عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - لويس إقليمس

صفحات: [1]
1
ألجنّة لمَن يصوم ويصلّي ويزكّي، والنار... ؟
لويس إقليمس
بغداد، في 17 آذار 2024
ذات يومٍ احتدم النقاش بين طرفين، أحدهما بدا مغترًّا بحجزه وهو بعدُ على الأرض منذ الآن مكانًا له في الجنّة طالما أنه يقضي فرائض دينه بالوسيلة التي تعلَّمها وأخذها عن رجل الدين، شيخًا أو سيّدًا أو خطيب مسجد أو معلمًا أيام الدراسة الأولية أو في البيت التقليدي من صومٍ وصلاة وزكاة وخُمس وقراءة كتاب مقدس أو قرآن وذبح أضحية وما على شاكلتها في كلّ زمنٍ للصوم. ونحن اليوم في شهر رمضان المصادف مع الصوم الكبير للجماعة المسيحية في العراق والعالم، نحث الخطى في التعبّد أكثر من ذي قبل بهدف التقرّب من رضا الله ومحبة البشر بأعمال حسنة وسلوك يومي غير مشبوه، هذا ظاهريًا في أقلّ تقدير. فهذا ما تعلمناه وتلقيناه عمومًا في صغرنا وما تدعونا إليه مراجعُنا باختلاف أدياننا. ولكن يبدو أن هذه التلقينات التقليدية التي طغت حديثًا في معظم المدارس والمؤسسات الدينية وقاعات اللقاءات المتشعبة في الهدف والغرض، تكاد تشبه اليوم في تعليمها وطريقة تلقينها لأصول الدين والهدف منها ما كان قائمًا قبل قرون خلت من أشكال الكتاتيب والمدارس البدائية والحشو الدينيّ المغالى به عندما كانت تدخل فتاوى غير متوازنة في تشعباته الكثيرة وفقًا لتفاسير وتهيؤات واجتهادات لا تخضع في أغلبها لأصول ما هو مكتوب في متون الكتب المقدسة لأدياننا ومنها القرآن الكريم بحدّ ذاته، وهو المقصود أكثر في هذه السطور. والسبب في كلّ هذا، خضوع الكثير من فقرات ومعاني الصوم وأدواته لرؤى فقهية أغلبُها تخضع لرؤى شخصية القائمين على هذه التفاسير والنصائح والتأويلات. ومن الغريب والطريف تصديق السذّج وبسطاء القوم من أتباع الملل والمذاهب لكلّ ما يأتي من أشكال هذه الفتاوى والتفاسير وأشكال النصح بشفاعة بعض هذه الأركان الدينية الموصوفة من حج وعمرة وأداة صلاة وزكاة وتقديم الخُمس لدى فاعلها بحتمية نيله الغفران ومسح كافة الذنوب إزاء ما اقترفه ويقترفه من أخطاء وخطايا وموبقات وسرقات واغتصاب حقوق والسطو على ممتلكات الغير وإنزال مظالم بحق الجار وخداع المواطن بشتى الوسائل وإحلال الحرام من دون وازع، كما نشهده حيويًا وفعليًا في عراق ما بعد السقوط منذ 2003. ففي نظر هذه الفئة الضالة ومَن يقف من شيوخ وسادة ورجال دين بمختلف المشارب والمذاهب وراء نشر هذه النصائح والترويج لها دينيًا ومذهبيًا، يكفي لمن يسيرُ في إثرها مؤمنًا بدالّتِها وشرعيتها حجزَ مكانٍ جميل له في الجنة التي يحلمُ بها وفق رؤية المُلقّنين والمفسرين غير المتزنة. لكنّ الجنّة الموعودة، إنْ وُجدتْ، ليست ملكَ أحدٍ ولا من حق فئة دون غيرها. كما  لا تسطيع نفسٌ بشرية أن تتحكمَ بمقاليدها ومفاتيحها ومغاليقها، لأنها ببساطة من حق الخالق وسيد الكون وحده وليس من حقّ أحد توزيعها مكارمَ أو توريثها للحبايب والمقربين والمرائين والمنافقين واللصوص المعاصرين من الفاسدين والمفسدين في الأرض.
عجبي على بعض البشر السذّج، ونحنُ في الألفية الثالثة وما فيها من تنوير وعلوم واستبصار وحرية في الفكر والنطق والإبتكار والتحليل أن يقع المخلوق البشري الحرّ، ومنهم مَن يدّعي الثقافة والعلم والتطور، في فخاخ شرذمة من بشرٍ موهمين غيرَهم بكونهم أكثر تقوى وتديّنًا وصلاحًا من غيرهم، فيما هم شركاء في الفساد والنفاق بعد أن استغلّوا الدّين والمذهب لتحقيق مصالح ذاتية أو مذهبية ضيقة مع ذوي الذين أعمت المادة وأدوات السطو والجاه والمال قلوبهم، وذلك بفرضها على أتباعهم والمؤمنين برؤاهم وتقليدهم. فالإنسان الواعي الذي يؤمن بفرضية خلقه بشرًا حرًّا في سلوكه اليومي ومن دون إكراهٍ أو تبعية لسطوة القائمين على نصحه دينيًا وأخلاقيًا، لا يمكن أن يثبت حريتَه الشخصية ويعكس ثقافتَه الداخلية ويعبّرَ عن إيمانه الحقيقي بدينه ومفاعيل الأدوات التي تقربُه من الله خالقه من صوم وصلاة وزكاة وأعمال رحمة وتوبة حقيقية ما لم يعمل العقل والفطنة في اختياره للوسائل الصحيحة التي تمهّدُ له الطريق إلى الجنّة التي يحلمُ بها وهو بعدُ على الأرض الفانية. فالسلوك اليومي السليم والأفعال الحسنة والأنشطة المنتجة الجميلة والأعمال الصالحة وأشكال الكلام والتعبير الصادق والتعامل باحترام بين البشر هي التي تكفلُ للإنسان مصيرَه ونهايتَه وليست المظالم واقتراف أشكال الحرام وأعمال السطو واغتصاب ممتلكات الغير وهدر المال العام وأشكال السرقات، ناهيك عن أدوات الكذب والنفاق والدجل التي أصبحت ثقافة يومية لدى بعض المروّجين بنيل المغفرة والصفح وحجز المواقع الجيدة في جنة مزعومة على شاكلتهم في حالة الادّعاء بقيامهم ظاهريًا بأداء الصلاة والزكاة والصوم والخمس والحج والعمرة مرارًا وتكرارًا بهدف التباهي البشري أمام الملأ. هؤلاء بهذه الرؤية القاصرة والمقاصد غير النظيفة والأفكار غير المنطقية يستهزئون بخالق الكون ويرسمون لهم مصيرًا مزيَّفًا، وهم بعدُ على الأرض. عطفي عليهم وهم حائرون ماكرون وصاغرون لسادةٍ رسموا للدين لوحاتٍ مشوّهة لا يستسيغُها رب السماوات والأرض ولا العقلاء المتنورون.

 لا تبحث عن الأخلاق في المعابد
    
ليس من العدل والإنصاف أن نبحث عن الأخلاق ونقرّر مصير البشر الضعيف في دور العبادة فحسب، من كنائس ومساجد وجوامع وأية معابد أخرى يرتادها أو يؤمن البشر بأهميتها ووجودها. إنما الحكمة والعدل ألاّ نستدلَّ على أخلاق مرتاديها ونحكم عليهم وفقًا لما تفرضه أو تنصح أو توصي به من أداء مناسك وأعمال أو ما توجه به لخير "المؤمن"، بغض النظر عن صدق أدائه وحسن نواياه وحضور إرادته في فعل الصالح أمام الله الخالق والبشر. فدورُ العبادة بأشكالها وهيئاتها المتنوعة في الدين والمذهب ليست الضامن على حسن السيرة والسلوك. ومن ثمَّ فهي لا تمثل الواقع الصحيح لأداء الإنسان مهما كان تعبُدُه كبيرًا ومتواترًا ومنتظمًا في عيون البشر والقائمين على هذه الدور. وحتى شهادة هؤلاء الأخيرين ليست تلك الدالّة على حسن السيرة والسلوك كي يستحق الإنسان المتعبّد في نظر البشر مقامًا رفيعًا ويحجز له موقعًا في جنان السماء التي يحلم بالتسابق لحجزه فيها بعد انقضاء ايامه على الأرض. إنما التنوير والتبصير بأهمية ومصير ونتائج الأفعال اليومية للإنسان وفي النوايا الحسنة والطريقة التي يتصرف ويتعاطى بها مع المحيطين به في هذه الحياة الدنيا معدودة اللحظات قياسًا بالأبدية، هي الأوْلى بالتحاسب وفق معطياتها بينه وبين ربه عندما يأتي الحساب في يوم الدين. فلا الشيخ ولا القسيس ولا السيّد له السلطة في تقرير مصير البشر الضعيف ولا في تحديد شكل هذا المصير هو الآخر أيضًا. إنما الأعمالُ بالنيات والربُ وحده فاحصُ الكلى والقلوب!   
في هذه الأيام التقوية المباركة من الصوم الكبير لدى عموم المسيحيين في العالم وصوم رمضان المبارك لدى المسلمين في العالم، جميعُنا مدعوون للتذكير بمصيرنا وأفعالنا وسلوكياتنا التي على ضوئها سيُحاسبُنا الرب الجبار من دون أن ينسى رحمتَه ورأفتَه بالتائبين الحقيقيين والعائدين من خبرات حياتية فاشلة وناقصة وخاطئة. فما أكثر من خطواتٍ وأعمالٍ وانتهاكات جرت على أمثال هؤلاء المدّعين المنافقين وفيها حصلَت إغاضة لرب العالمين وخلائقه الذين خلقهم متساوين في الحقوق والواجبات وفي الخيار الشخصي بين الخير والشر بدعوى تعاليم الأديان الحقيقية التي تحترم الخيار البشري وتسعى للقبول بأوجه الاختلافات في الوسائل والأدوات التي تعين البشر لاختيار الصحيح والناضج والمفيد في الحياة وسط المجتمعات ومع الأمم وبين الدول على اختلاف أديانها وقومياتها ومذاهبها وطريقة تفكيرها وحياتها. فعلى ضوء هذه السلوكيات يتخذ الإنسان الحر والعاقل والمستنير قرارَه بما يملي عليه ضميرُه وحكمتُه وعقله إزاء غيره  بما يعتقده صالحًا أو مناسبًا كي يرضي ربَه وخلقَه على السواء. وهذه فرصة سنوية دائمية للتذكير باحترام حقوق الآخرين وصون حرمات ممتلكاتهم وفضّ الخصومات والمظالم التي تفضح متصنّعي الأخلاق من الزعامات السياسية العاملة بغطاء ديني ومذهبي وغيرهم من المتحكمين بمصير شعوبهم وأتباعهم ومن مرتادي دور العبادة في عمومها لأجل المظاهر فحسب، من دون تمييز أو تركيز على فئة دون أخرى من الأتباع والمتعبدين، مؤمنين حقيقيين كانوا أم مرائين أو دجالين، قاطعي طرق أم مغتصبي ممتلكات الغير،  هادري الأموال العامة أم سارقي المنازل والمؤسسات، مغتصبي حقوق الميراث أم الفاسدين والمفسدين في الأرض، متلاعبين بمصير الغير في التجارة والصناعة والغش في جميع حلقاته وما سواهم ممّن كانوا بالأمس جياعًا ولم يشبعوا بعد ممّا غرفوه واختلسوه وسرقوه بشتى الطرق والوسائل من خزائن العراق وميزانيات المشاريع المصفوفة على الخرائط من دون وجودٍ لها على أرض الواقع. إنّ زمنَ الصوم ليس الفترة الوحيدة التي تستقيم فيها وبها حياة الإنسان وتمنحه راحة النفس والضمير وترهن مصيره بالجنّة أو الفردوس الأبدي الذي لا يزول. بل الصوم الحقيقي هو الذي يدوم مع حياة البشر في كلّ زمان وكلّ مكان بالسلوك اليومي الحسن وأفعال الخير والمحبة واحترام خصوصيات الآخر بالرغم من الاختلافات القائمة حياتيًا. بل إنّ مَن يعتقد أو يصدّق بما يمليه بعض شيوخ الدين وسادة الفقه من أحكامٍ جزافية وغير رصينة بفاعلية زمن الصوم تحديدًا على إذابة جليد الموبقات والخطايا والمظالم وأشكال الفساد بمجرّد الركون للصلاة والانقطاع عن المأكولات أو بعمل الخير والإحسان لمجرّد كسب ودّ ربّ السماء والتظاهر أمام الخلق بحسن النوايا  والعمل الصالح، فهو واهمٌ جدًا لكونه ينطلق في أهمّ مظاهره إلى التباهي الزائل والظهور أمام الملأ بحسن الأخلاق والسيرة طمعًا بنعمة باطنة غير مستحقة الدفع من رب العالمين. فهذه لا حسنةَ عليها ولا نعمة ولا بركة إذا كانت بهدف الظهور الزائل وليس التقرّب الحقيقي من رب السماء.
لذا ووفق هذا المنهج الناقص والخاطئ  لنفرٍ من ملقّني التعبّد وشكل الإيمان المغشوش بالقيم الصحيحة التي تُستخلص من الدين والذين يحلّلون المحرَّم ويجيزون الظلم والقهر والاستغلال لعباد الله ويسبغون على فاعلي هذه المنكرات بالنعم والبركات والحسنات يوم القيامة بغفران المثالب مهما كانت، فلا صلاة ولا صوم ولا زكاة و لا عُشر ولا صدقة تنفع مع أعمال الظلم والكذب والنفاق والسرقة والنهب والاحتيال سواءً في مؤسسات الدولة أو تجاه الأفراد. كما أنّ أداء الخمس بصيغته الحديثة الراهنة المثيرة للجدل ليس كفيلاً بحل الذنوب وغفران الزلاّت لمجرّد طرقه وتأديته وفق نهج هؤلاء البعض المستنفعين من الوضع المختلّ في العراق وعموم البلدان الإسلامية. وكلّ مَن يُحلُّ هذه المظاهر الخادعة غير الأخلاقية وغير الإنسانية فهو مشاركٌ في تدمير أخلاق البشر وجوهر الدّين والمذهب والمجتمع على السواء. وعوضًأ عن كلّ هذه المتناقضات في الرؤى والفكر والتفسير والنصح غير السويّ من أطرافٍ قريبة من أية مراجع دينية أو سياسية تستغلّ الغطاء الديني لتحقيق مكاسب ومنافع غير مشروعة، فالجميع مدعوّون بصدق النوايا لإعادة المجتمعات، ومنها مجتمعنا العراقي الغارق في بحور الفساد والإفساد من الطارئين عليه بعد السقوط المأساوي في 2003، إلى سواء السبيل في نبذ المظالم وإعادة الحقوق المستباحة إلى أهلها وأصحابها كي يعود مجتمعنا معافى متكافلاً متعايشًا كما كان أيام العزّ عندما وقفت له شاهدةً أولى الحضارات في العالم وصارت بلادُ النهرين قبلةً لغيرها من شعوب الأرض ومنارًا لدول العالم. ومن ثمّ، عندما تعود الأمور إلى نصابها وتتحمل أركان المجتمعات وسادتهُم لمسؤولياتِهم الأخلاقية في حسن تربية الأبناء والأحفاد في الشارع والمدرسة ودور العبادة، لن نكون بحاجة إلى التذكير بما ينبغي فعلُه كلّما أطلّت علينا أزمنة الصوم، ومنها صوم رمضان وغيره من أزمان وأيام ومناسبات دينية مختلفة من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. فالجميع مدركٌ وعارفٌ بما ينبغي فعلُه، ليس في مثل هذه الأزمنة فحسب، بل في كلّ أيامنا ومناسباتنا واحتفالاتنا وأعيادنا. وما أطيب أن يحتفل عموم الشعب بجميع مناسباتهم على اختلاف الأديان والمذاهب والقوميات في أجواء الرحمة والغفران ومعرفة قدرة الخالق في الحكم على خلقه من أعمالهم الحسنة ونفوسهم الطيبة وليس في مظاهرهم في المعابد والكنائس والحسينيات والمساجد...
صوم مقبول ورمضان كريم للجميع.

2
لماذا لعنة الزمن تلاحق العراق؟
لويس إقليمس
بغداد، في 10 كانون ثاني 2024
إذا كان للعراق أصلٌ بجاه ما حرّرته وحفظتهُ حضاراتُه في سابق الأزمان من مكتنزات الثقافة والفكر وفي معرفة أسس الكتابة الأولية قبل غيره من الأجناس البشرية، فقد ضاع شعبُه، أو بعضٌ منه في أواخر الأزمنة بين جهلٍ وتخلّف وتبعية ولهاثٍ وراء التفاهات والترّهات والخرافات بطرق ووسائل شتى. فسواءً مَن بقي في الداخل يعيش متحسّرًا على أيام الزمن الجميل متعايشًا غصبًا عنه مع معاناته اليومية منذ أكثر من عشرين عامًا خاصةً، وهو يراقب مديات الفساد والإفساد لدى صناع القرار برعاية أمريكية صرفة مشبوهة الأهداف والأغراض وبالتشارك مع دولة جارة لا تتوانى في ضمرِها عداوةً تاريخيةً لا تقبل الشك، أو مَن آثر العيش على فتات الغير في دول الشتات الكثيرة مراقِبًا خجلاً ممّا يجري، فالإثنان مظلومان وضائعان في متاهات لها أول وليس لها آخر حتى قيام القضاء والقدر بإعادة الصحّ إلى صحيحه! وإلى ذلك الحين، وعساه قريب، ننتظر مطرَ السماء الغزير بطوفانه الوطني الصحيح الذي يعيد الوطن والشعب إلى نصابهما وطبيعتهما التاريخية ووزنهما الدولي الحقيقي بعيدًا عن الدخلاء والطامعين.
في اعتقادي، كلّما تقدّم الزمن وإلى حينٍ، سوف لن يخرجَ العراقيون المقهورون والبؤساء في أحوالهم الهشّة من قيود هذه الترّهات العديدة التي التصقت بحياتهم بشريط لاصق سيّءٍ السمعة والفعل في الدين والمذهب والقومية، العقيمة في مجملها. بل إنّ لعنة الزمان قد لاحقت وما تزالُ تلاحقُ شعبَ العراق بجميع أطيافِه، إنْ استحقاقًا أو غدرًا سواءً في الداخل أو في دول الاغتراب المرّ. فالسماء، كما يبدو غاضبةٌ ممّا يحصلُ في أوساط الأمّة العراقية التي فقدت كلّ مقوّمات الأمم الطبيعية منذ سنوات، عندما خرجت أولاً عن الطبيعي في ضرورة استمرار الحكم الملكي الذي أمَّنَ استقرارًا نسبيًا للبلاد والشعب الذي عرفَ الأمن والسلام وشيئًا من الرفاهة والتقدم في الحياة، وتميّزَ عن غيره من شعوب المنطقة في شتى صنوف العلم والمعرفة والاقتصاد والسياسة والإنتاج والإبداع والفن والصناعة والزراعة وما إلى ذلك ممّا أجلسَه لعقودٍ متتالية في مصاف الدول المتقدمة والمتمدنة والمتعايشة سلميًا وشعبيًا. والواقع أن العراق بزوال النظام الملكي بتلك الطريقة البشعة والجبانة، بدأ بالانحدار التدريجي نهو الهاوية، لغاية ما أوصله الغزاة ودول الغرب الطامعة بثرواته وإرثه إلى واقعه المأساوي الحالي. وهذا عينُه، حالُ سائر الدول والشعوب التي ضحّت بأنظمتها الملكية كفيلة الاستقرار، بعد أن كانت هذه الأخيرة من ركائز الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لغاية تدخل الأشرار والانتهازيين في تغيير بوصلة الحياة فيها، ليس إلى الأفضل بل نحو الأسوأ في كلّ شيء. ولعلَّ جارتَنا الشرقية التي كانت في سابق الأيام في أيام النظام الشاهنشاهي الملكي أفضلَ شرطيّ لرعاية مصالح الغرب الطامع تندرج ضمن هذه الشعوب والأمم بلا شك عندما تغيرت في السلوك والأداء والفكر والأيديولوجيا المتخلفة.

القشّة القاسية
جاءت القشّة التي قصمت ظهرَ العراق وشعبَه عندما دقّ العسكر أسفينَه في سلسلة من الانقلابات الدموية المتتالية التي حيكت بمؤامرات داخلية وخارجية بدءً من الانقلاب التعسفي على المَلَكية المتمدنة في 1958  لغاية سقوط البلاد على أيدي الغازي الأمريكي وأعوانه في 2003. ولا أريد هنا التعريج على حقبة السبعينات والثمانينات والتسعينات التي فرضت أدوارًا متناقضة في حياة مكوّنات الشعب العراقي في ظلّ النظام السابق الذي لم يعرف المحافظة على نعمة السماء ببدء حقبة تختلف عن سابقاتها في التنمية الاقتصادية بفضل مدّخرات إنتاجية النفط والغاز وغيرها من الثروات المعدنية الكثيرة المتميزة التي تفجّرت وزادت  وتطورت، إضافةً إلى القدرات البشرية العلمية والمبدعة الهائلة التي اتسم بها أبناء الوطن على طول تاريخهم الزاخر. وبفضل هذه جميعًا شهد العراق نموًا إقتصاديًا وتطورًا ملحوظًا في كل الميادين، لاسيّما العلمية والمعرفية والاجتماعية والخدمية وفي البنية التحتية منها على السواء. وكان يمكن استغلال كل هذه الإيجابيات في زيادة ميزانيات البلاد للأفضل ونحو الأحسن لغاية إبقاء العراق وسمعته في صدارة دول المنطقة التي كانت بعضُ بلدانها الفتية تتمنى ولو شيئًا يسيرًا ممّا شهده بلدنا من تطور وتقدّم ونماء في الوسط الإقليمي والعربي، بل والدولي أيضًا.
لكنّ الذي حصلَ بفعل فاعلٍ متعجرفٍ وغير جدير ولا مقدِّر لحساب نتاجات البيدر والحقل بصورتها الصحيحة، عَكَسَ الأوضاع نحو التردّي في كلّ شيء بعد خوضه حرب الخليج العبثية الأولى وانزلاقه آنذاك للانحدار المتشظّي في حرب الخليج الثانية التي زادت من عبثية السياسة التي انطلقت منها شرارة القرار الأكثر إيلامًا بحق الشعب والأكثر استسلامًا للعبث بمقدراته بل بقدرات شعوب المنطقة بسبب المزايدات غير محسوبة النتائج. وكما ساهمَ الغربُ المنافق بشيءٍ من تنامي هذه العبثية في فكر حكّام الأمس وفي الرؤية القاصرة لقيادة النظام السابق بتحرير القيود عن رجل الدين مثير الجدل بإعادته من منفاه إلى إيران في 1979، انطلاقًا من فرنسا المنافقة التي كانت تتبجّح بصداقتها مع الشعب العراقي آنذاك ونظامه السياسي أكثر من غيره، فالأحداث تشي بكون تلك الخطوة  لم تكن أكثرَ من نكاية برجل المرحلة القادمة في العراق حينذاك. والأرجح استقرَّ الرأي آنذاك بوضع حدٍّ لطموحاته التي أغاضت الصديق قبل العدو والغريب. من هنا، جاء قرار الأسياد بتغيير اللعبة وممارسة الضغوط لدفع النظام السابق للسقوط في الهاوية وفي فخاخ الأسياد وأدواتهم بدءً من خوض حربيه الضروسين في المنطقة ومرورًا بالعقوبات الاقتصادية التي فرضها المجتمع الدولي في صفحة الحصار القاسي والبشع معًا على الشعب وليس على أركان النظام. إضافةً لتأليب قوى المنطقة جميعًا وحكامها للتخلّص من نظامه بوسائلهم المشبوهة المرعبة وغير الأخلاقية وليس عبر دعم الشعب والمظلومين ومساندتهم  للتخلّص منه عن قناعة وطنية مستقلّة، ما يضفي على تلك القرارات صَفة المؤامرة الكبرى، ليس على النظام السابق فحسب، بل ضدّ الشعب وجيش البلاد القوي كي يُهان هذا الأخير بتلك الطريقة الفجّة ولا تقوم له قائمة بفعل اتفاقِ مَن أسموا أنفسهم بالمعارضة العراقية "الوطنية" غير الصادقة كجزءٍ من مؤامرة الأسياد. ونحن اليوم ومنذ السقوط مازلنا نعاني من نتائج ما ولّدته تلك الأحداث بحسرة وحرقة قلب وأسى مترحمين على تلك الأيام وشخوصها غصبًا عنّا.
من هنا كانت التحضيرات ليوم السقوط الأكبر في 2003 عندما تلاقت الأفكار والأطماع مع المسوّغات والحجج والأعذار الوهمية التي سقطت الواحدة تلو الأخرى لاحقًا باعترافات ساسةِ أقوى دول العالم الذين جيّشوا الجيوش والمنظمات والحكومات والسياسيين وأصحاب القلم من أجل تصديق أكاذيبهم. وهؤلاء إنٍ لم تلاحقهم لعنة السماء ودعاءُ الثكالى وأحوالُ المحرومين والفقراء والبؤساء، فإنهم لن يتوانوا عن مواصلة الدعاء على المتسببين بمصيبة العراق الكبرى بالثبور والفناء ما عاشوا هم وأبناؤُهم وأحفادُهم، وإلى حينٍ. فما اقترفه الغرب المتغطرس والمدّعي بالديمقراطية وحقوق الإنسان الكاذبة من خطايا كبيرة  بحق الشعب العراقي أولاً والأحرار من شعوب المنطقة والعالم ثانيًا، لا يمكن غفرانُه والتسامح معه. ويكفي ندمُ الشيطان الأكبر"أميركا" المجرمة على فعلتها وعضّها الأصابع العشرة لواقع الحال الراهن بسبب شكل التوافق الذي جرى آنذاك بينها وبين دول التحالف الدولي الماكر السائر في ركابها، ومنها فرنسا التي ينبغي عليها التكفير عن فعلتها الأكبر عندما صفعَت العراقَ والعرب بفكّ عقال عدوّ العراق الأكبر في 1979 ووضعه على رأس السلطة مضمرًا نوايا مكنونة الأهداف والأغراض والخطط. وعلى أمثال أمريكا وفرنسا، سوف يظلّ العراقيون يلعنون كلّ مَن جارى وساهم معهما في تهيئة القرارات المجحفة بحق العراق غدرًا وظلمًا وبهتانًا ونكايةً. ومنهم مَن ندموا على فعلتهم الشنيعة، كما فعلتها بريطانيا باعتراف رئيس وزرائها "توني بلير" الذي اعتذر عن جريمته. أمّا المتسبّب الأكبر والحاقد المتجافي والكذّاب الأرعن بوش الكبير وابنه الصغير، فلمْ يفعلاها لغاية الساعة، ولن يفعلاها أبدًا.


3
زيارة بابا الفاتيكان للعراق نافذة أمل مركونة للتغيير والإصلاح
(في ذكراها الثالثة)
لويس إقليمس
بغداد في 29شباط 2024
أعجبني ما قرأتُه عبر وسيلة التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" من محاورة بين جدةٍ وحفيدة جلست تستمع لنصيحة جدتها صاحبة الخبرة في الحياة المليئة بكلّ أشكال النشاط والحركة بآمالها وآلامها، مسرّاتها ومشاكلها، نجاحاتها وانتكاساتها. فهذه هي عصارة الحياة. لا خطوط مستقيمة على مدار الساعة، ولا أدراجًا جاهزة للتسلق في كلّ حين وأيّ ظرف. فقد تُغلقُ أبوابٌ وتنفتح أخرى، أو قد تأتيك الرياحُ بنسيماتٍ تنفتح عبرها نوافذُ بديلة عن تلك الأبواب التي انغلقت لأية أسبابٍ كانت. هكذا أرادت فتاة مقبلة على الحياة أن تستلهم العبر والدروس من جدتها عندما سألتها بكل هدوء وروية واسترخاء: "ما هو الدرس الذي لا تريدينه أن يغيب عن ذهني أبدًا ما حييتُ"؟ فكان الردّ أكثر روعةً ممّا توقعته الحفيدة. قالت لها الجدّة :"عندما يُغلقُ بابٌ تُفتحُ نافذة، لا تركزي على الباب المغلق وتنسي النافذة بل انظري إلى النافذة". فالجدة قد استلهمت الدروس من سنواتٍ خبرتها عبر أشكال النشاط والتفاعل والتآلف والتكافل وتحمّل المصاعب وامتزاج هذه مع غيرها من أدوات الراحة والمتعة والاسترخاء وفي التكيّف مع هذه جميعًا مع نوافذ الأمل التي تنفتح بين فترة وأخرى بديلة لأبوابٍ أغلقتها الظروف والبشر المتحكمون بها على هواهم ووفق مصالحهم وأجنداتهم.
لدي قناعة بأنّ الحياة في عمومها، إلاّ ما ندر،لا تسيرُ وفق تظاريس مستقيمة سواءً في الراحة والمتعة والرفاهة والترف أو بسبب ظروفٍ ظالمة وقاسية في القهر والضنك والبؤس والمصيبة. فبعد الضيق يأتي الفرج وعقب البؤس حيث أبواب الاستراحة مغلقةٌ تأتي الساعة التي تنفتح فيها مثل هذه الأبوابٌ أو بديلاتها بشكل نوافذ كثيرة  متجانسة معها مليئة بأوكسجين نظيف يُنعش رئة المظلوم والبائس وفاقد الأمل بحياة أفضل يستحقها وفق المخطط الإلهي العادل. فلا يمكن للخالق أن يكون ظالمًا أبدًا لفئة من البشر على طول الخط، بل هناك بالتأكيد فرصٌ سانحة بمقدور الإنسان مهما كانت طبيعة حياته وظروفها أن يستغلَّها لصالح إنعاش وضعه وتصحيح مسار حياته بأيديه وعقله وبصيرته. وأحيانًا قد تُتاح مثل هذه الفرص النادرة غير المستغلَّة عبر نوافذ طارئة غير محسوبة في حسابات  الزمن، فتفقد فاعليتَها ويبقى الإنسان حابسًا كيانه ومشاعرَه  ضمن حلقات مظلمة مضيفًا اثقالاً أخرى على حمله السابق. ومن ضمن هذه تأتي النافذة المشرعة في المحبة والتسامح والتعايش والأخوّة الإنسانية التي فتحتها زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق قبل  ثلاث سنوات من هذا التاريخ، لكنها ظلّت حبيسة الرفوف البروتوكولية من دون جهودٍ سخية وناصحة في استغلالها لصالح الوطن والشعب بسائر مكوّناته، ولاسيّما المقهورة منها والمهمّشة والتي ماتزال تبتلع طُعم زعامات أحزاب السلطة ومَن يقف وراءَ دعمها بدءً من الغازي الأمريكي والغرب المنافق راعي ما يُعرف بالعملية السياسية الجرباء والعرجاء وصاحب تصدير الديمقراطية المنقوصة ومَن يقف معهما متعاونًا ومتشاركًا ومناصرًا في استدامة المكاسب والمصالح في ظلّ المنظومة السياسية الفاشلة.

نوافذ للتغيير والإصلاح
رباط الكلام، إذ أؤيّدُ بشدّة ما قامت وتقوم به وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية الرديفة في العراق في عملها الأمني الساعي لتحصين المجتمع العراقي من المؤثرات الدخيلة عليه، ولاسيّما آفة المخدّرات التي تنشط من شرق البلاد بفعل فاعل خبيث وحاقد منذ احتلاله فكريًا وعسكريًا سياسيًا ومجتمعيًا من قبل الغازي الأمريكي وأدواته وأعوانه في 2003، أشهد بأعلى صوتي بتقديم الجهات الوطنية، على قلّتها في البلاد، بين فترة وأخرى نوافذَ رشيدة متاحة لكلّ مَن اغترّ أو سقط في المحظور أو عاش في مستنقع الفساد المالي والإداري والأخلاقي لكي يُعيد النظر في مسيرة حياته وسلوكه. فالنوافذ المتاحة بدعمٍ وإسنادٍ من الحكومة العراقية القائمة التي استبشرنا بها جزءًا يسيرًا من الخير القادم بسبب إغلاق العديد من الأبواب المتاحة منذ السقوط في وحل الفساد واللاوطنية ومنها تلك الساعية لتصحيح مسارات أمثال هؤلاء المغرَّر بهم  وسواهم من طالبي الجاه والمال والسلطة بغير وجه حق ومن الطارئين والدخلاء والمستنفعين والمبتزين بكافة تصنيفاتهم القذرة، هي قادرة في ظل هذه الظروف "المتحركة" على إصلاح المكسور والمعطوب والهزيل في المجتمع العراقي الذي فقد قدرتَه البشرية والعلمية والتربوية والأخلاقية في العديد من جوانبه. والمعيب في هذا وذاك، أنَّ الشذوذ في مسيرة هذه الفئات الضالة الفاسدة التي أزكمت أنوف باقي الشعب الصابر الفاغر فاهُ في انتظار الفرج القادم بأبوابٍ ونوافذ جديدة، قد اصبح قاعدةً وأداةَ مفخرةٍ وتباهٍ وخيلاء، فيما الفئات التي تعرف ربَّها في النزاهة والخُلق الحسن والاستقامة في العمل والوظيفة والسلوك والتجارة والتربية والعلم والتسامي فوق المعاصي والشذوذ بكلّ أشكاله قد رُكنت جانبًا على الرفوف وأصبحت في عداد التخلّف والسذاجة والفشل والهون في بلوغ الأربِ ومعرفةِ رحمة الخالق ونعمته. أليس في هذا الحيد والزوغان في اتباع طريق الحق القويم ومسالك الحياة الطبيعية التي تريدها السماء خروجٌ عن المألوف وإرادة الخالق في إصلاح المجتمعات وبناء الأسس الصحيحة للأمم والبلدان وصولاً لعالمٍ أكثر رزانةً وعدلاً ونصحًا ورحمةً ومحبةً للخالق والبشر معًا؟
أمّا الحديث عن منزلقات عقيمة، قديمة أو جديدة أتت بها وسائل التواصل الاجتماعي الساعية خصيصًا لتدمير الأمم  والمجتمعات والبلدان، فقد أمسى حديثًا ذا شجون. لقد تماهى مثلاً ساسةٌ وزعماء وأدعياء دين وتقوى وصلاة مع الكثير من هذه المنزلقات والترّهات ضمن مسعاهم لزرع ما اصطلحته دوائر الغرب المهتزة أخلاقيًا ودينيًا واجتماعيًا بمصطلح "الجندر" الفاضح الذي تنادى له أرباب الشذوذ ومنهم زعامات دينية وسياسية، وتبناه أصحاب السوابق في تثبيته في بنية مجتمعنا العراقي الذي انزلق بفعل هؤلاء الشواذ والمفسدين في الأرض إلى دركات الأخلاق السفلى في الترويج لأشكال الفساد وتشجيع سرقة البلاد وثرواتها والهدر في المال العام بحججٍ وأعذار يدخلُ الفقه والمذهب لدى بعض (من غير تعميم) الزعامات الدينية التقليدية المضلِّلة ضمن دائرة المباح شعبيًا وبحجة المظلومية. ومادام المال العام مباحًا، فطريق استنفاذه واستغلاله والتكسب منه وسرقته بشتى الوسائل حلالٌ للشعب الغافل عن القيم العليا التي لا ترضى بها لا الطبيعة الهادئة ولا الحياة الفضلى والتي تنادي ب بفضحها أركانُ الأديان الحقيقية الصحيحة التي تحرّم هذه الأشكال من السرقات والتكسّب من السحت الحرام. فالشعوب الساذجة والبائسة التي فقدت سمة التمييز بين المقبول والمحظور عادت اليوم لترتكن لدين زعاماتها وسلطاتها وسطواتها عندما فقدت بوصلة العقل والبصر والبصيرة بفعل سطوة بعض هذه الزعامات الناشزة ومثيرة الجدل. ومثلُها لا تقلُّ فجاجةً وقباحةً ما طرأ من خنوعٍ معيب على بعض المحسوبين في خانة أصحاب الفكر والقلم وحاملي القيم التنويرية والتجديدية في الدين والمذهب. ناهيك عن السعي الدؤوب السلبي لتفكيك شأن العلم والعلماء وأدواتهم التربوية الصحيحة في إصلاح المجتمع من منطلق وطني وحضاري وبيئي دينيّ غير منغلقٍ على الذات بل منفتحٍ نحو سائر البشر من أديان وعقائد أخرى صاحبة الحق في التشارك في الوطن وفي أدوات العدل والمساواة والمواطنة من منطلق الحق المواطني والإنساني والبشري في كلّ شيء وأيّ شيء. فالمؤمنون الموحِّدون وسواهم وفق هذا المنظور إخوة، إن لم يكن في الدين والمذهب، فهُمْ كذلك في الإنسانية!

زيارة البابا للعراق نافذة منسية
أتت زيارة بابا الفاتيكان "فرنسيس" للعراق للفترة من 5-8 آذار 2021، لتقدمَ نافذة مضافة في طريق إصلاح المجتمع العراقي الغارق في شجون المحاصصة الحزبية وأشكال الطائفية وتقاسم السلطات والمناصب والمال العام بين أحزاب السلطة منذ 2003 ولغاية اليوم. فهذه الموجة الظالمة التي سمح بها الغازي الأمريكي لزعامات المعارضة التي ادّعت الوطنية وخدمة المجتمع وإصلاح شؤون الوطن وإنقاذ الشعب من ظلم النظام السابق بحسب الادّعاء الظاهر زمنَ المعارضة، قد امتدت واتسعت وفقدت معها كلّ مصداقية للغزاة وللشعب على السواء. لكنّ زعامات السلطة عوضَ ان تستغلَّ هذه الزيارة التاريخية كنافذة إضافية بعد غلق الكثير من الأبواب، من أجل الاهتمام بالوطن والأخذ بأيدي الشعب المقهور المغلوب على أمره في إصلاح المعوجّ والمعطوب والمكسور في مسيرتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية، فقد أغلقتها هي الأخرى وركنتها على رفوف الزيارات البروتوكولية ولم ينتج عنها سوى الذكريات والصور وشيءٌ من إصرار كنيسة الفاتيكان في إحياء موقع إبراهيم أبي الأنبياء في أور الكلدانيين. وحتى هذه الفسحة ممّا تبقى من  النافذة المذكورة لم تنضج بعدُ بل مازالت تعاني من تلكّؤ وتباطؤ ومعرقلات.
في رأيي، كان بالإمكان استغلال هذه النافذة البابوية لتوسيع نطاق البناء والإعمار والتغيير في مسارات عديدة، ومنها إنعاش روح التآخي والانتماء للوطن وزيادة الاهتمام بطبيعة التعايش السلمي بين أتباع الديانات والإتنيات المختلفة في أجواء المصالحة والمحبة ونشر أدوات السلم الأهلي والعدالة والمساواة من منطلق مفهوم متفق عليه "كلُّنا إخوة". وهو ذات المفهوم الذي تشارك به بابا الفاتيكان فرنسيس يوم 6 آذار مع سماحة المرجع الشيعي العراقي  السيد علي السيستاني في لقائهما التاريخي. لكن من المؤسف أنّ هذا اللقاء لم يُستغلّ بطريقة وطنية ومجتمعية وإنسانية محليًا وإقليميًا ودوليًا بسبب قصورٍ في الجهات التي تدير دفة البلاد بطريقة المحاصصة وتقاسم المغانم وتوزيع الثروات والمناصب على أحزاب السلطة وبخاصة بين المثلث الحاكم الشيعي-السنّي- الكردي والتغاضي عن سائر حقوق باقي المكوّنات الدينية والإتنية الأخرى. وهذا عتبُنا على أصحاب القرار. بل نقولها بحسرة، كانت هذه الزيارة بمثابة تلك النافذة المضافة والفرصة التاريخية التي لا تُعوَّض والتي فُتحت بعد غلق أبواب الصحوة الوطنية وافتقار البلاد إلى أدوات أساسية في الانتماء الحقيقي للوطن وفي تحقيق سمات العدل والمساواة. وهذا ما يستوجب إعادة النظر في مفاهيم تلك الزيارة ومراجعة محطاتها الرمزية العديدة بدءً من بغداد عاصمة الرشيد، ومرورًا بالموصل وقرقوش/بخديدا وأربيل وأور الناصرية من أجل العودة بعراق الحضارة الرافدينية إلى مسارها السابق بالتقدّم على غيرها من بلدان المنطقة في كلّ شيء عندما كانت تُعرف قيمتُها الحقيقية الصارخة بين شعوب العالم. بل كان من الممكن، كما قال قداسة البابا في مداخلة له أمام حشد للحكومة والساسة أن تضمن هذه االنافذة الجديدة بناءً مستقبليًا للعراق في الشؤون والخطوات والأدوات التي توحّده وليس فيما يفرّق أبناء الشعب من عنف وتطرّف وتحزّب وخروج عن الحق وزوغان عن سمة التسامح التي تشكل ركنًا من أركان بناء المجتمع العراقي عبر السنين والقرون.
فهل ننتظر نوافذ أخرى للأمل والرجاء والإصلاح كالتي فتحتها زيارة البابا فرنسيس قبل ثلاث سنوات أم نتطلعُ لأبواب جديدة بحللٍ جديدة غير منقوبة ولا مرقَّعة ولا رثّة تشعُ بياضًا ناصعًا في العمل والمثابرة والإنتاج والنزاهة، والأهمّ بالإيمان الراسخ بعراقٍ واحد موحدٍ يجمع جميع الشركاء على طاولة المحبة والعدل والمساواة والشراكة الصحيحة كما تجمع الدجاجةُ فراخها تحت جناحيها؟
 

4
حرب غزّة، مَن يتحمّل إشعالَها؟
لويس إقليمس
بغداد، في 8 آذار 2024
ماذا يقول العقلاء عن أحداث غزة وفي الحرب الجديدة ضمن سلسلة الحروب العديدة ضدّ إسرائيل والتي مرَّ على إشعال آخرها في 7 تشرين أول 2023 زهاء خمسة اشهر بالتمام والكمال. في واقعها السياسي والجغرافي، فهي حربٌ غير متوازنة الجوانب بين دولة معترَفٍ بها دوليًا على نطاقٍ واسع ومنبوذة في أنٍ معًا من دولٍ تدّعي التقدمية واليسارية ومحاربة العنصرية والدفاع عن حقوق الشعوب وبين حركة مسلحة منفردة تمثل فئةً متمردّة اتبعت طريق المقاومة المسلحة من طرفٍ واحد بخروجها عن إرادة سلطة عليا معترَف بها دوليًا هي الأخرى كممثلٍ للشعب الفلسطيني. فهل مَن لديه الحدس كي يتوقع لهذه الحرب المفصلية بحسب البعض نهايةً أو تسويةً في كيفية انتهاء هذه اللعبة القذرة التي تشترك فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة دولُ المنطقة وعدد لا بأس به من دول العالم وشعوب متورطة من حيث تدري أو لا تدري، إلى جانب تنظيمات لتصطف جميعًا حول حتمية نوعين من الصراع القائم حاليًا بشكليه التاريخيين إتنيًا ودينيًا؟ ففي الوقت الذي ينحاز فيه الغرب وعلى رأسه أميركا بدعمهم الوقح اللاّمحدود للكيان المحتل بكلّ عجرفته بسبب تماديه المستمرّ غير المحسوب وسيره ضدّ تيار التسوية والسلام الدائم الذي يكفل لطرفي الصراع حياة هادئة وسلامًا دائمًا ضمن مواثيق التعايش السلمي وتكافل الاحترام المتابدل بين الشعبين المتصارعين وجوديًا على أساس دولتين متعايشتين من دون انتقاص أو ازدراء أو استخفاف لطرفٍ ضدّ آخر، نصطدم بواقع عربي مرير متهرّئ القرار والإرادة غير قادر أو مقصِّر في الأخذ في الحسبان كلَّ أو بعضَ معايير الانتصار للأخوّة العربية كحالة جمعية وحدوية في المنطقة لا تقبل الانقسام والتشظّي والتجزئة في النظرة إلى كينونتها التاريخية والجغرافية والجيوسياسية على المدى الطويل مستفيدة من تجارب الأمس العديدة الفاشلة القاسية.
    في الوقت الذي لا يستبعدُ بعض هؤلاء العقلاء في هذا الصراع المصيري غير المتجانس انحيازَ دولٍ وشعوبٍ إلى جانب إسرائيل على أساسٍ إنساني مشوَّه باعتبار اليهود أقليةً واجبة الحماية ضمن مستنقع هذا الصراع الدولي غير المتوازن أصلاً للأسباب التي لا يجهلُها الجميع، فإنّ آخرين يرون فيه صراعًا دوليًا لإدامة تلاقي مصالح وتسريب مفاهيم دولية وأممية عبر التعامل بمعايير متناقضة أحيانًا لا تتناغم مع أهداف العيش المشترك والسلام الدولي المأمول والمصالح المتبادلة ضمن مواثيق الاعتراف المتبادل بين الأمم والشعوب. هذا إذا لم نتجاهل فعلاً أسبابًا غيرها حينما تم إدخال الدين وحتى المذهب كأيديولوجية مؤثرة كغطاءٍ آخر إضافيّ لكلّ هذه الأفعال والسلوكيات غير المتزنة التي لا تخدم شعوب المنطقة ومنها شعبي الطرفين المتصارعين، ضحية هذه الممارسات والحروب. هذا بالإضافة إلى حالة الفوضى واللاسلم القائمة منذ تشكيل الدولة اليهودية قبل عقودٍ خلت، وكأنّ الإشكالية المزمنة أضحت مسألة صراعَ أديانٍ وقوميات وليست صراعًا من أجل الوجود والجغرافيا والتاريخ التي خلقت  مع مرور الزمن سلسلةً من الأطماع والأحقاد المتأصلة في صفوف دول المنطقة.
صراع تاريخي بغطاء ديني-عنصري
من الواضح أن الأطراف المشاركة في هذه اللعبة القذرة قد استغلت الغطاء الديني -العنصري الحساس في أحداث الصراع بين العرب وإسرائيل في جميع حروب المنطقة بحجة الحفاظ على المقدسات التاريخية مثيرة الجدل أحيانًا وصيانة المصير والدفاع عن الوجود في أحيانٍ أخرى ضمن مساعي هزيلة لفرض الذات والكينونة ومنح الحق بالفوز في هذا الصراع المزمن، بغض النظر عن الوسائل المستخدمة من طرف اسرائيل في اختراق العقل العربي-الفلسطيني غير الناضج في معظمه واستغلال مواقع الضعف لديه، قياداتٍ وشعبًا، من أجل بلوغ المآرب والوصول بشعب فلسطين إلى واقعه اليوم ومعه كل العرب في المنطقة. لذا ليس بغريبٍ أن تُستغلَّ العباءة الدينية طورًا كأداةٍ من أدوات ما يُسمّى بالمقاومة والممانعة باستخدام العديد من أدوات التحريض بغية فرض الإرادات وكنوعٍ من إدامة ما يُسمّى بصراع الأديان في إثبات الوجود من جهة، فيما تسعى غيرها لاستخدام النزعة القومية لدى الطرفين المتصارعين كوسيلة لفرض الواقع إقليميًا ودوليًا بسبب ما خبرته شعوب كلتا الإتنيّتين على مرّ التاريخ وخصوصًا ما شهده الطرفان من أحداث وحوادث في آخرٍ قرنٍ من الألفية الماضية.
في كلّ الأحوال، ما كان يُعتبر في الغالب كلامًا استهلاكيًا عن الصراع التاريخي الاسرائيلي-العربي قد انقشعت الكثير من أقنعته المزيفة بعد فرض الواقع أصولَه وهدفَه عبر مساعي التطبيع العديدة الأخيرة بين عدد من الدول العربية ودولة إسرائيل المحمية من المجتمع الدولي المقامر والراعي الرئيسي المتحيّز دومًا في المحادثات والمؤتمرات والاجتماعات بالتعاون والتشاور مع شركائه في المنطقة والعالم. وهذا ممّا أبقى صورة المقاومة الموهومة حصرية في صفحاتٍ تضمرُ شيئًا وتفعل نقيضَه في الواقع السياسي المشهود. لذا ليس مستبعدًا أن تكون بعض الدول المتورطة في شكل وإدامة هذا الصراع ومنها "إيران" نفسُها الدولة الداعمة لشكل المقاومة بتوكيل الحركة الإسلامية "حماس" وغيرها من مثيلاتها، لتكون الحاضن الأساسي والمُشعِل والمحرِّض لفرضية المقاومة والممانعة ظاهريًا لكلّ ما يجري في حرب طوفان الأقصى التي أشعلتها حماس، وربما ما بعده على شكل مساعٍ استهلاكية بهدف إبعاد شبح الحرب والاحتكاك المباشر معها للموجبات التي يعرفها العالم وأرباب الثقافة والفكر المتنور. وهذا ما بدا جليًا من دون رتوش ولا تردّد في واحدٍ من لقاءات الفلسطيني منتفخ الخدود "هنية"، زعيم ما يُسمى بحركة المقاومة الإسلامية الذي يعيش مثل غيره من الزعامات الإسلامية الفسلطينية في بحبوحة ورغد مع أبنائهم والمقربين منهم في أفخم الفلل والقصور والفنادق تاركين أدوات المقاومة الحقيقية والاحتكاك المباشر مع الجيش الاسرائيلي وسائر الأجهزة الأمنية للمقاتلين الأشداء من مواطنيهم المغرَّر بهم ومن السذّج المؤمنين بفرضية الدفاع عن المقدسات والأرض من الذين تلقوا تدريباتهم على مدى سنوات من الجارة الشرقية "الأرجنتين" بغية تحقيق هدف هذه الأخيرة وهو إبعاد أراضيها ونظامها عن مخاطر حربٍ مباشرة مع الدولة اليهودية الفتية وداعميها الدوليين، وعلى رأسهم أميركا عدوّة الشعوب.

هل من نهاية قريبة للمأساة؟
وفق الأحداث الراهنة والتسريبات المتداولة إعلاميًا، لا يمكن التكهن بفترة انتهاء التراشق المأساوي والقتل اليومي بين الطرفين، إلاّ في حالة خروج هذه المنازلة الجديدة عن حدودها المرسومة لها من قبل اللاعبين الكبار واتخاذها منحى آخر نحو العالمية الثالثة التي ستحرق الأخضر واليابس معًا، لا سمح الخالق العادل العارف وحده بعقول خلقه. حينها ستُعاد هيكلية جغرافية المنطقة وفق المعطيات الجديدة. لكنَّ مالا يمكن تجاهلُه في هذه المنازلة الجديدة وفي سلسلتها الحديثة، تلك الخسائر الكبيرة لطرفي الصراع في الأرواح البشرية البريئة، لاسيّما في صفوف المدنيين كالعادة. هذا إضافة إلى الخسائر الكبيرة التي تتحملها دولة إسرائيل لأول مرة في تاريخها حصريًا في هذه المرة في المعدات والآليات وأنواع الأدوات الحربية المستخدمة في الصراع لإثبات القدرات التفوقية لديها. ناهيك عن الإنهاك في اقتصاد هذه الأخيرة الذي تراجع بسبب استمرار استنزاف القدرات على أشكالها نتيجة لاشتداد المقاومة وما تعرّض له هذا الكيان المنبوذ من تفكّك في بنيته الداخلية، مضافًا له تزايد الامتعاض الدولي والتشظي البنيوي الداخلي للمجتمع الاسرائيلي نفسه بسبب الإصرار على أدوات التصعيد الاستيطاني، ما عرّضّه لانتقادات داخلية صارخة وتمرّد ناضج من داخل مؤسساته وحصول هروب معاكس لمواطنيه بسبب فقدان الموجبات المتعلقة ببوصلة الوطن البديل التي بدت هزيلة وضعيفة أمام الرفض الدولي المتصاعد والمرافِق للعناد الفلسطيني المقاوم للاحتلال ومَن يدعمه من دول العالم. ومن المؤسف أنَّ دولاً إقليمية وعربية تصرّعلى إبقاء خيوطٍ هزيلة ضمن ما يُسمى بمقاومة الاحتلال الغاصب كدعاية عربية ملتزمة بالمصير العربي المناهض لإسرائيل، فيما واقع الحال يشير بكل وضوح إلى فضائح بتلقي حكومة الدولة اليهودية دعمًا ومساعدات إنسانية وتسويقية ولوجستية عديدة لمنع انهيارها. ولولا هذا الدعم الكبير من الغرب وأمريكا وبعض الدول العربية المطبِّعة لانهارت أسطورة اسرائيل منذ الأيام الأولى للحرب الأخيرة التي شكلت نقطة تحوّل في الفكر العربي المقاوم والديني الممانع لدول المنطقة المجاورة أو القريبة من الدولة اليهودية.
في اعتقادي، إنّ ما شهدته اسرائيل هذه المرة من تراجع في القدرات البشرية والتسليحية والدفاعية بل وحتى الهجومية يفوق ما تعرضت له من خسائر معنوية أيضًا وليس مادية فقط. فقد تزلزلت قدراتها التسليحية وبدا الخوار الدفاعي في صفوف أفراد جيشها الذي يقاتلُ عدوًا شرسًا مدرَّبًا على أيادي عسكرية بمنهجية واضحة وإرادة أيديولوجية في هذه المرة تختلف عن سابقاتها في حروب ومعارك سابقة. فالمشارك في هذه الحلقة الهجومية لا ينتمي للدولة الفلسطينية ولا للصف العربي في رؤيته في المقاومة المسلحة، أو بالأحرى لا يأتمرُ بأوامر الحكومة الفلسطينية الرسمية المعترَف بها رسميًا ودوليًا وبالإجماع العربي، ما يعني وصف الحرب الجديدة بكونها حرب عصابات وأطراف منفردة مسلحة ومدربة ضدّ دولة متجبرة لا تنوي الدخول في تسوية سلمية للصراع التاريخي القائم. ومن غير المستبعد التكّهن بنتائج مأساوية قادمة أخرى للشعب الفلسطيني أو بالأحرى للجهات المتورطة في عملية طوفان الأقصى المتمثلة بحركة حماس الخارجة عن سلطة الدولة الفلسطينية "الشكلية" من دون أن تنتهي بنتيجة إيجابية لصالح الشعب الفلسطيني الذي يتوق عقلاؤُه، برغم قلّتهم، لتفعيل الجهود الأممية لإيجاد حلّ سلميّ دائمي للمشكلة القائمة بعد أن أضاعوا فرصًا عديدة لإنهاء المأساة بالقبول بمقترح الدولتين بحدود عام1967 التي رسمها المجتمع الدولي آنذاك. وطالما ارتبط مصير هذا الشعب  بوجود عناصر فوضوية متشدّدة وغير ملتزمة هي الأخرى بتفعيل سبل ومسالك التهدئة وتحقيق السلام الدائم في إطار دولتين جارتين وفق الأعراف الدولية وبرعاية المجتمع الدولي بعيدًا عن أشكال المقاومة المرتبطة أخيرًا بأجندات دولة إقليمية غريبة مكروهة وغير مستحبة عالميًا، فلن يكون هناك سلام دائم بين الشعبين المتحاربين على الأرض والوجود والمصير والوعود. والحكمة تقول، لا أمان ولا سلام لحمقى لا يعملون العقل والحكمة في إرساء سبل العيش المحترم لشعوبهم وفي تهيئة أدوات السلم الأهلي وسط مجتمعاتهم المختلفة في الدين والإتنية والثقافة وفي تأمين القوت الشريف والأيادي المنتجة لشعبٍ اعتادَ طَرقَ أبواب الاستجداء والاستعطاف من المجتمع الدولي منذ بدء أزمته المستفحلة. 
الكلّ خاسرون
من المعروف واقعيًا، أن جميع المتورطين في الحروب خاسرون لا محالة: الفاعل والمفعول، الداعم والمدعوم، المحرِّض والمحرَّض على السواء. ومن ثمّ، فلا فائزَ ولا منتصر في نهاية المطاف، بل قد يزيد المغتصِبُ وأدواتُه من إصرارِهم على تمدّد الصراع ما شاؤوا بأدواتٍ جديدة مبتكرة طالما الغرب الماكر ورعاة السياسة والاقتصاد الدوليَّين يتحكمون بمصير العالم، ما فسح المجال لأعلان "بن نتنياهو" علانيةً بتمنياته أن يشهد العالم أجمع مناسبةَ الاحتفال بالذكرى السنوية المائة لإنشاء دولة إسرائيل من دون خجل ولا خشية من أحد، بدل حزم الحقائب وعودة الموعودين بوطن بديل من حيث جاؤوا، كما انتشر في أوساط هؤلاء علانيةً. فمَن يُصرُّ على الحرب والسلاح والمقاومة بمثل هذه الوسائل في عالمنا المعاصر سبيلاً للفوز وتحقيق النصر على هذا الكيان واهمٌ وساذجٌ. فالعالم يحكمُه أسياد الاقتصاد والسياسة والتخطيط وليس أدوات الفوضى والعربدة واستغلال سذاجة الشعوب وتخلّفها وجهلَها. وهؤلاء هم مَن يتحملون وزر هذه الأخطاء وإشعال هذه الحرب وغيرها كما في سابقاتها. وقد يكون في لاحقاتها أيضًا في حالة عدم حسم الأوضاع بين الفرقاء الأعداء في حدود الخسائر الراهنة والحدود القائمة وطالما تمكنت مشيئة الأسياد من ترويض المجتمع الدولي وإقناع عدد لا بأس به من دول العالم المتعاطفة أصلاً مع تظلمات الشعب اليهودي ومآسيه عبر التاريخ تحقيقًا للوعود التوراتية بدولة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.       
     

5
مَن يهدم الحضارات والمجتمعات، وكيف؟
لويس إقليمس
بغداد، في 20 شباط 2024
سموّ أيّة حضارة أو مجتمعات ناصحة يأتي من قيمة تربية شعوبها ورفعة أبناء بلدانها وتقدّم كلّ جوانب الحياة فيها ولاسيّما من تطوّر أدواتها الصحيحة الكثيرة. فإذا غابت أركان هذا السموّ بكل جوانبه وأدواته وآليات سلوكه، حلّت الكارثة بل الكوارث عندما بدأ أمثال هذه الحضارة بالسقوط في متاع الهزالة والضحالة متخذةً من كهوف الجهل لحافًا وغطاءً لها مقنّعة بآفات تخلّف لا تغني ولا تسمن. فهذه الأجندات الضحلة غير المثمرة لا يمكن أن تديرها سوى عقول خائرة فارغة لابسة كلّ أشكال الجهل وغارقة في خرافات تديم لها السطوة على عقول البسطاء والسذج من الأتباع، دينيًا ومذهبيًا وحتى عرقيًا وإتنيًا. وبالتأكيد، فشكلُ هذا الجهل مصدرُه الأساس إداراتُ بلدانٍ تقودها زعامات مصلحية وساسة جهلة لا يتوانون في الاستناد والالتجاء لأدواتٍ تافهة وترّهات غير جديرة بالاحترام تتخذ غالبًا من الدين والمذهب والانتماء العشائري سبيلاً أساسيًّا لإدامة السلطة والإثراء الفاحش على حساب الشعوب وفرض أتاواتهم بدالّة أدوات المال والجاه والسلاح التي يمسكون بها بأسنانهم وأيديهم وأرجلهم على السواء. وعندما تصبح هذه الأدوات الأخيرة خارج سيطرة الدولة، حينئذٍ يصعبُ ترويضُها وتجنيب شعوبها الوقوع تحت سطوتها بسبب تجبّرها واستئسادها بما تتبجح به وتمتلكه من أساليب وأدوات مبتكرة على طول الخط وممّا لا يخطر على البال. فهي ماكرة وسفيهة وضروسة في آنٍ معًا ممّا يستدعي العلاج بالكيّ الذي لا يمكن أن يُفلح إلاّ بتدخلٍ مرجوٍّ من السماء الغافية في أكثر الأحيان أو بفعل فاعل دولي يمتلك من الأدوات والوسائل ما تعجز عنه شعوب الداخل.
هكذا تجري عمليات تفكيك الحضارات والمجتمعات، بدءًا من تدليس العقائد لغاية تآكلها عندما يتم امتزاجها بأدوات أخرى إضافية تساهم في إضعاف إيمان الناس من حيث لا يدرون أو يدركون، طالما أنّ سطوة مَن يقودهم من مدّعي الدين تأتمر بأمر الطارئين والدخلاء وأرباب الفتن وأصحاب المصالح. وما أبسط الوسائل المستخدمة في أيامنا هذه من جانب تنظيمات وجماعات تديرها زعامات في مجملها دينية، أو بالأحرى مدّعية الدين والإيمان، مهووسة بسرقة المال العام والإثراء على حساب الأوطان وشعوبها البائسة المغلوبة الخاضعة من قمة رأسها حتى أخمص قدمها لهذه الأطراف من دون نقاش ولا تفكير ولا تمحيص. وما يزيد من اتساع حدود هذه الأجندات الدخيلة غير مستوفية الشروط الإنسانية البسيطة، ضياع القناعات لدى بسطاء الشعب اللاهثين وراء فتات الأسياد الذين "كانوا بالأمس جياعًا لكلّ شيء ثمّ شبعوا" وأداروا الظهور لمَن كان السبب بالإتيان بهم إلى السلطة والواجهة والثراء الفاحش بلا حدود ولا رقيب ولا حسيب. والأنكى من هذا وذاك، أن تُدار حلقات هذه السطوات العليا، الدينية منها بخاصة، عبر وسائل مستنبطة لتغيير قناعاتِ طبقاتٍ محسوبة على أرباب الثقافة والفكر والعلم. وفي هذا كمالُ الانحطاط المجتمعي والتفكيك الحضاري حينما يسقط المثقف وصاحب الفكر والعلم بين أيدي مثل هذه الجماعات. وما على هذا الأخير سوى الرضوخ والخنوع بأمر الحاكمين باسم الدين، والدين منهم براء براءة الذئب من قميص يوسف!
من أدوات هدم الحضارات، تجهيل دور الأمّ
من هنا، لا يبدو صعبًا تناول المعول وهدم أية حضارة أو إفساد أي مجتمع لما لمثل هذا المعول من قدرات تدميرية في استخدام كلّ ما هو قاهرٌ لأسس الحياة وعماد المجتمع المرتكز على حضارة راسخة سابقة جرى بناؤُها بأيدي نزيهة في حقبة من الزمن الجميل الذي إنْ ضاعَ حينئذٍ يصعبُ استعادة أجزاءٍ من أسسه وبنيته ومعاييره الصالحة. هكذا هو العراق اليوم. وربما غيرُه من بلدان المنطقة. ونحن هنا لا نتجنى على جهة أو زعامة أو إدارة، داخلية أو خارجية، فيما تشهدُه بلادنا من ويلات وآثارٍ مدمّرة بعد غزوه قبل أكثر من عشرين عامًا، وبالذات على أيدي الغازي الأمريكي سيّء الصيت في كلّ شيء في 2003، حينما سلّمَ معولَه لأدواته المتعددة الداخلية والخارجية، من أجل تهشيم البنية التحتية في البلاد بما كان يملكه من مستلزمات الشعوب المتحضّرة ذات السيادة والهيبة في كلّ ركنٍ من أركان الوطن. فالنيّة كانت مبيّتة في الأساس لتدمير حضارة أقدم شعوب الأرض بأدوات وخطوات عديدة، استهلّها بإفساد التربية المنزلية وتفتيت الأسرة وتجزئة المجزّأ فيها الذي كان بدأه عبر فرض الحصار القاسي ضدّ شعب العراق البائس الخارج من حربين ضروسين خاسرين بفعل غطرسة الإدارة البائدة وخروجها عن أخلاقيات التعايش السلمي والصلح المجتمعي داخليًا وإقليميًا ودوليًا. وقد تحمّل الشعب العراقي بمختلف مجتمعاته كلّ تلك التبعات. ف "هذا المطر الأسود من تلك الغيمة القبيحة".
لقد سعى المحتلّ الأمريكي بعد خبرته في دراسة نفسية المجتمعات العراقية المتنوعة فكريًا وسياسيًا وإتنيًا ودينيًا ومذهبيًا وتربويًا وعشائريًا، سعى لتجزئة الأسرة وتفتيتها وزرع بذور التمرّد وأدوات الجهل والتخلّف بين أبناء العائلة الواحدة والمجتمع الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد وصولاً إلى تجهيل المجتمع العراقي بأسره عندما أفقدهُ ركيزته الأساسية المتمثلة بأمّ البيت وحامية الأسرة وحبيبة الرجل بحجج وأعذار وهمية، منها الحاجة لدمقرطة الشعوب المقهورة وفسح الحريات المفتوحة لها بكل تجلياتها وأوهامها وإغراءاتها. فصارت هذه الأخيرة أسيرة لأشكال القهر والظلم والانفلات بحجة التحرّر من مظالم المجتمع وقوّامة رجل البيت الذي فقدَ هو الآخر سيطرتَه وضاعت كلمتُه وسط هدير أصواتٍ شاذة خرجت عن طوع التربية المنزلية الصحيحة التي بُنيت عليها الأسرة العراقية وحضارة البلد عبر مئات بل آلاف السنين. فعندما يتمّ تغييب دور الأم كحامية للأسرة ورديفة للرجل في التربية المنزلية الصحيحة، حينئذٍ تفقد المجتمعات كلّ أدوات سرّ بقائها في التماسك والعيش المتآلف والسلم المجتمعي الصحيح مع غيرها. ألم يقل الشاعر:
             الأم مدرسة إذا أعددتها            أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراق
هكذا لم يعد للكثير من الأمهات في هذا الزمن الأغبر دورٌ كبير ومهمٌّ في بناء الأسرة والمجتمع والبلد بسبب تراجع دورها في تماسك أسرتها للأسباب الكثيرة التي نعلمها ونختبرها في حياتنا اليومية، ومنها تحرّرُها الخارج عن السيطرة وتماهيها مع ما تشهده وتطّلعُ عليه وتستخدمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي بلا  رقيب ولا تمييز للغث من السمين منها. وكذلك بسبب تقليدها الأعمى لما تعرضه مختلف مراكز التجميل واللهو والسهر من أدوات واستعراضات ودعايات رخيصة في معظمها بحيث أخلّت بجسدها وأفسدت أنوثتها وأخرجتها عن طبيعتها البشرية بل والإنسانية أحيانًا. وبالنتيجة، فقد تحوّلت الكثير من النساء والفتيات إلى أدوات رخيصة في شارع لم يعد يكنّ لها ذلك الاحترام الحضاري، كما عهدناه وكما تستحقه الأمّ والمرأة العراقية عبر مسيرة السنوات الغابرة التي عشناها معظمنا نحن أجيال الزمن الجميل وروّاد المدنية وأصحاب الفكر والانتماء الصحيح للوطن والمجتمع.
هدم العلوم والتعليم ورموز القدوات
استدرك الأسياد أهمية العلم والتعليم والفكر في بناء المجتمعات. لذا عمدوا إلى هدم أركان العلوم وإفساد التعليم في بلاد الرافدين التي لا شكَّ في كونها بلد الحضارة الأولى واستمرار إدامة هذا الدور البناء في حياة الشعب العراقي لغاية السقوط الأكبر في 2003، حينما تغيرت الأدوات وأصبح المعلّم والمدرّس والاستاذ الجامعي ألعوبة بأيدي ناسٍ جهلة لا يفقهون من العلم ما يمكنهم من تواصل بناء أركان البلد بذات الأسس التي بُني بها الوطن في سالف الأيام. بل الأنكى من هذا وذاك، صار المعلم ألعوبة بايدي إدارات فاسدة فرضت أجندتَها وبرامجها ومناهجها عبر ما يُسمى بالتعليم الأهلي الحرّ الذي رضخ لإرادة المستثمر في انتقاء الإدارات والهيئات التدريسية وفق رؤيته القاصرة وأجندته المادية والوجاهية البحتة. ناهيك عن التقاعس في دُور العلم والمدارس الحكومية وغالبية المؤسسات التعليمية الجامعية التي تراجعت كثيرًا وأصبحت الشهادات تُباع وتُشترى بمال السحت الحرام لتوزعَ على المسؤولين وأبنائهم وأدواتهم طمعًا بمنصب رفيع أو وجاهةً للتباهي من دون وجه حق.
  قصارى الكلام، لقد تحول دور المعلّم في عموم البلاد، من دور المربي الفاضل إلى وسيلة احتقار واستهزاء أمام الطلبة حيث لم يعد له ذلك الاحترام المطلوب الذي خبرناه عندما كنّا نعيش بين أسوار دولة ذات سيادة وكرامة ورقيّ وسموّ في كلّ شيء. كما لم تعد للمعلم من كلمة لتُسمعَ كما اعتدنا في أيامنا نحن أجيال الماضي الجميل عندما كنّا نخشى الظهور في الشارع أو في المكان الذي يتواجد فيه المعلم أو المدرّس، ليس خوفًا منه فحسب بل احترامًا لقَدره وقيمته ودوره في التربية الفاضلة التي كان فيها بمثابة الأب الثاني في المدرسة. ومازلنا نشهد لتلك الأيام الجميلة في تبنّي القدوات في الصفوف وتكريمها بما تستحقه من ثناء وتفاخر ليس في المدرسة فحسب، بل في البيت الأسري والمجتمعومؤسسات الدولة على السواء. فما كان أحلى أن يقرأ الطلاب يافطة صغيرة في وسط سقف الصف عبارة " فارس الصف فلان بن فلان". وقد كنتُ من بين هؤلاء في حقبة الدراسة الابتدائية خاصة حيث كان يشهد لي مَن توالوا على تعليمي من الذين ما أزال أكنّ لهم كل الاحترام والتقدير. بل مازلتُ أناديهم بكلمة " أستاذي"، سواءً مَن أشرف على تعليمي الابتدائي أو الثانوي أو في فترة دراستي الدينية في معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل في فترة نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. وهذا لمن دواعي شرفي أني بلغتُ ما بلغتُ إليه على ايديهم من ثقافة وفكرٍ وأدبٍ وأسلوبٍ في الكتابة والتعبير. لذا أقول، إنه لمن المؤسف أنّ المعلّم لم يعد له اليوم ذلك الدور التربوي الرائد الذي يستحقه، كما هي الحال في الدول المتحضرة ولدى الشعوب المتمدنة. فالأمم المتحضرة والدول المتقدمة هي التي تصون كرامة العلم والقائمين عليه وترفعهم في أعلى مراتب الكرامة والاحترام والتبجيل تقديرًا لرسالتهم السامية في المجتمع. فقد صدقَ مَن قال: "كاد المعلّم أن يكون رسولاً!"
أخيرًا، ممّا لا يخفى على أحد أيضًا وللتذكير فقط، أنّ من أهداف المحتل ومعه ممَن ادّعى تمثيل دور المعارضة والاستعانة بهم في إدارة دفة السلطة في عراق ما بعد 2003، فقد انصبَّ دورهم جميعًا على إنهاء دور العلوم والعلماء في نطاقه الواسع سواءً بالقضاء عليهم وتصفيتهم جسديًا أو حثّ العديد منهم للهرب خارج البلاد خشيةً من تحييدهم، كما حصل لمئات بل الآلاف منهم بشهادة أدوات المعارضة نفسها التي تسلمت السلطة وأقرّت على الملأ تبنّيها دور "مقاولات تفليش البلاد" بدعم من الغازي الأمريكي وأعوانه في التحالف الدولي الماكر ودول الجوار المستنفعة وأدواتها في المعارضة سابقًا التي تنكرت لأيّ انتماء وطني حين تسلمت السلطة وأغارت على الكفاءات حقدًا وكرهًا وخشيةً من نهضتها ثانية. نتطلع إلى اليوم الذي يعود للعلم والعلماء وأرباب الفكر، وللمعلم والأم صاحبة المدرسة المنزلية، تلك الكرامة المستحقة بعودة البلاد إلى معايير الدول المتحضرة واستنهاض القيم الأساسية التي فقدتها بلادنا بعد الغزو المكروه والطمع المفضوح والهدف المسموم بشماتة واضحة وبلا استحياء ولا عيب من الشعوب صاحبة الحق والكرامة والتاريح والحضارة. ففي الأخير، لن يصحّ إلاّ الصحيح!

6
أجيالٌ مهاجرة ضاعت في متاهات الاغتراب
لويس إقليمس
بغداد، في 14 كانون ثاني 2024
كثيرة هي الأحاديث السلبية والانتقادات التي تتعرض للعراقيين من طالبي اللجوء والمهاجرين في دول الشتات، وما أكثرها، بحيث لم يبقى بلدٌ إلاّ وصله العراقيون وتركوا فيه بصماتٍ! ولكنّ الأسوأ تلك البصمات السلبية التي تنال من سمعة بلد الرافدين وشعبه بطرقٍ فجّة غير محسوبة النتائج. فمَن غادر العراق هربًا من أهوال الحروب وتهديدات القتل بسبب غياب السلطة والقانون أو جرّاء سوء المعيشة وقلّة فرص العمل أو الخشية من التهديدات الكثيرة على الحياة والممتلكات أو نتيجةً لسوء التعليم والتربية والثقافة أو غياب الخدمات وضعفها وما شابه هذه جميعًا، له الحق في خياره حفاظًا على حياته وسلامة أهله وعائلته وذويه وصيانةً لمصيره ومستقبله. وليس في هذا أيّة مضرّة أو حيدٍ عن سواء السبيل. إنّما العبرة في فئات كثيرة أصابَتها أمراض الغيرة والحسد والتبجّح بتقليد حياة الغرب الفارغة من محتواها بسبب سلوكيات غير جميلة ولا مقبولة ولا تعرف قدرَ الحياة الديمقراطية التي يعيشُها الغربيون من السكان الأصليين في بلدانهم. وإذا كان بعض العراقيين المنفلتين هناك يعتبرون ديمقراطية الغرب أداة للعربدة وعيش التفاهات والتنابز والجلوس على طاولات المقاهي لشرب الشاي ولعب الطاولة والدومينو والورق كما اعتادوا في بلدهم العراق، فلا بارك الله بهم ولا بمسعاهم السيّء ولا بشكل حياتهم السلبيّ، لكونها حياة الكسالى وممانعي الإنتاجية البشرية والإنسانية. ومن المؤسف أنّ هذه قد أصبحت جزءًا من واقع حياة الكثيرين في العيش على فتات حكومات الغرب ومساعداتها وعدم السعي الحثيث للبحث عن فرص عمل ملائمة تضمن حياة شريفة للاجئ العراقي الباحث عن حياة طبيعية بعيدة عن مسبّبات الفساد والتقهقر والتراجع والتخلّف التي هربَ بسببها واختار عيش حياة الاغتراب بعيدًا عن تراب الوطن ورائحته وهوائه ومياهه من النهرين الخالدين القريبَين من حافة الجفاف بسبب ظلم الزمن وفساد الساسة وسوء الإدارة وغياب الإرادة.
كما لا يخفى علينا جميعًا، ما نسمعه من ترّهات وتفاهات عبر قنوات منظمة ووسائل تواصل اجتماعي وأخرى شخصية مدفوعة الثمن أو غيرها تعمل وفق أجندات بهدف التسقيط السياسي والاجتماعي والتهديد والابتزاز بعيدًا عن الأخلاق الأصيلة التي عرفتها مجتمعاتنا التقليدية عمومًا باستثناء الفئات المغرّرة منها والمستهدِفة لجماعات معينة سواءً في داخل البلاد أو خارجها. وكان يُفترض بالعقلاء والحكماء وأهل الدار حُسنُ التوجيه لهذه الفئات التي زاغت عن طريق الصواب وآثرت عيش حياة العبث في أحضان مَن يسمّونهم بدول "الكفار"، ولو أنَّ فئاتٍ من أهل الداخل أيضًا لم تتوانى في نشر مثل هذه الترّهات والمستويات الهابطة لحدّ الاستهتار بحياة أهل الدار بطرقٍ ووسائل منفرة شتّى لم يألفها أهل العراق. فيما تثبت الدلائل أنّ هؤلاء الذين يوصفون ب"الكفار" هم أكثر شرفًا وأجلَّ غيرةً وأصدقَ انتماءً للوطن من فئة المتبجّحين بالثياب الرثة لشكل الدّين الذي ينتمون إليه ويتيمّنون به في العلن لأغراضٍ دعائية ووصولية مشبوهة. بل تشير الوقائع إلى أنّ هؤلاء "الكفار" من شعوب الغرب، هم أفضل من الكثيرين من العراقيين وغيرهم من الدخلاء على شعوب الغرب في الحفاظ على الحقوق العامة للدولة والشعب واحترام الغريب اللاجئ الهارب من أتون الحروب والنزاعات بالرغم من اختلافه في الدين والمذهب والإتنية والفكر والأيديولوجية والهدف. وفي الحقيقة، فإنَّ معظم اللاجئين والهاربين من سياسات حكوماتهم العربية والإسلامية بصورة خاصة، لهم أجنداتُهم الخاصة المرتبطة بأفكار متطرفة وأخرى متعصبة  تنتظرُ اقتناص الفرصة للإغارة على أهل البلاد الأصليين في الغرب "الكافر" بهدف سبي نسائهم واللهو مع جميلاتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم بدعم من جهات مغرضة تسعى لتحقيق هذا الهدف. وما أكثر ما سمعنا مثل هذه التصريحات والأماني والتحريضات، ممّا لا يليق بأهل العراق والعرب الأصلاء، أصحاب الحضارة والشيمة والغيرة والكرم والتعايش التقليدي والتكافل الاجتماعي واحترام الجيرة وأهل المعروف وإكرامهم عوضًا عن خذلانهم.
هناك بالتأكيد، قنوات عراقية مغرضة تافهة تعمل بأسلوب غير حضري تدعم مثل هذه التوجهات. كما تساهم هي وجهات مجتمعية ودينية ومذهبية أيضًا وأفراد مغرضون سواءً بسواء، في زرع آفة الكسل والتحريض على رفض العمل في دول الاغتراب والاعتماد بدلاً عنه على ما يتقاضاه اللاجئ والمهاجر ممّا تجبيه دول الغرب من دافعي الضرائب المكتوين بنيران السلوكيات السلبية لبعض الهاربين إليها والناكرين لجميلها. وهذا ناجمٌ بطبيعة الحال، عن عدم الذوق بل عن غياب الغيرة والشرف والاصطفاف مع أصناف الفاسدين في بلدهم العراق ممّن استسهلوا وسائل العيش بأساليب الفساد المتجذرة منذ سقوط النظام السابق والانجرار وراء المستويات الهابطة والمحتويات السلبية التي أخذت تنخر عظام أهل العراق الطيبين نتيجةً لضياع معايير الحياة الإنسانية والخروجعن المألوف فيها، ممّا يعني أخذ قذارتهم معهم إلى بلدان الغرب المتمدّن لتنعكس الصورة السلبية لبلادهم ومجتمعاتهم عبر سلوكياتهم غير الرزينة وغير المقبولة. بطبيعة الحال، ليس في هذا الوصف أيّ تعميم، بل الحديث يطال السفهاء والمغرَّر بهم ومقتنصي الفرص السهلة وغير الأخلاقية في العيش والسلوك.
قد يقول قائل، إنّ حضارتنا الرافدينية مغضوب عليها تاريخيًا بسبب الفساد عبر الأزمان، كما نقرأ في بطون كتب التاريخ. لكنَّ هذا ليس من المسوّغات التي تسمح أو تقبل أو تسكت عن التصرّف غير اللاّئق لمثل هذه النماذج السلبية بهذه الطريقة وهذه الوسائل في العيش والسلوك. كما لا يمكن القبول أو السكوت  بضياع أجيالٍ في متاهات الاغتراب، رغم قساوة الأمر في نظر أهل الغيرة وأهل الوطن والمتمسكين باهدابه لغاية انفراج الساعة. أترك الأمر للقارئ للحكم والتوجيه.
 



7
غزة في الضمير الإنساني
لويس إقليمس
بغداد، في 24 تشرين أول 2023
متى كانت الحروب، بما تجرّهُ من ويلاتٍ جسامٍ وقتل ودمار وانتهاك لأبسط الحقوق الآدمية، حلاً للمعضلات البشرية؟ ومتى كان غياب العقل والحكمة والروية سبيلاً لتقدم الشعوب ورفاهتها واستقرار حياتها وتنمية حوائجها،  وما أكثرها؟ ومتى كانت النرجسية والمكابرة والاستخفاف بعقول الشعوب، ولاسيّما البسيطة والساذجة والمظلومة منها، أدواتٍ حقيقية وواقعية لمبادئ المساواة والعدالة والاستحقاق بفعل الجدارة والكفاءة من دون تمييز ولا انحياز ولا مواربة؟ وبعد كلّ هذا وذاك ممّا نعرفه ويعرفه العقلاء وحكماء البشرية وروّاد الفكر والكلمة والصوت الصارخ بوجه الظلم، على قلّتهم، هل آن الأوان لاستفاقة البشرية وصحوتها من فقدان الضمير الإنساني بعد ما تعرّضت له غزّة وأهلُها من قتل وبطشٍ ونزوح بالتوازي مع ما حصل لسكان المستوطنات المسالمين من اليهود من دون تمييز ولا تحيّز؟ فالقتل أيًا كان بحق المدنيين العزّل محرّمٌ شرعًا وقانونًا وإنسانيًا.
من الواضح أنّ هناك جهاتٍ دخيلة وغريبة سعت وتسعى منذ عقودٍ لزرع بذور الكراهية بين شعوب المنطقة التي أبدت في غالبيتها التعايش ضمن مشروع  الدولتين بسلام وأمان، والكف عن أية ظواهر أو مظاهر للتحريض بين العرب واليهود، ولاسيّما بعد أن أدرك زعماء الطرفين أن الحل الوحيد يكمن في الركون إلى طاولة التفاوض والتفاهم وفق الواقع المعاش والجغرافيا الآنية وليس وفق نظريات إدامة الحقد وتعزيز الكراهية التي تسعى هذه الجهات الدخيلة المخرِّبة زرعَها في عقول البسطاء من الشعوب العربية بتبريرات دينية وحججٍ تتولاها عقولٌ متطرفة تفرض سطوتها عبر المنابر المنخورة وأدوات التجييش الخارجة عن الحكمة الغائبة عن العقل الراجح والبعيدة عن الرأي المدرك لنتائج هذه الكراهية التاريخية. فالشعوب تتلاقح وتتعشّقُ في الزمان وفي المكان. كما أنّ الجغرافيا تتغير والتاريخ يصنع نفسه بنفسه ويطول أو يقصر بحسب الظرف والزمان. وفقي اعتقادي، لم يعد هناك مكانٌ لفقدان بوصلة الحكمة واستبدالها باستحكام عوامل الكراهية التي زرعتها مثل هذه الأيادي الخبيثة بين العرب واليهود وهي مازالت تسعى لإدامتها عبر ميادين عديدة في عيش ظاهرة القطيعة الإنسانية. بل إنّ ما سعت إليه الفصائل المسلحة للحركة الإسلامية في غزّة والتي تُعتبر في نظر السلطة الفلسطينية الرسمية المعترَف بها دوليًا في هجماتها الأخيرة، قد لا تختلف عمّا فعلته تنظيمات القاعدة وداعش بحق سكّانٍ آمنين في مناطق أخرى من العالم، ومنها عراقنا الذي مازال ينزف دماءً زكية بسبب هذه التدخلات القاتلة من الدخلاء على مكوّناته من عربٍ وكردٍ وسريان وكلدان وآشوريين وبهائيين وإيزيديين وصابئة مندائيين وشبكٍ وتركمان وما سواهم. بل أصبح من الواضح، أنّ أيّ بلد دخله هؤلاء الأغراب أعملوا فيه الكراهية والحقد والقتل كما حصل في تدمير بلدان المنطقة في العراق ولبنان وسوريا واليمن وليبيا وفلسطين، وربمّا غيرها في طريق ذات القطار الجارف. وهذه حقيقة يدركها العقلاء جميعًا ولا تخفى إلاّ على البسطاء من المُسَلِّمين (بشدّ اللاّم وكسرها) بأفكار تجار المنابر باسم الدين والطائفة والمذهب، ومن الفاسدين والمفسدين في الأرض مستغِلّي الشعوب المقهورة السائرة كالقطيع وراء جلاّديها.
من الواضح، ووفق ما تعيشه شعوب العالم والدول من أزمات متتالية وصراعات وأحداثٍ دامية، هناك في الأفق مشروع كبير وواسع البعد يُحاكُ في مطابخ الكبار خلف الكواليس من أجل استمرار استنزاف قدرات الشعوب البشرية والمادية في المنطقة، قد تصل لغاية إحداث تغييرات جغرافية والبدء بمسارات غير واضحة المعالم. فطبيعة الجغرافيا التي تتحكم بها زعامات العالم وأسيادُه وفق هذه الترتيبات لا يمكن التكهن بها، بل ستحفظها طياتُ التاريخ كما عملت مع غيرها في غابر الأزمان. فما سادَ من حضارات الأمس قد باد عبر العصور والقرون، ولم يشعر بها إلاّ القليل ممّن عايش الأحداث الدامية والمتغيرة. وليس ببعيد أن يكون هذا المشروع مشتركًا ومن صنع الأعداء الألدّاء من اليهود والفرس وبرعاية العم سام الذي اعتاد الرقص على جراحات الشعوب المغلوبة ضمن سطوة القطب الواحد بغياب المنافسين الذين ينتظرون دورهم في هذه اللعبة القذرة. وهذه في نظر الكثيرين، لا تبتعد كثيرًا عن اللعبة الشعبوية التي سعت إليها أطرافٌ متطرفة باختلاق هذه الحرب المدمّرة الجديدة غير المبررة. وهذا ما حصل. فقد أوقعت حربُ غزّة الكثيرَ من شعوب المنطقة والعالم في فخاخها بعدما انساق بعضُها خجلاً أو تكابرًا وراء مبتكريها ومدبّريها ومنتجيها ومستغلّيها. لكنها في كلّ الأحوال حربٌ لا تخلو من رؤى مستقبلية ومصيرية لإحداث تغيير في مسارات دول وشعوب المنطقة، قد يكون الرابح الأكبر فيها بروز قطبين رئيسيين تحدّثَ عنهما المتابعون للأحداث منذ سنوات وما زالوا، من أجل استكمال المشروع العالمي الجديد الذي ينتظره العالم، راغبًا أم مرغمًا. ففي الحروب فقط تتحقق غاياتُ الأشرار وتتعزّز مصالح الأسياد. أمّا الشعوب المهظومة، فلا يُترك لها غير نزيف الدماء وبكاء الثكالى وتراقص الأشلاء البشرية التي تمزقها مدافع الحروب وطائرات الدول وصواريخُ الأعداء رغمًا عن الذي يريد أو يمتنع. سلامًا وبردًا لغزةّ وأهلها ولسائر المدنيين المسالمين من اليهود الأبرياء الراغبين في العيش بسلام في جيرة تعرف المحبة واحترام الآخر برغم الاختلاف في الدّين واللغة والرؤية والفكر والرأي. فالجيمع في الأخير"إخوة في الإنسانية".

8
سنة 2024، عام الترجيحات والتوقعات والتمنيات
لويس إقليمس
بغداد، في 26 كانون أول 2023
في بدء كلّ سنة جديدة قادمة يتسارع البشر، وربما من دون شعور أو تحفيز، للتعبير عن مختلف المتمنيات بالدعوات بسنة مباركة ومختلفة عن سابقاتها. سنة جديدة تتأرجح بها التوقعات و والمسميات اعتمادًا على تحليلات وتسريبات ونشريات مقروءة ومسموعة عبر صخب الأثير على قنوات كثيرة، ما شاءت القدرات البشرية إنشاءَها ورفدها بكلّ ما يسعى إليه صانعوها وداعموها وناشروها ومعدّو برامجها على اختلاف مشارب انتماءاتهم. سنة جديدة قد لا يحقّقُ متنبؤوها بشيءٍ جديدٍ على صعيد شخصيّ لأنها تمضي كسابقاتها بحساب اثني عشر شهرًا وثلاثمائة وخمسة وستين يومًا، علمًا أنّ السنة القادمة 2024 هي سنة كبيسة، وفيها يختلف عدد أيام شهر شباط مزيدًا عليه يومًا واحدًا، كما يشير التقويم لعدد أيامه. وكالعادة، وبالرغم من تنوع الدعوات الطيبة التي يتسابق فيها مختلف البشر للإعراب فيها عن تمنيات ترسم ملامح أيامها مختلفة عن سابقاتها غير المجدية بل التقليدية والتعيسة في الكثير منها،إلاّ أنّه لا حيلة لنا جميعًا ومن دون شعور حينما نطلق العنان لأفكارنا وأمنياتنا بأن تكون سنة مختلفة في الطلبات والمكاسب والمحفزات كسرًا لتنبؤات الأبراج التي أصبحت مادة دسمة لأصحابها ومروّجيها، حتى الدخلاء على علومها وتقنياتها.
على أية حال، هذا واقعنا جميعًا. لا بدّأن نحتفل بسهرة آخر أيام السنة التي سبقتها ونزيد من صخبنا ودعواتنا كي تتلاقى مع أمنيات الغير وآمالهم ولكي تكون سنة خير وبركة وسلام وأمانٍ للبشرية جميعًا ونعمة للمكسورين وسلوانًا للمفجوعين بفقد أحبائهم ونجاةً للغارقين في مشاكل أسرية واجتماعية لا حصرَلها للبعض بل للكثير من البشر. فلتحيا إذن جميع الأمنيات والطلبات والتوسلات إلى رب السماوات والأرض كي يُنزل مطر نعماته على جميع البشر ويصالحَ مَن فقدوا الوئام والتفاهم لأتفه الأسباب، ويغرس الرحمة في قلوب الساسة والزعامات الحزبية وأتباع الولاءات الدخيلة وكلّ الجهات المتسلطة الحائدة عن طريق الحق والغارقة في وحل  الفساد وأشكال اللصوصية ونهب المال العام الذي هو من حق شعوب البلدان المنهوبة، ومنها بلدنا الغاطس في رذيلة الفساد والسرقات واستغفال البسطاء والسذج والبؤساء من شعب وادي الرافدين، ويعيد الوطن لأهله وناسه وهيبته وسيادته وقدراته الحقيقية، وما أكثرها!
قد تأخذنا الغيرة أكثر عندما نعبّر عن أسفنا لما بدر منّا من أخطاء أو سلوكيات أو تصرفات غير واقعية في معالجة ثغرة ما، أو في النعبير عن حرصٍ أكثر إزاء موضوعٍ أو قضية لم تنل ما تستحقه من متابعة جادّة ورصينة كادت أن توقعنا في ورطة أو مصيبة، أو ربما وقعنا فيها فعلاً وواقعًا. فهذا حال البشر ضعيفي الحيلة أحيانًا. لكن التجربة وما فيها من عبرٍ ودروسٍ وقرارات قد تكون خير بادرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذُه في سلوكياتنا للسنة الجديدة. ولتكنْ كذلك! وكما أنّ فصول السنة تتغير وفق مقاسات الأنواء وقراءات الأحداث وتحليلات الغارقين في بحور التجارب والتوقعات، هكذا نحن البشر ننتغير بل ونتقلّب في المواقف. والفائز هو مَن يتغلّب على الصعاب، ويغوص في أعماق بحار العلاقات مميِّزًا بين الصديق والمتلوِّن بحسب المصالح والمغانم، وداعمًا لكلّ خطوة إنسانية تُنجب ولادات جديدة مترعة بِسِمات المحبة والأمنيات الطيبة المقرونة بحبِّ الآخر المختلف في لونه وجنسه ومهنته ودينه ومذهبه وفكره، وليس بحسب الأهواء والمصالح والعلاقات الفاسدة التي تُغضب الخالق وخليقتَه. تلكم هي السعادة الحقيقية التي ينبغي أن يتصف بها البشر إزاءَ نظرائهم في الإنسانية، وليس بالاصطفاف السلبيّ بحسب الدين والمذهب والعشيرة. فلم تعد مقولة "أنصرْ أخاكَ ظالمًا أم مظلومًا" تنفع في سياق النظام الإنساني الشامل الذي جعلَ العالم قريةً مصغرة، بل ينبغي أن تحلَّ محلَّها "أحببْ قريبكَ مثل نفسك"، واحترمْ الآخر مهما اختلف عنك في دينه وفكره ومذهبه وتوجهه السياسي والاجتماعي والثقافي. فلكّلٍ ما زرعه الخالق حريةً في إدارة شؤونه وتوجيهها وفق سلوكياته وتصوّراته، مهما كانت. فهو صاحب الشأن في نيل رضا الله والبشر أو في هبوطه الدركات السفلى من المهانة والعداوة والحقارة لينال الجزاء العادل في خاتمة الأيام.
في الأخير، لن ينفع الإنسان غيرُ حبِّه ووفائه وحمده لله خالقه وسعيه لإسعاد البشر، جميع البشر، إخوته في الإنسانية وفي الوطن وفي المدينة والقرية حيث يسكن ويعيش ويتفاعل ويتفاءل بالخير ليجد كلّ شيء يسيرًا أمام عينيه.
ليكن عام 2024، سنة خيرٍ وبركة ونعمة للبشر والأمم وشعوب الأرض جيمعًا، وبردًا وسلامًا وإيذانًا بمتغيّرات حقيقية على الصعيد الوطني في العراق وفي المنظومة السياسية العرجاء التي سمعنا ومازلنا نسمع قرب الفرج من سلبيات سنواتٍ عجافٍ لأكثر من عشرين عامًا من خسارة في البشر والمال والسمعة والحضارة والثقافة والعلم والخدمات الآدمية والمجتمع بعد سيادة أزلام الطائفية وسراق المال العام وأبطال سرقات القرن للمشهد منذ السقوط الدرامي بفعل الغازي الأمريكي السافل. وما أكثرها! فهل نستحق ويستحق العراق بلد الحضارات والقيم وتعدّد الإتنيات والأديان والمذاهب أن ينالَ قسطَه من راحة البال والاستقرار السياسي والسلام والأمان المفقود وزوال أدوات الغمّ والهمّ وأشكال التبعية للغير، مهما كانت هوية هذه الأخيرة، كي تستعيد حديقتُه الغنّاء رونقَها وبهاءَها ورفاهتَها بعيدًا عن جور الظالمين والدخلاء والغرباء والفاسدين؟
يارب، إسمعْ دعوات محبيك وافتقدْ طلبات ساعيك وأنرْ طريق عبيدك وانشر الخير والسعادة والمحبة بين الإخوة جميعًا، إخوة الوطن والإنسانية! أللّهمّ آمين... 
   

