ألمرأة صرخة استغاثة بوجه الظلم والتخلّف
"لمناسبة الاحتفال بعيد المرأة"
استهلال: أوضاع المجتمع العراقي اليوم، لا تُسرُّ، وهي تكاد لا تختلف عن الأوضاع التي تمرّ بها دول المنطقة منذ عقود، بعد انحسار الفكر التقدّمي المنفتح على الآخر الذي كان قد خلق مجتمعات متنوّرة نوعًا ما، كانت قد واكبت شيئًا من أدوات التطوّر بكلّ أشكالها، بدءًا من التربية المنزلية، ثمّ المدرسة، فالفنون، فالمؤسسات التعليمية العالية من معاهد وجامعات، مرورّا بأنشطة منظمات المجتمع المدني والأحزاب التي كانت تتخذ في أيديولوجياتها مساراتٍ معتدلة تأخذ في الحسبان الولاء للمواطنية ومصلحة الفرد والمجتمع معًا.
يمكن عدّ هذه الظاهرة في أيامنا هذه، بمثابة أزمة مستفحلة تنخر جسد مجتمعاتنا التي ابتليت بذواتٍ أعماهُم الانغلاقُ على الذات وعلى الدّين والمذهب والطائفة والقومية التي لم يعدْ لها مكانٌ في الساحة الواسعة للعولمة التي يُفترض بها أنْ ألغت الحدود وقرّبت المسافات وفعّلت المجتمعات المتقدمة نحو تطوّرات غزت العالم بقوتها وفاعلية اختراقها للمجتمعات المفتوحة التي ترغب بالتقدم والتطور وخدمة النفع العام. هذه الأزمة، تشكل اليوم جرحًا عميقًا في خاصرة العديد من المجتمعات التي حدّتها الأفكار المتخلّفة المرتبطة بتسييس الدين لصالح فئة، ولا همّ لها سوى فرض أجنداتها وأفكارها وفق مقاساتها التي تتطابق مع المعايير التي تريدها هي، وليس تلك التي هي عليها بفطرتها وطبيعة تكوينها ونشأتها ووفق الخيارات والحرّيات الطبيعية المكتسبة.
إن هذه الأزمة التي يتفق عليها اليوم، العديد من الاختصاصين بدراسة ظواهر الشعوب والأمم والدول في العالم، تكاد لا تخلو من مفاهيم اجتماعية واقتصادية ودينية وثقافية وحضارية في مجمل تقديمها واستعراضها وفعّاليتها. فهي تمثل الخيط الحرج والنقطة الحاسمة التي تحدّد مصائر الشعوب والأمم وتحفظ لها طاقاتها وتمحورُ مصيرَها بالقبول بالتطور ومفاعيلهما، أو بالتراجع إلى الوراء مع ما يمكن أن يحمله هذا التراجع من تخلّف وتقوقع مليء بأنواع المآسي والفقر والتخلّف والموت للشعوب بدلَ ارتقاء سلّم التطور والقبول بالحياة التي يجلبُها الانفتاح والتقدّم. مثل هذا التقوقع والانكفاء على الذات، سيكون انتحارًا لسالك هذا الدرب المليء بالألغام والمطبات على جميع الأصعدة.
والتخلّف الذي نقصده قد يصل جميع مفاصل الحياة، المنزل الأسري والمدرسة والشارع وموقع العمل والسفر. كما قد ينسحب ليس على قرية أو مدينة أو عاصمة، بل قد يضرب دولة بكاملها ومنطقة بمجملها. وهذا، ما نحن عليه اليوم في بلدنا العراق، حيث تستفحل هذه الآفة في عموم مجتمعاتنا، دون بروز ما يشبه الضوء في آخر النفق الطويل المظلم. فهل هذا ما يستحقه شعب الحضارات والإنجازات والبطولات والخيرات؟
نحاول في هذا البحث، التطرّق إلى هذا المنعطف الخطير وتحليل أسبابه والخروج بنتائج قد تنفع لدرء خطره فيما لو بقي دون معالجات جدّية، سواء من الدولة وساستها، أو من المراجع الدينية التي تقع عليها مسؤولية التوعية المعتدلة أو من الأصول الثقافية والعلمية التي تُعدّ راعية الثقافة وعليها تقع مسؤولية التثقيف والتعليم بالتعاون مع الأسرة والمنظمات التي تُعنى بتطوير المجتمعات. وسنخصّص الجزء الكبير من البحث عن تخلّف المرأة في مجتمعنا العراقي والشرق- أوسطي عمومًا
ميادين التخلّف، كيف ولماذا؟ تعرّض المجتمع العربي ومنه العراقي، عبر تاريخه إلى مراحل متداخلة ومتصارعة من التقدم والتراجع تبعًا للظروف التي عاشها منذ قيامه. فهو بعد الحضارات العامرة الأولى التي بناها وسادت العالم قرونًا، تعرّض مثل غيره للإبادة والتراجع في تاريخه. وهذا أمرٌ طبيعيٌ بسبب محدودية المساحة التي سبح فيها وكذلك بسبب أسرِه في دهاليز الفكر البالي الذي يصرُّ البعض في هذه الأيام بالذات لإعادته إلى أيام القهر الظلامي الأوّل قبل أكثر من أربعة عشر قرنٍ وما قبله، حيث ساد فيها عملُ السيف والترهيب والتحايل على بسطاء الناس، ممّن عانوا آلامًا وأزمةً وعجزًا أمام قوى الطبيعة والسلطان الذي تحكّم بها وبهم على السواء.
جميع المحلّلين لظاهرة التخلّف، يرون في أسبابها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والدينية والسياسية، أنها قد ألقت بثقلها على مرِّ العصور والسنين على الناس دون تمييز. وكان من ضحاياها، الرجل والمرأة، الشاب والفتاة، الطفل والشيخ، اي أنها لم تستثنٍ أحدًا البتة. وما زاد الطين بلّةً، أن أدواتها ومرتكبيها قد توارثوا هذا النهج المتخلّف باستمرار وعزّزوا بطريقة أو بأخرى، ترسيخَ الظروف المؤدية إلى هذا التخلّف بأنواعه وبوسائل قهرية وتسلّطية وترهيبية متنوعة. فالإنسان بطبيعته، يميل إلى الاقتداء بمن يراه أو يدفعُه للتوجه في سياقٍ معيّن وفي فترة معينة من حياته ومسيرته وسطَ المجتمع الذي يعيش فيه. وهو بذلك، قد يكون وليدَ البنية والبيئة التي يعيش فيها مع ما في هذه من أنماط الحياة المتنوعة في خيرها وشرّها. ولكن، أنْ يستفحلَ مثل هذا التخلّف ويصبح قوة فاعلة ومؤثرة في نمط حياته اليومية المعيشية، فهذا أمرٌ فيه الكثير من المنزلقات الخطيرة، سواءً على الصعيد الشخصيّ أو العام. كما ساهمت الازدواجية في شخصية الإنسان العراقي والعربي عامةً من فئة المغالين والمغالطين وغير المعتدلين بتعميق الهوّة بين الجلاّد وضحيّته وبين المتربعين على السلطة وعامة الناس.
