاد سنة 1915، حيث سلبوا أبناءهم وبناتهم ونساءهم، واستولوا على ممتلكاتهم وماشيتهم بدون رحمة.
* في بداية شهر أيلول سنة 1932 استولت المحكمة الخاصة على كنائس اليعاقبة في ماردين، وحولت كنيسة مار بطرس حارة كولوسيه سجناً خاصاً لمهربي الماشية من أبقار وأغنام عبر الحدود.
* في نهاية أيلول من سنة 1932 جاء من العاصمة إلى آمد رئيس جميع القائمقامين المدعو عصمت باشا، فذهب كاهن اليعاقبة في ماردين القس عمانوئيل ومعه وفد من وجهاء طائفته ليسلموا عليه، إلا أنه لم يستقبلهم فعادوا خائبين، لقد أرادوا بتصرفهم هذا أن يميزوا أنفسهم عن بقية أفراد الشعب المسيحي، والتقرب من المسؤولين لوحدهم فقط.
* في 19 تشرين الأول سنة 1932 دعيت للاستجواب عند أحد القومسيريه ، وما أن وصلت لعنده طلب مني أن أجيب على الأسئلة التالية:
س: أين هو بطريرككم.                                          ج: في العراق.
س: بمن ترتبطون.                                              ج: لا ارتباط لدينا مع أحد.
س: هل تتصلون يا ترى باسطنبول مع المبشرين هناك.         ج: قطعاً.
س: هل لديكم اتصال مع روما.                                  ج: قطعاً.
س: هل ليكم اتصال مع البابا.                                   ج: قطعاً.
س: كم كنيسة عندكم.                                            ج: كنيسة واحدة.
لقد تم تدوين هذه الأسئلة والأجوبة لديه على ورقة، ثم انصرفت عائداً إلى دار الأسقفية.
* في 15 تشرين الثاني 1932 دعي كاهننا في آمد طيمثاوس فضلي للاستجواب من أحد القومسيريه، وطلب منه أن يجيب على الأسئلة التالية.
س: متى جاء الآثوريون والكلدان إلى هنا وأصبحوا من سكان البلاد.
ج: إنهم سكان هذه الأرض منذ القدم، ولم يأتوا من أماكن أخرى.
س: كيف اعتنق الكلدان المسيحية.
ج: من تلاميذ ورسل السيد المسيح الذين جاؤوا إلى هذه البلاد وتلمذوا سكانها.
س: بأية لغة يتكلم الكلدان.
ج: منذ القدم وحتى قدوم الإسلام كان الكلدان يتكلمون بلغتهم، وحافظوا عليها أزمنة طويلة.
س: والآن أية لغة يتحدثون.
ج: العربية والتركية.
س: لماذا يتحدثون باللغة العربية ولا يتحدثون بلغتهم.
ج: منذ دخول العرب المسلمون إلى هذه البلدان تسلطوا على أهلها، فسيطرت لغتهم على اللغات الأخرى، ففقد الكلدان لغتهم.
س: أية لغة تستخدمون في كنائسكم، وهل عامة الناس يفهمون لغتهم الكلدانية.
ج: الآن يتلون الإنجيل وغيره من الكتب المقدسة وكذلك كتاب التوركاما باللغة التركية في آمد، أما الكاهن بينه وبين نفسه فيستخدم الكلدانية في جميع صلواته.
س: أين يسكن أغلب الكلدان والآثوريون.
ج: في العراق.
س: هل يبحث الآثوريون والكلدان في العراق كيف ستكون حالتهم، وما هو تفكيرهم في ذلك.
ج: لا أعرف كلياً، ولا يوجد بيني وبينهم اتصال.
س: أين هو زعيمكم أقصد بطريرككم.
ج: أحياناً في بغداد وأحياناً في الموصل.
س: هل لديكم اتصالاً أو مراسلات معه.
ج: ليس لدينا معه اتصالاً لأننا، ابتعدنا عنه منذ زمن افتراق العراق عن تركيا.
س: إذا اعترضتكم إلى خدمة روحية أو زمنية فإلى أين تتجهون.
ج: نتجه في الخدمة الزمنية نحو حاكم ولايتنا، وفي الخدمة الروحية نتجه نحو مطراننا في ماردين.
س: هل لديكم مدارس، وبأية لغة تعلمون.
ج: لقد أغلقت مدارسنا منذ خمس عشرة سنة، وقبل إغلاقها كنا نعلم التركية والكلدانية والفرنسية.
س: والآن أين يتعلمون أبناءكم.
ج: الآن يتعلمون في المدارس التركية.
س: ما هو الفارق بين الكلدان والآثوريين، كنسياً أو عرقياً، وما هي لغة الآثوريين.
س: الفارق الكنسي بيننا هو أننا كاثوليك، وهم ليسوا كاثوليك. أما عرقياً فنحن واحد، وأيضاً لغتنا وكتابتنا واحدة، وهناك فارق بسيط بيننا في اللفظ.
س: ما هو عدد الكلدان في سوريا، وفي أي وقت سكنوا هناك.
ج: حقيقة لا أعرف ما هو عددهم، ولا تاريخ سكنهم هناك.
لقد تم تدوين هذه الأسئلة والأجوبة لديه على ورقة، وانصرف الكاهن إلى مركزه.
* في شهر أيلول سنة 1933 بسطت البلدية يدها على أوقاف كنيستنا في ماردين المسماة ربان هرمزد والمشيدة في نهاية القرن السابع، وقد أقمنا شكوى ضد البلدية لدى مديرية الأملاك، كذلك فعل الأرمن الكاثوليك الذي أخذت أوقاف كنيستهم أيضاً مع أوقافنا.
* في 19 تشرين الثاني 1933 وردنا من رئيس دائرة الأملاك حكم عام يديننا ويصادق على عمل البلدية، وبهذا فإن حرباً أخرى شنت علينا.
* في شهر آذار سنة 1934 أدينت البلدية بحكم جديد، فرجعت أوقافنا كلها.
* في شهر أيلول سنة 1934 هدمت خمس بيوت واثنا عشرة حانوتاً عائدة لكنيستنا في ماردين، بحجة توسيع أسواق المدينة، وهذا العمل جلب لنا خسارة ليست بقليلة.
* في 5 أيار سنة 1935 أعلن النواب في أنقرة أنه من الآن وصاعداً سيكون يوم الأحد هو يوم العطلة في كل أنحاء تركيا بدل يوم الجمعة، وفيه تغلق جميع الحوانيت والأسواق.
* في سنة 1935 أحيل إلى التقاعد الخليفة عبد المجيد، وغاب اسمه في إلقاء الخطب، وتم طرد جميع آل عثمان من القسطنطينية والبالغ عددهم 72 شخصاً، وكان آخر سلطان عثماني تمت إحالته على التقاعد هو وحيد علاء الدين.
* في 13 حزيران سنة 1935 صدر قرار آخر من أنقرة جاء فيه: " اعتباراً من هذا اليوم وصاعداً على جميع رجال الدين الإسلام والمسيحيين واليهود ألا يلبسوا لباسهم الديني إلا في كنائسهم وبيوتهم، ويستثنى منهم البطريرك الغير متحد مع روما " روم أرثوذكس " والمقيم في القسطنطينية، وعندما يخرجون خارج مراكزهم عليهم أن يلبسوا لباس المدنيين كبقية الناس، وكل من لا يذعن لهذا القرار عليه الخروج خارج حدود الدولة.
* في سنة 1936 خرج من آمد آل كميل باشا ومعهم جميع أقربائهم ومعارفهم والبالغ عددهم أربعين عائلة، وسافروا إلى داخل البلاد. 
* في شتاء 1937 تم تدمير كنيسة الكبوشيين مع منزل لهم في ماردين، وكذلك دير الراهبات، وكان بجوار الكنيسة مدرسة للكبوشيين كانت تضم قرابة ثمانمائة صبية تتعلمن القراءة مع مهنة الخياطة وشغل الإبرة.
* اختم خواطري بالقول المكتوب: " طوبى للمظلومين، والويل العظيم للظالمين. المقتولون يرثون الملكوت، والقتلة الظلام البغيض. كل إنسان ينال أجره حسب عمله، ومكافأته كفعله ".       
                                                                                                                                                                                               
   
                 

9
تذكار مار برحذبشبا الشماس الشهيد
الشماس نوري إيشوع مندو
  مار برحذبشبا الشماس الشهيد: كان شماساً في أربيل عندما ألقي القبض عليه بأمر شابورطمشابور. وشرع هذا الظالم يعذبه مر العذاب ويقول له: " إن أردت أن تجو من العذاب والموت، أكرم النار والماء وكُل الدم ".
   أما برحذبشبا فكان يهزأ به ويقول له: " ومن أنت أيها المنافق اللئيم حتى تحملني على نبذ الحقيقة، وعلى الانحراف عن السلوك الذي أنا متكل عليه منذ نعومة أظفاري؟ فحيٌّ الله الذي اعبده بالحق، والمسيح الذي أنا متكل عليه. فلا أنت ولا ملكك الذي أنت فخور به، ولا تنكيلاتك ولا القتل الذي تهددني به. لا تستطيعون أن تفصلوني عن محبة يسوع الذي أحببته منذ صغري حتى هذه الشيخوخة التي بلغتها الآن ". فثار ثائر الحاكم عليه، وفي سورة غضبه أمر بقطع رأسه.
   وكان ثمة رجل من الأحرار اسمه عجي، وهو علماني من قرية تحل، وقد ألقي القبض عليه لكونه مسيحياً يأبى السجود للشمس. فأمر الحاكم بحل وثاقه، وأوعز إليه في قتل برحذبشبا، لكي يدفعه بذلك إلى جريمة أبشع من تلك التي رفض ارتكابها.
   فاخرجوا برحذبشبا إلى ظاهر بلدة حزة، وربطوه فوق أكمة هناك. وناولوا عجي سيفاً، فأمسك به مرتعداً وضرب عنق برحذبشبا سبع ضربات، ولم يستطيع حز رأسه لما اعتراه من الخوف والهلع.
   فغضب عليه المجوس المشرفون على تنفيذ الأمر وتهددوه. وإذ ذاك تناول ثانية السيف الذي كان قد رمى به أرضاً وهو مخضب بدم الطوباوي، وغرزه في جسمه إزاء موضع القلب، وعلى الفور فاضت روح الشهيد.
   إلا أن هذا الجاحد القاتل لم يبق بغير عقاب. فما أن قتل هذا الشهيد، حتى انزل به الرب داء أليماً. فانتفخت يده اليمنى وأضحت مثل سارية، فكان يرقد على سريره وذراعه ممتدة عللا سرير آخر، حتى نتن جسمه كله وتفسخ. وبعد أن أمضى أياماً وهو يعاني الأمّرين، مات شر ميتة، وقد تخلى عنه الجميع.
   وأقام المضطهدون حارسين على جثة الشهيد برحذبشبا. وحينما حل الظلام حاول راهبان كامنان هناك أن يسرقا جثمانه. إلا أن الحارسين لم يستسلما إلى النوم، ولم يقبلا رشوة قدمها الراهبان لهما.
   وإذ لم تبق للراهبين وسيلة أخرى، انقضا على الحارسين وأشبعاهما ضرباً وشدا وثاقهما. ثم أخذا الجثة وذهبا بها ودفناها في تلك الليلة نفسها.
  وكان استشهاده في العشرين من تموز سنة 356.           


10
تذكار الشهيدة أناهيذ
الشماس نوري إيشوع مندو
   الشهيدة أناهيذ: كان أذورهرمزد عامل منطقة لاشبار المسؤول المدني عن إدارتها أي أميرها. وكان مستقيماً عادلاً. وقد رزق بابنة رائعة الجمال اسماها أناهيذ وتعني بالفارسية " الزهرة ". وكانت موضع فرحه ومحط آماله، فبذل أقصى الجهود من أجل تربيتها. وهي بدورها بقدر ما كانت تنمو بالعمر والقامة، كانت تزداد حكمةً وجمالاً وأدباً. وقد أعترى الفتاة الروح النجس فقاست الأمرين، ولم يفدها نطس الأطباء ولا تعاويذ الكهان. فاقترح أحدهم على أبيها أن يأخذها إلى الناسك بثيون، الذي نال كثيرون الشفاء من يده. فأمر الحاكم بأخذ الشابة إلى صومعة بثيون، فصلى من أجلها ووضع يده على هامتها فقامت لا عيب فيها. ولم يكلمها في أمور الدين، لكن عند حضور والدها ليشكره، طلب منه أن يساعد الفقراء، وأن يمتنع عن الارتشاء، فوعده أن يعمل بمشورته. ثم أخذ ابنته وعاد بها إلى قصره فرحاً.
   وبعد سنتين من ذلك ابتليت أناهيذ بمرض جلدي، فعالجها الأطباء فلم تستفد شيئاً، وتلا عليها الكهان أدعيتهم وتعاويذهم فلم تطهر من جربها، بل ازدادت حالتها سوءاً. فتذكر أبوها الراهب بثيون الذي شفاها سابقاً، فمضت إلى قلايته فاستراحت وشفيت. عندئذ فاتحها بثيون بقبول الإيمان، لأن مصدر الشفاء الروحي والجسدي هو المسيح، وما هو إلا خادمه. فاقتنعت وقبلت دعوته، وطلبت منه أن يعمدها. فنزل عند رغبتها، وأخذها مع نفر قليل إلى مجرى ماء، فصلى عليها وأتم مراسيم نحها العماد المقدس.
   فلم علما أبوها بما حدث غضب جداً، وذهب إلى بثيون فاسمعه كلاماً قاسياً، وأمر بحبسه وتعذيبه. لكن وداعة بثيون غلبت تعنت الحاكم الجبار. فظهرت للحاكم رؤيا في حلمه قلبت أفكاره رأساً على عقب. فدعا بثيون من سجنه، وأخذ يستفسر منه عن أمور المسيحية. ففهم بثيون بحدسه أن الأرض قد تهيأت للزرع الجيد. فشرع يحدثه عن حياة المسيح ورسالته وتعاليمه، فإذا بالبذرة التي زرعها في قلب الحاكم أينعت عن إيمان وعماد والتزام بالمسيحية.
   وانتشر خبر تنصره في الولاية، حتى بلغ مسامع الملك يزدجرد فغضب جداً، وأرسل في الحال ممثلاً عنه آذورفرزجرد. وكان معروفاً بعلمه ودهائه وقدرته على الإقناع. فذهب لينصحه فإذا ارعوى وعاد إلى المجوسية نجا من الذل والموت، وإن أبى وعاند فليكن مصيره الموت الزؤام. وبعد أن قابله حاول معه بكل الطرق، تارة بالكلام الهادي المعسول والوعود الطيبة، وتارة بالتهديد والوعيد. ففشل في مسعاه. أما أذورهرمزد فقد بقي صامداً مردداً في داخله قول المعلم السماوي: " ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ".
   فصدر الحكم عليه بالموت بحد السيف، فقبل الحكم برباطة جأش، ومشى إلى مكان الاستشهاد شامخ الرأس. ولما انحنى ليلقي مصيره ويواجه ربه بعد لحظات، ردد في قلبه ما قاله بكر الشهداء مار إسطيفانوس: " ربِ يسوع تقبل روحي ". وحز السيف رأسه. وكان استشهاده في موقع يقال له " يثري " في منطقة لاشبار، وذلك في 25 نيسان سنة 447. ولما خيم الظلام ذهب بعض المؤمنين والتقطوا جثمانه المبارك، وحملوه إلى قلاية مار بثيون فدفن بالقرب منها بالإكرام اللائق بالشهداء الأبرار.
   بعد أن انتهى الجلادون من قتل أذورهرمزد تذكروا ابنته الشابة أناهيذ. فشرعوا يصفون للحاكم في مجلسه حسنها الرائع وأدبها الرفيع، وما تملكه من أموال طائلة. فهي الوريثة الوحيدة لأبها. وكيف نبذت الديانة المجوسية واعتنقت المسيحية. فأمر الحاكم بإحضارها إلى المجلس، وكانت قد تركت القصر ونبذت العالم، وأقامت قي صومعة قرب معلمها بثيون. فخرج طهمين أحد رجال السلطة في أثرها يرافقه ثمانون فارساً، فألقوا القبض عليها واحضروها إلى المدينة. فلما مثلت أمام المحكمة حثها المجوسي على نبذ المسيحية والعودة إلى المجوسية، واعداً إياها بالعز والجاه والغنى. وكان الحاضرون يصغون إلى كلامه الهادي المقنع، واعتقد كثيرون أنها ستهتز أمام الأغراء والوعود. لكنها تذكرت قول المعلم الإلهي: " من أعترف بي قدام الناس، أعترف به قدام أبي الذي في السماوات. ومن أنكرني قدام الناس، أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السماوات ". فتمالكت نفسها، ولملمت قواها، وجاهرت بعقيدتها، مفتخرة بإيمانها بجرأة منقطعة النظير. 
   ثم عرض عليها الحاكم الزواج قائلاً: " إن أردتِ جعلتكِ أكرم السيدات في المملكة. وإذا لا تريدني فها إن ابني أذورسروشاي يمكنك أن تتزوجي منه، فهو عزيز ومكرم عند الملك ".
   فردت عليه بشجاعة عجيبة: " إني مخطوبة للمسيح، فمن المستحيل أن أكون زوجة لغيره ".
   فصاح الحاكم غاضباً: " من هو خطيبك القوي الذي ما من أحد يقدر أن يقوى عليه. إن ملك الملوك الجبار القوي لقد أخضع اليابسة حتى البحر، فتذلل له الأقوياء والجبابرة. فكيف لا يقوى على خطيبك الضعيف ".
   فردت عليه أناهيذ: " لو كان خطيبي من أهل الأرض لإنقاذ لسيد مثلما قلت، غير أنه في السماء، وهو متسلط على الأرض والسماء. فلا يقوى عليه ملكك الجبار ".
   فاستشاط الحاكم غضباً وقال لها: " أراكِ تحذين أنتِ أيضاً يا جاهلة حذو أبيكِ المنافق الشرير. أرجعي عن ضلالة أبيكِ واسجدي للشمس والنار فتفوزي   بالنجاة ".
   فقالت له أناهيذ: " إن الشمس والقمر والنار ليست إلا خلائق كونها الله لخدمتنا ".
   فاشتعل القاضي غيظاً وأمر أن تضرب بقساوة شديدة، حتى تتساقط جميع أسنانها على الأرض. فهجموا عليها وضربوها على رأسها بوحشية، فتورم رأسها ووجهها، واشتد الورم حتى إنه غطى عينيها، وتساقطت جميع أسنانها، واصطبغ كل جسمها بالدم الذي كان يجري من فمها وخديها. ثم أمر أن يشدوا يديها تحت ركبتيها، ويودعوها السجن. وألا يقدموا لها طعاماً حتى يأتي إله المسيحيين فينقذها كما أدعت هي. أما هي فكانت تسبح الله وتمجده.
   وفي الصباح اجتمع الأعيان عند الحاكم وأمروا بإحضار أناهيذ، ولم تقدر أن تمشي، فحملوها وأتوهم بها. فألحوا عليها أن تتراجع عن المسيحية، فلم تزداد إلا ثباتاً. فدنا واحد منهم وهو من أقاربها وقال لها: " يا ابنتي أناهيذ قولي لي ما هذا الجنون الذي اعتراكِ. إذا كان المسيحيين قد دهوروا أباكِ في أعماق ضلالتهم. فأنت ماذا أصابكِ؟ قولي فقط إنني لست مسيحية وأنا أخلصك ".
   فقالت له أناهيذ: " كيف يطاوعني قلبي على إنكار ذاك الذي به نحيا وبه نتحرك نحن وجميع الخلائق. وهو الذي قال: من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السماوات. فلست أنكره أبداً ". فاشتد غضب القاضي وأمر بالعودة بها إلى السجن وتعذيبها أشنع العذابات.
   وفي الغد عادوا إلى تعذيبها، فأوثقوا يديها تحت ركبتيها، وأدخلوا خشبة تحت أبطيها، فعلقوها منكسة الرأس. وبقيت على تلك الحالة الليل كله. وفي الصباح أمر بإحضارها والإسراع في قتلها، لأن كثيرين كانوا يعتنقوا المسيحية بسببها. وكانت جميع عظام ذراعيها قد تكسرت، فلم تكن تقدر على تحريكها. فأوعز إلى نيهورمزد بن أذرماهان الذي كان حاكماً على تلك البلاد كلها أن يأخذ طهمين آينبد معه وكثيراً من الخيالة. فينطلقوا بأناهيذ إلى الجبل الذي كانت تسكن فيه، ويطلوا جسمها بالعسل، ويضجعوها على الأرض رابطين يديها ورجليها بأربعة أوتاد حديدية غليظة. ففعلوا كما أمروا. أما هي فكانت فرحة مسرورة تسبح الله وتشكره، لأنه أخلها أن تقتفي آثار أبيها.
   ورجع نيهورمزد ورفقاؤه من الجبل قاصدين آذورفرزجرد ليخبروه أنهم نفذوا أوامره. وما أن وصلوا لحف الجبل قاصدين آذورفرزجرد حتى اكتظ الجبل بالزنابير. وكانت هائجة مانعة أحداً من الناس والحيوانات والطيور أن يدنوا من ذلك الجبل. ولم تقترب الزنابير من جسم أناهيذ. بل احتاطت به وسترته حتى من أشعة الشمس. وبقيت الزنابير في تلك الحالة سبعة أيام. وكان بالقرب من هناك الكثير من الأسرى الرومان، فحملتهم الغيرة أن ينطلقوا فيأتوا بجثة القديسة ويدفنوها بإكرام. فقام الكهنة وأخذوا الإنجيل ومصابيح ومباخر وأنواع الطيوب وأنسجة كتانية وكل ما يلزم للدفن، وصحبهم كثير من المؤمنين، وساروا بالأبهة والجلال إلى الجبل حيث كانت القديسة وهم يرتلون المزامير. فلما قرب الموكب من مكان أناهيذ تنحت عنه الزنابير وتكومت بعضها على بعض يمنة ويسرة، فعبر الموكب السبيل المفتوح، وسار حتى انتهى إلى موضع أناهيذ. وكانت قد طارت نفسها إلى الملكوت، فلفوا جسدها بأنسجة كتانية، وعطروه بأنواع الطيوب. وصلى عليها الكهنة، ثم ذهبوا بجثتها الطاهرة ودفنوها في قبر أبيها أذورهرمزد والقديس يازدين. وكان ختام جهادها في 18 حزيران سنة 448.     
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهيدة أناهيذ في 18 حزيران من كل سنة. 
     

11
تذكار الراهبة تقلا ورفيقاتهما الشهيدات
الشماس نوري إيشوع مندو
   الراهبة تقلا ورفيقاتها الشهيدات: في السنة السابعة من اضطهاد شابور، وشي لدى نرساي طمشابور برجل منافق يدعى بولا في قرية كشا،  وكان بالاسم يدعى كاهناً. فقيل للحاكم أن لهذا الرجل مالاً كثيراً وثروةً طائلة. فأرسل الحاكم جنوده على الفور وأحاطوا ببيت الرجل وقبضوا عليه، ونهبوا بيته واستولوا على أمواله. وبسببه قبضوا أيضاً على الراهبات اللواتي في قريته وهن: تقلا ومريم ومرتا ومريم وايمه. واتوا بهم جميعاً مقيدين بالسلاسل إلى قرية حزة. وادخلوا الرجل أولاً أمام الطاغية طمشابور فقال له: " إذا امتثلت إدارة الملك وسجدت للشمس وأكلت الدم فإني أعيد لك أموالك ". وإذ كان الأثيم المنافق جائعاً إلى غناه، وتواقاً إلى ثروته ليحترق بها، امتثل لأمر الحاكم في كل شيء.
   وحينما رأى طمشابور أن لا يجد علة لقتله، فكر أن يقول له أن يقتل أولئك الراهبات، فلعله يخجل ولا يقدم على هذا الفعل الشنيع، فيستحوذ على أمواله ولا يعيدها إليه. وإذ ذاك أمر بإدخال الراهبات أمامه. فقال لهن بصراحة: " امتثلن لإرادة الملك واسجدن للشمس، وتزوجن فتخلصن من العذابات، وتنجون من الموت بحد السيف. وإذا لم تطعن فإني سأنفذ فيكن ما أوت به، ولن يخلصكن أحد من يدي ".
   فرفعت القديسات أصواتهن قائلات: " أيها المتكبر المتعجرف، لا تفزعنا وتخدعنا بكلماتك المضلة، بل أنجز سريعاً ما أمرت به. فمعاذ الله أن نحيد عن إلهنا، ونفعل ما يقوله لنا ".
   حينئذ أمر بإخراجهن من الموضع الذي كان جالساً فيه. ثم جلدوا كلاً منهن مائة جلدة. أما هن فكن يعترفن بأعلى أصواتهن ويقلن: " أننا لا نستبدل الله بالشمس، ولن نكون جاهلات وغبيات مثلكم، أنتم الذين تركتم الخالق وسجدتم لخليقته ".
   وعلى الفور صدر عليهن الحكم بالموت، وقيل لبولا المنافق: " عليك أن تقتل هؤلاء الراهبات، وتستعيد كل ما أخذ منك ".
   فدخل فيه الشيطان الذي دخل في يهوذا، وخدعه ذاك الذي وسوس الإسخريوطي، وأغراه الذهب وأغواه المال. فأهلك نفسه بطمعه مثل ذاك الخائن، فأصابه في الأخير النصيب الذي أصاب ذاك، وجنى حبل المشنقة نظيره. ولعل هذا أيضاً مثل ذاك الذي انشق وسطه، واندلقت أمعاؤه كلها. ولعل ذاك السارق ترك أرثه لهذا. فذاك قتل يسوع، وهذا قتل المسيح في شخص العذارى. فإن الذين اعتمدوا بالمسيح، قد لبسوا المسيح. فأية دينونة ونقمة تصدر على كليهما. فإن العدالة تكيل لهما العقاب دون قياس، لأنهما أذنبا بغير قياس.
   أما بولا الجشع فبدافع محبة ماله الذي لم يسترد إليه، إلا بامتثاله أمر الحاكم الأثيم، صلب وجهه وأمسى قلبه كالجلمود. وتناول السيف وتجرأ فتقدم نحو البتولات. وحينما رأته الراهبات قادماً نحوهن. صرخن بصوت واحد وقلن: " أيها الراعي الجبان، أو بدأت بذبح نعاج قطيعك؟ أهذا هو الجسد المقدس الغافر الذي كنا نتناوله من يدك؟ أهذا هو الدم المحيي الذي كنت تقدمه لأفواهنا؟ والآن أيضاً فإنما السيف الذي تمسكه سيكون سبب حياتنا وخلاصنا. أما نحن فإننا ماضيات إلى يسوع الذي هو مالنا وميراثنا الأبدي. وأما المال الذي أحببته أنت، فإنك لن تكسبه. فها نحن نسبقك إلى المحكمة الإلهية، ولن نتأخر مرافعتنا عليك، وسرعان ما يدركك عدل الله. والسبب الذي يدفعك إلى قتلنا، لن يبقى في حوزتك في الحياة. فنحن إنما نموت من أجل المسيح، ولكن الويل للرجل الذي على يده نموت. فاقترب إذن أيها الجشع، وكمل بنا لائحة أخطائك، فتبدأ منا بداية دينونتك الصارمة. هلم أيها الوقح وحل قيودنا سريعاً، وأنقذنا من منظرك قبل أن نراك معذباً بحبل المشنقة، فتتمزق أوصالك وتنذهل في ضيقك، وتفيض روحك في صلبك الأليم ".
   لكن الوقح لم يبال بهذه الأقوال، بل اقترب ورفع السيف، وضرب الراهبات الخمس، وقطع رؤوسهن كسياف ماهر. وكان استشهاد هؤلاء الراهبات في السادس من حزيران سنة 347.
   ألم يكن هذا الغبي قد قرأ أو سمع ما جاء في الإنجيل عن الغني، الذي درت عليه أرضه غلات وافرة فقال: " يا نفسي كلي واشربي وتنعمي؟ ". وما أن أنهى كلامه هذا حتى قيل له: " أيها الجاهل في هذه الليلة تطلب نفسك منك، فالذي أعددته لمن سيكون؟ ".
   فحدث لهذا الكاهن المنافق ما حدث لذلك الغني الجاهل. فحينما ظن أنهم سيعيدون إليه أمواله التي في سبيلها هلك نفسه، إذا به يُقتل في تلك الليلة نفسها.
   فقد خان الحاكم من أن تؤدي جسارة هذا الرجل إلى رفع الأمر إلى الملك، فيؤخذ ما كان قد سلبه منه. فأرسل إلى السجن بعضاً من أعوانه، ووضعوا حبلاً في عنق الرجل وعلقوه مشنوقاً، ولم يكشف أمر قتله لأحد.
   فما أشبه موته بموت يهوذا، وما أشبه جشعهما! ولعل يهوذا مغرور أكثر من هذا. فإن ذاك قد ندم فشنق نفسه، أما هذا فلم يخجل فشنقه آخرون. ولا عينه نظرت إلى الدم البريء الذي سفكه. فإن كل حكم أو عذاب يأتيه، هو أقل من النقمة التي يستحقها.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الراهبة تقلا ورفيقاتها الشهيدات في 6 حزيران من كل سنة.





12
عيد القديسة ريتا
الشماس نوري إيشوع مندو
   القديسة ريتا: ولدت القديسة ريتا في بلدة روكا بورينا قرب مدينة كاشيا من مقاطعة اومبريا في الشمال الشرقي من إيطاليا وذلك في 22 أيار من عام 1381 م من والدين فقيرين من خيرات الأرض، غنيين بالفضائل المتينة، هما أنطونيو منشيني وأماتا فاري. وكان والديها قد تقدما في السن دون أن يرزقا بولد. وكانا مشهورين بأعمالهما التقوية وبحياة الصلاة والتأمل. وقد ظهر مرة ملاك الرب للوالدة وبشرها بولادة فتاة لهما، وطلب منها أن تطلق عليها اسم مرغريتا.
   وكان والديها يأخذانها وهي رضيع إلى الحقل، حيث يعملان. وفي أحد الأيام بينما كان فلاح يعود إلى بيته بسبب جرح أصاب يده، وكان الدم ينزف بغزارة منها، أبصر ريتا الرضيع في عربتها وحولها نحلٌ طائرٌ يضع العسل في فمها دون أن يؤذيها. فاقترب منها وحاول طرد النحل عن وجهها فتوقف حالاً نزف دمه فتعجب من ذلك، ورأى أن النحل لا يؤذي الطفلة أبداً. أخبر والديها بالأمر  فتعجبا هما أيضاً ثم راح يخبر بالقصة كل من يراه في دربه. وكانت ريتا بهجة أهلها. وقد ربياها على الإيمان الصحيح والحب الكبير لا سيما للفقراء، فكانت تهرع نحو الفقير لتدعوه إلى بيتها الوالدي، وتقدم له الخبز ليأكل. كما كانت تمضي أوقاتها في الصلاة ومناجاة ربها المصلوب، وكم اشتهت أن تشاركه في آلامه.
   رغبت ريتا منذ صغرها أن تعتنق الحياة الرهبانية، وتعيش على مثال القديس فرنسيس الأسيزي الذي سمعت عنه الكثير وهو من بلدة مجاورة لبلدتها. أما أهلها فقد وجدا أنه يجب أن يزوجاها ليؤمنا لها مستقبلها، ولا سيما أنهما قد أصبحا عجوزين. وقد تزوجت ريتا وهي في الثانية عشرة من عمرها، من رجل كافر، شرس الطباع، سكير يقضي نهاره في شرب الخمر واللعب بالميسر، وفي المساء يعود إلى البيت. وإذا كان خاسراً ينهال على ريتا ضرباً ولطماً. أما هي فلم تتذمر يوماً لمعاملته تلك، بل كانت تخدمه بكل إخلاص وتفانٍ. وفي غيابه كانت تقضي أوقات النهار في الصلاة ليضع الله في قلبه الإيمان والرأفة. وما زالت على هذه الحال طيلة ثمانٍ وعشرين سنة، إلى أن استجاب الله دعاءها.
   ففي أحد الأيام عاد زوجها إلى البيت وقد تبدلت طباعه، وأتاها معتذراً على تصرفاته السيئة تجاهها طوال حياته الزوجية. فكانت تلك الحادثة تعزية كبيرة لها، بخاصة عندما صار يرافقها وولديهما إلى الكنيسة في كل يوم أحد. لكن فرحتها لم تدم طويلاً. ففي أحد الأيام وبينما كان زوجها عائداً إلى البيت ترصد له أعداء قدماء وقتلوه بعد أن أذاقوه أمرّ العذاب.
   حزنت ريتا كثيراً لموت زوجها، وغفرت لقاتليه من كل قلبها. وراحت تبتهل إلى الله أن يبعد عن ولديها روح الانتقام، وقد طلبت منه أن يقبلهما في دياره قبل الإقدام على أية خطوة تقود بهما إلى الموت الأبدي. وقد أمضت حياتها تربيهما تربية صالحة وتدعوهما إلى محبة الأعداء. لكن عزة النفس وكرامة الإنسان تغلبا على روح التسامح والغفران في قلبي الولدين اليانعين. لقد راحا يفكران بوسيلة يحققان فيها مأربهما، ألا وهو الأخذ بالثأر لقاتلي والدهما. عنذئذٍ مرض البكر ولم يكن قد بلغ الثامنة عشرة من عمره، ولزم الفراش، وراحت الأم تهتم به بكل الوسائل إلى أن مات بعد بضعة أشهر من العذاب والألم. وقبل وفاته طلب الكاهن ونال المسحة الإلهية بعدما أعترف بخطاياه وغفر لقاتلي أبيه.
   وكذا كان الأمر بالنسبة للصغير الذي توفي في السابعة عشرة من عمره. فحزنت الأم لوفاة ولديها باكراً، لكن الله عزاها بتوبتهما قبل الموت. فأمضت بقية حياتها تشكر لله نعمته التي أفاضها في قلب ولديها فلم يموتا ملطخين بدم الجريمة.
   وبعد وفاة زوجها وولديها لم يبقَ لها أحد في هذه الحياة. راحت تصلي إلى الله وتبتهل إليه أن يرشدها إلى الطريق التي يجب أن تسلكها. عاودتها فكرة دخول الدير وشعرت أن الله يدعوها لاعتناق الحياة الرهبانية. فتوجهت إلى دير راهبات القديسة مريم المجدلية الأغوسطينيات، وقابلت الرئيسة وأظهرت رغبتها الحارة في الانضواء في الرهبنة، فكان الجواب سلبياً. وقد حاولت مرات ثلاث فكانت تنال الجواب ذاته. لكنها لم تفقد الأمل، بل ضاعفت صلواتها وإماتاتها وأعمالها الخيرية. فظهر لها في إحدى الليالي القديسون أغوسطينوس ويوحنا المعمدان ونقولا، وأدخلوها إلى حرم الدير وكانت الأبواب موصدة. وعند الصباح تفاجأت الراهبات بوجودها داخل الكنيسة، فأخبرتهم ببساطة وعفوية كل ما جرى لها. عندئذ قبلتها الرئيسة في عداد راهباتها، وسرعان ما فاحت رائحة فضائل ريتا في الدير.
   وقد طلبت الرئيسة منها يوماً، لكي تمتحن طاعتها، أن تسقي عوداً يابساً غرسته في حديقة الدير. راحت ريتا تسقي العود يوماً بعد يوم، دون أي إهمال أو تقصير. وكانت بعض الراهبات يسخرن منها لطاعتها العمياء تلك. ولم يمضِ ردح من الزمن إلا وأخذ عود العنب ينمو ويورق. دهشت الراهبات لتلك الآية المدهشة وأصبحن يقدرن ريتا حق قدرها.
   أما الغصن فقد أعطى عناقيد عنب أشهى من العسل. ولم تزل تلك الدالية حتى اليوم شاهدة لتلك الأعجوبة الباهرة التي قامت بها القديسة ريتا، والتي أظهر الله فيها أهمية فضيلة الطاعة في حياة المكرس المؤمن. أما الرئيسة فقد ندمت على ما بدر منها تجاه تلك النفس الطاهرة، أولاً عندما لم تقبلها في ديرها، وثانياً عندما أجبرتها أن تسقي عوداً يابساً لا فائدة ترجى منه.
   ثم عُينت ريتا بوابة الدير، فكانت تستقبل كل من يقرع الباب بكل احترام وترحاب. وكانت تهتم خاصة بأولئك الفقراء والبائسين، فكانت تستقبلهم بوجه فرح، وتدعوهم إلى الكنيسة وتلقي عليهم من كلام المسيح ما يعزيهم ويغذيهم، ثم تقودهم إلى باحة الدير، وتحضر الخبز وتقدمه إليهم، وتقوم بخدمتهم هي بذاتها أفضل خدمة، إذ كانت ترى فيهم صورة المسيح. وكم أحبتهم ولم تقفل الباب يوماً في وجه أحد منهم، بل كانت تهتم بالمريض وتعتني به إلى أن يزول مرضه، وتعنى بالبائس إلى أن يعود إليه الأمل والرجاء، وتطعم الفقير إلى أن يشبع، وتأوي الشريد إلى أن يلقى ملجأ.
   وكانت ريتا مثال الراهبة المطيعة والطاهرة. وقد تعرض لها الشيطان مرات كثيرة محاولاً إيقاعها في حبائل الخطيئة، فكانت تهرع إلى غرفتها وتجلد نفسها بالسياط ليبعد الله عنها كل تفكير بالسوء يجرح محبته. بينما كانت ذات يوم تناجي المصلوب، طلبت منه نعمة التألم معه. إنفصلت شوكة من إكليل الشوك الموضوع على رأس المصلوب، وانغرست في جبينها محدثة جرحاً بالغ العمق، فأغمي عليها من شدة الوجع. منذ تلك الأثناء بدأت مرحلة جديدة من الآلام دامت خمس عشرة سنة لم تشعر فيها ريتا بلحظة من الراحة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أضحى الجرح يخرج رائحة كريهة تشمئز منها الراهبات أخواتها، فعاشت بقية حياتها وحيدة لا رفيق لها سوى المصلوب.
   وفي سنة 1450 كانت الاحتفالات بيوبيل  السنة المقدسة في روما. فطلبت ريتا من الرئيسة إن كان بإمكانها مرافقة أخواتها الراهبات إلى روما لحضور اليوبيل ونيل الغفران الكامل على جميع خطاياها. لم تقبل الرئيسة بسبب الجرح النازف من جبين ريتا. فتضرعت ريتا إلى الله، فاندمل الجرح فجأة دون أن يترك أي أثر له سوى الآلام عينها في موضعها. عندئذٍ قبلت الرئيسة طلب ريتا وسمحت لها أن ترافق الراهبات إلى روما. وبعد عودتها مباشرة، عاد الجرح والرائحة إلى الظهور من جديد.
   وبعد العودة من روما، شعرت ريتا بضعف كبير في جسمها. لقد أنهكتها كثرة الأوجاع والتقشفات والإماتات فلازمت فراشها، ولم تعد قادرة على احتمال أي طعام، فكان غذاؤها الوحيد القربانة المقدسة. ثم أصبحت حالتها تتدهور يوماً بعد يوم إلى أن أتى يوم 22 أيار من سنة 1457 فقبلت فيه ريتا الزاد الأخير ومسحة المرضى ورقدت بالرب، بعد أن ظهر لها يسوع ومعه أمه العذراء وأنبآها بدنو أجلها.
   وعند موتها أخذت أجراس الدير تقرع فرحاً فهرعت الراهبات وهن يفكرن كيف يدخلن عليها والرائحة الكريهة تملأ الغرفة. وما إن دخلن حتى شممن رائحة عطرة تفوح من الجرح المندمل، ووجه ريتا يطفح بشراً وحبوراً. نقلنها إلى الكنيسة وظل جثمانها هناك أياماً عديدة قبل أن تتم مراسم الدفن لكثرة الحجاج الذين توافدوا لرؤيتها والتبرك منها. ويوم الدفن أقبل جمهور غفير، مما ألزم الراهبات بنقل جسدها إلى الباحة الخارجية بحفلة انتصار اشتركت فيه السلطات الدينية والمدنية. ولم يزل ذلك الجثمان يذيع في العالم كله بطولة فضائل هذه القديسة العظيمة. وقد تم وضعه في صندوق من زجاج داخل كنيسة الدير ليستطيع  المؤمنون رؤيته.
   وقد كثرت العجائب والآيات الباهرة التي تمت بشفاعة القديسة ريتا، مما دفع البابا أوربانوس الثامن  إعلانها طوباوية سنة 1628. وفي سنة 1900 تم إعلان قداستها من قبل البابا لاون الثالث عشر.
   وقد انتشر إكرام القديسة ريتا في العالم كله، ولا يزال المؤمنون يطلبون شفاعتها لا سيما في الأمور المستحيلة والقضايا اليائسة.    وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد القديسة ريتا في 22 أيار كل سنة.

13
تذكار السيدة " العذراء مريم " حافظة الزروع
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: الخروج 15 / 11 _ 21 من مثلك يا رب في الآلهة؟ من . . .
القراءة الثانية: رومة 16 / 1 _ 27 أوصيكم بأختنا فيبة شماسة كنيسة . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 2 / 12 ونزل بعد ذلك إلى كفر ناحوم هو وأمه وإخوته . .
                  + متى 13 / 53 _ 57 ولما أتم يسوع هذه الأمثال ذهب . . .
                  + متى 12 / 46 _ 51 وبينما هو يكلم الجموع إذا أمه . . .
                  + لوقا 11 / 27 _ 28 وبينما هو يقول ذلك إذا امرأة رفعت . .

   تذكار السيدة " العذراء مريم " حافظة الزروع: في كتاب صلاة الفرض " الحوذرة " لكنيسة المشرق نجد أن هذا التذكار يذكر تحت عنوان "  تذكار السيدة مريم من أجل الحفاظ على الزروع والغلات ".   
   ويذكر أبو الحسن بن بهلول   هذا العيد في كتابه " الدلائل " الذي وضعه بين عامي 940 م _ 942 م، حين يستعرض الأعياد التي يحتفل بها خلال شهر أيار فيقول: " وفي الخامس عشر منه عيد الحنطة لمارت  مريم ". 
   ومن المعلوم أن الطقس الكلداني يضم ثلاثة أعياد مريمية يحتفل بها منذ تأسيس الكنيسة وإلى يومنا هذا، وهذا مؤشر إلى أصالة وعراقة هذه الأعياد. والأعياد هي:    1_ عيد تهنئة العذراء الذي يلي عيد الميلاد. 2_ عيد العذراء حافظة الزروع. 3_ عيد العذراء المنتقلة إلى السماء.
   وينسب تقليد كنيسة المشرق تأسيس هذه الأعياد الثلاثة إلى الرسل أنفسهم، كما ورد في أحد الترانيم التي ترتل في فرض عيد تهنئة العذراء. وهذا ترجمته: " رُشت أرض أفسس كلها بالندى حينما استودع القديس يوحنا العذراء مريم. رسالة قُضي فيها بأن يحتفل بتذكار الطوباوية العذراء ثلاث مرات في السنة. خلال شهر كانون الأول الدعاء من أجل الزروع، وأثناء شهر أيار من أجل السنابل، وفي شهر آب من أجل الكروم التي يستخرج منها الخمر. إذ تصون مريم فعلاً زرع الحنطة من فساد الأرض خلال شهر كانون الأول، وتحميها من الحشرات وتسقيها بالمطر حينما تنمو وتنضج أثناء شهر أيار، إذ يصنعون من هذه الحنطة خبز الافخارستيا، وتبارك العذراء يوم عيد انتقالها إلى السماء في شهر آب الكروم التي يستخرج منها الخمر، وهذا يستخدم مع الخبز في ذبيحة القداس ".   
   وورد في كتاب كلداني منحول، قد يرقى تاريخه إلى نهاية القرن الخامس، أن الرسل بعد وفاة العذراء مباشرة، أمروا بأن تقام ثلاثة تذكارات خاصة إكراماً لمريم في الأيام التالية: " 1_ في اليوم الخامس من كانون الثاني تذكار العذراء حافظة الزروع. 2_ في اليوم الخامس عشر من أيار تذكار العذراء حافظة المزروعات. 3_ في اليوم الثالث عشر من آب تذكار العذراء حافظة الحنطة الناضجة ". وبعد أجيال عين الخامس عشر من أيار كعيد ثابت، واستوعب التذكارين الآخرين، لأن ثلاثة أعياد متشابهة تكرار ممل. لكنه دليل على الأهمية الكبرى التي كان المسيحيون يعلقونها على حقولهم. ويبدو أن العيدين أدمجا الواحد بعيد الدنح في 6 كانون الثاني، والآخر بعيد الانتقال في 15 آب. 
   وبالعودة إلى العهد القديم نجد أن الأعياد المريمية الثلاثة التي اختارتها كنيسة المشرق، يقابلها الأعياد اليهودية الكبرى، والتي كانت الفلاحة سبباً في نشأتها. والأعياد اليهودية هي: 1_ عيد الفطير في فصل الربيع. 2_ عيد حصاد الغلال في الصيف. 3_ عيد المحصول أو جني العنب في الخريف.
   وقد رتبت كنيسة المشرق فرض هذا العيد تحت اسم " عيد السيدة حافظة الزروع "، وتعني بها زرع الكنيسة أيضاً، أي النفوس المسيحية، واضعة إياها تحت حمايتها القديرة، لكي تقيها من شر آفات الشيطان وأعداء خلاصنا. ولهذا العيد شعبية كبيرة، فالكنائس تغص بالمصلين الضارعين المنشدين، كما أنهم يقومون بتطوافات حاشدة تخترق الحقول والزروع للدعاء وطلب شفاعة مريم لحفظها وصونها من الآفات، لتغل لهم ما يسد قوتهم. لأنه في هذه الأيام تبلغ الزروع نضوجها، بعد أن نزل المطر في حينه، فنمت الزروع ونضجت وأضحت مؤهلة للحصاد قريباً. وهم يسألون العذراء كي تحفظها من الأضرار المحدقة بها. ففكرة هذا العيد مركزة على الحقول نظراً لأهميتها الكبرى في حياة الناس، وبالأخص الفلاحين منهم. 
   ويبدو أن المسيحيون ما أهملوا قط الصلاة من أجل المحاصيل الزراعية، ويحتوي الطقس الكلداني نماذج عديدة لهذه الصلوات، والبعض منها ألفها مار أفرام النصيبيني لطلب المطر. وللعذراء مريم مكانة بارزة في هذه الصلوات دون ريب. فالصلوات موجهة أولاً إلى الله الذي هو المركز، لكن الكنيسة تتشفع بالقديسين أيضاً لكي يرفعوا الصلاة إلى الله معها، ومن ضمن القديسين تأتي شفاعة العذراء لنا في المرتبة الأولى. ومنذ القدم كان المؤمنون يقومون بتطوافات، طالبين من الله أن يمنحهم أزمنة حسنة، وأن يأتيهم المطر في أوانه، وأحياناً كانوا يطوفون حفاة القدمين، وصائمين، حاملين معهم صورة لأحد القديسين، وبالأخص صورة لمريم العذراء. ولا زالت هذه العادة متبعة في دير السيدة حافظة الزروع بجوار بلدة ألقوش.

   دير السيدة حافظة الزروع: بسبب المصائب المتكررة على رهبان دير الربان هرمزد، فكرت رئاسة الرهبنة الأنطونية الكلدانية على تأسيس دير آخر في السهل يكون ملاذاً لهم وقت المحن. وقد جاء في مخطوطة تتحدث عن تاريخ الرهبنة أن جميع أفراد الرهبنة الهرمزية اتفقوا سنة 1857 م على بناء دير جديد في الأراضي العائدة للدير، على مقربة من عين ماء شرق ألقوش، في سهل فسيح يمتد أمام جبل الدير، وذلك للتخفيف عن الرهبان من ثقل المناخ وشحة الماء وصعوبة البناء، علاوة على الأخطار التي كانت تسببها الزلازل وتدحرج صخور كبيرة من قمم الجبال. ولا ريب أن ازدياد عدد الرهبان وانتشارهم في كل مكان لم يعودا يسمحان لهم بالبقاء في الجبل، الأمر الذي اضطرهم على النزول إلى السهل، لا سيما بعد توجه رسالتهم نحو خدمة المؤمنين الروحية في القرى القريبة والنائية. فلم يعودوا بحاجة إلى الانزواء في صوامع يعسر الوصول إليها، كما فعل أسلافهم.   
   وقد شمر الأنبا إليشاع   عن ساعد الجد، وبدأ ببناء الدير الجديد، على بعد 3 كم شرق بلدة ألقوش. وقد أعد الرهبان الجص والحجارة، وحفروا بئر وباشروا بحفر الأسس. وقد تعب الرهبان كثيراً في بناء الدير. وقد أطلق عليه اسم دير السيدة حافظة الزروع، أي دير العذراء مريم التي ترعى الزروع المادية، وكذلك الزروع البشرية، أي جميع الناس ولا سيما الذين كرسوا حياتهم لخدمة الكنيسة. وقد بني الدير بمساعدة الكرسي الرسولي وبمؤازرة القاصد الرسولي المونسنيور " بلانشي ".   
   وقد أتم الأنبا إليشاع بناء الدير الجديد سنة 1858 م، وانتقل إليه عدد من الرهبان، وعين الأب حنا ملوس  وكيلاً على الدير. وأخذ الدير بالازدهار تدريجياً. ثم واصل الرهبان العمل فبنوا كنيسة الدير سنة 1861 م وهي كنيسة جميلة.
   وقد احتضن الدير مجمع انتخاب البطريرك إيليا الثاني عشر عبو اليونان في 28 تموز سنة 1878 م، وجرت مراسيم تنصيبه في كنيسة الدير. وأيضاً مجمع انتخاب البطريرك عبد يشوع الخامس خياط في 27 تشرين الأول سنة 1894 م، وجرت مراسيم تنصيبه أيضاً في كنيسة الدير.
وتضم كنيسة الدير أضرحة عديدة للرهبان نذكر منهم: البطريرك يوسف السادس أودو، والمطارنة اسطفيان بلو  وأفرام بدي وشموئيل شوريز وعبد الأحد ربان ، والأنبا إليشاع الياس وشموئيل جميل.
    وعلى مر السنين أضيفت أقسام أخرى إلى الدير تجاوباً مع زيادة عدد الرهبان، وتشعب اهتماماتهم وأعمالهم. وبسبب أن الدير يستقبل الزائرين، اضطر المسؤولون أن يضيفوا إلى دير الرهبان قسماً خاصاً بالضيوف في الفناء الخارجي. وفي وقت لاحق بني ميتم وألحق بالدير ليكون موضعاً لتربية الأولاد الذين لا معيل لهم.
   وقد اهتم الأنبا شموئيل جميل   بتشييد مبنى للابتداء، واهتم في إنشاء مكتبة الدير التي اشتهرت بعد ذلك بمخطوطاتها الكثيرة والنفيسة، وقد انتهت هذه المكتبة إلى دير مار أنطونيوس في الدورة، بعد أن فقدت منها مخطوطات كثيرة ونفيسة. وقد تعرض دير السيدة لعبث العابثين مرات عديدة، ونهبت بعض أمتعته، وحطمت أو نهبت بعض التحف التي كانت في متحف الدير.   
   وما لبث أن انتقل الرئيس العام من دير الربان هرمزد الذي يعرف ( بالدير    الفوقاني ) إلى دير السيدة المعروف ( بالدير التحتاني )، وفي سنة 1994 م انتقل الرئيس العام إلى دير مار أنطونيوس في بغداد.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار السيدة حافظة الزروع في 15 أيار من كل سنة. 


14
عيد مريم العذراء سيدة فاطيما
الشماس نوري إيشوع مندو
   سيدة فاطيما: تقع بلدة فاطيما شمالي لشبونة  عاصمة البرتغال  على بعد 100 كم منها. وعلى بعد 1350 م من بلدة فاطيما تقع قرية الجستريل، وهذه القرية كانت تضم عشرة بيوت.
   وفي هذه القرية تصاهر رجلان، أقترن كل منهما بأخت الآخر وهما أنطونيو دوس سنتس، ومانوئيل بيدرو مرتو. فالأول أقترن بماريا روزا مرتو، والثاني بالمبيا سنتس. وقد رزق أنطونيوا من زوجته أبناً وخمس بنات، أحدهن ولدت في 22 آذار سنة 1907 ودعيت لوسيا.
   أما مانوئيل فقد رزق من زوجته تسعة أولاد منهما فرنسوا الذي ولد في 11 حزيران 1908، وأخته هياسنت التي ولدت في 10 آذار سنة 1910. وقد وقع اختيار البتول مريم على لوسيا وفرانسوا وهياسنت لتلتقي معهم.
   كان فرنسوا وأخته هياسنت منذ نعومة أظفارهما، يمحضان ابنة خالهما لوسيا حباً فريداً. وكان ميلهما إليها بتدبير إلهي خفي، إذ كانا ينفران من عشرة بقية الأولاد ويرتاحان إلى صحبتها.
   ولما بلغت لوسيا الثامنة من عمرها، عهدت إليها والدتها رعاية قطيع صغير للأسرة. وما أن علم فرانسوا وهياسنت بذلك، حتى ذهبا يتضرعان إلى والدتهما أن تفسح لهما بمرافقة لوسيا إلى الجبل وراء القطيع. فرفضت طلبهما في البداية، لكنها وافقت أخيراً بسبب إلحاحهما. فوكلت إليهما رعاية بعض النعاج كانت تملكها. ومن ذلك الحين، كان أولئك الرعيان الثلاثة يجمعون قطيعهم الصغير، ويذهبوا به إلى الجبل. وكانوا عصر كل يوم يتلون معاً مسبحة الوردية، قبل أن يعودوا بالقطيع إلى البيت.
   وأرادت العذراء سلطانة السماء قبل ترائيها لفتيان فاطيما، أن ترسل لهم من قبلها سفيراً سماوياً، يعد لها السبيل إلى نفوسهم الغضة، ويهيئهم لرسالتهم السامية بروح العبادة والتضحية. وذات يوم من أواخر سنة 1915 بينما كن يتلون سبحة الوردية، إذا بهن يبصرن فجأة شكلاً يحاكي تمثال ثلج، تخللته أشعة الشمس وجعلته شفافاً. وقد تجلى ذلك الشكل على شجيرة صغيرة من شجيرات الوادي المتحدر أمامهن. وما أن فرغن من الصلاة حتى توارت الرؤيا. وخلال أسابيع قلائل تكررت الرؤيا دفعتين متواليتين. 
   وتتحدث الأخت لوسي في مذكراتها ما حدث لهم خلال الظهور الثالث للملاك قائلة: عندما وصلنا إلى المكان ركعنا وصوّبنا وجوهنا نحو الأرض بدأنا نردد الصلاة التي علمنا إياها الملاك: " إلهي أنا أؤمن وأسجد، أرجو وأحب، وأستميحك المغفرة لمن لا يؤمنون ولا يسجدون، ولا يرجون ولا يحبون ". لا أدري كم رددنا هذه الصلاة حتى رأينا فوق رؤوسنا نوراً غريباً يلمع. وقفنا كي نرى ماذا يحدث فرأينا الملاك يحمل بيده اليسرى كأساًَ كانت معلقة عليها قربانة يقطر منها بعض قطرات الدم في الكأس. ترك الملاك الكأس معلقة في الهواء. فركع قربنا وجعلنا نردد ثلاث مرات:       " أيها الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس. أسجد لك بتجلّة وأقدم لك جسد سيدنا يسوع المسيح، الحاضر على هياكل الدنيا بأسرها. ودمه الكريم نفسه ولاهوته، كفّارة عن الإهانات التي تغيظه. وباستحقاقات قلبه الأقدس غير المتناهية، وبشفاعة قلب مريم الطاهر، ألتمس منك عودة الخطأة البائسين إلى التوبة ". بعدها نهض وحمل بين يديه الكأس والقربانة فناولني القربانة المقدسة وقسم الدم في الكأس بين هياسنت وفرانسوا وهو يقول: " خذوا كلوا واشربوا جسد ودم سيدنا يسوع المسيح الذي يهينه البشر الجاحدون بشكل فظيع. عوضوا عن جرائمهم وآسوا إلهكم ". ثم سجد من جديد على الأرض وردد معنا ثلاث مرات أيضاً " أيها الثالوث . . . " واختفى. بقينا على حالنا نردد دائماً الكلمات ذاتها، ولما نهضنا رأينا بأن الليل قد حل وبأنه حان وقت العودة إلى المنزل.   
   وقد كتمت لوسيا ما حدث، لكن رفيقاها بُحن بالأمر، فبلغ إلى مسامع أمها. وقد سألتها أمها عما جرى، فقصت عليها سياق الحوادث الثلاث. فاستخفت الوالدة أقوال أبنتها، وعدتها مهزلة صبيانية.
   وفي يوم الأحد 13 أيار سنة 1917 كان الأطفال الثلاثة يرعون أغنامهم في المكان المعروف بــ " كوفادي إريا "، وعندما دق جرس الكنيسة المجاورة ظهراً داعياً لصلاة التبشير الملائكي، ترك الأطفال ألعابهم وبكل خشوع وتقوى أخذوا يتلون التبشير الملائكي. وما كادوا ينتهون من الصلاة حتى خطف أبصارهم برق باهر، فقررت لوسيا العودة مع الأخوين إلى المنزل خوفاً من حدوث عاصفة. وإذا ببرق آخر أقوى من السابق أوقفهم مرتعدين مضطربين وعلى يمينهم، وسط النور الساطع الخاطف للأبصار، رأوا على شجرة سنديان صغيرة، سيدة أية في الجمال والبهاء واقفة وبإشارة منها طمأنتهم حيث قالت: " لا تخافوا فإني لن أسيء إليكم ". ذهل الأطفال وأخذوا يحدقون النظر في تلك السيدة التي لا يزيد عمرها على الثماني عشر سنة، ذات الوجه الجميل الأخاذ، والذي تحيط برأسه هالة من نور، علته مسحة من الكآبة والألم الدفين. وكانت تلك السيدة ضامة يديها على صدرها في موقف من يصلي، كما كان ثوبها ناصع البياض كالثلج ينزل لآخر رجليها وفي عنقها سلسلة من ذهب تتدلى إلى وسط الجسم، وغطاء رأسها رداء أبيض مطرز بالذهب ينزل إلى القدمين، وبيدها اليمنى مسبحة ذات لآلئ وصليب من الفضة. وهنا قطعت لوسيا السكوت سائلة تلك السيدة: " من أين أنتِ ؟ ". فأجابتها السيدة: " من السماء ! ". ثم سألتها لوسي: " وماذا أتيتِ تصنعين هنا ؟ ". فأجابتها السيدة: " أتيت لأطلب منكم أن تكونوا هنا ستة أشهر متوالية في اليوم الثالث عشر من كل شهر وفي مثل هذه      الساعة ! ". وبعد ذلك بدأت السيدة تسأل الأطفال موضحة لهم ما تريد منهم قائلة: " هل تريدون تقدمة أنفسكم لله محتملين كافة الآلام التي يرى سبحانه وتعالى تحميلكم إياها تعويضاً وكفّارة عن الخطأة حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله ؟ ". فأجابوا: " نعم نريد ". وهنا قالت لهم السيدة: " إذاً ستتعذبون كثيراً، ولكن نعمة الله ستكون معكم وهي تسندكم وتثبتكم فثابروا يا أولادي على تلاوة المسبحة كما كنتم تفعلون الآن ". بعد ذلك إبتعدت السيدة رويداً رويداً نحو الشرق واختفت في نور الشمس. وقد أستمرت هذه الرؤيا وهي الأولى حوالي عشر دقائق. 
   وبعد عودتهم إلى المنزل روت هياسنت لأمها كل شيء رغم تحذير لوسيا إياها  وفرانسوا. فخاف أهالي الأطفال أن يكونوا يلهون بمثل هذه الأمور، وأن لا يكون كل ما يسردونه إلا عبث أحداث، فأضطروا لأن يؤنبوهم بكل شدة. وكانت لوسيا أكثر الأطفال تعرضاً للأذى حيث ضربها والداها ضرباً مبرحاً، وعُيرت منهما ومن أهالي البلدة بأنها كاذبة مرائية وخادعة ومنافقة. لكن الأطفال تحملوا كل الآلام بصبر وتواضع مصممين على رؤيتهم ومصرين على الذهاب إلى الموعد المحدد للقاء السيدة.
   وفي يوم 13 حزيران سنة 1917 توجه الأطفال الثلاثة يصحبهم ستون شخصاً من الأهالي إلى المكان الذي وعدت العذراء بالظهور فيه. وبعد أن صلى الجميع المسبحة، وقفت لوسي وتطلعت نحو الشرق، ثم صرخت قائلة: " لقد رأينا البريق الذي يسبق مجيئها، فالسيدة سوف تحضر حالاًَ ". ثم توجهت لوسي لناحية شجرة السنديان، وفي أعقابها فرانسوا وهياسنت. وهنا ظهرت السيدة من جديد، وشددت على الأطفال بضرورة الثبات على صلاة المسبحة مراراً على قدر المستطاع. وهنا سألتها لوسيا: " ماذا تريدين مني أيتها السيدة ".  فردت السيدة: " أريد أن تحضروا هنا في الثالث عشر من الشهر القادم ". ثم قالت السيدة للوسيا: " أريد أن تتعلمي القراءة لأتمكن من إطلاعك فيما بعد على ما أبغي ". ثم أقترحت لوسيا على السيدة أن تأخذها مع رفيقيها إلى السماء. فقالت لها السيدة: " أجل سآتي عن قريب لآخذ هياسنت وفرانسوا. وأما أنتِ فستبقين على هذه الأرض زماناً أطول، لأن يسوع يريد أن يجعلك أداة يعرفني الناس بها ويحبونني. بوده أن ينشر في العالم إكرام قلبي الأطهر ". فأجابت لوسيا بلهفة: " سأبقى إذاً وحدي؟ ". فردت عليها السيدة: " كلا يا بنيتي! لن أهملك البتة، لأن قلبي المنزه عن كل عيب يكون لك مأوى، وسبيلاً يقودك إلى الله ". قالت هذا وأفرجت يديها. فتدفق النور منها، وشمل الرؤاة. فعاينوا ذواتهم غارقين في لجة الله. وبدا لهم أن جدولاً من الضياء يقل فرانسوا وهياسنت إلى السماء، وأن جدولاً آخر ينصبّ على بلوسيا على الأرض. ورأوا قلبها أحدقت به الأشواك وآلمته ففهموا أنه قلب البتول الأطهر يطلب التوبة والتعويض، إذ قد أوجعته خطايا البشر. ثم أودعت كل طفل من الأطفال الثلاثة سراً مع التنبيه عليه بأن لا يفشيه لأي إنسان. وعندئذ تلاشت الرؤيا وهي الثانية.
   في 13 تموز سنة 1917 حضر إلى مكان الظهور أكثر من خمسة آلاف شخص، وعندما ظهرت السيدة طلبت لوسيا من الجموع الركوع باحترام. فأوصت السيدة الأطفال الثلاثة بصلاة الوردية حتى تنتهي الحرب العالمية الأولى قائلة:    " إن شفاعة البتول النقية وحدها تقدر أن تنال للعالم هذه النعمة ". فسألت  لوسيا السيدة عن اسمها، كما طلبت منها بناء على إلحاح الحاضرين أن تصنع معجزة تثبت حقيقة ظهورها، فأجابت السيدة: " ثابروا على المجيء هنا يوم 13 من كل شهر. وفي يوم 13 تشرين الأول سنة 1917 سأقول لكم من أنا، كما سأعمل معجزة عظيمة حتى يؤمن الجميع بحقيقة ظهوري ". وهنا طلبت لوسيا منها بعض النعم فكررت لها توصيتها بتلاوة الوردية. ثم قالت للأولاد الثلاثة:       " قدموا تضحياتكم لأجل الخطأة قائلين: يا يسوع هذا حباً لك، ولإرتداد الخطأة، وتعويضاً عن الإهانات التي تلحق قلب مريم الطاهر ". ثم أودعت الأطفال سراً جديداً عرف فيما بعد جزء منه المتعلق بتأسيس إكرام قلب مريم الطاهر. ثم فتحت السيدة يديها كما فعلت سابقاً فرأى الأطفال شعاع النور يخترق الأرض وعاينوا جهنم، حيث مصير نفوس الخطأة البائسين وقالت لهم: " الرب يريد أن يخلص النفوس بتأسيس إكرام قلب مريم الأطهر ". ثم قالت لهم:            " أضيفوا بعد تلاوة المجد للآب والابن والروح القدس من كل سر من أسرار المسبحة الصلاة التالية: يا يسوع أغفر لنا خطايانا ونجنا من نار جهنم، وخذ إلى السماء كل الأنفس خاصة الأكثر احتياجاً إلى رحمتك ". وقد لاحظ الحضور أثناء الرؤيا تضاؤلاً عظيماً في نور الشمس، كما رأوا غمامة بيضاء كانت تظلل الأطفال الثلاثة وكان الرؤيا. وعندئذ تلاشت الرؤيا وهي الثالثة.
   بعد الرؤيا الثالثة تكاثرت المضايقات للأطفال الثلاثة، فقد أجرت الجهات الرسمية تحقيقات حول الموضوع. أما الصحافة اللادينية فقد اعتبرت الرؤيا مجرد هواجس أو خزعبلات من اختراع بعض الكهنة. وأخذ حاكم مركز أوليم وهو ماسوني ، والذي تتبعه بلدة فاتيما على عاتقه أن يقتل في المهد تلك الروحانيات. لذلك جمع الأطفال ووالديهم وأمطرهم بوابل من الأسئلة والاستجوابات، وأشبعهم وعيداً وتهديداً عله يصل إلى تراجع الأطفال عن إصرارهم على توكيد حوادث الظهور فلم يفلح. ولما يئس وأعيته الحيل لم يتورع عن توعيد الأطفال بالقتل إذا لم يقلعوا عن إصرارهم، فجاوبه الأطفال ببطولة وبسالة وإيمان: " إذا كنت تقتلنا فهذا لا يهم لأننا سنذهب فوراً إلى السماء ".
   وفي يوم 13 آب سنة 1917 وهو اليوم المحدد للظهور الرابع، تجمهر في المكان حوالي الثمانية عشر ألف شخص من المؤمنين الأتقياء، فبادروا بالصلاة والتراتيل وتلاوة المسبحة. ولما كان الظهر لم يحضر الأطفال كالمعتاد. فتعجب الحاضرون واستفسروا عن السبب، فعلموا أن حاكم المنطقة أخذهم عنوة، فهاجت الجموع وماجت وصممت على التظاهر أمام مركز الحكومة لإعلان سخطها واحتجاجها. وهنا سمع الجميع دوي الرعد، وازدانت السماء ببرق لامع، فتضاءل نور الشمس، ومال لون الجو إلى الإصفرار، وتكونت سحابة بيضاء جميلة فوق شجيرة السنديان ثم ارتفعت وتلاشت. وفي تلك الأثناء كان الحاكم قابضاً على الأطفال وأبقاهم محجوزين ثلاثة أيام. ولما أعيته الحيل عن معرفة ما اؤتمنوا عليه من الأسرار قال لهم: " إما أن تقولوا الحق أو ألقي بكم في موقد الغرفة فتحترقوا ". وأخذ كل طفل على حدة مظهراً أنه سينفذ تهديده فعلاً ! فلم يفلح أيضاً. ولما يئس أمام بطولة هؤلاء الأطفال واستعدادهم للاستشهاد، أضطر لتسليمهم إلى كاهن البلدة ليوصلهم إلى أهاليهم. 
   ولما تغيب الأطفال مكرهين عن ميعاد 13 آب أعتقدوا أنهم لن يروا السيدة. ولكن حدث أنه في يوم 190 آب وفي مكان آخر يسمى " فالينيوس " ظهرت لهم السيدة، واستنكرت تصرف الحاكم ومنعه إياهم من ميعاد 13 آب في المكان المعتاد. ثم دعتهم للصلاة دائماً وتقديم التضحيات وإماتة النفس لارتداد الخطأة قائلة: " صلوا صلوا كثيراً وابذلو التضحيات وإماتة النفس لأجل الخطأة فما أكثر الأنفس التي تذهب إلى جهنم لعدم وجود من يضحي لأجل الخطأة قبل موتهم ". وكان هذا الظهور الرابع.
   وفي يوم 13 أيلول سنة 1917 توجه إلى بلدة فاطيما ما يربو على الثلاثين ألف شخص، فازدحمت الطرق الموصلة إلى مكان الظهور. وقبيل الظهر حضر الأطفال الثلاثة ولما أستقر بهم المقام صرخت لوسيا في الجموع قائلة: " يجب أن تصلوا ". وفي الحال ركع الجمع كله تلبية لنداء هذه الطفلة، مصلياً ومستعطفاً أم الرحمة. وفي الظهر تماماً بدأت الشمس تفقد بهاءها، ومال لون الجو إلى الإصفرار الذهبي فاندهشت الجموع. وقد رأى غالبية الحاضرين كرة من النور تسير بعظمة وجلال من الشرق إلى الغرب في الفضاء المتسع. ثم ظللت سحابة بيضاء شجرة السنديان الأخضر والثلاثة أطفال. ولاحظ الجمع كله أن لوسيا كانت تتحدث بصوت مرتفع مع شخص غير مرئي دون أن يسمع أحد الحاضرين ما عدا لوسيا والطفلين الآخرين كلام هذا الشخص أو يتمتع بمشاهدته. فقالت السيدة للأطفال: " واظبوا على صلاة الوردية لنوال نعمة انتهاء الحرب ". ثم وعدتهم بالعودة في يوم تشرين الأول بصحبة القديس يوسف والطفل يسوع، ووعدتهم بمعجزة ليؤمن الجميع. وهنا سألتها لوسيا نعمة الشفاء للمرضى فأجابت: " سأشفي البعض ولكن الباقين لن يشفوا لأن السيد المسيح غير راض عنهم ". وكان هذا الظهور الخامس.
   وفي صباح يوم 13 تشرين الأول سنة 1917 ازدحمت الطرق المؤدية لبلدة فاطيما بالناس ، ورغم البرد القارص والمطر الغزير بلغ عدد القادمين سبعين ألف نسمة. وفي انتظار ما سيحدث كان شاغل كل واحد منهم الصلاة والتضرع إلى الله. وبكل مشقة وصل الأطفال الثلاثة برفقة والديهم وشقوا لهم طريقاً وسط الجموع التي كانت تحييهم بكل إحترام. وبناء على طلب لوسيا وقفت هذه الكتل البشرية تصلي المسبحة. وفي الظهر تماماً قطعت لوسيا الصلاة صارخة: " ها هي تأتي ". فشاهدت الجموع وعلى ثلاث دفعات متوالية سحابة بيضاء تظلل الأطفال الثلاثة طول مدة الظهور التي أستمرت من إثني عشر إلى خمسة عشر دقيقة.
   وخلال الظهور قالت العذراء للأطفال الثلاثة ما يلي: "  أنا سيدة الوردية، ويجب على الناس أن يتوبوا ويغيروا عيشة المعاصي، وأن يكفوا عن إهانة سيدنا يسوع المسيح المهان كثيراً، وعليهم أن يتلوا الوردية ". ثم أضافت العذراء أنها تريد أن تقام هناك كنيسة إكراماً لها. ووعدت بقبول تضرعات الناس لإنهاء الحرب سريعاً إذا ما غيروا سيرتهم. وعندما أرادت العذراء الإنصراف أشارت بأصبعها إلى السماء، فصرخت لوسيا قائلة: " انظروا إلى الشمس ". وفي الحال إستطاع جميع الحاضرين أن يشاهدوا لمدة إثني عشر دقيقة منظراً مروعاً ومدهشاً لم تره عين. فلقد انقطع المطر فجأة، وانقشعت الغيوم، وأضحت الشمس بيضاء مثل كرة من الفضة يمكن التحديق فيها دون خوف من الإغشاء. وفي اللحظة ذاتها كعجلة من نار أخذت الشمس تدور حول نفسها مترنحة. ومثل كشاف جبار كانت ترسل في جميع الجهات باقات من الأنوار الخضراء والحمراء والزرقاء ومن كافة الألوان لتسرح فوق السحب وفوق جمهور النظارة وفوق الأرض. ثم وقفت حركة الشمس فجأة بعد مضي أربع دقائق، لتعود مرة ثانية وثالثة إلى رقصتها العجيبة المترنحة وسط أنوار خيالية مبهرة.
   وبينما كان الجمهور مأخوذاً بروعة الحادث، ظهر للأطفال الثلاثة بالقرب من الشمس المشاهد الآتية:
أولاً: العائلة المقدسة مكونة من سيدة الوردية والقديس يوسف والطفل يسوع.
ثانياً: سيدنا يسوع المسيح في سن الرشد مباركاً الجموع بحب وعطف.
ثالثاً: سيدة الآلام أعني الأم الحزينة.
رابعاً: سيدة الكرمل حاملة بين يديها ثوب العذراء.
   ولما قاربت المعجزة لنهايتها حدث ما هو أروع من كل ما سبق، إذ أن الشمس بعد رقصتها الثالثة وسط النار والألوان وقفت لحظة. ومثل عجلة جبارة تفكك رباطها من كثرة دورانها. ثم انفصلت عن الأفق وانحدرت ساقطة فوق النظارة الذين ذعروا، ظناً منهم أنها نهاية العالم التي تنبأ عنها الإنجيل المقدس. وهنا ركعت الجموع على الأرض مرتجفة متضرعة ومبرزة أحر أفعال الندامة. وفي الحال سكنت الشمس مكانها وعاد إليها بهاؤها المعتاد. وكان هذا الظهور السادس والأخير.     
   سنة 1918 أنتشر في أوربا وباء مهول، وفتك فيها فتكاً ذريعاً، وقد دعوه الحمى الإسبانية. وقد أصيب فرانسوا وهياسنت بذاك الوباء. وبعد معاناة فرانسوا من الداء المذكور توفي قي 4 نيسان سنة 1919 عن عمر لم يتجاوز 11 سنة. أما أخته هياسنت فقد توفيت في 20 شباط 1920 عن عمر  لم يتجاوز 10 سنوات. بعد معاناة مريرة من ذاك الوباء.
   أما لوسيا فقد اختارت الحياة الرهبانية، فدخلت دير الكرمل سنة 1926. واستمرت في حياتها الرهبانية حتى توفيت في 13 شباط 2005 عن عمر بلغ 97 سنة.
   سنة 1997 وضعت الأخت لوسيا كتاباً بعنوان " نداءات رسالة فاطيما ". بعد أن تكاثرت الأسئلة الملحة حول موضوع الظهورات، فطلبت من الكرسي الرسولي الإذن بجمع الأجوبة في كتاب يشملها جميعها، وقد حصلت عليه. ومن خلال هذا الكتاب قدمت الأخت لوسيا للعالم خلاصة شاملة ومدروسة للبشرى التي تلقتها من مريم أم الرب. وتقول الأخت لوسي في مقدمة كتابها: " عندما حدثت تلك الظهورات، لم أكن أعرف الشريعة بعد. كان لدي صورة محدودة وغير كاملة، لا أجيد القراءة ولا الكتابة وأعيش في جو بعيد عن الثقافة والعلم. وقد حصلت على تلك المعرفة ببطء كبير، بفضل النور الذي زودني به الله. وبعد أن سمحوا لي بقراءة الكتاب المقدس، حينها فهمت معنى الرسالة الحقيقي ". وقد لخصت الأخت لوسيا رسالة فاطيما بعشرين نداءاً، وعلى الشكل التالي:
   الأول _ نداء إلى الإيمان: الإيمان هو أساس الحياة الروحية، نعترف عبره بوجود الله وقدرته وحكمته ورحمته وفدائه ومغفرته وحبه الأبوي. عبر الإيمان نؤمن بكنيسة الله التي أسسها يسوع المسيح وبالتعليم الذي تنقله إلينا والذي عبره سيتم خلاصنا. إن نور الإيمان هو الذي سيرشدنا ويقودنا في الطريق الضيق الذي يوصلنا إلى السماء. وعبر الإيمان نرى المسيح في إخوتنا ونحبهم ونخدمهم ونساعدهم عندما يكونون بحاجة إلينا. نتأكد كذلك عبر الإيمان، من وجود الله فينا، ونتأكد بأننا دائماً تحت نظره. إنها نظرة نور قديرة وعظيمة تمتد في كل جهة فترى كل شيء، وتخترق كل شيء بوضوح كما النور الإلهي.
   الثاني _ نداء إلى العبادة: من خلال وصية الله الأولى " أنا الرب إلهك . . . " عبر هذه الشريعة يوصينا الله بعبادته هو فقط، ويمنعنا من صنع منحوتات بواسطة الأشياء التي خلقها هو. ولا ينبغي مساواة الأوثان بصور المسيح والعذراء والقديسين، ولا يجوز تقدمة الشعائر والعبادة لأي من تلك الصور. فلذلك نقدر صور يسوع والعذراء والقديسين، لأنها تذكرنا بالأشخاص الذين تمثلهم، وبفضائلهم وتعاليمهم فنندفع للإقتداء بهم. وعليه فعبادة الله هي واجب ووصية، فرضها الله علينا بدافع المحبة لكي يتيح لنا التبرك منه.
   الثالث _ نداء إلى الرجاء: يجب أن نضع رجائنا في الرب، لأنه الإله الوحيد الحق، الذي خلقنا بدافع حب أزلي، وافتدانا بإرساله لنا إبنه الوحيد يسوع المسيح، إلهاً حقاً وإنساناً حقاً، تألم ومات من أجل خلاصنا. فرجاءنا يكمن في الله، في كلمته وفي حبه الأبوي وفي يده المخلصة. ونحن كالأبناء المستسلمين بين ذراعيه، المطمئنين من رحمته اللامتناهية، نعرف بأن ثقتنا لن تخيب.
   الرابع _ نداء إلى حب الله: الله محبة هذا ما يقوله يوحنا الإنجيلي. فهو يحبنا حباً أبدياً منذ الأزل، فعلينا أن نتنبه إلى الوصية التي أعطانا الله وهي أن نحبه. ويظهر حبنا لله ويبرهن بالحب الذي نخص به كل واحد من إخوتنا، لأنهم جميعهم مثلنا أبناء الله، أحبهم وافتداهم بيسوع المسيح. ومن أجل أن يكون حبنا حقيقياً ومقبولاً لدى الله، يجب أن ينعكس على إخوتنا عبر صلاتنا ومثالنا الصالح وأقوالنا وأعمالنا.
   الخامس _ نداء إلى المغفرة: يحملنا هذا النداء على طلب الغفران من الله من أجل إخوتنا ومن أجلنا، ومن أجل الذين يؤمنون ولا يؤمنون، من أجل  الذين لا يعبدون وينحنون أمام الله، ولأجل الذين لا يرجون ولا يثقون، من أجل الذين يحبون ولا يحبون. فجميعنا بحاجة إلى غفران الله من أجل قلة إيماننا وضعفه، ومن أجل رجائنا الذي غالباً ما يكون خامداً، ومن أجل محبتنا الباردة وغير المبالية، ومن أجل عبادتنا الواهنة. ولا نستطيع الحصول على غفران إن لم نغفر لإخوتنا أولاً، لذلك لا يمكننا أن ننمي الشعور بالحقد والإرادة السيئة والمخاصمة وكذلك الشعور بالانتقام بسبب أي إهانة وجهها لنا قريبنا، كبيرة كانت أم صغيرة. 
   السادس _ نداء إلى الصلاة: أوصى يسوع تلاميذه: " اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة ". فعبر التأمل والصلاة نحصل على مغفرة لخطايانا، والقوة والنعمة لكي نقاوم تجارب العالم والشيطان وشهوات الجسد. نحن جداً ضعفاء ومن دون هذه القوة لن نتوصل إلى الفوز. وقد علمنا يسوع أن نصلي " أبانا الذي . . " وهي أجمل ما نتقدم به من صلوات نحو الله، والتي يعلمنا يسوع فيها مناداة الله بالاسم العذب وهو " أب ". وهناك طرائق للصلاة نذكر منها: 1_ صلاة شفهية: أي موجهة مباشرة إلى الله بكلمات نابعة بعفوية من قلبنا. 2_ صلاة عملنا: هي إتمام كل واجبات الحالة الشخصية، بروح خاضع ومتواضع لله. لأنه هو الذي فرض علينا شريعة العمل. 3_ صلاة عقلية: وهي معروفة بــ             " التأمل " وهي ترتكز على التفكير أمام الله بسر من الأسرار الموحى بها، ببعض المراحل من حياة الرب، ببعض نقاط العقيدة، وبشريعة الله، أو بفضيلة ما من الفضائل التي يتحلى بها يسوع المسيح، في السيدة العذراء، أو القديسين، فنقتدي بها.
 السابع _ نداء إلى التضحية: يمكن أن تكون التضحيات من خيرات روحية وفكرية ومعنوية وجسدية ومادية. إن سنحت لنا الأوقات، فلدينا فرصة في تقديم بعضها في وقت ما، وغيرها في وقت آخر. فالمهم أن نكون مستعدين للإستفادة من الفرص التي تتاح لنا. علينا أن نكون قادرين، خصوصاً أن نضحي عندما يكون هذا مطلوباً، طاعة لواجبنا نحو الله والقريب وذواتنا.
   الثامن _ نداء إلى المشاركة في سر الإفخارستيا: يؤكد لنا يسوع حضوره الحقيقي بالجسد والروح، حياً كما هو في السماء، حيثما وجد الخبز والخمر المكرسين فهو يقول: " هذا هو "، لم يقل " هذا كان " أو " هذا سيكون " ولكن " هذا هو "، في أي وقت وأينما كان الخبز والخمر المكرسان، هما جسد ودم يسوع ويبقيان كذلك طالما نحتفظ بهما. فيسوع حي في القربان. ومن أجل أن نتمكن من الغذاء من هذا الخبز، علينا أن نكون في حالة نعمة مع الله. فعلينا أن نفحص ضميرنا، ثم نتطهر معترفين بخطايانا في سر التوبة. وبعد اعتراف متواضع وصادق، مفعم بروح توبة ونية إصلاح، نحصل على مغفرة خطايانا. وعلى هذا الشكل، يمكننا أن نتقبل جسد ودم يسوع المسيح، متأكدين بأن هذا السر هو بالنسبة إلينا ينبوع حياة، وقوة ونعمة. 
   التاسع _ نداء إلى التقرب من الثالوث الأقدس: سر الله الواحد والمثلث الأقانيم في أشخاص الآب والابن والروح القدس. سر الثالوث الأقدس، إله واحد في ثلاثة أقانيم قد أوحي إلينا به، ولكن فقط في السماء يُعطى لنا فهمه كاملاً. نؤمن به لأن الله قد أوحى إلينا به، ونعرف جيداً بأن فهمنا المحدود بعيد كل البعد عن قدرة الله وحكمته. بالنسبة إلينا تظهر الطبيعة بأكملها مكتنفة بالأسرار، كما تبدو بكليتها كإيحاء لسر الله، الذي هو ثالوث في أقانيم الآب والابن والروح القدس، إله واحد حق. إن عظمتنا كبيرة، فالله قد اختارنا، هو حامينا وحضوره يقدسنا بثناء مجده، نحن بيوت قربان حية حيث يسكن الثالوث الأقدس. 
   العاشر _ نداء إلى تلاوة يومية السبحة الوردية: السبحة الوردية هي الصلاة التي أوصى بها الله عبر كنيسته وعبر السيدة العذراء، بإلحاح كبير إلى الجميع، كطريق وباب إلى الخلاص. هناك صلوات عديدة جميلة جداً، يمكنها أن تخدمنا كتحضير لنتقبل المسيح في القربان، ولكي نحافظ على اتصال ودي حميم مع الله. ولكن يبدو لي أنه لا يوجد أي صلاة يمكننا أن ننصح بها، فتكون الأفضل للجميع كصلاة الوردية. لا نعرف لماذا أراد الله، الذي هو أب ويفهم أفضل منا حاجات أبنائه، أن يطلب صلاة الوردية يومياً. لقد خضع لأبسط مستوى من أجلنا كي يسهل لنا طريق الوصول إليه. إن صلاة الوردية يمكن تلاوتها جماعياً، أو فردياً، في الكنيسة أمام القربان الأقدس، أو في المنزل مع العائلة أو بمفردنا، أو في الطريق عندما نذهب في رحلة. يتألف يومنا من 24 ساعة، فليس بالكثير علينا لو وفرنا ربع ساعة للحياة الروحية، لمحادثتنا الحميمة والودية مع الله. 
   الحادي عشر _ نداء لتكريم قلب مريم الطاهر: جميعنا نعرف ما الذي يمثله قلب الأم في العائلة: إنه الحب، فالحب هو الذي يدفع الأم إلى السهر قرب مهد إبنها، وإلى التضحية والعطاء والدفاع عن ولدها. يثق كل الأبناء بقلب الأم، كما يعرفون جميعهم أنهم سيجدون فيه المكان المفضل الحميم، ويحصل الأمر عينه مع العذراء مريم. هذا ما جاء في الرسالة: " قلبي الطاهر سيكون ملجأك والطريق الذي يقودك إلى الله ". إذن فقلب مريم هو بالنسبة لجميع أبنائه الملجأ والطريق إلى الله. إن تثبيت التكريم لقلب مريم الطاهر، يعني حمل الأشخاص على تكريس كامل للارتداد والعطاء والتقدير الحميم والاحترام والحب. إذن يريد الله بروح التكريس والارتداد، أن يثبت في العالم التكريم لقلب مريم الطاهر. 
   الثاني عشر _ نداء لإعطاء أهمية للحياة الأبدية: نرغب جميعنا في المحافظة على الحياة الزمنية التي تمر مع الأيام والسنين والأعمال والأفراح والأحزان والآلام، ولكم كم يقل اهتمامنا بالحياة الأبدية ! ومع ذلك فهي الوحيدة الحاسمة والتي تدوم إلى الأبد. عندما خلق الله الكائنات البشرية، وجهها إلى الحياة الأبدية عبر مشاركته حياته الإلهية. لذلك خلق الله الإنسان على صورته. فالجسد البشري قد استخرج من الأرض، ولكن الإنسان حصل على الحياة من الله ذاته، من نفحة خلاقة من شفتيه. لذلك فإن نفسنا هي كائن روحي تتشارك مع حياة الله وهي خالدة. عندما لا يعود الجسد قادراً على التعاون مع عمل النفس، تتخلى عنه هذه الأخيرة وتطير نحو مركز انجذابها الذي هو الله. ولكن على مشاركتنا في الحياة الأبدية أن تكون حاسمة بين حقيقتين مختلفتين: السماء وجهنم.
   الثالث عشر: نداء إلى الرسالة: الرسالة هي متابعة مهمة المسيح على الأرض، علينا أن نكون معاونين للمسيح في عمله الفادي، أي في خلاص النفوس. هناك رسالة الصلاة التي يجب أن ترتكز عليها كل الرسالات الباقية، لكي تكون فعالة ومثمرة. هناك رسالة التضحية أو الذين يضحون بأنفسهم ويتنكرون لذواتهم من أجل خير إخوتهم. كما أن هناك أيضاً رسالة المحبة التي هي حياة المسيح مولودة من جديد، عندما نسلم أنفسنا إلى الله من أجل خدمة القريب.
   الرابع عشر _ نداء إلى المثابرة على عمل الخير: إن التكريس في الحق يعني تقديم أنفسنا بالكامل لله وللنفوس بدافع حب الله، كما يعني كذلك المثابرة في خدمة الله والقريب وحبهما، ومتابعة السير في الطريق التي رسمها الله في الحق. لأن شعارات العالم هي وهم ورياء. لهذا السبب يكرهنا العالم ويضطهدنا ويتجنى علينا. إن العالم يطوقنا بالحسد والغيرة والكراهية تماماً كما يفعل الشيطان. لذلك تدعونا رسالة فاطيما لمتابعة الصلاة لكي نحصل على السلام.
   الخامس عشر _ نداء إلى التوقف عن إهانة الله: نحن مدعوين إلى احترام أولى وصايا شريعة الله، أي حب الله. إن وصية حب الله لا تأتي فقط بالمرتبة الأولى بالنسبة للعظمة الفريدة للشخص الموجه إليه. ولكن أيضاً لأن هذا الحب عليه أن يدفعنا إلى إتمام بقية الوصايا الأخرى بأمانة. 
   السادس عشر _ نداء إلى تقديس العائلة: لقد أوكل الله إلى العائلة رسالة مقدسة لمشاركته عملية الخلق. إن قراره بإشراك الكائنات الحقيرة بعملية الخلق الخاصة به، هو تجلّ عظيم لطيبة الله الأبوية. فهذا يشبه إشراكهم بقدرته على الخلق، والرغبة في استخدام أبنائه لتكثير حيوات جديدة تزهر على الأرض وتهدف إلى السماء. لقد أراد الخالق الإلهي هكذا أن يؤكل إلى العائلة رسالة مقدسة وهي تحول كائنين إلى واحد، فيشكلان وحدة بحيث لا يسمح بتفرقتهما. ومن جراء هذا الاتحاد يريد الله أن يولد كائنات أخرى، كالنبات الذي يولد الزهور والثمار.
   السابع عشر _ نداء إلى كمال الحياة المسيحية: لم يأتي يسوع إلى العالم فقط كفادٍ، بل أيضاً كمعلم لكي يعلمنا الطريق الذي علينا أن نتبعه لكي نصل إلى الآب. الإرادة التي على يسوع أن يتممها هي عدم خسارة أي فرد من الذين وهبهم له الآب، ولكن تخليصهم ومساعدتهم على إحيائهم في اليوم الآخر. ولكن إحياءهم يتطلب مساهمة منا، أي إيماننا. في مسيرتنا تكون تعاليم المسيح نورنا وحياتنا، فإن تبعناها نتأكد من عدم الخطأ. من خلال ذبيحة يسوع على الصليب وإلى جانبه مريم أم الأحزان، أراد الله أن يظهر لنا عبرها قيمة الألم والتضحية وتقديم الذات من أجل الحب. اليوم في العالم لا نرغب كثيراً في التكلم عن هذه الحقيقة، بحيث نعيش بحثاً عن الملذات والأفراح الباطلة والدنيوية والرفاهية المبالغ فيها. لكن بقدر ما نهرب من الآلام بقدر ما نجد أنفسنا منغمسين في بحر الهموم والغموم والمرارة والمعاناة. فالحياة تحمل معها استشهاد الصليب، فلا يوجد في العالم من لا يتألم. لقد ورثنا سر الألم كنتيجة للخطيئة التي اقترفها أسلاف الجنس البشري. 
   الثامن عشر _ نداء إلى حياة تكريس كاملة لله: يقول الرب إن الذين يتابعون السير في الطريق المؤدي إلى الحياة قليلون، وكثيرون هم الذين يسلكون الطريق الواسع المؤدي إلى الهلاك. لقد اختارنا يسوع لكي نتبعه، هو البتول والمتواضع والمطيع والعفيف والفقير. الذين سمعوا يوماً صوت الله وقرروا قبول دعائه من أجل حياة تكريس كاملة، قد ارتفعوا إلى مستوى أسمى يميزهم عن الإخوة العاديين. ويطلب المعلم الإلهي إلى الذين اختارهم أن يذهبوا ليبشروا الشعوب باسمه.
   التاسع عشر _ نداء إلى القداسة: إنها وصية تجبرنا على إطاعة كل الوصايا الأخرى، لأن انتهاك واحدة منها، يعني الابتعاد عن القداسة. إن واجب التوق إلى القداسة هو واجب على الجميع، حتى على الذين لا يتمتعون بالإيمان. نحن الذين اختارنا الله للقداسة، نجتهد للتجاوب مع هذه الدعوة بأفضل ما فينا، من أجل النمو الشخصي وإفادة الجميع. فعبر استعمالنا الصحيح للهبات التي منحنا إياها الله، تعلوا قداستنا بالحب الذي ندين به إلى الله وإلى القريب ونتطهر ونصبح جديرين بالحياة الأبدية، لأن الحب هو الرباط لكل قداسة حقيقية.
   العشرين: نداء إلى السير على درب السماء: بدءاً من لحظة خلقنا، فإن حياتنا تمتد في السير، نحو طريق الأبدية حيث تقيم. أثناء إقامتنا على الأرض، نحن حجاج على درب السماء، هذا إن تبعنا الطريق التي رسمها الله لنا. هذا هو أهم شيء في حياتنا وهو أن نجيد التصرف، بحيث أنه بعد مغادرتنا هذا العالم وفي نهاية الأزمان، نستحق سماع يسوع يعزينا قائلاً تلك الكلمات: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم.
   وختاماً نجد أن الأخت لوسي بكتابتها ما خاطبها به صوت من السماء، تظهر ضمانةً وتأكيداً جديرين بعكس حقيقة الرؤى التي تأملتها. 
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد مريم العذراء سيدة فاطيما في يوم 13 أيار من كل سنة.


15
عيد الرحمة الإلهية
الشماس نوري إيشوع مندو
   عيد الرحمة الإلهية: إن الأخت فوستين ( هيلينا كوفالسكا ) للقربان الأقدس هي رسولة الرحمة الإلهية. وهي راهبة بولونية من راهبات سيدة الرحمة في فرصوفيا  عاصمة بولونيا . ولدت في 25 آب سنة 1905 من عائلة وضيعة، وكانت الابنة الثالثة بين عشرة أولاد. وقد ظهرت السيدة  العذراء في حياة من ستكون رسولة الرحمة الإلهية منذ طفولتها. وتروي الأخت فوستين حلماً رأته في ربيعها الخامس: " أنها جالت في الفردوس مع السيدة العذراء يداً بيد ". ولكن أحداً لم يعطي أهمية لهذا الحلم نظراً لصغر سنها. وفي ربيعها التاسع سنة 1914 احتفلت هيلينا بمناولتها الأولى، واكتشفت عظائم الصلاة، الأمر الذي شغل بال أمها. وكانت تقول ببساطة:  "  أظن أن ملاكي الحارس هو الذي يوقظني أثناء الليل لكي أصلي ". وبسبب فقر عائلتها ذهبت إلى المدرسة لسنتين فقط، وبعدها كانت تساعد العائلة في أعمال الحقل، وحراسة الماشية، وتقوم بأعمال المنزل والمطبخ.
  نِعمُ الرب ظاهرة في حياتها منذ صغرها، ففي ربيعها الخامس عشر قالت لأمها:  " يجب أن أدخل الدير ". ولكن والديها كانا معارضين بشدة لهذه الفكرة بسبب فقرهما وعجزهما عن تأمين جهاز الرهبنة. وهذا الرفض سبب لها كآبة كبيرة وحاولت أن تسكب هذا الصوت الداعي لأن تكرس حياتها للرب متجهة نحو أباطيل الحياة. ولكن في الأول من آب 1923 أنتصر هذا الصوت الخفي، وتروي هلينا ما حصل لها: " ذات مساء كنت مع إحدى أخواتي في حفلة ساهرة، وبينما كان الجميع يمرح كنت أشعر في داخلي بقلق كبير. لما بدأت بالرقص رأيت فجأة بقربي يسوع معذباً وعرياناً ومثخناً بالجراح قائلاً لي: إلى متى عليَّ أن أحتملكِ، وإلى متى ستخيبين أمل؟. عند ذلك توقفت الموسيقى العذبة بالنسبة لي، وغاب كل الحضور عن ناظري، ولم يبقى إلا يسوع وأنا ". 
   تركت هلينا أصدقاءها خلسة واتجهت نحو كاتدرائية القديس ستانيسلاس كوستكا، وأمام القربان المقدس سألت الرب أن يُعلمها مشيئته. وفجأة سمعت هذه الكلمات: " اذهبي حالاً إلى فرصوفيا وهناك ستدخلين الدير ".
   في تلك الليلة غادرت هيلينا منزل والديها ولم تُخبر بذلك إلا أختها فقط، واتجهت نحو فرصوفيا ولم تكن تعرف أية وجهة تأخذ. فالتجأت إلى أمها العذراء متضرعة: " يا مريم أمي قودي خُطاي ". فقادتها السيدة العذراء إلى ضيعة صغيرة حيث دخلت كنيستها لتصلي، طالبة من الرب أن يُبين لها إرادته.
   تتالت القداديس وخلال واحد منها سمعت هذه الكلمات: " اذهبي وتكلمي مع هذا الكاهن واخبريه كل شيء وهو سيشرح لك ما عليك فعله . وبعد نهاية القداس توجهتُ إلى الكاهن وأخبرتُه كل شيء، فتعجب في بادئ الأمر، ولكنه كي أضع ثقتي بالله وبتدبيره ". " قدمني هذا الكاهن إلى سيدة تقية فأقمت عندها، وعملت كخادمة إلى أن طرقتُ باب رهبانية جمعية راهبات سيدة الرحمة، وذلك في الأول من آب سنة 1924. وكانت هيلينا في ربيعها التاسع عشر. " بعد مقابلة صغيرة مع الأم الرئيسة دعتني إلى التوجه إلى رب البيت وسؤاله إذا كان يقبل بي. فتوجهت بفرح عظيم إلى الكنيسة وسألتُ: يا سيد هذا البيت هل تقبل بي؟ هذا ما طلبته مني إحدى الراهبات. وحالاً سمعت: أقبل، إنكِ في قلبي ". ولكن لأسباب عديدة مكثت هيلينا في العالم لفترة أخرى، حيث واجهت صعوبات جمة. وأما الرب فلم يحجب نعمه عنها. " فقد كرستُ له ذاتي كلياً، وفي عيد الرب سكب في نوراً داخلياً وأعطاني معرفة عميقة له، فهو الخير والجمال الأسمى، فعرفت كم أن الله يحبني محبة أزلية ".
   سنة 1933 أبرزت الأخت فوستين نذورها المؤبدة، واتخذت اسمها الجديد " ماريا فوستين ". وقد عملت في الدير كطباخة أولاً، وبسبب صحتها تنقلت لاحقاً بين العمل في بستان الدير وبين ناطورة المدخل. وكانت دائماً تحافظ على هدوئها ومرحها وبساطتها، وكانت متزنة ومجتهدة، تعطي بذلك المثل للجميع بحماسها وإخلاصها اللامحدود. وبالرغم من صحتها الهزيلة كانت طاعتها وتواضعها ومحبتها مثالية. إن السنوات الأربع عشرة من حياتها الرهبانية كانت حواراً دائماً وشبه متواصل مع الرب يسوع، واستشهاداً جسدياً ونفسياً طويلاً تقبلته بفرح وقدمته لأجل خلاص العالم. وفي الحادي عشر من أيار سنة 1936 كان تشخيص الطبيب أن الأخت فوستين مصابة بمرض السل الرئوي والإمعائي. وقد تحملت منه أوجاعاً أليمة لفترة طويلة. وقبل ثلاثة عشر يوماً من وفاتها إذ هي طريحة الفراش في المستشفى، كانت كل يوم تتناول القربان المقدس من يد ملاك كان يزورها لهذه الغاية.  وفارقت الحياة في الخامس من تشرين الأول سنة 1938 في الدير في كراكوفيا ، وعيناها مسمرتان بصورة المسيح وبصورة الحبل بلا دنس. ماتت دون أن تعاني لحظات النزاع الرهيبة عن عمرٍ كعمر المسيح، ثلاث وثلاثين سنة. تقدمت دعوى تطويب الأخت فوستين سنة 1966، وفي الثامن والعشرين من آذار سنة 1981 بدأ التحقيق في شفاء السيدة الأميركية مورين ديغان، وقد ثُبتت هذه العجيبة في سنة 1992. أما في سنة 1993 أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني طوباوية، وذلك يوم عيد الرحمة الإلهية الواقع في الثامن عشر من نيسان من تلك السنة. ومجمل الرسالة التي حملتها الأخت فوستين يلخصها الإنجيل حرفياً : " الله محبة ". تقول الأخت فوستين في يومياتها: " إن الصفة الثالثة للرب هي الحب والرحمة، وقد فهمتُ أن هذه الصفة هي ميزته الكبرى، لأنها توحد بين الخالق ومخلوقاته. إن حبه الفائق ورحمته اللامحدودة يتجليان في تجسيد الكلمة وفي تدبيره الخلاصي بالفداء ". 
   فقد خاطبها يسوع قائلاً: " يا ابنتي كلَّمي الكهنة عن رحمتي الفائقة، إن شعلة رحمة قلبي تُحرقني وأريد أن أسكبها على النفوس. لكن تلك النفوس لا تصدق أنني إله طيب ومحب ". فالأخت فوستين تفتح أعيننا وقلوبنا من خلال رسالتها على الحب المصلوب. فقد قال لها يسوع: " أرغب في أن تفهمي بعمق ذاك الحب الذي يحترق به قلبي للنفوس، ويمكنك فقط فهمه من خلال التأمل بآلامي. استرحمي قلبي للخطأة، أنا أرغب في خلاصهم ".  وتقول الأخت فوستين: " ما من أحد ينكر أن الرب رحيم، ولكنه يريد أن يعرف العالم بأسره ذلك. ويريد من النفوس أن تتعرف عليه كملك الرحمة، وذلك قبل رجوعه كديدان ".
   ومن خلال ما قال لها يسوع نفهم ما هي رسالة الأخت فوستين: " ابنتي الحبيبة أكتبي . . . أعلني للعالم أجمع عن حبي ورحمة قلبي. إن شعلة رحمتي تحرقني، وأريد أن أسكبها على النفوس. حاولي يا ابنتي قدر المستطاع أن تنشري عبادة رحمة قلبي، وقولي للبشرية المعذبة أن تلتجئ إلى قلبي الرحوم، وأنا أهبها السلام. آه لو عرفت نفوس الخطأة مدى رحمتي لما هلك عدد كبير منها. قولي لها أن لا تخشى من الدنو منِّي. كلميها عن رحمتي الفائقة. ستفعلين ذلك في هذه الحياة وفي الأخرى. قومي بأعمال رحمة، يجب أن تنبع هذه الأعمال من حبك لي. عليك أن تظهري دائماً وأبداً رحمة للجميع. ليس باستطاعتك التنحي أو الاعتذار أو التدبير عن عدم فعل الرحمة. اقترح عليك ثلاث رسائل كي تقومي بأعمال الرحمة تجاه القريب: الأولى هي العمل. الثانية هي الكلمة. الثالثة هي الصلاة. هذه الدرجات الثلاث تلخص كمال فعل الرحمة ". 
   وفي الثاني والعشرين من شباط سنة 1931 ظهر يسوع لأول مرة للأخت فوستين. وعن هذا الظهور تقول: " ذات مساء كنت في غرفتي، فرأيت يسوع مرتدياً رداءً أبيض. يده اليمنى مرفوعة تبارك، ويده اليسرى تلامس رداءه. على صدره من جهة القلب، ومن الفسحة يسطع شعاعان، الأول أحمر والثاني أبيض. كنت أحدق بصمت بسيدي يسوع، ونفسي يعتريها الخوف والفرح معاً. بعدها قال لي: أرسمي لوحة بما ترين وضعي عليها الكتابة التالية: " يا يسوع أنا أثق بك ". إني أرغب في أن تكرم هذه الصورة في كنيستكِ أولاً، ومن ثم في العالم أجمع. أعد كل نفس تكرم هذه الصورة بأنها لن تهلك، كما أعدها بالانتصار على أعدائها في هذه الحياة، وبخاصة عند ساعة موتها، أنا أدافع عنها بذاتي كمجدي   الخاص ". وبينما كانت تصلي سمعت الأخت فوستين صوتاً داخلياً: " هذان الشعاعان هما الدم والماء: الشعاع الأبيض يرمز إلى الماء الذي يطهر النفوس. والشعاع الأحمر  يرمز إلى الدم الذي هو حياة النفوس. هذان الشعاعان فاضا من أعماق رحمتي لما طعن بحربة قلبي المنازع على الصليب. وهما يحميان النفوس من غضب الآب، طوبى للذي يهتدي بنورهما لأن يد الله العادل لن تطاله. إن الجنس البشري لن ينال الخلاص إذا لم يلتجئ إلى رحمة قلبي اللامحدودة. يا ابنتي كلّمي العالم كله عن رحمة قلبي، لتتعلم الإنسانية جمعاء التعمق في رحمتي اللامحدودة. إنها علامة لآخر الأزمنة، بعدها يأتي يوم الدينونة. لكن قبل أن أظهر في يوم الدينونة كديان عادل، سأفتح واسعة أبواب رحمتي. من لا يريد أن يمر بأبواب رحمتي ينبغي أن يمر بأبواب عدالتي ". وتضيف الأخت فوستين:  " ذات يوم قال لي يسوع: نظرةُ عيناي في هذه الصورة هي ذاتها وأنا على الصليب ". فالثقة هي نداء يسوع الكبير، فهو يريد إحياء القلوب بالثقة برحمته اللامحدودة، وذلك من خلال الأخت فوستين: " عليكِ أنتِ أولاً أن تتميزي بالثقة برحمتي. باستطاعة أكبر خاطئ الترقي إلى أعلى درجات القداسة لو أنه يثق فقط برحمة قلبي ". ويضيف يسوع بأنه يتألم من حذر النفوس منه: " آه كم أن شك النفوس يؤلمني، تُقرُّ هذه النفس بأنني قدوس وعادل ولا تؤمن بأنني رحوم، وهي تحذر من حبي لها. إن الشياطين تؤمن أيضاً بعدالتي ولكنها لا تؤمن بطيبتي ".
   لقد طلب يسوع من الأخت فوستين بإلحاح: " أرغب في أن يعلن الكهنة رحمتي الكبيرة للنفوس الخاطئة. لا تخافن هذه النفوس من الدنو مني، فإن شعلة رحمة قلبي تحرقني وأريد سكبها على النفوس. إن حذر النفوس مني يمزق قلبي، ولكن حذر نفس مختارة يؤلمني أكثر. فبالغم من الرحمة التي أغمرها بها، فإنها تحذر مني، حتى موتي لا يكفيها ولكن الويل لمن يستهين برحمتي ".
   وقد أوصاها يسوع: " صلي قدر استطاعتك للمنازعين، احصلي لهم على الثقة برحمتي لأنهم هم الأكثر حاجة لها، وهي تنقصهم جداً. إعلمي أن الحصول على نعمة الخلاص الأبدي لبعض النفوس متعلق بصلاتك. وأفضل أن أترك السماء والأرض تزولان على أن أترك نفساً تثق برحمة قلبي تذهب إلى الهلاك. وإذا تُليت مسبحة الرحمة بالقرب من منازع، أقف أنا بين النفس وبين الآب. ولكن ليس كديان عادل، إنما كمخلص رحيم ".
   وعن أهمية المناولة والإعتراف قال يسوع لفوستين: " أرغب أن أتحد بالأنفس، واعلمي عندما أدخل إلى قلوب الناس عند تناولهم القربان المقدس، تكون يداي مملوءتان بشتى أنواع النعم، وأريد أن أهبها لهم. ولكن تلك الأنفس لا تعيرني أي إنتباه فتتركني وحيداً وتهتم بأمور أخرى. وعندما تريدين الإعتراف، غوصي كلياً وبثقة تامة في أعماق رحمتي، حتى أتمكن من أن أسكب في نفسكِ كل كنوز نعمي. وأعلمي أنني أنا من ينتظرك كل مرة تتقدمين للإعتراف، لأنني أستتر وراء سلطان الكاهن، وأنا فقط من يفعل في نفسك. وهنا في كرسي الإعتراف تلتقي النفس الخاطئة بإله الرحمة. قولي للنفوس أنها لا تستطيع أن تنهل من نبع رحمتي، إلا إذا تميزت بالثقة التامة. وأن سيول نعمي تغمر النفوس المتضعة، أما المتكبرون فيبقون دائماً بحال البؤس والفقر، لأن نعمي تحيد عنهم وتنسكب على المتواضعين ".
   ويطلب يسوع من الأخت فوستين للاحتفال بعيد الرحمة الإلهية: " إني أرغب في أن يقام احتفال كبير في الأحد الذي يلي عيد الفصح. إن عيد الرحمة فاض من قلبي لتعزية العالم أجمع. وفي هذا اليوم تكون أبواب رحمتي مفتوحة، وأسكب فيضاً من النعم على النفوس التي تقترب من نبع رحمتي. كل نفس تتقدم من سر الإعتراف وتتناول جسدي تنال غفراناً كاملاً لخطاياها وعفواً عن عقابها. يا ابنتي كلمي العالم أجمع عن رحمتي اللامحدودة. أرغب أن تكون هذه الرحمة ملجأ وملاذاً لكل النفوس، وبخاصة للخاطئة منها. لا تخشى أية نفس من الإقتراب مني، حتى ولو كانت خطاياها قرمزية اللون. كل نفس تلتجئ إليَّ سأعطيها نعمة التأمل في حبي ورحمتي إلى الأبد".   
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد الرحمة الإلهية في يوم الأحد الجديد من كل سنة.



16
عيد القديسة كاترينا السيانية
الشماس نوري إيشوع مندو
   القديسة كاترينا السيانية: ولدت في سينّا بإيطاليا سنة 1347. والدها يدعى جياكومو دي بنينكاسا كان يعمل في صباغة الأقمشة، ووالدتها تدعى لابا. كانت أسرة بنينكاسا ذات حسب ونسب، لكنها كانت قد فقدت ثروتها، وأضحت تأكل خبزها بعرق جبينها. إلا أن عظمة العاطفة والأخلاق الشريفة كانت لا تزال متغلغلة في دمائها. وأشرقت كاترينا منذ حداثتها بنعومة طباعها، ولطف مستعذب في حركاتها وسكناتها، مع سهولة في انقيادها، حتى كانت موضوع مسرة لأبويها وأخوتها، وكانوا يدعونها " بهجة " تحبباً ودلالاً.
   ومنذ حداثتها أظهرت ميلاً إلى التقوى والصلاة والشفقة على الفقير. فكانت لذتها في أن تهب البؤساء كل ما كان يجود به عليها أهلها من دراهم وحلويات وفاكهة. وطبعت أمها في قلبها منذ نعومة أظفارها محبة البتول مريم، وعلمتها تلاوة السلام الملائكي، فشغفن كاترينا بمحبة العذراء المجيدة.
   ومنذ صغرها ألقى الرب نظره الأبوي العطوف على تلك الطفلة، وبدأ يغمر أيامها وحياتها بالمواهب السنية والعطايا العجيبة. فكان لها من العمر ست سنوات لما ذهبت يوماً مع أخيها الصغير استفانس إلى زيارة أختها في بيتها. وفيما هي عائدة من زيارتها، وقد صارت بقرب كنيسة القديس دومنيكس، إذا برؤيا سماوية تجتذبها. فشخصت بأبصارها، وإذا بها ترى المسيح بلباس الأحبار، وقد ظهر لها وأخذ يبسم لها بعطف وحنان. وكان الرسل القديسون بطرس وبولس ويوحنا الحبيب يحيطون به. ثم باركها الرب وهي شاخصة إليه، مأخوذة بسنى طلعته وبهائه. ولما جذبها أخوها بيده وأيقظها من غفلتها، نظرت إليه وقالت: " لو رأيت ما كنت أرى من المنظر الفتَّان، لما كنت أيقظتني ! ". ثم أعادت نظرها ثانية لتتابع التحديق إلى نعيمها، لكن أنوار الرؤيا كانت قد انطفأت. فأخذت كاترينا تبكي لزوالها. 
   ومنذ تلك الساعة تبدل كل شيء في حياتها، ولم يبقَ لها من عادات وأخلاق الأطفال سوى نقاوتهم. وصارت نظير الفتيات الكاملات في عقلها وكلامها وأعمالها، من تقى وفهم ورصانة ووقار، حتى صار يُجب بها كل من رآها وتحدث إليها. وعكفت على الصلاة والإماتات والتأمل. وبدأت منذ تلك الأيام في سبيل القريب رسالتها. فصارت تجمع الفتيات والفتيان الصغار من أهلها ومعارفها وجيرانها، وتقوم ترشدهم وتعلمهم الصلوات، وتزرع في قلوبهم محبة الله والعبادة الجميلة لأمه الطاهرة.
   وكان لها من العمر سبع سنوات لما عزمت على الإنفراد في البرية، لكي تتعبد لله وتكون له تعالى وحده. فتركت المدينة وسارت شوطاً بعيداً في الحقول، إلى أن وصلت إلى مغارة منفردة راقت لها، فعزمت على أن تتخذها منسكاً لها. ولكن العناية الإلهية لم تسمح لطفلة صغيرة مثلها بتلك الحياة الشاقة. وكان قد دعاها إلى رسالة عظيمة، وحياة عمل كبير غير عمل النسك والإنفراد. فحملتها ملائكة السماء وأعادتها من حيث أتت. فنظرت وإذا بها على أبواب المدينة، فعادت إلى بيت أبيها.
   وفي البيت سجدت أمام أيقونة والدة الإله، وصلت قائلة: " أيتها العذراء الطوباوية، يا أم الحب الجميل الذي وضعه الله في قلبي، وأنا أشعر أنه يفوق كل حب عالمي، يا من هي زعيمة الذين خصصوا للرب الغيور نقاوة جسدهم وطهارة قلبهم، أضرع إليك أن لا تنظري إلى حقارة أمتك، بل أنعمي عليَّ بأن يكون يسوع ابنك ختني وعريس حياتي، فإني أحبه بكل جوارح قلبي. وأنا أعدكِ يا سيدتي، وأعده هو أيضاً، بأن أحافظ على بتوليتي ونقاوة قلبي طول حياتي، حباً له، فلن أقبل عريساً سواه أبداً مدى  الحياة ". ومنذ ذلك اليوم بدأت كاترينا الإماتة والتجرد والتواضع والكفر بالذات، لكي تستطيع بواسطة هذه الفضائل أن تبقى أمينة في وعودها ليسوع. وفكرت بالدخول في إحدى الرهبانيات لتحافظ على نذورها ومقاصدها.
   وكانت في مدينة سينّا رهبانية ثالثة للقديس دومنيكس، تدعى رهبانية التكفير. وكانت المشتركات فيها من النساء المتزوجات والأرامل، يلبسن ثوباً أبيض وجبة سوداء، وكن يتعاطين أعمال العبادة وأنواع الإماتات. إلا أن الحياة لم تكن مشتركة بينهن، بل كن يعشن في بيوتهن. فدخلت كاترينا في تلك الرهبانية الثالثة، ولبست ثوب القديس دومنيكس، وقامت تمارس وهي في بيتها وبين ذويها، أعمال أعظم الراهبات عبادةً ونسكاً. وكان لها من العمر ست عشرة سنة. فارتاعت أمها لتلك الحياة القشفية، وكانت تعلل النفس بنصيب طيب لابنتها، وبعريس يضمن لها هناء حياتها. فقامت تعاكس ابنتها في أميالها ورغائبها، ونزعت عنها ثوب النسوة المتعبدات، واضطرتها أن تلبس وتتزين. فخافت كاترينا أن يعود حب المجد العالي فيستولي على قلبها. فاستشارت في ذلك مرشدها من الرهبان الدومنيكيين، فأشار عليها بقص شعرها، لتجعل أمها أمام أمر واقع. فقصته وجزته وطرحته عنها.
   فجنت أمها جنونها، وثار ثائرها، واندفعت تؤنبها بحرارة، وتتوعدها بكل مضايقة، لتردعها عن عزمها. فوكلت إليها كل الأشغال البيتية لتعيقها عن التفرغ للصلاة، وتمنعها من التأمل. فأطاعت كاترينا أمها بكل وداعة، وقامت تخدم البيت بكل نشاط وتواضع وسرور. إلا أنها بقيت دائمة الاتحاد بالله، وصارت تخصص ساعات طوالاً من الليل للصلاة ولمناجاة ختنها الإلهي، لتعوض ما فاتها من أعمال العبادة في النهار. فتحركت الشفقة في قلب أبيها عليها. ففاجأها مرة وهي راكعة تصلي في مخدعها، ورأى حمامة بيضاء ترفرف فوق رأسها. فتخشع وفهم أن دعوة ابنته دعوة إلهية. فأطلق لها الحرية في عبادتها، ومنع أمها عن أن تعترضها. فصفا الجو لتلك الابنة الملائكية، وراحت تحقق أحلامها في ممارسة أعمال العبادة والتقشف وخدمة النفوس، والاستزادة يوماً فيوماً من محبة الله.
   وما كادت كاترينا تحظى برضى والديها حتى بدأت حياة النسك. وقد فاقت كبار النساك بأصوامها وصلواتها وأسهارها، فصارت تجلد نفسها حتى تنفر الدماء من أعضائها. ولبست المسح، وتمنطقت بزنار من حديد شائك، ومنعت نفسها عن الأكل والنوم، إلا ما كان منه ضرورياً للحياة. ثم لزمت الصمت، وبقيت ثلاث سنوات لا تكلم أحداً، ولا تستقبل أحداً سوى مرشدها الأب الدومنيكي ريموند دي كابو، الذي أضحى فيما بعد تلميذاً لها، وكتب سيرة حياتها، وصار من بعد وفاتها أباً عاماً لرهبانيته الدومنيكية.
   وكانت في تأملاتها وإنجذاباتها الروحية السرية كثيراً ما يرتفع جسدها عن الأرض ويلحق بنفسها السابحة في آفاق السماء. وتراءى لها الرب يسوع يوماً، وكان بصحبته كل من أمه البتول مريم ويوحنا اللاهوتي وبولس الرسول والقديس دومنيكس وداود النبي المرنم. وإذا بالعذراء القديسة تتقدم من كاترينا، وتمسك بيدها، وتقدمها ليسوع ابنها، وتطلب لها منه خاتم العرس السري. وكان بيد يسوع خاتم من الذهب اللماع، وفي وسطه ألماسة تتلألأ حسناً وبهاءً، ومن حولها أربعة من الجارة الكريمة الجميلة. فنزعه من يده وقدمه لها وقال: " أنا الإله مبدعكِ، وأنا المخلص فاديكِ، اتخذك اليوم عروسة لي بالإيمان. وهذا الخاتم يكون عربون اتحادي بكِ. فأحفظيه نقياً إلى اليوم الذي فيه نحتفل بالعرس الأبدي في السماء ". فطار قلب كاترينا فرحاً، وملأت العذوبة السماوية جوارحها كلها سروراً. ولما زالت الرؤيا بقي الخاتم في يدها، وكانت تراه هي وحدها يلمع دائماً في أصبعها.
   إلا أن حياة كاترينا لم تكن كلها أفراح قلبية ومسرات داخلية. بل قد افتقدها الله بتجارب روحية كبرى. وقد شن الشيطان عليها حرباً لكي يهلكها. لكنها تحملت المضايقات ولم تكن تكترث لها. وكانت تسمي ملاك الظلمة بــ " الحيوان الشرس ". وكان يقويها في ذلك الحرب المستعرة تناولها اليومي للقربان الطاهر. لأن المسيح هو غذاء النفوس، وهو قوتها وفرحها ونعيمها. فكافأها الفادي على ثباتها في محبته وخدمته، فتراءى لها حاملاً بيديه قلباً جميلاًَ مملوءاً حياة. فتقدم منها وفتح لها صدرها، ووضع فيه ذاك القلب وقال لها: " خذي يا ابنتي قلبي هذا، فهو يكون لك عربون الحياة ". ومنذ تلك الساعة صارت كاترينا تشعر دائماً في جوفها لا باضطرام عاطفة المحبة نحو الله فحسب، بل كأن ناراً حقيقية تحرقها وتطهر عواطفها وتصقل ذهب فضائلها. ولقد شاهدت رفيقاتها على صدرها علامة حمراء كأنها أثر حسي لجرح حقيقي. ثم دعا الله كاترينا إلى ترك الحياة النسكية المستترة، وإلى النزول إلى ميدان العمل في خدمة المرضى ومساعدة الفقراء. وكان أبوها رجلاً فاضلاً شفيقاً على البؤس والبؤساء، فكان يسمح لها أن تأخذ من بيته كل ما تشاء. فكانت تحمل الدقيق والخمر والزيت، وتذهب فتوزعها ذات اليمين وذات اليسار. ومراراً كثيرة بارك الرب تلك الأغذية بين يديها وكثرها، كما فعل هو بالخمس الخبزات. وكان في بيت أبيها برميل مملوء خمراً، فلم يعد ينقص مطلقاً. وكافأ الرب كاترينا على رحمتها بأنه ظهر لها مراراً بشكل إنسان فقير، ونال منها الإحسان، ثم تراءى لها ببهائه الإلهي وملأ قلبها ضياءً وأفراحاً.
   وكانت يوماً تصلي في كنيسة القديس دومنيكس، فأقبل عليها رجل فقير وطلب منها صدقة. فلم يكن لديها ما تسعفه به. فنزعت صليباً صغيراً من الفضة كان معلقاً بسبحتها ودفعته إليه. وفي الليلة التالية تراءى لها يسوع وبيده ذلك الصليب، لكنه كان محلى بالألماس والحجارة الكريمة. فقال لها: " أنتِ أعطيتِني نهار أمس هذا الصليب، وأنا سأحفظه لكِ وأعيده إليك هكذا مزيناً يوم الدينونة ".
   وكانت كاترينا لا تسمع بأناسٍ متخاصمين إلا وتذهب إليهم، وتسعى لأجل مصالحتهم. فكانوا يسمعون لها بارتياح، ويقبلون نصائحها، ويعملون بإرشادها. فصار لها نفوذ عظيم في مدينة سينَّا، وطارت شهرتها فملأت بلاد إيطاليا كلها.
   ولعل أعجب ما نقرأ في حياتها ما وهبها الله مجاناً وبنوع مستغرب، من العلوم الفلسفية واللاهوتية والروحية العالية، حتى أضحت فيلسوفاً كبيراً وعالماً من علماء اللاهوت والروح. وهي لم تتعلم في المدارس، ولم تأخذ حتى القراءة والكتابة على أحد. فوضعت تلك المعارف التي أوحى بها الله إليها في خدمة النفوس، وصارت تعلم وتكتب، ويجتمع الناس حولها، ويسمعون لها، ويؤخذون بفصاحتها، وعذوبة تعليمها، وغزارة المادة التي تتدفق من أقوالها.
   ووضعت كاترينا كتابات شائقة، أهمها كتابها الروحي " المحادثة " سنة 1378. ولها رسائل كثيرة في شتى المواضيع الروحية والسياسية والاجتماعية، لك فئات الناس من باباوات وكرادلة وملوك وأمراء ورؤساء أديار والشعب البسيط أيضاً.
   ولقد أنشأت للرهبانية الدومنيكية الثالثة ديراً على اسم " سيدة الملائكة "، وديراً آخر في قصر بلكارو العظيم، حيث سمح لها الحبر الأعظم بأن تجعل تلك الرهبانية الثالثة ذات حياة مشتركة منتظمة.
   وكان لكترينا ثلاث وعشرون سنة من العمر لما حملتها محبتها لله، وغيرتها على خدمة الكنيسة أمها، على النزول إلى ميدان السياسة في تلك الأيام المضطربة. وكانت البابوية قد تركت روما وأقامت في فرنسا، في قصر مدينة أفينيون ، بعيداً عن ثورات الجمهوريات والممالك الإيطالية. فبدأت بالكتابة إلى البابا غريغوريوس الحادي عشر  المقيم في أفينيون، وتكلمه بكلام المسيح ولغة الإنجيل قائلة: " آه يا أبت الحبيب، أتضرع إليك باسم المسيح المصلوب أن تكون حليماً مع بنيك، وأن تنتصر على كبريائهم وشرورهم بروح التواضع والوداعة. أنت تعرف يا أبي أن الشيطان لا يُطرد بالشيطان، بل هي الفضيلة التي تطرده وتبعده. آه أيها الأب الأقدس، أناشدك الله أن تسعى إلى إقرار السلام قبل كل شيء، حتى لا يخسر أولادك الحياة الأبدية، الله يريد السلام ويبغض الحرب. فهلمَّ بنا نهاجم أعداءنا، حاملين راية الصليب المقدسة، وشاهرين سيف كلام الله المملوء عذوبة وقداسة. تعطف وأنظر إلى تضرعاتي هذه، وإلى صدق محبتي البنوية، وإلى الدموع التي أسكبها في سبيل الكنيسة. إني مستعدة أن أبذل حياتي لأجل الكنيسة وخلاص النفوس ". 
   ثم قامت رغم ضعف جسمها وانحطاط قواها، وسافرت إلى أفينيون، ومثلت أمام البابا، وكلمته بجرأة بنوية، وبينت أن الإصلاح يجب أن يبدأ أولاً بكبار رجال الكنيسة. فسمع لها البابا بانشراح ووافق على نظرياتها، وقرر العودة نهائياً إلى روما، رغم المعارضة الشديدة لبعض الكرادلة. وفي 13 من شهر أيلول سنة 1376 ترك أفينيون متوجهاً إلى روما، وبرفقته كاترينا ورجال البلاط البابوي. وما أن وصل البابا إلى روما بعد غياب قسري استمر 70 سنة حتى عادت المدن الثائرة في المملكة الرومانية إلى الطاعة، وتهللت جميع القلوب بعودة البابا إلى كرسي رئاسته ومملكته. فكان النصر حليف كاترينا أينما اتجهت وحلت.
   إلا أن كاترينا ما عتمت أن غاصت من جديد في بحر من الأحزان، لما بدأ الانشقاق العظيم في الكنيسة الغربية، في عهد البابا أربانس السادس  سنة 1378. فتألمت كثيراً، وكانت تهتف إلى يسوع بحرارة ودموع وتقول: " يا إلهي خذ هذا الجسد الذي وهبتني إياه وأحرقه بالنار. اسحق عظامي كما تشاء، لكن استجب لي، وأرأف بالبابا نائبك على الأرض ". ولم تكتفِ بالصلاة والدموع، بل كتبت إلى الملوك والأمراء، لتحملهم على الاعتراف بالبابا الشرعي أربانس السادس، وعلى نبذ البابا الدخيل أكلمنضس السابع الذي لجأ إلى قصر مدينة أفينيون. وسمعت أكثر الممالك لندائها، واعترفت بالبابا الشرعي أربانس.  فكان ذلك انتصاراً عظيماً لتلك الابنة السماوية، شقيقة الأبطال في كل الأجيال، وكان لها تعزية كبرى في أيامها الأخيرة على الأرض.
   وماتت كاترينا في روما سنة 1380، وهي لم تتجاوز الثلاثة والثلاثين ربيعاً. فحزنت الدنيا على فقدها. ومنح الله بشفاعتها نعماً غزيرة، وأجرى عجائب باهرة.
   وجعلها البابا بيوس الثاني  في مصف القديسين سنة 1461. والبابا بيوس التاسع ضم اسمها إلى أسماء شفعاء مدينة روما.
   وسوف تبقى القديسة كاترينا السيانية مجداً وفخراً للكنيسة، وكوكباً لماَّعاً بين كواكب البتولات المسيحيات على توالي الأجيال والأحقاب. فهي أعجوبة دهرها بقداستها الفائقة. وهي أعجوبة دهرها بما أنعم الله بهِ عليها من الرؤى والإنجذابات والإيحاءات، وظهور جروحات المسيح الخمس في أعضائها النحيفة الغضة. وهي أعجوبة دهرها بعلمها اللاهوتي السديد، ومعارفها الروحية السامية، وكتاباتها البديعة. وهي أعجوبة دهرها بما كان لها من الأثر العميق في حياة الكنيسة، وفي إعادة السلام بين الممالك والجمهوريات الثائرة المتعادية المتحاربة.       
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد القديسة كاترينا السيانية في 30 نيسان من كل سنة. 
                 
 


17
تذكار مار كيوركيس الشهيد  " مار جرجس "
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 12 / 1 _ 24 في ذلك الوقت قبض الملك . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس 12 / 1 _ 14 ألا بد من الافتخار؟ إنه لا خير . . .
القراءة الثالثة: متى 10 / 37 _ 42 من أحب أباه أو أمه أكثر مما يحبني . . .
                  + متى 16 / 24 _ 27 ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن . . .
                  + متى 19 / 27 _ 30 فقال له بطرس: ها قد تركنا نحن . . . 
   مار كيوركيس: ولد في مدينة اللد من أعمال فلسطين سنة 280. وكان أبوه من أصحاب الغنى والشهرة الاجتماعية. إلا أن التقوى والأخلاق المسيحية السامية كانت الزينة الكبرى التي تتلألأ في بيتهم. واستقدم الإمبراطور ديوكليسيانس والده ليضمه إلى حاشيته في نيقوميدية العاصمة الشرقية. فغادر بيته تاركاً تربية ابنه لعناية الوالدة. فقامت بواجبها خير قيام، وربت طفلها على المبادئ المسيحية.
   وما أن شب كيوركيس حتى توفي والده، فتركه يتيماً وحيداً، وترك والدته شابة حسناء في مقتبل العمر ووفرة الغنى. لكن تلك المرأة الفاضلة آلت على نفسها ألا تعرف شيئاً من نعيم الدنيا بعد زواجها، سوى إكمال تربية ولدها وتعليمه وتهذيب أخلاقه. فكافأها الرب بأن منحها ولداً أضحى إمام الشهداء، ومجد بلاده، وشفيع الكنيسة جمعاء.
   وما أن بلغ كيوركيس السابعة عشرة من عمره حتى دخل في سلك الجندية. فشاهده الإمبراطور ديوكليسيانس يوماً ممتطياً صهوة جواده، عالي القامة، بهي الطلعة، حاد النظرات. فاستدعاه وكلمه، فوجده لطيف الحديث كثير الأدب. فأحبه وأدخله في فرقة الحرس الملكي. وذكر ما كان لأبيه من الخدمات السالفة أمامه، فرقاه وجعله قائد ألف. فلم يكن بين القواد الرومانيين الفرسان من كان أجمل منظراً، وأعدل قواماً، وأشد حماسة من ذلك الفارس المسيحي.
   وسار ديوكليسيانس على منهاج من تقدمه من الملوك، فأخذ يضطهد المسيحيين ويذيقهم من صنوف العذابات أمرّها. فجرت الدماء كالأنهار في جميع الأمصار. فغضب كيوركيس لما صارت إليه حال المؤمنين، وما نزل بهم من الظلم. فبدأ يجاهر بلوم الإمبراطور، غير هياَّب ولا حاسب لغضب ذلك العاتي حساباً. فنصحه رفاقه أن يقلع عن ذلك، خوفاً من أن يحل به ما حل بغيره من سخط ذلك الجبار المستبد. أما كيوركيس فلم يعبأ بكلامهم، بل أزداد حماسة وانتصاراً لإخوانه في السر والعلانية.
   وعرف كيوركيس أن لا بد له من الوقوع بين يدي ذلك الظالم. لكن عزة نفسه أبت عليه إلا أن يجاهر بإيمانه وينتصر لإخوانه، ولو ناله من ذلك العذاب الشديد والموت الرهيب. وأخذت نفسه الشابة الوثابة تتغنى بعذوبة الاستشهاد، وحلاوة الموت حباً بالمسيح. وكان إذ ذاك ابن عشرين سنة فقط.
   ومن ثم جمع أمواله الكثيرة فوزعها على المساكين، واعتق من كان عنده من العبيد، وأخذ يستعد بالصلاة للموت القريب. ثم دخل على الإمبراطور، وأخذ يدافع بحماسة أمامه عن المسيحيين وعن معتقداتهم، ويدحض بجرأة ما ينسب إليهم من الافتراءات ظلماً وعدواناً. وطلب إلى الإمبراطور أن يترك لهم الحرية يتمتعون بها نظير سائر البشر.
   فغضب الإمبراطور من تلك الجرأة. لكنه كظم غيظه، مأخوذاً بسحر كيوركيس وفتنة كلامه. فقال له بهدوء: " أيها الشاب كن حريصاً على مستقبلك ". 
   فأراد كيوركيس أن يجيب عن ذلك الكلام. فاستشاط الإمبراطور غضباً، وأمر الجند أن يجردوه من سلاحه ويقودوه إلى السجن ويعذبوه. فاقتادوه إلى سجن مظلم، وهناك أخذوا ينكلون به. فأوثقوا رجليه وشدوهما بالحبال، وجعلوا على صدره حجراً عظيماً، وتركوه هكذا مطروحاً على الحضيض. لكن الشهيد البطل أخذ يسبح الله، ويعظم قدرة المسيح الملك. وهكذا قضى الليل يصلي ويترنم بأمجاد الرب يسوع.
   وفي الصباح استقدمه الملك، آملاً أن تكون تلك العذابات والإهانة الفظيعة قد كبحت حماسته، وهدأت ثورته، وأعادته إلى رشده. لكن كيوركيس مثل أمام الملك وظهر أشد صلابة وأكثر جرأة. فأمر الملك أن يوضع على دولاب كله مسامير، ثم أدير ذلك الدولاب بعنف. فتناثرت لحمان كيوركيس وتمزق جسده، وتشوه وجهه الرائع الجمال وتخضب بالدم. وفارت الدماء كالينابيع من كل أعضائه. لكنه احتمل ذلك العذاب بصبر وجلد، ولم يتأوه ولم يسمع له أنين.
   وبينما هو غائص في بحر تلك الآلام، طرق أذنيه صوت سماوي يقول له: " يا كيوركيس لا تخف لأني معك ". وظهر له بغتة رجل ينبعث منه نور، وعليه لباس أبيض، فعانقه وقبله وشجعه. فتقوَّى كيوركيس وأظهر ثباتاً وبأساً. فشدد الجند في عذابه. ولكن لم تخر عزيمته، بل بقي صابراً لا يئن ولا يتأوه، بل يسبح الله ويمجده. فلما رأى الحاضرون من الوثنيين تلك الشجاعة النادرة، آمن كثيرون منهم بالمسيح ونالوا إكليل الشهادة.
   أما الإمبراطور فقد أكبر في ذلك الشاب تلك الشجاعة الفائقة، وعزّ عليه أن يخسر قائد حرسه الهمام وابن صديقه القديم، فعمل على خلاصه. فأمر أن تضمد جراحه. ثم أتى به إلى حضرته، وأخذ يلاطفه ويتملقه بالوعود الأخاذة، لكي يثنيه عن عزمه ويحمله على الرجوع عما كان يظنه فيه عناداً ومكابرة.
   فتظاهر كيوركيس بالإقناع، وطلب إلى الملك أن يسمح له فيذهب إلى معبد الأوثان ويرى الآلهة. ففرح الإمبراطور لظنه أن كيوركيس قد عاد إلى صوابه، وقبِل أن يكفر بدين المسيح. وأراد أن يكون انتحال كيوركيس للوثنية علنياً باحتفال مهيب. فجمع مجلس الأعيان وجمهور الشعب، ليحضروا تقديم القربان للإله " أبولون "   من يد كيوركيس. فاجتمعوا وذهبوا إلى معبد رئيس آلهة المملكة، فغصَّ المعبد بألوف القادمين. واستعد الكهنة، ولبسوا الحلل الذهبية، ووقفوا ينتظرون. فجاء كيوركيس ورأسه معصوب، ويداه ملفوفتان بلفائف. فتقدم إلى تمثال أبولون وتفرس فيه، ثم رسم على نفسه إشارة الصليب، وخاطب الصنم وقال له: " أتريد أن أقدم لك الذبائح كأنك إله السماء والأرض؟ ". فخرج صوت من أحشاء الصنم يقول: " إنني لست إلهاً. بل الإله هو الذي أنت تعبده ". وفي الحال سقط ذلك الصنم على الأرض، وسقطت معه سائر الأصنام، فتحطمت جميعها. وخرجت من الأرض ومن الجدران أصوات منكرة هائلة أذعرت الحاضرين، فجمد الدم في عروقهم من شدة ما استولى عليهم من الخوف والهلع. فصاح الكهنة: " إن كيوركيس بفعل سحره الشيطاني قد حطم آلهتنا. فالموت الموت لهذا الساحر ". فثار الشعب على كيوركيس وكاد يمزقه لو لم يتداركه الجند ويخرجوه من بينهم.
   فأمر الملك أن يقطع رأسه ليهدئ بذلك ثائرة الشعب. فركع كيوركيس وشخص إلى السماء وصلى. ثم حنى رأسه أمام السياف وتلقى بخشوع وقع السيف. فطارت تلك النفس الفتية الزكية إلى الأخدار السماوية، لتنعم مع طغمات جنود المسيح الملك. وكان ذلك سنة 303.
   وبعد استشهاده أخذ المؤمنون يكرمونه ويستشفعونه. وبدأ الرسامون يمثلونه بصورة فارس مغوار، جميل الطلعة، عالي القامة، يطعن برمحه تنيناً هائلاً، ويدوسه بسنابك حصانه، وهكذا يخلص ابنة الملك من براثينه. وترى تلك الأميرة واقفة مرتعدة خائفة من التنين، وأبواها يشرفان عليها من فوق الأسوار، ويمجدان بطولة كيوركيس، ويتهللان خلاص ابنتهما المحبوبة.
   إلا أن هذه الحكاية ليست رواية واقعية، بل هي رمزية. ومعناها أن كيوركيس الفارس البطل والشهيد العظيم، قد انتصر على الشيطان وهدّأ روع الكنيسة الممثلة بابنة الملك.
   وكثرت عجائب القديس مار كيوركيس في طول البلاد وعرضها، حتى قامت الشعوب والأفراد تتسابق إلى إكرامه، وتشييد الكنائس على اسمه، وإقامة المذابح اعترافاً بالجميل لعظيم شفاعته.
   فالكنيسة الكاثوليكية تصلي إليه وتعدّه " نصير الكنيسة الجامعة في الملمات ". وتسميه الكنيسة البيزنطية " العظيم في الشهداء ". وكانت المملكة البيزنطية في ما مضى قد اتخذته شفيعاً لها في الحروب، ونسبت إلى شفاعته انتصارات باهرة. وكان الملك يستنيانس قد بنى على اسمه كنيسة فخمة في مدينة اللد مسقط رأسه.
   وامتازت مدينة القسطنطينية بإكرامه، فكان فيها خمس كنائس على اسمه. وقد بنى الملك قسطنطين أول هذه الكنائس.
     ويكرمه الإنكليز إكراماً عظيماً. وقد اتخذته المملكة شفيعاً لها، ودعي كثير من الملوك باسمه. وظهر يوماً للملك ريكردوس الأول  في حروبه ونصره على أعدائه، فانتشرت عبادته في كل بلاد انكلترا. وأمر المجمع الإنكليزي العام الملتئم في أكسفورد  سنة 1222 أن يكون عيده إلزامياً في كل بلاد انكلترا. وجعله الملك أدوار الثالث  الشفيع الأكبر لفرقة حاملي وسام " ربطة الساق " وهو أرفع وسام عند الإنكليز.
   وامتازت بلاد فرنسا بعبادته وإكرامه. فقد شادت القديسة كلوتلدا امرأة ملك الفرنجة كلوفيس هياكل وكنائس عديدة على اسمه. وهو شفيع لكثير من المدن والقرى في فرنسا.
   واتخذته جمهورية جنوى في إيطاليا شفيعها الأول والأكبر. وأنشأت جمهورية البندقية  رهبانية عسكرية على اسمه. 
   أما كنيسة المشرق فتدعوه " مار كيوركيس الشهيد المظفر ". وقد شيدت على اسمه كنائس وأديرة ومزارات في العديد من المدن والقرى التي يتواجد فيها أبناء هذه الكنيسة. ويجتمع الشعب من كل حدب وصوب يوم تذكاره في الكنائس والمزارات المكرسة على اسمه، ليحتفلوا معاً بهذه المناسبة المقدسة، ويضرعوا إلى الرب بشفاعته لينالوا النعم والبركات. ومن بعد الاحتفال يتقاسمون معاً الأكلة الشعبية المعروفة بـ " الهريسة " التي تحضر خصيصاً في يوم تذكاره.   
   ويضم طقس الصباح والمساء في كنيسة المشرق، فرضاً خاصاً بالشهداء يتلى على مدار أيام الأسبوع، ما عدا يوم الأحد. ويضم هذا الفرض صباح مساء كل يوم مقطعاً يتغنى بجهاد الشهيد مار كيوركيس المظفر، وفيما يلي هذه المقاطع:   
    مساء " رمشا " الاثنين : " أطلب من الرب وصلي أمامه: أطلب من ربك أيها الشهيد كيوركيس. الحنان والرحمة ومغفرة الخطايا ". 
   صباح " صبرا " الاثنين: " صدّيقٌ وعادل: صلاة الشهيد كيوركيس. تصبح لنا سوراً عالياً. ترد سهام الشرير. فلا يؤذينا رمح. عدونا البغيض. الذي يريد هلاكنا ".
   مساء " رمشا " الثلاثاء: " صغاراً وكباراً: نلتجئ إلى مار كيوركيس. لكي بقوة صلاته. يمهد الرب دربنا. ويخفف أحمالنا ". 
   صباح " صبرا " الثلاثاء: " يشفي كسيري القلب ويعصب أوجاعهم: أصبحت طبيباً يا مار كيوركيس. من دون أدوية وعقاقير. فكل من يلتجئ إليك. ينال بصلواتك الشفاء ". 
   مساء " رمشا " الأربعاء: " الرب يعطي قوة لشعبه: تلك القوة المجاهدة. بها ظفر الشهيد مار كيوركيس. لتكن لنا حارساً. من الشرير وأعوانه ". 
   صباح " صبرا " الأربعاء: " منظره أجمل من البشر: كغصنٍ جميل وزيتونة بهية. مار كيوركيس محب المسيح. بالتواضع وحب سيدك. أحنيت كتفيك وحملت  الصليب ". 
   مساء " رمشا " الخميس: " من شعب بلا رحمة: آلام قاسية وعذابات مرَّة. وأنواعاً من الموت. تحمل الشهيد القديس. مار كيوركيس المظفر. من أجل حبه للمسيح. الذي أحبه وفداه. مبارك الذي كلل الشهيد بانتصاره ". 
   صباح  " صبرا " الخميس: " في السماء وعلى الأرض: جسدك هنا. وروحك في السماء. أيها الشهيد كيوركيس. أطلب الرحمة من لدن سيدك ".   
   مساء " رمشا " الجمعة: " تقلد السيف أيها الجبار: أيها الباسل مار كيوركيس. احتقرت الموت والسيف. والعذابات المتنوعة. المرعبة والقاسية. وصنعت القوات والمعجزات. وأعدت الناس للحق. مباركاً الذي نصرك. بقوته غلبت الضلال ". 
   صباح " صبرا " الجمعة: " فرحوا وأنشدوا وسبحوا: بفرح اسلم نفسه لأنواع الآلام مار كيوركيس. لأنه سمع بولس الرسول يقول. أن آلام هذا الدهر. لا تقاس بالمجد الذي سوف نرثه في اليوم الأخير. فمن ينجح بأعماله. يرث الحياة مع الأبرار ". 
   مساء " رمشا " السبت: " طوباك وطوبى لنفسك: طوبى لروحك أيها الشهيد كيوركيس. لقد أرضيت الرب خلال حياتك في هذا العالم. ونلت أجور أعمالك. مع القديسين في الملكوت ". 
   صباح " صبرا " السبت: " طوباك وطوبى لنفسك: طوبى لروحك أيها الشهيد كيوركيس. مع الملائكة تسكن في السماء ".   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكاره يوم 24 نيسان من كل سنة. ويضم فرض الصلاة طقساً بديعاً، يتغنى ببطولة هذا الشهيد المظفر، ويرنم بأجمل الألحان. نذكر مقاطع من هذا الفرض:
 فرض المساء: " أعماله بلا لوم: الشهيد القديس كيوركيس. قبل الشهادة من أجل سيده. تضرع من المسيح من أجل الكنيسة وأبنائها. ليكونوا بمحبة وسلام  ووئام ".   
   وأيضاُ: "  أطلب من الرب وصلي أمامه: أيها الشهيد كيوركيس أطلب الرحمة. من سيدك نبع المعونات. لينشر في الكنيسة السلام والأمان. بصلواتك إلى الأبد ".
 وخلال القداس ترتل هذه المقاطع: " ليعطيك الرب حسب قلبك: مار كيوركيس الطوباوي. الشهيد البهي والقديس. أرتضى الموت من أجل سيده. وأنتصر على إساءات وخداع الأشرار. بقوة الصليب ". 
   وأيضاً: " تعالوا نسبح الرب: كلنا بالتقوى نكرم باجتهاد. في يوم تذكار. الشهيد البهي والقديس. مار كيوركيس المظفر. الذي أصبح ذبيحة لله. وقرباناً نقياً لسيده. لتحل علينا المراحم بصلواته ".
   وأيضاً: " طوبى لروحك أيها الشهيد البهي. الشهير والطاهر مار كيوركيس. لقد أسلمت نفسك لكل المحن. من أجل حبك للمسيح الملك. وها نحتفل بتذكارك. في جميع الكنائس بأصوات المجد.        هللويا ".   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار كيوركيس في 24 نيسان كل سنة. 
   


18
تذكار الشهيدين يعقوب القسيس وأزاد الشماس
الشماس نوري إيشوع مندو
  1_ يعقوب القسيس وأزاد الشماس: كان يعقوب كاهناً في قرية اسفرجلتة، وأزاد شماساً في ضيعة بيت نجار من أعمال بلاد حدياب " أربيل "، فوشي بهما لدى كورخشيد حاكم حدياب، فأرسل وقبض عليهما وحبسهما مدة ستة أشهر في أربيل، فأذاقهما في هذه المدة أمر ضروب العذابات، فعرضهما على الجلد وصب في مناخرهما رماداً ممزوجاً بالخل، وألقاهما في الجليد الليل كله عريانين، فكان كل يوم يجدد عذابهما ويقول لهما: " أسجدا للشمس والنار فتخلصا ".
   فكان يجاوبانه: " معاذ الله أن نضل نظيرك نحن الحكماء يا أيها الجاهل السخيف العقل، أنت الذي تؤثر المخلوقات الدنية على الخالق جلت جلالته ".
   وإذ أوقفوهما مرة أخرى بين يديه قال لهما: " كُلا الدم وتزوجا فأطلقكما ".
   فقال له يعقوب وكان شديد الكلام وغليظه: " أنت والذين يضارعونك كلوا الدم، فإنكم كلاب دنسة نجسة تلغ في دماء الناس، أما نحن فأتقياء أطهار، وليس أكل الدم من شأننا، وإنما نتمجد نحن إن أكثرتم أنتم في تعذيبنا ".
   فغضب عليهما الحاكم غضباً شديداً، وأمر بضربهما بقضبان شائكة، ثم طرحوهما في سجن ضنكٍ ضيق.
   وفي تلك الليلة عينها رأى مار يعقوب أخته الراهبة دخلت عليه، فعصبت بعصائب من الكتان يديه ورجليه ورأسه، ثم ألبسته ثياباً بيضاً كما يُلبس الميت قبل دفنه. وفي الصباح حدث أزاد فقال له:" لنتقوَ إذاً ونتشجع بيسوع رجائنا الوطيد، فإننا لقد دعينا اليوم إلى الوليمة السماوية،فنحن خليقان أن نوشح نفسينا بثياب الطهارة البيض، مفعميهما فرحاً ورجاءً صالحاً، وحقيقان أن نغسل جسدينا فنطهرهما بالإيمان والمحبة، وجديران أن نطرح عن أعيننا العالم وكل ما فيه، غير متكلين على ما يرى، لأن كل ما يرى زائل كأضغاث الأحلام، وما لا يرى أبدي كما قال بولس الرسول ". وللحال قاما وصليا بخشوع ومجَّدا الله سبحانه.
   وفي ذلك اليوم بعينه نحو الساعة الثالثة حكم عليهما بالموت، فأخرجوهما إلى الجهة الجنوبية من المدينة، وأخذوا رأسيهما بحد السيف، وأمر الحاكم فاحتفظ بجثتيهما. ولما جُنَّ الليل شوهد شعاعان من النور أشرقا من السماء على الأرض، فاستقرا على رأسي القديسين، وعوين ذلك المنظر بعينه في الليلة الثانية والثالثة، ولم يمكن للنصارى أخذ الجثتين المباركتين، فذهبتا فريسة للكلاب.
   وكان جهاد هذين الشهيدين في جمعة الحاش " الآلام " في الرابع عشر من شهر نيسان سنة 374. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهيدين يعقوب القسيس وأزاد الشماس في 14 نيسان.



19
عيد القديس يوحنا دي سال
      الشماس نوري إيشوع مندو
   القديس يوحنا دي سال: ولد سنة 1651 في مدينة ريمس  الفرنسية. امتاز منذ صغره بالتقوى ونقاوة القلب ووداعة الحياة، وكان يجد هناءه في خدمة الحفلات الكنسية، فنمت في قلبه منذ الصغر محبة الله، وصار يشعر بميل يدفعه إلى خدمة مذابح الرب. فجعل يفكر ملياً في ذلك ويصلي بحرارة إلى البتول مريم، لكي تشفع فيه أمام ابنها الحبيب، وتستمد له منه نعمة الدعوة الكهنوتية المقدسة.
   وبعد أن أتم دروس الفلسفة ذهب إلى باريس ودخل مدرسة سان سلبيس الشهيرة، منبت النفوس الكبيرة والقلوب الكهنوتية الصحيحة. وما كاد يوحنا يسير في طريق دعوته بأمن وسلام، حتى فوجئ بوفاة والدته ثم والده. فأضطر أن يترك دروسه، ويعود إلى بيته ليشرف على تربية إخوته، وإدارة بيت أبيه. فحمل صليبه بقبول ورضى، وذكاء وتسليم تام لمشيئة الرب. لكنه بقي يعلل النفس بالعودة إلى دروسه ومتابعة الاستعداد لدعوته، حينما تزول العقبات التي كانت تعترضه في طريقه.
   وفي غضون ذلك أخذ يروض نفسه على التواضع والصبر والإماتة بكل أنواعها، ويستعد من بعيد للرسامة الكهنوتية. وكان يقول: " هل يمكن أن يستعد المرء كما يجب لمباشرة الخدم الكهنوتية ؟ إن الملائكة أنفسهم يرهبون هذه الخدمة التي طالما ارتعد من سمو عظمتها أكبر الأنام القديسين. فكيف يستطيع أن يُقدم عليها رجل خاطئ نظيري أنا ؟ ".
   وكان يردد في ذهنه كلمة الرئيس الأول لمدرسة سان سلبيس: " إن من يتقدم لقبول الدرجة الكهنوتية لا بد أن يكون مصاباً بالعمى. لأنه إما قد أعمته خطاياه وأهواؤه، أو قد أعمته طاعته لرؤسائه فتقيد بها، وترك في ذلك كل بحث وكل فكر ". وعمل يوحنا بإشارة رؤسائه، ونال الرسامة الكهنوتية سنة 1678.
   وبعد رسامته عكف على تقديس نفسه بالتأمل والإماتة وخدمة القريب. ونظم حياته وأوقاته تنظيماً مدرسياً رهبانياً. وأضحى رويداً رويداً رجلاً ناسكاً، دأبه الصلاة العقلية، ومطالعة الكتب الروحية، والتجرد عن الدنيا. وصار يلبس لباساً بسيطاً خشناً، ويصوم كثيراً، ويعيش عيشة الفقراء، ويتفقد العائلات المسكينة ليحمل إليها كلام التعزية، ودراهم الشفقة المسيحية.
   وكان الأب باريه قد أنشأ جمعية خيرية للبنات التقيات الغيورات لإعدادهن لأن يكنَّ مربيات ومدرسات في مدارس مجانية لبنات العائلات الفقيرة. وكان يرغب في مشروع مثله للشبان لأجل مدارس الصبيان، لكنه لم يفلح.
   فتقدمت مدام مايفير بالأموال اللازمة للقيام بهذا المشروع، ورغبت إلى الأب يوحنا صاحب الغيرة الكبرى على المشاريع الخيرية، أن يساعد على تحقيق هذا العمل. فقبل ما دعي إليه. وما لبث أن تفرد به، وأخذه على عاتقه. وهكذا أضحى من غير أن يدري مُنشئاً لعمل من أعظم ما عرفته الكنيسة من الأعمال الكبرى الخيرية في تاريخها، ألا وهو جمعية " أخوة المدارس المسيحية ". فتخصص يوحنا لتهذيب فرقة الأساتذة الأولين، فنبتت تلك الجمعية الجليلة. وما لبث أولئك الأساتذة أن فتحوا المدرسة الأولى، والثانية، والثالثة. ثم تعددت المدارس في باريس وفي ضواحيها وقراها. ونجحت هذه المدارس، وأقبل الأولاد عليها، ورغب الناس فيها. فانتشرت تلك الجمعية بسرعة فائقة عجيبة كما ينتشر النور في الآفاق.
   ونظم الأب يوحنا أمورها، وحولها إلى جمعية رهبانية، لا طمع لأفرادها في الكهنوت، بل غايتهم تهذيب الناشئة على المبادئ الدينية، وتثقيفها بشتى العلوم العصرية.
   وفي سنة 1702 كان أخوة المدارس المسيحية قد نصبوا أعلامهم في مدينة روما. وكانت غاية مؤسسهم من ذلك، كما يقول هو نفسه هي: 1_ أن يزرع شجرة الجمعية في تربة عاصمة الكثلكة، لكي تنمو هناك تحت أنوار شمس الرئاسة الرسولية. 2_ لكي يكون أساسها على الصخرة البطرسية، فلا تستطيع أبواب الجحيم أن تقوى عليها. 3_ لكي ينال بقرب بنيه من السدة البابوية ما يرغب فيه من تثبيت قوانين الجمعية، والموافقة على فرائضها وخططها. 4_ لكي يحصل على بركة الحبر الأعظم، ويأخذ منه التفويض لإنشاء المدارس المسيحية أينما دعت الحاجة إلى ذلك. فيشملها في روما بأنظاره، وتكون في الأبرشيات تحت رعاية الأساقفة. 5_ لكي يكون وجود بنيه في عاصمة الكنيسة عربون تعلقهم بالإيمان الكاثوليكي الصحيح، ودليلاً على طاعتهم التامة لتعاليم الكنيسة الرومانية المقدسة.
   ووسم الله هذه الجمعية بوسم الأعمال الكبرى، فكثَّر محنها، ووضع الصليب في مهدها. فاضطهدها الناس، وعاكسوا أعمال مؤسسها، وأذاقوا أعضاءها أصناف الشدائد. لكن المصاعب قوَّت عزائمهم، فصبروا وصلّوا وثبتوا، وفي النهاية انتصروا. فنجحت الجمعية نجاحاً باهراً، وكثُر أعضاؤها، وتعددت مدارسها، وعمَّ خيرها. وبقي الأب يوحنا رئيساً عليها ومرشداً لها حتى سنة 1717. ثم تنازل عن الرئاسة، وأقام الأخ برتلماوس خلفاً له، ورئيساً عاماً عليها.
   ثم تفرغ الأب يوحنا لوضع قوانين الجمعية بدقائقها وتفاصيلها، ووضع أيضاً بعض الكتب الروحية. ولما شعر بقرب أجله ترك هذه الوصية لأولاده: " أوصي أخوة المدارس المسيحية بأن يكونوا قبل كل شيء خاضعين تمام الخضوع لتعاليم وإرشادات الكنيسة المقدسة، ولا سيما في هذه الأيام الصعبة. وللدلالة على خضوعهم هذا يجب عليهم أن يبقوا متحدين على الدوام بالحبر الأعظم وبكنيسة روما، وأن يذكروا أنني إنما أرسلت أثنين منهم إلى روما ليبتهلا هناك إلى الله لكي تبقى الجمعية على الدوام خاضعة لأوامر الكرسي الرسولي. وأوصيهم بأن يكونوا كثيري العبادة للسيد المسيح، وأن يكثروا من الاقتراب من المائدة المقدسة، وأن يمارسوا عادة الصلاة العقلية، وأن تكون لهم عبادة خاصة للعذراء المجيدة، وللقديس يوسف شفيع الجمعية، وأن يقوموا بأعمالهم وواجباتهم بكل تفانٍ وتجرد. وعليهم أن يجعلوا الاتحاد الأخوي متين العرى بينهم، وأن تكون الطاعة العمياء لرؤسائهم شعارهم. لأن في ذلك عماد الكمال والنجاح في كل الجمعيات ".
   وفي السابع من نيسان 1719 رقد بالرب رقود القديسين. وبعد مدة رفعته الكنيسة إلى مصف الطوباويين، ثم أعلنت قداسته.
   وفي سنة 1724 اعترفت الحكومة الفرنسية على عهد الملك لويس الخامس عشر  بجمعية أخوة المدارس المسيحية. وفي سنة 1725 اعترفت بها الكنيسة أيضاً، وأعلنتها رهبانية شرعية مقبولة لديها، على عهد البابا بندكتس الثالث عشر ، ولم تبدل شيئاً من القوانين والفرائض التي وضعها لها مؤسسها.
   وقد أضحى أخوة المدارس المسيحية يعدون اليوم بالآلاف، فانتشروا في كل أقطار الأرض، وشيدوا مدارس عظيمة. وقد تخرج على يدهم في مدارسهم مئات الألوف من التلاميذ الذين يزينون المجتمعات بعلومهم وآدابهم وتقواهم.
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد القديس يوحنا دي سال في 7 نيسان في كل عام.
     
     



20
نبذة تاريخية عن كنيسة المشرق في الجزيرة العربية والقطر البحري " بيث قطرايي "
الشماس نوري إيشوع مندو

   المقدمة: قسم الجغرافيون العرب الجزيرة العربية إلى خمسة أقسام هي: 1_الحجاز. 2_تهامة. 3_ نجد. 4_ اليمن. 5_ العروض. ومن أقسام العروض شبه جزيرة قطر التي تمتد من عُمان إلى حدود الأحساء.
   نشأت في الجزيرة العربية دويلات صغيرة، فوق هضبة الحجاز الواسعة وفي نجران وعُمان وحضرموت والبحرين والأحساء وحتى في قلب الجزيرة العربية. وكذلك فوق الجبال اليمنية وعلى السواحل الجنوبية منها، فقامت ممالك اليمن مثل المملكة المعينية، تلتها المملكة السبئية، ثم المملكة الحميرية التي ظهرت منذ القرن الثالث قبل الميلاد. ودخلت مكة التاريخ بعد انحطاط مملكة حمير، فغذت جمهورية تجارية نظمتها قبيلة قريش القوية، واحتلت مركزاً تجارياً خطيراً، جعلها نقطة انطلاق إلى بلاد الشام. وفي الشمال قامت مملكة الأنباط وعاصمتها البتراء، ومملكة اللخميين المناذرة وعاصمتهم الحيرة، ومملكة الغساسنة وعاصمتهم بصرى.   
   وعلى الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية أو السواحل الغربية للخليج العربي قامت حضارة بحرية عرفت في مصادر كنيسة المشرق بـــــ بيث قطرايي " القطر البحري ". وامتدت هذه الحضارة من الكويت شمالاً وحتى أقصى عُمان جنوباً.

   1_  المسيحية في الجزيرة العربية: سعى جثالقة المشرق إلى نشر الإنجيل في الحيرة التي كانت عاصمة المناذرة، ولقد تنصر بعض ملوكها، منهم امرؤ القيس الذي تنصر سنة 288 م، والنعمان الأول الذي زهد ولبس المسوح، والنعمان الثاني الذي زهد هو الآخر بمشورة وزيره عدي بن زيد نحو سنة 469 م، والنعمان الرابع الملقب بأبي قابوس نحو 594 م. أما هند ومريم أختاه فكانتا قد تنصرتا قبل أخيهما وترهبتا.   
   وقد انتظمت المسيحية في مملكة المناذرة في مطلع القرن الخامس تحت رئاسة أسقف، ويذكر كتاب المجامع الشرقية بعضاً من أساقفتها الذين شاركوا في مجامع كنيسة المشرق وهم: 1_ هوشاع سنة  410 م. 2_ شمعون سنة 424 م.        3_ شمعون سنة 486 م. 4_ إيليا سنة 497. 5_ نرساي سنة 524 م. 6_ أفرام الذي كان معاصراً لهند الكبرى امرأة المنذر الأول سنة 540 م. 7_ يوسف سنة 585 م. 8_ شمعون بن جابر سنة 594 م. 9_ يوئيل سنة 790 م. هذا بالإضافة إلى عدد من الأساقفة الذين كانوا من أصل حيري أمثال يوحنا الأزرق وسبريشوع وخوداهوي وإيشوعداد.   
   وبسبب ازدهار المسيحية في مملكة المناذرة، أصبحت الحيرة مركزاً مهماً للعلوم والآداب. وفيها عقد بعض مجامع كنيسة المشرق، وفي كنائسها وأديارها دفن عدد من جثالقة هذه الكنيسة. ونجد الكم الهائل من الأديار التي شيدت في الحيرة ومحيطها، فقد تجاوزت الخمسين حسب ما ورد ذكرهم لدى المؤرخين،  ويلف غيرها الكثير من الغموض. ومن هذه الأديار نذكر: 1_ ديارات الأساقف. 2_ دير اسكول أو ( الاسكون ). 3_ دير الأعور. 4_ دير أبلح. 5_ دير ابن براق.    6_ دير أدرمنج. 7_ دير ابن وضاح. 8_ دير الحريق. 9_ دير قبة الشتيق. 10_ دير ابن مزعوق. 11_ دير أبي موسى.       12_ دير عبد الرحمن. 13_ دير بني صرينارة. 14_ دير بونا. 15_ دير مار توما. 16_ دير الجرعة. 17_ دير الجماجم.    18_ دير حنة الكبير. 19_ دير حنة الصغير. 20_ دير حنظلة. 21_ دير داديشوع. 22_ دير دندا أو دودي. 23_ دير الخصيب. 24_ دير زرارة. 25_ دير الزرنوق. 26_ دير الشاء. 27_ دير سركيس وباكوس. 28_ دير سلسلة. 29_ دير السوا أو العدل. 30_ دير مار عبد يشوع. 31_ دير العذارى.  32_ دير علقمة. 33_ دير قرة. 34_ دير كعب. 35_ دير اللج.     36_ دير مار آبا الكبير. 37_ دير المسالح. 38_ دير مار باباي الكاتب أو المعري. 39_ دير مار بثيون. 40_ دير مارت مريم. 41_ دير يزدفنة. 42_ دير هند الكبرى. 43_ دير هند الصغرى. 44_ دير نجران. 45_ دير خوداهوي. 46_ دير بيث حالي. 47_ دير كمري. 48_ دير الصوامع. 49_ دير شمعون بن جابر. 50_ دير القصير أو الأقيصر. 51_ دير البردويل.   
   وقد دخلت المسيحية الجزيرة العربية منذ عهد مبكر جداً، وبخاصة المناطق الواقعة على ضفاف المحيط الهندي، وعلى ضفاف الخليج العربي، وعند مصب الرافدين، وفي الكويت وقطر وجزر البحرين، وفي عُمان والأحساء، وفي أقصى الجنوب أي اليمن، وحضرموت وتوابعها، أي منطقة المهرة وجزيرة سقطرى. فنجد آثاراً للمسيحية فيها قبل مجيء الإسلام. 
   وقد لاقت بشارة الإنجيل تقبلاً منقطع النظير في كل أقطار شبه الجزيرة العربية، وتغلغلت في أعماقها وفي مناطقها الحدودية.  ويشهد على ذلك المؤرخون وكتاب السير.
   فابن قتيبة يقول: "  أن النصرانية كانت في ربيعة وغسان وبعض بني قضاعة ". 
   ويقر اليعقوبي بتنصر كل من"  تميم وربيعة وبني تغلب وطي ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ ولخم ". 
   ويقول الجاحظ: " كانت النصرانية قد أوجدت سبيلها بين تغلب وشيبان وعبد القيس وغسان وقضاعة وسليخ والعباد وتنوخ ولخم وعاملة وجذام وكثير بن بلحاث بن كعب ". 
   وفي اليمامة الواقعة في الجنوب الشرقي من نجد والحجاز، كان للمسيحية أنصار عديدون في قبيلة بني حنيفة القوية، والتيارات المسيحية نفسها القادمة من سوريا ومن ما بين النهرين، كانت قد نقلت الأفكار المسيحية إلى قلب البلاد العربية، أي إلى نجد حيث كانت تحكمها قبيلة كندة التي أنجبت امرؤ القيس حليف الملك يوستيانوس البيزنطي       ( 527 _ 565 م ).  ويذهب المؤرخون  إلى أن المسيحية كانت عريقة في الحجاز، فهم يشيرون إلى أن برثلماوس الرسول هو الذي دعا إلى المسيحية في بلاد الحجاز وحمير.  وقد نصر خلقاً من سكانها الذين ترك لهم نسخة من إنجيل متى باللغة الآرامية الفلسطينية.
   ويروي الطبري أن مسلة جنائزية اكتشفت قديماً في جبل عقيق القريبة من يثرب " المدينة المنورة "، تحمل حروفاً آرامية كانت تعلو ضريحاً لأحد رسل المسيح. ويذكر ياقوت الحموي أن أيلة ( العقبة الأردنية حالياً ) كانت مسيحية، وكان أسقف أيلة من بين الذين حضروا مجمع نيقية سنة 325 م. وكانت دومة الجندل كلها مسيحية، وكان لها أسقف. وكان اكيدر بن عبد الملك وهو من قبيلة كندة ملكاً عليها وكان مسيحياً. وكان سكانها من بني سكون من قبيلة قضاعة المسيحية في معظمها، ومن تجمع هام من قبيلة بني كلب.
   أما وادي القرى فكانت تسكنه قبيلتا قضاعة وسليح المسيحيتان. وتضم قبيلة بني صخر التي تسكن الآن تلك المنطقة فروعاً عديدة ما تزال تحمل ألقاباً مسيحية مثل: بنو مطران، اليعاقبة، مهابرة " الأحبار "، السماعنة. وكلها تشهد لأصلها المسيحي.
   وكانت قبيلة طي العربية المسيحية تسكن تيماء التي كان فيها حصن الأبلق الشهير، الذي كان يحكمه الأمير السمؤال الذي كان من أصل غساني وينتمي إلى فرقة مسيحية يهودية.
   وكانت تبوك حصناً يسكنه مسيحيي قضاعة، وجاورهم فيه بنو كلب من قبيلة تغلب المسيحية. وفي غزوة تبوك لم يتمكن النبي محمد والمسلمون من اقتحامها لحصانتها، ولسرعة الروم ومسيحيي العرب إلى نجدتها. فحاصروها عشرين يوماً ثم قفلوا عنها راجعين. 
   أما يثرب فكانت شبه مستعمرة يهودية. كما أن اليهود فرضوا هيمنتهم على خيبر وفدك. إلا أن سلطتهم في يثرب ذاتها لم تكن بغير منازع، إذ كانت قبيلتا الاوس والخزرج القادمتان من اليمن بعد انهيار سد مأرب تقاسمان اليهود السلطة والنفوذ. وورد في تقويم قديم للكنيسة النسطورية. كان في يثرب مطرابوليط أسمه بولس أصله من بيث كرماي " كركوك "، وتحت يده أسقفان هما: موسى أصله من سعرت، وإبراهيم أصله من خراسان العجم، وتحت يدهم 80 قسيساً و 200 شماس، وعدد المؤمنين 4300 عائلة، ولهم ثلاث كنائس على اسم إبراهيم الخليل وموسى كليم الله وأيوب الصديق.
   وكان لهم مركزاً في مدينة عكاظ، فيها أسقف أسمه شليطا أصله من ماردين، وتحت يده 8 قسس و 30 شماساً، وعدد المؤمنين 1800 بيت، ولهم كنيسة على اسم مار بطرس وبولس. هؤلاء جميعهم كانوا خاضعين إلى جاثليق المشرق في المدائن، وفي سنة 1240 م قويت الأمة الإسلامية وضبطت كنائسهم، وقتلت خلقاً كثيراً بحد السيف، وجزء منهم انحازوا إلى الإسلام.
   أما مكة فكانت المسيحية عريقة فيها، وكان لهذه المدينة أهمية كبيرة بين سكان الجزيرة العربية لوجود الكعبة فيها. وكانت تستقطب القبائل من مختلف أرجاء الجزيرة، ومن ضمنها القبائل المسيحية. فلقد كان هناك شعراء مسيحيون مثل عدي بن زيد والأعشى، كانوا يقسمون أمام الحجر الأسود برب الكعبة وبالصليب في آن واحد. وكان للمسيحيين دور هام في مكة، لكنهم لم يكونوا منظمين. فكانوا من أصل محلي أو من جاليات قدمت من مختلف البلدان، يتكلمون لغة قريشية أو لغة هي مزيج من العربية والآرامية والحبشية. فالمسيحيون في مكة كانوا ينتمون إلى أصول عديدة، أحباش وأقباط وتجار من نجران ورعايا من المناذرة والغساسنة ومن أنباط سوريا، مع بعض رهبان ومرسلين، بالإضافة إلى جماعة من علية القوم الذين اعتنقوا المسيحية أمثال عثمان بن الحويرث وورقة بن نوفل ابن أسد من بني قصي، ابن عم خديجة زوجة محمد رسول الإسلام الأولى. 
   وكانت المسيحية في مكة هي على مذهب  المونوفيسية ( أصحاب الطبيعة الواحدة  )، حيث كانت سائدة في اليمن والحبشة وفي دولة الغساسنة وفي مشارف الشام كلها.
   أما بلاد الحميريين المعروفة اليوم ببلاد اليمن، فقد دخلتها المسيحية في صدرها. وكان أهلها من الساميين ولغتهم سامية تدعى بالحميرية، لها قلم خاص يعرف بالمسند. وقد تغلغلت الآرامية بينهم، فأبدلوا قلمهم المسند بالقلم الآرامي. 
   ويظهر أن المسيحية دخلت اليمن في نهاية القرن الثالث أو مطلع القرن الرابع. وقد يكون دخولها انطلاقاً من الحبشة، ولو أن هناك تقليد تنسب تبشير المناطق الساحلية الجنوبية من الجزيرة العربية إلى الرسل متى وتوما وبرتلماوس. ومما لا شك فيه أن كنيسة المشرق أنشأت في تلك البلاد عدة كنائس، وكان لهم فيها أساقفة أتوها من قبل جثالقة المشرق أصحاب كرسي المدائن، وبقوا فيها بعد الإسلام بمدة طويلة.   
   وجاء في تقويم قديم لكنيسة المشرق، أنه في سنة 1210 م كان في اليمن عدة مراكز لكنيسة المشرق هي:
   الأول في مدينة صنعاء فيها مطرابوليط اسمه اسطيفانوس وأصله من جزيرة قبرص، وتحت يده  ثلاثة أساقفة هم: إيليا أصله من الجزيرة العمرية، ويبالاها أصله من ماردين، وشمعون أصله من الموصل، ولهم ثلاث كنائس على اسم الصليب ومار كيوركيس ومار أنطونيوس. ولهم 70 قسيساً و 280 شماساً، وعدد المؤمنين عندهم 5700 بيت.
   أما المركز الثاني فكان في مدينة زبيد فيها أسقف اسمه عبد يشوع أصله من آمد " ديار بكر "، تحت يده 10 قسس و 26 شماساً، وعدد المؤمنين 1100 بيت.
   والمركز الثالث كان في مدينة عدن فيها أسقف اسمه مار ميلو " ميلس " أصله من البصرة، تحت يده 12 قسيساً و 40 شماساً، وعدد المؤمنين 1300 بيت، ولهم كنيسة على اسم مار يوسف خطيب العذراء.
   والمركز الرابع كان في مدينة نجران فيها أسقف اسمه يعقوب أصله من سعرت، تحت يده 15 قسيساً و 35 شماساً، وعدد المؤمنين 1400 عائلة، ولهم كنيستان على اسم قيامة المسيح وما شليطا الناسك.   
   ويبدو أن المسيحية في اليمن بدأت بالتقهقر أمام الزحف الإسلامي بعد هذا التاريخ، فمنم من قتل بحد السيف، ومنهم من دخل الإسلام. وقد ذكر الكاتب الإسباني اوردينو دي سينالتوس من القرن السادس عشر ، أنه في رحلته إلى المغرب لقي بعض القبائل العربية، احتفت به وأكدت له أن أصلها من قبائل مسيحيي العرب في اليمن. أما المرسلون الكبوشيون في عدن سنة 1895 م فقد وجدوا في بعض أهل اليمن آثاراً مسيحية ظاهرة، ورثوها من أجدادهم المسيحيين.   
  أما نجران فقد حكمتها طبقة مسيحية بورجوازية تؤدي الجزية للملك الحميري، وذلك منذ القرن الخامس. وكان المذهب السائد فيها هو النسطورية، إلا أن الاضطهاد الذي شن على المنوفيزيين ( الطبيعة الواحدة ) في عهد الإمبراطوريين يوستيني الأول ( 518 _ 527 ) ويوستنيانس الأول ( 527 _ 565 ) أدى إلى تدفق هؤلاء نحو منطقة نجران، حتى أضحت المنوفيزية فيها المذهب السائد، فتكونت فيها أبرشية تابعة لبطريركية الإسكندرية. 
   وبقي أهل نجران على المسيحية، حتى دعاهم إلى اليهودية أحد ملوكهم اسمه ذو نؤاس، فأبى النجرانيون وكان رئيسهم اسمه الحارث، واستعدوا للدفاع عن بلدهم. ألا أن ذو نؤاس دخله بالمكر وحفر أخاديد أضرمها ناراً وألقى فيها عشرين ألفاً من المسيحيين. ولما سمع قيصر الروم بما حدث، أمر النجاشي ألصبان ملك الحبشة لمحاربة ذو نؤاس ففعل، فأرسل جيشاً فقاتلوا ذو نؤاس وظفروا ببلاده. وأتم الأحباش فتح اليمن فملكوا عليها أكثر من نصف قرن. وفي زمن حكم الأحباش جعلوا نجران كقبلة الدين المسيحي، فأقاموا فيها مزاراُ كان العرب يقصدونه من كل صوب. وقد شاع ذكره عند العرب فدعوه " كعبة نجران " أو " كعبة اليمن ". وشيدوا كنيسة عظيمة في صنعاء، لا تزال حتى اليوم ترى بقاياها في جامع هذه المدينة. وأقاموا في ظفار كنيسة جليلة كانت آية في الحسن والجمال.
   ويبدو أن المسيحية في اليمن كانت مستقيمة خالية من البدع. ولكن الأحباش جنحوا في القرن السادس إلى مذهب اليعاقبة، وقد بالغ مؤرخي اليعاقبة في شيوع مذهبهم بين أهل اليمن. لأن نساطرة العراق انتهزوا فرصة دخول الفرس في اليمن فنشروا هناك بدعتهم، ولعلهم كانوا سبقوا إلى بثها قبل ذلك فعززوها. وفي تواريخ كنيسة المشرق ما يصرح بانتشار تلك البدعة في جنوبي بلاد العرب ومقاومتهم لليعاقبة.   

   2_ المسيحية في بيث قطرايي " القطر البحري ": تطلق مصادر كنيسة المشرق تسمية بيث قطرايي على معظم الساحل الغربي للخليج العربي، ابتداءً من الكويت وحتى جنوب عُمان، وقد يتعدى إلى مناطق أخرى داخل الجزيرة العربية. فالحسن بر بهلول في معجمه الشهير يقول: القطريون والبحريون بالقرب من مجراة الأحساء والقطيف. والقطريون أهل سقطرة ونجران وأهل اليمامة.   
   أما توما المرجي فيقول: بيث قطرايي هي شبه جزيرة قطر الواقعة على الساحل الشرقي من شبه الجزيرة العربية بجانب جزيرة البحرين.   
   أما المطران أدي شير فيقول: بيث قطرايي التي في خليج العجم، وجميع النواحي الشمالية الشرقية من شبه جزيرة العرب. وأعظم هذه الجزر هي: ديرين ومشمهيغ أو سماهيج، وكانت هذه بين البحرين وعُمان. وعلى سواحل البحر تجاه هذه الجزائر كانت بلاد حطا المسماة بيط أرداشير، وبلاد مازون، ومدينة هجر كانت داخل البحرين.   
   ويخبرنا التاريخ السعرتي أنه منذ سنة 225 م كان مطران على بيث قطرايي، وفي الشواطىء العربية شمالي    البحرين.   
   وكان للحيرة عاصمة المناذرة دور كبير في نشر وترسيخ المسيحية في منطقة الساحل الشرقي للجزيرة العربية، وذلك لكونها مركزاً دينياً هاماً، بالإضافة إلى كونها مركزاُ مرموقاً للتجارة، وطريقاً للقوافل المنطلقة نحو آسيا الداخلية. فمن الحيرة انطلقت إرساليات مسيحية على الطريق التجاري نحو البحرين وعُمان وقطر وغيرها من البلدان الواقعة على الخليج العربي، وما هنالك من جزر قبالتها.   
   وقد عاش في بيث قطرايي الكثير من التجار النساطرة والرهبان، وكانوا يذكرون باسم حملة اللؤلؤ. وصار للؤلؤ أهمية وقيمة عالية في الأخبار التي ترجع لفترة فجر المسيحية لدى سكان البلاد. فقيمة اللؤلؤ الكبيرة عنهم والذي يرتبط بمنطقة الخليج الغنية بمصائده. ففي رأي البعض لا بد أن لها علاقة بعبارة إنجيل متى ( 13 : 45 _ 46 ) " يشبه ملكوت السماوات تاجراً كان يبحث عن لؤلؤ ثمين، فلما وجد لؤلؤة ثمينة مضى وباع كل ما يملك واشتراها ". وكان اللؤلؤ مهماً جداً في الكنائس الشرقية، أهمية كأس العشاء الرباني في الكنيسة الغربية. فإذا كانت الكأس المقدسة هذه التي استعملها المسيح في العشاء الأخير، فإن اللؤلؤ هو قطعة من عجين  الخبزة الأصلية التي كسرها المسيح في العلية في العشاء ذاته. وعرف أن الجاثليق حزقيال ( 567 _ 581 م ) كان صياد لؤلؤ ماهر، ولعل ذلك مار رفعه إلى السدة البطريركية. 
   ويقول التاريخ السعرتي: إن المطران حزقيال نال حظوة في عين الملك خسرو الأول أنوشروان وحصل على مواجهة من الملك وحتى على صداقته، بسبب رفعته وقابليته ومهنته كطبيب، ولمعرفته الجيدة للغة الفارسية، فأرسله وهو لمل يزل أسقفاً على الزوابي مع بعض الغطاسين للحصول على اللؤلؤ من البحرين. وقد جلب معه لؤلؤة نادرة عجيبة وثمينة جداً، فما كان من الملك إلا ورفع حزقيال وألحقه بخدمته، ثم أوصى بانتخابه جاثليقاً للكنيسة الشرقية، وهو الجاثليق التاسع والعشرون. 
   وبسبب التجارة وصيد اللؤلؤ في منطقة بيث قطرايي التي تشمل في جغرافية كنيسة المشرق قطر والبحرين وعُمان، انتشرت المسيحية في هذه البلاد. فإبراهيم  الكشكري من القرن السادس قال عن نفسه: لقد كنت تاجراً مع أولئك الذين تاجروا وسافروا في البحر.
   والراهب بر سهدي من القرن السابع كان قبل ترهبه يذهب في البحر بصحبة التجار إلى الهند. وفي إحدى سفراته سرق القراصنة السفن، واستنجد هو بالله أن أنقذهم لينخرط في سلك الرهبنة. 
   وعلى أثر الجدالات الدينية التي دارت بين المسيحيين، ثبتت الحيرة على المذهب الشرقي ( النسطوري ) أسوة بكنيسة فارس كلها. ولذلك فالإرساليات الداعية للمسيحية والمنطلقة من الحيرة وغيرها إلى بلدان الخليج العربي وجزره وغيرها من مناطق الجزيرة العربية، نشرت العقيد الشرقية في تلك البلدان.   
   وقد انتشرت المسيحية أيضاً بين القبائل الرحالة في منطقة البحرين، وكان أشهر من اعتنقها من عرب الخليج هم قبائل من تغلب وبكر بن وائل وعبد القيس. ووصلتنا من أشعار العصر الجاهلي أمثال لبيد الذي ذكر عن رحلته من اليمامة إلى هجر، ويخبرنا كيف أنه سمع ضرب نواقيس الكنائس. هذا إلى جانب الأسماء المسيحية التي وصلتنا مثل عبد المسيح وعبد مريم.
   وفي بداية القرن الخامس غدا للمسيحيين النساطرة مركز محترم في منطقة الخليج. ولقد عثر على دير عظيم في جزيرة خرك ( خرج ) الواقعة على بعد 55 كم شمال غرب بوشير، يضم كنيسة فخمة واسعة أبعادها 30 × 15 م، وبنايات للإدارة وغرف للرهبان، ومساحة الدير 8000 م2. ويقدر عدد الرهبان الذين كانوا يقيمون في الدير بما يقرب المائة.
   واشتهرت البحرين بصيد السمك، وكانت مدينة عدولي ( أدوليس ) في هجر بالبحرين مشهورة ببناء السفن البحرية الضخمة. ويقول الشاعر طرفة بن العبد:
كــــــــــــــــــأن حدوج المالكية غدوة                خلايا سفين بالنواصف من ددِ
عدولية أو من ســـفين ابن يامن                 يجور بـــــــها الملاح طوراً ويهتدي
وما ابن يامن ( بنيامين ) هذا إلا رجل مسيحي من البحرين، اشتهر بصناعة السفن. ويظهر أن السفينة العدولية قد عمت شهرتها، حيث ذكرها الكثير من الشعراء.   
   وفي القرن الرابع الميلادي أنشأ عبد يشوع الناسك في جنوبي قطر ديراً باسم مار توما، زاره نحو سنة 390 م مار يونان الناسك أحد تلاميذ مار أوجين، فوجده آهلاً بمئتي راهب. فأقام فيه ثمة مدة يقضي الصلوات مع الرهبان        بالكلدانية.   
   ويقول المطران أدي شير: وكان يوجد عدة أديرة في بيث قطرايي وفي أطراف الحيرة، كما يبان من رسائل الجاثليق إيشوعياب الحديابي، ومن كتاب ياقوت الحموي ( معجم البلدان ).   
   وبعد أن أضحت بيث قطرايي كرسياً ميطرابوليطياً، كان هذا الكرسي يدبر أكثر من خمس أسقفيات هي: جزيرة ديرين ومشمهيغ ومازون وحطا ونجران. وربما اليمامة وسوقطرى أيضاً. وجاء في كتاب الأخبار البيعية والذي يعتبر الجزء الأول المفقود من التاريخ السعرتي: الكرسي العاشر مطران قطريه في البحر، صار لأسقف نجران واليمامة.     
   وكان للبحرين وساحل قطر والهجر ( الأحساء ) أساقفة نساطرة. وكانت هجر أيام الاحتلال الفارسي مركزاً لحاكم المنطقة، الذي عاش في حصن المشقر، الذي يقع على تل اسمه عطالة. وكان في مدينة الخط ( حطا أو بطن أردشير )كنائس وأسقفيات، وكان في قطر ( قاطرايا ) أبرشية نسطورية. 
    وفي مجمع مار إسحق المنعقد سنة 410 م دعيت هذه الأبرشية بـ الجزر،  وصنفت ضمن الكراسي البعيدة، بسبب بعدها عن الرقعة الأصلية والقديمة والطبيعية ذات التماس الجغرافي المتداخل لكنيسة المشرق.   وفي القرن السابع كان كرسي بيث قطرايي المطرابوليطي يتألف من خمسة كراسي أسقفية هي:

    1_ أسقفية ديرين: تقع مقابل القطيف، وشكلت أشبه بميناء لمنطقة البحرين. وبينها وبين الساحل مسيرة يوم وليلة لسفر البحر. ويجلب إليها المسك من الهند.   ومن خلال رسالة بعثها الجاثليق إيشوعياب الأول الأرزني   ( 582 _ 595 ) إلى أسقفها يعقوب، نجد أنها كانت تدعى أيضاً داري: إلى الكاهن الفاضل والمكرم الأسقف المختار مار يعقوب أسقف جزيرة داري قرب تلوان على مقربة من روحايثبا أي ( الكثيرة الرياح ) ". وتتضمن رسالة الجاثليق أجوبة على أسئلة الأسقف عن طريقة التعليم، وتدور حول مسائل أدبية وطقسية، كما تتناول حياة الاكليروس، وتقديس الأحد، وتجنب الربا، وموضوع التوبة والاعتراف، وموضوع الزواج من امرأة عاقر.   
   وقد حضر العديد من أساقفة هذا الكرسي مجامع كنيسة المشرق نذكر منهم: الأسقف صصر حضر مجمع الجاثليق داديشوع سنة 424 م.   الأسقف يزجرد حضر مجمع الجاثليق آقاق سنة 486 م.   الأسقف بريخيشوع حضر مجمع الجاثليق بابي سنة 497 م.   الأسقف مرقس حضر مجمع الجاثليق آبا الكبير سنة 544 م.   الأسقف يوحنا حضر مجمع الجاثليق يوسف سنة 554 م.   الأسقف عبدا حضر مجمع الجاثليق غريغور سنة 605 م.  الأسقف إيشوعياب حضر مجمع الجاثليق كوركيس الأول سنة 676 م.    الأسقف دانيال حضر مجمع الجاثليق طيمثاوس الأول سنة 790 م. 

   2_ أسقفية مشمهيغ أو سماهيج: جزيرة في وسط البحر بين عُمان والبحرين، وهذه الجزيرة تدعى بالفارسية ماش ماهي. وقيل أنها قرية على جانب البحرين ومن جواثا.   وفي مجمع الجاثليق إسحق سنة 410 م كان ثمة نزاع على كرسي مطرانية مشمهيغ.    ويقول المطران أدي شير أن سماهيج هي من كبرى الجزائر قبالة الساحل العربي بين البحرين وعُمان، وفيها كرسي أسقفي تابع لميطرابوليطية بيث قطرايي.    ونجد توقيع الأسقف إيليا على قرارات مجمع الجاثليق إسحق سنة 410، ويبدو أنه لم يحضر المجمع، لكنه وافق على قراراته فيما بعد.   

   3_ أسقفية مازون أو مازونا: تقع على ساحل البحر بين البحرين وعُمان، وكان مسيحيو عُمان يطلق عليهم مازونايي.  وكان في عُمان الكثير من المسيحيين خاصة عند السواحل، وكان للعاصمة صحار التي كانت مركزاً للتجارة وصنع المنسوجات علاقة مع ميشان ( البصرة )، وقد وردتنا أسماء أساقفة من أمثال يوحنان الذي حضر  مجمع الجاثليق داديشوع سنة 424 م الذي أنعقد في مركبثا دطيايي أي ( مركبة العرب ) ويعتقد أنها الحيرة.  وصموئيل الذي حضر مجمع الجاثليق حزقيال سنة 576 م.  واسطيفانوس حضر مجمع الجاثليق كوركيس الأول سنة          676 م. 

   4_ أسقفية هجر: هجر قصبة بلاد البحرين بينه وبين سرين سبعة أيام.   وقيل ناحية البحرين كلها هجر  كما قال صفي الدين البغدادي. وقد كتب رسول الإسلام إلى أهل هجر، وكان يحكمها المنذر بن ساوى   المسيحي.   ويقول المطران أدي شير: هجر مدينة كانت داخل البحرين، وكانت أسقفية تابعة لكرسي بيث قطرايي الميطرابوليطي.    وقد حضر أسقفها بوسي مجمع الجاثليق كوركيس الأول سنة 676 م. 

   5_ أسقفية حطا أو الخُط أو بيط أرداشير: يقول ياقوت الحموي: الخُط أرض تنسب إليها الرماح الخطية، وهو خط عُمان. وذلك السيف كله يسمى الخُط، ومن قرى الخُط القطيف والعقير وقطر. وجميع هذا في سيف البحرين وعُمان، وهي مواضع كانت تجلب إليها الرماح القنا من الهند، فتقوم فيه وتباع إلى العرب.    ويتحدث الحموي عن قطر قائلاً: قرية في أعراض البحرين على سيف الخط بين عمان والعقير قرية يقال لها قطر.    أما المطران أدي شير فيقول: حطا كرسي أسقفي كان يدار من قبل كرسي بيث قطرايي المطرابوليطي.   وقد حضر أسقفها شاهين مجمع الجاثليق كوركيس الأول سنة 676 م. 

   6_ أسقفيات نجران واليمامة وسوقطرى: يقول الأب ألبير أبونا: وفي اليمامة الواقعة في الجنوب الشرقي من نجد والحجاز، كان للمسيحيين أنصار عديدون في قبيلة بني حنيفة القوية. أما في حضرموت وتوابعها أي منطقة المهرة وجزيرة سقطرى، فنجد آثاراً مسيحية قبل مجيء الإسلام، ونعرف أسماء ست أبرشيات على الساحل الشرقي من الجزيرة العربية وفي عُمان وجزيرة سقطرى.   
   ويتحدث المؤرخ قوزما ( 520 _ 525 م ): يوجد جماعات مسيحية في سقطرى، يقتبل أكليروسها الدرجات الكهنوتية من بلاد فارس. وقد استمرت المسيحية في هذه الجزيرة زمناً طويلاً، وقد رسم البطريرك سبريشوع الثالث ( 1064 _ 1072 م ) مطراناً لها. ويذكر الرحالة ماركو بولو أن أهالي جزيرة سقطرى هم مسيحيون، وعندهم مطران يدير شؤونهم، وهو يخضع لرئيس الأساقفة الذي يقيم في بغداد، ومنها يعطي أوامره إلى مطران هذه الجزيرة، وهو عندهم مثل بابا روما. ويبدو أنه في القرن السابع عشر كان في سقطرى جماعات مسيحية كثيرة.   
   وجاء في كتاب المجدل لعمرو بنى متى: في زمن الجاثليق يهبالاها المتوفي سنة 1593، كان ضمن من حضر رسامته جاثليقاً في المدائن، قرياقوس أسقف اسقطرا.   
   ويقول الأب ألبير أبونا: لقد كان النشاط الوثاب، والرغبة العارمة في نشر بشرى الإنجيل، يعتمران قلوب أبناء هذه الكنيسة، التي ازدهرت على الساحل الغربي للخليج العربي. وما سهل وصول المسيحية إلى بلاد الهند، وجود مسيحية منظمة على كلا الساحلين الشرقي والغربي للخليج، منذ نهاية القرن الرابع، لا سيما في مطلع القرن الخامس في جزر البحرين وفي قطر وعُمان وغيرها وفي بلاد فارس وغيرها.   
   ومع ظهور الإسلام، وبعد صلح الحديبية بين المسلمين وقريش، شرع رسول الإسلام بإرسال سفرائه إلى الملوك والأمراء داخل الجزيرة العربي، يدعوهم إلى الإسلام. وتوالت رسائله إلى أهل البحرين وهجر واليمامة وعُمان وغيرها. فدخلت أغلب القبائل العربية بالإسلام، أما النصارى واليهود والمجوس فدفعوا الجزية للبقاء على أديانهم. وبعد موت الرسول سنة 632 م ارتدت معظم القبائل في الجزيرة عن الإسلام، مما اضطر الخليفة أبو بكر الصديق إلى محاربة المرتدين، وأرجعهم إلى الإسلام، أما أهل الذمة فاستمروا بدفع الجزية. لكن الخليفة عمر ابن الخطاب قام بإخراج المسيحيين واليهود، وتهجيرهم إلى الشام والعراق. وبذلك اخلص الجزيرة للمسلمين فقط. أما النصارى فقد ظلوا ولكن راحوا يذوبون في الإسلام تدريجياً. ويبدو أن في الجزيرة كان تمييز بين فرقتي المسيحيين والنصارى، فلذلك أخرج عمر المسيحيين وترك النصارى. 
   فالخليفة عمر ابن الخطاب ( 634 _ 644 م ) أخرج من الجزيرة، الكثير من مسيحيي أبرشية بيث قطرايي، والتي كان يتبعها العديد من الأسقفيات، فانتقلوا إلى قرية تدعى نهر ابان من أرض البحر المنقطع من كورة البهفباذ من طساسيج الكوفة، واستقروا في هذا المكان، وسمي نجران باسم بلدهم، وهو موضع على يومين من الكوفة.   
   ومن المعلوم أن كنيسة المشرق اهتمت بتنظيم مسيحيي بيث قطرايي، الذين كانوا يتقلصون منذ منتصف القرن السابع. فالجاثليق كيوركيس الأول ( 660 _ 680 م ) ذهب سنة 676 م إلى  بيث قطرايي، وبعد أن زار العديد من مراكز الأبرشية، حل في جزيرة ديرين، وهناك عقد مجمعاً برئاسته ضم كل من: مطرابوليط بيث قطرايي مار توما، وأسقف ديرين مار إيشوعياب، وأسقف المازونيين ( عُمان ) مار اسطيفانوس، وأسقف هجر مار بوسي، وأسقف الخط  ( حطا ) مار شاهين، وأسقف الطيرهان مار سرجيوس. وقد صدر عن هذا المجمع 24 قانوناً. 
   ويتحدث الجاثليق عن سبب عقد هذا المجمع قائلاً: " ونحن من عهدت إلينا مهمة التدبير الكنسي في هذا الزمان الصعب من نهاية العالم، وقد طاب لنعمة ربنا أن تقودنا في زيارتنا لجزر البحر هذه، والواقعة جنوبي العالم، رأينا أنه لإكمال خدمة الحياة لسكانها، ينبغي تجديد أشياء كثيرة، لدى هؤلاء الشعوب محبي المسيح، من خلال وضع قوانين عادلة تحفظ من يطبقها في كمال خشية الله ".   
    وبعد انتهاء المجمع غادر الجاثليق بيث قطرايي متوجهاً إلى ديره بيث عابي، جالباً معه ستراً للمذبح، نسج له في جزيرة ديرين من قبل سكان هذه الجزيرة. 
   ومع نهاية القرن السابع الميلادي بدأت المسيحية تتلاشى من الساحل الغربي من الخليج، وبخاصة من عُمان والبحرين وجزرهما.وكذلك من بيث قطرايي. وظل الوجود المسيحي ينزف رويداً رويداً حتى القرن الحادي عشر للمسيحية. ويبدو أنها في هذه الفترة كانت محصورة داخل الأديرة التي كان يعمرها الرهبان الحبساء، والتي كانت منتشرة في بيث قطرايي وجزرها. ومما يؤكد ذلك، لدينا ظهور الكاتب القطري أحوب ( أيوب ) الذي عاش في القرن العاشر، وكان من أصل قطري.     

   3 _ أدباء في كنيسة المشرق من بيث قطرايي: لقد أعطت هذه الأبرشية لكنيسة المشرق، أدباء ومفكرين وفلاسفة، وكتاباً وشعراء مبدعين. كتبوا بلغة كنيستهم، وأغنوا تراثها بمصنفاتهم. وقد حفظ لنا التاريخ سير قلة منهم وهم:
   1_ جبرائيل قطريا: تعلم جبرائيل في مدرسة نصيبين الشهيرة نحو سنة 615 م، وأصبح أستاذاً فيها ثم في مدرسة المدائن وماحوزى. ومن تلاميذه حنانيشوع الجاثليق. لا نعلم شيئاً من الآثار التي يذكرها الصوباوي، إلا أن له تفسير الخدم الكنيسة ذكره ماتيوس ( مخطوطة لندن 3336 ).   
   ويتحدث المطران أدي شير عن جبرائيل قائلاً: جبرائيل قطرايا ألف ميمراً في الإتحاد، وكتاباً في حل المسائل الدينية. ويذكر الصوباوي جبرائيل آخر يلقبه بــ " أريا " ويقول عنه أنه من قرابة إسحق أسقف نينوى وله شرح الكتاب المقدس. وعلى ظني أن جبرائيل قطرايا وجبرائيل أريا شخص واحد، لأن جبرائيل أريا أيضاً من بيث قطرايي. ومفسر الأتراك في كتاب جنة النعيم يلقب جبرائيل بأريا. وكان جبرائيل قطرايا معاصراً لباباي الكبير الذي توفي سنة 627 م ، وباباي ذكره في تآليفه.   

   2_ إبراهيم بر ليفي: هو من قطر  وعاش في القرن السادس. أقيم مفسراً في مدرسة ساليق. وضع كتاباً في شرح الطقوس، وفيه لا ينوه بالإصلاح الليتورجي الذي أجراه الجاثليق إيشوعياب الحديابي + 659 م. وهذا دليل أنه عاش في عهد سابق لهذا الجاثليق. أما كتابه شرح الطقوس فهو شرح صوفي رمزي بديع ببساطته. وما وصلنا منه يظهر وكأنه جزء أو مختصر للكتاب الأصلي الطويل المفقود.   
   ويقول الأب يوسف حبي: لقب بالمفسر لأن له تفسير الخدم، وهو شرح طقسي تصوفي اختصر فيه كتاب جبرائيل قطرايا، مع إضافة شروح له. وقد نشره كونولي مع ترجمة لاتينية 1913 _ 1915. 

   3_ إسحق النينوي: ولد في بيث قطرايي في النصف الأول من القرن السابع. دخل دير بيث عابي قرب عقرة وعكف على الدرس ومطالعة الكتب النسكية. سنة 663 م أقامه الجاثليق كيوركيس أسقفاً على نينوى. غير أنه ترك مركزه بعد عدة أشهر لأجل غيرته على حفظ القوانين التي رآها مهملة، فانعزل وانزوى في جبل ماتوت في بيث هوزايي " الأهواز " وسكن بين النساك والمتوحدين. ثم أتى إلى دير الربان شابور في جبال شوشتر في مقاطعة بيث هوزايي. ولكثرة انصبابه على الدرس ومطالعة الكتب المقدسة فقد بصره. وهناك أنهى حياته وقد بلغ شيخوخة جليلة، ودفن في دير الربان شابور.  وقد نشر المطران يعقوب منا في كتابه المروج النزهية مقالة إسحق النينوي في العلم. ونشر الأب بولس بيجان 82 فصلاً لإسحق في الحياة النسكية، استقاها من مخطوطات عديدة.    وجاء في كتاب العفة  لإيشوعدناح البصري : " تضلع إسحق النينوي كثيراً في الأسفار الإلهية وألف كتباً عن سيرة النساك ". لكن البصري لم يحدد نوعيتها وعددها. ويقول الصوباوي في كتابه فهرس المؤلفين: " وضع إسحق النينوي سبعة مجلدات في تدبير الروح والأحكام والعناية الإلهية ". وقد ترجمة مؤلفاته إلى لغات عدة منها: اليونانية القديمة واليونانية الحديثة والإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والهولندية والحبشية واللاتينية والروسية والعربية.   
   وقد حاول البعض من الباحثين أن يجعل من إسحق مؤلفاً أرثوذوكسياً. فقد نشر السمعاني في موسوعته " المكتبة الشرقية " المجلد الأول، ما كتبه أحد المؤلفين المونوفيزيين في بدء الترجمة العربية  لكتاب إسحق النينوي،  وفيها يحدد عصر إسحق في بداية القرن السادس، والحال أن إيشوعدناح يعرفنا بأنه كان عائشاً في نهاية القرن السابع، إذ أن الذي سماه مطراناً على نينوى هو البطريرك كوركيس الأول ( 660 _ 680 م ) والذي كان قد التقى به خلال زيارته الرعوية إلى أبرشية بيث قطرايي، فأعجب به وأقنعه بالذهاب معه إلى بلاد المشرق، وخلال عودته من هناك جاء به وأدخله دير بيث عابي الذي لكنيسة المشرق قرب عقرة. أما الكاتب فيضعه في دير مار متى المنوفيزي. وعوضاً عن جبل ماتوت ودير الربان شابور، يجعل موضع اعتزاله في برية صعيد مصر ودير السيدة المختص بالسريان اليعاقبة. ولكن مما لا شك فيه أن إسحق النينوي كان نسطورياً.   
   إلا أن الأب ألبير أبونا يؤكد من خلال  كتابات إسحق، أنه كاتب شرقي فذ، وإن كان قد كتب العروض الثلاثة التي تقربه من تعاليم حنانا الحديابي التي تمتزج بدفها أحياناً أفكار أوريجينية.   

   4_  يشوعفنا ( يزدفنا ): يقول عبد يشوع الصوباوي: عمل يشوعفنا القطري مقالات في الفصح، وله تفسير المئات، وتفسير فلسفة الروح، وله مقالات وتراجم، ورسائل وتعاز، وتسابيح شجية مرتبة على الألف باء.   
   ويقول الأب بطرس نصري: يشوع افني له خطب تحريضية، وشرح كتاب المئات، وله مقالات وتراجيم ورسائل وتعزيات وتسابيح رثائية مرتبة على نظام أبجدي.   
   أما المطران أدي شير فيقول: ايشوعبناه قطرايا صنف ميامر نصحية وكتاب تفسير المئات وكتاب الفلسفة الروحية. وله ميامر أخر وتراجم ورسائل وتعازي وتسابيح. وقد وصل إلينا ميمر صغير من ميامره محفوظ في مكتبتنا السعردية عنوانه " ميمر ايشوعبناه ضد الذين قالوا عنه أنه شرب سم الوثنية ". وأما قول السمعاني أن ايشوعبناه هذا هو يزيد بناه أسقف كشكر المعاصر للجاثليق إيشوعياب الحديابي، فكلامه هذا ليس بثابت. ترى لماذا الصوباوي عوض ايشوعبناه لم يكتب يزيد بناه.   

   5_ داديشوع قطريا: ولد في بيث قطرايي، وعاش في نهاية القرن السابع في دير ( رب كناري ).  وقد وضع داديشوع كتاب فردوس المغاربة، وكتاب في الأعمال الصالحة، وميمر في تقديس القلاية، وتعازي ورسائل وسؤالات في الهدوء الروحي والجسدي.   
   ويقول الأب ألبير أبونا: "  وقد أفاد توما المرجي في أسلوبه وأبحاثه من كتاب بللاديوس الذي نقله إلى الآرامية داديشوع القطري ".    ويقول المطران أدي شير : وفي هذا الصدد يذهب السمعاني ومعه المستشرقون إذ ظنوا أن داديشوع هذا، هو الذي خلف إبراهيم الكبير في رئاسة دير إيزلا الكبير، لكن الأمر غير ذلك فإنه كان من بيث قطرايي، وعاش في أواخر القرن السابع كما يتضح من شرحه لكتاب الأنبا أشعيا الناسك.   
   ويذكر الأب ألبير أبونا أن المطران أدي شير ذكر أن كتابات داديشوع قطرايا موجودة في 15 مقالة في المخطوطة السعردية. ويضيف الأب ألبير: ولكن هيهات ماذا جرى لمخطوطات سعرد ؟ . 

   6_ أحوب ( أيوب ) قطريا: هو من قطر، وعاش في القرن العاشر. ويقول عبد يشوع الصوباوي: إن أحوب القطري كتب شرحاً للعهد الجديد كله، وللتوراة وكل الأنبياء، بالإضافة إلى شرح ما بين " المجالس ". وبقيت له مقالة قصيرة تدعى " كتاب أسباب مزامير الطوباوي داود الملك والنبي وقلب الرب ". ووردت تنويهات بتآليف أحوب، كُتبت في هوامش شرح ربان نثنائيل الذي صار أسقفاً لشهرزور، واستشهد سنة 610 م في عهد كسر الثاني.   

   الخاتمة: مما سبق نجد أن المسيحية في الجزيرة العربية والقطر البحري كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها. ومن خلال ما سرد لنا الأب لويس شيخو من أسماء القبائل المتنصرة في عهد الجاهلية، مع الأدلة على نصرانيتها، نجد الحضور الكثيف للمسيحية هناك. وتلك القبائل هي: ا_ الازد. 2_ امرؤ القيس. 3_ الاوس. 4_ أياد. 5_ بكر. 6 _ بهراء. 8_ تغلب. 9_ تميم. 10_ تنوخ. 11_ ثعلبة. 12_ جذام. 13_ جرم. 14_ جرهم. 15_ الحدَّاء والسمط. 16_ الحارث بن كعب. 17_ حمير. 18_ حنيفة. 19_ الخزرج. 20_ ربيعة. 21_ السكاسك والسكون. 22_ سليح. 23_ شيبان.              24_ ضبيعة. 25_ طيء. 26_ عاملة. 27_ العباد.  28_ عبد الدار. 29_ عبد القيس. 30_ عبس وذبيان. 31_ عجل.       32_ عقيل. 33_ غسان. 34_ فرسان. 35_ قريش. 36_ قضاعة. 37_ القين. 38_ كلب. 39_ كندة. 40_ لخم. 41_ مازن. 42_ مذحج. 43_ معد. 44_ مهرة. 45_ ناجية. 46_ النبط. 47_ النخع. 48_ النمر بن قاسط. 49_ يشكر.   
   ويبدو أن مسيحيي تلك البلاد كانوا يشيدون أفخم البيع والأديار، ويتنافسون فيما بينهم على تشييدها كلاً في منطقته. وهذا دليل على ما كانت قد وصلت إليه المسيحية في تلك البلاد من انتشار وازدهار ونفوذ. والمثال على ذلك ما يزودنا به ياقوت الحموي عندما يتحدث عن كعبة نجران فيقول: " وكان أهل ثلاثة بيوتات يتبارون في البيع وربها، أهل المنذر بالحيرة، وغسان بالشام، وبنو الحارث بن كعب بنجران. وبنوا دياراتهم في المواضع النزهة الكثيرة الشجر والرياض والغدران، ويجعلون في حيطانها الفسافس، وفي سقوفها الذهب والصور. وكانوا يركبون إليها في كل يوم أحد وفي أيام أعيادهم في الديباج المذهب، والزنانير المحلاة بالذهب. وبعدما يقضون صلاتهم ينصرفون إلى نزههم ".   
   وكان للمسيحية تأثير كبير على عرب الجاهلية على كافة الأصعدة. ويتحدث الأب لويس شيخو اليسوعي في كتابه " النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية " عن المجالات التي أثرت فيها نصارى العرب في الجاهلية فيقول: " جمعنا ما ينوط بآداب نصارى العرب قي الجاهلية. ونريد بالآداب كل ما خلفوه لنا من مآثرهم في الكتابة واللغة والأمثال والحكم والإنشاء والشعر والخطب مما رواه عنهم أئمة الآدباء الذين جمعوا شوارد اللغة العربية وآثارها في القرن الثاني بعد الإسلام. فإن هذه البقايا ما تضعضع منها بتوالي الزمان تنبئ بترقي النصرانية بين أهل الجاهلية، وتثبت من وجه آخر سعة نفوذها في جزيرة العرب. ويضاف إلى هذه المآثر الأدبية عادات ألفها عرب الجاهلية قبل الإسلام، واستعاروها من النصارى. فتجدهم في أطوار حياتهم الدينية والمدنية يتقلدونهم، ويأخذون مآخذهم، حتى لا نكاد نرى في بعض الأنحاء أثراً من وثنيتهم السابقة. فكل هذه الظواهر يشهد عليها الشعراء القدماء والرواة الذين نقل الكتبة المسلمون عنهم أخبار الجاهلية ".   
   ونختم بما يقوله الدكتور جواد علي عن تأثير المسيحية في عرب الجاهلية في إحدى المجالات: " كان للنصرانية أثر آخر في نصارى عرب الجاهلية، هو أثرها فيهم من ناحية الفن، إذ أدخلت النصرانية بين العرب فناً جديداً في البناء، هو بناء الكنائس والأديرة والمذابح والمحاريب والزخرفة، كما أدخلت النحت والتصوير المتأثرين بالنزعة النصرانية. ولدخول أكثر هذه الأشياء لأول مرة بين الجاهليين، استعملت مسمياتها الأصلية اليونانية أو الآرامية في اللغة العربية، بعد أن صقلت وهذبت، حتى اكتسبت ثوباً يلائم الذوق العربي في النطق. وستكشف الحفريات في المستقبل عن مدى تأثر النصارى العرب الجاهليين بالفن النصراني المقتبس عن الروم أو بني أرام  والأحباش ".           

21
عيد القديس توما الأكويني
الشماس نوري إيشوع مندو
   القديس توما الأكويني: ولد في إيطاليا بلاد العلم والفن والعظمة سنة 1224. والده الكونت لندلفو نسيب فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا ، والدته ثاوذورا فرنسية نرمندية. فأخذ عن أبيه الكياسة واللطف والأدب العالي، وعن أمه ورث قوة الشكيمة والثبات في الأعمال. وما أن بلغ الخامسة من عمره حتى أرسله أبوه إلى دير البندكتيين  في جبل كاسينو ، فبقي فيه تسع سنوات وأظهر نبوغاً فائقاً. ثم أرسله والده إلى كلية مدينة نابولي  لإتمام دروسه فيها.وكان الفتى توما تقياً كثير العبادة رصيناً همه الصلاة والدرس. وقد تعرف في نابولي على رهبان القديس عبد الأحد، فتعلق برسالتهم وطريقة حياتهم فعزم الدخول في سلكهم. وفي سنة 1244 توفي والده فظن أن الجو قد صفا للقيام بما عزم عليه. فدخل رسمياً في الرهبانية الدومنيكية  ولبس ثوبها. فعلمت بذلك والدته فجن جنونها، وأخذت تبذل قصارى جهدها لتثنيه عن عزمه. فلما رأى ذلك رؤساؤه عجلوا في إرساله إلى باريس . فأسرعت والدته وكتبت إلى ولديها رنلدو ولندلفو، وكانا قائدين في الجيش الإمبراطوري لكي يكمنا له على الطريق ويقبضا عليه، ويعيداه مخفوراً إليها. فتصديا له وألقيا القبض عليه، وأعاداه بالقوة إلى قصر والدته، فحجرت عليه في قصرها الحصين. ثم أخذت تستعمل كل ما أوتيت من حنان ودهاء وحيل لتبدل له أفكاره، وبقيت كذلك سنة. فذهبت جهودها هباءً منثوراً، لأن توما كان يزداد يوماً فيوماً قوةً وثباتاً وزهداً وعبادة.
   ونزل أخواه إلى الميدان وهاجماه بأفظع السلاح وأقبحه، فادخلا عليه يوماً امرأة شابة فاتنة بغية أن تغريه. فأخذت تتملقه لتوقعه في فخاخها الدنسة. فثار عليها توما وأخذ جمرةً من النار الموقدة وهجم بها عليها ليحرقها، فانهزمت من أمامه. وهكذا انتصر في هذه المعركة. وهكذا انتصر في هذه المعركة، فثبته الله بعد ظفره في فضيلة الطهارة، وأضحى شفيع الشبيبة النقية التي تجاهد بنشاط لتحافظ على زنبقة الطهارة البهية. ثم أحالت عليه والدته شقيقتيه، علهما تقنعانه بالعدول عن عزمه. فبدل أن تظفرا بإرادته ظفر هو بواحدة منهما، فنذرت أحدهن بتوليتها لله، وذهبت فلبست ثوب الراهبات، وعاشت عيشة البتولات.
   فلما رأت والدته أن لا حيلة لها معه تركته وشأنه، فسافر إلى باريس وهناك تتلمذ للأستاذ الدومنيكي الذائع الصيت القديس ألبرتس الكبير . وما هي أيام معدودة حتى أظهر من قوة الفكر وصفاء الذهن، وسهولة الفهم لأرفع وأدق مواضيع العلم، ما جعل أستاذه يتوسم فيه أعظم الخير.
   وكان توما ذا قامة عالية وجثة ضخمة، قليل الكلام كثير التفكير. فظنه رفاقه في بادئ أمره كثيف الذهن ثقيل الفهم فدعوه " الثور الصقلي ". وبعد أيام لمع في محاورة علنية في أرفع مواضيع الفلسفة العقلية، فهتف المعلم ألبرتس أمام الجميع: " إن هذا الذي تدعونه ثور صقلية سوف يملأ خواره الدنيا ".
    ولما بلغ الخامسة والعشرين من عمره قدمه رؤساؤه لقبول الدرجة الكهنوتية. فقامت والدته تجدد المساعي لتثنيه عن عزمه، لكنها لم تفلح بذلك. فتضرعت إلى البابا لكي يعوض عليها شيئاً مما فقدته وضحت به في سبيله، بسبب سخط الإمبراطور فريدريك على أسرتها، حيث هدم قصرها واعدم ابنها رنلدو.
   وقد عرض الحبر الأعظم على توما رئاسة جبل كاسينو البندكتي، ثم رئاسة أسقفية نابولي. لكن هذا الراهب المتواضع كان قد خط لنفسه طريقاً رسولية رهبانية. فلم تبهره الوظائف، ولم تستغويه الرتب. فرفض بكل وداعة وثبات ما عرض عليه، ولبث في صومعته. وسار توما بخطى سريعة واسعة في نيل الشهادات العالية، وحصل على كرسي للتعليم في كلية باريس اللاهوتية الشهيرة. فبهر تلاميذه بمعارفه الواسعة، وشروحه النيرة، ولغته الموفقة، وطريقته الأخاذة، فتحمسوا له وحملوا علمه. فأبدع في طريقته ومواضيعه وبراهينه ولغته، وآثر فلسفة أرسطو على فلسفة أفلاطون ، وميز ما بين علم الفلسفة وعلم اللاهوت.
   وبسبب نجاحه هيج عليه الأساتذة الكهنة من غير الرهبان، فراحوا ينكرون حق التعليم على الرهبان، لا سيما الرهبان الدومنيكان والفرنسيكان، بحجة أنهم حادوا عن غايتهم، وتركوا فرائض الصوم والصلاة وحياة الاختلاء، وعكفوا على اقتناص الناس في حبائلهم بواسطة الوعظ والتعليم. وقام أحد هؤلاء الكهنة وهو القانوني غليوم دي سانت امور، ووضع مقالاً رناناً حمل فيه على الرهبان، وعلى تركهم لدعوتهم ومزاحمتهم للكهنة في أعمالهم. فأصغى البابا اينوشنسيوس الرابع  إلى ذلك المقال، ومنع عن الرهبان امتيازاتهم، وأقالهم من وظائفهم، وشدد النكير عليهم. إلا أن غليوم لم يحسب حساباً للكواكب الساطعة المتلألئة في سماء الرهبانيتين، أمثال ألبرتس وتوما وبونفنتورا، الذين قام يخاصمهم.
   وساق الله إلى رئاسة الكنيسة البابا ألكسندر الرابع ، وكان حبراً كبيراً متأنياً، فأوقف الحملة على الرهبان، وسمح لهم بأن يدافعوا عن أنفسهم. فعهد الأستاذ ألبرتس إلى تلميذه توما بذلك الدفاع. فقدم دفاعاً رائعاً متيناً دعمه بالبراهين الفلسفية القوية، وبيَّن كيف كمال الحياة الرهبانية لا يقوم بالصوم والصلاة، بل بكمال الغاية التي يسعى الرهبان إلى تحقيقها. وأن الغاية من الدرس والتعليم تعود بالنفع الجزيل على الكنيسة والنفوس. فكان الفوز للقديس توما، وانتصر الرهبان. وباء الكاهن غليوم بالفشل والخذلان. فعاد القديسان توما وبونفنتورا إلى كراسيهما في كلية باريس اللاهوتية بأمر البابا، وأبعد غليوم عن كرسيه بأمر ملكي سنة 1256. وقضى توما 22 سنة يعلم ويؤلف ويعظ ويدافع عن الإيمان، حتى طار صيته في جميع الآفاق.
   ثم علم في روما ونابولي. واتخذه الباباوات مستشاراً بابوياً، فبقي برفقة ألكسندر الرابع وأربانس الرابع وأكلمنضس الرابع  سبع سنوات، كان يتنقل في أثنائها معهم من مدينة إلى مدينة. وقد وضع أناشيد القربان التي لا تزال الكنيسة اللاتينية تترنم بها في عيد الجسد. وبقي القديس توما طوال حياته راهباً قنوعاً في مأكله ومشربه. ورغم ما تحلى به من العقل الرفيع والعلم الزاخر، كان كثير التواضع، وامتاز بطهارته الملائكية. وقد منحه الله مواهب روحية سامية، من رؤى وانجذابات سماوية، كانت ثمرة تأملاته العميقة، وصلواته العقلية، واتحاده الدائم بالله.
   وفي سنة 1274 إذ كان في طريقه إلى مدينة ليون  لحضور المجمع الذي دعا إليه البابا غريغوريوس العاشر ، مرض ولزم الفراش في دير لرهبان ستو الواقع على أطراف الولاية الرومانية في إيطاليا. فشعر بدنو أجله وقال: " ههنا مقام راحتي الأبدية ". وبقي يعاني آلام المرض مدة شهر، لكنه رغم ذلك استطاع أن يشرح للرهبان سفر نشيد الأناشيد. ورقد بالرب في 7 آذار 1274 وله من العمر نحو خمسين سنة.
   إن تآليف القديس توما أوفر من أن توصف أو تحصى في مثل هذه الدراسة السريعة. ولا زالت تآليفه إلى يومنا هذا دليلاً ومعيناً لكل طالب حق، وقد أحصيت في جدول يرقى إلى سنة 1319. وهي كالتالي:
  1_ التفاسير: أ_ تفاسير الكتاب المقدس ولا سيما النبوءات والأناجيل.
  ب_ تفاسير أرسطو وأشهرها " تفسير كتاب العبارة " و " تفسير كتاب البرهان "  و " تفسير كتاب السماع الطبيعي " و " تفسير كتاب السماء والعالم " و   " تفسير كتاب الكون والفساد " و " تفسير كتاب الآثار العلوية " و " وتفسير كتاب النفس "   و " وتفسير كتاب الحس المحسوس " و " تفسير كتاب الحروف "  و " تفسير كتاب الأخلاق " و " تفسير كتاب السياسة ".
  2_ التصانيف: وأشهرها " الخلاصة اللاهوتية " و " الخلاصة ضد الأمم ".
  3_ كتيبات: وهي في موضوعات شتى لاهوتية وفلسفية. أهمها كتيب " في وحدة العقل ضد الرشديين "       و " في أزلية العالم ضد المتذمرين من اللاهوتيين " و " في الكائن والماهية ".         
   وفي سنة 1323 أعلن البابا يوحنا الثاني والعشرون  قداسته. ووضعه البابا بيوس الخامس  في مصف معلمي الكنيسة وذلك سنة 1567 ودعاه " المعلم الملائكي ". وجعله البابا لاون الثالث عشر شفيع المدارس الكاثوليكية وذلك سنة 1880.
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد القديس توما الأكويني في 7 آذار.


22
تذكار مار فوليكرون أسقف بابل ورفاقه الشهداء
الشماس نوري إيشوع مندو
مار فوليكرون أسقف بابل ورفاقه الشهداء: سنة 250 للمسيح شن داقيوس  ملك الروم غارة على مملكة الفرس وانتصر على ملكهم، وقتل فيها جماً غفيراً من المسيحيين، ومن جملتهم كان مار فوليكرون أسقف بابل.
   وأراد داقيوس استئصال المسيحيين من بلاد الفرس كما فعل في مملكته. فقبض على مار فوليكرون والكهنة فرميان، وأعليما، وكاروز، وتيل. والشماسين لوقا وموسى، لمعرفته أن قوة الكنيسة في رؤسائها. فسيقوا جميعاً إلى هيكل الأوثان ليقدموا البخور لآلهتهم. لكن مار فوليكرون رفض طلبهم قائلاً: " إننا نضحي ذواتنا لربنا يسوع المسيح القادر على كل شيء، ولا نسجد أبداً للشيطان ولهذه الأصنام التي صنعتها أيدي البشر ".  فاستشاط الملك غضباً وأمر بهم أن يلقوا في السجن.
   وفي الغد أسلم الملك أمرهم للقاضي افلو والريانس، فأحضرهم، وسأل مار فوليكرون قائلاً: " أأنت هو فوليكرون المنافق الذي تجرأ على احتقار الآلهة وعلى مخالفة أوامر الملوك ؟ ". فلم يجبه الأسقف بشيء.
   وكان الملك حاضراً فقال لرفاق الأسقف على سبيل التهكم: " يا للعجب ! إن زعيمكم قد لزم السكوت لا يتفوه بكلمة ". فأجابه فرميان الكاهن قائلاً: إن أبانا لم يلزم السكوت إلا إطاعة لأمر ربنا ومخلصنا يسوع المسيح القائل في إنجيله: لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزقكم ". فلما سمع الملك هذا الكلام جن غضباً وتميز غيظاً، فحكم عليه بقطع لسانه، وللحال نفذ أمره. ورغم ذلك لم يزل فرميان يتكلم، فقال لأسقفه: " صلِ لأجلي يا أبي فوليكرون المغبوط، فإني أراك ممتلئاً من الروح القدس، الذي مع ختمه على فمك المقدس يفعم فمي عسلاً ".
   ثم إن داقيوس الملك قال للأسقف: " اسجد للآلهة وقرب لها الذبائح، وإذا فعلت هذا فتفتح بيني وبينك باب الوداد، وأجزل عليك العطايا، وأُشرفك وأبلغ بك أفضل درجة ". ولما لم يجاوبه الأسقف بشيء البتة أزادا غضباً، فأمر بضربه على فمه، فضربوه بقساوة شديدة حتى قضى نحبه. فأوعز الملك بإلقاء جثته أمام هيكل الأوثان.
   ولما جن الليل أتى اثنان من أمراء الفرس، وهما عبدون وسينون اللذان هما أيضاً نالا إكليل الاستشهاد، فرفعا جثته وقبراها بإكرام في محل قريب من مدينة بابل.
   وأما رفاق الأسقف فأمر بهم الملك أن يقيدوا بالأغلال ويساقوا إلى روما، فلما كبلوا انكسرت القيود، فنسب الملك ذلك إلى السحر. فأمر الملك بتعذيبهم عذاباً شديداً، ومن شدة العذاب كانوا يصرخون إلى فرميان الكاهن أن يطلب من يسوع العون على احتمال تلك الآلام القاسية، فأجابهم فرميا قائلاً: " أفاض عليكم الله أبو ربنا يسوع المسيح تسلية روحه القدوس الذي يملك في كل الأجيال إلى أبد الآبدين ".
   فلما سمع الملك أمر أن يطرحوا في النار، لكن الإله الذي خلص الفتيان الثلاثة من أتون النار في بابل أنقذ هؤلاء الشهداء. وسمع صوت السماء يقول: " تعالوا إلي يا وديعي القلب ". فأمر الملك بقطع رؤوسهم فقطعت، ونهى نهياً شديداً عن دفنهم.
   غير أن عبدون وسينون الأميرين لم يباليا بذلك، بل أخذا جثتيهما ودفناها بإكرام عظيم. وكان استشهادهم في اليوم السابع عشر من شهر شباط سنة 251. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار فوليكرون أسقف بابل ورفاقه الشهداء في 17 شباط. 




23
تذكار مار يوليانا سابا
الشماس نوري إيشوع مندو
  مار يوليانا سابا: هو من الرهبان الذين اشتهروا في بلاد ما بين النهرين في أواخر الجيل الرابع، ولقب بـ سابا أي " الشيخ ". سكن في مغارة في صحراء بلاد الفرثيين  منقطعاً للعبادة والتقوى والسيرة النسكية. وكان طعامه خبز الشعير والملح لا غير. ولم يكن يستلذ إلا بتلاوة المزامير، ففيها كان ينهم ليلاً ونهاراً. 
   ولم شاع صيته تجمع حوله العديد من التلاميذ حتى فاقوا المائة، وكان يرشدهم في جادة الكمال الإنجيلي. فعلمهم أن يصلوا سوية مساءً وليلاً وصباحاً، ولا يأكلوا سوى خبز الشعير والملح.
   وكان بين تلاميذه شاب اسمه اسطريس اختارته النعمة الإلهية ليكون هو أيضاً أباً لكثيرين، فانطلق إلى قرية قرب أنطاكيا اسمها جنداريس وشيد ديراً هناك، ومن جملة تلاميذه كان أقاق الذي نصب أسقفاً على حلب. وكان اسطريس يأتي كل سنة مرتين أو ثلاثاً لزيارة معلمه يوليانس.
   ثم انطلق يوليانا مع نفر قليل من تلاميذه إلى جبل سيناء، وفي سفره لم يمر بقرية أو مدينة بل ضرب في البرية، وكانوا حاملين على مناكبهم ما يلزمهم من الخبز والملح، وأخذوا معهم أجانه صغيرة من خشب وأسفنجة وحبلاً، حتى إذا ما صادفوا ماءً عميقاً يستقوا منه بالأسفنجة فيعصروها في الأجانة ويشربوا. وعندما وصلوا جبل سيناء مكثوا هناك أياماً منقطعين للعبادة، وبنى هناك مار يوليانا سابا كنيسة وكرس مذبحها. وبعد أن كرسه رجع إلى ديره. 
   وفي تلك الأثناء ظهر يليانس المرتد، الذي تمسك بعبادة الأوثان، فأخذ ينغص الكنيسة ويذيقها المرائر، وشن الغارة على بلاد الفرس، وكان في نيته أن يثير من بعد عودته اضطهاداً شديداً على المسيحيين. فأخذ مار يوليانا يصلي بخشوع طالباً من الله أن يصون أغنامه من شر الذئب الجهنمي. وبعد عشرة أيام قتل يليانس، فأخذ يوليانا سابا يسبح الرب ويمجده. وكان ذلك سنة 362.
   ولما ملك واليس أخذ ينصر الأريوسية وأصحابها. فنفى الأساقفة وأساء إلى المؤمنين. فذهب أقاق واسطريس إلى معلمهم مار يوليانا، وأقنعاه أن يترك خلوته ويرافقهما إلى أنطاكيا ليزيل الشكوك ويخزي الهراطقة ويشجع المؤمنين، فأجاب إلى سؤالهما وصحبهما إلى أنطاكيا. وهناك سكن في مغارة في لحف الجبل. فكان الجميع يبادرون إليه طلباً للبركة والشفاء، فعمل معجزات باهرة وأبرأ كثيراً من المرضى.
  وبعد أن شدد عزيمة الكاثوليكيين وأخزى الأريوسيين رجع إلى ديره، ففرح به تلاميذه وأقام معهم مدة طويلة إلى أن دعاه الرب إلى ملكوته السماوي. وكانت وفاته في أواخر الجيل الرابع.
   وذكره عند الكلدان في الخامس عشر من شباط كما جاء في قائمة القديسين المحفوظة في دير مار يعقوب الحبيس قرب سعرت، وفي الجمعة الخامسة من سابوع الدنح مع الملافنة الشرقيين كما جاء في الحوذرة. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار يوليانا سابا في 15 شباط.


24
عيد سيدة لورد " يوم المرضى "
الشماس نوري إيشوع مندو
 سيدة لورد: لورد مدينة صغيرة قابعة على جبال البيرينيه في جنوب فرنسا. في هذه المدينة التي كانت تنعم بالهدوء والسكينة ظهرت العذراء مريم في 14 شباط 1858 للصغيرة برناديت سوبيرو ابنة الأربعة عشر ربيعاً، التي لم تتعلم بعد لا القراءة ولا الكتابة، كما لم تتلق مناولتها الأولى. وقد نعمت برناديت بثمانية عشر ظهوراً في مغارة " ماسابييل " قرب المجرى الشتوي النازل من جبال البيرينيه والمسمى " بو ".
   ولكي تقي العذراء برناديت من الزهو الباطل، أمرتها بأن تشرب وتغسل وجهها من عين لا يبدو منها غير تراب موحل، وبأن تأكل أعشاباً مُرَّة تذكّر بما أمر الله موسى في سفر الخروج " مع أعشاب مرّة يأكلونه "، وهو رمز للتوبة الذي تطلبه العذراء في كل ظهور.
   أما الحدث الأهم هو أن العذراء في ظهور 15 آذار أجابت برناديت التي سألتها للمرة الرابعة عن اسمها، نزولاً عند طلب كاهن الرعية " بايرامال " " أنا الحبل بلا دنس ". تعبير لم تسمع به برناديت التي كانت  التي كانت تؤمن بالآب والابن والروح القدس، ولكنها كانت عاجزة عن جمع الأقانيم الثلاثة تحت تسمية الثالوث الأقدس، فقد كانت لا تعرف إلا الشيء القليل من التعليم المسيحي. يضاف إلى ذلك أن عقيدة " الحبل بلا دنس " المتداولة في أوساط الفاتيكان اللاهوتية فقط، كان البابا بيوس التاسع قد أعلنها في 8 كانون الأول 1854,
   والأهم من ذلك أن كاهن الرعية نفسه كان ينتقد الصيغة اللغوية لهذه العقيدة، ويتساءل لماذا يقال في العذراء " سيدة الحبل بلا دنس " بدلاً من أن يقال " السيدة التي حبل بها بلا دنس ". علماً أن الصيغة الأولى ماهت بين فكرة مجردة وشخص مريم ! ومعلوم أن هذه العقيدة تريد القول إن العذراء مريم، التي ستستقبل ابن الله في جسدها، قد عصمت مسبقاً بقدرة الله واستحقاقات المسيح اللاحقة على الصليب، من الخطيئة الأصلية. وهذه كلها مفاهيم لم تكن تعرفها برناديت.
   وقد تحلت السلطات الكنسية بكثير من الحذر والفطنة في هذه الظهورات، وموقف الكنيسة هذا أعطى مصداقية لما يجري في لورد من شفاءات. ففي 28 تموز 1858 أنشأ المونسنيور لورانس أسقف تارب لجنة تحقيق. وبعد أربع سنوات تقريباً، وتحديداً في 18 كانون الثاني 1862 أصدر منشوراً رعوياً يؤكد فيه " أن مريم الطاهرة أم الله، ظهرت حقاً لبرناديت سوبيرو ".
   وإزاء تدفق الحجاج إلى لورد وحدوث عجائب شفاء، أنشأت السلطات الكنسية العليا " مكتباً طبياً " للحكم في العجائب الصحيحة، على أن يكون المرض خطراً جداً أو غير قابل للشفاء بوساطة العلاجات الطبية، وأن يكون في الوقت نفسه مفاجئاً وكاملاً ونهائياً. واستبعدت كل الأمراض العصبية.
   وفي العام 1992 أعلن الدكتور بيلون رئيس المكتب الطبي أنه قد أحصيت إلى الآن قرابة 6000 حالة شفاء، وأن 2000 حالة منها يمكن اعتبارها شفاءات فائقة الطبيعة، ومع ذلك فإن السلطات الكنسية لم تعلن منها إلا 65 حالة عجائبية.   
   وقد أصبحت لورد مزاراً عالمياً يزوره الملايين من المؤمنين كل سنة، وخاصة من المرضى الذين يطلبون الشفاء بشفاعة العذراء مريم. وتقام يومياً القداديس والصلوات، ورتبة درب الصليب، والزياح بالقربان الأقدس عصراً، والتطواف بالشموع ليلاً مع تلاوة المسبحة الوردية بلغات عديدة.
   ويجد الزائر في لورد مغارة الظهورات وثلاث كنائس هي: الكنيسة السفلى وقد شيدت سنة 1858، والكنيسة العليا وقد شيدت سنة 1879، وكنيسة البابا القديس بيوس العاشر تحت الأرض والتي شيدت سنة 1858، وتتسع لعشرات الآلاف من المؤمنين. وإلى جانب المغارة يجد الزائر الحمامات العجائبية التي تأتيها المياه من النبع الذي بثقته العذراء بمعجزة داخل المغارة، وفي هذه المياه يستحم المرضى، ويتبرك بها الأصحاء ويحملون منه إلى بيوتهم للبركة. 
   يوم المرضى: سنة 1992حددت الكنيسة الجامعة يوم 11 شباط من كل سنة يوماً عالمياً للمريض. وفي 11 شباط 1996 أصدر البابا يوحنا بولس الثاني رسالة بمناسبة اليوم العالمي الرابع للمريض، وفيها يتحدث إلى المؤمنين عن الغاية من الاحتفال بهذا اليوم. أستهل البابا رسالته بالكلمات التي نطقت بها السيدة العذراء الفائقة القداسة إلى المواطن البسيط خوان دييغو دي كوتيلان ، في 9 كانون الأول سنة 1531 عند سفح تل تيبيياك شمالي غربي مدينة مكسيكو عاصمة المكسيك، المعروف بتل غوادلوب. فبينما كان يتضرع من أجل شفاء أحد ذويه سمع صوت يناديه: " لا تقلق من هذا المرض ولا من أية مصيبة أخرى. ألستُ أنا هنا أمك ؟ ألستُ ملاذك ؟ ألستُ أنا عافيتك ؟ ".
   ويخاطب البابا في رسالته المرضى بالقول: " أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أنتم الذين تُمتحنون بصورة خاصة بالألم، إنكم مدعوون إلى رسالة مميزة عبر التبشير الإنجيلي الجديد، بوحي من مريم أم المحبة والألم البشري. . . . إن الجهود المشكورة والبطولية أحياناً للكثيرين من الذين امتهنوا الخدمة الصحية، والإسهام المتزايد للأشخاص المتطوعين، كل هذه غير كافية لتغطية الحاجات الملحة. أضرع إلى الرب أن يحث أكثر فأكثر الأشخاص الأسخياء، الجديرين بأن يوفروا لمن هو فريسة الألم، لا التعزية من خلال مساعدة جسدية فحسب، بل أيضاً تعزية مساعدة روحية قادرة بأن تفتح له آفاق الإيمان المعزية. . . . أيها الإخوة والأخوات الأعزاء الذين تحتملون الألم، قدموا بسخاء عذابكم هذا مشاركة مع المسيح المتألم ومع العذراء مريم أمه الكلية الحنان ! أما أنتم الذين تبذلون كل يوم تفانياً تجاه أشخاص يتألمون، إجعلوا من خدمتكم مساهمة ثمينة للتبشير بالإنجيل. أدركوا أنكم أنكم جزء فعال في الكنيسة، لأن فيكم ترى الجماعة المسيحية نفسها مدعوة إلى أن تتجابه مع صليب المسيح بغية أن تبين للعالم ميزة رجائه الإنجيلي . . . . أوجه ندائي إليكم يا رعاة الجماعات الكنسية، حتى تستعدوا بفضل تنشئة وافية، كي تحتفلوا باليوم العلمي للمريض، بنشاطات جديرة بأن تثير الإحساس عند شعب الله والمجتمع المدني بالذات، إزاء المشاكل الضخمة والمعقدة للصحة ولبنى الصحة. أما أنتم يا من امتهنتم الخدمة الصحية أطباء وصيادلة وممرضون وممرضات ومرشدون ورهبان وراهبات وإداريون ومتطوعون ولا سيما أنتم النساء، رائدات الخدمة الصحية والروحية في سبيل المرضى، كونوا جميعاً دعاة شراكة بين المرضى أنفسهم وبين عائلاتهم والجماعة الكنسية. كونوا إلى جانب المرضى وعائلاتهم حتى لا يشعر قط الذين يجتازون المحنة بأنهم مهمشون. بهذا تصبح تجربة الألم للجميع مدرسة عطاء الذات في السخاء . . . . أطرح ندائي بطيبة خاطر على المسؤولين المدنيين على كل المستويات، حتى يجدوا في اهتمام الكنيسة وفي التزامها في عالم الألم، مناسبة حوار ولقاء وتعاون بغية بناء حضارة من شأنها أن تشد الخطو دوماً أكثر فأكثر على درب العدالة والحرية والحب والسلام، انطلاقاً من العناية بالإنسان المتألم. دون العدالة لن يعرف العالم السلام إطلاقاً، ودون السلام لا يمكن إلا أ، ينبسط الألم حتى اللانهاية. . . . على جميع الذين يتعذبون، وعلى جميع الذين يبذلون قصارى جهدهم إزاءهم، أتوسل العون الأمومي للغراء مريم. أبتهل إلى أم يسوع  كي تصغي إلى صراخ الكثير من العذابات، وتمسح دموع من يقاسي الألم، وتكون قرب جميع مرضى العالم ! أيها المرضى الأعزاء لتقدمن العذراء الفائقة القداسة إلى إبنها عطية عذاباتكم حيث ينعكس وجه المسيح على الصليب ! أرفق هذه التمنيات بتأكيد صلاتي الحارة، فيما أمنح الجميع من صميم القلب البركة الرسولية ".   
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد سيدة لورد ويوم المرضى العالمي في 11 شباط.


25
تذكار مار أبراهام مطران أربيل الشهيد
الشماس نوري إيشوع مندو
   مار أبراهام مطران أربيل الشهيد: في زمن الاضطهاد الأربعيني كان مطران أربيل يوحنان قد زج في السجن، فاجتمع مسيحيي أربيل وانتخبوا خفية مار أبراهام خلفاً له ليدبر شوؤنهم الروحية. وعندما علم المجوس بذلك أرادوا قتله فهرب واختفى في قرية تلنياحا.
   وفي 5 شباط 345 ألقى الموهباط آذورفره حاكم أربيل القبض عليه، فعرضه على ضربات شديدة وعذابات فادحة ابتغاه أن يحمله على السجود للشمس، أما مار أبراهام فلم يزل ثابتاً في رأيه معتصماً بتعليم المسيحيين وهو وحده الحقيقي، وكان يصرخ قائلاً: " إنني أومن برب واحد لا إله إلا هو وحده، وله أسجد، وإياه أعبد، فلن أنبذ إيماني الحقيقي أبداً ".
   فقال له الحاكم: " أعمل يا شقي بما يأمرك الملك فتخلص ".
   فأجابه المطران: " إنني أسخر بك وبآلهتك، وأنبذ ملكك وأمره، لأنه يحاول أن يلقي سدول ضلاله على الحق المبين، ويهور بتكبره تواضعنا الجليل، لكنه فليعلم يقيناً أن تواضعنا لا يلبث من دون أن يرتفع فيطأ كبرياءه ".
   فاستشاط الحاكم غضباً وأمر أن يؤخذ رأسه بحد السيف. وكان استشهاده في اليوم الخامس من شهر شباط سنة 345. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار أبراهام مطران أربيل الشهيد في 5 شباط.


26
عيد شمعون الشيخ وحنة النبية
الشماس نوري إيشوع مندو
   شمعون الشيخ: أو سمعان اسم عبري معناه " مستمع ". رجل تقي سكن أورشليم، وأوحي إليه أنه سيعيش حتى يرى المسيح المتجسد. وقد إنقاذ بالروح إلى الهيكل عندما ذهب يوسف ومريم بالطفل يسوع إلى هناك، وأخذ الطفل بين ذراعيه وشكر الله، ثم طلب أن يطلقه الله بسلام. وتقول بعض التقاليد أنه ابن هلليل الربي اليهودي  ووالد غمالائيل، ولكن لا ظل من الصحة لهذه التقاليد، كما أنها بلا سند. 
  عندما أحضر مريم ويوسف الطفل يسوع إلى الهيكل ليقدماه لله قابلهما شيخ وأخبرهما بما سيكون عليه الطفل. وقد أمكن لشمعون أن يموت بسلام آنذاك لأنه قد رأى المسيح. لقد تعجب يوسف ومريم من هذا الكلام لثلاثة أسباب: أن شمعون قال إن يسوع عطية من الله. وأنه عرف فيه المسيح، وأنه قال إن يسوع سيكون نوراً لكل العالم. وهذه هي المرة الثانية التي تسمع فيها مريم العذراء نبوة ابنها، وكانت المرة الأولى حين استقبلتها إليصابات كأن الرب.تنبأ شمعون أن الناس لن يكونوا على الحياد من الرب يسوع فإما يرفضوه بشدة أو يقبلوه بفرح. لكن مريم كأم يسوع ستحزن للرفض العام الذي سيلاقيه ابنها.
   حنة النبية: اسم عبري معناه " حنان، حنون، نعمة ". هي بنت فنوئيل من سبط أشير، نبية أرملة دامت حياتها الزوجية 7 سنوات فقط. وفي سن 84 كانت لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً، وكانت هناك عندما أحضر الطفل ليكرس. وسمعت ما تنبأ به عنه شمعون الشيخ عندما أخذه على ذراعيه وبارك الرب وطلب إليه أن يطلقه بسلام بعدما رأى المخلص بعينيه. وهذه النبية عرفت الطفل القدوس وأعلنت أنه هو " المسيا " المسيح المنتظر.  وقد دعيت حنة نبية إشارة إلى التصاقها الوثيق بالله. ولا يتنبأ الأنبياء بالضرورة عن المستقبل. فقد كان دورهم الرئيسي هو التكلم بلسان الله وإعلان حقه.
   ومع أن شمعون وحنة كانا متقدمين جداً في العمر إلا أنهما كانا يأملان في رؤية المسيح. وبدافع من الروح القدس وقيادته كانا من ضمن أول من شهدوا للمسيح. وكان للشيوخ في حضارة اليهود احترامهم، ولذلك كان لنبوتي شمعون وحنة وزن خاص بسبب تقدمهما في العمر. 
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد شمعون الشيخ وحنة النبية في 3 شباط.

27
القديس يوحنا دون بوسكو
الشماس نوري إيشوع مندو
   القديس يوحنا دون بوسكو: ولد في 15 آب سنة 1815 في قرية بكي بمقاطعة بيومنه في لواء تورينو  بإيطاليا. وكان والداه فلاحين فقيرين ممتازين بالتقوى وصلاح السيرة وهما فرنسيس بوسكو ومرغريتا أكيانا. وصبغاه بمياه المعمودية في اليوم الثاني لميلاده. وما أن بلغ أبوه العقد الثالث من سنيه حتى هصرته يد المنون كهلاً فاحتضنته أمه العطوف واتخذت له سريراً من حنايا ضلوعها ومهاداً من أحشائها. وهكذا ذاق مرارة اليتم ولوعة الفقر وهو بعد في ربيعه الثاني. لكن الله اصطفاه ليربي ألوفاً من اليتامى المهملين.
   اعتكفت مرغريتا على الشغل في الحقل لتنهض بمعيشة أيتامها البنين الثلاثة، وجعلت تلقنهم مبادئ التعليم المسيحي وتسهر على آدابهم بكل قواها، ولم تقتصر على ذلك بل مرنتهم على الحراثة وعلى الشغل ليكسبوا معيشتهم بعرق جباههم.
   وما أن بلغ يوحنا الربيع التاسع من عمره حتى جرى له حادث خطير دبرته العناية الإلهية وحملته على التفكر فيه في كل أدوار حياته. فقد رأى حلماً أثر فيه تأثراً شديداً. فشاهد نفسه واقفاً أمام منزله يحف به جم غفير من فتيان يضجون ويعجون ويقذفون من أفواههم شتائم قبيحة وتجاديف فظيعة. فحاول أن يسكتهم ويردعهم بالنصح ثم بالتهديد والضرب واللطم فلم يصغوا أليه ولم يرتدعوا. ثم شاهد شيخاً جليلاً يدنو منه ويقول له: " إن شئت اكتساب صداقة هؤلاء الفتيان ومحبتهم فأرفق بهم ينقادوا إليك باللين لا بالخشونة ". فأمتثل يوحنا أمر الشيخ، ثم شاهد في حلمه وحوشاً ضارية استحالت إلى خراف وديعة، وسمع صوتاً رخيماً كأنه نغمة قيثارة سماوية تترنم به عذراء شهية وتقول له: " خذ عصاك وأمضِ إلى المرعى. وستدرك فيما بعد مغزى هذه الرؤيا ".  وعند الصباح قص يوحنا على أقاربه ما حلم به فقالت له والدته:        "  لعلك يا بني تصير كاهناً ".  فرد على أمه بالقول: " يا أماه إذا بلغت الكهنوت فسأضحي بحياتي حباً للأحداث. سأحبهم وأحببهم إليّ. سأبذل لهم النصائح المفيدة وأعتني بخلاص نفوسهم! ".
   وكان يوحنا يتوق الدخول في المدرسة ليقتبس العلم، إلا أن فقره كان يحول دون ذلك. فأضطر أن يتعاطى أشغالاً يدوية ليكسب معيشته منتظراً تدبير العناية الربانية. سنة 1826 تعرف على الأب كالوسو خوري قرية مريلدو، فأحبه الخوري وأعجب بتقواه ونشاطه فقضى عنده عاماً كاملاً تعلم فيها أصول اللغة الإيطالية واللاتينية. وفي شباط سنة 1828 عمل عند صاحب مزرعة يدعى موليا حيث كان يرعى بقره، وقد نهض بخدمة البقر خير نهوض، لكنه بعد فترة عاد عند الأب كالوسو الذي رحب به وجعل يدرسه بكل سرور، وبقى عند الأب كالوسو منكب على الدرس والمطالعة حتى وفاة الأب المذكور.   
   سنة 1835 تحقق حلمه فدخل الدير في " شياري " ناشداً الكهنوت وهو في العشرين من عمره. وسرعان ما تألق نجمه في الدير، وبرز في ميادين العلم، حتى نال منحة في كل سنة. وفي سنة 1839 أصيب بوعكة صحية، وظل طريح الفراش عدة أسابيع، يتقلب بين الحياة والموت، فزوده رئيس الدير بمسحة المرضى. وأتفق أن أمه مرغريتا أتت لتزوره في ذلك النهار فهالها توعكه، فقال لها: " وهل ساقتك العناية الإلهية، أم أطلعتِ على محنتي ؟ ". فردت عليه بالقول: " لا يا بني ! وإنما أتيتك برغيف من الذرة وبقنينة خمر، ولكن الرغيف عسير الهضم على معدتك ". فرد عليها بالقول:     " لا بأس ! فهو سيشفيني لأنه من يديك ومن أرضنا ".  ولما قفلت أمه راجعة تناول خمس قطع من الرغيف وأكلها، وألحقها بكأس من النبيذ ونام خائر القوى، ولم يستفق إلا بعد ثمان وأربعين ساعة وقد فارقته الحمى. وبقي هزيلاً واهناً عدة أيام، إلى أن تماثل من علته شيئاً فشيئاً وتعافى.
   تتابعت الأيام سراعاً في الدير، وأقترب يوحنا من الكهنوت. وفي 5 حزيران سنة 1841 رسم كاهناً. وفي يوم رسامته قالت له والدته: " ها أنت كاهن يا ولدي، فارتح إلى القداس كل يوم، وأعلم جيداً أن القداس يعني الألم والجهاد. لن تستشف هذه الحقيقة حالاً، ولكنك على مر السنين ستذكر يوماً أن أمك كانت مصيبة. كل يوم دون شك ستصلي من أجلي، وأنا لا أسألك شيئاً آخر. لا تسعى من الآن فصاعداً إلا نحو خلاص النفوس، ولا تعبأ بي ! ".
   وبعد رسامته تكاثرت عليه العروض المغرية للعمل، ومن بينها أن يكون مربياً للأولاد في أسرة عريقة غنية في مدينة جنوى ، فينال أجراً يناهز الألف ليراً في السنة. لكن أمه قالت:" ماذا أفعل بالألف ؟ أنا لم أقدمه للرب حتى نغتني ! وابني سيتعرض للهلاك بهذا المال الفاحش ". فرد على أمه قائلاً: " الحق حليفك يا أماه ! إن حذائي الغليظ الخشن سيبري حضيض القصور الناعم الوهاج. أوثر أن أعايش الفقراء، ولكن عليَّ قبل كل شيء أن استزيد من العلم، حتى أكون أكثر فائدة ".  وهكذا مضى إلى مدينة تورينو واعتصم هناك بالمدرسة الكبرى، ليتخصص في اللاهوت على الأستاذ الكاهن دون كفاسو الذي كان له نِعمَ الأب والمرشد والمعلم.
   وفي تورينو أخذ يزور في أوقات الفراغ السجون والمستشفيات والمياتم والبيوت الفقيرة. وفي الثامن من كانون الأول سنة 1841  بينما كان يستعد للقداس، استرعى انتباهه مشاجرة في السكرستيا بين القندلفت " ساعور " وفتى فقير يدعى برتلمي، فطلب من الفتى أن يحضر القداس ومن ثم سوف يلتقي معه. وبعد القداس أخذه على انفراد وسأله بعطف عن ظروفه. وبعد أن فهم أن الفتى يتيم وليس هناك من يرعاه، أهتم به الأب يوحنا وأخذ يلقنه مبادئ الديانة المسيحية. وبعد أسبوع عاد برتلمي ومعه ستة من الفتيان وكلهم على شاكلته بثياب رثة وحالة مضنية، وبعد احتكاكهم بوداعة الأب ودماثة أخلاقه وطيب سريرته أسلموا إليه قيادهم، وأحسوا لأول مرة في حياتهم بدفء المحبة والعطف والإخلاص. وهكذا راح دون بوسكو يجمع الأولاد والفتيان بكل الطرق، من الشوارع والأزقة والساحات العامة والسجون. فأزداد عددهم حتى بلغوا في فترة قصيرة المائة، وكان يجتمع معهم نهار الأحد يلاعبهم في باحة المدرسة ويخلبهم بألعابه الخفية، ويتحفهم بالنوادر، ويغشى معهم المتنزهات طلباً للانشراح. وكان معلمه دون كفاسو يأذن له أن ينهب مطبخ المدرسة ليطعم الأولاد، كما أنه استدر أمولاً طائلة من الأغنياء لتجهيزهم بالثياب والأحذية. وكان يختم النهار بالتعليم الديني، فينصت الأولاد إليه مشغوفين فتسقط كلماته في قلوبهم سقوط الأنداء في الأرض الصالحة. وهكذا تجلت معالم رسالته.
   في خريف سنة 1844 ازداد عدد الأولاد إلى ثلاث مئة ففكر  بإيجاد مكان أوسع حتى يستقبلهم، فقصد الأب دون بوريل الذي شيد حديثاً مأوى لتربية الفتيات البائسات، فوضع تحت تصرفه غرفة واسعة.  لكن العدد كان يزداد، عندئذ طلب الأب بوريل من دون بوسكو أن يترك المكان، فالأولاد يتكاثرون حتى ضاقت بهم أجواء المأوى. ونصحه أن يلتجأ إلى مأوى القديسة فيلومين الذي تبنته المحسنة الكبيرة المركيزة دي بارولو. فذهب دون بوسكو إلى المركيزة وبسط لها قضيته، فسرت للبادرة ووضعت تحت تصرفه غرفتين كبيرتين أنجز بناؤهما لحين الفراغ من بناء المأوى. فشكر دون بوسكو عطفها.
   أقام دون بوسكو أياماً في مأوى القديسة فيلومين دون أنت تثار أية مشكلة. وفي يوم من أيام الربيع سنة 1845 جاءت المركيزة وقالت له: " أولادك العفاريت لا يطاقون ! لقد لطخوا جدران المأوى بألوان الخطوط والتصاوير، كما أنهم داسو بأقدامهم الهمجية حديقة الزهور، فأخلوا الغرفتين وانقلوا متاعكم ".
   بعد التفكير اهتدى إلى كنيسة القديس بطرس بمحاذاة المقبرة، فاستأذن كاهن الكنيسة الأب دون تازيو بالإقامة وعقد الاجتماعات. لكن بعد فترة وجيزة طلب الأب دون تازيو من دون بوسكو أن يغادر المكان لأنه لم يعد يقوى على احتمال الضجيج. فاهتدى دون بوسكو إلى قاعة كبيرة في ضاحية المدينة، فأستأجرها ورتبها حتى أضحت تليق بالصلاة. وقد دشنها في عيد الفصح مع أولاده، وأقام فيها أول قداس، وقد أسماها كنيسة القديس فرنسيس السالي شفيعه المحبوب.
   وفي شهر تموز سنة 1845 أستأجر عدة غرف في منزل " بيناري " بالقرب من كنيسة في ضاحية المدينة، ثم مضى إلى قريته " بكي " ليلتقي أمه ويمضي هناك فترة نقاهة وراحة. وفي تشرين الأول قرر الرجوع إلى تورينو فعرضت عليه والدته أن تذهب معه لتعيش هناك وتخدم الأولاد. فكانت فرحته كبيرة  جداً. ولما بلغ المعهد  عرف الأولاد بأمه. وأخذ المعهد يزدهر، فالمدرسة تفتح كل يوم، ويساعد دون بوسكو في التدريس نخبة من أولاده القدامى، ويزدحم التلاميذ كل مساء للعشاء، فيتعلمون الديانة والحساب والخط والقراءة والموسيقى، وقد جهز دون بوسكو معهده بشتى آلات الطرب. وفي نهاية سنة 1845 أصبح عدد الأولاد ثماني مئة. وكانوا يجتمعون عنده كل أحد، فعليه أن يطعمهم ويجزهم بالثياب والأحذية والأغطية الدافئة. وأما الأم مرغريتا فكانت ساعده الأيمن في التنظيف والغسيل والكي والترقيع، كما لو كان الأولاد أبناءها.
   ثم بدأ دون بوسكو يستقبل في بيته الأولاد الذين يفتقرون إلى مأوى، ومع الأيام ضاق البيت بالأولاد الداخليين، ففتح في أواخر سنة 1847 معهداً آخر على اسم القديس لويس غنزاغا، وأتبعه بمعهد ثالث بعد سنة على اسم الملاك الحارس.
   سنة 1851 لبس أربعة من الشباب الداخلين الثوب الرهباني، وبعد أسابيع اشترى دون بوسكو بيت بيناردي كله. كما أنه بنى كنيسة فخمة على اسم القديس فرنسيس السالسي، وشيد بعض الأبنية، وقد تواردت عليه الإعانات من كل أنحاء إيطاليا، ولا سيما الملك فكتور عمانوئيل .
   في حزيران سنة 1855 أقام دون بوسكو رياضة روحية للسجناء في تورينو، وفي نهاية الرياضة اعترفوا كلهم وتناولوا. فطلب دون بوسكو من مدير السجن أن يسمح له بأخذ السجناء وعددهم 150 إلى البرية ليوم واحد لأنهم بحاجة إلى نزهة. فسخر منه رئيس السجن. فذهب لمقابلة وزير العدل وبعد أن عرض عليه الفكرة، أقتنع الوزير وسمح له بذلك. وفي اليوم المحدد أخرج دون بوسكو السجناء، وقد دهش أهل المدينة لرؤيتهم دون بوسكو على رأس هذا العدد الهائل من السجناء، يمرون وسط الشوارع هازجين مرحين. وما أن وصلوا إلى البرية انصرفوا إلى اللعب والغناء، وعند الظهيرة قدم لهم دون بوسكو الغداء بسخاء، ثم تابعوا أفراحهم حتى الغروب. واختتم الأب دون بوسكو النهار بقصة روحية مؤثرة تحثهم على الصلاح والتوبة. ثم عادوا أدراجهم وهم يطلقون ألحان الحرية والغبطة والارتياح. فقال حراس السجن بعضهم لبعض: " لو خفرناهم نحن في النزهة لفروا من بين أيدينا، أما دون بوسكو فقام بما تعجز عنه سرية من الجنود شاكسي السلاح ".  وأعجب مدير السجن ووزير العدل بما قام به دون بوسكو.
   في تشرين الثاني سنة 1856 أحست الأم مرغريتا بقشعريرة تسري في أعضائها، فأحضر طبيب لمعالجتها، وبعد أن وقف على حالتها أعلمهم بأن حياتها بخطر. وفي اليوم الرابع نالت الأسرار الأخيرة من يد ابنها دون بوسكو. واستجمعت قواها وأشارت إلى دون بوسكو أن يقترب منها فقالت له: " أوصيك بالمحافظة على روح الفقر، فهو خير حرز يستوكف عليك بركات الله ورضوانه ". ونحو الساعة الثالثة صباحاً أسلمت الروح. فمضى دون بوسكو إلى الكنيسة ليرفع الذبيحة الإلهية من أجل روح والدته. وفي نهاية القداس ركع أمام تمثال العذراء وصلى قائلاً: " أيتها العذراء الرحوم لم يعد لي أم على الأرض. الأسرة الكبيرة بحاجة إلى أم ! فكوني هذه الأم لي ولأولادي. ارمقيهم بعطف وحنان ". وفي الصباح حمل أولاد المركز أمهم إلى القبر، وغمروا مثواها الأخير بالزهور عرفاناً للجميل.
   في شباط سنة 1858 قصد روما  وقابل البابا بيوس التاسع ملتمساً منه أن يشمل جمعيته وقانونها بعطفه الأبوي ورضاه السامي. فرد عليه البابا بالقول: " إننا راضون بصنيعك لأن الشبيبة في عهدنا مفتقرة إلى كاهن نشيط مثلك. فأوصيك بالأولاد ثقفهم في مبادئ الإيمان المقدس، علمهم أن يسيروا في سبل الصلاح، وحذرهم دواعي الرذائل. حرسك المولى لتحرس الشبيبة من الفساد والضلال ". خرج دون بوسكو من لدن الحبر الأعظم وقلبه يطفح بشراً وجوانحه ترقص طرباً، وعاد إلى تورينو يحدث أولاده بما جرى له في المدينة الأبدية.
   تعاقبت السنون على دون بوسكو، فحقق معظم مشاريعه إذ شيد كنائس عدة، وأسس سنة 1872جمعية للراهبات عرفت بالساليسيات ودعين " بنات مريم معونة النصارى ". ووسع المعهد فضم بين جدرانه ما ينيف على الست مئة من الداخليين يعملون ويدرسون. وفي 14 أيار سنة 1862 أبرز السالسيون الأولون نذورهم وعددهم 21 كاهناً وأخاً، معاهدين أنفسهم على أن يمارسوا الفقر والعفة والطاعة حتى أخر يوم من حياتهم، متفانين في خدمة الله والشبيبة.   
   وشيد كنيسة واسعة عدت من أفخم كنائس تورينو وأجملها، وكرسها في 9 حزيران 1868 على اسم العذراء مريم معونة النصارى. ثم شيد كنيسة أخرى في أحد أحياء تورينو المهملة، وكرسها في 14 آب سنة 1878على اسم يوحنا الإنجيلي. ثم طلب منه البابا لاون الثالث عشر  أن ينهض ببنيان كنيسة قلب يسوع الأقدس في روما، والتي توقف العمل فيها بسبب ضيق ذات اليد. فسافر إلى فرنسا وجمع لتلك الغاية مبالغ كبيرة، ثم عاد إلى روما وأشرف على إكمالها. وقد كرسها البابا في 14 أيار سنة 1887، وطلب من دون بوسكو أن يقيم القداس الأول على مذبحها.
   في 20 كانون الأول سنة 1887 اشتد عليه المرض. وانتشر خبر مرضه، وقد صلى من أجل شفائه كل من عرفه أو سمع عنه. وقد قال لكاتم سره: " لا فائدة من الصلاة لأجل شفائي لأني منطلق إلى السماء. وهناك يمكنني أن أساعد أولادي ورهبنتي أكثر مما أساعدهم ههنا على الأرض ".  ثم أوصاه قائلاً: " أكتب على لساني إلى جميع الرؤساء السالسيين ليبدوا دائماً عطفهم على مرؤوسيهم، ويعاملوا كل من يهتم بخدمتهم معاملة حبية ".
   وفي صباح 29 كانون الثاني 1888 وهو تذكار شفيع رهبنته مار فرنسيس السالسي تناول الزاد الأخير، ثم تمتم بصوت خافت: " قولوا لأولادي إني أنتظرهم جميعاً في الفردوس ". 
   وفي سحر يوم 31 كانون الثاني طارت نفسه إلى خالقها. وفي 6 شباط دفن في معهد " فلساليس " في تورينو. وفي 1 نيسان 1934 رفعه البابا بيوس الحادي عشر إلى مصف القديسين.   
   لقد وقف القديس يوحنا دون بوسكو حياته لتثقيف الشبان وإغاثة البؤساء. فأسس رهبنتين جليلتين إحداهما للرجال وهم الآباء السالسيون " السالزيان "، والثانية للنساء وهن بنات مريم معونة النصارى. فنما هؤلاء وأولئك نمواً عجيباً غريباً سريعاً حتى أوفى عددهم على 28 ألفاً، وانتشروا في أصقاع أوربا وأسيا وأفريقيا وأمريكا وأستراليا. وأسسوا إرساليات عامرة ومدارس داخلية وخارجية. وأنشأوا معامل ومصانع ومستشفيات ومزارع ثقفوا فيها مئات الألوف من فتيان وأيتام، غدوا مع مرور الأزمان أرباب عائلات مسيحية يشار إليهم بالبنان، لما امتازوا به من التمسك بعروة الإيمان الوثقى والسير في الطريقة المثلى.
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد القديس يوحنا دون بوسكو في 31 كانون.   
   
         
                 


28
تذكار مار يونان وبركيشوع ورفقائهما
29 كانون الثاني
الشماس نوري إيشوع مندو
     مار يونان وبركيشوع: في سنة 328 للمسيح وهي سنة 18 لشابور الملك،أثار هذا اضطهاداً شديداً قاسياً على النصارى، فضيق عليهم بجبايات ثقيلة وهدمت الكنائس وأحرقت الأديرة. فصار الولاة يجبرون النصارى على التمجس. وكان في قرية أسمها بيثاسا شقيقان يعرفان بفضلهما يقال لأحدهما يونان وللآخر بركيشوع فلما سمعا ما يلم بإخوتهم من الاضطهادات عجلا في الذهاب حيث كان القاضي يجبرهم على ترك إيمانهم. ولما وصلا إلى المكان شاهدا كثيراً من أخوتهم يقرون بالمسيحية كافرين بالمجوسية، فأخذا يشجعانهم ويزيانهم غيرة وثباتاً على إيمانهم، حتى أن البعض منهم أصبحوا معترفين وآخرين فازو بإكليل الاستشهاد. وكانوا تسعة وهذه أسماؤهم: زبينا، لاعازر، ماروث، نرساي، إيليا، مهري، حبيب، سابا، شمبيتي.
   وعندما علم القاضي أن الأخوين يونان وبركيشوع منعا التسعة من التمجس، اغتاظ غيظاً شديداً وأمر بإحضارهما. فلما مثلا بين يديه قال لهما: " إني استحلفكما بحظ ملك الملوك أن تقولا لي الحق غير ناكرين، أما ترومان أن تكملا مشيئة ملك الملوك بسجودكما للشمس والنار والماء بموجب سنّة ملوك   أرضنا؟ ".
   فقالا له: " نستحلفك ، تقول لنا: على طاعة أي ملك أنت تضطر الناس؟ أعلى طاعة الملك الذي جعل هذه الأشياء وهو رب الأرباب؟ أم على طاعة ملكٍ يموت ويضمحل ويدفن نظير آبائه؟ ".
   فلما سمع منهما عظماء المجوس أن ملكهم مائت مثل سائر الناس، ساورتهم جيوش الغضب، فأمروا بإحضار قضبان غير مخروطة أشواكها، وحبسوا كل واحد منهما على حدة لئلا يسمع أحدهما مل يقول الآخر. فذهبوا ببركيشوع وألقوه في السجن. فقالوا ليونان: ," ماذا تختار؟ أتبخر ساجداً للنار والشمس والماء مكملاً أوامر الملك العظيم. أم تدخل متوغلاً في بحر العذابات القاسية والاذيات المهولة المرة؟ ".
   فرد يونان: " إني شفقة على نفسي وعلى الحياة التي اقتنيتها بيسوع المسيح والتي لا تزول ولا تضمحل لست أكفر أبداً باسم ربنا وإلهنا الذي هو رجائي، ولا يخزى الذين يتوكلون عليه ".
   فتوهج القاضي غضباً وأمر فأوثقوا رجلّي يونان على شبه الدواب الرابضة، فشدوا يديه على ظهره ووضعوا عوداً على حقويه، فأقعدوا مقعياً، وجعلوا يضربونه بقساوة شديدة بقضبان غير مخروطية أشواكها، فبانت أضلاعه ظاهرة. أما هو فما قال شيئاً بل كان يصلي ويقول: " إني أشكرك وأحمدك يا إله أبينا إبراهيم الذي سبقت فأخرجته من هذه الأرض، وأهلتنا أن نعرف نحن أيضاً إيماننا قليلاً من كثير ". ثم رفع صوته وقال:       " كفرت بالملك الكافر وجميع محبيه الذين هم خدمة الشيطان، كفرت بالشمس والقمر والكواكب والنار والماء، اعترفت بالآب والابن والروح     القدس ".
   فلما سمعوا هذا الكلام امتلأوا حنقاً عليه، فربطوا إحدى رجليه بحبل وسحبوه وألقوه بالجليد واستمر فيه كل الليل، أم هم فنهضوا وذهبوا فأكلوا وشربوا وناموا.
   ولما كان الغد أمروا أن يؤتى ببركيشوع، وما أن أوقف بين أياديهم قالوا له: " أتسجد للشمس كما سجد لها رفيقك أم تقاسي الأذيات المرة المهولة؟ ".
   فرد بركيشوع: " كيف تتجرأون على أن تغصبونا أن نكرم ونعبد ما خلقه الباري تعالى لخدمتنا، ونخضع لما أخضعه سبحانه لنا نابذين ذاك الذي خلق السماء والأرض واليم واليابسة وكل ما في العلى وما في الأسفل، وله ينبغي السجود والتسبحة من الملوك والسلاطين والسادة. وهو غير محتاج إلى أحد بل جميع الناس محتاجون إليه ".
   فلما سمع رؤساء المجوس هذه الأقوال بهتوا منذهلين من قوة براهينه فقالوا: " لا نحكم عليه ونفحص عن أمره في النهار لئلا تقع أقواله في أنفس الناس فيرتدون ويزدرون بنا كما فعل ورفاقه، بل لنحكم عليه ليلاً ". وأمروا بإحضار كرتين من نحاس فأحميتا حتى أصبحتا كالنار، ثم أتوا بقدرين محمرتين بالنار أيضاً فأوقفوا عليهما بركيشوع ووضعوا الكرتين تحت أبطيه وقالوا له: " وحياة ملك الملوك أن ألقيت إحدى هاتين الكرتين فقد كفرت بآلهتك ".
   فرد بركيشوع: " وحياة سيدي يسوع المسيح ابن الله العظيم لا أتخوف من ناركم يا خدام الشيطان، ولا ألقي إحدى كرتيكم على الأرض، وإنني استحلفكم بالله أن تأتوا بأمر العذابات وأشد الأذيات وتذيقوني إياها، لأن المجاهد في سبيل الله خليق أن يناضل بقوة وشدة، فمن صنع فأجره عظيم ".
   فلما قال هذا تضرموا عليه وتلظوا، فأتوا برصاص فذوبوه وسكبوه في عينيه ومنخريه، ثم انطلقوا به وحبسوه رابطين إحدى رجليه.
   ثم أتوا بمار يونان وقالوا له على سبيل التهكم: " كيف أصبحت يا يونان؟ وكيف ترى نفسك مما أصابك في هذه الليلة القرة من شدة البرد القاسي وأنت نائم في الجليد؟ ".
   فرد يونان: " لعمري إني منذ يوم ميلادي حتى الآن لم أنم ليلتي نظير هذه الليلة وأنا في الاستراحة والحبور والغبطة والسرور، وما ذاك إلا لأني ذقت قليلاً من آلام يسوع المسيح الفادحة ".
   فقالوا له: " إن أخاك قد كفر ".
   فرد يونان: " إنني أنا أيضاً أعرف أنه قد كفر بالشيطان وبجنوده ".
   فقالوا له: " لا تهلك ذاتك يا يونان، لا الله يريد ذلك، ولا الناس ".
   فرد يونان: " كيف تقولون أيها الكفرة العمي أننا حكماء؟ وكيف تبحثون عن الدعاوي بالحكمة والفطنة؟ قولوا لي أيحفظ الإنسان ويخزن حنطته في الأهراء تحرزاً عليها من الأمطار والثلوج والبروق والرعود؟ لا لعمري بل إنه يملأ منها يديه فرحاً مسروراً ويبذرها متوكلاً على الرب متوقعاً زمان الحصاد ليملأ بيدره من الزرع القليل الذي زرعه متوكلاً على الله لأنه إذا تركها في الأهراء فتنقص وتقل، فلا يستفيد منها شيئاً، كذلك من أهلك نفسه في هذا العالم لأجل اسم المسيح ففي العالم العتيد عندما يأتي يسوع ويظهر في الميدان ليجدد جميع الناس الذين توكلوا عليه عاملين بإرادته يجعلهم جدداً بنوره الذي لا يزول، وأما الذين ازدروا بأوامره فيلقيهم في هاوية النار أنه ليس لنارهم جمر ولا للهبهم ازدهار ".
   فقالوا له: " لا تغرنك الكتب فإن الكتب تغوي وتضل كثيراً ".
   فرد يونان: " حسناً قلتم إن الكتب تغوي وتغش، فإنها بإذاقتها الإنسان آلام يسوع المسيح تنسيه ضيقات هذا العالم وأذياته.  فخادم المسيح عندما يساق يعلم أنه مدعوا إلى وليمة القضاء والحكم، فإذا ما وصل هناك وذاق من خمر آلام المسيح وسكر بها فلا يذكر ولا يعرف دار هذا العالم الفاني ولا المقتنى ولا الأملاك ولا الذهب ولا الفضة، فيحتقر الملوك والرؤساء والأرباب والولاة ولا ينتظر إلا ملكاً واحداً ملكه لا يزول وسلطنته تبقى إلى جيل الأجيال ".
   فلما قال هذا ازدادوا هياجاً وحنقاً فقطعوا أصابيع يديه ورجليه واحدة فواحدة مبتدئين بالمفصل الأول ثم بالثاني وذروها قائلين: " هوذا نحن نزرعها فتوقعها إلى زمان الحصاد فتأتي لك بإيادٍ كثيرة عديدة ". 
   فرد يونان: " أني لست أريد أيدياً كثيرة عديدة، لكن الله الذي خلقني لموجود، فهو يجددني معطياً لي أجنحة جديدة ".
   فلما نطق بهذا أتوا بمقلاة كبيرة فملأوها زفتاً مغلياً، ثم سلخوا جلد رأسه وقلعوا لسانه فألقوه في المقلاة، أما يونان فانتصب فيها قائماً فطفا الزفت وفاض، ولم يصبه أدنى ضرر، فلما عاينوا ذلك جاؤوا بآلة خشبية بشكل قفيز فجعلوه فيها وأخذوا يضيقون عليه بشدة لا مزيد عليها وبعد ذلك أتوا بمنشار فنشروه بها فقضى نحبه وحاز السعادة الأبدية، فجروه وألقوه في جب.
   ثم أحضروا بركيشوع وقالوا له: " أشفق على جسدك ولا تكن سبب شينه  وتمزيقه ".
   فرد بركيشوع: " لست أنا بخالقه ولا بممزقه ولا بمخل به، بل إن خالقه الله فهو يجدده، ويأخذ ثأري منكم ومن ملككم المعتوه الذي لا يعرف مولاه وخالقه، بل يريد أن يجري أوامره ويثبتها ".
   فقال حينئذ هرمزد أرداشير  لميهر نرساي: " إنما نحن نهين الملك ونستصغر أمره، فإن هؤلاء متوغلون ومتهورون في أهوية ضلالتهم فلا يعتبرون أحداً ولا يعتدون به ". فأمروا أن يجلد بركيشوع بالأشواك، ثم عروه من ثيابه، وأتوا بقصب كثير فأشظوه وألصقوه بكل جسمه، وشدوه في مرسة دقيقة، فنفذ القصب كله في لحمه، ثم رموا به الأرض، وأمسكوا بالقصب وجروه حتى تمزقت جثمانه، ثم وضعوه في قفيز واغلوا زفتاً وكبريتاً فسكبوها في فمه، ففاضت نفسه وأراح وحينئذ جاء أحد النصارى وكان يقال له عبطوشطا وكان رفيق يونان وبركيشوع، فأشترى جثتيهما بخمسمائة درهم وثلاث خلع من حرير. وكان جهادهم في اليوم التاسع والعشرين من كانون الثاني سنة 328. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار  مار يونان بركيشوع ورفقائهما في 29 كانون الثاني.   
           