9
في امتطاء رجل الدين للسلطة
لويس إقليمس
بغداد، في 12 كانون أول 2023
بين السلطة والدين تقاطع وتناحر وصراع إلاّ في واحدة يصحُّ فيها شكل الاقتحام لرجل الدين بتسيّد المشهد السياسيّ حين تناولِه معولَ الإصلاح بهدف تنقية البيدر من فساد أخلاق الساسة الذين يمتطون السلطة والعمل على تربيش الحقل المتهالك والسعي لإنعاشه من جديد كي يأتي بثمار أفضل فيغيّر من المعادلة الطبيعية في حياة البشر الزائغة عن الطريق. وبغير هذا لا يصلح لرجل الدين كي يقتحم سلك السياسة ويتشبث بالسلطة الدنيوية إلاّ إذا نزعَ رداءَه الذي يتستّرُ به مظهريًا مغادِرًا لغير رجعة جمالياتِ وخصوصيات هذا السلك وأخلاقه وطبيعة نشاطه الروحي والإرشادي والإصلاحي للبشر من الأتباع وغيرهم. مشكلتنا القائمة في بعض مجتمعات اليوم في شرقنا الإسلامي خاصة، أخذت بالتفاقم بسبب تقاطع الأدوار وتداخلها وتهارشها لدى عقليات مغمورة من رجالٍ يدّعون استمكانهم واستئثارَهم واحتكارَهم لمفاتيح الفهم والوعي والعلم والحقّ من خلال عباءة الدين أو العمامة أو القلنسوة أو أيّ غطاء رمزي يتشحه العديد من رجال الدين هذه الأيام فارضين سطوتَهم  وصوتَهم الظالم في صناعة السياسة الهزيلة المتهرّئة من أساسها من أجل بلوغ غاياتٍ ومآرب لا تليق برجال الدين الحقيقيين الصادقين مع ربهم وعباده من الأتباع والموالين وأصحاب الوطن مهما كان وجه الاختلاف في الرؤى والفكر والدين والمذهب.
من الواضح ممّا نعيشه من واقع مخزي وفاضح، أنَّ جلَّ ما يسعى إليه رجل السياسة المشبوه القادم من أصولٍ دينية غير رصينة يتعكّزُ على كيفية مسك السلطة وتسيّد المشهد السياسيّ بأيّ ثمن بغاية السيطرة على شؤون البلاد والعباد والتركيز على فرض فكرة أو أيديولوجية أو صيغة مساومة أو فرض سطوة دنيوية بمظهر ديني ومذهبي إتجاهَ الغير، سواءً ضمن حظيرة البلد الواحد في الداخل أو مع المحيط الإقليمي والدولي. وهذا يتطلب مواهب وعقليات كبيرة ترسم لها استراتيجيات وخططًا وبرامجَ للوصول إلى شكل هذا المبتغى بأساليب الدجل والكذبِ على الغير ولاسيّما من بسطاءَ الشعب والسذّج منهم، وعبر استخدام الكثير من وسائل المكر والخديعة والتشارك في تقاسم المغانم، بل وفي التخادم أحيانًا لو اقتضت الحاجة اقتناصًا للفرص. ومن الطبيعي أن يقع هذا الصنف من رجال السياسة المتلوّنين الذين يتصدرون المشهد المحلّي والدولي عرضةً لأشكالٍ من النقد والانتقاد، سلبًا أو إيجابًا مبطنًا بمجاملات خسيسة من ضعاف النفوس والحيّل. وما على هذا الصنف من أدعياء الدّين، وهم كثرٌ، إلاّ تحمَّلَ هذه الانتقادات والملاحظات، لكونهم ارتضوا لأنفسهم خوض هذه التجربة غير الجديرة بمقاماتهم والإشكالية الصعبة والحساسة في آنٍ معًا.
في اعتقادي أنَّ رجل الدين، حين يقتحم أضواءَ السلطة بمثل هذه الوسائل غير الرصينة ويسعى لتصدّر المشهد السياسي مستفيدًا من صفته الدينية التي تسوّغ له، بحسب رأيه هو، فرضَ ما يسعى إليه بدون وجه حق مستغلِاً الأتباع البؤساء وقاصري الفكر وضعيفي الحال ومحتاجي المال والخبز دون الأخلاق والعلم والتربية، فهو في مثل هذه الحالة يخسر دينه ودنياه بسبب بخسه بما تعلمَه من علومٍ وأخلاقٍ وتوجيهات سديدة كانت تصلحُ فقط للمشورة والحكمة في توجيه العباد من البشر المحتاجين للنصح ومعرفة الحق وطريق الصواب والصراط المستقيم. وبغير هذه الأمور والتوصيفات الأخيرة لا يصلح لرجل الدين أن يلبس العباءة الدينية المحترمة ويمزجها بجلباب السياسة المتسمة غالبًا بالنفاق والكذب والدجل  والضحك على عقول البسطاء والسذّج من أهل الدار. فهو في نهاية المطاف سيشكّلُ قالبًا مستبدًّا  من خلال السطوة التي يستأثرُ بها على الأتباع المرغمين في غالبيتهم لاتّباعه وفق ما يريد هو ويوجّه به لبلوغ مآربه الخبيثة وغير النظيفة. ولنا في هذه الأمثلة ما يجري في عراقنا ومحيطنا العربي والإسلاميّ من نماذج سيّئة الصيت والسمعة لحدّ فوحان ريحة جيفتها ويأسِ حتى السماء السابعة ومحبّي الإصلاح للتخلّص منها ومن ترّهاتها وتأثيراتها السلبية التي زرعتها قوى الشر الغازية في لحظة ظالمة في مجتمعاتنا المتعايشة منذ القِدم. وماتزال هذه الأخيرة تحصدُ نتائجها السلبية المتخلفة في كلّ شيء وأيّ شيء، إلاّ لما له توقٌ لحياة أفضل للبلاد والعباد في انتظار الخلاص من أمثالها وأشكالها ووجودها وشخوصها غير المرغوبِ بهم.

السياسة أخلاق وقيم إيجابية
سمعنا كثيرًا من حكماء عصرهم وعلماء دينٍ وفقهٍ وسياسة وسادةِ أخلاق وتربية وعلومٍ بعدم جواز السماح لرجل الدين أن يمتطي السلطة طالما لم يخلع جلباب هذا الدين وعباءتَه "المقدّسة تقليديًا" التي يتمظهرُ بها لإبراز رمزية الطهر الروحي الذي نشأ عليه أو يدّعي ابتداءَ مشواره الروحي به في الحياة الدنيوية المحددّة بأيامها وأشهُرِها وسنينها المعدودات قياسًا بعمر الخليقة وحكمة الخالق. وفيما الحكمة والحكماء والعقلُ والعقلاءُ  يشهدون ببقاء رجل الدين بعيدًا عن مخاطر السلطة وإغواءاتِها وإرهاصاتها حفاظًا على روحه وفكره ووعيه وحكمته وعقله وقدرته على إصلاح الغير حين الطلب والسؤال، فهذا من أجل الحفاظ على سمعته ودوره البناّء والإيجابيّ وسط مؤيديه وبني جنسه. بل يمكن أن يكون هذا التحذير والتحوّط والحظر، إن صحّ وصفُه، داخلاً ضمن خانة الاحترام الذي يستحقه هو وكُلُّ مَن اختار هذه الطريق وهذا المسلك وهذه الحياة، ومنها احترامُه هو لنفسه ولحاله ولشخصه ولسمعته وسط ناسه وأهلِه ومحيطه. وهو من دون شكّ، آيلٌ إلى فقدان كلّ هذه الصفات الجميلة والطيبة حين يُقحمُ نفسَه في السلطة أو يسعى لاقتحامها بما أمّنت له صفتُه الدينية من سطوة روحية زائفة على الغير، لاسيّما السذّج من البشر والأتباع المصدّقين بما يروّجه البعض من رجال الدين بالولاية العقلية على المؤمنين والأتباع، بحيث يكادُ البسطاء يفقدون قدراتهم التفكيرية بما أوتوا من كمياتٍ محدوداتٍ من عقلٍ وحكمة وفكر وتقييم وفعلٍ وقولٍ معًا. وخوفي أن يفقد أمثال رجال الدين هؤلاء، وهُم كثرٌ هذه الأيام، مصداقيتهم في الحياة فيضيعوا في متاهات لا حدَّ لها، بل ويخسروا الدين والدولة التي يبغون السيطرة عليها وحكمَها معًا بسبب القصور في السلوك والتصرّف المتصف غالبًا بشيءٍ من الاستبداد بدعوى الإيمان والاعتقاد بتوصيفات قاصرة لما هو متعارف عليه بكهنوت "الدين والدولة" نيابة أو وكالةً عن الله خالق الكون. في حين أن هذا الإله ليس بحاجة إلى وكلاء عنه لسيادة عباده في الأرض، إنّما فقط وُجد شكل هذا الكهنوت في أي دينٍ للتوجيه والنصح وتربية الأجيال في مناحي العلم والأخلاق والسيرة الحسنة استعدادًا لحياة أفضل في العالم الثاني الذي لا يزول ولا ينتهي وليس فيه ملذات حسية وجنسية وبشرية، بل التمتع برؤية الخالق وبهاء مجده وسط الأخيار والطيبين والأبرار والصديقين والأئمة الصالحين وغير المنافقين من أمثال العشارين والفرّيسيين وأرباب العباءات والجلابيب والعمائم والقلنسوات الكاذبة التي تسعى لتسخير الدين والروحانيات لمصالح ومكاسب ومآرب خاصة. وما أكثر مَن يدّعون مثل هذه الترّهات ويضحكون على بسطاء البشر والعباد الطيبين ويبشرونهم بالخير الوفير القادم، لاسيّما في مواسم الانتخابات التي أثبتت الأيام والسنوات زيف مثل هذه الادّعاءات وكذبَها في عراق ما بعد السقوط والغزو الأمريكي والغربي مثلاً، بدعوى تصدير الديمقراطية لهذا البلد. أليسَ المجرَّب لا يُجرَّب؟ وقل ما شئتَ مثله في بلاد العرب والدول النامية في العالم!
هذه دعوة ملحة ونصيحة من مواطن صادق بحق الوطن والشعب، لكلّ رجل دين، من أي دينٍ أو مذهب، سعى أو يسعى للرقص على أنغامِ السياسة عبر أنماط استغلال وسيلة الدين ومظاهره الكهنوتية والروحية الفاتنة من أجل تحقيق مكاسب وغايات وأرباح مادية ونفوذ وجاه ومال، نزعَ عباءة الدين الذي يتوشحه قبل الخوض في غمار وبحار هذا المسلك العميق وغير الآمن. فالدينُ الصحيح أخلاقٌ عالية وقيمٌ موجبة قبل أن يتمرّغَ به أساطنة السياسة في مكرهم وخداعهم وكذبهم وزيفهم بسبب اختلاط أوهام الاثنين معًا وصعوبة تلاقيهما في مسارٍ إيجابيّ لخدمة الوطن والمواطن وفق الظروف والأسس بلا محاذير. وأخيرًا، فالدين يُفسدُ السياسة حين امتطاء رجاله للسلطة!

10
الأديان الراقية كالحضارات الأصيلة قد لا تموت
لويس اقليمس
 

التاريخ عمومًا يحفظ لشعوب الأرض حضاراتها التي خطتها بأيديها وصانتها في عقولها ونقلتها للأجيال عبر عصور وقرون وأزمان تختلف في صعوبتها وسلاستها وفي وسائل استدامتها. وقد ينطبق ذات الواقع والحال على الأديان في عمومها، بالرغم من اعتقادنا بزوال العديد منها منذ نشأة الخليقة بسبب التراكم الكمّي لعناوينها ومناطق نشأتها وضعف مبادئها وأهمية تأثيرها في عقول ونفوس الشعوب التي آمنت واعتقدت والتزمت بها عبر الأجيال في مختلف الظروف التي أحاطت بها وفي تطورها أو في محدودية الالتزام والتبشير بعنوانها. وقد يكون العدد الإجمالي التقريبي الذي تروج له بعض الإحصائيات لمجموع الأديان والمعتقدات القائمة لغاية الساعة يتجاوز الأربعة آلاف وثلاثمائة دين أو معتقد بحسب آخر تحديث لعام 2022، كما يرد في أحد المواقع العربية المختصة "موضوع". ومن الجدير ذكرُه أنّ أهم الأديان وأكبرها وأكثرها انتشارًا بموجب ما هو قائم لغاية الساعة يشير إلى تصدّر المسيحية قائمتها بواقع يربو على 2,3 مليار تابع بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم الكنسية، يليها الإسلام بواقع 1,3 مليار تابع بمختلف مذاهبهم وأنواع فقههم، ثمّ الهندوسية التي تحتفظ بما يربو على مليار نسمة أو أقل بقليل من هذا العدد التقديري، تليها البوذية بما يقرب من نصف مليار تابع. هذا إلى جانب ديانات أخرى تحتلّ أهمية معينة في حياة الشعوب لأسباب موضوعية وتاريخية وسياسية في آنٍ معًا، ومنها اليهودية والبهائية والسيخية واليانية وديانات أخرى متعددة تحتل مواقع لها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، لكنها تبقى محدودة الانتشار بسبب عقائدها الغربية في معظمها. فيما تحتل الديانات الابراهيمية (السماوية) الثلاث المتمثلة باليهودية والمسيحية والإسلام موقع الصدارة في العدد والاهتمام والانتشار في العالم من حيث أهمية التأثير في الحياة اليومية السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية في العالم. والجدير ذكره أنه في السنوات الأخيرة من القرن العشرين وما تلاه، جرت حوارات ونقاشات صريحة وجادّة جمعت مختصين ورجال دين وزعامات دينية أساسية ومهمّة من هذه الثلاث التي تحتل موقعًا حيويًا في العالم للاتفاق على عيش المشتركات وتطويعها لصالح الإنسان والعالم في خطوة إيجابية لنزع فتيل التوتر وإزالة سوء الفهم والابتعاد عن كلّ أساليب العنف والخوف والشك في المعتقد والنوايا والإرادة.

ممّا لا شكَّ فيه أن الأديان التي كُتب أو يُكتب لها البقاء أكثر في الانتشار والتطور والتأثير تكمن في ميكانيكية التفاعل القائم بين أتباعها ومثيليهم من المجاميع الدينية الأخرى التي تعيش بجوارها وتتقاسم معها الحياة المشتركة بجميع أشكالها وصعوباتها وتسهيلاتها. ومنها ما يؤكد هذه النظرة العامة في موضوعة نشر ثقافة الحوار والسلام والعيش السلمي صيانةً للمبادئ التي تؤمن بها من دون التداخل أو التدخل في شؤون غيرها وإفساد علاقات الودّ وحسن الجيرة المفترضة فيما بينها بحسن النية وضمن رباط المحبة وتقاسم حلو الحياة ومرّها حين تسهل أو تشتدّ الأحوال لأية أسباب أو نتيجة لظروف غير مستقرّة. وهذا بطبيعة الحال يتطلبُ احترام حقيقة الاختلاف في المعتقد بين هذه جميعًا. فاحترام الاختلاف في أيّ شيء، ولاسيّما في شأن حرية الدين والمعتقد والفكر ونمط الحياة وعيشها تأتي ضمن أبجديات استواء شكل الحياة واستقرار الشعوب والمجتمعات وبيان أخلاقها الدينية والمجتمعية. وايُّ اختلالٍ في واحدة من هذه، قد يقلب أجواء الحياة إلى جحيمٍ وإلى ما لا تُحمد عقباه، ما يستلزم تدخلاً لقوةّ بل لقوى مؤثرة لوضع الأمور في نصابها. وهذا ما لا يترقبه أو ينتظرُه أصحاب النوايا الحسنة والإرادات الطيبة من عليّة القوم وأركان الأديان وزعامات المعتقدات وريادات الفكر والثقافة والعقل والحكمة. فالرموز الدينية المتولية بالحفاظ على احترام أديانها والسهر على سعادة واستقرار أتباعها وكذا المقدّسات والممتلكات المؤتَمنة عليها تبقى خطوطًا حمراء لا يمكن المساسُ بها أو تدنيسُها لكونها رأس الحربة في استدامة العلاقة بين المختلفين دينيًا وعقائديًا ومذهبيًا. وذلك حفاظًا على قدسية واستدامة المشتركات التي تجمع ولا تفرّق.

 

الحول المجتمعي والعمى الجمعي

من هنا، تبقى الرموز المقدسة لعموم الأديان، ومنها كتبُها وتراثُها وأشخاصُها وتاريخُها، دليلاً لشكل الثقافة المجتمعية الصحيحة الراقية باعتبارها من أشكال الإبداع الكونيّ في نزع أية مسحة طائفية أو عنفية بين المختلفين دينيًا، تمامًا كما كانت حالُ حضارات الشعوب من يوم بدء الخليقة ولغاية اليوم. فهناك حضاراتٌ سادت ثمّ بادت بفعل عوادي الزمن وتغيُّرِ الثقافات وتبادل الأدوار واختلاف الأزمان وسيادة اقوامٍ أكثر قدرة للبقاء على غيرها من الأكثر ضعفًا منها، ما جعلها في طيّ النسيان والانقراض مع مرور الزمن. ولكن ممّا لا شكَّ فيه، أن الأديان القوية في إيمانها وعمق تأوين مفاهيمها وممارسة مبادئها بروح التطوّر مع الزمن وحاجة الإنسان الآنيّة واليومية وفق هذا التطوّر، من شأنها أن يُكتبَ لها البقاء أكثر بفعل الاستدامة المطلوبة والمتوافقة مع تطور فكر وعقل وروح الإنسان نفسه وحاجاته. أمّا الأديان والمعتقدات التي تتقاطعُ مع مثل هذه السمة في ممارستها وفي تطبيق خطوطها ومبادئها وتعاليمها ومنهجيتها وفق فقهٍ جامدٍ أو إرثٍ متحجّر لا يقبل التطوير والتأوين والتأقلم مع تطور الحياة، فلا شكّ قد يصيبُها الحول المجتمعي أو العمى الجمعي في التناغم مع حاجات الحياة اليومية للإنسان، ما قد يسحب البساط من أرجل التابع والمتبوع لمثل هذا المعتقد الجامد الذي لا يقبل التغيير والتطوير والانسجام ويجبرُه للخروج عن الخطوط الأساسية لدينه ومذهبه وطائفته. وفي هذه خسارة لهذا الأخير.

ما يمكن ملاحظته في هذا العصر المتحرّك لغاية الهرش الفكري لدى أتباع بعض الأديان ومدى التخبط لدى البعض في تقديس كلّ شيء وأيّ شيء حتى الإنسان العادي والحيوان والجماد لحدّ العبادة الجامدة المنفرة وغير المبرّرة، يكمن في تزايدِ تنامي مثل هذه الظاهرة في بعض مجتمعاتنا الدينية مثل الحضارات ، فإن التاريخ مليء بأمثلة عن الطوائف التي كانت ذات يوم قوية ثم اختزلت إلى لا شيء.غير السويّة والمصرّة بالسلوك في ظلمات العصور المظلمة التي لا تقبل التأوين والتطوّر والانفتاح. وبالرغم من إيماننا بصحة بروز صحوة دينية مفعمة بالإيمان الحقيقي وفق رؤية إنسانية منفتحة ومتسامحة وقابلة التقرّب من ربّ الكون بوسائلها العقائدية والروحية والصوفية الأصيلة "غير الأصولية" في التعصّب والتشدّد في تأوين أحداث الماضي وإرثه وفق زمن الماضي بكلّ خلفياته المتهرّئة وفي النظرة للآخر المختلف عنه في الدين، إلاّ أنّ العقل المتأرجح والفكر الناضج لا يرضيان بالعودة إلى تلك الينابيع الأصلية الطيبة التي قد يتيقنُ أو يؤمنُ بها نفرٌ من البشر البسيط والساذج المغلوب على أمره عبر روحية التعصّب لها والتشدّد في تطبيق الكثير ممّا نُقل أو يُنقلُ له من مظاهر غريبة وأحاديث وروايات وقصص خرافية غير مأمونة الجانب في أسلوب نقلها وتقريبها للأتباع. كما أنّ مسألة رفض تأوينها وفق تطور الحياة وحاجات الإنسان الروحية والاجتماعية والوظيفية والإنسانية في الزمن الحاضر، قد يضعها في خانة التشدّد غير المقبول الذي لا مبرّرَ له. فهذا يقع ضمن أيدولوجيا جامدة لا تقبل التأويل والتفسير والتوضيح خارج الزمن الماضي المنقضي منذ عهده أو الحياد عنه، ما قد يعكّرُ صفو الحياة وشكل العلاقات الوضعية مع الآخر والجار، شخصًا أم رمزًا أم موضعًا أم منطقة.

إنّ هذه الأشكال من التطرّف والتعصّب تدخل ضمن مبدأ رفض التحفيز لحياة إنسانية سويّة مفعمة بالروحانيات الصحيحة التي تنتهجها الأديان الراقية في نظرتها لشكل الحياة والتي تأخذ بضرورات الإنسان فيها، ماديّا وإنسانيًا واجتماعيًا وروحيًا وأخلاقيًا. فالتطرّف أيًّا كان شكلُه، فهو يشوّه الدين ويضع صاحبَه وحاملَه ضمن خانة المنبوذ في محيطه ومجتمعه بعكس مَن يحمل سمة الحياة الروحية المتسامحة القريبة من أخلاقيات السماء التي تنشد الأخلاق والاحترام والتسامح والنظرة العالية للآخر المنتمي لنفس الدين أو من غيره المختلف عنه. فالدّين الحليم المتسامح عمومًا، قد يُصلح هو وأدواتُه الناصحة النزيهة المفعمة بالتقوى الصالحة ما أفسدَه ويفسدُه المتشددون والمتعصبون والمتطرفون والمتاجرون من سادة قومٍ وسياسة ومعتقدٍ وفكرٍ. فتلكم هي من إفرازات أشكال الثقافة المجتمعية في عصرنا هذا، متراوحةً بين ثقافة عتيدة متسامحة منفتحة خاضعة لضرورات خليقة السماء التي تُعدّ قيمة عليا في المجتمعات المتطورة والمتحضرة، وبين أخرى مستهلكة ومهلكة في آنٍ معًا لا تقوى على مواجهة الذات بشجاعة وحرية ورقيّ إنسانيّ ولا ترغب بقبول أية ملاحظات أو أشكال النقد الإيجابي لتأمين مسيرتها وحفظ أدبياتها وعيش مبادئها وفق حاجة البشر العليا في الزمان والمكان.

هذا للتذكير فقط! كي لا تقع بعضُ هذه الأديان والمعتقدات في فخاخ مصالح الجهلة وجلاّدي الشعوب وأرباب النفاق الدينيّ والمتاجرين به لأغراض ومنافع لا صلةَ لها بعبادة الخالق وجبروته ولا براحة المخلوق ومصلحته. والأخطر في هذه جميعًا، عندما يقفز الساسة في أنظمة ارتجالية غير مستقرّة تحملُ شعوبُها أيديولوجيا غير ناضجة بعيدة عن اية انتماءات وطنية وأخلاقية وإنسانية، ليقودوا المجتمعات وفق رؤية مزاجية للنيل من مقدّسات الأديان ورموزها الحقيقية بأيّ ثمن حتى لو حصل ذلك على حساب الوطن والمجتمع والدّين ذاته.

 

لويس إقليمس

بغداد، في 16 تموز 2023

11
الحكومة تسرق المتضررين
لويس إقليمس
بغداد، في 5 تشرين ثاني 2023
صدمني قرار اللجنة التعويضية الفرعية في محافظة نينوى جرّاء أضرار العمليات الحربية في زمن الإرهاب الداعشي في تقييمها للأضرار التي تعرضت لها دور المواطنين في سهل نينوى بالذات. وأستغرب أكثر من التقييم العشوائي العام غير الدقيق للخبير القضائي الذي ساوى في تقاريره التقليدية في أضرار الدور من دون تدقيق ولا تمحيص ولا تمييز بين الدار البسيطة والفيلاّ الفارهة، سواءً في نوعية التأثيث أو في نفقات الترميم والتأهيل التي تختلف من دار لأخرى، ما يقتضي المراجعة في التقييم من جديد والوقوف على حقيقة الصرفيات الفعلية
 أشير هنا إلى إحدى المعاملات المعترضة على تقييم إحدى الدور في محافظة نينوى/ قضاء الحمدانية المنكوب، والمرفوعة إلى الدائرة الفرعية قبل أسابيع في هذه المحافظة. وقد تقبل السيد رئيس اللجنة الفرعية وكادرُه في الحمدانية قبول هذا الاعتراض مشكورًا، واعدًا برفعه إلى اللجنة الرئيسية في بغداد لكونها تشكل إدانة للحكومة في قرارها شكلاً ومضمونًا. فمن حيث الشكل، فإنّ هذا التقييم لا يشكل ربع قيمة ما تم صرفُه وإنفاقُه على الدار المنهوبة والمحروقة لهذا المواطن. أمّا من حيث المضمون، فالظلم والسرقة واضحان في قرار اللجنة التي توصي بصرف مبلغ يمثل نسبة 50% فقط من قيمة الضرر الحقيقي الذي لا ينصف في حقيقته ما تعرض له المواطن من ضرر كلّي. ويبدو هذا الأمر غريبًا في الكثير من حيثياته وواقعه. فإذا كان قانون تعويض الأضرار من جراء العمليات العسكرية والحربية في أساسه صادرًا من قبل هذه الحكومة أو سابقاتها، فإنّه بلا شكّ يشكلُ كارثة وظلمًا وإجحافًا بحق المواطنين المتضررين. فليس من المعقول أن تستحوذ الحكومة على حصة نسبة 50% الأخرى لصالحها أو لصالح جهة منتفعة تقف وراء مثل هذا القرار ليدخل المبلغ المستقطع ضمن نظام المحاصصة لصالح هذه الجهة أو غيرها. وهذا غبنٌ صارخ بوجه الحكومة في حالة قبولها بمثل هذا الإجراء الذي يتنافى وادّعاءات المسؤولين باتخاذهم ما يلزم لتعويض كافة المتضررين الحقيقيين تعويضًا كاملاً. كما لدينا معلومات وافية، بقيام الدولة بتعويض متضررين بمبالغ فاحشة في مناطق أخرى من دون نسبة استقطاعات. 
هذه دعوة موجهة إلى الجهات المعنية في لجنة تعويضات المتضررين من العمليات الحربية بسبب داعش الإرهابي لإنصاف هذه الفئات من المواطنين الذين يخضع أغلبُهم للرضوخ لقرارات غير منصفة من جانب لجان التعويض ولا يجرؤون لتقديم الاعتراض لأسباب متعددة. فالدولة العراقية وأية حكومة تتولى إدارة البلاد، تتحمل المسؤولية الأخلاقية والوطنية الكاملة في تعويض المتضررين من جراء تدنيس البيوت، أو حرقها، أو سلبها أو تدميرها وفقًا لمعايير واقعية شاملة التعويض من دون استقطاعات، لكون مثل هذا الفعل سرقةٌ واضحة في عزّ النهار واستخفافًا بحقوق المواطن واستغفالاً لوضعه بسبب استقواء القوي على الضعيف. فمثل هذه النسبة المجحفة من الاستقطاع غير مقبولة، إضافةً للكيل بمكيالين حين تقريرها مع غيرها من المناطق "المدلّلة" التي تقف وراءَها جهات سياسية وحزبية داعمة.

12
بغديدا- قره قوش تبكي دمعًا وتنزف دمًا
لويس إقليمس
بغداد، في 5 تشرين أول 2023
تعيش بلدة بغديدا/ قره قوش في سهل نينوى، هذه الأيام مناسبة الأربيعين الحزينة لكارثة قاعة الهيثم للمناسبات التي راح ضحيتها لغاية الأمس مائة وثلاثون ضحية بينهم أطفال وشباب وفتيات وناس ورجال أبرياء إلى جانب مئات المصابين بحروق مختلفة، وذلك بسبب الإهمال وسط تكهنات بكون الحادثة قد تكون فيها بصمات مشبوهة، تاركين ذلك بيد الجهات المختصة من قضاء وجهات جنائية وإدارات متعددة كي تأخذ دورها الصحيح من دون مجاملة ولا ضغوط ولا تحيّز.  لقد  لفّ الحزن والأسى هذه البلدة المنكوبة منذ ليلة الثلاثاء 26 من أيلول 2023 بفاجعة لم تألفها المنطقة في تاريخها. قاعة الهيثم للمناسبات احترقت، اشتعلت، تداعت بنايتُها الهشّة المشيدة خارج المعايير، وتهاوى سقفها المهزوز في دقائق معدودات وخارج الزمن القياسي حينما تحوّل إلى ركامٍ من رماد وجثث محترقة متناثرة في أرجائه بُعيدَ فقرة إستخدام الشعّالات النارية الحديثة تمهيدًا لرقصة العروسين التقليدية. فمن استطاع النجاة بنفسه لم يبخل، ومَن لم يستطع دخل في فرن المحرقة متحسرًّا مُكرَهًا. أمّا مَن فقد توازنه من غير تصوّر أو تصديق ما حصل وما جرى، فقد دارت به الحيرة وأخذ الارتباك مأخذَه وظلّ فاقدًا وعيَه وقدرتَه على الحركة في تقرير ما ينبغي فعلُه وهو يشهدُ لنيران مستعرة وسط ظلامٍ فاقمَ المأساة عندما أطفأَ صاحبُ القاعة الأضواءَ في لحظة جهلٍ أو ارتباكٍ أو تعمّدٍ ليقطع سبيل النجاة لمَن قد يفكرُ بإيجاد منفذٍ. فهل يُعقل أن تتسببَ الألعاب النارية هذه باشتعال القاعة التي كانت تغصّ بأكثر من ألفِ مدعوٍّ بهذه السرعة الفائقة؟ أم هناك ما كان مخفيًا ولا بُرادُ  الإفصاح عنه أو كشفُه لتعارضه مع مصالح وأجندات وأهداف تقف وراءَها أطرافٌ سياسية وسط صراع أحزاب السلطة وميليشياتها على حساب أهل البلدة ومنطقة سهل نينوى بالذات؟ لا أحد يتصوّر لغاية الساعة كيف بدأت النكبة ولماذا انتشرت النيران بسرعتها الفائقة؟ ولماذا أُطفئت الأنوار؟ ولماذا غابت أدوات الأمان والسلامة ومعها مخارجُ الطوارئ وما سواها من وسائل التوعية والتوجيه والدلائل المنظورة وغير المنظورة؟ ومَن وراء تشييدها خارج السياقات القانونية؟؟؟ 
   حصلت الكارثة وفقدت بلدة بغديدا كوكبةً من شيبها وشبابها، نسائها ورجالها، آباءٍ وأمهاتٍ، بنين وبنات، وكلهم أعزاء على ذويهم وأُسرِهم وعشائرهم وبلدتهم ومنطقتهم. لا سلوانَ بكلمات أو عباراتٍ لا تجدي. فالضحايا لا يستحقون مثل هذه الميتة البشعة التي لا يتمناها أي بشرٍ طبيعيّ. لقد سبقتها نكبات كثيرة وعديدة في بلد النكبات والمصائب، وخَبِرَها العراقيون بقساوتها وجفائها وخسائرها وما خلفته هي وغيرُها من مآسٍ وأوجاعٍ أضحت من سموم العصر ما بعد السقوط الدراماتيكي في العام 2003 بسبب الأوباش الأمريكان ومَن تعاونَ معهم من دول الغرب الماكر من المنافقين والدجالين. فما يحصل لنا في عراق ما بعد سقوط النظام السابق يعود كلّيًا إلى هذا التحالف الأمركي- الغربيّ الظالم الذي سلّمَ البلادَ بأيادي قذرة الأداء، غير نزيهة الأفعال، ولا نظيفة اليد، ولا واعية العقل والروح، ولا جديرة في الأداء والإدارة، لا تعرف للوطن معنى ولا للمواطنة قيمة ولا للوطنية مدخلاً أو مخرجًا ولا للإنسانية مرجعًا وهدايةً وطريقًا. وفي ضوء هذا كلّه، فإنّنا نحمّلُ الغازي الأمريكي وأدواته تنفيذ أجندة خبيثة لإخلاء العراق والمنطقة من المسيحيين بمثل هذه الأفعال والحوادث والأجندات. وهناك أدلة وقرائن عديدة تصبّ في هذا الهدف من حيث عدم اهتمام حكومات الغرب ومنها أمريكا بالذات بأوضاع المسيحيين الحقيقية إلاّ في الدعاية والإعلان عن قدراتها، لكونها اختارت جانب الديمقراطية الماكر والعلمانية الملحدة المنقوصة في تنفيذ أجنداتها المشبوهة في المنطقة والعالم. فمتى يجازيهم الله على فعالهم الشنيعة وجرائمهم الكبرى بحق شعب العراق والمنطقة والعالم؟ حبلُ السماء طويل... ولكن إلى متى؟
جنازة شعبية ورسمية بين الصدمة والغضب
شهدنا في أول يومٍ على المأساة طوابير من سيارات على مرمى البصر تنقل جثامين الضحايا بلغت في 47 جثة في أول جنازة كبرى للبلدة من الذين تمّ التعرّف عليهم في أول يومٍ بعد الكارثة. كرنفالٌ طويلٌ من سيارات مرافقة ولمسافة عدة كيلومترات تخترقها حشودٌ بشرية انطلقت من مركز البلدة لغاية مقبرة القيامة حيث تليت صلوات الجنازة حسب طقس الكنيسة السريانية الأنطاكية بحضورٍ كنسي متميّز من جميع الطوائف والأديان وعلى مستويات عالية، وفي تشييعٍ رسمي وشعبي وعائليّ لم تشهده البلدة بل المنطقة والمحافظة وربّما البلاد بأسرها. اختلطت دموع المسلم والإيزيدي والشبكي والكردي والتركماني والكاكائي والصارليّ مع دموع أشقائهم وأصدقائهم وجيرانهم المسسيحيين. كيف لا وبلدة قره قوش بأهلها الطيبين المتسامحين مع جيرانهم كانوا دومًا السباقين في تلبية الواجب والتعاطف مع جيرانهم في المصائب والنكبات واحترام الصداقات وأصول الجيرة. وما أكثر هذه المصائب ممّا شهدته المنطقة والبلاد!
لحظات من الحزن والأسى مترافقة مع دموع الحزانى ومختلطة مع حسرات الثكالى وأّمهات وآباء وإخوة وأخوات الضحايا واصدقائهم وأقربائهم. الكلُّ يبكي ويتحسّر ويندب ويتوعد. والكلّ تخنقه العبرات وهم يشهدون حجم المأساة. عوائل عديدة فقدت أكثر من شخصٍ عزيز، كانوا بالأمس يرقصون ويضحكون ويفرفشون ويتهنّأون بزفاف عروسين شابين جميلين وبفرحة ذويهما وسط زغاريد الفرح. واليوم تكتنفهم الحسرات بذات الزغاريد، ولكنها مقرونة بالحزن والأسى لفقدان الأحبة والتأسّي للمصابين المحترقين في أتون القاعة الكبيرة بنيرانها الظالمة التي لم ترحم أحدًا.
صباح اليوم التالي، كانت البلدة على موعدٍ مع قداس جنائزي مهيب ترأسه غبطة بطريرك السريان الكاثوليك الذي أبى إلاّ أن يشاطر البلدة السريانية الأصيلة وأهلَها بمصابهم الجلَل. ثم التوجه إلى قاعة كنيسة مار بهنام وسارة التي استقبلت جموع المعزّين الذين غصّت بهم الكنيسة التي تحوّلت لقاعة استقبال بهذه المناسبة الحزينة، وذلك وسطَ حضور ذوي الضحايا المتوشحين بالسواد زيادة في الحزن وإصرارًا على إظهار مدى فضاعة الحدث وقساوته. لم تهدأ للقاعة سكينة حتى إنّي أشفقتُ على ذوي الضحايا، وأنا منهم، على التزامهم الوقوف طيلة ساعات في قبول التعازي وما رافقها من كلمات وعبارات العزاء والسلوان المترافقة مع المعانقة في الأحضان والمختلطة بدموع الحزن والحسرة والصدمة والغضب في آنٍ معًا. ولا أعتقد أنّ الحضور الرسمي اللافت من جانب السادة رئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية وما بعده رئيس البرلمان ووزراء وبما قدموه من وعودٍ بالتحقيق في الحادثة الفظيعة ومن مغرياتٍ مادية قد أضاف شيئًا للتخفيف من تداعيات النكبة، بل نعدّهُ جانبًا دعائيًا لتخليد المشاركة الشكلية بالصور والمناظر، ووسيلةً إضافية لتخدير أصحاب الشان ورعاتهم وذويهم ومحبيهم، وأيضًا لإبعاد الشبهات عن أطراف شريكة حقيقية قريبة من أصحاب الشأن والقرار الذين يحكمون البلاد وممّن لهم باعٌ في تأجيج الأحداث واختلاق النكبات من أجل المزيد من المكاسب ودفع الضحايا لترك الأرض والوطن إلى بلدان الاغتراب نتيجة ً لمزايدات سياسية بين قوى الصراع في سهل نينوى. فهذا أصلُ ما يجري خلف الكواليس بين شركاء الوطن بمثلّثهم الحاكم ما بعد سقوط النظام الوطني. لذا فالكثير من الحضور والمتابعين لما يجري في ضوء هذه النكبة لا يعتقدون بفاعلية مثل هذه الوعود التي ستلحق سابقاتها من فواجع البلاد، وما أكثرها، حيث ظلت في طيات التاريخ للنسيان. فالدماء الزكية والأشلاء المتناثرة وجنائز الضحايا الأصفياء بسبب فظاعة "الجريمة" الجلل، لا يمكن شراؤُها أو تعويضُها بحفنة من وعود أو أموالٍ زائلة. فعندنا نحن المسيحيين خاصة، نتيقنُ من أنَّ  للبشر قيمتَه وللإنسان حرمتَه وللمؤمن الصابر برعاية ربه ما يتيح له البقاء في أحضان سيده المسيح بين الأبرار والصديقين وفي الأحضان الإبراهيمية عالية المقامات والمراتب وليس بالأموال والمغريات التي لا يمكنها تعويض مدى الخسارة الكبرى. فدماءُ الضحايا وأرواحُهم ليست بهذا الرخص كما يتصور البعض.
كفى للدخلاء في البلدة والسهل
لقد أدركتُ مثل غيري هول الفاجعة التي ضربت بلدة بغديدا السريانية المسيحية المتميّزة بين كلّ أقضية وبلدات العراق. ولن يهدأ لأهلها بالٌ لغاية اتضاح حقيقة ما جرى والأدوات المتداخلة في الكارثة، مهما كانت وأيًّا كانت... فالتحقيقات الشفافة، والمهنية الصحيحة، والقانونية المقترنة بالأدلة المادية المحسوسة ماتزال مطلوبة، بعد صدور نتائج مخيبة للآمال، تمامًا كما توقعها الكثيرون، من جانب لجنة وزارة الداخلية بكون الحادث عرضيًّا. بل هناك مَن يصرّ من ذوي الضحايا والرئاسات الكنسية المحلية على إشراك أطرافٍ دولية في التحقيقات، بسبب تأشير شبهات ونوايا مبطنة بتسييس عمل اللجنة التحقيقية الأولية التي تسرّعت في اتخاذ قرارها الباتّ ولم تأخذ في الحسبان جميع القرائن والأدلة المادية والمعنوية من المواد المحترقة وربطها بتسريبات متعددة لمقاطع صورية تشهد بحصول سلوكيات مشبوهة وغريبة خلف كواليس القاعة ليلةَ العرس، بحسب تحليلات وخبراء كشف الأدلّة الذين تسارعوا لتحليل ما جرى. فالكلّ واقعٌ بين الصدمة والحيرة والغضب ممّا حصل ومن أسلوب تعامل الجهات التحقيقية بتسرّعها غير المبرّر وعدم إلمامها بمجمل الأدوات والمسببات وتجاهلها للكثير من الحسّيات المادية التي قد تكون ماتزالُ عالقة بين ركام القاعة المتفحمة والتي قد تؤشرُ أدلة ملموسة ومحسوسة لدوافع جنائية.
نقول في خاتمة الوصف والنكبة، إنّ الحزن والوجع لن يفارقا أبناء بغديدا والطائفة السريانية بشقّيها ما عاشوا. فالتاريخ قد سجّل منذ اللحظات الأولى جوانب هذه الكارثة وآثارَها وحيثياتها بأحرف بارزات رُسمت في ضمائر وعقول أبناء البلدة وقرى الجوار وفي جوانح أهل سهل نينوى وأهالي الموصل وكردستان بجميع طوائفهم وأديانهم ومللهم، بل والعراقيين جميعًا الذين كشفوا عن تعاطفهم وتضامنهم عبر تسارعهم لتقديم كلّ أشكال الدعم والتضامن والعزاء وبأية صورة ممكنة!
أهالي البلدة وعموم مسيحيّي سهل نينوى لم يطلبوا أو يطالبوا بأمورٍ خارجة عن المألوف. بل جُلّ ما يصبون إليه عيشَ أيامهم وسنواتِ حياتهم بهدوء وراحة وسكينة تكتنفها وسائل الأمن والسلام والمحبة والتسامح في ظل وطن واحد وخيمة واحدة ودستور عادل وقوانين مدنية توحّد ولا تفرّق، بل تقوم على مبادئ المساواة والعدالة والمواطنة في ظلّ حكومة قوية توظّفُ طاقاتها لخدمة الجميع بعيدًا عن أصوات شاذة لأحزاب وتشكيلات وفصائل خارجة عن القانون اتخذت من المال والسلاح والنفوذ سبيلاً للحكم وفرض السطوة على المواطنين بأية وسيلة وأيّ ثمن لغاية تحوّلها إلى دولة عميقة مدمّرة. من هنا، فالبلدة المنكوبة والقرى المجاورة لها لن يقبلوا بأية مزايدات سياسية على حساب أمنهم واستقرار مناطقهم وديمومة عيشهم بسلام وطمأنينة. فالبلدان لا تُبنى بالفوضى وعلى فساد الساسة أو على أيدي الجهلة العقائديين الذين يقدّسون الأشخاص والأحداث بلا وعيٍ وبأي ثمن ولأيّ سبب، إنّما بالجدارة والكفاءة والولاء للوطن ومحبة أرضه وسمائه واحترام حقوق الإنسان. وهذه من سمات أبناء المكوّن المسيحيّ الأصيل في هذا البلد والمنطقة بشهادة الجميع.
وهذه باختصار دعوتُنا جميعًا أن يخرج كلّ دخيل وغريب من أرض العراق، بلد الحضارات والرقيّ والثقافة. ودعوة خاصة أخرى، لإبعاد منطقة سهل نينوى وبلدة "قره قوش- بغديدا" السريانية بالذات عن صراعات الأحزاب وتكالب الميليشيات وسائر الفصائل المسلحة المطلوب مغادرتُها كافةَ المدن والبلدات العراقية لتجد مصيرها في الأخير إلى الحلّ والتفكّك والزوال، وترك حماية السلم الأهلي والدفاع عن الوطن بأيدي قوات نظامية للجيش والشرطة بعيدًا عن تغوّل أحزاب السلطة وميليشياتها وأدواتها الفاسدة ومكاتبها الاقتصادية المشبوهة. فهذه بأجمعها أساسُ كل المشكلات في الوطن. وهي المعوّق والمعرقِل والمؤخِّر لأية بوادر لإعادة الحياة لهذا البلد "الضحية" بسبب تدخّل الغازي الأمريكي ومَن أوكلهم الحكم باسمه عبر أتباعهم من ذيول الجارة الشرقية التي تسلمّته ثمنًا لاتفاقات مشبوهة بهدف القضاء على كلّ قدراته وإضعاف شعبه وتجريد أرضه من الرقيّ والإنتاج وتركه بلدًا استهلاكيًا وسدّ الطريق أمامه في التقدم والرفاهة والحياة الطبيعية مثل سائر الشعوب والأمم. من هنا، لن نقبل أن يكون الإداريون البسطاء في القضاء كبش فداءٍ عن المتسببين الحقيقيين في الفاجعة وما قبلها. فالفساد كان ومايزال أساس كلّ مشاكل البلاد بسبب تغوّل تجار السياسة وسطوتهم على كلّ مفاصل الدولة بالمال والسلاح نتيجة استقوائهم بأشكال هذا الفساد متعدد الجوانب والأشكال.


13
تنظيم الصفوف بداية النجاح
لويس إقليمس
بغداد، في 11 تشرين أول 2023


مع تفاقم أزمات العراق المتزايدة وصداع المنطقة باشتعال شرارة الحرب الفلسطينية-الإسرائيلية والفوضى الاقتصادية والأمنية التي تضرب دول العالم المجنون بأنانيته وحب الهيمنة وفرض الذات، هناك ما يدعو للاعتقاد والترقب بقرب بروز تحولات مصيرية وجذرية في بلدان المنطقة وربما العالم، ومنها عراقنا الجريح الرازح تحت نير فساد أحزاب السلطة الذين يعملون تحت مظلة الغازي الأمريكي ووكيله وأدوات هذا الأخير وفروعه الاقتصادية. فما حصل يوم 7 تشرين أول 2023 بكسر شوكة الصهاينة وفكّ عقدة الاعتقاد بأسطورة الجيش الاسرائيلي كقوة لا تُقهر، حين تلاشيها أمام العيان في الدقائق الأولى من الهجوم الفلسطيني المفاجئ الجريء. لسنا طلاب حرب وقتل وتدمير، إنما الشيء بالشيء يُذكر. ف"ما أُخذ بالسيف، فبالسيف يُسترجع". فقد عملت الماكنة الصهيونية منذ نشأة دولة إسرائيل على تضخيم قدراتها عبر أدواتها الخانعة في كلّ مكان كي تجعل من كينونتها الهزيلة أصلاً بعبُعًا لتخويف صغار العقول وأقزام المنطقة السائرين تحت رعاية أمريكية لا تعرف سوى لغة التهديد والوعيد ورشى الزعماء مقابل إبقائهم على رأس السلطات الهزيلة في بلدانهم. أمّا مَن وقف أو حاول أن يقف لصدّ طاغوتهم، فكان مصيرُه إنهاء سلطانه بالوسيلة التي تختارها إدارة الشيطان وتحت ستارالأعذار الوهمية التي تختلقها، كما حصل في عراق الحكم الوطني البائد باعتراف رأس الإدارة السابقة ترامب. تلكم هي الحقيقة التي يعرفها الجميع ولا يقرُّ بها سوى أصحاب الرأي الحر والقلم الجريء والكلمة الصارخة بوجه الظلم والجور.
هنا تتكلم ساحات النضال وتنتفض صفوف المناضلين ويعلو صوتُها عندما تحين الفرصة. وقد حانت مع الموجة الفلسطينية الوطنية الجديدة التي أثبتت للمرة الأولى قدرتها على الحركة بالثقل الذي ظهرت فيه في التخطيط والتنفيذ، بالرغم من الملاحظات العديدة التي لدينا على أصحاب الفكر في تنظيمات ما يُسمّى بالمقاومة وتبعيتها عقائديًا وولائيًا لدولة تستمدُّ منها قدراتها العسكرية وبالوسائل العقائدية المشبوهة. وكنّا نأمل أن يكون الفكر في العمل التحرري من المغتصب الصهيوني نابعًا من أسس التضامن العربي بشكل القدرات المالية والاقتصادية والبشرية التي ترسم لها ملامح أمة عربية معروفة بأصالتها وجذورها وقيمها، لا أن تظهر كالقطيع التابع الذليل لطرفٍ يكنّ عداءً تقليديًا لدولة راعية لهذا المغتصب ولأمة العرب بالتالي.
لقد آن الأوان لتحقيق نصاب شكل هذا التضامن العربي الموحد ليكون الطريق السائر نحو تحقيق طموحات شعوب المنطقة بالتحرّر من براثن الاستعمار ودوله، وعلى رأسها أمريكا التي تريد أن تثبت أركانها الطاغوتية بقوة قدراتها وتفرض قطبيتها بصفة الهيمنة على غيرها من الشعوب والأمم. ونقولها بصراحة عربية ثابتة مع جميع ذوي الإرادات الصالحة وأصحاب الفكر التحرري من أية أشكالٍ للخذلان والخنوع والاستهانة، لا بدّ من وقفة وطنية حقيقية جادة لحسم الأمور والقضايا العالقة والبدء بمرحلة الانتقال إلى أجواء السلام والاطمئنان والراحة بعد انكسار السلام الأمريكي المتعثّر وبعيدًا عن أية أشكالٍ لتهديد الشعوب المغلوبة ومصادرة حقها في العيش بكرامة وحرية وفق قيمها ومبائها وبالخيارات التي يختارُها مواطنوها. وهذا لن يتحقّق بالعيش ضمن ترهات الأفكار وتقديس الشخوص وعيش أشكال المظاهر الخرافية بأشكال عقائدية مخرومة لبعض الطوائف من شعوب المنطقة التي تؤخر أية مبادرات لتقدم شعوب بلدانها وتضع العراقيل أمام تحرّر أبنائها بإبقائهم أسرى هذه الأفكار الدخيلة بكافة أشكالها ومظاهرها. وهنا لا بد من قطع طريق المجاملات والنفاق وأشكال الاستغلال أمام الأطراف التي تستغلّ فقر شعوبها وطيبتهم وبؤسهم وشقاءهم المعيشي، والساعية في حقيقتها لتثبيت أشكال هذه العقائد الضحلة بمثل هذه الأساليب المستنبطة الجديدة كسبًا لودّها ووقوفًا لجانبها في تنفيذ مخططات الجهات الدخيلة التي تقف من وراء القصد في أشكال الاستغلال القائمة، ولاسيّما في العراق منذ 2003.
كما تقع على عاتق السلطة الرابعة أن تقيّم المرحلة وما يجري في الساحات والشوارع وتحت الكواليس على ايدي مَن بيدهم السلطة لتكون رقيبًا وطنيًا حقيقيًا بلا مواربة ولا مجاملة ولا نفاق. فلا تطبيعً إعلاميًا مع السلطات المنغمسة في دائرة الفساد واستغلال الشعوب لأجل زيادة مكاسبها عبر مكاتبها الاقتصادية وكارتلاتها المالية التي اتخذت من استغلال البؤساء وحاجاتهم وقوتهم سبيلاً للصعود وتحقيق البقاء في السلطة ما شاءت الأقدار والراعي الأول للعملية السياسية ووكيله في العراق والمنطقة. ولتبقى حريةُ الكلمة منارًا يهدي طلاّب السلام والأمان والتضامن. وبغير هذه لن تسود المحبة والاستقرار والمودة بين الشعوب الباحثة عن الأمن والأمان. فالكلمة الصادقة صوت صارخٍ في البراري والصحارى والجبال والوديان. فلنحقّق أهدافنا بتوحيد الصفوف في بلادنا وفق مبادئ العدالة والمساواة واحترام الاختلافات والقبول بالفكر المختلف المعبِّر عن التطلعات والطموحات الصادقة غير الانتقامية لتكون البذرة الناصعة في خميرة وطننا العربي وصولاً لتحقيق النجاح المنشود في خطواتنا اللاحقة.


14
فاجعة العرس القره قوشي... كلُّ الاحتمالات مفتوحة!
لويس إقليمس
بغداد، في 30 أيلول 2023
مهما حاول أهالي بلدة قره قوش/مركز قضاء الحمدانية في محافظة نينوى المنكوبة بفعل الفاجعة الكبرى التي حولت عرسًا للأفراح إلى مأتم شعبي ووطني، التخفيف عن وقع هذه الفاجعة، إلاّ أنهم لن يستطيعوا ذلك بسبب تداخل الحيثيات ومراجعة الآراء وتوارد العديد من التوقعات والأفكار بخصوص تحليل ما حصل ومراجعة ما جرى. فالنكبة كبيرة وأوجاعُها كثيرة وتداعياتُها عديدة ستكشفُها الأيام والأسابيع والأشهر بل والسنوات القادمة. كما أنّ ردود أفعال أصحاب الشأن والقائمين على تدبير شؤونهم الكنسية من الناصحين والرعاة الصالحين وليس من نفرٍ باعَ نفسَه وشرفه ولوّثَ إسمَه بحجة إطاعة أولي الأمر ومسايرة رغبات ومشاريع المتنفذين من ساسة البلاد والمهيمنين من عددٍ غير يسيرٍ من الميليشيات المهيمنة والمتسلطة على مقدّرات سهل نينوى وبلدة قره قوش/ بغديدا المسيحية بالذات، ستكون ردود أفعالهم قوية وحاسمة وصاعقة إذا توحدت كلمتُهم ورفعوا أصواتَهم الصارخة عاليًا قولاً وفعلاً لوضع حدود قاطعة لكلّ مَن استغلَّ طيبة أهل هذا ععالسهل ومواطنيه من المسيحيين خاصة ومن سائر المكوّنات قليلة العدد التي وصمونا بتوصيفها ب"الأقليات". فهذه الوصفة الظالمة فيها الكثير من الإهانة والاستصغار والتجافي والتجاهل والإهانة، لكونها تُديم سمة الذمّية في موقعهم الوطني وفي حقوقهم المواطنية وتقطع السبل أمام الحق في تبوّإهم المناصب القيادية التي يستحقونها دستوريًا وقانونيًا وشرعًا بفضل أمانتهم وجدارتهم وكفاءتهم وروحهم الوطنية في حب الوطن والأرض وحماية البلاد في الملمّات الصعبة. وهذا حصل ومازال يحصل بفضل القائمين على إدارة الوطن وقيادة الشعب البائس الخانع والراضخ لجلاّديه من الراسخين في المتاجرة بأرواح الشعب من أمثال نفرٍ من شيوخ الدين ومعمميه وساسته المتجلببين بستار الدين والمذهب والطائفة للترويج لتجارتهم الشخصية والفئوية والطائفية. 
لقد طغت سمة التفاعل والتشارك وتبادل الأدوار القائمة بين ساسة الصدفة ما بعد الغزو الأمريكي-الغربي الطائش الظالم وبين نفرٍ طارئٍ من أصحاب العمائم ومَن يلوذ بجلبابهم من سياسيين وطارئين على السياسة والحكم لغاية خلق هوّة بين هذه الشلّة الطارئة وبين الناصحين والأصلاء والمثقفين والمتنورين من أبناء الشعب. لكنّ الجميع يقف اليوم في انتظار مريرٍ بانقضاء أجل سادة الفساد وميليشياتهم وأدواتهم لغاية قيام ساعة التغيير القاصمة حيث القصاص والحساب في انتظار كلّ مَن تدنست أياديه بالقتل والتهجير والتهديد والسرقة وهدر المال العام وما في هذه من أدوات وأساليب قذرة في اللصوصية والاستغلال والابتزاز. فحبلُ السماء قصير مهما طال الغدرُ والقتل والظلم والجور والخبث في استغلال الموقع والمنصب والوظيفة بدون جدارة وبلا وجه حق. وإنّ الغد لناظره قريب!

أرواح الضحايا ليست رخيصة
أعود للقول بصدد هذه النكبة، أنّ كلّ الاحتمالات والتوقعات ممكنة وقائمة بعد تحليل البيانات ومراجعة الصور والمشاهد المختلفة في التعبير وإدلاء الرأي ووردود الأفعال من أطراف القضية أنفسهم وممّن كانوا في خضمّ أتون النار ومن الناجين من المحرقة ومن رعاة الكنيسة، وعلى رأسهم سيادة المطران رئيس    إبرشية الموصل الذي أثبت وصايتَه الصالحة ورعايته الأبوية وحرصه غير المحدود على بني رعيته في التوجيه والإعداد والنصح وقول كلمة الحق التي صدعَ بها ليس رؤوسَ ساسة البلاد وقادتَها المحليين والفيدراليين والميليشيات المهيمنة على منطقة سهل نينوى والأحزاب المتصارعة على الغنيمة منذ سنوات ولغاية اليوم، بل إنما كانت تصريحاتُه النارية وكلماتُه الواضحة درسًا وعبرةً ونصحًا لسائر إخوته من أساقفة طائفة السريان الكاثوليك في العراق والعالم، وعلى رأسهم غبطة رئيس الكنيسة السريانية والطائفة الذي تشرفنا بمواساته ومشاركته الأبوية بمصاب البلدة المنكوبة، بالرغم من علمنا بمواقفه غير المستحبة بين صفوف أبناء الطائفة وانحيازه غير المقبول لجهة سياسية معروفة. لقد كان رئيس إبرشية الموصل، سيادة المطران مار بندكتس يونان واضحًا في أقواله وصادقًا في كلماته ومحذِّرًا في الوقت ذاته من أية مساعي للنيل من حقوق ابناء إبرشيته ومن استغلال طيبتهم المسيحية وأصالتهم الوطنية في تجاهل مطالبهم الأساسية. فقد قالها صراحة: "أين اصحاب الأربطة والقوط"، فيما جثث الضحايا كانت ماتزال متناثرة في الطب العدلي والمستشفيات وبعض الأشلاء ماتزال في القاعة. ويمكنني تلخيصُ بعض مطالب البلدة كما وردت على لسان رئيس الطائفة في هذه المناسبة وقبلها في مناسبات أخرى ظلّت حبرًا على ورق وبمثابة وعود عرقوبية. كما يمكنني إضافة غيرها من خلال مراقبتي للمشهد في البلدة والمنطقة، وفيما يجري من خلف الكواليس بخصوص مصير منطقة سهل نينوى ومركز قضاء الحمدانية تحديدًا:
-   ضرورة المطالبة بإبعاد منطقة سهل نينوى، والبلدات المسيحية فيها عامةً، ومنها بالذات قره قوش/ بغديدا عن صراع الأحزاب والميليشيات المستوطنة فيها والضغط على الحكومة ومجلس النواب ومجلس القضاء الأعلى لاتخاذ إجراءات تنفيذية صارمة وحاسمة في معالجة هذا الملف الشائك.
-   إجراء تحقيق عادل وحقيقي ومهني بخصوص هذه الفاجعة ومحاسبة المقصّرين والمتسببين الساندين والواقفين وراء منح إجازة البناء والعمل لصاحب القاعة والاستماع لكلّ الأصوات مهما كانت خافتة أو قادمة من أشخاص بعيدين عن الأضواء. فكلّ صوت وأية إشارة بصدد الفاجعة قد تكون ذات فائدة في أدوات التحقيق التي لا ينبغي التسرّع فيها لطمطمة آثارها ومسببيها وفاعليها.
-   إخراج جميع الميليشيات وألوية الحشد الشعبي الولائية ومكاتب الأحزاب الدخيلة إن تواجدت لكونها من الأسباب في إحداث شرخ وشقوق بين مواطني المنطقة وفي هذه البلدة بالذات، نظرًا لما تشكله من قدرة بشرية فاعلة ومكانة في مجالات عدة لها شأن في تحريك اقتصاد المحافظة والتأثير في تركيبتها الاجتماعية والسياسية. فمعظم الأهالي غير راغبين في تواجد أية مظاهر مسلحة لا تتقبلها طبيعة سكناها، مع إبقاء مهمة حماية أمنها واستقرارها بأيدي أفرادٍ من الجيش الوطني والشرطة المحلية ضمن السياقات المعهودة. وليعلم الجميع أن بلدات السهل وبغديدا / قره قوش ليست للبيع، وتاريخها يشهد على بطولة استعادتها بفرمان سلطاني زمانَ أواخر الدولة العثمانية.
-   المحافظة على ديمغرافية المنطقة وعلى الأملاك الخاصة من أراضٍ ومنشآات وعدم السماح بتجاوز البناء والتملّك فيها لغير أهل البلدة بغية تشجيع الحفاظ على نقاوة ساكنيها وعودة مَن يرغب منهم ممّن غادر إلى دول الشتات للأسباب المعروفة للجميع بعد التهجير من قبل داعش وتدمير المساكن وحرقها ونهبها بالوسائل المعروفة والجهات التي ساهمت بإكمال الصفحة التالية ما بعد داعش من ميليشيات وأفراد استغلوا عدم استقرار المنطقة أمنيًا  بعد مغادرة السكان الأصليين للعبث بالممتلكات االخاصة وبأدوات الكنائس وممتلكاتها. وهناك أدلة وقرائن على هذه الادّعاءات.
-   رفع الحظر عن شراء وبيع واستملاك قطع الأراضي لأهالي البلدة حصرًا في أملاك وأراضي آبائهم وأجدادهم فيما بينهم. فهناك مَن ينتظر استحقاقه بالحصول على قطعة أرض منذ سنوات بعد توقف هذه الإجراءات بسبب تكالب طلبات لمواطنين من خارج أهل البلدة للسكن والاستملاك فيها لأسباب واضحة ومنها طيبة أهلها واستقرارها وهدوئها نسبيًا، إضافة إلى أسباب ودواعٍ أخرى تتمثل بنظافة ساكنيها وطبيعة حياتهم المسالمة وانفتاحهم. ويمكن حلّ هذه المشكلة باستحداث وحدات إدارية لسكنة الجوار وفتح مجال استملاك أراضي سكنية ضمن وحداتهم الإدارية الجديدة المنتظرة. وهذا يخصّ الإخوة الشبك تحديدًا قبل غيرهم. فالصراع القائم في منطقة السهل يبقى طائفيًا ودينيًا وإثنيًا من أجل التغوّل والسطو على أراضي ومساكن المسيحيين من قبل مَن لهم أجندات مشبوهة.
-   تعويض المتضررين من سكنة هذه البلدة وما جاورها ممّن تعرضوا لمأساة داعش الإرهابي بدون تمييز ولا تحيّز في تقدير الخسائر والتعويضات المطلوبة. وقد لاحظنا ظلمًا واضحًا في هذه النقطة عند تقدير الخسائر من خلال لجان التعويض في المحافظة.
-   تعويض ضحايا محرقة قاعة الهيثم وبما ينسجم مع حجم النكبة والرعب الذي خلقته في صفوف أبناء المنطقة خاصة والمكوّن المسيحي عامةً. إذ هناك مَن راح بعيدًا بتنفيذ أجندة بانت ملامحُها قبل غزو داعش وهي مستمرة في تحقيق الغايات والأهداف الكبرى لجهات تقف وراء السعي الحثيث لتشجيع التهجير والنزوح بأية وسيلة وأيّ ثمنٍ. وهنا أقول إنه لمن العار أن تقوم جهات حكومية بتسعير قيمة خسارة الضحية في هذه الكارثة بعشرة ملايين دينار والمصاب المحترق والمشوي بخمسة ملايين دينار. أية تسعيرة هذه وأية قيمة هذه التي تنظرون بها  نحو سكان المنطقة وأهالي بلدة بغديدا/ قره قوش المعروفين بتميّزهم في كل شي عن سائر بلدات الجوار والعراق عامة في الوطنية والتراث والانفتاح والتعاون والكفاءة والوفاء والإخلاص في العمل وحب الوطن والإنسان والأرض؟؟؟
-   ألتحقيق في مشهد فيديوي معروض في وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيه شخصٌ ملثّمٌ رافعًا علامات النصر المعهودة والتي اعتدنا عليها حين تحقيق أي نصرٍ في أية مناسبة. وقد تكشف الدلائل تورط هذا الشخص واثنين آخرين معه ظهرا في ذات الفيديو، بتعمّد افتعال عمل تخريبيّ مدسوس من جهاتٍ مغرضة، كردّ فعلٍ متوقع انتقاميّ من أطراف غاضبة من نتائج حرق نسخ من المصحف الشريف قبل أسابيع في السويد من قبل شخصٍ غير متزنٍ أقدمَ على هذه الفعلة  الشنيعة رغمًا عن أهل المنطقة والبلدة التي ينتمي إليها اصلاً. من هنا، فكل الاحتمالات مفتوحة وقائمة للدرس والمتابعة والتقييم. 
-   إنصاف أهل الكفاءات من سكنة البلدة في تولّي المناصب التي يستحقونها في الدولة العراقية. ويكفيهم تهميشًا وإبعادًا عن حقوقهم وإبقائهم أسرى وتبعيّين للغريب والدخيل القادم من خارج البلدة وكأنّ أبناء المكوّن المسيحي في منطقة السهل قد ولدوا ليعيشوا على فتات الدخلاء المتسيّدين عليهم لمجرّد انتساب هؤلاء الدخلاء لحزب أو ميليشيا مستقوية بكتلة سياسية مهيمنة على الساحة السياسية بفضل ظلم الراعي الأمريكي وترسيخه لثقافة سيادة الجهلة والأتباع المقلّدين لمراجع دينية لها باعٌ في السياسة وفي صنع القرار بفضل ما تملكه من مال الحرام ومن نفوذ وسطوة وسلاح.

تضامن وتعاطف متميزان
بهذه المناسبة، أشيد بالدور الإيجابي والفاعل لأبناء محافظة نينوى جميعًا ووقوفهم وتعاطفهم وتضامنهم مع أبناء البلدة المنكوبة وضحاياها، في تقديم كل وسائل الدعم المادي والمعنوي والمشاركة الوجدانية والوطنية في مراسيم الجنازة والتعازي طيلة أيام النكبة ولغاية كتابة هذه السطور. فقد سجّلَ الجميع بحق وقفة وطنية مشرفة تستحق التقدير والثناء، ومنها إلغاء كافة الاحتفالات لمناسبة المولد النبوي الشريف، وربما يحصل هذا لأول مرة في المحافظة والبلاد. كما كان لحضور المسؤولين التنفيذيين في الدولة ولو إعلاميًا، بشخص رئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية وعدد من الوزراء المعنيين ونواب من كتل مختلفة ومسؤولين مهمّين من كردستان، الأثر البالغ في التخفبف عن حجم المعاناة. ولا أنسى الإشادة بالدور الأبوي لمختلف الرئاسات الكنسية من طوائف متعددة التي أبت إلاّ أن تشارك أهالي الضحايا من أبناء الكنيسة السريانية في قره قوش/ الحمدانية في مصابهم والصلاة من أجلهم في مراسيم الدفنة الكنسية- الشعبية التي لم تشهدها البلدة في تاريخها عبر كرنفال له بداية ولا ترى له نهاية في نقل جثامين الضحايا بمشاركة أبناء البلدة وضيوفهم الكثيرين من البلدات والمدن المجاورة ومن خارج المحافظة.
في الأخير، أذكّر بالخشية من مرور هذه الحادثة المؤلمة ونسيانها كما حصل مع سابقاتٍ غيرها وظلت من دون محاسبة، كحادثة العبّارة ومستشفى الخطيب ومستشفى الحسين وجسر الأئمة وغيرها من الحوادث المؤلمة واقتصار ذلك على تعويضات مالية بخسة بحق الضحايا الذين لا يمكن تعويض خسارتهم وفقدانهم وغيابهم عن ذويهم وأحبتهم. ونخشى أيضًا، أن يُحمَّلَ المسؤولية الكاملة، صغارُ الموظفين وصاحب القاعة والدائرة الصغيرة من حولهم من دون أن تطال الجهة المتنفذة الحقيقية التي تقف وراء الكارثة في التجاوز على أرض مملوكة للدولة واستغلالها في مشروع تجاري رخيص من دون استيفاء الشروط المطلوبة، حالها حال الكثير من أمثال هذه المشاريع ومعظم الأبنية التي تحمل طابعًا تجاريًا في زمن ما بعد السقوط. فالتصريحات الرسمية لغاية الساعة تشير إلى قطع الطريق أمام توجيه أية تهم جنائية بحق هذه الكارثة، ما يعني إسدال الستار مبكرًا عن الجهة المتسببة.
كما أدعو صادقًا، الرئاسات الكنسية في الحمدانية وعموم منطقة سهل نينوى لتوحيد المواقف والمطالبات التي هي حقٌّ محفوظٌ لأبنائهم جميعًا وبالتشارك مع سائر المكوّنات في السهل، كي يعوا جميعًا حجم الكارثة وما قد ينتظر مواطنيهم من مطبات وأفعال وتحرّكات يجري نسجُها تحت الطاولات والمطابخ المغلقة. فالظاهر من عسل الكلام والوعود شيءٌ وما خفي كان أعظم وأشدَّ وطأة، إن تحقق لا سمح الله! وهذا ما لا نرتضيه أو نقبل أو نسمح به. فنحن أبناء العراق الأشمّ، والأكثر أبناء أمّ واحدة،  كنيسة السلام والمحبة، وشعارُنا صريح وواضح ولا يمكننا القبول بأنصاف الحلول أو أرباعها، طالما أننا نشكّل العنصر الأصيل في المكوّنات العراقية وفي حب الوطن والانتماء لأرضه وتراثه وتاريخه وحضارته التي لن نرضى بالتفريط بها جميعًا مجتمعةً وغير مجتزئة أو تقديمها صيغة جاهزة للغريب عن الوطن كما يحلو لبعض ضعاف النفوس والمنبطحين والخانعين، مهما بلغت مواقع بعض هؤلاء!

15
المنبر الحر / جواهر سريانية
« في: 19:08 12/09/2023  »
جواهر سريانية
لويس إقليمس
 بغداد، في 12 أيلول 2023
ليس غريبًا أبدًا، أن يهدي الروح القدس رئاسة طائفة السريان الكاثوليك وأعضاء سينوسدها الموقر لاختيار بلدة قره قوش/ بغديدا مكانًا آمنًا لانعقاده للفترة من 10-15 من أيلول- الجاري 2023  ولأول مرّة في تاريخ هذه الطائفة. فالبلدة السريانية العريقة بتاريخها المدني الطويل، ومواقفها الوطنية الخالدة، وأصالة انتمائها الكنسي المتجذر، وإرثها السرياني-الآرامي الذي لا غبار عليه باحتفاظ أهلها وأجيالهم منذ القدم على الوديعة ونقلها من جيلٍ لجيل، هي أهلٌ لهذه المفخرة الكبيرة لأسباب عديدة وجوهرية. فمن ناحية، تُعدّ بغديدا- قره قوش أكبر تجمّع مسيحيّ وسريانيّ ليس في العراق فحسب، بل ربما في الشرق الأوسط. فهذا كان حالُها قبل أن تعبث بها أيادي الغدر والطائفية والعنصرية وتدوسها أقدامً الإرهاب النابعة من الكراهية والحقد الأسود على كلّ ما كان جميلاً في البلاد ومنطقة السهل النينوي بالذات. كما أن البلدة مشهورة بمواقفها الوطنية التي لا غبارَ عليها بحبها لأرض الوطن واستعدادها للتضحية بما تملك من مقوّمات بشرية واقتصادية وعلمية ووديعة دينية صادقة للكنيسة وربّها، بدليل قدرة أبنائها بناء أكبر كنيسة في البلاد والشرق بأيادي بشرية محلية من دون استخدام أية وسائل تقنية حديثة أو آليات ثقيلة لترصيف حجرها الضخم الجميل واحدةً تلو الأخرى وبالارتفاع الذي هي عليه اليوم. كما ليس غريبًا أن ينبع من صفوف أبنائها أفرادٌ متميزون نهلوا من ناصية العلوم المختلفة، فكانوا نواةً وثروة هائلة لرفد القرى المجاورة وعموم البلاد بأدوات التعليم والتثقيف والتبصير. كما برز من بين صفوف كنائسها قساوةً وأساقفة على مدى التاريخ بفرعيها الأرثوذكسي والكاثوليكي على مدى القرون المنصرمة، وليس المجال لذكرهم في هذه الخاطرة الخاطفة. لكني سأركّز على نقاط هامة أضعها أمام آباء السينودس الكنسي، من غير أن أصفه بالمقدّس، لأنّ المقدّس عندي له شأنٌ آخر ومجال غيره وحكايات مطوّلة فيها الغث والسمين ورأي مختلف عمّا يصفه البعض مدحًا وترويجًا ومجاملة وإطراءًا من غير موجب!
بدءً، مع تمنياتي لآباء السينودس بنجاح اجتماعاتهم في دورته الاعتيادية هذه الأيام بضيافة رئاسة إبرشية طائفة السريان الكاثوليك في الموصل، ومركزها الحالي بلدة قره قوش- بغديدا، فإنّي، كما غيري من الحريصين على مستقبل الطائفة والكنيسة والمنتمين إليها في العراق  والشرق العربي وبلدان الانتشار بعد نكبة الهجرة العارمة المتواصلة بلا نهاية، أضع اساقفة الطائفة أمام فحص ضمير صريح وحقيقي وواضح من دون مواربة ولا مجاملة ولا مراءاة. فالمصير والمستقبل في العراق والمنطقة أصبحا على المحك، ليس لنا نحن السريان بشقّينا فحسب، بل لعموم مسيحيي العراق والمنطقة.

ناقوس الخطر دقّ من زمان
كثيرًا ما سمعنا بدقّ ناقوس الخطر، وليس لي أن أعيد ما قيل بشأن الموضوع ولا أن أدعو لتكرار قرعه مرارًا وتكرارًا، سواءً على ايادي أبناء كنيستنا السريانية أو عموم كنائس البلاد والمنطقة. فاللبيب من الإمارة يفهم ويقدّر ويسعى لاتخاذ الخطوة الحاسمة، سواءً بلملمة ما تبقى من جراح الأفرشة وإلقائها في أتون نيران الاستسلام المخزي أو ترحيلها بين عباب البحار والمحيطات الهائجة هربًا من ملاقاة المصير المجهول. أو!!! وهنا الردّ الحاسم لجميع مَن يجد نفسه مقصودًا بهذه "الأو" أن يحثّ الخطى ويشرع بالجدّ والتقرير والهجوم بدل استخدام وسائل الدفاع التقليدية الخانعة التي أثبتت الأيام والتاريخ أن لا جدوى منها من أجل ترميم البيت السرياني - المسيحي المتهالك بسبب أمراض العصر وأشكال القهر وأنواع الخنوع وأرناك الولاءات للغريب القادم والدخيل المضيَّف (بفتح الياء) والمفضَّل على أهل البيت من خارج أسوار مناطقنا وكنائسنا وصفوفنا. وطالما نحن نمتلك ناصية الكلمة والعلم والثقافة والوفاء والوطنية والجدارة والخدمة الحسنة لأفضل ناس في المنطقة والوطن، فنحنُ أهلٌ لها كي نكون جزءً أساسيًا من قيادة الطائفة والمنطقة والبلاد بما نملكه من وعي وطني مصحوب بالخصال الواردة في أعلاه. فمَنْ يكونُ الغريب أو الدخيل كي يتولى أمرَنا ويقود أهلَنا ويوجّه شبابَنا وشيبنَا، فتيانَنا وبناتنا، أطفالَنا وفلذات أكبادنا كما يحلو له ولأسياده ناكرًا ومنكرًا قدرات شعبنا المسيحي في السهل وعموم البلاد؟ لم يعد هذا مقبولاً البتة.
تلكم جزءٌ من الحالة الصحيّة لصحوة كنيستنا السريانية في العراق وبلدان الانتشار. وعذرًا لعدم رغبتي بالتحدث حاليًا عن باقي ما أتمناه للكنائس الشقيقة. ففي هذه الشيءُ الكثير والكبير من الشؤون والشجون والمواقف الحزينة والمؤلمة لأسباب عديدة، أهمّها ارتفاع ضغط دمِ بعض زعاماتها واللهاث وراء نيل بركات الدخلاء، وسدّ ثغرات الضعف والهوان بقبول ما يجري إملاؤُه على البعض من مقررات ومشاريع هزيلة وترتيبات مادية مخزية، ونسيان أدعية الأصلاء ومقترحاتهم وتطلعاتهم بضرورة المشاركة في إدارة شؤون كنائسهم بما يتيح لهم الاطلاع على كلّ صغيرة وكبيرة لوضع الحلول ومواكبة المستجدات بكل شفافية وعناية وحرص لمستقبل أفضل لكنائسهم ومؤمنيها وحماية حقوقهم وعدم تركها سائبة بأيدي أفرادٍ أو خدامٍ غير جديرين بالثقة ويتحكمون بمصير هذه الكنيسة أو تلك من منطلق كونها مملكة أو إقطاعية أو ملكية عقارية لا يمكن مفارقتها أو تركها إلاّ بمفارقة الحياة أو حصول مانعٍ أو عارضٍ فاصلٍ في الحياة. مثل هذه الرؤية القاصرة لا تبني أو تشفي أو تطوّر هذه الرعية أو تلك بقدر ما تدمّر أساساتها وتجعلها أسيرة فريقٍ ضيّق الرؤية والعلاقة كي يُحصر مصيرُ ومسقبل الرعية بأفكارٍ جامدة غير قابلة التجدّد والتطور والإنتاج الروحي. وليزعل مَن يزعل من هذا الرأي الذي ليس حكرًا لي وحدي، بل يشاركني به الكثيرون من الحريصين على مستقبل رعاياهم وإبرشياتهم بل وعلى مستوى الطائفة برمتها. وهذا يتطلبُ مراجعة النفس وتحليل الواقع في ضوء المستجدات وإعلاء صوت الضمير الحيّ أمام أية هفوة أو نقطة ضعف أو موقع خلل تحصل على أيدي أيّ شخصٍ مدنيّ في موقع المسؤولية الكنسية أو رجل دينٍ مكلَّفٍ بواجب الحرص والسهر على رعاية الرعية التي هي أمانة في الأعناق. فالراعي الصالح يعرف خرافَه ويناديها بأسمائها، ومن حقّ المرؤوس أن يعرف ما يشتهي معرفته من معلومات وبيانات وتوضيحات في حدود المقبول والمعقول، إلاّ فيما يخصّ أسرارًا غير قابلة الترويج والنشر والانتشار. فهل هذا ما نسمعه ونشهده ونشعر به اليوم من جانب المتولّين على كنائسنا ورعايانا، في الداخل والخارج؟

ترهل وتهاون
أقول لآباء سينودس الكنيسة السريانية الذين تشرفت قره قوش- بغديدا بمقدَمِهم، وسُعدتْ إبرشية السريان الكاثوليك بحضورهم الأبوي، لستم هنا في هذه البلدة ضيوفًا عابرين لقضاء أيامٍ لتنعموا بها بضيافة أهلها الكرماء الذين اعتادوا فتح بيوتهم وخزائنهم وقلوبهم للغريب الوافد. فبالرغم من كونكم لستم غرباء، لأنكم سادة الطائفة وزعاماتُها وأملُها في تحقيق نقلة نوعية بحثّ الخطى نحو التجديد والرقيّ في كلّ شيء، في الأمور الروحية والزمنية والإدارية والتدبيرية، إنْ كانَ هذا ضمن الإبرشيات كلّ على حدى أو في عموم مواقع الكنيسة. فالإبرشيات في عمومها تعاني اليوم من بعض حالات الضعف والانفلات في صفوف بعض قساوستها الذين تم قبول انتمائهم الكنسي (الوظيفي لو صحّ التعبير للبعض منهم) بالرغم من عدم توفر القناعة الكاملة والقدرة الوافية لتولي صفة الراعي الصالح والتشبه بسيّد الكنيسة وربها ومؤسسها يسوع المسيح الذي اختار أشخاصًا بسطاء ليكونوا له تلاميذ من بعده لنشر بشرى الخلاص بعد امتلائهم من قوة الروح القدس. ومثل هذه الحالة لا تنطبقُ على العديد من الأشخاص الذي يخدمون في كنائس هذه الطائفة. ونحن لا نرى قدرة الروح القدس قد عملت عملَها في هذه الفئة القليلة غير الجديرة بقدراتها لدى البعض من رجالات الكنيسة في الفترة الأخيرة بسبب النزعة العائلية المتصاعدة في اختيار الأشخاص والمواقع، وشيوع السمسرة السيمونية (عذرًا للوصف فيما يتعلّق بقبول البعض في سلك الكهنوت والخدمة في بعض كنائسنا السريانية أو حتى في كنائس شقيقة أخرى). فالسيمونية، ليست بالضرورة وصفًا يستحقه مَن يتلقى أموالاً أو عطايا مباشرة من أصحاب العقول الضعيفة لكسب ودّ هذا الأسقف أو هذا الرئيس أو ذاك الكاهن، بل تخص مَن يتهاون بالسلطة الموكلة إليه عند التغاضي عن هونٍ أو ضعفٍ أو غيابٍ للقدرات والمؤهلات لدى مَن يتم اختيارهم أو الموافقة عليهم من دون استحقاق في ظاهرة قد تقود إلى الترهل في بعض المواقع! فوضع الشخص غير المناسب في موقع المسؤولية أو على رأس قطيعٍ مختلف الفكر ومتذبذب الرؤية وهزيل الأساس في إيمانه وروحانيته ومسيحيته، سيكون دافعًا آخر لنفرٍ من المؤمنين للتهرّب من شكل الإيمان وممارساته وما يترتب عليه من مسؤوليات مسيحية أخرى.
على صعيدٍ آخر، لا بدّ من مراجعة حقيقية في الشؤون الإدارية العليا للطائفة فيما يتعلق بسطوة جهات على مقدرات الطائفة الإدارية في المقرّ البطريركي الذي يوزعُ بركاتِه وتسمياته وتعييناته من منطلق تسلطّ أشخاص معينين لهم كامل الصلاحيات في تسيير شؤون الطائفة بغياب ممثلين حقيقيين عن أكبر تجمّع سريانيّ فيها، ومن بلد العراق تحديدًا. فقد صار المصيرُ قبل سنواتٍ لاستبعاد ممثلين عن هذا الأخير في المقرّ البطريركي وبعض ملكيّاته ومواقعه المهمة في بلدان الانتشار والمقر البابوي. من الجدير ذكرُه، أنّ هذا الأخير كان في الفترة الماضية ولغاية الساعة في مرمى الانتقادات، ليس من جانب الصاحين والمثقفين والحريصين من أبناء إبرشيات العراق فحسب، بل أيضًا من طرف العديد من رجالات الكنيسة، أساقفةً وقساوسة وشمامسةً، من الذين وجهوا ومازالوا يوجهون انتقاداتهم للرئاسة في الكرسي الأنطاكي ببيروت بسبب عدم حياديتها وانحيازها لطرفٍ يملكُ بأيديه مقاليد هذه الرئاسة وتأثره بمواقف سياسية معينة. فقد خلت مواقع مهمة من وجود أو تواجد رعاة من العراق لهم القدرة على إدارة ومتابعة بعض شؤون  الصرح البطريركي، ماعدا أمانة السرّ التي تُحسب هي الأخرى ضمن صنف الولائية لهذه الرئاسة بسبب حيثياتها التاريخية المعروفة. أقول قولي هذا للتوضيح بكل شفافية وصدق، حتى في حالة إنكار بعض هؤلاء المنتقدين من رجال الكنيسة لمواقفهم خوفًا أو جبنًا أو مداهنةً. 
وإن نسيتُ، فلا أنسى طريقة اختيار الأساقفة التي وُضعت لتضمن نصابًا أفضل للطرف الآخر في كلّ شيء وأيّ شيء بعيدًاعن الاستحقاق الواجب بحسب الخدمة والجدارة والشهادة والكثافة في حصة المنتكين إلى الطائفة عمومًا. ولعلّ من الانتقادات الموجهة للرئاسة في بعضٍ من إجراءاتها، حقيقة أخرى شهدتها فترةُ العقد الأخير لظاهرة غير مألوفة تتمثل بكثرة توزيع الإنعامات على عددٍ كبير من الكهنة، منها على وجه الخصوص، الترقية للدرجة الخورأسقفية ولبس الصليب التي بدت غريبة بعض الشيء. هذا إلى جانب رسامة شمامسة إنجيليين بالجملة في بعض الإبرشيات، ما دعا للتنويه والملاحظة. لقد عشنا وشاهدنا وعايشنا فترات من عمرنا منذ الستينات حصرًا ولم نجد مثل هذه الظاهرة في عهود كنيستنا السريانية سواءً في الصرح البطريركي أو في مقرات الرئاسات الإيبارشية، إلاّ ما ندر ووفق الاستحقاق المتميّز الذي لا يمكن انسحابُه تحت أية ضوابط أو مناسبات على جميع رعاة الكنيسة. وإلاّ، ما الفرق أو السمة أو الصفة التي تميّزُ هذا الخادم أو ذاكَ الراعي حينما تساوي بين الجميع من دون تمييز ولا تقييم في الخدمة والأداء والسلوك! 
هناك نقطة مهمة أخرى، تتمثل في غياب الشفافية في الشؤون المالية وأملاك الكنائس لدى بعض إبرشيات الطائفة في العراق حصرًا، من دون منحي الحق بالتطرق لغيرها، تاركًا مجالَ النقد لغيري إنْ كان لهم فيها رأي أو رؤية أو معطيات. وحسب معلوماتي، تخلو عموم إبرشيات العراق (إلاّ ما ندر من بعض كنائسها) من لجانٍ كفوءة تتولى مشاركة الأسقف ورعاة الكنائس في إدارتها والاطلاع على ملفاتها. وتبقى هذه النقطة من أبرز ما يوجّه الانتقاد لمراكز الإبرشيات المهمة. ليس الهدف من هذا الطرح، تنغيص مزاج أحد أو توجيه الاتهام، بقدر ما يندرج ضمن ترجيحات مشاركة أبناء الرعية في إدارة شؤونهم الإدارية والمالية بالشفافية المطلوبة التي يتمناها كلّ مؤمن ومنتمي لكنيسته وطائفته. قد تكون هذه النقطة عامة ومشتركة بين كنائس العراق عمومًا، من دون تمييز أو تحديد، ولكنها في كنائسنا السريانية ينبغي أن تحظى باهتمام آباء السينودس، وبالأخص أساقفة العراق كي يعوا حجمَ مسؤولياتهم ويقنعوا المؤمنين المتسائلين ويجيبوا عن تطلعاتهم وشكوكهم. وهذه حالة صحية، بحسب اعتقادي.
أخيرًا، وليس آخرًا، على آباء السينودس أن يعدّوا العدّة للحدّ من الخلافات والاختلافات الحاصلة بين كنيستنا السريانية وشقيقاتها عمومًا. فالمواقف المهزوزة التي بدرت من رئاسة طائفتنا قبالة رئاسة الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم، لا يمكن تبريرُها البتة. فمن الواضح أنها كانت نتاج أجندات سياسية فيها انحيازٌ واضح لطرف وتجافٍ لآخر، بل وتجاهلٌ للأخوّة التي تدّعي كلّ الرئاسات الكنسية الركون إليها لنشد المحبة والوحدة في وسائل الإعلام والدعاية، فيما الأفعال تتحدث بغير الكلام المعسول. أقول، دعوا كنائسَنا ومؤمنينا وخدام الله يعملون في ضوء توجيهات الروح القدس في نطاق خدمة الكلمة والرعايا ونشر البشارة المسيحية النقية، وابتعدوا عن الانحياز لجهات سياسية، مهما كانت قيمتها المادية وثقلُها السياسي وتأثيرها الشخصي ومغرياتُها. فهذه جميعًا، لا تصبُ في مصلحة الكنيسة ومؤمنيها. وخير نموذج ما حصل ويحصل في العراق بانجذاب رؤساء كنائس وإبرشيات وكهنة لجهات دون غيرها، ما جعلها في مرمى الانتقاد والاتهام والمغالطة بحجة صعود نجم هذا السياسي أو ذاك المسؤول عادّين التقرّب منه ومن الجهة التي ينتمي إليها والتي تدعمه في الخفية والعلن لمصلحة هذه الطائفة أو الكنيسة.
كلّ أمنياتنا لمن يستطيع التغلغل من المدنيين في العراك السياسي لمصلحة الشعب أن يجد طريقَه الصحيح محفوفًا بالنجاح من دون التأثير في الجانب الديني والكنسي. وهذا ينطبق ليس على الطرف المسيحي فحسب، بل ينسحبُ على باقي الأديان. أبعدوا الدين عن السياسة ما استطعتم، بسبب غياب الوعي ونقص الثقافة وقصور الرؤى في مجتمعاتنا لأسباب كثيرة. فالدّينُ والسياسة خطان متوازيان ولا يلتقيان، طالما أدوات السياسة وأهدافُها هي المادة والنفوذ والشهرة والسطوة، فيما الدّينُ سلاحُه المحبة والإيمان والتسامح والطاعة. 