ولعلّ مِن أصعب مراحل الانغلاق على الذات والغير، أن يجد الفردُ المحاصَرُ في شباك التخلّف، نفسَه في وضعية مأزقية حرجة، قد لا يجد منها مفرًّا لطرد أدوات القهر الذي وقع فيه أو الذي حاصرَه مِن حيثً لا يدري، لا سيّما في مواجهة القائمين على السلطة، دينيةً كانت أم سياسية أم دنيوية. وهنا يقع الطرفان، الفاعل والمفعول به في فخّ التخلّف والمغالاة على السواء، نتيجة هذا التسلّط الخالي مِن أية معايير اجتماعية منفتحة على ما يجري من حوله والافتقار لأية رؤية واعية بحقوق الإنسان، رجلاً أو امرأةً ككائنٍ بشريّ محترم، رغم مشاهدته واطّلاعه على الآليات والوسائل والأدوات المتفتحة التي تعيشُها أممٌ ودولٌ وشعوبٌ متنورة اجتازت عتبة الانغلاق بكلّ أشكاله، الفكري والديني والعرقي والمذهبي والاجتماعي.
وإذا كان التخلّفُ لدى النظر إليه من مواقع متباينة وجوانب متعددة، نرى أنه لم يترك مجالاً حيويًا في حياة الإنسان، إلاّ وتوغل فيه وبدأ ينخر جسدَه بلا هوادة ودون تمييز أو مراعاة لأية ظروف أو شروط تمليها الحياة المعاصرة، فقد طال من حيث فاعليتِه ونشاطه، جوانب عديدة ومتنوعة في حياة البشرية. لقد مسَّ جانبَ الأسرة والشارع وميادين العمل والمؤسسات التربوية والتعليمية ودهاليز الدولة، بحيث لم يترك جانبًا لم يدخلهُ أو يؤثر فيه. وأكثر من ذلك، عندما أوغلَ في غيّه، بضرب كيان البشر ونخاعه الإنساني، حيث طال الإنسانَ وعقله وفكرًه وديانته ومذهبَه وأساسَ تفكيره وحرّيته، وكيانَه ككلّ.
إنحسارٌ علميّ وثقافيّ وخدميّلقد مسَّ التخلّف إذن، حياة العراقيين بكلّ جوانبها وبسببه تراجعت مؤسساتٌ بكاملها وتعطّلت مهنٌ وتوقفت معاملٌ ومصانعُ وشلّت حياة المجتمع الذي انتقل من عتبة حضاريّة مزدهرة ومتميّزة بعض الشيء في بجانبٍ من مراحلها عن غيره من المجتمعات في المنطقة، إلى شبح الخواء في أركان الحياة العامة في غضون عقودٍ قليلة. وهو اليوم سائرٌ من سيّء إلى الأسوأ، لاسيّما بتراجعه في أهمّ مرافق الحياة التي تُعدّ سارية ثقافة البد، تلك التي تُعنى بالتربية والثقافة والتوعية والتعليم والفنون بكلّ أنواعها. فما أصابَ المؤسسات التعليمية، كبيرٌ وكثيرٌ، فحدّثْ عنه ولا حرّج. فلمْ تعد المادة العلمية التي يتلقاها الطالب تفي بما يحتاجهُ من علمٍ ومعرفة أو تنمّي عنده قدراته العقلية والخيالية، بسبب تراجع سائر المؤسسات التعليمية، بعدّ أن كان العراقُ يُحسب من ضمن البلدان الأكثر علميةً وتطوّرًا في مجال التعليم والتربية، حتى بات البلد يعاني من تهدّمٍ واندثار لمؤسسات تعليمية ونقص حادٍ فيها، بالرغم من الميزانية الكبيرة التي تدّعي الدولة تخصيصها لهذا الجانب. فهل يُعقل في بلدٍ يسبح على محيطٍ من نفط ويمتلك ثروات معدنية وطبيعية زاخرة، أن تجد فيه اليوم مدارس من طين وقصبٍ وأخرى تضربها الرياح يمينًا وشمالاً لخلوّها من شبابيك أو أبواب أو وسائل تكييف، تقي الأطفال برد الشتاء وعصف الرياح ولفحة الشمس القاتلة صيفًا؟ ناهيك، عن مختلف أنواع الفنون التي تراجعت بشكل كبير وتكاد تفرغُ منها، بسبب ما تلقاه من معارضة ومحاربة مِن أصحاب العقول المنغلقة التي ترى فيها، تأليفًا وإنتاجًا وأداءً ونشرًا، نوعًا من الكفر والحرام المخالف للشريعة. فالبلدُ الذي يخلو من فنون بمختلف أشكالها وألوانها، يفقد رونقَه وجمال أهلٍه، تمامًا مثلما يفقد روّادَه ومعجبيه وحظوظَه في حياة مترفة ومستقرّة ومزدهرة. ولكن هذا ما حصل في العراق. لقد خلا البلدُ تمامًا، من مسارح ومن دور للسينما مثلاً، إلاّ من واحدٍ وحيدٍ، بعد أن كان رائدًا في المنطقة وراعيًا للعديد من بلدانها، رغم أن هذه المظاهر والصروح الثقافية وغيرُها هي من علامات التقدم والوعي الحضاري وعلوّ الثقافة لدى الشعوب المتفتحة المؤمنة بتطوّر الحياة نحو الأفضل.
لا ننسى ما آلت إليه البنى التحتية والخدمات العامة بمجملها من تراجع في القدرة والطاقة بالنوعية والكمية في آنٍ معًا، إلى جانب مغادرة أصحاب العقول والكفاءات ليس دوائر الدولة فحسب، بل والبلد أيضًا، بهدف البحث عن الأمان بعد ان انقطعت بهم السبل وتعرّضوا للتهديد والقتل وكلّ أنواع المضايقات. فلم تعد دوائر الدولة تحوي مهنيين ومحترفين في أعمالهم، بعد أن كسحتهم أدوات الغازين الجدد للمهن والوظائف التي تتطلب الشيء الكبير من المهنية والكفاءة والضمير الحي الذي غاب عن الحكومات المتعاقبة منذ السقوط في 2003. وهناك ملاحظة مهمة، وهي أن يصل الانسان المقهور في المجتمع المتخلف للإحساس بالغربة في بلده، عندما يصل إلى شعورٍ بأنه لا يملك شيئًا، حتى المرافق العامة والخدمات والأبنية يحسّ أنها ملكٌ للفئة الحاكمة في السلطة وليس للشعب، أو أن تكون بمثابة تسهيلات حياتية لعموم الناس. وبذلك تتوسّع الهوة بينه وبين السلطة التي تترفّع عن تقديم أفضل الخدمات التي تعدُّها مقدَّمةً كمنّة أو فضلٍ عليه، وليس كواجب يستحقه.