29
المنبر السياسي / القديسة أغنس
« في: 22:45 21/01/2011  »
القديسة أغنس
الشماس نوري إيشوع مندو
   القديسة أغنس: أغنس تعني " النقية " ولدت في أواخر القرن الثالث في مدينة روما من والدين شريفين. ومنذ طفولتها رضعت مع لبن أمها الفاضلة التقية حب التقوى والنقاوة والبتولية. وكبرت الفتاة فكانت حشمتها تزيد في جمالها وبهاء قوامها وإشراق طلعتها.
   فرآها يوماً ابن والي روما فأغرم بها وراح يركض وراءها يخطب ودها. وكانت لا تزال حديثة السن لا تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها. فأغضت عنه ولم تكترث له. فبعث إليها بهدايا ثمينة من ذهب وجواهر، فأحتقرتها وأعادتها إليه، وأرسلت تقول له: " إني مخطوبة لشاب لديه من الحلي والجواهر ما لا مثيل له عند أعظم وأغنى ملك من ملوك الأرض. وهو من نسل لا يدانيه نسلك، ومن نسب لا نسب يفوقه في الدنيا. أمه عذراء، وأبوه لا عروس له. الملائكة تسارع إلى خدمته، والكواكب تخر ساجدة أمام قدرته. يلمس المرضى فيشفيهم، ويأمر الأموات فيعودون إلى الحياة. فله وحده أحفظ الأمانة والعهود.وإذا أنا أحببته بقيت طاهرة، وإذا عانقته لبثت نقية، وإذاأتخذته لي عريساً حفظني بتولاً ".
   فجن الشاب جنونه لهذا الخطاب، ومرض وذبلت نضارته. فلما علم أبوه بالأمر بث العيون في أثر الفتاة، ليعرف ما يكون السبب الحقيقي في رفضها شاباً تتمنى المئات من الفتيات أن يقع أختياره على واحدة منهن لتنطرح بين يديه. فعرف أنها مسيحية، وحسب أنها تعيش تحت تأثير أوهام خيالية لا طائل تحتها. فظن أنه لا بد أن يظفر بها، لأنها سوف تنقاد إليه صاغرة، إن بالوعد أو بالوعيد.
   فأرسل والي رومة وأحضرها أمامه، وأخذ يتملقها ويجهد النفس في كسب رضاها. فلم يفز منها بطائلة. بل كانت تلك الفتاة الناعمة برجاً من عاج لا يتزعزع. فغضب وأخذ يتوعدها بأشد العقوبات لكي يخيفها، فلم تعبأ بتهديداته. فقال أنه يسلمها إلى العهارة بين أيدي شبان الأزقة. فهزئت به، وقالت أن ختنها يسوع لا يسمح لأيدٍ أثيمة بأن تمسها. فأمر الوالي بأن تعرى من ثيابها وتعرض للرعاع لكي يهينوها ويذلوها. فأخذت تلك الحمامة السماوية تصلي وتتضرع إلى الله، لكي يرسل ملاكه فيصونها ويدافع عنها.
   فلما صارت إلى المكان المعد لأنتهاك حرمتها، إذا بنور سماوي يملأ الغرفة ويجللها، ويبهر الأبصار ويغمضها. فصار كل من دخل إليها يؤخذ بلمعان ذلك النور، فيتورع ويرتد ويهرول خارجاً، وفرائصه ترتعد خوفاً ورهبة. إن يسوع ملك العذارى لا يتركعرائسه العابدات عرضة للمخاطر والفجور، لأنه الملجأ الأمين الحبيب للنقاوة والطهارة وسلامة الضمير.
   وأراد أبن الوالي نفسه أن يهاجم تلك البتول ويجرب هو أيضاً حظه معها. فدخل وهو يتهكم بالذين كانوا يخرجون خائفين. لكنه ما كاد ينظر إلى الفتاة حتى صرعه ذلك النور ووقع مغشياً عليه. فحُمل وإذا به قد فارق الحياة. فلما نمي الخبر إلى أبيه أسرع يركض إليه، وترامى ينوح فوق جثته. ثم قام وذهب إلى الفتاة وأخذ يبتهل إليها أن تعيد له أبنه. فجثت البتول وأخذت في الصلاة والإبتهال. فعادت روح الشاب إليه. ثم فتح عينيه وجلس وأخذ يذيع عظائم الله وقدرة المسيح.
   فأستشاط كهنة الأوثان غضباً، وراحوا يهيجون الشعب ويصيحون: أقتلوا الساحرة أقتلوها. فخاف الوالي سمفرونيوس سوء العاقبة. ولما كان يخشى بأس الفتاة البتول، ترك الأمر لعناية وكيله إسباسيوس، وأخذ ولده وأنصرف. ولبث الكهنة يصيحون ويدفعون الشعب الصاخب على الصياح والجلبة. فأمر الوكيل بأن تحرق أغنس وسط لهيب مضطرم. فزجت في النار، وهي تصلي وتتضرع إلى ختنها الإلهي ليقوي إيمانها ويشد عزائمها. إلا أن النيران أحترمتها وأبتعدت عنها، ولم تؤذها. لكنها أحرقت كل من حمله التطفل على الدنو من الفتاة والتفرج عليها. فأزداد هياج الوثنيين على تلك التي أخزت مكائدهم، لأنهم لم يريدوا أن يروا في العجائب الباهرة التي صنعتها سوى السحر والشعوذة. فأمر وكيل الوالي بأن يضربوا عنقها. ففعلوا. وهكذا فازت تلك الأبنة المباركة بإكليل الاستشهاد، وطارت تلك الحمامة البهية إلى الأعشاش العلوية، فأنضمت إلى طغمة العذارى عروسات المسيح المالكات معه إلى الأبد. 
   فحمل أبواها جسدها الطاهر ودفناه في حديقة قصرهما. فصار المسيحيون يجتمعون هناك للصلاة، وللتبرك من رفات تلك البطلة الشهيدة. ففاجأهم الوثنيون يوماً في عبادتهم، وأنقضوا عليهم بالعصي والمدى فتشتتوا. إلا أن أميرنتيانا أخت أغنس بالرضاعة لبثت ساجدة أمام الضريح. فرجموها بالحجارة، وأماتوها تحت الضرب. فلحقت نفسها الطاهرة بنفس أختها إلى المساكن النورانية. فدفنوا جسدها بالقرب من ضريح أختها أغنس.
   وتراءت أغنس البتول القديسة في أحدى الليالي لوالديها، وكانت تحيط بها طغمة من العذارى البتولات رافلات بحلل من نسيج الذهب. وكان النور ينبعث منهن جميعاً. وكانت أغنس تتلألأ بحلة أبهى من ضياء القمر. وكان بالقرب منها حمل وديع أبيض الصوف ناعمه. فألتفتت أغنس إلى أهلها وقالت لهم: إياكم أن تبكوا عليَّ كما يبكي الناس أمواتهم. بل تهللوا معي وهنئوني، لأني أعطيت في ديار المجد الأبدي عرشاً من نور بقرب هؤلاء العذارى. ولقد اتحدت نفسي في السماء مع الذي أحبته بكل جوارحها على الأرض. قالت هذا وغابت عن أعينهم.
   وكثرت العجائب جداً جداً على ضريح تلك البتول النقية الناعمة. ونالت قنسطنسيا أبنة الملك قسطنطين نعمة الشفاء التام من مرض خبيث كان قد أعتراها بشفاعة البتول أغنس. وقد ترك لنا الحبر الأعظم البابا داماسيوس الأول ( 366 _ 384 ) والقديس أمبروسيوس أسقف ميلانو ( ه 375 ) وبعض الكتبة اليونان أيضاً مدائح عظيمة في إكرام هذه الفتاة الملائكية، وإعلان قداستها وجهاداتها وعجائبها.
   وشيد المؤمنون كنائس كثيرة في روما على أسمها، ولا تزال أثنتان منهما قائمتين إلى يومنا هذا. وجرت العادة كل سنة في يوم تذكارها أن يبارك كهنة الكنيسة المشيدة فوق ضريحها حملين صغيرين، وأن يحفظوهما إلى الأحد الأول الواقع بعد عيد الفصح المجيد، وحينئذ يقدمونهما إلى الحبر الأعظم تقدمة خضوع ووفاء. ومن صوفهما يصنع " الباليوم " أي درع التثبيت الذي يباركه البابا، ويقدمه إلى رؤساء الأساقفة والبطاركة، رمزاً للسلطة الكنسية المعطاة لهم من السدة البطرسية.  وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد القديسة أغنس في 21 كانون الثاني.     



30
تذكار الشهيد مار يوسف القسيس الأربيلي

الشماس نوري إيشوع مندو
   مار يوسف القسيس الشهيد الأربيلي: كان كاهناً لقرية بيث كاتوبا وقد قارب السبعين من عمره عندما ألقي القبض عليه وسيق مكبلاً بالسلاسل إلى أربيل، وحدث ذلك في ختام الاضطهاد الأربعيني. ثم أحضر أمام حاكم المدينة آذركوكشيد فقال له بغضب: " لِمَ تخدع أيها الشرير الناس البسطاء بسحرك ؟ ".
   فأجابه يوسف قائلاً: " لست ساحراً بل بالحق أنذر الناس لكيما يرجعوا من عبادة الأوثان فيحيوا ".
   فسأله الحاكم: " يا ترى أي المذهبين حق، مذهب ملك الملوك والأكابر والأغنياء أم مذهبكم أنتم الأدنياء الفقراء الأشقياء ؟ ".
   فأجابه يوسف: " إن إلهنا السامي الجليل لا يسره ولا يعجبه رفعة هذا العالم ولا كبرياؤه ولا غناه، ولإجل هذا أحببنا الفقر والتواضع حتى نستأهل كرامة العالم العتيد الغير الزائلة ".
   فرد الحاكم: " إنما من أجل مبالغتكم في الكسل والبطالة تتعجرفون وتتباهون بالفقر ".   
   فأجابه يوسف: " الكسلان من لا يجتهد بالعمل، وأما نحن فلا نهمله أبداً ولسنا خالين عنه أصلاً، ولو أردنا أن نجمع المال لصرنا أغنى منك بكثير، فإننا إنما بإجتهادنا في العمل نكتسب المال. وأما أنتم فنهباً تنهبونه. نحن نهبه للمساكين والمحتاجين، وأما أنتم فتغتصبونه ظلماً من الفقراء والبائسين ".
   فرد الحاكم: " إن المال شهي وكل إنسان يحبه، فمن يصدقك يا ترى في قولك إنكم تبغضونه ؟ ".
   فأجابه يوسف: " إننا شاهدناه زائلاً غير باقٍ لصاحبه كأحلام النائم التي يسر بها الإنسان في نومه فإذا أستيقظ ذهب السرور، فلم يهزنا الأشتياق إليه، ومع إنك أنت تحبه حباً عظيماً شارهاً إليه شديداً فهو ليس بباقٍ لك، لكنه يفارقك أنت والأغنياء فتصبحون تراباً كسائر الناس في الجحيم ".
   فرد الحاكم: " لا تكثر في الكلام عن هذه الأمور، فإنها زائدة ولا حاجة إليها، والذي يُحتاج إليه هو أن تقول لي أتسجد للشمس أم لا ؟ ".
   فأجابه يوسف: " لا تظن أيها الفاجر أنني أسجد للشمس مع أنني كنت أمنع الآخرين عن السجود لها لكونها مخلوقة ".
   فتلقى الحاكم على جمرات الغضب وأمر بجلده، فضربوه شديداً بقضبان شائكة غليظة حتى إن الدم أنفجر من كل جانب فخصب جسمه كله وكادت روحه تنفصل من جسده، وأما هو فرفع عينيه إلى السماء ورفع صوته قائلاً: " شكراً لك أيها المسيح أبن الله الحي لكونك أهلتني لأن أستحم بالمعمودية الثانية فأتطهر من جميع مأثمي ".
   وعند سماعهم كلامه هذا كانوا يشتدون غضباً وتضرماً عليه فيبالغون في ضربه وتعذيبه فأصبح جسمه كله جرحاً واحداً، ثم أمر الحاكم بإلقائه في السجن. وأستمر في السجن مدة ثلاثة سنوات وستة أشهر. ثم عين موهباط آخر بدل آذركوكشيد يدعى زرادوشت، وكان معه أوامر شديدة بإجبار المسيحيين على رجم رؤسائهم. فأمر بإحضار يوسف، وما أن مثل بين يديه صاح به غاضباً: " أولم تزعزع حتى الآن من رأيك الفاسد أوامر شابور ملك الملوك ناشراً عليه لواء العصيان ومستهزءً بأوامره  وآلهته ".
   فرد عليه يوسف بصوت عالٍ: " أطرق استحياءً وخجلاً لأن ملكك لم ينفذك لكي تخضع العصاة بل إنما لكي تضل الضعيفي الرأي وتخوفهم فتحملهم على العصيان على إلههم الحقيقي، غير أنك لن تستطيع إلى مخادعتنا سبيلاً أبداً ".
   فقال الحاكم ونار الغيظ قد أحرقت أحشاءه: " لا تظن أيها الوقح الجسور أنك بأقوالك هذه المهينة تحملني على أن أقطع حالاً رأسك فتنجو من العذابات المهولة المزمع أن أذيقك إياها مراراً كثيرة، فأصبر الآن عليك ساكناً إلى أن أجد فرصة فأنزل بك النكال بتباريح العذاب ".
   فرد عليه يوسف: " إني أعلم يقيناً أنك قد أضمرت علينا السوء في قلبك وكنت لنا مثل الأفعى الصماء الظمأى إلى القض، وجسمك مصاب باليرقان نظير الثعبان الجائع إلى الفساد والخراب، فأكشف إذاً حيلتك وأظهر سمَّك المبيد وأستل سيفك القاتل وعجل في إرسالنا إلى المملكة السماوية التي لا نهاية لها ".
   فتضرم عليه الحاكم وتلظى غضباً، فأمر أن يعلق منكس الرأس، فتربط إبهاما رجليه في خشبة بأوتار جديدة، ففعلوا ذلك وأخذوا يضربونه بقساوة على جروحه بالمطارق، فأنفجر الدم والصديد من ظهره وصدره وجانبيه، فأثر هذا المنظر الشنيع في أغلب الحضار فما تمالكوا أنفسهم عن البكاء، فسار المجوس في إذنه قائلين: " إن كنت تستحي من الحاضرين الناظرين إليك فنحن نذخل بك إلى معبد النار وهناك أسجد خفية للنار فتنجو ".
   فقال لهم يوسف بصوت عالٍ: " أذهبوا عني يا أولاد النار ومحبي النار، أذهبوا وعولوا النار التي ستحرقكم في جهنم إلى أبد الأبدين ".
   وبعد أن مر عليه ساعتان في تلك الحالة أمر الحاكم بإنزاله فقال له: " أما تريد أن تحيا ؟ ".
   فرد يوسف: " حاشا وكلا ".
   فقال الحاكم: " أفتريد إذاً أن أميتك ".
   فرد يوسف: " إن أمتني فلقد أحييتني، وإن أحييتني فلقد أمتني ".
   فقال الحاكم: " إني قد أعدمت جسدك ولم يبقَ فيك سوى النسمة، فلأعدمنَّها هي أيضاً بشدة العذابات التي أكررها عليك ".
   فرد يوسف: " ليس لك سلطان على إعدام النفس، فإنه مكتوب لا تخافوا من الذي يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس، بل خافوا من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد جميعاً في جهنم، إنك لقد أهلكت جسدي بسلطانك هذا، وأما نفسي فلست قادراً أن تبطلها من الرجاء بالحياة العتيدة وبقيامة الموتى حيث يكون لكم البكاء وصرير الأسنان إلى أبد الأبدين ".
   فقال الحاكم بلهجة المستهزىء: " فإن كان الأمر مثلما قلت فكيف يا ترى تعاقبني حينئذٍ ؟ ".
   فرد يوسف: " إن ربنا الحليم الوديع أمرنا قائلاً: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا لأجل من يظلمكم ويمقتكم ".
   فقال الحاكم بلهجة المستهزىء: " إذاً حقيق أنت أن توليني ثم معروفاً عوض ما جلبت إليك هنا من البلاء والأذيات ".
   فرد يوسف: " في العالم العتيد ليس سبيل لأحد أن يسدي إلى غيره المعروف والإحسان، لكني أتوسل إلى الله تعالى أن يترحم عليك في هذا العالم فيحسن إليك أن ترجع من الضلال الموجود أنت فيه فتعرفه سبحانه حق المعرفة ".
   فقال الحاكم: " أضرب صفحاً عما في العالم العتيد، فإني الساعة أرسلك إليه إن لم تعمل بما يأمرك به الملك ".
   فرد يوسف: " وإني أنا أيضاً هذه بغيتي، فعجل في إرسالي إليه ".
   عندها أمر الحاكم بأن يرفعوه من أمامه فحملوه وألقوه في السجن. وبعد مرور خمسة أيام، أتى شابور طمشابور إلى بيت طباح قريته، فذهب إليه الحاكم بيوسف وأحضره بين يديه، فقال له طمشابور: " إني أشفق كثيراً على شيخوختك فكل الدم وأسرحك ".
   فرد يوسف: " أنتم كلوا الدم، لأنه من شأنكم أن تسفكوا الدم خفيةً وعلانيةً ".
   فأمر طمشابور بجلده، ودنا إليه أناس فقالوا له شفقةً عليه: " أننا نأتيك بعصير زبيب عوض الدم، فأشرباه ولا تموتا ".
   فرد عليهم يوسف: " معاذ الله أن أسود شيخوختي فأكون حجر عثرة لإخوتي النصارى ".
   حينئذٍ جلدوه أربعين جلدة معدودة. ثم أن زرادوشت الحاكم وطمشابور تشاورا فيما بينهما، فأرتأيا أن يجمعا أشراف النصارى رجالاً ونساءً فيضطرهم على رجم يوسف في أربيل، فقبض بأمرهما على جم وافر من المسيحيين رجالاً ونساءً وأحداثاً، وفي جملتهم يازدندوختي الفاضلة، ونصب كراسي لطمشابور والحاكم ولأعيان البلد وللمجوس، فأتوا بيوسف وأوقفوه في الوسط وهو ضعيف الجسم خائر القوة أصفر اللون معدوم الشكل البشري ورجل يمسكه لئلا يقع، فعندما أشار يوسف إلى الحاكم أن يأتيه كمن له أمر يقول له، فأستعجل الحاكم وقام وذهب إليه ظاناً أنه يمتثل إرادته فيسجد للشمس، فلما دنا إليه ليكلمه ملأ يوسف فاه بصاقاً فألقاه غفلة على وجهه قائلاً له: " أما تخجل أيها الدنس العديم الحياء من أن تعرضني أنا المائت على السؤالات؟ أما علمت مما أذقتني من ضروب العذابات الأليمة أنني غير متزعزع من عزمي الثبت الوطيد؟ ". فأعترى الحاكم خجل لا مزيد عليه، فأطرق في الأرض ولم ينبس ببنت شفة بينما أن شابور طمشابور والذين معه كانوا يضحكون عليه ضحكاً شديداً قائلين له: " من حملك يا ترى أن تذهب إليه؟ ".
   وللحال خرجوا بيوسف إلى خارج المدينة ليرجم، وأخرجوا نحو خمسمائة شخص كرهاً عنهم ليرجموه، فحفروا قليلاً الأرض وأقعدوه في الحفرة مربوطاً، ثم أخذوا يضطرون الناس أن يرموه بالحجارة، وأجبروا أيضاً يازدندوختي الفاضلة على ذلك، فأبت وصرخت وقالت: " إن ما تصنعونه هنا لم يسمع به قط أي أن النساء قتلن الرجال، لعمري لقد تقاعدتم عن محاربة الأعداء فأنصببتم إلى سفك دماء    الأهالي ". لكنهم لم يعدلوا عنها، بل شدوا مخرزاً في طرف قصبة وقالوا لها: " إن كنت لم ترميه بالحجر فخذي هذا المخرز فأنخريه به قليلاً لنقول عنكِ أمتثلتِ إرادة الملك ". فرفعت صوتها بالبكاء وقالت: " إني أود أن أشك هذا في جسمي ولا أن أشكه في جسم جندي المسيح القديس البار، فإن شئتم فأقتلوني أنا أيضاً معه، فإن ذلك خير لي من أن أشارككم في إهراق دم زكي ".
   وكانت الحجارة تستدر على القديس وتهشمه، فأختلط الدم والمخ جميعاً وإذ كان يتمادى في شدة عذابه تحنن عليه أحد الأعيان فأمر خادمه أن يأخذ حجراً كبيراً ويرمي رأسه به لكي يموت سريعاً فينجوا من عذابه الأليم، ففعل وللحال أسلم يوسف روحه.
   وأمر الأعداء أن يحتفظ بجثته، فأحتفظ بها ثلاثة أيام ولما كان صباح اليوم الرابع إذا بعاصفة شديدة حدثت، فكانت الرعود نزعزع الأرض بأصواتها الشديدة المهولة والبروق تلقي الرعبة في القلوب والريح تهب بشدة، فتساقط بَرَد شديد وأصاب الحراس من الضرر ما ليس بيسير، وفي أثناء ذلك رفعت جثة القسيس يوسف فتوارت، ولم يُعلم أمن قبل الله صار ذلك أم من قبل الناس فإن الجثة لم يخرج لها أثر البتة.
   وتكلل القسيس يوسف في يوم الجمعة الأولى بعد عيد البنطقسطي " العنصرة ". وتحتفل كنيسة المشرق بتذكاره في 21 كانون الثاني.
   


31
تذكار ماري وزوجته مرتا وولديهما أوديفا وأباق
20 كانون الثاني 
الشماس نوري إيشوع مندو
   ماري وزوجته مرتا وولديهما أوديفا وأباق: في عهد قلوديوس الثاني ملك روما كان رجل فارسي شريف الأصل كثير الثروة اسمه ماري، وله زوجة كان يقال لها مرتا، وولدان اسم الواحد منهما أوديفا والآخر أباق وكانوا مسيحيين ذوي فضيلة عظمى سامية. ولما بلغهم ما كان يصيب المسيحيين الكائنين في المملكة الرومانية من الاضطهاد أرادوا أن يطيروا إليهم على جناح السرعة كي يمدوا لهم يد المساعدة، فباعوا كل ما لهم من المقتنى وانطلقوا إلى روما أخذين معهم ما أمكنهم من الذهب والفضة لكي يؤدوا الإكرام للشهداء المقتولين في سبيل الله، ويصلوا عند ضريحي مار بطرس ومار بولس.
   وما أن وصلوا إلى روما حتى أخذوا يساعدون المعترفين بالإيمان ويعزون الحزانى ويداوون المرضى ويطعمون الجياع ويكسون العراة ويشجعون المتألمين من أجل يسوع ويدفنون الموتى.
   وذات يوم أتصل بهم الخبر أن أحد المسيحيين اسمه قورين قد سلبت جميع أمواله وأودع في سجن مظلم، فبادروا إليه وانطرحوا على قدميه ملتمسين إليه أن يصلي لأجلهم، ومكثوا عنده في الحبس ثمانية أيام وهم يتفضلون عليه وعلى غيره من المحبوسين بما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس، وكثيراً ما شوهدوا في السجن منطرحين على قدمي المعترفين يغسلون أرجلهم وكلومهم، فيأخذون الماء الذي به غسلوا قروحهم ويسكبونه على رؤوسهم متبركين به.
   وفي ذلك الوقت عينه شدد قلوديوس الاضطهاد على المسيحيين، وأصدر أولاً أمراً سلطانياً بسلب أموالهم ثم بقتلهم، فقبض على 270 منهم وحكم عليهم بالموت، فرشقوا كافة بالنبال ثم سحبت جثتهم إلى خارج المدينة وألقيت كلها في النار. فلما جَن الليل بادر ماري وقرينته وولداه إلى الموضع المعهود مصحوبين بكاهن اسمه يوحنا، فأخرجوا عظام الشهداء ودفنوها بإكرام. ثم ذهبوا خفية فاختفوا مدة شهرين في كان القديس فيلكس البابا يقدم فيه خفية الذبيحة الإلهية. لكن أعمالهم الخيرية هذه كانت مزمعة أن تفضي بهم إلى أن يفقدوا حياتهم الزمنية.
   ثم قتل قلوديوس من المسيحيين 300 رجل في يوم واحد، فأتى ماري وجميع أهل داره وقضوا الليل كله في دفن أجسادهم, وفي غضون ذلك قبض على والنطينس القسيس وسلم بيد استيريوس الحاكم، وبما أن والنطينس كان قد فتح عيني ابنة استيريوس الحاكم فقد نبذ الآلهة فآمن بيسوع المسيح، فلما اتصل خبره بماري ذهب وأهل بيته إلى داره فرحين مسرورين حامدي الباري تعالى على أنعامه الإلهية، ومكثوا في بيته أثنين وثلاثين يوماً. لكن الملك بلغه ما جرى، فأرسل شرذمة من جنده وألقوا القبض على كل من وجد من المسيحيين في دار استيريوس. وأسلم ماري وقرينته وولديه إلى ماقينس القاضي موعزاً إليه أن يقتلهم أشنع قتلة إن لم يسجدوا للآلهة.
   فبذل القاضي قصارى جهده في إخارة عزمهم بأقواله الخداعة الملاقة، لكنه لما رأى أنه لا يستطيع إلى تزحزهم عن إيمانهم سبيلاً، أمر الجلادين أن يسقوا أجساد ماري وولديه بالمطارق الحديدية بحضور مرتا التي كانت تشجعهم، ثم أمر بهم أن يضجعوا على مركبة حديدية وتحرق جوارحهم بلهبات الشموع، وتمزق جثمانهم بأظفار وقضبان حديدية، ففعلوا ذلك. وكان القديسون في وسط هذه العذابات الفادحة يشكرون الله تعالى ويرتلون مراحمه قائلين: " مجداُ لك يا ربنا يسوع المسيح الذي أهلتنا أن نتألم من أجل اسمك القدوس ".
   فاستشاط القاضي غضباً وأمر بقطع أيديهم، وكانت مرتا تقوي عزمهم وتشدده وتعطي لهم الطوبى، فأخذت أيديهم المقطوعة الملقاة على القاع وجمعت الدم فدهنت به وجهها معتبرة إياه كبلسم ثمين.
   وإذ عاين القاضي أن عزمهم لم ينثنِ ولا ضعف أملهم مع كل ما لاقوا من ضروب العذابات الشديدة أمر بقطع يدي مرتا أيضاً، ثم علقوا أيديهم في أعناقهم وطافوا بهم في شوارع روما وأزقتها وكان منادٍ ينادي قائلاً: " ألا لا تجدفوا على الآلهة ". أما هم فكانوا يجيبونه قائلين: " إن الآلهة التي تسجد أنت لها هي شياطين وتلقيك في النار أنت وملكك ".
   ثم ذهبوا بهم إلى خارج المدينة وقطعوا رؤوس ماري وولديه وطرحوا أجسادهم في النار كي يحرموا الدفنة. وأما مرتا فألقوها في غدير ماء وهناك تممت استشهادها. فجمعت إحدى النساء الشريفات بقية أجساد ماري وولديه، وأخرجت أيضاً جسد مرتا من الغدير، فأتى المسيحيين ووضعوا ذخائر القديسين في محل لائق، ثم نقلت إلى المدينة فمنها وضعت في كنيسة مار أوربانس، ومنها في كنيسة مار يوحنا قولبيت، ومنها في بيعة القديسة فراكساد، ومنها نقلت أيضاً إلى دير القديس ميدارد في فرنسا.
   وكان استشهادهم في العشرين من كانون الثاني سنة 270.       
 

32
المنبر السياسي / القديسة جنفياف
« في: 18:43 02/01/2011  »
القديسة جنفياف
الشماس نوري إيشوع مندو
   القديسة جنفياف: ولدت نحو سنة 422 في مدينة ننتير جوار باريس فرنسا, والدها يدعى سفيرس ووالدتها تدعى جيرنتيا. سمياها جنفياف أي " ابنة  السماء ". وعنيا بتربيتها، فأظهرت منذ نعومة أظفارها أجمل الخصال وأكملها.
   مر يوماً في ننتير الأسقف جرمانس في طريقه إلى بلاد بريطانيا لأجل محاربة بدعة بلاجيوس. فلمح جرمانس بين جمهور المؤمنين جنفياف فأُخذ بطلعتها السماوية، وعرف بإلهام إلهي ماذا يكون من عظيم شأنها في أعمال القداسة، وفي تاريخ الكنيسة. فاستدعاها ووضع يده على رأسها وقبلها، وأوصاها بأن تخصص للرب يسوع بتوليتها وحياتها. فأجابت تلك الفتاة الملائكية: هذه هي رغبة قلبي منذ أيام حداثتي. فهل تتعطف وتسمح لي بأن أبرز بين يديك نذوري ؟ فرضي الأسقف وقبل نذورها، ثم قال لها: تشجعي يا ابنتي وضعي ثقتك بالله، فإنه يكون ملجأك الحصين وهداية أيامك. ثم باركها وأوصى أبويها بها وسافر.
   وما أن بلغت الرابعة عشرة من عمرها حتى ذهبت إلى باريس، وأبرزت نذورها الرسمية بين يدي أسقفها، ولبست ثوب العذارى. وقامت تمارس أعمال النسك بعيداً عن الأنظار، وتقضي أيامها بالصوم والصلاة ومناجاة يسوع. فأفاض الفادي نعمه السنية ومواهبه الغزيرة على تلك النفس الزكية، ومنحها صنع العجائب، حتى صارت تشفي المرضى وتخرج الشياطين برسم إشارة الصليب المقدس. واجتمع حولها عدد من العذارى، فقامت ترشدهن في طريق الكمال.
   إلا أن الشيطان عدو الله والإنسان اتقد غيظاً، لدى رؤيته تلك الفتاة القديسة تفيض من حولها النعم على النفوس والأجساد. فسلح عليها الألسن الكاذبة الشريرة، ليثبط همتها ويثنيها عن عزمها. فقامت بعض النساء الثرثارات وأخذن يشيعن عليها الأكاذيب، وينلن من سمعتها ومن آدابها، وينسبن تلك القداسة المتلألئة إلى الإفك والاحتيال. فصبرت البتول وسكتت وصفحت. وعندما عاد المطران جرمانس من بريطانيا، فمر بباريس وسأل عن فتاته المحبوبة. فأخبروه بأمرها وشكوا إليه سوء سلوكها. فلم يصدق ما سمعه عنها. فذهب بنفسه إليها وزارها في بيتها، وشاهد طغمة العذارى اللواتي كن حولها يسرن بإرشادها. فمجد الله وقام في الشعب خطيباً، ودافع بقوة وفصاحة عن قداسة جنفياف، وعن جمال عملها. فسكتت الألسن وتوارى المنافقون، وعادت فضائل جنفياف تلمع أمام عيون الجميع.
   وفي أواسط القرن الخامس أقبل أتيلا على رأس جيوش جرارة من الهون البرابرة.  وكان يسمي نفسه " ضربة الله "، فيحرق المدن ويهدم الكنائس والأديار، ويذبح السكان ويفتك بلا رحمة بالأساقفة والكهنة والرهبان. وكان الناس يفرون من وجهه. وقام سكان باريس بترك بيوتهم وحمل أمتعتهم والهرب من أمام الموت الشنيع المقبل. فقامت جنفياف تدعو الناس إلى التوبة، وتقوي العزائم، وتثبت القلوب الهلعة، وتعظ الناس أن يثقوا برحمة الله ويعودوا إليه، فلا ينالهم ضر ويبتعد عنهم الأذى. فأخذ البعض منهم يجتمعون معها ومع بناتها للصلاة والتكفير.
   أما الآخرون فثاروا عليها وكادوا يفتكون بها. فوصل رئيس شمامسة المطران جرمانس يحمل إليها الخبز المقدس من لدن المطران هدية بركة ورضى قبل موته، عربوناً لعطفه عليها، وتقديراً لفضائلها. فدافع عنها الشماس وأخمد الثورة القائمة عليها. فسكت أهل باريس عنها، وقاموا يشاركونها في التضرع والتكفير وأعمال التوبة، ولبثوا في بيوتهم متوكلين على الله وشفاعتها. فلم يصل أتيلا إلى باريس ولم يحاصرها، بل وقف مكتوفاً أمام مدينة أورليان بفضل غيرة وشجاعة أسقفها القديس أنيان. ثم تحالف عليه كل من ميروفيه  ملك الفرنجة وثاودوريك  ملك الغوط وأمير البورغندة، وجعلوا قيادة جيوشهم بيد القائد الروماني ائيسيوس واندفعوا عليه، فدحروه بالقرب من مدينة تروايا سنة 451، فكسروه شر كسرة، وانهزم من أمامهم وترك البلاد.
   وهكذا سلمت باريس من شره بفضل جنفياف وشجاعتها وشفاعتها. وبعد أربعين سنة جاء كلوفيس  وحاصر باريس وضيق عليه. ولما طال الحصار جاع الناس وتفشت الأوبئة في المدينة وصارت تفتك بهم فيموتون. فقامت جنفياف تنهض الهمم، وتدعو الجموع إلى الصلاة والتكفير والتوبة. فسمعوا لها، وتعالت أصوات الصلاة من كل الأنحاء، تتضرع إلى الله لكي يرأف بشعبه بشفاعة تلك الفتاة.
   وقد أعدت جنفياف أحد عشر مركباً شراعياً وراحت رغم كبر سنها، تمخر عباب نهر السين وتطوف المدن والأرياف، تجمع القمح لتغذي به جموع المساكين الجائعين. وبقيت جنفياف بركة لتلك المدينة كل أيام الحصار.
   ثم تنصر كلوفيس سنة 496، ففتحت له حينئذ باريس أبوابها، واستقبلته بمعالم الفرح، فحل الفرح بعد الضيق بغيرة وشفاعة جنفياف البتول. وأكرم كلوفيس جنفياف، وتتلمذت لها زوجته الملكة كلوتلدا، فعظم شأنها جداً لدى الملوك والأمراء. فكانت كلمة منها تطلق المعتقلين في السجون، وتحمل الملك على تشييد الكنائس، وفتح الخزائن الملكية لإعالة المحتاجين والفقراء.
   وهكذا كانت البتول جنفياف الباعث الأكبر على إنعاش وإنماء الروح المسيحية في باريس وفي بلاد فرنسا كلها جمعاء. فهي فتاة تلك البلاد الطيبة المجيدة، وزعيمة جيش العذارى القديسات، اللواتي سوف ينبتن في تلك الأمصار الفرنسية الكريمة، كما تنبت الزنابق في الحدائق الغناء، وتعطر جميع البلاد والأنحاء.
   وقضت هذه البتول النقية سني حياتها الطويلة في أعمال البر والقداسة، حتى صارت ابنة تسع وثمانين سنة. ثم رقدت بالرب رقود القديسين سنة 512. وطارت نفسها إلى الأخدار السماوية لتنضم إلى الطغمات الملائكية، وإلى أجواق البتولات الحكيمات اللواتي يتبعن على الدوام الختن الإلهي في النعيم السرمدي.
   وصار ضريحها مزاراً مكرماً، وينبوعاً فائضاً بالعجائب والبركات. فأضحت جنفياف في حياتها وبعد وفاتها شفيعة باريس. وكان أبناء المدينة يركضون في الملمات إلى رفاتها وذخائرها كلما ألمت بهم ضائقة، فتعود بشفاعتها الأفراح والمسرات إلى قلوبهم وبيوتهم. وفي أيام الثورة الفرنسية  حولت كنيسة القديسة جنفياف إلى البانتيون  حيث تدفن فرنسا عظماء رجالها فيه.
   أما دخائر القديسة جنفياف فقد أحرقها الثوار وذروا رمادها في مياه نهر السين. فحملتها المياه إلى البحر حيث تعانقت مع رفات فتاة فرنسا الثانية البطلة جان داراك  البتول القديسة.
   إلا أن أهالي باريس لا يزالون يزورون ضريحها ويطلبون شفاعتها، ولا سيما في الكوارث الكبيرة والملمات الوطنية الشديدة. ولما هددت المدافع الألمانية باريس سنة 1914 هرع سكان المدينة إلى ضريح شفيعتهم يبتهلون ويستنجدون.  وقد سمح البابا بيوس العاشر  لكل كنائس فرنسا سنة 1914 أن تعيد للقديسة جنفياف فتاة باريس وشفيعة فرنسا.
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد القديسة جنفياف في 3 كانون الثاني.


33
عيد مريم العذراء أم الأحزان
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: تثنية الاشتراع 8 / 11 _ 20 تنبه لئلا تنسى الرب إلهك غير . .
القراءة الثانية: فيلبي 1 / 27 _ 30 فسيروا سيرة جديرة ببشارة المسيح . . .
                + فيلبي 2 / 1 _ 11 فإذا كان عندكم شأن للمناشدة بالمسيح .
القراءة الثالثة: متى 4 / 12 _ 25 وبلغ يسوع خبر اعتقال يوحنا فلجأ إلى . . .
                + متى 5 / 1 _ 16 فلما رأى الجموع صعد الجبل وجلس . . .

    مريم العذراء أم الأحزان: " وكانت واقفة عند صليب يسوع مريم أمه ".  ( يوحنا 19: 25 ). مشهد مهيب، يسوع معلق على خشبة العار، غارق في بحر النزاع الأليم، عيناه غائصتان، شفتاه مزرقتان، وجهه مكفهر، رأسه مهدول، شعره منكوث، ركبتاه متصلبتان، جسده كله صائر جرحاً واحداً من الرأس حتى الأقدام. وهناك على مقربة من صليبه أمه مريم، وعلامات الحزن والغم لائحة على محياها، ضروب الشجون والكروب قد انقضت على فؤادها، وقد كتب لها أن تحضر موت وحيدها، وتراه يفارق الروح على أيدي جلادين شرسين قساة.
    إن مريم على مثال يسوع قد ذاقت علقم الاستشهاد، فالابن يضحى جسده بالموت، والأم تضحى ذاتها لمساهمة آلامه. ولأجل هذا فمريم لم تشعر فقط جسدياً كلما تكبده يسوع في جسده، بل أن رؤيتها عذاباته قد ألمت قلبها بنوع أبلغ مما لو كانت احتملتها هي عينها، وذلك لأنها كانت تحب يسوع أكثر من نفسها، وحياة يسوع كانت أعز لديها من حياتها ذاتها. وأن نوعين من المحبة قد تقارنا وتألفا في قلب مريم نظراً إلى يسوع، وهما محبة طبيعية ومحبة فائقة الطبيعة. فبالأولى أحبته كابنها،  وبالثانية أحبته كإلهها. ومن تآلف وتمازج هاتين المحبتين نجم حب واحد هذا، عظم مقداره حتى أن مريم قد أحبت يسوع غاية ما في وسع خليقة من الخلائق أن تحب. وهذه الدرجة من المحبة الفائقة الوصف لم تحزها إلا بامتياز علوي،  إذ أن الآب الأزلي لما أراد أن يشركها في الزمان في الأداة الأزلي للكلمة، قد ألقى في قلبها شرارة من حبه غير المتناهي لأبنه الوحيد.
   ويؤكد القديس أوغسطينوس أن عذاب البنين هو نفس عذاب الأمهات، لا سيما إذا كن حاضرات لتلك العذابات. إذ لاحظ الألم الذي أصاب شموني أم المكابيين السبعة عند حضورها استشهاد بنيها فقال: " إن هذه الأم المسكينة قد قاست بمجرد نظرها عذاب كل واحد منهم ". فعلى هذا النحو قد تم في مريم، إذ أن كل العذابات التي ألمت جسد يسوع قد أثرت في جسد مريم، وولجت في الوقت عينه قلبها لإتمام استشهادها بنوع أن قلب مريم أضحى كمرآة لآلام الابن. فكان يشاهد فيه المجالد والمطارق وأشوك والحبال والمسامير والصليب وباقي آلات العذاب.
   ويقول القديس بونفنتورا: " إن الجراحات التي كانت منبسطة على جسد يسوع برمته، قد انحصرت كلها سوية في قلب مريم. وهكذا فهذه العذراء الطوباوية باشتراكها في عذاب ابنها، قد أحست بمفاعيل الجلد والتكليل والضربات واللكمات، وقد أهينت وشتمت وعلقت على الصليب ".
   ويتوجه القديس بونفنتورا نحو مريم وهي واقفة عند الصليب قائلاً: " ألا يا أماه بحق حنوك الوالدي أخبرينا وقولي لنا أين كنت في ذاك الحين. أهل كنت قائمة عند الصليب؟ آه كلا ثم كلا بل لنقل بالأحرى أنك كنت مسمرة فوق الصليب مع ابنك الحبيب. وبناء عليه يجدر بنا القول أن كل من كان حاضراً في الجلجلة، لمشاهدة تلك الذبيحة العظمى المقرب فيها الحمل البريء من كل عيب، لكان يرى مذبحين عظيمين: أحدهما في جسد يسوع. وثانيهما في حب مريم. ألا يا ملكتي الحنونة لماذا أراكِ مقبلة إلى الجلجلة. ألم يكن يا ترى واجباً أن يصدك عن ذلك الخزي والعار العائدان عليك، لكونك أم هذا المحصى بين الأثمة. أو لم يكن أقله لائقاً أن تمنعك عن ذلك فظاعة هذا الأثم الجسيم، وهو موت إله على أيدي خلائقه. كلا يا أم الأحزان هذا كله كان عاجزاً عن منعك للذهاب إلى الجلجلة، ليس فقط لتندبي موته، بل لتؤازريه وتشاطريه في تقدمه ذبيحة للعدل الإلهي ".
   وبحضور مريم آلام يسوع ومكوثها عند صليبه، قد شاءت بذلك أن تعلن جهراً أنها ليس فقط قد شعرت بمفاعيل الحزن والألم، بل هي عينها قد صادقت على صيرورة يسوع ضحية لخطايانا. فأتت خاضعة لتقربه بيدها للآب الأزلي، ولم تعرف وتصادق على آلام ابنها في ذلك الحين فقط، بل إن ذلك كان نصب عينها منذ اليوم الذي أجابت الملاك قائلة: "  أنا أمة الرب فليكن لي بحسب  قولك ". وبنوع أجلى منذ يوم سماعها من فم سمعان الشيخ تلك العبارة الخارقة الألباب: " ها إنه جعل لسقوط كثير من الناس، وقيام كثير منهم في إسرائيل، وآية معرضة للرفض. وأنتِ سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة ". ومن هذا القول نجد مريم قد أصبحت ملكة الأوجاع، وشبيهة بابنها في كل الظروف والأحوال. فرافقتها الشجون والكروب في كل خطوة من خطواتها. فقد علمت أن ابنها مزمع أن يموت فداء عن البشر. وقد علمت أنه سيضطهد في تعاليمه، إذ ينكر لاهوته ويُعتبر كمجدف. يُضطهد في شرفه وحكمته، إذ يحسب كأحقر الناس وأجهلهم كمجنون ومعترى من الشيطان. كسكير ومعاشر الخطأة والعشارين. يُضطهد في نفسه إذ أن أباه الأزلي لإنجاز قضاء عدله يرفض طلبته في بستان الزيتون، ويهمله للخوف والحزن. أخيراً يضطهد في جسده وحياته إذ يُعذب في كافة أعضائه المقدسة، في يديه ورجليه في وجهه ورأسه وبدنه كله، بنوع أنه يسلم الروح بين لصين على خشبة الصليب، صائراً جرحاً واحداً، ومشبعاً عاراً وهواناً. هذا ما كانت تشعر به مريم في كل ساعة ودقيقة، هذا ما كان يخرق قلبها ويمزق أحشاءها في عيشها بصحبة يسوع موضوع فرحها وحزنها، وموضوع سعادتها وعذابها.
   وكما أن ابن الله كان هادئاً ساكناً في حال نزاعه على الصليب، لاشتغاله في أعظم الأعمال أي فدائنا. فقد منح هذه الحالة لوالدته لكونها اشتركت معه في ذبيحته. ولذا نراها رافعة لواء النصرة على الأحزان والكروب، واقفة عند الصليب ثابتة الجنان حاصلة على ملء السكينة والهدوء، مبينة بذلك أنها بحرية وطيبة خاطر تقرب ابنها الوحيد للآب الأزلي، ليصبح ضحية انتقامه من الخطيئة وعدله. لقد اشتركت مريم مع ابنها في خلاصنا باحتمالها آلاماً روحية، وذلك بخضوعها وتسليمها إرادتها بين يدي المشيئة الإلهية، التي شاءت وحتمت أن يحل بها كل ما حل بيسوع. لقد صعدت إلى الجلجلة لتقف قرب الصليب، ليس للبكاء والحزن على موت وحيدها فقط، بل لتعلن للآب الأزلي وللبشر أنها تقدم ابنها الحبيب كفارة عن مآثم البشر، ووفاء للعدل الإلهي المهان.
   وما تحملته من عذابات حسية وروحية قد عقد على هامتها إكليل مشاركة يسوع في عمل الفداء البشري. لذا حق للبتول أن توجه نحونا متشكية قائلة: " ألا يا أولاد آدم الأشقياء يا قساة الرقاب. ما بالكم ترتكبون الأثم كشربكم الماء. ما بالكم تصلبون ابني وتضفرون هامه الإلهي بالأشواك وتجدون بذلك ما قاسيت من الأوجاع المرة. ما بالكم تدوسون بأرجلكم تحت أنظاري دم العهد الجديد. ألا يا أولادي التعساء ناشدتكم بحق محبتي وتنهداتي أنا أمكم، بحق أوجاعي وأحزاني أنا فاديتكم، ألا كفوا كفوا عن تعذيبي، كفوا ولا تعودوا تلتطخوا بحمأة الأثم والخطأ. آه يا معشر المفتدين بدم الحمل المجزوز لنسمع صوت مريم العذراء الحزينة الواقفة عند الصليب، ولنصغِ إلى تنهداتها، وليحن قلبنا إلى صرخاتها الأليمة، ولنقصد من صميم القلب أن نقلع عن الخطيئة، وأن نقلع عنها باستنجاد حماها القدير .   
    وفي ميمر في ربنا يبين مار أفرام النصيبيني دور مريم في التدبير الخلاصي عند الصليب فيقول:          " دخل الجحيم بالجسد المأخوذ من مريم، سرق الغنى وأفرغ الكنوز . . . وأتى إلى حواء أم كل الأحياء، وهي الكرمة التي اخترق الموت سياجها وذاق من ثمارها. وحواء أم كل الأحياء أصبحت ينبوع الموت لكل الأحياء. ثم من حواء الكرمة العتيقة نبتت مريم، النبتة الجديدة وسكنت فيها الحياة الجديدة ". 
   وتحتفل كنيسة المشرق بعيد مريم العذراء أم الأحزان في الأحد الأول من سابوع الصليب والرابع من سابوع إيليا.

34
تذكار الملك قسطنطين وأمه الملكة هيلانة
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                  + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .
    الملك قسطنطين: قبل موت الملك قنسطنسيوس كلورس  سنة 306 أوصى بابنه قسطنطين ليخلفه على القسم الغربي من مملكته الضخمة. وما عتم قسطنطين أن وجد مناوئاً له، قائداً كبيراً نظيره يدعى مكسانس ، فشهر عليه الحرب. والتقى الجيشان في جوار رومة ودارت رحى الحرب. وشعر قسطنطين أن جيشه هو دون جيش عدوه. فذكر إذ ذاك إله أمه هيلانة وتضرع إليه. وكانت هيلانة هي أيضاً تبتهل إلى الرب بدموع حارة من أجل ابنها. فاستجاب الرب تضرعات هيلانة وولدها. وكان في حكمته الأزلية قد اختار قسطنطين ليكون رسول السلام إلى الكنيسة. فعند الظهيرة رفع قسطنطين طرفه إلى العلاء، فشاهد في السماء صليباً يتلألأ لمعاناً، وقد كتبت عليه هذه الكلمات: " بهذه العلامة تنتصر ". وفي الليل عاد الرب يسوع فظهر له وشجعه، وأوصاه أن يحمل علامة الصليب التي رآها في السماء راية له في الحروب. فلما أفاق صنع كما أمره الرب، وجعل راية الصليب أمام كل فرقة من فرق جيشه، وطبعها على كل ترس من تروس جنوده، وسار بطمأنينة إلى مقابلة عدوه. فكانت موقعه عظيمة نال فيها قسطنطين فوزاً باهراً، وهزم جيوش الأعداء، وولى مكسانس الأدبار فغرق في نهر التيبر ، ودانت بلاد الغرب بأسرها لقسطنطين سنة 312.
    يعتبر قسطنطين أول الملوك المسيحيين التي اختارته العناية الإلهية ليوقف سيول الدماء المتدفقة من أجسام الشهداء، ويعيد إلى الكنيسة الفرح والسلام بعد طول الحزن والآلام. وقد دعته الكنيسة " الملك المماثل الرسل ". ونال شرفاً أثيلاً إذ أطلق عليه " الأسقف العلماني " أي ذاك الحارس الذي يسهر على مقدرات الكنيسة في كل ما يعود إلى راحتها وحرية عملها وإدارة زمنياتها. وقد أعلن حرية الأديان بمرسوم ميلانو الشهير سنة 313، ومنح المسيحيين حق الدخول في وظائف الدولة، وسك نقوداً طبع عليها علامة الصليب. ودعا الأساقفة إلى مجمع نيقية ليبحثوا قضايا الإيمان سنة 325.  وبقي معظم حياته محامياً عن الإيمان ورجلاً مسيحياً صادقاً غيوراً، وشيد في مدينة القسطنطينية كنائس عظيمة. وكان الرسول الكريم للمسيح بين شعوب المملكة، حتى أن ألوفاً لا يحصى عددها دخلت في حظيرة المسيح إقتداءً به. مات سنة 337، بعد أن ملك أحدى وثلاثين سنة، وبلغ شأناً عظيماً من المجد والعظمة وعزة الملك. 
    الملكة هيلانة: هي الملكة العظيمة الشأن التي اشتهرت بتقواها وفضائلها، وأعطت للعالم قسطنطين الكبير. وقد شيدت الكنائس الكبرى الفخمة في بيت لحم وأورشليم. فأقامت في موضع القبر والجلجلة  كنيسة عظيمة فخيمة، سميت كنيسة القيامة، وزينتها بأفخر الزينة. وشيدت كنيسة أخرى فوق مغارة المهد . وأخرى في مكان صعود الرب إلى السماء. ولم تترك بائساً إلا أعالته، ولا مسكيناً إلا وانجدته. فكانت كوكباً منيراً في سماء الكنيسة، وفرحاً للشعوب وعزاءً لمنكسري القلوب، لذلك دعيت " أم الفقراء والبائسين ". وقبل مغادرتها أورشليم جمعت طغمة العذارى البتولات المكرسات للرب، وأقامت لهن وليمة فاخرة، ووقفت هي تخدمهن بنفسها إكراما لبتولية العذراء مريم. ثم عادت إلى روما وهناك رقدت بالرب في شيخوخة صالحة سنة 328. 
    وترتل كنيسة المشرق في عيد الصليب هذه الصلاة: " مجده في الأرض والسماء: الصليب الذي ظهر في السماء لقسطنطين. وتجلى بمراحمه للأرضيين. وأتضح أيضاً لهيلانة أم الملك المنتصر. والرجل الشهير يهوذا. نادى وكرز بقوة سلطانه في الجهات الأربع من العالم. وها تحتفل الملائكة والبشر بالعيد الكبير لوجوده " لاكتشافه " في الجهات الأربع ". 
   ويحتفل بتذكار الملك قسطنطين وأمه الملكة هيلانة في الجمعة الأولى بعد عيد الصليب.

35
تذكار جثالقة المشرق الشهداء
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .
 
    جثالقة المشرق الشهداء: خلال الاضطهاد الذي أعلنه الطاغية شابور على كنيسة المشرق وذلك من سنة 339 وحتى سنة 379 ودام أربعين سنة لذلك دعي بالاضطهاد الأربعيني، قدمت هذه الكنيسة ثلاثة جثالقة على مذابح الإيمان، وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر قدمت جاثليقاً أخر  وهم:

    1_ الجاثليق مار شمعون برصباعي: هو من أهل السوس أو من المدائن. ولا نعرف شيئاً أكيداً عن تاريخ ولادته، إنما نلقاه في مستهل القرن الرابع تلميذاً للجاثليق فافا ثم أركذياقوناً له. وهناك رواية تقول إنه عاش أكثر من 117 سنة. أما لقب برصباعي فقد جاءه من أبويه اللذين كانا يصبغان الملابس لاستعمال الملوك، حسبما جاء في المخطوط الكلداني الأول المحفوظ في المكتبة الفاتيكانية ص 82: " حسناً دعي شمعون ابن الصباغين، لأن أبويه كانا يصبغان الحرير بصبغ أجنبي لباساً للمملكة الأثيمة، وهو صبغ ثياب نفسه بدم شخصه لباساً للمملكة المقدسة ".
    ويقول التاريخ السعردي إن الجاثليق فافا لكبر سنه وضعف حركته أرسل شمعون برصباعي ومار شاهدوست للنيابة عنه في مجمع نيقية سنة 325، وقال قوم إنه استناب شمعون برصباعي ومار يعقوب النصيبيني.
    وقد انقضَّ سنة 341 على الجاثليق شمعون اضطهاد شابور الثاني المسمى بالاضطهاد الأربعيني، الذي أودى بحياة ألوف المسيحيين من أساقفة وكهنة ومؤمنين. وكان شمعون إذ ذاك في سنته الثانية عشرة على كرسي المدائن خلفاً لفافا، حسبما جاء في التاريخ الكنسي لابن العبري.
    أما ماري بن سليمان وصليبا  والتاريخ السعردي فيقولون إنها سنته الثامنة عشرة. وجرى استشهاد مار شمعون مع كثيرين آخرين في مدينة كرخ ليدان من أعمال الأهواز سنة 341 في يوم جمعة الآلام. ودفن في مدينة السوس. ونقل تذكار جميع هؤلاء الشهداء إلى جمعة المعترفين الواقعة بعد عيد القيامة. أما يوم الجمعة السادسة من سابوع القيظ فهو تذكار تكريس المذبح المشيد في مدينة كرخ ليدان لإكرامه.   

    2_ الجاثليق مار شاهدوست:  أصله من مقاطعة بيث كرماي  ( كركوك ) وفي عهد مار شمعون برصباعي أقيم رئيساً لكهنة المدائن. وبعد استشهاد مار شمعون أقيم جاثليقاً خلفاً له، ورسم سراً في ساليق بعد ثلاثة أشهر من مقتل سلفه. وكان يعيش متخفياً مثل سائر رؤساء الكنيسة، بالنظر إلى الاضطهاد الضاري الذي أثير على المسيحيين. وقبل استشهاده رأى في الرؤيا سلماً من نور قائمة على الأرض ورأسها يصل إلى السماء. وإذا مار شمعون برصباعي واقف بمجد لا يوصف وهو يدعوه قائلاً: " اصعد إلي يا شاهدوست ولا تخف. فإني البارحة صعدتُ وأنت اليوم  تصعد ". وفي السنة الثانية من اضطهاد شابور، وبينما كان الملك قي ساليق، بلغه أمر شاهدوست. فأمر بالقبض عليه. وألقي القبض معه على عديد من الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات من المدائن ومن القرى والأرياف المجاورة، حتى بلغ عددهم مائة وثمانية وعشرين. فكبلوهم جميعاً بالسلاسل وأودعوهم سجناً رهيباً قاسوا فيه الامرِّين طوال خمسة أشهر.
    وفي هذه المدة انزلوا بهم عذابات شتى ليدفعوهم إلى السجود للشمس. لكنهم رفضوا طلبهم وأبدوا استعدادهم لتحمل العذابات والموت في سبيل المسيح. ولما بلغ الملك موقفهم الرافض للسجود للشمس أمر بقتلهم. فأخرجهم الأعيان وأمناء الملك قيدين إلى ظاهر المدينة، بينما اخذوا هم ينشدون بأصوات عذبة المزامير. وحينما وصلوا إلى موضع تنفيذ الحكم فيهم قالوا: " تبارك الله الذي منّ علينا بهذا الإكليل الذي كنا ننتظره، ولم يحرمنا من هذا الحظ الذي كنا نتمناه. تبارك المسيح الذي لم يتركنا في هذا العالم، بل دعانا للمثول أمامه بسفك دمنا ". ولم يكفوا عن أداء الحمد لله إلى أن قضي على آخرهم.
    وكان استشهادهم في العشرين من شباط سنة 343. أما الجاثليق شاهدوست فاقتادوه مكبلاً بالقيود إلى منطقة بيث هوزايي إلى مدينة بيث لاباط، وهناك قطعوا رأسه بالسيف، وبذل حياته في سبيل المسيح. 

    3_ الجاثليق مار بربعشمين:  هو ابن أخت مار شمعون برصباعي. أصله من بيث كرماي ( كركوك ). انتخب جاثليقاً بعد استشهاد شاهدوست، ورسم سراً في ساليق في منزل أحد المؤمنين. وقد وشى به المجوس لدى الملك شابور، فألقي القبض عليه وعلى ستة عشر شخصاً من الكهنة والشمامسة والرهبان. ولما مثل أمام الملك قال له: " أيها الشقي التعيس، لماذا تجرأتم على مخالفة أمري، وأصبحت رئيساً لهذا الشعب الذي أبغضته لكونه يحتقر آلهتي، وبسببه قتلت شمعون الذي كنت أحبه ". فأجابه بربعشمين قائلاً: " إذا اطعنا أمرك، ترتب علينا نبذ إيماننا كله. ولكننا لا نتخلى امتثالاً لأمرك عن أصغر ما في ديانتنا ". فقال له الملك: " أراك مخاصماً وجاهلاً وعطشاناً إلى الموت نظير خالك الذي باد وأباد الكثيرين معه ". فأجابه بربعشمين قائلاً: " إني أفضل الموت لأنه حياة لي، وإني عطشان إلى الاستشهاد لأنه فرح لي. فمعاذ الله أن أتخلى عن الإيمان الحقيقي بالإله الواحد، كما استودعه إياي مار شمعون الذي هذبني ".
    فاحتدم الملك غيظاً واقسم بالشمس بأنه سيقضي على تعاليم المسيح في الأرض، وسيزيل ديانته من المسكونة. وأمر بزج الجميع في السجن، وبربطهم بسلاسل ثقيلة، وتكبيدهم مرّ العذابات. وفي مطلع السنة التالية بينما كان شابور في مدينة كرخ ليدان أمر بإحضار بربعشمين ورفاقه الستة عشر، فجاؤوا بهم وهم مكبلون بالسلاسل، وأوقفوهم أمام الملك. فطلب منهم أن يسجدوا للشمس حتى يطلق سراحهم ويكرمهم. وأمر أن يأتوه بكأس فيها ألف قطعة ذهب. وقال لبربعشمين: " خذ هذه الآن لتكون مثار مجد لك أمام الحاضرين، وإني سأزيد إكرامك وارفع منزلتك ". فأجابه بربعشمين قائلاً: " لماذا تحاول إغرائي مثل ولد صغير. فلو أعطيتني ليس هذا حسب، بل مملكتك بأسرها، لما رضيت بالتخلي عن إيماني القويم ". فازدادا غضب الملك لدى سماعه هذه الكلمات وثار ثائره، وأصدر أمراً صارماً بضرب أعناقهم بحد السيف.
    وكان استشهاد مار بربعشمين ورفاقه الستة عشر في 9 كانون الثاني سنة 347. وكتب شابور إلى جميع حكام مملكته وقال لهم: " على كل من يحبني ويهتم بمملكتي أن يتصرف هكذا: يجب ألا يوجد في أرجاء مملكتي من يُدعى مسيحياً. بل عليهم أن يسجدوا للشمس والنار والماء، وأن يأكلوا دم الحيوانات. وكل من يخالف  الأوامر، يقبض عليه ويسلم إلى حكام المناطق، لينزلوا به ما شاؤوا من العذابات والموت ".     
    4_ البطريرك يوحنا سولاقا بلو (1553-1555): ولد سنة 1513م في حضن عائلة امتازت بالتقوى والحياة المسيحية الرصينة والده دانيال بلو من مدينة عقرة، انضم إلى رهبان دير الربان هرمز قرب ألقوش، وهناك عكف على الدراسة وممارسة الفضيلة، اقتبل الدرجة الكهنوتية سنة 1540م، وانتخب رئيساً لدير الربان هرمز، وبينما كان ينعم بحياته الرهبانية، تم انتخابه بطريركاً بإجماع آراء الأساقفة والمؤمنين المجتمعين في الموصل، لكنه رفض خوفاً من المسؤولية الجسيمة، وعند إصرار المجتمعين لم يسعه إلا الإذعان لمشيئة الله، وكان المجتمعون قد قرروا إيفاده إلى روما كي يقبل الرسامة الأسقفية، وينال التأييد والتثبيت من الحبر الأعظم يوليوس الثالث ، وحملوه رسالة موجهة إلى الحبر الأعظم يشرحون فيها أوضاع كنيسة المشرق، ومنحه سلطان الحل والربط، وقد رافق سولاقا إلى روما ثلاثة أشخاص.
    وفي طريقهم توقفوا في أورشليم وأمضوا عيد القيامة هناك، ثم أبحروا نحو روما فوصلوها في 18 تشرين الثاني 1552م، وبعد الإجراءات القانونية اللازمة، جرت رسامته الأسقفية في 9 نيسان 1553م وذلك في كاتدرائية مار بطرس ، وفي 28 نيسان نال درع التثبيت، ثم رجع إلى المشرق فوصل إلى مدينة آمد ( ديار بكر ) في تشرين الثاني 1553م التي اتخذها مقراً لبطريركيته، فشمر عن ساعد الجد وسعى إلى تنظيم شؤون كنيسته، ورسم عدة أساقفة.
    وفي كانون الأول سنة 1553م ذهب إلى مدينة حلب ليلتقي السلطان سليمان الأول ، وحصل منه على أمر سلطاني موجه إلى جميع الأفراد والحكام بوجوب معاملة أبناء كنيسته باعتبار واحترام. وفي النصف الثاني من سنة 1554م ذهب إلى العمادية لتفقد أبناء كنيسته، وهناك ألقى القبض عليه حسين بك باشا العمادية بتحريض من البطريرك برماما ، وزجه في غياهب السجن مدة أربعة أشهر، بعدها ألقي في بئر وترك فيها مدة أربعين يوماً، ثم أوعز الباشا إلى رجاله للقضاء عليه، فأخرجوه من البئر وربطوه بحبال ووضعوه في كيس وألقوه في بحيرة ( بريما )  القريبة من العمادية، وذلك في كانون الثاني سنة 1555م، وهكذا لقي حتفه واستحق لقب شهيد الاتحاد.
   وترتل كنيسة المشرق في تذكار الجثالقة هذه الصلاة: " صن بمراحمك مقربيك: بصلاة الأبرار خدامك. والصديقين الذين أحسنوا أمامك. الأنبياء الرسل والملافنة والشهداء والكهنة والنساك. أحفظ يا ربنا الجمع الساجد لك من آفات الشرير ".   
   ويحتفل بتذكار جثالقة المشرق الشهداء في الجمعة الأولى من سابوع إيليا. 

36
تذكار مار غريغور الشهيد
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 12 / 1 _ 24 في ذلك الوقت قبض الملك . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس 12 / 1 _ 14 ألا بد من الافتخار؟ إنه لا خير . . .
القراءة الثالثة: متى 10 / 37 _ 42 من أحب أباه أو أمه أكثر مما يحبني . . .
                      + متى 16 / 24 _ 27 ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن . . .
                  + متى 19 / 27 _ 30 فقال له بطرس: ها قد تركنا نحن . . . 

   القديس غريغور الشهيد: كان مجوسياً من منطقة بيث رازيقي  من آل مهران من عظماء المملكة وكان يدعى بيرنا كوشناسب. وعندما بلغ جعل مرزباناً في كورزان زاران. وفي السنة الثلاثين للملك قباذ  ( 518 م ) اعتنق المسيحية واتخذ في العماد اسم غريغور.
   ولما سمع الملك صادر جميع أمواله وألقاه في بئر مظلم. وعندما بدأ القتال بين الروم والفرس اخلي سبيله وأعيد إلى وظيفته، ولما انكسر الفرس وقع غريغور أسيراً بيد الروم، ولما قابل الملك يوسطينوس  أكرمه خير إكرام.
   وفي سنة 533 أبرم الصلح بين المملكتين فرجع غريغور إلى بلاده بعد أن نال الأمان بعدم إجباره على ترك دينه من رسول خوسروا أنشوران   أمام الملك يوسطينوس. وما أن عاد إلى موطنه حتى أكرمه خوسروا الأول وأعاده إلى مركزه.
   وفي سنة 541 خرج أنوشروان للحرب وهو حاقد على المسيحيين بسبب امتناع البطريرك مار آبا من الخروج معه إلى الحرب. فذهب أحد أقارب غريغور ويدعى مهران عند الملك مستغلاً غضبه على المسيحيين ووشى على غريغور، فأمر الملك بالقبض عليه ووضعه في سجن قريب من العاصمة المدائن  يقال له زقارتا بيث بالان. وبقي في السجن حتى سنة 542 كابد خلالها أقسى العذابات.
   وخلال وجوده في السجن استطاع أن يبشر الكثير من المساجين الذين نبذوا الوثنية واعتنقوا المسيحية. فغضب كهنة المجوس من أعماله واخبروا الملك بذلك، وكان حينها في بيروز شابور  فطلب أن يحضر عنده. ولما مثل أمامه طلب منه انوشراون أن ينبذ المسيحية، فرفض رفضاً قاطعاً. عندها أمر الملك أن يقطع رأسه بحد السيف، وكان استشهاده في جمعة الآلام سنة 542.     
   وكنيسة المشرق تتلو اليوم على مسامع المؤمنين نص من إنجيل متى مجمع من ثلاث فصول. ففي الفصل الأول نجد أن يسوع يدعونا إلى رسالة أسمى من الحصول على الراحة والهدوء في هذه الحياة، فمحبة العائلة وصية من وصايا الله، ولكن هذه المحبة يمكن أن تكون لخدمة الذات، ومبرراً لعدم خدمة الله أو إنجاز عمله. ولكي نحمل صليبنا ونتبع يسوع، يلزم أن نطرح عنا كل الهموم والأولويات الأخرى، فعندئذ فقط نبدأ في تحقيق التزامنا للمسيح. يجب أن نسلَّم تماماً لله في استعداد كامل لمواجهة أي شيء ولو كان الألم والموت من أجله.
   وفي الفصل الثاني نجد يسوع يستخدم الصورة المجازية عن حمل أتباعه لصلبانهم ليتبعوه، وقد عرف التلاميذ ما كان يعنيه. فلقد كان الصليب إحدى الوسائل الرومانية لتنفيذ الإعدام. وكان على المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام أن يحملوا صلبانهم ويسيرون في الشوارع إلى موقع تنفيذ الحكم. لقد كان أتَّباع الرب يسوع يعني التسليم الكامل، والمخاطرة حتى الموت، دون أي رجوع أو نكوص.
  وفي الفصل الثالث نسمع رد يسوع على بطرس مؤكداً للتلاميذ أن كل من يتخلى عن شيء ثمين لأجله، سيعوض عنه أضعافاً مضاعفة في هذه الحياة، وإن لم يكن من اللازم من نفس النوع. فمثلاً قد يطرد شخص من عائلته لقبوله المسيح، ولكنه يكسب عائلة أكبر من المؤمنين. لقد قلب الرب يسوع معايير العالم رأساً على عقب. فالله يمنح مكافآت لشعبه حسب عدالته، ومكافآتنا كمؤمنين هي حضور الله وقوته بالروح القدس، وسنكافأ في الأبدية من أجل إيماننا وخدمتنا. 
    وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار غريغور الشهيد في الجمعة السادسة من سابوع الرسل.

37
تذكار مار داماسوس
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                  + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .

   القديس داماسوس بابا روما: هو أهم باباوات القرن الرابع. رشح الأريوسيون ضده أورسينس الذي طرده حاكم روما. لا شك في أن هذه المنافسات كانت تؤذي سمعة المسيحيين، ومع هذا ففي حبرية داماسوس فقد الأريوسيون قوتهم وشعبيتهم بفضل انتخاب القديس أمبروسيوس أسقفاً على ميلانو.
  كان داماسوس من أصل إسباني، أما أمبروسيوس فكان ولد في غاليا . وصداقته مع البابا وتعاونه الدائم ساهما في توفير مرحلة مشرقة للبابوية. وألف أمبروسيوس أناشيد دينية عدة مثل: الله باري كل شيء. يا خالق جميع الأشياء الأزلي. وهلم يا فادي الأنام. وكتب مقال في الإيمان.  وقد لقي داماسوس دعماً في عمله من كهنة وأساقفة ما زالت أسماؤهم عناوين فخر للكنيسة مثل: غريغوريوس النيصي، وغريغوريوس النزينزي، والقديس هيرونيمس، والقديس أوغسطينس، والقديس يوحنا الذهبي الفم .
   وقد ترسخت عقيدة الثالوث في عهد داماسوس بخلاف المبادئ التي صاغها المبتدعون، خصوصاً المقدونيون الذين كانوا يصرون على القول إن الروح القدس هو فيض من يسوع المسيح. بعد مجمع روما سنة 382 كلف القديس هيرونيمس أمين سر البابا داماسوس بترجمة الكتب المقدسة إلى اللاتينية، فكانت الترجمة المعروفة بالشائعة. وترسخ أكثر فأكثر مبدأ أولية روما. وقديسو تلك الفترة يؤكدون بالإجماع أن بطرس ما زال يملك في روما ممثلاً للمسيح. والقديس أمبروسيوس كان يقول: " حيث يكون بطرس، فهناك تكون الكنيسة. وقد أيد الإمبراطور تيودوسيوس البابا داماسوس وأمبروسيوس في عملهما ".   
   وتدعو رسالة القديس بولس المؤمنين في هذا اليوم أن يختاروا أي أسلوب يستخدمون، هل يستخدمون أساليب الله أم أساليب البشر. ويؤكد بولس أن أسلحة الله القوية هي: الصلاة، الإيمان، الرجاء، المحبة، كلمة الله، الروح القدس، قادرة وفعالة. فعندما نواجه الكبرياء التي تمنع الناس عن الارتباط بالمسيح. قد تجرب باستخدام أساليبنا، ولكن لا شيء يقدر أن يهدم هذه الحواجز مثل أسلحة الله.  وذكر بولس الكورنثيين بسلطانه، بسبب المقاومة التي كان يتلقاها من أناس مختلفين في كنيستهم، حيث كان المعلمون الكذبة يحرضونهم على تجاهل بولس، وأراد الرسول حماية الكورنثيين من الهراطقة. ويبدو أن بولس لم يكن خطيباً مفوهاً، ولكنه استجاب طائعاً لدعوة الله، ونشر المسيحية في ربوع الإمبراطورية الرومانية. وقد انتقد بولس المعلمين الكذبة الذين حاولوا أن يثبتوا صلاحهم بمقارنة أنفسهم بالآخرين بدلاً من مقارنة أنفسهم بمقاييس الله. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار داماسوس في الجمعة الخامسة من سابوع الرسل.

38
تذكار مار أثناسيوس وعيد قلب يسوع
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: ملاخي 1 / 6 _ 11 الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده فإن . . .
القراءة الثانية: رومة 9 / 30 _ 33 فماذا نقول؟ نقول إن الوثنيين الذين لم . . .
                   + رومة 10 / 1 _ 17 أيها الإخوة إن منية قلبي ودعائي لله . .
القراءة الثالثة: متى 11 / 25 _ 30 وفي ذلك الوقت تكلم يسوع فقال: . . .
                + يوحنا 19 / 30 _ 37 فلما تناول يسوع الخل قال: تم كل . .

   1_ القديس أثناسيوس: أثناسيوس الإسكندري شخصية مثار جدل في حياتها وبعد مماتها. ولد في الإسكندرية سنة 295 من أبوين مسيحيين من أصل يوناني ودعي أثناسيوس وهي كلمة يونانية تعني " خالد ".
   سنة 303 ثار اضطهاد ديوكليسيانس  وكان طويلاً وشرساً في الشرق، حيث لم يهدأ إلا سنة 313. وقد تأثر أثناسيوس بأجواء الاضطهاد والاستشهاد واكتسب صلابة في الإيمان.
   ومنذ شبابه عرف أنطونيوس أبي الرهبان كما يشهد على ذلك قوله: " كنت تلميذه وعلى غرار أليشع كنت أسكب الماء على يدي إيليا الآخر هذا ".
   سنة 319 رسمه أسقفه ألكسندروس شماساً إنجيلياً وعينه أمين سره، وقد رافق أسقفه إلى مجمع نيقية سنة 325. ولما توفي ألكسندروس سنة 328 خلفه أثناسيوس ونال الرسامة الأسقفية، وخلال أسقفيته تعرض لموجة من الاتهامات ونفي خمس مرات، وفي كل مرة كان يعود إلى مركزه بعد أن يتحمل الكثير من الصعوبات. توفي في بداية أيار سنة 373 وله من العمر 77 سنة، بعد أن استمرت أسقفيته 46 سنة عرفت بجهاد عنيف ضد الآريوسية، قضى منها 17 سنة في المنفى. وتشهد كتاباته على سعة علمه، فهو من جهة يعرف الكتاب المقدس معرفة كاملة، وله من جهة أخرى إطلاع واسع على الثقافة اليونانية، وله مؤلفات دفاعية وعقائدية وتاريخية وروحية.
   وقد سماه القديس غريغوريوس النزينزي: " عمود الكنيسة والمناضل عن   الحقيقة ". لأنه لم يتهرب من أي نضال، ولم ينثنِ أمام أي سلطة. فلقد جسد إيمان الكنيسة. والحال أن الحزم والشعور بالمسؤوليات لم يعوزا قط أثناسيوس. فإن المعجبين به وأخصامه على السواء متفقون في الاعتراف بقوة إرادته ومقاومته لاستبداد الإمبراطور. 

       2_ عيد قلب يسوع الأقدس: ابتدأت عبادة قلب يسوع الأقدس في سنة 1833 على يد فتاة تدعى ( أنجله ) كانت هذه الفتاة في أول أمرها متوسطة الأخلاق والسلوك في مدرستها، لكن على اثر اعتكاف دام أربعة أيام غيرت سلوكها تغيراً كبيراً، فدخلت أخوية بنات مريم وطلبت إلى العذراء القديسة أن تمنحها عبادة شديدة لقلب يسوع ابنها الإلهي. فاستجابت العذراء طلبتها وألهمتها أن تسعى لتخصيص شهر حزيران بتكريم قلب يسوع على منوال شهر أيار المخصص بها، وكان ذلك سنة 1833.
   وقد استطاعت أنجله أن تقنع مسؤولتها بفكرتها، وكذلك فعلت مع رئيس أساقفة باريس فجاءت موافقته لأجل رجوع الخطاة وخلاص فرنسا. وفي 23 من شهر آب سنة 1856 أصدر مجمع الطقوس مرسوماً بأن الأب الأقدس البابا بيوس التاسع  يلزم الكنيسة كلها بان تحتفل بعيد قلب يسوع الأقدس وتقيم صلاته الفرضية.
   ويرى الآباء المرسلون مؤلفو كتاب تأملات شهر قلب يسوع، أن عبادة قلب يسوع مبدأها مع ابتداء الكنيسة المقدسة عينها، نشأت عند أسفل الصليب لان هي أول من سجد لهذا القلب المطعون لأجلنا، ثم أن الرب يسوع المسيح من بعد قيامته أرى جرح جنبه تلاميذه المجتمعين، وأمر توما بان يضع فيه إصبعه ومن ثم رأينا أعظم قديسي العصور الأولى وما بعدها قد تعمقوا في بحر هذه العبادة. 
   أما العبادة الجهورية فقد حفظت لأهالي القرن السابع عشر، وعلى وجه الخصوص مملكة فرنسا التي نشأت، حين قال الرب يسوع في أحدى ظهوراته انه لا يلاقي من البشر الذين أحبهم سوى الكفران والاحتقار والإهانات والنفاق والبرودة نحو سر محبته، وهذا ما يصدر من أناس خصصوا ذاتهم به، فطلب أن يعيد في اليوم الذي يلي عيد سر الجسد وهو يوم جمعة إكراماً لقلبه يتناول فيه المؤمنون جسده تعويضاً عن خطاياهم، وهنا يعد يسوع أن قلبه سيمنح نعما كثيرة وبركات غزيرة لأولئك الذين يكرمونه.
   وقد ترددت الراهبة، التي ظهر يسوع وأعطاها هذه الرسالة، لعظم ما أعطاها، لكنه أجابها بأنه يختار الضعفاء ليخزي الأقوياء. حينذاك طلبت منه القوة لتقوم بهذا العمل العظيم، وقد ساعدت الكنيسة في انتشار هذه العبادة بعد مقاومات ومحاربات كثيرة، ثم نمت واتسعت بعد أن ثبتها الأحبار الأعظمون.

   تاريخ عيد قلب يسوع: انتشرت عبادة قلب يسوع في القرن السابع عشر، والرائدة هي القديسة مارغريت ماري ألاَكوك التي ظهر لها يسوع وطلب منها التعبّد لقلبه. وهذه القديسة فرنسيّة الأصل ولدت سنة 1647 من عائلة تقيّة ترهّبت بدير راهبات الزيارة في عمر 43، تعيّد لها الكنيسة في 17 تشرين الأوّل، ويوم أبرزت نذورها الرهبانيّة كتبت بواسطة دمها: " كلّ شيء من الله ولا شيء منّي كلّ شيء لله ولا شيء لي كل شيء من أجل الله ولا شيء من أجلي ". وكتبت في موضع آخر:  " كلّ ما تقدّمت أرى أن الحياة الخالية من حبّ يسوع هي أشقى الشقاء ".
   ظهورات المسيح لهذه القديسة كثيرة وتذكر منها الكنيسة أربع ظهورات، كان يسوع من خلالها يشير إلى قلبه النافر من صدره معبّراً عن أسفه الشديد لنكران الناس له. هو السيّد نفسه حدّد للقديسة مارغريت ماري الإحتفال بعيد قلبه الأقدس يوم الجمعة الواقع بعد عيد القربان بأسبوع، وبناءً على ذلك بدأت راهبات الزيارة الإحتفال بهذا العيد اعتباراً من سنة 1685.
   الوعود التي وعد بها السيد المسيح للمتعبدين لقلبه الأقدس للقديسة مرغريتا مريم الأكواك: إن عبادة قلب يسوع تعني حبه اللامتناهية لنا. وتقوم بتخصيص أول جمعة من كل شهر بالقلب الأقدس، بتناول القربان و ممارسة أعمال التقوى. أما ثمرة هذه العبادة فقد لخصها المخلص نفسه في مواعيده للقديسة مرغريتا مريم الأكواك:
   1_  سوف أمنحهم جميع النعم اللازمة لحالتهم.
   2_  القي السلام في بيوتهم.
   3_  أعزيهم في جميع أحزانهم.
   4_  أكون ملجأهم الأمين في حياتهم و خاصة في مماتهم.
   5_  أسكب بركات وافرة على جميع مشروعاتهم.
   6_  يجد الخطأة في قلبي ينبوع الرحمة الغزيرة.
   7_  تحصل الأنفس الفاترة على الحرارة.
   8_  ترتقي الأنفس الحارة سريعاً إلى قمة الكمال.
   9_  أبارك البيوت التي تضع فيها صورة قلبي للتكريم.
   10_  امنح الإكليروس موهبة يلينون بها القلوب الأشد صلابة.
   11_  من يعمل بهمة على نشر هذه العبادة فسيكون اسمه مكتوباً في قلبي ولن يمحى منه أبداً.
   12_ الوعد الكبير " إني أعدك في فرط رحمة قلبي، بأن حبي القادر على كل شيء سيعطي جميع الذين يتناولون أول جمعة من الشهر  مدة تسعة أشهر متوالية نعمة الثبات الأخير. فإنهم لن يموتوا في نقمتي، بل سيقبلون الأسرار المقدسة، و يكون قلبي ملجأ أميناً في تلك الساعة الأخيرة ". 
  وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار أثناسيوس وعيد قلب يسوع في الجمعة الثالثة من سابوع الرسل.




39
أزمة الكنيسة الكلدانية مالية هي أم روحية وإدارية!
       الشماس نوري إيشوع مندو

     تصريح المطران شليمون وردوني النائب البطريركي لوكالة " أسيا نيوز " حول الأزمة المالية التي تعاني منها رئاسة الكنيسة الكلدانية، أثارت الكثير من الألم والأسى  في نفوس أبناء الكنيسة الكلدانية في جميع أنحاء العالم. ودفعهم للتسأل عن حقيقة ما يجري في كنيستهم في هذا الظرف الصعب الذي يمر فيه العراق.
   فهل يصدق عاقل أن أكبر وأعرق رئاسة كنسية في العراق تعجز عن دفع رواتب كهنتها والذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين؟. وهل يقبل العقل والمنطق أن كنيسة عريقة مثل كنيسة المشرق الكلدانية عمرها ألفي سنة عاشت خلال ظروف مختلفة من مُر الحياة وحلوها وبقيت راسخة وثابتة على قوتها وحضورها وشهادتها. واليوم بمجرد أن محسناًَ مثل الأستاذ سركيس أغاجان الذي وقف بجانب الكنيسة بضعة سنوات داعماً، قطع دعمه المالي لأسباب مجهولة، تدق هذه الرئاسة ناقوس الخطر معلنة عن قرب إفلاس الكنيسةالكلدانية؟.
   فهل يعقل أن مصير كنيسة ما بمؤسساتها  وأبرشياتها المنتشرة في العالم يتعلق بشخص ما قد تكون له اجندته الخاصة؟  ثم  لماذا لم تستفد الكنيسة من هذا السخاء الحاتمي ( ملايين الدولارات) حتى تقوم بمشاريع استثمارية تؤمن لها واردات كما فعلت كنائس أخرى؟
   دعوات الخيرين ذهبت في مهب الريح لأن رئاسة كنيستنا لا تقبل النقد البناء. وأهم هذه الدعوات كانت من الأب الفاضل ألبير أبونا المحترم الذي وضع أصبعه على الجرح منبهاً. فأصدر في تموز 2008  كتيبه الشهير " كنيستي إلى أين ". شرح من خلاله وضع الكنيسة اليوم. فتحدث عن الهجرة والتهجير وموقف الكنيسة من ذلك. ثم تتطرق إلى تركيبة الكنيسة من بطريرك وأساقفة وكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة والعلمانيين متحدثاً عن واقعهم اليوم، وما يشوب مسيرتهم من صعوبات بسبب الابتعاد عن الهدف الأساسي وهو مجد الله وخلاص النفوس. ويختم كتيبه بالسؤال كنيستي إلى أين؟ فهي اليوم في منعطف خطير وأمام مستقبل غامض. وخلاصها لا يتم إلا بخطة مدروسة وجريئة ترسم لها حياتها ورسالتها بوضوح. إنها خطة الإنجيل ورسالة المحبة والخدمة. وهذه الخطة تقتضي منها الأمانة والأتزان والأستمرارية بدون انحراف.   
   وبعد هذا الكتيب أصدر الأب الفاضل ألبير أبونا المحترم أربع رسائل مهمة هي:
1_ " أتبعك يا نور الحق ". مبيناً فيها عن حاجة الكنيسة العميقة إلى العودة إلى الجذور والينابيع، وإلى أن تنظر إلى ذاتها بنظرة الله. ويختم رسالته بدعوة الجميع لتحمل مسؤولياتهم ليتحركوا وينقذوا الكنيسة قبل فوات الأوان.
 2_ " كنيستي تفتقر إلى رعاة ". وفيها يتحدث بحزن وأسى عن وضع الكنيسة اليوم وهي في حالة يرثى لها من الخمول والفوضى. فكلٌّ من الأساقفة والكهنة يتصرف بانفراد، والجماعية والشركة غائبة. أ لمال أصبح الصنم الأكبر ، ويسعون لجمعه بشتى الطرق فأصبحت كنائسنا لا روح ينعشها، بسبب إهمال مؤسف في الأمور الروحية. ويختم رسالته بدعوة الرعاة للتضحية بمصالحهم الخاصة، ويجندوا طاقاتهم وإمكاناتهم لرفع شأن الكنيسة، فلينظروا إلى ما يريده منهم المسيح ويتحركوا لتحقيقه بجرأة وفعالية.
3_ " وأنت يا كاهن المسيح ". وفيها يدعو الكهنة لإعادة النظر في حياتهم على ضوء الشؤون المستحدثة في العالم ومتطلبات الكنيسة وإنسان العصر. فلا يجوز أن يظل الكاهن منغلقاً على نفسه ويحيا في ماضٍ عتيق لا يتجاوب مع أماني إنسان اليوم، ولا يوفر له ما يشبع أشواقه الإنسانية والروحية والعلمية. ويصف رسالة الكاهن قائلاً: ليس الكهنوت وظيفة تقوم بها مدة ساعات محدودة، ثم تخلد إلى الراحة والبطالة. فحياتك كلها للمسيح، وكلها للآخرين بدون تحفظ. فعليك أن تنظر إليها مثل هبة مجانية تلقيتها من يسوع، وعليك أن تحياها وتبذلها بكل مجانية وسخاء.  وعليك أن تبرهن عن محبتك لرعيتك من خلال الابتعاد عن مخاطبتهم بكلمات نابية أو أقوال مهينة أو تصرفات عنجهية. أو بإهمالك ولا مبالاتك. ويختم رسالته محذراً الكاهن من أربع أصنام تعيق رسالته هي: 1_ المال. 2_ الجنس. 3_ الأنانية. 4_ الكسل.
4_ " كيف تبنى كنيستي ". وفيها يدق ناقوس الخطر بقوله: كنيستي اليوم على شفا الهاوية. فأين الرعاة؟ أما يكفيهم النوم؟ فقد باعوا حريتهم بمبلغ من المال أو بحياة الترف. أما الخراف فأقرأوا السلام عليها ولتفترسها الذئاب الخاطفة. المهم أن أصحاب السيادة مرتاحون للوضع القائم ! ويختم رسالته بالقول: أيجوز لكم أن تخلدوا إلى الصمت واللامبالاة إزاء ما يجري في كنيستكم وأمام عيونكم؟ ألم يبق فيكم سامري صالح يحاول إسعافها؟.
    بعد كل ما كتب الأب ألبير بشفافية ووضوح لم ترد رئاسة الكنيسة على ما طرحه، فهي لا تعترف بأن هناك أزمة. بل همس أحدهم بمجالسه الخاصة واصفاً الأب ألبير بأنه رجل أصيب بالخرف؟
   وحسب اعتقادي أن كنيستنا في ظل هذه الرئاسة لا تعاني من أزمة مالية فحسب، ولكن هناك أزمة روحية وإدارية وكنسية خانقة؟ والازمة المالية ما هي الا نتيجة!
   علينا أن لا نتكبر ونتهرب من واقعنا المرير. فمقال الأب الفاضل سعد سيروب المحترم وضع النقاط على الحروف من خلال تشخيصه حالة الكهنة في كنيستنا. وقد صنفهم بأربعة أنواع هي:
 1_ الكاهن المقاول والبنّاء الذي ينصرف وراء المجد الباطل متناسياً البشارة التي كرس نفسه من أجلها. فهو يقنع نفسه أنه يبني الكنيسة مادياً. متجاهلاً أن الكنيسة تبنى بروح المحبة وعيش كلمة الله. وهذا النوع من الكهنة يحصر المهام الزمنية للرعية بنفسه متجاهلاً دور العلمانيين الذين بنظره ليسوا بجديرين بتحمل هذه المسؤولية فهو وحده الشخص الأمين والحريص. أما الشعب فليسوا سوء عبيد يجب أن يقدموا له الطاعة وعليهم السكوت وعدم النقد وإلا صب عليهم جام غضبه.
2_ الكاهن الذي يبحث عن الراحة بعد سنوات قليلة من الخدمة. فأمام أصغر صعوبة يترك القطيع هارباً إلى مكان أخر ليعيش متنعماً بملذات الدنيا المغرية. متناسياً أن يسوع الراعي الصالح شدد على العمل للبحث عن الخروف الضال.
3_ الكاهن الذي يبحث عن المناصب العليا من أسقفية أو بطريركية متنازلاً عن قيمه الكهنوتية ليصبح بوقاً لذلك وذاك لتتحقق أهدافه ولو على حساب القيم والأخلاق الكهنوتية.
4_ الكاهن اللامبالي والنرجسي الذي لا يحب إلا نفسه. فهو يعيش أنانيته المقيتة منغلقاً على زمرة من الأصدقاء يجارونه نفس الطبع المنحرف. فهذا النوع يستعمل الكهنوت مطية لتحقيق غرائزه مبتعداً بذلك عن رسالة الكهنوت الحقيقية التي تدعوه للعمل على خلاص النفوس.
    وأنا بدوري أزيد على تصنيف الأب سعد تصنيف مهم وهو الكاهن الملتزم بدعوته الكهنوتية من خلال عمله الدؤب والشفاف. وهذا الكاهن يشبه المسيح في رسالته المثمرة والذي ينبذ العالم وملذاته واضع يده على المحراث لا يلتفت يمنى ولا يسرى بل يسير بخطة ثابتة نحو الهدف السامي وهو مجد الله وخلاص النفوس. وما أكثر هؤلاء الكهنة القديسين، وكما نحن بحاجة ماسة لهم في عالمنا اليوم.
    و يبدو من خلال ما طرحه الأب سعد أن الكنيسة الكلدانية تفتقر إلى التنشئة الكهنوتية من روحية وعلمية وراعوية. ولهذا نجد بعض الكهنة يغرقون في الفوضى والارتباك بسبب مشاكل روحية ومعضلات مادية، فتجرفهم وتبعدهم عن أهدافهم السامية.
   منذ فترة كتب الكثير من مؤمني الكنيسة عن خطورت ما يجري، أذكر منهم الدكتور ليون برخو ومسعود النوفلي وأنطوان صنا وعبد الأحد سليمان وأمير فراس ويوحنا بيداويد وسمير شبلا وغيرهم. وفيها يرفعون الصوت عالياً لإنقاذ الكنيسة. وقد طرحوا العديد من الحلول الرزينة للخروج من هذا المأزق. لكن دعواتهم لم تجد آذاناً صاغية. لقناعة رئاستنا بأن العلماني لا يحق له التدخل في هذا الموضوع. ويبدو أن البعض منهم قد تلقى من بعض النفوس الضعيفة مكالمات هاتفية تهددهم!  الكنيسة ليست شركة خاصة يحق لمديرها أن يتصرف حسب مزاجه؟  لكن الكنيسة هي مؤسسة إلهية يتطلب من القيمين عليها التصرف بنزاهة وشفافية حسب القوانين والأنظمة المرعية.   
   من المعيب أن ينشر خبر الأزمة المالية في العديد من المواقع أللإلكترونية ليسمع القاصي والداني مأساة هذه الكنيسة الجريحة والمتألمة؟.وهنا لا بد لهذه الرئاسة الكريمة أن تعترف بفشلها في إدارة الكنيسة، وتقدم استقالتها لتفسح بالمجال أمام الخيرين من آباء الكنيسة ليقودوها إلى ميناء السلام. وعليها أن تعتذر عن تقصيرها لأنها سدت الأبواب أمام الأصوات التي كانت تنادي بإصلاح الخلل قبل فوات الأوان. ولكن لا حياة لمن تنادي؟.   
   وأختم بقليل مما قاله الملفان نرساي في ميمر معاتبة الكهنة: * أرغمني الزمن الشرير لفضح شروره. والحديث عن فوضويته وغياب العدالة فيه. * حسد أعمى حجب المعرفة عن عيونهم. ولم يتبينوا من الذي يستقبل ضررهم. * محبة المال شدتهم إلى الأرضيات. ولم يشتهوا امتلاك الحياة الأبدية المحضرة لهم. * الطمع ولج ونخر بضمائرهم. يجمعون من الجميع ولا تشبع شهوتهم. *  الغطرسة السادجة أغوتهم من المعرفة. ولم يتفرسوا ويعلموا أين تكمن الفائدة. * محبة التكبر صادتهم بشراك المجد. وكالفراشة سقطوا من علو تدبيرهم. * بمحبة الأرضيات زال الاهتمام بالروحانيات. واستبدلوا غنى الأسرار بالجهل والحماقة. * بطبيعة مغايرة قاد الرعاة كياننا. وبدون حماية افسدوا حياتنا لضلالهم. * كقطيع بدون راعٍ أضحينا. فهجمعت الحيوانات وأفسدتنا بعادات سيئة. *  من ضلك أيها الجاهل فمرتبتك ليست سلطاناً. عبداً أنت وخادم لإخوتك المحتاجين. * لماذا تطلب ليس لطلب العطايا أقمت. للتبشير بدون مقابل دعتك المحبة الإلهية. * الكنز العظيم الذي أؤتمنت عليه ليس لك. فلماذا تتباهى وكأنه لك. * وددتهم للمرتبة التي بين أيديهم. وأبغضهم للإثم الذي نشروه في الأرض.   


40
أزمة الكنيسة الكلدانية مالية هي أم روحية وإدارية!
       الشماس نوري إيشوع مندو

     تصريح المطران شليمون وردوني النائب البطريركي لوكالة " أسيا نيوز " حول الأزمة المالية التي تعاني منها رئاسة الكنيسة الكلدانية، أثارت الكثير من الألم والأسى  في نفوس أبناء الكنيسة الكلدانية في جميع أنحاء العالم. ودفعهم للتسأل عن حقيقة ما يجري في كنيستهم في هذا الظرف الصعب الذي يمر فيه العراق.
   فهل يصدق عاقل أن أكبر وأعرق رئاسة كنسية في العراق تعجز عن دفع رواتب كهنتها والذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين؟. وهل يقبل العقل والمنطق أن كنيسة عريقة مثل كنيسة المشرق الكلدانية عمرها ألفي سنة عاشت خلال ظروف مختلفة من مُر الحياة وحلوها وبقيت راسخة وثابتة على قوتها وحضورها وشهادتها. واليوم بمجرد أن محسناًَ مثل الأستاذ سركيس أغاجان الذي وقف بجانب الكنيسة بضعة سنوات داعماً، قطع دعمه المالي لأسباب مجهولة، تدق هذه الرئاسة ناقوس الخطر معلنة عن قرب إفلاس الكنيسةالكلدانية؟.
   فهل يعقل أن مصير كنيسة ما بمؤسساتها  وأبرشياتها المنتشرة في العالم يتعلق بشخص ما قد تكون له اجندته الخاصة؟  ثم  لماذا لم تستفد الكنيسة من هذا السخاء الحاتمي ( ملايين الدولارات) حتى تقوم بمشاريع استثمارية تؤمن لها واردات كما فعلت كنائس أخرى؟
   دعوات الخيرين ذهبت في مهب الريح لأن رئاسة كنيستنا لا تقبل النقد البناء. وأهم هذه الدعوات كانت من الأب الفاضل ألبير أبونا المحترم الذي وضع أصبعه على الجرح منبهاً. فأصدر في تموز 2008  كتيبه الشهير " كنيستي إلى أين ". شرح من خلاله وضع الكنيسة اليوم. فتحدث عن الهجرة والتهجير وموقف الكنيسة من ذلك. ثم تتطرق إلى تركيبة الكنيسة من بطريرك وأساقفة وكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة والعلمانيين متحدثاً عن واقعهم اليوم، وما يشوب مسيرتهم من صعوبات بسبب الابتعاد عن الهدف الأساسي وهو مجد الله وخلاص النفوس. ويختم كتيبه بالسؤال كنيستي إلى أين؟ فهي اليوم في منعطف خطير وأمام مستقبل غامض. وخلاصها لا يتم إلا بخطة مدروسة وجريئة ترسم لها حياتها ورسالتها بوضوح. إنها خطة الإنجيل ورسالة المحبة والخدمة. وهذه الخطة تقتضي منها الأمانة والأتزان والأستمرارية بدون انحراف.   
   وبعد هذا الكتيب أصدر الأب الفاضل ألبير أبونا المحترم أربع رسائل مهمة هي:
1_ " أتبعك يا نور الحق ". مبيناً فيها عن حاجة الكنيسة العميقة إلى العودة إلى الجذور والينابيع، وإلى أن تنظر إلى ذاتها بنظرة الله. ويختم رسالته بدعوة الجميع لتحمل مسؤولياتهم ليتحركوا وينقذوا الكنيسة قبل فوات الأوان.
 2_ " كنيستي تفتقر إلى رعاة ". وفيها يتحدث بحزن وأسى عن وضع الكنيسة اليوم وهي في حالة يرثى لها من الخمول والفوضى. فكلٌّ من الأساقفة والكهنة يتصرف بانفراد، والجماعية والشركة غائبة. أ لمال أصبح الصنم الأكبر ، ويسعون لجمعه بشتى الطرق فأصبحت كنائسنا لا روح ينعشها، بسبب إهمال مؤسف في الأمور الروحية. ويختم رسالته بدعوة الرعاة للتضحية بمصالحهم الخاصة، ويجندوا طاقاتهم وإمكاناتهم لرفع شأن الكنيسة، فلينظروا إلى ما يريده منهم المسيح ويتحركوا لتحقيقه بجرأة وفعالية.
3_ " وأنت يا كاهن المسيح ". وفيها يدعو الكهنة لإعادة النظر في حياتهم على ضوء الشؤون المستحدثة في العالم ومتطلبات الكنيسة وإنسان العصر. فلا يجوز أن يظل الكاهن منغلقاً على نفسه ويحيا في ماضٍ عتيق لا يتجاوب مع أماني إنسان اليوم، ولا يوفر له ما يشبع أشواقه الإنسانية والروحية والعلمية. ويصف رسالة الكاهن قائلاً: ليس الكهنوت وظيفة تقوم بها مدة ساعات محدودة، ثم تخلد إلى الراحة والبطالة. فحياتك كلها للمسيح، وكلها للآخرين بدون تحفظ. فعليك أن تنظر إليها مثل هبة مجانية تلقيتها من يسوع، وعليك أن تحياها وتبذلها بكل مجانية وسخاء.  وعليك أن تبرهن عن محبتك لرعيتك من خلال الابتعاد عن مخاطبتهم بكلمات نابية أو أقوال مهينة أو تصرفات عنجهية. أو بإهمالك ولا مبالاتك. ويختم رسالته محذراً الكاهن من أربع أصنام تعيق رسالته هي: 1_ المال. 2_ الجنس. 3_ الأنانية. 4_ الكسل.
4_ " كيف تبنى كنيستي ". وفيها يدق ناقوس الخطر بقوله: كنيستي اليوم على شفا الهاوية. فأين الرعاة؟ أما يكفيهم النوم؟ فقد باعوا حريتهم بمبلغ من المال أو بحياة الترف. أما الخراف فأقرأوا السلام عليها ولتفترسها الذئاب الخاطفة. المهم أن أصحاب السيادة مرتاحون للوضع القائم ! ويختم رسالته بالقول: أيجوز لكم أن تخلدوا إلى الصمت واللامبالاة إزاء ما يجري في كنيستكم وأمام عيونكم؟ ألم يبق فيكم سامري صالح يحاول إسعافها؟.
    بعد كل ما كتب الأب ألبير بشفافية ووضوح لم ترد رئاسة الكنيسة على ما طرحه، فهي لا تعترف بأن هناك أزمة. بل همس أحدهم بمجالسه الخاصة واصفاً الأب ألبير بأنه رجل أصيب بالخرف؟
   وحسب اعتقادي أن كنيستنا في ظل هذه الرئاسة لا تعاني من أزمة مالية فحسب، ولكن هناك أزمة روحية وإدارية وكنسية خانقة؟ والازمة المالية ما هي الا نتيجة!
   علينا أن لا نتكبر ونتهرب من واقعنا المرير. فمقال الأب الفاضل سعد سيروب المحترم وضع النقاط على الحروف من خلال تشخيصه حالة الكهنة في كنيستنا. وقد صنفهم بأربعة أنواع هي:
 1_ الكاهن المقاول والبنّاء الذي ينصرف وراء المجد الباطل متناسياً البشارة التي كرس نفسه من أجلها. فهو يقنع نفسه أنه يبني الكنيسة مادياً. متجاهلاً أن الكنيسة تبنى بروح المحبة وعيش كلمة الله. وهذا النوع من الكهنة يحصر المهام الزمنية للرعية بنفسه متجاهلاً دور العلمانيين الذين بنظره ليسوا بجديرين بتحمل هذه المسؤولية فهو وحده الشخص الأمين والحريص. أما الشعب فليسوا سوء عبيد يجب أن يقدموا له الطاعة وعليهم السكوت وعدم النقد وإلا صب عليهم جام غضبه.
2_ الكاهن الذي يبحث عن الراحة بعد سنوات قليلة من الخدمة. فأمام أصغر صعوبة يترك القطيع هارباً إلى مكان أخر ليعيش متنعماً بملذات الدنيا المغرية. متناسياً أن يسوع الراعي الصالح شدد على العمل للبحث عن الخروف الضال.
3_ الكاهن الذي يبحث عن المناصب العليا من أسقفية أو بطريركية متنازلاً عن قيمه الكهنوتية ليصبح بوقاً لذلك وذاك لتتحقق أهدافه ولو على حساب القيم والأخلاق الكهنوتية.
4_ الكاهن اللامبالي والنرجسي الذي لا يحب إلا نفسه. فهو يعيش أنانيته المقيتة منغلقاً على زمرة من الأصدقاء يجارونه نفس الطبع المنحرف. فهذا النوع يستعمل الكهنوت مطية لتحقيق غرائزه مبتعداً بذلك عن رسالة الكهنوت الحقيقية التي تدعوه للعمل على خلاص النفوس.
    وأنا بدوري أزيد على تصنيف الأب سعد تصنيف مهم وهو الكاهن الملتزم بدعوته الكهنوتية من خلال عمله الدؤب والشفاف. وهذا الكاهن يشبه المسيح في رسالته المثمرة والذي ينبذ العالم وملذاته واضع يده على المحراث لا يلتفت يمنى ولا يسرى بل يسير بخطة ثابتة نحو الهدف السامي وهو مجد الله وخلاص النفوس. وما أكثر هؤلاء الكهنة القديسين، وكما نحن بحاجة ماسة لهم في عالمنا اليوم.
    و يبدو من خلال ما طرحه الأب سعد أن الكنيسة الكلدانية تفتقر إلى التنشئة الكهنوتية من روحية وعلمية وراعوية. ولهذا نجد بعض الكهنة يغرقون في الفوضى والارتباك بسبب مشاكل روحية ومعضلات مادية، فتجرفهم وتبعدهم عن أهدافهم السامية.
   منذ فترة كتب الكثير من مؤمني الكنيسة عن خطورت ما يجري، أذكر منهم الدكتور ليون برخو ومسعود النوفلي وأنطوان صنا وعبد الأحد سليمان وأمير فراس ويوحنا بيداويد وسمير شبلا وغيرهم. وفيها يرفعون الصوت عالياً لإنقاذ الكنيسة. وقد طرحوا العديد من الحلول الرزينة للخروج من هذا المأزق. لكن دعواتهم لم تجد آذاناً صاغية. لقناعة رئاستنا بأن العلماني لا يحق له التدخل في هذا الموضوع. ويبدو أن البعض منهم قد تلقى من بعض النفوس الضعيفة مكالمات هاتفية تهددهم!  الكنيسة ليست شركة خاصة يحق لمديرها أن يتصرف حسب مزاجه؟  لكن الكنيسة هي مؤسسة إلهية يتطلب من القيمين عليها التصرف بنزاهة وشفافية حسب القوانين والأنظمة المرعية.   
   من المعيب أن ينشر خبر الأزمة المالية في العديد من المواقع أللإلكترونية ليسمع القاصي والداني مأساة هذه الكنيسة الجريحة والمتألمة؟.وهنا لا بد لهذه الرئاسة الكريمة أن تعترف بفشلها في إدارة الكنيسة، وتقدم استقالتها لتفسح بالمجال أمام الخيرين من آباء الكنيسة ليقودوها إلى ميناء السلام. وعليها أن تعتذر عن تقصيرها لأنها سدت الأبواب أمام الأصوات التي كانت تنادي بإصلاح الخلل قبل فوات الأوان. ولكن لا حياة لمن تنادي؟.   
   وأختم بقليل مما قاله الملفان نرساي في ميمر معاتبة الكهنة: * أرغمني الزمن الشرير لفضح شروره. والحديث عن فوضويته وغياب العدالة فيه. * حسد أعمى حجب المعرفة عن عيونهم. ولم يتبينوا من الذي يستقبل ضررهم. * محبة المال شدتهم إلى الأرضيات. ولم يشتهوا امتلاك الحياة الأبدية المحضرة لهم. * الطمع ولج ونخر بضمائرهم. يجمعون من الجميع ولا تشبع شهوتهم. *  الغطرسة السادجة أغوتهم من المعرفة. ولم يتفرسوا ويعلموا أين تكمن الفائدة. * محبة التكبر صادتهم بشراك المجد. وكالفراشة سقطوا من علو تدبيرهم. * بمحبة الأرضيات زال الاهتمام بالروحانيات. واستبدلوا غنى الأسرار بالجهل والحماقة. * بطبيعة مغايرة قاد الرعاة كياننا. وبدون حماية افسدوا حياتنا لضلالهم. * كقطيع بدون راعٍ أضحينا. فهجمعت الحيوانات وأفسدتنا بعادات سيئة. *  من ضلك أيها الجاهل فمرتبتك ليست سلطاناً. عبداً أنت وخادم لإخوتك المحتاجين. * لماذا تطلب ليس لطلب العطايا أقمت. للتبشير بدون مقابل دعتك المحبة الإلهية. * الكنز العظيم الذي أؤتمنت عليه ليس لك. فلماذا تتباهى وكأنه لك. * وددتهم للمرتبة التي بين أيديهم. وأبغضهم للإثم الذي نشروه في الأرض.   


41
تذكار مار إقليمس ومار ايرينأوس
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                  + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .

   1_ القديس إقليمس: هو البابا الرابع في سلسلة الباباوات. استمرت حبريته من سنة 88 وحتى سنة 97. كانت حبريته مفصلاً حاسماً في تطور الكنيسة وانتشار المسيحية. ففي رسالة له تعود إلى السنة 96 وجهها إلى جماعة المؤمنين في كورنتس يحاول أن يهدىء الذين كانوا يهددون بتدمير نظام الجماعة، فيظهر في موقفه هذا رئيساً حقيقياً للكنيسة. وبهذه الصفة يتوجه بخطابه إلى هؤلاء المؤمنين. ومما يؤكده في رسالته أن النظام هو ناموس الكون، وهو مبدأ المجتمع المسيحي. وعلى المؤمنين أن يطيعوا الأوامر كما يطيعها عساكر الجيش الروماني. والوفاق والطاعة هما المبدآن اللذان يجب أن يوجها حياة المؤمنين قي كورنتس. كان أثر تلك الرسالة بالغاً وثابتاً.
   فبعد سبعين سنة من تلقي مؤمني كورنتس إياها، كانوا يستمعون إليها كل أحد في جو من التقوى التي امتازت بها الجماعات الأولى. ورسالته هذه ذات أهمية لأنها ترسي مبدأ تنظيم الكنيسة التراتبي، وهو المبدأ الذي أكده القديس إغناطيوس أسقف أنطاكية ،  وخلفه إفوديوس في رسائله. وتعود هذه الرسائل إلى أوائل القرن الثاني، وتتحدث بوضوح عن الأسقفية وعن سيامة الكهنة كنظام عادي قائم. والقديس إغناطيوس الأنطاكي يعتبر أول من وصف الكنيسة بأنها كاثوليكية  أي جامعة.
   ولعل القديس إقليمس حضر استشهاد القديسين بطرس وبولس، وأيضاً القديس يوحنا الرسول الذي لقي عذابات الاستشهاد في أيام حبريته. ويؤكد طرطليانس  أن القديس يوحنا تحمل عذاب الزيت المغلي، لكنه نجا منه بأعجوبة، ثم نفي إلى جزيرة بطمس حيث كتب إنجيله. 

   2_ القديس ايرينأوس: ولد بين سنتي 135_ 140 في مدينة سمرنا في أسية الصغرى وهي مدينة أزمير الحالية في تركيا. وفي تلك المدينة كان يستمع إلى القديس بوليكربس  الشيخ تلميذ القديس يوحنا. سنة 177 كان كاهناً في كنيسة ليون، ولما توفي أسقفها بوتينس في السجن خلفه ايرينأوس في أسقفية ليون. وفي ظل ولايته الأسقفية تكاثرت المسيحية.
   كان ايرينأوس آسيوياً بمولده وتربيته الأولى، وغربياً بنشاطه الذي مارسه. فجسد تلاقي محيطين ونزعتين. وهو أثبت ما لكنيسة روما من سلطة خاصة، وما للخلافة الرسولية من شأن.
   وقد رد على الغنوصيين  قائلاً: " تدعون أن يسوع سلم تعليمه إلى بعض الرسل. فهل يعقل أنه لم يسلمه إلى بطرس وبه إلى المسؤولين عن الكنائس الكبرى ". وكان له نظرة شديدة التفاؤل إلى الإنسان، وتصور مشرق للمسيحية. وأرسى بما وصفه في علم لاهوت الوحدة وتاريخ الخلاص أسس علم لاهوت الرأي القويم، ونجح في زمنه في دحض البدع التي كانت تهدد نقل الكرازة الرسولية نقلاً صحيحاً.
   ولإيريناوس آراء غنية جداً عن التربية الإلهية. وكان يقول بأن الإنسان خلق في البدء في حالة الطفولة، وأن الله تكيف تربوياً مع هذه الحالة. واستخلص من ذلك أنه على الإنسان أن ينمو وعلى الروح أن يتعود العيش بين البشر. وهذه النظرة هي نظرة عصرية إلى أقصى حد وأكثر انسجاماً بكثير مع اكتشافات التطور، من النظرة الجامدة التي عرفتها الفلسفة المدرسية في القرون الوسطى، والتي كانت تجهل كل من يختص بزمن ما قبل التاريخ. فكانت تتصور أن آدم عاش في الفردوس في حالة من النضوج الكامل.
   لا نعرف الكثير عن موته، وربما راح ضحية مذبحة عامة حدثت في حكم سبتيمس ساويرس حوالي سنة 202، والكنيسة تكرمه على أنه شهيد. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار إقليمس ومار أيرينأوس في الجمعة الثانية من سابوع الرسل.

42
المنبر السياسي / عيد الجسد
« في: 14:14 02/06/2010  »
عيد الجسد
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: ملاخي 1 / 6 _ 11 الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده فإن . . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 10 / 15 _ 17 أكلمكم كما أكلم قوماً عقلاء . . .
                  + 1 قورنتس 11 / 23 _ 30 فإني تسلمت من الرب ما . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 6 / 51 _ 63 أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء . . .

 عيد الجسد: وضعت الكنيسة المقدسة عيد الجسد في القرن الثالث عشر، على عهد الحبر الأعظم البابا أوربانس الرابع ، قمعاً لاستفحال الهرطقات في أيامه، وعلى الأخص رداً على تعاليم بدعة الالبيجوا النفاقية. وقد اعتمدت في تنظيم خدمة هذا العيد على الصلوات والترانيم التي وضعها القديس توما الأكويني.
  ومعنى هذا العيد هو إكرام المسيح احتفالياً في سر قربانه الأقدس. إن الكنيسة تكرم جسد الرب ودمه كل يوم في ذبيحة القداس. لكن هذا الإكرام اليومي لم يكن ليفي باحتياج المؤمنين إلى مظاهر دينية كبرى. فرسمت الكنيسة هذا العيد سنة 1264، وأخذت تنظم الحفلات إكراماً لجسد الرب، وتتفنن في ترتيبها، حتى أضحت في أيامنا الحاضرة من الاحتفالات الباهرة التي تشترك فيها وفود الشعوب في كل أقطار الدنيا. فالمؤتمرات القربانية التي تنظمها الكنيسة كل سنتين في عاصمة من عواصم البلاد شرقاً وغرباً، هي من المظاهر الدينية العظيمة التي هي أقرب إلى أعياد السماء منها إلى أعياد الأرض. هذا ما عدا الزياحات بالجسد الإلهي التي تجري كل سنة في هذا العيد كل مدينة، وفي كل قرية من مدن وقرى المعمور كله. والكنيسة المقدسة تريد منا في هذا العيد، أن نحيي فينا عواطف الإيمان بابن الله المتأنس، الذي لم يكتفِ بأنه أخذ صورة عبدٍ وظهر بالجسد نظيرنا، ولم يكتفِ بأنه تألم وصلب لأجلنا، بل أراد أن يبقى معنا، ويسكن فيما بيننا تحت أشكال الخبز والخمر، معيداً بذلك كل وقتٍ وكل ساعة ذبيحة الصليب الإلهية الخلاصية. وغاية الكنيسة أيضاً كم قال البابا أوربانس الرابع في منشوره سنة 1264، هي أن نضرم في قلوبنا الشوق إلى تناول جسد الرب بحرارة وتواتر. 
   وهنا نذكر بعض ما ترتله كنيسة المشرق في هذا العيد: " * اتكالاً اتكلت على الرب: جسد المسيح ودمه الكريم. على المذبح المقدس. فلنقترب إليه بالخوف والمحبة. ومع الملائكة نهتف له. قدوس قدوس قدوس الله. * المجد: المسيح الذي صالح بدمه السماء والعمق. أصلح يا رب الكهنة والملوك. وثبت الكنيسة بحنانك. ورأي واحد للإيمان. يملك على المعمورة. بنعمتك أيها الرب   الرحوم. ". 
   وأخرى: " يأكل المساكين ويشبعون: هوذا المائدة موضوعة في قدس الأقداس. والكهنة الأجلاء يزيحون محلقين كالملائكة. وينادي الكاهن الروح لينزل ويحل على الخبز. ويمتزج بالكأس ويصير دواء الحياة. يقترب ويتناول المائتون. المغفرة قد قتلت الخطيئة. وينادونه قدوس قدوس قدوس محيينا. ".     
   وخلال القداس ترتل هذه الترتيلة من تأليف مار أفرام النصيبيني: " * لنا رجاء وثقة. بيسوع المسيح محيينا. ليفض علينا رحمةً وحناناً. من كنزه المملوء شفقةً. * كل من يأكل من جسده. ويشرب من كأس دمه. وكل إنسان يؤمن به. له الحياة بذاته. * كل من يؤمن بهذا الجسد. ويشرب من هذا الخمر. بهما يرى ذاك النور. في الملكوت الذي لا يزول. ". 
   وتحتفل الكنيسة بعيد الجسد في يوم الخميس الثاني من سابوع الرسل.


43
المنبر السياسي / عيد الجسد
« في: 14:13 02/06/2010  »
عيد الجسد
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: ملاخي 1 / 6 _ 11 الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده فإن . . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 10 / 15 _ 17 أكلمكم كما أكلم قوماً عقلاء . . .
                  + 1 قورنتس 11 / 23 _ 30 فإني تسلمت من الرب ما . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 6 / 51 _ 63 أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء . . .

 عيد الجسد: وضعت الكنيسة المقدسة عيد الجسد في القرن الثالث عشر، على عهد الحبر الأعظم البابا أوربانس الرابع ، قمعاً لاستفحال الهرطقات في أيامه، وعلى الأخص رداً على تعاليم بدعة الالبيجوا النفاقية. وقد اعتمدت في تنظيم خدمة هذا العيد على الصلوات والترانيم التي وضعها القديس توما الأكويني.
  ومعنى هذا العيد هو إكرام المسيح احتفالياً في سر قربانه الأقدس. إن الكنيسة تكرم جسد الرب ودمه كل يوم في ذبيحة القداس. لكن هذا الإكرام اليومي لم يكن ليفي باحتياج المؤمنين إلى مظاهر دينية كبرى. فرسمت الكنيسة هذا العيد سنة 1264، وأخذت تنظم الحفلات إكراماً لجسد الرب، وتتفنن في ترتيبها، حتى أضحت في أيامنا الحاضرة من الاحتفالات الباهرة التي تشترك فيها وفود الشعوب في كل أقطار الدنيا. فالمؤتمرات القربانية التي تنظمها الكنيسة كل سنتين في عاصمة من عواصم البلاد شرقاً وغرباً، هي من المظاهر الدينية العظيمة التي هي أقرب إلى أعياد السماء منها إلى أعياد الأرض. هذا ما عدا الزياحات بالجسد الإلهي التي تجري كل سنة في هذا العيد كل مدينة، وفي كل قرية من مدن وقرى المعمور كله. والكنيسة المقدسة تريد منا في هذا العيد، أن نحيي فينا عواطف الإيمان بابن الله المتأنس، الذي لم يكتفِ بأنه أخذ صورة عبدٍ وظهر بالجسد نظيرنا، ولم يكتفِ بأنه تألم وصلب لأجلنا، بل أراد أن يبقى معنا، ويسكن فيما بيننا تحت أشكال الخبز والخمر، معيداً بذلك كل وقتٍ وكل ساعة ذبيحة الصليب الإلهية الخلاصية. وغاية الكنيسة أيضاً كم قال البابا أوربانس الرابع في منشوره سنة 1264، هي أن نضرم في قلوبنا الشوق إلى تناول جسد الرب بحرارة وتواتر. 
   وهنا نذكر بعض ما ترتله كنيسة المشرق في هذا العيد: " * اتكالاً اتكلت على الرب: جسد المسيح ودمه الكريم. على المذبح المقدس. فلنقترب إليه بالخوف والمحبة. ومع الملائكة نهتف له. قدوس قدوس قدوس الله. * المجد: المسيح الذي صالح بدمه السماء والعمق. أصلح يا رب الكهنة والملوك. وثبت الكنيسة بحنانك. ورأي واحد للإيمان. يملك على المعمورة. بنعمتك أيها الرب   الرحوم. ". 
   وأخرى: " يأكل المساكين ويشبعون: هوذا المائدة موضوعة في قدس الأقداس. والكهنة الأجلاء يزيحون محلقين كالملائكة. وينادي الكاهن الروح لينزل ويحل على الخبز. ويمتزج بالكأس ويصير دواء الحياة. يقترب ويتناول المائتون. المغفرة قد قتلت الخطيئة. وينادونه قدوس قدوس قدوس محيينا. ".     
   وخلال القداس ترتل هذه الترتيلة من تأليف مار أفرام النصيبيني: " * لنا رجاء وثقة. بيسوع المسيح محيينا. ليفض علينا رحمةً وحناناً. من كنزه المملوء شفقةً. * كل من يأكل من جسده. ويشرب من كأس دمه. وكل إنسان يؤمن به. له الحياة بذاته. * كل من يؤمن بهذا الجسد. ويشرب من هذا الخمر. بهما يرى ذاك النور. في الملكوت الذي لا يزول. ". 
   وتحتفل الكنيسة بعيد الجسد في يوم الخميس الثاني من سابوع الرسل.


44
المنبر السياسي / جمعة الذهب
« في: 11:15 31/05/2010  »
جمعة الذهب
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 3 / 1 _ 26 وكان بطرس ويوحنا صاعدين إلى . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 12 / 28 _ 31 والذين أقامهم الله في الكنيسة . . .
                      + 1 قورنتس 13 / 1 _ 13 لو تكلمت بلغات الناس والملائكة .
القراءة الثالثة: لوقا 7 / 1 _ 23 ولما أتم جميع كلامه بمسمع من الشعب . . .

   جمعة الذهب: دعيت جمعة الذهب لأنها تحيي ذكرى المعجزة الأولى التي صنعها الرسولان بطرس ويوحنا حينما شفيا المقعد على عتبة باب هيكل أورشليم، وذلك إشارة إلى قول القديس بطرس للمقعد " ليس لي فضة ولا ذهب ولكني أعطيك ما عندي. باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشي، وأمسكه بيده اليمنى وأنهضه " أعمال الرسل ( 3 : 6_7 ). وصعد بطرس ويوحنا معاً إلى الهيكل في ساعة الصلاة التاسعة، وكان رجل أعرج من بطن أمه يحمل كانوا يضعونه كل يوم عند باب الهيكل الذي يقال له الجميل، ليسال صدقة من الذين يدخلون الهيكل، فهذا لما رأى بطرس ويوحنا مزمعين أن يدخلا الهيكل سال ليأخذ صدقة.
   فتفرس فيه بطرس مع يوحنا وقال انظر إلينا، فلاحظاهما منتظراً أن يأخذ منهما شيئا، فقال بطرس ليس لي فضة ولا ذهب ولكن الذي لي فإياه أعطيك باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش، وامسكه بيده اليمنى وأقامه ففي الحال تشددت رجلاه و كعباه، فوثب ووقف وصار يمشي ودخل معهما إلى الهيكل وهو يمشي ويطفق يسبح الله، وأبصره جميع الشعب وهو يمشي ويسبح الله.
  سميت بجمعة الذهب لأن فيها نتذكر أول أعجوبة قام بها التلاميذ، أعجوبة شفاء مقعد على يد بطرس ( أعمال 3: 1 ) .فالتلاميذ أداروا الحياة بعد صعود المسيح، وتقدموا في كسر الخبز واجتماعات الصلاة وجرت على أيديهم آيات كثيرة وضعتهم في الصف الأول. تتمثل مهمة الاثني عشر تلميذاً في الاشتراك بالعمل المسيحاني منذ أن كان يسوع معهم، إذ أرسلهم لإعلان البشرى السارة، ولم يميز بين رسالته الخاصة ورسالتهم، فالمهمة التي انتدبهم لها المسيح هي نفسها التي تسلمها المسيح من أبيه.
   فأنطلق الرسل إلى أربع جهات العالم يكرزون بالبشرى الجديدة، بشارة المسيح. لنحاول اقتفاء آثار هؤلاء الرجال ونطالع بتمعن الإنجيل ( يو 17: 2 – 21). إن تاريخ كنيستنا يتبع التلاميذ خطوة فخطوة وينظر كيف شهدوا للمسيح، ونراهم باحثين عن الرؤيا الصحيحة في ما هو المسيح داخل محيط المؤمنين. فهم بحق خير شهود للمسيح.
   وتصلي كنيسة المشرق في فرض ليل جمعة الذهب هذه الترتيلة: " أعجوبة غريبة فعل. الرسل في هيكل أورشليم. لمخلع من بطن أمه. باسم يسوع أمشي. دهش جموع الصالبين. الذين شاهدوا المعجزة. كيف مشى المخلع. ".   
  وترتيلة أخرى: " صعد شمعون ويوحنان. إلى الهيكل ليصليا. ووجدا هناك مخلع. طلب منهما صدقة. وهما أعطياه الشفاء. باسم يسوع المصلوب. المجد لك يا ربنا. المجد لك يا ابن الله. لا يخزى المتكلين عليك. ".   
   وترتيلة أخرى: " صعد التلميذان شمعون كيبا ويوحنان. إلى هيكل الرب ليصليا. ووجدا عند الباب مخلعاً. يصرخ ويطلب صدقة كعادته. وأعطوه الشفاء باسم يسوع الناصري. فسبح واعترف للمسيح. ".
   وفي قداس جمعة الذهب تصلي الكنيسة ترتيلة الدخول هذه: " في يوم الجمعة صعد شمعون ويوحنا. ليصليا في الهيكل المقدس كما كتب. ووجدا المخلع عند الباب. وقالا له ذهب وفضة لا نملك. باسم يسوع قم وأمشي. وأعترف للذي شفاك. ". 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار جمعة الذهب في الجمعة الأولى من سابوع الرسل.


45
عيد الثالوث الأقدس
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 4 / 5 _ 22 فلما كان الغد اجتمع في أورشليم . . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 5 / 6 _ 13 لا يحسن بكم أن تفتخروا! أما تعلمون .
                      + قورنتس 6 / 1 _ 11 أيجرؤا أحدكم إذا كان له شيء . . . 
القراءة الثانية: لوقا 7 / 30 _ 50 فبمن أشبه أهل هذا الجيل؟ ومن يشبهون؟ .

   الثالوث الأقدس: تدل كلمة ثالوث على تسمية الله بكونه في ثلاثة أقانيم متساوية في الجوهر، في طبيعة واحدة لا تتجزأ. لم يوحِ العهد القديم بثالوث الأقانيم في الله، لكنه مهد لهذا الوحي بطرق مختلفة. فالوحي التام الذي تم في يسوع المسيح مكَّن من إدراك ما تعنيه تماماً تلك التمهيدات.
   والعهد الجديد لا يحتوي على ألفاظ ثالوثية. وليس هناك نصوص تأتي بعقيدة يعبر عنها بألفاظ مجردة، بل إن الله كشف عن حياته الخاصة بتدبيره الخلاصي، حيث يدنو البشر من الآب والابن والروح القدس يكشفون عما يميز بينهم في عمل المسيح الخلاصي، الذي يظهر صلاتهم الأزلية. 
   فالإيمان المسيحي يقر بإله واحد، وفي الوقت عينه يعترف بأن في الله أقانيم ثلاثة متميزة عن بعضها هي: الآب والابن والروح القدس. وهذا سر يفوق لا فقط إدراك البشر فقط، بل إدراك السائلين الباحثين عنه أيضاً، لأن فيه سراً إلهياً لا يسبر غوره إلا روح الله وحده. ولم يعطَ للإنسان أن يفهم الله كما هو في جوهره. وعليه فوجود السر في الدين أمر ضروري، وإلا لوقف العقل البشري مدعياً بإلوهيته، وصدق في مدعاه. وقد أجهد الفكر آباء الكنيسة وملافنتها، في عمق هذا السر الذي لا يمكن نقض وجوده، وافتكروا ليس في حله بل في إعطاء شرح يستريح به العقل البشري، فميزوا الأقانيم الثلاثة في الله باستنادهم إلى ما جاء في الإنجيل. ويذكر إنجيل يوحنا عن أن الأب والابن واحد، "  أنا والآب واحد "  ( يوحنا 10: 30 ). " ما هو لي هو لك، وما هو لك فهو لي " ( يوحنا 17: 10 ). " من رآني رأى الآب " ( يوحنا 14: 9 ). "  لا يستطيع الابن أن يفعل شيئاً من عنده، بل لا يفعل إلا ما يرى الآب بفعله. فما فعله الآب يفعله الابن على مثاله، لأن الآب يحب الابن، ويريه جميع ما يفعل، وسيريه أعمالاً أعظم فتعجبون " ( يوحنا 5: 19 _ 20 ). من خلال هذه الآيات نرى أن الآب قد سلم كل شيء بل وكل ما هو له بيد ابنه يسوع المسيح. ولهذا فالابن يسوع الآخذ كل شيء بيده، والضابط الكل تحت حوزته يأخذه ويضبطه بما أنه من الآب. وبقدر ما نتأمل في حياة المسيح يسوع نشعر أنها حياة متجهة نحو آخر. فإن الحياة والنعمة والنور قد أتته من الآب. وإن كان الابن لا يعمل شيئاً ولا يقول شيئاً إلا بالآب، فما ذلك إلا لأن الكل بين الآب والابن مشترك: العمل، الحياة، الوجود. كلها تدل على أن الابن يجب أن يكون في الآب، والآب في الابن. ولهذا فالملافنة اللاهوتيون وكل التقليد المسيحي قد قال: لا يمكن أن يفهم الآب إلا بالابن، ولا الابن إلا بالآب.
   كما نؤمن ونعلم أن الروح القدس ما هو إلا المحبة. والحال إن الحب فينا يوحد الكلمة مع العقل. فكما أن العقل الذي هو قوة جوهرية في الطبيعة مثلاً في الملاك وفي النفس الناطقة، إذا عقل موضوعاً ما، فهو يرسم في ذاك الموضوع صورته صالحاً أو طالحاً. وحينئذ تبرز الإرادة مفعولها نحو الموضوع نفسه إما بحبها إياه لصلاحه، وإما بكرهها إياه لطلاحه. فكذلك على سبيل المقايسة نقول: إن الله روح أي جوهر محض، وله ضرورة فعل التعقل والإدراك دائماً، فهو منذ الأزل يدرك ذاته. وحد هذا التعقل والإدراك هو صورة حية صادرة عن الذات بمعزل عن القوة العاقلة. ثم أنه يحب هذه الصورة سرمداً بقوة إرادته الحية الفاعلة، وحد هذا الحب ينتهي بطلعة أخرى غير القوة التي تحب بالإرادة، لأن المحبوب هو غير المحب. كما أن المعقول هو غير العاقل. فكما أن النار وضياءها والإحراق الصادر عنها هي ثلاثة أشياء. كذلك الله في أقانيمه الثلاثة. إن الأقانيم الثلاثة في الله دعيت الآب والابن والروح القدس ليس بالمعنى الذي تفهمه البشرية. فإن الابن صادر من الآب حياً من حي مع وحدة الذات. فكما أن فحوى كلمة وليدة العقل لا تزال بنت العقل وإن لفظها الفم، كذلك الابن دعي: حكمة وصورة وكلمة لصدوره عن فعل الإدراك والتعقل الإلهي الذي هو الحكمة بالذات. وكذا نقول عن الأقنوم الثالث. لأنه بصدوره عن الأب والابن بمبدأ واحد، أي فعل الإرادة وتبادل حب الذات الإلهية، لا يستلزم أبداً كفعل التعقل صدور شبهه. لأن الإرادة لا تبتغي شبهها في المحبوب منها، بل تميل إليه بانعطاف، فيأخذها روح هيجان وفيضان نفس، ولكن لائقين بالله. ولم نجد كلمة تصف هذا الانعطاف أحسن من كلمة الروح القدس.   
   ويمكن أن نلخص عقيدة الثالوث الأقدس في نقاط ست هي: 1_ الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص واحد. 2_ هؤلاء الثلاثة يصفهم الكتاب بطريقة تجعلهم شخصيات متميزة الواحدة عن الأخرى. 3_ هذا التثليث في طبيعة الله ليس موقتاً أو ظاهرياً بل أبدي وحقيقي. 4_ هذا التثليث لا يعني ثلاثة آلهة بل أن هذه الشخصيات الثلاث جوهر واحد. 5_ الشخصيات الثلاث الآب والابن والروح القدس متساوون. 6_ ولا يوجد تناقض في هذه العقيدة، بل بالأحرى إنها تقدم لنا المفتاح لفهم باقي الديانة المسيحية. ولقد كان يقين الكنيسة وإيمانها بلاهوت المسيح هو الدافع الحتمي لها، لتصوغ حقيقة التثليث في قالب يجعلها المحور الذي تدور حوله كل معرفة المسيحيين بالله في تلك البيئة اليهودية أو الوثنية وتقوم عليه. وأخيراً نشير إلى أن عقيدة التثليث عقيدة سامية ترتفع فوق الإدراك البشري ولا يدركها العقل مجرداً، لأنها ليست وليدة التفكير البشري، بل هي إعلان سماوي يقدمه الوحي المقدس، ويدعمه الاختبار المسيحي.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بعيد الثالوث الأقدس في الأحد الثاني من سابوع الرسل.     

46
المنبر السياسي / عيدالعنصرة
« في: 08:12 19/05/2010  »
عيد العنصرة " البنطقسطي " 
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 2 / 1 _ 21 ولما أتى اليوم الخمسون كانوا . . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 12 / 1 _ 27 أما المواهب الروحية أيها الأخوة . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 14 / 15 _ 16 إذا كنتم تحبوني حفظتم وصاياي وأنا . .
                      + يوحنا 14 / 25 _ 26 قلت لكم هذه الأشياء وأنا مقيم . . . .
                      + يوحنا 15 / 26 _ 27 ومتى جاء المؤيد الذي أرسله إليكم . . 
                  + يوحنا 16 / 1 _ 15 قلت لكم هذه الأشياء لئلا تعثروا . . .

   عيد العنصرة: هو ثاني الأعياد اليهودية الكبرى، بعد عيد الفصح بخمسين يوماً. كانت في أصلها عيد الحصاد، وانتهت إلى ذكرى تسليم الرب لموسى لوحي الشريعة في سيناء في أثناء الخروج من مصر. أما في المسيحية فالاحتفال بالأيام الخمسين التالية للفصح، ولا سيما بأحد العنصرة الذي يختم هذه الخمسينية الفصحية بالاحتفال بسر نزول الروح القدس على التلاميذ وعلى الكنيسة. هذا العيد هو أول عيد احتفل به بعد عيد الفصح. 
   في العهد القديم كانت العنصرة مع الفصح والمظال،  أحد الأعياد الثلاثة التي ينبغي أن يتقدم فيها شعب إسرائيل أمام الله في الموضع الذي يختاره، ليحل اسمه. فكان في البدء عيد الحصاد يوم الفرح والشكر، وفيه يقدم الشعب بواكير غلات الأرض. حيث أطلق على العيد اسم عيد الأسابيع، وتحدد هذه التسمية ميعاده، بعد سبعة أسابيع من الفصح وتقديم الحزمة الأولى. ثم أصبح العيد ذكرى سنوية، فقد تم العهد بعد حوالي خمسين يوماً من الخروج من مصر الذي يحتفل به في الفصح. فأصبحت العنصرة بطبيعة الحال الذكرى السنوية للعهد، وذلك بلا شك ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد، وقد شاع هذا التفسير في بداية عهدنا المسيحي، طبقاً للنصوص الربانية، ومخطوطات قمران.
   وفي المسيحية أخذت هبة الروح مكانها، مع ما يصحبها من ريح ونار، مواصلة التجليات الإلهية في العهد القديم. وتبرز معجزة مزدوجة معنى هذا الحادث: فأولاً يتكلم الرسل مخبرين بآيات الله، وهم يتكلمون بلغة هي صورة من صور الموهبة الروحية التي نجدها لدى الجماعات المسيحية الأولى.
   وثانياً وإن كان الكلام بالألسن غير مفهوم بذاته، إلا أن جميع الحاضرين فهموه. وهذه المعجزة الثانية القائمة في الاستماع، علامة من علامات دعوة الكنيسة الجامعة، حيث يأتي إليها المستمعون من مختلف العالم. وعن علاقة إفاضة الروح بالأيام الأخيرة، يذكر بطرس يوئيل النبي ، ويوضح أن العنصرة تحقق مواعد الله. ففي الأيام الأخيرة سوف يعطى الروح للجميع. وسبق يوحنا المعمدان وتنبأ بحضور ذلك الذي كان مزمعاً أن يعمد بالروح القدس. وقد ثبت يسوع بعد قيامته هذه المواعد: تعمدون بالروح القدس بعد أيام قليلة. وتعلم الكنيسة الأولى أن المسيح الذي مات وقام وتمجد عن يمين الآب، يتمم عمله بإفاضة الروح على جماعة الرسل، وتشكل العنصرة اكتمال الفصح. وسبق الأنبياء وبشروا بعودة المشتتين إلى جبل صهيون، وبتجمع بني إسرائيل حول يهوه. تحقق العنصرة في أورشليم الوحدة الروحية بين اليهود والمهتدين من كافة الشعوب. فهم بإتباعهم تعليم الرسل، يشتركون في المحبة الأخوية على مائدة الأفخارستيا. ويمنح الله الروح من أجل شهادة يجب أن نحملها حتى أقاصي الأرض. وتدل معجزة الاستماع على انتشار الجماعة المسيحية لتشمل كافة الشعوب. وهذا ما توضحه العنصرة الخاصة بالوثنيين، وإعادة الوحدة التي تفتت بسبب برج بابل. إن العنصرة التي تلم شمل الجماعة المسيحانية تشكل أيضاً نقطة الإنطلاق لرسالتها.
   ويعبر خطاب بطرس الذي ألقاه وهو واقفاً مع الأحد عشر، أول عمل الرسالة التي كلفه يسوع بها:         " وسينزل عليكم الروح القدس، فتتلقون منه قدرة، وتكونون لي شهوداً في أورشليم واليهودية كلها والسامرة، حتى أقاصي الأرض ".  ( أعمال 1:  8 ). وقد قارن الآباء بين هذه المعمودية في الروح القدس، وهي بمثابة تولية رسمية للكنيسة من أجل الرسالة، وبين عماد يسوع، والظهور الإلهي الذي صاحبه في بدء حياته العلنية. وهم يرون في العنصرة منح الشريعة الجديدة للكنيسة، والخلق الجديد. وإن كان المظهر الخارجي للتجلي الإلهي أمراً عابراً، إلا أن الهبة الحاصلة للكنيسة هي دائمة. فالعنصرة تفتح زمن الكنيسة. فهي في مسيرتها نحو لقاء الرب، تتلقى منه باستمرار الروح الذي يجمعها في الإيمان والمحبة، ويقدسها ويوفدها للرسالة. ويكشف لنا كتاب أعمال الرسل بقاء هذه الهبة، وهي الموهبة العظمى، ويتضح ذلك بالمكانة التي يحتلها الروح سواء في إدارة الكنيسة ونشاطها الرسولي، أو بتجلياته الخارجية. وتميز هبة الروح الأزمنة الأخيرة، وهي الفترة التي تبدأ بصعود الرب، وتنتهي بمجيئه الثاني في اليوم الأخير. 
   ويمثل عيد العنصرة في طقس كنيسة المشرق، خاتمة الزمن الفصحي المتسم بطابع أفراح القيامة، وبداية لفترة جديدة لها طابع توبوي. كما يمثل عيد العنصرة بداية زمن الكنيسة، وبدء رسالتها التبشيرية في العالم، والقاسم المشترك الذي يربط هذه العناصر كلها هو حلول الروح القدس على التلاميذ. ويعتبر أحد العنصرة الأحد الأول من زمن الرسل الذي يدوم سبعة أسابيع. إنه بداية زمن الكنيسة التي ولدت بفعل الروح القدس. حالما حل الروح القدس على التلاميذ، إنقلب هؤلاء من تلاميذ لمعلم مصلوب، إلى رسل الرب القائم من بين الأموات، مبشرين بإنجيل الفرح وبرجاء الخلاص لجميع الأمم. وهذا ما حدث في يوم حلول الروح القدس ( البارقليط )  على التلاميذ، إذ انضم إلى الكنيسة الناشئة، بعد خطبة القديس بطرس الأولى ثلاثة آلاف شخص. وكان من بين هؤلاء حجاج أتوا من بلاد بين النهرين. فلا بد أن هؤلاء المهتدين الجدد عادوا إلى أهلهم وبلادهم حيث نشروا إيمانهم المسيحي. وتؤكد الصلوات التي نرتلها يوم عيد العنصرة أن الكنيسة إنطلقت إلى العالم بعد حلول الروح القدس. 
   وفي رمش العنصرة تصلي كنيسة المشرق هذه الترتيلة: " أرسل الله نعمته وحقه: إن الروح القدس الذي أرسل من العلى، نور وهذب وكمل الرسل، الذين أصبحوا كلهم يزرعون الأمن في الخليقة. وكشفوا حجاب الظلام عن كل الخليقة، وأعلنوا تجديداً سماوياً لكل الشعوب، وهم يتحملون العذابات باستمرار أمام المضطهدين، وهذا الروح نفسه قواهم فاشتدوا وغلبوا كل الشرور، وشفوا بكلمته أمراضاً مختلفة، وكان مخلصنا معهم كما سبق ووعدهم، فكانوا يفرحون دائماً. ويأخذون بأيديهم سيف الروح القدس. ويحاربون قوات الطاغية. معلنين الحياة الحقة. ". 
   وتحتفل الكنيسة بعيد العنصرة في اليوم العاشر بعد عيد الصعود، وهو الأحد الأول من سابوع الرسل حسب مدار السنة الطقسية في كنيسة المشرق.



47
تذكار مار آحا ومار يوحنا ومار شاهين
الشماس: نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .

    1_ مار آحا: " كان هذا القديس تلميذاً لمار أوجين، ومن بعد وفاة معلمه ذهب إلى بلاد بيث زبداي  وسكن في جبل قردو وشيد ديراً هناك عرف بدير زرنوقا. وقد دعي بهذا الاسم بسبب ما كان يعانيه الأخوة من ضيق بسبب شح المياه. وقد جلبت النعمة القديس إيشوعسبران الراهب  من تلاميذ مار أوجين من جبل إيزلا  وقدم إلى هذا الدير، ولما عاين أن الأخوة في ضيقة بسبب الماء صلى، وبصلاته برز ينبوع من تحت جدران بنيان الهيكل. ". 
    وجاء في كتاب مختصر الأخبار البيعية، وهو القسم المفقود من التاريخ السعردي  عن سيرة مار آحا ما يلي: " كان للقديس مار أوجين تلميذ يقال له آحا، فمضى إلى أرض زبدي وتلمذ خلقاً كثيراً، وبنى هناك ديراً كبيراً اجتمع إليه الرهبان. وكانوا يستقون الماء بالزرنوق  ويتأذون بذلك، فأظهر الله نعمته بقدس عظام هذا القديس، وصلوة إيشوعبرنن الراهب، بأن ظهرت له عين من ماء تحت المذبح، ماءً عذباً فاستغنوا عن التعب، وسمي عمر  الزرنوق بهذا السبب. ".  ويقع الدير شمال شرق الجزيرة العمرية مسافة ساعة سير على الأقدام. والدير يقع على قمة الجبل. بينما يقع دير مار يوحنا في سفح الجبل. وتعرف القرية التي تضم الديرين مار آحا ومار يوحنا بـ أومرا دمار آحا ويوحنا. ويطلق عليها الأكراد " ديرا ".
    2_ مار يوحنا: " تتلمذ للقديس مار أوجين، وأقتبل منه الأسكيم الرهباني وذهب وسكن بجوار قصر الزبديين. وصنع آيات عديدة. وبعد أن أكمل سعيه انتقل عند ربنا ودفن جسده في دير قسطرا الذي ابتناه ويسمى دحلحلح. وجاء الربان جبرائيل من دير زرنوقا، ونقله إلى الدير الذي عند  زرنوقا. ". 
    وجاء في كتاب مختصر الأخبار البيعة عن سيرة مار يوحنا ما يلي: " هذا القديس أحد تلاميذ مار أوجين، ومضى إلى أرض بزبدى وأقام في جبل هناك، وكان يدع كرحه ويطوف القرى المجاورة له فينصر أهلها، وبنى بيعة. ولما استناح دفن في الدير المعروف بقسطرا، وكان قد بنى عمراً كان قديماً بيت الأصنام ومسكناً للشياطين، فكان الرهبان يتأذون إذ نزلوا لأخذ الماء من العين رجم الشياطين لهم بالحجارة. وزاد الأمر عليهم فقلعوا تابوت القديس وجعلوه على العين ثلثة أيام فزال ما كان يلحقهم من الرجم، فردوه إلى العمر ودفنوه في بيت الشهداء. صلواته تحفظ سائر المؤمنين. ". 
    3_ مار شاهين: كان من عائلة شريفة وغنية جداً، وله ألف عبد. خلال اضطهاد ملك الفرس بهرام الخامس ( 420 _ 438 ) للمسيحيين أمره أن ينبذ الديانة المسيحية، فلم يطعه شاهين. فوهب الملك كل أمواله لأحد عبيده حتى امرأته، ومع كل ذلك لم يرتخ عزمه، واستمر متمسكاً بإيمانه، حتى نال إكليل الشهادة. 


48
المنبر السياسي / تذكار مار بولا
« في: 12:49 13/05/2010  »
تذكار مار بولا
الشماس نوري إيشوع مندو
 القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                  + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .

   مار بولا: ويدعى بولا البسيط. كان فلاحاً يبلغ من العمر ثمانين سنة عندما ترك زوجته وأهل بيته وذهب عند مار أنطونيوس الكبير طالباً منه أن يقبله راهباً عنده. لكن أنطونيوس رفض طلبه بسبب تقدمه بالعمر، ولا يستطيع تحمل حياة التقشف في البرية. لكن بولا لم يذعن لكلامه وبقي أمام باب القلاية.
   وبعد ثلاثة أيام فتح أنطونيوس باب قلايته فوجد بولا واقفاً أمامها بدون طعام ولا شراب. فقال له: " يا بولا أذهب إلى مكان أخر لتموت هناك، وبوسعك الذهاب إلى أديرة فيها أخوة كثيرين للعيش معهم. أما أنا فأعيش وحيداً في هذه البرية الموحشة. ". لكن بولا بقي مصراً على موقفه.
   عندها فكر أنطونيوس في نفسه كيف أن هذا الشيخ تحمل الصوم بفرح وهو طاعناً في السن. فطلب منه أن يدخل قلايته، وكان فيها أوراق من شجر النخيل. فطلب من بولا أن يجدل هذه الأوراق ويصنع منها حبلاً. فشرع بولا يجدلها بفرح وإتقان. واستمر في هذه المهمة مدة تسع ساعات، فتعجب أنطونيوس من صبره وجلده. ثم طلب منه التوقف عن الجدل ليصليا معاً.
   وبعد أن صليا مطولاً جاء أنطونيوس بطعام ووضع حصة أمامه وثلاثة حصص أمام بولا وطلب منه أن يأكل، فأكل كل منهما حصة. ثم طلب أنطونيوس من بولا أن يأكل حصة أخرى لكنه رفض مدعياً أنه اكتفى بما أكل. ولكنه عرض على أنطونيوس قائلاً: " في حال أكلت أنت وجبة أخرى فسوف أكل معك وجبة ثانية ". فتعجب أنطونيوس من قناعته وعفته لأنه لم يذق الطعام مدة أربعة أيام واكتفى بهذه الوجبة الصغيرة التي بكل تأكيد لم تسد جوعه. عندها قبله أنطونيوس أخاً عنده.
   وبعد عدة أشهر ذهب إلى بعد ثلاثة أميال من قلاية أنطونيوس وبنى لنفسه كوخاً ليعيش لوحده. وقد وهبه الرب نعمة طرد الأرواح الشريرة.
   وفي إحدى الأيام جاء عند أنطونيوس رجل يحمل روح شريرة، وكان يصرخ ويشتم، فطلب أن يحرره من هذا الشر. لكن أنطونيوس طلب منه أن يذهب عند بولا لأنه يملك هذه السلطة. وما أن وصل عنده حتى صرخ بولا قائلاً: " باسم معلمي أنطونيوس أقول لك أخرج ". لكن الروح الشريرة لم تستجيب، بل ازدادت صرخاً وشتماً. وبعد عدة محاولات من بولا لم تستجب هذه الروح لطلبه. 
   فخرج بولا من قلايته وجلس على صخرة ونادى يسوع قائلا: " لا أكل ولا أشرب حتى أموت إن لم تخرج هذه الروح من الرجل ". عندها ضرب الرجل بقبعته الرهبانية، وطلب من الروح الشريرة أن تخرج من هذا الرجل المعذب ليعيش بسلام. فصرخت الروح الشريرة بغضب شديد أين أذهب من بولا البسيط الذي يضطهدني. فصرخ بولا أذهب إلى الجحيم.
   ومن تلك اللحظة خرجت الروح الشريرة وسقطت في البحر الأحمر. ومن ساعتها رجع الرجل إلى بيته معافى.
   وكان جميع الأخوة من الرهبان والمتوحدين يدعونه بالبسيط، لأنه كان يردد دائماً قول الرب يسوع: " لو عندكم إيماناً مقدار حبة الخردل، تستطيعون أن تقول لهذا الجبل اقتلع من مكانك وارتمي في    البحر ".   
    وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار بولا في الجمعة السادسة من سابوع القيامة.


49
المنبر السياسي / عيد الصعود
« في: 12:59 12/05/2010  »
عيد الصعود
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 1 / 1 _ 14 ألفت كتابي الأول يا تاوفيلس في . . .
القراءة الثانية: 1 طيموتاوس 1 / 18 _ 20 أستودعك هذه الوصية يا ابني . . .
                     + 1 طيموتاوس 2 / 1 _ 15 فأسأل قبل كل شيء أن يقام . . . 
القراءة الثالثة: لوقا 24 / 36 _ 53 وبينما هما يتكلمان إذا به يقوم بينهم . . .

   عيد الصعود: تحتفل الكنيسة بصعود يسوع إلى السماء وتمجيده. وتدعونا صلوات هذا العيد إلى التفكير الجاد في معنى حياتنا ومصيرنا. وفي هذا العيد نستمع إلى كلمة الله التي تعلن لنا من خلال ثلاث قراءات هي: الأولى من أعمال الرسل تحكي خبر صعود المسيح إلى الآب. الثانية من رسالة بولس الأولى إلى طيموتاوس تقدم إرشادات حول الصلاة. الثالثة من إنجيل لوقا تورد خبر صعود يسوع إلى السماء وانطلاق التلاميذ إلى التبشير.  ومن قضايا الإيمان أن المسيح القائم من بين الأموات قد دخل المجد. إلا أننا بصدد سر يفوق الاختبار الحسي، ولا يمكن حصره، مثلاً، في مشهد جبل الزيتون وحده، حيث شاهد الرسل معلمهم يتركهم ويعود إلى الله. ففي الواقع تعبر النصوص المقدسة عن معنى رفع المسيح السماوي، وعن وقته، وكيفيته، وذلك بتفاصيل متنوعة غنية بمغزاها التعليمي. فطبقاً لمفهوم تلقائي وعام يتبناه الكتاب المقدس، السماء هي مسكن الألوهية، إلى حد أن اللفظ يستخدم كناية دالة على الله. وأما الأرض موطئ قدميه فهي مسكن البشر. وإن الله ليفتقد الناس ينزل إذن من السماء، ثم يصعد إليها ثانية. وأما السحاب فهو مركبة، والروح الذي يرسله ينبغي كذلك أن ينزل. كذلك الكلمة يرجع إليه بع أن يتمم عمله. والملائكة أنفسهم الذين يسكنون السماء مع الله، ينزلون ليتمموا رسالاتهم، ويصعدون ثانية بعد ذلك. صعود ونزول بهما يقوم الرباط بين السماء والأرض. فبعض المختارين فقط كأخنوخ أو إيليا نالوا الإنعام بأن يختطفوا إلى السماء بالقدرة الإلهية.
   إن يسوع طبقاً لترتيب الكون قد رفع بالقيامة إلى يمين الآب، حيث يجلس على العرش كملك. فكان لا بد وأن يصعد إلى السماء. ولذا فإن صعوده يبدو في تأكيدات الإيمان الأولي، ليس ظاهرة معتبرة لذاتها، بقدر ما هي تعبير لا بد منه عن مجد المسيح السماوي. وبينما كان وجود المسيح السابق في فجر الإيمان مضمراً، فقد أخذ ينجلي شيئاً فشيئاً. فقبل أن يعيش على الأرض، يمكن القول إنه كان عند الله كإبن، وكلمة، وحكمة. وعليه فإن إرتفاعه السماوي لم يكن نصراً لإنسان رفع إلى مرتبة إلهية، وإنما هو عودة إلى العالم السماوي الذي منه سبق ونزل. إن ارتفاع المسيح إلى السماء، الذي يتميز عن الخروج من القبر كمظهر كوني، كان ينبغي أن يكون منفصلاً عنه، بحكم ضرورة تربوية تقتضي التحدث في إطار الزمن البشري، عن حادث يفوق الزمن. ويصف سفر أعمال الرسل ارتفاع يسوع إلى السماء، في رقة تعبيره البسيط تأكيد لأنه لم يقصد به دخول المسيح الأول إلى المجد. إلا أنه تصوير في غاية الاعتدال، ليس القصد منه وصفاً لنصر قد تم فعلاً منذ لحظة القيامة، بل تعليم بأن القائم من الأموات، بعد أن قضى فترة معينة في لقاءات ودية مع تلاميذه، قد قطع حضوره الظاهر في العالم، على أن يعيده بالتالي في آخر الأزمنة. إن " يسوع هذا الذي رفع عنكم سيعود كما رأيتموه ذاهباً إلى السماء " ( أعمال 1: 11 ). وهذه العبارة الملائكية، فضلاً عن كونها تفسر ملابسات الصعود، تقيم ارتباطاً عميقاً بين ارتفاع المسيح إلى السماء، وبين عودته ثانية في آخر الأزمنة. فهو يبقى محتجباً عن البشر إلى حين ظهوره الأخير، عند التجديد الكلي الشامل. حينذاك سيأتي كما انطلق، نازلاً من السماء، على الغمام. بينما يصعد مختاروه لملاقاته، هم أيضاً على غمام. فعلينا ونحن في انتظار تلك الساعة، أن نظل متحدين بفضل الإيمان وأسرار الكنيسة، بسيد المجد. لأن حياتنا الحقيقية محتجبة مع المسيح في الله، ومدينتا كائنة في السماوات، وبيتنا السماوي الذي ينتظرنا، والذي نتطلع إلى ارتدائه ما هو إلا المسيح الممجد نفسه. من هنا تنبع روحانية الصعود متكاملة، مؤسسة على الرجاء، لأنها تجعل المسيحي يحيا منذ الآن في حقيقة العالم الجديد الذي يملك المسيح فيه. على أن المسيح ليس لذلك منسلخاً عن العالم القديم الذي لا يزال يضمه، بل بالعكس له رسالة وقدرة على أن يحيا فيه بطريقة جديدة، تحرك العالم نحو تحول المجد الذي يدعوه الله إليه.   
   وتقضي تعليمات طقس كنيسة المشرق أن يخرج المؤمنون من الكنيسة في رمش " مساء " خميس الصعود إلى فناء الكنيسة، وهم يرتلون " لاخو مارا " حاملين الصليب والإنجيل ومصابيح ومبخرة. ويُحتفل بالفروض في فناء الكنيسة، اعتباراً من هذا الخميس وحتى الأحد الأول من تقديس البيعة، بسبب شدة حرارة الصيف، وذلك في مكان يطلق عليه " بيث صلوثا " بيت الصلاة. والفروض التي تقام في فناء الكنيسة هي صلاتي الصبرا والرمشا " الصباح والمساء " والقسم الأول من القداس " ليتورجيا الكلمة " أي من بداية القداس وحتى نهاية الإنجيل. وبعد الإنجيل يدخلون إلى الكنيسة لتكملة القداس وهم يرتلون " عونيثا دأونكليون " ترتيلة الإنجيل، وهذه الترتيلة تشرح الإنجيل. علماً هذه الترتيلة نجدها في كتبنا الطقسية خلال هذه الفترة فقط، أي من خميس الصعود إلى الأحد الأول من تقديس البيعة. وتظهر غالباً عبارة       " ملكا " في صلوات وفروض عيد الصعود. وهذا يعني بأنه بالنسبة لكنيسة المشرق، عيد الصعود هو عيد ملك أو ملكوت المسيح، لأنه أخضع كل عناصر الطبيعة تحت سلطته. 
   ونذكر ترتيلة من طقس هذا العيد: " قال الرب لربي أجلس عن يميني: فوق كل الرئاسات والسلاطين والقوات السماوية العليا. صعد بالمجد إلى السماء. يسوع مخلص الكل. وأبهج بصعوده الملائكة وأجناس البشر. لأن الرب المسيح مَلَكَ إلى الأبد. ".   
   وتحتفل الكنيسة بعيد الصعود في اليوم الأربعون بعد عيد القيامة.

50
أبرشية نصيبين ومدرستها الشهيرة والعريقة في تاريخ كنيسة المشرق

                                                                        الشماس: نوري إيشوع مندو
تنويه: تحت عنوان " نصيبين في تاريخ ميزوبوتاميا " أقامت بلدية نصيبين مؤتمراً بتاريخ 8 _ 9 أيار 2010 شارك فيه العديد من الباحثين والمستشرقين وعدد كبير من محبي التاريخ للتحدث عن تاريخ هذه المدينة. ولم يتطرق المؤتمر بشكل جدي عن تاريخ الكنيسة ومؤسساتها في هذه الأبرشية العريقة. لذا رأيت من المفيد أن أنشر هذا المقال لإفادة محبي التاريخ. علماً أنني شاركت في هذا المؤتمر وكنت قد حضرت هذه الدراسة وكلفت مترجماً للغة التركية لترجمتها، وقدمت المقال وترجمته التركية لراعية المؤتمر رئيسة بلدية نصيبين. وبعد أن اطلعت عليها اعتذرت بسبب ضيق الوقت. ربما لم يروق لها حقيقة تاريخ نصيبين. بل ستبقى كل قطعة حجر في نصيبيبن ومحيطها تتحدث عن تاريخها المجيد منذ فجر المسيحية وحتى تاريخ إبادة مسيحييها سنة 1915. 
   المقدمة: نصيبين هي إحدى مدن ما بين النهرين وهي مدينة عريقة في القدم، جاء اسمها في العهد القديم، وقال عنها مار أفرام النصيبيني إنها " أكاد " المذكورة في سفر التكوين، وينسب تأسيسها إلى نمرود الجبار .
   أما اسمها الخاص عند سكان ما بين النهرين " صوبا " أو " نصيبين " وهي مشتقة من اسم " نصو "           " غلات " ومعناها نصب أو زرع. وقد دعيت بهذا لما فيها من البساتين والجنان.
   ويعتقد المؤرخون أن تأسيسها يعود إلى سنة 4000 ق.م. وقد دعاها السومريون  " تريو "، وفي زمن حكم حمورابي  ملك بابل  دعيت " آراميس " وتعني الحديقة أو البستان. أما في المصادر الآشورية  فقد دعيت    " نابولا ".
    أما اليونان  فقد دعوها " أنطاكية مقدونية ". وكان المقدونيين  في القرن الثالث قبل الميلاد قد جعلوا نصيبين مركزاً لسك العملة، فازدهرت اقتصادياً وقد أطلقوا على المدينة اسم " أنتيموسيا " وتعني           " مدينة الزهور "، ودعوا النهر الذي يمر بها " مقدونيا " أو " لميكدونيوس ".
   وتذكر المصادر الرومانية موقع نصيبين في " الجزيرة العليا " ضمن منطقة " ميزوبوتاميا " أي " بين النهرين ".
    وفي القرن الأول الميلادي كانت نصيبين تحت حكم الأرمن ، وكان " أردوس " شقيق الملك ديكران  والياً عليها. وفي عهده سكب عملة في نصيبين عرفت باسم الملك ديكران.
    أما الرومان فقد جعلوها قلعة الشرق الحصينة ومقراً لقائد بلاد ما بين النهرين. ثم أصبحت عاصمة ديار ربيعة . وبحكم موقعها كحد فاصل بين المملكتين الرومانية  والفارسية  دعيت مدينة التخوم أو مدينة الحدود، بسبب أهمية موقعها المتميز كبوابة لمرور القوافل بين الشرق والغرب.
   احتلها المسلمون عندما فتحها عياض بن غنم سنة 640م، وقد حكمها الأمراء الحمدانيون  في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي، واحتلها صلاح الدين الأيوبي  سنة 1188م، واستولى عليها المماليك  سنة 1193م، واجتاحها تيمورلنك  سنة 1395م، وخضعت لسلطة العثمانيين  سنة 1515م ولا زالت حتى يومنا هذا ضمن حدود الدولة التركية . ويبلغ عدد سكانها اليوم نحو 75000 نسمة، وهي مركز قائممقامية تابعة لولاية ماردين.
   وكان لهذه المدينة أهمية متميزة لأنها محطة قوافل، ومركز تجاري مرموق وبقعة زراعية خصبة، وكانت عاصمة لمملكة وطنية، جددها سلقوس الأول نيقاطور (355_280) ق.م، وقد دعاها اليونان " أنطاكية مقدونية "، وقعت سنة 297م بأيدي الرومان فجعلها ديوقلسيانس قلعة الشرق الحصينة، ومقراً لقائد بلاد ما بين النهرين. 
   وكانت الديانة المسيحية قد انتشرت فيها انتشاراً عجيباً، فبنيت فيها الكنائس الفاخرة وكثرت فيها وفي أطرافها الأديار، وفتحت فيها المدارس فسميت " ترس كل المدن المحصنة " و" رئيسة مابين النهرين "           و " رئيسة المغرب " و" أم العلوم " و" مدينة المعارف " و" أم الملافنة ". 
   تقع نصيبين على سفح جبل إيزلا ومعناه " الشبكة "، يخترقها نهر " مقدونيا " أو" الهرماس " ويعرف اليوم بنهر " الجغجغ "، وهي مختصرة من الجملة الأرمنية " جغجخوت " وتعني  " البحيرة البطيئة المياه "، وهذه إشارة لوجود البحيرة جنوب المدينة.
   وإلى شمالها يقع وادي " بونصرا "، ويعتقد البعض أن تسمية الوادي جاءت من اسم الملك " نبوخذنصر " الذي جمع في الوادي المذكور أعداداً كبيرة من سبايا اليهود.
   وقد تغنى الشاعر سيف الدين الحلي بطبيعة نصيبين، واصفاً البحيرة الطبيعية التي تقع جنوب المدينة، وكيف يتنقل السكان بواسطة الزوارق في هذه البحيرة. وهذا هو المصدر الوحيد الذي وجدته يذكر البحيرة، التي جفت مع الزمن وتحولت إلى وادي يفصل نصيبين عن القامشلي. وبالفعل إذا تمعن المرء في موقع مدينة القامشلي يجد أنها مبنية في وادي مما يؤكد هذه المعلومة.
   
   1_ نصيبين كما رآها الرحالون: تحدث العديد من الرحالة عن نصيبين في فترات متفاوتة نذكر منهم:
   جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي " نصيبين مدينة من بلاد الجزيرة، على جادة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان، وعليها سور بنته الروم، وهي مدينة وبيئة لكثرة بساتينها ومياهها، ظاهرها مليح المنظر وباطنها قبيح المخبر، وينسب إلى نصيبين جماعة من العلماء والأعيان ".
   وجاء في صورة الأرض لابن حوقل " وكان من أجلّ بقاع الجزيرة وأحسن مدنها وأكثرها فواكه ومياهاً ومتنزهاتٍ وخضرةً ونضرة، إلى سعة غلات من الحبوب والقمح والشعير والكروم الرائعة الزائدة على حد الرخص، وهي مدينة كبيرة في مستواةٍ من الأرض، معروفة الفرسان مشهورة الشجعان، إلى ديارات للنصارى وبيعٍ وقلاَّياتٍ، تقصد للنزهة وتنتجع للفرحة والفرج ". 
   وجاء على لسان ابن جبير في رحلته " نصيبين شهيرة العتاقة والقِدم، ظاهرها شباب وباطنها هرم، جميلة المنظر، متوسطة بين الكبر والصغر، يمتد أمامها وخلفها بسيط أخضر مد البصر، قد أجرى الله فيها مذانب من الماء تسقيه، وتحف بها عن يمين وشمال بساتين ملتفة الأشجار يانعة الثمار، ينساب بين يديها نهر قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافتيه، وتفيء ظلالها الوارفة عليه. فخارجها رياضي الشمائل، أندلسي الخمائل، يرف غضارة ونضارة، ويتألق رونق الحضارة، فرحم الله أبا نواس حيث يقول:
           طابتْ نصيبينُ لي يوماً فطبتُ لها              يا ليت حظي من الدنيا نصيبينُ ".   
   وجاء على لسان ابن بطوطة في رحلته " نصيبين مدينة عتيقة متوسطة قد خرب أكثرها، وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية، والبساتين الملتفة، والأشجار المنتظمة، والفواكه الكثيرة، وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة، ويدور بها نهر يعطف عليها انعطاف السوار، منبعه من عيون في جبل قريب منها، وينقسم انقساماً فيتخلل بساتينها، ويدخل المدينة فيجري في شوارعها ودورها. وبهذه المدينة مارستان ومدرستان، وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة ". 
   وجاء في المنجد في الأعلام " نصيبين مدينة في ما بين النهرين، كانت منذ القرن الثالث مهد الآداب السريانية حتى سقوطها في أيدي الساسانين سنة 365م، ازدهرت فيها مدرسة نسطورية في أواخر القرن الخامس وحتى منتصف القرن السادس، لمع منها نرساي وبرصوما " 
ويتحدث المؤرخ المقدسي سنة 988 عن بيوت نصيبين الجميلة، وأسواقها الممتدة عبر كل المدينة، وحصنها وجامعها الذي يتوسط المدينة. وهذا الوصف للجامع هو الدليل الأول على تحويل كنيسة القديسة فبرونيا إلى جامع.
    وفي سنة 1766 مر السائح الدانمركي نيبوهر من نصيبين فوصفها بقوله:  " نصيبين بلدة مؤلفة من 150 بيت مشيدة من التراب، أما قلعتها فلم يبقى منها إلا بعض الحجارة المنحوتة. أما الجسر الذي فوق نهر الهرماس  " الجغجغ " الذي يخترقها والمشيد على 12 قاعدة فلا زال قائماً، لكن الشيء الذي يستوجب رؤيته فيها هو بقايا كنيسة مار يعقوب النصيبيني ".
    وفي سنة 1799 زار نصيبين الرحالة أوليفر فوصفها بقوله: " لا زال في نصيبين بعض الأنقاض ومنها بقايا قوس نصر عائد للرومان، كما أنه يوجد معبد مربع الشكل وضمن المعبد دهليز يحتوي لحد " قبر " غطاءه من مرمر أبيض. كما رأينا خمسة أعمدة حجرية لا زالت قائمة، وشاهدنا لوحة مرمرية تشير إلى موقع كان سابقاً ميداناً لسباق الخيل ".
   وقد تحدث الرحالة بادجر الذي زار نصيبين عدة مرات بين سنتي 1844_ 1850 عما يتداوله أهل المدينة عن تقليد ملتزمون به: " يزور المسلمون ضريح القديس يعقوب النصيبيني للتبرك منه قبل أن يتوجهوا لزيارة ضريح الإمام زين العابدين والصلاة في جامعه، لأن التقليد يقول أن الإمام زين العابدين مؤسس الجامع كان يصلي ووجهه باتجاه ضريح مار يعقوب عوض القبلة ". 

       2_ زمن انتشار المسيحية في نصيبين: وبعد دخول المسيحية إليها في الجيل الأول على يد مار أدي الرسول  أحد الأثنين والسبعين تلميذاً، تقلدت دوراً رائداً ومميزاً في المشرق.
   فبعد أن بشر أدي الرسول مدينة الرها، انحدر إلى نصيبين وبلاد الجزيرة، وهدى سكانها إلى الإيمان المسيحي. ويقول ماري بن سليمان في كتاب المجدل: " وتوجه أحي وماري إلى نصيبين وعمد أهلها، وأنفذ ماري إلى المشرق، وأحي إلى قردي دبازبدي ". وعليه تكون المسيحية منتشرة في نصيبين منذ القرن الأول.
   وهناك في متحف اللاتران بروما كتابة منقوشة على الحجر تعرف باسم " حجر ابرسيوس " يعود تاريخها إلى نحو سنة 200 م، دونها أسقف هيرابوليس في فيريجية الوسطى المدعو افيرسيوس مارسيللوس، فبعد أن طاف البلاد وسجل ملاحظاته بشأن المسيحيين قال: " رأيت أيضاً السهل السوري وكل المدن ونصيبين وما وراء الفرات، في كل مكان وجدت أخوة "، ويقصد بكلمة الأخوة المسيحيين.
   ويخبرنا مطران نصيبين إيليا برشينايا في تاريخه: " سنة ستمائة واثنتي عشرة يونانية سيم بابو الأسقف الأول بنصيبين، ومن أجل لم تكن له منزلة المطرنة، رتب اسمه في الديوفاطخين، أي سفر الأحياء والأموات الذي يقرأ أثناء القداس بعد اسم مار يعقوب ". ويقابل هذا التاريخ اليوناني سنة 301 م. وهكذا نستطيع القول أن بداية القرن الرابع الميلادي هو بداية تاريخ أبرشية نصيبين.

   3_ حدود أبرشية نصيبين: إن حدود هذه الأبرشية يمتد من أطراف الموصل وحتى بلاد أرمينية. ونجد أحياناً عشرين أسقفاً يتبعون مطران نصيبين. وقد عين المطران أدي شير حدود هذه الأبرشية إذ قال: " أبرشية بيث عربايي، وتمتد من بيث زبداي ومن بلد إلى نصيبين، وقاعدتها نصيبين. والمراعيث المتعلقة بهذه المطرابوليطية هي: " ا_ بيث زبداي 2_ قردو 3_ بيث مكسايي  4_ أرزون 5_ أوستان أرزون 6_ بيث رحيماي 7_ قوبا أرزون 8_ طبياثا 9_ بلد 10_ آذورمية 11_ كفر زمار 12_ سنجار 13_ كانوش           14_ أخلاط 15_ ميافرقين 16_ آمد 17_ حران   18_ حصن كيبا 19_ رشعينا 20_ ماردين 21_ دارا     22_ دنيسر. وهذه المدن كلها في بلاد ما بين النهرين، ومواقعها معروفة ".
    وبعد أن كانت أبرشية نصيبين قبل عهد المطران عبديشوع الصوباوي " القرن 13 م " تدعى أبرشية نصيبين وأرمينية، وذلك لامتداد حدودها إلى بلاد أرمينية.، أضحت أسقفية في القرن السادس عشر. ويتضح ذلك من صورة إيمان البطريرك عبديشوع مارون(1555_ 1567) التي أعلنها أمام البابا بيوس الرابع، حيث يعد نصيبين بين الكراسي الأسقفية. وفي نهاية القرن السادس عشر أقيم يعقوب(1584_ 1615) مطراناً لنصيبين وماردين، ومقر كرسيه مدينة ماردين. لأنه سنة 1566 خربت نصيبين ولم يبق فيها إلا بيوت قليلة.
   ولبثت أبرشية نصيبين مأهولة بأبناء كنيسة المشرق، وكان مطرانها الأخير يدعى إبراهيم، نقله مار يوحنا هرمز النائب البطريركي يوحنا هرمز سنة 1789 إلى كرسي كركوك. وعليه نرى نهاية هذه الأبرشية العريقة التي استمرت أكثر من ستة عشر قرناً. وأصبحت نصيبين رعية تتبع أسقفية ماردين، يخدمها كاهن يقيم الخدمة الروحية في كنيسة مار يعقوب النصيبيني.
    وفي سنة 1913 كان في نصيبين 130 نسمة من أبناء كنيسة المشرق، يخدمهم الأب حنا شوحا، وكان يقيم الخدمة الدينية في مصلى، وإلى جانبه مدرسة لأبناء الرعية. وقد استشهد الأب شوحا خلال الحرب العالمية الأولى، سنة 1915. ولم يبق أحد من أبناء كنيسة المشرق في هذه المدينة العريقة والشهيرة عبر التاريخ.

   4_ مكانة أبرشية نصيبين في كنيسة المشرق: يعد مجمع مار اسحق، المنعقد في ساليق سنة 410 م بحضور ماروثا الميافرقيني، أول مجمع هام في تاريخ كنيسة المشرق. ويتناول القانون الأخير تحديد المقاطعات الكبرى في كنيسة المشرق. فكرسي الجاثليق هو في ساليق وقطيسفون وهي أبرشيته. وتعد أبرشية عيلام الأبرشية الأولى، تليها أبرشية نصيبين التي تعد الأبرشية الثانية، لأنها مدينة مهمة ومركز لإشعاع ثقافي وديني واسع. وكان مجمع مار اسحق قد اتبع نظاماً لترتيب الأبرشيات بنص واضح: " يكرم الكرسي على مقدار أهمية المدينة نفسها ". وعليه نجد في حفلة سيامة الجاثليق، يقف مطران عيلام في الوسط على درجة المذبح، وهو المطران السايوم " الراسم "، ويقف عن يمينه مطران نصيبين، وعن يساره مطران ميشان. وورد في الكتاب الليتورجي: " إن المطارنة الذين يرافقون الجاثليق يميناً ويساراً للتنصيب على العرش هم مطارنة عيلام ونصيبين وميشان ".
   وكان لمطران نصيبين مكانة رفيعة بين أخوته المطارنة، وله صوته المسموع بينهم. ويخبرنا تاريخ كنيسة المشرق عن بعض هؤلاء المطارنة، منهم مار يعقوب النصيبيني الذي حضر مجمع نيقية سنة 325 م كممثل لكنيسة المشرق، كذلك حضر تدشين كنيسة القيامة بأورشليم في عهد الملك قسطنطين بنفس الصفة.
   وفي مجمع داديشوع سنة 424 م تتجلى هذه المكانة بشخص هوشع مطران نصيبين، عندما يتوجه بكلامه إلى الأحبار المجتمعين بسبب استقالة الجاثليق قائلاً: " ما لي أراكم ساكتين وراضين بالاشتراك مع هؤلاء المرذولين والمسقطين ". وكان في كلامه قوة كبيرة أفلحت في إنهاض الهمم وتوحيد الكلمة وتوطيد العزم، وإذا بالمطارنة جميعاً يخرون راكعين عند قدمي الجاثليق، ويعدونه بحرم المعارضين وعزلهم. وهكذا عاد الجاثليق عن الاستقالة، وعاد السلام إلى كنيسة المشرق.
   وعندما كلفت الملكة بوران ابنة كسرى الثاني، الجاثليق ايشوعياب الثاني الجدالي(628_ 645) للسفر إلى مدينة حلب، ولقاء الإمبراطور هرقل لعقد صلح نهائي بين المملكتين الفارسية والرومانية، نجد قرياقس مطران نصيبين من الأعضاء البارزين المرافقين للجاثليق.
   وفي مجمع طيمثاوس الثاني المنعقد سنة 1318 م، وضع مطران نصيبين عبديشوع الصوباوي، كتابين مهمين لحياة كنيسة المشرق. أحدهما مجموعة القوانين المجمعية، والثاني الأحكام الكنسية. فأيد المجمع الكتابين المذكورين. وهناك الكثير من المواقف لمطارنة نصيبين لا مجال لذكرها.

   5_ أشهر مطارنة نصيبين: تعاقب على كرسي أبرشية نصيبين أكثر من ستين مطراناً أهمهم:
ا: مار يعقوب النصيبيني (309_ 338): ولد في مدينة نصيبين، من أسرة تنتمي إلى يعقوب أخي الرب. اختار سيرة الزهاد والمتوحدين، وفي مطرنته لم يغير سيرته التقشفية، وزاد على ذلك الاعتناء بالفقراء. صنع الله على يده معجزات كثيرة باهرة. سنة 313 م بدأ بتشييد كنيسة في نصيبين وكملها سنة 320 م. ثم بنى دير قيبوثا " الفُلك " على جبل جودي. وبعد عودته من مجمع نيقية سنة 325 م افتتح مدرسة نصيبين الشهيرة، وجعل مار أفرام تلميذه معلماً فيها. توفي سنة 338 م، وقبر في الكنيسة التي بناها.   
ب: برصوما (415_ 496): ولد في مقاطعة قردو، درس في الرها على الأستاذ هيبا، وأقام فيها حتى سنة 449، ثم رحل إلى نصيبين. ولا نعلم متى سيم مطراناً على نصيبين. لكن في سنة 457، عندما ترك نرساي الرها، كان برصوما مطراناً لنصيبين، فأعاد فتح مدرستها وجعل نرساي مديراً لها. ويقال إنه نال حظوة عند فيروز الملك الفارسي. له عدة أعمال أدبية.
ث: بولس النصيبيني (524_ 573): هو أحد تلاميذ مار آبا. تلقى العلم في مدرسة نصيبين وعلم فيها. رسمه مار آبا مطراناً على نصيبين بين سنة 524 وسنة 530. توفي سنة 573 وله عدة كتابات أهمها: 1_ ضوابط الشريعة الإلهية 2_ مقالة جدلية مع قيصر.
د: روزبيهان ( القرن الثامن): اقتبل الاسكيم الرهباني في دير مار ميخائيل قرب الموصل. ثم أصبح رئيساً لدير مار أوجين في جبل إيزلا، حتى رسم مطراناً لنصيبين. اهتم في نهضة دير مار أوجين في مطرنته، وخصص له واردات قرية هيزجان المجاورة للدير، لتوفير وسائل المعيشة للرهبان، فازداد عدد الرهبان وانتشروا في شتى المقاطعات.
ذ: قبريانوس (741_ 767): عين مطراناً لنصيبين سنة 741. وفي سنة 758 شيد كنيسة فخمة في مركز الأبرشية. له مقالة في الرسامة. وقد أسهم في تنظيم كتاب الحبريات، وفي تنظيم الطقوس الذي حققه ايشوعياب الثالث.     
ر: سركيس الأول (القرن التاسع): هو من أهل باجرمي. ارتقى إلى مطرانية نصيبين. في سنة 860 انتخب جاثليقاً لكرسي المشرق، توفي سنة 872. كان سركيس غيوراً ذا همة سامية في إصلاح شؤون كنيسته. ورمم الأديار والكنائس، ونشط طلبة المدارس، ورسم عدة أساقفة. 
ز: إيليا برشينايا (975_ 1056): ولد في السن، ترهب في دير مار ميخائيل قرب الموصل. في سنة 1002 أقيم أسقفاً على بيث نوهدرا. سنة 1008 عين مطراناً لنصيبين. توفي سنة 1056 ودفن في كنيسة ميافرقين، له عدة مقالات وكتاباً في النحو، وأربعة كتب تتضمن أحكاماً كنسية. وأهم مصنفاته هو تاريخه الاستقرائي الذي يدعى تاريخ إيليا برشينايا. 
س: عبديشوع ابن العارض (القرن الحادي عشر): هو أبو الفضل الموصلي. كان حسن الخلق والخلقة. له باع طويل في العلم والتدبير. رسم مطراناً لنصيبين. وفي سنة 1074 اختير بطريركاً لكنيسة المشرق، فدبر الكنيسة بحكمة، وقد أرضى الجميع. وقد حصل من الخليفة القائم بأمر الله على براءة أمان لرعيته وبيعه. توفي سنة 1094 ودفن في بيعة دار الروم.
ش: إيليا أبو حليم (1108_ 1190): ولد في ميافرقين سنة 1108. وبعد أن تضلع في الآداب العربية والآرامية رسم مطراناً لنصيبين. ويقال إنه لم يكن بين آباء كنيسة المشرق من يماثله علماً وحكماً وكرماً وبلاغة وفصاحة. لذلك اختير سنة 1176 بطريركاً لكنيسة المشرق. توفي سنة 1190. كان إيليا أبو حليم مرتاضاً بالعلوم النحوية واللغوية والحكمية.
ص: يهبالاها الثاني ابن قيوما (القرن الثاني عشر): ولد في الموصل. أقيم أسقفاً على ميافرقين، ثم مطراناً لنصيبين. وكان يهبالاها رجلاً ذكياً. سنة 1190 أنتخب بطريركاً لكنيسة المشرق. وفي فترة بطريركته رسم 18 مطراناً و37 أسقفاً. توفي سنة 1222.
صا: مكيخا الثاني ( القرن الثلث عشر): كان من أهل جوغبان من أعمال نصيبين. وكان ذا حدة وصرامة، شهيراً بالعلم والفضل. اختير مطراناً لنصيبين فدبرها أحسن تدبير، حتى أنتخب بطريركاً لكنيسة المشرق سنة 1257. وفي عهده زحف المغول واجتاحوا مناطق الشرق الأوسط. توفي سنة 1290.
صب: عبديشوع الصوباوي (القرن الثلث عشر): هو عبديشوع بن بريخا . سنة 1285 أقيم أسقفاًً على سنجار و بيث عربايي، و في سنة 1290 أقيم مطراناً لنصيبين وأرمينية. توفي سنة 1318. ويعد الصوباوي أغزر كاتب شرقي في القرن الثالث عشر . له عدة مؤلفات أهمها: 1 فهرس المؤلفين              2-الجوهرة 3_ نوما قانون 4_ فردوس عدن 5_ تنظيم الأحكام الكنسية. 

   6_ الحياة الرهبانية في أبرشية نصيبين: كانت الحياة الرهبانية منتشرة انتشاراً كبيراً في كنيسة المشرق، منذ القرن الرابع للمسيحية. ويتضح ذلك من مقالة أفراهاط الحكيم الفارسي سنة 337 بخصوص الرهبان، حيث يطلق عليهم لقب المنفردين، أو البتولين، أو بني العهد. ويسمي الراهبات بتولات، أو بنات العهد. أما في القرون المسيحية الثلاثة الأولى، فلم يكن في المشرق رهبان أو راهبات، يعيشون في ديورة منظمة بقوانين رهبانية. إنما كان الرجال والنساء من ينقطعون عن العالم، للصوم والصلاة والاختلاء في الصوامع أو في بيوت ذويهم. 
   وأول من أنشأ الطريقة الرهبانية، كان أنطونيوس الكبير المعروف بأبي الرهبان، وذلك سنة 305 في صعيد مصر. وقد دخلت الطريقة الرهبانية إلى كنيسة المشرق على يد مار أوجين في القرن الرابع، إذ قدم من مصر ومعه سبعون تلميذاً، وحل في أبرشية نصيبين، حيث سكن في مغارة قرب قرية معرى، في جبل إيزلا المطل على نصيبين،مدة ثلاثين سنة. وتتلمذ له إخوة كثيرون، حتى صار عدد الرهبان ثلاثمائة وخمسين راهباً. ثم بنى على جبل إيزلا ديراً كبيراً عرف باسمه " دير مار أوجين ". وتفرق رهبانه في الجزيرة وفارس وهم يبشرون بكلمة الخلاص، فارتفع بسعيهم شأن المسيحية في المشرق. توفي مار أوجين سنة 363، ودفن في مغارة تحت المذبح في الدير الذي بناه.
   وبعد موته استمرت حياة الرهبنة في كنيسة المشرق، وازدهرت بسبب السيرة الحسنة للرهبان الذين انتشروا في العالم، مبشرين بالإيمان والفضيلة. ومن هؤلاء الرهبان برز ملافنة زينوا الكنيسة بتأليفهم وعلمهم. وأخذت الكنيسة منهم أغلب الأساقفة لتدبير الأبرشيات، لتميزهم بالعلم والفضيلة والغيرة على خلاص النفوس. وفي نهاية القرن الخامس، أخذ عدد الرهبان بالتناقص بسبب قرارات المجمع الذي عقده الجاثليق آقاق سنة 486، وفيه ألغيت العفة للإكليروس. وبرغم ما بذله الجاثليق مار آبا من جهود، لم يفلح في إعادة الحياة الرهبانية إلى سابق عهدها. حتى ظهر في منتصف القرن السادس رجل ذو غيرة عارمة، فعكف على إصلاح الحياة الرهبانية. إنه إبراهيم الكشكري الذي ولد في كشكر سنة 491، وتلقى العلم في مدرسة نصيبين، وبعد أن نال من العلم قسطاً وافراً، توجه إلى منطقة الحيرة للتبشير، ومنها ذهب إلى صعيد مصر، واطلع على حياة الرهبان وممارستهم الروحية. ثم عاد إلى نصيبين وانزوى في جبل إيزلا، وبنى فيه ديراً عظيماً، فشاع صيته وتتلمذ له رهبان كثيرون. وفي سنة 571 وضع قوانين لرهبانيته، منها اللباس وفرض عليهم أن يحلقوا قمة الرأس ليظهر على شكل إكليل، واستحق إبراهيم الكشكري بفضائله وقداسة سيرته أن يلقب بالكبير. وعرف ديره بالدير الكبير، وقد توفي سنة 588.
   ويقول توما المرجي عن الدير الكبير: " مثلما في الأزمنة السالفة، كل من يريد أن يتعلم الفلسفة اليونانية كان يقصد أثينا، كذلك في زمن مار إبراهيم، كل من رغب في الفلسفة الروحية، كان عليه أن يسرع إلى دير هذا القديس، ويجعل نفسه إبناً له ". وقد أصبح الدير الكبير ينبوع رجال شابهوا الرسل بسيرتهم، وملئوا المشرق بالأديار حتى بلغت أكثر من ستين ديراً. واستمر دير مار إبراهيم الكشكري حتى سنة 1222 حيث خرب على يد المغول ثم التركمان. وفي اللائحة التي قدمها سنة 1607 إلى بولس الخامس بابا روما، الوفد الذي أرسله البطريرك إيليا السابع، وردت أخبار عن أحوال كنيسة المشرق، وفيها تذكر أسماء خمسة وثلاثين ديراً مأهولاً، منها دير مار أوجين ودير مار إبراهيم الكشكري ودير مار يعقوب الحبيس ودير مار يوحنا نحلايا ودير مار آحا. وهذه الأديار تقع ضمن حدود أبرشية نصيبين، مما يدل على استمرار الحياة الرهبانية في هذه الأبرشية حتى بداية القرن السابع عشر. 
   كذلك تأسست عدة ديورة للراهبات، ولا نعرف منها في أبرشية نصيبين سوى دير " مارت نارسوي " في مدينة نصيبين، وكن يلبسن ثوباًً أسود، ويقصصن شعرهن، ويعشن عيشة مشتركة، وكانت وظيفتهن تلاوة الصلوات القانونية والتراتيل في الكنيسة.
ففخر أبرشية نصيبين أنها مهد الرهبانية المنظمة في كنيسة المشرق، وقد تمكنت الكنيسة بواسطة هؤلاء الرهبان من الانتشار في العالم.

   7_ مدرسة نصيبين الأولى: يقول برحدبشبا عربايا: " إن يعقوب النصيبيني فتح مدرسة في نصيبين سنة 325م، وجعل مار أفرام معلماً لها " .
    أما العلامة لابورت فيقول: " إن المدينة المطرابوليطية الكبيرة نصيبين رأت داخل أسوارها أول كلية لاهوتية وأول جامعة درس فيها علم الإلهيات " .
   كانت نصيبين قد ضمت إلى المملكة الرومانية منذ سنة 298م، وكان مار يعقوب النصيبيني مطرانها الأول في مطلع القرن الرابع،وقد اشترك في مجمع نيقية سنة 325م لدحض بدعة آريوس، ولدى عودته من المجمع أنشأ مدرسة لتثقيف المسيحيين على طرفي الحدود، حيث سلم إدارتها لمار أفرام النصيبيني، فدبرها بغيرة ونشاط حتى سنة 363م، وقد اضطر الإمبراطور البيزنطي جوفيان أن يعيد نصيبين إلى الملك الفارسي شابور الثاني، عندها تركها مار أفرام مع علماء المدرسة وانطلقوا إلى الرها، وهناك فتح مدرسة لبني جلدته عرفت بـ" مدرسة الفرس ". اجتمع إليه تلاميذ كثيرون علمهم وهذبهم واستمر في رئاستها حتى وفاته سنة 373م.
   خلف مار أفرام في رئاسة مدرسة الفرس في الرها قيورا، الذي يصفه برحدبشبا عربايا بقوله: " أنه كان ممتازاً بتقواه وغزارة علمه، وقد أحسن تدبير المدرسة مكملاً وظيفته بهمة لا تخشى مللاً، ساهراً على مصالحها المادية والأدبية ". توفي قيورا سنة 437م فانتخب الملفان نرساي النوهدري رئيساً لها، فدبرها بحكمة ودراية فنمت المدرسة وازدهرت مدة عشرين سنة، حتى اختلف مع نونا أسقف الرها بسبب منهجية المدرسة التي تتبع فكر تيودوروس المصيصي وتيودر الطرسوسي، بينما نونا يميل إلى فكر كيرلس الإسكندري، وقد تعرض نرساي إلى تهديدات شتى ليتراجع عن أفكاره وقناعاته، لكنه لم يستسلم فهيج أعداءه العوام من الناس ضده بهدف تصفيته وإحراقه، وفي سنة 457م غادر نرساي الرها ليلاً بناءً على نصيحة الأصدقاء حفاظاً على حياته، وبعد هجرة نرساي أخذت مدرسة الفرس بالتراجع حتى أغلقت سنة 498م من قبل قيورا أسقف الرها الذي نال أذناً من الإمبراطور زينون بإغلاقها، ودمرت أبنيتها وشيد على أرضها كنيسة على اسم " والدة الله ".

   8_ مدرسة نصيبين الثانية: بعد أن غادر نرساي الرها توجه نحو المشرق، وعندما بلغ نصيبين لم يدخل المدينة وإنما توقف في دير الفرس الذي يقع شرقي المدينة، وهناك اجتمع معه برصوما مطران نصيبين الذي اقترح عليه دخول المدينة، ويؤسس مدرسة فيها من شأنها تنوير بلاد ما بين النهرين بأجمعها. وكان في نصيبين مدرسة صغيرة يترأسها المفسر شمعون الجرمقاني " الكشكري "، وبغية القيام بتوسيعها اشترى برصوما خان قوافل ضمه إلى المدرسة، وبسبب شهرة نرساي تقاطر إليها خلال مدة قصيرة أعداداً كبيرة من الأخوة من كل حدب وصوب.
   وقد قال عنه برحدبشبا عربايا: " إن المزايا والخصال التي يتمتع بها نرساي من أفكار مهمة وقدرة على التصرف بكرامة ورجولة، ومظهر خارجي جذاب ولطافة وتهذيب وطيبة وجمال تعليمه وبهائه، جذبت إليه هذا الاهتمام الكبير والتعاطف الشعبي، ولقب بالمعلم لأنه كان معلماً لا منازع له في الرها ونصيبين، وقد سن لمدرسة نصيبين الشهيرة قوانين ظلت تسير عليها سنوات عديدة بعد وفاته ".
   وقال عنه ماري بن سليمان في كتابه المجدل " نرساي لسان المشرق وشاعر المسيحية وباب الديانة المسيحية وقيثارة الروح القدس وملفان الملافنة ".  توفي سنة 503م بعد أن ترأس مدرسة نصيبين 46 سنة.
   وبعد وفاته خلفه في رئاسة المدرسة اليشاع برقوزبايي، يلقبه عبديشوع الصوباي بالمفسر. كان اليشاع رجلاً عالماً ومتضلعاً في كل ما يخص الكتاب المقدس، توفي سنة 509م بعد أن خدم المدرسة 7 سنوات.
   وبعد وفاته خلفه في رئاسة المدرسة إبراهيم بيث ربان، وقد لقب بـ " بيث ربان " لصلة القرابة التي كانت تربطه بالملفان نرساي، كان إبراهيم يتحلى بصفات علمية رائعة، وتقوى راسخة، مما جعله محبوباً عند شعب نصيبين، وفي عهده بلغ عدد الطلاب نحو الألف، فاضطر إلى استحداث طرق للتعليم، وإلى توسيع البنايات لكي تستوعب هذا العدد الضخم من الطلاب، فبنى 80 غرفة جديدة وألحقها بمستوصف ومسبح، واشترى مزرعة تغطي وارداتها جزءاً من مصاريف المدرسة، واستمر في رئاسة المدرسة ستين سنة حتى توفي سنة 569م. ويقول عنه برحدبشبا عربايا: " إن إبراهيم دبر المدرسة ستين سنة مواظباً على الصوم والصلاة، ومحيياً الليالي بالمطالعة والتأليف، ولم يزل يعلم تفسير الكتب المقدسة، واستنارت كل أرض فارس بتعليمه، وولد أولاداً روحانيين لا يعدون ولا يحصون، وذاع صيته في مملكتي الفرس والروم معاً ". 
   وبعد وفاته خلفه في رئاسة المدرسة إيشوعياب الأرزني، وبعد أن علم مدة سنتين بكل دقة ونشاط انتخب أسقفاً على أرزون سنة 571م، ثم بطريركاً لكنيسة المشرق سنة 581م.
   وخلفه في رئاسة المدرسة إبراهيم النصيبيني، ويلقبه الصوباوي بابن القرداحي " ابن الحدادين " ، ويقول عنه برحدبشبا عربايا أنه كان رجلاً ذا همة عظيمة، متفنناً في جميع العلوم، غيوراً نشيطاً تقياً نقياً، ولكن رئاسته لم تدم إلا سنة واحدة لأن المنية اختطفته سنة 572م.
   وخلفه في رئاسة المدرسة حنانا الحديابي، ويثني عليه برحدبشبا عربايا جزيل الثناء، ويصف فضائله العديدة الحميدة ومناقبه الحسنة. ويقول ماري بن سليمان أن عدد تلاميذه بلغ الثمانمائة،  وسرعان ما ظهرت في تعاليمه آراء لا تلائم تعاليم كنيسة المشرق، وتخلى في شرح الكتب المقدسة عن تفاسير المصيصي، وتبع آراء الذهبي الفم، وأحدثت هذه التعاليم ضجة كبيرة وخلافاً عميقاً في صفوف الأساتذة والطلاب، وأسفرت عن مغادرة نحو 300 طالب مدرسة نصيبين، وحدثت هذه الأزمة بعد سنة 596م.  ومنذئذ بدأت المدرسة بالانحطاط.
   أما إيليا مطران نصيبين فقد أسس مدرسة " بيث سهدي " بجانب مدرسة نصيبين الجامعية في سبيل مقاومة تعاليم حنانا. توفي حنانا سنة 610م بعد أن ترأس المدرسة 38 سنة.
   وخلفه في رئاسة المدرسة ربان سورين وقد علم فيها 50 سنة حتى توفي سنة 660م، ويقول عنه الصوباوي إنه ألف كتاباُ فنذ فيه آراء الهراطقة ببراهين قاطعة وأدلة عقلية، وميمراً في رؤساء مدرسة نصيبين.
   واستمرت مدرسة نصيبين بحيويتها، حيث تخرج منها مجموعة من العلماء، تركت نتاجاتهم الأدبية آثاراً عميقة في تاريخ الفكر المشرقي، ومنهم شخصيات مرموقة وصلت إلى مراكز عالية في كنيسة المشرق، نذكر منهم الجاثليق مار آبا الكبير وتوما الرهاوي وقيورا الرهاوي وإبراهيم الكشكري مصلح الرهبانية المشرقية وبرعدتا ويوسف الأهوازي والجاثليق سبريشوع الأول وباباي الكبير والجاثليق إيشوعياب الجدالي والجاثليق ما إمه وسهدونا المعروف بمرطوريس والجاثليق إيشوعياب الحديابي وعنانيشوع الراهب وبولس النصيبيني وميخائيل باذوقا وبرحدبشبا عربايا والربان أوكاما وجبرائيل راقودا وإيليا الراهب مؤسس دير السعيد قرب نينوى وغيرهم الكثيرين.
   وبعد القرنين السابع والثامن أحدث الفتح العربي تغيرات في مختلف المجالات والأصعدة، فضعفت المدرسة وتراجعت كثيراً وتناقص عدد المدرسين والطلاب، فتقلص إشعاعها وإستولى عليها الخمول بعد أن كانت أكبر جامعة لاهوتية في كنيسة المشرق، أما مكتبتها الغنية بالمخطوطات فأصبحت طعمة للنار في القرن الثاني عشر.

   9_ قوانين مدرسة نصيبين: إن مدرسة نصيبين كانت جمعية حقيقية منظمة بقوانين وضوابط، يسوسها رئيس يدعى " ربان " ويسمى أيضاً " المفسر " لأن من أخص وظائفه تفسير الأسفار الإلهية. وبعده يأتي " المقرىء " ووظيفته تعليم صناعة النحو، والألحان الكنسية وتآليف الآباء اليونان. وبعده يأتي " المهجىء " ووظيفته تعليم التهجئة والقراءة الفصيحة للمبتدئين.  وبعده يأتي " الوكيل " ويسمى رئيس البيت الذي يعتبر مسؤولاً عن ممتلكات المدرسة كافة،ووظيفته أن يتسلم دخل المدرسة وينفق عليها، وينتخب لهذه المهمة من كان مستقيماً مقتدراً على إدارة أمور المدرسة، منصفاً بين الأخوة بدون محاباة، ولا يجوز له أن يقدم على عمل مهم دون مشورة رئيس المدرسة، وإذا تغافل عن وظيفته طرد من المدرسة ومن المدينة أيضاً، ويتم انتخاب رئيس البيت لمدة سنة واحدة.  ويأتي في القوانين اسم" الكاتب " ومهمته أن يعلم التلاميذ الخط، ومنهم من كان كاتباً لرئيس البيت ومساعداً له. وبعده نرى " الإخوة المعرفين والمفتشين " وهم الكهنة أو العلماء في المدرسة، وكان الرئيس أو الوكيل لا يعمل شيئاً مهماً دون مشورتهم، وكانوا يسهرون على حفظ النظام الداخلي للمدرسة. وكان في المدرسة " مدير مكتبة " مهمته المحافظة على الكتب وصونها.
   وكانت المدرسة تتلقى الهدايا والهبات كالأراضي والأموال والعطايا المختلفة، الأمر الذي جعلها تمتلك أموالاً ضخمة غير منقولة، وكانت هذه الأموال تستغل لصالحها، فقد تم بناء حمام في مدينة نصيبين كانت أرباحه تؤول لصالح المدرسة، وتم بناء مشفى لمعالجة المرضى، وشراء قافلة جمال تؤول أرباحها لصندوقها، ومن هذه الواردات تم تشيد أبنية جديدة لها، وأجنحة لسكن التلاميذ، ومساعدة التلاميذ الفقراء والمرضى، كذلك شيدت دار للضيافة لاستقبال الضيوف العابرين في نصيبين والاهتمام بهم. 
   أما التلاميذ وتسميهم القوانين " الأخوة " فكان عليهم أن يلتمسوا الدخول إلى المدرسة من الوكيل، وأن يكون لهم معرفة في القوانين، وكانوا يتعهدون أن يحفظوا البتولية ويسيروا سيرة صالحة لا عيب فيها، ولهم زي خصوصي يفرقهم عن غيرهم. وأما شعر رؤوسهم فلم يؤذن لهم أن يحلقوه، ولا أن يخصلوه مثلما كان يفعل باقي القوم، بل كانوا يحلقون فقط قمة رؤوسهم لتصبح دائرة كأنها إكليل.

   10_ الحياة اليومية في مدرسة نصيبين: كانت الحياة اليومية وبرنامج التدريس كالتالي: صباحاً عند صياح الديك، يستيقظ الجميع ويذهبون إلى غرف الدرس، فيلزم كل منهم مكانه حتى المساء، وكانوا يجلسون في الغرفة على صفين. ومن كان ينقطع عن الدرس والكتابة ولا يحضر ساعات التدريس والألحان الطقسية، يتلقى من رؤساء القلالي توبيخاً شديداً، وإذا لم يسمع منهم يعاقبه الوكيل. وكان التلاميذ يلتزمون أيضاً حضور فرض الموتى والاحتفالات الكنسية، وكل من ينقطع من دون سبب يوبخ جهاراً. وفي المساء وبعد تلاوة المزامير يذهب كل تلميذ إلى قلايته، حيث لكل قلاية رئيس يجب طاعته. وسكان القلاية الواحدة يتناولون الطعام سوية، ولا يجوز تناول الطعام في الجنائن والبساتين، وحضور المآدب والولائم في المدينة، أو زيارة أديرة الراهبات. وكان السكن في المدينة ممنوعاً إلا إذا لم يبق مكان في المدرسة، وإذا مرض تلميذ كان الآخرون يقومون بخدمته.
   وكل تلميذ يختم دروسه يرسله الرئيس ليعلم في المكان الذي يعينه له، وكان للتلاميذ سلطة على أموالهم، ومجبرين على تأمين معيشتهم، ومن كان يريد أن يقرض ما كان يتوفر له من المال، لم يكن يؤذن له أن يأخذ عليه أكثر مما عينته الكنيسة " أي واحد بالمئة ". أما التلاميذ الفقراء فكانوا يعملون في العطلة السنوية، من بداية شهر آب وحتى نهاية تشرين الأول، أي في زمن الحصاد وقطف الزيتون، ويشترط على الذين يعملون أن يسيروا سيرة صالحة، حتى لا يرذل بسببهم اسم المدرسة، وما يكسبه التلاميذ خلال عملهم في العطلة الصيفية، يستعملونه لمصروفهم الشخصي، أما الضعفاء والمرضى الذين لا يستطيعون العمل فكانوا يراجعون الوكيل ليساعدهم، ولم يكن يسمح لهم بالتسول. أم من ينكث بوعده فيتزوج، أو يسرق أو يزرع الفتنة بين الأخوة، أو من وجد شيئاً مفقوداً ولم يخبر الوكيل حتى يسأل عنه صاحبه، أو أخذ كتاباً من المدرسة ولم يعده بقصد يطرد من المدرسة. أما دخول التلاميذ إلى المدرسة والإقامة فيها فكان مجانياً.
   ويظهر من قوانين مدرسة نصيبين أن التلاميذ كانوا ينصرفون إلى العلم والصلاة والتأمل والزهد والتصوف والفقر والتجرد والقداسة . وأقدم هذه القوانين رسمها الملفان نرساي، وكرسها هوشع مطران نصيبين سنة 496م، لكي لا يتصرف الأخوة كلا وفق هواه. وبعد قرن أي في سنة 590م وضع حنانا الحديابي قوانين أخرى وعددها واحد وعشرون قانوناً، وذلك في أيام شمعون مطران نصيبين، وتم تصديقها في سنة 602م على عهد آحاد أبوي مطران نصيبين. ومن خلال هذه القوانين نرى هذه المدرسة تسير بنظام صارم، ومنهجية واضحة حتى بلغ عدد تلاميذها الألف، فشكلت جامعة بعدد تلاميذها ودقة قوانينها.

   11_ المواد الدراسية في مدرسة نصيبين: كانت مهمة المفسر في مدرسة نصيبين تفسير الأسفار الإلهية وشرحها، معتمداً على تفسير تيودورس المصيصي ويسمونه " التفسير "،وشرح الملفان أفرام ويدعونه " التقليد "، وما دونه مار نرساي يسمونه " التقليد المدرسي ".
   وكان المفسر في شرحه الكتب الإلهية يعلم المنطق والفلسفة، ويقول عبديشوع الصوباوي في كتابه     " نوموقانون " إن الدروس كانت تدوم ثلاث سنين، ففي السنة الأولى يدرس التلاميذ، أسفار التكوين والخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع ويشوع بن نون والقضاة وصموئيل والملوك والأمثال والجامعة وراعوث ونشيد الإنشاد وأيوب ورسائل بولس الرسول، كما كانوا يتعلمون الهجاء والقراءة والألحان التي في طقس الموتى والكتابة على اللوح.
وفي السنة الثانية يدرسون المزامير وكتب الأنبياء والقراءة والكتابة على اللوح وتراتيل القداس وفقاً لمدار السنة الطقسية.   
   أما في السنة الثالثة فيدرسون القسم المتبقي من أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وترتيل البيم، وتدخل ضمن هذه الدراسة مواد النحو والصرف والخط، أما قراءة المزامير وتعلمها غيباً فأول ما يبدأ به الطالب وفقاً للطريقة المدرسية، أما الجغرافيا والبلاغة والعلوم الطبيعية فلم تكن من المواد الأساسية.
   وقد اتبعت المدرسة في عهد الملفان أفرام الطريقة اليونانية السباعية في التدريس، فكان التلاميذ يتعلمون القواعد والخطابة والجدل والموسيقى والألحان، والهندسة والرياضيات والفلك لاحتساب التقويم والأعياد والأصوام، كذلك التاريخ وكتب التصوف الروحي وسير القديسين وأعمال الشهداء وكتابات الآباء ، وكان الوقت كله مخصصاً للدراسة والصلاة.
   وقد تضمن القسم الأول من " نوموقانون " منهاج تدريس أسفار العهدين القديم والجديد والتي تعتبر شرعية، إلا أن الملحق المضاف إلى القسم الأول يحدد من أين يتوجب التدريس ونظام دراسة الكتب، وكان هذا القانون ضرورياً لفصل الكتب " الحقيقية " عن الكتب " المنحولة " . وقد تضمن الجزء التالي من نوموقانون قرارات المدرسة النصيبينية. 
   ويقول برحدبشبا عربايا: إن الدروس في مدرسة نصيبين كانت تتم على فصلين، والواقع أن القرارات الواردة في نوموقانون لا تخص مدرسة نصيبين وحسب، وإنما تخص المدارس الأخرى، ومن هنا يمكن الاستنتاج أن قوانين مدرسة نصيبين كانت مطبقة في أماكن تعليمية أخرى، واتبعت مناهجها التدريسية في مدارس كثيرة.
   وينص قانون المدرسة الذي ورد في مؤلفات عبديشوع الصوباوي، أنه في السنة الأولى تبدأ الدراسة هناك حيث يوجد خبز في المدرسة، يوم الاثنين بعد الأحد الذي ينشد فيه ترتيلة " بعد تابوتك ". أما في المدارس التي لا يوجد فيها خبز، فإنه يتوجب على الدارسين أن يشتغلوا لكي يطعموا، ويجب أن تبدأ الدروس يوم الاثنين الذي يلي يوم الأحد الذي تنشد فيه ترتيلة " ليس من الحياة ".
   وطبقاً لمواد الدراسة المطبقة في هذه المدارس، يمكن التخمين أنه كان يرتادها المتعلمون الذين سبق أن مروا بالتعليم، بحيث تصبح هذه المدارس بالنسبة إليهم المرحلة الثانية من التعليم. وعليه يتوجب على الدارسين أن يكتبوا في السنة الأولى الجزء الأول من الصلوات ورسائل بولس والأسفار الخمسة، ويبدو أن التعليم كان يتألف من نسخ الطالب لأجزاء من الكتب التي يتوجب حفظها لاحقاً، وبفضل هذا الأسلوب التعليمي تحفظ النصوص من جهة، ويعاد استنساخ المخطوطات من جهة أخرى.
   أما الطلاب الذين كانوا يشتركون في فرق الإنشاد والتراتيل الكنسية، فعليهم أن يحفظوا في سنتهم الدراسية الأولى التراتيل الجنائزية. وفي السنة الثانية ينسخون الجزء الثاني من الصلوات والمزامير والأنبياء ويحفظون التراتيل الليتورجية. أما في السنة الثالثة فيكتبون كتاب العهد الجديد، مع الجداول التي تحدد النظام اليومي لقراءة الكتاب المقدس، وكذلك التراتيل " العونايات "، فيتخرج التلميذ مشبعاً بالعلم والمعرفة.

   12_ ما تبقى من آثار نصيبين في الزمن الحاضر: إن عوادي الزمان أزالت الكثير من آثار هذه الأبرشية. ولم يبق من عظمة هذه الآثار إلا الشيء اليسير جداً، نذكر منها:

ا: كنيسة مار يعقوب النصيبيني: أسسها مار يعقوب مطران نصيبين على أنقاد معبد أصنام أنطياخوس سنة 313، وانتهى العمل فيها سنة 320. كانت هذه الكنيسة آية في الجمال والفن المشرقي، واسعة الأرجاء، زينت جوانبها الأربعة بزخارف ونقوش جميلة، فيها أسوار تعلوها نقوش كثيرة وبديعة. تحت مذبحها الشرقي سرداب مربع يحوي ضريحاً من الرخام المغبر طوله 3 أذرع، مغطى بحجر مقبب، يقال إنه ضريح مار يعقوب النصيبيني باني الكنيسة. وفيها حجرة سطرت عليها جملة بالأسطرنجيلية. ومع تدوال الأيام قوض نصفها وبقي نصفها الآخر حتى اليوم. وقد رممها سنة 1562 مطران نصيبين ايشوعياب.
   وقد أخذها السريان الأرثوذكس من الكلدان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويؤيد قولنا هذا ما قاله المطران اسحق ساكا في كتابه كنيستي السريانية: " حتى أواسط القرن التاسع عشر، استولى البطريرك يعقوب الثاني 1847_ 1871 على بيعة مار يعقوب النصيبيني في نصيبين، ورسم لها قورلس   اشعيا ". ومن المعلوم أن ملكية الكاتدرائية تعود للمشارقة منذ البدايات، وقد سقطت الكاتدرائية بفعل الزلازل الذي ضرب نصيبين سنة 713، فشيدت من جديد من قبل المطران سبريشوع الأول،  وانتهت الأعمال في عهد المطران قبريانوس الأول.  وفي سنة 1119 جرت أعمال ترميم الكنيسة في عهد المطران سبريشوع الثالث.  أما التجديد الأخير الذي أجراه المشارقة فكان في سنة 1562 في عهد المطران إيشوعياب. 
   وقد عمل السريان الأرثوذكس الكثير للاستيلاء على الكاتدرائية، وأخيراً نالوا قراراً من حاكم ديار بكر سنة 1865 يعطيهم حق ملكيتها، بعد أن قبض منهم مبلغاً كبيراً من الذهب.  ويبدو أن السريان الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس كانوا أيضاً يبذلون الجهود لدى الباب العالي في القسطنطينية  لضبط هذه الكنيسة، لكنهم لم يتوصلوا إلى أي نتيجة تذكر. لكن الكلدان لم يقبلوا بهذا القرار الجائر، وعليه نقرأ في رسالة البطريرك يوسف السادس أودو  الموجهة إلى مطران الجزيرة العمرية مار بولس هندي  بتاريخ 14/5/ 1866 يشرح فيها ما جرى بقوله: " تبين لنا بأن دير مار يعقوب النصيبيني بحسب فصل الباب العالي أصبح للسريان، وقد كتبنا إلى مطران آمد مار بطرس دي نتلي  ومطران ماردين مار أغناطيوس دشتو،  كي يقفوا بوجه اليعاقبة أمام المحكمة ليعود لنا كما كان ". 
    أما البطريرك يوسف السادس أودو فإنه تابع هذه القضية بشكل جدي، وقد كلف لهذه الغاية بطريرك الأرمن الكاثوليك أنطوان حسونيان،  والذي بذل جهوداً مضنية في القسطنطينية، لكي يحصل من الباب العالي على قرراً يعيد الكنيسة إلى أصحابها الشرعيين، لكنه لم يفلح. وقد بلغ البطريرك أودو أنه فشل في تحقيق طلبه. وعليه خرجت الكنيسة من يد المشارقة، وذلك واضح من قول الشماس إسحق سكماني  المرافق للبطريرك أودو خلال سفره إلى روما لحضور المجمع الفاتيكاني الأول:  " في أيلول 1869 ارتحلنا إلى قضاء نصيبين، وهنا زرنا مع البطريرك أودو قبر مار يعقوب داخل الكنيسة المبنية على اسمه، وهي كنيسة عمارتها فاخرة، إلا أن الخراب قد أصابها وحالها يرثى له، وهي الآن بيد طائفة اليعاقبة ".
    وقد جدد السريان الأرثوذكس الكنيسة سنة 1872 على عهد البطريرك يعقوب الثاني والمطران قورلس إشعيا، وذلك واضح من اللوحة الحجرية المثبتة في مدخل الكنيسة والمكتوبة بالسريانية الغربية. ويؤيد قولنا هذا ما قاله المطران إسحق ساكا في كتابه " كنيستي السريانية " حيث يقول: " حتى أواسط القرن التاسع عشر استولى ال

51
تذكار مار أدي الرسول
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 9 / 1 _ 19 أما شاول فما زال صدره ينفث . . .
القراءة الثانية: العبرانيين 10 / 19 _ 36 ولما كنا واثقين أيها الأخوة بأن . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 21 / 1 _ 14 وتراءى يسوع بعدئذ للتلاميذ مرة أخرى . .

   مار أدي الرسول: أصله من دفنيس  وهو أحد الاثنين والسبعين تلميذاً، وكان يرافق توما الرسول.
   كان ملك أورهاي ( الرها ) أبجر  الخامس أوكاما ( الأسود ) مصاباً بداء الملوك " النقرس "، ويعاني آلاماً شديدة. ولما بلغه خبر العجائب التي كان يجريها يسوع، أرسل إليه وفداً وحمله رسالة يلتمس فيها أن يأتي ويشفيه. وقد تلقى يسوع رسالة الملك أبجر بفرح عظيم. وحمل الوفد رسالة جوابية للملك أبجر.
   ويحدثنا تقليد كنيسة الرها عن هذه الرسائل، فبعد أن أرسل أبجر موفداً من قبله إلى أورشليم بشخص حنان أمين المحفوظات الرسمية في ديوانه، حاملاً رسالة ليسوع. نجد هذا الموفد بعد أن يقابل يسوع يحصل منه على رسالة جوابية إلى أبجر، وقد ذاعت شهرة هذه الرسالة، وأثبت منها أوسابيوس القيصري (263_339) م في تاريخه الكنسي مقتطفات واسعة، أخذها عن الأصل الآرامي المحفوظ في خزانة وثائق مملكة الرها، وسنوجز نص هاتين الرسالتين.
   رسالة الملك أبجر أوكاما: " من أبجر أوكاما الملك إلى يسوع المخلص الصالح الذي ظهر في مقاطعة أورشليم سلام: لقد تناهى إلى سمعي ما يقال عنك وعن شفاءاتك وكيف تنجزها بدون عقاقير وأعشاب _ _ _ _ _ تجعل العميان يسترجعون أبصارهم، والعرج يمشون، وتطهر البرص، وتطرد الأرواح النجسة والشياطين، وتشفي الذين يتعذبون بمرض طويل، وتقيم الأموات. وعندما سمعت عنك هذه الأشياء كلها _ _ _ _ _ لهذا السبب اكتب متوسلاً إليك أن تسرع بالمجيء إلي، وتشفي العذاب الذي أنا فيه، وعلاوة على هذا فقد بلغني أن اليهود يضطهدونك ويطلبون هلاكك. ولي مدينة واحدة صغيرة حسنة جداً، لكنها تكفينا لنسكنها بهدوء وسلامة معاً ".
   رسالة يسوع المخلص: " طوبى لك يا أبجر لأنك آمنت ولم تراني _ _ _ _ _ أما بخصوص ما كتبته إلي بأن آتي إليك فانه علي أن أكمل كل ما أرسلتُ لإنجازه، وبعد ذلك سأصعد إلى ذاك الذي أرسلني. وبعد صعودي سأرسل إليك أحد تلاميذي ليشفي عذابك، ويعطي الحياة لك وللذين معك ". 
   ويتحدث تقليد الرها أن جواب يسوع للملك أبجر كتب بخط الرسول توما في قرطاس مصري، وكان محفوظاً في الخزانة الملكية، ويخرج منه في الأعياد ليتبارك منه المؤمنين. 
   ويتحدث التقليد أيضاً أن يسوع أرسل مع الجواب صورته على منديل " ولعلمي بشدة اشتياقك إلي قد وجهت إليك بمنديل فيه صورة وجهي لتشاهده، فلما وصل الكتاب إلى أبجر فرح به، وجعل المنديل على وجهه، فارتاح قلبه وقال: أنا أشهد أن هذا أبن الله الحي الحليم. ووجد أبجر راحة عظيمة من كثير مما كان يتشكاه ". 
   وقد احتفظت كنيسة الرها بصورة يسوع الغير مصنوعة باليد، ويتحدث تقليد الرها أن موفد الملك أبجر حنان كان رساماً ماهراً، فقام برسم صورة يسوع على منديل بألوان جميلة من نخبة الأصباغ العالية الجودة، " وعمد حنان إلى لوح مربع، وصور فيه صورة سيدنا المسيح بأصباغ حسنة أنيقة، وجعل ينظر إليه ويصور صورته في ذلك اللوح، وأتى به معه للرها إلى أبجر فقبله وجعله في خزانته، وهو هناك إلى هذه الغاية ". 
   وتتحدث الروايات المتأخرة أن يسوع ترك تقاطيع وجهه بنفسه على المنديل وقد اعتبر هذا العمل سماوياً، لذلك دعيت ( الصورة الغير مصنوعة باليد )، وبعد عودة الوفد إلى الرها قدم المنديل إلى الملك أبجر، وعندما رآه تقبله بفرح عظيم ووضعه بتبجيل عظيم في إحدى غرف قصره، بعد أن كتب عليه العبارة التالية:   " أيها المسيح الإله، لن يهلك كل من يثق بك ".
   أما تعليم أدي فيقول أن يسوع مسح وجهه بمنديل، فانطبعت عليه صورته. " وحنان المصور الذي أرسله أبجر رسولاً إلى سيدنا، اجتهد في أن يأخذ صورة للمسيح ولم يتمكن، وأن سيدنا أخذ المنديل الذي كان مع حنان، فمسح به وجهه، فحصلت فيه صورته وأنفذه إلى أبجر ". 
   كما تتحدث قصة القديسة وارينا _ فيرونيكا  التي مسحت وجه يسوع بمنديل وهو حاملاً صليبه على طريق الآلام، فانطبع وجهه على المنديل.
   وبعد صعود الرب دفعت نعمة الله الرسول توما لكي يرسل إلى مدينة الرها واحداً من الاثنين والسبعين تلميذاً اسمه أدي. ولما وصل هناك حل في بيت رجل يدعى طوبانا " سعيد " وشرع يصنع العجائب. وسرعان ما انتشر خبره في المدينة كلها.
   ولما بلغ الخبر الملك أبجر استدعى طوبانا وقال له: " بلغني أن في بيتك رجلاً قديراً فأتني به ". وفي الحال ذهب الرجل وأتى بأدي، فمثل أمام الملك أبجر الذي كان يحيط به جمع غفير. ولدى دخول أدي شاهد الملك منظراً عجيباً على وجهه، فسجد أمام أدي. فأعترى العظماء الحاضرين في البلاط الدهش الشديد، من أن رجلاً لابساً ثياباً رثة أثر في الملك هذا التأثير كله، ولم يعلموا أن يسوع أظهر مجده في الرجل الذي أقبل عليه. فقال أدي للملك: " لماذا استدعيتني؟ ".
   فقال له الملك: " بلغني أنك تقوم بأمور عجيبة، وتجري قوات خارقة. وعرفت أنك تلميذ يسوع الذي كتب إليَّ في رسالته: إني بعد قيامتي سأرسل إليك واحداً من تلاميذي. فقد أتيت إليَّ الآن لكي     تشفيني ".
   فقال له أدي: " إن تؤمن تنل مرامك. إذ أن كل شيء مستطاع لمن يؤمن ".
فقال له الملك: " إني آمنت به إلى حد إني لولا خوفي من مملكة الرومان، لأرسلت جيشاً لأبيذ اليهود الذين صلبوه ". فوضع أدي يده عليه وتعافى بقوة يسوع من جميع أمراضه. وتعجب أبجر وأنذهل أمام تلك الآية البينة التي جرت له بشفائه من داء الملوك. وشفى أدي أيضاً أحد عبيد الملك، وآخرين عديدين من سكان المدينة.
   ولما عاين الملك وعظماؤه الآيات التي صنعها أدي، شرعوا يقولون له: " إننا نلتمس منك أن تشرح لنا من هو يسوع، وماذا علّم، وماذا صنع؟ ".
   فقال أدي للملك: " إن الوقت الآن متأخر، وإذا شئت أن أشرح لك ذلك، فأدعُ عساكرك، وأنا في الغد آتي واشرح لك قصة يسوع ".
   وقبل الملك كلامه بفرح، واستدعى جميع أعيانه. وفي صباح الغد جاء أدي وشرع يحدثهم عن العناية الإلهية، وكيف أبدع الله الكون وخلق البشر، وكلّمهم عن الوعود التي أبرمها للأولين، وعن مجيء المسيح والعجائب التي صنعها، وعن قيامته وصعوده إلى السماء، وعن الموهبة التي منحها للأنبياء والرسل لكي يبشروا الأمم. وكان الملك يستحسن كلام أدي، والروح القدس يؤيد تلك الأقوال بالعجائب.
   وأمر الملك بأن يُعطى أدي فضة وذهباً. فقال له أدي: " كيف نستطيع أن نأخذ ما ليس لنا؟ فإننا قد تركنا ما كان لنا، إذا أوصانا الرب أن نكون بغير أكياس ولا حقائب، وأن نحمل الصليب على أكتافنا ونعلن بشارته في المسكونة كلها ".
    وانضمت المدينة كلها وجميع البلدان المحيطة بها إلى الإيمان المسيحي، حتى أن منطقة ما بين النهرين برمتها كادت تنظم إلى الإيمان الصحيح، بسبب العجائب التي كانت تجري على يد مار أدي. وكان الذين آمنوا يتنافسون في الفضيلة والأعمال الصالحة.
   وشيد أدي كنيسة في الرها، وزودها بكل المستلزمات، ورسم كهنة وشمامسة في المدينة وما يجاورها. بعد ذلك غادر أدي هذا العالم بسلام، في يوم الخميس الموافق الرابع عشر من أيار ( ؟ )، مختتماً جهاده المجيد بالنصر والغلبة. ودفن في قبر كبير في الكنيسة ذاتها، وكان المؤمنون يتوافدون لزيارة ضريحه ويحتفلون بتذكاره كل سنة.
   " وانتشرت النصرانية فيها وفي أطرافها انتشاراً سريعاً عجيباً، حتى سميت الرها المقدسة، والرها المباركة، ومدينة أبجر محب المسيح ".  وفيها ابتنى أدي أول كنيسة مسيحية باسم ( المخلص )، وقد توفي فيها سنة 49م ودفن في ( الكنيسة التي شيدها ).  وهناك من يقول إنه دفن في ( مقبرة ملوك               الرها ). 
   ويقول المطران أدي شير في كتابه سيرة أشهر شهداء المشرق: " في هذه السنين الأخيرة، وجد تحت ردم كنيسة مار كيوركيس في خارج بلدة كرمليس صندوق فيه ذخائر مار أدي الرسول. فنقلت ووضعت في الكنيسة التي في وسط البلدة، وبني لها هيكل فاخر على اسم هذا القديس ".
   وقبل أن يغادر أدي هذا العالم دعا أجي أمام جماعة الكنيسة كلها وأقامه خلفاً له في تدبير الكنيسة. وكان أجي قبل انضمامه إلى أدي يصنع ثياباً حريرية وخوذاً للملك، فتخلى عن مهنته هذه، وصار مدبراً ورئيساً لكنيسة الرها خلفاً لمعلمه أدي. 
   وقد تواجدت المسيحية في الرها في أواخر القرن الأول الميلادي، وأخذ عدد المسيحيين بالازدياد والنمو فيها. ومع تنصر الملك أبجر التاسع ( 179_ 214 ) م، اهتدى شعب مملكة أورهاي كله إلى الإيمان المسيحي، وأضحت المملكة الأولى التي اعتنقت المسيحية كدين رسمي في العالم، وهذا مدعاة افتخارها.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار أدي الرسول في الأحد الخامس من سابوع القيامة.





52
تذكار مار أدي الرسول
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 9 / 1 _ 19 أما شاول فما زال صدره ينفث . . .
القراءة الثانية: العبرانيين 10 / 19 _ 36 ولما كنا واثقين أيها الأخوة بأن . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 21 / 1 _ 14 وتراءى يسوع بعدئذ للتلاميذ مرة أخرى . .

   مار أدي الرسول: أصله من دفنيس  وهو أحد الاثنين والسبعين تلميذاً، وكان يرافق توما الرسول.
   كان ملك أورهاي ( الرها ) أبجر  الخامس أوكاما ( الأسود ) مصاباً بداء الملوك " النقرس "، ويعاني آلاماً شديدة. ولما بلغه خبر العجائب التي كان يجريها يسوع، أرسل إليه وفداً وحمله رسالة يلتمس فيها أن يأتي ويشفيه. وقد تلقى يسوع رسالة الملك أبجر بفرح عظيم. وحمل الوفد رسالة جوابية للملك أبجر.
   ويحدثنا تقليد كنيسة الرها عن هذه الرسائل، فبعد أن أرسل أبجر موفداً من قبله إلى أورشليم بشخص حنان أمين المحفوظات الرسمية في ديوانه، حاملاً رسالة ليسوع. نجد هذا الموفد بعد أن يقابل يسوع يحصل منه على رسالة جوابية إلى أبجر، وقد ذاعت شهرة هذه الرسالة، وأثبت منها أوسابيوس القيصري (263_339) م في تاريخه الكنسي مقتطفات واسعة، أخذها عن الأصل الآرامي المحفوظ في خزانة وثائق مملكة الرها، وسنوجز نص هاتين الرسالتين.
   رسالة الملك أبجر أوكاما: " من أبجر أوكاما الملك إلى يسوع المخلص الصالح الذي ظهر في مقاطعة أورشليم سلام: لقد تناهى إلى سمعي ما يقال عنك وعن شفاءاتك وكيف تنجزها بدون عقاقير وأعشاب _ _ _ _ _ تجعل العميان يسترجعون أبصارهم، والعرج يمشون، وتطهر البرص، وتطرد الأرواح النجسة والشياطين، وتشفي الذين يتعذبون بمرض طويل، وتقيم الأموات. وعندما سمعت عنك هذه الأشياء كلها _ _ _ _ _ لهذا السبب اكتب متوسلاً إليك أن تسرع بالمجيء إلي، وتشفي العذاب الذي أنا فيه، وعلاوة على هذا فقد بلغني أن اليهود يضطهدونك ويطلبون هلاكك. ولي مدينة واحدة صغيرة حسنة جداً، لكنها تكفينا لنسكنها بهدوء وسلامة معاً ".
   رسالة يسوع المخلص: " طوبى لك يا أبجر لأنك آمنت ولم تراني _ _ _ _ _ أما بخصوص ما كتبته إلي بأن آتي إليك فانه علي أن أكمل كل ما أرسلتُ لإنجازه، وبعد ذلك سأصعد إلى ذاك الذي أرسلني. وبعد صعودي سأرسل إليك أحد تلاميذي ليشفي عذابك، ويعطي الحياة لك وللذين معك ". 
   ويتحدث تقليد الرها أن جواب يسوع للملك أبجر كتب بخط الرسول توما في قرطاس مصري، وكان محفوظاً في الخزانة الملكية، ويخرج منه في الأعياد ليتبارك منه المؤمنين. 
   ويتحدث التقليد أيضاً أن يسوع أرسل مع الجواب صورته على منديل " ولعلمي بشدة اشتياقك إلي قد وجهت إليك بمنديل فيه صورة وجهي لتشاهده، فلما وصل الكتاب إلى أبجر فرح به، وجعل المنديل على وجهه، فارتاح قلبه وقال: أنا أشهد أن هذا أبن الله الحي الحليم. ووجد أبجر راحة عظيمة من كثير مما كان يتشكاه ". 
   وقد احتفظت كنيسة الرها بصورة يسوع الغير مصنوعة باليد، ويتحدث تقليد الرها أن موفد الملك أبجر حنان كان رساماً ماهراً، فقام برسم صورة يسوع على منديل بألوان جميلة من نخبة الأصباغ العالية الجودة، " وعمد حنان إلى لوح مربع، وصور فيه صورة سيدنا المسيح بأصباغ حسنة أنيقة، وجعل ينظر إليه ويصور صورته في ذلك اللوح، وأتى به معه للرها إلى أبجر فقبله وجعله في خزانته، وهو هناك إلى هذه الغاية ". 
   وتتحدث الروايات المتأخرة أن يسوع ترك تقاطيع وجهه بنفسه على المنديل وقد اعتبر هذا العمل سماوياً، لذلك دعيت ( الصورة الغير مصنوعة باليد )، وبعد عودة الوفد إلى الرها قدم المنديل إلى الملك أبجر، وعندما رآه تقبله بفرح عظيم ووضعه بتبجيل عظيم في إحدى غرف قصره، بعد أن كتب عليه العبارة التالية:   " أيها المسيح الإله، لن يهلك كل من يثق بك ".
   أما تعليم أدي فيقول أن يسوع مسح وجهه بمنديل، فانطبعت عليه صورته. " وحنان المصور الذي أرسله أبجر رسولاً إلى سيدنا، اجتهد في أن يأخذ صورة للمسيح ولم يتمكن، وأن سيدنا أخذ المنديل الذي كان مع حنان، فمسح به وجهه، فحصلت فيه صورته وأنفذه إلى أبجر ". 
   كما تتحدث قصة القديسة وارينا _ فيرونيكا  التي مسحت وجه يسوع بمنديل وهو حاملاً صليبه على طريق الآلام، فانطبع وجهه على المنديل.
   وبعد صعود الرب دفعت نعمة الله الرسول توما لكي يرسل إلى مدينة الرها واحداً من الاثنين والسبعين تلميذاً اسمه أدي. ولما وصل هناك حل في بيت رجل يدعى طوبانا " سعيد " وشرع يصنع العجائب. وسرعان ما انتشر خبره في المدينة كلها.
   ولما بلغ الخبر الملك أبجر استدعى طوبانا وقال له: " بلغني أن في بيتك رجلاً قديراً فأتني به ". وفي الحال ذهب الرجل وأتى بأدي، فمثل أمام الملك أبجر الذي كان يحيط به جمع غفير. ولدى دخول أدي شاهد الملك منظراً عجيباً على وجهه، فسجد أمام أدي. فأعترى العظماء الحاضرين في البلاط الدهش الشديد، من أن رجلاً لابساً ثياباً رثة أثر في الملك هذا التأثير كله، ولم يعلموا أن يسوع أظهر مجده في الرجل الذي أقبل عليه. فقال أدي للملك: " لماذا استدعيتني؟ ".
   فقال له الملك: " بلغني أنك تقوم بأمور عجيبة، وتجري قوات خارقة. وعرفت أنك تلميذ يسوع الذي كتب إليَّ في رسالته: إني بعد قيامتي سأرسل إليك واحداً من تلاميذي. فقد أتيت إليَّ الآن لكي     تشفيني ".
   فقال له أدي: " إن تؤمن تنل مرامك. إذ أن كل شيء مستطاع لمن يؤمن ".
فقال له الملك: " إني آمنت به إلى حد إني لولا خوفي من مملكة الرومان، لأرسلت جيشاً لأبيذ اليهود الذين صلبوه ". فوضع أدي يده عليه وتعافى بقوة يسوع من جميع أمراضه. وتعجب أبجر وأنذهل أمام تلك الآية البينة التي جرت له بشفائه من داء الملوك. وشفى أدي أيضاً أحد عبيد الملك، وآخرين عديدين من سكان المدينة.
   ولما عاين الملك وعظماؤه الآيات التي صنعها أدي، شرعوا يقولون له: " إننا نلتمس منك أن تشرح لنا من هو يسوع، وماذا علّم، وماذا صنع؟ ".
   فقال أدي للملك: " إن الوقت الآن متأخر، وإذا شئت أن أشرح لك ذلك، فأدعُ عساكرك، وأنا في الغد آتي واشرح لك قصة يسوع ".
   وقبل الملك كلامه بفرح، واستدعى جميع أعيانه. وفي صباح الغد جاء أدي وشرع يحدثهم عن العناية الإلهية، وكيف أبدع الله الكون وخلق البشر، وكلّمهم عن الوعود التي أبرمها للأولين، وعن مجيء المسيح والعجائب التي صنعها، وعن قيامته وصعوده إلى السماء، وعن الموهبة التي منحها للأنبياء والرسل لكي يبشروا الأمم. وكان الملك يستحسن كلام أدي، والروح القدس يؤيد تلك الأقوال بالعجائب.
   وأمر الملك بأن يُعطى أدي فضة وذهباً. فقال له أدي: " كيف نستطيع أن نأخذ ما ليس لنا؟ فإننا قد تركنا ما كان لنا، إذا أوصانا الرب أن نكون بغير أكياس ولا حقائب، وأن نحمل الصليب على أكتافنا ونعلن بشارته في المسكونة كلها ".
    وانضمت المدينة كلها وجميع البلدان المحيطة بها إلى الإيمان المسيحي، حتى أن منطقة ما بين النهرين برمتها كادت تنظم إلى الإيمان الصحيح، بسبب العجائب التي كانت تجري على يد مار أدي. وكان الذين آمنوا يتنافسون في الفضيلة والأعمال الصالحة.
   وشيد أدي كنيسة في الرها، وزودها بكل المستلزمات، ورسم كهنة وشمامسة في المدينة وما يجاورها. بعد ذلك غادر أدي هذا العالم بسلام، في يوم الخميس الموافق الرابع عشر من أيار ( ؟ )، مختتماً جهاده المجيد بالنصر والغلبة. ودفن في قبر كبير في الكنيسة ذاتها، وكان المؤمنون يتوافدون لزيارة ضريحه ويحتفلون بتذكاره كل سنة.
   " وانتشرت النصرانية فيها وفي أطرافها انتشاراً سريعاً عجيباً، حتى سميت الرها المقدسة، والرها المباركة، ومدينة أبجر محب المسيح ".  وفيها ابتنى أدي أول كنيسة مسيحية باسم ( المخلص )، وقد توفي فيها سنة 49م ودفن في ( الكنيسة التي شيدها ).  وهناك من يقول إنه دفن في ( مقبرة ملوك               الرها ). 
   ويقول المطران أدي شير في كتابه سيرة أشهر شهداء المشرق: " في هذه السنين الأخيرة، وجد تحت ردم كنيسة مار كيوركيس في خارج بلدة كرمليس صندوق فيه ذخائر مار أدي الرسول. فنقلت ووضعت في الكنيسة التي في وسط البلدة، وبني لها هيكل فاخر على اسم هذا القديس ".
   وقبل أن يغادر أدي هذا العالم دعا أجي أمام جماعة الكنيسة كلها وأقامه خلفاً له في تدبير الكنيسة. وكان أجي قبل انضمامه إلى أدي يصنع ثياباً حريرية وخوذاً للملك، فتخلى عن مهنته هذه، وصار مدبراً ورئيساً لكنيسة الرها خلفاً لمعلمه أدي. 
   وقد تواجدت المسيحية في الرها في أواخر القرن الأول الميلادي، وأخذ عدد المسيحيين بالازدياد والنمو فيها. ومع تنصر الملك أبجر التاسع ( 179_ 214 ) م، اهتدى شعب مملكة أورهاي كله إلى الإيمان المسيحي، وأضحت المملكة الأولى التي اعتنقت المسيحية كدين رسمي في العالم، وهذا مدعاة افتخارها.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار أدي الرسول في الأحد الخامس من سابوع القيامة.





53
تذكار مار أدي الرسول
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 9 / 1 _ 19 أما شاول فما زال صدره ينفث . . .
القراءة الثانية: العبرانيين 10 / 19 _ 36 ولما كنا واثقين أيها الأخوة بأن . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 21 / 1 _ 14 وتراءى يسوع بعدئذ للتلاميذ مرة أخرى . .

   مار أدي الرسول: أصله من دفنيس  وهو أحد الاثنين والسبعين تلميذاً، وكان يرافق توما الرسول.
   كان ملك أورهاي ( الرها ) أبجر  الخامس أوكاما ( الأسود ) مصاباً بداء الملوك " النقرس "، ويعاني آلاماً شديدة. ولما بلغه خبر العجائب التي كان يجريها يسوع، أرسل إليه وفداً وحمله رسالة يلتمس فيها أن يأتي ويشفيه. وقد تلقى يسوع رسالة الملك أبجر بفرح عظيم. وحمل الوفد رسالة جوابية للملك أبجر.
   ويحدثنا تقليد كنيسة الرها عن هذه الرسائل، فبعد أن أرسل أبجر موفداً من قبله إلى أورشليم بشخص حنان أمين المحفوظات الرسمية في ديوانه، حاملاً رسالة ليسوع. نجد هذا الموفد بعد أن يقابل يسوع يحصل منه على رسالة جوابية إلى أبجر، وقد ذاعت شهرة هذه الرسالة، وأثبت منها أوسابيوس القيصري (263_339) م في تاريخه الكنسي مقتطفات واسعة، أخذها عن الأصل الآرامي المحفوظ في خزانة وثائق مملكة الرها، وسنوجز نص هاتين الرسالتين.
   رسالة الملك أبجر أوكاما: " من أبجر أوكاما الملك إلى يسوع المخلص الصالح الذي ظهر في مقاطعة أورشليم سلام: لقد تناهى إلى سمعي ما يقال عنك وعن شفاءاتك وكيف تنجزها بدون عقاقير وأعشاب _ _ _ _ _ تجعل العميان يسترجعون أبصارهم، والعرج يمشون، وتطهر البرص، وتطرد الأرواح النجسة والشياطين، وتشفي الذين يتعذبون بمرض طويل، وتقيم الأموات. وعندما سمعت عنك هذه الأشياء كلها _ _ _ _ _ لهذا السبب اكتب متوسلاً إليك أن تسرع بالمجيء إلي، وتشفي العذاب الذي أنا فيه، وعلاوة على هذا فقد بلغني أن اليهود يضطهدونك ويطلبون هلاكك. ولي مدينة واحدة صغيرة حسنة جداً، لكنها تكفينا لنسكنها بهدوء وسلامة معاً ".
   رسالة يسوع المخلص: " طوبى لك يا أبجر لأنك آمنت ولم تراني _ _ _ _ _ أما بخصوص ما كتبته إلي بأن آتي إليك فانه علي أن أكمل كل ما أرسلتُ لإنجازه، وبعد ذلك سأصعد إلى ذاك الذي أرسلني. وبعد صعودي سأرسل إليك أحد تلاميذي ليشفي عذابك، ويعطي الحياة لك وللذين معك ". 
   ويتحدث تقليد الرها أن جواب يسوع للملك أبجر كتب بخط الرسول توما في قرطاس مصري، وكان محفوظاً في الخزانة الملكية، ويخرج منه في الأعياد ليتبارك منه المؤمنين. 
   ويتحدث التقليد أيضاً أن يسوع أرسل مع الجواب صورته على منديل " ولعلمي بشدة اشتياقك إلي قد وجهت إليك بمنديل فيه صورة وجهي لتشاهده، فلما وصل الكتاب إلى أبجر فرح به، وجعل المنديل على وجهه، فارتاح قلبه وقال: أنا أشهد أن هذا أبن الله الحي الحليم. ووجد أبجر راحة عظيمة من كثير مما كان يتشكاه ". 
   وقد احتفظت كنيسة الرها بصورة يسوع الغير مصنوعة باليد، ويتحدث تقليد الرها أن موفد الملك أبجر حنان كان رساماً ماهراً، فقام برسم صورة يسوع على منديل بألوان جميلة من نخبة الأصباغ العالية الجودة، " وعمد حنان إلى لوح مربع، وصور فيه صورة سيدنا المسيح بأصباغ حسنة أنيقة، وجعل ينظر إليه ويصور صورته في ذلك اللوح، وأتى به معه للرها إلى أبجر فقبله وجعله في خزانته، وهو هناك إلى هذه الغاية ". 
   وتتحدث الروايات المتأخرة أن يسوع ترك تقاطيع وجهه بنفسه على المنديل وقد اعتبر هذا العمل سماوياً، لذلك دعيت ( الصورة الغير مصنوعة باليد )، وبعد عودة الوفد إلى الرها قدم المنديل إلى الملك أبجر، وعندما رآه تقبله بفرح عظيم ووضعه بتبجيل عظيم في إحدى غرف قصره، بعد أن كتب عليه العبارة التالية:   " أيها المسيح الإله، لن يهلك كل من يثق بك ".
   أما تعليم أدي فيقول أن يسوع مسح وجهه بمنديل، فانطبعت عليه صورته. " وحنان المصور الذي أرسله أبجر رسولاً إلى سيدنا، اجتهد في أن يأخذ صورة للمسيح ولم يتمكن، وأن سيدنا أخذ المنديل الذي كان مع حنان، فمسح به وجهه، فحصلت فيه صورته وأنفذه إلى أبجر ". 
   كما تتحدث قصة القديسة وارينا _ فيرونيكا  التي مسحت وجه يسوع بمنديل وهو حاملاً صليبه على طريق الآلام، فانطبع وجهه على المنديل.
   وبعد صعود الرب دفعت نعمة الله الرسول توما لكي يرسل إلى مدينة الرها واحداً من الاثنين والسبعين تلميذاً اسمه أدي. ولما وصل هناك حل في بيت رجل يدعى طوبانا " سعيد " وشرع يصنع العجائب. وسرعان ما انتشر خبره في المدينة كلها.
   ولما بلغ الخبر الملك أبجر استدعى طوبانا وقال له: " بلغني أن في بيتك رجلاً قديراً فأتني به ". وفي الحال ذهب الرجل وأتى بأدي، فمثل أمام الملك أبجر الذي كان يحيط به جمع غفير. ولدى دخول أدي شاهد الملك منظراً عجيباً على وجهه، فسجد أمام أدي. فأعترى العظماء الحاضرين في البلاط الدهش الشديد، من أن رجلاً لابساً ثياباً رثة أثر في الملك هذا التأثير كله، ولم يعلموا أن يسوع أظهر مجده في الرجل الذي أقبل عليه. فقال أدي للملك: " لماذا استدعيتني؟ ".
   فقال له الملك: " بلغني أنك تقوم بأمور عجيبة، وتجري قوات خارقة. وعرفت أنك تلميذ يسوع الذي كتب إليَّ في رسالته: إني بعد قيامتي سأرسل إليك واحداً من تلاميذي. فقد أتيت إليَّ الآن لكي     تشفيني ".
   فقال له أدي: " إن تؤمن تنل مرامك. إذ أن كل شيء مستطاع لمن يؤمن ".
فقال له الملك: " إني آمنت به إلى حد إني لولا خوفي من مملكة الرومان، لأرسلت جيشاً لأبيذ اليهود الذين صلبوه ". فوضع أدي يده عليه وتعافى بقوة يسوع من جميع أمراضه. وتعجب أبجر وأنذهل أمام تلك الآية البينة التي جرت له بشفائه من داء الملوك. وشفى أدي أيضاً أحد عبيد الملك، وآخرين عديدين من سكان المدينة.
   ولما عاين الملك وعظماؤه الآيات التي صنعها أدي، شرعوا يقولون له: " إننا نلتمس منك أن تشرح لنا من هو يسوع، وماذا علّم، وماذا صنع؟ ".
   فقال أدي للملك: " إن الوقت الآن متأخر، وإذا شئت أن أشرح لك ذلك، فأدعُ عساكرك، وأنا في الغد آتي واشرح لك قصة يسوع ".
   وقبل الملك كلامه بفرح، واستدعى جميع أعيانه. وفي صباح الغد جاء أدي وشرع يحدثهم عن العناية الإلهية، وكيف أبدع الله الكون وخلق البشر، وكلّمهم عن الوعود التي أبرمها للأولين، وعن مجيء المسيح والعجائب التي صنعها، وعن قيامته وصعوده إلى السماء، وعن الموهبة التي منحها للأنبياء والرسل لكي يبشروا الأمم. وكان الملك يستحسن كلام أدي، والروح القدس يؤيد تلك الأقوال بالعجائب.
   وأمر الملك بأن يُعطى أدي فضة وذهباً. فقال له أدي: " كيف نستطيع أن نأخذ ما ليس لنا؟ فإننا قد تركنا ما كان لنا، إذا أوصانا الرب أن نكون بغير أكياس ولا حقائب، وأن نحمل الصليب على أكتافنا ونعلن بشارته في المسكونة كلها ".
    وانضمت المدينة كلها وجميع البلدان المحيطة بها إلى الإيمان المسيحي، حتى أن منطقة ما بين النهرين برمتها كادت تنظم إلى الإيمان الصحيح، بسبب العجائب التي كانت تجري على يد مار أدي. وكان الذين آمنوا يتنافسون في الفضيلة والأعمال الصالحة.
   وشيد أدي كنيسة في الرها، وزودها بكل المستلزمات، ورسم كهنة وشمامسة في المدينة وما يجاورها. بعد ذلك غادر أدي هذا العالم بسلام، في يوم الخميس الموافق الرابع عشر من أيار ( ؟ )، مختتماً جهاده المجيد بالنصر والغلبة. ودفن في قبر كبير في الكنيسة ذاتها، وكان المؤمنون يتوافدون لزيارة ضريحه ويحتفلون بتذكاره كل سنة.
   " وانتشرت النصرانية فيها وفي أطرافها انتشاراً سريعاً عجيباً، حتى سميت الرها المقدسة، والرها المباركة، ومدينة أبجر محب المسيح ".  وفيها ابتنى أدي أول كنيسة مسيحية باسم ( المخلص )، وقد توفي فيها سنة 49م ودفن في ( الكنيسة التي شيدها ).  وهناك من يقول إنه دفن في ( مقبرة ملوك               الرها ). 
   ويقول المطران أدي شير في كتابه سيرة أشهر شهداء المشرق: " في هذه السنين الأخيرة، وجد تحت ردم كنيسة مار كيوركيس في خارج بلدة كرمليس صندوق فيه ذخائر مار أدي الرسول. فنقلت ووضعت في الكنيسة التي في وسط البلدة، وبني لها هيكل فاخر على اسم هذا القديس ".
   وقبل أن يغادر أدي هذا العالم دعا أجي أمام جماعة الكنيسة كلها وأقامه خلفاً له في تدبير الكنيسة. وكان أجي قبل انضمامه إلى أدي يصنع ثياباً حريرية وخوذاً للملك، فتخلى عن مهنته هذه، وصار مدبراً ورئيساً لكنيسة الرها خلفاً لمعلمه أدي. 
   وقد تواجدت المسيحية في الرها في أواخر القرن الأول الميلادي، وأخذ عدد المسيحيين بالازدياد والنمو فيها. ومع تنصر الملك أبجر التاسع ( 179_ 214 ) م، اهتدى شعب مملكة أورهاي كله إلى الإيمان المسيحي، وأضحت المملكة الأولى التي اعتنقت المسيحية كدين رسمي في العالم، وهذا مدعاة افتخارها.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار أدي الرسول في الأحد الخامس من سابوع القيامة.





54
تذكار مار أدي الرسول
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 9 / 1 _ 19 أما شاول فما زال صدره ينفث . . .
القراءة الثانية: العبرانيين 10 / 19 _ 36 ولما كنا واثقين أيها الأخوة بأن . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 21 / 1 _ 14 وتراءى يسوع بعدئذ للتلاميذ مرة أخرى . .

   مار أدي الرسول: أصله من دفنيس  وهو أحد الاثنين والسبعين تلميذاً، وكان يرافق توما الرسول.
   كان ملك أورهاي ( الرها ) أبجر  الخامس أوكاما ( الأسود ) مصاباً بداء الملوك " النقرس "، ويعاني آلاماً شديدة. ولما بلغه خبر العجائب التي كان يجريها يسوع، أرسل إليه وفداً وحمله رسالة يلتمس فيها أن يأتي ويشفيه. وقد تلقى يسوع رسالة الملك أبجر بفرح عظيم. وحمل الوفد رسالة جوابية للملك أبجر.
   ويحدثنا تقليد كنيسة الرها عن هذه الرسائل، فبعد أن أرسل أبجر موفداً من قبله إلى أورشليم بشخص حنان أمين المحفوظات الرسمية في ديوانه، حاملاً رسالة ليسوع. نجد هذا الموفد بعد أن يقابل يسوع يحصل منه على رسالة جوابية إلى أبجر، وقد ذاعت شهرة هذه الرسالة، وأثبت منها أوسابيوس القيصري (263_339) م في تاريخه الكنسي مقتطفات واسعة، أخذها عن الأصل الآرامي المحفوظ في خزانة وثائق مملكة الرها، وسنوجز نص هاتين الرسالتين.
   رسالة الملك أبجر أوكاما: " من أبجر أوكاما الملك إلى يسوع المخلص الصالح الذي ظهر في مقاطعة أورشليم سلام: لقد تناهى إلى سمعي ما يقال عنك وعن شفاءاتك وكيف تنجزها بدون عقاقير وأعشاب _ _ _ _ _ تجعل العميان يسترجعون أبصارهم، والعرج يمشون، وتطهر البرص، وتطرد الأرواح النجسة والشياطين، وتشفي الذين يتعذبون بمرض طويل، وتقيم الأموات. وعندما سمعت عنك هذه الأشياء كلها _ _ _ _ _ لهذا السبب اكتب متوسلاً إليك أن تسرع بالمجيء إلي، وتشفي العذاب الذي أنا فيه، وعلاوة على هذا فقد بلغني أن اليهود يضطهدونك ويطلبون هلاكك. ولي مدينة واحدة صغيرة حسنة جداً، لكنها تكفينا لنسكنها بهدوء وسلامة معاً ".
   رسالة يسوع المخلص: " طوبى لك يا أبجر لأنك آمنت ولم تراني _ _ _ _ _ أما بخصوص ما كتبته إلي بأن آتي إليك فانه علي أن أكمل كل ما أرسلتُ لإنجازه، وبعد ذلك سأصعد إلى ذاك الذي أرسلني. وبعد صعودي سأرسل إليك أحد تلاميذي ليشفي عذابك، ويعطي الحياة لك وللذين معك ". 
   ويتحدث تقليد الرها أن جواب يسوع للملك أبجر كتب بخط الرسول توما في قرطاس مصري، وكان محفوظاً في الخزانة الملكية، ويخرج منه في الأعياد ليتبارك منه المؤمنين. 
   ويتحدث التقليد أيضاً أن يسوع أرسل مع الجواب صورته على منديل " ولعلمي بشدة اشتياقك إلي قد وجهت إليك بمنديل فيه صورة وجهي لتشاهده، فلما وصل الكتاب إلى أبجر فرح به، وجعل المنديل على وجهه، فارتاح قلبه وقال: أنا أشهد أن هذا أبن الله الحي الحليم. ووجد أبجر راحة عظيمة من كثير مما كان يتشكاه ". 
   وقد احتفظت كنيسة الرها بصورة يسوع الغير مصنوعة باليد، ويتحدث تقليد الرها أن موفد الملك أبجر حنان كان رساماً ماهراً، فقام برسم صورة يسوع على منديل بألوان جميلة من نخبة الأصباغ العالية الجودة، " وعمد حنان إلى لوح مربع، وصور فيه صورة سيدنا المسيح بأصباغ حسنة أنيقة، وجعل ينظر إليه ويصور صورته في ذلك اللوح، وأتى به معه للرها إلى أبجر فقبله وجعله في خزانته، وهو هناك إلى هذه الغاية ". 
   وتتحدث الروايات المتأخرة أن يسوع ترك تقاطيع وجهه بنفسه على المنديل وقد اعتبر هذا العمل سماوياً، لذلك دعيت ( الصورة الغير مصنوعة باليد )، وبعد عودة الوفد إلى الرها قدم المنديل إلى الملك أبجر، وعندما رآه تقبله بفرح عظيم ووضعه بتبجيل عظيم في إحدى غرف قصره، بعد أن كتب عليه العبارة التالية:   " أيها المسيح الإله، لن يهلك كل من يثق بك ".
   أما تعليم أدي فيقول أن يسوع مسح وجهه بمنديل، فانطبعت عليه صورته. " وحنان المصور الذي أرسله أبجر رسولاً إلى سيدنا، اجتهد في أن يأخذ صورة للمسيح ولم يتمكن، وأن سيدنا أخذ المنديل الذي كان مع حنان، فمسح به وجهه، فحصلت فيه صورته وأنفذه إلى أبجر ". 
   كما تتحدث قصة القديسة وارينا _ فيرونيكا  التي مسحت وجه يسوع بمنديل وهو حاملاً صليبه على طريق الآلام، فانطبع وجهه على المنديل.
   وبعد صعود الرب دفعت نعمة الله الرسول توما لكي يرسل إلى مدينة الرها واحداً من الاثنين والسبعين تلميذاً اسمه أدي. ولما وصل هناك حل في بيت رجل يدعى طوبانا " سعيد " وشرع يصنع العجائب. وسرعان ما انتشر خبره في المدينة كلها.
   ولما بلغ الخبر الملك أبجر استدعى طوبانا وقال له: " بلغني أن في بيتك رجلاً قديراً فأتني به ". وفي الحال ذهب الرجل وأتى بأدي، فمثل أمام الملك أبجر الذي كان يحيط به جمع غفير. ولدى دخول أدي شاهد الملك منظراً عجيباً على وجهه، فسجد أمام أدي. فأعترى العظماء الحاضرين في البلاط الدهش الشديد، من أن رجلاً لابساً ثياباً رثة أثر في الملك هذا التأثير كله، ولم يعلموا أن يسوع أظهر مجده في الرجل الذي أقبل عليه. فقال أدي للملك: " لماذا استدعيتني؟ ".
   فقال له الملك: " بلغني أنك تقوم بأمور عجيبة، وتجري قوات خارقة. وعرفت أنك تلميذ يسوع الذي كتب إليَّ في رسالته: إني بعد قيامتي سأرسل إليك واحداً من تلاميذي. فقد أتيت إليَّ الآن لكي     تشفيني ".
   فقال له أدي: " إن تؤمن تنل مرامك. إذ أن كل شيء مستطاع لمن يؤمن ".
فقال له الملك: " إني آمنت به إلى حد إني لولا خوفي من مملكة الرومان، لأرسلت جيشاً لأبيذ اليهود الذين صلبوه ". فوضع أدي يده عليه وتعافى بقوة يسوع من جميع أمراضه. وتعجب أبجر وأنذهل أمام تلك الآية البينة التي جرت له بشفائه من داء الملوك. وشفى أدي أيضاً أحد عبيد الملك، وآخرين عديدين من سكان المدينة.
   ولما عاين الملك وعظماؤه الآيات التي صنعها أدي، شرعوا يقولون له: " إننا نلتمس منك أن تشرح لنا من هو يسوع، وماذا علّم، وماذا صنع؟ ".
   فقال أدي للملك: " إن الوقت الآن متأخر، وإذا شئت أن أشرح لك ذلك، فأدعُ عساكرك، وأنا في الغد آتي واشرح لك قصة يسوع ".
   وقبل الملك كلامه بفرح، واستدعى جميع أعيانه. وفي صباح الغد جاء أدي وشرع يحدثهم عن العناية الإلهية، وكيف أبدع الله الكون وخلق البشر، وكلّمهم عن الوعود التي أبرمها للأولين، وعن مجيء المسيح والعجائب التي صنعها، وعن قيامته وصعوده إلى السماء، وعن الموهبة التي منحها للأنبياء والرسل لكي يبشروا الأمم. وكان الملك يستحسن كلام أدي، والروح القدس يؤيد تلك الأقوال بالعجائب.
   وأمر الملك بأن يُعطى أدي فضة وذهباً. فقال له أدي: " كيف نستطيع أن نأخذ ما ليس لنا؟ فإننا قد تركنا ما كان لنا، إذا أوصانا الرب أن نكون بغير أكياس ولا حقائب، وأن نحمل الصليب على أكتافنا ونعلن بشارته في المسكونة كلها ".
    وانضمت المدينة كلها وجميع البلدان المحيطة بها إلى الإيمان المسيحي، حتى أن منطقة ما بين النهرين برمتها كادت تنظم إلى الإيمان الصحيح، بسبب العجائب التي كانت تجري على يد مار أدي. وكان الذين آمنوا يتنافسون في الفضيلة والأعمال الصالحة.
   وشيد أدي كنيسة في الرها، وزودها بكل المستلزمات، ورسم كهنة وشمامسة في المدينة وما يجاورها. بعد ذلك غادر أدي هذا العالم بسلام، في يوم الخميس الموافق الرابع عشر من أيار ( ؟ )، مختتماً جهاده المجيد بالنصر والغلبة. ودفن في قبر كبير في الكنيسة ذاتها، وكان المؤمنون يتوافدون لزيارة ضريحه ويحتفلون بتذكاره كل سنة.
   " وانتشرت النصرانية فيها وفي أطرافها انتشاراً سريعاً عجيباً، حتى سميت الرها المقدسة، والرها المباركة، ومدينة أبجر محب المسيح ".  وفيها ابتنى أدي أول كنيسة مسيحية باسم ( المخلص )، وقد توفي فيها سنة 49م ودفن في ( الكنيسة التي شيدها ).  وهناك من يقول إنه دفن في ( مقبرة ملوك               الرها ). 
   ويقول المطران أدي شير في كتابه سيرة أشهر شهداء المشرق: " في هذه السنين الأخيرة، وجد تحت ردم كنيسة مار كيوركيس في خارج بلدة كرمليس صندوق فيه ذخائر مار أدي الرسول. فنقلت ووضعت في الكنيسة التي في وسط البلدة، وبني لها هيكل فاخر على اسم هذا القديس ".
   وقبل أن يغادر أدي هذا العالم دعا أجي أمام جماعة الكنيسة كلها وأقامه خلفاً له في تدبير الكنيسة. وكان أجي قبل انضمامه إلى أدي يصنع ثياباً حريرية وخوذاً للملك، فتخلى عن مهنته هذه، وصار مدبراً ورئيساً لكنيسة الرها خلفاً لمعلمه أدي. 
   وقد تواجدت المسيحية في الرها في أواخر القرن الأول الميلادي، وأخذ عدد المسيحيين بالازدياد والنمو فيها. ومع تنصر الملك أبجر التاسع ( 179_ 214 ) م، اهتدى شعب مملكة أورهاي كله إلى الإيمان المسيحي، وأضحت المملكة الأولى التي اعتنقت المسيحية كدين رسمي في العالم، وهذا مدعاة افتخارها.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار أدي الرسول في الأحد الخامس من سابوع القيامة.





55
تذكار الشهيدة مارت شموني وأولادها السبعة
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: دانيال 3 / 25 _ 45 ووقف عزريا وفتح فاه وسط النار . . . 
القراءة الثانية: 2 قورنتس 12 / 1 _ 14 ألا بد من الافتخار؟ إنه لا خير . . .
القراءة الثالثة: متى 10 / 37 _ 42 من أحب أباه أو أمه أكثر مما يحبني . . .
                  + متى 16 / 24 _ 27 ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن . . .
                  + متى 19 / 27 _ 30 فقال له بطرس: ها قد تركنا نحن . . . 

   الشهيدة شموني وأولادها: ورد ذكر هذه المرأة الجبارة في إيمانها وثباتها وعاطفتها في سفر المكابين الثاني الفصل السابع. وذلك في عهد الملك أنطيوخس الطاغية. " وقبض على سبعة إخوة مع أمهم فأخذ الملك يُكرههم على تناول لحوم الخنزير المحرمة ".
   فلما أبوا أن يتناولوا شيئاً منها أمر بضربهم، فجُلدوا بقساوة بالمقارع والسياط. فقال أكبرهم للملك:  " ماذا تبتغي وعمَّ تستنطقنا. إنا لنختار أن نموت ولا نخالف شريعة آبائنا ".
   أمام هذا الكلام الصريح: " حنق الملك وأمر بإحماء الطواجن والقدور ولما أحميت أمر لساعته بأن يقطع لسان الذي انتدب للكلام ويُسلخ جلد رأسه وتُجدع أطرافه على عيون إخوته وأمه ".
   يا للفظاعة البشرية، وللوحشية الإنسانية: " ولما عاد جُدمةً أمر بأن يؤخذ إلى النار وفيه رمقٌ من الحياة ويُقلى. وفيما كان البخار منتشراً من الطاجن كانوا هم وأمهم يحض بعضهم بعضاً أن يقدموا على الموت بشجاعة قائلين إن الرب الإله ناظر وهو يتمجد بنا ".
   وبعد أن قضى الأخ الأول نحبه انقلبوا على الأخ الثاني: " ولما قضى الأول على هذه الحال ساقوا الثاني إلى الهوان ونزعوا جلد رأسه مع شعره ثم سألوه هل يأكل قبل أن يعاقب في جسده عضواً عضواً. فأجاب بلغة آبائه وقال لا. فأذاقوه بقية العذاب كالأول. وفيما كان على آخر رمق قال إنك أيها الفاجر تسلبنا الحياة الدنيا ولكن ملك العالمين إذا متنا في سبيل شريعته فسيقيمنا لحياة  أبدية ".
   وبعده أتى دور الأخ الثالث: " وبعده شرعوا يستهينون بالثالث وأمروه فدلع لسانه وبسط يديه بقلب جليد. وقال إني من السماء أوتيت هذه الأعضاء ولأجل شريعته أبذلها وإياه أرجو أن أستردها من بعد . فبهت الملك والذين معه من بسالة قلب ذلك الغلام الذي لم يبال بالعذاب شيئاً ".
   ثم عذبوا الرابع ونكلوا به بمثل أخيه الثالث: " ولما أشرف على الموت قال حبذا ما يتوقعه الذي يُقتل بأيدي الناس من رجاء إقامة الله له. أما أنت فلا تكون لك قيامة للحياة ".
   ثم ساقوا الخامس وعذبوه فالتفت إلى الملك وقال: " إنك بما لك من السلطان على البشر مع كونك فانياً تفعل ما تشاء ولكن لا تظن أن الله قد خذل ذريتنا. إصبر قليلاً فترى بأسه الشديد كيف يعذبك أنت ونسلك ".
  وبعده ساقوا السادس فلما قارب أن يموت قال للملك: " "لا تغتر بالباطل فإنا نحن جلبنا على أنفسنا هذا العذاب لأنا خطئنا إلى إلهنا ولذلك وقع لنا ما يقضي بالعجب. وأما أنت فلا تحسب أنك تترك سدى بعد تعرضك لمناصبة    الله ".
   أما شموني فكانت واقفة، كما سوف تقف مريم أمام الصليب. فكان الأولاد أبطالاً في جلادتهم وثباتهم، وكانت الأم جبارة في صبرها وإيمانها. فكانت هي تذكي الشجاعة والإقدام في قلوب بنيها. ويقول عنها الكتاب المقدس: " وكانت أمهم أجدر الكل بالعجب والذكر الحميد فإنها عاينت بنيها السبعة يهلكون في مدة يوم واحد، وصبرت على ذلك بنفس طيبة ثقة بالرب. وكانت تحرض كلاً منهم بلغة آبائها وهي ممتلئة من الحكمة السامية. وقد ألقت على كلامها الأنثوي بسالة رجليه قائلة لهم إني لست أعلم كيف نشأتم في أحشائي ولا أنا منحتكم الروح والحياة ولا أحكمت تركيب أعضائكم. على أن خالق العالم الذي جبل تكوين الإنسان وأبدع لكل شيء تكوينه سيعيد إليكم برحمته الروح والحياة لأنكم الآن تبذلون أنفسكم في سبيل شريعته ".
   أما أنطيوخس العاتي فإنه خشي أن يستخف عبيده به بعد أن خذله الأخوة المكابيون الستة وهزأوا به وبعذاباته، فتوجه إلى الأخ السابع وهو أصغرهم: " فأخذ يُحرض بالكلام أصغرهم الباقي بل أكد له بالأيمان أنه يغنيه ويسعده إذا ترك شريعة آبائه ويتخذه خليلاً له ويقلده المناصب ".
   لكن ذلك الغلام الصغير رفض بعزة نفس وإباء ما كان الملك يعرض عليه من جاه وثروة. فدعا والدته شموني وحثها أن تقنع ولدها، وألح عليها حتى وعدت بأنها تشير على ابنها. ثم انحنت إليه واستهزأت بالملك العنيف وتوجهت إلى ابنها: " وقالت بلغة آبائها يا بني ارحمني أنا التي حملتك في جوفها تسعة أشهر وأضعتك ثلاث سنين وعالتك وبلغتك إلى هذه السن وربتك. أنظر يا ولدي إلى السماء والأرض وإذا رأيت كل ما فيهما فاعلم أن الله صنع الجميع من العدم وكذلك وجد جنس البشر. فلا تخف من هذا الجلاد لكن كن مستأهلاً لإخوتك واقبل الموت لأتلقاك مع إخوتك بالرحمة ".
   ما أعظم هذا الإيمان ما أكبر قلب هذه الأم! ولكن ما أضعف عقل الغاصبين العتاة وما أذلَّه! فإن واحدهم لولا سلطانه وجنوده لكان أحقر خلق الله، وأضعفهم همة وأقعدهم مروءة. فهذا أنطيوخس يميت ستة من الشبان على مرأى والدتهم المسكينة، بعد أن ينكل بهم وينزل بهم من العذابات ما تقشعر له الأبدان، وتنفر منه الوحوش الضارية. ثم لأجل رغبة صغيرة في مجد خسيس باطل، يبتذل ابتذالاً ويتوسل توسلاً، ولا يستحي من أن يتقدم إلى تلك الأم المفجوعة، ويرجو منها أن تحمل ابنها الصغير على الخضوع لإرادته والكفر بإله آبائه.
  أما الغلام البطل فإنه لم يدع أمه تتابع كلامها له، واستنهاضها لهمته. بل اندفع بشهامة وقال: " ماذا أنتم منتظرون إني لا أطيع أمر الملك وإنما أطيع أمر الشريعة التي ألقيت إلى آبائنا على يد موسى ".
   ثم ألتفت إلى الملك وقال له بجسارة: " وأنت أيها المخترع كل شر على العبرانيين إنك لن تنجو من يدي الله. فنحن إنما نعاقب على خطايانا. وربنا الحي وإن سخط علينا حيناً يسيراً لتوبيخنا وتأديبنا سيتوب على عبيده من بعد. وأما أنت أيها المنافق يا أخبث كل بشر فلا تتشامخ باطلاً وتتنمر بآمالك الكاذبة وأنت رافع يدك على عبيه. لأنك لم تنج من دينونة الله القدير الرقيب. ولقد صبر إخوتنا على ألم ساعة ثم فازوا بحياة أبدية وهم في عهد الله وأما أنت فسيحل بك قضاء الله العقاب الذي تستوجبه بكبريائك. وأنا كإخوتي أبذل جسدي ونفسي في سبيل شريعة آبائنا وأبتهل إلى الله أن لا يبطئ في توبته على أمتنا. وأن يجعلك بالمحن والضربات تعترف بأنه هو الإله وحده ".
   فتميز الملك غيظاً وأمر بذلك الغلام، فتفننوا في تعذيبه حتى أماتوه كإخوته. ثم الحقوا تلك الأم الجبارة ببنيها، فقضت قريرة العين، وذهبت تنتظر مع أولادها ورود المخلص الرب، ليفتح بصليبه المحيي لها ولبنيها ولسائر الصديقين والأبرار والشهداء أبواب السماء.
   لقد رأى آباء الكنيسة في قصة استشهاد شموني وأبنائها الذين سطروا أروع ملحمة إيمانية أنهم مسيحيين قبل أن يحملوا ذلك الاسم. فقد سالت دماؤهم فامتدت لتصل إلى قوافل شهداء العهد الجديد، فخصوهم بكثير من عظاتهم.
  وليس ثمة ذكر لمكان استشهادهم. قد يكون في اليهودية. لكن التقليد الأنطاكي يحدد مكان العذاب في أنطاكية، بسبب وجود أنطيوخس في أنطاكية أيام الاضطهاد الديني في اليهودية، معتقدين أن الشهداء نقلوا إلى هناك.
   ويعتقد أن سفر المكابين الثاني وضعه ياسون القيرني  حوالي السنة 124 ق.م بعد وفاة يهوذا المكابي بقليل. وكان ياسون من شتات القيروان، وهو يهودي مؤمن بالرغم من ثقافته الهلينستية، وكان مطلع على أحوال أورشليم. 
   وليس ثمة ذكر لأسماء أبناء شموني السبعة في سفر المكابين الثاني. أما طقس كنيسة المشرق الكلدانية الآشورية فيذكر أسمائهم في طقس تذكارهم، مشبهاً استشهاد كل منهم بشهادة أحد شهداء الكنيسة الأوائل:
   فالابن الأول يدعى كدي، وقد شبه استشهاده باستشهاد مار قرياقوس.
   والابن الثاني يدعى مقبي، وقد شبه استشهاده باستشهاد مار كيوركيس.
   والابن الثالث يدعى ترسي، وقد شبه استشهاده بشهادة مار سركيس.
   والابن الرابع يدعى حِورون، وقد شبه استشهاده بشهادة مار باكوس.
  والابن الخامس يدعى حِوصون، وقد شبه استشهاده بشهادة مار بثيون.
   والابن السادس يدعى باكوس، وقد شبه استشهاده بشهادة مار إسطيفانوس.
   والابن السابع يدعى يونادوا، وقد شبه استشهاده بشهادة مار يعقوب أخو الرب. 
   وتحتل هذه الشهيدة وأبنائها مكانة خاصة ومهمة في كنيسة المشرق، حيث تُذكر عدة مرات في الأسبوع خلال صلاة الشهداء التي تتلى في فرض صلاة الصباح والمساء. وهي تأتي في المرتبة الثالثة من حيث إكرام المؤمنين لها بعد العذراء مريم والشهيد مار كيوركيس. فأقيمت لهم في عدة مدن وقرى كنائس ومزارات، حيث يؤمها المؤمنون في يوم تذكار استشهادهم للعبادة والصلاة وطلب شفاعتهم.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهيدة مارت شموني وأولادها السبعة في يوم الثلاثاء الأول من شهر أيار.
   وسابقاً كانت كنيسة المشرق تحتفل بهذا التذكار في الجمعة الخامسة من سابوع القيظ " الصيف ". 
             