16
الهدوء الذي يسبق العاصفة
لويس إقليمس
 بغداد، في 10 آب 2023
في هذه الأيام، تتحدث قنوات ومواقع صحفية وفيسبوكية وأخرى غيرها عبر تقارير أو في التواصل الاجتماعي عن توقعات تخيلية في تحليلاتها وأخرى لا تخرج عن نطاق التمنيات الطوباوية بترتيباتٍ تجري من خلف الكواليس وتخطّط لعاصفة "تغيير دولية" قادمة لا محالة وهي تحوم حول العراق. ومهما كانت المصادر والمعلومات "الموثوقة" التي يدّعي أصحابُها الحصول عليها أو اقتناصها عبر وسائل أو مراجع سياسية توصف بالدولية، إلاّ أنّ معظمها لا يخرج عن تحليلات ضبابية لمتابعات ميدانية وأخرى بانورامية تتصيدّ عبر القنوات السياسية مدفوعة الثمن أحيانًا أو تلك التي يطيب لها التغنّي بأصوات التغيير بعد ملل وضيق حال وغلق مصالح وفساد عمل. وهذه أيضًا، لا تُنذر في واقع الحال عن إشهار صافرة الإنذار النهائي بتغيير قادم في القريب العاجل وفقًا للمعطيات البيّنة في الشارع السياسي. فكلّ الدلائل تشير بتماسك أصحاب المكاسب والمصالح والمغانم في سدّة الحكم حين تضييق الخناق عليهم، سواءً من جانب الشعب الذي يزداد بؤسًا وتحلّفًا وجهلاً بسبب الضغط الديني والمذهبي والطائفي الذي يُمارسه عليه تجارُ سياسةِ المحاصصة أو بسبب ضيق الذرع الذي أبدته راعيةُ هذه السياسة "أميركا" طالما بقيت مصالح هذ الأخيرة، القومية والاقتصادية والأمنية مأمونة الجانب من طرف وكيلها العام في الدولة الشرقية التي تُحكم قبضتها على مقاليد السلطة في العراق بدعمٍ مبطنٍ منها. فاستخدام ما يُعرف ب"التقيّة" جارٍ على قدمٍ وساقٍ في خضمّ ماجريات الأحداث الساخنة من جانب ساسة البلاد وأحزاب السلطة التي تتآزر مع بعضها كلّما اشتدّ وطيس الاعتراضات على سلوكها الحكومي والسياسي متجهةً صوب التهدئة بأي ثمن يضمن لها البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. فقد شهدنا منها حالات تكررت وسوف تتكرّرُ ضمن هدفٍ واضح وصريح بتقديم الدعم والسند الضروريّين وعبر محاولات حثيثة لنفخ نسمات منعشات في الخفاء والعلن للمنظومة الحاكمة، سواءً من جانب طرفٍ سياسيّ اعتاد ممارسة هذه التمثيلية في المراوغة السياسية الماكرة بين فترة وأخرى أو من أطراف ساندة أخرى تهدف عمومًا لإطالة تنعّم أبطال المنظومة السياسية الحاكمة بأطول وقت ممكن بخيرات البلاد عبر أشكال الفساد والنهب والهدر واللصوصية. ومن غير المهمّ لدى معظم هؤلاء الفاسدين بقاءُ البلد محتضرًا في خانته الاستهلاكية لاقتصاده الريعي المتهالك وترك الشعب قابعًا في خانة البؤس والتخلّف والتبعية والاتكالية والولائية وما في هذه من مخاطر طالما حذّرَ منها الخبراء والمحللون والمراقبون بسبب سوء أداء الطبقة الحاكمة وأحزاب السلطة وزعاماتها. وإلى حين الساعة ننتظر البشرى، إنْ صحَّ شيءٌ ممّا يُقال ويُنشر!
من جانب آخر وفي متابعة لجهود الحكومة الحالية ضمن أدوات الهدوء المشوب بالحذر منذ تشكيل حكومة الإطاريين ومَن والاهم، ينبغي الإفصاح والإقرار إعلاميًا بجدّية البوادر التي يسيرُ عليها البرنامج "الإصلاحي" القائم على قدمٍ وساق، مهما كان نوعه ومداه، والذي يقوده رئيس مجلس الوزراء المتفق عليه والمولود أساسًا من رحم الإطار الشيعي الماسك بالسلطة بأسنانه وأياديه وأرجله وكلّ ما تيسّر له من دعمٍ شرقيّ واضح ومداهنة غربية لا تقبل الشكّ. ومن حيث الواقع، فهو يتلقى دعمه الأساس من إدارة الدولة بكافة مكوّناتها البادية للعلن بموجب وثيقة الاتفاق بينها، تمامًا كما يتلقى دعمًا من الراعي الأمريكي المغمور والمنافق ومَن يدور في فلكه من دول الغرب الانتهازي. لكنه في بعض الجزئيات وبموجب الصلاحيات التي يخولها له الدستور، قد يخرج بمواقف وقرارات معينة استثنائية عن جادة الاتفاق في حالة تشكيل الإطار أو ائتلاف إدارة الدولة ضغوطاتٍ تُفرض على السلطة التنفيذية التي قد تتمرّد في بعض هذه الجزئيات لتخرج عن إخلاصها الولائي لهذه الزعامات، كما هو واضح فيما تتناقله وسائل الإعلام. فالدلائل تشير إلى جدّية السلطة التنفيذية في تنفيذ برنامجها المرسوم، ومنها ما يقع ضمن موجبات التغييرات المرتقبة التي رأت طريقها للتنفيذ مؤخرًا، وتشمل مناصب تنفيذية مهمة في مفاصل الدولة بحسب الوعد المقطوع بإجرائها بعد مرور ستة أشهر وفق المنظور الإداري لدولة رئيس الوزراء. لكن الاعتقاد السائد، أنه وبالرغم من كون مثل هذا التوجه أو الوعد بتنفيذ ما يجول في خاطره من إصلاحات إدارية شاملة، إلاّ أنها لن تخرج عمومًا عن اتفاقات سرّية بين شركاء إدارة الدولة وفق مقاسات محاصصاتية عامة يتفق عليها زعماء الكتل والأحزاب مهما اختلفوا في وسائل التعبير والشتم والانتقاد والتراشق والمناكفات. فهذه لن تُحسب في نهاية الأمر سوى أدواتٍ من ضمن أصوات ناشزة متفق عليها لتمرير اتفاقات بينية كبيرة تحمل في طياتها استمرار تقاسم المغانم وتفاصيل المكاسب التي يتفق عليها الفرقاء في كلّ مناقشة مالية كما حصل ضمن موازنة السنة هذه المرّة أو للسنوات الثلاث القادمات. وهذا من الدلائل التي تؤكد هذا الاتجاه بالحرص الكبير من جانب الطرف الشيعي الإطاري الذي يفرض بصماته على الواقع السياسي بعدم التساهل مع الغرماء، أو حتى من طرف هؤلاء الأخيرين الذين يكفيهم ما ينالونه من حصة الكعكة، بعد ثبوت سمتهم السياسية كمقاولين عموميين بحسب تصريحات بعضهم العلنية من دون تردد ولا خشية من شيء.
فالجميع مشترك في عقد مقاولات "تفليش" الدولة، كلّ بحسب مواصفاته ومصالحه وتوجهاته. وكلّ ما يهمّ، هو عدم تجاوز السلطة التنفيذية على حصص الأحزاب و"استحقاقاتها" الانتخابية أو تعكير مزاج الزعماء ومَن في خطهم الولائي البارز، بحسب مفهومهم الناقص في حكم البلاد والعباد. إنها الفجاجة الكبرى في عالم السياسة بكلّ معنى الكلمة ضمنفترة الهدوء الحالي الذي يسبق العاصفة!


17
في الاختلاف والتعصب
لويس إقليمس
بغداد، في 10 حزيران 2023
قد يكون الاختلاف في الرأي والتباين في الرؤى النابعة من تحليل واقعي لشؤون الحياة وإدارة المؤسسات في اية مجموعة أو هيئة أو دولة مظهرًا من مظاهر التطوّر والوقوف على الصالح والجيّد في البناء الإيجابي لأيّ مجتمع أو مجموعة، وترسيخ أسس المؤسسات في كلّ جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والإدارية وغيرها ممّا يتعلّق بشؤون الحياة اليومية للإنسان والبشرية والأمم. وهذا نابعٌ من فكرٍ واعٍ يسعى لشكلٍ رائعٍ من التكامل عبر تجميع وجهات النظر باختلافها لبلوغ الأفضل للصالح العام. ف"الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية"، كما تقول العبارة المعروفة. من هنا، ليس بالضرورة توافق جميع الآراء حول مفهوم معيّن أو مشروع مقترح أو رأي إداري أو فنّي. بل قد يكون من شأن مثل هذا الاختلاف أن يشكّل حافزًا للبحث نحو الأفضل وإيجاد البدائل الممكنة لرسم خارطة طريق صحيحة يُستلهم منها شكل الإدارة الناضجة بعد إيفائها درسًا وتمحيصًا وتقريرًا. وفي كلّ الأحوال ينبغي احترام جميع وجهات النظر، سواءً المتوافقة أو المتقاطعة، من دون أن يقود هذا إلى ما يمكن وصفه بسوء الظنّ أو تحوّله إلى عداء مقيت ليس من ورائه فائدة أو منفعة لجميع الأطراف.
ثمّة سؤالٌ يتبادر إلى الأذهان. هل يمكن يا تُرى، لشكل الاختلاف في الرأي والرؤية أن يقود إلى منحدرات الخلاف والتعصّب والفتنة والعداء لحدّ التهديد والقتل والتشهير والتسقيط، وما قد تحمله هذه السلوكيات السلبية غير المأمونة من معاني التخريب والتدمير والهدم في مجتمع أو مؤسسة دينية أو مدنية؟ في اعتقاد أصحاب الآراء الراجحة وأصحاب الفكر المنفتح، ليس من العدل والإنصاف بلوغ شكل الاختلاف مثل هذه المنحدرات التدميرية للإنسان والمجتمع والمؤسسة والدولة، ومن ثمّ المجتمع الدولي الذي يحوي جميع هذه الفروع الأصلية ضمن أجنحته الاخطبوطية في إيجاد شكلٍ من التوازن في العلاقات الوطنية المحلية أو الدولية، وحث الجميع على تحقيق شكلٍ فاعلٍ من الأخوّة الإنسانية المجبولة بحب الآخر واحترام خياراته، والتي راجت مؤخرًا بُعيد تحقيق لقاءات مسكونية ودولية بين قادة العالم الدينيين والروحيين والعلمانيين من رجال دين وسياسة مختلفين في أصول الثقافة والتمدّن والأصالة، بعيدًا عن كلّ أشكال الأصولية والتعصّب اللتين تُعدّان من الأدوات التدميرية للإنسان والبشرية والأمم.

في الدّين
على الصعيد الديني في المسيحية مثلاً في الكنائس، كلّما ضاقت المؤسسات الدينية والروحية في شكل توجيهاتها وتعاليمها وتفاسيرها للأصول الدينية والأدبيات والطقوس الكنسية وحصرها في زمن الماضي في هذه الطقوس وفي طريقة أدائها من دون مراجعة صحيحة ووافية لاختيار المناسبِ منها للحياة اليومية الواقعية، جاء تأثيرها سلبيًا على سلوك البشر من الأتباع والسامعين والمتعاطفين، وبما ينسحبُ شكل هذا التأثير السلبي على السلوك الروحي المتأمَّل من فوائده المرجوّة أثناء الأداء والممارسة. فمَن يصرُّ على اتباع ذات الطريقة المنقولة حرفيًا في كتب الأقدمين من طقوس وصلوات، بالرغم من اعتقادنا بصلاح طويّة أسلافنا العظام ومقبولية أدائهم حينذاك وفي ذلك الزمن والظرف والعقلية، إلاّ أنّ ذات المنهج القديم في الأداء قد لا ينسجم اليوم مع تطلعات وظروف البشر والأتباع في هذا الزمن الخاضع للعولمة المتغيّرة وسرعة الأداء والتحوّل وتعدد الانشغالات التي يتحكّم بها الوقت وشكل الالتزامات الآنيّة المتغيّرة مع كل ساعة وكلّ يوم. وهذا يكشف لنا بل ويؤكّد أنّ تطور الحياة ومتطلبات الزمن والمكان تستلزم شيئًا من المراجعة وإدخال التأوين في الأداء واختيار الصالح من الأصل كي يأتي مقبولًا ومنسجمًا مع تطور العصر والفكر والزمن والمكان والظرف والوقت، من حيث اقترانها بالفهم والوعي والإدراك لما يمارسه الإنسان المؤمن من طقوس وصلوات. بمعنى، تتحمل الجهات الأمينة على الإيمان والساهرة على الحياة الروحية للأتباع أن تسعى لإدخال أشكالٍ مقبولة ومناسبة للجميع في اختيار وتجديد الطقوس وتأوين القديم منها كي تتلاءمَ مع الظرف والزمن والمكان. وصدقًا قالها بطريرك الكلدان لويس ساكو لمنتقديه المتعصّبين من طالبي العودة إلى القديم في كلّ شيء عندما كتب "إنّي راع وحارس لإيمان الجماعة وتنشئتهم، ولستُ أمينًا للمتحف".
وهكذا مَن يطالب بتعصّب بتعليم لغة الأقدمين السريانية الآيلة للانقراض إلاّ في أدنى صورها واحتياجاتها واستخداماتها الكنسية في المناسبات. ففي الوقت الذي ليس من السهولة بمكان تحقيق مثل هذه الأمنية على نطاق واسع، حرصًا وحفاظًا على لغة الآباء والأجداد، إلاّ أنّ الجهود التي تبذلها جهاتٌ حريصة وناشطة في هذا الزمن الصعب هي موضع تقدير واحترام في ضوء المستلزمات المتيسرة. وهذا يتطلب من القائمين عليها دعمًا وتشجيعًا، ليس من منطلق العنصرية والتعصّب لأجل اللغة حصرًا التي لم تعد تتجاوب مع مقتضيات العصر والحياة اليومية المتجددة، بل من أجل نقلها وفق منهجية علمية للأجيال بهدف التذكير بالموروث الثري الذي كانت عليه في سابق الزمان وما صابها من انحسار وتراجع لصالح اللغة العربية بعد القرن العاشر أو ربما الحادي عشر الميلادي للأسباب والظروف التي يعرفها الجميع. هكذا هي دورة الحياة! حضارات بلغات مختلفة تسود ثمّ تباد وتتراجع لصالح غيرها، ومنها لغتنا السريانية. والحمد لله أنها مازالت تصارع وتجالد الزمن بهمّة الحريصين عليها والإرادة القوية لمحبيها والحارسين عليها بنقل ما يمكن نقله، سواء بسمتها الفصحى أو عبر لهجاتها العديدة من السورث المحكية في القرى والمدن المسيحية، سواءً في العراق أو سوريا أو لبنان وبلدان الاغتراب بعد سلسلة الهجرات المتعاقبة التي ستترك حتمًا آثارَها كارثية بعد جيلين أو ثلاثة. 

في المجتمع المدني
ذات المنطق يمكن أن ينطبقُ على شكل الحياة في المجتمعات المدنية المتراجعة في كبّ شيء، والتي تعاني من تداعيات أصولية وإرث تعصّبي يأبى ترك الماضي القديم في العديد من تداعياته وسلبياته وتأثيراته على مجاميع البشر، في القرية والمدينة وما يمكن أن تنسحبَ هذه جميعًا على البلد والشعب والأمّة. فالمتعصّب يرفض التغيير في الموقف والرأي والرؤية من منطلق الغيرة المفرطة والالتزام السلبي بمعايير قديمة لا تلبّي طموحات المجتمعات التي تنوي التجدّد والتطوّر مع الزمن وصولاً لحياة آمنة ومرفهة وهادئة في أحضان دولة مدنية متقدمة. فالأفكار المتعصبة عمومًا والتمسّك بأهداب الماضي بكل سليياته التي لم تعد صالحة ليومنا هذا، حتى لو كان هذا الماضي صالحًا لوقته وزمانه وأهله، فإنه اليوم بحاجة إلى تطوير ومراجعة وتغيير كي ينسجمَ مع طموحات الأجيال الجديدة من البشرية التي تبحث عن الأفضل لحياتها التي تعقدت وتطورت وضاقت الأرض بالجميع وبأزمات العالم التي لا تنتهي.
 من هنا، ليس من المعقول أن تسود الأحكام العشائرية في بعض الدول ومنها العراق بصورة خاصّة، في زمن بلغ فيه تطوّر بعض شعوب الأرض ما لا يستطيع تصديقَه عقلُ الإنسان الاعتيادي المتمسّك بجلابيب الماضي المتخلّف الذي لم يستطع أو بالأحرى لا يقبل بمواكبة الحياة المعاصرة بفكرها وسلوكها وشؤونها اليومية السلبية المعطِّلة لعجلة التطور والإنتاج واقتصارها على فرض قوانينها الاجتماعية وأعرافها المتخلّفة ناصبةً نفسها بديلة عن القانون والدستور ومؤسسات هذه الأخيرة الرسمية بحيث اتجهت لخلق مؤسسات موازية ومهدِّدة للدولة في الكثير من سلوكياتها وكأنها الحاكمة بأمر رب العالمين. وقد تستعين العشائر لغرض فرض سطوتها وتمرير قوانينها بدعمٍ من جهات متنفذة في الدولة أو من جانب أحزاب السلطة وشخوصها فارضةً هيبتها وقرارَها بقوة السلاح والتهديد والتشهير خوفًا على مصالحها ومكاسبها وما جنته من شكل هذه السلوكيات السلبية في مسيرة حياتها بسبب المنفعة المادية والحسيّة والعائلية التي أصبحت شكلاً من أشكال التجارة في الحكم وتقاضي المكاسب بل والتباهي بالمبالغ الخيالية الجزائية وإنزال الأحكام والغرامات والتعويضات التي شاعت باسم صفة "الفصل العشائري" سيّء الصيت. وهذا بحدّ ذاته شكلٌ من أشكال التعصّب السلبي في تطرّفه وأدائه وطريقة تعامله في المجتمع، ما ينبغي رفضُه رفضًا قاطعًا بسبب استفحاله في الفترة الأخيرة في مجتمعنا واتخاذه مناحي سلبية عبر رفض تدخل قنوات الدولة الرسمية وأجهزتها التنفيذية في الحدّ من سلوكيات العشائر غير المقبولة بل الخارجة عن القانون. وربما حصل هذا ومازال يحصل غيرُه كثيرٌ في الكواليس بسبب ضعف الدولة وأدواتها القضائية وأذرعها التنفيذية وصبغة التواطؤ في الأجهزة مع أصحاب الفصل أحيانًا لتغيّر الأسباب والعوائد. وبالرغم من سعي أجهزة الدولة الأمنية المتعددة ووزارة الداخلية للحدّ من هذه الظاهرة الخطيرة، إلاّ أنّ البلاد تشهد يوميًا حالات متجددة من فرض الأتاوات أو ما يُسمّى بالفصل العشائري الذي يؤدّي إلى مزيدٍ من التقاتل بين أبناء العشائر لأتفه الأمور أحيانًا، أمام أنظار الأجهزة الحكومية. وفي كلّ الأحوال، ليس للمعترض أو المخالف مكانٌ وقيمةٌ في المجتمع العشائري عندما يرفض الخضوع لقوانين العشيرة وقراراتها المجحفة في الكثير منها.

في عالم السياسة
في عالم السياسة أيضًا، تحتل المواقف السياسية العقائدية أي تلك المرتبطة بأيديولوجية عقيمة متخلفة جامدة لا تقبل التطويع والتعامل مع مستجدات الحاضر، دورًا هامًّا في تعقيد المشهد السياسي برفض هذه الفئات العقائدية بالتعامل المرن التوافقي مع الشركاء إلاّ وفق أجندتها ومصالحها ورؤية صاحبها. وهذا شكلٌ آخر من أنواع الترهيب وفرض الرأي بقوة العقيدة التي تستقي قوتها وثباتَها السلبي من أصول عقائدية جامدة ترفض التغيير الإيجابي في سلوكها وتعاطيها مع الشركاء في الوطن. وفي الكثير من الأحيان يستخدم رموزُ هذه السياسة للسمة العاطفية في تحشيد الأتباع والتحريض ضدّ المعترضين لأفكارها وطريقة أدائها السياسي بعيدًا عن الإجماع العام الذي ينبغي أن يكون سيّدَ الموقف عبر تنازلات متبادلة وتفاهمات تكتنفها الصراحة وقبول الفكر المختلف وصولاً لحلولٍ وسطية مقبولة من جميع الأطراف. فلا يكفي فرض النظريات والتوصيات والفرضيات التي تزيد من حالة الجمود الفكري وتخلق شبكات بل مجتمعات منغلقة تأبى التفاوض والتفاهم والحلول الوسطية لبناء مجتمع آمن ومستقرّ ومرفّه في آنٍ معًا. وهذا ما نحتاجُه في عراقنا، ليس بفرض جهة معينة لأفكارها وتصوّراتها على الساحة السياسية المضطربة، بل بقبول تصورات وافكار الشركاء وأصحاب الفكر والعلم والثقافة، وحتى قبول أفكار عامة الشعب الذي يمثل القاعدة الأصيلة المرشحة الداعمة لأية مجموعة سياسية في أي زمان ومكان.
من هنا، لا بدّ لأصحاب النظريات العقائدية أن تتفاعل مع شركاء الوطن والمجاميع المجتمعية المختلفة في قومياتها وأديانها ومذاهبها وطوائفها وأحزابها وتعدّد ثقافاتها وإرثها الديني والحضاري، إنْ هي أرادت النجاح في مساعيها للحكم الرشيد الذي ينبغي سلوكُه من الأطراف الجادّة في خدمة المجتمع والشعب والأمة والدولة. وهذه من أبسط المبادئ في الحكم الرشيد عبر تطويع النظريات والأفكار والفرضيات لخدمة المجتمعات والأمم كبحًا لجماح الأفكار المتعصبة التي تسكن عقول بعض الزعامات وأفكارهم ورؤيتهم في نمط الحياة. هكذا تكون النتائج الكارثية لآفة الصراع المتجدّد في البشرية عمومًا عندما يكون المتسبب فيها هو التعصّب العقائدي الأعمى والتطرّف في الفكر والانتماء والتعامل اليومي. ولا شيء غير العمل الصالح وبما يرضي الله والإنسانية، إلى جانب الثقافة الإيجابية وتلقّي التعليم والتربية الصحيحين بديلاً للسلوك الهوجائي غير المتمدّن وغير المتحصّن بالتحضّر في كلّ شيء، في المأكل والملبس والتداول والتفاهم واحترام الآخر المختلف والسلوك اليومي وفق مفهوم إنساني ومن منطلق تساوي جميع البشر في الخلقة وفي الحقوق والواجبات من دون تمييز.


18
في احترام الاختلاف وحرمة إهانة المقدّسات
لويس إقليمس
بغداد، في 5 تموز 2023
تشكل الذاكرة الجمعية العراقية شيئًا كبيرًا في ثقافة أبناء الرافدين باختلاف مشاربهم الدينية والإتنية والفكرية بسبب زحمة أشكال الإحباط والنكوص والتراجع المتتالية في الأخلاق والسلوكيات عبر التماهي مع فساد مَن أتاح لهم الغازي الأمريكي المتغافل عن هذه جميعًا. وهذه جزءٌ بسيطٌ من نتائج رعايته غير السديدة بل اللاّمبالية بأخلاقيات المجاميع البشرية في البلاد بعد أن سمح لغير المستحقين وغير الجديرين بإدارة عجلة البلاد بالطريقة القائمة منذ أكثر من عشرين عامًا، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا بعيدًا عن أساسيات حياة الزمن الجميل المتعارف عليه. فقد تشبّع الواقع المرير في السلوكيات غير المتزنة لنفرٍ من الضالّين والمرضى النفسيين على كثرتهم، بكلّ صور التخلّف والتزلّف والتراجع في القيم والإنتاج وحب الوطن والعمل المشرّف في أيّ حقلٍ من حقوله. كما أرخت العديدُ من أحداثه أربطتَها الجميلة وأواصرَها القوية في تقليدها لصالح حكايات وروايات وسلوكيات وأفعالٍ غير مدروسة بل غير متزنة لا تنمّ في الكثير منها إلاّ عن شكل التربية البيتية والمجتمعية الضعيفة والهزيلة السائدة في الوسط المعاش. فيما تتحمّلُ الدولة ومؤسساتُها التربوية والتعليمية ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى الوسط العائلي المتهالك والسماح بسيادة العرف العشائري بدل القانون، الجزءَ الأعمَّ في أسباب هذا الانحدار الخلقي والمجتمعي الذي يشكلُ جزءً من شكل الضعف البادي في إدارة الدولة ومؤسساتها لمجتمعاتها المتهالكة. فعندما تضعف مؤسسات الدولة التربوية والتعليمية والقضائية والسياسية والاقتصادية والمالية والإنتاجية في شكليها الصناعي والزراعي في مجملها، فإنه لا ينتج عنها سوى مثل هذه الترّهات والسلوكيات والتصرّفات غير المستساغة التي تفتقر للتنشئة الصالحة في توجيهها وثقافتها. فهذه دومًا نتاج التراخي في فرض هيبة الدولة ونمط التربية والتعليم ودور القضاء الذي يتماهى مع أرباب السلطة وزعاماتها والفاسدين فيها ويغضّ الطرف عن الأسباب الحقيقية وراء مثل هذه السلوكيات غير المقبولة. فعلى أشكالهم يولّى عليهم!
لقد انشغلت العديد من الفعاليات المحلية والدولية في الأيام الماضية بما حصل من جريمة إحراق نسخة المصحف الذي يُعدّ من مقدّسات إخوتنا المسلمين أمام دارة دينية في مملكة السويد بحجة احترام الحريات الشخصية عندما سمحت أجهزة الشرطة بهذا الفعل الشائن الذي استنكره جميع الأسوياء من جميع الملل والجماعات. قد يكون هذا النفر الضالّ الذي قام بمثل هذا الفعل الشنيع في حركة صبيانية استفزازًا لمشاعر أكثر من مليار ونصف مسلم في العالم،  قد انطلق من إيديولوجيا فردية قاصرة وفكر ضحل لا ينتمي للإنسانية واحترام حقوق الإنسان بشيء بسبب الظروف التي نشأ فيها وارتباطه المتهوّر غير السويّ بجماعات سياسية ميليشياوية عملَ معها في بلده في ظروف استثنائية غير صحيحة شابتها الكثير ممّا شابَ مَن يُعدّون جزءً من كيان السلطة الهشّة الغارقة في أشكال الفساد والانعزال عن الشعب في سياساتها التحاصصّية غير الرصينة وهي تلملمُ كلَّ ما تستطيع من أدوات الجاه والمال والنفوذ، ممّا يُعدّ من بديهيات إنتاج مثل هذه السلوكيات التي أقدمَ عليها هذا الفرد الذي وصفه الكثيرون بالمعتوه. وأيّا كانت الصفة التي يستحقها، فالفعل في حدّ ذاته مكروه ٌ ومستنكَرٌ ومرفوضٌ جملةً وتفصيلاً. فالإنسان السويّ يسعى دومًا للعيش الآمن الرغيد والسلم المجتمعي الذي يحفظ كرامته وكرامة الآخرين بذات القدر على نفسه وأهله وبني قومه. وهذا من أبسط الحقوق والواجبات.   
عندما يشعر المواطن في بلده وفي مجتمعه بشكلٍ من أشكال الظلم والاستغلال والإهمال والاستخفاف بحاجاته وفي قتل طموحاته وهو في عزّ شبابه، فإننا لا نتوقع منه فعلَ المعجزات في التضحية بكلّ ما يملك لخاطر عيون الساسة وزعامات السلطة ووجهاء المجتمع من مدنيين ودينيين وسياسيين. والحالة الطبيعية في مثل هذه الظروف أن ينفجر مثل هذا الإنسان غير المستقرّ. ومن الطبيعي أيضًا أن يُقرنَ مثل هذا الانفجار بأفعال صاخبة جنونية غير متزنة وغير رصينة لتكشف عنصر الضحالة والنقص وفقدان التوازن في السلوكيات لديه، متيقنًا بأنّ مثل هذا السلوك الطائش كفيلٌ بإعادة الحقوق والحصول على المرام، أيًا كان شكلُه أو أداتُه. فالشخص الذي أقدمَ على هذه الفعلة المكروهة البشعة لا تستقيم عنده كل دوافع الخير أو الشرّ، طالما لا يتسم عقلُه وفكرُه بتقدير نتائج أفعاله وحصيلتها عليه شخصيًا أو على أهله وبني جلدته ودينه وطائفته. وهذا ممّا حمل حتى أهلَ بيته ومقرّبيه لاستنكار الحالة وإدانته والتبرئة منه ومن فعلته البشعة.
أمّا افي حقيقة الإدانة الدولية، فيكفي ما صرّح به بابا الفاتيكان ناطقًا باسم الإنسانية والمجتمع الدولي والكنيسة الكاثوليكية والمسيحية عمومًا في التعبير عن سخطه الشديد وشجبه لفكرة السماح بهذه الفعلة بحجة الحرية الدينية والفكرية. فالفكرة فوضوية ومرفوضة أصلاً. وطالما أن الكتاب تقدّسه جماعة لذاتها، فهو في عداد المقدَّس وواجب الاحترام من الغير حتى في اختلاف العقيدة والفكر والتأوين والرؤية. وهذه من بديهيات احترام العيش المشترك لأيّ مجتمع يبحث عن البناء والعلاقة الطيبة والحياة الرغيدة والأمن المجتمعي على السواء. ومن ثمّ لا ينبغي استغلال مسألة حرية التعبير تبريرًا للانتقاص من مقدسات الآخر المختلف أو احتقاره، ما يبعث على نشر الكراهية والحقد وحالات من الاستفزاز والعنف التي يمكن أن تقوّض الواقع المعاش في أدنى صوره وأشكاله. لكن في اعتقادي، لن يستطيع مثل هذا الفعل الشنيع الذي أقدمَ عليه هذا الفرد المنعزل بل المعزول مجتمعيًا ودينيًا أن يقوّض واقع التفاعل القائم بين الجماعات الدينية والإتنية في بلادنا بعد حالات الإدانة والشجب التي صدرت من جهات مسيحية محلية ودولية ووطنية وثقافية مختلفة الاتجاهات والفكر. فهذه لا تتجاوز حالات شاذة لمَن يسعى للشهرة والمال في مثل هذه الفعال غير المتزنة. إنّما الحكمة في عقول مَن سعى ويسعى لاحتواء الجنبة وعدم تمدّدها وحصرها داخل عنق الزجاجة وإغلاقها بسدادة محكمة غير قابلة التوسع والاستغلال لصالح جهات مشبوهة ترعى وتستغلّ مثل هذه الحالات الشاذّة في كلّ تفاصيلها.
ويبقى احترام الاختلاف في الدين والمذهب والقومية والفكر والرؤية من حق الجميع واجبَا موجبًا لكونه من اساسات ولَبَنات البناء المرصوص في شكل هذا الاختلاف الذي يُعدّ غنى مهما اختلفَ عليه البشر. أما السلوكيات الملعونة من أمثال هذه وغيرها وكلّ ما يدخل في قائمة الشعبويين وأصحاب الفكر الطائش المريض والمنغلق، فهي خُلقت لتدمير نسيج العقد الاجتماعي في ايّ مجتمع متماسك من دون الوعي بنتائجها السلبية على الفاعل والمفعول معًا. كما تبقى الإساءة لمقدّسات أية جماعة أو فئة من المحرّمات الواجبة سواءً في كتبها أو رموزها أو مواقعها. فهذه حتمًا من أشكال التطرّف المنبوذ والتعصّب المرفوض والانغلاق غير المبرّر في الفكر والقول والفعل.



19
المكوّن المسيحي ورئاساته في العراق تحت رحمة المنظومة السياسية
لويس إقليمس
بغداد، في 11 تموز 2023
سابقة خطيرة أن تقع رئاسة الجمهورية في عراق ما بعد الغزو الأمريكي الأهوج، تحت ضغوط من أطراف أو طرف من داخل المنظومة السياسية الحاكمة بمبدأ تقاسم المناصب والسلطة والمال والنفوذ عبر أدواتها المشكوك في إدراكها واستيعابها وفهمها الصحيح للوضع الدستوري والقانوني لتولية أصحاب الشأن في رئاسات الطوائف والكنائس. لم يحصل مثل هذا طيلة قرون سابقات حيث اعتاد رؤساء الطوائف المسيحية جميعًا في البلاد أن ينالوا البراءات السلطانية على توالي الحقب الزمنية السابقة منذ الخلافات العباسية بصيغة إجراءات رسمية. واستمرّ الوضع على ذات المنوال على عهد السلطة العثمانية بإصدار فرمانات التولية الشرعية والقانونية والدستورية بموجب عقد متعارف عليه. كما تواصل ذاتُ النهج في العهود الملكية والجمهورية ولغاية السنوات المنصرمة من حقبة الغزو الأمريكي. أمّا ما حصل من قرارٍ أخير مفاجئ صادر عن رئاسة الجمهورية بسحب المرسوم الجهوري ذي الرقم 147 لسنة 2013 بحق غبطة بطريرك الكلدان في العراق والعالم، نيافة الكاردينال لويس ساكو، فهو يستدعي وقفة وطنية ومسيحية ومكوّناتية جريئة أمام مثل هذا الانزلاق غير المدروس بروية، بل المشكوك في جوهره القضائي من كونه غير مبنيّ على أساس دستوريّ. 
إنني أدعو مجلس شورى الدولة والحكماء في القضاء العراقي والمستشارين القانونيين وأصحاب الإرادات الطيبة والعقلاء من المثقفين وأصحاب الغيرة الوطنية لتدارك الولوج في هذه المنزلقات والمضي في هذه المنحدرات الخطيرة التي لا تبشر بخير، بل ستزيد من نقمة ومعاناة أتباع هذا المكوّن الأصيل الذي يدّعي الجميع تمسُّكَه به ويشيد بما لديه من طاقات وقدرات وإيمان في إبقاء انتمائه للوطن ولأرضه وسمائه ومياهه ضمن أجمل ما خلقه الباري من فسيفساء تُجمّلُ أرضَ الرافدين وترصّعُ ثقافة الوطن وتراثه ونمط حياته بأفضل ما حباه الله من صفات الإنسانية وروح الخدمة والعمل الجادّ والوفاء والأمانة والغيرة. وكما يبدو، فإنّ إذعان رئاسة الجمهورية لقرار قضائيّ بعدم دستورية المرسوم الجمهوري للبطريرك ساكو، جاء في هذا الوقت بالذات من دون شكّ بسبب بروز ضغوط خارجية وداخلية، سياسية أو غيرها، ممّا سيكون له تداعيات كبيرة وكثيرة، ليس على صعيد الكنيسة الكلدانية فحسب، بل على صعيد مجمل طوائف وكنائس العراق. أي بمعنى آخر، من الممكن أن تطال قرارات مشابهة غيره من الرئاسات الكنسية الباقية التابعة للمكوّن المسيحي أو غيره من المكوّنات الأخرى التي تخضع لذات المراسيم في التولية. وقد "يسمح مثل هذا القرار بالتلاعب بأوقاف الكنائس من قبل جهات متنفذة وفاسدة لها اطماعها الواضحة أو في إمكانية استكمال ابتلاع عقارات المسيحيين في بغداد ومناطق تواجدهم في المحافظات بغية الاستيلاء عليها بطرق ملتوية غير قانونية"، كما ترى أحزاب مسيحية عديدة.
في اعتقادي، يحتاج الموضوع أن ينال ما يستحقه من أهمية في إبراز شكل التداعيات المحتملة لهذه الحملة الجديدة غير المبرّرة ضدّ المكوّن المسيحي ورئاساته الكنسية بالذات التي نالت شرعيتها من السينهودسات الكنسية (المجامع) رسميًا على الصعيد الوطني والدولي، ولاسيّما ما يمسّ البراءة البابوية في سلطة الفاتيكان التي لها مسؤولية تثبيت قرارات المجامع الكنسية المختلفة التابعة للكنيسة الكاثوليكية حصرًا. أمّا تدخل الدولة وساستُها وأحزاب السلطة، في رفض أو تقاطع أو إلغاء مراسم خاصة تقليدية برئاسات هذا المكوّن لا لشيء إنّما بسبب تقاطعات فكرية ومبدئية ومصلحية خاصة في معظمها، أو لأجل الاختلاف في الرأي والرؤية والأحداث أو بسبب النقد الإيجابي للسلبيات القائمة في مجمل حكم المنظومة السياسية ما بعد الغزو الطائش، فهو سيبقى خارج السياقات لكون الرئاسات الكنسية تنال شرعيتَها من هذه المجامع التي وحدها لها الحق في تثبيت وتقييم عمل أية رئاسة كنسية، ولاسيّما ما يتعلّق منها بالمرجعية البابوية في الفاتيكان فيما يخص الكنائس الكاثوليكية بشأن موضوع الساعة الخطير.

ساكو جبلٌ لا تهزّه الريح
لقد أبلغ المعاون البطريركي للكنيسة الكلدانية المطران باسيليوس يلدو في وصفه رأس كنيسته غبطة البطريرك ساكو بكون الأخير "جبلاً لا تهزّهُ الريح"، لأنه ببساطة شديدة، رجلُ المبادئ والنزاهة العامر قلبُه بحب الوطن والراعي الساهر على شؤون رعاياه والحامي لخرافه بعصا الراعي الصالح، لا بقبل بالخطأ ولا يسكتُ عن الفساد مهما كان شكلُه وحجمُه وطبيعتُه ومِن أيّ شخصٍ كان في الدولة أو في الكنيسة أو في الوطن أو في الرعية. فهو "عندما يتبنى قضيةً معينة يدافعُ عنها حتى الرمق الأخير". وهذا ما أعرفُه عنه أنا ايضًا شخصيًا حيث عشتُ معه ست سنوات زميلاً وأخًا في ذات المعهد الذي نشأنا فيه بالموصل بداية السبعينات من القرن الماضي، ولازمتُ صداقته بعدها بسنوات ولغاية اليوم. ونحن مازلنا على ذات الخط الإصلاحي نتناقش ونتحاور ونتبادل الآراء والحوارات لأجل خدمة الكنيسة في العراق وما يخصّ مصلحة المكوّن المسيحي في عمومه. فهو حقًا صاحب مبادئ ولا تهزّه رياح النقد اللاّذع ولا آراء الأتباع الرافضين لأية مسحات أو أفكار تنويرية وتطويرية وتأوينية تخدم النفس والروح وتقرّب من خالق الكون ومن الإنسان، أيّ إنسان، باعتباره خليقة الله الحسنة التي تستحق الخدمة الطيبة والكلمة الحسنة والمشورة الصالحة. فالكاردينال البطريرك ساكو مرجعُه الديني هو الفاتيكان وليس رئاسة جمهورية العراق. ولا حقَّ لهذه الأخيرة على وضعه الديني على رأس كنيسته وطائفته لكونه الأكبر بين إخوة كثيرين من رئاسات كنائس شقيقة أخرى تخشى على نفسها ذات المصير في يومٍ من الأيام إذا ما تفاقمت مشاكل أو تصاعدت خلافات مع جهات سياسية أو أحزاب على راس السلطة في هذا البلد المتعب والمثقل بأشكال الفساد والمصاعب والأزمات والتناقضات والتقاطعات في المصالح والمكاسب والمغانم لأسباب باتت معروفة للجميع في الداخل والخارج. فمَن يحكم البلد تنسيقًاً وتأييدًا مِن ومع راعي العملية السياسية بصفة محتلّ مشكوكٍ في رعايته واهتماماته وتوجهاته، لا يمكن الوثوق به إزاء مثل هذا الإجراء المنفر الذي وجّه سهامَه الخبيثة مؤخرًا لرمزٍ من رموز الوطن الذي يعترف له الكثيرون في الداخل والخارج بالحكمة والدراية والوطنية والمعرفة والعلم وحسن الاطلاع على خفايا ومزايا وحنايا كثيرة لا يسعنا الولوج في أهميتها بسبب حراجتها وصعوبة غور أعماقها وفهم أبعادها.
 وفي ذات السياق، لا يسعنا إلاّ أن نتشارك مع ما أدلت به شخصيات سياسية ودينية بارزة بدلوها في هذا الصخب غير المبرّر في أساسه، حيث أبرز السياسي المعروف والقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري في تدوينة صارخة، "بعدم دستورية مثل هذا الإجراء وخطأَه، وبكونه علامة واضحة بالتجاوز على حق المكوّن المسيحي الأصيل ورمزه، و"إيغالاً بتهميشه من جانب حامي الدستور، مشدّدًا في الوقت ذاته على خطأ دستوري و اجتماعي سافر جسيم ارتكبته الرئاسة بإقحام نفسها في هذا النفق المظلم وبإمكانية خلقها ازمة مع مرجعية الڤاتيكان" التي ترى في شخص ساكو رمزًا وطنيًا وحاميًا ليس لأتباعه الكلدان فحسب بل لجميع المسيحيين في البلاد والمنطقة وبلدان الشتات، وباعتباره رجل دولة وكنيسة معًا، له مكانتُهُ وموقعُه العراقي والإقليمي والعالمي. وفي ذات السياق، لم تقف معظم الأحزاب المسيحية مكتوفة الأيدي، بل أصدرت بياناً تضامنيًا مع راس الكنيسة الكلدانية لاعتقادها الثابت بكون المسألة كيدية أكثر منها قانونية أو دستورية مشكوكٍ فيها.
إنّ "البلاد ليست بحاجة الى هكذا قرارات ومراسم اعتباطية وغير مدروسة، ما يستوجبُ والحال هذه الركون إلى مراجعة جادة بحسب المنطق" كي تستقيم الأمور ويسترجع أبناء المكوّن المسيحي بعمومهم لحلقات الثقة الكثيرة التي أصبحت مفقودة بينهم وبين أدوات السلطة الرباعية الحاكمة وأدواتها في الرئاسات الأربع عندما ثلمت العلاقة بقطع حبل الصفة الرسمية التي طالت مرجعهم الكنسي الأعلى في البلاد، وذلك بسبب التداعيات الأخيرة وما شابها من تعقيدات وإجراءات كيدية لم يكن لها أن تقع أو تحصل بين طرفي القضية التي شابها أشكالٌ من تدخلات مشبوهة وضغوطات جانبية مشكوك في صحتها ولا تستقيم مع سيماء الوطنية واحترام التبعية الكنسية والمرجعية الدينية. وهذا ممّا حدا بتعبير الكثيرين عن شديد الاستغراب من مثل هذا التطور غير السارّ والناشز في العلاقة بين الدولة والكنيسة، ورئاستها الرمزية العليا تحديدًا. ولعلَّ جزءًا من شكل هذا الاستغراب في طريقة سحب المرسوم الجمهوري يكمن في عدم اعتراف الرئاسة العراقية بسنده القانوني والدستوري الذي تم إصداره في عام 2013 من قبل رئيس الدولة الأسبق بمراسم رسمية أمام الملأ. وأكثر ما نخشاه اليوم بعد هذا التطور غير السار وغير القويم من أن تتوجه النوايا غير الطيبة بين أحزاب السلطة وأدواتها وأذرعها لتقاسم ولاءات رئاسات الكنائس والطوائف أيضًا كما هي الحال في الصراع القائم إزاء المكوّنات الأخرى التي تخشى ما قد ينتظرها من تدخل سافر في شؤونها التنظيمية والدينية والإدارية وفي أملاكها ومقتنياتها في حالة انفراط عقد الثقة بين الأطراف جميعًا واتجاه الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه.
    نحن إذ نرى كما يرى غيرنا ذات الخشية من تراجع الدولة العراقية وحكوماتها وساستها وأحزاب السلطة فيها وأدواتها من قلّة احترام أو تراجع شكل هذا الاحترام إزاء الرئاسات الكنسية الأخرى بسبب تداعيات الخلاف الأخير الذي جرّ أحد طرفي القضية من موقع سياسي بحت للجوء إلى القضاء الذي وقف لجانبه لأسباب قد تجهلُها العامة وبسطاءُ الشعب والأتباع. وهذا ممّا استدعى الطرف المتضرّر من القرار الأولي للقضاء أن يلجأ هو الآخر لهذا الأخير طعنًا بما يراه غير قانوني وغير دستوري وغير متوافق مع السياقات التاريخية والتقليدية التي سادت منذ قرونٍ في مسألة تولية رؤساء الكنائس والطوائف في عموم البلاد، وذلك في حالة عدم تراجع الرئاسة عن قرارها غير المدروس والخاضع لظروف غير مستقيمة وضبابية في مشورتها وتقييمها وإقرارها. ومن الملاحظ في الرسالة المفتوحة الأخيرة ضمن ثلاث رسائل بعث بها صاحب القضية رأس الكنيسة الكلدانية إلى فخامة رئيس الجمهورية في العراق، دبلوماسيتَه الهادئة والمؤدبة المجبولة بالعتاب والحسرة في توجيه الخطاب إلى مَن يصفه ب"حامي الدستور وضامن العدل والمساواة للجميع"، معاتبًا ومتسائلاً عمّا هو مقصود حقًا ب"عدم وجود سند قانوني أو دستوري لمرسوم التولية " الصادر قبل أكثر من عشر سنوات خلت. وهل في إصدار هذا المرسوم خللٌ أو خطأٌ لا سمح الله لم ينتبه له الرئيس العراقي الراحل مام جلال ولا مستشاروه ولا ساسة البلاد؟ فهذه من النوادر التي قد تتندر بها الألسن وتتساءل العقول والنفوس عن فحوى هذا التفسير وهذا التبرير في هذا الوقت بالذات. وإلاّ، فلا الرئاسة ولا القضاء ولا السلطة التشريعية والتنفيذية ولا الساسة ولا أحزاب السلطة وأدواتُها يدركون خطورة مثل هذا الإجراء، ليس على صعيد الكنيسة الكلدانية وأتباعها بل على سائر أتباع الكنائس الأخرى وعلى الوطنيين الصادقين والمواطنين النزيهين في البلاد الذين لا يخشون في الحق لومة لائمٍ. فمثل هذا القرار قد يدخل ضمن الشكوك الدائرة حول جدّية احترام الحكومة والدولة لهذا المكوّن الأصيل وأتباعه ويقف حجر عثرة لعودة مَن يرغب جاهدًا من أبناء البلد المنتشرين في دول الشتات إلى البلاد في حالة عدم إرسال رسالة اطمئنان واضحة وصريحة في هذه القضية التي أخذت تنتشر آفاقُها وآثارُها وتداعياتُها مثل النار في الهشيم. 
وكلّنا أملٌ ألاّ تكون هذه الوصمة غير السارة علامة واضحة وسلسلة أخرى القصدُ منها استهداف مَن تبقى من أبناء هذا المكوّن الذي يعاني أصلاً من تردي أوضاع مناطقه، ولاسيّما بالهجمات الشرسة القائمة والمخطَّط لها في إحداث التغيير الديمغرافي في مناطق تواجده الأصلية بسبب زحف جهات نافذة على أراضيه وممتلكاته بحجج وتبريرات غير منطقية بالرغم من صدور ما يضمن هذه المخاوف من جانب المحكمة الاتحادية منذ سنوات خلت. فهذه رسالة أخرى غير مطمئنة نخشى عواقبها!

20
أمريكا في الزمن الصعب
لويس إقليمس
بغداد، في 18 نيسان 2023

يومًا بعد آخر، يشهد العالم انحدارًا متواصلاً بسمعة زعيمة القطب الواحد، أمريكا، التي فرضت هيمنتها على شعوب العالم لعقودٍ بعد اختفاء ندّها الشيوعي-الاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفيتي الذي تآكلَ مع الزمن بفعل الأحداث الساخنة والعديد من المؤامرات الدولية التي حيكت حينها من أجل إزاحته من أمام البلدوزر الأمريكي ليبقى الأخير مسلّطًا سوطَه على سائر الدول والمنظمات الفاعلة، وخاصة المالية منها. فقد سعت أميركا وطابورها الغربي السياسي والديني والاجتماعي لسنوات عديدات، بنسج مؤامراتها اللاّأخلاقية بهدف الإطاحة بحكم البلاشفة الذين وقفوا قطبًا ندّيًا لطموحاتها منذ انتهاء الحربين الكونيتين اللتين طحنتا الملايين من البشر وأحالتا دولاً وشعوبًا إلى حافة الفقر وإلى بروز مكامن الاستبداد والفساد والقهر ضدّ مصالح بلدان وشعوب سقطت أسيرة الفاقة والفقر والعوز بفعل فاعل. وبالتأكيد، يعي قادة الشعوب كما فلاسفة الأمم ومثقفوها وتجّارُها وعلماؤُها ومخططوها وساستُها فرصَ القيام والنهوض والتطور لدولٍ وشعوب إلى جانب نقيضها في الأفول والسقوط والتخلّف مع تقادم الأيام والسنين والأزمان. فالحضارات تسود حينًا لتفنى وتتلاشى بعد حين، حتى لو طال بها الزمن عقودًا وقرونًا وألفياتٍ. وما أكثر الحضارات التي سادت ثمّ بادت، ومنها في بلاد ما بين النهرين، وما بقي منها خيرُ شاهدٍ على عظمة فتراتها وحضورها وتأثيرها وسيادتها على شعوب ودول العالم في فتراتٍ سابقاتٍ هالكاتٍ أصبحنَ في خبر كان. فهذه لم تعد تنفع أو تشفع لأحدٍ من وارثيها أو المنادين أو المدّعين بالانتساب أو الاحتكام إليها حين التفاخر بزمن صعب بواقع حالٍ أسقطَ كلّ الذرائع إلاّ فيما تعلّمته شعوبُ الأرض والأمم من دروس الماضي، وحكمة فلاسفة الواقع، والعِبَرِ من مصائب الأحداث التي فرضت واقعًا جديدًا لأيّ شعبٍ أو أمّة أو دولة. فالأمم والشعوب بواقعها الحاضر وليس بماضيها التليد الغامر الذي اختفى ومعه اختفت كلُّ شناشيلِ الماضي وفذلكاتُه وإرهاصاتُه المغمورة، المعلنة منها والمخفية.
هكذا هي أمريكا، قوّة القطب الواحد التي فرضت هيمنتها على العالم بقدراتها المالية والصناعية والاقتصادية والتسليحية، والأكثر، المشبوهة والمدسوسة في نظر سائر الأمم والشعوب التي ضاقت ذرعًا بسلوكياتها وتناقضات أجهزتها وإداراتها على مدى السنوات التي فرضت سطوة القطبية الواحدة على دول العالم ومنظمتهم الدولية مثيرة الجدل التي تقف دومًا مع المقتدر الجبّار والظالم على حساب حقوق الأمم والشعوب المغلوبة والمقهورة التي تواصل امتداد جهلِ شعوبها وإبقائها ضمن إطار طاعة الأقوياء ومستغلّي القدرات الكامنة لبلدانها وتعدّدِ ثرواتها كي تبقى أسيرة الحاجة الخارجية التي تتكرّم بها أمريكا وأذيالُها من دول الغرب التابع الذليل لها. وبشكل هذه السياسة الاستغلالية لحاجات الشعوب الفقيرة في الإنتاج والصناعة والزراعة، ماتزالُ دولةُ القطب الواحد تُحكم سطوتَها على غيرها من الدول والشعوب تارة بحجة تقديم المساعدات الإنسانية، وطورًا بحجة إرضاعها حليبَ الديمقراطية المفقودة في بلدانها بسبب الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية التي تأتي بها للحكم باسمها واقعًا في الخفاء. لكنّ حكمة الزمن تذكّرُ البشر بدوران الدوائر لكون العالم غيرَ مستقرٍّ أو ثابتٍ لأحد أو لصالح دولة أو أمّة دون أخرى. ومهما بقي المتجبّر مستلاًّ سيفَه، ففي نهاية المطاف يأتيه السقوط والتراجع في زمن ما كي يستعيد وعيه ويتذكر قدرة عليا يمكن أن تتجبّرَ عليه بعد دوران الدوائر. والعبرة في مقولة "إذا دعتك قدرتُك على ظلم الناس، فتذكّرْ قدرةَ الله عليك"، تنطبق اليوم على معظم الدول التي تتحكم بمصائر الشعوب والدول الفقيرة التي تُستغلُّ ثرواتُها والمواد الأولية فيها لتشجيع وتنشيط صناعة الغرب الاستعماري المصرّ على صيغة الاستغلال المهينة هذه ووأد أية مساعٍ لإنعاش اقتصاد البلدان الفقيرة. بالتالي، تلكم هي مصائر البلدان المتجبّرة على غيرها بالسطوة والقتل وزرع الفتنة واستخدام نوافذ الانتقام وما فيها ومنها من موبقات السلوك السياسي الخائب. حينئذٍ لا يشفع حليفٌ ولا ينفعُ صوتُ مفتي من أشكال وعّاظ السلاطين ولا دعاءُ رجلِ دينٍ ذليلٍ مدّاحٍ ردّاحٍ يقتات على فتات موائد الساسة الفاسدين الأشرار مغتصبي حقوق الشعوب المقهورة بجبروتهم وسرقاتهم وهدرهم لأموال الفقراء وميزانيات دولهم، تمامًا كما يحصل في بلادنا.

ردّة أفعال غير رصينة
عندما أدارت الإدارات الأمريكية المتعاقبة ظهرَها للعراق للأسباب التي يعلمها الجميع بحجة كسر كرامتها على أيدي رأس النظام السابق، بدأت بشنّ أشكال خبثها مستغلّة ثغراتٍ وأخطاء جسيمة اقترفتها الحاشية المقرّبة من رأس النظام السابق. وكان ذلك بردود أفعالٍ غير رصينة من جانب دولة عظمى اختلقت الأكاذيب وأشكال التزوير والتمويه لغايات انتقامية لا تليق بدولة عظمى مثل أميركا، ما عاب عليها المجتمع الدولي مثل هذا الفعل الشنيع. وفي هذا الصدد، نقول سواءً اجتازت المياه من تحت ناصية إرادة راس النظام السابق وغلبت على عنجهيته وأنَفته، فإنّه في كلّ الأحوال يتحمّلُ وزر ما آلت إليه أمور العراق والمنطقة ككلّ.
من هنا ابتدأت سلسلة من القرارات والإجراءات والعقوبات الدولية-الأمريكية في التخطيط لها في دهاليز أجهزتها الاستخبارية والمخابراتية والعسكرية بصنوفها على السواء، إلى جانب تحشيد ساسة ونواب من كلا الحزبين الرئيسيين من دون تمييز. فالحزبان اللذان تسيّدا المشهد السياسي حينها مشتركان في رسم سياسة تقرير مصير النظام في البلاد وتغييره، ضمن مخطّط شيطانيّ برسم خارطةً لشرق أوسط جديد، كما أسموه. وهكذا جاء الإيحاء بضرورة افتعال فتن بين العراق وجارته الشرقية بدفع المرشد الأعلى لاستفزاز جارته الغربية بمناوشات عسكرية هنا وهناك لغاية أن بلغ السيلُ الزبى، فوجدها رأس النظام السابق خيرٍ فترة لتلقين جارته الشرقية درسًا في احترام الدول والشعوب، ولاسيّما دول الجوار. من هنا كان الإيحاء لرأس النظام بشنّ حربِ السنوات الثمان الطاحنة، فيما لعبت السياسة الدولية، ومنها أمريكا بالذات وحلفاؤُها الغربيون دور الرقيب أحيانًا، والمنتفع بتجهيز الطرفين بمؤونة الحرب العسكرية من أسلحة وأعتدة وأجهزة ومواد حربية متنوعة في أحيانٍ أخرى لغاية نفاذ الصبر والاحتياطات واستنفاذ قوى البلدين اللذين خارا بفعل قساوة الحرب وضراوتها وصعوبة تضاريسها في أحيانٍ كثيرة. ولا يخفى عن الأذهان تشجيع بلدان الجوار والمنطقة لتواصل أتون تلك الحرب الضروس من أجل إبعاد شبح تأثيرها وقساوتها عن سلامة شعوبهم وحدود بلدانهم، فيما عُرف بحرب الوكلاء. ثم جاء الإيحاء الثاني من الجانب الأمريكي باقتراف الخطأ الأكبر الذي قصم ظهر العراق عندما ارتكب غلطته الكبرى باجتياح جارته العربية الجنوبية بالرغم من الأدوات والذرائع التي بين أيدي النظام السابق بحصول تواطؤ من نوعٍ آخر خوفًا من استئساد النظام السابق وتنّمره على ما سواه من قادة وساسة ورؤساء وملوك المنطقة والخشية من سطوة عراقية-عربية وعراقية- إسلامية على المشهد. فما كان منه إلاّ أن يقع بالفخ السياسيّ للعم "سام" كي تعمل الإدارة الأمريكية في إثرها لوضع حدودٍ قاصمة لطموحات مثيرة للجدل بإيقاع الحصار القاسي الذي قتل الحرث وجفّف الضرع وعرّضَ الحجر والأرض للصمت والسكوت لسنوات عديدات مقفرات لغاية تهيئة الأرضية للغزو الطائش في 2003 بحجج وذرائع أثبتت شهادات الشهود والوثائق المسرّبة والتي ماتزال طيّ الكتمان أنها كانت مجرّد أوهام بهدف الاقتصاص من رأس النظام وحاشيته وحزبه الذي رأوا فيه تهديدًا للصالح العام والمنطقة والعالم. فعبر أكثر من ثلاث سنوات، لم تستطع فرق البحث والمراقبة والفحص من إثبات ما ادّعت البحث عنه في كواليس البلاد ومؤسساتها ودوائرها في طول البلاد وعرضها.
لقد فعلتها أميركا نكاية برأس النظام وفريقه الوطني بدافع التملّق والتزلّف للجارة الشرقية للعراق بحجة المظلومية وبهدف كسب ودّ منظمات حقوقية دولية عبر الإتيان بنظام بديلٍ آخر ليكون تحت تصرفها الاستعماري الاستغلالي. لكنها لم تدرك إلاّ مؤخرًا خطيئتَها الكبرى بالسماح لفئات غريبة من الدخلاء ومن مزدوجي الجنسية للرضاعة من أموال العراق الضخمة والغرف من ميزانياته الانفجارية منذ السقوط ولغاية اليوم مقابل الوعود بتصدير ديمقراطية الفوضى الخلاّقة وإنصاف طائفة على حساب عموم المجتمع الرافدينيى، بالرغم من كون هذه الأخيرة كانت تعيش ضمن الإطار الوطني للمواطنة، بل وفي صفوف قيادات حزبية ومناصب عليا في الدولة. وقد زادها الحاكم المدني سيّء الصيت "بول بريمر" شرًّا وقساوةً واستهتارًا بالبلاد والعباد، عندما بدأ بسرقة أموال العراق على مرأى ومسمع من العالم ووسط تأييد مَن أتت بهم الإدارة الأمريكية كي يقودوا العراق الجديد وفق مبدأ المحاصصة التي سمحت لجميع القادمين على ظهور الدبابات الأمريكية ومعها جحافل الغرب المحتلة ليسودَ حينئذٍ مفهوم الفساد في كل ركنٍ من أركان شبه الدولة التي لم تستطع النهوض من الكبوة لغاية اليوم. فما نشهده من تناقضات في الأفكار والإرادات والنوايا على جميع الأصعدة في صفوف الساسة وزعامات الأحزاب والكتل وأدواتهم الفاسدة مازالَ لا يبشرُ بالخير، طالما بقيت ذات الوجوه التي لن يسرّها أن تشهد البلاد وشعبُ العراق نهضة وطنية صادقة وحقيقية بالتخلّص من معظم هذه الأدوات التي تحكم البلاد ولائيًا وبالوكالة عن جارتها الشرقية التي أمّنَ الجانبُ الأمريكي قيادة البلاد بأيديها وسلّمها وكالتَها تحقيقًا لمصالحه القومية. وطالما كانت الجارة الشرقية تؤدي الواجب تجاه مصالح أمريكا، فلا حرجَ في ذلك لحين اختلاف المصالح. وحينها فقط، سنقول آن الأوان للتغيير نحو البناء لوطن آمن، مستقرّ، مسالم، سيّد نفسه، متطور في صناعته وزراعته واكتفائه الذاتي ومتقدم في تقنياته وعودته لماضيه بعلمائه وفنّانيه وثقافته ومدنيته بعيدًا عن فتاوى تحلّل المحرَّم في أملاك وثروات البلاد وتسمح باستباحتها بدعوى تحليل سرقتها لكونها مالاً سائبًا للدولة وستحقُّ السرقة والسلب والاستباحة.

أميركا تشعرُ بالإرباك
لقد بدأت دوائر عديدة من داخل الإدارة الأمريكية مؤخرًا تعي فداحة الأخطاء التي وقعت فيها مع حلفائها في العراق والمنطقة بعد الإحساس الباطني بقدرة العراق على استعادة دوره الإقليمي والدولي لما يمتلكه من مقوّمات بشرية ومالية في حالة تسليمه لأدوات مشهودٍ لها بالوطنية والكفاءة الصحيحة. وهي تتحين الفرصة لتصحيح الصورة والمسيرة في اتجاه العمل على تحقيق تغيير في السلطة القائمة والمنظومة الفاشلة وتسليم أمور البلاد بأيدي أمينة تدين بالولاء للوطن وأهله والعودة للصف العروبي الذي ينتمي إليه شعبُ وادي الرافدين. كما قد تسهم التطورات العالمية الأخيرة التي لا تخرج عن نطاق هذا الإحساس الداخلي إزاء ما حصل للعراق، لا سيّما ما يتعلّق بالشؤون الاقتصادية والملية الدولية. فهذه قد تجلب الوبال على الأمة الأمريكية بعد تغوّل الدب الروسي في الأراضي الأوكرانية والتحوّل في النظرة الاقتصادية العالمية من جانب التنّين الصيني والتحالف المالي والاقتصادي لدول "البريكس" الذي يُنظرُ إليه بمثابة النظام الجديد الذي سيقف ندًّا أمام نظام القطب الواحد الذي تتسيّدُه أمريكا وحلفاؤُها الغربيون.
مؤخرًا مثلاً، بدأت مخاوف أمريكا وقيادات الحزبين الرئيسيين فيها تتضح وتتراءى بوضوح إزاء التحركات الأخيرة لدول أقرّت شكل النظام الجديد الذي يضمّ دولًا ذات اقتصاديات متنامية تضاهي ربع اقتصاديات العالم، ومنها الصين التي تتطلّع لقيادة هذا التحالف الجديد لتنهي بذلك سياسة القطب الواحد وتحرز قبولاً دوليًا باتجاه عالم ثنائيّ الأقطاب تنضوي تحت لوائه دولٌ مهمة في اقنصاها وصناعتها وإنتاجها إضافةً إلى الصين، مثل روسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا. ناهيك عن دول أعربت عن رغبتها بالانضمام لهذا القطب الجديد مثل مصر وتركيا والسعودية والجزائر، وربما العراق وإيران ودول أخرى مرشحة في مرحلة لاحقة. بالتأكيد، لن ينتهي دور أمريكا إلى هذا الحدّ بسبب قدراتها الضخمة القائمة في قيادة النظام المالي العالمي وتمتّعها باقتصاد قوي في الصناعة والتكنلوجيا والإنتاج، بل سيكون للنظام الجديد تأثيرُه الواضح في الحدّ من قدرة النظام الدولي أحاديّ القطب القائم حاليًا والذي تتمتع به أميركا وتقوده عبر تسيّد عملتها الدولارية على معظم المؤسسات المالية الرئيسة في العالم من أسواق وبنوك ومؤسسات ومنظمات لغاية الساعة. وقد بدا واضحًا مدى الارتباك والتخبّط والشكوك المتزايدة حول قدرة الولايات المتحدة الأمريكية في الحفاظ على زعامتها المالية في أعقاب تقرير دولٍ كبرى بإجازة التبادل التجاري بعملات محلية كبديلٍ محتمل في محاولة لسحب البساط من قدرة الدولار الأمريكي الذي مازالَ يسيطرَ على الأسواق العالمية والاحتياطات النقدية في النظام المالي الدولي، وبه تتمّ العمليات التجارية لما تمثله هذه الورقة النقدية من قوّة مالية في الاقتصاد العالمي.
 حقًّا، إن أميركا وحلفاءَها يعيشون في الزمن الصعب بعد فقدان الثقة بها كزعيمة رصينة بسبب تدخّلاتها السافرة بشؤون بلدان العالم بهدف فرض الهيمنة وأسلوب الحياة!




21
تجارة الفساد والوطنية في سلّة ساسة الأغلبية
لويس إقليمس
بغداد، في 16 آذار 2023
لعلّ من أتعس الصور السلبية والمشبوهة التي اتصف بها معظم ساسة العراق منذ السقوط في 2003 تكمن في ازدواجية الخطاب الموجه للذات أولاً وللناس عامة والأتباع خاصة. وسمة الازدواجية في الخطاب السياسي هذه قد نفضت عن هذه الطبقة السياسية أية مصداقية أو ثقة في الكلام والوعود والحركة والسلوك من دون خشية ولا حرج ولا عيب ممّا قد وُجّه لهم من انتقادات لاذعة أو اتهامات مباشرة أو غير مباشرة في التعبير بالسلوك الفعلي أو في العلن بغير ما يضمرون أو يخططون أو يفعلون في الدهاليز وصالات المساومات وفنادق السبعة نجوم والفلل الفاخرة داخل وخارج أسوار الوطن الجريح. وإذا كان مثل هذا الخطاب صالحًا في حالات استثنائية معدودة من أجل درء مخاطر أكبر وأكثر تأثيرًا على مصالح البلاد والعباد في حقبة زمنية استثنائية معينة، فهذا لم ولن يكون مبرّرًا لمعظم ساسة أو أشباه الساسة في ما بعد الغزو الأمريكي الظالم الذي أتى بجماعات مشتتة خالية الوفاض من أية مسحة وطنية أو شفقة على مصالح البلاد والشعب، كما أثبتت السنوات العشرين المنصرمة من حكم هذه الجماعات بحسب الأحداث والوقائع. وسمة الازدواجية في الشخصية العراقية، كما أوضحها عالم الاجتماع "علي الوردي" تقبع غريزيًا وفطريًا في الجوانح والأفكار والسلوكيات والتعابير وفي كلّ شيء وأيّ شيء.
لم تعد مثل هذه الفبركات المشبوهة ولا التصريحات الخبيثة والأحاديث أو الوعود الزائفة والاتهامات المتبادلة التي تملأ شاشات الفضائيات ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي، تنطلي على العقلاء والحريصين على بناء الأوطان والباحثين عن العيش المشترك كما ترسمُه ملامح الأخوّة الإنسانية المطلوبة في بلدِ الحضارات العريقة والثقافات المتنوعة والإرث الثري الذي تتصف به جميع المكوّنات من دون استثناء أو تمييز. ويكفي ما مرّ من زمن الفقدان والخسارة في كلّ شيء بسبب سياسات الازدواجية التي مارسها ساستنُا وأشباهُهم ومّن تجلببَ بأيدولوجيات أحزابهم الإسلامية واستغلّها من أجل تحقيق مكاسب طائفية ومذهبية وعشائرية وفئوية وشخصية ضيقة بالضدّ من إرادة عامة الشعب البائس الذي أصابه الجبن لأسباب بدت واضحة وأخرى يتجنّبُ الدخول في تفاصيلها بسبب حيثياتها وتعقيداتها التي يدخل الدين والمذهب والولائية ضمن متعلّقاتها. وإذ تعي دول العالم التي يهمّها أمر العراق كبقعة مهمة بسبب مواردها الكثيرة وثرواتها المتعددة لخطورة ما يعانيه شعبُه، إلاّ أنها تغض الطرف عمّا يجري منذ الغزو الغاشم على ايدي أحزاب السلطة والجماعات المسلحة التي تعمل خارج القانون، ليس حبًّا بالعراقيين أو ساستهم، بل حفاظًا على المصالح القومية لبلدانها وأحزابها الحاكمة بسبب ما تدرّ عليها في أشكال التوافق والاتفاقات مع أية حكومة أو فئة تتصدّر الحكم نفاقًا ومجاملةً للحاكم وأدواته.
إلاّ أنّ جيفة الأحداث وما تمخضت عنه روايات الفساد المنتشرة أو تلك التي تداولتها هيأة النزاهة وأروقة القضاء الأعلى تأتي لتفضح هذه الشلّة الحاكمة ومّن يستغلّونهم في الواجهة من الفاسدين لتحقيق المآرب والغايات المشبوهة. وما الإحاطة الأخيرة للخالة "بلاسخارت" ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة سوى بصيصٌ من فيض ما يقع ويجري. وحديثُها يصبُّ بالتأكيد في ذات الفحوى عندما أشارت إلى انتظار وصبر العراقيين بالتطلع نحو "مستقبل أكثر عدلًا وازدهارًا"، والعيش تحت ظل "دولة ذات سيادة ترفض أن تكون ساحة للصراعات التي ليست لها علاقة بها"، بحثًا عن "إصلاح سياسي حقيقي ودائم". وهذا "يتطلب من القادة السياسيين ومكونات الشعب أن يرقوا إلى مستوى مسؤولياتهم، واضعين مصلحة البلد فوق كل اعتبار من أجل بناء القوة الداخلية وعدم تمويه الحقائق القاسية الراهنة". مثل هذه التحذيرات تأتي وسط انتهاكات واضحة وفاضحة لحقوق الإنسان في البلاد والخشية من محاسبة المتسببين بكل أنواع الفشل والفساد. ومنها ما يصيب المكوّنات الهشّة قليلة العدد في مناطق تواجدها بفعل سطوة جماعات مسلحة وميليشيات تتبع أحزابًا بمعظمها إسلامية وولائية تتحكم بمقابض السلطة برعاية أمريكية ودولية مشكوكٍ في حرصها ومواقفها! كما جاء تأكيدها في الملتقى الأخير بالسليمانية على ضرورة معالجة الفساد الإداري والمالي المستشري في دوائر الدولة، ليكون صوتًا صارخًا للصورة القاتمة التي يعيشها العراق وشعبُه وسط لا مبالاة الساسة وزعماء الأحزاب ومَن يواليهم ويساند بقاء سياسة المحاصصة التي تعتمدها المنظومة السياسية الفاسدة من دون الأمل بمغادرتها والتوجه عوضًا عنها نحو البناء الحقيقي وإعمار ما دمّره الغزو بالتشارك مع مَن قدِمَ على ظهور الدبابات الغازية وغالبية المستورَدين من بلدان الشتات. ومن المؤسف أنّ غالبية هؤلاء، قد فقدوا أية صلة بالوطن وأثبتوا أنّ جلَّ همّهم الغرف من الموازنات الانفجارية والاستفادة من سمة القرابة والمذهب والطائفة مع الحكام الجدد من أجل تحقيق مكاسب ومغانم وسرقة أموال الشعب البائس الذي اعتادَ تمجيد جلاّديه والوثوق بمَن تمنطقَ بأهداب الدين والمذهب والطائفة بحجة طاعة وليّ الأمر كفرًا وبهتانًا والتزلّف بالهتاف لأيّ كان "علي وياك علي". ويكفي ختام "بلاسخارت" كلمتها بالاعتراف بأنّ "النظام الذي تم تأسيسه بعد عام 2003 ببساطة لا يمكن أن يستمر، وإذا تُرك كما هو، فسوف يأتي بنتائج عكسية مرة أخرى".
لقد صدعت هذه النماذج من ساسة الصدفة رؤوسًنا بالحديث عن الوطنية والحرص على مكافحة أشكال الفساد، بحيث بدأت الشكوك تدبُّ في نفوس الطبقات المثقفة والحريصين على الهوية الوطنية وأفعال النزاهة من شمولهم بتهم الفساد هم أيضًا أو حتى من احتمال توجيه شيءٍ من أشكال هذه التهم إليهم من كثرة ما طرقَ أسماعَهم من أمثال هذه الأحاديث التي أصبحت حديث الشارع والبيت والدائرة والمناسبات والفعاليات الرسمية وغير الرسمية ودور المحاكم وهيئات النزاهة ولجانها واجتماعات الحكومة وما سواها. وهذا جزءٌ صارخٌ من نفاق الساسة وأشباههم ومَن يوليهم ولاءَ الطيش والعبث والانجراف بلا مبرّر أو خارجَ تحكيم العقل وتكوين رؤية صحيحة تصبُّ في خدمة البلاد والعباد وفق منظور وطنيّ لا يقبل المساومة واللعب على أوتار الطائفة والمذهب والعشيرة والعائلة. فهذه كلّها لا تبني الوطن والمواطن بقدر ما تهدم الروح وتقتل العقل وتنقل البسطاء والبؤساء من أبناء الشعب المهضوم إلى خانة العوز والفقر والمجاعة لحين أزوف ساعة ثورة الزنج العاصفة. وما أدراكَ ما ستكون عليه تلك الساعة لو أزفت!
إنها باختصار مفيد، تجارةٌ رابحة للأحزاب التي تولت الحكم بفضل الغزو وأثبتت الأحداث والوقائع حرص أدواتها جميعًا على إدامة زخم هذه المنظومة السياسية الفاسدة برمتها وعدم المساس بمكتسباتها ومغانمها وبتواصل تناول ما تبقى من الكعكة. وهي كما يبدو، ماتزال كبيرة ويسيل لها اللعاب لِمَن يلهثُ وراء تكرار لدغ أتباعه ثانية وثالثة ورابعةً من دون تعلّم الدروس من الماضي، عندما ثبت أنَّ "المجرَّبَ لا يُجرّب" في تناقض واضح بين القول والفعل وبين الوعود والأداء الميداني. فهل سنشهد تغييرًا مرتقبًا في مشروع الانتخابات المؤمَّلة في الأشهر القادمة؟ لا أعتقد ذلك، بدون وعيٍ صادق بضرورة حصول تغيير حقيقي وجذريّ في المنظومة السياسية الحالية التي تتعكّز عليها أدوات السلطة من أحزاب وكتل سياسية ولائية وأخرى تابعة ذليلة لها عزّزت من رهانها بالبقاء أطول فترة ممكنة بتمرير قانون الانتخابات الأخير وفق قراءة سانت ليغو السيّء 1,7 السيّء، بذريعة الحفاظ على مكاسب المذهب قبل مصالح الوطن والشعب.

22
بيئة الاستثمار والتنمية والشراكة في أروقة معرض بغداد الدولي
لويس إقليمس
بغداد، في 22 أيار 2023
عندما نتحدث عن بيئة صحيحة للاستثمار والتجارة في أي بلد عبر معارض متخصصة أو عامة، لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار جميع الجوانب الفنّية واللوجستية والتجارية والاقتصادية إلى جانب الظرف السياسي والدعائي الذي من شأنه إضافة نقلة نوعية أو فرصة تعضيدية لأية مبادرة أو نشاط أو مشاركة داخلية كانت أو خارجية. فمن حق الجهة التي تقرّر المشاركة في مثل هذه التظاهرة الدولية أن تضمن ما يُضيف لها من رصيد في كسب أطرافٍ في سوق ذلك البلد وتكوين شراكات تجارية واقتصادية رصينة تعزّز من مكانة التبادل في المنتج من البضاعة أو المصدَّر من السلع والخدمات إلى البد الذي ينوي استقطاب شركات ورجال أعمال وتجار باحثين عن رزق إضافي وأرباح في مسيرتهم التجارية. هكذا هي الأسواق ومَن يحلو له التعامل في دهاليزها بأريحية تمنحه مساحة في المحاورة والتفاوض واقتناص الفرص وكسب الأرباح. وإلاّ سيكون دخوله في مثل هذه الأنشطة شكلاً من أشكال المخاطرة غير محسوبة النتائج طالما لا تتوفر في ذلك البلد مفرداتُ التجارة الصحيحة المبنية على العرض والطلب والمنافسة الشريفة عبر ما يوفره الطرف المستورد للسلع والخدمات والأجهزة من ضمانة بالاستخدام الأمثل للأموال ورصانة ٍفي إمكانية استعادتها مع الأرباح التي يحلم بها رجل الأعمال الباحث عن أسواق جديدة في مثل هذه المناسبات والأنشطة والتظاهرات التجارية التي من المفترض أن تفتح نوافذ وابوابًا جديرة بالثقة في التعامل التجاري والنقل السلس في تحويل الأموال والأرباح مع رأس المال. وهذه من أبجديات المشاركة في المعارض الدولية. فهل مثل هذه الرؤى والعناصر متوفرة في مؤسسات بلادنا وبالذات في الجهة المسؤولة عن إقامة معرض بغداد الدولي بدورته القادمة 47؟
بدءً، لدي ملاحظات عن الندوة التي أقامتها وزارة التجارة العراقية متمثلة بالشركة العامة للمعارض العراقية يوم الاثنين الموافق 22 أيار 2023 بحضور معالي السيد وزير التجارة ونواب ومسؤولين معنيين، إضافة لذوات من القطاع الخاص والحكومي وبعض ممثلي دوائر تجارية واقتصادية تابعة لبعثات دبلوماسية في البلاد. لقد كان المفروض تخصيص هذه الندوة حول إجراءات المشاركة وتبسيط هذه الأخيرة في مثل هذه التظاهرة المهمة التي كانت تستقطب سنويًا المئات بل آلاف الشركات العربية والأجنبية والمحلية على السواء أيام كان لهذه الشركة هيبتُها وأهميتها وقدرتها على تعزيز وتقريب أسس التجارة بين العراق ومحبيه من أرباب العمل والشركات من مختلف الدول والمؤسسات في عالم التجارة والاقتصاد.
لقد أُتيحت لي فرصة حضور جانبٍ من هذه الندوة إلى جانب العديد من الجهات ومنها ممثلي القطاعات التجارية في ممثليات الدول العربية والأجنبية. وكان يحدونا الأمل جميعًا بالإصغاء أكثر إلى الأدوات والاجراءات التي اتخذتها وزارة التجارة والشركة العامة للمعارض العراقية، وهي الجهة صاحبة الدعوة والمبادرة والإدارة لضمان مشاركة فاعلة ومطّردة في العدد والنوع وفي شكل التبادل والتسهيلات التي ينتظرها المشارِك بعد شبه انقطاع في هذا المجال الاقتصادي المهمّ. إلاّ أنّ الندوة أخذت منحى آخر في الدعاية والإعلان عن بابٍ آخر له صلة بالفرص الاستثمارية التي أسهبَ معالي السيد الوزير في مداخلاته مع طروحات النائب رئيس لجنة الاستثمار والتنمية النيابية في استعراض الدور التشريعي للجنته في تسهيل هذه الفرص وإنجاح الدورة القادمة. وقد خرجتُ ومعي مَن مثّلَ الهيئة الدبلوماسية التي أعملُ لها بانطباعٍ غير مطمئن، وكأنّ الجهة الداعية ومَن حاورتهم من ممثلي البرلمان والجهات القطاعية في الاتحادات والهيئات، أرادوا أن يكونوا الناطق الرسميّ باسم هيئة الاستثمار الوطنية أو الجهة التشريعية المسؤولة عن ملف الاستثمار التي ادّعت وأسهبت في الحديث عن تهيئة كافة الظروف لاستقطاب وتسهيل وتعزيز بيئة الاستثمار، ناسين أن التظاهرة بمجملها تجارية واقتصادية في مسمياتها أكثر منها بالتطرق لأبواب الاستثمار التي لها جهات متخصصة تقودها وتديرها في منصات غير هذه. وفي انطباع أوليّ لما جرى استعراضُه والإسهاب فيه، يبدو للمستطرق وكأنّ السلطة التشريعية عبر هذه اللجنة قد وأدت وقضت على كلَّ أدوات الفساد المصاحبة لمشاريع الاستثمار، ومنها ما يتعلّقُ بالشقّ المستفحل في تقاضي الرشاوى والعمولات التي تتحكم بها المكاتب الاقتصادية لأحزاب السلطة والجهات المتنفذة في الدولة في أعلى المسؤوليات، من دون أن يتطرّق السيد النائب ومعالي السيد الوزير للجهات الفاسدة التي تُحكم قبضتها على مقاليد المشاريع الاستثمارية عبر مبدأ "هذا لكَ وهذا لي".
والواقع، كما يدركه السيد النائب ومعاليه ونعيشه نحن جميعًا، مازلنا في ذات المستنقع في ظلّ بيئة طاردة لأية فسحة حقيقية للاستثمار الصحيح الذي يعني قبل كلّ شيء استقدام رؤوس أموال من خارج البلاد وليس في استخدام أموال الموازنة في مشاريع وعقود أثبتت السنوات المنصرمة عدم جدّيتها بل شكّلت أبوابًا لاستنزاف موازنات البلاد الانفجارية. في ظلّ هذه الظروف غير الآمنة وغير الجاذبة لرؤوس أموال بغية الاستثمار الأمثل، أصبح من الصعوبة الخروج من عنق الزجاجة هذه في ظلّ بقاء ذات الرؤوس والأشخاص والمتنفذين على رأس السلطة صاحبة العصمة والقداسة المحذور مسّها أو حتى التطرّق لسلوكيات زعاماتها وأدواتها في التدخل في أبجديات الاقتصاد الوطني الريعي وتجيير معظم فقراته لصالحها الشخصي والحزبي والطائفي والفئوي، كما ظهر واضحًا في تأخير إقرار الموازنة لأكثر من ستة أشهر بسبب تناقضات ومناكفات وتقاطعات في التخصيصات لكلّ وزارة وهيأة ودائرة بحسب التشاركية في المحاصصة المقيتة. والسبب واضحٌ لكون الكتل السياسية الحاكمة ومعها أحزاب السلطة وأدواتها لا يطيب لها الخضوع لأية محاسبة أو ملاحقة لكونها أرفع وأسمى في قدسية الاستثناء التي "على رأسها ريشة طاؤوسية"!  فهي صاحبة النعمة والمظلومية معًا، بحصر إرادة الأمر والنهي والحكم وتوجيه القضاء وإيقاف الدعاوى وتحريكها متى شاءت وكيفما شاءت وبالطريقة التي تريحها وتحلو لها.  كما أنّ إرخاء الحبل لها ولسواها ممّن تسوّلُ لهم نفسُهم بالعبث بمقدرات البلاد ومشاريع التنمية المطلوبة من جانب الجهات الرقابية والقضائية ودوائر مكافحة الفساد سوف يساهم بطريقة أو بأخرى في عدم إيقاف سيل الفساد في المشاريع الاستثمارية في حالة الفشل في الحدّ من أساليب هذه الإجراءات الحكومية والرسمية وفي السلوكيات غير الصحيحة والاستغلالية للموقع والمنصب وبما لا يمكن بعده البتة الحفاظُ على الرصانة المهنية والنزاهة الوطنية في تحقيق فرص الاستثمار وتعزيزها لمصلحة البلد العليا.
بالمختصر، لا بدّ من تولية ملف الاستثمار والتنمية بأيادي متخصصين يحملون الراية الوطنية النزيهة والإرادة الفاعلة بيد والكفاءة والاختصاص والإبداع في اليد الأخرى. وهكذا الحال بشأن نظيره التجاري والاقتصادي في شكل المبادرات النوعية، الداخلية منها والخارجية، من أمثال معرض بغداد الدولي وغيرها من المعارض المتخصصة على مدار السنة.

23
لا للتقسيم والبلبلة بل للوحدة والتنسيق
لويس إقليمس
بغداد، في 15 أيار 2023
الوفاء للكنيسة الجامعة هذه الأيام، بوحدة طوائفها في العراق وتضامن مسيحييها والتفافهم حول رمزها الوطني والكنسي الكبير غبطة البطريرك، نيافة الكاردينال لويس ساكو، يصبّ في أسمى عليائه في مصلحة الوطن العليا أيضًا، بوصفه الصوت الصارخ في البرّية هادرًا لا يعرف المواربة النفاقية ولا المجاملة غير الضرورية ولا الانحياز لغير جهة الحق والعدل والمنطق عندما يتعلّق الأمر بمصلحة المواطن أيّا كان انتماؤُه. لستُ أجاملُه دعائيًا ولا الصق به صفاتٍ طوباوية غير واقعية بحجة كسب ودّه أو تعاطف أتباع كنيسته، بالرغم من انتقادي الموضوعي حين يقتضي الظرف والحالة والواقع. فغبطته، ليس بحاجة لإطرائي ومجاملتي. كما أنّه شخصيًا وبما تربطني به من علاقة زمالة وصداقة وتقدير لرمزيته المرجعية المسيحية العليا، ومَن بالقرب من حاشيته ومَن يدينون له بالولاء والاحترام والتأييد لمكانته ووطنيته، يعرفوني جيدًا مَن أكون وما شأني في توضيح ما يستجدّ أو الإعراب عن وجهات نظري فيما يخصّ الشأن الكنسي والعراقي على صعيد الوطن وسياسة المنظومة السياسية الفاشلة المتعثرة منذ الغزو الأمريكي القذر للبلاد وتسليم شؤون إدارتها بأيادي غير أمينة على مصلحة العراق، وغير نزيهة بنكوصها في الحفاظ على ثروات البلاد ومصالح العباد. وهذا باعتراف جلّ الزعامات السياسية التي أعلنت للملأ في مناسبات عديدة أن شكل هذه المنظومة قد فشلت في إدارة البلاد وخدمة الشعب. وهنا، فأنا لستُ أحيد عن جادة الصواب، طالما أنّي لا أشخصنُ طرفًا أو جهة أو كتلة أو حزبًا دون آخر. فالمكيال عندي واحد موحد للجميع وإزاء الجميع فيما سأذهبُ إليه.
لقد اتضح من شكل التضامن الواسع الذي ناله رمزُ كنيسة العراق بشخص غبطة البطريرك ساكو مؤخرًا عبر وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي، باعتباره رأس الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم، أنّ هناك ما ينبغي الاستدلال عليه وتحليله والخروج بنتائج وتوجيهات وقرارات جريئة في ضوء الأزمة الأخيرة الحاصلة غير المبرّرة التي رافقت ما بدر من زعامة جهة حشدية لها مكانتُها السياسية وموقعها المحترم بتأزيم الأمور تجاه رمز كنيسة العراق. فالمتابعون ومعهم صفوفُ المثقفين والحريصون منهم يدركون تمامًا أنّ الحرص ببقاء اللحمة المسيحية متماسكة وقوية وجريئة بين جميع الطوائف والكنائس على أساس الاحترام المتبادل بين بعضها البعض، هي من أولويات إدامة الوجود المسيحي في العراق، أو بالأحرى تلك الساعية بالحرص للحفاظ على ما تبقى من شكل هذا الوجود الآيل للاندثار يومًا بعد آخر. وإني شخصيًا بخصوص شكل هذا الاندثار المتلاحق لوجودنا على أرض الآباء والأجداد وقرار الهجرة الصعب، لا أريد تجرّع كأس المرارة في قادم الأوقات دون تحديدها، كما فعلها مقربون منّي وأصدقاء وجماعات كثيرة سواءً بحجة الغيرة والحسد والتفاخر، أو لأسباب أخرى خارج الإرادة البشرية الضعيفة.  ويكفي حنينُ مَن ساقه قطارُ الهجرة والنزوح القسري للعودة إلى أرض الوطن لأيامٍ أو في مناسباتٍ من أجل شمّ بعضٍ من هوائه والاستمتاع بشيءٍ من ذكريات الماضي والوقوف على أطلال بيوتٍ اندثرت، أو تلك التي هجرها ساكنوها في القرية أو المدينة، أو لزيارة عاصمة الرشيد والمنصور والكنائس والجوامع التاريخية التي مازالت شاخصة وبعضٌ منها لم تكن تعرف النوم والسكينة في سنوات الزمن الجميل. لقد كان بالأحرى على زعيم هذه الكتلة السياسية المحترمة بما آلتْ إليه من ثقل سياسي راهنٍ في واقع التمثيل المسيحي وبالصيغة التي حصلت عليها، أن تعمل الحكمة والروية والاتزان بدل خلق أزمة بل أزمات لا مبرَّرَ لها مع شخصية تحمل في آنٍ معًا رمزًا كنسيًا جامعيًا دوليًا إلى جانب ما يمثله من رمز وطنيّ يشهدُ له القاصي والداني لكونه مرجعًا لا يمكن الاستهانة به أو تفقيرُ قدرته وتأثيره داخليًا وخارجيًا. قد لا ألوم الطرف السياسي الذي ربما كانت له مبرّرات خاصة أو خصوصيات علائقية ومصلحية ذات صلة بالائتلاف الحاكم الذي ينتمي إليه كقوّة مسيحية ضمن صفوفه، لها تمثيلُها الرمزي والسياسي على صعيد تقاسم السلطة والمغانم والمكاسب، ما قد حصل تقاطعٌ في جزئيات العمل الجمعي مع مختلف المراجع أو بسبب حصول تقاطعات شخصية مع توجهات الزعيم الروحي المسيحي الأكبر للبلاد الذي له وزنُه الواضح دوليًا، وله قيمتُه العليا كنسيًا ولاسيّما في صفوف أتباع كنيسته الكلدانية ومَن تعاطف ويتعاطفُ معه في ضوء هذه الرمزية العليا المحترمة.
في اعتقادي افتراضًا، لا يمكن الشكّ في النوايا الحسنة لكلا الطرفين، أو بالأحرى باحتفاظ كلّ طرف بما في جعبته من حيثيات ومسببات ومبررات بحاجة إلى توضيحات لتقرير الصالح منها والباطل فيها. وهذا بحاجة إلى مراجعة ذاتية شاملة بما يمليه العقل والحكمة والروح المسيحية والغيرة "الكلدانية" على الطرفين وعلى مؤيدي كلّ منهما للوقوف على واقع الخلل ومعالجته بنفَسٍ مسيحي خالص بعيدٍ عن العجرفة والتطاول والأنفة. فالطرف السياسي بالتالي، تعود جذورُه وتبعيتُه وانتماؤُه المسيحي لرأس الكنيسة الكلدانية التي يُفترض أن تعرف خرافها أفضل من الأجير أو المحرّض أو المنافق الذي لا يطيبُ له استقرار الوجود المسيحي ووقوفه ثانية على أرض الآباء والأجداد بقيمٍ وطنية ومكوّناتية لها منزلتُها ومكانتُها، وبشعورٍ مسيحيّ عال الهمّة، ليس منّةً من أحد. فمن الواضح، وبسبب عدم جدّية الحكومات المتعاقبة في إنصاف أتباع المكّونات غير المنتمية لدين الأغلبية، ونقصد بها ما اصطلح عليهم بأتباع "الأقليات"، فقد اختلّ أسلوبُ التعامل مع أتباع هذه المكوّنات، ومنهم المسيحيون. فهناك كما يبدو، مخططات وبوادر لاحتواء مطالبهم وحصرها في "طرفٍ سياسيّ محدّدٍ" تشكّ رئاسةُ الكنيسة العراقية والعديد من اساقفة كنائس العراق متعددة الطوائف بوضوح رؤياه وصلاح نواياه وأسلوب تعامله وتجاهله لباقي الأحزاب والأطراف التي تدّعي هي الأخرى تمثيل الشعب المسيحي بصورة حقيقية لا تقبل المغالطة والتشكيك. وهذا من حقهم بعد اختلال التوازن الذي حصل عقب الانتخابات البرلمانية في دورته الخامسة، بسبب الخوف من طمس الحقوق وفق آليات لا تتسم بالعدل والمساواة على أساس المواطنة والولاء للوطن وليس للحزب والجهة الولائية مثار الشك. وهذا ما نعتقد أنه قائم هذه الأيام.