المرأة ضحية المجتمع المتخلّف: الملفان السرياني الكبير يعقوب السروجي، في إحدى أروع مقالاته عن المرأة والرجل، يشير بحرارة، إلى إيمانه القويّ بالمساواة بينَ الرجلِ والمرأة ويطالبُ الإثنين بالمشاركةِ في حلوِ الحياة ومرّها، لأنَّ المرأةَ في عُرفِه هي نصفُ الرّجُل، بحسب تعاليمِ المسيح، ولا تنقصُها الحكمةُ البتّة.
من هنا، لا يمكننا فصل قضية المرأة وما تعانيه من ظلمٍ وتخلّف في مجتمعاتنا العربية عامة، والعراقية بخاصة، عن ما تتعرّض له بلدان المنطقة من أزمة حضارية واجتماعية ودينية وطائفية، بسبب سيادة ذكورية المجتمع العربي والإسلاميّ. كما أن للتخلّف الحضاري أسبابَه ونتائجَه ومفاعيلُه، هكذا يمكن أن تنعكس كلُّ هذه على شخصية المرأة وقدرتها على مواجهة هذه الأزمة وتحمّل تبعاتها، رغم ثقلِها الجائر على طاقتها، وهي الإنسان الأكثر قهرًا في المجتمع ولكن الأجمل خلقًا!
يقول الدكتور مصطفى حجازي، أكاديمي ومفكر لبنانيّ:" إنّ مسألة التخلف هو بنية تتصف بالقمع والقهر، بالتسلط والرضوخ، أي بحرمان الإنسان من إنسانيته".1 وهذا ما يجري حاليًا من جرمٍ بشريٍّ بحق النساء في عموم المجتمعات العربية و"الإسلامية" بخاصّة، والتي تنكرُ لها شخصيتَها وآدميّتَها وكفاءتَها، بل وتخنق حريّتَها وتدعها سلعة تُباعُ وتُشترى في سوق النخاسة لأجل جسدِها فحسب، وكأنَّ خالقَها لم يضع فيها بصماته الإلهية تمامًا كما صنع ما للرجل من حياة وحركة وحرية في الرأي والعمل والتفكير وما إلى ذلك. لقد أفقدها المجتمع الظالم وبعض قياداته المستجدّة المتخلّفة، سواءً الدينية منها أو السياسية أو العشائرية، جماليتَها بعد استفحال دارة الشهوات والسطوة عليها واستغلالها بحجج الحلال والحرام والستر. وهناك مَن يصرّ على بقائها في خانة التخلّف والجهل وينكر عليها حقَّها في التعليم والإدارة والقيادة وتبوّء المناصب والتدرّج العلمي والتحرّر الفكري والاجتماعيّ والإنسانيّ وما إلى ذلك بمسميات تبريرية واهية يفرضها الشرع والتقاليد، بحسب البعض. فالمجتمع الذي يخلو من نساء بارزات في العلم والثقافة والعمل والإبداع بكلّ صوره وأشكاله، هو مجتمع عقيمٌ غير قادرٍ على التواصل الإنسانيّ بسبب روح الظلامية الذي يسودُه. والأسوأ، أن تُقرّ بعض الدول في المنطقة، دساتير وقوانين تفرضُها فئاتٌ رجعيةُ الفكر والرؤية من أجل الحدّ من قيمة المرأة وقدرتها البشرية على تحقيق إنجازات لا تقلّ عن نشاط وطاقة الرجل، والسبب ببساطة لكونها نصفَه الثاني المخلوق على صورة الله ومثاله، لخدمة المجتمع ولتمجيد قدرته تعالى فيها.
نقرأ للإمام محمد باقر الصدر وهو يتطرّق لنظرية المثل الأعلى في القيادة المجتمعية حيث يرى "أن الأمة تتحرك بمقدار ما يملك مثلُها الأعلى مِن طاقة للدفع، فإذا كانَ مثلها الأعلى هابطاً فإنَّ الأمة تعيش همومَها اليوميّة التافهة وتراوحُ في مكانها. أمّا إذا كان ذلك المثلُ الأعلى كبيراً فإنه يدفع الأمةَ إلى أهداف كبرى. والدّينُ الحقّ يدفعُ بالمسيرة الإنسانية لأنْ تتجه نحو الله سبحانه. والإنسان في حركته نحو الله يسير على طريقٍ غير متناه، ومجالُ التطور والإبداع والنمو متواصل دائماً دون توقف".2
إنّ هذا الكلام الأخير، لهو من دواعي القول الذي يشير إلى بروز ظواهر كثيرة للتخلّف في مجتمعاتنا، تؤكّد وجود هدرٍ بقيمة الإنسان وتجلياته من جانب الإدارات والقيادات التي تدير دفة المجتمع والدولة، بحيث تحرمه من الارتقاء إلى درجات التطوّر بكلّ أشكاله. والسبب بكل بساطة، لكونه مجتمعًا ذكوريًا، وأسيرَ عادات وتقاليد وأعراف مجتمعية وعشائرية ودينية بالية عفى عليها الزمن ولم تعدْ نافعة لا للبشرية ولا للمجتمعات التي تنشد الحرية واعتدال أساليب الحياة وسط مجتمعاتٍ تتطلّع للتعايش الاجتماعي والسلم الأهلي. فالإنسان الذى تفقدُ إنسانيتُه قيمتَها وقدسيّتَها والاحترامَ الذي يستحقه، كيف له أن ينطلق سليمًا في عالمٍ يقتصُّ من نصفِه ويحيلُه إلى سلعةٍ تُستملكُ متى شاء وتُهدرُ متى شاء وتُرمى متى شاء؟
مِن هنا، يبقى مثلُ المجتمع المتخلف، ذلكَ العالَم الذي يفقد كرامتَه الإنسانية بمختلف صورها وأشكالهِا وثناياها، بحيث يضطرّ للتحوّل فيه إلى أداة لا قيمة لها، إنْ لم تكن نافية الحاجة. كما أنّ التشريعات الوضعية التي تتخذ من الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًا، قد وضعت مصيرَها بيد الرجل الذي تداعبُه فتاوى وتوجيهات بعضٍ مِن مرجعيات منغلقة موغلة في السلفية والتشدّد لصالح الذكر. فهو الآمرُ الناهي في المنزل، وهو الذي يحقّ له الاختيار والزواج والتطليق والطلب لبيت الطاعة. كما تتيح له الشريعة كلّ أنواع المتع مع المرأة بدواعٍ مثيرة وطرقٍ مستنبطة لا تخلو من الظلم والتعسّف والقهر. وبذلك تثبتُ قهريةُ المرأة، من هذا المنظور الذي يحرمُها حق الرفض والاختيار والتنقل وحرية التعبير عن رأيها في مصائر عائلية وزوجية. فهي إنْ اعترضتْ، طالتها كلمةُ التطليق بالثلاثة، وبذلك تكون مضطرّة للرضوخ لأمر الرجل وغرائزه وميوله ورغباته، شاءت أم أبت، بغية الابتعاد عن شيءٍ اسمُه العنوسة او الطلاق الذي يُعدّ عارًا في الأعراف الاجتماعية، لا تتقبلُه العائلات الأصيلة.