56
بدء الشهر المريمي
1 أيار
الشماس نوري إيشوع مندو
   الشهر المريمي: خصصت كنيسة روما في القرن السابع عشر شهر أيار لتكريم العذراء. ففي سنة 1683 عمم البابا اينوشنسيوس الحادي عشر على العالم أجمع تخصيص هذا الشهر لتكريم مريم البتول. وما عتمت هذه العبادة أن انتشرت في العالم، ثم في شرقنا العزيز منذ منتصف القرن التاسع عشر.
   وقد اختارت الكنيسة هذا الشهر كونه أجمل شهور السنة بربيعه وزهوره، ولأنه شهر الفرح. الفرح الروحي الذي نلناه بقيامة السيد المسيح، وبصعوده إلى السماء. وهو شهر الرجاء بعنصرة جديدة تتحقق فينا، كما تحققت بحلول الروح القدس على التلاميذ المجتمعين في العلية حول مريم أمهم. 
   فالكنيسة المقدسة اختارت هذا الشهر عيداً لأمنا مريم العذراء، أم الحياة والخلاص. وإذا احتفلت الكنيسة بتمجيد مريم أم المخلص في أعيادها، فلأنها تحتفل بالخلاص البشري الذي جاء على يد بذرة حياة الفادي الإلهي يسوع، تلك البذرة التي زرعت في أعماق كل مسيحي فجر استقباله سر العماذ.
   اتخذت الكنيسة من هذا الشهر عيداً لأمنا العذراء مريم الطاهرة، لرضوخها للمشيئة الربانية التي دبرت بعنايتها الإلهية منذ الأزل أن يأتي المخلص، ومنذ بداية الخليقة حيث في جنة عدن وعد الرب أبوينا الأولين بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية. فما هذا إلا إشارة إلى الغلبة النهائية على الخطيئة والشيطان والموت على يد أمنا الطوباوية، ولتكون للأجيال أغنية المجد والطوبى، إذ يعطيها الطوبى جميع السابقة برجاء الموعد. والمتأخرة بفرح العذراء الذي حصل، وهي أيضاً شريكة ووسيطة به. فهذا المكرس لمريم يجدد هذا الفرح في قلب المؤمن، إذ يعكس على العالم نور فجر جديد بالاتجاه نحو يسوع، ليستضئ بنور تعاليمه الإلهية الخلاصية. وهذا ما يبعث في النفس الفرح والبهجة والتعزية، خاصة في وقت المحن والتجارب.
   اختارت الكنيسة أن يكون الشهر المخصص لعبادة أمنا الطاهرة مريم أجمل أشهر الربيع. شهر أيار شهر الياسمين والزنبق، شهر الأقحوان والورد. ليعطي للناس صورة ناطقة للطهر والنقاء المنبعث من مريم، ذاك الطهر الذي يتعطر العالم بعبق رائحته الزكية، والذي يطيب ويكيف اتجاهات هذا العالم الذي يميل لكل موجة تقذفه، ولكل تيار يسيره نحو اتجاهه المنحرف.
   فمريم توجهت نحو الميناء الأمين، ميناء السلام الذي لا نصل إليه إلا بواسطتها. فشهر مريم هو شهر العبادة، هو شهر الصلاة، هو شهر رفع التضرعات إلى عرش الله بواسطة مريم أن يرأف بالعالم ويوجهه نحو السلام. السلام الحقيقي الذي لا نقدر أن نحصل عليه إلا بالله، ولا يكون إلا بالله وبالاتحاد مع الله. إلا بالرضوخ لمشيئة الله كما فعلت مريم قائلة للملاك حين بشرها بمولد المخلص: " هأنذا أمة الر فليكن لي كقولك ".
   اتخذت الكنيسة هذا الشهر عيداً لأمنا مريم، مقدسة هذه الأم الطوباوية وممجدة فضائلها السامية، التي جعلتها أن تكون مختارة الرب لينتخبها أن تكون أماً للمخلص، لأنها كانت ممتلئة من النعم.
   فباجتماع المؤمنين في الكنيسة يكشفون عن إيمانهم ومحبتهم وتعلقهم البنوي بها. لتطلب لهم التوبة والصفح عن نقائصهم وزلاتهم الصادرة من ضعفهم البشري، لأنها ملكة السماء والأرض، وهي سلطانة الحياة وما فيها. فهي واهبة النعم السماوية لمن يدعوها، باسطة يديها المباركتين الطاهرتين، لتنشل من الضيق والتجارب كل من يستغيثها في هذا وادي الدموع.
   فاسم مريم تخفق له القلوب تلهفاً، وتلهج بتعظيمها وتمجيده، لأنها قدوسة وأم القداسة والنعم الإلهية، لأنها مملوءة من النعمة. واسم مريم هو لغز سماوي ينعش النفوس ويزيدها شجاعة وقوة، كالندى الذي ينعش الغرسات ويحيها. فاسمها يسحر القلوب، وتردده الشفاه، مسبحة عظائم الخلائق فيها.
   واسم مريم هو شافي لكلوم الموجوعين، وهو باب الخلاص للولوج إلى السماء. فهي القديسة والوسيطة الوحيدة مع ابنها، والشفيعة للبائسين والخطأة. فهي قاتلة الحية الجهنمية، وواهبة الحياة للبشرية الساقطة في أوحال الخطايا. فهي تشفع فينا وتنجينا من الشرير لنصل إلى ميناء الخلاص، وحياة الخلود حيث السلام الحقيقي، وتمجيد الله إلى الأبد. 
   تطلب العذراء بإلحاح تلاوة الوردية، وقد ظهر ذلك في معظم رسائلها للعالم وفي مختلف ظهوراتها. وكانت في بعض الظهورات تحمل المسبحة الوردية، لتشجعنا على حملها وتلاوتها خاصة في لورد  وفاطمة . وهذه مقتطفات من بعض الرسائل التي طلبت فيها العذراء تلاوة الوردية:
   * " هذه العبادة تكون لك سلاماً تقاوم به الأعداء المنظورين وغير المنظورين، وتكون عربون محبتي للمسيحيين " ( العذراء للقديسة عبد الأحد سنة 1213 ).
   * " عودي الأطفال على تلاوة المسبحة. وضعي المسبحة تحت وسادة المريض فيتوب ويحظى بميتة صالحة ". ( العذراء للقديسة أنجال مؤسسة راهبات الأورسولين سنة 1535 ).
   * " في ظهور العذراء للراهبة كاترين لابوريه، سألتها عن مسبحتها وألحت عليها بتلاوتها كل يوم مع الراهبات ". ( باريس سنة 1830 ).
   * " طلبت العذراء من برناديت سوبيرو في إحدى ظهوراتها في مغارة لورد، أن تصلي المسبحة دائماً وأن تصليها مع الجماهير. ولما كانت برناديت تصلي المسبحة على مرأى من العذراء في المغارة، كانت العذراء تصنع إشارة الصليب، وتتمتم معها الأبانا وتبتسم لها عند تلاوة السلام. وكانت العذراء تحمل بيديها المضمومتين مسبحة من ورد تتدلى إلى    قدميها ". ( فرنسا لورد سنة 1858 ).
   * " في الظهور الثاني لفاطمة في البرتغال، طلبت العذراء من الأولاد الثلاثة أن يتلو المسبحة الوردية بخشوع، وأن يضيفوا إليها بعد المجد للآب من كل سر هذه الصلاة: يا يسوع الحبيب أغفر لنا خطايانا، نجنا من نار جهنم، وخذ إلى السماء جميع النفوس، خصوصاً تلك التي هي بأكثر حاجة إلى رحمتك ". ( فاطمة البرتغال 13 حزيران سنة 1917 ).
   * " أيها الآباء والأمهات كرسوا لي جميع أولادكم، حتى يعود إليهم الإيمان والمحبة والعذوبة والصفاء والثبات حتى الموت بتواضع كبير. صلوا من أجل أولادكم ضعوهم تحت حمايتي لأني سأضعهم حولي بشدة كإكليل الوردية، حتى يفهموني ويحبوني مدة  حياتهم ". ( سان داميانو إيطاليا 6 تموز 1968 ).
   * " إذا كان الناس لا يتوبون فالأب السماوي سينزل بالبشرية عقاباً شديداً، وعندئذ سيكون بدون أدنى شك عقاب أكثر هولاً من الطوفان كما لم ير مثله أبداً. ستتساقط نار من السماء. وبهذا العقاب سيهلك قسم كبير من البشرية. وسيموت الكهنة والمؤمنون. والناس الذين سيبقون سيقاسون حزناً شديداً هذا قدره. حتى أنهم يحسدون الذين ماتوا، وعندئذ فالسلاح الوحيد الباقي سيكون الوردية والعلامة التي تركها الابن ". ( أكيتا اليابان 13 تشرين الأول 1973 ).
   * " الوردية يا أولادي ستكون قوة كبيرة. أقوله لكم في هذا اليوم ذاته الذي تحيون فيه ذكرها. لا تعتبروا الذين يفكرون بعكس ذلك. أصغوا إلي أنا أمكم. الوردية هي صلاة وتكفير وتأمل. بها تمجدون الثالوث الأقدس. ليس هناك صلاة أكثر كمالاً من الوردية. لذلك أطلب منكم تلاوة الوردية. لكن الشرير يحاول هدم هذا العمل الكبير الذي يؤديه أولادي نحو الله، فذاك يعرف أنه بالوردية تنالون نعماً لا تحصى. لو كنتم تدركون كم من النفوس قد أنقذتم بالوردية. بهذه الواسطة قد رأى النور الكثير من أخوتكم. فأنتم لم تساعدوا فقط من هم خارج الأرض " الأنفس المطهرية "، ولكن أيضاً الذين يحيطون بكم. اتلوا وانشروا الوردية لأجل خلاص العدد الكبير. أعطوا للعالم حتى ولو لم يرد ذلك الصلاة والمحبة. وهكذا تساعدون على خلاصه ". ( الاسكوريال أسبانيا 7 تشرين الأول         1981 ).
   * " يا أولادي الأعزاء اليوم أدعوكم لتجددوا الصلاة في بيوتكم. وحتى انتهت أشغالكم كرسوا ذواتكم للصلاة. ولتشغل الصلاة المحل الأول في أسركم ". ( مديوغورييه يوغوسلافيا 1 تشرين الثاني 1984 ).
           
مواعيد العذراء لكل من يتلو الوردية
   * كل من يتلو المسبحة الوردية بتقوى ويثابر على هذه العبادة تستجاب صلواته.
   * إني أعده بحمايتي الخاصة وبإعطاءه أجمل النعم.
   * إن صلاة الوردية هي بمثابة ترس منيع يدمر البدع، ويحر النفوس مـــن نير الخطيئة، ومن الغرائز الشريرة.
   * إن تلاوة الوردية تنمي الفضائل، وتجلب المراحم السماوية، وتبدل فــي القلوب العواطف الفانية بالحب الإلهي المقدس، وتقدس أنفس لا تحصى.
   * النفس التي تكنّ لي كل ثقة بتلاوة الوردية لا تهلك أبداً.
   * لن تكون هنالك نهاية تعيسة لأحد المتعبدين لورديتي، إذا كان خاطئاً سيرتد إلـى الإيمان الحقيقي، وإذا كان صالحاً سيستمر في حالة النعمة حتى النهاية.
   * أود من جميع الذين يتعبدون لصلاة الوردية أن يجدوا فــــي حياتهم مؤاساةً لأحزانهم ونوراً لهدايتهم. وأن يشتركوا بعد مماتهم في حياة الطوباويين.
   * إن المتعبدين الحقيقيين لصلاة الوردية لن يموتوا مــن دون أن يتزودوا بأسرار الكنيسة المقدسة.
   * سأخلص من المطهر المتعبدين لورديتي.
   * جميع الذين يحيون ويمارسون عبادة ورديتي سيستمتعون بمجد خاص فـــي السماء.
   * كل ما تطلبونه عند تلاوة الوردية ستنالونه إن كان موافقاً لخلاصكم.
   * لقد حصلت من ابني الإلهي على أن الطوباويين في السماء سيصبحون في هذه الحياة، وفي الآخرة بمثابة أخوة لجميع المتعبدين لورديتي.
   * سأساعد كل الذين ينشرون ورديتي في جميع احتياجاتهم.
   * إن المتعبدين لورديتي سيكونون أبنائي الأعزاء وأخوة ليسوع المسيح.
   * إن عبادة الوردية هي علامة مميزة للمختارين.       






57
تذكار مار سركيس ومار باكوس
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 12 / 1 _ 24 في ذلك الوقت قبض الملك . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس 12 / 1 _ 14 ألا بد من الافتخار؟ إنه لا خير . . .
القراءة الثالثة: متى 10 / 37 _ 42 من أحب أباه أو أمه أكثر مما يحبني . . .
                  + متى 16 / 24 _ 27 ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن . . .
                  + متى 19 / 27 _ 30 فقال له بطرس: ها قد تركنا نحن . . .
 
   مار سركيس ومار باكوس: كان سركيس وباكوس من أشراف المملكة الرومانية ومن كبار قوادها، ومن رؤساء ديوان الملك مكسميانس  في أواخر القرن الثالث. وكانا مسيحيين صميمين في التقوى الصحيحة الرصينة والفضائل السامية، وكانا من أصحاب الرأفة بالمسكين والعطف على الضعيف.
   وعندما كان مكسميانس يوماً في مدينة افغوسطا في بلاد سوريا الشمالية، قرر أن يقيم أحتفالاً عظيماً ويقدم الذبائح لأصنام المملكة. ولكي يُلبس هذا العيد حلة بهاء شائق أمر أن لا يتخلف أحد من وزرائه وقواده عن ذلك الاحتفال الباهر. وعندما دقت الطبول ونفخ الكهنة بالأبواق وتهيأ الموكب للمسير، طلب مكسميانس رئيسي ديوانه سركيس وباخوس فلم يجدهما. فأرسل في طلبهما فحضرا. فسألهما ما سبب امتناعهما عن الاحتفال. فاعترفا أمامه بأنهما مسيحيان، وبأن ديانتهما تحظر عليهما تقديم الذبائح للأصنام التي ليس سوى حجارة صماء، لا وجود لها ولا منفعة تجنى من عبادتها وإكرامها.
   وبعد رفض سركيس وباكوس المشاركة في هذا الاحتفال، غضب الملك لجسارتهما. فنزعت عنهما شارات الشرف وألبسا ثياباً نسائية علامة الهزاء والسخرية، ووضعت في أعناقهما الأغلال وشهرا في شوارع المدينة. فصبرا على تلك الإهانات بنفس كبيرة وإيمان لا يتزعزع. وبعد ذلك أعادهما الملك إلى حضرته وأخذ يتملقهما ويغالي في إظهار عطفه عليهما، على أن يعودا إلى رشدهما ويخضعا لأوامره السامية. فما كان منهما إلا الثبات على ولائهما لملك السماء، لأنه خير من جميع ملوك الأرض.
   ثم ارسلهما الملك إلى أنطيوكس محافظ بلاد المشرق المشهور بقساوته وشراسته. وأراد الملك بذلك أن يخيفهما، وأن يذلهما بإرسالهما إلى رجل كان منذ عهد قريب يأتمر بأمرهما. فأحضرهما أنطيوكس أمامه وجعلهما في مصف المجرمين وأخذ يحفف معهما. فكان تارة يظهر أمامهما ذئباً ضارياً، وطوراً حملاً وديعاً. لكن تهديداته ومواعيده وجهوده ذهبت أدراج الرياح. فأغتاظ وأمر بجلد باكوس جلداً وحشياً حتى أسلم الروح، وطارت نفسه الزكية الشريفة إلى المملكة السماوية الأبدية. 
   وأما سركيس فقد وضعه في السجن ليفكر في أمره. وفي تلك الليلة ظهر باكوس لصديقه سركيس، فعزاه وشجعه وقوى عزيمته، ووعده بأنه سوف يشاركه في مجده في السماء من بعد جهاد الأرض.
   وبعد أيام أراد أنطيوكس أن يقوم برحلة إلى أحدى المدن. فأمر أن يساق سركيس أمام عربته ماشياً بعد أن وضع مسامير مسنة في حذاءه، وجعل يركضه أمامه والدماء تسيل من رجليه وتبلل الأرض. وكرر عليه ذلك العذاب مرة أخرى بلا جدوى. فلما رأى أنطيوكس أن لا فائدة ترجى منه، أمر بقطع رأسه ففاز بإكليل الشهادة، فضرب الجلاد عنقه، وهكذا فاز سركيس بإكليل الشهادة، وذهبت نفسه الكبيرة لتنضم إلى نفس صديقه باكوس، وإلى سائر طغمات الشهداء المكللين بإكليل الظفر في السماء. وكان ذلك سنة 303.
   وشرف الله ضريح سركيس بعجائب باهرة، حتى أن المسيحيين وعبدة الأوثان أنفسهم كانوا يبادرون إليه طالبين النعم للنفوس والأجساد.
   ولكثرة إقبال الناس على زيارة الضريح نشأت حوله مدينة دعوها سرجيوبوليس وهي الرصافة . وقامت هناك كنيسة فخمة كان الناس يحجون إليها من جميع الأقطار. 
   وفي القرن السادس بنى يستنيانس كنيستين عظيمتين على اسم سركيس، واحدة في القسطنطينية والثانية في عكا. لأن عبادته كانت قد انتشرت في بلاد الشرق كلها. وكانت إحدى نساء كسرى ملك الفرس قد شفيت بشفاعته من مرض عضال كان قد اعتراها. فقدم كسرى لضريح سركيس صليباً كبيراً من الذهب الإبريز المرصع بالحجارة الكريمة. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار سركيس ومار باكوس في الجمعة الرابعة من سابوع القيامة.




58
تذكار مار سركيس ومار باكوس
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 12 / 1 _ 24 في ذلك الوقت قبض الملك . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس 12 / 1 _ 14 ألا بد من الافتخار؟ إنه لا خير . . .
القراءة الثالثة: متى 10 / 37 _ 42 من أحب أباه أو أمه أكثر مما يحبني . . .
                  + متى 16 / 24 _ 27 ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن . . .
                  + متى 19 / 27 _ 30 فقال له بطرس: ها قد تركنا نحن . . .
 
   مار سركيس ومار باكوس: كان سركيس وباكوس من أشراف المملكة الرومانية ومن كبار قوادها، ومن رؤساء ديوان الملك مكسميانس  في أواخر القرن الثالث. وكانا مسيحيين صميمين في التقوى الصحيحة الرصينة والفضائل السامية، وكانا من أصحاب الرأفة بالمسكين والعطف على الضعيف.
   وعندما كان مكسميانس يوماً في مدينة افغوسطا في بلاد سوريا الشمالية، قرر أن يقيم أحتفالاً عظيماً ويقدم الذبائح لأصنام المملكة. ولكي يُلبس هذا العيد حلة بهاء شائق أمر أن لا يتخلف أحد من وزرائه وقواده عن ذلك الاحتفال الباهر. وعندما دقت الطبول ونفخ الكهنة بالأبواق وتهيأ الموكب للمسير، طلب مكسميانس رئيسي ديوانه سركيس وباخوس فلم يجدهما. فأرسل في طلبهما فحضرا. فسألهما ما سبب امتناعهما عن الاحتفال. فاعترفا أمامه بأنهما مسيحيان، وبأن ديانتهما تحظر عليهما تقديم الذبائح للأصنام التي ليس سوى حجارة صماء، لا وجود لها ولا منفعة تجنى من عبادتها وإكرامها.
   وبعد رفض سركيس وباكوس المشاركة في هذا الاحتفال، غضب الملك لجسارتهما. فنزعت عنهما شارات الشرف وألبسا ثياباً نسائية علامة الهزاء والسخرية، ووضعت في أعناقهما الأغلال وشهرا في شوارع المدينة. فصبرا على تلك الإهانات بنفس كبيرة وإيمان لا يتزعزع. وبعد ذلك أعادهما الملك إلى حضرته وأخذ يتملقهما ويغالي في إظهار عطفه عليهما، على أن يعودا إلى رشدهما ويخضعا لأوامره السامية. فما كان منهما إلا الثبات على ولائهما لملك السماء، لأنه خير من جميع ملوك الأرض.
   ثم ارسلهما الملك إلى أنطيوكس محافظ بلاد المشرق المشهور بقساوته وشراسته. وأراد الملك بذلك أن يخيفهما، وأن يذلهما بإرسالهما إلى رجل كان منذ عهد قريب يأتمر بأمرهما. فأحضرهما أنطيوكس أمامه وجعلهما في مصف المجرمين وأخذ يحفف معهما. فكان تارة يظهر أمامهما ذئباً ضارياً، وطوراً حملاً وديعاً. لكن تهديداته ومواعيده وجهوده ذهبت أدراج الرياح. فأغتاظ وأمر بجلد باكوس جلداً وحشياً حتى أسلم الروح، وطارت نفسه الزكية الشريفة إلى المملكة السماوية الأبدية. 
   وأما سركيس فقد وضعه في السجن ليفكر في أمره. وفي تلك الليلة ظهر باكوس لصديقه سركيس، فعزاه وشجعه وقوى عزيمته، ووعده بأنه سوف يشاركه في مجده في السماء من بعد جهاد الأرض.
   وبعد أيام أراد أنطيوكس أن يقوم برحلة إلى أحدى المدن. فأمر أن يساق سركيس أمام عربته ماشياً بعد أن وضع مسامير مسنة في حذاءه، وجعل يركضه أمامه والدماء تسيل من رجليه وتبلل الأرض. وكرر عليه ذلك العذاب مرة أخرى بلا جدوى. فلما رأى أنطيوكس أن لا فائدة ترجى منه، أمر بقطع رأسه ففاز بإكليل الشهادة، فضرب الجلاد عنقه، وهكذا فاز سركيس بإكليل الشهادة، وذهبت نفسه الكبيرة لتنضم إلى نفس صديقه باكوس، وإلى سائر طغمات الشهداء المكللين بإكليل الظفر في السماء. وكان ذلك سنة 303.
   وشرف الله ضريح سركيس بعجائب باهرة، حتى أن المسيحيين وعبدة الأوثان أنفسهم كانوا يبادرون إليه طالبين النعم للنفوس والأجساد.
   ولكثرة إقبال الناس على زيارة الضريح نشأت حوله مدينة دعوها سرجيوبوليس وهي الرصافة . وقامت هناك كنيسة فخمة كان الناس يحجون إليها من جميع الأقطار. 
   وفي القرن السادس بنى يستنيانس كنيستين عظيمتين على اسم سركيس، واحدة في القسطنطينية والثانية في عكا. لأن عبادته كانت قد انتشرت في بلاد الشرق كلها. وكانت إحدى نساء كسرى ملك الفرس قد شفيت بشفاعته من مرض عضال كان قد اعتراها. فقدم كسرى لضريح سركيس صليباً كبيراً من الذهب الإبريز المرصع بالحجارة الكريمة. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار سركيس ومار باكوس في الجمعة الرابعة من سابوع القيامة.




59
تذكار مطارنة أربيل القديسين
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .

   مطارنة أربيل: إن أول جماعات مسيحية قامت في بلاد أربيل كانوا من يهود السبي، ويدل على ذلك أسماء أول أساقفتها. ويذكر المؤرخ مشيحا زخا أن أول أسقف لكرسي أربيل يدعى بقيدا، تنصر سنة 99 فاضطهده أهله وحبسوه فهرب ولحق بمار أدي في جبال حدياب " أربيل " وقد رسمه مار أدي أسقفاً سنة 104 وأرسله إلى أربيل، وقد خدم هناك حتى توفي سنة 114. وبقي الكرسي شاغراً 6 سنوات حتى سنة 120 رسم الشماس شمشون أسقفاً خلفاً له، وقد خدم أبرشيته حتى استشهاده سنة 123. وخلفه مار إسحق الذي خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 136. وخلفه مار أبراهام الذي خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 151. وخلفه مار نوح الذي خدم أبرشيته حتى توفي سنة 181. وبقي الكرسي شاغراً 4 سنوات حتى سنة 185 خلفه مار هابيل الذي خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 191. وخلفه مار عبد مشيحا الذي خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 216. وخلفه مار حيران الذي خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 249. وخلفه مار شحلوبا الذي خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 264. وخلفه مار أحاد آبوي الذي دبر أبرشيته 18 سنة. هؤلاء هم مطارنة أربيل الذين خدموا هذا الكرسي، منذ نهاية الجيل الأول وحتى نهاية الجيل الثالث.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مطارنة أربيل القديسين في الجمعة الثالثة من سابوع القيامة.


60
تذكار الربان هرمزد
الشماس نوري إيشوع مندو
   ولد في بيت لاباط  من مقاطعة الأهواز  في بلاد الفرس، وذلك إما في النصف الثاني من القرن السادس أو النصف الأول من القرن السابع للميلاد. وقد كان والداه يوسف وتقلا مسيحيين مستقيمي الإيمان، وعلى جانب عظيم من التقوى، وذوي ثروة طائلة. ولما بلغ هرمزد الثانية عشرة من عمره، ادخله أبواه المدرسة فمكث فيها ست سنوات تلقن في خلالها علوم عصره، وتمكن أن يتلوا غيباًُ المزامير والعهد الجديد. وعندما ناهز العشرين من عمره، تحركت فيه الدوافع إلى الانقطاع من العالم، ولطالما كان يسمع أبواه منه تلك العبارة التي كثر ترديدها على لسانه وهي " إني سأكون راهباً ". على هذا المبدأ أراد أن يسير، فكان يفكر به ليل نهار، وينتظر دنو تلك الفرصة التي ستؤهله للدخول في الحياة الرهبانية.
   ثم صمم أن يقوم بزيارة للأراضي المقدسة، ومنها ينتقل إلى برية صعيد مصر  ليسكن مع المتعبدين هناك. فترك أبويه ومضى، وبعد أن قطع مسيرة سبعة وثلاثين يوماً، وصل مدينة حالا، وصادف هناك في كنيستها ثلاثة رهبان من دير الربان برعيتا.  ولما أدرك هؤلاء الثلاثة ما لهذا الشاب من مزايا وفضائل، أشاروا عليه أن يرافقهم إلى ديرهم وينتسب إلى رهبانيتهم. فأجاب إلى سؤالهم بمزيد من الارتياح.
   وما أن وصل إلى الدير حتى انخرط بين الرهبان المبتدئين، وأصبح مثالاً للتدين والتنسك. وبعد أشهر قليلة منحه الرئيس العام الأسكيم الرهباني، فصار يطبق الأنظمة الرهبانية بحذافيرها، وعاش عيشة البساطة والزهد، ودام على هذه الحياة القاسية مدة سبع سنين، كان خلالها مثالاً صالحاً يقتدي به الرهبان ويحذون حذوه، وأصبح بين هذا الجمع الغفير كالنجم المتألق، حيث أخذ نوره يسطع على جميع رفاقه نظراً لما أمتاز به من صلاح وتقوى، وما أزدان به من مواهب روحية، حتى صاروا يلقبونه بـ  " أسيا دقنوبايي " أي طبيب المبتدئين. ثم دعاه الرئيس العام مار سبريشوع  لينفرد في صومعة لوحده، ليعيش عيشة الأخوة الكاملين. وبقي الربان هرمزد في صومعة قرب الدير مدة تسعاً وثلاثين سنة، قضاها في جهود مجيدة وفضائل تامة.
   وكان يعيش بالقرب منه راهب جليل من دير بيث عابي يدعى الربان أبراهام، فاتفقا كلاهما على الانتقال معاً إلى موضع آخر. فخرجا من هناك وحطَّا رحالهما في دير بيث عابي  ومكثا فيه ثلاثة أشهر. ثم انطلق ومعه ستة رهبان وأتوا وسكنوا في دير الأبا أبراهام الذي كان يدعى دير الرأس.   وكان هذا الدير موافقاً لحياة الخلوة التي كانوا يتشوقون إليها، فصاروا يتعبدون هناك للرب بالعمل الصالح، وممارسة الحياة الدينية بكل ما فيها من خشونة ومشقة. وأقاموا هناك مدة سبع سنين، حتى اضطروا أن يتركوه ويذهبوا إلى مكان آخر بسبب شحة مياه الينبوع الذين كانوا يرتوون منه. فذهبا أربعة منهم إلى جبل قردو .  أما هرمزد ورفيقه أبراهام فقد ذهبا إلى جبل بيث عذري قرب ألقوش . ولما وصلا هناك ارتقيا الجبل فوجدا همتك كهفاً وأمامه ينبوع ماء يتحدر في الوادي. ولكن أبراهام لم يبق مع الربان هرمزد إلا ثلاثة أيام فقط، حيث تخلى عن رفيقه ومضى وأقام له ديراً على اسمه قرب قرية باطنايا  شمال الموصل. وما أن حل هرمزد في مكانه الجديد حتى انتشر أريج قداسته في تلك البقعة، فتقدم إليه أهالي ألقوش وباقوفا  للتبرك منه. وذاع صيته في كثير من الأنحاء، حتى صار يحمل الناس إليه الموتى والمجانين والمقعدين والعميان والبرص وغيرهم، فكان يشفي ما بهم من علل وآفات. ونظراً للتقدم الروحي الباهر الذي حازه، فقد لقي حسداً شديداً من قبل غيره من المسيحيين من ذوي النفوس الصغيرة، حتى أنه لكم تمنى الموت لنفسه تخلصاً من تلك المنافسات والأحقاد. ولما رأى طلاب مدرسة مار أيث آلاها  ازدهار الحياة الرهبانية تحت لواء الربان هرمزد، جاء خمسون واحداً منهم ليعتزلوا الحياة بمعيته، وشرعوا ببناء كنيسة. ولما سمع بالخبر سكان البلاد المجاورة لهم، عاضدوهم بكل ما أوتوه من سعة اليد في سبيل إقامة الدير وكنيسته. ولم يزل الربان هرمزد عاكفاً في ديره على سيرته النسكية، حتى تمكن من اكتساب ثقة أعدائه، واستمالة قلوبهم إليه بصالح أعماله، وطيب قلبه ونقاء سيرته. فعاش في ديره بسلام وشرف إلى آخر أيام حياته. وقد تقاطر إليه الرهبان، فتجمهروا لديه في باديء الأمر مائة ناسك، حيث عاش بينهم وهو يعلمهم ويبشر فيهم. إلى أن دقت الساعة وحم القضاء، فانطفأ سراج حياته، بعد أن جمع رهبانه، وألقى عليهم من النصائح والأحكام ما يصح أن يعتبر دستوراً يقتفى أثره في الحياة الرهبانية. وكان قد بلغ ستاً أو سبعاً وثمانين سنة. وقد حفر رهبانه في بيت الشهداء الذي بديره، مغارة صغيرة بالجبل ووضعوا جسده فيه. ولا تزال العادة جارية بأخذ قليل من التراب " حنانا "  الموجود في قبره للتبرك منه.
   وبعد وفاة الربان هرمزد نمت هذه الغرسة التي غرستها يمينه، وترعرعت لعدة أجيال بعده، فأشتهر ديره وذاع صيته في الشرق وتقاطر إليه الرهبان، فأصبح منهلاً عذباً للعلم والقداسة. وقد نبغ في هذا الدير رهبان عرفوا بفضيلتهم السامية، كما امتاز  بعضهم بالعلم والتأليف.
   يقع دير الربان هرمزد على مسافة 2 كم من بلدة ألقوش، وقد أسس نحو سنة 640م. ونقرت بعض غرف الدير في الصخر. وحول الدير كهوف كثيرة كان الرهبان يسكنون بعضاً منها. وقد تعرض الدير لمصائب عديدة أدت إلى تشرد رهبانه مرات كثيرة. وتعرض الدير للسلب والنهب في عهد المغول. 
   وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر انطلقت من هذا الدير مع رئيسه يوحنان سولاقا بلو  حركة الانضمام إلى الوحدة مع الكنيسة الكاثوليكية.
   ثم أصبح الدير مقراً للبطريرك النسطوري. وقد خرب الدير خلال حملة نادر شاه  سنة 1743. وفي سنة 1808 قام الأنبا جبرائيل دنبو  بتجديد الحياة الرهبانية في الدير. وقد استشهد سنة 1832 مع بعض رهبانه على يد ميركور الرواندوزي. وتعرض الدير للنهب وتمزيق المخطوطات النفيسة وحرقها على يد إسماعيل باشا العمادية وتكررت عليه المصائب على مر السنين. واليوم أخذت الحياة تعود إليه تدريجياً. 
   ويضم الدير قبر الربان هرمزد، وقبر الأنبا جبرائيل دنبو، وقبور العديد من بطاركة ألقوش النساطرة من عائلة أبونا ، الذين توفوا بين القرن 15 و مطلع القرن 19.       


61
تذكار مار يونان الغريب
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 5 / 34 _ 42 فقام في المجلس فريسي اسمه . . .
القراءة الثانية: أفسس 1 / 1 _ 14 من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة . .
القراءة الثالثة: يوحنا 14 / 1 _ 14 لا تضطرب قلوبكم تؤمنون بالله فآمنوا . . . 

   مار يونان الغريب: اسمه يوانيس وقد سماه مار أوجين يونان. ينتمي أجداده إلى سلالة الملك قسطنطين، وبعد أن اعتنقوا المسيحية تركوا روما وهجروا إلى قبرص واستوطنوها. وهناك مارسوا مهنة الطب. وقد فضلوا ممارسة هذه المهنة لسبب أنهم يمكنهم ممارسة أعمال الرحمة من خلال معالجة المصابين بالأسقام من الفقراء والمحتاجين الذين هم أخوة يسوع، فيزداد حبهم لله، ويضحون أهلاً لأن يُدعوا بني الملكوت الموعود به. وكانوا كلما توسعوا فيه علماً ازدادوا عليه حرصاً وله إتباعاً، فذاع صيتهم في كل الجزيرة فعظم فيها شأنهم وارتفعت منزلتهم. 
   ولد في قبرص فربياه والديه تربية حسنة، وحدق في علم الكتب المقدسة. وذات يوم كان في الكنيسة سمع الكاهن يتلو الإنجيل: " من أحب أباً أو أماً أكثر مني فما يستحقني، ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني ". فأثرت فيه هذه الأقوال. وكان قد ناهز العشرين من عمره ففكر في التنسك. لكن والده كان يريد أن يدرس الطب وأجبره على ذلك.
   وفي أحد الأيام بينما كان يسمع القداس في الكنيسة مسك مطران الجزيرة ابيفانوس يده وقدمه إلى المذبح ورسمه كاهناً وقال له: " إني رغبت يا بني أن أتبارك منك قبل أن تصبح ظبياً في الجبل. فإنك مزمع أن تكون أباً لرهبان كثيرين ". وقد أرسله والده إلى الجبال والبراري مصحوباً بأطباء ماهرين بغية أن يتعلم منهم ما يدخل في الأدوية من النباتات والعقاقير. فطاف معهم عدة أيام. وذات ليلة بعد أن صلى رسم إشارة الصليب على وجهه وطلب من الرب أن يساعده في الهروب. وبعد مسيرة طويلة وصل إلى المشرق فاستقبله مار أوجين ومسك بيده وقال له: " هلم يا بني هلم بالسلام. فأنا منتظرك ومن أجلك أتيت    هنا ".
   ثم انطلق به إلى بلاد مصر ومكث يونان هناك خمس عشرة سنة. فألف السيرة الرهبانية وتسلق مراقي الكمال سريعاً طائراً على جناح إيمان حار إلى المراتع السماوية. وعندما قرر مار أوجين الذهاب إلى المشرق، ذهب معه جميع تلاميذه. ولما وصلوا مدينة نصيبين سكنوا أولاً في جنوب المدينة. وانطلقوا من هناك وصعدوا إلى جبل إيزلا شرق المدينة وسكنوا بقرب قرية معرى. وبقوا هناك ناسكين في مغارة مدة أربعين سنة في الزهد والتقشف.
   وبعد أن أبرى مار أوجين ابن الملك شابور الذي كان فيه روح نجس، طلب منه مار أوجين أن يسمح لتلاميذه بالذهاب إلى عمق المملكة الفارسية ليبشروا بالإنجيل ويعمدوا ويبنوا كنائس وأديرة، فوافق على طلبه. واختار يونان وأخ أخر يدعى يوسف للقيام بهذه الرسالة. وفي الصباح دخل مار يونان على مار أوجين ليودعه وينال بركته، فقبله مار أوجين وباركه قائلاً: " أذهب يا ابني بالسلام، الرب معك. أخضعك سبحانه لإرادته المقدسة. فإنك ستكون أباً ورئيساً لألوف كثيرة. والرب الذي كان مع آبائنا القديسين يكون معك ويقويك لتكمل إرادته ". فانطلق من جبل إيزلا متوجهاً إلى برية فيروز شابور وسكن في حفرة ظللها بالقصب. وكانت تلك البرية مملوءة بالأسود التي كانت الأرض ترتج لزئيرها كل مساء. وبقي في هذه الخلوة مدة عشرين سنة. وفي كل هذه السنين كان الله يرسل له القوت بواسطة غراب كل يوم. ثم اجتمع حوله عشرة رهبان فطلبوا منه أن يكون رئيساً عليهم لكنه لم يذعن إلى طلبهم. لكنه بقي معهم عشرة سنين يرشدهم في طريق الكمال.
   وذات ليلة تركهم خفية وتوجه إلى دير مار توما الواقع شرقي بلاد العرب على ساحل خليج العجم المعروفة ببلاد القطاريين " بيث قطرايي " " قطر الحالية ". وكان في هذا الدير مائتا راهب وبقي هناك فترة من الزمن صنع خلالها معجزات عديدة.  ثم عاد إلى مكانه في برية فيروز شابور فاستقبله الرهبان العشرة بفرح وهم ينشدون أناشيد الحبور. فطلب منهم أن يعيشوا بعيداً عنه ليعيش بهدوء تحت مظلته. وإذا احتاجوا أي شيء فعليهم أن يطلبوه منه، وسوف يصلي من أجلهم والرب يستجيب. وأوصاهم أن يجتمعوا كل يوم أحد ليقربوا الذبيحة الإلهية، وسوف يكون معهم كلما قربوا الذبيحة، وقال لهم: " إن كل من يغتذي يوم الأحد بجسد ودم ربنا يسوع المسيح تتطهر نفسه وتستنير. وأما الذي يتغافل عن ذلك فتظلم نفسه وتكمه بصيرته ". وعاش بعد عودته من دير مار توما عشرين سنة على هذه الطريقة. وعندما علم أن أجله قد دنا، دعا المزربان " حاكم المنطقة " الذي كان قد أقام يونان ولده الميت، والذي آمن واعتمد مع جميع أهل بيته بعد رأى تلك الأعجوبة وقال له: " إني مزمع يا بني أن اطلب منك حاجة. فإذا أسعفتني بها بقيت لي ولك بعدنا ذكراً على غابر الدهور ". فأبدى المزربان استعداده الكامل بتلبية طلبه. فقال له مار يونان: " في هذه الليلة انتقل إلى دار البقاء فبغيتي أن تبني في هذا المكان ديراً وفي الدير كنيسة ليتمجد فيهما اسم الله في كل وقت ". ففرح المزربان مؤكداً أنه سينفذ طلبه.
   وفي اليوم التالي وكان يوم الأحد الثالث من القيامة انتقل مار يونان إلى الحياة الأبدية. فأمر المزربان أن يأتوه بتابوت جديد من فخار مع غطائه، فوضعوا جثمان مار يونان فيه ودفنوه بإكرام وتبجيل تحت مظلته. وبعد ثلاثة أيام أحضر المزربان عمال كثيرين من المدينة وقراها إلى قبر مار يونان، وأمرهم بقطع تلك المظلة، وبنى فوقها كنيسة ودير. وبعد أن انتهى البنيان أتى أسقف المدينة فكرس الكنيسة والدير باحتفال مهيب.
   وكان الأسقف مصحوباً بالكهنة والشمامسة والمؤمنين يأتون هناك كل سنة في يوم الأحد الثالث من القيامة ليحيوا تذكاره بالصلاة والذبيحة الإلهية لينالوا بشفاعته حاجاتهم الروحية والزمنية.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار يونان الغريب في الأحد الثالث من سابوع القيامة.


62
تذكار مار يونان الغريب
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 5 / 34 _ 42 فقام في المجلس فريسي اسمه . . .
القراءة الثانية: أفسس 1 / 1 _ 14 من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة . .
القراءة الثالثة: يوحنا 14 / 1 _ 14 لا تضطرب قلوبكم تؤمنون بالله فآمنوا . . . 

   مار يونان الغريب: اسمه يوانيس وقد سماه مار أوجين يونان. ينتمي أجداده إلى سلالة الملك قسطنطين، وبعد أن اعتنقوا المسيحية تركوا روما وهجروا إلى قبرص واستوطنوها. وهناك مارسوا مهنة الطب. وقد فضلوا ممارسة هذه المهنة لسبب أنهم يمكنهم ممارسة أعمال الرحمة من خلال معالجة المصابين بالأسقام من الفقراء والمحتاجين الذين هم أخوة يسوع، فيزداد حبهم لله، ويضحون أهلاً لأن يُدعوا بني الملكوت الموعود به. وكانوا كلما توسعوا فيه علماً ازدادوا عليه حرصاً وله إتباعاً، فذاع صيتهم في كل الجزيرة فعظم فيها شأنهم وارتفعت منزلتهم. 
   ولد في قبرص فربياه والديه تربية حسنة، وحدق في علم الكتب المقدسة. وذات يوم كان في الكنيسة سمع الكاهن يتلو الإنجيل: " من أحب أباً أو أماً أكثر مني فما يستحقني، ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني ". فأثرت فيه هذه الأقوال. وكان قد ناهز العشرين من عمره ففكر في التنسك. لكن والده كان يريد أن يدرس الطب وأجبره على ذلك.
   وفي أحد الأيام بينما كان يسمع القداس في الكنيسة مسك مطران الجزيرة ابيفانوس يده وقدمه إلى المذبح ورسمه كاهناً وقال له: " إني رغبت يا بني أن أتبارك منك قبل أن تصبح ظبياً في الجبل. فإنك مزمع أن تكون أباً لرهبان كثيرين ". وقد أرسله والده إلى الجبال والبراري مصحوباً بأطباء ماهرين بغية أن يتعلم منهم ما يدخل في الأدوية من النباتات والعقاقير. فطاف معهم عدة أيام. وذات ليلة بعد أن صلى رسم إشارة الصليب على وجهه وطلب من الرب أن يساعده في الهروب. وبعد مسيرة طويلة وصل إلى المشرق فاستقبله مار أوجين ومسك بيده وقال له: " هلم يا بني هلم بالسلام. فأنا منتظرك ومن أجلك أتيت    هنا ".
   ثم انطلق به إلى بلاد مصر ومكث يونان هناك خمس عشرة سنة. فألف السيرة الرهبانية وتسلق مراقي الكمال سريعاً طائراً على جناح إيمان حار إلى المراتع السماوية. وعندما قرر مار أوجين الذهاب إلى المشرق، ذهب معه جميع تلاميذه. ولما وصلوا مدينة نصيبين سكنوا أولاً في جنوب المدينة. وانطلقوا من هناك وصعدوا إلى جبل إيزلا شرق المدينة وسكنوا بقرب قرية معرى. وبقوا هناك ناسكين في مغارة مدة أربعين سنة في الزهد والتقشف.
   وبعد أن أبرى مار أوجين ابن الملك شابور الذي كان فيه روح نجس، طلب منه مار أوجين أن يسمح لتلاميذه بالذهاب إلى عمق المملكة الفارسية ليبشروا بالإنجيل ويعمدوا ويبنوا كنائس وأديرة، فوافق على طلبه. واختار يونان وأخ أخر يدعى يوسف للقيام بهذه الرسالة. وفي الصباح دخل مار يونان على مار أوجين ليودعه وينال بركته، فقبله مار أوجين وباركه قائلاً: " أذهب يا ابني بالسلام، الرب معك. أخضعك سبحانه لإرادته المقدسة. فإنك ستكون أباً ورئيساً لألوف كثيرة. والرب الذي كان مع آبائنا القديسين يكون معك ويقويك لتكمل إرادته ". فانطلق من جبل إيزلا متوجهاً إلى برية فيروز شابور وسكن في حفرة ظللها بالقصب. وكانت تلك البرية مملوءة بالأسود التي كانت الأرض ترتج لزئيرها كل مساء. وبقي في هذه الخلوة مدة عشرين سنة. وفي كل هذه السنين كان الله يرسل له القوت بواسطة غراب كل يوم. ثم اجتمع حوله عشرة رهبان فطلبوا منه أن يكون رئيساً عليهم لكنه لم يذعن إلى طلبهم. لكنه بقي معهم عشرة سنين يرشدهم في طريق الكمال.
   وذات ليلة تركهم خفية وتوجه إلى دير مار توما الواقع شرقي بلاد العرب على ساحل خليج العجم المعروفة ببلاد القطاريين " بيث قطرايي " " قطر الحالية ". وكان في هذا الدير مائتا راهب وبقي هناك فترة من الزمن صنع خلالها معجزات عديدة.  ثم عاد إلى مكانه في برية فيروز شابور فاستقبله الرهبان العشرة بفرح وهم ينشدون أناشيد الحبور. فطلب منهم أن يعيشوا بعيداً عنه ليعيش بهدوء تحت مظلته. وإذا احتاجوا أي شيء فعليهم أن يطلبوه منه، وسوف يصلي من أجلهم والرب يستجيب. وأوصاهم أن يجتمعوا كل يوم أحد ليقربوا الذبيحة الإلهية، وسوف يكون معهم كلما قربوا الذبيحة، وقال لهم: " إن كل من يغتذي يوم الأحد بجسد ودم ربنا يسوع المسيح تتطهر نفسه وتستنير. وأما الذي يتغافل عن ذلك فتظلم نفسه وتكمه بصيرته ". وعاش بعد عودته من دير مار توما عشرين سنة على هذه الطريقة. وعندما علم أن أجله قد دنا، دعا المزربان " حاكم المنطقة " الذي كان قد أقام يونان ولده الميت، والذي آمن واعتمد مع جميع أهل بيته بعد رأى تلك الأعجوبة وقال له: " إني مزمع يا بني أن اطلب منك حاجة. فإذا أسعفتني بها بقيت لي ولك بعدنا ذكراً على غابر الدهور ". فأبدى المزربان استعداده الكامل بتلبية طلبه. فقال له مار يونان: " في هذه الليلة انتقل إلى دار البقاء فبغيتي أن تبني في هذا المكان ديراً وفي الدير كنيسة ليتمجد فيهما اسم الله في كل وقت ". ففرح المزربان مؤكداً أنه سينفذ طلبه.
   وفي اليوم التالي وكان يوم الأحد الثالث من القيامة انتقل مار يونان إلى الحياة الأبدية. فأمر المزربان أن يأتوه بتابوت جديد من فخار مع غطائه، فوضعوا جثمان مار يونان فيه ودفنوه بإكرام وتبجيل تحت مظلته. وبعد ثلاثة أيام أحضر المزربان عمال كثيرين من المدينة وقراها إلى قبر مار يونان، وأمرهم بقطع تلك المظلة، وبنى فوقها كنيسة ودير. وبعد أن انتهى البنيان أتى أسقف المدينة فكرس الكنيسة والدير باحتفال مهيب.
   وكان الأسقف مصحوباً بالكهنة والشمامسة والمؤمنين يأتون هناك كل سنة في يوم الأحد الثالث من القيامة ليحيوا تذكاره بالصلاة والذبيحة الإلهية لينالوا بشفاعته حاجاتهم الروحية والزمنية.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار يونان الغريب في الأحد الثالث من سابوع القيامة.


63
تذكار مار فنحاس الشهيد
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 12 / 1 _ 24 في ذلك الوقت قبض الملك . . . 
القراءة الثانية: 2 قورنتس 12 / 1 _ 14 ألا بد من الافتخار؟ إنه لا خير . . .
القراءة الثالثة: متى 10 / 37 _ 42 من أحب أباه أو أمه أكثر مما يحبني . . .
                     + متى 16 / 24 _ 27 ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن . . .
                     + متى 19 / 27 _ 30 فقال له بطرس: ها قد تركنا نحن . . . 

   مار فنحاس الشهيد: أصله من مدينة إثيناس وكان كريم النسب، وقد درس علم الفلسفة، وما أن بلغ العشرين من عمره توفي والده، ففكر بترك العالم والتزهد. فترك وطنه وانطلق إلى بلاد المشرق فحل في جبل إيزلا قرب نصيبين، وهناك تتلمذ لمار أوجين. وبعد فترة ذهب إلى بلاد قردو وسكن في جبل يقال له حوارا ويعني الأبيض، وبقي هناك مدة ثلاثين سنة مواظباً على الصوم والصلاة. فكان هدفاً لحر الصيف المذيب وقرِّ الشتاء الشديد. وكان يمشي حافياً وليس على بدنه إلا نسيج غليظ من شعر الماعز.  وكان بالقرب من الجبل قرية تدعى جنبالي، فيها رجل أثيم أسمه أنيحا يبغض المسيحيين بغضاً شديداً، وكان على مودة مع حاكم مدينة فنك المدعو سيمون. فذهب عنده أنيحا ووشى على مار فنحاس بأنه يدعو المجوس للدخول في المسيحية، فغضب الحاكم وطلب إحضار مار فنحاس، وما أن أتوا به طلب منه نبذ المسيحية واعتناق المجوسية والسجود للشمس.
   فرفض مار فنحاس عرض الحاكم قائلاً: " كيف أسجد للشمس التي أظلمت حزناً على موت ملكي وإلهي يسوع المسيح من الساعة السادسة وإلى الساعة التاسعة، وهي عديمة الحياة والروح وإنما بقوة الله عز وجل تتحرك. فلست أسجد إلا لخالق الكل الذي سلطته لا تزول وملكه لا يفنى، وله يسجد جميع الأرواح السماوية ".
   فقال له الحاكم: " إن لم تعمل يا منكود الحظ بما أمتك به، فموتاً شنيعاً تموت ".فرد عليه فنحاس قائلاً: " أذهبن عني يا شيطان أنت وآلهتك الكاذبة إلى النار المؤبدة المعدة لك. وأما لأنا فمستعد للموت من أجل إلهي. فلست أخاف من تهديداتك وهي عندي شبه طنين الذباب. فاصنعن بي ما شئت ".
   فأمر الحاكم بإحضار سكاكين ومسامير وأمشاط ومناشير حديدية. فوضعها قدام فنحاس وقال له:     " إني بهذه الآلات أنكل بك. فإن لم تخضع طوعاً أكرهتك بالتعذيب  قسراً ".
    فرد عليه فنحاس بالقول: " لله ما أحلى التعاذيب. إني لتائق إلى مجد احتمالها لأجل يسوع المسيح. فأفعل ما بدا لك أيها الفاجر ولا تتأخر ".
   فاستشاط الحاكم غضباً وأمر بقطع لسانه بالسيف وقتله أشنع قتلة. فتقدم من الحاكم أنيحا الفاجر وقال له: " سلم هذا النصراني بيدي فأنا أنزل به النكال بتباريح العذابات ". فاستجاب الحاكم لطلبه.
   فقال أنيحا لفنحاس: " أمتثل أمر الحاكم وأسجد للآلهة التي يسجد هو لها. وألا فلأذيقنك أمرّ الميتات ".
   فرد عليه فنحاس قائلاً: " سدنَّ فاك أيها الشرير الفاجر ولا تكلمني بهذا الكلام الخبيث. كيف أنبذ الإله الذي خلق السماء والأرض وكل ما فيها. وأرسل ابنه الوحيد فبذل نفسه عني لكي يخلصني من عبودية الشياطين معبوداتكم. وهو مزمع أن يأتي ثانيةً في انقضاء العالم بمجد عظيم لا يوصف، ليدين الأحياء والأموات. فيثيب الأبرار بالملكوت السماوي، وأما الخطاة الذين هم نظيرك فيلقيهم في نار لا تطفأ ".
   فكاد أنيحا يتمزق غيظاً فأمر بتكبيله بسلاسل ثقيلة وعلق منكس الرأس وأخذوا يرشقونه بالسهام والحجارة، وكان مار فنحاس يسبح الرب متحملاً قساوة العذابات. ثم أنزلوه وهجموا عليه وقطعوه أرباً أرباً حتى أسلم الروح. وكان استشهاده في 28 نيسان نهاية الجيل الرابع. وأخذ عضو من أعضائه إلى قرية أزياخ ووضع في هيكل شيد على اسمه، ثم صار ديراً للراهبات وعرف بدير مار فنحاس. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار فنحاس الشهيد في الجمعة الثانية من سابوع القيامة.


64
تذكار مار خوداوي
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                    + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .

    مار خوداوي: خوداوي كلمة فارسية تعني الإلهي، أصله من بلاد مصر والده يدعى قرياقس وأمه تدعى حنة. جاء إلى المشرق وتتلمذ لمار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية فيها. وانفرد في البرية للعيش بتقشف وقمع الجسد، واستمر على هذه الحالة ثلاثين سنة. وأثار الشيطان عليه تجارب صعبة وشديدة، فكسر خوداوي هذه التجارب بالصوم والصلاة.
    ثم انتقل إلى جبل أوكاما " الأسود " وبنى ديراً هناك، وتتلمذا له جم وافر، فذاع صيته وكان المرضى يقبلون إليه لينالوا الشفاء. وقد قصدته ذات يوم امرأة عاقرة وأخذت تتضرع إليه أن يصلي عليها. فصلى عليها مار خوداوي ثم قال لها: " تهللي فرحاً لأنكِ السنة ترزقين ابنين توأمين ". وتم قوله إذ حبلت تلك المرأة وولدت ابنين. وما أن شبا حتى انضم أحدهما إلى مار خوداوي وترهب. 
    ثم انطلق إلى نصيبين وأقام هناك ميتاً وشفى كثيراً من السقماء. ومنها انطلق إلى جبل إيزلا المجاور لها وبني ديراً في شمال قرية معرى ودعاه " دير  حولي "، واجتمع إليه مائة وثلاثون راهباً. وتوفي وله من العمر 113 سنة.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار خوداوي في يوم السبت الثاني من سابوع القيامة.



65
تذكار مار أوراها المادي
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 19 / 8 _ 20 ثم دخل المجمع وكان مدة . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس10 / 4 _ 18 فليس سلاح جهادنا بشرياً ولكنه . . .
القراءة الثالثة: متى 24 / 45 _ 47 فمن تراه الخادم الأمين العاقل الذي . . .
                      + متى 25 / 14 _ 23 فمثل ذلك كمثل رجل أراد السفر . . .

   مار أوراها المادي: قليلة هي معلوماتنا عن هذا القديس. وقصة حياته متداخلة مع سيرة الربان هرمزد. فقد أمضى 13 سنة في دير بيث عابي الشهير في منطقة عقرة، ثم اعتزل في صومعة قريبة من دير برعيتا، ومنها غادر المكان مع الربان هرمزد وزملاءه رهبان آخرين وسكنوا نحو سبع سنوات في ديرا دريشا      ( دير الرأس ) في جبل ألفاف ( مقلوب ). وبالنظر إلى شحة المياه في الموضع، تركوه ومضوا إلى مكان في جبل آخر يتوفر فيه الماء ( جبل ألقوش ). فاستقر الربان هرمزد هناك، فاستقر الربان هرمزد هناك. فاجتمع إليه أخوة كثيرون، فأقاموا ديراً هناك معظم أجزائه منقور في صخر الجبل. أما الربان أوراها فغادر الموضع بعد ثلاثة أيام وذهب باحثاً عن موضع يؤسس فيه ديراً. فوجد الموضع الملائم، قرب قرية بيث ماداي ( باطنايا )، وذلك في النصف الأول من القرن السابع. 
   عاش مار أوراها في النصف الثاني من القرن السادس. فنبغ في عهد الجاثليق إيشوعياب الأول الأرزني  ، إذ في عهده شيد ديره وذاع صيته وكثر تلامذته. وامتد به العمر إلى عهد الجاثليق إيشوعياب الجدالي   إذ ترك هذا الجاثليق رسالة لاهوتية مهمة عنوانها " كيفية الإقرار بالشخص الواحد في المسيح " كتبها نحو سنة 620 م حين كان أسقف بلد  ( اسكي موصل ) موجهة إلى مار أوراها، هذا يعني أن مار أوراها عاش عمراً مباركاً وتوفي بشيخوخة طاعنة بعد أن أسس الدير، ووضع قانوناً له، ونصر أهالي القرية المجاورة، والقرى القريبة. وبعد أن جذب عدداً جيداً من الرجال لاعتناق طريقته، فأنهى رسالته فرحاً بعد أن امتلأت صوامعه بالمتعبدين، وكانت كنيسته وجوانبه تردد أصوات تراتيلهم الطقسية الرهبانية الجميلة آناء الليل وأطراف النهار، تجمعهم المحبة التي هي وصية المخلص الأخيرة، وتنير سبلهم المشورات الإنجيلية. وبقي الدير عامراً بالرهبان بقدر ما كانت البلاد مزدهرة عامرة ترفل بالسلام والأمن، يدير شؤونها أبناؤها. وعندما بدأ الغرباء من مغول وفرس وترك يتوغلون فيها ويستولون على أراضيها ويسيرون مقدراتها، اضطرب فيها حبل الأمن. فانتشرت الحروب والفتن والقتل والاضطهاد، وعم الفقر والجهل. وهكذا بدأت أديار كثيرة تضمحل كالذبالات حتى انطفأت.
   ونستنير بهوامش المخطوطات القليلة الباقية العائدة إلى الدير، والتي سلمت من عوادي الزمن ووصلت إلينا. فنجد مخطوطاً للصلوات اليومية " الحوذرة " كتب سنة 1681 على طلب القس هرمزد نور الدين المسؤول عن الدير ، ولأن العادة الجارية عندنا الجارية عندنا أن نصلي في جوقتين فإن مدبر الدير القس هرمزد أوصى على نسخة أخرى في السنة التالية، ولأنه كان يفتقر إلى المال فقد وجد العون عند بعض وجوه الكلدان من أهالي الموصل أي جماعة مسكنتة وشمعون الصفا. كما يذكر في آخر المخطوط الموجود حالياً في كنيسة باطنايا ثم أوصى القس المذكور إنجيلاًَ بقطع كبيرة وطلب من الخطاط أن يكتبه بالقلم الإسطرنجيلي الجميل وأن يزينه بالرسوم والتصاوير والنقوش ففعل، وذلك في سنة 1689 م. فالدير قائم ويحتاج إلى كتب للصلاة. ثم تغيب أخبار الدير تدريجياً، ويعود ذلك على الأرجح إلى حملة نادر شاه الفارسي الذي اجتاح العراق سنة 1743، فاخترق مدنه، وخرب ريفه، ثم تقدم إلى الموصل وحاصرها فقاومته ببسالة نادرة، حتى تقهقر وهو يجر أذيال الخيبة والعار، فانتقل إلى القرى القريبة الهادئة، فدمر وسرق وقتل واحرق ووضع يده على الأديار، فشتت سكانها الآمنين. وكان دير مار أوراها المادي من جملة ضحايا هذا الهجوم الغاشم، فأصبح خالياً خاوياً. ومرت السنوات والدير في سبات عميق، لأن البلد كان في انحطاط مستمر، والكنيسة نفسها في تأخر بسبب الجهل والفقر.
   وعندما انتعشت الحياة الرهبانية في الكنيسة الكلدانية سنة 1808 على يد الأنبا جبرائيل دنبو انبعث الأمل، لكن أحداً لم يلتفت إلى دير مار أوراها فبقي نسبياً منسياً، يمر الناس به ويتأسفون عليه ويكتفون بالزيارة، أو بالالتجاء إلى بعض صوامعه القائمة عند انتشار الأوبئة وخصوصاً الكوليرا في الموصل وقراها. وفي سنة 1884 خطط البطريرك مار إيليا الثاني عشر عبو اليونان وبدأ بمشروع حيوي لفائدة شبيبة قرى الأبرشية البطريركية، وهو فتح مدرسة عالية في دير مار أوراها يجمع فيها الشباب من القرى لتلقي مبادئ الدين والعلوم الحديثة لفائدتهم ولفائدة المجتمع. واسند العمل إلى الخوري عبد الأحد معمار باشي. واستمر العمل سنوات متتالية ولم يكتب له النجاح لقلة ذات اليد أولاً، ولوفاة البطريرك غير المتوقعة. وبإمكاننا أن نقول أن الدير بتصميمه الأساسي الحالي يرجع إلى ذلك التجديد.
   ثم عاد الدير إلى سباته إذ لم يلتفت إليه البطريرك عبد يشوع الخامس خياط، ولم يهتم به البطريرك عمانوئيل الثاني توما إلا بعد الحرب العالمية الأولى، إذ وجد تشجيعاً وعوناً من البابا بندكتس الخامس عشر  لفتح مدرسة داخلية حديثة لأبناء القرى. فأكمل البناء حسب تصميم الخوري معمار باشي، وانتهى العمل سنة 1921. لكن المشروع بقي متأرجحاً ولم يتحقق. فقرر البطريرك أن يجعل الدير مكاناً للاعتكاف والراحة حيث يمضي بعض أشهر الصيف فيه، وينطلق للزيارات الراعوية السنوية للقرى في الخريف.  وفي بعض السنين جمع كهنة أبرشيته للرياضة السنوية ، وفي سنين أخرى قدم مصيفه العزيز لتلاميذ معهده الكهنوتي لقضاء بعض أيام العطلة الصيفية والربيعية. وكان يطيب له أن يدعو شخصيات الموصل الرسمية الاجتماعية والدينية لقضاء سويعات من اللقاء الأخوي والراحة في خلوة الدير.
   واشتهرت بين الزيارات كلها تلك التي قام بها الملك فيصل الأول  مع حاشيته يوم 6 حزيران سنة 1931، حيث تناولوا طعام الغداء على مائدة البطريرك وكان يوماً مشهوداً. وبعد وفاة البطريرك سنة 1947 توقفت الحركة في الدير، وكان لعوامل الزمن والطبيعة أحكاماً، فأخذ البناء يتداعى بسبب موقعه في البرية، حيث لا يسكنه أحد. واكتفاء المسيحيين بالزيارات العابرة والبكاء على الأطلال.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار أوراها المادي يوم الأثنين الذي يلي الأحد الجديد. 



66
تذكار مار يوحنا الكمولي ومار ماما ومار سابا الشهيدين
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 4 / 32 _ 37 وكان جماعة الذين آمنوا قلباً . . .
                  + أعمال الرسل 5 / 1 _ 11 وإن رجلاً اسمه حننيا باع . . .
القراءة الثانية: قولسي 1 / 1 _ 20 من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة . .
القراءة الثالثة: يوحنا 20 / 19 _ 31 وفي مساء ذلك اليوم يوم الأحد كان . . .
   الفكرة الطقسية: تشكل قيامة المسيح نقطة إنطلاق لتكوين عهد جديد وجماعة جديدة في شركة محبة وغفران وسلام وفرح. هذه الجماعة يقودها الروح القدس عبر أحداث التاريخ إلى الكمال. حتى تبلغ مجد المسيح بكرها. في طقسنا الكلداني يبدأ زمن جديد في هذا الأحد، زمن القيامة أو اللا زمن. وفي هذا الأحد نستمع إلى كلمة الله تعلن لنا من خلال ثلاث قراءات هي: الأولى من سفر أعمال الرسل تصف لنا حياة الجماعة المسيحية الأولى ووحدتها وتناغمها.
   والثانية من رسالة بولس إلى أهل قولسي وفيها يفتخر بولس بثبات مسيحيي قولسي في الحق وبتمسكهم بالقيم السامية.
   والثالثة من إنجيل يوحنا تحكي خبر ظهور يسوع لتوما وجماعة التلاميذ معاً. هذه إشارة إلى أن المسيح القائم من بين الأموات يكتشف ضمن الجماعة الكنسية وليس بمعزل عنها.

   1_ مار يوحنا الكمولي: أصله من بيث كرماي " كركوك " من العائلة الملكية. وكان والداه على دين المجوسية. وقد أنار الله عقله فاعتنق المسيحية، وفكر في نبذ أباطيل العالم والانضمام إلى النساك. فترك موطنه وذهب إلى جبل إيزلا قرب نصيبين وهناك تتلمذ لمار أوجين، فترقى في الفضيلة والصلاح.
   وبعد وفاة معلمه مار أوجين ذهب إلى جبل قيبوثا المعروف اليوم بجبل جودي وهو في الشمال الشرقي من الجزيرة العمرية على مسافة خمس ساعات منها، وسكن في مغارة بقرب قرية كمول. وهناك انقطع للتوبة والتنسك حتى وفاته، وقد صنع الله على يديه معجزات كثيرة. وبعد وفاته جاء الربان أوكاما من تلاميذ مار أبراهام الكبير وبنى هناك ديراً عرف بدير مار يوحنا كمولايا. 
 
   2_ مار ماما الشهيد: أصله من بلاد الكبادوك ومن عامة الشعب. ولد في أواسط القرن الثالث، وبقي طول حياته راعياً للغنم. لذلك لم يكن يعرف من الدنيا سوى ربه وقطيع غنمه. فكان ذلك الرجل المسيحي الوديع والمتواضع، الذي يقوم بعمله لأجل خالقه وإلهه. وكانت مهنته تحمله على الدوام التأمل بعظمة الكائنات. وكان راضياً بحاله قانعاً بمعيشته.
   وقام الملك أوليانس يضطهد المسيحيين. وفي سنة 275 قبض ولاته على ذلك الراعي المسكين، وأحضروه مكبلاً إلى مدينة قيصرية، وأرادوا غصبه على الكفر بالمسيح. ولما لم يشأ أن يسمع لهم، وبقي مصراً على إيمانه وولائه لإلهه، ازدروه ونكلوا به تنكيلاً، وأماتوه شر ميتة. ففاز بإكليل الاستشهاد، وأضحى الشفيع المشفع لمدينة قيصرية وبلاد الكبادوك. 
 
  3_ مار سابا الشهيد: كان حاكم منطقة باعربايي يدعى زميسب وله ولد وحيد يدعى بيركوشنسف. وما أن بلغ حتى ارتبط بصداقة ومودة عميقة بفتى مسيحي يدعى انسطاس. وأخذ يتردد معه إلى الكنيسة فتعلم تلاوة الصلوات وترتيل المزامير حتى استهواه الدين المسيحي.
  وذات ليلة ظهر له الشهيد مار قرياقوس وطلب منه أن يذهب إلى الشهداء فإنهم ينتظرونه. ومن أن نهض من النوم حتى توجه عند المسيحيين ملتمساً منهم أن يقبلوه بين عداد المؤمنين. وفي بادىء الأمر رفضوا طلبه، لكنهم نزلوا عند رغبته لما رأوا فيه من صدق النية وثبات العزيمة. فمنحوه سر العماد وناولوه القربان المقدس ودعوه سابا.
   وعندما علم والده بذلك أمر مساعده كوبي بهدم كنيسة المسيحيين وقتلهم جميعاً. ثم طلب من ابنه أن يعود إلى المجوسية فرفض ذلك. وأخذ الأب يبكي ويناشد ابنه بالعدول عن رأيه والعودة إلى ديانة آبائه. لكن سابا بلغ والده أن لا سبيل إلى العودة عن عبادة الإله الحق وأنه سيظل ثابتاً في إيمانه. 
   ولم بلغ مسامع شابور خبر تنصر ابن الحاكم زميسب، أمر بإحضاره وأوعز على بذل الجهود لإرجاعه إلى المجوسية، وفي حال عدم انصياعه يجب أن يعذب ثم يقتل، وقد فوضى كوبي القيام بهذه المهمة.
   فأمر كوبي بجلده حتى أغمي عليه فحمل إلى السجن ورمي هناك. وفي الليل تراءى لسابا ملاك الرب ومار قرياقوس الشهيد وشجعاه قائلين له: " لا تخف فإنك ستنتصر قريباً على أعدائك وقد أوشكت أن تبلغ ميناء الحياة والراحة، حيث تعطى السعادة الأبدية لجميع الذين يحتلمون العذابات من أجا اسم ربهم القدوس ". ثم انصرفا وتركا الفتى سابا في غمرة فرح سماوي لا يوصف. 
   ثم حاولت والدته ردعه عن المسيحية حيث سمح بإحضاره لديها. لكنه رفض وطلب منها أن تعتنق المسيحية لتنال الخلاص مثله، ولا جدوى من بكائها. ثم قال لها انسطاس رفيقه: " لو اتبعت آراء ابنك لكنت سعيدة ".
   فثارت والدة سابا وانقضت على انسطاس وعضته من شدة حنقها واقطتعت قطعة من لحمه بأسنانها. وقالت له: " إنما أنت أيها الشقي قد جلبت علينا هذه المصيبة الأليمة ". ثم طلبت من كوبي أن يقتل انسطاس شر قتلة، لكونه هو سبب المصيبة التي حلت بهم.
   فأمر كوبي بإحضار انسطاس رفيقه وتعذيبه أمام سابا لعله يغير رأيه. وبعد أن عذبه أشد العذاب قطع رأس انسطاس وألقيت جثته في بئر. ومع كل ذلك لم يغير سابا رأيه وبقي ثابتاً على إيمانه المسيحي. وبعد محاولات عديدة لم يستطيعوا أجبار سابا على نبذ إيمانه، عندها قرروا قتله.
   وفي محاولة أخيرة استدعاه والده وعانقه وقبله والتمس منه بدموع حارة أن يتخلى عن الديانة المسيحية. فقال سابا لوالده: " كفاك البكاء يا أبت، ولا حاجة إلى المزيد من الكلام. فإني لن أتخلى عن يسوع    المسيح ".
   ثم استدعاه ابورزد أمين الملك وعانقه وقبله وأجلسه وأمر بفك قيوده، وقال له: "  لقد وعد الملك أن يكرمك بعطاياه الجزيلة إذا سجدت للشمس ".
   فرد عليه سابا بالقول: " ليحتفظ الملك بعطاياه، أما أنا فلست أبغي سوى كرامة الإله الحق، فافعل ما شئت ".
   فأمر أمين الملك بقتله لأنه لا جدوى من محاورته. عندها طلب الفتى سابا أن يمنح فرصة للصلاة، وبعد أن أنهى صلاته تقدم أحد الجند لقطع رأسه وهو مربوط اليدين، لكن الجندي تراجع بسبب ما أنتابه من الفزع.
   فتقدم كوبي وانقض على الفتى وضرب عنقه خمس مرات، لكنه لم يستطيع قطع رأسه. فقال له سابا: " لماذا أصبحت جباناً وارتخت يداك، أمضِ في أمرك فإنما إلى الحياة ترسلني وليس إلى الموت ". عندها طعنه كوبي في جنبه وقتله. ثم ألقوا جثته في الحفرة التي ألقوا فيها جثث الشهداء.
   وكان استشهاده في 16 آب ودامت عذاباته 490 يوماً. وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة وثمانية أشهر. وفي الليل جاء المؤمنين وأخذوا جثتا سابا وانسطاس ووضعوها في صندوق من ذهب ودفناها بإكرام.     
   ويحتفل بتذكار مار يوحنا الكمولي ومار ماما ومار سابا الشهيدين في الأحد الثاني من سابوع القيامة ويعرف بالأحد الجديد.     

     


67
تذكار الشهداء والمعترفين
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 6 / 8 _ 15 وكان إسطفانس وقد امتلأ من . . .
                  + أعمال الرسل 7 / 1 _ 10 فسأله عظيم الكهنة: أهذا . . . 
القراءة الثانية: العبرانيين 11 / 3 _ 10 بالإيمان ندرك أن العالمين أنشئت . . .
                   + العبرانيين 11 / 32 _ 40 وماذا أقول أيضاً؟ إن الوقت . . . 
                   + العبرانيين 12 / 1 _ 2 لذلك فنحن الذين يحيط بهم هذا . .
القراءة الثالثة: متى 10 / 16 _ 33 هاءنذا أرسلكم كالخراف بين الذئاب . . .

   الفكرة الطقسية: نستحضر في هذه الجمعة ذكرى شهداء كنيستنا والمعترفين بإيمانهم خلال القرون الأولى من تاريخها. دماؤهم كانت بذار إيمان وحياة لنا. وتدعونا صلوات هذا التذكار إلى التفكير الجاد بهويتنا المسيحية، وتحمل مسؤولياتنا تجاه نقل الإنجيل. وفي هذا اليوم نستمع إلى كلمة الله تعلن لنا من خلال ثلاث قراءات هي: الأولى من سفر أعمال الرسل تحكي خبر استشهاد إسطيفانوس سنة 34 م، ويعتبر بكر الشهداء.
   والثانية من رسالة بولس إلى العبرانيين والتي تذكرنا بأن الذبيحة الحقيقية هي تسليم الذات إلى الله والإلتصاق بتدبيره الخلاصي.
   والثالثة من إنجيل متى تنقل نصائح يسوع لتلاميذه في زمن الضيق، فالإيمان تثبت مصداقيته إبان المحنة. 
   الشهداء والمعترفين: يحتفل بجمعة الشهداء المعترفين إحياء لذكرى شهداء كنيسة المشرق الذين قتلوا في الاضطهاد الأربعيني الذي شنه الملك الفارسي شابور الثاني (309_379) م ضد المسيحيين، ودعي بالاضطهاد الأربعيني لأنه دام أربعين سنة، وذهب ضحيته مئات الآلاف من مؤمني كنيسة المشرق بينهم جثالقة وأساقفة وكهنة وشمامسة. وقد بلغ عدد الشهداء خلال هذه المذابح مائتا ألف شهيد.
   وعبر الأجيال تعرضت كنيسة المشرق لاضطهادات قاسية، لم تفقد عزيمتها وحيويتها. بل سارت بخطى ثابتة في مسيرتها ورسالتها، وقدمت أعداداً كبيرة من الشهداء الذين جادوا بدمائهم الزكية في سبيل الإيمان، وزينوا الكنيسة بجهادهم ونضالهم وشهادتهم. وأضحت دمائهم بذوراً خصبة ونوراً يهتدي به المؤمنين.
   وهنا نذكر بعض من هؤلاء الشهداء والمعترفين الذين كانوا ضحايا العنف منذ سنة 1915 وحتى أيامنا هذه، والتي ضمت العديد من المؤمنين:

   1_ الشهيد الأنبا جبرائيل دنبو: ولد في ماردين سنة 1775. نذر نفسه للرهبنة وسعى لتجديدها. استلم دير الربان هرمزد سنة 1808. رسم كاهناً سنة 1811. سافر إلى روما سنة 1827 لتثبيت قوانين رهبنته، وقد سماها الرهبنة الهرمزدية الأنطونية. قتل سنة 1832 مع ثلاثة من رهبانه خلال هجوم ميركور أمير راونذوز  على ألقوش. وقد قتل من سكان ألقوش ثلاثمئة وسبعين شهيداً. ويقال أن أحد السفاحين طعن الأنبا دنبو بخنجر في صدره، ومزق جسمه حتى طارت روحه الطاهرة إلى السماء. وللحال يبست يد الشقي الذي طعنه وشلت أعضاؤه، وذهب يقرع صدره ندامة، ثم دهن بدم الشهيد يده اليابسة فشفيت مع سائر أعضائه. وقد دفن  الأنبا دنبو في كنيسة مار ميخا في ألقوش. وفي سنة 1849 نقل رفاته إلى كنيسة دير الربان هرمزد.   

   2_ الشهيد المطران أدي شير: ولد في شقلاوة سنة 1867. درس في معهد مار يوحنا الحبيب للآباء الدومنيكان بالموصل . رسم كاهناً سنة 1889. خدم في كركوك أميناً لسر مطرانها مار جبرائيل أدمو . رسمه البطريرك يوسف عمانوئيل مطراناً على سعرت سنة 1902. خدم أبرشيته المترامية الأطراف بغيرة رسولية، فشيد الكنائس والمدارس في القرى، وعلم وهذب إلى جانب مسؤولياته الجسيمة. أغنى كنيسة المشرق بمؤلفاته الثمينة، حتى ليعجب المرء من غزارة ما أنتجه خلال حياته القصيرة. تكلل شهيداً للإيمان في 15/6/1915.   

   3_ الشهيد المطران يعقوب أوراهام: ولد في تلكيف سنة 1848. دخل دير الربان هرمزد. أكمل دراسته في المعهد البطريركي. رسم كاهناً سنة 1873. رسمه البطريرك يوسف أودو أسقفاً على الملبار سنة 1875. نقل إلى أبرشية الجزيرة العمرية سنة 1882، وخدم هناك حتى تكلل شهيداً للإيمان في 28/8/1915. كان سكان الجزيرة العمرية من مسلمين ومسيحيين يطلقون عليه بالكردية " مطراني جْعف رش " أي " المطران صاحب العيون السود ". 

  4_ الشهيد المطران توما أودو: هو ابن القس هرمز أودو . ولد في ألقوش سنة 1855، وهو شقيق إسرائيل أودو مطران ماردين، وأبن أخ البطريرك يوسف أودو. تلقى مبادىء العلم في مدرسة ألقوش. سنة 1869 ذهب إلى روما ودرس في كلية انتشار الإيمان. رسم كاهناً سنة 1880 وخدم بالموصل. سنة 1882 عين نائباً بطريركياً على حلب . سنة 1886 تسلم إدارة معهد شمعون الصفا البطريركي الكهنوتي . سنة 1892 رسم مطراناً على أبرشية أورمية، وخدم هناك حتى استشهد فيها سنة 1918. له مؤلفات عديدة أشهرها معجمه " كنز اللغة الآرامية ".   

   5_ الشهيد المطران توما رشو: هو ابن القس رشو، كان مطران آثيل الواقعة في جبال البوتان قرب سعرت. انضم إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1906. وقد انضم معه ثلاثة من كهنته هم: يوسف وهاردو واسطبانوس وعدد كبير من أبناء الأبرشية. قتل في مذابح السفر برلك في قرية آثيل ومعه 180 شخص. 

   6_ المعترف المطران إسرائيل أودو: ولد في ألقوش سنة 1859. والده القس هرمز أخ البطريرك يوسف أودو، وأخوه الشهيد مار توما أودو مطران أورمية. دخل المعهد الكهنوتي بالموصل سنة 1882. رسم كاهناً سنة 1886. خدم في بغداد من سنة 1888 حتى سنة 1891 حيث نقل للخدمة في البصرة. سنة 1898 زار بلاد الملبار، وخلال خدمته في البصرة شيد كنيسة مار توما الرسول ودار للكاهن ومدرسة، وشيد في مدينة العشار كنيسة على اسم السيدة العذراء، واشترى بيت قريب حوله إلى مدرسة، واستمر في خدمته هناك حتى انتخب مطراناً على ماردين سنة 1909. توفي سنة 1941 بعد أن خدم أبرشيته 31 سنة في ظروف صعبة وقاسية. 

   7_ المعترف المطران سليمان صباغ: ولد في الموصل سنة 1865. درس في المعهد البطريركي. رسم كاهناً سنة 1888. رسم مطراناً على آمد سنة 1897. تحمل الكثير من الألم والعذاب وهو يشاهد الطغاة يسوقون كهنته وأبناء أبرشيته للذبح سنة 1915. بعد المذابح عمل الكثير لجمع شمل من تبقى من أبنائه وفتح لهذه الغاية ميتماً. توفي سنة 1923 ودفن في كاتدرائية مار بثيون.

   8_ المعترف المطران بطرس عزيز: ولد في الموصل سنة 1866. درس في مدرسة الدومنيكان بالموصل. دخل معهد انتشار الإيمان في روما سنة 1888. رسم كاهناً هناك سنة 1891. عين رئيساً لمعهد شمعون الصفا البطريركي سنة 1892. عين وكيلاً بطريركياً في حلب سنة 1897. رسم مطراناً لأبرشية سلامس في إيران سنة 1910. وخلال الحرب الكونية عانى الكثير من العذابات والاعتقالات والسجن. رحل إلى وان ثم ديار بكر حتى وصل إلى الموصل سنة 1918. عين نائباً بطريركياً على مصر سنة 1919. عين مطراناً على أبرشية زاخو سنة 1929. توفي سنة 1937 ودفن في كاتدرائية مسكنتا بالموصل. 

   9_ المعترف المطران يعقوب أوجين منا: ولد في باقوفا شمال الموصل سنة 1867. دخل معهد شمعون الصفا بالموصل سنة 1885. رسم كاهناً سنة 1889. رسم مطراناً سنة 1902 وعين نائباً بطريركياً على وان  على حدود أرمينيا. خلال مذابح السفر بر لك خربت أبرشيته والتي كانت تضم العديد من القرى في جبال هكاري، واستطاع الهرب والوصول إلى الموصل. سنة 1921 عين مطراناً على أبرشية البصرة بالوكالة. توفي سنة 1928. 

   10_ الشهيد المطران بولس فرج رحو: ولد في الموصل سنة 1942. دخل معهد شمعون الصفا بالموصل. رسم كاهناً في بغداد سنة 1965. سنة 1974 سافر إلى روما للدراسة فحصل على لسيانس في اللاهوت الرعوي. رسم مطراناً للموصل سنة 2001. اختطف في 7 / 3 / 2008 بعد خروجه من كنيسة الروح القدس بالموصل بعد أن قتل سائقه ومرافقيه. وجدت جثته في 13 / 3 / 2008 ودفن في اليوم التالي في كنيسة مار أدي بكرمليس.

   11_ الشهيد الأب رغيد كني: ولد في كرمليس  قرب الموصل سنة 1972. وبعد أن نال على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية سنة 1993، قرر الإنخراط في سلك الكهنوت. سنة 1996 أرسل إلى روما للدراسة هناك. رسم كاهناً هناك سنة 2001. وبعد أن حصل على شهادة ماجستير في اللاهوت المسكوني عاد إلى الموصل سنة 2002 ليخدم هناك. اغتيل بالموصل في 3 / 6 / 2007 بعد خروجه من كنيسة الروح القدس. واستشهد معه ثلاثة شمامسة هم : بسمان داؤد. غسان بيداويد. وحيد إيشو. دفن في كنيسة مار أدي بكرمليس.   

   وتصلي كنيسة المشرق في هذا اليوم تراتيل بديعة تتحدث عن قصص الشهداء، نذكر منها ما يرتل في مساء هذا التذكار: " * مباركون لدى الرب: عدَّ الشهداء الموت الأليم ربحاً عظيماً. وحسبوا العذابات تكريماً وهدية. والآن صاروا يُنعمون على العالم خيراً. وكنوز عونٍ روحي. * المجد: رأى الشهداء زوال العالم وثبات الحق. فتركوا كل مالٍ ومقتنى كهباء. وأحبوا خوف الله فمدوا الأعناق للسيف. وورثوا مجد السماء. ". 
   وترتيلة أخرى: " بصلوات الشهداء والمعترفين الذين اضطهدوا وقتلوا من أجل اسمك يا ربنا. صن كنيستك من الأخطار المحيطة بها. وأهل أبنائها ليتنعموا مع قديسيك في ملكوتك. ".   
  وترتيلة أخرى: " * الشهداء مرصعون في الكنيسة كالدرر في إكليل الملك. ومن عظامهم تبعث الحياة للناس. * في عظام الأبرار يحل سكنى ابن الله. ومن يقترب بالإيمان ينال منها ذخيرة. * كالفروخ يرفعون أجنحة سلوكهم. يدخلون ويرتاحون في العش البهي للمذبح المقدس. * يا بيت شمعون إسالوا مراحم سيدكم. الذي نصركم لتكثر مراحمه وتحل على جمعنا. ". 
  وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهداء والمعترفين في الجمعة الأولى من سابوع القيامة. 




68
تذكار مار إيثالاها
 الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أعمال الرسل 12 / 1 _ 24 في ذلك الوقت قبض الملك . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس 12 / 1 _ 14 ألا بد من الافتخار؟ إنه لا خير . . .
القراءة الثالثة: متى 10 / 37 _ 42 من أحب أباه أو أمه أكثر مما يحبني . . .
                  + متى 16 / 24 _ 27 ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن . .
                  + متى 19 / 27 _ 30 فقال له بطرس: ها قد تركنا نحن . . 

   مار إيثالاها: في السنة السابعة والثلاثين من اضطهاد شابور ألقي القبض على الشماس إيثالاها من منطقة بيث نوهدرا " دهوك "، وكان له من العمر ستون سنة، وكان طلق اللسان شديد اللهجة مضطرماً بمحبة الله.
   فأتوا به مقيداً إلى مدينة أربيل واحضروه أمام الحاكم. فطلب منه أن يسجد للشمس. فصرخ إيثالاها بوجه الحاكم: " خير لي أن أموت لاحيا إلى الأبد ".
  فأمر الحاكم بتعذيبه أشنع تعذيب، ومن شدة التعذيب انخلعت عظامه فحمل إلى السجن، وبقي فيه ثلاث سنوات. وطلب منه الحاكم مرة أخرى أن يسجد للشمس، وألا سيقتله شر قتلة.
   فسخر منه إيثالاها وصاح بوجهه: " كم إنك غبي أيها الحاكم، إنني لا أخاف الموت لأنني سأنال أسماً صالحاً وإكليلاً جليلاً لا يعتريه فساد ".
  عندها أمر الحاكم بتعذيبه بقسوة ودون رحمة. ثم اقتاده طمشابور إلى منطقة نوهدرا إلى قرية كبيرة تدعى دستجرد، وهناك ربطوه ووضعوه في مرتفع، وأخذا الحضور برجمه حتى فارق الحياة.
   وبعد ثلاثة ليالي جاء مسيحيو المنطقة وسرقوا جثته ودفنوها بإكرام. وقد نمت في موضع رجمه شجرة آس نمواً سريعاً، وأصبحت مصدر بركات لسكان المنطقة. لكن أعداء المسيحية اقتلعوا تلك الشجرة بعد عدة سنين لكي لا يتحول المكان إلى مزاراً.
   وبعد هدوء العاصفة شيدت كنيسة على تلك التلة المشرفة على مدينة دهوك. وفي نهاية القرن الماضي شيد مكان الكنيسة القديمة كنيسة فخيمة على اسم هذا الشهيد، وإلى جانبها دار كبيرة لسكنى مطران وكهنة الأبرشية الكلدانية.
   ولا زال أبناء المنطقة يحتفلون حتى يومنا هذا بتذكار الشهيد مار إيثالاها، ويقيمون احتفالاً كبيراً بهذه المناسبة، حيث تقدم النذور وتذبح الذبائح إكراماً لهذا الشهيد العظيم. 
   أما كاتب قصص الشهداء في كتاب السنكسار، فيروي قصة مار إيثالاها الشهيد بشكل أخر ويسميه إيثالا، حيث استشهد معه صديقه الشماس الإنجيلي ابساوس، ويرويها كالتالي: يقول المناون الباسيلي المنسوب إلى الملك باسيليوس المكدوني المولود في البرفير: إن إيثالا هذا كاهناً للأوثان في بلاد فارس، فابتلي بمرض عضال كاد يودي بحياته. فقيل له أن الأساقفة المسيحيين يشفون الأمراض المستعصية. فجاء إلى أحدهم وتضرع إليه أن يصلي لأجله ويشفيه. فشفاه ذلك الأسقف باسم يسوع المسيح. فآمن إيثالا بالمسيح، بل أصبح رسولاً يبشر بإنجيله، ويدعو معارفه وذويه إلى الإيمان به.
   وقبض حاكم مدينته عليه وأمر به، فقطعوا له أذنيه، ثم طرحه في السجن. ويعد أيام أتى به من جديد إلى ديوانه. فاعترف إيثالا بالمسيح بلا خوف ولا تردد. حينئذٍ أمر به الحاكم فضربوا عنقه. وضربوا عنق صديقه الشماس الإنجيلي ابساوس. وهكذا نالا معاً إكليل الاستشهاد، وفازا بالحياة الأبدية. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار إيثالاها يوم الأربعاء الذي يلي عيد القيامة.




69
عيد القيامة المجيدة
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أشعيا 60 / 1 _ 7  قومي استنيري فإن نورك قد وافى ومجد . .
القراءة الثانية: رومة 5 / 20 _ 21 وقد جاءت الشريعة لتكثر الزلة ولكن . . .
                  + رومة 6 / 1 _ 23 فماذا إذاً؟ أنخطأ لأننا لسنا في حكم . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 20 / 1 _ 18 وفي يوم الأحد جاءت مريم المجدلية . . .

   عيد القيامة: يبدأ فرض الصباح بصلاتين طويلتين من تأليف البطريرك إيليا أبو حليم. تليهما المزامير الصباحية الاعتيادية، وتتخلها أشعاراً كنسية في غاية الجمال والروعة.  نذكر منها: " في البدء أراد الله الكلمة وخلق العالم الجديد. وفي نهاية الأزمنة والأيام صُلب في مدينة أورشليم، فوق خشبة على الجلجلة. من شعب مملوء شر. لهم الحزن بلا ملل. وله نصعد المجد. لهم الغم والظلمة. وله ينبغي الشكر. لأنه بواسطة قيامته حقق المصالحة. بين الأرضيين والقوات السماوية. وحرر كياننا البشري. من الأحزان والضيقات. وها هي كافة الكنائس ترفع التهاليل والتسابيح. يا واهب النور، لك نصعد المجد ". 
  ثم ترتل ترتيلة الصباح: " أظهر الرب خلاصه: خلاص عظيم صار لجميع الشعوب بقيامة الرب المسيح من بين الموتى. الشعوب والطوائف والأمم تسبحه بالشكر والمزامير، وقد كف ضلال الأصنام من كل المسكونة. وها إن المعمورة كلها تبشر بالإيمان والألوهية التي لا تدرك. ". 
   ثم ترتل ترتيلة النور الأولى لمار أفرام النصيبيني نذكر منها: " * أشرق النور على الأبرار. والفرح على مستقيمي القلوب. * يسوع ربنا المسيح. أشرق لنا من حشا أبيه. وجاء وأنقذنا من الظلمة. وبنوره الوهاج أنارنا. * أنبثق النهار على البشر. وانهزم سلطان الليل. من نوره شرق علينا نور. وأنار عيوننا  المظلمة. ".   
   بعد الانتهاء من ترتيلة النور الأولى، ترتل هذه الترتيلة نذكر قسم منها:" * شددوا أناشيدكم أيها الشعوب. وقووا أوتار قيثارتاكم. واهتفوا بصوت أبواقكم. قام الرب المجد له. *هذا الليل أصبح نهار. نهار لا شبيه له في الزمن. ومثله لا يوجد يوم. قام الرب المجد له. * أجواق أتوا. وبصوت واحد أنشدوا. الملائكة والأموات الذين قاموا. قام الرب المجد له. ". 
   ثم ترتل ترتيلة النور الثانية لمار نرساي الملفان. نذكر بعض منها: " الردة: نور إشراق المسيح. أبهج الأرض والسماء. * ساد الضلال الكون. كالظلام حتى أشرق. نور يسوع المسيح. فانفتح ذهن العالم. * من آدم حتى المسيح. يشبه الزمن ليلاً. أما تجلي المسيح. أصبح كساعات النهار. ".   
   وفي نهاية المزامير ترتل ترنيمة رائعة. نذكرها كاملة: " طار وانحدر رئيس الملائكة من السماء. منظره يشع منه السناء. وفتح القبر بعجب عجاب. والحراس أوقعهم في ارتعاب. زف البشرى هدّأ روع النساء. قام الرب كما قال الأنبياء. وارتفع بمجد إلى العلياء. ها قبره فارغ مثلما شاء. والأكفان مطوية باعتناء. شاهدان لمن يريد الإيمان. بنت المجدلية ظنته رب البستان. بستاني أرِني ربي الرحمن. في أحشائي حبه يصلي النيران. قال مريم أنا هو ابن الحنان. تبارك الرب قام بسلطان. وأقام معه بني الإنسان. سر الخلاص كشفه للعيان. له المجد والسجود والشكران. له يشدو كل فم ولسان. رحمته علينا مدى الزمان. ". 
   ثم يقرأ فصل من إنجيل لوقا ( 24: 1 _ 12 ). الذي يحدثنا عن ذهاب النسوة في اليوم الأول من الأسبوع إلى القبر باكراً ، وقد حملن حنوط وأطياب. وما أن وصلن هناك حتى وجدن الحجر مدحرج عن القبر، وجسد يسوع لم يكن فيه، فوقعن في حيرة. وكان عند القبر رجلان بثياب براقة، فتملكهن الخوف. لكن الرجلان قالا لهن لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات. وطلبا منهن أن يخبرن الأحد عشر تلميذاً واللذين معهم. وبالفعل بعد عودتهن أخبرن الرسل بقيامة يسوع من القبر، لكن الرسل لم يصدقوا البشرى. وللحال قام بطرس وركض إلى القبر، فوجده فارغاً. ومن الجدير بالذكر إنها المرة الأولى والوحيدة التي يقرأ فيها نص من الإنجيل في صلاة الصباح لكنيسة المشرق على مدار السنة الطقسية. 
   بعد الإنجيل تنشد ترتيلة التطواف نحو القبر، الذي يوضع عادة في قدس الأقداس نذكر منها: " لتذهب بالفرح والابتهاج: * النسوة اللواتي جئن إلى قبرك يا رب، امتلأن فرحاً عوضاً عن الحزن، فأسرعن إلى الرسل ليبشرنهم بالكلام الذي سمعنه من الملاك القائل لهن: لا تخفن لماذا تبكين، أتطلبن يسوع فإنه قام وغلب الموت بموته. فنحن يا رب بالشكر نصرخ ونقول المجد لك. * المجد: بمجد عظيم لا يوصف رأت مريم المسيح القائم من القبر، وحين اعتقدت أنه بستاني، وقال لها: لماذا تبكين يا مريم المرأة المؤمنة. * ومن الحزن إلى البهجة قامت باندهاش وعجب فالتفت ودعته يا معلم، فأكدها على قيامته الممجدة، لم أصعد إلى السماء عند أبي وأب كل من يؤمن. يا ابن الله الذي قام من القبر وأقامنا معه بالمجد. * أهلنا جميعاً بمراحمك أن نستقبلك يوم مجيئك وارحمنا. ".
   وبعد الانتهاء من صلاة الصباح تبدأ رتبة سلام القيامة، ونجد في مقدمة الرتبة شرحاً لهذه المسيرة: " حالما يصبح النهار يدخل الكهنة والشمامسة، وهم لابسون ثياباً خاصة وبزينة لائقة. وإذا كان هناك أسقف واحد أو أكثر يلبسون البيرون والغفارة، يدخلون قدس الأقداس. وهم يحملون الصليب والإنجيل وسعف الشعانين والمبخرة والشموع، وينشدون الصلاة الربية ". 
   وبعد صلاة الكاهن الاستهلالية، ينشدون المزمور 150 مضيفين في نهاية كل آية جملة تعبر عن الابتهاج بقيامة المسيح: " * سبحوا الرب في قدسه هلليلويا إهلليلويا نحتفل بقيامة الملك المسيح بهلليلويا. * سبحوه في جلد عزته .  .".   
   بعد الانتهاء من ترتيل المزمور ينشدون أبيات شعرية نذكر منها: " * أبانا الذي في السماوات. ليتقدس اسمك. ليأتي ملكوتك. لتكن مشيئتك. * فرح الرب. بمعمودية واحدة. وإيمان واحد. لمغفرة خطايانا. *تبتهج البرايا. بقيامة الابن. لقد تحققت المصالحة. وسادت القيامة. * قام المسيح. من القبر الآن. وزرع الأمن. في كل البرايا. *قيامتك يا رب. جددت طبيعتنا. التي فسدت بالشر. وتلطخت بالخطيئة. * سلام على الأرض. ومجد في السماء. ورجاء صالح. لكل المسكونة. * أيتها الكنيسة أهتفِ المجد. للمسيح ملككِ. الذي خلص أبنائكِ. في يوم قيامته. * صليبك يا مخلصنا. ليكن لنا سوراً. في الليل والنهار. من الشرير وقواته. * بقيامتك يا ربنا. يفرح الملائكة. ويسر البشر. لأنك  خلصتهم. ". 
   وبعد الانتهاء من ترتيل هذه الأبيات، يقف الموكب أمام باب قدس الأقدس. ويتناوب الشمامسة على ترتيل أبيات من الشعر الكنسي، تبدأ ببيت يدعى شورايا   " البداية "، يليه بيت آخر يدعى عونيثا " ترتيلة ". نذكر منها: شورايا:  " قومي واستنيري فإنه قد وافى نورك. ووقار الرب قد أشرق عليك. بينما الظلام يكتنف الأرض والضباب الكثيف الصالبين. يشرق الرب عليكِ ويظهر وقاره  عليكِ. ".
   عونيثا: " قومي استنيري أيتها الكنيسة المؤمنة فقد بلغ نورك. هكذا قال أشعيا: إليك يأتي الملوك والجيوش القوية، وتحت قدميك يسجدون. المجد لك يا ربنا، المجد لك يا ابن الله، تبارك معظم خطيبته. ".
    شورايا: " تأتي الشعوب إلى نورك، والملوك إلى ضياء شروقك. ارفعي عينيك إلى ما حولك، وانظري أن الكل يجتمعون ويأتون إليك. بنوك يأتون من بعيد، وبناتك يحملن على الأرائك. حينئذ ترين وتسنيرين وينفرج قلبك، لأن غنى البحر أرتد إليك، وقوات الشعوب تأتيك. ".
   عونيثا: " رنمي المجد للمسيح أيتها الكنيسة بصوت التهلليل، لأنه من أجل بنيك ذاق الموت وتحمل الألم والموت والصليب. وخلصهم من اللعنة. المجد لك يا ربنا، المجد لك يا ابن الله، مبارك ومعظم الكنيسة المقدسة. ".
   شورايا: "  سبعون سابوعاً تمر على شعبك ومدينة قدسك، ولمجيء الملك سبعة سابوعات، وبعد أثنين وستين سابوعاً يُقتل المسيح، ومدينة المقدس تخرب مع الملك الآتي. ". 
   عونيثا: "  النبي دانيال تنبأ في أرض بابل. بأن المسيح سوف يأتي ويقتل. والمدينة المقدسة أورشليم سوف تخرب بقتله. المجد لك يا ربنا. المجد لك يا ابن الله. مبارك المسيح رب الكل. ".     
   وبعد الانتهاء من ترتيل هذه الأبيات يطوف الموكب داخل الهيكل، للتحضير لرتبة السلام. وتبدأ بترتيلة، يليها صلاة كهنوتية، ثم يرتل المزمور 97 " ملك الرب فابتهجت الأرض .". يليه تسبحة: "  اليوم يبتهج الملائكة . ". وتختم بالمناداة  " كاروزوثا " نذكر طلبة منها: "  المسيح الذي قام اليوم من القبر، وأعطى السلام للبعيدين والقريبين. وها أن الكنيسة حاملة سلام قيامته تفتخر به. ". 
   تبدأ رتبة السلام بالصلاة الكهنوتية: "  أيها الرب إلهنا، أهلنا لننعم بهناء سلامك، فتفرح قلوبنا . .  ". ويرد الشمامسة بصوت واحد: " أعطوا السلام بعضكم لبعض بحب المسيح. ". هنا يتبادل الجميع السلام. فيقول أحد الشمامسة: " لتعم قيامة الرب عليكم. ". فيجيب شماس آخر: " لتعم القيامة والحياة والتجدد عليكَ. ".   
   بعد الانتهاء من رتبة السلام تبدأ ترنيمة الحوار بين الملاك ولص اليمين، فيأخذ أحد الشمامسة دور الملاك، وآخر دور اللص، وهي من تأليف الملفان نرساي، والتي تنشد مع تمثيل في معظم الكنائس. نذكر بعض من أبياتها: " المقدمة: * بالصليب شاهدت عجباً. إذ نادى اللص سيدنا وقال. اذكرني يا رب يوم مجيئك. في الملكوت الذي لا يزول. * قال الرب لأنك اعترفت. تكون اليوم في جنة عدن. آمن أيها الرجل بأنك لن تمنع. عن الملكوت الذي تنتظره. * خذ لك الصليب علامة وامضِ. فهو مفتاح عدن وبه يفتح. باب تلك الجنة الكبير. ليدخل آدم الذي كان مطروداً. * وما أن سمع الملاك حتى اقبل مسرعاً. وأوقف اللص عند الباب. صده بالرمح الذي كان بيده. وقال منذهلاً.
   ثم يبدأ الحوار بين الملاك واللص والذي يبلغ اثنين وعشرين سؤالاً وجواباً على عدد الأحرف الأبجدية في اللغة الكلدانية، نذكر منها:
   الملاك: قل لي يا رجل من أرسلك. وماذا تريد وكيف جئت. وما سبب مجيئك إلى هنا. بيِّن واشرح لي من أتى بك.
   اللص: أقول لك يا سائلي. أوقف رمحك واسمعني. كنت لصاً والتمست الرحمة. فأرسلني سيدك وجئت إلى ههنا.
   الملاك: أنت لص كما قلت. وبلادنا لا تنهب. إنها مسيجة بالرمح الذي يحرسها. فارجع يا رجل فقد ضللت الطريق.
   اللص: كنت لصاً ولكني تغيرت. ولم آتِ إلى هنا للسرقة. فإن معي مفتاح عدن. لأفتح وأدخل ولا أُمنع.
   الملاك: صليب يسوع الذي حملته إليَّ. لا أتجاسر أن انظر إليه. إنه أكيد ورهيب ولا تمنع. هلم ادخل إلى عدن إذ هكذا شاء.
   اللص: إن صليب الابن ثلم السياج. الذي كان مقاماً بيننا وبينكم. اجتاز الغضب وحل الوئام. وطريق عدن لا تنقطع.
   الملاك: إن السنان والحربة اللذين كنت احملهما. ردعهما الصليب عن جنسكم. فأيها المطرودون العائدون لا تخافوا. ادخلوا الجنة مبتهجين.
   اللص: المجد في عدن التي سادها السلام. والسلام في الأرض التي تحررت. بورك الصليب الذي صالحني. ولم يحرمني من صفوفكم. ".   
   وبعد انتهاء الحوار يبدأ الكاهن بقراءة تعليم القيامة. نذكر مقتطفات منه:    " لقد حملني اليوم فرح مملوء حكمة وتميزاً، لأكرر كلمة النبي القائل: هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنبتهج ونتهلل به. هلم بفرح وسلام يا يوماً بدد سلطان الظلام . . هلم بفرح وسلام يا يوماً نيراً حاملاً بشرى الانتصار . . هذا هو اليوم الذي لم يكن قبله مثيل، ولا بعده شبيه . . اليوم ذل الموت وارتفعت الحياة . . اليوم فرحت مريم والنسوة ابتهجن والمجدلية حملت بشارة السلام . . اليوم أضحى باب القبر خدراً للقتيل. ولنصرخ معاً: أين شوكتك يا موت وأين غلبتك يا جحيم . . وأما الرسل فبوجوه مشرقة أعلنوا قائلين: إننا نعلم أن المسيح قام من بين الأموات، ولن يموت أبداً، ولن يتسلط عليه الموت قط . . وحيث إلى هذا العيد دعينا، وإلى هذا العيد حضرن، فلنعانق بعضنا بعضاً بالمحبة، ولنقبل بعضنا بعضاً بالمودة . . سبحوا روحياً ذاك الذي في مثل هذا اليوم قام من بين الأموات، وبقيامته أقامنا جميعاً، وليؤهلنا لاستقباله يوم ظهوره، فنشترك في ملكوته السماوي . . القيامة عليكم والحياة بالمسيح. لقد حررنا ربنا من الموت . . لقد دعانا إلى السلام. فلنتبادل السلام . . سلاماً بلا غش، سلاماً بلا رياء، سلاماً بلا خداع ولا خبث، سلاماً ليس كسلام الإسخريوطي الخائن، ولكن سلاماً حقيقياً، مثل السلام الذي أعطاه مخلصنا لجماعة الرسل في العلية. فالسلام معكم جميعاً. إن السلام زوال العداوة القديمة. لأننا إلى السلام دعينا. ولأجل السلام اجتمعنا اليوم كعادة كل سنة. لنتبادل إذن هذا السلام بحب المسيح وفرحه . .  بارك يا رب شعبك المقدس، وكثر فيه الفرح والسلام أمين. بارك يا رب كنيستك المقدسة وثبتها على السلام أمين . .  بارك يا رب العالم كله، وأنعم على جميع الشعوب أن يهنأوا بالأمن والسلام . . ومتى احتفلت يا رب بالعيد العظيم، والقيامة العامة. أهلنا جميعاً أن نشارك فرحك ومجدك، فنصعد لك المجد والشكر. وعلى جمعنا هذا بأسره، وعلى كل المجتمعين اليوم باسمك، تفيض مراحمك، وتحل وتسود وتستقر من الآن وإلى دهر الداهرين أمين. ". 
   بعد الانتهاء من تلاوة سلام القيامة، يبدأ القداس الذي يتسم بطابع احتفالي كبير. وترتل ترتيلة الدخول: " * فلتبتهج الأرض لأن الرب ملك: ابتهجوا وتشجعوا أيها المائتون، لأن سلطان الموت قد زال. فالمسيح بموته غلب الموت، ووعد بالحياة بقيامته. فها أن السماء والأرض تفرحان، وأجواق الملائكة تصرخ المجد لمن بقيامته أحيا جنس البشر الذي كان هالكاً. * المجد: بارك جمعنا يا مخلصنا، وأحل فيه نعمتك، وهبنا القوة لتمجدك الجموع السماوية والأرضية، ونحب بعضنا بعضاً، ونقتني المحبة والوفاق، كما يقتني الروحانيون إرادة واحدة ليرضوك. ". 
   ونذكر هنا ترتيلة تقدمة القرابين: " أعظمك يا سيدي الملك: يا رب رئيس حياتنا، صار المجد والغنى في بيتك المقدس، ها إنا كنيستك المنتشرة في كل مكان، والتي اقتنيتها بدمك كعروس بك مزينة، وكالأم مع الأبناء تفرح بك. احفظها يا رب من الأضرار، وخلصنا نحن الذين نمجدك فيها، وارحمنا. ". 
   وختاماً نذكر قسم من ترتيلة التناول: " هلموا أيها الشعوب جميعكم نحرك شفاهنا للشكر، لأن المسيح قد قام، وقد جلس عن يمين الآب الخفي في السماوات، لنقترب جميعنا إلى جسد ودم المسيح بخوف عظيم ورعدة، فقد أعطانا ربنا خبزاًُ سماوياً، سر موته وقيامته. ". 







70
المنبر السياسي / سبت النور
« في: 10:52 02/04/2010  »
سبت النور
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: التكوين 22 / 1 _ 19 وكان بعد هذه الأحداث أن الله امتحن . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 1 / 18 _ 31 فإن لغة الصليب حماقة عند الذين . .
القراءة الثالثة: متى 27 / 62 _ 66 وفي الغد أي بعد يوم التهيئة للسبت . . .
   الفكرة الطقسية: نستمع إلى كلمة الله التي تعلن لنا اليوم من خلال ثلاث قراءات: الأولى من سفر التكوين تصف لنا إيمان إبراهيم الذي بلغ ذروته عندما استعد لتقديم وحيده اسحق ذبيحة للرب. وقد رأى آباء الكنيسة في ذبيحة اسحق صورة لآلام يسوع الابن الوحيد.  والثانية من رسالة بولس الأولى إلى أهل قورنتس يحدثنا عن الصليب الذي يبدو لأول وهلة عكس ما ينتظره الناس: حجر عثرة بدل أن يكون علامة قدرة الله، وحماقة بدل أن يكون الحكمة. لكن إذا تغلب الإنسان على هذا الغموض وقبل ذلك بإيمان، بدا له الصليب أسمى تحقيق لهذا الانتظار: حكمة وقدرة أسمى.  والثالثة من إنجيل متى يخبرنا عن تذكر القادة اليهود كلام يسوع عن القيامة. وبسبب هذه الأقوال كانوا يخشونه بعد موته أكثر مما هو حي. فحاولوا اتخاذ كل الاحتياطات لحفظ جسده في القبر. فاستوثقوا من ختم القبر تماماً وحراسته. ولأن القبر كان محفوراً في صخرة في سفح تل، لم يكن له إلا مدخل واحد. وقد ختم القبر بشد حبل فوق الحجر الذي دحرج على مدخله، وختم الحبل في كل طرف من طرفيه بالطين. واتخذوا احتياطاً آخر فطلبوا وضع حراسة عليه. وبهذه الاحتياطات لم يكن من سبيل لأن يصبح القبر فارغاً إلا بأن يقوم المسيح من بين الأموات. ولم يستطع الفريسيون أن يدركوا أنه لا الحجر، ولا الختم، ولا الحراس، ولا جيشاً بأكمله، كان يمكن أن يحول بين ابن الله وقيامته من الأموات.
   سبت النور: تتكون مراسيم سبت النور في كنيسة المشرق من العناصر الليترجية التالية: 1_ صلاة المساء. 2_ رتبة العماد. 3_ رتبة الغفران. 4_ رتبة القداس. فبعد الانتهاء من صلاة المساء تبدأ رتبة عماد الموعوظين والتي تجري على النحو التالي: كان الإكليروس يجتمع في قدس الأقداس، ثم ينتظمون في طواف فيخرجون من الباب الكبير، ويلتحق بهم الموعوظون الذين كانوا ينتظرون داخل هيكل الكنيسة. ويتجه الجميع بطواف مهيب إلى بيت العماد، وهم يحملون الصليب، الإنجيل، الشموع، المبخرة. وكان أحد الكهنة يحمل إناء الزيت المقدس. ثم تجري رتبة العماد التي ألفها البطريرك إيشوعياب الثالث. وبعد رتبة العماد كانت تجري مراسيم الغفران والمصالحة للمؤمنين الذين ارتكبوا إحدى الكبائر. وكان مرتكبي الخطايا الكبيرة يحرمون من الاشتراك في الحياة المسيحية. فإذا عادوا إلى الكنيسة نادمين على خطاياهم يفرض عليهم القيام بأعمال التوبة كالصوم والصلاة والصدقة كعلاج روحي، وكبرهان على صدق اهتدائهم. وكان الصوم الكبير الفترة التوبوية المثالية والنموذجية للقيام بأعمال التكفير. وفي نهاية الصوم الكبير كانت الكنيسة تمنح هؤلاء التائبين الغفران والمصالحة وذلك مساء سبت النور. وبعد غياب الشمس تجري رتبة القداس الاحتفالي، أنافورة الرسولين أدي وماري. 
   وما أن يبدأ الشماس بقراءة رسالة القديس بولس حتى يتوقف عند كلمة بارخمار، عندها يحمل المترأس الصليب ويقف في وسط المذبح رافعاً إياه ليبشر الشعب بقيامة يسوع هاتفاً ثلاث مرات هذه الجملة: " ذَىَا دِصغ عىصًسَا نَع عغ بِصيً عصًيِْا ".  " هاشا ديِّن مشيحا قامْ من بْيثْ ميثيْ ". ويرد الشعب: "  أمين ". ترجمتها: " أشهد أن المسيح قد قام من بين الأموات ". ويتقدم المؤمنين لتقبيل الصليب، بينما ترتل الجوقة ترتيلة: "  أنقضى صوم المسيح بالسلام ". وبعد انتهاء الحاضرين من تقبيل الصليب، يعود الشماس إلى قراءة الرسالة كالمعتاد. 
   وتشير ترتيلة قدس الأقداس إلى أن المعمدون الجدد كانوا يشتركون في القداس ويتناولون القربان. وفيما يأتي ترجمة لهذه الترتيلة: " * سبحوا للرب يا جميع الشعوب: كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح من الماء والروح، لكي تملكوا معه في مسكن السماء. * المجد للآب والابن والروح القدس: لقد اعتمدتم بروح واحد. ولبستم الروح الواحد. وعرفتم الرب الواحد. فتدعون باسمه، وستنعمون معه في المسكن المليء بالمسرات. ". 
   ولفترة استراحة قصيرة بعد القداس، تبدأ صلاة الليل وتعرف بـ " سهرة القيامة "، وتضم قراءة الهولالا صد   والتي تضم المزامير من 93 وحتى 101. تليه  تراتيل تمجد مفاعيل قيامة المسيح نذكر منها: " أصبح بستان يوسف الرامي جنة إذ وضعوا فيه المسيح، ونزل الروحانيون وأجواق الملائكة والسرافيون، وهم يحتفلون بقبر ربنا: المجد لك يا ربنا، المجد لك يا ابن الله، مبارك الذي فرحنا  بقيامته. ". 
   وبعد قراءة المزمورين 97 _ 98 ترتل التسبحة الخاصة بالآحاد والأعياد نذكر قسم منها: " شكراً لله الذي حررنا، من قيود السوء وأحيانا. صالحنا والروحيين، إذ إستنكروا إثمنا. يا حناناً لم نسأله. سأل عنا    ونجنا. ". 
   وتختم السهرة بالمناداة نذكر منها: " * المسيح الذي بقيامة جسده المقدس حطم أبواب الجحيم، وأزال الخطيئة والموت بقيامته. * المسيح الذي بقيامة جسده المقدس أبطل الموت، وأعطانا حياة جديدة وجدد كل الخليقة بقيامته. ".

71
المنبر السياسي / الجمعة العظيمة
« في: 11:07 01/04/2010  »
الجمعة العظيمة
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أشعيا 52 / 13 _ 15 هوذا عبدي يوفق يتعالى ويرتفع . . .
                  + أشعيا 53 / 1 _ 12 من الذي آمن بما سمع منا ولمن . . .   
القراءة الثانية: غلاطية 2 / 18 _ 21 فإني إذا عدت إلى بناء ما هدمته . . .
                      + غلاطية 3 / 1 _ 14 يا أهل غلاطية الأغبياء من الذي . . .
القراءة الثالثة: لوقا 22 / 63 _ 71 وكان الرجال الذين يحرسون يسوع . . .
                  + لوقا 23 / 1 _ 12 ثم قامت جماعتهم كلها فساقوه إلى . .
                  + متى 27 / 19 وبينما هو جالس على كرسي القضاء . . .
                      + لوقا 23 / 13 _ 23 فدعا بيلاطس عظماء الكهنة . . .
                  + متى 27 / 24 _ 25 فلما رأى بيلاطس أنه لم يستفد . . .
                  + لوقا 23 / 24 _ 45 فقضى بيلاطس بإجابة طلبهم . . .
                  + متى 27 / 51 _ 54 وإذا حجاب المقدس قد انشق . . .
                  + يوحنا 19 / 23 _ 42 وأما الجنود فبعدما صلبوا يسوع . .   

   الجمعة العظيمة: وتدعى جمعة الصلبوت. ما أن لاح الصباح حتى سيق يسوع أمام الوالي الروماني بيلاطس البنطي  بصحبة حنان وقيافا وبقية أعضاء السنهدريم مع جمهور غفير. وكان يسوع يسير صامتاً في شوارع المدينة حتى بلغوا به قصر هيرودس القديم حيث كان يقيم الوالي الروماني.
   أصغى بيلاطس إلى شكاوى أعضاء السنهدريم، إلا أن الوالي المتغطرس الذي اعتاد أن يحتقر هذا الشعب لكذبه وريائه، لم يذعن لدعواهم بأن المتهم مشاغب يفتن الشعب، فقد وجده هادئاً لا يتكلم، ولم يصدق أنه يدعي الملوكية بعد ما صرح يسوع بأن ملكه ليس من هذا العالم. فتخلصاً من هذه المسئولية وتزلفاً إلى هيرودس الذي كان ناقماً على بيلاطس أرسل يسوع إليه. وعندما لم يلق هيرودس جواباً من يسوع على طلباته الفضولية، ألبسه ثوباً أبيض وأعاده إلى محكمة بيلاطس.
   كان بيلاطس يخشى ثورة تحدث في اليهودية فيقع تحت سخط قيصر . فرأى من مصلحته أن يسلم البريء إلى الموت بعد ما دفعه إلى الجلادين إرضاءً للمشتكين. وظن أن غسل يديه يكفيه تهدئة لضميره المضطرب، وأن انصياعه لليهود يحفظ له مركزه المدني. إلا أن ضميره ظل يؤنبه مدى الحياة. أخيراً وجد بيلاطس وسيلة أخرى لإنقاذ البريء من أيدي خصومه، خاصة وأن امرأته أرسلت تعيذه من جريمة القضاء على البار. وكانت العادة عند اليهود أن يعتقوا سجيناً في عيد الفصح تذكاراً لإنعتاقهم من عبودية مصر.
   وكان يومئذ في سجن أورشليم رجل أثيم ولص خبيث يمقته الشعب مقتاً عظيماً يدعى برأبا . فعرض بيلاطس على اليهود أن يطلق من يختارونه من الاثنين: الأثيم برأبا أو البار يسوع. إلا أن البغض الثائر في نفوسهم حملهم على طلب إطلاق الأثيم والقضاء على البريء. وللحال استجاب بيلاطس لطلبهم، فنزعوا عن يسوع الثوب الأرجواني الذي ألقي عليه ازدراءً، وأمروه بحمل الصليب.
   وسار المحفل من دار الوالي إلى أحد أبواب المدينة، وتقدموا في طريق تؤدي إلى الحقل. وبعد سير طويل ظهرت على المحكوم علامات الانحطاط بتأثير الجوع والسهر والجلد وفقدان الدم، فهوى ثلاث مرات على الأرض. وأخيراً دعي سمعان القيرواني لحمل الصليب عنه.
   وكانت الساعة الخامسة قبل الظهر وقد خرجت المدينة لمشاهدة المحكوم عليه، وهناك بنات أورشليم ممن سمعن الشاب ألعجائبي، وراقت لهن عذوبة تعاليمه، كن واقفات ينثرن دموع التفجع للمنظر الكئيب. فألتفت إليهن يسوع وعزاهن وأنبأهن عن هذه الأمة الجائرة وقال: " إذا كانوا قد صنعوا هذا بالعود الرطب، فماذا يكون بالعود اليابس ".
   ولما بلغوا موضع العذاب المعروف بالجلجلة أو الجمجمة لينصبوا فوقه شجرة الحياة، وارتفعت بين صليبي لصين مجرمين. فسرعان ما أفرعت وأثمرت، ودشن ثمرتها الأولى اللص اليمين الذي تاب وطلب من يسوع أن يذكره في ملكوته، فوعده يسوع بأنه سيكون معه اليوم في الفردوس. وفيما هو يصلي إلى أبيه في طلب الغفران لجماعة الصالبين، كان يلقي نظرة الانعطاف على أمه مريم الواقفة تحت الصليب، تشاطره عمله الفدائي الشاق. فاشتد عليه مخاض الموت، ونادى أباه فلم يسعفه. وسأل العالم رحمة صارخاً: " أنا عطشان " فلم يجبه إلا بقطرات خل ومرارة كوت شفتيه الداميتين فصاح: " ها قد تم " وأحنى رأسه المقدس الذي كان مرتفعاً إلى الدقيقة الأخيرة وأسلم الروح.
   لبست الطبيعة ثياب الحداد، فالتفحت بظلام قاتم. وتصدع الهيكل فأنشق حجابه إلى شطرين. ومادت الأرض فتشققت صخورها وانفتحت قبورها. وكان ثمة النهار قد آذن بالانصرام، ولم يبقى لدخول العيد إلا ساعتان فقط، فكان لا بد إذاً من تنزيل المجرمين من الصلبان لئلا يكد منظرهم بهجة العيد، فسبق جندي وطعن بحربة جسد يسوع في القلب الذي هو مستقر الحياة، فخرج دم وماء. إلا أن الشهيد العظيم كان قد فارق الحياة. فأعطي الجسد الطاهر ليوسف الرامي بإجازة رسمه، فأخذه وحنطه وكفنه وأودعه في قبر جديد في بستانه.     
   يبدأ إنجيل الآلام بقراءة من إنجيل لوقا يحدثنا عن مثول يسوع أمام بيلاطس الذي كانت علاقته باليهود سيئة للغاية، فقد أضعف من صلابته الرومانية وعدالته، مراعاة المنفعة الذاتية والحلول الوسط. ولم يكن لديه أدنى شك في براءة يسوع.  ففي ثلاث مرات متتالية يعلن أن يسوع بريء، لكن خوفه من اليهود بسبب تهديدهم له بأن يشكوه إلى القيصر جعله يتصرف على عكس ما عرف أنه حق، ففي يأسه اختار نقيض الحق. 
   ثم ننتقل إلى إنجيل متى والذي يحدثنا عن حلم زوجة بيلاطس، هذا الحلم المزعج الذي جعلها تحذره من المساس بحياة يسوع البار. ورغم أن بيلاطس كان مقتنعاً أن يسوع كان بريئاً، وكان القانون الروماني لا يسمح بإعدام رجل بريء، لكنه خاف من اليهود ورضخ لرغبتهم مرغماً. 
   وننتقل مرة أخرى إلى إنجيل لوقا الذي يبين لنا عن إرادة بيلاطس لإطلاق يسوع. عندما طلب منهم أن يتركوا يسوع عنده ليجلده ويؤدبه ثم يطلقه، لكنهم رفضوا عرضه هذا. وعندما طلب منهم أن يختاروا من يطلق لهم يسوع أم برأبا، طلبوا منه أن يطلق برأبا. وعندما اشتد صراخهم ليصلب، رضخ إلى طلبتهم. لقد حوكم يسوع ست مرات أمام السلطات الرومانية واليهودية. لكنه لم يدن مطلقاً في جريمة تستحق الموت. وحتى عندما سلم إلى اليهود لتنفيذ حكم الموت فيه، لم يدن بأية جريمة.   
   ونعود مرة أخرى إلى إنجيل متى الذي يحدثنا عن رضوخ بيلاطس لليهود، فمع أنه كان مقتنعاً أن يسوع بريء، وما كان يساق ضده من تهم من قبل رؤساء اليهود ليس سوى حسد لمعلم له شهرة بين الشعب أكثر مما لهم. فقرر أن يترك اليهود يصلبون يسوع، قناعة منه للحفاظ على الأمن والسلام، واستمراراً لمركزه المهدد أن يقتلع منه. ومع أنه غسل يديه، إلا هذا لم يمح ذنبه. 
   وننتقل مرة أخرى إلى إنجيل لوقا ليحدثنا عن بدء مراحل تنفيذ حكم الصلب. وينفرد لوقا دون بقية الإنجيليين بذكر بكاء بنات أورشليم، عندما لاقاهن يسوع وهو يسير في طريقه نحو الجلجلة. وطلب منهن أن لا يبكين عليه بل على أنفسهن. فقد علم أنه في غضون أربعين سنة من ذلك الحين، يخرب الرومان أورشليم ويهدمون الهيكل. وفيما يسوع يقتاد في طرقات أورشليم، خار تحت ثقل الصليب، فأمسكوا رجلاً من القيروان يدعى سمعان، ووضعوا عليه الصليب ليحمله بدلاً عن يسوع المنهك. ولم وصلوا إلى مكان الصلب صلبوا معه اثنين من المجرمين على مرتفع خارج أورشليم. وكان الرومان قد جعلوا تنفيذ حكم الموت على المجرمين علناً عبرة لبقية الشعب. ومن على الصليب طلب يسوع المغفرة من أبيه لمن صلبوه، فاستجاب الله لهذه الصلاة إذ فتح طريق الخلاص حتى لقتلة يسوع وصالبيه. وقد قال قائد المئة: " حقاً كان هذا ابن الله ". وسرعان ما دخل الكثير من الكهنة إلى الإيمان المسيحي.
   وكانت العادة أن يقتسم الجنود ثياب المحكوم عليه بالموت، وعندما ألقوا القرعة على قميص يسوع تمموا ما قاله داود النبي في مزاميره: " وعلى ثيابي اقترعوا ".
   أما لص اليمين الذي كان على وشك الموت، اتجه نحو يسوع طالباً الغفران، فقبله في نعيم فردوسه. فيسوع المتألم وهو في أسوأ الأحوال، ظل رحيماً، ومذكراً لنا أن الذين يتوبون حتى في آخر لحظة سيكونون مع الله في ملكوته. ويذكر طقس كنيسة المشرق اسمي اللصين من خلال ترتيلة تقال ليلة سبت النور:         " أحدهم طيطوس والآخر دوماخوس: لصان صلبا مع الكنز السماوي، الذي عن يمينه لم يكف عن السرقة، وفي سرقته الأخيرة اختلس الفردوس وهو يصرخ ويتوسل: أذكرني ربي ومخلصي غافر الخطايا، عندما تأتي في مجد ملائكتك العظيم، لأنني أعترف أنك الله يا رب. وكان الأشرار يصرخون أصلبه أصلبه يا رؤوف أرحمنا ".
   وفي منتصف النهار غطت الظلمة الأرض لمدة نحو ثلاث ساعات، وبدت الطبيعة كلها كأنها تنوح على المأساة القوية لموت ابن الله. ويرمز هذا الحدث الهام إلى عمل يسوع على الصليب.
   وكان الهيكل يتكون من ثلاثة أقسام: الأروقة لعامة الشعب، والقدس يدخله الكهنة فقط، وقدس الأقداس لا يدخله سوى رئيس الكهنة فقط، مرة واحدة في السنة في يوم الكفارة، ليكفر عن خطايا الشعب. وفي قدس الأقداس يوضع تابوت العهد، مكان حضور الله. وكان ستار الهيكل الذي انشق هو الحجاب الذي يحجب قدس الأقداس عن العين. فبموت يسوع انشق الحاجز بين الله والإنسان. ويمكن لكل الناس الآن أن يتقدموا إلى الله مباشرة بالمسيح. 
   ونعود للمرة الأخير إلى إنجيل متى الذي يبين لنا أن موت يسوع كان مصحوباً بأربعة أحداث معجزية هي: الظلمة، انشقاق حجاب الهيكل، زلزلة، قيامة بعض الأموات من قبورهم. فلم يمر موت يسوع دون أن يُلاحظ، بل قد عرف كل إنسان أن أمراً خطيراً قد حدث. 
   ويختم إنجيل الآلام بقراءة من إنجيل يوحنا الذي يحدثنا عن المراحل الأخيرة من قصة الصلب. وبينما كان يسوع ينازع على الصليب، طلب من يوحنا الحبيب صديقه الحميم أن يرعى ويعتني بأمه العذراء مريم. ومن المرجح أن يوسف البتول كان قد مات عندئذ. وبما أن يسوع جاء ليكمل عمل الله للخلاص، وليدفع ثمن القصاص الكامل عن خطايانا. وبعد أن أكمل كل شيء، أسلم روحه. وبموته انتهى كل نظام الذبائح المعقد، لأن يسوع حمل عنا خطايانا، وجعلنا نتقدم ونتقرب إلى الله بحرية بفضل ما صنعه من أجلنا. وكانت الشريعة تمنع العمل بعد غروب شمس يوم الجمعة، حيث يبدأ يوم السبت. ولهذا السبب أراد رؤساء اليهود بإلحاح أن ينزلوا جسد يسوع من على الصليب، ويدفنوه قبل غروب الشمس. وكان الجنود الرومان يكسرون أرجل المصلوبين للتعجيل بموتهم. وعندما تفحصوا يسوع المسمر على الصليب، لم يكسروا رجليه لأنهم تأكدوا أنه قد فارق الحياة. وهناك دليل آخر على موته هو خروج الدم والماء من أثر طعنة الحربة في جنبه. لقد مات يسوع في وقت ذبح خروف الفصح، ولم تكن تكسر عظمة من عظام حمل الفصح الكفاري. ويسوع هو حمل الله، وهو الذبيحة الكاملة التامة عن خطايا العالم كله. وكان يوسف الرامي ونيقوديموس يتبعان يسوع سراً في الخفاء، فقد خشيا أن يعلنا ذلك بسبب مركزيهما في المجتمع اليهودي. إلا أنهما غامرا بسمعتيهما من أجل دفن يسوع. وأسرعا في عملية الدفن ليتجنبا العمل يوم السبت. فحملا جثمان يسوع إلى بستان قريب، وكان في البستان قبر هو عبارة عن مغارة منحوتة في تل صخري. وبعد أن طيبا جسده بالمر المخلوط بالعود، ولفاه بأكفان من الكتان، وضعا جسده المقدس في تلك المغارة، ودحرجا حجر كبير أمام مدخلها. إن هذه التفاصيل الحية عن موت يسوع هامة، بصفة خاصة في كتابة يوحنا لإنجيله، فقد كان شاهد عيان لما جرى. 
   وتتضمن رتبة الجمعة العظيمة في كنيسة المشرق قراءة هولالا ث من مزامير داود والذي يضم المزامير من 22 وحتى 30.  أما المزمور 141 " يا رب إليك صرخت فأسرع إليَّ . . " فيرتل بلحن بين جوقين. وبعد القراءات يتضمن تقليد كنيسة المشرق إلقاء المترأس ثلاث مواعظ تتحدث عن الآلام، وبين كل موعظة يرتل الجوق ترتيلة من وحي المناسبة. ثم ترتل " الكاروزوثا " نذكر بعض من أبياتها: " * لنقف حسناً كلنا بالحزن والاهتمام ولنطلب قائلين يا رب ارحمنا. * حيٌّ نزل إلى مثوى الأموات، وأعلن بشرى سارة للنفوس الموقوفة في الجحيم: نطلب منك. * يا من بجروحه شفيت جروحنا، وبقتله قتل قاتلنا: نطلب منك. * يا من لألمه أظلمت النيرات، ولبست كل الخلائق حزناً وغماً: نطلب منك.   * يا من بموته شق القبور، وأقام الموتى لتوبيخ صالبيه: نطلب منك. * يا من مزج دمه بدمنا، وأوفى ديوننا بذبيحة شخصه على قمة الجلجلة: نطلب منك. * أيها الراعي الذي أسلم نفسه عن رعيته، وخلصها بدمه. خلص يا رب حياتنا من السوء وترحم علينا. ".   
   وبعد الانتهاء من المناداة ترتل الترتيلة الملكية " باساليقي " وهذه ترجمتها: " لما كنت معلقاً على الصليب أيها المسيح، رأتك الخليقة عارياً وارتجفت، والسماء أطفأت نور ضياء الشمس المجيد. والهيكل أيضاً أظهر حزنه بالحجاب الذي انشق، والأرض أيضاً ارتعدت لما رأت وقاحة الصالبين، والراقدون اندهشوا وتعجبوا من قبورهم بالأعجوبة العظيمة، وهم يصعدون المجد لقوتك العظيمة يا رب. ".   
   ثم يجلس الجميع ليستمعوا ترتيلة من الشعر الكنسي طويلة نسبياً لكنها غنية بمعانيها. نذكر منها: " * في آلام ربنا خيم الحزن. وتعجب الملائكة والبشر. فنهض الموتى المدفونون. وخرجوا من قبورهم وهم يرتلون. المجد للابن الذي تنازل. وعلق من أجلنا على الخشبة. وصرخ بصوته الحي. فأرعد الأرض والسماء. * استيقظ يا آدم الأول. وأنظر الابن الوحيد. يتألم كالخاطئ. من يد الشعب اليهودي. * استيقظ وقم يا هابيل المظلوم. الذي قتله أخوه الظالم. وأنظر مخلص العالم. يموت من أجل حياة العالم. * استيقظ يا ملكيصادق الحبر . يا من لم يقدم لحماً على المذبح. وانظر الابن الذي يهب اليوم. سره بخبز وخمر. * استيقظ وقم يا هارون الكاهن. وانظر زرعك الفاسد. صار حقلك اليوم. زؤاناً عوض الحنطة. * استيقظ يا صموئيل كبير الكهنة. وأنظر رب الكهنة. قد أصعده الكهنة على الصليب. كالخطأة والمذنبين. * استيقظ يا داود المزمر.  وأخرج اليوم من القبر. خذ القيثارة والكنارة. ورتل بالمزمور. شعب بلا رحمة. ثقبوا بلا رحمة. يدي الابن الآتي من العلى. ليخلص الشعب والشعوب. قسموا ثيابه بينهم. وألقوا القرعة على ردائه. وكالكلاب أحاطوا بالأسد. وهو لم يكلمهم. *استيقظ وقم من التراب. يا سليمان بحر الحكم. وأنظر رب الحكمة. تهينه الجهالة. * استيقظ يا دانيال النبي. وانظر عمانوئيل. الذي أخبرك عنه جبرائيل. أن يعذب من بني إسرائيل. * استيقظ يا ميخا  وأنظر الراعي. الذي أتى ليرد الضالين. فقام عليه اليهود. وصلبوه كالخاطئ. * استيقظ وأنهض يا ناحوم الألقوشي . وأنظر إلى الابن الحي. الذي بشر بالسلام للمرذولين. وهم اعتبروه مذنباً. * استيقظ وأنهض يا حبقوق  المختار. وأنظر هيكل الغفران. فقد أنشق بآلام الرب. والروح منه أرتحل. * استيقظوا أيها الآباء. يا من متّم على رجاء القيامة. وعلى رأس الجلجلة. ترون رب كل البرايا. * ويل للشعب الكافر. أظلمت الشمس والقمر. ولم يؤمن قلبهم الأعمى. بما جرى حقاً. * ويل للشعب اليهودي. لتغربه عن ربه. وليس له كاهن ولا نبي. لا ملك ولا راءٍ. * ويل لليهودية. الصالبة ربها. والطوبى للكنيسة المختارة. التي صارت ساجدة لربها. ". 
   ثم ترتل هذه التسبحة: " المجد لك يا الله ( 3 ). نهاراً وليلاً. دوماً في كل حين، برحمتك يا الله تحنن علينا. نطلب منك الرحمة، ومغفرة الخطايا. أبعد الشيطان عنا، الذي ينصب الفخاخ لنا دوماً. واحفظنا بعلامتك الحية، ليرى الشرير ويتحول عنا. أحل علينا يا رب، بيمينك المليئة رحمة. يا رب بمراحمك للأبد، لا تهمل أعمال يديك. ليكن صليبك سوراً لنا، أيها المسيح الذي خلصنا بصليبه. لك المجد ربنا يسوع، والشكر للآب مرسلك. والتهليل للروح القدس، من الأزل وإلى الأبد. ". 
   ثم يرتل هذا المدراش: " الردة: الشعوب المخلصة بالصليب (2) تلعن الشقي.  * أخذني العجب لأتكلم (2) عن يهوذا الغشاش برهبة. الألم يرعبني وعقلي يقول لي: بالبكاء أروِ قصته، وبالدموع أذكر الشقي. * كان في حصة التلميذ (2) وكان يقف على مروج خصيبة على مائدة التطويبات، امتص ماء الحياة، الخروف الوديع الحقيقي صار ذئباً وافترس راعيه. * كان في عداد الرسل (2) وبين الاثني عشر أسس كرسيه، حسد الشيطان وكمن الشرير ونصب فخاً وصاده، هوذا كرسيه مدمر وملقى في الحفرة. ". 
   ثم يركع الشماس أمام الجلجلة ليرتل طلبة الآلام. وبعد الانتهاء منها يصعد المترأس ليحل المسامير عن يدي ورجلي المصلوب، ثم ينزله ويضعه في نعش، لتبدأ دورة زياح دفن المصلوب، ليتبرك منه المؤمنين.       

72
المنبر السياسي / عيد الشعانين
« في: 11:05 26/03/2010  »
عيد الشعانين
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: زكريا 9 / 9 _ 13 ابتهجي جداً يا بنت صهيون واهتفي . . .
القراءة الثانية: رومة 11 / 13 _ 24 أقول لكم أيها الوثنيون: بقدر ما أنا . . .
القراءة الثالثة: متى 20 / 29 _ 34 وبينما هم خارجون من أريحا تبعه جمع . .
                  + متى 21 / 1 _ 22 ولما قربوا من أورشليم ووصلوا . . .

   الفكرة الطقسية: في أحد الشعانين نختم الصوم الذي كان زمن توبة واهتداء ومصالحة. ونبدأ الأسبوع المقدس الذي يتوج بأحد القيامة. وعيد الشعانين هذا هو ذكرى دخول المسيح إلى الهيكل وسط هتافات الجماهير: أوشعنا لابن داود، مطهراً إياه من كل العناصر الغريبة وغير اللائقة بالله والإنسان المؤمن. وهذا الدخول المظفر يرمز إلى دخوله ممجداً إلى هيكل قلوبنا. لذلك علينا أن نطهر حياتنا من الإنسان العتيق بعقليته وعاداته، ونلبس الإنسان الجديد بإيمانه وأخلاقيته بأمانة وثبات. حتى تسري فينا القيامة وتعمل فعلها. 
   وفي هذا العيد نستمع إلى كلمة الله تعلن لنا من خلال ثلاث قراءات هي: الأولى من سفر زكريا  تصف لنا دخول المسيح المنتصر إلى أورشليم، دخول ملك السلام.
   وقد أتم المسيح قول الأنبياء في أحد الشعانين. سيكون المسيح وضيعاً، وهي صفة ينسبها النبي صفنيا  إلى شعب المستقبل ( صفنيا 3: 13 ). ويتخلى عن مظاهر أبهة الملوك ( إرميا 17: 25 ). ويكون انتصاره بالتواضع والبساطة ( تكوين 49: 11 ). 
   والثانية من رسالة بولس إلى أهل رومة حيث تقيم مقارنة بين اليهود الرافضين والوثنين القابلين إياه بحماسة. وأن الاختيار في يسوع المسيح هو هبة بالنظر إلى اليهودي وبالنظر إلى الوثني. 
   والثالثة من إنجيل متى تخبرنا عن دخول المسيح إلى الهيكل، ودخوله هذا يرمز إلى دخوله إلى هيكل حياتنا ليطهرها ويقدسها. وبدخول يسوع إلى الهيكل يحقق غايته الحقيقية وهي إعادته إلى " بيت صلاة " ( أشعيا 56: 7 ). لا " مغارة لصوص "  ( إرميا 7: 11 ).       
   عيد الشعانين: قبل أن يدخل يسوع أورشليم سمع صراخ الأعميان: ارحمنا يا ابن داود. فلقد استطاع هذا الأعمى المسكين أن يرى أن يسوع هو المسيح الذي طال انتظاره. بينما اليهود الذين كانوا يعرفون أن المسيح سيأتي من نسل داود، عجزوا عن إدراك حقيقته رغم ما شاهدوا من معجزات أجراها بينهم، وأبوا أن يفتحوا عيونهم للحق، والرؤية بالعين ليس ضماناً للرؤية بالقلب. ومع أن الرب يسوع كان مشغولاً بالأحداث القادمة في أورشليم، فإنه مارس عملياً ما سبق أن قاله للتلاميذ عن الخدمة. فتوقف للعناية بالأعميين.
   عندما غادر الرب يسوع وتلاميذه أريحا، اقتربوا من بيت فاجي  على سفح جبل الزيتون. فدخل تلميذان إلى القرية كما أمرهما يسوع، ليأتيا بأتان وجحشها. ودخل الرب يسوع أورشليم راكباً جحشاً ابن أتان، ليؤكد أنه المسيح الملك، كما أنه إثبات لتواضعه. وقد اعترف الناس بمجد يسوع على الأرض، ولكن هؤلاء الناس سيذعنون للضغط السياسي، ويتخلون عنه خلال أيام قليلة. 
   لقد اصطفت الجموع على جانبي الطريق الرئيسي يمجدون الله، ويلوحون بأغصان النخيل، ويفرشون قمصانهم تحت أقدام الجحش حينما يمر أمامهم. وكانوا يصرخون: مبارك الملك الآتي باسم الرب. في صرخات الفرح لأنهم يعلمون أن يسوع المسيح يتمم عن قصد، نبوة زكريا القائل: ابتهجي جداً يا صهيون، واهتفي يا ابنة أورشليم لأن هوذا ملكك مقبل إليك. هو عادل وظافر. ولكنه وديع راكب على جحش ابن أتان.
   ولكي يعلن يسوع أنه هو بالحقيقة المسيح الذي كانوا ينتظرونه، اختار زماناً اجتمع فيه كل بني إسرائيل في أورشليم، ومكاناً يمكن للجموع الغفيرة أن تراه فيه، وأسلوباً للمنادة بإرساليته لا يمكن أن يخطيء. وهاج الناس. فهم واثقون الآن من أن حريتهم وشيكة.
   ظن الفريسيون أن كلمات الجموع كلمات تدنيس وتجديف. ولم يريدوا أن يعكر أحد صفو سلطتهم وسلطانهم، كما لم يريدوا ثورة قد تجلب إليهم الجيش الروماني. ولذلك طلبوا من يسوع أن يسكت الجموع. أما يسوع فقال لهم إنه لو سكت هؤلاء لصرخت الحجارة بالفرح. فلماذا؟ ليس ذلك لأن الرب كان يقيم مملكة سياسية قوية، ولكن لأنه كان يؤسس ملكوت الله الأبدي، وهو سبب يدعونا جميعاً إلى فرح عظيم. 
   كان الاحتفال بعيد الفصح العظيم على وشك أن يبدأ، وكان اليهود يأتون من جميع جهات العالم الروماني طيلة هذا الأسبوع للاحتفال بذكرى الخروج العظيم من مصر. وكان الكثيرون بين الجموع الحاشدة قد سمعوا عن يسوع أو رأوه، وكانوا يتمنون أن يأتي إلى الهيكل. وقد جاء يسوع لا كملك، بل على جحش ابن أتان لم يركبه أحد من قبل، وكثيراً ما كان الملوك يمتطون الجياد أو المركبات ذات العجلات في ذهابهم للحرب. ولكن زكريا تنبأ بأن المسيح سيأتي في سلام راكباً على حمار حقير. وقد عرف يسوع أن الذين سمعوه يعلِّم في الهيكل سيعودون إلى بيوتهم في كل العالم، وسيعلنون مجيء المسيح.
   هتفت الجموع مبارك ملك المجد، فكانوا يتممون نبوة داود ( مزمور 24: 7 _  10 ). وتكلموا عن عودة مملكة داود بسبب وعد الرب لداود ( صموئيل الثاني 7: 12 _ 14 ). وقد أصاب الناس عندما رأوا أن يسوع كان إتماماً لهذه النبوات، ولكنهم لم يدركوا إلى أين سيؤدي به هذا. فقد صرخت هذه الجموع ذاتها: أصلبه ! أصلبه ! عندما وقف يسوع للمحاكمة بعد ذلك بأيام قليلة. 
   وقد هتف الجمهور بكلمة " هوشعنا " والتي تعني بالعبرية " أعطِ الخلاص " تحية ليسوع عند دخوله إلى أورشليم. والمزمور 118: 25 والذي يشمل هذه الكلمة كان ينطلق من أفواه الشعب ضمن هتافهم وهم يهزون الأغصان في أيديهم حول المذبح أثناء عيد المظال.  وكان الكهنة يجيبون بهذه البركة التي رددها الجميع في يوم الشعانين. وفي التقليد المسيحي تطبق هذه الآية يوم القيامة، وتستعمل في خدمة الفصح. وأصبحت تستعمل فيما بعد كتعبير عن الفرح أو للترحيب بقادم.   
   وكانت الكنيسة تحتفل بهذا العيد منذ الأجيال الأولى. وفي هذا اليوم يُلبس المؤمنين أطفالهم أجمل الحلل والثياب، ويأتون بهم إلى الكنائس حاملين الشموع وسعف النخل وأغصان الزيتون وأنواع الورود، ليشتركوا في زياح الشعانين، الذي يعبر عن فرحتهم باستقبال ملك المجد، من خلال ما ينشدون من تراتيل شجية. متذكرين ما قاله يسوع حين كان الأولاد يهتفون له عند دخوله أورشليم:                     " بأفواه الأطفال والرضع أعددت لك تسبيحاً " ( مزمور 8: 3 ).
   ويضم طقس كنيسة المشرق أجمل الصلوات والتراتيل التي تعبر عن هذه الذكرى المقدسة، نذكر منها:
" * طوبى للفتيان الذين رأوا المسيح يدخل أورشليم، راكباً أتاناً، وأمامه الفتيان حاملين أغصان الزيتون مسبحين وقائلين: أوشعنا في الأعالي أوشعنا لابن داود مبارك الآتي باسم الرب.
* حمل الفتيان الأغصان والفتيات حملن الكنارات وهم يرتلون قدام ابن داود، وسمع الروحانيون صوت هتاف الأطفال الذين يصرخون جميعاً: أوشعنا في الأعالي أوشعنا لابن داود مبارك الآتي باسم الرب. ". 



73
المنبر السياسي / جمعة لعازر
« في: 18:41 24/03/2010  »
جمعة لعازر
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: التكوين 19 / 27 _ 30 فبكر إبراهيم إلى المكان الذي وقف . .
القراءة الثانية: رومة 15 / 1 _ 13 فعلينا نحن الأقوياء أن نحمل ضعف . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 11 / 1 _ 45 وكان رجل مريض وهو لعازر من بيت . . .
   لعازر: اسم عبري وهو مختصر من أليعازر " الله عون ". كان من بيت عنيا، وكان يسكن مع أختيه مرتا ومريم وكان موضوع محبة أختيه. والمسيح شهد عنه شهادة حسنة وكان من نصيبه أن يقيمه من الأموات بأعجوبة ( يوحنا 11: 1 _ 44 ). وقد كان لهذه الأعجوبة تأثير كبير على الذي شاهدوها أو سمعوا بها الأمر الذي دفع الجماهير إلى استقباله ذلك الاستقبال الحافل في أورشليم. كما أنها كانت السبب الذي دفع المجمع السبعيني للاجتماع واتخاذ القرار بقتله لأن الجماهير كانت تناديه بلقب ملك ( يوحنا 11: 45 _ 53 و 12: 9 _  19 ). وقد حضر لعازر العشاء الذي أقامه سمعان الأبرص  في بيت عنيا إكراماً للمسيح قبل ستة أيام من الفصح ( متى 26: 6 و مرقس 14: 3 ويوحنا 12: 1 _ 2 ). ولم يذكر اسم لعازر بعد ذلك في الكتاب المقدس، ولكن يظهر أن محاولة اغتياله لم تتم. فمات مرة أخرى في زمان ومكان وظروف لا تزال إلى الآن مجهولة. وفي لارنكا في جزيرة قبرص تقليد يقول أن لعازر مات ودفن هناك.
   تقع قرية بيت عنيا على بعد نحو 3 كم شرقي أورشليم على الطريق المؤدية إلى أريحا. وعندما مرض لعازر كان يسوع يبشر في قرى عبر الأردن. وقد سعت مرتا ومريم إلى الرب يسوع لطلب المعونة عندما مرض أخوهما مرضاً شديداً. وقد آمنتا بقدرته على مساعدتهما لأنهما عاينتا معجزاته. وكان الرب يسوع يحب هذه الأسرة، ويمكث مع أفرادها كثيراً. وقد عرف آلامهم، لكنه لم يستجب فوراً. فقد كان لتأخيره قصد خاص معين. إن التوقيت الذي يختاره الله وخاصة عند تأخيره، قد يجعلنا نظن أنه لا يستجيب لنا أو أنه لا يستجيب لنا بالطريقة التي نريدها. إلا أنه سيسد كل احتياجاتنا حسب توقيته الزمني الكامل، وحسب قصده التام. وعندما طلب من التلاميذ الاستعداد للعودة إلى اليهودية، ذكروه عن محاولة اليهود رجمه منذ وقت قريب. لكن يسوع أعلمهم عن رقاد حبيبه لعازر، وعليه الذهاب لإنهاضه. وبين لهم أن الذي يسير في النهار لا يتعثر، وقصد بالنهار معرفة إرادة الله. أما الذي يسير في الليل فلا بد أن يتعثر، وقصد بالليل عدم معرفة إرادة الله. لقد علم التلاميذ بالأخطار المحيطة بالرب يسوع عند ذهابه إلى أورشليم فحاولوا إيضاحها له. وعندما فشلت اعتراضاتهم على ذهابه، كانوا مستعدين ومرحبين بالذهاب معه، بل والموت معه أيضاً. ولعلهم لم يفهموا سبب موت يسوع لكنهم كانوا أوفياء له. وعُرفت مرتا بانشغالها الشديد الذي يعوقها عن الجلوس عند قدمي الرب يسوع، والحديث معه والتعلم منه ( لوقا 10: 38 _ 42 ). أما هنا فإننا نراها امرأة ذات إيمان عميق قوي. فهي واثقة بأن الله يعطي يسوع كل ما يطلب منه، ولها ملئ الثقة بأن أخاه لعازر سيقوم في اليوم الأخير. إن للرب يسوع سلطاناً على الحياة والموت، كما أن له سلطاناً لمغفرة الخطايا. ذلك لأنه خالق الحياة. وهكذا قال لمرتا: " أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي، وإن مات فسيحيا. ومن كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد " ( يوحنا 11: 25 ).
   ويؤكد الإنجيلي يوحنا على أن لنا إلهاً يهتم بنا. وهذا يناقض مفهوم الإغريق الشائع في ذلك الزمان عن الله. فالإله عندهم بلا مشاعر ولا إندماج بالبشر. أما هنا فإننا نرى الكثير من مشاعر الرب يسوع، الشفقة والحنان، الغضب، الحزن بل والاكتئاب، وكثيراً ما عبر عن مشاعر عميقة، ويجب علينا ألا نخشى أن نكشف له عن مشاعرنا الحقيقية. فهو يفهمها لأنه اختبرها. وما أن حضرت مريم ورأت يسوع حتى ارتمت على قدميه وهي تبكي. عندما رأى الرب يسوع النواح والعويل بكى هو أيضاً علانيةً. ولعله كان متعاطفاً معهم في حزنهم أو ربما اضطرب لعدم إيمانهم. وفي كلتا الحالتين أظهر الرب أنه يهتم كثيراً بنا حتى إنه يبكي معنا.
   طلب يسوع أن يمضوا به إلى حيث قبر لعازر. وكانت المقابر عادة في ذلك الزمان، عبارة عن كهوف أو مغارات منحوتة في الحجر الجيري في أحد جوانب الجبل. وكان القبر من الاتساع بحيث يسمح للناس بالسير داخله. وعادة ما كان يوضع داخل القبر الواحد أجساد العديدين من الموتى. وبعد الدفن يدحرج حجر كبير ليوضع على مدخل القبر. وما أن وصل يسوع عند القبر، حتى طلب أن يرفعوا الحجر. لكن مرتا ذكرت يسوع أنه مضى أربعة أيام على دفنه، وأن جسده قد أنتن. مرة أخرى ذكر يسوع مرتا أن تحافظ على إيمانها لترى مجد الله.  وقف الرب يسوع أمام القبر بعد أن رفع الحجر، ونادى بصوت عالٍ: لعازر أخرج. فللحال خرج لعازر من القبر والأكفان تشد يديه ورجليه، والمنديل يلف رأسه. فطلب يسوع من الموجودين أن يحلوا أكفانه حتى يمضي إلى بيته. 
   من خلال حدث إقامة يسوع للعازر، نجد أن يسوع يتكلم عن الرقاد، في حين أن لعازر قد مات. يبدو إذاً أن يسوع يريد أن يسبب سوء فهم عند سامعيه. لكن يسوع يبدل في الواقع معنى الموت، فهو يُعد رقاداً لأنه انتقال يؤدي إلى يقظة القيامة.  فلم يعد الموت نهاية، بل مرحلة، وهذا المرض أياً كانت شدته سيؤدي في آخر الأمر إلى القيامة، وبالتالي إلى تجلي مجد الله العظيم، وهو مجد المسيح أيضاً. وهذا المرض هو بوجه أعمق نقطة انطلاق للسير الذي يؤدي إلى موت يسرع وقيامته. فهو يضع في متناول جميع المؤمنين إمكانية المشاركة في هذه القيامة. وعلى هذا النحو يتحقق في آخر الأمر تجلي المجد الأخير.     
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار جمعة لعازر في الجمعة السابعة من سابوع الصوم. 


74
تذكار مار ميخائيل رفيق الملائكة
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: التكوين 19 / 1 _ 7  فجاء الملاكان إلى سدوم مساءً وكان . . .
                   + التكوين 19 / 9 _ 26 فقالوا: تنح من هنا! ثم قالوا: هذا . .   
القراءة الثانية: رومة 14 / 10 _ 23 فما بالك يا هذا تدين أخاك؟ وما بالك . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 9 / 39 _ 41 فقال يسوع: إني جئت هذا العالم لإصدار . .
                      + يوحنا 10 / 1 _ 21 الحق الحق أقول لكم: من لا يدخل . . .   

   مار ميخائيل رفيق الملائكة: ولد في قرية سوسنة من كورة آمد " ديار بكر " من والدين مسيحيين شريفي النسب أغنياء جداً. وكانت والدته قد رأت في الحلم ملاكاً يقول لها: "  أنا هو ميخائيل الملاك القائم أمام الرب. أبشرك بابن ستلدينه ويكون عظيماً على الأرض. ويكون كالسراج لكل العالم. فتسميه أنت باسمي ". ولذلك دعي رفيق الملائكة.
   ومنذ نعومة أظفاره أنصرف إلى العلم وعقله مائلاً إلى أمور السماء والعبادة. وما أن بلغ الثلاثين من عمره فكر أن ينضم إلى مار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية في المشرق، فترك أهله وانطلق إلى جبل إيزلا بجوار نصيبين. وعندما التقى بمار أوجين طلب منه أن يقبله تلميذاً عنده ويلبسه الإسكيم الرهباني. فقبله بفرح بسبب دعته وتواضعه، وجعله في عدد تلاميذه. فشرع ميخائيل يعذب نفسه بالصوم والصلاة والسهر الطويل مواظباً على الحياة الروحية.
   وكان يتوق للعمل على عودة الضالين إلى حظيرة الرب. فاستأذن معلمه وذهب إلى قريته كي يهدي أهلها إلى الإيمان. وكانت المطر قد انقطع تلك السنة فيبست الينابيع، ولم يكن لهم ماء يشربوا هم وبهائهم. ولما شاهدهم على تلك الحالة جثا على ركبتيه وصلى وطلب من الرب، أن يمنحهم من كنزه ليشربوا ويرووا ويمجدوا اسمه القدوس. وما أن أنهى صلاته حتى أرعدت السماء وهطلت الأمطار. فآمن أهل القرية وعمدهم جميعاً وبنى لهم كنيسة.
   ثم مضى إلى قرية أخرى كان جميع سكانها من المجوس. وكان حاكم القرية جالساً في بلاطه وقد دخله روحاً شريرة. وكانت هذه الروح تعذبه عذاباً مراً. وكان المجوس عالمين بالآيات التي يعملها المسيحيين. فطلبوا من حطاباً مسيحياً يدعى غوشنازاد وتعني بالفارسية " المِقدام والمُجد " أن يأتي ويصلي على الحاكم.
  وفي الطريق لاقاه مار ميخائيل فقال له: " تشجع ولا تخف لأن الرب في هذا اليوم يصنع على يدك آية عظيمة ". ثم أعطاه حناناً  مقدساً وأمره أن يرسم به على الحاكم علامة الصليب.
   ولما دخل على الحاكم رآه يرتفع من الأرض ويسقط ويصرخ ويزبد. حينئذٍ تراءى له مار ميخائيل واقفاً بجانبه، وإذ أبصره الشيطان صرخ قائلاً: " ما لي ولك يا ابن الله، أين أهرب منك ومن قديسيك، لماذا تعذبنا ". فطلب مار ميخائيل من غوشنازاد أن يرسم علامة الصليب على وجه الحاكم، وما أن رسمها حتى خرجت الروح الشريرة من الحاكم واضمحلت وصارت كالدخان. فآمن الحاكم وكل أهل بيته وانضم إلى مار ميخائيل وسلك في أثره.
   وكان مار ميخائيل مثل مرآة جليلة بين القديسين، ومثل الشمس بين الكواكب. وكان مواظباً على الصوم ووجهه متجللاً بالبهاء مثل موسى بكر الأنبياء، ومحبوباً عند خالقه ومكرماً بين القديسين.
   وقد سكن سنين طويلة في القفر الخالي من الناس، معاشراً الأسود والنمور أنيساً مع الوحوش والبهائم، وهي تجثو أمامه مستأنساً بهم كمثل الأهل والأقارب. وكان طعامه البقول والحشائش مثل يوحنا المعمدان، ومواظباً على الصلاة والزهد مثل إيليا. وكانت تجري على يديه عجائب كثيرة.
   وذات يوم وسوس الشيطان ثلاثة لصوص فظنوا أن لدى مار ميخائيل الكثير من المال. فذهبوا إلى المغارة التي كان يعيش فيها متظاهرين بالورع. لكن القديس عرف بمكرهم فتركهم في المغارة وخرج. وما أن خرج حتى أتى عند باب المغارة ثلاثة أسود ضارية تزار وتزمجر، فسقط اللصوص على الأرض من شدة فزعهم، ولم يستطيعوا الهرب. وبقوا على هذه الحال مدة ستة أيام دون طعام ولا شراب. أخيراً صرخوا: " يا مار ميخائيل أخطأنا قدام الله وقدماك، هلم لمعونتنا وارحمنا ". فرجع مار ميخائيل إلى مغارته ولما رأته الأسود خرت وسجدت أمامه. وعندما عاينوا ذلك ركعوا أمامه واعترفوا بذنبهم. فعمدهم مار ميخائيل وألبسهم الإسكيم الرهباني. فأخذوا يفلحون في كرم الرب ويرشدون الناس إلى طريق الحياة الأبدية. وبعد أن قضى في البرية أربعين سنة انطلق إلى جبل قردو، فقصده جمع كبير يأتون بمرضاهم فيضع يده عليهم ويشفيهم.
   وذات يوم جاءوا بعشرة مجانين من أرض داسان، وقبل أن يصلوا عنده صرخت الشياطين: " ما لنا ولك يا مار ميخائيل عبد الله العلي، أتيت لتطردنا وتخرجنا من مسكننا ". وما أن سمع مار ميخائيل حتى ركع وصلى قائلاً: " اللهم خالق السماء والأرض والبحور وكل ما فيها، أشفق على هؤلاء البشر الذين هم على صورتك لئلا يكونوا مسكناً للشياطين ". وما أن أنهى صلاته حتى زجر الشياطين وأخرجهم. ولما عاين الحضور هذه الآية سبحوا الله.
   وعندما شاخ وضعفت قوته أحب أن يصنع له بيتاً ليكون تذكاراً له وللشعب في حياته وموته. وكانت أرض التيمن قبل أن تبنى مدينة الموصل قد كثر فيها المسيحيين، ولهم فيها الكثير من الكنائس والمدارس. وكانوا قد عرضوا على مار ميخائيل أن يستقر عندهم. فلبى طلبهم وأمر أن يبنوا ديراً على نهر دجلة يكون في مكان منعزل وبعيد عن القرى. فاجتمع ألوف النصارى من شيوخ وشبان وصبيان وصبايا وبنوا الدير على اسم مار ميخائيل لكي يستعين بصلاته الملاحون وركاب السفن والصيادون والسالكون في البحار والأنهار واليابسة. وبعد أن انتهوا من البناء جمع مار ميخائيل تلاميذه ومضى إلى الدير.
   ثم وزع المهام على الرهبان فجعل منهم رؤساء ومدبرين وقارئين وشمامسة ومدرسين وبوابين وطباخين وخزان. وبعد أن أقام في الدير نحو اثنتي عشرة سنة قرب زمن انتقاله من هذا العالم، فدعا الرهبان وأمرهم أن يكملوا نذورهم في الفقر والصبر والطاعة والعفة والصلاة. ثم باركهم كما بارك يعقوب الأسباط الاثني عشر . وما أن انتهى من صلاته رأى الرهبان ملاكين يهللان ويمجدان الرب بتراتيل روحية، فخرجت نفسه من جسده بفرح وسرور. وهكذا توفي بشيخوخة صالحة. فقام الرهبان والمؤمنين بدفنه بإكرام في قبر داخل الدير.   
   يقع دير مار ميخائيل على نهر دجلة شمال غربي مدينة الموصل، مسافة 6 كم من مركز المدينة. وقد تأسس في أواسط القرن الرابع، ثم عرف الازدهار بسرعة فكان عدد رهبانه في البداية نحو 300 راهب، ثم ازداد كثيراً فبلغ نحو 700 راهب.
   وفي بداية القرن الثامن كان رئيس الدير إيشوعياب ابن أخت الجاثليق صليبا زخا ، وقد اقتبل على يده الأسكيم الرهباني روزبيهان  من أهالي نصيبين، ومضى وخلف إبراهيم في رئاسة دير مار أوجين في جبل إيزلا قرب نصيبين، ثم اختير مطراناً على نصيبين. أما إيشوعدناح  " يسوع ظهر " في كتابه " الديورة " فيقول أن دير مار ميخائيل هو دير صغير أيام رئاسة مار إيشوعياب في النصف الأول من القرن الثامن. وكان للدير مدرسة تعتبر من بيوت الحكمة ودور العلم المرموقة.
   ونعرف من حياة إيليا برشينايا مطران نصيبين  والذي يعتبر من ألمع كتبة كنيسة المشرق، أنه درس في دير مار ميخائيل على يد الراهب يوحنا الأعرج، وذلك خلال السنوات 996 _ 1001. ومن خريجي الدير سبريشوع الذي أصبح أسقفاً على بابغش في عهد الجاثليق إيليا ابن المقلي .
   وفي سنة 1188 نلقى في الدير أستاذاً اسمه سبريشوع بن بولس، وقد وضع ألحان ومدائح وشروح.
   واشتهر في هذه الفترة أيضاً راهب يدعى أبو العز الحظيري عرف باسم الراهب يقيرا أي المكرم أو الفاضل. وقد وضع صلوات وتراتيل منها لآحاد تقديس البيعة. وقام بترتيب ألحان وميامر ومداريش مار أفرام النصيبيني والملفان نرساي لأيام صوم نينوى. ونلقى سفراً كلدانياً كتبه كيوركيس الحديدي الراهب في دير مار ميخائيل سنة 1225 من. وهو محفوظ في مكتبة برلين.
   وثمة نسخة من الإنجيل على الرق كتبها القس يوحنا من الدير سنة 1294 م، وهي اليوم ضمن محفوظات المكتبة الوطنية بباريس.
   ونسخة أخرى من العهد الجديد كتبت في القرن الثالث عشر، محفوظة في مكتبة الفاتيكان. ويمكننا القول أن مكتبة الدير كانت تضم مخطوطات نفيسة.
   وفي أواخر القرن الثاني عشر يلجأ إلى الدير مفريان سرياني من تكريت  هو غريغوريوس يعقوب، وهو حفيد البطريرك ميخائيل الكبير ، بعد أن قام ضده أتباع باسيليوس أسقف بغداد السرياني. ومكث في الدير شهرين حتى فضت مشكلته.
   وفي القرن الرابع عشر يميل الدير إلى التدهور، لكنه لم يخل تماماً من الرهبان. إذ يرد ذكره في التقرير الذي رفعه ليوناردو هابيل أسقف صيدا سنة 1853 _ 1854، كما في قائمة الأديرة التي يرصدها تقرير مرفوع إلى روما سنة 1607 برقم 22، ثم في تقرير سنة 1610.
   وتشير الكتابة المجودة في الطرف الأيمن من جناح الهيكل الكبير إلى التجديد الذي تم سنة 1867 في رئاسة البطريرك يوسف السادس أودو .
   وفي مطلع القرن العشرين قام وقف كنيسة ما أشعيا  بالموصل بتجديد الدير. وفي سنة 1956 جدد الدير ورقم الغرف الخوري أفرام رسام .
   ثم أعقبه الأب يوحنا جولاغ  بإجراء ترميمات وتجديدات سنة 19856. ثم قامت دائرة الآثار والتراث بإصلاح جدري كبير كمل منه في مرحلته الأولى في نهاية سنة 1987 كنيسة الدير والغرف الداخلية.
   وقد قال الشاعر الخالدي في الدير:
أيـ بامخايال أفدي ثراك       بنفسي ومالي وعمي وخالي
وذا الدير تسعى بغزلانه       عانينه فـي صنوف الجمال 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار ميخائيل رفيق الملائكة في الأحد السادس من سابوع الصوم.







75
موسم دير مار كيوركيس بعويرا في الموصل
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: التكوين 16 / 1 _ 16 وأما ساراي امرأة أبرام فلم تلد له . . .
القراءة الثانية: رومة 12 / 1 _ 21 إني أناشدكم إذاً أيها الإخوة بحنان الله . . .
القراءة الثالثة: يوحنا 7 / 37 _ 52 وفي آخر يوم من العيد وهو أعظم . . .
                     + يوحنا 8 / 12 _ 20 وكلمهم أيضاً يسوع قال: أنا نور . . . 

   دير مار كيوركيس بعويرا: يقع على بعد 9 كم إلى الشمال من مركز مدينة الموصل. ويؤكد التقليد أن الدير كان في الأصل كنيسة قرية بعويرا  وتعني " المعبر ". ويفيدنا ماري بن سليمان بأن الكنيسة كانت موجودة في أواسط القرن العاشر، ولعل تأسيسها يرجع إلى فترة تسبق هذا التاريخ.
   ويذكر أن أحد كهنة الكنيسة القديمة في هذا الموضع كان من رهبان الدير الأعلى في الموصل، وقد تتلمذ على ابن نصيحا تلميذ موسى بر كيفا ، وصار أسقفاً لمعلثاي ثم بطريركياً سنة 963 باسم عبد يشوع الأول .
   وتنقطع الأخبار عن الدير حتى سنة 1549 حيث نجد إنجيلاً طقسياً مخطوطاً بهذا التاريخ لاستعمال هذا الدير، والإنجيل محفوظ حالياً في مكتبة البطريركية الكلدانية، ويتكرر ذكر الدير من خلال العديد من المخطوطات حتى سنة 1778. وتضم الكنيسة لوحة تمثل مار كيوركيس ممتطياً صهوة جواده، وعمر هذه اللوحة حوالي 200 سنة.
   ويملك الدير صورة أخرى من وحي رسم بيزنطي تعود إلى القرن الثامن عشر.  وفي أواسط القرن التاسع عشر يسعى البطريرك نيقولاوس زيعا  إلى تحويله إلى مقراً لمعهد كهنوتي، لكن المشروع لم يتحقق. لكنه قام بتجديد الدير سنة 1843، وخلال التجديد اختفت آثار قبر الأب الدومنيكي كودليونشيني المدفون في الدير.
   وحينما مر بادجر  بالموضع سنة 1850، شاهد أن راهباً واحداً يقوم بحراسة الدير. وفي سنة 1863 يطلب البطريرك يوسف السادس أودو  من الرهبنة الكلدانية الهرمزدية إرسال كاهن وبعض الأخوة إلى الدير ليسكنوا فيه، ويكون هذا الدير من جملة الأديرة القانونية التابعة للرهبنة.
   ومنذ تلك الفترة تعاقب الرؤساء والرهبان على الدير وحتى يومنا هذا. وفي سنة 1885 أمضى المطران شمعون تكتك السنجاري  مطران سنا  الضرير، أيامه الأخيرة في هذا الدير.     
   ومع السنين أعيد تجديد الكنيسة عدة مرات، وأضيف إليها العديد من الأبنية لسكن الرهبان والضيوف. وفي سنة 1930 جددت كنيسة الدير العليا، ففقدت طابعها القديم.
   وفي سنة 1962 افتتح فيه مشروع ميتم ومدرسة رسولية غايتها إعداد رهبان المستقبل، وتسلم إدارتها الأب اليسوعي بول نويا الكلداني. 
   ويشتمل الدير حالياً على قطعة أرض واسعة تضم الدير والكنيسة مع بستان. وغرف كثيرة لاستقبال الزوار على مدار السنة.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بموسم دير مار كيوركيس بعويرا في الموصل في الأحد الخامس من سابوع الصوم.



76
تذكار الأربعين شهيداً

الشماس نوري إيشوع مندو
    الأربعون شهيداً: خلال الاضطهاد الأربعيني في 15 أيار 376 تكلل في أرض بابل أربعون شهيداُ، وقد ذبحوا كما تذبح الخراف، وكانوا أسقفان و16 كاهناً و9 شمامسة و6 رهبان و7 راهبات وهذه أسماؤهم:
    الأسقفان: مار عبدا ومار عبد يشوع.
    والكهنة: عبد ألاها وشمعون وأبراهام وأبا وإيهبيل ويوسف وعني وعبد يشوع     وعبد ألاها ويوحنان وعبديشوع وماري وبرحذبشبا ورازيقايا وعبد ألاها وعبديشوع.
    والشمامسة: إليهاب وعبديشوع وعني ومارياب وماري وعبدا وبرحذبشبا وشمعون وماري.
    والرهبان: بابا وأولاش وعبد يشوع وبقيدا وشموئيل وعبديشوع.
    والراهبات: مريم وطيطا وإما وأدراني وماما ومريم وماراح. هؤلاء هم الشهداء الأربعين الذين تكرمهم كنيسة المشرق.
    أما سبب استشهادهم كانت بوشاية من ابن أخ المطران مار عبديشوع مطران كشكر، الذي ذهب إلى الأهواز ومثل أمام الملك وأبلغه أن المطران المذكور يراسل قيصر الروم ويطلعه على كل ما يجري في المشرق، ويحتقر ويكفر بالشمس والقمر آلهتك. فأمر الملك أخيه أردشير  ملك حدياب ليأتي به. فقبض أردشير على المطران وقيده بالسلاسل وأرسله إلى قصر أخيه في مدينة بيث لاباط. وما أن قابله الملك حتى قال له: " لماذا تحتقر آلهتنا وتستقبل جواسيس الروم وتكتب رسائل إلى القيصر وتطلعه على أسرار  مملكتنا ".
    فقال المطران: " ما هذه الأمور السخيفة التي تذكرها وتنسبها إلينا ظلماً ". فغضب الملك وأمر بقتله مع كاهنه عبد الله.
    ثم سأل الملك ابن أخ المطران هل ثمة مسيحيون آخرون في بلاد كشكر. فأجابه الخائن: " هناك الكثيرين. وإن أمرت فسأمضي واجلبهم لك ". فأعطاه الملك عشرة فرسان وعشرين راجلاً للقيام بهذه المهمة. فمضوا إلى منطقة كشكر وقبضوا على الباقين المذكورين أسمائهم أعلاه. وأحضروهم أمام الملك، الذي أمر بتعذيبهم وقتلهم شر قتلة. وقد وزعوا على مجموعات نقلت كل مجموعة إلى منطقة حيث قتلوا أمام الجموع تخويفاً للمسيحيين في تلك المناطق. أما الشهداء فقد احتملوا أشد العذابات وأقساها حتى نالوا إكليل المجد بإيمان وثبات. 
    وهناك أيضاً أربعين شهيداً آخرين استشهدوا في سبسطية  سنة 320. فهولاء كانوا قواداً في الفرقة الرومانية المعروفة بالنارية، وكانوا تحت أمرة الإمبراطور ليكينيوس . وكانوا في حرب في بلاد أرمينيا. وكانت تلك الفرقة مشهورة ببسالتها وشدة بأسها. وقد رفضوا تقدمة الذبائح للأوثان.
    فاستدعاهم أغريكولا والي سبسطية وطلب منهم نبذا المسيحية، لكنهم رفضوا جميعاً فزجهم في السجن، وقضوا فيه أسبوعاً كاملاً وهم يقطعون الليل بالنهار بالصلاة. ثم عرض عليهم مرة أخرى أن ينبذوا المسيحية فرفضوا. عندها ألقوا في بحيرة قرب المدينة. وفي اليوم التالي أمر الحاكم أن يخرجوهم من البحيرة، وأن تكسر سيقان من بقي حياً، وأن تحرق أجسامهم جميعاً في النار. وهكذا نالوا إكليل الشهادة بعزيمة وثبات. وإن حادث استشهاد هؤلاء القديسين الأربعين، الذين ضحوا بشبابهم ورتبهم ومستقبلهم وحياتهم لأجل المسيح في مدينة سبسطية، لهو من أروع التي عرفها التاريخ بهولها وشدتها. ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن عبادتهم كانت قد انتشرت في بلاد الشرق والغرب، وأن الكنائس كانت تتهادى عظامهم كذخائر مقدسة ثمينة. وقد شيد باسيليوس وأميليا والدا القديس باسيليوس كنيسة فخيمة وضعا فيها عظام هؤلاء الشهداء. وأنشأت ابنتهما ماكرينا ديراً للراهبات على اسمهم. 
    وفي تذكار الأربعين شهيداً تقرأ الكنيسة من إنجيل متى الذي يحدثنا عن الصعاب التي يعاني منها تلاميذ الرب، ليس من الحكومات والمحاكم فحسب، بل أيضاً من الأصدقاء والمقربين. فمتابعة يسوع كثيراً ما تجلب الاضطهاد، ولكن ذلك يتيح الفرصة للمنادة ببشارة الخلاص، ففي وسط الاضطهاد تستطيع أن تطمئن لأن الرب يسوع قد غلب العالم، ولكن من يثبت إلى النهاية هو يخلص.
   وقد أوصى يسوع تلاميذه أن لا يهتموا بما يقولون دفاعاً عن أنفسهم متى ألقى القبض عليهم بسبب المنادة بالإنجيل، فروح الله سيتكلم فيهم. وقد تحققت هذه النبوة في جميع الذين اضطهدوا في سبيل الإيمان. ويظن البعض خطأً أن هذا معناه عدم الاستعداد لتقديم الإنجيل لأن الله سيدبر كل شيء. لكن الكتاب المقدس يعلمنا أن نستعد تماماً، وأن يكون كلامنا عن تفكير مصحوباً بالنعمة. فيسوع لم يقل أن نكف عن الاستعداد، بل أن نكف عن القلق والهم. 
    وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الأربعين شهيداً في الجمعة الثامنة من سابوع الدنح في حال كان سابوع الدنح مؤلفاً من تسعة جمع.
    أما إذا كان سابوع الدنح أقل من تسعة جمع فيحتفل بتذكار الأربعين شهيداً في 9 آذار. 


77
تذكار الأربعين شهيداً

الشماس نوري إيشوع مندو
    الأربعون شهيداً: خلال الاضطهاد الأربعيني في 15 أيار 376 تكلل في أرض بابل أربعون شهيداُ، وقد ذبحوا كما تذبح الخراف، وكانوا أسقفان و16 كاهناً و9 شمامسة و6 رهبان و7 راهبات وهذه أسماؤهم:
    الأسقفان: مار عبدا ومار عبد يشوع.
    والكهنة: عبد ألاها وشمعون وأبراهام وأبا وإيهبيل ويوسف وعني وعبد يشوع     وعبد ألاها ويوحنان وعبديشوع وماري وبرحذبشبا ورازيقايا وعبد ألاها وعبديشوع.
    والشمامسة: إليهاب وعبديشوع وعني ومارياب وماري وعبدا وبرحذبشبا وشمعون وماري.
    والرهبان: بابا وأولاش وعبد يشوع وبقيدا وشموئيل وعبديشوع.
    والراهبات: مريم وطيطا وإما وأدراني وماما ومريم وماراح. هؤلاء هم الشهداء الأربعين الذين تكرمهم كنيسة المشرق.
    أما سبب استشهادهم كانت بوشاية من ابن أخ المطران مار عبديشوع مطران كشكر، الذي ذهب إلى الأهواز ومثل أمام الملك وأبلغه أن المطران المذكور يراسل قيصر الروم ويطلعه على كل ما يجري في المشرق، ويحتقر ويكفر بالشمس والقمر آلهتك. فأمر الملك أخيه أردشير  ملك حدياب ليأتي به. فقبض أردشير على المطران وقيده بالسلاسل وأرسله إلى قصر أخيه في مدينة بيث لاباط. وما أن قابله الملك حتى قال له: " لماذا تحتقر آلهتنا وتستقبل جواسيس الروم وتكتب رسائل إلى القيصر وتطلعه على أسرار  مملكتنا ".
    فقال المطران: " ما هذه الأمور السخيفة التي تذكرها وتنسبها إلينا ظلماً ". فغضب الملك وأمر بقتله مع كاهنه عبد الله.
    ثم سأل الملك ابن أخ المطران هل ثمة مسيحيون آخرون في بلاد كشكر. فأجابه الخائن: " هناك الكثيرين. وإن أمرت فسأمضي واجلبهم لك ". فأعطاه الملك عشرة فرسان وعشرين راجلاً للقيام بهذه المهمة. فمضوا إلى منطقة كشكر وقبضوا على الباقين المذكورين أسمائهم أعلاه. وأحضروهم أمام الملك، الذي أمر بتعذيبهم وقتلهم شر قتلة. وقد وزعوا على مجموعات نقلت كل مجموعة إلى منطقة حيث قتلوا أمام الجموع تخويفاً للمسيحيين في تلك المناطق. أما الشهداء فقد احتملوا أشد العذابات وأقساها حتى نالوا إكليل المجد بإيمان وثبات. 
    وهناك أيضاً أربعين شهيداً آخرين استشهدوا في سبسطية  سنة 320. فهولاء كانوا قواداً في الفرقة الرومانية المعروفة بالنارية، وكانوا تحت أمرة الإمبراطور ليكينيوس . وكانوا في حرب في بلاد أرمينيا. وكانت تلك الفرقة مشهورة ببسالتها وشدة بأسها. وقد رفضوا تقدمة الذبائح للأوثان.
    فاستدعاهم أغريكولا والي سبسطية وطلب منهم نبذا المسيحية، لكنهم رفضوا جميعاً فزجهم في السجن، وقضوا فيه أسبوعاً كاملاً وهم يقطعون الليل بالنهار بالصلاة. ثم عرض عليهم مرة أخرى أن ينبذوا المسيحية فرفضوا. عندها ألقوا في بحيرة قرب المدينة. وفي اليوم التالي أمر الحاكم أن يخرجوهم من البحيرة، وأن تكسر سيقان من بقي حياً، وأن تحرق أجسامهم جميعاً في النار. وهكذا نالوا إكليل الشهادة بعزيمة وثبات. وإن حادث استشهاد هؤلاء القديسين الأربعين، الذين ضحوا بشبابهم ورتبهم ومستقبلهم وحياتهم لأجل المسيح في مدينة سبسطية، لهو من أروع التي عرفها التاريخ بهولها وشدتها. ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن عبادتهم كانت قد انتشرت في بلاد الشرق والغرب، وأن الكنائس كانت تتهادى عظامهم كذخائر مقدسة ثمينة. وقد شيد باسيليوس وأميليا والدا القديس باسيليوس كنيسة فخيمة وضعا فيها عظام هؤلاء الشهداء. وأنشأت ابنتهما ماكرينا ديراً للراهبات على اسمهم. 
    وفي تذكار الأربعين شهيداً تقرأ الكنيسة من إنجيل متى الذي يحدثنا عن الصعاب التي يعاني منها تلاميذ الرب، ليس من الحكومات والمحاكم فحسب، بل أيضاً من الأصدقاء والمقربين. فمتابعة يسوع كثيراً ما تجلب الاضطهاد، ولكن ذلك يتيح الفرصة للمنادة ببشارة الخلاص، ففي وسط الاضطهاد تستطيع أن تطمئن لأن الرب يسوع قد غلب العالم، ولكن من يثبت إلى النهاية هو يخلص.
   وقد أوصى يسوع تلاميذه أن لا يهتموا بما يقولون دفاعاً عن أنفسهم متى ألقى القبض عليهم بسبب المنادة بالإنجيل، فروح الله سيتكلم فيهم. وقد تحققت هذه النبوة في جميع الذين اضطهدوا في سبيل الإيمان. ويظن البعض خطأً أن هذا معناه عدم الاستعداد لتقديم الإنجيل لأن الله سيدبر كل شيء. لكن الكتاب المقدس يعلمنا أن نستعد تماماً، وأن يكون كلامنا عن تفكير مصحوباً بالنعمة. فيسوع لم يقل أن نكف عن الاستعداد، بل أن نكف عن القلق والهم. 
    وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الأربعين شهيداً في الجمعة الثامنة من سابوع الدنح في حال كان سابوع الدنح مؤلفاً من تسعة جمع.
    أما إذا كان سابوع الدنح أقل من تسعة جمع فيحتفل بتذكار الأربعين شهيداً في 9 آذار. 


78
موسم الطاهرة في الموصل
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: التكوين 11 / 1 _ 32 وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاماً . .
القراءة الثانية: رومة 8 / 12 _ 27 فنحن إذاً أيها الإخوة علينا حق ولكن . . .
القراءة الثالثة: متى 21 / 23 _ 46 ودخل الهيكل فدنا إليه عظماء الكهنة . . .

   كنيسة الطاهرة: تحمل الكنيسة اسم العذراء مريم، وهي معروفة بـ " الطهرة التحتانية "، وهي في الأصل كنيسة الدير الأعلى ، والمعروف بدير باسم مار كورييل الكشكري  ومار إبراهيم بر دشنداد،   فالكنيسة قديمة جداً. وهذا لا يعني أن البناء الحالي القائم اليوم يعود إلى الجيل السابع أو ما قبله، لكن الكنيسة القائمة حالياً مبنية على أسس وآثار كنيسة الدير القديمة.
   ولقد أطنب الجغرافيون العرب في وصف هذا الدير المسمى بالدير الأعلى، لأنه مشيد في أعلى مرتفع مطل على نهر دجلة، في موضع رائع شمالي مدينة الموصل. وكان يضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المستشرف وله درجة منقورة في الجبل تفضي إلى دجلة نحو المائة مرقاة، وعليها يستقى الماء من دجلة. ويقال إنه ليس للنصارى دير مثله، لما فيه من أناجيلهم ومتعبداتهم. وفيه قلايات كثيرة.
   وقد اجتاز الخليفة المأمون  بهذا الدير في خروجه من دمشق، فأقام به أياماً. ووافق نزوله عيد الشعانين. وكان عيد الشعانين من الأعياد التي يحتفل بها بأروع احتفال. وقد جاء وصف ذلك لدى شعراء كثيرين.
   وكان الدير مركزاً مرموقاً للنشاطات العلمية والليتورجية. وكان له مدرسة عامرة بالمخطوطات ولا سيما بالمؤلفات الطقسية. وقد أطرى المؤرخون كثيراً ما بلغته المدرسة من التقدم في العلوم. ومن مدرسيها عمانوئيل بر شهاري  اللاهوتي الشهير. 
   وقد تخرج فيها رجال علماء عرفوا بالفضل والأدب. واستمر الدير في نشاطه العلمي الواسع حتى سنة 1261، حيث اندثر على أثر الاضطرابات التي أثارها في البلاد ابن بدر الدين لؤلؤ . ولم يبق من الدير سوى قسم من كنيسة الدير، وقد جددت مرات عديدة في القرون الماضية.   
   ومن خلال تواريخ الترميم والتجديد تؤكد أن الكنيسة بهيئتها الحالية تعود إلى التجديد الذي تم سنة 1705. علماً أن مساحة الكنيسة من الداخل يبلغ 800 م2.
   وجرى ترميم أخر للكنيسة سنة 1872 في عهد البطريرك يوسف أودو. 
   وجرى ترميم من جديد للكنيسة سنة 1935 في عهد البطريرك يوسف عمانوئيل الثاني. 
   وفي سنة 1948 على عهد البطريرك يوسف غنيمة  شيد على نفقة أحد المؤمنين شبه مغارة لورد العجائبية ونصب وسطها تمثال العذراء المحبول بها بلا دنس أصلِ.
   وفي سنة 1968 جددت الكنيسة على عهد المطران عمانوئيل ددي. 
   وفي بداية التسعينات من القرن الماضي على عهد المطران كيوركيس كرمو  لبست الكنيسة من الخارج بالحجارة، وشيد برج عالٍ وضع في أعلاه ثمتال ضخم للعذراء مريم.
   وحتى يومنا هذا يتناقل أهالي الموصل خبر ينسبوه إلى العذراء مريم صاحبة كنيسة الطهرة كيف صدت حملة طهماسب " نادر شاه "  وعساكره أبان محاصرتهم الموصل سنة 1743 مدة 42 يوماً وضرب المدينة بالقنابل والتي يقال أنها بلغت سبعين ألف قنبلة، فردتهم على أعقابهم مخذولين، بعد أن قتل منهم 5400 جندي. وعليه أمر والي الموصل الحاج حسين باشا الجليلي  بترميم البيعة على نفقته. وقد حضر الوالي حفل افتتاحها.  وخلاله ألقى الشاعر حسن عبد الباقي الموصلي قصيدة جاء فيها:
       عرج بنا يا أخا الأسرار معتســــــفاً                  لبيعة ملئت عزاً وتقديســـــــــــــــــــــا
      واقصــــــد بنا قاعة للطاهرة بنيت                   حتى بها نذهب الأتراح والبؤســــا
      فيها أناجيل لا تحصــــى فضائلها                    كم عبدت كل مطران وقسيسـا
      وتيمت كم وكم رهبان بـــهجتها                    وفي الأوائل كم دقوا نواقيســــــــــا
      قم واستمع ســحر ألحان نغمتهم                     تخالهم في ظلام الليل فانوســـــــا
      في هيكل الدير قم وانظر تر عجبا                    من الأشعة كالمصباح مقبوســـــا
  ويصف السائح الإنكليزي جيمس بكنغهام  الكنيسة بعد زيارته لها في 6 تموز 1816 بالقول: " وقد تهيأت لي فرصة مشاهدة الرسوم الداخلية في كنيسة مريم العذراء الكاثوليكية في الموصل، وهي تعد من أقدم أماكن العبادة لدى المسيحيين والتي ما تزال قائمة حتى الآن. ويقال أنها شيدت على ذات الطراز الذي شيدت به كنيسة مار يعقوب النصيبيني في نصيبين. وأطواق الممشى فيها من الطراز العربي الاعتيادي المدبب. والأقواس المفرطحة المقرنصة التي رأيناها في مسجد إبراهيم الخليل في الرها تشاهد في هذه الكنيسة أيضاً، وفيها زخارف عربية بشكل ظاهر نقشت الكتابات المحيطة بها بالخط الكلداني. ويمكن القول بأن هذه الكنيسة من أقدم الأبنية في هذا الجزء من البلاد ".
   وقد جرى العديد من المناسبات في هذه الكنيسة العريقة نذكر منها حفل تقليد درع الباليوم للبطريرك يوسف السادس أودو وذلك في 15 أيار 1849، حيث اشترك فيها سكان الموصل من مسيحيين ومسلمين على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم.
   ويقصد كنيسة الطهرة سنوياً آلاف الناس من كل حدب وصوب، ومن جميع الأعمار والأجناس والملل والأديان للتبرك والتماس النعم الإلهية بشفاعة العذراء الطاهرة مريم، حتى أنه يستطاع اعتبارها المزار المريمي الأول ليس في الموصل فحسب، بل وفي العراق كله. 
   وتحتفل كنيسة المشرق بموسم الطاهرة في الأحد الرابع من سابوع الصوم.




79
الأصوام في كنيسة المشرق
الشماس: نوري إيشوع مندو
   المقدمة: من خلال مطالعتنا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، نجد أن الصوم كان جارياً في جميع مراحل مسيرة البشر الخلاصية عبر الأجيال. ونشتفي من تعاليم الكتاب المقدس بأن الصوم عمل مرضٍ لله ومدعاة لخيرات عظيمة لبني البشر. فالصوم ممارسة تقوية، الغاية منها التوبة ونيل الغفران من الله. فهي دعوة للمؤمن للرجوع عن الخطايا والآثام، لكي ينتقل من الشر إلى النعمة، ومن الموت إلى وفرة الحياة. ويعتبر الصوم السلاح الذي يقاوم به المؤمن أعداء العالم والجسد والشيطان. فزمن الصوم هو فرصة للعودة إلى ألذات وإلى الآخر، أي إلى الله والإنسان.
   وسنتوقف في هذه العجالة عند ثلاث محطات هامة، نتحدث من خلالها عن الصوم منذ البدء وحتى يومنا هذا.
   1_ الصوم في العهد القديم: من خلال مراجعتنا أسفار العهد القديم نستطيع التوقف عند محطات هامة تحدثنا عن الصوم في هذه المرحلة من تاريخ شعب الله. فقد صام النبي موسى  في طور سيناء  " وأقام هناك عند الرب أربعين يوماً وأربعين ليلة، لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماءً فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر ". ( خروج 34: 28 ).
   وصام بنو إسرائيل في المصفاة  من دان  إلى بئر سبع  وأرض جلعاد  " فصعد بنو إسرائيل الشعب كله وأتوا بيت إيل  وبكوا وأقاموا هناك أمام الرب وصاموا ذلك اليوم إلى المساء وأصعدوا محرقات وذبائح سلامةٍ للرب ". ( قضاة 20:   26  ).
   وصام أهل يابيش جلعاد  على مقتل شاؤل  وابنه يوناثان  وعلى شعب الرب وعلى آل إسرائيل لأنهم سقطوا في الحرب " وأخذوا عظامهم ودفنوها تحت الأثلة التي في يابيش وصاموا سبعة أيام ". ( الملوك الأول 31:13 ).
   وأمرت إيزابيل  زوجة آحاب  ملك السامرة  الشيوخ والأشراف للصوم " فنادوا بصومٍ وأجلسوا نابوت  في صدر القوم . . . وأرسلوا إلى إيزابل يقولون قد رجم ومات ". ( الملوك الثالث 21: 12_ 14). ولما علم آحاب أنه فعل شراً في عيني الرب لأن إيزابيل امرأته قد أغوته " مزق ثيابه وجعل على بدنه مسحاً وصام وبات في المسح ومشى ناكساً ". ( الملوك الثالث 21: 27 ).
   وصام إيليا النبي  بعد أن دعاه الملاك للذهاب إلى طور حوريب  لملاقاة الرب " فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين يوماً وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب ". ( الملوك الثالث 19: 8 ).
   وفي زمن إرميا النبي  نودي بصوم " وكان في السنة الخامسة ليوياقيم بن يوشيا  ملك يهوذا في الشهر التاسع قد نودي بصوم أمام الرب لشعب أورشليم وكل الشعب الآتين من مدن يهوذا إلى  أورشليم ". ( إرميا 36: 9 ).
   وجاء في نبوة باروك  عندما أخذ الكلدانيون أورشليم  وأحرقوها بالنار، تلا باروك الكتاب على مسامع جميع الشعب الساكنين في بابل  على نهر سُودٍ " فبكوا وصاموا وصلوا أمام الرب ". ( باروك 1: 5 ).
   ويتحدث النبي دانيال  عن صومه بالقول " فجعلت وجهي إلى السيد الإله لممارسة الصلاة والتضرعات بالصوم والمسح والرماد ". ( دانيال 9: 3 ).
   ويتحدث النبي نحميا  عن صومه عندما علم أن من بقي في أورشليم بعد الجلاء يعيشون بضيق شديد " فلما سمعت هذا الكلام مكثت أبكي وأنوح أياماً وصمت وصليت أمام إله السماوات ". ( نحميا 1: 4).
   أما يهوديت  فقد روي عن صومها " وكان على حقويها مسح وكانت تصوم جميع أيام حياتها ما خلا السبوت ورؤوس الشهور وأعياد آل  إسرائيل ". ( يهوديت 8: 6 ).
   أما النبي زكريا  فينقل إلى الشعب دعوة الرب للصوم " هكذا قال رب الجنود إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر سيكون لآل يهوذا سروراً وفرحاً وأعياداً طيبة ". ( زكريا 8: 18 ).
   ودعا عزرا الكاهن  اليهود المسبيين للصوم " فناديت بصوم هناك عند نهر أهوى لنتذلل أمام إلهنا مبتغين منه طريقاً مستقيماً لنا ولصغارنا ولجميع أموالنا . . . فصمنا ودعونا إلى إلهنا لأجل ذلك فأستجبانا ".  ( عزرا 8: 21- 23 ).
   أما النبي يوئيل  فيبلغ شعب إسرائيل دعوة الرب لهم للصوم "  قدسوا الصوم نادوا باحتفال اجمعوا الشيوخ وجميع سكان الأرض إلى بيت الرب ". ( يوئيل 1: 14 ). ويؤكد عليهم النبي يوئيل ذلك بالقول      "  فالآن يقول الرب توبوا إليَّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والانتحاب . . . فالرب رأوف رحيم طويل الأناة وكثير الرحمة ونادم على الشر ". ( يوئيل 2: 12_ 13 ).
   ونجد في سفر يونان النبي  كيف قبل الرب توبة أهل نينوى  من خلال الصوم " وآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم ". ( يونان 3: 5 ).
   وأمر يهوذا  الشعب للصوم عندما بلغه أن أنطيوكس  قادم إلى اليهودية  بجيش كثيف " ففعلوا كلهم وتضرعوا إلى الرب الرحيم بالبكاء والصوم والسجود مدة ثلاثة أيام بلا انقطاع ". ( مكابيين ثاني13: 12 ).
   وخاطب الملاك رافائيل  البار طوبيا  قائلاً: " صالحة الصلاة مع الصوم والصدقة خير من ادخار كنوز الذهب ". ( طوبيا 12: 8 ).
   وكان النبي داود  مثابراً على الصوم، وذلك واضح من خلال مزاميره " وأنا عند مرضهم كان لباسي مسحاً وكنت أعني نفسي بالصوم وكانت صلاتي ترجع إلى حضني ". ( مزمور 34_ 13 ). وأيضاً " وأبكيت بالصوم نفسي فصار ذلك عاراً عليَّ ". ( مزمور 68_ 11 ). وأيضاً " ونت ركبتاي من الصوم وهزل جسدي عن السمن ". ( مزمور 108_ 24 ).
   هذه البينات التي استقيناها من العهد القديم، تؤكد لنا بشكل قاطع أن الصوم الذي مارسه شعب الله عبر تاريخه القديم، قد جنبه غضب الله وغضب الشعوب.
   2_ الصوم في العهد الجديد: من خلال مرجعتنا العهد الجديد نتوقف عند محطات هامة تحدثنا عن الصوم في هذه المرحلة من تاريخ شعب الله. فإنجيل لوقا يحدثنا عن صوم حنة النبية  " وكانت حنة النبية ابنة فنوئيل من سبط أشير قد تقدمت في الأيام . . . ولها أرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل متعبدة بالأصوام والصلوات ليلاً نهار ". ( لوقا 2: 36_ 37 ).
   ويحدثنا إنجيل متى عن صوم الرب يسوع " حينئذ أخرج يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس. فصام أربعين يوماً وأربعين ليلةً وأخيراً جاع ". ( متى 4: 1_ 2 ).
   ويحدثنا إنجيل لوقا عن سؤال الفريسيين  ليسوع عن سبب صوم تلاميذ يوحنا المعمدان  وعدم صوم تلاميذه " لماذا تلاميذ يوحنا يصومون كثيراً ويواظبون على الصلاة . . . وتلاميذك يأكلون ويشربون. فقال لهم يسوع: ستأتي أيام يرتفع فيها العروس عنهم وحينئذ يصومون في تلك الأيام ". ( لوقا 5: 33 _  35 ). ويحدثنا إنجيل لوقا عن الفريسي الذي كان واقفاً في الهيكل يصلي " أللهم أشكرك . . . فإني أصوم في الأسبوع مرتين وأعشر كل ما هو    لي ". ( لوقا 18: 11 _ 12 ).
   ويعلمنا المخلص يسوع كيفية الصوم لنيل الأجر العظيم فيقول: " وإذا صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرآءين فإنهم ينكرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين. ألحق أقول لكم إنهم قد أخذوا أجرهم. أما أنت فإذا صمت فاذهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفية وأبوك الذي ينظر في الخفية هو يجازيك ". ( متى 6: 16_ 18 ). ويعلمنا يسوع أيضاً أن الصوم المقرون بالصلاة يمنحنا قوة عظيمة على طرد الشيطان والأرواح الشريرة فيقول: " وهذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة ".            ( متى 17_ 20 ).
   ويحدثنا سفر أعمال الرسل عن الرسل القديسين " بينما هم يخدمون للرب ويصومون ". ( أعمال الرسل 13: 2 ). وقد استعد الرسل للتبشير بالإنجيل بالصوم " . .  قال لهم الروح القدس افرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما ".
   ويحدثنا الرسول بولس  عن أصوامه قائلاً: " وفي التعب والكد والأسهار الكثيرة والجوع والعطش والأصوام الكثيرة والبرد والعري ". ( كورنتس الثانية 11: 27 ).
   وإذا ما طالعنا سير الرهبان منذ زمن إنشاء الحياة الرهبانية، نجد كيف كانوا يكثرون من الصوم والصلاة، لكي يرتقوا إلى كمال الحياة المسيحية. وهكذا حذا حذوهم آباء الكنيسة القديسين الذين استعملوا سلاح الصوم والصلاة للتغلب على المصاعب التي كانت تواجههم في رسالتهم التبشيرية.
   3_ الأصوام في كنيسة المشرق الكلدانية: من المعلوم أن فريضة الصوم كانت جارية في جميع الكنائس المسيحية منذ الأجيال الأولى، إلا أن طقوس الصيام وأزمنته كانت تختلف بين الكنائس المتعددة المنتشرة في المعمورة.
وقد اهتمت كنيسة المشرق منذ بداية قبولها البشارة بهذه الفريضة المقدسة، وهذا واضح من خلال الطقوس التي وضعها آبائها القديسين، وتركوها لنا أرثاً ثميناًُ نجد فيه تلك النفائس التي أنتجتها قريحتهم المشرقية، وقد بذلوا قصارى جهدهم في إثارة أفعال التوبة وتجديد روح الإيمان وإنشاء أسس الرجاء في نفوس مؤمنيها. وسوف نستعرض الأصوام التي كانت متبعة في هذه الكنيسة، وحسب موقعها في الدورة الطقسية:
   أ_ صوم الميلاد: كان صوم الميلاد في كنيسة المشرق الكلدانية يستمر خمسة وعشرين يوماً قبل حلول العيد. وفي العصور المتأخرة قلص الصوم إلى تسعة أيام. وحالياً تفرض الكنيسة الصوم ليوم واحد. وجاء في قرارات المؤتمر البطريركي العام للكنيسة الكلدانية سنة 1998 حول صوم الميلاد " يجب على المؤمنين الانقطاع عن أكل اللحم ليلة الميلاد أي يوم 24 كانون الأول، وإذا صادف هذا اليوم يوم أحد، فيعوض باليوم السابق. ولا يجوز الاحتفال بالزواج عشية الميلاد ". أما المؤمنين حتى يومنا هذا فمنهم لا يزال يصوم 25 يوماً، ومنهم 9 أيام، ومنهم يوماً واحداً. وتتضمن صلوات الفرض في هذه الفترة طابع الفرح والانشراح استعداداً لاستقبال عيد ميلاد المخلص. 
   ب_ صوم باعوثة  مار زيعا ( مار زيا ): يبدأ هذا الصوم يوم الاثنين الذي يلي الأحد الثاني من الميلاد، ويستمر هذا الصوم مدة ثلاثة أيام. وقد وضع هذا الصوم إكراماً للقديس زيعا وذكرى للباعوثة التي أقامها ثلاثة أيام بالصوم والصلاة، فنجا الشعب بصلواته من وباءٍ كان قد تفشى في شمال بلاد أثور ففتك بسكانها. وكان أبناء كنيسة المشرق يتوجهون في فترة هذا الصوم من جبال هكاري  وأذربيجان  وشمال العراق إلى القرية المعروفة باسم هذا القديس في مقاطعة جيلو ، ويختمون صومهم هناك باحتفالات شائقة يقيمونها لذكرى هذا القديس الجليل. وفي العصور المتأخرة ترك المشارقة الكلدان هذا الصوم، وبقي محصوراً عند المشارقة الآشوريين.
   ج_ صوم باعوثة العذارى ( البتولات ): يبدأ هذا الصوم يوم الاثنين الأول الذي يلي عيد الدنح، ويستمر ثلاثة أيام. وقد اختلف المؤرخون في زمن ومكان ظهور هذا الصوم. فهناك من يقول أنه في الجيل السابع بلغ مسامع عبد الملك بن مروان  أن في الحيرة  فتيات جميلات، فأرسل إلى هناك من يختار له الجميلات من البالغات ويحضرهن إليه. وعندما سمع المسيحيون بهذا الخبر اجتمعوا في الكنيسة، وصاموا وصلوا مبتهلين إلى الله كي يزيل عنهم هذا الغضب، وفي اليوم الثالث بلغهم موت عبد الملك. ومنذ ذاك اليوم أخذ المؤمنين يصومون هذا الصوم كل سنة.
   وهناك من يقول أن كسرى أبرويز  طلب من النعمان الثالث  ملك الحيرة أن يرسل له عشرين من بنات عمه ليزوجهن على أبنائه، وعندما وصل رسول كسرى عند النعمان وعرض عليه طلب سيده كسرى، فرفض النعمان هذا الطلب. ولما بلغ هذا الرفض مسامع كسرى غضب من النعمان وانتقم منه بعد زمان، إذ قيده وأرسله إلى خانقين. وهناك توفي بالطاعون وذلك سنة 613، فحزن العرب على النعمان وجاهروا ببغضهم للفرس.
   وهناك من يقول أن ملك الحيرة قبل الإسلام اختار من نساء قبيلة العباديين  عدد منهن ليتخذهن زوجات له، وما أن سمعنا بهذا الخبر صمنا ثلاثة أيام متواصلة، وفي اليوم الثالث مات الملك ولم يمسهن. وهناك رأي يقول أن هذا الصوم كان موجود في كنيسة المشرق منذ الجيل الخامس. وفي العصور المتأخرة ترك المشارقة الكلدان هذا الصوم، وبقي محصوراُ عند المشارقة الآشوريين.   
   د_ صوم باعوثة نينوى: يبدأ هذا الصوم يوم الاثنين الثالث السابق للصوم الكبير، أي قبل 20 يوماً من بدء الصوم الكبير، ويستمر ثلاثة أيام. ولهذا الصوم شأن عظيم عند المشارقة، وفيه تغص الكنائس بالمؤمنين الذين يتقاطرون إليها من كل حدب وصوب لإقامة الفرائض الدينية والرتب المختصة بهذه الأيام تكفيراً عما اقترفوه من الذنوب. وتستغرق تلك الصلوات معظم النهار وقسماًُ معتبراً من الليل. وفي يومنا هذا تدوم الصلاة من الصباح حتى الظهر وتنتهي بإقامة الذبيحة الإلهية، وتتكون هذه الصلاة من جلستي صلاة تتخللها تلاوة مزامير، وأبيات من الشعر الكنسي " عونياثا "، ومناداة " كارزوثا "، وميامر " أشعار "، مأخوذة من أشعار مار أفرام النصيبيني  ومار نرساي الملفان . وحتى يومنا هذا نجد الكثير يصومون هذا الصوم من مساء الأحد وحتى صباح الخميس، لا يتناولون ولا يشربون فيه شيء.
   ومن الأسباب الداعية إلى تنظيم هذه الباعوثة، هي أحياء ذكرى توبة أجدادنا في نينوى على يد النبي يونان. ولهذا وضع أباؤنا اسم نينوى على هذه الباعوثة، لأنها نشأت لأول مرة في تلك البقاع. إلا أن كتبة كنيسة المشرق يرون في أصل الباعوثة عللاً أخرى منها قول الجاثليق يوحنا بن إيشوع  ( 900_ 905 ) أنه في سالف الزمان حدث في بلاد باجرمي  موت جارف حصد الكثير من الناس، وكان أسقف تلك البلاد هو مار سبريشوع. فجمع رعيته ودعاهم لإقامة الباعوثة فلبوا دعوته، فصام الجميع حتى الأطفال والأغنام ولبسوا جميعاً المسوح، فدفع الله عنهم ذلك الغضب. ولما علم الجاثليق حزقيال ( 570_ 581 ) بالأمر كتب إلى جميع المراكز التابعة لجاثليقية المشرق ليصوموا ويصلوا ثلاثة أيام، وحدد أن يبدأ هذا الصوم يوم الاثنين قبل بدء الصوم الكبير بعشرين يوماً، وأطلق عليها باعوثة نينوى تشبهاً بأهلها الذين أمنوا وتابوا فقبل الرب توبتهم وأبعد غضبه عنهم.
   ونستطيع القول أن الباعوثة كانت موجودة قبل هذه الحادثة، لكنها لم تكن فرضاً. إلا أن المسيحيين كانوا يمارسونها كلما اشتدت عليهم أزمة أو فاجأتهم كارثة من الكوارث، وهذا ما تؤكده ميامر مار أفرام النصيبيني ونرساي الملفان.
   ففي اليوم الأول ترتل كنيسة المشرق من ميامر مار أفرام النصيبيني: " هذا زمان التوبة هيا بنا نبتهل، نلقي هموم الدنيا العالقة بنا، ونشخص بأنظارنا إلى السماء، لنطلب الرحمة والحنان. هلموا بنا نتب عن خطايانا الجمة، وبالصوم نزرع زرعاً وافراً للحصاد، بالصلاة نفلح كرماً خمره الأفراح، ولتبنِ عقولنا بيوتاً تليق بالله. مضى ليل الخطيئة واتى نور النهار، علينا أن نسلك سلوكاً مستنيراً، حتى متى نغط في سبات الخطايا، لماذا لا نستيقظ ونغتسل بالتوبة. فالراعي قد خرج، يطلب الخروف الضال، ما بالنا لا نعود تائبين إليه، فهو يعود بنا إلى موطن الحياة. ".
   وفي اليوم الثاني ترتل أيضاً من ميامر مار أفرام النصيبيني: " نادى يونان النبي في نينوى العظيمة، منذراً مهدداً بالدمار والهلاك، مدينة الأبطال ارتجت لصوته، مثل البحر اضطربت ومن الموت دنت. ظل ملك نينوى حزيناً مكتئباً، أمر جنوده بالصوم والصلاة، نادى فيهم اعملوا بالرفق والوداعة، فهذا خير سلاح لإحراز الانتصار. ابن نمرود الجبار  الباسل في القتال، يقاتل الخطايا بهمة عالية، ويصطاد السيئات من داخل شعبه، وينقي المدينة مما فيها من آثام. وصف الصوم لهم هذا الدواء الشافي، وطارد الخطيئة بالمسوح والرماد، وبالتوبة قضى على أصل الخطايا، والله منحهم جزيل غفرانه. نزعوا ثوب الحداد وارتدوا أزيائهم، بفرحة عارمة وبصوت الترانيم، سبحوه تعالى على وفر لطفه، وفيض غفرانه للخطاة التائبين. ".
   وفي اليوم الثالث ترتل من ميامر مار نرساي الملفان: " من البدء بعفوك شملتنا، والصالحون نالوا أفضل ألطافك، ثوابهم غفرانك عما مضى، وغفرانك يستبق دعاءهم. حنانك بحر عظيم بلا حدود، لا علو ولا عمق يساويه، آياته ظاهرة في الخليقة، أتقنتها بقولك منذ القدم. لا يا ربي لا يستكبر الماردون، فقد زالت سلطتهم واندحروا، لا يسروا هزءاً بنا بقولهم، كيف صار المائتون لا مائتين. ".     
   وحتى يومنا هذا لا يزال هذا الصوم يستمر ثلاثة أيام، يتم فيها الانقطاع عن الزفرين والصيام حتى الظهر في أيام الباعوثة الثلاثة. وقد أكدت قرارات المؤتمر البطريركي للكنيسة الكلدانية سنة 1998 على هذا الصوم  " يجب على المؤمنين الانقطاع عن الزفرين والصيام حتى الظهر في أيام الباعوثة الثلاثة. ولا يجوز الاحتفال بالزواج في أيم الباعوثة  ".             
   ه_ الصوم الكبير ( الصوم الأربعيني ): الأربعون من الأعداد التي لعبت أدواراً هامة عبر مسيرة شعب الله الخلاصية. فقد هطلت الأمطار في طوفان نوح  أربعين يوماً تباعاً. وتاه بني إسرائيل أربعين سنة في البرية بعد خروجهم من أرض العبودية. وصام موسى أربعين يوماً في طور سيناء قبل أن يستلم لوحي الشريعة. وصام إيليا أربعين يوماً قبل ملاقاة الرب في طور حوريب. وتاب أهل نينوى ولبسوا المسوح أربعين يوماً فصرف الرب غضبه عنهم. وحددت الشريعة الموسوية أربعين ضربة لمعاقبة المجرمين، وفرضت أيضاً على التائبين أن يقيموا أربعين يوماً في الهيكل. واعتزل ابن البشر أربعين يوماً في البرية وهناك جاء إبليس ليجربه بمكايده الذي وعده باللذة وحب المجد وعبادة المال. لكن يسوع انتصر عليه وقال له: اذهب يا شيطان فإنه قد كتب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. فهرب خاذلاً إذ لم يستطيع الإيقاع بيسوع، كما فعل في بدء الخليقة عندما اسقط أبوينا الأولين. وقد افتخر ملافنة كنيسة المشرق الكلدانية بهذا الانتصار الباهر. وقد ترنم مار أفرام النصيبيني بهذا الحدث الرائع بقوله: " هلم بنا إلى الأردن أيها الخداع الذي قتلنا في عدن، وانظر جسدنا المطهر من المعاصي بالمعمودية، وأصغِ مع الجموع إلى صوت الأب الذي يدعونا أبناء حبه. أغويتنا في عدن بأن نكون آلهة، وها قد تم لنا ذلك بالمسيح. سخرت بنا لما ألقي رئيس قبائلنا من الفردوس إلى منفاه، والآن ما عساك أن تفعله وقد صعد إلى السماء وارتكز في العلاء. خيل إليك أنه أصبح أكلة للموت النهم لما أكل من الشجرة، فلقد خابت آمالك وكذبت أفراحك بعد موت وقيامة ابن جنسنا. إن الباسل الذي ناوشك القتال هو واحد منا، وقد خرج إلى العراء وناجزك القتال، وكشف عن خدائعك شهوة الجسد وحب المجد واسم السلطة، تلك أسلحتك الشيطانية. وفيما أنت شاكي السلاح بحيلك، عاجلك الفناء والدمار بكلمة من فمه الطاهر ".       
   ومن المعلوم أن هذا الصوم كان جارياً في الكنيسة منذ الأجيال الأولى، ففي العصور الأولى كان المسيحيين الأولين يستعدون لعيد الفصح بالصوم في الأسبوع السابق لعيد القيامة، ومنهم من كان يصوم يوماً أو يومين. وفي المجمع النيقاوي  المنعقد سنة 325 تم تحديد الصوم الأربعيني وفرضه على مؤمني الكنيسة.
   أما كنيسة المشرق فقد فرضت الصوم الأربعيني على أبنائها منذ البدايات، وهذا واضح من مجمع مار إسحق  المنعقد سنة 410 حيث جاء في قراراته: " نصوم سوية وفي وقت واحد صوم الأربعين يوماً صوماً    كاملاً ". ويتضح مما سبق أن الصوم كان موجوداً سابقاً، إلا أن هذا المجمع قد حدد وقته وشدد أن يعمل به في سائر الأبرشيات الخاضعة لكرسي المشرق.
   ويصف لنا المؤلف المجهول  عن أيام الصوم في كنيسة المشرق بالقول: " يدوم الصوم أربعين يوماُ لا أكثر ولا أقل، أي ستة أسابيع في كل أسبوع ستة أيام. لأننا لا نصوم أيام الأحد، ويصبح المجموع ستة وثلاثون يوماً، ويضاف إليها أربعة أيام من أسبوع الآلام. ويوم الجمعة تمثل نهاية الصوم، لذا نحتفل مساء الجمعة بقداس الفصح. إن الجمعة والسبت هما أيام الاحتفال بآلام المسيح، وليس جزء من الصوم الكبير. لكننا نصوم فيها لأنها ذكرى صلب المسيح. فيصبح أيام الصيام اثنان وأربعون يوماً. منها أربعون يوماً إحياء لذكرى صيام ربنا يسوع، إضافة إلى يومي الجمعة والسبت التي فيها تألم ربنا ومات ". 
   وتصف لنا الترتيبات الطقسية أن الصوم في كنيسة المشرق يبدأ من الغروب إلى غروب اليوم التالي، وكان الصائمون يأكلون وجبة واحدة في العشاء، كما يتبين ذلك من صلاة السوباعا " الشبع " التي كانت تتلى بعد ذاك العشاء.
   وقد رتب أباء الكنيسة لهذا الزمن أوقات للصلاة. فيستيقظ المؤمنين في هجعة الليل ليغوصوا في بحر التأمل بصلاة الموتوبا " الجلوس وهي صلاة التاسعة أي منتصف الليل " التي تدعو إلى الرحمة والمغفرة. بعدها تبدأ صلاة قالا دشهرا " السهر " شكراً للإله الذي أنعم عليهم بنعمة التوبة. ومع شروق الشمس يصلون صلوثا دصبرا " صلاة الصباح ". ثم تتوالى نوبات النهار وهي صلاة القوطاعا " القطع وهي صلاة الساعة الثالثة أي التاسعة صباحاً "، وصلاة عدانا دبلكه ديوما " صلاة منصف النهار الساعة السادسة أي الثانية عشرة ظهراً "، وصلاة المساء " صلوثا درمشا " وتعقبها الذبيحة الإلهية. وبعد الطعام يصلون صلاة السوباعا " الشبع أي الصلاة قبل الرقاد ". ومن خلال هذا الترتيب نجد أن فرض الصوم يحتوي دورة صلوات الساعات السبع الرهبانية.
   هذه الدورة اليومية لزمن الصوم ومن خلال عمق لاهوتي للصلوات المستعملة فيه، ومن خلال التراتيل الشجية الآخذة بمجامع القلوب، تجعل النفوس تتهافت لسماع تراتيل التوبة، والعيون تفيض دموعاً لمعانيها الغنية، والصدور تنفجر عواطف الحمد لدى تلاوة أيات الشكر، وأوتار القلوب ترتجف لإلحان الرجاء والفرح بخلاص العالم.
   ومن خلال التمعن في الصلوات التي تتلى في كنيسة المشرق خلال هذا الزمن المقدس، نجد أهمية الصوم في حياة أبناء هذه الكنيسة: " هوذا الصوم البهي كالملك قادم، فليجعل كل منا نفسه كالمدينة المزينة، ولننقِ طرقاتها وشوارعها من الأدناس والأقذار، ولنجمع الأفكار صفوفاً، ولنقم العقل قائداً لها احتفاءً بالملك القادم، ولنصرخ جميعاً بطلب الرحمة والغفران ".
   وتصلي في الأحد الأول من الصوم: " يا رب أن محبة الصوم الطاهر عمل صالح، به استحق موسى أن يقتبل الشريعة، وإيليا صعد في مركبة مضطرمة، ويشوع بن نون  الذي كان مظفراً أوقف سير الشمس لأنه أحب الصوم والقناعة، ودانيال سد أفواه الأسود، والفتيان الثلاثة  اطفأوا اللهبات في أتون النار، فلأجل ذلك نحن أيضاً نتضرع إليك أن ترحمنا ".
   وتصلي في الأحد الثاني من الصوم: " هلم بنا يا أهل بيت الإيمان، لنكون نشيطين في الصوم، لنجتني منه ثمار المحبة والرجاء والإيمان، فإن الأبرار الذين صاموه بنقاوة انتصروا به، وفي ختام صومهم نالوا إكليل الغلبة ". 
   وتصلي في الأحد الرابع من الصوم: " جميل هو وبهي وشهي الصوم المقدس، وهو معين الخيرات وكنز اللذات، والعقل الحامل بتذلل تواضعه، يلبس زينة العفة وجمال الطهارة، وبالقداسة يضيء مصباحه بزيت الرحمة، وتلبس النفس والجسد بهاءً ومجداً نظير الملائكة. هلم يا أخوتي نحمل نيره الطيب، لنلبس المجد في ظهور ربنا له المجد ".   
   وهناك ثلاثة أنواع من الاحتفال الأوخارستي خلال زمن الصوم الكبير، يحتفل فيها كالتالي:
   أ_ أيام الآحاد: وفيها يحتفل برتبة القداس كاملة بكل أقسامها، لأن يوم الأحد ليس يوم صيام، بل هو يوم قيامة الرب.
   ب_ أسابع الأسرار: وتشمل الأسبوع الأول والأسبوع الرابع من الصوم الكبير. والأيام الثلاثة من الأسبوع السابع، وأيام الجمعة خلال زمن الصوم. ويحتوي الاحتفال الأوخارستي على سائر عناصر القداس ما عدا رتبة التقديس، لأنه احتفال خاص بالتناول.
   ج_ الأيام البسيطة: وهي رتبة تناول بسيطة كانت تجري بين صلاة المساء وصلاة الرقاد، وذلك في سائر الأيام البسيطة للصوم الكبير.
   ويمتاز طقس كنيسة المشرق على ثلاث عناصر هامة خلال نهاية هذا الصوم هي:
   أ_ أعداد المؤمنين للاحتفال بأعياد القيامة المجيدة.
   ب_ إعداد الموعوظين للعماد، حيث كانت تمنح لهم عشية عيد القيامة.
   ج_ إعداد التائبين لنيل الغفران والمصالحة التي تجري مراسيمها في سبت النور، حيث كان التائبون يقومون بأعمالهم التوبوية من صوم وصلاة خلال فترة الصوم الكبير.
   وفي المؤتمر البطريركي العام للكنيسة الكلدانية سنة 1998 حدد الصوم الكبير على الشكل التالي: " يكون الصوم الكبير في الكنيسة الكلدانية بالانقطاع عن أكل اللحم في الأسبوعين الأول والأخير، وبالانقطاع عن أكل اللحم خلال أيام الجمع ضمن هذا الزمن، والانقطاع عن الزفرين والصيام حتى الظهر في اليوم الأول من الصوم الكبير ويوم الجمعة العظيمة. ولا يجوز الاحتفال بالزواج في الأسبوع الأول والأسبوع الأخير من الصوم الكبير وليلة العيد  الكبير ".           
   و_ صوم الرسل: يبدأ هذا الصوم في الأحد الأول من زمن الرسل وينتهي بالمجمعة السابعة من هذا الزمن. ويستمر هذا الصوم أربعين يوماً. ويرتقي هذا الصوم إلى مل قبل القرن الرابع الميلادي، إذ يذكره مار أثناسيوس الإسكندري ، وتذكره السائحة إيجريا   ( نهاية الجيل الرابع ). ويحدد كتاب قوانين الرسل هدف هذا الصوم بالقول: " التذكير بجدية الحياة المسيحية بعد فترة أفراح واحتفالات القيامة التي دامت طويلاً أي خمسين يوماً ". وفي العصور المتأخرة ترك هذا الصوم، إذ لا نجد له ذكر في أصوام المشارقة الكلدان اليوم.   
   ز_ صوم انتقال مريم العذراء: كان لهذا الصوم مكانة مرموقة في كنيسة المشرق، ويمتد هذا الصوم خمسة عشراً يوماً تسبق العيد، وفي العصور المتأخرة خفض هذا الصوم إلى خمسة أيام ثم إلى ثلاثة أيام، وفي عصرنا هذا أضحى صوم السيدة يوماً واحداً. وجاء في قرارات المؤتمر البطريركي للكنيسة الكلدانية سنة 1998 حول صوم السيدة " يجب على المؤمنين الانقطاع عن أكل اللحم ليلة عيد انتقال السيدة أي يوم 14 آب، وإذا صادف هذا اليوم يوم أحد، فيعوض باليوم السابق ".
   ح_ صوم إيليا والصليب: يبدأ هذا الصوم في الأحد الأول من زمن إيليا وينتهي بالجمعة السابعة منه، وهي أيضاً الجمعة الرابعة من الصليب. لأننا كما نعلم أن سابوع إيليا وسابوع الصليب هما سابوعان متداخلان. ويستمر هذا الصوم أربعين يوماً تشبهاً بالصوم الكبير. ويبدو أن هذا الصوم قديم في كنيستنا حيث يذكره المؤلف المجهول في القرن التاسع. وفي العصور المتأخرة ترك هذا الصوم، إذ لا نجد له ذكر في أصوام المشارقة الكلدان اليوم. 
    ط_ صوم يومي الأربعاء والجمعة: من خلال كتاب القوانين الرسولية " القرن الرابع " نجد أن الكنيسة تدعو مؤمنيها للصوم يومي الأربعاء والجمعة على مدار السنة، وللأسباب التالية كما يقول القانون الخاص بالصوم: " لا تصوموا في الوقت الذي يصوم فيه المراءون، إنهم يصومون في يومي الاثنين والخميس من الأسبوع. أما أنتم فصوموا إما خمسة أيام ما عدا يومي السبت والأحد، لأن السبت هو ذكرى الخلق، والأحد هو ذكرى القيامة. أو صوموا يومي الأربعاء والجمعة، لأنه في يوم الأربعاء صدر الحكم على الرب يسوع، وفي يوم الجمعة احتمل آلام الصلب ". وقد التزم المؤمنون بهذه الوصية عبر العصور، وفي عصرنا هذا أنحصر الصوم في يوم الجمعة فقط، عدا الجمع الواقعة بين عيدي القيامة والصعود، إذ لا يجوز فيهم الصوم. وجاء في قرارات المؤتمر البطريركي للكنيسة الكلدانية سنة 1998 حول هذا الصوم " يجب الانقطاع عن أكل اللحم في كل أيام الجمعة على مدار السنة، عدا الجمع الواقعة بين القيامة والصعود، أو الجمع التي يقع فيها عيد أو تذكار. ويجوز إبدال صوم يوم الجمعة بيوم الأربعاء السابق أو بيوم أخر لدى  الضرورة ". 
   ي_ أصوام متفرقة: هناك أصوام عديدة يمارسها المؤمنين باختيارهم، وهذه الأصوام غير مفروضة في الكنيسة. فهناك من يصوم يوم السبت على مدار السنة إكراماً لأمنا العذراء مريم ومن أجل خلاص الأنفس المطهرية. وهناك من يصوم خمسة عشر يوماً ثم أصبح ثلاثة أيام قبل عيد القديسين بطرس وبولس. وهناك من يصوم إكراماً لقديسين وقديسات طالبين شفاعتهم لنيل النعم. وهناك أشكال متعددة لهذه الأصوام، فمنهم من يصوم فترة محددة مكتفياً بأكل الخبز وشرب الماء فقط، ومنهم من يصوم عن أكل الحلوى، ومنهم من ينقطع عن التدخين ويمتنع عن المشروبات الروحية. جميع هذه الأفعال يمارسها المؤمنين بملء إرادتهم، والكنيسة تشجع هذه الأعمال التقوية التي ترتقي بالنفوس إلى النقاوة والطهارة.
   الخاتمة: مما سبق نجد أن الخطيئة والتوبة بينهما علاقة جدلية. فالصوم والصلاة هما سلاح المؤمن الذي يستعمله في محاربة الشرير وأعوانه، ومن يعي الخطيئة يشعر دوماً بحاجته الماسة إلى التوبة والتكفير عن الخطيئة والابتعاد عن أسبابها. من هنا يتوجب علينا أن نمارس الصوم ليس كعادة تعلمناها أو تسلمناها من أسلافنا، بل علينا أن نمارس الصوم بوعي وقناعة بأن هذه الممارسة التقوية تجعلنا أعضاء أحياء في جسد الكنيسة الحي، إذ بالصوم والصلاة نخلع الإنسان العتيق الفاسد بالخطيئة، ونلبس الإنسان الجديد النقي بالطهارة والفضيلة.
   ونختم مقالنا هذا بدرة ثمينة من مؤلفات نرساي الملفان، لا زالت كنيسة المشرق ترددها في زمن الصوم، ويسمع صداها المؤمنين فينتعشون بطلاوة معانيها الغنية: " أيها المائت الغاض عن الطبيعة المائتة. ليتشبه بالغير المائتين الذين لا يحتاجون إلى غذاء. أيها المادي الساخر من الأطايب المادية والمنصرف إلى الحياة الروحية. أيها الأرضي النابذ العوائد الأرضية وهو على الأرض يحاول البلوغ إلى الحياة السماوية. أيها الترابي جبيل الطينة بماء الآلام المشتد كالشجعان على قهر الآلام والأهواء. هناك يجزل الملك العطاء للجندي الباسل. فالبسوا قهر النفس سلاحاً لتقاتلوا وتنتصروا. بالصوم يختبر المعلم عبده الأمين. فيبذل له أجوراً تربو أضعافاً على نشاطه. لماذا منع الأدمي من الأكل. ولماذا جعله أن يحيا حياة الغير المائيتين. لقد أدلى للجسديين لابسي الآلام بأنهم بلا غذاء يعيشون في السماوات العالية. سيحيون بعد البعث من غير طعام. وعلمهم أن يعتبروا ذلك وهم بعد في حياة الأرض. وقد كشف لهم في الصوم عن تجدد أعضائهم التاركة ثياب الميتوتة برمز الفداء.





80
تذكار الموتى المؤمنين
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:القراءة الأولى: حزقيال 37 / 1 _ 14 وكانت عليَّ يد الرب فأخرجني . . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 15 / 34 _ 57 إصحوا كما ينبغي ولا تخطأوا . . .
القراءة الثالثة: متى 25 / 31 _ 46 وإذا جاء ابن الإنسان في مجده . . .

   الموتى المؤمنين: تذكرنا الكنيسة اليوم بملايين البشر الذين عاشوا قبلنا في هذا العالم، وانتقلوا منها بعد حياة قصيرة أو طويلة، مملوءة من المفاجآت والصعوبات والأفراح والأتراح.  والصلوات الطقسية في هذا اليوم تدعونا إلى التأمل في معنى حياتنا وقيامتنا الأبدية. إنها تتوقف على مدى عيشنا متطلبات إيماننا وعلى الخير الذي حققناه لغيرنا. وتذكرنا بمثال الذين سبقونا إلى الآب، والذين يبقون أحياء في قلوبنا وصلاتنا.
   وتؤكد الصلوات الطقسية على اليوم الأخير والدينونة، وعلى ما قام به الإنسان في هذه الحياة من الأعمال الصالحة، والتي تؤدي به إلى الخلاص. أما الأعمال الغير صالحة فتقوده إلى الهلاك. ولهذا يتكلم الرب يسوع عند مجيئه الثاني وهو الديان العادل، عندما تجتمع أمامه كل الشعوب. فيدعو مباركي أبيه إلى الملكوت المعد لهم منذ إنشاء العالم، أما الأشرار فيبعدهم عنه إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وأعوانه. وقد استخدم الرب يسوع مثال الخراف والجداء ليبين الفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين. فالخراف والجداء كثيراً ما ترعى معاً، ولكنها تعزل عن بعضها عندما يأتي موسم الجزاز. ويشير حزقيال النبي إلى الفصل بين الغنم والماعز ( 34: 17 _ 24 ).   
   وبعد أن توضح لنا هذا الرباط بين الخطيئة والموت، نستطيع أن نرى جانباً كاملاً من وجودنا على وجهه الحقيقي، فالخطيئة شر، لا لأنها تضاد فقط طبيعتنا، وتخالف الإرادة الإلهية. ولكنها بالأحرى تشكل بالنسبة لنا واقعياً طريقاً إلى الموت. وذلك هو تعليم الحكماء " من يتبع الشر نحو الموت يمضي "  ( أمثال 11: 19 ). " ومن يسير وراء الجهالة " ( أمثال 7: 27 ). " فمصيره إلى أودية  الجحيم " ( أمثال 9: 18 ).  فالعقاب الأبدي يتم في الجحيم، فهو مكان القصاص بعد الموت لكل من يرفض التوبة. وهناك ثلاث كلمات في الكتاب المقدس تستخدم للتعبير عن الجحيم هي:
   1_ " شيئول " كلمة عبرية معناها الهاوية، واستخدمت في العهد القديم للإشارة إلى القبر مكان الأموات. ويعتقد بصفة عامة أنها تحت الأرض.
   2_ " هادز " وهي الكلمة اليونانية الدالة على العالم السفلي، وتقابل شيئول العبرية.
   3_ " جهنم " وسميت كذلك نسبة إلى " وادي هنوم " بالقرب من أورشليم حيث كان الأطفال يحرقون بالنار قرباناً للآلهة الوثنية. وهو مكان النار الأبدية المعد لإبليس وملائكته، وكل من لا يؤمنون بالله. وهذه هي الحالة الأبدية والنهائية للأشرار بعد القيامة والدينونة الأخيرة. وعندما يحذر الرب يسوع من عدم الإيمان، فهو إنما يسعى لإنقاذنا من هذا العذاب الرهيب.   
   ولا يهب الله النجاة من الموت دون تمييز. هناك شروط ومطالب دقيقة. فالخطيئة هي سبب موت الخاطئ، ولا يسر الله بموته، بل بأن يتوب عن طريقه ويحيا ( حزقيال 18: 33 ، 33: 11 ). وإذا كان بالمرض يضع الله الإنسان في خطر الموت، فهذا لكي يقوّمه عندما يتوب عن خطيئته، ينتزعه الله من الحفرة الجهنمية ( أيوب 33: 19 _ 30 ). من هنا تظهر أهمية الإنذارات النبوية التي تدعو الإنسان إلى التوبة، وتهدف إلى إنقاذ النفس من الموت ( حزقيال 3: 18 _ 21 ). فالله وحده ينقذ البشر من الموت، ولكن ليس بدون مساهمة الإنسان. 
   وإنجيل متى الذي يقرأ في تذكار الموتى المؤمنين، يصف لنا أعمال الرحمة التي يمكننا جميعاً القيام بها كل يوم. وهذه الأعمال لا تتوقف على الثروة أو القدرة أو الذكاء، بل هي أعمال بسيطة تقدم مجاناً، وتؤخذ مجاناً. ولا عذر لنا في إهمال من هم في حاجة شديدة. وقد ثار جدل شديد حول من المقصودون بـ          " إخوتي ". فيقول البعض إنها تشير إلى اليهود، ويقول آخرون إنها تشير إلى كل المسيحيين، ويقول غيرهم إنها تشير إلى المتألمين في كل مكان. وهذا الجدل شبيه بسؤال عالم الشريعة الذي سأل يسوع. من هو قريبي؟. فليست النقطة المهمة في المثل هي من هم؟. بل ما حالهم؟. فمساعدة المحتاجين يتم حيثما وجد المحتاج. فالنقطة المركزية في هذا المثل هي أنه يجب علينا أن نحب جميع الناس، ونخدم كل إنسان حسبما نستطيع، فهذه المحبة للآخرين تمجد الله لأنها تعكس محبتنا له.   
   ومع موت يسوع وقيامته تغيرت المفاهيم عن الموت. فموت يسوع كان خصباً مثل موت حبة الحنطة الملقاة في الأرض ( يوحنا 12: 24 _ 32 ). وإن بدا في الظاهر كعقاب للخطيئة، إلا أنه كان في الحقيقة ذبيحة تكفيرية ( عبرانيين 9 ). ومنذ تلك اللحظة تغيرت علاقة البشر بالموت، فالمسيح المنتصر يضيء من الآن فصاعداً الشعب الجالس في ظلال الموت ( لوقا 1: 79 ). فقد حررهم من شريعة الخطيئة والموت، هذه التي كانوا مستعبدين لها حتى ذلك الزمان ( رومة 8: 2 ). فبعد أن كان الموت مصيراً مقلقاً. أضحى إذاً موضوع تطويب: طوبى للأموات الذين يموتون في رضا الرب ! فليستريحوا منذ اليوم الأول من المتاعب ( رؤيا 14: 13 ). إن موت الأبرار هو دخول في السلام ( حكمة 3: 13 ). في الراحة الأبدية وفي النور. ولهذا يرى المسيحي في الموت ربحاً ما دام المسيح حياته. إنه يرغب في أن ينطلق ليكون مع المسيح ( فيلبي 1: 21 _ 23 ).
   ومن خلال تعاليم الكنيسة نعلم أن الصلاة من أجل راحة الموتى مفيدة من أجل خلاصهم. ففي كتاب تعليم الرسل " ديدسكالية  ". يأمر المسيحيين عن الرسل بالقول :"  أما أنتم فبموجب الإنجيل فاجتمعوا في المقابر واقرأوا الكتب المقدسة وكملوا بلا تذمر خدمتكم وصلاتكم لله، قدموا الأفخارستيا اللذيذة في اجتماعاتكم ومقابركم. صلوا وقدموا الذبيحة بدون تردد البتة من أجل الراقدين. فلنصلِ من أجل أخوتنا الذين رقدوا بالمسيح حتى يغفر الرب الرحوم على البشر للنفس التي قبضها، وإذا تحنن الرب لصلواتنا يرأف بها ويسكنها ديار الأحياء ".
   وفي مجموعة قوانين المجامع للقس غريغوريوس أبي الفرج ابن الطيب الكلداني  المتوفي حوالي سنة 1040 نقرأ عن القداس لأجل الموتى ما نصه: " وذكر الموتى على القانون القديم وقانون الرسل يكون في اليوم الثالث والتاسع ". وكانت هذه القوانين ذات نفوذ عظيم في الكنائس الشرقية.
   والمجمع التريدنتيني  اثبت بأن الموتى يستفيدون من الذبيحة الإلهية إذا كانوا في المطهر: " وبما أنه في هذه الذبيحة الإلهية التي تكمل في القداس، يوجد المسيح ويذبح بنوع غير دموي، وهو نفسه الذي قدم ذاته على خشبة الصليب بنوع دموي مرة واحدة. فلذلك يعلم المجمع المقدس بأن هذه الذبيحة هي تكفيرية. ومن ثم تقدم ليس فقط عن خطايا المؤمنين الأحياء، وعقوباتهم والتفكير عنها وباقي حاجاتهم، بل هي أيضاً من أجل الراقدين بالمسيح، الذين لم يتنقوا تماماً وذلك بموجب تقليد الرسل ". 
   وتعتقد بعض الكنائس أن نفوس الأموات الذين ماتوا في حالة النعمة، من دون أن يكفّروا عن جميع خطاياهم، تمر بحالة اطهار تسمَّى المطهر، ولقد وصلت تلك الكنائس إلى هذا الاعتقاد من عادة الصلاة من أجل الأموات. 
   إن الكنيسة الكاثوليكية تعتقد وتؤمن بوجود مكان ثالث غير السماء وجهنم، تتعذب فيه النفوس البارة بعد انفصالها من أجسادها وفاء عن العقوبات الزمنية التي تستوجبها عن الخطايا التي نالت عنها الغفران بتوبة صادقة، أو عن الخطايا العرضية التي لم تكفر عنها وهي في قيد الحياة. وهذا المكان يدعى         " المطهر " لأن فيه تتطهر وتتنقى النفوس من العقوبات الزمنية.
   وتعتقد الكنيسة أن ما يقدمه المؤمنون الأحياء من القرابين والذبائح والصدقات والصلوات والأصوام والإماتات إسعافاً للأنفس المتعذبة في المطهر يفيدها حقاً، ويخفف من عذابها أو ينقذها منه بالكلية.
   أما موضع المطهر وكيفية الوفاء ومدته ونوع العذابات وغير ذلك مما يتعلق بهذه القضية فليس من الإيمان. وسوف نستشهد عن حقيقة المطهر بمثال واحد من كل العهد القديم والعهد الجديد ومؤلفات آباء الكنيسة القديسين.
   ففي العهد القديم نجد يهوذا المكابي  كيف يجمع ألفي درهم من الفضة ويرسلها إلى أورشليم لتقدم بها ذبيحة عن خطايا الذين سقطوا في القتال: " لأنه لو لم يكن يرجو قيامة الذين سقطوا، لكانت صلاته من أجل الموتى أمراً سخيفاً لا طائل تحته. وإن عدَّ أن الذين رقدوا بالتقوى قد ادُّخر لهم ثواب جميل، كان في هذا فكر مقدس تقوي. ولهذا قدم ذبيحة التكفير عن الأموات، ليحلوا من الخطيئة ". ( مكابيين الثاني  12: 44 _ 45 ). يعبر هذا النص عن الاعتقاد بأن الصلاة والذبيحة التكفيرية فعّاليتان لغفران خطايا الأموات. وهذا الاعتقاد هو مرحلة جديدة مهمة في التفكير اللاهوتي اليهودي. 
   وفي العهد الجديد يخاطب يسوع الفريسيين قائلاً: " ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، أما من قال على الروح القدس، فلن يغفر له لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة ". ( متى 12: 32 ). نفهم من هذه الآية أن بعض الخطايا تغفر في العالم الآتي. والحال ما من غفران في جهنم البتة. فيكون كلام المخلص عن الخطايا العرضية أو العقوبات الزمنية التي تغفر في المطهر. لأنه لو لم تكن بعض الخطايا أو عقوبات الخطايا تغفر بعد الموت في المطهر كما تعلم الكنيسة، لكان عبثاً قوله: " لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة ". فإذاً هذه الآية تثبت وجود المطهر كما أثبته القديسون أوغسطينوس غريغوريوس إيسيدوروس  وغيرهم.   
  ويقول مار أفرام النصيبيني في مقالته في القرابين والصدقات التي تقرب من أجل الموتى: " إن الله كنز المراحم أعطى ورتب وكثر فرصاً وأسباباً ليمكن للميت أن يتبرر بواسطة الأحياء. قد أعطى لك أن تستطيع أن تخلص حبيبك بعد موته بصدقاتك وصلواتك. قد سمح لك أن تكون تاجراً لعزيزك الميت المدفون وتريح حياته بأعمالك. إن البر يفتح باب الميت المدفون فيمكن أن يتبرر بالصدقات التي تصنع بعد موته. أطلقوا العبيد وحرروهم من أجل الأموات فيتبرروا. إن الرب يفرح يا أخوتي عندما تذخرون الرجاء لأمواتكم والصدقات لمدفونيكم. كرموا الفقراء وادفنوهم، واريحو نفوس أمواتكم. فإن الحي يستطيع أن يبرر الميت. إن من يدفن الفقراء والمعوزين ينيح محي الكل نفس ميته. فأغيثوا يا أخوتي الموتى بالموتى. يعرف الشيطان أنه يمكن أن ينجو الموتى بواسطة الأحياء، ولذلك يكثر لنا البكاء والدموع. لا تمنع القربان والصدقة من الموتى، لأنهم لا يزرعون زرعاً في القبور. فإن كل رجاء الأموات في القربان الذي يعمله الأحياء. لا يخدعنا الكفار بقولهم: ماذا يستفيد الموتى من الذكر الذي يصنعه لهم الأحياء. حاشا لمراحم الله أن يثبت أقوال الزنادقة والظالمين، ويحرم الموتى من رجاء صلبه. إن المحبة تحرضني أن أتكلم عن الموتى هل إنهم يستفيدون من القرابين التي يقربها عنهم الأحياء. إن القربان يطلب المحبة والإيمان والسهر والصوم والصلاة والمبخرة الطاهرة. ائت بهذه وأعطها للكاهن لكي يدخل ويضعها على المائدة في بيت المقدس. وحالما يرى الرب محبتك وإيمانك يصنع رجاء للموتى الذين رقدوا على التراب ".
   ويقول القديس أفرام النصيبيني في وصيته الأخيرة قبل موته: " تعالوا يا أخوتي مددوني لأن الأمر قد انقضى ولست أتأخر. زودوني بالصلوات والمزامير والقرابين. وإذا انقضت ثلاثة أيام اذكروني يا أخوتي لأن الأموات ينتفعون من القرابين التي تصنعها الأحياء. أما رأيتم الخمر في الدن والعنقود الفج في الكرم، فإنه عندما ينضج الحي الذي في الكرم، تتحرك الخمر الميتة التي في الدن. وإن كان البصل ذو الرائحة الكريهة يحس ويشعر يا أخوتي لأنه حالما ينبت ذلك الحي الذي في الحقل، ينبت أيضاً الميت الذي في البيت. فكم بالأحرى يشعر الأموات في الذكران والصلوات والقرابين التي يعملها الأحياء من أجلهم ".
   وكنيسة المشرق من خلال صلواتها الطقسية من أجل الموتى تبين لنا أن المسيح نفسه علمنا أن نقدم القرابين والصلوات والصدقات من أجل الموتى لغفران نقائصهم وهفواتهم، وهذا واضح من هذه الصلاة:      " مبارك المسيح الذي علمنا أن نصنع في الكنيسة بالصلوات والصدقات ذكران أمواتنا على رجاء لاهوته ليغفر نقائصهم ولمجد اسمه العظيم لأن حياتنا ومماتنا في يديه ".   
  وفي تذكار الموتى المؤمنين تظهر الكنيسة المجاهدة على الأرض، وحدتها مع الكنيسة المعذبة في المطهر، لكي تتطهر وتتحد بالكنيسة الممجدة في السماء.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الموتى المؤمنين في الجمعة التاسعة من سابوع الدنح.










81
تذكار الملافنة المشرقيين الكلدان والملافنة الرومان
الشماس نوري إيشوع مندو
 القراءات الطقسية: القراءة الأولى: أعمال الرسل 12 / 25 _ وأما برنابا وشاول فلما قاما . . . + أعمال الرسل 13 / 1 _ 12 وكان في الكنيسة التي في . . .
القراءة الثانية: العبرانيين 13 / 1 _ 8 لتبق المحبة الأخوية ثابتة لا تنسوا . . . + العبرانيين 13 / 16 _ 21 لا تنسوا الإحسان والمشاركة . . 
القراءة الثالثة: متى 16 / 24 _ 28 ثم قال يسوع لتلاميذه: من أراد أن يتبعني  + متى 17 / 1 _ 9 وبعد ستة أيام مضى يسوع ببطرس . . . 
 
   تفتخر كنيسة المشرق بعدد كبير من ملافنتها القديسين الذين زينوا كنيستهم المقدسة بتصانيفهم الثمينة. وفي هذا اليوم تحيي الكنيسة ذكراهم العطرة على مذابحها في كل مكان. وسنتحدث عن بعض هؤلاء الملافنة. نذكر منهم:

  1_ مار أفرام النصيبيني ( القرن الرابع ): ولد في نصيبين في عهد الملك قسطنطين سنة 306 من أب رهاوي اسمه " مشق " كان كاهناً لصنم يدعى أبيزال، وأم مسيحية من آمد " ديار بكر " حسب ما ورد في إحدى خطبه باروسا دنرىيا ايصظدي اكغ ىبوريص ظا وجىي " إني ولدت في طريق الحقيقة ولو أن صباي لم يحسّ بذلك ".
  وجاء في أحد ميامره أن والده اعتنق المسيحية في شيخوخته، ونال مع زوجته إكليل الشهادة في عهد شابور الثاني ملك الفرس، خلال الاضطهاد الأربعيني. 
   ومنذ طفولته ظهرت فيه النعمة الإلهية، فرأى وهو رضيع غصناً قد نبت في فمه ونما حتى بلغ السماء، وصار فيه ربوات من العناقيد، وربوات الربوات من العنب، إشارة إلى كثرة مصنفاته.  ويقال أن أباه حينما علم بميله إلى المسيحية واحتقاره للديانة المجوسية، غضب عليه وطرده من البيت، فالتجأ إلى أسقف المدينة مار يعقوب النصيبيني.
   تتلمذ مار أفرام لأسقف نصيبين مار يعقوب الذائع صيته طهراً وقداسة، وقبل منه العماد المقدس وهو في الثامنة عشرة من عمره، وأحله في دار الأسقفية وعلمه الديانة المسيحية، وأرشده في جادة الكمال الإنجيلي حتى بلغ في مدة وجيزة درجة سامية. فمكث لديه تلميذاً حبيباً عزيزاً نشيطاً تقياً نقياً لطيفاً وديعاً، وكان كلما ازداد سناً ازداد بالفضيلة شغفاً. وكان قد انضم إلى مدرسة نصيبين الشهيرة، ومنها تخرج في علم الكتاب المقدس، وقد فاق علماً جميع رفاقه في المدرسة، فنصبه فيها مار يعقوب معلماً. ومنذ ذلك الحين أخذ يصنف القصائد البديعة الباهرة، فضم إلى حياته الطاهرة توقد الذهن وحذاقة البصيرة، فأضحى رجلاً عظيماً قلما قدمت الأرض مثله للسماء. ويقال إن مار أفرام رافق القديس يعقوب إلى المجمع المسكوني النيقاوي المنعقد سنة 325، وبقوة صلواته رُفع الحصار عن مدينة نصيبين من قبل شابور الثاني ملك الفرس وذلك سنة 338. وبقي عاكفاً على التعليم في مدرسة نصيبين أكثر من 38 سنة، حتى سلمت نصيبين للفرس سنة 363.
   وقد عاصر مار أفرام خلال حياته في نصيبين أربعة من أساقفتها هم: مار يعقوب النصيبيني، ومار بابو ، ومار ولغاش ، ومار إبراهيم . وأنشد أفرام مناقبهم الجليلة في ميامر عديدة وضعها في نصيبين، عرفت هذه الميامر بـ النصيبينية. فيصف مار يعقوب بالغيرة والحزم، ومار بابو بالتواضع ومحبة الفقراء، ومار ولغاش بالعلوم والأدب، ومار إبراهيم بالوداعة ومحبة الفقر.
   ويتحدث مار أفرام عن المطارنة الثلاثة الأوائل لنصيبين قائلاً: " يعقوب يداعب الكنيسة الطفلة بحنان. وبابو استعمل الصرامة مع البنت الصغيرة. وأولغاش الحلم مع البالغة. وكل راع منهم فتح باباً مختلفاً كل بمفتاحه. فبينما غرس يعقوب الكرمة، سيجها بابو، وبنى أولغاش الأهراء للثمار. يعقوب أرضع أولاده بكلمات بسيطة، واستخدم بابو التعابير السهلة، بينما عبر أولغاش عن ذاته بكلمات البالغين ".
    ويخاطب مطرانها الرابع أبراهام قائلاً: " أيها العريس البتولي، إنني أود أن أثير غيرتك بشأن عروس شبابك. فأقطع الإلفة التي كان لها في صباها مع الكثيرين، واردعها وتشجع ثانية لكي تعرف ما هي، فتحب المسيح فيك لأنه عريسها الحقيقي ".   
   بعد سقوط نصيبين ترك مار أفرام المدينة متوجهاً إلى آمد عند أخواله، وهناك مكث مدة يسيرة. ثم رحل إلى مدينة أورهاي  " أورفا "، ورافقه إليها جميع معلمي نصيبين ومعظم أشرافها. وهناك وجه عنايته إلى فتح مدرسة لبني جلدته عوض مدرسة نصيبين المنحلة، وعرفت هذه المدرسة بـ مدرسة الفرس، لأنها أسست خصيصاً للمشارقة القادمين من البلاد الفارسية. وقد أدار هذه المدرسة هيئة تعليمية أغلبية أعضائها من نصيبين.
   وقضى مار أفرام السنين العشر الباقية من حياته هناك وهو يهتم بالمدرسة والمطالعة والتأليف، وكان يعكف كثيراً على العزلة والاختلاء والصلاة في جبل أورهاي المدعو بـ الجبل المقدس، لكثرة المغاور التي فيه، والتي اتخذها النساك صوامع لهم.
   وفي هذه المدينة بذل أفرام جهوداً كبيرة لدحض آراء برديصان المنحرفة عن الإيمان القويم، والتي كانت منتشرة هناك. فألف أغاني دينية كثيرة ولحنها وضمنها الآراء الدينية القويمة، قدمها للمؤمنين علاجاً طيباً شافياً.
   توفي مار أفرام في أورهاي سنة 373 وقد ناهز السبعين من عمره. وجاء في وصيته " يا أيها الرهاويون إني أنا أفرام مائت لا محالة، الويل لي إن حياتي قد دنت إلى الزوال، قد دنا النسيج إلى القطع، ونفذ الزيت من السراج. الويل لك يا أفرام إذا وقفت قدام منبر ابن الله. فاستحلفكم بكل احترام أن لا تدفنوني في بيت الله تعالى ولا تحت المذبح، إذ لا يليق بجسد يرعاه الدود أن يرقد في هيكل مقدس. قد عاهدت إلهي أن لا أُدفن إلا في مقبرة الغرباء فإني غريب نظيرهم، ادفنوني في ثوبي وقبعتي لأني مملو خطايا وآثام، شيعوني بصلواتكم وترانيمكم وتقريب الذبيحة المقدسة مراراً جمة تكفيراً عن شقائي. ويل لي لأني منذ حبلت بي أمي لم أقبل علة تقديم الخير، وأني في تذكّري ما ارتكبت من السيئات فزع قلبي وتحرك من مكانه، ولصق لساني بحنكي وتفككت كل عظامي، يا أخوتي وأعزائي وآبائي ما نذرتموه لي ليقسم على الفقراء والبائسين والسقماء والمحتاجين فيكون لكم الأجر عند الله. إن أفرام لم يقتنِ دراهم ولا عصاً ولا كيساً، ولم يملك ذهباً ولا فضة. ارسخوا في تعليمي وكملوا وصاياي بأمانة، واثبتوا دائماً في الإيمان الكاثوليكي. احذروا الهراطقة الملحدين خصوم إيماننا القويم، احذروا فعلة الإثم الذين يأتونكم بكلمات معسولة فاسدة. يا مدينة الرها أم الحكماء عليك تلك البركة التي أتتك من المسيح بيد تلميذه ".   
   وقد بُني فوق ضريحه دير عرف بـ الدير السفلي. وبعد استيلاء زنكي على أورهاي سنة 1144، نقل الصليبيون ما تيسر نقله من تلك الذخائر الثمينة إلى روما، وغيرها من المدن الأوربية.
   عاش مار أفرام زاهداً متنسكاً ذا وقار وحلم ورصانة، وقد امتاز بالطهر والتواضع والرحمة، فلشدة تواضعه أبى إلا أن يبقى شماساً حتى نهاية حياته. ومنذ أن انخرط في سلك الرهبانية إلى أن وافته المنية لم يكن طعامه إلا خبز الشعير والملح وبعض البقول، ولم يكن شرابه إلا الماء القراح.
   لذا فقد هزل والتصق جلده بعظامه. أما ثيابه فكانت جملة رقع ضمها إلى بعضها، وهي تشير إلى التواضع والتوبة بلونها الرمادي. وكان قصير القامة صارم الوجه، لا يميل إلى الضحك الصاخب أبداً، وكان أصلع واسع الجبهة وكث اللحية قصيرها. أما محبته لله وللقريب فحدث عنها ولا حرج أظهرها في مواقف عديدة، لا سيما في مجاعة حدثت في أورهاي. وقد كُتب عن حياته الغنية بشتى لغات العالم.                   
   وفي هذا التذكار ترتل كنيسة المشرق تسبحة من تأليفه، تبدأ بمقدمة، ثم بيتين من كل حرف من أحرف الأبجدية، وتبدأ الكلمة الأولى من كل بيت بالحرف المعنون له من أحرف الأبجدية، وتنتهي التسبحة بخاتمة: " * اسمعوا وتعجبوا أيها العقلاء. ولا تنسوا كلمات الروح. التي فاه بها ربنا في بشارته. لأحبائه الذين صانوا كلامه. وتمموا أعماله بالإيمان. ا_ اللهم  هب العلم. لمن يحب العلم. وللعظماء الذين علموا جيداً. أجعلهم يا رب عظماء بملكوتك.   ا_ الذي يحب العلم. يكون ناجحاً في كل وقت. والذي يحب الكسل. لا يستطيع أن يكون ناجحاً. ب_ أقتني أيها الإنسان الاجتهاد. لأنه الكنز الكبير للعلم. وابتعد عن الكسل. لأنه مخزن الخسارة. ب_  أقرأ الكتب بهمة. منها تجني السعادة. ولا تحب شهوة البطن. لئلا تخسر ما اقتنيت. ث_ أختر مخافة الله. ووقر والديك. بصلواتهم تنجو. من كل المصاعب والأقدار. ث_ الرجال الذين يحبون الله. ليكونوا لك أصدقاء. أما محبي السكر. فلا ترافقهم في الطريق.  د_ إذا اقتنيت ذهب وثروة. فلا تتكبر وتتعجرف. لكن في كل طرقك. كن متواضعا بتصرفك. د_ أقتني المال بحدود. والعلم بلا حدود. فالمال يكثر الشدائد. والعلم يوفر  الراحة والمسرات. ذ_ كن متواضعاً بصباك. لتتوقر في شيخوختك. وتعلم الخصال الحسنة. لتحيا حياة المسرة. ذ_ هذا ما يتعلمه التلاميذ. ويطبقونه في تصرفاتهم. أنت وآبائك ومعلميك. تكونوا فرحين ومسرورين. ر_  وإذا جلست بين أصدقائك. لا تكن سريع الكلام. لكن ساكتاً حتى تُسأل. وأنذاك أجب بهدوء. ر_ زن كلامك بالحكمة. ليمتدحك سامعيك. ويتفوهوا خيراً بوالديك. ويصلوا من أجل معلميك. ز_ زود نفسك بالصالحات. كل ما استطعت أن تزيد. فمتى رحلت من الدنيا. لا تكن هناك خاسراً. ز_ الزمن لك في كل أمر. فكن منتظماً في حياتك. في مأكلك ومشربك. وللعلم والمطالعة. س_  أيها الفتى أشفق على صباك. كي لا تكن طعمة للنار. وتذكر الآلام والأمراض. والشيخوخة التي تلاحقك. س_ طهر فمك من الآثام. ومن الشتائم والتجاديف. وليتغنى لسانك. بالترانيم المفعمة بالتسابيح. ش_ الحكمة أفضل من السلاح. والعلم خير من المال. والفتى الصغير والحكيم. أفضل من الشيخ الجاهل. ش_ أيها الفتى أقتني العلم. وكن منتظماً في تصرفاتك. ففي هذه الحياة تكون سعيداً. وفي الآتية تكون متنعماً. ص_ وقر الشيوخ. وسامر الكبار. وأجلس عند أقدامهم كل حين. وتعلم واسمع كلامهم. ص_ اسمع عن يوم الدينونة. وارتعد من مسمع جهنم. وارتجف من العذابات. ومن الدود والنار الأبدية. ض_ العلم يجدل إكليلاً. ويكلل به أحبائه. ويصعدهم من المزابل إلى المنابر. ويجلسهم على عرش الملك. ض_ أجعل من الكتب مائدتك. منها تشبع هنيئاً. واجعل منها سريرك. لتنام نوم المسرة. ظ_ لا تكن صديقاً للمسيئين. ولا تتبع الكذابين. ولا تتشبه بالمستهزئين. ولا ترافق الوقحين. ظ_ لا تفرط في الكآبة. لئلا يحتقرك معاشريك. ولا تضطرب كثير. لئلا تقع بأيدي مبغضيك. ع_ إذا أصبحت صديقاً للناس. لا تطمع في مالهم. وعامل قريبك كنفسك. ليباركوك على تصرفاتك. ع_ أقبل مشورة الحكماء. وصن وصايا والديك. ولا تضمر السوء قط. على إنسان أساء إليك. غ_ لتكن تصرفاتك نوراً. ولتكن في كلامك صادقاً. ولا تكن متعجلاً وسريع القسم. ليصدقك كل الناس.غ_ ليكن كلامك صادقاً. لتكن محبوباً عند الناس. وعند القريبين والبعيدين. ليصلوا من أجل حياتك. ف_ أفعل الخيرات ما استطعت. لأهل بيتك والغرباء. وتكلم كلاماً جميلاً. مع الصالحين والطالحين. ف_ تأمل بالرب وأقتدي به. وسر حسب وصاياه. ولا تتكل على رجاء البشر. لأنه يذبل فجأة كالعشب. ق_ اتكل على الله فقط. عليه اتكل كل حين. فالذين اتكلوا عليه دائماً. نالوا الطوبى في العالمين. ق_ العالم زائل كما كتب. والدينونة ستقام كما رسم. تذكر أيها الفتى ولا تخطأ. وإن خطئت أسرع وتب. ك_ كافئ الله بالشكر. على نعمه التي وهبك. ولوالديك ومعلميك. وقرهم بكل قوتك. ك_ ليتعود فمك على التمجيد. ولسانك على قول الحق. ولا تحلف وتكذب. لا بالرب ولا بنفسك. لا _ صلي في اليوم سبع مرات. كما قال بر إيشيْ ( النبي  داود ). وكما فرض الرسل القديسين. في القوانين الكنسية. لا _ صوم الصوم الأربعيني. وقدم خبزك للجائع. وأقتني الإرادة الصالحة. أكثر من كل المقتنيات. ن_ الترانيم التي فاهت بها شفتيك. أصغي إليها بإحتراس. وتصرف كالحكماء. بكل أفعال نفسك. ن_ أقرأ هكذا أيها التلميذ. وتفهم ما ينطقه فمك. وكن محباً للخيرات. لتشبع نفسك بالبركات. و_ تأمل كثيراُ بالذين قبلك. من الملوك والوضعاء والجبابرة. وأنظر كيف رحلوا من العالم. وأنت مثلهم سوف ترحل. و_ تأمل في خروجك من العالم. وذهابك إلى الأبدية. وآمن بالقيامة في قلبك. ومن الدينونة خف وارتعد. ى_ استمع إلى كلمات النصح. حتى وإن كنت خاطئ. وإن كنت باراً. احترس ألا تقع ثانية. ى_ اسمع القضاء أيها الفتى. وكن بعيداً عن الأثم. لتسود النعمة في قلبك. فلا تخجل أمام الديان. ي_ اشكر اسم خالقك. في كل وقت ليل نهار. وإذا أقنيت العالم كله. لا تنسى أن الموت قادم.  ي_ شكراً لك أيها الرب الصالح. لأنك هذبتنا مثل إرادتك. والقائلين  والسامعين. صنهم في العالمين. * نصرخ كلنا معاً. سبحانك أيها الرب الصالح. فقد أغدقت نعمك علينا. كما رأيته حسناً. المجد لك والمجد لابنك. ولروحك المعزي ". 

   2_ مار نرساي الملفان ( القرن الخامس ): ولد في قرية عين دلبي القريبة من معلثايا المجاورة لمدينة دهوك سنة 399. تلقى العلم في مدرسة القرية، وبعد وفاة والديه ذهب إلى دير كفر ماري في بازبدي  " جزيرة أبن عمر " عند عمه عمانوئيل الذي كان رئيساً للدير، وبعد سنة أرسله عمه إلى الرها حيث تلقى العلوم مدة عشر سنين، ثم رجع إلى دير كفر ماري ليمارس مهنة التعليم. وبعد فترة وجيزة عاوده الحنين إلى الرها لارتشاف المزيد من العلوم. وبعد وفاة عمه أقيم نرساي رئيساً للدير خلفاً له. لكنه ترك الدير والرئاسة سنة 435 ليعود إلى الرها.
   وفي سنة 437 انتخب مديراً لمدرسة الرها، فقام بأعباء وظيفته عشرين سنة. وكان مذهب الطبيعة الواحدة  قد وجد له مناصرين كثيرين في مدرسة الرها، فلاحت بوادر الخلاف بين المعلمين والطلاب بسبب الآراء المتباينة.
     وعندما تسلم المطران نونا  كرسي الرها سنة 457، وهو من القائلين بالطبيعة الواحدة اضطهد نرساي وناصبه العداء، وأراد القضاء عليه وإحراقه حياً لرفضه الطاعة والرضوخ لمذهبه. فغادر نرساي الرها هارباً إلى نصيبين، وهناك استوقفه برصوما صديقه الذي كان مطران نصيبين آنذاك، وطلب منه أن يؤسس فيها مدرسة تواصل مهمة مدرسة الرها وتعيد أمجاد مدرسة نصيبين الأولى. فرضي نرساي بهذا العرض وقام بإدارتها أربعين سنة حسب قول برحذبشبا عربايا  والتاريخ السعردي، أما ماري صاحب كتاب المجدل وأبن العبري  فيقولان أن إدارته دامت خمسين سنة.
   توفي في نصيبين سنة 502 ودفن في إحدى كنائسها التي كانت تحمل اسمه حتى القرن السابع. أطلق على نرساي العديد من الألقاب حسب قول ماري بن سليمان في كتابه " المجدل ": " لسان  المشرق و شاعر المسيحية و باب الديانة المسيحية و قيثارة الروح القدس و ملفان الملافنة ". 
   الملفان نرساي ومدرستي الرها ونصيبين الثانية: من المعلوم أن مدرسة الرها والمعروفة بمدرسة الفرس أسسها مار أفرام النصيبيني سنة 363 بعد سقوط نصيبين وهجرته إلى الرها، واستمر في رئاستها حتى وفاته سنة 373. وخلفه في رئاستها قيورا  المعروف بتقواه وغزارة علمه، وبعد أن توفي قيورا سنة 437 انتخب نرساي رئيساً لها، فدبرها بحكمة ودراية مدة عشرين سنة، حتى اختلف مع نونا أسقف الرها بسبب منهجية المدرسة التي تتبع فكر تيودوروس المصيصي وتيودر الطرسوسي، بينما كان الأسقف نونا يميل إلى فكر كيرلس الإسكندري.
   وقد تعرض نرساي إلى تهديدات شتى ليتراجع عن أفكاره وقناعاته، لكنه لم يستسلم فهيج أعداءه العوام من الناس ضده بهدف تصفيته وإحراقه. وفي سنة 457 غادر نرساي الرها ليلاً بناءً على نصيحة الأصدقاء حفاظاً على حياته حاملاً معه ما استطاع من كتبه ومؤلفاته. وبعد هجرة نرساي أخذت مدرسة الفرس بالتراجع، حتى أغلقت سنة 498 من قبل أسقف الرها قورا  الذي نال أذناً من الإمبراطور زينون  بإغلاقها، ودمرت أبنيتها وشيد على أرضها كنيسة على اسم " والدة الله ".
   بعد أن غادر نرساي الرها توجه نحو المشرق، وعندما بلغ نصيبين لم يدخل المدينة وإنما توقف في دير الفرس الذي يقع شرقي المدينة، وهناك اجتمع معه مطران نصيبين برصوما الذي اقترح عليه دخول المدينة، ويؤسس مدرسة فيها من شأنها تنوير بلاد ما بين النهرين بأجمعها. وكان في نصيبين مدرسة صغيرة يترأسها المفسر شمعون الجرمقاني ، وبغية القيام بتوسعها اشترى المطران برصوما خان قوافل ضمه إلى المدرسة، وبسبب شهرة نرساي تقاطر إليها خلال مدة قصيرة أعداداً كبيرة من الأخوة من كل حدب وصوب. وقد قال عنه برحدبشبا عربايا: " إن المزايا والخصال التي يتمتع بها نرساي من أفكار مهمة، وقدرة على التصرف بكرامة ورجولة، ومظهر خارجي جذاب، ولطافة وتهذيب وطيبة وجمال تعليمه وبهائه، جذبت إليه هذا الاهتمام الكبير والتعاطف الشعبي، ولقب بالمعلم لأنه كان معلماً بارعاً لا منازع له في الرها ونصيبين ". 
   وقد وضع نرساي قوانين وضوابط لهذه المدرسة حدد فيها مهام السلك التعليمي والإداري، ووضع منهاج التدريس فيها، ومن خلال ما وضعه من تنظيم دقيق نستطيع أن نطلق على هذه المدرسة تسمية جامعة، فمن حيث عدد الطلاب والاختصاصات وتنوع المعارف والضبط العلمي والنظام التدريسي والمناهج والتحصيل، تتمتع بكل السمات التي تؤهلها لحمل هذا اللقب. وبقي نرساي يدير هذه المدرسة الشهيرة مدة 46 سنة. أما عن مؤلفاته فيستطيع المهتم بها الإطلاع عليها بالعودة إلى ص 85 _ 94 من هذا الكتاب.

    3_ إسحق النينوي ( القرن السابع ): ولد في مقاطعة بيث قطرايي  " قطر ". دخل بيث عابي وعكف هناك على الدرس والمطالعة الكتب النسكية. رسمه الجاثليق كيوركيس الأول أسقفاً على نينوى  وذلك سنة 663. لكنه استقال بعد خمسة أشهر وانقطع للعبادة في جبل ماتون الذي يحيط ببلاد بيث هوزايي " الأهواز "، وعاش في العزلة مع النساك هناك. ثم رجع إلى دير الربان شابور.
   كان إسحق مطلعاً على علم الأسرار الإلهية ومنكباً على دراسة الكتب المقدسة حتى أنه فقد بصره، ووضع كتباً في الحياة الرهبانية والسيرة النسكية. ويقول عبد يشوع الصوباوي إن تآليفه كثيرة ومشهورة، وهي سبعة مجلدات ضخمة. وقد نقلت إلى العربية والحبشية واليونانية واللاتينية والفرنسية والألمانية والإيطالية. وافته المنية وقد بلغ شيخوخة جليلة ودفن في دير الربان شابور. 

   4_ يوحنا دلياثا ( القرن السابع ): ولد في مقاطعة بيث نوهدرا " دهوك ". درس الكتب المقدسة ولبس الزي الرهباني في دير مار يوزاداق، ولزم الطوباوي اسطيفانوس تلميذ مار يعقوب حزايا . ثم غادر الدير وتوجه إلى جبل بيث دلياثا وسكن هناك. وكان يقتات بالعنب عوضاً عن الخبز. وضع كتباً عديدة في الحياة النسكية. ويقول عبد يشوع الصوباوي إنه وضع كتابين ورسائل في الطريقة الرهبانية. ومجموع ما وضعه بلغ 25 مقالة و 51 رسالة تتطرق إلى مواضيع المواهب الإلهية والتعزيات الروحية وعلم الأسرار والصراع ضد الشيطان وممارسة الفضائل. 

   5_ يوسف حزايا ( القرن الثامن ): ولد في مدينة بيرس نمرود . أسرته الجيوش التي سيرها عمر بن الخطاب  لافتتاح مدينة بيرس نمرود. ثم بيع عبداً لعربي في سنجار. ثم اشتراه فيما بعد أحد المسيحيين ويدعى قرياقس.
   وبعد اهتدائه إلى المسيحية أعتقه قرياقس، فدخل الحياة الرهبانية، وأضحى بعد ذلك رئيساً لدير مار بسيما في بلاد قردو، ثم رئيساً لدير الربان بختيشوع في ضواحي بلدة زيناي . أما عن كتاباته يقول عبديشوع الصوباوي إن يوسف حزايا كتب ألفاً وتسعمائة كتاب منها: ثبات الصائمين. الحوادث والمصائب. الكنز في أحكام الله. وقد بلغ نشاطه الأدبي ذروته في الحقبة الأخيرة من حياته. 