نوايا وحيطة وحذر
في ذات السياق، نقول ليس هناك من شكّ بوجود توجّه غير بريء تجاه مواقع تواجد أبناء المكوّن المسيحي والنوايا المبطنة لإحداث تغييرات ديمغرافية في بلداته التقليدية عبر سطوة طرف له قدراته التسليحية وعلاقاته مع أصحاب السلطة والحكم التي يمكن استغلالها في تركيع أية محاولة للخروج عن طاعة الجهة المستوطنة التي تمسك الأرض بقوة السلاح والسياسة وتدين بالولاء لجهة عليا ترضخ لها سياسيًا، ما خلق صراعًا على الأرض والمصالح. فبعد انجلاء الغمّة عن أمّة العراق واندحار الباطل الداعشي الذي عاث في مَواطن المسيحيين وقراهم فسادًا وتدميرًا وبطشًا واستهتارًا بالمقدسات، كان لا بدّ من مراجعة الآراء والمفاهيم والمخططات بغية التحوّط لأية مظاهر أو مساعي أو محاولات سلبية لإعادة عقارب الساعة واستبدال السطوة الداعشية بأخرى قد لا تقلّ ضررًا على ما تبقى من الوجود المسيحي في عموم بلاد الرافدين، سيّما وأن هناك مبادرات دولية وداخلية محدودة لاستعادة الرضا والقبول والتسامي فوق المسميات الفرعية واستبدالها بأخرى وطنية تحفظ لجميع المواطنين حقوقهم من دون تمييز في الدين والمذهب والقومية والطائفة والشكل واللون. ونفهم من هذه المساعي، الفرز بين مصالح الأحزاب الوطنية مع أخرى خارج الولاء الوطني في توجهاتها وقراراتها وسلوكياتها. ونعتقد بعدم استقامة الأمور، لا للمكوّن المسيحي ولا لغيرهم من نظرائهم في الوطن، إلاّ بتغيير الدستور والقوانين التي تحفظ طريقة اختيارهم لممثليهم بطريقة ديمقراطية صحيحة بعيدًا عن أسلوب التهديد والوعيد والقذف والتسقيط الذي ينتقص من قيمتهم ويحدُّ من حقوقهم الوطنية ويضع العراقيل أمام المشاركة الحقيقية في إدارة الوطن وبنائه ونهضته وبما تقتضيه الحاجة والواقع وفق منظور مدني وعلمانيّ يضع الدين ورموزَه في كفّ والسياسة والإدارة في كفّ آخر متناغم مع مطالب الشعب العراقي بعمومه وفق الجدارة وتحقيقًا للعدل والمساواة، ومن دون تقاطع المرجعيتين معًا. أي بمعنى آخر، أن تعترف أحزاب السلطة الحاكمة الفاشلة منذ السقوط، بسيادة القانون المدني على سائر الشعب وتقلع عن فرض سياسة الخنوع والخضوع والطاعة التي تُمارس بحجج وأعذار واهية تحديًا للمظلومية التي تتباكى عليها الأغلبية لغاية الساعة، بالرغم من كونها في أعلى دوائر السلطة.
هذه دعوة منصفة لمبادرة حسن النوايا بين طرفي الأزمة، كي يعرف كلّ طرفٍ ما يمليه عليه ضميرُه وعقلُه واعترافُ الطرف المخطئ أو المتجاوز في بعض التصريحات غير المبررة بحق مَن اساءَ إليه من دون وجه حق في وسائل إعلامية مختلفة توجسًا من القادم الأسوأ، لا سمح الله. بل من شأن هذه الأزمة المفتعلة الوقتية أن تفتح أبوابًا واضحة المعالم والمطالب لرسم خارطة طريق جديدة لمستقبل الوجود المسيحي، عمادُها عناصرُ ودماءٌ جديدة تتسم بالحرص والحيوية والجرأة في فرض الحقوق وتقرير المصير في أية فعالية وطنية ومحلية انتصارًا للجدارة والكفاءة والوفاء وما سواها من خصال يتسم بها أبناء هذا المكوّن ويختلفون فيها وبغيرها عن سائر أبناء بلدهم وأترابهم وشركائهم في الوطن، من منطلق الشراكة الحقيقية وليس المجاملة لأجل التهدئة وتطييب الخاطر. لقد كشفت السنوات العشرون المنصرمة عن ثغرات كثيرة في كيفية تمثيل المكوّن المسيحي لأسباب عديدة وكثيرة جلبت معها انشقاقات في الكثير من الأحزاب "القومية" التي ادّعت تمثيل المسيحيين. ولكن معظمها في واقع الحال، كانت تلهث وراء مصالح فئوية وطائفية وحزبية ضيقة وأخرى شخصية أثرى وأتخمَ وتكرّشَ بسببها بعض المتنفذين فيها. وبالتالي ففي السياسة كياسة تُستخدم عند الحاجة وتفاقم الأزمات. ومن ثمّ فالموقف لا يتطلب تجنّي أيّ طرف على آخر. بل نحن متفقون جميعًا بعدم المساس برموزنا الدينية مهما كانت مقابل احترام هذه الأخيرة لأتباعها ورعاياها ورعايتهم بحلم ومحبة وروية.
إنه وقت وحدة الكلمة ورصّ الصفوف وتنسيق المواقف والمطالب المشروعة وليس إحداث البلبلة بتجزئة المجزّأ وتقسيم المقسَّم بأيادي الأبناء والأحفاد. بل هو وقت الجدّ وتقرير الكلمة بمرجعية دينية واعية حكيمة متنفذة لها وقعُها الدولي والكنسي وكلمتُها الفصل في توجيه المركب المسيحي المتأرجح في مسيرته بالتعاون والتنسيق الصحيح مع المرجعيات السياسية لأبناء المكوّن ولعموم البلاد والسير بها نحو نهر الأمان والاستقرار والثقة عبر التمتع بكافة الحقوق بالتوازي مع الواجبات الوطنية التي لا تقصير فيها.




24
أصحاب الحق في كوتا الأقليات
لويس إقليمس
بغداد، في 30 نيسان 2023
لا يخفى على أحد ما هي عليه تشكيلة المجتمع العراقي من تنوّع في الأديان والإثنيات والمذاهب والطوائف والقوميات على حدٍّ سواء، ما جعل العراق واحة تتلألأ فيها قناديل وأعاجيب المنتمين لهذه جميعًا، في حالة عيش الجميع في إطار القانون الذي يحمي ويحكم المجتمع بالعدل والإنصاف والمساواة. ولكنّ المعادلة الطبيعية في حالة اختلالها وخروجها عن المألوف في ضمان الحقوق الوطنية الطبيعية لكلّ فئة أو مكوّن أو جماعة، قد تقود إلى صراعات ونزاعات وخلافات لن تشهد خواتيمُها الوصولَ إلى برّ الأمان في مسألة احترام شكل الاختلاف في الرأي أو الدين أو المذهب أو التوجه الفكري عن المجموع، منفردًا أو مجتمعًا. والمعادلة الطبيعية لأقليات العراق أن يكون لكلٍّ منها خصوصياتُها في الحق بتداول ما يحقُّ لها من مصالح ومنافع وإدارة الشؤون اليومية حالها حال مَن يتعكّزُ على سمة الأغلبية العددية أو التبعية الحزبية أو الكتلة السياسية التي لا ولن تكون منصفة في مسألة تمتع أتباع أية أقلية بما يحق لها من حقوق، حالُها حال مجاميع الأغلبية.
قلناها مرارًا كما ردّدها ويردّدُها العديدون من المنصفين والباحثين في شؤون المكوّنات قليلة العدد التي أحالها الزمن الأغبر إلى جماعات متناثرة ومبعثرة في وجودها وتواجدها وعديدها في مناطق سكناها الأصلية، إنّ بقاء هذه السمة المُهينة سياسيًا واجتماعيًا ووطنيًا سوف تكون له تحصيلات كارثية على مستقبل أتباعها في المستقبل القريب والبعيد إذا لم يتمّ حسمُ إنصافها وطنيًا بالمساواة التشاركية والعدالة الاجتماعية مع سائر المواطنين على أساس الانتماء للوطن والجدارة في الأداء والكفاءة في تولّي الوظائف الحكومية والخاصة والمناصب التي لا ينبغي بقاؤُها حكرًا لأتباع الأحزاب السياسية والمنتمين إليها حصرًا لما لهذا السلوك الخاطئ من تدمير للسمة الوطنية والإنسانية معًا، وتعكيرٍ للأجواء المجتمعية وقتلٍ لأية مساعٍ لجمع الأضداد والمختلفين تحت ستر وطن البناء والسلام والرفاه الذي ينبغي أن يحتضن الجميع تحت خيمته الوارفة. فما في بلاد الرافدين من ثروات وفرص للعيش الرغيد ومن إيجابيات في الكينونة العراقية ومن جمال في لوحته الفسيفسائية يمكن أن يعيد البلاد والعباد إلى عصور التمدّن والحضارة والرقيّ كسائر مصافي الدول المتقدمة في كلّ شيء. وكلّ ما تحتاجُه البلاد مراجعة الذات، وتحييد فتنة غياب الانتماء للوطن، والانحياز لصالح مصالحه العليا على حساب غيرها من تلك المتسمة بالفئوية والطائفية والمذهبية والكتلوية غير المنتجة، وكبح جماح سيادة الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية العليا والالتزام الوطني الصحيح بالنية الصادقة بالحوار والتفاهم وتقاسم السلطة وتوزيع المهام والمناصب بموجب المبادئ أعلاه، ليس منّةً من أحد بل وفق استحقاق الحقوق الوطنية.

واقع المستجدّات
 لا نريد في هذه السطور القليلة إثارة مواجع أسباب الهجرة التي أصابت أبناء هذه الجماعات، أو التي يحلو لبعض ساسة الصدفة بعد الغزو الأمريكي الغبي للبلاد تسميتَها بالمكوّنات وفق مبدأ تقاسم السلطات بين الأفرقاء، أصدقاءً تسموّا أم أعداءً وفق واقع المستجدّات وحسم الصراعات وتبادل المواقع وتناغم المصالح أو اختلافها من حينٍ لآخر. ولكني أقول، كفى تلاعبًا بحقوقها والتدخّل في شؤونها على أيدي مَن يُعدّون غرباء ودخلاء على أصالتها وواقعها المرّ بسبب تدخل أحزاب السلطة، ولاسيّما الولائية منها لخارج الحدود، وبعض زعاماتها في الانحياز لفئة دون أخرى أو فرض شأن أو واقعٍ بغير رغبتها وإرادتها. فهذا من شأنه أن يؤدّي إلى نقض مصالحها الوضعية وتلفيق حقوقها الطبيعية والخوف من تعرّضها لنكبات واهتزازات غير مرحَّب بها بحصول تغيير في ديمغرافية سكناها ومواقع تواجدها الأصلية وتعرضها لفقدان أو اندثار تراث الآباء والأجداد. فالحفاظ على شيءٍ من هذه الخصوصية "المقدسة" لدى معظمها إن لم أقل لجميعها، جزءٌ من المحافظة على الهوية الوطنية التي تجمع مختلف الهويات الفرعية، كلّ ضمن واقعها المعاش الذي يُعدّ من ضمن حقوقها المهدّدة، تهجيرًا لدول الاغتراب القاسي، أو خضوعًا للأقوى على الساحة وضياع الوجود على أيدي جماعات استغلالية مشاركة في السلطة أو عصابات مسلحة تأتمر بأحزاب وكتل سياسية أو أشخاص يدينون بالولاء لدول وطوائف وأديان ومذاهب. فلا أحد ينكر ما شهدته الساحة السياسية في العراق من استغلالٍ للسلطات وتدخلٍ في شؤون هذه الجماعات المهزوزة الهشّة أصلاً بعد تآكلها وإحالتها إلى هذا الواقع المرير بسبب تداعيات الصراع السياسي في البلد والمنطقة.

دعوا الكوتا لأصحابها
نحن اليوم على أعتاب ممارسة ديمقراطية انتخابية بعد أشهر من الآن. فبعد أن صادق البرلمان العراقي على نسخة القانون الانتخابي مثير الجدل الذي صاغه ساسةُ أحزاب السلطة وفق مقاساتهم لضمان بقاء وجودهم على راس السلطة بعد شعورهم باهتزاز مواقعهم وتراجع سمعتهم وقرب محاسبتهم على أيدي ناخبيهم وعامة الشعب الغاضب على أدائهم وإيغالهم في الفساد والظن بهم سوءًا من جانب المجتمع الدولي ومَن أتى بهم إلى السلطة خاصةً، كان لا بدّ من الاعتراض عليه والمطالبة الدولية للجهات المتنفذة بالعدول عنه لكونه يوسع الهوّة بين مطالب الشعب "الديمقراطية" وأطماع أصحاب النفوذ بالبقاء في السلطة ما يحلو لهم على مبدأ "ما ننطيها". والعتب هنا على نواب الشعب ممّن انساقوا وراء فرض الواقع على أيدي أحزاب السلطة والزعامات التي ضربت مصالح البلاد والعباد وفق رؤيتها وتوجيهاتها من خارج الحدود. فوفق هذا القانون المفروض بقوة كلمة أحزاب السلطة ورفضها أصوات المعارضة المناهضة لسياسة الاحتفاظ بالسلطة بأيّ ثمن، تكون حقوق الأقليات قد تعرّضت مرةً أخرى للاغتصاب ولسلب حرية أتباعها في أداء واجبهم الانتخابي بفقرة واضحة بعدم الموافقة على حصر التصويت بهم حصرًا حينما فتحت الأبواب مرة أخرى لكلّ شاردٍ وواردٍ بالتصويت لمرشحيهم سعيًا لخنق حقوق أصحاب الحق المشروع. كما أن طريقة احتساب تقاسم مقاعد الكوتا عبر تقسيم العراق إلى دوائر محددة ومتعددة لن يضمن حقوق عموم المكوّن المسيحي المنتشر في مدن وقصبات وقرى التواجد المسيحي في عموم البلاد، مهما كانت أعدادُهم بالرغم من شدّة المطالب من أحزاب مسيحية وجهات دينية وفعاليات ثقافية واجتماعية بتصحيح المسار واحترام إرادة أبناء هذا المكوّن. وهذه دعوة أخرى لفتح باب التصويت ليكون العراق دائرة انتخابية واحدة بحيث يحق للمسيحي المتواجد في أية مدينة أو منطقة أو مركز انتخابي التصويت للمرشح الذي يرتئيه لتمثيله في المؤسسة التشريعية. وهذا حقٌ مكفولٌ له. وذات المطلب ينطبق على أتباع المكوّنات الأقلية الأخرى. فليس من المعقول حرمان صوت أو سلب حق مواطن في مدينة ليس فيها دائرة انتخابية.
لذا، فإنّ ما حصل بين بعض الكتل السياسية أثناء صياغة القانون الانتخابي الجديد من خلافات ومناوشات كلامية في دفاع كلّ جانب عن مواقع مصالحه وتثبيت حقه في امتلاك مقاعد الكوتا وتجييرها لصالحه بالسطوة على طريقة التصويت غير الصحيحة بشكلها الحالي، كان طبيعيًا وسط الفوضى في رفض حقوق هذا المكوّن الأصيل الذي تتهارشُ وتتناحر عليه كتل رئيسية وفرعية بغية كسب ودّه أو تحييده لجهتها. فيما كان صوت رجال الكنيسة واضحًا بترك أبناء هذا المكوّن يقرّر التصويت لممثليه من بين أوساط أتباعه حصرًا وعدم سحب أبناء المكوّن إلى مشاحنات جانبية في تأييد هذه الكتلة أو هذا الحزب أو تلك الجهة دون غيرها. كما جاءت مداخلات وتوجيهات الأحزاب المسيحية القومية "السريانية- الكلدانية- الآشورية" لتصبّ في ذات التوجّه رافضين إجحافًا جديدًا بحقهم، ما زاد من أدوات الاستهداف الأخرى التي تنغّص أسلوب حياتهم اليومية في العيش كما يستحقون من حرية التصرف في المأكل والمشرب والملبس والتملّك، ما يعني بلا أدنى شكّ وجود أجندات أيديولوجية دينية وطائفية تستهدفهم بين فترة وأخرى. وهذا ما حصل مؤخرًا في نشر قانون ضريبة واردات البلديات الخاص بتحريم ومنع الخمور بأنواعها، تصنيعًا واستيرادًا وتسويقًا وبيعًا وتناولاً، في هذا التوقيت بالذات بعد ترك موضوع إقراره قبل ست سنوات. والمقصود بالدرجة الأساس في مثل هذا القانون المجحف المناقض للحريات العامة والخاصة في مواد عديدة من الدستور هم أتباع الأقليات من مسيحيين وصابئة وإيزيديين، خاصة من الذين يتداولونها في مناسباتهم التي لا تحلو إلاّ بتوسطها موائدهم في مناسباتهم. ومثل هذا القانون لا يخرج عن لعبة التضييق التي تمارسها الأحزاب الدينية خاصة بالضدّ من أتباع أبناء هذه المكوّنات المتميّزة في كلّ شيء عن غيرها من الشرائح التي تدّعي الافتخار بكثرة العدد وملئ الشوارع في مناسباتها غير المتحضرة، فيما تحجم بعضُها أو تتغاضى عن انتقاد ما يقابل تداول الخمور من اجتياح آفة المخدرات الواسعة الدخيلة على البلاد هذه الأيام بعد أن كانت تُعالج في الأزمنة الماضية بكل شدة وقساوة. والسبب واضح من جهة ورودها والترويج لها وتسويقها بالسهولة في طرق إدخالها من الحدود الشرقية خاصة. 
لستُ هنا بصدد التطرق إلى هذا الموضوع في هذه السطور، بل جلّ ما يهمّني من الوطنيين الأصلاء بجميع مكوناتهم وتلاوينهم الدينية والإثنية والاجتماعية أن يسعوا جاهدين لتعزيز مكانة أتباع الأقليات وإبراز وجودهم الضروري على أرض الرفدين، موطن آبائهم وأجدادهم الأصلي كي يتقاسموا ويتشاركوا ويتعاضدوا من أجل بناء الوطن وعمل ما يزيد من تعزيز اللحمة الوطنية ويجمع الأضداد والاختلافات التي ينبغي أن تكون إيجابية لكونها غنى وثروة وطنية لا تُضاهى. فالعراق كفيلٌ بجمع هذه الأضداد والتناقضات والجماعات المختلفة جميعًا لأنّ أرض الرافدين قادرة تمامًا على احتواء أصحاب الأفكار المتناقضة والسلوكيات المعيشية المختلفة تحت راية العلَم الواحد والمصالح العليا الواحدة والمستقبل الواعد الواحد الذي يتأمّلُه الجميع باستثناء أصحاب الفكر المهزوز والمتاجرين بالدّين والمذهب والطائفة، ممّن قد أصبحوا معروفين لدى العامة والخاصة.


25
الهوية الوطنية الضائعة في الفوضى العراقية
لويس إقليمس
بغداد، في 6 شباط 2023
الكاتب الناضج المفعم بالمسؤولية الوطنية والالتزام الاجتماعي والأخلاقي يسعى فيما يسعى إليه إلى تغيير أنماط مجتمعية خاطئة فرضها الواقع السياسي عادة، والتي لا تمتُّ بصلة إلى المصلحة العليا للوطن والشعب والمجتمع. وهذا جزءٌ من المسؤولية الإيجابية الكبرى لوسائل الإعلام الصادقة في نقل واقع الحياة الصحيح كما هو والسعي لتغيير الجانح منه نحو الأفضل، سواءً ضمن الرقعة الجغرافية المحددة للكاتب ووسيلة الإعلام أو ضمن المساحة الشاملة التي تتعدى حدود المدينة والبلد. فالكلمة الصادقة التي تنبع من القلب المتوجع من مخاضات متعبة بسبب غدر الزمن وأدوات الإدارة غير السوية في أي مجتمعٍ أو بلد أو منطقة ينبغي أن ترى وقعها الصارخ وسط المجتمع وفي أوساط إدارة المدينة أو الدولة على السواء. فهي إلى جانب أهميتها في نقل الحقيقة، تزداد قوة ورصانة ومصداقية في حالة خروجها عن المعايير الهشة الهزيلة التي تتبعها في الغالب أدواتٌ إعلامية غير مسؤولة وبعيدة عن المصداقية في نقل حقيقة الواقع لأسباب معروفة ومبطنة في غالب الأحيان. كما أنَّ أية مقاربة أو مشاكسة بين جهاتٍ طارئة أو متطفلة في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمقروءة مع ما يأتي به وينشرُه أصحاب الأقلام الصادقة المسؤولة والمعروفة بهويتها الوطنية قد تذهبُ بفاعلية الكلمة وبنتيجة ما تنقله هذه من حدث أو واقع إلى سلّة المهملات ولأجل الاستهلاك المحلّي لا غير، في حالة خضوع هذه الكلمة وهذه الأقلام لأجندات مشبوهة ومغرضة تفرض رؤيتها وتضع مصالحها قبل اية مصلحة أخرى، بحيث تنتفي فاعليتها وتبور منفعتُها وتغرقُ في المتاهات والمجاملات والترّهات.

إثبات وجود
 إن كانت الكتابة وسيلة للبعض لإثبات الوجود في المجتمع، فهي من أجمل الغايات وألطف الوسائل لإثبات الهوية الوجودية لهذا النفر الصادق في وعيه وسيرته ومهنته. فالقيم العليا الصحيحة تدوم للأبد بالرغم من محاربتها بأشكال ووسائل وأدوات كثيرة يصعبُ ترويضًها بسهولة بسبب تعقّد المشهد من جهة وصعوبة بلوغها في مجتمعات هزيلة مشوّشة تكتنفها الفوضى ما أتاح لها إتقان صناعة الكذب والتفنّن في كسب ضعاف النفوس إلى جانبها بالرغم من قناعة هذه الفئة الضحية بعدم صحة ما تقوم به أو تمارسُه من خروج عن أخلاقيات مهنة الكتابة والنشر. وهذا حال أعداد كبيرة من كتابنا وإعلاميّينا في هذه الأيام العصيبة والسنين العجاف التي رافقت احتلال البلاد منذ عام 2003 ولغاية الساعة. فقد وقع العديدون في شباك هذه العصابات الضالّة أو الجماعات التي تتولى السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية التي اشترت أخلاقيات المهنة بالسحت الحرام وأنواع اللصوصيات والسرقات التي يندى لها الجبين، بحيث أصبحت واقع حالٍ ومن ضمن ثقافة مجتمعنا العراقي. ليس القصد بهذا النقد الإيجابي تعميمًا، بل تذكيرًا أيضًا بجدّية الأقلام الصادقة ووسائل الإعلام شبه "المستقلّة" الرصينة التي كرّست مؤسساتها وفتحت أبوابها لأصحاب الهويات الوطنية التي ندر وجودُها في هذه الأيام وآثرت الخسارة المادية على بيع أقلامها للحثالات. وهذا سرّ وجودها ومقاومتها الإيجابية ورفض مغازلتها أية مساعٍ لحلحلة مبادئها وزعزعة مواقفها الشريفة.
عندما يدافع الكاتب الناضج عن القيم العليا لبلاده والتذكير بحضارتها وتعدّد ثقافاتها وغنى تراثها منطلِقًا من مسؤولية وطنية وأخلاقية معًا، فهو الدليل على إدامة زخم ما تبقى من الشعور بالمواطنة الصحيحة التي فقدت بريقها وكاد وجودها يتلاشى في عقل وذاكرة مَن يدير الدولة بعد السقوط الهمجي الآثم وعبر حكومات فاشلة متعاقبة ركنت الهاجس الوطني جانبًا وانغمست بالغرف من خزائن البلاد بطرق ووسائل فاقت الحدود والخيال في شكل السرقات وهدر المال العام وسط غياب التخطيط الاستراتيجي للبناء والإعمار والإدامة، بحيث أصبح الإعلام وعدد لا بأس به من أقلامه ورواده والطارئين عليه، جزءً من شكل هذه المهزلة. ونظرًا لأهمية الإعلام ووسائله بكافة أشكالها وتنوع مصادرها وأدواتها، فقد بات من غير الممكن غضّ الطرف أو التغاضي عن هفوات ومعاصي فئات من هؤلاء ممّن اتبعوا طريق التضليل وإخفاء المعلومة وتجميل الوجوه الفاسدة ولصوص الخزائن وحتى أروقة القضاء في التأثير على جانبٍ من قراراته، مهادَنةً أو خوفًا أو تلافيًا لأضرارٍ شخصية أو غيرها. وهذا ما يؤشر تشبثَ ضعاف النفوس من المتاجرين بالكلمة والقلم والأثير بفضاءات ضيقة الأفق طائفيًّا وإتنيًا ومناطقيًا وحزبيًا وفئويًا وشخصيًا على السواء مقابل دفاع أصحاب الأقلام الشريفة ووسائل الإعلام الإيجابية عن قيم الوطن والمواطنة ومصالح الشعب بكافة طبقاته وتلاوينه ومكوّناته من دون استثناء ولا تمييز.

الكلمة الصادقة نضال
نضال أصحاب الأقلام الشريفة والكلمات الصادقة لا يقلّ في صوته وتأثيره وأخلاقياته عن نضال السياسيّ الوطني المتمرّس الذي كرّسَ نفسَه وروحه وعقلَه من أجل المجتمع والوطن والإنسانية، كلّ بحسب الظرف والزمن والواقع. هناك مثلاً، مَن دافع في بلادنا عن قيم الجمهورية التي أزاحت الستار عن الحقبة الملكية الهادئة التي مازال الكثيرون يرون فيها أفضل مرحلة للاستقرار السياسي والبناء المجتمعي والإعمار بحسب البيانات والخبرات. لذا لا غرابة أن يحتدم صراع الكلمة والرأي حول هذه الإشكالية بالعودة إلى ما تعانيه طبقات الشعب المتعددة هذه الأيام وطيلة السنوات المنصرمة بعد الغزو الأمريكي، من أشكال الاحتلال والسطو والهيمنة وما أنتجته من مصائب ونكبات وتراجع في كلّ شيء مقارنةً بأيام الزمن الجميل حيث الأخلاق الطيبة وبساطة الحياة وسهولة الأحوال المعيشية التي اتجهت نحو التعقيد وماتزال في طريقها إلى التراجع الأسوأ. وخير برهانٍ ما تعانيه البلاد والعباد هذه الأيام من أزمة انخفاض قيمة العملة الوطنية التي فتكت بالطبقات الهشّة وخلقت إرباكًا متعدد الأشكال والمصائب لأصحاب الدخل المحدود وأرباب المشاريع والشركات الرصينة في القطاع الخاص على السواء. والمستفيد الوحيد من هذه جميعًا، هي الطبقة السياسية وأحزاب السلطة وميليشياتُها التي تؤمّن بقاءَها ومَن يدور في فلكها من الأتباع من دون بروز ما يُفصح عن حلولٍ جذرية للمعضلة. فالجميع مدرِك وبما لا يقبل الشك بل باليقين التام أن أفضل الحلول وأولها وآخرَها يكمن في تغيير المنظومة السياسية وإسدال الستار عن نظام المحاصصة الذي هو أساس المشكلة ومفجرُها. فهل ينبري أربابُ الأقلام الوطنية الشريفة أو بالأحرى ما تبقى منهم، بالتأكيد على هذه الحقيقة وعدم الزوغان في تقديم الحلول والإصرار على نشرها وتقريبها لعقول وضمائر طبقات هشّة وبائسة في أوساط الشعب العراقي المغلوب على أمره والذي أثبتت الأيام قبوله ورضاه بلدغه مرارًا وتكرارًا من جلاّديه بحجج واهية وتبريرات شرعية ومرجعية دينية بضرورة إطاعة أولي الأمر رغمًا عنهم حتى ولو حصل ذلك على حساب رقابهم ومصير أهلهم وناسهم واسرهم؟
 لا بدّ لحالة الفوضى القائمة إذن أن تتوارى شيئًا فشيئًا بفضل إصرار الطيبين من النخب المطالبَة اليوم أكثر من أي وقت مضى بفتح قنوات الإعلام الصادق على مصاريعها وحثّ غيرها من السائرة في ركاب الأسياد المغمورين والطامعين والدخلاء، ومنهم أقلام الكتّاب والأدباء والشعراء كي ينتخوا لبلادهم بالوقوف في صفوف الشعب الحائر المرتبك وفاقد القرار بسبب تزايد بؤسه وقيامه بين مطرقة الفئات الحاكمة الظالمة وصولة المراجع الداعمة لها خلسةً والتي لها رأيٌ مغاير في الولائية والانتماء والحركة، وبين سندان الفاقة والحيرة والإرباك والقدرة على التصرّف الحاسم والسلوك الصادم الذي آنَ أوانُه في إزاحة سائر الهويات الفرعية والولائية الأخرى غير الهوية الوطنية. وإلاّ فإنّ ثورة الجياع قادمة لا محال.
وهنا لا بدّ من الحرص على تمكين الهوية الوطنية من أخذ دورها ونزع كافة الهويات الفرعية الأخرى نخوةً بمصير الوطن وتأييدًا لكلّ جهدٍ وطني تتخذه النخب وأصحاب الإرادات الطيبة والنوايا الحسنة. والأهمّ من هذا كلّه، التعريف بالتخلّي عن أي انتماء دخيل أو ولاء غريب على البلاد والعباد، أصحاب الحضارة والثقافة والإرث بتعددية هذه جميعًا. لذا، لا بدّ من إصلاح الفوضى القائمة عبر تعدّد القنوات وتفاعل الإرادات وهزيمة الانتماءات المزدوجة التي أدخلتنا في أنفاق مظلمة طائفيًا ودينيًا وقوميًا عندما تقوّضت الهوية الوطنية وغابت عن سلوكيات أحزاب السلطة التي ادّعت غير ما فعلتْ. وهذه هي النتيجة السلبية التي أحاطت حياة شعبٍ بكامله ووطن بأسره فقدَ الكثير من أدوات حماية الذات لصالح المتنفذين في السلطة وسط فوضى الساسة وأحزابها عبر منظومة التحاصص وتقاسم المغانم وفرض الأجندات التي ترسي لبقاء أدوات هذه المنظومة الفاسدة بكل أدواتها وأساليبها وتبريراتها لغاية حصول الانفجار المزعوم المرتقب. فمتى حينُه قبل أن يستفحل الضرر ويصير جزءً من واقع حالٍ مفروضٍ وإلى أجلٍ غير مسمّى؟ من هنا يكون عنصر الثقافة والتربية الصحيحة ومعهما اشكال التبصير بالوعي والنضوج الفكري والمجتمعي وعناصر أخرى كامنة في نفوس طبقات تتهيّبُ من اختراق التحديات التي يفرضها الواقع الهزيل، لتكون هي الدافع والحافز من أجل التغيير المرتقب بأدوات سلمية باتت هي الضامن لمثل هذا التغيير المقصود.


26

سياسة الصدمة لإنقاذ العراق، تحدٍّ للواقع
لويس إقليمس
بغداد، في 28 آذار 2023
في مفهوم عقيدة الصدمة التي تتبعها بعض الحكومات العاجزة عن تقديم الخدمات والاستقرار والخير الوفير للبلد بغية ارتهان حرية وإرادة الشعب بسياسة إدارة السلطة وفق مقاساتها الضيقة، تقف إزاءها آراء أخرى تحمل ذات المفهوم، ولكن في اتجاهٍ إيجابي يحمل في أساريره وبين خطوطه كلّ ما يمكن فعلُه من جانب رأس الطاقم القويّ والمتنفذ في إدارة الحكم ليصبَّ في خدمة الصالح العام ووضع حدودٍ للانفلات الإداري والمالي والمجتمعي والتربوي والتعليمي وما سواها. والهدف بطبيعة الحال يذهبُ باتجاه تكوين سياسة الصدمة الصاعقة التي تسعى بكل قدراتها المعنوية والمادية والتسليحية والأمنية باتجاه إنقاذ البلاد من أزمات مستفحلة ومشاكل مستأصلة وعراقيل لا حدودَ لها تضعها جهاتٌ مستحكمة في دهاليز السلطة وفق مصالح مشبوهة، دينية ومذهبية وفئوية وشخصية وعشائرية ضيقة لا ترقى جميعُها إلى مصاف بديهيات الانتماء للوطن والشعب. تشير أحداث دولية إلى اتباع بعض الأنظمة الردعية الدكتاتورية، الفاسدة منها على وجه الخصوص، مثل هذه السياسة لفرض قوانين وقرارات ومفاهيم اقتصادية أو اجتماعية أو دينية أو مذهبية لفئة محدودة الفكر والرؤية غير معنية اساسًا ببناء مؤسسات صالحة قوية للبلد وصبّ جهودها في خدمة متطلبات الشعب وحاجاته. وقد نجحت مثل هذه الاستراتيجيات التي تبناها أصحاب هذه العقيدة من أجل فرض واقع حالٍ مرير وبائس بالاستفادة من فاقة فئات كثيرة تسعى بكلّ مجهوداتها لتدبير لقمة العيش قبل أي شيء، ومن ثمّ اللجوء للتهاون عوضها في المطالبة بحقوق آدمية، هي أساسًا من بديهيات جملة هذه الحقوق المواطنية.
ما مرّ به العراقيون منذ عقود، ولاسيّما في العقدين الأخيرين من حقبة الغزو الأمريكي الطائش، لا يختلف عمّا عانته شعوبٌ مثله في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية. بل إنّ ذات الحالة والأحوال ما تزال قائمة في أوساط الشعوب العربية والإسلامية بشكلٍ خاص، بالاستجابة لخرافات وتحذيرات وتوصيفات دينية ومذهبية وأعراف عشائرية تسعى لإبقاء المواطن ذليلاً مهانًا عاجزًا عن المطالبة بحقوقه البسيطة خوفًا أو خشيةً من انتقام السماء والدين والمذهب والأئمة في حالة نفوره أو اعتراضه على أولي الأمر، كما يصوّره له أصحاب الأجندات والمفاهيم الاحتوائية بأعذار وأفكار ضيقة الأفق والمنهج والرؤية. كيف لا، وقد صوّرت هذه الفئة للبسطاء من الناس وخائفي "الله والدين والمذهب والأئمة وشيخ العشيرة" غضبَ هذه "المقدسات" بالانتقام منه في حالة عصيانه أو تململه بسبب ما يحصل من خروقات وخطايا كبيرة بحقه وحقّ عائلته ومجتمعه ومكوّنه ومحيطه على السواء. وهذا جزءٌ من مخلّفات هذه المفاهيم القاهرة التي لا هدف لها سوى خلق حالات من الاضطراب والكوارث والأزمات في سبيل إبقاء المواطن خاضعًا خانعًا مرغمًا على قبول مرّ الأمرّين. فهو في موقف لا سبيل للقبول بسواه حتى تمطر عليه سماءُ الرحمة شيئًا من سياسة الصدمة الإيجابية التي ينتظرها المتضررون، وننتظرها جميعًا في بلدنا المكبَّل بشتى هذه الخرافات والأفكار السلبية والمفاهيم غير الناضجة التي لا تبني وطنًا ولا تديمُ شعبًا ولا تحترم إنسانًا خلقه الباري تعالى ليتنعم بخيرات الأرض ويبني ويعمّر ويستمتع بالحياة مع شركائه في الأسرة والمجتمع والعالم بلا قيود أو حدود. فغالبًا يكون المستفيد الأكبر من عقيدة الصدمة السلبية التي تتبعها حكومات فاشلة وفاسدة هم القائمون في السلطة بكافة أشكالها وتضاريسها وليس الفقراء والمحتاجون وأرباب الأعمال الصغيرة الذين يصلون الليلَ بالنهار من أجل تأمين قوتهم اليومي وسلامتهم. هذا إذا تمكنوا منه فعلاً.
تحديات كبيرة بحاجة إلى صعقة الصدمة
قبل أيام، تحدث السيد رئيس مجلس الوزراء أمام نخبة من المعنيين بالمشاريع الخدمية، ووبّخ القائمين على إدارتها علنًا، مهدّدًا بكلام مبطَّن القائمين على إدارة هذه المشاريع التي تعنى بمصالح الناس. ومنها بطبيعة الحال، ما يتعلّق ببوابات بغداد المزرية حصرًا بحكم ما تمثله هذه البوابات من واجهة حضارية متخلفة وبائسة منذ سنوات، سواء كان ذلك بسبب الإهمال من قبل الإدارات المعنية أو من قبل بعض المقاولين غير الرصينين وفاقدي الحسّ الوطني وشرف العمل الناصح. والحال، ما تفضل به دولة الرئيس محمد شياع السوداني دخلَ بردًا واطمئنانًا في أعماق نفوس المتحسرين على رؤية مداخل بغداد بهذه الحالة المزرية التي لا تليق بالعراق وشعبه وحضارته بالرغم من الموازنات الانفجارية التي رصدتها الجهات المالية من أجل البناء والإعمار وتغيير الأحوال نحو الأفضل. لكنّ الواقع يتحدث بغير هذا كلّه. فالتخصيصات المرصودة لمعظم المشاريع المتلكئة كما يتحدث عنها العديدون من داخل البيت العراقي، كانت أجزاءٌ منها تذهب هدرًا إلى جيوب الفاسدين في صفوف أحزاب السلطة والمتنفذين والموظفين عبر عمولات الإحالة قبل التنفيذ وأثناء الإنجاز، إن وُجد شيءٌ منه، أو قبل نهاية الإنجاز الكامل. وهذا ممّا حمل المقاول أو الجهة المنفذة إلى التلكّؤ في التنفيذ أو التحايل في إنجاز الفقرات بالمواصفات المطلوبة، ومن ثمّ حصول تأخر في إنجاز المشروع. وربما هذه هي حال جميع البوابات التي تشرف على مداخل بغداد. فقد تأخر إنجازها بالرغم من إحالة بعضها أو إدراجها في خطط الحكومات المتعاقبة منذ سنوات من دون أن تشهد إنجازها أو البدء بها. ولي تجربة مريرة أثناء المرور ببوابة بغداد التي تبدأ مشكلتها من منطقة بلد والطارمية لغاية الوصول إلى جسر المثنى الرابط إلى منطقة الراشدية وحتى ساحة عدن.
إنّ مثل هذه المأساة تتطلب استنفارًا عامًا جماعيًا من جميع الجهات المعنية بما فيها وزارة الإسكان والإعمار ودوائر أمانة ومحافظة بغداد خاصةً التي تقبع في أبراجها العاجية. ويكفي جهات عديدة من هذه وغيرها في مواقع السلطة، ما نالته من عمولات واتفاقات بالباطن من الجهات التي تعهدت إنجاز ما موكل إليها باسم الشعب ولخدمة الشعب وإسفار وجه العاصمة الحبيبة. ومن المؤسف تنصلُ هذه الجهات عن تعهداتها بإنجاز هذه الواجهات من الطرق الدولية بضمير بعيد عن الصحوة الوطنية وشرف العمل والمهنة والتجارة. فما نشاهده منذ بدء الأعمال الأولية صاعقٌ حقًا بوجود نفرات معدودين من عماّل لا يتجاوزون أصابع اليد في مواقع العمل. هذا في الوقت الذي رصدنا فيه أيامًا تخلو منها هذه المواقع من أية كوادر عمالية أو هندسية أو آليّات. لذا جاء استنفار دولة رئيس الوزراء في محلّه بالطلب من الجهات الحكومية المعنية بالتواجد في مواقع العمل ومتابعة إنجاز الفقرات المطلوبة من الجهات المقاولة بفترات عمل (شفتات) متتابعة من دون انقطاع من أجل الاستعجال في تنفيذ هذه المشاريع وما سواه ممّا ينتظره الناس من خدمات في البنية التحتية بلا تحديد. فمصالح الناس لا يمكن تعطيلها بسبب طرق وشوارع وبنى تحتية معطلة ومدمّرة ومنتهية الصلاحية من أجل عيون شخص متنفذ في الدولة، أو مقاول تابع لحزب أو كتلة، أو لخاطر فاسد لا تهمّه مصالح الشعب وسمعة المدينة أو البلد. 
مثل هذه المشاريع وغيرها من تلك المتلكئة التي تقارب الخمسة آلاف مشروع بحسب مصادر إعلامية موثوقة تتطلب تحديًا صاعقًا من جانب إدارة الحكومة التي تأمَّلَ بها الشعبُ خيرًا ولو بدرجات متفاوتة من القناعة والمتابعة والرقابة والمحاسبة. وبغير هذا لن يبلغ الإنجاز المطلوب نهاياته الجميلة المرتقبة في الأداء الجيّد وكسب الوقت وطمأنة الجمهور الذي سئم واقع الحال حدَّ اليأس وقطع الأمل بإمكانية إصلاح ما أفسدته سياسات وإدارات الحكومات الفاشلة السابقة وإعمار ما دمّرته عجلة الحياة اليومية المعقدة بإهمالها وتغافلها عن الأخطاء التي تُرتكب كلّ يوم وكلّ ساعة بحق الوطن والشعب. ومن دون محاسبة قاسية وشفافة وآنيّة لن تشهد البلاد تغييرًا في المفهوم الوطني وإصلاحًا لما دّمِّرَ بفعل فاعل ومع سبق الإصرار والترصّد أحيانًا. كما أنّ شكل هذا التحدّي لن يكون مقبولاً بإناطة عمليات المتابعة والمراقبة والمحاسبة على أيدي ذات الجهات التي كانت السبب في الفشل والدمار والفساد والإحالة، بل جزءًا من هذه الأخيرة وفق اتفاقات بالباطن مع المتنفذين في الدولة والحكومة والبرلمان والأحزاب الممسكة بقبضة الوزارات التي تديرها بشكل عقارات تمليك للتكسّب ونيل المقاولات وحصد المغانم في الموازنات التي تتدافع وتتهافت لأجل زيادة تخصيصاتها مرةً وثانيةً وثالثةً لتبقى أسيرة مقاولي هذه الأحزاب والشخصيات الفاسدة من أجل المزيد من الأرباح والغَرف من المال العام.
في ضوء ما تقدّم، لا بدّ من قرارات صادمة وصاعقة تتحدّى أدوات الفشل والإعاقة ووضع العراقيل أمام البناء الصادق للحجر والبشر عبر تكليف فريق وطني صاحب خبرة وإنجازات فعلية في الميدان يجيدُ أصول إدارة الدولة وفق استراتيجية ناضجة وواضحة في البناء الصحيح وفي محاسبة الجهة المتلكئة من دون تدخلات خارجية سياسية أو برلمانية أو حزبية خشيةً من الوقوع في فخاخ الفشل هم أيضًا. فالتركة ثقيلة ومتراكمة ولا يصحّ تجاوزها بنجاح إلاّ عبر مثل هذا الفريق المسلَّح بالحس الوطني والخبرة المهنية والعملية والهندسية، إضافة إلى صحوة الضمير وحسن النية والإرادة. فالفاسد مهما كان موقفه وتصريحُه بالرغبة بمزاولة العمل في مثل هذه المشاريع الاستراتيجية، لا يمكن أن يكون جزءًا من هذا الفريق الواعي لكونه غير قادرٍ على مغادرة قوالبه وأدواته الفاسدة. فهذا جزءٌ من المخاتلة في العمل والأداء والإنجاز الصحيح. فمَن يبني ويعمّر غيرُ مَن يدمّر ويُفسد، مع الاحترام الشديد لأصحاب الضمائر الصاحية من رجال الأعمال والمقاولين الأصلاء الذين لا يلقون عادةً الاستجابة في كسب إحالة مناقصات المشاريع الكبرى بكل سهولة من الجهات المعنية لرفضهم العمل تحت وطأة ظروف الضغط القسري في الاستجابة لأصحاب النفوس الضعيفة من المتنفذين والموظفين في الدولة بطلب تقديم الرشى والعمولات.
إزاء هذا الواقع، تكون المحاسبة على الفشل أمرًا بديهيًا ولا مفرَّ منه مهما كانت الضغوط والتهديدات وأدوات الفساد كلّما تعلّقَ الأمر بالمصلحة العامة. بالتوازي، لا بدّ للإعلام بكلّ جوانبه ومؤسساته وتفرّعاته أن يكون الحارس الأمين والعين الرقيبة على نقل الحقيقة حتى لو كانت مرّة من أجل تبيان الجيّد من الرديء في الإنجاز والأعمال والأداء، إلى جانب الفريق المهنيّ المتخصّص ليكونا الحَكمَ بدلاً من أين يكون الموظف أو المسؤول الفاسد هو الخصم والحكم. حينئذٍ يفقد مفهوم الصدمة الصاعقة مفعولَه وتعود الآلة القديمة إلى سابق عهدها في الفساد والفشل والتخريب. فمن الطبيعي جدّا "أن تُنتجَ دولةُ اللاّ عقاب دولةَ اللّا إنجاز"، كما قالها زميلٌ متمرّس في سوح العمل والبناء.
 


27
وجهة نظر:
عودة مجالس المحافظات إنعاشٌ للمحاصصة وعودة لأدوات الفساد
لويس إقليمس
بغداد، في 15 شباط 2023
بعد أن شهدت مجالس المحافظات اعتراضًا كبيرًا وانتقادات لاذعة من شرائح واسعة في المجتمع العراقي منذ إقرار قانونها في 2008 بسبب ما أُثير حولها من شكوكٍ وجدل بصدد منافعها من أضرارها على الصعيد الوطني، تعود اليوم للواجهة ثانية بسبب إصرار جهاتٍ وأحزاب مستحكمة بالسلطة على إعادة ممثليها في هذه المجالس من أجل تقاسم المغانم وتنشيط مكاتبها الاقتصادية في السطو على مشاريع المحافظات وميزانيات هذه الأخيرة بذات الطرق والوسائل التي يتمُّ فيها توزيع المغانم بين الكتل السياسية. ففي الوقت الذي أثبتت الوقائع والتجارب كونها إحدى أدوات المحاصصة الحزبية، يرى فيها آخرون أنها من ضمن الوسائل السالكة لإعادة سياسة أحزاب السلطة في خلق صراعات جانبية وتجاذبات سياسية تستهدف قبل أيّ شيء السعي لإبعاد شبح التهم عن دوائرها في مراكز القرار وخلق أجواء ضبابية تتيح لممثليهم في هذه المجالس حصدَ منافع ومكاسب جانبية بهدف ترويضهم ونيل رضاهم وضمان ولائهم ومَن يناصرهم على السواء. في حين أنَّ البلاد تحتاجُ قبل أي شيء أن تكون لها حكومة مركزية قوية تفرض هيبتها على الحكومات المحلية القائمة المتمثلةً بالمحافظ ومساعديه من دون أن تتقاطع الصلاحيات وتتعارض المصالح العليا مع هذه الأخيرة أو مع إدارة أقاليم قوية هي الأخرى تجيد أداء واجباتها المهنية والوطنية من دون فرض الإرادات أو اقتناص الفرص لمنافع حزبية وفئوية وشخصية ضيقة.
 ومن ضمن الآراء المثارة هذه الأيام بعد إجازة البرلمان القراءة الأولى لتعديل القانون الحالي لمجالس المحافظات، هناك مَن يعتقد بكونها مجرّد حلقة فائضة وزائدة في سجل إدارة الدولة المعتمدة على التوافق والتحاصص في كلّ شيء وأيّ شيء بعد إثبات فشلها في إدارة موارد المحافظات التي صُرفت لها مبالغ طائلة مقابل تعثرّ وتلكّؤ غالبية المشاريع التي ثُبّتت وأُجيزت وأصبحت حبرًا على ورق ليس إلاّ. والدليل ما تعانيه مدن وقرى غالبية المحافظات من تخلّف في إنجاز المشاريع ولاسيّما في بنيتها التحتية والخدمية بسبب ضعف الرقابة واقتناص التخصيصات وسرقتها من قبل أفراد متنفذين في هذه المجالس، محميّين بغطاء حزبي وسياسي وحتى ديني وطائفي وقومي. من هنا، فالشارع العراقي في غالبيته لا يرحب بعودة هذه المجالس، وإنّما سطوة الأحزاب المتسلطة هي التي تسعى لعودتها لأغراض انتخابية ومنفعية ودعائية بحتة عبر خلق مناصب تسهمُ بتمرير ميزانيات مشبوهة لصالحها. وهذا ممّا يتطلبُ في أيّ تعديلٍ دستوري قادم توفر الشجاعة التامة لإلغاء المادة التي تشرعنُ سن قانونها من أصله.
إنّ مَن يدّعي الحرص على مصالح الشعب في إعادة هذ الملف إلى الواجهة بعد اتفاق الكتل السياسية المتنفذة في ما يُسمّى بإدارة الدولة على تفعيله وإقراره ثانية، واهمٌ ومغالِطٌ في تبريره. فقد أثبتت التجربة السابقة صعوبة إقرار العديد من المشاريع التي احتاجتها المحافظات أو التي تم اقتراحُها واصطدمت بمصالح أعضاء المجالس بسبب الخلاف في الاستحواذ على العقود والأشغال والمشاريع وتقاسمها بين المتنفذين، ما اثار خلافات بينية اصطدمت وأعاقت تمرير تلك المشاريع أو تنفيذها بقدرٍ رديء في التخطيط والعمل والإنجاز. لسنا هنا بصدد إنكار ما تلحقه المركزية في اتخاذ القرار والحكم وإدارة الدولة، بل ما ينبغي الالتفات إليه والتنبه له وجود إدارة متفق عليها في كلّ منطقة أو محافظة تتيح لها الحكومة المركزية إدارةَ شؤونها المحلية تحت أمرة المحافظ ونوابه ومعاونيه بمراقبة حثيثة من الحكومة المركزية والمؤسسة التشريعية والأجهزة الرقابية المالية الساعية لتحقيق أعلى درجات النزاهة وبما يتيسر لها من وسائل وسلطة مستقلة. وهذا بحدّ ذاته كفيلٌ بالحدّ من تشعّب مراكز الإدارة والحكم وتركها فريسة للمحاصصة بين ممثلي الكتل السياسية في تلك المحافظات. فالتجربة السابقة تثبت ما هدفنا إليه في نقد هذه العودة غير المرحَّب بها في العديد من الأوساط الشعبية التي كانت شاهدًا على فساد معظم المجالس في فترة التجربة السابقة غير الناجحة.
كما أنَّ عملية البناء والتقدم يمكن أن تسير وفق سياقها الإداري المنشود بإشراف المحافظ ومعاونيه من دون بعثرة الجهود في حالة اختيار الشخص المناسب على رأس إدارة المنطقة أو المحافظة ووضع السبل التي تتيح مراقبة الأداء ومراجعة الخطط ومحاسبة المقصّرين والحدّ من أشكال الفساد في إنجاز المشاريع والخدمات. وهذا يعني تحقيق سبل التفاهم ما بين إدارة المركز المتمثلة بالحكومة ورئيسها من جهة والمحافظ ومعاونيه من جهة أخرى، من دون حصول تقاطعات في كلّ ما يخصّ مصلحة المحافظة وأبناءَها وقصباتها وقراها. ذلك لأنَّ إقرارها ثانية في قانون جديد، يعني رضوخها لتفاهمات سياسية بين الكتل الحاكمة المتحاصصة وفق مبدأ تقاسم السلطة والتشاركية في المناصب والمغانم، إضافة إلى ما قد تشكله من تعسفٍ وظلمٍ لتطلعات الأحزاب الناشئة والجماعات الصغيرة في المجتمع العراقي التي تسعى لخلق شكلٍ من الاستقلال الذاتي عن صيغ التكتلات السياسية الحالية وأحزاب السلطة، الإسلامية منها بصورة خاصة، من تلك المهيمنة في نفوذها على سائر مؤسسات الدولة ومرافقها. وهذه من أدوات السخط القائمة ضدّ هذا الشكل من الإرادة السياسية التي تفرض سطوتها بشتى الوسائل وتسعى لتواصل سيطرتها ونفوذها على مقدرات البلاد والعباد.

رفض شعبي وحرص وطني
للتذكير فقط، فإن هذه المجالس أو ما يُعرف بالإدارات المحلية للأقاليم والمحافظات، تعرّضت للانتقاد بعد اشتداد المظاهرات التشرينية ومطالبتها بإلغائها بسبب ما حامت حولها من شبهات فساد ووسائل بذخ غير مبرّر وخلق صراعات بين الكتل المتحاربة تستهدف الإثراء على حساب الشعب عبر الانفراد بتحقيق مكاسب عن مشاريع وهمية في غالبيتها أضحت مادة للكسب الحرام والتراشق بالاتهامات بين ممثلي الكتل في هذه المجالس. فقد أثبتت العديد من الوقائع والأحداث خروجها عن خدمة المواطن ومصلحة المحافظة باتجاه مغاير وسالب ليتربع معظمُ أعضائها على عرش الفساد والهدر بالمال العام عبر صفقات وتفاهمات سيطرت عليها الكتل المتنفذة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مَن تولّى اللجان المالية وملفات الاستثمار التي خضعت لابتزازٍ بأشكاله المعنوية والمالية والاجتماعية وحتى الأخلاقية. ويرى كثيرون أن المبالغ المصروفة على مرتبات أعضاء هذه المجالس بلغت ملايين الدولارات سنويًا من دون ان يشعر المواطن بأية خدمات محسوسة في حياته اليومية. ناهيك عن الامتيازات الشخصية في السفر والتسهيلات وعشرات الحراس الشخصيين والسيارات المرافقة للأعضاء وما تشكله هذه من إرباك في السير والنظام العام وقطع الطرق والشوارع ووضع المصدّات غير الأصولية في مواقع السكن اينما كانوا وحلّوا. لذا حريٌّ بالحكومة القائمة وبما تبقى من ساسة وطنيين عقلاء أن يكون لهم رؤية صائبة في الحدّ من النفقات غير الضرورية التي ستتحملها ميزانية الدولة في إنفاقها على المرتبات والنفقات الترفيهية والإدارية والضيافة والخطورة غير الضرورية، وعوض ذلك تخصيصها لمشاريع ذات قيمة مضافة لمنفعة الشعب والطبقات المحتاجة، ومنها قطاع السكن والكهرباء والخدمات البلدية وما سواها.
 هناك مخاوف من سعي جهات عميقة في الدولة تتهيّأ لاستبدال التزام الحكومة التي تشكلت وفق آليات متفق عليها في إدارة الدولة للمطلب الشعبي بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة بهذه التوليفة البديلة التي يُراد بها تثبيت دعائم احتياطية مضافة لمكاتب أحزاب السلطة استعدادًا للانتخابات التشريعية المؤجلة في حساباتهم المبطنة. أي لا إشارات لغاية الساعة بوجود الإرادة السياسية لإجراء هذه الأخيرة كما تعهدَ ائتلاف إدارة الدولة وأشار إليه بوضوح رئيس الوزراء قبل استلامه السلطة خلال فترة ترشحه للمنصب التنفيذي. بل إن الدلائل تشير أيضًا إلى مساعٍ لتغيير القانون الانتخابي الذي لم تفلح فيه غالبية الأحزاب الإسلامية في بلوغ الحدّ الأدنى من المقاعد النيابية في التجربة التشريعية السابقة التي خلقت إرباكًا ملحوظًا في العملية السياسية برمّتها والتي أدت إلى النتائج التي نحن عليها اليوم بكلّ سلبياتها بسبب خضوع رأس الحكومة لمزاج الكتل التي أتت به إلى السلطة باعترافِ مَن في السلطة أنفسهم. فهذه الأحزاب الخائبة زادت من جهودها ومساعيها لأجل تغيير القانون الانتخابي لمجلس النواب أيضًا وإعادته إلى صيغته الداعمة للأحزاب الكبيرة أي إلى صيغة "سانت ليغو" الأول بهدف حصر مكاسب المستقلين والحدّ من فرصهم في بلوغ عتبة الفوز. وهذا منافٍ للخيار الشعبي المطالب حينها بتغيير هذا القانون من أجل ضمان مشاركة واسعة لممثلي الشعب وعدم اقتصار التمثيل على ذات الوجوه من الولائيين الذين تطلقهم أحزاب السلطة وقياداتها الإسلامية للسطو على الحكم وإدامة بقائها في السلطة ما شاءت الأقدار، بصمّ الآذان عن رغبة المرجعية والنخب المثقفة بالتغيير وعدم إعادة تجربة المجرَّب لفشلها في خدمة البلد والشعب معًا. بل هناك تحرّكات مشبوهة تخصّ طريقة تصويت ملاكات وأفراد الحشد الشعبي لضمان ولائها لأحزاب السلطة وكتلها الإسلامية أيضًا.
نحن هنا، لسنا بالضدّ من رؤية نظام سياسي لا مركزي عندما يكون الهدف منه خدمة المجتمع وأهل المنطقة من ساستهم وممثليهم الحقيقيين من نفس المحافظة والمنطقة. لكنّ التجربة كانت قاسية بسبب خروج معظم هذه المجالس عن الهدف الأسمى من تشكيلها لأجل خدمة المحافظات وأهلها. فالواقع كان مريرًا وصادمًا، عندما فُتحت أبواب الحساب مؤخرًا من جهات رقابية أخذت على عاتقها مراجعة العقود والموازنات الانفجارية التي ضاعت في كواليس معظم هذه المجالس عبر صفقات مشبوهة كان من نتائجها فضح المستور بين أعضائها، كما كشفته محاكم مجلس القضاء الأعلى ودوائر النزاهة بسبب تقاطع المصالح والاختلاف على سرقة أموال ومشاريع في معظمها وهمية وظلت حبرًا على ورق. ولو جرت تساؤلات وجولات محاسبة وفق مبدأ "من أين لك هذا"، كما حصل مع بعض المتورطين في هذه المجالس وغيرها من ساسة الصدفة وفي عموم مناصب الدولة، لوقف العراقيون والعالم على مآسٍ وجرائم سرقة فظيعة وهدر بالمال العام والإثراء الفاضح لنفرٍ من هؤلاء على حساب مصالح أهل مناطقهم. بل هم أثبتوا أنهم جزءٌ من مافيات وأدوات فساد ظهرت في العلن، ما تسببَ بخلق ردود أفعالٍ سلبية ضدّ الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية بسبب فساد الساسة وأحزاب السلطة. من هنا يكون التوجه الحكومي والسلطة التشريعية لعودة مجالس المحافظات كما مقرَّر لها بعد أشهر، وسيلةً لاستمرار تدمير البلاد وسرقة أموال الشعب وإرجاء الوعد بإقامة انتخابات وطنية تشريعية مبكرة عوضًا عنها، بحسب الوعد والتعهد، إلاّ إذا أُجريت تعديلات أساسية وإجرائية وهيكلية على قانونها بحيث تخدم الوطن والشعب وتأخذ في الحسبان تبنّي مجمل الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حكمت البلد وفرضت إرادتها على الدولة والحكومة ومؤسساتها بعد كشف المستور وفضح مصالح السراق ولصوص الليل والنهار والعمل على محاسبتهم بلا مجاملة ولا غطاء ديني أو سياسي أو حزبي أو شخصيّ. فالإرضاء الحقيقي يجب أن يكون لصالح الشعب وليس لأحزاب السلطة الرافضة لترك سياسة منظومة المحاصصة وتقاسم المغانم والكعكة.




28
العنف ضدّ النساء، إلى متى؟
لويس إقليمس
بغداد، في 10 شباط 2023
تعاظمت أشكال العنف والقهر ضدّ أجمل مخلوق في الدنيا خلقه الباري تعالى ليكون الصورة الناطقة بجماله... إنها المرأة التي تستحق منّا جميعًا كل التقدير والاحترام للدور الكبير الذي تقوم به سواءً في المحيط الأسري أو الشارع أو الدائرة أو المؤسسة التي تتواجد فيها. ويكفي الرجلُ فخرًا أن يتغزّلَ ويمتّع نظرَه بها وبكلّ تقاطيع جسمها ويسعى للقائها أو الاقتران بها بأي ثمنٍ وأيّ ظرفٍ. وكم يشعر بسعادة غامرة حين يرافقه هذا المخلوق اللطيف المعشر في مناسبات مختلفة الأغراض والأهداف، ما يشعرُه بالفخر والسعادة التي لا توصفُ. والأجمل في كلّ هذا وذاك، عندما تفلح هذه الإنسانة في ارتقاء درجات الشهرة والنجاح في مسيرتها المهنية والعائلية في تحدٍّ كبير لكل أشكال العثرات والمعوقات التي توضع في طريقها لتحقيق أدوات هذا النجاح والتفوق في شكل الأعمال التي تُسخّر لأجلها وتنجزها على أحسن ما يكون بجدارة وحسن نية وجميل إرادة وتصميم على مجابهة التحديات. فهل مَن ينكرُ كل هذه الصفات والمشاعر من صنف البشر الآخر؟
دعوات كثيرة ومطالبات لا تنقطع، تقف إلى جانب مساعي تحرير المرأة من نير المعوقات التي تجابه حياتها وحركتها وخياراتها المشروعة في العيش متساوية مع الرجل في شؤون الحياة المختلفة. وتتكرر الصرخات المناهضة بوجه أشكال العنف والتحقير والاستهانة والاستخفاف بقدراتها الكبيرة في عيش الحياة بكلّ ظروفها وشروطها إذا ما أُتيحت لها كل الوسائل وفُتحت لها الأبواب للإبداع والتعبير عن مكامن قدراتها الفياضة المتفجرة في نوافذ وابواب ما تزال مغلقة بوجهها لأسباب عشائرية وأعراف قبلية ومشاكل أسرية بحتة وأخرى سياسية ضيقة الأفق ينبغي الخلاص منها وإغلاق أسبابها إلى الأبد. ويكفيها ما تعاني منه بسبب عقولٍ منغلقة ونفوسٍ ضعيفة بحجة الحفاظ على الشرف والشرع وترضية هذا المرجع أو ذاك، وهذا العرف أو ذاك وهذا التقليد المتخلّف أو تلك الرؤية القاصرة التي ترى كلَّ شيءٍ فيها عورة، بالرغم من أنها خليقة الله العظيم الجميلة بل الأجمل على وجه البسيطة. إنه الخيار الأكثر رحمة والأفضل والمنطقي لها وللمجتمع أن تُتاح لها الفرصة الحقيقية للتعبير عن مكامن قدراتها ووضعها في خدمة المجتمع والأمة والدولة والعالم بدل حصرها بين جدران المطبخ وحيطان البيت الأسري وأركان المحلة والمدينة التي يُحظر عليها مغادرتها إلاّ على سدية!
 من السعيد جدًا أن نستمع معًا مؤخرًا لدعوة بابا الفاتيكان فرنسيس خلال زيارته إلى جنوب السودان يوم السبت 4 شباط 2023، لحماية المرأة والنهوض بها، منضمًّا في ذلك إلى دعوات وصرخات زعماء مسيحيين ومن أديان مختلفة والأمم المتحدة لمنح حقوق كاملة لهذه الإنسانة الرائعة، طفلةً وفتاةً يانعة وامرأة. وما أجمل ما قاله بهذا الصدد: "أرجوكم احموا واحترموا وقدّروا وكرّموا كل امرأة وكل فتاة وشابة وأم وجدّة. وإلّا فلن يكون هناك مستقبل". فالمرأة إلى جانب وقوفها مع زوجها وأطفالها واسرتها ومواطنيها في خضمّ المشاكل والصعوبات الحياتية، ومشاركتها في إعالة أسرتها بما يُتاح لها من طاقات وفرص، فهي لا تُكافأُ بما تستحقه من تقدير وعرفان. ومن المؤسف تعرضُّ الكثير من النساء في مناطق ومواقع كثيرة إلى أشكال العنف الأسري واغتصاب جسدي وفكري بما لا يتيح لها فرصة التعافي من هذه جميعًا، بل يُزادُ عليها أشكال الخوف والتهديد والطرد القسري من البيت لحدّ الرمي في الشارع نكرانًا لدورها الأموي في تربية الأجيال وإعطاء الحياة من رحمها الحنون طيلة تسعة أشهر من الحمل المتعب. ولا يمكن القبول بمجازاة كل هذه التضحيات بسيولٍ من النكران والإلغاء والرفض المجتمعي والشرعي لمجرّد مطالبتها بحقوق آدمية وسعيها للتمتع بخيارات إنسانية كفلتها الطبيعة والقوانين الوضعية وليس الشرعية فحسب. فالقوانين والشريعة إنّما وضعت لخدمة الإنسان وسعادته وليس لتجريمه وتنغيص حياته وتعريضها للعنف والقتل والاستهانة والاحتقار. فالإنسان مهما كانت خليقتُه، ذكرًا أم أنثى، يبقى صورة الله الحسنة على أرض الشقاء! "فالسبتُ وُضع من أجل الإنسان وليس العكس"!

العراقية ماجدة تستحق التقدير
بعيدًا عن خروج فئاتٍ نسوية محدودة النشر والسلوك عن العرف الأدبي العام المتعارف عليه في صميم العائلة العراقية، تقف بالمقابل أرتالٌ زاحفة وفئاتٌ متعلمة مدنية الفكر والتوجه وفائضة العلم والتربية في الطرف الآخر، ما يستوجب التقدير والاحترام لجهود هذه الفئات، وهي كثيرة لا تخضع للمحدودية في نشاطها ورؤيتها ومشاركتها الفاعلة في بناء الأوطان وتطوير المجتمعات وتنوير العامة ممّن يحتاجون الرعاية والنصح والدعم والمؤازرة. وهذه من سمة منظمات كثيرة ومجاميع تطوعية ونخب وطنية ودينية منفتحة آلت على نفسها القيام بالدفاع عن حقوق المرأة العراقية في المواقع الحكومية والمحافل الوطنية والمناسبات العامة ووسط المجتمعات المتنوعة. وهذا أقلُّ ما تحتاجه كلّ طفلة بريئة وفتاة يافعة وامرأة ناضجة اقترنت بنظيرها وكوّنت نواةً لأسرة حباها الله الخالق بنعمة صناعة البنين والبنات والنزول إلى معتركِ الحياة مشارِكةً وداعمةً للزوج والحبيب والأسرة. وهي لا تستحق بسبب هذا الفعل الرائع وغيره الإيجابيّ وسط المجتمع سوى التقدير ورفض كلّ أشكال العنف الأسري الموجَّه ضدّها وضدّ خياراتها الإنسانية وحريتها الشخصية في العمل والاختيار والتنقل رفضًا لأيّ تمييز جندري غير مبرّر بحقها وحقّ أسرتها وأطفالها.
إنّ ما شهدته البلاد مؤخرًا من حالات سلبية وقمعية ناشزة وقتل تبريريّ بحجة الخروج عن العرف العشائري وما يُروَّجُ له من ضرورة غسل العار بحقّ ناشطات نسوية كانت لهنّ خيارات إيجابية في اختيار طريقة حياتهنّ في الحياة بعيدًا عن الضغط الأسري السالب، لا يبرّرُ البتة كلّ هذه الأفعال غير الصحيّة بحق المرأة العراقية التي تسعى لتحقيق الذات وإبراز جدارتها وحقها في الحياة والاختيار والعمل. وهذا جزءٌ ممّا ما تنادي به جهات رسمية وما تسعى إليه سائر المنظمات المجتمعية المتنوعة والنسوية الناشطة في مجال حقوق الإنسان ومجال المرأة بالذات. هناك بلا شكّ جهاتٌ جادّة تنادي بتحرير المرأة وإتاحة الفرصة لها لإثبات الذات في ميادين العمل وفق معايير وطنية جديدة تحمل في مفاهيمها بناء شخصية مختلفة للمرأة العراقية في اكتساح سوق العمل والوظيفة أسوة بنظيرها الرجل الذي يمنحه العرف العشائري سطوة ذكورية أحادية غير قابلة النقاش على المرأة بتغطية شرعية غير مسؤولة، بل وصيّة وولائية على هذه الإنسانة التي خلقها الله لمؤازرة نصفها الثاني الرجل، وليس خادمة له وعبدةً لنزواته وقراراته. فالمرأةُ لها ما للرجل وعليها ما عليه على السواء من دون انتقاص أو نقص أو تمييز أو انحياز غير مقبول. وكفاها اغتصابًا جسديًا وعنفًا منزليًا ونظرة شرعية "عورائية" مخلّة بالهدف من وراء خلقها الإلهي الرائع بهذه الصورة وهذه المواصفات الجاذبة لتزيّن البشرية والأرض والمنزل والشارع ومواقع العمل بهمّتها وجمالها وجدارتها واستعدادها للبناء والتطوير والإعمار والإبداع. وتلكم مسؤولية تاريخية يتحتم على الدوائر والجهات المعنية ألاّ تتراخى في دعم أيّة جهود لإنعاش دور المرأة العراقية ومؤازرتها في اقتحام مواقع الإبداع في كلّ شيء. 
لقد أثبتت الأحداث والوقائع والتجارب العديدة أن الكثير من المبادرات تأتي من نخب النساء الماجدات العريقات في تحمّل المسؤولية حينما تُمنح لها الثقة في الإبداع وتسيير شؤون العمل والمشاريع والمنزل سواءً بسواء. ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن حالات شذوذ يتحمّل مسؤوليتَه نفرٌ من الدخلاء على المجتمع السياسي والأمني في البلاد لأسباب وغايات مشبوهة، كما حصل ومازال يحصل مع مدوّنات خارجات عن العرف المجتمعي تستحق الإدانة والمطالبة بالمحاسبة للمتسبّبين والفاعلين على السواء. وهذه مسؤولية الجهات الأمنية والقضائية المطالَبة بعدم التهاون في الاقتصاص والتوجيه الإيجابي معًا لكلّ مَن خرج أو يسعى للخروج عن جادة القانون والآداب العامة. فالمسؤولية مشتركة بين هذه الجهات الأخيرة ومنظمات المجتمع المدني ودور العبادة والمنزل والأسرة سواءً بسواء. فالبيت الأسري يتناصف أركانَه الرجلُ والمرأة والأهلُ في حدود اللياقة والآداب العامة والتربية الصحيحة المبنية على أدوات التربية منذ الصغر ومواكبة أشكال التعلّم المتقدّم لمن يستطيع إلى ذلك سبيلاً. وهذا جزءٌ من حقّ كلّ فتاة قبل أن تنزل إلى سوق العمل والشارع وترتبط بعقد عائلي صحيح في بنيته وشرعيته وقانونيته. وهو بحدّ ذاته كفيلٌ بإجادة المرأة لواجباتها والتكيّف في وقتها بين العمل والمنزل وتربية الأطفال بطريقة صحيحة. فالجهل وأسباب التخلّف عن التعلّم من دواعي تأخر الشعوب والأمم. وهذا ما وصلنا إليه في البلاد لهذه الأسباب وغيرها ممّا أسهم في حجب كفاءة المرأة بحجة الحفاظ على الشرع والتبريرات التي يسوّقها مَن يقف خلف هذه الحجج الواهية بستر المرأة وحَجرها وحجزها وتحديدها بين جدران المنزل خادمةً للرجل وأهله وملبية طلباته ونزواته، وليس غير ذلك!
قرأتُ مؤخرًا ما كتبه معالي السيد وزير الداخلية العراقي النشط والهمام في معالجة الثغرات التي تحدّ من طموحات المرأة عمومًا والمنتسبات إلى بعض دوائر هذه الوزارة الأمنية. ويكفي تعبيرُه عن اعترافه ب" كفاءة المرأة وقدرتها على إدارة المسؤوليات الكبرى في إطار ضبط إيقاع الحياة الاجتماعية وحل المشكلات المختلفة التي تعاني منها فئات واسعة من أبناء الشعب كي تبقى تجربة الشرطة المجتمعية مثلاً علامة فارقة في تشكيلات وزارة الداخلية ومجالًا للفخر والعمل مع بقية التشكيلات وخبراء الأمن على تطويرها وتمكينها، وعدم السماح لأية محاولة بممارسة أي نوع من ابتزاز العاملات في وزارته، لكون  المرأة في الوزارة رقم أساس في المعادلة الأمنية، ولأنها تستحق بمهاراتها المختلفة وما تعلمته خلال السنوات الماضية أن تقود أية دائرة أو مديرية ". كلّ التقدير لمعالي السيد وزير الداخلية لهذا الموقف الصريح والصحيح والداعم للمرأة في وزارته ومنها في جميع دوائر الدولة العراقية وفي المنزل والشارع والسوق والمؤسسات التعليمية المختلفة.

قوانين منصفة غير جندرية
إزاء شكل التحوّل غير المستقرّ الذي يتجه إليه المجتمع العراقي، لا بدّ من تقويم وتقييم للقوانين غير المنصفة بحق المرأة عبر سنّ أخرى غيرها لا تلحق الأذى ولا تعترف بالتمييز الجندري ضدّ هذا المخلوق الجميل. فهناك بنودٌ عديدة تحطّ من قدر المرأة وتمنح المتسبّب في أذيتها وإهانتها وتعنيفها أبوابًا للنجاة والهروب والإفلات من المحاسبة والعقاب، ومنها الأعراف العشائرية المتخلفة بتغطية شرعية ودينية في غالبية حججِها وتبريراتها. وقد أضحى مألوفًا الإفاقة بين يومٍ وآخر إلى أحداثٍ مأساوية بحق ناشطات نسائية ومدوّنات فيسبوكية وأخرى متعددة الأشكال بحجة غسل العار والخروج عن الأعراف. وهذه في معظمها تتعلق بشؤون تنظيم الأسرة واختيار الحياة المناسبة خارج البيت الأسري والارتباط بالنصف الآخر بسبب الزواج القسري أو العائلي التقليدي أو العشائري عادةً لتحقيق مصالح ضيقة خاصة بين العائلات والعشائر بحيث تُفرض على بنات العوائل قسرًا ورغمًا عن إرادتهنّ وبالضدّ من خيارهنّ، ما يعرضهّن للتسرّب من المؤسسات التعليمية وقطعِ علاقتهنّ بالعالم الخارجي وحصرهنّ في أغلب الأحيان في حدود المنزل الأسري. وليس غريبًا أن تشهد البلاد بين فترة وأخرى تظاهرات مطالبة بالحد من هذه الظواهر السلبية التي تؤخر تقدم المجتمع العراقي وبناء بيئته الاجتماعية وفق قوانين منفتحة مدنية لا تسمح بالتمييز الجندري في أي قطاعٍ من قطاعات الحياة، إذا أردنا اللحاق بركب الأمم والمجتمعات المتطورة مع الاحتفاظ بأخلاقيات الآداب العامة من دون مغالاة ولا تطرّف ولا حياد عن الطرق القويم. وهذا يتطلب شيًا من الحزم والإرادة السياسية والدينية والقضائية في معالجة مكامن الضعف والهشاشة في القوانين الوضعية المتراخية التي تشجّعُ في بعضٍ منها مرتكبي جرائم الشرف، ومنها قمع أصحاب الرأي والنقد الإيجابي المجتمعي الهادف وأشكال التهديد التي تطال هذه الفئة الناضجة في مساعيها لتغيير سلبيات الحياة اليومية والأسرية والمجتمعية نحو الأفضل في بناء النفس والعقل والفكر وصولاً إلى بناء مجتمع صالح نظيف منتج وإيجابي في كلّ شيء.
بالتأكيد، للقضاء دورٌ مهمّ وإيجابي في الحدّ من جرائم العنف ضدّ المرأة والقاصرات من الفتيات والبالغات على السواء، بأية حجج وتبريرات يتم ارتكاب مثل هذه الجرائم بحق هذا المخلوق الجميل الذي حوّله البعض إلى إناء ضعيفٍ وحدّد منفعته وسرَّ وجوده في إطار المتعة والإنجاب وتربية الأطفال وخدمة الرجل الأناني وأهل بيته. وهناك بالتأكيد مواد تحمي المرأة من أشكال العنف والقتل والتهديد، ومنها ما ينص على حق الفرد، في الحياة والأمن والحرية، وأخرى ترفض المسّ بحقوقها التي تكفلها شرعة حقوق الإنسان، وغيرها التي تساوي بين المواطنين أمام القانون والحق في الاختيار بالارتباط وشق المصير والمستقبل بموجب قانون الأحوال الشخصية المعدّل.
وهناك حالا أخرى غريبة على المجتمع العراقي ومدانة متعلقة بتعرّض نساء في الخدمة العامة إلى اعتداءات من جانب أفراد، أقلُّ ما يُقال عنهم أنهم مرضى نفسيًا واجتماعيًا بسبب الجهل والتخلّف التي أضحت من الظواهر الطبيعية في مجتمع فقدَ شبه أهليته الدولية وبنيته الوطنية وغرقَ في أتون صراعات طائفية وأشكال من الفساد المستشري في مفاصله كافة. وهذه لها وقفة جادة من جانب الدولة وأجهزتها التنفيذية بالتصدّي لكلّ أشكال الخروج عن السياق القانوني ضدّ أي فردٍ في العمل الوظيفي العام والخاصّ. وعلى كافة الجهات المعنية مراقبة أداء مؤسساتها ومكلّفيها والوقوف بحزم ضدّ أي تصرّفٍ غير سويّ أو سلوكٍ مدان، ورفض فظاعة الجرائم والسلوكيات التي تبدر عن أفعال القبح في السلوك الاجتماعي الشاذّ المتخلّف الذي يطال المرأة عَرَضًا ومن دون أدلة أو إثباتات في أغلب الأحيان.
تشير إحصائيات بعض الدوائر الاجتماعية الرسمية ومنظمات المجتمع المدني إلى انتشار حالات من العنف الأسري بأشكالها وتنوعها، ما يجعل الوضع مقلقًا ويعرّض المجتمع العراقي إلى هزّات اجتماعية تنذر بالقلق والخوف من أيام قادمة سوداء قاتمة في نتائجها. وفيما يؤكد المختصون أن غياب العقاب والحساب تُعدّ من أسباب انتشار هذه الظواهر الخطيرة، يرى آخرون تخبطًا في شكل العقوبات واختلاف الرؤية في الحكم على هذه الظواهر، ما خلقَ شكلاً من الفوضى في معالجة عموم هذه الحالات بالرغم من الجهود المطالِبِة بسنّ ما يمكن من قوانين وتعليمات تحفظ حقوق المرأة والأطفال المعنَّفين ضمن الأسرة والمجتمع بهدف تحجيم هذه الظواهر. ولعلَّ ممّا يُسهم إلى حدّ كبير في انتشار هذه الظواهر المدانة يعود إلى غياب الدولة المدنية التي يحميها القانون وليس في شبه الدولة الخاضعة لنير الأعراف العشائرية والقبلية التي تحكم بعيدًا عن القانون وكأننا في مجتمع غابة تحكمها ذئابٌ مفترسة، ما خلق هوّة واسعة بين الأجيال بسبب التراجع في الثقافة العامة وأدوات التعليم والتربية والاهتمام الشنيع بأدوات أخرى ساهمت في إفساد المجتمعات، ومنها دخول ظاهرة المؤثرات النفسية وأشكال المخدّرات والانتشار الكبير لمواقع اللهو غير المسيطَر عليه والذي يعمل بتغطية من جهات مسلحة تابعة لأحزاب السلطة ومتنفذين في الحكم. لقد دقّ ناقوس الخطر والخوف منذ حين وتم التحذيرُ منه مرارًا وتكرارًا، وستكون له نتائجُ وخيمة تتحملُ وزرَها الأجيال القادمة. كان الله في عونها!




29
في الذكرى السنوية الثانية لزيارة بابا الفاتيكان للعراق:
البابا فرنسيس: إرادة حديدية ورؤية إنسانية
لويس إقليمس
بغداد، في 25 شباط 2023
قد تتقاطع الرؤى وأشكال الحُكم بخصوص ولاية بابا الفاتيكان فرنسيس (خورخي برغوليو) الأرجنتيني الجنسية وأنشطته وآرائه الجريئة في بعضٍ منها لدرجة عدّه شخصيةً جدلية من وجهة نظر فلسفية ودينية. لكنّ أغلبية الآراء لا تنكر له "كارزميته" الإنسانية وانفتاحه الإيجابي على شؤون الدنيا وحاجات الإنسان وشعوب الأمم الروحية والمادية والفكرية والسياسية والاقتصادية على السواء، ولاسيّما انفتاحه الحثيث للحوار والانفتاح لمختلف التيارات والأديان. فهو الرجل الذي تُختزل في شخصيته كل هموم الكنيسة، بل المسيحية بصفتها الإنسانية الجامعة للأمم والشعوب المُحبة للسلام والعيش الكريم والحوار والتفاهم الإيجابي بالرغم من اختلاف الرؤى والمصالح والمشارب القومية والدينية والسياسية إزاء هذا الدّين المسالم والمتسامح عبر العصور وفي كل الأوقات والأزمان. بل يرى فيه البعض وهو يقترب من حبريته العاشرة، إنسانًا "بطبيعة حديدية" اكتسبها بفعل تحركاته وتنقلاته ورحلاته المتعددة التي وُصفت بالجريئة والخطرة في آنٍ معًا والتي حملت كلّ واحدة منها قصة عشق بابوي خاص بمغزاها وحيثياتها وتوجيهاتها وروحيتها ودروسها. ومنها زيارته الأخيرة إلى جمهورية الكونغو الشعبية وجنوب السودان في عمق أفريقيا، وقبلها زيارتاه إلى العراق في 2021 ودولة الإمارات العربية المتحدة في 2019 وأخرى غيرها. ونظرًا لما لهاتين الزيارتين الأخيرتين للمحيط العربي من تحديات شخصية وكنسية وطبيعية، فقد كسب قداستُه ودّ شعوب البلدين وساستهما وحكوماتهما ومعهما شعوب المنطقة العربية عمومًا عبر تحقيق نتائج إيجابية لإصلاح أفكار ورؤى مشوشة ومشوّهة وسلبية في الحكم المسبق. ويكفي أنّه تجرّأَ لكسر طبيعته السابقة قبل انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية بالتزام "البيت" وتجنّب السفر لسنوات لغاية تولّيه مهامه البابوية قبل عشر سنواتٍ خلت، ما منحه صفة الرحّالة التي اتسم بها بعضُ أسلافه من بابوات الفاتيكان مثل بولس السادس ويوحنا بولس الثاني على وجه الخصوص، بتحقيق رحلات دولية بلغت الأربعين رحلة لغاية الساعة، بالرغم من حراجة بعضها وخطورتها وبسبب معاناته من بطء في السير والحركة لخلل في إحدى ركبتيه، ما جعله أسير كرسيّ متحرك في أغلب الأحيان.
ممّا ينبغي الالتفات إليه، أنّ أية زيارة يقوم بها أيّ رأس للكنيسة الكاثوليكية، فإنّ لها حيثيات وأسباب وتطلعات ومعايير مرتبطة بشعوب تلك المنطقة أو ذاك البلد، بحيث يتبادر إلى الأذهان وكأنه يشاء خلقَ رواية محبوكة تبقى آثارُها لسنواتٍ بل لعقودٍ وقرونٍ قادمات في المعنى العميق والهدف العام. لذا يكون نوع الاختيار من بين الأسباب التي تحثّ على الرحلة بالرغم من مكامن الخطورة والحراجة وذلك من أجل تحقيق نتائج للصالح العام وليس فيها أو بين طياتها ما يوحي إلى مصالح شخصية كما يحصل لدى ساسة الدول والحكومات التي تبحث عن مصالح ومنافع محدودة الرؤية والتطلعات. ففي اختياره لآخر زيارة تحققت إلى القارة الأفريقية بعد الزيارة الأولى إلى أفريقيا الوسطى في 2015، أراد أن يذكّرَ بما تعانيه هذه القارة من مصاعب وقلاقل ومشاكل اقتصادية وسياسية بسبب الحروب والاقتتال بين أبناء البلد الواحد، لغاية فقدان القدرة على عيش الحياة الكريمة عبر تحقيق حوار وطني وسلك وسائل التفاهم المتاحة بين أبناء البد الواحد. وذات الهدف قصدَه في زيارته إلى تشيلي في أمريكا اللاتينية في 2018 لما لهذا البلد من تاريخ دموي في الانقلابات والحراكات العسكرية التي أنهكت قواه وامتدت في تأثيرها إلى شعوب القارة بعمومها.
أمّا زيارتُه إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في 2019، فهي تؤشر دلالات عميقة في معانيها كدولة عربية لها خصوصيتُها الإسلامية وسط شعوب المنطقة والعالم في درجات النضج الإنساني والانفتاح السياسي والتفاهم الديني مع العالم الخارجي بحيث أضحت درةَ المنطقة في تعافيها وصلاح ساستها وأمان شعوبها وسلاسة تعاملها مع غيرها وفق مبادئ الإنسانية التي ماتزال بلدانٌ عديدة تفتقد إليها في سياساتها الخاطئة والمتعثرة. فقد استفاد قادة هذا البلد من تجارب الغير واحتكموا إلى العقل والروية في قيادة شعوبهم عندما توحدت الكلمة تحت راية بانيها الأول، رحمه الله. وقد نجم عن شكل هذا الانفتاح ذلك اللقاء التاريخي الذي لا يمكن نسيانُه، عندما اتفق شيخان وقائدان دينيان لتحقيق أمنية صنّاع السلام وأدوات المحبة والحوار والتفاهم في هذا البلد الحاضن لبشرٍ من جنسيات وأديان ومعتقدات مختلفة، بالتوقيع على وثيقة الأخوّة الإنسانية في 4 شباط 2019، والتي تصدّرت الأحداث وماتزال تحظى بمتابعة وارتياح دوليّ منقطع النظير. وستظلّ كذلك، بسبب إرسائها سبل الحوار الهادئ بين أكبر ديانتين توحيديتين مهمتين في العالم، ما حثّ المجتمع الدولي وأمين عام المنظمة الدولية لإعلان هذا التاريخ "يومًا دوليًا للأخوّة الإنسانية". وفي هذا معانٍ كثيرة وعديدة سوف تتحدث عنها الشعوب والأمم باختلاف أديانها ومعتقداتها لسنوات بل لعقودٍ وقرونٍ. لقد وضعت هذه الوثيقة النقاط على الحروف فيما يتعلّق بواجب احترام الغير المختلف في الدين والمعتقد من منطلق وجوب احترام خيار الآخر الذي يشكلُ قاعدة أسمى لتعاون مثمر ودائم بين الإخوة في الإنسانية وصولاً للتكامل الذي يشكل قوةً مضافة للعمل السلمي والعيش المشترك وفق مبادئ الخالق الذي خلق الجميع متساوين في كلّ خير حتى في اختلافهم الإتني والديني والفكري. فحيثُ أسعى أنا لأنالَ احترامَ الآخر المختلف عنّي، يتوجب عليّ أنا أيضًا أن أقبل باحترام الاختلاف الذي عليه مَن يواجهني ويقابلني ويعيش بالقرب منّي.

العراق في وجدان البابا
تزامنًا مع الذكرى السنوية الثانية لزيارة بابا الفاتيكان فرنسيس للعراق للفترة من 5-8 آذار 2021، يعيدُ العراقيون وأصحابُ النوايا الطيبة في العالم إلى الأذهان ما صاحبَ تلك الزيارة التاريخية الميمونة من مظاهر الفرح والارتياح في توقيتها وما جرى فيها من لقاءات ومباحثات وتبادل رؤى وأفكار من أجل تعزيز السلم المجتمعي وترسيخ سبل العيش المشترك في بلدٍ تمزّقَ نسيجُه الاجتماعي وتحطمت طموحاتُه بسبب تقاطع المصالح واستشراء أدوات الفساد واللصوصية وهدر للثروات الوطنية من جماعات سياسية ودينية دخيلة وطارئة على البلد وعلى المجتمع المتكافل منذ خليقته، إضافةً إلى ما ناله أتباعُ أديان ومكوّنات أخرى من تهميش واهمال واعتداءات وأشكالٍ من التمييز في الحقوق في شؤون الوطن، وما أكثرها. ومن أبرز تلك المظاهر الوطنية التي رافقت تلك الزيارة، القرار الوطني للحكومة العراقية بإعلان يوم 6 آذار وهو يوم اللقاء التاريخي بين قطبي الكثلكة في العالم والشيعة في العراق "يومًا وطنيًا للتسامح والتعايش". وهو ما شجّع عناصر أخرى لاحقًا لتوظيف هذا الشعور في مواصلة الحوارات والقاءات بين أبناء الوطن الواحد عبر مؤسسات دينية ومنظمات وجمعيات أخذت على عاتقها التواصل بذات النهج لإنضاج وسائل المصالحة والتسامح التي أعلن عنها قداستُه سبيلاً واعيًا وناضجًا لأجل قبول الآخر المختلف باحترام المشتركات الإنسانية بين أتباع الأديان والمعتقدات في بلدٍ تحققت فيه عبر الأزمان كلُّ دلالات الحضارة والرقيّ عندما كانت بلاد ما بين النهرين ملهمةَ العالم ورافعةً لسارية البناء والرقيّ بلا منازع.
 بحق مثّلت هذه الزيارة تحديًا لا مثيلَ له بسبب المعوقات العديدة التي وُضعت من أجل عدم تحقيقها وفق رؤية البابا فرنسيس. فقد أتت في وقت الذروة السلبية بعد سنواتٍ من القضاء على أبشع تنظيم إرهابي خلطَ الأوراق بين الإخوة الأعداء من ساسة الصدفة وراكبي موجة الوطنية الزائفة وتسبّبِه بتشريد أبناء المكوّنات الهشّة في مناطق عديدة من سهل نينوى ومحافظات أخرى، ولاسيّما من المسيحيين والإيزيديين ممّن لا سندَ لهم في الحكومات العراقية المتعاقبة بعد السقوط القاتل على يد الغزاة الأمريكان في 2003. لقد كانت مظاهر العنف والعداء وأشكال القصور في الأداء الحكومي لشبه الدولة بسبب ولاءات معظم الساسة لدول الجوار والخارج بعيدًا عن الهاجس الوطني الغائب لغاية الساعة، هي السائد عمومًا، إضافة إلى التباطؤ في إنصاف هذه المكوّنات الهشّة التي أحالها الزمن الغادر إلى "أقليات" وطنية مهزوزة لا معين لها ولا سلوانَ سوى كلام الساسة المعسول من الأحزاب المتحكمة بالسلطة وبمقدّراتها في النهب والسلب واللصوصية والتهميش المتعمد لأصحاب الحق والكفاءات في البلاد مع ندرة من أدوات هزيلة بالإدانة والاستنكار من دولٍ وحكومات ومنظمات لم تأتي أُكلها ولا نتائجها بسبب ضعف تفاعل المنظومة السياسية القائمة على المحاصصة وتقاسم المغانم وبغيابٍ واضح لحقوق ومطالبات أتباع المكوّنات الهشّة الأصيلة في البلاد.
    لقد اطلع العالم على ما ناله المكوّنان المسيحي والإيزيدي بصورة خاصة، من قسط رهيبٍ بالفتك والبطش والإرهاب والتشريد والتهجير القسري والنزوح على ايدي التنظيمٍ الإرهابي بسبب تقاعس طيفٍ من الساسة وتآمرهم على محافظات عراقية وطنية معروفة بأصالة مكوّناتها وتجذّرها في أرض الإباء والأجداد لحدّ فقدان الصبر والآمال بأشكال الوعود العرقوبية التي لا تغني ولا تسمين من جوع. فكانَ أن جرى تدمير بيوتهم وكنائسهم ومعابدهم وتشريد مواطنيهم واغتصاب وقتل البعض منهم بأبشع الوسائل وأقسى الطرق الممنهجة. من هنا جاءت زيارة البابا فرنسيس إلى مدينة الموصل بخاصة، وبلدة قرقوش السريانية بالذات، لما لهذه الأخيرة من وقع ديني وبنيوي هام من حيث كونها أكبرَ تجمّع مسيحي في العراق وربما الشرق الأوسط. لقد أراد البابا بهذه الزيارة تهدئة النفوس ووضع حدود لأشكال التهميش والإهمال والاستبعاد عن مواقع السلطة والتوظيف والسعي لردم الأضرار بمطالبة الدولة والحكومة باحترام الجميع وفق مبادئ وطنية وعدالة إنسانية ومساواة في الحقوق والواجبات. وهذا ما حدا بالبابا فرنسيس لتحقيق لقاء تاريخيّ في 6 آذار 2021، مع الشيخ الشيعي المعتدل علي السيستاني، وهو أعلى مرجع شيعي في العراق كي يجدّد سماحتُه تأكيدَ عبارته المأثورة لرأس الكنيسة العراقية غبطة البطريرك لويس ساكو في أحد لقاءاته "أنتم جزءٌ منّا ونحن جزءٌ منكم"، في نداءٍ واضح لاحترام خصوصيات كافة المجتمعات الوطنية من دون تمييز داعيًا لإنصاف المكوّنات الهشّة في المجتمع العراقي. ويكفي إدانة الشيخين الجليلين لأشكال التطرّف والعنف عبر وسائل الإعلام وهي تنقل عناق الرجلين في مشهد بانورامي "أيقوني" صارَ جزءً من فكر العراقيين في الانفتاح والحوار والتفاهم، دلالة على إمكانية تحقيق المعجزات عندما ينفتح الفكر المنغلق على الآخر المختلف ليخلق صورة إيجابية في المحبة والتآلف الإنساني والمجتمعي بين المختلفين عقائديًا وإتنيًا ودينيًا، شكلاً ولونًا وفكرًا. 
لقد صبّ هذا اللقاء التاريخي دلالاتِه الكبيرة في حاضنة الحوار الديني المفتوح الحاضر في العراق منذ سنين بين مختلف الأديان والمذاهب وصولاً إلى مجتمع يسوده الانسجام ويجمعهم حب الأوطان والمشاركة الوجدانية في الأفراح والأتراح وكلّ المناسبات وبما لا يخلق إرباكًا وخلطًا للموجبات والتحذيرات والمستحكمات، بالرغم من محاولات يائسة لجهاتٍ وجماعاتٍ التصيّدَ بالماء العكر عبر التشكيك بقدرة الحوار على العيش السلميّ المشترك بين أبناء الوطن الواحد والمشاركة في إعادة بنائه وفق مبادئ إنسانية ووطنية خالصة لا تقبل بالولاء المشبوه لجهات من خارج السور الوطني، والعربي منه بصورة أدق. فلا أحدَ يستطيع الوقوف بوجه الخير وما يأتي به من مناسك المحبة والتسامح والتشارك والبناء والإعمار لأجل الصالح العام قبل أيّ شيء. كما أنَّ الأوطان لا يُعمّرها العتاة والقتلة واللصوص والسراق والمنافقون، كما لا يبنيها الكذابون والمتجلببون بالدين والمذهب والطائفة مكرًا ونفاقًا ورياءً، بل مَن في ضميره بعضُ ذرّات المحبة والاحترام والمدنية والانفتاح والإنسانية بحسب الخيارات الطيبة والحسنة لمثل هذا الصنف من البشر. فمرحى لكلّ فاعل خيرٍ لأجل الإنسانية!