لقد صبَّ المجتمعُ الذكوري، جامَ غضبه على ألطف كائنٍ خلقه الله، أي المرأة، التي هي انعكاسٌ لجمال الله في خلقه. فقد طالها التخلّف بكلّ أشكاله وحوصرتْ إرادتُها وأُسرتْ رغبتُها وضُيّق عليها الخناق في مجتمعاتنا، بسبب رؤية متخلّفة حسبتها ناقصةَ دين وعقل وكلَّ شيء فيها عورة! فكيف لمثل هذا المجتمع الذي يسوقُه تفكيرُه إلى هذا الإسفاف من التخلّف والظلاميّة أن يتقوّم وينهض ويرتقي، ونصفُ مجتمعِه يكادُ يكون مغيَّبًا بمجملِه، وهي التي تأتي بالحياة إلى هذه الدنيا مِن وعائِها المقدّس؟
في عددٍ من المجتمعات العربية، ما يزال الحظر ساريًا على مشاركة المرأة في أعمالٍ تُعدّ ضمن ملكيّة الرجل ودارته، من منطلق فرض السطوة الذكورية على مثل هذه المجتمعات، ومنها قيادة السيارات كما في السعودية التي تحظر أيضًا كلّ أشكال الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة وفي المؤسسات الحكومية والخاصة وتلاحق كلّ مَن يخالف هذه القوانين الجائرة عبر فرق متشدّدة من عناصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عديمة الرحمة والشفقة. كما أنها حُرمت من التنقل والسفر بغير محرَم، تحاشيًا للفتنة، كما يدّعي غلاة الشريعة.
وفي السودان أيضًا، اطّلعنا على ممارسات غير إنسانية يندى لها جبين الإنسانية حين حكمتْ أمثال هذه الفرق المتشدّدة أو ما تُسمّى بالمحاكم الشرعية، على فتاة ارتدت بنطال الجينز، وكيف تمّ جلدُها في الشارع وأمام المارّة. وما أكثر مثل هذه الممارسات التي تحطّ مِن قدر هذا المخلوق الجميل في غير هذه من الدول الإسلامية والعربية.
وقد أُشيع في مواقع الكترونية، صدور فتوى جديدة بتحريم المرأة من دراسة الهندسة بسبب ما يرد في هذه الأخيرة من مصطلحات تدعو لارتكاب الفاحشة، مثل متساوي الساقين والزاوية المنفرجة ومنحني ومنحنية ونقطة التلامس، بحسب بعض الدعاة!
هذه النماذج، أسوقُها على سبيل فتح الباب على مصراعيه حول ما يجري على المرأة من ظلمٍ وقهرٍ في المنطقة عمومًا، ومنها ما يطالُ العراق أيضًا في بعضٍ منها.
المرأة العراقية، هل تستحقّ هذه النظرة الدونيّة؟ من المؤسف بروز أصواتٍ ناشزة ومرتفعة في السنوات الأخيرة بالعراق، مؤيدة لهذا التوجه المتخلّف، من منطلق دينيّ بحت. لذا لم يكنْ غريبًا، الاستماعُ إلى مثل هذه الأصوات المتخلّفة، في هذا البلد الذي كان يُعدّ مِن الدول العلمانية والمدنية المتحرّرة، حتى العقدين الأخيرين من القرن المنصرم. فقد صُدم المجتمع العراقي والمجتمع النسائي بخاصّة، قبل أيامٍ طويلة خلت، بالوزيرة المكلّفة شؤون المرأة وهي تؤيد صحة تطبيق الشرع على المرأة كما كانت عليه قبل أربعة عشر قرنًا خلتْ، رغم افتراض كونها أمينة على صيانة حقوق المرأة العراقية وكرامتها أكثر من غيرها. وقد تيّقن الجميع أنّ تلك التصريحات غير المقبولة تأتي في قافلة الأصوات المنادية بتحجيم المرأة وهدر حقوقها وتقزيم دورها في مجتمعها، إلى حدّ جعلَها البعض أداة للتفريخ في المنزل ولخدمة الرجل ليس إلاّ، أو مزهريةً يمتّع بها نظرَه وتقوم على تلبية غرائزه الجنسية، إن لم تكن مستودَعًا لتفريغ شحناته العدائية عليها بعد عودته للمنزل منهكَا من آثار العمل أو العبث.
إن الغضب الذي أُثير على تلك التصريحات بسبب ما حملتهُ من أفكار مقلقة بحق المرأة العراقية في أوساط المجتمع العراقي قاطبة والنسائي بخاصّة في حينها، قد عاد من جديد ولكن بشكلٍ آخر. هذه المرة، مع مقترح وزارة العدل الداعية للعمل بمشروع قانون الأحوال الشرعية الجعفري، الذي بحسب آراء نسائية عديدة، "سيعيد المرأة العراقية إلى الوراء، أو إلى عصر الجواري والإماء". إنّ مثل هذا القانون يسمح، كما يبدو، باستخدام العنف ضدّ الزوجة بهدف تقويمها، وما عليها إلاّ إطاعُة بعلها طاعةً عمياء. في حين، تسعى منظماتٌ نسائية عديدة للمطالبة بفتح آفاقٍ إنسانية واسعة أمام المرأة لتخليصها من النظرة الدونيّة والوصاية عليها، لكونها مخلوق كاملٌ ومتكاملٌ كالرجل. وحين تعرف حقّ قدرها ومكانتَها الطبيعية في المجتمع، فإنّ ذلك سيكون دليلاً بل أداةً لثني الرجل عن إسقاط عقدِه على هذا المخلوق.