  6_ إيليا برشينايا أو النصيبيني ( القرن الحادي عشر ): ولد في السن. ترهب في دير مار ميخائيل بالقرب من الموصل. رسمه نثنائيل أسقف السن كاهناً، ثم رئيساً للكهنة في دير الأنبا شمعون. أقامه الجاثليق يوانيس  أسقفاً على بيث نوهدرا سنة 1002، ثم مطراناً على نصيبين سنة 1008. توفي سنة 1056. من أشهر مؤلفاته كتاب تاريخ معروف باسمه " تاريخ إيليا برشينايا " وهو كتاب قيم لأنه يكشف النقاب عن مؤلفات كثيرة وردت عناوينها فيه وهي اليوم مفقودة. وله غرامطيق كلداني، وقاموس عربي كلداني، وأناشيد ومواعظ شعرية، وله أربعة كتب تتضمن الأحكام البيعية، وكتاب المعونة على دفع الهم، وكتاب البرهان في تصحيح الإيمان، وله مجموعة قوانين في عالم الشرع.           
   وتصلي كنيسة المشرق في فرض ليل تذكارهم هذه الصلاة: " بصلوات الكهنة والملافنة. يعقوب وأفرام ورفاقهم. صن يا رب الكنيسة وأبنائها. وثبت الكهنة والملوك ".
   وأيضاً: " نرنم المجد في تذكار الملافنة. أفرام وتوما وغريغوريوس الذين علموا حسناً. بصلواتهم تصان الكنيسة مع أبنائها ". 
   وفي قداس هذا التذكار ترتل الكنيسة هذه الترتيلة: " في يوم تذكارهم. ملافنة الإيمان. تعالوا نتلذذ بالأسرار المحيية. بجسد ودم ابن الله. ليؤهلنا جميعاً لنرنم المجد. لأسمه الكبير في تذكار الكهنة      هللويا. ". 
  وفي هذا التذكار تحتفل كنيسة المشرق أيضاً بتذكار الملافنة الرومان، نذكر منهم: 
   1_ القديس أمبروسيوس: أمبروسيوس تعني " عطر إلهي ". ولد نحو سنة 339 في تريفي. كان والده في عهد الملك قسطنطين حاكماً لولاية الغوليّين. ولم ينل المعمودية إلا عند بلوغه سن الرشد جرياً على عادة أبناء ذلك العهد. وبعد وفاة أبيه عادت به وبأخويه أمه إلى رومة حيث واصل الدروس، وراح يتعمق في الفلسفة، والبلاغة، والأدب. وقد هيئته ثقافته المميزة لمركزٍ عالٍ في القضاء. وقد تعلم اليونانية التي كان يتحدث بها بطلاقة. وكان لأمبرسيوس من نبل أسرته ومستوى ثقافته ما يؤهله لأرفع المناصب في الدولة، فكان أولاً محامياً في محكمة ولاية سيرميوم، ثم مستشاراً للحاكم بروبس، ومنذ  سنة 370 حاكماً لولاية أميليا _ ليغوري في ميلانو.
  وحدث أن توفي سنة 374 أسقف ميلانو أوكسنسيوس الأريوسي، فنشب خلاف شديد بين التيقويين والأريوسيين في من يكون خليفة الأسقف المتوفى. فاستدعى ذلك تدخل الحاكم، الذي طلب من الفريقين المتخاصمين أن ينتظروا قرار الأساقفة المجتمعين في القسم الأعلى من الكاتدرائية. وفيما كان يخاطبهم ارتفع في الجمع صوت صبي يقول: " أمبروسيوس أسقف! ". فاهتز الشعب بفريقيه يصيح: " أمبروسيوس أسقف! ". فلم يجد الأساقفة بُدّاً من النزول عند رغبة الشعب، كما لم يجد الإمبراطور أفضل من أمبروسيوس لتحمل المسؤولية. فوافق على انتخابه. وتكررت الأصوات وأمبروسيوس في شبه ذهول مما يسمع. ولم يكن بعد معمداً ولا موعوظاً، ولا مؤهلاً لمثل هذا المنصب. وفي أقل من عشرة أيام عُمد وترقى في الدرجات الإكليريكية إلى أن رسم أسقفاً في 7 كانون الأول سنة 374، وذلك بعد تمنع شديد منه، وعدة محاولات تهرب، ختمت بالانصياع للإرادة الإلهية الناطقة بلسان الشعب. أكب الأسقف الجديد على عمله بكل ما لديه من قوة، وأخضع حياته لنظام شديد من التقشف والزهد، ووزع ماله على الفقراء. وإذ لم يكن على شيء من علم اللاهوت، ومن السياسة الكنسية والراعوية، لجأ إلى كاهن عالم سوف يخلفه على الكرسي سنة 397، وكان هذا الكاهن يدعى سمبلسيانس. فلجأ ينهل من علمه. واستقى من فلسفة أوريجانس  وفيلون  وأفلوطين ، ما مكنه من معالجة القضايا اللاهوتية والكتابية معالجة المعلم القدير. وهكذا استطاع أن يكون لشعبه الراعي الأمين، والهادي والمشير، وأن يجمع القلوب على كلمة الله، ويحل الوفاق والوئام في مكان الخلاف والخصام. توفي في 4 نيسان 397 بعد حياة حافلة بالرعاية الساهرة، والتجرد المثالي، والجرأة في مواقف الحق والحقيقة.
   لقد كان من مصف الرجال العظام الذين استطاعوا، بعملهم وتفكيرهم أن يقدموا العناصر الجوهرية لثقافة العصر الوسيط المسيحية. ويعجب الباحث عندما يقف أمام أعماله، لغزارة إنتاجه، واتساع آفاق معارفه وتنوعها. وكان يفسر يومياً كلمة الله للشعب، في عظات دبّجها ثم نقحها ونشرها. ووضع كتاب الأيام الستة. وله أعمال نسكية تتحدث عن واجبات الإكليريكيين والعذارى والبتولية وتحريض على البتولية والأرامل. وفي الأعمال العقائدية كتب عن الإيمان والأسرار والتوبة. ووضع الكثير من الأناشيد حتى اعتبر أبا الترنيم الكنسي اللاتيني.   

   2_ القديس إيرونيمس: إيرونيمس تعني " ذو الاسم المقدس ". ولد سنة 347 أو 348 في ستريدون الواقعة على الحدود ما بين المجر ودلماسية، ومع ذلك كان روماني بثقافته، نشأ في أسرة مسيحية ذات يسرٍ ومكانة. وقد لخص بول أنتين تشأنه وحياته بقوله: " كان طالباً لامعاً في رومة، ومارّاً غافلاً في غالية، وطالب نسكٍ في أكيلايا، وتوحداً مبتدئاً في سورية، ودارساً كنسياً في القسطنطينية لدى غريغوريوس النزيتري، وأمين سر للبابا داماسيوس في رومة، حيث عني بحركة النساء القديسات، وفي سنة 385 انتقل إلى الشرق نهائياً وأقام في بيت لحم ". ففي سنة 360 انتقل إلى رومة طلباً للعلم، فدرس قواعد اللغة وأساليب البلاغة على يد الأستاذ الشهير آليوس دوناتس. وما هي إلا سنوات حتى كان من أئمة اللغة اللاتينية ومن أشد الناس إطلاعاً على آدابها وتذوقاً لها.
   ويقول إيرونيمس عن حياته في رومة: " عندما كنت أقيم في رومة وأنا حدَث، وأتابع دراسة الفنون الأدبية، كنت في أيام الآحاد، أتردد مع جماعة من زملائي وأندادي إلى مدافن الرسل والشهداء، وأزور الدياميس المحفورة في أعماق الأرض، وما في جانبي جدرانها من رفات الأجساد ".
   وفي سنة 367 نال سر المعمودية في رومة، ودخل سلك الحياة الرسمية موظفاً في الدولة، يعمل في تريفي عاصمة الإمبراطورية في غالية. ويبدو أنه في تلك الأثناء وقع على حياة للقديس أنطونيوس أبي الحياة الرهبانية في مصر، فراعه ما قرأ، واستقال من وظيفته وراح يطلب الحياة النسكية في أكيلاية.
   وبعد أن انحلت جمعية أكيلاية توجه هيرونيموس إلى القسطنطينية ومنها إلى أنطاكية. وبعد أن قضى فترة وجيزة متنسكاً في الصحراء عاد إلى أنطاكية، وهناك أكب على اللغة اليونانية يواصل التعمق فيها، وعلى اللغة العبرية يعبّ منها ما سيساعده في ترجمته للكتاب المقدس. وإذ كان يطمح إلى المطلق اختار سنة 374 أن ينفرد في صحراء خلقيس، إلى الجنوب الشرقي من أنطاكية، فاختلى نحو سنتين ونصف. ثم عاد إلى أنطاكية وقَبل أن يرسمه الأسقف بولينس كاهناً، على أن لا يتخلى عن الحياة الرهبانية، وعلى أن لا ينصرف إلى الخدمة الرعوية.
   سنة 379 أو 380 توجه إلى القسطنطينية ومكث هناك نحو ثلاث سنين، وهناك احتك بالكبادوكيين غريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصي وأمفيلوخيوس أسقف إيقونيوم ، وقد حفزه هذا الاحتكاك على النهوض بمهمة لها شأنها في تاريخ الأدب الكتابي والمسيحي. ثم استدعاه البابا داماسيوس الأول ليكون سكرتيره الخاص، ومستشاره، وأمين خزانة وثائقية، وأوعز إليه أن يعيد النظر في الترجمة اللاتينية للأناجيل والمزامير التي كانت مستعملة في رومة.
   وفي سنة 385 وبعد وفاة البابا داماسيوس توجه إيرونيمس إلى الشرق، فتوقف في أنطاكية، ثم سافر إلى الإسكندرية وبقي فيها ثلاثين يوماً، حيث تردد إلى المدرسة اللاهوتية التي كان أوريجانس فخرها. ثم انتقل إلى بيت لحم  حيث استقر هناك 34 سنة حتى وفاته سنة 420. وقد عدته الكنيسة الغربية أحد ملافنتها الأربعة الكبار: أمبروسيوس وأغوسطينوس وغريغوريوس الكبير وإيرونيمس.
   ترك إيرونيمس العديد من الأعمال الكتابية منها تنقيح الترجمة اللاتينية للأناجيل، وترجمة المزامير السبعينية. والنص اللاتيني للكتاب المقدس المعروف   بـ " الفولغاتا "، والذي لا يزال مستعملاً. ووضع تفسيرات كتابية وترجمات لأوريجانس ولذيذيمس الأعمى ولباخوميس وتلاميذه ولأسابيوس القيصري. وله أعمال دفاعية وعقائدية في الحوار بين اللوسيفيري والأرثوذكسي، وضد هلفيديوس، وضد جوفينيانس، وضد فيجيليانسيوس. وله أعمال تاريخية عن مشاهير الرجال. وله رسائل قيمة تاريخية واجتماعية ودينية.     

  3_ البابا لاون الكبير: لاون تعني " أسد ". من المرجح أنه ولد في توسكانة  في أواخر القرن الرابع، وأنه انتقل مع إلى رومة مع أسرته في أوائل القرن الخامس هرباً من الاضطرابات السياسية التي عصفت بالبلاد إذ ذاك.
   وقد ورث شخصية فريدة، امتازت بالغنى والنبل، والقدرة على الطموح إلى أسمى المثل في صلابة المبدأ ولين التعامل. والأحداث التي سبقت أسقفيته عملت على تنمية تلك الشخصية، إذ اشترك في قضايا الكنيسة السياسية، والعقائدية، والتنظيمية، وكثيراً ما دعي إلى حل النزاعات، وتلين المواقف الصعبة. وفي تلك الفترة استفحلت بدعة المانوية  في رومة إلى جانب الأريوسية  المتداعية، واشتدت الخصومة بين كيرلس الإسكندري  ونسطوريوس ، فرفع الأمر إلى رومة بإيعاز من لاون الذي كان إذ ذاك في خدمة البابا شلستينس . وتبع ذلك انعقاد مجمع أفسس الذي حرم البدعة. ولم تقف الأمور عند هذا الحد فقد أخذت تعاليم بيلاجيوس  تشيع في رومة، وتشتد وطأتها في أفريقية الشمالية فتحرم سنة 416. وفي تلك الفترة أيضاً احتدمت الاضطرابات السياسية والتقلبات الاجتماعية. فقد اجتاح البرابرة غالية وإيطالية، ثم اجتاحوا أفريقية سنة 429، فكاد يتهاوى العرش الإمبراطوري في الغرب، فيما كان سلطان البابا يشتد قوة ونفوذاً. وفيما كان لاون في غالية يقوم بمهمة صلح انتخب على كرسي رومة أسقفاً يخلف سيكستس الثالث  وذلك سنة 440. سنة 443 أعلن حربه على المانوية، والتفت إلى الشرق يريد الإسهام الفعال في إنقاذه من تيارات الضلال التي كانت تعصف به. 
   وفي سنة 451 انعقد مجمع خلقيدونية  الذي كان له فيه اليد الطولى، فوحدت آراؤه آراء المجتمعين. وفي سنة 452 جابه بموكبه أتيلا الذي لقب بـ " آفة الله " وأنقذ رومة. ولكنه لم يتمكن بعد ثلاث سنين من فك الحصار عنها، ومقاومة جنسريك ملك الفندال الذي فتك بالإمبراطور، ودمر المدينة وظل لاون صاحب الأمر والنهي لا يشاركه أحد في الحفاظ على الأمن.
   قضى لاون أيامه الأخيرة في معالجة النزاع الذي أخذ يشتد بين الشرق والغرب، وقد توفي في 10 تشرين الثاني 461.
   كان لاون أباً للفقراء الذين حطمت آمالهم الاضطرابات السياسية، وكان ساعداً للسلطة الرومانية المتداعية، يقوم مقامها كلما دعت الحال محاولاً أن يجعل على أنقاضها رومة المسيحية الناهضة، وكان يشمل بنظره واهتمامه الكنيسة الجامعة، فتمتد سلطته الروحية إلى ما وراء حدود إيطالية إلى غالية، وأفريقية، وإسبانية، وحتى الشرق الذي كان يرفع إليه قضاياه.
   ترك لنا لاون 173 رسالة تناول فيها بدعة أوطيخا ، ومجمع خلقيدونية وقضايا مختلفة لكنائس خاصة. ولهذه الرسائل أهمية كبرى في تاريخ الكنيسة وتاريخ العقيدة، وهي في امتداد آفاقها واتساع نطاقها، تدل على ما كان لأسقف رومة في حقلي الإيمان والنظام. وبقي له 96 موعظة طقسية ترافق الاحتفالات وتفسر المواقف، وتقطف منها الدروس الروحية والسلوكية. وإليه يرجع الدفع الروحاني في جمع الصلاة والصوم والإحسان في كل عمل تتمثل فيه الروح المسيحية الحقيقية. والليتورجيا الرومانية تحمل إلى اليوم الصبغة اللاونية العميقة. 

   4_ البابا غريغوريوس الكبير: ولد في رومة نحو سنة 540، في أسر مسيحية ذات نبل وعراقة. وكان أحد أجداده لأبيه بابا باسم فليكس ، وأبوه غورديانس أحد أعضاء مجلس الشيوخ أما أمه سيلفيا فقد أعلنت قديسة، وعماته تارسيلا وأميليانا وغورديانا فكرسن حياتهن لله في منزل الأسر، وقد أعلنت تارسيلا وأميليانا قديستين، فيما اختارت غورديانا الحياة الزوجية. وقيل إن لغريغوريوس أخاً نجهل اسمه.
   وقد واجهت حداثة غريغوريوس حادثين تاريخيين مظلمين: ففي سنة 540 نشبت حرب تحرير إيطالية من سيطرة الأوستروغوط، وفي سنة 543 انتشر وباء الطاعون الأسود. وفي سنة 572 أصبح غريغوريوس حاكماً لرومة، ورئيساً لمجلس الشيوخ فيها. وبعد تردد طويل هجر غريغوريوس العالم وكان في نحو الخامسة والثلاثين من العمر، فوزع ما يملك وترهب، وأسس في بيته الأبوي " شاليوس " ديراً باسم دير القديس أندراوس، وأنشأ في أملاك الأسرة بصقلية ستة ديورة، وكان الراهب فالنتينس على رأس الدير بشاليوس، أما غريغوريوس فظل إلى جانبه راهباً بسيطاً نحو خمس سنوات. وفي سنة 579 رسم غريغوريوس شماساً إنجيلياً، وأرسله البابا بيلاجيوس الثاني  إلى القسطنطينية سفيراً بابوياً لدى الإمبراطور تيباريوس الثاني الذي خلفه الإمبراطور موريسيوس. ولم يكن غريغوريوس على شيء من اليونانية، وقد لبث ست سنوات في القسطنطينية. وفي هذه الأثناء وضع القسم الأكبر من كتابه " أخلاقيات " بطلب من إخوانه الرهبان ومن صديقه لايندرس. ورجع غريغوريوس إلى دير شاليوس وقضى فيه خمس سنوات، وفي سنة 590 توفي البابا بيلاجيوس الثاني بمرض الطاعون، فاختير غريغوريوس لخلافته. وما أن تسلم مسؤوليته حتى بادر إلى مساعدة المصابين بالطاعون، وإلى تنظيم زياحات ضخمة، ثم إلى تأمين الطعام للجياع بعدما ذهب فيضان التيبر بأهراء القمح التي كانت قائمة على ضفتيه. وقد قال قوله المشهور: " إن إرث الكنيسة هو ملك الفقراء ". وكان لحبريته ثلاث أهداف هي: الدفاع عن إيطالية، ومقاومة سيمونية  الإكليروس وفساده، ورد الأنجلوسكسونيين إلى الكنيسة. وكانت حياته سلسلة من الآلام والأوجاع أضيفت إليها مشاهد الفواجع التي حلت بالبلاد والعباد، فكان شهيد الصليب في عالم من الاضطراب والقلق. وقد حل به مرض عضال في الثلاث أو الأربع سنوات الأخيرة من حياته، وتوفي سنة 604.
   ترك غريغوريوس العديد من المؤلفات نذكر منها: كتاب " الأخلاقيات في سفر أيوب "، وكتاب " قانون الرعاية "، وكتاب " الحوارات " بأربعة أجزاء. وله 40 عظة إنجيلية، و22 عظة كتابية تدور حول النبي حزقيال. وترك 868 رسالة. وقد جدد طقس القداس الروماني، وأعطى للقانون صيغته الحالية، كما وضع سلسلة طقوس للقداس البابوي على مدار السنة الليتورجية.
   كان غريغوريوس لا يهمه من أمور الفلسفة واللاهوت إلا ما يعينه على نشر العقيدة الصافية، بعيدة عن كل خروج من طريق الأرثوذكسية القويمة. إنه شاهد أسرار الله، ونجيّ الروح القدس، ومعلم المسكونة بإيمانه وقداسته. 
   وفي هذا التذكار ترنم كنيسة المشرق هذه الصلاة: " في تذكار الكهنة والملافنة. نرتل بالمجد للمسيح. ليثري عبيده بالأسرار الروحية. ويملئهم بحكمته. أمبروسيوس الذي أضحى نبعاً. يجري صافياً في كل المعمورة. ومعه عمل الممتلئ صدقاً. أوغسطينوس الذي علم جيداً. وأيضاً مار توما وارث أعمالهم. أحل يا رب بصلواتهم. السلام في الكنيسة المقدسة. وأغفر لنا ". 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الملافنة المشرقيين الكلدان والملافنة الرومان في الجمعة السادسة من سابوع الدنح.
   









82
تذكار الملافنة اليونان
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءة الطقسية: القراءة الأولى: أعمال الرسل 21 / 27 _ 40  فلما أوشكت الأيام السبعة أن . . .  + أعمال الرسل 22 / 1 _ 30  أيها الإخوة وأيها الآباء . . .  + أعمال الرسل 23 / 1 _ 16 فحدق بولس إلى المجلس . . .
القراءة الثانية: 2 طيموتاوس 2 / 8 _ 19 واذكر يسوع المسيح الذي قام . . . + 2 طيموتاوس 4 / 1 _ 7 أناشدك في حضرة الله والمسيح . . . + 2 طيموتاوس 4 / 14 _ 18 إن الإسكندر النحاس قد . . . القراءة الثالثة: متى 4 / 23 _ 25 وكان يسير في الجليل كله يعلم في مجامعهم .  . . + متى 5 / 1 _ 19 فلما رأى الجموع صعد الجبل وجلس . ..

   1_ القديس باسيليوس الكبير ( 330 – 379 ): باسيليوس كلمة يونانية تعني " ملكيّ ". إنه من عائلة ذاقت الاضطهاد والهجرة، تثقف بثقافة يونانية فلسفية أدبية، اقتبل العماد في سن البلوغ، بدأ يعيش الحياة المشتركة الإنجيلية، وجمع نصوصاً روحية، ووضع قوانين للرهبان، نظم حركة اجتماعية للدفاع عن الفقراء والمهاجرين، وربط الحركة الرهبانية الحرة بمثل هذه الفعاليات وتحت رئاسة الأسقف وإرشاده. كتب رسائل ونظم الطقس ( النافور ) ووضع تفسيراً اسمه: أيام الخليقة الستة ( هيكساميرون )، كرس جهوده للسلام والاتفاق بين الكنائس الشرقية والغربية، وفسر الكتاب المقدس، وتحدث عن دور الثالوث الأقدس، ولقد دل كيف يمكن للشاب المسيحي أن يستخدم كتابات المؤلفين الوثنيين استخداماً جيداً، ونظراً لكونه رجل الاتزان والحوار استحق لقب الكبير. وقام بزيارة أديرة ما بين النهرين وسوريا ومصر، نتج عنها تأمل مثمر أدى إلى كتابة قانون رهباني معروف. وكذلك ألف خطباً حول المزامير.
   2_ غريغوريوس النزينزي اللاهوتي ( 330 – 390 ): غريغوريوس كلمة يونانية تعني " الساهر أو المستيقظ " كان صديق باسيليوس، أكمل الدراسات اليونانية في القيصرية والإسكندرية وأثينا، وأصبح مؤهلاً بالأحرى للكتابة، فقام بكتابة: أحاديث لاهوتية، وتقاريظ، وقصائد، ومراسلات كثيفة. قبل الرسامة الكهنوتية من يد أبيه، تم تعيينه قساً معاوناً على ( نزينزا )، مجبراً من قبل أبيه وصديقه سنة 362، واشترك في الحركة الرهبانية، عاش في الجبال في عزلة وتأمل، نجح في مهمة محاربة الآريوسية، وألقى خطباً لاهوتية، وكان شاعراً أيضاً، عين رئيساً لمجمع القسطنطينية  سنة 381. رجع إلى العزلة وكرس بقية أيام حياته لتأليف شعر فني حول مسيرة الحياة الإنسانية، وتدافع مؤلفاته اللاهوتية عن ألوهية الروح القدس، وان الروح القدس مساوِ للأب والابن في الجوهر. عين أسقفا لكل من: (ساسيما، نازيانزا، القسطنطينية ). حفظ له 45 خطبة، إحداها في مدح باسيليوس، كما حفظت له قصائد ورسائل.                    
   3_  غريغوريوس النصي ( 335  _ 394 :( انه أخ باسيليوس، وإنسان مثقف روحي، جذبه باسيليوس إلى الحياة النسكية بعد تردد طويل، ترك منصبه الكنسي، وفضل وظيفة الخطيب، وضع مقالاً في البتولية. أجبر على قبول الرسامة الأسقفية على مدينة ( نصا ) الصغيرة، أكمل التزامات أخيه بعد وفاته، دافع عن الإيمان النيقاوي، أكمل مؤلفاته اللاهوتية: في الروح القدس، وفي خلق الإنسان، وفي الأيام الستة. ركز في خطبه على: سر التجسد، وسر القيامة المجيد. أفكاره كانت عن الطريق نحو الله، وكيفية التقدم نحو الأمام، والكمال، والحياة فيه. لعب دوراً مهماً في مجمع القسطنطينية لكونه لاهوتياً بارعاً. ألف كتبً عديدة قاوم فيها الآريوسية منها : خطبة ضد ابولينارس، التعليم المسيحي الكبير، ومقالات حول الحياة المسيحية، كما ألقى خطباً، ومنها خطبة في مدح أخيه، وكتب رسائل كذلك. ويمثل التعبير الأكثر أصالة في فكره في اللاهوت النسكي والتأمل الصوفي، فهو الموضوع المفضل لديه، ولقد ألقى مراثي عديدة أيضاً.
   الخاتمة: لقد أطلق على هؤلاء الآباء الأقمار الكبدوكيون الثلاثة، فكان للأخوين باسيليوس القيصري وغريغوريوس النيصي ولصديقهما المشترك غريغوريوس النزينزي مصير واحد. فقد أصبحوا أساقفة من دون أن يرغبوا في ذلك، وكانوا متصوفين، بل ورجال عمل أيضاً. فالتزموا في كل المناقشات التي قامت في عصرهم، وكانوا أرستقراطيين ومفكرين، ورعاة ومعلمين. ولكنهم كانوا قبل كل شيء مولعين بالتأمل.  
   وقد اختارت الكنيسة القراءة الثانية لتذكار الملافنة اليونان من رسالة القديس بولس الثانية إلى طيموتاوس والذي يبين فيها مشكلة المعلمون الكذبة في كنيسة أفسس. وعندما قال بولس إن يسوع إنسان كامل، أغضب اليونانيين الذين كانوا يعتقدون أن الألوهية تتدنس إذا اتصلت بالبشرية. وكان طيموتاوس محاصر بالمعلمين الكذبة، وكان من اللازم أن يكرز بالإنجيل حتى ينتشر الإيمان في العالم. وقد لا يكون من السهل أن نشهد للمسيح أو أن نخبر الآخرين عن محبته. ولكن الكرازة بكلمة الله هي أهم مسئولية وضعت على كاهل الكنيسة. وعندما زج بولس في السجن، شعر طيموتاوس بشيء من الخوف أمام وجود معلمه في السجن، وكنيسته في اضطراب عظيم. ولكن الرسول بولس يقول له بلباقة:  " إن الرب قد دعاك للكرازة بالإنجيل، وسيمنحك الشجاعة للقيام بذلك ".  
  وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الملافنة اليونان في الجمعة الخامسة من سابوع الدنح.


83
الأربعاء اليوم الثالث من صوم نينوى " باعوثا دنينواي "
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: يونان 3 / 1 _ 10 وكانت كلمة الرب إلى يونان ثانية قائلاً . . .  + يونان 4 / 1 _ 10 فساء الأمر يونان مساءة شديدة . . .
القراءة الثانية: رومة 9 / 14 _ 33 فماذا نقول أيكون عند الله ظلم حاش له . . + رومة 10 / 1 _ 17 أيها الإخوة إن منية قلبي ودعائي . .
القراءة الثالثة: متى 6 / 1 _ 18 إياكم أن تعملوا بركم بمرأى من الناس . . .

   اليوم الثالث: في اليوم الأخير من الباعوثا والتي كانت أيام الجلوس في بيت الله، نعلم كلنا اليوم أن هناك من يجلس هنا، ولكن قلبه وفكره بعيداً عنا، كما سمعنا في القراءات الباعوثية. وتعلمنا مريم اليوم الجلوس والانتباه والإصغاء، وهذا يتطلب منا التحرر من ثقل الهموم والمخاوف والانشغالات التي تسيطر على فكرنا الآن. ربنا لا يريد منا أن نُسمعه ما عندنا، بل أن نَسمعه هو الذي قال جئت ليكون لهم الحياة، ويكون لهم الأفضل. وتتألف صلاة اليوم الثالث من جلستي صلاة، وتنسب القراءات والمداريش فيها إلى الملفان مار نرساي النوهدري، وفيما يلي مقتطفات من الجلسة الأولى:
جواب
* بحنانك واثقين. ندعوك خالقنا. لدى حلول الشدة. نفقد طيبك. رحمتك لا تنسى. صوت احتاجنا.
* لسنا من قوم الأبرار. بل من بني الآثمين. تغاضيت عن الحكم. يوم أهانك آدم.  غفرت له إثمه. سامحنا
    نحن أيضاً.
* لم تعامله بسخط. لا تحاسبنا يا رب. كنت رحوماً معه. كن حنوناً معنا. أحييت الخاطئ آدم. أحيى
    جيلنا الخاطئ.   

مدراش " تعليم "
الردة: اللهم إقبل منا دعاءنا، لطفاً منك استجب لنا طلبتنا.
* أنت كائن كل الأرض والسماوات، دع اسمك يتقدس بنا وفينا. أنت الخفي عـن رؤية الحس والروح.
    اظهر فينا قدرتك وجودتك. خالق الكل مـن لا شيء  وأب الكل. إراف بنا كي لا نفسد بإثمنا.
* يا وهاباً ومعتني بالكائنات. مد يدك وأشبعنا من خيراتك. إحسـانك فيض على صنع يديك. مهما لنا
    فينا جوع دوماً إليك. أزلي أنت ولا بد لك. كــلامك وعد نرجو تحقيقه.     

القراءة الأولى
* يا مبدع المسكونة دون الفساد          طهرنا مـــــــــــن جهالة البصيرة.
   من طينة جبلتنا ونســـــــــــمة           كن ســــندنا لضعفنا في الوهن.
* حبنا بنا أوليتنا كرامــــــــــة             صورتك صنها فينا مـــــــــــن تلف.
    على اســـــمك المنزه كونتنا            لا نشـــــــــــــــــــــــــــــوه وقاره بزيفنا.
* بحـــــــــــــكمة متقنة خلقتنا              نويت أن اســــــــــــــــتعرض جمالها.
    كياننا للبرايـــــــــــــــا ممثل             إلا انظروا مــــــــا احتواه من روعة. 
مدراش " تعليم "
الردة: لنستحق يا رب قول سماحك، فنعود إلى الغفران مثل داود.
* يا رب أمحُ زلاتنا وأسمعنا، صوت السماح كما داود سمعه. كــان باراً أوقعه عدو البر، ثم اعترف فمحا
    الشر من قلبه.
* إذا الندم محا الشرور للفضائل، فالأشرار يأملون المصالحة. لأننا رجونا بــك أمحُ الفساد، يا صالحاً
    محا الإثم بكلمة.
* يا غافراً كل الذنوب ضد الناموس، إغفر لنا زلاتنا ضد حبك. يـــا لاغياً حكم الهلاك للقتلة، ألغٍ اليوم
    حكم العقاب لظلمنا.   
القراءة الثانية
* مــــــــــــــــن البدء بعفوك شملتنا     والصالحون نــالوا أفضل ألطافك.
    ثوابهم غفرانك عمــــــــــــا مضى    وغفرانك يســـــــــــــــــــتبق دعاءهم.
* دانيال حل الألغاز بعونـــــــــــــك     أكرمه أهـــــــــــــــــــل بابل وعظموه.
     مدى العصور صوت الأبرا سمعته   لســـــــــنا منهم فنبتهل نحن إليك.
* لا يا ربي لا يســـــــــتكبر الماردون     فقد زالت ســـــــــــــلطتهم واندحروا.
     لا يُســـــــــــــــروا هزءاً بنا بقولهم    كيف صـــــــــــــار المائتون لا مائتين. 
مدراش " تعليم "
الردة: حنانك يا رب اسمع دعاءنا، توسلاً منك يا ذا الرحمة.
* صلاتنا قدمناها محرقة، ترضى عنها رفعناها استطبها. يــا محب البشر اقبل  توبتنا، وامنح لنا من
    خيراتك يا ذا الرحمة.
* للبشر أنت الحياة والمحبة، انظر إلى عبادك بلطفك. يا غافر كل الآثام للتائبين، اغفر لنا خطايانا يا
    ذا الرحمة. 
البركات
* بصلواتكم يحل الرب على الأرض. الردة: نعم يا رب.
    السلام والاستقرار بصلواتكم. الردة: أمين.
* بصلواتكم يرتفع شأن البيعة. نعم يا رب.
    المفتداة بالدم الحي بصلواتكم. أمين.
* بصلواتكم رعاتنا يدبرون. نعم يا رب.
    الرعايا خير تدبير بصلواتكم.   
   وفي قداس اليوم الثالث نقرأ سفر يونان. هذا الرجل اليهودي الذي أرسله الله يوماً من فلسطين ليعظ مدينة نينوى. غير أن يونان لا يحلو له أبداً أن يذهب ويبشر نينوى. فيأخذ الاتجاه المعاكس ويركب سفينة مبحرة إلى ترشيش، لكن هل يستطيع أن يفلت من يد الله؟. يطلق الله عاصفة في البحر، بينما يونان يغط نائماً في جوفها، فيحاول البحارة أن ينجوا بوسائلهم الخاصة، لكن دون جدوى. عندها يرفعون أمرهم إلى إله يونان، ويجد يونان نفسه في البحر. وبينما يتخبط بين الأمواج، يرسل الله حوتاً فيبتلعه. ويبقى في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليال يقضيها بتلاوة مزمور. ثم يلفظه الحوت على اليابسة. مرة أخرى يوجه الله كلمته إلى يونان، وهذه المرة يطيع يونان الله وينطلق إلى نينوى. وهناك يحصل اللامعقول: نينوى تعلن توبتها، على أمل أن يحوِّل الرب عنه غضبها. فحنان الرب الذي يكنه لمخلوقاته هو السبب العميق لإرادته في خلاصهم.   
   وفي قراء ثانية من رسالة بولس إلى أهل رومة 9: 14 _ 33 + 10: 1 _ 17، يؤكد لنا القديس بولس بأنه لا يمكننا معرفة الله تماماً إلا في المسيح، وحيث أن الله قد عيَّن المسيح لمصالحة الناس مع الله، فلا يمكننا أن نأتي إلى الله بطريق آخر. والرسول بولس لا يقول إن المؤمنين سيتحررون من كل خيبة، إذ لا بد أن تأتي أوقات فيها يخذلنا الناس، وتسوء الظروف حولنا. لكن عطية الله للخلاص لا يمكن أن تسبب لنا الخيبة، فلا يمكن أن يخذلنا المسيح، فكل من يؤمن به يخلص. 
   وفي قراءة ثالثة من إنجيل متى 6: 1 _ 18 يدعونا يسوع بأن تكون دوافعنا للعطاء طاهرة، وأن نتحاشى كل خداع، وأن نعطي من أجل العطاء ذاته. ويقول لنا يسوع إنه علينا أن نفحص دوافعنا في الصدقة والصلاة والصوم، إذ لا يجب أن تكون هذه الأفعال لمجد الذات، بل لمجد الله. فلا نفعلها لكي نبدو صالحين، بل ليبدوا الله صالحاً. ويذكرنا يسوع إن جوهر الصلاة هو الاتصال بالله، فهناك مكان للصلاة. ولكن أن تصلي فقط حيث يراك الآخرون، لدليل على أن المستمع لك في الواقع ليس هو الله. ويشجعنا الرب يسوع على المثابرة في الصلاة، لكنه يدين التكرار الضحل  لكلمات لا ترفع من قلب مخلص، ولا يمكن أن نصلي أكثر مما ينبغي لو كانت صلواتنا صادقة ومخلصة. فقبل أن تبدأ في الصلاة، تأكد من أنك تعني ما تقول. وقد أعطى يسوع لتلاميذه نموذجاً لصلواتنا هي الصلاة الربية، التي فيها نمجد الله، ونصلي لأجل عمله في العالم، ونصلي لأجل حاجاتنا اليومية، ونصلي طالبين معونته في صراعاتنا اليومية. ومن خلال هذه الصلاة يعطينا يسوع تحذيراً خطيراً يختص بالغفران، فإذا أبينا أن نغفر للآخرين، فإنه هو أيضاً لن يغفر لنا. ويختم إنجيل اليوم بإدانة يسوع الرياء، أي الصوم لكسب الثناء من الناس.   
مدراش البركات
يتلى في نهاية القداس
الردة: نطلب منك يا رحمان رب الكل     نطلب منك سيدنا ارحمنا.
* زد الأمن في البلاد رب الكــــــــــــــــل       والسلام فـي كل الأقطار سيد الكل.
    أبطل الحروب والقتال من الأرض       فتسكن هادئة يـــــــــــــــــــــــــــــا حنان.
    بارك البيعة المقدســــــة بنعمتك       المفتداة بدمك الزكي فادي الكـــل.
    نجِّ بنيها واحفظهم بصــــــليبك        مـــــــــــــــــــــــن نقمات العدو وارحمنا.
* إقبل يـــــــا رب تضرعاتنا برأفتك        واســــــتجب طلباتنا مجيب الكل.
    توبتنا نصعدها لمحبتك محب الكل    كذبيحة مقبولة في كــــــل حين.
    إقبــــــــــــل صلوات عبيدك بنعمتك      وباعوث ممجديك ســــامع الكل.
    ومن خزانتك تستجاب يـــــا حنان       جميــــــــــــع احتياجاتنا وارحمنا. 







84
الثلاثاء اليوم الثاني من صوم نينوى " باعوثا دنينواي "
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية: القراءة الأولى: أشعيا 59 / 1 _ 18 يد الرب لا تقصر عن الخلاص وأذنه لا . .  القراءة الثانية: رومة 12 / 1 _ 21 إني أناشدكم إذاً أيها الأخوة بحنان الله . . .
القراءة الثالثة: لوقا 18 / 1 _ 14 وضرب لهم مثلاً في وجوب المداومة . . .
   اليوم الثاني: تتابع الكنيسة في اليوم الثاني الصلاة إلى الرب ليقوينا، فنكشف له ذاتنا الحقيقية بكل ما تحمله من أفكار ومواقف ومشاعر لا تليق ببشارته، ونطلب منه أن يظللنا بمحبته ورحمته وعطفه وحنانه. وتتألف صلاة اليوم الثاني من جلستي صلاة، وتنسب القراءات والمداريش فيها إلى مار أفرام النصيبيني، وفيما يلي مقتطفات من الجلسة الأولى:
جواب
* يا رب ارحم شعبك، الهاتف تائباً، إن أغضبناك جداً، زدنا إيماناً بـــك. حاشا لأبوتك. أن تنسانا في 
    المحن.
* بمن ترى نلتجئ، أن أنت أهملتنا، من مثل خالقنا، كي نختار غيرك. مـن طيبٌ مثلك، كي يخلب
    عقلنا. أفسح لنا حنانك. فنؤدب نفسنا.
* اسمع صوت ساجديك، لبِ طلباتهم، فالصلاة مفتاح لكنز مراحمك. يــا جواداً تسرع. في منح
    خلاصك. 
القراءة الأولى
* نادى يونان النبي في نينوى العظيمة. منذراً مهدداً بالدمار والهــــلاك. مدينة الأبطال ارتجت لصوتـــه.
    مثل البحر اضطربت ومـــــن الموت دنت.
* راح يطلق الويلات بدنو الأجـل. الواعظ الضعيف يتحدى الأقويــاء. نداؤه حطم قلوب أسـيادهم. صاح
    يقطع الرجاء سـاقياً كأس الغضب.
* كل واحد منهم يدين أفعاله. كـل واحد منهم يشفق على الآخر. كـل واحد منهم يلوم ضميره.
    الرحمة زرعوا لكي يحصدوا الخلاص.
* الله أرسله لغاية واحدة. أن يشفي المدينة لا أن يدمرها. ويونان لم يُشر عليهم  أن يتوبوا. ولكـن أن
    يختاروا طريق نجاتهم.
* كانوا مرضى بالآثام التي اقترفوها. خافوا نداء النبي خوفهم من حد السيف. أخافهم كي يشفوا من
    كل أسقامهم. طبيب راح يشفي مرضاه بشجاعة.
*الملك أتضع فمن ذا يتكبر. الأدناس تنقت والملذات زالت. الفرحون يبكون فمن  ذا لا يكتئب. الأشرار
   فزعوا فمـن ذا الذي يضحك. 
مدراش " تعليم "
الردة: بارينا من العدم، لا ترذلنا كالعدم، مهما كان اثمنا، فاقته نعمتك.
* جئنا ثقة بك، نبتهل يا حنان، اقبل تضرعنا في باب رحمتك، أنت عادل رؤوف، لا تغضب من اثمنا،
    حبك دوماً يرقى، ساكباً فيض النعمة.
* ما أصغر اثمنا، إزاء حنانك، مهما ازداد شرنا، فاقته نعمتك، ما أوفر لطفك فلا تحجبه عنا، ولا يقف 
    اثمنا بوجه صلاتنا.   
القراءة الثانية
* وفـي هذه الأثناء كان يونان النبي. جالساً فـي مظلة إلى شرقي نينوى. يراقب ما يجري محتاراً فـي
    أمره. مـن توبة الأهالي وبطلان الانتظار.
* الشعب سمعه يجادل نفسه. في خلاف ظاهر بين الله والنبي. فالله منه الرحمة والنبي منه النقمة. في
    هذين الموقفين النبي محتار.
* النبي أشفق على نبتة الخروع. فكم بالأحرى الله يشفق على البشر. يونان تأسف على مظلته. فحرص
    الله أعظم على حياة الناس.
* أخـــذ النينويون يشكرون يونان. مشقات عاناها مــن أجل خلاصهم. بذاتهم عـــــلموا أن الله يريد. خلاص
    جميع البشر وهذا خير دليل.
* اسم الله مجدوا شاكرين للنبي. الذي انتشلهم من قبضة الهلاك. لولا كرازته لماتوا شر ميتة. بأتعس
    مصير إلى مدى الأبد.
* نزعوا ثوب الحداد وارتدوا أزيائهم. بفرحة عارمة وبــصوت الترانيم. سبحوه تعالى علــى وفرة لطفه.
    وفيض غفـرانه للخطاة التائبين.
مدراش " تعليم "
الردة: أيها الرب الحنان لا تتغاضى عنا، وامنحنا من كنزك خلاصاً ورحمة.
* كم حنانك غفور، كنز يغني المحتاجين، أنت سند ساجديك، يا صالحاً رحوماً، لا ترذل طلبنا، لا
    تغلق باب الرحمة، بل أقبل توبتنا، واستجب سؤالنا.
* لك أيها المسيح، نرفع صلاتنا، سائلين رحمتك، فاسمع طلباتنا، وليغمرنا حنانك، بفضل الدم الكريم، 
    ثمناً لاثمنا، يا إلهنا الرحوم. 
البركات
* عد يا ربي من السماء وباركنا. الردة: نعم يا رب.
   أحل أمنك في أقطار المسكونة. الردة: أمين.
* ليبارك رمزك إكليل السنة. نعم يا رب.
   أفض الخصب في كل المواسم. أمين.
* والكنيسة المختارة من الشعوب. نعم يا رب.
   صن وعدك بحفظها ثابتة. أمين. 
   وفي قداس اليوم الثاني نقرأ فصل من إنجيل لوقا 18: 1 _ 14 حيث يؤكد يسوع على وجوب إلحاحنا في الصلاة لتنمو شخصياتنا وإيماننا ورجاؤنا، إذ نحيا له يوماً فيوم، مؤمنين دائماً أنه يستجيب.
   ثم يحدثنا عن الأرملة المهضومة حقوقها، والتي كانت تطلب من قاضي المدينة أن ينصفها من خصمها، فكان يرفض طلبها مدة من الزمن. وأخيراً قال في نفسه: حتى لو كنت لا أخاف الله ولا أحترم إنساناً، فمهما يكن فلأن هذه الأرملة تزعجني سأنصفها. فإذا كان القاضي الظالم الشرير، قد استجاب للإلحاح المستمر، فكم بالأكثر يستجيب لنا الإله المحب العظيم. فإن كنا قد أحسسنا بحبه لنا فلنؤمن بأنه يسمع صراخنا وطلبتنا.
   ثم يحدثنا عن مثل الفريسي والعشار . فالفريسي لم يذهب إلى الهيكل ليصلي إلى الله، لكن ليعلن للجميع في كبرياء أنه صالح وتقي. أما العشار فذهب إلى الهيكل مدركاً لخطيئته وملتمساً الرحمة من الله. إن البر الذاتي مدمر وخطير، إذ يؤدي إلى الكبرياء. وينبغي أن تكون صلواتنا كصلاة العشار، لأننا جميعاً محتاجون إلى رحمة الله كل يوم.   













85
الاثنين اليوم الأول من صوم نينوى " باعوثا دنينواي "
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية: القراءة الأولى: أشعيا 63 / 17 _ 19 لم ضللتنا يا رب عن طرقك وقسيت . . . + أشعيا 64 / 1 _ 11 كما تضرم النار الهشيم وتغلي النار . . .
القراءة الثانية: ا طيموتاوس 2 / 1 _ 15 فأسأل قبل كل شيء أن يقام الدعاء . . . + 1 طيموتاوس 3 / 1 _ 10 إنه لقول صدق أن من رغب . . .
القراءة الثالثة: متى 18 / 23 _ 35 ولذلك مثل ملكوت السموات كمثل ملك . . 

   صوم نينوى: إن السبب الأول لهذا الصيام المعروف بـ " الباعوثا " وتعني " طلبة " كما ورد في مقدمة الرتبة  هو توبة أهالي نينوى عاصمة مملكة الآشوريين، وغفران الله لهم أثر كرازة يونان كما جاء في سفر يونان.
   والسبب الثاني هو تفشي وباء الطاعون في القرن السادس في المحافظات الشمالية: نينوى وحدياب وكرخ سلوخ، والذي أودى بحياة كثيرين. فدعا رعاة الكنيسة الناس إلى الصيام والتوبة والصلاة مدة ثلاثة أيام إقتداءً بأهالي نينوى ليكف عنهم الطاعون.
   والسبب الثالث يعود إلى خلاص عذارى دير بقرب نينوى من أمير المنطقة الوثني، الذي أرسل جنده ليحملوهن إليه فيختار منهن من يشاء. ولما وصلهن النبأ قضين ليلتهن بالصلاة والصوم، فكان أن مات الأمير في الليلة نفسها. ونظراً لأهمية هذه الأحداث: غفران الله للآباء والأجداد وخلاصهم، وتذكرة الأبناء بلزوم التوبة والاحتراس، استحسن البطريرك حزقيال هذه الممارسة التقوية " وفي أيامه بطل الموت . . من الطاعون المسمى الشرعوط . . وبسبب ارتفاع الموت المذكور كان أن مطران باجرمي وأسقف نينوى اتفق رأيهما على عمل الباعوث وعرفا هذا الأب ( الجاثليق حزقيال ) ذلك فأعجبه. وكتب إلى سائر الأمصار الشرقية أن يكونوا باسهم متفقين على رأى واحد ونية واحدة ويصوموا ويصلوا ثلاثة أيام. أولها يوم الاثنين الذي قبل الصوم الكبير بعشرين يوماً. ويطلبوا من الله أن يرحمهم ويقبل سؤالهم مثلما قبل من أهل نينوى. ويرفع الموت عن خلقه. وأن يكون صيام هذه الثلاثة أيام مُأّبّداً طول الزمان. فلما عملوا ذلك قبل الله منهم ورفع الموت. ومن ذلك اليوم سميت هذه الباعوث صويمة نينوى لكونهم قالوا نعمل مثل أهل نينوى وتخلصوا مثلهم برفع السخط عنهم ". 
   ولا يزال ينقطع حتى اليوم مؤمنو كنيسة المشرق أينما وجدوا عن الطعام إلى الظهر، ممتنعين عن تناول الزفرين، ومعتبرين هذا الصوم بمثابة فصح ثانٍ.
   ويشمل طقس الباعوثا الذي رتبه وأقره البطريرك إيشوعياب الثالث على قسمين: القسم الأول يحتوي على صلوات يتلوها الكهنة، ومزامير مع ردات يرتلها الحضور، وترانيم " عونياثا "، وتسابيح وطلبات             " كاروزوثا ". أما القسم الثاني فيضم مداريش وميامر تأملية مقتبسة من الآباء، خاصة مار أفرام النصيبيني والملفان نرساي، وبركات تحث على التوبة والإقلاع عن الخطيئة إقتداءً بأهل نينوى والعيش في النعمة والمحبة. وتختم بالاحتفال بالقداس.
   وهناك بعض حركات رمزية مثلاً الركوع والنهوض بين مزمور وآخر وأثناء الطلبات والبركات. فالركوع يرمز إلى السقطة والنهوض إلى القيامة. وتحمل الباعوثا بلاغات موجهة إلى المؤمنين في مسيرتهم التوبوية ليعملوا بها:
   1_ إذا كانت نينوى قد تابت فكم بالأحرى على المسيحيين أن يتوبوا، وعدم توبتهم شك كبير.
   2_ على يونان رمز المؤمنين بالله، خصوصاً المسيحيين الخروج من التعصب الديني والقومي، للدعوة إلى السلام والمحبة واللاعنف والذهاب إلى نينوى لحمل راية المصالحة والسلام أينما كانت ومهما كان الثمن.
   3_ على نينوى رمز الأمم المحبّة للحرب والعنف نبذ أسلوب الحرب والعنف والقيام بأعمال المحبة والمودة.
   4_ على المسيحيين السلوك كأبناء لله لا كغرباء، والبقاء أمناء على بنوتهم وأخوتهم البشرية الشاملة مهما كانت المغريات.
   إن تمرد يونان الذي يمثل صورة الشعب اليهودي ورفضه الذهاب إلى نينوى، يعود إلى تطرفه الديني والقومي. فكونه يهودياً ونينوى وثنية من جهة، ويقينه أن نينوى إن تابت يغفر لها الله فتغدو سلاحاً بيده لمعاقبة اليهود من جهة أخرى، يجعله يهرب بعيداً. ويفضل بالتالي التضحية بنفسه للحيلولة دون تحقيق ذلك. أما نينوى فهي رمز الشعوب المحبة للحرب، للعنف والشر والدمار. وتقوم التوبة بالنسبة إلى كليهما على انفتاح القلب والعقل على الله وعلى الإنسان، وبالنتيجة تغير السلوك الغير الطبيعي بنبذ التطرف والعنف والتزام السلام والمحبة والأخوة. وعلى حركة سفر يونان تسير صلوات الباعوثا لا سيما قراءات اليوم الثاني المقتبسة من ميامر مار أفرام النصيبيني الذي يعتبر يونان ونينوى نموذجاً للتوبة.
   وتصف الرتبة بإسهاب واقع المسيحيين الغريب ونزعهم صورة بنوتهم الإلهية التي تسميها " ذخيرة البنين " وذلك بفساد أخلاقهم واستسلامهم للشهوات: " أخطأنا إلى الخالق، هذا هو خزينا، دعانا أبناءه ولوثنا التسمية. من منا يفكر أنه قد أخطأ، جيلنا الخاطىء هذا، لا يشعر بالخطيئة ولا يقر بها بأنها خطايا، الحقيقة مرفوضة والقيم مغلوطة، الزائل مقبول والدائم مرذول، ولأقوال معسولة وفحواها مسموم ". 
   ويعدد ميمر ينسب إلى مار أفرام النصيبيني هذه الخطايا القائمة: الشراهة، الطمع، إشباع الحواس،الكبرياء، الكسل، الكلام بلسانين، الافتراء، النميمة، الحسد، البخل، قساوة القلب، الاستهزاء بالآخرين. إلى حد يشبه الميمر الحالة القائمة وغير الإنسانية بحالة أهالي نينوى وسدوم، " من لا يحزن أمام ازدياد ذنوبنا وتفاقم خطايانا. لقد غرقنا في الشهوات كمن في البحر بحيث غدا الحق ظلاماً، والإثم نوراً يضيئه حطب رذائلنا ". 
  " إن شرورنا فاقت شرور الأجيال كلها وإثمنا تجاوز إثم الجميع. شرنا كالسيل غمر الأرض . . كل واحد منا في صراع. من لا يحزن أمام تفشي الحقد في قلب الكهنة والإثم في القضاة والاحتيال في الأسواق ". 
   في مناخ كهذا تغيب الحقائق العميقة التي تمكن الإنسان من الاعتماد عليها:" بإرادتنا الشريرة وميولنا السيئة نزعنا عنا احترام الناطقين، وجردنا أنفسنا من الفهم الذي احترمنا به الله ". 
    ويعرف واضعوا هذه الرتبة المناخ الفكري والروحي والثقافي والاجتماعي لأبناء عصرهم، من حكام ومزارعين ورعاة، فيحاولون بأشكال عدة وصور مختلفة وأساليب متنوعة أن يفضحوا خطاياهم، ويوعونهم بحالتهم التعيسة ليحركوهم نحو توبة جذرية تصل إلى عمق كيانهم فيتجددوا من الداخل بالروح القدس.  ينطلق مفهوم التوبة كما تعكسها نصوص الباعوثا من أدراك المؤمن حالته غير الطبيعية ووعيه بجسامة الموقف الذي أن استمر فيه يؤدي به إلى الهلاك وتسميه الصلوات  بـ " نير الموت ". وما هذا النير إلا نزع البنوة الإلهية: " إقبلنا يا رب مثل الابن الوارث الذي بدد ماله، وضع في يدنا الخاتم عربون ملكوت الحياة ". 
   والتوبة هي فرصة الابن الضال للعودة إلى الأب والعيش بحسب وصاياه، وهي قوته للانتقال من الشر إلى النعمة، ومن الفوضى إلى التوازن والسلام، ومن الموت إلى وفرة الحياة. وهذه التوبة قطعية لا تتكرر، فإذا عدنا إلى الخطيئة فتوبتنا زائفة، ومسيرة راقية في عمق كيان الإنسان مبنية على أساس إنسانية الله نفسه التي ظهرت في يسوع المسيح الذي صور محبة الله " أبوته "، وصور الإنسان الحقيقي  " الابن " كما يريده الله. وعليها يقوم رجاء الخاطئ في نيل الغفران والخلاص من الله مصدرهما: " أيها الصالح ينبوع كل خير ومصدر كل عون، أعط ساجديك المتكلين عليك القوة وارحمهم واقبل باعوثهم وتوبتهم ".   
   وتحذر الصلوات من السقوط في اليأس. فمن يصلي بصدق وثقة يسكن الرب عاصفة حياته كما سكن سفينة الرسل المهددة في البحر، وغير دموع الخاطئة إلى الفرح. وتوصي الرتبة باتخاذ عدة خطوات عملية لتأتي التوبة ثمارها اليانعة:
   1_ تجنب كل ما هو إفراط أو خلل في التوازن بين العقل والشهوات والسيطرة على الأهواء، والحد من الشوق إلى الماديات، وبالعكس التوجه إلى الخيرات الباقية.
   2_ الصلاة بثقة وطلب الرحمة والانسحاق ببكاء ودموع غزيرة وحزن، وتتكرر هذه الدعوة مراراً: " أيتها النفس الشقية انهضي واصرخي إلى الرب بدموع وتنهدات واطلبي غفران ذنوبك ". 
   وتعرض مشاهد مشجعة من الكتب المقدسة لأناس تابوا مثل داؤد الملك، حزقيال ، لص اليمين ، الزانية ، الابن الضال ، زكى العشار ، الرسول بطرس، الأبرص .
   وتقدم أمثلة على الصلاة الواثقة مثل صلاة إيليا ودانيال وحننيا ورفاقه في الجب والمرأة الكنعانية . والصلاة ليست فقط كلمات نرددها، إنما أفعال نعيشها: " تعالوا جميعاً نلتجئ إلى الله بالصلاة، فبها يفتح لنا كنوز السماء. ومثلما تراتيلنا جميلة هكذا ينبغي أن تكون سيرتنا. بكلماتنا التي نطبقها بالأعمال، إنما نرضي الرب ". 
   3_ الصوم وهو مرتبط أساساً بالتوبة، وتعتبره الباعوثا وسيلة ناجحة لضبط الأهواء والسيطرة على النفس " بالصوم النقي والمقدس نعد أنفسنا ونستأصل من قلوبنا الرذائل ونرميها بعيداً ".
   " بالصوم اربط جسدك الشره كمن على النير حتى يسير في درب الحياة   الروحية ". 
   والصوم يكفر عن الخطايا أيضاً " إن الصوم يبطل عقاباً قد وجب ". 
   4_ قراءة الكتب المقدسة والتأمل في كلمة الله المحيية، إذ فيها مرسوم الطريق المؤدية إلى الملكوت " حتى لا يتيه في الماديات الزائلات ". 
   5_ القيام بأعمال المحبة والمودة " املأ مائدتك ليتنعم بها المساكين وأعطِ الصدقة ".
   6_ تجنب الاختلاط بالوثنيين والكفرة " لئلا يفرغ الإيمان وتضعف المعمودية من خلال التخلق   بعاداتهم ".
   7_ الرجوع إلى الكنيسة للاعتراف والاسترشاد والمعالجة: " إن ربنا قد أعطى دواء التوبة إلى أطباء مهرة هم كهنة الكنيسة، فمن أصابه الشيطان بأوجاع الإثم، ليأت عند تلاميذ الطبيب الحكيم ويريهم جروحه وهم يشفونه بدواء  روحي ".   " ليعترف كل واحد بخطاياه وينال المغفرة. هبوا أيها الخطأة عاجلاً إلى التوبة واعترفوا بالذنوب لتنالوا المغفرة ". 
   وهناك عونيثا " ترتيلة " في اليوم الأول تلخص الخطوات العملية للتوبة: " بالصلاة والصوم والألم نتضرع إلى المسيح ليقبل توبتنا ويخلصنا بمراحمه ويمنحنا مغفرة الخطايا ". 
   وتتويجاً لهذه التوبة واستعادة الشركة مع المسيح والأخوة تأتي الأفخارستيا والمناولة. وختاماً إن الباعوثا لا تزال تحمل بلاغات ملحة إلى إنسان اليوم، وعوض أن تبقى طقساً ننفذه كما هو، يمكن تأويلها وتأوينها بحيث تخاطب الإنسان المشرقي المعاصر، وتهديه وتشده أكثر إلى الله والإنسان.
   وتتألف صلاة اليوم الأول من جلستي صلاة، وتنسب القراءات والمداريش فيها إلى مار أفرام النصيبيني، وفيما يلي مقتطفات من الجلسة الأولى:
عَوُغ اِيًوُسُعقظُصغ. عَوُغ نُبٌِظ بَقرًيُغ. عَوُغ اِيًوُقَا ظقُتدُُُصْض. 
يــــا رب ارحمنا. يــا رب اقبل طلبتنا. يـــــــا رب ارضَ عنّا.
جواب
* هذا زمن التوبة، هيا بنا نبتهل: نلقي هموم الدنيا المعوقة لنا، ومن الله نطلب: الحنان والرحمة.
* هبوا أيها الخطاة، عاجلاً إلى التوبة: اعترفوا بالذنوب لتنالوا المغفرة، فالمراحم  كثيرة: للنفوس
    الكسيرة.
* قولوا لله قولاً ملؤه المصالحة: وللمسيح صوموا، صوماً ينقي الأدران، ادعوا  دعاءً حاراً: يا ربنا ارحمنا.   
القراءة الأولى
* مـــــــن يأتي للباعوثا ينقي أفكاره        ويعد ســــــــــــمعه مثل الأرض للفلاح.
    يأتيه بذر الحياة إذا رغب فيـــــــــــه       سمعه يتصفى كالعين في وضح النور.
* مضى ليل الخطيئة واتـــــى نور النهار    علينا أن نســــلك سلوكاً مستنيراً.
    حتى متى نغطُّ فــــــي سبات الخطايا    لماذا لا نســـــتيقظ ونغتسل بالتوبة.
* فالراعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي قد خرج      يطلب الخروف الضـــــــــــــــــــــــــــــال.
    مـــــــــــــــــا بالنا لا نعود تائبين إليه      فهو يعود بنا إلـــــــى موطن الحياة. 

مدراش " تعليم "
الردة: هلموا نتوب هو ذا المجال. من بعد الوفاة لا يبقى مجال.
* سبحانك ربي كم أنت صبور، طويل الأناة على اثمنا. أخطانا إليك، نافقنا لديك. فيما بيننا، قساة
    القلوب. حسدنا الرفيع ظلمنا الوضيع. عمرنا قصير. اثمنا كبير.
* ربي ما أعجب عدالتك. كيف تسكت عن السيئين. رســمت لنا طريق الحياة. رفضنا الحياة ســــرنا
    للممات. وهبت البقاء فضلنا الفناء. لا خير فينا إلا بالأسماء.
البركات
* أيها البحر المملوء أمناً وسلاماً. الردة: نعم يا رب.
    أعطِ الدنيا سلامك وأمنك. الردة: أمين.
* رب الأكوان لين قلوب البشر. نعم يا رب.
    أبطل الحرب والدمار من العالم. أمين
* يا أبانا أقبل منا توبتنا. نعم يا رب.
    واشملنا برحمتك وعطفك. أمين. 
   وفي قداس اليوم الأول نقرأ فصل من إنجيل متى 18: 23 _ 35 والذي يتحدث عن الرب يسوع الذي لم يكتفِ بالتعليم عن الغفران فحسب، بل أبدى استعداده الدائم للغفران. وما مثل الملك الذي أراد أن يحاسب عبيده إلا تشجيع لنا لندرك مدى استعداده لأن يغفر لنا، فهذه هي توجيهات يسوع للتعامل مع الذين يخطئون إلينا. ففي الماضي كانت تنتظر المدينين الذين يعجزون عن سداد ديونهم عواقب وخيمة. لكن مع يسوع نجد أن الله غفر لنا كل خطايانا، فيجب علينا ألا نضن بالغفران على الآخرين. حتى لا نكسر وصية المسيح، والتي أساسها المحبة.


86
تذكار الإنجيليين الأربعة
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية: القراءة الأولى: أعمال الرسل 5 / 12 _ 32 وكان يجري عن أيدي الرسل . . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 4 / 9 _ 16 لأني أرى أن الله أنزلنا نحن الرسل . . + 2 قورنتس 1 / 8 _ 14 فإننا لا نريد أيها الأخوة أن . . .
القراءة الثالثة: متى 9 / 35 _ 38 وكان يسوع يسير في جميع المدن والقرى . + متى 10 / 1 _ 15 ودعا تلاميذه الاثني عشر فأولاهم . . . 

   1_ الإنجيلي متى:  متى من الاسم العبري " مثتيا " الذي معناه " عطية الله ". وهو أحد الاثني عشر رسولاً وكاتب الإنجيل الأول المنسوب إليه، وسمي لاوي ابن حلفى. وكان في الأصل جابياً في كفر ناحوم.   
  كان الرسول متى من الجليل نظير الرسل، ما عدا يهوذا الإسخريوطي. ولم يكن صياداً على مثال بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا، أعني من عامة الناس الذين لا شأن لهم في المجتمع الإسرائيلي الراقي، بل كان أحقر من ذلك بكثير لأنه كان عشاراً. وكان العشارون بكثير جباة رسميين يعملون لحساب الرومانيين الفاتحين، لذلك كانوا ممقوتين عند الشعب، ومعدودين خطأة في نظر الناس وأمام الشرع الإسرائيلي. إلا أنه كان أمام الله إسرائيلياً مستقيماً، على مثال زكا العشار زميله في الوظيفة. وكان بلا ريب من أولئك العشارين الذين كانوا يتراكضون إلى سماع أقوال يسوع ومواعظه، لأنهم كانوا يجدون فيها ندىً سماوياً وتعزية روحية لقلوبهم المسكينة المتألمة، المتعطشة إلى الحق والحياة.
   وبعد أن شفى يسوع المخلع في كفر ناحوم وغفر له خطاياه، ترك البيت الذي كان فيه وخرج: " فرأى رجلاً جالساً عند مائدة الجباية اسمه متى، فقال له اتبعني. فقام وتبعه ". إن يسوع نظرا إلى متى فوجد فيه ضالته، ورأى بسابق عمله رسولاً غيوراً، وإنجيلياً سماوياً، وشهيداً مجيداً، فدعاه إلى الانضمام إليه. ففي الحال ترك متى كل شيء وتبعه.
   ولكي يظهر له شكره على ذلك الشرف الأثيل الذي خصه به يسوع. صنع له عشاءً عظيماً ودعا إلى ذلك العشاء الكثيرين من زملائه العشارين، ومن أولئك الخطأة الشرعيين. ولكي يظهر الفادي الإلهي رضاه عن ذلك الاجتماع، وانشراحه من وجوده بين أولئك الخطأة، أخذ ينتصر لهم ويدافع عنهم أمام الفريسيين، الذين أخذوا يتذمرون عليه بقوله: " لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، لكن ذوو الأسقام. فأذهبوا وأعلموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آتِ لأدعو صديقين بل خطأة ".
   ومن بعد حادث الوليمة لا نجد لمتى الرسول ذكراً خاصاً به في الأناجيل الأربعة. بل كانت حياته مع الفادي الإلهي حياة سائر الرسل، فإنه لزم الرب يسوع نظيرهم، وسمع أقواله ورأى عجائبه، وفرح بمشاهدته من بعد قيامته، وامتلأ من الروح القدس يوم العنصرة، وبدأ بشارته في أورشليم مع الرسل، واحتمل معهم الإهانة والضرب والسجن لأجل اسم الرب يسوع.
   وكان مغتبطاً مثلهم بتلك الإهانة وذلك العذاب. فلما حان الوقت دعاه فيه الرب إلى نشر الإيمان في أقطار الدنيا، فقبل مغادرته أورشليم وبلاد اليهودية، وضع إنجيله الشريف ليبقى ذكراً ودستوراً لأبناء قومه من اليهود والمتنصرين. هذا رأي افسافيوس نقلاً عن القديس اكلمنضس الإسكندري، وهو رأي القديس ايريناوس أيضاً. ومن بعد ذلك قام يطوف بلاد الله الواسعة ويبشر بكلمة الرب.
   ومنهم من يقول أنه بشر في بلاد العرب، وآخرون يقولون أنه طاف في بلاد فارس وبلاد البرتيين، وغيرهم يقول أنه وصل إلى بلاد الحبشة، وهدى تلك الشعوب الطيبة إلى الإيمان بالمسيح. ويقول القديس اكلمنضس الإسكندري في كلامه على فضائل الرسول متى، أنه كان كثير العبادة والصيام. وأنه لم يكن يذوق اللحم مطلقاً، بل كان يغتدي بالأعشاب والحبوب. وأنهى القديس متى حياته بالاستشهاد في بلاد الحبشة.
   وضع القديس متى إنجيله لأجل العبرانيين المتنصرين. وربما وضعه باللغة الآرامية التي كان يتكلمها أهل فلسطين، ثم نقله إلى اليونانية خدمة للشعوب التي مر بها مبشراً ومعلماً. ولم تكن غايته من وضع ذلك الإنجيل أن يسرد حياة يسوع وتعاليمه وعجائبه بنوع تاريخي منظم ومرتب، بل أن يورد بعض الحوادث وبعض المواعظ، ويبين للعبرانيين أن يسوع هو المسيح المنتظر، وأنه هو الملك الحقيقي، وهو المشترع الأكبر، وهو النبي الأسمى، وهو الحبر الأعظم.
   والإنجيلي متى يقابل دائماً بين ما كتبه الأنبياء عن المسيح، والأحوال التي ظهر فيها الرب يسوع على الأرض، ويبين للذين كانوا لا يزالون مصرين على عنادهم أنهم في ضلال. ولقد أجمع المفسرون الكاثوليك على أن إنجيل متى هو الأول بين الأناجيل الأربعة، وأن الرسول متى كتبه بلا ريب قبل السنة السبعين، بل حول السنة الخامسة والأربعين.           

   2_ الإنجيلي مرقس: مرقس اسم لاتيني يعني " مطرقة ".  يرجح أن مرقس كان من أورشليم وهو من أهل الختان. وكان لأمه مريم بيت في تلك المدينة، حيث كان المؤمنون في بادئ أمرهم يجتمعون فيه للصلاة وكسر الخبز.
  ولقد جاء في أعمال الرسل أن بطرس الرسول لما أطلقه الملاك من السجن، ذهب يطلب من المؤمنين مخبأ له في بيت مريم أم مرقس. واختلف الباحثون الكنسيون في هل كان مرقس من تلاميذ المسيح السبعين أم لا. وحوالي سنة 42 رافق مرقس الرسولين بولس وبرنابا في السفرة الرسولية الأولى إلى جزيرة قبرص وإلى نواحي بمفيليا، وشاركهما في الأتعاب والأثقال والتبشير. لكنه ما لبث أن تركهما وعاد إلى أنطاكية. ولما عولا على القيام بالسفرة الثانية وأراد برنابا أن يستحبا مرقس نسيبه ثانية، عارض بولس ذلك، فوقع بينهما مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر. فأخذ برنابا مرقس وأقلع إلى قبرص. وقد أصر برنابا على أن يرافقه مرقس، لأنه كان يعرف غيرته وحسن خدمته وثقافته وفطنته. إلا أن بولس عاد فتصالح مع مرقس، وقبله في رفقته، وصار يعتمد على تفانيه. ولقد ذكره مراراً في رسائله بكلام محبة وإطراء وتقدير. وقد رافقه مرقس إلى رومة. ثم لزم مرقس هامة الرسل بطرس في رومة، فكان له كاتباً لأقواله ومدوناً لبشارته. حتى أن بطرس يدعوه ابنه: " تسلم عليكم الكنيسة المختارة في بابل، ومرقس ابني ". ولقد اتفق المفسرون على القول بأن إنجيل مرقس لم يكن سوى خلاصة بشارة القديس بطرس. وقد كتب مرقس إنجيله باليونانية، لأنها كانت اللغة الشائعة في كل أقطار الدنيا، حتى في رومة وفي جميع أنحاء المملكة الرومانية.
   ويقول القديس ايريناوس وهو من آباء القرن الثاني ما يلي: "  أن مرقس تلميذ القديس بطرس ومدون أقواله بدأ إنجيله هكذا: بدء إنجيل يسوع المسيح ".
   أما اكلمنضس الإسكندري الذي تجول في إيطاليا وبلاد اليونان وسوريا وفلسطين، يقول أنه أخذ عن الأقدمين بشأن إنجيل مرقس ما يأتي: " لما بشر بطرس الناس جهاراً في رومة، رغب كثيرون إلى مرقس أن يدون لهم تلك البشارة بالكتابة، لأن مرقس كان قد لازمه زماناً طويلاً، وكان يذكر كلام ومواعظ معلمه. فوضع مرقس إنجيله ودفعه إلى من كان قد طلبه منه. فلما علم بطرس بذلك لم يشجعه على عمله، ولم يمنعه عنه أيضاً ".
   ويلخص القديس ايرونيمس جميع ما كتبه الآباء من قبله في هذا الموضوع بقوله: " والإنجيل الثاني هو لمرقس الذي دون بالكتابة بشارة القديس بطرس، وأضحى الأسقف الأول على مدينة الإسكندرية ". ومن بعد ذلك ذهب مرقس إلى مدينة الإسكندرية ليبشر هناك بالمسيح، فكان أول أسقف عليها. ونجح في عمله بين الشعوب العديدة، التي كانت تملأ شوارع ومتاجر ومسارح وملاهي تلك العاصمة اليونانية المصرية العظيمة.
   إن الشعب المصري شعب عريق في المدينة، ولوع بعلوم الفلسفة التي سبق اليونان إليها. وكان كهنته لهم فيها أساتذة، فاهتدى إلى الإيمان بالمسيح على يد مرقس عدد كبير من اليونان والمصريين واليهود. حتى تنبه عبدة الأصنام إلى ما يداهمهم من الأخطار بسبب ذلك المبشر الجديد القدير. ففي ذات يوم إذ كانوا يحتفلون بأحد أعيادهم، تفرقوا في طلب الأسقف مرقس، فوجدوه يقيم الذبيحة الإلهية. فقبضوا عليه وربطوه بالحبال واخذوا يجرونه في شوارع المدينة، ممزقين جسده الضعيف الذي أضنته الأسهار والأصوام والأسفار. أما هو فلم يكن ينطق بكلمة توبيخ أو تنديد أو تذمر. بل كان يسبح الرب يسوع الذي وجده أهلاً لأن يتألم من أجله. وأعادوا الكرة عليه يومين متوالين، ففاضت روحه الطاهرة وهو في ذاك العذاب الأليم، وذهبت لتشاطر المسيح أفراح النعيم. وكان ذلك سنة 68 للمسيح. ومن بعد موته أحرق أولئك الآثمة جسده، ولكن ليس كله. فجمع المؤمنون أعضاءه الكريمة وجعلوها في قبر. وأضحى ذلك القبر مزاراً عظيماً للمؤمنين يأتون لزيارته والتبرك به من مشارق الأرض ومغاربها. 

   3_ الإنجيلي لوقا: لوقا اسم لاتيني ربما كان اختصار لكلمة " لوقانوس " أو " لوكيوس ". ويدعوه بولس الرسول في رسالته إلى أهل قولسي " الطبيب  المحبوب ".  هو ثالث الإنجيليين وواضع كتاب أعمال الرسل. وهو رفيق بولس الرسول في أسفاره، وشريكه في رسالته وأتعابه، وشهيد المسيح نظير سائر الرسل القديسين. خرج لوقا من أنطاكية. كان طبيباً ولم يكن يهودياً بل كان يونانياً من عبدة الأوثان. وأقتبل الإيمان على أيدي التلاميذ الذين نزحوا من أورشليم وأتوا أنطاكية، واخذوا يبشرون باسم يسوع نحو سنة 35، أي عقب الاضطهاد الذي أثاره اليهود على الكنيسة فقتلوا إسطيفانوس رجماً بالحجارة.
   ولقيه بولس في سفرته الثانية في مدينة ترواس، فوجد فيه ضالته وأحبه واتخذه رفيقاً له. ولكن يظهر أن لوقا رافق بولس إلى مقدونية وإلى فيلبي ومكث هناك. وفي أواخر سفرة القديس بولس الثالثة يتقابل الرسولان معاً في فيلبي أيضاً. ومنذ ذلك الحين يعود لوقا إلى ملازمة بولس، وبقي برفقته ربما حتى آخر أيام هذا الرسول العظيم. فعاد معه إلى أورشليم ولبث بالقرب منه في قيصرية مدة سنتين، فكان يخدمه ويؤاسيه ويأتمر بأمره، ويكتب تاريخ أعماله بكل غيرة وتجدد وتفان.
   ثم أقلع معه إلى روما لما ذهب إليها مخفوراً، واحتمل معه شدائد الزوابع في البحر، وبقي بقربه في روما مدة الأسرين الأول والثاني. إلا أن لوقا لم يسجن مع بولس نظير أرسترخس، بل بقي حراً طليقاً، وكان الخادم الأمين والصديق الوفي الحبيب. أما عن بقية حياته فلا نعلم شيئاً. وهذا دليل كبير على ما اتصف به ذلك الرسول من الفضائل السامية، وأخصها الغيرة الرسولية المقرونة بالتواضع العميق. " وهناك أساطير لاحقة جعلت من لوقا شهيداً، وأساطير أخرى أقرب في الزمن جعلت منه رساماً، وقد يعود ذلك إلى صفاته التلوينية في فن الرواية ".
   فمع أنه كتب الإنجيل الثالث، ووضع كتاب أعمال الرسل، وذكر ببعض الإسهاب ما حدث للرسول بولس في حياته الرسولية، قد أغضى عن ذكر نفسه. وسكت عن أعماله، حتى لقد ترك شيئاً من الشك يحوم حول شخصه ورسائله.
   إن لوقا لم يعاين الرب يسوع، ولا سمع كلامه، ولا تعلم الإيمان منه بوحي خاص، كما جرى لبولس الرسول لكنه اعتمد في كتابة إنجيله على وثائق خطيرة ثابتة، منها كتابية ومنها شفهية. أما الكتابية فهي إنجيل متى وإنجيل مرقس اللذين سبقاه في الكتابة، ثم بعض الكتب الخاصة التي منها استقى ما كان صحيحاً ومقبولاً في الكنيسة، ونبذ ما وجد فيها محرفاً ومختلفاً.
   أما الشفهية فهي ما سمعه من بشارة بولس في رحلاته الرسولية، ومن كرازة الرسولين بطرس وبرنابا في إنطاكية، ومن أحاديث الشماس فيلبس في قيصرية، ومن كلام القديس يعقوب أخو الرب في أورشليم، ولا سيما ما استقاه من فم البتول مريم وزيارتها لنسيبتها إليصابات، وعن إلتجاء العائلة المقدسة إلى بلاد مصر هرباً من غضب هيرودس الملك، وعن حداثة يسوع في بيت يوسف ومريم. ولم يتوصل إلى معرفته بتلك الدقة والصراحة والأمانة في الرواية إلا من فم تلك البتول التي كانت تحفظ ذلك الكلام كله في قلبها.
   وكتب لوقا إنجيله باسم العزيز ثاوفيلس ، ويغلب الظن أن تاوفيلس هذا إنما هو اسم مستعار، أراد به لوقا جماعة الأمم المتنصرة، وجماعة اليهود الذين آمنوا أيضاً بالرب يسوع، وبوجه عام كل نفس تحب الله أو محبوبة لديه.
   أما غايته فهي تاريخية ودفاعية معاً بحسب ما جاء في فاتحة إنجيله إذ يقول: " رأيت أنا أيضاً بعد أن أدركت جميع الأشياء من الأول بتدقيق، أن أكتبها لك بحسب ترتيبها أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي وعظت به ".
  ولا يعرف بالتدقيق متى وضع لوقا إنجيله، ولكن من المؤكد أنه وضعه قبل السنة السبعين. واختلف الرواة في أمر المكان الذي كتبه فيه، لكن هذا شيء لا قيمة له في نظر التاريخ. ومن مميزات هذا الإنجيل أنه يصلح أن يدعى بحق إنجيل الرحمة، لأنه يذكر كثيراً من الحوادث التي تدل على حنان يسوع ورحمته نحو الخطأة، والتي تبين على الأخص عطفه نحو الأمم، وذلك لكي يصب في قلب الأمم المتنصرة عواطف الرجاء والثقة بالمسيح.
   إن إنجيل القديس متى يبين أن يسوع المسيح المنتظر. وإنجيل القديس مرقس يقدمه للرومانيين بكونه ابن الله الحق. أما إنجيل لوقا فهو رسم بديع للرب يسوع بصفته طبيب البشرية ومخلص العالم. أما كتابه أعمال الرسل فهو مجموعة الحوادث التاريخية التي أوحاها الله، ووضعها القديس لوقا بالكتابة ليبين كيف نشأت الكنيسة، وكيف انتشرت بين اليهود والأمم، وماذا كان إيمانها وتعليمها. وهذا الكتاب لا يحتوي على تاريخ أعمال الرسل أجمعين، بل يقتصر على ذكر بعض الحوادث التي جرت لبطرس وبولس. فشخص بطرس يملأ الفصول الأثني عشر الأولى، وأعمال بولس هي موضوع الفصول الستة عشر الباقية. ويعتبر كتاب أعمال الرسل تتمة للأناجيل، وهو نور يضيء ما غمض وصعب فهمه من كتاب الرسائل، ولا سيما رسائل بولس، وهو مجموعة بديعة للعقائد المسيحية كما بدأ يبشرون بها وينثرونها بين الشعب. وهو كتاب يجد فيه المؤمن المتعبد أسمى التعاليم الروحية، وصورة حية للفضائل المسيحية التي امتاز بها الرسل القديسون والمؤمنون الأولون، نظير الغيرة والتجرد والسخاء وكرم النفس والصبر على الشدائد. 
     
   4_ الإنجيلي يوحنا: يوحنا اسم عبري يعني " الله حنون ".  يوحنا البشير أخو يعقوب الأكبر، الملقب بـ " التلميذ الحبيب ".  هو ابن زبدى الذي كان يحترف مهنة صيد السمك في بحر الجليل، وأمه صالومي التي من بعد دعوة ابنيها يعقوب ويوحنا انضمت إلى النسوة القديسات اللواتي كن يتبعن يسوع ويخدمنه. ويغلب الظن أن هذه الأسرة كانت تسكن مدينة بيت صيدا.
   كان يوحنا ابن اثنتين وعشرين سنة لما بدأ يوحنا المعمدان يكرز ببشارة التوبة ويعمذ على ضفاف نهر الأردن. فتتلمذ وجعل يتردد عليه مع مواطنيه أندراوس وبطرس وفيلبس ونثنائيل. وبعد عماد يسوع من يوحنا تبعه ولازمه، فعاين الآية الأولى التي صنعها في قانا الجليل  نزولاً عند رغبة والدته مريم. ومنذ تلك الساعة حفظ يوحنا في قلبه لتلك الوالدة احتراماً بنوياً يمازجه الحب والتقدير والثقة. تم تبع معلمه الإلهي إلى أورشليم، وحضر معه عيد الفصح في الهيكل، وشاهده بإعجاب مع شيء من الذهول يطرد الباعة، ويقلب موائدهم، وينثر دراهمهم. ولما عادوا إلى الجليل ذهب يسوع في سبيله، ورجع يوحنا إلى بيته وأبيه وصيده. لكن طيف يسوع لم يعد يفارقه البتة لا في ليله ولا في نهاره. أما يسوع فكان قد قرر أن يدعو يوحنا وأخاه يعقوب إلى شرف الرسالة وأتعابها، بل كان قد اختارهما ليكونا خصصيه وحبيبه مع بطرس هامة الرسل، دون سائر من سوف يدعوهم من التلاميذ. وكان قد وسم يوحنا بوسم إلهي، وخصه بعطف وحب ممتاز، فسوف يكون لقبه الدائم " التلميذ الذي يسوع أحبه ".
   وفيما يسوع كان ماشياً على شاطئ بحر الجليل رأى أخوين وهما يعقوب بن زبدى ويوحنا أخوه في سفينة مع أبيهما زبدى يصلحان شباكهما، فدعاهما وللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه. وكان يوحنا أول من تبع يسوع في بشارته، وآخر من تركه في عشية آلامه من بعد موته. وكان أكثر الرسل حباً له وتعلقاً به. فهو الشاهد على ألوهيته وأعماله وأقواله ومعجزاته وخفايا قلبه وحنانه، ومجده على جبل تابور  وصلبه على جبل الجلجلة. فلم يكن يوحنا الرسول فحسب، بل كان الصديق الأخص، والأخ الأصغر. ولما رأت صالومي أم يعقوب ويوحنا عطف يسوع على أبنيها، لعب الطمع في قلبها. فجاءته يوماً وسجدت له وطلبت أن يُجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره عندما يصبح ملكاً على إسرائيل. فالتفت يسوع إلى تلميذيه وتنهد وقال: " أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا، أو تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا ". فقالا له: " لا نستطيع ". وقد اختاره يسوع ليكون مع أخيه يعقوب وبطرس شاهداً يوم قيامة ابنة يائيروس، ورفيقاًً له على جبل تابور يوم التجلي. وميزه مع بطرس لإعداد ما يلزم للفصح الأخير ولكتمان سر مكان الاجتماع، وخلال العشاء السري كان يوحنا متكئاً على حضن يسوع، وهو الذي كان يسوع يحبه. واستصحبه معه ليلة الأحزان في بستان الزيتون  ليكون معزياً له في شدته مع بطرس ويعقوب. وما أن ألقى الجند الأيدي على يسوع حتى تبدد الرسل وهربوا وانهزم معهم يوحنا. ثم ما لبث أن عاد يتبع يسوع ويعلل النفس بأن يراه يفلت من أيدي أعدائه. وبقي يتبعه حتى أتى معه إلى قمة الجلجلة. وهناك عند الصليب وقف إلى جانب مريم أم يسوع ومريم التي لكلوبا  ومريم المجدلية  يذرف الدموع السخية على معلمه وحبيبه وإلهه. فراق يسوع ذلك الحب المتألم، ومشاركة أمه وتلميذه له في افتداء البشر. فقال لأمه: " يا امرأة هوذا أبنك ". ثم قال للتلميذ: " هذه أمك، ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى بيته ". وقد أراد يسوع أن يكون يوحنا ممثلاً للبشرية في تلك الساعة الرهيبة، فجعل بذلك أمه أماً للبشر الذين افتداهم بدمه الأطهر. وقد عاين يوحنا واحداً من الجند عندما فتح جنب يسوع بحربة، فخرج للوقت دم وماء، ويقول في ذلك: " والذي عاين شهد وشهادته حق ". وانزل يوحنا معلمه المائت على الصليب مع يوسف الرامي ونيقوديموس، وحمله بحب ووقار ووضعه في ذلك القبر الجديد. وفي صباح الأحد بكرت النسوة إلى القبر لكي يطيبن جسد يسوع، وإذ بهن يعدن مسرعات ويبشرن التلاميذ بقيامة الرب. فطار لب يوحنا من الدهش والفرح، فخرج يوحنا ومعه بطرس واقبلا مسرعين إلى القبر، وبعد أن دخلا القبر آمنا بقيامة الرب، فعادا واخبرا الرسل المجتمعين في علية صهيون  بالخبر السار. وبعد صعود يسوع إلى السماء وحلول الروح القدس على التلاميذ بقي يوحنا رفيقاً لبطرس في الصلاة والتبشير، ونجد إلى جانبه في الهيكل عندما منحا المخلع الشفاء باسم يسوع.
   وبعد أن رحل بطرس إلى آسيا ثم إلى روما، بقي يوحنا في أورشليم إلى ما بعد رقاد البتول مريم. لأن الرأي الأرجح يقول أن مريم لم تفارق أورشليم إلى حين رقادها. ثم ذهب يوحنا إلى مدينة أفسس العظيمة حيث تابع عمل أبولس وبولس. ويذكر أحد الكتبة أن يوحنا ،أنشأ في أفسس فرقة ملائكية من البنات والبتولات اللواتي خصصن بتوليتهن للرب. ويذكر ترتليانس أن يوحنا ذهب أيضاً إلى روما حيث قبض عليه على عهد الملك دوقيانس، وألقي في قدر مملوء بالزيت المغلي، وأنه خرج منه ولم يُصب بأذى. ثم نفي إلى جزيرة بطمس .
   وفي سنة 95 عاد إلى أفسس على أيام الملك نرفا وتابع عنايته بكنائس آسيا، إذ كان يشرف على إدارتها ويقيم لها أساقفة ويسهر على وديعة الإيمان فيها. ومات يوحنا وهو شيخاً طاعناً في السن، وكان قد جاوز المئة سنة من عمره، ودفن في مدينة أفسس بحسب الرأي الأرجح. وهذا ما يؤكده تلميذه بولكربوس في رسالته إلى البابا فكتور الأول  جاء فيها: " بين الكواكب التي انطفأ نورها في آسيا يجب أن لا ننسى يوحنا الذي اتكأ على صدر يسوع، والذي كان حبراً. وكان يحمل على جبته قطعة ذهب. فهو الشهيد والمعلم. وقبره في أفسس ".
   ومن المعلوم أن قطعة الذهب كان يحملها رئيس أحبار العهد القديم. وقد حملها يوحنا ليدل بذلك أن الكهنوت قد انتقل من المجمع إلى الكنيسة. وقد كتب يوحنا إنجيله لأجل اليونانيين، وليس لأجل اليهود. وكان غرضه من ذلك أن يبين أن يسوع هو المسيح المنتظر، وأنه أبن الله، وأن من آمن به تكون له الحياة الأبدية. ويقول بعض الآباء القديسين إن الغاية الثانية كانت لكي يكمل الأناجيل الثلاثة الأولى، التي رسمت لحياة يسوع الخارجية.
   أما إنجيل يوحنا فهو وصف رائع لنفس يسوع وألوهيته. ويقول القديس ايريناوس أن يوحنا كتب إنجيله في أفسس ما بين سنتي 85 و 95. وكتب يوحنا ثلاث رسائل. الرسالة الأولى كتبها في أفسس نحو سنة 95، وهي بمثابة توطئة لإنجيله. وكانت غايته منها دفاعية ولاهوتية وأدبية معاً، وهي موجهة إلى المسيحيين المؤمنين دون غيرهم ليذكي فيهم حرارة الإيمان. أما الرسالة الثانية فهي موجهة إلى السيدة المصطفاة وإلى أبنائها الذين أحبهم بالحق، ويغلب الظن أن هذه السيدة هي أحدى الكنائس. وموضوعها هو التحريض على طاعة الإيمان والتحذير من الخداعين وأصحاب البدع. والرسالة الثالثة هي باسم غايوس الحبيب وهي تمدح إيمانه وتقواه. أما سفر الرؤيا فقد كتبه في جزيرة بطمس عندما نفي إليها، أو ربما بعد عودته إلى أفسس من النفي. وفي هذا السفر البديع جمالاً رائعاً وتعاليم جليلة، عدا ما يحويه من النبواءت الكثيرة، وهو نشيد شائق يترنم بانتصار المسيح وكنيسته.
   والتقليد المسيحي أتخذ من الرموز المذكورة في سفر حزقيال رموزاً للإنجيليين الأربعة. فأعطى لمتى رمز ملاك، ولمرقس رمز الأسد، وللوقا رمز ثور، وليوحنا رمز النسر. " ومن وسطها شبه أربعة حيوانات، وهذا منظرها: لها هيئة بشر. ولكل واحد أربعة أجنحة، وأرجلها أرجل مستقيمة، وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل، وهي تبرق مثل النحاس الصقيل. ومن تحت أجنحتها أيدي بشر على أربعة جوانبها، وكذلك وجوهها وأجنحتها متصلة واحد بالآخر. والحيوانات لا تعطف حين تسير، فكل واحد منها يسير أمام  وجهه ". حزقيال ( 1: 5 _ 9 ).
   وتذكر هذه الحيوانات الغريبة بـ " الكريبو " الآشورية، واسمها يطابق اسم كروبي تابوت العهد. وهي كائنات لها رأس إنسان وجسم أسد وأرجل ثور وجناحا عقاب. وكانت تماثيلها تحرس قصور بابل. وخدَّام الآلهة الوثنيين هم مقرونون هنا بمركبة إله إسرائيل. وهذا تعبير مدهش عن سمو الرب. إن الحيوانات الأربعة الوارد ذكرها في سفر رؤيا يوحنا لها ملامح حزقيال الأربعة.  " وأمام العرش مثل بحر شفاف أشبه بالبلور. وفي وسط العرش وحول العرش حيوانات رصعت بالعيون من قدام ومن خلف. فالحيوان الأول أشبه بالأسد، والحيوان الثاني أشبه بالعجل، والحيوان الثالث له وجه كوجه الإنسان، والحيوان الرابع أشبه بالعُقاب الطائر. ولكل من الحيوانات الأربعة ستة أجنحة رصعت بالعيون من حولها ومن داخلها، وهي لا تنفك تقول نهاراً وليلاً: قدوس قوس قدوس الرب الإله القدير الذي كان وهو كائن وسيأتي ". رؤيا يوحنا   ( 4: 6 _  8 ). 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الإنجيليين الأربعة في الجمعة الثالثة من سابوع الدنح.















87
تذكار مار أنطونيوس أبي الرهبان
الشماس نوري إيشوع مندو 
 مار أنطونيوس الكبير أبي الرهبان: هو ذاك الكوكب الساطع الضياء، الذي أشرق في صحاري مصر العليا، فبدد ظلماتها، وملأها أنواراً سماوية، وجعل تلك القفار تموج بطغمات النساك والرهبان، واسمع تلك الفلوات مئات من السنين، بتسابيح ملائكية آناء الليل وأطراف النهار، ونشر في تلك البلاد عبير الفضائل المسيحية والكمالات الرهبانية، فعطرت تلك الصخور وبللت تلك الرمال، ولم يزل شذاها يفوح ويضوع ويملأ المسكونة. 
   ولد أنطونيوس نحو سنة 251 في مدينة كوما في صعيد مصر وتعرف اليوم بـ كوم العروس. نشأ في بيت كريم من أرباب الوجاهة والغنى. إلا أنه كان ميالاً منذ نعومة أظفاره إلى التقوى والتمسك بأهداب الفضيلة، وازدراء ملذات هذه الدنيا ونعيمها. ولم يرغب في العلوم العالية والآداب اليونانية، خوفاً من أن تفسد الوثنية عقله وتنال من فضيلته.
   ومات والداه وهو شاب يافع، وله أخت صبية أصغر منه. فلم تبهره الأموال الطائلة التي ورثها، بل بقي محتفظاً على فضيلته وطهارته، متمسكاً بحبال التقوى. وعني بأمر شقيقته، فكان لها الأخ الصالح المحب الشفيق.
   وكان أنطونيوس دائم التأمل بالإلهيات، كثير التفكير في زوال الدنيا ودوام الأبدية. فدخل الكنيسة يوماً، فسمع الكاهن يتلو الإنجيل ويقول: " إذا أردت أن تكون كاملاً فأذهب وبع كل شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني ". فسقطت تلك الآيات على قلبه سقوط الندى على الرياض، فأنعشت عواطفه وحركت كوامن رغائبه، وسمع في داخله صوتاً يقول له: " إن السيد له المجد يقول لك ذلك يا أنطونيوس، ويدعوك إلى ذلك الكمال المسيحي ". فسجد للرب وتضاءلت الدنيا في عينيه، ونظر إلى الصحراء القريبة، فاستهواه سكونها وعظاتها الصامتة.
   فذهب وباع أملاكه وضياعه وأعطى شقيقته ما يعود إليها من ميراث والديها، ووكل أمرها إلى بعض العذارى المتعبدات. ووزع ما خصه على الكنائس والفقراء، وقصد أحد النساك فتتلمذ له، وبدأ تحت إرشاده حياة الزهد والصلاة والطاعة والتجرد. ويخضع جسده بجميع أصناف التقشف والزهد. فلا يأكل إلا مرة واحدة في النهار، ويقضي أيامه ولياليه في التأمل والصلاة والشغل اليدوي، ويرقد على الحضيض، ويجلد ذلك الجسد الطموح المتمرد المملوء صحة ونضارة وشباباً واندفاعاً. إلا أن الله الذي يريد للفضيلة السامية أساساً صخرياً، سمح للشيطان أن يمتحن عبده أنطونيوس بجميع أنواع التجارب، فهاجمه الشيطان بكل قواه. فذكره بما كان يملك من ثروة واسم كبير ومجد أثيل فبدده. لكنه نظر إلى المصلوب، وصمد لذلك الهجوم الشيطاني بكل ثبات، فرحاً لكونه أضحى فقيراً ذليلاً لأجل المسيح. فعاد الشيطان ونازله في ميدان الأهواء الجسدية، فقاومه بكل ما اوتيه من عزم، بواسطة الصلاة والصيام وإماتة ذلك الجسد المتمرد والالتجاء إلى والدة الإله.
   وانفرد أنطونيوس يوماً في الصحراء ودخل قبراً قديماً، وبقي هناك أشهراً يمارس أعمال النسك والتقشف. فكان الشيطان يناوئه كثيراً. وجمع مرة جموعه وهجم عليه بصورة وحوش ضارية مخيفة من السباع والضباع والدببة والخنازير والحيات والعقارب. فكانت تزأر  وتعوي وتزمجر وتصفر وتهجم عليه وتمزق جسده بأنيابها ومخالبها. وكان هو يقاومها بإشارة الصليب ويصلي وينظر إلى السماء، وهكذا الليل بطوله. ولما لاح الفجر هدأت العاصفة وعادت تلك الوحوش أدراجها مكسورة، تاركة أنطونيوس مطروحاً على الأرض مخضباً بدمه. أما إرادته فكانت واقفة تهاجم لا تنثني ولا تستسلم.
   وبعد أن مارس سنين عديدة أعمال النسك استهوته الصحراء، فترك الديورة القريبة من المدن، وانفرد في الصحراء. فحمل معه شيئاً من الخبز يكفيه ستة أشهر. ولما رأى نفسه وحيداً في تلك الصحراء، شعر بداخله بفرح لا يوصف، وتراءى له مجد الله يملأ تلك البراري الصامتة. لكن الشيطان كان يتبعه وينظر إليه بعين الغضب، لعلمه بأن تلك البراري الموحشة سوف تصبح عما قليل آهلة بالرهبان، وأن ذلك الصمت الرهيب لن يلبث حتى يتحول إلى أصوات التسبيح تتصاعد إلى عرش الرب. وبقي كذلك سنين طويلة، وكان أحد الأخوة يأتيه كل ستة أشهر بشيء من الخبز والتمر والماء.
   وعندما عرف الناس مقره، أخذوا يأتونه زرافات ووحداناً، ليتبركوا به ويسمعوا أقواله ونصائحه. ورغب إليه كثيرون أن يقبلهم في عداد تلاميذه، ويسمح لهم بإتباع طريقته، فترك عزلته ونزل إلى ضفاف النيل في سهول الفيوم ، حيث أنشأ لهم ديورة عديدة، كانت تحيط بصومعته إحاطة الكواكب السيارة بالشمس المضيئة. وكان أنطونيوس مثالاً للجميع بالصوم والصلاة والتأمل العقلي وحفظ الصمت وشغل اليدين.
   وكان يلبس المسح على جسمه، ويرتدي من فوقه برداءٍ من جلد الغنم. وكان طعامه الخبز والملح وقليلاً من البلح. وكان لا يأكل إلا مرة واحدة كل ثلاثة أو أربعة أيام. وكانت مواعظه لأبنائه ولزواره بسيطة قليلة الكلام، ألا أنها كانت سهاماً نارية تذهب مسرعة إلى القلب فتستقر فيه.
   وبعد الاضطهاد الذي جرى بحق المسيحيين سنة 350، وكثر عدد الشهداء في البلاد المصرية، تألم أنطونيوس كثيراً لهبوب تلك العاصفة الهوجاء، وأوصى رهبانه أن يلتجئوا إلى الله بالصلاة والصوم ليخفف عن الكنيسة ويلاتها، ويشدد عزائم الشهداء تحت سيوف المضطهدين العتاة. وذهب إلى الإسكندرية ليشجع إخوانه في الإيمان، ويحملهم على الثبات في احتمال أنواع الآلام.
   ثم سافر مع قافلة تريد البحر الأحمر  عن طريق الصحراء، حتى أتى إلى جبل القلزم ووجد هناك عين ماء وبعض أشجار النخيل. وصعد إلى الجبل فوجد مغارة فدخلها وجعلها مسكنه وصومعة نسكه وعباداته. وأخذ يزرع القمح وبعض الخضار لمعيشته، لكي لا يكون عالة على غيره. وقضى أنطونيوس في تلك الصحراء زمناً طويلاً بعيداً عن أبنائه وأدياره وزواره. ولما طال غيابه أخذ أبنائه بالبحث عنه حتى عثروا على مخبئه، فنزل إليهم وعاد إلى ديورته.
   وكم سُرَّ وبارك الله لما رأى شقيقته آتية إليه بعد غياب خمسين سنة، ومعها طغمة من العذارى البتولات، اللواتي كن قد تتلمذن لها في أديار النساء التي أنشأتها لهن. وقد أمتاز أنطونيوس في حياته وبعد وفاته بصنع العجائب، ولذا ترى الناس يركضون إليه لينالوا ما يبتغون من النعم. وكان كلما تقدم في السن ازداد كمالاً وتواضعاً وسيرة ملائكية. وكتب إليه الملك قسطنطين يطلب صلاته وأدعيته. وكان شديد الاحترام لرجال الإكليروس، حتى لأصغرهم سناً ودرجة، يركع أمام الأساقفة والكهنة الذين يأتون لزيارته ليأخذ بركتهم، رغم شيخوخته وجلال هيبته وإقبال الألوف على طلب بركاته وصلواته.
   وعندما شعر بدنو أجله فرح لرحيله إلى الدار الباقية والأخدار العلوية. فدعا تلميذيه مكاريوس وأماسيوس وقال لهما: " عما قليل سأنضم إلى آبائي فأثبتوا في الإيمان واهربوا من الهراطقة. لا أريد أن تدفنوا جسدي باحتفال، بل واروه في التراب ولا تعلموا أحداً بمقري. أما ثيابي فوزعوها هكذا: ترسلون إلى البطريرك أثناسيوس ردائي الأول، كان قد وهبه لي جديداً فأعيده إليه خَلقاً. أما ردائي الثاني فترسلونه إلى سيرابيون أسقف توميس. والمسح الذي يغطي جسدي يكون لكما ". ثم باركهما وتمدد على الأرض وفارق الحياة بهدوء وسكينة. فعمل تلميذاه كما أوصاهما، ودفنا جسده ولم يعلما أحداً بمكانه. وكان ذلك في 17 كانون الثاني سنة 356، وكان له من العمر مئة وخمس سنين.
   وبقي جسده في رمال تلك الصحاري حتى سنة 561 حتى عرف الإمبراطور يوستنيانس  بإلهام إلهي موضع قبره، فحملت عظامه إلى الإسكندرية. ثم نقلت إلى القسطنطينية، واستقرت أخيراً في مدينة أرل في جنوب فرنسا.
   وقد تعبد له الشرق والغرب عبادة كبيرة، فهو بالحقيقة كوكب البرية ومجد الحياة الرهبانية وشفيع الشعوب والأفراد في كل زمان ومكان. 
   وتحتفل الكنيسة الجامعة بتذكار مار  أنطونيوس أبي الرهبان في 17 كانون الثاني.
   أما كنيسة المشرق فتحتفل بتذكاره في الجمعة الثانية من سابوع موسى.   




88
تذكار الرسولين مار بطرس ومار بولس
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية: القراءة الأولى: أعمال الرسل 9 / 32 _ 42 وكان بطرس يسير في كل مكان . . القراءة الثانية: 2 قورنتس 10 / 1 _ 7 أنا بولس أناشدكم بوداعة المسيح . . + 2 قورنتس 11 / 21 _ 33 أقول هذا وأنا خجل كأننا . . .
القراءة الثالثة: متى 16 / 13 _ 19 ولما وصل يسوع إلى نواحي قيصرية . . .  + يوحنا 21 / 15 _ 19 وبعد أن فطروا قال يسوع لسمعان . .

   1_ مار بطرس: كلمة يونانية يقابلها بالعربية " صخر " وهو لقب سمعان بن يونا. ورد اسمه في رأس لوائح الاثني عشر دائماً ( مرقس 3: 16 )، مع أنه ثالث الذين دعاهم يسوع، وقد أطلق عليه اسم " صخر "  ( يوحنا 1: 42 )، فكان هذا في أصل الجناس الذي استعمله المسيح حين أقام بطرس، الذي اعترف بمشيحيته، أساساً لكنيسته ( متى 16: 18 ).
   كان بطرس الرسول صياداً في كفر ناحوم ، شأن أخيه أندراوس. استمالته أولاً تلك الحركة التي قام بها يوحنا المعمدان، ثم تبع يسوع باندفاع، فما لبث يسوع أن جعله في مرتبة ممتازة. وبعد القيامة اتخذ بطرس مبادرات هامة مختلفة ( أعمال الرسل 1: 21 _ 22 و 10: 47 ). ولم يزل لسان الرسل، مع أن يعقوب ترأس في أورشليم على ما يبدو. ويقال إنه أتى إلى رومة وصلب فيها حوالي سنة 64. 
   واسم مدينته بيت صيدا . فلما تبع يسوع سمي " كيبا " وهي كلمة آرامية معناها صخرة، يقابلها في العربية صفا أي صخرة، وقد سماه المسيح بهذا الاسم. والصخرة باليونانية " بيتروس " ومنها بطرس. وقد دعا يسوع بطرس ثلاث مرات. أولاً: دعاه ليكون تلميذاً. ثانياً: دعاه ليكون رفيقاً له ملازماً إياه باستمرار. ثالثاً: دعاه ليكون رسولاً له. وقد ساعد حماس بطرس ونشاطه وغيرته على أن يبرز كالمتقدم بين التلاميذ من البداية، فيذكر اسمه دائماً أولاً عند ذكر أسماء الرسل. وكذلك عند ذكر أسماء التلاميذ الثلاثة المقربين جداً إلى يسوع، كما نلاحظ ذلك مثلاً في التجلي، وعند إقامة ابنة يايرس ، وفي بستان الجثسمانية . ومن خلال الكتاب المقدس يظهر لنا ما كان عليه من صفات حسنة، كقوله ليسوع: " أخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ ".
   وقد أكد يسوع لبطرس أمام التلاميذ أنه يقيمه رئيساً لكنيسته: " فقال لهم: ومن أنا في رأيكم أنتم؟ فأجاب سمعان بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي. فقال له يسوع: طوبى لك يا سمعان يونا! ما كشف لك هذه الحقيقة أحد من البشر، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت الصخرة، وعلى هذا الصخرة سأبني كنيستي، وقوات الجحيم لن تقوى عليها. وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فما تربطه في الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما تحله في الأرض يكون محلولاً في السماء ". ( متى 16: 15 _ 19 ). وهذا دليل محسوس ملموس على دعوة يسوع لبطرس ليكون خليفةً له على الأرض. وقال له يسوع: " سمعان، سمعان! ها هو الشيطان يطلب أن يغربلكم مثلما يغربل الزارع القمح. ولكني طلبت لك أن لا تفقد إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت إخوانك ". ( لوقا 22: 31 _ 32 ). أراد الشيطان أن يسحق بطرس كحبة قمح، متمنياً لو لم يجد في بطرس سوى تبن وقشور حتى ينفخها بعيداً. لكن الرب يسوع أكد لبطرس أن إيمانه لن يفنى برغم أنه اهتز، وأنه سيتجدد ليصبح قائداً عظيماً وقوياً.
   ومن إنجيل يوحنا نعرف أن الرجل الذي سحب سيفه عند إلقاء القبض على يسوع هو بطرس ( يوحنا 18: 10 ). لكن الخبرات التي يجتازها بطرس في الساعات القليلة التالية سوف تغير حياته. فقد أنكر معلمه ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك، فخرج وبكى بكاءً مراً، ليس فقط لأنه أدرك أنه أنكر سيده وربه المسيح، بل أيضاً لأنه تخلى عن صديق حميم عزيز طالما أحبه. وكان بطرس قد قال إنه لن ينكره رغم تنبؤ يسوع عن ذلك، ولكن أحس بالخوف فترك وعوده الجريئة، وإذ عجز عن الوقوف مع سيده أخفق كتلميذ وكصديق. ومن هذه التجربة الصعبة تعلم بطرس درساً أفاده كثيراً في مسؤوليات القيادة التي اضطلع بها بعد ذلك. 
   وبعد القيامة كلف يسوع بطرس بإرساليته، ولعل بطرس كان محتاجاً إلى تشجيع خاص بعد إنكاره ليسوع. لقد أنكر بطرس يسوع ثلاث مرات. فسأله يسوع ثلاث مرات أتحبني، فكان جواب بطرس في المرات الثلاثة نعم يا رب. وقد طلب منه يسوع في المرة الأولى أن يرعى خرافه، وفي المرة الثانية أن يرعى نعاجه، وفي المرة الثالثة أن يرعى كباشه، وقد عنى بذلك رعيته كلها من صغيرها إلى كبيرها. هذا الموقف كان المحك الحقيقي لبطرس، فقد أبدى استعداده للخدمة بعد أن تاب، ويسوع يطلب منه أن يكرس حياته له. فقد تغيرت حياة بطرس عندما أدرك أخيراً من هو يسوع، وتغير عمله من صياد سمك إلى مبشر، كما تغيرت شخصيته من مندفع إلى صخرة. وكذلك تغيرت علاقته بيسوع، فقد غفر له الرب، وأدرك الآن تماماً مغزى كلمات يسوع عن موته وقيامته. وقد تنبأ يسوع عن موت بطرس مصلوباً. ويقول التقليد إن بطرس قد صلب بسبب إيمانه، لكنه صلب في وضع مقلوب ورأسه إلى أسفل، إذ أحس أنه غير مستحق أن يموت كما مات ربه وسيده. وبالرغم ما حمله المستقبل لبطرس، قال له يسوع اتبعني.   
   وبعد العنصرة قام صياد السمك الأمي يتكلم أمام الجماهير ويصطاد الناس. لأول مرة ظهرت الكنيسة بعظمتها ومجدها وقوتها وسلطانها أمام الشعوب. فقام بطرس رئيسها وصخرتها يعلن إيمانها وينشر كلمتها ويدعو تلك الشعوب إليها. فبعد حلول الروح القدس بقي بحماسته واندفاعه وإيمانه ومحبته ليسوع معلمه. ونعمة الروح القدس جعلت حماسته ثباتاً، واندفاعه جرأةً، وإيمانه ثقافةً عاليةً حيةً، ومحبته رسالةً ليستميت في خدمتها، ولا يبالي حتى بالموت من أجلها. وأراد الروح القدس أن يحمل المؤمنين الأولين على الطاعة والانقياد لبطرس الرسول الرئيس الأعلى، وعلى احترامه وإجلال سلطته. وكان للعقاب الشديد الذي أنزله الله على حننيا  وسفيرة  امرأته الأثر الرهيب في عقول وقلوب المؤمنين لأنهما كذبا على بطرس.
   وعند باب الهيكل بينما كان بطرس ويوحنا مزمعين أن يدخلا، سألهما مقعد صدقة. فقال له بطرس: "  ليس لي فضة ولا ذهب، ولكني أعطيك ما عندي. باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشِ. وامسكه بيده اليمنى وأنهضه ". ( أعمال 3: 6 _  7 ). هذه الأعجوبة تركت عجباً وحيرة في نفوس الحاضرين في الهيكل. أما القيمين على الهيكل من الصدوقيين  فلم يرقُ في أعينهم ما جرى، فوضعوا أيديهم على الرسل وزجزوهم في السجن، لكن الرب أرسل ملاكه وأنقذهم. وفي الصباح عادوا إلى الهيكل ليبشروا الشعب بيسوع.
   وأثار اليهود الاضطهاد على الكنيسة، ورجموا إسطيفانوس بالحجارة، فتبدد التلاميذ وحملوا إلى السامرة وإلى الجهات المجاورة كلمة الخلاص. ثم عاد بطرس ويوحنا إلى أورشليم ولبثا هناك. وبقي بطرس فيها زماناً طويلاً. وهناك أتاه بولس من بعد أن هداه الرب يسوع إلى الإيمان.
   ثم قام بطرس وذهب يتفقد الكنائس ويشرف على نموها وازدهارها ويثبتها، فزار مدن لدة ويافا وقيصرية. وفي لدة وجد رجلاً مخلعاً منذ ثماني سنين اسمه إينياس فشفاه، فآمن بالمسيح شعب كثير.
   وفي يافا أقام الصبية المتوفية المدعوة طابيثا وتعني الضبية، ونادها قائلاً:  " طابيثا قومي ". فذاع الخبر في كل يافا، فآمن كثيرون بالرب.
   وفي يافا أقام أياماً كثيرة عند سمعان الدباغ ، ليبين أنه ليس في المسيحية صناعة نجسة أو دنسة. لأن التلمود  كان يعتبر الدباغة نجسة. وفي قيصرية فلسطين عمد بطرس قائد المئة كرنيليوس  وأهل بيته بعد أن آمن بالرب، وضمهم مع جمع غفير إلى قطيع يسوع.
   وما أن عاد إلى أورشليم حتى قبض عليه هيرودس أغريبا  وزجه في السجن، وجعل عليه حراسة مشددة. لكن الرب أرسل ملاكه ليلاً فأيقضه وللحال سقطت السلسلتان من يديه، وأخرجه من السجن إلى خارج المدينة.
   وبعد أن خرج من السجن توجه بعد فترة إلى أنطاكية  ليرعى شؤون الكنيسة الزاهرة فيها، حيث دعي التلاميذ مسيحيين فيها أولاً. ومنها ذهب إلى روما ليبدأ فيها عمله الرسولي العظيم، والذي يقول فيه المؤرخين أنه استمر خمساً وعشرين سنة. ويقول المؤرخ الشهير افسافيوس أسقف قيصرية فلسطين، إن بطرس بدأ أسقفيته في روما في السنة الثالثة لتملك كالغولا سنة 40 م، وأنهى حياته شهيداً معلقاً على الصليب في السنة الثانية عشرة لتملك نيرون  سنة 66 م.
   وفي روما بدأ بطرس بالبشارة بين اليهود وبين الأمم، ونجحت أتعابه نجاحاً باهراً. وأضحت كنيستها بفضله أعظم الكنائس وأكثرها عدداً وأمجدها قداسةً. وقد دعاها في رسالته " الكنيسة المختارة ". وقد كتب مرقس إنجيله تحت إشراف هامة الرسل، وفيه نلمس لمس اليد تواضعه العميق ومحبته المضطرمة ليسوع. وقضى بطرس سنين طويلة يبشر في روما، وهدى إلى الإيمان بالمسيح ألوفاً عديدة، وجعل التقوى والفضيلة، ولا سيما العفة والبتولية، تزدهر في تلك العاصمة المنغمسة في الفساد والرذائل وجميع أسباب اللهو والفجور. فكان عمله شاقاً، لكنه نجح بنعمة الروح القدس.
   وقبض نيرون على بطرس وحكم عليه بالصلب، فلما أتي به ليصلب طلب من الجند أن يجعلوا رأسه إلى تحت ورجليه إلى فوق. لأنه لا يستحق أن يعلق على الصليب كما علق معلمه يسوع. فصلبوه كما اشتهى، وهكذا مات شهيداً بتواضع عميق، وذهب لينضم إلى معلمه وفاديه المحبوب. ودفن على قمة الفاتيكان .
   وللقديس بطرس رسالتان جعلتهما الكنيسة في عداد الرسائل السبع الملقبة  " بالرسائل الكاثوليكية " وتدعى أيضاً " بالرسائل القانونية ".
   فالرسالة الأولى بعث بها إلى المتغربين من شتات بنطس وغلاطية وكبادوكية وآسية وبيثينية. وفيها ذكر النعم التي أفاضها الله على المؤمنين بيسوع المسيح.
   أما الرسالة الثانية فهي دعوة للمؤمنين إلى اكتساب الفضائل، وتحذير لهم ليتجنبوا البدع وأصحابها. وفي الآخر وصف لمجيء المسيح الثاني. 
   وقد أقرت كنيسة المشرق منذ بدايات تأسيسها برئاسة بطرس من خلال صلواتها ومجامعها وملافنتها ومؤلفيها.
   فالملفان مار أفرام النصيبيني في ميمره عن العشاء السري يصف ما قاله يسوع لبطرس: " إنني يا شمعون تلميذي قد وضعتك أساساً للكنيسة المقدسة، دعوتك الصفا سابقاً كي تحمل جميع الأبنية. أنت فاحص كل الذين يشيدون لي كنيسة على الأرض، حتى إذا بنوا شيئاً ردياً فأساسك يردعهم. أنت رأس ينبوع تعليمي ورئيس تلامذتي. بك أسقي الشعوب كلها مياه الحياة العذبة التي أعطيها. إياك انتخب يا بكر تلامذتي لتكون وارثاً كنوزي. أعطيك مفاتيح ملكوتي وها أنت مسلط على خزائني كلها ".
   وفي مدارش على بطرس الرسول يقول مار أفرام: " طوباك يا شمعون الصفا الحائز على المفاتيح التي صاغها الروح. إنه لأمر عظيم لا يفي بتعبيره اللسان أنك تحل وتربط على الأرض وفي السماء ".
   أما مار يعقوب أفراهاط الحكيم الفارسي فيقول في مقالته السابعة على التائبين: " وشمعون أيضاً رئيس التلاميذ كان قد أنكر المسيح وحرم وحلف قائلاً: "  لا أعرفه ". فلما قدم التوبة وأكثر من سكب الدموع قبله ربنا وجعله أساساً ودعاه صخرة بنيان الكنيسة ".
   ويقول أيضاً أفراهاط في المقالة العاشرة في الرعاة وهو يخاطب الرؤساء:" إن المسيح اختار وعلم الطوباويين وسلم القطيع ليدهم وسلطهم على رعيته كلها، فإنه قال لشمعون الصفا أرع لي غنمي وخرافي ونعاجي، فرعى شمعون ونهى زمانه وسلم لكم الرعية وانطلق ".
   والملفان نرساي النوهدري يقول في ميمره على الإنجيليين: " كرز شمعون في البلاد الرومانية ببشارة جديدة. خرج أولاً صياد السمك ليصيد الأمم إلى شبكته واصطاد أم المدن. رئيس التلاميذ اصطاد رئيسة المدن وأدخلها في حصون الإيمان. البكر الذي هو أول من أقر بالابن أنه الله، هو من قدم ذبيحة رجوع الأمم. وضع إقراره بمثابة صخرة في رومية فتزعزعت أبنيته الوثنية، وسقط الضلال الذي شيده الأبالسة بعبادة الباطل، ارتجف لصوته الشياطين والبشر عباد الشياطين، فاحتقروا عبادة الآلهة ووقروا الحق . . . مرقس ربى الزرع الذي بذره الصفا في رومية وسقى بكلامه حلاوة الحياة للأثمار الناطقة. بنى تعليمه على إقرار الصفا ولم يرتخِ لصوت زوابع رياح الضلال ". وهذه إشارة أن مرقس كتب إنجيله تحت أنظار وإشراف القديس بطرس.
   ويقول إيليا الأنباري  في كتابه " المجادلة " الميمر الثامن: " بثلاثة أسماء يدعى رأس وبكر الرسل: شمعون وبطرس وكيبا لرموز ثلاثة: أما شمعون فبما أنه عبراني. وبطرس بما أنه يوناني. وكيبا بما أنه مسيحي. ثلاث مرات في بيت قيافا أنكر الابن في الآلام. وثلاث مرات أقر به بعد قيامته بتساوي العدد. أضحى للآب عبداً حقاً. ولابنه بالنعمة تلميذاً. وللروح بالمحبة رسولاً، ولثلاثتهم واعظاً. للإيمان أساساً، وللرسل أخوته رأساً، وللكنيسة المقدسة مهندساً، وبثلاثتهم منتصراً. بهذا السر قبل موهبة المفاتيح للعلو والعمق أعني السماء والأرض والملكوت برمز السلطة المثلثة، ويرعى القطيع الناطق بالترتيب. أعني النعاج والخراف والكباش حسب أمر راعي العالم. المجد لابن الله الذي دعاه صخرة الحق، وعليه ركز بناء الإيمان المقدس ". 
   وفي تذكار مار بطرس وبولس وأيضاً في جمعة الذهب " تذكار شفاء بطرس ويوحنا للمقعد " تصلي كنيسة المشرق قائلة: " أيها المهندس الحكيم يا مشيد الكنائس بطرس الذي قلده ربه مفاتيح الكنز الروحاني لكي يربط ويحل كل ما على الأرض وما في السماء . . . إن الموهبة التي نالها شمعون رئيس الرسل تُقلد في جميع الأجيال وتكمل المؤمنين وتختار الكهنة لتتميم الأسرار ونجري على أيديهم كل قوة وكل آية ".
   وفي طقس سيامة الرهبان المبتدئين يصلون: " بابن يونا صياد السمك صدت العالم بشبكة كرازتك. وعوض صيد السمك البحري علمته يا رب أن يصيد سمكاً ناطقاً، ودعوته صخرة وعليه وضعت بنيان الكنيسة المقدسة، وإياه أقمت موزعاً الحياة لرعيته ".   

   2_ مار بولس: ولد في طرسوس قيليقية  في حوالي 10 م وقطع رأسه في رومة في حوالي سنة 67 م. كان فريسياً متشدداً، تخرج في أورشليم عن جملئيل . إضطهد المسيحيين الأولين. لكنه اهتدى إلى المسيحية على أثر ترائي يسوع له. فأصبح الرسول المثالي. إضطهده المسيحيون المتهودون واليهود على السواء. علَّم التحرر المسيحي من شريعة موسى، ولا سيما بالنسبة إلى الوثنيين الذين عُهد إليه بتبشيرهم. طاف الشرق وبلاد اليونان حراً أو مقيداً في سبيل الكلمة. تنسب إليه 13 رسالة. وكان له كما كان لمعظم اليهود اسم يهودي " شاول " ويعني " مطلوب "، واسم يوناني " بولس " ويعني " الصغير ". فقام بدور حاسم في توجيه الكنيسة القديمة.   وكان والد بولس من سبط بنيامين  ومن جماعة الفريسيين، وهي جماعة كانت قد أفرطت في التمسك بالشريعة وبمراسيم وتقاليد لا طائل تحتها، رباَّه على تلك الطريقة، وسهر على بث روحها في عقله وفي قلبه. ثم أرسله إلى أورشليم بغية أن ينال من مبادئ تلك الطريقة قسطاً وافراً على يد المعلم الكبير جملئيل. فنشأ بولس فريسياً متحمساً للشريعة، يزدري من لا يقول قول جماعته، ويهاجم بكل قواه من يجرأ على أن يمسها بمخالفة أو ينالها بأذى. وقد كان من المشجعين على قتل إسطيفانوس، ليشفي غليله من أولئك الذين يجرأون على شريعة موسى والديانة اليهودية. لكنه لم يفعل ذلك عن خبث، بل بدافع الغيرة على بيت الله وشريعته.
   ومع هذه الثقافة العبرية، كان بولس يعرف الآداب اليونانية أيضاً، ولكن معرفة بسيطة، بحيث أن رسائله التي كتبها بهذه اللغة هي بسيطة التعبير ولا تخلو من التعقيد. وأن ما نراه من الجمال والروعة في تلك الرسائل إنما هو صادر عن سمو المعاني وشدة العاطفة المتأججة في قلب ذلك الرسول العظيم.
   وفوق تلك الثقافة الدينية التي كان يرجو منها أن يكون يوماً معلماً يهودياً ورئيساً روحياً، تعلم صناعة الخيام، حتى لا تحوجه الأيام إذا ضاقت به أن يمد يداً ذليلة إلى غيره. وكاد يضيع رشده من الغيظ لما رأى الكثيرين من اليهود يهجرون شريعة موسى ويتبعون المسيح. فعاد مسرعاً إلى أورشليم، وأخذ يضطهد المؤمنين ويلاحقهم حتى في بيوتهم، ويخرجهم مكبلين بالسلاسل رجالاً ونساءً إلى رؤساء الكهنة، لكي ينالوا بالضرب والسجن جزاء إيمانهم بالمسيح. لأن الحكومة الرومانية كانت قد تركت لمحفل اليهود شيئاً من السلطان، لملاحقة ومعاقبة من كان يجسر على مخالفتهم في ما يشرحونه من العقائد أو ما يضعونه من المراسيم. فأقبل شاول إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى مجامع دمشق، حتى إذا وجد هناك رجالاً أو نساءً من هذه الطريقة يسوقهم موثقين إلى أورشليم. وما أن اقترب من أبواب دمشق أزداد غضبه، وأخذ ينظم الخطط للتشفي من أولئك اليهود الذين كفروا بإلههم، وتبعوا ذلك المضل الذي يزعمون أنه المسيح.
   لكن كلمة الآب والذي يخرج من الظلمة نوراً، كان ينتظره في سهول دمشق. " فأبرق حوله بغتة نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتاً يقول له: شاول شاول لِمَ تضطهدني؟ فقال: من أنت يا رب؟ فقال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. فقال وهو مرتعد منذهل: يا رب ماذا تريد أن أصنع؟ فقال له الرب: قم وأدخل المدينة، وهناك يقال لك ماذا ينبغي لك أن تصنع. أما الرجال المسافرون معه فوقفوا مبهوتين يسمعون الصوت ولا يرون أحداً. فنهض شاول على الأرض، ولم يبصر شيئاً، وعيناه مفتوحتان. فاقتادوه بيده وادخلوه إلى دمشق. فلبث ثلاثة أيام لا يبصر ولا يأكل ولا يشرب ". ( أعمال الرسل 9: 3 _ 9 ).
   إن الله تكلم من وسط الصاعقة ودعا بولس إلى خدمته. لكنه أرسله إلى تلاميذ دمشق ليرسموا له الخطط التي يريد منه أن يسير عليها.لأن يسوع رسم بحكمته الإلهية أن كل نعمة يفيضها على الأرض، وكل سلطان يمنحه في كنيسته إنما يجود به بواسطة بطرس والرسل ومعاونيهم وخلفائهم من بعدهم، حيث قال لرسله: " كما أرسلني الآب كذلك أنا أرسلكم ". ( يوحنا 20: 21 ). " وكان في دمشق تلميذ اسمه حنانيا. فناداه الرب في الرؤيا: يا حنانيا ! أجابه: نعم يا رب ! فقال له الرب: قم أذهب إلى الشارع المعروف بالمستقيم، وأسأل في بيت يهوذا عن رجل من طرسوس اسمه شاول. وهو الآن يصلي، فيرى في الرؤيا رجلاً اسمه حنانيا يدخل ويضع يديه عليه فيبصر ". ( أعمال الرسل 9: 10 _ 12 ).
   كان حنانيا قد سمع الكثير عن هذا الرجل المُضطهد للمؤمنين بيسوع، وما ارتكبه من فضائع بحقهم في أورشليم. وها قد قدم إلى دمشق وهو مخول من رؤساء الكهنة ليضطهد مؤمنيها. فانتابته الحيرة والدهشة من طلب الرب، معتقداً أنه من المحال أن يصير هذا الرجل مسيحياً. لكن الرب اعلمه أنه أختار شاول ليكون رسولاً له، ليحمل اسمه إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل. وهذه المهمة ستجعله يتحمل الكثير من الآلام والمشقات والمخاطر في سبيل اسمه. " فذهب حنانيا ودخل البيت ووضع يديه على شاول وقال: يا أخي شاول أرسلني إليك الرب يسوع الذي ظهر لك وأنت في الطريق التي جئت منها، حتى بعود البصر إليك وتمتلئ من الروح القدس. فتساقط من عينيه ما يشبه القشور، وعاد البصر إليه. فقام وتعمد. ثم أكل، فعادت إليه قواه ". ( أعمال الرسل 9: 17 _ 19 ). 
   ومن دمشق رحل إلى بلاد العرب، ولربما إلى بادية شرقي دمشق، حيث قضى ردحاً من الزمن منطوياً على نفسه وعلى إيمانه. فلقد ملأ الانقلاب الأخير نفسه أنقاضاً من ماضيه، عليه أن ينظف منها المكان ليبني حياته على أسس جديدة يكون المسيح فيها حجر الزاوية. وبعد عزلته عاد إلى دمشق وهو أقوى حجة للمجادلة وأشد عزيمة للجهاد، وأخذ يحاجّ اليهود ويجادلهم فضاقوا به، وحبكوا المؤامرات لاغتياله، حتى أصبحت حياته في خطر. فعمل بعض التلاميذ المخلصين على إنقاذه، فلقد دلوه من السور ليلاً في سلة، فنجا وعاد إلى أورشليم. وهناك لقي نفس المصير إذ عزم اليهود على اغتياله، فرافقه بعض الأخوة إلى قيصرية، ومنها أبحر إلى طرسوس مدينته. 
   لقد اندرجت رسالة بولس خارج فلسطين، وسط من لا يعيشون في ظل الهيكل، من يهود هلينيين، ومن وثنيين أمره يسوع بحمل بشارته إليهم. ففي مرحلة أولى قادت الرسالة بولس إلى عالم هليني، معجون بالروح اليوناني والفوضى الشرقية، حيث كان يعتمل منذ ثلاثة قرون، القلق الروحي، والانحطاط الأخلاقي، والتهديدات الاجتماعية. ذلك العالم الذي أفلحت روما في منحه النظام الإداري، ولكنها فشلت في منحه سلام القلب.
   أما المرحلة الثانية، فقد واجه بولس والمسيحية الناشئة، السلطة الأمبراطورية المركزية، والوثنية الرومانية. وتقسم عادةً رحلات بولس الرسولية إلى ثلاث، مع أنها كانت شبه متصلة لا يفصل إحداها عن الأخرى سوى محطات قصيرة، ويحدوها روح واحد. وقد تم معظمها سيراً على الأقدام، واجتاز خلالها زهاء عشرين ألف كيلومتر، في غضون ثلاث عشرة سنة. ويمكن رسم خطوطها الأساسية كالتالي:
   الرحلة الأولى بين عامي 45 و 49 وقد شملت قبرص، وآسية الصغرى، وبمفيليا، وبيسيدية، وليقاؤونية، وأنطاكية، وبيسيدية، وإيقونية، وليسترة، فعودة إلى أنطاكية. وفي نهاية سنة 49 حضر مجمع أورشليم.
   الرحلة الثانية امتدت من سنة 50 حتى سنة 52، عاد إلى آسية الصغرى، وتفقد أحوال الجماعات المنشأة من قبل. ومضى إلى بلاد الغوطيين. ثم بقيادة الروح القدس أبحر إلى فيليبي ومقدونية، وتسالونيكي، وأثينا  وكورنتس، وعرج في طريق العودة على أفسس، وعاد إلى أنطاكية في نهاية خريف سنة 52. 
  الرحلة الثالثة ابتدأت في ربيع سنة 53 فعاد بولس إلى كورنتس ومنها أنطلق إلى حدود الأدرياتيكي، ثم اجتاز جزر ميتيلينية، وكيو، وسامس، ورودس، ومرافئ سورية وفلسطين، وانتهى إلى أورشليم حيث كان ينتظره مصيره، فسجن وأرسل إلى روما سنة 61.
   وقد اتسمت كرازة بولس بالتواصل الشخصي، وبعقده مع تلاميذه والمؤمنين الجدد، علاقات صداقة عميقة باتت طابع رسالته المميز. ولم تكن الصداقة غاية في ذاتها، ولا إرضاء لحاجة عاطفية، بل مجرد وسيلة لوضع المؤمنين على صلة بالمسيح. فالمسيحية عند بولس ليست تعليماً نظرياً مجرداً، بل هي صداقة متينة ومرهفة مع الرب، وواقع حي، تستأهل أن يتألم الإنسان ويموت في سبيله. ومما يستدعي الدهشة السرعة التي كان بولس يؤسس جماعات مسيحية، ويعلمها، ويعدها للعماد والإفخارستيا، في غضون أسابيع أو أيام معدودات. ولا ريب أنه كان يتعاون مع الروح القدس، الذي يواصل عمله في أذهان المعمدين وقلوبهم، مذكراً إياهم بما تعلموا. وكان محور تعليمه يدور حول صلب يسوع، وقيامته. والقيامة في تعليمه لا تقتصر على ما حدث صباح الفصح، بل هي ترتكز على يسوع الناهض من الموت، الحي المحيي، وعلى وحدة حياة المؤمن مع يسوع، التي تجعله عضواً في جسده، ويستمد من قدرته الكلية حيوية ومناعة. 
   وقد احتفظت الكنيسة بأربع عشرة رسالة من رسائل بولس ضمتها إلى إرثها، وجعلت منها عنصراً أساسياً من عناصر العهد الجديد، الذي يدور حول محورين رئيسيين: سيرة يسوع، وسيرة بولس. وتتميز رسائل بولس بكونها الكتابات المسيحية الموثوقة الأولى، وهي تعكس صورة حية عن نشاطه ونضاله، ونجاحاته وإخفاقاته، عن تجاربه وفكره. ومع ذلك هي بعيدة عن كونها سيرة ذاتية، فبولس لم يروِ من مسيرته إلا ما كان ضرورياً لدعم الرسالة وخدمتها. وتمثل رسائل بولس المحفوظة ربع أسفار العهد الجديد، وتساوي الأناجيل حجماً. ومع ذلك يبدو هذا الحجم ضئيلاً بالقياس إلى نشاط بولس الرسولي، مما يسوّغ الاعتقاد بأن بعض رسائله قد فقد. وتقسم الرسائل وفقاً لحجمها إلى قسمين:
   1_ الرسائل الطوال وهي ثمانٍ موجهة إلى: رومة، وأفسس، وفيلبي، وكولوسي، وغلاطية، وكورنثوس الأول والثانية، والعبرانيين.   
   2_ الرسائل القصار وهي ستٌّ موجهة إلى: تسالونيكي الأولى والثانية، وثلاث رسائل راعوية منها واحدة إلى تيطس، ورسالتان إلى تيموثاوس الأولى والثانية، وأخيراً بطاقة إلى فليمون ، وهي الوحيدة التي كتبها بولس بخط يده. وقد دونت هذه الرسائل على مدى ستة عشر عاماً بين سنة 51 وسنة 67، وكان بعضها أول أثر مسيحي رسمي مكتوب. ويظن أن بعض إضافات وإيضاحات قد ألحقت بهذه الرسائل مع الأيام، وقبل نظمها في مجموعة نهائية. ويتميز بولس بأنه الوحيد في المسيحية الأولى الذي وضع التبشير في صيغة مكتوبة، وخلّف لذلك شهادات مباشرة قيّمة عن نشأة المسيحية، وكذلك معطيات واضحة عن سيرته ولاهوته. وبذلك يكون أول من استخدم سلاح القلم لنشر تعاليم يسوع، لذلك بات يُصوَّر وهو مشهر سيفاً ماضياً. ورسائله ألهمها الروح، وكانت السماء مصدرها، فبقيت عبر الأجيال فعالة تجدد وجه الأرض. ومن هنا نكتشف السر الذي أكثر من قوة شخصيته، ورهافة ذكائه، وقدرة عبقريته، جعل منه كاتباً فذاً: وهو أنه " بوق الروح ". ويسوع الذي دعاه أسبغ عليه قوة الله. إن ذاك سار وفقاً للروح، وعاش وفقاً للروح، وكتب أيضاً وفقاً للروح. وكتاباته تشهد أنه أكثر من كاتب، وخطيب، ومجادل، ولاهوتي. إنه ملهم بكل ما تنطوي عليه هذه اللفظة من معنى. لذلك لقب بـ " الإناء المصطفى " و " رسول الأمم ". 
   وكانت نهاية الرسول بولس في روما، فبعد سجنه ومحاكمته بتهمة تعريضه أمن الدولة للخطر، حكم عليه بالإعدام. فسيق إلى منطقة أوستيا التي تبعد 5 كم عن أسوار روما بإمرة قائد مئة، ولحقه موكب من الأصدقاء هم: لوقا، ولينس، وبوذيس، وتيموثاوس، ومرقس. وهناك عند عين مياه تدعى " المياه الخلاصية " وقف موكب الموت، وبعد أن منح بولس بضع دقائق ليصلي، أمر القائد بتقييده إلى عمود وبجلده، ثم مددت عنقه فوق صخرة، وأهوى عليها جندي بسيف قاطع كان يحمله بكلتا يديه. 
   وتروي أساطير تقوية أن هامة بولس عندما هوت إلى الأرض، توثبت ثلاث مرات، ومن كل مكان لامسته توثبها تفجرت نبعة ماء، فدعي ذلك المكان حتى اليوم " تري فونتاني " أي الينابيع الثلاثة. وتروي الأساطير أن شفتي بولس بعد أن قطع رأسه تمتمتا بالآرامية اسم يسوع. وما أن أنصرف منفذو الإعدام حتى وافى أصدقاء بولس، فأخذوا جثمانه ورأسه كي يدفنوها دفناً لائقاً. ومضوا بها إلى مزرعة تخص سيدة رومانية تدعى لوشينا ودفنوها هناك. وحفرت على الشاهدة هذه الكلمات البسيطة: " بولس رسول وشهيد ". وفي القرن الرابع قرر الأمبراطور قسطنطين بناء كنيسة على لحده. ونقش فوق الهيكل الرئيسي قول بولس  " الحياة لي هي المسيح والموت ربح ".   
   وتصلي كنيسة المشرق في تذكار الرسولين بطرس وبولس: " بطرس وبولس ملفاني الحق وعمودي النور. خدما خدمة صادقة بشارة الملك المسيح. أسعفونا بصلواتكما. لننجو من العذاب. كي نتنعم معكما في الملكوت ". 
   وأيضاً: " طوباكِ يا رومية الشهيرة مدينة الملوك أمة الختن السماوي التي أقيم فيك كما في ميناء واعظان شرعيان بطرس رئيس الرسل الذي على حقه بنى كنيسته المؤمنة وبولس المصطفى والرسول ومهندس المسيح. بصلواتهما نلتجئ لتحل الرحمة والحنان على نفوسنا ". 
   وأيضاً: " طوباك يا بطرس ناشر البشارة. طوباك يا بولس معلم الأمم. طوباك يا بطرس لأنك أنت الصخرة. طوباك يا بولس لأن رسائلك انتشرت في الأربع  جهات ". 
   ويبدو أن الكنيسة تعيد للرسولين بطرس وبولس معاً منذ البدايات، ويقول المؤرخ الشهير عمرو بن متى:   " شمعون الصفا توجه إلى رومية وتلمذ الناس فيها ونصرهم، وأهلك سيمون الساحر وطهر الأرض منه، ومكث في التلماذ خمساً وعشرين سنة، ثم صلبه قيصر منكساً إلى أسفل في 29 من شهر حزيران. وفي مثل اليوم الذي صلب فيه بطرس، قتل نيرون أيضاً القديس بولس بالسيف. وفي هذا اليوم يعمل تذكارهما في كل عام ". 
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الرسولين بطرس وبولس في الجمعة الثانية من سابوع الدنح.
   أما الكنيسة الكاثوليكية فتحتفل بعيد الرسولين بطرس وبولس في 29 حزيران. 









89
تذكار سلطان ماهدوخت وأخويها أدورفروا وميهرنرسا
الشماس نوري إيشوع مندو
   سلطان ماهدوخت وأخويها أدورفروا وميهرنرسا: في عهد الملك شابور كان في أرض درساس أمير اسمه فولار. وكان لهذا الأمير ولدان هما أدورفروا وميهرنرسا وابنة اسمها سلطان ماهدوخت. واهتم الوالد بتربيتهم، فتثقفوا في علوم زمانهم ثقافة عالية. وكان الثلاثة على حظ وافر من الحسن والجمال ومبعث فخر لوالدهم.
   وفي أحد الأيام وبينما كان الأخوة الثلاثة عائدون من كرخ سلوخ  " كركوك " إلى مدينتهم بعد أن قابلوا أمين الملك شابور، بلغوا قرية صغيرة تدعى أحوان سقط الأخ الصغير ميهرنرسا من حصانه، وتكسر فخذه حتى كادت ساقه تنفصل عن جسمه. فانتاب الهلع أدورفروا وسلطانة ماهدوخت ومزقا ثيابهما حزناً وأسى، وأخذا ميهرنرسا الذي أوشك أن يفارق الحياة ودخلا القرية باكيين. وشاء الله أن يصل الأسقف مار عبدا في تلك الساعة إلى القرية بزيارة راعوية. وما أن سمع البكاء والعويل سأل عن السبب، فذهب حالاً ليزور ذلك الجريح المتألم.
   وبينما كان مار عبدا في طريقه إليهم، غاب الصبي عن وعيه، حتى ظن الحاضرون أنه فارق الحياة. وعاين ميهرنرسا رؤيا سماوية شاهد فيها المسيح ملم الملوك جالساً على عرش رفيع يتألق نوراً وبهاء، وتحيط القوات السماوية بعرشه بإجلال عظيم، وتقف زمر الشهداء القديسين أمام المسيح المجيد وهم متوشحون ثياباً نورانية، وعلى رؤوسهم أكاليل الظفر التي نالوها بالعذابات والآلام التي قاسوها. ورأى كاهن المسيح مار عبدا داخلاً بثقة بين صفوف النورانيين، حتى جاء وجثا على قدمي المسيح ملك السماء والأرض، وأخذ يبتهل إليه أن يهبه نفس الفتى ميهرنرسا. فدنا ملاكان وأقاماه وأتيا به عند الصبي، وسلماه إلى الأسقف وقالا له: " لقد استجيب طلبك. فبشر وعمد وقرب إلى سيدك ".
   وبينما كان الفتى غارقاً في تلك الرؤيا، وصل مار عبدا عنده وجثا على ركبتيه وصلى ثم وضع الساق في موضعها ورسم عليها إشارة الصليب، وقال لتلك الجثة الهامدة: " باسم ربنا يسوع المسيح ابن الله الحي، ذاك الذي يجدف الأثمة عليه ويضطهدون أتباعه، قم أيها الصبي ". فللحال قام الصبي وعادت إليه الحياة. فتذكر الصبي ما شاهده في الرؤيا، وعرف أن كاهن المسيح الذي رآه في الرؤيا هو الآن واقف عنده، فجثا على قدميه وأخذ يناشده ويقول: " يا سيدي كاهن المسيح ملك الدهور، تلمذ وعمد وقرب إلى سيدك حسب ما أمرك. فإني أكفر بالشيطان وبتعاليمه الدنسة المؤدبة إلى جهنم. ". وشرع يروي للأسقف والحاضرين كل ما شاهده في الرؤيا، وانطرح على الأرض باكياً عند قدمي مار عبدا وهو يقول: "  أشرقْ يا رب نور معرفتك في قلوب إخوتي لكي يعرفوك أنت إله الحق مع أبيك وروحك القدوس. أهلني يا رب للعماد المقدس، فلا أحرم من شركة الخيرات مع قديسيك في السماء. ".
   فدنا منه أخوه أدور فروا وأقامه وقال له: " من يقدر أن يحيي الميت إلا ذاك الذي نفخ فيه الروح من البدء في أحشاء أمه؟ فلِمَ نتشاغل بالكلام الطويل عن اقتبال رسم المسيح المقدس، لكي نحصى في عداد الساجدين له بواسطة عبده القديس هذا، الذي اختاره لهذه المهمة. ". 
   ولما رأت سلطان ماهدوخت ما نطق به أخواها، صرخت هي أيضاً وقالت: "  تبارك المسيح الذي أعاد الرجاء إلى اليائسين، تبارك المسيح الذي في انكسار فخذ أخي حطم قيود الشيطان وصادنا لعمل مشيئته. ". ثم قالت لمار عبدا: " قم وأحي نفوسنا المائتة بالخطيئة والإثم، فهي خير من أجسادنا بطبيعتها. ".
   ولما سمع مار عبدا هذا الكلام غمر الفرح قلبه وقال لهم: " افرحوا بالرب يا أحبائي، لأن أسمائكم كتبت في سفر الحياة، وأصبحتم ورثة أورشليم السماوية، وأحصيتم بين الأبكار المكتوبة أسماؤهم في سماء كنيسة الله الحي. فالآب يسر بكم، والابن يحبكم، والروح القدس يقدسكم. ها إن الخدر السماوي مفتوح أمامكم، فادخلوه فرحين. هلموا يا أولادي وتوشحوا حلة النور الجديدة اللائقة بالموضع الذي دعيتم إليه. فقد أعدت لكم أكاليل النصر بموتكم في سبيل سيدكم. فلا تنخذلوا في الجهاد الرائع الذي منه تأتيكم كل الخيرات. ". 
   وللحال نالوا العماد المقدس، واشتركوا في الوليمة الروحية بتناول جسد المسيح ودمه. ثم باركهم ومضى. أم هم فقد اختطفهم روح الرب ونقلهم إلى وادٍ يقع فوق القرية، فيه حوض ماء قليل وكهف صغير وضيع، ومكثوا في ذلك الكهف ثلاث سنين متحملين حر الصيف وبرد الشتاء، مواظبين على الصلاة وأداء الحمد والثناء للثالوث المجيد.
   أما ذويهم فكانوا يذوبون شوقاً إلى مشاهدتهم. فأرسل والدهم الأمير أناساً ليبحثوا عنهم في كل مكان، في القرى والمدن، في الجبال والسهول. وامضوا ستة أشهر في البحث عنهم دون أن يجدوهم، فكفوا عن التفتيش، وعادوا إلى الأمير خائبين باكين. وعم الحزن جميع سكان البلدة. 
   ولما حان الزمان الذي فيه كانوا مزمعين أن يغادروا هذه الأرض وينالوا إكليل الشهادة، قال أدورفروا: " إني أرى أبانا الأسقف مار عبدا وقد أعد كل شيء وخرج ليأتي إلينا، وقد أطلعه الملاك على موضعنا، لكي يمنحنا جسد الرب يسوع المسيح ودمه. ". فقاموا حالاً وشرعوا يصلون، إلى أن وصل عندهم كاهن المسيح مع شماس اسمه أدي، فهرعوا لاستقباله فرحين كما يفرح الأولاد بأبيهم الحقيقي. فناولهم القربان وشجعهم وقال لهم: " تشجعوا وارفعوا رؤوسكم، فقد حان زمن خلاصكم، وتضرعوا إلى الرب لكي يتحنن برحمته على أبيكم الشيخ. ". فقال له ميهرنرسا: " كلا يا أبانا، بل أنت صلي لأجلنا، لأنك ستغادر العالم ثلاثة أيام قبلنا. ". وقالت سلطان ماهدوخت: " صلي لأجلنا يا أبانا القديس، فإن مضطهدينا سيدركوننا بعد سبعة أيام، وفي الخامس عشر سننال إكليل الشهادة. ". فدهش مار عبدا لمعرفة الخفايا التي أولاها الله لهؤلاء الفتيان، وعانقهم وقبلهم ثم استودعهم نعمة الله، وانصرف من عندهم.
   وفي اليوم السابع بعد مغادرة مار عبدا لهم، أفلت حصان أبيهم وأقبل راكضاً إلى الموضوع الذي يسكنه الفتيان الثلاثة. ولما عرفوا أنه حصان والدهم. فاشرأبوا من الكهف ليروا هل هناك من يأتي في أثره. فإذا بغلامين من أهل دارهم راكبين حصانين يطاردانه. ولما رأوهما تواروا في الكهف وانطرحوا على وجوههم عاكفين على الصلاة. وحينما وصل الغلامان إلى الكهف أخذ منهما الدهش كل مأخذ وظلا منذهلين لا يستطيعان الكلام.
   فخاطبوهما الفتيان الثلاثة قائلين: " ما بالكما واقفين متعجبين ؟ ". وما أن عرفا أنهم أولاد الأمير حتى انطرحا أمامهم. فقال لهما الفتيان: " أذهبا وقولا للأمير أنكما وجدتما أولئك الذين كان يبحث عنهم مدة طويلة دون أن يعثر عليهم، إلى أن شاء الله أن يكشفهم ". فاقتادا حصان الأمير وعادا مسرعين ليخبراه بالعثور على أولاده.
   وما أن أخبر أحدهما الأمير حتى أرسل معه ثلاثين فارساً لكي يأتوه بهم على جناح السرعة. وكتب فوراً إلى شابور الملك يخبره بالعثور على أولاده. وكان شابور قد سمع عن جمال سلطان ماهدوخت، فكتب إلى الأمير بواسطة أحد أمنائه لكي يرسل له ابنته ليتزوجها.
   ولما وصل الفرسان إلى المكان أرادوا اجتياز باب الكهف، رشقت عيونهم بشرارات وضربت بالغشاوة لكي لا يبصروا مدخل الكهف. فكانوا يسمعون أصوات القديسين وهم يتلون الصلاة، ولكنهم لا يستطيعون الدخول إليهم. ومكثوا حتى الصباح واقفين على الباب وقد استولى العجب والانذهال عليهم.
وما أن أشرقت الشمس أمر الأمير بإعداد حصانه ليذهب هو ذاته إليهم، وأخذ معه عدداً من الجنود. وفي الطريق التقى بفرسانه عائدين خائبين. فسألهم عن الفتيان، فأجابوه: "  أننا وجدنا الموضع الذي هم فيه وسمعنا صوتهم، ولكن عيوننا عجزت عن رؤيتهم ". فأمرهم بالذهاب معه. ولما اقتربوا من الكهف، سمع الفتيان ضجيج الخيل والسلاح الكثير، فعكفوا على الصلاة. وحينما رأى الأمير الكهف من بعيد قال للذين معه: " أليس هذا هو الكهف الذي تتحدثون عنه ؟ ". فأجابوه: " نعم هذا هو الكهف، ولكننا لا ندري هل الفتيان ما يزالون فيه ". وإذا بالحصُن جميعها تقف مكانها دون أن تستطيع التقدم. فضربوها وحثوها على السير ولكن دون جدوى. فأنذهل الأمير ومرافقوه. وإذا بهم يسمعون صوت القديسين وهم يسبحون الله بنغمات عذبة. فأوعز الأمير إلى الفرسان للسير على الأقدام، ولما اقتربوا منهم صدت أقدامهم تلك القوة التي منعت خيلهم من السير، فتولاهم خوف شديد. وأومأ الأمير إلى الرماة بأن يرموا ثلاثة سهام نحو المغارة. فشد ثلاثة منهم قسيهم ورمى كل منهم سهماً، وإذا بكف كل منهم تنخلع وتنفصل مع سهامهم، وإذا بالسهام ترتد إلى الوراء وترشق رفاقهم الذين أخذوا يبكون ويولولون. وشرع الذين انخلعت أكفهم والذين ضربوا بالسهام يبتهلون إلى القديسين لكي يترحموا عليهم ويشفوا جراحهم.
   وأخرج القديسون رؤوسهم من الكهف، فبدأ جمالهم أسطع نوراً من الكواكب. فرفع والدهم صوته باكياً وقال لهم:"  ألا تأتون إلى أبيكم يا أولادي؟ أوما أحسنت تربيتكم وتثقيفكم في العلم وأفضل الآداب؟ ولماذا عرضتم أباكم للهزء والسخرية في مملكة فارس كلها؟ ". فأجابوه بلطف: " إن لنا أباً آخر أفضل منك، وهو قال لنا: من لا يترك أباه وأمه ويتبعني فلا يستحقني. فأذهب الآن إلى بيتك مع جندك وأمكث هناك ستة أيام ريثما يأتيك أمين الملك شابور ومرافقوه. وإذ ذاك هلموا سوية إلينا، إذ لم يحن اليوم الذي فيه نستشهد ". ثم تقدم منهم أولئك الذين انخلعت أكفهم وجرحت أجسامهم بسهام والتمسوا منهم أن يترحموا عليهم ويشفوهم. فقال لهم الفتيان: " أتومنون بالمسيح ابن الله الحي الذي يستطيع أن يمنحكم الشفاء دون دواء؟ ". فأجابهم الجرحى: " أن كل من يستطيع شفانا نؤمن بأنه إله ولا إله سواه ". فصلى عليهم الفتيان وشفوا حالاً وأخذوا يصرخون بملء صوتهم ويقولون: " إننا نعترف بك أيها المسيح، وبأنك ابن الله الحي. وليخز جميع الذين يكفرون بك ".
   ولما سمع الأمير والذين معه ما قيل وعاينوا ما جرى، خافوا خوفاً شديداً. ومكث الأمير عند الكهف حتى المساء دون أن يستطيع الدخول إليه، وأخذ يناشد الفتيان بأن يأذنوا له بالدنو منهم، ولكنهم رفضوا. فعاد إلى بيته يجر أذيال الخيبة والأسى. وانتشر خبر القديسين في المناطق القريبة، وأخذ الناس يتقاطرون إلى المكان زرفات ووحدانا. وشرعوا يأتونهم بالمصابين بشتى الأمراض وينالون الشفاء على يد هؤلاء الفتيان، ومع الشفاء يشرق نور الإيمان في نفوسهم فينبذون ضلالهم ويجحدون الوثنية وينضمون إلى المسيح.
   ولما كان اليوم السادس وصل الأمين الذي أرسله شابور الملك مع سبعة ضباط حاملين رسالة الملك إلى الأمير فولار. وما أن قرأ الأمير الرسالة حتى شرع يبكي وينوح. فسأله الموفدون عن سبب بكائه، ولكنه لم يجاوبهم. فقالوا له: " إننا أتينا من عند  شابور بشأن ابنتك ". فأجابهم: " ومن أين لي ابنة أعطيه؟ ". وقص عليهم ما جرى، فأخذهم الدهش مما سمعوا. فانطلقوا على الفور إلى الموضع الذي فيه القديسين. ولما وصلوا إلى الكهف شاهدوا جمعاً غفيراً، فاخترقوا الصفوف حتى وصلوا عند مدخل الكهف. فبلغهم الأمين سلام الملك، لكنهم لم يردوا عليه جواباً. فاستاء الأمين وتناول حجراً ورماه بهم، وإذ بالحجر يرتد إلى الوراء ويضرب جبينه ويشدخه.
   وعندما ذاق الأمين ويدعى كوشتازاد طعم قوة القديسين ضمد رأسه، وأخلد إلى الصمت. فالتفت القديسين إلى الجمع وقالوا لهم: " السلام عليكم والشفاء لأمراضكم ". وعلى الفور نال كل المرضى الحاضرين شفاءهم، وشرع الجميع يؤدون المجد لله. وكان كوشتازاد نفسه مصاباً بداء النقرس في يديه ورجليه، وقد أصاب الشلل ثلاثاً من أصابع يده اليسرى منذ ثلاث عشرة سنة. وإذا بها تعود إلى حالتها الطبيعية، وأخذ يمجد الله رغماً عنه. فدعاه القديسون باسمه وقالوا له: " يا كوشتازاد نسألك أن تقول لنا الحق: من الأعظم الله أم الإنسان؟ ". فأجاب: "  لا ريب أن الله هو الأعظم ".
   ثم خاطبهم كوشتازاد طالباً منهم أن يطيعوا أمر الملك الذي أراد أن يكرمهم باتخاذ سلطان ماهدوخت زوجة له، وأنه جاء ليأخذها للملك بحفاوة مثل ملكة. وعليكم أن تنبذوا هذا الضلال الذي انجرفتم إليه.
   فقال ادورفروا: " إن ملكي وسيدي وإلهي هو يسوع المسيح ".
   ثم قال ميهرنرسا: " أنا مسيحي وعبد للمسيح وساجد له إلى الأبد ".
   ثم قالت سلطان ماهدوخت: " إنكم من أجلي أتيتم إلى ههنا. وأنتم تشتاقون إلى سماع رأيي. أنم تقولون لي أن أذهب من النور إلى الظلام، ومن رائحة المسيح الهنيئة إلى رائحة شابور الكريهة، ومن العريس السماوي المجيد إلى عريس أرضي يدب الدود في حياته، ويؤول إلى الدبيب في موته. وتقولون لي أن أنحدر من السماء إلى الأرض. فمعاذ الله أن أتخلى عن صحبة المسيح ربي وإلهي. وأعلم ياكوشتازاد أن رأسك أيضاً سيقطع بأمر شابور في سبيل الإيمان بالمسيح. فطوبى لك إذ تكون أهلاً للنعيم السماوي ".
   فلما عرفوا أنهم لا يستطيعون القبض عليهم قسراً، كتبوا إلى شابور وأطلعوه على كل ما قيل. وما أن قرأ شابور رسالتهم حتى ثار ثائره وزأر كالأسد المفترس. فكتب رسالة إلى أمينه مع رئيس السحرة مع ساحرين آخرين لكي يسيطروا عليهم. ولما تليت الرسالة وعرف مضمونها، أصدر رئيس الفرسان أمره بالقبض على مار عبدا وبصلبه حسب أمر الملك. ولكن المرسلين ألفوه ميتاً يوارى الثرى باحتفال مهيب. فعادوا خائبين واخبروا بما عاينوا.
   فأخذ السحرة دماً وشعراً وشحماً وأصباغاً، حسب أسرارهم النجسة الذميمة، وشرعوا يمارسون سحرهم طوال يومين وليلتين. أما القديسون فكانوا عاكفين على الصلاة والتضرع إلى الله. ولما رأى السحرة أنهم تعبوا دون جدوى، قال لهم القديسون: " أتريدون أن تعرفوا قوتنا؟ ". فبسطوا أكفهم إلى السماء وصلوا قائلين: " يا أيتها القوة التي لا تقهر، يا أيها الرب أخزِ الشيطان بهلاك عبيده، وعظم شأن كنيستك بانتصار عبيدك ". وفي الحال شب لهيب نار من الأرض والتهم السحرة وأبادهم على بكرة أبيه. وإذ شاهد كوشتازاد هذه الآيات البينات، انضم في فكره إلى الإيمان بالمسيح. فجاء إليهم سراً عشية استشهادهم وقال لهم:   "  أنا عبد للمسيح الملك الحقيقي. صلوا لأجلي لكي يتجنن الرب عليّ ويقبلني بين ذويه ". فغمر الفرح قلوب الفتيان وشرعوا يعانقونه مثل أخ حقيقي. ثم قالوا له: "  انطلق إلى مار شمعون برصباعي لكي يوشحك بثوب المعمودية المقدسة، وستنال إكليل الشهادة قبله بيوم. واطلب من أبينا فولار أن ينجز الأمر الذي أصدره إليه شابور الملك ". فعانقهم وقبلهم، ثم انضم إلى رفاقه النائمين في مواضعهم.
   وفي الصباح قال كوشتازاد لفولار: " أنجز أمر الملك لكي نقوم ونعود، فقد تأخرنا كثيراً ولم نفد شيئاً ". وإذ كان كل واحد يخشى التقدم لقتل القديسين خوفاً على حياته، وقف القديسون ثلاثتهم على باب المغارة وقالوا لهم: " هلموا حرورنا من حياة الجسد هذه، فنمضي إلى الحياة الحقة، إذ آن أوان رحيلنا إلى المسيح ملكنا ". ولما سمع فولار صوتهم مزق ثيابه حزناً وذرى التراب على رأسه وشرع يبكي بمرارة هو والجنود الذين معه. ثم أمر أحد الفرسان بأن يذهب ويقتلهم. فاستل سيفه وتقدم منهم مرتعداً. أما القديسون فكانوا يضحكون فرحاً ويمجدون الله وقالوا لقاتليهم: "  أمهلونا قليلاً ريثما نصلي إلى الرب ". وبعد أن صلوا التفتوا إلى الحاضرين وهتفوا قائلين: " ليكن معنا السلام الذي تركه المسيح لكنيسته إلى أبد الدهور آمين ". 
   ثم دنا ادورفروا الأخ الأكبر، وأحنى رأسه أمام السياف فضرب عنقه. فركض أخوه ميهرنرسا وأخذ من دمه وغسل به وجهه. ثم أحنى هو أيضاً رأسه أمام السياف فقطع رأسه. وفي الحال أصاب القاتل برص شديد، وارتجفت يده وسقط منها السيف ولم يشأ أن يقتل أختهم. فقالت له سلطان ماهدوخت: "  أنجز عملك كله ولا تؤخرني عن اللحاق بأخويَّ ". فقال لها السياف: " ليتني ما قتلت هذين أيضاً ". وأسرع إلى الغدير وغسل سيفه. فدعته سلطان ماهدوخت ثانية وقالت له: " حي هو المسيح الذي اسجد له، إن أقسمت أنك ستقتلني أبرأتك من برصك ". فأقسم لها. فقالت له: " أذهب واغتسل في المياه التي بها غسلت سيفك، فتنل الشفاء ". فذهب واغتسل وعاد معافى. ثم أنجز قسمه، فضرب عنقها وقطع رأسها. وأراد الوثنيون إحراق أجسادهم حسب أمر الملك، إلا أنها اختفت عن الأنظار. ولما انحسر الاضطهاد عن المسيحيين، أقاموا في هذا الموضع كنيسة على اسم هؤلاء الشهداء، تخليداً لذكراهم العطرة، وكانت تجري فيها عجائب بشفاعة هؤلاء القديسين. وكان استشهادهم في الثاني عشر من كانون الثاني سنة 319. 
   ويقول المطران أدي شير: " يوجد الآن في قرية أرادن  من أعمال صبنا بقرب العمادية كنيسة مبنية على اسم القديسة سلطان ماهدوخت وأخويها، ويوجد فيها قبر يقول عنه أهل القرية أنه حاوي ذخائر هؤلاء القديسين. وأنهم كل سنة يعيدون لهم عيداً ويزورون كنيستهم ".   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار سلطان ماهدوخت وأخويها في 13 كانون الثاني.

90
تذكار مار إسطيفانوس بكر الشهداء ورئيس الشمامسة
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:القراءة الأولى: أعمال الرسل 6 / 8 _ 15 وكان إسطفانس وقد امتلأ من . . .     + أعمال الرسل 7 / 51 _ 60 يا صلاب الرقاب ويا غلف . . . + أعمال الرسل 8 / 1 _ 2 وكان شاؤل موافقاً على قتله . . .
القراءة الثانية: 2 قورنتس 3 / 18 ونحن جميعاً نعكس صورة مجد الرب . . . . + 2 قورنتس 4 / 1 _ 18 وأما وقد أعطينا تلك الخدمة . . .
القراءة الثالثة: متى 11 / 20 _ 30 ثم أخذ يعنف المدن التي جرت فيها . . . + متى  23 / 29 _ 38 الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون . .   

   مار إسطيفانوس: اسم يوناني معناه " تاج " أو " إكليل من الزهور " وهو اسم أول شهداء المسيحية. وبما أن اسمه يوناني فيرجح أنه كان هيلينياً، أي أنه لم يكن يوناني الجنس، بل يوناني اللغة والثقافة. أو أنه كان يهودياً يتكلم اليونانية. ولما اشتكى الهيلينيون المسيحيون في أورشليم من أن أراملهم كن يهملن، انتخب سبعة رجال من ضمنهم إسطيفانوس ليقوموا بأمر الخدمة اليومية وتوزيع التقدمات على الفقراء من المسيحيين. وهؤلاء الرجال السبعة يعرفون بأول شمامسة في الكنيسة المسيحية.  كان إسطيفانوس إسرائيلياً مستقيماً؛ وكان قد اهتدى إلى الإيمان بكرازة بطرس الرسول، وأظهر غيرة مجيدة على الإيمان الذي قبله منذ الساعة الأولى.  برز إسطيفانوس بين أقرانه بشخصيته القوية الفذة، وفاقهم جميعاً بما قام به من أعمال باهرة، وما كُتب له من مصير رهيب. فلقد خصه الله ببلاغة اللسان وقوة الحجة واتقاد الغيرة، فكان في عهد نشأة الكنيسة من جنود الطليعة ورواد الفتح، به شقت المسيحية لها طريقاً جديداً هو طريقها الخاص، بعد أن سارت إلى الآن في ركاب الهيكل، فدخلت هكذا من تاريخها في طور حاسم هو طور المستقبل البعيد، إذ على يد إسطيفانوس، أو بالأحرى بدمه، انعتقت من قيود اليهودية لتسلك سبيلها في حرية أبناء الله، فجاء هكذا في ساعته، عند الحاجة. شخصية قوية مثل هذه لا تنحصر في نطاق الخدمة الضيق، وضمن حدودها المرسومة. لا نقول إنه خرج عن قرار الرسل وراح يسلك طريقاً غير الذي اختطوه له، بل لأن الخدمة التي كلف هو ورفاقه بها لم يحصرها في أعمال مادية، ولم يقفها على خدمة الجسد، بل وسَّعها إلى أكثر من إشباع جائع وإرواء عطشان وإكساء عار، فكانت تصدر منه عن محبة يسوع، وتذهب منه إلى شخص يسوع. وبذلك غدت من تلك التي يشهد الروح بها ليسوع، فتبعث الإيمان وتبني الملكوت. هذه الشهادة أداها إسطيفانوس أيضاً بالكلمة. فكان يحاج اليهود، ولا سيما اليونانيين الذين من مجمع المعتقين والقيروانيين والاسكندريين والذين من كيليكيا وآسيا، حتى لكأن اليهودية كلها قد تألبت عليه، فكان يبرز للجميع، ويصمد للجميع، مباحثاً مجادلاً محاجاً مفحماً، فلم يستطيعوا أن يقاوموا الحكمة ولا الروح الذي كان ينطق به. إلى أن لجأ خصومه معه أخيراً إلى المؤامرات الدنيئة، فدسوا عليه من يقولون: " إنا سمعناه ينطق بكلمات تجديف على موسى وعلى الله ". فهاج الشعب والشيوخ والكتبة، فنهضوا جميعاً واختطفوه وأتوا به إلى المحفل. وأفسح المجال في المحفل لشهود الزور. ما أشبه اليوم بالأمس! فكأننا نشهد محاكمة يسوع: فاليهود هم هم، والتهم هي هي. فمع إسطيفانوس ظهر جلياً لليهودية أن القطيعة بينها وبين المسيحية لا بد واقعة. فكأن الحكم على إسطيفانوس بالموت، كما كان الحكم على يسوع بالموت. على سؤال رئيس الكهنة لم يجب إسطيفانوس بنعم أو بلا. بل أجاب بما علمه إياه يسوع: " إني أعطيكم فماً وحكمة لا يقدر جميع أعدائكم على مقاومتها ". وبما لقنه إياه الروح: " لستم أنتم المتكلمين بل الروح القدس ". هي كلمة الروح إذاً خرجت من فمه بياناً، فأنار الروح وجهه بنور الإلهام، حتى " تفرس فيه الحاضرون في المحفل وهو يتدفق بالكلام الملهم فرأوا وجهه كوجه ملاك ". فكان جوابه خطاباً يذكر بخطب الأنبياء في المواقف التاريخية الكبرى، مواقف الشهادة والتعليم، وقد جاء تلخيصاً لتاريخ إسرائيل على أنه سير إلى المسيح: " أيها الرجال الأخوة والآباء اسمعوا . . . ". ويسرد إسطيفانوس على السامعين ما لا يجهله السامعون من التاريخ المقدس، من دعوة إبراهيم، إلى يعقوب ويوسف، إلى موسى والخروج، إلى سني التيه في سيناء، إلى خيمة العهد والهيكل، إلى ما تخلل كل ذلك من أخطاء الشعب المختار وضلالاته. فهو الله قاد في هذه المراحل كلها شعبه. واختار لشعبه قواده ورجاله ومخلِّصيه؛ وهو الله يجب الآن أن نعبده لا في هذا الهيكل من الحجارة وفي هذا النطاق الضيق من الشعب اليهودي، بل في هيكله الحقيقي وشعبه الحقيقي: هيكل الروح والحق وشعب العالم بأسره. وختم خطابه بالقول: " إلا أنكم في كل حين تقاومون الروح. فكما كان آباؤكم كذلك أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء الصديق الذي اسلمتوه أنتم الآن إلى الأثمة وقتلتموه ". ما أن سمعوا هذه الخاتمة النارية حتى استشاطوا قي قلوبهم، وصرفوا على أسنانهم. وتحول المحفل في هذه اللحظة أشبه ببرميل بارود ينتظر الشرارة لينفجر. هذه الشرارة ألقاها إسطيفانوس نفسه، وهو في غمرة الروح، وعيناه عالقتان بالسماء شهادة أخيرة ستكلفه دمه: " هاأنذا أرى السماوات مفتوحة، وابن البشر قائماً عن يمين  الله ". فصرخوا بصوت عظيم، وسدوا آذانهم، وهجموا عليه وجروه إلى خارج المدينة ورجموه، وهو يدعو:       " أيها الرب يسوع أقبل روحي. ثم جثا على ركبتيه، وصرخ بصوت عظيم: يا رب لا تقم عليهم هذه الخطيئة. ولما قال هذا رقد في   الرب ". مات شهيد الكنيسة الأول كما يجب أن يموت، وكما سيموت بعده كل شهيد: مات ميتة المسيح، شاهداً مثله للحق، غافراً مثله لقاتليه، باذلاً مثله حتى أخر نقطة من      دمه ".   
   وقد خصصت كنيسة المشرق في صلاة مساء " رمشا " يوم الثلاثاء خلال كل أسابيع السنة، فرضاً خاصاً بالشهيد إسطيفانوس نذكر منه بعض الأبيات: " * ذكر الصديق يدوم إلى الأبد: إسطيفانوس الشهيد. فتح باب الشهادة. مع الختن ينعمون. في خدر النور البهي. * ولا يخاف الخبر السيئ: لما رجم رأى. مجد الرب في العلى. والروح يظفر. الأكاليل للمؤمنين. * من شعب بلا رحمة: في قتله سأل. عفواً لقاتليه. تعلم أن يغفر. من الرب على الصليب. * وقالوا حسناً بنشيد: بصوت عال صاح. الشهداء في المحاكم. لا نكفر بالمسيح. مات بسببنا. * ساعدنا اللهم يا مخلصنا: يا رب أنت ساندت. الشهداء في الجهاد. فكن لنا سلاحاً. وسوراً لا يُقهران. * يا رب ليس إله مثلك: لا ضيق يؤلمنا. أكثر من أن ننكرك. فالآلهة باطلة. أنت فقط أزلي. * إنهم مغروسون في بيت الرب: الشهداء في الكنائس. كالأشجار في الحدائق. فالمذبح يعلوهم. والروح يظللهم. * كم يُشبه رب السماوات: إن آلام الدنيا. لا تقاس بالأمجاد. التي ينالها. من بالحب أرضى   الرب. * من هم أبرار في قلوبهم: دعا الرب الشهداء. لوليمة الهناء. وجزاءاً للعذاب. يرثون          الملكوت. ". 
   وخلال القداس ينشد الشمامسة ترتيلة بديعة تتحدث عن استشهاد مار إسطيفانوس نذكر بعض من أبياتها: " * إسطيفانوس خط درب الشمامسة. وفي إثره جرى جمع الشهداء. ها هم الآن مع الختن. في السماء ينعمون بهناء الأبرياء. * إسطيفانوس رجمه ناس كفار. وهو إلى العلى رفع منه الأنظار. يتوسل ويدعو ربه الغفار. إقبل روحي بين يديك يا يسوع البار. * إسطيفانوس يا بكر الشهداء. ورئيساً لخدام رب السماء. أدع يسوع يبارك من بولاء. يرفع في البيعة نشيد الثناء. * إسطيفانوس كن ملجأ للمؤمنين. عابدي الرب في الكنيسة طوال السنين. يسبحون ثالوث الله في كل حين. ليبلغوا مجد السماء   والقديسين. ".
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار إسطيفانوس في الجمعة الرابعة من سابوع الدنح.





91
تذكار مار يوحنا المعمدان
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أشعيا 35 / 3 _ 10 قوُّوا الأيدي المسترخية وشددوا الركب . .   + أشعيا 40 / 1 _ 8 عزُّوا عزُّوا شعبي يقول إلهكم خاطبوا . .
القراءة الثانية: أفسس 2 / 19 _ 22 فلستم إذاً بعد اليوم غرباء أو نزلاء . . . + أفسس 3 / 1 _ 2 لذلك أنا بولس سجين المسيح يسوع . . . 
القراءة الثالثة: مرقس 6 / 14 _ 29 وسمع الملك هيرودس بأخباره لأن . . .
  مار يوحنا المعمدان: لبث يوحنا في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل. وفي السنة الخامسة عشرة من ملك طباريوس قيصر ، كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية. فجاء إلى بقعة الأردن  كلها يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. وبقي يوحنا زماناً يعمد ويكرز والناس تأتيه إلى عين نون  التي بجانب ساليم  لكثرة الماء هناك. وكان يرشد كل طبقة من طبقات الشعب إلى ما به خيرهم وصلاحهم بكل جرأة وغيرة رسولية.  وسمع رؤساء اليهود والفريسيون في أورشليم بكرازة يوحنا، فاضطربوا وأرسلوا إليه كهنة ولاويين ليسألوه من أنت؟، فاعترف ولم ينكر. واعترف أني لست المسيح. فسألوه إذن من، إيليا أنت؟ فقال: لست إياه. أنبي أنت؟ أجاب: كلا. فقالوا: فمن أنت لنرد الجواب على الذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ فقال: " أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب، كما قال أشعيا النبي ". فسألوه: فلما تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ أجابهم يوحنا وقال: " أنا أعمد بالماء ولكن بينكم من لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي، وقد جعل قبلي، الذي أنا لا استحق أن أحل سير حذائه ".
   ورغم بغض الفريسيون ليوحنا لإقبال الناس عليه، ورغم حسدهم لشهرته ولروح النبوءة الذي حل عليه، لا يجسرون مقاومته. بل كانوا يتظاهرون بالاحترام لدعوته ولقداسة حياته.
   وكان هيرودس  رئيس الربع على الجليل يجله كثيراً ويسمع له. بل كان يخاف منه لعلمه بأنه رجل بار وقديس. وعلق هيرودس هذا بهيروديا  امرأة أخيه فيلبس، وعلقت هي به، فتزوجها على حياة زوجها ضد كل الأنظمة والشرائع. فقام يوحنا يوبخه بجرأته الرسولية ويقول له: " لا يحل لك أن تكون لك امرأة   أخيك ". فحنقت عليه هيروديا الفاجرة وأوغرت صدر هيرودس عليه. فأراد قتله ولكن خاف من الجمع لأن يوحنا كان يعد عندهم نبياً. لكنه امسكه وأوثقه وألقاه في السجن.
   وباتت هيروديا تترقب فرصة لتحمل هيرودس على الفتك به، فترتاح منه ومن كرازته ظناً منها أنها إذا ما أسكتت ذلك الفم الملائكي تسكت صوت الضمير وصوت الشرائع وأصوات الشعب الساخط الناقم.
   وفي يوم مولده صنع هيرودس عشاء لعظمائه وقواد الألوف وأعيان الجليل، وجرى الحفل في قصره المنيف القائم على ضفاف وادي " زرقا ماعين " في المكان المدعو ماكيرنت  حيث المياه المعدنية الحارة تتدفق بغزارة وتصب في ذلك الوادي، فتمتزج بمياهه الطيبة الباردة، في ذلك القصر البديع المشرف على بحيرة لوط  الشهيرة في تاريخ بني إسرائيل، قامت الأفراح ابتهاجاً بذكرى مولد هيرودس. وكان يوحنا موثقاً ومطروحاً في أقبية ذلك القصر، فسمع أصوات الطرب وجلبة العيد فبات يعلل النفس بالإفراج عنه، فيعود إلى رسالته على ضفاف الأردن. وعندما دخلت صالومي  ابنة هيروديا ورقصت، فأعجبت هيرودس والمتكئين معه. وكانت الخمرة قد لعبت برأس هيرودس فالتفت إلى الصبية وقال لها: " سليني ما أردت فأعطيك، ولو نصف مملكتي ". فخرجت تلك الفتاة وسألت أمها ماذا تطلب. فقالت لها رأس يوحنا المعمدان. فعادت الفتاة ودخلت على الملك وقالت له: " أريد أن تعطيني رأس يوحنا المعمدان في طبق ". فاستحوذ على الملك حزن شديد، ولكنه من أجل اليمين والمتكئين معه لم يرد أن يصدها. فأنفذ سيافاً وأمر أن يأتي برأسه في طبق. فأنطلق وقطع رأسه في السجن، وأتى برأسه في طبق ودفعه إلى الصبية، فدفعته الصبية إلى أمها.
   هكذا كانت نهاية هذا النبي العظيم. فإنه ذهب شهيد الواجب نظير سائر الأنبياء. مات يوم عيد اعتاد الملوك أن يمنحوا عفواً عن المسجونين، ويطلقوهم من سجنهم ليعودوا فينعموا بالحياة. ولكن كؤوس الفجور والخمر كثيراً ما امتلأت من الدماء. وسمع تلاميذ يوحنا بقتل معلمهم، فجاءوا واخذوا جثته ووضعوها في قبر. ثم نقلت جثته إلى دمشق  وشيد على قبره كاتدرائية كبيرة وفخيمة. وبعد الفتح الإسلامي وفي عهد الدولة الأموية  حولت هذه الكاتدرائية إلى جامع عرف بالجامع الأموي . ولا زال قبره في هذا الجامع حتى يومنا هذا. ويطلق المسلمون على مار يوحنا المعمدان اسم النبي يحيى. 
   أما الرأس فبقي في حوزة هيروديا وابنتها. فإنهما حملتاه معهما، ولفتا ذلك الرأس المبارك بلفائف ودفنتاه في أحدى زوايا القصر الشرقي على ضفاف البحر الميت . وعندما انتقلوا إلى قصر أورشليم نقلوا معهم ذلك الرأس معهم ودفنوها في ذلك القصر، حتى لا يطمع أحد فيه فيأخذه. 
   وبقيت تلك الذخيرة الثمينة مدفونة في أورشليم إلى القرن الرابع. فأوحي إلى اثنين من الرهبان بوجودها في ذلك المكان، فأخرجها المؤمنون وحملوها إلى القسطنطينية باحتفال عظيم، فخرج الملك ثاوذوسيوس مع البطريرك والأساقفة والرهبان ورجال البلاط والجيش إلى خارج المدينة لاستقبالها. وأخذها الملك بين يديه ولفها بأرجوانة ودخل بها المدينة بأبهة واحتفال.
   ثم بنى لها كنيسة جميلة وجعلها فيها، ونال بواسطتها نعماً جزيلة. منها انتصاره على اقجانس المتمرد بشفاعة رأس يوحنا المعمدان. فبينما كانت المعركة قائمة كان الملك ساجداً في تلك الكنيسة يصلي أمام الذخيرة المباركة. ولما انهزمت جيوش الأعداء سمع الملك كأن واحداً يسرع في الخروج من الكنيسة وهو يصرخ: " لقد انتصرت عليَّ أنا الذي قطعت رأسك ". ثم على توالي الأجيال وبسبب الحروب والغزوات تعددت الكنائس التي حظيت من تلك الذخيرة الثمينة.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار يوحنا المعمدان في الجمعة الأولى من سابوع الدنح.


92
تذكار مار يوحنا المعمدان
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أشعيا 35 / 3 _ 10 قوُّوا الأيدي المسترخية وشددوا الركب . .   + أشعيا 40 / 1 _ 8 عزُّوا عزُّوا شعبي يقول إلهكم خاطبوا . .
القراءة الثانية: أفسس 2 / 19 _ 22 فلستم إذاً بعد اليوم غرباء أو نزلاء . . . + أفسس 3 / 1 _ 2 لذلك أنا بولس سجين المسيح يسوع . . . 
القراءة الثالثة: مرقس 6 / 14 _ 29 وسمع الملك هيرودس بأخباره لأن . . .
  مار يوحنا المعمدان: لبث يوحنا في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل. وفي السنة الخامسة عشرة من ملك طباريوس قيصر ، كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية. فجاء إلى بقعة الأردن  كلها يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. وبقي يوحنا زماناً يعمد ويكرز والناس تأتيه إلى عين نون  التي بجانب ساليم  لكثرة الماء هناك. وكان يرشد كل طبقة من طبقات الشعب إلى ما به خيرهم وصلاحهم بكل جرأة وغيرة رسولية.  وسمع رؤساء اليهود والفريسيون في أورشليم بكرازة يوحنا، فاضطربوا وأرسلوا إليه كهنة ولاويين ليسألوه من أنت؟، فاعترف ولم ينكر. واعترف أني لست المسيح. فسألوه إذن من، إيليا أنت؟ فقال: لست إياه. أنبي أنت؟ أجاب: كلا. فقالوا: فمن أنت لنرد الجواب على الذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ فقال: " أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب، كما قال أشعيا النبي ". فسألوه: فلما تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ أجابهم يوحنا وقال: " أنا أعمد بالماء ولكن بينكم من لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي، وقد جعل قبلي، الذي أنا لا استحق أن أحل سير حذائه ".
   ورغم بغض الفريسيون ليوحنا لإقبال الناس عليه، ورغم حسدهم لشهرته ولروح النبوءة الذي حل عليه، لا يجسرون مقاومته. بل كانوا يتظاهرون بالاحترام لدعوته ولقداسة حياته.
   وكان هيرودس  رئيس الربع على الجليل يجله كثيراً ويسمع له. بل كان يخاف منه لعلمه بأنه رجل بار وقديس. وعلق هيرودس هذا بهيروديا  امرأة أخيه فيلبس، وعلقت هي به، فتزوجها على حياة زوجها ضد كل الأنظمة والشرائع. فقام يوحنا يوبخه بجرأته الرسولية ويقول له: " لا يحل لك أن تكون لك امرأة   أخيك ". فحنقت عليه هيروديا الفاجرة وأوغرت صدر هيرودس عليه. فأراد قتله ولكن خاف من الجمع لأن يوحنا كان يعد عندهم نبياً. لكنه امسكه وأوثقه وألقاه في السجن.
   وباتت هيروديا تترقب فرصة لتحمل هيرودس على الفتك به، فترتاح منه ومن كرازته ظناً منها أنها إذا ما أسكتت ذلك الفم الملائكي تسكت صوت الضمير وصوت الشرائع وأصوات الشعب الساخط الناقم.
   وفي يوم مولده صنع هيرودس عشاء لعظمائه وقواد الألوف وأعيان الجليل، وجرى الحفل في قصره المنيف القائم على ضفاف وادي " زرقا ماعين " في المكان المدعو ماكيرنت  حيث المياه المعدنية الحارة تتدفق بغزارة وتصب في ذلك الوادي، فتمتزج بمياهه الطيبة الباردة، في ذلك القصر البديع المشرف على بحيرة لوط  الشهيرة في تاريخ بني إسرائيل، قامت الأفراح ابتهاجاً بذكرى مولد هيرودس. وكان يوحنا موثقاً ومطروحاً في أقبية ذلك القصر، فسمع أصوات الطرب وجلبة العيد فبات يعلل النفس بالإفراج عنه، فيعود إلى رسالته على ضفاف الأردن. وعندما دخلت صالومي  ابنة هيروديا ورقصت، فأعجبت هيرودس والمتكئين معه. وكانت الخمرة قد لعبت برأس هيرودس فالتفت إلى الصبية وقال لها: " سليني ما أردت فأعطيك، ولو نصف مملكتي ". فخرجت تلك الفتاة وسألت أمها ماذا تطلب. فقالت لها رأس يوحنا المعمدان. فعادت الفتاة ودخلت على الملك وقالت له: " أريد أن تعطيني رأس يوحنا المعمدان في طبق ". فاستحوذ على الملك حزن شديد، ولكنه من أجل اليمين والمتكئين معه لم يرد أن يصدها. فأنفذ سيافاً وأمر أن يأتي برأسه في طبق. فأنطلق وقطع رأسه في السجن، وأتى برأسه في طبق ودفعه إلى الصبية، فدفعته الصبية إلى أمها.
   هكذا كانت نهاية هذا النبي العظيم. فإنه ذهب شهيد الواجب نظير سائر الأنبياء. مات يوم عيد اعتاد الملوك أن يمنحوا عفواً عن المسجونين، ويطلقوهم من سجنهم ليعودوا فينعموا بالحياة. ولكن كؤوس الفجور والخمر كثيراً ما امتلأت من الدماء. وسمع تلاميذ يوحنا بقتل معلمهم، فجاءوا واخذوا جثته ووضعوها في قبر. ثم نقلت جثته إلى دمشق  وشيد على قبره كاتدرائية كبيرة وفخيمة. وبعد الفتح الإسلامي وفي عهد الدولة الأموية  حولت هذه الكاتدرائية إلى جامع عرف بالجامع الأموي . ولا زال قبره في هذا الجامع حتى يومنا هذا. ويطلق المسلمون على مار يوحنا المعمدان اسم النبي يحيى. 
   أما الرأس فبقي في حوزة هيروديا وابنتها. فإنهما حملتاه معهما، ولفتا ذلك الرأس المبارك بلفائف ودفنتاه في أحدى زوايا القصر الشرقي على ضفاف البحر الميت . وعندما انتقلوا إلى قصر أورشليم نقلوا معهم ذلك الرأس معهم ودفنوها في ذلك القصر، حتى لا يطمع أحد فيه فيأخذه. 
   وبقيت تلك الذخيرة الثمينة مدفونة في أورشليم إلى القرن الرابع. فأوحي إلى اثنين من الرهبان بوجودها في ذلك المكان، فأخرجها المؤمنون وحملوها إلى القسطنطينية باحتفال عظيم، فخرج الملك ثاوذوسيوس مع البطريرك والأساقفة والرهبان ورجال البلاط والجيش إلى خارج المدينة لاستقبالها. وأخذها الملك بين يديه ولفها بأرجوانة ودخل بها المدينة بأبهة واحتفال.
   ثم بنى لها كنيسة جميلة وجعلها فيها، ونال بواسطتها نعماً جزيلة. منها انتصاره على اقجانس المتمرد بشفاعة رأس يوحنا المعمدان. فبينما كانت المعركة قائمة كان الملك ساجداً في تلك الكنيسة يصلي أمام الذخيرة المباركة. ولما انهزمت جيوش الأعداء سمع الملك كأن واحداً يسرع في الخروج من الكنيسة وهو يصرخ: " لقد انتصرت عليَّ أنا الذي قطعت رأسك ". ثم على توالي الأجيال وبسبب الحروب والغزوات تعددت الكنائس التي حظيت من تلك الذخيرة الثمينة.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار يوحنا المعمدان في الجمعة الأولى من سابوع الدنح.


93
المنبر السياسي / عيد الدنح
« في: 10:50 05/01/2010  »
عيد الدنح
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:
القراءة الأولى: أشعيا 4 / 2 _ 5 في ذلك اليوم يكون نبت الرب بهاءً ومجداً .+ أشعيا 11 / 1 _ 5 ويخرج غصن من جذع يسى وينمي . . .   
القراءة الثانية: طيطس 2 / 11 _ 15 فقد ظهرت نعمة الله ينبوع الخلاص . . . + طيطس 3 / 1 _ 7 ذكرهم أن يخضعوا للحكام وأصحاب . . .   
القراءة الثالثة: متى 3 / 1 _ 17 في تلك الأيام ظهر يوحنا المعمدان ينادي . . .

   عيد الدنح: نشأ عيد الدنح في الشرق، وانتقل إلى الغرب في منتصف القرن الرابع، إلا أن معناه تحول وتمركز على ظهور الرب للأمم الوثنية، ممثلة بالمجوس بواسطة النجم. وجرى تبادل بين الغرب والشرق، فقد تبنى الشرق عيد الميلاد بتاريخ 25 كانون الأول الذي نشأ في الغرب أولاً. واقتبس الغرب من الشرق عيد الدنح. وكلمة دغسا " دنحا " تعني بالكلدانية الظهور أو الشروق، أي بدء ظهور يسوع للعالم يوم اعتماده في نهر الأردن من يد يوحنا المعمدان، وانفتاح السماء فوقه ونزول الروح القدس عليه، وتقديم الآب الذي أعلن: " هذه هو ابني الحبيب الذي به سررت ". وكان يوم 6 كانون الثاني مكرساً في مصر وفي الجزيرة العربية قديماً لإقامة الاحتفالات بمناسبة الانقلاب الشتوي، إكراماً للشمس المنتصرة على فترة الظلام وازدياد نورها. وقد حاولت شيعة الغنوصيين منذ أعوام 120 _ 140 م تعميد هذا العيد وجعله مسيحياً.
   إن تركيز كنيسة المشرق على عماد يسوع المسيح في نهر الأردن من يوحنا المعمدان يعكس معطيات الإنجيل المقدس، الذي لا يهتم بإعطاء معلومات كثيرة عن حياة يسوع الأرضية خلال السنين الثلاثين الأولى، إذ عاش حياة الخفاء. إلا أن ظهوره للعالم وبدء نشاطه التبشيري وعمله الخلاصي بدأ يوم العماد. وتمركز اهتمام المسيحيين الأولين على يسوع منذ يوم بلوغه هذه المرحلة الخلاصية التي تساعدهم على تحقيق خلاصهم عبر مواعظ يسوع ومعجزاته وموته وقيامته بانتظار مجيئه الثاني. ويحمل عيد الدنح عناصر لاهوتية غنية أخرى كثيرة، أهمها ظهور الثالوث الأقدس للمرة الأولى على مياه نهر الأردن.   
   وفي صلوات طقس عيد الدنح، تتعجب كنيسة المشرق من سر الظهور العجيب غير المنتظر، لأنها قريبة من فكر العهد القديم الذي يُطري عظمة الله ضابط الكل غير المنظور وغير المدرك. فلا تقترب من السر الإلهي إلا باحترام وإجلال، كما يقول الطقس. فلاهوت الدنح طبع بعمق تفكير كنيسة المشرق. فمن خلال صلوات هذا العيد نلاحظ أنها تتكلم عن السبب الذي جعل الله غير المنظور يظهر بجبه للبشر. وتبين سره في يسوع المسيح لأنه صورة مجد الآب الأصلية. وأن محب البشر والكاشف عن نفسه جاء من أجل المصالحة، لكي يشرق السلام السماوي على الأرض مع الرجاء الصالح لبني البشر في الحاضر والمستقبل.
   وتحتفل بعض أبرشيات كنيسة المشرق برتبة عماد الصليب وحمله من قبل أحد الأطفال كأشبين ليسوع، وتوزع المياه على المؤمنين للبركة. ومن خلال مراجعتنا لطقس عيد الدنح لم نجد ذكر لهذه الرتبة. وتعتبر هذه الرتبة ممارسات شبه طقسية وجدت خاصة في أبرشيات كنيسة المشرق في تركيا،  والتي يبدو أنها اقتبستها من ممارسات الطوائف الأخرى هناك. وقد تناقلها أبناء هذه الأبرشيات بعد نزوحهم إلى البلاد المجاورة. وأخذت هذه الممارسة تتقلص تدريجياً حتى لا نجد لها ذكر في الكثير من الرعايا. أما طقس كنيسة المشرق فيضم فرض صلاة لهذا العيد، نذكر مقتطفات منه، ليطلع القراء على غنى المعاني اللاهوتية التي تعبر عن هذا العيد: صلاة من فرض المساء: " أيها القدوس الذي قدس بعماده جميع البحار والأنهر والغدران والعيون وينابيع المياه. إليك نتضرع أن تقدسنا بقداستك في عيد ظهورك المقدس. وأجعل أفواهنا ينابيع لتقديسك، ألسنتنا أواني كاملة لثالوثك المجيد، كل آن يا رب الكل ". 
   أنشودة قبل المزامير: " يا ربنا إن معموديتك التي هي لنا ينبوع الخيرات واكتمال إيمان الحياة، التي على نهر الأردن جرت بواسطة يوحنا الساعي، هي مهدت الطريق إلى ملكوت السماء أمام كل المعمدين. بالاعتراف الكامل بالأقانيم المجيدة لثالوثك المسجود ".   
   ترتيلة دواساليقي " ملكي ": " * نسجد يا رب لظهورك المقدس الذي أبهجنا، به أنرت بأعجوبة جميع الأمم التي كانت جالسة في الظلام وظلال الموت، المجد لك يا محب البشر. * نسجد لظهور المسيح ملكنا المجيد. لأن به بطل الموت والشيطان وانطفأت الخطيئة. ووعد بالحياة الحقيقية. والرجاء الصالح لكل البرايا. ممجد ومعظم مع أبيه وروحه. * اركعي واسجدي يا جميع الأمم ليسوع مخلصنا، الذي أفرح وأبهج بعماده الملائكة والبشر معاً. وخلص وحرر العالم كله بظهوره، مسجود له مع أبيه وروحه القدوس. * يا رب إن ظهورك مسجود، فيه استنارت المسكونة وابتهجت الخليقة كلها، السماويون والأرضيون، وها معاً يرنمون لك المجد من جميع الأقوام، أيها الابن مقدس جنسنا بعماده. * مجيد هو ظهور المسيح، الذي بعماده حررنا من الضلال، ووهب الرجاء والتجديد لجنس المائتين قاطبة. وأشرق ضياءً للعلويين والسفليين سوية. لك المجد أيها المسيح مخلصنا. ".   
   ونذكر من صلاة الليل: " * الخليقة كلها تسر وتبتهج بالمجد بظهور المسيح الممجد. فإنه أبطل مذابح ضلال الأصنام. والذين كانوا جالسين في الظلمة أشرق عليهم النور. وتهمد على يد يوحنا وبعماده قدس الينابيع. * جميعكم يا من اعتمدتم بالمسيح لبستم المسيح من الماء والروح، لتملكوا معه في المسكن السماوي. * بروح واحد اعتمدتم وروحاً واحداً لبستم، ورباً واحداً عرفتم، وباسمه تدعون. ومعه تنعمون في المسكن المليء بالنعيم. * لأنكم قمتم من الماء وقمتم من بيت الأموات، لبستم المسيح ولبستم الروح القدس لتلبسوا بنوره الحياة الأبدية. * صفوف النور والروح رنموا المجد في ظهورك المقدس. وبعمادك الطاهر غسلت دنس جنس آدم الترابي، وكشفت الأسرار المجيدة لكنيستك. * اعتمد المسيح في نهر الأردن من يوحنا لخلاص الخطأة. الآب من السماء شهد لظهوره والروح القدس أظهر سر الثالوث. * بخوف ورعدة قام يوحنا حين اقترب ليعمد المسيح ربنا وصرخ يقول للناس جميعاً: هو ذا حمل الله فاسجدوا له. ".   
   مدراش: " الردة: رنمت السماء والأرض المجد في يوم عماد ملك الملوك، يستحق الإكرام من الكل لأنه بظهوره أفرح الكل. * أتحدث عن عظمته وعن تجلي عماده، لقد اختلط الرب بعبيده والله ببني البشر، اليوم جاء رب الكل إلى إنسانيتنا ليقدسها، اليوم أشرقت حياة جديدة، بها أنتصر المائتون على الموت. * غنى السماء نزل إلى الأرض، وبذر كنوزه على إنسانيتنا، رتلوا المجد قدوس قدوس، للآب الذي بابنه أحيانا، بالأنبياء رنمه الروح وكرره عنه في الرسل، لتتم كلمة النبي يوم يعنى ليوم..   
   وعند الصعود إلى البيم ترتل أبيات من الشعر الكنسي نذكر منها: " * مبارك الحي وابن الحي، الذي ظهر لنا من السماء، وبعماده بالماء أعطانا ذخيرة التبني. * مبارك من قدسنا بعماده، وطهرنا بغسله، ورفعنا بتواضعه، وأهلنا لمجده.   * مبارك من ظهر في الأردن، والروح نزل واستقر عليه، وحلوله أظهر للكل، أن الآب رضي عنه. * مبارك ذلك الذي أعتمد، وهو غير محتاج من يوحنا المحتاج، وأغنى جنسنا المحتاج، والعطشان والمحتاج إلى مراحمه. * في هذا العيد الجليل، عيد عماد ابن الحي، لنرتل مجداً بهياً، مع الملائكة في السماء. * هلموا أيها المعتمدون، بالمسيح نسجد للمسيح، فبظهور المسيح، رأينا نور المسيح. * الجمع الذي احتفل بعيدك، وأكرم يوم ظهورك، أفض عليه نعمك، وأنعمه في ملكوتك. ". 
   ومن صلاة السهرة نذكر : " * المجد: رب الينابيع والأنهر، طلب ماء من السامرية. فبالماء اصطادها وأدخلها وضمها إلى حظيرته. وخرجت وهي ترتل مجده. المجد لك يا ربنا، المجد لك يا ابن الله، مبارك من يرد الضالين. * من الأزل: رعد الآب في السماء، والملائكة رنموا في الهواء، والبشر على الأرض في يوم عمادك، من يوحنا الساعي في نهر الأردن المبارك. المجد لك ربنا، المجد لك يا ابن الله، مبارك من قدسنا بعماده. ". 
   ومن فرض الصباح نذكر هذه الترتيلة: " في يوم العيد البهيج، عيد عماد الملك المسيح، صرخ الآب بصوت هادئ، هذا حبيبي المنتصر، والروح القدس بالجلال والتعظيم، نزل على رأسه المجيد. تحتفل الكنيسة وبنوها بعيده بألحان التمجيد، وتتوسل إليه بقدر استطاعتها بالود والحب والفرح، أن يخلصها من المُقلق إبليس الوقح، ويحفظها زمناً مديداً حتى تجليه الممجد ". 
   وخلال قداس العيد ترتل ترتيلة الأسرار هذه: " الخليقة تجددت بربها، وعرفت مخلصها الذي اعتمد، وكشف لها في الأردن عن عقيدة الثالوث. الآب الذي يهتف ويصرخ: هذا هو حبيبي الذي عنه رضيت. والروح الذي أتى واستقر عليه. وأخبر عن مجده أمام العالمين. ". 
   ونذكر بيت من ترتيلة البيم: " تقدسنا بالماء والروح، واقتنينا الحياة بجسدك ودمك، أيها الصالح الذي جبلنا من التراب، جدد مثالنا بالماء والروح، بالماء والروح جبلتنا مجدداً، مجيد تجديدك وبهي      مجيئك. ".


94
عيد ختانة الرب ويوم السلام العالمي
1 كانون الثاني
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية: القراءة الأولى: أشعيا 42 / 18 _ 25 أيها الصم اسمعوا أيها العميان انظروا . . + أشعيا 43 / 1 _ 13 والآن هكذا قال الرب خالقك يا . . .
القراءة الثانية: غلاطية 5 / 1 _ 6 إن المسيح قد حررنا تحريراً فاثبتوا إذاً . . .  + فيلبي 2 / 5 _ 11 فليكن فيما بينكم الشعور الذي هو . . . 
القراءة الثالثة: متى 1 / 18 _ 25 أما ميلاد يسوع المسيح فهكذا كان: لما . . . + لوقا 2 / 2 _ 21 ولما انقضت ثمانية أيام فحان للطفل . . . 

   1_ عيد ختانة الرب: الختان عملية مألوفة عند كثير من الشعوب القديمة والحديثة، كالمصرين وسواهم لأسباب صحية لا علاقة لها بالأديان. وقد شاء العلي أن يكون الختان علامة العهد بينه وبين إبراهيم ونسله، على أن يختن كل ذكر في يومه الثامن. ومن ذلك اليوم أصبح اليهود يُعرفون بأهل الختان، وكانوا شديدي التمسك بهذه السنَّة. حتى أن الذين منهم كانوا ينتحلون المسيحية في أول أمرها كانوا أيضاً يحافظون بدقة على تلك السنَّة. ولولا مقاومة الرسولين بولس وبرنابا لهم في ذلك، لفرضوا على الأمم المتنصرة أيضاً واجب المحافظة عليها. ولما كان فادينا الإلهي قد أتى إلى العالم ليخلصنا، وولد من نسل إبراهيم، أراد أن يحافظ على مراسيم الشريعة الموسوية بكاملها، ليعطي للعالم بذلك مثلاً صالحاً بطاعته في تتميم الفرائض التي رسمها الآب السماوي، وإن لم يكن هو خاضعاً لها. وبتواضعه الذي به أراد أن يتشبه بالخطأة وبطرق تكفيرهم، وبشغفه بالتضحية التي جاء ليقوم بها لأجل خلاصنا، حتى منذ الدقيقة الأولى من حياته. ولذلك أجريت له عملية الختان في اليوم الثامن لميلاده في بيت لحم، ودعي باسم " يسوع " أي المخلص. وهو الاسم الذي أوحى به الملاك جبرائيل يوم البشارة بقوله للبتول مريم: " فستحملين وتلدين ابناً فسميه يسوع ". ( لوقا1: 31 ).  فختانة الطفل يسوع هي باكورة افتدائنا. وهذا الدم الأول الذي أراقه في بيت لحم، هو رأس الينبوع الذي سوف يسيل ويغرق الدنيا بالنعم الإلهية والبركات السماوية. وهي لنا أيضاً مثال ختانة القلب واللسان، كما يقول القديس بولس: " وفيه ختنتم ختاناً لم يكن بفعل الأيدي. بل بخلع الجسد البشري، وهو ختان المسيح ". ( قولسي 2: 11 ). وأيضاً:     " فإنما نحن ذوو الختان الذين يؤدون العبادة بروح الله ويفتخرون بالمسيح يسوع، ولا يعتمدون على الأمور البشرية ". ( فيلبي 3: 3 ). وما أجمل ما قال في ذلك القديس برنردس : " إن ختانة الجسد هي لعضوٍ واحدٍ منه، وأما ختانة الروح فهي للإنسان بكامله ".   
   وفي فرض هذا العيد تصلي كنيسة المشرق أجمل الصلوات التي تعبر عن هذا الحدث نذكر منها: " اسمعوا هذا يا جميع الشعوب: وضع موسى شريعة لبني إسرائيل. ليختنوا الأطفال في ثمانية أيام. والشعب الذي خرج من مصر ختن. وبهذه العلامة حدث سر كبير. والمسيح بمعموديته أعطى رسم الحياة. وخلص الشعوب من ظلمة الضلال ". 
   وأيضاً: " سبحوا الرب من الأرض: تعالوا يا أخوتي لنحتفل بختانة يسوع مخلصنا. ومع الروحانيين وأجناس الملائكة نسبحه قائلين. المجد للآتي الذي غلب ولاشى رميمنا ". 

   2_ يوم السلام العالمي: سنة 1968 دعا البابا بولس السادس  العالم للاحتفال بيوم السلام العالمي، وذلك في اليوم الأول من السنة الجديد. ومنذ ذلك التاريخ أعتاد الباباوات على إصدار رسالة في هذا اليوم تتحدث عن المستجدات التي تعيق مسيرة السلام في العالم، والدعوة لنبذ النزاعات المسلحة، والعمل على إيجاد الحلول الناجعة من خلال الحوار.
   وهنا نستعرض مقتطفات من رسالة البابا بندكتس السادس عشر  التي أصدرها في يوم السلام العالمي سنة 2008 حيث يقول: " يطيب لي، في مطلع عام جديد، أن أرفع تهنئة سلام صادقة، مقرونة برسالة رجاء ودية، إلى رجال ونساء العالم كله. يسرني أن أعرض للتفكير المشترك حول موضوع عزيز على قلبي افتتحت به هذه الرسالة وهو: الأسرة البشرية، جماعة سلام. في الواقع، إن أول هيئة لشركة بين أشخاص هي التي يغذيها الحب ما بين رجل وامرأة صمما على الاتحاد المستقر معا بهدف بناء أسرة جديدة. إن شعوب الأرض مدعوة أيضا لتأسيس علاقات تضامن وتعاون، التي تنضم إلى أعضاء الأسرة البشرية الواحدة، ولقد أفتى المجمع الفاتيكاني الثاني قائلا: "كل الشعوب جماعة واحدة ولها أصل واحد لأن الله هو الذي أسكن الجنس البشري بأسره على وجه الأرض كلها (أعمال 17/26)، ولهم غاية واحدة وهي الله".
   تحيا الأسرة بسلام إذا ما خضعت مكوناتها لشريعة مشتركة: هي التي تمنع التفرد الأناني وتربط الأفراد معا، وتعزز فيهم تناغم العيش والعمل الهادف والمثمر. يصلح هذا المعيار، المحق بحد ذاته، لجماعات أكثر انتشارا: انطلاقا من المحلية منها مرورا بالوطنية ووصولا إلى الجماعة الدولية نفسها. ولنيل السلام نحتاج إلى شريعة مشتركة، تعين الحرية حقا على إظهار ذاتها، بدل أن تكون عمياء اعتباطية، وتحمي المستضعف من ظلم القوي الجائر. كثيرة هي التصرفات الاعتباطية التي نشهدها في أسرة الشعوب وفي كل دولة وفي علاقات الدول المتبادلة. تجدر الإشارة إلى أنه، وفي حالات عدة، يطأطئ المستضعف رأسه إذلالا أمام من يفوقه قوة وتملكا. فالتذكير واجب وهو أن الشريعة تنظم القوة وتسددها، وهذا ما يجب أن يتحقق في العلاقات بين الدول السيدة.
   تحدثت الكنيسة أكثر من مرة عن طبيعة وعمل الشريعة: إن الشريعة القانونية التي تنظم علاقات الأفراد، وتهذب التصرفات الخارجية وتؤمن العقوبات أيضا للمتعدين، تقوم على معيار الشريعة الأخلاقية المرتكزة إلى طبيعة الأشياء. في حين أن العقل البشري قادر على تمييزها، في متطلباته الأساسية على الأقل، بالرجوع إلى عقل الله الخالق، أصل كل الأشياء. فمن واجبات الشريعة الأخلاقية هذه أن تنظم خيارات الضمائر وتوجه تصرفات الكائنات البشرية كلها. هل هناك من تشريعات قانونية تنظم العلاقات بين الدول التي تكوّن الأسرة البشرية؟ وإن وجدت فهل هي فاعلة حقا؟ الجواب: نعم، الشرائع موجودة، وتحتاج، لكي تكون حقا فاعلة، للرجوع إلى الشريعة الأخلاقية الطبيعية كقاعدة للشريعة القانونية، وإلا بقيت عرضة لاتفاقات هشة ومؤقتة.
   إن معرفة الشريعة الأخلاقية الطبيعية ليست مرفوضة من الإنسان الذي يعود إلى أعماق نفسه بمواجهة مصيره الشخصي ويطرح تساؤلا حول المنطق الباطني للميول الكامنة في ذاته. ورغما من الغموض والإبهام، باستطاعته أن يتوصل لاكتشاف هذه الشريعة الأخلاقية العامة التي تتيح التفاهم فيما بين الكائنات البشرية حول الأشكال المهمة للخير والشر، للعادل والظالم، بمنأى عن التباينات الثقافية.  فمن الضروري العودة إلى القانون الأساسي عبر الالتزام الجدي في هذا البحث، مجندين أفضل طاقاتنا الفكرية، ودون أن تحبط السجالات من عزيمتنا. في الواقع، إن القيم المتجذرة في الشريعة الطبيعية لحاضرة، ولو بشكل متقطع ودون ترابط، في المعاهدات الدولية، في أشكال السلطات المعترف بها شموليا، في مبادئ القانون الإنساني الذي لحظته تشريعات الدول، أو في الأحوال الشخصية للمنظمات الدولية. ما من بشرية بدون قانون أو شريعة. في كل الأحوال، يجب أن يستمر الحوار حول هذه المواضيع، تعزيزا لتلاقي تشريعات الدول كافة في الاعتراف بالحقوق الإنسانية الأساسية. و يعود تنامي الثقافة القانونية في العالم إلى الالتزام في تطوير القوانين الدولية ذي المحتوى الإنساني العميق، لتفادي الانجراف وراء عمليات تحركها الدوافع الأنانية أو الأيديولوجية.
   تعيش البشرية اليوم، وللأسف، انقسامات خطيرة وصراعات قوية توشح المستقبل بظلالها الداكنة. مناطق شاسعة من الكوكب، تزداد فيها التشنجات، بينما يخالج الحذر والقلق نفس كل إنسان مسؤول، أمام تنامي عدد الدول التي تمتلك سلاحا نوويا. وتدور حتى الساعة حروب أهلية في القارة الأفريقية، مع أن بعض بلدانها قد قطع شوطا مهما على درب الحرية والديمقراطية. ولا يزال الشرق الأوسط مسرح نزاعات مسلحة واعتداءات، تتأثر بها الأمم والمناطق المجاورة، وتعرضها لخطر انتقال دوامة العنف إليها. على صعيد عام، يسجَّل بأسى ارتفاع عدد الدول المتورطة في سباق التسلح، حتى أن دولا نامية تقتطع من ناتجها الداخلي الضئيل بهدف التسلح. ففي خضم تجارة الموت القاتلة، تزداد المسؤوليات: هناك بلدان من العالم الأكثر تطورا تجني أرباحا طائلة من بيع الأسلحة، وهناك أوليغارشيات حاكمة في بلدان عديدة تسعى لتعزيز موقعها السياسي عبر امتلاك أسلحة متطورة. فمن الضرورة بمكان، وفي هذه الأزمنة المعقدة، أن يتحرك ذوو الإرادة الحسنة بغية التوصل إلى اتفاقات حقيقية تفضي إلى نزع حقيقي للسلاح، خصوصا في حقل السلاح النووي. في مرحلة تخطو فيها عملية الحد من انتشار الأسلحة النووية خطى حثيثة، وشعورا بالواجب، أحث السلطات على متابعة المفاوضات بهدف تفكيك تدريجي وتوافقي للأسلحة النووية الموجودة.
   وإنني، إذ أجدد ندائي هذا، أحمل أمنيات العديد ممن يشاطروني هموم مستقبل البشرية. ستون سنة مضت على نشر منظمة الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948 ? 2008). جاءت الوثيقة كردة فعل الأسرة البشرية على أهوال الحرب العالمية الثانية، معترفة بوحدتها الخاصة المرتكزة إلى تساوي الكرامة بين البشر، وواضعة في صلب التعايش البشري احترام الحقوق الرئيسة للأفراد والشعوب: وكانت هذه خطوة مقررة في المسيرة الشاقة والملزمة صوب الوئام والسلام. وتجدر هنا لفتة خاصة إلى الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لتبني الكرسي الرسولي شرعة حقوق الأسرة ( 1983 ? 2008 )، وإلى الذكرى السنوية الأربعين للاحتفال بأول يوم عالمي من أجل السلام ( 1968 ? 2008 ). وكثمرة للحدس السماوي للبابا بولس السادس، وبعد أن أنعشه باقتناع راسخ سلفي الموقر والحبيب البابا يوحنا بولس الثاني، قدّم الاحتفال بهذا اليوم على مر السنين، ومن خلال الرسائل التي نُشرت للمناسبة، إمكانية تطوير عقيدة منوِّرة للكنيسة لصالح هذه الثروة البشرية الأساسية. وفي ضوء هذه المناسبات الهامة، أدعو كل رجل وكل امرأة إلى وعي أكثر صفاء حيال الانتماء المشترك للعائلة البشرية الواحدة وإلى الالتزام في جعل التعايش على الأرض يعكس بصورة أفضل هذه القناعة التي يعتمد عليها بناء سلام حقيقي ومستدام. أدعو أيضا المؤمنين إلى ابتهال عطية السلام الكبيرة من لدن الله. يعلم المسيحيون من جهتهم أن باستطاعتهم أن يفوضوا أمرهم إلى شفاعة من، ولكونها أم ابن الله الذي صار جسدا لخلاص البشرية بأسرها، هي أم    الكل. ".

95
الأحد الرابع من سابوع البشارة
بشارة مار يوسف البتول عيد مار يوسف

الشماس نوري إيشوع مندو
   الفكرة الطقسية: تدعونا صلوات الأحد الرابع من البشارة إلى الإستعداد لميلاد المسيح، ذلك من خلال انفتاحنا على نداءات الله من خلال أحداث تحصل لنا، أو أشخاص نلتقي بهم والتصرف بإيمان عميق وصلاة واثقة وضمير حي على مثال يوسف.
   وفي هذا الأحد نستمع إلى كلمة الله تعلن لنا من خلال ثلاث قراءات هي:
   الأولى من سفر التكوين (24 / 50 _ 67 ) تحكي خبر زواج إسحق من رفقة ، زواج مبني على الوعد بالأمانة على الحياة العائلية وفقاً لتصميم الرب.
   والثانية من رسالة بولس إلى أهل أفسس ( 5 / 5 _ 21 ) تطلب من المسيحي أن يتخلى عن عاداته القديمة، ويسير في نور المسيح المجدد.
   والثالثة من إنجيل متى ( 1 / 18 _ 25 ) تروي موقف يوسف من الحبل بيسوع وتصرفه السليم، وقبوله أعطى المواعيد معناها الكامل. 
   يعلمنا يوسف الطريق، والإصغاء إلى الله. فصوت الملاك الذي دعا يوسف: لا تخاف، هو اليوم يدعونا: لا تخافوا. فيسوع بيننا ليُسكن ويهدئ ويزيل مخاوفنا. هو واقف على أبواب قلوبنا ليطمئنا أنه معنا، وسيبقى معنا. وعلينا أن نثق به، ونستسلم لتدبيره.   

   مار يوسف: اسم عبري يعني " يزيد " كان يوسف البتول من بيت لحم، من سبط يهوذا ومن عشيرة داود. فكان بذلك من أشرف أشراف إسرائيل مولداً ومنشأً وحسباً ونسباً. إلا أن الله الذي كان قد أراد لأبنه الوحيد حياة الاتضاع والفقر، شاء الله أن يكون الرجل الذي سوف ينتدبه ليكون الحافظ الأمين لأمه، والخادم الحكيم الصادق ليسوع في حداثته، فقيراً مسكيناً، لا شأن له بين قومه، ولا ذكر له بين أهله وعشيرته. لكن غناه كان في قلبه. وكانت ثروته أخلاقه وفضائله. فاصطفاه الله بين جميع رجال إسرائيل لأعظم رسالة دعا إليها بشراً. فكان يوسف ذلك الرجل الذي حقق مقاصد الله فيه. وكانت مريم أيضاً من بيت داود ومن عشيرته، لكنها كانت نظير نسيبها يوسف فقيرة الحال يتيمة الأب والأم. فرغب فيها يوسف، فخطبها له رئيس الأحبار. لكن مريم قبلت شرط أن يحترم يوسف بتوليتها، لأنها نذرتها للعلي. فرضي بأن يكون لخطيبته ملاكاً حارساً، ودرعاً يقيها المخاطر، وخادماً شريفاً يقوم بأودها وإعاشتها. فتعشقته مريم وأكبرت فيه التقى والنقاوة والتواضع والصبر، ولطف المعشر والوجه البشوش، والتجرد الكامل والصمت، والتفرغ كل صباح ومساء لمناجاة الخالق. فشكرت الله الذي بعنايته دبر لها هذا الملاك، ليكون رفيق حياتها وحافظاً لبتوليتها.
   وعندما علم أن خطيبته حبلى اضطرب وتحير، لكن الرب أعاد السلام والطمأنينة والأفراح إلى قلب ذلك الرجل الصديق، في رؤيا قيل له فيها أن المولود في أحشاء خطيبته العفيفة هو من الروح القدس. فلما نهض يوسف من النوم صنع كما أمره ملاك الرب. فأخذ امرأته، ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسمَّاه يسوع. ومنذ تلك الساعة جعل يوسف حياته كلها، وعواطفه وأتعابه وشغله وقواه واسهاره وأفكاره وقفاً على خدمة مريم وابنها يسوع، ومحبتهما والتفاني في سبيلهما. وأصبح هو الأب لتلك العائلة الصغيرة الكبيرة الإلهية.
   ففي اليوم الثامن تمت ختانة الصبي. وبعد أربعين يوماً حمل الطفل إلى هيكل الرب في أورشليم، وذهب مع مريم أمه وقدمه للرب على حسب شريعة موسى، وافتداه بزوجي يمام، كما يفتدي الفقراء بنيهم الأبكار. ثم تراءى له ملاك الرب في الحلم قائلاً: قم فخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، فإن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام لساعته واخذ الصبي وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر. وبقي هناك سنين طويلة يشتغل ويكد ويتعب ليقوم بمعيشة عائلته.
   وبعد موت هيرودس عاد إلى أرض إسرائيل على حسب قول الملاك، فذهب إلى نواحي الجليل وسكن في مدينة الناصرة. وكان يوسف يذهب مع مريم ويسوع إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح. وعندما بلغ يسوع اثنتي عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد، ولما تم موعد رجوعهم بقي الصبي في أورشليم وأبواه لا يعلمان. فرجعا إلى أورشليم يطلبانه، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً فيما بين المعلمين يسمعهم ويسألهم.
   وبعد هذه الحادثة يذكر الإنجيل يوسف مرة واحدة بعد أن كان رقد بالرب بين يدي يسوع ومريم، فمع بدء بشارة يسوع كان اليهود يتساءلون ويقولون: " أليس هذا ابن يوسف ". فمتى كانت وفاة يوسف ؟ لا أحد يعلم بذلك. إنما مات لما انتهت رسالته، وأضحى يسوع قادراً على حسب قواعد الطبيعة البشرية، على القيام بمعيشته ومعيشة والدته. وقد مات يوسف مملوء نعمةً واستحقاقاً وقداسةً، وأضحى شفيع الراقدين بالرب. لأن يسوع ومريم ملآ أيامه الأخيرة تعزيةً وسلواناً وبهجةً، وشكرا له خدماته وأتعابه، ووعده يسوع بإكليل المجد المعد له في السماء. 
وترتل كنيسة المشرق في صلاة ليل هذا الأحد الترتيلة هذه: " جميع الأنبياء القديسين سبق وتنبأوا عن ذلك الضياء المجيد المنبعث من الآب. الذي تنازل بحبه وأخذ جسدنا لخلاص الكل. تنبأ موسى أولاً وقال: سيقيم الرب نبياً مثلي فله اسمعوا. وأشعيا أيضاً ببشر عن مولده قائلاً: ها أن العذراء تحبل وتلد ابناً عجيباً ويدعى عمانوئيل. وزكريا أظهر علامة دخوله إلى أورشليم وأشار إلى آلامه. ويونان في الحوت مثّل سر دفنه وقيامته. وحزقيال رأى مركبة حاملة بهاءه الجميل وهي تحتفل به. ودانيال أعلنه في بابل بأنه سيملك على كل المذاهب. وقد تم هذا فعلاً بمجيئه إلينا المجد له. ". 







96
الأحد الثالث من سابوع البشارة
بشارة العالم بمولد يوحنا المعمدان

الشماس نوري إيشوع مندو
   الفكرة الطقسية: تدعونا صلوات الأحد الثالث من البشارة إلى التأمل في شخصية يوحنا المعمدان ورسالته، فهو الذي يعد سبيل الخلاص أمام الشعب، ويهيئ قلوبهم لاستقبال المسيح. يوحنا يرمز إلى كل مؤمن يقوم بتهيئة طريق الرب إلى قلوب إخوته، وبإشاعة حنان الله وغفرانه. وفي هذا الأحد نستمع إلى كلمة الله تعلن لنا من خلال ثلاث قراءات هي:
   الأولى من سفر التكوين ( 1 / 1 _ 19 ) تروي البشارة إلى إبراهيم بمولد إسحق.
   والثانية من رسالة بولس إلى أهل أفسس ( 3 / 1 _ 21 ) تحكي كيف حمل بولس إنجيل المسيح إلى الوثنيين.
   والثالثة من إنجيل لوقا ( 1 / 57 _ 80 ) تخبر عن ميلاد يوحنا وما يحمله من بلاغ. ميلاده يعطينا الرجاء في قلب الأزمة، العقرُ يتحول بحنان الله إلى خصوبة.  اليوم يتحقق وعد الله لزكريا ويظهر رحمته تجاه إليشباع العاقر، فيكون حضوره رحمة وحناناً لشعبه. الإنسان الذي صار عاجزاً عن فعل شيء، يتفجر حياة من خلال فعل الله. وابتعادنا عن الله لا يعني أن الله قد ابتعد عنا، بل ما زال موجوداً بيننا، ووجوده حنان ورحمة. 

   مولد يوحنا المعمدان: يوحنان اسم عبري معناه " يهوه حنون ". يحدثنا الكتاب المقدس عن ولادة يوحنا "  أما إليشباع فلما تم زمان وضعها ولدت ابناً ". فعلم بذلك أقاربها وجيرانها وأقبلوا يهنئونها. وبعد ثمانية أيام جاءوا ليختنوا الصبي بحسب شريعة موسى، ودعوه زكريا باسم أبيه لكي يخلفه في الاسم والبيت والكهنوت. لكن إليشباع اعترضت وقالت يدعى يوحنا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك يدعى بهذا الاسم، فاومأوا إلى أبيه ماذا يريد أن يسمى، فطلب لوحاً وكتب فيه اسمه يوحنا. فتعجب جميع الحاضرين. وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم مباركاً الله ومرنماً: " مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه . . وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى، لأنك تسبق أمام وجه الرب لتعد طرقه ". وتمت هذه النبوءة بحذافيرها، لأن الله أرسل يوحنا ليهيئ طريق الرب يسوع. فهو الذي سبق أشعيا وتنبأ عنه: " هاأنذا مرسل ملاكي أمام وجهك يهيىء طريقك قدامك. صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة ". وكان يوحنا ينمو ويتقوى بالروح، وعندما أستطاع أن يستقل بنفسه وبمعيشته، حتى ترك بيت أبيه وذهب فتنسك في البراري على مثال إيليا. وبقي هناك مثابراً على الصلاة والصوم إلى أن بلغ الثلاثين من عمره. وكان لباسه من وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد. وكان طعامه الجراد وعسل البرية. ولبث في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل. وكانت كلمة الله على يوحنا في البرية. فجاء إلى بقعة الأردن كلها يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. وقد شهد يسوع ليوحنا المعمدان بالقول: " الحق أقول لكم أنه لكم إنه لم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان. وإن أردتم أن تقبلوا فهو إيليا المزمع أن يأتي ".   
   وخلال قداس هذا الأحد ترتل ترتيلة الدخول نذكر منها: " البشرى التي قبلتها مريم مليئة بالخلاص. بدون زرع أو مجامعة حبلت بالمسيح. عليها فقط نزل الروح القدس، وعليها حلت قوة العلي، وهي المباركة في النساء المليئة رجاءً. مسجود الخالق الذي تحنن على طبيعتنا. ". 



97
الأحد الأول من سابوع البشارة
بشارة الملاك جبرائيل لزكريا وإليشباع البارين بميلاد يوحنا المعمدان

الشماس نوري إيشوع مندو
   الفكرة الطقسية: يدعونا الأحد الأول من البشارة، إلى الإستعداد الكامل لميلاد المسيح، وذلك من خلال قراءتنا لنصوص الكتاب المقدس، وتأملنا في معانيها وأبعادها، والسعي لترجمتها إلى واقع حياتنا اليومية على غرار العذراء مريم التي كانت تسمع هذه الكلمات وتحفظها.
   وفي هذا الأحد نستمع إلى كلمة الله تعلن لنا من خلال ثلاث قراءات هي:
   الأولى من سفر أشعيا ( 42 / 18 _ 28 ) + ( 43 / 1 _ 13 )  يدعو الله الشعب الذي يفتح أذنيه ولا يسمع، لعدم الخوف لأنه معه، هو الرب ولا مخلص غيره.
   والثانية من رسالة بولس إلى أهل أفسس ( 5 / 15 _ 32 ) + ( 6 / 1 _ 9 ) تقيس علاقة أفراد العائلة البشرية بعلاقة المسيح بالكنيسة.
   والثالثة من إنجيل لوقا ( 1 / 1 _ 25 ) تنقل خبر البشارة إلى زكريا بميلاد يوحنا المعمدان. 

   1_ زكريا: اسم عبري يعني " يهوه زكر ". كان كاهناً من فرقة أبيا، وقد ذكرت صفاته وصفات امرأته بأبسط العبارات: " وكان كلاهما ورعين بارين سالكين في جميع وصايا الرب، وباذلين وسعهما ليحصلا على نعمة الروح القدس ".
   أما مولد يوحنا فأعلن له بطريقة عجيبة خارقة للعادة. فبينما كان داخل هيكل الرب يبخر تراءى له ملاك الرب، فاضطرب حين رآه وخاف. فقال له الملاك لا تخف فإن طلبتك قد استجيبت وامرأتك ستلد ابناً فتسميه يوحنا. فلم يصدق بل شك وطلب علامة غير اعتيادية دفعاً لما في نفسه من الريبة. فكانت آيته أن فقد قوة النطق، فبقي صامتاً إلى اليوم الثامن من بعد ميلاد الصبي، إذ دعاه يوحنا حسب قول الملاك له. وفي الحال انطلق لسانه وعاودته قوة النطق، فأخذ يشكر الله مملوءاً من الروح، ومسبحاً الرب الذي صنع فداءً لشعبه.

   2_ إليشباع: اسم عبري يعني " الله قسم " كانت امرأة تقية من سبط لاوي  ومن بيت هارون ، وهي زوجة زكريا. وكانت طاعنة في السن عندما حبلت بيوحنا. فاختبأت خمسة أشهر قائلة: " هكذا صنع بي الرب في الأيام التي نظر إليَّ فيها ليصرف عني العار بين الناس ". ومع أنها كانت من سبط يختلف من السبط الذي جاءت منه مريم العذراء، إلا أنهما كانتا قربيتين.
   وقد زارت مريم إليشباع في أرض يهوذا ، وقد أوحي إلى إليشباع بالروح القدس فرحبت بمريم قائلة: " مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك. من أين لي أن تأتي أم ربي إليَّ، فإنه ما بلغ صوت سلامك إلى أذني ارتكض الجنين من الابتهاج في بطني. فطوبى للتي آمنت لأنه سيتم ما قيل لها من قبل الرب ". ولما تم زمان وضعها ولدت ابناً.   
   وتصلي كنيسة المشرق في صلاة رمش هذا الأحد هذه الأبيات: " * فأجاب زكريا وقال للملاك: كيف يمكن أن تلد العاقر، فأنا شيخ وامرأتي عاقر، فكيف يتحقق هذا الأمر. * العاقر بادرت تجاه حمل أم النور، وتكلمت قائلة: أن طفلك أمجد الأطفال قاطبة. ".
   وفي صلاة الليل لجميع الآحاد الممتدة من الأحد الأول للبشارة وحتى عيد الدنح ترتل ترتيلة المجد هذه: " * مبارك الحنان الذي بنعمته افتقد حياتنا بالنبوة. * بعين الروح رأى أشعيا ابن البتولية العجيب.        * بدون زواج ولدت مريم عمانوئيل ابن الله. * منها جبل الروح القدس الجسد المسجود كما كتب.        * ليكون متحداً بالكمال مع شعاع الآب ببنوة واحدة. * ومع بداية الحبل به المدهش وحّده معه بأقنوم واحد. * يتمم به كل ما له لخلاص الكل كما ارتضى. * في يوم البشارة به ( ميلاده )  مجد الملائكة في سماوات العلى بتهليلهم. * والأرضيون أيضاً قدموا السجود بإكرام واحد بقرابينهم. * واحد هو المسيح ابن الله مسجود من الكل بطبيعتين. * بألوهيته ولد من الآب بدون بداية فوق الأزمنة. * وبإنسانيته ولد من مريم في تمام الأزمنة بجسد متحد. * ألوهيته ليست من كيان الأم ولا إنسانيته من كيان الأب.      * الطبيعتان محفوظتان بخصوصياتهما في شخص واحد وبنوة واحدة. * وكما أن الألوهية هي ثلاثة أقانيم بوجود واحد. * هكذا هي بنوة الابن بطبيعتين وشخص واحد. * هكذا تعلمت الكنيسة المقدسة أن تعترف بالابن الذي هو المسيح. * نسجد يا رب لألوهيتك وإنسانيتك بدون انقسام ( 3 ). قوة واحدة وعظمة واحدة إرادة واحدة ومجد واحد. * للآب والابن والروح القدس إلى أبد الآبدين آمين وآمين. ". 
   وفي صلاة صباح هذا الأحد ترتل هذه الأبيات: " * من السماء أرسل ملاك ونزل نحو مريم بخوف، ووهبها سلاماً مفعماً بالطوبى، وللموتى الرجاء والحياة. * في هذا اليوم بدء الأيام، لنرنم بالتمجيد لمحرر البرايا، ومخلص الأمم كلها. * فرح الروحانيون ببشرى جبرائيل بحبلك، فرنموا صارخين المجد لمن          أرسلك. ".   
   وخلال القداس ترتل ترتيلة الدخول نذكر منها: " أسمعوا يا جميع الأمم: قال الملاك جبرائيل لزكريا، سيكون لك ابن ويدعى يوحنا. فهو يمهد الطريق أمام ابن الملك، الآتي بالمجد لخلاص جميع البرايا. ". 





98
تذكار مار يعقوب المقطع
الشماس نوري إيشوع مندو
  مار يعقوب المقطع: هو من بيث لاباط ومن أرفع الطبقات الشريفة. وكان الملك يزدجرد قد قربه منه، وأكرمه وأولاه أشرف المراتب واجلَّها، حتى أغواه وجعله ينبذ الديانة المسيحية التي ولد فيها، ويسجد للشمس. وما أن وصل خبره لوالدي حتى أخذتهما الكآبة والحزن.
   وبعد أن توفي يزدجرد خلفه ابنه ورهاران الخامس. وكان يعقوب قد رافقه إلى أرض بابل، وهناك استلم رسالة من والديه كانا قد كتبها له جاء فيها: " بلغنا إنك مرضاة للملك وابتغاء أن تحصل على عطاياه وهداياه الفانية، قد نبذت الله السرمدي. فأين الملك الذي انقدت له، فقد مات مثل سائر الناس، وتعفن ورجع إلى التراب في القبر. وإن الملك الجديد مع كل ما له من القدرة والأموال الجزيلة، غير قادر أن يساعدك، فينقذك من العذاب الأبدي المعد لك. فأعلم يقيناً أنه إذا بقيت مصراً على ما أنت عليه من الرأي في البقاء على ديانة المجوس، يعاقبك الله عقاباً شديداً نظير صديقك الملك. ونحن لسنا نعرفك وليس لنا معك حصة   أبداً ".
   ما أن قرأ يعقوب الرسالة حتى استحوذ عليه خوف الله، فارعوى عن غيه وتاب إلى الله، وأخذ يقول في نفسه: " ويلي إذا كانت أمي وقرينتي قد تبرأ مني في هذا العالم، ترى كم يكون شديداً غضب الله عليَّ في العالم العتيد، إذ أني استبدلته بالمخلوقات. وكم يكون صارماً قصاصه لي في هذا العالم ".
   ثم ذهب إلى خيمته وأخذ يقرأ بالكتاب المقدس متأملاً في معانيه، فامتلأت نفسه مرارة وندامة، وخاطب نفسه قائلاً: " يا نفسي أين أنت، وأين أنت يا جسدي. إذا كانت الأم التي ولدتني حزينة كئيبة بهذا المقدار على هلاك نفسي، وقرينتي قد تفتت كبدها حزناً على ما أصابني من العار في هذا العالم، وأحبائي وأصدقائي قد انقبضت أفئدتهم خجلاً مما اعتراني من الجنون في سجودي للشمس. ترى كم يكون مصرعي شديداً، أنا الذي استبدلت الحق بالباطل في يوم الدينونة، لما يجازي الله الأشرار على مكرهم، ويكافئ الصالحين على صدقهم ".
   ولما كان يخاطب نفسه سمع بعض المجوس أقواله، ورأوه يقرأ الكتاب المقدس. فأعلموا الملك بالأمر فطلب إحضاره حالاً. وعندما دخل عليه قال له غاضباً: " أأنت مسيحي؟ ".
   فرد عليه يعقوب: " نعم أنا مسيحي ".
   فأشتد غضب الملك فقال له: " أوليس من أجل سجودك للشمس أكرمك أبي الكرامة كلها، وأجزل لك العطايا والهدايا ".
   فرد عليه يعقوب: " وأين هو الذي نلت منه الكرامة؟ ".
   فقال له الملك: " ألا تظن يا منكود الحظ أنك مثل سائر العصاة تقتل قتلاً كيفما كان، بل لأذيقك من العذابات أمرها، ومن القتلات أشرها ".
   فأجابه يعقوب بشجاعة: " لا تتعبن نفسك يا سيدي الملك بكثرة التهديدات والتخويفات، التي لا أكثرت لها البتة، فإني كالصخرة الثابتة التي لا تقدر الرياح الشديدة أن تنزعها ".
   فقال له الملك: " إن من خالفوا أوامر الملوك تجرعوا غصص المرائر والعذابات والقتل ".
   فرد يعقوب قائلاً: " إن ما اطلبه دائماً من الله هو أن أموت أيضاً مثلهم، وتكون عاقبتي مثل عاقبتهم. إن الذي يموت هذه الميتة كالرجل الذي ينعس    فيستيقظ ".
   فقال له الملك: " شأنكم عجيب أيها المسيحيون الأبطال، إنكم تظنونا كفرة أنتم الذين لا تقرون بالآلهة، ولا تسجدون للشمس والقمر والنار والماء الذين هم أولاد الله ".
   فرد عليه يعقوب: " لا ألومك أيها الملك، لأنه مسطور في كتبنا عن الذين يسوقوننا إلى الموت: وتأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقرب قرباناً لله ".
   فغضب الملك غضباً شديداً، وكانت نار الغيظ تحرق أحشاءه. فأمر فقهاء المجوس أن يحكموا عليه بأشنع قتلة، فاجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم في أمره.
   فقام أحدهم وكان شرس الأخلاق وقال: " رأيي أن لا يموت هذا الكافر ميتة واحدة، بل أن تقطع أصابع يديه ورجليه واحدة بعد أخرى. ثم يداه ورجلاه، ثم ساقاه وذراعاه، ثم يحز  رأسه ".
   فاستحسنوا جميعاً رأيه هذا، وأسرعوا به إلى مكان العذاب. فتقاطرت كل المدينة، وكثير من المسيحيين صلوا وبكوا من أجله، طالبين من الرب القدير أن يسرع إلى إغاثة عبده يعقوب، ويقويه ويشجعه وينصره على أعدائه، حتى يخرج من هذا الجهاد المخيف غانماً راضياً.
   وعندما وصلوا إلى المكان طلب يعقوب من قاتليه أن يمهلوه قليلاً ريثما يصلي، فالتفت نحو المشرق وجثا على ركبتيه، ورفع عينيه إلى السماء وصلى قائلاً: " اسمع يا رب صلاة عبدك الضعيف، وأعطني من قوتك في هذه الساعة المخيفة، وخلص ابن أمتك الذي يدعوك من كل قلبه، وانظر إليَّ وارحمني، واصنع معي علامةً صالحة، لأكون رفيقاً لجميع الذين من أجل اسمك اضطهدوا، لأنك أنت يا رب أعنتني وعزيتني ".
   وما أن فرغ من صلاته حتى دنا منه الجلادون ومددوه على الأرض وقالوا له: " انظر ماذا تعمل. فإنه لا بد من تقطيع أعضاء جسدك واحداً واحداً، فانظر وفكر في أمرك. أي من هذين الأمرين أوفق لك، أن تقول كلمة فتخلص، أم أن تعمل بإرادتك فتموت تسعاً وعشرين ميتة ".
   وكان في مكان العذاب أصدقاء له يبكون بكاءً مراً، نائحين على حسن منظره ورشاقته. فقالوا له: " لا تترك نفسك تذهب تلفاً، بل أذعن للملك فتخلص، ثم ارجع أيضاً إلى ديانتك ".
   فقال لهم يعقوب: " لا تبكوا عليَّ بل ابكوا أنفسكم، لأنه من أجل أنكم مرتاحون في هذا العالم سترثون العذاب الأبدي. أما أنا فهذا القتل يصير لي أجنحة أطير بها إلى السماء، وتقطيع أعضائي يزيد أجري، لأن كل إنسان بموجب أعماله ينال أجره من الله العادل ".
   وهنا تقدم أمين الملك إلى الجلادين، وأوعز إليهم أن يبتدئوا بتقطيع أصابع يديه. فأخذ الجلادون يقصون أصابع يده اليمنى، فقطعوا الإبهام. فقال يعقوب: " يا مخلص العالم أقبل برحمتك غصنة الشجرة، لأنها وإن قطعت بأيدي الحاقدين، فيأتي شهر نيسان وفيه تنبت فتتكلل ".
   أما أمين الملك فكان يبكي ويقول ليعقوب: " حسبك وكفاك قطع واحدة من أصابعك. إن أردت شفيت بالأدوية، فإياك أن تكون سبباً لتمزيق جسدك هذا المدلل المُنعم. فإن لك أموال كثيرة وفيرة، فأحبب الحياة وأكره الموت ".
   فرد عليه يعقوب بالقول: " تعلم المثل من الكرمة كيف تُعضد أوراقها فتبقى عارية شتاءً، فإذا أتى شهر نيسان تلين أغصانها وتخرج أوراقها، فتنضر أكثر مما كانت عليه سابقاً. فإذا كان للكرمة هذه التقلبات، ترى كم يكون أولى الإنسان المؤمن المغروس في كرم الحق، أن ينبت على يد الله الغارس الحق ".
   ثم قطعوا السبابة، فصرخ قائلاً: " ابتهج قلبي بالرب، وتهللت روحي بخلاصه. اقبل يا رب الغصنة الثانية من الشجرة التي غرست بأمرك ".
   ثم قطعوا إصبعه الوسطى، فهتف قائلاً: " مع الثلاثة الذين في أتون النار اعترف لك يا رب من كل قلبي، وفي زمرة جميع الشهداء أرتل لأسمك القدوس ".
   ثم قطعوا البنصِر فقال: " إن الله رزق يعقوب اثني عشر ولداً، وعلى الرابع منهم حلت بركة المسيح الملك. فأنا أيضاً بالغصنة الرابعة اعترف للذي ببركته صار الخلاص لجميع الأمم ".
   ثم قطعوا الخنصِر فقال: " أقدم هذه الخمس ثمرات يدي اليمنى، التي هي غصنة من غصنات شجرتي قرباناً لغارس الشجرة ".
   ثم استعد الجلادون لتقطيع أصابع يده اليسرى، فقيل له إن شئت خلصت وحييت، فإن كثيراً من الناس مقطوعة يدهم، وهم يعيشون على الأرض متنعمين. فأشفق على نفسك، ولا تحملنا أن نقطع سائر أعضاء جسدك.
   فقال لهم يعقوب: " لما يجز الجزاز صوف الخروف. أيجز الجنب الأيسر ويترك الأيمن، أم يقص الجزة كلها. ألعلكم تحسبون أني أرضى أن أتغافل عن تسبيح الله الذي جعلني خروفاً له، ووضعني في قطيعه، وأهلني أن أدنو من جزازين شبيهين بالذين صلبوا حمل الله، الذي من أجله تعالى أذاق أنا هذه الميتات المرة ".
   فأخذ الجلادون يقطعون أصابع يده اليسرى، فقطعوا أولاً الخنصِر. فقال بفرح: " إني صغير أمامك أيها الإله العظيم، الذي صغر ذاته فعظم ألوفاً من الصغار أمثالي، بتقديم ذاته ذبيحة عن كل العالم. لأجل هذا بفرح أسلم بيدك نفسي وجسدي الذي تحييه    بزمانه ".
   ثم قطعوا البنصِر، فتضرم بنار المحبة الإلهية وقال: " سبع مرات أسبحك بالإصبع السابعة يا الله الآب والابن والروح القدس ".
   ثم قطعوا إصبعه الثامنة فقال: " في اليوم الثامن يختن العبراني ليتميز من الغُرل، وأنا عبدك أيضاً ينفصل قلبي وفكري من هؤلاء الغُرل الأدناس، وإليك فقط تتوق نفسي يا الله، متى أتي وأرى وجهك ".
   ثم قطعوا إصبعه التاسعة ففتح فاه وقال: " أنت يا رب في الساعة التاسعة كنت ممدوداً على خشبة الصليب من جراء الخطايا، والآن أنا أيضاً بالإصبع التاسعة لك يا يسوع، لأنك أهلتني أن أمد وتعضد غصنات جسدي من أجل اسمك ".
  ثم قطعوا إصبعه العاشرة فقال: " بحرف يحسب كل حساب، وبه تحسب الألوف والربوات. وبواسطة يسوع صار الخلاص للعالم بأسره. لأجل هذا أنا الصغير بمزمار ذي عشرة أوتار، أرتل ترتيلاً للذي أهلني أن أذبح من أجله. وعوض أوتار أمعاء الغنم بأوتار عودي المقطعة، أسبحه وأعزف حسناً بتهليل ".
   فقال له الجلادون: " إذا شئت حييت وإن كانت أصابعك العشرة قد قطعت، لأنه يوجد أطباء ماهرون يشفونك بكل سهولة، فأمثل لأمر الملك فلا تموت. وحيث أنك غني جداً يمكنك أن تقتات بسهولة كل أيام حياتك، وتفرح بقرينتك التي هي الآن في أرض الأهواز، وأنت في أرض بابل. فقل كلمة واحدة ونجِ نفسك فتتهلل قلوب أصحابك بالحبور ".
   فرد عليهم يعقوب بالقول: " ما من أحد يضع يده على المحراث، وينظر إلى ورائه يكون صالحاً لملكوت الله. ألعل الأم والامرأة أحسن لي من الله الذي قال: من أهلك نفسه من أجلي وجدها. وكل من يترك أباه وأمه وأخوته أهب له الحياة الأبدية. فافعلوا بي ما أمرتم به ولا تشفقوا ".
   فدنوا حينئذ من رجله اليمنى، وقطعوا أولاً الإبهام ففتح فاه وقال: " المجد لك يا الله الذي لبس جسدنا، وطعن بحربة فخرج دم وماء من جنبه، فاصطبغت بهما رجليه. وأنا عبدك أيضاً بطيبة خاطر أقبل أن أتألم، ويجري الدم من جسمي بتقطيع أصابع يديّ ورجليّ ".
   ثم قطعوا إصبعه الثانية فقال: " هذا النهار هو اسعد لي من جميع أيام حياتي، لأني قبل دخولي في هذا الجهاد كنت أسبح الله، وأنا منهمك في أفكار العالم والأموال المضلة. فكم من مرة تغافلت عن الصلاة من جراء تعلقي بمحبة العالم. ولما كنت أصلي كنت كمن لا يصلي، لأن جسدي كان بالبيعة وأفكاري تصعد إلى الجبال وتنزل إلى البقاع. أما اليوم فأنا قاصداً العالم العتيد. وبتقطيع كل عضو من أعضائي أرتل المجد للذي أهلني أن أتألم من أجله ".
   ثم قطعوا إصبعه الثالثة وألقوها أمامه فضحك وقال: " اتبعي أنتِ أيضاً رفيقاتك ولا تحزني، فإنه كما أن الحنطة تقع في الأرض فتأتي بحنطة كثيرة. كذلك أنتِ تنظمين بلحظة عين إلى رفيقاتك في يوم القيامة ".
   ثم قطعوا إصبعه الرابعة فقال لنفسه: " لماذا تحزنين يا نفسي ولماذا تقلقين، ارتجي الله، فإني أعود وأشكره. خلاص وجهي وإلهي ".
   ثم قطعوا إصبعه الخامسة فأخذ يقول: " الآن طفقت أناجي الله الذي سُرَّ بي، فأهلني لهذا الجهاد الذي لم أرى نظيره، وقواني أن أقوم عليه ".
   ثم اقبلوا على رجله اليسرى وقطعوا الخنصِر فقال: " أيتها الإصبع الصغرى لست أنتِ بصغرى، فإن الصغرى والكبرى عديلتان. إذا كان شعرة واحدة من شعر الرأس لا تضيع، فكم أنت أحرى ألا تضيعي ".
   ثم قطعوا البنصِر ففاض لبه فرحاً وقال: " اهدموا بيتاً خرباً لأنه سوف يقام على طراز أحسن وأجمل ".
   ثم قطعوا الوسطى فقال لهم: " إن السندان لما يضرب يؤدب تأديباً وهو لا  يتألم ".
   ثم قطعوا الإصبع الرابعة فقال: " إلهي صخرتي بك احتمي فقويني ".
   ثم قطعوا الإصبع الخامسة فهتف قائلاً: " احكم لي يا الله وخاصم لدعواي مع أمة غير رحيمة. مع أنني مقتول عشرين قتلة لا تشفق الذئاب الضارية على جبلتك ". ثم ازداد شجاعة وقال للجلادين: " ما بالكم قياماً بطالين، اقطعوا الشجرة وأغصانها ولا ترقّ قلوبكم. فإن قلبي تهلل بالرب، ونفسي ارتفعت إلى السماء عند الذي يحب المتواضعين ".
   فدنا منه الجلادون وهم يتلظون غيظاً وحنقاً، وقطعوا رجله اليمنى فقال يعقوب: " كل عضو تقطعونه من جسدي يقرب قرباناً لله تعالى ".
   ثم قطعوا رجله اليسرى فقال: " استجب يا رب فإنك طيب صالح وكثير الرحمة لجميع المستغيثين بك ".
   ثم قطعوا يده اليمنى فصرخ: " إن نعمتك عظيمة عليَّ، وقد نجيت نفسي من الجحيم السفلى ".
   ثم قطعوا يده اليسرى فقال: " هوذا للأموات تصنع العجائب ".
   ثم قطعوا ذراعه اليمنى فقال: " أغني للرب في حياتي، وأرتل لإلهي ما دمت موجوداً فليذ له إنشادي، وأنا أفرح بالرب ".
   ثم قطعوا ذراعه اليسرى فقال: " من الآن يرتفع رأسي على أعدائي الذين احتاطوا بي، قوتي وأغنيتي الرب، وهو صار لي خلاصاً ".
   ثم قطعوا ساقه اليمنى، فأحس بألم شديد فدعا الرب وقال: " أيها الرب يسوع المسيح هلم إلى معونتي وخلصني، لأن أوجاع الموت أحدقت بي ".
   فقال له الجلادون: " أما سبقنا وقلنا لك أن الضيقة التي تكتنفك شديدة    مرة ".
   فقال لهم يعقوب: " كلما ازددت ألماً أزداد أجري عند الله ".
   وفيما كان الجلادون قد عيوا من تقطيع أعضائه ومن إلقائها على الأرض، كان يعقوب يزداد اضطراماً واشتداداً بمحبة الله. واضطروا أخيراً إلى قطع ساقه اليسرى أيضاً.
   وكان يعقوب ملقى على القاع، وكانت جميع أعضائه مقطعة، ولم يبق منها سوى الرأس والصدر والبطن. فكان الجسد المقدس مطروحاً على الأرض مصبوغاً بالدم، وكان ميتاً ونصفه حياً.
   ثم لزم يعقوب السكوت برهة من الزمان، ثم فتح فاه وقال: " أيها الرب الرحوم الشفوق، اسمع صلاتي وأقبل طلبتي. ها إني مطروح وأعضائي مقطعة ومنزوعة عني، ونصفي ملقى لا حركة فيه البتة. ليس لي يا رب أصابع بها أصلي إليك، ولم يترك مضطهدي يداً أمدها إليك. رجلاي مقطعتان، وركبتاي مجثوثتان، وذراعاي مخربقتان، وفخداي مكسرتان. والآن أنا مطروح أمامك كبيت مهدوم، لم يترك فيه سوى جدار قليل. اطلب إليك يا رب أن تخرج نفسي من السجن، لكي اعترف لاسمك. وأحِل الأمن على شعبك المضطهد، واجمع بالسلام شملهم، لأنهم قد تبددوا في كل قطر ومصر. وأنا عبدك الصغير اعترف وأرتل لك مع جميع شهداء الغرب والشرق والشمال والجنوب. لك يا رب ولمسيحك ولروحك القدوس يليق المجد والشكر إلى أبد الآبدين آمين ".
   فحالما قال آمين أسرع إليه أحد الجلادين وقطع رأسه بالسكين، فانتقلت روحه الطاهرة إلى ربه.
   وكان جهاد مار يعقوب سنة 422 في يوم الجمعة المصادف في السابع والعشرين من تشرين الثاني، وفيه تحتفل كنيسة المشرق بتذكاره.
   وكان بعض المسيحيين قد جمعوا فضة غير يسيرة، وأعطوها للجلادين حتى يعطوهم الجثة فلم يقبلوا. ولم حل الليل أتوا إلى مكان استشهاده وسرقوا جميع الأعضاء المقطعة، وكانت تسعة وعشرين قطعة مع الرأس، ووضعوها في وعاء. وكان الدم يجري منها ويسقط على الأرض.
   ويقول كاتب القصة: " ونحن معشر المؤمنين أخذنا نقول بهدوء المزمور الحادي والخمسين الذي يبدأ بـ ارحمني يا الله  كعظيم رحمتك. وإذا بنار نزلت وأحاطت بالوعاء، فلفحت الدم وما كان من الحشيش والتراب، حتى احمرت الأعضاء وصارت كالورد اليانع. فخررنا كلنا على وجوهنا خائفين راجفين، فصلينا جميعنا شاكرين المسيح الذي نصره على أعدائه، وأهلنا نحن لهذه الرؤية السماوية. ثم أخذنا جثته وقبرناه بإكرام وتبجيل ".     
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار يعقوب المقطع في 27 تشرين الثاني.
                                                     




99
ختام السنة الطقسية في كنيسة المشرق وعيد يسوع الملك
الشماس نوري إيشوع مندو
   الفكرة الطقسية: في الأحد الرابع من سابوع تقديس البيعة تؤكد الصلوات الطقسية بأن الكنيسة واثقة من أن المسيح الذي مات في سبيلها عازم على دعم مسيرتها وتحريرها من جميع خطاياها، لذا في غمرة فرحها بعريسها الإلهي تسعى لتكون عروساً نقية وأمينة مهما كانت التضحيات. وفي هذا الأحد نستمع إلى كلمة الله تعلن لنا من خلال ثلاث قراءات هي: الأول من سفر حزقيال يؤكد فيها أن الهيكل موضع سُكنى الله مقدسٌ وممجد. إنه رمز ناسوت المسيح الممجد والمنتصر على الخطيئة. والثانية من رسالة بولس إلى العبرانيين والتي تشير إلى تفوق ذبيحة المسيح على ذبائح العهد القديم وإلى بطلان الذبائح المادية. فذبيحة المسيح وحدها كافية لخلاص البشر. والثالثة من إنجيل متى تؤكد أن المسيح هو ابن داود وربه.  وقد أصبحت تقاليد الفريسيين وتفسيراتهم وتطبيقاتهم للناموس من الأهمية لديهم مثل الناموس نفسه. ولم تكن كل قوانينهم سيئة، فالبعض منها كان نافعاً، والمشكلة جاءت من أن القادة الدينيين اعتبروا القوانين التي وضعها الناس مساوية تماماً لشرائع الله. فلذلك أمروا الناس بإطاعة هذه القوانين دون أن يعملوا هم أنفسهم بها. ولقد أطاعوا القوانين ليس إكراماً لله، بل ليظهروا أنفسهم صالحين. ولم يدن الرب يسوع دائماً ما كانوا يعلِّمون به، ولكنه أدان ما كانوا عليه من الرياء. فعم يعرفون الكتب، ولكنهم لم يعيشوا بمقتضاها. لم يكن يهمهم أن يكونوا أتقياء، بل كان يكفيهم مجرد ظهورهم بمظهر التقوى ليحوزوا إعجاب الناس ومديحهم. لقد تحدى يسوه معايير المجتمع، فالعظمة عنده تأتي من الخدمة، أي البذل من الذات لخدمة الله والآخرين. 
   وفي الأحد الرابع من سابوع تقديس البيعة تختم الدورة الطقسية لكنيسة المشرق. ومن خلال صلوات هذا السابوع نشتفي أن الكنيسة المادية المبنية من الحجر، ترمز إلى الكنيسة الروحية أي جماعة المؤمنين، من خلال التأمل في صفات الكنيسة، وفي تأسيسها على صخرة بطرس. وتتحدث صلوات هذا السابوع عن لقاء المسيح بعروسه الكنيسة المخلصة بدمه الزكي، وذلك في المجد الأبدي. ويتحدث الربان بريخيشوع  في مقال له عن هذا السابوع، حيث يعبر تعبيراً رائعاً عن روحانية زمن تقديس البيعة فيقول: " . . وفي الأخير ستخرج الكنيسة المقدسة، عروس المسيح، المكونة من القديسين والمؤمنين الصادقين، للقائه بفرح، فترافقه ممجدة إياه بكل اعتزاز وفخر. ويستقبل مخلصنا يسوع عروسه، ويدخلها معه إلى السماء، سيدخلها إلى خدره، ويجلسها عن يمينه، ويسعدها بكل أنواع الخيرات التي لا تزول ولا تنتهي، فتصعد له المجد بأنغام عذبة مع الأجواق السماوية ".    وفي هذا السابوع الذي تختم به الدورة الطقسية، تصلي كنيسة المشرق صلوات بديعة تتغنى بكنيسة يسوع التي افتداها بدمه الزكي، نذكر بعض منها: "لأنه هو إلهنا: أيتها الكنيسة الملكة، اشكري ابن الملك لأنه خطبكِ وأدخلكِ إلى خدره، وأعطاكِ صداقاً الدم الذي جرى من جنبه، وألبسكِ حلة النور الرائعة التي لا تزول، وعقد على رأسكِ تاج المجد والبهاء، وكالبخور النقي، طيب رائحتكِ أمام الجميع، وكالورد والأزهار وشقائق النعمان ضاعف جمالكِ، وحرركِ على الجلجلة من عبودية الأصنام، فاسجدي لصليبه الذي حمله في سبيلكِ وفي سبيل رفع ضعفكِ، وأكرمي الكهنة الذين زيحوكِ بأعمالهم ونادي المجد له.".     
    " يا رب بقدرتك يفرح الملك: يا مخلصنا، لقد أنجزت بقدرتك العظيمة هيكلك المقدس، ووضعت بنعمتك أسس كنيستك التي اخترتها لإكرامك. ها هم السماويون والأرضيون يفرحون اليوم بعيد تكريسها، ويتضرعون بمحبة من أجل أن يملك أمنك على أبنائها، فتكون ملجأ للأجيال مدى الدهور، فيرفعون إليك الحمد والشكر والمجد يا مخلصنا. ". 
   " ابنة الملك قامت بالمجد: إن الكنيسة خطيبة المسيح، قد خلصها بدمه من الضلال، ومنحها جسده طعام الحياة، وضحى على الجلجلة من أجل مغفرة خطاياها، ومسك بيديه كأس الخلاص، بالدم الثمين الذي سال من جنبه، بضربة الحربة.أصغي وأسمعي صوت العريس، وابتعدي من التيه والضلال، واصرخي لمخلصك، بالأصوات المملؤة بالإيمان،المجد لك. " . 
   " المجد _ _ _ _ صنع ابن الله عرساً كبيراً لخطيبته الكنيسة، وعلى جبل سيناء نصب خدرها بيد ابن عمرام باحتفال كبير* دعا الأنبياء ونادى الرسل والملافنة والرعاة  لعرسها* جرشت ملائكة السماء الطعام المَن والسلوى واللحم، ليكون غذاء لصبوتها* بموسى خطبها، وبيوحنا كتب صداقها في نهر الأردن، داوود الملك خدم وليمتها بتنظيم ألحان وترانيم* لأن كل مجد بنت الملك هو من الداخل، وهي مزينة أيضاً بالذهب الخالص* اشكريه أيتها الكنيسة واسجدي له، للرب إلهنا الذي أكمل جمالك، واهتفي له مع أبنائك قائلة المجد لك.". 
   وخلال قداس هذا الأحد ترتل هذه الأبيات: " المجد: قدس يا مخلصنا كنيستك بحنانك، واسكب نعمك على الهيكل المخصص لعبادتك،وأقم فيه مذبحك الطاهر، حتى يحتفل بسر جسدك ودمك. ". 
   وفي زمن تقديس البيعة ترتل كنيسة المشرق هذه الترتيلة، وهي عبارة عن حوار بين المسيح وكنيسته: " * أيتها الكنيسة قولي لي أين تُبنينْ تُبنينْ تُبنينْ، تُبنينْ على الشمس، لالا لالا لالا، لالا قد قيل وقيل وقيل وقيل، قيل وقيل في الإنجيل، الشمس تفقد أشعتها.
* أيتها الكنيسة قولي لي أين تُبنينْ تُبنينْ تُبنينْ، تُبنينْ على القمر، لالا لالا لالا، لالا قد قيل وقيل وقيل وقيل، قيل وقيل في الإنجيل، القمر يفقد ضياءه.
* أيتها الكنيسة قولي لي أين تُبنينْ تُبنينْ تُبنينْ، تُبنينْ على الكواكب، لالا لالا لالا، لالا قد قيل وقيل وقيل وقيل، قيل وقيل في الإنجيل، الكواكب تتساقط كالأوراق.
* أيتها الكنيسة قولي لي أين تُبنينْ تُبنينْ تُبنينْ ، تُبنينْ على الجبال، لالا لالا لالا، لالا قد قيل وقيل وقيل وقيل، قيل وقيل في الإنجيل، الجبال تذوب كالشمع.
* أيتها الكنيسة قولي لي أين تُبنينْ تُبنينْ تُبنينْ، تُبنينْ على الصخرة، نعم نعم  نعم نعم  نعم نعم، نعم نعم قد قيل وقيل وقيل وقيل، قيل وقيل في الإنجيل على الصخرة أبني كنيستي.".   
   عيد يسوع الملك: إن هذا العيد حديث الوضع في الكنيسة الغربية. فقد أمر بالاحتفال به في يوم الأحد الأخير من شهر تشرين الأول من كل سنة السعيد الذكر البابا بيوس الحادي عشر،  في براءة عامة له بتاريخ 11 كانون الأول سنة 1925. والغاية من لإقامة هذا العيد هي حمل الأفراد والعيال والممالك على الإقرار العلني بملك السيد المسيح المطلق على العقول والمشيئات والقلوب، من حيث هو الحق الأزلي الذي أتى لينير كل إنسان، والقداسة السامية مصدر كل قداسة بشرية، والحب الفائق الذي يجذب كل القلوب بحنانه ووداعته. وخصوصاً من حيث أنه ابن البشر الذي أعطاه الآب السلطان والكرامة والملك إذ قال له: " أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. سلني فأعطيك الأمم ميراثاً. وأقاصي الأرض ملكاً ". ( مزمور 2: 7 _ 8 ). و " عرشك يا الله أبد الدهور. وصولجان ملكك صولجان استقامة. أحببت البر وأبغضت الشر. لذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج دون أصحابك ". ( مزمور 44: 7 _ 8 ). فهو الذي يسميه الأنبياء " رئيس السلام " ( أشعيا 9: 5 ).               و " نبتاً باراً ويملك مَلكٌ يتصرف بفطنة. ويجري الحكم والبر في الأرض " ( إرميا 23: 5 ). " وأوتي سلطاناً ومجداً ومُلكاً. فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه. وسلطانه سلطان أبدي لا يزول ومُلكه لا ينقرض " ( دانيال 7:   14 ).  وهو الذي بشر به الملاك جبرائيل بأنه:          " سيكون عظيماً وابن العلي يدعى، ويوليه الرب الإله عرش أبيه داود، ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر. ولن يكون لملكه نهاية ". ( لوقا 1: 32 _ 33 ). وهو الذي أجاب لما سأله بيلاطس: " أأنت ملك اليهود؟ فأجاب: هو ما تقول ". ( لوقا 23: 3 ). على أن مملكته ليست من هذا العالم، أي أن مملكته روحية لا زمنية. وهو الذي قيل عنه في سفر الرؤيا أنه مكتوب على ثوبه: " ملك الملوك ورب الأرباب ". ( رؤيا 19: 16 ).
  فالكنيسة المقدسة التي هي مملكة المسيح الروحية، لم تزل على توالي الأجيال تنادي بمُلك مؤسسها وعروسها الإلهي، في صلواتها وطقوسها، وتعترف مع القديس كيرلس الإسكندري أن مُلكه هذا حق طبيعي فيه من جراء اتحاده الأقنومي بالكلمة الأزلي، وحق مكتسب بما أنه قدم ذاته فدية عنا، فصرنا مقتناه وغنم رعيته. فتحقيقاً لهذه الأمنية، وعملاً على إسعاد البشر بهدايتهم إلى المسيح مصدر كل سعادة حقة، والطريق الأمين للبلوغ إلى السعادة، أراد البابا بيوس الحادي عشر أن يعرض على العالم العبادة للمسيح الملك. وقد لاقت تعاليمه وتحريضاته نفوساً عطشى وقلوباً مستعدة. فاستمات في سبيله كثيرون، وبذل مئات ومئات من المسيحيين والكهنة والرهبان والراهبات حياتهم، وهم يصرخون في ساعاتهم الأخيرة: " ليحي المسيح الملك ".
   فالمسيح هو ملك الدهور الذي لا يموت، وملك العقول بتعاليمه السامية، وملك الإرادات بشرائعه المقدسة، وملك القلوب بمحبته التي لا حد لها.       

100
المنبر السياسي / تذكار مار أوجين
« في: 10:30 05/11/2009  »
تذكار مار أوجين

الشماس نوري إيشوع مندو
   مار أوجين: أصله من جزيرة قليزما  في حدود بلاد مصر. وكانت مهنته الغطس في البحر وإخراج اللآلى، وكان يوزعها على الأديرة والمساكين. واستمر على ذلك مدة خمس وعشرين سنة. ثم اختصه الله بموهبة صنع العجائب، وطرد الأمواج من السفن، والسير على البحر. وبنى أوجين ديراً في أرضه.
   ولما شاع خبر معجزاته نصب رئيساً مكانه ورحل إلى دير مار فاخوميس . وأقام فيه بصفة مبتدئ. ثم انطلق إلى أرض مصر، وخرج إليه الآباء النساك فوعظهم. ثم اصطحب معه سبعين ناسكاً، وقصد وإياهم أرض المشرق. فوصلوا مدينة نصيبين وسكنوا خفية جنوبيها على نهر ماشاخ ، ومكثوا هناك سبعة أيام منقطعين للعبادة. واتفق أن اجتاز بذلك المكان إنسان فيه روح نجس، فرآه أوجين وتحنن عليه، فأنتهر الشيطان وأمره باسم يسوع أن يخرج منه، فشفي الرجل من ساعته. وعندما عاد إلى المدينة أخبر أهلها بما جرى، فخرج أهل المدينة إلى مكان وجودهم، وطلبوا منه أن يدخل مدينتهم ليشفي مرضاهم، لكنه اعتذر منهم.
   وفي تلك الليلة صعد هو وتلاميذه إلى جبل إيزلا شرقي المدينة، ووصلوا إلى مغارة بالقرب من قرية معرى واتخذوها مسكناً لهم، واستمروا هناك مدة ثلاثين سنة مواظبين على الزهد والتقشف. واجتمع إليه أخوة كثيرون حتى بلغ عددهم ثلاثمائة وخمسين راهباً يتنافسون في الأعمال الصالحة. بعد ذلك ظهر ملاك الرب لمار أوجين وقال له: " قد سُمعت طلبتك وقُبلت عبادتك. قم أنذر أنت وأخوتك بالإنجيل، غير خائفين من الذين يقتلون الجسد، ولا قدرة لهم أن يقتلوا النفس ". فنزل مار أوجين والأخوة من الجبل، وجعلوا يكرزون ببشارة الملكوت ويتلمذون في القرى. وذهب بعضهم واشتروا ثلاثمائة جرة، وكانوا كل يوم يملؤها ماء ويذهبون إلى الطرق ليسقوا عابري الطريق العطشى. وكان الله يصنع على أيديهم معجزات كثيرة.
   وعندما توفي مطران نصيبين وقع الخلاف بين أهل المدينة والاكليروس على من يقيمون مكانه، فأتوا عند مار أوجين ليستشيروه بالأمر. وكان قبل ثلاثة أيام قد جاء إليه مار يعقوب النصيبيني، فقال له مار أوجين: " اليوم أقابلك كغريب، وبعد قليل كمطران وراعي لبيعة الله ". وأشار إلى أعيان المدينة واكليروسها أن يذهبوا إلى رئيس أساقفة آمد، فهو يدلكم على الرجل المزمع أن يكون راعيكم. فامتثلوا لأمره ومضوا إلى آمد وقابلوا مطرانها. فأشار إليهم بإلهام إلهي أن يكون يعقوب الذي ذاع صيت فضائله مطراناً على مدينتهم، ففرحوا وابتهجوا وهم يسبحون الرب الذي أعطاهم راعياً قديساً. 
   وكان رجل مخلع ملقى في رواق كنيسة نصيبين منذ خمس عشرة سنة. وإذ كان مار يعقوب ومار أوجين نازلين إلى الكنيسة لتقديم الذبيحة الإلهية، فجثا وصليا طالبين إلى الله أن يبرئه. فمسك مار يعقوب بيده اليسرى، ومار أوجين بيده اليمنى، ورسم عليه إشارة الصليب قائلين: " باسم ربنا يسوع المسيح قم  أمشي ". وللحال قام ومشى وقلبه يتدفق سروراً، ولسانه يسبح الله ويمجده. وكان في المدينة أحد المرقيونيين  اسمه قردون يبغض المسيحيين بغضاً شديداً، وكان أخوه حاكماً للمدينة وهو أيضاً من مذهب المرقيونيين. وكان لقردون ابن وحيد يابس الرجلين. وما أن سمع خبر شفاء المخلع، دعاه ليطلع منه على حقيقة الأمر، فقص عليه ما جرى معه. لكن الحضور شكوا في روايته، وقالوا أن المسيحيين علموه أن يكذب بأنه كان مخلعاً فشفي. فالتفت المخلع إلى قردون وقال له:         " الحق أقول لك يا سيدي ولا أكذب إني كنت مخلعاً، ومنذ خمسة عشرة سنة كنت ملقى في رواق الكنيسة، وأغلب أهل المدينة رأوني في تلك الحالة المرثى لها. وبقوة ربنا يسوع أبرأني مار يعقوب ومار أوجين. وأنت أيضاً إذا آمنت بالمسيح شفي ابنك لا محالة ". فلما سمع قردون هذا الكلام شدد عزيمته على لقاء مار يعقوب ومار أوجين. فقام من ساعته وذهب إلى الكنيسة، وصحبه جميع آل داره وعبيده. وفي تلك الأثناء كان حاكم المدينة وأعيانها هناك. فدخل ووقف بين أيديهما وسجد لهما، ثم قبل أياديهما وأرجلهما وقال: " أنا واقع في حيرة شديدة، عليَّ أن أبحث عن الديانة الحقيقية. فإن شفى هذان الرجلان ابني من مرضه، فلا بد من أن تكون ديانتهما حقيقية، وزال عني كل شك، وأنا لدينكما من التابعين ". فقال له مار أوجين: " إننا نؤمن بيسوع المسيح الذي أعطى السلطان لتلاميذه أن يضعوا المعجزات، فكل ما نطلبه بالصلاة منه نناله ". ثم ألتفت إلى المرقيونيين وقال له:   " يا أنبياء البعل إن كان لكم إيمان فادعوا باسم إلهكم وأبرئوا هذا  الصبي ". فقال المرقونيون: " لا نحن ولا أنتم قادرون على إبرائه ". فالتفت مار أوجين إلى قردون وقال له: " أتؤمن أن ابنك حالما يعتمذ ينال الشفاء نفساً وجسداً ". فقال قردون: " إني مستعد مع جميع آل بيتي لاقتبال نعمة المعمودية. فأريد أن تعمذوا ابني ". فقام مار أوجين وعمذ ابنه وكان في السابعة من عمره، ولما أخرجه من الماء هتف يسبح الله لأن الصبي شفي تماماً. فأنطلق إلى والده ماشياً. أما المرقيونيين فما أن رأوا الصبي يمشي ولّوا هاربين من المدينة خوفاً أن يرجمهم الشعب. وكان بين الحضور رجل يهودي يدعى شموئيل بن حنان، فلما رأى هذه الأعجوبة، أخذ يسبح الله ويطوف في المدينة وهو يقول: " إن يسوع الذي صلبه آباؤنا هو المسيح ابن الله. ويلكم يا يهود بمن كفرتم ". وأسرع إلى داره وكان له بنت قد تسلط عليها الروح النجس منذ ثماني سنين. فانطلق بها إلى أوجين وقال له: " حتى اليوم كنت أقاوم المسيح والمسيحيين، وأما الآن فقد أنار الله عقلي، فآمنت أن المسيح هو ابن الله. فله اسجد وإياه أعبد جميع أيام حياتي. فأطلب إليك يا سيدي أن تترحم على هذه الصبية فتبرئها ". فصلى عليها مار أوجين وشفاها شفاءً تاماً. وفي الغد اعتمد قردون وشموئيل وجمع غفير من اليهود والوثنيين، وكانوا نحو ألف ومائتي نفس. وقد شفى مار أوجين جماً كثيراً من المرضى، مما حذا بحاكم المدينة أن كتب إلى قسطنطين الملك، يعلمه بما كان عليه أوجين من القداسة وصنع المعجزات. فأجابه قسطنطين: " أنه يوجد اليوم في العالم ثلاثة أنوار، أعني أنطونيوس في مصر، وهيلاريون  في شاطئ غزة ، ومار أوجين الذي أتى وسكن في ناحيتكم، ونحن نطلب صلوات ".
   وكان لمار أوجين عادة في أيام الآحاد من بعد صلاة الصبح أن يرشد الرهبان، فأطنب في الكلام، وإذا به اختطف من بعد صلاة الصبح عقله مدة ساعة. ولما استفاق اغرورقت عيناه بالدموع. فسأله الأخوة عن سبب كآبته فقال لهم: " إن العدو مزمع أن يهيج اضطهاد على الكنيسة، لكن الله يأخذ بنا صدها مثلما وعدها. فيقتل ذلك التنين الناطق مع كل ما له من الأولاد ". وبعد زمان قليل ظهر أريوس الهرطوقي وجرى ما جرى. حيث جمع الملك قسطنطين الأساقفة في نيقية، وقضي على أريوس ومات كما تنبأ عنه مار أوجين.
   وكان يعقوب قد بنى على قمة جبل جودي شرقي جزيرة بازبدي ديراً كبيراً هو دير قيبوثا " الفلك "، وذلك بمساعدة مار أوجين الذي وضع فيه رهباناً. ولما فرغ من بنائه طلب من مار أوجين أن يحضر هو وتلاميذه لتكريس الدير، فلبى طلبه وذهب معه مصحوباً بكثير من تلاميذه. ولما وصلوا نهر دجلة  أخذ مار أوجين هو وتلاميذه يصلون صلاة نصف النهار، وإذا بصبي قائم على ساحل النهر يبكي. فسأله مار أوجين لماذا يبكي. فقال له الصبي: " إني يتيم من أبي، وأمي عجوز ولي أخ أكبر مني. واليوم خرجنا معاً لنقطع لنا خشباً لبنيان البيت، فخرج علينا أسد فهجم على أخي وهرب به ". فمضى مار أوجين في أثر الأسد، وعندما وصل إليه رآه رابضاً على فريسته، وما أن نظر إلى مار أوجين حتى ولى هارباً. ولما عاين الصبي جثة أخيه أكب عليها وغمرها بدموع سخية. فانحنى مار أوجين على الجثة وصلى، ففتح الشاب عينيه، وأخذ يرسم إشارة الصليب على جروحه. وكان الشاب يبكي، فقال له مار أوجين: " لا تخف يا ابني بل سبح الله الذي رد لك الحياة ".  وكان أهل قرية الشاب قد سمعوا بما جرى، فبادروا إلى مكان الحادث وبأيديهم سيوف وعصي. فرأوا الشاب جالساً بين مار أوجين ورهبانه، وبعد أن علموا بما جرى، طلبوا من مار أوجين أن يدخل قريتهم فيرشدهم ويعمذهم. فأجاب إلى سؤالهم وبقي عنهم ثلاثة أيام فاعتمذوا قاطبة. ثم عبر مار أوجين دجلة ليذهب إلى الدير الذي بناه مار يعقوب، وخرج الكثير من أهل القرية لاستقباله. وكان الشاب الذي أحياه معه، فطلب منه مار أوجين أن يرجع فيعتني بأمه وأخيه. فألتمس أهل القرية منه أن يأخذه معه لكي يخدم الله ويصلي من أجلهم، فقبل طلبهم. وبعد التكريس أخذ مار أوجين يجول مع تلاميذه في القرى المجاورة يبشر ويعمد، وابتنى كنائس كثيرة، وصنع معجزات وفيرة.
   ثم رجع إلى ديره، وعند وصوله إلى دجلة بإزاء جزيرة بازبدي، لم يجد سفينة يعبر بها النهر. فرسم على وجهه إشارة الصليب، وقال للشاب الذي أحياه: " اتبعني يا ابني ولا     تخف ". قال هذا وأخذ يمشي على النهر، ولما بلغ وسط النهر ألتفت إلى الوراء، فرأى عشرة من تلاميذه يتبعونه، وأما الباقون فكانوا باقين عند ساحل دجلة. فشجعهم وقال لهم:           " اتبعوني أنتم أيضاً وامشوا على النهر باسم ربنا يسوع المسيح ". ثم دخلوا المدينة وذهبوا عند أسقفها هليودورس ليتباركوا منه. وتنبأ مار أوجين بأن الفرس سوف يشنون غارة على بلاد بازبدي، ويسبون من أهاليها جماً وافراً، وكثيرون منهم ينالون إكليل الشهادة على جبال ماداي. وتمت نبؤته إذ قدم شابور الملك وفتح الجزيرة، وسبا منها عشرة آلاف نفس مع الأسقف، واستشهد كثير منهم على جبل ماداي، والضعفاء منهم ارتدوا عن المسيحية. ولما مات الملك قسطنطين سنة 337، شن شابور غارة على بلاد الروم، وعبر نهر دجلة ليدخل نصيبين. فأرسل مار يعقوب وأعيان المدينة إلى مار أوجين يقولون: " هلم أنت وجميع الأخوة إلى المدينة صيانة لحياتكم من حملات العدو ".
فقال لهم مار أوجين: " إن شابور يشد الحصار على مدينتكم، ولا يقدر أن يستولي عليها. لكنكم تسلمونها له بعدئذ دون أي مقاومة. مع هذا تضرعوا إلى الله أن تنجوا من أنياب هذا الأسد. وأما نحن فالله معنا وينقذنا من يده ".
   ولما شد شابور الحصار على نصيبين، خرج عسكره إلى القرى في طلب الرزق. فصعد خمسمائة منهم إلى دير مار أوجين. وما أن وصلوا أخبر التلاميذ مار أوجين بقدومهم، فنظر إليهم ورسم عليهم إشارة الصليب، وللحال تغشاهم ظلام كثيف فاضطربوا. وبعد فترة ظهر نور في الجهة الغربية، فبادروا إلى الهرب وهم يرتعدون. ولما وصلوا إلى المعسكر أطلعوا الملك بما جرى لهم. فاستشاط غضباً وقال: " إياكم أن تصعدوا منذ الآن إلى هذا الدير، بل بعد فتح المدينة تأتون بهم هنا فنميتهم موتاً شنيعاً ". لكن الله أحبط مساعيه فرجع إلى بلاده، مكتسياً ثوب العار بعد أن عجز عن فتح نصيبين.
   وفي سنة 360 استولى يليانس  على سرير الملك، وكان منافقاً فكفر بالديانة المسيحية ونبذها. فنفى الأساقفة والكهنة، وهدم الكنائس، وبذل كل جهده في عودة المسيحيين إلى الوثنية. لكن يوبنياس الذي كان محباً للمسيحية أقنع يليانس بأن من الواجب أن نغلب الفرس أولاً، ثم نصنع ما تشاء، فإنقاذ يليانس لقوله وحمل على الفرس. ولما وصل نصيبين انهزم الأسقف مع اكليروسه من المدينة. وصعد يوبنياس إلى صومعة مار أوجين وحثه أن يختفي خوفاً أن يقع بيد الملك المضطهد فينكل به، لغضبه الشديد منه بسبب أنه كان يتلمذ جماً وافراً من الوثنيين. فقال له مار أوجين: " حسبنا قوة ربنا يسوع المسيح، فهي تحفظنا وإياك من كل سوء ". وقد تنبأ بموت يليانس، وصحت نبؤته إذ قتل سنة 363 وهو يقاتل الفرس. ثم دعا مار أوجين تلاميذه وقال لهم: " استبشروا وافرحوا يا أولادي وسبحوا الرب وباركوه، فإن الملك المنافق قد باد قتيلاً، واليوم الكنيسة استراحت من شره ". وبعد مقتل يليانس بايع جيوش الرومان يونبياس بالملك، فعقد الصلح مع شابور وأعطاه مدينة نصيبين، فدخل شابور المدينة. ثم أرسل من عظمائه المسيحيين الذين كانوا في معسكره من الأهواز وباجرمي يطلبون حضور مار أوجين لمقابلة شابور. فلبى طلبهم وتوجه إلى نصيبين، فرحب به الملك وأكرمه جداً. ثم سأله عن ديره وأحواله وتعاليمه، فنشأت مجادلة بينه وبين المجوس، فلم يستطيعوا قهره. ثم قال للملك: " أمر أيها الملك الجليل أن تضرم نار شديدة، فيدخل فيها كل من الفريقين، ومن لا يحترق فعنده دين الحق ". فأمر الملك فأوقدوا ناراً شديدة. فلم يتجاسر المجوس أن يقتربوا منها. فأمر مار أوجين أحد تلاميذه ويدعى يونان الناسك للدخول في النار. فدخلها ومكث فيها ثم خرج منها سالماً. ولما شاهد شابور هذه الأعجوبة فرح كثيراً. وكان له ابن فيه روح نجس، فأمرا أن يأتوا به، فأبرأه مار أوجين وطرد منه الشيطان. فشهد شابور بأن إله المسيحيين عظيم جليل، فعزم أن يبطل الاضطهاد على المسيحيين في مملكته. وقال لمار أوجين: " اسأل ما تريد وأنا سأعطيك ". فأجابه مار أوجين: " إننا لا نطلب ذهباً ولا فضة ولا سائر المواهب. فحاجتي يا سيدي الملك أن تأذن بالحرية في مملكتك، وتعطينا أماكن لنبني فيها أديرة ومأوى للغرباء والمحتاجين.وتسمح لنا بالذهاب حتى بلاد الأهواز وبيت لاباط، فنبني هناك أديرة متصرفين كما نشاء بمقتضيات ديانتنا ". فأذن له شابور بذلك. ثم صعدوا إلى ديرهم وقلوبهم ممتلئة حبوراً.
   وبعد أيام أرسل مار أوجين تلاميذه إلى مواضع مختلفة، فاجتمعوا وكل منهم ماسك بيده صليب، وصلوا ثم دنوا من أبيهم الجليل وتباركوا منه، ثم تفرقوا إلى النواحي والأقطار، وشيدوا أديرة وكنائس كثيرة. ولما علم مار أوجين أن ساعته قد دنت، دعا تلاميذه وأمرهم بإقامة الذبيحة الإلهية، فتناول جسد ودم ربنا يسوع المسيح. ثم باركهم وأسلم الروح وانتقل إلى حضن ربه. وللحال فاح منه رائحة ذكية، ودفن في مغارة تحت المذبح الذي بناه هو. وكانت وفاته في 21 نيسان سنة 363.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار أوجين في الجمعة الأولى من سابوع تقديس البيعة.   