30
2023، سنة بقاء التحديات والأزمات أم سنة التعافي والتحوّلات والتغيّرات!
لويس إقليمس
بغداد، في  3كانون ثاني 2023
طوى العالم سنة 2022 بعد مخاض عسيرٍ شهدت فيه عدد من الدول والشعوب مرارة الحياة وشظف العيش وصراعًا حادًا لمواجهة تحديات كثيرة. كما وقفت بلدانٌ أخرى في مواجهة حروب مدمّرة وما أتته من دمارٍ وخرابٍ شاملين ليس في بناها التحتية المادية والاقتصادية فحسب بل في تعشيقتها الاجتماعية والأخلاقية والتربوية والعلمية. هناك دولٌ ومجتمعات متحضرة منفتحة لواقع الحياة وما فيه من مغريات وتحديات قد استفادت من دروس السنوات الماضية وحصّنت وضعها بمزيد من التحوطات على جميع الأصعدة وفق استراتيجيات مدروسة وتخطيط ملمّ بما واجهته إزاء بعض تلك التحديات. وبعكسها دولٌ أو بالأحرى إداراتٌ فاشلة أخرى لم ترقى إلى مستوى التحديات التي واجهتها، فسقطت في حبائل الفشل الإداري والسياسي والاقتصادي والخدمي، ما وضعها في خانة الفاشلين، بل الفاسدين في الإدارة. فإدارة أية مؤسسة أو بيتٍ أو منظومة أو دولة، لا تأخذ في نظر الاعتبار دراسة وقائع الماضي والحاضر، لن تكون قادرة على استشراف المستقبل بعيون مفتوحة وآذانٍ صاغية وعقولٍ حكيمة قادرة على مواجهة المصاعب والمشاكل وقهر التحديات. فالتخطيط سيّدُ النجاح في أية إدارة، صغيرة كانت أم كبيرة.
قد تكون هذه المقدمة الإنشائية مملّة في تقييم واقع التحديات التي تواجه دولاً كثيرة في عالم الأمس واليوم. لكنها في عمق ما تعانيه وتطالب به شعوبُها من أجل التعافي من الواقع المزري والتخلّص من الإدارات الفاسدة والفاشلة بغية الانتقال للأفضل بعد استخلاص الدروس والعبر من كلّ صغيرةٍ أو كبيرة. وهذه حالُ بلدنا وسواه من دول العالم الحالمة بحصول تغيّرات وتحولات في الواقع والاستراتيجيات على المدى المنظور والطويل. ويمكن تلمّس بدايات شكل هذه التحوّلات العالمية في السياسة العامة لبعض البلدان من خلال بروز اليمين والمحافظ، والمتطرّف منه خاصة، في بعض الدول إلى الواجهة السياسية كما حصل في إيطاليا التي تقدّمَ فيها هذا التيار أكثر من غيرها في دول الاتحاد الأوربي بحيث تمكن من حصاد تأييدٍ واضح في غيرها من دول الاتحاد عبر تنامي مؤيدي هذا الجناح في إدارات هذه الدول. فالشعوب الحية والناجحة منها تلجأ إلى التخطيط والتدبير والإصلاح والتغيير، فيما غيرها يبقى مرابضًا صامتًا كالأخرس في الزفة، كما يقال، في انتظار القدَر أو الحظ الذي يكون عاثرًا في غالب الأوقات. أمّا مَن يلجأُ إلى العرّافين لمعرفة مصيره ورسم صورة لمستقبله بهدف وضع الخطط والخطوات لأجل بلوغ شكل هذا التعافي أو التغيير أو بغية الخروج من الأزمات والمشاكل بهذه الشاكلة فهو مخطئ وفاشل في جميع المقاسات. فمهما قال المنجمون ولو أصابوا في جزئياتٍ من تنبؤاتهم، فالكذب حليفهم. ويبقى العقل والحكمة والإدارة الجيدة سيد المواقف جميعًا. فالباري تعالي خلق البشر بعقول وأدمغة مستوفية الشروط لعيش حياة طبيعية تساهم في تنمية الموارد والقابليات والسلوكيات نحو الأفضل في الحياة اليومية.
صحيحٌ أن عالم اليوم يعيش عصرَ قدرات متفاوتة ومتضاربة في تقدير الحسابات والتصورات التي تعصف بالمجتمعات البشرية جميعًا. فلو نظرنا إلى خارطة العالم، لتيقنّا من معاناة جميع البلدان والمجتمعات، حتى المتمدنة والمتقدمة فيها، من أعاصير وعواصف تضرب السياسة والاقتصاد والمال والبنى التحتية بما فيها الأدبية والثقافية والخدمية والتربوية والعلمية. وفي هذه أمثلة عديدة قد خذلت دولاً ومناطق كانت خارج حسابات الأزمات أخلاقيًا وأدبيًا واقتصاديًا وحتى أمنيًا. فما حصل من مواجهة وأزمات صادمة لمجموعة الدول الأوربية والغربية مؤخرًا بسبب اندلاع أشرس حربٍ مناطقية بين دولتين جارتين، سواءً كان هذا بإرادتها أو بغيرها، قد أشاع حالة من الإرباك في الخطط ووسائل المواجهة والمعالجة ومن ثمّ في تحمّل النتائج المترتبة. لقد فرض الواقع حالَه ورؤيتَه وقرارَه بسبب شدّة التحديات وشراسة المواقف والخوف من المجهول. ففي حين ترى جهاتٌ دولية في تورّط الغرب وبالتحديد دول الاتحاد الأوربي مدعومة بمنظومة حلف شمال الأطلسي بحربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل بسبب أوكرانيا، سوى الحلم بتوسعة دول الحلف ليقف ندًّا عنيدًا للدبّ الروسي المتنامي على حساب دول كانت بالأمس تشكلُ جزءً من عماده الأمني والقومي، يرى غيرهم فيها دفاعا عن حرية البلدان والشعوب بوجه الطغيان الروسي الذي يمثله "بوتين" ابنُ وعميلُ الجهاز المخابراتي العنيد "كي جي في "، وما يمكن أن يتركه من بصمات سلبية في حالة تمدّد الحلم السوفيتي السابق عند التفكير ببعثه وإنهاضه من جديد. ولا تعليق على ذلك، لاسيّما بعد تشكيل أشبه ما يكون بجبهة غربية، "أمريكية-أوربية" لمواجهة روسيا والحث على التنديد بفعلتها التدميرية ضدّ بلدٍ مستقل وشعبٍ يسعى للتحرّر من قيود إدارة الماضي الاشتراكي-الشيوعي المدمّر للإنسان في الفكر والعقل والحرية وكلّ شيء. وقد يفتح التصريح الأخير للقيادة الروسية باستعدادها القتالي من خلال تحسين "الثالوث النووي" الذي تعتدّ به ضمانةً لبقائها ومستقبلها الوجودي كقوة عظمى، عشرات الأبواب والتأويلات لما يضمرُه رئيسُها بعد اشتداد القتال وتصلّب الطرفين المتحاربين في مواقفهما من غير بروز أملٍ قريب بالتلويح بالجلوس على طاولة المفاوضات. وهذا ما يستشفه المراقبون بعد الزيارة الأخيرة للرئيس الأوكراني إلى أميركا ولقائه رئيسها الذي أكّد له مواصلة الدعم والرعاية اللوجستية بأسلحة متطورة جديدة لإطالة أمد الحرب، ما يضمن لبلاده استمرار القتال في ضوء الدعم الغربي المتكاتف.

هل أوربا والعالم في مأزق؟
تقف أوربا اليوم بعد مرور أكثر من عشرة أشهر على الحرب الروسية-الأوكرانية المدمّرة في مخاضٍ عسير واقفة عند نقطة تحوّل حساسة، ليس في بيئتها السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية فحسب، بل بدأت تحدياتها في ازدياد في مواجهة المستقبل الذي أصبح على المحكّ. فضراوة الوضع المتردّي في كلّ شيء وما تطلّبه ذلك من إجراءات تحفظية وتحوّطات للقادم السيّء في نظر البعض، بدأ يلوح في الأفاق بشكلٍ تهديد مصيريّ لهذه القدرات، ومنها العسكرية التي لم تتهيّأ لها بالشكل الذي كان يُفترض أن تكون عليه في الجانب العسكري والأمني. فما كان بالأمس يشكل جزءً من سمات الرؤية الغربية في السلوك السياسي العام في "المرونة والقوة والأداء"، قد أصبح اليوم يشكلُ شيئًا كثيرًا من الإحباط العام بعد أن طالت الحرب واستنزفت الموارد والاحتياطات والمخزونات، واضطرّت معظم دولها لاتخاذ إجراءات تقشفية ظهرت نتائجُها السلبية على شعوبها، ولاسيّما إزاء مسألة مواجهة أزمة الطاقة التي حصرتها فيها روسيا المُنعِمة عليها بغازها الطبيعي الذي اعتمدت على تجهيزه منها بصورة أساسية وفق منظور استراتيجي والذي بدأ البعض يشكّ في مفعوله وتوقيته. أي بصورة المنطق، يمكن القول أنّ أوربا اليوم، في مواجهة حقيقية لتحديات وجودية تعيد إلى الأذهان ما شهدته في ثان حربٍ عالمية عندما لحق بها الدمار الشامل وتكاتفت لتجاوزه بقدراتها لمواجهة تلك التحديات الصعبة.
من هنا وانطلاقًا من القدرة على الإيفاء بهذه التحديات الثلاث في أعلاه، سيتعين على أوربا بحسب مفكرين وقادة إثباتَ قدراتهم على حقيقةٍ واجبة التحقيق، أي الانتصار الحتمي الحاسم على الدب الروسي وكبح جماح أحلام رئيسها المغمور المتمثل برجلها القويّ الشرس "بوتين"، الذي لا يعرف سبيل التنازل أو الاستسلام بل يزيد من مغامراته التي ليس لها نهاية أو حدود. لكنه مع كلّ هذا وذاك يخافهم أيضًا بسبب قدراتهم الكبيرة قابلة النهوض، تمامًا كما حصل لهم عقب الحرب العالمية الثانية. لكنه مخطئ فيما ذهب ويذهبُ إليه بسعيه لجرّهم إلى حربٍ مفتوحة بغية خلط الأوراق وتشابك الأحداث للخروج من النفق الذي أقحم فيه بلادَه والمنطقة بمبررات وهمية خارج حسابات التعايش السلمي إلاّ من منطق فرض الإرادات وإحياء الأحلام النرجسية التي عفا عليها الزمن. فأوروبا لن تغامر بدخول الحرب المباشرة مع روسيا لقناعتها بعدم جدوى التورط بها، طالما هناك مَن يدير استراتيجيتها من موقع أقوى متمثلة بقدرات الحليف الأمريكي الذي لن يسمح لندّه السابق أيام الحرب الباردة أن يتجاوز حدوده. فما تسعى إليه أمريكا ومعها الاتحاد الأوروبي لا يعدو كونه لعبةً لإضعاف قدراتِ الدبّ الروسي وزيادة النقمة الدولية ضدّه وضدّ مَن تحالف معه من دول مارقة في نظر الإدارة الأمريكية.
يمكننا القول بحفاظ دول الاتحاد الأوروبي لغاية الساعة على وحدتهم في مسألة توحيد المواقف إزاء الاعتداء الروسي ضدّ دولة مستقلة تسعى لدخول هذه المنظومة الدولية القوية. ومنها نجاحُ إدارات دولها مع حليفتهم الولايات المتحدة بفرض عقوبات صارمة على روسيا من أجل عزل الأخيرة عن المجتمع الدولي وسعيهم الجديد في مسألة حصر وتسقيف سعر الغاز الطبيعي الروسي الذي عارضته بعض الدول العربية ومنها الجزائر التي رأت بضرورة بقاء أسواق الطاقة حرة من أجل مواصلة الإنجازات والاستثمارات في المنبع بحسب وزير طاقتها. وبالرغم من عدم نجاحهم في هذا تمامًا بسبب ضعف تأثير شكل هذه العقوبات على الواقع المالي والاقتصادي، إلاّ أنّ إقرارَها كانت له فوائدُه وأثمرت عن تحقيق مكاسب للحليف الأوكراني على حساب التقدّم العسكري والأمني الذي نجحت به روسيا في بداية الصراع. ولأجل تحقيق هذه الغاية، لا بدّ من استمرار ذات النهج في الصمود برغم قساوة نتائجه ومفاعيله على دولها وشعوبها. فهذا هو الطريق الأسلم لبلوغ هدف النصر في نهاية المطاف والوصول إلى الضوء الأخضر للسلام والاستقرار في المنطقة التي تغلي على صفيحٍ ساخن من نيران متعددة الأضرار والتحديات. ومادامت أوربا ودولها متحدة ومحافظة على سلوكها الحكيم بعدم الانجرار والتورط المباشر بالحرب الضروس، ستكون بالنتيجة قادرة على الإمساك بقدراتها الرائدة في شكل التكنلوجيا والقدرات البشرية والموارد الأساسية والمجتمعات المدنية وبالأخص في قوانينها الأكثر مرونة لصالح الإنسان والبشرية وحقوق المواطنة ومنها حقوق الإنسان التي تحمل راياتها بقوة لا تضاهيها غيرُها من الدول والشعوب. فما يعوزها وينقصها في ضوء الحرب القائمة، هي قدرتُها على تقديم استراتيجية طموحة لم تحسب لها حسابًا، لاسيّما من منظور لوجستي عسكري في بناء القدرات التي اعترف ساستُها علنًا بشيءٍ من خيبة الأمل في عدم إيلاء هذا الجانب ما كان يتطلبُه من تخصيصات وتمويلات للإبقاء على كامل الجهوزية حين الحاجة. وهذا الأخير يشكلُ خللاً في البنية الكلّية لدول الاتحاد لأسباب عديدة، منها اليقين بنظرة الحياد الإيجابي الذي اتسمت به بعض دول الاتحاد تاريخيًا ولم تعرهُ أهمية أولوية في سياساتها العامة نظرًا لاعتقاد قادتها بزوال خطر الحروب على حدودها بعد نتائج الحروب العالمية المدمّرة والحرب الباردة، أو بسبب ضعف جهوزية مجتمعاتها المسالمة التي اعتمدت واتكلت على غيرها في الدفاع عنها حين الساعة عندما يحدق بها الخطر، كما يحصل اليوم عندما بلغت مخاطر الحرب الروسية إلى حدود بعضها وبدأت تشعر بالخوف والشك والريبة من المصير في مستقبلها.
إزاء كلّ هذه الشكوك والمخاطر والتهديدات المحتملة على الأبواب، بدت علامات التفكير بضرورة تعزيز القدرات العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي ضمانًا للسلام وبهدف التهيّؤ للدفاع عن النفس والحدود حين تقترب المخاطر وبحثًا عن الأمن والاستقرار. وهذا يتطلب زيادة في التعاون بين دول الاتحاد دون إحداث أية ثغرة في صفوفها. وهو الكفيل حتمًا بتقوية الاقتصاد وزيادة القدرات التنموية في قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة والبيئة والتكنلوجيا المتطورة التي تلبي متطلبات الساعة. وبالتأكيد، سيشكل هذا التعزيز في القدرات أوجه التضامن في مجتمعاتها المتماسكة المتفقة على وحدة الصف وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في مجتمعاتها. وهذا ما تحتاجه في سياساتها الواقعية بالتكيّف مع متطلبات الواقع الجديد على الخارطة السياسية الحالية التي تعتمد على نهج أكثر اعتدالاً في استراتيجياتها ونظرتها إلى الواقع السياسي والديمغرافي كي تشهد حقبة جديدة بالبقاء قوية وقادرة على مواجهة التحديات القائمة والمستجدّة. وبالتأكيد، ستضع بلدان الاتحاد كل هذه الرؤى والمفاهيم التي اكتسبتها من واقع اليوم في نظرها ورؤيتها كي يدوم بريقُها وتشهد سيلاً من التغيرات والتحوّلات والإصلاحات الجذرية، وإلاّ ستقع في مزالق يصعب النجاة والتعافي منها على المدى القريب والبعيد.
وفي كلّ الأحوال، ليس بعيدًا أن يشهد العام الجديد 2023 شيئًا من التحوّلات والتغيرات في المنهج والسلوك ومعالجة الأزمات، ليس في منطقة دول الاتحاد الأوربي كما متوقع فحسب، بل في مناطق أخرى من العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي وما يجاورها. فالسياسة تبقى فنّ المستحيل ولا تحكمها غير المصالح.
وإنّ غدًا لناظره قريب.


31
عندما يعلو صوت العقل والعقلاء على نعيق الجهل والجهلاء
لويس إقليمس
بغداد، في 8 كانون ثاني 2023
البشرية كلُّها خليقةُ كائنٍ جبار بقدرات لا يمكن إدراكُها أو تخيّلُها في تحريك عناصرها، من أرضٍ وسماءٍ وهواءٍ وأقمارٍ وشمسٍ ونجومٍ وعناصر كثيرة أخرى وكلّ ما تحويه البيئة من غير هذه المذكورة. إلاّ أنَّ المؤكد فيها أن هذا الكائن الجبّار الذي أخذ أسماءً متعددة عبر تاريخ الشعوب والأمم والذي نسميّه اليوم "الّله"، قد خلق البشر جميعًا متساوين في الحقوق الإنسانية بكلّ أشكالها بالرغم من الميزات المختلفة للكائن البشري جنسًا وبشرةً ولونًا وشكلاً ودينًا ومعتقدًا أو خارج سياق هذا الأخير. وهذا ما يميّز البشر عن سائر المخلوقات غير الآدمية الأخرى بكونه كائنًا مخيَّرًا وليس مسيَّرًا، بالرغم من هواجس القدر والحظ التي آمنَ ويؤمن بها نفرٌ من خلائق الله عبر التاريخ. أسطوريًا، تعلمنا أن البشرية قد تكوّنت من خلق أبوينا "آدم وحواء" اللذين افترشا "جنّة عدن" التي أُهديت لهما من هذا الكائن الجبّار "الغير المحسوس". ولكن، ما هو شكلُ هذا الأخير أو لونُه أو جنسُه، فهذا خارجٌ عن قدراتنا العقلية المحدودة. والمهمّ اعتقادُنا بكونه محرّكًا جبّارًا ومقتدرًا للأرض والسماء وما فيهما وما عليهما.
هذه المقدمة الصغيرة، أردتُها أن تكون تمهيدًا لمهمّة أو مسألة أو جدلية أكبر في مفاهيم الفكر البشري ومحدّداته التي لا يمكن تجاوُزها حدودَ القدرات البشرية الضعيفة التي تتصف بها والتي حدّدها "هذا الإله" القدير لتكون عليه ضمن فترة البقاء على الأرض، فترةَ حياةٍ قصيرة لا تتجاوز سنواتٍ معدودات في حسابات الخالق والخليقة، كما قال المفكر والواعظ الفرنسي الكبير بوسيويه Bossuet في إحدى رواعه:" ما قيمة المائة سنة أو الألف سنة طالما محوُها يأتي بلحظة خاطفة". لكنّ هذه الخليقة لديها ميزة العقل والتفكير والتمحيص في التمييز بين الخير والشرّ، بين الصالح والسيّء، بين المفيد والضارّ، وهكذا. ولو أنّ البشرية قد قستْ قلوبُها بعد تكاثر عديدها عبر الزمن، بدءًا من أول حادثة قتلٍ كان لها وقعُها المأساوي لاحقًا، والمتمثلة بقتل "قائين" لأخيه "هابيل" بدافع الغيرة والحسد والحقد، إلاّ أنَ أصحاب العقول النيّرة والقلوب الطيبة في حينها قد استنكرت تلك الحادثة في حينها وعدّتها الأجيالُ جريمةً بحق إنسانٍ بريء. وهكذا توالت حوادث مماثلة عبر التاريخ وتعددت الجرائم وزاد الحسد والغيرة والحنق والعداوة بين أفراد البيت الواحد والحيّ الواحد والمدينة الواحدة لغاية تجاوزها حدود المدن والمناطق والأمم والدول كما نشهده اليوم من تمزّق وحروب وقتال في العائلة البشرية الكبيرة التي أرادها "الله" في حينه أن تنمو وتكثر وتزيد الأرض ثمرًا وحبًا وتسامحًا وتنوّعًا وتقدمّا وسعادة. كما تعاظمت مساعي إلغاء الآخر المختلف من جانب جماعات تدّعي الدّين والتديّن والحكم باسم هذا "الإله" الذي يرفض أن يُزجّ اسمُه وإرادتُه في شكل هذه الصراعات البشرية غير السوية. فهي "النفسُ الأمّارة بالسوء"، التي تأبى إلاّ أن تشذَّ عن القاعدة الإنسانية التي حباها "الله الخالق" لخليقته. وهذا ما نشهدُه اليوم من خروجٍ عن القاعدة "الإلهية" الطيبة في الجنس البشري عندما يتقاتل الإخوة لا لشيءِ إنّما لأجل السطوة والهيمنة والسلطة والنفوذ والوجاهة والكبرياء، متناسين نهاية أمر هذه القاعدة المختومة بالموت المحتوم مهما طالت الأيام وطابت الحياة وتنوعت المتع وتشكلت الذرائع.

ألأزهر يأخذ المبادرة
من هذا المنطلق بتحديداته البشرية المحتومة، يكون العقل الراجح والفكر المنفتح والرؤية الناضجة هي الفيصل في الحكم على أحداث الحياة ومتاعبها ومصاعبها ومتعها واشكالها وألوانها. وهي التي تصوّر وترسم ملامح التعايش السلمي والمحبة بين البشر مهما اختلفوا في الدين والمعتقد والمذهب والقومية والجنس واللون والشكل، ومهما تعددت طوائفُهم وطرائقُهم في الحياة والعبادة والولاء، وليس أصحاب الفكر المنغلق الذي لا يقبل الآخر المختلف عنه بل يعدّه كافرًا وخارجًا عن الطريق الذي هو عليه، ناسيًا أو متجاهلاً عمل "الله" الذي يدّعي عبادتَه، بخلق البشر جميعًا سواسية في القيمة الإنسانية العليا والعدالة الإلهية الصحيحة التي ينبغي أن ترقى إليها كلّ اعمال البشرية حتّى لو كانت بيد هذه الفئة الضالّة كلُّ سلطة الأرض وثروتها وسطوتها. فالدّين لا يمكن أن يكون ذريعة لاستغلال بني البشر تحت ستاره وبدعوى الشريعة والشرع التي ينبغي أن تكون لصالح الإنسان وفي خدمته وليس لتجريمه وقتله. ألم يقل المسيح "إنما جُعِلَ السبت لأجل الإنسان، وليس الإنسان لأجل السبت؟"(مرقس 2:27) وهذا ما اتّضحَ مؤخرًا بالصحة الحسنة والصحوة الراقية والمبادرة الطيبة لمشيخة الأزهر عندما عرضت موقفَها الأخير الناصع والصريح حيال الاحتفال بأعياد الميلاد بالردّ الرافض إزاءَ مَن تجرّا ومازال يتطاولُ بتحريم تهنئة أبناء الوطن من إخوتهم الأقباط المتشاركين معهم في تعزيز المواطنة والبناء ورقيّ البلاد، كلّ من موقعه ووفق طاقاته وقدراته الوطنية.
إنّ هذه المبادرة الأزهرية الرائعة تأتي ضمن ثمار اللقاء التاريخي الذي جمع شيخ الأزهر مع قداسة البابا فرنسيس بتوقيعهما لوثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك في دولة الإمارات في 4 شباط 2019، والتي وضعت سكّة شكل التسامح والتعايش في طريقها الإنساني الصحيح. وهي تستحق أن تكون خارطة طريق لجميع أتباع الأديان في المسكونة في الحوار والتفاهم والتراحم بين الأمم والشعوب. تاريخيًا، يمكننا قراءة المشهد الإنساني في منطقتنا بمزيدٍ من الرقيّ في الحكم عليه عندما نستشف من الأحداث حماية كلّ من المسيحية والإسلام لبعضهما البعض عبر التاريخ منذ قدوم الإسلام وانتشاره قبل أكثر من 1400 سنة. حتى مع أتباع الدين اليهودي، كانت هناك تفاهمات وأشكال من التعايش لا يمكن نكرانها أو نفيُها. فالتاريخ كفيلٌ دومًا بالتذكير بتفاصيله ومجرياته ووقائعه، وليس بالحكم عليه وتسييره من جهاتٍ أو أطرافٍ مدسوسة شاذّة لا تحمل غير الغلّ والحقد والحسد والغيرة والعداوة "القائينية" ضدّ المتسامحين والطيبين "الهابيليّين" ممّن يقدّسون الحياة المشتركة بين البشر ويعونَ أهميتها الإنسانية وفق النظرة الإلهية التي لا تقبل التجاوز لكائنٍ ضدّ نظيره في الإنسانية. ولعلّ ما أثلج صدور الأقباط خصوصًا والمسيحيين عمومًا في توضيح شيخ الأزهر في رسالته هذه السنة لمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية الجديدة 2023، تأكيدُه بكون "التهنئة ليست مجاملة أو شكليات، وإنّما من تعاليم دين الإسلام الحنيف وبكون التوراة والإنجيل هدىً ونورًا وعدم جواز مسّهما دون طهارة"، مضيفًا أنّه "في القرآن لا توجد أديان مختلفة، بل رسالات إلهية تعبّر عن الدين الإلهي الواحد، وأنّ العلاقة بغير المسلمين علاقة البرّ والإنصاف...".
من وجهة نظري المتواضعة، يكون شيخ الأزهر قد أغلقَ كلّ أبواب الحقد والكراهية والإلغاء والاستصغار المعتمرة في نفوس وقلوب نفرٍ شاذٍ قاصر في الرؤية الإنسانية وناقص في إدراك المفاهيم الراقية التي يحملها القرآن في طيات كلماته وآياته، لاسيّما المكّية منها، ورؤيته لشكل التعايش وإشاعة روح التسامح والأخوّة الإنسانية مع أتباع الديانات الأخرى، حمايةً للمجتمع من موجات التطرّف والتشدّد والانغلاق العقلي والفكري غير المبرّر. هذا إذا أخذنا في نظر الاعتبار تركَ جانبًا، كلّ ما حادَ وزاغَ وابتعد عن جوهر التعاليم القرآنية من تأويلات وتفاسير وإضافات خارجة عن حدود الآيات التي ترسم العلاقة المتبادلة بين الإسلام وسائر الأديان التي تعايشَ معها في فترة تكوينه وانتشاره وهيمنته. من هنا، نقف احترامًا عند تقرير شيخ الأزهر لمسألة غاية في الأهمية، وهي تغيير وجهة نظر العقلاء والناصحين والمثقفين لإغلاق مفهوم أهل "الذمّة" الذي ما زال سيّد الموقف لدى فئات لا تريد تغييره إزاء المختلفين عن أتباع الإسلام في الدين. وما تأكيدُ شيخ الأزهر بكون "هذا المصطلح وما سواه مثل مصطلح الأقليات قد أصبحت من الماضي في تاريخيتها لعدم تجاوبها مع روح العصر لكونها لا تعبّرُ عن روح الإسلام ولا عن فلسفته، بل إن المواطنة تعني المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بحسب مفهوم الإسلام، وبكون المواطنين المسيحيين في مصر مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات". وهذا اعترافٌ واضح لا يقبل اللغط ولا الترجيح في التأويل الخاطئ، مؤذنًا بواقع جديد ورؤية واسعة المدارك للتفاهم والحوار والتعايش السلمي المتسامح المتواصل بين الأديان والمذاهب والمجتمعات. فهذه جميعُها مدعوة للتشارك في هذه الرؤية الواضحة من أعلى مشيخة إسلامية لها صفتُها ورجاحتُها وتقويمُها وتقييمُها للحياة ووقائعها الملموسة. هذا جزءٌ ممّا أوردته جريدة صوت الأزهر، لسانُ حال مشيخة الأزهر بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية الجديدة 2023 باللغتين العربية والإنكليزية، ونقلته وسائل الإعلام المختلفة.

الأوطانٌ للجميع
العيش الكريم والأمان والاستقرار والتمتع بجميع الحقوق والخدمات من أبجديات المواطنة الصحيحة والمشروعة في أيّ بلدٍ ولأيّ شعب. ومن غير قيام قانونٍ شاملٍ أو عدلٍ متكافئٍ لحماية المواطنين، لا يمكن العيش بأمان واستقرار والقيام بالواجبات الدينية والوطنية والإنسانية على السواء. وهذا ما نحنُ عليه في عراق ما بعد الغزو الأمريكي الجامح في 2003 عندما فقدت البلاد الأمان والاستقرار وحماية المواطن من التجاوزات والاعتداءات الكثيرة التي تعرّض لها أهل البلاد، لاسيّما الجماعات الدينية الهشة منها من أبناء ما يسمّى ب"الأقليات" جزافًا وظلمًا من مسيحيين وصابئيين وإيزيديين وبهائيين بسبب ما عانته عبر تاريخها من ظلمٍ بعدِّ أتباعها مواطنينَ من الدرجات الدنيا في تقلّد المناصب والمواقع القيادية لاختلافهم في الدين والمعتقد مع الأغلبية المسلمة المهيمنة على مقاليد السلطة منذ قرون دون مراعاة صائبة وعادلة لموقعهم وجدارتهم وقدراتهم ومواقفهم الوطنية الراسخة عبر الأزمان وتجذّرهم في الأرض أكثر من غيرهم.
عندما تحدّثَ ملك الأردن عبد الله الثاني في مقابلته الأخيرة مع قناة "سي إن إن" الأمريكية بصدد حماية المقدسات المسيحية إلى جانب مثيلاتها الإسلامية، نستشف من حديثه تلك الرؤية الثاقبة في احترام خيارات المواطنين الدينية والمعتقداتية المتنوعة، ليس في بلده فحسب بل في كلّ بقعة من أرض الله الواسعة والشرق بعمومه، ومنها القدس والبلدات ذات الطبيعة القدسية تاريخيًا. فوفق نظرة جلالته، يكون للقدس مثلاً مكانةٌ خاصة في قلوب الجميع لكونها "المدينة التي تجمع ولا تفرّق" وبغيابها لا يمكن "تعزيز الروابط بين المسيحية والإسلام" حفاظًا على الإرث التاريخي عبر الأجيال. ولكون مثل هذه الرؤية الشاملة لا يمكن أن تأتي بثمارها إلاّ بالحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق والمنطقة، لذا يترتب على السلطات والإدارات التي تتحكم بمفاتيح ومغاليق دول المنطقة والعالم أن تعي خطورة إفراغ المنطقة التاريخية من مسيحيّيها وسائر أتباع المكوّنات الدينية والإثنية قليلة العدد الأخرى التي أحالها الزمن الغادر إلى مجتمعات صغيرة وهشّة بفعل عواديه وأشكال القهر والظلم التي عانت منها عبر التاريخ ولغاية الساعة. وكما كان المسيحيون ومثلهم سائر المكوّنات الدينية الأخرى جزءً من ماضي وحاضر أهل المنطقة عمومًا، ينبغي أن يبقوا كذلك جزءً مكمّلاً ومشاركًا بالتساوي والعدل والحقوق من مستقبلها أيضًا. وهذا عين العقل والصواب في إحقاق الحق وتمتّع كلّ ذي حقّ بحقّه مشاركةً ومقاسمة وتفاعلاً في كلّ شيء وأيّ شيء. فالتعددية أيًا كان شكلُها، كانت وستبقى إرثًا مكمّلاً لشكل المواطنة الصحيحة وغنى لشعوب الأرض والأمم. من هنا، لا يمكن تجاهلُ ما تعرّض له أتباع المكوّنات الدينية الهشة عبر التاريخ الطويل من حكم الإسلام، ولاسيّما السياسيّ منه، بسبب خروج سلاطين وزعامات سياسية ودينية كثيرة عن قاعدة الدين الحنيف في جزئيات عديدة منه حين الاحتكام الصحيح إليه بأساسيات العقل وروح التسامح والعيش المشترك والحق في الحياة ووسائل المشاركة فيها.
حقًا، لقد دقّ ناقوس الخطر منذ سنين بتسارع وتيرة الهجرة من مختلف شرائح الوطن، ولاسيّما أبناء الديانات الهشّة التي شعرت بأشكال متعددة من التمييز من أطرافٍ تسعى لإفراغ عموم بلدان المنطقة من هؤلاء الأتباع المسالمين الذين لا يمكن نكران أو تجاهل ولائهم لأوطانهم وأرضهم والتمسّك بجذورهم. ولكن عندما تضيق بهم دائرة العيش والكرامة والحقوق يحق لهم إعادة التقييم والمراجعة والبحث عن الأفضل ببلدانٍ وأمم وشعوب تحترم خياراتهم وتخدم حاجاتهم وتعزّز من قدراتهم المتنوعة. ولا شيء غير التكامل الإقليمي الجاد والعادل بوسعه الحفاظ على الوجود المجتمعي للجميع وذلك بكسر الحواجز ووضع أسس صحيحة وعادلة للجميع من دون تمييز ولا تفرقة ولا عنصرية. فالفكر المتشدّد مازال مستشريًا ولم يغادر عقول بعض أصحاب الأفكار المنغلقة بالرغم من دحر تنظيمه الذي قاتلَ أتباعَ المكوّنات الدينية المختلفة وجارَ عليها بهدف محو وجودها وجذورها التي لا يمكن تجاهلُها ومغادرتها. 
ختامًا، دروس التاريخ كثيرة، وآخرها ما قرأناه في التصريحات الوافية الصادرة من جانب مشيخة الأزهر بخصوص العلاقة بين الإسلام والمسيحية التي ينبغي أن يكون لها صدى واسعًا في أوساط عموم المسلمين للتحلّي بالفروسية المتسامحة التي تحلّى بها شيخ الأزهر بكلّ جرأة وإقدام بفضل رؤيته الراقية في قراءة التاريخ وقرائنه العديدة التي رسمها القرآن الكريم لأتباعه من دون تشدّد ولا تغوّل ولا استعلاء على الغير المختلف معه. تلكم هي طريق المصالحة مع الذات ومع الآخر المختلف عندما ترتقي علامة السلام والمصافحة والمحبة بين شركاء الوطن تحت راية الأوطان فوق أي مسمّى آخر لتبقى الهوية الوطنية أرقى في أولويتها على اية هوية فرعية أخرى. وهنا فقط، يمكننا ترقب حصول تغيير وتحوّل في الرؤية والوطنية والفكر عندما يعي كلّ مواطن وكلّ فردٍ دوره في بناء مجتمعه وترقّي بلده وتطوير محيطه باحترام شرعيةِ الدولة وسيادتها وهيبتها، والحفاظ على أمنها واستقرارها، وصيانة ثروتها من التبديد والفساد والسرقة والهدر في المال العام، والأهمّ بمحاسبة المتسبّبين بالكوارث المجتمعية والجرائم الوطنية والاقتصادية التي تُفقرُ الشعب وتعود به إلى الوراء نكايةً بحضارته وتاريخه وتجاهلاً لسمة التعددية الجميلة والعميقة التي يتسم بها.



32
نظام سياسي ديمقراطي تعدّدي بنكهة مدنية
لويس إقليمس
بغداد، في 20 تشرين ثاني 2022
جميعُنا مثل غيرنا من خارج الأسوار العراقية نراقب بشغف ممزوج بحذر حكيم، أولى الخطوات التنفيذية الصائبة التي فجّرها دولة رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني في أيامه الأولى في مواجهة التحديات الكثيرة التي تنتظرُه، بالرغم من عامل التسرّع في شكلِ بعضٍ منها أو في نوعيتها وتأثيرها. وقد يكون معذورًا في بعض هذه الجزئية الأخيرة غير السديدة التي اتصف بها بشيءٍ من ردة الفعل شديدة الحدّة تجاه عقوبات لأشخاصٍ يعملون في دوائر الدولة أثبتوا تقصيرًا في أداء واجباتهم الوظيفية. وهذا يشمل ما وقع من حوادث طارئة في مرافق مهمة زعزعت الثقة في قوام الدولة العراقية وفي قدرتها على إدارة البلاد بالشكل الذي تُدار فيه الدول التي لها سيادة على أراضيها وتحترمُ مواطنيها ومنشآتها ودوائرها الرسمية وغير الرسمية. فعندما تخرج الأمور عن عقالها ويُساء التصرّف في السلوكيات العامة لغاية ضرب هيبة الدولة عرض الحائط، حينئذٍ لا ينفعُ شيءٌ غير الكيّ كآخر علاج. وفي اعتقادي واعتقاد الكثيرين من الحريصين على سير سفينة البلاد في وجهتها الوطنية الصحيحة أن تتناسب العقوبة مع فداحة الفعل والسلوك والخطأ المقترَف من قبل موظف عام في الدولة العراقية. وهذا وحده كفيلٌ بتعزيز ثقة الشعب وطبقاته المتعددة المشارب والمكوّنات والمذاهب بالحكومة الجديدة التي ولدت بعملية قيصرية فائقة الدقة من حيث الخلفية التي أتت منها بسبب انسحاب متسرّع غير حكيم لكتلة كبيرة كان يمكن أن تبقي بأيديها بيضة القبّان الوطنية وتوجيهها الوجهة الصحيحة في تغيير المسارات الخاطئة التي استحكمت بالبلاد منذ عشرين عامًا ومنع خروج الأمور عن جادة السلوك الوطني أو في الأقلّ الحدّ من أشكال الفساد والإيغال في الولائية لخارج الحدود. وفي كلّ الأحوال، كان يمكن أن تتخّذ هذه العقوبات في حالة جدّيتها أشكالاً أخرى جديدة أكثر تأثيرًا في الأوساط السياسية والشعبية والنخبوية كي تأتي بثمارها وتبقى دروسًا لكلّ مَن لا يرعوي ولا يعتبر أو يتمادى في الإخلال بالواجب الوطني والمهني والاجتماعي.
هناك مَن يرى في أولى خطوات السيد السوداني بصيصَ أملٍ لإخراج البلاد من نفق الظلمات التي عشعشَ فيها الفساد والمفسدون وبات هؤلاء لا يهابون السلطات ولا الإدارات ولا تهديدات القضاء الذي يدّعي من جانبه اتخاذ خطواتٍ جادّة في كشف اللصوص وأرباب الفساد وحيتانه في حالة توفر ما يتيسرُ له من مواد ومعطيات وشهادات وأدلّة دامغة ضدّ متورطين بسرقة المال العام وهدر الموازنات والسطو على دوائر وعقود بغير وجه حقّ. وهذا في واقع الأمر من ضمن واجباته إذا أراد الاحتفاظ بماء الوجه والنأي بعيدًا عن أوجه هذه الآفة التي تبرعمت وانتشرت كخيوط أخطبوطية في سائر مؤسسات الدولة وكواليسها المعروفة منها وغير المعرّفة لحين الكشف عن المستور فيها في هذا الزمن الصعب.  فالفاسدون بأنواعهم وتقنياتهم وانتماءاتهم، وبسبب شكل الحصانة والحماية والغطاء التي باتوا يتمتعون بها، لم يتركوا بابًا متاحًا للفساد لطرقِه إلاّ ووجّهوا إليه مضاربَهم الحديدية وزادوا من ضرباتهم الكاسحة من دون حياء ولا خجل ولا خوف. فأيةُ قوة هذه التي يتمتع بها هذا الصنف من اللصوص وحرامية العصر بعد أن فاقوا إبليس في تجاربه ومساعيه الشيطانية وخطواته التي فاقت جرأة الأسود وزئيرها المخيف لكلّ مَن يقف في طريقها؟!؟
وهنا السؤال الأهم: هل باستطاعة السوداني القبول بشكل هذ التحدّي السافر الذي تستخدمه شلل الفاسدين وسارقو أموال الشعب والمستهترون بثروات البلاد العامة التي ينبغي أن تكون في خدمة تنمية البلد ورفاهة الشعب الذي تجاوز فيه حدّ الفقر أكثر من 20% في بعض المحافظات الفقيرة والهزيلة في أدائها وحياتها في كلّ شيء؟ إنه التحدّي الأكبر الذي سيفتح الأبواب مشرعةً أمام نقلة نوعية في إدارة البلاد والحدّ من تسلّط أحزاب السلطة وحيتانها التي ما يزال السوداني ومَن على أمثاله في الدوائر التنفيذية والقضائية المتقدمة يخشون توجيه أصابع الاتهام صوبها أو باتجاه أدواتها الكثيرة التي تنعم معظمُها بحمايتها بشكلٍ أو بآخرٍ، إلاّ حينما يشتعل وطيس الاتهام والتسقيط وتفوح رائحة الجيفة في المكاتب الاقتصادية للأحزاب وأدواتهم. والسبب يكمن بالحذر من التقرّب إلى عشّ الزنابير الذي له الفضل بصعودِه هو وغيره إلى المواقع التنفيذية المتقدمة في الدولة مؤخرًا. ومن ثمّ فالسوداني اليوم، أمام تحدٍّ كبير وعسير وصعب إزاء الاتهامات التي تطال الأحزاب والزعامات ورجال الأعمال المتشاركين مع هذه الأخيرة بتقاسم المغانم والمكاسب وأشكال السرقات وأعمال السطو على موازنات الوزارات والمؤسسات والثروات الريعية والصفقات الدولارية وفق المنظومة القائمة على التوافق وتقاسم الكعكة والخشية من عدم المسّ بشخوصها وزعاماتها وبرامجها.

دولة مدنية ديمقراطية ذات سيادة
نحن اليوم نتحدث عن التأسيس أو بالأحرى لإعادة توجيه البلاد ومجتمعاتها التعددية باتجاه شكل دولة مدنية ديمقراطية تتمتع بالسيادة التامة على حدودها ومياهها وسمائها وأرضها وبشرها. فعندما تكون هذه منقوصة من وجهة نظر العقلاء في داخل البلاد وخارجها، فهي سينقصها الاحترام المطلوب من غيرها من الشعوب والأمم. فالدولة التي لا تعرف أن تحترمَ نفسَها وتحفظ كرامة أبنائها وتصون حقوقهم ومطالبهم المخترقة والمضروبة من جانب كلّ مَن هبَّ ودبَّ، لا تستحق أن تُسمّى دولة بالمعنى المفهوم العام للدول صاحبة السيادة والهيبة والكلمة والقرار. من هنا، لا يمكن تفرّد أيُّ صاحبِ دينٍ أو مذهبٍ أو قومية أو حزبٍ أو كتلةٍ أو شخصٍ مهما كانت قيمتُه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمالية بإدارة البلاد على هواه وهوى تابعيه أو مَن يواليهم في هذه وفي غيرها. فالوطن عنوان أرقى مِن أن تحتويه هذه المفردات التي ينبغي أن تبقى قيمًا عظمية ورفيعة في وسائل تنمية البلاد وترقية العباد إلى أسمى درجات الأخلاق والتعايش والتضامن وتبادل الخبرات وتعاضد الخيرات ضمن سماء الأخوّة الإنسانية والمواطنة الصحيحة التي نترقبُ يروزَ بداياتها في الأفق مع هذه الحكومة الجديدة القائمة. وهذا ما تشيرُ إليه تباشير القرارات والتوجيهات في بداية المشوار.
عسانا نترقب نضوجًا أكبر بتغيير الوجوه الكالحة وغير المنتجة التي لم يبدر من غالبيتها سوى الولاء والتصفيق لهذا الحزب وذاك الزعيم وهذه الدولة من دون نتائج ملموسة تخدم الوطن والمواطن وتساهم في أدوات التنمية الاجتماعية المتقدمة وبرامجها وتبدّد عن عامة الشعب البائس ضيمَ عشرين سنة من الضياع والخسارة والفساد واللصوصية والتخلّف والتراجع في كلّ مفاصل الحياة. وفي هذه فقط، يمكن إسناد توجهات الحكومة الأولية المبشّرة بالإصلاح وتصحيح الأخطاء وصولاً إلى تعزيز الثقة المفقودة بين الدولة والشعب. إنه اختبار حقيقيّ للنوايا، إن صحّ الحدس بوجود الإرادة الصادقة لدى مَن تسلّمَ الموقع التنفيذي الأول في شبه الدولة العراقية المتهالكة التي أحالتها القوى العالمية إلى هذه الحالة من التردّي والضياع والولائية لدولة الأرجنتين الشرقية بالإتيان بالطبقة السياسية الفاسدة التي مكّنتها من الحكم في ليلة غبراء وساندتها لغاية بلوغها هذا الشكل الصارخ من التردّي في كلّ شيء.
من جانبٍ آخر، فإنّ أيَّ تفكير في مفهوم تشكيل دولة "دينية" أو "مذهبية" في عراقنا متعدّد الأديان والمشارب والقوميات يبقى قاصرًا وغير فاعلٍ وفق المعطيات الداخلية والخارجية على السواء. فالعراق يبقى بيئة غير صالحة لقيام شكل مثل هذه الدولة وفق هذا المفهوم القاصر. بل ذلك سيزيد من دمار البلاد وينتقص من تاريخها الموغل في القدم وتأثيرها الحضاري عبر السنين والقرون. ولا شيء غير الهوية الوطنية الجامعة للجميع سبيلاً للخلاص والتنمية والتقدم والخروج من مأزق الطائفية الذي سعت جهات حزبية قاصرة الرؤية أن تؤسّسَ لها مع استيلاء أحزاب المكوّن الشيعي على مقاليد السلطة التنفيذية بحجة المظلومية التاريخية التي زرعها الغازي الأمريكي ومَن والاه من دول الغرب الماكرة والمنافقة في عقول بعض الزعامات التي ادّعت المعارضة قبل وقوعها في حبائل المحتل وإرضاعه إياها حليب الانتقام  الذي استغلّته لإدامة سلطتها المذهبية والولائية بعيدًا عن أية نسمات وطنية كانت تشكلُ في السابق سماتِ عموم الشعب ومكوّناته من دون تمييز ولا تفرقة ولا تشخيص.
عندما فكّرت القوى الكبرى وعلى رأسها الجهات الاستخبارية الأمريكية والغربية باحتلال العراق، برزت فكرة إحياء النزعة الطائفية من أجل دقّ الأسفين بين مختلف مكوّنات الشعب العراقي. فالدّين والمذهب والطائفة كانت وما تزالَ أفضل وسيلة للإيقاع بين أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد من أجل زرع الفوضى والخراب وإبقاء النعرات ساخنة وعاملة بين مختلف الجماعات وخلق حالة من عدم الاستقرار كي تبقى من المبرّرات المحتملة لتدخلٍ سافرٍ في أيّ وقت وزمن ومكانٍ. ونقولها بصريح العبارة: كلّ الأنظار متجهة هذه الأيام نحو شكل وإيقاع الأداء الحكومي وتوجهات رأس السلطة التنفيذية وقراراته الجريئة في التصدّي لأدوات الفساد المتغلغل في كلّ مفاصل الدولة الإدارية والمالية عبر ما يُنشر في الصحافة وسائر أدوات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من مخالفات وخروقات وسرقات وعمليات رشى فاضحة طالت مسؤولين كبار في الدولة من قيادات إدارية وأمنية وحزبية مشاركة في السلطة. إنه التحدّي الأكبر الذي ينتظر معالجات جذرية للواقع السياسي المتردّي الذي تتحكم به منظومة سياسية فاشلة قائمة على التوافق والمحاصصة واقتناص المغانم والتمتع بالمكاسب والامتيازات لمجرّد الانتماء إلى هذا المذهب أو ذاك الحزب، وهذا الزعيم وتلك الكتلة حتى وصلت الصفاقة والاستخفاف بالجدارة المهنية والأمانة الوطنية إلى البعثات الدبلوماسية التي تحوّلت بعضُها إلى كانتونات عائلية وبيوتات حزبية للامتيازات والترف واللغف.
من هنا، يبقى بناء أية دولة محترمة منوطًا بنضوج الفكر والصحوة في الوطنية والمواطنة وفي امتهان الديمقراطية لبلوغ شعار الدولة المدنية الجامعة التي تحفظ حقوق جميع المواطنين بعدالة ومساواة وليس الدينية أو الطائفية المتحيّزة لدولة أخرى والتي سعى وما زال يسعى إليها نفرٌ من المنتمين لأحزاب إسلامية سطت على السلطة واستأثرت بثروات البلد بفضل الغازي الأمريكي الذي لعبَ على وتر الطائفية من أجل كسب ودّ جهات ولائية لدولة معروفة تخادمًا للمصالح. وقد أخطأَ الأمريكان في حساباتهم باختيار هذه الوصفة المشبوهة والمريبة على حدٍّ سواء لتجاهلهم شكلَ الخارطة الجيوسياسية القائمة في منطقة الشرق الأوسط وإهمالهم الدور العروبي في شكل الخارطة الجديدة التي أرادوا استحداثها عبثيًا، جهلاً وغباءً. ولأجل هذا الهدف الأسمى، لا بدّ من مراجعة حثيثة في مناهج إعادة البناء عبر تصحيح الأخطاء واختيار الأفضل والأجدر في الكفاءة لنيل المناصب وإدارة البلاد بالشكل الصحيح، بل إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والتفكير بتوحيد بعضها لتداخل سلطاتها وتشابك مهماتها وتقاطع مصالحها. فالعراق لن يكون بيئة صالحة لقيام دولة دينية، وبالتحديد دولة شيعية كما أرادتها جهة إقليمية جارة نالت مرامها من راعي العملية السياسية في عراق ما بعد 2003 كهديةٍ نكاية بالنظام السابق.
 لقد سئمَ الشعبُ ونخبُه من الشعارات الرنانة المطروحة للإصلاح وغيرها من الوعود المقطوعة من رؤساء الحكومات السابقين ومن رأس الحكومة القائمة قبل تقلّده المنصب التنفيذي الأول في البلاد. وبات ينتظرُ منه الجميع تنفيذ وعوده وشعاراته وأحاديثه من أجل إعادة الثقة بين الدولة والشعب المغلوب على أمره. وكان الله يحبُ المحسنين الصابرين!


33
متلازمة السلبية تعقد المشهد العراقي
لويس إقليمس
بغداد، في 20 كانون أول 2022

كل الأخبار ومعظم التصريحات والتحليلات في أغلب القنوات الفضائية العراقية والعربية قد شابتها عقدة البحث عن السلبيات وترك ما يوحي بانجلاء الأزمات لأجل غير مسمّى. فما يُنشر من مقابلات مع شخصيات محترمة في المشهد السياسي والمجتمعي والاقتصادي أو أشخاص دخلاء على الإعلام الحقيقي والحدس الوطني لا يعبّر عن آمالٍ أو رجاءٍ بفرجٍ قريب، بالرغم من التمنيات بغد أفضل بالاعتماد على النخب الوطنية وما تبقى من الكوادر العلمية والثقافية والمجتمعية التي تسعى لخلق أجواء أكثر إيجابية. فالقرف والاتهامات المقززة وأشكال الفضائح المالية التي تخرج عن ستوديوهات قنوات شخصية أو عامة، محلية أو إقليمية أو عالمية، لا تخرج عن نطاق الإحباط الذي يزداد في أوساط الشعب ويثير الشارع كلّ يوم، بل كلّ ساعة. وقد عبّر عنه أحد المتابعين في النخبة الاقتصادية بوصف دقيق ومؤلم بكون البلاد وأهلها قد سقطت في إثم "الاحتلال الفكري" الذي قد لا يختلف عن "الاحتلال العسكري". وأنا أضيف، بل قد سقط ضحية خطيئة "الاختلال الوطني" الذي غابت عنه النخوة الوطنية والأخلاق المجتمعية التي سادت المجتمع العراقي أيام العزّ عندما كانت البلاد وأهلُها تشهد أزمانًا وأوقاتًا وأحداثًا في الكرامة والشموخ والتمدّن والثقافة والتقدم والرقيّ والتطوّر والانفتاح على العالم بعزمٍ ودراية وخطى واعدة قبل التدخل السافر للقوى الكبرى المتغطرسة، وعلى رأسها الولايات المتحدة عدوة الشعوب المتحررة ومعها الغرب التابع الذليل. 
هكذا هو الاستعمار الفكري والمجتمعي الذي لا يقلّ ضررًا عن سواه من اشكال الاحتلال السياسي والاقتصادي والعسكري. فقد نجح الغزاة العتاة باستخدامه بإتقانٍ كبير وتخطيط دقيق لغاية اكتشافهم خطأ سياستهم الرعناء. ولكن بعد فوات الأوان! فقد تعقدت عليهم الأمور وخرجت عن طوعهم وعن طورها وأصبحت خارج السيطرة بسبب إيداع البلاد والمنطقة في أيدي غير أمينة صارت تشكلُ هي الأخرى احتلالاً واضحَ المعالم والغايات والأهداف. فالحكومة الأمريكية والإدارة التي اقترفت خطأ الاحتلال في حينها إبان حرب الخليج الأولى التي لعبت فيها على حبل الطرفين المتحاربين المتخاصمين تاريخيًا وعقائديًا وإتنيًا، عليها اليوم وفي أيّ وقت متاح، أن تؤدي الحساب أمام المجتمع الدولي عندما تحين الساعة ويصحو الفكر وينتصر الضمير الإنساني من دون مجاملات ولا انفعالات ولا تحيّزات. فهذا المطر الوسخ من تلك الغيمة السوداء الملوثة بكلّ تجلياتها ونواياها الخبيثة الماكرة!

طاقات إبداعية قابلة الحركة
من الخطأ الاتكال على قوى خارجية لتغيير بوصلة الواقع السياسي والاجتماعي والخدمي المتدني بسب تراكم آثار الحروب العبثية التي شهدها العراق والمنطقة على السواء. فدول الجوار ومثلُها دول المنطقة والعالم لا تبحث سوى عن مصالحها، ولا تفكر بغير بلوغها أهدافَها الخاص حتى لو تتطلَب ذلك إبادة شعبٍ ومجتمعات بكاملها. فالمهمّ لديها وفي جعبها المترعة حقدًا ونكايةً وغطرسة عدم رضاها بإحراز بلاد الرافدين تقدمًا ونهضة وتطورًا مادامت قادرة على استغلال الثغرات الوطنية للترويج لمصالحها الخاصة الإقليمية والدولية. قالوها صراحة، وها هم اليوم يوثقون فشلهم في تحديد لعبة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل في زمن حقبة النظام السابق. لقد اطلع العالم على حديث وزير خارجية الجارة السورية وكواليس حديثه وهو أحد الشهود، بتأكيده دفنَ آلاف الوثائق والشهادات الدولية التي تكذّب تلك اللعبة السخيفة التي أصبحت مكشوفة للقاصي والداني، وحفظها في صناديق حديدية محكمة القفل والغلق رقميًا في موقع قريبٍ من المنظمة الدولية على ألاّ يتمّ فتحها إلاّ بعد مرور "ستين عامًا"، وهي قيد الحراسة المشدّدة من أجهزة استخبارية وأمنية وعسكرية شديدة. ولا يحقّ لغير الأمين العام للأمم المتحدة فتحها حينما تكتمل المدة المتفق عليها في مجلس الأمن الدولي. والهدف واضح، بطمطمة الأخبار الكاذبة والحجج الواهية والتبريرات المنافقة لحيثيات الحدث ضدّ بلدٍ كان قد أخذّ طريقَه إلى التقدم والتطور والانفتاح ليكون في طليعة دول المنطقة والعالم قائدًا وداعمًا ومساندًا لأشقائه وغيرهم من شعوب البلدان المتحررة حين الطلب. لكنّ الفكرة والواقع والرؤية لم ترق للغرب وعلى راسها الإدارة الأمريكية، ولاسيّما الديمقراطية منها التي قرّرت المضي في فضيحة وجريمة احتلال العراق بتلك الطريقة البشعة الخالية من اية مسحة إنسانية أو أخلاقية. وهكذا سقط الشعب والأرض والمياه والأجواء في فخاخ أعدائها، داخليًا ومحيطيًا وإقليميًا ودوليًا.
بالمقابل، في العراق اليوم، قوى وطنية طيبة تسعى ولو بتمنيات محدودة، لإخراج البلاد من ورطة اللاّوطن والبؤس المستفحل والفساد المستشري في كلّ مجالٍ من مجالات الحياة اليومية. ففي البلاد طاقات إبداعية تزخر بالذكاء والإرادة لو تهيّأت لها الظروف الطبيعية. وجلّ ما تحتاجُه بيئة صالحة للتحفيز بوجود إرادات وطنية وسياسية صادقة تحب الوطن وتلتزم بأخلاقيات المواطنة الصحيحة غير الولائية للغير أو الذليلة التابعة للخارج، أيًا كان جنسُه أو عقيدتُه أو دينُه أو طائفته. فعندما تكون الأولوية للوطن وأهل الوطن قبل أي مصلحة أخرى، تجد مثل هذه الطاقات تتفجر للخير العام الذي غاب عن البلاد منذ نفض السمة الوطنية عنه بعد الغزو الإجرامي في 2003. وجزءٌ من هذا الدور يقع على الفضائيات والأجهزة الإعلامية الوطنية الصادقة في نشر الحقيقة للشعب وليس غير الحقيقة. وبالتأكيد هناك منها مَن لا تقصّر في النشر والترويج لدعوات وطنية بالإصلاح وبضرورة التكاتف للخروج من الأزمة التي حصرَنا بها ساسة الصدفة بسبب نظام التحاصص البغيض الذي شجعت عليه الإدارة الأمريكية الحاقدة حينها. فقد صادقت على نموذج التحاصص المقيت: هذا لي وهذا لك، هذه الوزارة لي وهذه لك مسجلة في الشهر العقاري كما يقول المصريون. هكذا أصبحت حال الوزارات ومثلها واقع مؤسسات الدولة حتى أدناها في تفعيل شكل التحاصص مع كلّ حكومة طائفية جديدة منذ السقوط في 2003. وآخرها، هذه الحكومة التي لن يكون رئيسُها قادرًا على تحريك ما يراه مناسبًا وفق رؤيته المهنية والوطنية إن وجدت، ذلك لكونه مرتبطًا ارتباطًا كلّيًا ومصيريًا بالجهة التي رشحته. فهو "موظفٌ لديهم، وعليه العودة إليهم في كلّ خطوة وأيّ قرار".
من هنا، لا ينتظر العراقيون تغييرًا كبيرًا في واقع الحال ولا تطورًا في شكل الإدارة الوطنية للمال والاقتصاد والسياسة والخدمات، طالما بقي أسيرًا لجهاتٍ تهيمنُ على قراره أي أسير سياسة المحاصصة وساسة المكاسب والمنافع وتقاسم الكعكة.  والكل على دراية تامة بكون نظام المحاصصة هو الخطأ الأكبر والعائق الأول أمام أي تغيير نحو الأفضل. فالمال العام سيبقى سائبًا وتشترك جميع أحزاب السلطة في الاستحواذ عليه، وكذا المواقع السياسية والمناصب ستبقى أسيرة التناحر للفوز بها بحسب ما يُسمّى بالاستحقاق الانتخابي الفاشل. كما أنّ المسؤوليات الأخلاقية والمهنية قد اندحرت للوراء وهي تواصل التراجع مع كلّ يوم يمرّ على البلد وشعبه حيث سيصعبُ تحديد الجهة المقصرة في حقوق الوطن والشعب بسبب التهرّب من المسؤولية في الفشل والسرقة واللصوصية. فالكلّ شركاء، حتى الساكتون عن إظهار الحق وكشف المستور! وهذا من الأسباب التي جعلت من العراق متأخرًا عن دول المنطقة والعالم. والسبب، لأن الإرادات غير الوطنية في الداخل توافقت على إبقاء البلاد تحت رحمة أحزاب طائفية لا تفقه أسرار المواطنة ولا تحترمها ولا تلتزم بأقلّ معاييرها، بل جلُّ همّها كسب ما تستطيع من السحت الحرام واكتناز ثروات البلاد والعقارات بوسائل غير مشروعة وبداعي التوافق والتشارك والاستحقاق الانتخابي.
ما يهمنا جميعًا وفق نهج وطني صحيح وثابت، عودة الحياة الطبيعية إلى مجاريها في كلّ شارع وكل بلدة ومدينة وعموم البلاد بعد استتباب الأمن وعودة المهجرين والنازحين قسرًا إلى دورهم وأهلهم ومدنهم. فالحياة في بلدان الشتات ليست عسلاً دائمًا ولا راحة للضمير الوطني عندما يصحو الفكر ويخرج الكلام عن صمته بسبب لوعة الغربة والبعد عن الأهل والجيران والأرض والجذور، بل عن وطنٍ كبير اسمُه "العراق". ولن تثني سلوكياتُ الساسة المغرّدين خارج السرب الوطني وأصحاب المصالح النفعية الخاصة والحزبية والقومية كلَّ مَن مازال يحملُ في ضميره وقلبه ويده كفَّ الوطن لينهض من جديد من خلال الدفع والكفّ والابتعاد عن النهج الحالي الخالي من أية مسحة وطنية. فالصادقون والطيبون ليس في جعبهم سوى حب "العراق"، ولا يريدون غير "الوطن" في بحثهم الدائم عنه لكونه مفقودًا منذ غزوه واحتلاله أمس واليوم! وما الغضب الشعبي المتنامي بسبب فساد الساسة وأحزاب السلطة وشخوصها غير المهنية وغير الوطنية سوى بداية الثأر للقادم الماحق. وإلى ذلك اليوم، ننتظر رحمة الله الواسعة أن تعيد الوطن إلى أهله الأصلاء ومواطنيه الطيبين وأن تمطر علينا ما فاض من مطرها الغزير ومن نعمها في تكفّل عودة الحياة الطبيعية إلى الوطن وأهله في أسرع وقت ممكن.





34

البابا بندكتس السادس عشر، حارس العقيدة الكاثوليكية ورجل الحوار بين الإيمان والعقل
لويس إقليمس
بغداد، في 2 كانون ثاني 2023
بوفاة البابا الفخري بندكتس السادس عشر (265 في تسلسل بابوات روما) بعمر يناهز 95 عامًا، مساء السبت 31 كانون أول 2022، تكون الكنيسة الكاثوليكية قد فقدت واحدًا من أعمدتها وفلاسفتها ولاهوتيّيها. فقد حمل بحقّ، راية حراسة العقيدة المسيحية الكاثوليكية بفضل رسوخ علومه وثقافته العميقة في بحور اللاهوت والفلسفة التي حفظت وحافظت على نقاوة التعليم المسيحي من النشوز والانجراف خلف التبريرات المعاصرة لنفرٍ من الليبراليين غير الأمناء على العقيدة والدين والأتباع. ويكفي أن يلخص خلفُه البابا فرنسيس مسيرة سلفه الذي ضرب أروع مثلٍ نادرٍ حين تخلّيه عن الكرسي البابوي بملء إرادته في 2013 بوصفه بصفتين راقيتين يستحقهما بجدارة: "إنسانٌ نبيل ولطيف جدًا عمل وضحى من أجل خير الكنيسة". وهذه شهادة باحتفاظ البابا الراحل بقدرته على حفظ التوازن بين العقل والإيمان، بين الروحانيات والماديات في ظل اشكال المحبة المتناهية التي تعكسها العقيدة المسيحية. لذا، ليس بغريبٍ أن تتوالى قرائن المدح بحقه حيال أصعب وأروع قرارٍ لم يتخذه غيرُه من بابوات الفاتيكان منذ قرونٍ عدة. فقد توالت الإشادات الرسمية بحبريته التي امتدت من 2005-2013 في ظلّ ظروفٍ غير اعتيادية حبلى بالمشقات والتراكمات بسبب تباين الآراء حول مسيرة البشرية ودور الكنيسة الكاثوليكية المتمثلة بشخص البابا ونظرته الواقعية إلى الأحداث، ما جعله أحيانًا في مرمى الانتقادات غير المبرّرة حين تطرقه إلى أحداثٍ ووقائع في تبيان حقائق الأمور التاريخية التي لم تخرج عن السياق التاريخي في التحليل والرصد والرؤية وقول كلمة الحق!
لاهوتيٌّ بعمق هذا البابا، أثبتت مسيرتُه رؤيتَه الصائبة في الكثير من الملمّات والمهمّات والملفات التي عالجها منذ بروزه شخصيةً مثقفة حيّة مسلّحة بفلسفة لاهوتية حامية للعقيدة المسيحية الكاثوليكية لغاية تاريخ استقالته في 28 شباط 2013، بسبب تقدمه في السنّ وشعوره بتراجع قواه وعدم مقدرته الاستجابة والتجاوب مع مستجدّات الأحداث العالمية وما تتطلبه من قدرة فائقة وصحة ملموسة في مجابهة التطورات وقيادة دفة الكنيسة تفاديًا لأية عثرة محتملة في الرؤية والمفاهيم التي تتطلب التجدّد والتجديد. وكلّ ما قيل عنه وفيه عمومًا قبل أو بعد مغادرته ارض الفناء إلى دار البقاء، وما ورد من ردود أفعالٍ من شخصيات دولية ودينية واجتماعية لا تخرج عن الإشادة بمواقفه وشخصيته الفذّة في قيادة دفة الكنيسة الكاثوليكية بعيون الراعي الصالح الساهر على حظيرته التي تجاوزت المليار والربع في عديدها في العالم. فهو المعلّم الحريص على تقديم دروس التعليم المسيحي برؤية متجددة تتلخص في استقامة المبادئ التي نهل منها رؤيته الثاقبة للعقيدة الكاثوليكية، بالرغم من اتهامه من جانب بعض الليبراليين والمضطربين لاهوتيًا بكونه لاهوتيًا محافظًا غير راغبٍ بالإصلاح. وقد تمثل ذلك بصورة أخصّ في مؤلفه الكبير من ثلاثة أجزاء خلال فترة حبريته وفيه تحدث وكتب بإسهاب عن حياة "يسوع المسيح الناصري". وفي هذا المؤلف الضخم يمكن أن يجد كلّ مسيحي ضالته في شخص المسيح مخلّص الكون.
لقد حظي البابا بندكتس باحترام واسع في الوسط المسيحي ومثله في الأوساط الدولية العديد من الآراء اتفقت على صفاته المستقيمة التي تؤيّد الوصف الطيب الذكر لشخصيته العالمية واتسامه بالحرص على كنيسة المسيح ورعاياها ونظرته إلى الأحداث من منطلقة الروح المسيحية المنفتحة إلى الآخر المختلف. وطالما حُسبت له مواقف دولية مشرفة وصادمة حين تطرقه إلى المخاطر العديدة التي تواجهها البشرية في مسائل النسبية والمادية والنزعة الاستهلاكية وآثار الجشع البشري لفئات وجماعات استغلالية للجنس البشري بكافة أشكاله وألوانه. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كبّرَ فيه إجادتَه بجعل "العالم أكثر أخوّةً". فيما مجّدَ فيه الرئيس الأمريكي، وهو من أتباع الكنيسة الكاثوليكية "تقواه البارزة تجاه كنيسته وسخاءَه حيال البشرية جمعاء". بينما أشاد المستشار الألماني أولاف شولتز بشخص مواطنه بندكتس السادي عشر بوصفه ب"الشخصية المهمة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية". فيما لم يخفي مجمع الأساقفة في فرنسا تحيته لقيادته دفةَ الكنيسة نحو الوحدة ومجابهته الشُجاعة لحقيقة بعض الأفعال غير السوية مثل الاعتداءات الجنسية المرتكبة داخلها من رجالات الكنيسة بحرص الأب على مواجهة الحقيقة مهما كانت. بينما وصفه الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي ب"العالم اللاهوتي المرموق والمفكر والداعم للقيم العالمية"، على حدّ تعبيره. من جهته، عبّر ملك إنكلترا شارلز الثالث عن الحزن العميق بوفاة البابا الفخري مذكرًا ب"الجهود المستمرة للبابا الراحل من أجل التقارب بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية من أجل السلام". أمّ رئيسة وزراء إيطاليا جيورجيا ميلوني، فقد وصفته ب"الرجل العظيم في التاريخ". وهكذا توالت الإشادات والتوصيفات بحق البابا الراحل، ومنها تعزية رئاسة جمهورية العراق التي أشادت ب"حياة البابا الراحل العامرة بالتطلع والعمل من أجل حياة إنسانية أكثر عدلاً ومحبة وتسامحًا ولطفًا".
في مثل هذا الحدث الاستثنائي في زمننا المعاصر، الذي يؤكد صحوة الإدارة العليا لرئاسة كنيسة روما وشعورها بالمسؤولية تجاه رعاياها والعالم على السواء، يكون البابا الراحل قد ضرب أروع مثالٍ في الإيثار والتواضع والتنازل عندما انزوى جانبًا لإتاحة الفرصة لخلفٍ آخر تختاره كنيسة المسيح لإكمال المسيرة لما فيه "خير الكنيسة الجامعة"، بحسب وصف قداسته. فلم تشهد الكنيسة الكاثوليكية قطّ مثل هذا الحدث الاستثنائيّ منذ ما ينيف عن ستة قرونٍ بحسب التاريخ. ويكفيه فخرًا واستحقاقًا، حصول قداسته على امتياز بابوي بترؤسِ خلفه البابا فرنسيس المالك سعيدًا جنازةً تليق به، كاثوليكيًا وكنسيًا ودوليًا. فقد اعتادت الكنيسة الكاثوليكية منذ قرون أن تشهد جنازة البابوات التي تجري عادةً قبل انتخاب خليفة للبابا الراحل. وهذا ما جرى عندما فتح البابا بندكتس السادس عشر الطريق لمثل هذا الحدث الاستثنائي غير المسبوق حين تقريره الاستقالة المفاجئة من أعلى منصبٍ كنسي في العالم في الحادي عشر من شباط 2013م ليقوم بابا آخر بترؤس جنازته شخصيًا كأعلى سلطة في الكنيسة الكاثوليكية. فلم يحصل أن سمعنا عبر التاريخ ببابا الفاتيكان يترأس جنازة سلفه. وهذا ما سيحصل يوم الخميس 5 كانون ثاني 2023 القادم.

مسيرة حافلة بالعطاء واللاهوت
"جوزيف ألواسيوس راتزنغر"، ولادته كانت في مدينة "ماركتل" بتاريخ 16 نيسان 1927 في مقاطعة بافاريا/ ألمانيا. ينحدر من عائلة مسيحية ممارسة مناهضة للنازية، أخذ منها حُبَّ النهل من العلوم والغيرة والثقافة التي عزّزت من عقيدته الكاثوليكية منذ نعومة أظفاره. كان له شقيق أكبر منه، جورج، دخل هو الآخر سلك الكهنوت وتوفاه الله في 2020 عن عمر 96 عامًا أيضًا. كانت له مواقف شجاعة ضدّ رجال النازية المعادية للكنيسة ما عرّضه للاعتقال لفترة ستة أسابيع في أحد معسكرات الأسرى في بافاريا، بعد أن اضطرّ للانخراط في إحدى وحدات "الرايخ" في الفيلق النمساوي في عام 1941، رغمًا عنه.
تشير معلومات مقربة من الفاتيكان، بأن حياة البابا بندكتس السادس عشر (ويعني اسمُه مبارك)، قد أخذت منحى مغايرًا حينما دخل سلك الكهنوت في عام 1944 وسيم كاهنًا في 29 حزيران 1951. وحينها شغلت المسائل اللاهوتية جلَّ اهتمامه عندما تخصّص في تدريس العقيدة واللاهوت بعمر 31 عامًا في بلده ألمانيا. وبدأت مسيرتُه الكهنوتية تلقى رواجًا بانتشار سمعته، لحين اختياره رئيسًا لأساقفة "ميونخ وفريسنغ" في 25 آذار 1977على يد البابا القديس الراحل بولس السادس الذي وشحه لاحقًا من نفس العام بالقبعة الكاردينالية، وتمكن من فرض عمق ثقافته اللاهوتية وتمسكَه بالعقيدة الكاثوليكية وتعاليمها المستقيمة، ما هيّأ الطريق أمامه لاعتلاء أعلى المسؤوليات في كنيسة روما لاحقًا، ومنها ترؤسه لمجمع العقيدة والإيمان بعد أربع سنواتٍ، وهو من أهمّ المناصب في الفاتيكان، والذي بقي محافظًا عليه حتى انتخابه لرئاسة الكنيسة الكاثوليكية. فبعد وفاة البابا القديس يوحنا بولس الثاني، تغيّرت الأحوال وارتقى الكاردينال "راتزنغر" إلى السدّة البابوية بانتخابه السريع من قبل "الكونكلاف" (مجمع الكرادلة) الذي اختاره لهذه المهمة الصعبة بتاريخ 19 نيسان 2005. وتسلّم مقاليد السدّة البطرسية رسميًا في 24 نيسان 2005 بوضعه "التاج وخاتم الصيّاد" ليكون رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية في العالم أجمع وأسقفًا لروما في ذات الوقت.
من أهمّ المحطات التي تُحسب للبابا الراحل خلال عمله في رئاسة مجمع العقيدة والإيمان، فتحه الباب أمام إصلاحات كنسية في فلسفة المفاهيم اللاهوتية والعقيدة ومنح صلاحيات واسعة للأبرشيات انطلاقًا من رؤيته الواقعية للحياة المسيحية وتجاوبها مع العصر وحاجة الإنسان للانفتاح. ومنها تأكيده على احترام التعددية الدينية وفتح حوارات مع سائر الأديان، ولاسيّما اليهودية والإسلامية في أجواءٍ من التفاهم والمحبة والحوار وصولاً للمشتركات بينها وحق البشر في الحريات الدينية. وكانت مساهمتُه في صياغة وثيقة الإرشاد الرسولي الصادر في عام 2000 في عهد حبرية البابا الراحل يوحنا بولس الثاني خير دليلٍ على حرصه لتثبيت دعائم الكنيسة الكاثوليكية وإثبات نقاط التقارب مع غيرها من الكنائس الأخرى والأديان في العالم وانتهاج الحوار سبيلاً للتفاهم بين الأمم والشعوب. كما له آراؤُه المحافظة إزاء مسائل جدلية عديدة مثل "المثلية الجنسية وتحديد النسل والعلاقة الزوجية والجنسية بين الرجل والمرأة التي وصفها بالمقدسة كونها موهبة من الله لا ينبغي استغلالها لأهداف استهلاكية". وقد تطرّق إلى هذه المسائل في تعليمه وضمن سلسلة الإرشادات الرسولية التي أصدرها في سنوات حبريته. هذا إلى جانب مواضيع أخرى عديدة طبعت رؤيته لواقع حال الكنيسة الكاثوليكية إزاء الأحداث والأمم والشعوب وشكل الإصلاحات والتعديلات المطلوبة في عصرنا المتغيّر. وجلّ هذه التعاليم تصبُّ في سلّة العقيدة المسيحية التي تنهل رؤيتها ومفاهيمها ومبادئها من تعاليم المسيح والإنجيل والرسل وبما يتوافق مع ثقافة الشعوب والدول من دون تشويه للمبادئ الأساسية. ولعلّ الحدث الأهمّ الآخر قبل انتهاء حبريته يتعلّق بسينودس الشرق الأوسط الذي افتتحه قداستُه، في 10 تشرين أول 2010 في الفاتيكان، وضمّ الكنائس الكاثوليكية لدول المنطقة وممثلين عن كنائس أخرى وغيرهم من ممثلي الديانة الإسلامية من سنّة وشيعة. وحينها تم اعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الأساسية التي يعتمدها اليوم الكرسي الرسولي.
أمّا عن زياراته الحبرية خارج إيطاليا، فقد زار البابا الراحل عددًا من الدول والتقى المسؤولين الروحيين والرسميين فيها وفقًا لبرامج لا تخلو من الرمزية والدعم الديني لجماعات وكنائس. فقد زار في عام 2005 بلده الأصلي ألمانيا. أعقبها في عام 2006 بزيارة كلّ من بولونيا وإسبانيا وألمانيا ثانيةً وتركيا. وفي عام 2007 شدّ الرحال إلى كلّ من البرازيل والنمسا. فيما توجه في عام 2008 إلى كلّ من الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وفرنسا، أعقبها في 2009 بزيارة الكاميرون وأنغولا والأردن وإسرائيل والتشيك. بعدها في 2010 قصد كلاًّ من مالطا والبرتغال وقبرص والمملكة المتحدة وجدّد زيارة ثانية إلى إسبانيا. وفي 2011 حلّ ضيفًا في كرواتيا وسان مارين وإسبانيا للمرة الثالثة وبينين، لينهي مشواره من الزيارات البابوية قبل تنازله عن الرئاسة الفاتيكانية في عام 2012 إلى كلّ من المكسيك وكوبا خاتمًا إياها بزيارة لبنان التي بدت حينها زيارة رمزية قصد بها التوقيع على الوثيقة النهائية للسينودس الخاص بالشرق الأوسط ولقائه بالشباب. هكذا العظماء يتذكرهم التاريخ!


35
زمن الميلاد، من وحي المحبة والرحمة والسلام
لويس إقليمس
بغداد، في 12 كانون أول 2022
في صلاته التقليدية في التبشير الملائكي أمام آلاف المحتشدين في ساحة القديس بطرس ظهيرة يوم الأحد 11 كانون أول 2022، قال بابا الفاتيكان: "إن زمن المجيء هو الزمن الذي نسمح فيه لعظمة رحمة الله أن تدهشنا". وهذا جزءٌ من عظمة سرّ الله الخالق في مخلوقاته الضعيفة أمام المحن والصعاب والمشاكل والأزمات التي يتعرض لها الجنس البشري في حياته القصيرة على الأرض. وهي في ذات الوقت مناسبة للتذكير بكبير محبة الخالق للبشرية في طريقها الوعرة المملوءة أشواكًا مادية وعوائق روحية وأخرى بيئية طبيعية ليس للبشر فيها ذنبٌ ولا سببٌ ولا مسؤولية. لذا تؤمن المسيحية بأنّ في ولادة السيد المسيح قبل أكثر من ألفي عام فقيرًا في مذودٍ في واحدة من مغاير بيت لحم الفلسطينية المتروكة للرعاة آنذاك، دليلاً على عظمة هذا المولود بهذه الطريقة الضعيفة عندما صعبُ على والديه (يوسف ومريم) أن يجدا موضعًا لولادته وهو مالك الكون وسيّدُه ورجاؤُه، بحسب الإيمان المسيحي التقليدي. إنها عناصر إيجابية من زمن المجيء الذي يتهيّأُ له العالم المسيحي خاصة والعالم أجمع للاحتفال به بعد ايامٍ قلائل في 25 من كانون أول الجاري 2022، وكلَّ عامٍ بذات التاريخ وذات التقليد.
زمن الميلاد يذكّر العالم بقيم رفيعة شبّت عليها المسيحية بكلّ جدارة وإيمان ونشأ عليها المسيحيون من اقاصي الأرض إلى أقاصيها ونقلوا بشراها في السلام المسالم والمحبة الخالصة للبشرية إلى العالم كما نقلها الملائكة يوم ولادة المسيح بتهليلهم "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة الصالحة لبني البشر" (لوقا 2:14). وما تزال هذه التسبحة الملائكية يردّدها العالم اجمع، وليس المسيحيون حصرًا في ذكرى هذه المناسبة السنوية العظيمة. إنها بشرى للعالم كي تسود فيه أركانُ السلام والطمأنينة والعيش المشترك وينتشر الوئام والفرح بدل الضغينة والحقد والتكفير وأشكال الكراهية التي تغزو العالم المادّي المجنون ب"الأنا" والمصالح الخاصة والفئوية والطائفة والدينية والمذهبية، تلك التي تشتدّ وطأتُها مع مرور كلّ سنة جديدة. ففي كلّ حقبة ومناسبة ترتفع فيها الأكفُّ متضرعة إلى الباري تعالى بإحلال السلام والمحبة وسط البشر جميعًا، كما تشتدّ الدعوات بالكفّ عن الحروب وأشكال الدمار والتخريب التي يفتعلُها البشر من أرباب النوايا السيئة بزيادة مهووسة بالغلّ والحقد والكراهية والخراب والدمار والقتل والأذى. والأنكى في هذا وذاك، أنّ أشكال الأذى لا تلحق إلاّ الطبقات الفقيرة وأصحاب القوامات الضعيفة المتهالكة، فتزيدها سوءً على سوءٍ وتكسر من خواطر باريها الذي يرى في صورها وأشكالها ضحايا للعنف غير المبرّر. ولنا في رؤية جزءٍ من مآسيها في حرب الإخوة الأعداء بين روسيا وأوكرانيا، أو بالأحرى بين عمودي الإدّعاء العالمي الماكر، الغرب الديمقراطي والاشتراكي المتغطرس.
ولعلَّ من جميل ما قاله الشاعر أحمد شوقي وهو يصف مولود المغارة بأبيات رائعة تستحق التأمّل:
وُلـد الرفْـقُ يــوم َ مـولدِ عيســى     والمروءاتُ والهــدى والحـــياءُ
وازدهى الكونُ بالوليد وضـاءَت     بسـناهُ مــنَ الثــرى الأرجـــــاءُ
وسَـرتْ آيـةُ المسيحِ كما يســري    من الفجـرِ في الوجودِ الضِـياءُ
لا وعـيدٌ، لا صولةٌ، لا انتـقـــامٌ      لا حسـامٌ، لا غـزوةٌ، لا دمـاءُ
وأطاعـتْهُ فـي الإلـــه شُـــيوخٌ       خُـشـَـعٌ خُضَّــعُ لــهُ، ضـُـعَـفاءُ
أذعـَـنَ النـاسُ والـمـلوكُ إلــى       ما رسَموا، والعقولُ والعُقـــلاءُ
 والمسيح الذي ولد متواضعًا "جاء إلى خاصته، وخاصتُه لم تقبله" (يوحنا11:1) بالرغم من رسالة المحبة والسلام التي أتى بها لبني البشر جميعًا، وليس لليهود وحدهم الذين رفضوا بشارتَه مكذّبين ما جاء على لسان الأنبياء بحسب الموعود في توراتهم. ومنه أنّ مَن وقف إلى جانبه، كان الحمار والثور اللذان توليا أمرَ تدفئته بأنفاسهما البهيمية وهو في المذود الحقير في المغارة يصارع البرد الشتائي القارس مع والديه، وليس جهاتٌ من اقاربه وعشيرته وجيرانه من اليهود. وهذه دلالة لاهوتية في التقليد الكنسي، مِن أنّ هذين الحيوانين قد "عرفا ربّهما، وأمّا إسرائيل فلم تعرفه". وهذا أمرٌ مفرغٌ منه حيث يستدلُّ هذان الحيوانان فطريًا على قانيهما وصاحبهما لكون الأخير يهتمُّ بإطعامهما في بيته ويستفيد من خدماتهما. وهذا بحدّ ذاته، توبيخٌ لليهود المتعجرفين الذين أنكروا ولادة ربهم، كما وُعدوا، وحين ولادته أنكروه ولم يعرفوه. بل بالأحرى، تجاهلوا ولادته لكونهم أرادوه ملكًا ببهرجة وزينة وفخامة الملوك الأرضيين والماديين والمتاجرين بشعوبهم.

التهيئة لزمن الميلاد
كالعادة في زمن الاستعداد للمجيء، أو ما يُسمّى بزمن الميلاد، تتهيّأ كنائس ومنظمات وجمعيات وعائلات لاستقبال ميلاد المسيح ليلة 24/25 من كانون أول من كلّ عام بشيءٍ كثير من التحضيرات، الدينية والروحية والمادية والمعنوية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عقد لقاءات واجتماعات لإظهار هذه المناسبة بما يليق بها من حلّة روحية ويكسبها رونقًا دينيًا ورمزيًا. فالزائر الكبير المولود في مذود بسيط له من الرفعة والتقدير والقدرة، ما يجعلُه ملكًا عظيمًا خاف من ذكره هيرودس، ملكُ اليهودية، الذي اعتبر ولادته تهديدًا لعرشه، ما جعله يأمرُ بقتل جميع أطفال بيت لحم آنذاك، بحسب الإنجيل المقدس، خوفًا من نشأة الطفل المبكرة واعتزامه تولّي العرش مكانه. لكنّ هيرودس، الملك القاسي، كان مخطئًا. فملكوت المسيح لم يكن يومًا ماديًا ولا من فضة ولا ذهبٍ، ولا جاء بفعل استخدام السيف والسلاح لكسب المؤيدين لدعوته الإلهية. بل وُلدت مع المسيح كلّ أشكال الرفق والخدمة والرحمة والمحبة والسلام لجميع البشر. 
كما تتضمن بعض هذه التحضيرات، عقد لقاءات لجوقات ترنّم لهذه المناسبة بأصوات طقوسية شجية بلغة المسيح الأصلية، "السريانية-الآرامية" في مشرقنا العربي والعراقي، بشقيها الغربي والشرقي وغيرها من اللغات في عواصم العالم الأخرى. وتتردّد دعوات من مسؤولين كنسيين لرعاياهم بإقامة الصلوات والصيام وصولاً ليوم المناسبة الكبير وتهيئة القلوب والنفوس بشيءٍ من الطمأنينة والانشراح وراحة البال والتوبة عن فعل المعاصي. هذا ناهيك، عن انشغال ربات البيوت بالاستعداد لتهيئة ما لذّ وطاب من مأكولات موسمية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تهيئة "الباسطرمة" و"الكليجة" التي تجيدها ربات البيوت الراقيات بجدارة، وأدوات "الباجة" و"الكبة" الموصلية وما سواها من ملذات الطعام التي تنشر الفرحة والبهجة في نفوس الصغار قبل الكبار، ولاسيّما في القرى والقصبات المسيحية التي اعتادت تقديم أفضل أنواع الأطعمة والمأكولات في صباحية العيد مثل أكلة الشوباتي (العدس الصحيح) والهريسة و البورمة (باجة مع الحمص) التي توضع في "بستوكة" (آنية من الفخار) في تنّور ترابي تُهيّأ له نار قوية منذ مساء العيد. كما اعتادت الكثير من العائلات الريفية والقروية سابقًا ذبحَ عجل قبل العيد بالتشارك مع الجيران احتفاءً بهذه المناسبة وشوي اللحم والكبد والطحال على التنور تعاقبًا مع خَبز الكليجة بأنواعها. ولا ننسى تهيئة شجرة الميلاد وزينتها التي أصبحت من التقاليد الوطنية للكثير من شعوب المنطقة، ومنها العراق، ليس مسيحيًا فقط، بل أصبحت زائرًا مفضلاً في منازل إخوتنا في العراق من جميع طوائفه وأديانه، احتفاءً بالمناسبة أو تعبيرًا عن تضامن وطني ومجتمعي للتذكير بروح العيش المشترك والتعايش السلمي وحسن الجيرة، والأكثر تعزيزًا لروح المشاركة الوجدانية من خلال أشكال الزينة والملابس الفاخرة الجديدة في كلّ موسم. فهذا دليلٌ على التجدّد في الروح والفكر والإيمان قبل أن تكون في الشكل والصورة والمظهر. وممّا زاد من مفهوم التضامن الوطني، استجابة الدولة العراقية لطلبات رأس كنيسة العراق المتكررة غبطة بطريرك الكلدان لويس ساكو وإخوته رؤساء الطوائف الأخرى لجعل هذه المناسبة عطلة رسمية أي عيدًا رسميًا لكل العراقيين وإضافة ثاني أيام العيد عطلة إضافية للمسيحيين في هذه السنة.
بهذه المناسبة، لا أرغب بالتذكير بسوء النوايا من جهاتٍ أو جماعات تسعى لتحريم إخوتنا في الوطن، محليًا وإقليميًا ودوليًا، بالاحتفاء بهذه المناسبة وفق تأويلات وتفسيرات ضيقة الأفق، متشدّدة الفكر، قاصرة الرؤية، ضعيفة الحجّة لأفرادٍ ينتهجون منهجًا أقلَّ ما يمكن وصفُه بتخريب قيم المواطنة والمحبة والتسامح التي تقتضي تعزيز وسائل العدالة والتضامن والتآزر بين أبناء الوطن الواحد. فهذه الأفكار والمفاهيم المنغلقة تفرّق ولا تجمع بشرًا، تدمّر ولا تبني بلدًا، تؤخر ولا تقدّم واقعًا.
وأخيرًا، فعيد الميلاد، ليس ذكرى نعيدها في كلّ سنة وفي هذا الزمن، بل هو خير مناسبة لنشر الفرح والسعادة وأشكال المحبة والرحمة في العائلة والمجتمع والوطن، والتذكير بأنّ أية مناسبة لأي مجتمع أم دينٍ أو طائفة، إنّما هي تذكير للمشاركة الوجدانية والوطنية لكلّ أبناء الوطن الواحد. فالفرحة التي تدخل بيت جاري، هي فرحتي أيضًا. بل عندما أجد البسمة وأشكال السعادة في وجه واحدٍ من جيراني أو على وجوه أبناء بلدي، فهذا مبعث السعادة لي أيضًأ من حيث استبعاد كلّ مسبّبات التوتر والضغينة والحقد والاستعاضة بها بكل أشكال التفاعل بسِماتٍ إيجابية مجتمعية تُظهر عظمة الخالق في خليقته ومحبته لجميع البشر بلا تمييز عندما تجد ما يوحدها ويجعلها سعيدة وراضية وإيجابية ومنتجة في حياتها. وهذه هي بشرى الميلاد الحقيقية في ولادة الطفل يسوع في مغارة بيت لحم. وكما قال البابا فرنسيس، نشدو مع مريم العذراء كي "تساعدنا لنرى في صغر الطفل عظمةَ الله الآتي لزيارتنا في هذه الأيام". وسنكون حقًا في زمن الميلاد الصحيح عندما نسقي عطشانًا كأس ماء، ونكسو عريانًا ثوب حب، ونجفّف الدموع من عيون الحزانى، ونملأ القلوب بالرجاء والأمل، ونقلع عن الخطيئة والزلل، ونبتعد عن النميمة والرياء والحقد، ونرمّم المكسور بين العائلات والأصدقاء والأفراد، وتتصافى القلوب، وتعود الألفة والسلام والمحبة، وتسكت أصوات المدافع وتُستبعدُ أسنّة الحراب. فالطفل المولود، هو المسيح رب السلام وصانع المحبة ورائد التسامح!
وهذه دعوة وطنية صادقة لأصحاب القرار في العراق والوطن العربي لإنصاف هذا المكوّن الأصيل الطافح بالمحبة لجميع الناس، والحامل مشعل الوطن والوطنية في مواطنته التي لا غبارَ عليها وفي نزاهته وحرصه وجدّيته كي تُزال عن أتباعه جميعُ أشكال التجاوزات والتعديات والانتهاكات، ليس بالكلام وأمام الإعلام فحسب، بل بالفعل والعمل الجادّ والإرادة الصالحة. فقد طفح الكيل بعد أن غاب الخير العام وتراجعت الأخلاق عن البلد وباتت مبادئُ العيش المشترك تهددها مصالح الساسة وأحزاب السلطة ولصوص الليل والنهار والمافيات والجماعات المسلحة بغطاء ديني ومذهبي وطائفي بلا حسيب ولا رقيب. في حين أضحت المكوّنات قليلة العدد بلا غطاء ولا حماية حقيقية في الدستور والقانون الذي ضربه حُكّام وأحزاب السلطة بسطوتهم وتجاهلهم وتغافلهم نكايةً بأبناء هذه الأقليات وبتاريخهم وثقافتهم التي ينتقصها ساسة الصدفة وناهبو ثروات البلاد وسارقو الشعب في سيرتهم اليومية الخائبة. فأبناءُ هذا المكوّن الطيّب المسالم النزيه ومثلُهم نظراؤُهم من المكوّنات التي أحالها الزمن إلى جماعات هشّة قليلة الأعداد بسبب ظلم الزمن وجور الظالمين، يستحقون كل الحقوق المواطنية التي تنصفها العدالة المجتمعية وتقتضيها المساواة الوطنية وتنادي بها اللوائح الإنسانية. فالعراق يسَعُ الجميع والدولة كفلية شرعًا ووطنيًا ودستوريًا بحماية جميع مواطنيها تعزيزًا للعيش المجتمعي من دون تمييز.
وكل عيد ميلاد، والعراق وأهله بألف خير!