ولعلّ من جملة المظاهر المتخلّفة في مجتمعنا في هذه السنوات الأخيرة، بروز توجّهاتٍ في عدد من المؤسسات التعليمية في الدولة العراقية بعد التغيير الدراماتيكي في 2003، من أجل فصل الذكور عن الإناث ابتداءً من رياض الأطفال حتى التعليم الجامعي، من منطلق أنّ أيَّ اختلاط بين الجنسين فيه فتنة ومدعاةً للإثارة والشهوة ويجرُّ إلى فساد الأخلاق. ونحن نتساءل، ما هذا الهراء في مثل هذه الأفكار الهدّامة التي تؤخر ولا تقدّم، وتدمّر ولا تبني، وتوسّع الهوةّ ولا تغلق أبواب الفساد الحقيقي، كما يدّعي أصحاب هذه الفرية؟ أليس في حمل هؤلاء لمثل هذه الأفكار المتخلفة، تأكيدٌ على إصابتهم بأمراضٍ مجتمعية تنخر المجتمع والدين والمذهب الذي هُمْ عليه، وهُمْ بهذه الممارسات والدعوات يسعون لنقل حقيقة شخصيّتهم ودينهم ومذاهبهم وإسقاطِها على غيرهم، غصبًا عن المجتمع؟ بل إنّي أعتقد، كما يعتقد غيري أنّ هذا السلوك، ليس سوى عملية ممنهجة لتحويل مجتمعاتٍ مدنية منفتحة إلى أخرى منغلقة على ذاتها لا تقبل التطوّر والارتقاء، لأنّها ترى في هذه الأخيرة فضحًا لسلوكها المتخلّف وتعريةً لفسادها المستفحل، وإيغالاً في تحقير الجنس الآخر والسطوة عليه واستلاب حقه في الاختيار وقول كلمة "لا" إزاء انتهاك حقها المشروع. لذلك، فدعاةُ هذا المنهج المنغلق مِن المتشدّدين، يوغلون في المطالبة بأسر المرأة في صندوق المنزل وحصرها في أداة المتعة لخدمته كعبدةٍ تسهرُ على مطالبه ونزواتِه ورغباته وحده، بغضّ النظر عن حقها الإنسانيّ المشروع الذي تضمنه كلّ القوانين والصكوك والمعاهدات الدولية وشرعة حقوق الإنسان.
المرأة بلا حماية قانونية: من جهة أخرى، ما تزال المرأة تعاني من نقص حقيقي في الحماية من العديد من الانتهاكات بحقها. فهي ما تزال تتعرّض لأعمال عنف وواجبات قسرية تنال من كرامتها البشرية في العديد من الميادين، سواءً في المنزل أو العمل أو الوظيفة او على مقاعد الدراسة دون تمييز. ويبدو واضحًا أن الدستور العراقي لم يحمي المرأة بما فيه الكفاية. فقد وردت بنودُه فضفاضةً وغير مكتملة النتائج والأهداف بما يجعلُه ملبيًا لما تدعو له الصكوك والقوانين والتشريعات الدولية وكذا المعاهدات التي صيغت من أجل حماية حقوق المرأة ودعم مطالبها.
ولعلّ أهمّ حقٍّ سلبته إياها التشريعات المقتبسة من الشرع الإسلامي، هو حرية الاختيار إلى جانب رضوخَها لأعراف تحكمُها بها العشيرة والقبيلة. فهي ما تزالُ ترضخ مثلاً، للزواج الإجباري الذي يلاحقُها مِن ابن العمّ، مهما كان عمرُه أو وضعُه. وهي إن رفضتْ، فمنْ حق ابن العمّ أن "ينهيها" بما يسمّى عرفيًا بظاهرة "النهوة" التي تحرم عليها الزواج إلاّ بكلمة مِن ابن العمّ هذا. وقد لا يلفظُها أبدًا. وبذلك، ستبقى المقهورة بدون زواج طيلة عمرها، مسلّمة أمرَها لله ولابن العمّ الظالم هذا. فلا قانون يحمي المرأة من مثل هذه الحالات والأعراف الشائنة التي ما زال يتمسك بها بعض الناس بسبب الفشل، ربّما في الاندماج بالمجتمعات المتحضّرة والحياة المدنية التي لا يتأقلمون معها، بل يصرّون على بقائهم أسرى تلك الأعراف والتقاليد التي عاشتها البشرية في عصور الظلام والتخلّف، والدولة ليس لها حكمٌ عليهم بسبب غياب القانون في مؤسساتها وضعف تطبيقه، هذا إن وُجد بعضٌ منها. كما أنّ الشخص الذي يتجرّأ لخطبة الفتاة "المنهى" أي التي نهاها ابنُ عمّها، لا يحقّ لأهلِه المطالبة بفدية أو ما يُسمّى ب"الديّة" في حالة تعرّضه للأذى أو القتل، لأنّ العشيرة التي ينتمي إليها ابنُ العم الناهي، غير ملزَمة بدفع التعويض إلاّ مِن باب الإرضاء لأهل القتيل والعشيرة، لأنّ دمَه مهدور منذ "نهوة" الفتاة المسكينة.
كما يشيع زواج التبادل المصلحي بين العوائل والعشائر، بمنحها هديةً وإكراميًة لضيفٍ أو لأحد أبناء العشيرة دون أخذ رأيها، أو إنها تُعطى بالتبادل بما يُسمّى بزواج "الكصة بكصّة". وفي ذلك، تعسّفٌ للطرفين، وبخاصّة للفتاة التي تُجبرُ على زواج غير متكافئٍ في أغلب الحالات. بل إنّ كثيرًا من الأشخاص لم يُتح لهم التعرّف على زوجاتهم إلاّ في ليلة الزفاف. ناهيك عن زواج القاصرات، حيث تُحرم الفتاة القاصر من متعة عيش مرحلة طفولتها بسبب إجبارها للزواج من شخصٍ قد يكبرها كثيرًا وليس بينهما من مشتركات دنيا لقضاء حياتهما معًا.
فيما استنبط بعض الشيوخ والدعاة وسائل جديدة لتسهيل حصول الرجل على متعته بوسائل عديدة، يشيعون بشرعيّتها. لكنها جميعًا، تحطّ من قدر المرأة وكرامتها، وتجعلُها سلعة رخيصة أمام رغبات الرجال، ومنها زواج المتعة حتى لو كان ذلك لساعة، والزواج العرفي وزواج المسيار وما ملكت ايمانُهم، الذي من شأنه فتح الباب على مصاريعه للزواج من أربع نساء شرعيًا، وغيرهنّ خارجه، وجميعُها ليست مكتملة الأركان، حتى لو قيل عكس ذلك. وآخرُ تقليعة تلك الفتوى التي تأمر وتحثُّ على نكاح الجهاد. وهذه كلُّها مفاسدُ وإباحةٌ غير أخلاقية، توغلُ في إلحاق الظلمِ بالمرأة وتحطُّ من قدرها ومن كرامتها، وتحرّمُ عليها حرّيةَ الاختيار والتعبير عن رأيها الإنساني ككائن بشري من لحمٍ ودمٍ.