101
تذكار مار ميخا النوهدري 
الشماس نوري إيشوع مندو
  مار ميخا النوهدري: ولد في منطقة نوهدرا في العقد الأول من القرن الرابع الميلادي، حوالي سنة   309 م، ولقب بالنوهدري نسبة إلى منطقة نوهدرا، التي تشمل سهول منطقة نينوى، المحصورة مابين صحراء ما بين النهرين وجبال شمال العراق. كان أبواه مجوسيين، وأجداده من رؤساء المجوس وندماء الملك. أبوه يدعى كور شاه، وقد تنصر والداه واقتبلا المعمودية من يد القديس مار أوجين أبي الرهبان في المشرق.
   كان ميخا يميل إلى الكنيسة منذ صغره، فأودعه والداه الكنيسة ليقيم فيها، ويتربى التربية المسيحية. فتعلم اللغة والطقس، وختم كتاب المزامير. وكانت الكنيسة بعيدة عن موطن أبويه، فكان الوالدان يزورانه مرة واحدة كل سنة، ويجلبان له كميات من المال والملابس والمأكل والمشرب. أما هو فما أن يودع والديه حتى يعود ويوزع كل خيراته على الفقراء والمعوزين، ولا يترك له منها إلا الشيء القليل، مما يدل على بذور الخير التي كانت كامنة في كيانه منذ نعومة أظفاره. وبقي هناك حتى اشتد عوده، وقوي عظمه، ونهل من الكتب الإلهية قدراً كبيراً من العلم والمعرفة، وأصبح أهلاً للانخراط في سلك الرهبنة، التي كانت أمنيته ومبتغاه.
   توجه للانضمام إلى الحياة الرهبانية في جبل إيزلا، فقبله مار أوجين في ديره وألبسه الأسكيم الرهباني. فقضى مار ميخا في الدير قرابة عشرين سنة، كان فيها مثال الراهب التقي الورع المطيع لقوانين الدير، المتمثل لأوامر الرؤساء، المكمل لكل الواجبات التي تفرضها عليه حياة الرهبنة. فكان مار أوجين يحبه حباً عظيماً ويعامله كأبنه، ويخصه بمنزلة متميزة عن أخوته الرهبان. وقد اصطحبه إلى نصيبين لزيارة أسقفها مار يعقوب النصيبيني، كما رافقه إلى جبل جودي لتكريس الدير الذي ابتناه هناك مار يعقوب النصيبيني، والمعروف بدير قيبوثا " الفلك "، وذلك في الموضع الذي رست فيه سفينة نوح.
   سنة 361 اضطهاد يوليانس الكنيسة، فهرب جميع الرهبان من الدير، ولم يبق فيه سوى مار أوجين وعشرة من الأخوة الرهبان. فعاش مار ميخا في تلك الفترة متوحداً في كوخ صغير، عيشة التقشف والشظف، ممارساً كافة العذابات الجسمية لترويض جسده وإماتة شهواته، قاضياً الليالي بالصلاة والتأمل وقراءة الكتب المقدسة. وقد تعرض عدة مرات لتجارب وإغراءات الجسد والمال، فكان يقاومها ويتغلب عليها بشجاعة وإصرار، من خلال تمسكه بالصوم والصلاة والعبادة ليلاً ونهاراً. وقد كوفيء من الرب بمنحه قدرة إلهية تعينه على شفاء المرضى من عللهم الجسدية والروحية، فشاع خبره في تلك الأصقاع، فأتوا إليه فشفاهم بقوة الله.
   خطرت لمار ميخا فكرة زيارة الديار المقدسة، للتبرك والصلاة بجوار القبر المقدس. فشد الرحال، وما أن وصل دمشق حتى زار الهيكل الذي يضم رفات مار يوحنا المعمدان. ومن هناك توجه إلى أورشليم برفقة رجلين كانا يقصدانها، وفي الطريق تعرض لهم قطاع الطرق وأرادوا سلبهم، ولما لم يجدوا شيئاً عندهم حسبوهم جواسيس فحبسوهم في مغارة. وفي تلك الليلة حدثت أعجوبة، حيث أن اللصوص بعد ذهابهم ألمّ بهم فظيع قضَّ مضجعهم، وترك سهاد طوال الليل يتقلبون على الفراش من شدة الألم. ولما بحثوا عن السبب، لم يجدوا غير ظلمهم على أولئك المسافرين الأبرياء المسجونين في المغارة، وما هذا الألم إلا عقاب لهم بسببهم.
   وما أن طلع الصباح حتى أسرعوا إلى تلك المغارة وأطلقوا سراحهم، وطلبوا منهم العفو والمغفرة. فاشترط عليهم مار ميخا بأن يتوبوا ويكفوا عن أعمال الشر. فقبل اللصوص طلبه، وتابوا وندموا فزال عنهم الألم، وتعافوا لساعتها. ثم واصل مار ميخا ورفيقاه السير إلى أورشليم، حتى بلغوها ودخلوا إليها.
   دخل مار ميخا المدينة المقدسة وهو ممتلئ شوقاً ولهفة لزيارة جميع المواقع التي وطئها يوماً المخلص، وأراد أن يدخل إلى كل مكان دخله يسوع، وينصت إلى صوته يجلجل في الهيكل يعلم ويوبخ الكتبة والفريسيين على أعمالهم، ويسير في الأزقة التي سار فيها المخلص حاملاً صليبه على منكبيه. وأخيراً وصل القبر المقدس، فدخله بخشوع ورهبة، وسجد مبتهلاً إلى من دفن فيه، وقام منه أن يعينه على اقتفاء أثره والسير على هديه.
   وفي أورشليم التقى بفلابيانس مطران أنطاكية، فرحب به وفرح بلقائه. وصادف في تلك الأيام أن جاء أناس من طرسوس يطلبون من فلابيانس أن يرسم لهم أسقفاً، فأشار عليهم أن يطلبوا مار ميخا فوافقوا. وألح عليه فلابيانس أن يقبل طلبتهم، لأنه مختار من الله لرعاية خرافه فوافق.
   وفي يوم عيد العنصرة وضع فلابيانس يده على ميخا، ورسمه مطراناً على طرسوس. وبعد عدة أيام اختفى ميخا، وطلبه أهالي طرسوس فلم يجدوه. فقد خرج ليلاً قاصداً جبل سيناء، وكان الدافع على ذلك تواضعه واشتياقه إلى حياة النسك والتوحد. وما أن وصل هناك حتى زار المكان الذي نزل فيه الوحي على موسى النبي.
   وخرج من هناك قاصداً برية الاسقيط، حيث عدد كبير من الأخوة الرهبان يعيشون عيشة الزهد، والانقطاع عن العالم وعبادة الله في صمت وهدوء. وبعد أن اطلع على حياتهم ونمط معيشتهم، ابتعد في عمق البرية وهناك وجد كوخاً اتخذه مسكناً له. وعاش فيه عشرين سنة منقطعاً كلياً عن العالم، يعبد ربه ويناجيه ليل نهار بالصلاة والصوم. وكان يقتات في كل هذه السنين على حشائش البرية، التي أضحت قوته اليومي.  وفي إحدى الليالي بينما كان منقطعاً إلى خالقه في صلاة حارة، أوحي إليه أن يعود إلى الشرق، ويبني ديراً في ألقوش. فقام لتوه وشد الرحال عائداً، وفي طريقه مر بأورشليم ثانية للتبرك.
   ويبدو أن ألقوش كانت مسيحية في القرن الرابع الميلادي، وكان لها كنيسة تقام فيها الصلوات والشعائر الدينية من قبل الكهنة والشمامسة وجماعة المؤمنين. وهذا ما تؤيده قصة مار ميخا، حيث تذكر أنه كان في استقبال مار ميخا كهنة وشمامسة وجمع كبير من أهالي البلدة. وكان مجيء مار ميخا إلى ألقوش حدثاً فجائياً غير متوقع، إذ لم يدر بخلد الألقوشيين أن يقوم رجل مثل مار ميخا بزيارة قريتهم والمكوث فيها. لذا فخروجهم للقائه واستقبالهم له بالحفاوة والتكريم، كان بإيحاء إلهي وتدبير سماوي.
   وكان وصوله في وقت كان قد انتشر فيها وباء، راح يفتك بالأطفال فتكاً ذريعاً. فطلب مار ميخا من الناس أن يتوبوا ويصوموا ويصلوا، فلبوا طلبه بحرارة وشوق، وأقاموا بمعيته الصلاة والابتهال إلى الله. فسمع الله تضرعهم بشفاعته، وزال الوباء من القرية، وتوقف موت أطفالها. فعم الفرح والسرور بيوتها، وأيقن أهلها أن هذا الوافد الجديد هو مبعوث إلهي إلى قريتهم، جاء لينقذهم من المرض ويدعوهم إلى التوبة، ويرشدهم إلى حياة جديدة، حياة النعمة والفضيلة ومحبة الله. وكان لهذا العمل أثر بليغ في نفوس أهالي ألقوش، الذين وجدوا فيه شفيعاً ومرشداً. فأحبوه، واحتضنوه، وقدروه، وأكرموا وفاده.
   وعندما قدم مار ميخا إلى ألقوش لم يكن يحمل شيئاً سوى كتاب الإنجيل، وقد انتشر خبره في الأماكن المجاورة، فجاءوا إليه بمرضاهم ومتعبيهم، فشفاهم جميعاً، وقدموا له الذهب والفضة فقبلها منهم. وقد شعر أهالي ألقوش بحاجة مار ميخا إلى منزل مستقل لسكناه، ولاستقبال الوافدين إليه، كما لمسوا لديه الرغبة في تعليم الشبان والأطفال وتهذيبهم. فقاموا ببناء دير ومدرسة في الجهة الجنوبية الشرقية من القرية، ليقيم فيها ويؤدي رسالته التي من أجلها قدم إلى ألقوش. ولما كمل البناء قام مار ميخا بتوجيه الدعوة إلى أسقف معلثايا مع إكليروسه لافتتاح الدير وتقديسه، نظراً لأن ألقوش آنذاك كانت تابعة لأبرشية نوهدرا.  وقد جمع مار ميخا في مدرسته كل الأطفال وطلاب العلم من ألقوش وأطرافها، واسكنهم في ديره ليعيشوا سوية، وهذا العمل كان يتطلب مبالغ كبيرة من المال. فاستعان بالذهب والفضة التي قدمها له المؤمنين، واشترى بها أراضي زراعية في شرق وغرب ألقوش، وإلى اليوم يوجد في سهل ألقوش أراضي زراعية تسمى " أراضي     القسس ". كما يوجد غرب ألقوش في قرية بندوايا رحى باسم " رحى مار ميخا "، ومن المحتمل أن تكون من ضمن أملاك دير مار ميخا. وكان يستعين بما تدر عليه هذه الأملاك للصرف على مدرسته واحتياجات تلامذته. وكان مار ميخا قد تنبأ عن قدوم الربان هرمزد إلى ألقوش بالقول: " إن الله عتيد ليرسل إليكم نسراً عظيماً، يصعد بمقامه فوق الملائكة، ويعشعش بجانبكم في هذا الجبل، ويولد أفراخاً روحية. وكل من يدعو باسمه يطرد منه الرب كل وجع، ويكون له سلطان على مرارة وسم الدبيب القتال. ويسمى هذا الجبل أورشليم العليا، اخرجوا للقائه بفرح ".
   وعاش مار ميخا في كوخ صغير داخل الدير الذي بُني في ألقوش مدة خمس عشرة سنة، يمارس الصوم والصلاة والفضائل المسيحية، ويدير مدرسته التي انتشر خبرها في كل الآفاق. وفي أحد الأيام بعد صلاة العصر، جمع الكهنة والشمامسة وطلاب مدرسته، ووعظهم وصلى عليهم، وقدم لهم نصائحه الأخيرة، ثم ودعهم وباركهم. وتوجه بطرفه نحو ألقوش وباركها قائلاً: " لا يتحكم بكِ عدواً ". وأغمض عينيه، واسلم روحه لخالقها وباريها. ويذكر أن مار ميخا حفر قبره بيده في نفس الكوخ الذي كان يسكن فيه. وقد دفن في نفس المكان، وأقيمت الصلوات على روحه. وكانت وفاته في الأول من تشرين الثاني سنة 429، وقد ناهز المائة والعشرين سنة.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار ميخا النوهدري في الأول من تشرين الثاني.     


102
تذكار مار أنطونيوس أبي الرهبان
الشماس نوري إيشوع مندو 
 مار أنطونيوس الكبير أبي الرهبان: هو ذاك الكوكب الساطع الضياء، الذي أشرق في صحاري مصر العليا، فبدد ظلماتها، وملأها أنواراً سماوية، وجعل تلك القفار تموج بطغمات النساك والرهبان، واسمع تلك الفلوات مئات من السنين، بتسابيح ملائكية آناء الليل وأطراف النهار، ونشر في تلك البلاد عبير الفضائل المسيحية والكمالات الرهبانية، فعطرت تلك الصخور وبللت تلك الرمال، ولم يزل شذاها يفوح ويضوع ويملأ المسكونة. 
   ولد أنطونيوس نحو سنة 251 في مدينة كوما في صعيد مصر وتعرف اليوم  بـ كوم العروس. نشأ في بيت كريم من أرباب الوجاهة والغنى. إلا أنه كان ميالاً منذ نعومة أظفاره إلى التقوى والتمسك بأهداب الفضيلة، وازدراء ملذات هذه الدنيا ونعيمها. ولم يرغب في العلوم العالية والآداب اليونانية، خوفاً من أن تفسد الوثنية عقله وتنال من فضيلته.  ومات والداه وهو شاب يافع، وله أخت صبية أصغر منه. فلم تبهره الأموال الطائلة التي ورثها، بل بقي محتفظاً على فضيلته وطهارته، متمسكاً بحبال التقوى. وعني بأمر شقيقته، فكان لها الأخ الصالح المحب الشفيق.
   وكان أنطونيوس دائم التأمل بالإلهيات، كثير التفكير في زوال الدنيا ودوام الأبدية. فدخل الكنيسة يوماً، فسمع الكاهن يتلو الإنجيل ويقول: " إذا أردت أن تكون كاملاً فأذهب وبع كل شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني ". فسقطت تلك الآيات على قلبه سقوط الندى على الرياض، فأنعشت عواطفه وحركت كوامن رغائبه، وسمع في داخله صوتاً يقول له: " إن السيد له المجد يقول لك ذلك يا أنطونيوس، ويدعوك إلى ذلك الكمال المسيحي ". فسجد للرب وتضاءلت الدنيا في عينيه، ونظر إلى الصحراء القريبة، فاستهواه سكونها وعظاتها الصامتة.
   فذهب وباع أملاكه وضياعه وأعطى شقيقته ما يعود إليها من ميراث والديها، ووكل أمرها إلى بعض العذارى المتعبدات. ووزع ما خصه على الكنائس والفقراء، وقصد أحد النساك فتتلمذ له، وبدأ تحت إرشاده حياة الزهد والصلاة والطاعة والتجرد. ويخضع جسده بجميع أصناف التقشف والزهد. فلا يأكل إلا مرة واحدة في النهار، ويقضي أيامه ولياليه في التأمل والصلاة والشغل اليدوي، ويرقد على الحضيض، ويجلد ذلك الجسد الطموح المتمرد المملوء صحة ونضارة وشباباً واندفاعاً. إلا أن الله الذي يريد للفضيلة السامية أساساً صخرياً، سمح للشيطان أن يمتحن عبد أنطونيوس بجميع أنواع التجارب، فهاجمه الشيطان بكل قواه. فذكره بما كان يملك من ثروة واسم كبير ومجد أثيل فبدده. لكنه نظر إلى المصلوب، وصمد لذلك الهجوم الشيطاني بكل ثبات، فرحاً لكونه أضحى فقيراً ذليلاً لأجل المسيح. فعاد الشيطان ونازله في ميدان الأهواء الجسدية، فقاومه بكل ما اوتيه من عزم، بواسطة الصلاة والصيام وإماتة ذلك الجسد المتمرد والالتجاء إلى والدة الإله.
   وانفرد أنطونيوس يوماً في الصحراء ودخل قبراً قديماً، وبقي هناك أشهراً يمارس أعمال النسك والتقشف. فكان الشيطان يناوئه كثيراً. وجمع مرة جموعه وهجم عليه بصورة وحوش ضارية مخيفة من السباع والضباع والدببة والخنازير والحيات والعقارب. فكانت تزأر وتعوي وتزمجر وتصفر وتهجم عليه وتمزق جسده بأنيابها ومخالبها. وكان هو يقاومها بإشارة الصليب ويصلي وينظر إلى السماء، وهكذا الليل بطوله. ولما لاح الفجر هدأت العاصفة وعادت تلك الوحوش أدراجها مكسورة، تاركة أنطونيوس مطروحاً على الأرض مخضباً بدمه. أما إرادته فكانت واقفة تهاجم لا تنثني ولا تستسلم.
   وبعد أن مارس سنين عديدة أعمال النسك استهوته الصحراء، فترك الديورة القريبة من المدن، وانفرد في الصحراء. فحمل معه شيئاً من الخبز يكفيه ستة أشهر. ولما رأى نفسه وحيداً في تلك الصحراء، شعر بداخله بفرح لا يوصف، وتراءى له مجد الله يملأ تلك البراري الصامتة. لكن الشيطان كان يتبعه وينظر إليه بعين الغضب، لعلمه بأن تلك البراري الموحشة سوف تصبح عما قليل آهلة بالرهبان، وأن ذلك الصمت الرهيب لن يلبث حتى يتحول إلى أصوات التسبيح تتصاعد إلى عرش الرب. وبقي كذلك سنين طويلة، وكان أحد الأخوة يأتيه كل ستة أشهر بشيء من الخبز والتمر والماء. وعندما عرف الناس مقره، أخذوا يأتونه زرافات ووحداناً، ليتبركوا به ويسمعوا أقواله ونصائحه. ورغب إليه كثيرون أن يقبلهم في عداد تلاميذه، ويسمح لهم بإتباع طريقته، فترك عزلته ونزل إلى ضفاف النيل في سهول الفيوم ، حيث أنشأ لهم ديورة عديدة، كانت تحيط بصومعته إحاطة الكواكب السيارة بالشمس المضيئة. وكان أنطونيوس مثالاً للجميع بالصوم والصلاة والتأمل العقلي وحفظ الصمت وشغل اليدين. وكان يلبس المسح على جسمه، ويرتدي من فوقه برداءٍ من جلد الغنم. وكان طعامه الخبز والملح وقليلاً من البلح. وكان لا يأكل إلا مرة واحدة كل ثلاثة أو أربعة أيام. وكانت مواعظه لأبنائه ولزواره بسيطة قليلة الكلام، ألا أنها كانت سهاماً نارية تذهب مسرعة إلى القلب فتستقر فيه.
   وبعد الاضطهاد الذي جرى بحق المسيحيين سنة 350، وكثر عدد الشهداء في البلاد المصرية، تألم أنطونيوس كثيراً لهبوب تلك العاصفة الهوجاء، وأوصى رهبانه أن يلتجئوا إلى الله بالصلاة والصوم ليخفف عن الكنيسة ويلاتها، ويشدد عزائم الشهداء تحت سيوف المضطهدين العتاة. وذهب إلى الإسكندرية ليشجع إخوانه في الإيمان، ويحملهم على الثبات في احتمال أنواع الآلام. ثم سافر مع قافلة تريد البحر الأحمر  عن طريق الصحراء، حتى أتى إلى جبل القلزم ووجد هناك عين ماء وبعض أشجار النخيل. وصعد إلى الجبل فوجد مغارة فدخلها وجعلها مسكنه وصومعة نسكه وعباداته. وأخذ يزرع القمح وبعض الخضار لمعيشته، لكي لا يكون عالة على غيره. وقضى أنطونيوس في تلك الصحراء زمناً طويلاً بعيداً عن أبنائه وأدياره وزواره. ولما طال غيابه أخذ أبنائه بالبحث عنه حتى عثروا على مخبئه، فنزل إليهم وعاد إلى ديورته.  وكم سُرَّ  وبارك الله لما رأى شقيقته آتية إليه بعد غياب خمسين سنة، ومعها طغمة من العذارى البتولات، اللواتي كن قد تتلمذن لها في أديار النساء التي أنشأتها لهن. وقد أمتاز أنطونيوس في حياته وبعد وفاته بصنع العجائب، ولذا ترى الناس يركضون إليه لينالوا ما يبتغون من النعم. وكان كلما تقدم في السن ازداد كمالاً وتواضعاً وسيرة ملائكية. وكتب إليه الملك قسطنطين يطلب صلاته وأدعيته. وكان شديد الاحترام لرجال الإكليروس، حتى لأصغرهم سناً ودرجة، يركع أمام الأساقفة والكهنة الذين يأتون لزيارته ليأخذ بركتهم، رغم شيخوخته وجلال هيبته وإقبال الألوف على طلب بركاته وصلواته.
   وعندما شعر بدنو أجله فرح لرحيله إلى الدار الباقية والأخدار العلوية. فدعا تلميذيه مكاريوس وأماسيوس وقال لهما: " عما قليل سأنضم إلى آبائي فأثبتوا في الإيمان واهربوا من الهراطقة. لا أريد أن تدفنوا جسدي باحتفال، بل واروه في التراب ولا تعلموا أحداً بمقري. أما ثيابي فوزعوها هكذا: ترسلون إلى البطريرك أثناسيوس ردائي الأول، كان قد وهبه لي جديداً فأعيده إليه خَلقاً. أما ردائي الثاني فترسلونه إلى سيرابيون أسقف توميس. والمسح الذي يغطي جسدي يكون لكما ". ثم باركهما وتمدد على الأرض وفارق الحياة بهدوء وسكينة. فعمل تلميذاه كما أوصاهما، ودفنا جسده ولم يعلما أحداً بمكانه. وكان ذلك في 17 كانون الثاني سنة 356، وكان له من العمر مئة وخمس سنين.  وبقي جسده في رمال تلك الصحاري حتى سنة 561 حتى عرف الإمبراطور يوستنيانس  بإلهام إلهي موضع قبره، فحملت عظامه إلى الإسكندرية. ثم نقلت إلى القسطنطينية، واستقرت أخيراً في مدينة أرل في جنوب فرنسا. وقد تعبد له الشرق والغرب عبادة كبيرة، فهو بالحقيقة كوكب البرية ومجد الحياة الرهبانية وشفيع الشعوب والأفراد في كل زمان ومكان.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار انطونيوس أبي الرهبان في الجمعة الثانية من سابوع موسى.

103
تذكار إيليا الحيري

الشماس نوري إيشوع مندو
   إيليا الحيري: من خلال طقس تذكاره نعرف أنه كان عربي الأصل من مدينة الحيرة ومن عشيرة بدوية ومن أسرة اشتهرت بالثراء. وذات يوم كان في كنيسة الحيرة ورأى وقت القداس مشاهد علوية، فباع أملاكه ووزع كل ما ملكت يداه على الفقراء والأيتام، وقصد دير مار أبراهام الكبير في جبل إيزلا، وترهب فيه وأقام يمارس الحياة الرهبانية القاسية.
   وقضى مار إيليا في دير جبل إيزلا ثلاثين سنة، ثم سافر إلى أورشليم لزيارة الأماكن المقدسة، ومنها قصد أرض الصعيد في مصر حيث تكثر الأديار والمناسك. ومنها جاء إلى الموصل لتأسيس ديره. 
   ويقول عنه توما المرجي أن أصله من الحيرة مدينة العرب الكبيرة، وتلقى العلم في مدينة نصيبين،  وانخرط في سلك الرهبانية، فسار في طريق النسك بدون شائبة. وقد أبى أن يمنح جسده أياً من أسباب الراحة والهناء. فأشتهر مثل سميه إيليا النبي بممارسة التجرد والغيرة على مكافحة الشياطين والأهواء الجسدية. وقد حفظ قوة الغضب المستحوذة على طبيعته ووجهها ضد مناهضي الفضيلة. غير أنه كان مضطرماً مع ذلك بمحبة البشر الذين رأى فيهم صورة الله وجلاله.
   وقد فضح الله رب الكل على يد هذا الرجل العجيب تلك البدعة الشنيعة التي وقعت في أيامه في ذلك الدير المقدس، وكما أن الله أباد بيد الطوباوي ما إيليا أنبياء البعل فأعمل فيهم القتل، هكذا بواسطة هذا الموسوم باسمه وصنوه في العبادة حسن لدى الله الكل أن يستأصل شأفة الزؤان الرديء المعد للنار المحرقة، وأعني بذلك عمل هؤلاء الأشرار وسيرتهم الدنسة.
   فهناك من يقول أن الله أوحى إليه الأمر برؤيا وأن ملاكاً أمره بالنزول من صومعته ليلاً وبالذهاب إلى صوامع أولئك الناس. وهناك من يقول أيضاً أنه حضر صدفة وسمع صوت أنوال النساء وهن ينسجن أثواباً.
   وآخرون يقولون أنه شاهد أطفال أولئك الفجار يلعبون على مقربة من صوامع آبائهم. وحينما سألهم من هم ومن أين أقبلوا أجابوا قائلين: " إننا من هنا وآباؤنا هم فلان وفلان ". ومهما يكن الأمر فالظاهر أنه لم يترك صومعته إلا بإشارة إلهية، لا سيما في المساء حيث يترتب على الناسك أن يهتم بوضع عطور فاخرة في مجمرة قلبه، لكي تفوح منها رائحة ذكية الليل كله، أي السكوت والاختلاء العميق الذي يجب أن تمتاز به أمسيات الراهب الصالح. وأنه على كل حال لم ينزل بطريق الصدفة إلى صوامع النساك. وما أن رأى وعرف جلية الأمر حتى اسقط في يده.
  ولما كان جنس الإسماعيليين  مجبولاً على طبع حاد وغيرة عارمة، فقد اضطرمت غيرته وتأججت نار غضبه، وأخذ يتشكى إلى الله مثل إيليا النبي ويقول: " إن بني إسرائيل تركوا عهدك ووطئوا شريعتك ونسوا وصاياك. وعوض التشبه بإبراهيم أبيهم، اختاروا لنفسهم أباً هو الشيطان عدو الجنس البشري ".
  وكانت العادة في دير إيزلا تقضي بأن لا يقرع الناقوس لأية علة كانت إلا بأمر الرئيس.
   فلما كان الصباح نزل إيليا من صومعته وجاء إلى الدير وأمر الساعور بأن يصعد ويقرع الناقوس، ففعل كما قال له. فاجتمع الكل وقصدوا الهيكل، فدهش مار باباي رئيس الدير من أن الناقوس قرع بدون أمره وبغير داع. ودعا الساعور وسأله من أمره بقرع الناقوس. فأجابه بأن إيليا طلب منه ذلك.
   فدعا الرئيس إيليا وطلب إليه أن يطلعه على سبب ذلك. فأجابه إيليا قائلاً: " يا أبانا ورئيسنا أنك تعرف الأمور التي تحدث بعيداً عنك. فكيف خفيت عنك شرور قريبة تقترف داخل ديرك وعلى مقربة منك؟ وكيف يخشى الذين ليسوا تحت رئاستك ويختبئون لدى سماعهم باقترابك وابتعادك. وفي هذا الدير الذي هو أرثنا الإلهي انبعثت سدوم  وأقيمت جبع؟  كيف انتشرت الآكلة. هذا القرح النتن في أعضاء جسم أبنائك الطاهر؟ أين هي بركة أبنا أبراهام الكشكري وهداية مار داديشوع  وتعليمك المتدفق مثل نهر جيحون؟  فها قد أنتجت أصلالاً ملعونة فراخ الحية القاتلة. فإن بعض منا نحن من هؤلاء الجالسين قدامك، وهم يرون ويسمعون قد تمخضوا بالائم وولدوا الافك  وشربوا المياه العكرة وتغذوا بالخرنوب وزنوا ببنات موآب  حسب مشورة بلعام العراف.  فنسوا إله إبراهيم  وأسحق  ويعقوب.  فعليك أبانا أن تطعنهم بحربة غيرتك كما فعل فنحاس الغيور.  فتمزق هؤلاء الدنسين الذين لوثوا الدير الرئيسي لأبناء المشرق طراً بإثمهم. وعليك أن تبيد الذين رأيتهم بالرؤيا وتطردهم من بيت إيل بيت الرب إله آبائك ".
   وما أن نطق ذلك الفم المقدس بهذه الأقوال حتى استولى الرعب والخوف على الجميع. وقال له القديس باباي: " اثبت لي صحة أقوالك بالفعل. فأقوم بالإجراءات اللازمة ".
   فأومأ إيليا بيده إلى أولئك الأشقياء وفضح أمرهم قائلاً: " هؤلاء هم الذين ضلوا وخرجوا من حظيرة الحياة ليرعوا الأشواك، هؤلاء هم الذين تركوا أورشليم  وأرادوا السكنى بين الأفاعي المستوطنة في خرائب أريحا. هؤلاء هم الذين صنعوا عجلاً في حوريب وسجدوا للصنم واستبدلوا كرامتهم بقذارة زبل نتن. ها هي ذي نساء في صوامعهم معهن أولاد. فهولاء هم الذين دفعني شرهم إلى إصدار الأمر والقيام بما فعلت بدون أمر قداستكم ".
   ولما تكلم إيليا بهذه الغيرة وأعلن الأمور، إغتم قلب هؤلاء القديسين، فنزعوا الثوب الرهباني عن المخالفين، وحلقوا أكاليل رؤوسهم، وطردوهم ونساءهم وأولادهم وأخرجوهم من هناك. ثم اضرموا النار بصوامعهم وأحرقوها. وهكذا قطعوا دابر ذلك الشر من وسطهم.
   وقد اتهم إيليا الربان مار يعقوب اللاشومي  ظلماً بإهماله في الإخبار عنهم. بسبب أن صومعته كانت قريبة من مساكن أولئك. وأنه اطلع على سيرتهم، فأخفى الأمر هذه المدة كلها، ولم يفضح سلوكهم. وقرعه إيليا بالقول: " إن هذا الذنب كله ذنبك، وعلى عاتقك تقع مسؤولية هذه الخطيئة كلها. فإنك لو كشفت الأمر وأظهرته لنا من البدء، لكانوا يؤدبون أو يطردون ". وللحال طرده مار باباي من الدير.
   ويعرف عن يعقوب أنه كان وديعاً ومتواضعاً، فاغرورقت عيناه بالدموع وقلبه مفعماً بالندامة المقرون بالانسحاق. فخرج للحال من الدير وارتحل ورافقه تسعة رهبان آخرين تضامناً معه. ولم تمضي سنون قليلة حتى ترك إيليا دير إيزلا الكبير وتوجه إلى نينوى، وهناك شيد ديره المعروف بدير إيليا الحيري أو دير سعيد أو الدير المنقوش أو الدير الخربان.   
   وجاء في التاريخ السعرتي أن إيليا قصد أرض نينوى وسكن في الجبل قريباً من دجلة، وكان بالقرب من الموضع أجمة فيه أسود فهربت جميعها بصلاته. ثم اجتمع إليه الرهبان وبنى ديراً هناك. وقد عرف كثيراً عن صلاحه وزهده وروحه النسكية وأعاجيبه التي اجترحها في شفاء المرضى، حتى أعجب به أهل الموصل فساعدوه على إقامة الدير بالصدقات والنذور.
   ويتناقل الموصليين القول أن إيليا استخدم الأسود لحمل الحجارة الكبيرة للبناء. وبالقرب من الدير صخرة كبيرة يستند إليها المرضى للشفاء ويسمونها " صخرة السبع ".
   أما سبب تسميته بدير سعيد فقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان وصف الدير قائلاً: " غربي الموصل قريباً من دجلة دير سعيد حسن البناء واسع الفناء وحوله قلالي كثيرة الرهبان. وإلى جانبه تل بارع يكتسي أيام الربيع ظرائف الزهر. ولتراب دير سعيد هذا خاصية في دفع أذى العقارب ". 
   وجاء في قصيدة كلدانية مخطوطة أن مار إيليا أبرأ سعيد بن عبد الملك الأموي أمير الموصل من مرض عضال اعتراه، فبنى له الأمير الأموي ديراً بجوار الموصل. وقد عرفه الكتبة العرب باسم الأمير سعيد لاهتمامه به، ودعوه باسمه. والأصح في ذلك أن إيليا أسس ديره وابتناه، وقد أمده الأمير بالمساعدات المالية، اعترافاً له بجميله في نواله الشفاء على يده.
   وكان لشعراء الموصل ولع شديد بوادي الدير، وبوصف مناظره الطبيعية وحسن هوائه. وقد قال أبو عثمان الخالدي من شعراء الإمارة الحمدانية بالموصل في الدير:
يا حسن دير سعيد إذ حللت بـــــه       والأرض والروض في وشي وديباج
فما ترى غصناً إلا وزهرتــــــــــــــــــه        تجلوه فـــــــــــــــــي جبة منها ودواج
وللحمائم ألحان تذكرنـــــــــــــــا         أحبابنا بيـــــــــــــــــن إرمال وإهزاج
وللنسيم على الغدران رفرفــــــــة          يـــــــــــــــــــــــــــزورها فتلقاه بأمواج
وقال السري الرفاء في وصف الدير:
شاقني مستشرف الدير وقــــــد          راح فيه صوب المزن فيــــــــــه وبكر
أهواء رق فـــــــــــــــــــــــــــــــي أرجائه          أم هوى راق فما فيـــــــــــــــــه كدر
وكأن الشمس فيـــــــــــــه نثرت           ورقاً ما بين أوراق الشـــــــــــــــــــجر
بين غدر تقع الطير بــــــــــــــــها            فتراهن رياضاً فــــــــــــــــــــــــي غدر
ونســــــــــيم وكرة الروض فإن            طار فـــي الصبح ارتديناه عطر
وغيوم نشـــــــــــــــــــــرت أعلامها             لها ظل علينا منتشـــــــــــــــــــــــــــر
   وبقي الدير عاطراً بفضله وفضيلته وعلومه، ونبغ فيه كثيرون من رهبانه وارتقوا الدرجات العالية في النباهة والعلم. 
   وقد سمي دير مار إيليا الحيري بالدير المنقوش، لأن غرفه كانت منقوشة. وقيل أن الدير أسس بعد سنة 596، لكن أغلب الظن أنه أسس بعد سنة 609. وقد وضع مار إيليا لديره قانوناً بحسب قوانين إبراهيم الكشكري. ولما شعر بدنو أجله، عهد بشؤون الدير إلى ابن أخته. ثم توفي وقد تجاوز المائة من سنه، ودفن في بيت الشهداء في ديره.
   واستمر الدير بين مد وجز، حتى جاءت حملة طهماسب  " نادر شاه " على بلاد العراق سنة 1743 الذي أخرب بطريقه قرى عامرة كثيرة، وهدم ما وجده في طريقه من العمران والآثار، ومن جملتها دير مار إيليا الحيري. وقد هجر رهبانه خوفاً من هذا الظلم، وقد نهبته عساكر الأعجام وخربت بنايته الفخيمة. ويغلب على الظن أنه منذ ذاك الحين لم يسكنه الرهبان إلى هذا اليوم. لذلك يسمى اليوم بالدير الخربان.
   وفي الفترة الأخيرة كان الوصول إلى الدير صعباً، لكونه ضمن المنطقة العسكرية الممنوعة المعروفة بمعسكر الغزلاني. وعلى مسافة 100م شرقي الدير تقع " عين الدير " التي يعتقد أن مياهها تحتوي على مادة الزئبق. وهذه المياه تتلون بالأبيض مثل الحليب، أو بالأزرق، أو حتى بالأسود.   
   ويحتفل بتذكار مار إيليا الحيري في يوم الأربعاء الأول من سابوع موسى.







104
تذكار مار بثيون الشهيد
الشماس نوري إيشوع مندو
   الشهيد مار بثيون: ولد في قرية داوين في محيط دينور إحدى المدن الكبيرة في إقليم لاشبار. والده يدعى دادكوشنب تنصر واقتبل العماذ من أخيه يازدين ودعي اسمه داديشوع.
   كان الفتى بثيون يراقب بانتباه ما يجري حوله، وخاصة في محيط عائلته. فقد ولد في وسط مجوسي، وكمل ممارسة المجوسية مع ذويه. وها هو الآن يلاحظ التبدل الجدري الذي حدث في حياة عمه يازدين، وسيرته الجديدة المكرسة للعبادة والصلاة والزهد. كما لاحظ تنصر أبيه وقبوله العماذ مع أهل بيته.
   وصار يراقب عن كثب عمه الناسك، حتى أعجب بحياته وأراد السير على خطواته. فالتحق به وعاش معه أربع عشرة سنة يتفقه في حقائق الإيمان وممارسة الفضائل، منكباً على الأسفار المقدسة ينهل منها ويتشبع من كلام الله.
   انتشر خبر هذين المتوحدين، وتلألأت أعمالهما الصالحة كالشمس، فقصدهما الناس طلباً للصلاة والشفاء من الأمراض. واعتنق عدد كبير من الناس الديانة المسيحية ونالوا العماذ منهما. وقد شعر الراهبان يازدين وبثيون برغبة عارمة لنشر الإيمان بين المجوس، فانطلقا يبشران بالإنجيل، وكرمهما الله بإجتراح الأعاجيب لمجده تعالى.
   وبعد رحيل عمه يازدين إلى الأخدار السماوية، قرر السير على خطاه وتوسيع نطاق تبشيره. وكانت الحالة العامة أنذاك تسمح بهذه الدعوة الدينية، فالاضطهادات القاسية التي أجج نيرانها شابور مدة أربعين سنة، والمعروفة بـ الاضطهاد الأربعيني قد خمدت بعض الشيء.
   وقد رسم بثيون كاهناً في زمن لم يحدده المؤرخون، فأزداد همة ونشاطاً، وأنطلق في سعيه الحميد لنشر اسم يسوع، غير مبال بتهديد المجوس ووعيدهم. وفي ضميره يرن صوت المعلم الإلهي القائل: " لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، ولا يستطيعون قتل النفس ". وكان طلق اللسان، قوي الحجة، مقنعاً في حديثه. فقصد المناطق الجبلية في ماسبادان وميدية وبيت دارايي وكوسايي حتى مهرجنقدق ومنطقة الزاب الأسفل.
   وفي فصل الشتاء القارس في الجبال كان يمضي إلى منطقة ميشان " البصرة " الدافئة، لا توقفه صحراء ولا جبال ولا أنهر، لا تهديد ولا وعيد، لا سلاسل ولا قيود ولا سجن ولا موت. فكان مقتنعاً أن الشعب بحاجة إلى عملة نشيطين، وإلى شهود للمسيح بحياتهم وليس بالكلام فحسب. فنجح في رسالته وتبعه عدد كبير من الناس، فبنى لهم الكنائس. وكان لا يمل من المضي سنوياً لزيارة المؤمنين في هذه الرسالة الواسعة، وتفقد أحوالهم حتى سنة استشهاده.
   وكان في مقدمة من اهتدى وتنصر على يد مار بثيون، شخصيات مهمة في الدولة في تلك المناطق التي بشر فيها. أمثال الراد نايهرمزد، ورئيس الشرطة شاهين، وزميله طهمين، وعامل لاشبار آذورهرمزد وأبنته أناهيذ. فقد اعتنقوا المسيحية، وجاهر البعض بها دون خوف، لكن بعضهم لم يجرؤ على الإعلان عنها خوفاً من المجوس. وقد نال آذورهرمزد وابنته أناهيذ أكليل الشهادة.
   بعد أيام قليلة من استشهاد أناهيذ أمر قاضي القضاة المجوسي بالقبض على بثيون، لأنه سبب نشر الدعوة المسيحية في تلك الأصقاع، وجذب عدد كبير من أعيان البلاد إلى ديانته، فأمر الحاكم بتكبيله وإحضاره. فخرجت ثلة من الجنود إلى موضع صومعته وأحاطوا به، ثم أمروه بالخروج إليهم والاستسلام. فخرج من صومعته غير هياب، عالي الرأس. وتقدم بهدوء وأسلم نفسه إليهم، لأنه عرف أنه قد حان موعد جهاده. فأخذوه مقيداً إلى المدينة.
   فلما مثل في المحكمة نظر إليه المجوسي شزرا وقال له: " أأنت بثيون الساحر رئيس المسيحيين ". فأجابه بثيون: " لست رئيس المسيحيين، بل أنا عبد الله وخادم المسيحيين، ولست ساحراً ومضلاً. فأنا أعلم الحق وأرشد الناس إلى الطريق المؤدية إلى الحياة الأبدية ".
   فغضب الحاكم من هذا الجواب واعتبره تطاولاً عليه، فأمر بأن يكبل بالقيود ويلقى في السجن. وشاء الله أن يكرم عبده الأمين، لعل المجوس يرون الحق فيعدلون ويرعوون. ففي الليل سقطت أوثاق السجين وتفتحت الأبواب، فقام يمشي ويصلي ويشكر الله. واستيقظ جميع المسجونين معه، وإذا بسلاسلهم محلولة وأبواب الحبس مشرعة. فتعجبوا وهتفوا بصوت واحد قائلين: " عظيم هو إلهك يا بثيون وقوي ومجيد، وطوبى للذين يتكلون عليه ".
   فلما استيقظ السجان ورأى الأبواب مفتوحة، خاف من العاقبة لظنه أن المسجونين قد هربوا. ففكر بالانتحار والتخلص من المسؤولية، فاستل خنجره ليقتل نفسه وإذا بصوت بثيون الهادي يدعوه إلى التريث، لأن كل نزلاء السجن في داخله ولم يفر أحد منهم.
   ثم أمر الحاكم بإلقائه في النهر ليغرق وينتهي أمره. لكن المياه توقفت عن الجريان بقدرة الله فلم يمت. وبينما وقف كثيرون متعجبين ومندهشين من المنظر الرائع، ولسان حالهم يقول: " عظيم هو إلهك يا بثيون ". فإن الحاكم عندما بلغه ما حدث صرخ بعصبية، ونسب ذلك إلى السحر. فأمر بإخراجه من النهر، فعادت المياه إلى مجراها الطبيعي.
   ولم يرتدع الحاكم مما جرى ولم يستسلم، بل صرخ مقسماً بحياة يزجرد ملك الملوك أنه سيبيد بثيون من الوجود. فأمر بطرحه بالنار، فحين دخلها خمدت. وهكذا أنقذ الله صفيه من موت محتم، كما أنقذ الفتية الثلاثة قديماً من أتون النار.
   فلما رأى الحاكم أن بثيون خرج من النار سالماً أزداد غيظاً وشراسة، وأعاده إلى السجن ريثما ينتظر في مصيره. فأبقاه محبوساً نحو شهرين، وبعد ذلك أمر بإحضاره. وفي مجلس ضم أرباب الدولة إلى جانب الحاكم، صدر الحكم القاضي بقتل الراهب بثيون عن طريق قطع أعضاءه في أيام معدودات.
   فسيق إلى موضع العذاب قرب صومعته في الجبل، بينما كان يرفع تراتيل الحمد واشكر لله، طالباً نعمة الإيمان والثبات لإخوته وشعبه، ونعمة الهداية لقاتليه، ولسان حاله يردد كلام المخلص: " لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، ولا يستطيعون قتل النفس. بل خافوا الذي يقدر على أن يهلك النفس والجسد جميعاً في جهنم ".
   وعندما وصل الموكب الحزين إلى موضع القتل، عرضت على بثيون آلات التعذيب والتنكيل لعله يخاف أو يهتز فيتراجع من هول منظرها. لكنه أزداد شجاعة وحماسة، فتقدم منها وأخذها بيديه وشرع يقبلها فرحاً قائلاً:              " أشكرك يا رب السماء والأرض لأنك أهلتني أن أشاهد ما تتزين به أعضائي من الحلي والإكليل ".
   وكانت تعليمات الحاكم أن تنزل بالراهب الشيخ أشنع طريقة للعذاب والموت، وهي التي كانوا يطلقون عليها اسم " تسع ميتات ". فأمر مبهورزين الذي عهد إليه تنفيذ الحكم الجلادين بقطع أعضائه على مراحل الواحد بعد الآخر. ودام التقطيع والتعذيب المروع ستة أيام على ما ورد في سيرة حياته. أما في الصلاة الطقسية لكنيسة المشرق " الحوذرة " فيحدد فترة تعذيبه وتقطيع أعضائه بخمسة أيام.
   ففي كل يوم يقطع من جسمه عضو، بدءاً من أذنيه وأنفه، ثم يديه ورجليه، ثم ذراعيه، ثم ساقيه وفخذيه تاركين الضحية في حالة العذاب ألممض. وكان الجلادون يعمدون إلى تعليق الأعضاء المبتورة أمام عيني الضحية، لكي يضيفوا عذاب النفس إلى العذاب الجسدي. أما القديس فكان مغمض العينين يتمتم في نفسه مصلياً: " اسمع يا رب صلاتي، وأقبل تضرعي من أجل شعبك ".
   وفي اليوم السادس تقدم الجلاد لقطع رأسه، فطلب منه أن يمهله لحظة ريثما يرفع صلاته الأخيرة قبل ملاقاة ربه. فشرع يقول: " أيها الآب الضابط الكل خالق السماء والأرض، السامع صوت الخطاة والقابل طلبة التائبين. أنت يا رب أقبل صلاة عبدك في هذا اليوم الأخير من حياتي. إني أتضرع إليك أن تسمع صلاة جميع الذين يدعونك باسمي، فتمنح لهم ما يطلبون منك، وتخلصهم من الشرور المحدقة بهم، وتشفيهم من أسقامهم ".
   وعندما انتهى من صلاته تقدم من السياف، فحز رأسه ورفعه بيمينه عالياً وعرضه على الحاضرين. ثم علقه على صخرة كانت تطل على الطريق الملكي، الذي يبدأ من المدائن ويخترق المملكة ماراً بالأقاليم الشرقية وينتهي في خراسان. وجرى ذلك في 25 تشرين الأول سنة 448.
   وأمر مبهورزين الذي أشرف على قتل بثيون أن تحرس جثته المقطعة عشرة أيام، فلما انتهت المدة المقررة اجتمع المؤمنون وساروا إلى موضع الاستشهاد، فجمعوا أوصاله المباركة، واخذوا جثمانه الطاهر وكفنوه بإكرام مهيب، ودفنوه في لحف الجبل حيث بقايا رفاقه الشهداء الذين سبقوه المجد السماوي.
   وعلى أثر استشهاده البطولي تشجع طهمين ورفاقه الفرسان ونيهورمزد القائد وغيرهم ممن سبقوا وآمنوا على يده ولم يتجاسروا حتى تلك الساعة للإعلان عن إيمانهم فاعتمذوا. فمنهم من بقي البلدة وبعضهم هجرها إلى بلاد الله الواسعة.   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار  مار بثيون الشهيد في 25 تشرين الأول.                       







105
تذكار إيليا النبي
الشماس نوري إيشوع مندو
   إيليا النبي: اسم عبري معناه " إلهي يهوه ". نبي عظيم عاش في المملكة الشمالية. وبما أنه يدعى التشبي  فيرجح أنه ولد في تشبة، ولكنه عاش في جلعاد. وكان عادة يلبس ثوباً من الشعر ومنطقة من الجلد، وكان يقضي الكثير من وقته في البرية.  وهو من كبار الأنبياء، الذي أرسلهم الرب إلى الشعب الإسرائيلي ليكونوا له هدى ونوراً. ولربما فاق سواه من الأنبياء بنسكه وتعبده وجرأته وغيرته النارية وأعماله المجيدة وحياته المقدسة، فلم يضارعه في ذلك ولا فاقه فيه سوى يوحنا المعمدان في زمن المخلص. فكان يقضي أيامه ناسكاً لله في البرية متعبداً للرب في كهوف الجبال، ثم يظهر فجأة فيرمي ملوك إسرائيل الأثمة بصواعق غضبه، ويملأ الدنيا بصوت أنذاره، ويهز الجماهير بقوة آياته، ويبهرهم بعظائم معجزاته. وأن ما اتصف به من الجرأة النادرة والإيمان القوي، والغيرة النارية على عبادة الرب، وما أتاه من العظائم في قتله كهنة البعل، 
   وفي سفره إلى جبل سيناء، ثم نوع صعوده إلى السماء محمولاً على مركبة من نار تطير بها خيل من نار، ثم ظهوره إلى جانب المخلص مع موسى على جبل طابور، ذلك كله يجعله من الأنبياء الأكثر شهرة، والأعظم اسماً، والأبعد أثراً في حياة الشعوب، والأكرم عبادة منذ القدم حتى أيامنا الحاضرة.
   وفي أيام المخلص يسوع كان اسم النبي إيليا لا يزال يملأ الأسماع والأذهان، حتى أن الفادي الإلهي لما سأل تلاميذه: " من ابن الإنسان في قول الناس؟ فقالوا: بعضهم يقول يوحنا المعمدان، وبعضهم الأخر يقول هو إيليا، وغيرهم يقول هو إرميا أو أحد الأنبياء ". ( متى 16: 13 _ 14 ).
   وفي زمن الملك آحاب أحلت امرأته الملكة إيزابيل  المحرمات، واغتصبت أموال الناس، ولا رادع يردع كفرها ومطامعها. فأرسل الله إيليا إلى مملكة إسرائيل، فأنب آحاب باسم الرب على شروره. فانحبست الأمطار عن الأرض، وصارت السماء نحاساً والأرض بلقعاً. فجاع الناس وماتت البهائم وصار ضيق شديد. وعُني الرب بإيليا في تلك الأيام الضيقة، فأرسله إلى ضفاف نهر كريث  تجاه الأردن. وهناك أمر الغربان فكانت تقوته وتأتيه كل يوم ما يأكله، وكان يشرب من النهر. فأقام إيليا في تلك البرية يتعبد لله ويكفر خطايا الشعب.
   ثم مضى إلى صرفة  من أعمال صيدا وأقام هناك عند امرأة أرملة ولها ابناً وحيد. وأخبرها إيليا أن الرب قال:   "  أن جرة الدقيق لا تفرغ، وقارورة الزيت لا تنقص، إلى يوم يرسل الرب مطراً على وجه الأرض ". فآمنت تلك الأرملة المتعبدة بكلام إيليا لها. وعاشت هي وهو وابنها طوال أيام القحط، ولم تفرغ جرة الدقيق، ولم تنقص قارورة الزيت.
   وكانت لها ضيافة إيليا بركة ونعمة أيضاً فوق بركة الطعام والغذاء، لأن ابنها مرض مرضاً شديداً ومات، فركضت إلى إيليا حاملت ابنها وهي تبكي وتعول. فأخذه إيليا من يديها، وصعد إلى العلية التي كان نازل بها، وأضجعه على سريره، ثم صرخ إلى الرب لكيما يعيد إليه الحياة. فسمع الرب صوته وعادت الروح إلى ابنها وعاد حياً.
   وبقي إيليا مختبئاً ثلاث سنين، والجوع سائد على الأرض. فرئف الرب على شعبه، وطلب من إيليا أن يذهب للقاء الملك آحاب. ففعل إيليا كما أمره الرب، فذهب والتقى بآحاب، فابتدره الملك بغضب وقال: " أأنت إيليا مُقلق إسرائيل؟ ". فأجاب إيليا: " لم أقلق إسرائيل أنا بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب واقتفائكم   البعليم ".
   ثم طلب من الملك أن يجمع في جبل الكرمل  كل إسرائيل، وأنبياء البعل الأربع مئة والخمسين، وأنبياء عشتاروت  الأربع مئة الذين يأكلون على مائدة إيزابل. ومن ثم سوف يرأف الرب بشعبه، ويرسل المطر على الأرض. فرضي آحاب بذلك. وأرسل فجمع الأنبياء ورؤساء بني إسرائيل إلى جبل الكرمل. فتقدم إيليا إلى جميع الشعب وقال لهم: " إلى متى أنتم تعرجون بين الجانبين، إن كان الرب هو الإله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه ". فلم يجيبوه بكلمة، لأن كلامه كان كلام العقل والمنطق.
   ثم طلب من أنبياء البعل أن يأتوا بثورين، فيختاروا لهم ثوراً ثم يقطعوه ويجعلوه على الحطب ولا يضعوا ناراً. وهو أيضاً سيفعل ذلك بالثور الأخر. ثم يدعون هم آلهتم، وهو يدعوا باسم الرب. والذي يجيب بنار فهو الإله الحق. فوافقوا على عرضه. وللوقت فعل أنبياء البعل ما اتفق عليه، وقاموا من الغداة حتى الظهيرة يصرخون ويتضرعون ويرقصون ويقولون: أيها البعل أجبنا. فلم يكن من مجيب. فأخذ إيليا اثني عشر حجراً على عدد أسباط بني يعقوب، وبنى تلك الحجارة مذبحاً على اسم الرب. ثم نضد الحطب وقطع الثور وجعله عليه. ثم تقدم وصلى قائلاً: " أيها الرب إله إبراهيم واسحق ويعقوب، ليعلم اليوم أنك إله في إسرائيل، وأني أنا عبدك وبأمرك فعلت كل هذه الأمور. استجبني يا رب ليعلم هذا الشعب أنك أيها الرب أنت رددت قلوبهم إلى الوراء ". وللحال هبطت نار الرب وأكلت المحرقة. فلما رأى ذلك جميع الشعب خروا على وجوههم وقالوا: " الرب هو  الإله ".
   ثم طلب إيليا من الشعب أن يقبضوا على أنبياء البعل الكذبة الذين كانوا يضلونهم. فقبضوا عليهم جميعهم، فأنزلهم إيليا إلى نهر قيشون  وهناك ذبحهم عن آخرهم. وعاد الشعب إلى عبادة الله. ثم صعد إيليا إلى رأس جبل الكرمل، وخر على الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه، وقال لتلميذه: اصعد وتطلع نحو البحر. فصعد وتطلع وقال: ما أرى شيئاً. فقال له أرجع على سبع مرات. فلما كان في المرة السابعة قال: ها سحابة قدر راحة رجل طالعة من البحر. فقال له إيليا اصعد وقل لآحاب: شد وانزل لئلا يمنعك المطر. وللحال هطلت الأمطار وعاشت الأرض والناس.
   أما إيزابيل فلما علمت بما جرى لكهنة البعل، غضبت وأقسمت أن تنتقم من إيليا. فخاف إيليا شرها وهرب من وجهها، وترك بلاد السامرة واليهودية،  وسار نحو سيناء. ولما أتى جبل حوريب دخل المغارة هناك، حيث كان قد مكث موسى النبي لما كان يناجي الرب.
   ثم أمره الرب أن يرجع في طريقه نحو برية دمشق. وهناك يمسح حزائيل  ملكاً على أرام . ويمسح ياهو بن نمشي  ملكاً على إسرائيل، ويمسح إليشاع بن شافاط  نبياً بدلاً منه. فمضى وصنع كما أمره الرب.
   واتقد غضب الرب على الملك آحاب بسبب اغتصابه لكرم نابوت اليزرعيلي، بعد أن دبرت زوجته إيزابيل حيلة جهنمية على نابوت، حيث أقامت شهود زور عليه بدعوى أنه جدف على الله والملك. فدفعت الشعب فرجموه بالحجارة حتى مات. فجاءت عند زوجها فرحة مستبشرة وقالت له: " لقد مات نابوت، فقم واستولِ على كرمه كما تشتهي ". فذهب آحاب ووضع يده على مال الجور والظلم. فوافى إيليا الملك الأثيم وأخبره بجرأة رسولية عن أن الرب سيجلب عليه وعلى امرأته ونسله غضبه الشديد. فقال لآحاب: " هكذا يقول الرب: قتلت وورثت أيضاً. ففي الموضع الذي لحست الكلاب دم نابوت، تلحس الكلاب دمك أيضاً. لأنك بعت نفسك لعمل الشر في عيني الرب. هاءنذا جالب عليك الشر، ومبيد نسلك ". 
   وقال عن إيزابيل: " إن الكلاب ستأكل إيزابيل عند مترسة يزرعيل. ومن مات لآحاب في المدينة تأكله الكلاب، ومن مات له في الصحراء تأكله طير السماء ". وقد تحققت هذه النبوءة في آحاب وأهل بيته. فبعد ثلاث سنوات قامت الحرب بينه وبين ملك أرام، فوقع صريعاً وهو في مركبته برمية سهم طائش.
   وقام ابنه أحزيا  مكانه، وصنع الشر في عيني الرب، وسار في طريق أبه وأمه في عبادة البعل. وفي أحد الأيام مرض، فبعث رسلاً إلى بعل زبوب يسأله هل يبرأ من مرضه. فلاقاهم إيليا في الطريق وأنبهم، وطلب منهم أن يبلغوا الملك بأن لن ينزل عن السرير بل يموت موتاً. وما أن عادوا حتى أعلموا الملك بما قاله إيليا. فغضب فأرسل خمسين رجلاً ليقبضوا على إيليا. وما أن وصلوا عنده حتى كلمه قائد الفرقة قائلاً: " يا رجل الله الملك يقول انزل ". فأجابه إيليا: " إن كنت أنا رجل الله فلتهبط نار من السماء وتأكلك أنت وخمسينك ". وللحال هبطت نار من السماء وأكلتهم.
   وعلم الملك بما جرى، فأرسل خمسين آخرين، فكان نصيبهم كالأولين. وأرسل خمسين مرة ثالثة، فجاء قائدهم وجثا على ركبتيه أمام إيليا، وتضرع إليه أن يرأف به وبرجاله. فنزل إيليا من الجبل ومضى معهم عند الملك، وكلمه بجرأة وقال: " بما أنك بعثت رسلاً لتسأل بعل زبوب إله عقرون، كأن ليس إله في إسرائي تلتمس كلامه، لذلك فالسرير الذي علوته لا تنزل عنه، بل تموت موتاً ". وهكذا كان فمات أحزيا، وملك أخوه يورام  مكانه.     
    وكان إذ أراد الرب أن يرفع إيليا في العاصفة نحو السماء، وقد ذهب إيليا مع إليشاع إلى الجلجال.  وعلم إليشاع بوحي من الرب أن إيليا سيرتفع عنه ويتركه، فلازمه ولم يعد يفارقه. فأراد إيليا أن يحتال عليه ويبقيه في الجلجال، ثم في بيت إيل،  ثم في أريحا،  فلم يُوفق إلى ذلك، وبقي إليشاع ملازماً له. فلما رأى إيليا ذلك أقبل معه إلى الأردن، فأخذ إيليا رداءه ولفه وضرب المياه، فانفلقت إلى هنا وهناك وجازا كلاهما على اليبس. فلما عبرا قال إيليا لإليشاع أسألني ماذا أصنع لك قبل أن أوخذ منك. فطلب منه إليشاع أن يكون له سهمان في روحه. فقال له إيليا إن رأيتني عندما أوخذ من عندك سيكون لك ذلك، وألا فلا. وفيما كانا سائرين وهما يتحادثان، إذا مركبة نارية وخيل نارية قد فصلت بينهما، وطلع إيليا في العاصفة نحو السماء، وإليشاع ناظر وهو يصرخ: " يا أبي يا أبي يا مركبة إسرائيل وفرسانه ". ثم لم يره.
   فأمسك إليشاع ثيابه وشقها شطرين، ورفع رداء إيليا الذي سقط عنه، ورجع ووقف على شاطئ الأردن، وضرب المياه برداء إيليا وقال: " أين الرب إله إيليا الآن أيضاً؟ ". فانفلقت المياه إلى هنا وهناك وعبر إليشاع. ورآه بنو الأنبياء الذين في أريحا فقالوا: " قد حلت روح إيليا على إليشاع، وجاءوا للقائه وسجدوا له على الأرض ".
   وقد مدح سفر يشوع بن سيراخ  النبي إيليا بقوله: " وقام إيليا النبي كالنار، وتوقد كلامه كالمشعل. وهو الذي جلب عليهم الجوع، وبغيرته جعلهم نفراً قليلاً. بكلام الرب أغلق السماء، وأنزل ناراً ثلاث مرات. ما أعظم مجدك يا إيليا بعجائبك! ومن له فخر كفخرك؟ أنت الذي أقمت ميتاً من الموت، ومن مثوى الأموات بكلام العلي. وأهبطت الملوك إلى الهلاك، والعظماء من أسرَّتهم. وسمعت في سيناء عتاباً، وفي حوريب أحكام أنتقام، ومسحت ملوكاً للمجازاة، وأنبياء خلفاء لك. وخطفت في عاصفة من نار، في مركبة خيل نارية. واكتتبت في إنذارات للأيام الآتية، لتسكن الغضب قبل انفجاره, وترد قلب الأب إلى الأبن، وتصلح أسباط يعقوب. طوبى لمن عاينك ولمن رقد في المحبة، فإننا نحن أيضاً نحيا حياةً ". ( يشوع بن سيراخ 48: 1 _ 11 ).
   وقد شاعت بين اليهود أن إيليا سيعود إلى الأرض قبل مجيء المسيح، ليهيئ له السبل. ونجد ذلك في قول النبي ملاخي : " هاءنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل أن يأتي يوم الرب العظيم الرهيب، فيرد قلوب الآباء إلى البنين، وقلوب البنين إلى آبائهم، لئلا آتي وأضرب الأرض بالتحريم ". ( ملاخي 3: 23 _ 24 ).
   كذلك نجد يسوع يتكلم عن إيليا المزمع أن يأتي بقوله: " فجميع الأنبياء قد تنبأوا وكذلك الشريعة، حتى يوحنا. فإن شئتم أن تفهموا، فهو إيليا المنتظر رجوعه ". ( متى 11: 13 _ 15 ).
   إن عبادة النبي إيليا منتشرة بين المسيحيين، وعلى اسمه شيدت الكثير من الكنائس. فشفاعته مقبولة، وعجائبه كثيرة. فهو ينجدهم في شدائدهم، ويشفي مرضاهم، ويسرع إلى إغاثتهم. وهو شفيع رهبان وراهبات الكرمل منذ أجيال وأجيال.     
 وتصلي كنيسة المشرق في تذكار مار إيليا التشيبي هذه الترتيلة: " نحتمي بصلوات النبي القديس، الشهير مار إيليا التشيبي، لنستحق الرحمة ومغفرة الخطايا، ونقتدي بسيرته، ونرفع المجد والشكر لقوته المظفرة ". 
    وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار إيليا التشيبي في الجمعة السابعة من سابوع إيليا.


106
لمحة تاريخية عن مقاطعة أرزُن
الشماس نوري إيشوع مندو
   1_ الاسم والموقع: تقع مقاطعة أرزُن وتعرف أيضاً بـ أرزون في أقصى شمال بلاد ما بين النهرين العليا، على الحدود الجنوبية لمملكة أرمينيا الكبرى. وأعظم مدنها أرزُن وهي الآن خربة على مسافة عشر ساعات سيراً على الأقدام من سعرت غرباً. يحدها شمالاً جبال بدليس، وجنوباً بلاد بيث زبدي والتي تعرف  بـ قردو أو باقردى. وشرقاً جبال البوتان الشامخة. وغرباً سهول منطقة البشيرية الخصبة.  وقد عرفت أرزُن ذروتها في عهد الأمراء الأرمن في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي. وفي سنة 969 م يزور الرحالة ابن حوقل مدينة أرزُن فيجدها عامرة بالسكان .
   وبعد أن خربت مدينة أرزُن على أيدي السلجوقيين سنة 1048 دعي موقع المدينة  " خراب باجْار  " وتعني المدينة المهدمة . وبعد أن دمر السلجوقيين مدينة أرزُن التجأ سكانها إلى الشمال  بالقرب من منابع الفرات وأسسوا مدينة جديدة دعوها " أرزُن الروم " أو " أزروم ". وهي غير أرزن موضوع بحثنا، إذ يخلط الكثير من الباحثين بين أرزُن وأرزُن الروم، معتقدين أن الاسمين يعنيان نفس المدينة.
   ويعتقد بعض اللغويين أن كلمة أرزُن جاءت من الجملة الآرامية " أور زونا " وتعني " مدينة الزمن ". 
   ومن خلال المصادر الأرمنية نجد أن أرزُن تدعى " أغتسن "  وهي مركز أمير ولاية " آغتسنيك ". وأرزُن بالأرمنية تعني " أرض المناجم " وتعني أيضاً " النازلة من الشمس ". ويبدو أن هذه التسمية أطلقت على المنطقة بسبب غناها بالأنهر والينابيع والمعادن كالحديد والرصاص. ويبلغ مساحة المقاطعة 17530 كم2 وكان يضم 11 قضاء. وحسب هذه المصادر فإن طبيعة القسم الشمالي من أرزُن هي جبلية وعرة، أما القسم الجنوبي فطبيعته سهلة ذو طقس حار صيفاً. وكانت أرزُن متصلة بمدن أرمينيا من خلال ممر جبلي يدعى " تسوراباهاك " وتعني " حارس الوادي "
   تقع منطقة أرزُن في سهل فسيح تحيط به الهضاب، غزير العيون كثير الخصب، ينساب في شرقه نهر دجلة الشرقي والمعروف بنهر البوتان، وإلى غربه نهر بطمان . وتبدو منطقة أرزُن للعيان كجنة غناء، يسيح بها الكثير من أشجار التين والرمان والبندق والبطم والكروم. وتجود سهولها بجميع أنواع المزروعات. ويكثر فيها تربية الأغنام والمواشي.   
   جاء في معجم البلدان: " أرزُن مدينة مشهورة قرب خلاط، ولها قلعة حصينة، وكانت من أعمر نواحي أرمينية، وأما الآن فبلغني أن الخراب ظاهر فيها، وقد نسب إليها قوم من أهل العلم " .
   وجاء في المنجد في الأعلام: " أرزُن مدينة قديمة في أرمينيا. كانت في منتصف الطريق بين سعرت شرقاًُ وميافرقين غرباً. أقام فيها سيف الدولة الحمداني "  .  وبعد أن خربت أرزُن شيد شرقها مدينة سعرت. وفي البداية أطلق على سعرت اسم " أرزُن " تيمناً بأشهر مدينة في المقاطعة، وأيضاً أطلق عليها " المتبددة " وأيضاً " المدينة البيضاء " .
   جاء في دائرة المعارف للمعلم بطرس البستاني: " سعرت أو اسعرد، مركز متصرفية باسمها في ولاية بتليس من أملاك الدولة العلية في كردستان. موقعها إلى الجنوب الغربي من تبليس على مسافة نحو 54 ميلاً، وهي في سهل يسقيه نهر الخابور الذي بينه وبينها مسافة ميلين، وهي في 38 درجة من العرض الشمالي، وفي 43,40 درجة من الطول الشرقي، وبالقرب منها كثير من الرمان والتين والكروم، وكله يسقى بماء المطر، سكانها نحو 15 ألفاً، وهي في موقع تيغرا نوسرت أو ديكران كرد، متصرفية سعرت فيها خمسة أقضية وهي 1_ أدوه. 2_ شروان. 3_ غرزان. 4_ برواري.             5_ رضوان " . من خلال ذلك نستنتج أن منطقة أرزُن أصبحت قضاء تابع لمتصرفية سعرت. وأصبح اسمها غرزان بعد إحداث مدينة سعرت. علماً أن موقع سعرت يقع ضمن أراضي مقاطعة أرزُن. وقد أطلق الأكراد متأخراً اسم " غرزان " على منطقة أرزُن. وأصبحت التسمية المتداولة بعد أن أصبح التواجد الكردي مكثفاً في المنطقة. أم اليوم فتدعى بالتركية " كورتلان "، ومن المعلوم أن  موقع كورتلان  كان قديماَ قرية تدعى  " مشريت ".

   2_ أرزُن في التاريخ الدنيوي: من خلال مراجعتنا للتاريخ نجد أن منطقة أرزُن كانت هدفاً للصراع بين المملكة الأرمنية والممالك المتعاقبة على بلاد ما بين النهرين بسبب موقعها على حدود المملكتين. فكانت تارةً تحت سلطة الأرمن، وتارةً أخرى تحت سلطة حكام ما بين النهرين. وفي سنة 95 ق.م عقد الفرثيون معاهدة صلح مع الملك ديكران الكبير تنازلوا فيها عن عدة مناطق كانت تحت سيطرتهم منها أرزُن.
   سنة 226 م أحتل الملك الفارسي أردشير منطقة أرزُن، فهرب الفرثيون إلى جبال أرمينية. فاستولى الفرس على كل ممتلكاتهم . ويقول التاريخ السعردي أن الملك الساساني شابور الأول ( 241 _  272 م ) نقل الكثير من السبايا من منطقة أرزُن وأسكنهم في بلاد فارس. وفي سنة 297 م قام الإمبراطور الروماني كاليريوس بحملة كبيرة على الساسانيين، هزم خلالها ملكهم نرسي وأدخل العديد من المناطق تحت سيطرته منها أرزُن. وبموجب اتفاقية نصيبين بين الفرس والرومان سنة 298 م أصبحت سهول أرزُن تحت سيطرت الرومان. وفي سنة 363 م عقد جوفيانوس إمبراطور الروم صلحاً مع شابور ملك الساسانيين، وفيها تنازل الروم عن العديد من المناطق للفرس منها منطقة أرزُن. وفي سنة 395 م هزم الهونيين البيض أرزُن. وفي سنة 387 م أضحت أرزُن وحدة إدارية مستقلة تحت سلطة المملكة الرومانية الشرقية.
   وفي زمن الملك الساساني يزجرد الأول ( 399 _ 420 م ) كان ابنه الكبير المدعو " شابور " والياً على أرزُن. وحدث في عهده تمرد من سكان أرزُن على ولايته، واستطاع المتمردون من قتل الوالي شابور. وبعد وفاة يزجرد اعتلى العرش الملك بهرام الخامس ( 420 _ 438 م ) استمر الشعب في أرزُن في تمرده. ولجأ بعض رؤساء التمرد إلى البيزنطيين. فطلب بهرام من الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني تسليمه المسيحيين الملتجئين له، فلم يجب لطلبه. فأعلن بهرام الحرب على الروم سنة 421، فحمل القائد الرومي أردايوا على بلاد أرزُن وسحقها وفتك بها. وأسر الجيش البيزنطي 70000 أسير من منطقة أرزُن حوالي 10000 عائلة، وسيقوا إلى آمد " ديار بكر ". وما أن وصلوا إلى آمد كانوا في حالة يرثى لها. وقد أنبرى مطران آمد الكلداني آقاق لإغاثتهم، فدعا كهنته وطلب منهم أن يبيعوا مقداراً من الآنية الذهبية والفضية ليفدوا بها الأسرى. وهكذا حررهم وأرسلهم إلى بلادهم مسرورين. فوقع هذا الأمر موقعاً حسناً عند الملك الفارسي بهرام. فطلب رؤية المطران آقاق، فأرسله إليه الملك ثيودوسيوس. وبواسطة المطران أقاق تم عقد صلح بين المملكتين سنة 427 م وفيها تعهد الفرس أن يكفوا عن اضطهاد المسيحيين، وكذلك أعطى الروم الحرية لعبدة النار للذين في بلادهم .
   وفي سنة 581 هزم القائد البيزنطي موريقي الجيش الساساني بقيادة القائد أذرماهان، وأتجه نحو أرزُن وأحتلها ونهب وأحرق ممتلكاتها، وسبى كثيراً من المسيحيين بلغ عددهم نحو سبعين ألفاً وأرسلهم إلى بلاد الروم، فأسكنوهم في جزيرة قبرص. ولعل النساطرة الذين كانوا في هذه الجزيرة أصلهم من هؤلاء الأسرى . ولدينا إحصاء عن أبناء كنيسة المشرق في قبرص في النصف الأول من القرن الخامس عشر، وكان مطرانهم أنذاك يدعى طيمثاوس الطرسوسي، يتبعه أسقفيتان في ماغوسطا وفماغوستا يعاونهم ثمانون كاهناً ومائتان وستون شماساً، وللأبرشية في عهده 7 كنائس و5300 عائلة. وبمرور السنين اندثرت هذه الأبرشية بسبب إهمال الرئاسة لها، فانضمت العائلات بشكل تدريجي إلى طائفتي الموارنة واللاتين. ومن المعلوم أن المطران طيمثاوس الطرسوسي انضم وأبرشيته إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1445 في عهد البابا أوجين الرابع.
   وفي سنة 586 م انتصر الفرس على الروم في أرزُن. وفي سنة 591 م عادت أرزُن إلى سيطرة البيزنطيين وربطوها إدارياً بمقاطعة الجزيرة العليا.
   وفي سنة 640 م  دخلت منطقة أرزُن ضمن ديار ربيعة. ففي سنة 17 للهجرة فتح عياض بن غنم ميافرقين وكفرتوثا ونصيبين وحصن ماردين. ثم سار إلى أرزُن ففتحها. ودخل الدرب فأجازه إلى بدليس وبلغ خلاط. 
   ويبدو أن منطقة أرزُن لم تستقر تحت سيطرة المسلمين بشكل نهائي بعد فتحها من قبل عياض بن غنم، بل استعادها البيزنطيين من جديد، بعد الاتفاق بين عبد الملك وجوستينيان الثاني ( 685 _ 695 ). لكن المسلمين استعادوا السيطرة عليها بقيادة عباس بن الوليد، وذلك سنة 90 للهجرة . وفي نهاية القرن الثامن الميلادي تأسس في أرزُن أمارة عربية، فخرج الأرمن من السهول وسكنوا الجبال التي في شمالها.
   وفي سنة 112 للهجرة أجتاح الخزر والترك المنطقة، وبعد أن قتلوا عبد الله الحكمي أوغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل. فسار سعيد الحرشي إلى المدن يستنهض همام أهلها للجهاد، حتى وصل إلى مدينة أرزُن وجند الكثير من أهلها . وفي سنة 176 للهجرة خرج الفضل الخارجي بنواحي نصيبين، فأخذ من أهلها مالاً، وسار إلى دارا وآمد وأرزُن وأخذ منهم مالاً، وكذلك فعل بخلاط . 
   وفي سنة 237 للهجرة وثب أهل أرمينيا بعاملهم يوسف بن محمد فقتلوه. فلما بلغ الخليفة المتوكل خبره، وجه بُغا الكبير إليهم طالباً بدم يوسف. فبدأ بأرزُن وكان فيها موسى بن زراة فحمل بُغا موسى بن زراة إلى المتوكل. وأباح قتلة يوسف، فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً، وسبى منهم خلقاً كثيراً فباعهم .
   وفي سنة 265 للهجرة كان حاكم أرزُن هو أبي المعز بن موسى زراة . وفي سنة 316 للهجرة وصل الدمستق في جيش كثير من الروم إلى أرمينيا فخافه أهل أرزُن، ففارقوا بلادهم وانحدر أعيانهم إلى بغداد واستغاثوا إلى الخليفة. فلم يغاثوا . وفي سنة 317 للهجرة ضعفت الثغور الجزرية عن دفع الروم عنهم، منها ملطية وميافرقين وآمد وأرزُن وغيرها، وعزموا على طاعة ملك الروم والتسليم إليه لعجز الخليفة المقتدر بالله عن نصرهم .
   وفي سنة 318 للهجرة عزل ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل وولي على ديار ربيعة ونصيبين وسنجار والخابور ورأس العين وديار بكر وميافرقين وأرزُن .
   وفي سنة 380 للهجرة ملك أبا نصر بن مروان أخا ممهد الدولة على أرزُن، ثم ملك سائر بلاد ديار بكر. فدامت أيامه وأحسن السيرة. وكان مقصداً للعلماء من سائر الآفاق، وكثروا ببلاده .
   وفي سنة 513 للهجرة حكم بدليس وأرزُن الأمير السلجوقي طغان أرسلان . وفي سنة 532 للهجرة توفي طغان دولي وولي ابنه فرني .
   وفي سنة 532 للهجرة أغار الكرج على خلاط، فسار ولد قلج أرسلان صاحب أرزُن بجيشه نحو الكرج، فقاتلهم وانهزموا .
   وفي سنة 620 للهجرة كان صاحب أرزُن هو مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان. فأرسل إلى الكرج يطلب ملكتهم ليزوجها لابنه الكبير. فرفض الكرج أن يزوجوا ملكتهم لمسلم، وعرضوا عليه أن يدخل المسيحية لقبول طلبه. فأمر مغيث الدين لقبول المسيحية حتى يتزوج الملكة. فتنصر وتزوج الملكة وانتقل إليها وأقام عند الكرج حاكماً في بلادهم، واستمر في المسيحية .
   وفي سنة 627 للهجرة كانت أرزُن وبدليس تحت حكم حسام الدين من بيت طغان أرسلان . مما سبق نجد أن منطقة أرزُن كانت حكم الصفويين في القرنين الرابع والخامس عشر.
   وفي سنة 628 للهجرة دخل التتر سواد آمد وميافرقين وأرزُن . حتى أضحت تحت حكم العثمانيين سنة 1553 م ولا زالت حتى يومنا هذا.

   3_ أرزُن في التاريخ الديني: ينسب تقليد كنيسة المشرق تبشير " أرزُن " والمناطق المحيطة بها، إلى الرسول أدي ومن ثم لتلميذه ماري، وبعد أن بشر أدي أرزُن، وأنار أهلها بأشعة الإيمان المسيحي " شاد كنيسة في أرزُن دعيت باسمه " . أما ماري " فبعد أن بشر نصيبين انطلق إلى أرزُن مستصحباً القس انسيمس الرهاوي والشمامسة فيلبس وملكيشوع وأدا وطوميس وفافا وأيوب، وأجرى الله على يده عجائب جمة، أخصها إبراؤه والي أرزُن من مرضه، والذي آمن واعتمد وأبناء بيته، وابتنى كنيسة في أرزُن عاصمته، وأقام لها ماري كهنة وشمامسة، وارتحل عنها إلى بيث زبدي وبيث عربايا ونصّر قسماً صالحاً من أهاليها " .
   وفي القرون الأولى للمسيحية كانت أرزُن أسقفية تابعة لكرسي نصيبين الميطرابوليطي، ومن الأسقفيات الهامة في كنيسة المشرق. وكان إلى جانبها أسقفيتان تابعتان لكرسي نصيبين هما: 1_ أوستان أرزُن، وموقعها شمال أرزُن.       2_ قوبا أرزُن، وموقعها بكلى كوان قي قضاء شطاق .
   وكان في أرزُن مدرسة شهيرة ذاع صيتها في القرون الخامس والسادس والسابع الميلادي. ويقال أن هذه المدرسة تأتي أهميتها بعد مدارس نصيبين وأورهاي والمدائن .
   وكانت منطقة أرزُن تضم العديد من الأديرة نذكر منها:
   1_  دير مار يعقوب الحبيس: يقع في الطرف الشرقي من أرزُن جنوب مدينة سعرت بمسافة 8 كم منها، ويعود بناء الدير إلى القرن الرابع. وبعد وفاة إبراهيم الكشكري سنة 588 انطلق تلميذه يعقوب إلى أرزُن عند الأب حبيسا                 ( الحبيس ) وشيد ديره على قمة جبل يطل على نهر البوتان . وتدل أطلاله على أنه كان في غابر الزمان أوسع بنياناً وأعظم شأناً. وقد قال عنه ياقوت الحموي: " دير احويشا دير عظيم فيه أربعمائة راهب يسكنون في قلالي، وحوله بساتين وجنائن، عامر بالأبنية الجميلة وكثرة الفواكه والخمور، ويحمل من الخمر الكثير إلى المدن المذكورة، وبقربه عين عظيمة تدير ثلاث أرحاء. وهذا العمر مقصود من كل موضع للتنزه فيه " . وقد احتضن هذا الدير في ثراه أضرحة بطاركة عظام، بعد أن جعلوه مقراً لرئاستهم من سنة 15555 وحتى سنة 1600. وهم: 1_ البطريرك عبد يشوع الرابع مارون. 2_ البطريرك يبالاها الرابع. 3_ البطريرك شمعون الثامن دنحا. بالإضافة لمطارنة أبرشية سعرت الذي اتخذوه مقر لكرسيهم حتى زمن المطران بطرس برتتر ( 1858 _ 1884 )، حيث شيد بناء المطرانية في سعرت ونقل الكرسي هناك، وكان المطران المذكور قد جلب من روما مطبعة وأحرف كلدانية لطباعة الكتب، وفتح في الدير إكليركية. كل ذلك ذهب في مهب الريح بسبب عبث الحاقدين، حتى مكتبته الغنية والشهيرة أضحت طعمت لنار أحد الآغوات بعد أن نهبها، ويقال أن الآغا حرق كتبها لمدة شهر كامل حتى قضى عليها، ويقال عن المكتبة أنها كانت منظمة ومفهرسة أكثر من المكتبات العالمية اليوم. وكان المطران ميخائيل كتولا  ( 1826 _ 1855 ) قد رمم الدير، وأحضر عشرة رهبان أنطونيين من دير الربان هرمزد قرب ألقوش لإعادة الحياة فيه، واستمرت حتى المذبح المشئومة. وكان إلى جانب الدير قرية باسم الدير. وكان يعيش فيها عدد من العائلات الكلدانية بلغ عددهم 200 نسمة، يخدمهم الأب ميخائيل، وقد قتل مع أغلب أبناء القرية. أما اليوم لم يبقى من بناء الدير شيء يذكر، حيث تحول إلى موقع عسكري.
   2_ دير مار يوحنا نحلايا: هو من تلاميذ مار إبراهيم الكشكري. غادر دير إيزلا الكبير بعد وفاة معلمه وانطلق صوب أرزُن، واستقر قرب قرية بيكند جنوب غرب سعرت في مكان يدعى نحل، وأقام ديراً على أنقاض معبد للأوثان. ضبطه السريان الأرثوذكس من الكلدان سنة 1825م بقوة فتاح باشا الغرزي، وقد بدلوا اسم شفيع الدير وأطلقوا عليه اسم مار أحو . وقد دمر الدير خلال حوادث السفر برلك، وحتى اليوم يدعوا الأكراد موقع الدير باسم " ديري ". وفي سنة 1915 كان في بيكند 500 نسمة من الكلدان يخدمهم الأب يوسف، وقد قتل مع أغلب أبناء القرية.
   3_ دير مار كوريا: يقع على بعد 3 ساعات سيراً على الأقدام جنوب غرب سعرت. وقد استمرت الحياة في الدير حتى دمر سنة 1818. وقد أعاد بناءه مطران سعرت بطرس برتتر سنة 1884 بعد قدم استقالته، وسكن فيه حتى وفاته سنة 1888. وكان إلى جانب الدير قرية باسم الدير. وكان يعيش فيها عدد من العائلات الكلدانية سنة 1915 بلغ عددهم 182 نفس، يخدمهم كاهن. وقد قتل أغلبهم في حوادث السفر برلك . 
   ولدينا قائمة بأسماء بعض الأساقفة الذين تعاقبوا على كرسي أسقفية أرزُن وهم:
   1_ المطران فافا: كان تلميذاً لمار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية في المشرق. يعتبر المطران الأول على أسقفية أرزُن في بداية القرن الرابع . 
  2_ المطران دانيال: جاء ذكره عند حضوره كأسقف على أرزُن مجمع الجاثليق مار إسحق الذي عقد في ساليق وقطيسفون سنة 410 م . وأيضاً حضوره كأسقف على أرزُن مجمع الجاثليق مار داديشوع الذي عقد في مركبثا دطيايي أي " مركبة العرب " ويعتقد المؤرخين أنها الحيرة سنة  424 م .
   3_ المطران أيوب: جاء ذكره عند حضوره كأسقف على أرزُن مجمع الجاثليق مار بابي في سلوقية إحدى مدن المدائن سنة 497 م .
   4_ المطران معنا: كان معلماً في مدرسة نصيبين الشهيرة. انتخب أسقفاً على أرزُن في بداية القرن السادس الميلادي .
   5_ المطران ( البطريرك ) إيشوعياب الأرزني: درس في مدرسة نصيبين. قام بأسفار تبشيرية في منطقة أرزن بين سنتي 540 و 552، فهدى خلقاً كثيراً من سكانها المجوس إلى المسيحية . ثم تولى إدارة مدرسة نصيبين من سنة 569 وحتى سنة 571 حيث انتخب أسقفاً على أرزُن. انتخب جاثليقاً على كنيسة المشرق سنة 581. عقد مجمعاً لكنيسة المشرق سنة 581. توفي في الحيرة سنة 596 ودفن في دير هند الصغرى .
   6_ المطران أوكاما: رسمه قرياقس مطران نصيبين أسقفاً على أرزُن في عهد الجاثليق إيشوعياب الجدالي ( 628 _ 649 ). وبعد ثلاث سنوات من أسقفيته ترك كرسيه وقصد قرية كمول في بلاد قردو، وأسس ديراً هناك.
   7_ المطران إسحق: كان أسقفاً على أرزُن عندما نقله الجاثليق مار أمه إلى مطرانية نصيبين بعد أن عزل مطرانها. ومن المعلوم أن الجاثليق مار أمه ( 646 _ 649 ) أصله من قرية كوريمار بمنطقة أرزُن.
   8_ المطران جبرائيل: كان مرشحاً للكرسي الجاثليقي سنة 1012 لكن لم يحالفه الحظ. وقد نقله الجاثليق يوحنا ابن نازوك ( 1012 _ 1020 ) إلى كرسي الموصل.
   9_ المطران كيوركيس: نقله الجاثليق عبد يشوع العارض ( 1075 _ 1090 ) من أرزُن إلى كرسي نصيبين.
   10_ المطران عمانوئيل: حضر رسامة الجاثليق مكيخا الثاني سنة 1257 كأسقف على أرزُن.
   11_ المطران شمعون: اشترك في انتخاب الجاثليق يبالاها الثالث سنة 1281 كأسقف على أرزُن.
   ومع المطران شمعون تنتهي سلسلة الأساقفة المشرقيين في أرزُن. حيث نقل الكرسي الأسقفي إلى حصن كيبا. لكننا نجد أسقفاً نسطورياً حتى سنة 1891 بالقرب من خرائب أرزُن وبالتحديد في بلدة زوق والتي كانت تضم قلعة حصينة. وخلال هذه التاريخ كان قضاء أرزُن يضم 138 قرية أغلبها من الأكراد .
   وبعد انضمام سعرت والمناطق المحيطة بها أي منطقتي البوتان وأرزُن إلى الكنيسة الكاثوليكية أسس الكرسي الأسقفي في سعرت سنة 1553. وفي عهد البطريرك عبد يشوع الرابع مارون سنة 1555 أضحت سعرت رئاسة أسقفية يتبعها أسقفي آثيل واشي في جبال البوتان. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت مناطق أرزُن والبوتان تابعة لأبرشية سعرت حتى دمرت خلال حوادث السفر برلك سنة 1915. وفرغت المنطقة من المسيحيين المفلتين من القتل تدريجياً، حيث نزحوا إلى الدول المجاورة.
   أما الكنيسة السريانية الغربية فيبدو من خلال التاريخ أن كرسيهم الأسقفي في أرزُن تأسس في بداية القرن السابع، وذلك بعد تأسيس الكرسي المفرياني في تكريت سنة 629، حيث عين ماروثا مطراناً على تكريت يتبعه 10 أساقفة، منهم أسقف أرزن . ومن خلال مراجعتنا التاريخ نجد أن منطقة البشيرية كانت مزروعة بعشرات القرى المسيحية العامرة، أغلب سكانها من سريان وأرمن أرثوذكس، وكان للسريان ديراً شهيراً في قرية قبينه على اسم مار قرياقس، وكان للسريان الأرثوذكس كرسياً أسقفياً في هزو، لكن الأسقف كان يسكن في دير مار قرياقس والمعروف بـ " ديرا قيرا "..
    ويبدو من خلال مراجعتنا للتاريخ أن الكلدان كان لهم كرسيان أسقفيان في منطقة البشيرية، واحد في " هزو " والثاني في " غوردلاية "، وبسبب تراجع الحضور الكلداني هناك، نجد المطران إيليا مطران آمد " ديار بكر " يضم المركزين المذكورين إلى أبرشيته وذلك في سنة 1610. واليوم أضحت المنطقة خالية من سكانها المسيحيين.
    وكانت منطقة أرزُن تضم العديد من القرى الكلدانية العامرة حتى مذابح السفر برلك نذكر منها: بيكند. بركي. رضوان. زوق. هللر. عين قصر. تل منار. كوخا. عزو. عين دير ويقال لها أيضاً عين دار، مار يعقوب. مارت شموني. ومار كوريا. وموقع هذه القرى في جنوب غرب سعرت. وإلى جانب هذه القرى كان هناك قرى سكانها خليط من الكلدان والسريان الأرثوذكس نذكر منها: حسحس. مار مارونه. بيبو. تليبة. قمارا. كندور. زنكا. كوتيبة. وقد دمرت جميعها وفرغت من سكانها المسيحيين، بعد أن قتل أغلبهم.
   ومن خلال المصادر الأرمنية نجد في أرزُن سنة 1915 حضور أرمني بلغ 700 نسمة، ولهم 3 كنائس ودير ومدرستين. وقد قتل أغلبهم في حوادث السفر برلك. ما عدا 73 نسمة أفلتوا من القتل.

107
تذكار مار أشعيا الحلبي
الشماس نوري إيشوع مندو
   مار أشعيا الحلبي: كان والده سوماخوس مقرباً من الملك قسطنطين، فجعله والياً على حلب. وكان رجلاً فاضلاً ذو ثروة وفيرة، يعطف على الفقراء والمحتاجين. وكانت زوجته مريم على شاكلته مزدانة بأجمل المناقب.
   وقد اختبر الله صبراهما، ولم يرزقاهما ولداً إلى السنة العاشرة من زواجاهما، حتى رزقاهما ولداً فسماه أشعيا. وبعد أن تعلم القراءة فكر في دراسة علوم الأدب، لأن الفصاحة كانت أقرب مرقاة إلى ذرى المناصب العالية. لكن الله اصطفاه لنفسه ليشرق في سماء كنيسته كوكباً منيراً يقود الضالين إلى طريق الحياة.
   ولما ناهز الثانية والعشرين من عمره أكره والده على الزواج رغماً عنه، فاختار له فتاة بارعة الجمال تدعى حنة. وما كان من أشعيا إلا الاستغاثة بربه لينقذه من هذا الفخ. ولما دخل الخدر تراءى له ملاك الرب فقال له: " يا أشعيا تقوَّ بالرب ولا تخف، فإن الله قد خلقك لتدخل الخدر السماوي الذي لا يزول ".
   فتقوى أشعيا ونهض من سريره، فدعا عروسه حنة وقال لها: " تعالي ننتحب ما يجدينا نفعاً، فنقايض الشقاوة بالهناء. لأن لذات الدنيا تزول، أما اللذات السماوية فلا انتهاء لها أبداً ". وكانت حنة قد سمعت صوت الملاك، فقالت لأشعيا: " افعل ما تشاء، فإني منقادة لك. فقد عزمت العيش في الطهارة كل أيام حياتي ". فأعد أشعيا سريرين واحداً له، والأخر لحنة. وبقيا ثلاث سنوات يعيشا حياة ملائكية لا عيب فيها.
   وما أن سمع أشعيا أن مار أوجين اجتاز بالقرب من حلب قاصداً بلاد المشرق، مضى إليه للتبرك، ولما وصل رحب به مار أوجين. فقص عليه أشعيا قصته. فقال له مار أوجين: " حسناً بدأت يا ابني، والأفضل لك أن تحمل صليبك، فتتقفى آثار ربك ".
   وما أن سمع حتى اضطرمت فيه نار المحبة الإلهية، فرجع إلى منزله ودعا قرينته حنة وقال لها: " تعرفين أننا في هذه المدة كلها حفظنا طهارتنا، والآن الرب قد دعاني لأنظم إلى النساك. وعليَّ أن أترككِ وشأنكِ، فاختاري لنفسك ما تريدين. وقد وهبت لكِ هذه الدار وكل ما فيها ".
   فردت عليه حنة بالقول: " إذا كنت تريد أن تصير راهباً، فأنا أيضاً سأنظم إلى الراهبات وأحافظ على بتوليتي. فانتظرني ريثما اذهب إلى الدير، ومن ثم أذهب أنت حيث تدعوك النعمة الإلهية ".
   فألقت عنها كل ما كان عليها من الحلي والذهب والجواهر الثمينة والثياب النفيسة، ولبست زياً بسيطاً. فرافقها أشعيا إلى باب الدير، فودعها وعاد إلى بيته. ثم دعا خمسين من عبيده الذين كانوا يحترمونه ويكتمون سره، وقص عليهم ما جرى معه، وطلب منهم أن يعدوا الخيل لينطلقوا ليلحقوا بمار أوجين، فامتثلوا لأمره.
   وأراد أشعيا أن يحذو حذو قرينته بإلقائه عنه ثيابه الثمينة، لكن عبيده ناشدوه ألا يفعل ذلك طالما هو موجود فيما بينهم، فانقاد لطلبهم. وما أن ابتعدوا عن المدينة صادفوا ثلاثة رجال مصابين بأوجاع مختلفة فقالوا لهم: " إلى أين أنتم ذاهبون ". فقالوا: " إننا قصدنا مار أوجين بغية أن ننال منه الشفاء، وها أنه قد رحل ".
   فساروا الليل كله والنهار وصحبهم المرضى، إلى أن وصلوا إلى النهر، فلم يجدوا زورقاً يعبرون به، فوقفوا منتظرين لعل أحداً يأتي فيعبرهم. أما أشعيا فنزع عنه ثوبه الثمين وقدمه لأحد أولئك السقماء، وأخذ بدلها ثيابه البالية. ثم رسم على وجهه إشارة الصليب، وألقى نفسه في الماء. فأخذه روح الرب على أجنحة الريح، ولما شاهده السقماء ماشياً على الماء صاحوا قائلين: " يا عبد الله صلي لأجلنا واطلب من ربك أن يشفينا من أمراضنا ". فرسم عليهم إشارة الصليب فشفوا حالاً.
  وكان عبيده ينظرون إليه منذهلين. ثم غاب عنهم فظنوا أنه غرق في النهر، فتصدعت قلوبهم أسفاً، وأخذوا يبكون وهم لا يدرون كيف يعلمون والده عن موت وحيده.
   وعندما عادوا إلى حلب وجدوا سوماخوس وجميع أهل بيته يبكون بكاءً مراً على فقدان أشعيا وقرينته حنة. فدنوا منه وطرحوا أنفسهم على قدميه وهم يبكون قائلين: " اعف يا مولانا عن المذنبين، وترحم على الخاطئين لنخبرك بما جرى ".
  وكان سوماخوس رحيماً، فأقسم لهم بالله بأنه لا يضر بهم. فقصوا عليه ما جرى. فأدهشه خبر غرق ابنه في النهر. ثم دعا حنة من الدير وقال لها: " لماذا لم تخبراني بعزائمكما، فكنت أسعفكما بحاجتكما ". فأخبرته حنة بكل ما جرى، فتعجب كل من سمع. ولما علمن حنة خبر فرق أشعيا ذاب قلبها أسفاً، وتفتت كبدها حزناً، وأخذت وتنتحب على حبيبها، ثم رجعت إلى الدير.
   أما أشعيا فكان روح الرب قد أخذه وانطلق إلى مار أوجين، ففرح به فرحاً عظيماً. وبعد أن مكث عنده يومين أوحي لمار أوجين ما كان يقاسي والدا أشعيا من الأحزان. فانطلق هو وتلاميذه إلى النهر فعبروه.
   وكان سوماخوس قد انطلق ومعه حاشيته إلى النهر، لعله يجد جثته فيأتي ويدفنها بكل ما يستحقه من العز والإكرام. وعندما التقى بمار أوجين نزل عن حصانه، وأتى للتبرك منه وأخذ يبكي. فقال له مار أوجين: " لا تبكي فإن ابنك لم يغرق، لكن الرب قاده إلى الحياة التي أختارها ". فطلب منه أن يريه ابنه. فدعاه مار أوجين فمثل أشعيا بين يدي والده. فنظر إليه وإذ به تغير عما كان في بيت والديه. فعوض الثياب المذهبة كان مرتدياً ثياباً بالية، فأخذه العجب وقال له: " إن أمرك عجيب يا بني، فلست أعرف كيف تغيرت أحوالك في هذه المدة   الوجيزة ". فقال أشعيا: " إني أتلذذ بهذه الحالة أكثر مما في المملكة الرومانية من اللذة والنعم ".
   وعندما أيقن سوماخوس أن ابنه من الصعب أن يرجع، طفق يحدث مار أوجين قائلاً: " هذا وحيدي وعليه علقت آمالاً كبيرة، فلا تسلية لي بعده ". فقال له مار أوجين: " اسمع يا سوماخوس المؤمن، إن الله اختار ابنك لخدمته، وسوف يرزقك الله ابنين توأمين، فتقر بهما عيناك، ويسكب الله عليك سوابغ النعم والبركات، فتعاين أولاد أولادك، ويمتلئ قلبك فرحاً وسروراً ".
   فجثا سوماخوس أمام مار أوجين وقال له: " اطلب إليك يا عبد يسوع أن تصلي من أجلي، وحيث أن الرب قد اختار ابني، فهو لك من الآن فصاعداً ". ثم قبل سوماخوس ابنه أشعيا ورجع إلى داره.
   وعاد مار أوجين وتلاميذه إلى المشرق. وعندما ذهب مار أوجين وتلاميذه إلى بلاد قردو لينيروها بتعاليم الإنجيل، بقي أشعيا مع مار حبيب في جزيرة بازبدي، ولم يعود مع معلمه مار أوجين إلى جبل إيزلا.
   وخلال وجوده هناك صادف ميتاً، فدنا أشعيا من الجموع التي كانت تشيعه إلى المقبرة، وطلب منهم أن يقفوا لأن الميت مزمع أن يحيا. ثم قال لهم: " لما لا تتركون ما لكم من الأصنام الميتة ". فقالوا له: " ليس لنا أصنام، لأن مار أوجين استأصلها كلها ".
   وكان مار أوجين قد طرد من نصيبين الكهنة المرقيونيين. فأتى واحد منهم إلى الجزيرة، وحل في دار رجل يدعى قسطنطين وهو أبو المتوفى. وقد أفسد قلبه وأبعده عن جادة الحق. فقال أشعيا لقسطنطين: " إذا قررت بالإيمان الصحيح، ونبذت ضلالة مرقيون، وطردت كاهنه من دارك، فأسأل ربي فيحيي ابنك هذا ".
   فقال قسطنطين: " آمنت ونبذت ضلالة مرقيون ". فدنا أشعيا من الميت وصلى وقال له ثلاث مرات: " باسم يسوع قم امشِ أيها الشاب ". فانذهل الحضور وأخذوا يمجدون الرب. وطلبوا من الحاكم أن يطرد المرقيوني ظل متمسكاً بضلالته، فلعنه مار أشعيا، وللحال ضربه ملاك الرب ومات.
   ثم عاد مار أشعيا إلى دير معلمه مار أوجين في جبل إيزلا، ومنه انتقل ومعه حبيب إلى بقعة تقع على مسافة خمسة فراسخ شرقاً منه. وكان في تلك البقعة روابي كثيرة، فاتخذ كل منهما رابية مسكناً له، وحفر آبار ليسقي منها عابري الطريق. وكان بالقرب من سكن مار أشعيا قرية اسمها وردانشا بناها أحد عظماء شابور الملك ويدعى كوشن.
   وكان رعاة كوشن مسيحيين من منطقة أرزن، وذات يوم كان يرعون الغنم حول بئر مار أشعيا، فرأوه يسقي عابري الطريق. وكانت غنمهم قد أصابها مرض الجرب فطلبوا منه أن يشفيها. فأخذ قليل من ماء بئره وأعطاه لهم قائلاً: " ألقوا هذا الماء في بئركم، وإني لواثق بربنا يسوع المسيح أنه يبرئ غنمكم ". فامتثلوا لأمره وشفيت الغنم.
   ثم اخبروا كوشن بما حدث. فاستدعى مار أشعيا، ورحب به وأحسن مثواه وقال له: " يا رجل من أي ديانة أنت ". فقال له أشعيا: " إني أعبد الله الحق، ولا إله إلا هو وحده. وأقر بابنه الذي صلبه اليهود في أورشليم ". وأراد كوشن أن يقدم له الهدايا، لكنه رفض وعاد إلى مسكنه.
   وبعد ستة أشهر توفي ابن أخت كوشن، فحزن عليه حزناً شديداً، لأن كوشن لم يكن له ابن وقد اتخذ ابن أخته ابناً له. فعرض رعاة كوشن المسيحيين أن يطلب مار أشعيا، لأنه يستطيع أن يحييه. فدعاه كوشن وقال له: " لقد بلغني أنك قادر على إحياء الأموات ". فقال له أشعيا: " إن آمنت أنت فسوف تنال ما تريد ". فقال كوشن: " وبمن أومن ". فقال أشعيا: " بيسوع المسيح القائم من بين الأموات ". فقال كوشن: " إن أحييت هذا الشاب آمنتُ ".
   فدنا أشعيا إلى الجثة وصرخ بصوت عال ثلاث مرات: " أيها الشاب الميت قم باسم يسوع الناصري ". وللحال استفاق وجلس. فدنا منه كوشن وقال له: " أين كنت يا ابني وماذا رأيت ". فقال الشاب: " رأيت المجوس في هاوية مظلمة، وهم يتقلبون من شدة ما يقاسون من العذابات. وأما المسيحيين فكانوا مقيمين بجنان لا مثيل لها على الأرض. وأنا أيضاً كنت في الهاوية المظلمة، وقد رأيت هذا الشيخ الجليل قرب ملك المسيحيين، ساجداً أمامه ومتضرعاً أن يهبه روحي، فاستجاب طلبته. ومنذ اليوم أنا مسيحي، وللرب أسجد وإياه وحده أعبد ". فعمد ما أشعيا كوشن وجميع أهل قريته، وكان عددهم ثلاثة آلاف وستمائة نسمة. وبنى كوشن بيعة، وأقام فيها مار أشعيا كهنة وشمامسة، ثم رجع إلى مسكنه.
   ثم انتقل إلى شمال نصيبين عند ينبوع نهر ماشاخ، ولبث هناك تسعة أشهر. ثم انتقل إلى قمة الجبل وبنى له هناك كوخاً. وكان على شمال كوخه قرية اسمها بانحلي ( أنحل ). وذات يوم مر أمام كوخه مجنوناً من تلك القرية، وكان عطشان، فأراد أصحابه أن يسقوه ماء من بئر أشعيا فأبى. ثم استطاعوا أن يسقوه، وما أن شرب حتى سمعوا الشيطان يصرخ ويقول: " آه منك يا أشعيا الحلبي ". فشفي المجنون من ساعته. فدخل إلى كوخ مار أشعيا وطرح نفسه عند قدميه، وطلب منه أن يقبله كتلميذ عنده، فوافق مار أشعيا وأخذ يرشده في جادة الكمال.
   ثم فكر في الذهاب إلى الأراضي المقدسة. وعندما وصل إلى نهر الفرات أراد أن يعبره ماشياً، لكنه رأى أناساً يركبون زورقاً ليعبروا به، فجلس معهم. وما أن وصل الزورق وسط النهر، حتى شرع صاحبه يأخذ الأجرة من الركاب. وعندما وصل عند أشعيا قال له: " ليس عندي شيء أعطيك ". فتمزق صاحب الزورق غيظاً، فطرح أشعيا في النهر. إلا أن قوة الرب أوصلته إلى الطرف الآخر سالماً.
   وللحال هبت رياح شديدة فألقت الزورق بما فيه في النهر، وكاد يغرق من فيه. فصرخ الركاب: " يا رجل الله أرحمنا ". فتحنن أشعيا عليهم، وفي لحظة عين أنقذهم. فوصلوا إلى الطرف الأخر سالمين.
   وعندما اقترب من حلب فكر ألا يدخلها خوف أن يراه أبوه. إلا أن الله أوحى إليه أنه قد قرب أجل قرينته حنة البتول الطاهرة. فذهب إلى الدير والتقى بها وهي طريحة الفراش. وما أن رأته حتى قالت: " هلم بالسلام أيها الختن الجديد. هلم بالسلام أيها البتول النقي. هلم بالسلام يا أخي القديس. إن الله استجاب طلبتي فأحضرك هنا لكي أراك قبل أن أموت. والآن أطلب منك أن تدنو فتغمض عيني. فإنما لأجل هذا سألت ربي أن يحضرك هنا. والآن صلي لأبلغ الفردوس    السماوي ". وللحال أسلمت روحها، ففاضت للوقت رائحة ذكية من جسدها المبارك. أما رئيسة الدير فلما عرفت أنه مار أشعيا، طرحت نفسها على قدميه وطلبت منه أن يصلي عليها. أما هو فطلب منها ألا تخبر أحداً بأمره حتى يخرج من المدينة.
   وشاع خبر وفاة حنة في كل المدينة، فأخذ الناس يتقاطرون إلى الدير للبركة من جسدها الطاهر، وحضر أيضاً سوماخوس وابنيه التوأمين أوجين وموريقي.
  وعندما انطلق موكب التشييع كان أشعيا يمشي مع الفقراء وراء الجنازة وهو يبكي، ولم يعرفه أبوه ولا عبيده. وبعد الدفنة جمع ساموخوس جميع الفقراء والمساكين في الدير، وصنع لهم عشاء. وكان أشعيا مع المدعوين، وبات ليلته في الدير. وليلاً قام وتوجه إلى أورشليم.
   وفي الصباح أعد سوماخوس كمية وافرة من المال، وذهب ليوزعها على الفقراء عند قبر حنة كجاري العادة. وكان قد لاحظ خلال الدفنة أشعيا وهو يبكي بكاءً مراً، فنوى أن يعطيه أكثر من الآخرين. ولم وزع المال فتش عنه فلم يجده. فسأل رئيسة الدير عنه، فبكت وقالت له: " إن الغريب الذي تسأل عنه هو ابنك أشعيا. وإنما الله أرسله هنا ليشاهد قرينته حنة قبل وفاتها ". فلما سمع وقع على الأرض مغشياً عليه. ولما أفاق أخذ يبكي، وطلب من رئيسة الدير أن تخبره أين ذهب. فقالت له:  " أظن أنه توجه إلى أورشليم ".
   فخرج سوماخوس بخيله ورجاله في طلب ابنه، ولما قطعوا مسافة حل عليهم الليل، فنزلوا طلباً للراحة وناموا. فتراءى أشعيا في الحلم لأبيه وهو لابساً الزي الذي كان عليه يوم عرسه، وقال له: " يا أبتاه لا تبحث عني، فإنك لن تراني في هذا العالم. وإني أبشرك أننا بعد سنتين سوف نشاهد بعضنا في الملكوت، فأرجع بسلام ". وفي الصباح قص سوماخوس ما رآه في حلمه، وعاد ومن معه إلى حلب.
   وبعد أن زار مار أشعيا الأراضي المقدسة، عاد إلى صومعته فوجد تلميذه الذي شفاه مواظباً على الصوم والصلاة. فبنى له صومعة بجانب صومعته. وتتلمذ له الكثير من سكان قرية بانحلي، واجتمع إليه زهاء ستين رجلاً، وبنوا لهم قلالي بجانب قلايته.
   وكان تلاميذ مار أوجين قد قضوا نحبهم، ولم يبق منهم سوى أشعيا. وفي إحدى الليالي رأى نفسه في السماء بين الملائكة والأنبياء والرسل والشهداء. ثم رأى الرهبان ومعم مار أنطونيوس ومار أوجين والأنوار تنبعث منهمم وعلى رؤسهم أكاليل المجد.
   ورأى بيد مار أوجين إكليلاً، فسأله أحدهم: "  لمن هذا الإكليل ". فرد عليه أحدهم: " هذا الإكليل هو لأشعيا الحلبي، الذي هو آخر تلاميذ مار أوجين ".
  فأخذ أشعيا يستعد للانتقال إلى دار البقاء، وكانت صومعته قد امتلأت نوراً سماوياً. وفي اليوم المحدد نزل الملائكة فطاروا بروحه إلى السماوات. ولما دخل عليه تلاميذه ظنوا أنه حي، ولما اقتربوا منه علموا أنه قد مات. فبكوا بكاءً مراً. ثم دفنوه في ديره. وأصبح قبره ينبوع للخيرات لجميع الذين يقصدونه. وكانت وفاته في منتصف تشرين الأول، وله من العمر أحدى وتسعون سنة.
   ويحتفل بتذكار مار أشعيا الحلبي في 15 تشرين الأول.           












108
تذكار مار أشعيا الحلبي
الشماس نوري إيشوع مندو
   مار أشعيا الحلبي: كان والده سوماخوس مقرباً من الملك قسطنطين، فجعله والياً على حلب. وكان رجلاً فاضلاً ذو ثروة وفيرة، يعطف على الفقراء والمحتاجين. وكانت زوجته مريم على شاكلته مزدانة بأجمل المناقب.
   وقد اختبر الله صبراهما، ولم يرزقاهما ولداً إلى السنة العاشرة من زواجاهما، حتى رزقاهما ولداً فسماه أشعيا. وبعد أن تعلم القراءة فكر في دراسة علوم الأدب، لأن الفصاحة كانت أقرب مرقاة إلى ذرى المناصب العالية. لكن الله اصطفاه لنفسه ليشرق في سماء كنيسته كوكباً منيراً يقود الضالين إلى طريق الحياة.
   ولما ناهز الثانية والعشرين من عمره أكره والده على الزواج رغماً عنه، فاختار له فتاة بارعة الجمال تدعى حنة. وما كان من أشعيا إلا الاستغاثة بربه لينقذه من هذا الفخ. ولما دخل الخدر تراءى له ملاك الرب فقال له: " يا أشعيا تقوَّ بالرب ولا تخف، فإن الله قد خلقك لتدخل الخدر السماوي الذي لا يزول ".
   فتقوى أشعيا ونهض من سريره، فدعا عروسه حنة وقال لها: " تعالي ننتحب ما يجدينا نفعاً، فنقايض الشقاوة بالهناء. لأن لذات الدنيا تزول، أما اللذات السماوية فلا انتهاء لها أبداً ". وكانت حنة قد سمعت صوت الملاك، فقالت لأشعيا: " افعل ما تشاء، فإني منقادة لك. فقد عزمت العيش في الطهارة كل أيام حياتي ". فأعد أشعيا سريرين واحداً له، والأخر لحنة. وبقيا ثلاث سنوات يعيشا حياة ملائكية لا عيب فيها.
   وما أن سمع أشعيا أن مار أوجين اجتاز بالقرب من حلب قاصداً بلاد المشرق، مضى إليه للتبرك، ولما وصل رحب به مار أوجين. فقص عليه أشعيا قصته. فقال له مار أوجين: " حسناً بدأت يا ابني، والأفضل لك أن تحمل صليبك، فتتقفى آثار ربك ".
   وما أن سمع حتى اضطرمت فيه نار المحبة الإلهية، فرجع إلى منزله ودعا قرينته حنة وقال لها: " تعرفين أننا في هذه المدة كلها حفظنا طهارتنا، والآن الرب قد دعاني لأنظم إلى النساك. وعليَّ أن أترككِ وشأنكِ، فاختاري لنفسك ما تريدين. وقد وهبت لكِ هذه الدار وكل ما فيها ".
   فردت عليه حنة بالقول: " إذا كنت تريد أن تصير راهباً، فأنا أيضاً سأنظم إلى الراهبات وأحافظ على بتوليتي. فانتظرني ريثما اذهب إلى الدير، ومن ثم أذهب أنت حيث تدعوك النعمة الإلهية ".
   فألقت عنها كل ما كان عليها من الحلي والذهب والجواهر الثمينة والثياب النفيسة، ولبست زياً بسيطاً. فرافقها أشعيا إلى باب الدير، فودعها وعاد إلى بيته. ثم دعا خمسين من عبيده الذين كانوا يحترمونه ويكتمون سره، وقص عليهم ما جرى معه، وطلب منهم أن يعدوا الخيل لينطلقوا ليلحقوا بمار أوجين، فامتثلوا لأمره.
   وأراد أشعيا أن يحذو حذو قرينته بإلقائه عنه ثيابه الثمينة، لكن عبيده ناشدوه ألا يفعل ذلك طالما هو موجود فيما بينهم، فانقاد لطلبهم. وما أن ابتعدوا عن المدينة صادفوا ثلاثة رجال مصابين بأوجاع مختلفة فقالوا لهم: " إلى أين أنتم ذاهبون ". فقالوا: " إننا قصدنا مار أوجين بغية أن ننال منه الشفاء، وها أنه قد رحل ".
   فساروا الليل كله والنهار وصحبهم المرضى، إلى أن وصلوا إلى النهر، فلم يجدوا زورقاً يعبرون به، فوقفوا منتظرين لعل أحداً يأتي فيعبرهم. أما أشعيا فنزع عنه ثوبه الثمين وقدمه لأحد أولئك السقماء، وأخذ بدلها ثيابه البالية. ثم رسم على وجهه إشارة الصليب، وألقى نفسه في الماء. فأخذه روح الرب على أجنحة الريح، ولما شاهده السقماء ماشياً على الماء صاحوا قائلين: " يا عبد الله صلي لأجلنا واطلب من ربك أن يشفينا من أمراضنا ". فرسم عليهم إشارة الصليب فشفوا حالاً.
  وكان عبيده ينظرون إليه منذهلين. ثم غاب عنهم فظنوا أنه غرق في النهر، فتصدعت قلوبهم أسفاً، وأخذوا يبكون وهم لا يدرون كيف يعلمون والده عن موت وحيده.
   وعندما عادوا إلى حلب وجدوا سوماخوس وجميع أهل بيته يبكون بكاءً مراً على فقدان أشعيا وقرينته حنة. فدنوا منه وطرحوا أنفسهم على قدميه وهم يبكون قائلين: " اعف يا مولانا عن المذنبين، وترحم على الخاطئين لنخبرك بما جرى ".
  وكان سوماخوس رحيماً، فأقسم لهم بالله بأنه لا يضر بهم. فقصوا عليه ما جرى. فأدهشه خبر غرق ابنه في النهر. ثم دعا حنة من الدير وقال لها: " لماذا لم تخبراني بعزائمكما، فكنت أسعفكما بحاجتكما ". فأخبرته حنة بكل ما جرى، فتعجب كل من سمع. ولما علمن حنة خبر فرق أشعيا ذاب قلبها أسفاً، وتفتت كبدها حزناً، وأخذت وتنتحب على حبيبها، ثم رجعت إلى الدير.
   أما أشعيا فكان روح الرب قد أخذه وانطلق إلى مار أوجين، ففرح به فرحاً عظيماً. وبعد أن مكث عنده يومين أوحي لمار أوجين ما كان يقاسي والدا أشعيا من الأحزان. فانطلق هو وتلاميذه إلى النهر فعبروه.
   وكان سوماخوس قد انطلق ومعه حاشيته إلى النهر، لعله يجد جثته فيأتي ويدفنها بكل ما يستحقه من العز والإكرام. وعندما التقى بمار أوجين نزل عن حصانه، وأتى للتبرك منه وأخذ يبكي. فقال له مار أوجين: " لا تبكي فإن ابنك لم يغرق، لكن الرب قاده إلى الحياة التي أختارها ". فطلب منه أن يريه ابنه. فدعاه مار أوجين فمثل أشعيا بين يدي والده. فنظر إليه وإذ به تغير عما كان في بيت والديه. فعوض الثياب المذهبة كان مرتدياً ثياباً بالية، فأخذه العجب وقال له: " إن أمرك عجيب يا بني، فلست أعرف كيف تغيرت أحوالك في هذه المدة   الوجيزة ". فقال أشعيا: " إني أتلذذ بهذه الحالة أكثر مما في المملكة الرومانية من اللذة والنعم ".
   وعندما أيقن سوماخوس أن ابنه من الصعب أن يرجع، طفق يحدث مار أوجين قائلاً: " هذا وحيدي وعليه علقت آمالاً كبيرة، فلا تسلية لي بعده ". فقال له مار أوجين: " اسمع يا سوماخوس المؤمن، إن الله اختار ابنك لخدمته، وسوف يرزقك الله ابنين توأمين، فتقر بهما عيناك، ويسكب الله عليك سوابغ النعم والبركات، فتعاين أولاد أولادك، ويمتلئ قلبك فرحاً وسروراً ".
   فجثا سوماخوس أمام مار أوجين وقال له: " اطلب إليك يا عبد يسوع أن تصلي من أجلي، وحيث أن الرب قد اختار ابني، فهو لك من الآن فصاعداً ". ثم قبل سوماخوس ابنه أشعيا ورجع إلى داره.
   وعاد مار أوجين وتلاميذه إلى المشرق. وعندما ذهب مار أوجين وتلاميذه إلى بلاد قردو لينيروها بتعاليم الإنجيل، بقي أشعيا مع مار حبيب في جزيرة بازبدي، ولم يعود مع معلمه مار أوجين إلى جبل إيزلا.
   وخلال وجوده هناك صادف ميتاً، فدنا أشعيا من الجموع التي كانت تشيعه إلى المقبرة، وطلب منهم أن يقفوا لأن الميت مزمع أن يحيا. ثم قال لهم: " لما لا تتركون ما لكم من الأصنام الميتة ". فقالوا له: " ليس لنا أصنام، لأن مار أوجين استأصلها كلها ".
   وكان مار أوجين قد طرد من نصيبين الكهنة المرقيونيين. فأتى واحد منهم إلى الجزيرة، وحل في دار رجل يدعى قسطنطين وهو أبو المتوفى. وقد أفسد قلبه وأبعده عن جادة الحق. فقال أشعيا لقسطنطين: " إذا قررت بالإيمان الصحيح، ونبذت ضلالة مرقيون، وطردت كاهنه من دارك، فأسأل ربي فيحيي ابنك هذا ".
   فقال قسطنطين: " آمنت ونبذت ضلالة مرقيون ". فدنا أشعيا من الميت وصلى وقال له ثلاث مرات: " باسم يسوع قم امشِ أيها الشاب ". فانذهل الحضور وأخذوا يمجدون الرب. وطلبوا من الحاكم أن يطرد المرقيوني ظل متمسكاً بضلالته، فلعنه مار أشعيا، وللحال ضربه ملاك الرب ومات.
   ثم عاد مار أشعيا إلى دير معلمه مار أوجين في جبل إيزلا، ومنه انتقل ومعه حبيب إلى بقعة تقع على مسافة خمسة فراسخ شرقاً منه. وكان في تلك البقعة روابي كثيرة، فاتخذ كل منهما رابية مسكناً له، وحفر آبار ليسقي منها عابري الطريق. وكان بالقرب من سكن مار أشعيا قرية اسمها وردانشا بناها أحد عظماء شابور الملك ويدعى كوشن.
   وكان رعاة كوشن مسيحيين من منطقة أرزن، وذات يوم كان يرعون الغنم حول بئر مار أشعيا، فرأوه يسقي عابري الطريق. وكانت غنمهم قد أصابها مرض الجرب فطلبوا منه أن يشفيها. فأخذ قليل من ماء بئره وأعطاه لهم قائلاً: " ألقوا هذا الماء في بئركم، وإني لواثق بربنا يسوع المسيح أنه يبرئ غنمكم ". فامتثلوا لأمره وشفيت الغنم.
   ثم اخبروا كوشن بما حدث. فاستدعى مار أشعيا، ورحب به وأحسن مثواه وقال له: " يا رجل من أي ديانة أنت ". فقال له أشعيا: " إني أعبد الله الحق، ولا إله إلا هو وحده. وأقر بابنه الذي صلبه اليهود في أورشليم ". وأراد كوشن أن يقدم له الهدايا، لكنه رفض وعاد إلى مسكنه.
   وبعد ستة أشهر توفي ابن أخت كوشن، فحزن عليه حزناً شديداً، لأن كوشن لم يكن له ابن وقد اتخذ ابن أخته ابناً له. فعرض رعاة كوشن المسيحيين أن يطلب مار أشعيا، لأنه يستطيع أن يحييه. فدعاه كوشن وقال له: " لقد بلغني أنك قادر على إحياء الأموات ". فقال له أشعيا: " إن آمنت أنت فسوف تنال ما تريد ". فقال كوشن: " وبمن أومن ". فقال أشعيا: " بيسوع المسيح القائم من بين الأموات ". فقال كوشن: " إن أحييت هذا الشاب آمنتُ ".
   فدنا أشعيا إلى الجثة وصرخ بصوت عال ثلاث مرات: " أيها الشاب الميت قم باسم يسوع الناصري ". وللحال استفاق وجلس. فدنا منه كوشن وقال له: " أين كنت يا ابني وماذا رأيت ". فقال الشاب: " رأيت المجوس في هاوية مظلمة، وهم يتقلبون من شدة ما يقاسون من العذابات. وأما المسيحيين فكانوا مقيمين بجنان لا مثيل لها على الأرض. وأنا أيضاً كنت في الهاوية المظلمة، وقد رأيت هذا الشيخ الجليل قرب ملك المسيحيين، ساجداً أمامه ومتضرعاً أن يهبه روحي، فاستجاب طلبته. ومنذ اليوم أنا مسيحي، وللرب أسجد وإياه وحده أعبد ". فعمد ما أشعيا كوشن وجميع أهل قريته، وكان عددهم ثلاثة آلاف وستمائة نسمة. وبنى كوشن بيعة، وأقام فيها مار أشعيا كهنة وشمامسة، ثم رجع إلى مسكنه.
   ثم انتقل إلى شمال نصيبين عند ينبوع نهر ماشاخ، ولبث هناك تسعة أشهر. ثم انتقل إلى قمة الجبل وبنى له هناك كوخاً. وكان على شمال كوخه قرية اسمها بانحلي ( أنحل ). وذات يوم مر أمام كوخه مجنوناً من تلك القرية، وكان عطشان، فأراد أصحابه أن يسقوه ماء من بئر أشعيا فأبى. ثم استطاعوا أن يسقوه، وما أن شرب حتى سمعوا الشيطان يصرخ ويقول: " آه منك يا أشعيا الحلبي ". فشفي المجنون من ساعته. فدخل إلى كوخ مار أشعيا وطرح نفسه عند قدميه، وطلب منه أن يقبله كتلميذ عنده، فوافق مار أشعيا وأخذ يرشده في جادة الكمال.
   ثم فكر في الذهاب إلى الأراضي المقدسة. وعندما وصل إلى نهر الفرات أراد أن يعبره ماشياً، لكنه رأى أناساً يركبون زورقاً ليعبروا به، فجلس معهم. وما أن وصل الزورق وسط النهر، حتى شرع صاحبه يأخذ الأجرة من الركاب. وعندما وصل عند أشعيا قال له: " ليس عندي شيء أعطيك ". فتمزق صاحب الزورق غيظاً، فطرح أشعيا في النهر. إلا أن قوة الرب أوصلته إلى الطرف الآخر سالماً.
   وللحال هبت رياح شديدة فألقت الزورق بما فيه في النهر، وكاد يغرق من فيه. فصرخ الركاب: " يا رجل الله أرحمنا ". فتحنن أشعيا عليهم، وفي لحظة عين أنقذهم. فوصلوا إلى الطرف الأخر سالمين.
   وعندما اقترب من حلب فكر ألا يدخلها خوف أن يراه أبوه. إلا أن الله أوحى إليه أنه قد قرب أجل قرينته حنة البتول الطاهرة. فذهب إلى الدير والتقى بها وهي طريحة الفراش. وما أن رأته حتى قالت: " هلم بالسلام أيها الختن الجديد. هلم بالسلام أيها البتول النقي. هلم بالسلام يا أخي القديس. إن الله استجاب طلبتي فأحضرك هنا لكي أراك قبل أن أموت. والآن أطلب منك أن تدنو فتغمض عيني. فإنما لأجل هذا سألت ربي أن يحضرك هنا. والآن صلي لأبلغ الفردوس    السماوي ". وللحال أسلمت روحها، ففاضت للوقت رائحة ذكية من جسدها المبارك. أما رئيسة الدير فلما عرفت أنه مار أشعيا، طرحت نفسها على قدميه وطلبت منه أن يصلي عليها. أما هو فطلب منها ألا تخبر أحداً بأمره حتى يخرج من المدينة.
   وشاع خبر وفاة حنة في كل المدينة، فأخذ الناس يتقاطرون إلى الدير للبركة من جسدها الطاهر، وحضر أيضاً سوماخوس وابنيه التوأمين أوجين وموريقي.
  وعندما انطلق موكب التشييع كان أشعيا يمشي مع الفقراء وراء الجنازة وهو يبكي، ولم يعرفه أبوه ولا عبيده. وبعد الدفنة جمع ساموخوس جميع الفقراء والمساكين في الدير، وصنع لهم عشاء. وكان أشعيا مع المدعوين، وبات ليلته في الدير. وليلاً قام وتوجه إلى أورشليم.
   وفي الصباح أعد سوماخوس كمية وافرة من المال، وذهب ليوزعها على الفقراء عند قبر حنة كجاري العادة. وكان قد لاحظ خلال الدفنة أشعيا وهو يبكي بكاءً مراً، فنوى أن يعطيه أكثر من الآخرين. ولم وزع المال فتش عنه فلم يجده. فسأل رئيسة الدير عنه، فبكت وقالت له: " إن الغريب الذي تسأل عنه هو ابنك أشعيا. وإنما الله أرسله هنا ليشاهد قرينته حنة قبل وفاتها ". فلما سمع وقع على الأرض مغشياً عليه. ولما أفاق أخذ يبكي، وطلب من رئيسة الدير أن تخبره أين ذهب. فقالت له:  " أظن أنه توجه إلى أورشليم ".
   فخرج سوماخوس بخيله ورجاله في طلب ابنه، ولما قطعوا مسافة حل عليهم الليل، فنزلوا طلباً للراحة وناموا. فتراءى أشعيا في الحلم لأبيه وهو لابساً الزي الذي كان عليه يوم عرسه، وقال له: " يا أبتاه لا تبحث عني، فإنك لن تراني في هذا العالم. وإني أبشرك أننا بعد سنتين سوف نشاهد بعضنا في الملكوت، فأرجع بسلام ". وفي الصباح قص سوماخوس ما رآه في حلمه، وعاد ومن معه إلى حلب.
   وبعد أن زار مار أشعيا الأراضي المقدسة، عاد إلى صومعته فوجد تلميذه الذي شفاه مواظباً على الصوم والصلاة. فبنى له صومعة بجانب صومعته. وتتلمذ له الكثير من سكان قرية بانحلي، واجتمع إليه زهاء ستين رجلاً، وبنوا لهم قلالي بجانب قلايته.
   وكان تلاميذ مار أوجين قد قضوا نحبهم، ولم يبق منهم سوى أشعيا. وفي إحدى الليالي رأى نفسه في السماء بين الملائكة والأنبياء والرسل والشهداء. ثم رأى الرهبان ومعم مار أنطونيوس ومار أوجين والأنوار تنبعث منهمم وعلى رؤسهم أكاليل المجد.
   ورأى بيد مار أوجين إكليلاً، فسأله أحدهم: "  لمن هذا الإكليل ". فرد عليه أحدهم: " هذا الإكليل هو لأشعيا الحلبي، الذي هو آخر تلاميذ مار أوجين ".
  فأخذ أشعيا يستعد للانتقال إلى دار البقاء، وكانت صومعته قد امتلأت نوراً سماوياً. وفي اليوم المحدد نزل الملائكة فطاروا بروحه إلى السماوات. ولما دخل عليه تلاميذه ظنوا أنه حي، ولما اقتربوا منه علموا أنه قد مات. فبكوا بكاءً مراً. ثم دفنوه في ديره. وأصبح قبره ينبوع للخيرات لجميع الذين يقصدونه. وكانت وفاته في منتصف تشرين الأول، وله من العمر أحدى وتسعون سنة.
   ويحتفل بتذكار مار أشعيا الحلبي في 15 تشرين الأول.           












109
عيد سلطانة الوردية المقدسة
الشماس نوري إيشوع مندو

   سلطانة الوردية المقدسة: إن صلاة المسبحة قديمة العهد على ما ورد في كتابات المؤرخين القدامى. إذ أن المسيحيين في القرون الأولى كانوا يستعلمون الحبل المعقود عقداً معدودة في عدّ أعمالهم التقوية، فينقلون إبهامهم على العقدة تلو الأخرى. ولما تأسست الأديرة والرهبنات من القرن الرابع وصاعداً، كان الرهبان يصلون الفرض مشتركين. وكان يقتصر على تلاوة الصلاة الربية والسلام الملائكي، وترتيل المزامير الداوودية البالغ عددها مئة وخمسين مزموراً. وكان الرهبان الأميين الموكلين للعمل في الأرض معفيين من ترتيل المزامير، إذ كانوا يستعيضون عنها بتلاوة الصلاة الربية، ثم مئة وخمسين مرة السلام الملائكي. ولما زحفت الجيوش الصليبية إلى الشرق في مطلع القرن الحادي عشر، كان لا بد من إيجاد صلاة سهلة وبسيطة بمتناول أولئك الجنود الأميين. فأوحى إليهم قائدهم ومرشدهم بطرس داميان الناسك  باستعمال الحبل المعقود بمئة وخمسين عقدة، الذي استعمله الرهبان أي بتلاوة مئة وخمسين سلاماً للعذراء على عدد المزامير.
   ثم أصبحت فيما بعد هذه الصلاة مستعملة لدى الكثير من المؤمنين. ويمكن القول إن صلاة المسبحة هي من وضع بشري، إلى أن تدخلت العذراء مريم من خلال ظهورها الشهير للقديس عبد الأحد. فشددت على هذه الصلاة واختارتها كصلاة إلهية وعبادة مرضية لدى الله ومحببة إليها. ويظهر لنا ذلك أيضاً من خلال ظهوراتها ورسائلها إلى العالم، وفيها تلح على هذه الصلاة مبينة أهميتها في رد الخطأة إلى التوبة، ولجم الفساد الذي عم المعمورة وقمع الحروب.
   وبعد ظهور العذراء على عبد الأحد عمل هذا القديس على تنسيق هذه الصلاة، فدعيت بصلاة الوردية أو المسبحة الوردية. وهكذا نستطيع تقسيم تاريخ المسبحة إلى قسمين: الأول ما قبل عبد الأحد لما كانت المسبحة صلاة عادية وفرضاً تقوياً عند المؤمنين بأسلوب بسيط. والثاني مع عبد الأحد بعد ظهور السيدة العذراء عليه، لما تنسقت هذه الصلاة وتنظمت، حتى أصبحت عبادة مقدسة بطلب إلهي من خلال العذراء. وجاء عن أحد المؤرخين المتقدمين واسمه كاستيليوس أن عبادة الوردية قد أنشاها في فرنسا القديس دومنيكوس " عبد الأحد " الذي ولد في أسبانيا سنة 1170 وتوفي سنة 1221، وذلك بإيحاء من السيدة العذراء، وأذاعها في روما إذاعة عجيبة وبها رد من الخطأة إلى الله شعوباً لا يحصى عددها.
   وكان القديس عبد الأحد منذ صغره مغرماً في إكرام العذراء مريم، وكان ممتلأ غيرة يحارب فيها بدعاً كثيرة وهرطقات ظهرت على أيامه، وخصوصاً بدعة الألبيجازيين  التي كانت ملأت مدناً، لا بل ممالك عديدة في ذلك الوقت مثل أسبانيا وفرنسا وإيطاليا. وتفشى من جرائها أوبئة مخلة في الآداب، بحيث لم يستطيع وحده صدها هذا التيار، مما سبب له الألم وأحس بأن الكنيسة تضربها عناصر غريبة عنها، بما ذلك من خطر الإيمان. فالتجأ عندئذ إلى مغارة في غابة على مقربة من مدينة تولوز في فرنسا. وصار هناك يتضرع إلى الله ويطلب من والدته العذراء مريم أن تتقدم إلى ابنها يسوع المسيح، بطلب علاج هذا الوباء حتى يحارب هذه البدع التي ظهرت في الكنيسة. وبعد ثلاثة أيام من الصوم والصلاة والابتهال إلى الله ووالدته، تلطفت العذراء المجيدة وتراءت له. وبعد أن شجعته وطيبت نفسه، أشارت إليه بأن يتخذ عبادة ورديتها دواء شافياً لأدواء عصره، وسلاحاً كافياً لرد كل أعداء الكنيسة. وكانت العذراء في ظهورها سيدة جميلة جداً، ومعها ثلاث سيدات كل واحدة منهن معها خمسين فتاتاً بثياب مختلفة.
   السيدة الأولى تلبس مع فتياتها ثياباً بيضاء عبارة عن خمسة أسرار الفرح.
   السيدة الثانية تلبس مع فتياتها ثياباً حمراء إشارة إلى خمسة أسرار الحزن.
   السيدة الثالثة تلبس مع فتاتها ثياباً مذهبة كناية عن خمسة أسرار المجد.
   وبعد أن تلقى القديس من العذراء مريم رسم عبادتها هذه، رجع حالاً إلى مدينة تولوز وعندما اقترب من مدخل الكنيسة قرعت أجراسها من ذاتها قرعاً قوياً وغريباً. فتراكض الناس إلى الكنيسة ليروا ما الأمر. فوجدوا القديس عبد الأحد واقفاً على المنبر، وطفق يقص عليهم ما رآه في خلوته بعد صومه وتقشفه، وما أعطته العذراء من أجلهم. وأمرهم للحال بتلاوة المسبحة الوردية رداً لغضب الله وطلباً لعفوه عنهم. وبوقته كان الجو قد تعتم بالغمام متلبداً، وأخذ الرعد يزمجر والبرق يقصف. وكان في الكنيسة تمثال العذراء، فأخذ يرفع يديه إلى السماء ثم يلقيها نحو الشعب، كأنه يتهدده بالويلات. ولكن عبد الأحد جثا أمامه طالباً من العذراء أن تقبل توبتهم مع تلاوتهم لورديتها، وكف يد العدل الإلهي عن الاقتصاص عنهم. وقد ورد في أعمال القديس عبد الأحد، أنه لما كان قومه مذعورين من المخاوف التي كانت تتهددهم من اضطراب الجو وزمجرة الرعود ولمع البروق. نادى بهم صارخاً: " إني أرى أمامي فرقة من الملائكة جنود العلي عددها مائة وخمسون ملاكاًً، شاكي السلاح للانتقام منكم بسبب معاصيكم. ولكن يمكنكم النجاة منهم باحتمائكم في أكناف العذراء والدة الفادي، وتلاوة ورديتها وتكريمها. وأنا الكفيل لكم بالنجاة. وفي تلك الساعة سمعت أصواتاً صارخة تقول: ويل لنا منها إن قوة الوردية تزجنا إلى الأعماق الجهنمية مقيدين بسلسلة قوية ".
   وذكر البابا اكليمنضوس الثامن  أن أول من ألف أخوية للوردية في روما عاصمة الكثلكة هو القديس عبد الأحد. ولم تكن عبادة الوردية في أول نشأتها تدعى بهذا الاسم، بل كانت تدعى تارة بصلاة الأبانا وتارة بالمزامير المريمية. ثم دعيت مسبحة عبارة عن عقد أو إكليل منظوم على مثال الإكليل الذي وضعه موسى على تابوت العهد.
   وكانت المسبحة في أول أمرها كناية عن سلسلة معقودة عقداً بعدد الأبانا والسلام فيها، كما شهد ألانوس بقوله: " إن عبد الأحد كان يوزع من تلك السلاسل المعقودة منه عقداً عقداً كمية وافرة، وكأني به يوزع مقاليع يرمي بها إبليس ". وقد شبهها بعضهم بالحبلة القرمزية التي دلتها راحاب على جدار مدينة أريحا، وبها تخلصت مع كامل عائلتها من خراب أريحا ودمارها. وقد قال القديس ايرونيموس: " تلك الحبلة كانت عقداً منضداً بالأسرار، وما أشبهها بسلسلة الوردية التي بها ينجو الخطأة من تنكيل النقمة   الإلهية ".
   وقال بعضهم أن سلسلة الوردية يربطها كل حبة من حبات المسبحة بأختها، تشير إلى ارتباط الأخوة الذين يشتركون بها مع بعضهم. ويبدو إن تسمية هذه العبادة بالوردية قديمة العهد على ما وردت في براءات الأحبار وأسفار المؤرخين.
   فالمعلم كرنيلوس الحجري الشارح الشهير للأسفار الإلهية يقول أن التسمية جاءت من أية في سفر الحكمة: " كالوردة المغروسة على ضفاف المياه ". وأخرى في سفر الجامعة: " كالوردة المغروسة في أريحا ". على أن الوردة بلونها الظريف، ورائحتها الزكية هي أصلح ما يكون للتعبير عن العذراء وجمالها وطهارتها وبهاء عظمتها ومقدرتها وعذوبة رحمتها ومحبتها. ولذلك اعتاد المسيحيون أن يكرموا " الوردة السرية " بتلاوة المسبحة الوردية. ولا يخفى أن في الورد نضارة أوراقه ولذعة أشواكه وجمال أزهاره. فنضارة أوراقه عبارة عن أسرار الفرح. ولذعة أشواكه كناية عن أسرار الحزن. وجمال أزهاره رمز على أسرار المجد. فالوردة بجمالها تبهج النواظر، وهكذا يسوع ووالدته يبهجان القلوب بأفراحها. وبأشواكها تلذع، كذلك يسوع ووالدته بأوجاعها يمسان قلوب الخطأة بلواذع التوبة والندامة. وبرائحتها الزكية تنعش النفوس، وهكذا يسوع ووالدته بأسرار مجدهما ينعشان أروحنا برجاء المجد السماوي.  وفي سنة 1216 أسس القديس عبد الأحد رهبنة الدومنيكان " الإخوة الوعاظ "، وكان من بين الرهبان الأولين الأب دي لاروش. فعمل الأبوان معاً على تنسيق المسبحة، وإغناها بإدخال الأسرار إليها للتأمل بحياة يسوع وحياة مريم أمه، وكان ذلك سنة 1217 وسمياها المسبحة الوردية، مقسمة إلى ثلاثة أقسام هي: أسرار الفرح. أسرار الحزن. أسرار المجد. وكل قسم مقسم بدوره إلى خمسة أبيات، وكل بيت يتألف من عشر حبات.  وقد قسمت الثلاث أسرار على اعتبار أن حياة يسوع المسيح وحياة أمه العذراء مريم المشتركة معه بسر التجسد وبسر الفداء قد مرت بثلاث مراحل هي: الفرح والحزن والمجد. وبين كل بيت وآخر يضاف حبة كبيرة منفردة مخصصة لتلاوة الصلاة الربية التي تعود إلى عهد الرسل. وأضاف الأبوان عبد الأحد ودي لاروش إلى هذه المسبحة الصليب، لأن كل مسيحي يبدأ أعماله وصلاته بإشارة الصليب. وقرب الصليب حبة منفردة مخصصة لتلاوة قانون الإيمان النيقاوي. ثم هنالك الثلاث حبات للتأمل بالصفات الثلاث التي تتمتع بها العذراء مريم دون سواها: فهي ابنة الآب وأم الابن وعروسة الروح القدس.
وقد عين البابا غريغوريوس الثالث عشر  سنة 1573 يوم 7 تشرين الأول عيد الوردية. وكان البابا اينوشنسيوس الحادي عشر  قد استجاب سنة 1683 لطلب ملك بولونيا جان سوبيسكي تخصيص شهر تشرين الأول  بكامله لعبادة المسبحة الوردية. 
   وقد وجه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني  سنة 2002 إرشاد رسولي في المسبحة الوردية تحت عنوان " مسبحة العذراء مريم "، يعلن فيه سنة مكرسة للمسبحة الوردية. ومن المعلوم أن البابا يوحنا بولس الثاني كان شغوفاً في تكريم العذراء لذلك اتخذ في بداية حبريته شعار : " إنني بكليِّتي لكِ يا مريم ".  ومن خلال هذا الإرشاد أضاف الأب الأقدس أسرار النور إلى الأسرار الثلاثة المذكورة سابقاً حيث يقول في المقدمة: " إلى مريم الكلية الطهارة سلمت هذه الألفية الجديدة. أريد أن أشهد على الثقة ببادرتين رمزيتين هما: أن أنشر وثيقة مكرسة لصلاة المسبحة " مسبحة العذراء مريم ". أن أعلن " سنة المسبحة الوردية " التي ستستمر من تشرين الأول 2002 إلى تشرين الثاني 2003 ". ثم يستعرض الأب الأقدس الأسباب التي دعته لإضافة الأسرار الجديدة بالقول: " إذا أردنا أن نتمكن من أن نقول قولاً كاملاً إن الوردية هي ملخص الإنجيل، فإنه بعدما ذكرنا التجسد وحياة المسيح الخفية " أسرار الفرح "، وتوقفنا عند الآلام والموت " أسرار الحزن "، وعند بهجة القيامة " أسرار المجد ". يليق بنا أن نوجه تأملنا إلى بعض أحداث من حياة يسوع العلنية التي تتصف بمعان عميقة " أسرار النور ". إن إضافة هذه الأسرار الجديدة لا تشوه صيغة الصلاة التقليدية، بل تهدف إلى وضعها في صلب الروحانية المسيحية، وتجلب إليها انتباه المؤمنين، لأنها تعبر عما في أعماق قلب يسوع من فرحٍ ونورٍ وألمٍ  ومجد ".     
   ويحتفل بعيد مريم العذراء سلطانة الوردية المقدسة في الأحد الأول من شهر تشرين الأول.         
                       





















110
تذكار مار سبريشوع
الشماس نوري إيشوع مندو
مار سبريشوع: أبصر النور في بلد نينوى في مطلع النصف الثاني من القرن السادس. ولا نعرف شيئاً عن والديه. عكف على الدراسة وتلقي العلوم منذ نعومة أظفاره. ثم رحل إلى أربيل التي كانت مزدهرة بالإيمان والمدارس ليرتشف المزيد من المعارف. وبعد سنين بلغه خبر دير إيزلا الكبير والحياة الرهبانية المزدهرة فيه تحت رعاية مؤسسه العظيم مار إبراهيم الكشكري. فذهب إلى هذا الدير وتتلمذ لهذا المعلم الكبير، وسار على نهجه في حياة القداسة والتضحية. ويذكره ايشوعدناح في " كتاب العفة " بين تلاميذ إبراهيم الكبير العديدين.
   وبعد وفاة معلمه غادر دير إيزلا متوجهاً إلى أقصى شمال العراق في منطقة الغاب الجميل، واختار في تلك الجبال الوعرة موضعاً يتلاءم مع رغبته في العزلة والصمت والاختلاء بغية العكوف على الصلاة في حضور الله والتفرغ لعبادته. إلا أن شذى فضائله عبق تلك الأصقاع وفاح عرفه بعيداً، واجتذب العديد من الناس العطاش إلى الحياة مع الله، فاجتمع حوله بعض التلاميذ الذين شرعوا يعيشون تحت أنظاره ورعايته وإرشاده الروحي. حتى تكونت جمعية صغيرة وتأسس دير يتناسب مع عددهم واحتياجاتهم الروحية والمادية. ولدى موت مار سبريشوع أودع جسده في الدير الذي أقامه. 
   لم يكتفِ الدير باجتذاب العديد من الناس الذين انضووا تحت إرشاد المؤسس وخلفائه في إدارة الدير، بل حدا ببعض سكان المناطق المجاورة إلى المجيء والسكنى بجواره، تيمناً بشفاعة القديس وسعياً وراء السيرة المسيحية التي رأوها متجسدة في أولئك الرهبان. وهكذا تكونت إلى جانب الدير قرية أطلق عليها " أمرا دمار سوريشو " أي قرية مار سبريشوع، وتقع هذه القرية على مسيرة ساعتين شمالي قرية سناط العراقية، وتفصل بينهما سلسلة جبال عالية تكوّن الحدود بين العراق وتركيا. وتقبع القرية على سفح جبل دعي هو أيضاً باسم مار سبريشوع. والقرية تقع إلى الجهة الجنوبية الغربية من المزار الذي يحتوي على ضريح هذا القديس. والقرية اليوم تقع ضمن الأراضي التركية.
   وبالرغم من أن القرية كانت محاطة بقرى إسلامية من جميع الجهات، إلا أن شهرة مار سبريشوع والعجائب التي أظهرها جعلت الجميع يحترمون المزار ويتركون الحرية التامة لسكان هذه القرية في ممارسة شعائرهم الدينية، وفي العيش بأمان دون مضايقات.   
   وكان سكان القرية والقرى المجاورة يحتفلون بعيده في الأول من تشرين الأول، فتقصده في ذلك اليوم جموع غفيرة من المسيحيين والمسلمين، فينحرون الذبائح، كل عائلة حسب إمكاناتها، ويهيئون الطعام في فناء الكنيسة، ثم يجلس الجميع ويتقاسمون ذلك الطعام الذي يعتبرونه طعاماً مقدساً، ويشترك فيه الجميع في جو من التآخي والمحبة. وقبل الطعام كانت الجموع تختلي وتصلي طالبين شفاعته لنيل النعم الضرورية.
   وخلال مذابح السفر برلك هجر سكان القرية إلى العراق. ولا يزال حتى يومنا هذا أبناء هذه القرية أينما وجدوا يحتفلون بتذكار مار سبريشوع، ويعيشون تحت ظل حمايته القديرة.   


111
تذكار الشهيدة مسكنته " شيرين " وولديها

   الشهيدة مسكنته وولديها: تنتمي إلى عشيرة زادوق. وخلال الاضطهاد الذي أثاره الحاكم طهمزكرد على مسيحيي كرخ سلوخ " كركوك "، كانت تخبز الخبز في بيتها، فبلغها خبر استشهاد الكم الهائل من المؤمنين. فتركت الخبز والعجين في المعجن، وأخذت ولديه واحداً على كتفها والأخر بيدها. وهرعت مسرعة إلى بيت تيتا حيث قتل الشهداء، واستطاعت أن تدخل المعسكر لتلتقي الحاكم طهمزكرد في أسفل " حورا ". فأمسكت بلجام حصانه واستحلفته باللغة الفارسية بألا يحرمها من تلك الطريق التي سلكها الشهداء. فتوقف الحاكم وقد تولته الدهشة من هذا الطلب، وحاول أن يثنيها عن عزمها، ولكن دون جدوى.
   فأمر أن يقطع رأسها ورأس ابنها الأكبر. أما الولد الصغير فارتمى فوق جثتي أمه وأخيه وصار يبكي، ويأخذ من دمهما ويمسح به عينيه وجسمه. وكلما حاول الحاكم والوثنيون أن ينتزعوه ويقنعوه بالهدايا والكلمات الطيبة، كان يفلت منهم ويركض إلى جثتي أمه وأخيه ويرتمي فوقهما ويقبلهما باكياً. إذ ذاك أجهز هؤلاء القساة عليه وضربوا عنقه أيضاً، فلحق هو أيضاً بموكب الشهداء. 
   إن شيرين الشهيدة تلقب في قصة استشهادها بالمرأة المسكينة، لذلك كُنية بمسكنته نظراً لبساطتها وفقرها. وهناك شهيدة أخرى باسم مسكنته، والتي عاشت في زمن دخول كنيسة المشرق النسطرة. ولها ذكر في الحوذرة القديمة  " مدار السنة الطقسية "، في الجلسة الثانية من صلوات تذكار تهنئة العذراء مريم. 
   وفي مخطوط كزا دذوخراني " كنز التذكارات " والمحفوظ في مطرانية الموصل طقس للشهيدة مسكنته يتحدث عنها وهي واقفة وسط قوم أشرار من الوثنيين، تشجع ابنيها على الشهادة، لا يخيفها سيف ولا نار ولا غضب المضطهدين. بل تستبسل مقدمة جسدها عرضة لأقسى العذابات من أجل المسيح يسوع الذي احتمل الآلام والموت عوضاً عن البشر. ونفهم من التراتيل والقصائد التي في طقسيتها بأن استشهادها كان عقب استشهاد ولديها. وهو يخالف بعض الشيء ما ورد في خبر استشهادها في أعمال شهداء كركوك. ونحو القرن العاشر شيد في الموصل كاتدرائية فخيمة على اسم الشهيدة مسكنته وولديها، وفي أوائل القرن التاسع عشر أضحت الكاتدرائية البطريركية لكرسي بابل على الكلدان، واستمرت حتى سنة 1960 حيث نقل الكرسي البطريركي إلى بغداد. وتضم الكاتدرائية أضرحة العديد من البطاركة والمطارنة والكهنة. 
   وقد تجدد ورمم بناء الكاتدرائية عدة مرات. وفي عهد البطريرك يوسف السادس أودو جدد بناؤها وذلك سنة 1850. ويقال أنه حينئذ نقل جثمان الشهيدة إلى مصلى صغير ملاصق للهيكل الرئيسي، ويعرف الآن بـ " بيت القبر ". ويقصده كثيرون من الملل والأديان المختلفة للتبرك والاستشفاع.       
   ويحتفل بتذكار  الشهيدة مسكنته وولديها في 25 أيلول.




112
تذكار مار طهمزكرد الشهيد

   طهمزكرد الشهيد: كانت المسيحية مزدهرة في مدينة كرخ سلوخ " كركوك ". وقد بشرت بواسطة الرسولين أدي وماري. ويتحدث التقليد أن الرسولين لدى دخولهما إلى المدينة، استقبلهما رجل يدعى يوسف. وحينما تتلمذ واعتمد بنى كنيسة دعيت " دير يوسف ". وفي السنة الثامنة من عهد الملك يزجرد ( 399 _ 420 ) أثار اضطهاداً عنيفاً على كنيسة الله. ظناً منه أن الأعداء ينتصرون عليه بسبب المسيحيين. وكان أسقف المدينة في تلك الفترة يدعى يوحنان. فكتب يزجرد إلى طهمزكرد حاكم نصيبين طالباً منه أن يأخذ معه اذفراكرد حاكم منطقة أرزون، وسورين حاكم حدياب وبيت كرماي، ويذهب إلى كرخ سلوخ ويحاولوا الضغط على المسيحيين في تلك المنطقة، لكي يحملوهم على جحود المسيح والسجود للنار. وإلا فليسلموا إلى التعذيبات والتنكيلات، ثم إلى الموت بالسيف. فجاء طهمزكرد ورفاقه ودخلوا المدينة في 15 تموز، وألقوا القبض على أشراف المدينة ورؤسائها. وعذبوهم ثم زجوا بهم في السجن. ثم أرسلوا رجالاً لا يعرفون للرحمة معنى، وأوصوهم بأن يأتوهم بجميع المسيحيين مخفورين، لكي يهلكوهم بمختلف أنواع الموت، إن  لم يجحدوا إيمانهم.
   ولما رأى الأسقف يوحنان ما حدث، اعتكف في الكنيسة مع رعاياه وهم يبتهلون إلى الله ليأتي إلى نجدتهم. واستمروا هناك حتى 20 آب. حيث أمر طهمزكرد بفصل الراعي عن رعيته. فزج بالأسقف في السجن حيث جمع غفير من المسيحيين كانوا قد سبقوه إليه.
   وبينما كان يوحنان خارجاً من الكنيسة في طريقه إلى السجن، رأى الحاكم طهمزكرد، فقال له بصوت عالٍ: " السلام عليك أيها الحاكم والمحكوم. السلام عليك أيها المؤدِّب والمؤدَّب. السلام عليك أيها المجوسي والمعترف والشهيد. ألا زد يا طهمزكرد وألف لك فرقة لكي تلاقي معها وجه الختن الذي دعانا إلى ملكوته. فأرى أنك مثل شمعون الصفا ستُصلب منكس الرأس في سبيل المسيح ".
وكان في السجن أسحق بن هرمزجرد وهو من عظماء عشيرة شهيرة في كرخ سلوخ. فهذا فتح فاه وقال لطهمزكرد أقولاً نبوية: " يا طهمزكرد إنك مزمع أن تنال شهادة حسنة في سبيل الرب، فتكون عوض الذئب حملاً، وتقدم جسدك ذبيحة مقدسة مقبولة مرضية عند الله ".
   وأصدر طهمزكرد أمراً بنهب أموال المسيحيين من سكان المدينة، وألقى رجاله القبض بهمجية وشراسة على مطرابوليط أربيل، وأسقف بيث نوهدرا، وأسقف معلثا، ومطرابوليط شهرقرد، وأسقف لاشوم، وأسقف ماحوزا، وأسقف خربه جلال، وأسقف بلد، مع الكثير من اكليروسهم ورعاياهم. ويقال أن عددهم كان يربو على مائة وثلاثة وثلاثين شخصاً. وقد دخلوا المدينة وهم يرتلون المزامير والتسابيح وكأنهم في تطواف. وضموا إلى السجناء المسيحيين سكان المدينة، والذي كان عددهم عشرين ألفاً. ولما سمع السجناء أصوات التسابيح من القادمين إليهم فرحوا فرحاً عظيماً. أما أتباع طهمزكرد فحينما رأوا تلك الألوف العديدة من الناس، وسمعوا أصوات تسابيحهم ترتفع إلى عنان السماء، تولاهم الخوف والهلع، لأنهم ظنوا أن ثمة انتفاضة.
   وصعد طهمزكرد إلى الموضع الذي يدعى " بيت تيتا " حيث قتل الشهداء في عهد الملك شابور. وجلس على منصة القضاء، وعرض أمام تلك الجموع مختلف آلات التعذيب وقال لهم: " لقد أمر الملك يزجرد بأن تباد حياتكم بهذه الآلات الرهيبة، إذا لم تطيعوا أوامره وتلبوا إرادته، وتسجدوا للشمس وتكرموا النار    والماء ". ومع هذه الآلات أتوا بستة عشر فيلاً لكي تدوس بأقدامها جميع الذين لا يجحدون المسيح.
   فأخذ أسحق آلات التعذيب وشرع يقبلها ويضعها على عينيه ويقول: " سلام على هذه الآلات التي بواسطتها ندخل بلاط الملكوت السماوي، وننعم بمظال النور التي هيأها لنا المسيح ربنا منذ إنشاء            العالم ". ثم فتح فاه وقال للحاكم: " لماذا أنت واقف أيها الحاكم؟ أقترب وأنجز ما أُمرت به ".
   فلما سمع طهمزكرد هذه الأقوال حتى أمر بتمديد أسحق على الأرض، وغرز أوتاد في يديه ورجليه، وجرد جسمه بأمشاط حديدية حتى انتزعت لحمانه من عظامه. ثم أمر بأن يأتوا بجميع السجناء المسيحيين ليعذبوا مثل أسحق. فأسرع أولئك القديسون إلى موضع القتل والموت وهم يرتلون المزامير والتسابيح. فمنهم من بتروا رجليه، ومنهم من قطعوا لسانه، وغيره قلعوا عينيه، وأخر سلخوا جلد رأسه. وفي الأخير أمر الحاكم بأن يأتوا بقصب وأغصان ودهنوها بالنفط، واجلسوا القديسين وأضرموا النار بالحطب، واحرقوا أجسام الشهداء. وهكذا أدوا الشهادة للمسيح، وكان ذلك اليوم يصادف 24 من شهر آب.
   حينئذ أرسل أحد الحكام الذين مع طهمزكرد إلى الأساقفة ليسألهم: " من هو رئيسكم؟ ". فسكتوا جميعاً. وكان ثمة غلام أسير وهو ابن أرملة من الكرخ اسمه ديندوي. فقام هذا الغلام وقال ببسالة لهؤلاء الأساقفة: " تشجعوا يا آباءنا بالرب ولا تخافوا وأجيبوا الأعداء. وإلا فسلموا الرئاسة إلى أهل الكرخ. فنتقبل نحن عوضكم عذابات المضطهدين ". وفي الحال اتفق مطرابوليط شهرقرد والأساقفة الذين معه، وكتبول كتاباً وختموه بتوقيعهم وقالوا: " بك تليق المطرابوليطية أيها الغلام، إذ صرت في هذه الساعة الرهيبة إيليا الثاني وداود الصبي ". ومن ذلك اليوم استقرت رئاسة المطرابوليطية في الكرخ. ثم وضعوا أيديهم عليه وباركوه ورسموه بأيديهم المكبلة بالسلاسل.   
   وفي اليوم التالي أمر طهمزكرد بإقامة مذبح، وطلب من مسيحيي الكرخ وكانوا نحو ثلاثة آلاف نسمة أن يقدموا الضحايا للآلهة المجوس، فرفضوا وصرخوا قائلين: " معاذ الله أن نترك المسيح الذي صار ضحية عوضنا، ونذبح للشياطين والماردين ". فأمر طهمزكرد بتصفيتهم بأبشع الطرق. وفي بادئ الأمر قتلوا ديندوي ثم الأساقفة، وانقلبوا على الذين معهم فرشقوهم بالسهام، ثم احموا المسامير وغرزوها في بآبئ عيونهم وثقبوا أجسامهم، فاستشهد هؤلاء في 25 آب. وفي اليوم الثالث أمر طهمزكرد فاخرجوا إلى نفس المكان ثمانية آلاف وتسعمائة وأربعين شخصاً ومعهم الأساقفة. وشرعوا يستنطقون فرقاً فرقاً من تلك الجماعة الغفيرة من القديسين، وحينما اعترف جميعهم باسم المسيح ببسالة، عين ثلاثة آلاف مجوسي من الذين لا يعرفون للرحمة معنى لكي ينكلوا بهم. فقتلوا منهم بحد السيف، ومنهم حرقاً بالنار، وآخرون نشروا، وغيرهم رجموا، ودسوا في أعين آخرين ومناخيرهم خلاً وخردلاً إلى أن فاضت روحهم. حتى قضوا عليهم جميعاً بمختلف وسائل التعذيب والتنكيل. وبلغ عدد الشهداء الذين قتلوا على يد طهمزكرد نحو اثني عشر ألفاً. 
   بعد هذه المجزرة الرهيبة فتح الرب عيني طهمزكرد، فرأى سلماً موضوعة على الأرض ورأسها يبلغ السماء، وعليها يصعد جميع الذين قتلهم. وكان الرب واقفاً في أعلاها، وهو يضع الأكاليل المجيدة فوق هاماتهم. وفي الحال طرأ تغيير مفاجئ على عقل الحاكم، واختلجت فيه عواطف الندامة، وصرخ بأعلى صوته:   " إنني مسيحيي ". وهكذا تمت النبؤات التي قيلت عنه. وأخذ يرثي نفسه ويبكي ويبتهل إلى المسيح كي يغفر له دم الشهداء الذي يسفكه. 
   ثم رفع بصره نحو السماء وهو يقول: " اغفر لي يا رب ذنوبي، فإني قد أخطأت إليك كثيراً، إذ قتلت جماعة لا تحصى من الذين يؤمنون بك. آمنت بك أيها المسيح الإله القوي القدير، وأقر معترفاً أنك الإله الحق، الذي خلق السماء والأرض. فعلمني ما يجب عليَّ فعله لأمحو خطاياي، وأنا مزمع أن أمحوها ليس فقط بدموعي بل بدمي أيضاً ". وللحال أوعز إلى منادٍ أن ينادي بأعلى صوته، أن قد بُطل الاضطهاد، وأطلقت الحرية للمسيحيين. ثم انطلق إلى الكنيسة ولبس حلة العماد، وطلب من الصناعيين أن يصنعوا صناديق ويغشوها بالفضة، ويضعوا فيها ما بقي من أجسام الشهداء.
   وبلغ الملك يزجرد خبر طهمزكرد، فكتب لسورين حاكم باجرمي. وأمر أن ينكل به حتى يجبره على العودة إلى دين المجوس. وما أن وصلت إليه أوامر الملك، أمر بإحضار طهمزكرد فأخذ يستنطقه قائلاً له: " قل لي يا طهمزكرد ما الذي حملك على أن تخون الملك فتنبذ ديانته الجليلة، ومع أنك كنت تنكل بالمسيحيين أراك الآن تناضل عنهم ". فقال له طهمزكرد: " إن نور المسيح أشرق عليَّ فاستنار عقلي، فعرفت أن ديانة المجوس باطلة. وأيقنت أن المسيح الذي يسجد له المسيحيين إله حق. فخررت ساجداً له، مقراً بألوهيته ".
   فقال له سورين: " تأمل يا منكود الحظ وانظر إلى ما كنت عليه من الكرامة والعظمة، وإن الذي يدينك الآن كان تحت أمرك. فما هذا الجنون الذي اعتراك، فأحببت هذا العار ". فأجابه طهمزكرد: " رأيت أن عظمة هذه الدنيا زائلة فأبغضتها، وإن كرامة العالم العتيد باقية أبداً فعشقتها ".
   فقال سورين: " أضرب عن هذا الرأي الفاسد الذي ليس من شأنك، وبادر ساجداً للشمس والقمر والنار والماء. وإلا فقسماً بالشمس لأقتلنك قتلة وبيلة ". فرد طهمزكرد بالقول: " حاشاي أن أسجد لخليقة معدومة الحياة والمعرفة والنطق، وأهين بذلك الله الحق الذي كون السماء والأرض. وأما القتل فأنا لتائق إليه كوني به أمحوا ما ارتكبت من الخطايا، كما كنت نظيرك متدهوراً في الضلال والكفر ". فلما قال هذا غضب الحاكم سورين فأمر بجلده. فجلده الجلادون بقساوة شديدة، حتى أن الدم انفجر من كل جانب. فقال له سورين: " ماذا تقول يا طهمزكرد شاهد في أي حال كنت من المجد والعظمة، وفي أي حال أمسيت الآن من الفضيحة والهوان ". فرد طهمزكرد: " إن ما تظنه أنت فضيحة وهوان هو مجد وفخر لنا نحن المسيحيين. فإننا به سنطأ تحت أقدامنا الشمس إلهكم، فندخل السماء ونتوسط في خدور الملكوت ".
   ثم أمر الحاكم أن يودعوه السجن إلى أن يخبر الملك يزجرد بأمره. فكتب له وأخبره بكل ما جرى. فأمر يزجرد أن يزيد التنكيل بطهمزكرد، وإن بقي مصراً على رأيه فليصلب منكس الرأس. فأخرج سورين طهمزكرد من السجن وقال له:  " صار لك زمان في الحبس، فما الذي قرَّ عليه رأيك. هل تسجد  للشمس ".
  فرد طهمزكرد بالقول: " إن ما قرَّ عليه رأيي هو أن أموت من أجل الله تعالى الذي خلق الشمس والقمر وكل ما في الأرض والسماء. فلا أرجع إلى ديانتكم الباطلة. ولا أنكر المسيح الذي اعترفت به ".
   فاحتدم سورين غضباً، وأمر أن يجرد جسمه بأمشاط من حديد. ففعلوا ذلك بقساوة وحشية، حتى أن العظام انسلخت من الجلد واللحم. وأما هو فكان يرفع بصره إلى السماء مستعيناً بالله قائلاً: " يا رب أعطني القوة وانصرني على   أعدائي ".  ولما رأى سورين أن عزمه لا ينثني، ولا يضعف أمله مع كل ما لاقى من العذابات، أمر بصلبه منكس الرأس. فصلب كما أمر الملك يزجرد. ولما كان معلقاً على الصليب رفع عينيه إلى السماء وصلى قائلاً: " يا رب ترحم عليَّ واغفر لي ذنوبي الكثيرة. فإني قد ارتكبت خطايا باهظة، إذ تجرأت على قديسيك. وها أني محواً لذنوبي قد سفكت دمي. وأهلني أنت أن أصلب مثلك على الخشبة. فأملي وطيد أنك لا تطردني من أمامك، بل تقبلني في زمرة الذين نالوا مني إكليل   الاستشهاد ". وما أن انتهى حتى نفسه إلى الملكوت. وكان استشهاده في 25 أيلول سنة 409.
   وفي سنة 470 بنى مار مارون مطران كرخ سلوخ ديراً في مكان قتل الشهداء، وهو موجود حتى الآن ويدعى بالتركية " قرمزي كليسا " أي الكنيسة الحمراء. ويقصدها المؤمنين للتبرك من عظام الشهداء المدفونة فيها.   
   ويحتفل بتذكار الشهيد طهمزكرد في 25 أيلول.                         


113
تذكار مار قرداغ الشهيد
الشماس: نوري إيشوع مندو
   مار قرداغ الشهيد: هو ابن النبيل الفارسي الوثني كوشناوي، المتحدر من سلالة الملوك الآشوريين. وكلمة قرداغ تعني بالفارسية " الغار الموسم بالنار "، وهنالك من ينسبها إلى الكلمة الكلدانية نودس    " قرداح " وتعني " حداد ".
   ولد قرداغ في حدود سنة 325 م أيام حكم الملك شابور الثاني. بعد تخرجه من المدرسة العسكرية، وتمرسه بفنون القتال والفروسية، تزوج من فتاة شريفة المنبت تدعى " شوشان " ابنة النبيل نكوركان، وكان قد بلغ في حينه الخامسة والعشرين من عمره. وكان قرداغ وسيم الطلعة، مفتول العضلات، غيوراً على معتقده الوثني من عبادة النار والشمس.
   وكان ملك الملوك قد قربه إليه، وجعله من خاصته، ومنحه منصب المرزبانية أي " محافظ أو والي أو حاكم " على منطقة أربيل، الممتدة يوم ذاك من نهر ديالى  وحتى مدينة نصيبين، حيث الحدود المشتركة بين المملكتين الفارسية  والبيزنطية .
  ولدى تسلمه وظيفته في أربيل، أقام احتفالاً كبيراً بهذه المناسبة، إكراماً للآلهة ومعابد النار، وأغدق عليها بالهبات النفيسة. ثم شرع ببناء قلعة وقصر على تل يدعى مِلقى، وأنجز البناء خلال سنتين. وأثناء البناء تراءى له ذات ليلة فارس يمتطي جواده " مار كيوركيس "، واخبره بأنه سوف يموت أمام حصنه هذا، شهيداً في سبيل المسيح. ثم أوحى الله له أن راهباً يسكن مغارة في لحف جبل مطل على بلدة شقلاوة  في منطقة " بيث بغاش "  في أعالي الزاب الكبير اسمه عبد يشوع ، سوف ينزل من الجبل ويحضر أمامه لأمر يتعلق بهدايته.
   وفي أحد الأيام وبينما كان قرداغ ورفاقه ذاهبون ليلعبوا لعبة الكرة والصولجان، اعترض طريقه الراهب عبد يشوع، فغضب قرداغ وأمر بلطمه وتوقيفه ريثما ينظر في أمره. وعند وصولهم الميدان وبدئهم اللعب، تسمرت الكرة في مكانها أثناء محاولتهم قذفها، وذلك بدعاء عبد يشوع. فعاد قرداغ إلى قصره منزعجاً ومنذهلاً، وأمر بإحضار عبد يشوع لاستجوابه.
   وعندما حضر جرى بينهما حوار طويل، حاول فيه عبد يشوع أن يثبت لقرداغ أن تمجيده النار والشمس إنما هو تمجيد لمخلوقات فانية، هي من صنع الخالق الأبدي. ولكن قرداغ صم أذنيه وضميره عن سماع كلمة الحق، وأمر بتقييد الطوباوي عبد يشوع بسلاسل قوية ورميه في السجن.
   وفي اليوم التالي خرج المرزبان قرداغ إلى الصيد، لكنه خذل لأن السهام التي كان يرميها كانت تسقط أمامه دون أن تنطلق بعيداً. فأدرك المرزبان أن في الأمر أعجوبة مردها صلوات عبد يشوع الذي أودعه السجن. فرجع إلى قصره كئيباً، عاقداً العزم على إطلاق سراح عبد يشوع في الغد.
   وفي منتصف الليل ظهر ملاك الرب لعبد يشوع، وأخرجه من السجن بأعجوبة وقاده خارجاً، حتى أوصله مغارته في الجبل، وهناك تركه واختفى.
   وعند الصباح أمر قرداغ إطلاق سراح عبد يشوع، فذهب الحرس إلى السجن لإخراجه، وإذا بهم يفاجأون بسجن خال إلا من سلاسل الطوباوي وقيوده. فاعتراهم خوف وذهول شديدان، وأسرعوا إلى المرزبان يخبرونه بالأمر. فلما علم بالأمر اعتراه الخوف، واعتصره ضيق واكتئاب. وشرع يبكي بندم قائلاً: " حقاً أن إله المسيحيين لعظيم ".
   ومنذ تلك اللحظة حصل انقلاب عظيم في حياته، فدخل غرفته ورسم على الجدار الشرقي علامة الصليب، وطفق يصلي بحرارة، ويتضرع من أجل أن يرى عبد يشوع ثانية، لكي يستغفره ذنبه. فاستجاب الله صلواته، إذ ظهر له عبد يشوع بعد أيام في الحلم، وأنبأه بمكانه. وفي الصباح استعد بسرعة للرحيل، فغير ثيابه متنكراً، وامتطى صهوة جواده، آخذاً معه اثنين من خدمه الأمناء، وساروا نحو الجبل قاصدين مغارة عبد يشوع. وما أن وصلوا سفح الجبل، حتى نزل إليهم عبد يشوع مستقبلاً إياهم بفرح وسرور. فترجل قرداغ عن حصانه وارتمى عند قدمي عبد يشوع طالباً منه المغفرة والسماح. فأنهضه عبد يشوع وقبله، واقتاده إلى مغارته، وهناك شرعا بالصلاة والتعبد. أما الخادمان فإنهما اقتادا حصان سيدهما إلى دير سبريشوع القريب في لحف الجبل.
   وكان على الشمال من مغارة عبد يشوع بنحو تسعة أميال، راهب تقي يسكن صومعة هناك في أعلى الجبل، اسمه بويا  أو بيري. وكان قد تنسك منذ سنة 285، وقد أمضى في صومعته نحو 68 سنة. فأوحي إليه أن ينزل إلى مغارة عبد يشوع ليشاهد المهتدي قرداغ ويفرح به، وعند وصوله اندهش عبد يشوع وهو يرى الشيخ الجليل قد برح صومعته بعد كل هذه السنين الطويلة. فبادره الربان بويا معاتباً، لأنه لم يدعوه إلى وليمة الرب مع قرداغ، ثم عانقهما وجلس يحدث قرداغ بكلام الرب، وأمضى معهم ثلاثة أيام، ثم رجع الربان بويا إلى مغارته. أما قرداغ فقد أمضى لدى عبد يشوع خمسة أيام، وهو يلتمس منه أن يمنحه العماد المقدس.
   وفي عشية اليوم السادس ظهر مار كيوركيس في حلم عبد يشوع، طالباً منه ألا يتأخر في فتح باب الشهادة أمام قرداغ. وفي الصباح أخذ عبد يشوع قرداغ إلى دير سبريشوع، وهناك نال قرداغ وخادميه العماد بفرح وحبور. ثم عادوا إلى مغارة عبد يشوع وامضوا لديه سبعة أيام أخرى.
   بعدها قفل قرداغ وخادميه راجعين إلى مقرهم في حصن مِلقى، بعد أن ودعوا عبد يشوع والإيمان يغمر قلوبهم. وما أن وصل قرداغ قلعته، حتى احضر أحد الرهبان ليعلمه المزامير، ويقرأ له الإنجيل المقدس. وأخذ يغير منهاج حياته، فامتنع عن أكل اللحم، وابتدأ بتوزيع الهبات والهدايا على الأديرة والأيتام والفقراء والمرضى. مما شكل إزعاجاً لذويه، وخصوصاً والده وزوجته اللذين لاحظا علاوة على اعتناقه المسيحية، تبديده لأموالهم وأملاكهم. وبعد أيام تراءى لزوجته رؤيا عجيبة جعلتها تؤمن برسالة زوجها.
   وبعد مضي سنتين ونيف على اقتباله المسيحية ذهب لزيارة مار عبد يشوع، ومكث لديه شهراً كاملاً، مع ترددهما أيضاً لزيارة الربان بويا في صومعته. فانتهز الأعداء الفرصة للإغارة على جيشه وممتلكاته، فاكتسحوا ولايته وعاثوا فيها خراباً ودماراً، وقتلوا الكثير من فرسانه وسبوا الباقين، ومن ضمنهم زوجته وجميع أهل بيته. وما أن علم بما حدث حتى ودع مار عبد يشوع والربان بويا طالباً بركتهما، وانطلق في أثر الأعداء ببقايا فرسانه البالغ عددهم 234 فارساً، الذين اقتبلوا جميعهم العماد.
   ولقي قرداغ أعداءه على ضفة الخابور  أمام جبل قردو، فهجم عليهم مكبداً إياهم خسائر فادحة في الرجال والمعدات، وفر الناجون من أمامه، فلحق بهم حتى غرقوا في النهر. وقد جرت المعركة نحو سنة 356، ويقال أن الموقع الذي دارت فيه رحاها هو قرية بصي دوا وتعني بالكلدانية " ساحة الحرب "، والمعروفة اليوم بـ بيدار  قرب مدينة زاخو  العراقية. ورجع قرداغ من المعركة غانماً، ومعه زوجته وأهل بيته وجميع السبايا.
   وعندما وصل قلعته في أربيل، أمر فوراً بهدم معابد النار وإقامة كنائس وهياكل مقدسة مكانها، حتى حول معبد النار الذي بناه والده في قرية برحبتون إلى دير كبير للرهبان. عندها أخذ المجوس يوشون به لدى ملك الملوك كي ينتقم منه، وكان الملك يحبه جداً لبسالته، فأرسل في طلبه ليستوضحه الأمر.
  وعندما مثل بين يديه نصحه بالامتثال لإرادة المجوس، والرجوع إلى دينه القديم، واعداً إياه بهدايا ومكافآت سخية. لكنه رفض طلب الملك. فأمر بربطه وإرساله إلى مقاطعته لمحاكمته أمام حكام الأقاليم، مصحوباً برسائل وجهها إليهم تشير إلى إمهاله مدة سبعة أشهر، عله يرجع عن غيه. كما أمر بهدم الكنائس والأديرة التي بناها، ويقام مكانها معابد للنار. وقد حاول الحكام عبثاً حمله على نبذ مسيحيته، ولم تنجح جميع الأساليب في إخماد جذوة الإيمان الحي المتأججة في قلبه. وقد حاول الحاكم شهرخواست المخول بمحاكمته حمله على نبذ المسيحية، والعودة إلى المجوسية، فرفض طلبه. فأمر بضربه وتعذيبه والتنكيل به، ثم أعاده إلى قلعته في أربيل مغلول الأيدي والأرجل.
   وما أن وصل القلعة حتى أخذ يصلي، طالباً من الرب يسوع أن يحل أغلاله. فاستجاب الرب طلبته، فذهل الحضور وهربوا من هناك. فأغلق قرداغ أبواب القلعة، وصعد إلى السطح ليحارب أعداءه، وبدأ يرشقهم بالسهام من قوسه.
   أما ملك الملوك فبعد أن وصله الخبر، أعطى أوامره بمهاجمة القلعة، ولكن محاولات قواته باءت بالفشل الذريع. فأوعز إلى وجهاء عشيرته تحت طائل العقاب والتهديد، أن يقنعوا قرداغ بإنهاء العصيان وتسليم نفسه. وقد بذلوا قصارى جهدهم في إقناعه، ولكن دون نتيجة حيث قال لهم: إن ساعة استشهادي لم تدن بعد.
   بعد فترة ظهر له مار اسطفانوس في رؤية عجيبة، وهو يُرجم بحجارة لؤلؤية، مما جعلته يدرك بأن ساعته قد دنت. فأبلغ الجموع بعزمه على الخروج، وتسليم نفسه للشهادة، فاستبشر أعداؤه بالخبر، بعد أن يئسوا من قتله أو القبض عليه.
   وما أن خرج من القلعة حتى انقضوا عليه، وانهالوا عليه بالحجارة. وقد خرج قرداغ من كومة الحجارة مرتين دون أن يناله أذى، وذلك بفعل إشارة الصليب التي كان يرسمها على جبينه. وبينما كان الفرسان والكهان يحرضون الجموع على رجمه بقوة أشد وحجارة أكبر كي يموت، قال لهم قرداغ: " إني لا أموت إلا حينما يرميني أبي بحجر ". وكان أبوه أحمقاً وثملاً بضلال الوثنية، فأخذ منديله وستر به وجهه، ورمى أبنه بحجر. وفي الحال فاضت روحه الطاهرة، واكتملت شهادته أمام قلعته، كما تنبأ له مار كيوركيس ذات مرة.
   وكان استشهاده يوم الجمعة في السابوع الأخير من سابوع القيظ سنة 358 م. ودفن مار قرداغ في تل مِلقى بإزاء قلعته. وقد حول المؤمنين قبره إلى مزار كبير، حيث كانوا يجتمعون كل سنة في يوم استشهاده للصلاة والبركة.     
ويحتفل بتذكار مار قرداغ في الجمعة السابعة من سابوع الصيف " القيظ ". 








114


تذكار الجاثليق مار شمعون برصباعي الشهيد
الشماس نوري إيشوع مندو
   الجاثليق شمعون برصباعي: هو من أهل السوس أو من المدائن. ولا نعرف شيئاً أكيداً عن تاريخ ولادته، إنما نلقاه في مستهل القرن الرابع تلميذاً للجاثليق فافا ثم أركذياقوناً له. وهناك رواية تقول إنه عاش أكثر من 117 سنة. أما لقب برصباعي فقد جاءه من أبويه اللذين كانا يصبغان الملابس لاستعمال الملوك، حسبما جاء في المخطوط الكلداني الأول المحفوظ في المكتبة الفاتيكانية ص 82: " حسناً دعي شمعون ابن الصباغين، لأن أبويه كانا يصبغان الحرير بصبغ أجنبي لباساً للمملكة الأثيمة، وهو صبغ ثياب نفسه بدم شخصه لباساً للمملكة المقدسة ".
   ويقول التاريخ السعردي إن الجاثليق فافا لكبر سنه وضعف حركته أرسل شمعون برصباعي ومار شاهدوست للنيابة عنه في مجمع نيقية سنة 325، وقال قوم إنه استناب شمعون برصباعي ومار يعقوب النصيبيني.
   وقد انقضَّ سنة 341 على الجاثليق شمعون اضطهاد شابور الثاني المسمى بالاضطهاد الأربعيني، الذي أودى بحياة ألوف المسيحيين من أساقفة وكهنة ومؤمنين. وكان شمعون إذ ذاك في سنته الثانية عشرة على كرسي المدائن خلفاً لفافا، حسبما جاء في التاريخ الكنسي لابن العبري.
   أما ماري بن سليمان وصليبا  والتاريخ السعردي فيقولون إنها سنته الثامنة عشرة. وجرى استشهاد مار شمعون مع كثيرين آخرين في مدينة كرخ ليدان من أعمال الأهواز سنة 341 في يوم جمعة الآلام. ودفن في مدينة السوس. ونقل تذكار جميع هؤلاء الشهداء إلى جمعة المعترفين الواقعة بعد عيد القيامة. أما يوم الجمعة السادسة من سابوع القيظ فهو تذكار تكريس المذبح المشيد في مدينة كرخ ليدان لإكرامه.   
   وكان الملك شابور يضمر شراً لمسيحيي منطقته، ويتربص الفرص للإيقاع بهم. فأراد أن يضايق المسيحيين الساكنين في مملكته بفرض جزية مضاعفة عليهم. فكتب رسائل إلى حكام البلاد يدعوهم بالقبض على شمعون رئيسهم، ولا يخلى سبيله إلا بعد أن يتعهد بجبي ودفع جزية مضاعفة عن شعبه.
   فألقي القبض على مار شمعون، وتليت على مسامعه ما جاء في رسالة الملك، وطلب منه إنجازها. لكنه رفض طلبهم، لأن سلطته الروحية لا تسمح له التصرف بما يطلبه الملك منه. وطلب منهم أن يبلغوا الملك أن شعبه لا يتسنى له دفع الجزية مضاعفة لكونه فقير. فكتب الحكام رسالة إلى شابور يخبروه فيها عن رفض مار شمعون ما أمر الملك. فاحتدم غيظاً لعدم طاعة مار شمعون لأمره.
  واستطاع اليهود الوصول عند شابور الملك وافتروا على مار شمعون بأنه مرتبط في مواقفه بما يمليه عليه ملوك الروم أعداء الساسانيين. وللحال كتب شابور رسالة ثانية للحكام طلب منهم أن يبلغوا شمعون بأن عدم طاعته للأوامر الملكية سيحمل شعبه إلى الهلاك والموت.  وما أن وصلت الرسالة الملكية، حتى استدعي شمعون ثانية وتليت عليه رسالة الملك. وبعد أن استمع نص الرسالة وما تحتويه من التهديد والوعيد. أجاب قائلاً: " إن كلامي الأول والأخير واحد، وهو أني لا أفرض الجزية على الشعب الذي استودعني إياه المسيح ربي. بل أني أرضى باحتمال مختلف أنواع الموت في سبيله. وكما أن المسيح صلب عن جميع الشعوب لكي يحييها بصليبه، كذلك أنا أموت عوض الشعب الذي أعطاني إياه في هذه المملكة، لئلا يموت عن حقيقة المسيح. وسوف ابذل ذاتي في سبيل حقيقتي وإيمان تلاميذي. بل أهب دمي في سبيل رعيتي، وأقدم عنقي للسيف عوض قطيعي ".
   ولما سمع الحكام قول شمعون اخبروا الملك بذلك. وحينما قرئت الرسالة على مسامعه، ثار ثائره وهاج كالأسد الضاري، وزأر بصوت شديد، وماجت في نفسه غريزة الانتقام والبطش. وأصدر أمراً بأعمال السيف في الكهنة والشمامسة وبهدم الكنائس وتدنيس المقدسات. وكتب رسالة ثالثة طلب فيها من الحكام القبض على شمعون وإرساله إليه، بعد هدم كنيسته.
   ولما سمع شمعون هذه الأوامر، لم يفزع ولم يضطرب ولم ترتخِ عزيمته وهو يرى كنيسته تهدم، بل مجد الله. وقبل أن يرحل إلى منطقة الأهواز لمقابلة الملك شابور، دعا الرهبان والكهنة والشمامسة وخاطبهم مشجعاً إياهم قائلاً: " تقوَّوا ولا تتخادلوا، فقد دعيتم لهذا الأمر وله خصصتم ذواتكم، إذ صرتم تلاميذ المسيح. فانظروا إلى ما احتمله من الهوان لأجلكم، وتفرسوا في صليبه. تأملوا الأنبياء الذين قتلوا، والرسل الذين رجموا، لتعلموا أن الله ليس بضعيف، وأن مسيحه ليس بعاجز مغلوب. إنما يريد أن يظهر قوته في الضعفاء، وأن يعلن حياته في موتهم. فإذا رفعتم عيون قلوبكم إليه، فهو سيشملنا بنظره، ويقوي ضعفنا وينصرنا في الجهاد. وأعلموا أن الضيق سيعبر، وتليه أزمنة الراحة. وأن الكنيسة التي استؤصلت ستشاد بمجد وتزدان بأبهة، ولا نحزن لهدم كنيستنا على الأرض، إذ أن لنا بنياناً في السماء لم تصنعه الأيادي البشرية. إنها كنيسة الأبكار التي ليست مبنية في ساليق وكوخي، بل في أورشليم السماوية. والآن أنا ماضٍ إلى باب الملك، ولا أعلم ما سيحدث بعدي. أما أنتم فكونوا على استعداد دائم، لابسين درع الإيمان، حتى إذا ما شنت عليكم الحرب، لا يستطيع السهم أن يخترق درعكم، بل يرتد على رماته ويتحطم. ابتعدوا عن سائر البدع الوثنية، ولا تخالطوا اليهود أعداء صلب المسيح. أحفظوا وصايا الرب، وأحبوا ذاك الذي أحبنا وبذل نفسه عنا ليحيينا بموته. حافظوا على إيمانكم القويم، واحتملوا في سبيله كل أنواع العذاب والموت. هذا ما أنصحكم به الآن، لأني عالم أنكم لن تروا وجهي من بعد، إذ إني مزمع أن أُضحَّى لأجل شعبي، وفي سبيل إيماني بالله. وليس ما يؤهلني لهذا سوى مراحم يسوع المسيح ربنا. فليكن معكم ومعنا أيضاً بصلواتكم إلى الأبد آمين ".
   وحينما سمع الجمع هذه الأقوال، شرعوا كلهم يبكون بمرارة على انفصال الراعي اليقظ، ومغادرة المدبر الهمام، وانتقال الرئيس الحازم والمستقيم، وذهاب المعلم الحكيم، وابتعاد البار القديس. فانتهرهم مار شمعون ودعاهم إلى السكوت. ثم صلى ورفع يديه وباركهم قائلاً: " ليكن صليب الرب حافظاً لشعبه، وليكن سلام الله مع عبيده، وليثبت قلوبكم بإيمان المسيح في العسر واليسر، في الحياة والموت، الآن وكل أوان وإلى أبد الدهور ".
   ثم سيقا مخفوراً إلى منطقة الأهواز مع بعض الكهنة، وهم مكبلين بالقيود إلى باب الملك في كرخ ليدان، هذه المدينة التي بناها شابور حديثاً، واسكن فيها أسرى كثيرين أتى بهم من الغرب. وفي اليوم الثالث من وصول شمعون إلى المدينة، استدعي للمثول أمام الملك. فقال له الملك: " يا شمعون ما هذا العصيان الذي أبديته نحوي؟ ولماذا تصرفت كالعدو وأثرت شعبك على التمرد عليَّ؟ ".
  فرد عليه شمعون بالقول: " أيها الملك من ذا يتجاسر فيخالف أوامرك، إن كانت هذه الأوامر حسب إرادة الله؟ ولماذا دعتني جلالتك عاصياً أنا الضعيف أصغر عبيد عظمتك ".
   فقال له الملك: " لأنك لم تضطر شعبك إلى دفع الجزية التي فرضناها عليهم ".
   فرد عليه شمعون بالقول: " معاذ الله أيها الملك، أن يكون عبدك ظالماً لشعب الله المتواضع، وأن أكون عاتياً تجاههم وأرغمهم على هذا الأمر ". 
   وبعد مناقشة طويلة طلب الملك من شمعون السجود للشمس، حفاظاً على حياته، وحياة الألوف من أتباعه. وبعد رفض شمعون طلب الملك بشدة، خاطبه الملك قائلاً: " لماذا تتمرد عليّ بجسارة فتدفعني إلى تشويه جسدك البهي بالسيف، وإلى تلويث قامتك الجليلة بالدم؟ فإن لم تكرمني الآن أمام عظمائي، ولم تسجد للشمس إله المشرق، فإني غداً في وقت وجيز أفسد جمالك بالسيف ".
  فرد عليه شمعون بالقول: " إني لا اسجد للشمس، فإن شئت فخذ حياتي اليوم أو غداً. وأما قولك إنك تفسد جمالي، فهناك من يبعثني ويقيمني ويوليني بهاءً لا يوصف ". فأمر الملك بزجه في السجن حتى الصباح، لعله يتّعظ ويطيعه.
   وهناك التقى بالأساقفة والكهنة والشمامسة الذين كانوا أودعوا السجن قبل مجيئه إلى بلاط الملك، والذين خاضوا غمار الجهاد ببسالة وفرح حتى نالوا إكليل الظفر. ففرح به هؤلاء فرحاً عظيماً. فحياهم شمعون وقبّلهم جميعاً، وشرع يشجعهم بالثبات على الإيمان والرجاء. ليتزينوا بأكاليل الشهادة المعدة لهم في السماء، ويدخلوا وليمة الرب. ثم جثا وشرع يصلي طالباً العون الإلهي ليكون قدوة صالحة لشعبه في هذه المملكة العاتية.
   وكان الأساقفة والكهنة والشمامسة متعجبين من بسالته، ومواظبته على الصلاة، وهو باسط يديه إلى السماء طوال هذه المدة، وقد تغير وجهه وصار يضارع الورد نظارة. وبعد أن ختم صلاته التفت إلى أخوته وباركهم وقال لهم: " افرحوا بربنا يا إخوتي، وأقول أيضاً افرحوا، وتشجعوا وارفعوا رؤوسكم إذ بلغ زمان خلاصنا، وسنقتل غداً في يوم آلام الرب ".
   بعد ذلك طلب شمعون من الجميع أن يقيموا الذبيحة الإلهية على أيديهم في السجن، إذ لم يستطع أحد أن يجلب لهم آنية القداس خوفاً من المضطهدين. وهكذا مزجوا الفصح بالفصح والذكرى. ثم قال لهم شمعون: " يا أحبائي ليرافقنا سر جسد المسيح هذا حتى اليوم الذي فيه نتلقى تجليه، حينما يأتي على سحب السماء مع ملائكته القديسين، ويعيد نفوسنا إلى أجسادنا التي يبعثها من التراب، ثم يصعدنا معه إلى السماء، ويمتعّنا برؤيته الشهية، ويشركنا في مجده، ويبهجنا في ملكوت السماء مدى الأبد آمين ". ثم استأنفوا الصلاة طوال الليل السابق ليوم الجمعة العظيمة ذكرى آلام الرب، وهم يرتلون المزامير والمداريش والتسابيح واقفين على أرجلهم، دون أن يغلبهم النعاس، أو أن تتشتت أفكارهم. وبعد ذلك جثوا كلهم وأخذوا يبتهلون إلى الله ويقولون: " هب لنا يا رب أن نتألم نحن أيضاً في يوم آلامك، وأن نذوق كأس الموت لأجل اسمك، لكي تردد الأجيال اللاحقة: أن شمعون وأخوته انضموا إلى يسوع، ومثل يسوع قتلوا يوم الجمعة الرابع عشر من نيسان ".
   وفي صباح جمعة الآلام استدعوا من السجن إلى قصر الملك، وأرسل الملك من يقول لهم اسجدوا للشمس حتى تخلصوا من الموت. لكن شمعون ورفاقه رفضوا طلب الملك. فطلب الملك أن يحضر شمعون وحده ليمثل أمامه. وما أن وصل عند الملك حتى خاطبه قائلاً: " يا شمعون المتمرد، أتريد أن تبقى في صداقتنا، أم أن أرسلك إلى الجحيم ".
   فرد عليه شمعون بالقول: " إن الموت خير لي من الحياة مع جحود الله ".
   وبعد حوار طويل بين الملك وشمعون، أخذت الملك الدهشة من شجاعة شمعون، ونظر إلى العظماء والنبلاء الجالسين معه وقال لهم متنهداً: " إني اقسم بالآلهة والشمس، بأني قد رأيت شعوباً غريبة وأراضي بعيدة، وأبناء بلادنا. ولكني لم أرى جمالاً مثل هذا، ورشاقة مثل هذه. فانظروا كيف أنه لا يشفق على نفسه في سبيل الضلال الذي هو متمسك به ".
   فأجابه الحاضرين بالقول: " أيها الملك لا تنظر إلى جمال جسده، بل أنظر إلى جمال النفوس الكثيرة التي يفسدها ويبعدها عن تعليمنا ".
   حينئذ أصدر الملك أمراً بقطع رأس شمعون ورؤوس أخوته. وكان ذلك في الساعة السادسة من يوم الجمعة العظيمة. ففي الوقت الذي فيه مضى يسوع إلى آلام الصليب، خرج هؤلاء الظافرون أيضاً إلى القتل. وأمر الملك بأن يقتل الجميع قبل شمعون، لعل عزيمته ترتخي أمام منظر قتلهم.
   وعند خروجهم من المدينة كان شمعون يتقدمهم مثل قائد مغوار، وهو يشجعهم بصوت عال في الطريق ويقول لهم: " تقوَّوا بالله يا أخوتي ولا تخافوا. هوذا الرب يقول لكم: ثقوا أنا غلبت العالم. فإننا نموت في سبيل المخلص، ونقتل في سبيل المسيح. وأيضاً أنا القيامة والحياة، من آمن بي وإن مات فسيحيا. فكم بالأحرى يحيا ذاك الذي قتل من أجل اسمه القدوس المجيد ".
   وما أن وصلوا إلى خارج كرخ ليدان، وكان يحيط بهم ألوف من الوثنيين ومن المسيحيين المسبيين، وهم يتعجبون بهؤلاء الناس الذين يقتلون لأجل الله، وهم مسرورون ضاحكون وغير خائفين. دنا العظماء لكي يأخذونهم إلى القتل. وإذا بواحد من وسط المعترفين يرفع صوته بين أخوته ويقول لمار شمعون: " لقد ابتهجنا كثيراً بتعليمك يا أبانا الجاثليق، فلنتقدم الآن إلى التحقيق الفعلي ".
  فدنا منه شمعون وقبله وقال: " تبارك فمك المقدس يا بني، فالكلام المشجع الذي خرج منه يشهد لصدق نفسك وثباتها ". ثم التفت مار شمعون مع جميع رفاقه نحو المشرق، وجثوا على وجوههم ساجدين. وصلى شمعون إلى الرب طالباً عونه وتعزيته، ليثبت هو ورفاقه على الإيمان. وليقبل ذبيحة أجسادهم كتقادم طاهرة ومقبولة.
   وما أن أنهى صلاته حتى قال له الحاضرون: " بارك يا سيد، بارك يا سيد ". فرفع شمعون يمينه وباركهم قائلاً: " لتكن القوة القاهرة في عوننا إلى الأبد  آمين ". ثم أخذ الحكام يقدمون عشرة عشرة من الشهداء للسيف، وكان القديسون يتقدمون فرحين مسبحين الله. وكان المغادرون منهم يقبلون الباقين.
   أما مار شمعون فكان يشجعهم ويقول: " دوسوا يا أبنائي شوكة الموت الذي حطمه يسوع بموته ". وبعد أن استشهد مائة منهم، رفع شمعون صوته، وقد رأى جثثهم ملقاة أكداساً أكداساً وقال: " أين شوكتك يا موت، وأين غلبتك يا جحيم؟ الشكر لله الذي أولانا النصر بيسوع المسيح ربنا. ما أحسن وما أجمل الأخوة الذين تكللوا معاً! وما أبهى إكليل الشهادة الذي كمل في المائة! ".
  وأخيراً بقي شمعون مع اثنين من الكهنة المسنين، اسم أحدهما حننيا والآخر عبد هيكلا. وحينما شرعوا يعرون حننيا من ثيابه صار جسمه يرتجف، ولكنه ظل رابط الجأش. وكان ثمة رجل من العظماء اسمه فوسي، وهو رئيس المهنيين، وكان الملك قد رفع منزلته في تلك الأيام. فهذا إذ رأى الكاهن الشيخ يرتعد قال له: " يا حننيا لا تخف، أغمض عينيك برهة فتشاهد نور المسيح ". وهكذا استشهد حننيا.
   أما فوسي فقد ألقي القبض عليه بأمر من رئيس الحكام، فشدوا وثاقه، ريثما يرفع أمره إلى الملك. وبعد حننيا جاء دور عبد هيكلا الذي نال إكليل الشهادة أيضاً. حينئذ تقدم شمعون الجبار وصلى قائلاً: " أيها الرب يسوع، يا من صلى لأجل صالبيه، وعلمنا أن نصلي من أجل أعدائنا، وتقبّل روح اسطيفانوس خادمه الذي صلى لأجل راجميه. تقبل أرواح أخوتنا هؤلاء، وتقبل معهم روحي أيضاً مع جميع شهدائك الذين تكللوا في المغرب ومع الرسل القديسين والأنبياء والطوباويين. ولا تحسب هذه الخطيئة على مضطهدي شعبك وقاتلي أجسادنا، بل هب لهم يا رب أن يرجعوا إلى معرفتك. بارك يا رب المدن وجميع قرى أرض المشرق التي سلمتها لي، وأحفظ مؤمنيها كحدقة العين. واسترهم بحمايتك إلى أن يزول الاضطراب. وكن معهم إلى منتهى العالم بحسب وعدك. بارك يا رب هذه المدينة أيضاً التي فيها استشهدنا، وليكن صليبك حافظاً لها في الإيمان الحق، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين ".
   ثم ابتدأ شمعون يرتل العونيثا " اَكِغ ىَظسصًيرٌغ " " لئن خلعتم "  التي تقال في قداس الأحد الجديد، وأيضاً في قداس يوم تذكاره وهي من تأليفه: " لئن خلعتم كسوتكم الظاهرة، فلا تشلحوا حليتكم الباطنة أيها المنصبغون. فإنه إذا كنتم لابسين هذه الجثة الخفية لم تغلبكم المحن الكثيرة؛ أي كلام سمعتم، وتعرفون أي ذبح حي أطعمتم! احذروا من الشرير لئلا يزلقكم كآدم، ويجعلكم غرباء من الملكوت المجيدة، فإنه غرب ذاك من الفردوس، ويريد إبعادنا فيما بعد. ولهذا فأجاروا معنا إلى المسيح ليثبت أنفس جمعنا بروحه القدوس ".   
   وما أن أنهى مار شمعون هذه الكلمات حتى حز السيف رأسه، ونال إكليل الشهادة والظفر. وكانت الساعة التاسعة من يوم جمعة آلام الرب.
   أما جثث الجاثليق مار شمعون برصباعي ورفاقه الأساقفة مار كدياب ومار سابينا أسقفي بيث لاباط، ومار يوحنا أسقف هرمزاردشير، ومار بوليدع أسقف فرات ميشان، والكهنة والشمامسة القديسين فقد اختطفها في تلك الليلة أناس من الأسرى الروم القاطنين في كرخ ليدان ودفنوها بإكرام. ملتمسين بركة من أجساد هؤلاء الشهداء القديسين.   
   ويحتفل بتذكار الجاثليق الشهيد مار شمعون برصباعي في الجمعة السادسة من سابوع القيظ ( الصيف ).
















115
مار ماري الرسول متلمذ المشرق

الشماس: نوري إيشوع مندو
   مار ماري الرسول: هذا السليح الطاهر هو الذي أسس كرسي المشرق.  وهو أحد المرسومين من السبعين، عبراني بدأ بالدعوة ونصر الناس ببابل والأهواز وسائر كور دجلة وفارس وكشكر وأهل الرذانيين. 
   اختار أدي قبل وفاته واحداً من تلاميذه اسمه ماري، يتحلى بالفضيلة ومحبة الله. فوضع يده عليه ورسمه وأرسله إلى بلاد المشرق، إلى منطقة بابل، لينشر هناك كلام الله والبشرى السارة. فخرج ماري من الرها مبشراً حتى وصل مدينة نصيبين، حيث أعلن كلام الحق، وحطم الأصنام والأنصاب، وشيد الكنائس والأديرة، وأقام معلمين ومدارس. ومنها توجه إلى أرزون  ونصر فيها الكثيرين بالآيات المدهشة التي كان يصنعها. وشفى ملكها الذي كان طريح الفراش، فآمن واعتمد هو وأهل بيته. ثم شيد فيها كنيسة، وأقام لها كهنة وشمامسة. ثم أنطلق إلى بيث زبدى حيث نصر خلقاً كثيراً. ثم توجه إلى بلاد بيث عربايي.  ومن هناك نزل إلى أربيل  وآثور.  وفي أربيل شفى الملك من مرض كان يعاني منه، فآمن هو وأهل بيته، وحطم الأصنام التي كان يعبدها. ثم أرسل مار ماري تلميذه طوميس إلى بلاد داسان  ليبشر سكانها، ومنها أنطلق طوميس إلى بلدان مادي وبشرها. وهناك استشهد في سبيل المسيح.
   أما مار ماري فتوجه إلى بيث جرماي بلد الظلام والضلال، وبعد أن بشر الملك وسكان المدينة بنى كنيسة فيها. ثم توجه إلى بلاد داراباد  وبشر أهلها بتعاليم الحق. ثم توجه إلى بلاد الفرس حيث نصر خلقاً كثيرين.
   وكان الفرثيون  يسيطرون على البلاد البابلية، وكان مركز مملكتهم في ساليق وقطيسفون في بلاد الآراميين.  فنزل أولاً في بلاد رادان  وتلمذ هناك شخصاً رئيس البلاد يدعى " لقنا "، وكان ذا أموال كثيرة، فنصره هو وأهل بيته. وبسببه انضم إلى الإيمان كثيرون من سكان المنطقة والقرى الواقعة فوق ساليق وقطيسفون وفي سائر قرى رادان. ويقال أنه أقام في المنطقة 365 كنيسة.
   ثم انحدر مار ماري إلى مدينة ساليق، وكان سكانها أشد الناس تعصباً للوثنية. ولم يكن ثمة من يقبله هو ومرفقوه في بيته، فاضطرا إلى استئجار دار ليحلوا فيه. وطاف ماري في ساليق كلها دون أن يتلمذ أحداً. فكتب رسالة إلى الرسل الذين في مدينة الرها قال فيها: " إن الأرض التي أرسلتموني إليها أرض الشر والشوك، وأهلها متكبرون قساة، فلا أستطيع أن أزرع فيها بذار الحياة. فاسمحوا لي الآن بالعودة إليكم أو الذهاب إلى بلد آخر ". فتشاور الرسل الذين كانوا مهتمين بخلاص سكان المدينة، واتخذوا قراراً صائباً وكتبوا إلى ماري قائلين: " لا يحق لك أن تأتي إلى ههنا ولا تذهب إلى مكان آخر، إلى أن ترتقي فوق تلك الجبال والآكام. فتحتلها وتزرعها، فتأتي بثمار وافرة ".
   فحينما رأى ماري أن لا مجال للذهاب إلى موضع آخر، فكر في انتهاج خطة سديدة. فكان في ساليق ثلاثة مجالس: الأول للشيوخ. والثاني للشباب. والثالث للصبيان. ففكر في التردد إلى مجلس الشيوخ لعله بذلك يكتسب نفوسهم. وبعد تردده إلى المجلس بمدة وجيزة مرض رئيس المجلس، واشتدت عليه وطأة الداء حتى أشرف على الموت. فذهب ماري لزيارته فحرضه ليصير مسيحياً وينال الشفاء. فتنصر هو وأهل بيته ونال الشفاء. وبعد زمان قصير داهم المرض نائب رئيس المجلس أيضاً، فشفاه ماري بالطريقة التي شفى بها رئيس المجلس، فنصره هو وأهل بيته.
   وبعد فترة صنع مار ماري وليمة لأعضاء ذاك المجلس حسب عادة تلك البلاد. وبعد أن أكلوا وشربوا شرع يدعوهم لقبول المسيح، وترك عبادة النار الصماء التي ليست بإله. فطلبوا منه أن يدخل النار وإذا قضى عليها ولم يحترق، سيعترفون بالإله الذي يبشرهم به.
   وفي اليوم التالي أضرموا النار بشدة، ودخلها ماري بعد أن رسم علامة الصليب، ولم يصب بأذى، وشرع يطفئها. فتحجج بعضهم بأن النار لم تكن متأججة على ما يرام. وللقضاء على شكوكهم رضي ماري بأن يدخلها ثانية. فأضرموا النار بشدة، والتمسوا ألا يطفئها، بل يمكث فيها إلى أن تنطفئ بذاتها. ففعل كما أرادوا وبقي في النار حتى خمدت، وخرج منها دون أن يصاب بأذى. ولما عاينوا قوة الله، آمنوا بالله واقتبلوا العماد.
   واستمر مار ماري سنة كاملة يعلم سكان ساليق ويصنع لهم شتى المعجزات. ثم أعطى ملك ساليق أفراهاط الذي آمن أيضاً مع جموع المدينة بيت الأصنام لمار ماري ليشيد عليه كنيسة للإله الحي. فهدم المعبد وشيد مكانه كنيسة صغيرة، وأقام فيها كهنة وشمامسة. وأسس مدرسة بجانبها وسلم إدارتها إلى أحد تلاميذه.
   ولما رأى كهنة الأصنام ما جرى لمعبدهم، اجتمعوا واجتازوا النهر إلى قطيسفون عند الملك أرطبان الذي كان يقيم هناك. ويقال أن أرطبان كان قاسياً جداً. وما أن وصلوا لعنده حتى أدعوا أن رجل ساحر يدعى ماري حضر إلى مدينتهم، وأبطل آلهتهم، حتى أن الملك الفاسد أفراهاط آمن به حالاً، وأعطاه بيت الأصنام ليشيد عليه كنيسة. فغضب أرطبان وأرسل بطلب ماري.
   وما أن حضر ماري أمام أرطبان أخذ يهدده على أفعاله، وطلب منه ترك ديانته والاعتراف بالآلهة، وألا نال أشد العذابات. فرد عليه ماري بالقول: " أيها الملك إن الإله الذي اعبده هو الذي سينقذني من عذاباتك، فهو قادر أن يحيي ويميت، وأن يشفي كل مرض ووجع. فإنه يطهر البرص، ويفتح عيون العميان، ويخرج الشياطين، وله السلطة على كل شيء ".
   فقال له الملك: " إن كان الأمر كما قلت، فأظهر ما تقوله بالأعمال. فإن لي أختاً عزيزة عليَّ جداً. فإذا استطعت أن تشفيها جعلتك شريكاً في مملكتي ". 
   فقال له ماري: " سيلبَّى طلبك إذا آمنت به بعد شفاء أختك ".
   فقال له الملك: " إني سأومن به ". 
   فأمر الملك الجند والخدام بمرفقة ماري إلى حيث كانت أخته، وأتوا إلى موضع يدعى " دور قني "  ودخل على قني ودهنها بزيت الصلاة، حتى غادرها المرض. فعم الفرح جميع الحاضرين.
   فكتبت إلى أخيها تبلغه فيها أنها شفيت من جميع العيوب التي كانت سبب خجلها. فطلب منها الملك أن تأتي إليه برفقة ماري. حتى ينال الإكرام منه. لكن الرب يسوع تراءى لماري وقال له: " لا تدع قني ومن معها يغادرون المكان. فإنه عتيد أن يصبح موضعاً عظيماً ومزدهراً، ومدينة مزدحمة بالسكان فيه يتعظم اسمي القدوس ".
   وفي الصباح أطلع ماري قني على أمر الرب، فسمعت ما قاله لها، واقتبلت العماد هي والذين معها في ذلك الموضع نفسه. ثم طلب منها أن تبني كنيسة للإله الحي، وانحدر قليلاً عن موضع سكنى قني، ووجد على ضفة النهر معبداً للأصنام كانت قني ومن معها يقربون الذبائح فيه، فهدموه وبنوا مكانه كنيسة دير قني. وبعد أن عاد ماري إلى ساليق وهبه الملك أرطبان أرضاً كبيرة، فشيدا عليها كنيسة                    " كوخي "  التي أضحت مقراً لكرسي جثالقة المشرق.
  ثم ذهب ماري إلى منطقة الزوابي  حيث نصر كثيرين. ومنها ذهب مرة أخرى إلى كشكر  والتي كان قد زارها سابقاً وبشر أهلها، حينما لم يرى مجالاً لنشر إيمان المسيح في ساليق.
   وكان تنصر أهل كشكر سابق لتنصر أهل ساليق. لذا فيقال أن كرسي كشكر أقدم من سائر الكراسي. ثم انتقل إلى بلاد ميشان  حيث عانى مشقات كثيرة، ولم يجني فيها سوى فائدة زهيدة. بسبب تعصب سكان البلاد لعبادة الأصنام. ثم انتقل إلى بلاد الأهواز  والفرس . ولم يكن في ذلك العهد في منطقة الأهواز مدن وقرى كثيرة سوى شوش  وشوشتر  وقرى أخرى قليلة. أما كرخ ليدان  وبيث لاباط فلم تكونا قد شيدتا بعد.
   وكان في موضع كرخ ليدان قرية تدعى " ريدان "، وعلى اسمها دعيت المدينة الجديد كرخ ليدان. وكان في موضع بيث لاباط قرية تدعى " بيلابد " وكان التجار الفرس يسكنون هذه المدن. ولما وصل ماري إلى بلاد الأهواز وجد فيه مؤمنين، وسمع أيضاً عن تنصر الفرس، فغمره فرح عميق فطاف في تلك البلاد ونصر كثيرين.
   ثم انحدر نحو البلدان السفلى حيث استنشق روائح مار توما الرسول. وهناك هدى أناساً كثيرين. ثم عاد إلى ساليق وقطيسفون وأخذ يتردد على بلدان المشرق وهو يتفقد التلاميذ، ويضيف تلاميذ آخرين إلى الأولين. وبعد أن أمضى ماري سنين عديدة في بلدان المشرق، وأقام فيها كنائس ونظم شؤونها، أوصى بأن يكون مدبر كنيسة كوخي هو الذي يترأس أساقفة المشرق. لأن هذه المدينة هي الأقدم في تقبل التعليم الروحي.
   ثم انحدر من مدينتي ساليق وقطيسفون وجاء إلى الكنيسة التي أسسها في دير قني. فدعا تلميذه فافا أمام الجمع كله وأقامه مدبراً خلفاً له. وخاطب المجتمعين حوله وقال: " كما عاينتم تصرفي معكم، هكذا تصرفوا أنتم أيضاً، واسلكوا حسب الترتيب والقوانين التي وضعها التلاميذ في أورشليم دون أن تحيدوا عنها قيد أنملة. كونوا ساهرين على الخدمة التي تقلدتموها، وواظبوا على الصلاة بأمانة ولا تصادقوا الضالين، لئلا تطالَبوا معهم بدم ربنا يسوع المسيح ". فأجاب فافا مع رفاقه وقالوا له: " يشهد المسيح الذي أرسلك إلينا فعلَّمتنا الإيمان الحق الذي نحياه الآن، إننا سنعمل مثلما نسمع منك ". بعد هذا غادر مار ماري هذا العالم وانتقل إلى الحياة الأبدية. ودفن جثمانه المقدس في كنيسة دير قني قدام المذبح.   
   ويذكر كتاب مختصر الأخبار البيعية السنوات التي بشر فيها مار ماري بلاد المشرق: " أقام ماري في الرها ثلاث سنين. وبأرض الجزيرة خمس سنين. ثم في نواحي باجرمي ونواحي المداين خمسة عشر سنة. وبدور قنى عشرة سنين. وبكوخي وكشكر وجنديسابور والأهواز عشرة سنين. ثم رجع إلى دور قنى والمداين ومنها طاف البلدان التي تلمذ أهلها سبع سنين. ثم عاد إلى دور قنى وأقام فيها حتى استناح خمس     سنين ".   
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار ماري في الجمعة الثانية من سابوع القيظ " الصيف ".









116
مار يعقوب النصيبيني
الشماس: نوري إيشوع مندو
مار يعقوب النصيبيني: ولد في مدينة نصيبين، ومنذ نعومة أظفاره تعشق الفضيلة وبغض الأباطيل الدنيوية. وبعد أن درس العلوم الإلهية اختار سيرة الزهاد المتوحدين، فخلع عنه ثياب العالم، واتشح بالزي الرهباني. واتخذ قمم الجبال مسكناً له صيفاً، وإحدى المغارات شتاءً. وكان قوته الجسدي حشائش البرية وأثمار الأشجار الجبلية. وكان يمشي حافياً وليس على بدنه إلا أنسجة غليظة من شعر الماعز. وأما قوته الروحي فكان الكتاب المقدس. وكانت الأيام تزده فضيلةً ونماءً وقداسةً وسناءً، فأصبح نبراساً للكمال الرهباني ومثالاً في الفضائل المسيحية.
   سافر إلى بلاد فارس ليشدد عزيمة المسيحيين بإرشاداته الصالحة، وعزى تلك النفوس التي كانت قد تولتها الأشجان والهموم. فرد إليها حياة الثقة والسلام في ظل الاضطهادات الثائرة عليها. وأجرى الله على يده معجزات كثيرة، ورجع بواسطته كثيراً من المجوس إلى الإيمان المسيحي. وبعد عودته إلى نصيبين ذهب عند مار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية في المشرق، فرحب به وقال له: " اليوم أقابلك مثل غريب، وبعد فترة أقابلك وأنت أسقف وراعي لبيعة الله ".
   وتمت نبوة مار أوجين إذ بعد أيام توفي مطران نصيبين، فاجتمع كهنة المدينة وأعيانها لينتخبوا خليفةً له. فوقع بينهم الشقاق، فاجمعوا على أن يقصدوا مار أوجين فيستشيروه في الأمر، فأشار إليهم أن يذهبوا إلى رئيس أساقفة في آمد " ديار بكر "، وهو سوف يدلكم على الرجل المزمع أن يكون راعياً لكم. فانقادوا لكلامه وذهبوا إلى آمد وعرضوا الأمر على المطران والأساقفة الذين كانوا مجتمعين عنده وأطلعوهم على الأمر. فأخذ المطران والأساقفة يصلون ويبتهلون إلى الله ليلهمهم على الرجل المناسب لهذا المنصب. وبينما كان رئيس الأساقفة يصلي بدموع سخية غلب عليه النعاس، فرأى شاباً بهي المنظر واقفاً بجانبه ويقول له: " إن الذي قال عنه مار أوجين ليكون راعياً لأبرشية نصيبين ليس إلا يعقوب الحبيس ". ودله على مكان سكناه. فدعا الوفد القادم من نصيبين وأخبرهم بما رأى.
   فعادوا إلى نصيبين وكتبوا إلى مار يعقوب يدعوه للقدوم إلى المدينة، ولم يطلعوه على أمر انتخابه للأسقفية. غير أن يعقوب عرف مقاصدهم لأن مار أوجين كان قد أنباه بذلك قبل أيام، وقرر ألا يقاوم إرادة الله. فجاء إلى نصيبين ونال السيامة الأسقفية. وكان ذلك اليوم يوم فرح وحبور لجميع أهالي نصيبين. وكان ذلك في سنة 309. وفي يوم الأحد جاء مار أوجين بصحبة بعض تلاميذه ليهنئ الأسقف الجديد، فرحب مار يعقوب به وبصحبه. فهنأ مار أوجين الشعب على راعيهم الغيور والنشيط وقال لهم:     " تهللوا يا أخوتي فرحاً وسبحوا الرب لأنه منحكم راعياً جليلاً نبيلاً ينتمي إلى أسرة يعقوب أخي الرب الذي صار أسقفاً على أورشليم في أيام الرسل الأطهار ". وكان مار أوجين قد عرف هذا الأمر بوحي إلهي. وقام مار يعقوب بأعباء خدمته بهمة عالية، ولم يغير حياة التقشف التي انتهجها من قبل. وأخذ يسعف الفقراء والمحتاجين، ويخفف مصائب السقماء والبائسين. وكان ممتلئاً غيرة على حماية خرافه من الهراطقة. وقد بدد شمل المرقيونيين في نصيبين، ورد الكثير من الوثنيين إلى الإيمان المسيحي، فازداد عدد المؤمنين يوماً بعد يوم. فرأى أن يبني كنيسة كبيرة تلبي حاجة المؤمنين. فبدأ بتشييدها سنة 313 على أنقاض معبد أصنام أنطياخوس، وأتمها سنة 320، فجاءت أية في الجمال والهندسة المشرقية، وقد كرسها مار يعقوب بحفلٍ مهيب.
   ثم صعد إلى جبل جودي  إلى المكان الذي رست عليه سفينة نوح، وهناك بنى ديراً دعاه دير قيبوثا أي دير الفُلك أو السفينة. وقد كرسه بحضور مار أوجين. ووضع فيه رهباناً. وعندما عُقد في المدائن مجمعاً لكنيسة المشرق للنظر في أمر الخلاف بين الجاثليق فافا  والأساقفة. كتب رسالة إلى آباء المجمع يحثهم على التواضع والاتفاق. وقد اعتمد الآباء رأي مار يعقوب وحل السلام والمحبة في الكنيسة بفضل فطنته. ولما اجتمع أساقفة الكنائس في مدينة نيقية سنة 325 عند طلب الملك قسطنطين للنظر في هرطقة آريوس، مثل مار يعقوب النصيبيني ومعه مار يوحنا مطران فارس كنيسة المشرق في هذا المجمع. وقد أطلق عليه الأساقفة الغربيين " فخر أساقفة الفرس وجهبذاً في الكتب المقدسة "، لما رأوا فيه من رأي سديد وحكمة وفطنة ودراية خلال أعمال المجمع.
   وعندما عاد آريوس إلى القسطنطينية سنة 326 بعد أن خدع الملك قسطنطين بأنه يعترف بالإيمان الكاثوليكي، حث مار يعقوب المؤمنين على الصوم والصلاة ليزيل الرب الشكوك من كنيسته. وكان مار يعقوب يصلي بحرارة شديدة وبدموع سخية، فاستجاب الله دعائه. وعندما ذهب آريوس وحاشيته إلى الكنيسة، وما أن دخل عتبة الكنيسة حتى فاجأه وجع شديد في أمعائه، ومات أقبح ميتة.
  وقد مثل أيضاً كنيسة المشرق في حفل تكريس كنيسة القيامة في أورشليم التي شيدها الملك قسطنطين. وبعد عودته من المجمع افتتح في نصيبين مدرسة، وأقام تلميذه مار أفرام النصيبيني معلماً فيها. فقام بأعباء مهمته بجد ونشاط وهمة قعساء. ونالت بفضله شهرة واسعة. حتى اعتبرت أول جامعة لاهوتية في العالم.
   وفي سنة 338 أغار شابور ملك الفرس على نصيبين التي كانت بحوزة الروم، وقد حاصرها سبعين يوماً لكنه لم يتمكن من دخولها. وعندها أمر بسد النهر الذي يمر بالمدينة حتى يرتفع الماء، ومن ثم فجر السد فصدمت المياه سور المدينة فهدمت جزء منه. فتقدم شابور وجيشه لدخول المدينة وعندما وصل إلى الموقع المتهدم من السور، انتابه العجب عندما رأى ما تهدم قد شيد من جديد. لأن مار يعقوب كان قد أوعز إلى أهالي المدينة ليجددوا ما تهدم في تلك الليلة. وكان مار يعقوب داخل الكنيسة يصلي ليبارك الله الشعب في جهادهم ضد الفرس.
   وبينما كان شابور يحاصر المدينة رأى فوق السور رجلاً متقمصاً بحللٍ ملكية وعلى رأسه تاج، فظن أنه الملك قسطنطيوس . وعندما عرف أن ملك الروم موجود في أنطاكية غضب، فأخذ سهماً ورشق به الفضاء قاصداً أن يرمي به إله المسيحيين. فطلب مار أفرام النصيبيني من معلمه مار يعقوب أن يرشق شابور وجيشه بسهام اللعنة. فصعد مار يعقوب إلى أحد أبراج السور وصلى والتمس من الله أن يكسر هذا الجيش بعسكر من البعوض. وللحال امتلأ الجو من البعوض فهاجت الدواب والخيول والفيلة، فاضطرب الجيش وفزع شابور فولى هارباً من أمام عجائب الإله الجبار. وهكذا نجت المدينة بصلوات مار يعقوب.
   وبعد انتهاء الحصار سنة 338 توفي مار يعقوب النصيبيني، بعد أن خدم أبرشيته بهمة عالية. ودفن في الكاتدرائية التي شيدها. وقد وصفه تلميذه مار أفرام بميامره المعروفة بالنصيبينية " بالغيرة والحزم ". وقد جاد الله عليه بأنوار سماوية، وموهبة واجتراح العجائب. فقد أنزل الله العقاب بآريوس الملحد بصلواته. وبشفاعته خلص الله نصيبين مرتين من هجمات الفرس. وقد وضع مار يعقوب العديد من المقالات في العبادة والتقوى. وبعد سقوط نصيبين بيد الفرس سنة 363 هجر أغلب المسيحيين المدينة، ومنهم مار أفرام ومعلمي وتلاميذ المدرسة، وتوجهوا إلى مدينة الرها. ويقال أنهم حملوا معهم ذخائر مار يعقوب النصيبيني. وبعد مدة من الزمن نقلت إلى مدينة القسطنطينية لتستقر هناك. 
   وحتى يومنا هذا يجد المرء ناووس حجري ضمن سرداب في الكنيسة كان يضم ذخائر هذا القديس العظيم. ومن المعلوم أن هذه الكنيسة قوض نصفها بسبب عوادي الزمان، وبقي نصفها الآخر. وكانت ملكية الكنيسة للمشارقة منذ البدايات، وقد ضبطها السريان الأرثوذكس من الكلدان سنة 1865 بقوة الحكام، بعد أن دفعوا مبلغ كبيراً من الذهب لحاكم ديار بكر. 
وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار يعقوب النصيبيني في الجمعة الأولى من سابوع القيظ " الصيف ".







117
كنائسنا تُفجر، وشعبنا يُقتل ويُهجر، ونحن على التسمية نتناحر
الشماس: نوري إيشوع مندو
موضوع التسمية أصبح في الفترة الأخيرة الشغل الشاغل لكتابنا على صفحات الإنترنيت. ومن خلال هذه المقالات يجد المطلع عليها ما هو منطقي ومقنع ومدعوم بشواهد تاريخية دامغة.  ومنها ما هو افتراءات لا تمت إلى الحقيقة بصلة، لكن أصحابها يصطادون في الماء العكر ليروجوا لبضاعة فاسدة لغاية في نفس يعقوب.
وهنا أتسأل ما الغاية من تجريح بعضنا لبعض، ومن المستفيد من هذه الحملة العشوائية التي تزيد الهوة بيننا في هذه الفترة العصيبة التي نمر بها ؟
فبدل أن ترتفع الأصوات عالياً وتتكاثف الجهود لعمل ما يمكن في سبيل حماية المسيحيين العراقيين والحفاظ على وجودهم على أرض الآباء والأجداد، والذين يتعرضون لحملة شرسة من قبل زمر الجهل والغباوة. نجد أنفسنا أمام معركة الصراع على التسميات وهي في أشد جولاتها وصولاتها ؟
فما نفع التسميات إذا فرغت أرض الرافدين من سكانها الأصليين. كنائسنا تُفجر، وشعبنا يُقتل ويُهجر، ونحن على التسمية نتناحر ؟.
فهل تسألنا إذا انتصر أصحاب الرأي القائل قوميتنا كلدانية، أو قوميتنا أشورية، أو قوميتنا سريانية، أو قوميتنا أرامية، أو قوميتنا كلدان وسريان وأشوريين، أو قوميتنا كلدان سريان أشوريين. فما العبرة من هذا النصر وشعبنا يعاني أشد أشكال القهر ؟ ووجودنا على أرضنا التاريخية في خطر ؟
أليس من الأجدر بنا كلاً من موقعه، رئاسات كنسية وأحزاب وهيئات ومنظمات شعبية وجمعيات وأفراد العمل يداً واحدة بصمت وحكمة لتتظافر جهودنا كي يجتاز شعبنا هذا المخاض العسير ؟
فلندع هذه السجالات والتجاذبات جانباً، والتي لا تجلب لنا سوى التشرذم والضعف.  ولنترك موضوع التسميات للمختصين بهذا الشأن. ولنوجه جهودنا لما فيه خير شعبنا الجريح والمتألم. وليكن فخرنا أننا أبناء كنيسة المسيح كلداناً كنا أم سريان أم أشوريين أم أراميين. فالذين يضطهدوننا ويفجروا كنائسنا ويهجروا شعبنا لا يسألوا عن ما هي تسميتنا سوى أننا مسيحيين.       
   
   

118
كنائسنا تُفجر، وشعبنا يُقتل ويُهجر، ونحن على التسمية نتناحر
الشماس: نوري إيشوع مندو
موضوع التسمية أصبح في الفترة الأخيرة الشغل الشاغل لكتابنا على صفحات الإنترنيت. ومن خلال هذه المقالات يجد المطلع عليها ما هو منطقي ومقنع ومدعوم بشواهد تاريخية دامغة.  ومنها ما هو افتراءات لا تمت إلى الحقيقة بصلة، لكن أصحابها يصطادون في الماء العكر ليروجوا لبضاعة فاسدة لغاية في نفس يعقوب.
وهنا أتسأل ما الغاية من تجريح بعضنا لبعض، ومن المستفيد من هذه الحملة العشوائية التي تزيد الهوة بيننا في هذه الفترة العصيبة التي نمر بها ؟
فبدل أن ترتفع الأصوات عالياً وتتكاثف الجهود لعمل ما يمكن في سبيل حماية المسيحيين العراقيين والحفاظ على وجودهم على أرض الآباء والأجداد، والذين يتعرضون لحملة شرسة من قبل زمر الجهل والغباوة. نجد أنفسنا أمام معركة الصراع على التسميات وهي في أشد جولاتها وصولاتها ؟
فما نفع التسميات إذا فرغت أرض الرافدين من سكانها الأصليين. كنائسنا تُفجر، وشعبنا يُقتل ويُهجر، ونحن على التسمية نتناحر ؟.
فهل تسألنا إذا انتصر أصحاب الرأي القائل قوميتنا كلدانية، أو قوميتنا أشورية، أو قوميتنا سريانية، أو قوميتنا أرامية، أو قوميتنا كلدان وسريان وأشوريين، أو قوميتنا كلدان سريان أشوريين. فما العبرة من هذا النصر وشعبنا يعاني أشد أشكال القهر ؟ ووجودنا على أرضنا التاريخية في خطر ؟
أليس من الأجدر بنا كلاً من موقعه، رئاسات كنسية وأحزاب وهيئات ومنظمات شعبية وجمعيات وأفراد العمل يداً واحدة بصمت وحكمة لتتظافر جهودنا كي يجتاز شعبنا هذا المخاض العسير ؟
فلندع هذه السجالات والتجاذبات جانباً، والتي لا تجلب لنا سوى التشرذم والضعف.  ولنترك موضوع التسميات للمختصين بهذا الشأن. ولنوجه جهودنا لما فيه خير شعبنا الجريح والمتألم. وليكن فخرنا أننا أبناء كنيسة المسيح كلداناً كنا أم سريان أم أشوريين أم أراميين. فالذين يضطهدوننا ويفجروا كنائسنا ويهجروا شعبنا لا يسألوا عن ما هي تسميتنا سوى أننا مسيحيين.       
   
   

119
تذكار الشهيدة فبرونيا النصيبينية

الشماس: نوري إيشوع مندو
   مع انتشار المسيحية في بلاد ما بين النهرين أضحت نصيبين حاضرة كنيسة المشرق، ومركز إشعاعها الروحي والثقافي. ففيها أسس مار يعقوب النصيبيني أول جامعة لاهوتية في العالم، وفي جبلها المجاور إيزلا انطلقت الحياة الرهبانية مع مار أوجين، وطورت ونظمت مع إبراهيم الكشكري مؤسس دير إيزلا الكبير، وانطلق رهبانها حاملين بشرى الخلاص إلى شعوب العالم المعروف آنذاك، فوصلوا بفتوحاتهم الإنجيلية إلى بلاد الهند والصين.
   ومع بداية الجيل الرابع للمسيحية نجد في نصيبين ديراً للراهبات على اسم مارت نارسوي، أنشأته وأسسته الشماسة بلاطونيا، وجمعت فيه خمسين راهبة. ووضعت لهن قانوناً شديداً، يعشن من خلاله حياة رهبانية منظمة، ويتبارين في تقديس نفوسهن بالصوم والصلاة، حيث لا يأكلن سوى مرة واحدة في النهار، ويقضين يوم الجمعة في الكنيسة من الصباح إلى المساء، متفرغات للتأمل وقراءة الكتاب المقدس، لأن القانون يفرض بألا تقوم الراهبات بأي عمل في هذا اليوم. وعندما توفيت بلاطونيا خلفتها في رئاسة الدير الشماسة برونة، التي سارت على أثر الرئيسة الأولى في إدارة الراهبات بحنان وحزم، حتى أن عبير القداسة كان يفوح في تلك الجهات كلها ويعطرها.
   وفي عهد الرئيسة برونة كانت إحدى البتولات المنتسبات لهذا الدير هي فبرونيا، تلك الشابة البتول التي زينها الله بجمال النفس والجسد، ثم اختارها لترفل بأرجوان دمائها الزكية، فتصبح عروسة بهية تليق ببهائه وقداسته وعظمته الإلهية. هذه الفتاة البارة والعظيمة بين الشهيدات ستبقى زينة متألقة لكنيسة نصيبين العريقة، وموضوع فخار لأبنائها عبر الأجيال.     
   1_ حياتها: لا نملك معلومات دقيقة عن حياتها، 1  وما استقيناه عن قصة استشهادها كتبته الأم تومايس التي خلفت الأم برونة في رئاسة الدير بعد وفاتها، حيث تختم القصة بقولها: " أنا المسكينة تومايس خلفت برونة بعد موتها، ولكوني عارفة حقاً بكل ما جرى للطوباوية فبرونيا منذ البدء، وعلمت بقية الأمور من السيد لوسيماكس. فقد كتبت هذه الشهادة مدحاً وإكراماً للطوباوية، وخلاصاً وتشجيعاً للسامعين، ليستيقظ عقلهم في الجهاد في سبيل عبادة الله، لكي يؤهلوا هم أيضاً لملكوت السماء بيسوع المسيح ربنا الذي له المجد والسلطة إلى دهر الدهور آمين ".
   جاء في شهادة تومايس أن الطوباوية فبرونيا كانت في العشرين من عمرها عند استشهادها سنة 304م، وعليه تكون ولادتها في نهاية القرن الثالث أي حوالي سنة 284م. كانت فبرونيا ابنة أخي رئيسة الدير برونة، 2  وكانت قد فقدت والدتها وهي في ربيعها الثاني، فضمتها برونة إليها واهتمت بتربيتها وتثقيفها بعناية لا توصف. وكانت فبرونيا ذات جمال رائع وحُسن بارع، مما جعل برونة خائفة من أن يصبح جمالها سبب شقاء لنفسها وحياتها، فعودتها على التقوى وحب الفضيلة وممارسة الصوم والتأمل، كي تحفظها وتقيها من المعاثر.
   وكانت فبرونيا ذات أخلاق ناعمة ونفس حساسة وطباع لطيفة، فنمت على الإيمان والإماتة ونذرت لله بتوليتها. وبدأت حياتها الرهبانية بالتقشف، حيث كانت لا تأكل إلا مرة واحدة كل يومين، وفي أكلها لا تشبع، ولا تشرب إلا القليل من الماء، وتحيي ليالي برمتها في الصلاة والتأمل، وكانت تستريح وقت النوم على سرير خشبي طوله ثلاث اذرع ونصف وعرضه ذراع واحدة، وكثيراً ما كانت ترقد على الحضيض في سبيل قمع جسدها.
   وحينما كانت التجارب تراودها ليلاً، كانت تنهض وتلوذ بالصلاة وبالقراءة الروحية طرداً للهواجس الشريرة، متضرعة إلى عريسها الإلهي أن يحفظ لها زهرة طهارتها نقية بهية. وكانت تحب العلم محبة شديدة، حتى أن الرئيسة والراهبات كن يتعجبن من سعة معارفها.
   وكانت فبرونيا ذات صوت رخيم، تشرح كلام الله كأن الروح القدس ينطق بفمها، لذلك أوعزت إليها الرئيسة قراءة كلام الله لدى اجتماع الراهبات للصلاة، وأمرتها أن تقرأ لهن وراء الحجاب أيام الآحاد والجمع، بسبب حضور نساء علمانيات للصلاة معهن في هذه الأيام، حتى لا يلفت جمالها البارع أنظار الحاضرات، ولا ينظرن إليها ولا يُفتنَّ بسحر عينيها. ورغم ذلك فقد شاع خبرها في المدينة، واخذ الناس يتحدثون عن علمها وجمالها ووداعتها وتواضعها.
   وكان في نصيبين امرأة وثنية شريفة تدعى اياريا تعيش مع ذويها بعد ترملها، وقد بلغها خبر فبرونيا، حتى ذابت شوقاً إلى رؤيتها. وفي احد الأيام جاءت إلى الدير وقابلت الرئيسة برونة وجثت عند قدميها قائلة: " استحلفك بالله خالق السماء والأرض ألا تنفري مني لكوني ما زلت وثنية نجسة وألعوبة للشياطين، ولا تحرميني من صحبة فبرونيا وتعليمها، فأتلقى بواسطتكن طريق الخلاص وأفوز بما هو معدّ للمسيحيين. أنقذيني من بطلان هذا العالم ومن عبادة الأصنام الرجسة. فها أن والديّ يرغماني على زواج آخر. فكفاني عذابي من ضلال الأول، وأريد الآن أن احصل على الحياة بواسطة تعليم أختي فبرونيا وصحبتها ".
   كانت اياريا تقول هذا وهي تبلل قدمي الرئيسة بدموعها، حتى تحننت عليها وسمحت لها بمشاهدتها شرط أن تتوشح بالزي الرهباني، لأن فبرونيا منذ ثماني عشرة سنة تعيش في هذا الدير، دون أن ترى وجه رجل ولا الزي العالمي ولم تعاشر حتى العلمانيات.
   أدخلت الرئيسة برونة الشريفة اياريا وهي مرتدية الزي الرهباني على فبرونيا، وما أن رأتها فبرونيا ظنتها راهبة غريبة فجثت عند قدميها إكراماً لها. وبعد السلام أمرت الرئيسة فبرونيا لتقرأ لضيفتها من الكتب المقدسة، فامتلأ قلب اياريا حزناً وندامة، حتى أمضت كلتاهما الليل كله دون نوم، فلم تكف فبرونيا عن القراءة، واياريا لم تشبع من تعليمها وهي تتنهد باكية متحسرة.
   وفي الصباح عادت اياريا إلى منزلها، وأخذت تحرض ذويها على الابتعاد عن عبادة الأصنام وعلى الإقبال على معرفة الإله الحق. وبعد انصراف اياريا سألت فبرونيا نائبة الرئيسة تومايس قائلة: " التمس منك يا أماه أن تقولي لي من هي هذه الأخت الغريبة التي سكبت هذه الدموع، وكأنها لم تسمع من قبل كلام  الله ".
   فقالت لها تومايس: " إنها الشريفة اياريا ". 
   فقالت فبرونيا: " لماذا خدعتنني فخاطبتها كأخت ".
   فقالت لها تومايس: " إن سيدتنا رئيسة الدير شاءت ذلك ".
   وبعد مدة وجيزة داهم المرض فبرونيا واشتدت عليها وطأته، ولما سمعت اياريا بمرضها، جاءت إليها لتخدمها، ولم تفارقها إلا بعد أن استعادت عافيتها.
   2_ الاضطهاد: مع بداية القرن الرابع ثارت زوبعة الاضطهاد بحق المسيحيين في عهد الإمبراطور الروماني ديوقلتيانس، واخذ السيف يحصد نفوس المسيحيين حصداً مريعاً. وقد كلف سيلينس وابن أخيه لوسيماكس بالذهاب إلى المشرق، وأوصاهما أن يفتكوا بالمسيحيين بلا شفقة ولا رحمة.
   فامتثلاً لأمر الإمبراطور وذهبا إلى المشرق مع جيش كبير، وأقام لوسيماكس ابن خالته فريمس آمراً للجيش. ولما بلغوا ما بين النهرين، شرع سيلينس ينكل بالمسيحيين ويقضي عليهم بالسيف والنار، ويرمي بجثثهم للكلاب، فاستولى الرعب على المسيحيين من شراسة سيلينس.
   وفي إحدى الليالي دعا لوسيماكس ابن خالته فريمس وقال له: " أنت تعلم أن أبي مات وثنياً، ولكن والدتي ماتت مسيحية، وقد بذلت قصارى جهدها لكي أصير أنا أيضاً مسيحياً. ولكني لم أستطيع إلى ذلك سبيلاً، خوفاً من أبي ومن الملك. غير أنها أمرتني بألا أسيء إلى المسيحيين، بل أن أحب المسيح. وحينما أرى كيف يعامل عمي سيلينس الظالم هؤلاء المسيحيين، يتمزق عليهم فؤادي حزناً واسى. فأريد أن يُطلق سراح المسيحيين سراً ".
   فلما سمع فريمس ذلك، أمر بعدم القبض على المسيحيين، وكان يسبق ويرسل الخبر إلى الأديرة ويوعز إليهم في الهرب من أمام الطاغية سيلينس. وما أن اقترب الجيش من مدينة نصيبين حتى شاع الخبر أن سيلينس ولوسيماكس قادمان إليها، ليرغما المسيحيين على تقديم الذبائح للأصنام. فترك جميع المسيحيين والإكليروس والرهبان مساكنهم ولاذوا بالفرار، واختبأ مطران المدينة نفسه من الخوف.
   وما أن بلغ الخبر مسامع الراهبات اجتمعن عند الرئيسة وقلن لها: " ماذا نفعل يا أماه، فقد وصل المضطهدون إلى هنا أيضاً، والجميع يفرون من أمامهم ".
   فقالت الرئيسة لهن: " وماذا تردن أن أصنع لكن ".
   فأجبنها: " أن تأمرينا بالاختباء مدة لإنقاذ أنفسنا ".
   فردت الرئيسة عليهن: " لا يا بناتي إني لا أريد منكن هذا، بل علينا أن نصمد في الجهاد، وأن نموت في سبيل ذالك الذي مات لأجلنا، لكي نحيا معه أيضاً ".
   ولما سمعت الأخوات هذا الكلام، اخلدن إلى الصمت والهدوء. وبعد أن خرجن قالت إحداهن واسمها ايثاريا: " إني أعلم أن رئيستنا لا تتركنا نغادر المكان لأجل فبرونيا، ولعلها تريد أن نهلك جميعاً بسببها. فأرى أن ندخل عليها، وأنا سأكلمها عنكن بما ينبغي ".
   وفي اليوم التالي اجتمعت جميع الراهبات ودخلن على الرئيسة، وتكلمت باسمهن الأخت ايثاريا قائلة: " مُري بأن نختبئ ونفر من أمام الغضب القادم. فنحن لسنا خيراً من الإكليروس ومن الأسقف، فكري أن بيننا من هن شابات. فقد يختطفهن الجنود الرومان، ويتعرضن لتدنيس أجسادهن فيخسرن أجر زهدهن، أو لعلنا لا نستطيع احتمال العذابات فنجحد الإيمان، ونصبح أضحوكة للشياطين ونفقد نفوسنا. فإذا أمرتِنا بالهرب، فإننا نأخذ معنا فبرونيا أيضاً وننطلق ".
   وحينما سمعت فبرونيا هذا الكلام، قالت لهن: " لعمر المسيح الذي خُطبت له وقدمت له ذاتي، لن أغادر هذا المكان، وليكن ما شاء الله ".
   فألتفت الرئيسة نحو ايثاريا قائلة: " يا ايثاريا أنت تعرفين ما صنعت، وأنا بريئة من    ذلك "، ثم قالت للأخوات: " كل منكن تدري ما الأصلح لها، فلتختر ما  تشاء ". بعد أن أنهت الرئيسة كلامها استحوذ الخوف على الراهبات، فخرجن من الدير بعد أن صلين وودعن الرئيسة وفبرونيا بحزن بالغ وبكاء مر.
   أما الراهبة افرقلة التي تربت مع فبرونيا فقد جاءت تودع فبرونيا فعانقتها وأخذت تبكي وتقول: " وداعاً يا فبرونيا صلي لأجلي ". وأمسكت فبرونيا بيديها ومنعتها من الخروج وقالت لها: " خافي الله يا افرقلة، ولا تتركينا أنت أيضاً. ألا ترين أني ما أزال مريضة، وقد أموت ولا تستطيع الرئيسة وحدها أن تدفني، فامكثي عندنا حتى إذا مت تواريني التراب ".
   فردت افرقلة قائلة: " ما دمتِ قد أمرتِني يا أختي فلن أترككِ ".
   فردت الرئيسة على افرقلة قائلة: " ها قد وعدت أمام الله بأنكِ لن  تتركينا ".
   ولكن ما أن حل المساء حتى غادرت افرقلة الدير لاحقة بالأخريات.
   ولما رأت الرئيسة أن الدير قد خلا من الراهبات، دخلت المعبد وارتمت على الأرض وأخذت تصرخ وتبكي. وكانت تومايس نائبتها جالسة بجانبها تعزيها وتقول:  " كفي يا أماه فإن الله قادر أن ينقذنا من هذه المحنة، فمن ذا الذي آمن بالله  وخزي ".
   فأجابتها الرئيسة: " أجل يا تومايس إني أدري أن الأمر كذلك، ولكن ماذا أصنع بفبرونيا، وأين أخبئها وأنقذها، وكيف انظر إليها إذا اختطفها البرابرة ". عندها طلبت تومايس من الرئيسة أن يمضيا معاً عند فبرونيا ويشجعاها، لأنها ما زالت تعاني من المرض.
   وما أن بلغتا عند فبرونيا حتى احتضنتها الرئيسة وهي تذرف الدموع، وحينما رأتها فبرونيا على تلك الحال سألت تومايس قائلة: " أناشدك يا أماه أن تقولي لي ما هو سبب بكاء أمنا الرئيسة، فلقد سمعت صراخها قبل قليل وهي في المعبد ".
   فأجابتها تومايس باكية: " يا ابنتي فبرونيا إنما الرئيسة تبكي وتتنهد من أجلك، نظراً إلى المحن المزمعة أن تأتينا من الظالمين، وهي تحزن عليك لكونك صبية حسناء ".
   فقالت فبرونيا: " التمس منكما أن تصليا من أجلي فقط، فلعل الله ينظر إلي فيقويني ويوليني الصبر، كما فعل للذين أحبوه ".
   فردت عليها تومايس قائله: " يا ابنتي فبرونيا هوذا زمان الجهاد، ولا شيء أكرم عند الله من البتولية، وعريس البتولات غير مائت، وهو يولي الخلود للذين يحبونه. فحاولي أن تنظري إلى ذلك الذي خصصت له ذاتك، ولا تنكثي عهدك ".
   فلما سمعت فبرونيا هذا الكلام تشجعت وهيأت نفسها لمجابهة الشيطان، وقالت لتومايس: " أحسنت يا سيدتي بإسدائك النصح إلى خادمتك، فاني قد تقويت كثيراً بكلامك. فلو أردت الهرب من الجهاد، لغادرت المكان أنا أيضاً مع أخواتي واختبأت. ولأني أحب ذاك الذي خصصت له ذاتي، فأنا مهتمة بالذهاب إليه، إذا جعلني أهلاً للتألم والجهاد في سبيله ".
   فلما سمعت الرئيسة هذا الكلام، شرعت هي أيضاً تبذل النصح لفبرونيا قائلة:  " أذكري يا فبرونيا المجاهدين الذين سبقوك واستشهدوا بنوع مجيد، ونالوا إكليل الظفر من الله ". ولم تزل الرئيسة تخاطبها بمثل هذه الأقوال حتى انقضى الليل.
   3_ استشهادها: ما أن أشرقت شمس اليوم التالي، حتى علا ضجيج سكان نصيبين، وساد فيها الفوضى حينما احتلها القائدان سيلينس ولوسيماكس. وقبض الجيش على مسيحيين كثيرين وأودعوا السجن. واخبر بعض الوثنيين سيلينس بشأن الدير، فأرسل جنوداً كسروا الأبواب ودخلوا وقبضوا على برونة، وهمَّ بعضهم بقتلها على الفور. فارتمت فبرونيا على أقدام الجنود وصرخت بصوت عال وقالت: " استحلفكم بإله السماء أن تقتلوني أولاً، فلا أرى موت سيدتي ".
   ولما اقبل فريمس ورأى ما صنعه الجنود، غضب عليهم جداً وأمرهم بالخروج من الدير. ثم قال للرئيسة: " أين ساكنات هذا الموضع ".
   فأجابته الرئيسة: " لقد غادرن الموضع خوفاً منكم ".
   فقال لها فريمس: " ليتكن أنتن أيضاً نجوتن بأنفسكن، ولديكن المجال الآن للهرب حيثما تشأن ". ثم غادر الجنود الرومان الدير دون أن يترك فيه حراساً.
   ولما عاد فريمس إلى لوسيماكس، سأله عن الدير وسكانه. فرد عليه فريمس بالقول: " الراهبات قد هربن من الدير، ولم يبقى فيه سوى عجوزين وشابة، وقد اعتراني العجب لما رأيت الشابة التي لم أرى في النساء جمالاً يضاهي جمالها. ولولا كونها مسكينة وبائسة، لاستحقت أن تكون زوجة لك يا سيدي ".
  فرد عليه لوسيماكس قائلاً: " أوصيت بعدم سفك دم المسيحيين، بل أكون محباً للمسيح، فحاشا لي أن أفعل ذلك. والآن أطلب منك يا سيدي فريمس أن تخرجهن من هناك، وتخلصهن لئلا يقعن في قبضة عمي سيلينس العديم  الرحمة ".
   إلا أن أحد أولئك الجنود ذهب إلى سيلينس وأخبره عن شابة الدير الرائعة الجمال، وها أن فريمس يتحدث إلى لوسيماكس بشأن الزواج منها. فلما سمع سيلينس هذا الكلام، احتدم غيظاً وأقام حراساً على الدير لمنع الراهبات من الهرب. ثم أمر فنادوا في المدينة: " غداً ستدان فبرونيا علناً في معلب المدينة ". 3 
   وفي اليوم التالي ذهب الجنود إلى الدير وقبضوا على فبرونيا وقيدوها بالسلاسل وكبلوا عنقها بطوق من حديد ثقيل، وجروها وأخرجوها من الدير. فلحقت بها الرئيسة برونة ونائبتها تومايس وتوسلتا أن يذهبا أيضاً معها للجهاد، لكن الجنود رفضوا طلبهما لأنهم لم يتلقوا أمراً بشأنهما. ثم توسلتا إلى الجنود بأن يتيحوا لهما التحدث إليها قليلاً، فاستجاب الجنود إلى طلبهما. فخاطبت برونة فبرونيا بالقول: " يا أبنتي فبرونيا ها إنك ماضية إلى الجهاد، ففكري أن العريس السماوي ينظر إلى نضالك، وأن القوات السماوية تحمل أكليل الظفر وهي منتظرة نهاية جهادك ليكللوك به، فلا تخافي من العذابات لئلا تصبحي مهزلة للشياطين، ولا تشفقي على جسدك الذي سينحل من الضربات، فعلى هذا الجسد أن ينحل بعد قليل ويستحيل تراباً في القبر. فأنا باقية في الدير حزينة ومنتظرة من يبشرني أن فبرونيا أنجزت جهادها، وأحصيت في عداد الشهداء ".
   فقالت فبرونيا: " ثقتي بالله، يا أماه إني لن أخالف الآن أوامرك ونصائحك، وأظهر في جسد النساء عزيمة الرجال وبأسهم، وسترى الشعوب ويذهلون ويعطون الطوبى لشيخوخة برونة، التي غرست يدها هذه النبتة. التمس منكما يا والدتيّ أن تزودانيّ بالبركات، وأن تصليا لأجلي، فاتركاني لأذهب ".
   فمدت برونة يديها نحو السماء ورفعت صوتها وقالت: " أيها الرب يسوع المسيح، أنت الذي ظهرت لأمتك تقلا كما ظهرت لبولس، ألتفت أيضاً إلى هذه المسكينة في وقت الجهاد ". ثم عانقت فبرونيا وقبلتها، وتركتها تمضي.
   ساق الجنود فبرونيا وهي مكبلة إلى ملعب نصيبين، حيث تجمع هناك جمهور غفير من الأهالي، وكان بين النساء الحاضرات الشريفة اياريا ونائبة الرئيسة تومايس التي تنكرت بالزي العلماني. وما أن جلسا سيلينس ولوسيماكس على المنصة، أمرا بإدخال فبرونيا، وما أن رآها الجمهور تصاعدت الزفرات. وأمر سيلينس الجمهور بالسكوت، وطلب من لوسيماكس أن يطرح عليها الأسئلة.
   فقال لها لوسيماكس: " قولي يا بنت ما اسمك، أجارية أنت أم حرة ".
   فردت عليه فبرونيا بالقول: " أنا أمة المسيح، وسيدتي تدعوني فبرونيا ".
   وشرع سيلينس يستنطقها قائلاً: " يا فبرونيا لم أود استنطاقك، فإن وداعتك وتواضعك وجمالك الرائع اخمد غضبي عليك، وأنا لا أوجه السؤال إليك كمذنبة، بل أسألك كابنتي الحبيبة، أن تقبلي لوسيماكس زوجاً لك. فأجعلك ذات شأن عظيم على الأرض، فأجيبيني بما تشائين ".
   فقالت فبرونيا: " أيها الحاكم لي في السماء خدراً لم تصنعه أيادي البشر، وعرساً لا يزول، ومهراً قوامه ملكوت السماء، وعريساً غير مائت ولا يزول ولا يتغير، ومعه سأتنعم إلى الأبد ". 
   ولما سمع الحاكم قولها، احتدم غيظاً وأمر الجنود بتمزيق ثيابها، وبتوشيحها رقعاً بالية، وإيقافها على تلك الحال من الهوان والعراء أمام الجميع، فتعطي الويل لنفسها. وسرعان ما مزق الجنود ثيابها، وشدوا لها خرقاً بالية وأوقفوها عارية أمام الجميع. فقال لها سيلينس: " ترين من أي خيرات هويت، وإلى أي هوان انحدرت ". فأجابته فبرونيا قائلة: " لو عريتني تماماً من ثيابي، لما حسبت هذا هواناً. وأنا متهيئة لعذاب النار والسيف، إن كنت أهلاً لأتألم في سبيل ذاك الذي تألم من  أجلي ".
   وهنا أمر سيلينس الجنود فمدوها على الأرض، وأضرموا النار تحتها. وتقدم أربعة جنود وجلدوا ظهرها بالقضبان، حتى تفجر الدم من ظهرها، وتساقطت قطراته على الأرض كالمطر. وكان الشعب يصرخ ويناشد الحاكم ليشفق على الصبية. وحينما رأى سيلينس أن جسدها تمزق، ولحمانها أخذت تتناثر على الأرض مع الدم، أوعز في الكف عن ضربها، فألقوها خارج النار ظانين أنها قد فارقت الحياة. وبعد أن رشوا وجهها بماء استفاقت، فأمر سيلينس بأن تقوم وتعطي الجواب، فقال لها:  " ماذا تقولين يا فبرونيا، وكيف خضت النزال الأول ".
   فأجابته فبرونيا: " لقد علمت من الخبرة الأولى أني لا أُغلب، وأني أحتقر  عذاباتك ". فأمر سيلينس الجنود ليعلقوها على خشبة، ويجردوا جنبيها بأمشاط حديدية، ويضرموا النار فيها، حتى تحرق عظامها أيضاً. أما فبرونيا فكانت عيناها شاخصتان إلى السماء وهي تقول: " هلم يا رب إلى معونتي، ولا تتخل عني في هذه الساعة ".
   ثم احضروا طبيباً فأمره سيلينس بقطع لسانها، واقتلاع أسنانها، وقطع ثدييها. ففعل الطبيب كما أمره. أما فبرونيا فرفعت صوتها إلى السماء وصرخت بألم عظيم وقالت: " أيها الرب إلهي، أنظر إلى ما أنا فيه من الشدة والظلم، واقبل نفسي ".
   ثم غاصت في نزاع طويل. فأمر سيلينس بقطع رأسها، فأخذ الجلاد سيفاً وأمسك بشعر فبرونيا ونحرها كما تنحر الشاة. فأسلمت روحها الطاهرة لعريسها السماوي. وكان الكثير من الحضور مستائين من قسوة ما شاهدوا. وما أن علمت الرئيسة برونة بخبر استشهادها وهي عاكفت على الصلاة والتضرع قالت: " يا رب أنظر إلى تواضع أمتك فبرونيا، وهلم إلى مساعدتها، لكي ترى عيناي أن فبرونيا تكللت وأحصيت مع الشهداء الطوباويين ".
   وإذ قام الحكام وذهبوا لتناول الغذاء في دار الولاية، كان لوسيماكس يسير وعيناه مغرورقتان بالدموع، فأمر الجند في حراسة جسد فبرونيا، ولم يستطع تناول الطعام، بل انزوى في غرفة واستسلم إلى الحزن. أم عمه سيلينس فأخذ يتمشى في فناء دار الولاية، وبينما يتمشى نظر إلى السماء وظل وقتاً منذهلاً، ثم صرخ كالثور ووثب وضرب رأسه بأحد العواميد فسقط ميتاً. فعلا الضجيج وسادت الفوضى دار الولاية، فهز لوسيماكس رأسه وقال: " ما أعظم إله المسيحيين، فقد انتقم الله لدم فبرونيا الذي سفك ظلماً من قبل عمي الظالم سيلينس ".
   ثم أمر القائد فريمس ليحمل الجنود إلى الدير جسد فبرونيا وجميع أعضائها المبتورة، وحتى التراب الذي فوقه سفك دمها. ففعل فريمس كما أمره لوسيماكس، ولف جثمانها الطاهر بردائه. وبجهد جهيد وصل الجند إلى الدير وهم حاملين جثمان الشهيدة، لأن الجموع المزدحمة كانت تتراكض وتحاول اختطاف شيء من أعضائها للتبرك. ولما رأت الرئيسة برونة جسد فبرونيا على تلك الحال، انهارت على الأرض وأغمي عليها مدة طويلة. ثم أقبلت راهبات الدير اللواتي هربن، وارتمين جميعاً على جسدها المقدس وهن باكيات. أما الشريفة اياريا فكانت جاثية أمام جسد الشهيدة وهي تقول: " إني أجثو أمام هاتين الرجلين المقدستين اللتين داستا رأس التنين، وأقبّل جراح الجسد المقدس التي بها شفيت جروح نفسي، وأضفر إكليل الثناء واضعه على الرأس الذي شرف جنسنا بمحاسن النصر ". وفي المساء غسلن الأخوات جسد الشهيدة، ورتبن كلاً من أعضائها في موضعه. ثم أمرت برونة بفتح باب الدير أمام الشعب، فدخلت الجموع وأخذت تمجد الله، وكانت النساء يبكين لحرمانهن من معلمتهن. ووصل بعض من الآباء القديسين وكثير من الرهبان، وأمضوا الليل كله ساهرين في الصلاة.
   أما لوسيماكس فدعا فريمس وقال له: " يا سيدي فريمس إني أكفر بجميع عادات آبائي وبإرثهم وأموالهم، وأنظم إلى المسيح ".
   فقال فريمس: " وأنا أيضاً ألعن ديوقلتيانس ومملكته، وأكفر بإرث آبائي وانظم إلى  المسيح ". وتركا دار الولاية وجاءا إلى الدير مع الجموع.
   وعند الصباح وضع جثمان الشهيدة في صندوق، ضامين كلاً من الأعضاء إلى مكانه، أما الأسنان فوضعوها على صدرها، وملئوا الصندوق بالطيب والمسك والبخور الفاخرة. ثم قام أسقف المدينة ومعه الرهبان والإكليروس بالصلاة على جثمان الشهيدة، وبعد الانتهاء من الصلاة وضع الصندوق في مكان لائق من الدير. وكانت الشريفة اياريا قد تركت أهلها وتخلت عن العالم، وانزوت في الدير وأوقفت جميع أموالها للدير، ووشحت صندوق الشهيدة فبرونيا بما تملكه من الذهب والجواهر. وآمن بالمسيح جمع غفير من الوثنيين واعتمدوا، واعتمد أيضاً القائدان لوسيماكس وفريمس وتخليا عن العالم وترهبا وامضيا حياتهما في ما يرضي المسيح.
   الخاتمة: بعد استشهاد فبرونيا شيد مطران نصيبين كنيسة جميلة، وأنجزها في ست سنين. ولما أتمها دعا الأساقفة المجاورين وأقام عيداً كبيراً واحتفالاً فخماً في الخامس والعشرين من حزيران. فاجتمع جمهور غفير من الناس حتى ضاقت بهم الكنيسة والدير، وبعد أن أنهوا صلاة الفجر جاء موكب المطران والأساقفة والكهنة والشمامسة وجمهور غفير من المؤمنين إلى الدير. وخاطب مطران نصيبين الرئيسة برونة قائلاً: " إننا لعاجزون عن وصف الأمجاد اللائقة بالشهيدة فبرونيا، لأن اللسان قاصر عن وصفها. إلا أننا قصدناك كأخت لنا، ملتمسين منك أن تكرمي معنا الشهيدة المظفرة، فتعطيها لنا لكي تسكن في الكنيسة التي شيدت لأسمها ". ولما سمعت الراهبات هذا الكلام، ارتمين كلهن على أرجل الأساقفة وطلبن منهم أن لا يحرمن من هذه الجوهرة. أما برونة فطلبت من الأساقفة أن يأخذوا هذه الجوهرة إن حسن الأمر لديهم ولدى الطوباوية. وبعد أن ختمت الصلاة دنو من الصندوق ليأخذوه، وإذا برعد يهز الفضاء ويلقي الهلع في قلوب الشعب كله، وحينما مدوا أيديهم لحمل الصندوق حدث زلزال كبير، حتى ظن الجميع أن المدينة قد دمرت. فعرف المطران أن الشهيدة غير راضية بترك الدير، فسأل برونة أن تعطيه أحد الأعضاء المبتورة، حتى يضعها في الكنيسة المشادة على اسمها كبركة. ففتحت برونة الصندوق، فكان الجسد يتلألأ كأشعة الشمس تنبعث منه مثل بروق نارية. فمدت برونة يدها بخوف ولمست يد فبرونيا لإعطائها للمطران، وإذا بيدها تشل وتصبح مثل مائتة. فبكت برونة وسألت الشهيدة أن لا تخزيها في شيخوختها. فعادت يد برونة صحيحة كالسابق. ثم مدت يدها ثانية طالبت من الشهيدة أن تعطيها بركة، وأخذت أحدى أسنانها الموضوعة على صدرها، وأعطتها للمطران وأغلقت الصندوق. وما أن تلقى المطران هذه الدرة المقدسة الثمينة في إناء من ذهب، عاد الموكب إلى الكنيسة باحتفال كبير، ووضعت هذه الذخيرة في موضعها. وقد نال الشفاء جميع العمي والعرج والممسوسين. وكان الشعب يجلب المرضى من كل مكان فينالون الشفاء من كل علة فيهم. وقد انتشرت عبادة تلك العذراء الشهيدة في كل مكان، ونال بشفاعتها الكثيرون جزيل النعم والبركات. وبقي جسد الشهيدة فبرونيا في دير مارت نارسوي إلى يومنا هذا، وقد تحول هذا الدير بعد الفتح الإسلامي إلى جامع زين العابدين، 4  الذي لا زال قائماً إلى يومنا هذا.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهيدة فبرونيا النصيبينية يوم الجمعة الرابعة من سابوع الرسل. ويحتفل أيضاً بتذكارها يوم الخامس والعشرين من حزيران وهو اليوم الذي فيه تم تدشين الكنيسة التي شيدت في نصيبين على اسمها.       