36
حركة الكلدان الجديدة، زمن المكاسب والمغانم لمن يستطيع إلى ذلك سبيلاً
لويس إقليمس
 بغداد، في 15 تشرين ثاني 2022

لا أخفي تردّدي بالخوض في هذا الموضوع الشائك، لكنّ شجاعتي المعهودة لتبيان الرأي وكشف بعض الحقائق كانتا دليلي.أشكرُ القرّاء لتفهم السبب وحقيقته.
\

كلّ القوى والطوائف والمكوّنات والأحزاب من جميع البشر وعبر ساداتها وزعاماتها في أي مكانٍ وزمانٍ تسعى فيما تسعى إليه لنيلِ المكاسب والتمتّع بالمغانم بأية وسيلة، حتى لو دخل فيها إبليسُ شريكًا ومشاركًا وناصحًا. هذه غاية البشر وهذا مسعى صنف الطبقة الدينية والسياسية خاصة، التي تتحيّن الفرص وتستغلّ الأوضاع لاختراق ما تستطيعُ إليه وصولاً إلى غاياتها القصوى في نهاية المطاف. أليست هذه "شطارة" البائع والشاري والمُتاجِر الحاذق باسم الدّين والوطن والطائفة والمكوّن والمذهب؟ لستُ هنا بصدد لوم جهةٍ أو فئةٍ أو شخصنة فعلٍ أو سعيٍ، مهما بلغت حدةُ المسعى في الأسلوب، ومهما اشتدّت وطأة الفعل على الجيران وفاق تأثيرُها على النظراء والأشباه ومَن في مستوى هذه الفئة ممّن لم يجتهد أو تغافلَ أو تقاعسَ في بلوغ ما بلغه غيرُه من قيمة عليا وأداءٍ حاذق وسعيٍ حثيث في تطوير وتقدّم الجماعة ونيل المبتغى بأية وسيلة متاحة في ضوء الرفعة والمكانة والقدرة التي هو عليها أو بلغَها هذا الشخص أو ذاك المسؤول بجدارة ورقيّ. كلّ هذا جميلٌ وحسنٌ وبديعٌ يستحق الإجلال والتقدير والاحترام عندما يتعلّق الأمر بتطوير طاقات وتغيير مناهج وابتكار أساليب أكثر فاعلية لبلوغ الأفضل والأحسن. فقد أدرك الجميع أسرار اللعبة وحماقة الوضع وضحالة الشخصية باستخدام الرموز الدينية سندًا وتأييدًا وملجأً لبلوغ المآرب. وليس في هذا أيّ اعتراض شخصيّ طالما لم يفلح الساعون بالوسائل الديقراطية والعلاقات العامة والخاصة. فالسياسة في العراق والمنطقة تتطلب هذت السلوك وهذا النهج بالرغم من خطورته في نهاية المطاف!
فشل متكرّر
من هنا، فلكلّ جهة أو جماعة أو طائفة أن تعيد ترتيب أوراقها وتنظمَ بيتها الداخلي بعد الفشل المتكرّر في الحصول على مكاسب وامتيازات صارت تمثل ديدنَ الكتل والأحزاب والساسة والمكوّنات في عراق ما بعد الغزو الأمريكي الأهوج في 2003. ولكنْ ليس من المفترض أن يحصل كلّ هذا وغيرُه وما يُحاكُ في الكواليس ويقع تحت المناضد على حساب طوائف وجماعاتٍ ومجتمعاتٍ أخرى تقع تحت صنف ومصير ومستقبل ذات المكوّن الهشّ الذي فقد توازنَه وكادَ بصيصُه يتضاءلُ ويتلاشى بسبب هذه الأسباب وتلك الأساليب و" التقنيات" المستحدثة بسبب طبيعة الوضع العام ومدى الاختلال الحاصل في المجتمع وفي مكوّناته الهزيلة في كلّ شيء وايّ شيء! وأقصدُ هنا تحديدًا، ما يتعرّض له المكوّن المسيحي في عراقنا المتهالك ومنطقتنا الهشّة من تهديدٍ حقيقيّ بالانقسام والتشظي والضمور أكثر ممّا هي حالُه وظروفُه القائمة في ضوء سعي رئاسة الكنيسة الكلدانية ومؤسساتها والأحزاب المنضوية تحت خيمتها لاختزال المسيحية بدائرة "الكلدان" في مطالبة الحكومات المتعاقبة بتصحيح أوضاع هذه الطائفة حصرًا بحجة الأكثرية التي يمثلونها في العراق وبلدان الشرق ودول الاغتراب على السواء، وبدالّة الموقع الكنسي العالمي الرفيع الذي يحتلُه شخص رئاسة كنيستهم، غبطة البطريرك - الكاردينال لويس ساكو الذي أثبت  للجميع ومن دون شكّ بكونه الصوتَ النابض بالحيوية والصارخ بوجه الظلم والرافض للتمييز والمعروف بالمواقف الجريئة التي يتبناها إزاء الانتهاكات المتواصلة ضدّ مكوّن اصيل في المجتمع العراقي والعربي على السواء. وكلّ هذا يُحسبُ له ولنا جميعًا مسيحيين و"أقليات" ومواطنين عراقيين على السواء ضمن خانة الوطنية والحرص الصحيح الحقيقي الرامي لبناء وطن مقتدر وعيش حياة حرة رغيدة آمنة ومطمئنة. وهذا ممّا حدا بغبطته مؤخرًا لفورة وطنية وكنسية جديدة ناطقة باسم الحق، رعايةً ومساندةً ووقوفًا مع المظلومين والمقهورين والمهمَّشين في الحياة العراقية بصيغة الشكوى التي رفعها غبطتُه إلى فخامة رئيس إقليم كردستان بتاريخ 1 تشرين ثاني 2022 برسالة صريحة ووافية، وفيها يتطرق صراحةً إلى الجرح العميق الذي أصابَ المكوّن الكلداني من وراء التسمية المركبة "الهجينة" التي شوّهت اسم الكلدان التاريخي "كنسيًا وحضاريًا" كمكوّن من دون التطرق إليه بصيغته القومية، داعيًا إلى "تثبيت التسمية كشعب وأمّة كلدانية بصورة مستقلة بحسب الدستور". أمّا العيب والقصور في مثل هذا الطلب، فهو عدم تطرّقه لذات الحق الذي ينبغي أن تتمتع به كنائسُ شقيقة لكنيسته وجماعاتُها التي تعاني من ذات المشاكل وذات الانتهاكات، لاسيّما وأنّ غبطته يمثلُ كنيسة العراق أيضًا بدالّة الكرامة الكاردينالية التي يحملُها والتي تتيح له النطق باسم إخوته عندما يتعلّق المصير بحقوق مكوّنات وطوائف شقيقة متناظرة في الأصالة والتاريخ والمستقبل والمظالم.
إلى هنا، لا نرى بأسًا في المطلب، بصفة غبطته رئيسًا لكنيسته التي أصابها العجز العددي كسائر غيرها من كنائس المنطقة في العراق والمنطقة بسبب تفضيل نفرٍ من أبنائها شكلَ الحياة الوردية التي سعوا إليها حثيثًا لبلوغها خارج الوطن، فنالت رواجًا وطلبًا متزايدًا للهجرة بحثًا عن الأمان والعيش الرغيد والحرية المنقوصة في بلد الأصل والتاريخ والحضارة. ويبدو في النقص المتزايد في أعداد أبناء الكنيسة الكلدانية وغيرها من كنائس العراق الرسولية الأصيلة، وكذا الخشية من تداعيات إفراغ البلاد من هذا المكوّن المتميّز، فد خضع في جزءٍ منه لدغدغات وهمسات نفرٍ من جماعة الشتات التي مازالت ذكرياتُها الجميلة وحنينُها لأرض الآباء والأجداد ومجرسات الكنائس الجميلة وشوارع القرية وبساتينها وهوائها العليل بالحنين إلى هذه جميعًا. كما أنّ فكرة العودة لنفرٍ آخر عندما يحين الظرف والزمن وتتهيّأ الأوضاع ماتزالُ قائمة لأخذ الدور الوطني المطلوب في إدارة البلاد وتنميتها بطريقة حضارية متمدنة تضع في منظورها ومفهومها فكرة المواطنة والوطن ضمن أولويات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية. وهذا حق مكفول وأملٌ قائمٌ للجميع، بمن فيهم مَن آثر البقاء في الوطن أو سعى هاربًا أو باحثًا عن ملجأ ورزق ورفاهةٍ خارجه. وأضيف هنا سببًا آخر يتعلّق بالمغانم والمواقع في شبه الدولة العراقية والتي فشل فيها ممثلو هذه الطائفة في السنوات الأخيرة ببلوغ عتبة تمثيل مكوّنهم والمسيحيين عامةً.

المصير والمستقبل على المحكّ
في هذه الأيام التي تُشيد فيها زعاماتٌ مسيحية مقربة من الفاتيكان في عراق ما بعد الغزو الأمريكي المجرم الحاقد وتتهيّأُ له بموجب دعوة قداسة البابا فرنسييس إلى ما أسماه ب"السينودالية" في الكنيسة بالدعوة للعمل على تجديدها إنسانيا وروحيا واجتماعيا من الداخل كعلامةٍ على وحدة الصف، نتفاجأُ في الجانب المقابل على صعيدٍ آخر بخطواتٍ أقلَّ ما يُقالُ عنها أو يجدر وصفُها بطبيعتها السلبية التي لا تبدو سالكة صوبَ طريق وحدة المصير والتطلّع نحو مستقبل واعدٍ يحفظ ما تبقى من الوجود المسيحي وكيانه المجتمعي ممّا أصابه من شطط وتنافر في القرارات وصولاً لانفراط عقد واضح وتباعدٍ مخفيّ في وحدة الصف المزعومة في الجماعات المسيحية. فصورة هذه الوحدة التي تجتمع من أجلها الرئاساتُ الكنسية بحضورٍ مسيحيّ متراجع سنةً بعد أخرى، للصلاة من أجل بلوغها في نهج بروتوكوليّ دعائي عَكِرِ النوايا ومضطربِ الأمنيات وفاقدِ الهدف، يمكن الحكمُ عليها برياء الشخوص ووضوح الخلل في الرؤى والضبابية لدى هذه الرئاسات المنتفخة (عذرًا على الوصف). وهذا واقع الحال وحقيقتُه بالرغم من قسوته. فأنا شخصيًا أعزف ومنذ سنواتٍ عن الصلاة لأجل هذه النيّة "غير الواقعية" المليئة بالمغالطات والرياء عبر الضحك على ذقون البسطاء من مرتادي الكنائس وسواهم من المؤمنين المصدّقين كلّ ما يدور أمام أعينهم من تصريحات ومناشدات وأمنيات في أي لقاءٍ مسكوني تقليديّ أو مناسبة دينية موسمية وما سواها. فما زلنا لم نتوصل بعدُ، بل بالأحرى رئاساتُنا لم تتوصل لتوحيد أعيادنا الرئيسية وطنيًا، وهذا أقلُّ ما يجول في خزاطر معظم المسيحيين، كما فعلت كنائس الأردن وسواها على سبيل المثال.
في الحقيقة، لا أريد الخوض فيما بلغته بعض رئاسات الجماعات المسيحية وكنائسُها ورعاتُها (طبعًا من غير تعميم) من سذاجة وإسفافٍ واستخفافٍ في التعامل مع المؤمنين وفي الحياة الرعوية اليومية بعد أن امتلأت بعضُها بُركًا من مياهٍ آسنة في بعض تجلياتها ويومياتها وأدواتها بسبب ضعف الأداء وفقدان الجدارة وتفشّي المحسوبية والمنسوبية والمصالح الشخصية والعائلية واقترانها بصفتها الوظيفية المادية في إدارة شؤون الكنائس وأوقافها والترقيات والأهمّ في ضعف مشاركة الرعية في الإدارة والإشراف على الشؤون الوقفية والإدارية الأخرى، إلاّ ما ندر صوريًا حصرًا. أقول هذا، كي لا يقع جزءٌ من هذه المآخذ على ذاتي أنا أيضًا. ويكفي الوصف الذي أطلقه بابا الفاتيكان على مثل هذه الفئة ب"الأمراء وأصحاب الأعمال" في واحدة من مداخلاته وانتقاداته لبعض الرئاسات الكنسية التي يبدو قداستُه على اطّلاعٍ واسعٍ بحركاتها وسلوكياتها، تمامًا كما استشفّيتُ هذا الموقف الراقي من رسالة قداسته الجوابية لي شخصيًا عبر أمين سرّ حاضرة الفاتيكان الكاردينال "بارولين" ردّا على رسالة شخصية سلّمتُها لقداسته يوم زار كنيسة سيدة النجاة في 5 آذار 2021، عندما سردتُ له في هذه الجزئية بالذات نتفًا من ملاحظاتي عن وضع ساسة العراق وأحزابه الحاكمة وكنيسة العراق ورئاساتها وبعض فعالها وسلبياتها كما يرصدُها المواطن الأصيل والمؤمن البسيط.
ولا يخفى على الجميع أيضًا، ما عند الكثيرين من أصحاب الإرادات الطيبة والنوايا الصالحة من طيبِ أعمالٍ ورُقيّ تعاملٍ وبذلِ نفسٍ وتضحية صالحة وسماحةِ محبةٍ وفضيلة في أداء الخدمة من منطق الخدمة وليس الوظيفة لأجل الوظيفة، كما نشهدُه في الضفة الأخرى السلبية "الاستعراضية" الدعائية للخدمة الكهنوتية الصحيحة، بما فيها مَن هم اليوم في سدّة رئاسة الرعايا من دون تحديد أو تعريض أو تشخيص. ففي كلّ مجتمع أو جماعة، هناك الغثّ والسمين، الضعيف والقوي، الصالحُ والطالح، الناضج والمريض، المنتفع والمضحّي... وبعبارة أخرى، هناك الجيّد والسيّء، وهذا الصنوُ طيّبُ الثمرة وذاك معاكسُه سيّءُ السلوك. فالهدف من وراء هذا النقد الإيجابي تقويمُ الكلمة المعوجّة والتنبيه للفكرة الخاطئة والإنذار بالقادم الأكثر تعاسة، بل الأكثر قتامةً وخطرًا على الوجود والمصير!

لمّ الشتات خيرٌ من تفتيت المقامات
تقتضي الحكمة من أية رئاسة أو زعامة لمكوّن أو طائفة أو جماعة أن تتحاشى كلَّ ما يمكن أن يفرّق ولا يجمع، يمزّق ولا يرتق، يخرّب ولا يبني. هنا العبارة الصريحة في نقدي الإيجابي، رغم قساوته وما يعتمرُ في فكري ورؤيتي ومفهومي لما صدر من لدن صديقي وزميلي وسيدي البطريرك الكاردينال لويس ساكو، رئيس "الطائفة الكلدانية" في العراق والعالم مِن "خربشات" و"تحرّشات" و"توصيات" و"ترتيبات" في مفهوم ترتيب البيت الكلداني وبالذات في جزئية تعزيز مفهوم "القومية الكلدانية" وتمييزها عن سواها من مجتمعات الطوائف المسيحية الأخرى التي لا أحبذ تسميتها بمسمياتها في مفهوم ما ذهب إليه غبطتُه في نهجه الحثيث لشقّ الصف المسيحي "السرياني والآراميّ القومية والتسمية" عبر التاريخ، كما تشيرُ إليه بطونُ الكتب، ومنها كتابُ غبطته " آباؤُنا السريان". لستُ في موضع تسويغ ما رأيتُه معقولاً في مفهومي لجزئية القومية التي تخصّ مسيحيّي العراق والمنطقة منذ اقتران هذه الأخيرة ب"المسيحية" انطلاقًا من أنطاكية. فهذا السؤال والجواب عنه وعليه مختَلف عليه وسيبقى كذلك ما بقي "الفكرُ التجزيئيّ للمجزّأ" و"النهج التقسيمي للمقسّم" باقيًا معشعشًا في أفكار وعقول وأدمغة المتاجرين بهذا المفهوم والمتشبثين بالرؤية القاصرة غير التاريخية وضعيفة المنطق والنهج والتبرير. أمّا لو كان حصل مثل هذا الخيار أو يحصل في نطاق تعزيز استقلالية جميع الطوائف الرئيسية الأصيلة المؤمّل الاعتراف بها في أي دستور تلتزم به الدولة العراقية، فلا بأس به، ولكن ليس بالسعي المتهالك بتفرّد الطائفة الكلدانية على حساب غيرها من الطوائف الشقيقة التي تتشارك ذات المصير وذات الجذور وذات الأصول "الآرامية- السريانية" قوميًا وتاريخيًا ومسيحيًا.
أنا شخصيًا، لم يعد يهمّني أبدًا مَن أكون وماذا أستحق من "تسمية قومية" مختلَف عليها وجودًا مسيحيًا طالما يبقى هدفي الأسمى أن أكون "إنسانًا" صالحًا قبل أيّ شيء و"عراقيًا" "وطنيًا" أصيلاً يتطلعُ قبل كلّ شيء وأيّ شيء لبناء دولة ديمقراطية حضارية مدنية علمانية صحيحة الأهداف والتطلعات تسعى لتهيئة مجتمع متمدّن مثقّف ومتعلّم يحظى باحترام حقوق الإنسان وخياراته في حرية التعبير والرأي والعيش والحركة والنقل والعمل والعبادة والمعتقد وما سواها ممّا يحميه من أية عواصف في التشدّد الفكري الأعمى والدينيّ الضيّق الذي يقتل ثمرة الخالق في خلقه. فما أبغي وأرنو إليه هو التمتع بحياة مواطنية جميلة، مستقرّة، حرّة، عادلة، متساوية مع أبناء وطني ومجتمعي في السرّاء والضرّاء، ومتسامحة في الجدول اليومي المتناغم مع سائر البشر في العالم ضمن أرض الحضارة والثقافة والتعددية الجميلة. وكلّ هذا ضمن حدود المستطاع في التمتع بخيرات البلاد الكثيرة التي أصابها الكدر وعابَها الفساد بعد أن اقتنصتها ايادي الغدر وأرباب المكاسب والمغانم بأية طريقة أو وسيلة أو أداة ممكنة، حتى لو حصل ذلك على حساب الآخر الضعيف القَدَر والبسيط في التفكير والمظلوم في التعامل مع المقابل المتمكّن المتجبّر المتسلّط. وهذا في اعتقادي، هو عينُ ما يرتئيه كلُّ مثقف وعاقل وحكيم ومدرِك وفاهم لواقع حال عموم الجماعة المسيحية "الوطنية" غير المتشدّدة. ومثلُه بطبيعة الحال أيضًا، ما نتمناهُ لعموم مكوّنات الشعب العراقي متعدّد الأعراق والأديان والإثنيات التي نتحمّس جميعًا ونسعى جاهدين للافتخار بها أمام الملأ، وحتى في مهاجر الاغتراب القسري للبعض. فهذا ما يمنع التضحية بما تبقى من وجودنا المتهالك سنة بعد أخرى ويحفظه من التشتت في بلدان الاغتراب المرّ حين نخسر قاماتنا. ولاتَ ساعةَ مندم!
 لذا ومن منطلق الحرص على ما تبقى من شتات الجماعة المسيحية في عراق الفراتين، وبخاصّة من أبناء الكنائس الرسولية التي تنحدر منها الجماعات المسيحية الأصيلة من الآثوريين والكلدان والسريان والروم والموارنة وما سواهم ممّن ينتمون إلى صنوها من جماعات مسيحية أصيلة كالأرمن وسواهم، أرى خطوات غبطة البطريرك ساكو في غير محلّها، بل هذا نهجٌ لدقّ الأسفين بين هذه الطوائف جميعًا وخروجٌ عن الإجماع الذي كان ينبغي أن يكون عليه بالتوافق والاتفاق والتفاهم قبل اتخاذ أية خطوة فردية غير محسوبة النتائج، لاسيّما وهو كبيرُهم في الموقع المسيحي الذي يستحق ارتقاءَه بجدارة الكاريزما والثقافة والمواقف الشجاعة التي يتحلى بها دون سائر نظرائه من الكنائس الأخرى. فأنا لا أجافي الحقيقة حين تقتضي الساعة.
 في اعتقادي المتواضع، مهما بلغت خطواتُ غبطته من إنصاتٍ وتقبلٍ وتعاطفٍ من جانب متابعي الكنيسة الكلدانية الشقيقة ومن تضامن وتصفيق وتشجيعٍ سواءً من هؤلاء أو من أمثالهم لمثل هذه الخطوة "التمزيقية" للصف المسيحي، مع كلّ احترامي للآراء والرؤى ووجهات نظر في انطلاقة هذه الأفكار، فهي بالتالي ستكون شوكة في خاصرة أي نداء للوحدة الحقيقة التي ينتظرهاا الجميع أو أية دعوة للمّ الشمل مستقبلاً. ومن ثمّ، فلا يمكن القبول بها أو تقبلها مِن جانب مَن حثّ وحرّضَ ودفعَ باتجاهها في خلسة من الزمن لعدم منطقيتها وخطأ تاريخيّتها إلاّ في حالة الإجماع على الفكرة كاملة غير منقوصة والحصول على تطمينات من السلطات الرسمية، الاتحادية منها وفي الإقليم، بإحقاق الحق لسائر الجماعات والطوائف المسيحية الأخرى بالاعتراف الفرديّ بكيانها جميعًا، وقبولها دستوريًا وتمثيلها وجوديًا وتمكينها مصيريًا ضمن اللوائح والقوانين والتشريفات والتشريعات السائدة. ولو فعلَ غبطتُه هذا من منطلق الشعور بالمسؤولية العليا لموقعه وحصلَ من الجهات الرسمية على ضمانةِ حقوق واستقلالية باقي الطوائف ك"طوائف" أو "جماعات" أو "مكوّنات" عراقية مسيحية مستقلة طقسيًا ومذهبيًا وراعويًا وليس ضمن مفهوم "قوميّ" خارج سياقات التاريخ والتجذّر، لكان نالَ من الجميع كلَّ تقدير وإطراءٍ على جهوده، وذلك باعتباره تقليديًا رأس كنيسة العراق وجاهةً. ذلك أنّ المدافعين والدافعين باتجاه هذه الخطوة المشوبة بالمخاطر كما يبدو، قد تحينوا فرصة درجة الكرامة الكاردينالية لغبطة البطريرك وموقعه البارز الذي يستحقه بجدارة ضمن الرقعة السياسية للحكومات المتعاقبة، وصولاً لغاية قاصرة في الرؤية في نهاية المطاف من حيث شقّ الصف المسيحي بدل البحث والتوجه صوب لمّ الشمل ورتق المثلوم وردم الوديان والتلال وجعلها سواقي رائجة للمحبة والتسامح والتحاور والتفاهم حول ترسيخ الوجود وتثبيت الكيان الآيل إلى الاندثار بعيدًا عن منغّصات القومية التي لا تغني ولا تسمّن. فالتاريخ وحدَه كفيلٌ بتوجيه دفّة تسمية الكيان المسيحي وضمّه تحت خيمة وطن واحد وإيمان واحد ومَلِكٍ واحد هو المسيح. وإلاّ ما حصيلة الفعل بل الأفعال المشكوك فيها من جانب رئاسات دينية مسيحية تقول غيرَ ما تفعل، وتجترُّ غيرَ ما تشتري، وتسوّقُ غيرَ ما تُعلن. أليس هذا رياءً وكذبًا ودجلاً واستخفافًا بعقول العامة ومَن يتستّرُ لها وعليها بغرض إخفاء الإخفاقات وتشتيت الانتباه إزاء الهفوات واستغلال الفرص من أجل حصد المكاسب والمغانم، تمامًا كما يفعل ساسة البلاد ونوابُهم منذ السقوط الدرامي على أيدي الغازي الأمريكي الأحمق؟ فالهدف واضحٌ من وراء هذه الخربشات والمواقف والتصعيد غير المبرّر، لعلم الجميع تاريخيًا بعدم وجود قومية أو لغة كلدانية أو آشورية، وإنّما جميعُنا ننحدر تاريخيًا من شيءٍ يُسميه التاريخ "آراميين وسريانًا" قوميةً ولغةً. وواضحٌ في هذا التوجّه الجديد، سعيٌ حثيثٌ من جانب هذه الجماعة وهذا المكوّن ورئاسته لترتيب البيت الداخلي والتهيئة لانتخابات قادمة للوقوف بالضدّ من جهة سياسية مغمورة منافسة استغلّت قربها من مراكز القرار الحاكم في اعتلاء أغلب المقاعد والمناصب المخصصة للمكوّن المسيحي، ما حملَ جهاتٍ منافسة خاسرة للسعي للتصدّي للمقابل.

كنتُ أتمنى!
كنتُ أتمنى مخلصًا على سيدي البطريرك ساكو ومَن حواليه من علّية القوم ووجهاء الكلدان وعقلائهم أن يعملوا جاهدين وبإخلاص أيضًا مثل أمثالي، على جمع المبعثر ممّا تبقى من حطام الجماعة المسيحية تحت الكنف البطريركي وكبيره رئيسًا لكنيسة العراق، وراعيًا وخادمًا للجميع كما تجمع الدجاجةُ فراخَها تحت جناحيها، لا أن يجري تبديد القطيع شذرا مذرا بهذه الطلبات والقرارات والتوجهات الطائفية بفصل المكوّن الكلداني عن سواه من المكوّنات المسيحية الشقيقة الأخرى، سواءً من لدن الحكومة الاتحادية أو في إقليم كردستان العراق. فبالرغم من اتفاقي مع غبطته ومع الصوت المنطقي بعدم قبول التسمية المركبة الدخيلة سمةً قومية ل"طوائفنا" وجماعاتنا المسيحية لعدم اتساقها مع التاريخ والحقيقة الأرشيفية التي تنقلها بطون الكتب، إلاّ أن في المسألة زوغانًا وخروجًا عن جزءٍ كبير من هذه الحقيقة التاريخية التي يعرفها الجميع ويتغاضى عنها أو يتجاهلُها جهلاً أو قسرًا بكون الانتماء التاريخي الصحيح يكمن في "سريانية" و"آرامية" المكوّن من دون لبس أو تحيّز. لكنني لا أوافقُه الرأي في سعيه الأخير بالمطالبة بتمثيل سياسيّ ونيابيّ وحكومي متميّز لأبناء "القومية الكلدانية" على حساب غيرها من الجماعات المسيحية الشقيقة المتساوية في أصالة التاريخ والجغرافيا واللغة والإيمان وحلاوة الطقس وكنوز الألحان. فهذا ينمّ عن استغلالٍ واضح لفرص متاحة بفضل كارزميته المعروفة وتمتعه بثقافة واسعة وإدراكٍ للمعروض من الأحداث أمام غبطته وما يجيدُه من نسج علاقات مع شخصيات وطنية وحزبية ودولية، وأخيرًا من دعمٍ من جهات فاتيكانية متحيّزة لطائفته لها أثرُها في فرض رؤيته المسيحية وعلوّها على غيرها من رئاسات كنسية لطوائف أخرى لا تتمتع بذات الكاريزما، ربّما بسبب هشاشة وزن هذه الأخيرة وضعف تدبيرها وتراجع دورها وعديدها في طوائفها. هذا إذا ما أضفنا تقاطع رأيه السابق إزاء هذا التوجّه الجديد المستجدّ وفي هذا الظرف بالذات بعد سنواتٍ من تراجع دور "ساسة الكلدان" واختفائهم عن المشهد السياسيّ. ولا حاجة للمزايدات في موضوع الأغلبية والأقلية. فالأسبقية لمَن في الساحة ومَن يعيش في عشّ الزنابير وقربه! وكلُّ ما سواها جعجعة فارغة واستهلاك للاستجداء وفرض الجاهز من الأطعمة غير النافعة.

كلمة أخيرة
كلمتي الأخيرة لسيدي البطريرك ساكو ولأشقائنا المؤمنين من الطائفة الكلدانية مع تقديري وجلّ احترامي للجميع. في اعتقادي، قد يندرج الإخلاص والحرص لدى البعض من أتباع هذه الكنيسة في اختيار "الكلدانية" سمةً قومية والسعي لتميّزها عن غيرها في هذا التوقيت بالذات، كأداة وسبيلٍ لبلوغ المغانم والمكاسب في هذا الزمن الأغبر من وضع البلاد التعس في كلّ مفاصل الحياة. وفي هذا لا بأس به من توقيت مناسب لدى طلاّب المكاسب. فنحنُ جميعًا مع هذه الخطوة الحريصة، وسوف نتقبّلُ هذه الجهود الحثيثة والكريمة والأبوية في هذا المسعى، على أن تنال كلّ الجماعات المسيحية من الكنائس الرسولية وغيرها من الطوائف الأصيلة في كنيسة العراق على ذات الاعتراف الرسميّ والحقوق في المكاسب والمغانم التي أصبحت شكلاً من أشكال الترف والحظوة و"السطوة" في بعضٍ من أساليبها. وللتذكير فقط، كان للنواب الكلدان في عصرهم الذهبي ما بعد السقوط مباشرة، عندما كانت كلمتُهم تحظى بالقدح المعلّى للأسباب التي يعلمُها مَن عاصرَ تلك الفترة من رواد الطوائف المسيحية، الدورُ المشين والمعيب في فرض تسمية "الكلدان" و"الآشوريين" حصرًا بتجاهل "السريان" عمدًا، في خطوة تزاوجٍ ارثوذكسي بينهما لم يدم طويلاً في حينها. إذ لاحقًا، تعرّض ذلك الزواج المصلحيّ المؤقت للطلاق بعد تقاطع المصالح وتشابك المغانم وتقاسم الكعكة المسيحية الهزيلة أصلاً في المواقع والمناصب الحكومية. ولنا في هذا حقائق ووثائق صادرة عن أول مؤتمر عقدته الطوائف المسيحية تحت سطوة الجهات الحزبية المسيحية آنذاك والتي كانت تتمتع بالحظوة لدى الحاكم المدني سيّء الصيت "بريمر". وحينها عندما رفع ممثلو السريان أصواتَهم، تم الاستخفاف بهم وإهمالُ مطالبهم نظرًا لهشاشة موقفهم وضعف حضورهم السياسي آنذاك ولعدم تنظيمهم في صفوف حزب خاصٍّ بهم، مثلما كان عليه الكلدان والآشوريون. وقد اعترف بهذه الحقيقة مَن كان ضمن هذه المجموعة التي غيّبت اسم السريان، نكاية بالتسمية "السريانية" و"الآرامية" التاريخية. فقد كان الهدف من كلّ ذلك، إلغاء كلّ ما يمت بصلة إلى ذكر "السريان" و"الآراميين" في دستور البلاد. ففي حين نجح "الكلدان والآشوريون" في تسجيل ماركتهم القومية في دستور البلاد عند كتابته في 2005، أخفق "السريان" مكرَهين بإسناد "الثقافة واللغة السريانية" بالقوميتين الكلدانية والآشورية تخفيفًا للإحباط لديهم ومجاملة للأصوات التي انتفضت آنذاك ضدّ هذه الجزئية من استغلال المواقف.
مهما كانت النوايا، ففي الأخير لن يصحّ إلاّ الصحيح. ونترك هذا للتاريخ كي يقول كلمته وللباحثين كي يدلوا بأصواتهم ومداخلاتهم وآرائهم فيما جرى ويجري. ويقيني أن صديقي وزميلي وسيدي غبطة البطريرك لويس ساكو، سيعاتبني كعادته في كلّ مرة أكتب في المحظور وفي العميق كما في هذه المداخلة الصريحة، متقبلاً في الوقت ذاته اعتراضًا وربما هجومًا أيضًا من ذواتٍ أتمنى لهم وأتوسمُ فيهم سدادَ الرأي وتغليب الحكمة والعقل والتعمّق في فحوى هذه السطور قبل أن يُقدِموا بالحكم عليها وعليّ. فمَن يعرفني جيدًا سوف يفهم ما أعنيه وما أتوق إليه وما أرجوه مثل سائر العقلاء الذين عرفتُهم في مسيرتي ومهنتي وكتاباتي. كلّ التقدير والمحبة للجميع.

37
ملتقى البحرين للحوار، لقاءٌ بين الشرق والغرب
لويس إقليمس
بغداد، في 8 تشرين ثاني 2022
قد لا يشكل التواجد المسيحي في مملكة البحرين، شأنها شأن باقي دول الخليج هذه الأيام، سوى بضع مئاتٍ من المؤمنين من سكان البلاد الأصليين. ولكن إذا ما أُضيفت إليه أعداد الوافدين الأجانب، ولاسيّما من منطقة آسيا، فقد تصل أعدادُهم إلى ما يقارب 250 ألف مسيحي، منهم حوالي 80 ألف كاثوليكي، معظمهم من الوافدين من دول أسيوية من العاملين في مؤسسات ومتاجر المملكة، بحسب بيانات منشورة في بعض الوسائل والمواقع الإعلامية المعتمدة. ولكن الأكيد بحسب التاريخ، أن منطقة الخليج ومنها دولة البحرين كانت تزخر في سالف السنين قبل قدوم الإسلام إليها وانتشاره في شبه الجزيرة العربية، بجماعات تنتمي للمسيحية من قبائل عربية أصيلة حيث كان المذهب النسطوري راسخًا في هذه الأراضي أكثر من غيره. فكان لكنيسة البحرين أساقفة وقساوسة وشمامسة وكنائس عديدة وأديرة زاخرة عبر التاريخ. كما عرفت هذه البلاد وما جاورها من بلدان الخليج نوابغ ومشاهير في اللغة والشعر والزعامة. ففيها عرفت قبائل أصيلة مثل "تميم" و"تيم اللاّت" و"كلب" و"الأشعريون" و"تنوخ" و"ربيعة" و"مضر" و"قيس عيلان" من القحطانيين، و"عبد القيس" ومنها "تغلب" و"عنز" و"النمر بن ساقط" من العدنانيين وغيرهم كثير، كما تذكر بطون الكتب. وأترك الخوض في هذا المجال للمتخصصين لمزيدٍ من التبحّر في الأصول والأنساب. فما يعنينا في هذه المناسبة، شكل الانفتاح القائم في هذه الدولة الخليجية الصغيرة انطلاقًا من قيم التسامح الحاكمة في عموم دول المنطقة والرغبة المفتوحة لقياداتها الشبابية في تعزيز المزيد من قيم التعايش مع غيرها من دول وشعوب وأديان العالم باحترام وقبول متبادلين. فالبحرين تضمّ اليوم 18 كنيسة تمثلُ مختلف الطوائف المسيحية، وآخرُها كنيسة "سيدة العرب" الكاثوليكية التي افتتحت في 2021، وهي تمثل أكبر كنيسة في منطقة الخليج العربي.
في هذا السياق، وعبر الرحلة البابوية الخليجية المثيرة تحت لواء الحوار بين الأديان "الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني"، وتعزيزًا لفرص السلام بين الشعوب والأمم، شهد العالم أروع كرنفال حواريّ متجدّد لتفعيل مفهوم "الإخوة في الإنسانية"، الذي جرى توقيعُه بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر عام 2019 في دولة الإمارات العربية المتحدة. لقد نالت هذه المملكة الصغيرة شرف هذا اللقاء التاريخي الذي سيبقى في ذاكرة مواطنيها وشعوب المنطقة من حولها، دليلاً على سداد الخطى باتجاه الانفتاح والتسامح ونشر أدوات السلام والعون والتضامن بين الشعوب، مهما تعددت وتنوعت أديانُها وقومياتُها وألوانُ بشرتها. فالطريق إلى ملكوت الرب وجنان الخلد التي لا تزول ولا تفنى تبدأ انطلاقًا من قيم الاحترام والتسامح وأشكال التعاضد والتعاون والتضامن بين البشر على الأرض بانتظار مكافأة السماء الحقيقية المنطقية الراقية، ليس بأوقات المتع الحسية مع "الحوريات في الجنان التي تجري من تحتها الأنهار"، كما يطيب للبعض تصوّرها، بل في ملاقاة رب الأكوان باري السماوات والأرض والعناصر وجهًا لوجه وبقلوب صافية وأفكار صالحة وعقولٍ صحيحة غير مريضة لا مجال فيها للبس والخلط والتشويه في الحقائق بين ما في السماء وما على الأرض. فما يزرعه الإنسان من قيم الحياة المتزنة والفلَاح الحسن في الأرض ينالُ جزاءَه في السماء!
    ضمن هذه المفاهيم الصافية في الفكر والعقل والفلسفة واللاّهوت سعى بابا الفاتيكان ومعه أصحاب النوايا الطيبة من زعامات دول ورؤساء وممثلي سائر الأديان في العالم لتعزيز دور الأديان الحقيقي في المجتمعات أملاً في إيجاد أفضل الصيغ للتقارب بين شعوب الأرض وساكنيها وصولاً للتعايش الإنساني المقبول، ولو في أدنى صوره وأدواته، من خلال حثّ الزعامات السياسية والحزبية والمنظمات بأشكالها وتنوّعها كي تعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها. فالزعيم الأفضل والرئيس الأحسن والقائد الفذ هو مَن اصطفَّ مع الشعب وحقوق الفقراء والمعوزين والمظلومين وفي خدمتهم. "مَن أرادَ أن يكون عظيمًا، فليكن لكم خادمًا" (مرقس 10:43). هذا كلام السيد المسيح للحواريين الذين كانوا يتنافسون ويتفكرون فيمن يكون متقدمًا على غيره. وهو ما نحتاجُه اليوم نهجًا جديدًا في ممارسة السلطة، الدينية منها والدنيوية ومنها السياسية أيضًا. فما يشهدُه العالم بسبب مكر الساسة والزعامات التي تبحث عن مصالحها الخاصة والحزبية والفئوية والمذهبية والطائفية كما في عراقنا المريض، بعيدٌ كل البعد عن هذا السياق الإنساني والاجتماعي والأخلاقي. والحق، عندما ينساق العقل البشري الضعيف إلى أشكال الكذب والخداع والنفاق والفساد في الأخلاق وفي وسائل العمل بسلوكٍ معوجّ وخاطئ، لا نتوقع من جرّاء كلّ هذا سوى نتائج سلبية مدمّرة للبشر والحجر والحرث والعرض والفكر والعقل، بل في كلّ المفاهيم والقيم والسلوكيات.
من هنا، سيخطّ التاريخ بمدادٍ من الذهب الخالص الأيام التي أمضاها قادة العالم السياسيّون والدينيّون في ضيافة البحرين وملكها، لتضافَ إلى أمنيات شعوب الأرض وأصحاب النوايا الطيبة بالعمل الجادّ والدؤوب لصيانة الحريّات الدينية وحرية المذاهب وممارسة المعتقدات والعبادات في كلّ بقاع الأرض من دون تهميش أو رفضٍ أو تمييزٍ أو استخفافٍ أو إهانة. فهي الطريق الموصل إلى منع كلّ أشكال العنف والكراهية والحقد التي تثيرها جهاتٌ مدسوسة ومتخمة بأدوات التشدّد والانغلاق التي لا تريد قبول الآخر المختلف وتجعل من ذاتها ومن فكرها ومن أيديولوجيتها ومن فلسفتها الدينية القاصرة المحصورة بين جدران "الأنا" الفظّة سبيلاً ووسيلة لفرض هذه المفاهيم الظلامية على الغير من دون مراعاة عظمة الله الخالق في خليقته التي أرادها حسنةً وجميلة مثل جماله الحسن جلّت قدرتُه! ومن ثمّ فالطعنُ في جمال خليقة الله والتمييز فيها يعني إلغاءً لدور وعظمة هذا الخالق الجبّار، وعدم الاعتراف بجماله وطيبته الكبيرة، وهو القادرُ على كلّ شيء!

بين البابا وشيخ الأزهر تاريخ راسخ من الحوار والاحترام
لقد كان لمشاركة بابا الكنيسة الكاثوليكية التي تُعدّ ما يقرب من 1,3 مليار مؤمن في العالم (من مجموع 2,4 مليار من المسيحيين في العالم بحسب إحصائيات تقريبية أخيرة)، أهميتُها بضرورة تعزيز مفهوم الحوار الإيجابي بين الأديان من خلال نبذ منطق "التعارض والتقاطع" في مفاهيم التعايش بين الشرق والغرب الذي يزيد من هشاشة التوازن بين الأمم والشعوب ويؤدي إلى النزاعات والحروب والاقتتال في أشكال "المواجهة السلبية بين الكتل المتعارضة" التي لا نفع منها. فقد تنبهت هذه الدولة الصغيرة في حجمها والكبيرة في وعيها لحجم المسؤولية الملقاة على عاتق قيادتها. فبحسب مصادر رسمية يرى مسؤولون حكوميون أن لا شيء أفضل من اللجوء إلى قيم الإصلاح في الحكم وفي معالجة التظلّمات وفق منظور المواطنة والعدالة والمساواة لكلّ يشعر بالغبن والظلم في الحقوق المواطنية.
    وهذا هو ذات النهج الذي تسير عليه قيادات العديد من دول الخليج في السنوات الأخيرة بعد انفتاحها على العالم وانتهاجها سبيل التفاهم والتسامح والمحبة وصولاً للسلام الذي يتمناه جميع ذوي الإرادة الصالحة. ففي واحدٍ من لقاءاته في مدرسة القلب الأقدس مع طلبة مدارس وجامعات في اليوم الثالث من زيارته، أشادَ قداستُه بما لمسه في هذا البلد الصغير من استعداد للحوار والتقاءٍ بين مختلف الديانات والثقافات. وهذا مفهومٌ جديدٌ دخل سياسة المنطقة وقياداتها الشابة بفضل الدعوات المتكرّرة من لدن بابوات الفاتيكان والمشايخ المنفتحة الداعية جميعُها للحوار والانفتاح والحداثة في التفسير والتأويل والعيش اليومي وفق الحياة المعاصرة ومتغيراتها المستجدّة ومشاكلها القائمة وصولاً لحالة الاستقرار والسلام والتعايش التي يتمناها الجميع. فالحياة تتطلب من الجميع التماهي الإيجابي مع المستجدّات وتبنّي كلّ ما هو صالح لخير الإنسانية. فهذه الأخيرة بحاجة لكلّ روحٍ جديدة تنبض بالحركة والإبداع والشجاعة ومواجهة النفس عبر اعتناق ما اسماها قداستُه "بثقافة الاهتمام التي تعني التعاطف مع الغير وفهم أفكارهم واهتماماتهم ومشاعرهم". كما أن "تعزيز هذه الثقافة ينعكس بالتالي على تعزيز الأخوّة في المجتمعات". إنه حديث الرجال الحقيقيين والرعاة الصالحين عندما يجري استخدام العقل والروية والفكر الناضج والمنهج الصحيح في قيادة الرعايا بحكمة وعقل مستنيرين وانفتاح مقبول ومتزن وفق متغيرات الحياة الإيجابية ومن دون التضحية بأساسيات الأخلاق الدينية. فالشرع والمعتقد في أية ديانة لا يمكنهما العيش في كواليس التشدّد في الحرفيات والتحجّر في العقليات والانغلاق على الذات لكون هذه لا تبني الإنسان القويم ولا تشهد لحق الخالق في خليقته التي أرادها صورة جميلة وحسنة وطيبة في كل مسالك الحياة القصيرة على الفانية. فيما أدوات التسامح والانفتاح ومفاتيح الرحمة والمحبة التي لا حدود لها كفيلة بخلق مجتمعات إيجابية في سلوكياتها، صحيحة في توجهاتها، وصائبة في خياراتها الإنسانية والاجتماعية بكلّ ما تعنيه هذه من مفردات الخُلق العظيم التي توصي بها جميع الأديان بلا استثناء.
 أمّا اللقاء الذي جمعه يوم الجمعة 4 تشرين ثاني 2002، بشيخ الأزهر أحمد الطيب في ملتقى حوار الأديان، فقد أعاد إلى الأذهان أول لقاء تاريخيّ معاصر ونادرٍ لقائدين لأكبر تجمّعين دينيّين في العالم حينما وقّعا على وثيقة "الأخوّة الإنسانية" في دولة الإمارات العربية المتحدة في 2019. لقد أجمع الجميع منذ أول لقاء للشيخين الوقورين في دولة الإمارات في 2019، على أن سعادة الإنسانية وبقاءها وازدهارَها وتجدّدَها يكمن في تعزيز قيم الأخوّة الإنسانية عبر إبداعات وابتكارات الطيبين من محبي السلام وطالبي الرحمة الإلهية. وهذا ما سعى إلى تعزيزه ملتقى البحرين الأخير للحوار "الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني". بل إن هذه الوثيقة أضحت "أنموذجًا ونهجًا يمثلُ أساسًا للبناء من أجل السلام والوئام والاحترام المتبادل والتسامح بين الناس" كما وصفها شيخ الأزهر، رئيس حكماء المسلمين، داعيًا إلى استثمارها لتحويل حوار الأديان إلى واقع عمليّ لصالح الأرض المتعبة بالفساد والتخريب البيئي والبشرية المعذّبة بسبب طغيان الساسة والزعامات. ومن أجمل ما اقترحه سماحتُه، "حلول الثقافة محل السياسة" في العلاقات الدولية، لما للثقافة من قدرة على فهم الإنسان واستيعاب أبعاده المتعددة جسدًا وروحًا وعقلاً ووجدانًا.
ختمَ بابا الفاتيكان يوم الأحد 6 تشرين ثاني 2022، زيارتَه إلى البحرين التي استمرّت أربعة أيام بالصلاة من أجل الشعوب "المتألمة" في منطقة الشرق الأوسط. وهو يعي ما تعنيه هذه الالتفاتة الأبوية الكريمة عقب تجديده الرغبة الصادقة للكنيسة بتواصل وسائل الحوار بين الإسلام والمسيحية، وبين هاتين الديانتين مع سائر الأديان الأخرى في العالم، وذلك انطلاقًا من الاحترام المتبادل بينها جميعًا. ففي كلّ مناسبة يأتي تجديد هذا المفهوم الإنسانيّ الذي أصبح يشكلُ الدعامة الأساسية لحياة أفضل لشعوب الأرض ومنارًا لقادتها وزعاماتها بضرورة احترام حقوق جميع البشر، مهما كانت عقائدُهم وأديانُهم ومذاهبُهم وحتى "لادينيّةَ" البعض أو "لا أدريتَهم" الناجمة عن عدم مبالاة بالقيم الدينية والمعتقداتية انطلاقًا من إنكار قداسة الأديان وعدم تعبيرها عن حقيقة مطلقة بالنسبة لبعض هؤلاء. فالمنظومة الفكرية لهذه الفئة الأخيرة لا تقبل الإقرار بمرجعية دينية بشرية. وهذا حقٌ مكفول لها انطلاقًا من حرية الفكر والعقيدة، بالرغم من انتقادنا لشكل هذه الفلسفة الرائجة في الغرب هذه السنين.
 أخيرًا، نتوسم خيرًا بعد ختام الملتقى وصولاً لنجاة البشرية التي تعيش هذه الأيام حربًا شرسة بين دولتين جارتين مستقلتين يُخشى إيصال البشرية بسببهما إلى شفير الهاوية نظرًا لشكل التوازن الهشّ الذي تعيشه منطقة الحرب الضروس بين كلّ من روسيا وأوكرانيا. وتبقى وثيقة الأخوّة الإنسانية خير بادرة لخلق أشكال التوازن الإيجابي بين دول العالم للقاء مثمر بين الشرق والغرب بدلاً من التقاطع والتخالف والتناحر والمواجهة. وهي الكفيلة بإيقاف دعم كلّ الحركات الإرهابية وأشكال العنف التي تقوم بها جهات متشدّدة دينيًا ومنغلقة فكريًا ورافضة لأي مختلف عنها في الدّين والإيديولوجا والنهج والمصلحة. فطريق اللقاء والحوار الذي رسمته الوثيقة التاريخية يبقى الخيار الأفضل لأسس الحوار والتقارب من أجل مصلحة البشرية جمعاء!


38
وعود وأحاديث في ذمّة رئيس الحكومة،
هل يتجاهلها السوداني وهو على الكرسي؟
لويس إقليمس
بغداد، في 3 تشرين ثاني 2022
اعتدنا أن يكون صوت المعارضة غيرَ ما سيكون عليه وهي في السلطة. وقد خبرنا هذه الحقيقة في كلّ كابينة وزارية منذ السقوط الآثم بيد الغازي الأمريكي الأحمق. فهذه حال جميع المسؤولين بلا استثناء في هذه الجزئية التنفيذية. فعندما يرتقي المسؤول في الدولة العراقية إلى كرسيّ السلطة، تتغيّر المفاهيم والطروحات لديه، بل وقد تنقلب المعايير والرؤى بدرجة 180 كي يجاري الواقع الجديد ويساير الوضع بالمجاملات وجبر الخواطر من أجل تمشية الأيام بأقلّ الخسائر حفاظًا على المكاسب والامتيازات الجديدة التي تؤمّنها السلطة الحاكمة لمثل هذا المسؤول الذي كان الكرسيُّ حلمَه الأكبر أيام الفقر والعوز والحرمان. ولن يكون استثناءً صاحبُ كرسي رئاسة الحكومة الجديد دولة المهندس "محمد شياع السوداني" الذي قذفه قدرُ أحزاب السلطة التحاصصية التقليدية الفاسدة إلى الموقع التنفيذي الأول في الدولة العراقية بالصيغة التي يعرفها الجميع. عساه يتعظ من سابقيه وينصتُ لمناصريه الناصحين الأصحاء ويخطو خطوات وطنية جادّة نحو إصلاح ما دمّره أسلافُه في كلّ شيء وفي كلّ قطاعٍ من قطاعات الدولة الهشّة، ولاسيّما في أخلاقيات الوطنية والمواطنة التي اختفت وتوارت وزالت من أجندات هؤلاء في التربية والتعليم والاقتصاد والمال والخدمات والصحة والبناء ومعالجة الفقر واتساع مساحات العشوائيات والاستيلاء على عقارات وأملاك الدولة، سواءً بغطاء الدين والمذهب و"عقدة المظلومية" أو بحمايةٍ من زعامات السلطة وأحزابها الانتهازية الولائية غير الوطنية وميليشياتها التي تتصدّر المشهد منذ تشكيل أول حكومة مذهبية طائفية انتقامية!
مَن تابع في سالف السنين والأشهر المنصرمة بعضًا من تصريحات السيد السوداني بشأن الخروقات والأخطاء الكبيرة والكثيرة للحكومات السابقة التي حرص على تشخيصها عندما كان عضوًا في مجلس "نواب الشعب" غير المكترث لمصالح الوطن والشعب أساسًا، فإنّ انبهارَه يبدو عميقًا ومؤثرًا في نفوس سامعيه ومتابعيه والملتفين حولَه لأيّ غرضٍ أو سببٍ. وهذه ميزة حسنة تُحسبُ له وتدوّن في سجلّه وسيرته الذاتية التي قد تشفع له في مهمته الصعبة التي عليه أن يواجهَها، سواءً باللّين والكياسة والسياسة أحيانًا أو باللجوء إلى أنجع الوسائل والسبل التي توصلُه إلى إصلاح المكسور وردم المثلوم ورتق الممزّق في كلّ مناحي الحياة وبأقلّ الخسائر الممكنة، حفاظًا على حياته وسيرته وأخلاقه وإنسانيته أولاً، وتعزيزًا لصوت الوطن وحق المواطن وإنصاف المظلوم وسدّ النقص في أي قطّاع من قطاعات الدولة المتهرّئة ورأب الصدع في أخلاقيات مؤسسات الدولة التي استشرى فيها الفساد وبلغ مراتب متقدمة عالميًا لغاية لصق سمة اللصوصية وسرقات العصر بهذا البلد وبساسته الذين يديرون دفة الحكم "غير الرشيد" بعقلية النهب والسلب والسرقة والهدر بالمال العام وبثرواته وفق نظام "الفرهود المتعارف عليه شيعيًا" وبشتى الوسائل والطرق والأدوات، ومنها أجهزته الأمنية التي أثبتت الوقائع الأخيرة تورط قادة أمنيين وعسكريين كبار في هذه الأعمال الشائنة.
معالجة الفساد
في اعتقاد الكثيرين، تأتي مواضيع معالجة الفساد والشأن الاقتصادي والمالي ومشكلة البطالة وتنويع مصادر تمويل الموازنة وتطوير الصناعة والزراعة والتر بية والتعليم والصحة والخدمات البلدية وما يتعلق بالإعلام والاتصالات وإعادة هيكلة المصارف الحكومية ووضع ضوابط لأداء المصارف الخاصة، ولاسيّما الإسلامية منها ومحلات الصرافة المشبوهة ضمن أولويات الحكومة الجديدة. ويأتي من ضمنها أيضًا إعادة النظر في الاستراتيجيات النقدية والمالية ضمن هذه الأولويات المطلوب دراستها بعناية وباستشارة أرباب النخب الثقافية والاقتصادية والتعليمية الجادة وليس المفروضة من قبل أحزاب السلطة وميليشياتها من أجل تجيير كلّ خطوة لصالحها في سياق منظومة التحاصص وتقاسم المغانم والموارد الريعية التي يسيل لها لعاب هذه الفئات غير المنتمية للوطن في سلوكياتها المشبوهة وبُعدِها عن مصالح الشعب ونأيها عن مآسيه ومظلومياته، بالرغم من تسلقها على أكتاف هذا الأخير في كلّ دورة انتخابية فاشلة فيما يُسمّى بمهزلة الانتخابات الديمقراطية التي صدّرها الغازي الأمريكي وأيده فيها الغرب المنتفع من كلّ هذا وذاك.
وبخصوص الشأن الاقتصادي، وبصورة خاصة ما يتعلّق بمسألة السياسة النقدية، فهذه الأخيرة كما سمعنا من دولة السيد السوداني نفسه بعد لقائه مع إدارة البنك المركزي، أنّ هذا الشأن من اختصاص الجهات المالية والنقدية المعنية، ومنها إدارة البنك المركزي ووزارة المالية. فليس من المعقول تصحيح خطأٍ اقترفته الحكومة السابقة في هذا الشأن بخطأ أكثر ضررًا منه للمواطن البسيط عبر الارتجال وفرض سياسة تغيير سعرية للدولار الأمريكي النافذ بهدف كسب ودّ الشارع المتضرّر أصلاً، ولاسيّما الطبقة الفقيرة والعاملة فيه على قدر حالها. وهذا ما نلاحظه من تذبذبٍ في حركة السوق هذه الأيام منذ أن أدلى بعض الساسة غير المختصين وزعامات سياسية وحزبية منتفعة بدلوهم غير الاختصاصي بهدف التهيئة لشكل التغيير الذي يرومون فرضه على السوق مرة أخرى. ليس بهذه الطريقة تُدار السياسات النقدية للبلدان التي تعتمد أساسًا على مورد النفط الريعي ومنها العراق الذي يعتمد على مردودات بيع نفطه بأكثر من 92% في موازناته. بل بالأحرى، ينبغي على الحكومة الحالية بحسب وعود رئيسها المغمور مذ كان نائبًا ووزيرًا عبر تصريحاته المتكررة في وسائل الإعلام ومداخلاته المنطقية المعتدلة في وسائل التواصل الاجتماعي، أن تركز كل الجهود للاستفادة من الموازنة الانفجارية بعد زيادة أسعار النفط وتوظيفها من أجل إنقاذ اقتصاد البلاد وانتشالها من مافيات الفساد والسرقات الحاصلة في وضح النهار وبعلمٍ ودراية وصمت مطبق من أجهزة الدولة التنفيذية، كما فاحت بها ومنها رائحة الجيفة التي أزكمت الأنوف وتداعت لها الأفكار والإرادات والنوايا واختلطت بمزيج من الصحوة والتشفي والدعاء بالثبور والعقاب ونيل الجزاء العادل من القضاء الذي يخشى الفواجع والكوارث في حالة فتح "سدادات" و"أقفال" واقع الحال التي ما يزال الكثير منها مقفلاً خشية من انتقام الجهات التي تغطي عليها وتسندها وتدعمها وتشاركها تخطيطًا وتنفيذًا وحمايةً.
وكان الله في عون العراق وأهله بعد غياب سمة الانتماء إليه ولحضارته ولثقافاته وتعددية مكوّناته التي غدر بها الزمن الأسود!


39

شيخوخة النظام في العراق
لويس إقليمس
بغداد، في 16 تشرين أول 2022
 عامٌ مضى على ما سُمّي بانتخابات مبكرة ليجد الشعب الذي دُفع للهرولة باتجاهها من أجل إصلاح المكسور، في أتعس ظرفٍ عاشه منذ غزوه وتسليمه فريسة هشة بأيدي ما كانت تُسمّى عبثًا بالمعارضة في الخارج. بل جلُّ ما حصل يتمثلُ بتسليم السلطة إلى جماعات حاقدة دخيلة لا تمتُّ للوطن والمواطنة بصلة طالما كان في أحلامها التربع على الكراسي والنيل من الثروة الريعية والامتيازات التي لا تعدّ، وبما طاب لها في تشريعها وسنّها بهدف شرعنة سرقاتها والسطو على مقدرات البلاد والتنعم بقصورها وعقاراتها على هواها عندما تقاسمت الكعكة بالاتفاق والتوافق والمحاصصة سيئة الصيت. وهي اليوم لا تريد مغادرة هذه السمة التي تدرّ عليها السمن والعسل رغمًا عن أنف الشعب وبكاء الثكالى وصراخ الفقراء وعويل النخب التي لم يعد لها لا حولَ ولا قوة باجتراح معجزة، بالرغم من انحسار زمن اجتراح المعجزات وتواريها عن البشر "المتشيطنين" في كلّ شيء وأيّ شيء! فالأحزاب الماسكة بالسلطة وشخوصُها، هي هي ذاتها التي أتى بها المحتل وصاغَ لها دستورًا أعرج حمايةً وتغطيةً لها ولأفعالها المنكرة ومازال مصرًّا على بقائها وإدامتها وتدويرها من أجل إبقاء التخادم وتبادل المصالح بينها وبين الجارة الشرقية التي سلّمها أمرَ إدارة بلاد الحضارات والثقافات التي تحوّلت إلى بلد للنفايات والترّهات في كلّ شيء وأيّ شيء بالتعاون والتنسيق مع أدواتها الداخلية الولائية في معظمها!
وفي الوقت الذي أدركَ فيه المجتمعُ الدولي مؤخرًا بصورة أكيدة استحالة إصلاح الأمور بأيدي الشلّة الحاكمة، كما ورد في الإحاطة الأخيرة لممثلة الأمين العام للأمم المتحدة "جينين بلاسخارت" التي نشرت الغسيل القذر لساسة البلاد باتهامهم بالعمل ضدّ مصلحة الشعب، حين إعرابها عن قلق المجتمع الدولي ممّا آلت إليه أمور البلاد من انسداد يستدعي القبول بالجلوس على طاولة الحوار من دون شروط، فإنّ دولاً عديدة ومهمّة في مجلس الأمن الدولي ماتزال تتطلّع لإبقاء هذه الوجوه الكالحة حاكمةً للعراق وشعبه البائس وضمن ذات السياق المحاصصي والتوافقي النتن. وكلّ هذا حفاظًا على استمرار مصالحها وديمومة علاقاتها مع نفرٍ فاسدٍ في السلطة لفظه الشعب المسكين. وفي الحقيقة، لم يعُد لهذا الأخير القدرة على إزاحة الوجوه الفاسدة المتاجرة به وبحقوقه وطرحِه خارجًا مثل الزؤان الذي يشوّه وجه الحنطة النظيفة في البيدر. فقد تحوّل ساسة البلاد من دون استثناء إلى "خصومٍ للشعب وليس لخادميه"، بحسب وصفها الدقيق الذي ابدعت فيه لأول مرة، بعد أن أدركت "خلسة وحياءً وحفظًا لماء الوجه" فقدان الثقة بين الشعب والأحزاب الفاشلة الفاسدة المتسلطة على رقابه منذ السقوط في 2003. وهذا ممّا زاد من وصفها للفساد المستشري في مؤسسات الدولة وكواليسها وتحوّله لسمة يومية عامة في "الاقتصاد السياسي"، ما جعله سببًا رئيسيًا في الاختلال الوظيفي وفي التعامل اليومي على حساب الرؤية الوطنية وصدقية المواطنة. وهذا يكفي لفضح المنظومة السياسية كاملةً في وصف حالة الانسداد وما آلت إليه شؤون البلاد والعباد وفقدان الخجل وانحسار الحياء ورفض انسحاب الوجوه السياسية الفاشلة واللصوصية من المشهد السياسي. بل والأشد وقعًا على النخب والخيار الوطني المأمول، إصرار هذه الشلّة الفاسدة بالبقاء في السلطة وإبقاء أذرعها وأدواتها ناشطة بفعل سطوتها على مقدرات البلاد وتمسكها بها بكلّ ما لديها من أدوات وقدرات ووسائل، داخلية وخارجية أعلنتها بعبارة "ما ننطيها!".
يبدو للمتابع والمراقب، أن "بلاسخارت"، وقبل انتهاء تخويلها وتمثيلها للمنظمة الدولية في العراق، تسعى للاحتفاظ بماء الوجه ولو قليلاً عبر تعريتها للمنظومة السياسية. ولكنها هيهات! فأسلوب المجاملات والمهادنة والتغزّل مع شخوص الساسة وزعامات السلطة وقادة الميليشيات ومَن يدعمها في الداخل وعبر الحدود ضمن زياراتها المكوكية طيلة فترة بقائها في موقعها، لم ولن ينطلي على أيّ عراقي متابع للأحداث والوقائع بالرغم من معايشتها لما حدث لثوار تشرين وهي تجوب ساحة الحرية على ظهر "التك تك" مبتسمة خجلاً أم مكرًا أم فرحًا. وهذا ما دأبت عليه معظم ممثليات دول أخرى تدّعي الديمقراطية وتدعو للحوار "الماكر" بين خصوم السياسة المتنافسين لأجل إدامة مصالحهم الحزبية والفئوية والطائفية والشخصية والقومية من دون استثناء. فعنْ أيّ حوار تدافع هذه الدول الماكرة وتدفع ساسة البلاد الذين اعترف الجميع بفشلهم وسوء إدارتهم وفسادهم حتى النخاع؟ وعن أيّ شكلٍ من المصالحة يتحدث البعض بعد أن "فسد الملحُ بالكامل ولم يعد يصلح لأية طبخة ممكنة" من أجل الإصلاح الجذري الذي يتطلب وجوهًا جديدة وقيمًا أصيلة غابت عن سياسة مَن أتى بهم المحتل الأمريكي على ظهور دباباته أو خلفهم أو ما بعد الأحداث المأساوية لنيل ما أُعدّ له من كعكة البلاد الطازجة بغطاءٍ الراعي الأمريكي وإدارة المشرف الفارسي الذي جعلَ العراق محافظة ذليلة تابعة لنظامه وتحت غطائه وحراسته؟ أمّا الدماء التشرينية الزكية التي سالت آنذاك بسبب الانتفاضة الوطنية والتي حاولت أحزابٌ مشبوهة ركوب موجتها، فقد سعت جهاتٌ حزبية في السلطة وشخوصٌ مخادعة إسدال الستار عليها ونسيانها بل واتهامها بالعمالة والجوكرية وارتياد السفارات من دون حياء ولا خشية من خالق السماء والأرض الذي أرخى حبالَه على هذه الجماعات وأطالَ صبرَه عليها، ولا نعرفُ ما ينتظره بعد كلّ الذي صار وحصل!
ألم يدركُ هذا الخالقُ الجبار العنيد العادل بعدُ شيخوخةَ النظام وخرفَه وانتهاء صلاحيته وضرورة رميه "خارج المحلّة" لعدم انتصاحه ولانتفاء الحاجة إليه؟

 أيّ إصلاح بعد خراب الضمير
عندما يتجاهل النظام، أيّ نظام حاكم، لاحتياجات مواطنيه، فإنّه يفقد شرعيته ولم يعد له أيُّ نفعٍ للبلاد والعباد. وهذا مدعاة واضحة لتحوّل شكل مثل هذا النظام إلى عصابات أو أيّ شكلٍ من أشكال المافيا التي تتحكم بشؤون البلاد وسط عجز الدولة ومؤسساتها في السيطرة على شكل هذه الخروقات والأخطاء اليومية بل الخطايا الكبرى وغيرها من أدوات الفساد المستشرية. هنا تكون الحكومة وشخوصُها مشارِكة في شكل هذا الفساد وإدامته بسبب شكل هذا العجز وعدم قدرتها على إدارة الوطن بما يرضي الله والضمير الذي غاب عن الساسة وأحزابهم وزعاماتهم وكلّ مَن تسربلَ ومازالَ يتسربلُ بحكمهم الفاسد. فالسكوت عن الفساد وفي معالجته ومكافحته والحدّ منه إنْ لم يكن القضاء عليه نهائيًا، يعني التشارك في الزلّة وفي الخطأ وفي الخروقات وفي السرقة وفي اللصوصية وفي تبييض الأموال وما إليها وفيها من أشكال الفساد الظاهر المعلَن المكشوف منه والمخفي المُضمَر المدفون. وهذا ما كشفته "بلاسخارت" بكونه فسادًا ضاربًا في أخلاقيات السياسة والذي لن ينتصح ويصلحَ إلاّ بتغيير جذريّ فاعلٍ للمنظومة السياسية بأكملها.
اليوم وبعد نجاح الإطار التنسيقي في تمرير مرشَحَي الرئاسة بالطريقة التي عرفها الجميع والتي لم تتغيّر عن سابقاتها في شراء الذمم وتقديم التنازلات وعقد الصفقات وإدارة المساومات بطرق شيطانية تديمُ بقاء الامتيازات والمكاسب، قد يتطلع الشعب لحقبة مختلفة في إدارة الدولة بحسب ما ورد من التزامات المرشح المكلَف برئاسة الحكومة والذي عُرف عنه شكلٌ مختلف في مواجهة الأخطاء وانتقاد الفاسدين في مؤسسات الدولة. ويمكن للمتتبع لتصريحاته السابقة وهو نائب في البرلمان أن ينتظر تنفيذه لوعوده بمحاربة الفساد عبر تشكيل حكومة قوية تحفظ هيبة البلاد وتصون سيادة العراق وتضع حدودًا لأشكال الانفلات القائم وانتشار السلاح خارج الدولة. وهذه من الأساسيات التي ينتظرها عموم الشعب من أجل بدء أولى سمات الإصلاح الحقيقي الجذري في مؤسسات الدولة المتهرّئة، ماعدا مَن اعتاد الرهان على صفقات خارج الكواليس وإبقاء ذات الوسيلة في الأداء الحكومي عبر استمرار سطوة مافيات السلطة وزعاماتها وأدواتها على قرار رئيس الوزراء العتيد وتدخلها في أداء مهامه وتهديدها إياه ومَن يقف إلى جانبه من تشكيلة حكومته المقبلة بالثبور والتهلكة والإزاحة، تمامًا كما حصلَ مع سابقيه من الذين وعدوا وهدّدوا وعربدوا بالتسويف ليس إلاّ!
إننا نعتقد أن أية صفحة جديدة تنوي الحكومة المقبلة فتحها في طريق الإصلاح الجذري، لا بدّ أن تنطلق من الوازع الوطني والأخلاقي الذي ركنه السابقون جانبًا للأسباب التي يعرفها الجميع بحكم الولائية لدول الجوار وأشكال التواطؤ أمام أية محاولة أو مساعٍ لتغيير نمط الإدارة الحاكمة. وهذا ما يؤكد فشل جميع مَن تولى إدارة الحكومات السابقة في الرئاسات الأربع بسبب نظام التحاصص والتوافق والتشاركية التي جرت ضمن سياسة تقاسم السلطة وتغطية جهة على غيرها في شكل صفقات ومساومات وامتيازات بحسب قدرة هذه الجهة أو تلك لفرض شكل هذه الامتيازات وطريقة اقتناصها وإدامتها. وقد أثبتت الوقائع الأخيرة وما برز على الساحة السياسية بعد استقالة وزير المالية "علي علاّوي" شكل ذلك الانحدار الأخلاقي في سطوة جهات سياسية بواجهات تجارية واقتصادية على مبالغ ضخمة من خلال تواطؤ جهات رسمية وموظفين فاسدين في وزارات، ومنها وزارة المالية التي تقف اليوم أمام فضيحة كبرى لسرقة ثلاثة ترليون وسبعمائة وواحد مليار وثلاثمائة وثمانين مليون وثمانمائة واثنان وثمانين ألف دينار عبر صكوك لصالح خمس شركات تمكنت من سحب هذه المبالغ المودعة اماناتٍ لصالح هيأة الضرائب في فرع مصرف الرافدين بوزارة المالية نفسها. وهنا تقف الجهات التي تدّعي مكافحة الفساد بمواجهة شرسة مع القضاء الذي لم يثبت لغاية الساعة صدقيته ووطنيته وحياده الإيجابي إزاء مثل هذه التجاوزات والسرقات واللصوصيات التي أخذت أشكالاً فاضحة وعلنية في وضح النهار.
فهل سيفي المكلّفُ الجديد مثار الجدال بإدارة دفة البلاد السياسية والاقتصادية والخدمية بروحٍ وطنية ومن دون تحيّز ولا خوف ولا خجل بما آلَ على نفسه بتصدّيه لأشكال الفساد ووضع القطار المتعثّر للبلاد على السكّة الصحيحة استعادةً لهيبته ودوره التاريخي والحضاري وصَونًا لسيادته المستباحة من دول الجوار؟ أم إنّ عبارة "سوف" وحرف "س" سيتكرّران في سجله الخطابي بعد مرور ايامٍ وأسابيع وأشهر على تولّيه السلطة وتمتعه بحلاوة الكرسي الجميل، كما فعلها مَن سبقه ومرّرَها أيامَ الجلوس عليه حفاظًا على متعة الامتيازات وصخب الحمايات ولمعان الجكسارات وطيب الموائد الشهية ومتعة السفرات المريحات هنا وهناك؟ وما لم يكن المكلَّف الجديد المحسوب على جناح إدامة التحاصص وتقاسم الكعكة صقرًا كاسرًا من صقور الإصلاح والتغيير الجذري، فلن يستطيع تغيير ما في قومٍ، وفي مقدمتهم من أتباع قومه ومذهبه وطائفته وكتلته، من فسادٍ مستشرٍ ونوايا خبيثة وإرادات صاخبة مليئة زورًا وبهتانًا ونفاقًا. الكلّ يدعو ويصرخ وينبح بضرورة محاسبة الفاسدين، وكأنّ جماعة الفساد والفاسدين أشباحٌ أو أقوامٌ غريبة أتتنا من الفضاء الخارجي وغير قابلة المسك بها وإيقاف نزيف ما تقوم به من جرائم ومخالفات واعتداءات وخطايا كبيرة بحق الوطن والشعب!   
أمّا المطالب المشروعة فمازالت وطنية ولا تتعدّى الخدمات الآدمية ولو في أدنى مستوياتها في أقلّ تقدير، وتوفير فرص العمل للعاطلين لسدّ عوزهم اليومي، وتنمية البلاد عبر مشاريع منتجة وإيجابية، وتشجيع عودة أنشطة القطاع الخاص بكلّ قدراتها وصولاً للاكتفاء الذاتي كما كنّا في عهود الزمن الجميل، وتنويع الاقتصاد الوطني بتشجيع العمل خارج مؤسسات الدولة الحكومية عبر سنّ قوانين عادلة تضمن حقوق العامل في سائر القطاعات بهدف تقليل الضغط على القطاع الحكومي، والتفكير بصندوق سيادي يحمي حقوق الأجيال المحرومة من عيش سمة مؤسسات الدولة أو تلك التي لم ترى النور بعد، وتحقيق مبادئ العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بعيدًا عن التمييز في التوظيف وتولّي المناصب لفئة أو طائفة أو جماعة دون  أخرى كما حصل ومازال يحصل في عهد الحكومات الطائفية والمذهبية ما بعد السقوط، ومحاسبة الفاسدين وسرّاق المال العام وهدر أموال الدولة بمكرمات غير شرعية ولا مشروعة ولا عادلة لصالح فئة دون غيرها، وعودة المهجرين والنازحين قسرًا إلى مناطق سكنهم الأصلية التي حاولت جهات طائفية ومذهبية الاستيلاء عليها وإزاحتها بشتى الطرق والوسائل الترهيبية والتخويفية والتهديدية، ووضع حد للسلاح المنفلت الذي يفرض سطوة مَن يقف وراءَه من ميليشيات ومافيات أثرت واغتنت وتميّزت على حساب الوطن والشعب، وغيرها كثير.
إنها إذن، مسألة ثقة، في انتظار عودتها بين الشعب والسلطة الحاكمة. فهل سيُلدغ المواطن الغلبان من جحره مرة أخرى؟ أم سيعود لرشده ويتصدّى للحشرات الضارة التي ضربت بيئة العراق الأصيلة ويعمل على إزاحة وإزالة أشكال الأدغال التي دخلت البيدر الوطني الصافي بكلّ تلاوينه ومكوّناته وتعددية مواطنيه. أما يكفيه ما طاله من أذى ومصائب وكوارث طيلة تسعة عشر عامًا ومن لدغات قاتلة لأسباب خائبة وبمبرراتٍ هزيلة بحجة تعويض المظلومية التي لا نهاية لحكايتها لأهل المذهب الحاكم وشركائه ومن على شاكلتهم من الغارفين من ثروات البلد من دون حسيب ولا رقيب ولا قناعة ولا رضا؟ فالشيخ إذا أصابه الخرف أو اعتراه المرض تولاّه فتيةُ مؤمنة بحبّ الأهل والدار، أمينة على الميراث، وصادقة في الوعد والعهد كي لا تضيع النعمة ولا تفقد البركة. ومن المؤكد أن المنظومة السياسية برمتها قد أصابها الخرف وضربها المرض وهي اليوم في طور الموت السريري لحين نهضة قريبة لفتية مؤمنين بحب الوطن وقادرين على تغيير واقع الحال المزري إلى فعلٍ إيجابيّ منتجٍ صحيح وبقيمٍ مجتمعية صالحة أصيلة كما في أيام الزمن الجميل حيث الأنَفة والغيرة والضمبر سيدة المواقف والأحوال والصفات.
إنّ غدًا لناظره قريب!


40
زمن المدرسة بين الأمس واليوم
لويس إقليمس
بغداد، في 5 أيلول 2022
لعلَّ من أحلى الذكريات التي تبقى في ذاكرة الإنسان، دخوله عتبة المدرسة لأول مرة في حياته أو يوم عودته إلى مقاعد الدراسة بعد قضاء عطلته الصيفية بين الراحة والضجر بحسب ظروف كلّ واحد. وهذا ينطبق على عموم الأطفال، ذكورًا وإناثًا في خطواتهم التربوية والتعليمية بدءً من الحضانة ورياض الأطفال والابتدائية، مرورًا بالمتوسطة والإعدادية والثانوية، وبلوغًا للدراسات الجامعية والعليا لمَن حالفه الحظ أن يكمل هذا التعليم الهامّ الذي يرسم الملامح الأساسية لمستقبل الشخص واهتماماته وانخراطه في المجتمع وضجيجه. 
بطبيعة الحال، ليس سهلاً على بعض الأهل والوالدين خصوصًا فراقُ أطفالهم وهم صغارًا في أولى خطواتهم التعليمية حيث يرافقهم شيءٌ من القلق والخوف لفترة زمنية حتى يتكيّف الطفل مع المحيط الجديد الذي سيوفرُ له، في الأحوال الطبيعية طبعًا، أجواءً مختلفة من الراحة والطمأنينة والرعاية التي تكفلها الدولة عادة أو المؤسسات الأهلية الخاصة التي تتسابق وتتنافس لتقديم الأفضل والأحدث في الرعاية والخدمة والتربية والتعليم، والأهمّ في النصح والأخلاق وكيفية التعامل الصحيح مع المجتمع والمؤسسة باعتبار هذه حقولاً جديدة تتضمن معطيات وعوامل ومحرّكات تبني أولى مراحل بناء الشخصية على قاعدة أمينة ورصينة وطيبة تكفلها قوانين الدولة المتحضرة التي تعرف جيدًا واجباتها تجاه مواطنيها من دون منّة ولا فضل ولا مزايدة. فالدولة التي توفر أفضل تعليم وتقدّم أحسن تربية لمواطنيها هي التي تفوز بتقدّم أبنائها وتُسعَدُ بتطوّر علومهم وبمساهماتهم اللاحقة في إكمال بناء مؤسساتها وتعزيز أسسها وجعلها في مصاف الدول المتقدمة والمتحضرة في كلّ شيء. وهذا بعكس غيرها من أشباه الدول التي لا يعنيها مصير مواطنيها، سواءً انخرطوا في مؤسسات تربوية وتعليمية أم انسلخوا عنها وتسربوا منها بحجج عديدة، وما أكثرها في مجتمعنا العراقي. فهذا مصير الجهل والتخلّف الذي يعززها شكل النظام التعليمي والسياسيّ في أية دولة أو منطقة لا يعني لها التعليم والتربية شيئًا أساسيًا لبناء الإنسان وتعزيز قدراته وتهيئته لتولّي مسؤولية بناء بلده على أسس صحيحة وعلمية تضمن له حياةً مستقرة وهانئة له ولبلده ولمواطنيه. وما المناظر المقززة التي نشهدها في الشوارع والتقاطعات وفي الأسواق العامة وأمام أبواب المؤسسات الدينية والمدنية سوى مظاهر سلبية من أشكال الإهمال والتغاضي واللامبالاة من جهات تربوية وحكومية مسؤولة ساهمت وتساهم في شكل التردّي المخيف في نظام التعليم والتربية وفي التسرّب الخطير وغير الطبيعي لأطفال وفتيان من الجنسين باستسهال النزول للشارع والتسكع بين السيارات وفي وسط الجموع.
هنا يصحّ القول، أنه من المؤسف عدم تواصل الحملات التي تطلقها جهات معنية للحدّ من شكل هذه المظاهر السلبية بسبب عودتها ثانية بعد فترة نشطة قصيرة من تبنيها بسبب ضعف الوعي وقصور السيطرة عليها من الجهات التنفيذية وتغاضي الدولة عن مرافقة مواطنيها وقصور اهتمامها وتشجيعهم وتأهيلهم لدخول المؤسسات التربوية والتعليمية التي تمنحهم الحق في التعلّم وتكوين الذات وصنع المستقبل الآمِن. ومهما كانت الأعذار والحجج بالنزول إلى الشارع من أجل إعالة أهل الدار أو كسب الرزق والقوت اليومي أو ما شاكلها، إلاّ أنّ هذه جميعًا ليست مبرّرًا منطقيًا للتسرّب من المدارس وترك مقاعد الدراسة ونهل العلوم والآداب. فنتائجُها ومخرجاتُها كارثية للأجيال القادمة ولمستقبل الدولة على السواء، ما سيثقلُ كاهل هذه الأخيرة في كيفية رسم السياسات ووضع الخطط والبرامج التي تساهم في بنائها وتطورها وتقدمها وتنميتها نحو الأفضل. ومن منظور اقتصادي بحت، ستكون الخسارة أضعافَ ما ينبغي على مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والمدنية الساندة ان تُنفقها في تعزيز دور التربية والتعليم ليكون متاحًا للجميع وإلزاميًا بكلّ الوسائل الممكنة. ألم يردْ في جواب المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بأن "تكلفة الجهل غالية" حينما سُئلت عن سرّ اهتمامها بقطاع التربية والتعليم؟ هذا ردّ العقلاء والحريصين على الأوطان وشعوبهم!

المدرسة خيرُ مكانٍ لبناء الشخصية
مع عودة ملايين التلامذة إلى مدارسهم هذه الأيام، وانخراط أطفالٍ جدد في دور الحضانة والرياض والصفوف الأولى، لا بدّ من توفير أبسط أشكال الدعم والاستعداد الكامل لاستقبال هذه الحشود العاشقة للعلم والمعرفة والنظام في معظمها، إلاّ مَنْ أعمتهم أشكالُ الجهل والتخلّف والتيمّن بشتى المظاهر السلبية والأعراف العشائرية وأشكال الشعائر الطائفية المتخلفة والمتزمتة غير المنتجة التي تؤمّن وتديم وتحثُّ على سمة البقاء ضمن هذه الأشكال المدمّرة للمجتمعات والأمم. ومع قناعة الجميع بكون المدرسة المكان الأمثل للتعلم والتربية وبناء الذات والانفتاح على مقوّمات أساسية جديدة في حياة الإنسان، لكونها البديل التوأم المتلازم لحياة البيت الأسري، فإنها تضيف له ميزات أخرى غاية في الأهمية توفرها له أشكال العلاقات التي ينسجها مع رفاقه وأصدقائه طيلة فترة ملازمته لمراحل التعليم وصولاً للبلوغ في الفكر والعلم والرؤية والتقييم والتقويم في شؤون الحياة الخاصة والعامة. وهذا من أبسط حقوق أي مواطن في أيّ بلدٍ أو بقعة، ولا ينبغي حرمانه منها مهما تعددت الأسباب أو تعقدت الأمور. فهذه البيئة الجديدة المختلفة عن بيئة الأسرة تسمح له باكتشاف عالمٍ جديد يضيفُ شيئًا لتربيته المنزلية بعد تعوّده الاعتماد على والديه وأفراد أسرته ضمن أسوار البيت المغلقة على مداركه وسلوكياته وحرياته. كما يضمن له أيضًا، حرية أفضل في اقتحام بعض الخصوصيات لنفرٍ من أصدقائه والمعنيّين بتربيته وتعليمه وتنشئته الاجتماعية المطلوبة مع تقدمه في تعلّم مفردات جديدة في اللغة والتخاطب والسلوك الصحيح. بل إنّه جزءٌ مهمٌّ من أفضال التعليم على الطفل كي ينمو وينشأ في بيئة صحيحة تقدّمُ له أفضل السبل والتوجيهات والنصائح وخبرات الحياة للتمتع بحياة اجتماعية إيجابية هادئة وطبيعية، إضافة للتزوّد بمختلف العلوم والآداب الأساسية الضرورية التي تمهّدُ له سبلَ شقّ الحياة بإرادة وتطوير قابلياته في التفاعل مع مصاعبها وإشكالياتها، ومن ثمّ في رسم خياراته المستقبلية وطريقة عيشه وفق مداركه وتقدمه في سلّم العلوم والعلاقات.
ليس خافيًا أيضًأ، ما تعنيه سمة الاستقلالية لدى الطفل أو التلميذ الذي يرتاد المؤسسات التعليمية خارج المنزل من أهمية في صقل شخصيته وبنائها وفق أسسٍ سليمة عبر اعتماده أكثر فأكثر على قدراته الذاتية شيئًا فشيئًا ومن ثمّ تطبيق هذا التفاعل وسط المجتمع. وهذه السمة سيكون لها دوافع كثيرة للمضيّ في طريق العلم والنهل منه قدر المستطاع إذا ترافق الدعم الأسري مع ما تقدمه المدرسة أو المؤسسة التعليمية من معلومات وعلوم وأشكال السلوك الحسن في عيش الحياة اليومية بطريقة إيجابية منتجة منذ بداية المشوار. فالطفل يبدأ بالشعور بهذه الاستقلالية بدءً من تركيزه على أنواع الملابس والحاجات والأدوات التي يستمتع باقتنائها والتباهي بها أمام زملائه وأصدقائه كلّما كبرَ ونما وأصبح قادرًا على تلبية حاجاته الأساسية. كما تظهر هذه العلامات في شكل الطعام الذي يفضلُه ويسعى لشرائه أو التزود به من البيت أو الحانوت الذي يحب ارتياده لإظهار مدى استقلاليته وتكابره. وإن حصلَ هذا، فهو يعني نجاح المؤسسة التعليمية في تلقين الطفل ما يؤهلُه لقيادة نفسه بنفسه بعيدًا عن أهله لطموحه الكبير بالتمتع بشكلٍ أوسع بالاستقلالية في تقرير ما يحب وما يكره. وهذه بادرة إيجابية بل خطوة مهمة بحدّ ذاتها إذا حصلت بإشراف المؤسسة التعليمية وبالتعاون مع الأسرة والمشرفين الاجتماعيين الاختصاصيين والوالدين حصرًا. كما تظهر عليه علامات إيجابية أخرى في سلوكه في المنزل الأبوي عندما يسعى لإرضاء والديه أو أحد أفراد الأسرة. فتراه ينبري لتنفيذ ما يُطلبُ منه أو يعملُ على تفعيل بديهته في تقديم الخدمة حتى في حالة عدم الطلب منه ذلك.

أيام الزمن الجميل
لعلَّ من أجمل ما يتذكره الطالب في بداية مشواره المدرسي، انتظامُه في الدوام وأسلوب الانضباط الذي تمارسه إدارة المؤسسة التعليمية، أيًّ كان صنفُها. فقد اعتدنا في المرحلة الابتدائية في سنوات الزمن الجميل الانتظامَ الحسَن في الساحة الكبرى للمدرسة والمشاركة في فعاليات صباحية من ترديد أناشيد وطنية وإلقاء قصائد محفوظة عن ظهر القلب دليلاً على استيعاب الطالب مادته الدراسية وتفوقَه فيها. وما أطيب الدقائق التي تنتظر صاحب الفعالية بتلقّي تصفيق الحضور. كما لا يمكن نسيان حفلة رفع العلم كلّ يوم خميس بحضور إدارة المدرسة وجميع كوادرها والتوجيهات السديدة والمملّة أحيانًا للمدير أو المعاون الذي ينوب عنه في أوقات غيرها. فتلك اللحظات كانت تسودُها في الكثير من الأحيان لحظاتُ ترقّب وخوف من استدعاء تلميذٍ أخفق مثلاً في دروسه أو ارتكب خطأً في حقّ والديه أو معلّميه أو زملائه. فالعصا التي كان يحملُها المدير الشديد في تعامله في بعض المدارس كانت السيف البتّار في إنزال شكل العقوبة الجسدية في أحيانٍ كثيرة. أما السيرُ بنسق جميل "اثنين إثنين" بعد الانتهاء من الفعاليات الصباحية من الساحة الرئيسية إلى الصفوف والجلوس في المكان الذي خصصه مرشد الصف لكلّ تلميذ، فهذا كان من أفضل ما يجذب الأنظار في إشاعة النظام والانضباط في السلوك. كما كان لدور المرشد أهميتُه في تشجيع التلاميذ على الاجتهاد بخلقه أدوات الغيرة وسطهم باختيار المجتهد (الشاطر) فيهم فارسًا للصف. وأتذكر أنّني نلت هذه الصفة والتكريم مرارًا كثيرة في سنواتي الأولى بفضل تقنيات التعلّم والحرص الكبير من معلّمي الزمن الجميل في إفادة تلامذتهم من خبراتهم وعصارات جهودهم. وإنّي لهم لشاكرٌ تلك الأفضال التي على ضوئها وبفضلها حصلتُ على مَلَكة الكتابة وإجادة الحوار والبحث عن الأفضل!
وهكذا، مع توالي الأيام والأشهر والسنين، تبدأ علاقات الزمالة والصداقة تتعزّز بين الطلبة. وفي حين تنتهي العديد من هذه العلاقات المدرسية التي تم نسجُها أثناء المرحلة الدراسية، نرى في الطرف الآخر ديمومة بعضها وتطورها إلى صداقات خاصة وعلاقات حميمية يعمّقها الاهتمام المشترك في المهنة والمصير لاحقًا وفي التواصل باكتساب خبرات وتحقيق إنجازات بفضل المعرفة المستقاة أيام الدراسة الأساسية وما بعدها من تخصّص في المجال والاهتمام. لذا لا غرابة أن يجمع الزمنُ زملاء وأصدقاء الأمس في تحدٍّ أو تنافس في أي نشاطٍ متميّز. فهذا من سمات الاستفادة من دهاليز المؤسسات التعليمية الأساسية وأروقتها وممراتها المكشوفة والسرّية التي أتقن البعضُ أسرارَها واستفاد منها في فترة تلقيه العلم والمعرفة في سابق الأيام. وكلنا نعلم جيدًا ما تعنيه هذه الأروقة والكواليس، لاسيّما في سنوات الدراسة المتقدمة، والجامعية منها بشكلٍ أدقّ!
وتبقى ذكرياتُ المعلّم الأول في الأذهان لتنسحب لاحقًا على أداء الطالب ومدى تقدمه في السلّم المعرفي وتحقيقه النجاح المطلوب في حياته العملية، إلاّ مَن لم يحالفه الحظ في إتمام المشوار لأية أسبابٍ. وما أكثرها وأسخفها في أحيانٍ كثيرة! فالمشاكل عندما تحصل وتقف حائلاً بين طالب العلم وطموحه سيكون لها آثارُها السلبية في حياته المستقبلية وفي شكل مصيره. لكن، تبقى مسألة الحقّ في تلقي العلوم والمعارف الأساسية هي السمة الغالبة على البشر كي ترسم له الخطوات الضرورية لبناء شخصيته والتفاعل مع ظروف الحياة، كلّ بحسب استعداده وطاقته. أمّا الجهة التي تتحمّل العبء الأكبر والمسؤولية الأعظم في تأمين الأجواء السليمة والبيئة الصحية للدراسة من مدارس وأبنية وكوادر وتخصيصات مالية داعمة للعملية التربوية والتعليمية، فهي الدولة وبشكلٍ أخصّ الحكومات التي تتولى إدارة البلاد ورسم الخطط والبرامج والاستراتيجيات التي تساهم في بناء البلد وترفده بالعناصر البشرية المدججة بالعلم والمعارف وأنواع الحرف والمهن الوسطية التي تدعم مختلف الأنشطة اليومية حسب طبيعتها والحاجة منها في الظرف والمكان المناسبين. فالحكومات التي تحسنُ إدارةَ دور المعرفة ومؤسسات التعليم المتنوعة كفيلة بتحقيق مستلزمات التنمية وتنشيط الصناعة والزراعة ورفد الاقتصاد القومي بكلّ أشكال الدعم الضروري لبناء دولة قوية تحترمُ مواطنيها وتحرصُ على مواردها المادية والبشرية لبلوغ الاكتفاء الذاتي في الاستهلاك اليومي وقدرٍ وافرٍ من الرفاهة قدر المستطاع. ولا أفضل من هذا الإنجاز!