يشير رجل الدين الشيخ محمد النصراوي، أحد أئمة المساجد في مدينة الشعب، "أن الدين الاسلامي قد نهى عن مثل هذه السلوكيات، لأنها خارج حدود الشرع الذي لم يقرّ بها، لكون الزواج لا يمكن أن يكون بالإكراه، بل بالرضى وموافقة الطرفين. ويضيف، إنّما هذه عادات أوجدتها العشائر وهي تقاليد بالية تعود لأيام الجاهلية. ومن المؤسف أنّ أغلب الزيجات في المناطق العشائرية تتمّ بهذه الطريقة تحت تهديد الأهل وخوف الفتاة. ومِن هذا المنطلق، لا بدّ من تشريع قوانين مدنية صرفة تنهى وتمنع مثل هذه التصرفات والسلوكيات، وكي تحدّ من استفحال مثل هذه الحالات التي تتكرّر بسبب غياب القانون وارتفاع صوت العشيرة والقبيلة على صوت الدولة والقانون"3. وقد نرى في كلام هذا الشيخ الجليل، شيئًا من الاحترام لخيار المرأة، إلاّ أنّ واقع الحال هو عكس ذلك تمامًا، عندما تعلو كلمة الأب والعائلة والعشيرة والقبيلة على كلّ الآراء والخيارات. حينئذٍ، تذهب كلّ هذه التمنيات والإيحاءات أدراج الرياح، وما على الفتاة المسكينة والمغلوبة إلاّ الرضوخ للفعل تحت سطوة القوة الجبارة التي تتحكم بها دون رغبتها.
ناهيك عن المشاكل التي يفتعلُها أصحاب هذه الأفكار المتخلّفة في حالة رفض الفتاة الاقتران الاضطراري بهذه الأساليب القسرية الجائرة وغير الحضارية الشائعة في عدد من التقاليد العشائرية التي ما تزال جارية في مناطق عديدة من البلاد. فالتهديدات باستخدام أعمالِ عنف، بل والقتل أيضًا، شائعةٌ هي الأخرى، وبدم بارد جدًا. كما هي عليه الحال فيما يُسمّى بحالات غسل العار التي تذهب المرأة ضحية غيرها، حتى وإن لم تكن قد اقترفت ذنبًا أو فعلتْ ما يدّعيه أهلُها وعشيرتُها، حين يعدّونها عارًا وجب قتلُها بسببه. وهذه الآفة الأخيرة، قد ازداد رصيدُها في الآونة الأخيرة ولاسيّما في مجتمعات منغلقة لا تقرُّ ولو بحرّية جزئية للفتاة في مجتمعها. وتشير تقارير حقوق الإنسان، إلى انتشارها في المجتمع الكردي في شمال العراق، ولاسيّما في السليمانية وفي أوساط المجتمع الإيزيدي أيضًا، حيث تبيّن أن المسار الأفضل لغسل العار هو قتل الضحية، أي المرأة التي ارتكبت الفعل الجنسي، حتى لو كان برضاها ورضا شريكها.
إن الحديث عن العنف ضدّ المرأة، له بداية وليست له نهاية. فالعنف الذي يطال المرأة ذو أشكالٍ وأنواعٍ متعددة. فهو عنفٌ نفسيٌّ وجسديٌّ ومعنويٌّ وأخلاقيٌّ واجتماعيّ، في الأسرة وفي الشارع وفي العمل وفي الدائرة وفي السفر، مع ما يلحق ذلك من إذلالٍ وتشويه للسمعة وأفعال اغتصاب وتحرّش واستلاب قهريّ للفكر والرأي والرغبة والإرادة. وما أكثر النساء اللواتي اضطررنَ للعمل بالتسوّل أو بأعمال دونيّة لا تليق بهنّ، فقط من أجل توفير لقمة العيش للأسرة والأبناء.
إسقاطاتٌ واستلابات: ألمرأة، إناء مقدَّسٌ مخلوقٍ من الله، تمامًا كما هو الرجل، كما سبق أن قلنا. وهي تستحق كلَّ الاحترام وأن تتمتّع بكل الحقوق، داخل وخارج المنزل وفي كلّ مرافق الحياة دون تمييز. لذا، ومن هذا المنطلّق، كان لابدّ من تغيير في العقلية الاجتماعية والذهنية الدينية التي لا ترقى مثلاً، إلى اختلاط بين الجنسين، والتي ترى فيه فتنة وانتهاكًا لكرامة هذا الكائن الضعيف بحجة حمايتها من نظرات الرجل الزائغة وسطوته عليها، رغم أنها أشبه بزهرة متفتحة في حديقة كبيرة تجمع زهورًا وأورادًا، مِن حق جميع الخلق أن يمتّعوا النظر البريء فيها. إلاّ أنّ الحاصل، أنّ مثل هؤلاء الدعاة المرائين، هم أنفسُهم مِن ذوات الأفكار الشرّيرة والنظرات الزائغة، التي تُلهب فيهم شهواتٍ حيوانية لا رادعَ عندهم عليها بسبب المرض الذي يستفحل وسط مجتمعاتهم المريضة أصلاً. كما أنّ هؤلاء أنفسَهم، يشكّلون فى مرحلة ما، إحدى العقبات الأساسية لانتشال المجتمعات المتخلفة من براثن الجهل، بل يقفون عقبةً أمام أيّ جهدٍ للتغيير بسبب ما تعرض له العنصر النسائي من استلاب لإنسانيتهنّ وحقوقهنّ في المجتمع. فالمرأة، هي التي يقع عليها عادة الظلمُ الأكبر ويفرض على كيانها القسطُ الأوفر من الاستلاب، من خلال ما تتعرض له من تسلط وما يفرض عليها من رضوخ وتبعية وإنكار لوجودها وإنسانيتها وحقها في التعبير عن رأيها وخياراتها.
ولعلَّ من الأمور التي اعتدنا عليها في مجتمعاتنا، القيام بإسقاط كلّ أنواع الفشل أو العجز في تحقيق الذات والنجاح في المشاريع وفي الحياة، على المرأة "الحائط المنخفض" لدى المجتمع الذكوري. وهناك مَن يجعلُها بل ويحدّدُها كمعبر وجسرٍ لمختلف النزعات التي تحوم حول بعض الرجال، فيقومون بإسقاطها على غيرهم، ولاسيّما على المرأة في المنزل التي عليها تحمّل مثل هذه التبعات صاغرةً، إنْ لمْ تجد ما يعينُها على الإفلات من غضب السيّد الآمر والناهي في المنزل.