120
تذكار الشهيدة فبرونيا النصيبينية

الشماس: نوري إيشوع مندو
   مع انتشار المسيحية في بلاد ما بين النهرين أضحت نصيبين حاضرة كنيسة المشرق، ومركز إشعاعها الروحي والثقافي. ففيها أسس مار يعقوب النصيبيني أول جامعة لاهوتية في العالم، وفي جبلها المجاور إيزلا انطلقت الحياة الرهبانية مع مار أوجين، وطورت ونظمت مع إبراهيم الكشكري مؤسس دير إيزلا الكبير، وانطلق رهبانها حاملين بشرى الخلاص إلى شعوب العالم المعروف آنذاك، فوصلوا بفتوحاتهم الإنجيلية إلى بلاد الهند والصين.
   ومع بداية الجيل الرابع للمسيحية نجد في نصيبين ديراً للراهبات على اسم مارت نارسوي، أنشأته وأسسته الشماسة بلاطونيا، وجمعت فيه خمسين راهبة. ووضعت لهن قانوناً شديداً، يعشن من خلاله حياة رهبانية منظمة، ويتبارين في تقديس نفوسهن بالصوم والصلاة، حيث لا يأكلن سوى مرة واحدة في النهار، ويقضين يوم الجمعة في الكنيسة من الصباح إلى المساء، متفرغات للتأمل وقراءة الكتاب المقدس، لأن القانون يفرض بألا تقوم الراهبات بأي عمل في هذا اليوم. وعندما توفيت بلاطونيا خلفتها في رئاسة الدير الشماسة برونة، التي سارت على أثر الرئيسة الأولى في إدارة الراهبات بحنان وحزم، حتى أن عبير القداسة كان يفوح في تلك الجهات كلها ويعطرها.
   وفي عهد الرئيسة برونة كانت إحدى البتولات المنتسبات لهذا الدير هي فبرونيا، تلك الشابة البتول التي زينها الله بجمال النفس والجسد، ثم اختارها لترفل بأرجوان دمائها الزكية، فتصبح عروسة بهية تليق ببهائه وقداسته وعظمته الإلهية. هذه الفتاة البارة والعظيمة بين الشهيدات ستبقى زينة متألقة لكنيسة نصيبين العريقة، وموضوع فخار لأبنائها عبر الأجيال.     
   1_ حياتها: لا نملك معلومات دقيقة عن حياتها، 1  وما استقيناه عن قصة استشهادها كتبته الأم تومايس التي خلفت الأم برونة في رئاسة الدير بعد وفاتها، حيث تختم القصة بقولها: " أنا المسكينة تومايس خلفت برونة بعد موتها، ولكوني عارفة حقاً بكل ما جرى للطوباوية فبرونيا منذ البدء، وعلمت بقية الأمور من السيد لوسيماكس. فقد كتبت هذه الشهادة مدحاً وإكراماً للطوباوية، وخلاصاً وتشجيعاً للسامعين، ليستيقظ عقلهم في الجهاد في سبيل عبادة الله، لكي يؤهلوا هم أيضاً لملكوت السماء بيسوع المسيح ربنا الذي له المجد والسلطة إلى دهر الدهور آمين ".
   جاء في شهادة تومايس أن الطوباوية فبرونيا كانت في العشرين من عمرها عند استشهادها سنة 304م، وعليه تكون ولادتها في نهاية القرن الثالث أي حوالي سنة 284م. كانت فبرونيا ابنة أخي رئيسة الدير برونة، 2  وكانت قد فقدت والدتها وهي في ربيعها الثاني، فضمتها برونة إليها واهتمت بتربيتها وتثقيفها بعناية لا توصف. وكانت فبرونيا ذات جمال رائع وحُسن بارع، مما جعل برونة خائفة من أن يصبح جمالها سبب شقاء لنفسها وحياتها، فعودتها على التقوى وحب الفضيلة وممارسة الصوم والتأمل، كي تحفظها وتقيها من المعاثر.
   وكانت فبرونيا ذات أخلاق ناعمة ونفس حساسة وطباع لطيفة، فنمت على الإيمان والإماتة ونذرت لله بتوليتها. وبدأت حياتها الرهبانية بالتقشف، حيث كانت لا تأكل إلا مرة واحدة كل يومين، وفي أكلها لا تشبع، ولا تشرب إلا القليل من الماء، وتحيي ليالي برمتها في الصلاة والتأمل، وكانت تستريح وقت النوم على سرير خشبي طوله ثلاث اذرع ونصف وعرضه ذراع واحدة، وكثيراً ما كانت ترقد على الحضيض في سبيل قمع جسدها.
   وحينما كانت التجارب تراودها ليلاً، كانت تنهض وتلوذ بالصلاة وبالقراءة الروحية طرداً للهواجس الشريرة، متضرعة إلى عريسها الإلهي أن يحفظ لها زهرة طهارتها نقية بهية. وكانت تحب العلم محبة شديدة، حتى أن الرئيسة والراهبات كن يتعجبن من سعة معارفها.
   وكانت فبرونيا ذات صوت رخيم، تشرح كلام الله كأن الروح القدس ينطق بفمها، لذلك أوعزت إليها الرئيسة قراءة كلام الله لدى اجتماع الراهبات للصلاة، وأمرتها أن تقرأ لهن وراء الحجاب أيام الآحاد والجمع، بسبب حضور نساء علمانيات للصلاة معهن في هذه الأيام، حتى لا يلفت جمالها البارع أنظار الحاضرات، ولا ينظرن إليها ولا يُفتنَّ بسحر عينيها. ورغم ذلك فقد شاع خبرها في المدينة، واخذ الناس يتحدثون عن علمها وجمالها ووداعتها وتواضعها.
   وكان في نصيبين امرأة وثنية شريفة تدعى اياريا تعيش مع ذويها بعد ترملها، وقد بلغها خبر فبرونيا، حتى ذابت شوقاً إلى رؤيتها. وفي احد الأيام جاءت إلى الدير وقابلت الرئيسة برونة وجثت عند قدميها قائلة: " استحلفك بالله خالق السماء والأرض ألا تنفري مني لكوني ما زلت وثنية نجسة وألعوبة للشياطين، ولا تحرميني من صحبة فبرونيا وتعليمها، فأتلقى بواسطتكن طريق الخلاص وأفوز بما هو معدّ للمسيحيين. أنقذيني من بطلان هذا العالم ومن عبادة الأصنام الرجسة. فها أن والديّ يرغماني على زواج آخر. فكفاني عذابي من ضلال الأول، وأريد الآن أن احصل على الحياة بواسطة تعليم أختي فبرونيا وصحبتها ".
   كانت اياريا تقول هذا وهي تبلل قدمي الرئيسة بدموعها، حتى تحننت عليها وسمحت لها بمشاهدتها شرط أن تتوشح بالزي الرهباني، لأن فبرونيا منذ ثماني عشرة سنة تعيش في هذا الدير، دون أن ترى وجه رجل ولا الزي العالمي ولم تعاشر حتى العلمانيات.
   أدخلت الرئيسة برونة الشريفة اياريا وهي مرتدية الزي الرهباني على فبرونيا، وما أن رأتها فبرونيا ظنتها راهبة غريبة فجثت عند قدميها إكراماً لها. وبعد السلام أمرت الرئيسة فبرونيا لتقرأ لضيفتها من الكتب المقدسة، فامتلأ قلب اياريا حزناً وندامة، حتى أمضت كلتاهما الليل كله دون نوم، فلم تكف فبرونيا عن القراءة، واياريا لم تشبع من تعليمها وهي تتنهد باكية متحسرة.
   وفي الصباح عادت اياريا إلى منزلها، وأخذت تحرض ذويها على الابتعاد عن عبادة الأصنام وعلى الإقبال على معرفة الإله الحق. وبعد انصراف اياريا سألت فبرونيا نائبة الرئيسة تومايس قائلة: " التمس منك يا أماه أن تقولي لي من هي هذه الأخت الغريبة التي سكبت هذه الدموع، وكأنها لم تسمع من قبل كلام  الله ".
   فقالت لها تومايس: " إنها الشريفة اياريا ". 
   فقالت فبرونيا: " لماذا خدعتنني فخاطبتها كأخت ".
   فقالت لها تومايس: " إن سيدتنا رئيسة الدير شاءت ذلك ".
   وبعد مدة وجيزة داهم المرض فبرونيا واشتدت عليها وطأته، ولما سمعت اياريا بمرضها، جاءت إليها لتخدمها، ولم تفارقها إلا بعد أن استعادت عافيتها.
   2_ الاضطهاد: مع بداية القرن الرابع ثارت زوبعة الاضطهاد بحق المسيحيين في عهد الإمبراطور الروماني ديوقلتيانس، واخذ السيف يحصد نفوس المسيحيين حصداً مريعاً. وقد كلف سيلينس وابن أخيه لوسيماكس بالذهاب إلى المشرق، وأوصاهما أن يفتكوا بالمسيحيين بلا شفقة ولا رحمة.
   فامتثلاً لأمر الإمبراطور وذهبا إلى المشرق مع جيش كبير، وأقام لوسيماكس ابن خالته فريمس آمراً للجيش. ولما بلغوا ما بين النهرين، شرع سيلينس ينكل بالمسيحيين ويقضي عليهم بالسيف والنار، ويرمي بجثثهم للكلاب، فاستولى الرعب على المسيحيين من شراسة سيلينس.
   وفي إحدى الليالي دعا لوسيماكس ابن خالته فريمس وقال له: " أنت تعلم أن أبي مات وثنياً، ولكن والدتي ماتت مسيحية، وقد بذلت قصارى جهدها لكي أصير أنا أيضاً مسيحياً. ولكني لم أستطيع إلى ذلك سبيلاً، خوفاً من أبي ومن الملك. غير أنها أمرتني بألا أسيء إلى المسيحيين، بل أن أحب المسيح. وحينما أرى كيف يعامل عمي سيلينس الظالم هؤلاء المسيحيين، يتمزق عليهم فؤادي حزناً واسى. فأريد أن يُطلق سراح المسيحيين سراً ".
   فلما سمع فريمس ذلك، أمر بعدم القبض على المسيحيين، وكان يسبق ويرسل الخبر إلى الأديرة ويوعز إليهم في الهرب من أمام الطاغية سيلينس. وما أن اقترب الجيش من مدينة نصيبين حتى شاع الخبر أن سيلينس ولوسيماكس قادمان إليها، ليرغما المسيحيين على تقديم الذبائح للأصنام. فترك جميع المسيحيين والإكليروس والرهبان مساكنهم ولاذوا بالفرار، واختبأ مطران المدينة نفسه من الخوف.
   وما أن بلغ الخبر مسامع الراهبات اجتمعن عند الرئيسة وقلن لها: " ماذا نفعل يا أماه، فقد وصل المضطهدون إلى هنا أيضاً، والجميع يفرون من أمامهم ".
   فقالت الرئيسة لهن: " وماذا تردن أن أصنع لكن ".
   فأجبنها: " أن تأمرينا بالاختباء مدة لإنقاذ أنفسنا ".
   فردت الرئيسة عليهن: " لا يا بناتي إني لا أريد منكن هذا، بل علينا أن نصمد في الجهاد، وأن نموت في سبيل ذالك الذي مات لأجلنا، لكي نحيا معه أيضاً ".
   ولما سمعت الأخوات هذا الكلام، اخلدن إلى الصمت والهدوء. وبعد أن خرجن قالت إحداهن واسمها ايثاريا: " إني أعلم أن رئيستنا لا تتركنا نغادر المكان لأجل فبرونيا، ولعلها تريد أن نهلك جميعاً بسببها. فأرى أن ندخل عليها، وأنا سأكلمها عنكن بما ينبغي ".
   وفي اليوم التالي اجتمعت جميع الراهبات ودخلن على الرئيسة، وتكلمت باسمهن الأخت ايثاريا قائلة: " مُري بأن نختبئ ونفر من أمام الغضب القادم. فنحن لسنا خيراً من الإكليروس ومن الأسقف، فكري أن بيننا من هن شابات. فقد يختطفهن الجنود الرومان، ويتعرضن لتدنيس أجسادهن فيخسرن أجر زهدهن، أو لعلنا لا نستطيع احتمال العذابات فنجحد الإيمان، ونصبح أضحوكة للشياطين ونفقد نفوسنا. فإذا أمرتِنا بالهرب، فإننا نأخذ معنا فبرونيا أيضاً وننطلق ".
   وحينما سمعت فبرونيا هذا الكلام، قالت لهن: " لعمر المسيح الذي خُطبت له وقدمت له ذاتي، لن أغادر هذا المكان، وليكن ما شاء الله ".
   فألتفت الرئيسة نحو ايثاريا قائلة: " يا ايثاريا أنت تعرفين ما صنعت، وأنا بريئة من    ذلك "، ثم قالت للأخوات: " كل منكن تدري ما الأصلح لها، فلتختر ما  تشاء ". بعد أن أنهت الرئيسة كلامها استحوذ الخوف على الراهبات، فخرجن من الدير بعد أن صلين وودعن الرئيسة وفبرونيا بحزن بالغ وبكاء مر.
   أما الراهبة افرقلة التي تربت مع فبرونيا فقد جاءت تودع فبرونيا فعانقتها وأخذت تبكي وتقول: " وداعاً يا فبرونيا صلي لأجلي ". وأمسكت فبرونيا بيديها ومنعتها من الخروج وقالت لها: " خافي الله يا افرقلة، ولا تتركينا أنت أيضاً. ألا ترين أني ما أزال مريضة، وقد أموت ولا تستطيع الرئيسة وحدها أن تدفني، فامكثي عندنا حتى إذا مت تواريني التراب ".
   فردت افرقلة قائلة: " ما دمتِ قد أمرتِني يا أختي فلن أترككِ ".
   فردت الرئيسة على افرقلة قائلة: " ها قد وعدت أمام الله بأنكِ لن  تتركينا ".
   ولكن ما أن حل المساء حتى غادرت افرقلة الدير لاحقة بالأخريات.
   ولما رأت الرئيسة أن الدير قد خلا من الراهبات، دخلت المعبد وارتمت على الأرض وأخذت تصرخ وتبكي. وكانت تومايس نائبتها جالسة بجانبها تعزيها وتقول:  " كفي يا أماه فإن الله قادر أن ينقذنا من هذه المحنة، فمن ذا الذي آمن بالله  وخزي ".
   فأجابتها الرئيسة: " أجل يا تومايس إني أدري أن الأمر كذلك، ولكن ماذا أصنع بفبرونيا، وأين أخبئها وأنقذها، وكيف انظر إليها إذا اختطفها البرابرة ". عندها طلبت تومايس من الرئيسة أن يمضيا معاً عند فبرونيا ويشجعاها، لأنها ما زالت تعاني من المرض.
   وما أن بلغتا عند فبرونيا حتى احتضنتها الرئيسة وهي تذرف الدموع، وحينما رأتها فبرونيا على تلك الحال سألت تومايس قائلة: " أناشدك يا أماه أن تقولي لي ما هو سبب بكاء أمنا الرئيسة، فلقد سمعت صراخها قبل قليل وهي في المعبد ".
   فأجابتها تومايس باكية: " يا ابنتي فبرونيا إنما الرئيسة تبكي وتتنهد من أجلك، نظراً إلى المحن المزمعة أن تأتينا من الظالمين، وهي تحزن عليك لكونك صبية حسناء ".
   فقالت فبرونيا: " التمس منكما أن تصليا من أجلي فقط، فلعل الله ينظر إلي فيقويني ويوليني الصبر، كما فعل للذين أحبوه ".
   فردت عليها تومايس قائله: " يا ابنتي فبرونيا هوذا زمان الجهاد، ولا شيء أكرم عند الله من البتولية، وعريس البتولات غير مائت، وهو يولي الخلود للذين يحبونه. فحاولي أن تنظري إلى ذلك الذي خصصت له ذاتك، ولا تنكثي عهدك ".
   فلما سمعت فبرونيا هذا الكلام تشجعت وهيأت نفسها لمجابهة الشيطان، وقالت لتومايس: " أحسنت يا سيدتي بإسدائك النصح إلى خادمتك، فاني قد تقويت كثيراً بكلامك. فلو أردت الهرب من الجهاد، لغادرت المكان أنا أيضاً مع أخواتي واختبأت. ولأني أحب ذاك الذي خصصت له ذاتي، فأنا مهتمة بالذهاب إليه، إذا جعلني أهلاً للتألم والجهاد في سبيله ".
   فلما سمعت الرئيسة هذا الكلام، شرعت هي أيضاً تبذل النصح لفبرونيا قائلة:  " أذكري يا فبرونيا المجاهدين الذين سبقوك واستشهدوا بنوع مجيد، ونالوا إكليل الظفر من الله ". ولم تزل الرئيسة تخاطبها بمثل هذه الأقوال حتى انقضى الليل.
   3_ استشهادها: ما أن أشرقت شمس اليوم التالي، حتى علا ضجيج سكان نصيبين، وساد فيها الفوضى حينما احتلها القائدان سيلينس ولوسيماكس. وقبض الجيش على مسيحيين كثيرين وأودعوا السجن. واخبر بعض الوثنيين سيلينس بشأن الدير، فأرسل جنوداً كسروا الأبواب ودخلوا وقبضوا على برونة، وهمَّ بعضهم بقتلها على الفور. فارتمت فبرونيا على أقدام الجنود وصرخت بصوت عال وقالت: " استحلفكم بإله السماء أن تقتلوني أولاً، فلا أرى موت سيدتي ".
   ولما اقبل فريمس ورأى ما صنعه الجنود، غضب عليهم جداً وأمرهم بالخروج من الدير. ثم قال للرئيسة: " أين ساكنات هذا الموضع ".
   فأجابته الرئيسة: " لقد غادرن الموضع خوفاً منكم ".
   فقال لها فريمس: " ليتكن أنتن أيضاً نجوتن بأنفسكن، ولديكن المجال الآن للهرب حيثما تشأن ". ثم غادر الجنود الرومان الدير دون أن يترك فيه حراساً.
   ولما عاد فريمس إلى لوسيماكس، سأله عن الدير وسكانه. فرد عليه فريمس بالقول: " الراهبات قد هربن من الدير، ولم يبقى فيه سوى عجوزين وشابة، وقد اعتراني العجب لما رأيت الشابة التي لم أرى في النساء جمالاً يضاهي جمالها. ولولا كونها مسكينة وبائسة، لاستحقت أن تكون زوجة لك يا سيدي ".
  فرد عليه لوسيماكس قائلاً: " أوصيت بعدم سفك دم المسيحيين، بل أكون محباً للمسيح، فحاشا لي أن أفعل ذلك. والآن أطلب منك يا سيدي فريمس أن تخرجهن من هناك، وتخلصهن لئلا يقعن في قبضة عمي سيلينس العديم  الرحمة ".
   إلا أن أحد أولئك الجنود ذهب إلى سيلينس وأخبره عن شابة الدير الرائعة الجمال، وها أن فريمس يتحدث إلى لوسيماكس بشأن الزواج منها. فلما سمع سيلينس هذا الكلام، احتدم غيظاً وأقام حراساً على الدير لمنع الراهبات من الهرب. ثم أمر فنادوا في المدينة: " غداً ستدان فبرونيا علناً في معلب المدينة ". 3 
   وفي اليوم التالي ذهب الجنود إلى الدير وقبضوا على فبرونيا وقيدوها بالسلاسل وكبلوا عنقها بطوق من حديد ثقيل، وجروها وأخرجوها من الدير. فلحقت بها الرئيسة برونة ونائبتها تومايس وتوسلتا أن يذهبا أيضاً معها للجهاد، لكن الجنود رفضوا طلبهما لأنهم لم يتلقوا أمراً بشأنهما. ثم توسلتا إلى الجنود بأن يتيحوا لهما التحدث إليها قليلاً، فاستجاب الجنود إلى طلبهما. فخاطبت برونة فبرونيا بالقول: " يا أبنتي فبرونيا ها إنك ماضية إلى الجهاد، ففكري أن العريس السماوي ينظر إلى نضالك، وأن القوات السماوية تحمل أكليل الظفر وهي منتظرة نهاية جهادك ليكللوك به، فلا تخافي من العذابات لئلا تصبحي مهزلة للشياطين، ولا تشفقي على جسدك الذي سينحل من الضربات، فعلى هذا الجسد أن ينحل بعد قليل ويستحيل تراباً في القبر. فأنا باقية في الدير حزينة ومنتظرة من يبشرني أن فبرونيا أنجزت جهادها، وأحصيت في عداد الشهداء ".
   فقالت فبرونيا: " ثقتي بالله، يا أماه إني لن أخالف الآن أوامرك ونصائحك، وأظهر في جسد النساء عزيمة الرجال وبأسهم، وسترى الشعوب ويذهلون ويعطون الطوبى لشيخوخة برونة، التي غرست يدها هذه النبتة. التمس منكما يا والدتيّ أن تزودانيّ بالبركات، وأن تصليا لأجلي، فاتركاني لأذهب ".
   فمدت برونة يديها نحو السماء ورفعت صوتها وقالت: " أيها الرب يسوع المسيح، أنت الذي ظهرت لأمتك تقلا كما ظهرت لبولس، ألتفت أيضاً إلى هذه المسكينة في وقت الجهاد ". ثم عانقت فبرونيا وقبلتها، وتركتها تمضي.
   ساق الجنود فبرونيا وهي مكبلة إلى ملعب نصيبين، حيث تجمع هناك جمهور غفير من الأهالي، وكان بين النساء الحاضرات الشريفة اياريا ونائبة الرئيسة تومايس التي تنكرت بالزي العلماني. وما أن جلسا سيلينس ولوسيماكس على المنصة، أمرا بإدخال فبرونيا، وما أن رآها الجمهور تصاعدت الزفرات. وأمر سيلينس الجمهور بالسكوت، وطلب من لوسيماكس أن يطرح عليها الأسئلة.
   فقال لها لوسيماكس: " قولي يا بنت ما اسمك، أجارية أنت أم حرة ".
   فردت عليه فبرونيا بالقول: " أنا أمة المسيح، وسيدتي تدعوني فبرونيا ".
   وشرع سيلينس يستنطقها قائلاً: " يا فبرونيا لم أود استنطاقك، فإن وداعتك وتواضعك وجمالك الرائع اخمد غضبي عليك، وأنا لا أوجه السؤال إليك كمذنبة، بل أسألك كابنتي الحبيبة، أن تقبلي لوسيماكس زوجاً لك. فأجعلك ذات شأن عظيم على الأرض، فأجيبيني بما تشائين ".
   فقالت فبرونيا: " أيها الحاكم لي في السماء خدراً لم تصنعه أيادي البشر، وعرساً لا يزول، ومهراً قوامه ملكوت السماء، وعريساً غير مائت ولا يزول ولا يتغير، ومعه سأتنعم إلى الأبد ". 
   ولما سمع الحاكم قولها، احتدم غيظاً وأمر الجنود بتمزيق ثيابها، وبتوشيحها رقعاً بالية، وإيقافها على تلك الحال من الهوان والعراء أمام الجميع، فتعطي الويل لنفسها. وسرعان ما مزق الجنود ثيابها، وشدوا لها خرقاً بالية وأوقفوها عارية أمام الجميع. فقال لها سيلينس: " ترين من أي خيرات هويت، وإلى أي هوان انحدرت ". فأجابته فبرونيا قائلة: " لو عريتني تماماً من ثيابي، لما حسبت هذا هواناً. وأنا متهيئة لعذاب النار والسيف، إن كنت أهلاً لأتألم في سبيل ذاك الذي تألم من  أجلي ".
   وهنا أمر سيلينس الجنود فمدوها على الأرض، وأضرموا النار تحتها. وتقدم أربعة جنود وجلدوا ظهرها بالقضبان، حتى تفجر الدم من ظهرها، وتساقطت قطراته على الأرض كالمطر. وكان الشعب يصرخ ويناشد الحاكم ليشفق على الصبية. وحينما رأى سيلينس أن جسدها تمزق، ولحمانها أخذت تتناثر على الأرض مع الدم، أوعز في الكف عن ضربها، فألقوها خارج النار ظانين أنها قد فارقت الحياة. وبعد أن رشوا وجهها بماء استفاقت، فأمر سيلينس بأن تقوم وتعطي الجواب، فقال لها:  " ماذا تقولين يا فبرونيا، وكيف خضت النزال الأول ".
   فأجابته فبرونيا: " لقد علمت من الخبرة الأولى أني لا أُغلب، وأني أحتقر  عذاباتك ". فأمر سيلينس الجنود ليعلقوها على خشبة، ويجردوا جنبيها بأمشاط حديدية، ويضرموا النار فيها، حتى تحرق عظامها أيضاً. أما فبرونيا فكانت عيناها شاخصتان إلى السماء وهي تقول: " هلم يا رب إلى معونتي، ولا تتخل عني في هذه الساعة ".
   ثم احضروا طبيباً فأمره سيلينس بقطع لسانها، واقتلاع أسنانها، وقطع ثدييها. ففعل الطبيب كما أمره. أما فبرونيا فرفعت صوتها إلى السماء وصرخت بألم عظيم وقالت: " أيها الرب إلهي، أنظر إلى ما أنا فيه من الشدة والظلم، واقبل نفسي ".
   ثم غاصت في نزاع طويل. فأمر سيلينس بقطع رأسها، فأخذ الجلاد سيفاً وأمسك بشعر فبرونيا ونحرها كما تنحر الشاة. فأسلمت روحها الطاهرة لعريسها السماوي. وكان الكثير من الحضور مستائين من قسوة ما شاهدوا. وما أن علمت الرئيسة برونة بخبر استشهادها وهي عاكفت على الصلاة والتضرع قالت: " يا رب أنظر إلى تواضع أمتك فبرونيا، وهلم إلى مساعدتها، لكي ترى عيناي أن فبرونيا تكللت وأحصيت مع الشهداء الطوباويين ".
   وإذ قام الحكام وذهبوا لتناول الغذاء في دار الولاية، كان لوسيماكس يسير وعيناه مغرورقتان بالدموع، فأمر الجند في حراسة جسد فبرونيا، ولم يستطع تناول الطعام، بل انزوى في غرفة واستسلم إلى الحزن. أم عمه سيلينس فأخذ يتمشى في فناء دار الولاية، وبينما يتمشى نظر إلى السماء وظل وقتاً منذهلاً، ثم صرخ كالثور ووثب وضرب رأسه بأحد العواميد فسقط ميتاً. فعلا الضجيج وسادت الفوضى دار الولاية، فهز لوسيماكس رأسه وقال: " ما أعظم إله المسيحيين، فقد انتقم الله لدم فبرونيا الذي سفك ظلماً من قبل عمي الظالم سيلينس ".
   ثم أمر القائد فريمس ليحمل الجنود إلى الدير جسد فبرونيا وجميع أعضائها المبتورة، وحتى التراب الذي فوقه سفك دمها. ففعل فريمس كما أمره لوسيماكس، ولف جثمانها الطاهر بردائه. وبجهد جهيد وصل الجند إلى الدير وهم حاملين جثمان الشهيدة، لأن الجموع المزدحمة كانت تتراكض وتحاول اختطاف شيء من أعضائها للتبرك. ولما رأت الرئيسة برونة جسد فبرونيا على تلك الحال، انهارت على الأرض وأغمي عليها مدة طويلة. ثم أقبلت راهبات الدير اللواتي هربن، وارتمين جميعاً على جسدها المقدس وهن باكيات. أما الشريفة اياريا فكانت جاثية أمام جسد الشهيدة وهي تقول: " إني أجثو أمام هاتين الرجلين المقدستين اللتين داستا رأس التنين، وأقبّل جراح الجسد المقدس التي بها شفيت جروح نفسي، وأضفر إكليل الثناء واضعه على الرأس الذي شرف جنسنا بمحاسن النصر ". وفي المساء غسلن الأخوات جسد الشهيدة، ورتبن كلاً من أعضائها في موضعه. ثم أمرت برونة بفتح باب الدير أمام الشعب، فدخلت الجموع وأخذت تمجد الله، وكانت النساء يبكين لحرمانهن من معلمتهن. ووصل بعض من الآباء القديسين وكثير من الرهبان، وأمضوا الليل كله ساهرين في الصلاة.
   أما لوسيماكس فدعا فريمس وقال له: " يا سيدي فريمس إني أكفر بجميع عادات آبائي وبإرثهم وأموالهم، وأنظم إلى المسيح ".
   فقال فريمس: " وأنا أيضاً ألعن ديوقلتيانس ومملكته، وأكفر بإرث آبائي وانظم إلى  المسيح ". وتركا دار الولاية وجاءا إلى الدير مع الجموع.
   وعند الصباح وضع جثمان الشهيدة في صندوق، ضامين كلاً من الأعضاء إلى مكانه، أما الأسنان فوضعوها على صدرها، وملئوا الصندوق بالطيب والمسك والبخور الفاخرة. ثم قام أسقف المدينة ومعه الرهبان والإكليروس بالصلاة على جثمان الشهيدة، وبعد الانتهاء من الصلاة وضع الصندوق في مكان لائق من الدير. وكانت الشريفة اياريا قد تركت أهلها وتخلت عن العالم، وانزوت في الدير وأوقفت جميع أموالها للدير، ووشحت صندوق الشهيدة فبرونيا بما تملكه من الذهب والجواهر. وآمن بالمسيح جمع غفير من الوثنيين واعتمدوا، واعتمد أيضاً القائدان لوسيماكس وفريمس وتخليا عن العالم وترهبا وامضيا حياتهما في ما يرضي المسيح.
   الخاتمة: بعد استشهاد فبرونيا شيد مطران نصيبين كنيسة جميلة، وأنجزها في ست سنين. ولما أتمها دعا الأساقفة المجاورين وأقام عيداً كبيراً واحتفالاً فخماً في الخامس والعشرين من حزيران. فاجتمع جمهور غفير من الناس حتى ضاقت بهم الكنيسة والدير، وبعد أن أنهوا صلاة الفجر جاء موكب المطران والأساقفة والكهنة والشمامسة وجمهور غفير من المؤمنين إلى الدير. وخاطب مطران نصيبين الرئيسة برونة قائلاً: " إننا لعاجزون عن وصف الأمجاد اللائقة بالشهيدة فبرونيا، لأن اللسان قاصر عن وصفها. إلا أننا قصدناك كأخت لنا، ملتمسين منك أن تكرمي معنا الشهيدة المظفرة، فتعطيها لنا لكي تسكن في الكنيسة التي شيدت لأسمها ". ولما سمعت الراهبات هذا الكلام، ارتمين كلهن على أرجل الأساقفة وطلبن منهم أن لا يحرمن من هذه الجوهرة. أما برونة فطلبت من الأساقفة أن يأخذوا هذه الجوهرة إن حسن الأمر لديهم ولدى الطوباوية. وبعد أن ختمت الصلاة دنو من الصندوق ليأخذوه، وإذا برعد يهز الفضاء ويلقي الهلع في قلوب الشعب كله، وحينما مدوا أيديهم لحمل الصندوق حدث زلزال كبير، حتى ظن الجميع أن المدينة قد دمرت. فعرف المطران أن الشهيدة غير راضية بترك الدير، فسأل برونة أن تعطيه أحد الأعضاء المبتورة، حتى يضعها في الكنيسة المشادة على اسمها كبركة. ففتحت برونة الصندوق، فكان الجسد يتلألأ كأشعة الشمس تنبعث منه مثل بروق نارية. فمدت برونة يدها بخوف ولمست يد فبرونيا لإعطائها للمطران، وإذا بيدها تشل وتصبح مثل مائتة. فبكت برونة وسألت الشهيدة أن لا تخزيها في شيخوختها. فعادت يد برونة صحيحة كالسابق. ثم مدت يدها ثانية طالبت من الشهيدة أن تعطيها بركة، وأخذت أحدى أسنانها الموضوعة على صدرها، وأعطتها للمطران وأغلقت الصندوق. وما أن تلقى المطران هذه الدرة المقدسة الثمينة في إناء من ذهب، عاد الموكب إلى الكنيسة باحتفال كبير، ووضعت هذه الذخيرة في موضعها. وقد نال الشفاء جميع العمي والعرج والممسوسين. وكان الشعب يجلب المرضى من كل مكان فينالون الشفاء من كل علة فيهم. وقد انتشرت عبادة تلك العذراء الشهيدة في كل مكان، ونال بشفاعتها الكثيرون جزيل النعم والبركات. وبقي جسد الشهيدة فبرونيا في دير مارت نارسوي إلى يومنا هذا، وقد تحول هذا الدير بعد الفتح الإسلامي إلى جامع زين العابدين، 4  الذي لا زال قائماً إلى يومنا هذا.
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهيدة فبرونيا النصيبينية يوم الجمعة الرابعة من سابوع الرسل. ويحتفل أيضاً بتذكارها يوم الخامس والعشرين من حزيران وهو اليوم الذي فيه تم تدشين الكنيسة التي شيدت في نصيبين على اسمها.       


121
مار أفرام النصيبيني ملفان الكنيسة الجامعة
( 306_ 2006 )
الشماس: نوري إيشوع مندو
المقدمة: في مستهل القرن الرابع لمع في سماء ما بين النهرين كوكب وضاء، سطعت أنواره على امتداد الكنيسة المنتشرة إلى أقاصي المعمورة. وما ذلك الكوكب الوضاء سوى مار أفرام النصيبيني نادرة زمانه، وآية من آيات البيان، ومفخرة المشارقة وأمير شعرائهم، وكنارة الروح القدس، وملفان الملافنة، وأفرام الكبير.
1_ حياته: ولد في نصيبين في عهد الملك قسطنطين سنة 306 من أب رهاوي اسمه              " مشق " كان كاهناً لصنم يدعى أبيزال، وأم مسيحية من آمد " ديار بكر " حسب ما ورد في إحدى خطبه " إني ولدت في طريق الحقيقة ولو أن صباي لم يحسّ بذلك ". وجاء في أحد ميامره أن والده اعتنق المسيحية في شيخوخته، ونال مع زوجته إكليل الشهادة في عهد شابور الثاني ملك الفرس، خلال الاضطهاد الأربعيني. 
ومنذ طفولته ظهرت فيه النعمة الإلهية، فرأى وهو رضيع غصناً قد نبت في فمه ونما حتى بلغ السماء، وصار فيه ربوات من العناقيد، وربوات الربوات من العنب، إشارة إلى كثرة مصنفاته.  ويقال أن أباه حينما علم بميله إلى المسيحية واحتقاره للديانة المجوسية، غضب عليه وطرده من البيت، فالتجأ إلى أسقف المدينة مار يعقوب النصيبيني.
تتلمذ مار أفرام لأسقف نصيبين مار يعقوب الذائع صيته طهراً وقداسة، وقبل منه العماد المقدس وهو في الثامنة عشرة من عمره، وأحله في دار الأسقفية وعلمه الديانة المسيحية، وأرشده في جادة الكمال الإنجيلي حتى بلغ في مدة وجيزة درجة سامية. فمكث لديه تلميذاً حبيباً عزيزاً نشيطاً تقياً نقياً لطيفاً وديعاً، وكان كلما ازداد سناً ازداد بالفضيلة شغفاً.
وكان قد انضم إلى مدرسة نصيبين الشهيرة، ومنها تخرج في علم الكتاب المقدس، وقد فاق علماً جميع رفاقه في المدرسة، فنصبه فيها مار يعقوب معلماً. ومنذ ذلك الحين أخذ يصنف القصائد البديعة الباهرة، فضم إلى حياته الطاهرة توقد الذهن وحذاقة البصيرة، فأضحى رجلاً عظيماً قلما قدمت الأرض مثله للسماء.
ويقال إن مار أفرام رافق القديس يعقوب إلى المجمع المسكوني النيقاوي المنعقد سنة 325، وبقوة صلواته رُفع الحصار عن مدينة نصيبين من قبل شابور الثاني ملك الفرس وذلك سنة 338. وبقي عاكفاً على التعليم في مدرسة نصيبين أكثر من 38 سنة، حتى سلمت نصيبين للفرس سنة 363. وقد عاصر مار أفرام خلال حياته في نصيبين أربعة من أساقفتها هم: مار يعقوب النصيبيني، ومار بابو، ومار ولغاش، ومار إبراهيم. وأنشد أفرام مناقبهم الجليلة في ميامر عديدة وضعها في نصيبين، عرفت هذه الميامر بـ النصيبينية. فيصف مار يعقوب بالغيرة والحزم، ومار بابو بالتواضع ومحبة الفقراء، ومار ولغاش بالعلوم والأدب، ومار إبراهيم بالوداعة ومحبة الفقر.
بعد سقوط نصيبين ترك مار أفرام المدينة متوجهاً إلى آمد عند أخواله، وهناك مكث مدة يسيرة. ثم رحل إلى مدينة أورهاي " أورفا "، ورافقه إليها جميع معلمي نصيبين ومعظم أشرافها. وهناك وجه عنايته إلى فتح مدرسة لبني جلدته عوض مدرسة نصيبين المنحلة، وعرفت هذه المدرسة بـ مدرسة الفرس، لأنها أسست خصيصاً للمشارقة القادمين من البلاد الفارسية. وقد أدار هذه المدرسة هيئة تعليمية أغلبية أعضائها من نصيبين. وقضى مار أفرام السنين العشر الباقية من حياته هناك وهو يهتم بالمدرسة والمطالعة والتأليف، وكان يعكف كثيراً على العزلة والاختلاء والصلاة في جبل أورهاي المدعو بـ الجبل المقدس، لكثرة المغاور التي فيه، والتي اتخذها النساك صوامع لهم.
وفي هذه المدينة بذل أفرام جهوداً كبيرة لدحض آراء برديصان المنحرفة عن الإيمان القويم، والتي كانت منتشرة هناك. فألف أغاني دينية كثيرة ولحنها وضمنها الآراء الدينية القويمة، قدمها للمؤمنين علاجاً طيباً شافياً.
 توفي مار أفرام في أورهاي سنة 373 وقد ناهز السبعين من عمره. وجاء في وصيته " يا أيها الرهاويون إني أنا أفرام مائت لا محالة، الويل لي إن حياتي قد دنت إلى الزوال، قد دنا النسيج إلى القطع، ونفذ الزيت من السراج. الويل لك يا أفرام إذا وقفت قدام منبر ابن الله. فاستحلفكم بكل احترام أن لا تدفنوني في بيت الله تعالى ولا تحت المذبح، إذ لا يليق بجسد يرعاه الدود أن يرقد في هيكل مقدس. قد عاهدت إلهي أن لا أُدفن إلا في مقبرة الغرباء فإني غريب نظيرهم، ادفنوني في ثوبي وقبعتي لأني مملو خطايا وآثام، شيعوني بصلواتكم وترانيمكم وتقريب الذبيحة المقدسة مراراً جمة تكفيراً عن شقائي. ويل لي لأني منذ حبلت بي أمي لم أقبل علة تقديم الخير، وأني في تذكّري ما ارتكبت من السيئات فزع قلبي وتحرك من مكانه، ولصق لساني بحنكي وتفككت كل عظامي، يا أخوتي وأعزائي وآبائي ما نذرتموه لي ليقسم على الفقراء والبائسين والسقماء والمحتاجين فيكون لكم الأجر عند الله. إن أفرام لم يقتنِ دراهم ولا عصاً ولا كيساً، ولم يملك ذهباً ولا فضة. ارسخوا في تعليمي وكملوا وصاياي بأمانة، واثبتوا دائماً في الإيمان الكاثوليكي. احذروا الهراطقة الملحدين خصوم إيماننا القويم، احذروا فعلة الإثم الذين يأتونكم بكلمات معسولة فاسدة. يا مدينة الرها أم الحكماء عليك تلك البركة التي أتتك من المسيح بيد تلميذه ".   وقد بُني فوق ضريحه دير عرف بـ الدير السفلي. وبعد استيلاء زنكي على أورهاي سنة 1144، نقل الصليبيون ما تيسر نقله من تلك الذخائر الثمينة إلى روما، وغيرها من المدن الأوربية.
عاش مار أفرام زاهداً متنسكاً ذا وقار وحلم ورصانة، وقد امتاز بالطهر والتواضع والرحمة، فلشدة تواضعه أبى إلا أن يبقى شماساً حتى نهاية حياته. ومنذ أن انخرط في سلك الرهبانية إلى أن وافته المنية لم يكن طعامه إلا خبز الشعير والملح وبعض البقول، ولم يكن شرابه إلا الماء القراح. لذا فقد هزل والتصق جلده بعظامه. أما ثيابه فكانت جملة رقع ضمها إلى بعضها، وهي تشير إلى التواضع والتوبة بلونها الرمادي. وكان قصير القامة صارم الوجه، لا يميل إلى الضحك الصاخب أبداً، وكان أصلع واسع الجبهة وكث اللحية قصيرها. أما محبته لله وللقريب فحدث عنها ولا حرج أظهرها في مواقف عديدة، لا سيما في مجاعة حدثت في أورهاي. وقد كُتب عن حياته الغنية بشتى لغات العالم.                   
 2_ مصنفاته: ترك لنا الملفان أفرام النصيبيني كنزاً ثميناً وغنياً من كتاباته شعراً ونثراً تفوق الوصف وهي أكثر من أن تحصى، ويقول سوزومين المؤرخ اليوناني إن مار أفرام كتب نحو 3 ملاين بيت من الأشعار. وهو الذي اخترع الشعر بسبعة مقاطع، ويعرف بالوزن الأفرامي. وأكثر مؤلفاته كانت شعراً، حتى كان الشعر عادةً صورة رسمت فيها نفس مار أفرام ما كانت تكنه من معاني وخيالات وتصورات وعواطف.  فقد كتب أشعاره بلغة صافية وأنيقة تلتقي فيها البساطة مع أحكام السبك. ونجد مثالاً في ذلك فيما قاله في مدح مار إبراهيم مطران نصيبين قائلاً: " ليطرد نورك ظلامنا، مبارك الذي جعلك لنا مصباحاً. صن النعجة الصحيحة، وتفقد المريضة. وضمد الجريحة، وابحث عن الضالة. ارعها في مروج الكتب، واسقها مياه العلم. ليكن لك الحق سوراً، وليكن لك الصليب عصاً. وليكن لك العدل سلاماً، مبارك الذي زاد سناك ".
وتقسم مؤلفاته حسب الترتيب التالي:
أ _ المصنفات الكتابية: شرح مار أفرام سفري التكوين والخروج والدياطسرون، ووضع تفسيراً لرسائل القديس بولس، وشرحاً لسفر أعمال الرسل، وميامر في أسفار التكوين ويشوع والقضاة وصموئيل والملوك والأخبار، وكلها بالترجمة الأرمنية. وقد بقيت أيضاً شذرات من شرح سفر أيوب البار، ومن شرح سفر زكريا النبي. 
ب _ المصنفات اللاهوتية والجدلية: وضع مار أفرام خطابات ضد الهراطقة، و56 قصيدة أخرى ضد الهراطقة، وله 87 نشيداً في الإيمان، و4 أناشيد ضد يوليانس الجاحد، وشذرات من خطاب ضد برديصان، وخطبة عن المسيح، وخطاب في مقدمة إنجيل يوحنا، و15 نشيداً في الفردوس.   
ج _ المصنفات النسكية: وضع مار أفرام 52 نشيداً في البتولية وفي أسرار ربنا يسوع، و52 نشيداً في الكنيسة، و15 نشيداً في مدح إبراهيم القيدوني، و24 نشيداً في لوليان سابا، ورسالة إلى النساك ساكني الجبال المجاورة لمدينة أورهاي، وشذرات من رسالة إلى بوبليوس، ونشيدان في زوال العالم، والآخر في مدح كمالاته. 
د _ المصنفات الليتورجية: وضع مار أفرام 16 نشيداً في ميلاد ربنا يسوع وظهوره، و8 أناشيد في الصوم، وأناشيد في القيامة، و21 نشيداً في الفطير، و8 أناشيد في الصلب، و12 نشيداً في المعترفين والشهداء، ونشيداً في الأخوة المكابيين، ونشيد آخر للشهداء. وصنف خطباً كثيرة منها لأجل المطر يستعملها المشارقة في أيام صوم نينوى، و77 نشيداً تعرف بالنصيبينية، وخطباً في كرازة يونان النبي في نينوى، وخطبتين في التوبيخ والتحريض على التوبة بمناسبة سقوط نصيبين، وأنتيفونات.     
وقد نشر الأب (المطران) يعقوب أوجين منا في كتابه المروج النزهية بعض من مصنفاته هي: في العلم " أمنح يا الله العلم لمن يحب العلم "، في الإيمان "  في أحد الأيام أخذت جوهرة يا أخوتي "، في عدم انفصال الطبيعة الإلهية عن الخلائق " بجرأتنا متعجب أنا لأي علاء قد وصلت "، في الثالوث " أتمنى أن أقترب وأخاف أن أبتعد "، وأخرى في الثالوث " الشمس كانت نبراساً ولا حدود لها "، في عدم إدراك أزلية " بدل ذلك الهدف محيي الكل الذي رسمه لنا معلم الكل "، في مدح مريم " البتول دعتني كي أرنم حكايتها وأنا متعجب "، وأخرى في مدح العذراء " بأصوات مغبوطة غلت مريم وإغرودتها "، وأخرى في مدح مريم وسجود المجوس " أذنب عوزايا ويوتم وآحاز في قبورهم بدل الجموع التي حلت بأرض أثور "، في فردوس عدن " في الدنيا صراع وفي عدن أكليل مجد السماء والأرض "، في إبراهيم مطران نصيبين " سلاماً لأسم إبراهيم لقد أصبحت أباً لكثيرين دون زواج "، في الفساد والقبر " في القبر الذي وضعت فيه كنت جالساً في يوم من الأيام "، في الأرضيات " أين هم الأولون الذي تعبوا وأكثروا واضطهدوا "، في عظمة خلقة الإنسان " بخلقته صورت حكمة خالقه "، في الموت " الحي الذي سباه جمالك "، في القيامة " إن كان الخروف قد جز بختانة ابن الله الزمنية "، في الشيطان والموت " الموت أظهر سلطانه أنه انتصر على الكل والشيطان أظهر خداعه أنه يخطئ الجميع "، أخرى في الشيطان والموت " تعالوا نسمع وهم يتقاتلون على النصر "، أخرى في الشيطان والموت " الشرير قد صار مهاناً من الموت وأهين "، أخرى في الشيطان والموت " مع الحرية  يكون الجهاد سيئاً " .                 
أما في حقل طقس كنيسة المشرق فله الكثير من المداريش والميامر والتراتيل والتسابيح والتراجم والقصائد، وفرض باعوثا نينوى وفرض الموتى وبركات في طقس الإكليل نذكر منها: " أشرق النور على الأبرار "،  " مبارك بشارتك "، " تقبل يا ربنا "، " أيتها النفس التي شاخت في  الأثم "، " أيتها النفس التي اضطجعت في الأثم "، " هب لي يا رب متى اسهر "، " يا ربنا يسوع الملك المسجود له "، " بادروا وقبلوا "، " تعالوا وخذوا يا أخوتي "،                " الأنبياء والملائكة "، " مبارك الأزلي "، " لك المجد يا إلهنا "، " مذبح سره "، " دواء  التوبة "، " إلى أين يا رب "، " قبل أن تأتي "، " طوبى لروحك "، " عزيزٌ في عينيه "، " داود ابن إيشاي "، " علمني يا رب "، " الليل الآن قد مضى "، " الحنان الذي فتح "، " الحنان الممتلئ رحمة "، " افتح لنا يا رب "، " الرب إلهي "، " الله  مراحم "، " لتكن صلاتنا يا    رب "، " المسيح ملجأنا "، " يسمع ولا يهمل "، " من هو يا ترى "، " تعالوا نتحصن   بالصلاة "،" استيقظوا أيها الساهرون وأنشدوا "، " لنا الرجاء والخلاص "، " يا ربنا ارحمنا يا ربنا اقبل خدمتنا " " لك التسبيح يا طفل البتولية البهي "، " مباركة الثمرة التي تجلت منك أيتها الطوباوية "، " مبارك الذي أبهج بميلاده كل البرايا " . 
أما البركات في رتبة الإكليل فهي منسقة على الأحرف الأبجدية، وتتلى مترجمة بالعربية. على العريس تبدأ: " أيها الختن الذي أحنيت رأسك قدام كاهن بيعتك، ليرفع المسيح رأسك وينصرك في كل حين ".  وعلى العروس تبدأ: " أللهم محيي النفوس بارك هذه العروس، وبيتاً تدخله وتدوس يمتلي من النعمات ".
ويذكر التاريخ السعردي أن للملفان أفرام طقساً للقداس يقدس به الروم الملكيون، وكانت كنيسة المشرق تقدس به في نصيبين إلى أيام الجاثليق مار إيشوعياب الحديابي، الذي رتب الصلوات واقتصر على النوافير الثلاث المستعلمة عندنا اليوم.
3_ تصانيفه المنقولة إلى العربية: صانت مكتبات الغرب والشرق بضع مجلدات عربية انطوت على تصانيف مار أفرام منقولة إلى العربية، منها 52 ميمراً نقلت عن اليونانية. ومن هذه الميامر العربية مخطوطات ثمينة محفوظة في مكتبات الفاتيكان وأكسفورد واليسوعية في بيروت ودير الشرفة ومطرانية الكلدان في ديار بكر ومطرانية الموارنة في حلب. ومن هذه الميامر نذكر: ميمر في يسوع وكنيسته : ترى أي عريس سوى يسوع ربنا ضحى بذاته حباً لعروسه. أم أية عروس كلفت بعريس قتيل سوى الكنيسة خطيبة المصلوب. ميمر في العذارى والفتيات ليسوع الفادي: أنشد لك التسبيح مع جماهير قديسيك يا ابن الله. يا من أنقذني بآلامه وصلبه. أدخل هيكلك واسجد لك مترنمة بأناشيد خشوعية. ميمر في بشارة العذراء مريم: انحدر جبرائيل الملاك من السماء ليبشر العذراء بميلاد المخلص. وجرى الحديث بينه وبينها. ميمر في ميلاد يسوع: اسمح لي يا مولاي أن أفيض في وصفك مؤمناً بك يا أيها الإله العجيب فإنك في الحقيقة عجيب. وعجبك غير مدرك. وقد دعاك النبي عجباً. فأنت أعجوبة كلها عجب. بل أنت أعجوبة العجائب. فالحبل بك عجيب. وميلادك عجيب. وكلك عجيب. وعجبك غير محدود. لك التسبيح. ميمر في مناغاة مريم لأبنها الطفل يسوع: فاضت عواطف مريم الرقيقة فجعلت تناغي طفلها يسوع وتقول: من ذا الذي انعم على الفقيرة بأن تحبل وتلد ابناً وحيداً صغيراً كبيراً. ميمر في دخول يسوع إلى الهيكل: دعتني العذراء عفيفة العفيفات لأفيض في وصفها وتقريظها. فهلموا يا أيها الشبان إلى العرس وتلذذوا بالأطعمة الروحانية التي أعدتها مريم المغبوطة لأولادها الندماء. ميمر في عماد المخلص: هبط الروح القدوس من العلاء ورفرف فوق المياه وقدسها. ففي عماد يوحنا لم يحل الروح القدوس إلا على يسوع فقط دون سائر المعتمدين. أما عماد المسيحيين فيحل الروح القدوس ويستقر في كل من يتلد من المياه. ميمر في عيد الشعانين: هذا موسم بهيج أجمعت الأفواه والألسنة طراً على الاحتفال به. فاحتشد الاعفاء والعفيفات في أبواقهم وكناراتهم. وتجمهر الفتيان والفتيات في قياثيرهم وعيدانهم. وامتزجت الأهازيج بالأهازيج حتى شقت الأجواء وبلغت أعالي السماء مترنمة بتسابيح رب الأمجاد. تبارك من لقن الصامتين ليتغنوا بأناشيده. ميمر في خميس الفصح: انهضي يا عروس يسوع المسيح واعدّي المأدبة ونظميها لجميع الأمم المقبلين إليك. فقد أصبحت مائدتك في غنى عن اللحم والسلوى وعن أرغفة الخبز والسمك. لأن جسد ابن الله الكريم ودمه يوزعان في عرسك على الندماء. ميمر في القربان الأقدس: إن يسوع قسم جسده بيديه وناوله رسله. فمن يجسر الآن أن يقول أنه ليس هو جسده. هو قال: هذا هو جسدي. إذن من لا يصدق قوله لا يعد مسيحياً. ميمر في الجمعة العظيمة: استيقظوا أيها الساهرون وأنشدوا التسبيح لشبل الليث السجين ولا ترقدوا. ميمر في قيامة المخلص: أللهم وفقني لأفيض في تسبيحك وأترنم بأناشيد أوشعنا في عيد قيامتك وأهلني للحظوة بعطفك في خدر الأفراح مع قديسيك الراتعين بحابح ملكوتك. ميمر في صعود المخلص إلى السماء: مرحباً بموسم بهيج أصبحت فيه أفواه العفيفات وألسنة الاعفاء تهتف بالكنارات والأبواق. وتتغنى بترانيم الأفراح والمسرات. حتى بلغت أصواتهم أعالي السماوات. ميمر في حلول الروح القدوس: مرحباً بكِ يا علية صهيون فقد حدث ضمنك أسرار غامضة. فيك اكتملت الأسرار التي أشار إليها الأنبياء بألغازهم. وفيك هبط الروح القدوس على الرسل الأبرار. ومنك خرجوا ليذيعوا البشارة الإنجيلية في الأربعة الأقطار مستعينين بالثالوث الأقدس. ميمر في الثالوث الأقدس: تبارك الثالوث القدوس الذي يعجز فمنا عن شكره. لأن مواهبه تفوق وصف الواصفين. ميمر في الروح القدس: لك أيها الآب المحتجب الغير مدرك. لك الشكر أيه الابن الوحيد الغير المحدود. لك التبجيل أيها الروح القدوس الفائق الوصف. أيها الثالوث الذي لا يتجزّى ولا يفحص عنه. ميمر في الجسد الأقدس: أدّي الشكر يا أيتها الكنيسة ليسوع فاديك. لأنه بصليبه خلصك وأقال عثرتك. قد منحك جسده الأقدس ومزج لك في عرسه دمه الغافر بمثابة عربون دائم. اشكريه واحمديه لأنه جاء وخلصك. وأصعدك معه إلى السماء وأجلسك إلى يمين الأزلي. ميمر أخر في الجسد الأقدس: يجب أن نودّي لك الشكر أيها المسيح إلاهنا. لأنك منحتنا أسراراً مقدسة يشتهي الملائكة أن يحدقوا فيها. وفقنا بنعمتك لنشاهد بهاء هذه الذبيحة الرهيبة غير الدموية. وندنو منها بثقة ونشكرك ونسجد لك مع القوات السماوية. ونهتف قائلين: قدوس قدوس قدوس المجد لك. ميمر في الرسل الأبرار: أصبح الرسل الأثنا عشر أكرة للمسكونة كلها. ولم يطلقوا أسماءهم على أهل ناحية من نواحيها أو بلد من بلدانها. وعلى أثر وفاتهم نبت زوان الهراطقة. فأطلقوا أسماءهم على الحنطة أعني المؤمنين الأمناء. فلا بد من أن الزوان سيقتلع وقت الحصاد. تبارك من وافى يوم حصاده. ميمر في تجلي يسوع في طور تابور: صعد يسوع بكر الآب الأزلي طور تابور مع تلاميذه. وحضر إليه موسى وإيليا. تغير منظره وغدا يتلألأ كالشمس. رآه التلاميذ فشملهم الرعب والخوف. وللحال ظللتهم سحابة منيرة وسمعوا هاتفاً يقول: هذا هو ابني الحبيب. ميمر في انتقال العذراء إلى السماء: من هي هذه التي فرح الملائكة بوفاتها. فالملائكة هتفوا قائلين: مرحباً بأم الله مانح الحياة التي تتكفن الآن وتقبر. فبوفاتها فاضت الرحمة على المدفونين المؤمنين بوحيدها. سبحان من اصطفاها واتلد من مستودعها. ونقلها إليه لتبتهج مع جماهير الملائكة. ميمر في الصليب الكريم: دعاني الصليب صانع الكرامات لأتأمّل في عجائبه. فراعوني أسمائكم لأثلج صدوركم بأخباره الجديدة. فالصليب قيثار رخيم يسحر الألباب. حدقوا فيه أيها المؤمنون وتذوقوا حلاوته. خطبة في عيد ارتفاع الصليب الكريم: تعالوا يا أخوتي وأحبائي لنفرح اليوم ونبتهج بعيد ارتفاع الصليب الكريم الذي خلصنا من طغيان إبليس الرجيم. اليوم ارتفع الصليب الكريم وقهر الشياطين. تجددت الكنيسة واستنارت الخليقة. وتحطمت أبواب الجحيم وفرحت قوات النعيم. اليوم فتح باب الفردوس للص اليمين واعتق آدم البشر ومزق الصك المحتوم عليه. ميمر في العناية الإلهية: أيه الإله الكريم الرحيم. يا رب البرايا أسرع فانشل نفسي من أمواج الشدائد التي تلاطمها من كل ناحية. وليس لها من يحميها ويعتني بأمرها سواك وحدك يا ربي. فعالجها بنعمتك أيها الطبيب المفعم رحمة. ميمر الموتى المؤمنين: إذا كانت قد ظلت سبعين سنة في البئر ولم تخمد. واستمرت باقية فيها كذلك رائحة بخور الغفران. فكم بالأحرى تظل باقية نار جسد ابن الله مع الموتى المؤمنين وتنعش أجسادهم. ميمر في يوحنا المعمدان: تبارك من دعانا وانتدبنا لنحتفل بتذكارك يا ثمرة العقرة الشهية. فقد ارتكضت في مستودع إليشباع والدتك مبتهجاً بملاقاة يسوع ربك ومبشراً بظهوره. ميمر في تأييد الطبيعتين الإلهية والإنسانية بيسوع ابن الله المتجسد: حاشى لي إن قلت أو أقول: إن الله مات بطبيعته الإلهية. حاشى لي إن قلت أو أقول: إن الإنسان خلص البرايا بطبيعته البشرية. فالله سبحانه وتعالى لا يمكن البتة أن يموت بطبيعته الإلهية. ولكنه شاء فاتخذ الطبيعة البشرية ومات وخلص آدم وذريته. تبارك والده الذي أرسله إلينا. في رئاسة بطرس: طوبى لك يا شمعون رئيس التلاميذ. فإن ابن الله منحك الطوبى وأقامك قهرماناً على كنزه. وخولك مفاتيح الملكوت. وسلطك على كنوزه السماوية. وأدخلك بيت أبيه تعطفاً. فغدوت صديقاً ومقرباً ومثيلاً ليسوع المحب للبشر. ابتهال مار أفرام قبل الرقاد: هب لي يا ربي أن أقف أمامك ساهراً منتبهاً. وإذا رقدت فليكن رقادي دون خطيئة. وإذا ارتكبت أثماً في يقظتي أم في رقادي فأغفره لي يا ربي بنعمتك ورأفتك. استغاثة مار أفرام بيسوع الفادي: يا يسوع امنحنا أن نبتهج ونفرح في يوم قيامتك الذي أبهج العالم. يا يسوع أهلنا للمجد والجمال اللذين انتزعهما عنا إبليس في جنة عدن. 
ويضم الطقس البيزنطي صلاة لمار أفرام: أيها الرب سيد حياتي لا تبليني بروح البطالة والفضول. وحب الرئاسة والكلام البطال. بل أنعم علي أنا عبدك بروح العفة والاتضاع والصبر والمحبة. نعم أيها الرب الملك هب لي أن أرى زلاتي. ولا أدين أخي. فإنك مبارك إلى دهر الدهرين آمين.
4_ أقوال آباء الكنيسة في مار أفرام: قيل الكثير في مدح مار أفرام من قبل آباء الكنيسة نذكر منهم: ما قاله حنانيشوع أسقف الحيرة: " من يتهيأ له يا بحر العلوم أن يصف غزارة خزائنك، من يحسن يا معدن الكنوز أن يصف محاسن قولك، من لا تهمه نفسه ويكرم حظه من الصمت إذا ذكر في المحافل اسمك. كل معلم يصمت ومار أفرام ينطق، كل خاطب يتحير ويتحصر ومار أفرام يطرب ويهدر ".
ما قاله مار سهدونا ( مار طوريس ): " إن الله عز وجل اصطفى القديس أفرام الملفان الكبير نبياً قلده أمر بيعته ".
ما قاله غريغوريوس النوسي: " أفرام كرمة الله الكثير ثمرها، إن ضوء سيرته وعلمه قد أنار العالم، وصار معروفاً عند كل من تطلع الشمس عليه، ولن يجهله إلا من جهل باسيليوس الكبير الذي هو كوكب الكنيسة المنير ".
ما قاله يوحنا فم الذهب: " أفرام كنارة الروح القدس، ومخزن الفضائل، معزي الحزانى، ومرشد الشبان، وهادي الضالين، كان على الهراطقة كسيف ذي حدين ". 
ما قاله يعقوب السروجي: " مار أفرام الكبير الينبوع الفياض الذي روت مياهه أرض الإيمان، والخمرة المعتقة التي أخذت صفاتها من دماء الجلجلة، النسر الذي انتصب بين الحمامات الوديعة. الذي ضارع موسى الكليم وأخته مريم بتلقينه العذارى والفتيات ولفيف المؤمنين، أنغاماً محكمة بث فيها تعاليم الكنيسة الحقة، وأحرز بواسطتها إكليل الظفر والانتصار على أعدائها، الشاعر المبدع الذي جاش قلبه كالبحر الخضم بالميامر التي لا تحصى، والمداريش التي لا تعد، إنه تاج الأمة الآرامية جمعاء ".
ما قاله القديس هيرونيموس: " بلغ مار أفرام شهرة مستفيضة حتى أن بعض الكنائس تقرأ مصنفاته بعد الكتاب المقدس، وقد طالعت في اليونانية كتابه في الروح القدس، ووجدت فيه قمة الذكاء السامي ".
ما قاله المؤرخ اليوناني سوزمين: " يخيل إلينا أن كل مدح يتقاصر عن إطراء مار أفرام مفخرة الكنيسة الكاثوليكية وعنوان مجدها ".
ما قاله المؤرخ الرهاوي المجهول: " غمر مار أفرام الأرض بتعاليمه، وبذلك الزمان نظم قصائده في نصيبين ".
5_ البراءة الرسولية في إعلان مار أفرام ملفاناً للكنيسة الجامعة: أصدر البابا بندكتس الخامس عشر في الخامس من تشرين الأول 1920 براءة رسولية، موجهة إلى البطاركة ورؤساء الأساقفة والمطارنة والأساقفة ولفيف الإكليروس المنتمين إلى الكرسي الرسولي الروماني والمتحدين معه، يعلن فيها مار أفرام ملفاناً للكنيسة الجامعة. نورد مقتطفات منها:
ا _ خلاصة حياته:
1_ أفرام الفتى المتعظ: تفتخر نصيبين والرها مدينتا ما بين النهرين الشهيرتان بانتماء مار أفرام إليهما، وتثقف منذ نعومة أظفاره تثقيفاً مسيحياً، وتوشح بالثوب الرهباني، وتفرغ لأعمال التقوى ومطالعة الأسفار المقدسة.
2_ أفرام الناسك: ما أن توسم مار يعقوب في أفرام الناسك إمارات النجابة والتقوى، حتى نصبه معلماً لمدرسة نصيبين. فحقق التلميذ رغائب معلمه، وأحرز رضاه بما أبداه من حدة الذهن، وأصالة الرأي في التلقين والتثقيف، حتى أنه فاق الأساتذة جميعاً.
3_ أفرام أليف الكتب المنزلة: كان المؤمنون يتوافدون إلى أفرام ويصغون إلى تعاليمه وشروحه، وزار باسيليوس الكبير الذي رحب به بعاطفة وتكريم، وجرت بينهما محادثات عذبة لذيذة في الشؤون الإلهية، وقد قلده مار باسيليوس قلده أفرام رتبة شماس إنجيلي.
4_ أفرام مثيل اسطفانوس: ضارع أفرام في جهاده ورتبته اسطفانوس الشماس، معتبراً أنه غير أهل للرتبة الكهنوتية، وانصرف إلى تفنيد أراء زعماء الهرطقات المتفشية في عصره، وامتاز خصوصاً بتلقين العذارى والراهبات أناشيد مقدسة.
5_ أفرام أبو المساكين: حدث غلاء شديد في الرها، دفع أفرام أن يشمر عن ساعد الجد ليحض الأغنياء، ويحرض المحتكرين كي يغيثوا أخوتهم المساكين، فاتعضوا بإرشاده ولبوا طلبه حتى انتهت المجاعة.
6_ تآليف أفرام: كثيرة تآليف أفرام، انطوت كلها على زبدة تعاليم الكنيسة، ويتلألأ في كتاباته بأسرها بهاء نفسه الطاهرة وذكائه المفرط. وبالجملة نقول أنه أصبح سراجاً موقداً ومنيراً.
7_ أفرام كنارة الروح القدس: برع أفرام في فن الموسيقى والشعر المقدس، فاستوجب أن يلقب بـ كنارة الروح القدس، ويقول ثئودوريط أن الأسلوب الذي استعمله أفرام في الحفلات البيعية زادها رونقاً وبهاء. فهو من ابتكر فن الموسيقى البيعية، وعنه نقله آباء اليونان واللاتين معاً.
8_ مجد أفرام بعد وفاته: بناء على ما تقدم لسنا نستغرب إذا شاهدنا أولاد الكنيسة يقدرون قدر مار أفرام، ويتبارون في تبجيله وتكريمه.
ب _ مدرسة مار أفرام:
1_ الفائدة من تصانيف أفرام: شاء الله أن يتوج مار أفرام بمجد وسيم، ويعرضه على عصرنا هذا ملفاناً في الحكمة الربانية، وقدوة للفضائل المسيحية.
2_ أفرام قدوة الواعظين: ليت جميع الذين أنيط بهم تثقيف القريب، يتلقنون من القديس أفرام ما يلزمهم من الغيرة والتفاني والثبات في الوعظ والإرشاد.
3_ أفرام قدوة المعلمين: يجب على من يتفرغون لتدريس الكتب المنزلة أن يتلقنوا عن مار أفرام احترام تلك الأسفار الكريمة، وأن لا يتصرفوا في شرحها طبقاً لآرائهم وخلافاً لتقاليد الكنيسة.
4_ أفرام قدوة الرهبان: يحق للطبقة الرهبانية أن تتباهى بمار أفرام، لأنه فيها يتلألأ بهاؤه ومجده. أفرام قدوة محبي الوطن: عليكم جميعاً أن تتلقنوا من مار أفرام أن محبة الوطن الدنيوي يجب أن لا تتغلب على محبة الوطن السماوي، وليس الوطن الحقيقي إلا ملك الله العلي في نفوس الأبرار، فهو ملك إلهي بدؤه في الأرض واكتماله في السماء.
ج _ ما امتاز به مار أفرام من العبادات:
1_ تعبده لسر القربان الأقدس: يعلمنا مار أفرام أن نبحث عن ينابيع الحياة الباطنة ومصادرها في الأسرار البيعية وفي حفظ الوصايا الإلهية وفي الطقوس الكنسية. وهذه بعض خواطر مار أفرام بالذبيحة السرية: " إن الكاهن يضع المسيح على المذبح، ليتحول طعاماً لنا "، ويخاطب الأب الأزلي قائلاً: " أرسل روحك القدوس ليحل على المذبح، ويقدس الخبز الموضوع فوقه، فيصير جسد ابنك الوحيد "، ويردف قائلاً: " إن هذا المعلق على الصليب هو ابنك، وهذه ثيابه مضرجة بدمائه، وهذا جنبه مثقوب بالحربة ". ويصف مار أفرام تأثير الأسرار بعد الموت قائلاً: " إن الله عز وجل يقود نفس المتوفي، ويدخلها ملكوته السماوي، فتحظى برؤيته وتترصع كحجر كريم في إكليل السيد المسيح، وهكذا تستقر بالقرب من الله تعالى وقديسيه ".
2_ تكريمه للعذراء المجيدة: تغنى كنارة روح القدس بمدائح مريم العذراء غناءً حلواً عذباً لا نظير له، فوصف الحبل بها بلا دنس، وبتوليتها الدائمة، وأمومتها الإلهية، وحمايتها المفعمة حنواً وعطفاً على البشرية بأسرها. ولا يسع أي لسان مهما كان فصيحاً بليغاً أن يصف شغفه بالعذراء مريم والدة الله، فقد كتب عنها قائلاً: "  فيك يا ربي، وفي أمي اجتمعت الكمالات برمتها من كل وجوهها، فلا عيب فيك، ولا دنس البتة في أمك ".
3_ تكريمه لأحبار روما: وضع أفرام قصيدة ينشدها بفم يسوع موجهاً الخطاب إلى نائبه على الأرض قائلاً: " جعلتك يا تلميذي بطرس ركناً للكنيسة المقدسة، سبقت فسميتك كيبا لتحمل كل الأبنية. إنك أنت هو المفتش المنتقد للمزمعين أن يبتنوا لي كنيسة في الأرض، غير الكنيسة التي شيدها عليك، فإذا ابتنوا بناء مشوهاً مشوشاً لزم أساسك أن يعارضهم ويردعهم. إنك أنت مصدر ينبوع تعليمي، وأنت رئيس تلاميذي، بك اسقي جميع الأمم، واسقيهم سلسبيل حياة الخلاص، إياك اصطفيت الأول في تلمذتي لتكون وارثاً لخزائني، إياك استودعت مقاليد مملكتي، فأصبحت منذ الآن فصاعداً مسلطاً على كنوزي باجمعها ".
د _ إعلان مار أفرام ملفاناً للكنيسة الجامعة: بناء على ما تقدم وبعد استمداد الروح القدس، رأينا أن نمنح بسلطاننا الرسولي القديس أفرام شماس الرها لقب ملفان الكنيسة الجامعة، مع كل ما يتبع هذا اللقب من تكريم وتشريف، وحددنا أن يحتفل بعيده في 18 حزيران جميع الكنائس بمجالي التكريم أسوة بسائر ملافنة الكنيسة الكاثوليكية. 
الخاتمة: أصبح مار أفرام بقداسته وعلمه ذا أثر عظيم في الكنيسة الكاثوليكية جمعاء، وفي المحيط الرهبانية وفي المدارس الزاهرة وفي الأسر المسيحية كافة. وقد ظل يعلم ويرشد ويفقه في مدرستي نصيبين وأورهاي العامرتين، حتى أصبح جمهور تلاميذه يستحلون اسمه، ويستندون إلى تآليفه، ويعولون على أقواله، ويرتشفون منها أصفى مناهل العلوم الدينية والتهذيبية. ونختم هذه العجالة بتقريظ مار غريغوريوس أسقف نيصص في فضائل مار أفرام: " أفرام نهر فراتي يرتشف منه المؤمنون، فيثمرون ثماراً شهية ناضجة بدلاً من الواحد مائة ضعف. أفرام كرمة الله العلي الحافلة بعناقيد حلوة لذيذة، أفرام مزين الكنيسة بإيمانه وأعماله معاً. ويجدر بنا أن نشبه هذا الملفان الكبير بعين غزيرة صافية، تروي شاربها وتخصب ما تسقيه من الأراضي. أو حديقة جميلة الأزهار يانعة الثمار زكية الرائحة. أو سماء مدبجة بالكواكب، أو جنة عدن لا سبيل إلى الحية الخبيثة أن تطأها. هكذا لاحت لنا نفس هذا الملفان الكبيرة الشهمة ".                             

122
الثالوث الأقدس
الشماس: نوري إيشوع مندو
   تدل كلمة ثالوث على تسمية الله بكونه في ثلاثة أقانيم متساوية في الجوهر، في طبيعة واحدة لا تتجزأ. لم يوحِ العهد القديم بثالوث الأقانيم في الله، لكنه مهد لهذا الوحي بطرق مختلفة. فالوحي التام الذي تم في يسوع المسيح مكَّن من إدراك ما تعنيه تماماً تلك التمهيدات.
   والعهد الجديد لا يحتوي على ألفاظ ثالوثية. وليس هناك نصوص تأتي بعقيدة يعبر عنها بألفاظ مجردة، بل إن الله كشف عن حياته الخاصة بتدبيره الخلاصي، حيث يدنو البشر من الآب والابن والروح القدس يكشفون عما يميز بينهم في عمل المسيح الخلاصي، الذي يظهر صلاتهم الأزلية. 
   فالإيمان المسيحي يقر بإله واحد، وفي الوقت عينه يعترف بأن في الله أقانيم ثلاثة متميزة عن بعضها هي: الآب والابن والروح القدس. وهذا سر يفوق لا فقط إدراك البشر فقط، بل إدراك السائلين الباحثين عنه أيضاً، لأن فيه سراً إلهياً لا يسبر غوره إلا روح الله وحده. ولم يعطَ للإنسان أن يفهم الله كما هو في جوهره. وعليه فوجود السر في الدين أمر ضروري، وإلا لوقف العقل البشري مدعياً بإلوهيته، وصدق في مدعاه. وقد أجهد الفكر آباء الكنيسة وملافنتها، في عمق هذا السر الذي لا يمكن نقض وجوده، وافتكروا ليس في حله بل في إعطاء شرح يستريح به العقل البشري، فميزوا الأقانيم الثلاثة في الله باستنادهم إلى ما جاء في الإنجيل. ويذكر إنجيل يوحنا عن أن الأب والابن واحد، "  أنا والآب واحد "  ( يوحنا 10: 30 ). " ما هو لي هو لك، وما هو لك فهو لي " ( يوحنا 17: 10 ). " من رآني رأى الآب " ( يوحنا 14: 9 ). "  لا يستطيع الابن أن يفعل شيئاً من عنده، بل لا يفعل إلا ما يرى الآب بفعله. فما فعله الآب يفعله الابن على مثاله، لأن الآب يحب الابن، ويريه جميع ما يفعل، وسيريه أعمالاً أعظم فتعجبون " ( يوحنا 5: 19 _ 20 ).
   من خلال هذه الآيات نرى أن الآب قد سلم كل شيء بل وكل ما هو له بيد ابنه يسوع المسيح. ولهذا فالابن يسوع الآخذ كل شيء بيده، والضابط الكل تحت حوزته يأخذه ويضبطه بما أنه من الآب. وبقدر ما نتأمل في حياة المسيح يسوع نشعر أنها حياة متجهة نحو آخر. فإن الحياة والنعمة والنور قد أتته من الآب. وإن كان الابن لا يعمل شيئاً ولا يقول شيئاً إلا بالآب، فما ذلك إلا لأن الكل بين الآب والابن مشترك: العمل، الحياة، الوجود. كلها تدل على أن الابن يجب أن يكون في الآب، والآب في الابن. ولهذا فالملافنة اللاهوتيون وكل التقليد المسيحي قد قال: لا يمكن أن يفهم الآب إلا بالابن، ولا الابن إلا بالآب.
   كما نؤمن ونعلم أن الروح القدس ما هو إلا المحبة. والحال إن الحب فينا يوحد الكلمة مع العقل. فكما أن العقل الذي هو قوة جوهرية في الطبيعة مثلاً في الملاك وفي النفس الناطقة، إذا عقل موضوعاً ما، فهو يرسم في ذاك الموضوع صورته صالحاً أو طالحاً. وحينئذ تبرز الإرادة مفعولها نحو الموضوع نفسه إما بحبها إياه لصلاحه، وإما بكرهها إياه لطلاحه. فكذلك على سبيل المقايسة نقول: إن الله روح أي جوهر محض، وله ضرورة فعل التعقل والإدراك دائماً، فهو منذ الأزل يدرك ذاته. وحد هذا التعقل والإدراك هو صورة حية صادرة عن الذات بمعزل عن القوة العاقلة. ثم أنه يحب هذه الصورة سرمداً بقوة إرادته الحية الفاعلة، وحد هذا الحب ينتهي بطلعة أخرى غير القوة التي تحب بالإرادة، لأن المحبوب هو غير المحب. كما أن المعقول هو غير العاقل. فكما أن النار وضياءها والإحراق الصادر عنها هي ثلاثة أشياء. كذلك الله في أقانيمه الثلاثة.
   إن الأقانيم الثلاثة في الله دعيت الآب والابن والروح القدس ليس بالمعنى الذي تفهمه البشرية. فإن الابن صادر من الآب حياً من حي مع وحدة الذات. فكما أن فحوى كلمة وليدة العقل لا تزال بنت العقل وإن لفظها الفم، كذلك الابن دعي: حكمة وصورة وكلمة لصدوره عن فعل الإدراك والتعقل الإلهي الذي هو الحكمة بالذات. وكذا نقول عن الأقنوم الثالث. لأنه بصدوره عن الأب والابن بمبدأ واحد، أي فعل الإرادة وتبادل حب الذات الإلهية، لا يستلزم أبداً كفعل التعقل صدور شبهه. لأن الإرادة لا تبتغي شبهها في المحبوب منها، بل تميل إليه بانعطاف، فيأخذها روح هيجان وفيضان نفس، ولكن لائقين بالله. ولم نجد كلمة تصف هذا الانعطاف أحسن من كلمة الروح القدس.   
   ويمكن أن نلخص عقيدة الثالوث الأقدس في نقاط ست هي: 1_ الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص واحد. 2_ هؤلاء الثلاثة يصفهم الكتاب بطريقة تجعلهم شخصيات متميزة الواحدة عن الأخرى. 3_ هذا التثليث في طبيعة الله ليس موقتاً أو ظاهرياً بل أبدي وحقيقي. 4_ هذا التثليث لا يعني ثلاثة آلهة بل أن هذه الشخصيات الثلاث جوهر واحد. 5_ الشخصيات الثلاث الآب والابن والروح القدس متساوون. 6_ ولا يوجد تناقض في هذه العقيدة، بل بالأحرى إنها تقدم لنا المفتاح لفهم باقي الديانة المسيحية. ولقد كان يقين الكنيسة وإيمانها بلاهوت المسيح هو الدافع الحتمي لها، لتصوغ حقيقة التثليث في قالب يجعلها المحور الذي تدور حوله كل معرفة المسيحيين بالله في تلك البيئة اليهودية أو الوثنية وتقوم عليه.
   وأخيراً نشير إلى أن عقيدة التثليث عقيدة سامية ترتفع فوق الإدراك البشري ولا يدركها العقل مجرداً، لأنها ليست وليدة التفكير البشري، بل هي إعلان سماوي يقدمه الوحي المقدس، ويدعمه الاختبار المسيحي.   
   وتحتفل كنيسة المشرق الكلدانية بعيد الثالوث الأقدس في الأحد الثاني من سابوع الرسل.       
 


123
تذكار مار أدي الرسول

                                                                                       الشماس: نوري إيشوع مندو
   مار أدي الرسول: أصله من دفنيس (1) وهو أحد الاثنين والسبعين تلميذاً، وكان يرافق توما الرسول.
   كان ملك أورهاي ( الرها ) أبجر  الخامس أوكاما ( الأسود ) (2)مصاباً بداء الملوك " النقرس "، ويعاني آلاماً شديدة. ولما بلغه خبر العجائب التي كان يجريها يسوع، أرسل إليه وفداً وحمله رسالة يلتمس فيها أن يأتي ويشفيه. وقد تلقى يسوع رسالة الملك أبجر بفرح عظيم. وحمل الوفد رسالة جوابية للملك أبجر.
   ويحدثنا تقليد كنيسة الرها عن هذه الرسائل، فبعد أن أرسل أبجر موفداً من قبله إلى أورشليم بشخص حنان أمين المحفوظات الرسمية في ديوانه، حاملاً رسالة ليسوع. نجد هذا الموفد بعد أن يقابل يسوع يحصل منه على رسالة جوابية إلى أبجر، وقد ذاعت شهرة هذه الرسالة، وأثبت منها أوسابيوس القيصري (263_339) م في تاريخه الكنسي مقتطفات واسعة، أخذها عن الأصل الآرامي المحفوظ في خزانة وثائق مملكة الرها، وسنوجز نص هاتين الرسالتين.
   رسالة الملك أبجر أوكاما: " من أبجر أوكاما الملك إلى يسوع المخلص الصالح الذي ظهر في مقاطعة أورشليم سلام: لقد تناهى إلى سمعي ما يقال عنك وعن شفاءاتك وكيف تنجزها بدون عقاقير وأعشاب _ _ _ _ _ تجعل العميان يسترجعون أبصارهم، والعرج يمشون، وتطهر البرص، وتطرد الأرواح النجسة والشياطين، وتشفي الذين يتعذبون بمرض طويل، وتقيم الأموات. وعندما سمعت عنك هذه الأشياء كلها _ _ _ _ _ لهذا السبب اكتب متوسلاً إليك أن تسرع بالمجيء إلي، وتشفي العذاب الذي أنا فيه، وعلاوة على هذا فقد بلغني أن اليهود يضطهدونك ويطلبون هلاكك. ولي مدينة واحدة صغيرة حسنة جداً، لكنها تكفينا لنسكنها بهدوء وسلامة معاً ".
   رسالة يسوع المخلص: " طوبى لك يا أبجر لأنك آمنت ولم تراني _ _ _ _ _ أما بخصوص ما كتبته إلي بأن آتي إليك فانه علي أن أكمل كل ما أرسلتُ لإنجازه، وبعد ذلك سأصعد إلى ذاك الذي أرسلني. وبعد صعودي سأرسل إليك أحد تلاميذي ليشفي عذابك، ويعطي الحياة لك وللذين معك ". (3)
   ويتحدث تقليد الرها أن جواب يسوع للملك أبجر كتب بخط الرسول توما في قرطاس مصري، وكان محفوظاً في الخزانة الملكية، ويخرج منه في الأعياد ليتبارك منه المؤمنين. (4)
   ويتحدث التقليد أيضاً أن يسوع أرسل مع الجواب صورته على منديل " ولعلمي بشدة اشتياقك إلي قد وجهت إليك بمنديل فيه صورة وجهي لتشاهده، فلما وصل الكتاب إلى أبجر فرح به، وجعل المنديل على وجهه، فارتاح قلبه وقال: أنا أشهد أن هذا أبن الله الحي الحليم. ووجد أبجر راحة عظيمة من كثير مما كان يتشكاه ". (5)
   وقد احتفظت كنيسة الرها بصورة يسوع الغير مصنوعة باليد، ويتحدث تقليد الرها أن موفد الملك أبجر حنان كان رساماً ماهراً، فقام برسم صورة يسوع على منديل بألوان جميلة من نخبة الأصباغ العالية الجودة، " وعمد حنان إلى لوح مربع، وصور فيه صورة سيدنا المسيح بأصباغ حسنة أنيقة، وجعل ينظر إليه ويصور صورته في ذلك اللوح، وأتى به معه للرها إلى أبجر فقبله وجعله في خزانته، وهو هناك إلى هذه الغاية ". (6)
   وتتحدث الروايات المتأخرة أن يسوع ترك تقاطيع وجهه بنفسه على المنديل وقد اعتبر هذا العمل سماوياً، لذلك دعيت ( الصورة الغير مصنوعة باليد )، وبعد عودة الوفد إلى الرها قدم المنديل إلى الملك أبجر، وعندما رآه تقبله بفرح عظيم ووضعه بتبجيل عظيم في إحدى غرف قصره، بعد أن كتب عليه العبارة التالية: " أيها المسيح الإله، لن يهلك كل من يثق بك ".
   أما تعليم أدي فيقول أن يسوع مسح وجهه بمنديل، فانطبعت عليه صورته. " وحنان المصور الذي أرسله أبجر رسولاً إلى سيدنا، اجتهد في أن يأخذ صورة للمسيح ولم يتمكن، وأن سيدنا أخذ المنديل الذي كان مع حنان، فمسح به وجهه، فحصلت فيه صورته وأنفذه إلى أبجر ". (7)
   كما تتحدث قصة القديسة وارينا _ فيرونيكا (8) التي مسحت وجه يسوع بمنديل وهو حاملاً صليبه على طريق الآلام، فانطبع وجهه على المنديل.
   وبعد صعود الرب دفعت نعمة الله الرسول توما لكي يرسل إلى مدينة الرها واحداً من الاثنين والسبعين تلميذاً اسمه أدي. ولما وصل هناك حل في بيت رجل يدعى طوبانا " سعيد " وشرع يصنع العجائب. وسرعان ما انتشر خبره في المدينة كلها.
   ولما بلغ الخبر الملك أبجر استدعى طوبانا وقال له: " بلغني أن في بيتك رجلاً قديراً فأتني به ". وفي الحال ذهب الرجل وأتى بأدي، فمثل أمام الملك أبجر الذي كان يحيط به جمع غفير. ولدى دخول أدي شاهد الملك منظراً عجيباً على وجهه، فسجد أمام أدي. فأعترى العظماء الحاضرين في البلاط الدهش الشديد، من أن رجلاً لابساً ثياباً رثة أثر في الملك هذا التأثير كله، ولم يعلموا أن يسوع أظهر مجده في الرجل الذي أقبل عليه. فقال أدي للملك: " لماذا استدعيتني؟ ".
   فقال له الملك: " بلغني أنك تقوم بأمور عجيبة، وتجري قوات خارقة. وعرفت أنك تلميذ يسوع الذي كتب إليَّ في رسالته: إني بعد قيامتي سأرسل إليك واحداً من تلاميذي. فقد أتيت إليَّ الآن لكي تشفيني ".
   فقال له أدي: " إن تؤمن تنل مرامك. إذ أن كل شيء مستطاع لمن يؤمن ".
فقال له الملك: " إني آمنت به إلى حد إني لولا خوفي من مملكة الرومان، لأرسلت جيشاً لأبيذ اليهود الذين صلبوه ". فوضع أدي يده عليه وتعافى بقوة يسوع من جميع أمراضه. وتعجب أبجر وأنذهل أمام تلك الآية البينة التي جرت له بشفائه من داء الملوك. وشفى أدي أيضاً أحد عبيد الملك، وآخرين عديدين من سكان المدينة.
   ولما عاين الملك وعظماؤه الآيات التي صنعها أدي، شرعوا يقولون له: " إننا نلتمس منك أن تشرح لنا من هو يسوع، وماذا علّم، وماذا صنع؟ ".
   فقال أدي للملك: " إن الوقت الآن متأخر، وإذا شئت أن أشرح لك ذلك، فأدعُ عساكرك، وأنا في الغد آتي واشرح لك قصة يسوع ".
   وقبل الملك كلامه بفرح، واستدعى جميع أعيانه. وفي صباح الغد جاء أدي وشرع يحدثهم عن العناية الإلهية، وكيف أبدع الله الكون وخلق البشر، وكلّمهم عن الوعود التي أبرمها للأولين، وعن مجيء المسيح والعجائب التي صنعها، وعن قيامته وصعوده إلى السماء، وعن الموهبة التي منحها للأنبياء والرسل لكي يبشروا الأمم. وكان الملك يستحسن كلام أدي، والروح القدس يؤيد تلك الأقوال بالعجائب.
   وأمر الملك بأن يُعطى أدي فضة وذهباً. فقال له أدي: " كيف نستطيع أن نأخذ ما ليس لنا؟ فإننا قد تركنا ما كان لنا، إذا أوصانا الرب أن نكون بغير أكياس ولا حقائب، وأن نحمل الصليب على أكتافنا ونعلن بشارته في المسكونة كلها ".
    وانضمت المدينة كلها وجميع البلدان المحيطة بها إلى الإيمان المسيحي، حتى أن منطقة ما بين النهرين برمتها كادت تنظم إلى الإيمان الصحيح، بسبب العجائب التي كانت تجري على يد مار أدي. وكان الذين آمنوا يتنافسون في الفضيلة والأعمال الصالحة.
   وشيد أدي كنيسة في الرها، وزودها بكل المستلزمات، ورسم كهنة وشمامسة في المدينة وما يجاورها. بعد ذلك غادر أدي هذا العالم بسلام، في يوم الخميس الموافق الرابع عشر من أيار ( ؟ )، مختتماً جهاده المجيد بالنصر والغلبة. ودفن في قبر كبير في الكنيسة ذاتها، وكان المؤمنون يتوافدون لزيارة ضريحه ويحتفلون بتذكاره كل سنة. (9)
   " وانتشرت النصرانية فيها وفي أطرافها انتشاراً سريعاً عجيباً، حتى سميت الرها المقدسة، والرها المباركة، ومدينة أبجر محب المسيح ". (10) وفيها ابتنى أدي أول كنيسة مسيحية باسم ( المخلص )، وقد توفي فيها سنة 49م ودفن في ( الكنيسة التي شيدها ). (11) وهناك من يقول إنه دفن في ( مقبرة ملوك الرها ).  (12)
   وتحتفل كنيسة المشرق الكلدانية الأشورية بتذكار مار أدي الرسول في الأحد الخامس من سابوع القيامة.
   ويقول المطران أدي شير في كتابه سيرة أشهر شهداء المشرق: " في هذه السنين الأخيرة، وجد تحت ردم كنيسة مار كيوركيس في خارج بلدة كرمليس صندوق فيه ذخائر مار أدي الرسول. فنقلت ووضعت في الكنيسة التي في وسط البلدة، وبني لها هيكل فاخر على اسم هذا القديس ". (13)
   وقبل أن يغادر أدي هذا العالم دعا أجي أمام جماعة الكنيسة كلها وأقامه خلفاً له في تدبير الكنيسة. وكان أجي قبل انضمامه إلى أدي يصنع ثياباً حريرية وخوذاً للملك، فتخلى عن مهنته هذه، وصار مدبراً ورئيساً لكنيسة الرها خلفاً لمعلمه أدي. (14)
   وقد تواجدت المسيحية في الرها في أواخر القرن الأول الميلادي، وأخذ عدد المسيحيين بالازدياد والنمو فيها. ومع تنصر الملك أبجر التاسع ( 179_ 214 ) م، اهتدى شعب مملكة أورهاي كله إلى الإيمان المسيحي، وأضحت المملكة الأولى التي اعتنقت المسيحية كدين رسمي في العالم، وهذا مدعاة افتخارها.

الهوامش:
1_ دفنيس: أو دفه أو بيت الماء. مكان بالقرب من أنطاكية يعرف اليوم بـ " حربية ". غني بالينابيع. أصبح في عهد السلوقيين مركز راحة ولهو وتهتك. شيد عليه هيكل لإبولون أقيمت له أعياد سنوية حافلة.  المنجد في الأعلام  ص 286. 
2_ أبجر: اسم عدد كبير من ملوك الرها. ويقال أن كلمة أبجر تعني بالآرامية " أعرج ". والكاتب الروماني تاسيتوس يكتبه " أكبر ". بينما يكتبه كلوتارخ " أجبر و أبجر ". وقد وجد اسم أبجر في الكتابات المنقوشة التدمرية. وكذلك فأننا نعثر على شكل أبجر في الكتابة الآرامية المنقوشة في نيراب التي ربما نقشت في القرن 7 ق . م.  الرها المدينة المباركة   ج . ب سيغال   ترجمة يوسف جبرا  ص 22.
3_ تاريخ الكنيسة   أوسابيوس القيصري  ترجمة القس مرقس داود  الكتاب الأول  ص 59_ 60                 
4_ أخبار بطاركة كرسي المشرق    ماري بن سليمان   ص 2.
5_  مختصر الأخبار البيعية   حققه ونشره الأب بطرس حداد   ص 29.
6_  مختصر الأخبار البيعية   حققه ونشره الأب بطرس حداد   ص 29.
7_ أخبار بطاركة كرسي المشرق    ماري بن سليمان  ص2.
8_ فيرونيكا: امرأة يهودية. يذكر التقليد المسيحي أنها مسحت بمنديلها وجه المسيح وهو سائر إلى الجلجلة.  المنجد في الأعلام  ص 535.
9_ شهداء المشرق   الأب ألبير أبونا   ج 1 ص 12 _ 14.
10_ تاريخ الكنيسة السريانية  الخور أسقف اسحق أرملة   ص43.
11_ ذخيرة الأذهان   الأب بطرس نصري   ج1  ص 36.
12_ سيرة أشهر شهداء المشرق   المطران أدي شير   ج1  ص 13.
13_ سيرة أشهر شهداء المشرق   المطران أدي شير   ج 1  ص 12.
14_ شهداء المشرق   الأب ألبير أبونا  ج 1  ص 15.









124
الشهيدة فبرونيا النصيبينية
الشماس: نوري إيشوع مندو

المقدمة: مع انتشار المسيحية في بلاد ما بين النهرين أضحت نصيبين حاضرة كنيسة المشرق، ومركز إشعاعها الروحي والثقافي. ففيها أسس مار يعقوب النصيبيني أول جامعة لاهوتية في العالم، وفي جبلها المجاور إيزلا انطلقت الحياة الرهبانية مع مار أوجين، وطورت ونظمت مع إبراهيم الكشكري مؤسس دير إيزلا الكبير، وانطلق رهبانها حاملين بشرى الخلاص إلى شعوب العالم المعروف آنذاك، فوصلوا بفتوحاتهم الإنجيلية إلى بلاد الهند والصين.
ومع بداية الجيل الرابع للمسيحية نجد في نصيبين ديراً للراهبات على اسم مارت نارسوي، أنشأته وأسسته الشماسة بلاطونيا، وجمعت فيه خمسين راهبة. ووضعت لهن قانوناً شديداً، يعشن من خلاله حياة رهبانية منظمة، ويتبارين في تقديس نفوسهن بالصوم والصلاة، حيث لا يأكلن سوى مرة واحدة في النهار، ويقضين يوم الجمعة في الكنيسة من الصباح إلى المساء، متفرغات للتأمل وقراءة الكتاب المقدس، لأن القانون يفرض بألا تقوم الراهبات بأي عمل في هذا اليوم. 
وعندما توفيت بلاطونيا خلفتها في رئاسة الدير الشماسة برونة، التي سارت على أثر الرئيسة الأولى في إدارة الراهبات بحنان وحزم، حتى أن عبير القداسة كان يفوح في تلك الجهات كلها ويعطرها.
وفي عهد الرئيسة برونة كانت إحدى البتولات المنتسبات لهذا الدير هي فبرونيا، تلك الشابة البتول التي زينها الله بجمال النفس والجسد، ثم اختارها لترفل بأرجوان دمائها الزكية، فتصبح عروسة بهية تليق ببهائه وقداسته وعظمته الإلهية. هذه الفتاة البارة والعظيمة بين الشهيدات ستبقى زينة متألقة لكنيسة نصيبين العريقة، وموضوع فخار لأبنائها عبر الأجيال.     
1_ حياتها: لا نملك معلومات دقيقة عن حياتها،  وما استقيناه عن قصة استشهادها كتبته الأم تومايس التي خلفت الأم برونة في رئاسة الدير بعد وفاتها، حيث تختم القصة بقولها: " أنا المسكينة تومايس خلفت برونة بعد موتها، ولكوني عارفة حقاً بكل ما جرى للطوباوية فبرونيا منذ البدء، وعلمت بقية الأمور من السيد لوسيماكس. فقد كتبت هذه الشهادة مدحاً وإكراماً للطوباوية، وخلاصاً وتشجيعاً للسامعين، ليستيقظ عقلهم في الجهاد في سبيل عبادة الله، لكي يؤهلوا هم أيضاً لملكوت السماء بيسوع المسيح ربنا الذي له المجد والسلطة إلى دهر الدهور آمين ".
جاء في شهادة تومايس أن الطوباوية فبرونيا كانت في العشرين من عمرها عند استشهادها سنة 304م، وعليه تكون ولادتها في نهاية القرن الثالث أي حوالي سنة 284م. كانت فبرونيا ابنة أخي رئيسة الدير برونة،  وكانت قد فقدت والدتها وهي في ربيعها الثاني، فضمتها برونة إليها واهتمت بتربيتها وتثقيفها بعناية لا توصف. وكانت فبرونيا ذات جمال رائع وحُسن بارع، مما جعل برونة خائفة من أن يصبح جمالها سبب شقاء لنفسها وحياتها، فعودتها على التقوى وحب الفضيلة وممارسة الصوم والتأمل، كي تحفظها وتقيها من المعاثر.
وكانت فبرونيا ذات أخلاق ناعمة ونفس حساسة وطباع لطيفة، فنمت على الإيمان والإماتة ونذرت لله بتوليتها. وبدأت حياتها الرهبانية بالتقشف، حيث كانت لا تأكل إلا مرة واحدة كل يومين، وفي أكلها لا تشبع، ولا تشرب إلا القليل من الماء، وتحيي ليالي برمتها في الصلاة والتأمل، وكانت تستريح وقت النوم على سرير خشبي طوله ثلاث اذرع ونصف وعرضه ذراع واحدة، وكثيراً ما كانت ترقد على الحضيض في سبيل قمع جسدها. وحينما كانت التجارب تراودها ليلاً، كانت تنهض وتلوذ بالصلاة وبالقراءة الروحية طرداً للهواجس الشريرة، متضرعة إلى عريسها الإلهي أن يحفظ لها زهرة طهارتها نقية بهية. وكانت تحب العلم محبة شديدة، حتى أن الرئيسة والراهبات كن يتعجبن من سعة معارفها.
وكانت فبرونيا ذات صوت رخيم، تشرح كلام الله كأن الروح القدس ينطق بفمها، لذلك أوعزت إليها الرئيسة قراءة كلام الله لدى اجتماع الراهبات للصلاة، وأمرتها أن تقرأ لهن وراء الحجاب أيام الآحاد والجمع، بسبب حضور نساء علمانيات للصلاة معهن في هذه الأيام، حتى لا يلفت جمالها البارع أنظار الحاضرات، ولا ينظرن إليها ولا يُفتنَّ بسحر عينيها. ورغم ذلك فقد شاع خبرها في المدينة، واخذ الناس يتحدثون عن علمها وجمالها ووداعتها وتواضعها.
وكان في نصيبين امرأة وثنية شريفة تدعى اياريا تعيش مع ذويها بعد ترملها، وقد بلغها خبر فبرونيا، حتى ذابت شوقاً إلى رؤيتها. وفي احد الأيام جاءت إلى الدير وقابلت الرئيسة برونة وجثت عند قدميها قائلة: " استحلفك بالله خالق السماء والأرض ألا تنفري مني لكوني ما زلت وثنية نجسة وألعوبة للشياطين، ولا تحرميني من صحبة فبرونيا وتعليمها، فأتلقى بواسطتكن طريق الخلاص وأفوز بما هو معدّ للمسيحيين. أنقذيني من بطلان هذا العالم ومن عبادة الأصنام الرجسة. فها أن والديّ يرغماني على زواج آخر. فكفاني عذابي من ضلال الأول، وأريد الآن أن احصل على الحياة بواسطة تعليم أختي فبرونيا وصحبتها ". كانت اياريا تقول هذا وهي تبلل قدمي الرئيسة بدموعها، حتى تحننت عليها وسمحت لها بمشاهدتها شرط أن تتوشح بالزي الرهباني، لأن فبرونيا منذ ثماني عشرة سنة تعيش في هذا الدير، دون أن ترى وجه رجل ولا الزي العالمي ولم تعاشر حتى العلمانيات. أدخلت الرئيسة برونة الشريفة اياريا وهي مرتدية الزي الرهباني على فبرونيا، وما أن رأتها فبرونيا ظنتها راهبة غريبة فجثت عند قدميها إكراماً لها. وبعد السلام أمرت الرئيسة فبرونيا لتقرأ لضيفتها من الكتب المقدسة، فامتلأ قلب اياريا حزناً وندامة، حتى أمضت كلتاهما الليل كله دون نوم، فلم تكف فبرونيا عن القراءة، واياريا لم تشبع من تعليمها وهي تتنهد باكية متحسرة.
وفي الصباح عادت اياريا إلى منزلها، وأخذت تحرض ذويها على الابتعاد عن عبادة الأصنام وعلى الإقبال على معرفة الإله الحق. وبعد انصراف اياريا سألت فبرونيا نائبة الرئيسة تومايس قائلة:         " التمس منك يا أماه أن تقولي لي من هي هذه الأخت الغريبة التي سكبت هذه الدموع، وكأنها لم تسمع من قبل كلام الله ". فقالت لها تومايس: " إنها الشريفة اياريا ".  فقالت فبرونيا: " لماذا خدعتنني فخاطبتها كأخت ". فقالت لها تومايس: " إن سيدتنا رئيسة الدير شاءت ذلك ".
وبعد مدة وجيزة داهم المرض فبرونيا واشتدت عليها وطأته، ولما سمعت اياريا بمرضها، جاءت إليها لتخدمها، ولم تفارقها إلا بعد أن استعادت عافيتها.
2_الاضطهاد: مع بداية القرن الرابع ثارت زوبعة الاضطهاد بحق المسيحيين في عهد الإمبراطور الروماني ديوقلتيانس، واخذ السيف يحصد نفوس المسيحيين حصداً مريعاً. وقد كلف سيلينس وابن أخيه لوسيماكس بالذهاب إلى المشرق، وأوصاهما أن يفتكوا بالمسيحيين بلا شفقة ولا رحمة. فامتثلا لأمر الإمبراطور وذهبا إلى المشرق مع جيش كبير، وأقام لوسيماكس ابن خالته فريمس آمراً للجيش.
ولما بلغوا ما بين النهرين، شرع سيلينس ينكل بالمسيحيين ويقضي عليهم بالسيف والنار، ويرمي بجثثهم للكلاب، فاستولى الرعب على المسيحيين من شراسة سيلينس. وفي إحدى الليالي دعا لوسيماكس ابن خالته فريمس وقال له: " أنت تعلم أن أبي مات وثنياً، ولكن والدتي ماتت مسيحية، وقد بذلت قصارى جهدها لكي أصير أنا أيضاً مسيحياً. ولكني لم أستطيع إلى ذلك سبيلاً، خوفاً من أبي ومن الملك. غير أنها أمرتني بألا أسيء إلى المسيحيين، بل أن أحب المسيح. وحينما أرى كيف يعامل عمي سيلينس الظالم هؤلاء المسيحيين، يتمزق عليهم فؤادي حزناً واسى. فأريد أن يُطلق سراح المسيحيين سراً ". فلما سمع فريمس ذلك، أمر بعدم القبض على المسيحيين، وكان يسبق ويرسل الخبر إلى الأديرة ويوعز إليهم في الهرب من أمام الطاغية سيلينس. وما أن اقترب الجيش من مدينة نصيبين حتى شاع الخبر أن سيلينس ولوسيماكس قادمان إليها، ليرغما المسيحيين على تقديم الذبائح للأصنام. فترك جميع المسيحيين والاكليروس والرهبان مساكنهم ولاذوا بالفرار، واختبأ مطران المدينة نفسه من الخوف.
وما أن بلغ الخبر مسامع الراهبات اجتمعن عند الرئيسة وقلن لها: " ماذا نفعل يا أماه، فقد وصل المضطهدون إلى هنا أيضاً، والجميع يفرون من أمامهم ". فقالت الرئيسة لهن: " وماذا تردن أن أصنع لكن ". فأجبنها: " أن تأمرينا بالاختباء مدة لإنقاذ أنفسنا ". فردت الرئيسة عليهن: " لا يا بناتي إني لا أريد منكن هذا، بل علينا أن نصمد في الجهاد، وأن نموت في سبيل ذالك الذي مات لأجلنا، لكي نحيا معه أيضاً ". ولما سمعت الأخوات هذا الكلام، اخلدن إلى الصمت والهدوء. وبعد أن خرجن قالت إحداهن واسمها ايثاريا: " إني أعلم أن رئيستنا لا تتركنا نغادر المكان لأجل فبرونيا، ولعلها تريد أن نهلك جميعاً بسببها. فأرى أن ندخل عليها، وأنا سأكلمها عنكن بما ينبغي ".
وفي اليوم التالي اجتمعت جميع الراهبات ودخلن على الرئيسة، وتكلمت باسمهن الأخت ايثاريا قائلة:  " مُري بأن نختبئ ونفر من أمام الغضب القادم. فنحن لسنا خيراً من الإكليروس ومن الأسقف، فكري أن بيننا من هن شابات. فقد يختطفهن الجنود الرومان، ويتعرضن لتدنيس أجسادهن فيخسرن أجر زهدهن، أو لعلنا لا نستطيع احتمال العذابات فنجحد الإيمان، ونصبح أضحوكة للشياطين ونفقد نفوسنا. فإذا أمرتِنا بالهرب، فإننا نأخذ معنا فبرونيا أيضاً وننطلق ".
وحينما سمعت فبرونيا هذا الكلام، قالت لهن: " لعمر المسيح الذي خُطبت له وقدمت له ذاتي، لن أغادر هذا المكان، وليكن ما شاء الله ". فألتفت الرئيسة نحو ايثاريا قائلة: " يا ايثاريا أنت تعرفين ما صنعت، وأنا بريئة من ذلك "، ثم قالت للأخوات: " كل منكن تدري ما الأصلح لها، فلتختر ما تشاء ". بعد أن أنهت الرئيسة كلامها استحوذ الخوف على الراهبات، فخرجن من الدير بعد أن صلين وودعن الرئيسة وفبرونيا بحزن بالغ وبكاء مر.
أما الراهبة افرقلة التي تربت مع فبرونيا فقد جاءت تودع فبرونيا فعانقتها وأخذت تبكي وتقول:       " وداعاً يا فبرونيا صلي لأجلي ". وأمسكت فبرونيا بيديها ومنعتها من الخروج وقالت لها: " خافي الله يا افرقلة، ولا تتركينا أنت أيضاً. ألا ترين أني ما أزال مريضة، وقد أموت ولا تستطيع الرئيسة وحدها أن تدفني، فامكثي عندنا حتى إذا مت تواريني التراب ". فردت افرقلة قائلة: " ما دمتِ قد أمرتِني يا أختي فلن أترككِ ". فردت الرئيسة على افرقلة قائلة: " ها قد وعدت أمام الله بأنكِ لن  تتركينا ". ولكن ما أن حل المساء حتى غادرت افرقلة الدير لاحقة بالأخريات.
ولما رأت الرئيسة أن الدير قد خلا من الراهبات، دخلت المعبد وارتمت على الأرض وأخذت تصرخ وتبكي. وكانت تومايس نائبتها جالسة بجانبها تعزيها وتقول: " كفي يا أماه فإن الله قادر أن ينقذنا من هذه المحنة، فمن ذا الذي آمن بالله وخزي ". فأجابتها الرئيسة: " أجل يا تومايس إني أدري أن الأمر كذلك، ولكن ماذا أصنع بفبرونيا، وأين أخبئها وأنقذها، وكيف انظر إليها إذا اختطفها البرابرة ". عندها طلبت تومايس من الرئيسة أن يمضيا معاً عند فبرونيا ويشجعاها، لأنها ما زالت تعاني من المرض.
وما أن بلغتا عند فبرونيا حتى احتضنتها الرئيسة وهي تذرف الدموع، وحينما رأتها فبرونيا على تلك الحال سألت تومايس قائلة: " أناشدك يا أماه أن تقولي لي ما هو سبب بكاء أمنا الرئيسة، فلقد سمعت صراخها قبل قليل وهي في المعبد ". فأجابتها تومايس باكية: " يا ابنتي فبرونيا إنما الرئيسة تبكي وتتنهد من أجلك، نظراً إلى المحن المزمعة أن تأتينا من الظالمين، وهي تحزن عليك لكونك صبية حسناء ". فقالت فبرونيا: " التمس منكما أن تصليا من أجلي فقط، فلعل الله ينظر إلي فيقويني ويوليني الصبر، كما فعل للذين أحبوه ". فردت عليها تومايس قائله: " يا ابنتي فبرونيا هوذا زمان الجهاد، ولا شيء أكرم عند الله من البتولية، وعريس البتولات غير مائت، وهو يولي الخلود للذين يحبونه. فحاولي أن تنظري إلى ذلك الذي خصصت له ذاتك، ولا تنكثي عهدك ". فلما سمعت فبرونيا هذا الكلام تشجعت وهيأت نفسها لمجابهة الشيطان، وقالت لتومايس: " أحسنت يا سيدتي بإسدائك النصح إلى خادمتك، فاني قد تقويت كثيراً بكلامك. فلو أردت الهرب من الجهاد، لغادرت المكان أنا أيضاً مع أخواتي واختبأت. ولأني أحب ذاك الذي خصصت له ذاتي، فأنا مهتمة بالذهاب إليه، إذا جعلني أهلاً للتألم والجهاد في سبيله ".
فلما سمعت الرئيسة هذا الكلام، شرعت هي أيضاً تبذل النصح لفبرونيا قائلة: " أذكري يا فبرونيا المجاهدين الذين سبقوك واستشهدوا بنوع مجيد، ونالوا إكليل الظفر من الله ". ولم تزل الرئيسة تخاطبها بمثل هذه الأقوال حتى انقضى الليل.
3_ استشهادها: ما أن أشرقت شمس اليوم التالي، حتى علا ضجيج سكان نصيبين، وساد فيها الفوضى حينما احتلها القائدان سيلينس ولوسيماكس. وقبض الجيش على مسيحيين كثيرين وأودعوا السجن. واخبر بعض الوثنيين سيلينس بشأن الدير، فأرسل جنوداً كسروا الأبواب ودخلوا وقبضوا على برونة، وهمَّ بعضهم بقتلها على الفور. فارتمت فبرونيا على أقدام الجنود وصرخت بصوت عال وقالت: " استحلفكم بإله السماء أن تقتلوني أولاً، فلا أرى موت سيدتي ". ولما اقبل فريمس ورأى ما صنعه الجنود، غضب عليهم جداً وأمرهم بالخروج من الدير. ثم قال للرئيسة: " أين ساكنات هذا الموضع ". فأجابته الرئيسة: " لقد غادرن الموضع خوفاً منكم ". فقال لها فريمس: " ليتكن أنتن أيضاً نجوتن بأنفسكن، ولديكن المجال الآن للهرب حيثما تشأن ". ثم غادر الجنود الرومان الدير دون أن يترك فيه حراساً. ولما عاد فريمس إلى لوسيماكس، سأله عن الدير وسكانه. فرد عليه فريمس بالقول: " الراهبات قد هربن من الدير، ولم يبقى فيه سوى عجوزين وشابة، وقد اعتراني العجب لما رأيت الشابة التي لم أرى في النساء جمالاً يضاهي جمالها. ولولا كونها مسكينة وبائسة، لاستحقت أن تكون زوجة لك يا سيدي ". فرد عليه لوسيماكس قائلاً: " أوصيت بعدم سفك دم المسيحيين، بل أكون محباً للمسيح، فحاشا لي أن أفعل ذلك. والآن أطلب منك يا سيدي فريمس أن تخرجهن من هناك، وتخلصهن لئلا يقعن في قبضة عمي سيلينس العديم الرحمة ".
إلا أن أحد أولئك الجنود ذهب إلى سلينيس وأخبره عن شابة الدير الرائعة الجمال، وها أن فريمس يتحدث إلى لوسيماكس بشأن الزواج منها. فلما سمع سيلينس هذا الكلام، احتدم غيظاً وأقام حراساً على الدير لمنع الراهبات من الهرب. ثم أمر فنادوا في المدينة: غداً ستدان فبرونيا علناً في معلب المدينة.  وفي اليوم التالي ذهب الجنود إلى الدير وقبضوا على فبرونيا وقيدوها بالسلاسل وكبلوا عنقها بطوق من حديد ثقيل، وجروها وأخرجوها من الدير. فلحقت بها الرئيسة برونة ونائبتها تومايس وتوسلتا أن يذهبا أيضاً معها للجهاد، لكن الجنود رفضوا طلبهما لأنهم لم يتلقوا أمراً بشأنهما. ثم توسلتا إلى الجنود بأن يتيحوا لهما التحدث إليها قليلاً، فاستجاب الجنود إلى طلبهما. فخاطبت برونة فبرونيا بالقول: " يا أبنتي فبرونيا ها إنك ماضية إلى الجهاد، ففكري أن العريس السماوي ينظر إلى نضالك، وأن القوات السماوية تحمل أكليل الظفر وهي منتظرة نهاية جهادك ليكللوك به، فلا تخافي من العذابات لئلا تصبحي مهزلة للشياطين، ولا تشفقي على جسدك الذي سينحل من الضربات، فعلى هذا الجسد أن ينحل بعد قليل ويستحيل تراباً في القبر. فأنا باقية في الدير حزينة ومنتظرة من يبشرني أن فبرونيا أنجزت جهادها، وأحصيت في عداد الشهداء ". فقالت فبرونيا: " ثقتي بالله، يا أماه إني لن أخالف الآن أوامرك ونصائحك، وأظهر في جسد النساء عزيمة الرجال وبأسهم، وسترى الشعوب ويذهلون ويعطون الطوبى لشيخوخة برونة، التي غرست يدها هذه النبتة. التمس منكما يا والدتيّ أن تزودانيّ بالبركات، وأن تصليا لأجلي، فاتركاني لأذهب ". فمدت برونة يديها نحو السماء ورفعت صوتها وقالت: " أيها الرب يسوع المسيح، أنت الذي ظهرت لأمتك تقلا كما ظهرت لبولس، ألتفت أيضاً إلى هذه المسكينة في وقت الجهاد ". ثم عانقت فبرونيا وقبلتها، وتركتها تمضي.
ساق الجنود فبرونيا وهي مكبلة إلى ملعب نصيبين، حيث تجمع هناك جمهور غفير من الأهالي، وكان بين النساء الحاضرات الشريفة اياريا ونائبة الرئيسة تومايس التي تنكرت بالزي العلماني. وما أن جلسا سيلينس ولوسيماكس على المنصة، أمرا بإدخال فبرونيا، وما أن رآها الجمهور تصاعدت الزفرات. وأمر سيلينس الجمهور بالسكوت، وطلب من لوسيماكس أن يطرح عليها الأسئلة. فقال لها لوسيماكس: " قولي يا بنت ما اسمك، أجارية أنت أم حرة ". فردت عليه فبرونيا بالقول: " أنا أمة المسيح، وسيدتي تدعوني فبرونيا ".
وشرع سيلينس يستنطقها قائلاً: " يا فبرونيا لم أود استنطاقك، فإن وداعتك وتواضعك وجمالك الرائع اخمد غضبي عليك، وأنا لا أوجه السؤال إليك كمذنبة، بل أسألك كابنتي الحبيبة، أن تقبلي لوسيماكس زوجاً لك. فأجعلك ذات شأن عظيم على الأرض، فأجيبيني بما تشائين ". فقالت فبرونيا:  " أيها الحاكم لي في السماء خدراً لم تصنعه أيادي البشر، وعرساً لا يزول، ومهراً قوامه ملكوت السماء، وعريساً غير مائت ولا يزول ولا يتغير، ومعه سأتنعم إلى الأبد ". 
ولما سمع الحاكم قولها، احتدم غيظاً وأمر الجنود بتمزيق ثيابها، وبتوشيحها رقعاً بالية، وإيقافها على تلك الحال من الهوان والعراء أمام الجميع، فتعطي الويل لنفسها. وسرعان ما مزق الجنود ثيابها، وشدوا لها خرقاً بالية وأوقفوها عارية أمام الجميع. فقال لها سيلينس: " ترين من أي خيرات هويت، وإلى أي هوان انحدرت ". فأجابته فبرونيا قائلة: " لو عريتني تماماً من ثيابي، لما حسبت هذا هواناً. وأنا متهيئة لعذاب النار والسيف، إن كنت أهلاً لأتألم في سبيل ذاك الذي تألم من  أجلي ".
وهنا أمر سيلينس الجنود فمدوها على الأرض، وأضرموا النار تحتها. وتقدم أربعة جنود وجلدوا ظهرها بالقضبان، حتى تفجر الدم من ظهرها، وتساقطت قطراته على الأرض كالمطر. وكان الشعب يصرخ ويناشد الحاكم ليشفق على الصبية. وحينما رأى سيلينس أن جسدها تمزق، ولحمانها أخذت تتناثر على الأرض مع الدم، أوعز في الكف عن ضربها، فألقوها خارج النار ظانين أنها قد فارقت الحياة. وبعد أن رشوا وجهها بماء استفاقت، فأمر سيلينس بأن تقوم وتعطي الجواب، فقال لها: " ماذا تقولين يا فبرونيا، وكيف خضت النزال الأول ". فأجابته فبرونيا: " لقد علمت من الخبرة الأولى أني لا أُغلب، وأني أحتقر عذاباتك ". فأمر سيلينس الجنود ليعلقوها على خشبة، ويجردوا جنبيها بأمشاط حديدية، ويضرموا النار فيها، حتى تحرق عظامها أيضاً. أما فبرونيا فكانت عيناها شاخصتان إلى السماء وهي تقول: " هلم يا رب إلى معونتي، ولا تتخل عني في هذه الساعة ". ثم احضروا طبيباً فأمره سيلينس بقطع لسانها، واقتلاع أسنانها، وقطع ثدييها. ففعل الطبيب كما أمره. أما فبرونيا فرفعت صوتها إلى السماء وصرخت بألم عظيم وقالت: " أيها الرب إلهي، أنظر إلى ما أنا فيه من الشدة والظلم، واقبل نفسي ". ثم غاصت في نزاع طويل. فأمر سيلينس بقطع رأسها، فأخذ الجلاد سيفاً وأمسك بشعر فبرونيا ونحرها كما تنحر الشاة. فأسلمت روحها الطاهرة لعريسها السماوي.
 وكان الكثير من الحضور مستائين من قسوة ما شاهدوا. وما أن علمت الرئيسة برونة بخبر استشهادها وهي عاكفت على الصلاة والتضرع قالت: " يا رب أنظر إلى تواضع أمتك فبرونيا، وهلم إلى مساعدتها، لكي ترى عيناي أن فبرونيا تكللت وأحصيت مع الشهداء الطوباويين ".
وإذ قام الحكام وذهبوا لتناول الغذاء في دار الولاية، كان لوسيماكس يسير وعيناه مغرورقتان بالدموع، فأمر الجند في حراسة جسد فبرونيا، ولم يستطع تناول الطعام، بل انزوى في غرفة واستسلم إلى الحزن. أم عمه سيلينس فأخذ يتمشى في فناء دار الولاية، وبينما يتمشى نظر إلى السماء وظل وقتاً منذهلاً، ثم صرخ كالثور ووثب وضرب رأسه بأحد العواميد فسقط ميتاً. فعلا الضجيج وسادت الفوضى دار الولاية، فهز لوسيماكس رأسه وقال: " ما أعظم إله المسيحيين، فقد انتقم الله لدم فبرونيا الذي سفك ظلماً من قبل عمي الظالم سيلينس ". ثم أمر القائد فريمس ليحمل الجنود إلى الدير جسد فبرونيا وجميع أعضائها المبتورة، وحتى التراب الذي فوقه سفك دمها. ففعل فريمس كما أمره لوسيماكس، ولف جثمانها الطاهر بردائه. وبجهد جهيد وصل الجند إلى الدير وهم حاملين جثمان الشهيدة، لأن الجموع المزدحمة كانت تتراكض وتحاول اختطاف شيء من أعضائها للتبرك.
ولما رأت الرئيسة برونة جسد فبرونيا على تلك الحال، انهارت على الأرض وأغمي عليها مدة طويلة. ثم أقبلت راهبات الدير اللواتي هربن، وارتمين جميعاً على جسدها المقدس وهن باكيات. أما الشريفة اياريا فكانت جاثية أمام جسد الشهيدة وهي تقول: " إني أجثو أمام هاتين الرجلين المقدستين اللتين داستا رأس التنين، وأقبّل جراح الجسد المقدس التي بها شفيت جروح نفسي، وأضفر إكليل الثناء واضعه على الرأس الذي شرف جنسنا بمحاسن النصر ".
وفي المساء غسلن الأخوات جسد الشهيدة، ورتبن كلاً من أعضائها في موضعه. ثم أمرت برونة بفتح باب الدير أمام الشعب، فدخلت الجموع وأخذت تمجد الله، وكانت النساء يبكين لحرمانهن من معلمتهن. ووصل بعض من الآباء القديسين وكثير من الرهبان، وأمضوا الليل كله ساهرين في الصلاة.
أما لوسيماكس فدعا فريمس وقال له: " يا سيدي فريمس إني أكفر بجميع عادات آبائي وبإرثهم وأموالهم، وأنظم إلى المسيح ". فقال فريمس: " وأنا أيضاً ألعن ديوقلتيانس ومملكته، وأكفر بإرث آبائي وانظم إلى المسيح ". وتركا دار الولاية وجاءا إلى الدير مع الجموع.
وعند الصباح وضع جثمان الشهيدة في صندوق، ضامين كلاً من الأعضاء إلى مكانه، أما الأسنان فوضعوها على صدرها، وملئوا الصندوق بالطيب والمسك والبخور الفاخرة. ثم قام أسقف المدينة ومعه الرهبان والاكليروس بالصلاة على جثمان الشهيدة، وبعد الانتهاء من الصلاة وضع الصندوق في مكان لائق من الدير. وكانت الشريفة اياريا قد تركت أهلها وتخلت عن العالم، وانزوت في الدير وأوقفت جميع أموالها للدير، ووشحت صندوق الشهيدة فبرونيا بما تملكه من الذهب والجواهر.
وآمن بالمسيح جمع غفير من الوثنيين واعتمدوا، واعتمد أيضاً القائدان لوسيماكس وفريمس وتخليا عن العالم وترهبا وامضيا حياتهما في ما يرضي المسيح.
الخاتمة: بعد استشهاد فبرونيا شيد مطران نصيبين كنيسة جميلة، وأنجزها في ست سنين. ولما أتمها دعا الأساقفة المجاورين وأقام عيداً كبيراً واحتفالاً فخماً في الخامس والعشرين من حزيران. فاجتمع جمهور غفير من الناس حتى ضاقت بهم الكنيسة والدير، وبعد أن أنهوا صلاة الفجر جاء موكب المطران والأساقفة والكهنة والشمامسة وجمهور غفير من المؤمنين إلى الدير. وخاطب مطران نصيبين الرئيسة برونة قائلاً: " إننا لعاجزون عن وصف الأمجاد اللائقة بالشهيدة فبرونيا، لأن اللسان قاصر عن وصفها. إلا أننا قصدناك كأخت لنا، ملتمسين منك أن تكرمي معنا الشهيدة المظفرة، فتعطيها لنا لكي تسكن في الكنيسة التي شيدت لأسمها ". ولما سمعت الراهبات هذا الكلام، ارتمين كلهن على أرجل الأساقفة وطلبن منهم أن لا يحرمن من هذه الجوهرة. أما برونة فطلبت من الأساقفة أن يأخذوا هذه الجوهرة إن حسن الأمر لديهم ولدى الطوباوية.
وبعد أن ختمت الصلاة دنو من الصندوق ليأخذوه، وإذا برعد يهز الفضاء ويلقي الهلع في قلوب الشعب كله، وحينما مدوا أيديهم لحمل الصندوق حدث زلزال كبير، حتى ظن الجميع أن المدينة قد دمرت. فعرف المطران أن الشهيدة غير راضية بترك الدير، فسأل برونة أن تعطيه أحد الأعضاء المبتورة، حتى يضعها في الكنيسة المشادة على اسمها كبركة. ففتحت برونة الصندوق، فكان الجسد يتلألأ كأشعة الشمس تنبعث منه مثل بروق نارية. فمدت برونة يدها بخوف ولمست يد فبرونيا لإعطائها للمطران، وإذا بيدها تشل وتصبح مثل مائتة. فبكت برونة وسألت الشهيدة أن لا تخزيها في شيخوختها. فعادت يد برونة صحيحة كالسابق. ثم مدت يدها ثانية طالبت من الشهيدة أن تعطيها بركة، وأخذت أحدى أسنانها الموضوعة على صدرها، وأعطتها للمطران وأغلقت الصندوق.
وما أن تلقى المطران هذه الدرة المقدسة في إناء من ذهب، عاد الموكب إلى الكنيسة باحتفال كبير، ووضعت هذه الذخيرة في موضعها. وقد نال الشفاء جميع العمي والعرج والممسوسين. وكان الشعب يجلب المرضى من كل مكان فينالون الشفاء من كل علة فيهم. وقد انتشرت عبادة تلك العذراء الشهيدة في كل مكان، ونال بشفاعتها الكثيرون جزيل النعم والبركات. وبقي جسد الشهيدة فبرونيا في دير مارت نارسوي إلى يومنا هذا، وقد تحول هذا الدير بعد الفتح الإسلامي إلى جامع زين العابدين، الذي لا زال قائماً إلى يومنا هذا. وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهيدة فبرونيا النصيبينية يوم الجمعة الرابعة من سابوع الرسل. ويحتفل أيضاً بتذكارها يوم الخامس والعشرين من حزيران وهو اليوم الذي فيه تم تدشين الكنيسة التي شيدت في نصيبين على اسمها.       
 
 

125
" ولهذا السبب أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأمم. فإنكم قد سمعتم تدبير نعمة الله المعطاة لي من أجلكم. أني بوحي أعلمت السر كما كتبت قبلاً بالإيجاز. فتستطيعون إذا قرأتم أن تفهوا خبرتي في سر المسيح." أفسس 3: 1 _ 3
مار انطوان اودو مطران أبرشية حلب والجزيرة العليا الكلدانية
كاهن وأبناء رعية مار يعقوب النصيبيني الكلدانية بالقامشلي
يدعونكم لحضور القداس والجناز اللذان سيقامان عن راحة نفس المثلث الرحمة المطران الشهيد مار بولس فرج رحو رئيس أساقفة الموصل على الكلدان
وذلك في تمام الساعة الخامسة عصراً من يوم الأحد الواقع في 16 آذار 2008 في كنيسة مار يعقوب النصيبيني القامشلي.
الدعوة عامة. تقبل التعازي في صالون الرعية بعد القداس.

126
من الجاثليق شمعون برصباعي وحتى المطران بولس رحو تستمر قوافل شهداء كنيسة المشرق المقدسة
الشماس: نوري إيشوع مندو
من خلال متابعة الأحداث على أرض العراق منذ الغزو الأمريكي سنة 2003 يبدو أن هناك حملة مبرمجة ضد الحضور المسيحي في بلاد ما بين النهرين. وقد تجلت هذه الحملة الشرسة التي يقودها زمر الجهل والغباوة من خلال تفجير الكنائس والأديار، وإكراه الناس على اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو ترك البيوت والمحلات بما تحتويه قسراً، ومغادرة البلاد إلى مصير مجهول. ناهيك عن خطف الأطفال والشبان والشيوخ والطلب من ذويهم دفع فدية باهظة مقابل إطلاق سراحهم، وإلا وجدوا جثثهم مرمية على قارعة الطريق وآثار العذاب ظاهرة عليها.
كل هذا يجري بحق مسيحيي العراق والعالم يقف متفرجاً على هذا المشهد الذي يندى له الجبين، وكأن من يُقتل في فلسطين دمه أثمن من دم مسيحيي العراق المسالمين. فمع كل خبر عن مقتل فلسطيني نسمع أصوات العرب والمسلمين تعلو من هنا وهناك تستنكر وتدعو للثأر. لكننا للأسف لا نسمع صوتهم عندما تشن حملة إبادة ضد مسيحيي العراق، حتى من الدول الغربية التي يُتهم بسببهم مسيحيو الشرق بأنهم صليبيون. وهذا يعني أنهم محسوبون عليهم لمجرد أنهم مسيحيون. علماً أن هذا التصور لا وجود له في قاموس الدول الغربية. والدليل على ذلك ما نراه من قرارات قبول اللاجئين في الدول الغربية حيث يقبل طالب الإقامة المسلم ويرفض طلب المسيحي. وعليه اكتظت دول الغرب بالجاليات الإسلامية، وأضحوا مواطنين يملكون كل الحقوق.
بينما مسيحيو بلاد ما بين النهرين، سكانها الحقيقيون وبناة حضارتها منذ البدايات وحتى اليوم، لا يملكون حق العيش الكريم على أرض آبائهم وأجدادهم وأصبحوا غرباء عنها، وأضحوا علة على دعاة الدولة الإسلامية في العراق، ووجب تصفيتهم لتبقى أرض الإسلام طاهرة نقية خالية من الأدناس.
لقد حول هؤلاء الأشرار أرض العراق الطاهرة، مهد الحضارات، إلى غابة مملوءة بالوحوش المفترسة، وأضحوا بجدارة، بديلاً لتلك الوحوش الحيوانية، وفاقوهم وحشيةً من خلال ما ارتكبوه من جرائم شنيعة ضد الأبرياء والعزل، مستعملين أبشع الأساليب في التعذيب والقتل.
وتعود بنا الذاكرة إلى بدايات القرن الماضي حيث أبادت السلطنة العثمانية وأعوانها أغلب سكانها المسيحيين، وأجبر المفلتون من سيف الظلم والجور إلى ترك كل ما يملكون، ومغادرة البلاد إلى حيث لا يدرون. كل هذا جرى أمام دول الغرب الذين لم يحركوا ساكناً، بل وقفوا متفرجين مستمتعين بهذا المشهد المشين.
واليوم ينضم إلى موكب الشهداء الحبر النبيل مار بولس فرج رحو رئيس أساقفة الموصل على الكلدان، بعد أن ذاق مرارة الأسر والعذاب فترة أسبوعين على أيدي طغمة الحقد الأعمى. نعم قاسى أشد المرارة، وقاوم بعنفوان وبطولة دعوة القتلى لاعتناق الإسلام حفاظاً على حياته. لكنه خيب آمالهم وصمد ببطولة وشجاعة، وحمل الصليب على منكبية مقتدياً بمعلمه يسوع الذي خلص العالم بصليبه المقدس. كيف لا وقد خطف بعد خروجه من الكنيسة مؤدياً رتبة درب الصليب مع أبنائه المعذبين، وهو يتأمل بآلام معلمه، ومتمعناً بما قاساه من عذابات وإهانات مشينة من قبل عديمي الإيمان والضمير.
أجل لقد اقتدى حبرنا الشهيد بمعلمه السماوي، وانضم إلى قوافل شهداء كنيسة المشرق، التي استحقت أن تدعى بكل فخر كنيسة الشهداء. ولا بد أنه في فترة أسره تذكر أنه ينتمي إلى هذه الكنيسة، وأنه مستعداً ليلحق بقافلة الشهداء بدءاً بالجاثليق شمعون برصباعي والشهيدة مسكنتا والشهيدة فبرونيا النصيبينية ومار قرداغ ومار بثيون والأنبا جبرائيل دنبو والمطران أدي شير والمطران يعقوب أوراهام ومار توما أودو وغيرهم كثيرين، وأخيراً ابنه الروحي الأب الشهيد رغيد كني.
وسوف تبقى صدى كلماته حية في قلوبنا ونفوسنا، في يوم افتتاح كنيسة مار بولس بمدينة الموصل قبل عدة أسابيع، بعد أن رممت إثر تعرضها لانفجار غاشم من قبل الإرهابيين التكفيريين. مشدداً على تعاليم المخلص، داعياً للسلام والمصالحة، نابذاُ القتل والانتقام. طالباً من أبنائه الصفح عن المسيئين اقتداءً بمن غفر للذين صلبوه، داعياً للصلاة من أجل الذين يضطهدونهم، مشدداً على العيش في أرض الآباء والأجداد رغم كل الصعوبات. ودعاهم ليكونوا نوراً في ظلمة هذه المحنة العاتية، مؤكداً على نداء يسوع لتلاميذه: " وتكونوا لي شهوداً ". مذكراً أن لا خوف من الذين يقتلوا الجسد، ولا يستطيعوا أن يقتلوا الروح. لأن الذي يقتلكم يعتقد أنه يؤدي عبادة لله، لا تخافوا وثقوا بأنني غلبة العالم.   
لقد خاب ظن المجرمين عبر العصور، لأنهم فكروا بأن قتلهم لهؤلاء الأبرياء سوف يقتلع مسيحيي المشرق من جذورهم، متناسين أن دماء الشهداء هي بذور صالحة لثبات إيماننا بمن خلصنا بدمه الثمين. وأن هذه البذور سوف تنبت لنا ثمار يانعة مملؤة بالإيمان والرجاء والمحبة. وأن دماء الشهداء سوف تزيدنا إصراراً على البقاء في هذه الأرض التي ارتوت بدماء شهدائنا الثمينة. ولنا الثقة بأننا سوف نغلب الشر بالخير، كما غلب معلمنا يسوع العالم بصليبه المقدس.
اليوم تفرح السماء وتتهلل باستقبال هذا الحبر الجليل، الذي أرهق دمه جزاء إيمانه بيسوع المخلص. وكنيسته الكلدانية المقدسة تفتخر بأنها لا زالت كنيسة الشهداء، وستبقى كذلك إلى منتهى الدهر.   
تحية إجلال وإكبار إلى روح مطراننا الشهيد مار بولس فرج رحو، الذي حمل صليبه بثقة وثبات، وكنيسته تستعد للاحتفال بأسبوع آلام فادينا ومخلصنا يسوع. طالبين من روحه الطاهرة التي تتنعم بالمجد السماوي أن تتشفع لنا عند القائم من بين الأموات، لتقوم هذه الكنيسة الشهيدة والمتألمة والمعذبة معه في يوم قيامته المجيدة، وتبقى شاهدة للمسيح أمين. المسيح قام حقاً قام هللويا.     

127
                                        مار ميخائيل رفيق الملائكة
                                                                                          الشماس: نوري إيشوع مندو
ولد في قرية سوسنة من كورة آمد " ديار بكر " من والدين مسيحيين شريفي النسب أغنياء جداً. وكانت والدته قد رأت في الحلم ملاكاً يقول لها: " أنا هو ميخائيل الملاك القائم أمام الرب. أبشرك بابن ستلدينه ويكون عظيماً على الأرض. ويكون كالسراج لكل العالم. فتسميه أنت باسمي ". ولذتك دعي رفيق الملائكة. ومنذ نعومة أظفاره أنصرف إلى العلم وعقله مائلاً إلى أمور السماء والعبادة. وما أن بلغ الثلاثين من عمره فكر أن ينضم إلى مار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية في المشرق، فترك أهله وانطلق إلى جبل إيزلا. وعندما التقى بمار أوجين طلب منه أن يقبله تلميذاً عنده ويلبسه الإسكيم الرهباني. فقبله بفرح بسبب دعته وتواضعه، وجعله في عدد تلاميذه. فشرع ميخائيل يعذب نفسه بالصوم والصلاة والسهر الطويل مواظباً على الحياة الروحية.
وكان يتوق للعمل على عودة الضالين إلى حظيرة الرب. فاستأذن معلمه وذهب إلى قريته كي يهدي أهلها إلى الإيمان. وكانت المطر قد انقطع تلك السنة فيبست الينابيع، ولم يكن لهم ماء يشربوا هم وبهائهم. ولما شاهدهم على تلك الحالة جثا على ركبتيه وصلى وطلب من الرب أن يمنحهم من كنزه ليشربوا ويرووا ويمجدوا اسمه القدوس. وما أن أنهى صلاته حتى أرعدت السماء وهطلت الأمطار. فآمن أهل القرية وعمدهم جميعاً وبنى لهم كنيسة.
ثم مضى إلى قرية أخرى كان جميع سكانها من المجوس. وكان حاكم القرية جالساً في بلاطه وقد دخله روحاً شريرة. وكانت هذه الروح تعذبه عذاباً مراً. وكان المجوس عالمين بالآيات التي يعملها المسيحيين. فطلبوا من حطاباً مسيحياً يدعى غوشنازاد وتعني بالفارسية " المِقدام والمُجد " أن يأتي ويصلي على الحاكم. وفي الطريق لاقاه مار ميخائيل فقال له: " تشجع ولا تخف لأن الرب في هذا اليوم يصنع على يدك آية عظيمة ". ثم أعطاه حناناً  مقدساً وأمره أن يرسم به على الحاكم علامة الصليب. ولما دخل على الحاكم رآه يرتفع من الأرض ويسقط ويصرخ ويزبد. حينئذٍ تراءى له مار ميخائيل واقفاً بجانبه، وإذ أبصره الشيطان صرخ قائلاً: " ما لي ولك يا ابن الله، أين أهرب منك ومن قديسيك، لماذا تعذبنا ". فطلب مار ميخائيل من غوشنازاد أن يرسم علامة الصليب على وجه الحاكم، وما أن رسمها حتى خرجت الروح الشريرة من الحاكم واضمحلت وصارت كالدخان. فآمن الحاكم وكل أهل بيته وانضم إلى مار ميخائيل وسلك في أثره.
وكان مار ميخائيل مثل مرآة جليلة بين القديسين، ومثل الشمس بين الكواكب. وكان مواظباً على الصوم ووجهه متجللاً بالبهاء مثل موسى بكر الأنبياء، ومحبوباً عند خالقه ومكرماً بين القديسين. وقد سكن سنين طويلة في القفر الخالي من الناس، معاشراً الأسود والنمور أنيساً مع الوحوش والبهائم، وهي تجثو أمامه مستأنساً بهم كمثل الأهل والأقارب. وكان طعامه البقول والحشائش مثل يوحنا المعمدان، ومواظباً على الصلاة والزهد مثل إيليا. وكانت تجري على يديه عجائب كثيرة.
وذات يوم وسوس الشيطان ثلاثة لصوص فظنوا أن لدى مار ميخائيل الكثير من المال. فذهبوا إلى المغارة التي كان يعيش فيها متظاهرين بالورع. لكن القديس عرف بمكرهم فتركهم في المغارة وخرج. وما أن خرج حتى أتى عند باب المغارة ثلاثة أسود ضارية تزار وتزمجر، فسقط اللصوص على الأرض من شدة فزعهم، ولم يستطيعوا الهرب. وبقوا على هذه الحال مدة ستة أيام دون طعام ولا شراب. أخيراً صرخوا: يا مار ميخائيل أخطأنا قدام الله وقدماك، هلم لمعونتنا وارحمنا. فرجع مار ميخائيل إلى مغارته ولما رأته الأسود خرت وسجدت أمامه. وعندما عاينوا ذلك ركعوا أمامه واعترفوا بذنبهم. فعمدهم مار ميخائيل وألبسهم الإسكيم الرهباني. فأخذوا يفلحون في كرم الرب ويرشدون الناس إلى طريق الحياة الأبدية.
وبعد أن قضى في البرية أربعين سنة انطلق إلى جبل قردو، فقصده جمع كبير يأتون بمرضاهم فيضع يده عليهم ويشفيهم. وذات يوم جاءوا بعشرة مجانين من أرض داسان، وقبل أن يصلوا عنده صرخت الشياطين: " ما لنا ولك يا مار ميخائيل عبد الله العلي، أتيت لتطردنا وتخرجنا من مسكننا ". وما أن سمع مار ميخائيل حتى ركع وصلى قائلاً: " اللهم خالق السماء والأرض والبحور وكل ما فيها، أشفق على هؤلاء البشر الذين هم على صورتك لئلا يكونوا مسكناً للشياطين ". وما أن أنهى صلاته حتى زجر الشياطين وأخرجهم. ولما عاين الحضور هذه الآية سبحوا الله.
وعندما شاخ وضعفت قوته أحب أن يصنع له بيتاً ليكون تذكاراً له وللشعب في حياته وموته. وكانت أرض التيمن قبل أن تبنى مدينة الموصل قد كثر فيها المسيحيين، ولهم فيها الكثير من الكنائس والمدارس. وكانوا قد عرضوا على مار ميخائيل أن يستقر عندهم. فلبى طلبهم وأمر أن يبنوا ديراً على نهر دجلة يكون في مكان منعزل وبعيد عن القرى. فاجتمع ألوف النصارى من شيوخ وشبان وصبيان وصبايا وبنوا الدير على اسم مار ميخائيل لكي يستعين بصلاته الملاحون وركاب السفن والصيادون والسالكون في البحار والأنهار واليابسة. وبعد أن انتهوا من البناء جمع مار ميخائيل تلاميذه ومضى إلى الدير. ثم وزع المهام على الرهبان فجعل منهم رؤساء ومدبرين وقارئين وشمامسة ومدرسين وبوابين وطباخين وخزان.
وبعد أن أقام في الدير نحو اثنتي عشرة سنة قرب زمن انتقاله من هذا العالم، فدعا الرهبان وأمرهم أن يكملوا نذورهم في الفقر والصبر والطاعة والعفة والصلاة. ثم باركهم كما بارك يعقوب الأسباط الاثني عشر. وما أن انتهى من صلاته رأى الرهبان ملاكين يهللان ويمجدان الرب بتراتيل روحية، فخرجت نفسه من جسده بفرح وسرور. وهكذا توفي بشيخوخة صالحة. فقام الرهبان والمؤمنين بدفنه بإكرام في قبر داخل الدير.
تحتفل كنيسة المشرق الكلدانية الآشورية بتذكاره في الأحد السادس من سابوع الصوم.

128

الأصوام في كنيسة المشرق
الشماس: نوري إيشوع مندو

من خلال مطالعتنا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، نجد أن الصوم كان جارياً في جميع مراحل مسيرة البشر الخلاصية عبر الأجيال. ونشتفي من تعاليم الكتاب المقدس بأن الصوم عمل مرضٍ لله ومدعاة لخيرات عظيمة لبني البشر. فالصوم ممارسة تقوية، الغاية منها التوبة ونيل الغفران من الله. فهي دعوة للمؤمن للرجوع عن الخطايا والآثام، لكي ينتقل من الشر إلى النعمة، ومن الموت إلى وفرة الحياة. ويعتبر الصوم السلاح الذي يقاوم به المؤمن أعداء العالم والجسد والشيطان. فزمن الصوم هو فرصة للعودة إلى ألذات وإلى الآخر، أي إلى الله والإنسان.
وسنتوقف في هذه العجالة عند ثلاث محطات هامة، نتحدث من خلالها عن الصوم منذ البدء وحتى يومنا هذا.
1_ الصوم في العهد القديم: من خلال مراجعتنا أسفار العهد القديم نستطيع التوقف عند محطات هامة تحدثنا عن الصوم في هذه المرحلة من تاريخ شعب الله. فقد صام النبي موسى  في طور سيناء  " وأقام هناك عند الرب أربعين يوماً وأربعين ليلة، لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماءً فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر ". ( خروج 34:    28 ).
وصام بنو إسرائيل في المصفاة  من دان  إلى بئر سبع  وأرض جلعاد  " فصعد بنو إسرائيل الشعب كله وأتوا بيت إيل وبكوا وأقاموا هناك أمام الرب وصاموا ذلك اليوم إلى المساء وأصعدوا محرقات وذبائح سلامةٍ للرب ". ( قضاة 20: 26 ).
وصام أهل يابيش جلعاد  على مقتل شاؤل  وابنه يوناثان  وعلى شعب الرب وعلى آل إسرائيل لأنهم سقطوا في الحرب " وأخذوا عظامهم ودفنوها تحت الأثلة التي في يابيش وصاموا سبعة أيام ". ( الملوك الأول 31:13 ).
وأمرت إيزابيل زوجة آحاب  ملك السامرة  الشيوخ والأشراف للصوم " فنادوا بصومٍ وأجلسوا نابوت  في صدر القوم . . . وأرسلوا إلى إيزابل يقولون قد رجم ومات ". ( الملوك الثالث 21: 12_ 14). ولما علم آحاب أنه فعل شراً في عيني الرب لأن إيزابيل امرأته قد أغوته " مزق ثيابه وجعل على بدنه مسحاً وصام وبات في المسح ومشى ناكساً ". ( الملوك الثالث 21: 27 ).
وصام إيليا النبي  بعد أن دعاه الملاك للذهاب إلى طور حوريب  لملاقاة الرب " فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين يوماً وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب ". ( الملوك الثالث 19: 8 ).
وفي زمن إرميا النبي  نودي بصوم " وكان في السنة الخامسة ليوياقيم بن يوشيا  ملك يهوذا في الشهر التاسع قد نودي بصوم أمام الرب لشعب أورشليم وكل الشعب الآتين من مدن يهوذا إلى  أورشليم ". ( إرميا 36: 9 ).
وجاء في نبوة باروك  عندما أخذ الكلدانيون أورشليم وأحرقوها بالنار، تلا باروك الكتاب على مسامع جميع الشعب الساكنين في بابل على نهر سُودٍ " فبكوا وصاموا وصلوا أمام الرب ". ( باروك 1: 5 ). ويتحدث النبي دانيال  عن صومه بالقول " فجعلت وجهي إلى السيد الإله لممارسة الصلاة والتضرعات بالصوم والمسح والرماد ". ( دانيال 9: 3 ).
ويتحدث النبي نحميا  عن صومه عندما علم أن من بقي في أورشليم بعد الجلاء يعيشون بضيق شديد " فلما سمعت هذا الكلام مكثت أبكي وأنوح أياماً وصمت وصليت أمام إله السماوات ". ( نحميا 1: 4).
أما يهوديت  فقد روي عن صومها " وكان على حقويها مسح وكانت تصوم جميع أيام حياتها ما خلا السبوت ورؤوس الشهور وأعياد آل  إسرائيل ". ( يهوديت 8: 6 ).
أما النبي زكريا  فينقل إلى الشعب دعوة الرب للصوم " هكذا قال رب الجنود إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر سيكون لآل يهوذا سروراً وفرحاً وأعياداً طيبة ". ( زكريا 8: 18 ).
ودعا عزرا الكاهن  اليهود المسبيين للصوم " فناديت بصوم هناك عند نهر أهوى لنتذلل أمام إلهنا مبتغين منه طريقاً مستقيماً لنا ولصغارنا ولجميع أموالنا . . . فصمنا ودعونا إلى إلهنا لأجل ذلك فأستجبانا ".       ( عزرا 8: 21- 23 ).
أما النبي يوئيل  فيبلغ شعب إسرائيل دعوة الرب لهم للصوم "  قدسوا الصوم نادوا باحتفال اجمعوا الشيوخ وجميع سكان الأرض إلى بيت الرب ". ( يوئيل 1: 14 ). ويؤكد عليهم النبي يوئيل ذلك بالقول "  فالآن يقول الرب توبوا إليَّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والانتحاب . . . فالرب رأوف رحيم طويل الأناة وكثير الرحمة ونادم على الشر ". ( يوئيل 2: 12_ 13 ).
ونجد في سفر يونان النبي  كيف قبل الرب توبة أهل نينوى من خلال الصوم " وآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم ". ( يونان 3: 5 ).
وأمر يهوذا  الشعب للصوم عندما بلغه أن أنطيوكس  قادم إلى اليهودية بجيش كثيف " ففعلوا كلهم وتضرعوا إلى الرب الرحيم بالبكاء والصوم والسجود مدة ثلاثة أيام بلا انقطاع ". ( مكابيين ثاني13: 12 ).
وخاطب الملاك رافائيل  البار طوبيا  قائلاً: " صالحة الصلاة مع الصوم والصدقة خير من ادخار كنوز الذهب ". ( طوبيا 12: 8 ).
وكان النبي داود  مثابراً على الصوم، وذلك واضح من خلال مزاميره " وأنا عند مرضهم كان لباسي مسحاً وكنت أعني نفسي بالصوم وكانت صلاتي ترجع إلى حضني ". ( مزمور 34_ 13 ). وأيضاً " وأبكيت بالصوم نفسي فصار ذلك عاراً عليَّ ". ( مزمور 68_ 11 ). وأيضاً " ونت ركبتاي من الصوم وهزل جسدي عن السمن ". ( مزمور 108_ 24 ).
هذه البينات التي استقيناها من العهد القديم، تؤكد لنا بشكل قاطع أن الصوم الذي مارسه شعب الله عبر تاريخه القديم، قد جنبه غضب الله وغضب الشعوب.
2_ الصوم في العهد الجديد: من خلال مرجعتنا العهد الجديد نتوقف عند محطات هامة تحدثنا عن الصوم في هذه المرحلة من تاريخ شعب الله. فإنجيل لوقا يحدثنا عن صوم حنة النبية  " وكانت حنة النبية ابنة فنوئيل من سبط أشير قد تقدمت في الأيام . . . ولها أرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل متعبدة بالأصوام والصلوات ليلاً نهار ". ( لوقا 2: 36_ 37 ).
ويحدثنا إنجيل متى عن صوم الرب يسوع " حينئذ أخرج يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس. فصام أربعين يوماً وأربعين ليلةً وأخيراً جاع ". ( متى 4: 1_ 2 ).
ويحدثنا إنجيل لوقا عن سؤال الفريسيين  ليسوع عن سبب صوم تلاميذ يوحنا المعمدان  وعدم صوم تلاميذه " لماذا تلاميذ يوحنا يصومون كثيراً ويواظبون على الصلاة . . . وتلاميذك يأكلون ويشربون. فقال لهم يسوع: ستأتي أيام يرتفع فيها العروس عنهم وحينئذ يصومون في تلك الأيام ". ( لوقا 5: 33 _ 35 ). ويحدثنا إنجيل لوقا عن الفريسي الذي كان واقفاً في الهيكل يصلي " أللهم أشكرك . . . فإني أصوم في الأسبوع مرتين وأعشر كل ما هو لي ". ( لوقا 18: 11 _ 12 ).
ويعلمنا المخلص يسوع كيفية الصوم لنيل الأجر العظيم فيقول: " وإذا صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرآءين فإنهم ينكرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين. ألحق أقول لكم إنهم قد أخذوا أجرهم. أما أنت فإذا صمت فاذهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفية وأبوك الذي ينظر في الخفية هو يجازيك ". ( متى 6: 16_ 18 ). ويعلمنا يسوع أيضاً أن الصوم المقرون بالصلاة يمنحنا قوة عظيمة على طرد الشيطان والأرواح الشريرة فيقول: " وهذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة ". ( متى 17_ 20 ).
ويحدثنا سفر أعمال الرسل عن الرسل القديسين " بينما هم يخدمون للرب ويصومون ". ( أعمال الرسل 13: 2 ). وقد استعد الرسل للتبشير بالإنجيل بالصوم " . .  قال لهم الروح القدس افرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما ".
ويحدثنا الرسول بولس  عن أصوامه قائلاً: " وفي التعب والكد والأسهار الكثيرة والجوع والعطش والأصوام الكثيرة والبرد والعري ". ( كورنتس الثانية 11: 27 ).
وإذا ما طالعنا سير الرهبان منذ زمن إنشاء الحياة الرهبانية، نجد كيف كانوا يكثرون من الصوم والصلاة، لكي يرتقوا إلى كمال الحياة المسيحية. وهكذا حذا حذوهم آباء الكنيسة القديسين الذين استعملوا سلاح الصوم والصلاة للتغلب على المصاعب التي كانت تواجههم في رسالتهم التبشيرية.
3_ الأصوام في كنيسة المشرق الكلدانية: من المعلوم أن فريضة الصوم كانت جارية في جميع الكنائس المسيحية منذ الأجيال الأولى، إلا أن طقوس الصيام وأزمنته كانت تختلف بين الكنائس المتعددة المنتشرة في المعمورة.
وقد اهتمت كنيسة المشرق منذ بداية قبولها البشارة بهذه الفريضة المقدسة، وهذا واضح من خلال الطقوس التي وضعها آبائها القديسين، وتركوها لنا أرثاً ثميناًُ نجد فيه تلك النفائس التي أنتجتها قريحتهم المشرقية، وقد بذلوا قصارى جهدهم في إثارة أفعال التوبة وتجديد روح الإيمان وإنشاء أسس الرجاء في نفوس مؤمنيها. وسوف نستعرض الأصوام التي كانت متبعة في هذه الكنيسة، وحسب موقعها في الدورة الطقسية:
ا_ صوم الميلاد: كان صوم الميلاد في كنيسة المشرق الكلدانية يستمر خمسة وعشرين يوماً قبل حلول العيد. وفي العصور المتأخرة قلص الصوم إلى تسعة أيام. وحالياً تفرض الكنيسة الصوم ليوم واحد. وجاء في قرارات المؤتمر البطريركي العام للكنيسة الكلدانية سنة 1998 حول صوم الميلاد " يجب على المؤمنين الانقطاع عن أكل اللحم ليلة الميلاد أي يوم 24 كانون الأول، وإذا صادف هذا اليوم يوم أحد، فيعوض باليوم السابق. ولا يجوز الاحتفال بالزواج عشية الميلاد ". أما المؤمنين حتى يومنا هذا فمنهم لا يزال يصوم 25 يوماً، ومنهم 9 أيام، ومنهم يوماً واحداً. وتتضمن صلوات الفرض في هذه الفترة طابع الفرح والانشراح استعداداً لاستقبال عيد ميلاد المخلص. 
ب_ صوم باعوثة  مار زيعا ( مار زيا ): يبدأ هذا الصوم يوم الاثنين الذي يلي الأحد الثاني من الميلاد، ويستمر هذا الصوم مدة ثلاثة أيام. وقد وضع هذا الصوم إكراماً للقديس زيعا وذكرى للباعوثة التي أقامها ثلاثة أيام بالصوم والصلاة، فنجا الشعب بصلواته من وباءٍ كان قد تفشى في شمال بلاد أثور ففتك بسكانها. وكان أبناء كنيسة المشرق يتوجهون في فترة هذا الصوم من جبال هكاري  وأذربيجان  وشمال العراق إلى القرية المعروفة باسم هذا القديس في مقاطعة جيلو ، ويختمون صومهم هناك باحتفالات شائقة يقيمونها لذكرى هذا القديس الجليل. وفي العصور المتأخرة ترك المشارقة الكلدان هذا الصوم، وبقي محصوراً عند المشارقة الآشوريين.
ث_ صوم باعوثة العذارى ( البتولات ): يبدأ هذا الصوم يوم الاثنين الأول الذي يلي عيد الدنح، ويستمر ثلاثة أيام. وقد اختلف المؤرخون في زمن ومكان ظهور هذا الصوم. فهناك من يقول أنه في الجيل السابع بلغ مسامع عبد الملك بن مروان  أن في الحيرة  فتيات جميلات، فأرسل إلى هناك من يختار له الجميلات من البالغات ويحضرهن إليه. وعندما سمع المسيحيون بهذا الخبر اجتمعوا في الكنيسة، وصاموا وصلوا مبتهلين إلى الله كي يزيل عنهم هذا الغضب، وفي اليوم الثالث بلغهم موت عبد الملك. ومنذ ذاك اليوم أخذ المؤمنين يصومون هذا الصوم كل سنة.
وهناك من يقول أن كسرى أبرويز  طلب من النعمان الثالث  ملك الحيرة أن يرسل له عشرين من بنات عمه ليزوجهن على أبنائه، وعندما وصل رسول كسرى عند النعمان وعرض عليه طلب سيده كسرى، فرفض النعمان هذا الطلب. ولما بلغ هذا الرفض مسامع كسرى غضب من النعمان وانتقم منه بعد زمان، إذ قيده وأرسله إلى خانقين. وهناك توفي بالطاعون وذلك سنة 613، فحزن العرب على النعمان وجاهروا ببغضهم للفرس.
وهناك من يقول أن ملك الحيرة قبل الإسلام اختار من نساء قبيلة العباديين  عدد منهن ليتخذهن زوجات له، وما أن سمعنا بهذا الخبر صمنا ثلاثة أيام متواصلة، وفي اليوم الثالث مات الملك ولم يمسهن. وهناك رأي يقول أن هذا الصوم كان موجود في كنيسة المشرق منذ الجيل الخامس. وفي العصور المتأخرة ترك المشارقة الكلدان هذا الصوم، وبقي محصوراُ عند المشارقة الآشوريين.   
د_ صوم باعوثة نينوى: يبدأ هذا الصوم يوم الاثنين الثالث السابق للصوم الكبير، أي قبل 20 يوماً من بدء الصوم الكبير، ويستمر ثلاثة أيام. ولهذا الصوم شأن عظيم عند المشارقة، وفيه تغص الكنائس بالمؤمنين الذين يتقاطرون إليها من كل حدب وصوب لإقامة الفرائض الدينية والرتب المختصة بهذه الأيام تكفيراً عما اقترفوه من الذنوب. وتستغرق تلك الصلوات معظم النهار وقسماًُ معتبراً من الليل. وفي يومنا هذا تدوم الصلاة من الصباح حتى الظهر وتنتهي بإقامة الذبيحة الإلهية، وتتكون هذه الصلاة من جلستي صلاة تتخللها تلاوة مزامير، وأبيات من الشعر الكنسي " عونياثا "، ومناداة " كارزوثا "، وميامر " أشعار "، مأخوذة من أشعار مار أفرام النصيبيني  ومار نرساي الملفان . وحتى يومنا هذا نجد الكثير يصومون هذا الصوم من مساء الأحد وحتى صباح الخميس، لا يتناولون ولا يشربون فيه شيء.
ومن الأسباب الداعية إلى تنظيم هذه الباعوثة، هي أحياء ذكرى توبة أجدادنا في نينوى على يد النبي يونان. ولهذا وضع أباؤنا اسم نينوى على هذه الباعوثة، لأنها نشأت لأول مرة في تلك البقاع. إلا أن كتبة كنيسة المشرق يرون في أصل الباعوثة عللاً أخرى منها قول الجاثليق يوحنا بن إيشوع  ( 900_ 905 ) أنه في سالف الزمان حدث في بلاد باجرمي  موت جارف حصد الكثير من الناس، وكان أسقف تلك البلاد هو مار سبريشوع. فجمع رعيته ودعاهم لإقامة الباعوثة فلبوا دعوته، فصام الجميع حتى الأطفال والأغنام ولبسوا جميعاً المسوح، فدفع الله عنهم ذلك الغضب. ولما علم الجاثليق حزقيال ( 570_ 581 ) بالأمر كتب إلى جميع المراكز التابعة لجاثليقية المشرق ليصوموا ويصلوا ثلاثة أيام، وحدد أن يبدأ هذا الصوم يوم الاثنين قبل بدء الصوم الكبير بعشرين يوماً، وأطلق عليها باعوثة نينوى تشبهاً بأهلها الذين أمنوا وتابوا فقبل الرب توبتهم وأبعد غضبه عنهم.
ونستطيع القول أن الباعوثة كانت موجودة قبل هذه الحادثة، لكنها لم تكن فرضاً. إلا أن المسيحيين كانوا يمارسونها كلما اشتدت عليهم أزمة أو فاجأتهم كارثة من الكوارث، وهذا ما تؤكده ميامر مار أفرام النصيبيني ونرساي الملفان.
ففي اليوم الأول ترتل كنيسة المشرق من ميامر مار أفرام النصيبيني: " هذا زمان التوبة هيا بنا نبتهل، نلقي هموم الدنيا العالقة بنا، ونشخص بأنظارنا إلى السماء، لنطلب الرحمة والحنان. هلموا بنا نتب عن خطايانا الجمة، وبالصوم نزرع زرعاً وافراً للحصاد، بالصلاة نفلح كرماً خمره الأفراح، ولتبنِ عقولنا بيوتاً تليق بالله. مضى ليل الخطيئة واتى نور النهار، علينا أن نسلك سلوكاً مستنيراً، حتى متى نغط في سبات الخطايا، لماذا لا نستيقظ ونغتسل بالتوبة. فالراعي قد خرج، يطلب الخروف الضال، ما بالنا لا نعود تائبين إليه، فهو يعود بنا إلى موطن الحياة. ".
وفي اليوم الثاني ترتل أيضاً من ميامر مار أفرام النصيبيني: " نادى يونان النبي في نينوى العظيمة، منذراً مهدداً بالدمار والهلاك، مدينة الأبطال ارتجت لصوته، مثل البحر اضطربت ومن الموت دنت. ظل ملك نينوى حزيناً مكتئباً، أمر جنوده بالصوم والصلاة، نادى فيهم اعملوا بالرفق والوداعة، فهذا خير سلاح لإحراز الانتصار. ابن نمرود الجبار  الباسل في القتال، يقاتل الخطايا بهمة عالية، ويصطاد السيئات من داخل شعبه، وينقي المدينة مما فيها من آثام. وصف الصوم لهم هذا الدواء الشافي، وطارد الخطيئة بالمسوح والرماد، وبالتوبة قضى على أصل الخطايا، والله منحهم جزيل غفرانه. نزعوا ثوب الحداد وارتدوا أزيائهم، بفرحة عارمة وبصوت الترانيم، سبحوه تعالى على وفر لطفه، وفيض غفرانه للخطاة التائبين. ".
وفي اليوم الثالث ترتل من ميامر مار نرساي الملفان: " من البدء بعفوك شملتنا، والصالحون نالوا أفضل ألطافك، ثوابهم غفرانك عما مضى، وغفرانك يستبق دعاءهم. حنانك بحر عظيم بلا حدود، لا علو ولا عمق يساويه، آياته ظاهرة في الخليقة، أتقنتها بقولك منذ القدم. لا يا ربي لا يستكبر الماردون، فقد زالت سلطتهم واندحروا، لا يسروا هزءاً بنا بقولهم، كيف صار المائتون لا مائتين. ".     
وحتى يومنا هذا لا يزال هذا الصوم يستمر ثلاثة أيام، يتم فيها الانقطاع عن الزفرين والصيام حتى الظهر في أيام الباعوثة الثلاثة. وقد أكدت قرارات المؤتمر البطريركي للكنيسة الكلدانية سنة 1998 على هذا الصوم  " يجب على المؤمنين الانقطاع عن الزفرين والصيام حتى الظهر في أيام الباعوثة الثلاثة. ولا يجوز الاحتفال بالزواج في أيم الباعوثة  ".             
ذ_ الصوم الكبير ( الصوم الأربعيني ): الأربعون من الأعداد التي لعبت أدواراً هامة عبر مسيرة شعب الله الخلاصية. فقد هطلت الأمطار في طوفان نوح  أربعين يوماً تباعاً. وتاه بني إسرائيل أربعين سنة في البرية بعد خروجهم من أرض العبودية. وصام موسى أربعين يوماً في طور سيناء قبل أن يستلم لوحي الشريعة. وصام إيليا أربعين يوماً قبل ملاقاة الرب في طور حوريب. وتاب أهل نينوى ولبسوا المسوح أربعين يوماً فصرف الرب غضبه عنهم. وحددت الشريعة الموسوية أربعين ضربة لمعاقبة المجرمين، وفرضت أيضاً على التائبين أن يقيموا أربعين يوماً في الهيكل. واعتزل ابن البشر أربعين يوماً في البرية وهناك جاء إبليس ليجربه بمكايده الذي وعده باللذة وحب المجد وعبادة المال. لكن يسوع انتصر عليه وقال له: اذهب يا شيطان فإنه قد كتب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. فهرب خاذلاً إذ لم يستطيع الإيقاع بيسوع، كما فعل في بدء الخليقة عندما اسقط أبوينا الأولين. وقد افتخر ملافنة كنيسة المشرق الكلدانية بهذا الانتصار الباهر. وقد ترنم مار أفرام النصيبيني بهذا الحدث الرائع بقوله: " هلم بنا إلى الأردن أيها الخداع الذي قتلنا في عدن، وانظر جسدنا المطهر من المعاصي بالمعمودية، وأصغِ مع الجموع إلى صوت الأب الذي يدعونا أبناء حبه. أغويتنا في عدن بأن نكون آلهة، وها قد تم لنا ذلك بالمسيح. سخرت بنا لما ألقي رئيس قبائلنا من الفردوس إلى منفاه، والآن ما عساك أن تفعله وقد صعد إلى السماء وارتكز في العلاء. خيل إليك أنه أصبح أكلة للموت النهم لما أكل من الشجرة، فلقد خابت آمالك وكذبت أفراحك بعد موت وقيامة ابن جنسنا. إن الباسل الذي ناوشك القتال هو واحد منا، وقد خرج إلى العراء وناجزك القتال، وكشف عن خدائعك شهوة الجسد وحب المجد واسم السلطة، تلك أسلحتك الشيطانية. وفيما أنت شاكي السلاح بحيلك، عاجلك الفناء والدمار بكلمة من فمه الطاهر ".       
ومن المعلوم أن هذا الصوم كان جارياً في الكنيسة منذ الأجيال الأولى، ففي العصور الأولى كان المسيحيين الأولين يستعدون لعيد الفصح بالصوم في الأسبوع السابق لعيد القيامة، ومنهم من كان يصوم يوماً أو يومين. وفي المجمع النيقاوي  المنعقد سنة 325 تم تحديد الصوم الأربعيني وفرضه على مؤمني الكنيسة.
أما كنيسة المشرق فقد فرضت الصوم الأربعيني على أبنائها منذ البدايات، وهذا واضح من مجمع مار إسحق المنعقد سنة 410 حيث جاء في قراراته: " نصوم سوية وفي وقت واحد صوم الأربعين يوماً صوماً    كاملاً ". ويتضح مما سبق أن الصوم كان موجوداً سابقاً، إلا أن هذا المجمع قد حدد وقته وشدد أن يعمل به في سائر الأبرشيات الخاضعة لكرسي المشرق.
ويصف لنا المؤلف المجهول  عن أيام الصوم في كنيسة المشرق بالقول: " يدوم الصوم أربعين يوماُ لا أكثر ولا أقل، أي ستة أسابيع في كل أسبوع ستة أيام. لأننا لا نصوم أيام الأحد، ويصبح المجموع ستة وثلاثون يوماً، ويضاف إليها أربعة أيام من أسبوع الآلام. ويوم الجمعة تمثل نهاية الصوم، لذا نحتفل مساء الجمعة بقداس الفصح. إن الجمعة والسبت هما أيام الاحتفال بآلام المسيح، وليس جزء من الصوم الكبير. لكننا نصوم فيها لأنها ذكرى صلب المسيح. فيصبح أيام الصيام اثنان وأربعون يوماً. منها أربعون يوماً إحياء لذكرى صيام ربنا يسوع، إضافة إلى يومي الجمعة والسبت التي فيها تألم ربنا ومات ". 
وتصف لنا الترتيبات الطقسية أن الصوم في كنيسة المشرق يبدأ من الغروب إلى غروب اليوم التالي، وكان الصائمون يأكلون وجبة واحدة في العشاء، كما يتبين ذلك من صلاة السوباعا " الشبع " التي كانت تتلى بعد ذاك العشاء.
وقد رتب أباء الكنيسة لهذا الزمن أوقات للصلاة. فيستيقظ المؤمنين في هجعة الليل ليغوصوا في بحر التأمل بصلاة الموتوبا " الجلوس وهي صلاة التاسعة أي منتصف الليل " التي تدعو إلى الرحمة والمغفرة. بعدها تبدأ صلاة قالا دشهرا " السهر " شكراً للإله الذي أنعم عليهم بنعمة التوبة. ومع شروق الشمس يصلون صلوثا دصبرا " صلاة الصباح ". ثم تتوالى نوبات النهار وهي صلاة القوطاعا " القطع وهي صلاة الساعة الثالثة أي التاسعة صباحاً "، وصلاة عدانا دبلكه ديوما " صلاة منصف النهار الساعة السادسة أي الثانية عشرة ظهراً "، وصلاة المساء " صلوثا درمشا " وتعقبها الذبيحة الإلهية. وبعد الطعام يصلون صلاة السوباعا " الشبع أي الصلاة قبل الرقاد ". ومن خلال هذا الترتيب نجد أن فرض الصوم يحتوي دورة صلوات الساعات السبع الرهبانية.
هذه الدورة اليومية لزمن الصوم ومن خلال عمق لاهوتي للصلوات المستعملة فيه، ومن خلال التراتيل الشجية الآخذة بمجامع القلوب، تجعل النفوس تتهافت لسماع تراتيل التوبة، والعيون تفيض دموعاً لمعانيها الغنية، والصدور تنفجر عواطف الحمد لدى تلاوة أيات الشكر، وأوتار القلوب ترتجف لإلحان الرجاء والفرح بخلاص العالم.
ومن خلال التمعن في الصلوات التي تتلى في كنيسة المشرق خلال هذا الزمن المقدس، نجد أهمية الصوم في حياة أبناء هذه الكنيسة: " هوذا الصوم البهي كالملك قادم، فليجعل كل منا نفسه كالمدينة المزينة، ولننقِ طرقاتها وشوارعها من الأدناس والأقذار، ولنجمع الأفكار صفوفاً، ولنقم العقل قائداً لها احتفاءً بالملك القادم، ولنصرخ جميعاً بطلب الرحمة والغفران ".
وتصلي في الأحد الأول من الصوم: " يا رب أن محبة الصوم الطاهر عمل صالح، به استحق موسى أن يقتبل الشريعة، وإيليا صعد في مركبة مضطرمة، ويشوع بن نون  الذي كان مظفراً أوقف سير الشمس لأنه أحب الصوم والقناعة، ودانيال سد أفواه الأسود، والفتيان الثلاثة  اطفأوا اللهبات في أتون النار، فلأجل ذلك نحن أيضاً نتضرع إليك أن ترحمنا ".
وتصلي في الأحد الثاني من الصوم: " هلم بنا يا أهل بيت الإيمان، لنكون نشيطين في الصوم، لنجتني منه ثمار المحبة والرجاء والإيمان، فإن الأبرار الذين صاموه بنقاوة انتصروا به، وفي ختام صومهم نالوا إكليل الغلبة ". 
وتصلي في الأحد الرابع من الصوم: " جميل هو وبهي وشهي الصوم المقدس، وهو معين الخيرات وكنز اللذات، والعقل الحامل بتذلل تواضعه، يلبس زينة العفة وجمال الطهارة، وبالقداسة يضيء مصباحه بزيت الرحمة، وتلبس النفس والجسد بهاءً ومجداً نظير الملائكة. هلم يا أخوتي نحمل نيره الطيب، لنلبس المجد في ظهور ربنا له المجد ".   
وهناك ثلاثة أنواع من الاحتفال الأوخارستي خلال زمن الصوم الكبير، يحتفل فيها كالتالي:
ا_ أيام الآحاد: وفيها يحتفل برتبة القداس كاملة بكل أقسامها، لأن يوم الأحد ليس يوم صيام، بل هو يوم قيامة الرب.
ب_ أسابع الأسرار: وتشمل الأسبوع الأول والأسبوع الرابع من الصوم الكبير. والأيام الثلاثة من الأسبوع السابع، وأيام الجمعة خلال زمن الصوم. ويحتوي الاحتفال الأوخارستي على سائر عناصر القداس ما عدا رتبة التقديس، لأنه احتفال خاص بالتناول.
ث_ الأيام البسيطة: وهي رتبة تناول بسيطة كانت تجري بين صلاة المساء وصلاة الرقاد، وذلك في سائر الأيام البسيطة للصوم الكبير.
ويمتاز طقس كنيسة المشرق على ثلاث عناصر هامة خلال نهاية هذا الصوم هي:
ا_ أعداد المؤمنين للاحتفال بأعياد القيامة المجيدة.
ب_ إعداد الموعوظين للعماد، حيث كانت تمنح لهم عشية عيد القيامة.
ث_ إعداد التائبين لنيل الغفران والمصالحة التي تجري مراسيمها في سبت النور، حيث كان التائبون يقومون بأعمالهم التوبوية من صوم وصلاة خلال فترة الصوم الكبير.
وفي المؤتمر البطريركي العام للكنيسة الكلدانية سنة 1998 حدد الصوم الكبير على الشكل التالي: " يكون الصوم الكبير في الكنيسة الكلدانية بالانقطاع عن أكل اللحم في الأسبوعين الأول والأخير، وبالانقطاع عن أكل اللحم خلال أيام الجمع ضمن هذا الزمن، والانقطاع عن الزفرين والصيام حتى الظهر في اليوم الأول من الصوم الكبير ويوم الجمعة العظيمة. ولا يجوز الاحتفال بالزواج في الأسبوع الأول والأسبوع الأخير من الصوم الكبير وليلة العيد  الكبير ".           
ر_ صوم الرسل: يبدأ هذا الصوم في الأحد الأول من زمن الرسل وينتهي بالجمعة السابعة من هذا الزمن. ويستمر هذا الصوم أربعين يوماً. ويرتقي هذا الصوم إلى مل قبل القرن الرابع الميلادي، إذ يذكره مار أثناسيوس الإسكندري، وتذكره السائحة إيجريا   ( نهاية الجيل الرابع ). ويحدد كتاب قوانين الرسل هدف هذا الصوم بالقول: " التذكير بجدية الحياة المسيحية بعد فترة أفراح واحتفالات القيامة التي دامت طويلاً أي خمسين يوماً ". وفي العصور المتأخرة ترك هذا الصوم، إذ لا نجد له ذكر في أصوام المشارقة الكلدان اليوم.   
ز_ صوم انتقال مريم العذراء: كان لهذا الصوم مكانة مرموقة في كنيسة المشرق، ويمتد هذا الصوم خمسة عشراً يوماً تسبق العيد، وفي العصور المتأخرة خفض هذا الصوم إلى خمسة أيام ثم إلى ثلاثة أيام، وفي عصرنا هذا أضحى صوم السيدة يوماً واحداً. وجاء في قرارات المؤتمر البطريركي للكنيسة الكلدانية سنة 1998 حول صوم السيدة " يجب على المؤمنين الانقطاع عن أكل اللحم ليلة عيد انتقال السيدة أي يوم 14 آب، وإذا صادف هذا اليوم يوم أحد، فيعوض باليوم السابق ".
س_ صوم إيليا والصليب: يبدأ هذا الصوم في الأحد الأول من زمن إيليا وينتهي بالجمعة السابعة منه، وهي أيضاً الجمعة الرابعة من الصليب. لأننا كما نعلم أن سابوع إيليا وسابوع الصليب هما سابوعان متداخلان. ويستمر هذا الصوم أربعين يوماً تشبهاً بالصوم الكبير. ويبدو أن هذا الصوم قديم في كنيستنا حيث يذكره المؤلف المجهول في القرن التاسع. وفي العصور المتأخرة ترك هذا الصوم، إذ لا نجد له ذكر في أصوام المشارقة الكلدان اليوم. 
ش_ صوم يومي الأربعاء والجمعة: من خلال كتاب القوانين الرسولية " القرن الرابع " نجد أن الكنيسة تدعو مؤمنيها للصوم يومي الأربعاء والجمعة على مدار السنة، وللأسباب التالية كما يقول القانون الخاص بالصوم: " لا تصوموا في الوقت الذي يصوم فيه المراءون، إنهم يصومون في يومي الاثنين والخميس من الأسبوع. أما أنتم فصوموا إما خمسة أيام ما عدا يومي السبت والأحد، لأن السبت هو ذكرى الخلق، والأحد هو ذكرى القيامة. أو صوموا يومي الأربعاء والجمعة، لأنه في يوم الأربعاء صدر الحكم على الرب يسوع، وفي يوم الجمعة احتمل آلام الصلب ". وقد التزم المؤمنون بهذه الوصية عبر العصور، وفي عصرنا هذا أنحصر الصوم في يوم الجمعة فقط، عدا الجمع الواقعة بين عيدي القيامة والصعود، إذ لا يجوز فيهم الصوم. وجاء في قرارات المؤتمر البطريركي للكنيسة الكلدانية سنة 1998 حول هذا الصوم " يجب الانقطاع عن أكل اللحم في كل أيام الجمعة على مدار السنة، عدا الجمع الواقعة بين القيامة والصعود، أو الجمع التي يقع فيها عيد أو تذكار. ويجوز إبدال صوم يوم الجمعة بيوم الأربعاء السابق أو بيوم أخر لدى الضرورة ". 
ص_ أصوام متفرقة: هناك أصوام عديدة يمارسها المؤمنين باختيارهم، وهذه الأصوام غير مفروضة في الكنيسة. فهناك من يصوم يوم السبت على مدار السنة إكراماً لأمنا العذراء مريم ومن أجل خلاص الأنفس المطهرية. وهناك من يصوم خمسة عشر يوماً ثم أصبح ثلاثة أيام قبل عيد القديسين بطرس وبولس. وهناك من يصوم إكراماً لقديسين وقديسات طالبين شفاعتهم لنيل النعم. وهناك أشكال متعددة لهذه الأصوام، فمنهم من يصوم فترة محددة مكتفياً بأكل الخبز وشرب الماء فقط، ومنهم من يصوم عن أكل الحلوى، ومنهم من ينقطع عن التدخين ويمتنع عن المشروبات الروحية. جميع هذه الأفعال يمارسها المؤمنين بملء إرادتهم، والكنيسة تشجع هذه الأعمال التقوية التي ترتقي بالنفوس إلى النقاوة والطهارة.
الخاتمة: مما سبق نجد أن الخطيئة والتوبة بينهما علاقة جدلية. فالصوم والصلاة هما سلاح المؤمن الذي يستعمله في محاربة الشرير وأعوانه، ومن يعي الخطيئة يشعر دوماً بحاجته الماسة إلى التوبة والتكفير عن الخطيئة والابتعاد عن أسبابها. من هنا يتوجب علينا أن نمارس الصوم ليس كعادة تعلمناها أو تسلمناها من أسلافنا، بل علينا أن نمارس الصوم بوعي وقناعة بأن هذه الممارسة التقوية تجعلنا أعضاء أحياء في جسد الكنيسة الحي، إذ بالصوم والصلاة نخلع الإنسان العتيق الفاسد بالخطيئة، ونلبس الإنسان الجديد النقي بالطهارة والفضيلة. ونختم مقالنا هذا بدرة ثمينة من مؤلفات نرساي الملفان، لا زالت كنيسة المشرق ترددها في زمن الصوم، ويسمع صداها المؤمنين فينتعشون بطلاوة معانيها الغنية: " أيها المائت الغاض عن الطبيعة المائتة. ليتشبه بالغير المائتين الذين لا يحتاجون إلى غذاء. أيها المادي الساخر من الأطايب المادية والمنصرف إلى الحياة الروحية. أيها الأرضي النابذ العوائد الأرضية وهو على الأرض يحاول البلوغ إلى الحياة السماوية. أيها الترابي جبيل الطينة بماء الآلام المشتد كالشجعان على قهر الآلام والأهواء. هناك يجزل الملك العطاء للجندي الباسل. فالبسوا قهر النفس سلاحاً لتقاتلوا وتنتصروا. بالصوم يختبر المعلم عبده الأمين. فيبذل له أجوراً تربو أضعافاً على نشاطه. لماذا منع الأدمي من الأكل. ولماذا جعله أن يحيا حياة الغير المائيتين. لقد أدلى للجسديين لابسي الآلام بأنهم بلا غذاء يعيشون في السماوات العالية. سيحيون بعد البعث من غير طعام. وعلمهم أن يعتبروا ذلك وهم بعد في حياة الأرض. وقد كشف لهم في الصوم عن تجدد أعضائهم التاركة ثياب الميتوتة برمز الفداء.
الهوامش:
1_ النبي موسى: اسم مصري يعني " ولد " وبالعبرية يعني " منتشل ". ولد في مصر في الزمن الذي كان فرعون يأمر بقتل صبيان العبرانيين. انتشلته ابنة فرعون من النهر وربته على يد معلمين مهرة في جميع فنون مصر العلمية والدينية. عندما بلغ 40 سنة ترك رفاهة البلاط الملكي وهرب إلى البرية وسكن في خيام يثرون وتزوج ابنته صفورة. وهناك رأى ناراً في وسط عليقة، ولما دنا سمع صوت في وسطها يناديه ليذهب إلى مصر ويخرج شعبه من هناك. وبعد مصاعب كثيرة استطاع الشعب الخروج من أرض العبودية، وقادهم موسى في البرية 40 سنة. كان موسى نبياً ويعرف بكليم الله، حيث بقي أربعين يوماً مع الله في السحاب على سيناء، وهناك أعطاه الرب الوصايا العشر. وبعد أن أراه الرب أرض الميعاد مات ودفنه الرب في الجواء في أرض موآب. ولم يعرف قبره حتى اليوم.
2_ طور سيناء: ويسمى أيضاً حوريب ويدعى أيضاً جبل موسى. وقد عسكر العبرانيون في البرية المحيطة بالجبل مدة سنة بعد خروجهم من مصر. وفي هذا الجبل استلم موسى الوصايا العشر. ويقول المؤرخ يوسيفوس أن هذا الجبل عظيم الارتفاع، ومن المستحيل تسلقه لأنه حاد الصخور وشديد الانحدار، ولا يستطيع أحد أن يطيل النظر إليه دون أن تؤلمه عيناه لأنه شديد الضوء. وعند الجبل توجد اليوم أديرة وكنائس، وقد اكتشفت النسخة السينائية للكتاب المقدس في اللغة اليونانية والمخطوطة في القرن الرابع في دير القديسة كاترين عند سفح الجبل.   
3_ المصفاة: كلمة عبرانية تعني " برج النواطير " وهي مدينة بنيامين، ويظن البعض أنها قرية النبي صموئيل. وتعتبر من أعلى القمم بقرب أورشليم، ومنها يرى مساحة متسعة من فلسطين الجنوبية. 
4_ دان: كلمة عبرية تعني " قاض ". وهو اسم مدينة موقعها في الطرف الشمالي من أرض بني إسرائيل في نصيب نفتالي في سفح جبل حرمون عند تل القاضي حيث منابع الأردن.
5_ بئر سبع: كلمة عبرية تعني " بئر السبعة " وقد دعيت هكذا بسبب إعطاء إبراهيم سبع نعاج لابيمالك شهادة على حفره البئر. وأطلق البئر على اسم المدينة التي نشأت حوله، وهي تبعد عن حبرون " الخليل " نحو ثمانية وعشرين ميلاً إلى الجهة الجنوبية. 
6_ أرض جلعاد: جلعاد كلمة عبرية تعني " خشن أو صلب " وأرض جلعاد هي منطقة جبلية أرضها صخرية وعرة تقع شرقي الأردن، تمتد إلى بلاد العرب. وهي تشتمل البلقاء الحديثة.
7_ يابيش جلعاد: يابيش كلمة عبرية تعني " جاف " والكلمتين معاً تعني جاف وصلب. مدينة مشهورة على جبل جلعاد شرق الأردن على بعد حوالي عشرة أميال جنوب شرق بيت شان وإلى الجنوب من بيلا.   
8_ شاؤل: اسم عبري يعني " سئل من الله ". هو من سبط بنيامين وأول ملوك إسرائيل. في بدء أيامه انتصر على فاحاش وجيش العمونيين. انهزم في معركة جبل جلبوع انهزاماً ذريعاً، حيث قتل أولاده الثلاثة. أما هو فقد جرح جرحاً خطيراً فسقط على سيفه ومات.
9_ يوناثان: اسم عبري يعني " يهوى أعطى ". هو ابن شاؤل البكر ولم يخلف والده في الملك على مملكة إسرائيل. كان صديقاً حميماً لداود النبي، وحاول أن يصلح بينه وبين والده شاؤل. وعندما طلب منه أبيه قتل داود أبى ذلك وطلب من داود أن يختبىء. قتل في المعركة التي جرت بين العبرانيين والفلسطينيين. وقد أخذ داود عظام شاؤل ويوناثان ودفنها في قبر قيس في أرض بنيامين. 
10_ آحاب: اسم عبري يعني " أخو الرب ". كان ملك على إسرائيل حوالي سنة 875 ق.م. تزوج من إيزابيل ابنة ملك صيدون اتبعل، وكانت وثنية وقد أثرت عليه فإنقاذ وراءها في عبادة الوثن. وقد استولى على كرم نابوت اليزرعيلي. فأرسل الرب إيليا الذي تنبأ بموته مع زوجته، وبأن الكلاب التي لحست دم نابوت سوف تلحس دمه أيضاً في نفس المكان. وقد قتله الآراميين بسهم وحملت جثته إلى السامرة. 
11_ السامرة: اسم عبري يعني " مركز الحارس ". كانت عاصمة الأسباط العشرة. وقد بنيت أيام عمري بن آخاب ملك إسرائيل في القرن التاسع ق.م على تل اشتراه بوزنتين من الفضة. وكان صاحب الأرض اسمه شامر ويعني المراقب. وقد اسماها عمري شوميرون وتعني مكان المراقبة. والسامرة هي مملكة إسرائيل الشمالية.
12_ نابوت: اسم عبري يعني " نبات ". رجل عبراني من بلدة يزرعيل، كان عنده كرم بجانب قصر آحاب ملك الناصرة. وقد طمع آحاب في الكرم طلب منه أن يبيعه له ليضمه إلى قصره. لكن نابوت رفض حيث لم يشأ أن يفرط في خيرات أجداده. اتهمته زوجة الملك إيزابيل بالتجديف على الله، فحمله الشيوخ إلى خارج البلدة وحاكموه ورجموه مع أبنائه.

13_ إيليا النبي: اسم عبري يعني " إلهي يهوه ". نبي عظيم ولد في تشبة وعاش في جلعاد. كان يلبس ثوباً من الشعر ومنطقة من الجلد، ويقضي الكثير من وقته في البرية. وفي اعتزاله كانت الغربان تعوله وتأتي إليه بطعام. ذهب إلى صرفة وبقي في بيت أرملة لم يفرغ بيتها من الدقيق والزيت طوال مدة الجفاف. ولما مات ابنها صلى إيليا فأعاد الله الحياة له. وفي السنة الثالثة للجفاف وبعد أن أقر الشعب بأن الرب هو الله، وبناء على أمره قتل الشعب أنبياء البعل أعلن إيليا بأن المطر سوف ينزل. وعندما حاولت إيزابيل زوجة آحاب قتله هرب إلى بئر سبع ومنها إلى جبل سيناء وأقام هناك حيث كلمه الرب. ثم أرسله الرب ليمسح ياهو ملكاً على إسرائيل، ويمسح إليشع نبياً ليخلفه. وفي نهاية أيامه ذهب إلى الأردن وهناك جاءت مركبة نارية وحملت إيليا إلى السماء وترك رداءه لأليشبع.   
14_ طور حوريب: هو نفسه طور سيناء. 
15_ إرميا النبي: اسم عبري يعني " الرب يثبت " هو ابن حلقيا الكاهن من عناثوث في أرض بنيامين. دعاه الرب للقيام بالعمل النبوي في رؤيا رآها وهو بعد حدث. بقي أميناً لمهمته بالرغم من كل مقاومة واضطهاد. وضعه الملك صدقيا في السجن عندما حاصر الكلدانيين أورشليم. وعندما سقطت المدينة أصدر نبوخذنصر أمراً صريحاً بأن يحسنوا معاملته. ومنح حق الاختيار بين الذهاب إلى بابل أو البقاء في وطنه، لكنه اختار البقاء في وطنه. وبعد فترة اجبر للرحيل إلى مصر من قبل شعبه. ولا يعرف شيء عن موته.   
16_ يوياقيم: اسم عبري يعني " يهوه يقيم ". كان ملك يهوذا عندما ابتعد عن يهوه ورجع إلى عبادة الأوثان. أرهق الشعب بالضرائب، فكتب إليه إرميا النبي ينذره بالدينونة الإلهية إذا لم يندم عن شره. لكنه لم يستجب لهذه الدعوة. وعندما تمرد على الكلدانيين دخل نبوخذنصر وجيشه أورشليم وألقوا القبض عليه وقيدوه بسلاسل من نحاس. وبعد مدة قصيرة مات أو قتل. وتم فيه ما تنبأ به إرميا عنه " أنه لا يندب عند موته، وانه يدفن دفن الحمار مجروراً ومطروحاً بعيداً عن أبواب أورشليم ".   
17_ باروك: ويقال له أيضاً باروخ. اسم عبري يعني " مبارك " كان كاتباً محباً ومخلصاً للنبي إرميا. كتب كلام الله الذي تنبأ به إرميا وقرأه على مسامع الشعب في بيت الله ومسامع رؤساء اليهود، فاضطربوا اضطرباً عظيماً. ذهب إلى بابل حاملاً رسالة من النبي إرميا تنبيء بما كان مزمعاً أن يحل بتلك المدينة العظيمة من القصاص الإلهي والعقوبة. وما لبث أن رجع إلى أورشليم فسجن مع إرميا أثناء حصار الكلدانيين. وكان باروك من جملة من اخذوا إلى مصر. 
18_ النبي دانيال: اسم عبري يعني " الله قضى ". هو أحد الأنبياء الكبار. ولد في أورشليم ونقل إلى بابل بأمر نبوخذنصر مع الفتيان الثلاثة. وهناك تعلم لغة الكلدانيين ورشح للخدمة في القصر الملكي. وقد أبى أن يأكل طعام الملك ويشرب من خمره. وفي أيام داريوس طرح في جب الأسود لكن الرب نجاه. وفي بابل أعلنت له نبوة السبعين أسبوعاً عن مجيء المسيح المخلص. وقد كتب سفره بلغتين قسم باللغة الآرامية والآخر باللغة العبرانية. 
19_ النبي نحميا: اسم عبري يعني " تحنن يهوه ". هو ابن حكليا من اليهود المسبيين في بابل. عمل ساقياً في بلاط الملك الفارسي ارتحشتا. سنة 445 ق.م تمكن من إقناع الملك بالعودة إلى أورشليم، وقد عينه حاكماً على ولاية اليهودية، واستطاع من بناء سور أورشليم. حكم نحميا اليهودية اثنتي عشرة سنة حتى وفاته.
20_ يهوديت: اسم عبري يعني " يهودية ". كانت امرأة باسلة خلصت شعبها من اليفانا قائد جيوش الآشوريين. ويعتبر سفر يهوديت من ضمن الأسفار القانونية الثانوية.
21_ النبي زكريا: اسم عبري يعني " يهوه قد زكر ". هو بن برخيا من نسل لاوي. كان يقوي عزائم يهود السبي للعودة إلى أرض إسرائيل، ويقدم لهم رسائل روحية عظيمة بخصوص الصوم والطاعة. كما يقدم نبوات متنوعة بخصوص المسيح ومجيئه وجروحه. ويذكر التقليد اليهودي أن أيامه قد طالت وعاش وتوفي في بلاده ودفن بجانب النبي حجي رفيقه.
22_ عزرا الكاهن: اسم عبري يعني " عون ". كاهن لقب بالكاتب. كان مستشاراً لشؤون يهود السبي في بلاط الإمبراطور الفارسي ارتحتشتا. وقد نال أمراً من الإمبراطور يسمح فيه بعودة اليهود إلى أورشليم وإقامة حكم لهم هناك. وقد صحب معه جماعة كبيرة من اليهود وعدداً من الكهنة ومالاً وكنوزاً وفيرة ومجوهرات لتأثيث الهيكل. عرف عزرا بإخلاصه ونشاطه في سبيل شعبه، فحاز عللا ثقتهم وإعجابهم وولاءهم. وقد كتب سفره بلغة خليطة بين الآرامية والعبرانية.   
23_ يوئيل: اسم عبري معناه " يهوه هو الله "، لا نعرف عنه شيئاً سوى أنه من إقليم يهوذا، ويعتقد أنه تنبأ بعد الرجوع من السبي. ويظهر من خلال السفر الذي كتبه أنه كان مرهف الشعور ومتقد الغيرة وثاب البصيرة. فلغته فصيحة بليغة، وأسلوبه إنشائه سهل سلس، ولا يفوقه احد من الأنبياء في قوة الوصف والوضوح.   
24_ النبي يونان: يونان هو الصيغة الآرامية للاسم العبراني " يونة " وتعني " الحمامة، ويونان بن أمتاي من سبط زبولون عبراني من القرن الخامس قبل الميلاد، وهو من أهالي جت حافر على بعد ثلاثة أميال من الناصرة. روت التوراة أنه طرح في البحر وابتلعه الحوت، ثم قذفه إلى البر بعد ثلاثة أيام. فرحل إلى نينوى وهناك دعا أهلها إلى التوبة. 
25_ يهوذا: اسم عبري يعني " حمد ". هو يهوذا المكابي الذي حرر اليهود، واسترد المدينة والهيكل، وطرد الأعاجم، وأحييا الشرائع التي كادت أن تلغى.
26_ أنطيوكس: اسم يوناني يعني " مقاوم "، ويطلق عليه الرابع أو ابيفانيس. ملك سوريا من 175 وحتى 163 ق.م، وقد أراد أن يمحق الديانة اليهودية فثار المكابيون ضده.   
27_ الملاك رافائيل: اسم عبري يعني " الله قد شفى ". هو اسم أحد الملائكة السبعة الواقفين أمام الرب.
28_ طوبيا: اسم عبري يعني " الله طيب ". يهودي عاش في بلاد آشور. كان له ابن سمي باسمه. ويعتبر الأب والابن بطلا سفر طوبيا. وسفر طوبيا هو أحد أسفار العهد القديم، وصل إلينا في الترجمة اليونانية فقط. ويروي قصة طوبيا البار ومغامرات ابنه خلال سفرة قام بها مع الملاك رافائيل. 
29_ النبي داود: اسم عبري يعني " محبوب ". هو ابن يسى وثاني ملوك بني إسرائيل. اشتهر بمقتل جليات الجبار الفلسطيني. خلف شاؤل في الملك وهو لا يزال في أول شبابه يرعى قطعان أبيه. أسس مملكة يهوذا ووطد أركانها وجعل أورشليم عاصمة لها بعد أن أخذها من اليبوسيين. رغم ورعه وعدله قتل أوريا أحد أركان جيشه ليتزوج بتشباع امرأته. ثم ندم ندامة يضرب بها المثل. إليه ينسب سفر المزامير.   
30_ حنة: اسم عبري يعني " حنان " نبية وأرملة وهي بنت فنوئيل من سبط أشير. كانت لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً. وكانت هناك لم أحضر الطفل يسوع، وسمعت ما تنبأ به عنه سمعان الشيخ، وعرفت أن هذا الطفل هو المسيح المنتظر.
31_ الفريسيين: الفريسي كلمة آرامية تعني " المنعزل " وهم إحدى فئات اليهود الرئيسية الثلاث التي كانت تناهض فئتي الصدوقيين والاسينيين. كانوا في أول عهدهم من أنبل الناس خلقاً وأنقاهم ديناً، وقد لاقوا اشد الاضطهاد. وعلى مر الزمن فسدوا واشتهروا بالرياء فتعرضوا للانتقاد اللاذع والتوبيخ القاسي. وقد دعاهم يوحنا المعمدان " أولاد الأفاعي "، كما وبخهم يسوع بشدة على ريائهم وادعاهم البر كذباً.
32_ يوحنا المعمدان: اسم عبري " يوحنان " يعني يهوه حنون. ولد سنة 5 ق. م من زكريا الشيخ وإليصابات. ويقول التقليد أنه ولد في قرية عين كارم المتصلة بأورشليم من الجنوب. كان ناسكاً زاهداً ساعياً لإخضاع نفسه والسيطرة عليها بالصوم والتذلل. مرتدياً عباءة من وبر الأبل، شاداً على حقويه منطقة من جلد، ومغتدياً بجراد وعسل بري. وهو مهيء طريق المسيح، داعياً الناس للتوبة لأن المسيح قادم. وقد قال عن نفسه أنه صوت صارخ في البرية. وكان يعمد التائبين بعد أن يعترفوا بخطاياهم في نهر الأردن. وقد اعتمد يسوع منه. سنة 28 م وضعه هيرودس في السجن لأنه وبخه على فجوره. وقد قطع عنقه على طلب هيروديا. وجاء تلاميذه ودفنوه بإكرام. ويقال أنه دفن في سبطيا عاصمة السامرة، بجانب ضريح إليشع وعوبديا.
33_ الرسول بولس: ومعناه " الصغير ". كان اسمه قبل أن يهتدي شاؤل. ولد في طرسوس. كان والده فريسياً من سبط بنيامين. ذهب إلى أورشليم ليتبحر في الناموس عند المعلم المشهور غمالائيل. اهتدى إلى المسيحية وهو في طريقه إلى دمشق لاضطهاد المسيحيين هناك. كان ضمن الذين ساقوا التهم ضد بكر الشهداء اسطيفانوس. بدأت مسيرته التبشيرية في آسيا الصغرى والبلقان وإيطاليا وأسبانيا. له العديد من الرسائل الموجهة إلى الجماعات المسيحية. تحمل الكثير من العذابات والمشقات استشهد في روما سنة 67.   
34_ الباعوثة كلمة كلدانية تعني حرفياً طلبة أو إلتماس أو تضرع، أما معناها العميق والشامل فهو زمن مكثف للصلاة والصوم وقراءة الكتب المقدسة.
35_ مار زيعا: ولد في فلسطين بداية القرن الرابع، والده يدعى شمعون ووالدته هيلانة. أسمياه زيعا وتعني " الخوف " وقاما بتربيته على البر والصلاح. رسم كاهناً في أورشليم ولشدة محبته للحياة الرهبانية جاء إلى بلاد المشرق، وسكن في مغارة في جبل جهران شمال غربي مدينة عقرة، ومكث في المغارة أربعين سنة غارقاً في التأمل والصلاة ليل نهار. وبعد حياة مديدة توفي في منطقة جيلو. 
36_ جبال هكاري: تقع جنوب مدينة وان على الحدود الغربية لبلاد فارس، وهي جزء من جبال طوروس. تعتبر جبال هكاري المعروفة تاريخياً باسم داسان العليا بقعة فريدة ذو طبيعة وعرة صعبة منعزلة يتساقط فيها الثلج بكثافة شتاءً. وهذه الجبال كانت موطن عشائر التياري والتخوما والديز والباز من أبناء كنيسة المشرق. وكانت قوجانس القابعة في هذه الجبال مبنية على سفح

129
السنة الطقسية في كنيسة المشرق الكلدانية
الشماس: نوري إيشوع مندو
مع بداية تأسيس الكنيسة المقدسة ومنذ عهد الرسل، كانت الطقوس مقتصرة على تلاوة بعض المزامير أو الصلوات أو التراتيل، يؤلفها المؤمنون ويتلونها عند اجتماعاتهم الدينية للصلاة في الكنيسة أو البيوت، وهذا ما يؤكده بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس " إذن أيها الأخوة إنكم متى اجتمعتم ولكل واحد منكم مزمور أو تعليم أو وحي أو لسان أو ترجمة فاصنعوا كل شيء للبنيان "  كو 1 (14:26). وكانت هذه العادة جارية في كل كنائس العالم، ولم تكن جميع الكنائس تستعمل نفس الترتيب في تلاوة الطقوس، كذلك لم تكن الطقوس موحدة في جميع مراكز كنيسة المشرق في القرون الأربعة الأولى.
وأول مجمع لكنيسة المشرق بحث في توحيد طقوسها هو مجمع الجاثليق مار إسحق  المنعقد في ساليق وقطيسفون  سنة 410 م. وقد ترأس هذا المجمع الجاثليق مار إسحق وإلى جانبه موفد كنيسة الغرب مار ماروثا أسقف ميافرقين ، بالإضافة إلى خمسة وثلاثون مسؤولاً كنسياً، يمثلون مطارنة وأساقفة أهم الأبرشيات الكنسية المشرقية. وجاء في القانون الثالث عشر من قوانين المجمع المذكور تحت عنوان ( في النظم والقوانين الواجبة للخدمة والأسرار المقدسة وأعياد مخلصنا المجيدة ):
" لقد علمتنا كذلك خدمة الأسقفين إسحق وماروثا، بعد أن رأيناهما كلنا وهما يخدمان في كنيسة ساليق، بأن نخدم نحن أيضاً مثلهما منذ الآن فصاعداً. فعلى الشمامسة أن ينادوا في كل مدينة على هذا النحو، وأن يقرأوا الكتب هكذا، ويقربوا القربان الطاهر والمقدس على مذبح واحد في جميع الكنائس. ولا تكن بيننا فيما بعد العادة القديمة بأن يقرب القربان في البيوت، وأن نصنع معاً عيد دنح مخلصنا المجيد، ويوم انبعاثه العظيم، كما يعلمنا به المطران رئيس الأساقفة جاثليق ساليق وقطيسفون. ومن يتجاسر أن يصنع وحده في كنيسته وشعبه، عيد الميلاد العظيم، وصوم الأربعين، ويوم الفصح الكبير، فإنه يبتعد عن تقليد كنيسة الغرب والشرق، فينبذ بلا رحمة من خدمة الكنيسة كرجل ضار، ولن يكون له  شفاء ". 
نستنتج من هذا القانون أن ترتيب الطقوس لم يكن واحداً قبل هذا المجمع، وقد شدد آباء الكنيسة من خلال هذا القانون تمسكهم واهتمامهم على أداءها برونق ونمط واحد في جميع مراكز كنيسة المشرق.
وفي منتصف الجيل السابع رتب هذا الطقس بهمة وفطنة البطريرك إيشوعياب الحديابي  وبمساعدة الراهب عنانيشوع ، ونظمه بإتقان وإحكام شديدين، وحتم على جميع مراكز كنيسة المشرق للسير بموجبه دون تغير.
وقد تم هذا العمل الكبير في الدير الأعلى  قرب مدينة الموصل على ضفة نهر دجلة. وقد رتب السنة الطقسية على حياة المخلص ودعاها " مذبرانوثا " ، وقسمها إلى سوابيع  معروفة، بحيث تبدأ السنة الطقسية في الأحد الأول من سابوع البشارة، وتنتهي في الأحد الرابع من تقديس البيعة، وقسمها على الشكل التالي:         
أولاً_ سابوع سوبارا ( زمن البشارة ): يتكون من أربعة آحاد تسبق عيد الميلاد المجيد. فالأحد الأول يشير إلى بشارة الملاك جبرائيل لزكريا وإليشباع البارين بميلاد يوحنا المعمدان.
والأحد الثاني يشير إلى بشارة الملاك جبرائيل لمريم العذراء بميلاد المخلص، وفي هذا الأحد تحتفل كنيسة المشرق بعيد البشارة.
والأحد الثالث يشير إلى بشارة العالم بمولد يوحنا المعمدان.
والأحد الرابع يشير إلى بشارة مار يوسف البتول، وفي هذا الأحد تحتفل كنيسة المشرق بعيد مار يوسف البتول.
ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذا السابوع تدور حول جميع الرموز التي سبقت مجيء المخلص والنبوات وانتظار الأمم لهذا الحدث الهام، وأعداد المؤمنين لهذه الذكرى الخلاصية. إنها فترة بداية تحقيق الوعد الإلهي بإرسال المخلص للبشر، هذا الوعد الذي كرره الله لشعبه بواسطة الأنبياء لأجيال عديدة.   
بعد هذه الآحاد الأربعة يحتفل بعيد الميلاد المجيد، وعيد تهنئة العذراء، وتذكار  قتل أطفال بيت لحم. ويلي عيد الميلاد أحد أول بعد الميلاد، وأحياناً  يليه أحد ثاني، وفيه يحتفل بعيد تقدمة يسوع إلى الهيكل حسب طقس كنيسة المشرق.
ويوم الجمعة  الأولى بعد الميلاد يحتفل بتذكار مار يعقوب أخي الرب.
وكانت كنيسة المشرق تحتفل بثلاثية صوم تعرف بـ باعوثا دمار زيعا " صوم باعوثة مار زيعا  " ويعرف اسم هذا القديس بين العامة  بـ مار زيا، تبدأ هذه الثلاثية يوم الاثنين الذي يلي الأحد الثاني من الميلاد، وقد ترك هذا الصوم مع الزمن. 
ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول ميلاد المخلص وختانته، وسجود الرعاة  والمجوس له، وتقدمته إلى الهيكل وهربه إلى مصر، بالإضافة إلى تهنئة العذراء وقتل أطفال بيت لحم، وهنا تنتهي حياة المخلص الطفولية التي قضاها في الناصرة.
ثانياً_ سابوع دنحا ( زمن العماد و الظهور الإلهي ): الدنح لفظة بالكلدانية تعني الظهور والإشراق والاعتلان، وتعبر عن المعنى اللاهوتي الحقيقي لعيد اعتماد الرب يسوع في الأردن على يد يوحنا المعمدان، وبدء ظهوره للعالم، واعتلان سر الثالوث الأقدس وفيض الروح القدس.
يتكون هذا السابوع من سبعة آحاد وأحياناً ثمانية، وأحياناً أقل من سبعة آحاد، تمتد من عيد الدنح حتى الصوم الكبير. ويتغير ترتيب التذكارات الواقعة في هذا السابوع بحسب عدد أيام الجمعة الواقعة فيه كل سنة طقسية، والمتغيرات في هذا الترتيب مثبتة في طقس الحوذرة. 
ففي يوم الجمعة الأولى من سابوع الدنح يحتفل بتذكار مار يوحنا المعمدان.
وفي يوم الجمعة الثانية يحتفل بتذكار مار بطرس ومار بولس.
وفي يوم الجمعة الثالثة يحتفل بتذكار الإنجيليين الأربعة.
وفي يوم الجمعة الرابعة يحتفل بتذكار مار اسطيفانوس بكر الشهداء ورئيس الشمامسة.
وفي يوم الجمعة الخامسة يحتفل بتذكار الملافنة اليونان.
وفي يوم الجمعة السادسة يحتفل بتذكار الملافنة المشرقيين الكلدان.
وفي يوم الجمعة السابعة يحتفل بتذكار القديس الخصوصي " الشفيع المحلي ". وفي يوم الجمعة الثامنة يحتفل بتذكار الأربعين شهيداً. 
وفي يوم الجمعة التاسعة يحتفل بتذكار الموتى المؤمنين.
ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول كرازة  يوحنا للشعب اليهودي بقرب ظهور المخلص ومعموديته لهم لمغفرة خطاياهم، استعداداً لمعمودية المخلص في نهر الأردن، لافتتاح باب السماء الذي أغلق بوجه البشرية بسبب خطيئة أبوينا الأولين أدم وحواء، من خلال صوت الآب من السماء الذي يدعو يسوع أبناً ومخلصاً، لتبدأ كرازته العلنية وإسنادها بالفعل والقول والأمثال والأعاجيب.
وضمن سابوع الدنح يحتفل بـ باعوثا دْنينوايِيْ " صوم نينوى "، يبدأ بيوم الأثنين السابق لثلاثة أسابيع من بدء الصوم الكبير. يمتد صوم نينوى لثلاثة أيام متتالية إقتداء بالأعمال التوبوية التي قام بها أهل نينوى أيام يونان النبي ، وتقام خلالها صلوات مسهبة مستمدة من الكتب المقدسة وترانيم الملفان  مار أفرام النصيبيني  والملفان مار نرساي النوهدري ، وينقطع فيها المؤمنين عن اللحوم والدسم، ويقومون بشعائر التوبة على غرار ما فعل أسلافهم كما ذكر سفر يونان النبي، ويتهافتون على الكنائس للمشاركة في الصلوات والقداس الإلهي.
وكانت كنيسة المشرق تحتفل سابقاً بثلاثية صوم تعرف بـ باعوثا دبثولاثا " صوم باعوثة العذارى "، وقد نظم هذا الصوم بعد أن طلب الأمير عبد الملك ابن مروان  من مسيحيي الحيرة  بعض الفتيات المسيحيات لإدخالهن في حرمه. فاجتمع المؤمنين في الكنيسة لمدة ثلاثة أيام وقضوها بالصوم والصلاة، وبعد ثلاثة أيام توفي الأمير عبد الملك. تبدأ هذه الثلاثية يوم الاثنين الذي يلي عيد الدنح، وقد ترك هذا الصوم مع الزمن.
ثالثاً_ سابوع صوما ( زمن الصوم ):  يتكون من سبعة آحاد، ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول خروج المخلص إلى البرية، وصومه فيها أربعين يوماً وأربعين ليلة، ودعوة المؤمنين للتوبة والرجوع عن الخطايا والآثام، فلا يكون صومهم عن الطعام فقط، بل أيضاً عن الأعمال الشريرة، لأن الابتعاد عنها يقربنا من الله أبينا، ويمتاز هذا الزمن بصلوات إضافية مطولة ذات ألحان شجية.
ففي الأحد الرابع من الصوم يحتفل بموسم الطاهرة في الموصل.
وفي الأحد الخامس يحتفل بموسم دير مار كيوركيس بعويرا في الموصل.
وفي الأحد السادس يحتفل بتذكار مار ميخائيل رفيق الملائكة.
أما يوم الجمعة السادسة فتدعى جمعة لعازر، يحتفل فيها تذكاراً لإقامة يسوع لعازر من القبر.
وكما أن المخلص بعدما قضى ثلاث سنيه الأخيرة في الكرازة والتعليم والإرشاد وإجراء العجائب، وقبل أن يسلم إلى الموت دخل أورشليم دخولاً ملوكياً، ورمزاً لدخول يسوع إلى أورشليم يحتفل في الأحد السابع بعيد الشعانين، الذي تسحر ألحانه الشجية ألباب المؤمنين، ويطرب لها قلوب الأطفال.
ويختم سابوع الصوم بأسبوع الحَشا " الآلام "، فيوم الخميس هو خميس الفصح المقدس، ذكرى تأسيس يسوع لسر القربان المقدس " الأفخارستيا "، وهو عيد الكهنوت، وفيه يحتفل بتكريس الميرون والزيوت المقدسة من قبل الأساقفة. كذلك يحتفل بغسل أرجل التلاميذ. ثم يعقبه فرض المسكة " رتبة إلقاء القبض على يسوع " وتدعى " السهرة " إذ تقام ليلة الجمعة العظيمة عملاً بقول المخلص لتلاميذه: اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في التجربة.
أما يوم الجمعة العظيمة أو جمعة الصلبوت فيحتفل برتبة صلب يسوع وموته على الصليب ودفنه.
ويختم الأسبوع العظيم بسبت النور، ويدعى طقسياً السبت الكبير. ويتميز هذا الأسبوع بصلوات ورتب متميزة، تطبع في القلوب آثاراً عميقة، ومع ختام سابوع الصوم تنتهي حياة يسوع البشرية على الأرض.
رابعاً_ سابوع قيامتا ( زمن القيامة ): يتكون من سبعة آحاد، ستة منها لزمن القيامة، والسابع يدعى الأحد بعد الصعود.
تستهل احتفالات القيامة بصلاة عشية العيد يمنح أثناءها سر العماد للموعوظين، ويحتفل برتبة الغفران للتائبين، ثم تليها سهرة القيامة، وصباح عيد القيامة المجيدة،  يحتفل فيه مع شروق الشمس باكراً عملاً بقول الإنجيلي مرقس: " وبكرن جداً في أول الأسبوع وأتين القبر وقد طلعت الشمس "، يسبق القداس الإلهي الاحتفال بتلاوة تعليم القيامة الشيق، يليه تطواف بترانيم هدفها التركيز على قيامة المسيح والصليب الظافر والممجد.
وفي يوم الأربعاء الأول يحتفل بتذكار مار إيثالاها.
وفي يوم الجمعة الأولى يحتفل بتذكار جميع الشهداء المعترفين.
ويسمى الأسبوع الأول من القيامة طقسياً أسبوع الأسابيع أي أعظم الأسابيع، ويحتفل فيه يومياً بقداس احتفالي يمتاز باحتفالات خاصة للمعمدين الجدد.
أما الأحد الثاني ويدعى الأحد الجديد، وفيه يحتفل بتذكار مار يوحنا الكمولي، ومار ماما ومار سابا الشهيدين.
أما يوم الاثنين الذي يليه يحتفل بتذكار مار أوراها المادي.
وفي يوم الجمعة الثانية يحتفل بتذكار مار فنحاس الشهيد.
وفي يوم السبت الثاني  يحتفل بتذكار مار خوداوي.
وفي الأحد الثالث يحتفل بتذكار مار يونان الغريب.
ويوم الاثنين الذي يلي الأحد الثالث يحتفل بتذكار الربان هرمزد.
ويوم الجمعة الثالثة يحتفل بتذكار مطارنة أربيل القديسين.
ويوم الجمعة الرابعة يحتفل بتذكار مار سركيس ومار باكوس.
والأحد الخامس يحتفل بتذكار مار أدي الرسول.
والجمعة الخامسة يحتفل بتذكار الشهيدة شيرين.
أما يوم الخميس وهو اليوم الأربعون بعد القيامة يحتفل بعيد الصعود " سولاقا "، إذ أن المخلص بعد أن قضى أربعين يوماً من بعد قيامته، صعد إلى السماء وجلس عن يمين الله الآب. وفي عشية عيد الصعود يخرج المصلون أثناء صلاة المساء من داخل الهيكل إلى فناء الكنيسة، حيث يقيمون الصلوات الطقسية والقسم الأول من القداس أي رتبة كلام الله في " بيث صلوثا "  أي بيت الصلاة بسبب شدة حرارة الصيف.
ويوم الجمعة السادسة يحتفل بتذكار مار بولا.
ويوم الجمعة السابعة يحتفل بتذكار مار آحا ومار يوحنا.
ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول حياة المخلص المجيدة، وقيامته من القبر منتصراً على الموت والخطيئة، ثم ظهوراته المجيدة لتلاميذه، وتخويله إياهم السلطة الكهنوتية الكاملة، وصعوده إلى السماء. فالقيامة هي اكتمال الخلاص والتدبير الإلهي وهي بداية إيماننا  وانطلاقته، وظهورات المسيح القائم من بين الأموات للرسل هو قوة لإيمانهم وفيض لفرحهم لأنهم عاينوا الرب الذي غلب الخطيئة والموت، وقام حياً ممجداً.   
وتذكاراً لصعود الرب إلى السماء، دعي الأحد السابع الأحد الذي يلي الصعود، رمزاً إلى مكوث الرسل في علية صهيون منتظرين حلول الروح القدس.
خامساً_ سابوع شليحي ( زمن الرسل ): يتكون من سبعة آحاد. الأحد الأول هو عيد العنصرة " البنطقسطي "  حلول الروح القدس " البارقليط "  على الرسل في علية صهيون، وامتلائهم من مواهبه السماوية السبعة بعدما كانوا أميين. ويمثل الأحد الأول من سابوع الرسل مدخلاً لصوم الرسل، والذي يمتد خمسين يوماً، والهدف منه تذكير المؤمنين بجدية الحياة المسيحية بعد فترة أفراح واحتفالات القيامة المجيدة.
وفي يوم الجمعة الأولى من سابوع الرسل يحتفل بتذكار جمعة الذهب " ذكرى الأعجوبة الأولى التي صنعها الرسل ".
والأحد الثاني يحتفل بعيد الثالوث الأقدس.
ويوم الخميس الثاني يحتفل بعيد الجسد.
ويوم الجمعة الثانية يحتفل بتذكار القديسين أقليمس وايرينأوس.
ويوم الجمعة الثالثة يحتفل بعيد قلب يسوع، وأيضاً يحتفل بتذكار القديس أثناسيوس.
ويوم الجمعة الرابعة يحتفل بتذكار الشهيدة فبرونيا النصيبنية.
ويوم الجمعة الخامسة يحتفل بتذكار القديس داماسوس بابا روما.
ويوم الجمعة السادسة يحتفل بتذكار القديس غريغور الشهيد.
ويوم الجمعة السابعة يحتفل بتذكار الاثنين والسبعين تلميذاً.
ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول  تحقق الوعد الإلهي بحلول الروح القدس على الرسل، ليبقى معهم إلى منتهى الدهر. ومن ثم انطلاقهم إلى جميع أقطار العالم لإعلان البشرى لجميع الشعوب، ورغم الإضطهادات والصعوبات استطاعوا أن يؤسسوا جماعات مسيحية في جميع أقطار المعمورة.   
سادساً_ سابوع قيطا ( زمن الصيف ): يتكون من سبعة آحاد، ويرمز إلى الأجيال والدهور التي عقبت كرازة الرسل وخلفائهم، ومحاربة الشيطان والعالم للكنيسة، واقتبال الأمم المتنوعة الإيمان الحي على مختلف طبقاتهم، ونبذهم روح الوثنية، لهذا دعي هذا السابوع أيضاً بسابوع " حَليلينْ " أي " اغسلني "، دلالة على حث المؤمنين على التوبة.
فالأحد الأول هو أحد نوسرديل " عيد الله وتذكار الاثني عشر رسولاً ".
وفي يوم الجمعة الأولى يحتفل بتذكار مار يعقوب النصيبيني.
وفي يوم الجمعة الثانية يحتفل بتذكار مار ماري رسول المشرق.
وفي يوم الجمعة الخامسة يحتفل بتذكار الشهيدة شموني وأولادها السبعة. 
وفي يوم الجمعة السادسة يحتفل بتذكار جاثليق المشرق مار شمعون برصباعي الشهيد.
وفي الجمعة السابعة يحتفل بتذكار مار قرداغ الشهيد.
ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول الصعوبات التي تواجه الكنيسة على الأرض، فعلى أبنائها أن يشقوا طريقهم إلى الخلاص بالإيمان والتوبة، ووجوب التزام القناعة وعدم الانسياق وراء الماديات، لأنه موسم الحصاد الذي يحمل الفرح لأناس كانوا في أكثرهم مزارعين وأصحاب مهن وحرف، وهم ينتظرون الثراء في هذا الفصل من السنة.
سابعاً_ سابوع إليا ودصليوا ( زمن إيليا والصليب ): وهما سابوع متداخل  يتكون من سبعة آحاد. ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول مجيء إيليا النبي في أخر الأزمنة، فكما أنه بعد انقضاء الدهور وتبشير المسكونة بالإنجيل، وقبل الانتهاء يظهر المسيح الدجال كما تنبأ المخلص ويغوي الشعوب بتعاليمه الفاسدة حتى المؤمنين منهم. فحينئذ يظهر إيليا النبي للشهادة ويحاربه هو وأتباعه، وهكذا يكون انتهاء الدهور. حينئذ تظهر علامة أبن البشر من السماء، لهذا ألحق بسابوع إيليا سابوع الصليب تذكاراً للصليب المقدس الذي به سوف يدين العالم الدينونة العامة. ويضم سابوع إيليا صياماً يدوم أربعين يوماً، الهدف منه أعداد المؤمنين لعودة يسوع المظفرة والدينونة الأخيرة. 
ففي يوم الجمعة الأولى من إيليا يحتفل بتذكار جثالقة المشرق الشهداء.
وفي يوم الجمعة الثانية يحتفل بتذكار مار عبدا الأسقف الشهيد.
وفي الجمعة الثالثة يحتفل بتذكار مار فوسي الشهيد.
وبعد الاحتفال بعيد الصليب يحتفل في يوم الجمعة الأولى من الصليب بتذكار الملك قسطنطين وأمه الملكة هيلانة.
وفي يوم الأحد الأول من الصليب يحتفل بعيد العذراء مريم أم الأحزان.
وفي يوم الجمعة الثانية يحتفل بتذكار مار يعقوب المقطع.
وفي يوم الجمعة السابعة من إيليا يحتفل بتذكار مار إيليا النبي.
ويشير سابوع إيليا ومن بعده سابوع موسى إلى حادثة تجلي الرب يسوع على الجبل محاطاً بالنبيين إيليا وموسى، لأن هذا العيد يرمز إلى عودة يسوع في آخر الأزمان بصحبة صليبه الظافر علامة النصر الحاسم على الشر، ويعتقد أن إيليا النبي سيسبق عودة يسوع هذه ليحارب أبن الهلاك ويفضح أضاليله. 
ثامناً _ سابوع موشي ( زمن موسى ): يتكون من أحد واحد أو أكثر حسب مدار السنة الطقسية.
ويحتفل في يوم الأربعاء الأول بتذكار مار إيليا الحيري. ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول مجيء المسيح المفاجئ، للإعداد لدخول الكنيسة إلى الملكوت، ويتسم هذا الزمن بطابع تربوي.   
ويحتفل في يوم الجمعة الثانية بتذكار مار أنطونيوس ورفاقه الرهبان.
تاسعاً _ سابوع قوداش عيتا ( تقديس البيعة ): يتكون من أربعة آحاد وبها تختم السنة الطقسية. ومحور الصلوات الطقسية والقراءات في هذه الفترة تدور حول الصليب الذي كان علامة الاحتقار والهوان، أضحى علامة الانتصار والخلاص للذين آمنوا به، فبعد أن يجلس الختن السماوي على عرش مجده يدين الأشرار بعذاب أبدي، ويأخذ معه عروسته الكنيسة المقدسة المكونة من الأبرار والقديسين والشهداء والمعترفين والرهبان وكافة المؤمنين، ويصعدها معه ليبلغها إلى الخدر السماوي الذي أعده بصليبه وموته وقيامته الظافرة. فالكنيسة التي عاشت صعوبات الحياة الأرضية، تصل أخر المطاف إلى ميناء القداسة، لأن الروح القدس معها إلى منتهى الدهر، فهي الآن أهلة لتكون عروسة المسيح العفيفة، الذي يقبلها في خدره السماوي، ويكللها بالحياة الأبدية في ملكوته البهي.
ويطلق كتاب الفرض على زمن تقديس البيعة اسم " معلثا " أي الدخول، لأن المصلون يدخلون خلال صلاة مساء الأحد الأول من تقديس البيعة، من فناء الكنيسة إلى داخلها بسبب قرب موسم الشتاء، حيث كانوا يقيمون الصلوات الفرضية ورتبة كلام الله أثناء أشهر الصيف.
ويدعى الأحد الأول " حوداثا " أي التجديد، ويرمز إلى ذكرى تجديد هيكل أورشليم.
ويحتفل في يوم الجمعة الأولى بتذكار مار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية في المشرق.
ويحتفل في يوم الأحد الرابع والأخير بعيد يسوع الملك. وفي هذا العيد الذي يشير إلى يسوع الملك المنتصر تنتهي السنة الطقسية.
من خلال هذا العرض تعرفنا على الأعياد المتحولة في كنيسة المشرق الكلدانية، حسب مدار السنة الطقسية، التي نظمها ملافنتها القديسين بأسلوب منطقي، بحيث يحتفل بمراحل تدبير يسوع الخلاصي. وما بداية هذا المدار بزمن البشارة، وانتهائه بزمن تقديس البيعة، سوى تأكيد على حضور الرب في البشرية عبر الأجيال.
الهوامش:
1_ الجاثليق مار إسحق: أصله من بلاد كشكر ويمت بصلة القربى إلى تومرصا. انتخب جاثليقاَ لكنيسة المشرق سنة 399 وهي السنة الأولى لحكم الملك يزجرد الأول. وفي عهد وبمساعدة مار ماروثا الميافرقيني عقد أول مجمع لكنيسة المشرق وذلك سنة 410. وتوفي بعد المجمع ودفن في المدائن. ويقول عنه ماري بن سليمان في كتابه المجدل: " كان الجاثليق إسحق زاهداً رحيماً يصنع المعجزات ".
2_ ساليق وقطيسفون: تقع على بعد 30 كم جنوب بغداد في مكان يدعى اليوم سلمان بك، وكانت ساليق عاصمة الملوك الساسانيين وتقع على الضفة اليمنى من نهر دجلة. وغالباً ما يقرن اسمها باسم قطيسفون الواقعة إزاءها على الضفة اليسرى. وكانت ساليق تسمى رسمياً " فيه أردشير " وتدعى أيضاً " ماحوزي ". وتسميها نصوص كنيسة المشرق " مذيناثا "، وأطلق عليها العرب اسم " المدائن ". وفي ساليق أسس كرسي كنيسة المشرق، وفيها كان كرسي الجاثليق إلى جانب الكنيسة الأولى " كوخي ".   
3_ مار ماروثا أسقف ميافرقين: كان والده حاكم مقاطعة سوفيتا قرب آمد. بعد أن نال قسطاً وافراً من العلم مارس مهنة الطب. في بداية القرن الخامس رسم مطراناً على ميافرقين. استدعاه الملك الساساني بزجرد ليعالج ابنته من مرض عضال كانت تعاني منه، وقد أفلح في معالجتها ونالت الشفاء. واستطاع أن يعقد معاهدة صلح بين المملكتين الفارسية والبيزنطية. ويعود له الفضل في استمالة الملك يزجرد للاعتراف بمسيحي مملكته، فأعطاهم حرية ممارسة طقوسهم وتشييد كنائسهم. وسمح لهم بعقد مجمع كنسي، فعقد في مدينة ساليق وقطيسفون سنة 410 بحضور الجاثليق مار اسحق وحضور المطران ماروثا الميافرقيني وأربعين أسقفاً من كنيسة المشرق. ويعتبر هذا المجمع الأول لكنيسة المشرق. توفي ماروثا سنة 420.   
4_ مجامع كنيسة المشرق _ الأب يوسف حبي  ص 71 .
5_ البطريرك إيشوعياب الحديابي: ولد في بلدة كوفلانا الواقعة في مقاطعة حدياب " أربيل " نحو سنة 580، ومنذ حداثته عكف على ارتشاف العلوم في مدرسة نصيبين، أقيم أسقفاً على نينوى، وبهذه الصفة رافق الجاثليق إيشوعياب الثاني الجدالي سنة 630 في الوفد الذي أرسلته الملكة بوران ابنة كسرى الثاني إلى هرقل ملك الروم، حيث التقوا معه في مدينة حلب وعقدوا اتفاقية صلح بين المملكتين الفارسية والرومانية، وبموجب هذا الصلح أعاد الفرس خشبة الصليب المقدس الذي كان بحوزتهم. ثم أقيم مطراناً على حدياب حتى انتخب جاثليقاً لكنيسة المشرق سنة 649، وظل يشغل هذا المنصب إلى أن وافته المنية سنة 659. كان إيشوعياب كاتباً موهوباً وإدارياً حازماً ومدافعاً غيوراً عن مصالح كنيسته.
6_ الراهب عنانيشوع: ولد في مقاطعة حدياب، وكان له أخ يدعى إيشوعياب، فذهب كلاهما إلى مدرسة نصيبين ليتعلما هناك وكان رفيقهما في الدراسة إيشوعياب الحديابي، ثم ترهبا في دير إيزلا الكبير. وزار عنانيشوع الأراضي المقدسة وصعيد مصر. ويقول توما المرجي صاحب كتاب الرؤساء: " انتدب إيشوعياب الحديابي لمعاونته في تنظيم الطقوس عنانيشوع الراهب ". ويذكر أن عنانيشوع هو مؤلف ومنظم النسخة الثانية لكتاب فردوس الآباء. وكان عالماً في الطقوس والموسيقى.
7_ الدير الأعلى: ويعرف أيضاً باسم دير مار كوريال ومار أبراهام. يقع الدير في الشمال الشرقي من مدينة الموصل داخل الأسوار المندرسة، ملاصقاً للقلعة العليا والمعروفة باسم باشطابية وهي كلمة تركية تعني القلعة العليا. ولا شك أن الدير كان عامراً سنة 650 إذ كان يعيش فيه البطريرك إيشوعياب الثالث الحديابي. وقد اشتهر الدير بمدرسته التي عرفت باسم " أم الفضائل ". وقد قال فيه الشابشتي في كتابه الديارت: " هذا الدير بالموصل يطل على دجلة والعروب، وهو دير كبير عامر، يضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المستشرف. ويقال أنه ليس للنصارى دير مثله لما في من أناجيلهم ومتعبداتهم، وفيه قلايات كثيرة لرهبانه ".
واشتهر الدير بأعياده خاصة عيد الشعانين الذي كان يحتفل به في الدير بأبهة وفخامة. وقد قال الشاعر الثرواني في احتفالات الدير بالشعانين:
اســـقني الراح صباحا             قــهوة صهباء راحا
واصطبح في الدير الأعلى             في الشعانين اصطباحا
إن لــم يصطحبها اليوم             لـــــم يلق نجاحا
ثم قلدني مــن الزيتون             والخوص وشـــاحا
فـي الشعانين وإن لاقيت             فـــي ذلك افتضاحا
عـظم الإعلام والرهبان              والصـــلب الملاحا
واجعـل البيعة والقصور              جميعاً مســـتراحا     
8_ " مذبرانوثا " لفظة بالكلدانية تعني التدبير، ويقصد بها التدبير الخلاصي، وتعني مجموع أعمال الله وحياة يسوع وأعماله من أجل خلاص البشر.
9 _ سوابيع جمع سابوع لفظة مشتقة من كلمة " شوعا " وتعني بالكلدانية سبعة، أطلقت على أزمنة طقسية لمدار السنة، وقد قسمت السنة الطقسية إلى سبعة أزمنة، ويحتوي كل زمن مبدئياً سبعة أسابيع. وأضيف في مقدمة السنة الطقسية زمن البشارة ويضم أربعة أسابيع بالإضافة إلى أسبوعين للميلاد، وختم بزمن تقديس البيعة ويضم أربعة أسابيع.     
10_ تذكار: " دوخرانا " لفظة بالكلدانية تعني تذكار، وهو يوم مخصص لذكرى ملافنة وقديسين وشهداء برزوا في خدمة الكنيسة والنفوس، ويخصص هذا اليوم للصلوات الفرضية بموجب الطقوس الكنسية، تمجيداً لأعمالهم الصالحة وفضائلهم السامية. وقديماً كان الاحتفال بتذكار قتل أطفال بيت لحم في الأحد الأول بعد عيد الميلاد.   
11_ جعل منظمي مدار السنة الطقسية تذكار القديسين أيام الجمعة، لأن قديسي كنيسة المشرق كانوا أغلبهم من الشهداء الذين شاركوا المسيح في آلامه الخلاصية. وكما أن يسوع رفع على الصليب يوم الجمعة، لذلك وضعت هذه التذكارات في هذا اليوم المجيد. علماً أن كنيسة المشرق أطلق عليها كنيسة الشهداء بسبب ما قدمته من أعداد كبيرة من الشهداء عبر العصور في سبيل الإيمان. 
12_ مار زيعا: ولد في فلسطين بداية القرن الرابع، والده يدعى شمعون ووالدته هيلانة. أسمياه زيعا وتعني " الخوف " وقاما بتربيته على البر والصلاح. رسم كاهناً في أورشليم ولشدة محبته للحياة الرهبانية جاء إلى بلاد المشرق، وسكن في مغارة في جبل جهران شمال غربي مدينة عقرة، ومكث في المغارة أربعين سنة غارقاً في التأمل والصلاة ليل نهار. وبعد حياة مديدة توفي في منطقة جيلو. 
13_ " الحوذرة " لفظة بالكلدانية تعني المدار، ويقصد بها مدار السنة الطقسية.
14_ يحتفل بتذكار الأربعين شهيداً في يوم الجمعة الثامنة من سابوع الدنح في حال كان السابوع مؤلف من تسعة جمع، أما إذا كان السابوع أقل من ذلك فيحتفل فيه يوم 9 آذار.
15_ النبي يونان: يونان هو الصيغة الآرامية للاسم العبراني " يونة " وتعني " الحمامة، ويونان بن أمتاي من سبط زبولون عبراني من القرن الخامس قبل الميلاد، وهو من أهالي جت حافر على بعد ثلاثة أميال من الناصرة. روت التوراة أنه طرح في البحر وابتلعه الحوت، ثم قذفه إلى البر بعد ثلاثة أيام. فرحل إلى نينوى وهناك دعا أهلها إلى التوبة. 
16_ " ملفان "، لفظة بالكلدانية تعني معلم في الكنيسة. 
17_ مار أفرام النصيبيني: ولد في نصيبين في بداية الجيل الرابع. تتلمذ لمار يعقوب النصيبيني فأقامه معلماً في المدرسة التي فتحها في نصيبين. ظل عاكفاً على التعليم فيها 38 سنة، ثم رحل إلى الرها، وفتح فيها مدرسة لبني جلدته عوض مدرسة نصيبين المنحلة عرفت بمدرسة الفرس. دبر هذه المدرسة حتى وفاته سنة 373 ودفن في الرها. أعلنه البابا بندكتس الخامس عشر ملفاناً للكنيسة الجامعة سنة 1920. كتب نحو ثلاثة ملايين بيت شعر، وله مؤلفات كتابية ولاهوتية وجدلية ونسكية وليتورجية.
18_ الملفان نرساي: ولد في معلثايا قرب دهوك شمال العراق سنة 399. دخل دير مار ماري قرب الجزيرة العمرية، ثم درس في مدرسة الرها، اختير مديراً لها فدبرها 20 سنة. ثم رحل إلى نصيبين حيث أعاد فتح مدرستها الشهيرة وأدارها مدة أربعين سنة. توفي في نصيبين سنة 503 ودفن فيها. ويعتبر من أشهر ملافنة كنيسة المشرق، وقد لقب بكنارة الروح القدس، ولسان المشرق، وشاعر الديانة المسيحية، وملفان الملافنة.
19_ عبد الملك بن مروان: هو خامس الخلفاء الأمويين ( 685_ 705 ) يعد المؤسس الثاني للدولة الأموية، إذ أنقذها من الأخطار ودفع بحدودها شرقاً وغرباً، وأعاد العراق إلى حظيرة الدولة بقضائه على مصعب بن الزبير. وفي عهده بدأت حركة تعريب الدواوين بإحلال اللغة العربية محل لغات أهل البلاد المفتوحة.   
20_ الحيرة: كلمة كلدانية تعني المعسكر. ينسب بناءها إلى الملك نبوخذنصر، موقعها بين مدينتي النجف والكوفة. أضحت قاعدة الملوك اللخميين، أهلها من مسيحيي كنيسة المشرق، ومنهم الشاعر عدي بن زيد. وكان ثلث سكان من المدينة من العباد، وهو قوم من المسيحيين انفردوا من الناس في قصور ابتنوها لأنفسهم ظاهر الحيرة. وبعد تنصر العائلة المالكة أقامت هند أم الملك عمرو ديراً في المدينة. ويقال أن الحيرة كانت تضم 21 ديراً. وفيها عقد أباء كنيسة المشرق مجمع مار داديشوع سنة 4245. ودفن فيها 6 جثالقة. فتحها خالد بن الوليد سنة 633، بعدها أخذت بالانحطاط تدريجياً.   
21_ الصوم الكبير ويدعى الصوم الأربعيني، وكنيسة المشرق تصوم أربعين يوماً ضمن سابوع الصوم الذي يتألف من سبعة أسابيع، فأيام الآحاد ضمن هذه السوابيع لا يجوز الصوم فيها، لأن الأحد هو يوم قيامة الرب. فالصوم ضمن كل سابوع من سوابيع الصوم يبدأ من يوم الاثنين وينتهي يوم السبت.
22_ " بيث صلوثا " جملة بالكلدانية تعني بيت الصلاة ( مُصلى )، وهو عبارة عن معبد خاص في فناء الكنيسة (حوش الكنيسة) تتم فيه الصلوات الطقسية والقسم الأول من القداس، في الفترة الممتدة ما بين عشية عيد الصعود وعشية الأحد الأول من زمن تقديس البيعة، وذلك بسبب الحر الشديد في هذه الفترة.
23_ بنطاقوسطي لفظة يونانية تعني الخمسين، دلالة على يوم الخمسين من بعد قيامة الرب، وفيه حل الروح القدس على العذراء مريم والتلاميذ في علية صهيون. أما العنصرة فجاءت من الكلمة العبرية " عصرة " وتعني اجتماع أو احتفال، يحتفل به اليهود بذكرى ختام الخمسين الفصحي بعد عيد الفطير. 
24_ بارقليط لفظة يونانية تعني المحامي أو المعزي أو المدافع أو المساند.
25_ يحتفل حالياً بتذكار الشهيدة شموني وأولادها السبعة في يوم الثلاثاء الأول من شهر أيار.


130
نصيبين في تاريخ كنيسة المشرق قديماً وحديثاً

                                                                                                                                      الشماس نوري إيشوع مندو 
1_ الاسم واللغة: مدينة نصيبين هي إحدى مدن مابين النهرين.إنها مدينة عريقة بالقدم، وجاء اسمها في العهد القديم. واسمها الخاص عند سكان ما بين النهرين صوبا أو نصيبين، وهي مشتقة من اسم    " غلات " نصو، ومعناها نصب أو زرع. وقد دعيت بهذا الاسم لأجل ما فيها من البساتين والجنان. وقال عنها مار أفرام النصيبيني أنها هي أكاد المذكورة في سفر التكوين، وينسب تأسيسها إلى نمرود الجبار. ولنصيبين أهمية متميزة لأنها محطة قوافل، ومركز تجاري مرموق، وبقعة زراعية خصبة. وكانت عاصمة لمملكة وطنية، حتى جددها سلوقس الأول نيقاطور (284_305 ق. م)، وقد دعاها اليونان أنطاكيا مقدونية. وأصبحت سنة 297 م بأيدي الرومان، فجعلها ديوقلسيانس (284_305 م) قلعة الشرق الحصينة، ومقراً لقائد بلاد ما بين النهرين.
تقع نصيبين على سفح جبل إيزلا، ومعناه الشبكة. يخترقها نهر مقدونيا أو الهرماس، ويعرف اليوم بنهر الجغجغ. وإلى شمال مدينة نصيبين يقع وادي بونصرا، ويعتقد البعض أن تسمية الوادي جاءت من اسم الملك نبوخدنصر، الذي جمع في الوادي المذكور أعداداً كبيرة من سبايا اليهود. وبحكم موقعها كحد فاصل بين المملكتين الرومانية والفارسية قديماً، إذ كانت تارةً تقع بيد الفرس، وتارة بيد الرومانيين. دعيت مدينة الحدود، ثم أصبحت عاصمة ديار ربيعة، واحتلها المسلمون في القرن السابع، عندما فتحها عياض بن غنم سنة 640 م. 
جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: " نصيبين مدينة من بلاد الجزيرة، على جادة القوافل من الموصل إلى الشام. وفيها وفي قراها، على ما يذكر أهلها، أربعون ألف بستان. وعليها سور بنته الروم. ونصيبين مدينة وبئة لكثرة بساتينها ومياها. وينسب إلى نصيبين جماعة من العلماء والأعيان".
وكانت الديانة المسيحية قد انتشرت فيها انتشاراً عجيباً، فبنيت فيها الكنائس الفاخرة، وكثرت فيها وفي أطرافها الأديار، وفتحت فيها المدارس. فسميت ترس كل المدن المحصنة و رئيسة ما بين النهرين و رئيسة المغرب و أم العلوم و مدينة المعارف و أم الملافنة.
أما نصيبين اليوم، فهي ضمن الدولة التركية، وهي بلدة صغيرة، يبلغ عدد سكانها ما يقارب الثلاثين ألف نسمة. ومن آثارها الباقية اليوم: 1_ كنيسة مار يعقوب النصيبيني 2_دير مار أوجين على جبل إيزلا المجاور 3_ دير الشهيدة فبرونيا الذي تحول إلى جامع زين العابدين.
2_ زمن انتشار المسيحية في نصيبين: بعد أن بشر أدي الرسول مدينة الرها، انحدر إلى نصيبين وبلاد الجزيرة، وهدى سكانها إلى الإيمان المسيحي. ويقول ماري بن سليمان في كتاب المجدل: " وتوجه أحي وماري إلى نصيبين وعمذ أهلها، وأنفذ ماري إلى المشرق، وأحي إلى قردي دبازبدي ". وعليه تكون المسيحية منتشرة في نصيبين منذ القرن الأول. وهناك في متحف اللاتران بروما كتابة منقوشة على الحجر تعرف باسم " حجر ابرسيوس " يعود تاريخها إلى نحو سنة 200 م، دونها أسقف هيرابوليس في فيريجية الوسطى المدعو افيرسيوس مارسيللوس، فبعد أن طاف البلاد وسجل ملاحظاته بشأن المسيحيين قال: " رأيت أيضاً السهل السوري وكل المدن ونصيبين وما وراء الفرات، في كل مكان وجدت أخوة "، ويقصد بكلمة الأخوة المسيحيين.
ويخبرنا مطران نصيبين إيليا برشينايا في تاريخه: " سنة ستمائة واثنتي عشرة يونانية سيم بابو الأسقف الأول بنصيبين، ومن أجل لم تكن له منزلة المطرنة، رتب اسمه في الديوفاطخين، أي سفر الأحياء والأموات الذي يقرأ أثناء القداس بعد اسم مار يعقوب ". ويقابل هذا التاريخ اليوناني سنة 301 م. وهكذا نستطيع القول أن بداية القرن الرابع الميلادي هو بداية تاريخ أبرشية نصيبين.
3_ حدود أبرشية نصيبين: إن حدود هذه الأبرشية يمتد من أطراف الموصل وحتى بلاد أرمينية. ونجد أحياناً عشرين أسقفاً يتبعون مطران نصيبين. وقد عين المطران أدي شير حدود هذه الأبرشية إذ قال: " أبرشية بيث عربايي، وتمتد من بيث زبداي ومن بلد إلى نصيبين، وقاعدتها نصيبين. والمراعيث المتعلقة بهذه المطرابوليطية هي: " ا_ بيث زبداي 2_ قردو 3_ بيث مكسايي 4_ أرزون 5_ أوستان أرزون 6_ بيث رحيماي 7_ قوبا أرزون 8_ طبياثا 9_ بلد 10_ آذورمية 11_ كفر زمار 12_ سنجار 13_ كانوش 14_ أخلاط 15_ ميافرقين 16_ آمد 17_ حران 18_ حصن كيبا 19_ رشعينا 20_ ماردين 21_ دارا 22_ دنيسر. وهذه المدن كلها في بلاد ما بين النهرين، ومواقعها معروفة ".
 وبعد أن كانت أبرشية نصيبين قبل عهد المطران عبديشوع الصوباوي " القرن 13 م " تدعى أبرشية نصيبين وأرمينية، وذلك لامتداد حدودها إلى بلاد أرمينية.، أضحت أسقفية في القرن السادس عشر. ويتضح ذلك من صورة إيمان البطريرك عبديشوع مارون(1555_ 1567) التي أعلنها أمام البابا بيوس الرابع، حيث يعد نصيبين بين الكراسي الأسقفية. وفي نهاية القرن السادس عشر أقيم يعقوب(1584_ 1615) مطراناً لنصيبين وماردين، ومقر كرسيه مدينة ماردين. لأنه سنة 1566 خربت نصيبين ولم يبق فيها إلا بيوت قليلة.
ولبثت أبرشية نصيبين مأهولة بأبناء كنيسة المشرق، وكان مطرانها الأخير يدعى إبراهيم، نقله مار يوحنا هرمز النائب البطريركي يوحنا هرمز سنة 1789 إلى كرسي كركوك. وعليه نرى نهاية هذه الأبرشية العريقة التي استمرت أكثر من ستة عشر قرناً. وأصبحت نصيبين رعية تتبع أسقفية ماردين، يخدمها كاهن يقيم الخدمة الروحية في كنيسة مار يعقوب النصيبيني.
وفي نهاية القرن التاسع عشر استولى على هذه الكنيسة السريان الأرثوذكس. وفي سنة 1913 كان في نصيبين 130 نسمة من أبناء كنيسة المشرق، يخدمهم الأب حنا شوحا، وكان يقيم الخدمة الدينية في مصلى، وإلى جانبه مدرسة لأبناء الرعية. وقد استشهد الأب شوحا خلال الحرب العالمية الأولى، سنة 1915. ولم يبق أحد من أبناء كنيسة المشرق في هذه المدينة العريقة والشهيرة عبر التاريخ.
4_ مكانة أبرشية نصيبين في كنيسة المشرق: يعد مجمع مار اسحق، المنعقد في ساليق سنة 410 م بحضور ماروثا الميافرقيني، أول مجمع هام في تاريخ كنيسة المشرق. ويتناول القانون الأخير تحديد المقاطعات الكبرى في كنيسة المشرق. فكرسي الجاثليق هو في ساليق وقطيسفون وهي أبرشيته. وتعد أبرشية عيلام الأبرشية الأولى، تليها أبرشية نصيبين التي تعد الأبرشية الثانية، لأنها مدينة مهمة ومركز لإشعاع ثقافي وديني واسع. وكان مجمع مار اسحق قد اتبع نظاماً لترتيب الأبرشيات بنص واضح: " يكرم الكرسي على مقدار أهمية المدينة نفسها ". وعليه نجد في حفلة سيامة الجاثليق، يقف مطران عيلام في الوسط على درجة المذبح، وهو المطران السايوم " الراسم "، ويقف عن يمينه مطران نصيبين، وعن يساره مطران ميشان. وورد في الكتاب الليتورجي: " إن المطارنة الذين يرافقون الجاثليق يميناً ويساراً للتنصيب على العرش هم مطارنة عيلام ونصيبين وميشان ".
وكان لمطران نصيبين مكانة رفيعة بين أخوته المطارنة، وله صوته المسموع بينهم. ويخبرنا تاريخ كنيسة المشرق عن بعض هؤلاء المطارنة، منهم مار يعقوب النصيبيني الذي حضر مجمع نيقية سنة 325 م كممثل لكنيسة المشرق، كذلك حضر تدشين كنيسة القيامة بأورشليم في عهد الملك قسطنطين بنفس الصفة.
وفي مجمع داديشوع سنة 424 م تتجلى هذه المكانة بشخص هوشع مطران نصيبين، عندما يتوجه بكلامه إلى الأحبار المجتمعين بسبب استقالة الجاثليق قائلاً: " ما لي أراكم ساكتين وراضين بالاشتراك مع هؤلاء المرذولين والمسقطين ". وكان في كلامه قوة كبيرة أفلحت في إنهاض الهمم وتوحيد الكلمة وتوطيد العزم، وإذا بالمطارنة جميعاً يخرون راكعين عند قدمي الجاثليق، ويعدونه بحرم المعارضين وعزلهم. وهكذا عاد الجاثليق عن الاستقالة، وعاد السلام إلى كنيسة المشرق.
وعندما كلفت الملكة بوران ابنة كسرى الثاني، الجاثليق ايشوعياب الثاني الجدالي(628_ 645) للسفر إلى مدينة حلب، ولقاء الإمبراطور هرقل لعقد صلح نهائي بين المملكتين الفارسية والرومانية، نجد قرياقس مطران نصيبين من الأعضاء البارزين المرافقين للجاثليق. وفي مجمع طيمثاوس الثاني المنعقد سنة 1318 م، وضع مطران نصيبين عبديشوع الصوباوي، كتابين مهمين لحياة كنيسة المشرق. أحدهما مجموعة القوانين المجمعية، والثاني الأحكام الكنسية. فأيد المجمع الكتابين المذكورين. وهناك الكثير من المواقف لمطارنة نصيبين لا مجال لذكرها.
5_ أشهر مطارنة نصيبين: تعاقب على كرسي أبرشية نصيبين أكثر من ستين مطراناً أهمهم:
ا: مار يعقوب النصيبيني (309_ 338): ولد في مدينة نصيبين، من أسرة تنتمي إلى يعقوب أخي الرب. اختار سيرة الزهاد والمتوحدين، وفي مطرنته لم يغير سيرته التقشفية، وزاد على ذلك الاعتناء بالفقراء. صنع الله على يده معجزات كثيرة باهرة. سنة 313 م بدأ بتشييد كنيسة في نصيبين وكملها سنة 320 م. ثم بنى دير قيبوثا " الفُلك " على جبل جودي. وبعد عودته من مجمع نيقية سنة 325 م افتتح مدرسة نصيبين الشهيرة، وجعل مار أفرام تلميذه معلماً فيها. توفي سنة 338 م، وقبر في الكنيسة التي بناها.   
ب: برصوما (415_ 496): ولد في مقاطعة قردو، درس في الرها على الأستاذ هيبا، وأقام فيها حتى سنة 449، ثم رحل إلى نصيبين. ولا نعلم متى سيم مطراناً على نصيبين. لكن في سنة 457، عندما ترك نرساي الرها، كان برصوما مطراناً لنصيبين، فأعاد فتح مدرستها وجعل نرساي مديراً لها. ويقال إنه نال حظوة عند فيروز الملك الفارسي. له عدة أعمال أدبية.
ث: بولس النصيبيني (524_ 573): هو أحد تلاميذ مار آبا. تلقى العلم في مدرسة نصيبين وعلم فيها. رسمه مار آبا مطراناً على نصيبين بين سنة 524 وسنة 530. توفي سنة 573 وله عدة كتابات أهمها: 1_ ضوابط الشريعة الإلهية 2_ مقالة جدلية مع قيصر.
د: روزبيهان ( القرن الثامن): اقتبل الاسكيم الرهباني في دير مار ميخائيل قرب الموصل. ثم أصبح رئيساً لدير مار أوجين في جبل إيزلا، حتى رسم مطراناً لنصيبين. اهتم في نهضة دير مار أوجين في مطرنته، وخصص له واردات قرية هيزجان المجاورة للدير، لتوفير وسائل المعيشة للرهبان، فازداد عدد الرهبان وانتشروا في شتى المقاطعات.
ذ: قبريانوس (741_ 767): عين مطراناً لنصيبين سنة 741. وفي سنة 758 شيد كنيسة فخمة في مركز الأبرشية. له مقالة في الرسامة. وقد أسهم في تنظيم كتاب الحبريات، وفي تنظيم الطقوس الذي حققه ايشوعياب الثالث.     
ر: سركيس الأول (القرن التاسع): هو من أهل باجرمي. ارتقى إلى مطرانية نصيبين. في سنة 860 انتخب جاثليقاً لكرسي المشرق، توفي سنة 872. كان سركيس غيوراً ذا همة سامية في إصلاح شؤون كنيسته. ورمم الأديار والكنائس، ونشط طلبة المدارس، ورسم عدة أساقفة. 
ز: إيليا برشينايا (975_ 1056): ولد في السن، ترهب في دير مار ميخائيل قرب الموصل. في سنة 1002 أقيم أسقفاً على بيث نوهدرا. سنة 1008 عين مطراناً لنصيبين. توفي سنة 1056 ودفن في كنيسة ميافرقين، له عدة مقالات وكتاباً في النحو، وأربعة كتب تتضمن أحكاماً كنسية. وأهم مصنفاته هو تاريخه الاستقرائي الذي يدعى تاريخ إيليا برشينايا. 
س: عبديشوع ابن العارض (القرن الحادي عشر): هو أبو الفضل الموصلي. كان حسن الخلق والخلقة. له باع طويل في العلم والتدبير. رسم مطراناً لنصيبين. وفي سنة 1074 اختير بطريركاً لكنيسة المشرق، فدبر الكنيسة بحكمة، وقد أرضى الجميع. وقد حصل من الخليفة القائم بأمر الله على براءة أمان لرعيته وبيعه. توفي سنة 1094 ودفن في بيعة دار الروم.
ش: إيليا أبو حليم (1108_ 1190): ولد في ميافرقين سنة 1108. وبعد أن تضلع في الآداب العربية والآرامية رسم مطراناً لنصيبين. ويقال إنه لم يكن بين آباء كنيسة المشرق من يماثله علماً وحكماً وكرماً وبلاغة وفصاحة. لذلك اختير سنة 1176 بطريركاً لكنيسة المشرق. توفي سنة 1190. كان إيليا أبو حليم مرتاضاً بالعلوم النحوية واللغوية والحكمية.
ص: يهبالاها الثاني ابن قيوما (القرن الثاني عشر): ولد في الموصل. أقيم أسقفاً على ميافرقين، ثم مطراناً لنصيبين. وكان يهبالاها رجلاً ذكياً. سنة 1190 أنتخب بطريركاً لكنيسة المشرق. وفي فترة بطريركته رسم 18 مطراناً و37 أسقفاً. توفي سنة 1222.
صا: مكيخا الثاني ( القرن الثلث عشر): كان من أهل جوغبان من أعمال نصيبين. وكان ذا حدة وصرامة، شهيراً بالعلم والفضل. اختير مطراناً لنصيبين فدبرها أحسن تدبير، حتى أنتخب بطريركاً لكنيسة المشرق سنة 1257. وفي عهده زحف المغول واجتاحوا مناطق الشرق الأوسط. توفي سنة 1290.
صب: عبديشوع الصوباوي (القرن الثلث عشر): هو عبديشوع بن بريخا . سنة 1285 أقيم أسقفاًً على سنجار و بيث عربايي، و في سنة 1290 أقيم مطراناً لنصيبين وأرمينية. توفي سنة 1318. ويعد الصوباوي أغزر كاتب شرقي في القرن الثالث عشر . له عدة مؤلفات أهمها: 1- فهرس المؤلفين  2-الجوهرة 3- نوما قانون 4- فردوس عدن 5- تنظيم الأحكام الكنسية. 
6_ الحياة الرهبانية في أبرشية نصيبين: كانت الحياة الرهبانية منتشرة انتشاراً كبيراً في كنيسة المشرق، منذ القرن الرابع للمسيحية. ويتضح ذلك من مقالة أفراهاط الحكيم الفارسي سنة 337 بخصوص الرهبان، حيث يطلق عليهم لقب المنفردين، أو البتولين، أو بني العهد. ويسمي الراهبات بتولات، أو بنات العهد. أما في القرون المسيحية الثلاثة الأولى، فلم يكن في المشرق رهبان أو راهبات، يعيشون في ديورة منظمة بقوانين رهبانية. إنما كان الرجال والنساء من ينقطعون عن العالم، للصوم والصلاة والاختلاء في الصوامع أو في بيوت ذويهم. 
وأول من أنشأ الطريقة الرهبانية، كان أنطونيوس الكبير المعروف بأبي الرهبان، وذلك سنة 305 في صعيد مصر. وقد دخلت الطريقة الرهبانية إلى كنيسة المشرق على يد مار أوجين في القرن الرابع، إذ قدم من مصر ومعه سبعون تلميذاً، وحل في أبرشية نصيبين، حيث سكن في مغارة قرب قرية معرى، في جبل إيزلا المطل على نصيبين،مدة ثلاثين سنة. وتتلمذ له إخوة كثيرون، حتى صار عدد الرهبان ثلاثمائة وخمسين راهباً. ثم بنى على جبل إيزلا ديراً كبيراً عرف باسمه " دير مار أوجين ". وتفرق رهبانه في الجزيرة وفارس وهم يبشرون بكلمة الخلاص، فارتفع بسعيهم شأن المسيحية في المشرق. توفي مار أوجين سنة 363، ودفن في مغارة تحت المذبح في الدير الذي بناه.
وبعد موته استمرت حياة الرهبنة في كنيسة المشرق، وازدهرت بسبب السيرة الحسنة للرهبان الذين انتشروا في العالم، مبشرين بالإيمان والفضيلة. ومن هؤلاء الرهبان برز ملافنة زينوا الكنيسة بتأليفهم وعلمهم. وأخذت الكنيسة منهم أغلب الأساقفة لتدبير الأبرشيات، لتميزهم بالعلم والفضيلة والغيرة على خلاص النفوس. وفي نهاية القرن الخامس، أخذ عدد الرهبان بالتناقص بسبب قرارات المجمع الذي عقده الجاثليق آقاق سنة 486، وفيه ألغيت العفة للإكليروس. وبرغم ما بذله الجاثليق مار آبا من جهود، لم يفلح في إعادة الحياة الرهبانية إلى سابق عهدها. حتى ظهر في منتصف القرن السادس رجل ذو غيرة عارمة، فعكف على إصلاح الحياة الرهبانية. إنه إبراهيم الكشكري الذي ولد في كشكر سنة 491، وتلقى العلم في مدرسة نصيبين، وبعد أن نال من العلم قسطاً وافراً، توجه إلى منطقة الحيرة للتبشير، ومنها ذهب إلى صعيد مصر، واطلع على حياة الرهبان وممارستهم الروحية. ثم عاد إلى نصيبين وانزوى في جبل إيزلا، وبنى فيه ديراً عظيماً، فشاع صيته وتتلمذ له رهبان كثيرون. وفي سنة 571 وضع قوانين لرهبانيته، منها اللباس وفرض عليهم أن يحلقوا قمة الرأس ليظهر على شكل إكليل، واستحق إبراهيم الكشكري بفضائله وقداسة سيرته أن يلقب بالكبير. وعرف ديره بالدير الكبير، وقد توفي سنة 588. ويقول توما المرجي عن الدير الكبير: " مثلما في الأزمنة السالفة، كل من يريد أن يتعلم الفلسفة اليونانية كان يقصد آثينا، كذلك في زمن مار إبراهيم، كل من رغب في الفلسفة الروحية، كان عليه أن يسرع إلى دير هذا القديس، ويجعل نفسه إبناً له ". وقد أصبح الدير الكبير ينبوع رجال شابهوا الرسل بسيرتهم، وملئوا المشرق بالأديار حتى بلغت أكثر من ستين ديراً. واستمر دير مار إبراهيم الكشكري حتى سنة 1222 حيث خرب على يد المغول ثم التركمان. وفي اللائحة التي قدمها سنة 1607 إلى بولس الخامس بابا روما، الوفد الذي أرسله البطريرك إيليا السابع، وردت أخبار عن أحوال كنيسة المشرق، وفيها تذكر أسماء خمسة وثلاثين ديراً مأهولاً، منها دير مار أوجين ودير مار إبراهيم الكشكري ودير مار يعقوب الحبيس ودير مار يوحنا نحلايا ودير مار آحا. وهذه الأديار تقع ضمن حدود أبرشية نصيبين، مما يدل على استمرار الحياة الرهبانية في هذه الأبرشية حتى بداية القرن السابع عشر. 
كذلك تأسست عدة ديورة للراهبات، ولا نعرف منها في أبرشية نصيبين سوى دير " مارت نارسوي " في مدينة نصيبين، وكن يلبسن ثوباًً أسود، ويقصصن شعرهن، ويعشن عيشة مشتركة، وكانت وظيفتهن تلاوة الصلوات القانونية والتراتيل في الكنيسة.
ففخر أبرشية نصيبين أنها مهد الرهبانية المنظمة في كنيسة المشرق، وقد تمكنت الكنيسة بواسطة هؤلاء الرهبان من الانتشار في العالم.
7_ مدرسة نصيبين الشهيرة: يقول العلامة لابور: " إن المدينة المطرابوليطية الكبيرة نصيبين شهدت ناشئة داخل أسوارها أول كلية لاهوتية، وأول جامعة درس فيها علم الإلهيات ". ففي سنة 325 فتح مار يعقوب النصيبيني مدرسة في نصيبين، وسلم إدارتها إلى مار أفرام، فدبرها بغيرة ونشاط حتى سنة 363 حين سلمت نصيبين إلى ملوك الفرس. عندها ترك مار أفرام مع أساتذة المدرسة، المدينة وانطلق إلى الرها حيث فتح مدرسة لبني جلدته عوض مدرسة نصيبين، عرفت بمدرسة الفرس. واستمرت في الرها حتى سنة 457 عندما هجر نرساي الملفان مدينة الرها وعاد إلى نصيبين، واتفق مع برصوما مطران نصيبين على تنظيم مدرسة نصيبين وافتتاحها. وخلال مدة قصيرة تقاطر إليها عدد كبير من الأخوة من جميع الجهات.
أما مدرسة الرها، فبعد هجرة نرساي إلى نصيبين أخذت تتراجع حتى أغلقت سنة 489 من قبل أسقف الرها قورا. أما مدرسة نصيبين، فقد لمعت وازدهرت بشكل مذهل.     
وكانت مدرسة نصيبين جمعية حقيقية منظمة ومقيدة بقوانين وضوابط، يسوسها رئيس يدعى ربان، أما منهاج التدريس، فيقول عنه عبديشوع الصوباوي في كتابه نوماقانون: " إن الدروس كانت تدوم ثلاث سنين. يقرأ التلاميذ فيها أسفار العهد القديم والجديد، ويتعلمون الهجاء والقراءة والكتابة على اللوح، والألحان الكنسية وتراتيل القداس وفقاً للسنة الطقسية، وتراتيل البيم والقواعد والخطابة والجدل والموسيقى والهندسة والرياضيات، والفلك لاحتساب التقويم والأعياد والأصوام، كذلك التاريخ وكتب التصوف الروحي وسير القديسين وأعمال الشهداء وكتابات الآباء ".   
أما الأمور المالية والاقتصادية للمدرسة، فكانت بيد رئيس البيت الذي كان مسؤولاً عن ممتلكات المدرسة كافة. وقد تم بناء حمام في مدينة نصيبين، آلت أرباحه إلى سد نفقاتها، وتم بناء مستشفى لمعالجة المرضى، كما تم شراء قافلة جمال، آلت أرباحها إلى صندوق المدرسة. ومن هذه الواردات كان يتم تشييد أبنية جديدة للمدرسة، ومساعدة التلاميذ الفقراء والمرضى. كما شيدت دار للضيافة لاستقبال الضيوف العابرين من نصيبين، والاهتمام بهم.
ومن خلال هذا النظام الصارم والمنهجية الواضحة، كان يزداد عدد الطلاب بشكل مثير، حتى ناهز أحياناً 1000 طالب. وقد تبوأ المتخرجين فيها أعلى المناصب في كنيسة المشرق، فمنهم جثالقة ومطارنة وأساقفة وعلماء ومؤسسو مدارس جديدة.
ومنذ أن أنشئت مدرسة نصيبين سنة 325 وحتى بداية القرن الثامن، زمن انحطاط هذه المدرسة، تعاقب على إدارتها رؤساء متميزون، دبروا المدرسة بحكمة وهمة قعساء، ساهرين على مصالحها الأدبية والمادية. فنمت وازدهرت في عهدهم، وأضحت جامعة بحد ذاتها، وهؤلاء الرؤساء هم: 1_ أفرام النصيبيني 2_ قيورا 3_ مار نرساي 4_ اليشاع برقوزباي 5_ إبراهيم بيث ربان 6_ ايشوعياب الارزني 7_ إبراهيم النصيبيني 8_ حنانا الحديابي 9_ ربان سورين.
ختاماً نستطيع القول إن مدرسة نصيبين الشهيرة كانت مركز ثقل، ومعين وحي للحياة الفكرية والروحية لكنيسة المشرق.
8_ ما تبقى من آثار نصيبين في الزمن الحاضر: إن عوادي الزمان أزالت الكثير من آثار هذه الأبرشية. ولم يبق من عظمة هذه الآثار إلا الشيء اليسير جداً، نذكر منها:
ا: كنيسة مار يعقوب النصيبيني: أسسها مار يعقوب مطران نصيبين سنة 313، وانتهى العمل فيها سنة 320. كانت هذه الكنيسة آية في الجمال والفن المشرقي، واسعة الأرجاء، زينت جوانبها الأربعة بزخارف ونقوش جميلة، فيها أسوار تعلوها نقوش كثيرة وبديعة. تحت مذبحها الشرقي سرداب مربع يحوي ضريحاً من الرخام المغبر طوله 3 أذرع، مغطى بحجر مقبب، يقال إنه ضريح مار يعقوب النصيبيني باني الكنيسة. وفيها حجرة سطرت عليها جملة بالأسطرنجيلية. ومع تدوال الأيام قوض نصفها وبقي نصفها الآخر حتى اليوم. وقد رممها سنة 1562 مطران نصيبين ايشوعياب. وقد أخذها السريان الأرثوذكس من الكلدان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويؤيد قولنا هذا ما قاله المطران اسحق ساكا في كتابه كنيستي السريانية: " حتى أواسط القرن التاسع عشر، استولى البطريرك يعقوب الثاني 1847_ 1871 على بيعة مار يعقوب النصيبيني في نصيبين، ورسم لها قورلس   اشعيا ".
ب: دير القديسة فبرونيا: أسسته الراهبة برونة، وجمعت فيه نحو 50 راهبة. وجعلت لهن قانوناً شديداً صارماً. وبعد استشهاد الراهبة فبرونيا، دفنت في الدير المذكور. وموقع الدير هو جامع زين العابدين الحالي. وقد بقي جسد فبرونيا في ضريح الدير حتى يومنا هذا.
ث: دير مار أوجين: يقع دير مار أوجين في سفح جبل إيزلا المطل على نصيبين، بالقرب من قرية معرى. والدير مستو في واد بين جبلين، يشرف على البرية وعلى نصيبين. ويتكون دير مار أوجين من مجمع ديري رهباني، يشتمل على المباني التالية:
1_ الكنيسة الكبرى : وفيها ضريح مار أوجين، وإلى جانبه ضريحا أختيه تقلا وأسطرنطاس، والأضرحة الثلاثة هي من الرخام المغبر. 
2_ المصلى الصيفي : يقع شرقي الكنيسة الكبرى. ويشتمل على غرفة متسعة فيها قبور كثيرة.
3_ بيت الصلاة : وهو مؤلف من ثلاثة أروقة عالية معقودة بالآجر، وعلى الرواق الأوسط قبة يعلوها القرميد الأحمر، وتحتها غرفة مربعة على اسم العذراء مريم.
4_ أطراف الدير : ويوجد في أطراف الدير مناسك وصوامع شتى. يكتنفها سور، وآثاره بينة ظاهرة، وبئر كبيرة ومغارة وسيعة فيها عظام الراقدين.
وقد شيد هذا الدير في القرن الرابع المسيحي، وكانت له أهمية لدى كنيسة المشرق. حيث راجت فيه أسواق العمران الروحي والعلمي والديني والثقافي عدة أجيال. وقد استولى عليه السريان الأرثوذكس في أواخر القرن السابع عشر، ودمره الجيش التركي في سنة 1925.
د: دير مار إبراهيم الكشكري: يقع هذا الدير في منطقة بيث جوجل جنوبي قرتمين، وجنوب شرقي بيث ريشا. بناه إبراهيم الكشكري في القرن المسيحي السادس. وقد قام هذا الدير الشهير بدور رائد في الحياة الفكرية لكنيسة المشرق. وقد دعي بالدير الكبير، حيث أضحى مدرسة رهبانية روحية، يتدرب فيها الرهبان على الفضائل المسيحية والغيرة الرسولية. استولى عليه السريان الأرثوذكس في القرن التاسع عشر.           
ذ: دير يوحنا الطائي: يقع شرقي دير مار أوجين ويبعد عنه 3 كم. ويوحنا مؤسس الدير هو أحد تلاميذ مار أوجين. وقد دفن يوحنا الطائي في ديره، وشيد الرهبان فوق ضريحه كنيسة مقببة فخيمة، مؤلفة من سوق واحد، يفصله عن الخورس حاجز. وقد استولى السريان الأرثوذكس على هذا الدير في القرن التاسع عشر.
الخاتمة: من خلال هذه اللمحة القصيرة والسريعة لتاريخ أبرشية نصيبين العريق والشهيرة، نلاحظ الدور الرائد الذي أدته هذه الأبرشية في تاريخ كنيسة المشرق. فنشاط وحيوية هذه الأبرشية العريقة، أعطى دفعاً مهماً إلى حياة هذه الكنيسة.
 