41
الشعبُ يبقى الفاعل الأكبر، ثائرًا ورابحًا
لويس إقليمس
بغداد، في 17 أيلول 2022
بعيدًا عن القوى السياسية المنتفعة من شاكلة المحاصصة وسياسة تقاسم المغانم والتغطية المتبادلة فيما بينها على المثالب السياسية والاقتصادية للبلاد، يبقى الأمرُ متعلّقًا بفاعلية الشعب وقدرته على فضح شكل هذه السلبيات في كلّ خطوة من ثورته الإصلاحية القادمة غير محسوبة النتائج، تمامًا كما نتوقعها "ثورة الزنج" ضدّ الجوع والعطش واللصوصية وإفراغ البلاد من متطلبات السيادة الباقية والهيبة المخترقة في أعلى الأشكال، كما شهدناها في قلائل الأيام خلال الزيارة الأربعينية من خروقات لملايين البشر الزاحفة من الجارة الشرقية ودول مشبوهة النوايا من دون رقيب ولا حسيبٍ ولا سائلٍ ولا مدافع. بل، كلّ هذا يحصل بمسمع ومرأىٍ من شبه مؤسسات الدولة وساسة الصدفة غير المهتمين أصلاً بمصلحة البلد وسيادته وأمنه واستقلاله. فأرض العراق أضحت سائبة منذ غزوه وترويعه وتسليمه لقمة سائغة بيد أعدائه للتخلّص من أية آثارٍ سيادية وقدرات مادية وبشرية اتسم بها عبر تاريخه المشرّف ضدّ كلّ مَن سوّلت له نفسُه كي ينتقص من هيبته ودوره داخليًا وإقليميًا ودوليًا. وسيبقى العراق ذلك الطودَ الشامخ الذي يعانق رحاب الأعالي بعد زوال الغمّة وانقشاع غيوم الحقد والضغينة والحسد عنه وعن شعوبه ومجتمعاته التعددية المتعايشة منذ القدم في ظلّ مواطنة مشتركة وتآخي لا مثيل له أراد به الأعداء انفراط عقد هذا العهد الوطني الملحمي الذي زعزعه الغزو الأمريكي وعزّزته الأطماع الشرقية التقليدية منذ فجر الخليقة.
ما يجري اليوم من مناورات لإبقاء سياسة المحاصصة ضمن منهاج وخانة أحزاب السلطة يدخل ضمن الجهود الطامعة لإبقاء العراق ذليلاً ضعيفًا خافتَ الصوت والصورة والفعل كي لا تنهضَ له قائمة. ومن الواضح جدّا أنّ محاولة أحزاب السلطة التي اعترفت بفشلها الذريع في إدارة البلاد مرارًا وتكرارًا، تدوير أدواتها ضمن ذات الحلقة المفرغة لإدامة هذا الزخم والطموح السلبي في التشبث بالسلطة بأية وسيلة وأداة، تأتي ضمن هذا السعي الحثيث لإكسابها الشرعية في إكمال مشوار تدمير ما تبقى منها. فعندما يتحدث المنتفعون عن الشرعية الدستورية، فهم على دراية وافية بما خطّتهُ أياديهم في دستور البلاد الناقص العاجز الأعرج حينما تم تفصيلُه على مقاساتهم ووفق أجنداتهم لتأمين شكليات التوازن والتشارك والتحاصص في مقاسمة الكعكة التي اعترف بها الجميع من دون خشية ولا حياء.
من هنا، يكمنُ الخطأ في انتظار الخلاص من هذه الجماعات البعيدة عن سمة الوطنية التي لا تؤمنُ أساسًا بحقوق المواطنة العادلة والمساواة في الحقوق والواجبات، ولاسيّما عندما تتعلّق هذه بجماعات هشّة أقلّ منها عددًا وكتلة بشرية استبعدتها أحزاب مثلث السلطة الحاكم من المشاركة في تقرير المصير وفي القرار الوطني بحصر المناصب العليا المصيرية والدرجات الخاصة في أيدي هذا المثلث الغارق في الفساد في كلّ شيء، بحيث أصبح لديه التوسّم بهذا الأخير قاعدة وتفاخرًا وتكابرًا، فيما العدل والمساواة ونظافة اليد والنزاهة والاستحقاق والجدارة باتت ضمن معايير الضعف والهشاشة وقلّة الحيلة وزيادة في الحياء والخجل وسط المجتمع. وضمن ذات الجانب وفي ذات الجنبة السلبية، ليس من الحكمة التعكّز على قوى خارجية ساهمت بطريقة أو بأخرى في هلاك العراق وتفقير شعبه وحرمانه من ثرواته وتركه عاجزًا في تحقيق سيادته والحفاظ على هيبته وضمان استقلاله، حاله حال شعوب المنطقة والعالم. فمَن يتعكّزُ على الغرب الماكر أو على أمريكا مستعمرة الشعوب وقاتلة البشر ومدمّرة الحجر واهمٌ وخائبٌ. بل إنّ أيةَ إدارة أمريكية قائمة في أيّ زمن أو عصر، لن يكون ضمن مشاريعها وبرامجها القبول بمنح الحرية الصحيحة للعراق وشعبه خاصةً، طالما أن مصالحَها لم تتحقق بعد ضمن استراتيجيتها السياسية والاقتصادية العليا. أمّا شكل الديمقراطية التي صدّرتها لنا، فهي على علمٍ بأنها ذرّ الرماد في العيون وهي لن تفلح في تغيير العقليات وسدّ الثغرات وردم المستنقعات الاجتماعية والدينية والطائفية والمذهبية التي افتعلتها وعزّزتها في سياستها الخاطئة عمدًا ومع سبق الإصرار. من هنا، فالخلاص الصادق الحقيقي لن يكون إلاّ عراقيًا من الداخل وبيد الشعب الثائر الذي نترقب ثورته قريبًا جدًا! ومَن يدعي الدفاع عن العراق وأهله في الإعلام ووسائل الدعاية المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي من غير أهل العراق الأصلاء، لا مصداقية في مسعاه أو ادّعائه. فهذه حالُ مَن يدّعي الدفاع عن الجماعات الهشّة أو ما تُسمى ب"الأقليات" مصطلحًا دوليًا غير موفّق سواءً بسواء. وفي حقيقة الحال، فإنّ مثل هذه الدعايات والادّعاءات لا تعدو كونها ذرًّا للرماد في العيون ودفقاتٍ من التخدير الدولي لكسب ودّها وأمان ثورتها وإرجاء هيجانها ما شاءت الأقدار والإرادات والنوايا.

تفاؤل بثورة إصلاحية شاملة
لستُ هنا بصدد إشاعة مفهوم التشاؤم من واقع الحال وما قد يخطر على بال الخائبين من أمثالي من أي تغيير جذريّ مرتقب قادم، كما يتوقعه الكثيرون في ضوء الأيام الحبلى بالمفاجآت المنتظرة القادمة. بل جلّ ما يسعى إليه أمثالي من محبي الوطن والمتمسكين بجلابيبه وأرضه وحضارته وثقافته أن يتعزّز السلم الأهلي وتعود الألفة والمحبة والمشاركة وأشكال التكافل الصحيحة بين أبنائه الأصلاء بعيدًا عن أشكال الزؤان والأدغال التي زرعها الغازي الأمريكي ومَن استقدمَه لضرب إرادة العراقيين وكسر شوكة البلاد بأيادي معادية تقليديًا من أجل بقائه أسير هذا العداء التاريخي للنوايا التي لم تعد خافية على الجميع. فالصورة أضحت واضحة، وقد أدرك جميع اللاعبين أدوارهم المرسومة وينتظرون اللاّحق القريب القادم بعودة الصحوة العراقية الوطنية إلى أهله الأصلاء من أجل إعادة البناء في البشر والحجر وأشكال التنمية وعودة ماكنة الإنتاج إلى حالتها الطبيعية، شأنُها في ذلك شأن سائر الأمم والشعوب والدول التي تعرفُ قدر نفسها وتستغلّ قدراتها من أجل رفاهة شعوبها وتنمية مواردها وتعزيز اقتصادها بكل الأساليب الحديثة المتيسرة من دون معوّقات.
والسؤال هنا، كيف سيكون شكل هذا القادم، ومَن سيكون له قصب السبق في تولّيه وإدارته وتوجيهه؟ عساه خيرًا عميمًا على الجميع ووبالاً قاتلاً ماحقًا ضاربًا على كلّ مَن اصطف مع اليد الغازية ومدّ لها العون وفرشَ لها الورود نثرًا حين قدومها وفرش عبثِها وظلمِها وقسوتها واستخفافها بشعب الرافدين. لقد أدخلنا الغازي الأمريكي في المحظور، وآن الأوان للتخلّص من أشكال العبودية التي حصرنا فيها بتواطؤٍ من أركان السلطة الفاسدة وأحزابها التي تصرّ على عدم تركها وتسليمها بعد أن تمسكت بها بأسنانها وأياديها وأرجلها، والأكثر بسلاحها المنفلت الذي حوّلها إلى دولة عميقة صعبة النجاة منها. فالعبارة المتداولة "ما ننطيها" لها دلالات عميقة في مضمونها، وليس لها من تفسير سوى إدامة سطوة جماعة مذهبية هشّة الفكر والرؤية والإدارة تشعر بالمظلومية الدائمة على مصيرها وأحوالها بهدف إدامة حكمها وتوالي نهبها للمال العام والنفوذ والجاه رغمًا عن أنف باقي الجماعات التي لها ذات الحقوق المواطنية في السلطة والثروة والإدارة. وهذا ما يؤكّد حكمَ القوي على الضعيف. وإلى ذلك المصير، ننتظر القادم الغامض، لعلَّ فيه بريق أمل بالخلاص من الشلّة الجاثمة على الصدور.
إنّ الخوف من ثورة الإصلاح القادمة، قدرتُها على اكتساح الأخضر واليابس من دون تمحيص ولا تدقيق في النافع من الضار، وفي الخير من الشرّ. فعندما يتحدث أصحاب الشأن أو من خارجه عن شكل الإصلاح وأدواته، فذلك عن حسرةٍ ويأسٍ مرةً، وعن أملٍ ورجاءٍ في غيرها. وما بين هذه وتلك، يسود اعتقاد بأنّ كلَّ شيءٍ ممكن إذا تناخت السواعد وتعانقت الإرادات وحسنت النوايا. وهذا ما ننتظرُه من نضوج في الفكر والرؤية المستقبلية للبلد كي يشمل الإصلاح كلَّ فواصل الدولة، وفي أولها وقبل أي شيء، عقلَ المواطن العراقي وتفكيره وبنيته ونظرتَه للحياة والسياسة والاقتصاد والخدمات عبر مشاريع بنّاءة جادةّ وصحيحة وليس وهمية كما سادت في زمن ساسة الصدفة والحكم المذهبي والطائفي بعد 2003.
كلّ هذا وذاك، لا يمكن أن يؤمّنَه سوى دستور مدني وطني عادل غير ديني ولا مذهبي ولا طائفي يمنح حقوقًا لجميع مواطنيه بالتساوي والعدل والإنصاف من دون تمييز ولا تفرقة ولا خشية من أحد. وما سيعزّزُ هذا التوجه الصحيح نحو دولة مدنية متحضرة، وجود عقدٍ جديد بين أبناء الوطن الواحد بعد فرز الزؤان والأدغال والدخلاء عنه من خلال عدم السماح بمَن أوصلوا البلاد إلى شفير الهاوية والإفلاس والتراجع في كلّ قطاعات الحياة من المشاركة في كتابة هذه الوثيقة المصيرية التي تضمن صعود شخصية وطنية كارزمية قادرة على إدارة البلاد تحت جناحيها وضمّ الجميع تحت كنف دولة مدنية متحضرة تنعم بالأمان والسلام والرفاهة. فالتجربة الديمقراطية البرلمانية بعد أن أثبتت فشلها الذريع، لا بدّ من تركها خلف الأسوار وعدم الرجوع إليها بواقعها المزري الراهن. فهي الدليل الواضح على تأمين تقاسم المغانم بين الفرقاء السياسيين منذ السقوط ولغاية الساعة بعيدًا عن مصالح الوطن والشعب. وعلى القوى السياسية الناهضة القادمة أن تجيد إدارة الدولة بين حاكمٍ صادق شجاعٍ نزيه ووطني وبين معارضة حقيقية ناضجة تسعى لتقويم وتقييم العملية السياسية وفق منهاج واستراتيجية ودراسة وخطط لأجل الأفضل والأحسن وليس من أجل المناكفة والمعارضة والمناهضة أو لأجل المشاكسة فحسب. ومهما حصل، لا يمكن القبول بعدُ بما أوحى به المحتلّ الأمريكي من تطبيق نظام التوافق والتحاصص وتقاسم المصالح بين الفرقاء السياسيين لكونه السبب في جميع المصائب والمشاكل والأزمات المستفحلة. فجلُّها كانت بسببه وبتحريضٍ ووحيٍ وإدامةٍ منه كي تبقى الأحوال كما هي. وهذه آخرها التي نشهدُ آثارَها المدمّرة ونترجى الإفاقة من كوابيسها بأقلّ الخسائر.
ولا مجال بعد لخيانة الأمانة!


42
دول الخليج في ميزان المنظور الأميركي
لويس إقليمس
بغداد، في 30 أيلول 2022
تمكنت دول الخليج على مساحة العقود الأخيرة من الألفية الثانية خاصةً ولغاية اليوم، وبما تمتلكه من مقدّرات هائلة من الثروات المادية المعتمدة أساسًا على مصادر الطاقة ولاسيّما النفطية والغازية منها، من استقطاب أنظار العالم صوبَها وجعلها من أكثر المناطق حركة وتفاعلاً في مجال التنمية بأشكالها المالية والاقتصادية والصناعية والزراعية والبشرية. كما استطاعت هذه الدول مجتمعة وفق رؤيتها المبنية على الانفتاح الكامل على العالم الخارجي كسبَ الرهان باستغلال هذه الموارد الوطنية لتنامي سبل الاستثمار وتنويع فرصه عبر مشاريع تنموية ضخمة بارزة طبعت سياستها طيلة هذه الحقبة الزمنية. وهي ما تزال سائرة في ذات الطريق وذات السياسة لتلبية حاجة أسواقها الداخلية وصولاً للعالمية، وتعزيز قدراتها بمشاريع جديدة مبتكرة في أحيانٍ كثيرة ضمن منافسة شديدة، سواءً في استقطاب رؤوس أموال أجنبية داخل أراضيها أو في استثمار ثرواتها وتقوية صناعاتها النفطية والغازية إلى جانب غيرها من الصناعات التحويلية والزراعية والإنتاجية بالتوازي مع التطور الذي تشهده التكنلوجيا العالمية ووسائل التقدم الأخرى الموازية لها في دول العالم المتقدم. 
ليس من شك في كون الجزء الأكبر من تحقيق هذه النجاحات المتتالية عبر هذه السنين جميعًا، يعود للحرص الكبير لدى قادتها في الانتقال ببلدانهم إلى برّ الأمان وعبور عتبة التنمية والتقدم بنجاح، بفضل القدرات الشبابية التي تدير دفة إدارة دولهم بعقل منفتح وإرادة راجحة وذلك بالاستفادة من جميع الخبرات والنصائح والاستشارات التي رافقت جهودهم في سبيل تعزيز قدرات بلدانهم وتنميتها بالشكل الصحيح وصولاً إلى تحقيق الأهداف الوطنية العليا من أجل تقدّم مواطنيهم ورفاهتهم وسعادتهم. وقد يقول قائل باستبدادية زعامات عموم دول الخليج حيال مواطنيهم وفي أسلوب حكمهم المشيخي والأميري القائم حاليًا. لكنّ الأهمّ يكمن بوجود فكر ورؤية وهدف من خلف الزعامة والإدارة والحكم مستعدة للتعامل مع المتغيرات وفق منهج استراتيجي إبداعي يخضع للفحص والتركيز والقرار لما هو أفضل لبلدانهم ومستقبل شعوبهم. فمَن سارَ في دربه هاديًا مستهديًا لا جُناحَ عليه ولا هُم يحزنون. وكلّما سارت الدولة في طريق الانفتاح والتعلّم من خبرات ونجاحات غيرها، كانت خطواتُها أكثر أمانًا وأفضلَ إنتاجًا وأحسنَ عملاً.
هنا تكمن الكفاءة في رصد القدرات البشرية الإبداعية أكثر من غيرها عندما تتفاعل الإدارات الكفؤة والمؤهلة مع الأفكار المتنورة التي تفتح آذانَها للإنصات وتبادل الخبرات من أجل تحقيق التقدم التنموي الذي تنتظرُه البلاد من زعاماتها في مجال التنويع الاقتصادي وتعزيز القدرات لمواجهة متطلبات التنمية المستدامة المتنامية. ومثل هذه الجهود ظاهرة على الملأ عبر مشاريع ضخمة وأموال هائلة يتم ضخّها في سبيل تسيير شكل هذه التنمية، إلى جانب رؤية مستقبلية تعي حاجة الأجيال القادمة وتؤمّنُ لها جزءً من متطلبات حياتها في المستقبل عبر صناديق الثروة السيادية تحسبًا لأية إشكاليات في تردّي سوق الطاقة وهبوط أسعارها أو بسبب نفاذ هذه الموارد في يومٍ من الأيام. وهذا ليس ببعيد بحسب حسابات الخبراء ومعطيات واقع الاحتياطي لكلّ بلد والبيانات التي يحتفظ بها لنفسه ومستقبله. كما يدخل صراع المصالح ضمن هذه الرؤية في تأمين الاحتياطي اللازم من الموارد المتنوعة عندما تسوء الأمور وفق الظروف الزمانية والمكانية. ففي الوقت الذي تبدو فيه دول الخليج العربي سائرة في استراتيجيتها التنموية لصالح تعزيز قدراتها الذاتية وفق أحدث أشكال التكنلوجيا المتاحة، تقابلها في الكفة الأخرى تحديات إقليمية ودولية قد تشكلُ عائقًا بوجهها، بل وقد تكونُ جدارَ صدٍّ أمام خططها التنموية الواسعة. ومن هذه التحديات ما تجابههُ من منافسة شرسة من غريمها الإقليمي المتمثل بالتوسع الفارسي الطائفي الجارف على حساب الأصول العربية بعدوانية واضحة من خلال محاولة شقّ الصف العربي عبر أدواتٍ زرعها النظام الإيراني وسط البيت العربي الكبير. وهذا ما أتاح لهذا الأخير بالتفرّد بالسلطة أو التدخل السافر في سياسات ومصائر عددٍ من دول المنطقة مثل العراق ولبنان واليمن وسوريا مقابل التغاضي الواضح من جانب الإدارة الأمريكية، وبالذات الإدارات الديمقراطية المتعاقبة التي أعطت إشارات الرضا والقبول بمثل هذه السلوكيات الطائشة بحيث طبعت موجة التشيّع الهائجة بمساحته الحالية في المنطقة بموافقة ضمنية من جانب زعامات الحزب الديمقراطي في أميركا في السنوات الأخيرة.

دول الخليج قبلة العالم
هناك بالتأكيد، مَن لا يعجبه ما حققته دول الخليج من قفزات نوعية في معيشة شعوبها وتقدمها بالتوازي مع تطور اقتصادها وأدوات هذا الأخير الصناعية والزراعية والتحويلية، إلى جانب تعزيز مواردها النفطية والغازية التي استخدمتها أفضل استخدام لخدمة أشكال التنمية وأدواتها وأهدافها. مقابل كل هذا، هناك مَن يرى أن تحقيق كلّ هذه الإنجازات وهذا التقدم والتطور جعل دول الخليج العربي في مرمى الحساد وأهل الغيرة غير الشريفة بالتنبّؤ بتعريضها لمخاطر قد تشعل فيها نيران الأعداء في أية لحظة. هذا طبعًا، في حالة تقاعس الراعي الأمريكي وتخلّيه عن حمايته الأمنية لأصدقائه من دول المنطقة بطريقته التقليدية. وقد يكون شيءٌ من هذه المخاوف والهواجس قائمة وصحيحة، لاسيّما بفعل ما بدرَ من الإدارات الديمقراطية المتعاقبة من انتقادات لاذعة حيال بعض الزعامات الخليجية التي وصلت إلى مراحل التهديد والقذف والانتقاد اللاذع بسبب سلوكيات رأت فيها هذه الإدارات انتهاكاتٍ صريحة للوائح حقوق الإنسان، كما حصل مع السعودية في حادثة مقتل الإعلامي المعروف جمال خاشقجي مثلاً. وكذلك بما يحاكيها من حوادث ضربت عددًا من الأمراء في الإمارات العربية المتحدة في السنوات الأخيرة لأسباب لا مجال لسردها. وهذا بطبيعة الحال، يدخل ضمن ذريعة مخالفات هذه الأعمال لحقوق الإنسان. فهناك دومًا مَن يرقص على أنغام مثل هذه الحوادث التي قد نشهدُ وقوعَ ما هو أبشَعُ منها حتى في الدول الأكثر ديمقراطية، كالولايات المتحدة والغرب الأوربي المتقدم. فما يحصل في مثل هذه الدول من فضائع وشنائع يندى لها جبين الإنسانية أيضًا، مثلُها مثل ما تشهده دول الخليج وسائر دول العالم. وبلادنُا نحن أيضًا لا تخلو من أمثال هذه الجرائم والفظائع.
لكنّ المؤكد أنّ منطقة الخليج أضحت قبلة للعديد من دول العالم في استقطاب رجال الأعمال والاستثمارات الضخمة بسبب البيئة الاستثمارية المرنة التي توفرها للباحثين عن فرص عمل ناجحة من الذين يجدون في قوانينها وفي التسهيلات التي تقدمها إداراتُ دولها خيرَ فرصٍ للعمل الصحيح من أجل تحقيق النجاحات المتوخاة. وما نشهدُه حاليًا بعد أزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها في إحداث نقص حادّ وخطير في إمدادات النفط والغاز، قد زادَ من أهميتها بالقبول بديلاً لأية إمدادات تقليدية. فقد اتجهت الأنظار صوب بعض دول الخليج الغنية بالنفط والغاز ساعية لتحقيق عقودٍ مربحة من أجل سدّ حاجتها وتلافي النقص الحاصل، خاصة في إمدادات الغاز. وخير مثال على مثل هذا التوجه ما توصل إليه المستشار الألماني "أولاف شولتز" مؤخرًا مع دولة قطر خلال زيارته الأخيرة قبل أيام لتزويد بلاده بدفعة أولى من الغاز القطري المسال تفاديًا لأي نقص حاد قد يواجه البلاد. وقد تتبعها دفعات لاحقة بحسب مصادر مقربة من الطرفين. وهذا إن دلَّ على شيء، فإنّما يدلُّ على متانة وقدرة دولة قطر على تلبية احتياجات الغرب الأوربي من هذه المادة الضرورية لاستمرار ماكينة الصناعة الأوربية وتلبية احتياجات شعوبها منها لاسيّما وأنّ شتاءً قارسًا على الأبواب ينتظرها.
 هناك حقيقة لا يمكن نكرانُها، وهي تتعلق بالرؤية الخليجية إزاء الواقع الجديد الذي فرضته جائحة كورونا ومن بعدها مباشرة الأزمة الأوكرانية-الروسية وما خلّفته من تداعيات ماتزال ماثلة لغاية الساعة. فالتحوّل الحاصل خلال السنوات الأخيرة في نوعية وشكل إدارة بعض بلدان الخليج المهمة على الصعيد الإقليمي والدولي، ومنها بطبيعة الحال وعلى رأسها كلٌّ من السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة وعُمان بصفة رئيسية، قد منحتها القدرة على حسن التفاوض وفرض أجندتها ورؤيتها على الواقع السياسي في المنطقة والعالم. ومن الواضح أنّ الزعامات الشابة لهذه الدول قد أيقنت أنها لم تعد تثق بسيادة الولايات المتحدة في إدارة دفة العالم كدولة قطب واحد بسبب اهتزاز موقعها الدولي وتتالي ضعفها في المشهد السياسي القائم بعد تغوّل الدب الروسي وتنامي التنين الصيني وتمرّدهما على سياساتها المشبوهة. بل بات ينظر البعض إليها بمثابة الرجل المريض الآيل إلى الانهيار في أية لحظة بسبب السياسات الخاطئة التي اتبعتها إداراتُها ولاسيّما الديمقراطية منها التي سعت لقلب موازين القوى لصالح إيران الفارسية على حساب عموم دول الوطن العربي من أجل إضعاف عروبته وتحويله إلى تابع للمنافس الفارسي منذ بداية الألفية الثالثة. فقد اتضح بما لا يقبل الشك في ظل إدارة " باراك أوباما حسين" ووزيرة خارجيته مثيرة الجدل "هيلاري كلينتون" صاحبة مشروع تعزيز وتنامي الدور الإيراني في المنطقة والصعود الدراماتيكي للإخوان المتحالف مع هذه الأخيرة، أنّ أميركا تسعى من ضمن سياستها إلى إضعاف دور دول الخليج وتقييد قدراتها والسعي لخلق أزمة سياسية وطائفية بين السنّة والشيعة في المنطقة من خلال الانتصار للطائفة الأخيرة بحجة المظلومية الدائمة وتوجيه الاتهامات الجاهزة بحصول انتهاكات سنّية ضدّ فئات شيعية في بعض بلدان الخليج. وهذه كذبة أجادت تسويقها الوزيرة الأمريكية ورئيسُها آنذاك من دون أن تنطلي على قادة دول المنطقة والعالم بعد اتضاح حقيقة موقف الإدارة الديمقراطية والتسريبات التي ظهرت عبر وثائق سريّة فاضحة أفرجت عنها الإدارة الأمريكية ووزارة الخارجية نفسها مؤخرًا. بل إنّ بعض زعامات دول خليجية مغمورة راحت أبعد من ذلك في تندّرها بالرئيس الديمقراطي الحالي الذي تولى منصب نائب الرئيس في دورتين متتاليتين آنذاك بسبب مواقفه الدولية والداخلية المتذبذبة إزاء العديد من مواضيع الساعة.
ما يمكن قولُه في المحصلة، أنّ الزعامات الخليجية الشابة قد أثبتت قدراتها في حسن إدارة دفّة حكم شعوبها وتنمية بلدانها وتعزيز قدراتها في العديد من المجالات، لاسيّما الاقتصادية منها والإنتاجية والصناعية والزراعية لغاية الاكتفاء الذاتي إلى جانب تطوير قدراتها التسليحية والدفاعية تحسبًا لأية طوارئ أو أحداث غير متوقعة. فمنطقة الخليج تشهد اليوم لمرحلة متقدمة في سائر المجالات التي شكّلت مظهرها السياسي والاقتصادي مقارنة بما مضى. وهي صاحبة المبادرة لرصد الفراغ الذي تركته الإدارة الأمريكية عمدًا في المنطقة بعد تخلّيها عن التزاماتها إزاء العراق في أعقاب انسحابها غير المبررّ منه بتلك الطريقة الماكرة تاركة الأمر بيد الجارة الشرقية وبإشارةٍ منها لتولي إدارته بالوكالة عنها إلى ما شاء القدر. وهذا مّما ولّدَ شيئًا من الخشية والريبة والخوف من هذه الحركة التي نظرَ إليها البعض كونها ضربة وطعنة في الظهر لحلفاء الأمس من دول الخليج. لكنْ بالرغم من هذا كلّه، فإنّ واقع الأحداث يشير إلى بقاء منطقة الخليج صمّام أمانٍ لدول العالم في إمدادات الطاقة التي تتمتع بها دولُها العربية أكثر من غيرها. بل إنّ أية جهة دولية، مهما كانت قوتُها حتى لو كانت بحجم الولايات المتحدة، تسعى لخلط الأوراق والحثّ على تشكيل تحالفٍ جديد معارض أو جبهة منافسة طائفيًا في المنطقة لتتنافسَ مع أية خطوة خليجية موحدة الرأي والرؤية، سوف لن يُكتب لها النجاح لانعدام الثقة بالراعي السياسي الدولي التقليدي الذي أرادَ فرض نفسه موزِّعًا للأدوار السياسية سواءً في المنطقة أو في غيرها من دول العالم. فهناك اليوم لاعبون دوليون قد فرضوا روزنامتهم وفق تشكيلات وتحالفات جديدة دخلت فيها إسرائيل لاعبًا مهمًّا ومؤثرًا في حظيرة التطبيع والعلاقات. ومن ثمّ لم يعد بمقدور الراعي التقليدي الدولي أن يفرض أجندَته كما كان يفعل في سابق السنين والأيام. وهذا ما ينبغي أن يعيه الجميع. فأمريكا لم تعد اللاعب الوحيد الأكبر بعد صعود نجم دول أخرى مثل الصين والهند وتركيا إلى جانب الغريم الروسي التقليدي العنيد بسبب تقاطع المصالح وأشكال المنافسة والمناورة فيها. وما على الزعامات الخليجية الشابة إلاّ أن تستمرّ بالارتقاء بمستوى إداراتها لشؤون بلدانها ومواطنيها بالدرجة الأساس وفق منظور صحيح ومقبول يقرّ بالحريات العامة ويؤمنُ بدروب الديمقراطية والحريات العامة، ولو في أدناها، في قيادة شعوبهم نحو برّ الأمان والاستقرار والسلام لهم ولشعوب المنطقة. حينذاك يكون الخليج قد حقق الطموحات في دوله وشعوبه، فكرًا وحجرًا وبشرًا.

43
خطة الطوارئ الغربية لمواجهة أزمة الغذاء والطاقة
لويس إقليمس
بغداد، في 4 تموز 2022
بسبب القفزات غير الاعتيادية والاضطرابات في أهمّ القطاعات الحيوية في مجالات الصناعة والزراعة والاقتصاد والمال، وما يرافقها من أزمات قاهرة وقاسية في أحيان كثيرة، لا بدّ من البحث عن وسائل تحدّد وتتبنى معايير لتشكيل وتأهيل عمل الشركات بمرونة تتوازى مع القدرات الفعلية والكامنة لأي بلد. فالأزمة الخانقة التي يتعرّض لها العالم أجمع من جرّاء سعير الحرب الروسية ضدّ جارتها أوكرانيا للأسباب التي نعرفها جميعًا، قد أتاحت للبلدان الواعية والحريصة على ديمومة اقتصاد بلادها وتنمية مواردها أن تأخذ في الحسبان جميع الترتيبات الضرورية لمحاولة حصر تأثيرها وعدم امتداد الأزمة إلى مديات يصعب السيطرة عليها بالوسائل التقليدية التي لم تعد فاعلة. ولعلّ من حصيلة هذه الحرب الضروس ما تعرّض له الأمن الغذائي من وراء مشكلة النقص القائم في توريد مصادر الطاقة من النفط والغاز الروسي، ولاسيّما الأخير الذي تعتمد عليه الماكنة الغربية في تسيير صناعتها وإدامة إنتاجها وتنمية اقتصادها. وقبل أيام قلائل فقط، صادقت المفوضية الأوربية على خطة أعضائها للصمود بوجه هذه الأزمة التي قد تطول مع إصرار الطرف الروسي على تحقيق انتصار على غريمه الأوكراني بأية وسيلة حتى تحقيق أهدافه من الحرب المدمّرة التي وجد حلف الناتو نفسه مشاركًا بطريقة غير مباشرة بصيغة تمويل الطرف الآخر بشتى أنواع الأسلحة منعًا لامتداد طموح الدب الروسي نحو بلدانٍ غير الضحية الحالية.
ولعلّ من بين القرارات التي صدرت عن المفوضية الأوربية بهذا الصدد، إتاحة الفرصة أمام الشركات المتضرّرة والأفراد بتقديم طلباتها للحصول على مساعدات طارئة بسبب النقص في إمدادات الغاز والكهرباء وفي الغذاء اعتبارًا من 4 تموز الجاري، بحسب بيان عن دوائر المفوضية. من حيث المبدأ، سوف يأخذ القرار في نظر الحسبان أيضًا حاجة الشركات التي التزمت بالقوانين الصادرة عن المفوضية الأوربية وليس الأفراد فسحب، بهدف دعم القدرات التنافسية لهذه الشركات وتجنب توقف الإنتاج الأساسي في المواقع التي تستهلك معظم الغاز والكهرباء. وفي فرنسا ذهب مصدر مسؤول في وزارة المالية إلى إمكانية أن تصل هذه المساعدة الطارئة إلى 50 مليون يورو للشركات التي تتعامل مع 26 قطاعًا صناعيًا، بما في ذلك صناعة الصلب وتصنيع بعض المعادن والزجاجيات والمطاط والبتروكيمياويات ومواد صناعة الورق وغيرها من الأساسيات. من جهتها، رأت بعض الشركات الفرنسية في شروط الاستفادة من هذه الحزمة من المساعدات بكونها معقدة في بعض تفاصيلها، حيث يترتبُ على الشركات المؤهَلة لمثل هذه المساعدة أن تكون قد قامت فعلاً بشراء مادتي الغاز والكهرباء بما لا يقل عن 3٪ من مبيعاتها السنوية في عام 2021، وتبيان تضرّرها بزيادة إنفاق مضاعفة في سعر الغاز طيلة فترة التأهيل للفترة بين آذار لغاية أيار2022 من جهة، وللفترة من حزيران لغاية آب 2022 من ناحية أخرى بالمقارنة مع متوسط الأسعار في 2021. فاعتماد تقديم قيمة هذا الدعم يخضعُ لمستوى الخسائر التشغيلية التي واجهتها مثل هذه الشركات في عملها. فيما رأى بعض أرباب العمل أنّ مثل هذه الإجراءات والمعايير لا تتناسب مع الادّعاء بفكرة الدعم المقررة من طرف واحد من دون استشارتهم. من جهتها، قدّمت وزارة الزراعة الفرنسية أيضًا، حزمة مساعدات مهمة بقيمة تصل إلى 150 مليون يورو لتغطية مساهمات الضمان الاجتماعي للصادرات الزراعية والصيد وفقًا لخطة الصمود العامة من أجل تخفيف التضخم الحاصل بسبب الحرب في أوكرانيا أيضًا. وقد تم فعليًا إطلاق الدفعة الأولى من هذه المساعدات في المجال الزراعي بقيمة 300 مليون يورو في أواخر أيار من العام الجاري دعمًا لمربي الأسماك، على سبيل المثال لا الحصر.

درسٌ بليغٌ للاستفادة
قد يبدو للناظر والمراقب تناظرًا معينًا في الخطة التي اتخذتها الحكومة العراقية في قانون الأمن الغذائي والتنمية الطارئ في قبة البرلمان بسبب الفشل في تقرير موازنة البلاد للعام الجاري. لكن الأمر يختلف تمامًا في سياسته واستراتيجيته وأهدافه ومفرداته. فخطة عموم دول المفوضية الأوربية ترمي لتقديم مساعدات حقيقية وليس مشبوهة في المجالين الزراعي والاقتصادي بتعدد أشكالهما وألوانهما، ناهيك عن المجال الاجتماعي وفق منهج حكومي استراتيجي لمعالجة أزمة راهنة غير معهودة كما نفهم من المضمون. وبحسب تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه، فإنّ خطة الحكومة الفرنسية مثلاً، تستهدف جميع مواطني البلد من دون تمييز، سواءً بصفة الأفراد أو أصحاب الشركات، لكون الخطة شاملة في مواجهة نتائج الحرب المشتعلة بالقرب من حدود أوربا التي زادت مخاوفُها وهواجسها من طموحات زعيم الكرملين. وعندما حدّد ماكرون أهمّ قطاعين قابلين للتأثير بسبب هذه الحرب، أي الصناعة والزراعة، فلكونهما عمادَ اقتصاد أيّ بلدٍ مثل فرنسا، سواءً في استيراد ما تحتاجه البلاد من البلدين المتحاربين من مواد ولاسيّما مفردات الطاقة، أو في تصدير الإنتاج الوطني لكليهما بالمقابل. وقد دخلت بعض هذه الإجراءات حيزّ التنفيذ في مواجهة الاضطرابات غير المعهودة التي شهدتها فرنسا، ومثلُها أوربا في عمومها، في استجابةٍ مباشرة للتطورات بسبب الاضطراب الحاصل في الشأن الاقتصادي والزيادة الطارئة في الأسعار في كلّ شيء بسبب نقص الطاقة نتيجة للحرب القائمة في القارة. وهذا ممّا استلزم من حكومة فرنسا بالتشاور مع نظيراتها الأوربية وأمريكا في حلف الناتو اتخاذ القرار الجريء بانتهاج سياسة استراتيجية مستقلة ضمن حدود الاتحاد الأوربي وتقليل الاعتماد على مصادر خارجية للطاقة، ومنها الغاز الروسي الذي اتخذه الرئيس بوتين سلاحًا ضدّ أوربا وعموم الغرب بسبب مساندتها وتمويلها الحرب في أوكرانيا ضدّ بلده. وهذا هو "ثمن السلام والحرية والديمقراطية"، كما يقول ماكرون، ما يتطلبُ قراراتٍ جريئة من أجل حماية الديمقراطية وتعزيز الحريات العامة حفظًا لمصلحة الأجيال ومصيرهم ومستقبلهم.
حبذا لو استفادت الحكومة العراقية والمعنيون بمعالجة أوضاع الشعب المضطربة بسبب الأزمة العالمية للغذاء ونقص الوظائف، من حزمة المعالجات الغربية الواقعية هذه، وذلك بوضع المبالغ المستقطعة من الوفرة المالية في مكانها ومواقع الحاجة إليها فعليًا، وليس بمنح جزءٍ منها مكرماتٍ لأحزاب السلطة مقابل موافقتها على تمرير القانون الطارئ للأمن الغذائي والتنمية. فالأول واضح في هدفه بتعزيز مفردات البطاقة التموينية لقوت الشعب وديمومتها بحصة شهرية متواصلة. والثاني يتعلق بمشاريع لها مساس بحاجة الشعب ومنها الطاقة بالذهاب لبناء محطات كهربائية أشبه بتلك التي بنتها الشركة العالمية الألمانية سيمنس وعطّلتها الحكومات الفاشلة المتعاقبة بأمرٍ من الإدارة الأمريكية. وكذلك الذهاب للاهتمام بأزمة المياه المتفاقمة وشحتها وما تسببت به من تصحّر ونزوح لأهالي المناطق المتضررة أكثر من غيرها. وهذا يتطلب أيضًا التخلّص من البيروقراطية في عمل مؤسسات الدولة وقسطًا من الشجاعة في القرار والفعل والتحرك الدولي والإقليمي بالتوازي مع الاستعجال بالتفاهم مع الدولتين الجارتين واتخاذ ما يلزم من إجراءات رادعة فعّالة مقابل سلوكهما غير الأخلاقي المخالف للجيرة ولأعراف الدولية. فالعقوبات الاقتصادية يكون تأثيرها كبيرًا عندما تتوفر النيات وتحضر الإرادات وليس بالخنوع والخضوع للأجنبي لأسباب تتجلى فيها المصالح الفئوية والخاصة، تمامًا كما تُظهر ضعفَ الجهة المتضررة ورزالتها في مواجهة العنجهية والسطوة والهيمنة على القرار الوطني. ناهيك عن موضوع المضي قدمًا في مشاريع لها أهمية كبيرة لمصلحة البلاد وتنميتها، ومنها مشروع الفاو الكبير وتنقية ما في دهاليزه من شوائب الاتفاقات الجانبية الخاسرة، والمضي في بناء سدودٍ جديدة تكون معينًا حقيقيًا لخزن مياه الأمطار تحوّطًا لأية أزمات قادمة. وإلاّ فالبلاد تنتظر تسونامي جارف  مصدره الشارع الثائر والمثوَّر عمدًا من أجل اكتساح معظم المشاركين في المنظومة السياسية الفاشلة في حالة بقاء الانسداد والاصرار على ذات النهج الخائب في منظومة التشارك والتوافق والتحاصص من مواصلة نهب ثروات البلاد وإدامة وتدوير ذات المنظومة الفاشلة في ظل غياب الإدارة الرشيدة في الحكم وتنامي الصراع على سلطة المغانم والمناصب بدل خدمة الشعب وتطوير البلاد وتنميتها.
حبذا



44
حَجّاج محنّك شديد شجاع عادل بانتظار العراق
لويس إقليمس
بغداد، في 30 تموز 2022
مهما قيل عن تسلّط الحجّاج بن يوسف الثقفي وشراسته وشدّة حكمه على العراق وأهله، إلاّ أن لكلّ مرحلة قيادتها وإدارتها وسيادتها. فتفاصيل سير الأمور في أية بقعة من الأرض تفرضها الظروف الزمكانية والعقلية الحاضرة والرؤية التي تنجلي فيها إدارة الحاكم بالاستفادة من المسببات والحيثيات والقرائن والتجارب. فعندما تولّى الحجّاج إدارة العراق، كانت الأوضاع مائلة إلى الخراب والسلطة المركزية على وشك الأيول والانحلال والضعف بسبب تقاعس العسكر وكثرة الفتن وزيادة الاعتراضات على الدولة الأموية وعلى موقع الخليفة عينه. أي كانت دولة الخلافة أقرب إلى ما يشبه التمرّد على الإدارة المركزية بسبب تشتت الولاءات وتكاثر الاجتجاجات وبروز أشابه جماعات تدّعي أحقية السلطة لنفسها بخروجها عن طاعة أوامر الخليفة. وهذا ما حدا بالخليفة الأموي أن يسند أمر تأديب أهل العراق بشخص الحجّاح الذي قال خطبته الشهيرة حين اعتلائه منبر الخطابة ملثمًا بعمامة حمراء دليلاً على نيته المبيّتة بسفك دماء كلّ خارجٍ عن طاعة خليفة المسلمين حينذاك. وقد سطّر التاريخ الكلمات التاريخية القاسية لذلك القائد الجبّار العنيد المقدام "يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى... يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل...".
هذه الكلمات شديدة اللهجة مازالت تتردّد على ألسنة العراقيين في خضمّ الظروف الصعبة الراهنة وفي ظلّ الفوضى الخلاّقة التي تشهدها البلاد منذ غزوها في 2003 بسبب غياب الوازع الوطني وتشتّت الولاءات لجهات من خارج الحدود عندما تمّ تسليمُ مصير العراق وأهله بيد الجارة الشرقية وأصبح الجميع رهن إشارةٍ الوليّ الفقيه المتحكّم في المشهد السياسيّ من برجه العاجيّ باتفاق ضمني مع المحتلّ الذي خرجت الأمور عن سيطرته ولم يعد يعرف كيف الخروج من المأزق. فالحلول المرتقبة لإصلاح ذات البين وإعادة البلاد إلى سابق رفاهتها وعظمة حضارتها وفاعلية موقعها وسموّ ثقافتها وحقّها الطبيعيّ بسيادتها الكاملة وفي في مصير أرضها ومياهها وسمائها وبشرها وحجرها وسياستها، كلُّها ما تزال بعيدة عن الأمنيات والإرادات الوطنية المستقلّة وخارج حسابات ساسة الصدفة ومافيات السلطة والجماعات المنفلتة التي تتحكمُ بواقع الساحة السياسية من منطلق حكم جهة مذهبية أثبتت عدم قدرتها وجدارتها وعجزها عن إدارة شؤون البلاد والعباد بسبب احتكامها الأخرق والمشوّه إلى الوازع الديني والمذهبي والطائفي ومبدأ الأكثرية والأقلّية العددية بكثيرٍ من الغباء بسبب فقدان الرؤية الوطنية والإنسانية والفلسفية في إدارة الحكم. بل جلُّ ما استطاعت النجاح فيه وتسليط الضوء عليه هرولتُها في زيادة تخلّف الشعب من حيث يدري أو لا يدري حكماءُ هذا الأخير، هذا إنْ بقي فيه حكماء لا حول لهم ولا قوّة، وفي زرع مفاهيم غريبة من أدوات الفرهود والفساد واللصوصية والسرقة جهارًا نهارًا لإيمانها المطلق باستباحة أموال وثروات وواردات الدولة من منطلق كون هذه الأخيرة حلالًا زلالاً عند بعض أهل الفقه ومرتدي العمائم الذين تحولوا إلى أشبه بمافيات لا تختلف عن رجالات "الأوليغارش" الروسية والنازية بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي. وهذا ما هو عليه العراق في هذه الأيام من مآسي وتراجع في كلّ شيء مقابل صعود طبقة "الأوليغارش" العراقية وأدواتها وزبانيتها إلى الواجهة وسطوتها على عقارات الدولة وعلى أموال الموازنات الانفجارية منذ السقوط المأساوي الذي أحدث تغييرات ديموغرافية وأخرى أشدّ قساوة على أصحاب الدخل المحدود وتراجع في الطبقات الوسطى في المجتمع العراقي وبروز أخرى قتلها الجوع والفقر والفاقة إلى الواجهة بفعل أحزاب السلطة المهيمنة على الحكم المذهبي والطائفي وفق مبدأ "التشارك والتوافق والتوازن" من أجل ديمومة الفساد وتواصل السرقات والنهب بتغطية كلّ فريق على غريمه عندما يتعلّق الأمر بتقاسم المغانم وتوزيع المكاسب وإدامة المصالح.

في انتظار المُنقِذ؟
تحدثت أنباء وبرزت إشاعات، كما تصدّعت رؤوسنا بتعليقات وتسريبات فيسبوكية وعبر قنوات متعددة بقرب اتخاذ قرارٍ دوليّ مرتقب لإعادة الأمور إلى نصابها والخلاص من الشلّة الحاكمة. لكنّ العقلاء يرون في الشعب أكبر قوّة قادرة على إلحاق الهزيمة بالمنظومة السياسية الفاشلة التي أظهرت بعد تسلّمها السلطة من الغازي الأمريكي عكس ما كانت تتحدث عنه من إصلاح لنظام الحكم البائد الموصوف جدلاً بالطاغي والدكتاتوري. لكنّ الدلائل أثبتت أنّ النظام السابق، بالرغم من طغيانه المزعوم في بعضٍ من أدواته وسلوكياته، إلاّ أنّه حافظ على سيادة البلاد وصان وطوّرَ مؤسسات الدولة وقدّمَ الخدمات وأدارَ عملية البناء والإعمار وعاقب كلّ معتدٍ على مال الغير وعرضِه وشرفه، بالرغم من كلّ الملاحظات السلبية التي رافقته في مسيرة حكمه عندما أمعنَ بعضُ رموزه بالتسلّط غير المقبول على بعض المفاصل وتجاوز نفرٍ من أدواته حدودَهم من دون محاسبة أو غضّ الطرف عن بعض الأفعال المشينة المدانة. لستُ هنا مثلَ غيري من المنصفين بصدد الدفاع عن نظام الحكم السابق، لأنّي واحدٌ من المتأثرين سلبًا ببعض قراراته ومن الخاسرين لحقّ وطني سُلبَ منّي ومن خياري المصيري في عام 1975- 1980، ما جعلني أعاني من تداعياته السلبية لغاية زمنِ إنهائي خدمة العلم في عام 1991 عندما اضطررتُ لأداء الخدمة العسكرية الإلزامي لأكثر من 9 سنوات بسبب خللٍ لحق بي. أليس في هذا حيفٌ وأذى ومضرّة أصابتني كما اصابت غيري من المواطنين الذين وقعوا ضحية القرارات الارتجالية والسلوكيات الشائنة وغير المقبولة لأداء بعض مؤسسات الدولة آنذاك؟ فقول كلمة الحق لا بدّ منها. في النهاية لا بدّ أن يظهر الحق بين الخصوم، مهما كانت العلائق والنوايا والإرادات والأفعال.
في مقارنة لما تشهده البلاد والعباد منذ السقوط وقدوم "أبطال المعارضة" على ظهور الدبابات الأمريكية الغازية أو ما بعدها بفضل أحزاب السلطة التي جمعت حولها أرباب السوابق والعاطلين وزبانيتها من مدّعي الدين وأصحاب العمامات من وعّاظ السلاطين لتجييش مجاميع متخلفة لصالح الأولى وإدامة نهج الفساد واللصوصية بشتى الوسائل، نجد بُعدَ المسافات وكذب الادّعاءات بين القول والتصريح وواقع الحال الذي صار عليه البلد والشعب. فهلْ من مكذِّبٍ لواقع الحال؟ لو دققنا فيما آلت إليه الأمور، سنرى العجب العجاب في المآسي والآهات. وهاذ أصبح معروفًا بل من أبجديات الانتقادات التي توجَّه كلّ يومٍ للأحزاب الحاكمة. تخلّفٌ وتراجعٌ في جميع قطاعات الحياة، الخدمية منها والاجتماعية والثقافية والمدنية والحضارية والعلمية والسياحية والتربوية. ناهيك عن تراجع واضح ومخيف في الواقع الزراعي والصناعي، والأخيران من أعمدة التنمية والتطور والتقدم في أيّ بلد. إضافة إلى فقدان شيءٍ اسمُه السيادة والإرادة والإدارة في تسيير شؤون الدولة التي لا ترتقي جميعُها إلى أدنى مستويات الإدارات في الدول المتقدمة، ولاسيّما الإقليمية منها التي كانت تسعى لبلوغ جزءٍ ممّا بلغه العراق أيام تطوره ورفاهته واصطفافه مع دول العالم المتقدمة لغاية سقوطه الدراماتيكي الأرعن بيد الغزاة وتسليمه على طبقٍ من ذهب لأعدائه التقليديين.
لعلّ من بين السلوكيات السلبية المحسوبة على منظومة الحكم الفاسدة والفاشلة اعتمادُها على المورد الريعي الأساس للنفط الذي تتحكم به أحزاب السلطة، سواءً في عمليات سرقة مكشوفة أو عبر منظومات وجماعات وأحزاب متنفذة تدير عمليات تهريبه ومشتقاته في الداخل والخارج. فيما لم نشهد إجراءات مركزية صادقة وجادّة وحدّية من جانب الحكومات المتعاقبة للسيطرة على منافذ استخراجه وتصديره وصناعته وبما يأتي بالخير الوفير للبلاد والشعب بدل ذهابه لجيوب الفاسدين واللصوص. حتى المؤسسات التعليمية والتربوية لم تسلم من المأساة عندما عملت مافيات الفساد على ابتزاز وتهديد أصحاب الكفاءات على مغادرة العراق ليبقى البلد رهن تصرّفهم بالتغطية عليهم وعلى فسادهم من قبل أحزاب السلطة ودكاكينها الاقتصادية التي تدير هذه العصابات وتوجهها وفق تعليمات وتوجيهات من خارج الأسوار كي يفرغ المجال لهم من أجل تحقيق أجندات الجهات التي يعملون لصالحها ضدّ الوطن والمواطن. أمّا الحديث عن تدمير القطاع الخاص والسعي لإبقائه مشلولاً، فهو ذو شجون لعدم وجود الإرادة الطيبة لنهوضه بهدف إبقاء سيادة الدولة على كل مرافق الحياة تحاشيًا لفقدان السيطرة والنفوذ والإدارة. وإن ننسى، فلا ننسى جريمة تسليم أكثر من ثلث أراضي العراق لعصابات داعش الإرهابية في 2014 بتقاعس الحكومة آنذاك ومَن تولى الصفحات التالية للغدر بمحافظات نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك والأنبار، وهي محافظات محسوبة على الجماعات السنّية والمكوّنات قليلة العدد "الأقليات" التي أُريد لها السقوط والذلّة والمهانة كي لا تنهض من جديد ليبقى مصيرُها بيد جماعات مذهبية وطائفية وعرقية معروفة للجميع.  وهذا ما تعيشه المناطق المحرَّرة منذ زمن التحرير. وسوف تكشف الأيام صدق ما ذهب إليه الوطنيون الصادقون في تحليلاتهم وآرائهم وتوقعاتهم. فالشمس لا يحجبها غربال.
إزاء ما صرنا وصار إليه العراق، لا بدّ من قائدٍ وطني عراقيّ عنيدٍ مقدامٍ على شاكلة "الحجّاج" في الولاء للدولة يحملُ في سرائره وقراراته شيئًا من الشدّة والقسوة المعهودة فيه إلى جانب الحكمة والعدل والروية والحنكة والمكر والدهاء والفصاحة والقدرة على الحديث المنطقي في إدارة البلاد، حتى لو "كان جبرًا لا اختيارًا". وهذه من سمات القائد الفذّ الذي يعرفُ رعيتَه ويتصرّفُ وفق سلوك القادة الحقيقيين الذين يقصدون الإصلاح الحقيقي بالعمل والفعل وليس المزيّف على الحبر وبالكلمات الرنانة المعسولة التي تقدّم جرعات تخديرية لأصحاب الحق كي يتخلّوا عن حقوقهم الوطنية والبشرية والإنسانية والاجتماعية وما على شاكلتها عبر استبدالها بمظاهر خدّاعة وشعائر مذهبية متخلفة لا تناسب العصر والظرف بحجة حفظ الهوية الدينية والمذهبية عبر استدرار عواطف البسطاء بهدف ضمان ولائهم لمَن يقدمون لهم الفتات ويسعون لإبقاء فاقتهم تحت تصرفهم ورهن إرادتهم المشبوهة. فمجالس البكاء واللطم والتزمير والترديد التي لا انتهاء لمظاهرها غير الحضارية ومناسباتها على مدار السنة، سوف تبقي البسطاء على تخلّفهم حتى لو كانوا من حملة شهادات عليا وممّن جالوا بلدان العالم واطّلعوا على تقدمها وحضاراتها وثقافاتها بسبب سمة الولاء لإراداتٍ من خارج الحدود التي استولت على ألباب وقدرات وعقول هذه الفئات المتخلفة. فيما يدعو بعض الحكماء من الفقهاء "بتطهير هذه المظاهر وتنزيهها من كلّ ما يشينها ويدنّسها ويخرج بها عن العنوان الصحيح وكلّ ما يمسّ شرفها وكرامتها حتّى يترتّب عليها آثارها المشروعة وغاياتها الشريفة". ومن المؤسف قيام البعض بتحويلها إلى شعائر سياسية واستغلالها لكسب منافع شخصية وحزبية وفئوية ومذهبية ضيقة بادّعاء أنّ "هذه المنابر وهذه المجالس والتعازي ومواكب اللطم هي التي حفظت الإسلام". فهذا قدرُ الشعوبيين الذين لا يكترثون لمصالح الغير ولا يعيرون اهتمامًا لحقوق الآخرين المختلفين معهم. قد يكون ذلك صحيحًا في بعض جزئياته عندما لا تؤذي غيرَك ولا تسلبُ حقَّ مواطنك الآخر الذي ينبغي احترام خياراته ودينَه ومعتقدَه ولا تسلك سلوكًا منافيًا للمصلحة العامة وتعطّل الشارع والمصنع والمعمل والدائرة بحجة المشاركة في هذه المشاعر التي ينبغي أن تكون ضمن حدودك ولا تتعدّى حدود غيرك. هذا هو المنطق والعقل والحكمة في العيش المشترك واحترام حقوق الآخرين في بلدٍ متعدّد الأديان والمذاهب والإتنيات. وهذا ما كان عليه صاحب الأمر عندما قصدَ الإصلاح ودعا إليه وفق منهجه ورؤيته وطموحه، وليس بتحويل الشعائر إلى ركنٍ وسلوكٍ للتجارة والتبذير والهدر على حساب الدولة والمواطن بحجة كسب الأجر بهذه الطريقة. ويا ليت القائد المنقذ بِصفات "الحجاج" الجديد الذي يحتاجُه العراق في الطريق إلينا سريعًا كي نرى النور في آخر النفق المظلم الذي وضعنا فيه ساسة الصدفة وأحزابُهم الفاشلة صاحبة مبدأ "التشارك والتوافق والتوازن".



45
دستور الدولة حاميها
لويس إقليمس
بغداد، في 3 آب 2022
مشكلة العديد من بلداننا العربية والإسلامية تكمنُ أولاً وقبل أيّ شيء في غياب أو ضعف في الثقافة الدستورية التي ترسّخ لحياة الاستقرار لشعوبها. والطامة الكبرى بقاؤُها أسيرة الشرع والدين والمذهب حمايةً للسلاطين والحكّام نزولاً عند رغبات أو ضغوط أو توجيهات من جهات خارجية، ليس حبًا بالإسلام والمسلمين بل من أجل بقائها أسيرة معتقدات وأعراف وتقاليد تحرمها بل تمنعها من إنجاز أيّ تقدّمٍ في حياة شعوبها المرهونة بمثل هذه المظاهر والشعائر والطقوس التي تعمّق التخلّف. ويكفي أن تشكّل هذه الممارسات بمجملها وغيرها مفرداتٍ جاهزة لتكفير كلَّ ما يأتي من خارجها والذي يوضع عادةً في سياقات الممنوع والمحرَّم والمجرَّم وغير المستحبّ. من هنا، فالأنظمة العربية والإسلامية بطبيعتها لا تعترف بأية ديمقراطية تخرج عن نطاق ما يوحيه إليها الشرع الإسلامي الذي لا يؤمنُ أساسًا إلاّ بما تقدّمُه مراجعُ دينية من تفاسير وتأويلات واجتهادات وردت في معظمها في أحاديث أو روايات تناقلتها ألسن ومراجع ورواة ونقلة وحكواتيون جميعُهم يزعمون إسنادها إلى مراجع ثقات على مرّ الزمان منذ ما ينيف على أربعة عشر قرنًا من قدوم الإسلام واستغلاله من قبل البعض في أجندات سياسية حوّلت الدينَ والمعتقد إلى أداة بيد حكام وسياسيين على مدى هذا التاريخ بدعمٍ صارخٍ من وعّاظ السلاطين في الكثير من الأحيان. لذا، لا عجبَ أن تلقى عبارات ومفاهيم معاصرة للحضارة والتطور والحداثة والتمدّن تخصّ العلمانية والمدنية والديمقراطية معارضة شديدة من جانب المتسلطين على رقاب شعوبهم في عموم أشكال هذه الأنظمة السياسية مدار البحث. بل هناك مَن صرّحَ بها جهارًا نهارًا بعدم ملاءمة الإسلام ومسايرته مع الديمقراطية "الغربية" التي يعدّها انزلاقًا وإمعانًا في الكفر بسبب خروجها عن حاكمية الخالق لكونها لا تتماهى مع شرع الحكم الثيوقراطي الذي ينبغي أن تشرفَ عليه مرجعية إسلامية محددة، سنّية كانت أم شيعية المذهب. فالصنوان لا يختلفان كثيرًا في الرؤية في هذه المفاهيم المختلَف عليها.
من البديهي أن يكون لأية دولة ذات سيادة دستورٌ مكتوبٌ متفق عليه من قبل ممثلي الشعب والسلطة الحاكمة ممّن لديهم ثقافة دستورية وقانونية ولهم باعٌ في حاجات البلد وأهله وفق الظروف زمانًا ومكانًا ومجتمعًا بحيث لا يجري حشر الاثنين معًا في عنق الزجاجة الذي لا يسمح بالحركة والتأوين والتحديث والتكيّف وفق تطور البشرية والأمم نحو الأفضل. كما أنه من المعيب أن تجري كتابة دستور أية دولة من جانب غرباء ودخلاء عليه وفرضه على الشعب من دون دراية ولا إرادة بل لمجرّد كونه ذريعة لحكم طبقة معينة أو فئة دينية أو مذهبية تدّعي التغييب والتهميش والإبعاد في أزمنة حكم سابقة، كما حصلَ مع العراق عندما فرض الغازي الأمريكي نسختَه العرجاء لصالح فئاتٍ طائفية وإتنية كانت في صفوف المعارضة. فقد فرض الحاكم المدني سيّء السمعة "بول بريمر" قراراته الجائرة ضدّ إرادة العراقيين لصالح المعارضة المشبوهة حينذاك من دون الأخذ بنظر الاعتبار سيادة البلاد وتاريخها الحضاري وأهميتها الجغرافية والسكانية متعددة الأديان والإتنيات، بحيث جرّ البلاد نحو أسلمة مجتمعاتها، وهي في تاريخها مجتمعاتٌ متعددة الأديان والقوميات لها باعٌ طويلٌ في رفد الإنسانية بالعلوم والمعارف على اختلافها. ناهيك عمّا قام به من جرائم فساد وإفساد ونهب أموال الدولة العراقية طيلة بقائه في موقع السلطة لكونه المشرف العام المطلق على كلّ حركة وكلّ شاردة وواردة من دون وازع إنسانيّ أو ضميرٍ. بل كان جلُّ همّه مع شرذمة المعارضة التي صعدت إلى السلطة أن يتمّ السيطرة على النفوذ والمال وما بينهما وفيهما من فسادٍ متنوع الأشكال عبر قرارات غير مدروسة أفضت إلى تصاعد النعرات الطائفية إلى حدّ الاقتتال والتخوين والتشويه وتشكيل ميليشيات وأحزاب دينية إسلامية وعصابات مارست الجريمة المنظمة خارج الدولة. وهذه الأخيرة، كان ولازالَ لها باعٌ واسعٌ بفرض واقع الحال والأتاوات عبر السيطرة على وزارات ومؤسسات الدولة كمغانم ومكاسب استحقاق وزّعها هذا الحاكم الفاسد حدَّ النخاع على جميع المنتفعين من شخوص المعارضة السابقة الذين احتلوا واعتلوا المناصب العليا في البلاد مقابل ترك الحبل على الغارب للحاكم المدني الفاسد. 
لاحقًا، لحقه سفير البلد الغازي "زلماي خليل زاد" لإكمال المسرحية الهابطة بالمساعدة في كتابة أسوأَ دستورٍ في تاريخ العراق والمنطقة، والذي جرى فرضُه على العراق وشعبه بتلك التمثيلية التي لعبَ أبطالُها الأدوارَ المكلَّفة بكلّ واحدٍ منهم مقابل ثمنٍ يتقاضوه بشكل منظومة الحكم التوافقية والتحاصصية. وها نحن اليوم، نكملُ ربّما آخرَ فصولها لقطع الطريق أمام استمرار استنزاف البلاد وتواصل فقر شرائح كبيرة من الشعب بالرغم من الأموال الريعية المليارية الدولارية التي دخلت البلاد وذهبت في معظمها إلى جيوب الفاسدين الذين انتدبهم في بداية السباق إلى السلطة كلٌّ من الدبلوماسيَين الفاسدَين الوقحَين "بيريمر" و"زاد". لقد تضمّن الدستور الذي ساعدَ في وضعه السفير الأمريكي آنذاك "زلماي خليل زاد" مع نفرٍ من المغرضين في الداخل والخارج، العديد من المطبات والألغام قابلة الانفجار في أية لحظة. وهذا ما كشفته الأيام منذ تمريره في عام 2005 بشكل تلك المسرحية الهابطة على أنغام رقصات الكاوبوي الأمريكي والخانعين ممّن كانوا يشكلون ما تُسمّى ب"المعارضة الحرّة" في الخارج، حيث كان له الدور الكبير في فرض تسويات بين المتفاوضين على تولّي السلطة من الذين ركعوا واذعنوا لإرادته، كما فعلوا لقرارات "بريمير" من قبله. فكلاهما فرّطا في مصير ومستقبل العراق وأهله بسبب النهج الطائفي الذي سلكاه في إدارة البلاد وتسيير شؤونها عندما أصبح عرفًا متعارفًا لشكل منظومة الحكم الفاسدة التي أوصلت البلاد والعباد إلى الهاوية. ونحن مازلنا نتحمل وزر ما ورد في ذلك الدستور الذي كُتب على عجالة وتمّ فرضُه بشكله ومحتواه ونتائجه الكارثية. وما تشهدُه البلاد وشعبُها الغارق في الفساد والفقر والفاقة والبطالة وسوء الخدمات والتخلف في تواصيف جميع القطاعات الضرورية خيرُ دليلٍ على شكل الاستهتار الذي فرضه الغازي الأمريكي وأدواتُه التنفيذية منذ 2003 ولغاية الساعة. لذا لا عجبَ أن يدافع عنه أصدقاءُ الأمس وأعداءُ اليوم لكونه الضامن الوفيّ لمغانمهم وديمومة بقائهم في السلطة ما شاءت الأقدار!

ما الحلّ للخروج من الورطة؟
التصعيدُ الذي نشاهده ونسمع به هذه الأيام استمرارًا للضعف القائم في إدارة البلاد وحكوماتها الطائفية المتعاقبة، يمكن أن يشكل بدايةَ طريق للتفكير بالخلاص من الهوّة السحيقة التي تتواجد بها البلاد والشعب معًا. فقد وصلت العملية السياسية إلى حالة انغلاق وانسدادٍ واضحين بعد تصاعد وتيرة الضغائن والأحقاد وتبادل الاتهامات العلنية أو عبر التسريبات بين الفرقاء المتخاصمين من أحزاب السلطة الذين اختلفوا على تقاسم المغانم وتقاطعوا على شكل الحكم وإدارة البلاد والنفوذ والسلطة. وكلّ هذا هو نتاج الفشل الواضح في هذه العملية بسبب الخلل في بنود الدستور الذي رسم شكل منظومة الحكم التي أثبتت عدم جدارتها ومواءمتها لبلدٍ مثل العراق ولشعبه ذات الإرث الحضاري والثقافي المتميّز أيام كان في مقدمة دول المنطقة في كلّ شيء حتى تكالبت عليه أيادي الشرّ والطامعين به من دول الجوار بسبب الأخطاء الفظيعة المتكرّرة للأنظمة الحاكمة السابقة وعدم درايتها بمصلحته التي كان ينبغي إيلاءَها الأولوية في كلّ شي وليس في بعثرة ثروات البلاد في حروب كارثية ونثرها في كلّ اتجاه لكلّ مَن هبَّ ودبَّ واستجدى واستعطفَ، فيما الشعبُ محرومٌ من الحق الوطني بها.
لقد اتضح بما لا يقبل الشك، أن الشلّة الحاكمة التي تتقاتل وتتخاصم وتعطّل الحياة في البلاد وتغلق الطرق والجسور بسببها هذه الأيام، كلّها ناجمة في نهاية المطاف عن سوء تقديرها لقدرات الشعب ووقوفها بالضدّ من إرادته وطموحاته بعيش حياة آدمية طبيعية كباقي شعوب الأرض والمنطقة. لكنّ "الشعوب أقوى من الطغاة"، عندما تنتفض وتزبد وترعد وتزأر لتقول كلمتَها بالرغم من جرعات المورفيم وأنواع المخدّرات الطبيعية والمعنوية والدينية والطائفية والإتنية التي تُحقن بها منذ زمن على مراحل وفقًا للظرف وطبيعة الأتباع وانتماءاتهم وولاءاتهم. وفي النهاية وأمام هذه الإشكاليات الكبيرة التي تمرُّ بها البلاد وشعب الرافدين المغلوب على أمره، يترتب على أحزاب السلطة وزعاماتها الانزواء فورًا والابتعاد عن أيّ منصب في الحكومات التالية حفاظًا لماء الوجه وتكفيرًا عن الخطايا والذنوب والجرائم التي تم ارتكابُها منذ تسلّمهم السلطة في 2003 ولغاية الساعة. ويكفي اعترافُ جميع الأطراف السياسية والحزبية والإسلامية منها بشكلٍ عام ومن دون استثناء بفشلهم في إدارة البلاد وتشجيعهم على استشراء الفساد وذهابهم حتى بالنصح بضرورة الاعتذار من الشعب لكونهم خانوا الأمانة وخيبوا طموحات وإرادة ناخبيهم عندما أداروا رؤوسهَم لهم بعد كلّ عملية انتخابية بائسة. ولكن المصيبة الكبرى تكمن أيضًا في الشعب البائس الخائب والمتخلّف الذي يحبّ جلاّديه ويركض وراء سرابهم الذي لا مثيل له في عقد الوعود وتنفيذ المطالب قبل كلّ "حفلة" انتخابية، ليعود "حراميةُ الشعب" إلى دوراتهم المافيوية. ومن حق الشعب أن يتساءل: "مَن هو يا ترى الفاسد؟" و "مِن أين هو قادم؟"، إذا كان أزلام السلطة أنفسُهم يسألون ذات السؤال وينذرون ويتوعدون بالاقتصاص منه وبملاحقته أينما كان بتجييش جيوشهم وجماعاتهم الاقتصادية والسياسية للنيل منه. إنّما هذا نفاقٌ وكذبٌ وضحكٌ على ذقون بسطاء الشعب الذين أعمتهم عماماتُ وعّاظ السلاطين وجيوشُهم الالكترونية وماسكو مكاتبهم الاقتصادية بهدف عدم فقدان المكاسب والمغانم والمصالح التي تغطّي عليها أحزاب السلطة وزعاماتُها المعروفة والمعدودة التي تُمسك بعصا الحكم وتخشى خسارتها جميعًا في حالة تنحيتها وإبعادها عندما تحين ساعة الغضب. وهي قريبة كما تنبئ الأحداث، ولاتَ ساحة مندم ومناص!!!
قد يسألُ سائلٌ، لماذا لا يأخذ الجميع العبرة من وطنية "تونس" ورئيسها عندما قال هذا الأخير وفريقُه "لا لا لا " لطغيان حركة النهضة الإسلامية بعد أن تحولت البلاد إلى رهينة بأيدي رئيس هذه الأخيرة ومَن سارَ على خطاه بعد اغتيال الديمقراطية التي أرسى لها زعيمُها الوطني الراحل "الحبيب بورقيبة". فقد نجح "قيس سعيّد" في اجتثاث جذور الفساد من بلاده كخطوة أولى بتغيير الدستور والاستفتاء عليه بالرغم من اعتراض قوى الشرّ العالمية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية الوقحة وأدواتُها الاستخبارية والمخابراتية وبعض الدوائر الغربية التي عارضت هذا الإجراء الوطني الشجاع. فقد سعت هذه القوى بكلّ جهودها وتحرّكاتها المشبوهة منذ حقبة الربيع العربي من أجل تغيير موازين القوى لصالح أحزاب دينية تنتمي إلى تيارات إسلامية ظلامية تدميرية بحق حريات الشعب، هدفُها خلق مشاكل في بلدان شهدت استقرارًا وتطورًا وتنمية وتقدمًا. فأكثرُ ما يقلق المستعمر والمحتلّ يكمنُ بركون شعوب البلدان إلى ناحية الاستقرار وحالة الرفاهة وأشكال الراحة عند شعوبٍ كانت بالأمس ترزحُ تحت نير الاستعمار. واليوم بعد أن ازداد الوعيُ في صفوفها وكبرت المدارك لدى مواطنيها واستنارت عقولُهم أكثر، فإنّها تخشى ثورتَهم وانتفاء الحاجة لتواجدهم المدمّر فوق رؤوسهم لأنه يعملُ على قضّ مضاجع الطامعين وتضييق الخناق على استمرار حلبهم لهذه البلدان الفتية الناهضة وتفقير شعوبها.

واقع العراق في انتظار الفرج القريب
 هذا واقعُنا اليوم أيضًا في العراق! لذا، مثل سائر الوطنيين والمثقفين في بلادي والحريصين منهم على إنقاذها من أيادي وأرجل الساسة غير المنضبطين على إيقاع المواطنة والوطنية وانتشالها من براثن الفساد والفاسدين ومَن كانوا السبب في استشرائه وتبرعمه كالأميبا الزاحفة، لستُ هنا بصدد كتابة مقالة إنشائية. بل جلّ ما يهمّنا جميعًا، رؤية بلادنا تنهض من جديد وتعلو عليها رايات الحرية والرفاهة والديمقراطية الصحيحة وغير المزيّفة بالتوجه نحو تصحيح مسار العملية السياسية برمّتها وتغيير منظومة الحكم وطرد الفاسدين والمفسدين وتنحيتهم قبل أن يثور الشعب ويتبنى ثوارُه تقاليد السحل في الشوارع ونهج الانقلابات الدموية التي كرهناها جميعًا ومن ثمَّ لا مسوّغَ لإعادتها إلاّ إذا أوغل الفاسدون في السلطة وزعاماتُ الأحزاب في غيّهم وتجاهلوا مطالب الشعب. وقد بانت هذه وأصبحت معروفة وواضحة للجميع. وهذا نداءٌ آخر يُضافُ إلى مناشدات وطنية غيرها من مراجع دينية وطنية وحكيمة مختلفة في البلاد ومن أكاديميين ومثقفين وزعامات دولية موثوقة وجادّة، من أجل حقن دماء الأبرياء والابتعاد عن زجّ البسطاء ولاسيّما "المؤدلجين" منهم في أتون نارٍ سوف تُحرق الأخضر واليابس ولن توقف هدرها إلاّ قدرةُ قادرٍ. وكفاكم التذرّع والتحدّث باسم الدين والمعتقد والمذهب والطائفة والخشية من فقدان السلطة التي يدّعي البعض تسخيرها لهذه المفردات الطائفية دون غيرها في أسطوانة مشروخة لم تعد تنطلي على أحد. أتركوا الدينَ وحرية المعتقد لله وحده، وهو وحدهُ الحاكم والديّان والقاضي يوم الحشر المبين. فهو لم يمنح حاكميتَه ولا حسابَه ولا وكالَته لأحدٍ من البشر يومًا.
أمّا السياسة وإدارة البلاد والعباد، فلتكن من حصة الكفاءات وأصحاب الغيرة الوطنية ومَن يجد في نفسه القدرة على إسعاد الشعب ونقل مواطني البلد المنهار من حالة الموت السريري إلى حالة النهوض والإصلاح عبر التغيير الجذري في المنظومة السياسية ووفق عقد اجتماعي وسياسي وعلمي واستراتيجي جديد لا مجالَ فيه للدين والطائفة والمذهب، بل للصادقين والساعين من أجل بناء الوطن وتنميته من العناصر المشهود لهم بالنزاهة والخدمة والإيثار وحب الأوطان من دون مقابل أو بغية الحصول على امتيازات يسيلُ لها اللعاب وخاصة من شريحة مَن ذاق الجوع والفاقة والفقر. فهذه الفئة حديثة النعمة أشدّ خطرًا على البلاد والعباد. وهذا يتطلبُ إلغاء الامتيازات المادية والمالية وأشكال الحصانة التي صاغها ساسة البلاد وفق مقاساتهم عبر قوانين تضمن لهم حصتهم من السلطة والمال العام. حينها سيتراجعُ الصراع على السلطة ويخفتُ التكالب على حصد أصوات البسطاء من الناخبين اللاهثين وراء السراب في تحقيق الوعود ولن يتقدم لهذه الخدمة غير الصادقين والأوفياء للوطن والشعب. فيما يبقى حلالُ هؤلاء الأخيرين بشكل ما يتقاضونه حصرًا من حق مشروع مقابل أداء الوظيفة المهنية كسائر المواطنين في مؤسسات الدولة. وهنا على الشعب أن يُحاسبهم إذا زاغوا همْ أيضًا عن جادة الصواب. وهذا جزءٌ ممّا ينبغي أن يتحدث عنه دستورٌ جديد للعراق ينتظرُه جميع العراقيين والشرفاء في العالم. دستور عادل وشجاع يكفل حقوق جميع المواطنين من دون تمييز في الشكل واللون والدين والمذهب والقومية والمنصب بعيدًا عن أية تأثيرات جانبية أو غيرها ممّا يمسّ قدسية الأشخاص والمذاهب، تاركين هذه العبادات والتقديسات غير الضرورية وغير الحضارية لحرية الشخص وتقواه ومحبته لله ولمَن يكرمُه وليس فرضًا من واجب الدولة في استغلالٍ فاضح لبساطة المواطن واستغفاله وتخويفه بشتى البدع والترّهات من أجل ردعه وجعله في خنوعٍ وخضوعٍ دائمين للحكام والسلاطين.
 هي إذاً، لحظاتٌ تاريخية فاصلة ننتظرُها كي يتمّ إنقاذُ العراق وشعبه من عرف المحاصصة المدمّر وجريمة تقاسم المغانم وأشكال الفساد القائمة في مفاصل الدولة، تمامًا كما حصل في تونس من أجل تغيير المسار من الفشل إلى النجاح، ومن الجهل والتخلّف إلى العلم والتقدم، ومن الفوضى والعبثية إلى القانون وتطبيقه على أرض الواقع، ومن اللهاث وراء أعراف وتقاليد عشائرية ومافيات خارج سلطة الدولة إلى تعزيز سلطة هذه الأخيرة وترسيخ مفاهيم المواطنة. وهذا رهنٌ بإرادة العراقيين جميعًا عبر منع مشاركة الأحزاب القائمة وعودة الوجوه الفاسدة المكرّرة و"المجرّبة" في أية حكومة انتقالية قادمة لحين صياغة دستور جديد للبلاد يضعُه مختصون مستقلّون بعيدون عن أحزاب السلطة وتأثيراتهم وبما يؤمّنُ سيادةَ العراق ويضمنُ حقوق شعبه في قانون انتخابي شامل لا يخضع لتقاطعات أحزاب السلطة ومصالحهم وتدخلاتهم المشبوهة ولا لتأثيرات جهات خارجية تسعى لإبقاء الوضع الراهن المزري على حاله حفاظًا على مصالحها وتأمين تدخلاتها. فالدستور الوطني الجيد هو الذي يحمي البلاد والعباد من منزلقات خطيرة ويحفظ حقوق الجميع بالعدل والمساواة ويعترف بحرية الرأي والتعبير وفق عقد وطني منصف وشامل للجميع وليس في تجييره لصالح فئة أو جهة أو دينٍ أو طائفة. وفي الخلاصة وفق ما هو قائمٌ منذ 2003، يكون الجميع مذنبًا ومقصِّرًا بحق الوطن وشعبه!
 

46
في العراق، الفسادُ ورموزُه أقوى من الشعب
لويس إقليمس
بغداد، في 5 تموز 2022
لو حسبنا القيمة التقديرية لنتائج الفائز المنسحب من الانتخابات البرلمانية الأخيرة مقارنةً مع غرمائه الخاسرين، لتوصلنا إلى نتيجة كارثية، قد خفيت أو اختفت عن المنظار العقلاني لمَن يدّعون الخبرة والمراس في العمل السياسي. ولكن كما يبدو، هناك صعوبة في تعلّم الدروس من المحن والمصائب والأزمات. أو بصريح العبارة، " ربما هناك في القضية إنّ"، كما يُقال. أي ربما في الكواليس لغزٌ محيّر، صعبٌ الكشف والإفصاح عنه لخطورته أو سرّية حبكته. وقد يكون الاندفاعُ المغالى فيه في إثبات الوطنية والاستقلالية في الرأي والقرار سببًا إضافيًا للمضي في هذا المنزلق غير الآمن وغير محسوب النتائج، بحسب تقديرات البعض من المتابعين للشأن العراقي والانسداد القائم على قدمٍ وساق. كما لا يستبعدُ افتراض حصول اتفاق أو تفاهم على سلك هذا السلوك مع أطرفٍ خارجية ضاغطة أو مؤثرة كما تشيرُ تكهنات من انزلاق زعيم التيار الصدري إلى مقاطعة العملية السياسية وسط رفض الإطار التنسيقي مسايرة الأول في مسعاه لتغيير اللعبة السياسية استثناءً هذه المرة وجعلها مختلفة في تكوينها وتشكليها وإطارها "الوطني" بكونها "حكومة أغلبية وطنية". ويمكن ترك هذه الفرضية لأيام قادمة، قد تكون حبلى بأحداث وتغييرات لا أحد يتكهن بحصيلتها ونتائجها.
بالتأكيد، ما أكثر ما عانى ومازال يعاني عراقُ اليوم من مثل هذه الانتكاسات أو الإخفاقات في التخطيط واتخاذ القرار الصائب في حقبة ما بعد التغيير التي تبلغ ما يربو على تسعة عشر عامًا بالتمام والكمال. فكلّ الدلائل تشيرُ ظاهريًا وجوهريًا على حدٍّ سواء، إلى خطأ فادح اقترفه زعيم الكتلة الصدرية الذي باع نصرَه وكبرياءَ أتباعِه ونشوتَهم بفرحة الفوز الكاسح على طبقٍ من ذهب إلى غرمائه الموالين أساسًا لإيران بطريقة أو بأخرى، على شاكلة أتباع المكوّن الأكبر تقليديًا، عبر منحِهم فرصةً إضافية لتنفيذ المخطّط الإيراني بإدامة تسيّد المشهد السياسي التنفيذي الذي أُريدَ له أن يكون مغنمًا دائمًا وحصريًا لهذا المكوّن "الأكبر" بهدف مواصلة العبث بمقدّرات البلاد وانتهاك حقوق شعب العراق الخانع البائس الولائي حتى الثمالة في مراحل كثيرة وعبر مجتمعات عديدة منه ولاسيّما في المحافظات الجنوبية والوسطى من البلاد. هذا إلاّ ألّلهمّ إذا كان في جعبته وحقيبة مستشاريه في الداخل والخارج رأيٌ آخر أو خطة أخرى بديلة قد تقلب موازين اللعبة لصالح أتباعه ولمنفعة العراقيين الصابرين بصورة عامة في انتظار الفرج المأمول! هذا مجرّد افتراض وليس نظرية، قد تقبل الخطأ والصواب بحسب الظرف والزمان ولعبة الكبار. وما علينا للتأكد من بواعثه سوى الانتظار ومتابعة الخطوات والأدوات بعد أن تعزّزت جبهة البيت الشيعي الولائي مؤخرًا بهذه الخطوة المفاجئة وزاد ثقلُها البرلماني في المشهد السياسي الجديد وكبرتْ فرصُها من أجل المضيّ قدمًا في تواصل المشروع الإيراني المتفق عليه مع راعي العملية السياسية "الكاوبوي الأمريكي". وما لا يمكن التغاضي عنه أو تجاهلُه، انتقالُ العنصر الدفاعي للإطار التنسيقي إلى موقع الهجوم بعد الكشف عن قدراته في المناورة وكسب الجولة ليبقى في خانة الطرف الأقوى في المشهد السياسي الراهن، في هذه المرحلة وحتى إشعارٍ آخر!
في المقابل، هناك حقائق على أرض الواقع قد لا يُفصح عنها المتمرّسون والموغلون في تحليل ما يجري على الساحة العراقية والإقليمية. تتابعُهم وتتعاطفُ معهم شرائحُ مثقفة في المجتمع العراقي تتمتع بحدس شبه مؤكد بإقدام البلاد على حركة تغيير انقلابية في مفهوم الحكم والإدارة سواءً على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد. وهذه قد تختلف كلّيًا عمّا شهدته البلاد في حقبة المنظومة التوافقية الفاشلة التي صنعها الغازي الأمريكي ووهبها هدية مجانية لفئات وأحزاب طائفية مرتبطة بأجندات دول الجوار وبإشرافٍ مباشرٍ من قبل الجارة الشرقية التي اتفق معها الغازي المحتلّ لإدارة شؤون العراق مقابل عدم المساس بمصالحه الأساسية المباشرة. وإنْ دلّ مثل هذا الواقع المرير على شيء، فإنّما يدلّ على شكل التبعية والولائية الضامن لتحقيق مصالح مشتركة بين الغازي والمشرف على إدارة الحكم، وذلك بالتمادي والتعاون في أحيانٍ قليلة مع دول الجوار لإكمال مخطّط تحقيق المشروع المرحلي. فالتبعية للخارج، كما يرى البعض من المتتبعين والمراقبين، قد أضحت طوقًا للنجاة من أجل تولّي منصب أو الحصول على مغانم أو إدامة مكاسب على حساب مصلحة الوطن والشعب. ومَن يخرجُ عن طاعة موزّعي النعم وواهبي الكرامات، فلا مكانَ له في قاموس الحكم والنفوذ والجاه والمال. هذا كان ومازال ديدنَ الساسة وأحزاب السلطة الأميبية الذين حكموا العراق واستغلّوا البسطاء من الشعب لتمرير مشاريع الغزاة والمشرفين على إدارة البلاد والعباد منذ 2003.
نقولُه وبكلّ صراحة، ما أكثر ما شهدناه من معوّقات لبرامج وخطط ومشاريع تُعنى بتطوير البنى التحتية، لكنّها تصطدم برؤية مغايرة من طرفي المشهد السياسي، الغازي الأمريكي والمشرف الشرقي. ولعلّ خيرَ ما يمكن ضربُه من نماذج في هذه النقطة بالذات، رفضُ الطرفين لأية خطط ضرورية لتحسين واقع الكهرباء في البلاد. ومنها على سبيل المثال لا الحصر وضعُ العراقيل أمام شركة "سيمنس" العالمية لاجتراح المعجزة ونقل تجربة مصر العربية في تحقيق الاكتفاء الذاتي في الإنتاج والنقل والتوزيع بمبالغ تنافسية وضئيلة مقارنة بما صرفته وزارة الكهرباء العراقية من مليارات الدولارات على هذا القطاع من دون تحقيق نتائج متقدمة. فالفيتو الأمريكي واضح لا لبسَ فيه عبر أوامره لأية إدارة أو حكومة عراقية بعدم التقرّب من هذا الملف الشائك حتمًا. فالكهرباء خطّ أحمر ولا مجال للحديث عنه لكونه عصبَ الحياة، وتطورُه وتحسّنُه يعني تراجع التبعية للأطراف المنتفعة وانتهاء النزعة الاستهلاكية والاستيرادية من دول الجوار خاصة، لكونها المستفيد الأول من التباطؤ القائم والتخلّف في أية فرصة لتحسين مصادر الطاقة. وما مسموح به لا يعدو كونه ترقيعاتٍ هنا وهناك وإنفاق مبالغ هائلة في الصيانة والإدامة الناقصة أصلاً بسبب تقادم المنظومة وعدم قدرتها على مواجهة الطلب المتزايد. ولو لاحظنا الجهات القائمة بعملية الإدامة والصيانة وتجهيز قطع الغيار، فإنّها لا تخرج عن دائرة الأطراف المنتفعة من بقاء هذا القطاع متخلفًا. وتأتي شركة جنرال إلكتريك الأمريكية في معظم إدارتها في مقدمة هذه الجهات. إضافة إلى ما يرادُ من الجارة الشرقية التي تمسكُ بزمام أية فرصة لتحسين المنظومة عبر توريدات الغاز التي احتكرتها حصرًا بدعم من الغازي الأمريكي عندما سمح ببناء محطات تعمل بالغاز بالرغم من علمه بغياب هذا المصدر وطنيًا. وهذه من كبرى الهدايا التي نالتها الجارة الشرقية من المحتلّ الأمريكي شريطة عدم خروج الحكومات العراقية المتعاقبة عن إشارة هذا الأخير والبقاء رهنَ طوع إدارته أيّا كان الحزب الحاكم، وكلّ هذا يجري بإشراف من وكيله الإيراني. هذا ليس كلامي، بل أنقل ما نسمعُه على لسان مقربين من الحكومة ومسؤولين سابقين ولاحقين على صلة بهذا القطاع الاستراتيجي.
 
أزمة ثقة
بالرغم من أزمة الثقة القائمة بين الشعب والأطراف الفائزة في الانتخابات الأخيرة، إلاّ أنّ المياه ماتزال تجري لصالح القوى التشاركية المتوافقة على تقاسم المغانم وفق المبدأ الذي خطّه الغازي الأمريكي حفاظًا على مصالح الأطراف الرئيسية في العملية السياسية. فالجميع مساهمٌ بطريقة أو بأخرى بحالة التراجع في الوضع الاجتماعي والعلمي والتربوي والخدمي والاقتصادي المعتمد أساساً على الموارد الريعية النفطية بحيث تحوّل العراق إلى بلد التعيينات والبحث عن وظائف تؤمّنُ القوت اليومي والحياة المعيشية للشعب والتي تزداد صعوبةً يومًا بعد آخر. فقد طال التخلّف أهمّ القطاعات الحيوية في البلاد، الزراعي والصناعي عندما توقفت عجلة الإنتاج بسبب غياب واضح لنشاط القطاع الخاص المترنّح الذي غاب عنه الدعم الحكومي. ناهيك عن النقص الأزليّ في الطاقة التي تشكل عصب الحياة وفي المواد الأولية والأدوات التي تسهم في تدعيم ومساندة هذه القطاعات الرئيسية في دعم اقتصاد أي بلد. وما الأزمات المتعاقبة في مجال تأمين مفردات السلّة الغذائية وفي النقص القائم في أشكال الوقود وفي قطع الغيار التي يجري استيرادها بمليارات الدولارات سنويًا، سواءً من دول الجوار المهيمنة على الوضع الاستهلاكي للشعب العراق أو تلك القادمة من دول غيرها مستفيدة من بقاء الوضع على حاله، سوى غيضٌ من فيض ما تعانيه البلاد من غياب الاستراتيجيات الوطنية في عملية التنمية الوطنية. فهل يُعقل ببلدٍ نفطي مثلاً، أن يصعبُ عليه توفير المشتقات الوقودية واللجوء لاستيراد منتجاتها من دول الجوار أو غيرها من دولٍ إقليمية؟ وأين كانت وزارة النفط من إمكانية بناء مصافي جديدة تحتاجُها البلاد لسدّ الحاجة المحلية؟ بل كان من المفترض بها أن تقوم بتصدير كميات منها بعد سدّ الاكتفاء الذاتي واستغلال القدرات الإنتاجية المتعثرة في صناعات تحويلية تُسهم في رفد باقي القطاعات، ولاسيّما في مجال الأسمدة والبتروكيمياويات كما تفعل دول نفطية نظيرة في المنطقة أو حتى تلك التي لا تمتلك إنتاجًا نفطيًا.
أما على الصعيد الداخلي، فقد جلبت أحزاب السلطة نقمة الشعب عليها بعد خذلانها للناخبين الذين يقترفون في كلّ دورة انتخابية ذات الخطأ الفادح بإعادة انتخاب الفاشلين والفاسدين وتدويرهم من دون تعلّم درس المرجعية "المجرّب لا يُجرّب". وعتبي على مَن سمحَ للفاسدين بلدغه من جحره أكثر من مرّة! هكذا العراقيون يحبّون جلاّديهم ويتهافتون على فتات موائد الكبار من الفاسدين وسارقي قوتهم واستحقاقهم من ثروات بلادهم بالرغم من إدراكهم بخيبة الأمل التي ينالونها في كلّ دورة انتخابية. ولكنهم يعيدون ذات الخطأ ويذوقون ذات الحصرم. وهذا ممّا يعني أنّ "الفاسدين أقوى من الشعب" وسطوتهم تغلب أية مشاعر عندما يستخدمون أدوات السحر الدينية والمذهبية والطائفية والقومية وما في هذه من صلات ضيقة.
لقد كان العراق حتى الأمس القريب في مصافي أكثر دول المنطقة تقدمًا وتطورًا في مجالات كثيرة، في الخدمات والصحة والعلوم والمعارف والبناء والهندسة والصناعة والزراعة وما سواها من أبجديات الحياة اليومية الضرورية. بل كانت دولٌ فيما مضى تتمنى أن تبلغ ما بلغه العراق في مجال الإعمار والطب والزراعة والصناعة والتسليح والتشييد. وكلّ ذلك تلاشى بعد السقوط بيد الغازي الأمريكي عندما منحه لقمة سائغة بأيدي أعدائه الشرقيين التقليديين وسواهم من دول المنطقة التي انقلبت على رأس النظام السابق بسبب عنترياته ومغامراته العسكرية الطائشة واستغلال شلّة فاسقة في حاشيته لنفوذها، ممّا ساهم بسرعة سقوط النظام وتكالب الأعداء ضدّه. فكان السقوط الأكبر والانهيار الدراماتيكي في منظومة الحكم لتستعيد شلّة أكثر فسادًا لذات الدور التعس في استغلال مقدرات البلاد لصالح أحزاب وأشخاص وفئات ودول طامعة. إلاّ أن الفرق بين النظام السابق والحالي، أن رأس النظام السابق كان صقرًا ضدّ السراّق والمهملين والمتقاعسين والفاسدين والمعتدين على الغير من دون وجه حق حتى ولو على مقربيه. فيما المنظومة الحالية، قد خلت من أية لمسات أخلاقية أو إدارية في الحكم الرشيد وفي تبني سياسات وطنية وخدمات آدمية أساسية وفي تطوير بنى تحتية وفتح آفاق للتنمية لصالح الشعب والأمة والوطن. كما ضعفت اللحمة المجتمعية وغابت الغيرة الوطنية واتجهت البلاد نحو تجزئة المجزَّأ وقطع أوصال المناطق والمدن، ما يُنذرُ بتقسيم متوقع قائم في الدهاليز وفي أروقة السياسة الدولية والإقليمية بالتعاون والتنسيق مع أدوات داخلية قطعت اشواطًا في هذا الاتجاه التقسيمي الخطر بسبب غياب السياسات الوطنية الجامعة للغرماء وصعود البدائل المذهبية والطائفية والفئوية بديلاً عن خيار الوطن الأمّ.
تغيير قادم
في المحصلة، يمكننا الركون إلى تسريبات قائمة عن توقع حصول "تغيير قادم"، كما اشارت إليه منشورات تم رصدُها في عدد من مناطق بغداد. وهي وإن تكنْ في حدودها الدنيا، إلاّ أنها تُنذرٍ بحدثٍ يجري التهيّؤ له وإعداده في كواليس السياسة. كما لا يمكن تصوّر حصول هكذا تطوّر من دون تخطيط أو إيعازٍ مباشر أو غير مباشر من الخارج. وهذه من العلامات والدلائل بوجود تباشير وقرائن إيجابية في هذا الاتجاه. فالتغيير كما يبدو لن يحصل ولن يأتي عبر صناديق الاقتراع، طالما ليست هناك النية لدى أحزاب التوافق بتغيير منظومة الحكم والتراجع عن نهج المحاصصة الفاسد ومراجعة الدستور الأعرج الذي يعطي لهذه الأحزاب حق ملكية البلاد والتصرف بمقدراتها وفق هذا النهج المقيت الذي اختطه الغازي الأمريكي بالتنسيق مع دول وأطراف منتفعة من العملية السياسية الفاشلة.
لذا نعتقد أنْ لا فائدة تُذكر من سياسة الابتعاد عن الساحة السياسية التي انتهجها زعيم التيار الصدري، لأنّها في المحصلة النهائية سائرة ضمن ذات النهج التشاركي والتوافقي بطريقة أو بأخرى.  وإلاّ كيف يمكن الوقوف في صف المعارضة من أجل الإصلاح بلا قوة ولا أدوات برلمانية رقابية. وفي الوقت ذاته، لا يمكن للجارة الشرقية أن تسمح باختراق قدرات سماحة السيد والتعرّض لشخصه لكونه واحد من الرهانات الأساسية التي بُنيت عليها مجمل العملية السياسية بهدف إبقاء سطوتها وإدامة تحكمها في إدارة البلاد مهما تغيرت الحكومات وتعددت الشخوص وتتالت الإدارات، إلاّ أللّهمّ إذا نوى العم سام وسانده أبو ناجي وحلفاؤُه الغربيون وفي المنطقة لإحداث التغيير القادم وفق معايير جديدة تحفظ القسم الأكبر من موازين القوى إلى حين.
من ناحية أخرى، من المؤسف ظاهريًا، ادّعاءُ جميع الأحزاب المشتركة في السلطة التوجهَ إلى الإصلاح والمطالبة بضرورة تغيير شكل منظومة الحكم كلّ حسب رؤيته الضيقة والخاصة حفاظًا على المكاسب وإدامة المغانم والنفوذ. إلاّ أنّ معظمهم في الوقت ذاته، يسعى للتشبث بالسلطة بأسنانه وأيديه ورجليه وبكلّ ما يقوى عليه من فعلٍ وتشهيرٍ وتأثيرٍ وقولٍ لا يخلو من وعيد وتهديد أحيانًا والإيحاء للأتباع والموالين في طرف الأغلبية العددية بخسارةٍ لحقوق المكوّن الأكبر. وهي السمة الملاصقة لهذه الجماعة التي زرعت مفهوم الخشية من فقدان الحكم والنفوذ عبر تعزيز أدوات مذهبية وأخرى أيديولوجية ضيقة وترسيخ شعائر طائفية لإبقاء الشعب البسيط ضمن هذه الدارة من التديّن الظاهري وفي إبقاء الفاقة وتقديس الشخوص والرموز، ومنها رموز السلطة وما يوازيها من سلوكيات بعض وعّاظ السلاطين من المنتفعين من خلف موائد الزعامات السياسية القومية منها والمذهبية. أمّا التعويل على تثوير الشارع الناقم على الوضع العام كما حصل في ثورة تشرين غير المكتملة، فقد يكون له مبررّاته الآنية، في الوقت الذي لا يمكن التكهّن بمدى نتائجه الإيجابية على الصعيد الوطني، العام والخاص من دون تجاهل تأثير القوى الخارجية ودول الجيرة. ويبقى الفسادُ ورموزُه أقوى من الشعب!