بهذا الصدد، يقول مصطفى حجازي في نفس المصدر السابق" إنّ الرجل، يتهرب في أحيانٍ كثيرة من مأزقه بصبّ جامِ غضبه على المرأة من خلال تحميلها كلَّ مظاهر النقص والمهانة التي يشكو منها في علاقته مع الغير، ولذلك يُفرض على المرأة أكثر الوضعيات غبنًا في المجتمع المتخلف، لكونها تصبح محطَّ كل إسقاطات الرجل السلبية والإيجابية على حد سواء. وهي تُدفع نتيجة لذلك الى أقصى حالات التخلف، ولكنها من هوّة تخلفها وقهرها ترسّخ تخلّفَ البنية الاجتماعية".4
وهناك ظاهرةٌ أخرى، لا تقلّ انتقاصًا من حق المرأة، إذ تعدّها بعض المجتمعات الذكورية ضمن خانة ملكيّة الرجل، الذي يتملّكُها كلّيًا، وهي بذلك قد حُرمت امتلاك نفسها وجسدها وكيانها، اي أنها حُرمت من فرصة أن تكون شخصًا استقلالياً يحظى ولو بجزءٍ من إرادته الحرة في القرار وفي الحياة، أي شخصًا حرّا قائمًا بذاته، كما صنعَهُ الخالق. والخوف، أنْ تصدّق المرأة أنّ هذا التملّك من جانب الرجل هو قانون للطبيعة أو شيءٌ يفرضه الدّين أو المذهب أو المجتمع بسبب التهديدات التي تلقاها أو الإشاعات الدينية والعرفية التي تحشوها في عقلها المتقبّل لمثل هذه الأفكار. والأنكى من ذلك، في حالة كونها غير واعية لحقيقة حقوقها، أن تقوم بنقل مثل هذه الأفكار المتخلّفة خطأً، في نفوس أطفالها ومَن حواليها بشيءٍ من الخرافة والانفعالية المفرطة والرضوخ للأمر الواقع والحثّ على القبول به لكونه نازلٌ من عند الخالق ويأمر به الشرع.
إن مثل هذا التخلّف والنقص في الوعي، كلُّه يوقع المرأة في وضعية حرجة وفي حالة تناقض مذهل بين اختزال كيانها إلى مجرد جسد جنسيّ، وما يمكن أن يفرضه القمع المفرط الذى يُفرض على هذا الجسد وعلى إمكاناته التعبيرية. ويزداد الموقف حدة والتناقض عنفًا نظرا لموقف الرجل الذي يبقى الآمر والناهي والمتحكِّم في الوضع. فهو، من جهة ينجذب نحو الجسد الذى يضجّ بالحياة والجاذبية، لكنه لا يتحمل مسؤولية نتائجها في أحيانٍ كثيرة، إذ تقع المسؤولية على المرأة، بل ويقع الجرم كله عليها، وعليها أن تتحمّل نتائج ذلك الفعل.
كما أنّ المرأة، قد تكون ضحية عدد من أنواع الاستلاب، إلى جانب ما ذكرناه في الفقرة السابقة. فهناك أنواعٌ من الاستلاب التي تجعل المرأة كائنًا ضعيفًا معرَّضًا للميول والتأثيرات العديدة التي تنتهك كرامتَها وتقلّل من قيمتها الآدمية. فالاستلاب العقائديّ، في رأي العديدين، هو الأكثر إيذاءً للمرأة والأكثر خطرًا على شخصيتها وكيانها. هنا يمكن أن تقع المرأة في فخّ الأساطير والاختزالات التي يحيطها بها الرجل المسيطر عليها والذي تملّكَها، فتتقبل مكانتَها خانعةً وترضى بوضعية القهر الذى تعانى منه، كجزء من طبيعتها، اي بعبارة أخرى، يترتبُ عليها أن ترضى بما آلتْ إليه وأن تتكيَّف بوجودها بحسب ذلك. وهذا التغيير في حياتها، يُعدُّ خروجًا على طبيعة الأمور وعلى اعتبارات الكرامة والشرف عندها. لذلك فهو أخطر بكثير من أنواع الاستلاب الجنسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره، بحسب البعض من الاختصاصيّين الاجتماعيّين.
باختصار، نرى أنّه من المؤسف هنا، أن تتحول المرأة إلى مجرد جسد خاوي من الآدمية الحقيقية وحاوي لكلّ العقد والمشاكل والتصورات والمخاوف والرغبات والإحباطات المكبوتة التي تسيطرُ عليها. وفى كل الأحوال، فهي محرومةٌ، إن شاءت أمْ أبتْ، من الاعتراف بوجودها ككائن قائم بذاته، لاسيّما حين تُستخدم كوسيلة للتعويض عن النقص الذي تلقاه من جانب الرجل المقهور اجتماعيا.
دور منظمات المجتمع المدني: لقد ساهمت منظمات المجتمع المدني في العراق بدورها، برفض المنهج المعادي لتطلّعات المرأة العصرية وفضح مساوئه والمطالبة بإنصاف النساء في الدستور الذي ظلمهنَّ حقوقهنّ وكرّس عملَهنّ في معظمه لصالح الرجل القوّام عليها. فهذا تمامًا، ما أوحتْ لهم مشاربُهم الدينية ومناهجُهم المذهبية ومصالحُهم الضيقة التي لن تنجح، طالما تقف وراء مثل هذا المشروع إرادةٌ نسائية قوية تتشبثُ بحقها وصيانة كرامتها وحقها بالمشاركة في كلّ أشكال الحياة العامة، أسوةً بالرجل، نصفها الآخر ورفيق حياتها مهما تجبّرت إرادة الظلم والتخلّف بحقها.
في تقرير مشترك صدر في 2010، لمجموعة حقوق الأقليات الدولية ومقرُّها لندن، ومجلس الأقليات العراقية بالعراق، تمّ تسليط الضوء على ما تعانيه النساء عامة ونساء الأقليات بصورة خاصة من مستويات عالية من العنف المستند على الجنس، بضمنه العنف الجنسي والتهديد وأعمال الترهيب، وما يلحقها من اغتصاب بدون اللجوء إلى العدالة المفقودة في هذا البلد منذ حين. مثل هذه الأعمال، تهدّد كيان المجتمع وتحدّ من حرية حركة المرأة فيه. وقد اشار التقرير المستقلّ إلى أنّ 69% من المشاركين في استبيان أقيم لهذا الغرض، يعتقدون بوجود تحديدات على حرية حركة النساء في عموم العراق5. وهذا من شأنه ايضًا أن يقلّل من فرص حصول المرأة على الخدمات التي تحتاجُها، الصحية والمنزلية والتعليمية وفي العمل أيضًا، إن كانت تعمل. ويؤكد هذه البيانات، مجاميع كثيرة من منظمات عاملة في مجال حقوق الإنسان، التي تشير إلى ظاهرة الخوف المستشري من مغبة خروج المرأة خارج المنزل، ولاسيّما المتحرّرة منها والتي تؤمن باستقلاليتها ككائن قائم بذاته.