المراجع:
1_ مدرسة نصيبين الشهيرة                         المطران أدي شير
2_ سيرة أشهر شهداء المشرق                      المطران أدي شير
3_ تاريخ كلدو وآثور                               المطران أدي شير
4_ تاريخ الكنيسة الشرقية 3 أجزاء                 الأب ألبير أبونا
5_ أدب اللغة الآرامية                              الأب ألبير أبونا
6- كنيسة المشرق                                  الأب يوسف حبي
7_ تاريخ إيليا برشينايا                              الأب يوسف حبي 
8_كتاب المجدل                                     ماري بن سليمان
9_ الكنيسة الكلدانية                                  الخوري يوسف تفنكجي
10_ ذخيرة الأذهان                                  الأب بطرس نصري
11_المؤسسة البطريركية في كنيسة المشرق         المطران عمانوئيل دلي   
12_ سورية المسيحية في الألف الأول للمسيحية     الأب متري هاجي اثناسيو
13_ كنيستي السريانية                               المطران اسحق ساكا
14_ ثقافة السريان في القرون الوسطى               نينا بيغوليفسكايا 
15_ معجم البلدان 5 أجزاء                          ياقوت الحموي                 

131
رحلة حج إلى أبرشيات كنيسة المشرق المنسية " الجزء الرابع "
الشماس: نوري إيشوع مندو
اليوم الخامس: الجمعة 16 حزيران 2006
استيقظنا باكراً وتوجهنا إلى كنيسة الدير لحضور صلاة الصباح، ومن المعلوم أن دير الزعفران هو من أقدم أديرة السريان. يقع في الجهة الشرقية من ماردين، وكان في غابر الزمان حصناً منيعاً للرومان، وقد أخربه الفرس سنة 607 فبقي مهجوراً. ابتاعه مار حنانيا مطران ماردين بعد سنة 793 وجعله ديراً، واهتم في بنائه وتنظيمه واشتهر باسمه دير مار حنانيا. ويضم الدير كنيسة جميلة على شكل صليب، وفي الطابق الأعلى كنيسة الكرسي التي شيدت في نهاية القرن السابع عشر. وكان الدير مقر كرسي البطاركة السريان منذ القرن الثاني عشر، وكان البطريرك مار ميخائيل الأول أول من جلس فيه. واستمر الكرسي هناك حتى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث نقل إلى مدينة حمص السورية ومنها إلى دمشق. ويضم الدير الكثير من الغرف بالإضافة إلى العديد من القلالي حوله كانت مسكناً للرهبان والنساك. ويطلق على الدير اسم دير الزعفران أو الكركم، وقد جاءت هذه التسمية بعد القرن الخامس عشر، حيث يتحدث التقليد الشائع أنه خلال بناء الدير مر من هناك تاجراً يبيع نبات الكركم أو الزعفران، فاشترى منه رئيس الدير كمية كبيرة وخلطها مع مواد البناء، وبسبب ذلك أطلق على الدير هذا الاسم.
بعد أن تناولنا طعام الفطور غادرنا الدير متوجهين نحو مدينة ماردين، هذه المدينة الشهير في بلاد ما بين النهرين، والمشيدة فوق جبل باذخ، تعلوه قلعة حصينة، سماها الكتبة سيدة القلاع ومركز الحصار والدفاع. وماردين كلمة آرامية تعني الحصون. عرفت المدينة وجوارها المسيحية منذ القرن الثالث بفضل مطارنة نصيبين، ومنذ ذلك الزمن وجد فيها كرسي أسقفي يتبع مطرابوليطية نصيبين. وأضحت كرسياً أسقفياً مستقلاً منذ زمن الاتحاد، وقد تعاقب على كرسيها خمسة عشر مطراناً حتى منتصف القرن العشرين. وتضم المدينة اليوم 75 عائلة مسيحية، أكثرها من السريان الأرثوذكس وبضع عائلات من الأرمن والسريان الكاثوليك وعائلة كلدانية واحدة تسكن في دار المطرانية هي عائلة عدنان دهين. ويخدم هذه العائلات بمحبة وتفاني القس كبرئيل السرياني الأرثوذكسي.
ومن المعلوم أن ماردين وجوارها كانت غنية بالحضور المسيحي منذ البدايات، والدليل على ذلك كنائسها وأديارها القديمة التي تشهد على عراقتها بالقدم، ومنذ القرن الثاني عشر تقلصت هذه الصروح تدريجياً، إما بسبب مصادرتها من قبل الحكام وتحويل أبنيتها إلى جوامع كما جرى في زمن الأراتقة، وإما بسبب الحروب والغزوات كما حصل في زمن المغول. أما في بداية حكم العثمانيين الذين انزلوا بالمسيحيين النكبات والعقوبات،  " فاضطر مسيحيي الصور والأحمدي وأستل ورشمل وعشائر المحلمية والراشدية والمخاشنية والأومرية أن يهجروا المسيحية ويدينوا بالإسلام حفاظاً على حياتهم ".  والدليل على ذلك الإحصاء الذي جرى في ماردين في بداية القرن السادس عشر، حيث نجد أن أغلب سكان ماردين كانوا من المسيحيين، وإلى جانبهم قلة من اليهود والشمسية  والإسلام.   
وكانت أبرشية ماردين الكلدانية تضم في القرن الثامن عشر 50000 نسمة موزعين على المدينة و36 قرية، ولكن العدد تناقص كثيراً بسبب الاضطهادات العنيفة والمستمرة بحق المسيحيين. وقبيل المذابح كان للأبرشية عدة مراكز إلى جانب المدينة هي: نصيبين. مذيات. تل أرمن. ويران شهر. ديركي. وجميع هذه المركز دمرت بعد قتل سكانها وهجر من تبقى منهم.
وقد عانى مطرانها الأخير مار إسرائيل أودو الكثير من الصعوبات خلال المذابح، وكما مرة هدد بالاعتقال والقتل لكنه نجا من ذلك، وكم بذل من جهود ودفع ما كان يملك من الأموال في سبيل تحرير الكثير من النساء المسيحيات اللواتي كنا يسقن من سعرت وديار بكر والمناطق الأخرى إلى البرية مروراً بماردين. وخلاصة القول أن هذا الحبر الجليل لزم الصبر على المحن والبلايا، وفاضت عيناه بالدموع حزناً على أولاده، وجرح قلبه الكبير على ما آلت إليه أبرشيته. وقد كتب ما شاهده في ماردين، أو ما سمعه من شهود عيان من باقي المناطق في مذكراته. وكتب قصيدة تتحدث عما جرى خلال المذابح بلغة كلدانية صافية، جاءت في 16 صفحة من القطع المتوسط.
ويتحدث المطران إسرائيل أودو في مذكراته عن الشخصيات التي ارتكبت الجرائم بحق مسيحيي ماردين وجوارها: " مع بداية المذابح كان متصرف ماردين يدعى حلمي باشا، هذا الرجل الشريف رفض بشكل قاطع أوامر رشيد والي ديار بكر ورد عليه بشجاعة: لست رجلاً بلا ضمير، وليس لي ما ألوم به مسيحيي ماردين، ولن أنفذ أوامرك ما حييت. وبعد أيام أقيل من منصبه وعين بديل عنه شفيق بك, وهذا أيضاً لم يقبل بالمظالم التي كانت ترتكب وعارضها بشدة، فأقيل من منصبه بعد أربعين يوماً. وعليه شكل رشيد والي ديار بكر لجنة خاضعة له مباشرة مؤلفة من: عارف أفندي رئيس المحكمة الجنائية. توفيق بك. هارون قائد الشرطة. محمود مدير شرطة ماردين. وقد عين بدر الدين بك متصرفاً بديل عن شفيق بك، وفي عهدهم جرت هذه المظالم "  .
وهنا لا بد من ذكر شخص نبيل هو وهبت بك قائمقام صْور قرب ماردين، الذي استضاف في منزله ومزرعته قرابة مائتي مسيحي أغلبهم من النساء والأطفال، افلتوا من القوافل التي كانت تمر بماردين. وقد أبدى شجاعة كبيرة للقيام بهذه المهمة الإنسانية الحميدة، في وقت كانت تسود البلاد موجة من الإرهاب والاضطهاد. وبعد هدوء العاصفة تركهم وشأنهم، فغادروا من عنده شاكرين أريحيته وشهامته.
أما الأب يوسف تفنكجي الكلداني فقد هرب من ماردين إلى جبل سنجار بسبب تهديده من قبل الأشرار، ليدفع لهم ما وضعته لديه حسب أدعاهم النساء الأرمنيات من أموال ومجوهرات كي يحافظ عليها، وبقي هناك من سنة 1915 وحتى نهاية سنة 1916 يخدم نفوس الكلدان الفارين هناك من جور الظالمين. وما أن عاد إلى ماردين حتى ألقي القبض عله في بداية سنة 1917 واتهم بالتجسس لصالح فرنسا، وفي السجن نال الكثير من الضرب حتى اقتلعت أظفاره عن أصابع رجليه. ثم سيق إلى سجن ديار بكر، وهناك احتمل شتى أنواع العذاب حتى صدر الحكم بإعدامه، فطلب منه أن يشهر إسلامه لينال العفو، وقد رد على طلبهم بثبات: " موتي في سبيل إيماني خير من حياتي مسلماً ".
لكن المطران سليمان صباغ ميز الحكم بمساعدة صديقه رضوان بك، ففسخ الحكم ونال العفو، وعاد إلى ماردين في شباط 1918 ضعيف البنية من سوء العذاب. فطلب منه المطران إسرائيل أودو أن يغادر ماردين خوفاً على حياته، فغادرها إلى سوريا ومنها إلى لبنان حيث استقر هناك حتى وفاته فيها سنة 1950.
أما الأب حنا يغمور الكلداني  فقد بقي مصيره مجهولاً حتى يومنا هذا، فبعد أن رسم كاهناً في الموصل سنة 1915. طلب منه المطران سليمان صباغ أن يعود إلى الرها ليخدم نفوس الرعية هناك، وبعد أن ترك الموصل في طريقه إلى الرها فقد أثره ولم يصل إلى مركز عمله، وعلى الأرجح قتل في الطريق.
أما الأب أوغسطين خرموش  فقد ألقي القبض عليه سنة 1929 وأدخل السجن. وعمل المطران إسرائيل أودو على إطلاق سراحه، ثم أرسله إلى الجزيرة العليا السورية ليخدم النفوس في مدينة الحسكة المستحدثة.       
ما أن وصلنا المدينة حتى توجهنا إلى كاتدرائية الربان هرمز الكلدانية، والتي تعتبر أقدم كنيسة في المدينة إذ شيدت سنة 410 م، وقد تجمع العديد من مسيحيي المدينة، وبحضور المطران صليبا والقس كبرئيل أقام المطران أنطوان أودو السامي الاحترام قداساً احتفالياً.
بعد القداس وقفنا عند قبر المطران إسرائيل أودو أخر مطارنة ماردين، وإلى جانبه قبر المطران أغناطيوس دشتو وصلينا من أجل راحة نفسيهما، والقبران يقعان عن يمين المذبح. ثم زرنا قبر المطران إيليا ملوس  الواقع عن يسار المذبح وصلينا من أجل راحة نفسه.
ثم شاهدنا بئر الماء عند باب الكنيسة، هذا البئر الشهير الذي يتهافت عليه مسلمي ومسيحيي المدينة في عيد شفيع الكنيسة الربان هرمزد، لأخذ كمية من ماءه لرشها في البيوت حتى تقيهم من لسع العقارب، وعليه عرفت الكنيسة بين العامة بـ كنيسة العقرب أو بيعة العقرب.
ثم صعدنا إلى دار المطرانية وشاهدنا ما تبقى فيها من مخطوطات وكتب مبعثرة هنا وهناك مما يدمي القلب، وشاهدنا مكتب المطران إسرائيل أودو والذي يضم ثلاث لوحات زيتية رائعة لمطارنة ماردين هم: مار إسرائيل أودو. ومار طيمثاوس عطار . ومار إيليا ملوس. إلى جانب العديد من الصور والتحف، وقد لفت نظرنا نظارات المطران إسرائيل المحفوظة في بيت من الفضة كتب عليه بالكلدانية أية من المزامير ترجمتها  " أنر عيناي حتى لا ترى الموت ". لم نستطيع أخذ أي شيء من الموجودات، لأن جميعها مسجل لدى الدولة ومحسوبة من الأشياء الأثرية مسلمة لمسئول الكنيسة.
ثم زرنا كنيسة الأربعين شهيداً للسريان الأرثوذكس المشيدة في أواخر القرن الثاني عشر، وشاهدنا ما تحويه من أيقونات بديعة، وما يشد الانتباه ستار المذبح القماشي البديع، والذي يحمل صورة مار بهنام الشهيد ورفاقه الأربعين شهيداً.
غادرنا الكاتدرائية متوجهين إلى كاتدرائية مار يوسف للأرمن الكاثوليك، هذا الصرح الشامخ لأكبر طائفة كانت تسكن المدينة قبل المذابح حيث بلغ عددهم زهاء خمسة عشر ألف نسمة، وخلال المذابح سيقوا ونحروا كالخراف الوديعة مع مطرانهم الشهيد أغناطيوس مالويان  بالإضافة إلى 19 كاهناً، ولم ينجوا منهم إلا من هرب أو اختفى. ومن المعلوم أن المطران مالويان قد قتل في منطقة قره كيوبرو في الطريق بين ماردين وديار بكر ضمن قافلة مكونة من 417 شخص من مسيحيي ماردين عرفت بـ القفلة الأولى، وكان ضمنهم 36 شخصاً من كلدان ماردين حسب قول المطران إسرائيل أودو. ويقال أن محمود مدير شرطة ماردين قد قتله بيده، وهناك من يقول أن ممدوح بك قد قتله بمسدسه بعد أن رفض المطران مالويان جحد إيمانه واعتناق الإسلام حسب دعوة ممدوح.
ويتحدث المطران إسرائيل أودو في مذكراته عن انتقام العدالة الإلهية من قتلة المطران الشهيد مالويان: "  بداية شباط 1922وفي منتصف الليل تدحرجت صخرة من أحد كهوف قلعة ماردين، وسقطت بسرعة على أحد بيوت المدينة، فهدمت سقف البيت على من فيه. وفي الصباح عمل الأهالي على إخراج الجثث من تحت الأنقاض وقد بلغت 12 جثة، وعرفنا أن صاحب البيت هو المدعو نوري بن زلفو البدليسي الأونباشي، الذي كان زمن المذابح كبير السجانين في سجن ماردين، وقد ارتكب الكثير من الجرائم بحق المسيحيين، حيث عذب الكهنة والمؤمنين وصلب بعضهم وخلع أظافرهم ووضع النفط في فمهم حتى خنقهم. وكان يفتخر بالقول أنه بيده ضرب المطران مالويان 12 عصا على رجليه. واليوم حل عليه الغضب الإلهي، فهذه الصخرة الغير مصنوعة بأيدي البشر أمرتها العناية الإلهية لتخرج من الكهف وتسقط على بيت هذا الطاغية، فهشمت عظامه وعظام نسائه وأبنائه وبناته، ودمرت مسكنه ولم يبقى له نسلاً في الأرض. فبدل الاثنا عشر عصا ضربها على رجلي المطران مالويان، هلكت العناية الإلهية هو وأفراد عائلته البالغة اثنا عشر شخصاً. مرحى للعدالة الإلهية كم هي قوية وقاسية وعادلة للانتقام من دماء الأبرياء " .   
ومما يحز في النفس أن دار المطرانية الرائع البنيان تسكنه عائلة مسلمة، وبشق النفس فتحت لنا الباب لنزور هذه الكاتدرائية الجميلة البنيان.
 ثم زرنا كاتدرائية العذراء للسريان الكاثوليك المشيدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت مقراً لبطاركتها، وإلى جانب الكاتدرائية زرنا دار البطريركية الرائع الجمال، هذا البناء الذي استولت عليه الدولة التركية وحولته إلى متحف للولاية. وقد عانى المطران جبرائيل تبوني  الكثير من المصاعب خلال المذابح، وفقد العديد من كهنة أبرشيته.   
وبسبب ضيق الوقت لم نستطيع أن نزور العديد من الصروح الدينية الهامة في المدينة، منه ما بقي ومنه ما دمر أو غيرت معالمه مثل مركز الرهبنة الكبوشية في المدينة، التي وافى رهبانها ماردين سنة 1882، وشيدوا فيها كنيسة بديعة كانت قبتها مزينة بالنجوم، حتى أن العامة كانوا يدعوها كنيسة النجوم. وكان لهم إلى جانب الكنيسة ديراً للرهبان وأخر للراهبات، ومع بداية المذابح غادرت جميع الراهبات وأغلب الرهبان سوى راهبين هما: الأب دانيال الإيطالي الأصل، والأب ليونارد ملكي اللبناني الأصل. وقد قتل الأب ليونارد خلال المذبح، أما الأب دانيال فقد سجن ثم أطلق سراحه بعد أن دفع 150 ليرة ذهبية. وقد حولت كنيسة الكبوشية إلى أهراء، وديري الرهبان والراهبات حولا إلى مشفى عسكري، وضم ساحة الديرين إلى الطريق العمومي.
وعند الظهر غادرنا المدينة إلى نصيبين ومنها إلى الحدود السورية، وقد أبى إلا أن يرافقنا إلى الحدود نيافة المطران صليبا والقس كبرئيل، معبرين بذلك عن عمق محبتهم نحونا، فلهم منا جزيل الشكر والاحترام. وبهذا اليوم انهينا جولتنا الممتعة والمتعبة، تعرفنا من خلالها على الكثير مما كنا نسمعه من أحاديث الآباء والأجداد عن أرضهم الطيبة والتي سقوها بسخاء بدمائهم الزكية عبر الأجيال.
وهنا لا بد أن نذكر من كان يقف وراء هذه الفواجع التي حلت بمسيحيي السلطنة العثمانية عامة، وبكنيسة المشرق الكلدانية خاصة، مستعرضين ما نملك بهذا الشأن. يتحدث الأب هاويل زيا الكلداني  عن أسباب ما جرى بالقول: " من أجل مصالحها الاقتصادية أصبحت ألمانيا العسكرية شريكة لحكومة الشباب الأتراك، لم تحجم فقط عن إيقاف الجرائم ضد الإنسانية، بل شجعت جزاري المسيحيين الشرقيين بإرسالها ضباطاً إلى مواقع     المجازر " .
وفي سنة 1914 مر القنصل الألماني بالجزيرة العمرية، وأعلن لقائمقام المدينة رأي حكومته في مسيحي السلطنة العثمانية: " ليكن معلومكم أن المسيحيين لديكم هم أصدقاء فرنسا وحلفاءهم، فهم خونة ومن الواجب عليكم أن تبيدوهم عن بكرة   أبيهم ".  أما المارشال ليمان فون ساندر قائد القوات الألمانية التركية الموحدة فقد صرح لأحد أصدقائه ما يدور في خاطره قائلاً: " لو كان الأمر متعلقاً بي لأسلمت جميع المسيحيين للذبح، فهم جميعهم خونة ينوون الشر للحكومة العثمانية ". 
وقد رفع السفير الألماني في اسطنبول تقريراً سرياً لحكومته في 2 آب 1915 يعلمها فيه ما يجري في السلطنة جاء فيه: " إن الحكومة التركية مقدمة على التخلص من جميع مواطنيها المسيحيين في الأقاليم الشرقية من البلاد، أي بالقضاء على الجماعات المسيحية المتواجدة في آسيا الصغرى بكافة مللها ".     
يقول الأب دنكليمونير  بعد جولة سنة 1917 قام فيها للمناطق التي جرت فيها المذابح بعد أن نال أذن من السلطات العثمانية: " أن عمليات الاضطهاد في أماكن تواجد المسيحيين ستؤلف فصلاً خاصاً من تاريخ الحرب والتي لم يقترف مثيلها من القسوة حتى في العصور البربرية. ففي المدن أبعد الرجال من قبل الجنود إلى مناطق نائية بعيدة عن الأنظار ثم قتلوا من دون رحمة. أما في الأرياف فقد اعتمدوا على بعض القبائل الكردية فساعدتهم في حرق كل شيء وذبح الجميع، عدا النساء والأطفال الذين احتفظوا بهم كغنائم. وقد فقد الكلدان ثلاثة من أساقفتهم والعشرات من الكهنة وثلثي سكانهم في السلطنة. أما النساطرة فقد خسروا مائة ألف نسمة من رجالهم ومعظم أساقفتهم. في وقتنا الحاضر هناك عدة آلاف من الأرامل والأيتام الذين نجوا بأعجوبة، وهناك بعض الفتيات اللواتي اختطفن ووضعن للبيع كالماشية في مزدات علنية في الأسواق. بالإضافة إلى المئات من العائلات الكلدانية من دون أي وسيلة للعيش، وسوف يهلكون جوعاً إذا لم يتم إسعافهم ". 
وفي رسالة بعثها البطريرك يوسف عمانوئيل إلى رئيس وزراء فرنسا ألكسندر ميلارد في 29 كانون الثاني 1920 يبين فيها ما جرى بقوله: " اجلب انتباه سيادتكم إلى أن ستة أساقفة وخمسين كاهناً وخمسين ألف كلداني ذبحوا بيد الأتراك بموافقة ألمانية مستترة، ولكن أكيدة. ولقد تم ذلك ليس فقط كرهاً بالدين المسيحي، إنما أيضاً لأننا أتهمنا بالانحياز إلى الحلفاء. التمس من سيادتكم أن تطالبوا أعداءنا الأتراك والألمان بتعويضات نستحقها لقاء الدمار الذي سببوه لنا، والأموال والممتلكات التي استولوا عليها في أربع أبرشيات هي: سلاماس وأورمية في إيران، وسعرت والجزيرة في تركيا، وهذه الأبرشيات الأربع دمرت كلياً. وفي أبرشيتي ديار بكر وماردين اللتين تضررتا كثيراً ".   
بعد أن استعرضنا جزء يسير مما اقترفته يد الأجرام المنظم، ضد مسيحي السلطنة العثمانية الأبرياء الودعاء، وما تحملوا من مصاعب ومشقات وعذابات لم تضعف عزيمتهم. وقد تخلوا عن كل شيء دنيوي، وتشبثوا بإيمانهم بثبات وعزيمة لا تقهر. وصدق فيهم قول الرب:  " وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ". وتحقق فيهم وصف لسان المشرق مار نرساي للشهداء في إحدى قصائده العصماء إذ يقول في بعض الأبيات:  " * شن الشرير حرباً ضروساً على الشهداء بواسطة الملوك، فهو والملوك بالوعد والوعيد، هددوا الشهداء ليجحدوا إلههم، لكنهم لم يفعلوا. * بقدر ما كانوا يعذبونهم بقدر ذلك كانوا يفرحون، لأنهم كانوا يتذكرون مخلصهم، ولدى تعذيبهم من قبل الأعداء، كانوا برجاء سيدهم يعتصمون. * كان هؤلاء الأبطال في جهادهم يتذكرون الملكوت الذي لا يفنى، ويتعزون بوعد سيدهم: من يعترف بي يملك معي. * إن العذاب والشدائد في نظر المؤمنين كالخمر اللذيذة، والذين يقتلون من أجل الرب ينبتون كشقائق النعمان. * عجب الجلادون وملكهم من شدة عزيمة الشهداء، وقوة إلههم الذي سندهم وقت العذاب لئلا يضعفوا. * عجب العلويون من جهادهم، وكذلك جموع السماء لما سمعوهم يصيحون بصوت واحد: لن ننكر ذلك الذي صلب من   أجلنا ".
ويصف المطران إسرائيل أودو في مذكراته ما جرى بالقول: " من الواضح أن سبب الاضطهاد للشعب المسيحي هو الحقد الكمين والعدواة الدينية المتوارثة من جذور سامة قديمة الأزمان ضد كل من لا يعتنق الإسلام. بالختام نستطيع أن نجزم بأن الذين قتلوا من المسيحيين في آمد وسعرت وبازبدي وماردين ونصيبين وجوارهم من أساقفة وكهنة وشمامسة ورجال ونساء وشبان وشابات وأطفال، حسب رأيي هم شهداء حقيقيين للإيمان المسيحي، وعليه تستحق كنيسة المشرق الكلدانية أن تفتخر أمام أمم الأرض بأنها في القرن العشرين كما في القرون السابقة في عهد شابور وغيره، قدمت أكثر من عشرين ألف شهيد للمسيح كهدية ثمينة، ولا تزال مياه الحياة الروحية التي تفوق كل طبيعة تجري في جسمها. "       
الخاتمة
قد يستغرب البعض ويتسأل لماذا اخترت هذا العنوان. في الحقيقة ونحن كنا نستعد للانطلاق في رحلتنا هذه، كنت أفكر ما عسى أن يكون العنوان المناسب لهذا الحدث. وفجأة رددت في نفسي " رحلة حج إلى الأبرشيات المنسية "، ثم توقفت عند كلمة المنسية؟ وقلت لماذا هذه الكلمة الخنوعة التي تدعونا إلى الاستسلام. وتسألت أيجوز أن نكون مستسلمين لقدرنا ونحن أبناء من قام من القبر وأنتصر على الموت، هذا الذي منحنا الرجاء والخلاص فمَّمن نخاف، وهو حصن حياتنا فمَّمن نفزع. وهل تناسينا ما نردده مع بولس الرسول: " من أجلك نحن نعاني الموت طوال النهار، ونحسب كغنم للذبح ولكننا في هذه الشدائد ننتصر كل الانتصار بالذي أحبنا، لا شيء في الخليقة كلها يقدر أن يفصلنا عن محبة الله في المسيح يسوع ". وعليه تبنيت هذا العنوان دون تردد. فرحلتنا هي حج مقدس للتبرك من ديار الآباء والأجداد الذين سقوا بدمائهم الزكية ثراها الطيب. والمنسية علها تكون حافزاً لكل من نسى أو تناسى هذه الأرض الطيبة، حتى تبقى ذكراها العطرة معلقة في ذاكرة الأجيال.
وبما أننا أبناء الرجاء نؤمن بأن دماء الشهداء ستنبت من جديد سنابل مليئة بحنطة الإيمان والرجاء والمحبة، وسيأتي اليوم الذي يشع فيه نور المسيح على تلك الأرض التي أظلمتها وحشية العتاة. وأنني أؤمن بأن ذاك اليوم لناظره قريب، لأننا سوف نغلب الشر بالخير، ونطفئ جميع السهام الشريرة المشتعلة، حاملين الإيمان ترساً في كل وقت أمين.                       
 الهوامش:           
     
 1_ مدينة ماردين   حسن شميساني   ص  139.
2_ الشمسية: طائفة تعبد الشمس كانت تعيش في ماردين وجوارها ولهم فيها معابدهم الخاصة، وحتى يومنا هذا يوجد في ماردين محلة تدعى باب الشمسية. 
3_ عضيبغريا " مكتبنوثا "  " تأريخ "  مخطوط للمطران إسرائيل أودو  ص 25_ 27.
4_ الأب حنا يغمور: هو مجيد جرجس بحو يغمور كلداني من أبرشية آمد. ولد في الرها " أورفا " سنة 1891.دخل معهد شمعون الصفا الكهنوتي البطريركي بالموصل سنة 1910. رسمه كاهناً البطريرك يوسف عمانوئيل سنة 1914 ودعي حنا. شهيد الإيمان سنة 1916. 
5_ الأب أوغسطين خرموش: كلداني من أبرشية ماردين. ولد في ماردين سنة 1892. درس في معهد شمعون الصفا الكهنوتي البطريركي بالموصل. رسمه كاهناً البطريرك يوسف عمانوئيل سنة 1914. خدم في ماردين حتى سنة 1929 حتى نقل للخدمة في الحسكة. توفي في الموصل سنة 1955 ونقل جثمانه إلى الحسكة ودفن في الكنيسة التي شيدها. 
6_ المطران إيليا ملوس: تذكر نسبته في بعض المصادر ميلوس. ولد في ماردين سنة 1831. دخل الرهبنة الهرمزدية الأنطونية سنة 1850. رسم كاهناً سنة 1856. رسمه البطريرك يوسف أودو مطراناً على أبرشية عقرة. في سنة 1874 أرسل إلى الملبار وبقي هناك حتى سنة 1882. نقل إلى أبرشية ماردين سنة 1890 وخدم هناك حتى توفي سنة 1908 ودفن في كاتدرائيتها.
7_ المطران طيمثاوس عطار: ولد في آمد سنة 1834. درس في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير لبنان. رسم كاهناً سنة 1862. رسمه البطريرك يوسف أودو مطراناً على آمد سنة 1870. نقل إلى كرسي ماردين سنة 1873. ترك ماردين واستقر في آمد سنة 1883. توفي في آمد سنة 1891.
8_ المطران أغناطيوس مالويان: ولد في ماردين سنة 1869. درس في دير سيدة بزمار من سنة 1883 وحتى سنة 1895. رسم كاهناً سنة 1896. خدم في مصر من سنة 1897 وحتى سنة 1903. عين أميناً لسر البطريرك صباغيان في القسطنطينية من سنة 1904 وحتى سنة 1905. خدم مجدداً في مصر من سنة 1905 وحتى سنة 1910. رسم في روما مطراناً لأبرشية ماردين وذلك سنة 1911. نال إكليل الشهادة في 11 حزيران 1915.
9_ عضيبغريا " مكتبنوثا " " تأريخ "  مخطوط للمطران إسرائيل أودو  ص 117_ 118.
10_ المطران ( البطريرك ) جبرائيل تبوني: ولد في الموصل. درس في معهد مار يوحنا الحبيب للآباء الدومنيكان بالموصل. رسم كاهناً سنة 1902. رسم نائباً بطريركياً على ماردين سنة 1913. نقل إلى أبرشية حلب سنة 1921. انتخب بطريركاً للكنيسة السريانية الكاثوليكية سنة 1929. نال رتبة الكردينالية من روما. توفي في بيروت سنة 1968 ودفن في دير الشرفة.
11_ الأب ( المطران ) هاويل زيا: ولد في قرية ماوانا قرب أورمية سنة 1872. انتسب إلى الرهبنة اللعازرية. رسم مطراناً على أبرشية أورمية الكلدانية 1945. خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 1951. له العديد من المؤلفات، وكان عالماً بالرياضيات. عاش حياته ناسكاً متواضعاً فنال احترام جميع الملل والنحل والمذاهب في أورمية.
12_ المسيحيون بين أنياب الوحوش  مذكرات الأب جاك ريتوري    القسم الثاني    ملحق وضعه جوزيف اليشوران  ص 355.
13_ المسيحيون بين أنياب الوحوش  مذكرات الأب جاك ريتوري      القسم الثاني    ملحق وضعه جوزيف اليشوران  ص 323.
14_ المسيحيون بين أنياب الوحوش  مذكرات الأب جاك ريتوري     القسم الثاني    ملحق وضعه جوزيف اليشوران ص 322.
15_ المسيحيون بين أنياب الوحوش    مذكرات الأب جاك ريتوري   القسم الثاني    ملحق وضعه جوزيف اليشوران ص 322.
16_ الأب دنكليمونير: كاهن ألماني من أبرشية سانت فرانس دي سيلز الكاثوليكية في مقاطعة بافاريا. عين سنة 1917 كاهناً لخدمة نفوس أسرى الحلفاء المعتقلين في معسكر أفيون التركي.
17_ هل ستفنى هذه الأمة   الأب جوزيف نعيم   ص 78_ 79.
18_ المسيحيون بين أنياب الوحوش   مذكرات الأب جاك ريتوري   القسم الثاني    ملحق وضعة جوزيف اليشوران   ص 353.
19_ محاورات شعرية مرتلة منسوبة إلى نرساي الملفان   المطران لويس ساكو  ص 69_ 76.
20-_ عضيبغريا " مكتبنوثا " " تأريخ "  مخطوط للمطران إسرائيل أودو  ص 22_ 23.

       





132
رحلة حج إلى أبرشيات كنيسة المشرق المنسية " الجزء الثالث "
الشماس: نوري إيشوع مندو
اليوم الرابع: الخميس 15 حزيران 2006
استيقظنا باكراً وبعد أن تناولنا طعام الفطور، ودعنا المطران صموئيل أقطاش السامي الاحترام، شاكرين محبته وحسن الضيافة خلال إقامتنا في ديره العامر، وتوجهنا إلى مدينة ميافرقين ويدعوها المشارقة ميفرقط، هذه المدينة العريقة المعروفة في تاريخ كنيسة المشرق بـ مدينة الشهداء، بسبب ما كانت تحتوي من عظام شهداء كنيسة المشرق. والتي نقلها أسقفها المشهور ماروثا الميافرقيني  بعربات فخمة من بلاد ما بين النهرين إلى مدينته في بداية القرن الخامس، وشيد لهذه الغاية كنائس جميلة لتوضع فيها هذه العظام، وتحفظ كذخائر ثمينة. تعاقبت على المدينة تقلبت كثيرة عبر التاريخ، ومع ذلك حافظة على مظاهر العز والرفاهية إلى جوار أطلالها المندرسة، ويعود الفضل في ذلك إلى سكانها المسيحيين.
وكانت ميافرقين منذ بداية المسيحية مركز أسقفية تابعة لمطرابوليطية نصيبين المشرقية، ثم أضحت مطرانية يتبعها كرسي آمد الأسقفي. وفي القرن السابع عشر ( سنة 1650) نجد حضور كثيف للمشارقة في ميافرقين،   " يضم 3000 بيت يخدمهم مطران يعاونه أسقفان وعدد كافي من الكهنة والشمامسة، ولهم شرق المدينة على مسافة أربع ساعات دير مكرس على اسم الأثني عشر رسولاً ومار يوحنا المعمذان فيه 220 راهباً عدا الخدم، ولهم أوقاف كثيرة ومدرسة لتعليم الكهنة والمؤمنين. "   
وفي العصور الأخيرة أضحت رعية تتبع أبرشية آمد "ديار بكر". وقبيل المذابح كان في المدينة 110 عائلات كلدانية حسب إحصائية الأب تفنكجي سنة 1913، أما الأب ريتوري فيذكر أنه في سنة 1915 كان في المدينة 300 عائلة كلدانية.
وكان للكلدان فيها كنيسة جميلة مكرسة على اسم مار يوسف البتول، قبتها مزينة بالفسيفساء شيدها المطران جرجيس عبد يشوع خياط  عندما كان مطراناً على آمد ( 1872 _ 1894)، وللرعية مدرستان واحدة للبنين وأخرى للبنات. وكان يخدم الرعية الأب حنا ملوس ، يساعده سبعة شمامسة.
وإلى الجنوب الغربي من المدينة قرية زيزي ويقال لها أيضاً زيري يعيش فيها 20 عائلة كلدانية، ولهم فيها كنيسة على اسم انتقال العذراء مريم، يخدمهم الأب سركيس الراهب من الرهبنة الأنطونية الهرمزدية. وخلال المذابح ألقي القبض على جميع كلدان ميافرقين وزيزي وسيقوا إلى قرية مير عليا القريبة، وعندما علموا بما ينتظرهم قام الراهب سركيس وخطب فيهم مشجعاً لتحمل الصعوبات قائلاً:  " جئنا هنا لنموت من أجل المسيح، لا كمجرمين كما يدعي السفاحين، بل كخراف وديعة تحب راعيها يسوع. وأعلموا أننا منتصرون لأننا سننال المجد السماوي ". وما أن انتهى من كلامه حتى رموهم جميعاً بالرصاص، وألقيت جثثهم في وادي ودحرجوا عليها الحجارة حتى لا يفلت أحد منهم. ويقول الأب طيمثاوس فضلي أحدى كهنة آمد الكلدان، أنه زار مكان استشهادهم سنة 1920 ورأى ذلك الوادي المملوء عظام الشهداء.
أما قرية بوشاط الواقعة غرب ميافرقين مسافة 8 كم، فكان فيها 60 عائلة كلدانية، ولهم فيها كنيسة على اسم مار توما الرسول، يخدمهم الأب كبرئيل المنحدر من مدينة سعرت، وقد توفي سنة 1915 قبل بدء المذابح. ومع بدأ المذابح ألقي القبض على سكان القرية وسيقوا جميعاً للذبح، ولم ينجوا منهم سوى 110 نسمة، وقد أخذهم أحد زعماء المنطقة المدعو محرم بك إلى قريته وأجبرهم على اعتناق الإسلام.
وبعد هدوء العاصفة سنة 1919 أرسل مار سليمان صباغ مطران آمد للكلدان الأب طيمثاوس فضلي إلى المنطقة للإطلاع على ما تبقى هناك. وخلال لقائه بأبناء قرية بوشاط حثهم على العودة إلى المسيحية، فقبلوا دعوته فرحين، إلا 30 نسمة منهم بقوا على الإسلام. أما العائدين إلى المسيحية فقد هجروا قبل سنة 1930 إلى سوريا وسكنوا مدينة القامشلي.
واستمر الأب فضله في مهمته في المنطقة باحثاً عن خراف الرب المخطوفة من قبل الذئاب، واستطاع حتى سنة 1928 أن يعيد حوالي 500 نسمة إلى حظيرة الرب من جميع الطوائف، وبسبب أعماله هدد بالقتل في ميافرقين حيث هجم عليه الأشرار، لكنه نجا بأعجوبة وعاد إلى آمد. وبقي الأب فضلي الكاهن الوحيد الذي يخدم نفوس المؤمنين في آمد حتى توفي سنة 1951، وبوفاته لم يبقى كهنة في هذه الأبرشية العريقة.
توقفنا في مدينة ميافرقين والتي لم يبقى فيها أي أثر مسيحي يذكر، كل شيء دمر وأزيل. زرنا سور المدينة الشهير ودخلنا من أحد أبوابه، ومن فوق السور تمتعنا بروية المدينة الجميلة، ثم غادرنا المدينة بين الذكرى والحسرة متوجهين نحو مدينة ديار بكر.
تعتبر مدينة آمد من مدن ما بين النهريين العريقة بالقدم، دخلت في مملكة الآشوريين فالماديين فالفرس فالمكدونيين فالبرثة والرومان. وكان موقعها الهام سبباً للصراع بين مملكتي الفرس والرومان، وقد أحاطها قسطندينوس سنة 297 م بأسوار ضخمة من الحجر البازيلتي الأسود، وجعل له 72 برجاً للمراقبة وأربعة أبواب هي: باب الرها وباب ماردين وباب خربوط وباب الأرمن. وعندما فتحها العرب سنة 934 دعيت ديار بكر، واستولى عليها العثمانيون سنة 1516 ودعوها قرا آمد. عرفت آمد المسيحية منذ القرون الأولى، وينسب التقليد تبشيرها إلى الرسولين توما  وتداوس ، وفي القرن السادس كان فيها أسقفية مشرقية تتبع كرسي نصيبين المطرابوليطي، ثم أضحت تابعة لكرسي ميافرقين.
وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر أصبحت مقر بطاركة كنيسة المشرق المتحدين مع روما. وقد استقر فيها أولاً البطريرك يوحنا سولاقا بلو  ( 1553 _ 1555 )، أما خلفه مار عبد يشوع الرابع مارون  ( 1555 _ 1567 ) فبعد أن استقر فيها تعرض لصعوبات كثيرة من الفئة المناوئة للإتحاد، فأمضى سنواته الأخيرة في دير مار يعقوب الحبيس قرب سعرت.
ومنذ زمن الإتحاد أضحت آمد رئاسة أسقفية، وقد تعاقب على كرسيها حتى يومنا هذا عشرون مطراناً. وفي سنة 1650 عادت أبرشية آمد إلى المذهب القديم لكنيسة المشرق، وفي هذه الفترة نجد حضور كثيف للمشارقة فيها، " يضم 2700 بيت يخدمهم مطران يعاونه أسقف واحد وعدد كافي من الكهنة والشمامسة، ولهم في المدينة ثلاثة كنائس هي:  أ_ مار بثيون الشهيد. ب_ بشارة العذراء. ج_ مار دانيال النبي. "  لكن بقي فيها تيار كبير من مناصري الإتحاد. وقد رعى هذا التيار الرهبان الكبوشيين الذين فتحوا رسالتهم في المدينة 1667 سنة.
وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر ظهر في كنيسة المشرق سلسلة جديدة من البطاركة الكاثوليك عرفوا بـ اليوسفيين ، وجعلوا آمد مقر لكرسيهم.
وقد تعاقب على هذا الكرسي من سنة 1681 وحتى سنة 1828 خمسة بطاركة حملوا نفس الاسم، وكان لقبهم بطريرك بابل على الكلدان. وهو اللقب الذي حمله المتحدين مع الكنيسة الكاثوليكية منذ سنة 1445، هذا الاسم الذي عمل الكثير من المناوئين للطعن والشك فيه دون أية مستندات تاريخية، ولا زالوا حتى يومنا هذا يعملون جهد المستطاع للنيل منه لكن دون جدوى.
فمن المعروف أن كنيسة بلاد ما بين النهرين منذ البدايات عرفت بـ كنيسة المشرق، وما أن قبلت تعاليم نسطور في القرن الخامس نعتت بـ النسطورية . وعندما انضم أبناء كنيسة المشرق في قبرص إلى الكنيسة الكاثوليكية بشخص المطران طيمثاوس الطرسوسي ، لم تطلق روما عليهم اسم الكلدان كما يدعي مبغضي هذه الكنيسة، بل كان هذا الاسم هو اسمهم القديم، واختاروا أن يعرفوا به بدل أن ينعتوهم نساطرة.
وعندما قدم المطران طيمثاوس وثيقة الإتحاد إلى روما وقعها هكذا:  " أنا طيمثاوس رئيس أساقفة ترشيش على الكلدان، ومطران الذين هم في قبرص أصالة عن ذاتي وباسم كافة الجموع الموجودة في قبرص أعلن وأقر . . . ". 
وهذا واضح من المرسوم الذي أصدره البابا أوجين الرابع في 7 أب 1445:  " وطيمثاوس ذاته أمامنا في المجمع اللاتراني المسكوني، وفي جلسته العامة أعلن باحترام وتقوى صيغة إيمانه وتعليمه، أولاً بلغته الكلدانية، ثم ترجمت إلى اليونانية ومنها إلى اللاتينية. وبناء على هذا الإعلان الوحدوي، فإن أوجين الرابع يمنع في مرسومه الأنف ذكره أن لا يسمي أحد الكلدان فيما بعد نساطرة ". 
 نستنتج من هذين النصيين أن البابا إنما استشهد بما عرضه المطران طيمثاوس ذاته وبقلمه ولغته. قد يتسأل البعض أنني خرجت عن الموضوع، على الإطلاق لا. لأن هذا المركز كان القلعة الحصينة للكنيسة الكلدانية، وكان من واجبي أن أوضح هذا الأمر لأنني سأذكر بعض المحطات الهامة التي جرت في هذا المركز والذي احتضن تيار الإتحاد، وأدت إلى استمرار الحياة في هذه الكنيسة.
ومن المعلوم أن بطاركة الإتحاد خلفاء سولاقا بعد أن تركوا آمد، أقاموا في دير مار يعقوب الحبيس قرب سعرت، بسبب معاناتهم من التيار المناوئ للإتحاد، ثم أقاموا في أورمية وسلاماس من بلاد فارس. وأخيراً تركوا الشركة مع روما واستقروا في قوجانس بجبال هكاري. ومع هذه التطورات بقي في آمد تيار كبير مؤيد للإتحاد، وقد عانى الكثير من الويلات لكنه استمر رغم كل ما جرى لهم.
 فالبطريرك يوسف الأول  ذاق من العذابات ما يعجز اللسان عن وصفه، بسبب شكاوى البطريرك إيليا التاسع، الذي استولى بالرشوة على كاتدرائية مار بثيون، وطرد منها البطريرك يوسف وحمل السلطات على القبض عليه وإيداعه السجن، وبعد جهد جهيد بذله كلدان المدينة خرج من السجن وأعاد الكاتدرائية. 
أما خلفه البطريرك يوسف الثاني  فلم تخل حياته من الصعوبات والمحن والاضطهادات التي تعرض لها من قبل الفئة المناوئة، وقد صمد بشجاعة فائقة بوجه الشدائد.
وعانى خلفه البطريرك يوسف الثالث  لمضايقات لا تحصى، ورغم ذلك تسنى له أن يضم إلى الوحدة الآلاف من أبناء كنيسة الموصل وجوارها، وأدى نشاطه هذا إلى زجه في غياهب السجن بسبب نقمة المناوئين.
وفي سنة 1729استطاع وكيل الكلدان في العاصمة العثمانية أن يحصل على فرمان ينهي التنافس بين السلطتين، بحيث تبقى أبرشيتي ديار بكر وماردين بيد الكلدان، وتبقى أبرشيتي الموصل وحلب للنساطرة. هذا التقسيم الذي انعكس سلباً على وضع كنيسة المشرق في عدة مراكز مهمة، بسبب إهمال الرئاسة لهم فتركوا كنيستهم وانظموا إلى الكنائس الأخرى. فانظم أبناء الكنيسة في حلب إلى طائفة اللاتين، وفقدوا كنائسهم الثلاثة  في المدينة. كذلك في أورشليم انظموا إلى الطوائف الأخرى، وفقدوا كنائسهم الأربعة  ومذبح في كنيسة القيامة مكرس على اسم المصلوب، بالإضافة إلى ثلاثة أديرة  التي كانت في حوزتهم. وانضم الكثير من أبناء كنيسة المشرق في الملبار  إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. هذه كانت الخسارة الفادحة لكنيسة المشرق من جراء الفرمان المذكور.
أما البطريرك يوسف الرابع  فقد عاش فترة حبريته بشيء من الهدوء، وجرى نزاع بينه وبين مطران اللاتين في بغداد بسبب السلطة على كلدان بغداد والموصل، وعادة سلطته على المذكورين بعد تدخل روما. وفي سنة 1763 حاول البطريرك المذكور ترميم كاتدرائية مار بثيون، التي جددت سنة 1672 بعد أذن الدولة العثمانية. لكن مسلمي المدينة منعوه من ذلك بسبب قربها من جامع الشيخ مطر، الذي كان سابقاً كنيسة للسريان الأرثوذكس على اسم مار توما، فسافر لهذه الغاية إلى القسطنطينية ومكث سنة هناك، لكنه لم يفلح في النيل الأذن بترميمها. وفي عهده انضم إلى الكنيسة الكاثوليكي الكثير من سريان وروم وأرمن ديار بكر، وبسبب عدم وجود كنائس خاصة بهم يؤدون فيها شعائرهم الدينية، كانوا يراجعون كاتدرائية مار بثيون، لأنها كانت الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في المدينة، مما حذا برؤساء الطوائف المذكورة على إغلاق الكاتدرائية بقوة الحكام. لكن هذا الأمر حسم وفتحت بمساعي الطبيب حنا حكيم ابن القس إسرائيل الألقوشي، الذي كان يمارس مهنته في آمد، ونال من خلالها الشهرة واحترام الولاة العثمانيين. واستمرت المساعي لترميم الكاتدرائية لكن دون جدوى.
وفي عهد المطران باسيل أسمر  ( 1828 _ 1842 ) استطاع الوجيه الكلداني الآمدي بدوش مازجي وابن أخيه الشماس اسطيفان مازجي من نيل الأذن بترميم الكاتدرائية بسبب علاقاتهم الطيبة مع الحكام وسمعتهم الطيبة بين سكان المدينة، وتم ذلك سنة 1835.
ومن المعلوم أن ثروة بدوش مازجي الكبيرة ألت إلى ابن أخيه الشماس روفائيل ابن القس بطرس مازجي  بالوراثة بعد وفاته سنة 1863، وقد وظف الشماس روفائيل هذه الثروة لخير الكنيسة، فاشترى أراضي زراعية في قرية الجاروخية القريبة من المدينة، ووهبها وقفاً لمطرانية آمد، وعمل على تأسيس سمينير في المدينة لكنه لم يوفق بذلك. فغادر إلى الموصل وبعد أن استشار البطريرك يوسف السادس أودو شيد معهد شمعون الصفا الكهنوتي، وجلب من روما مطبعة ومعها حروف كلدانية وعربية وفرنسية والكثير من الحبر والورق.
وفي عهد البطريرك يوسف الخامس  انتهى الخلاف بين الرئاستين البطريركيتين في آمد والموصل، بانضمام البطريرك يوحنا الثامن هرمزد  إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1830، ووحدت كنيسة المشرق الكلدانية ببطريركية واحدة مقر كرسيها في الموصل، ومع هذا الاتفاق انتهت سلسلة البطاركة الكلدان في آمد.
وكانت أبرشية آمد الكلدانية قبيل المذابح تضم العديد من المراكز بالإضافة إلى المدينة هي: ميافرقين. جاروخية. عين تنور وتعرف أيضاً بـ عليبوار. بوشاط. نودشت. زيزي. أجي. الرها. وكان مطران الأبرشية في هذا الزمن هو مار سليمان صباغ يعاونه خمسة كهنة ضمن المدينة هم: اسطيفان دلالة. بطرس قارح. يوسف طيور. سليمان كوجوك أوسطه . طيمثاوس فضلي. يساعدهم 27 شماساً، وكان لهم ثلاثة مدارس، ويبلغ عدد العائلات الكلدانية في المدينة 350 عائلة.
وقد نال كلدان آمد الكثير من الويلات خلال هذه الفترة العصيبة، ففي شهر أيار 1915 ساق المجرمين 80 رجلاً منهم إلى الذبح، واستمر هذا المسلسل المرعب حتى قضى على الكثير. وكان حاكم ديار بكر رشيد بك الجركسي الأصل مصراً على تنظيف ولايته من العنصر المسيحي، وعليه قسم أحياء الأرمن والكلدان إلى مناطق أنيطت حراستها إلى جزارين محترفين، فقد تعرضوا لمنازل المسيحيين واجبروا الشيوخ والنساء والأطفال على مغادرتها، مع جميع ما يملكون من أموال وحلي وأمتعة، بحجة تسفيرهم إلى الموصل عبر نهر دجلة. وبعد أن يضعوهم على الأكلاك ، ويصلوا بهم إلى قرية بيكان، وهناك ينزلوهم من الأكلاك وبعد أن يجردوهم من كل شيء، ينهالوا عليهم بوابل من الرصاص تاركين جثثهم طعام لوحوش البرية وغربان السماء. وهناك مصدر أخر يقول أنهم بعد أن يصلوا بهم إلى قرية شكفتيان يأخذهم رجال الشيخ عمر إلى وادي بسفان وهناك يتم القضاء عليهم. وعلى هذا المنوال تم تصفية مسيحيي المدينة. وضمن الذين سيقوا على هذه الطريقة أربعة وثمانين بيتاً كلدانياً.
أما مطران الأرمن الكاثوليك أندراوس جلبيان، فقد ساقوه مع ذويه وثلاثة راهبات من رهبنة الحبل بل دنس إلى طريق حلب، وعندما وصلوا إلى خان حبش، وهناك وضعوه على قارعة الطريق، واخذوا حجارة ورجموه حتى تكومت عليه، وقد احتمل عذاباً شديداً حتى فاضت روحه الطاهرة، وهكذا قضى نحبه شبيه اسطيفانوس رئيس الشمامسة وبكر الشهداء. وقد ذبح خلال المذابح 11 كاهناً من الأرمن الكاثوليك.
وفي 29 حزيران استدعى رشيد بك المطران صباغ وسلمه برقية من القسطنطينية يمنع بموجبها قتل الكلدان والسريان والروم، وقد دفع المطران صباغ لرشيد بك مبلغ 1500 ليرة ذهب عثمانية، وعاد إلى دار المطرانية مرتاح البال قناعة منه أن هذه العاصفة قد عبرت. لكن الرياح سارت بما لا تشتهي السفن، واستمرت أعمال النهب والسلب والقتل بحق من صدر أمر بعدم قتلهم، وهنا ذهب المطران صباغ رغم المخاطر المحدقة به لمقابلة مصاص الدماء رشيد بك، وبشجاعته المعهودة احتج على ما يجري بحق من عفاهم المرسوم السلطاني، فما كان من الحاكم اللعين رشيد بك أن أرسل من تبقى من رجال الطائفة للعمل في إصلاح الطرق بدل ذبحهم، ومع كل ما كانوا يعانون من الأتعاب من جراء هذه الأعمال الشاقة، لم يكن يتلقوا طعاماً يسد جوعهم، مما حذا بالمطران صباغ بإرسال طعامهم كل يوم مع ضيق ذات اليد.
ويصف الأب بولس بيرو السعرتي شخصية الطاغية رشيد حاكم ديار بكر بالقول: " شخص رهيب ومسخ بشري يعرفه الجميع، إنه الجلاد الأكثر شراسة وقذارة، تلفه الظلمة على ما يبدو ليطويه النسيان تحت جناحيه. إنه باقر بطون النساء الحاملات، وفاضح العذارى والمفترس لهن، مقطع أوصال الأطفال. سيبقى اسمه الكريه مدى الأبد في سجل التاريخ وفي ذاكرة الأجيال القادمة ممرغاً بالعار، وقد دعيت ولاية ديا ر بكر في عهده عن حق مسلخ المسيحيين. أما عصابات الجركس والتتر أبناء جنسه المتمركزين جوار بلدة رأس العين، فكانوا ينهبوا القوافل ويذبحوا ويتقاسموا فيما بينهم ما يجدونه في حوزة الأحياء والأموات ".  ويحكى عنه أنه بعد نقله من ديار بكر غادرها في قافلة ضمت 24 عربة محملة بالذهب والجواهر وأشياء ثمينة وطنافس وأثاث فاخرة، نهبها جميعها من منازل المسيحيين.
وفي 21 آب سنة 1915 نشبت النيران في أسواق ديار بكر، فأتت على 1578 محلاً تجارياً فحرقت جميعها، علماً أن هذه المحلات كانت ملكاً لمسيحيي المدينة، وقد تبين أن الحريق كان مفتعلاً حيث اجتمع الوالي قبل ثلاثة أيام من الحادث مع بعض المسلمين وخططوا معاً لإنجاز هذا العمل الشرير. فاحترق ما احترق، وسرق الأشرار الكثير من أموال المسيحيين الأبرياء، الذين تضرروا كثيراً، وعانوا من جرى ذلك أشد المعاناة، إذ خسروا كل مقتنياتهم وشقاء عمرهم. 
ومن المعلوم أن سلطة حاكم ولاية ديار بكر كانت تشمل بالإضافة إلى ديار بكر ماردين والجزيرة العمرية والمناطق المحيطة بهم. وكان رشيد السيئ الذكر يحرض موظفي الدولة ورؤساء العشائر الكردية الخاضعة لسلطته للعمل على إبادة المسيحيين، مبرراً دعوته بأنها أوامر من السلطات العليا في السلطنة العثمانية، ويجب التقيد بها وتنفيذها.
ونجد موقفاً مغايراً لوالي الموصل حيدر باشا الذي كان بدوره تابعاً للسلطنة العثمانية. فقد مر في الموصل نهاية سنة 1915 خليل باشا قائد الجيش السادس العثماني متوجهاً إلى بغداد لمحاربة الإنكليز، وقد حاول إقناع والي الموصل حيدر باشا بتصفية مسيحيي ولايته، لكن حيدر باشا رفض طلبه. وعليه فاتح خليل باشا السلطات المدنية والعسكرية في ولاية الموصل دون علم الوالي حيدر للعمل على تنفيذ طلبه، لكن الوالي حيدر باشا أفشل مكيدته وبدد أحلامه. ويتحدث الأب ريتوري عن والي الموصل حيدر باشا بالقول: " المهجرون الذين أسعفهم الحظ في الوصول إلى مدينة الموصل، لم يعانوا الكثير بفضل همة الوالي حيدر بك الذي من وراء سياسة نفعية تستوجب الثناء، مع ذلك رأى من الواجب عليه ألا يعادي المسيحيين ".   
وكانت قرية عين تنور ( علي بكار ) الكلدانية القريبة من مدينة ديار بكر من جهة الغرب مسافة 7 كم، مركز أسقفياً تابع للأبرشية وهي كرسي المطران المعاون لبطريرك آمد في سالف الزمان. وبسبب هجوم الأكراد عليها سنة 1815 م قتل الكثير من سكانها، وهرب المتبقين إليها إلى آمد ثم عاد المتبقين إليها بعد فترة. وكانت كنيسة القرية مكرسة على اسم مار قرياقوس وأمه يوليطي، وإلى جانبها 14 غرفة كانت تستعمل كمركز اصطياف لنشاطات الأبرشية. وخلال المذابح قتل كل سكان القرية ودمرت الكنيسة وملحقاتها، وحولت القرية إلى منطقة عسكرية يسكنها الجيش.
أما قرية الجاروخية الواقعة على شاطئ دجلة جنوب المدينة مسافة 7 كم، فكانت تضم 85 عائلة كلدانية، ولهم فيه كنيسة مكرسة على اسم مارت شموني وأولادها السبعة، بالإضافة إلى مدرسة، وقد شيد هذه الكنيسة الوجيه الآمدي بدوش مازجي ويخدم نفوسها الأب توما كربوش  خلال المذابح حاصر الأوغاد القرية وجمعوا رجالها ونساءها مع الكاهن في الكنيسة، وبعد أن قيدوهم ساقوهم إلى قرية زوغا القريبة، وهناك تم ذبحهم بالسيوف والخناجر، أما الأب توما فقد قطعوا جسده أرباً أرباً معبرين بذلك عن حقدهم الدفين. وقد ألفت منهم سيدتان هربتا إلى آمد وأخبرتا المطران صباغ بما جرى، وبقي في القرية 35 طفل فعمل المطران على جلبهم إلى المطرانية وأسكنهم عنده واعتنى بأمرهم. وبهذه الصورة البشعة تم تصفية مسيحيي القرى الأخرى، بعد أن خربت بيوتهم وسلبت أموالهم، وما طاب لهم من البناء فقد حوله إلى مستوصفات أو إسطبلات أو مستودعات.       
ومع بداية سنة 1917 لم يبقى في آمد سوى 110 عائلة كلدانية تعيش تحت سقف الفقر والعوز. وقد عمل المطران صباغ الكثير على إعالة المحتاجين، وافتتح لهذه الغاية ميتماً ضم الكثير من أيتام المدينة ومن جميع الطوائف. وفي سنة 1922 هجرت 50 عائلة إلى سوريا هرباً من البطش وطلباً للعيش. ومع الأيام استمر هجرت العائلات المتبقية، واليوم لم يبقى سوى عائلتان كلدانيتان.
ما أن وصلنا إلى ديار بكر توجهنا إلى كاتدرائية مار بثيون حيث كان بانتظارنا مسيحيي المدينة، والبالغ عددهم عشرة عائلات، سبعة منها سريان أرثوذكس واثنتان كلدانية وواحدة أرمنية أرثوذكسية، ويخدم هذه النفوس القس يوسف السرياني. ومن المعلوم أن بناء الكاتدرائية يعود إلى القرن السادس، وهي مشيدة بالحجارة السوداء يعلوها جرسية في غاية الجمال. استقبلنا بقرع الناقوس والأهازيج ونثر الحلوى، وما أن دخلنا الكاتدرائية أقام صاحب السيادة مار أنطوان أودو قداساً احتفالياً بمناسبة عيد الجسد. وبعد القداس وقفنا أمام قبر المطران سليمان صباغ الذي يعجز اللسان عن وصف ما تحمل من مصاعب، وما بذل من جهود جبارة لتضميد جراح رعيته، صلينا من أجل راحة نفسه.
ويتحدث المطران إسرائيل أودو في مذكراته عن المطران صباغ بقوله: " مغرم بمحبة الناس خصوصاً أبناء رعيته، كان هماماً جداً على المدارس وعلى تربية الأطفال روحياً. متسلح بالغيرة الجبارة، إنه ساتر الأرامل ومحتضن اليتامى والضعفاء والمظلومين. وفي سنواته الأخيرة جمع اليتامى المشتتين بعد قتل ذويهم في المذابح، وفتح لهم ميتماً وأقام  الأب سليمان كوجك أوسطا مديراً عليه، وكان يطعمهم ويكسيهم ويعلمهم القراءة والكتابة بالإضافة إلى المهن الصناعية. ومع ضيق ذات اليد بسبب الظروف القاسية لم يبخل عليهم بشيء، وقد كتب لي يوماً يشرح لي ما يعانيه من الصعوبات: اضطررنا لأكل خبز الشعير، وفي أياماً كثيرة كنا لا نجده. كانت مواعظه في أيام الآحاد والأعياد تدوم ساعة كاملة زارعاً في نفوس مستمعيه بذور الإيمان والرجاء والمحبة. كان حازماً على كهنته إذا أهملوا واجباتهم، ورغم أنه كان متواضعاً وطيباً في معاملته مع الجميع، إلا أنه كان قاسياً مع المخالفين للقوانين.  كان نقي النفس والقلب طاهر الجسد حسن السيرة، يستيقظ باكراً في الصيف والشتاء لأداء صلاة الفرض قبل الذبيحة الإلهية. ينام قليلاً خاصة من سنة 1915 وحتى وفاته في 2 حزيران 1923 حيث لم يذق الراحة بسبب الضيق الذي حل به وهو يشاهد أبنائه يساقون للذبح والتهجير، فهزل جسده وضعفت قواه، حتى اسلم روحه الطاهرة بيد خالقه. وفي اليوم التالي شيع جسده كما يليق بمن عمل وتعب في كرم الرب، ووضع في قبر جديد أمام مذبح كاتدرائية مار بثيون الشهيد. وقد حضرت دفنه أنا كاتب هذه السطور ( مار إسرائيل أودو )، وأقمت قداساً مهيباً لراحة نفسه، وخلال القداس أبنته بكلمة رقيقة مشيداً بفضائله وأتعابه أمام جمع غفير من كل الطوائف، وكان ذلك في يوم الأحد 3 حزيران 1923 وهذا الأحد هو أحد الرسل حسب طقس كنيستنا "  .       
أما مقبرة البطاركة اليوسفيين فهي موجودة في مقابر الطائفة خارج المدينة حسب معلوماتي. ولم يخطر ببالي أن أسال عنها بسبب ضيق الوقت، ثم زرنا دار المطرانية المتهدمة، والمشيدة من الحجار البازلتية السوداء بشكل رائع، ووقفنا عند بناء الميتم الذي ضم يوماً العشرات من أيتام المدينة وجوارها.
غادرنا الكاتدرائية وفي القلب غصة لما آل إليه هذا الصرح العريق. ثم ذهبنا لتناول طعام الغذاء حيث أعد الأخوة زكي ويوسف قصار الكلدانيان مأدبة عامرة على شرفنا في أحد مطاعم المدينة القديمة. وبعد الغذاء زرنا كنيسة مريمانا للسريان الأرثوذكس، هذه التحفة الرائعة التي تشد أنظار المرء من روعة بنائها وما تحتويه من تحف كنسية. قضينا استراحة قصيرة في باحة الكنيسة تناولنا فيها الفواكه عند القس يوسف.
ولم نستطيع زيارة كنيسة الأرمن الأرثوذكس سورب كيراكوس حيث قيل لنا أنها متهدمة ومهجورة، وقد سمعنا الكثير عن فخامتها ووسعها. وكان لهم كنيسة أخرى مكرسة على اسم سورب سركيس. وقد قتل من أبناء هذه الطائفة الكريمة حوالي 3750 عائلة في ديار بكر وريفها خلال المذابح بالإضافة إلى النائب البطريركي الورتبيت مكرديج جيلغاديان ومعه 11 كاهناً. ومن الجدير بالذكر أن كنيسة الأرمن الكاثوليك في ديار بكر كانت مكرسة على اسم القديس غريغوريوس المنور، أما كنيسة السريان الكاثوليك فكانت مكرسة على اسم القديسين بطرس وبولص.
غادرنا ديار بكر بعد أن ودعنا الأخوة الذين تعبوا معنا في هذا النهار الممتع متوجهين إلى ماردين، وفي طريقنا شاهدنا سور ديار بكر الشهير. ومع غروب الشمس وصلنا إلى دير الزعفران قرب ماردين. وما أن دخلنا الدير حتى استقبلنا نيافة المطران صليبا أوزمان السامي الاحترام ببشاشته المعهودة، وبعد استراحة قصيرة دعانا نيافته إلى تناول طعام العشاء في فندق ماردين الكبير، ومن الفندق تمتعنا بمشاهدة مدينة ماردين في الليل، وبعد العشاء عدنا إلى دير الزعفران لنخلد إلى النوم والراحة.

الهوامش:
1_ المطران ماروثا الميافرقيني: كان والده حاكم مقاطعة سوفيتا قرب آمد. بعد أن نال قسطاً وافراً من العلم مارس مهنة الطب. في بداية القرن الخامس رسم مطراناً على ميافرقين. استدعاه الملك الساساني بزجرد ليعالج ابنته من مرض عضال كانت تعاني منه، وقد أفلح في معالجتها ونالت الشفاء. واستطاع أن يعقد معاهدة صلح بين المملكتين الفارسية والبيزنطية. ويعود له الفضل في استمالة الملك يزجرد للاعتراف بمسيحي مملكته، فأعطاهم حرية ممارسة طقوسهم وتشييد كنائسهم. وسمح لهم بعقد مجمع كنسي، فعقد في مدينة ساليق وقطيسفون سنة 410 بحضور الجاثليق مار اسحق وحضور المطران ماروثا الميافرقيني وأربعين أسقفاً من كنيسة المشرق. ويعتبر هذا المجمع الأول لكنيسة المشرق. توفي ماروثا سنة 420.   
2_ تقويم قديم للكنيسة الكلدانية النسطورية  الخوري ( المطران ) بطرس عزيز   ص 15.
3_ المطران ( البطريرك ) جرجيس عبديشوع خياط: ولد في الموصل سنة 1828. دخل المعهد الكهنوتي البطريركي بالموصل. أرسل إلى روما ودخل مدرسة مجمع انتشار الإيمان سنة 1844. رسم كاهناً في روما سنة 1853. رسمه البطريرك يوسف أودو أسقفاً على العمادية سنة 1860. عين نائباً بطريركياً سنة 1863. عين مدبراً لأبرشية آمد بعد وفاة مطرانها مار طيمثاوس عطار سنة 1872، وثبت مطراناً عليها سنة 1874. انتخب بطريركاً سنة 1894. توفي في بغداد سنة 1899. 
4_ الأب حنا ملوس: ولد في ماردين سنة 1879 ودعي في المعمودية سعيد، رسمه المطران إيليا ملوس شماساً سنة 1894. سنة 1898 كان المطران سليمان صباغ في ماردين وأعجب بالشماس سعيد لإتقانه الألحان الكنسية، فطلب من المطران ملوس أن يسمح له بسيامته كاهناً لرعية ميافرقين، وتمت سيامته في 25 أيلول 1898 واتخذ اسم حنا بدل سعيد. خدم رعيته في ميافرقين بجد ونشاط حتى استشهد مع العديد من أبناء رعيته خلال مذابح السفر برلك سنة 1915.
5_ الرسول توما: أحد الأثني عشر الذين اختارهم يسوع. كان صياد للسمك قبل أن يدعوه، ويروي التقليد الكنسي أنه بشر قي بلاد الماديين والفرثيين والفرس والهنود. أنهى حياته الرسولية بسفك دمه لأجل يسوع، حيث قتله أحد البراهمة في الهند ودفن هناك. ويتحدث تقليد كنيسة المشرق أن جزء من رفاته نقل إلى الرها.
6_  الرسول تداوس: هو أحد الأثني عشر الذين اختارهم يسوع. وهو أخو يعقوب أسقف أورشليم الأول. حمل البشارة إلى بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس. ألقي القبض عليه في مدينة شنعار وطرح بالسجن، وطلب منه السجود للشمس والكواكب لكنه رفض. فقتلوه شر قتلة ونال إكليل الشهادة بعد حياة رسولية مجيدة.
7_ البطريرك يوحنا سولاقا بلو: ولد في ألقوش سنة 1513. دخل دير الربان هرمزد للرهبنة الأنطونية. رسم كاهناً سنة 1540. انتخب رئيساً لدير الربان هرمزد. انتخب بطريركاً سنة 1552. سافر إلى روما وهناك نال الدرجة الأسقفية في كنيسة مار بطرس. بعد أن نال درع التثبيت رجع إلى المشرق سنة 1553 واتخذ مدينة آمد مقراً لكرسيه. في النصف الثاني من سنة 1554 زار العمادية لتفقد رعيته هناك، وبتحريض من البطريرك برماما ألقى حاكم العمادية حسين باشا القبض عليه وزجه في السجن مدة أربعة أشهر، ثم أخرج من السجن وألقي في بئر مدة أربعين يوماً. في كانون الثاني 1555 ربطوه بحبل ووضعوه في كيس وألقوه حياً في بحيرة بريما القريبة من العمادية، فنال إكليل الشهادة وبقيت جثته في تلك البحيرة. لقبته كنيسة المشرق الكلدانية بـ شهيد الإتحاد.   
8_ البطريرك مار عبد يشوع الرابع مارون: ولد في جزيرة بازبدي. ترهب في دير مار آحا ومار يوحنا قرب الجزيرة وهناك رسم كاهناً. سنة 1554 رسمه البطريرك سولاقا أسقفاً على جزيرة بازبدي. سنة 1555 انتخب بطريركاً بعد استشهاد البطريرك سولاقا. أمضى سنواته الأخيرة في دير مار يعقوب الحبيس قرب سعرت، توفي سنة 1567 في الدير المذكور ودفن فيه. 
9_ تقويم قديم للكنيسة الكلدانية النسطورية  الخوري ( المطران ) بطرس عزيز  ص 15.
10_ البطاركة اليوسفيين: سلسة ضمت خمسة بطاركة لكنيسة المشرق الكلدانية كان مركزهم مدينة آمد، وقد حملوا جميعاً اسم يوسف لذلك عرفوا باليوسفيين. بدأت هذه السلسلة بالبطريرك يوسف الأول سنة 1672، وانتهت بالبطريرك يوسف الخامس المعروف بـ أوغسطين هندي سنة 1828.   
11_ النسطورية: لقب أطلق على من اتبع تعاليم نسطور بطريرك القسطنطينية الذي حرمه مجمع أفسس سنة 431.
12_ المطران طيمثاوس الطرسوسي: مطران كنيسة المشرق على أبرشية قبرص في النصف الأول من القرن الخامس عشر، يتبعه أسقفيتان في ماغوسطا وفماغوستا يعاونهم ثمانون كاهناً ومائتان وستون شماساً، وللأبرشية في عهده 7 كنائس و5300 عائلة. ومن المعلوم أن نواة هذه الأبرشية تأسس من أبناء كنيسة المشرق الأسرى خلال الحروب بين الفرس والروم، حيث كان ملوك الروم ينفوا أسراهم الفرس إلى جزيرة قبرص. وبمرور السنين اندثرت هذه الأبرشية بسبب إهمال الرئاسة لها، فانضمت العائلات بشكل تدريجي إلى طائفتي الموارنة واللاتين.   
13_ علاقات الكنيسة الكلدانية بالكرسي الرسولي  الأنبا شموئيل جميل ( باللاتينية ) ص 10.
14_ علاقات الكنيسة الكلدانية بالكرسي الرسولي الأنبا شموئيل جميل ( باللاتينية)  ص 11.
15_ البطريرك يوسف الأول: ولد في كركوك. رسمه البطريرك إيليا التاسع مطراناً على آمد سنة 1668. انضم إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1681 ودعي يوسف الأول. نال من العذابات ما يعجز اللسان عن وصفه. بعد خروجه من السجن نال فرماناً يثبت سلطته على الكلدان في آمد وماردين. سافر إلى روما سنة 1675 ومكث فيها حتى سنة 1667. وبسبب الشيخوخة قدم استقالته سنة 1691. 
16_ البطريرك يوسف الثاني آل معروف: ولد في تلكيف. قصد آمد والتحق بالبطريرك يوسف الأول. رسمه البطريرك يوسف الأول كاهناً. اختاره البطريرك يوسف الأول خلفاً له سنة 1691. اعترفت روما برئاسته سنة 1696. توفي خلال الطاعون الذي تفشى في آمد سنة 1712. 
17_ البطريرك يوسف الثالث: أصله من كركوك. رسمه البطريرك يوسف الثاني مطراناً على ماردين سنة 1696. انتخب بطريركاً سنة 1713. اعترفت روما برئاسته سنة 1714 ومنحته لقب بطريرك بابل على الكلدان، علماً أن البطريركين السابقين كانا يحملا لقب بطريرك الكلدان فقط. توفي سنة 1757.   
18_ كنائس حلب التي فقدها المشارقة هي: 1_ الأربعين شهيداً. 2_ مار قرياقوس. 3_ مار أشعيا الحلبي.   
19_ كنائس أورشليم التي فقدها المشارقة هي: 1_ مار يعقوب النصيبيني. 2_ مار يوحنا المعمذان. 3_  تجلي الرب. 4_ انتقال العذراء مريم.   
20_ أديرة أورشليم التي فقدها المشارقة هي: 1_ مار أنطونيوس. 2_ الاثنا عشر رسولاً. 3_ العنصرة " البنطقوسطي ". 
21_ الملبار: إقليم كبير جنوبي الهند. بشرها توما الرسول أحد الأثني عشر تلميذاً. كانت الملبار متصلة بكنيسة المشرق وهي جزء منها وتخضع لها كنسياً. وكان أبناء الملبار يلتجئوا إلى رئاسة كنيسة المشرق كلما احتاجوا إلى رعاة. وفي مجمع ديامبر سنة 1599 شرعوا يراجعون روما مباشرة. لكن علاقاتهم لم تنقطع نهائياً مع كنيسة المشرق، واستمرت المحاولات لعودتهم إلى كنيسة المشرق حتى نهاية القرن التاسع عشر لكن جميعها باءت بالفشل. وفي وسط هذه المعمعة استفرص السريان الأرثوذكس الفرصة فدخلوا الملبار نحو عام 1663م لأول مرة، وأعطوا فيما بعد لقب المفريانية لكرسيها بدل تكريت.
22_ البطريرك يوسف الرابع: ولد في آمد. درس في مدرسة مجمع انتشار الإيمان في روما. رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على آمد. انتخب بطريركاً سنة 1757. اعترفت روما برئاسته سنة 1759. استقال سنة 1781 وبقي في روما حتى توفي فيها سنة 1791.
23_ المطران باسيل أسمر: ولد في تلكيف. دخل دير الربان هرمزد. رسم كاهناً سنة 1819. رسمه البطريرك يوسف الخامس مطراناً على العمادية، ونقل إلى أبرشية آمد سنة 1828. استقال من منصبه سنة 1842. توفي سنة 1844.
24_ الشماس روفائيل مازجي: ولد في آمد سنة 1815. والده القس بطرس. ترعرع على الفضيلة والإيمان. سافر إلى باريس ودخل الرهبنة اللعازرية. بعد وفاة عمه بدوش آلت إليه ثروته بسبب عدم وجود وريث في العائلة غيره. فاستأذن رئيسه ليعود إلى الشرق، وفي طريقه مر بمدينة روما وهناك اشترى الكثير من الحلل والأدوات الكنسية ووهبها لمطرانية آمد. ثم جاء إلى الموصل سنة 1863 وبالتشاور مع البطريرك يوسف أودو اشترى بيوت جانب كنيسة شمعون الصفا، وشيد مدرسة كهنوتية وجهزها بكل ما يلزم لاستقبال ثلاثين طالباً. بالإضافة إلى مطبعة كان قد جلبها معه من روما ومعها الكثير من الورق والحبر وحروف كلدانية وعربية وفرنسية. توفي في الموصل سنة 1866. دفن في كنيسة شمعون الصفا بالموصل. 
25_ البطريرك يوسف الخامس: هو أوغسطين هندي ابن أخ البطريرك يوسف الرابع. قام بإدارة أبرشية آمد بصفة كاهن. ثم بصفة مطران منذ سنة 1804. وبالرغم أنه كان يلقب نفسه بالبطريك يوسف الخامس، غير أن روما لم تعامله كبطريرك. توفي سنة 1828 وبوفاته انتهت سلسلة البطاركة اليوسفيين.
26_ البطريرك يوحنا هرمزد: ولد سنة 1760 وهو ابن أخ البطريرك إيليا الحادي عشر. رسمه عمه شماساً سنة 1772، ثم أسقفاً سنة 1776. انضم إلى الكنيسة الكاثوليكية. سنة 1778 جرى بينه وبين ابن عمه الأسقف إيشوعياب خلاف على رئاسة كنيسة المشرق بعد وفاة عمهم إيليا الحادي عشر. وحسب قانون تداول السلطة وراثياً الذي وضعه البطريرك شمعون الباصيدي كان حق الخلافة من نصيب يوحنا هرمزد، لكنه تنازل لصالح ابن عمه إيشوعياب الذي أقنعه أنه سينضم إلى الكنيسة الكاثوليكية. وبالفعل انضم إلى الكنيسة الكاثوليكية وحمل لقب إيليا الثاني عشر، لكنه سرعان ما تراجع وعاد إلى مذهبه القديم. وعليه اجتمع وجهاء الموصل وأقالوا إيليا من منصبه واختاروا يوحنا هرمز المنظم إلى الوحدة، واعترفت به روما رئيساً لأساقفة الموصل ومدبراً للبطريركية البابلية، ونال فرماناً يخوله السلطة على الطائفة الكلدانية بشقيها الكاثوليكي والنسطوري وذلك سنة 1781. وبعد وفاة يوسف الخامس لم يتم انتخاب خلفاً له في سلسلة بطاركة آمد. وعليه اعترفت روما بالبطريرك يوحنا هرمزد بطريركاً على الكلدان ومنحته الباليوم " درع التثبيت ". وتم تنصيبه رسمياً سنة 1834. توفي سنة 1838.
27_ الأب ( المطران ) سليمان كوجوك أوسطه: ولد في آمد سنة 1884. درس في معهد سان سولبيس في باريس. رسمه المطران صباغ كاهناً سنة 1908. خدم في مدينته مجابهاً إعصار المذابح برباطة جأش، وبقي إلى جانب الرعية يواسي ويشجع ويطعم ويسفر حتى وفاة مطرانه صباغ سنة 1923. خدم في الموصل وبغداد والقاهرة. انتخب مطراناً معاوناً للبطريرك عمانوئيل سنة 1939، ولم تدوم مطرنته سوى بضعة أشهر إذ توفي في نفس السنة.
28_ الكلك: كلمة فارسية، وهي عبارة عن ظروف جلدية تنفخ وتربط ببعضها البعض، ويرصف فوقها أعمدة أو ألواح خشبية، وتصبح نوع من الطوفات، تستعمل للنقل المائي عبر الأنهر الكبيرة.
29_ المسيحيون بين أنياب الوحوش  مذكرات الأب جاك ريتوري      القسم الثاني    ملحق وضعه جوزيف اليشوران ص 377.
30_ المسيحيون بين أنياب الوحوش  مذكرات الأب جاك ريتوري      القسم الثاني  ملحق وضعه جوزيف اليشوران  ص 384.
31_ الأب توما كربوش: كلداني من أبرشية ماردين. لم أتوفق بالحصول على معلومات خاصة به. ومن المعلوم أن عائلة كربوش هي من العائلات الكلدانية الماردينية. واليوم يوجد كاهن كلداني من هذه العائلة هو الأب أنطوان كربوش يخدم أبناء الكنيسة في بلجيكا. 
32_ عضيبغريا " مكتبنوثا " " تأريخ " مخطوط للمطران إسرائيل أودو 122_ 124.














133
رحلة حج إلى أبرشيات كنيسة المشرق المنسية " الجزء الثاني "
الشماس: نوري إيشوع مندو
اليوم الثاني: الثلاثاء 13 حزيران 2006
صباحاً بعد أن احتفل صاحب السيادة بالذبيحة الإلهية في كنيسة دير مار كبرئيل تناولنا طعام الفطور، ثم انطلقنا لزيارة بعض المواقع في طور عبدين. وكانت محطتنا الأولى في قرية حاح، التي تضم ديراً شهيراً مكرس على اسم العذراء. ويتحدث تقليد الكنيسة السريانية أن المجوس في طريق عودتهم من بيت لحم، مروا من هذا المكان واستراحوا فيه من تعب الطريق، وقد شيد الدير في الجيل الخامس في نفس المكان. استقبلنا الراهب موشي رئيس الدير، وبعد أن رحب بنا شرح لنا عن تاريخ الدير والمراحل التي مر بها، ثم زرنا كنيسته البديعة. وبعد استراحة قصيرة ودعنا الراهب موشي متوجهين نحو قرية صالح ويدعوها العامة صلح.
والقرية اليوم خالية من الحضور المسيحي، لأن مختار القرية حسنو فتك بمسيحيي القرية في مذابح السفر برلك، ونهب أموالهم ومواشيهم، واستولى على أملاكهم وأراضيهم. وتضم هذه القرية دير مار يعقوب الحبيس الذي شيد في الجيل السادس، وبسبب عوداي الزمان قيض قسم من الدير، وقد بدأت عمليات الترميم على قدم وساق لإعادة ما تهدم. استقبلنا رئيس الدير الراهب دانيال مرحباً بنا، ثم زرنا كنيسة الدير واطلعنا على معالمها، وبعد استراحة قصيرة ودعنا الراهب متوجهين نحو مدينة مذيات.
وصلنا إلى مذيات التي تعتبر قصبة طور عبدين، تقع المدينة في سهل فسيح تحيط بها الروابي والتلال المزدانة بالكروم والأشجار. وكان اغلب سكانها من السريان الأرثوذكس، وقليل من الكلدان والبروتستانت والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك، وقد أصاب مسيحييها الكثير من الويلات خلال مذابح السفر برلك.
وكان الأب لابورد اليسوعي قد وافى مذيات وشيد كنيسة فيها وذلك سنة 1850، وعندما تأسست نواة طائفة السريان الكاثوليك في المدينة أعطيت الكنيسة لهم. وقد هدمت هذه الكنيسة بعد المذابح من قبل المسلمين الذين استعملوا حجارتها لبناء جامع قريب منها.
زرنا كنيسة مار برصوم القديمة للسريان الأرثوذكس، ثم زرنا مصلى الكلدان المكرس على اسم العذراء، والتقينا بالعائلة الكلدانية الوحيدة المتبقية في المدينة.  ومن المعلوم أن عدد الكلدان في مذيات زمن المذابح كان أكثر من ثلاثمائة نسمة. وفي صيف سنة 1910 رسم لهم المطران إسرائيل أودو كاهن لخدمتهم هو الأب كوركيس آل بهلون،  وفتح في المدينة مدرسة لأبناء الطائفة. وكان الأب المذكور يخدم الكلدان في قرية كفر جوز أيضاً. وفي حزيران سنة 1915 ألقي القبض على نيف ومائة رجل من الكلدان والبروتستانت، وبعد أن سجنوهم عشرة أيام نالوا خلالها أبشع أنواع التعذيب والتنكيل، تم سوقهم في 28 حزيران مثقلين بالأغلال في أعناقهم وأكتافهم فوصلوا بهم إلى قرية كفر حور وقتلوهم جميعاً ورموا جثثهم في بئر يدعى بئر سيطا.
وفي 16 تموز أمر القائممقام الجنود أن يطلقوا الرصاص على بيوت المسيحيين، لكن المسيحيين قاوموا بشجاعة فائقة. وعندما رأى القائممقام عدم قدرة الجنود على الفتك بالمسيحيين، استحضر العشائر الكردية من نواحي ديار بكر وماردين وسعرت والجزيرة وانضموا إلى الجنود في محاربة المسيحيين، واستمرت المعركة أسبوعاً كاملاً حتى فتكوا بالرجال والنساء وذبحوا الأطفال والرضعان، وقد بلغ عدد الشهداء زهاء عشرة آلاف نسمة، وقام الجنود ورجال العشائر بنقل جثث المسيحيين خارج المدينة، وبعد أن عروهم من ثيابهم حرقوهم جميعاً. ثم عادوا إلى المدينة ونهبوا بيوت المسيحيين ومخازنهم، وجمعوا 500 طفل من سن الخامسة وحتى السابعة وساروا بهم إلى قرية أنحل وسلموهم لمسيحيي القرية حتى يهتموا بهم.   
وقد نجا من مسيحيي مذيات حوالي ألف نسمة هربوا ليلاً إلى قريتي عينورد وأنحل، وعندما علم بذلك قائممقام المدينة حرض العشائر الكردية للفتك بسكان القريتين. وبعد أن أعدوا العدة حاصروا القريتين المذكورتين، لكن سكانها الشجعان كانوا قد حصنوا القريتين وقاوموا بشجاعة العشائر الغازية، وعندما نفذت ذخيرتهم أذابوا الأواني النحاسية وحولوها إلى ذخيرة، وبعد حرب استمرت شهرين اندحر الأكراد تاركين ورائهم الكثير من جثث قتلاهم. وعليه طلب متصرف ماردين من سريان القريتين تسليم سلاحهم، لكنهم رفضوا الطلب. وعليه أرسل المتصرف جنود لمساعدة العشائر الكردية الذين حاصروا القريتين من جديد، وبعد معركة استمرت عشرة أيام سقطت القريتين بيد الوحوش المفترسة الذين قتلوا الرجال والنساء ذبحاً تاركين الأطفال لمصير مجهول. وبعد سقوط القريتين انقضت العشائر على أغلب قرى طور عبدين وقتلت سكانها ونهبت ممتلكاتهم.
 ثم زرنا قصر جبرائيل ( كلي ) هرمز الذي يعتبر تحفة أثرية فريدة، واليوم تسكنه عائلة كردية. ومن المعلوم أن عائلة كلي هرمز الكلدانية موصلية الأصل، هجرت إلى مذيات منذ قرنين حاملة معها صناعة الحلاوة والطحينة، ونالت مكانة مرموقة في المنطقة، وجمعت ثروة طائلة. وبسبب مضايقات أهل مذيات لهم اعتنقوا البروتستانتية اعتقاداً منهم أن البعثات الأمريكانية سوف تحميهم وتحافظ على أموالهم وأملاكهم من شر أهل مذيات، وقد قتل أغلب رجال العائلة في مذابح السفر برلك بتحريض من وجهاء السريان الأرثوذكس بمذيات. ويقال أنه عندما خرجت القافلة التي تضم رجال عائلة كلي هرمز من مذيات وهي تساق للذبح، خرج حنا سفر كبير وجهاء السريان في المدينة إلى شرفة منزله ليتفرج عليهم. فالتفت كلي هرمز نحوه قائلاً: " أعلم يا حنا إننا بدسائسك ودسائس أصحابك وصلنا إلى هذه الحال. فنحن قد قضي أمرنا وعما قليل نصير إلى لقاء ربنا. أما أنت ويعاقبتك فتمتعوا بالحياة الدنيا. ولكن لا يفتك أنك ستقتل أنت أيضاً شر قتلة ". وفعلاً بعد فترة قصيرة قتل حنا سفر داخل مذيات ولعب بهامته أذل الحيوانات وأخسها. ولم يتوقف وجهاء السريان بمذيات عن إلحاق الأذى بهذه العائلة الكريمة وإهلاك من تبقى من رجالها. ففي 21 تموز 1918 رفع كل من: الخوري عيسى والقس جبرائيل ومحي كوو مختار السريان والوجيه موسى أسمر مضبطة بالتركية إلى متصرف ماردين جاء فيها: " إننا نحن جماعة اليعاقبة ما زلنا منذ ألف وخمسمائة سنة تحت ظل الملة الإسلامية والدولة العلية العثمانية. ونؤيد أن أموالنا وأرواحنا هي فدى لها. كل ذلك يؤيده جميع من عاشرهم وعرفهم. غير أن داود بن جبرائيل هرمز أحد وجهاء البروتستانت بمذيات ما برح متحداً مع اليزيدية، وهو أحد أعضاء الجمعية المنتمية إلى الأرمن والإنكليز والإميركان. وقد أقاموه بمثابة جاسوس يسعى في ما يؤول لانتصار الأرمن والإميركان. بل هو من وجهاء الجمعية الخنجكيانية الأرمنية. وهذا داود انهزم هو وابن أخيه جرجس وأبن أخته بولس وقت سوق القافلات من وجه الحكومة إلى أنحل وعينور وباسبرينا وحباب وسائر قرى اليعاقبة واليزيدية، وأثاروا الأكراد الجهال المغفلين ولقنوهم ليقاوموا الحكومة السنية. وما فتئوا منذ ثلاثة أعوام على هذه الحال. بل أن داود منذ استاقت الحكومة والده وأخوته لا يفتر من أن يثير الفتن والمشاغب على الحكومة، ويحاول أن يسترجع أموال والده وأملاكه الحاصلة اليوم في حوزتها، ويتظاهر بأنه منتمِ إلى اليعاقبة قصد الفوز بغايته هذه. مع أنه يفرغ كل جهده في القدح في أعراضنا ليثير الحكومة علينا. بل نراه يتنقص الحكومة ويصرح للأهالي بأنها جائرة ظالمة غدارة. ولا يخفى أنه إذا استمر في مذيات أزداد الفساد واستفحل الشر. بناء على ما ذكر نسترحم أن تصدروا في حقه أوامر النفي بالخفية، لئلا يطلع أصحابه ولا سيما المنصبون فيبلغوه ذلك، ويستعجلوه على الهرب كما جرى الأمر منذ سنتين. فنسترحم إذاً أن تجروا به مثلما يستحق جرمه ذلك تأميناًُ لحقوق اليعاقبة الأذلاء المساكين، وصيانة لحياتهم وإطلاق الحرية لهم في الأخذ والعطاء. وألا سلبت الأمنية بالمرة وازداد الفساد والاضطراب ".  لكن داود فلت من هذه المكيدة بأعجوبة.
بهذه الطريقة تصرف وجهاء مذيات السريان مع هذه العائلة، والسبب يعود إلى الثروة الهائلة التي كانت تمتلكها، وقد حاولوا كثيراً ابتزازهم بطرق ملتوية لكنهم لم ينالوا مأربهم. ومع بدء مجازر السفر برلك طلبوا من كلي هرمز أن يمدهم بالمال حتى يشتروا السلاح. فرفض طلبهم قائلاً أننا لا نستطيع أن نقف بوجه الدولة، وأما إذا قتلونا فهذا فخر لنا لأننا سننال إكليل الشهادة من أجل المسيح.
وعليه وشى وجهاء السريان على كلي هرمز لدى الدولة مدعين أنه عرض عليهم المال للتسلح، لكنهم رفضوا طلبه لأنهم مواطنين صالحين ولا يتمردوا على حكومتهم. وهكذا شجعوا السلطات للنيل من هذه العائلة الكريمة حتى يستولوا على أموالهم وممتلكاتهم.                 
انتقلنا إلى طرف المدينة لنزور دير مار هابيل ومار أبراهام، فاستقبلنا رئيس الدير الراهب إبراهيم، وبعد أن شرح لنا تاريخ الدير زرنا الكنيسة، ووقفنا أمام قبر القس الكلداني سليمان مقدسي موسى المدفون هناك، وهو أخر كاهن خدم رعية مذيات الكلدانية حتى الستينيات من القرن الماضي.
تركنا مذيات متوجهين إلى قرية أنحل ومنها نحو وادي بونصرا. يقع الوادي على السفح الشمالي لجبل إيزلا، ويتحدث التقليد أن تسمية الوادي جاءت من اسم الملك نبوخذنصر الذي دمر مملكة إسرائيل، وجلب معه آلاف السبايا ووضعهم في هذا الوادي السحيق. وقفنا عند نبع نهر الهرماس الذي يروي نصيبين وقراها، ويعرف هذا النهر عند العامة بنهر الجخجخ. وبعد استراحة ممتعة عند النبع الذي تحيط به الأشجار المثمرة والمناظر الخلابة، عدنا إلى دير مار كبرئيل. وبعد تناولنا طعام العشاء خلدنا إلى الرحلة بعد يوم طويل.
اليوم الثالث: الأربعاء 14 حزيران 2006
صباحاً بعد أن احتفل صاحب السيادة بالذبيحة الإلهية في كنيسة مار كبرئيل تناولنا طعام الفطور، ثم انطلقنا نحو مدينة سعرت. وفي الطريق توقفنا في قرية كفر جوز، ومن المعلوم أن مسيحيي القرية كانوا من الكلدان يعملون في الفلاحة والزراعة، وخلال مذابح السفر برلك جمع يوسف حسن شمدين آغا الرجال، واستاقهم حفاة عراة إلى النهر القريب من القرية، وألقاهم فيه حتى غرقوا جميعاً، وكانوا خلال الطريق ينشدون الترانيم مشجعين بعضهم بعضاً لنيل إكليل الشهادة.
أما الأطفال فقد وضعهم في زريبة للحيوانات وأقفل عليهم، وصادف أن مر بالقرية الشيخ فتح الله العينكافي المعروف بدماثة الأخلاق وحسن السلوك والسيرة، فسمع عويل وصراخ فسأل عما يجري هناك، وما أن عرف حقيقة الأمر حتى استشاط غضباً وفك أسر الأطفال ومضى بهم إلى مدينة مذيات، وهناك سلمهم لمسيحيي المدينة. أما النساء فقد نلن الكثير من ظلم الأغا، حتى تركن بيوتهن وما تحتويه وهربن بالتدريج نحو مدينة مذيات صوناً لشرفهن وحياتهن. توقفنا قليلاً أمام القرية متأملين سهولها التي يشقها النهر، الذي أضحى يوماً مذبحاً قدم عليه قرابين بشرية، عربون محبتهم للذي فدى نفسه من أجل خلاص البشر.
تركنا القرية متوجهين شمالاً نحو مدينة بطمان، ومنها شرقاً لنمر بمنطقة البشيرية، هذه المنطقة التي كانت  مزروعة بعشرات القرى المسيحية العامرة، أغلب سكانها من سريان وأرمن أرثوذكس، وكان للسريان ديراً شهيراً في قرية قبينه على اسم مار قرياقس، وكان للسريان الأرثوذكس كرسياً أسقفياً في هزو، لكن الأسقف كان يسكن في دير مار قرياقس. ويبدو من خلال مراجعتنا للتاريخ أن الكلدان كان لهم كرسيان أسقفيان في منطقة البشيرية، واحد في " هزو " والثاني في  " غوردلاية "، وبسبب تراجع الحضور الكلداني هناك، نجد المطران إيليا مطران آمد  " ديار بكر " يضم المركزين المذكورين إلى أبرشيته وذلك في سنة 1610. واليوم أضحت المنطقة خالية من سكانها المسيحيين.
أكملنا المسير شرقاً لنصل إلى منطقة أرزون أو أرزن الشهيرة في تاريخ كنيسة المشرق، ويتحدث التقليد أن مار ماري رسول المشرق بشر أهلها وأنار فيهم الإيمان، وشيد هناك كنيسة دعيت باسمه. وكانت أرزون منذ بدايات المسيحية مركزاً أسقفياً يتبع كرسي نصيبين المطربوليطي، وفي العصور المتأخرة تبعت أبرشية حصن كيبا، ومنذ زمن الاتحاد تبعت أبرشية سعرت.
ويدعوا العامة منطقة أرزون باسم غرزان، وبعد أن خربت أرزون على أيدي السلجوقيين سنة 1048 دعي موقع المدينة خراب باجْار وتعني المدينة المهدمة، أما اليوم فتعرف باسم كورتلان.
وكانت المنطقة تضم العديد من القرى الكلدانية العامرة حتى مذابح السفر برلك نذكر منها: بيكند. بركي. رضوان. زوق. هللر. عين قصر. تل منار. كوخا. عزو. عين دير ويقال لها أيضاً عين دار، وموقع هذه القرى في جنوب غرب سعرت. وإلى جانب هذه القرى كان هناك قرى سكانها خليط من الكلدان والسريان الأرثوذكس نذكر منها: حسحس. مار مارونه. بيبو. تليبة. قمارو. كندور. زنكا. كوتيبة. وقد دمرت جميعها وفرغت من سكانها المسيحيين.
زرنا قرية بيكند وتعرف في تاريخ كنيسة المشرق بـ بصي نغد  " بيث  قند " وتعني مكان الوثب أو القفز الواقعة جنوب كورتلان بمسافة 7 كم، هذه القرية الشهيرة بحدائقها الغناء، وعيون المياه المتدفقة التي تروي بساتينها الغنية بالأشجار المثمرة. ووقفنا عند بعض البيوت المهجورة المبنية من الحجارة بشكل بديع، وعلمنا من سكان القرية أنها تعود لمسيحيي القرية، وقد قتل أغلب سكان القرية ورموا جثثهم في وادي يبعد مسيرة ساعتين منها. وشاهدنا شمال قرية بيكند خرائب دير مار يوحنا نحلايا،  وحتى اليوم يدعوا الأكراد موقع الدير باسم ديري. ومن المعلوم أن الدير قد ضبطه السريان الأرثوذكس من الكلدان سنة 1825 بقوة فتاح باشا الغرزي، وقد بدلوا اسم شفيع الدير وأطلقوا عليه اسم مار أحو. أما قرية رضوان القريبة وحسب رواية شاهدة عيان، فبعد أن قتلوا رجال القرية، جمعوا النساء والأطفال وصبوا عليهم النفط واحرقوهم جميعاً وهم أحياء. وعلى هذه الطريقة البشعة تم تصفية مسيحيي القرى المجاورة. ومن شدة البطش وقساوة الظلم اعتنق العديد منهم الإسلام. وقد اقترف الآغا جميل جتو من آغوات منطقة غرزان أبشع الجرائم بحق مسيحيي المنطقة.
تركنا القرية متوجهين شرقاً، وبعد أقل من نصف ساعة وصلنا إلى مدينة سعرت، وقد اختلف المؤلفين في تسمية هذه المدينة، فيطلق عليها أيضاً اسعرت أو سعرد أو اسعرد. وقديماً دعيت المتبددة وأيضاً المدينة البيضاء. ويقال أن لفظة سعرد لفظة كردية مركبة من كلمتين هي سي وتعني ثلاثة، و عرد تعني الأرض، لادعاهم أن المدينة خربت مرتين ثم بنيت مرة ثالثة.
تقع المدينة في سهل فسيح غزير العيون كثير الخصب، يكثر فيه أشجار التين والرمان والبندق والبطم والكروم. يروي سهولها الغربية نهر البوتان، وينساب نهر خازر غرب المدينة مسافة 3 كم. وتحيط بها جبال بتليس العالية شمالاً، ومن ناحية الجنوب الشرقي جبال البوتان الشامخة ويقال لها أيضاً جبال البوهتان. تأسس كرسي سعرت المطرابوليطي في زمن انضمام أبناء كنيسة المشرق إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1553 وكان يتبعه أسقف أشي في جبل البوتان، وقبل هذا التاريخ كانت منطقة البوتان تتبع أبرشية آثيل، أما منطقة أرزون فكانت تتبع أبرشية حصن كيبا.
ومنذ سنة 1555 وحتى سنة 1600 كانت سعرت مقراً للكرسي البطريركي، حيث سكن ثلاثة بطاركة في دير مار يعقوب الحبيس  الواقع على قمة جبل يطل على نهر البوتان جنوب سعرت مسافة 8 كم. وهؤلاء البطاركة هم: عبد يشوع الرابع مارون.  يبالاها الرابع.  شمعون الثامن دنحا.  وبعد الانفصال بقيت الأبرشية خاضعة لبطريركية آمد الكاثوليكية. وفي بداية القرن السابع عشر ( سنة 1620 ) نجد حضور كثيف للمشارقة في سعرت، " يضم 3000 بيت في المدينة وجوارها، يخدمهم أسقف و25 كاهناً و80 شماساً، ولهم في المدينة كنيستان هما: 1_  مار كيوركيس. 2_ مار ميخائيل. ولهم ثلاثة أديرة هم: 1_ مار يعقوب الحبيس. 2_ مار كورئيل. 3_ مار صوريشوع. ".  وقد تعاقب على كرسيها منذ زمن الاتحاد وحتى تدميرها سنة 1915 ثلاثة عشر مطراناً. 
ما أن دخلنا مدينة سعرت حتى توفقنا بشخص استطعنا من خلاله أن نصل إلى حي عين صليب، ووقفنا عند العين التي لا زالت باقية شاهدة على هذا الحي الذي كان يوماً مكتظاً بسكانه الكلدان.
ومن المعلوم أن سعرت كانت تضم حيين مسيحيين، الأول الحي الكلداني المعروف  بـ عين صليب، ويضم الحي كاتدرائية العائلة المقدسة وإلى جانبها المطرانية الكلدانية، بالإضافة إلى أبنية عديدة لرسالة الرهبان الدومنيكان  كانت تضم ديراً ومدارس للفتيان والفتيات ومدرسة صناعية وميتمان، وكانت رسالة الدومنيكان في سعرت تضم 66 راهباً وراهبة، غادروا المدينة امتثالاً لأوامر السلطات العثمانية مع بداية المذابح.
وأما الثاني فهو الحي الأرمني، وكان العامة يدعوه تاخا صْور أي الحي الأحمر، وكان للكلدان فيه كنيسة على اسم مار كيوركيس. وفي حي عين صليب يجد المرء بيوت قديمة مبنية من الحجارة لا زالت قائمة، كانت يوماً ملكاً لمسيحيي المدينة، ثم زرنا موقع جامع الخليلي الذي كان يوماً كاتدرائية الكلدان واليوم هدم وحول إلى مقبرة. ومنها ذهبنا إلى جامع النبي الذي كان كنيسة الآباء الدومنيكان.
لم نستطيع التعرف على باقي المواقع مثل المطرانية الكلدانية التي حولت إلى مدرسة حكومية، والحي الأرمني وكنيسة مار كيوركيس الكلدانية التي حولت إلى قاعة لنشاطات مدرسية، ودير الدومنيكان الذي حول بعد المذابح إلى مشفى عسكري، كلها كانت في ذاكرتنا وكنا نتمنى مشاهدتها، لكن الدليل الذي رافقنا بعد أن عرف أننا مسيحيين أخذ يشمئز منا متهرباً من أسئلتنا.
وفي النهاية استطعنا أن نقنعه ليدلنا على موقع دير مار يعقوب الحبيس الواقع جنوب المدينة بمسافة 8 كم، ويعود بناء الدير إلى القرن الرابع.
وصلنا إلى موقع الدير لكننا مع الأسف الشديد لم نجد شيئاً، لقد هدم كلياً ولم يبقى منه أي أثر يذكر، وقد سيج بالأسلاك الشائكة حيث حول إلى موقع عسكري. وقد احتضن هذا الدير في ثراه أضرحة بطاركة عظام، بعد أن جعلوه مقراً لرئاستهم. بالإضافة لمطارنة أبرشية سعرت الذي اتخذوه مقر لكرسيهم حتى زمن المطران بطرس برتتر ( 1858 _ 1884 )، حيث شيد بناء المطرانية في سعرت ونقل الكرسي هناك، وكان المطران المذكور قد جلب من روما مطبعة وأحرف كلدانية لطباعة الكتب، وفتح في الدير إكليركية. كل ذلك ذهب في مهب الريح بسبب عبث الحاقدين، حتى مكتبته الغنية والشهيرة أضحت طعمت لنار أحد الآغوات بعد أن نهبها، ويقال أن الآغا حرق كتبها لمدة شهر كامل حتى قضى عليها، ويقال عن المكتبة أنها كانت منظمة ومفهرسة أكثر من المكتبات العالمية اليوم. وكان المطران ميخائيل كتولا  ( 1826 _ 1855 ) قد رمم الدير، وأحضر عشرة رهبان أنطونيين من دير الربان هرمزد قرب ألقوش لإعادة الحياة فيه، واستمرت حتى المذبح المشئومة. ومن الدير شاهدنا جبال البوتان الشامخة التي كانت تضم حتى بداية القرن الماضي العشرات من القرى الكلدانية، واليوم لم يبقى منها سوى الذكرى. ومن المعلوم أن المنطقة كانت تضم العشرات من الأديرة الشهيرة دمر أغلبها على مر السنين، ويذكر المؤرخين العديد منها التي لم يبقى منها أي أثر يذكر، منها دير مار شليطا  الذي يقع على بعد مسيرة يومين جنوب غرب سعرت على ضفة نهر دجلة.
وكانت القرى التابعة لأبرشية سعرت والواقعة على جبال البوتان جنوب شرق المدينة أكثر من أن تحصى نذكر منها: قطمس. مار كوريا. كيدوانيس. تل ميشار. بينكف. دهوك. راموران. دير ربان. دهمزيان. رضوان. ارجيقانيس. كلوابيه. قوريج. اوريج. بوريم. شويتا. روما. حاخ. بيروز. دينتاس. أرتون العليا. أرتون السفلى. كوبرتانس. تل. كيرأثيل. مارانش. مار شانس. صدغ. مار يعقوب. مارت شموني. أشي. حديد. دير شمش. قب. اجنبت. تل نيفرو. شرنخ. مار شمعون. دير مازن. بنكوف. مار شمعون. ارشكنس. كيب.
وفي تقرير رفعه البطريرك عمانوئيل إلى قنصل فرنسا في بلاد ما بين النهرين السيد م. روو بتاريخ 29 كانون الثاني 1919 يبين فيه أسماء القرى الكلدانية المدمرة وعدد الشهداء وحجم الخسائر المادية، ويذكر أسماء العشائر التي اقترفت هذه الجرائم نذكر منهم: عشائر باتوا ومما وسينك ودومان. وآغوات أرو والحلنزي والجوانكية وكند.
وشرق جبال البوتان تقع جبال هكاري التي كانت مكتظة بالمراكز الكثيرة التابعة لكنيسة المشرق، نذكر منها جولاميرك وتدعى أيضاً كولاميرين، والتي كانت تعرف قديماً بـ الكمار، " وكانت تضم في القرن الخامس عشر 3000 بيت، يخدمهم أسقف وعدد كافي من الكهنة والشمامسة، ولهم فيها كنيستان. " 
وقد وضع الخوري توما بجاري  الوكيل البطريركي الكلداني في دار السلطنة العثمانية في اسطنبول، قائمة بمراكز الكلدان في أبرشية سعرت، حيث يبلغ عددهم أكثر من عشرين ألف، نذكر منها: سعرت 2000 نسمة. صدغ 2000. تل ميشار 1500. أرتون العليا 1000. قطمس 1000. حديد 1000. مار كوريا 1000. بيروز 1000. أرتون السفلى 500. بيكند 500. بركي 500. مار يعقوب 500 . . . إلخ.
إن المصائب والمصاعب التي حلت بأبرشية سعرت يعجز اللسان عن وصفها، بسبب خشونة الوحوش البشرية التي انقضت بدون رحمة على أناس ودعاء مسالمين. وفي زمان المذابح كانت سعرت تتبع إدارياً ولاية بتليس. وقد بدأت المجازر بأمر من جودت بك والي وان، الذي ترأس فوجاً من العسكر تغلي في دمائهم مثله شهوة الذبح أطلق عليه  " طابور  القصابين "، هؤلاء الوحوش الذين اندفعوا نحو المسيحيين كالضباع الجائعة ناهبين قراهم متفننين في أساليب الفتك والذبح. لقد شكل قائمقام سعرت أنيس بك كتيبة من جنود قوامها مسلمون، أوكل إليهم مهمة تصفية مسيحيي المدينة.
ففي رسالة البطريرك الكلداني مار يوسف عمانوئيل الثاني إلى وزير الخارجية الفرنسية السيد ستيفان بيشون والمؤرخة في 29 كانون الثاني 1919 يتحدث فيها عن مذابح سعرت قائلاً: " اجتيحت أبرشية سعرت ودمرت تماماً، المطران والكهنة وسكانها المسيحيين والثلاثة والستين قرية التابعة لها، ذبحوا بأبشع أساليب الهمجية. دمرت الكنائس والأديرة والصرح الأسقفي والمؤسسات، كما نهبت الممتلكات واستولوا على الأوقاف وعلى أرزاق المؤمنين، وحل الخراب في كل مكان. اخص بالذكر مكتبة المطرانية الغنية بمخطوطاتها القيمة، هذه المكتبة التي كانت قبلة المؤرخين والباحثين والمستشرقين من جميع أنحاء العالم، هذه المكتبة حولت إلى رماد للأسف الشديد ". 
تأمل أيها القارئ اللبيب 63 قرية كلدانية أبيدت عن بكرة أبيها، فكم كان حجم الكارثة الذي حل في هذه الأبرشية، لو نطق وادي زرياب  عن عدد الجثث التي ألقيت فيه، سوف تذهل من قسوة عديمي الضمير، وهل تعلم أنه حتى يومنا هذا لو زرت الوادي المذكور ستجد بقايا عظام الشهداء.
ويقول الأب بطرس عابد الكلداني في تقريره المرفوع إلى الكردينال ماريني أمين سر مجمع الكنائس الشرقية والمؤرخ في 18 نيسان 1918، يصف ما جرى في سعرت قائلاً: " بدأت مذبحة مسيحيي سعرت في شهر أيار سنة 1915، وقد سبقت مذابح بيتليس بثلاثة أشهر فقط. بادئ الأمر سجنوا عدداً كبيراً من المسيحيين مع كهنتهم، ثم أخذ الجنود الأتراك يفتكون بمسيحيي المدينة، وانتقلوا منها إلى الأرياف، حيث عشرات القرى الكلدانية. في هذه المذابح لم يسلم أحد من المسيحيين هناك ". 
أما مسيحيي القرى فكانت مهمة تصفيتهم منوطاً بالعشائر الكردية، التي عملت على إبادة ما طال أياديهم القذرة، فارتكبوا أبشع جرائم القتل والذبح والاغتيال والسلب والنهب والتدمير. لأن المسيحيين كانوا أصحاب الصناعة والتجارة في المدينة، وملاكي الأراضي الزراعية الخصبة في القرى، يعملون فيها ليل نهار بجد ونشاط، وكانت تدر عليهم الغلال الوفيرة، لقد حولوا قراهم إلى جنات عدن لكثرة ما غرسوا فيها من أشجار مثمرة ومن جميع الأصناف وأجودها. أم المسلمين فكانوا خالين من المؤهلات، وما أن بدأت المذابح وجدوها فرصة سانحة للانقضاض على هؤلاء المسالمين وتصفيتهم وسلب أموالهم وممتلكاتهم.
وحسب رواية أحد الناجين من المذابح ويدعى هرمز، فبعد هربه إلى ماردين وهناك قابل المطران إسرائيل أودو حيث حدثه عما جرى في  قرية أرتون  قائلاً:  " بعد أن ذبح الشيخ عبدالله المطران توما رشو  ومعه 180 شخص من أبناء قرية آثيل، تجمع من تبقى من  شباب القرية الكلدان ومعهم شباب من القرى المجاورة وهجموا على الشيخ المذكور وقتلوه، وما أن شاهد عبد الرحمن أخو الشيخ عبدالله ما جرى لأخيه أنتابه الخوف والفزع، فهرب إلى مدينة الموصل وبقي هناك ". 
وفي رسالة الأب فيليب شوريز السعرتي النائب البطريركي للكلدان في بغداد، إلى الأب الدومنيكي كوفروا حول حوادث سعرت، مؤرخة في 22 أيار 1917، يقول فيها: " لو عدتم يوماً ما إلى دار الرسالة الدومنيكية لما تعرفتم عليها، كل ما فيها قلب رأساً على عقب. في سعرت حولوا دار الرسالة إلى جامع، ومساكن المسيحيين صار يقطنها المسلمون.  لقد ألقوا القبض على جميع الكلدان، واقتيدوا في الليلة التالية موثقين ببعضهم إلى وادي زرياب، وبعد أن جردوهم من ثيابهم أطلقوا عليهم نار بنادقهم بغزارة، فأردوهم جميعهم قتلى. وقيل عنهم أنهم صمدوا في وجه الجلادين الذين عرضوا عليهم الإسلام فرفضوه قطعاً، وساروا بثبات نحو الاستشهاد وهم يلفظون اسم يسوع المسيح له المجد، صافحين لجلاديهم القساة الخالية قلوبهم من الرحمة.  أما النساء لما أرادوا النيل من فضيلتهن فضلن الموت على العار، لذا ساقوهن إلى خارج المدينة في طرقات مهجورة مجهولة، وكانت أصواتهن تصدح بتراتيل شجية، ويقال أنهن رجمن بالحجارة ومنهن قتلن رمياً بالرصاص. أسرة عبوش  وحدها قدمت قرابة الأربعين شهيداً  ". 
ويتحدث الأب فيليب شوريز السعرتي عن مقتل الأب جبرائيل عبوش قائلاً:  " غداة هرب المطران أدي شير ألقت الحكومة القبض على جميع كلدان سعرت، باستثناء النساء والأطفال ما دون الخامسة. وكذلك قبضوا على الأب جبرائيل عبوش الذي لم يغادر دار المطرانية، وذهب ليقيم الذبيحة الإلهية في الكاتدرائية لشعب مذعور منتحب محتمِ بالكنيسة، وبعد القداس صعد إلى سطح المطرانية حيث ألقوا القبض عليه، وساقه رجال الجثا  مقيد اليدين وضموه إلى الكلدان الذين كانوا بالسجن. وهناك استمع الأب عبوش إلى اعترافات أبناء رعيته خلال ثلاثة أيام، حاثاً إياهم على الثبات والصمود على إيمانهم المسيحي القويم. وقبل أن يربطوهم إلى بعضهم نزعوا عنهم ثيابهم، ثم اقتادوهم كقطيع أغنام إلى خارج المدينة، وهناك أمطروهم بوابل من الرصاص دون رحمة ولا شفقة. أما الأب جبرائيل عبوش فقد دفعوا به إلى خندق محيط بمنزل أحد الأغوات في سعرت، واخذوا يطعنوه بالخناجر، ثم سكبوا عليه النفط واحرقوه، وقد تحمل أقسى العذابات حتى طارت روحه إلى باريها شهيد إيمانه. وتقول رواية أخرى أنهم غرزوا في جسمه أمشاطاً وسفافيد حديدية حادة، كانت تحمى بالنار حتى تحمر، ثم تغرز في جسمه. وكانت أدعية الشهيد تسمع من بعيد وهو يردد: من أجلك يا يسوع، هلم إلى عوني يا يسوع المسيح ". 
أما الأختان ستيرا ووارينا بنتا القس حنا شماس كاهن الكلدان في قرية صدغ، فقد تحدثت  ستيرا عن قصتها بالقول: " بعد أن قتلوا جميع كلدان قريتنا صدغ بما فيهم والدنا كاهن القرية وجميع أهلي، أخذنا الأكراد كسبايا إلى قرية كواتي، وعندما مر حاكم سعرت من القرية المذكورة وعرف بوجودنا هناك، أخذنا من الأكراد وكنت أنا ستيرا بعمر 18 سنة وأختي وارينا أصغر مني، وهناك في سعرت سخرنا بخدمة البيت. بعد فترة سافر هو وعائلته إلى حلب فأخذنا معه. وفي أحد الأيام كنت أتجول في حي يقال له الصليبي، ورأيت جموع من الناس تخرج من إحدى الأبنية، فسألت عنهم فقالوا أنهم مسيحيون يخرجون من الكنيسة. تفاجئت لأننا في سعرت كنا نسمع من العثمانيين والأكراد أنه لم يبقى على وجه الأرض لا مسيحيين ولا كنائس. وعندما عدت إلى المنزل فكرت في الهروب، وفي صباح اليوم التالي أخذت أختي وهربت بطريقة لم تشعر بها زوجة الحاكم ولا الحرس المرافق. ذهبت إلى تلك الكنيسة والتقيت بكاهنها الأب ميخائيل شعيا،  وبعد أن شرحت له قصتي، أخذنا عند عائلة عبوش الكلدانية السعرتية وبقينا عندهم. وقد بذل الحاكم جهداً كبيراً للعثور علينا، لكنه لم يفلح بذلك حتى غادر حلب إلى القسطنطينية ". 
وكان الأب جوزيف نعيّم الكلداني الرهاوي  الذي عانى أيضاً من قسوة الاضطهاد، حيث فقد العديد من أفراد أسرته، وذاق مرارة السجن والعذاب مدة 130 يوماً حتى أطلق سراحه في القسطنطينية. وهناك التقى العديد من الكلدان الناجين من مذابح سعرت، منهم المدعوة حلاته حنا التي حدثته عن مقتل المطران أدي شير  والعديد من الكهنة:  " كنت بين نساء سعرت اللواتي سقن إلى الذبح وعددهن حوالي الألف، وفي الطريق قتل عدد كبير من النساء، وعند عبورنا نهر خازر رمت بعضهن  أطفالهن في مياه النهر من جراء إرهاقهن الشديد، وما أن وصلنا إلى قرية بيكند أخذونا إلى المكان الذي قتلوا فيه كلدان القرية لذبحنا هناك. وقد تمكنت من الهروب عن طريق راعي كردي من قرية بيكند كان يتردد إلى بيتنا في سعرت. وبعد أن عدت إلى سعرت عملت طباخة عند حاكم المدينة بيرام فهمي بك. سمعت أن مسلمي المدينة قرروا أن لا يبقى أي مسيحي فيها،  كان دار المطرانية في سعرت قبل مقتل المطران قد أصبح ملجأ لكهنة كنائس القرى هرباً من المذابح الجارية في قراهم، وممن أعرفهم هم الآباء: الأب جورج كاهن قرية بركي، والأب حنا كاهن قرية صداغ، والأبوين موسى ويوسف كاهني قرية كيدوانس، والأب ميشيل كاهن دير مار يعقوب، والأب يوسف كاهن قرية بيكند، والأبوين جرجيس وعازار كاهني  قرية قوطميس، والأبوين عازر وهرمز كاهني سعرت، وسكرتير المطران الأب كبرئيل أدمو. جميعهم قتلوا بوحشية. كما وضعت السلطة المطران أدي شير تحت الإقامة الجبرية في دار المطرانية، بعد أن دفع رشوة لحاكم المدينة قدرها 500 باوند ذهبي بعد أن وعده بإبعاد القبائل الكردية المسلحة عن المدينة. وقد أرسل عثمان آغا الطنزي الرجل الشهم وهو صديق مقرب من المطران خمسة عشر من رجاله الأشداء، وحضروا إلى دار المطرانية ليلاً وأخرجوا المطران بعد تنكره بلباس كردي، وساروا به إلى قرية طنزي في جبال البوتان التي تبعد مسافة ستة ساعات سيراً على الأقدام، وهناك استقبله أحسن استقبال على أمل أن يسفره إلى الموصل للنجاة من مصير محتوم. وفي الصباح وما أن علمت السلطة بالأمر، حتى سيرت كتيبة من الجيش. وقبل وصولها إلى القرية أرسلت خبر للآغا تدعوه لتسليم المطران وألا قتل مع جميع أهل بيته ورجاله، لكنه رفض طلبهم قطعياً وأخذ عائلته وهرب تاركاً رجاله يحرسون المطران المخابئ في  " ديري بسان "، قرب قرية دير شو . وبعد قتال مرير كشفوا المخبأ وألقوا القبض على المطران، فعرضوا عليه الإسلام لقاء بقائه حياً، لكنه رفض طالباً منهم بضعة دقائق ليصلي فسمح له بذلك، وبعد أن انتهى من الصلاة أطلقوا النار عليه فاردوه قتيلاً، وقد رأيت بعيني خاتم المطران في إصبع أحد الضباط خلال تجواله في سعرت. كنت في بعض الأحيان أمر أمام كنيستنا الكبيرة التي حولت إلى إسطبل للحيوانات أشعر بحزن كبير وأجهش بالبكاء، وقد دنسوا مقبرتنا الكلدانية وقلعوا أحجار القبور وعبثوا بجثث الموتى. أينما أدرت وجهي رأيت مشاهد حية لقسوة المتزمتين، وكأن الجحيم فتحت أبوابها على أحيائنا الكلدانية. لقد رأيت بعيني كيف جمعوا الأطفال بين سن السادسة والخامسة عشر، وأخذوهم إلى قمة الجبل المعروف رأس الحجر، وهناك قطعوا رقابهم الواحد تلو الآخر، ورموا جثثهم في الوديان ".
وفي مطرانية حلب الكلدانية وثيقة بخط الأب ( المطران ) صموئيل شوريز  تحت عنوان " أضواء جديدة على استشهاد المرحوم المطران أدي شير " مؤرخة في 23/ 3/ 1963 وهي شهادة للمدعو عبدو حنا بزر وهو من تولد ماردين سنة 1891. تحدث فيها عن مقتل المطران أدي شير نقلاً عن عثمان آغا الطنزي. وأنا شخصياً أتذكر العم عبدو وهو من طائفة الأرمن الكاثوليك قصير القامة يعتمر طربوش، وكان في مجالسه يتحدث دوماً عما شاهد أو سمع خلال المذابح، ولا أعلم هل ما كان يملكه من المعلومات قد وثق من قبل طائفته أو أهله. وقد وجدت من الضروري ذكر هذه الشهادة، كون العم عبدو بزر قد سمعها من فم عثمان آغا صديق المطران أدي شير. وهذا نص الشهادة: "  في سنة 1916 ذهبت مع الجيش الألماني إلى قرية طنزي لأجل شراء مستلزمات لأجل صناعة الأكلاك. وهذه القرية تقع في جبال البوتان بين مدينتي الجزيرة وسعرت. وهناك التقيت عثمان آغا الذي قص عليّ ما جرى للمطران شير قائلاً: تعود صداقتي الحميمة مع المطران إلى سنة 1913عندما حكمت عليّ الحكومة العثمانية بالإعدام غيابياً، فذهبت إلى سعرت والتقيت المطران شارحاً له قضيتي. فاستقبلني أحسن استقبال ومضى بي إلى دير البواتري " الآباء الدومنيكان " وخبأني عندهم، وطلب منهم التوسط لدى القنصل الفرنسي في استنبول للحصول على عفو من الحكومة لي. وبالفعل نلت العفو بجهودهم. وفي سنة 1915 عندما بدأت المذابح بحق المسيحيين علمت أن المطران يعاني الكثير من المضايقات، فذهبت ليلاً مع ثلاثة من أخوتي إلى سعرت وهربنا المطران وجئنا به إلى قريتنا طنزي التي تبعد مسيرة 6 ساعات سيراً على الأقدام. ما أن وصلنا القرية حتى سألني المطران عن رعيته في القرية. فقلت له أنهم بخير وقد صعدوا إلى الجبال مختبئين داخل المغاير. فطلب مني أن أوصله عندهم، لكنني قلت له يجب أن أوصلك إلى الموصل حتى تنجو من الموت، لأن في منطقتي أعداء كثر لي وأخاف أن يعلموا الحكومة بوجودك عندي. فرفض المطران عرضي قائلاً: طالما أن أبنائي هنا فيجب عليّ أكون معهم في هذه المحنة، ومن المستحيل تركهم لأنجو بنفسي. وقد كررت عليه طلبي مراراً، لكنه رفضه رفضاً قاطعاً. وعليه أوصلته عند جماعته في الجبل. وبعد ثلاثة أيام طلبت مني الحكومة تسليم المطران المختبئ عندي، لكنني نكرت وجوده عندي قائلاً أنه هرب هو وجماعته ولا أدري إلى أين اتجهوا. وقد نلت الكثير من الويلات بسبب موقفي هذا، فهدمت ممتلكاتي وسلبت أموالي. وفي هذا الأثناء أرسل رسول محمد آغا وهو من ألذ أعدائي رجاله إلى الجبل للتأكد من مكان المطران وجماعته. وبعد أن عرف رسول آغا مكان وجود المطران، طلب من الحكومة أن تزوده بالجنود، فذهب إلى المكان المحدد وحاطه بالجنود ورجاله حتى القوا القبض على المطران. فاقتاد رسول آغا المطران إلى قرية تل ميشار التي تبعد مسيرة ساعة عن قرية طنزي، وهناك سلمه لضابط تركي. فطلب المطران من الضابط أن يمنحه بعض الوقت ليؤدي صلاة قصيرة، فسمح له الضابط بذلك. وبعد أن انتهى من صلاته سلمه الضابط لرسول آغا وطلب منه أن يقتله بطلقة نارية دون تعذيب. فاقتاده رسول إلى مغارة صغيرة شمال القرية وقتله هناك. ثم جاء رجال رسول واحرقوا جثة المطران شير. وأضاف عثمان آغا أن رسول آغا قتل كل كلدان قرية تل ميشار وعددهم 200 عائلة واستولى على جميع ممتلكاتهم، كما قتل كل المسيحيين الذين التجئوا إلى حمايتي. هذا ما نقله العم عبدو بزر عن عثمان آغا طنزي. ويختم شهادته قائلاً: لقد استطعت الذهاب إلى تل ميشار بعد سماعي الحدث من عثمان آغا، وصعدت إلى مكان مقتل المطران شير وشاهدت المغارة التي قتل فيها، وهي صغيرة وبالكاد تتسع لثلاثة أشخاص. ولا يزال رسول محمد آغا قاتل المطران حي يرزق، وقد هجر إلى سوريا وهو يعيش في قرية عين ديوار السورية المطلة على نهر دجلة في المثلث الحدودي السوري التركي العراقي ".
ويتحدث الأب بولس بيرو  عن استشهاد المطران شير بالقول: " سبق قبل أن تُسفر القافلة الأولى أن أوقف مار أدي شير، وعهد أمر حراسته إلى أحد أفراد شرطة سعرت، المدعو نور الله بن مولود. وبقي سيادته مسجوناً في قبو المركز الحكومي. وهناك لقي أصناف الإهانات، وعانى من الحرمان وجرد من ماله ومن مال الكنيسة، بعد أن هددوه بالقتل، حاول إنقاذه أحد آغوات طنزي المدعو عثمان آغا، رداً منه على المعروف الذي أسداه نحوه سيادته، وعلى الخدمات الجليلة التي قدمها له في مناسبات عدة، بالأخص لقاء ما أبداه سيادته من عطف نحو عائلة بدر خان أمير أكراد بوتان . فما أن بلغ عثمان نبأ توقيف المطران أدي شير، حتى بادر إلى إنقاذه في الحال مخاطراً بحياته، فأرسل إلى سعرت 15 من رجاله الشجعان مدججين بالسلاح. فتوجهوا إلى منزل نور الله وانذروه وهددوه باسم الآغا عثمان، إن لم يسلم إليهم المطران أدي شير سالماً معافى، سينهبون قطعانه ويحرقون مزارعه. فرضخ للأمر الواقع، وفضل أن يسلم لهم المطران من أن يخسر قطعانه وزرعه. لذا أسلمه لهم، فهربوا به متسترين تحت جنح الليل، حتى بلغوا به قرية طنزي  مقر إقامة الآغا عثمان، الواقعة على بعد ست ساعات سيراً على الأقدام من سعرت، وهناك رحب به الآغا أحر ترحيب. إلا أن الشرطي نور الدين  الموكول على حراسة المطران، تعرض إلى سخط رؤوسائه وعقابهم، رغم محاولته تبرئة ذاته بتبرير موقفه. وفي تزاحم تلك الأحداث اضطر عثمان آغا هو ورجاله إلى مغادرة القرية لرد هجوم قام به أعداؤه على ممتلكاته. ولحرصه الشديد على حياة المطران خبأه بكهف في هضبة " ديري بسان " . إلا أن محمد أفندي أخ النائب عبد الرزاق، ذلك المشهود له بحقده على المسيحيين وتعطشه إلى دمائهم، أبلغ السلطات بهرب المطران واختفائه. فكلف الملازم الأول حمدي أفندي بقيادة كتيبة من الخيالة، ليتعقب أثار المطران الهارب. وفي ديري بسان اشتبك رجال الأمن العثماني مع حراس المطران، في معركة غير متكافئة لم يصمدوا فيها طويلاً أمام عدد وعدة المهاجمين، إذ حين نفذت ذخيرة الحراس لاذوا بالفرار تاركين المطران لقدره، فريسة بين أيدي مجرمين خلت قلوبهم من المشاعر الإنسانية. وحالما وجدوه أطلقوا عليه وابلاً من نيران بنادقهم فأردوه قتيلاً مضرجاً بدمائه. وهكذا فارق الحياة هذا المؤرخ الكبير والحبر الأثيل، الذي أدى خدمات جليلة لأمته والإنسانية. وتحية إجلال للأكراد هؤلاء وإن اشتهروا بالقسوة، إلا أنهم في هذا الموقف أبدوا شهامة ونبلاً. إذ عملوا جهدهم لحماية هذا الرجل العظيم. ولكن ما حيلتهم أمام العثمانيين المتفوقين عليهم عدداً وعدة، والمتفوقين أكثر في بربريتهم وهمجيتهم، إذ لم يتورعوا من قتل رجل من هذا الطراز الفريد. عزاؤنا أنه نال إكليل الشهادة، ويتمتع الآن بالسعادة الأبدية في الأخدار السماوية " . 
ويتحدث الخور أسقف فيليبس شوريز عن استشهاد المطران شير بالقول:  " لقد ألقي القبض على سيادة المطران أدي شير أواخر شهر أيار سنة 1915، وبعد أن دفع دية قدرها 500 ليرة عثمانية إلى المتصرف، لم يودع السجن إنما بقي تحت الإقامة الجبرية في دار المطرانية، تحت رقابة صديق بدر الدين مدير الشرطة. وفي إحدى الليالي أرسل عثمان آغا رجاله إلى دار المطرانية، وأنقذوا المطران بعد أن دلوه من فوق سور البناية متنكراً بزي كردي. وتوجهوا وإياه إلى منطقة البوتان، حيث التحق به وجهاء قرى صدخ وقطمس وحديد ومار كوريال. واحتموا بقرية طنزي اليزيدية الواقعة إلى شمال بلق. إلا أن حكومة سعرت سرعان ما عرفت بهرب المطران فلاحقته واكتشفت موقع اختبائه، فأرسلت في أثره مفارز من الدرك، فحاصروا القرية واحرقوها وقتلوا سكانها اليزيد والمسيحيين على حد سواء. وغافلهم المطران فهرب إلى الجبل محتمياً بعثمان آغا، وتحين فرصة ليتسلل إلى طريق جبلي متعرج، لعله يواصل سيره إلى الموصل برفقة شلة من رجال الآغا المسلحين. إلا أن الدرك هددوا الآغا بالقتل إن لم يدلهم على الطريق الذي سلكها المطران الهارب، فدلهم ولحق به الدرك المدججون بسلاحهم. وعلى سفح الجبل أدرك الحرس والمطران وفتحوا عليهم النار، وجرت مقابلة حامية الوطيس بين الطرفين. وعند نفاد ذخيرة حراس سيادته، ولوا الأدبار وتركوا المطران بيد الدرك، الذين ألقوا القبض عليه وقادوه إلى رئيسهم، الذي أمر برميه بالرصاص. فرجاهم المطران أن يمهلوه قليلاً ريثما يتهيأ للموت، عندئذ خلع لباسه الكردي وارتدى ثوبه الأسقفي ثم جثا على ركبتيه مصلياً. وبعد مضي عشر دقائق هب واقفاً ليقول لأولئك الرجال المصوبين إليه بنادقهم: ها أنا ذا مستعد للموت. وللحال أطلقت عليه خمس رصاصات اخترقت صدره، وهوى على أثرها صريعاً مضرجاً بدمائه الزكية، لتصعد روحه الطاهرة إلى باريها متوجة بإكليل الشهادة. وهذه الرواية قصها أحد الرجال الخمسة الذين أطلقوا النار على المطران أدي شير، بينما كان في حراسة مدير بنك الحكومة العثمانية وهو في طريقه إلى الموصل، ليلتحق هناك بمنصبه الجديد. وقد نقل عن المطران أدي شير قوله: أن الإمبراطورية العثمانية لن يطول حكمها أكثر من خمس سنين، ولعلها نبؤة، وقد تحققت فعلاً " .   
وهناك شهادة للمدعو حنا جلو، والذي ينحدر من قرية ميدن القابعة في طور عبدين. نزح إلى سوريا وانضم إلى الجيش الفرنسي، وترقى إلى رتبة كرديموبيل لدى المستشار الفرنسي في منطقة عين ديوار، والواقعة في أقصى شمال شرق سوريا، على المثلث الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق عند نهر دجلة. وقد روى ما سمعه من الأخوين عكيد ورسول آغا وهذا نص الشهادة:  " وصل إلى عين ديوار أخوان كرديان هما: عكيد آغا ورسول آغا أبناء إسماعيل آغا أحد زعيمي بلدة طنزي الكائنة في جبال البوتان جنوب شرقي تركيا، وذلك هرباً من سخط مصطفى كمال أتاتورك الذي أعدم المئات من زعماء الأكراد وآغاواتهم. وقد تعرفت عليهم، ومع الأيام توطدت العلاقة بيننا. فأخذ يرويان لي عن المجازر التي ارتكبوها بحق المسيحيين المسالمين في طنزي، وفي سياق الحديث ذكروا حادثة قتل المطران أدي شير، وكيف كانوا السبب المباشر في قتله. وقالا لي: يبدو أن الجريمة الفضيعة التي ارتكبناها بحق المسيحيين الأبرياء المسالمين، وخاصة بحق المطران أدي شير، هي التي تلاحقنا الآن. ويبدو أن الله ينتقم منا الآن جزاء ما اقترفناه بحق المسيحيين، فها أن ضميرنا يؤنبنا ويعذبنا ليل نهار. وأننا هاربون من ملاحقة مصطفى كمال زعيم تركيا، فقد كنا من زعماء الأكراد الأغنياء في منطقتنا، نملك الكثير، نأمر وننهي كما نشاء. أما اليوم فنحن مهاجرون وهاربون من وجه العدالة، ومطاردون لا نملك شيئاً. أما قصة مقتل المطران أدي شير فقد جرت على الشكل التالي: لما بدأت المجازر بحق المسيحيين وتم القضاء على معظمهم، فر المطران أدي شير من سعرت، وتوجه إلى قرية طنزي لدى صديقه عثمان آغا، ولما حل المطران ضيفاً على عثمان آغا، أراد عثمان الرجل الشهم أن ينقذ المطران من المصير الأسود الذي حل بالمسيحيين. وقد دافع عنه وأنزله في داره، مزمعاً أن ينقله سراً إلى مدينة الموصل. علماً أن تلك المنطقة كانت قد فرغت كلياً من الوجود المسيحي لأنهم ذبحوا جميعاً. وكانت العداوة شديدة بينه وبين إسماعيل آغا والد عكيد ورسول. وما أن علموا بوجود الضيف المسيحي لدى عدوهم عثمان آغا، في وقت كان يجب فيه أن يباد جميع المسيحيين كم نصت الأوامر السلطانية بذلك. ولما لم يكن بمقدور إسماعيل وولديه مجابهة عدوهم عثمان آغا، ويطلبوا منه أن يسلمهم ضيفه المسيحي ليقتلوه. فقد أسرع عكيد آغا في التوجه إلى سعرت، لإعلام السلطات هناك طالباً مساعدتهم. وقد استجابت السلطات له، وعاد ومعه مفرزة من الجيش النظامي بقيادة ضابط. وبوصول الجيش إلى طنزي توجهوا نحو بيت عثمان آغا، وأخذوا يضربون الرجال والنساء، يسألونهم عن مخبأ المطران، وكانت غرفة المطران في أعماق الدار. وما أن سمع المطران أصوات الجنود القادمين لقتله، وأصوات وصراخ الرجال والنساء من جراء الضرب والإهانات الموجه إليهم، حتى قام لفوره وخرج من غرفته ووقف وجهاً لوجه أمام الجنود قائلاً: أنا هو من تبحثون عنه، فلا تضربوا هؤلاء الأبرياء. أنني حاضر أمامكم فتفضلوا وافعلوا بي ما يطيب لكم. فألقى الجنود القبض عليه حالاً، وساقوه إلى دار رسول وعكيد آغا، حيث كان الضابط قائد المفرزة في المضافة منتظراً. وكان الضابط مثقفاً، وبعد محادثة قصيرة بالتركية أخذ يتحدثان بالفرنسية معاً. فقال له الضابط: لدينا أمر صريح بقتلك. فرد عليه المطران: أجل أني أعلم بذلك. فقال له الضابط: اعتنق الإسلام وستنجو، ولن يصيبك مكروه، بل لن يتجرأ أحد على مسك حينها. فرد عليه المطران وهو يضع يده على لحيته قائلاً: يا حضرة الضابط لا يليق بي أبداً أن أفعل ذلك، فإذا كان لديك أمر بقتلي فأنا حاضر للموت، ولا أستطيع أن أتخلى عن ديني وأعتنق الإسلام، فأهين نفسي وأحتقر ديني، وأخون جماعتي التي ائتمنتني. فأن مسؤول في طائفتي وديني، أرجو أن لا تطلب هذا مني. فقال له الضابط: إذاً استعد للموت. فرد عليه المطران: أنا حاضر يا حضرة الضابط. ولما كان الضابط لطيفا

134
رحلة حج إلى أبرشيات كنيسة المشرق المنسية " الجزء الأول "
الشماس: نوري إيشوع مندو
المقدمة: شاء صاحب السيادة مار أنطوان أودو مطران أبرشية حلب والجزيرة العليا الكلدانية زيارة مراكز الأبرشيات الكلدانية في شرق تركيا للإطلاع على ما تبقى من هذه الأبرشيات العريقة والشهيرة في تاريخ كنيسة المشرق الكلدانية. وبعد التفكير والتحضير لمسار هذه الرحلة قرر سيادته أن تبدأ يوم الاثنين المصادف 12 حزيران 2006 وتنتهي يوم الجمعة المصادف 16 حزيران 2006.
وقد شملت الرحلة أبرشيات: نصيبين والجزيرة العمرية بازبدي وسعرت وآمد ديار بكر وماردين، القلب النابض لكنيسة المشرق الكلدانية حتى بداية القرن العشرين، والتي كانت تضم أكثر من مائة قرية موزعة حول المدن المذكورة. ناهيك عن النيابة البطريركية في وان  قرب حدود أرمينيا، حيث لم توضع في برنامج الزيارة بسبب البعد ووعورة الطرق والأوضاع الأمنية الغير مستقرة هناك، والتي كانت تضم العشرات من القرى في جبال هكاري  الأشم.
وبعد مذابح السفر برلك  التي ارتكبت بحق المسيحيين سنة 1915 أبيدت هذه الأبرشيات والقرى التابعة لها عن بكرة أبيها، واستشهد عشرات الآلاف من مؤمنيها بما فيهم ثلاثة مطارنة وعشرات الكهنة، ودمرت كنائسها وأديرتها ومدارسها. وهرب المتبقين إلى العراق وسوريا ولبنان تاركين الغالي والثمين في سبيل الحفاظ على حياتهم وإيمانهم. نعم تركوا أرض الآباء والأجداد، أولئك الأبطال الذين عاشوا على هذه البقعة من الأرض عقوداً وقروناً طويلة، كافحوا الظلم والطغيان ببسالة وشجاعة مدى الأيام، فسقوها بالدماء الزكية بسخاء، لذا عرفت ببلاد الشهداء. وقد عانى المفلتين من سيف الظلم والجور الكثير من الجوع والعطش والتشرد، وحلت بهم مآسِ مروعة ومهولة. لقد سمعنا الكثير عن هذه المعاناة من أفواه آباءنا وأجدادنا الذين عايشوا الحدث المشئوم، الذين كانوا يتحدثون بمرارة عما شاهدوا وما عانوا، وما فقدوا من أهل وأحباء، وما تركوا من بيوت وعقارات وأملاك وأموال. سمعنا من أحدهم أن إحدى الفتيات قالت لوالديها عندما كانت عائلتها مختبئة متوارية عن أنظار السفاحين، فرأت جوع والديها وإخوانها، وليس عندهم ما يسدوا جوعهم فصرخت قائلة:  " لكي لا نموت جميعاً جوعاً، أذبحوني وكلوا لحمي حتى تعيشوا أنتم ". إن المحن العظيمة التي تكبدها مسيحيي السلطنة العثمانية يتوقف القلم البليغ عن وصفها والإحاطة بها، بسبب وحشية العتاة الظالمين الذين انقضوا على قطيع المسيح الوديع، ونحروهم كالخراف فسالت دمائهم المقدسة تروي وتخصب أعتاب الكنائس والأديار والمساكن والبساتين والحقول والجبال والسهول والوديان والأنهار والآبار. وكانت زرافات الشهداء تترنم بأصوات شجية وهي تساق إلى الذبح كأنها ذاهبت إلى العرس. أجل أنها كانت ذاهبت إلى عرس الحمل، بدون خوف ولا وجل، لتنال إكليل المجد المعد لها منذ إنشاء العالم. وقد ضم الوفد المرافق لسيادته الآباء كهنة الأبرشية: نضال توماس وأنطوان غزي ومالك ملوس وسمير كانون والشماس نوري إيشوع.
اليوم الأول: الاثنين 12 حزيران 2006
انطلقنا صباحاً نحو بوابة الحدود السورية التركية، وبعد أن أكملنا المعاملات أصولاً دخلنا مدينة نصيبين التاريخية. وما أدراك ما هي مكانة نصيبين في التاريخ عامة، وفي تاريخ كنيسة المشرق  خاصة.
لقد دعاها سكان ما بين النهرين قديماً صوبا، وهي مشتقة من اسم " غلابً "  " نصو " يعني نصب أو زرع، بسبب تربتها الزراعية الخصبة، وغزارة مياهها الجارية، وما كانت تحتوي من بساتين وحدائق وجنان. وقال عنها مار أفرام إنها "  أكاد " المذكورة في سفر التكوين، وينسب تأسيسها إلى نمرود الجبار.  ويعتقد المؤرخون أن تأسيسها يعود إلى سنة 4000 ق.م. وقد دعاها السومريون "  تريو "، وفي زمن حكم حمورابي ملك بابل دعيت "  آراميس " وتعني الحديقة أو البستان. أما في المصادر الآشورية فقد دعيت   "  نابولا ". أما اليونان فقد دعوها " أنطاكية مقدونية ".
وكان المقدونيين في القرن الثالث قبل الميلاد قد جعلوا نصيبين مركزاً لسك العملة، فازدهرت اقتصادياً وقد أطلقوا على المدينة اسم " أنتيموسيا " وتعني " مدينة الزهور "، ودعوا النهر الذي يمر بها " مقدونيا " أو  "  لميكدونيوس ". وتذكر المصادر الرومانية موقع نصيبين في " الجزيرة العليا " ضمن منطقة " يزوبوتاميا " أي " بين النهرين ". وفي القرن الأول الميلادي كانت نصيبين تحت حكم الأرمن، وكان "  أردوس " شقيق الملك ديكران والياً عليها. وفي عهده سكب عملة في نصيبين عرفت باسم الملك ديكران.
أما الرومان فقد جعلوها قلعة الشرق الحصينة ومقراً لقائد بلاد ما بين النهرين. ثم أصبحت عاصمة ديار ربيعة. وبحكم موقعها كحد فاصل بين المملكتين الرومانية والفارسية دعيت مدينة التخوم أو مدينة الحدود، بسبب أهمية موقعها المتميز كبوابة لمرور القوافل بين الشرق والغرب. واحتلها المسلمون عندما فتحها عياض بن غنم سنة 640م، وقد حكمها الأمراء الحمدانيون في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي، واحتلها صلاح الدين الأيوبي سنة 1188م، واستولى عليها المماليك سنة 1193م، واجتاحها تيمورلنك سنة 1395م، وخضعت لسلطة العثمانيين سنة 1515م ولا زالت حتى يومنا هذا ضمن حدود الدولة التركية. ويبلغ عدد سكانها اليوم نحو 75000 نسمة، وهي مركز قائممقامية تابعة لولاية ماردين.   
وبعد دخول المسيحية إليها في الجيل الأول على يد مار أدي الرسول  أحد الأثنين والسبعين تلميذاً، تقلدت دوراً رائداً ومميزاً في المشرق، فأطلق عليها تسميات عديدة منها: مدينة المعارف وأم العلوم وأم الملافنة وترس كل المدن المحصنة ورئيسة ما بين النهرين ورئيسة المغرب. وقد تحدث عنها العديد من الرحالة في فترات متفاوتة نذكر منهم: جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: " نصيبين مدينة من بلاد الجزيرة، على جادة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان، وعليه سور بنته الروم، وهي مدينة وبيئة لكثرة بساتينها ومياهها، ظاهرها مليح المنظر وباطنها قبيح المخبر، وينسب إلى نصيبين جماعة من العلماء والأعيان ". 
وجاء في صورة الأرض لابن حوقل: " وكان من أجلِّ بقاع الجزيرة وأحسن مدنها وأكثرها فواكه ومياهاً ومتنزهاتٍ وخضرةً ونضرة، إلى سعة غلات من الحبوب والقمح والشعير والكروم الرائعة الزائدة على حد الرخص. وهي مدينة كبيرة في مستواةٍ من الأرض، معروفة الفرسان مشهورة الشجعان، إلى ديارات للنصارى وبيعٍ وقلاَّاياتٍ، تقصد للنزهة وتنتجع للفرحة والفرج ".
وجاء على لسان ابن جبير في رحلته: " نصيبين شهيرة العتاقة والقِدم، ظاهرها شباب وباطنها هرم، جميلة المنظر، متوسطة بين الكبر والصغر، يمتد أمامها وخلفها بسيط أخضر مد البصر، قد أجرى الله فيها مذانب من الماء تسقيه، وتحف بها عن يمين وشمال بساتين ملتفة الأشجار يانعة الثمار، ينساب بين يديها نهر قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافتيه، وتفيء ظلالها الوارفة عليه. فخارجها رياضي الشمائل، أندلسي الخمائل، يرف غضارة ونضارة، ويتألق رونق الحضارة، فرحم الله الشاعر أبا نواس حيث يقول: طابت نصيبين لي يوماً فطبت لها            يا ليت حظي من الدنيا نصيبين ".
وجاء على لسان ابن بطوطة في رحلته: " نصيبين مدينة عتيقة متوسطة قد خرب أكثرها، وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية، والبساتين الملتفة، والأشجار المنتظمة، والفواكه الكثيرة، وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة، ويدور بها نهر يعطف عليها انعطاف السوار، منبعه من عيون في جبل قريب منها، وينقسم انقساماً فيتخلل بساتينها، ويدخل المدينة فيجري في شوارعها ودورها. وبهذه المدينة مارستان ومدرستان، وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة ". 
وجاء في المنجد في الأعلام: " نصيبين مدينة في ما بين النهرين، كانت منذ القرن الثالث مهد الآداب السريانية حتى سقوطها في أيدي الساسانين سنة 365م، ازدهرت فيها مدرسة نسطورية في أواخر القرن الخامس وحتى منتصف القرن السادس، لمع منها نرساي وبرصوما ". 
وقد تغنى الشاعر سيف الدين الحلي بطبيعة نصيبين، واصفاً البحيرة الطبيعية التي تقع جنوب المدينة، وكيف يتنقل السكان بواسطة الزوارق في هذه البحيرة. وهذا هو المصدر الوحيد الذي وجدته يذكر البحيرة، التي جفت مع الزمن وتحولت إلى وادي يفصل نصيبين عن القامشلي. وبالفعل إذا تمعن المرء في موقع مدينة القامشلي يجد أنها مبنية في وادي مما يؤكد هذه المعلومة.
ومن المعلوم أن النهر الذي يشق نصيبين دعاه الرومان " هرماس "، أما المصادر الأرمنية فتدعوه " جغجغ "، وهي مختصرة من الجملة الأرمنية " جغجخوت " وتعني " البحيرة البطيئة المياه "، وهذه إشارة لوجود البحيرة جنوب المدينة.
وفي سنة 1766 مر السائح الدانمركي نيبوهر من نصيبين فوصفها بقوله:  " نصيبين بلدة مؤلفة من 150 بيت مشيدة من التراب، أما قلعتها فلم يبقى منها إلا بعض الحجارة المنحوتة. أما الجسر الذي فوق نهر الهرماس " الجغجغ " الذي يخترقها والمشيد على 12 قاعدة فلا زال قائماً، لكن الشيء الذي يستوجب رؤيته فيها هو بقايا كنيسة مار يعقوب النصيبيني ".
وفي سنة 1799 زار نصيبين الرحالة أوليفر فوصفها بقوله: " لا زال في نصيبين بعض الأنقاض ومنها بقايا قوس نصر عائد للرومان، كما أنه يوجد معبد مربع الشكل وضمن المعبد دهليز يحتوي لحد " قبر " غطاءه من مرمر أبيض. كما رأينا خمسة أعمدة حجرية لا زالت قائمة، وشاهدنا لوحة مرمرية تشير إلى موقع كان سابقاً ميداناً لسباق الخيل ". ويستطيع المغرم بالتاريخ أن يطلع على المزيد من تاريخ نصيبين الزمني، ليجد العديد من الحوادث المهمة التي جرت في سالف الزمان، وذلك بالعودة إلى العديد من المصادر نذكر منها:  " البداية والنهاية "،  وأيضاً  " الكامل في التاريخ "،  وأيضاً  " تاريخ الطبري ".
ما أن تخرج من حرم المنطقة الجمركية التركية لتدخل مدينة نصيبين، تجد عن يمينك أرض واسعة مسيجة بالأسلاك الشائكة، وضمنها عدد قليل من الأعمدة الحجرية يدعوها العامة بـ القبان، هذه الأعمدة هي مدخل مدرسة نصيبين الشهيرة، التي نالت شرف أن تكون أول كلية لاهوتية في العالم، وأول جامعة درس فيها علم الإلهيات. أسسها مار يعقوب النصيبيني  مطران نصيبين الذائع الصيت وذلك سنة 325، وجعل تلميذه مار أفرام النصيبيني ملفان الكنيسة الجامعة  مديراً لها، فدبرها بحكمة ودراية وغيرة وهمة قعساء، وسهر على مصالحها الأدبية والمادية، فنمت وازدهرت في عهده، حتى أغلقت سنة 363 بعد أن استولى الفرس على نصيبين. وفي سنة 457 فتحت المدرسة من جديد، وعهدت إدارتها إلى الملفان نرساي النوهدري  الملقب بالمعلم، لأنه كان معلماً لا منازع له في الرها ونصيبين، فخبرته العميقة وخصاله الحميدة وعلمه الغزير، أعطى هذه المدرسة انطلاقة سريعة وسير منظم من خلال القوانين التي سنها لهذه المدرسة. استمرت هذه المدرسة لمدة أربعة قرون حتى أغلقت سنة 660. وقد تخرج من هذه المدرسة آلاف التلاميذ، منهم من وصل إلى مراكز عالية في كنيسة المشرق، ومنهم من فتح مدارس في مناطق مختلفة، ومنهم أدباء زينوا الكنيسة بتصانيفهم الثمينة.
وقفنا أمام هذه الأعمدة نتأمل ونتسأل، هل من المعقول والمقبول أن تبقى هذه الأعمدة فقط من هذا الصرح الشامخ، الذي كان يعج يوماً بآلاف التلاميذ يتنقلون بين الأروقة والصفوف، لينهلوا العلوم والمعرفة على يد معلمين عظام خلد التاريخ ذكراهم بمداد من نور، واليوم أضحى موقعها كالصحراء القاحلة التي لا حياة فيها. وفي لحظة تأمل تذكرت ما قاله المطران إسرائيل أودو  في مذكراته عن المذابح التي جرت في نصيبين: "  أين مار أفرام كنارة الروح القدس، وأين مار نرساي لسان المشرق، أليس من واجبهما أن يأتيا الآن ويشاهدا ما حل في مدرستهم الشهيرة التي كان صوتهما يصدح فيها، ليكتبا مراثي الألم والأسى على ما آلت إليه مدينة المعارف وأم العلوم وأم الملافنة ".
غادرنا المكان بين الذكرى والحسرة لما آل إليه هذا الصرح الشامخ لنتوجه غرباً، وعلى بعد مائتي متر وقفنا أمام كاتدرائية مار يعقوب النصيبيني. التي شيدت سنة 313، وانتهى العمل فيها سنة 320 حيث كرسها مار يعقوب النصيبيني باحتفال مهيب. وكانت هذه الكاتدرائية واسعة الأرجاء وآية في الجمال والفن المشرقي. تعاقب على كرسيها المطرابوليطي خمسة وسبعين مطراناً لكنيسة المشرق، بدءً من مار يعقوب النصيبيني في بداية الجيل الرابع للمسيحية وانتهاءً بـ مار إبراهيم في نهاية القرن الثامن عشر.
وكان لهذه الأبرشية مكانة سنية في تاريخ كنيسة المشرق الكلدانية، لأن حدودها كانت تمتد من أطراف الموصل وحتى بلاد أرمينية، حيث نجد أحياناً أكثر من عشرين أسقفاً يتبعون مطرانها، وهذه المراكز هي: بيث زبداي. قردو. بيث مكسايي. أرزون. أوستان أرزون. بيث رحيمايي. قوبا أرزون. طبياثا. بلد. آذورمية. كف زمار. سنجار. كانوش. أخلاط. ميافرقين. آمد. حران. ريشعينا  " رأس العين ". ماردين. الرقة. حصن كيبا. دنيسر. دارا. بيث ريشا. كفر توثا. وهذه المناطق جميعها معروفة لدى المطلعين على جغرافية المنطقة. وفي العصور المتأخرة أضحت بعض هذه الأسقفيات مراكز مستقلة بسبب ازدياد عدد مؤمنيها، وهنا نذكر بعض هذه المراكز وما وصلت إليه في العصور المتأخرة: " 1_ كفر توثا: في سنة ألف وسبعمائة كانت تضم 7000 بيت من أبناء كنيسة المشرق، يخدمهم مطران يعاونه أسقفان وعدد كافي من الكهنة والشمامسة، ولهم فيها أربع كنائس، ولهم بجانب المدينة دير على اسم مار بثيون.
2_ ريشعينا ( رأس العين ): في سنة ألف وستمائة كانت تضم 5000 بيت من أبناء كنيسة المشرق، يخدمهم مطران يعاونه ثلاثة أساقفة تحت يدهم مائة كاهن ومائتا شماس، ولهم في داخل المدينة أربع كنائس مكرسة هي: أ_ مارت شموني وأولادها السبعة. ب_ إيليا النبي. ج_ مار دانيال ومار يونان النبيين. د_ الصليب المقدس. وكان لهم كنائس كثيرة في القرى المجاورة للمدينة.
3_ دنيسر: في سنة ألف وستمائة كانت تضم 800 بيت داخل المدينة و1000 بيت في القرى المجاورة، يخدمهم أسقف تحت يده عشرون كاهناً وأربعون شماساً، ولهم في داخل المدينة ثلاث كنائس مكرسة هي: أ_ الشهيد هرمزد. ب_ مار كيوركيس. ج_ العذراء مريم.
4_ دارا: في سنة ألف وستمائة كانت تضم 2200 بيت داخل المدينة، يخدمهم أسقف تحت يده ثلاثون كاهناً وستون شماساً، ولهم داخل المدينة ثلاث كنائس مكرسة هي: أ_ مار ميخائيل. ب_ مار يعقوب.  ج_ مار   يوحنا ". 
هذه بعض المراكز التي استطعنا أن نعرفها من خلال المصادر التاريخية في هذه الحقبة، والتي تبين بوضوح الحضور الكثيف لكنيسة المشرق في هذه المناطق.   
وبسبب أهمية نصيبين كمركز إشعاع روحي وديني وثقافي، اعتبرت الأبرشية الثانية في ترتيب أبرشيات كنيسة المشرق. وأعطي لمطرانها شرف الوقوف عن يمين السايوم في رتبة سيامة الجاثليق، ومرافقته لتنصيبه على العرش.
دخلنا الكاتدرائية التي قوض القسم الكبير منها بسبب عوادي الزمان وبقي جزء منها. تأملنا في جدرانها وحناياها مستذكرين ما كان لها من عظمة ومكانة، وما كان يجري فيها من احتفالات دينية مميزة، واليوم مع الأسف الشديد وجدناها خالية خاوية إلا من روح الله الذي يرفرف عليها. نزلنا إلى السرداب تحت الكنيسة حيث ضريح حجري كان جثمان مار يعقوب النصيبيني يرقد فيه حتى سقوط نصيبين في يد الفرس سنة 362، فتم نقل رفاته إلى الرها ومنها إلى القسطنطينية. تباركنا من الضريح وخرجنا إلى فناء الكنيسة لنجد أعمال التنقيب التي تجريها بعثة أثرية لمعرفة المزيد عن معالم وتاريخ هذا الموقع الهام. ويتحدث تقليد يردده أهل المدينة إلى يومنا هذا:  " أن حجراً موضوعاً عند باب الكنيسة، كان الذي يعاني من آلام في ظهره يذهب إلى الكنيسة، وبمجرد أن يحك ظهره بذاك الحجر ينال الشفاء ".
ومن المعلوم أن ملكية الكاتدرائية تعود للمشارقة منذ البدايات، وقد سقطت الكاتدرائية بفعل الزلازل الذي ضرب نصيبين سنة 713، فشيدت من جديد من قبل المطران سبريشوع الأول،  وانتهت الأعمال في عهد المطران قبريانوس الأول.  وفي سنة 1119 جرت أعمال ترميم الكنيسة في عهد المطران سبريشوع الثالث.  أما التجديد الأخير الذي أجراه المشارقة فكان في سنة 1562 في عهد المطران إيشوعياب. 
وقد عمل السريان الأرثوذكس الكثير للاستيلاء على الكاتدرائية، وأخيراً نالوا قراراً من حاكم ديار بكر سنة 1865 يعطيهم حق ملكيتها، بعد أن قبض منهم مبلغاً كبيراً من الذهب. ويبدو أن السريان الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس كانوا أيضاً يبذلون الجهود لدى الباب العالي في القسطنطينية لضبط هذه الكنيسة، لكنهم لم يتوصلوا إلى أي نتيجة تذكر. لكن الكلدان لم يقبلوا بهذا القرار الجائر، وعليه نقرأ في رسالة البطريرك يوسف السادس أودو  الموجهة إلى مطران الجزيرة العمرية مار بولس هندي  بتاريخ 14/5/ 1866 يشرح فيها ما جرى بقوله:  " تبين لنا بأن دير مار يعقوب النصيبيني بحسب فصل الباب العالي أصبح للسريان، وقد كتبنا إلى مطران آمد مار بطرس دي نتلي  ومطران ماردين مار أغناطيوس دشتو،  كي يقفوا بوجه اليعاقبة أمام المحكمة ليعود لنا كما كان ".  أما البطريرك يوسف السادس أودو فإنه تابع هذه القضية بشكل جدي، وقد كلف لهذه الغاية بطريرك الأرمن الكاثوليك أنطوان حسونيان،  والذي بذل جهوداً مضنية في القسطنطينية، لكي يحصل من الباب العالي على قرراً يعيد الكنيسة إلى أصحابها الشرعيين، لكنه لم يفلح. وقد بلغ البطريرك أودو أنه فشل في تحقيق طلبه. وعليه خرجت الكنيسة من يد المشارقة، وذلك واضح من قول الشماس إسحق سكماني  المرافق للبطريرك أودو خلال سفره إلى روما لحضور المجمع الفاتيكاني الأول:  " في أيلول 1869 ارتحلنا إلى قضاء نصيبين، وهنا زرنا مع البطريرك أودو قبر مار يعقوب داخل الكنيسة المبنية على اسمه، وهي كنيسة عمارتها فاخرة، إلا أن الخراب قد أصابها وحالها يرثى له، وهي الآن بيد طائفة اليعاقبة ". 
وقد جدد السريان الأرثوذكس الكنيسة سنة 1872 على عهد البطريرك يعقوب الثاني والمطران قورلس إشعيا، وذلك واضح من اللوحة الحجرية المثبتة في مدخل الكنيسة والمكتوبة بالسريانية الغربية.
وبعد أن فقد المشارقة الأمل في إعادة هذه الكاتدرائية، حيث لم يبقى لديهم مركزاً في نصيبين يقيمون فيه شعائرهم الدينية، مما حدا بالبطريرك يوسف عمانوئيل الثاني  بالعمل على إيجاد مركزاً لهم في هذه المدينة العريقة في تاريخ كنيسة المشرق، وذلك واضح من مذكرات سكرتير البطريرك عمانوئيل الخوري داؤد رمو حيث جاء فيها: " سنة 1905 اشترى البطريرك مار يوسف عمانوئيل  لهذه الغاية داراً في نصيبين بمبلغ 180 ليرة ذهبية وافتتحها مركزاً للطائفة في المدينة ".  وعين لخدمة الرعية هناك الأب متي كلاشو. 
وأسفاه على هذا الواقع المرير والذي يصفه المطران إسرائيل أودو في مذكراته: " لو جاء مار يعقوب النصيبيني ليزور أبرشيته اليوم لأنتابه العجب العجاب، لأنه لن يشاهد فيها مسيحياً واحداً لا رجلاً ولا امرأة، لقد ذبحوا جميعاً على أيدي وحوش بشرية مفترسة. ولو زار أحدى ساحة نصيبين لسمع من أحد الشهود كيف تم جمع أطفال نصيبين المسيحيين بعد قتل أهاليهم، حيث ربطوهم ومددوهم وجعلوهم مداساً لأرجل خيلهم حتى أسلموا الروح. أليس ما فعله هؤلاء المجرمين بأطفال نصيبين، شبيه بما فعله هيرودس الطاغية بأطفال بيت  لحم ". 
توجهنا نحو جامع زين العابدين المجاور للكاتدرائية وتوفقنا في الدخول إليه، ومن المعلوم أن موقع الجامع كان ديراً للراهبات على اسم مارت نارسوي وكان يضم في بداية الجيل الرابع للمسيحية خمسين راهبة منهم الشهيدة فبرونيا النصيبينية.  وفي القرن العاشر حول إلى جامع.
ويتحدث المؤرخ المقدسي سنة 988 عن بيوت نصيبين الجميلة، وأسواقها الممتدة عبر كل المدينة، وحصنها وجامعها الذي يتوسط المدينة. وهذا الوصف للجامع هو الدليل الأول على تحويل كنيسة القديسة فبرونيا إلى جامع.
ومن المعلوم أن البطريرك السرياني استفاد من تقدم الجيوش البيزنطية في المنطقة الشرقية سنة 629، فأسس مركزاً لهم في " تكريت " حيث مركز الحاكم البيزنطي، وأعطى لقب " مفريان " لصاحب المركز الجديد.  " وبسبب الحضور البيزنطي في نصيبين استطاع السريان الغربيين باستحداث كرسي مطراني لهم فيها لأول مرة وذلك سنة 631، وفي سنة 707 استطاع المطران شمعون الزيتوني بناء كنيسة كبيرة لهم على قسم من خرائب دير الشهيدة فبرونيا، وقد تكفل نفقة البناء رهبان دير قرطمين " مار كبرئيل "، وانتهى البناء سنة  907 ".     
وقد تحدث الرحالة بادجر الذي زار نصيبين عدة مرات بين سنتي 1844_ 1850 عما يتداوله أهل المدينة عن تقليد ملتزمون به: " يزور المسلمون ضريح القديس يعقوب النصيبيني للتبرك منه قبل أن يتوجهوا لزيارة ضريح الإمام زين العابدين والصلاة في جامعه، لأن التقليد يقول أن الإمام زين العابدين مؤسس الجامع كان يصلي ووجهه باتجاه ضريح مار يعقوب عوض القبلة ". 
شاهدنا معالم الجامع والضريح الموجود في غرفة خلف المحراب والذي يعرف بضريح زين العابدين، وهو في واقع الأمر ضريح الشهيدة فبرونيا النصيبينية، تباركنا من الضريح وغادرنا الجامع.
ومن المعلوم أن نصيبين كانت تحتضن العديد من المواقع المشهورة من كنائس وأديرة ومدارس ولم يبقى منها أي أثر يذكر سوى ما شاهدناه. ولم نستطيع زيارة جامع بصمة يد علي الذي شيد على خرائب مجمع بيث سهدي  الذي شيد في النصف الأول من القرن السادس عند باب الروم ويعرف اليوم بـ حي زهير، وكان المجمع يضم كنيسة ودير ومدرسة. وفي القرن السادس عشر ( سنة 1570 ) نجد للمشارقة في نصيبين حضور كثيف، " يضم سبعة آلاف بيت داخل المدينة، يخدمهم مطران وتحت يده أربعة أساقفة وعدد من الكهنة والشمامسة، ولهم في المدينة سبعة كنائس هي:  1_ مار يعقوب النصيبيني. 2_ مار أوجين وشليطا.  3_ مار توما الرسول. 4_ مار كيوركيس وقرياقوس. 5_ القديسة بربارة الشهيدة. 6_ مريم سيدة الزروع.  7_ مار يوحنا الطائي. ". 
ومن المعلوم أن قضاء نصيبين في بداية القرن العشرين كان يضم ثماني نواحي فيها 240 قرية. وكانت المدينة تضم 400 نسمة من كلدان وسريان أرثوذكس وأرمن كاثوليك وأرثوذكس وقلة من البروتستانت. وللمسيحيين في المدينة ثلاث كنائس تعود للكلدان والسريان الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس. وكان في المدينة جالية يهودية قديمة ومهمة لها عدة أنشطة. ولهم فيها ثلاث مجامع " كنس " واحدة على اسم رابي يهوذا، أما الاثنان فبناهما رابي عزرا، ويقال أن في أحدها صخرة حمراء أحضرت من أورشليم. . 
ومن الجدير بالذكر أن نصيبين أضحت اليوم خالية من الحضور المسيحي، سوى عائلة وحيدة تسكن في كنيسة مار يعقوب لتفتح الباب للزائرين. لأن مسيحيي المدينة من كاثوليك وأرمن قتل أغلبهم في 15 حزيران 1915 حيث سيقوا إلى قرية خراب كورث  المجاورة وذبحوا هناك كالغنم ورميت جثثهم للوحوش المفترسة وجوارح السماء، منهم ثلاثين عائلة كلدانية.
وأما المتبقين من كاثوليك وأرمن فقد هربوا إلى سنجار حيث حافظ على حياتهم زعيم اليزيدية حمو شرو. 
ولا ننسى أريحية شيخ عشائر  الشيخ محمد الطائي  الذي أوصى أبناء عشيرته أن يحقنوا دم كل مسيحيي يلوذ بهم، وقد عمل الكثير في سبيل إنقاذ الكثيرين والحفاظ على حياتهم. أما العائلات السريانية الأرثوذكسية في نصيبين فقد تركت وشأنها، ولم يصب أحد منها بأذى يذكر.
وكان كاهن الكنيسة الكلدانية في نصيبين الأب حنا شوحا  قد ألقي القبض عليه في 9 أيار سنة 1915 بتهمة إيوائه المخربين، وسيق إلى ديار بكر ليحاكم هناك، علماً أن جريمة الأب المذكور أنه استقبل في داره شاباً كلدانياً قادماً من أضنة، وأنتظر بضعة أيام حتى يجد من يسافر معهم إلى بلدته تلكيف.
وفي صباح أحد الأيام خرج إلى السوق عله يجد من يسافر معه إلى بلدته، وجلس لهذه الغاية أمام دكان شاب أرمني كاثوليكي يدعى فرنسيس برغوث، وما أن رآه العسكر حتى قبضوا عليه وعلى فرنسيس وسيقا إلى المخفر، وهناك سئل أين ينام فقال عند الأب شوحا، فمضوا وألقوا القبض على الكاهن المذكور. ووجهت للشاب تهمة الهروب من الجندية، ولفرنسيس تهمة مهرب، وللكاهن تهمة أخفاء الهارب. وخلال مرورهم في ماردين بذل المطران إسرائيل أودو الجهود الكثيرة لإنقاذه لكن دون جدوى، وأرسل لهذه الغاية الأبوين يوسف تفنكجي  وبولس بيكو  إلى متصرف ماردين حلمي بك لهذا الغرض، لكنهما لم يحصلا منه لأي وعد يذكر.
ثم كلف المطران سليمان صباغ  في ديار بكر ليعمل هو أيضاً في سبيل إنقاذ حياته لكنه لم يفلح. فقتل بوحشية لينال إكليل الشهادة ليكون بكر شهداء الإكليروس الذين قدموا الكثير من الأساقفة والكهنة والشمامسة على مذابح الإيمان، وقد استشهد معه الشاب التلكيفي وفرنسيس برغوث، بالإضافة إلى زوج أخت الأب حنا شوحا المدعو يوسف مغزل الذي رافقه من ماردين إلى ديار بكر للعمل على إطلاق سراحه، وبعد يومين من وصولهم إلى ديار بكر ذهب يوسف إلى السجن للسؤال عنهم فألقي القبض عليه وضم إليهم. وما جرى للأب المذكور كان سببه حسد وغيرة مسلمي نصيبين من عائلة شوحا، لكونها عائلة مرموقة متألقة وموفقة في حقل التجارة والأعمال، وتعتبر من أغنى العائلات في المنطقة، وكانت هذه العائلة تتوزع بين ماردين ونصيبين لتسيير أعمالها. وقد وجدوها فرصة للإيقاع بهذه العائلة، وقد لحق بالأب الشهيد خمسون شهيداً من عائلته المتواجدين في المدينتين.
وهنا نذكر الشخصيات التي تولت تصفية مسيحيي نصيبين، هؤلاء الملطخة أياديهم بدماء الشهداء الأبرار، حتى تبقى أسمائهم السوداء معروفة لدى الأجيال المتعاقبة إلى نهاية العالم وهم: رفيق ابن نظام الدين. قدور بك ابن علي. سليمان ابن مجر. هؤلاء الثلاثة كانوا الرأس المدبر لهذه الجريمة، وقد ساعدهم في مهمتهم كل من: الحاج إبراهيم القنطرجي رئيس البلدية. وشاكر بك الحاج كوزي. والحاج اسعد جلبي. وبعد أن ارتكبوا فعلتهم الشنيعة فتحوا بيوت المسيحيين ومحلاتهم ومخازنهم، واستولوا على محتوياتها من أموال وأمتعة وبضائع، واقتسموها فيما بينهم. وصدق فيهم قول صاحب المزامير:  " يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون ". 
ويصف الأب جاك ريتوري الدومنيكي  نصيبين في كتابه الشهير المسيحيون بين أنياب الوحوش قائلاً:
 " نصيبين تلك المدينة المسيحية الشهيرة فيما سلف من الزمن، أضحت الآن قصبة مهملة لا يقطنها غير المسلمين، وقد زالت وانمحت الصلبان التي كانت تزين كنائسها  وأديرتها ".  غادرنا نصيبين وفي القلب غصة وفي العين دمعة، ورددت في نفسي لماذا لا تنطق هذه الحجارة لتحدثنا عن قصة هذه الأبرشية المشرقية العريقة خلال تسعة عشر قرناً من العطاء والبطولات الإنجيلية.
توجهنا شرقاً نحو جبل إيزلا المقدس  مهد الحياة الرهبانية المنظمة في كنيسة المشرق، والذي كان مزروعاً بعشرات الأديرة، وكلمة إيزلا تعني الشبكة. وما أن تخرج من نصيبين حتى تقع عيناك على جبل إيزلا لتشاهد أطلال دير بجانب قرية تدعى اليوم ديرا جومرا، وبعد مسافة 20 كلم وصلنا إلى قرية كري ميرا ومنها صعداً شمالاً سيراً على الأقدام، وبعد مسيرة ساعة أصبحنا أمام دير مار أوجين. 
يقع الدير بالقرب من قرية معرى وقد شيد في الجيل الرابع للمسيحية على شكل نصف هلال يضم كنيسة كبرى وبيت صلاة ومصلى صيفي ومناسك وصوامع كثيرة ومدرسة لتعليم الرهبان تضم مكتبة ضخمة صارت طعمة لنار نور الدين أمير حلب الذي هاجم نصيبين وجوارها في القرن الثالث عشر، وكان للدير خمسة قرى بالإضافة إلى خمسة رحى " طواحين " وقطيع من الغنم تعود وارداتها لمعيشة الدير. وقد استمرت الحياة الرهبانية فيه حتى أواخر القرن السابع عشر، ونال هذا الدير مكانة مرموقة في كنيسة المشرق حيث راجت فيه أسواق العمران الروحي والعلمي والديني والثقافي، ومنه انطلق العديد من الرهبان ليؤسسوا أديرة جديدة في مناطق عديدة، ومنهم من انطلق إلى بلاد الهند والصين حاملين بشارة الخلاص. ومن دير مار أوجين شاهدنا دير مار يوحنا الطائي  المعروف بدير يوحنا البدوي، ويبعد عنه نحو 3 كلم شرقاً، ويتميز الدير ببنيانه البديع، ولم نستطيع الوصول إليه بسبب وعورة الطريق.
ثم انطلقنا شرقاُ وعلى بعد 5 كلم عند سفح جبل إيزلا وصلنا إلى دير مار باباي برنصيبيناي،  ولم يبقى من الدير سوى مغارة قديمة، وقد شيد السريان الأرثوذكس على موقع الدير كنيسة جديدة، حيث يسكن في القرية حوالي عشرة عائلات حالياً. ومقابل دير مار باباي شمالاً وعلى الطرف الأخر من جبل إيزلا يقع دير مار إبراهيم الكشكري  والمعروف بدير إيزلا الكبير، وقد شيد هذا الدير في الجيل السادس للمسيحية في منطقة بيث جوجل، الواقعة جنوب شرق بيث ريشا التي كانت كرسياً أسقفياً تابع لأبرشية نصيبين، وتعرف المنطقة اليوم باسم باكوكي وتعني بيت العنكبوت. وقد لعب هذا الدير الشهير دوراً رائداً وبارزاً في الحياة الفكرية لكنيسة المشرق، حيث أضحى مدرسة روحية يتدرب فيها الرهبان على الفضائل المسيحية والغيرة الرسولية، واستمرت فيه الحياة الرهبانية حتى نهاية القرن السابع عشر. لم نستطيع زيارة الدير بسبب وعورة الطريق الجبلية والتي تتطلب نحو خمسة ساعات من السير على الأقدام للوصول إليه.
ومن الجدير بالذكر أن سفح جبل إيزلا كان مزروعاً بعشرات القرى المسيحية سكانها من السريان الأرثوذكس، خربت وحرقت أغلبها بعد أن قتل سكانها ونهبت أموالهم وممتلكاتهم. فبعد تصفية مسيحيي نصيبين نظم الطغاة رفيق نظام الدين وقدور بك علي وسليمان مجر خطة لتصفية مسيحيي قرى نصيبين، فأرسلوا رسلاً إلى الأغوات يحثوهم على القيام بهذه المهمة. وعليه قتل إبراهيم الخليل آغا قرية خزنه جميع مسيحيي قريته، وهكذا فعل أحمد اليوسف آغا قرية السيحة حيث ذبح مسيحيي قريته بيده، كذلك فعل علي العيسى آغا حلوة حيث قتل مسيحيي قريته، أما محمد العباس آغا الدوكر فقد استعان بقدور بك وقتل جميع مسيحيي قريته، ثم سار قدور بك ومعه أحمد العباس وإبراهيم الخليل وعمر الأوسي آغا الدكشورية فقتلوا مسيحيي قرى المحركان وكركي شامو وخويتله. أما سليمان العباس آغا كرشيران فقد أطلق الحرية لمسيحيي قريته فانهزموا ولم يقتل منهم أحداً، كذلك هرب مسيحيي قريتي السروجية وكريبيا فتفرقوا في البراري شذر مذر. وعليه سجل التاريخ لسليمان العباس شهامته ونبل أخلاقه، بخلاف الذين ذكرناهم أعلاه الملطخة أياديهم بدماء الأبرياء.     
تركنا جبل إيزلا وتوجهنا شرقاً نحو مدينة الجزيرة العمرية، وقبل أن ندخل المدينة وبجانب الحدود السورية التركية شاهدنا وادي السوس المعروف باسم نوالا كوجا، هذا الوادي السحيق الذي ضم جثث الآلاف من المسيحيين الذي استشهدوا في مذابح السفر برلك، بعد أن نحروا كالخراف جزاء إيمانهم. ومن المعلوم أن مدينة جزيرة أبن عمر بناها المسلمون سنة 961 على بعد 3 كلم جنوب شرق بيث زبداي.
ويذكر المؤرخون الشرقيون أن بيث زبداي قد بشرها أدي الرسول وتلميذه أجي،  وكان مركز الأبرشية في فنك،  ويقال لها قسطر دبيث زبداي. ومنذ بداية القرن الثالث وجد أسقف للأبرشية يتبع كرسي نصيبين المطرابوليطيي. وفي بداية القرن الخامس نجد أسقفية ثانية مركزها ثمانون.  وكانت أبرشية الجزيرة العمرية قد أنظمت إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1552، ومنذ زمن الاتحاد وحتى تدميرها سنة 1915 تعاقب على كرسيها الأسقفي ثلاثة عشر مطراناً.
وفي بداية القرن السابع عشر ( سنة 1620 ) نجد حضور كثيف للمشارقة في الجزيرة العمرية، " يضم 4300 بيت، يخدمهم أسقف وعدد من الكهنة والشمامسة، ولهم في المدينة كنيستان هما: 1_ مار كيوركيس. 2_ ومار بهنان. بالإضافة إلى كنائس عديدة وأديرة كثيرة خارج المدينة ".  وهناك لائحة تعود إلى سنة 1607 م تضم سبعة أديرة تابعة لأبرشية الجزيرة هي: " 1_ مار يوحنا النحلي. 2_  مار آحا. 3_ مار فنحاس. 4_ مار يونان. 5_ مار إسحق. 6_ مار يوحنا الكمولي. 7_ مار يوحنا المصري ".   
دخلنا المدينة التي لم يبقى فيها أي أثر مسيحيي يذكر، فكاتدرائية مار كيوركيس للكلدان المشيدة في القرن الخامس عشر على موقع جميل قرب نهر دجلة قد دمرت وهدمت، كذلك دمرت كاتدرائية مار كيوركيس الجديدة التي شيدت في بداية القرن العشرين، وأضحى دار المطرانية مسكناً للغرباء، ولم نستطيع الوقوف على هذين الموقعين لعدم وجود من يدلنا إليهما. لكننا شاهدنا برجا بلك على ضفاف دجلة والذي كان قصر أمير الجزيرة في سالف الزمان، ومقابل القصر شاهدنا ما تبقى من الجسر الأثري الذي كان ممتداً فوق دجلة.
ويتحدث التقليد أن سفينة نوح بعد نهاية الطوفان قد رست على جبل جودي القريب من الجزيرة. ومن المعلوم أن مار يعقوب النصيبيني كان قد شيد ديراً على هذا الجبل، ودعاه دير "  قيبوثا " أي "  الفُلك أو السفينة "، وقد افتتحه وكرسه بحضور مار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية في المشرق.
ويقال أن مطران الجزيرة العمرية للكلدان مار يعقوب أوراهام  قتل هناك، ورميت جثثه على ضفاف النهر. وكان المطران يعقوب قد زار قائمقام الجزيرة المدعو زلفي السيئ الصيت ليستفسر منه عن ما يدور حول مصير المسيحيين من إشاعات بين سكان المدينة. لكنه تفاجئ عندما سمع القائمقام زلفي يصرخ بوجه قائلاً: " سيأتي اليوم الذي نحملك كيس من الشعير يزن 100 كغ ونسوقك كالحمار في شوارع المدينة ". فرجع المطران إلى دار المطرانية وهو حزين وقلق على مصير رعيته. بسبب ما سمع من الطاغية زلفي من كلام قاسي.
وشرق شمال الجزيرة شاهدنا جبال البوتان الشامخة،  ويتحدث العديد من المؤرخين الشرقيين أمثال ابن الحجري وابن الصليبي وبيث إيشوع وأبو الفرج عن هذه الجبال حيث يدعونها بـ جبال كلدانستان، " لأن أهالي هذه الجبال كانوا من الكلدانيين القدماء قبل مجيء المسيح، وفي العصور المتقدمة أطلق عليها خطأً كردستان ". 
وكانت هذه الجبال تضم عشرات القرى التابعة لأبرشية الجزيرة نذكر منها: فنك. هربول. حسانة. طاقيان. أومر دمار آحا. أومر دمار سوريشو. منصورية. وحصد. أشي. بلون. شاخ. تل قبين. نهروان. أجنبت. أكرم. بيسبين. فيشخابور. وسطا. بازنايي. هوزومير. كيركيبدرو. ديسيون. هلتون. آقول. باز. كزنخ. ماير. بربيثا. باشوران. بيث فغالي. بيث شابتا. بيث زندان. دادار. حداثا. شريهيه. كوفنت العليا، كوفنت السفلى. وقد دمرت أغلب هذه القرى في حوادث السفر برلك. وهجر من تبقى إلى دول الجوار، وبقي عدد قليل من العائلات تعيش في بعض القرى، وهذه القرى كانت مناطة بأبرشية زاخو بعد تدمير أبرشية الجزيرة العمرية، حتى الثمانينات من القرن الماضي حيث هجر من تبقى إلى أوربا بشكل نهائي.
وفي رسالة للبطريرك يوسف عمانوئيل الثاني بطريرك بابل على الكلدان موجهة إلى السيد ستيفان بيشون وزير الخارجية الفرنسية مؤرخة في 7 شباط 1919، يشرح فيها وضع الأبرشيات الكلدانية بعد هدوء العاصفة، منها أبرشية الجزيرة العمرية إذ يقول: " كم من النكبات والمصائب حلت بنا، في خضم تلك النوائب والاضطرابات . . . والمصير ذاته كان من نصيب أبرشية الجزيرة، إذ ذبح أسقفها والكهنة وسكان المدينة والقرى المسيحية التابعة لها، وحل الدمار بالكنائس وعملت أيادي النهب والسلب في الممتلكات والمقتنيات، جميعها أصبحت في خبر كان ".  وكان البطريرك عمانوئيل قد رفع تقريراً إلى قنصل فرنسا في بلاد ما بين النهرين السيد م. روو بتاريخ 29 كانون الثاني 1919 يبين فيه بالتفصيل أسماء القرى الكلدانية المدمرة في أبرشية الجزيرة، وأسماء العشائر والآغوات التي ارتكبت المذابح في كل قرية. بالإضافة إلى عدد الشهداء وعدد الممتلكات المستولى عليها من منقولة وغير منقولة تابعة للكنيسة والأهالي.
ومن باب التذكير نذكر أسماء بعض هذه العشائر: سينك. مما. باتوا. ميران. وآغوات: شرنخ وسلوبي وبازامير وشابسيا وحسنه والكوجر.   
وفي رسالة للأب فيليب شوريز السعرتي  النائب البطريركي للكلدان في بغداد موجهة إلى الأب كونزاليز الدومنيكي مؤرخة في 22 أيار 1917، يطلعه فيها على ما جرى في أبرشية الجزيرة قائلاً:  " في غضون ذلك كانت جزيرة ابن عمر تعاني هي الأخرى من سكرات الموت لمدة أشهر ثلاثة مليئة بالرعب والهول من المستقبل الأسود المنتظر. وقد حاول عثمان أفندي رئيس البلدية أن يتهرب من تنفيذ أوامر القائمقام بذبح المسيحيين، ومع ذلك ففي نهاية الأمر تعرض المسيحيون كما في سائر المناطق للذبح والتهجير. كان من جملة الضحايا عدد من الكهنة الكلدان اقتيدوا مع مطرانهم فيلبوس يعقوب أوراهام ومعهم مطران السريان الكاثوليك ميخائيل ملكي ، ومجموعة كبيرة من المؤمنين، أخرجوهم إلى ظاهر البلد على مرتفع يدعى نوالا كوجا، وهناك أطلقوا عليهم الرصاص، ثم تركوا جثثهم لليهود ليسحلوها ويلقوها إلى النهر. وسبقت مذبحة المدينة مذابح القرى المجاورة ". 
وقد روى شاهد عيان نجا من المذابح وهرب إلى ماردين للمطران إسرائيل أودو الحادثة كالتالي: " بعد قتل المطرانين يعقوب أوراها وميخائيل ملكي ومعهما ثلاثة كهنة كلدان هم: إيليا عيسى  وحنا خاتون  ومرقس توما،  وكاهنين من السريان الكاثوليك هما: شمعون  وبولص.  جاء يهود المدينة فربطوا أرجلهم وساقوهم في شوارع وأزقة المدينة حتى وصلوا بهم إلى شط دجلة، وهناك جردوهم من ثيابهم، ثم بقروا بطونهم وهشموا جماجمهم، وتركوهم طعاماً لوحوش البرية، ومن المعلوم أن الذي أطلق النار على المطرانين يدعى عبد العزيز جاويش وهو من أهالي ماردين ". 
أما مسيحيي المدينة من الرجال فقد قبضوا على جميعهم وزجوهم في غياهب السجن وبقوا فيه أربعة أيام يعانون من ضنك وضيق العيش، ثم أوثقوهم بالسلاسل والحبال واستاقوهم إلى نوالا كوجا وقتلوهم واستحوذوا على ثيابهم وأمتعتهم. ثم قبضوا على النساء والأطفال واستاقوهم في بكاء وعويل وقتلوهم جميعاً، ولم يبقى من مسيحيي الجزيرة سوى أربعة نساء احتجبن في دار أحد المسلمين حيث حافظ على حياتهم. وبعد المجزرة استولوا على جميع ممتلكات الطوائف المسيحية من كنائس ومطرانيات ومدارس، منها مدرستان تابعتان للرهبنة الدومنيكية ودار لسكن الراهبات. بالإضافة إلى ممتلكات المسيحيين من منقولة وغير منقولة، في المدينة والقرى المجاورة. ويقال أن أهالي الجزيرة منعوا من شرب مياه نهر دجلة لكثرة مار رمي فيه من جثث المسيحيين. وأمام هذا الموقف أذكر قصيدة لشاعر أرمني يصف هذه الحالة بالقول: " الأنهر تعرف جيداً ما صنع فينا الأكراد، لقد عذبونا وقتلونا ورمونا فيها. ولو نطقت لحدثتكم عن مآسينا ". 
وفي تقرير سري رفعه الخوري الكلداني بطرس عابد السعرتي  إلى الكردينال ماريني أمين سر المجمع الشرقي في روما، يشرح فيها مجريات مذابح 1915، ومنها الجزيرة العمرية قائلاً:  " حال مدير البلدية دون وقوع مجازر للمسيحيين لفترة ما، إلا أن الأتراك حرضوا الأكراد على الاعتداء على القرى المسيحية، ثم حصلت المجزرة في المدينة، وتمكن البعض من الهرب والاحتماء في الجبال. وتعرض ما تبقى من أبناء الشعب ورجال الدين للذبح ". 
ومع تهرب عثمان أفندي مدير البلدية من تنفيذ عمليات ذبح المسيحيين، حرض قائمقام الجزيرة زلفي الأكراد للقيام بهذه المهمة. ففي قرية طاقيان قتلوا كلدان القرية بعد أن حشروهم في الكنيسة بما فيهم كاهنهم الأب بطرس الطاقياني.
أما الأب أوغسطين مرجاني  كاهن الجزيرة الذي كان هناك يحث المؤمنين على الثبات على الإيمان فقد قتل معهم. وفي قرية فيشخابور قتل نايف باشا ابن مصطفى آغا ورجاله 900 شخص من القرية بما فيهم كاهنهم الأب توما شيرين.  كذلك ذبحت عشائر الشرنخ معظم أهالي قريتي وسطا وتل قبين، وهكذا كان مصير أغلب قرى الجزيرة العمرية. أما الأب أنطون يونان  فقد تمكن من الفرار إلى زاخو مع جماعة من المؤمنين، ومنها وصل إلى الموصل، وقد عانى الكثير في هروبه حتى فضل الموت على البقاء حياً. ولابد من ذكر بعض العشائر الكردية مثل عشيرة كويان وعشيرة آيهلان التي حمت مسيحيي القرى التابعة لهم مثل: هلتون وأمرا دمار شوريشو وبيجو وبلون وهوز مير وكزنخ وهربول وحسانة وبيسبين وآقول.
ويقال أن عثمان قتو آغا عشيرة آيهلان سأل الملا محمد أن يعطيه فتوى لقتل مسيحيي منطقته، بعد أن بعث له شيوخ الدين المسلمين في تللو رسالة عن طريق الآغوات الأكراد في شرنخ يدعوه فيها إلى قتل المسيحيين الذين تحت سيطرته، فرد عليه الملا بالقول: " إن أثم ذبح المسيحيين هو أشد من ذبح المسلمين، كما أن استباحة أموالهم وأعراضهم أشد قبحاً، لأن القرآن يحرمها على المسلم الخائف ربه، ولك أن تختار بين الانصياع لكلام القرآن أو إتباع رأي العثماني ".  فاقتدى عثمان آغا بقول الملا محمد، وأمر رجاله بعدم الاعتداء على المسيحيين المتواجدين في منطقته، والعمل على حمايتهم من اعتداء الآخرين.
أما في منطقة زاخو المحاذية لأبرشية الجزيرة العمرية، فقد رفع كل من يعقوب آغا السندي ومحمد آغا السيلفاني اعتراضاً إلى الحكومة العثمانية معترضين على طلبها بتصفية المسيحيين في منطقتهما جاء فيه: " إن أرادت الحكومة التركية ذبح المسيحيين  فهذا شأنها هي. أما هنا على الصعيد المحلي فنحن نرفض ذلك، ونريد حماية المسيحيين لا إهلاكهم ". 
ومثل هذا الموقف الشريف اتخذه العديد من الزعماء الأكراد نقولها لإنصافهم، فمنهم من لم يكتفي فقط بشجب مجازر المسيحيين، بل وقفوا ضدها وحموا المسيحيين من عصابات الجزارين. ومع ذلك نال سكان هذه القرى الكثير من الصعوبات والمضايقات من خطف بناتهم والتعدي على أرزاقهم، مما حد بهم على ترك قراهم بشكل تدريجي حتى فرغت تماماً في الثمانينات من القرن الماضي.     
ويبدو أن المتعقلين من الأكراد تبين لهم الأسباب التي دفعتهم إلى ما اقترفته أياديهم من فضائع بحق المسيحيين، وأبدوا نوع من التبرير الغير مقنع، لأن ما جرى غير خريطة المنطقة بعد أن أفرغت من العنصر المسيحي. فقد كتب خليل بدرخان صاحب صحيفة الرابطة الكردية سنة 1924 مقال جاء فيه:  " الرابط المشترك الوحيد الذي يجمع الشعبين التركي والكردي هو رابط الدين الإسلامي، الذي استغلته الحكومة التركية للإيقاع بين الأكراد والمسيحيين. إن القادة الأتراك منذ أمد بعيد مارسوا سياسة فرق تسد لإطالة سلطتهم البغيضة. لحسن الحظ إن ذلك الزمن قد ولى وانقضى، والشعوب المتجاورة أسياد الأنضول الحقيقيين التاريخيين من أكراد وأرمن وآشوريين وكلدان وسريان لا زالت تجمعهم مشاعر المودة والألفة ".  لا أرى من رد مناسب على هذا المقال سوى القول المأثور:  " عذر أقبح من ذنب  ".
وفي أيامنا هذه ومع تزايد الوعي بين المثقفين الأكراد نسمع أصوات من هنا وهناك، تتحدث بصراحة عن معاناة المسيحيين بسبب تصرفات الأكراد، وقد نشر موقع عفرين نت مقالاً للسيد بْير رستم تحت عنوان  " الخديعة والجريمة " نستعرض جزءً منه: " لن نقوم بتبرئة الكورد من سفك دماء إخوتهم الآشوريين والكلدان والسريان والأرمن، ولن ندافع عن تلك الزعامات القبلية الدينية والتي ورطت الرعاع الغوغاء والسذج والناس البسطاء الريفيين من الكورد في أحداث دموية ومجازر بحق هذه الشعوب والأثنيات المجاورة له، والتي تقاسمت معه الأرض والسماء. كان اللاعب والمخطط والمستفيد الأول من كل هذه الويلات والجرائم هم الطورانيون ومن بعدهم الكماليون الترك وأيضاً من وراءهم الدول الغربية، وما كان بعض الكورد في تلك الجريمة القذرة إلا أداة حمقاء في أيدي أولئك اللاعبين والمنفذين، ومع هذا لا ينفي عنا المسئولية التاريخية والقانونية، وعلينا التحلي بالشجاعة وإقرار ذلك، وعدم اعتبار من تدنس أياديه بتلك الجرائم والفضائع أبطال قوميين. وألا فإننا نكون نرتكب نفس أخطاء خصومنا من القوميين المغالين. ومع تأكيدنا على تورط بعض الكورد، وهنا كلمة البعض ليس بمعنى التقليل من حجم أو عدد المشاركين في تلك الجرائم من قبل الكورد، وأيضاً ليس بمعنى النفي والتهرب من المسؤولية وإلقائها على كاهل بعض الر

135
نبذة تاريخية عن تاريخ أبرشية ماردين الكلدانية
                                                          الشماس: نوري إيشوع مندو                                     
1_ الاسم والموقع: ماردين بلدة شهيرة عامرة في بلاد ما بين النهرين، مشيدة فوق جبل بادخ  بارتفاع 1100م، تعلوه قلعة حصينة منصوبة على أضيق المسالك. سماها الكتبة سيدة القلاع ومركز الحصار والدفاع. وماردين كلمة آرامية تعني الحصون.
وعلى بعد أقل من أربعة فراسخ إلى الشمال من دنيسر، قامت ماردين وقلاعها وحصونها وأرباضها . وليس على وجه الأرض أحسن منها ومن قلعتها . وهي في غاية المناعة، لدرجة أن الفاتحين والغزاة ملوا حصارها، وتعذر عليهم نوالها .
وتشرف ماردين على سهول ما بين النهرين، الممتدة إلى جهات الخابور وضفاف الفرات. وطريقاً إلى الموصل عبر نصيبين إلى آمد والى رشعينا. لذا عمد جميع حكام ما بين النهرين عبر العصور التاريخية إلى وضعها تحت سيطرتهم.
أما بيوت المدينة فهي راكبة بعضها فوق بعض، على منحن الجبل من جهاته الثلاث، والجهة الرابعة تنبسط فيها الحدائق الغناء والبساتين المخصبة. وداخل المدينة ثلاث أعين ماء هي: 1_ عين الجوزة. 2_ عين الحربيات. 3_ عين الخرنوب.
دخلت تحت حكم الفرس سنة 226م. فاهتموا بتحصينها و اتخذوا من جبالها و مرتفعاتها معقلاً قوياً تجاه أعدائهم الرومان. ثم دخلت تحت الحكم البيزنطي، حتى أعيدت للفرس سنة 363م بموجب المعاهدة التي عقدت بين جوفيان و شابور. و تناوب الفرس و الرومان على حكم ماردين، حتى فتحها العرب بيد عياض بن غنم سنة 640م. و قد اشتق كتبة العرب اسمها من التمرد و العصيان.
جاء في معجم البلدان: " ماردين بكسر الراء والدال، كأنه جمع مارد جمع تصحيح، و أرى أنها إنما سميت بذلك لأن مستحدثها لما بلغه قول الزباء: تمرد مارد و عز الأبلق. ورأى حصانة قلعته وعظمها قال: هذه ماردين كثيرة لا مارد واحد. وماردين قلعة مشهورة على قمة جبل الجزيرة، مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين وذلك الفضاء الواسع، وقدامها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة وخانات ومدارس وربط وخانقاهات، ودورهم فيها كالدرج كل دار فوق الأخرى، وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور ليس دون سطوحهم مانع، وعندهم عيون قليلة الماء، وجل شربهم من صهاريج معدة في دورهم، والذي لا شك فيه أنه ليس في الأرض كلها أحسن من قلعتها، ولا أحصن ولا أحكم " .
وفي عهد الخلافة العباسية أصبحت أحد مواقع ديار مضر الرئيسية. وظلت تتبع إدارياً وسياسياً حكام الجزيرة في الموصل حيناً ونصيبين أحياناً. ودخلت تحت حكم الحمدانيين سنة 906م، وفي عهدهم شهدت ماردين حالة من القلق والاضطراب، تسبب في تدهور الأوضاع، وخراب المدن والضياع، وذلك بسبب تعسف الأمراء الحمدانيين في جمع الأموال. ووقعت بيد المروانيين بين سنتي (990- 1096م ).
في سنة 1105م أضحت ماردين مملكة ارتقية مدة تزيد عن ثلاثمائة سنة، وعرف منهم ما يزيد من عشرين ملكاً، توارثوها خلفاً عن سلف، وكانوا من ذوي الشوكة والمراس، نهضوا بالبلاد وأحسنوا إلى العباد، وحصنوها وزينوها بالأبنية والقصور والمدارس .
وفي سنة 1183م لم يتمكن صلاح الدين الأيوبي من احتلالها، كذلك المغول سنة 1260م، غزاها تيمورلنك سنة 1394م فامتنعت عليه مرة أولى، ثم حاصرها سنتين ففتحها وعمل رجاله السيف بأهلها، وأجروا السلب والنهب وأسروا الصالح وقتلوه.   
بين سنة 1410 و1502م أصبحت ماردين تحت حكم دولتا القره قونيلو والآق قونيلو. ثم صارت في حكم العثمانيين سنة 1574م، الذين انزلوا بالمسيحيين النكبات والعقوبات، فاضطر نصارى الصور والأحمدي واستل ورشمل، وعشائر المحلية والراشدية والمخاشنية أن يهجروا المسيحية ويدينوا بالإسلام. ومنذ سنة 1647م كان حكام ماردين يراجعون وزراء بغداد، حتى سنة 1839م حيث أنيطت أمورهم بوالي الموصل. ومنذ سنة 1845م صار حكام ماردين يراجعون والي دياربكر. واستمرت حتى النصف الأول من القرن العشرين، حيث أصبحت مركز ولاية ولا زالت . 
2- المسيحية في ماردين: دخلت المسيحية إلى ماردين في القرون الأولى للمسيحية، وذلك بفضل وحماس أساقفة نصيبين. ومنذ القرون الأولى أقام مسيحيو ماردين العديد من الكنائس والأديار، وشيدوا المزيد من معاهد العلم والثقافة. ومما يؤيد ذلك أديارها القديمة ككنائس الكلدان والأرمن والشهيدة شموني وديري السريان. وكانت ماردين كرسياً أسقفياً يتبع مطرابوليطية نصيبين .
ومن المرجح أن تكون الأسقفية النسطورية هي الأولى في مدينة ماردين، والدليل على ذلك كنيسة الربان هرمز التي يعود بناؤها إلى سنة 430م، وقد نظمت هذه الأسقفية ابتداء من القرن السادس. وقبل هذا التاريخ كان الكثير من الأساقفة يمارسون واجباتهم الدينية متنقلين بين قرى ماردين وضياعها، وإن كانت التواريخ الكنسية قد أغفلت عن ذكر أسمائهم .
ومنذ أواخر القرن الثاني عشر تقلصت هذه الصروح، عن طريق مصادرتها من قبل الحكام، وتحويل أبنيتها إلى جوامع كما في زمن الأرتقية، وإما بسبب الحروب والغزوات كما حصل في أيام المغول.
بحوزتنا قائمة بأسماء ستة عشر مطراناً، كانوا قد تعاقبوا على كرسي الأسقفية النسطورية، ابتداء من سنة 1194 إلى سنة 1512م وهم:
1_ المطران يعقوب الآمدي (1194_ 1227). 2_ المطران إسحاق النصيبيني (1129_ 1251). 3_ المطران مرقس المارديني (1252_ 1275). 4_ المطران دنحا الفارقي (1280_ 1301).   5_ المطران قرياقوس الدنيسري (1305_ 1317). 6_ المطران اسطفانوس المارديني (1319- 1340). 7_ المطران جرجس الرأشعيني (1345_ 1361). 8_ المطران العازر الكفرتوثي (1364_ 1375). 9_ المطران يوحنا الرهاوي (1378_ 1395). 10_ المطران يوحنا السعرتي (1397_ 1400). 11_ المطران يهبالاها الجزري (1400_ 1409). 12_ المطران يلدا الآمدي (1410_ 1429). 13_ المطران بطرس المارديني (1431_ 1445). 14_ المطران سبريشوع الجزري  (1448_ 1468). 15_ المطران ايليا الموصلي (1470_ 1486). 16_ المطران ثيموثاوس الحصنكيفي (1488_ 1512) . 
 3_المطارنة الكلدان في ماردين: انضمت أبرشية ماردين إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1552م، ومنذ ذلك الحين وحتى سنة 1941، تعاقب على كرسيها الأسقفي خمسة عشر مطراناً وهم:
1_ المطران حنانيشوع (1553_ 1584): رسمه البطريرك يوحنا سولاقا كأول أسقف كاثوليكي على ماردين، وذلك سنة 1553. وتملك مكتبة ماردين الأسقفية عدداً من المخطوطات الطقسية، كتبت بيد المطران حنانيشوع. توفي سنة 1584. 
2- المطران يعقوب النصيبيني (1584_ 1615): رسمه البطريرك ايليا الخامس مطراناً على نصيبين وماردين، وقد ذكر المطران يعقوب في الرسالة الموجهة من البابا بولس الخامس لأساقفة كنيسة المشرق. 
3_ المطران يوحنا (1615_ 1641): رسمه البطريرك ايليا السادس مطراناً على ماردين، خدم أبرشيته مدة ست وعشرين سنة. توفي في نصيبين سنة 1641.
4_ المطران يوسف (1641_ 1678): ذكر اسم المطران يوسف ومدة أسقفيته في مخطوط كتب سنة 1679 باللغة الكلدانية، وهذا المخطوط محفوظ في كنيسة السريان الأرثوذكس بماردين.
5_ المطران شمعون الآمدي (1682_ 1695): أصله من مدينة آمد. رسمه البطريرك يوسف الأول مطراناً على ماردين سنة 1682. توفي في ماردين سنة 1695.
6_ المطران طيموثاوس مروكي (1696_ 1713): أصله من كركوك، رسمه البطريرك يوسف الثاني مطراناً على ماردين سنة 1696، خدم أبرشيته سبع عشرة سنة، حتى انتخب بطريركاً سنة 1713، وسمي يوسف الثالث. توفي سنة 1759.
7_ المطران باسيل حصرو (1714_ 1738): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على ماردين، وعندما سافر البطريرك يوسف الثالث إلى القسطنطينية وروما سنة 1731، وكلّ المطران باسيل والمطران شمعون مطران سعرت بإدارة شؤون الكنيسة أثناء غيابه. توفي سنة 1738 ودفن في كاتدرائية ماردين.
8_ المطران باسيل (1738_ 1758): أصله من ماردين. رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على ماردين، دبر أبرشيته بحكمة ودراية مدة عشرين سنة. توفي سنة 1758ودفن في كاتدرائية ماردين.
9- المطران شمعون الآمدي (1758_ 1788): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطرانا على ماردين، دبر أبرشيته بجدارة مدة ثلاثين سنة، له فضل كبير في حماية بطريرك السريان الكاثوليك ميخائيل جروة من الاضطهادات التي جرت بحقه. توفي سنة 1788 ودفن في كاتدرائية ماردين.
10- المطران ميخائيل شوريز ( 1793_ 1810): أصله من سعرت، وهو شقيق المطران بطرس شوريز مطران سعرت. رسمه البطريرك هندي مطراناً على ماردين، وفي سنة 1795 ثبته البابا بيوس السادس مطراناً لهذه الأبرشية. توفي في آمد سنة 1810.
11_ المطران اغناطيوس دشتو (1824_ 1868): ولد في ألقوش سنة 1794. دخل دير الربان هرمز، وفي سنة 1821 رسم كاهناً. رسمه البطريرك هندي مطراناً على آمد وقرى الموصل. لكن المطران دشتو رفض بسبب الخلافات القائمة في ذلك الوقت. ثبته الكرسي الرسولي سنة 1827 مطراناً على ماردين الشاغرة منذ سبع عشرة سنة. دبر أبرشيته بإخلاص وقداسة أكثر من أربعين سنة. وخلال فترة أسقفيته وسع كنيسة ماردين، وبنى دار المطرانية، وأسس أخوية سيدة الوردية وأخوية قلب يسوع وأخوية الآلام السبعة. واستمرت هذه الأخويات حتى بداية القرن العشرين. توفي سنة 1868 ودفن في كاتدرائية ماردين.
12_ المطران جبرائيل فرسو (1870_ 1873): ولد في ماردين سنة 1831. تلقى العلم عند الآباء الكبوشيين في ماردين. رسمه المطران دشتو كاهناً سنة 1831. رسمه البطريرك يوسف السادس أودو مطراناً على ماردين سنة 1870، وتمت الرسامة في مدينة روما. خدم أبرشيته مدة ثلاث سنوات. توفي سنة 1873.   
13_ المطران طيموثاوس عطار (1873_ 1883): ولد في آمد سنة 1834. دخل مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير لبنان. سنة 1851 أرسل إلى روما لتكميل دراسته. رسمه المطران دي نتلي كاهناً في آمد سنة 1862. رسمه البطريرك يوسف السادس أودو مطراناً على آمد سنة 1870، وتمت الرسامة في مدينة روما. وبعد وفاة المطران فرسو سنة 1873 نقل لرئاسة كرسي ماردين. عين نائباً على الكرسي البطريركي الشاغر بوفاة البطريرك أودو. سنة 1883 ترك ماردين واستقر في آمد، حتى توفي هناك سنة 1891. 
14_ المطران ايليا ملوس (1890_ 1908): ولد في ماردين سنة 1831، دخل دير الربان هرمز سنة 1850، رسمه البطريرك يوسف السادس أودو كاهناُ سنة 1856. انتخب مطراناً على أبرشية عقرة سنة 1864، فنال السيامة من يد البطريرك أودو. سنة 1874 أرسله البطريرك أودو إلى الملبار في الهند، وبقي هناك حتى سنة 1882. نقل إلى أبرشية ماردين سنة 1890، وخدم أبرشيته ثماني عشر سنة. توفي سنة 1908 ودفن في كاتدرائية ماردين .
15- المطران إسرائيل أودو (1910_ 1941): ولد في ألقوش سنة 1859، وهو أخ المطران توما أودو، وابن القس هرمز أخ البطريرك يوسف السادس أودو. دخل المعهد البطريركي بالموصل سنة 1883. رسمه البطريرك ايليا الثاني عبو اليونان كاهناً سنة 1886. وفي سنة 1888 عين لخدمة الكنيسة ببغداد، ثم عين نائباً بطريركياً على البصرة سنة 1891، وخدم هناك ثماني عشر سنة، بنى خلالها كاتدرائية ما توما ودار المطرانية مع مدرستين. كذلك بنى كنيسة صغيرة في العشار، وأنشأ وكالة الأهواز البطريركية. انتخب مطراناً على ماردين سنة 1909، واقتبل السيامة الأسقفية من يد البطريرك عمانوئيل توما سنة 1910. خدم أبرشيته إحدى وثلاثين سنة بحكمة ودراية. وقد عانى الكثير خلال أحداث السفر برلك، حيث استشهد العديد من أبناء أبرشيته مع بعض الكهنة. كان المطران إسرائيل راعياً فاضلاً حريصاً على واجبه. وكان يتقن اللغة الكلدانية اتقاناً تاماً، وله فيها عدة رسائل لها قيمتها التاريخية واللغوية. وله رثاء في مذابح ماردين وآمد وسعرت والجزيرة العمرية ووان سنة 1915. توفي سنة 1941 ودفن في كاتدرائية ماردين، وبوفاته انتهت سلسلة أساقفة ماردين .
4_ إحصائية خاصة بأبرشية ماردين الكلدانية: لا نملك الكثير عن إحصائية هذه الأبرشية في العصور الماضية، سوى انه في القرن الثامن عشر، كانت تضم 50000 نسمة، موزعين على المدينة مع ست وثلاثين قرية حولها. لكن العدد تناقص كثيراً بسبب الاضطهادات القاسية التي كانت تجري بحق المسيحيين .       
أما إحصائية خياط_ شابو سنة 1896، فيبلغ عدد الكلدان في الأبرشية 850 نسمة، يخدمهم مطران مع ثلاثة كهنة. ولهم خمس خورنات، مع كنيسة وثلاثة مدارس .
أما إحصائية الخوري يوسف تفنكجي سنة 1913، فكانت الأهم لأنها جاءت قبيل المذابح. وفيها يبلغ عدد المسيحيين في ماردين 20000 نسمة، منهم 1670 نسمة كلدان، يخدمهم مطران وإلى جانبه ستة كهنة. ولهم ست خورنات مع ثلاثة كنائس وثلاثة مدارس. ويتوزع أبناء الأبرشية على المراكز التالية: 1_ ماردين. 2_ نصيبين. 3_ مديات. 4_ تل أرمن. 5_ ويران شهر. 6_ ديركي. وكانت لغة سكان ماردين العربية. وفي المدينة رسالة للآباء الكبوشيين، وبيت للراهبات الفرنسيكانيات. وفي سنة 1910 استطاع المطران إسرائيل أودو تأمين كهنة من أبناء الأبرشية لمدينتي نصيبين ومديات. أما كلدان ديركي وويران شهر وتل أرمن، فكان كهنة الأرمن والسريان الكاثوليك يخدمون أمورهم الروحية، وذلك لقلة الكهنة في الأبرشية .
وفي إحصائية سنة 1928 نجد عدد الكلدان في الأبرشية يبلغ 400 نسمة، يخدمهم مطران وكاهنان. أما إحصائية سنة 1938 فيبلغ عددهم 400 نسمة، يخدمهم مطران وكاهن واحد .
وفي إحصائية لسنة 1950 وضعها الأب ( البطريرك) روفائيل بيداويد، فيبلغ عددهم 495 نسمة يخدمهم كاهن فقط . 
ومع نهاية الألفية الثانية لم يبقى في ماردين سوى عائلتين فقط، وإحدى هاتين العائلتين تسكن في دار المطرانية. وهكذا انتهت هذه الأبرشية العريقة. 
 
الهوامش:
1_ صورة الأرض        ابن حوقل ص 202.
2_ ابن جبير            رحلته ص 241.
3_ ابن بطوطة       رحلته ص 238.
4_ معجم البلدان     ياقوت الحموي ج 5 ص 39.
5_ مدينة ماردين          حسن شميساني ص 139.
6_ القصارى في نكبات النصارى     الخوري اسحق أرملة ص 13.
7_ الكنيسة الكلدانية سابقاً وحالياً    الخوري يوسف تفنكجي ص 57.
8_ مدينة ماردين       حسن شميساني ص 357.
9_ الكنيسة الكلدانية سابقاُ وحالياً      الخوري يوسف تفنكجي ص 57_ 58.
10_ الكنيسة الكلدانية سابقاً وحاليا      الخوري يوسف تفنكجي ص 57_ 63.
11_ ألقوش عبر التاريخ        المطران يوسف بابانا ص 185.
12_ الكنيسة الكلدانية سابقاً وحاليا       الخوري يوسف تفنكجي ص 58.
13_ مجلة بين النهرين             العدد 107_ 108  سنة 1999 ص 194.
14_ الكنيسة الكلدانية سابقاً وحاليا      الخوري يوسف تفنكجي ص 63.
15_ خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية     الكردينال أوجين تيسران ص 141.
16_ مجلة بين النهرين        العدد 107_ 108 سنة 1999  ص 183.














نبذة تاريخية عن تاريخ أبرشية ماردين الكلدانية
                                                                    الشماس: نوري إيشوع مندو                                     
1_ الاسم والموقع: ماردين بلدة شهيرة عامرة في بلاد ما بين النهرين، مشيدة فوق جبل بادخ  بارتفاع 1100م، تعلوه قلعة حصينة منصوبة على أضيق المسالك. سماها الكتبة سيدة القلاع ومركز الحصار والدفاع. وماردين كلمة آرامية تعني الحصون.
وعلى بعد أقل من أربعة فراسخ إلى الشمال من دنيسر، قامت ماردين وقلاعها وحصونها وأرباضها . وليس على وجه الأرض أحسن منها ومن قلعتها . وهي في غاية المناعة، لدرجة أن الفاتحين والغزاة ملوا حصارها، وتعذر عليهم نوالها .
وتشرف ماردين على سهول ما بين النهرين، الممتدة إلى جهات الخابور وضفاف الفرات. وطريقاً إلى الموصل عبر نصيبين إلى آمد والى رشعينا. لذا عمد جميع حكام ما بين النهرين عبر العصور التاريخية إلى وضعها تحت سيطرتهم.
أما بيوت المدينة فهي راكبة بعضها فوق بعض، على منحن الجبل من جهاته الثلاث، والجهة الرابعة تنبسط فيها الحدائق الغناء والبساتين المخصبة. وداخل المدينة ثلاث أعين ماء هي: 1_ عين الجوزة. 2_ عين الحربيات. 3_ عين الخرنوب.
دخلت تحت حكم الفرس سنة 226م. فاهتموا بتحصينها و اتخذوا من جبالها و مرتفعاتها معقلاً قوياً تجاه أعدائهم الرومان. ثم دخلت تحت الحكم البيزنطي، حتى أعيدت للفرس سنة 363م بموجب المعاهدة التي عقدت بين جوفيان و شابور. و تناوب الفرس و الرومان على حكم ماردين، حتى فتحها العرب بيد عياض بن غنم سنة 640م. و قد اشتق كتبة العرب اسمها من التمرد و العصيان.
جاء في معجم البلدان: " ماردين بكسر الراء والدال، كأنه جمع مارد جمع تصحيح، و أرى أنها إنما سميت بذلك لأن مستحدثها لما بلغه قول الزباء: تمرد مارد و عز الأبلق. ورأى حصانة قلعته وعظمها قال: هذه ماردين كثيرة لا مارد واحد. وماردين قلعة مشهورة على قمة جبل الجزيرة، مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين وذلك الفضاء الواسع، وقدامها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة وخانات ومدارس وربط وخانقاهات، ودورهم فيها كالدرج كل دار فوق الأخرى، وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور ليس دون سطوحهم مانع، وعندهم عيون قليلة الماء، وجل شربهم من صهاريج معدة في دورهم، والذي لا شك فيه أنه ليس في الأرض كلها أحسن من قلعتها، ولا أحصن ولا أحكم " .
وفي عهد الخلافة العباسية أصبحت أحد مواقع ديار مضر الرئيسية. وظلت تتبع إدارياً وسياسياً حكام الجزيرة في الموصل حيناً ونصيبين أحياناً. ودخلت تحت حكم الحمدانيين سنة 906م، وفي عهدهم شهدت ماردين حالة من القلق والاضطراب، تسبب في تدهور الأوضاع، وخراب المدن والضياع، وذلك بسبب تعسف الأمراء الحمدانيين في جمع الأموال. ووقعت بيد المروانيين بين سنتي (990- 1096م ).
في سنة 1105م أضحت ماردين مملكة ارتقية مدة تزيد عن ثلاثمائة سنة، وعرف منهم ما يزيد من عشرين ملكاً، توارثوها خلفاً عن سلف، وكانوا من ذوي الشوكة والمراس، نهضوا بالبلاد وأحسنوا إلى العباد، وحصنوها وزينوها بالأبنية والقصور والمدارس .
وفي سنة 1183م لم يتمكن صلاح الدين الأيوبي من احتلالها، كذلك المغول سنة 1260م، غزاها تيمورلنك سنة 1394م فامتنعت عليه مرة أولى، ثم حاصرها سنتين ففتحها وعمل رجاله السيف بأهلها، وأجروا السلب والنهب وأسروا الصالح وقتلوه.   
بين سنة 1410 و1502م أصبحت ماردين تحت حكم دولتا القره قونيلو والآق قونيلو. ثم صارت في حكم العثمانيين سنة 1574م، الذين انزلوا بالمسيحيين النكبات والعقوبات، فاضطر نصارى الصور والأحمدي واستل ورشمل، وعشائر المحلية والراشدية والمخاشنية أن يهجروا المسيحية ويدينوا بالإسلام. ومنذ سنة 1647م كان حكام ماردين يراجعون وزراء بغداد، حتى سنة 1839م حيث أنيطت أمورهم بوالي الموصل. ومنذ سنة 1845م صار حكام ماردين يراجعون والي دياربكر. واستمرت حتى النصف الأول من القرن العشرين، حيث أصبحت مركز ولاية ولا زالت . 
2- المسيحية في ماردين: دخلت المسيحية إلى ماردين في القرون الأولى للمسيحية، وذلك بفضل وحماس أساقفة نصيبين. ومنذ القرون الأولى أقام مسيحيو ماردين العديد من الكنائس والأديار، وشيدوا المزيد من معاهد العلم والثقافة. ومما يؤيد ذلك أديارها القديمة ككنائس الكلدان والأرمن والشهيدة شموني وديري السريان. وكانت ماردين كرسياً أسقفياً يتبع مطرابوليطية نصيبين .
ومن المرجح أن تكون الأسقفية النسطورية هي الأولى في مدينة ماردين، والدليل على ذلك كنيسة الربان هرمز التي يعود بناؤها إلى سنة 430م، وقد نظمت هذه الأسقفية ابتداء من القرن السادس. وقبل هذا التاريخ كان الكثير من الأساقفة يمارسون واجباتهم الدينية متنقلين بين قرى ماردين وضياعها، وإن كانت التواريخ الكنسية قد أغفلت عن ذكر أسمائهم .
ومنذ أواخر القرن الثاني عشر تقلصت هذه الصروح، عن طريق مصادرتها من قبل الحكام، وتحويل أبنيتها إلى جوامع كما في زمن الأرتقية، وإما بسبب الحروب والغزوات كما حصل في أيام المغول.
بحوزتنا قائمة بأسماء ستة عشر مطراناً، كانوا قد تعاقبوا على كرسي الأسقفية النسطورية، ابتداء من سنة 1194 إلى سنة 1512م وهم:
1_ المطران يعقوب الآمدي (1194_ 1227). 2_ المطران إسحاق النصيبيني (1129_ 1251). 3_ المطران مرقس المارديني (1252_ 1275). 4_ المطران دنحا الفارقي (1280_ 1301).   5_ المطران قرياقوس الدنيسري (1305_ 1317). 6_ المطران اسطفانوس المارديني (1319- 1340). 7_ المطران جرجس الرأشعيني (1345_ 1361). 8_ المطران العازر الكفرتوثي (1364_ 1375). 9_ المطران يوحنا الرهاوي (1378_ 1395). 10_ المطران يوحنا السعرتي (1397_ 1400). 11_ المطران يهبالاها الجزري (1400_ 1409). 12_ المطران يلدا الآمدي (1410_ 1429). 13_ المطران بطرس المارديني (1431_ 1445). 14_ المطران سبريشوع الجزري  (1448_ 1468). 15_ المطران ايليا الموصلي (1470_ 1486). 16_ المطران ثيموثاوس الحصنكيفي (1488_ 1512) . 
 3_المطارنة الكلدان في ماردين: انضمت أبرشية ماردين إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1552م، ومنذ ذلك الحين وحتى سنة 1941، تعاقب على كرسيها الأسقفي خمسة عشر مطراناً وهم:
1_ المطران حنانيشوع (1553_ 1584): رسمه البطريرك يوحنا سولاقا كأول أسقف كاثوليكي على ماردين، وذلك سنة 1553. وتملك مكتبة ماردين الأسقفية عدداً من المخطوطات الطقسية، كتبت بيد المطران حنانيشوع. توفي سنة 1584. 
2- المطران يعقوب النصيبيني (1584_ 1615): رسمه البطريرك ايليا الخامس مطراناً على نصيبين وماردين، وقد ذكر المطران يعقوب في الرسالة الموجهة من البابا بولس الخامس لأساقفة كنيسة المشرق. 
3_ المطران يوحنا (1615_ 1641): رسمه البطريرك ايليا السادس مطراناً على ماردين، خدم أبرشيته مدة ست وعشرين سنة. توفي في نصيبين سنة 1641.
4_ المطران يوسف (1641_ 1678): ذكر اسم المطران يوسف ومدة أسقفيته في مخطوط كتب سنة 1679 باللغة الكلدانية، وهذا المخطوط محفوظ في كنيسة السريان الأرثوذكس بماردين.
5_ المطران شمعون الآمدي (1682_ 1695): أصله من مدينة آمد. رسمه البطريرك يوسف الأول مطراناً على ماردين سنة 1682. توفي في ماردين سنة 1695.
6_ المطران طيموثاوس مروكي (1696_ 1713): أصله من كركوك، رسمه البطريرك يوسف الثاني مطراناً على ماردين سنة 1696، خدم أبرشيته سبع عشرة سنة، حتى انتخب بطريركاً سنة 1713، وسمي يوسف الثالث. توفي سنة 1759.
7_ المطران باسيل حصرو (1714_ 1738): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على ماردين، وعندما سافر البطريرك يوسف الثالث إلى القسطنطينية وروما سنة 1731، وكلّ المطران باسيل والمطران شمعون مطران سعرت بإدارة شؤون الكنيسة أثناء غيابه. توفي سنة 1738 ودفن في كاتدرائية ماردين.
8_ المطران باسيل (1738_ 1758): أصله من ماردين. رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على ماردين، دبر أبرشيته بحكمة ودراية مدة عشرين سنة. توفي سنة 1758ودفن في كاتدرائية ماردين.
9- المطران شمعون الآمدي (1758_ 1788): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطرانا على ماردين، دبر أبرشيته بجدارة مدة ثلاثين سنة، له فضل كبير في حماية بطريرك السريان الكاثوليك ميخائيل جروة من الاضطهادات التي جرت بحقه. توفي سنة 1788 ودفن في كاتدرائية ماردين.
10- المطران ميخائيل شوريز ( 1793_ 1810): أصله من سعرت، وهو شقيق المطران بطرس شوريز مطران سعرت. رسمه البطريرك هندي مطراناً على ماردين، وفي سنة 1795 ثبته البابا بيوس السادس مطراناً لهذه الأبرشية. توفي في آمد سنة 1810.
11_ المطران اغناطيوس دشتو (1824_ 1868): ولد في ألقوش سنة 1794. دخل دير الربان هرمز، وفي سنة 1821 رسم كاهناً. رسمه البطريرك هندي مطراناً على آمد وقرى الموصل. لكن المطران دشتو رفض بسبب الخلافات القائمة في ذلك الوقت. ثبته الكرسي الرسولي سنة 1827 مطراناً على ماردين الشاغرة منذ سبع عشرة سنة. دبر أبرشيته بإخلاص وقداسة أكثر من أربعين سنة. وخلال فترة أسقفيته وسع كنيسة ماردين، وبنى دار المطرانية، وأسس أخوية سيدة الوردية وأخوية قلب يسوع وأخوية الآلام السبعة. واستمرت هذه الأخويات حتى بداية القرن العشرين. توفي سنة 1868 ودفن في كاتدرائية ماردين.
12_ المطران جبرائيل فرسو (1870_ 1873): ولد في ماردين سنة 1831. تلقى العلم عند الآباء الكبوشيين في ماردين. رسمه المطران دشتو كاهناً سنة 1831. رسمه البطريرك يوسف السادس أودو مطراناً على ماردين سنة 1870، وتمت الرسامة في مدينة روما. خدم أبرشيته مدة ثلاث سنوات. توفي سنة 1873.   
13_ المطران طيموثاوس عطار (1873_ 1883): ولد في آمد سنة 1834. دخل مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير لبنان. سنة 1851 أرسل إلى روما لتكميل دراسته. رسمه المطران دي نتلي كاهناً في آمد سنة 1862. رسمه البطريرك يوسف السادس أودو مطراناً على آمد سنة 1870، وتمت الرسامة في مدينة روما. وبعد وفاة المطران فرسو سنة 1873 نقل لرئاسة كرسي ماردين. عين نائباً على الكرسي البطريركي الشاغر بوفاة البطريرك أودو. سنة 1883 ترك ماردين واستقر في آمد، حتى توفي هناك سنة 1891. 
14_ المطران ايليا ملوس (1890_ 1908): ولد في ماردين سنة 1831، دخل دير الربان هرمز سنة 1850، رسمه البطريرك يوسف السادس أودو كاهناُ سنة 1856. انتخب مطراناً على أبرشية عقرة سنة 1864، فنال السيامة من يد البطريرك أودو. سنة 1874 أرسله البطريرك أودو إلى الملبار في الهند، وبقي هناك حتى سنة 1882. نقل إلى أبرشية ماردين سنة 1890، وخدم أبرشيته ثماني عشر سنة. توفي سنة 1908 ودفن في كاتدرائية ماردين .
15- المطران إسرائيل أودو (1910_ 1941): ولد في ألقوش سنة 1859، وهو أخ المطران توما أودو، وابن القس هرمز أخ البطريرك يوسف السادس أودو. دخل المعهد البطريركي بالموصل سنة 1883. رسمه البطريرك ايليا الثاني عبو اليونان كاهناً سنة 1886. وفي سنة 1888 عين لخدمة الكنيسة ببغداد، ثم عين نائباً بطريركياً على البصرة سنة 1891، وخدم هناك ثماني عشر سنة، بنى خلالها كاتدرائية ما توما ودار المطرانية مع مدرستين. كذلك بنى كنيسة صغيرة في العشار، وأنشأ وكالة الأهواز البطريركية. انتخب مطراناً على ماردين سنة 1909، واقتبل السيامة الأسقفية من يد البطريرك عمانوئيل توما سنة 1910. خدم أبرشيته إحدى وثلاثين سنة بحكمة ودراية. وقد عانى الكثير خلال أحداث السفر برلك، حيث استشهد العديد من أبناء أبرشيته مع بعض الكهنة. كان المطران إسرائيل راعياً فاضلاً حريصاً على واجبه. وكان يتقن اللغة الكلدانية اتقاناً تاماً، وله فيها عدة رسائل لها قيمتها التاريخية واللغوية. وله رثاء في مذابح ماردين وآمد وسعرت والجزيرة العمرية ووان سنة 1915. توفي سنة 1941 ودفن في كاتدرائية ماردين، وبوفاته انتهت سلسلة أساقفة ماردين .
4_ إحصائية خاصة بأبرشية ماردين الكلدانية: لا نملك الكثير عن إحصائية هذه الأبرشية في العصور الماضية، سوى انه في القرن الثامن عشر، كانت تضم 50000 نسمة، موزعين على المدينة مع ست وثلاثين قرية حولها. لكن العدد تناقص كثيراً بسبب الاضطهادات القاسية التي كانت تجري بحق المسيحيين .       
أما إحصائية خياط_ شابو سنة 1896، فيبلغ عدد الكلدان في الأبرشية 850 نسمة، يخدمهم مطران مع ثلاثة كهنة. ولهم خمس خورنات، مع كنيسة وثلاثة مدارس .
أما إحصائية الخوري يوسف تفنكجي سنة 1913، فكانت الأهم لأنها جاءت قبيل المذابح. وفيها يبلغ عدد المسيحيين في ماردين 20000 نسمة، منهم 1670 نسمة كلدان، يخدمهم مطران وإلى جانبه ستة كهنة. ولهم ست خورنات مع ثلاثة كنائس وثلاثة مدارس. ويتوزع أبناء الأبرشية على المراكز التالية: 1_ ماردين. 2_ نصيبين. 3_ مديات. 4_ تل أرمن. 5_ ويران شهر. 6_ ديركي. وكانت لغة سكان ماردين العربية. وفي المدينة رسالة للآباء الكبوشيين، وبيت للراهبات الفرنسيكانيات. وفي سنة 1910 استطاع المطران إسرائيل أودو تأمين كهنة من أبناء الأبرشية لمدينتي نصيبين ومديات. أما كلدان ديركي وويران شهر وتل أرمن، فكان كهنة الأرمن والسريان الكاثوليك يخدمون أمورهم الروحية، وذلك لقلة الكهنة في الأبرشية .
وفي إحصائية سنة 1928 نجد عدد الكلدان في الأبرشية يبلغ 400 نسمة، يخدمهم مطران وكاهنان. أما إحصائية سنة 1938 فيبلغ عددهم 400 نسمة، يخدمهم مطران وكاهن واحد .
وفي إحصائية لسنة 1950 وضعها الأب ( البطريرك) روفائيل بيداويد، فيبلغ عددهم 495 نسمة يخدمهم كاهن فقط . 
ومع نهاية الألفية الثانية لم يبقى في ماردين سوى عائلتين فقط، وإحدى هاتين العائلتين تسكن في دار المطرانية. وهكذا انتهت هذه الأبرشية العريقة.   























         

   

    نبذة تاريخية عن تاريخ أبرشية ماردين الكلدانية
                                                                    الشماس: نوري إيشوع مندو                                     
1_ الاسم والموقع: ماردين بلدة شهيرة عامرة في بلاد ما بين النهرين، مشيدة فوق جبل بادخ  بارتفاع 1100م، تعلوه قلعة حصينة منصوبة على أضيق المسالك. سماها الكتبة سيدة القلاع ومركز الحصار والدفاع. وماردين كلمة آرامية تعني الحصون.
وعلى بعد أقل من أربعة فراسخ إلى الشمال من دنيسر، قامت ماردين وقلاعها وحصونها وأرباضها . وليس على وجه الأرض أحسن منها ومن قلعتها . وهي في غاية المناعة، لدرجة أن الفاتحين والغزاة ملوا حصارها، وتعذر عليهم نوالها .
وتشرف ماردين على سهول ما بين النهرين، الممتدة إلى جهات الخابور وضفاف الفرات. وطريقاً إلى الموصل عبر نصيبين إلى آمد والى رشعينا. لذا عمد جميع حكام ما بين النهرين عبر العصور التاريخية إلى وضعها تحت سيطرتهم.
أما بيوت المدينة فهي راكبة بعضها فوق بعض، على منحن الجبل من جهاته الثلاث، والجهة الرابعة تنبسط فيها الحدائق الغناء والبساتين المخصبة. وداخل المدينة ثلاث أعين ماء هي: 1_ عين الجوزة. 2_ عين الحربيات. 3_ عين الخرنوب.
دخلت تحت حكم الفرس سنة 226م. فاهتموا بتحصينها و اتخذوا من جبالها و مرتفعاتها معقلاً قوياً تجاه أعدائهم الرومان. ثم دخلت تحت الحكم البيزنطي، حتى أعيدت للفرس سنة 363م بموجب المعاهدة التي عقدت بين جوفيان و شابور. و تناوب الفرس و الرومان على حكم ماردين، حتى فتحها العرب بيد عياض بن غنم سنة 640م. و قد اشتق كتبة العرب اسمها من التمرد و العصيان.
جاء في معجم البلدان: " ماردين بكسر الراء والدال، كأنه جمع مارد جمع تصحيح، و أرى أنها إنما سميت بذلك لأن مستحدثها لما بلغه قول الزباء: تمرد مارد و عز الأبلق. ورأى حصانة قلعته وعظمها قال: هذه ماردين كثيرة لا مارد واحد. وماردين قلعة مشهورة على قمة جبل الجزيرة، مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين وذلك الفضاء الواسع، وقدامها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة وخانات ومدارس وربط وخانقاهات، ودورهم فيها كالدرج كل دار فوق الأخرى، وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور ليس دون سطوحهم مانع، وعندهم عيون قليلة الماء، وجل شربهم من صهاريج معدة في دورهم، والذي لا شك فيه أنه ليس في الأرض كلها أحسن من قلعتها، ولا أحصن ولا أحكم " .
وفي عهد الخلافة العباسية أصبحت أحد مواقع ديار مضر الرئيسية. وظلت تتبع إدارياً وسياسياً حكام الجزيرة في الموصل حيناً ونصيبين أحياناً. ودخلت تحت حكم الحمدانيين سنة 906م، وفي عهدهم شهدت ماردين حالة من القلق والاضطراب، تسبب في تدهور الأوضاع، وخراب المدن والضياع، وذلك بسبب تعسف الأمراء الحمدانيين في جمع الأموال. ووقعت بيد المروانيين بين سنتي (990- 1096م ).
في سنة 1105م أضحت ماردين مملكة ارتقية مدة تزيد عن ثلاثمائة سنة، وعرف منهم ما يزيد من عشرين ملكاً، توارثوها خلفاً عن سلف، وكانوا من ذوي الشوكة والمراس، نهضوا بالبلاد وأحسنوا إلى العباد، وحصنوها وزينوها بالأبنية والقصور والمدارس .
وفي سنة 1183م لم يتمكن صلاح الدين الأيوبي من احتلالها، كذلك المغول سنة 1260م، غزاها تيمورلنك سنة 1394م فامتنعت عليه مرة أولى، ثم حاصرها سنتين ففتحها وعمل رجاله السيف بأهلها، وأجروا السلب والنهب وأسروا الصالح وقتلوه.   
بين سنة 1410 و1502م أصبحت ماردين تحت حكم دولتا القره قونيلو والآق قونيلو. ثم صارت في حكم العثمانيين سنة 1574م، الذين انزلوا بالمسيحيين النكبات والعقوبات، فاضطر نصارى الصور والأحمدي واستل ورشمل، وعشائر المحلية والراشدية والمخاشنية أن يهجروا المسيحية ويدينوا بالإسلام. ومنذ سنة 1647م كان حكام ماردين يراجعون وزراء بغداد، حتى سنة 1839م حيث أنيطت أمورهم بوالي الموصل. ومنذ سنة 1845م صار حكام ماردين يراجعون والي دياربكر. واستمرت حتى النصف الأول من القرن العشرين، حيث أصبحت مركز ولاية ولا زالت . 
2- المسيحية في ماردين: دخلت المسيحية إلى ماردين في القرون الأولى للمسيحية، وذلك بفضل وحماس أساقفة نصيبين. ومنذ القرون الأولى أقام مسيحيو ماردين العديد من الكنائس والأديار، وشيدوا المزيد من معاهد العلم والثقافة. ومما يؤيد ذلك أديارها القديمة ككنائس الكلدان والأرمن والشهيدة شموني وديري السريان. وكانت ماردين كرسياً أسقفياً يتبع مطرابوليطية نصيبين .
ومن المرجح أن تكون الأسقفية النسطورية هي الأولى في مدينة ماردين، والدليل على ذلك كنيسة الربان هرمز التي يعود بناؤها إلى سنة 430م، وقد نظمت هذه الأسقفية ابتداء من القرن السادس. وقبل هذا التاريخ كان الكثير من الأساقفة يمارسون واجباتهم الدينية متنقلين بين قرى ماردين وضياعها، وإن كانت التواريخ الكنسية قد أغفلت عن ذكر أسمائهم .
ومنذ أواخر القرن الثاني عشر تقلصت هذه الصروح، عن طريق مصادرتها من قبل الحكام، وتحويل أبنيتها إلى جوامع كما في زمن الأرتقية، وإما بسبب الحروب والغزوات كما حصل في أيام المغول.
بحوزتنا قائمة بأسماء ستة عشر مطراناً، كانوا قد تعاقبوا على كرسي الأسقفية النسطورية، ابتداء من سنة 1194 إلى سنة 1512م وهم:
1_ المطران يعقوب الآمدي (1194_ 1227). 2_ المطران إسحاق النصيبيني (1129_ 1251). 3_ المطران مرقس المارديني (1252_ 1275). 4_ المطران دنحا الفارقي (1280_ 1301).   5_ المطران قرياقوس الدنيسري (1305_ 1317). 6_ المطران اسطفانوس المارديني (1319- 1340). 7_ المطران جرجس الرأشعيني (1345_ 1361). 8_ المطران العازر الكفرتوثي (1364_ 1375). 9_ المطران يوحنا الرهاوي (1378_ 1395). 10_ المطران يوحنا السعرتي (1397_ 1400). 11_ المطران يهبالاها الجزري (1400_ 1409). 12_ المطران يلدا الآمدي (1410_ 1429). 13_ المطران بطرس المارديني (1431_ 1445). 14_ المطران سبريشوع الجزري  (1448_ 1468). 15_ المطران ايليا الموصلي (1470_ 1486). 16_ المطران ثيموثاوس الحصنكيفي (1488_ 1512) . 
 3_المطارنة الكلدان في ماردين: انضمت أبرشية ماردين إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1552م، ومنذ ذلك الحين وحتى سنة 1941، تعاقب على كرسيها الأسقفي خمسة عشر مطراناً وهم:
1_ المطران حنانيشوع (1553_ 1584): رسمه البطريرك يوحنا سولاقا كأول أسقف كاثوليكي على ماردين، وذلك سنة 1553. وتملك مكتبة ماردين الأسقفية عدداً من المخطوطات الطقسية، كتبت بيد المطران حنانيشوع. توفي سنة 1584. 
2- المطران يعقوب النصيبيني (1584_ 1615): رسمه البطريرك ايليا الخامس مطراناً على نصيبين وماردين، وقد ذكر المطران يعقوب في الرسالة الموجهة من البابا بولس الخامس لأساقفة كنيسة المشرق. 
3_ المطران يوحنا (1615_ 1641): رسمه البطريرك ايليا السادس مطراناً على ماردين، خدم أبرشيته مدة ست وعشرين سنة. توفي في نصيبين سنة 1641.
4_ المطران يوسف (1641_ 1678): ذكر اسم المطران يوسف ومدة أسقفيته في مخطوط كتب سنة 1679 باللغة الكلدانية، وهذا المخطوط محفوظ في كنيسة السريان الأرثوذكس بماردين.
5_ المطران شمعون الآمدي (1682_ 1695): أصله من مدينة آمد. رسمه البطريرك يوسف الأول مطراناً على ماردين سنة 1682. توفي في ماردين سنة 1695.
6_ المطران طيموثاوس مروكي (1696_ 1713): أصله من كركوك، رسمه البطريرك يوسف الثاني مطراناً على ماردين سنة 1696، خدم أبرشيته سبع عشرة سنة، حتى انتخب بطريركاً سنة 1713، وسمي يوسف الثالث. توفي سنة 1759.
7_ المطران باسيل حصرو (1714_ 1738): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على ماردين، وعندما سافر البطريرك يوسف الثالث إلى القسطنطينية وروما سنة 1731، وكلّ المطران باسيل والمطران شمعون مطران سعرت بإدارة شؤون الكنيسة أثناء غيابه. توفي سنة 1738 ودفن في كاتدرائية ماردين.
8_ المطران باسيل (1738_ 1758): أصله من ماردين. رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على ماردين، دبر أبرشيته بحكمة ودراية مدة عشرين سنة. توفي سنة 1758ودفن في كاتدرائية ماردين.
9- المطران شمعون الآمدي (1758_ 1788): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطرانا على ماردين، دبر أبرشيته بجدارة مدة ثلاثين سنة، له فضل كبير في حماية بطريرك السريان الكاثوليك ميخائيل جروة من الاضطهادات التي جرت بحقه. توفي سنة 1788 ودفن في كاتدرائية ماردين.
10- المطران ميخائيل شوريز ( 1793_ 1810): أصله من سعرت، وهو شقيق المطران بطرس شوريز مطران سعرت. رسمه البطريرك هندي مطراناً على ماردين، وفي سنة 1795 ثبته البابا بيوس السادس مطراناً لهذه الأبرشية. توفي في آمد سنة 1810.
11_ المطران اغناطيوس دشتو (1824_ 1868): ولد في ألقوش سنة 1794. دخل دير الربان هرمز، وفي سنة 1821 رسم كاهناً. رسمه البطريرك هندي مطراناً على آمد وقرى الموصل. لكن المطران دشتو رفض بسبب الخلافات القائمة في ذلك الوقت. ثبته الكرسي الرسولي سنة 1827 مطراناً على ماردين الشاغرة منذ سبع عشرة سنة. دبر أبرشيته بإخلاص وقداسة أكثر من أربعين سنة. وخلال فترة أسقفيته وسع كنيسة ماردين، وبنى دار المطرانية، وأسس أخوية سيدة الوردية وأخوية قلب يسوع وأخوية الآلام السبعة. واستمرت هذه الأخويات حتى بداية القرن العشرين. توفي سنة 1868 ودفن في كاتدرائية ماردين.
12_ المطران جبرائيل فرسو (1870_ 1873): ولد في ماردين سنة 1831. تلقى العلم عند الآباء الكبوشيين في ماردين. رسمه المطران دشتو كاهناً سنة 1831. رسمه البطريرك يوسف السادس أودو مطراناً على ماردين سنة 1870، وتمت الرسامة في مدينة روما. خدم أبرشيته مدة ثلاث سنوات. توفي سنة 1873.   
13_ المطران طيموثاوس عطار (1873_ 1883): ولد في آمد سنة 1834. دخل مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير لبنان. سنة 1851 أرسل إلى روما لتكميل دراسته. رسمه المطران دي نتلي كاهناً في آمد سنة 1862. رسمه البطريرك يوسف السادس أودو مطراناً على آمد سنة 1870، وتمت الرسامة في مدينة روما. وبعد وفاة المطران فرسو سنة 1873 نقل لرئاسة كرسي ماردين. عين نائباً على الكرسي البطريركي الشاغر بوفاة البطريرك أودو. سنة 1883 ترك ماردين واستقر في آمد، حتى توفي هناك سنة 1891. 
14_ المطران ايليا ملوس (1890_ 1908): ولد في ماردين سنة 1831، دخل دير الربان هرمز سنة 1850، رسمه البطريرك يوسف السادس أودو كاهناُ سنة 1856. انتخب مطراناً على أبرشية عقرة سنة 1864، فنال السيامة من يد البطريرك أودو. سنة 1874 أرسله البطريرك أودو إلى الملبار في الهند، وبقي هناك حتى سنة 1882. نقل إلى أبرشية ماردين سنة 1890، وخدم أبرشيته ثماني عشر سنة. توفي سنة 1908 ودفن في كاتدرائية ماردين .
15- المطران إسرائيل أودو (1910_ 1941): ولد في ألقوش سنة 1859، وهو أخ المطران توما أودو، وابن القس هرمز أخ البطريرك يوسف السادس أودو. دخل المعهد البطريركي بالموصل سنة 1883. رسمه البطريرك ايليا الثاني عبو اليونان كاهناً سنة 1886. وفي سنة 1888 عين لخدمة الكنيسة ببغداد، ثم عين نائباً بطريركياً على البصرة سنة 1891، وخدم هناك ثماني عشر سنة، بنى خلالها كاتدرائية ما توما ودار المطرانية مع مدرستين. كذلك بنى كنيسة صغيرة في العشار، وأنشأ وكالة الأهواز البطريركية. انتخب مطراناً على ماردين سنة 1909، واقتبل السيامة الأسقفية من يد البطريرك عمانوئيل توما سنة 1910. خدم أبرشيته إحدى وثلاثين سنة بحكمة ودراية. وقد عانى الكثير خلال أحداث السفر برلك، حيث استشهد العديد من أبناء أبرشيته مع بعض الكهنة. كان المطران إسرائيل راعياً فاضلاً حريصاً على واجبه. وكان يتقن اللغة الكلدانية اتقاناً تاماً، وله فيها عدة رسائل لها قيمتها التاريخية واللغوية. وله رثاء في مذابح ماردين وآمد وسعرت والجزيرة العمرية ووان سنة 1915. توفي سنة 1941 ودفن في كاتدرائية ماردين، وبوفاته انتهت سلسلة أساقفة ماردين .
4_ إحصائية خاصة بأبرشية ماردين الكلدانية: لا نملك الكثير عن إحصائية هذه الأبرشية في العصور الماضية، سوى انه في القرن الثامن عشر، كانت تضم 50000 نسمة، موزعين على المدينة مع ست وثلاثين قرية حولها. لكن العدد تناقص كثيراً بسبب الاضطهادات القاسية التي كانت تجري بحق المسيحيين .       
أما إحصائية خياط_ شابو سنة 1896، فيبلغ عدد الكلدان في الأبرشية 850 نسمة، يخدمهم مطران مع ثلاثة كهنة. ولهم خمس خورنات، مع كنيسة وثلاثة مدارس .
أما إحصائية الخوري يوسف تفنكجي سنة 1913، فكانت الأهم لأنها جاءت قبيل المذابح. وفيها يبلغ عدد المسيحيين في ماردين 20000 نسمة، منهم 1670 نسمة كلدان، يخدمهم مطران وإلى جانبه ستة كهنة. ولهم ست خورنات مع ثلاثة كنائس وثلاثة مدارس. ويتوزع أبناء الأبرشية على المراكز التالية: 1_ ماردين. 2_ نصيبين. 3_ مديات. 4_ تل أرمن. 5_ ويران شهر. 6_ ديركي. وكانت لغة سكان ماردين العربية. وفي المدينة رسالة للآباء الكبوشيين، وبيت للراهبات الفرنسيكانيات. وفي سنة 1910 استطاع المطران إسرائيل أودو تأمين كهنة من أبناء الأبرشية لمدينتي نصيبين ومديات. أما كلدان ديركي وويران شهر وتل أرمن، فكان كهنة الأرمن والسريان الكاثوليك يخدمون أمورهم الروحية، وذلك لقلة الكهنة في الأبرشية .
وفي إحصائية سنة 1928 نجد عدد الكلدان في الأبرشية يبلغ 400 نسمة، يخدمهم مطران وكاهنان. أما إحصائية سنة 1938 فيبلغ عددهم 400 نسمة، يخدمهم مطران وكاهن واحد .
وفي إحصائية لسنة 1950 وضعها الأب ( البطريرك) روفائيل بيداويد، فيبلغ عددهم 495 نسمة يخدمهم كاهن فقط . 
ومع نهاية الألفية الثانية لم يبقى في ماردين سوى عائلتين فقط، وإحدى هاتين العائلتين تسكن في دار المطرانية. وهكذا انتهت هذه الأبرشية العريقة.   























         

   

   
       
           

       
           





نبذة تاريخية عن تاريخ أبرشية ماردين الكلدانية
                                                                    الشماس: نوري إيشوع مندو                                     
1_ الاسم والموقع: ماردين بلدة شهيرة عامرة في بلاد ما بين النهرين، مشيدة فوق جبل بادخ  بارتفاع 1100م، تعلوه قلعة حصينة منصوبة على أضيق المسالك. سماها الكتبة سيدة القلاع ومركز الحصار والدفاع. وماردين كلمة آرامية تعني الحصون.
وعلى بعد أقل من أربعة فراسخ إلى الشمال من دنيسر، قامت ماردين وقلاعها وحصونها وأرباضها . وليس على وجه الأرض أحسن منها ومن قلعتها . وهي في غاية المناعة، لدرجة أن الفاتحين والغزاة ملوا حصارها، وتعذر عليهم نوالها .
وتشرف ماردين على سهول ما بين النهرين، الممتدة إلى جهات الخابور وضفاف الفرات. وطريقاً إلى الموصل عبر نصيبين إلى آمد والى رشعينا. لذا عمد جميع حكام ما بين النهرين عبر العصور التاريخية إلى وضعها تحت سيطرتهم.
أما بيوت المدينة فهي راكبة بعضها فوق بعض، على منحن الجبل من جهاته الثلاث، والجهة الرابعة تنبسط فيها الحدائق الغناء والبساتين المخصبة. وداخل المدينة ثلاث أعين ماء هي: 1_ عين الجوزة. 2_ عين الحربيات. 3_ عين الخرنوب.
دخلت تحت حكم الفرس سنة 226م. فاهتموا بتحصينها و اتخذوا من جبالها و مرتفعاتها معقلاً قوياً تجاه أعدائهم الرومان. ثم دخلت تحت الحكم البيزنطي، حتى أعيدت للفرس سنة 363م بموجب المعاهدة التي عقدت بين جوفيان و شابور. و تناوب الفرس و الرومان على حكم ماردين، حتى فتحها العرب بيد عياض بن غنم سنة 640م. و قد اشتق كتبة العرب اسمها من التمرد و العصيان.
جاء في معجم البلدان: " ماردين بكسر الراء والدال، كأنه جمع مارد جمع تصحيح، و أرى أنها إنما سميت بذلك لأن مستحدثها لما بلغه قول الزباء: تمرد مارد و عز الأبلق. ورأى حصانة قلعته وعظمها قال: هذه ماردين كثيرة لا مارد واحد. وماردين قلعة مشهورة على قمة جبل الجزيرة، مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين وذلك الفضاء الواسع، وقدامها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة وخانات ومدارس وربط وخانقاهات، ودورهم فيها كالدرج كل دار فوق الأخرى، وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور ليس دون سطوحهم مانع، وعندهم عيون قليلة الماء، وجل شربهم من صهاريج معدة في دورهم، والذي لا شك فيه أنه ليس في ا

136
بازبداي أبرشية الجزيرة العمرية في تاريخ الكنيسة الكلدانية
                                                                                              الشماس نوري إيشوع مندو 
1_ الاسم والموقع: بازبداي ورد اسمها قبل الميلاد في جغرافية بطليموس، فدعاها " صفا "، وجاء اسمها أيضاً " صفتا " و " أسفايا " وجزيرة الصخرة. وموقعها في وادي دجلة، على بعد 3 كم جنوب المدينة الحالية.
في القرن الرابع يحتل الملك الفارسي شابور مقاطعة بازبداي، وبعد أن يعمل فيها الفضائع، يأمر بنفي 9000 شخص من سكانها إلى مقاطعة الأهواز الفارسية، ومن بينهم مطرانها العجوز والمريض. وعندما عقدت معاهدة الصلح بين الفرس والبيزنطيين سنة 363م، تبقى بازبداي بأيدي الفرس.
وفي سنة 578م كان كسرى انوشروان يمضي الصيف قي قرية ثمانون، عندما احتل الإمبراطور موريس إقليم بيث مكسايي المجاور. أما هرقل فيقوم بزيارة جبل جودي سنة 629م، في الموقع الذي استقرت فيه سفينة النبي نوح.
في سنة 640م فتحها عياض بن غنم، وأقام لها حصناً منيعاً. وفي عهد العباسين خرب المهدي بازبداي، وعاث في المدن والقرى هدماً وسلباً وقتلاً، خاصة بحق المسيحيين.
أما جزيرة ابن عمر فقد بناها المسلمون سنة 961م، على بعد 3 كم شرق بازبداي. جاء في معجم البلدان " جزيرة ابن عمر، بلدة فوق الموصل بينهما ثلاثة أيام. ولها رستاق مخصب واسع الخيرات. واحسب أن أول من عمرها الحسن بن خطاب التغلبي سنة 250 هجري. وهذه الجزيرة يحيط بها دجلة إلا من ناحية واحدة شبه الهلال. ثم عمل هناك خندق أجري فيه الماء، ونصبت عليه رحى. فأحاط الماء من جميع جوانبها بهذا الخندق " . وأخذت هذه المدينة بالتوسع شيئاً فشيئاً، لتصبح المدينة الأكثر أهمية في المنطقة. وعليه يعتبر العالم الجغرافي ابن حوقل في سنة 969م، منطقة قردو بأنها شبه الجزيرة المسماة جزيرة ابن عمر. وبسبب تربتها الخصبة، ومياهها الغزيرة والجارية، كانت غنية بالمنتوجات الزراعية والحيوانية. ومنها كان يتم التبادل التجاري باتجاه الموصل عبر نهر دجلة، حيث ينقل العسل والمن والجبن والزبدة والبندق واللوز والفستق.
سنة 1262م يحاصر المغول الجزيرة، لكن مطرانها حنانيشوع يلتقي هولاكو، وينال منه على عهد بالحفاظ على حياة السكان. وعليه شكل مجلس مهمته إدارة أمور الجزيرة، وكان المطران حنانيشوع أحد أعضائه. وفي سنة 1263م يثور سكان الجزيرة ضد المغول، فيلقى القبض على المطران ويتهم بالخيانة، فيقطع رأسه ويعلق على أحد أبواب المدينة.
ويمر الرحالة الشهير ابن بطوطة في الجزيرة سنة 1328م، فيشاهد الجزء الأكبر منها قد آل إلى خراب. وفي سنة 1394م يرسل أمير شاخ رجاله إلى الجزيرة، فينهبوا المدينة وينسحبوا منها بعد 27 يوماً.
وفي سنة 1458م يضرب الطاعون المدينة، فيقضي على 5250 نسمة. ويهرب الكثير من سكان المدينة إلى الجبال خوفاً من هذا الوباء، ولجؤوا إلى دير مار يوحنا في أطراف قسطرا، ويبقوا هناك مدة شهرين.
وفي سنة 1502 يرسل حاكم أرمينيا شاه إسماعيل، فرقة من قواته وعلى رأسهم محمد بك المعروف بقسوته وبطشه، وتحاصر مدينة الجزيرة. وعند رفض أميرها شرف الاستسلام، تدخل قواته المدينة، فتقتل السكان والكهنة، وتنهب الكنائس والأديرة، وتقود الكثير من الشبان والنساء كعبيد. وفي نفس السنة يتلف الجراد أغلب محاصيل الجزيرة الزراعية.
سنة 1513م يحتل الفرس الجزيرة، فينهبوا الكنائس والأديرة ويتلفوا المخطوطات. وبعد أن يلقوا القبض على وجهاء المدينة من مسيحيين ومسلمين، يحرقون المدينة.
وقبل نهاية النصف الثاني من القرن السادس عشر، تدخل الجزيرة تحت حكم العثمانيين بشكل نهائي.         
2_ المسيحية في بازبداي: عرفت بازبداي المسيحية منذ العصور الأولى، وعرفت أبرشيتها باسم بيث زبداي، وكان مركز الأبرشية في فنك، ويقال لها قسطر دبيث زبداي، وهي على الدجلة في الجهة اليسرى في شمال غربي الجزيرة، على مسافة خمس ساعات منها.
وفي بداية القرن الثالث، وجد أسقف لهذه الأبرشية، يتبع رئاسة كرسي نصيبين المطرابوليطي. وفي سنة 410م نجد في مقاطعة بازبداي مطرانيتين متجاورتين. الأولى على الضفة الشرقية في قردو، ومركزها فنك. والثانية على الضفة الغربية في قردو، ومركزها ثمانون، وهي في لحف جبل جودي، في القطعة المعروفة اليوم بالبوتان.
وفي مجمع الجاثليق باباي سنة 497م، نجد بين الحضور يوحنا مطران بازبداي، الذي احتل المركز الرابع عشر بين الآباء الذين حضروا المجمع المذكور.
وكانت بيث زبداي تابعة لكرسي نصيبين حتى العصور المتأخرة. لكننا في عهد البطريرك إيليا أبو حليم (1176_ 1190) نجد بيث زبداي مطرانية مستقلة. لكن مطران نصيبين عبديشوع الصوباوي في سنة 1310م، يعتبر بيث زبداي وقردو من المراكز التابعة لنصيبين.
وقد انضمت أبرشية بازبداي إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1552م. وبقيت بعض المراكز تابعة لبطريرك قو جانس، و ذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر. منها مطرانية شاخ، ومطرانية كير أثيل التي كانت تضم عشرين قرية سنة 1846م.
ومن الجدير بالذكر أن أبرشية بازبداي، كانت تضم الكثير من الأديرة، منذ نشوء المسيحية. وهناك لائحة ترقى إلى سنة 1607م، تعد سبعة أديرة تابعة لمنطقة الجزيرة وهي: 1_ يوحنا النحلي.        2 _ فنحاس. 3_ آحا. 4_ يونان. 5- إسحق. 6_ يوحنا الكمولي. 7_ يوحنا المصري. وكانت هذه الأديرة مركز إشعاع روحي وثقافي. واستمرت الحياة فيها حتى العصور المتأخرة، حتى آلت إلى خراب بسبب الحروب والغزوات والاضطهادات التي اجتاحت المنطقة عبر العصور. 
وفي سنة 1878م تجتاح القوات العثمانية منطقة الجزيرة، لقمع ثورة بدرخان بك، وتستمر الحملة مدة شهرين. وكان لهذه الحملة الأثر الكبير على السكان المسيحيين، فالجنود العثمانيين سلبوا أموال وأرزاق المسيحيين، ورجال بدرخان نهبوا ودمروا القرى المسيحية في المنطقة.
وكانت أوقاف أبرشية بازبداي أكثر من أن تحصى، وتشمل العديد من القرى والحقول والبساتين، بالإضافة إلى العديد من الطواحين، منها رحى قرية بانرقس، ورحى واقعة بالقرب من قرية زورافا والمسماة برحى رثبان. وجميع هذه العقارات استولى عليها الغرباء بعد المذابح سنة 1915م ، سوى قرية باربيثا الواقعة على مسافة 9 كلم شمال ديريك (المالكية). وتعود ملكية هذه القرية إلى العائلة الأبوية منذ القرن الثاني عشر ميلادي(564هجري)، وكانت تشمل أراضي زراعية بالإضافة إلى كنيسة مارت شموني. وانتقلت بالإرث للجاثليق شمعون الباصيدي في نهاية القرن الخامس عشر، وقد أوقفها لكنيسة المشرق. وبعد مذابح 1915م انتقلت إدارتها لأبرشية زاخو الكلدانية. واستمرت حتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين، حيث استولى عليها السريان الأرثوذكس .
3_ المطارنة الكلدان في بيث زبداي (جزيرة ابن عمر): انضمت أبرشية بازبداي إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1552، ويذكر أن الأساقفة الذين تزعموا حركة الاتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية، قد عقدوا الاجتماع التمهيدي في الجزيرة العمرية، وأدى إلى اجتماع آخر أعم في مدينة الموصل. ومنذ زمن الاتحاد تعاقب على رئاسة كرسيها الأسقفي ثلاثة عشر مطراناً :
1- المطران عبديشوع مارون (1553_ 1555): ولد في جزيرة ابن عمر، ترهب في دير الأخوين مار آحا ومار يوحنا، وهناك رسم كاهناً. رسمه البطريرك سولاقا سنة 1553م كأول أسقف كاثوليكي للجزيرة، وعكف على إدارة أبرشيته بهمة ونشاط عظيمين، وكان ماهراً في اللغتين الكلدانية والعربية، وبعد استشهاد الجاثليق سولاقا سنة 1555م، انتخب بطريركاً على الكنيسة الكلدانية.
2_ المطران يبالاها (1556_ 1567): كان راهباً في دير الأخوين مار آحا ومار يوحنا، عندما رسمه البطريرك عبديشوع مارون سنة 1556م مطراناً للجزيرة خلفاً له، وبعد وفاة البطريرك مارون، انتخب بطريركاً على كنيسة المشرق سنة 1567م.
3_ المطران جبرائيل إيليا (1567_ 1600): رسمه البطريرك يبالاها الرابع، مطراناً على الجزيرة سنة 1567م.
4_ المطران يوسف (1600_ 1635): ذكر اسمه في القائمة المرسلة إلى البابا بولس الخامس سنة 1610م، من قبل بطريرك الكنيسة الكلدانية، وفيها يتحدث عن أحوال الكنيسة الكلدانية في ذلك العصر، وكان بين المطارنة الحاضرين في مجمع آمد سنة 1616م.   
5_ المطران شمعون يوسف (1636_ 1672): ذكر اسمه في الرسالة التي بعثها البطريرك إيليا الثالث عشر، للبابا كليمان الرابع سنة 1669م.
6_ المطران عبديشوع (1672_ 1710): وجد اسمه في مخطوط قديم.
7_ المطران يوسف (1711_ 1747): ذكر اسمه في رسالة كتبها البطريرك يوسف الثالث سنة 1746م.
8_ المطران يوحنا (1747_ 1776): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً سنة 1747م، وقد قتل بيد الأشرار سنة 1776م.
9_ المطران حنانيشوع (1785_ 1826): رسمه البطريرك إيليا الحادي عشر مطراناً على العمادية والجزيرة، وبعد ست سنوات ترك أبرشية العمادية، ليتفرغ لأبرشية الجزيرة، توفي سنة 1826م. 
10_ المطران كيوركيس بطرس دي نتلي (1833_ 1824): رسمه البطريك يوحنا الثامن هرمز مطراناً على الجزيرة، وبعد أن خدم أبرشيته عشر سنوات، نقل إلى رئاسة كرسي آمد، توفي سنة 1867م.
11_ المطران جيروم بولس هندي (1852_ 1872): هو ابن أخ البطريرك هندي، ولد في آمد سنة 1814م، أرسله للدراسة في المجمع المقدس لنشر الإيمان، رسمه كاهناً سنة 1840م. رسمه بالموصل البطريرك يوسف السادس أودو مطراناً على الجزيرة سنة 1852م، خدم أبرشيته إحدى وعشرين سنة، توفي في آمد سنة 1873م.
12- المطران إيليا بطرس عبو اليونان (1847- 1878): رسمه البطريرك يوسف السادس أودو مطراناً على الجزيرة سنة 1847م، وبعد أن خدم أبرشيته أربع سنوات، انتخب خلفاً للبطريرك أودو.
13_ المطران فيليب يعقوب أبراهام ( 1882( 1915): ولد في تلكيف سنة 1848م، دخل دير الربان هرمز، وأكمل دراسته في المعهد البطريركي، رسم كاهناً سنة 1873م، رسمه البطريرك يوسف السادس أودو أسقفاُ على الملبار سنة 1875م، نقل إلى أبرشية الجزيرة سنة 1882م، خدم أبرشيته بجد ونشاط حتى استشهد سنة 1915م.
4_ إحصائية خاصة بأبرشية بيث زبداي الكلدانية (جزيرة ابن عمر): لا نملك الكثير عن إحصائية هذه الأبرشية في العصور الغابرة، لكننا نجد أن الحضور المسيحي كان في أغلب قرى الأبرشية. وبسبب الصراع بين كنيسة المشرق واليعاقبة، خرجت الكثير من مراكز الأبرشية من سلطة كنيسة المشرق  بعد القرن السادس للمسيحية، ومن هذه المراكز المهمة آزخ والقرى المحيطة بها، التي كانت معقلاً للنساطرة . وفي القرن السادس عشر بلغ عدد أبناء الأبرشية 21500نسمة، مع عدد كبير من الكهنة والشمامسة. وفي سنة 1892م بلغ عددهم 2000 عائلة داخل المدينة والقرى التابعة للأبرشية .
وفي إحصائية خياط – شابو سنة 1896م بلغ عددهم 5200 نسمة يخدمهم مطران وإلى جانبه 14 كاهناً، يتوزعون على 16 خورنة، وللأبرشية 17 كنيسة و13 مدرسة .
وتعتبر إحصائية الخوري يوسف تفنكجي سنة 1913م الأهم، لأنه وضعها قبيل مذابح 1915م. وفي هذه الإحصائية يبلغ عدد الكلدان 6400 نسمة يخدمهم مطران، وإلى جانبه 17 كاهن، يتوزعون على 17 خورنة، وللأبرشية 14 كنيسة و7 مدارس، ويتوزع أبناء الأبرشية على المراكز التالية:        1_ الجزيرة. 2_ طاقيان. 3_ فيشخابور. 4- وحصد. 5_ تل قبين. 6_ هوزومير. 7_ هربول.   8_ كير كيبدرو. 9_ نهر وان. 10_ منصورية. 11_ اشي. 12_ باز. 13_ هلتون. 14_ آقول. 15_ ديسيون. 16_ مار شوريشو. 17_ شاخ.  وكان في الجزيرة رسالة للآباء الدومنيكان ومسكن لراهبات التقدمة. وكنيسة الكلدان في الجزيرة على اسم القديس كيوركيس، ويعود بناؤها إلى القرن الخامس عشر. أما لغة المدينة كانت العربية والكردية. وأما لغة أهل القرى فكانت السورث . ومن آثار المدينة قلعتها المشيدة بالأحجار السوداء البركانية والبيضاء الصلبة، ولها مدخل فخم يعلوه أسدان منقوران في الصخر. وهناك جسر كبير كان ممتداً فوق دجلة، وقد حل الدمار بالجسر. 
وفي مذابح 1915م اقترفت جرائم شنيعة بحق المسيحيين، وزرع الموت والذعر والخراب في كل مراكز الأبرشية، حتى سكرت الحراب من شرب الدماء، وفرغت أغلب القرى من سكانها. وفي إحصائية لسنة 1928م، يبقى في أبرشية بازبداي 1600 نسمة، وبدون أي كاهن يخدمهم .
وفي إحصائية لسنة 1938م نجد عدد أبناء الأبرشية يبلغ 2250 نسمة، مع كاهن واحد يخدم جميع المراكز المتبقية.
وفي إحصائية لسنة 1950م، وضعها الأب (البطريرك) روفائيل بيداويد، يبلغ عدد ما تبقى في أبرشية بازبداي 1789 نسمة، يخدمهم كاهن واحد، موزعين على سبع قرى هي: 1_ بازنايي 140 نسمة. 2_ بيسبين 220 نسمة. 3_ اشي 210 نسمة. 4_ كزنخ 215 نسمة. 5_ هربول 560 نسمة. 6_ حسانة 320 نسمة. 7_ ماير 122 نسمة. وكانت هذه المراكز مناطة بأبرشية زاخو الكلدانية .
وقبل نهاية الألفية الثانية فرغت جميع القرى من سكانها، حيث هاجرا أغلبهم إلى المهجر. وهكذا عاشت أبرشية بازبداي حياة مأسوية، بين التدمير والقتل والسلب والتهجير، مما سبب انقراض المسيحية فيها.         
        الهوامش:
 1_ معجم البلدان      ياقوت الحموي ج2 ص 138.
2_ ذخيرة الأذهان       الأب بطرس نصري ج2 ص 85. 
3_ نصيبين أبرشية مشرقية وتوابعها     الأب جان فييه ص 254.
4_ الكنيسة الكلدانية سابقاً وحالياً       الخوري يوسف تفنكجي ص 54_57.
 5_ سورية المسيحية في الألف الأولى للميلاد    الأب متري أثناسيو ج2 ص 625. 
  6_ نصيبين أبرشية مشرقية وتوابعها         الأب جان فييه ص 241. 
  7_ مجلة بين النهرين        العدد 107_ 108 سنة 1999 ص 194.
 8_ الكنيسة الكلدانية سابقاً وحاضراً     الخوري يوسف تفنكجي ص 54_ 57. 
  9_ خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية         الكردينال أوجين تيسران ص 141. 
  10_ مجلة بين النهرين        العدد 107_ 108 سنة 1999 ص 176.


137
        
أبرشية آمد (ديار بكر) الكلدانية في التاريخ
                                                                                                                الشماس: نوري إيشوع مندو  
1_الاسم والموقع: آمد مدينة عريقة بالقدم من بلاد ما بين النهرين، تقع على شاطئ دجلة الأيسر، وهي ضمن البلاد المسماة في التوراة بآرام النهرين. دخلت في مملكة الآشوريين فالماديين فالفرس فالمكدونيين فالبرثة والرومان، وعندما فتحها العرب سنة 934م دعيت ديار بكر، وهي ضمن المنطقة المعروفة عندهم بديار ربيعة. ثم استولى عليها الأكراد. وفي سنة 1460م ألحقت بفارس، إلى أن استولى عليها العثمانيون سنة 1516م.
جاء في معجم البلدان " ديار بكر هي بلاد كبيرة واسعة تنسب إلى بكر ابن وائل. وحّدها ما غرب الدجلة إلى بلاد الجبل المطل على نصيبين إلى دجلة، ومنه حصن كيفا وآمد وميافرقين، وقد يتجاوز دجلة إلى سعرت وحيزان وحيني وما تخلل ذلك من البلاد، ولا يتجاوز السهل " . وجاء في دائرة المعارف " ديار بكر هي الآن ولاية كبيرة من الممالك العثمانية، يحدها شمالاً ولاية سيواس وأضروم، وجنوباً العراق العربي وبادية العرب، وغرباً سورية، وشرقاً كردستان. ومدينة ديار بكر قصبة الولاية وهي آميدا القديمة، قره آمد عند الأتراك. سكانها من 40 إلى 60 ألف نسمة، ثلثهم من المسيحيين الأرمن والنساطرة واليعاقبة. وهذه المدينة فيها تجارة واسعة للجلود والمنسوجات القطنية الحمراء، وفيها كثير من المساجد والحمامات والأسواق الجميلة. والتربة فيها مخصبة، ومن محاصيلها الحبوب والثمار والبقول والخضار والخمر، ومن شجرها الزيتون والتوت والقطن. وبها أحراش جميلة، وفي جبالها الذهب والفضة والنحاس " .
عرفت آمد المسيحية منذ القرون الأولى، وفي القرن السادس كانت أسقفية تابعة لكرسي نصيبين المطرابوليطي، وبعدئذ لكرسي ميافرقين. وكانت مقر  البطاركة المتحدين مع روما في النصف الثاني من القرن السادس عشر، حتى أضحت رئاسة أسقفية مستقلة في بداية القرن السابع عشر، واستمرت كذلك حتى الربع الأول من القرن العشرين، حيث أعيدت من جديد ككرسي مطرابوايطي سنة 1965.  
2_ البطاركة الكلدان في آمد: بعد اتحاد قسم من أبناء كنيسة المشرق مع الكنيسة الكاثوليكية، اتخذ البطاركة الكاثوليك مدينة آمد مقراً لكرسيهم، وسنتحدث عن هؤلاء البطاركة الذين سكنوا آمد، ومنها ساسوا الكنيسة الفتية رغم الظروف الصعبة التي مروا فيها، أما الأسباب التي دعت البطاركة الكاثوليك للاستقرار، فهي الخوف من بطش المناوئين لرئاستهم:
ا_ البطريرك يوحنا سولاقا بلو(1553_1555): بعد أن نال درع التثبيت في روما، عاد إلى الشرق وقرر اتخاذ آمد مقراً لكرسيه، فدخلها في 12 تشرين الثاني 1553، واستقبل بحفاوة بالغة وبهجة عارمة. وما إن استقر في مقره، حتى شمر عن ساعد الجد، وسعى في تنظيم شؤون كنيسته الداخلية، وشرع يتنقل من مركز إلى آخر، يرشد الجميع إلى طريق المحبة والخير، حتى استشهد في العمادية سنة 1555م.
ب_ البطريرك عبد يشوع الرابع مارون(1555_ 1567): بعد استشهاد البطريرك سولاقا، تم انتخابه بطريركاً على الكلدان، وقد استقر في آمد. وبسبب الصعوبات التي تعرض لها، أمضى السنوات الأخيرة من حياته في دير مار يعقوب الحبيس قرب سعرت.
ورغم ما عانته الكنيسة الكلدانية، بقيت آمد معقلاً حصيناً للفئة المناصرة للاتحاد بروما. لكننا في سنة 1650م نجد أبرشيتها تتبع على صعيد الإدارة الكنسية، الجاثليق المقيم في دير الربان هرمز قرب القوش. لكن جهود الرهبان الكبوشيين أعادت جماعة آمد إلى تيار الاتحاد بروما مرة أخرى، وبسبب الصعوبات تخلى الكبوشيين عن مركزهم سنة 1726م، ثم عادوا إليه سنة 1749م، واستمرت رسالتهم بشكل متقطع إلى ما بعد الحرب الكونية الأولى.
أما البطاركة خلفاء سولاقا، فبعد أن تركوا آمد، سكنوا سعرت ومن ثم بلاد فارس، وأخيراً تركوا الشركة مع روما، واستقروا في قوجانس بجبال هكاري. وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر ، ظهرت سلسلة جديدة من البطاركة الكاثوليك، جعلوا مدينة آمد مقراً لكرسيهم، وعرف هؤلاء البطاركة باليوسفيين .
ث_ البطريرك يوسف الأول(1681_ 1691): رسمه البطريرك إيليا التاسع مطراناً على آمد سنة 1668م، وسرعان ما أبدى ميلاً واضحاً إلى الوحدة مع روما، وما إن سمع الجاثليق إيليا خبر انضمام يوسف الكركوكلي مطران آمد إلى الكنيسة الكاثوليكية، حتى توجه إليها لردع مرؤسه ومعاقبته، وما إن وصل الجاثليق إيليا إلى آمد، حتى استولى بالرشوة على كنيسة مار بثيون، ثم أفلح في حمل السلطات على القبض على يوسف وإيداعه السجن، حيث ذاق من العذابات ما يعجز اللسان عن وصفه. وأخيراً نال قراراً بخروجه من السجن واعترافاً بسلطته على آمد وماردين، واستعاد كنيسة مار بثيون التي تعود إلى القرن السادس. سنة 1675م سافر إلى روما، ومكث فيها حتى سنة 1667م، وبسبب الشيخوخة قدم استقالته، واعتزل هناك وذلك سنة 1691م.
د_ البطريرك يوسف الثاني آل معروف (1696_ 1712): أبصر النور في تلكيف، قصد آمد والتحق ببطريركها يوسف الأول، وبعد اعتزال البطريرك يوسف الأول، عين بطريركاً باسم يوسف الثاني، وقد امتاز بغيرة عارمة على الديانة المسيحية، إلا حياته لم تخل من الصعوبات والمحن والاضطهادات التي تعرض لها من قبل الفئة المناوئة، حتى أن الحبر الأعظم وجه له في سنة 1702م رسالة يشجعه فيها على الصمود في المحن والشدائد. توفي سنة 1712م بسبب الطاعون المتفشي في آمد.
ذ_ البطريرك يوسف الثالث (1713_ 1757): هو طيمثاوس مروكي، كان مطران لماردين منذ سنة 1696م، وبعد وفاة يوسف الثاني انتخب للسدة البطريركية باسم يوسف الثالث وذلك سنة 1713م، وأصدر مجمع انتشار الإيمان مرسوماً سنة 1714م يعترف به بطريركاً، ولقبه بطريرك بابل، مع أن سلفيه كانا يلقبان فقط باسم بطريرك الكلدان. وقد تعرض البطريرك الجديد للمضايقات من الفئة المناوئة، حتى أن البابا كتب إليه مواسياً ومشجعاً. وفي سنة 1728م ذهب إلى الموصل بصورة رسمية، متزوداً بفرمان من السلطة العثمانية، وتسنى له أن يضم إلى الوحدة نحو ثلاثة آلاف شخص. وما إن عاد يوسف الثالث إلى آمد، حتى انهالت عليه نقمة المناوئين، فأفلحوا في زجه في غياهب السجن. وفي سنة 1729م استطاع وكيل الكلدان في العاصمة العثمانية، أن يحصل من الباب العالي بنوع من الاتفاقية بين السلطتين المتنافستين، تكون بموجبها الموصل وحلب للنساطرة، ودياربكر وماردين للكلدان. وهكذا حظيت هاتان المدينتان بالسلام. توفي يوسف الثالث سنة 1757م.
وللأسف الشديد، فبسبب انشغال بطاركة المشرق في محاربة الفئة المنظمة إلى الكنيسة الكاثوليكية، بذلوا قصارى جهدهم في سبيل استئصالهم، أهملوا رعاياهم الآخرين، ولم يرسلوا لهم أساقفة يرعون شؤونهم الروحية، بالرغم من إلحاحاتهم المتكررة. فاضطر قسم من أبناء كنيسة المشرق في الملبار إلى اللجوء إلى اليعاقبة، وغيرهم إلى اللاتين. وكذلك الشأن مع أبناء كنيسة حلب وأورشليم، فقد انضموا إلى اللاتين. وانتقلت حيازة ممتلكاتهم المهمة في تلك المراكز إلى الطوائف الأخرى، ومن أهم تلك الممتلكات ما كان في أورشليم، وهي أربع كنائس على اسم مار يعقوب النصيبيني، ويوحنا المعمدان، وتجلي المسيح، ومصلى في القبر المقدس. وثلاثة أديرة على اسم مار أنطونيوس، والاثنا عشر رسولاً، والعنصرة، فضبطها القبط والأرمن واليعاقبة .
ر_ البطريرك يوسف الرابع (1759_ 1781): هو لعازر هندي أحد تلاميذ كلية انتشار الإيمان، تمت رسامته سنة 1757م باسم يوسف الرابع. ثبت من قبل مجمع انتشار الإيمان سنة 1759م، وفي عهده جرى نزاع على كلدان بغداد والموصل، مع مطران بغداد اللاتيني عمانوئيل. إلا أن روما سوت الخلافات بإعادة الحق إلى أصحابه الشرعيين بطاركة الكلدان. في سنة 1761م سافر إلى روما ومكث فيها سنتين، حيث أفلح في طبع كتاب طقس القداس والأناجيل والرسائل الطقسية. استقال سنة 1781م واعتزل في روما إلى أن وافاه الأجل هناك سنة 1791م.
ز_ البطريرك يوسف الخامس (1781_ 1828): هو أوغسطين هندي، وابن أخ البطريرك يوسف الرابع. قام بإدارة أبرشية آمد بصفته كاهناً أولاً، ثم بصفته مطراناً منذ سنة 1804م. وبالرغم من أنه كان يمنح لذاته لقب البطريرك، ويلقب نفسه يوسف الخامس، فإن مجمع انتشار الإيمان لم يمنحه هذا اللقب، ولم يعامله كبطريرك أبداً. وحينما توفي المطران أوغسطين هندي سنة 1828م، لم يبد خلفه على كرسي آمد أية مطالبة بلقب البطريرك. وعليه انتهت سلسلة البطاركة اليوسفيين، حيث منحت حقوق جديدة لبطريركية الكلدان، مع الإقامة في الموصل وذلك سنة 1830م.
3_ المطارنة الكلدان في آمد: في القرن السادس كانت آمد أسقفية تابعة لكرسي نصيبين، وبعدئذ ميافرقين، حتى بداية القرن السابع عشر، حيث أضحت آمد رئاسة أسقفية مستقلة. وسنتحدث عن الأساقفة الكلدان الذين تعاقبوا على كرسيها منذ الاتحاد وحتى الوقت الحاضر  :
1_ المطران إيليا هرمز عبد أسمر (1553_ 1583): رسم كأول أسقف لآمد بيد البطريرك الشهيد يوحنا سولاقا، فور عودته من روما سنة 1553م، كان المطران إيليا راعياً صالحاً ومتحمساً. وفي سنة 1581 م قام بزيارة إلى روما، حيث استقبله البابا غريغوريوس الثالث عشر برفق وعناية فائقة، وفي طريق عودته مر بلبنان حيث توفي هناك سنة 1583م.              
2_ المطران يوسف إيليا (1583_ 1604): بعد وفاة المطران عبد أسمر، انتخب خلفاً له. وقد رسمه البطريرك شمعون التاسع، توفي سنة 1604م.
3_ المطران إيليا الآمدي (1604_ 1615): رسمه البطريرك إيليا الحادي عشر مطراناً على آمد وسعرت. سنة 1615م ترك كرسي آمد لكي يتفرغ لأبرشية سعرت، توفي سنة 1620م.
4_ المطران آدم طيموثاوس ربان (1615_ 1622): إنه الراهب آدم الشهير الذي أرسله البطريرك إيليا الحادي عشر إلى روما، ليبحث مع البابا بولس الخامس سبل الوحدة بين كنيسة المشرق والكنيسة الكاثوليكية، وذلك في سنة 1610م. بعد عودته من روما سنة 1615م انتخب مطراناً على آمد وأورشليم. وخلال مطرنته اشترى في أورشليم مأوى للزوار وحقولاً وأراضِِِِِِِِِِِِ، وعين كهنة ورهباناً في كنائسها وأديرتها، وجلب لهم الكتب الطقسية، ووضع في الكنائس ذخائر الشهداء وعود الصليب الحي. توفي في آمد سنة 1622م.
5_ المطران إيشوعياب (1622_ 1638): انتخب مطراناً على آمد، رسمه البطريرك إيليا الثاني عشر، وقد تعاون مع الآباء الكبوشيين الموجودين في آمد، للحفاظ على مصالح الكنيسة الكاثوليكية فيها.
6_ المطران يوحنا شمعون (1638_ 1657): رسمه البطريرك إيليا الثاني عشر مطراناً على آمد، وفي عهده تركت أبرشية آمد الشركة مع الكنيسة الكاثوليكية.
7_ المطران يوسف الآمدي (1657_ 1691): رسمه البطريرك إيليا الثاني عشر مطراناً على آمد، وفي سنة 1672م عاد إلى الكنيسة الكاثوليكية، وأصبح بطريركاً على الكلدان سنة 1681م باسم يوسف الأول. توفي في روما سنة 1707م.    
8_ المطران يوسف صليبا (1691_ 1712): رسمه البطريرك يوسف الأول معاوناً بطريركياً سنة 1691م، وعندما اعتزل البطريرك يوسف الأول سنة 1696م، عين مكانه بطريركاً باسم يوسف الثاني.
9_  المطران باسيل عبد الأحد (1714_ 1727): كان كاهناً في مدينة آمد، عندما رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على آمد، باسم باسيل وذلك سنة 1714م. كان حبراً جليلاً، كتب حياة البطريرك يوسف الأول بالعربية. توفي سنة 1727م.
10_ المطران طيموثاوس مسادجي (1727_ 1757): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على آمد سنة 1727م، خدم أبرشيته مدة ثلاثين سنة، توفي سنة 1757م مسموماً.
11_ المطران لعازر هندي (1757_ 1759): أصله من آمد، رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على آمد سنة 1757م، وعند وفاة البطريك يوسف الثالث، انتخب بطريركاً باسم يوسف الرابع وذلك سنة 1759م، قدم استقالته سنة 1781م. توفي في روما سنة 1791م.
12_ المطران حنا أكاري (1760_ 1777): رسمه البطريرك يوسف الرابع مطراناً على آمد سنة 1760م، خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 1777م.  
13_ المطران أوغسطين هندي (1781_ 1828): هو ابن أخ البطريرك يوسف الرابع، قام بإدارة أبرشية آمد بصفته كاهناً من سنة 1781م، حتى انتخب مطراناً عليها سنة 1804م، وقد لقب بالبطريرك يوسف الخامس، توفي سنة 1828م.
14_ المطران باسيل أسمر (1828_ 1842): أصله من بلدة تلكيف، دخل دير الربان هرمز، رسم كاهناً سنة 1819م، رسمه البطريرك يوسف الخامس مطراناً على العمادية، وفي سنة 1828م نقل إلى أبرشية آمد، حيث خدمها مدة أربعة عشر عاماً، لغاية سنة 1842م حيث قدم استقالته. توفي سنة 1844م.
15_ المطران كيوركيس بطرس دي نتلي (1842_ 1867): ولد في خسراوة، دخل مجمع انتشار الإيمان، رسم كاهناً سنة 1830م، رسمه البطريرك يوحنا الثامن هرمز مطراناً على الجزيرة ونائباً بطريركياً، وفي سنة 1842م نقل إلى أبرشية آمد. سافر إلى روما سنة 1867م لحضور احتفالات المئة الثامنة عشرة لاستشهاد الرسولين بطرس وبولس، ممثلاً البطريرك يوسف السادس أودو. توفي في السنة نفسها في ألبانو قرب روما.
16_ المطران بطرس طيموثاوس عطار (1870_ 1872): رسمه البطريرك يوسف أودو مطراناً على آمد وذلك سنة 1870م، نقل إلى كرسي ماردين سنة 1872م.
17_ المطران جرجيس عبد يشوع خياط (1872_ 1894): رسمه البطريرك يوسف أودو أسقفاً على العمادية سنة 1860م، وفي سنة 1863م عين نائباً بطريركياً، واستمر في مهامه حتى عين مدبراً لأبرشية آمد سنة 1872م، وثبت نهائياً مطراناً عليها سنة 1874م، انتخب بطريركاً سنة 1894م، توفي سنة 1899م.
18_ المطران سليمان صباغ (1897_ 1923): ولد في الموصل سنة 1865م، درس في المعهد البطريركي، رسم كاهناً سنة 1888م، رسمه البطريرك عبد يشوع خياط مطراناً على آمد سنة 1897م، عايش مذابح السفر برلك، وتحمل الكثير من الألم وهو يشاهد الطغاة يقتلون كهنته وأبناء رعيته، وأثناء المذابح سيقت 86 عائلة كلدانية آمدية إلى الموت، والمطران صباغ يتحسر وليس باليد حيلة. وبعد هدوء العاصفة، افتتح ميتماً في آمد ضم الكثير من أبناء الطوائف المسيحية، توفي سنة 1923م ودفن في كاتدرائية مار بثيون في آمد.
وبعد موت المطران صباغ أضحى كرسي آمد شاغراً، بسبب الفراغ الذي تركته المذابح الشنيعة. وفي سنة 1965م أعاد البطريرك بولص شيخو الحياة إلى هذه الأبرشية العريقة، لكن المطران الجديد استقر في مدينة استانبول.
19_ المطران جبرائيل بطه (1965_ 1977): ولد في ماردين، وبعد أن أتم دراسته رسم كاهناً، رسمه البطريرك بولص شيخو مطراناً على آمد سنة 1966م، قدم استقالته لأسباب صحية سنة 1977م، واستقر في بيروت، حتى وافته المنية في بداية التسعينات.
20_ المطران بولس كرتاش ( 1977_  2005 ): ولد في قرية هربول، وبعد أن أتم دراسته رسم كاهناً، رسمه البطريرك بولص شيخو مطراناً على آمد سنة 1977م، ولا يزال يخدم أبرشيته حتى يومنا هذا .
4_ إحصائية خاصة بأبرشية آمد الكلدانية في القرن العشرين : وضع الأب يوسف تفنكجي إحصائية مهمة للكنيسة الكلدانية قبل المذابح بوقت قصير، وكانت تضم المراكز التالية: 1_ آمد ( ديار بكر).  2_ ميافرقين. 3_ جاروخية. 4_ عليبوار (عين تنور). 5_ بوشاط. 6_ نودشت. 7_ زيزي. 8_ أجي. 9_ الرها ( أورفا ). ويبلغ عدد أبناء الأبرشية 4180 نسمة، يخدمهم مطران إلى جانب اثنا عشر كاهناً، وللأبرشية تسع كنائس وعشرة مدارس.
وفي إحصائية لسنة 1928 نجد في مدينة آمد 500 نسمة من أبناء الكنيسة الكلدانية، يخدمهم ثلاثة كهنة. وفي  إحصائية الأب ( البطريرك) روفائيل بيداويد سنة 1950، نجد في مدينة آمد 360 نسمة من أبناء الكنيسة الكلدانية، يخدمهم كاهن واحد.
ومع مرور السنين تقلص العدد بشكل مثير، حتى وصل إلى الصفر قبل نهاية القرن العشرين، وجميع مراكز الأبرشية آلت إلى الخراب، ولم يبقى سوى كاتدرائية مار بثيون في مدينة ديار بكر، وهي مهجورة لكنها تفتح أمام الزوار من حين إلى حين.  
الخاتمة: إن هدفنا من هذا المقال المتواضع عن أبرشية آمد العريقة والمهمة في تاريخ الكنيسة الكلدانية، هو التعرف على جزء بسيط جداً من تاريخها المجيد. ولكي تبقى ذكراها راسخة في ضمير أبناء الأبرشية، الذين انتشروا في جميع أنحاء العالم بعد خراب أبرشيتهم.        
المراجع:
1_ معجم البلدان       ياقوت الحموي ج2 ص 494.
2_ دائرة المعارف         بطرس البستاني ج 8 ص 176.
3_ تاريخ الكنيسة الشرقية      الأب ألبير أبونا ج3 ص 234_ 237.
4_ ذخيرة الأذهان     الأب بطرس نصري ج2 ص 175.
5_ الكنيسة الكلدانية سابقاً وحالياً      الخور أسقف يوسف تفنكجي ص 38.    
6_ صفحات ناصعة      حياة البطريرك بولص شيخو ص 37.



138
خواطر من مذكرات مار إسرائيل أودو مطران أبرشية ماردين الكلدانية 
الشماس نوري إيشوع مندو
هذه الخواطر مقتبسة من كتاب مار إسرائيل أودو مطران أبرشية ماردين الكلدانية  ( 1910_ 1941 )، الذي جاء تحت عنوان:  عضيبغريا " تأريخ "، حيث يسرد فيه ما شاهد وعانى شخصياً، أو ما سمع من شهود عيان التقى بهم بعد أن أفلتوا من سيف الاضطهاد الذي جرى بحق المسيحيين سكان الإمبراطورية العثمانية سنة 1915 ويعرف بالفرمان أو السفر برلك، ويتحدث في كتابه عما جرى للمسيحيين في ماردين وآمد وسعرد والجزيرة العمرية ونصيبين.
وما يتضمنه هذا المقال هو سرد لما جرى من حوادث مهمة بعد توقف المذابح وهدوء العاصفة الهوجاء. وقد دونها سيادته بشكل مختصر في نهاية كتابه، بدءً من سنة 1921 وحتى سنة 1937. وقد حرصنا على ترجمة النص حرفياً بأمانة حتى يطلع عليه القراء كما خطه سيادته باللغة الكلدانية. أما الهوامش فقد وضعتها لتسهيل المعنى على القراء. وفيما يلي نص ترجمة الخواطر:
 * في صيف سنة 1921 وصل إلى ماردين الشيخ السنوسي  بمعية الألمان، وحل في مكان خارج المدينة يدعى الفردوس ، ولم يكن لهذا الرجل أي سلطان ولا صفة رسمية ليحل في السلطنة سوى أنه مسلم، وباعتقادي أن سبب حضوره كان بسبب الخلافات بين السلطنة والدول الأوروبية.
* في تشارين  سنة 1921 استولى الجيش التركي على كنائس وأوقاف المسيحيين في مدينة آمد   " ديار بكر " العائدة لطوائف الأرمن المتحدين  والغير متحدين  والكلدان والسريان الكاثوليك، واسكتوا صوت النواقيس، وأصبحت كاتدرائية مار بثيون  وكل الأوقاف التابعة لها من مدارس ودار الأيتام  بأيدي العسكر، هؤلاء الذين أبادوا كلدان الأبرشية طردوا اليوم طلاب وتلاميذ مدارسها، وشتتوا الأيتام الذين احتضنهم ميتمها، وهجروا كهنتها. 
واستولت الحكومة على أوقاف الأرمن خارج المدينة، كم تم الاستيلاء أيضاً على كنيستنا في ميافرقين  التي شيدها المطران عبد يشوع خياط  عندما كان مطراناً على آمد، هذه الكنيسة الجميلة كانت مشيدة من الحجارة المنحوتة ومكرسة على اسم مار يوسف أضحت بأيدي العسكر.
* سنة 1922 قام كاهن من طائفة اليعاقبة  أصله من بلدة ويران شهر  بزيارة لأبناء جلدته في البلدة المذكورة، إلا أن قائمقام  ديركه  طرده ولم يسمح له بزيارتهم.   
* في بداية سنة 1923 تم طرد الموظفون المسيحيون من مجلس إدارة مدينة ماردين، وذلك بموجب قرار مركزي من أنقرة.
* في 24 تموز سنة 1923 وقفت الحرب وحل السلام بين الدول الأوروبية وتركيا، وعمت الفرحة في ماردين، وقام بطريرك السريان القديم الياس شاكر بزيارة القومندان  خضر بك في بيته، للاطمئنان على صحته بسبب وعكة صحية ألمت به، وليقدم له التهاني والتبريكات بسبب انتهاء الحرب وحلول السلام بين الدول الأوروبية وتركيا. وقد سأل خضر بك البطريرك قائلاً: هل جميع المسيحيين فرحين بهذا السلام. فأجاب البطريرك قائلاً: أنا وشعبي مسرورين، لكن باقي الطوائف النصرانية حزانى، وسبب حزنهم هو أنهم كانوا يأملون أن تقع ماردين تحت حكم الانتداب الفرنسي. وفي نفس الفترة زار البطريرك الياس حاكم ماردين وحيد علاء الدين، ومن هناك زار بيت أحد مسلمي ماردين المدعو حامد الله بك الصوري.
* في بداية سنة 1924 أرسل حاكم ماردين رئيس كُتَّابه  إلى بطريرك اليعاقبة محذراً إياه من المجيء إلى دار الحكومة بشكل رسمي، وإذا كان لديه مراجعة لأمر ما فعليه الحضور لوحده يرافقه شماسه الخاص فقط دون حاشية كما كان يفعل سابقاً. وإذا قدم معروض أو طلب رسمي للدولة فيجب ألا يوقعه كما كان يفعل سابقاً بتوقيع وختم بطريركي، بل عليه أن يوقعه بصفته رئيس دير الزعفران ، لأن الحكومة التركية الجديدة لا تعترف بسلطته البطريركية على مراكز رعيته المنتشرة في البلاد.
* في نهاية كانون الثاني سنة 1924 استولى العسكر في ماردين على بطريركية السريان الكاثوليك، والكنائس والأوقاف التابعة لهم. واستولى أيضاً على كاتدرائية مار يوسف للأرمن الكاثوليك. كما استولى على دير الزعفران الذي يضم الكرسي البطريركي لليعاقبة، لكنهم استطاعوا أن يعيدوا الدير بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب.
* في 6 شباط سنة 1924 نادى مؤذن ماردين أمراً صادراً من العاصمة أنقرة ينص أن الحكومة جعلت يوم الجمعة عطلة رسمية على مدار السنة، وعليه تتوقف جميع الأعمال في هذا اليوم وتغلق جميع المحلات في الأسواق.
* في شباط سنة 1924 وعظ بطريرك اليعاقبة في كنيسة الأربعين شهيداً في ماردين، داعياً جماعته ليرفعوا الصلاة ويشاركوا في القداس لمدة ثلاثة أشهر متتالية لأجل شهر رمضان الذي يصوم فيه المسلمين. كما أوصى جماعته أن يحفظوا عطلة يوم الجمعة بحرص واحترام، معتبرين الأمر الحكومي بهذا الصدد هو أمر إلهي ومقرر من الرسل مستشهداً بقول بولس الرسول: " لتخضع كل نفس للسلطان، لأن كل سلطان هو من الله ".
* وفي هذه السنة 1924 صدر قرار من أنقرة جاء فيه " غير مسموح للمسيحيين بيع بيوتهم أو عقاراتهم ". علماً أن هذا القرار كان قد صدر سابقاً قبل قيام الحكومة الجديدة في أنقرة، ولكن هذا القرار لم يعمل به بعد انعقاد مؤتمر السلام في مدينة لوزان السويسرية ، إلا أنه تم تجديده في آذار من هذه السنة، بعد تعديله بحيث لا يسري على جميع المسيحيين بل على الروم والأرمن فقط.
* في 12 آذار سنة 1924 استولى العسكر على دير مار أفرام للسريان الكاثوليك، وحل فيه قائد الفرسان مع جنوده وأضحى مقراً لهم.
* في 16 آذار 1924 طلب مني قائد الموقع أن أعطيه واردات أوقاف الكلدان من أجل دعم مشاريع عمران مراكز الدولة، وقد أجازت السلطات العليا لقائد الموقع لوضع اليد على مطرانية الأرمن الكاثوليك ومدرستهم وجميع الأوقاف التابعة لهم، ما عدا الكاتدرائية، لكنهم استولوا عليها بعد فترة قصيرة. أما مدرستنا الكلدانية فقد تهدم جزء منها سنة 1916، وكذلك أساسات باحة مدرستنا وباحة مدرسة الأرمن الكاثوليك المتجاورتين والمطلتين على الزقاق الضيق، علماً أننا أعدنا بناء المدرستين سنة 1922 وكانت المصاريف مشتركة بيننا وبين الأرمن الكاثوليك.
* عشية يوم 22 نيسان 1924 وكان هذا التاريخ يوافق اليوم الثالث لعيد القيامة من هذه السنة، أرسلت برقية سرية من أنقرة إلى حاكم ماردين يأمره فيها بطرد جميع المسيحيين من مدينة ماردين وضواحيها، ولم نعلم لماذا صدر هذا القرار.
* ديركه قائمقامية تابعة لماردين فيها أربع كنائس واحدة للأرمن الغير متحدين، وواحدة للأرمن المتحدين، وواحدة لليعاقبة، وواحدة للسريان الكاثوليك. أما الكلدان فكانوا يؤدون واجباتهم الدينية لدى الأرمن الكاثوليك. في شهر آب من سنة 1924 تم الاستيلاء على الكنائس الأربعة، فحولت كنيسة الأرمن الكاثوليك إلى جامع، أما الكنائس الثلاثة الأخرى فقد بيعت لمسلمي البلدة. وكان لمطرانية ماردين الكلدانية في البلدة وقفاً عبارة عن بستان زيتون بيع أيضاً من قبل السلطات الحكومية، وهكذا حرمت الطوائف المسيحية في البلدة من كنائسها وأوقافها. وطرد على أثر ذلك معظم المسيحيين من البلدة، ولم يبقى إلا القليل من الأرمن والسريان.
* في شهر أيلول سنة 1924 تم تدمير بناء قلاياتنا الأسقفية الكلدانية، بحجة توسيع الشارع الرئيسي في ماردين، وقد أصابنا عبء وضيق شديدين، وقد تحملنا ذلك بصبر وجلد لا يوصف.
* وفي هذا الشهر أيضاً علق إعلان على باحة السلطانية في ماردين، يوصي فيه جميع المواطنين بإزالة العقال من الرؤوس، وذلك حسب القرار الصادر من العاصمة أنقرة.
* في تشارين سنة 1924 أعلن بطريرك اليعاقبة الياس شاكر بأنه سيمنح بركة الزواج لأبن أخيه في كنيسة البطريركية، وذلك ظهر يوم الأحد، علماً أن الأكاليل في ماردين كانت تتم في تلك الفترة في البيوت وليس في الكنائس، وفي الليل وليس في النهار خوفاً من المسيئين. ولما علم مسلمي المدينة بالأمر توجهوا إلى الكنيسة لمشاهدة الإكليل، وامتلأت الكنيسة من الرجال والنساء والأولاد وحتى العاهرات منهن تواجدن هناك، وبعضهن كن جالسات فوق البيم  ولم يستطيع أحد ردعهن. وكان الجميع يستمعون لرتبة الزواج التي يترأسها البطريرك ويعاونه فيها الكهنة والرهبان.
* في شهر تشرين الثاني سنة 1924 صدر قرار من الحكومة يوصي المواطنين بأن يضع جميع الناس القبعات فوق رؤوسهم، وعليه لبس جميع فئات الشعب في المدينة القبعة والمعروفة بين العامة   " بالشْفقه ".
* وفي تشارين سنة 1924 تم إغلاق جميع التكيات  في ماردين، وقد بلغ عددها مائتي تكية تقريباً.
* منذ بداية سنة 1925 بدأ الجيش التركي بترحيل الرجال المسنون المسيحيون من ماردين، فأرسل قسم منهم إلى أنقرة، وقسم أخر إلى آمد. وقد بلغ عدد المبعدين إلى آمد 103 رجلاً.
* يوم السبت المصادف 5 شباط 1925 قبض على 17 شخص من مشايخ المسلمين في ماردين، وفي يوم الأربعاء المصادف 9 شباط 1925 نقل أربعة من هؤلاء المشايخ إلى آمد وهم: الشيخ محمد علي من آل أنصاري وابنه وابن عمه، والشيخ بشير من آل حامد. وكان هؤلاء المبعدين قد بدأوا بشراء أملاك المسيحيين الذين تم تشتيتهم وأبعدوا عن ديارهم مثل أملاك داود كلي هرمز وهو بروتستانتي إلا أنه من أصل كلداني.
* وفي شهر شباط سنة 1925 بلغ عدد الرجال المبعدين من بلدة مديات  إلى آمد 200 رجلاً، وجميعهم كانوا من اليعاقبة. وخلال مرورهم في خربوط  تم إعدام سبعة منهم شنقاً دون أي ذنب ارتكبوه. علماً أن مشايخ آمد قد أبادوا جميع مسيحيي خربوط واستولوا على أملاكهم كما فعلوا في أماكن عديدة.
* وفي شباط سنة 1925 نادى المؤذن في ماردين وأيضاً في آمد معلناً أن السلطات تدعوا كل من يملك سلاح ومن أي نوع كان، عليه أن يسلمه إلى الجيش خلال 24 ساعة، وكل من لا يمثل لهذا الأمر سوف يلقى القبض عليه ويزج في السجن، وسيحاكم وتصادر كل ممتلكاته. وقد تم تجميع السلاح من جميع القرى الواقعة في الجبال، وعوقب جميع مخاتير ورؤساء هذه القرى وتم نفيهم وتشتيتهم وإبعادهم إلى مناطق بعيدة عن قراهم.
* في تشارين سنة 1925 سافر بطريرك اليعاقبة مار الياس شاكر إلى حلب لتقديس بيعة جديدة شيدت هناك، ثم توجه من هناك إلى أورشليم من أجل بعض الإصلاحات في كنيستهم هناك.
* في شباط سنة 1927 أبعد من بلدة أزخ  إلى آمد جميع كهنة البلدة وعددهم 4 من كهنة اليعاقبة مع أسقف طاعن في السن، وكاهن آخر للسريان الكاثوليك، وأبعد معهم أربعة من وجهاء البلدة. وهذا جرى لهم بسبب رسالة وصلتهم من مدينة الموصل تعلمهم بأنهم قد أرسلوا لهم مساعدات مادية.                               
* في 27 شباط 1927 تم إعدام أحد زعماء اليعاقبة شنقاً في خربوط، ويدعى ملك برصوم. والمدعو ملك هو من بلدة مديات كان قد سجن في خربوط بعد أن حكم عليه بالسجن مدى الحياة، وقد فر من السجن وبعد أن ألقي القبض عليه تم إعدامه.
* في 16 نيسان 1926 ألقي القبض في آمد على الخوري سليمان كوجك أوسطا كاهننا هناك، وسجن مع شخصين من عامة شعبنا " طائفتنا "، وفي اليوم التالي وهو عيد القيامة أطلق سراحه مع الشخصين وذلك بعد أن دفعوا مبلغاً من المال. وسبب القبض على الخوري المذكور هو أن شخصاً أصله من آمد يسكن حالياً في حلب، قد حضر إلى آمد وقابل الخوري سليمان وطلب منه حصة زوجته من ميراث والدها المتوفي القس بطرس قارح أحد كهنتنا في آمد، فرد عليه الخوري سليمان أنه لا يعرف شيء عن ميراث القس المتوفي، فما كان من صهر القس أن اشتكى عند السلطات على الخوري سليمان، مدعياً أنه يعمل ويتدخل بالسياسة، وعليه ألقي القبض عليه وعلى الشخصين، ولم يخرج من السجن إلا بعد دفع مقدار ليس بقليل من المال، كذلك دفع الشخصين أيضاً مبلغاً من المال حتى أطلق سراحهما. لكن الخوري وإن خرج من سجنه واشترى حياته، إلا أنه بعد ذلك كان يعيش بقلق وخوف، ولا يستطيع إغماض عينيه ليل نهار خوفاً من أولئك الذين كانوا يأتون إلى العلية التي كان ينام فيها محاولين خلع بابها، وهكذا ارتأى أنه لا يستطيع الحفاظ على حياته، فخرج هارباً عبر الحدود حتى وصل إلى حلب في 7 أيلول 1929، فنجا بنفسه كما ينجو العصفور من فخ الصياد. ومن حلب سافر إلى بغداد وخدم فيها النفوس لعدة سنوات. ثم أرسل إلى مصر وخدم هناك بصفة نائب بطريركي. وفي 8 أيلول 1939 تمت رسامته أسقفاً على يد البطريرك مار عمانوئيل الثاني وعين نائباً بطريركياً لغبطته. وفي 4 كانون الأول 1939 توفي فجأة حيث لم يمضي على رسامته سوى ثلاثة أشهر.
* في شهر أيلول من سنة 1927 خرجن جميع نساء ماردين مع أولادهن، للبحث عن أزواجهن الذين تم نفيهم وإبعادهم من قبل إلى مناطق بعيدة، كذلك فعلن النساء في المدن المجاورة مثل نصيبين ومديات وديركه وغيرها. وبهذا خلت وفرغت بيوت المسيحيين من سكانها.
* في الأول من تشرين الثاني سنة 1927 اجتمع نواب الدولة التركية والبالغ عددهم 316 نائباً، واتفقوا على انتخاب غازي مصطفى كمال " أتاتورك " لرئاسة الدولة لفترة رئاسية ثانية، بعد انتهاء الفترة الأولى والتي دامت أربع سنوات. وفي اليوم التالي المصادف 2 من تشرين الثاني سنة 1927 وهو يوم معروف في المدينة يحتفل به بالفرح والابتهاج، تم انتخاب مجلس الأمة التركي في أنقرة، علماً أن هذا المجلس قد تشكل للمرة الأولى في 23 نيسان 1920.
* في نهاية تشرين الثاني سنة 1927 منحت الدولة حرية الرجوع لوجهاء الشعب الذين ابعدوا عن بيوتهم ومدنهم وقراهم قسراً أو تحايلاً إلى الولايات الغربية، وسمح لهم بالعودة إلى ديارهم.
* في بداية كانون الأول سنة 1927 دخل الجيش التركي دير الزعفران وأقام فيه، كذلك استولى الجيش على ثلاث كنائس لليعاقبة في ماردين هي: كنيسة مار ميخائيل وكنيسة مار بطرس وبولس وكنيسة مارت شموني.
* في شهر آب بدأ رجال بلدة أزخ وكهنتها ووجهائها بالعودة إلى بلدتهم بموجب إعلان عام أخلى سبيلهم، وعليه رجع الجميع إلى بيوتهم.
* في سنة 1928 قرر المجلس الأعلى في أنقرة تغيير الأحرف العربية في كتابة اللغة التركية، حيث كان يكتب بها حتى هذا التاريخ، وتم اعتماد الأحرف اللاتينية بديلاً عنها. وفي تشرين الأول من هذه السنة بدأ التعليم في جميع المدارس بهذه الأحرف، وصد قراراً يدعو الكتاب والأدباء أن يستخدموا هذه الأحرف من الآن وصاعداً.
* في تشارين سنة 1928 خرج المتبقين الأرمن من بيوتهم في خربوط وملاطية ، مستغيثين لإرسالهم إلى وطنهم، وكان الأرمن في آمد يقيمون الصلوات والقداديس في بيوتهم، لأن الجيش استولى على كنائسهم قبل خمس سنوات.
* في 31 آذار سنة 1929 وكان يصادف عيد القيامة، تم الاستيلاء على جميع الكنائس في مدينة آمد، عدا كنيسة اليعاقبة التي لم يستولى عليها، وهكذا توقفت جميع الصلوات والقداديس والخدمات الكنسية في مدينة آمد.
* في 25 كانون الثاني سنة 1929 ألقي القبض على كاهننا في ماردين أوغسطين خرموش، وأطلق سراحه بعد أن سجن 26 ساعة. وبعد يومين ألقي القبض عليه مرة ثانية وبقي في السجن ثلاثين ساعة ثم أطلق سراحه بعد أن جرح.
* في 4 شباط 1929 ألقي القبض على الأب خرموش مرة ثالثة، وقد تم إطلاق سراحه وإنقاذ حياته بصعوبة بالغة، بعد أن دفُع مبلغاً ليس بقليل من الذهب. كما فتشت قلايته  ونهب محتوياتها من مجلات ورسائل. وبسببه تم تفتيش مقر أسقفيتنا أيضاً، وصودرت منها رسائل وكتابات مختلفة وكثيرة، وأعطيت للمفتشين حتى يفحص محتوياتها، وقد شكرنا الرب لأنهم لم يجدوا كلمة واحدة مسيئة أو مخالفة أو ضد الدولة.
* في 10 تشرين الأول سنة 1929 وصل إلى ماردين كاهناً أرمنياً غريغورياً ومعه العديد من أبناء قومه قادماً من خربوط، وعندما سئل عن سبب حضوره إلى ماردين أجاب بالقول: لقد أمرت السلطة التركية من تبقى من المسيحيين سكان القرى الجلاء عنها وترك بيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم والسفر إلى المدن، ومنها إلى خارج حدود البلاد، فخرجنا من قريتنا قرب آمد وكنا عشرة عائلات نعيش فيها حتى الآن، كي لا نجلى عنها بالقوة.
* شاب من رعيتنا وهو من بيت " بوياغي " كان قد هرب إلى أمريكا في زمن الاضطهاد، فكتب للكاهن أوغسطين خرموش قائلاً: " بلغ الامرأتان اللتان عندكم إن أرادتا المجيء إليَّ في أمريكا، فإنني سوف أستقبلهما وأرسل لهما نفقات الطريق ". وهاتان الامرأتان هما أم الشاب المذكور وأخته الصغيرة. ولما سمعتا أرادتا منه أن يعمل لأخذهما. وعليه أراد الكاهن أوغسطين والراهب أحمراني تهريب الأم وابنتها ومعهم شخصاً يدعى جرجس حنكو، وقد سعى لتحقيق هذا المبتغى الوالي توفيق هادي الذي أذن للراهب أحمراني بالخروج والسفر من ماردين ومعه كاهننا أوغسطين والمدعو جرجس حنكو، وهكذا افلتوا من حكم كان سيصدر بحقهم بسبب تهريبهم النساء المسيحيات إلى خارج الحدود. وكان الراهب المذكور قد هرَّب سابقاً صبيين مسيحيين وعليه سوف ينال جزاء مضاعف، إلا أنه نجا بمساعدة الوالي الذي كان يحسن للمسيحيين ويعاملهم بلطف، وكان الوالي قد قام بنفسه بأخذ الأم وابنتها الصغيرة من الميتم وأرسلهما إلى حلب لكي تلحق ابنها الموجود في أمريكا.
وقد عمل هذا الوالي الكثير لمسيحي ماردين، وفي هذه السنة طلب المدعو فرجو حاجيكو من الكاهن أن يدبر له مبلغاً من المال ليس بقليل يطلب منه لإنقاذ إخوته، وفي حال عدم الدفع سيسلم إلى السلطات التركية، وحيث أن الوالي لا يستطيع أن يخلصه من هذه المعضلة، فكر بالهرب من ماردين، وفي مساء الخميس الواقع في 16 كانون الثاني 1930 تمكن من الهروب إلى سوريا ومنها إلى فلسطين.
* في 7 نيسان 1930 كتبت رسالة للقس أوغسطين خرموش، وكان آنذاك في سوريا بعد أن غادرنا قبل فترة، وقد خولته بإدارة ورعاية جميع أبناء رعيتنا الكلدانية المشتتين هناك، والذين اجتازوا الحدود التركية فارين من ماردين وآمد ومناطق أخرى، وطلبت منه أن يذهب إلى الحسكة ويشتري أرضاً هناك ويبني عليها كنيسة ومسكناً للكاهن، وستكون جميع نفقات البناء والكساء من عندي.
* في 3 حزيران سنة 1930 ألغيت رسوم ضريبة عبور الحدود بين تركيا وسوريا.
* في 17 حزيران سنة 1930 جاء إلى ماردين قادماً من عرب كير كاهن أرمني غريغوري مع أهل بيته، وفور وصوله قام بزيارتي، وبعد أن سألت عن وضعه منحته مساعدة مادية، وفي المساء غادرنا مسافراً إلى حلب.
* في 22 حزيران سنة 1930 غادر كاهن السريان الكاثوليك المدعو أفرام قريته باته في طور عبدين، واجتاز الحدود متوجهاً إلى سوريا، علماً أن رفيقه القسيس داوود قد غادر القرية قبل أربعة أشهر. علماً أن السريان الكاثوليك كانوا قد بنوا في القرية المذكورة منذ ستين سنة إرسالية من أجل عودة أبناء جنسهم إلى حضن الكنيسة الجامعة، وخصصوا من أجل ذلك إمكانيات لا حد لها. كذلك وجد في القرية إرسالية بروتستانتية استطاعت أن تجذب البعض.
* في صيف سنة 1932 بدأ الجيش بالاستيلاء على السلاح الموجود عند الأكراد في جميع القرى التي يسكنون فيها، وقد نال الأكراد من جرى ذلك عذابات شديدة، ومن كان ينكر وجود سلاح لديه يفتش بيته وما أن يجدوه لديه يضرب ضرباً مبرحاً، حتى البعض اسلم الروح من قسوة الضرب. وكأن العدالة الإلهية أرادت أن تجازيهم عن كل ما فعلوه مع المسيحيين خلال زمن الاضطهاد سنة 1915، حيث سلبوا أبناءهم وبناتهم ونساءهم، واستولوا على ممتلكاتهم وماشيتهم بدون رحمة.
* في بداية شهر أيلول سنة 1932 استولت المحكمة الخاصة على كنائس اليعاقبة في ماردين، وحولت كنيسة مار بطرس حارة كولوسيه سجناً خاصاً لمهربي الماشية من أبقار وأغنام عبر الحدود.
* في نهاية أيلول من سنة 1932 جاء من العاصمة إلى آمد رئيس جميع القائمقامين المدعو عصمت باشا، فذهب كاهن اليعاقبة في ماردين القس عمانوئيل ومعه وفد من وجهاء طائفته ليسلموا عليه، إلا أنه لم يستقبلهم فعادوا خائبين، لقد أرادوا بتصرفهم هذا أن يميزوا أنفسهم عن بقية أفراد الشعب المسيحي، والتقرب من المسؤولين لوحدهم فقط.
* في 19 تشرين الأول سنة 1932 دعيت للاستجواب عند أحد القومسيريه ، وما أن وصلت لعنده طلب مني أن أجيب على الأسئلة التالية:
س: أين هو بطريرككم.                                          ج: في العراق.
س: بمن ترتبطون.                                              ج: لا ارتباط لدينا مع أحد.
س: هل تتصلون يا ترى باسطنبول مع المبشرين هناك.         ج: قطعاً.
س: هل لديكم اتصال مع روما.                                  ج: قطعاً.
س: هل ليكم اتصال مع البابا.                                   ج: قطعاً.
س: كم كنيسة عندكم.                                            ج: كنيسة واحدة.
لقد تم تدوين هذه الأسئلة والأجوبة لديه على ورقة، ثم انصرفت عائداً إلى دار الأسقفية.
* في 15 تشرين الثاني 1932 دعي كاهننا في آمد طيمثاوس فضلي للاستجواب من أحد القومسيريه، وطلب منه أن يجيب على الأسئلة التالية.
س: متى جاء الآثوريون والكلدان إلى هنا وأصبحوا من سكان البلاد.
ج: إنهم سكان هذه الأرض منذ القدم، ولم يأتوا من أماكن أخرى.
س: كيف اعتنق الكلدان المسيحية.
ج: من تلاميذ ورسل السيد المسيح الذين جاؤوا إلى هذه البلاد وتلمذوا سكانها.
س: بأية لغة يتكلم الكلدان.
ج: منذ القدم وحتى قدوم الإسلام كان الكلدان يتكلمون بلغتهم، وحافظوا عليها أزمنة طويلة.
س: والآن أية لغة يتحدثون.
ج: العربية والتركية.
س: لماذا يتحدثون باللغة العربية ولا يتحدثون بلغتهم.
ج: منذ دخول العرب المسلمون إلى هذه البلدان تسلطوا على أهلها، فسيطرت لغتهم على اللغات الأخرى، ففقد الكلدان لغتهم.
س: أية لغة تستخدمون في كنائسكم، وهل عامة الناس يفهمون لغتهم الكلدانية.
ج: الآن يتلون الإنجيل وغيره من الكتب المقدسة وكذلك كتاب التوركاما باللغة التركية في آمد، أما الكاهن بينه وبين نفسه فيستخدم الكلدانية في جميع صلواته.
س: أين يسكن أغلب الكلدان والآثوريون.
ج: في العراق.
س: هل يبحث الآثوريون والكلدان في العراق كيف ستكون حالتهم، وما هو تفكيرهم في ذلك.
ج: لا أعرف كلياً، ولا يوجد بيني وبينهم اتصال.
س: أين هو زعيمكم أقصد بطريرككم.
ج: أحياناً في بغداد وأحياناً في الموصل.
س: هل لديكم اتصالاً أو مراسلات معه.
ج: ليس لدينا معه اتصالاً لأننا، ابتعدنا عنه منذ زمن افتراق العراق عن تركيا.
س: إذا اعترضتكم إلى خدمة روحية أو زمنية فإلى أين تتجهون.
ج: نتجه في الخدمة الزمنية نحو حاكم ولايتنا، وفي الخدمة الروحية نتجه نحو مطراننا في ماردين.
س: هل لديكم مدارس، وبأية لغة تعلمون.
ج: لقد أغلقت مدارسنا منذ خمس عشرة سنة، وقبل إغلاقها كنا نعلم التركية والكلدانية والفرنسية.
س: والآن أين يتعلمون أبناءكم.
ج: الآن يتعلمون في المدارس التركية.
س: ما هو الفارق بين الكلدان والآثوريين، كنسياً أو عرقياً، وما هي لغة الآثوريين.
س: الفارق الكنسي بيننا هو أننا كاثوليك، وهم ليسوا كاثوليك. أما عرقياً فنحن واحد، وأيضاً لغتنا وكتابتنا واحدة، وهناك فارق بسيط بيننا في اللفظ.
س: ما هو عدد الكلدان في سوريا، وفي أي وقت سكنوا هناك.
ج: حقيقة لا أعرف ما هو عددهم، ولا تاريخ سكنهم هناك.
لقد تم تدوين هذه الأسئلة والأجوبة لديه على ورقة، وانصرف الكاهن إلى مركزه.
* في شهر أيلول سنة 1933 بسطت البلدية يدها على أوقاف كنيستنا في ماردين المسماة ربان هرمزد والمشيدة في نهاية القرن السابع، وقد أقمنا شكوى ضد البلدية لدى مديرية الأملاك، كذلك فعل الأرمن الكاثوليك الذي أخذت أوقاف كنيستهم أيضاً مع أوقافنا.
* في 19 تشرين الثاني 1933 وردنا من رئيس دائرة الأملاك حكم عام يديننا ويصادق على عمل البلدية، وبهذا فإن حرباً أخرى شنت علينا.
* في شهر آذار سنة 1934 أدينت البلدية بحكم جديد، فرجعت أوقافنا كلها.
* في شهر أيلول سنة 1934 هدمت خمس بيوت واثنا عشرة حانوتاً عائدة لكنيستنا في ماردين، بحجة توسيع أسواق المدينة، وهذا العمل جلب لنا خسارة ليست بقليلة.
* في 5 أيار سنة 1935 أعلن النواب في أنقرة أنه من الآن وصاعداً سيكون يوم الأحد هو يوم العطلة في كل أنحاء تركيا بدل يوم الجمعة، وفيه تغلق جميع الحوانيت والأسواق.
* في سنة 1935 أحيل إلى التقاعد الخليفة عبد المجيد، وغاب اسمه في إلقاء الخطب، وتم طرد جميع آل عثمان من القسطنطينية والبالغ عددهم 72 شخصاً، وكان آخر سلطان عثماني تمت إحالته على التقاعد هو وحيد علاء الدين.
* في 13 حزيران سنة 1935 صدر قرار آخر من أنقرة جاء فيه: " اعتباراً من هذا اليوم وصاعداً على جميع رجال الدين الإسلام والمسيحيين واليهود ألا يلبسوا لباسهم الديني إلا في كنائسهم وبيوتهم، ويستثنى منهم البطريرك الغير متحد مع روما " روم أرثوذكس " والمقيم في القسطنطينية، وعندما يخرجون خارج مراكزهم عليهم أن يلبسوا لباس المدنيين كبقية الناس، وكل من لا يذعن لهذا القرار عليه الخروج خارج حدود الدولة.
* في سنة 1936 خرج من آمد آل كميل باشا ومعهم جميع أقربائهم ومعارفهم والبالغ عددهم أربعين عائلة، وسافروا إلى داخل البلاد. 
* في شتاء 1937 تم تدمير كنيسة الكبوشيين مع منزل لهم في ماردين، وكذلك دير الراهبات، وكان بجوار الكنيسة مدرسة للكبوشيين كانت تضم قرابة ثمانمائة صبية تتعلمن القراءة مع مهنة الخياطة وشغل الإبرة.
* اختم خواطري بالقول المكتوب: " طوبى للمظلومين، والويل العظيم للظالمين. المقتولون يرثون الملكوت، والقتلة الظلام البغيض. كل إنسان ينال أجره حسب عمله، ومكافأته كفعله ".       
                                                                                                                                                         حواشي:                                       
   
      1_ المطران إسرائيل أودو (1910_ 1941): ولد في ألقوش سنة 1859، وهو أخ المطران توما أودو، وابن القس هرمز أخ البطريرك يوسف السادس أودو. دخل المعهد البطريركي بالموصل سنة 1883. رسمه البطريرك إيليا الثاني عبو اليونان كاهناً سنة 1886. وفي سنة 1888 عين لخدمة الكنيسة ببغداد، ثم عين نائباً بطريركياً على البصرة سنة 1891، وخدم هناك ثماني عشر سنة، بنى خلالها كاتدرائية ما توما ودار المطرانية مع مدرستين. كذلك بنى كنيسة صغيرة في العشار، وأنشأ وكالة الأهواز البطريركية. انتخب مطراناً على ماردين سنة 1909، واقتبل السيامة الأسقفية من يد البطريرك عمانوئيل توما سنة 1910. خدم أبرشيته إحدى وثلاثين سنة بحكمة ودراية. وقد عانى الكثير خلال أحداث السفر برلك، حيث استشهد العديد من أبناء أبرشيته مع بعض الكهنة. كان المطران إسرائيل راعياً فاضلاً حريصاً على واجبه. وكان يتقن اللغة الكلدانية اتقاناً تاماً، وله فيها عدة رسائل لها قيمتها التاريخية واللغوية. وله رثاء في مذابح ماردين وآمد وسعرت والجزيرة العمرية ووان سنة 1915. توفي سنة 1941 ودفن في كاتدرائية ماردين، وبوفاته انتهت سلسلة أساقفة ماردين.
2_ السنوسي: هي العائلة المالكة التي كانت تحكم ليبيا خلال تلك الفترة.
3_ تشارين: لفظة عامية تعني شهري تشرين الأول والثاني.
4_ الأرمن المتحدين: عبارة تعني الأرمن الكاثوليك.
5_ الأرمن الغير متحدين: عبارة تعني الأرمن الغريغوريين المعروفين بالأرثوذكس. 
6_ كاتدرائية مار بثيون: كاتدرائية الكلدان في آمد شيدت في الجيل السادس للمسيحية. ومار بثيون هو من رهبان كنيسة المشرق كان متنسكاً في جبل قرب لاشيبار، نال إكليل الشهادة سنة 449 م في زمن الحاكم آذور هرمزد، حيث أمر بقتله بطريقة وحشية وقطعه أرباً أرباً، ففي اليوم الأول قطعوا أذنيه وأنفه، وفي اليوم الثاني يديه ورجليه، وفي اليوم الثالث ذراعيه، وفي اليوم الرابع ساقيه وركبتيه، وفي اليوم الخامس فخديه، وفي اليوم السادس رأسه، وبقيت جثته وأعضاؤه المقطعة معلقة عشرة أيام. ثم جمع المسيحيون أعضاء القديس ودفنوها بإكرام. وتحتفل كنيسة المشرق بتذكاره في 25 تشرين الأول.   
7_ دار الأيتام: بناء شيده مار سليمان صباغ مطران آمد على الكلدان بعد مذابح السفر برلك، وضم أيتام المسيحيين من جميع الطوائف، حيث كانوا يتلقون فيه العلم وتعلم المهن والصنع، ولازال بناء الميتم قائماً حتى يومنا هذا مع ما أصابه من خراب بسبب عوادي الزمان.
8_ ميافرقين: تدعى حالياً سليفان وهي من أشهر مدن ولاية ديار بكر، وتبعد حوالي 40 كم إلى الشمال الشرقي منها، يشق المدينة نهر دجلة، وتعرف ميافرقين في تاريخ كنيسة المشرق باسم " ميفرقط " و " مدينة الشهداء "، ومنذ بدايات المسيحية كانت كرسياً أسقفياً يتبع مطرابوليطية نصيبين المشرقية، ثم أضحت كرسياً مستقلاً، وفي العصور المتأخرة أضحت رعية تابعة لأبرشية آمد الكلدانية، ومن مشاهيرها في تاريخ الكنيسة المطران ماروثا الميافرقيني " الجيل الخامس ".
9_ المطران عبد يشوع خياط: رسمه البطريرك يوسف السادس أودو أسقفاً على العمادية سنة 1860، سنة 1863 عين نائباً بطريركياً حتى سنة 1872 حيث عين مدبراً لأبرشية آمد، وثبت نهائياً مطراناً عليها سنة 1874. خدم أبرشيته حتى سنة 1894 حيث انتخب بطريركاً. توفي سنة 1899.
10_ اليعاقبة: لقب أطلق على السريان الغربيين في نهاية الجيل السادس للمسيحية، بعد أن أوجد المطران يعقوب البرادعي سنة 599 إكليروس لهذه الكنيسة يرفض مقررات مجمع خلقيدونية المنعقد سنة 451 والتي حرمت تعاليم أوطيخا القائلة بأن للمسيح طبيعة واحدة، وأطلق على أتباعه " المونوفيزيين ". وبعد تدخل الإمبراطور هرقل سنة 629 أتاح قيام سلطة للكنيسة السريانية الغربية مرجعها بطريركية إنطاكية في المنطقة الخاضعة للبيزنطيين.     
11_ ويران شهر: بلدة عرفت قديماً باسم تل موزل أو تل موزن، تقع جنوب غرب ماردين بين بلدة سروج وبلدة رأس العين. خلال مذابح سنة 1915 كان في البلدة 600 عائلة مسيحية أغلبهم من الأرمن الكاثوليك ولهم فيها كنيسة على اسم يوحنا المعمدان. وكان في البلدة عشرين عائلة كلدانية يؤدون واجباتهم الدينية عند الأرمن الكاثوليك. وكان للسريان الكاثوليك كنيسة على اسم مار أفرام. وكان في البلدة مصلى للأرمن الأرثوذكس ومصلى أخر للسريان الأرثوذكس.   
12_  قائمقام: كلمة لا زالت تستعمل في تركيا، وتعني مدير المنطقة.
13_ ديركه: بلدة تقع جنوب ماردين، تشتهر بالحدائق والبساتين والينابيع الغزيرة، وتشتهر بأشجار الزيتون والعفص. خلال مذابح 1915 كان في البلدة 250 عائلة مسيحية، منها عشرة عائلات كلدانية.
14_ القومندان: كلمة تركية تعني قائد الجيش في الولاية. 
15_ رئيس الكتاب: ويعرف بالتركية باش كاتبي، وهو كبير كتاب الوالي ومدير مكتبه.
16_ دير الزعفران: ويعرف بدير حنانيا وأيضاً بدير الكركم، يقع في الجهة الشرقية من ماردين على بعد 7 كم، كان مقراً لبطاركة السريان الأرثوذكس منذ القرن الثاني عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين.
17_ مؤتمر لوزان: انعقد هذا المؤتمر في مدينة لوزان السويسرية سنة 1919 لبحث موضوع السلام بين الدول المتحاربة في الحرب الكونية الأولى. 
 18_ البيم: ويعني بالعربية منصة وهو موضع مرتفع قليلاً عن مستوى أرضية الكنيسة يجلس فيه الإكليروس خلال القداس وأثناء الصلوات الفرضية، وفي منتصف البيم منصة خشبية يضعون عليها الصليب والإنجيل، وتدعى هذه المنصة الجلجلة. 
19_ التكيات: جمع كلمة تكية وهي كناية عن مدرسة شرعية إسلامية يترأسها شيخ طريقة صوفية يلقن فيها الشيخ أتباعه المريدين مبادىء طريقته. 
20_ مديات: وتسمى في بعض المصادر مدياد، مدينة في جنوب شرق تركيا تعتبر قصبة طور عبدين، تقع في سهل فسيح تحيط بها الروابي والتلال. أغلب سكانها سريان أرثوذكس وقليل من الكلدان والسريان الكاثوليك والبروتستانت.
21_ خربوط: وتسمى في بعض المصادر خربوت، مدينة في شمال شرق تركيا تقع بالقرب من نبع نهر دجلة ضمن ولاية ألعزيز، دعاها العرب " حصن زياد ".   
22_ أزخ: بلدة في جنوب شرق تركيا تقع شمال غرب الجزيرة العمرية، كانت مركزاً هاماً لكنيسة المشرق حتى الجيل السادس للمسيحية. 
23_ ملاطية: وتكتب في بعض المصادر ملطية، مدينة على نهر الفرات في تركيا، موقعها شمال الرها وشمال غرب آمد، ولد فيها المؤرخان الشهيران البطريرك ميخائيل الكبير " القرن الثاني عشر " والمفريان غريغوريوس ابن العبري " القرن الثالث عشر ". 
24_ قلاية: لفظة بالكلدانية تعني كوخ أو حجرة أو مسكن الراهب أو الناسك. ويقال القلاية البطريركية أي الدار أو المقر البطريركي، وأيضاً القلاية الأسقفية أي الدار أو المقر الأسقفي.   
25_ قومسيريه: جمع الكلمة التركية قومسير، وتعني رقيب في الشرطة.
           

139

أورهاي مملكة أبجر محب المسيح
                                                                                     الشماس: نوري إيشوع مندو
المقدمة: أورهاي من " المدن العريقة في القدم التي حازت في بعض أدوار التاريخ الأهمية العظمى. فأزدهرت فيها العلوم والفنون، وطبق المعمور ذكر مدرستها الطائرة الشهرة. وكانت حافلة بسكانها، مزدانة بقصورها البديعة، زاهية برياضها الجميلة، وقد جرى في وسطها حوادث جليلة، وأمور خطيرة تضيق دونها صحف التاريخ " . 
وسنتحدث في مقالنا هذا عن تاريخ مملكة أسروين أو أوسرهوني أو أسروانة، التي حكمها الملوك الأباجرة في الفترة مابين سنتي 132 ق.م وحتى 244 م تاريخ سقوط هذه المملكة.
1_ الاسم والموقع: تعددت أسماء أورهاي، وتقلبت كنيتها بتقلب التاريخ، فقد اتخذت بحسب المؤلفين الآراميين اسم (أرِخ) أو (أرك) وينسب تأسيسها إلى نمرود الجبار. واسمها عند سكان ما بين النهرين (أرهوى) أو (أورهي) أو (أورهاي) وتعني كثيرة المياه. أما اليونان فقد دعوها (إديسا) وأيضاً (كاليروهي) أي الحسنة المياه. واسمها عند الأرمن (ارهائي). وأطلق عليها العرب اسم (الروها) أو (الرها). وسماها الأتراك العثمانيون (أورفة) أو (أورفا).
تقع أورهاي في جنوب شرقي تركيا الحالية، وهي في منطقة ما بين النهرين التاريخية (ميسوبوتاميا). وقد جادت عليها الطبيعة بموقع جغرافي يسلب الألباب ويخلب الأفكار، يلفها نهر ديصان ومعناه (القافز) أو (المتدفق)، لأنه كان يخرج غالباً عن مجراه ويغرق المدينة، وهو يلف المدينة من شرقها إلى شمالها جالباً إليها بهجة عظيمة وغنى جزيلاً. وتقوم أبنيتها مستندة إلى الروابي البارزة من الجبل المقدس، الذي ازدحمت معاطفه ولحفه بالأديرة والصوامع والقلالي العديدة حتى بلغت الثلاثمائة، ويعرف اليوم بجبل (طوب داغ). ويلف المدينة سور عظيم حصين من جنباتها كلها، وللمدينة أربعة أبواب هي: 1_الباب الغربي ويدعى باب الأقواس أو العقود. 2_الباب الشرقي ويدعى الباب الكبير أو باب الأمير أو باب كيساس. 3_الباب الجنوبي ويدعى باب بيت شمش أو باب برألاها أو باب حران. 4_الباب الشمالي ويدعى باب سميساط أو باب الساعات. ويتصل السور بتحصينات قصرها الشهير، ويفصل المدينة عن رياضها الخضراء وحدائقها الغناء. وكانت المدينة غاصة بالسكان ثرية وغنية بالقصور والمسارح والحمامات وساحات الخيل، ومن مواقعها الهامة بركة إبراهيم الخليل، وبركة زولها (البركة المقدسة)، والحصن الأعلى، وقلعة نمرود. 
جاء في كتاب صورة الأرض " مدينة الرها في شمال ديار مضر، وكانت وسطة من المدن، والغالب على أهلها النصارى، وبها زيادة على ئلائمائة بيعة ودير ذي صوامع فيه رهبانهم، وبها البيعة التي ليس للنصرانية أعظم ولا أبدع صنعة منها، ولها مياه وبساتين وزروع كثيرة نزهة، وكان بها منديل لعيسى بن مريم" .
وجاء في معجم البلدان " الرهاء مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام، قال بطليموس مدينة الرها طولها اثنان وسبعون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة، واسمها بالرومية أذاسا، بنيت في السنة السادسة من موت الإسكندر، بناها الملك سلوقس" .
وجاء في دائرة المعارف " الرها مدينة من مدن الجزيرة، كانت قصبة مملكة أسروانة في ما بين النهرين، وقاعدة مملكة الملوك المعروفين باسم أبجر، وهي مدينة عظيمة غزيرة المياه واقعة على سفح جبلين، وتمتد إلى ضفتي نهر إبراهيم الذي يؤلف هناك بحيرة صغيرة تسمى بركة إبراهيم، مياهها عذبة يوجد فيها سمك كثير، يزعمون أنه يخص إبراهيم الخليل فلا يصطادونه" .
2- مملكة أورهاي: تم تأسيس مملكة أورهاي المستقلة والصغيرة في إقليم أسروين وذلك سنة 132 ق.م، بعد أن قضى الفرثيين على قسم كبير من جيش أنطيوخوس، وعرف ملوكها بالأباجرة. وقد انحصرت هذه المملكة بين مملكتي روما وفارس العظيمتين، استوى على عرشها أريو الملك لمدة خمس سنين، ثم خلفه عبدو بن زرعو (127_120) ق.م، وخلفه أبراداشت (120_115) ق.م، وخلفه بكرو الأول (115_112) ق.م، وخلفه أبنه بكرو الثاني. في سنة 94 ق.م شاركه في الحكم معنو وذلك لمدة أربعة أشهر. ثم شاركه في الحكم أبجر بيقا الذي قتل الملك بكرو الثاني في سنة 92 ق.م واستوى على عرش المملكة، واستمر حكم أبجر بيقا حتى سنة 69 ق.م، وخلفه أبنه أبجر الثاني (68_53) ق.م، وخلفه معنو الثاني الذي لقب نفسه بألاها (52_29) ق.م، وخلفه أبجر الثالث (29_26) ق.م، وخلفه أبجر الرابع سوماقا (الأحمر) (26_23) ق.م، وخلفه معنو الثالث بسبلول (23_4) ق.م، وخلفه أبجر الخامس أوكاما (الأسود) (4 ق.م_ 50 م)، وفي السنة العاشرة لملكه حدثت فتنة في أورهاي نفي على أثرها الملك أبجر أوكاما، وحكم عوضه أخاه معنو الرابع، لكن حكمه لم يدم طويلاً حيث رجع أبجر أوكاما واستلم زمام الأمور حتى وفاته سنة 50 م. وخلفه أبنه معنو الخامس (50_57) م، وخلفه معنو السادس (57_71) م، وخلفه أبجر السادس (71_91) م. ومن سنة 91م خرج الحكم من يد الأباجرة، لكنهم عادوا إلى الحكم سنة 109م واستوى على العرش أبجر السابع أبن ايزاط الذي قتله الرومان سنة 116م، فأستلم الحكم الفرثي برتسباط الذي دام ملكه حتى سنة 123م، حيث عاد الأباجرة إلى الحكم بشخص معنو السابع أبن ايزاط (123_139) م، وخلفه معنو الثامن الذي حكم حتى سنة 163م حيث استولى الفرثيون على أورهاي، فهرب معنو الثامن إلى روما، لكن الرومان طردوا الفرثيين من أورهاي سنة 164م وملكوا عليها أبجر الثامن الذي حكم إلى سنة 167م حيث رجع معنو الثامن وملك حتى سنة 179م. وخلفه أبجر التاسع (179_214) م، وخلفه أبنه سيفير أبجر العاشر (214_242) م، وخلفه أبجر الحادي عشر أبراهاط سنة 242م، ولم يستمر حكمه سوى سنتين، ومع نهاية حكم أبجر الحادي عشر انتهت مملكة أورهاي بعد أن رفع الأباجرة رايتهم فوقها مدة أربعة قرون.   
3_ زمن دخول المسيحية في أورهاي: يؤكد التقليد الجاري في كنيسة ما بين النهرين، أن الذين بشروا المنطقة هم أربعة: توما الرسول ثم أدي وتلميذاه أجي وماري. ويعتبر التقليد المشرقي عامة أجي رسول الرها، ومؤسس المسيحية فيها.
وقد تواجدت المسيحية في الرها في أواخر القرن الأول الميلادي، وأخذ عدد المسيحيين بالازدياد والنمو فيها. ويؤكد التقليد أن أدي أحد الاثنين والسبعين رسولاً، وصل إلى الرها وأبرأ ملكها أبجر الخامس أوكاما من مرضه العضال، " وانتشرت النصرانية فيها وفي أطرافها انتشاراً سريعاً عجيباً، حتى سميت الرها المقدسة، والرها المباركة، ومدينة أبجر محب المسيح" ، وفيها ابتنى أدي أول كنيسة مسيحية باسم (المخلص)، وقد توفي فيها سنة 49م ودفن في (الكنيسة التي شيدها) ، وهناك من يقول إنه دفن في (مقبرة ملوك الرها) .
وتؤكد شهادات مؤرخين عديدين على دخول المسيحية إلى أورهاي في الأجيال الأولى نذكر منهم:
أ_ أخبار شهداء المشرق: يشير إلى تكلل القديس شربيل وأخته بابي في الرها سنة 115م، في زمن الملك أبجر السابع، خلال الاضطهاد الذي أثاره طريانوس قيصر ضد المسيحيين. 
ب_ دياطسرون ططيانس (120_150)م: وقد تداولته كنيسة الرها بعد ترجمته إلى الآرامية، وهذا ما يشير إلى وجود جماعات مسيحية في ذاك الزمن. 
ج_ برديصان (154_222)م: يؤكد في كتابه شرائع البلدان عن انتشار المسيحية في بلاد مابين النهرين منذ الجيل الأول " ماذا نقول عن ملتنا النصرانية الجديدة التي أنشأها المسيح في كل مكان وناحية،إننا حيثما وجدنا نعرف بمسيحيين نسبة إلى اسم المسيح" .
د_ أوسابيوس القيصري: يذكر في تاريخه الكنسي الشهير المجمع الإقليمي الذي عقد في الرها سنة 196م، وفيه تم التوافق مع كنائس الغرب على موعد عيد الفصح.
ه_ كتابة أبرسيوس: وهو أسقف منبج في نهاية القرن الثاني، يقول أنه وجد أخوة له مسيحيين في ما وراء الفرات أي شرقيه.
و_ برحدبشبا عربايا: يشير في كتابه ( سبب تأسيس المدارس) عن التقليد الجاري في مدرسة الرها، حيث يعتمد المفسرون في شرح الكتاب المقدس على تعاليم مار أدي مؤسس الجماعة المسيحية الأولى في الرها.
ز_ يوليوس الإفريقي: في مطلع القرن الثالث يقول إنه رأى في بلاط أبجر ملك الرها برديصان المسيحي وهو يتناقش في أمور دينية. 
ح_ تاريخ الرها: يذكر فيضان نهر ديصان سنة 201 م وتدميره كنيسة المسيحيين فيها، وأن نونا أسقفها شيد عوضها كنيسة أخرى سنة 202م.   
مما سبق نجد أن المسيحية وجدت في مملكة أورهاي منذ فجر المسيحية.
4_ الرسائل المتبادلة بين الملك أبجر أوكاما ويسوع المخلص: يحدثنا تقليد كنيسة الرها عن هذه الرسائل، فبعد أن أرسل أبجر موفداً من قبله إلى أورشليم بشخص حنان أمين المحفوظات الرسمية في ديوانه، حاملاً رسالة ليسوع. نجد هذا الموفد بعد أن يقابل يسوع يحصل منه على رسالة جوابية إلى أبجر، وقد ذاعت شهرة هذه الرسالة، وأثبت منها أوسابيوس القيصري  (263_339) م في تاريخه الكنسي مقتطفات واسعة، أخذها عن الأصل الآرامي المحفوظ في خزانة وثائق مملكة الرها، وسنوجز نص هاتين الرسالتين.
رسالة الملك أبجر أوكاما: " من أبجر أوكاما الملك إلى يسوع المخلص الصالح الذي ظهر في مقاطعة أورشليم سلام: لقد تناهى إلى سمعي ما يقال عنك وعن شفاءاتك وكيف تنجزها بدون عقاقير وأعشاب _ _ _ _ _ تجعل العميان يسترجعون أبصارهم، والعرج يمشون، وتطهر البرص، وتطرد الأرواح النجسة والشياطين، وتشفي الذين يتعذبون بمرض طويل، وتقيم الأموات. وعندما سمعت عنك هذه الأشياء كلها _ _ _ _ _ لهذا السبب اكتب متوسلاً إليك أن تسرع بالمجيء إلي، وتشفي العذاب الذي أنا فيه، وعلاوة على هذا فقد بلغني أن اليهود يضطهدونك ويطلبون هلاكك. ولي مدينة واحدة صغيرة حسنة جداً، لكنها تكفينا لنسكنها بهدوء وسلامة معاً ".
رسالة يسوع المخلص: " طوبى لك يا أبجر لأنك آمنت ولم تراني _ _ _ _ _ أما بخصوص ما كتبته إلي بأن آتي إليك فانه علي أن أكمل كل ما أرسلتُ لإنجازه، وبعد ذلك سأصعد إلى ذاك الذي أرسلني. وبعد صعودي سأرسل إليك أحد تلاميذي ليشفي عذابك، ويعطي الحياة لك وللذين معك". 
ويتحدث تقليد الرها أن جواب يسوع للملك أبجر كتب بخط الرسول توما في قرطاس مصري، وكان محفوظاً في الخزانة الملكية، ويخرج منه في الأعياد ليتبارك منه المؤمنين. ويتحدث التقليد أيضاً أن يسوع أرسل مع الجواب صورته على منديل " ولعلمي بشدة اشتياقك إلي قد وجهت إليك بمنديل فيه صورة وجهي لتشاهده، فلما وصل الكتاب إلى أبجر فرح به، وجعل المنديل على وجهه، فارتاح قلبه وقال: أنا أشهد أن هذا أبن الله الحي الحليم. ووجد أبجر راحة عظيمة من كثير مما كان يتشكاه". 
وقد احتفظت كنيسة الرها بصورة يسوع الغير مصنوعة باليد، ويتحدث تقليد الرها أن موفد الملك أبجر حنان كان رساماً ماهراً، فقام برسم صورة يسوع على منديل بألوان جميلة من نخبة الأصباغ العالية الجودة، "وعمد حنان إلى لوح مربع، وصور فيه صورة سيدنا المسيح بأصباغ حسنة أنيقة، وجعل ينظر إليه ويصور صورته في ذلك اللوح، وأتى به معه للرها إلى أبجر فقبله وجعله في خزانته، وهو هناك إلى هذه الغاية" . وتتحدث الروايات المتأخرة أن يسوع ترك تقاطيع وجهه بنفسه على المنديل وقد اعتبر هذا العمل سماوياً، لذلك دعيت (الصورة الغير مصنوعة باليد)، وبعد عودة الوفد إلى الرها قدم المنديل إلى الملك أبجر، وعندما رآه تقبله بفرح عظيم ووضعه بتبجيل عظيم في إحدى غرف قصره، بعد أن كتب عليه العبارة التالية " أيها المسيح الإله، لن يهلك كل من يثق بك". أما تعليم أدي فيقول أن يسوع مسح وجهه بمنديل، فانطبعت عليه صورته." وحنان المصور الذي أرسله أبجر رسولاً إلى سيدنا، اجتهد في أن يأخذ صورة للمسيح ولم يتمكن، وأن سيدنا أخذ المنديل الذي كان مع حنان، فمسح به وجهه، فحصلت فيه صورته وأنفذه إلى أبجر".  كما تتحدث قصة القديسة وارينا_ فيرونيكا التي مسحت وجه يسوع بمنديل وهو حاملاً صليبه على طريق الآلام، فانطبع وجهه على المنديل.
ومع تنصر الملك أبجر التاسع (179_214) م، اهتدى شعب مملكة أورهاي كله إلى الإيمان المسيحي، وأضحت المملكة الأولى التي اعتنقت المسيحية كدين رسمي في العالم، وهذا مدعاة افتخارها.
5_ أورهاي مهد الأدب الآرامي: إن الأدب الآرامي مرتبط بالديانة المسيحية، وحيث أن المسيحية انطلقت من الرها، فكان من الطبيعي أن تزدهر هذه المدينة وتتفوق على غيرها بالآداب والعلوم، وكان هذا الأدب مسيحي النشأة كنسي المصدر، وقد تناول ترجمة الكتب المقدسة وضبطها وتفسيرها. ثم صرفوا همهم إلى علوم اللغة من صرف ونحو وبيان وخطابة وشعر، وتطرقوا إلى علوم المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعة والرياضية والفلكية والمساحة والطب، وتبحروا في اللاهوت والفقه الكنسي والمدني وعلم الأخلاق، وتبسطوا في التاريخ الديني والمدني والموسيقى الكنسية، وتطرقوا أيضاً إلى الجغرافية وفن القصص. 
وكانت اللغة اليونانية قد احتلت مكان اللغة الرسمية بعد فتح الإسكندر، وعندما عاد الأمر إلى الملوك الأباجرة، لم يرضوا أن تدون أعمال ملكهم ووثائق مملكتهم إلا بلهجتهم الآرامية، فطوعوا على هذه اللهجة وأغنوها بالمفردات، حتى تفوقت على سائر اللهجات التي بقيت مقصورة على الاستعمال الشفهي.
وحيث أننا نتحدث في مقالنا هذا عن مملكة أورهاي، فلا بد لنا في هذا السياق أن نذكر هذا الأدب خلال زمني الوثنية والمسيحية التي عاصرتهما المملكة.
أ_ الأدب الآرامي الوثني: إن المؤلفات الأولى باللغة الآرامية هي من الجودة اللغوية والإتقان. وقد عثر على بقايا من هذه اللغة في دورها الانتقالي، وهي عبارة عن آثار وثنية قليلة ومتفرقة، منها كتابات المدافن التي تشمل نصوص جنائزية، وكتابات ملوك الرها والتي تتحدث عن العادات الآرامية، وعن الأحداث المهمة التي جرت في هذه المملكة، وهذه الأعمال كانت تحفظ في الخزانة الملكية.
ب_ الأدب الآرامي المسيحي: لقد أتمت المسيحية ما بدأ به الملوك الأباجرة، فاستعملت اللهجة عينها في ترجمة الكتاب المقدس إلى الآرامية. فكان لنا بسيطة "العهد القديم"، وأولى ترجمات الإنجيل "بشيطتا"، ثم الإنجيل الموحد "الدياطسرون" أي إنجيل واحد مكون من أربعة، وقد وضعه ططيانس الآثوري باللغة اليونانية حوالي سنة 150م، وقد ترجم إلى الآرامية واستعملته كنائس المشرق. أما برديصان الذي ولد في الرها سنة 154م، واهتدى إلى المسيحية في شبابه، ويقال أنه سعى في تنصير الملك أبجر التاسع، فقد وضع كتباً شتى لم يبقى منها غير كتاب "شرائع البلدان" وهو أقدم نص بالآرامية الحديثة عرف إلى الآن بعد الكتاب المقدس. ولم يصلنا آثار أدبية هامة أخرى عن الكتاب الآراميين في بداية القرن الثالث للمسيحية.
الخاتمة: لقد أدت عدة عوامل جعلت من الرها المدينة المباركة، وأهلتها لتتبوأ مركزاً ريادياً، وأولتها حيوية خارقة، ودفعتها لتصبح قوة جاذبية استقطابية، ورفدتها بتأثير بليغ وعظيم عالمياً. وقد طارت شهرة الرها بذخائرها وكنوزها المقدسة منها صورة يسوع ورسالته إلى الملك أبجر، ورفات القديسين توما الرسول ومار أدي وأبجر أوكاما ومار يعقوب النصيبينيي، وعظام الشهداء شربيل وبابي وشمونا وكورية وحبيب وقوزما وداميانوس. هذه الثروات المقدسة حملت رجال الكنيسة على تشييد الكنائس الفخيمة. وكان الحجاج يفدون من مدن ما بين النهرين وبلاد فارس والشرق الأقصى وأوربا للتبرك من هذه الذخائر. أما لغتها فما زالت لغة الطقوس في أغلب كنائس المشرق. وعلى رغم قصر عهد مملكة أورهاي التي استمرت ثلاثة قرون ونيف، فقد تركت أثراً عظيماً في اللغة والدين في بلاد المشرق. وسيبقى فخرها أنها المملكة الأولى في العالم التي اعتنقت المسيحية كدين رسمي ملكاً وشعباً. 

المراجع                   
  1_ الرها: مجلة المشرق يوسف غنيمة العدد 8 سنة 1905 ص 169. 
2_صورة الأرض  ابن حوقل ص 204.
3_ معجم البلدان   ياقوت الحموي    ج3  ص 106 .
4_ دائرة المعارف   بطرس البستاني    ج4 ص 625.
5_ تاريخ كلدو وآثور   المطران أدي شير  ج1   ص173
6_تاريخ الكنيسة السريانية     الخورأسقف اسحق أرملة   ص43.
7_ذخيرة الأذهان   الأب بطرس نصري   ج1  ص 36.
8_ سيرة أشهر شهداء المشرق   المطران أدي شير   ج2  ص 13.
9_  تاريخ كلدو وآثور المطران أدي شير   ج2  ص5.
10_ تاريخ الكنيسة  أوسابيوس القيصري   الكتاب الأول ص 59_60 ترجمة القس مرقس داود
11_ أخبار بطاركة كرسي المشرق    ماري بن سليمان   ص2.
12_  مختصر الأخبار البيعية   حققه ونشره الأب بطرس حداد   ص 29.
13_  مختصر الأخبار البيعية   حققه ونشره الأب بطرس حداد   ص 29.
14_ أخبار بطاركة كرسي المشرق    ماري بن سليمان  ص2.
15_ أدب اللغة الآرامية  الأب ألبير أبونا   ص25.



140
مهلاً أيها الشماس مردو فهل يحق لك ما لا يحق لغيرك
الشماس: نوري إيشوع مندو
يبدو أن شماسنا العزيز كوركيس مردو متخصص في كيل التهم جزافاً لكل من يخالفه الرأي، وهذا واضح من ردوده المقتضبة على العديد ممن كتبوا في مواضيع شتى. والغريب في الأمر أنه يستغرب ممن يكتبوا على صفحات الإنترنيت وكأنه حق مكتسب لشخصه فقط. ففي رده على السيد سمير شبلا يقول: " . . ناهيك عن الصياغة اللغوية الركيكة التي لا تتناسب واندفاعك بسرعة الصاروخ لكتابة المقالات في المواقع لمجرد الكتابة، قبل أن تدخل إلى ميدان الكتابة منذ سنة أو يزيد ". ففي قوله هذا يبدو أن شماسنا وكأنه عميد كلية آداب اللغة العربية، ويحاسب تلميذه على أخطائه اللغوية. ويمتعض من اندفاع التلميذ في كتابة المقالات بسرعة صاروخ، خوفاً من أن يصبح التلميذ أذكى من المعلم. والغريب قوله أن السيد شبلا حديث على ميدان الكتابة، إذ لا تتجاوز انطلاقته إلى أكثر من سنة أو يزيد. كلام غريب عجيب صادر من شماسنا العزيز، الذي يبدو أنه منزعج من كتابة الآخرين، وكأن الكتابة هي حكراً بشخصه الكريم. متناسياً أن السيد شبلا كتب موضوعاً عاماً، وليس مقالاً أدبياً أو قصيدة شعرية أو رواية.   
وفي رده علّي يقول عن مقالي " السينودس الكلداني أزمة ثقة وفقدان رؤية ": " وإن لم أكن مخطئاً فهو أول مقال لكم على الإنترنيت إذ لم أقرأ لكم شيئاً قبل ذلك . . . ". يبدو من قول شماسنا أنه يعيش في عالم أخر، ولم يقرأ ما كتبت من مقالات في مجلتي نجم المشرق وبين النهرين وهو الغيور على وحدة كنيستنا الكلدانية كما يدعي والمتابع لدقائق الأمور فيها. ناهيك عن كتابي " نصيبين في تاريخ كنيسة المشرق قديماً وحديثاً " والذي طبعت منه ألف نسخة على حسابي الخاص، وأهديت النسخ لكنيسة رعيتي حتى تستفيد من ريعه للخير العام. بالإضافة إلى العديد من كتب الصلوات لاستعمال المؤمنين، كلها طبعتها على حسابي الخاص وقدمتها مجاناً للكنيسة، وهذا ليس من باب التباهي والفخر بل من باب التذكير والتعريف ليس إلا.
ومقالي المذكور لم يكن الأول على الإنترنيت حسب ظنك الخاطئ. وإذا كان الأول فما الخلل بذلك. ومن أين لك أن تتهمني بأني جندت من قبل الناوين شراً بالكنيسة، ثم تقول قد كلفت وإن لست متأكداً من ذلك إذ كنت ممن نفسهم أمارة بالسوء. كلام غريب يتفوه به شماس نصب نفسه حارس أمين على سلامة الكنيسة، وكأن الذين يخالفونه رأيه السديد يبغون الشر للكنيسة، أو نفسهم أمارة بالسوء كما يتخيل. من تقصد بالناوين شراً بالكنيسة عليك أن توضح ذلك. ماذا تعرف عني حتى ترشقني بكلمات نابية لا تصدر إلا من أبناء الشوارع. هل تعلم كم أفتخر بأنني كلداني أصيل لا غش فيه، لأن تقليد عائلتنا المتوارث عن الآباء والأجداد لا يسمح لنا بالتأهل إلا من أبناء كنيستنا ولا زلنا نحافظ عليه. أنحدر من أعرق الأبرشيات الكلدانية وهي أبرشية سعرت، وإنني انحدر من قرية أرتون العليا القابعة في جبال البوتان المعروفة بشجاعة رجالها واستقامتهم. هل تعلم أن عائلتي قدمت على مذابح الإيمان في مذابح السفر برلك سنة 1915 أكثر من مئة شهيد، وأفتخر كما الكثيرين أن أحدهم لم يجحد إيمانه، بل ضحوا بكل شيء حفاظاً على وديعة الإيمان. أنا أفتخر بأنني سليل الشهداء والمعترفين، ومنذ نعومة أظفاري أنا شماس في كنيستي وخدمتي وعائلتي للكنيسة معروفة منذ عقود لجميع من يعرفنا. هل تعلم أنني منذ عشرين سنة رئيس جمعية القديس منصور دي بول الخيرية ولا أزال، علماً أنني أصغر الأعضاء سناً. ومنذ التسعينات يتوافد المهجرين العراقيين إلى سوريا وتستطيع أن تسأل ما قدمت لهم من خدمات ولا زال. تستطيع أن تسأل الأساقفة والكهنة الذين يحضرون إلى سوريا ماذا أقدم لهم من خدمات وأنا مسرور ولا أعتبر ذلك منة وإنما واجب مقدس علّي تأديته.
وهل تناسيت ما قلته في ردك على السيد شبلا: " لست من الراغبين في الدخول إلى ميدان المهاترات، وقد سبق لغيرك وحاول جري إليها ولكنهم خابوا ". وأنا أقول لك أنني لست من الراغبين للنزول إلى هذا المستوى من الشتم والتهم الباطلة، لأن تربيتي المسيحية ومكانتي في الكنيسة والمجتمع لا تسمحان لي بالنزول إلى هذا المستوى الرخيص. واعتقد أنا كتابتي هي في حدود اللباقة والأدب، وأنا مسؤول عن كل كلمة صدرت مني سابقاً وسوف تصدر مني لاحقاً، وأنني صاحب فكر حر وضمير حي، لا أكيل التهم زوراً ضد أحد فهذه ليست من شيمي، ولست بحاجة لنيل شهادة حسن سلوك من حضرتكم. ومرة أخرى تريد أن تنصب نفسك معلم لغة عربية لتعلمني كيف أصيغ عباراتي اللغوية. خاب ظنك يا شماسنا العزيز فكتاباتي تعبر عن مدى تضلعي في اللغة العربية، ولست بحاجة لنيل شهادة دكتورا من سيادتكم. وهل هذه العقدة تثير مشاعركم كلما قرأتم مقالاً لأحدهم، فلا تجد من رد عليه سوى الطعن بلغته وأسلوبه وكأنك نصبت نفسك رقيب على هذه اللغة، وهل نحن نتبارى من خلال مقالتنا باللغة العربية في سوق عكاظ كما تتخيل يا شماسنا العزيز ؟.
وهل تقييم الأمور يتم على مزاجك المنحرف، فصدور بيانان عن السينودس خلافاً للقانون، بررته باعتبار تجاوز المطران وردوني هفوة غير مقصودة. أما بيان أساقفة الشمال ومن خلال ردك على سيادة المطران بطرس الهربولي نعته بـ " الانفعال دليل ضعف ". ألم تقرأ توضيح سيادة المطران ربان القس عندما رد على المطران وردوني بالقول: أن أسباب المقاطعة لم تكن صحية ولا أمنية ولا شخصية. ولماذا لم تسأل عن سبب مقاطعة الأساقفة الكاثوليك والأرثوذكس للسينودس كما جرت العادة في السينودسات السابقة، حيث ينضم الأساقفة المذكورين إلى آباء السينودس في اليوم الأخير. أليس هذا الموقف يعبر عن أزمة ثقة وفقدان آلية وأجندة معدة، وألا ما هو التبرير لذلك ؟ ؟ أما قولك بأنني تجنيت على بيان السينودس، ثم عددت ما أنجزه من مقرارات. وذكرت معلومات لم يذكرها البيان الرسمي للسينودس مثل " وبخاصة في أربيل وأوربا وكندا . . . " وكأنك كنت حاضراً في السينودس، وألا من أين لك كل هذه المعلومات ؟ ؟ ومرة أخرى أؤكد لك أن مقرارات السينودس ليست إلا حبر على ورق، وعلى المؤمنين الانتظار بفارغ الصبر لتلقف المن والسلوى.
ومن خلال متابعتي لكتابتك لمست التناقض في أقوالك. وهنا أذكر تهجمك على سيادة المطران لويس ساكو والأب الفاضل ألبير أبونا، هاتان الشخصيتان اللتان نعتز بهما ونفتخر بسيرتهما ومواقفهما وتفانيهما وعطاءهما. فهل تناسيت ما قلته بحق سيادته: " الحاقد والمتحيز المتعمد والمحرف، ومن دون وازع ضمير أيها المطران ". وبررت فعلتك الشنيعة هذه من خلال ردك على السيد شبلا الذي أنبك على ما قلت بقولك: " وما كتبته بشأنه لم يتعدى عتباً إلا، ولم يكن هجوماً البتة والكلمات: المتحيز المتعمد المحرف وازع من ضمير تدخل ضمن كلمات النقد التاريخي ". فيا شماسنا المتضلع باللغة العربية هل يقبل عاقل هذا التبرير، وهل يحق لك أن تنعت المطران ساكو بهذه الصفات النابية، وتقول أنها تدخل ضمن كلمات النقد التاريخي. متناسياً أن هذه الكلمات تدخل ضمن قلة الأدب والاحترام. وصدق فيك القول المأثور: " عذر أقبح من ذنب ". فمن يتصيد بالماء العكر يا شماس؟ ؟
أما قولك أما التسريب لو كان صحيحاً فليس مستغرباً فالمجتمعون بشر. كلام جميل يستحق التوقف عنده والتمعن في معناه. فمن تريد تبرير مواقفهم الخاطئة هم بشر كما تدعي، ومن لا يحلو لك مواقفهم تنعتهم كما تشتهي؟ ؟ ألا تشعر بهذه المفارقة المثيرة للجدل. وهل تريد من الناس أن يسكتوا على مواقفك ؟ ؟ وأما سؤالك هل بإمكاني أنا أو غيري التصريح باسمي المنتخبين، فهذا جهالة منك أو تجاهل مقصود. فأنت المتابع لدقائق الأمور ألم تقرأ أسمي المنتخبين على عدة موقع منها عينكاوا، وأحبار السينودس لم يكونوا قد أنهوا اجتماعهم بعد. وما هذا الشرح المملل عن طريقة انتخاب الأساقفة وكأننا لسنا من أبناء الكنيسة، ولا نعرف هذه الأمور منتظرين منك أن تشرح لنا ذلك.
والمستغرب أنا شماسنا الفاضل يعشق التحدي، ففي كلامه الموجه لي يقول: " وأتحداك إذا كان بإمكانك  ... ". وما لفت نظري أنه في رده على السيد شبلا استعمل نفس الكلمة إذ يختم رده بالقول: " بإمكانك الحصول على عنواني الإلكتروني إذا كنت راغباً بالتحدي ". عذراً يا شماسنا الفاضل يبدو أنك تفقد أعاصبك من خلال تكرارك لهذه الكلمة. نحن لا نعشق التحدي الغير صالح، لأننا بحق وحقيقة أبناء كنيسة، ولا يليق بنا إلا أن نتنافس بالصالحات حسب قول بولس الرسول. أما إذا واجهتنا المصاعب والتعدي من قبل الأشرار وحاقت بنا أذيتهم الجسدية، فنحن أبناء جبال البوتان الشامخة معروفين بشجاعتنا وصلابتنا صلابة جبالنا الشماء، ومعروف عنا أننا لا نتراجع قيد أنملة عن مبادئنا ومواقفنا مهما بلغ الثمن. ومعروف عنا طيبتنا وكرمنا ووفاءنا نحو الطيبين. 
وأعلم يا شماسنا الفاضل أنني لا أتقن مهنة اللعب بالنار كما تدعي، يمكن أنك تتقنها بمهارة. لأنك تؤول المعلومات على مزاجك. فأنا لم أفتح باب الصراع، ويكفينا مزاودة واللعب بمشاعر الناس من خلال عناوين براقة فارغة المضمون. فهل تعتبر نفسك حريص على سلامة كنيستنا الكلدانية أكثر مني، ونستطيع أن نضع في كفتي الميزان ما قدمته أنت وما قدمته أنا من خدمات وتضحيات للكنيسة لنجد كفة من ترجح. محبة الكنيسة هي بالعمل لا بالقول. ومن قال لك أنني لا أحترم مقام بطريركيتي، وهل النقد البناء يعتبر بعرفك عدم احترام ؟ أم أنك تعتبر محاباة المنافقين احتراماً، ومواجهة المتجاوزين عدم احترام ؟ ؟ فهل تريدني أن أكون ماسح جوخ كما يقول المثل الشعبي ؟ ؟ ومن قال لك أنني أثير الاضطراب بين رعاة الكنيسة. هل صدر مني كلمات نابية كما صدر منك ضد سيادة المطران ساكو والأب أبونا ؟ ؟ فهل يحق لك ما لا يحق لغيرك ! ! !
يا شماسنا العزيز في هذا المجال كتبت أربع مداخلات، وقد نشرت على موقعي عينكاوا ونيركال كيت. وحيث أن موقع نيركال يجري تقيماً على المقال المنشور من قبل القراء من خلال التصويت. فيطيب لي أن أضعك في صورة ما نالت مقالاتي حتى ساعة إعدادي هذه المداخلة. 1_ السينودس الكلداني أزمة الثقة وفقدان رؤية، نال تأييد 72% من المقترعين. 2_ مقارنة بين بياني المجمع البطريركي وبيان لقاء أساقفة الشمال، نال تأييد 83% من المقترعين. 3_ ألا يتحمل رجال الدين قسطاً كبيراً من مسؤولية وضعنا الحالي، نال تأييد 96% من المقترعين. 4_ الاتهام الباطل دليل انحياز وخطيئة، نال 100% من تأييد المقترعين. فتأمل يا رعاك الله، أفليست هذه النسب دليل تفهم القراء لحقيقة الأمور. وأليست دليل تأييد وثقة للطروحات التي تطرقت لها.
واختم بما قاله الملفان أبن العبري: " بيشو زونا دمستعرن به هبخاياثا. وخل زليماثا حشيوين لواثه أخ تقناثا. سوسا مبرداع وحمارا دسريغ بلا تحمصتا. وقذام تعلي بركين وسغدين أرياواثا ". تعريبها: " سيء هو الزمان الذي تستقبل به الأمور بالعكس. وكل المغالطات تحسب به فضائل. الفرس مبردع والحمار مسرج بدون لياقة. وأمام الثعلب تركع وتسجد الأسود ". واللبيب من الإشارة يفهم.


141
شهادات موثقة تشير إلى استشهاد المطران أدي شير
الشماس: نوري إيشوع مندو
المقدمة: منذ أن قدم المسيح ذاته ذبيحة حية على الصليب من أجل خلاص البشر، لم تكف الجماعات التي آمنت به عن تقديم ذاتها ذبيحة عطرة لخلاص العالم. فلا عجب إذاً أن نرى كنيسة المشرق تفخر بأبنائها الذين عاشوا بحسب تعاليم الإنجيل، واستشهدوا ليكونوا نوراً يهتدي به العالم إلى الخلاص، وأصبحت دمائهم بذوراً خصبة للمسيحية، أنبتت ثمار يانعة مفعمة بعبق الإيمان والرجاء والمحبة.
وفي المذابح التي جرت في السلطنة العثمانية سنة 1915، قدمت كنيسة المشرق أكثر من مئة ألف شهيد بينهم أساقفة وكهنة وشمامسة. وفي هذه العجالة سنتحدث عن مار أدي شير مطران أبرشية سعرت الكلدانية، أحد هؤلاء الشهداء العظام الذي سُفك دمه الزكي جزاء إيمانه بالمسيح. وسوف نتطرق في بحثنا هذا إلى نقاط ثلاث هي: 1_ حياته. 2_ أثاره الأدبية. 3_ شهادات عن قصة استشهاده.
1_ حياته: ولد صليوا في بلدة شقلاوة1  شمال العراق في شباط 1867 من أبوين فاضلين هما القس يعقوب شير2  وبربارة. ترعرع في جو مشبع بروح الإيمان، وتعلم الكلدانية على والده الكاهن، وما لبث أن أخذ يساعد والده في تلقين أولاد الرعية مبادئ التعليم المسيحي واللغة الطقسية. توفيت والدته وهو في مقتبل العمر، فترك رحيلها في قلبه أثراً أليماً جداً. سنة 1880 لبى دعوة الأب يعقوب الدومنيكي  " جاك ريتوري "3 لدخول معهد مار يوحنا الحبيب  الكهنوتي في الموصل. واضطر لمضاعفة جهوده للإلحاق برفاقه الذين كانوا قد سبقوه في تعلم اللغتين العربية والفرنسية. إلا أن أتعابه تكللت بالنجاح فنال قصب السبق على أقرانه، فأتقن الكلدانية وبرع في العربية والفرنسية واللاتينية والتركية، وانكب على الفلسفة واللاهوت والتاريخ بنوع خاص. وبعد أن قضى تسع سنوات في معهد مار يوحنا الحبيب4، تمت رسامته الكهنوتية على يد مار إيليا عبو اليونان5  بطريرك الكلدان باسم القس أدي، وذلك في 15 آب 1889 في كاتدرائية مسكنتا بالموصل. وبعد الرسامة قصد بلدته شقلاوة واهتم بتعليم الناشئة، ولم تمضي ستة أشهر حتى استدعاه المطران جبرائيل آدمو 6 رئيس أساقفة كركوك، فجعله كاتم أسراره.   
ولما انتقل المطران آدمو إلى جوار ربه سنة 1889، عينه البطريرك عبد يشوع خياط 7 مدبراً بطريركياً لأبرشية كركوك، وكان يقضي نهاره في تعليم الأولاد وخدمة الرعية، ويحيي الليل بالقراءة والتأليف ودرس اللغات، فتعلم العبرية واليونانية والفارسية والكردية وألم بالألمانية والإنكليزية. وأسس مدارس في جميع مراكز الأبرشية، وأقام فيها أخويات دينية عديدة، وترجم صلوات طقسية إلى اللغة التركية. وعندما انتخب المطران يوسف خياط 8  مطراناً لأبرشية كركوك اتخذه أميناً لسره.
وأثر انتخاب مار عمانوئيل توما 9  مطران سعرت 10  بطريركاً سنة 1900، ظل كرسي أبرشية سعرت شاغراً مدة سنتين. وفي سنة 1902 انتخب أدي شير مطراناً لها، وتمت سيامته في 13 تشرين الثاني، وبعد أيام قلائل غادر الموصل إلى مركزه الجديد.
كانت أبرشية سعرت مترامية الأطراف تشمل العشرات من القرى المنتشرة في جبال البوتان 11 وقضاء غرزان 12. وكانت أغلب هذه القرى منكوبة وفقيرة بسبب ظلم الآغوات الأكراد، الذين كانوا يعبثون بممتلكات المسيحيين بسبب غياب سلطة الحكومة. فراح يفكر ويعمل لسد عوز أهاليها، فسافر إلى أوربا في أيلول سنة 1908 عن طريق ديار بكر فأورفا فحلب فبيروت. ثم أبحر إلى اسطنبول وقابل السلطان عبد الحميد 13، ومنها انتقل إلى روما ومثل أمام الأب الأقدس بيوس العاشر 14. وبعد أن زار الأماكن المقدسة في روما غادر إلى باريس حيث اتصل بعدد كبير من المستشرقين، ونشر بعض مؤلفاته، كما جمع مبلغاً من المال أنفقه لدى عودته على تعمير أبرشيته.
وكانت تربطه صداقة متينة مع آل بدر خان أمراء البوتان 15، ولا سيما مع عميدهم كامل بك، فأفاد جماعته كثيراً من خلال تلك الصداقة. وفي صيف سنة 1914 اندلعت نار الحرب العالمية الأولى، واندحر الجيش العثماني في منطقة وان أمام الجيش الروسي، فراح الجيش العثماني ينتقم ممن يعترض سبيله من المسيحيين. فاستدعى حلمي بك والي سعرت المطران أدي شير وأشعره بالخطر، فدفع له المطران أدي شير 400 ليرة ذهبية لقاء وعده بالحماية له ولأبناء رعيته.
وعند تفاقم الأوضاع لجأ إلى الهرب لكي يدبر وسيلة نجاة لرعاياه،  فقصد متنكراً قرية في جبال البوتان حتى افتضح أمره، فألقي القبض عليه بعد أن قتل خادمه ورجل آخر كان معه، واقتادوه إلى تل بين قريتي دير شوا 16  وعيني 17 وهناك قتلوه، وكان ذلك في 17 حزيران 1915 .18
2_ أثاره الأدبية: كان أدي شير قد ترعرع منذ صغره في جو مشبع بالعلم وحب التاريخ. فراح يدرس وينقب ويزور الأديرة والمكتبات لجمع المعلومات وتقصي الحقائق التاريخية، فوجد ضالته في مكتبة مطرانية سعرت ومكتبة دير مار يعقوب الحبيس 19  قرب سعرت، هاتين المكتبتين الشهيرتين بغنى ما تحتويا من كتب ومخطوطات. وأغنى مكتبة سعرت بأشهر الكتب التاريخية التي ظهرت في أوربا يومذاك. كما أنه كان على اتصال دائم بالمستشرقين. فأضحى دائرة معارف وموسوعة تاريخية والرجل الثقة صاحب الرأي النافذ في زمانه، لا سيما فيما يخص تاريخ أمته. فمنح وساماً وقلد شرف العضوية في جمعية العلماء والمستشرقين تقديراً لآرائه العلمية الصائبة.
وانصرف إلى الكتابة فراح يتحف المجلات والصحف وخاصة المشرق البيروتية التي أسسها الأب لويس شيخو اليسوعي 20، ومجلة الشرق المسيحي والباتروجيا الشرقية ومجلة المكاتب بمقالات قيمة، منها مترجمة ومنها من تأليفه. كما كان يؤلف الكتب ويحقق المخطوطات. وفيما يلي آثاره المطبوعة كما نشرها الأب جان فييه  21 الدومنيكي في مجلة "ANALECTA BOLLANDIANA  " مجلد 83 ص 121 _ 142:
1_ كتاب الصلوات بالكلدانية: طبع في مطبعة الآباء الدومنيكان بالموصل سنة 1891. وعدد صفحاته 303 فيه ثلاثة فصول هي: قوانين تساعد المسيحي لكي يحيا حياة قداسة. صلوات يومية. وعبادات أخرى.
2_ مقالة في الطقس الكلداني: وضعها بالاشتراك مع الأب بطرس نصري 22 ونشرها في مجلة المشرق البيروتية سنة 1900 ص 817 _ 878.
3_ كتاب المنتخبات الكلدانية ( قطبتا ): مع معجم لشرح الكلمات، طبع في الموصل سنة 1898.
4_ كتاب سير أشهر شهداء المشرق القديسين ( بالعربية ): جزاءن طبعا في الموصل. الجزء الأول طبع سنة 1900 وعدد صحائفه 425 يبحث فيه عن رسل المشرق الأوائل ودخول المسيحية إلى هذه البلاد والشهداء الذين قتلوا في عهد شابور الثاني. والجزء الثاني طبع سنة 1906 وعدد صحائفه 428 ويبحث عن أشهر الملافنة وشهداء كركوك.
5_ نبذة في بعض الرجال الذين اشتهروا في الطائفة الكلدانية: وضعها بالاشتراك مع الأب بطرس نصري. ونشرت في مجلة المشرق سنة 1901 ص 847 _ 855.
6_ إكليل مريم العذراء ( بالكلدانية ): بطبعتين كبيرة وصغيرة طبع في الموصل سنة 1904. ويتناول فضائل مريم وقدرتها وعبادة الكنيسة لها، وبعض المدائح المقتطفة من الطقس الكلداني.
7_ مدرسة نصيبين الشهيرة ( بالعربية ): طبع في بيروت سنة 1905، وعدد صحائفه 59. يحتوي نبذة تاريخية عن أصل هذه المدرسة وقوانينها والعلماء الذين تخرجوا فيها.
8_ جدول المخطوطات الكلدانية والعربية في مكتبة سعرت ( بالكلدانية ): مع فهرست بأسماء المؤلفين حسب الأحرف الأبجدية، وعدد صفائحه 101.
9_ ترجمة داديشوع القطري ومؤلفاته ( بالفرنسية ): نشر في الجريدة الآسيوية سلسلة 10 مجلد 7 سنة 1906 ص 103 _ 215.
10_ جدول مخطوطات دير السيدة بالقرب من ألقوش ( بالفرنسية ): نشر في الجريدة الآسيوية سلسلة 10 المجلد 7 سنة 1906 ص 479 _ 512. والمجلد 8 ص 56 _ 65.
11_ تحليل تاريخ دير سبريشوع من بيت قوقا ( بالفرنسية ): نشر في مجلة الشرق المسيحي سلسلة 2 المجلد 1 سنة 1906 ص 182 _ 197.
12_ دراسة ضافية عن الكتبة السريان الشرقيين ( بالفرنسية ): نشرت في مجلة الشرق المسيحي سلسلة 2 المجلد 1 ص 1 _ 32.
13_ تحليل تاريخ ربان برعيتا ( بالفرنسية ): نشر في مجلة الشرق العربي سلسلة 2 المجلد 1  ص 403 _ 423. والمجلد 2 ص 9 _ 13.
14_ مقالة في حياة وأعمال يوحنا برفنكابي ( بالفرنسية ): نشرت في الجريدة الآسيوية المجلد 10 سنة 1907 ص 161 _ 187.
15_ نبذة عن المخطوطات الكلدانية والعربية في مكتبة مطرانية ديار بكر الكلدانية ( بالفرنسية ): نشرت في الجريدة الآسيوية المجلد 10 ص 331 _ 362. و 385 _ 431.
16_ نبذة عن المخطوطات الكلدانية المحفوظة في المكتبة البطريركية الكلدانية بالموصل               ( بالفرنسية ): نشرت في مجلة المكاتب المجلد 17 سنة 1907 ص 237 _ 260.
17_ تاريخ سعرت: جزاءن نشرا في سلسلة الباترولوجيا الشرقية في السنوات 1907 و1918. الجزء الأول في المجلد 4 ص 215 _ 313. والمجلد 5 ص 317 _ 344. والجزء الثاني في المجلد 7 ص 95 _ 203. والمجلد 13 ص 435 _ 639. وعاونه آخرون في الترجمة الفرنسية.
18_ في سبب تأسيس المدارس لبرحذبشبا عربايا ( النص الكلداني مع ترجمته الفرنسية ): نشر في سلسلة الباترولوجيا الشرقية المجلد 4 ص 316 _ 404.
19_ نبذة عن المخطوطات الكلدانية والعربية التي كانت محفوظة في مطرانية ماردين الكلدانية        ( بالفرنسية ): نشرت في مجلة المكاتب المجلد 18 سنة 1908 ص 64 _ 95.
20_ كتاب الألفاظ الفارسية المعربة: نشر في بيروت سنة 1908. وأعيد نشره في طهران سنة 1965.
21_ نبذة عن المخطوطات الكلدانية في متحف بورجيا ( بالفرنسية ): نشرت في الجريدة الآسيوية سلسلة 10 المجلد 13 سنة 1909 ص 249 _ 287.
22_ الكاتب الكلداني يوسف حزايا من القرن الثامن ( بالفرنسية ): نشر في مجلة أكاديمية المخطوطات والدراسات الأدبية في باريس سنة 1909 ص 300 _ 307.
23_ مقالة إيشاي الملفان وحنانا الحديابي في الشهداء وجمعة الذهب والطلبات يليها صورة الإيمان التي يدلي بها الأساقفة قبل رسامتهم ( بالفرنسية ): نشرت في الباترولوجيا الشرقية المجلد 7 سنة  1909   ص 1 _ 91.
24_ حوادث من تاريخ كردستان ( بالفرنسية ): استقاها من مخطوطات عدة، ووضع فصلاً إضافياً لها. نشرت في الجريدة الآسيوية سلسلة 10 المجلد 15 سنة 1910 ص 119 _ 139. 
25_ كتاب اسكولين تيودورس برقوني: نشر النص بمجلدين في مجموعة الكتبة المسيحيين الشرقيين. المجلد 1 عدد 55/ 19 كلداني سنة 1910. والمجلد الثاني عدد 69/ 26 كلداني سنة 1912.
26_ اعتبارات ونقد لآلام بعض الشهداء الفرس ( بالعربية ): نشر في مجلة المشرق سنة  1912 ص  503 _ 509.
27_ تاريخ كلدو وآثور ( بالعربية ): جزاءن طبعا في بيروت. المجلد الأول طبع سنة 1912 يتناول فيه تاريخ الأمة الكلدانية الآشورية القديمة ويقع في 185 صفحة. والمجلد الثاني طبع سنة 1913 ويتناول تاريخ الكنيسة الكلدانية النسطورية حتى مجيء الإسلام ويقع في 312 صفحة مع خرائط.
أما أثاره الغير مطبوعة أو المفقودة فهي:
1_ كتاب جنة المؤلفين: يبحث عن أدباء الكنيسة الشرقية منذ البداية وحتى القرن التاسع عشر، ويقع في 412 صفحة. وهو مفقود.
2_ تاريخ كركوك: مترجم من التركية إلى العربية. موجود في مكتبة مطرانية كركوك. 
3_ كتاب قواعد السورث: وهي اللهجة الكلدانية المحكية أو الدارجة. وهو مفقود.
4_ كتاب استشهاد أخيه بيوكا: وهو مفقود.
5_ الجزء الثالث من كتاب كلدو وآثور: وهو مفقود.
3_ شهادات عن قصة استشهاده: كتب العديد من المؤرخين عن استشهاد الحبر الجليل مار أدي شير، وقد استقصوا معلوماتهم عن هذا الحدث الجلل، من خلال ما سمعوه من أشخاص كانوا شهود عيان لما جرى بحق هذا الشهيد، كانوا قد التقوا بهم بعد هدوء العاصفة،. ومع وجود اختلاف في بعض النقاط بين شهادة وأخرى، لكن المضمون يبقى واحد. وقد اخترنا الشهادات التالية:
1_ شهادة الأب بولس بيرو :  23 " سبق قبل أن تُسفر القافلة الأولى أن أوقف مار أدي شير، وعهد أمر حراسته إلى أحد أفراد شرطة سعرت، المدعو نور الله بن مولود. وبقي سيادته مسجوناً في قبو المركز الحكومي. وهناك لقي أصناف الإهانات، وعانى من الحرمان وجرد من ماله ومن مال الكنيسة، بعد أن هددوه بالقتل، حاول إنقاذه أحد آغوات طنزي المدعو عثمان آغا، رداً منه على المعروف الذي أسداه نحوه سيادته، وعلى الخدمات الجليلة التي قدمها له في مناسبات عدة، بالأخص لقاء ما أبداه سيادته من عطف نحو عائلة بدر خان أمير أكراد بوتان. فما أن بلغ عثمان نبأ توقيف المطران أدي شير، حتى بادر إلى إنقاذه في الحال مخاطراً بحياته، فأرسل إلى سعرت 15 من رجاله الشجعان مدججين بالسلاح. فتوجهوا إلى منزل نور الله وانذروه وهددوه باسم الآغا عثمان، إن لم يسلم إليهم المطران أدي شير سالماً معافى، سينهبون قطعانه ويحرقون مزارعه. فرضخ للأمر الواقع، وفضل أن يسلم لهم المطران من أن يخسر قطعانه وزرعه. لذا أسلمه لهم، فهربوا به متسترين تحت جنح الليل، حتى بلغوا به قرية طنزي  24 مقر إقامة الآغا عثمان، الواقعة على بعد ست ساعات سيراً على الأقدام من سعرت، وهناك رحب به الآغا أحر ترحيب. إلا أن الشرطي نور الدين  الموكول على حراسة المطران، تعرض إلى سخط رؤوسائه وعقابهم، رغم محاولته تبرئة ذاته بتبرير موقفه. وفي تزاحم تلك الأحداث اضطر عثمان آغا هو ورجاله إلى مغادرة القرية لرد هجوم قام به أعداؤه على ممتلكاته. ولحرصه الشديد على حياة المطران خبأه بكهف في هضبة " ديري بسان " 25 . إلا أن محمد أفندي أخ النائب عبد الرزاق، ذلك المشهود له بحقده على المسيحيين وتعطشه إلى دمائهم، أبلغ السلطات بهرب المطران واختفائه. فكلف الملازم الأول حمدي أفندي بقيادة كتيبة من الخيالة، ليتعقب أثار المطران الهارب. وفي ديري بسان اشتبك رجال الأمن العثماني مع حراس المطران، في معركة غير متكافئة لم يصمدوا فيها طويلاً أمام عدد وعدة المهاجمين، إذ حين نفذت ذخيرة الحراس لاذوا بالفرار تاركين المطران لقدره، فريسة بين أيدي مجرمين خلت قلوبهم من المشاعر الإنسانية. وحالما وجدوه أطلقوا عليه وابلاً من نيران بنادقهم فأردوه قتيلاً مضرجاً بدمائه. وهكذا فارق الحياة هذا المؤرخ الكبير والحبر الأثيل، الذي أدى خدمات جليلة لأمته والإنسانية. وتحية إجلال للأكراد هؤلاء وإن اشتهروا بالقسوة، إلا أنهم في هذا الموقف أبدوا شهامة ونبلاً. إذ عملوا جهدهم لحماية هذا الرجل العظيم. ولكن ما حيلتهم أمام العثمانيين المتفوقين عليهم عدداً وعدة، والمتفوقين أكثر في بربريتهم وهمجيتهم، إذ لم يتورعوا من قتل رجل من هذا الطراز الفريد. عزاؤنا أنه نال إكليل الشهادة، ويتمتع الآن بالسعادة الأبدية في الأخدار السماوية " 26 . 
2_ شهادة الخور أسقف فيليبس شوريز  27 :  " لقد ألقي القبض على سيادة المطران أدي شير أواخر شهر أيار سنة 1915، وبعد أن دفع دية قدرها 500 ليرة عثمانية إلى المتصرف، لم يودع السجن إنما بقي تحت الإقامة الجبرية في دار المطرانية، تحت رقابة صديق بدر الدين مدير الشرطة. وفي إحدى الليالي أرسل عثمان آغا رجاله إلى دار المطرانية، وأنقذوا المطران بعد أن دلوه من فوق سور البناية متنكراً بزي كردي. وتوجهوا وإياه إلى منطقة البوتان، حيث التحق به وجهاء قرى صدخ وقطمس وحديد ومار كوريال. واحتموا بقرية طنزي اليزيدية الواقعة إلى شمال بلق. إلا أن حكومة سعرت سرعان ما عرفت بهرب المطران فلاحقته واكتشفت موقع اختبائه، فأرسلت في أثره مفارز من الدرك، فحاصروا القرية واحرقوها وقتلوا سكانها اليزيد والمسيحيين على حد سواء. وغافلهم المطران فهرب إلى الجبل محتمياً بعثمان آغا، وتحين فرصة ليتسلل إلى طريق جبلي متعرج، لعله يواصل سيره إلى الموصل برفقة شلة من رجال الآغا المسلحين. إلا أن الدرك هددوا الآغا بالقتل إن لم يدلهم على الطريق الذي سلكها المطران الهارب، فدلهم ولحق به الدرك المدججون بسلاحهم. وعلى سفح الجبل أدرك الحرس والمطران وفتحوا عليهم النار، وجرت مقابلة حامية الوطيس بين الطرفين. وعند نفاد ذخيرة حراس سيادته، ولوا الأدبار وتركوا المطران بيد الدرك، الذين ألقوا القبض عليه وقادوه إلى رئيسهم، الذي أمر برميه بالرصاص. فرجاهم المطران أن يمهلوه قليلاً ريثما يتهيأ للموت، عندئذ خلع لباسه الكردي وارتدى ثوبه الأسقفي ثم جثا على ركبتيه مصلياً. وبعد مضي عشر دقائق هب واقفاً ليقول لأولئك الرجال المصوبين إليه بنادقهم: ها أنا ذا مستعد للموت. وللحال أطلقت عليه خمس رصاصات اخترقت صدره، وهوى على أثرها صريعاً مضرجاً بدمائه الزكية، لتصعد روحه الطاهرة إلى باريها متوجة بإكليل الشهادة. وهذه الرواية قصها أحد الرجال الخمسة الذين أطلقوا النار على المطران أدي شير، بينما كان في حراسة مدير بنك الحكومة العثمانية وهو في طريقه إلى الموصل، ليلتحق هناك بمنصبه الجديد. وقد نقل عن المطران أدي شير قوله: أن الإمبراطورية العثمانية لن يطول حكمها أكثر من خمس سنين، ولعلها نبؤة، وقد تحققت فعلاً " 28 .   
3_ شهادة السيد عبدو بزر: في مطرانية حلب الكلدانية وثيقة بخط الأب ( المطران ) صموئيل شوريز  29 تحت عنوان " أضواء جديدة على استشهاد المرحوم المطران أدي شير " مؤرخة في 23/ 3/ 1963 وهي شهادة للمدعو عبدو حنا بزر وهو من تولد ماردين سنة 1891. تحدث فيها عن مقتل المطران أدي شير نقلاً عن عثمان آغا الطنزي. وأنا شخصياً أتذكر العم عبدو وهو من طائفة الأرمن الكاثوليك قصير القامة يعتمر طربوش، وكان في مجالسه يتحدث دوماً عما شاهد أو سمع خلال المذابح، ولا أعلم هل ما كان يملكه من المعلومات قد وثق من قبل طائفته أو أهله. وقد وجدت من الضروري ذكر هذه الشهادة، كون العم عبدو بزر قد سمعها من فم عثمان آغا صديق المطران أدي شير. وهذا نص الشهادة: "  في سنة 1916 ذهبت مع الجيش الألماني إلى قرية طنزي لأجل شراء مستلزمات لأجل صناعة الأكلاك. وهذه القرية تقع في جبال البوتان بين مدينتي الجزيرة وسعرت. وهناك التقيت عثمان آغا الذي قص عليّ ما جرى للمطران شير قائلاً: تعود صداقتي الحميمة مع المطران إلى سنة 1913عندما حكمت عليّ الحكومة العثمانية بالإعدام غيابياً، فذهبت إلى سعرت والتقيت المطران شارحاً له قضيتي. فاستقبلني أحسن استقبال ومضى بي إلى دير البواتري " الآباء الدومنيكان 30 "  وخبأني عندهم، وطلب منهم التوسط لدى القنصل الفرنسي في استنبول للحصول على عفو من الحكومة لي. وبالفعل نلت العفو بجهودهم. وفي سنة 1915 عندما بدأت المذابح بحق المسيحيين علمت أن المطران يعاني الكثير من المضايقات، فذهبت ليلاً مع ثلاثة من أخوتي إلى سعرت وهربنا المطران وجئنا به إلى قريتنا طنزي التي تبعد مسيرة 6 ساعات سيراً على الأقدام. ما أن وصلنا القرية حتى سألني المطران عن رعيته في القرية. فقلت له أنهم بخير وقد صعدوا إلى الجبال مختبئين داخل المغاير. فطلب مني أن أوصله عندهم، لكنني قلت له يجب أن أوصلك إلى الموصل حتى تنجو من الموت، لأن في منطقتي أعداء كثر لي وأخاف أن يعلموا الحكومة بوجودك عندي. فرفض المطران عرضي قائلاً: طالما أن أبنائي هنا فيجب عليّ أكون معهم في هذه المحنة، ومن المستحيل تركهم لأنجو بنفسي. وقد كررت عليه طلبي مراراً، لكنه رفضه رفضاً قاطعاً. وعليه أوصلته عند جماعته في الجبل. وبعد ثلاثة أيام طلبت مني الحكومة تسليم المطران المختبئ عندي، لكنني نكرت وجوده عندي قائلاً أنه هرب هو وجماعته ولا أدري إلى أين اتجهوا. وقد نلت الكثير من الويلات بسبب موقفي هذا، فهدمت ممتلكاتي وسلبت أموالي. وفي هذا الأثناء أرسل رسول محمد آغا وهو من ألذ أعدائي رجاله إلى الجبل للتأكد من مكان المطران وجماعته. وبعد أن عرف رسول آغا مكان وجود المطران، طلب من الحكومة أن تزوده بالجنود، فذهب إلى المكان المحدد وحاطه بالجنود ورجاله حتى القوا القبض على المطران. فاقتاد رسول آغا المطران إلى قرية تل ميشار التي تبعد مسيرة ساعة عن قرية طنزي، وهناك سلمه لضابط تركي. فطلب المطران من الضابط أن يمنحه بعض الوقت ليؤدي صلاة قصيرة، فسمح له الضابط بذلك. وبعد أن انتهى من صلاته سلمه الضابط لرسول آغا وطلب منه أن يقتله بطلقة نارية دون تعذيب. فاقتاده رسول إلى مغارة صغيرة شمال القرية وقتله هناك. ثم جاء رجال رسول واحرقوا جثة المطران شير. وأضاف عثمان آغا أن رسول آغا قتل كل كلدان قرية تل ميشار وعددهم 200 عائلة واستولى على جميع ممتلكاتهم، كما قتل كل المسيحيين الذين التجئوا إلى حمايتي. هذا ما نقله العم عبدو بزر عن عثمان آغا طنزي. ويختم شهادته قائلاً: لقد استطعت الذهاب إلى تل ميشار بعد سماعي الحدث من عثمان آغا، وصعدت إلى مكان مقتل المطران شير وشاهدت المغارة التي قتل فيها، وهي صغيرة وبالكاد تتسع لثلاثة أشخاص. ولا يزال رسول محمد آغا قاتل المطران حي يرزق، وقد هجر إلى سوريا وهو يعيش في قرية عين ديوار السورية المطلة على نهر دجلة في المثلث الحدودي السوري التركي العراقي " 31 .
4_ شهادة السيد حنا جلو: المدعو حنا جلو ينحدر من قرية ميدن القابعة في طور عبدين. نزح إلى سوريا وانضم إلى الجيش الفرنسي، وترقى إلى رتبة كرديموبيل لدى المستشار الفرنسي في منطقة عين ديوار، والواقعة في أقصى شمال شرق سوريا، على المثلث الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق عند نهر دجلة. وقد روى ما سمعه من الأخوين عكيد ورسول آغا وهذا نص الشهادة: " وصل إلى عين ديوار أخوان كرديان هما: عكيد آغا ورسول آغا أبناء إسماعيل آغا أحد زعيمي بلدة طنزي الكائنة في جبال البوتان جنوب شرقي تركيا، وذلك هرباً من سخط مصطفى كمال أتاتورك الذي أعدم المئات من زعماء الأكراد وآغاواتهم. وقد تعرفت عليهم، ومع الأيام توطدت العلاقة بيننا. فأخذ يرويان لي عن المجازر التي ارتكبوها بحق المسيحيين المسالمين في طنزي، وفي سياق الحديث ذكروا حادثة قتل المطران أدي شير، وكيف كانوا السبب المباشر في قتله. وقالا لي: يبدو أن الجريمة الفضيعة التي ارتكبناها بحق المسيحيين الأبرياء المسالمين، وخاصة بحق المطران أدي شير، هي التي تلاحقنا الآن. ويبدو أن الله ينتقم منا الآن جزاء ما اقترفناه بحق المسيحيين، فها أن ضميرنا يؤنبنا ويعذبنا ليل نهار. وأننا هاربون من ملاحقة مصطفى كمال زعيم تركيا، فقد كنا من زعماء الأكراد الأغنياء في منطقتنا، نملك الكثير، نأمر وننهي كما نشاء. أما اليوم فنحن مهاجرون وهاربون من وجه العدالة، ومطاردون لا نملك شيئاً. أما قصة مقتل المطران أدي شير فقد جرت على الشكل التالي: لما بدأت المجازر بحق المسيحيين وتم القضاء على معظمهم، فر المطران أدي شير من سعرت، وتوجه إلى قرية طنزي لدى صديقه عثمان آغا، ولما حل المطران ضيفاً على عثمان آغا، أراد عثمان الرجل الشهم أن ينقذ المطران من المصير الأسود الذي حل بالمسيحيين. وقد دافع عنه وأنزله في داره، مزمعاً أن ينقله سراً إلى مدينة الموصل. علماً أن تلك المنطقة كانت قد فرغت كلياً من الوجود المسيحي لأنهم ذبحوا جميعاً. وكانت العداوة شديدة بينه وبين إسماعيل آغا والد عكيد ورسول. وما أن علموا بوجود الضيف المسيحي لدى عدوهم عثمان آغا، في وقت كان يجب فيه أن يباد جميع المسيحيين كم نصت الأوامر السلطانية بذلك. ولما لم يكن بمقدور إسماعيل وولديه مجابهة عدوهم عثمان آغا، ويطلبوا منه أن يسلمهم ضيفه المسيحي ليقتلوه. فقد أسرع عكيد آغا في التوجه إلى سعرت، لإعلام السلطات هناك طالباً مساعدتهم. وقد استجابت السلطات له، وعاد ومعه مفرزة من الجيش النظامي بقيادة ضابط. وبوصول الجيش إلى طنزي توجهوا نحو بيت عثمان آغا، وأخذوا يضربون الرجال والنساء، يسألونهم عن مخبأ المطران، وكانت غرفة المطران في أعماق الدار. وما أن سمع المطران أصوات الجنود القادمين لقتله، وأصوات وصراخ الرجال والنساء من جراء الضرب والإهانات الموجه إليهم، حتى قام لفوره وخرج من غرفته ووقف وجهاً لوجه أمام الجنود قائلاً: أنا هو من تبحثون عنه، فلا تضربوا هؤلاء الأبرياء. أنني حاضر أمامكم فتفضلوا وافعلوا بي ما يطيب لكم. فألقى الجنود القبض عليه حالاً، وساقوه إلى دار رسول وعكيد آغا، حيث كان الضابط قائد المفرزة في المضافة منتظراً. وكان الضابط مثقفاً، وبعد محادثة قصيرة بالتركية أخذ يتحدثان بالفرنسية معاً. فقال له الضابط: لدينا أمر صريح بقتلك. فرد عليه المطران: أجل أني أعلم بذلك. فقال له الضابط: اعتنق الإسلام وستنجو، ولن يصيبك مكروه، بل لن يتجرأ أحد على مسك حينها. فرد عليه المطران وهو يضع يده على لحيته قائلاً: يا حضرة الضابط لا يليق بي أبداً أن أفعل ذلك، فإذا كان لديك أمر بقتلي فأنا حاضر للموت، ولا أستطيع أن أتخلى عن ديني وأعتنق الإسلام، فأهين نفسي وأحتقر ديني، وأخون جماعتي التي ائتمنتني. فأن مسؤول في طائفتي وديني، أرجو أن لا تطلب هذا مني. فقال له الضابط: إذاً استعد للموت. فرد عليه المطران: أنا حاضر يا حضرة الضابط. ولما كان الضابط لطيفاً في كلامه مع المطران، فقد أراد أن يقدم له هدية تقديرية، إذ كان يقتني في جيبه ساعة قيمة، فأخرجها وقدمها للضابط طالباً منه قبولها كهدية. فأخذها الضابط شاكراً. ثم قال له المطران: يا حضرة الضابط لدي طلب، أريد أن تقتلوني رمياً بالرصاص، لا أن تعذبوني وتقتلوني بالسيف والخنجر. فرد عليه الضابط بالإيجاب، واعداً بتحقيق طلبه. إلا أن الضابط بادره بالكلام ثانية قائلاً: يا حضرة المطران أنت رجل مسالم ومثقف، حرام قتلك. اسمع نصيحتي وأعلن إسلامك لتخلص. فأجابه المطران وقال: يا حضرة الضابط أني لا أستطيع أن أفعل ذلك أبداً، أرجو أن تنفذوا أمركم بقتلي، ولا تحاولوا أن تطلبوا مني ترك ديني ودخول الإسلام. أنا رجل دين لا يمكن أن أفعل هذا أبداً. فقال الضابط: إذاً لا يوجد حل آخر للموضوع. عندها طلب المطران من الضابط أن يسمح له أن يصلي صلاته الأخيرة، فأذن له بذلك. فأخرج المطران من جيبه كتيباً صغيراً وأخذ يصلي، وبعد أن انتهى وضع كتيب الصلاة تحت طرف البساط الذي كان جالساً عليه، ثم قال للضابط: أنا جاهز تفضلوا. ولما لم تفلح محاولات الضابط في حمل المطران على التخلي عن دينه المسيحي واعتناق الإسلام، أمر أحد جنوده وقال له: خذه بعيداً إلى تلك الشجرة وأعدمه هناك رمياً بالرصاص، دون أن تعذبه أبداً، وإن عذبته فسوف يحل غضبي عليك وأعاقبك. فأخذه العسكري إلى تحت تلك الشجرة، وبدأ في ضربه وتعذيبه وطعنه بخنجره، مخالفاً بذلك أوامر قائده، ومن ثم أطلق عليه الرصاص أخيراً فقتله. لقد أقسم كل من عكيد آغا ورسول آغا بأنهم شاهدوا بأم أعينهم مع سائر الآخرين، نوراً عجيباً نازلاً من السماء وحالاً على جثة المطران، وقد أخذ الأكراد في قرية طنزي يرددون بالقول: ذلك المسيحي الكافر قد نزلت عليه نار من السماء، وها هوذا يحترق في كفره. ويكمل عكيد ورسول بالقول: كأننا لم نصدق ما نرى ونشاهد، فانطلقنا بصحبة الضابط وتوجهنا حيث جثة المطران، ونحن ما زلنا نشاهد مبهورين ذاك النور الغريب نازلاً من السماء بشكل أشعاع متسربلاً جثته. وما أن بلغنا هناك حتى وجدنا أن النور قد اختفى، وليس هنالك أي أثر لنار أو حريق، كما أدعى الناس. ولما عاينا وضع الجثة وجدناها مطعونة بالخناجر، وآثار التعذيب والتنكيل بادية وواضحة عليها. فأدركنا بأن الجندي المكلف بالمهمة قد عذبه كثيراً قبل قتله. فصاح الضابط بذلك الجندي حانقاً: ألم آمرك بقتله رمياً بالرصاص دون أن تعذبه، وأنت عصيت أوامري، لذا لن تمتطي صهوة حصانك في عودتنا إلى سعرت، بل ستسير ماشياً طول مسافة الطريق وراء جوادي عقوبة لك. ويختم عكيد ورسول آغا بالقول: إن الوقت الذي قتل فيه المطران كان صيفاً، صادف فيه صوم المسيحيين. وكنا قد علمنا بذلك من المسيحيين الموجودين في قريتنا، أثناء قضائنا عليهم " 32. ويختم صاحب الشهادة أن الصوم المذكور هو صوم الرسولين بطرس وبولص، والذي يبدأ في 26 حزيران ولمدة ثلاثة أيام قبل عيدهما الواقع في 29 حزيران، وعليه أنه أستشهد في 27 حزيران. مفنداً بذلك ما قاله العديد من المؤرخين أن المطران شير أستشهد في 17 حزيران.
وأنا شخصياً أعقب عليه بالقول بأنني أرجح تاريخ 17 حزيران كما أكده العديد من المؤرخين، علماً أن الصوم المذكور كان خمسة عشر يوماً في تلك الفترة حسب طقس كنيسة المشرق الكلدانية. وأضيف موضحاً أن عكيد آغا ورسول آغا المذكورين لم يسكنا في عين ديوار، بل مرا فيها خلال هروبهم من تركيا، وسكنا أولاً في قرية تل خنزير. وبعد أن اختلفا مع نايف باشا آغا عشيرة الكوجر رحلا إلى قرية زغاة قرب ديريك " المالكية " واستقروا فيها، بعد أن اشتروا أرض زراعية فيها. وبقي عكيد آغا وزوجته ابنة جميل جتو آغا منطقة غرزان وأبنائه ميجر وكنعان وعكيد في زغاة حتى يومنا هذا. أما زوجته الأخرى وأبنائها فقد عادوا مع أخاه رسول إلى طنزي بعد فترة. وهذه المعلومات مؤكدة لأنني أعرف ميجر ابن عكيد آغا شخصياً، وهذه المعلومات حصلت عليها منه بطريقة غير مباشرة، عندما كنا نتبادل أطراف الحديث خلال لقاءات جمعتنا مع بعض الأصدقاء في عدة مناسبات.     
5_ شهادة السيدة حلاته حنا: وهي سيدة كلدانية من سعرت التقى بها الأب جوزيف نعيم  33 في استنبول بعد المذابح، وقد حدثته عن مقتل المطران أدي شير والعديد من الكهنة:  " كنت بين نساء سعرت اللواتي سقن إلى الذبح وعددهن حوالي الألف، وفي الطريق قتل عدد كبير من النساء، وعند عبورنا نهر خازر رمت بعضهن  أطفالهن في مياه النهر من جراء إرهاقهن الشديد، وما أن وصلنا إلى قرية بيكند أخذونا إلى المكان الذي قتلوا فيه كلدان القرية لذبحنا هناك. وقد تمكنت من الهروب عن طريق راعي كردي من قرية بيكند كان يتردد إلى بيتنا في سعرت. وبعد أن عدت إلى سعرت عملت طباخة عند حاكم المدينة بيرام فهمي بك. سمعت أن مسلمي المدينة قرروا أن لا يبقى أي مسيحي فيها،  كان دار المطرانية في سعرت قبل مقتل المطران قد أصبح ملجأ لكهنة كنائس القرى هرباً من المذابح الجارية في قراهم، وممن أعرفهم هم الآباء: الأب جورج كاهن قرية بركي، والأب حنا كاهن قرية صداغ، والأبوين موسى ويوسف كاهني قرية كيدوانس، والأب ميشيل كاهن دير مار يعقوب، والأب يوسف كاهن قرية بيكند، والأبوين جرجيس وعازار كاهني  قرية قوطميس، والأبوين عازر وهرمز كاهني سعرت، وسكرتير المطران الأب كبرئيل أدمو. جميعهم قتلوا بوحشية. كما وضعت السلطة المطران أدي شير تحت الإقامة الجبرية في دار المطرانية، بعد أن دفع رشوة لحاكم المدينة قدرها 500 باوند ذهبي بعد أن وعده بإبعاد القبائل الكردية المسلحة عن المدينة. وقد أرسل عثمان آغا الطنزي الرجل الشهم وهو صديق مقرب من المطران خمسة عشر من رجاله الأشداء، وحضروا إلى دار المطرانية ليلاً وأخرجوا المطران بعد تنكره بلباس كردي، وساروا به إلى قرية طنزي في جبال البوتان التي تبعد مسافة ستة ساعات سيراً على الأقدام، وهناك استقبله أحسن استقبال على أمل أن يسفره إلى الموصل للنجاة من مصير محتوم. وفي الصباح وما أن علمت السلطة بالأمر، حتى سيرت كتيبة من الجيش. وقبل وصولها إلى القرية أرسلت خبر للآغا تدعوه لتسليم المطران وإلا قتل مع جميع أهل بيته ورجاله، لكنه رفض طلبهم قطعياً وأخذ عائلته وهرب تاركاً رجاله يحرسون المطران المخابئ في  " ديري بسان "، قرب قرية دير شو. وبعد قتال مرير كشفوا المخبأ وألقوا القبض على المطران، فعرضوا عليه الإسلام لقاء بقائه حياً، لكنه رفض طالباً منهم بضعة دقائق ليصلي فسمح له بذلك، وبعد أن انتهى من الصلاة أطلقوا النار عليه فاردوه قتيلاً، وقد رأيت بعيني خاتم المطران في إصبع أحد الضباط خلال تجواله في سعرت. كنت في بعض الأحيان أمر أمام كنيستنا الكبيرة التي حولت إلى إسطبل للحيوانات أشعر بحزن كبير وأجهش بالبكاء، وقد دنسوا مقبرتنا الكلدانية وقلعوا أحجار القبور وعبثوا بجثث الموتى. أينما أدرت وجهي رأيت مشاهد حية لقسوة المتزمتين، وكأن الجحيم فتحت أبوابها على أحيائنا الكلدانية. لقد رأيت بعيني كيف جمعوا الأطفال بين سن السادسة والخامسة عشر، وأخذوهم إلى قمة الجبل المعروف رأس الحجر، وهناك قطعوا رقابهم الواحد تلو الآخر، ورموا جثثهم في الوديان " 34 .
6_ شهادة السيد بطرس حنا: كلداني من مدينة سعرت، بعد أن هرب إلى ماردين تحدث للمطران إسرائيل أودو 35  عما شاهده وسمعه بالقول: "  في 13 حزيران 1915 هجم المجرمين على كلدان قرية مار يعقوب الحبيس، ومن المعلوم أن القرية كانت تضم ديراً شهيراً فيه مكتبة منظمة. فألقي القبض على الرجال، وبعد أن تحملوا عذابات متنوعة في السجن، أخرجوهم وقتلوهم جميعاً، إلا القليل منهم وجدوا طريقة للهرب ونجوا. وألقي القبض أيضاً على المطران أدي شير، لكنهم أفرجوا عنه مؤقتاً على أمل أن يسلمهم ما كان يملكه من أموال، ومن ثم يلقوا القبض عليه من جديد ليساق إلى الموت. وقد علم المطران بما يضمرون له من شر. ففي تلك الليلة التي أطلق فيها سراحه، وجد وسيله للخروج من سعرت بمساعدة بعض المحبين، وقد رافقه القس يوسف كاهن قرية بيكند وشماسه. وفي الصباح علم متصرف سعرت بخبر هروبه، فأرسل للحال جنوداً ليتعقبوه ويلقوا القبض عليه، وأبرق لحراس الطرق والحدود للعمل على القبض عليه قبل أن يعبر حدود إقليم سعرت. وبالفعل ألقي القبض عليه مع رفيقيه، أما محبيه الذين ساعدوه على الخروج من سعرت فقد تركوه وهربوا، إذ لم يستطيعوا إنقاذه. وقد تلي عليه حكم الموت الصادر بحقه، لكن المطران سمع الحكم برباطة جأش ولم يخف أو يقلق، بل طلب من الجنود فرصة ليصلي استعداداً للموت. فلبس حالاً حلته الأسقفية التي كانت معه، ثم سجد وصلى وبعد أن انتهى من صلاته ألتفت نحو الجنود وقال لهم بشجاعة: تعالوا وأكملوا وظيفتكم. فحالاً صوبوا بنادقهم نحوه وأطلقوا عليه النار، فسقط على الأرض صريعاً ودمه ينزف كالنبع. فأقترب أحد الجنود وقطع رأسه وجاء به إلى سعرت وقدمه للمتصرف ليتأكد من قتله. ثم أرسل المتصرف رأس المطران شير ليرمى في باحة كنيسة الكلدان حتى يشاهده النساء والأولاد المسيحيين، عله بهذا يخيف الكلدان المتبقيين وهم يشاهدوا ما حل بمطرانهم. هذه الحادثة حدثني إياها شاب كلداني من سعرت اسمه بطرس حنا، وهو شاهد على ما جرى، لأن بيته كان مقابل باب الكنيسة الجديدة للكلدان  " كاتدرائية العائلة المقدسة " في حي عين صليب. فكان يرى ويسمع ما كان يجري مع أخيه جرجس وأمهم سيدة " 36 .         
7_ ما قاله الأخ إياسنت سيمون: " من مواليد شقلاوة التابعة لأبرشية كركوك الكلدانية في الثالث من آذار 1867. ألتحق بالإكليريكية الكلدانية السريانية للآباء الدومينيكيين بالموصل عام 1879، وسيم كاهناً في الخامس عشر من آب 1889. يعتبر من أول الآباء وأول أسقف أنشأته تلك الإكليريكية. رسم مطراناً في الثلاثين من تشرين الثاني 1902 وانتقل إلى سعرت أبرشيته الجديدة، تسبقه إليها شهرته كرسول وعالم. وقد ساعد علم رئيس الأساقفة في الشؤون الشرقية، وتأثيره الشخصي وحظوته لدى السلطات في وضعه في المرتبة الأولى، هذا بالإضافة إلى أن ما أشيع عن ثروته الهائلة، جعله في الصف الأول بين الضحايا التي اختارها الموظف التركي. فاستدعي ظهر السادس من حزيران 1915 إلى قسم الشرطة، وحكي هناك بأمور غامضة، لكنه تمكن من ترك سعرت في الليلة نفسها متخفياً بزي كردي يرافقه صديقه عثمان آغا. لم يبعد كثيراً إذ وضع سعرٌ لرأسه، وكانت جميع معابر الجبل تحت الحراسة العسكرية. امتطى جواده طيلة الليل. وما إن بزغ الفجر حتى بقيت أمامه ثماني ساعات لاجتياز حدود أبرشيته، والاحتماء في ولاية الموصل. لكنه عندما وصل محلة دير شو التابعة لقائممقامية شرنخ  37 صادفته فرقة من العسكر التركي. فخاطبه الضابط قائلاً: مهلاً أيها الكردي. وبعد أن كشف هوية الهارب النبيل قال: أأنت رئيس أساقفة سعرت. فأجابه المطران قائلاً: أنا هو. ثم دار بينهم الحديث التالي:
الضابط: أوقفك هنا باسم الحكومة.
المطران: حسناً سأتوقف هنا.
الضابط: ستموت هنا باسم الحكومة.
المطران: حسناً سأموت هنا. ثم نزل من على صهوة جواده، ثم أردف قائلاً للضابط: أترك لي فقط خمس عشرة دقيقة من الحرية.
تصوروا ما كانت عليه تلك الدقائق من الحوار السامي بين روحٍ وباريها في حضور الجلادين والأبدية. لقد مرت في سرعة، وفي اللحظة الأخيرة أراد المطران أدي أن يموت كأسقف. فخلع عنه الثياب الزائفة، ووضع على جسده جبته الحمراء، وفي إصبعه خاتمه الأسقفي، ثم أمسك الصليب بيده، وانتصب في فخر قائلاً إلى الجنود: أنا جاهز أستطيع أن أموت. وصرعت رصاصات ثلاث الأسقف الشاب الجليل.
وقد اعترف الجلادون بأنهم ما رأوا أبداً رجلاً يموت بهذا النبل. وشهادة على إعجابهم قاموا بحفر ضريح، وضعوا فيه جثة ضحيتهم. الشرف للمطران أدي فقد أكمل سلسلة الأساقفة الكاثوليك الثابتين في إيمانهم حتى الموت "  38 .
8_ ما قاله الأب أسحق أرملة 39 : " أما السيد أدي شير النبيل، فأشار عليه عثمان آغا الدير شوي أن يرحل عن سعرت إلى دير شو. وما مر عليه أسبوع حتى شعر به علي نقيب الأشراف والقاضي، فجردا إليه العسكر. ولما أبصروه وثبوا عليه وأرادوه على الإسلام فأبى. فصوبوا نحوه البنادق ليقتلوه، فقال لهم: سألتكم بالله أن تمهلوني هنيهة. فجثا وصلى، ثم لبس ثوبه وتقلد صليبه وركع وقال: لكم الحرية أن تفعلوا ما يعجبكم. فأوغلوا في تعذيبه، وفتكوا به. وعادوا بأمتعته إلى سعرت، وسلموها للقاضي وعلي نقيب الأشراف. غير أن الله جلت أحكامه انتقم للحال من علي المزبور، ومن ابنه أيضاً، فقتلا كلاهما شر قتلة. وبعد مقتل المطران تشاغل الأعداء بعد ذلك بتوزيع أموال المسيحيين، واستحلال أرزاقهم ومساكنهم. فجعلوا كنيسة الكلدان الكبرى 40 جامعاً سموه الجامع الخليلي، تيمناً بخليل باشا رأس النحوس عندهم " 41 .
الخاتمة: بعد أن استعرضنا عدة شهادات حول مقتل الحبر الجليل مار أدي شير، وهو في ريعان الشباب إذ لم يبلغ من العمر سوى 48 ربيعاً. وخلال هذه السنين القليلة أغنى كنيسة المشرق بكم هائل من مؤلفاته الثمينة، وأعماله الباهرة من خلال ما شيد من كنائس ومدارس في أبرشيته العريقة والمترامية الأطراف. ولولا رحيله المبكر لأتحفنا بوضع عشرات التصانيف الأخرى. إذ أن اللغات العديدة التي كان يجيدها، كانت وسيلة طيعة في اتصاله بالثقافات العالمية. وهمته القعساء كانت ستؤول إلى بنيان صروح شامخة في أبرشيته العريقة لما فيه خير النفوس، وهذا واضح من رسائله المخطوطة التي كان يرسلها لذويه. ففي رسالة كتبها لأخيه القس بطرس شير 42 مؤرخة في أيلول 1910 يقول فيها: "  أخي العزيز القس بطرس شير المحترم. السلام بالرب مع القبلة الأخوية. منذ مدة لم أكتب لك، وسبب ذلك هو أنني لم أكن في سعرت. بل كنت أتفقد الأبرشية التي فيها ثلاثة وثلاثون قرية. منها بعيدة المسافة من يوم واحد إلى أربعة أيام سيراً على الأقدام، ومنها أقرب. تسلقت الجبال العالية، وكان فرح أهل القرى عظيماً، لأنهم كانوا لأول مرة يشاهدون أسقفاً يزورهم. قرى طيبة ولكن شقلاوة أطيب منها. قضيت ثمان وثلاثين يوماً في جولتي هذه ". وفي رسالة ثانية مؤرخة في تموز 1911 يقول فيها: " إلى عزيز نفسي القس بطرس حنا شير المحترم مع القبلة الأخوية. من زمن لم أكتب لك لأني مشغول جداً. أنا مضطر أن أذهب يومياً للحضور في المجالس الحكومية بسبب قضاء أشغال أبناء الأبرشية الكلدانية. وإضافة إلى ذلك متابعة احتياجات المهاجرين الأرمن واليعاقبة ". أمام مضمون هاتين الرسالتين نقف بإجلال وإكبار أمام حيوية ونشاط هذا الحبر النبيل، من خلال ما كان يبذله من جهود مضنية، لتفقد أحوال أبناء الأبرشية في القرى القابعة في الجبال العالية والبعيدة، في زمنٍ كان يفتقد إلى وسائل النقل المتوفرة اليوم. فكل الزيارات كانت تتم على ظهر الخيل إذا كان الطريق سهلاً، أو سيراً على الأقدام إذا كان الطريق وعراً. ناهيك عن المراجعات اليومية لدوائر الدولة لمساعدة أبناء الأبرشية في سلطنة تفتقر إلى القانون، وشعبٍ يعبث بحقوق المسيحيين المسالمين. ولم تتوقف جهوده عند مساعدة أبناء أبرشيته فقط، بل شملت المسيحيين المظلومين والمعذبين من جميع الطوائف.   
وأمام قصة استشهاده أذكر صوت الرب الصارخ من السماء، وهو ينادي قايين بعد أن قتل أخيه هابيل:  " ماذا صنعت إن صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض " 43 . فصوت دماء هذا الحبر النبيل من السماء تنادي كنيسته الكلدانية، منذ أكثر من تسعين سنة، وتدعوا أحبارها الأجلاء بالقول: " ألا أستحق أن أكون مكرماً على مذابح الكنيسة، أنا الذي بذلت دمي في سبيل إيماني بالمسيح. أليست هذه التضحية مفخرة لكنيستي الكلدانية، فلماذا تغضون الطرف عن شهادتي ". فهل تجد هذه الصرخة آذان صاغية ؟.         
-----------------
1_ شقلاوة: وتعرف في المصادر الكلدانية باسم شقلاباذ، ويرجح أنها تعني " العامرة بالمياه والأشجار ". مصيف شهير في شمال العراق، مركز قضاء تابع لمحافظة أربيل يبعد عنه مسافة 50 كم. تقع شقلاوة على سفح جبل سفين الذي يحدها من ناحية الغرب والجنوب، والشهير بالغابات الكثيفة الواسعة. ويحدها من الشرق والشمال جبل سورك. تشتهر شقلاوة بعيون المياه والبساتين الشهيرة بجميع أنواع الفاكهة.

2_ القس يعقوب شير: ولد في شقلاوة حوالي سنة 1940. تعلم القراءة عند والده القس حنا. بعد وفاة والده أرسله مار يوحنا تمرز مطران كركوك إلى دير الربان هرمزد ليتعلم الواجبات الكهنوتية. رسم كاهناً لخدمة النفوس في شقلاوة. عرف بعطفه الشديد على المحتاجين واليتامى والأرامل. وبسبب تواضعه رفض عرض مطران الأبرشية لترقيته لمنصب رئيس كهنة الأبرشية. توفي سنة 1903.

3_ الأب يعقوب الدومنيكي: هو جاك ريتوري ولد في فرنسا سنة 1841. دخل الرهبنة الدومنيكية. جاء إلى الموصل سنة 1874 وهناك تعلم العربية والكلدانية وألف العديد من التراتيل بلهجة السورث أشهرها " بشما دبابا وبرونا ". سنة 1881 زار جبال البوتان وسعرت حتى استقر في وان وفتح فيها رسالة للدومنيكان، وكان سكان القرى يدعوه " ياقو نوخريطا " أي يعقوب الغريب. سنة 1914 أبعد إلى ماردين التي وصلها في 29 كانون الأول على أن يكمل السير إلى ديار بكر حسب أوامر السلطات العثمانية، وبسبب شيخوخته وصعوبة التنقل لقسوة الشتاء أراد أن يرتاح في ماردين، ومن ثم يكمل طريقه في الربيع، وهذا يتطلب موافقة السلطات. فكتب المطران تبوني إلى بطريرك الكلدان مار عمانوئيل توما يحثه على استحصال الموافقة. واستطاع البطريرك أن يحصل عليها لما كان له من قدر واحترام، وما له من كلمة نافذة لدى السلطات، وعليه بقي في ماردين. وخلال وجوده فيها عاش هول المذابح الرهيبة التي جرت بحق المسيحيين، وهناك سطر مجريات ما شاهد وسمع، ووضعها في كتاب عنوانه " المسيحيون بين أنياب الوحوش ". سنة 1916 سافر إلى قونية ومنها إلى اسطنبول ومن ثم إلى باريس. عاد مجدداً إلى الموصل وخدم فيها حتى توفي هناك سنة 1920 ودفن في كنيسة الآباء الدومنيكان.

4_ معهد مار يوحنا الحبيب: افتتحه الآباء الدومنيكان في الموصل سنة 1878 بجهود القاصد الرسولي المطران لويس ليون ورئيس رسالة الدومنيكان في العراق الأب بطرس دوفال. والمعهد هو شبه دير يعيش فيه التلاميذ المختارين لسلك الكهنوت حياة داخلية نظامية، فهناك أوقات منظمة للصلاة والتأمل والإرشاد والدرس. أغلق قسم الكبار الذي كان يدرس فيه الفلسفة واللاهوت سنة 1973. كذلك أغلق قسم التحضيري الابتدائي سنة 1985. تخرج من هذا المعهد الكثير من الشخصيات الكنسية في طائفتي الكلدان والسريان الكاثوليك منهم بطاركة وأساقفة وكهنة.
   
5_ البطريرك إيليا عبو اليونان: ولد في الموصل سنة 1840. سنة 1855 أرسل إلى روما للدراسة في مجمع انتشار الإيمان. وعلى أثر مرض ألم به عاد إلى الموصل وفيها أنهى دروسه. رسم كاهناً سنة 1865. رسم مطراناً على الجزيرة العمرية سنة 1874. انتخب بطريركاً سنة 1878. توفي في الموصل سنة 1894.

6_ المطران جبرائيل آدمو: ولد في سعرت سنة 1851. درس في روما ورسم كاهناً هناك سنة 1878. عاد إلى الموصل فعهد إليه إدارة المعهد الكهنوتي. انتخب مطراناً لأبرشية كركوك سنة 1883. انتخب سنة 1894 بطريركاً خلفاً للبطريرك إيليا عبو اليونان، لكنه رفض هذا المنصب بإصرار. توفي في كركوك سنة 1899.
 
7_ البطريرك عبد يشوع خياط: ولد في الموصل سنة 1828. درس في روما حيث رسم كاهناً ثم عاد إلى مسقط رأسه وخدم هناك. رسم أسقفاً على أبرشية العمادية وذلك سنة 1860. لكنه قدم استقالته قبل أن يستلم مركزه، فأتخذه البطريرك يوسف أودو معاوناً له. عين مدبراً لأبرشية آمد ( ديار بكر ) ثم مطراناً أصيلاً عليها. انتخب بطريركاً سنة 1894. توفي في بغداد سنة 1899.

8_ المطران يوسف خياط: ولد في بغداد سنة 1856. درس في المعهد الكهنوتي البطريركي بالموصل. رسم كاهناً سنة 1882 وخدم في بغداد. سنة 1885 عين وكيلاً بطريركياً في مصر. وفي سنة 1886 عين وكيلاً بطريركياً في استنبول وقضى فيه

142
الاتهام الباطل دليل انحياز وخطيئة
الشماس: نوري إيشوع مندو
يبدو من ردود الشماس كوركيس مردو أنه مجند لتسويق تهم باطلة نحو شخصيات كنسية معروفة بنزاهتها لدى القاصي والداني ودون أدلة، إنما من باب الحزر!! فما طرحه من جديد زوراً وبهتاناً  دليل على أن الشماس مردو نصب نفسه طرفاً ضد أخر، وليس كما قال إن رغبته : " هي في عدم توسيع هوة الخلاف القائم بين رعاة كنيستنا والدعوة إلى تقويضها وردمها بالكامل ".
وحيث أن الشماس هادي حياوي اتهم في مداخلة له على موقع عينكاوة سيادة المطران لويس ساكو السامي الاحترام باطلاً بمدح موقع عينكاوة من غير مبرر. وقد رد سيادته عليه بالقول موضحاً: " أين رأيتني امتدح موقع عينكاوة سوى في تقديم شكري للمعزين بوفاة والدتي حيث قلت أن الموقع هو خيمة للعراقيين في الداخل والخارج في أفراحهم وأحزانهم ".
واليوم يتقصد الشماس مردو في مداخلته رداً على سيادة المطران بطرس الهربولي السامي الاحترام، بذكر ما قاله المطران ساكو عن موقع عينكاوة بعد تحريفه من قبل الشماس هادي. فهل يستطيع الشماس مردو أن يصف نبش القبور كما يقول المثل أسلوب حضاري في التفاهم خدمةً لمصلحة شعبنا وكنيستنا كما يدعو، وهل تكرار ما سلف من ادعاءات باطلة هي دعوة للجميع إلى اعتماد فضيلتي التواضع والمحبة كما يدعي ؟ . 
وأية جريمة اقترفها المطران بطرس الهربولي: " عندما ذكر أن جميع ردود الفعل على بيانناً جاءت من أشخاص موجودين في الخارج ". فهل هذه العبارة هي دعوة لفصل أبناء الكنيسة الذين في الخارج عن إخوتهم الذين في الداخل كما يدعي شماسنا الفاضل مردو توهماً ؟ أليس في كلام سيادته شيء من الواقعية فالمثل يقول: " من يأكل العصي ليس كما من يحصيها ". وهل التنظير من بعيد أصح من مشاعر من يعايش الحدث. ولماذا يغض الطرف شماسنا الفاضل عن قول المطران ساكو في رده على الشماس هادي: " أتمنى ممن يكتبون عن هذا الموضوع أن يعتمدوا الموضوعية و لا يبنوا على عواطف ... نحن لن نقسم الكنيسة أبداً ولا نريد الإساءة لها، لكن أن نكون صوتاً يطالب بالإصلاح فهذا عمل نبيل لماذا تلومنا عليه وأنت جالس على تلة السلامة ".
أليس الأنبراء للدفاع عن طرف دون وجه حق مهاترة كما قال المطران بطرس الهربولي، ولماذا الامتعاض من هذه الكلمة التي أضحت الشغل الشاغل للشماس مردو وغيره، وكأنها تجديف ضد الروح القدس. وأليس من المعيب أن يتهم مطارنة بـ " الانفعال دليل ضعف ". وهل تغيرت المعايير في تقييم الأمور بمزاجية واضحة. وأضحت الدعوة للإصلاح تقسيماً، ودراسة المستجدات تمرداً، والأبيض أضحى أسوداً. وهنا أتسأل من الذين يدافعوا عن السينودس البطريركي الأخير، أين أنتم من التجاوزات التي حصلت فيه، والتطاول على القانون التي تمت به. ولماذا لم نسمع رأيكم السديد في ذلك ؟. لماذا لم تسألوا المطران شليمون وردوني عن سبب نشره بياناً على موقعي البطريركية وعينكاوة قبل إذاعة البيان الرسمي من قبل أمين سر السينودس أصولاً، وما هي غايته من ذلك ؟. ولماذا لم تتسألوا عن تسريب أسمي الأسقفين المنتخبين من قبل بعض الأحبار ؟. كل هذه التجاوزات حصلت ولم تعتبر إهانة بنظركم بحق كرامة المؤسسة البطريركية. أما كلمة المهاترات اعتبرت إهانة، وطبل وزمر لها بشكل مثير! ! !
وإذا كانت الغاية من ذلك حملة مبرمجة ضد بعض أحبار كنيستنا للنيل من كرامتهم بسبب دعوتهم للإصلاح كي تكون كنيستنا في العراق وخصوصاً في هذه الظروف الراهنة: كنيسة حيّة مشعة فاعلة في محيطها العراقي والمسيحي روحياً وثقافياً واجتماعياً. وما بالك إذا فكرنا بكشف القناع عن بعض الكنسيين المرتزقة الذين يستخدمون الكنيسة مطية لتحقيق مأربهم الشخصية؟ يكفينا يا أخوة تجريحاً، ليكن خطابنا ايجابياً ولنكن مع الحق من أين أتى!

143
صفحات جلية من تاريخ أبرشية سعرت الكلدانية
                                                                         الشماس نوري إيشوع مندو                                                                                                       
1_ الاسم والموقع: سعرت أو سعرد بلدة من ديار ربيعه، تقع في سهل فسيح غزير العيون كثير الخصب، ينساب في جنوبه نهر دجلة، ويروي قسمه الغربي نهر البوتان، وترتفع في شماله جبال بتليس العالية. تبدو سعرت للعيان كجنة غناء، يسيح بها الكثير من أشجار التين والرمان والبندق والبطم والكروم. دعيت سعرت قديماً " المتبددة "، وأيضاً " أرزن " باسم مدينة كانت تقع غربي سعرت ، ودعيت أيضاً " المدينة البيضاء ".
جاء في معجم البلدان " أرزن مدينة مشهورة قرب خلاط، ولها قلعة حصينة، وكانت من أعمر نواحي أرمينية، وأما الآن فبلغني أن الخراب ظاهر فيها، وقد نسب إليها قوم من أهل العلم " . فتحها العرب المسلمون على يد عياض بن غنم، وفي القرنين الرابع والخامس عشر كانت تابعة لمقاطعة " حصن كيبا " وتحت حكم الصفويين، حتى أضحت تحت حكم العثمانيين سنة 1553م، حيث تبعت مقاطعة     " ديار بكر "، ومن ثم " بدليس ". وأصبحت مركز قضاء، وحالياً مركز ولاية. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كانت أكبر مدينة في بلاد " البوتان "، التي عرفت قديماً باسم " زوزان ".
جاء في دائرة المعارف للمعلم بطرس البستاني: " سعرت أو اسعرد، مركز متصرفية باسمها في ولاية بتليس من أملاك الدولة العلية في كردستان. موقعها إلى الجنوب الغربي من تبليس على مسافة نحو 54 ميلاً، وهي في سهل يسقيه نهر الخابور الذي بينه وبينها مسافة ميلين، وهي في 38 درجة من العرض الشمالي، وفي 43,40 درجة من الطول الشرقي، وبالقرب منها كثير من الرمان والتين والكروم، وكله يسقى بماء المطر، سكانها نحو 15 ألفاً، وهي في موقع تيغرا نوسرت أو ديكران كرد، متصرفية سعرت فيها خمسة أقضية وهي 1_ أدوه. 2_ شروان. 3_ غرزان. 4_ برواري.        5_ رضوان " .
جاء في المنجد في الأعلام: " سعرت أو سعرد، بلدة على حدود أرمينيا وكردستان 5000 نسمة، اشتهرت سابقاً بصناعة الأسلحة والأقمشة، كانت كرسياً أسقفياً للكلدان " .
2_نشأة أبرشية سعرت وحدودها: ينسب تقليد كنيسة المشرق تبشير " أرزن " والمناطق المحيطة بها، إلى الرسول أدي ومن ثم لتلميذه ماري، وبعد أن بشر أدي أرزن، وأنار أهلها بأشعة الإيمان المسيحي " شاد كنيسة في أرزن دعيت باسمه " . أما ماري " فبعد أن بشر نصيبين انطلق إلى أرزن مستصحباً القس انسيمس الرهاوي والشمامسة فيلبس وملكيشوع وأدا وطوميس وفافا وأيوب، وأجرى الله على يده عجائب جمة، أخصها إبراؤه والي أرزن من مرضه، والذي آمن واعتمد وأبناء بيته، وابتنى كنيسة في أرزن عاصمته، وأقام لها ماري كهنة وشمامسة، وارتحل عنها إلى بيث زبدي وبيث عربايا ونصّر قسماً صالحاً من أهاليها " . وفي القرون الأولى للمسيحية كانت أرزن  أسقفية تابعة لكرسي نصيبين الميطرابوليطي، ومن الأسقفيات الهامة في كنيسة المشرق، أما أبرشية سعرت فيعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، زمن انضمام البطريرك سولاقا إلى الكنيسة الكاثوليكية، وعليها لم يجد الباحثون آثاراً تذكر لهذه الأبرشية قبل هذا الزمن. لأن منطقة " البوتان " الواقعة شرق سعرت، كانت تتبع أبرشية " آثيل ". ومنطقة " أرزن " الواقعة غرب سعرت، كانت تتبع أبرشية " حصن كيبا ". وبعد انضمام سعرت والمناطق المحيطة بها " بوتان وأرزن " إلى الكنيسة الكاثوليكية، أصبحت سعرت كرسياً أسقفياً وذلك سنة 1553. وفي عهد البطريرك عبديشوع الرابع مارون سنة 1555، أضحت سعرت رئاسة أسقفية، يتبعها أسقف " اشي " الواقعة في جبل البوتان .
وقد اتخذ البطاركة الثلاثة الذين خلفوا البطريرك الشهيد سولاقا، سعرت مقراً لكرسيهم. وسكنوا في دير مار يعقوب الحبيس الذي بجوارها، وذلك من سنة 1555م وحتى سنة 1600م، وهؤلاء البطاركة هم: عبد يشوع الرابع مارون، ويبالاها الرابع، وشمعون الثامن دنحا. وبعد انفصال سلسلة البطريرك سولاقا عن الكنيسة الكاثوليكية، بقيت أبرشية سعرت خاضعة لبطريركية آمد الكاثوليكية. واستمرت حتى دمرت سنة 1915م. وحتى هذا التاريخ كانت الأبرشية تضم المراكز التالية:
1- سعرت. 2- قوطميس. 3- مار كوريا. 4- كيداونيس. 5- تل ميشار. 6- بنيكف. 7- دهوك. 8- بيركة. 9- راموران. 10- دهربان. 11- دهمزيان. 12- ارجيقانس. 13- اجنبت.         14- قوريج. 15- اوريج. 16- بوريم. 17- شويتا. 18- روما. 19- حاخ. 20- بيروز.     21- دنيتاس. 22- قيرانس. 23- ارتون عليا. 24-ارتون سفلى. 25- طال. 26- أزار. 27- كير أثل. 28- مار انش. 29- صاداخ. 30- مار خانس. 31- مار يعقوب. 32- مارت شموني.   33- حديدي. 34- بركي. 35- بيكندي. 36- دير شمش. 37- قب . 
3_ المطارنة الكلدان في سعرت: تعاقب على رئاسة أبرشية سعرت منذ زمن الاتحاد سنة 1553م، وحتى سنة 1915م زمن دمار الأبرشية. ثلاثة عشر مطراناً هم: 
1_ المطران يوسف (1553- 1582): رسمه البطريرك سولاقا مطراناً على سعرت سنة 1553م، أرسله البطريرك عبديشوع الرابع مارون إلى الهند سنة 1561م، لزيارة كنيسة المشرق هناك. توفي سنة 1582م.
2_ المطران إيشوعياب (1582- 1617): رسمه البطريرك إيليا الخامس مطراناً على سعرت، وجد اسمه في رسالة للبابا بولس الخامس سنة 1610م، وقد سمي فيها( إيشوع ديدي ) وهي ترجمة لاتينية لكلمة إيشوعياب.
3_ المطران إيليا (1617- 1620): رسمه البطريرك إيليا الحادي عشر مطراناً على آمد، وفي سنة 1617م نقل إلى مطرانية سعرت، وقد دون اسمه بين الأساقفة الذين حضروا مجمع آمد سنة 1616م، توفي سنة 1620م، وقد دفن أمام باب دير مار يعقوب الحبيس حسب وصيته.
4_ المطران إيشوعياب (1620-1652): ورد اسمه بين كمطران لأبرشية سعرت، في الرسالة الثالثة المرسلة للبابا بولس الخامس سنة 1620م.
5_ المطران يوحنا (1652- 1673): ذكر اسمه بين أسماء المطارنة، في الرسالة التي بعثها البطريرك إيليا الثالث عشر، للبابا كليمانت التاسع، بعدها ترك الشركة مع الكنيسة الكاثوليكية.
6_ المطران شمعون (1701-1742): رسمه البطريرك يوسف الثاني مطراناً على سعرت سنة 1701م، وعندما سافر البطريرك يوسف الثالث إلى روما سنة 1731م، كلف المطران شمعون بإدارة شؤون البطريركية خلال غيابه، وخلال وجوده في آمد، اشترى قريتين لأوقاف البطريركية.
7_ المطران حنا كيمو (1744- 1786): رسمه البطريرك يوسف الثالث مطراناً على سعرت سنة 1744، وقد دبر أبرشيته أكثر من أربعين سنة.
8_ المطران بطرس شوريز (1793- 1822): ولد في سعرت، رسمه المطران خنيشوع مطراناً على سعرت بطريقة غير شرعية، وفي سنة 1796م سافر إلى روما ليطلب المغفرة على تصرفه، وقد حله البابا بيوس السادس، وثبته مطراناً على سعرت، توفي سنة 1822م .   
9_ المطران ميخائيل كتولا (1826- 1855): ولد في تلكيف سنة 1792م، ترهب في دير الربان هرمز، رسمه البطريرك يوسف الخامس مطراناً على سعرت سنة 1826م، وتمت رسامته في مدينة سعرت، رمم دير مار يعقوب الحبيس، وأحضر عشرة رهبان من دير الربان هرمز لإعادة الحياة فيه، كان خطيباً متفوهاً وخطاطاً ماهراً، توفي سنة 1855م.
10_ المطران بطرس برتتر (1858- 1884): ولد في خسرواه سنة 1809م، درس في مجمع انتشار الإيمان في روما، رسم كاهناً سنة 1836م، خدم في بغداد والموصل، حتى رسم مطراناً لسعرت سنة 1858م، بوضع يد البطريرك يوسف السادس أودو. شارك في المجمع الفاتيكاني الأول، فتح إكليركية في دير مار يعقوب الحبيس، وجاب مطبعة كلدانية من روما. شيد دار المطرانية بسعرت. استقال سنة 1884م. توفي في قرية بيروز سنة 1885م، ودفن في دير مار يعقوب الحبيس. 
11_ المطران يعقوب نعمو (1885- 1888): ولد في الموصل سنة 1827م من عائلة سعرتية، رسمه البطريرك أودو كاهناً سنة 1863م. عين كأول مدير للمعهد البطريركي سنة 1867م، رسمه البطريرك إيليا الثاني عشر عبو اليونان مطراناً على سعرت سنة 1885م. عين نائباً بطريركياً في بغداد سنة 1888م. توفي سنة 1895م.
12_ المطران يوسف عمانوئيل (1892- 1900): ولد في ألقوش سنة 1852م، أكمل دروسه عند الآباء اليسوعيين في بيروت، رسم كاهناً سنة 1879م. رسمه البطريرك إيليا الثاني عشر عبو اليونان مطراناً على سعرت سنة 1892م، وخلال مطرنته شيد كاتدرائية العائلة المقدسة في سعرت. انتخب بطريركاً سنة 1900م. توفي سنة 1947م. 
13_ المطران أدي شير (1902-1915): ولد في شقلاوة سنة 1867م، تلقى العلم عند الآباء الدومنيكان في الموصل. سنة 1880م رسم كاهناً، رسمه البطريرك يوسف عمانوئيل مطراناً على سعرت سنة 1902م. خدم الأبرشية بغيرة رسولية، فشيد الكنائس والمدارس في قرى أبرشيته، وعلم وهذب. وإلى جانب مسؤولياته الجسيمة أغنى كنيسة المشرق بمؤلفاته الثمينة. استشهد في قرية دير شو في حزيران 1915م، وباستشهاده انقطعت سلسلة مطارنة الكلدان في سعرت.
4_ إحصائية أبرشية سعرت الكلدانية: إن عدد أبناء الأبرشية كان بين مد وجزر، وذلك حسب الظروف السائدة في المنطقة، وبحوزتنا عدة إحصائيات لفترات مختلفة. ففي سنة 1852م أحصى الأب مارشه كلدان أبرشية سعرت، فبلغوا 1865 نسمة، منهم 375 نسمة في مدينة سعرت، والبقية موزعين على القرى التابعة للأبرشية. وفي أرشيف الآباء الدومنيكان بالموصل، تقرير وضعه الأب جاك ريتوري سنة 1881م، وفيه إحصائية مفصلة عن مسيحي سعرت، ويبلغ عدد العائلات الكلدانية في مدينة سعرت مائة عائلة. أما الأب مولير سيمونيس الذي مر بمدينة سعرت سنة 1888م، وخلال إقامته وضع إحصائية عن كلدان الأبرشية، فبلغوا بين 3500 إلى 4000 نسمة. وفي سنة 1891م وضع الأب فيتال كينه إحصائية جديدة، وفيها بلغ عددهم 2600 نسمة. والجدير بالذكر أنه في سنة 1895م اجتاحت سعرت وجوارها موجة عنف عشواء، أودت بحياة الكثير من أبناء الأبرشية، ودمر قسم كبير من دير مار يعقوب الحبيس، ونهبت مكتبته الضخمة والغنية بالمخطوطات الثمينة، وحرق وأتلف أغلبها. كذلك هدمت أضرحة البطاركة والأساقفة المدفونين في الدير. ومن شدة البطش وقساوة الظلم، اعتنق الإسلام أغلب كلدان قرية كيب . في سنة 1896م وضع خياط _  شابو، إحصائية جديدة، وفيها بلغ عدد الكلدان 5000 نسمة، يتوزعون على 22 خورنة، يخدمهم مطران مع 17 كاهناً، وللأبرشية 21 كنيسة مع 18 مدرسة .
وتعتبر إحصائية الخوري يوسف تفنكجي الأهم، لأنه وضعها سنة 1913م قبل دمار الأبرشية سنة 1915م. وفيها يبلغ عدد الكلدان 5430 نسمة، يتوزعون على 37 خورنة، يخدمهم مطران مع 21 كاهناً، وللأبرشية 31 كنيسة، مع 7 كابلات و9 مدارس .
في سنة 1928 يضع الكردينال تيسران إحصائية عن كلدان أبرشية سعرت، وفيها يبلغ عددهم 1600 نسمة مع عدم ذكر أي وجود لمطران أو كاهن أو كنيسة أو مدرسة. وفي سنة 1938 يضع الأب      " المطران " اسطيفان كجو إحصائية عن كلدان أبرشية سعرت، وفيها يبلغ عددهم 3500 نسمة، مع عدم ذكر أية معلومة أخرى .
وفي سنة 1950 يضع الأب " البطريرك " روفائيل بيداويد إحصائية جديدة عن الكلدان. ولا نجد فيها ذكر عن كلدان أبرشية سعرت. وحسب اعتقادي بسبب عدم وجود كاهن يزوده بالمعلومات المطلوبة . ومن المعلوم أن الكثير من أبناء القرى المحيطة بسعرت، استمروا بالعيش في قراهم حتى أوائل الثمانينات من هذا القرن، حتى غادروا نهائياً إلى بلاد الاغتراب وخاصة فرنسا .       
5_ أبرشية سعرت قبيل سنة 1915م : من المعلوم أن لغة أهل سعرت كانت العربية والكردية، أما لغة كلدان القرى فكانت السورث في منطقة البوتان، والعربية والكردية في منطقة أرزن            " غرزان ". وكان للكلدان في سعرت كنيستان، واحدة قديمة على اسم مار كيوركيس تقع في الحي الأرمني، والثانية على اسم العائلة المقدسة في حي عين الصليب، شيدها المطران " البطريرك " عمانوئيل توما سنة 1895م. وكان في سعرت دير للآباء الدومنيكان، فيه ثلاثة رهبان، ولهم في المدينة عدة مدارس للفتيان والفتيات، ومدرسة مهنية لتعليم الشبان شيئاً من الصنائع. كذلك كان في سعرت ميتمان، تقوم بهما ثلاث من راهبات تقدمة العذراء، تحت يدهن أربع معلمات بلديات. وللأبرشية ديران، الأول بالقرب من قرية بيكندي على اسم مار يوحنا نحلايا، ضبطه السريان الأرثوذكس من الكلدان سنة 1825م بقوة فتاح باشا الغرزي . أما الثاني فهو دير مار يعقوب الحبيس قرب سعرت، والواقع على قمة جبل يطل على نهر البوتان، وقد قال عنه أحد المؤرخين العرب " دير أحويشا، دير عظيم فيه أربعمئة راهب يسكنون في قلالي، وحوله بساتين وكروم، وهو في نهاية العمارة وحسن الموقع وكثرة الفواكه والخمور، ويحمل منه الخمر إلى المدن المذكورة، وبقربه عين عظيمة تدير ثلاث أرحاء " . وكان هذا الدير كما ذكرنا سالفاً مقراً للبطاركة الكاثوليك، ومطارنة سعرت حتى شيد المطران برتتر داراً للمطرانية في سعرت.
وبعد المذابح حولت كنيسة مار كيوركيس الكلدانية، إلى قاعة لنشاطات مدرسية. ودار المطرانية حول إلى مدرسة حكومية. أما كاتدرائية العائلة المقدسة، فقد حولت إلى جامع الخليلي ، أما دير مار يعقوب الحبيس فتحول إلى أطلال، ويقال إن بناء الكنيسة لا زال قائماً. كذلك دمرت جميع مراكز الأبرشية من كنائس ومدارس. واليوم لم يبق في سعرت وجوارها أي شخص من أبناء هذه الأبرشية. فقد قتل من قتل، وهاجر من هاجر بشكل تدريجي، إلى العراق وسوريا ولبنان وبلاد الاغتراب.
الخاتمة: إن ذكرى أبرشية سعرت العريقة، تترك في القلب غصة، وفي العين دمعة، لما آلت إليه من دمار وخراب، بعد تاريخ مجيد ومديد، استمر تسعة عشر قرناً من العطاء والإيمان والإشعاع. وفخرها أنها أعطت كنيسة المشرق في الحقبة الأخيرة، رجالاً مشهورين خدموا الكنيسة بغيرة كبيرة أمثال: بطرس شوريز مطران سعرت، وميخائيل شوريز مطران ماردين، وشموئيل شوريز مطران أورمية، ويعقوب نعموا مطران سعرت، وجبرائيل نعموا مطران سوريا ولبنان، ويوحنا نيسان مطران سنا، وجبرائيل آدمو مطران كركوك، ويوسف كوكي مطران البصرة، وأفرام كوكي مطران كركوك، وفيلبس شوريز المدبر الرسولي على الجزيرة العليا، مع عدد كبير من الكهنة.     

     ِ       

144


  مقارنة بين بياني المجمع البطريركي وبيان لقاء أساقفة الشمال
الشماس: نوري إيشوع مندو
بعد انعقاد المجمع البطريركي الكلداني في دير السيدة بجوار ألقوش في الفترة ما بين 1 _ 5 حزيران 2007، ولقاء أساقفة وكهنة أبرشيات المنطقة الشمالية في عين سفني بتاريخ 2 تموز 2007. كثر الجدل حول مجريات وقرارات هذين الحدثين، وذلك من خلال ما كتبه العديد من الأخوة على صفحات موقعي عينكاوة ونيركال كيت. وهنا أشير أن من حق كل إنسان أن يعبر عن رأيه، وهذا حق شرعي له. ولكن أن يجعل نفسه ناطقاً رسمياً لأحد فهذا غير مقبول. نحن نحب كنيستنا ونريد إبداء رأينا بصدق وإخلاص لخيرها. ونفتخر دوماً بأننا أبناء الشهداء. ونحن أبناء كنيسة المشرق أتباع مار توما الرسول مؤسس كرسينا البطريركي، فمعروف عنا أننا لا نؤمن إلا إذا وضعنا إصبعنا على الجرح. ويبدو أن البعض لم يقروا ما هو مكتوب، بل راحوا يفسرون ما ليس مكتوباً. ومن هنا علينا أن نتأمل بعمق وروية في بياني المجمع البطريركي وبيان لقاء أساقفة الشمال، بعيداً عن العواطف والمحسوبيات، ونقارن بينهم بصدق ومسؤولية، غير مندفعين وراء الشعارات الفارغة والتي يقول فيها المثل " حبر على ورق ". لأننا اليوم نقف على مفترق الطرق، ويتطلب الظرف الحالي منا أن نكون حكماء في مواقفنا، متحدين بقرارنا. حتى نحافظ على وجودنا وحضورنا المهدد من قبل أعداء البشرية. وإذا بقينا على حالة التشرذم والإنفكاك فهذا عدو أخر يعجل في إنهاء وجودنا. إنها مرحلة مصيرية يتوجب على الجميع ترك الصراعات والمنافسات الغير صالحة، والعمل معاً من أجل شعبنا المعذب الذي يعاني أشد المعانات في ظل ظروف صعبة وقاسية. ولا دواء لهذا الداء سوى وحدة الكلمة والترفع إلى مستوى المسؤولية. والابتعاد عن المتاجرة بمآسي شعبنا لمنافع شخصية، واستغلال هذه الظروف لتحقيق المزيد من المأرب الشخصية. متناسينا قول بولس رسول الأمم: " تنافسوا بالصالحات ".
قد يستغرب القارئ العزيز أن في عنوان مقالي هذا ذكرت " بياني المجمع البطريركي "، نعم أنه أمر غريب وسابقة خطيرة أن يصدر عن المجمع المذكور بيانان خلافاً للأنظمة والقوانين المتبعة. فمن المعروف أن بعد انتهاء السينودس يقرأ أو ينشر أمين عام السينودس البيان الذي أجمع عليه المجتمعين. لكن مع الأسف الشديد صدر من أحد نواب غبطة البطريرك بياناً عن السينودس وعلى موقع البطريركية الرسمي ثم على موقع عينكاوة، قبل أن يذيع الأمين العام البيان الرسمي الصادر عن السينودس في ختام أعماله. ناهيك عن تسرب أسماء الأسقفين المنتخبين من قبل الأساقفة المشاركين فيه والسينودس لم ينهي أعماله بعد. هذه الظاهرة تعبر وبكل وضوح عن أجواء الانفعال والتكتل التي فيها انعقد السينودس !!!. ويؤلمني القول أنها منافسة غير صالحة بين بعض أعضائه. وألا ما سبب نشر بيان معاون البطريرك قبل أن يذيع الأمين العام البيان أصولاً. واعتقد أن بيان أساقفة الشمال أشار لهذه الظاهرة من خلال الجملة: " الارتجال في الإدارة ".
ومن خلال ما نشره السيد مؤيد هيلو على موقع عينكاوة تحت عنوان " رد هادئ على بيان المطارنة الكلدان في المنطقة الشمالية ". ومن بعده السيد منصور توما ياقو في نفس الموقع تحت عنوان " ما بين سطور بيان أساقفة المنطقة الشمالية ". يبدو لي أننا لا نزال نعاني من ذاك الداء العقيم، وهو الانجراف خلف العواطف من خلال الشعارات البراقة دون تمحيص الأمور والوقوف على حقيقتها. ففي البداية يسأل السيد هيلو ما المقصود بالتأوين، وكأنه ليس عاشاً في أمريكا، ولا يعرف المصطلح المتداول جداً في العديد من المجالات :
أي  "  up to date  " الذي يعني التكييف حسب الزمان والمكان، بحسب ثقافة كل عصر وحساسيته، والخروج عن التقليد الذي أنهك الكنيسة، في زمن نحن بأمس الحاجة للتجديد، والخروج من التقوقع للانفتاح والانطلاق نحو الأفضل والأجدى. والتجديد لا يعني إلغاء الطقوس الكنيسة والممارسات كما يقول، لكنه استمرار للحياة والتواصل، ومواكبة المستجدات حتى تكون ملائمة للعصر الذي نعيش فيه. فما كان صالحاً للسلف ليس بالضرورة مفهوماً للخلف !.
أما أن يتهم السيد ياقو أساقفة الشمال بالخروج عن الطاعة الموجبة للرئاسة لعدم حضورهم السينودس، فهذا قول غير مقبول. لأن رأس الكنيسة يترأسها بالمحبة، وعليه أن يكون أباً للجميع. ويضع نصب عينيه مصلحة كنيسته، وعليه الاستماع للجميع دون تمييز.
وأما القول بقاؤنا أبرشيات صغيرة فهذا لا يعني دمج أبرشيات مع بعضها، بل الدعوة لتكون أبرشيات كبيرة بعطائتها خاصة في زمن الشدة والمحن. ثم لماذا لا تندمج وهذا قد حصل مرات عديدة في تاريخ كنيستنا الكلدانية. وهذا يعني حرص المقترحين على التوحيد والتنسيق خاصة في الظروف الصعبة. لماذا جعل البطريرك البصرة وكالة بطريركية وهي اليوم بحاجة ماسة إلى أسقفها ليرعى ويشجع ويحافظ على القطيع، بدل كاهن لا حول له ولا قوة.
وما التخبط التي تعاني منه رئاسة كنيستنا سوى دليل على ضعف الإدارة، التي لم تجدد ذاتها حسب المستجدات، والتحضير لأخذ دورها في زمن الصعوبات. وخير دليل على ذلك مقرارات المؤتمر البطريركي العام للكنيسة الكلدانية الذي انعقد سنة 1995، وكان عنوانه: " انبعاث _ حياة _ تجدد ". وشكل فيه العديد من اللجان منها للطقوس والأسرار والإيمان والإكليروس والدعوات الكنسية والعلاقات والرهبانيات والتثقيف والإعلام والنشر والعلمانيين والتاريخ والتراث والمسكونية والديانات والأموال والمؤسسات الكنسية. وبعد مرور أثنا عشر سنة لم نجد على أرض الواقع أي تطبيق لتلك القرارات. قد يبرر البعض ذلك بظروف العراق الحالية، لكن هل تناسينا أن هذه الظروف ظهرت في النصف الثاني من سنة 2003، وقبل هذا التاريخ كان وضع العراق مغاير لما عليه اليوم، وكان قد مضى على المؤتمر أكثر من ثماني سنوات، ومع الأسف الشديد بقيت تلك القرارات حبر على ورق. ولم نشعر بانبعاث ولا بحياة ولا بتجدد. وكما ذكر السيد هيلو كان غبطة البطريرك معاوناً بطريركياً لأكثر من أربعين سنة، هذا يعني أنه اكتسب خبرة مميزة من خلال مركزه طوال هذه الفترة. لكننا في هذه المرحلة ومنذ أن تسنم غبطته السدة البطريركية لم نرى أي موقف يبين لنا عن عمق هذه الخبرة. وأي خطاب موحد سمعناه من غبطته سوى الهروب إلى الوراء، وترك الرعية تتخبط بمآسيها. ومن منا لا يعرف كيف وصل للسدة البطريركية وهو مطران متقاعد !!!
وهل دعوة أساقفة الشمال إلى دراسة وضع النازحين وتعين كهنة لهم يعتبر خروج عن القانون ؟ ألا تعلم البطريركية أن في سوريا أكثر من عشرة آلاف عائلة كلدانية نازحة، وفي الأردن أكثر من خمسة آلاف عائلة، وفي لبنان أكثر من ألفين عائلة. ناهيك عن تركيا ومصر وغيرها من دول الشرق الأوسط. أليس من العار أن تكون أبرشية بيروت الكلدانية بدون كاهن كلداني يخدم ويسهر على نفوس الرعية، حتى يضطر أسقفها للتعاقد مع كاهن ماروني ليساعده في مهامه. أم أن تصدير كهنتنا إلى أوربا وأمريكا هو الحكمة بعينها. مقابل حفنة من الدولارات يدفعها أساقفتنا الأجلاء في أمريكا لرئاستنا وأساقفتنا في العراق، للحصول على أفضل الكهنة. لماذا نقول أن هناك مخطط لتفريغ المسيحيين من العراق، ونخجل أن نقول أن أحبارنا يفرغوا العراق من الكهنة ؟.
وأما القول أن البطريركية انتقلت إلى أربيل مؤقتاً، فبالحقيقة لم نسمع بهذا الخبر العاجل، ومن أين أتيت به. وحتماً ستنظم أعمالها حسب الوضع الجديد الناشئ عن النزوح. وإنشاء الله سوف تنظم الدائرة البطريركية السجلات والأموال ؟. كلام غريب. وهل يوجد في البطريركية سجل للأموال حتى يدعوا أساقفة الشمال البطريركية الكريمة للعمل على ذلك. وإذا ما قاله أساقفة الشمال عن عدم وجود ذلك صحيحاً، فتلك مصيبة كبيرة، فهل يعقل أن مؤسسة بطريركية لا تملك سجلات منظمة. علماً أن أبسط البقالين يملكون سجلاً يدونون فيه الصادر والوارد، فما بالك إذا افتقدت رئاسة كنيستنا لذلك ؟.
أما التعليق على انتخاب أساقفة جدد من الكهنة الذين يشهد لهم بروحية عالية وسمعة حسنة وثقافة منفتحة وإدارة حكيمة، أفليست هذه الصفات هي المطلوبة في شخص المنتخب لدرجة الأسقفية. أم أنك تجد من الأفضل اختيار الأساقفة لاعتبارات عشائرية ؟. وإذا كان أساقفة الشمل قد أشاروا إلى ذلك أليس بعد تسرب أسماء المنتخبين الجدد ؟ 
أما القول أنا كهنتنا لا ينقصهم شيئاً، وأن أحوالهم على ما يرام. إنه مجرد كلام، فالكثير من كهنتنا يفتقدون لأبسط الأمور، والرئاسة غير مبالية بطلباتهم، غاضة النظر عن معاناتهم. وتستطيع التأكد من ذلك عند سؤالك الكهنة الذين تركوا العراق.
أما استشهادك بكنيسة مطرانية كركوك التي وصفتها بأنها أية في الفن المعماري الإغريقي المطعم بالمرمر الإيطالي الثمين. ثم تتوقف بعد أن تضع عدة نقاط. أنها علامة تؤكد أن شيء ما يقصد به، وكان من الأفضل أن يذكر ما كان يدور في باله. نعم نفتخر بكنيسة ومطرانية كركوك التي يعود الفضل في تشييدها إلى مطرانها السابق أندراوس صنا والحالي لويس ساكو. وهنا أسئل السيد هيلو أيهما أفضل أن تكسى صروحنا الدينية بالمرمر الإيطالي الثمين من قبل رؤسائنا الروحيين، أم يجمعوا الأموال من هنا وهناك ويصدروها إلى بنوك أمريكا وأوربا ليضعوها في حساباتهم الخاصة، ليتعارك عليها الوراثة فيما بعد.
وهل تناسى السيد هيلو أن أبرشية كركوك تقوم بواجباتها تجاه النفوس، من خلال العمل الحثيث والمثمر على جميع الأصعدة. وهي الأبرشية الوحيدة حسب علمي لا تمد يدها لتأخذ مالاً من هنا وهناك إلا من المؤسسات الكنسية. وكهنتها يعيشون بعز وكرامة، متمنياً أن تكون نشاطات جميع الأبرشيات على هذا المستوى الرفيع من المسؤولية.
أما التعليق على الطلب لتشكيل محكمة كنسية في المنطقة الشمالية، للنظر في القضايا الكثيرة التي تنتظر قراراً. فما هو الخلل بذلك، وأليس من المفروض على الرئاسة أن تفكر بذلك خدمة لأبناء الكنيسة. أما التعليق على تعين أسقفين كعضو دائم وكرديف دون إبداء الرضى. فاللياقة والاحترام تدعوان إلى طلب رأي من يختار لمركز ما، بدل هذا التصرف المشبوه والذي له خلفيات مقصودة لغاية في نفس يعقوب.
وأما اختيار أبرشية ألقوش لتكون مركزاً لقسم الصغار دون استشارة راعي أبرشيتها، فهذا أيضاً تجاوز على القوانين الكنسية. فقد جاء في القانون 190 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية: " يمثل الأسقف أبرشيته في جميع الأمور القانونية ". فهل تناسى السينودس أنه يمثل مؤسسة كنسية، لها قوانينها وأنظمتها. وإذا دعا أساقفة الشمال الرهبانيات للعمل في هذه الأبرشية، فلماذا يعتبرها السيد هيلو دعوة متأخرة. فهل يعتقد أن هذه الأبرشيات قد فقدت الحياة لا سمح الله ؟. وهل الحياة الكنسية محصورة في أبرشيات أمريكا التي يعيش فيها.
أما اعتقاد السيد ياقو أن عبارة أساقفة المنطقة الشمالية سيخلق انقسامات داخل الكنيسة، فهذا اعتقاد في غير مكانه. لأن هؤلاء الأساقفة مشهود لهم من الجميع عن عمق محبتهم للكنيسة. والدليل على ذلك تفانيهم في رسالتهم، ورعايتهم القطيع بجد ومحبة.
أما عدم الإشارة إلى أسقف نينوى الذي كان بين أساقفة الشمال في اللقاء الأولى، والذي عقد قبل السينودس البطريركي، وما عليك إلا أن تسأل أسقف الموصل لماذا أنضم إلى أساقفة الشمال في البداية، ووقع معهم بيانهم الأول. ثم تراجع وحضر السينودس البطريركي لأسباب معروفة ؟. وأما أن يقول السيد ياقو أن بيان السينودس البطريركي كان محقاً بتجاهل الأساقفة المقاطعين، فهو بذلك يكشف عن نفسه بأنه محامي دفاع عن طرف دون أخر، مناقضاً نفسه بنفسه لما عبر عنه في بداية مقاله حيث قال: " مهما حصل سنبقى نحن الرعية وهم الرعاة الذين نتخذهم كمثل أعلى لنا. . . هذا هو رأيي وإيماني " ؟. ولماذا يستغرب السيد ياقو من دعوة الأساقفة لعقد سينودس تحت رعاية الكرسي الرسولي، ويعتبر ذلك تجاهل للكرسي البطريركي. وهل تناسى أن أساقفة كنيستنا اجتمعوا سنة 2003 في بغداد لانتخاب خلفاً للبطريرك بيداويد، وعلى مدى 15 يوماً لم يتوصلوا إلى نتيجة. ثم عقدوا اجتماع أخر في روما تحت رعاية الكرسي الرسولي. وجرى ما جرى ! ! ! فلماذا لم يقل يومها أنه تجاهل لكرامة الكرسي البطريركي ؟   
ولا بد من شكر السيد هيلو دعوته إلى وحدة الصف والوقوف مع قيادتنا الوحيدة متمثلة بغبطة البطريرك وإخوته وأبناؤه المطارنة والقساوسة والرهبان والاكليروس ومعهم المؤمنين واجب ديني والتزام أخلاقي في هذا الوضع الصعب والمرير. دعوة نتمناها جميعاً.
كما نتمنى أن تكون رئاستنا جديرة بالثقة حتى نلتف حولها. وأخيراً أذكره أن جميع الملح لم يفسد كما قال، ولكننا لا زلنا نملك ملحاً جيداً نستطيع أن نملح به، وما علينا إلا أن نقتلع الملح الفاسد حتى تستقيم الأمور ؟.
أختم مقالي بمثل شعبي: " يحكى أن رجلاً ذهب إلى السوق ليشتري سمكة. وما أن وصل هناك حتى أخذ يتفحص ذيل السمكة. فصاح به بائع السمك قائلاً: يبدو لي أنك في حياتك لم تشتري سمكة، لأن الذي يشتري السمكة ينظر إلى رأسها متفحصاً غلاصمها ليتأكد من عدم فسادها. فرد عليه الرجل بالقول: اسمع يا بائع الأسماك منذ نعومة أظفاري أشتري السمك، وأميز السمك الجيد من السمك الفاسد. وما أن نظرت إلى رأس سمكتك حتى عرفت أنها فاسدة. لكنني تفحصت ذيلها حتى أرى هل وصل الفساد إلى ذيلها أم لا " ؟.         



145
شهادة المعترف  مار بطرس عزيز مطران أبرشية سلامس الكلدانية عن مذابح 1915 _ 1918
الشماس: نوري إيشوع مندو
المقدمة: عرفت بلاد فارس المسيحية منذ بداياتها، ونمت وازدهرت فيها سريعاً حتى أن عاصمتها أردشير حازت الشرف لتكون كرسي مطرابوليطي في أواخر الجيل الثاني. وكانت ولاية مطرانها تمتد إلى بلاد الهند ومرو وكرمان وجزيرة سيلان، ويمتلك صلاحية سيامة وإرسال الأساقفة لهذه المراكز كلما دعت الحاجة، وذلك حتى القرن التاسع.
وقد نال مطران فارس بعض الامتيازات ونوع من الاستقلالية، حتى حاول الخروج من طاعة وسلطة جاثليق المشرق، إلا أن نفوذه أخذ في التقلص والخمول تدريجياً منذ بداية الجيل الخامس، إلى أن خضع تماماً في نهاية الجيل الخامس لسلطة جاثليق المشرق.
ويخبرنا التاريخ الكنسي أن مار يوحنا مطران فارس شارك في مجمع نيقية سنة 325 م إلى جانب مار يعقوب مطران نصيبين كممثليين لكنيسة المشرق، لعدم مقدرة الجاثليق فافا الحضور بسبب الشيخوخة. وقد وقع على قرارات المجمع المذكور تحت اسم يوحنا مطران فارس والهند.   
وفي مجمع مار إسحق سنة 410 م تم تحديد وترتيب المقاطعات الكبرى في كنيسة المشرق حسب أهميتها، فاعتبرت أبرشية عيلام الأبرشية الأولى بعد الأبرشية البطريركية، وكان مركز الأبرشية في بيث لاباط وتضم ست أسقفيات هي: أ_ شوشتر. ب_ شوش. ج_ الأهواز. د_ رامهو رمزد. ه_ كرخ ليدان. و_ بيث مهرقايي. هذه المراكز كانت على الحدود الغربية لبلاد فارس، واليوم نجد قسم منها ضمن إيران الحالية. 
ومع توسع حدود كنيسة المشرق نجد في بلاد فارس إلى جانب أبرشية عيلام أربع أبرشيات كبرى هي: 1 _ أبرشية حلوان مركزها حلوان وتضم أربع أسقفيات هي: أ_ الدينور. ب_ همذان.       ج_ نهاوند. د_ الكرج.
2_ أبرشية فارس مركزها أردشير وتضم أحد عشر أسقفية هي: أ_ شيراز. ب_ اصطخر.        ج_ سابور. د_ كرمان. ه_ دارنجر. و_ سبران. ز_ مرمديت. ح_ سوقطرا. ط_ خراسان.        ي_ أصفهان. يأ_ قندهار.
3_ أبرشية بيث رازيقايي مركزها الري وتضم ثلاث أسقفيات هي: أ_ كاشان. ب_ قم. ج_ جرجان.
4_ أبرشية أذربيجان مركزها بردع وتضم ثلاث أسقفيات هي: أ_ تبريز. ب_ سلامس. ج_ أورمية.
ويذكر تقويم قديم لكنيسة المشرق وضع في الجيل الثالث عشر مراكز هذه الكنيسة في بلاد العجم كالتالي: أ_ كوه. ب_ أورمية. ج_ طهران. د_ شيراز. ه_ خراسان. و_ قندهار. ز_ المدائن.      ح_ السن. ط_ سلامس. ي_ أصفهان. يأ_ قزوين. يب_ يزدين. ومع مرور الأعوام والسنين وبسبب عوامل عديدة تقلصت هذه المراكز وأضحى أغلبها أثر بعد عين.
1_ نبذة عن أبرشيتي أورمية وسلامس في العصور المتأخرة: تقع هاتان الأبرشيتان في مقاطعة أذربيجان الإيرانية، وكانت في سالف الزمان تعرف بـ بلاد مادي، وموقعها شمال بلاد آثور. أما فرثيا والتي تعرف بـ عراق العجم أو بلاد الجبل فموقعها في شمال خليج فارس. ويخبرنا سفر أعمال الرسل أنه في يوم العنصرة، عندما حل الروح القدس على العذراء مريم والتلاميذ في علية صهيون، كان بين الجموع الحاضرة في أورشليم فرثيون وماديون وعيلاميون والساكنون ما بين النهرين.
جاء في معجم البلدان " أُرمية مدينة عظيمة قديمة بأذربيجان بينها وبين البحيرة نحو ثلاثة أميال أو أربعة. . . . وهي مدينة حسنة كثيرة الخيرات واسعة الفواكه والبساتين صحيحة الهواء كثيرة الماء ".  وجاء في المنجد في الأعلام " رضائية أُرمية القديمة مدينة في شمال غربي إيران ".   
وجاء في معجم البلدان " سلماس مشهورة بأذربيجان بينها وبين أُرمية يومان، وبينها وبين تبريز ثلاثة أيام ". 
وجاء في المنجد في الأعلام " سلماس منطقة في أذربيجان شمال غربي بحيرة أُرمية، فيها قرى كان يسكنها الأرمن والآشوريين والكلدان واليهود مع أكثرية من الشيعة ". 
ومن المعلوم أن أبرشيتي أورمية وسلامس قد أنظمتا إلى رئاسة كنيسة المشرق المتحدة مع روما منذ البدايات، وذلك واضح من خلال الاجتماع الذي عقد بالجزيرة العمرية  في شباط 1552 لبحث موضوع استيلاء شمعون برماما على الكرسي الجاثليقي بصورة غير شرعية. وضم الأجتماع ثلاثة أساقفة هم: أسقف أربيل وأسقف سلامس وأسقف أذربيجان، وقد نتج عن هذا الاجتماع اجتمع أوسع في الموصل ضم إلى جانب الأساقفة المذكورين كهنة ووجهاء كنائس بغداد والكرخ والجزيرة وتبريز ونصيبين وآمد وحصن كيبا وماردين، وأفضى هذا الاجتماع إلى اختيار يوحنا سولاقا بلو رئيس دير الربان هرمزد جاثليقاً لكنيسة المشرق المتحدة مع كرسي روما. نستنتج من هذا الحدث دور الأبرشيات في بلاد العجم في مسيرة كنيسة المشرق.
وكان مركز الأبرشية في مقاطعة أذربيجان الإيرانية في مدينة بردع حتى العصور المتأخرة. وعندما يزور البطريرك عبديشوع الرابع مارون مدينة روما سنة 1562 م، يقدم للبابا بيوس الرابع قائمة بالمراكز الخاضعة لكرسي بابل، منها أربع أبرشيات في مملكة فارس هي: أ_ أبرشية أورمية العليا يتبعها أسقفيتين. ب_ أبرشية أورمية السفلى يتبعها ثلاث أسقفيات. ج_ أبرشية سلامس يتبعها ثلاث أسقفيات. د_ أبرشية اسبورجان يتبعها أسقف واحد.
وكان الكرسي البطريركي لكنيسة المشرق الكلدانية قد انتقل إلى سلامس سنة 1580 م، وفي سنة 1638 م نقل الكرسي إلى أورمية وبقي هناك حتى سنة 1662 م.  وفي مجمع آمد المنعقد  سنة 1616 م في كاتدرائية مار بثيون برئاسة الجاثليق مار إيليا السابع نجد بين الحضور مطران فارس مار إبراهيم. علماً أن أساقفة بلاد العجم ومادي قد عصوا على سلطة بطريرك بابل على عهد البطريرك سولاقا وخلفائه. وبقي كلدان بلاد فارس خاضعين للبطريركية الكلدانية أينما وجد كرسيها منذ بدء الكثلكة. 
وفي بداية القرن السابع عشر حضر من بلاد فارس إلى دير مار أوجين في جبل إيزلا أساقفة شبطان والدوستاق وسلامس، وجمع من كهنة هذه الأبرشيات ووجوه الطائفة في تلك البلاد، واجتمعوا إلى البطريرك إيليا السابع وانضموا إلى سلطته. علماً أن البطريرك المذكور كان قد عقد عهد الإيمان مع الكرسي الرسولي في روما.   
وكانت أحداث سنة 1724 م التي جرت في أذربيجان بحق المسيحيين قد تركت الأثر البليغ في حياة أبرشياتها، حيث ذبح الكثير من أبنائها، ونهبت أموالهم وسلبت أملاكهم، ودمرت كنائسهم وأديرتهم، وهرب عدد وافر منهم إلى نواحي الموصل، وحتى يومنا هذا يطلق على هؤلاء لقب أرمشنايي بسبب أصولهم التي تعود إلى منطقة أورمية التي هجروا منها.
وقبيل الحرب الكونية الأولى وضع الأب يوسف تفنكجي دراسة هامة عن وضع الكنسية الكلدانية آنذاك، وضمنها الأبرشيات الواقعة في بلاد فارس وهي:
1_ أبرشية أورمية: يرأسها المطران توما أودو يعاونه 43 كاهناً، وتضم الأبرشية 21 مركزاً هي: أورمية. كولفخا. جاراقوش. قوقتافا. أرديشاي. جرلك. دزا. ديكال. آدا. سبورخات. تاقوي. برديشوك. سناقاق. ماوان. ششجيهان. تركادر. بيباري. أنهار. جمرياش. نازي. اتلاقندي. وللأبرشية 28 كنيسة و12 مدرسة بالإضافة إلى معهد إكليريكي، أما عدد مؤمنيها فيربو على 7800 نسمة.
2_ أبرشية سلامس: يرأسها المطران بطرس عزيز يعاونه 24 كاهناً، وتضم الأبرشية 12 مركزاً هي: سلامس. خوسراوة. بلارور. كاريلان. عولا. قويسان. شهارا. خناقا. زيفاجرق. ساطورا. سرنا. كولامار. وللأبرشية 23 كنيسة و12 مدرسة، أما عدد مؤمنيها فيربو على 10460 نسمة. 
أما أحداث الحرب الكونية الأولى فقد تركت جرحاً بليغاً في جسم هاتين الأبرشيتين، حيث دمرت كنائسها وأديرتها ومدارسها، وخربت بلداتها وقراها، ونال أبنائها الكثير من الويلات بسبب الصراع الروسي والفارسي والعثماني والإنكليزي الذي جرى في المنطقة المذكورة.
وبعد استشهاد مطران أورمية مار توما أودو سنة 1918، ورحيل مطران سلامس مار بطرس عزيز إلى الموصل، بقيت هاتان الأبرشيتان بدون رعاة حتى سنة 1930 حيث ألغيت أبرشية سلامس بسبب الفراغ الكبير الذي حدث فيها، وضمت إلى أبرشية أورمية، وعين مار أسحق خودابخش مطراناً لها.
ومن الجدير بالذكر أنه كان في بلاد إيران إلى جانب الأبرشيتين المذكورتين في بداية القرن العشرين أبرشية أخرى هي أبرشية سنا " سنندج " يرأسها مطران يعاونه 3 كهنة، وللأبرشية كنيستان ومدرسة. بالإضافة إلى ثلاث نيابات بطريركية هي: 1_ النيابة البطريركية في طهران أسست سنة 1895.   2_ النيابة البطريركية في كرمنشاه أسست سنة 1905. 3_ النيابة البطريركية في الأهواز أسست سنة 1909.
وفي منتصف القرن الماضي ألغيت أبرشية سنا وضمت إلى طهران التي أضحت رئاسة أسقفية، كذلك ألغيت النيابة البطريركية في كرمنشاه. أما النيابة البطريركية في الأهواز فقد أضحت في السبعينات من القرن الماضي أبرشية، حيث أعيدت إلى مقامها القديم والتي كانت تعرف بأبرشية بيث هوزاي.
واليوم يوجد في إيران ثلاث أبرشيات هي: 1_ أبرشية طهران يرأسها المطران رمزي كرمو.     2_ أبرشية أورمية يرأسها المطران توما ميرم. 3_ أبرشية الأهواز يرأسها المطران حنا زورا.         
2_ نبذة عن حياة المطران بطرس عزيز: ولد في 6 نيسان 1866 في الموصل. ترعرع في كنف أسرة كريمة عرفت بالتقوى وحسن الأخلاق، وما أن شب حتى دخل مدرسة الآباء الدومنيكان بالموصل. وبعد أن نال قسط من العلوم وتعلم مبادي اللغات الكلدانية والعربية والفرنسية أرسل إلى روما سنة 1888 ودخل مدرسة انتشار الإيمان، وهناك نبغ في الفلسفة واللاهوت وأتقن اللغات الإيطالية واللاتينية واليونانية والعبرية، ومد باعاً طويلاً إلى الآداب الشرقية والغربية، وتفنن في الشعر اللاتيني إلى درجة أنه لقب بشاعر الجامعة. رسم كاهناً في روما في 27 تشرين الأول 1891، عاد إلى الموصل سنة 1892 فأقامه البطريرك إيليا عبو اليونان رئيساً ومدبراً لمعهد شمعون الصفا البطريركي، فأقبل على عمله الهمام بعزم وثبات، وأخذ يهذب عقول تلاميذه ويثقف قلوبهم بما تستلزمه دعوتهم الكهنوتية. وبين التدريس والإدارة كان يترجم الكتب الضرورية للدروس الكهنوتية ومن جملتها كتب المنطق والفلسفة وعلم الكتاب المقدس والتواريخ الشرقية، وبفضل جهوده أحدث في المدرسة نهضة علمية وإدارة حازمة أتت بأحسن النتائج. وبالإضافة إلى أتعابه ألقيت على عاتقه خدمة النفوس في كاتدرائية الشهيدة مسكنتا.
سنة 1897 عينه البطريرك عبديشوع خياط وكيلاً بطريركياً في حلب، فلبى الدعوة وسافر إلى مركزه الجديد، وهناك لم يذخر جهداً في الاهتمام بشؤون أبناء الرعية الروحية والزمنية، وانتظمت أحوال الرعية، وكان الناس من جميع الطوائف يحضرون إلى كنيسة الكلدان طمعاً بسماع المواعظ الثمينة التي كان يلقيها. وقد شيد بناية فخيمة في دار الكنيسة ذات ثلاث طبقات لسكنى الكهنة.
في سنة 1902 مر بحلب البطريرك عمانوئيل توما وأطلع على أعماله الباهرة فرقاه إلى درجة الخورنة. وفي هذه السنين ظهرت في حلب الشيع البروتستانتية، فوضع كتابه الشهير " ردع الوقاحات البروتستانتية " فجاء مؤلفه صدمة قوية ضد تلك التعاليم. وبعد أن قضى ثلاث عشرة سنة في حلب اختير مطراناً على كرسي سلامس في إيران، ورسم في 15 أب 1910 بوضع يد البطريرك عمانوئيل توما في كاتدرائية الشهيدة مسكنتا بالموصل.
سافر إلى خسراوة مقر كرسيه المطراني، وما أن وصل شمر عن ساعد الجد في تنظيم أحوال أبرشيته من كنائس ومدارس وأوقاف، وبجهوده أخذت تسير بخطوات ثابتة نحو النجاح والفلاح. لكن الحرب الكونية الأولى حلت على أبرشيته وأبنائه الويلات والنكبات، جعلته يترك مركزه في 21 حزيران 1918 ليتوجه مع كهنته ومن تبقى من أبناء الأبرشية إلى أورمية. وهناك عانى الكثير من المصاعب والعذابات حتى رُحل إلى وان ومنها إلى ديار بكر ثم إلى الموصل. وفي سنة 1919 عينه البطريرك عمانوئيل على النيابة البطريركية في مصر، وهناك عمل الكثير لرفع شأن الكنيسة ومؤمنيها، وبعد خدمة استمرت ثماني سنوات عين معاوناً لمطران زاخو ونوهدرا مار طيمثاوس مقدسي الطاعن بالسن سنة 1928، وبعد وفاة المطران مقدسي سنة 1929 عين مطراناً على الأبرشية، فعمل بجد ونشاط على جميع الأصعدة. فجدد بناء المطرانية وشيد الكنائس والمدارس في العديد من قرى الأبرشية المتوغلة في الجبال، وكان يفتقد المرضى ويهتم بالمعوزين والمحتاجين ويسعفهم بما يتسع له من المال. توفي في 21 كانون الثاني 1937 ودفن في كاتدرائية الشهيدة مسكنتا بالموصل. له العديد من المؤلفات نذكر منها:
1_ كتاب الفلسفة النظرية والطبيعية وعلم النفس.
2_ كتاب تقاليد النساطرة واليعاقبة في رياسة البابوات.
3_ تقويم الكنيسة النسطورية.
4_ كتاب ردع الوقاحات البروتستانتية.
5_ لاهوت نظري في أسرار الكنيسة بشهادات ملافنة الكنيسة الكلدانية والسريانية.
6_ رياسة الأحبار الأعاظم بشواهد من الملافنة الشرقيين.
7_ رسالة في وقائع أورمية وسلاماس أبان الحرب الكبرى.         
3_ نص شهادة المطران بطرس عزيز: " اقتصرت أن أكتب في هذه السيرة تفاصيل المذابح الأخيرة التي حدثت في سلامس وأورمية، ولكي أذكر كافة المآسي التي جلبتها الحرب الكئيبة علينا، فأنني أحتاج إلى كتابة مجلد كامل لذكر كافة تفاصيلها، لذلك تغاضيت ذكر هروبنا المأساوي الأول في الرابع من كانون الثاني عام 1915، ولا مذبحة 56 مسيحياً من أبرشيتنا بضمنهم قسس الأبرشية، الذين لم يتمكنوا من الهرب معنا. لا أعرف العدد الحقيقي لهؤلاء الذين قتلوا في أورمية، لكنني أعرف أنه قتل أحد عشر قساً هناك.
ذكرت هنا فقط ما شاهدته بنفسي، ولا يعرف المسيحيون الذين فروا عشية الاحتلال التركي لأورمية إلى بعقوبة قرب بغداد وإلى همدان، أي شيء مما حدث بعد مغادرتهم. فقد قتل جميع من تبقى من المسيحيين في أورمية، ولا نرى ضرورة التأكيد بأن كلاً من أورمية وسلامس تحولتا إلى خراب.
حينما احتل الأتراك سلامس في 21 حزيران 1918 هرب جميع مسيحيي تلك المقاطعة إلى أورمية، ولما كنت أسقفهم هربت معهم حيث امتطيت ظهر جواد ووضعت أمتعتي في العربة، لكن بعض الأكراد لحقوا بنا فقتلوا كل من خادمي وحوذي العربة واستولوا على كافة أمتعتي، وتفاجأ عدة آلاف من مسيحي أورمية بهجوم رجال إسماعيل أغا المعروف باسم سمكو، حيث تم أبادتهم على أيدي سمكو ورجاله.
في سلامس أمر علي إحسان باشا بقتل أثنين من المسيحيين اللعازريين وأحدهم من كهنة أبرشيتي، كما أمر بقتل كافة الرجال والنساء والأطفال عدا النساء الشابات والفتيات اللواتي اختطفن من قبل الفرس المتنفذين، كان المدعو تيمور أغا أحد الأصدقاء المقربين لسمكو العقل المحرك لهذه الاختطافات.
بعد شهر واحد من فرارنا إلى أورمية وبالتحديد في 31 أيلول 1918 سقطت المدينة تحت الاحتلال التركي، لكن المسيحيين من الكلدوآشوريين والأرمن فروا في الليلة التي سبقت الاحتلال إلى معسكر الجيش الإنكليزي، وبقي عدد منا في المدينة ومن ضمنهم المبعوث الرسولي الأسقف سونتاغ، ورئيس أساقفة أورمية على الكلدان مار توما أودو، كما بقيت أنا أيضاً باعتباري أسقف سلامس وعدد كبير من الكهنة، ونحو ألف شخص آخر، لجأنا جميعنا إلى مقر البعثة التي كانت في نفس الوقت مقر البعثة الفرنسية اللعازرية.
كان من بين الذين التجئوا إلى مقر البعثة عدد من عوائل مسلمي أورمية رغم معاداتهم للمسيحيين، كان سبب التجائهم إلى مقرات البعثات الأجنبية الأمريكية والفرنسية هو هروبهم من القصف المدفعي للجيش الكلدوآشوري. منح المبعوث الرسولي لهؤلاء المسلمين ضيافة لائقة على أمل أن تعكس هذه الخدمات العديدة التي قدمها لهؤلاء اللاجئين ومعظمهم من المسلمين البارزين في المدينة، ردوداً طيبة تجاه المسيحيين.
من بين هؤلاء المسلمين أحد الفرس المتغطرسين الحاقدين على المسيحيين وأسمه إرشاد همايون، اعتقد أنه شغل منصب رئيس قسم الشرطة في أورمية. ففي اليوم الذي قرر فيه شركاته في الدين على ذبح المسيحيين، وحيث كانت هتافات المسلمين تعلو في الشوارع تحث بعضهم البعض على الجهاد، وصل هذا الرجل وشلته إلى مقر البعثة الفرنسية، آملا أنه في حالة نجاح المسلمين في نيتهم فأن مقر هذه البعثة سيكون من نصيبه. أما في حالة انتصار جيش المسيحيين فأنه سيكون آمناً وبعيداً عن كل خطر في هذا الدار. وفي نفس الوقت علم إرشاد همايون بكافة الأسرار وأماكن الاختباء في مقر البعثة. كان هذا الرجل خبيثاً وماكراً حيث حلف بالقرآن أنه في حالة تعرض هذا المقر إلى تهديد الأتراك، فأنه مستعد للدفاع عنه حتى لو كان ذلك بدمه، مع هذا فهو كان السبب في ذبح المسيحيين.
حينما استعد الفيلق التركي الرابع تحت قيادة صلاح الدين باشا لدخول أورمية، وصلت أولاً مجموعات  " الشتاو "  تحت أمرة المدعو صالح أفندي كوحدات استطلاعية، في هذه الأثناء عجل إرشاد همايون من أمره لرؤية الحاكم الفارسي لأورمية لإعطائه قوة لاقتحام أحد المنازل المكتظة بأرمن مسلحين وخطرين، وكان يعني بذلك مقر البعثة الفرنسية الذي كنا فيه كما كان هو الآخر فيه.
كنا نحن الأساقفة الثلاثة مجتمعين في غرفة المبعوث الرسولي في الطابق الأرضي من الدار، وبعد انتهائنا من مائدة الإفطار، سمعنا فجأة هياج واضطراب على الباب، فخرج المبعوث الرسولي من الغرفة لمعرفة مصدر ذلك الهياج، وفي الحال سمعنا صوت إطلاقتين. بعدها دخل اثنان من رجال إرشاد همايون إلى الغرفة لأعلامنا بمقتل المبعوث، كانا هما الرجلين اللذين أطلقا النار على المبعوث واغتالاه بأمر من سيدهما كما أكدت ذلك عدد من النساء اللواتي كن في باحة الدار وشاهدن كل ما جرى. في نفس الوقت اغتيل أيضاً على شرفة باب دار أخرى الأب دنخا اللعازري، والذي بناءاً على أوامر رئيسه أوى ولمدة ستة أشهر بعض المسلمين الذين التجئوا عنده هرباً من الأرمن.
بعد لحظات ظهر إرشاد همايون، وذكرناه بالوعود التي قطعها بأن يأتي لنجدتنا في مثل هذه الظروف، لكنه بدلاً من الوفاء بوعده قام بتفتيش المقر بحثاً عن الأموال التي خبأناها والتي كانت تعود لكلدان سلامس وأرومية ومناطق أخرى والتي تركت معنا كأمانة، حينما تهيأ الوغد لمغادرة المقر ومعه الغنيمة، دخل أحد الموطنين الفرس من قرية بالار وطلب نقوده، فما كان من رئيس الأساقفة توما أودو إلا أن تدخل احتجاجاً على إرشاد همايون لسلبه أموال المواطنين. إلا أن الأخير أطلق الرصاص على الأسقف وطرحه أرضاً. وبالنسبة لي فقد أعطيته صليبي الكهنوتي وحلقتي  وحقيبتي إنقاذاً لحياتي.
ثم جاء إلى المقر صالح أفندي للتأكد فيما إذا كان هناك ثوار أرمن مختبئين في الدار كما أخبره إرشاد، فتذرعنا له أن يخلص حياتنا ووعده أحد القساوسة أن يرافقه إلى منزل أحد المسلمين البارزين حيث ترك هناك جميع ممتلكاته، عليه غادرنا جميعاً مقر البعثة الفرنسية وبضمننا رئيس الأساقفة أودو الذي اعتقدنا في بادئ الأمر أنه مات لكنه نهض ورافقنا.
حين وصولنا إلى منزل ذلك المسلم، دخل صالح أفندي ومعه القس إلى الدار، فيما تركنا نحن في الخارج تحت حراسة أربعة جنود أكراد الذين بدأوا بتعذيبنا في سبيل ابتزازنا من أموالنا وذلك بجر لحانا والضرب بالسوط على رؤوسنا، فقطعوا إحدى أذان الأب بول صليوا، أما بالنسبة لي فقد وعدوني أن يخلصوا حياتي لو عدت معهم إلى البعثة الفرنسية وأعطيتهم ما تركناه هناك، عليه رافقني اثنان من الحرس الكرد إلى البعثة.
عند وصولنا إلى مقر البعثة تفاجأت بمنظر رهيب! ففي الصالات والممرات وغرف المقر احتشدت جموع من الملحدين رجالاً ونساء ومسلحين بالبنادق والسيوف وهم منشغلين في قتل الرجال والنساء والأطفال بعد تعريتهم من ثيابهم، لم يقتلوهم بإطلاق الرصاص عليهم بل بذبحهم وقطعهم بالسيوف والخناجر. تمكن نفر قليل من الأشخاص الهرب والنجاة، قال أحدهم لي فيما بعد أنه رأى سكرتيري يطرح أرضاً تحت وطأة هراوة ضرب بها، ثم جردوه من ثيابه وقطعوا لحيته بعنف بحيث سلخ جلد وجهه معها، أخيراً أنهوه بضربات من قضيب حديدي على رأسه، أما الفتيات الصغيرات فقد اختطفن، بطبيعة الحال أحتفظ إرشاد همايون لنفسه بالجميلات منهن.
في وسط هذه الأحداث المرعبة وصلت إلى مقر البعثة، لم أجد شيئاً لأعطه للأكراد حيث سلب كل شيء. كاد غيضهم أن ينفجر ضدي لولا ولحسن الحظ وصل في الوقت المناسب ضابط تركي باسم زهدي بك وسألني من أكون؟ فأجبته بأني الأسقف وأنني أصلاً مواطن من الموصل وقال لي: أنني أعرف الموصل، بدأ الحديث بالعربية، ولم يتجرأ الأكراد على إساءتي وإيذائي أمام ضابط تركي.
تضرعت بالأخير أن ينقذني فطلب مني أن أتبعه، خرجنا من مقر البعثة إلى دار ذلك المسلم البارز حيث تركت زملائي عند بوابة الدار، التقينا صالح بك الذي طلب من زهدي بك بأخذنا إلى الآمر العسكري. سرنا لمدة ساعتين على أقدامنا ومن دون غطاء لرؤوسنا تعرضنا خلالها إلى ضربات بالسياط وعقب البنادق، لدفعنا اللحاق برئيسهم الممتطي جواداً في المقدمة، تعرض رئيس الأساقفة أودو المسكين إلى إرهاق شديد.
لم يكن الحاكم الفارسي للمدينة أجلال الملك الذي اقتادونا إليه قد قرر مقابلتنا، وضعونا في الساحة عند أسفل الجدار نأكل فتات الخبز الذي توسلنا من أجله في الطريق. بعد ساعة أودعونا في السجن، قضينا هناك ليلة جهنمية نمنا خلالها على الأرض الجرداء. وفي اليوم التالي تم أخذنا أمام الحاكم وهناك وجدنا ثلاثة قساوسة من كهنتنا ومائة شخص آخر، أمر الحاكم بسجننا، بينما تم أخذ رئيس الأساقفة أودو إلى المستشفى الأمريكي في المدينة وهو في حالة خطرة.
استمرت المذبحة خلال فترة اعتقالنا، حيث أعطى الأتراك الفرس ثلاثة أيام وليالي للانتقام من المسيحيين، سمعنا في كل ليلة ولمدة أسبوع كامل أصوات العربات وهي تنقل الجثث إلى حفر لدفن القتلى. لم يعط لنا في السجن سوى القليل من الخبز لسد رمقنا فقط، بدأت المحاكمات ولم يجدوا أية تهمة خطيرة ضدي سوى هذه: " ادعوا أن الأب لاهوتلير في البعثة اللعازرية الفرنسية قد ذكر أنني هربت مع سكرتيري من الأتراك، عليه فأن ذلك يؤكد حقيقة هروبي من سلامس ". فرديت على هذه التهمة أنني لكوني مطران هناك إلزام أن أبقى مع أتباعي، وبما أنهم هربوا إلى أورمية، عليه اضطررت أن أتبعهم بالرغم من كوني مواطناً عثمانياً، بالإضافة إلى ذلك كان هناك سبب آخر لتحمل مشاق هذه الرحلة، وهو أن أصل إلى ممثل البابا في أورمية لاستلام النصيحة منه. حينما ذكرت اسم المبعوث البابوي الأسقف سونتاغ، سألوني عن سبب محاولة قتله ونهب مقر البعثة، سألني القاضي أكرم بك عن كافة تفاصيل هذه الحادثة. في اليوم التالي ألقي القبض على ارشد همايون وأتباعه، وأخيراً قررت المحكمة أن ينقل جميع المسيحيين السجناء إلى سلامس وكان عددنا في حدود خمسمائة شخص. بعد ساعة من السير القسري وصلنا إلى قرية قضينا الليلة هناك في حقل قريب من مخيمات الجنود الأتراك، لم يكن لنا فراش ولا أغطية وكنا نعاني من الإرهاق والجوع. في الصباح التالي وحينما كنا على وشك تكملة رحلتنا وصل تلغرافاً من أورمية يأمر بإعادة الكهنة بما فيهم أنا إلى المدينة وذلك للإدلاء بشهادتنا بخصوص الأموال التي سرقت من مقر البعثة.
مرة أخرى أودعنا السجن في أورمية ولم نسمع أخبار رفاقنا وبقية السجناء الذين اجبروا على الرحيل إلى سلامس، لكننا سمعنا بين الحين والآخر أنهم كانوا قد اجبروا على العمل في حصد محصول الحنطة، وفي أحيان أخرى سمعنا أنهم ابعدوا إلى مقاطعة وان.
بقي المطران أودو في المستشفى، ورغم تلقيه المعالجة الطبية، إلا أنه تعرض إلى معاملة سيئة من قبل الجنود الذين ضربوه في بعض الأحيان على رأسه، وعاملوه معاملة سيئة بحيث أنه حينما أعيد فيما بعد إلى السجن كان في حالة يرثى لها، لكن صحته ساءت أكثر في السجن، وأعيد ثانية إلى المستشفى حيث فارق الحياة بعد بضعة أيام.
في أحد الأيام زارنا ضابط برتبة عالية، ولما علم أنني كنت من الموصل، تحدث معي باللغة العربية وسألني عن سبب اعتقالي. لما شرحت له كل شيء، نصحني بتقديم طلب إلى مجلس الحرب لإثبات براءتي وإطلاق سراحي، كما طلب مني أن أكتب باللغة العربية بحجة عدم إجادتي التركية، وسيقوم هو بترجمته إلى التركية. علمت فيما بعد أن هذا الضابط كان عربياً من دمشق وأسمه إبراهيم أدهم بك، وأن منصبه كان رئيساً للإدارة والذاتية. حققت عريضتي هدفها المقصود وطلبت أن أرسل إلى تفليس  أو تبريز ، ووعدني أن يقوم بإرسالي إلى إحدى المدنيتين أو إلى مدينة أخرى.
إلا أن الأمور سارت ببطيء، لم يتحقق وعدهم لي. علمنا أخيراً أنهم كانوا سيرسلوننا إلى وان ، وفي السجن تمكنا من التعارف على ضابط مصري وأسمه أحمد بك، حيث أعطانا رسالة لتعريفنا بصديقه أدهم فضلي أفندي وهو رجل ذو نفوذ واسع في وان، كتب أحمد إلى صديقه ما يلي: " أنني أوصي بك هذا الكاهن والأشخاص المتعلمين معه، الذين قدموا خدمات جليلة للآلاف من المسلمين وإنقاذهم من الموت على أيدي الأرمن، عليه أرجو أن تعمل ما في وسعك من أجلهم ".
رفض محافظ وان حيدر بك أن يستقبلنا، حدد أن تكون إقامتنا في قرية على بعد ثلاث ساعات من المدينة حيث أحتجز هناك السجناء الأرمن. لم يكن في وسعنا البقاء ولا ليلة واحدة في وان، ولم أستطيع إيصال الرسالة إلى أدهم فضلي أفندي. كان الضابط المسؤول عن حراستنا يسألنا بالتفصيل عن أمورنا، وبالمقابل كنا نسأله أن كان يعرف أدهم فضلي أفندي فقال لنا: أعرفه حق المعرفة، ماذا تريدون منه؟ جاء جوابنا في الحال: لدينا رسالة له من أورمية. كانت بهجتنا عظيمة حينما قال ضاحكاً أنه هو نفسه أدهم فضلي، فأعطيناه الرسالة. منذ تلك اللحظة أصبحنا موضوع اهتمامه، كان هذا الضابط هو رئيس حرس السجن في القرية، وعلى الفور أمر أن تهيأ لنا أفضل غرفة، وجلب لنا الشاي وكل ما نحتاجه. كان يتحدث القليل من العربية وكان فرحاً أن يتحدث بلغة القرآن. تأثر كثيراً أن يسمع مني تلاوة بعض الآيات القرآنية التي حفظتها عن ظهر قلب.
لكن هذا لم يستمر طويلاً إذ جاء أمر بنقل السجناء إلى ديار بكر  بعد خمسة أيام، وكنا نحن من ضمنهم. رافقنا أدهم أفندي إلى أبعد ما يمكنه إلى بدليس ، وزودنا بكل وسائل الراحة الممكنة. أعطى لنا في القارب أفضل المقاعد، كما زودنا في ططوان  بخيمة، ووضع اثنان من رجال الشرطة في خدمتنا. عمل أكثر من ذلك حيث حينما كنا بانتظار الوحوش لأخذنا إلى تبلس  أختار لنا المكان اللائق لإقامتنا. في الحقيقة فأنه هيأ مستخدمين في كل مكان ذهبنا إليه للقيام بخير ما يمكن لاستقبالنا بكرم، ولم يرغب أدهم أفندي بتركنا إلى أن وثق بشخص آخر تعهد بنفسه أن يساعدنا كما فعل هو. كان هذا الشخص مسيحياً وهو الدكتور جوزيف نيما من بيروت عضو الإسعاف التركي. غادرنا تبلس ضمن قافلة الأرمن، وفي الطريق مات العديد من المساكين، وخاصة النساء والأطفال من شدة الإرهاق، كان الطريق محتشداً بجثث الموتى. حينما قضينا الليلة في أوكار الجنود قبل وصولنا إلى غرزان ، أقام الحرس الذين عينهم الحاكم لمرافقتنا بسلب القسم الأعظم من أمتعتنا والهرب. أكملنا الجزء الأخير من رحلتنا بالسير على الأقدام، علمنا حين وصولنا إلى غرزان بأخبار الهدنة.
حينما وصلنا إلى ديار بكر وجدنا رئيس الأساقفة الكلدان الفاضل سليمان صباغ الذي رحب بنا كثيراً، وزودنا بالملابس والطعام وأعطى المعوقين منا كافة الاحتياجات الطبية، بالرغم من فقره الشديد فأنه أظهر سخاءً عظيماً. أخيراً نشكر جهود البطريرك الكلداني، فمن خلالها تمكنا من الوصول إلى الموصل في الثاني من شهر آذار 1919 ".             
الخاتمة: في هذه العجالة أطلعنا على تاريخ أبرشيتي أورمية وسلامس قديماً وحديثاً، ومن خلال شهادة المطران بطرس عزيز أطلعنا على جزء من المذابح البشعة المقترفة ضد المسيحيين في هاتين الأبرشيتين من قبل العثمانيين والفرس والأكراد، والتي أدت إلى فراغ كبير في هذه البلاد التي كانت غنية بمراكز تابعة لكنيسة المشرق.
ومن الجدير بالذكر أن ما جرى في هاتين الأبرشيتين، طال أيضاً أبناء الشعب الكلدوأشوري الذين هجروا إلى أورمية وسلامس تحت ضغط هجمات الجيش العثماني والعشائر الكردية، بعد أن تركوا موطنهم في جبال هكاري الواقعة في إقليم وان المحاذي لبلاد فارس والقفقاس.
علماً أن شهادة المطران بطرس عزيز جاءت عند طلب الأب المعترف جوزيف نعيم الكلداني الرهاوي الأصل والمولود فيها سنة 1888، وقد جمع العديد من شهادات الذين نجوا من المذابح. وعانى بدوره الكثير من الويلات والمصاعب بدءً من قتل والده في مدينة أورفا سنة 1915 ضمن قافلة من الشهداء سيقوا إلى الذبح، وهروبه مع من تبقى من عائلته إلى حلب، ثم عودته إلى القسطنطينية لخدمة نفوس أسرى الحلفاء بناء على طلب البطريرك عمانوئيل توما، حيث تم اعتقاله سنة 1916 وسجن مدة 130 يوماً عانى خلالها أقسى أنواع العذابات والإهانات، وكان شاهد عيان للعديد من مشاهد الرعب والقتل التي جرت بحق المسيحيين. جزاء تشبثهم بإيمانهم الذي عرضهم إلى شتى أنواع الاضطهاد والأسى. وتم إطلاق سراحه بمساعي كل من الوجيهان الكلدانيان داود بك اليوسفاني ولطيف بك طبيب والمبعوث الرسولي رئيس الأساقفة دولسي.
 
 

146
الأب الشهيد حنا شوحا بكر شهداء الإكليروس
خلال مذابح السفر برلك 1915
الشماس: نوري إيشوع مندو
المقدمة: عائلة شوحا هي من العائلات الكلدانية العريقة في ماردين. كان لرجالها مكانة فريدة على الصعيد الاجتماعي في مدينتي ماردين ونصيبين، من خلال ممارستهم الأعمال التجارية والزراعية في المدينتين، فنالوا احترام الناس وثقتهم، بسبب صدق معاملتهم ونظافة كفهم. أما على صعيد السلطات المدنية فكان لهم مكانة خاصة، فوالد الأب شوحا كان قنصل أسبانيا الفخري في ماردين، أما أخ الأب شوحا المدعو عبد الكريم فكان مختار نصيبين وله دوره الفعال أمام السلطات. وعلى الصعيد الكنسي فشهادة أساقفة الكلدان في ماردين تذكر عمق إيمانهم بالكنيسة من خلال ممارساتهم الدائمة لواجباتهم الدينية، وغيرتهم ومحبتهم من خلال اهتمامهم الدائم بالفقراء والمعوزين.
وقد قدموا على مذبح الشهادة خلال مذابح السفر برلك أكثر من خمسين شهيداً، وسلب الطغاة أموالهم وأرزاقهم وممتلكاتهم، وهرب المتبقين منهم إلى سوريا والعراق ولبنان ومصر. وسنتحدث في مقالنا هذا عن الأب الشهيد حنا شوحا من خلال ثلاث شهادات هي لكل من: ا_ المطران إسرائيل أودو. 2_ الأخ إياسنت سيمون. 3_ الأب إسحق أرملة.
1_ شهادة المطران إسرائيل أودو: " ولد هذا الكاهن الوقور في ماردين يوم 2 كانون الأول سنة 1883، دعاه والده في المعمودية حنا، والدته تدعى مريم، وكان والده معروف بمخافة الله. وما أن شد عوده أرسل إلى الموصل للدارسة في معهد يوحنا الحبيب للآباء الدومنيكان، وبعد أن نال قسطاً وافراً من العلم رسمه القاصد الرسولي مار اسطيفانوس كوبري كاهناً وذلك في 15 أيار 1909، وتمت الرسامة في كاتدرائية الشهيدة مسكنتا بالموصل. وبعد السيامة عاد إلى ماردين وبدأ خدمته في كاتدرائية الربان هرمزد، وإلى جانب رعايته النفوس عينته مديراً لمدرسة الطائفة، فكان يعلم فيها التلاميذ اللغتين العربية والفرنسية.
في سنة 1913 أرسلته إلى نصيبين بناء على طلبه، وما أن حل هناك حتى بدأ يعلم ويخدم ويبشر بكل جد ونشاط حتى بداية شهر أيار سنة 1915 حيث ألقي القبض عليه، واتهم بالتحدث عن المذابح التي بدأت بحق المسيحيين سكان السلطنة العثمانية خلال إعطاءه الدروس لتلاميذ مدرسة الطائفة.
أما حقيقة الأمر فهي مخالفة لهذه التهمة، وكل ما في الأمر أن شاباً كلدانياً من بلدة تلكيف حضر في بداية أيار إلى نصيبين قادماً من مدينة أضنة، ولما لم يجد من يرافقه بالسفر إلى بلدته تلكيف، ذهب إلى كنيسة الكلدان شارحاً وضعه للأب حنا شوحا، وطلب منه إن كان هناك مجال للنوم في باحة الكنيسة حتى يجد من يسافر معه، فوافق الأب المذكور على طلبه.
وصباح أحد الأيام خرج إلى السوق عله يجد من يسافر معه، وكان قد تعرف على صاحب حانوت يدعى بهنان ابن فرنسيس برغوث من طائفة الأرمن الكاثوليك. وبينما كان جالساً أمام الحانوت مر من هناك البوليس، وما أن شاهدوه حتى ألقوا القبض عليه وساقوه إلى المخفر. وهناك سألوه من أين هو، ومن أين أتى، وأين ذهب وأكل ونام. وما أن انتهى التحقيق معه حتى احضروا الأب شوحا والحانوتي بهنان ورموهم جميعاً في السجن.
ووجهت للشاب تهمة الهروب من العدالة، وللحانوتي تهمة المهرب، وللكاهن تهمة أخفاء المجرم. وبقوا مدة أسبوع في السجن يعانون أشد العذابات وأقساها. وفي 9 أيار سيقوا إلى ماردين ورموا بهم في السجن، وما أن علمت بذلك حتى أرسلت الكاهنين بولس بيكو ويوسف تفنكجي إلى متصرف ماردين حلمي بك للاستفسار عن وضعهم. ولما علمنا أنهم سيساقون إلى آمد، طلبنا من المتصرف أن يسلمنا الأب شوحا ورفاقه، ونحن بدورنا سوف نرسله إلى آمد على كفالتنا وضمانتنا، لكنه لم يستجيب لطلبنا.
وبعد يومين أخرجوا من السجن وسلموا إلى الجنود ليسوقهم إلى آمد، وكان هذا اليوم يوم أحد، وأخذ الجنود يطوفون بهم وهم مكبلين بالحبال في أسواق المدينة وساحاتها، وكان الأهالي يلقون عليهم طوفان من الشتائم، خاصة أولئك الفتيان الأشرار الذين تبعوا موكبهم حتى خارج المدينة.
وكان آل شوحا من رجال ونساء خارج المدينة ينتظرون مرور الأب حنا ورفيقيه، حتى يشاهدوه ويطلبوا من الجنود أن يسلموه لهم، حتى ينقلوه إلى آمد بطريقة مقبولة. لكن الجنود رفضوا طلبهم بحجة الحفاظ على حياته وحمايته من المسيئين. وعندها قرر زوج أخت الأب شوحا المدعو يوسف مغزل مرافقتهم إلى آمد، وهكذا عاد آل شوحا إلى ماردين خائبين وخائفين على مصير ابنهم.
أما الجنود فأكملوا المسير نحو آمد، وفي الطريق عروا الكاهن من ثيابه، وعندما اقتربوا من المدينة صبغوا وجه الكاهن بالفحم من باب السخرية، وعلقوا في رقبته جرساً مثل الأجراس التي تعلق في رقاب البغال والأغنام، وفي هذه الحالة المشينة أدخلوه هو ورفيقيه إلى المدينة في وضح النهار، وأخذوا يطوفون بهم في الأسواق. وما أن شاهد سكان المدينة هذا المشهد حتى أخذوا يكيلون لهم أبشع الشتائم والكلمات النابية، بينما كان أولاد الشوارع غير المؤدبين يرمونهم بالأتربة والأوحال القذرة، وعلى هذا الشكل استمرت جلجلتهم حتى وصلوا بهم إلى السجن، وهناك زجوهم في غياهب السجن المملوء بالمئات من المسيحيين.
أما يوسف مغزل فبقي في آمد على أمل أن يجد مخرج لهذه المعضلة، ولمدة يومين كان ينقل الطعام إلى السجن صباحاً ومساءً للأب شوحا ورفيقيه. وفي اليوم الثالث ذهب كعادته إلى السجن ومعه الطعام، فألقي القبض عليه وضموه إلى المساجين. وانقطعت الأخبار عنهم، ولم نعرف حتى اليوم كيف قتلوا الأب شوحا ورفيقيه وزوج أخته. ونعتقد أنهم سيقوا مع المسيحيين الذين قتلوا خارج المدينة.
وكانت والدة الأب شوحا المدعوة مريم تسكن آنذاك في نصيبين مع أبنيها عبد الكريم وسليم، وكانت زوجة عبد الكريم تدعى شموني، علماً أن عبد الكريم كان مختاراً لنصيبين. وكانوا جميعاً ينتظرون بفارغ الصبر أخبار الأب حنا، لكنهم لم يتوصلوا إلى نتيجة تذكر، فكانوا يعانون من جراء ذلك حزن وأسى شديدين.
وفي إحدى الليالي جاءهم أحد أصدقائهم من العشائر العربية، وأيقظ عبد الكريم من النوم بهدوء وقال له: قم وأسرع حتى أخذك أنت وجميع أفراد عائلتك إلى بيتي في البرية، وقد جلبت معي بعض الجمال لتحميل أمتعتكم، لأني سمعت أن السلطات مزمعة أن تسوقكم إلى الموت.
فرد عليه عبد الكريم بالقول: أنا مختار السلطان في نصيبين ولدي أملاك وأراضٍ وأرزاق، فإذا هربت كيف سأنجو من شر السلطان.
فرد عليه العربي: أترك كل شيء وخلص نفسك ونفوس عائلتك، لأنه ليس لنا متسع من الوقت، وعلينا الهروب قبل بزوغ الفجر.
لكن عبد الكريم رفض طلب صديقه العربي، فما كان منه إلا أن غادره متألماً لعدم قبوله مشورته.
وفي صباح 15 حزيران تحقق ظن الإعرابي، إذ ألقت السلطات على عبد الكريم وأخيه سليم وضموهما إلى رجال نصيبين الكاثوليك، وسيقوا جميعاً إلى قرية خراب كورث القريبة من نصيبين، وهناك ذبحوا جميعاً. ومن أصل ثلاثين عائلة كلدانية كانت تسكن في نصيبين لم تنجو إلا عائلة واحدة استطاعت الهروب. ونجا من الأرمن الكاثوليك عائلتين فقط. أما رجال السريان الأرثوذكس فقد أعفي عنهم. 
أما مريم والدة الأب شوحا، وشموني زوجة أخيه عبد الكريم والتي أصلها من آمد، فقد سيقتا إلى ماردين، وفي الطريق قتل الجنود مريم أولاً، ثم طلبوا من شموني أن تجحد دينها ليحافظوا على حياتها. لكن الشابة شموني تشجعت وامتلأت من الروح القدس وردت عليهم بالقول: أفضل الموت مع حماتي، ولا أنكر ديني وإيماني حتى أعيش معكم أيها المتوحشون سفاكي دماء الأبرياء. وما أن سمعوها حتى هجموا عليها بالسيوف والسكاكين وقطعوا جسدها الطاهر أرباً أرباً، وبعد أن عروها من ثيابها سحبوا جثتها مع جثة حماتها مريم إلى قارعة الطريق. وكان ضمن هذه القافلة فتاة صغيرة، أخذها الطغاة وأتوا بها إلى ماردين. وبعد مدة قصيرة استطاعت والدتها وتدعى ملكة وهي أخت الأب شوحا أن تحررها من أيدي الأشرار. وقد جاءت ملكة ومعها ابنتها إلى دار المطرانية، وقد سمعت من فم الفتاة قصة قتل مريم وشموني.
وبعد فترة جاء القتلة إلى ماردين ومعهم حصان عبد الكريم وبعض الثياب والبسط وسلموها لأخته ملكة، وقالوا لها أن صاحبها سوف يأتي بعد قليل ليستلمها منك. ولم نعرف سبب هذه المكيدة، وما هي الغاية منها ؟ لأن المجرمين سرقوا كل ممتلكات آل شوحا وتقاسموها فيما بينهم إلا هذه الأشياء البسيطة التي سلموها لأختهم.
وبعد أن سيق العديد من رجال آل شوحا إلى الموت، دعا متصرف ماردين ممدوح كل من جرجس شوحا وابن عمه الياس اللذان نجا من المذابح وأودعاهما في السجن، وطلب من جرجس أن يسلمه زوجة أخيه كبرئيل الذي قتل في القافلة الأولى حتى يرسلها له، ولما علم جرجس بمكيدة ممدوح أعطاه مئة دينار فأخلى سبيله. وطلب من الياس أن يسلمه زوجتي أخويه عبد الأحد وفريد اللذان قتلا في القافلة الأولى مع أولادهم حتى يرسلهم إليهما، فأعطاه مائتي دينار فأخلى سبيله أيضاً. علماً أن مسيحيي ماردين كانوا يعلمون أن الرجال الذين سيقوا في قوافل قد قتلوا جميعاً. أما السلطات الحكومية فكانت تروج بأنهم أحياء وتم نفيهم إلى ولايات بعيدة. وبعد أيام علم المتصرف ممدوح أن آل شوحا لديهم الكثير من المال، وقد استلم القليل من المال منهما مقابل أخلاء سبيلهما، فدعاهما مجدداً حتى يضغط عليهما مجدداً ويستنزفهما ممتصاً دمهما، فما كان منهما إلا أن تركا بيتيهما وهربا إلى جبل سنجار، وهكذا خسرت الأبرشية كريمين من شعبنا "  .
2_ شهادة الأخ إياسنت سيمون: " ينتمي فكتور المولود في السادس من كانون الأول 1883 والذي غدا اسمه حنا يوم سيامته كاهناً عام 1909 إلى الأسرة الكاثوليكية الأقدم والأنبل في ماردين. وهو حافظ منذ دخوله الإكليريكية عام 1898 على شيء ما يعود إلى جذوره ويميزه، وعلى بساطة شبه ساذجة تعود إلى فضيلته، نسي عظمة عائلته وهو ابن قنصل إسبانيا الفخري في ماردين، وارتضى في تواضع ممارسة جميع فروض الإكليريكية. أراد وكان أحد أوائل صفه المحافظة على مرتبته الأولى في ورع. وهنا يكمن سر تأثيره الرسولي في ماردين أولاً، ثم في نصيبين حيث أوفد عام 1911. علم ولفت الأنظار، أما عظاته المغذاة دائماً بالعقيدة، والمستوحاة من احترام الأمور السماوية، والمعطاة بحرارة المقتنع فقد ثبتت لدى البعض الإيمان الديني، ولدى البعض الآخر العودة إلى الكثلكة. عنيد بعض الشيء، لكنه ثابت في مبادئه، متزمت في أخلاقه لدرجة أن يمنع عن نفسه أي زيارة لياقة، نظامي بحيث يضحي بنومه لإنهاء قراءة روحية، حي الضمير لدرجة التردد، وكان فخر رعيته ومثال زملائه.
كان أول كاهن يطاله الاضطهاد في شباط 1915 في نصيبين نفسها. وفي ظل ظروف جداً مؤلمة سجن في ماردين لمدة أسبوع، ثم اقتيد في الحادي والعشرين من آذار إلى ديار بكر، وكانت رحلته بمثابة جلجلة. وإن ماردين التي كانت ما تزال تردد اسم شوحا الأب القنصل، رأت شوحا الابن الكاهن مقيداً بالسلاسل بين كرديين، يضرب بالسوط وبكعب البندقية، يملأه الوحل محقراً. دخل ديار بكر بوجه مسود بالوحل وفي عنقه جريس، ووصل السجن نصف ميت.
وما زلنا إلى الآن نجهل أي تفصيل آخر، وجل ما نعرفه أن الكاهن أخذ خلال شهر أيار، إلى طريق خربوت مع مسيحيين آخرين، واختفى كما يختفي المخفورون. لن تخبرنا مياه النهر، أو أكراد الجبل على أي ضفة، أو أي عقيق ترقد جثة راحلنا. وستبقى ذكرى الأب حنا شوحا بركة، فموته كان صدى حياته، وقد عاش لله ومع الله، ومات في الله وله "  .
3_ شهادة الأب إسحق أرملة: " في التاسع من أيار سنة 1915 احضر شرذمة من الجنود القس حنا شوحا الكلداني من نصيبين، مدعين أنه أخفى عنده بعض الفارين. وعند الظهيرة ألقوا طوقاً حديدياً برقبته، واستاقوه في الجادة العمومية في هرج ومرج، إذ كان الاعلاج يتبعونه ويقذفونه بالحجارة، ويذرون التراب على هامته. وأفضت بهم اللآمة إلى أن ألقوا على قذاله لفائف الدخان وهي مشتعلة ليزيدوه أذى وعذاباً. وما برحوا يجرعونه أكواب الشتم والسب والهزأ، حتى وصلوا به إلى باب البلد الغربي. فعاد الاعلاج الأوغاد إلى بيوتهم، وسار الأب المظلوم في جماعة من الجند إلى ديار بكر ليحاكمه رشيد الوالي الزنديق بما يستحق. وصرف السيد إسرائيل أودو مطرانه الجليل العناية في تخلية سبيله فلم يفلح، فكتب إلى المطران سليمان صباغ بدياربكر ليسعى في تخلية سبيله.
غير أن الأب حنا المشار إليه ما أن وضع قدمه بمدينة دياربكر جرثومة الشرور، حتى لقيه الأنذال السفلة في الأسواق، واشرحفوا لتصويب نبال سخطهم عليه، وإنزال العقوبة به، وألقوا جلجلاً في رقبته تآسياً بالحاكم ابن العزيز العلوي صاحب مصر في أواخر القرن العاشر، فإنه على ما أورد ابن العبري في تاريخه المدني: أمر المنادين أن ينادوا أن من لم يدن بالإسلامية يرذل ويحتقر ويعلق في عنقه خشبة كالصليب وزنها أربعة أرطال بغدادية، وإذا دخل الحمام وجب أن يعلقوا في عنقه جلاجل ليتميز من المسلمين.
غير أن أوباش دياربكر سودت وجوههم ما اكتفوا بذلك كله، بل لطخوا لحية الأب المومأ إليه بالأقذار، وقذفوا عليه الأوساخ حتى بلغوا به إلى أعماق السجن، وهناك أفحشوا في ضربه وتعذيبه حتى فاضت روحه بيد خالقها "  .
الخاتمة: في المسيحية ليس بالفاتح والبطل من شهر سيفاً، وسفك دماً، وفتح فتوحاً، وأنتصر في معركة. بل البطولة في المسيحية هي لمن بذل دمه شهادة لإيمانه. وهكذا نال الأب حنا شوحا إكليل الشهادة، باذلاً دمه حتى أخر قطرة حفاظاً على إيمانه. لقد كان الأب الشهيد حنا شوحا على رأس سلسلة طويلة من الشهداء من الأساقفة والكهنة والمؤمنين سفكت دماؤهم في سبيل الإيمان.
وهنا أتسأل أين الكنيسة الكلدانية من ذكرى هؤلاء الأبطال، أليس من واجبها أن تسعى بجدية لرفعهم على مذابح الكنيسة الجامعة كقديسين مكرمين جزاء إرهاق دمهم الطاهر في سبيل المسيح. علماً أن بين هؤلاء الشهداء أربعة أساقفة عظام هم: مار أدي شير مطران سعرت، ومار يعقوب أوراهام مطران الجزيرة العمرية، ومار توما أودو مطران أورمية، ومار توما رشو مطران أثيل، بالإضافة إلى عشرات الكهنة وخمسين ألف مؤمن. ناهيك عن المعترفين الذين نالوا أشد العذابات وعاشوا أقسى الصعوبات نذكر منهم: مار إسرائيل أودو مطران ماردين، ومار سليمان صباغ مطران آمد، ومار بطرس عزيز مطران سلامس، ومار أوجين منا مطران وان، بالإضافة إلى العديد من الكهنة والآلاف من المؤمنين الذين تركوا كل شيء في سبيل الحفاظ على وديعة الإيمان الثمينة.
وقد عبر عن هذه الأمنية مار إسرائيل أودو في مذكراته بالقول: " نستطيع أن نجزم بأن الذين قتلوا من الكلدان في آمد وسعرت وماردين وبازبدي ونصيبين وجوارهم من أساقفة وكهنة وشمامسة ورجال ونساء وشبان وشابات وأطفال، هم حسب رأيي شهداء حقيقيين للإيمان المسيحي، وتستحق كنيسة المشرق الكلدانية أن تفتخر بهم أمام أمم الأرض قاطبة، لأنه في القرن العشرين كما في أيام الطاغية شابور وغيره قدمت الآلاف من الشهداء للمسيح الشهيد العظيم كهدية ثمينة، ولا تزال مياه الحياة الروحية تجري في جسمها الحي حتى اليوم ".
ويختم المطران أودو مذكراته بقصيدة عصماء باللغة الكلدانية، يتحدث فيها بلغة شعرية بديعة ورصينة عن هذه المذابح النكراء، نذكر منها بعض الأبيات:
الـدم الزكي للأحبار والكهنة وأبناء كنيستنا 
                                         مع دم الرجال والنساء والشابات والشبانا
يصيح من الهضاب والجبال والآبار والوديانا             
                                         يصرخ مـن أعماق الأرض بألم ويدعونا
دم الشهداء المذبوحين لا يكل ولا يمل ينادينا             
                                         قوموا يا مساكين وثبتوا صور اضطهادنا                                             
للأجيال القادمة ليعرف العالم مـا جرى علينا               
                                          من أجل إيماننا أية عذابات وإهانات ذقنا                                             
النسور الخبيثة احتاطوا الحمامة من كل جانبا               
                                           فمزقوا أجنحتها وكسروا ريشها وقتلونا                 
إنه نداء أوجهه من الأعماق إلى القيمين على رئاسة الكنيسة الكلدانية، عله يجد آذان صاغية لتحقيق هذا الهدف السامي احتراماً لذكرى شهدائنا الأبرار ومعترفينا الأوفياء، حتى تبقى ذكراهم خالدة إلى الأبد، ودماؤهم الزكية بذار الحياة تشفع فينا أمام منبر المسيح حتى منتهى الدهر. وفخرنا أننا أبناء أولئك الشهداء والمعترفين.                                   
             

147
رد على السيد حبيب تومي
 ألا يتحمل رجال الدين قسطا كبيراً من مسؤولية وضعنا الحالي؟

الشماس: نوري إيشوع مندو

 إن النقد البنّاء ليس تعنيفاً بل هو وضع النقاط على الحروف، وهذه مسؤولية كل إنسان صادق ونزيه ويحس بالمسؤولية. نحن أعضاء في الكنيسة ولسنا قطيعاً يقاد. أنني لست بصدد الإساءة إلى مرجعياتنا الروحية أو الزمنية والتي أكن لها الاحترام، لكننا في منعطف تاريخي يُحدد من خلاله مصيرنا، ولا بد لنا أن نعبر عن وجهة نظرنا محبةً بكنيستنا وشعبنا، لكي نستفيد من الأفكار ونستنتج العبر، وألا تكون عدم مبالاتنا نقطة سوداء في صفحات التاريخ. أني من بين من يعتقد أن تكون أمور شعبنا المصيرية في يد رئاستنا الكنسية، شرط أن تكون هذه الرئاسة قيادية ورائدة ومخلصة وبعيدة عن التكتل القبلي -  العشائري، والمصالح الفردية الرخيصة، والتي أساءت إلى مسيرة الكنيسة وشعبها.
نشر السيد حبيب تومي مقالاً على موقعي عينكاوا ونركال كيت تحت عنوان: " بطريركية بابل على الكلدان بين مطرقة الإرهاب وتعنيف الكُتاب " يشتكي فيها من عنف ما يُكتب ظلماً بحق المؤسسة البطريركية، والسيد البطريرك معداً دوره على ما يرام .
هذه بعض أسئلة أتمنى أن تلقى جواباً: ماذا حقق غبطة البطريرك لشعبنا المهجر والمبعثر، ما هي الرعاية الروحية والمعنوية والمادية التي تقدمها البطريركية لهذه العائلات في داخل العراق وفي بلدان الجوار ؟. لماذا لا نسأل عن عدد العائلات التي تركت كنيستنا، وانضمت إلى الكنائس البروتستانتية، بسبب عدم مبالاة كنيستنا بمعاناتهم، والتي لم تبذل أي جهد يذكر لتخفيف مصاعبهم. أليس كل شيء بتراجع: الكهنة يهربون ويعينون في بلاد الاغتراب من دون قانون. تاركين الرعية في وقت هم في أمس الحاجة ليكونوا بجانبهم. البطريرك اليوم يبارك هذا الفريق وغداً يخونه ؟ أليس هو من دعا في البداية للتسمية الموحدة لشعبنا الكلداني الآشوري، ثم غير رأيه وقسّمنا من جديد ؟.  فهل هذا هو الموقف المشرف حسب رأيك ؟. نحن نفرح أن يكون بطريركنا جريئاً وقوياً وصاحب مواقف شجاعة وثابتة، وأن تكون مؤسساتنا على أحسن وجه. من المؤكد أن الأساقفة والكهنة يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية. وهل أضحى خلاصنا رهينة الصراع على التسميات، متناسين الأهم وهو المحافظة على إيماننا وحضورنا في ظل الحملات الظالمة التي تقترفها ضدنا زمر الجهل والغباوة.
البطريركية ليست فقيرة مادياً، حتى يأخذ غبطته مبلغ 100 مليون دينار عراقي من الحكومة لإصلاح الكنائس التي دمرت. ويطبل ويزمر لهذا الإنجاز الكبير في وسائل الإعلام، وما قيمتها أمام ما تركته عائلاتنا. كان الأجدر به ألا يستلمها ويسجل موقفا نبيلاً ؟؟ وأية كنائس سيتم إصلاحها بعد أن فرغت المنطقة من سكانها المسيحيين، الذين هجروا قسراً تاركين كل ما يملكوا ؟.
ما هي المبادرات التي قامت بها البطريركية تجاه شعبنا الجريح ؟ لقد آلمني ما قاله غبطته عندما قرأت أخيراً في احد مواقع الانترنيت: إن العراق انتهى ولا يوجد أمل إلا الصلاة ؟ هل هذا يعني أن نستسلم للقدر منتظرين نهايتنا. وكأننا قد استنفذنا كل الإمكانيات المتاحة، ولم يعد لدينا بصيص أمل في الاستمرار في أرضنا التاريخية. فالويل لنا لأننا فقدنا الرجاء.
 أخي العزيز هل تقرأ ويقرأ رؤساؤنا شهادات شعبنا ؟: إليك بعضها حسب ما نشر في موقع عينكاوا من خلال مكتبه في بغداد في 19 حزيران 2007 تحت عنوان: " قصص ومآسي المسيحيين العراقيين في بغداد _ الوجود الكلداني الآشوري السرياني في بغداد والدخول في النفق المظلم ". فمن خلال العديد من اللقاءات مع العائلات المنكوبة التي تعرضت للتهجير، اكتفت بنشر آراء ثلاث منها:
 فالعائلة الأولى هي من سكان حي المعلمين منطقة الدورة، يقول رب العائلة: " بعد عملية تفجير الكنائس في منطقة الدورة انسحب في البدء رجال الدين الأفاضل عن الكنائس وتركوها لما يعرف في حينه حرس الكنائس . . . فبدأت عملية اختطافات استهدفت في البدء أعضاء حرس الكنائس، وتم الإفراج عن البعض منهم مقابل مبالغ مالية كبيرة تحملها ذويهم. ثم تطور الأمر ليشهد اختطاف عدد من الأشخاص المنتمين إلى العوائل الميسورة مالياً وسط سكوت رهيب وعدم مبالاة ملحوظة من مؤسساتنا الدينية والسياسية. وفي تلك الأثناء قررنا ترك المنطقة . . نحن نشكر تنديداتكم واستنكاركم لكن الموضوع أكبر من التنديدات والاستنكارات والبيانات نريد حلول عملية لإنقاذنا ".
أما العائلة الثانية وهي من سكان حي العدل فيقول رب العائلة: " بدأت عمليات التهجير لذلك ما كان منا إلا ترك المنزل والتوجه للعيش في منطقة أكثر أمناً في بغداد. ومع أن راتبي وراتب زوجتي لا يغطي مصاريف الحياة المرتفعة، لكننا لا نتلقى أي عون لا من كنيسة ولا من أي جهة أخرى. نحن لا نريد أن نكون مجرد مادة إعلامية بل نريد حلول حقيقية، وأرجو أن يصل صوتنا إلى المسؤولين الذين نعتقد أنهم في وادي والشعب المسكين الذي فقد كل شيء في وادي أخر. نحن لا نريد أن تتحول معاناتنا إلى سلعة يتاجر بها الكثيرين من أجل الحصول على أموال طائلة لا نعلم إلى أين تذهب ؟ ".
أما العائلة الثالثة وهي من سكان حي الميكانيك منطقة الدورة فيقول رب العائلة: " اليوم الميكانيك مدينة يسكنها الموت فالعصابات والمسلحين عاثوا في المنطقة فساداً. وما زاد الطين بله كما يقال والذي شجع التهجير هو تمركز القوات الأمريكية في كلية بابل الحبرية بعد أن هرب الرهبان والقسان وطلاب الدير، وهذا ما أوحى للجميع بأن السلطة الدينية موافقة، خصوصاً أن أي تنديد أو استنكار لم يصدر من الكنيسة إلا بعد أن وقع الفأس بالرأس. مما جعل مسيحي المنطقة متهمين بكونهم موالين لسلطات الاحتلال الأمريكية، وبذلك هم خونة وجب تهجيرهم أو قتلهم. لذلك خيرنا ما بين الموت أو تغير ديننا أو ترك المنطقة أو دفع الجزية. حياتنا اليوم صعبة جداً. وأنا أناشد الجميع لكي يجدوا لنا حل رجاءً. أرجو أن تجد لنا الكنيسة حلاً، الشعب يعيش اليوم في أسؤ الظروف فهل سيتركوننا وحدنا نواجه مصيرنا المحتوم ".
أمام هذه المآسي المروعة التي يتعرض لها أهلنا في العراق، والتي لمسناها من الشهادات أعلاها، نسأل قادتنا الروحيين والزمنيين: ماذا تريدون أن يقول الناس عنكم. أليست حياتكم ملك  للرعية وهذا هو معنى تكريسكم!  نحن لا نسمع سوى صوت استنكار خجول من هنا وهناك. أما القول " أن رجال الدين أنفسهم ما برحوا أن أصبحوا في مقدمة الضحايا في عمليات الخطف والابتزاز والقتل والتشرد والتهديد ". فما الضير من ذلك لأن أمنا الكنيسة المقدسة علمتنا على فم معلمنا يسوع له المجد: أن الراعي الصالح يبذل نفسه من أجل الخراف. فرجال الدين هم من أبناء هذا الشعب، وقد كرسوا حياتهم لخدمة شعب الله. وإذا تركوه وحيداً في وقت المحنة فأي فضل لهم. لا نريد المواقف الرنانة في زمن السعة والراحة، لكننا نريد المواقف الشجاعة في زمن المحن والمصاعب حتى يطبق فيهم قول الرب " الراعي الصالح يبذل نفسه من أجل الخراف ".
وهنا أذكر موقف نبيل للمطران الشهيد مار أدي شير عندما عرض عليه عثمان أغا الطنزي مساعدته للهروب إلى الموصل حتى لا يقع في أيدي القتلة، فرفض عرضه قائلاً: كيف أترك شعبي في هذه المحنة وأنا ألوذ بنفسي، أريد أن أبقى إلى جانبه. وهكذا نال إكليل الشهادة بثبات وشجاعة.
ولا بد أن نذكر موقف البطريرك مار يوسف عمانوئيل الثاني، الذي بذل جهود جبارة للتخفيف عن معاناة المفلتين من سيف مذابح السفر برلك، وكان يستقبل قوافل المهاجرين في دار البطريركية بالموصل، ويجود عليهم بكل ما كان يملك، حتى وصل به المطاف إلى بيع كأساً وبيلاساً ليصرف قيمتهما على هؤلاء المعذبين. وعندما تبلغ من حاشيته أن ما تملكه البطريركية أخذ بالنفاذ، أطلق قوله المشهور: " لا أتحول عنهم حتى تروني متسولاً كواحد منهم ". أعتقد أننا اليوم بحاجة ماسة لأمثال أولئك الرعاة الصالحين، الذين اقترنت أقوالهم بأفعالهم.
ولا نقبل التبرير بالقول: " ماذا يستطيع البطريرك والمطارنة والقساوسة القيام به ". منذ عشرين سنة يتدفق المسيحيون العراقيون إلى تركيا وسوريا والأردن ولبنان ولم نسمع أن البطريركية أرسلت لجنة للإطلاع على أوضاعهم أو عملت شيئا لتخفيف معاناتهم. وأليس صحيحاً ما قاله رب العائلة الثانية: لا نريد أن تتحول معاناتنا إلى سلعة يتاجر بها  للحصول على أموال طائلة لا نعلم إلى أين تذهب. فهل نستطيع أن نطلق على كل معاناة شعبنا قشور يجب أن نتخلص منها، لنتمسك بالجوهر كما يقول السيد تومي ؟.
وهنا أختم بنادرة قصيرة: " يحكى أن شخصاً اشتعلت ثيابه بالنار، فهرع بعض الناس لمساعدته على إطفاءها قبل أن تلتهم جسده وتقضي على حياته، فحضر شخص وهو يحمل حزمة من سنابل الحنطة الخضراء، وصاح في الناس قائلاً: اتركوني أشوي حزمة السنابل قبل أن تطفأ النار. فزجره الحضور بالقول: ما بالك أتريد أن تشوي حزمة سنابلك ولا تتركنا نطفئ النار حتى يموت الرجل ". أتمنى أن لا تتطابق هذه النادرة علينا اليوم.




148
السينودس الكلداني: أزمة الثقة و فقدان رؤية
 
من خلال متابعة مجريات السينودس الأخير المنعقد في دير السيدة قرب ألقوش، يبدو أن هناك أزمة ثقة بين آباء الكنيسة الكلدانية. وذلك واضح من خلال مقاطعة أغلب أساقفة العراق لأعمال هذا السينودس. بينما حضره غبطة البطريرك ومعاونوه وأسقف أبرشية واحدة من العراق. بالإضافة إلى الأساقفة الكلدان من خارج العراق الذين تهافتوا لحشد الصفوف لاتخاذ قرارات مصيرية حسب متطلبات هذه المرحلة الصعبة.
وكانت المفاجأة تسرب مقررات السينودس قبل أن تعلن رسمياً من قبل الآباء المجتمعين خلافاً للقوانين الكنسية المرعية، حاملة البشرى السارة لمؤمني الكنيسة عن انتخاب أسقفين جديدين، واحد لمركز شاغر، وأخر لمركز مستحدث. وكأنهم بهذا القرار وضعوا إصبعهم على الجرح النازف، ونجحوا في تضميده. وهكذا أدوا واجبهم بعد تحملهم عناء السفر من البلاد البعيدة، ومغامرتهم بحياتهم الغالية في ظل الأوضاع الأمنية  غير المستقرة في العراق.
وهنا لا بد من السؤال لماذا لم يشترك في السينودس أساقفة يمثلون أهم الأبرشيات الكلدانية في العراق، علماً أن هؤلاء الأساقفة مشهود لهم بتفانيهم في خدمة شعب الله رغم الصعوبات والمعانات والتحديات. كان على البطريرك عمل كل شيء لإقناعهم في الحضور وإزالة الأسباب ولربما الاكتفاء  بدراسة وضع المسيحيين في العراق والماهجرين إلى سوريا والأردن ولبنان ومد يد العون لهم  بدلا من الاكتفاء بانتخاب أسقفين ؟ وكان بالامكان الاستعانة ببعض الكهنة والعلمانيين المتمرسين في هذا الجانب المصيري ؟ إن وضع المسيحيين في العراق  يتطلب من السينودس أن يبقى في حالة انعقاد دائم في ظل ما يجري لمواكبة المستجدات. بدل أن يعقد مرة واحدة في السنة ولمدة يوم واحد أو يومين. ولا يتحقق فيه شيء يذكر، سوى تحقيق بعض الرغبات الخاصة والضيقة على حساب مصلحة الكنيسة. 
أسئلة مطروحة من قبل مؤمني الكنيسة، وعلى الرئاسة أن توضح أسباب المقاطعة، حتى نكون في الصورة الصحيحة لما يجري. علماً أن موقع البطريركية الكلدانية وموقع عينكاوة العزيز  وعلى لسان المطران شليمون وردوني برر عدم حضورهم بالقول: " البعض منهم لأسباب صحية، والآخر لأسباب أمنية، وغيرهم لأسباب شخصية ". لم نسمع في وقت انعقاد المؤتمر أن أحد هؤلاء الأساقفة يعاني من متاعب صحية، أما الأسباب الأمنية أو الشخصية  فكيف يأتي أساقفة من أمريكا وكندا وأستراليا وإيران ولبنان، وأسقف ألقوش على جوار الدير لا يحضر؟
ويختم المطران وردوني قوله: : " خرجوا بقرارات ناجحة لمجد الله ولخدمة الكنيسة ولخير    لمؤمنين ". إنها بشرى سارة فقد خرج آباء السينودس بقرارات ناجحة، وعلى المؤمنين الانتظار بفارغ الصبر لتلقف المن والسلوى ؟.
 و الملفت  للنظر مع الأسف  جاء التقرير خاليا  من أية كلمة رجاء وتشجيع للمؤمنين الخائفين المروعين وكان السينودس هو  فقط للانتخابات.
هل درسوا ما  سبب ترك أغلب كهنة العراق مراكزهم والتوجه إلى الغرب، والرئاسة تتفرج غير مبالية بما يجري، بل تصدر مراسيم تعينهم هنا وهناك، وكأن العراق  لا يحتاج إلى الكهنة. من الممكن أن للكهنة الهاربين من جحيم العراق أسبابهم، لعدم وقوف الرئاسة إلى جانبهم في تذليل معاناتهم. وأمام عدم مبالاة الرئاسة يتركوا مراكزهم تاركين القطيع بدون راعي، في وقت هو أحوج إليه من أي وقت مضى. وعندما يترك الراعي رعيته ماذا يكون مصيرها، وهل طبق فيها قول الرب بأشعيا النبي: " أن شعبي أضحى قطيعاً ضالاً، ورعاته أضلوه ".
أمام هول ما يجري نطالب  آباء السينودس الكلداني بتحمل مسؤولياتهم في هذه الظروف المأساوية التي تمر بها كنيستنا الكلدانية الجريحة والمعذبة وليعملوا مع شعبهم ومن اجله ما هو  لمنفعته . وليعلموا أن مستقبل كنيستنا هو في أرض الآباء والأجداد، وليس في تلك البقاع البعيدة التي مع السنين سوف نفقد فيها هويتنا وتراثنا شئنا أم أبينا.
الشماس: نوري إيشوع مندو

149
مسيحيي المشرق على درب الآلام
لا نستغرب من حادثة استشهاد رجل الله الأب رغيد كني والشمامسة الثلاثة. الذي اعرفه معرفة شخصية، والذي تربطني به أواصر المحبة الروحية والاحترام المتبادل من خلال لقاءت عديدة جمعتنا في مدينتي القامشلي والموصل. وقد لمست فيه عمق إيمانه بخدمته الكهنوتية. فقد كرس نفسه من أجل رعاية النفوس والعمل على خلاصها. فلم تغريه ملذات أوربا والعيش الرغيد فيها. لكنه ما أن أنهى دراسته في روما حتى قرر العودة إلى العراق ليقف إلى جانب شعبه المتألم، ويعمل على التخفيف من معاناته ومآسيه. وفي زيارته الأخيرة إلى القامشلي وهو في طريقه إلى روما لحضور مؤتمراً هناك، حدثني عما عانه وشاهده خلال تفجير الإرهابيين لبناء مطرانية الموصل، حيث أخرج من غرفته إلى الشارع قبل التفجير. وأذكر ما كان يحمل من صور عن تلك الفاجعة التي ارتكبها برابرة عصرنا. ومن خلال حديثه لمست فيه الإصرار على مواصلة المسيرة رغم الصعوبات والمخاطر. وبعد تدمير المطرانية تعرض لحادث أخر حيث ألقيت عليه قنبلة يدوية خلال خروجه من كنيسة الروح القدس في حي النور وبرفقته أخته راغدة، فنجا من ذلك الاعتداء الأثيم، وأصيبت أخته بجروح بليغة. كل هذه المضايقات لم تثنيه عن تأدية الواجب رغم الغيوم المتلبدة المحيطة بالموصل. بل استمر في عمله الدءوب على مثال الراعي الصالح الذي يبذل نفسه من أجل الخراف. وهذا ما حدث لهذا الأب الشهيد الذي سفك دمه الطاهر من أجل أحبائه. مقتدياً بذلك بقول معلمه يسوع الذي قال: ما من حب أعظم من هذا، أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه.
وتستمر مسيرة الشهادة من جيل إلى جيل، فمسيحيي المشرق هم طعمة لنار الحقد والغدر منذ بداية المسيحية وحتى يومنا هذا. والباحث في بطون التاريخ يستطيع أن يطلع على تلك المجريات التي غيرت خارطة المنطقة، وأحدثت فراغات كبيرة في الحضور المسيحي، بدءً من تركيا ومروراً بإيران والأراضي المقدسة واليوم العراق، والحبل على الجرار كما يقول المثل. ولا بد أن نستذكر أن كنيسة المشرق أطلق عليها كنيسة الشهداء، لما قدمته من عدد هائل من الشهداء عبر الأجيال.
ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق تتعرض الأقليات بشكل عام، والمسيحيين بشكل خاص لحملة تصفية عنيفة، يحمل لواءاها تنظيمات إرهابية تكفيرية من المتطرفين الإسلاميين. ولا ذنب لهؤلاء المسيحيين سوى أنهم مواطنون صالحون ملتزمون بمحبة الله والبشر. ومع أنهم عنصر البناء والتنمية في موطن آبائهم وأجدادهم بلاد ما بين النهرين مهد الحضارات والوحي، لما يحملوه من مؤهلات علمية وثقافية وتجارية وصناعية وزراعية، والأهم من ذلك قيمهم الإيمانية والأخلاقية. إلا أنهم أضحوا عرضة لنار القتل والاضطهاد والتهجير من زمر الجهل والشر.
فمنذ احتلال العراق راح المتطرفون باتهام مسيحيي العراق بالصليبين زوراً وبهتاناً، بكلمات نابية وشعارات رخيصة يندى لها الجبين. وجعلوا من تهمهم الواهية حجة للانقضاض على هؤلاء المسالمين والعزل كالوحوش المفترسة. وبدأ مسلسل الخطف والقتل والتهجير، والاعتداء على الكنائس وممتلكات المسيحيين. وهذا ما يذكرنا بحملات الغزو التي تبيح للغازي بفعل ما يشاء، لأن ذلك مباح وحلال له. متناسين أن زعماء العراق الحاليين الذين كانوا في زمن النظام السابق يستعطفون أمريكا وأعوانها لمساعدتهم على قلب نظام الحكم، وجلب الحرية والديمقراطية للعراق المعذب. وجل هؤلاء الزعماء هم من المسلمين. والحمد لله لم يكن بينهم شخصية مسيحية. فالأمريكان جاءوا إلى العراق بناء على طلبهم، ولم يأتوا لحماية المسيحيين أو خلق كيان خاص بهم. ويستطيع المتتبع لمجريات الأمور أن يتأكد من ذلك من خلال ما حل بمسيحيي العراق من مآسي بعد الاحتلال الأمريكي. وهنا أذكر مثلاً على ذلك، فمن المعروف أن منطقة الدورة جنوب بغداد تعتبر من الأحياء المكتظة بالسكان المسيحيين، ويضم صروح مسيحية مهمة أذكر منها: كلية بابل الحبرية الكلدانية والمعهد الكهنوتي البطريركي الكلداني وكنيسة القديسين بطرس وبولس الكلدانية وكنيسة مار يعقوب النصيبيني الكلدانية ودير مار أنطونيوس مقر الرئاسة العامة للرهبنة الهرمزدية الأنطونية الكلدانية ودير الملاك روفائيل للراهبات الكلدانيات وكنيسة مار زيا الأشورية وكنيسة مار كيوركيس الأشورية ودير أخوات يسوع الصغيرات ودير الراهبات الكاترينيات ودير الراهبات الفرنسيكانيات ودير الآباء المخلصيون ودير الآباء السالزيان ومركز للفوكولاري. هذا الكم الهائل من الصروح الدينية يعبر عن الحضور المسيحي الكثيف في منطقة الدورة.
ومنذ فترة قصيرة احتل الجيش الأمريكي مبنى كلية بابل وجعلوه قاعدة عسكرية لهم، وبعد مراجعات عديدة من قبل البطريركية الكلدانية لقوات الاحتلال لإعادة البناء إلى أصحابه، لكن دون جدوى، ولم يلق هذا الطلب آذان صاغية لديهم، علماً أنه صادر من مرجعية كنسية عليا، ولم يحترموا طلبها. وأمام عيون الأمريكان القابعين في كلية بابل تتم يومياً تعديات مشينة بحق مسيحيي الدورة. فالتكفيريون ينذرون هؤلاء العزل والمسالمين اختيار أحد الأمرين وهما: إما نبذ المسيحية واعتناق الإسلام حتى يستطيعوا البقاء في بيوتهم. وإما مغادرة بيوتهم وترك كل ممتلكاتهم من منقولة وغير منقولة ومغادرة المنطقة فقط باللباس الذي يرتدون.  فأين الأمريكان من حماية هؤلاء العزل. الذين قيل بحقهم بهتاناً أنهم صليبيون وقد جاء المحتل لحمايتهم.
كل ما في الأمر أن ما قيل ويقال بحق مسيحيي العراق ليس إلا حجج واهية، وأن ما يجري هو تحقيق لمخططات الصهاينة الذين لا يزالوا يحقدوا على أبناء بابل ونينوى الذين دمروا مملكة إسرائيل. والدليل على ذلك عندما سرقوا من متحف بغداد بعد السقوط كل التحف الأثرية التي تشير إلى ذلك، لأنهم يريدون أن يمحوا من ذاكرة الشعوب تلك النكسة التي حلت بهم. أما الأداة المنفذة لهذه المخططات فهي زمر الجهل والغدر والحقد الذين يتخذون الإسلام والجهاد في سبيل الله عنواناً مبهماً لجرائمهم الشنيعة.
أمام هول ما يجري أجد من الواجب أن يتحمل أصحاب القرار مسؤوليتهم أمام الله والتاريخ:
1_ فعلى المرجعيات الإسلامية اتخاذ الإجراءات المناسبة بحق هؤلاء المجرمين، الذين يسيئون إلى الإسلام أولاً، من خلال مواقف جريئة وصريحة، وتعريتهم ليظهروا للعالم على حقيقتهم. وأما السكوت عنهم فهو يدل على موافقة ضمنية لأفعالهم الشنيعة. وعليهم أن يميزوا بين السياسة والدين. لأن ما تجريه أمريكا على أرض العراق هدفه تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، وليس للمسيحية كدين علاقة بأفعالهم. والدليل على ذلك الصوت الصارخ الذي أطلقه البابا الراحل مار يوحنا بولس الثاني والذي أدان به علناً وبشدة حصار العراق وغزوه. وهذه الصرخة أطلقها مرات عدة دفاعاً عن الشعب الفلسطيني المظلوم. ناهيك عن أصوات البطاركة والأساقفة في جميع أنحاء العالم. هذا هو موقف الكنيسة دائماً في المواضيع الإنسانية. في المقابل نجد أن العديد من زعماء الدول العربية والإسلامية شجعوا الأمريكان على احتلال العراق، وقدموا لهم التسهيلات اللازمة لتحقيق هذا الهدف. ولا زالوا حتى يومنا هذا يسطعتفونهم للبقاء خوفاُ من نقمة شعوبهم وحفاظاً على كراسيهم. فعلى المسلمين أن يعرفوا هذه الحقيقة. وليدركوا أن فراغ المنطقة من المسيحيين هو دمار للإسلام والمسلمين. حيث سيحل الظلام مكان النور، والجهل مكان العلم والمعرفة، والتخلف مكان التقدم والتطور. وأظن أن ذلك لا يفوتهم فلهم أمثلة على ذلك تلك البلاد الإسلامية التي فرغت من مسيحييها، وأضحت صحراء قاحلة لا حياة فيها.
2_ وعلى حكومات الدول الكبرى والأمم المتحدة والمنظمات الدولية التدخل السريع لردع هذه الانتهاكات التي تجري بحق مسيحيي العراق، وإلا ستبقى هذه التجاوزات وصمة عار في جبين البشرية، في حال وقوفهم متفرجين على ما يجري.
3_ وعلى المرجعيات المسيحية في العراق والعالم العمل على جميع الأصعدة لإبطال هذا المخطط، ووقف نزيف الهجرة القاتل الذي سيفرغ المشرق العربي من المسيحيين، والعمل الجاد على تثبيتهم في أرض الآباء والأجداد من خلال حلول عملية مدروسة، بعيداً عن العواطف والمجاملات. فقد شبعنا من البكاء على الأطلال.
القامشلي 5 حزيران 2007                                    الشماس نوري إيشوع مندو  

صفحات: [1]