هناك معضلة أخرى، كشفتها تقارير عدد من منظمات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان العاملة في العراق، وهي كثرة الأرامل نتيجة حروب متعاقبة وأعمال قتل واغتيالات حصلت بعد 2003. وهناك العديد من الأسر التي تتولى رعايتَها نساء في غياب رجل البيت، لأسبابٍ عديدة، تدخل ظاهرة الطلاق المتزايد من ضمن أسبابها، ولاسيّما في السنوات الأخيرة التي تفككت فيها أسرٌ كثيرة. وهذا بحدّ ذاته يجعل المرأة فريسة سهلة للابتزاز من أجل تأمين لقمة عيشها وملجأً للسكن. وقد دعت منظمات مجتمع مدني عديدة، السلطات الحكومية لتأمين حياة مقبولة للأرامل والمطلّقات والعوانس بهدف تحديد تعرّضهنّ لحالات الابتزاز وصون كرامتهنّ وعدم الانزلاق وراء ظاهرة البغاء والدعارة التي تنامت، ولو في الخفاء، ومنها اللجوء والقبول بالزواج العرفي أو زواج المتعة التي كثرت ودخلت المجتمع العراقي مع نهاية القرن المنصرم وتعزّزت بعد أحداث السقوط في 2003. وتشير عدد من التقارير، أن العديد من النساء يوافقن على هذا النوع من الزواج بدافع الحاجة المادية والفاقة المتزايدة لمجابهة الحياة المعيشية الصعبة، رغم أنّ هذه الزيجات غير الشرعية لا تعطي ضمانات أو حماية مجتمعية. وهذا مناقض لمعاهدة "سيداو" الدولية، التي تنص على حماية النساء اللواتي يواجهن تمييزًا في الزواج وفي العلاقات العائلية.6
خلاصة: ما يمكن قولُه، أنه رغم انتشار التعليم وبلوغه درجات متقدمة في الدراسة لدى شرائح عديدة، إلاّ أنّ الخرافة والتقليد والعرف العشائري مازالت تعشش في أعماق نفسية الإنسان العراقي كجزءٍ من المجتمع العربي والإسلاميّ عمومًا. وهذه الممارسات ماتزالُ تؤثر على ممارسته ونظرته للأمور المصيرية ولاسيّما تجاه المرأة، التي تبدو مغلوبة الإرادة في مجتمع ذكوريّ واضح. وهذا دليلٌ على أنّ التعليم ظلَّ في الكثير من الأحوال قشرة خارجية تنهار عند الأزمات. فالإنسان العراقي، كما يصفه د. علي الوردي، مزدوج الشخصية، وهي ذات الازدواجية القائمة لدى الإنسان المتخلّف الذي يعاني من انفصام أو انشطار في شخصيته، ما ينعكس على تصرفاته تجاه المجتمع ولاسيّما تجاه نصفه الآخر الذي ينتقص من حقوقه وكيانه ويسلبُ استقلاليتَه الفطرية التي غيّبَها المجتمع بسبب الشرع والفتاوى التي تؤيّد تسيّدَ الذكورية في الدين الإسلامي الذي يحكم المنطقة ويريد التحكّم بالعالم أجمع.
من هنا، لا يمكن للمجتمعات أن تتقدّم وتتطوّر بسيادة مثل هذه الأفكار المتخلّفة التي ترفض القبول باستقلالية الجنس الآخر الذي يشكل نصف المجتمع. كما لا يُمْكِنُ للمجتمعات أن تتطوّر وتتقدّمَ، إلاّ بتغيير عقلية الرجل كي تتسايرَ مع تطوّر الأحداث والمجتمعات ومع التفتّح نحو الآخر، حتى لو اختلفَ معه في الفكر والدّين واللون والعرق. وهذا الأخير، اي الرجل، لا يمكنه هو الآخر أن يتحرر ويتطوّر إلا بتحرر المرأة التي هي نصفه الآخر. وباختصار، لا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلاّ بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غُبنًا، وهي المرأة المقهورة دومًا في المجتمعات المتخلّفة ومنها الإسلامية عامة وليس على وجه الحصر. ف"الارتقاء إمّا ان يكون جماعيًا عاماً، أو هو مجرد مظاهر وأوهام"، بحسب المفكر مصطفى حجازي.7 ف"لا تطوير مجتمعيّ، دون تغيير وضعية المرأة، ولا تغيير لوضعيتها دون تمزيق حجبُ الاستلاب العقائدي الذي يمنع عنها رؤية ذاتها، ورؤية العالم على حقيقته".
ومن المؤسف في مجتمعاتنا، أنّ المرأة التي تنبغ تُسحب منها صفة الأنوثة، بسبب شيوع أنّ التفوق والنبوغ صفةٌ للرجل حصرًا. فإذا ما أثبتت امرأةٌ ما نبوغَها بما لا يدع مجالًا للشك، حتى لو اعترف المجتمع بنبوغها، فإنّه يسحب منها شخصيتها كامرأة ويضمّها إلى جنس الرجال.
نضالُ المرأة شاقٌّ وطويلٌ، ومن حقّها البحث عن هويتها وتكوين شخصيتها وتمتّعها بكافة حقوقها. إلى ذلك اليوم الذي سيتحقق حلمُها، يقف معها أصحاب الفكر المتحرّر ويدعمون خياراتها كي تجد مكانتَها التي تليق بها والتي بموجبها خلقَها الله نصفَ المجتمع لتعكس وجهَهُ الحسن.
المراجع:
1- التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور/ د. مصطفى حجازي/ المركز الثقافي العربي 2013
2- محمد باقر الصدر: مقدمات للتفسير الموضوعي للقرآن، ط 1، بيروت 1400هـ ، ص 129 – 152.
3- "ألنهوة، ظاهرة تبحث عن تشريع قانوني رادع"- مقالة نشرتها جريدة الصباح/ الثلاثاء12 تشرين ثاني 2013
4- التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور/ د. مصطفى حجازي/ المركز الثقافي العربي 2013
5- تقرير مشترك/ المجموعة الدولية لحقوق الأقليات ومجلس الأقليات العراقية/ ممتاز لالاني/ 2010
6- بيانات لمعاهدة سيداو، آذار 2010
7- التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور/ د. مصطفى حجازي/ المركز الثقافي العربي 2013لويس إقليمس
بغداد، في 6 آذار 2014
بحث أكاديمي/ أكاديمية بغداد للعلوم الإنسانية- بغداد