 

47
الحضور المسيحي خميرة فاعلة في عجينة مشوّشة
لويس إقليمس
بغداد، في 3 تموز 2022 
مهما حاولت قوى الشرّ والظلامية أن تدقّ أسفينًا بين الشرائح الأصيلة في عجينة العراق الحضارية الناصعة والتاريخية اللاّمعة، فإنّ قدراتها ستنتكس ومحاولاتها البائسة ستتراجع مع كلّ خطوة وطنية إيجابية يخطوها الغيارى من أبناء العراق ومحبيه الأصلاء. إن التاريخ خيرُ بشيرٍ وأحسن دليلٍ لمثل هذه القوى البائسة التي يطيبُ لها العيش في دياميس القرون المظلمة التي سادَت فيها أدوات التكفير وغذّت أوارها رؤوسٌ عفنة تدّعي الدين والتديّن كذبًا ونفاقًا، وهي لا تستحق الحياة ولا ترقى لاستنشاق هواء الوطن والارتواء من مياه نهريه الخالدين اللذين شاءت قوى الشرّ والغدر من خارج الأسوار في أواخر السنين العجاف أن يعيثوا بهما تدميرًا وتجفيفًا وتدنيسًا بسبب ضعف الحكومات المتعاقبة بعد الغزو الأمريكي الطائش وبدعمٍ سافرٍ من دول ساندة كانت حاقدة هي الأخرى على مسيرة البلاد وقيادته الوطنية السابقة، بعيدًا عن أي حكمٍ على سلوكيات رأس النظام السابق والمحيطين به. فالعراق تاريخيًا، بُعَيدَ دخوله خانة الاضطرابات والانقلابات العسكرية المقيتة منذ نشأته في 1921 تحديدًا، لم تشفع له كل الصلوات والدعاءات والتوسلات بعودة شعبه وأرضه وسمائه إلى ماضيها المشرق وهدوئها المعهود نسبيًا أيام كان جزءً من الاستعمار البريطاني وهيكلية بنيته السياسية وطريقة تفكيره وعيشه وتقييمه للأوضاع، بالرغم من استهجاننا الصريح ظاهريًا لتلك الفترة الاستعمارية واستغلال المحتل للحالة الهشّة للمجتمعات والقصور في الأداء الوطني لرجال ذلك العهد. ولكن بشهادة الكثيرين، لم تشهد تلك الفترة بروز نعرات طائفية أو علوّ صيحات تكفيرية أو أشكالٍ واضحة من حالات التعصّب ضدّ مكوّنات بحدّ ذاتها لغاية دخول البلاد فترة الغزو الأمريكي السوداء وفتح أبواب الفوضى الخلاّقة على مصاريعها لجماعات من خارج الأسوار، كان جلُّ همّها الاستيلاء على السلطة من أجل اللصوصية ونهب ثروات البلاد من كلّ بدّ وبشتى الوسائل والطرق تحت أنظار المحتلّ وبدعمٍ من أدواته الشيطانية في أحيانٍ كثيرة. وهذه حقيقة لا يمكن نكرانُها. بل يَعتدُّ بها ولا ينكرُها أصحابُ الباع الطويل في حكم العراق بدعم من الغزاة ودول الجوار تحديدًا.
 
صورة الحضور المسيحي في سجلّ الحقبة الوطنية
يمكن القول أنّ فترة الحكم الملكي، قد تكون في نظر البعض من أفضل الحقب التي عاش فيها العراق وشعبُه حياةً شبهَ مستقرّة بفضل وطنية الأسرة الملكية والفريق السياسي المحنّك المدعَم بالوطنية الصحيحة الصادقة الذي كان يقود دفة الحكم بحيث أصبحت البلاد حينها نقطة تنويرٍ واستقطاب إقليمي ودوليّ في الكثير من المهمّات والسياسات بفضل العم "أبو ناجي" الذي يتمنى الكثيرون في هذه الأيام العصيبة عودة صولجانه إلى الواجهة بأي ثمن في زمنٍ ضاعت فيه البلاد وتلاشت مؤسساتُها وانكسرت شوكتها وتفاقمَ ضعفُها وآلتْ إلى فريسة هشّة لا حولَ لها ولا قوّة حين تكالبت عليها أيادي رزيلة وعقول خاسئة وساسة الصدفة من مزدوجي الجنسية أو من المنتفعين المرتبطين بأجندات دول الجوار الطامعة. فمعظم هذه الطبقة السياسية لا تستحق اليوم أن يذكرها التاريخ لضعف مواقفها الوطنية وضحالتها في الفعل والعمل والتفكير والتخطيط، إنْ لمْ نقل لعمالتها للغير الطامع من خارج الأسوار وأشكال الولاء المقدّمة جزافًا. فلا برامج حقيقية لإنعاش الحياة وتنمية البلاد وتنشيط الخدمات، ولا استراتيجيات لضبط بوصلة الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والعلمي والصناعي والزراعي، ولا حدود للسرقة واللصوصية وهدر المال العام الذي يتطلب محاسبة شديدة من القضاء المسيّس في جزئيات من مواقفه السلبية، ما سيجعل الأجيال المظلومة الصاعدة وغيرها من التي لم ترى الحياة بعد أن يكون لها رؤية ورأي في العديد من المواقف المخزية لأحزاب السلطة منذ 2003. 
في هذه الأيام العصيبة، من المؤسف القول إنّ كلَّ مَنْ صفّقَ لقدوم المحتل وفرحَ حينها بزوال النظام السابق بتلك العملية البشعة في القضاء على وجوده الدستوري، بالرغم من كل الملاحظات السلبية حول أداء نفرٍ طاغٍ من أزلام هذا النظام، فإنّه اليوم يعضّ أصبعًا ويترك أخرى أسفًا على فقدان دولة وضياع مؤسسات دستورية وغياب عقولٍ وطنية كانت في عمقها الوطني والإنساني لا تمتّ بصلة لشكل النظام السابق في طغيانه وجبروته وظلمه، بل كان سجلُّها الوطني خير مدعاة للفخر والتباهي في نزاهة شخوصها وحرصهم الوطني لأجل تقدم وتنمية البلاد وتعزيز مؤسساتها الدستورية والإدارية والجغرافية وتطوّر أجيال المستقبل بالأمانة والإخلاص في العمل. كنّا نعيش في دولة يحميها القانون الذي يحرّمُ أي تجاوزٍ من طرف على آخر أو مكوّن ضدّ غيره المختلف معه أو فردٍ يدّعي التميّز على حساب الشعب، ما عدا بضعة أطرافٍ طاغية شاذة تابعة ولصيقة برأس النظام. وهؤلاء في حقيقة أمرهم، كانوا شلّةً معزولة في نظامهم وطريقة عيشهم وأدوارهم المخيّرة أو الاضطرارية لمسايرة نفرٍ متنفذٍ خارج أصول السلطة وقوانين الدولة ورقابة المواطن. وقد ندم أركانُ النظام السابق على هذه الهفوات بل الخطايا الكبيرة التي اقترفتها جماعات غير منضبطة محسوبة عليه وأدّوا عنها ضريبة الحياة. وما أبشعها من ضريبة بعد السقوط الدراماتيكي! فمَن لم يكن يضربُ بحائط السلطة ورأس نظامها كان في أمان، ومَن تجرّأ بغير ذلك طالته يدُ السلطان الأعظم بظلمها وعنجهيتها وجبروتها وطغيانها.
إنّ ما عانته البلاد وشعب العراق من تدمير وتخريبٍ في الفكر والفعل وتبديد الثروات الوطنية على يد الفساد والإرهاب متعددَي الأشكال معًا بعد الغزو الأمريكي كان الأبشع الذي سجّله التاريخ. حتى المغول والتتار لم يبلغوا ما بلغه ساسةُ الصدفة وأحزابُ السلطة وأدواتُهم والجماعات الخارجة عن القانون التي شغلت مواقع في الدولة العميقة من هدم وتخريب ودمار في كل مفاصل الحياة، وكأنَّ قدومَهم على ظهور الدبابات الأمريكية أو بدعمٍ من إدارتها لاحقًا، كانوا قد بيّتوا النية لمثل هذا الدمار الذي قلع الحرثَ والأرض وجرف الفكر والضمير ونصّبَ بديلاً عنه شعار: "كلّ شيء مباح، وحلالٌ استباحة ثروات البلاد، وإجازةُ التنمّر واستغلال الفئات والشرائح الهشّة قليلة العدد في البلاد"، التي خطّط لها الغازي الأرعن والدول المتحالفة معه لقلع جذورها من البلاد وإحالتها لرحمة الاغتراب والنزوح والتهجير بعد مؤامرة دخول "داعش" بتلك الطريقة المأساوية الخاسئة. والخاسر الأكبرُ دومًا هو الوطن المثخَن بالجراح وشعبُه المتهالك الراسخ في البؤس والفقر والفاقة، وصولاً وحصولاً لخسارة في شرائح متميزة من العقول والكفاءات المهاجرة وما تحملُه هذه في بواطنها من أفكار وقدرات وأخلاقيات عالية معطاءة في الكثير من الميادين. ومنهم بطبيعة الحال، تلك الشرائح الأصيلة والمتأصلة في العمق التاريخي والحضاري والبنيوي في حديقة الوطن الكبرى المتمثلة أكثر من غيرها بالمجتمعات المسيحية والإيزيدية والصابئة المندائية الأكثر عرضة للتهميش وخرق الحقوق والاستهانة بمقدراتها. كلّ هذا في وقت كانت مجتمعات "الأقليات" هذه تُعدّ مصدر غنى واقتدار وتفاخر، بل تزهو في كلّ شيء وتتميّز عن غيرها ببروزها كواجهة زهرية معطَّرة بأريج الوطنية الخالصة والحرص والأمانة والوفاء كسمات متلازمة في حياتها بشهادة أهل البيت وخارجه. أليس ما حصل من تهجير وتغريبٍ ونزوح يدخل ضمن هذه النظرية الاستعمارية للغازي الملعون بإفراغ البلاد من طاقاته وتركه فريسة سهلة للدخلاء والغرباء وأهل الولاء الخفي والمعلَن للغير الطامع؟ هكذا كانت الصورة الحقيقية لهذه المكوّنات الفاعلة في المجتمعات العراقية، خميرةً حية وسط عجينة مشوّشة متهالكة مثقلة بهموم الفساد والأحلام الوردية بالسطو على السلطة وممارسة اللصوصية والقتل والتدمير لكلّ شيءٍ قد يعيقُ طريقها عبر استغلال واجهة الدين والطائفة والمذهب وقدسية الشخوص التي حرّموا لمسها جزافًا أو التقرّب من سطوتها وطموحاتها.
لقد اقترف الغزاة جريمتهم البشعة بحق العراق وشعبه عند الإتيان بحكومات طائفية ومذهبية تدين بالتمييز والتفرقة، وتجيز الكسب الحرام والانتفاع والمغانم والإثراء على أساس الدين والمذهب والطائفة ضمن نظام محاصصاتي توافقي تشاركي بغيض. وما تزال ذات الجهات والأطراف المتشاركة والمتوافقة في الحكومات المتعاقبة تسعى للعودة لذات المبدأ في الحكم الذي أثبت على مدى 19 عامًا أعلى بيانات الفشل والإحباط والسقوط في هاوية الخطيئة الكبرى بحق هذا الوطن وشعبه باعتراف أركان السلطة وعددٍ من رموزها وزعاماتها علنًا وعلى الملأ، طالبين من الشعب المغفرة والعفو بسبب خذلانهم لشعبهم وناخبيهم وسرقة أحلام مواطنيهم وتبديد ثروات بلادهم وإعادة العراق إلى عصور الظلام والقهقرى والتخلّف في كلّ الميادين والقطاعات. ونقولُها بصريح العبارة، في حالة عودة زعيم حزب الدعوة المثير للجدل في ولائه وخيانته للأمانة الوطنية إلى المشهد التنفيذي لثالث مرة تفرّدًا بالسلطة، حينها ستحلّ الكارثة الكبرى وستُدقّ آخر المسامير في نعش البلاد الجاهز للانتقال إلى مرحلة ما بعد الدفن المجهولة. وهنا لن ترحمهم صرخات الشارع الذي سيثيره حتمًا زعيم التيار الصدري وأتباعُه في أية لحظة مع تحرّك موازٍ لثوار عراقيين تخطّوا مرحلة التشرينيين. وما على الشرائح الهشة في المجتمع العراقي إلاّ الاستعداد لمثل هذه المرحلة المجهولة الهوية والمصير، ومنها بطبيعة الحال المجتمع المسيحي الذي مازال يتلقى وعودًا عرقويبة بالدعم وإدامة التواصل مع صنّاع العملية السياسية في وسائل الإعلام لأغراض دعائية بحتة من دون تنفيذ على أرض الواقع.

أين يقع الحضور المسيحي اليوم؟
    وسط الإرباك العارم في الوضع السياسي المتعقّد أكثر ممّا مضى بعد انسحاب نواب التيار الصدري وتقديم استقالات جماعية بأمرٍ من زعيمهم المثير للجدل، بدأت الهواجس والمخاوف تدبّ في أوساط المجتمع العراقي ولاسيّما الهشّة فيه من تلك التي تخشى على ما تبقى من وجودها ومستقبلها المجهول وسط صراع القوى المتنازعة من أجل الثروة والسلطة والنفوذ باستغلال الوازع الديني والمذهبي والطائفي سلاحًا جاهزًا لإدامة المكاسب والمغانم التوافقية والتحاصصيّة القائمة منذ تشكيل أول حكومة فاسدة بعد السقوط. صحيحٌ هناك سعيٌ حثيثٌ من جهات كنسيّة وشخصيات مسيحية فاعلة تسعى للحفاظ على ما تبقى من المجتمعات المسيحية وتثبيت حضورها الفاعل والمتفاعل مع باقي شرائح المجتمع العراقي بسبب قدراتها الإنسانية وأخلاقياتها العالية في التعامل مع الآخر المختلف عنها في الدّين والفكر والمبادئ. وهذه سمة متلازمة لا يمكن نكرانُها في أي وسط أو مقامٍ أو اجتماع، سواءً كان فيه الحضور المسيحي قائمًا أو غائبًا. فالشمس لا يمكن أن يخفيها غربال، والكلمة الطيبة الصريحة نعمة وصدقة.  لكنّ هذه المساعي تصطدمُ دومًا بواقعٍ يختلف عن الوعود المقطوعة لهذه الجهات التي قد لا تمثلُ عموم المجتمعات المسيحية في البلاد، مع عدم نكران أهميتها وقدرتها في الوقت ذاته على المناورة والتفاعل الجادّ الحكيم والعقلاني مع أدوات السلطة ورموزها في تبنّي بعض المطالب وتأشير مواقع الخلل هنا وهناك بفضل جرأتها وشجاعتها في انتقاد الخلل أينما وجد. بل إنّ ما تقدّمه هذه الجهات الكنسية الرسمية في وسائل الإعلام وفي اللقاءات مع مسؤولين في الدولة يُعدُّ مدعاةً للفخر وبيانًا واضحًا للحرص الوطني قبل غيره من المطالب الضيقة لصالح هذا المكوّن أو ذاك، وذلك انطلاقًا من بقاء الشعلة التي يحملها الحضور المسيحي وقّادة طيلة السنوات العجاف المنصرفة منذ السقوط المأساوي في 2003. 
ما لا يمكن تجاهلُه  اليوم، كونُ المجتمعات المسيحية أكثرَ من غيرها، ما تزال تنبض بالحياة وتعكس حبّ الوطن والوفاء له ولأهله ولحضارته وثقافته وسط الكمّ الهائل من الخروقات والتراجع في القيم الوطنية الغائبة في أوساط معظم أحزاب السلطة وأتباعهم وسواهم من المدّعين بالدّين والتديّن وقدسية الشخوص والمراسيم المذهبية العجيبة الغريبة المستفزّة لمشاعر شرائح واسعة من المجتمع على حساب الوطن والعبادة الصحيحة الخالصة لخالق الكون ورب السماوات والأرض والعناصر، الرحمن الرحيم الذي لا يخذلُ عبادَه الصادقين ويكشف المدّعين باسمه والقاتلين والتكفيِريّين ضدّ المختلفين عنهم في الدّين والمعتقد والمذهب والطائفة، ويرفضون الترحّمَ عليهم لاختلافهم معهم. فالكنيسة ورجالاتُها في طول البلاد وعرضها، يبذلون جلَّ ما في وسعهم لتعزيز قيم الأصالة والوطنية والوفاء والصدق والأمانة في أوساط المجتمع العراقي بعمومه، وليس لأتباعهم فحسب. فعندما يتحدث كبيرُ رجالات كنيسة العراق، غبطة البطريرك الكاردينال لويس ساكو أمام نفرٍ من أتباعه في أية مناسبة، فإنّه يوجه كلامَه لجميع العراقيين من دون استثناء ولا تمييز ولا خشية أو استحياءٍ من أحد. وهذه من شيم رجالات الدولة الحقيقيين الذين يحملون رايات الإنسانية على كفّ ومصير أتباعهم ومواطنيهم في كفّ آخر ويفكرون مليًّا في بناء البشر قبل الحجر وتنمية مواهبهم وتعزيز قدراتهم الوطنية والزجّ بكفاءاتهم العقلية والفكرية والعلمية من أجل بناء الإنسان وتنمية الوطن وتغيير الصيغة النمطية الخاطئة التي دمغت المشهد السياسي بأشكال الفساد والنفاق والكذب والخذلان واللصوصية والتزوير والترويج لعادات وأعراف بالية تدمّر الإنسان العراقي ولا تبني وطنًا، مثل الدكّة العشائرية والفصل العشائري وسيادة التمييز على أساس ديني ومذهبي وطائفي والتغاضي المتعمّد أو تقديم الدعم والإسناد والتغطية على فعل الترويج لآفة المخدّرات المدمّرة القادمة من الجارة الشرقية بخاصة.
ما تفعلُه جميع الكنائس اليوم وعلى رأسها رجالاتُها القيّمون الأمناءُ على مؤمنيها، هو لمّ الشمل كما الدجاجة تفعل حيال فراخها وتحرص على رعايتهم والعناية بمشاكلهم وتشجعُ رسوخهم في بلد الآباء والأجداد لكون الأرض أرضَهم قبل غيرهم من الأدعياء والطامحين بممتلكاتهم ومواقعهم والطامعين بشرف نسائهم وبناتهم بأي ثمنٍ. لقد عانى عموم الشعب العراقي من جرائم الإرهاب والتكفير والاستهانة والاستخفاف. ولكن المتضرّر الأكبر كانت الشرائح الأكثر هشاشة فيه، ومنهم أبناء "الأقليات" التي أحالها الزمن الغادر إلى هذه التسمية الفجّة الظالمة بعد أن كانوا يشكلون الأغلبية في غابر الأزمان الوردية الجميلة. واليوم لا نعرف ماذا يخفي لنا الزمن من مفاجآت وأزمات وصعوبات. ولكن، في النهاية لن يصحَّ إلاّ الصحيح عندما تعود موازين البشرية إلى طبيعتها بايّ شكلٍ من الأشكال أو الطرق التي تحصل، وقد لا نحلمُ بها اليوم بسبب الغشاوة الغبراء التي تغطّي البشرية المتهالكة بعد أن غاب عنها الضمير وفقدت بعضُ مجتمعاتها أخلاقياتِ السلوك وأصول الحياة التي أمرَ بها سيّد الكون لتكون في متناول جميع البشر بالتساوي ووفقًا للكفاءة والجدارة والعمل الصالح. وسوف يأتي اليوم الذي تختفي فيه مظاهرُ القتل والدمار والعنف، ويعود البشر إلى جادة الصواب بقدرة رب السماء والأرض وعودة الابن الضالّ إلى الحضن الأبوي ومعه الحظيرة البشرية إلى الطريق القويم الذي ينكر ويستنكرُ أية مظاهر سلبية لا ترضي الله وخليقتَه السامية.
هذا هو تقييمُ الكنيسة للوضع المأساوي الشاذ في بلاد ما بين النهرين. فالمسيحيون سيبقون عصب هذه البلاد وجزءً أساسيًا في قامتها السامقة لكونهم الرمز والنواة والشراع الذي لا يتمزّق في سفينة المجتمع العراقي عبر حضورهم المؤثر والخلاّق والمتميّز في كلّ شيء. فهُمْ كانوا وسيبقون الخميرة التي تؤثّرُ في العجينية كلّها لتخمّرّها بطيب النكهة المتميّزة في حياتهم وسلوكهم وأخلاقهم النابعة من إيمانهم وثقتهم وإخلاصهم ووفائهم للأرض والسماء والماء بفضل عبادتهم وإيمانهم بالله الواحد الأحد وسيدهم المسيح مخلّص البشرية بموجب المشروع الخلاصي الذي يُعدّ ركنًا اساسيًا في هذا الإيمان.
سلامٌ وبردٌ على جميع أهل السلام والوئام من حاملي مشاعل المحبة والغيرة والوفاء والإيثار لصالح الوطن وأهله!


48
براعة ممثل ووضاعة كومبارس
لويس إقليمس
بغداد، في 2 آب 2022

من المخجل جدًّا أن تشهد الأوساط السياسية العراقية، الحكومية منها والتشريعية والخاصة، تهافت سياسيّي اليوم الأغبر وتصاعد حدّة تنافسهم للقاء قادة وساسة دوليّين بمناسبة وبدون مناسبة. والأكثر تعاسة ووقاحة في أمرهم التسابق لالتقاط صورٍ تذكارية تؤرّخُ تاريخهم التعيس وتفاهة البعض منهم في الظهور بمظهر الأبطال والمنتصرين والعائدين من سوح معركة مصيرية يحسبونها قد نقلت وضع البؤساء والجياع والضائعين من شعب بلاد النهرين إلى حالٍ يُحسدون عليها في الرفاهة والشبع والقناعة واطمئنان الوضع المادّي والاقتصادي والخدمي وكل ما يمسّ حياتهم اليومية التعبانة حدّ النخاع.
لا أرى في مثل هذه المظاهر الطنّانة الزائفة التي لا تخرج عن نطاق الدعاية والإعلان بالولاء والتبعية والخضوع للغير المهيمن على مفاصل الدولة العراقية السائبة غيرَ حقيقةٍ واهية وادّعاءً بتقديم أمثال هؤلاء الأبطال الورقيين أنفسَهم زعماءَ وقادة في فترة الضياع والمتاهات التي ضربت أطنابَها بعد اغتيال أحلام العراقيين عمومًا، وأخًّصُّ منهم أهلَ الداخل الذين صبروا وجاهدوا وانتظروا ليأكلوا بالتالي حصرمًا ويشربوا أوجاعًا وآلامًا ومصائب رافقتهم منذ يوم السقوط الأغبر في 2003. أقول أهلَ الداخل، لتمييزهم فحسب عن مزدوجي الجنسية المستحوذين على أعلى مناصب الدولة والذين ليس في جعبهم ما يقدّمونه حقًا لأهل الداخل المكتوين بنيران عمالة ساسة اليوم وفسادهم. فقد فاق هذا الأخير كلّ التوقعات وأصبح ظاهرةً وقاعدة، وما يخرج عن نطاقه صار شذوذًا وغير مقبولٍ، لا شرعًا ولا عشائريًا ولا وطنيًا بعدَ أن غادرت الوطنية ضمائرَ وعقول وإرادات أشباه الساسة من الولائيين لدول الجوار والمقتاتين على موائد دول العالم، وعلى رأسهم راعية الفوضى الخلاّقة وفاتحة خزائن البلاد للسرّاق واللصوص وناهبي المال العام، وأقصد أمريكا المتعجرفة. وهذه سيأتي يومٌ ليشهد العالم الحرّ سقوطَ امبراطوريتها المبنية على قهر الشعوب وخلق الأزمات ونهب ثروات الدول الضعيفة، ومثلُها دول الغرب الخانعة لسياستها المغرضة وغير الإنسانية في التعامل مع الشعوب المغلوبة. وكأنّي بهذه الفئات التي ارتقت المشهد السياسي بدعمٍ من الغازي الأمريكي الأرعن وتابعيه بالطريقة المقيتة والوقحة التي شهدناها، تريد تأكيد خنوعها وتبعيتها وعمالتها على الملأ بتقديم فروض الطاعة جهارًا نهارًا بعد أن أدّوا المهمة الموكلة إليهم بكلّ "أمانة" ونالوا استحقاقاتهم من مناصب ومكافآت ومكاسب بفعل الفساد المستشري والغَرف واللغف من ثروات البلاد لغاية تأسيس امبراطوريات عقارية في الداخل والخارج، أو فتح حسابات مليارية ومليونية في بنوك الغرب والدول الإقليمية والجوار سواءً بأسمائهم أو تحت عناوين أخرى من مسميات أقارب وأدوات وأتباع، أو زرع أتباعٍ لهم في كلّ مفاصل الدولة، أو في التباهي بالانتماء الأيديولوجي لجهاتٍ جلّ همّها وأدُ أيّ مسعىً للخروج من الأزمة المستفحلة بفعل ما تبقى من الوطنية العراقية الساعية لإعادة الأمور إلى نصابها وطرد المتجاوزين والدخلاء والأغراب عن البلاد من فئة الذيول والمقتاتين على موائد دول الغرب التي آزرتهم وتنتظر منهم عودتهم بأصولٍ وثرواتٍ منهوبة من بلادهم السائبة الغارقة في الفوضى واللاّاستقرار.
لعلَّ أفضل صفة تليق بمعظم أفراد هذه الجماعات التي تتحكم بمصير البلاد تكمنُ بوصفهم كومبارس لمدّعي الفن. فهؤلاء يتظاهرون بالرقص على خشبة المسرح دون أن يعلموا أو يدركوا أنهم دمى أو أشبه بعرائس خشبية لا تحسنُ الرقص الأصيل أمام ممثلٍ بارعٍ يجيد توجيهها واستغلالها لنزواته وأغراضه وأهدافه، أو أمام قائد سيرك ذكيّ يعرف ترويض حيواناته وتوقيت دخولها وخروجها وإتلافها أو استبعادها بعد الانتهاء من أدوارها الوقتية الموكلة إليها. هذا بعكس الساسة ممّا تبقى في البلد من الوطنيين من مثقفين وأكاديميين وإعلاميين واقتصاديين وعاملين في القطاع الخاص المهمَل والمستبعدَ من العملية الاقتصادية وعملية التنمية ومن غيرهم من الحريصين على إعادة عقارب الساعة إلى وجهتها الصحيحة بعد أن وجّهها الغازي الأمريكي ودعاتُه في كلا الحزبين التقليديين فيها ومعه أتباعُه من دول الغرب الأعمى اللاّهث وراء سراب إدامة القطب الواحد الذي لم يعد يصلح أمام التسونامي الأسيوي المتمثل بالتنين الصيني الذي يطغى اقتصاده اليوم على براعة أية دولة أخرى. وفي حالة تقرير هذا الأخير تولّي ناصية إدارة العالم اقتصاديًا، فلن تقف أمامه حدودٌ ولا عوائق ولا صعوبات في حالة انضمام الدبّ الروسيّ إليه والذي يقف اليوم بعناده الشرس أمام الطغيان الأمريكي الفارغ الذي يسعى لإدامة حربٍ ضروسٍ خارج منطقته والتلذّذ بنتائجها وتأجيج نيرانها بتجهيزاته المتواصلة لأدواتها وتشغيل ماكنته التسليحية والحربية ودوام سعيرها بين خصمه الروسيّ اللدود وعروسته الجميلة أوكرانيا التي فقدت عذريتَها واضطرّت للاستنجاد بالغرب الذي لا نعلم مدى قدرته على تحمّل النتائج الكارثية في حالة ديمومة الصراع في عقر داره. وبالتأكيد، كلّ الدلائل تشيرُ إلى تعذّر استمرار تحمّل الغرب والعالم لكلّ التبعات والنتائج والأزمات إلى ما لا نهاية.
من هنا كان الفرق بين دول الغرب التي تدّعي في تمثيلها البارع ناصيةَ إدارة العالم وبين أشباه الممثلين المهزوزين من الذين تسارعوا باللهاث وراء أجنداتها لتنفيذ ما مطلوب منهم في بلدهم بعد أن أنكروا نعمَه وداسوا على سيادته ودمّروا اقتصادَه وأفقروا أرضَه وأفرغوا مياهَه وجفّفوا منابعَ أنهاره بفعلِ عمالتهم وضُعف أدائهم الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والخدمي وأفعالهم المخجلة وأجادوا ارتكاب الجرائم وتنفيذ سرقات والحصول على رشى وزيادة فسادهم في الأرض نتيجةً لفقدانهم توازن العقل وغياب الضمير والحرص الصحيح على البشر والحجر معًا. وبهذه الأفعال والسلوكيات الشائنة وغير المعهودة في العملية السياسية الفاشلة التي فقدت شرعيتَها، وبسبب استمرار الصراع على المكاسب الفئوية والنهج الطائفي في المحاصصة، وتفضيل دولة المكوّنات على دولة المواطنة التي تعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَه في الحياة والوظيفة والعدل والأمان والمساواة، يكون العراق قد خسرَ شعبَه وأرضَه وحضارتَه وثقافتَه التي ميزته عن شعوب وأمم المنطقة وابتعد في حضوره التاريخي بين هذه الدول بسبب فقدانه لسيادته وتسليم مصيره كضحيةً ضعيفة لدولة "الأرجنيتين" الشرقية المجاورة التي أُنيطت بها مسؤولية التحكم بمقدّرات العراق بالوكالة حتى تحين الساعة ويتقرّر المصير بدعم الراعي الكبير!

دروسٌ في الديمقراطية وعبرٌ في السياسة
يبقى السؤال قائمًا: هل يتعلّمُ الجيلُ الصاعد من ساسة العراق من دروس الشعوب كما فعلت "تونس" مؤخرًا بخطوتها الجريئة بإجراء استفتاء على دستور جديد قلبَ المعادلة ووضع حدودًا لفساد الأحزاب الإسلامية التي تربعت على حكم هذه البلاد العربية الأفريقية بعد ما يُعرف بالربيع العربي التي انتهكت الديمقراطية "البورقيبية" التي أسست لدولة مدنية متطورة منفتحة لسنوات وخسرتها بعد تصاعد موجة الأحزاب الدينية والإسلامية منها بصورة خاصة التي أوغلت في الفساد بغطاء الدين والمعتقد والمذهب؟ وهل يوافق زعماء السلطة الذي تحولوا لإقطاعيات مالية واقتصادية وأمراء عصابات وجماعات مسلحة على تغيير الدستور أو تعديله على الرغم من قناعتهم باحتوائه على مطبات وألغام قابلة الانفجار كما حصل ويحصل منذ أكثر من ثمانية عشر عامًا من حكم الأوليغارش العراقي الفوضوي؟
هذه حالُ العراق البائسة! وما على الشعب إلاّ الصحو من غفلته وترك مساحات بؤسه وغفوته وتخلفه عن الركب العالمي والإقليمي كي يضع حدّا لهذه جميعًا. وفي انتظار شجاعة الفرسان الجدد من ساسة الجيل الجديد ومؤيديهم وداعميهم، بعد أن يئس العراقيون والوطنيون الصادقون من وعود الجماعات والأحزاب الدينية الفاسدة بمعظمها، فإنّ العهد والعقد والرهان معقودة بأجمعها في عزيمة "تشرين جديد" يحملُ في ثناياه قرارًا بتعديل الدستور العراقي الأعرج، لا محالَ، وبعيدًا عن تأثير أحزاب السلطة الحاكمة. وهذا لن يكون ممكنًا إلاّ بحصول تسونامي جارف لاستبعاد هذه الأحزاب، وتنحية زعاماتها المتاجرة بحقوق الوطن وأهلِه بسبب تأسيسها لنظام التحاصص والفساد والتغطية على الفاسدين وضمان عدم محاسبة المفسدين في الأرض، وإبعاد القضاء عن هذه المسرحية الفاشلة بعد أن تمَّ تسييسُه وتجييرُه لصالح طبقة حاكمة وجهات سياسية وحزبية مذهبية وطائفية بنتْ امبراطورياتها المالية والاقتصادية والسلطوية والوظيفية طيلة سنوات حكم الحزب الدينيّ الذي ثبتت عمالتُه منذ توليه السلطة بعد السقوط بيد الغزاة في 2003 ولغاية الساعة رافضًا المغادرة بأيّ ثمن حتى لو جرى حرقُ البلاد بأهلها وحجرها وسمائها. فعبارة "ما ننطيها" تعبّر بوضوح لا يقبل الشك عن رفض الأحزاب الماسكة للسلطة إسلامية التوجه والعقيدة والمذهب في معظمها، لأية مساعي لتسليمها سلميًّا بعد ثبات فشلها في إدارة البلاد وشؤون العباد، وكأنّ الديمقراطية في عقيدتهم وأيديولوجيتهم تعني ضمن ما تعنيه ترسيخَ برامجِهم السياسية عبر الدين والمعتقد والمذهب. فواقع الحال يكشف بإنّ الديمقراطية الصحيحة لا مكانَ لها في قواميسهم لكونها نظامًا مخالفًا للإسلام، بل كفرًا، عقائديًا وفقهيًا وشرعيًا.
نظريًا، عندما تتحدث معظم الأحزاب الدينية ورموزُها أو تدّعي الديمقراطية والوطنية والمواطنة فهي في حقيقة واقعها بعيدة كلّ البعد عن هذه العناوين لكونها خارج حساباتهم "البيدرية" ولكون أي توجه ديمقراطي حقيقيّ يعني مشاركة وشراكة عناصر مكوّناتية أخرى تختلف في الدين والمذهب والعقيدة والقومية في السلطة وما فيها من مغانم ومكاسب وامتيازات جنبًا إلى جنب مع الفئة الإسلامية الحاكمة. وهذا ممّا يعني فقدان جزء من قدرات هذه الأخيرة ومكاسبها لصالح غيرها من الساعين لدخول العملية السياسية بحجة الديمقراطية. ففي نظر هذه الأحزاب الإسلامية، تبقى الديمقراطية شوكة في برامجها من أجل تكريس النهج العقائدي في تعامل رموزها وزعاماتها مع منتفعين آخرين من أبناء الوطن يحسبونهم دخلاء على نهجهم في إدارة السلطة والحكم. ممّا يعني الانزعاج في تقبّل ما يُسمّى بالتعددية السياسية والحضارية والثقافية في بلدٍ يتميّز بالتعددية الدينية والإتنية مثل العراق.
وهذا هو سبب فشل الديمقراطية التي أتى بها الغازي الأمريكي بإسقاطه نظام الحكم في 2003، بسبب انقلاب الأحزاب الدينية وزعاماتها ورموزها وأتباعها على برنامج الغزاة المعلن حينذاك عندما كانوا في صفوف المعارضة يتوسلون ويزحفون ويتمنون بلوغ السلطة مُكثرين ومزيدين وقاطعين من وعودهم وعهودهم وأيمانهم الغليظ للغزاة بفعل أيّ شيءٍ يُطلبُ منهم، وحتى بالاستعداد لتسليم مقدرات الدولة وثرواتها ومصيرها بأيدي مَن أتى بهم إلى الحكم من دون جدارة ولا كفاءة ولا برامج للتنمية والبناء والإعمار، بل للانتقام ونهب المال العام وبلوغًا للنفوذ والجاه والمال. فقد باعوا الوطن وأهلَه بسبب ضعف انتمائهم إليه وتمتعهم بجنسية ثانية تضمن لهم حياة آمنة وضمانًا اجتماعيًا وصحيًا مجانيًا، والأكثر من هذا وذاك عدم خضوعهم للمساءلة بسبب سرقاتهم لدولتهم الأصلية. وهذه هي حال الدول ذات الأنظمة الثيوقراطية ايضًا، أي تلك التي تعتمد في برامجها على تأثير الدين والعقيدة والمذهب وقدسية الأشخاص للتأثير في نفوس وسلوكيات مواطنيها. بل إنَّ أيَّ مساسٍ بهذه المسميات تعدُّهُ كفرًا وخروجًا عنها، ما يستوجب الحكم الإلهي، وذلك تخويفًا وترهيبًا للبشر الصاغر البسيط الضعيف الإرادة، كما يحصل عندنا اليوم. وكما يرى بعضهُم، فإنّ ما يمنع الديمقراطية عن الإسلام السياسي مشقةٌ كبيرة تستوجبُ "طفرَ هذا الأخير لبحرٍ وليس لنهرٍ"، فحسب، كي يبلغ ثقافتَها ويعي دورها في بناء الأوطان وتنميتها وإلحاقها بركب التطور والحداثة في كلّ شيء، ولكنْ على أسس العدالة والسلام والمساواة والولاء للوطن والشعب والجدارة في خدمة الاثنين قبل كلّ شيء وأيّ شيء. فالمسافة بين الساسة والشعب ووطن الشعب تتسع يومًا بعد آخر! 


49
أرضُ السواد، دارُ البوار
لويس إقليمس
بغداد، في 1 تموز 2022
ماذا لو تحولت أرضُ الرافدين من سمة أرض السواد إلى صفة أرض البور والبوار والهلاك والدمار والقحل كالصحارى، أو انتقل شعبُها من خانة الشعوب التاريخية في حضارتها وثقافتها وتطلعاتها إلى أخرى متخلفة لا تضع في حسبانها سوى ما تقدمه بيوتات الدين والمذهب والطائفة من قيمٍ وأعرافٍ وعادات تخلى عنها الزمن المتطور وبقيت في عداد "كانَ" منذ زمن بعيد في بلدان عرفت المدنية الصحيحة والتطور التكنلوجي والعلمي والمعرفي.
ما يصيب العراق من مآسٍ بسبب الحرائق المتكررة هنا وهناك وأعمال التجريف الحاصلة بين فترة وأخرى في البساتين لأسباب غير معروفة الأسباب في العديد منها، سوف يقضي على ما تبقى من خضرة البلاد ومتنفسها الوحيد بعد تزايد التوجه الأعمى لإقامة القطع الخرسانية المتراكمة بصفة مولات ومشاريع غير منتجة في أية مواقع فارغة تتجه إليها أطماع الأشرار والمتنفذون في مؤسسات الدولة من أحزاب وأتباعها، بحيث صارت هذه الكتل الكونكريتية المتكررة مثار سخرية المواطن وأصحاب الذوق الرفيع والحريصين على إبقاء رونق المدن العراقية بقدر ما يستطيعون، وذلك رحمة بالأجيال القادمة. فتكرار مثل هذه النيران المستعرة في مكانات عديدة، وآخرها حريق غابات الموصل، إذا ما أُضيفت إلى منظر تجريف البساتين في مناطقها الجغرافية المعروفة سوف يحيل البلاد إلى أرضٍ بور هالكة بسكانها وفضائها لا محالة. فالمناظر مؤلمة حقًا وتدمع لها الأعين وتتحسر إزاءَها القلوب لدى مشاهدتها، ما سيؤدي إلى تصحّر ما تبقى من مساحات قابلة للزراعة وتعرّض البلاد إلى كارثة بيئية مجهولة المصير في حالة تباطؤ الجهات المعنية بمعالجة الواقع المزري بشتى الوسائل والطرق المتاحة وعدم ترك الحبل على الغارب مع دولتي الجوار المعنيتين. فهناك وسائل اقتصادية مؤثرة يمكن أن تأتي أُكلَها في الضغط على كلٍّ من إيران التي يخشى الولائيون في السلطة التحرّش بها، وكذلك تركبا التي تهمين على سوق العراق وتشكل مع إيران كفتي العراق الاستيرادية والاستهلاكية بلا منافس.
قبل أيام طلع علينا تقرير أو منشور خبري لشخص بيئي مسؤول في مدنية البصرة الفيحاء يشير إلى مقتل أو هلاك أكثر من ثلاثة ملايين نخلة في شط العرب في هذه المدينة العريقة، سواء إبّان حرب الخليج الأولى أو ما بعد الغزو الأمريكي عبر تجريف مساحات شاسعة لاستغلالها في مشاريع سكنية عشوائية قانونية أو خارج نطاق القوانين البلدية، ما أدّى إلى تراجع إنتاج التمور بصورة كارثية وخلق واقع بيئي سيّء للغاية.  فقد شاع استغلال واقع الأراضي الزراعية بتحويل صنفها من زراعية إلى سكنية في ظل غياب واضح لأية معايير مدنية ومعمارية وتخطيط حضري بسبب ضعف القانون وأدواته التنفيذية الموازية للضعف القائم في مؤسسات شبه الدولة منذ سقوط البلاد بأيدي الغازي الأمريكي وتسليمه لجماعات لا تمتُّ معظمُها لأية مسحة وطنية وفي غياب واضح لسلطة الدولة. وهذه كارثة وطنية وبيئية تتحمل نتائجَها وظروفَها الحكومات المتعاقبة قبل وبعد السقوط المأساوي للبلاد، سواءً نتيجة الحروب المدمّرة التي حكمت واقع البلد السياسي في حقبة الثمانينات ودمغت النظام السابق بالتسبّب بها، أو ما بعد زوال هذا الأخير واستلام السلطة من أطرافٍ ادّعت المعارضة الوطنية والمناداة بضرورة التغيير والإصلاح قبل استلامها السلطة. بينما تحوّلت هذه بمعظمها إلى غولٍ كاسرٍ ووحشٍ طامعٍ بالبلد وثرواته عندما سنح لها الغازي الأمريكي بفرصة فتح أبواب خزائن البلاد والغرف منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً حتى هذه الساعة عبر منظومة سياسية فاشلة اتخذت أدوات الفساد المختلفة سبيلاً لديمومة سطوتها وشرعنة سرقاتها ونهبها للمال العام والتغطية على بعضها البعض بسلوك الطمطمة والتغافل والتمادي.

رئة الموصل تلتهب والشارع ينتفض
يوم الأربعاء الموافق 29 حزيران 2022، شهدت منطقة الغابات الموصلية، رئة المدينة الرئيسية، حريقًا هائلاً التهمَ مساحةً شاسعة تربو على 80 دونمًا مزروعة بأنواع الأشجار مثل اليوكالبتوس والصفصاف والصنوبر والدردار والاسبندر وغيرها من الأصناف التي تتحمل أجواء المدينة. ويرقى تاريخ إنشائها إلى عام 1954 بحسب البعض بمساحة أولية لا تزيد عن 10 دونمات. ثم ما لبثت أن امتدت مساحتها لتصل إلى ما يربو على 900 دونم في الجهة الملاصقة لنهر دجلة الخالد في الساحل الأيسر. وأهالي المدينة لا تنسى ذاكرتُهم أهمية هذه المنطقة في احتضانها وزوارهم بين ظلال أشجارها الوارفة باتخاذها من أجمل المناطق التي يرتاح فيها أهاليها. فقد كانت ومازالت خير متنفسٍ ترفيهي لأهالي مدينة الحدباء ولزوارهم، وخاصة لطالبي الدراسة ممّن كان يطيب له مراجعة دروسه وتحضيرها في كنف اشجارها الباسقة أيام الصيف اللاّسع الحرارة بسبب ندرة أجهزة التكييف في الكثير من بيوتات المدينة في فترة السبعينات وما قبلها بصورة خاصة.
إزاء هذا الحادث المحزن، برزت لدى البعض شكوكٌ بكون الحادث مفتعلاً من أطراف وجهاتٍ متنفذة لها أطماع باطنية مضمرة ضن محاولات لتجريفها وتحويلها إلى فرص استثمارية للسكن وأهداف أخرى غير معلنة. وهذه إنْ تأكدَت التحقيقات في حالة إجرائها بصور مستقلّة ودون ضغوطٍ جانبية أو سياسية أو وجاهية، فإنها تعني كارثة بكل معنى الكلمة. فالسعي الحثيث من أطرافٍ مجهولة الهوية دائمًا لإنهاء حياة ما تبقى من أرض السواد سوف يقضي على رئة البلاد المتبقية. فهذه البقايا الخضراء الفقيرة الهشة في ضوء مثل هذه المحاولات الإجرامية من بشرٍ لا يستحقون الحياة ولا الارتواءَ من مياه النهرين الخالدين ولا استنشاق هواء بلاد الحضارات، تصارعُ اليوم حيتانَ الفساد مثلها مثل الشرفاء ممّا تبقى منهم من ندرة من حاملي مشعل التراث والعلم والثقافة والوطنية الحقيقية وغير المزيّفة التي يتهافت الادعاءَ بها مَن فتح الغازي الأمريكي الأبواب لهم لتدمير البلاد وإنهاء ما تبقى فيها من حياة ومياه وهواء وتسليمها أرضًا بورًا للأجيال المسكينة التي لم تولد بعد. فالبلاد اليوم، تصارع الفساد المستشري في أروقة مؤسسات الدولة ووسط زعامات السلطة وأتباعهم في كفّ، وتقارع أرباب الجرائم وأشكال الإرهاب ومروّجي المخدرات من جهة أخرى. في حين ليس لها حولٌ ولا قوة إزاء حالة الفوضى الخلاّقة القائمة في المجتمع من تنامي سطوة أتباع الدولة العميقة وتغطية الساسة والمتنفذين على مجاميع المشاغبين وأرباب الجريمة في القتل والخطف وسيادة العرف العشائري وعدم القدرة على كبح جماح السلاح المنفلت وحصره بيد أجهزة الدولة المعنية. هذا، ناهيك عن فقدان السيطرة على أشكال الرشى التي تُمارس في دوائر الدولة، المدنية منها والعسكرية والأمنية.
مع الاستمرار بانزلاق الأوضاع إلى المجهول بسبب صراع زعامات السلطة وتقاطع المكاسب وتنوّع المصالح التي تحول دون تشكيل حكومة قوية قادرة على استتاب الأمن وانتشال الاقتصاد من الهاوية وإهمال دور القطاع الخاص الذي يُعدّ العمود الأساسي في دعم اقتصاد أيّ بلد والتراجع في الإنتاج الزراعي والصناعة والخدمات التربوية والعلمية وما سواها، سوف تبقى الدولة عاجزة عن تحقيق إصلاحات جذرية في العملية السياسية المعطّلة. كما سيعمل التراخي والفشل في تنفيذ القانون بسبب ضعف أداء أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية على تدمير العقلية العراقية وعلى تقويض قدراتها في صدّ الخارجين عن القانون الذين في مجملهم يتذرعون بالاحتماء بجهات متنفذة في أجهزة الدولة ومؤسساتها وأحزاب السلطة على السواء. وهذه الحالة تنذرُ بسيلٍ هائلٍ من المشاكل والمصائب والأزمات التي ظهرت بعضُ تباشيرها السلبية عبر مظاهرات وأعمال قطع طرق وعمليات قتل وانتحار وطلاق وكلّ ما يخطر ولا يخطر على البال. فعبارة "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق" قائمة في صورتها وبشاعتها في أي ظرفٍ وايّ وقت بسبب تراجع الأعمال والوظائف في القطاع الخاص وتوجه غالبية العاطلين عن العمل للمطالبة بالتعيين في الدولة ضمانًا لقوتهم ورزقهم. فالنيران التي أحرقت غابات الموصل والتهمت أجزاء كبيرة من مساحتها في هذه المدينة المعذّبة والأيادي التي عملت على تجريف البساتين والمواقع الخضراء هنا وهناك، لا تقلّ في فظاعتها عن نيران الفساد التي ضربت البلاد وأهلَها منذ تسليمها من قبل المحتلّ الأمريكي إلى غير أهلها من الطامعين بها وبثرواتها وتاريخها وحضارتها وإرثها.
في الحصيلة، يمكن إعادة ما دمّرته الأيادي المشاغبة والمعاول الميكانيكية والأفكار المتعصّبة والعقول المتزمّتة والكروش السارقة لحقوق الشعب بالصحوة الوطنية القائمة في الدهاليز وبالتوازي مع المطالبات الصادقة بالتغيير القادم لإعادة الخطأ إلى الصواب وزراعة الأمل من جديد وتحقيق الصورة الناصعة لشعب الحضارات بجهود الطيبين من أبناء الوطن الأصلاء والخيّرين ممّا تبقى من الوطنيين وأصحاب الضمائر الحية. أمّا غابات الموصل المندثرة بسبب هذه الجريمة المفتعلة ومصيرُها، فسيكون للشعب العراقي وقفة رجالٍ في إعادة زراعتها بأشكالٍ وألوان من الأشجار والنباتات ضمن حملات وطنية بدأت تباشيرُها من أبناء المدنية بنداءات هادرة لإعادة تشجيرها. كما تفاعلت معها نداءاتٌ وطنية مؤازرة في عددٍ من المدن العراقية الأصيلة لتعود هذه الرئة الموصلّية متألّقةً وزاهية كما عهدناها. فأرضُ السواد لا يمكن أن تتحول إلى دارٍ للبوار والهلاك والموت، مثلما لا يرضى محبوها الصالحون الأوفياء بتركها فريسة سهلة دائمية للفاسدين والطامعين. ولا بدّ للشارع الوطني أن يصحو قريبًا من سباته بعاصفة كاسحة شبيهة بثورة تشرين التي أزاحت المحتل قبل أكثر من قرن ومهّدت للحكم الوطني الذي نأمل عودته في قريب الأيام لتنهي البلاد أتعس حقبة لمنظومة حكمٍ فاسدة اتخذت من المحاصصة والتوافق والتشاركية في المكاسب والمغانم والمصالح والسلطة والنفوذ والجاه سبيلاً للحكم وفرض المذهب والقومية وليس الكفاءة والجدارة والحرص الوطني!


50
صراع الكبار يقتل السلام والأمل
لويس إقليمس
بغداد، في 26 حزيران 2022
من دون شك، أية مغامرة تقوم بها أقطاب الصراع الروسي-الغربي سوف يكون لها تداعيات دولية خطيرة غير محسوبة النتائج، نظرًا لما قد تفرضه من واقع سياسيّ مضطرب وآخر اقتصادي سيكون حتمًا كارثيًا وبدرجة قياسية. هذا إذا أضفنا إليهما ثالثهما وهو يتعلق بمصير حياة شعوب وجغرافية بلدانهم في حالة فقدان السيطرة على جماح الأطراف المتصارعة وهيجانها كالثيران التي تفقد السيطرة على حركتها وأدائها وسلوكها.
كلُّ الدلائل البادية للعيان على الساحة السياسية الدولية تشير إلى أن أيّ صراع بين الأقطاب المتصارعة على الساحة الأوكرانية حاليًا، المعلنة منها والخفية، ليس الخيار الأصوب والأقرب لحل الإشكالية في تهدئة موازين القوى وركونها إلى العقل والحكمة في حلّ الخلافات التي تحولت إلى مسألة حياة ووجود أم موت واختفاء من الخارطة. هناك مَن يرى أنّ أميركا تسعى لدوّامة سعير الحرب بين غريمها الروسي الذي استعاد استقطابه السياسي مع حلفاء اكتسبوا درجة المنافسة الاقتصادية وبجدارة متمثلاً خاصةً بقدرات التنين الصيني المتفاقمة والمتصاعدة بهدوءٍ ورويّة سنة بعد أخرى. ولعلَّ السبب في سعي العم سام وحزبيه التقليديين لإدامة وتمويل هذه الحرب "الخاسرة" في نظر البعض، إبعاد شبح الحروب عن أراضيها ومصالحها، ناهيك عن المنافع الاقتصادية الواردة من بيع مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة التي تعمل على تشغيل ماكنة الصناعة الحربية الأمريكية والغربية أيضًا. فيما تشير تقارير وافدة من مراكز التجارة التسليحية بارتباط أرباح هذه الشركات والمصانع بشخصيات مقربة من مسؤولين سياسيين وتشريعيين أو بزعامات حزبية وتجار حروب مرتبطين بأقطاب الإدارة الأمريكية. والجميع يعلم أنّ أفضل استثمار في عالم اليوم المتخبط الذي لا يعرف الضمير ولا يعترف بأدوات الرحمة والإنسانية والسلام يقترن بتجارة الأسلحة وما يوازيها في تجارة المخدرات والممنوعات التي تدرّ الملايين بل المليارات لبعض الجهات المنتفعة من الإرباك الراهن، سواءً في منطقة اليورو خاصة أو في مناطق لها دلالات تشاركية فيما يجري دوليًا، وإغفالها الكمّ الهائل من المآسي وأشكال الدمار في حياة البشر والبنى التحتية الأساسية وسائر الخدمات التي تظهرها شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي المنقولة مباشرة من مواقع الصراع الدامي المدمّر في أوكرانيا.
صحيح أنّ أوربا لم يدر في خلدها يومًا الانزلاق نحو حربٍ طويلة الأمد مع الدب الروسي الذي اعتمدت على شبه كامل توريداتها منه من مستلزمات الطاقة من عنصر الغاز عبر اتفاقات بينيّة ودولية معروفة. لكنّ واقع الحال يشير إلى تورطها المباشر أو غير المباشر في هذا الصراع الدامي بين الإخوة في الدّين والأرض والجيرة عبر إدامة تسليح المعتدى عليه خشيةً من تمدّد الدب الروسي نحو أراضي دول الناتو، أو هكذا يدّعون! فكلّ شيء يبدو اليوم محسوبًا في كفة الميزان الدولي، طالما تمادى سيّد الكرملين في تهديداته لدول الحلف وفي رصد كلّ حركة أو سلوك يبدرُ من دول الجيرة الأخرى في سعيها للانضمام إلى هذا الحلف، ليس لشيء إنّما نكاية بطموحات بوتين العابرة للأحلام والمتفائلة لحدّ بلوغ هذه الطموحات بجرّة قلم أو إصدار أمرٍ عسكري لجنرالاته المطيعين الصاغرين. وما كان يُخشى منه قد حصل فعلاً حينما قطع بوتين شريان الطاقة بصورة شبه نهائية عن شركائه الأوربيين مؤخرًا. وعليهم أن يدركوا أيضًا أنّ رجل المخابرات المتمرّس سيظلُّ مسلّطًا سيفه ومكشّرًا أسنانه ليكون بمثابة مصدر قلق دائمٍ للسياسات الغربية وتبعيتها لأمريكا المستكبرة. وعلى إثرها، بدت تباشير حالة صاعدة من الركود الاقتصادي والتضخم بسبب النقص الحاصل في الصناعة ولاسيّما الغذائية والتحويلية منها نتيجة للنقص في توريد الغاز والكهرباء. أي أنَّ أزمةً اقتصادية محتملة أشدّ قساوة في طريقها إلى المحفل الدولي لا محالة. وإنّ أكثر الدول تضرّرًا ستكون تلك التي لم تتهيّأ لمثل هذه الظروف القاسية، ومنها العراق بالرغم من الوفرة المالية الحاصلة لديه نتيجة لارتفاع أسعار النفط العالميًة. فأية زيادة تحصل في الموارد الريعية في هذا البلد التائه في مجاهيل السياسة ليست من صالح البلاد والشعب بسبب سوء الإدارة وتكالب لصوص السياسة على سرقة المال العام وهدر أمول الدولة بشتى الوسائل والسبل والفنون.
الحكمة في السلوك والرابح مَن يرقص في النهاية
لهذه الأسباب وغيرها، يصوّبُ العقلاء في دول حلف الناتو جلّ تقريرهم بضرورة تجنّب التصعيد وعدم الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة قد تكون نتائجُها كارثية على الجميع، حربٍ ستأكل الأخضر واليابس كما هي حال الأراضي والمدن التي اجتاحتها القوات الروسية في أوكرانيا الصامدة بوجه الظلم وما آلت إليه من خرابٍ ودمارٍ وبورٍ في البناء وخدمات البنية التحتية ومن تدمير للاقتصاد والصناعة والزراعة وغيرها من ألوان الحياة. من هنا، تصاعدت الأصوات للتهدئة والتوجه نحو إيجاد أفضل السبل لإنهاء الخيار العسكري عبر الحوار والوساطات التي تتزين بالحكمة والعقلانية وتعرف قيم الرحمة والإنسانية في التعامل مع المشاكل بين الإخوة في القارة الواحدة والعالم الهائج. فأيُّ صراعٍ مفتوح بين الإخوة الأعداء لن يكون في صالح أيّ طرفٍ. بل المستفيد الأول والأكبر سيكون الطرف البعيد عن الصراع جغرافيًا والذي يسعى لإدامة سعير المعارك بتزويد الضحية المحتلّة بأدوات عسكرية تصنعها ماكنة هذه الدولة الاستكبارية التي لم يرق لها صعود قطبٍ سياسيٍّ غيرها منافسٍ لها في إدارة الساحة الدولية حسب هواها ورهن إشارتها.
لقد برزت على الساحة السياسية الدولية أفكارٌ وآراءٌ وتعالت أصواتٌ تطالبُ وتنادي باحتواء الصراع الروسي-الأوكراني بأي ثمنٍ خشية من الانزلاق نحو الأكثر كارثيًا على الدول والشعوب. كما بدأ النحس والتشاؤم يدبّان في أوساط الغرب المتورّط في هذه الحرب الخاسرة لطرفي النزاع والمتورطين به معًا من قريبٍ أو بعيدٍ، سيّما وأنّ المراقبين والسياسيين المحنّكين بدأوا يستقرئون المشهد وما في أطرافه وبين جوانبه من تحوّل الصراع إلى حرب استنزاف طويلة قاتلة وظالمة. والخاسر الأكبر هم البشر الأبرياء الذين سيذهبون ضحايا همجية أطراف الصراع وملايين البشر النازحين والمهجّرين وآلاف الثكالى والأرامل وأطفال سيجعلُهم اليُتم والحرمان من الأب أو الأم أو الأهل أو الأصدقاء في مجاهيل الحياة وأسرى متطلبات الحياة القاسية بأي ثمنٍ فيما لو لم يتمّ تدارك الكارثة قبل فوات الأوان. هذا إضافة إلى الدمار في الأرض والحرث والغذاء والصناعة والزراعة والاقتصاد وما يتبعها من مآسي وقساوة الحياة ومشاكل الاغتراب. من هنا تتطلع الأنظار إلى قمة مدريد القادمة التي من المتوقع انعقادُها يوم 29 و30 حزيران الجاري 2022، لتدارك الكارثة والاستعداد للأسوأ في حالة الفشل في إيجاد مخرج للنزاع الدامي والمدمّر للمنطقة التي تُعدّ أكثر استعدادًا لاحترام الحياة البشرية وعيش مفاهيم الديمقراطية الصحيحة بكل جوانبها وتسعى لاحتواء الشرّ ومفاعيله. وما على دول الغرب إلاّ تبريد فتيل النزاع بأيّ ثمن وعدم الانجرار إلى استفزاز الدب الروسي الهائج منذ أشهر بالتصعيد بتشكيل تحالفات إضافية لإشعال نيران النزاع المستعرة أكثر وأكثر، وبدلَ ذلك الذهاب في طريق التهدئة وخلق أجواء أكثر إيجابية تبني أسسًا جديدة وتخلق مساحات مشتركة للسلام والصلح والأمن العالمي في منطقة تُعدّ الأكثر أهمية وديمقراطية في العالم وفي احترام حقوق الإنسان وأكثر تطورًا في الاقتصاد والصناعة والزراعة والتكنلوجيا والعلم والمعرفة وكلّ ما يمكن أن يخطر على البال.
من هنا تأتي الأصوات العقلانية بوضع حدود لهذه الحرب الشرسة التي تُخشى عواقبُها من تحوّلها لحرب نووية قادمة ستطيح بالإنسانية جمعاء وبالجنس البشري على واجهة البسيطة. وكما حذّر وزير الخارجية الروسي المحنّك، من أن "مخاطر اندلاع حرب نووية الآن كبيرة جدا ولا يجب الاستهانة بها". وهو بهذه الكلمات يعي ما يقول. فالزر النووي لا يفارق رئيسَه أينما حلّ وارتحل استعدادًا لاستخدامه متى شاء وقرّر، لا سمح الله! فعندما تكون الحياة والوجود على المحك، لن يكون ذلك عسيرًا على أصحاب القرار في حالة دبّت المخاطر وقربت ساعة النجاة بالجِلد، كما يُقال.   
لقد بدت العقوبات المفروضة على روسيا بأشكالها وتنوعها وأدواتها غير فاعلة لفعلها بدرجة وافية. فالعملة الروسية لم تتأثر كثيرًا، بل تعزّزت قيمتها بعد سياسة فرض بيع الغاز الروسي لغير الأصدقاء بالروبل. كما أنّ القمح الروسي الذي يعتمد العالم على جزءٍ كبير من توريده لم يتأثر بل زاد محصوله إلى أكثر من خمسين مليون طن قابل للتصدير هذا العام، في ضوء فقدان خصمه الأوكراني لقدراته الزراعية من هذا المحصول المشترك الذي كان يغذّي السلة الغذائية العالمية. وطالما داومت صادرات النفط والغاز في روسيا في العثور على أسواق جديدة، فهي في أمان وانتعاش بالرغم من تكلفة الحرب اليومية المليونية. ولنتصور بلدَين، أحدهما يصارع من أجل توسعة مجاله السياسي والاقتصادي والديمغرافي وسط انتعاش موارده الريعية بفعل غزارتها وإدامة تصديرها، مقابل بلدٍ متهالكٍ في كلّ شيء في السياسة والاقتصاد والموارد والصناعة والزراعة وخسارة الأرض والبشر. ومثل هذه الوقائع والأرقام والأفعال لا بدّ من وضعها نصب الأعين في أية خطوة قد يتخذها حلف الناتو ودول الغرب الأوربي خاصة. فهذه الأخيرة عليها التفكير من مغبة الانجرار وراء الطموحات الأمريكية الحالمة والمشاريع التدميرية العالمية التي تصدّرها بعيدًا عن أراضيها وهي نائمة في أشهر العسل بعيدًا عن نيران الحرب الضروس التي بدأت فعلها السلبيّ في بلدان الاتحاد الأوربي الذي استشعر الخطر متأخرًا، فيما لم يكن في حساباته ديمومة النزاع بشكله المأساوي الحالي.
لا بدّ من كلمة صريحة، وقد تكون قاسية. إنّ مسألة انضمام اوكرانيا إلى الاتحاد الأوربي ومنه إلى حلف الناتو، لن يكون سهلاً. بل قد تستغرق الإجراءات سنوات. وقد قالها الوزير الفرنسي، المندوب للشؤون الأوروبية كليمان بون بصدق وعفوية في تصريح له في 22 أيار 2022، "بأن انضمام أوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي قد يتطلب ما بين 15 إلى 20 عاماً". وبالرغم من سعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحث دول الاتحاد الأوربي لصياغة جديدة أكثر ليونة تسمح بانضمام اعضاء جدد للاتحاد في نفس الوقت الذي دعا فيه نظراءَه لعدم حصر روسيا ولا إدارته في بوتقة ضيقة، إلاّ أن مثل هذه الدعوة قد تواجه عقبات كثيرة داخليًا، سواء من اليمين الفرنسي المطرّف الحائز على مقاعد تمثيل متقدمة في آخر انتخابات تشريعية فرنسية أو من قبل تحالف اليسار الذي حصد مقاعد إضافية جديدة قد تحدّ من تطلعات الحكومة الفرنسية الجديدة والرئيس الفرنسي وفريقه الذي عليه أن يتصارع سياسيًا مع خصومه للبحث عمن خارج آمنة ومقبولة للنزاع الروسي-الأوكراني وإنقاذ فرنسا ومعها أوربا من خطورة الوضع المتأزّم في حالة استمرار النزاع وتمدّده أو خروجه عن السيطرة.  ومن الواضح من تصريحات الرئيس الفرنسي المتواصلة حرصه مثل نظرائه الأوربيين على وحدة الصف الأوربي تجاه الوضع في أوكرانيا مع عدم إهمال قدرات روسيا الهائلة في فرض ما تسعى إليه، وفي مقدمتها إبعاد شبح التسليح والتهديد الغربيين عن حدودها وضمان أمنها القومي قبل أيّ شيء وفق نظرتها في الشأن الدولي. فالطرفان يسعيان لإيجاد البدائل عن ضماناتٍ لوضع أمنهما القومي الذي يبدو على المحك مع اندلاع النزاع في 24 شباط المنصرم 2022.
أخيرًا، هناك من يرى أن قمة مدريد ستكون تاريخية من ناحية اتخاذ قرارات هامة تخصّ أمن المنطقة ودول الاتحاد، مع ضمانٍ لإدامة القدرات العسكرية والدفاعية لأوكرانيا التي نالت مؤخرًا صفة الدولة المرشحة للانضمام للاتحاد الأوربي ومنها إلى حلف الناتو. هذا إضافة إلى جدول أعمال مكثّف بخصوص معالجة أزمات مستفحلة مثل الإرهاب والنقص في الطاقة والغذاء والنتائج الكارثية للتصحر في عدة مناطق من العالم ونقص المياه وأزمة التغيّر المناخي والسبل الكفيلة بمعالجة الانبعاثات الكاربونية المتزايدة، لا سيّما مع النقص القائم في تجهيز الغاز الروسي واضطرار بعض الدول للعودة إلى استخدامات الفحم، بحسب تقارير واردة.  وستكون الأزمة الاقتصادية أيضًا ضمن مباحثات المسؤولين والمختصين في الشؤون المالية والاقتصاد والمصارف على حدّ سواء.

51
قانون الأمن الغذائي في ميزان البرلمان وأحزاب السلطة
لويس إقليمس
بغداد، في 10 حزيران 2022
ليس غريبًا أن يُجمع ساسة البلاد في نهاية المطاف على الصياغة النهائية لقانون الدعم الطارئ للأمن الغذائي والتنمية وتمريره بصيغته الأخيرة المزكمة للأنوف، بعد أن ضمنَ كلُّ طرفٍ حصته من الغنيمة باستغلال غياب الموازنة. يأتي كلّ هذا في ظلّ الانسداد السياسي والانغلاق الحكومي وغياب الحس الوطني كقاعدة للحكم في المشهد السياسي القائم منذ السقوط الماجن في 2003 والإتيان بشلّة غريبة عن مصالح الوطن والشعب. فما بدر من زعيم الكتلة الفائزة الأكبر في الانتخابات الأخيرة من تقديم استقالات جماعية لنوابها بأمرٍ من زعيمها قد زاد من الشقّ القائم بين الطرفين الشيعيين المتنافرين، أولُهما يسعى لكسر الماكنة التوافقية التي قادت البلاد والشعب إلى الهاوية وأحالت دولة الحضارات والثقافات والكفاءات إلى مجرّد ماكنة تفريخ للموارد الريعية التي تقاسمتها أطراف السلطة منذ الاتفاق على هذه الصيغة التوافقية المحاصصاتية المقيتة والبدء بمشوار جديد قائم على حكومة اغلبية تقابلها معارضة حقيقية لمراقبة الأداء الحكومي ومحاسبة المقصّرين بحق الوطن والشعب. والثانية تسعى لإبقاء المشهد السياسي المترع فسادًا ونهبًا وهدرًا للمال العام ما شاءت الأقدار لكونه أساسًا قائم على حماية مصالح الدولة التي تدعم هذا الطرف والجهات الساندة له من خارج الأسوار. وقد بات شكل الحكم هذا واضحًا وغير قابلٍ للنقاش أو التأويل بحسب اجتهادات أو حتى بالتشويش على حقيقته المتأسّسة على حكم المكوّنات وليس بداعي الحرص الوطني وخدمة الشعب كما ادّعى ويدّعي غالبية الساسة من دون استثناء.  فعندما تصبح الدولة أسيرة بأيادي زعامات تشكّلُ الظاهرة المكوّناتية أساسًا ومعيارًا لاستلام السلطة والعبث بمقدرات الدولة وليس الوازع الوطني ومصالح الوطن والشعب، حينئذٍ نقرأ السلام عليها متحسرين ويائسين من شكل الديمقراطية التي زرعها الراعي الأرعن في البلاد وبها أدام الفوضى الخلاّقة إلى غير مسمّى.
من خلال قراءة متأنية في بنود القانون الذي تمّ تمريرُه بديلاً عن الموازنة بحسب مراقبين ومتابعين وساسة، يبدو واضحًا ما سرى في الدهاليز المظلمة من مناورات وتوافقات أقنعت الطرف المعترض عليه منذ لحظة اقتراحه حتى قبل التوافق عليه. ولا يبدو خافيًا ساعةَ تمريره حفظُهُ لحقوق وحصص ومغانم لكلّ طرف من أطراف العملية السياسية، تمامًا شأنُه شأن تقاسم المناصب الوزارية والدرجات الخاصة والوظائف المهمة الأخرى في شبه اللاّدولة القائمة منذ السقوط. وإلاّ، ما سرُّ هذا الانقلاب المفاجئ والتوافق على تمريره بعد رفضه من جهات قضائية عليا رأت فيه سلوكًا غير مشروع وغير قانونيّ منذ اقتراحه من حكومة تصريف الأعمال.  أمّا ارتكازُ البرلمان لتمريره بذريعة دعم شرائح مظلومة وتخفيف حدة الفقر لديها نتيجة الظروف الدولية المشوّشة ونقص الغذاء والطاقة، كما ورد في الديباجة والأهداف، فما هي سوى فذلكات وذرائع سريعة العطب ومكشوفة النوايا، طالما لن تستطيع هذه الشكليات والإجراءات الترقيعية من معالجة أسس الخلل في المنظومة السياسية المتهرّئة أساسًا. فسنوات الحكم العجاف منذ السقوط ولغاية الساعة، أثبتت فشل جميع الحكومات المتعاقبة في ردم الهوّة بين الشعب وأحزاب السلطة المتكالبة على نهب ثروات البلاد الكثيرة، وليس تنمية الوطن وخدمة الشعب.
هنا، يكون من حق كلّ عراقيّ حريص أن يتساءل عمّا أفرزته مليارات الدولارات الريعية طيلة فترة الحكم منذ السقوط ولغاية اليوم من دون إحداث تقدّم في الوطن والمجتمع والبنى التحتية والخدمات ورفاهة الشعب. بل جلُّ ما حصل ولمّا يزل يحصل، استغفالُ الشعب وسرقة ثروات الوطن وتراجع في كلّ قطاعات الحياة ببنود قوانين وأحكام وإجراءات لا ترقى لمستوى إدارة دولة مثل العراق. ودليلُنا في كلّ هذا، ما بلغته البلاد ووصله الشعب من تذيّل قائمة الشعوب والدول في كلّ شيء، ومن مهانة واستجداء وظائف ونقص خدمات وانحسار شريان الحياة المتمثل بالمياه التي أهملتها الحكومات المتعاقبة ولم يتعدّى تصدّيها للدولتين اللتين تتحكمان بالسلّة الغذائية للبلاد تصريحاتٍ خجولة تبدرُ من هنا وهناك من دون أن تبادر الجهات البروتوكولية والسلطة العليا لتفعيل ما يمكّن من ردعهما باستخدام وسائل وأدوات اقتصادية فعّالة. والسبب واضح لا يقبل اللغط ولا التأويل، وهو يتمثلُ بدور مافيات أحزاب السلطة التي تتحكم بالمنافذ الحدودية ووسائل الاستيراد من إجازات وتراخيص خاصة أو تلك التي تستلم الكوميسيونات عبر مكاتبها الاقتصادية التي تدرّ عسلاً ولبنًا على مدار الساعة.  إنّ ما يهمّ الشعب وما يرنو إليه يقتصرُ آنيًّا على تأمين حاجته من الغذاء والدواء والخدمات الآدمية الواردة في بنود هذا القانون حصرًا. أمّا ما زادَ على هذا وذاك من إنفاق غير ضروري في أبوابٍ لا علاقة لها بهذين البندين، فلن يكون للشعب فيه رأيٌ ولا سلطة، طالما بقيت ناصية الحكم بأيدي أحزاب السلطة وأدواتها الفاسدة في معظمها والتي تتخاصم وتتقاطعُ تارة، وتتصالحُ وتتوافقُ تارة أخرى، تنسحبُ من العملية السياسية أو تهدّد بالانسحاب منها طورًا، وتعود أدراجها كما كانت بهديٍ من الرحمن أو ضغطٍ من السلطان في نهاية الأمر. وكلّ هذا من أجل ضمان حصصها بل وزيادتها وتثبيت سطوتها وإدامة تقاسمها المكاسب فيما بينها. فهي إن اختلفت، ليس على شيء آخر سوى لتعزيز أدوات المال والجاه والنفوذ والجهر أحيانًا زيادةً في الولاء للغير. فمبدأُ "هذا لك وهذا لي"، كان سائدًا وسيبقى في الحكومات التوافقية المشبوهة لحين التغيير الجذريّ القادم الذي ينتظرُه الجميع بفارغ الصبر من أجل وضع حدودٍ قاطعة لسياسة النهب والسرقة واللصوصية بالأدوات والوسائل المتعارف عليها بين أحزاب السلطة سواءً الولائية منها للجارة الشرقية أو مزدوجة الجنسية.
     لقد بدا واضحًا ايضًا، أنه في الوقت الذي يتباكى فيه طرفا النقيض السياسي على حال أهل العراق المأسورين بفساد ساستهم من دون استثناء، والسارحين في مجاهيل البحث عن لقمة عيشٍ كريمة تسدّ رمق أسرهم وتنقذهم من براثن الجوع والعطش المهيمن على واقع حال البلاد عمومًا، نرى في الأفق تواصل الانسداد السياسي المعطِّل لإكمال وعود زعامات السياسة بتشكيل ما تبقى من السلطة التنفيذية المتمثلة برئاسة الجهورية ورئاسة الوزراء. ولم يعد خافيًا تقاطع المصالح الضيقة، الفئوية منها والمذهبية والإثنية وحتى الخاصة التي تقف حجرة عثرة أمام إكمال الاستحقاق الانتخابي وسط تفاقم الغضب الشعبي المُنذر بالانفجار في أية لحظة والذي ينتظرُ اشتعال الشرارة الأولى التي لا تبدو بعيدة في مدار الأفق السياسي القائم حاليًا. أمّا ما يُشاع من اهتمام الزعامات السياسية بمصالح الشعب والوطن وتباكيهم على الحالة المزرية لملايين البشر المستضعفين أصلاً ليست سوى كذبة كبرى يتمّ تسويقها وتداولها في سوق الدعاية الفاسدة لصالح كتلٍ سياسية بعينها برعاية منافقة رئيسية من وعّاض السلاطين وتحت ستارة الدّين والمذهب التي تغطّي العورة. كما لم يعد خافيًا أيضًا بعد تعرّي أداء مؤسسات الدولة الخاضعة لسلطة أحزاب السلطة، ما لصقت بها من وصمة سلبية على جباه زعامات مغمورة تنطق عسلاً في ظاهرها وتنضح شهدًا في شكلها وترى في قدراتها المحتالة والمخادعة ما رأته الضفدعة المنفوخة قبل أن تنفجر وتخسر حياتها لأنها أرادت تقليد البقرة "الضاحكة" صاحبة الحليب الأبيض وإبراز ذاتها للملأ قبل أن يدركها الموت بسبب عدم تقييمها لضعفها وإدراك حدودها. ولا نتمنى أن يكون حال العراق والعراقيين مثل حال هذه الضفدعة المسكينة ولا حال البقرة المتكابرة.
نعم، في السياسة كلّ شيء جائز وقائم وممكن. فهي فنّ المستحيل كما يُقال. ويمكن أن تتبدّل المواقف وتتلوّن الرؤى بحسب المصالح التي تحكمها ووفق معايير الربح والخسارة لدى كلّ طرف معنيّ. لذا، ليس عسيرًا أن تتوافق آراء الأطراف المتناقضة شكلًا وليس جوهرًا في كلّ ما يتعلّق بقسمة الغرماء وتوزيع المهام واقتطاع الحصة من الحلوى بحسب الدرجات والمهام والمواصفات التي حددتها الجهات الراعية للعملية السياسية والمتنفذة من خارج الحدود إذا ما اقتضت الأحوال وتفاقمت الخلافات حول شكل وآليات توزيع المغانم، تمامًا مثلما جرى في الحكومات التوافقية التدميرية السابقة. وما يجري اليوم من تلاعب في الألفاظ في مسألة تشكيل الحكومة من كونها حكومة "أغلبية وطنية" أو "توافقية سياسية" أو "تشاركية موسعة"، كلّها في النهاية تصبّ في ذات مجرى المياه الاسنة التي يبتلعها النهران العظيمان الآيلان إلى الزوال والنضوب إذا بقيا على حالهما من الإهمال واللامبالاة في غياب الاستراتيجية الوطنية الحقيقية. فالمهمّ لدى القوى المتسلطة تنفيذيًا على مقاليد السلطة أن يبقى رسَنُ قيادة البلاد بأيدي مَن يحلو لهم تسميتهم بالأغلبية "العددية" و"المكوّناتية" ضمن البيت الشيعي الكبير حتى لو كان الإجماع عليه شكليًا. فتسمية "المكوّن الأكبر" و"الكتلة الأكبر" لديهم تجري كالمقدسات في الحكم والحياة ولا يمكن المساسُ بها. وهذا جلُّ ما يرمون إليه، رغم سوء التقدير والقياس وغياب الرؤية وقصر النظر وضعف جدواها وطنيًا جميعًا.

الأمن الغذائي استراتيجية وطنية ملزمة

فرضت الحرب الروسية على جارتها أوكرانيا، والتي تبدو أنها ستطول كثيرًا بحسب مراقبين، فرضت ذاتها على واقع الأمن الغذائي على عموم دول العالم. فالبَلدان معًا يشكلان ما مجموعه ثلث توريد تجارة الحبوب العالمية ولاسيّما في الشرق الأوسط، بسبب غزارة الإنتاج فيهما وخصب اراضيهما وحسن إدارة هذا الملف الغذائي المهمّ من الناحية الاستراتيجية. ونظرًا للتراجع الواضح في إنتاج العراق من محصول القمح الوطني بسبب تقلّص المساحات المزروعة سنويًا للأسباب التي بات الجميع يعلمها، فقد وقعت البلاد ضمن دائرة الخطر التي يشكلها الأمن الغذائي بسبب فقدان الاستراتيجية الوطنية والقصور الواضح في تقدير الجهات ذات العلاقة بتأمين مفردات هذه الاستراتيجية كما يفرضها واجبُها الوظيفي وتلزمها الأخلاقيات العامة والمسؤولية المهنية في إدارة هذا الملف من دون جاهزية ما ينبغي اتخاذُه لسدّ العوز الغذائي لفترة مناسبة تفاديًا لأية منغصات أو احتمالات إخفاق في الإنتاج أو التوريد. فالوقاية ووسائلُها قبل وقوع المصائب غير موجودة أساسًا في سجلّات الحكومات العراقية اللاوطنية المتعاقبة. فالبلاد تنتظر وقوع المصائب والأزمات لتتحرّك في ضوئها وتطرح حلولاً ترقيعية لا تجدي نفعًا على المدى البعيد وفق رؤية ومنظور واضحين لأشباه رجال الدولة الغائبين عن معاناة الساحة أساسًا.
لقد كان على وزارة التجارة أن يكون لها استراتيجية واضحة بالتنسيق مع وزارتي الزراعة والموارد المائية المعنيتين بأدوات الإنتاج وتوفير الخزين وفق استراتيجية مشتركة لتأمين السلّة الغذائية الاحتياطية، لاسيّما ما يُؤمّنُ اساسيات مفردات البطاقة التموينية التي تُعدُّ قوت الشعب المهمّ وسندَه الأساس في تأمين وإدامة حياته اليومية البائسة. ونحن لا ندّعي على وزارة التجارة الحالية وحجها هذا الإهمال في وضع الاستراتيجية الخزنية للبلاد وتأمين قوت الشعب. فالمسألة متلازمة منذ أول حكومة تشكلت بعد السقوط حيث أصبحت هذه المؤسسة من البؤر الأساسية للفساد في البلاد بإهدار مليارات الدولارات وسرقة قوت الشعب من قبل وزرائها السابقين ومافياتهم. ولكنّ كلّ ما يُؤخذ على الإدارة الحالية لهذه الوزارة عدم حرصها الوطني على وضع استرايجية ملزمة لتأمين قوت الشعب من المواد الغذائية الأساسية مثل القمح والأرز والبقوليات والسكر وما يمكن أن يدعم السلّة الغذائية للمواطن. فبحسب تصريح مسؤولين رفيعي المستوى فيها، لا يوجد ما يؤمّنُ الخزين الاستراتيجي سوى لشهرٍ واحد، وبحسب مصدر غيره لثلاثة أشهر. وحتى لو افترضنا الحرص الناقص لتأمين القوت الغذائي لأربعين مليون مواطن لثلاثة أشهر، فهذا غير كافٍ لضمان استمرار التوريد بسلاسة بسبب قلّة العرض الدولي وزيادة الطلب العالمي على المنتجات الغذائية عمومًا من جهة، وتراجع المحصول المحلّي من جهة أخرى.
ما جرى تداولُه منذ أسابيع في أروقة مجلس الوزراء وأخيرًا في مجلس النواب من محاولات لإنقاذ مشروع قانون الدعم الطارئ للأمن الغذائي والتنمية لغاية تمريره مؤخرًا من قبل نواب الشعب بالطريقة الفجّة لم يسرّ الكثير من المراقبين والخبراء والمحللين والمتابعين مترافقًا مع الأزمة السياسية العسيرة التي تمرّ بها البلاد هذه الأيام. فبالرغم من الاعتراضات الشديدة والعديدة من قبل الطرف الإطاري الشيعي المعارض منذ بدء اقتراحه ورفض العديد من مفرداته التي رأت فيها أبوابًا واضحة أو بديلة للفساد، إلاّ أن شكل الاعتراضات لم يمس الغاية والهدف من تمرير القانون بعد توصل الجانبين للتفاهم بتقاسم المقسوم من الكعكة الجديدة الحاصلة من الوفرة المالية للموارد الريعية من مبيعات النفط. وكان الحريُّ بهذه الكتلة وغيرها أن يُصار لتفعيل الحسّ الوطني وزيادة الحرص الحكومي في هذا الظرف الساخن للحفاظ على هذه الوفرة وزجّها حصرًا في تأمين مفردات السلّة الغذائية وتعزيز الرصيد البنكي للبلاد ولصالح صندوق الأجيال، وعدم التطرق أساسًا إلى أبوابٍ أخرى ليس لها علاقة بهذه الأزمة الغذائية الدولية والوطنية كبديلٍ للموازنة المتأخرة بسبب صراعات الأضداد المكوّناتيين. ذلك أن رجال الدولة الحقيقيين يُحسنون كيفية إدارة ملفات الشعب ومعالجة احتياجات البلاد وتسريع تشغيل مشاريعها التي تأخرت كثيرًا في انتظار إقرار قانون الموازنة بسبب إشكاليات الإخفاق في إكمال المدد الدستورية لتشكيل الحكومة. وعندما طرح مراقبون وخبراء ومهتمون مسألة التركيز على ضرورة إقرار هذا القانون الذي يدّعي الجميع أهميته لصالح الشعب بحرصٍ منافق فيه وفي غيره، فالقصد فيه كان التركيز على إيجاد حزمة استراتيجية متكاملة لتعزيز النقص القائم في الخزين الاستراتيجي الغذائي في البلاد من اجل تلافي أزمة متوقعة في المواد الأساسية التي تضمن قوت الناس وتمنع عنهم متاعب البحث عنه في المزابل والطرقات والتقاطعات. فالقانون ينبغي أن يضمن من جملة ما يتضمنه، جميع الخدمات الصحية والبلدية والحياتية والتنموية اللصيقة بحياة الشعب إلى جانب الغذاء الرئيسي حصرًا وليس غيرها في هذه الظرف العصيب. فالغذاء بدون دواء ولا خدمات ولا تنمية للاحتياجات الأساسية سيكون ناقصًا وقاصرًا ولا يلبيّ الطموح. كما كان من المهم جدّا التنبيه لعدم انزلاق مشرّعي القانون المذكور إلى أبواب إنفاق جانبية بدتْ وكأنها بديلاً عن مسؤوليات إقرار الموازنة العامة التي تأخرت بسبب تقاعس الساسة والتقاطعات بين زعامات السلطة والمافيات والجهات الولائية التي تتصرف خارج سلطة الدولة ضمانًا لمصالح الجهات التي تغطي عليها وتضمن بقاءها وإدامة تواجدها.
لذا وبمختصر الكلام، وبحسب رأي العديد من المختصين والمراقبين وساسة مستقلين وغيرهم من المقربين من أوساط الحكومة الحالية، بأن هذا القانون بعد إقراره مؤخرًا وعدم ردّه من قبل المحكمة الاتحادية لاحقًا وكما هو منشور، سيكون بديلاً للموازنة، ولكنْ بأبوابٍ لها مسالك طوارئ ودهاليز غامضة يترقبها الشعب. ومهما يكن من أمرٍ، فالمبالغ التي سعت إليها جهاتٌ تصارعتْ لرصدها في هذا القانون المشبوه تُعدّ كبيرة في نظر الكثيرين. كما أنّ ابوابَ صرفها لا تخلو ظاهريًا وليس ضمنيًا فحسب من شبهات فساد في حالة تسليمها التخصيصات المرصودة لها لمشاريع وجهات ووزارات تتضمنها مسودة الموازنة. والخوف، كلّ الخوف من استغلال جهات متنفذة للوفرة المالية التي تلتزم وزارة المالية بتوفيرها والمترتبة من الموارد الريعية لبيع النفط لسدّ فراغات في أبواب إنفاقٍ أخرى ومشاريع متلكئة أو متوقفة كانت تحدّدها الموازنة السنوية في بنودها. وهذا ما يفتح الطريق لاعتبار مَنفذ المشروع وقائيًا غذائيًا في شكله وظاهره وسياسيًا ولصوصيًا بامتياز في باطنه وثناياه بسبب تطرقه لقطاعات وابواب صرف أخرى غير مرتبطة بطوارئ الغذاء وقوت الشعب المطلوب إيلاءها وحدها الأهمية القصوى والحصرية.


52
قراءة في أوراق أهل الكفر وأهل الإيمان
لويس إقليمس
بغداد، في 30 حزيران 2021
لغرض فهم كيف عاش الإنسان حياتَه في الماضي، وكيف نعيشُها نحن اليوم، ولماذا تختلف سلوكياتُ البشر القدامى ورؤيتُهم ووسائل تعبيرهم وتفكيرهم عن أحكامنا في زمن الرقمنة المتسارع والعلمنة والتطور التكنلوجي الزاحف والانترنت الطاغي على أي نشاط، لا بدّ من الإقرار بالفرق في هذه جميعًا بين ما كانت عليه الحياة بالأمس وما بلغته اليوم من تباعد واختلاف وتغيير في كلّ سلوكياتها وإدارتها وطريقة معالجتها لمفردات حياة البشر وسلوكهم. ونحن نقرّ أن هذا عائدٌ في جزءٍ كبيرٍ منه إلى عامل التحضّر والتمدّن وفق ثقافة ووعي الفرد والمجتمع والدولة سواءً بسواء. فطبيعة إدارة الدولة في كلّ شؤونها ومفاصلها وسياستها ورؤيتها تتأثر بطبيعة حياة شعبها وثقافته ووعيه وطريقة تفكيره وحكمه على واقع الحياة والمجتمع.
هناك شعوبٌ تلقت بكل رحابة صدر متشوّقة لكلّ جديد ومبتكَر وحديث. وبعكسها، هناك مجتمعات وجماعات معينة بحدّ ذاتها ترفض الحداثة والتأوين والتطور والتغيير نحو الأفضل بدفعٍ من تأثير تيارات دينية ومذهبية متعصبة ومتعسفة ومنغلقة على الذات وعلى الفكر بقفلٍ من حديد. في حين هناك أخرى غيرُها تتساهل بشيءٍ بسيطٍ مقبول في حدود قناعاتها المجتمعية شريطة ألاّ يتمّ المسُّ بأساسيات هذه القناعات، وإنْ كانت غير مستساغة أو غير منطقية أو غير معقولة في حدود الفكر الناضج والعقل الراجح. فهذان الأخيران، "الفكر والعقل"، لا قيمة لهما في نظر المتعصّبين المنغلقين على ما تلقوه من حشو ولغو في كتاتيب الصغر ودواوين التطرّف والتعصّب ومواقع التحريض والتكفير في تقديس الماضي وأدواته وشخوصه، حتى لو تبيّن لهم الخطأ الفادح الذي أوقعوا أنفسَهم فيه أو جعلَهم الغيرُ المتشدّد ضحيةَ مشاريع ومساومات خاطئة لا يقبلُ بها العقل البشري الراجح. ومن الطبيعي أن نشهد في المجتمعات المتقدمة والمنفتحة خطواتٍ متقدمة بإحراز كلٍّ من الرجل والمرأة ومع مرور الأيام، الشيء الكثير من التقدم والتطور والتغيير نتيجةَ الوعي والنضوج اللذين رافقا حياتهما وإعمالهما العقل حين تقرير الحياة العفوية والقيام بحركاتها وحاجاتها وضروراتها بوسائل متطورة عن ماضي مَن سبقهما في الزمن السحيق. فهل من المعقول مَن اعتادَ عيشَ جودة ورفاهة حياة اليوم بكل تفاصيلها وبهرجتها وتقدمها وجمالها ومتعتها وسرعة تطورها أن يقبل بالعودة لحياة الأمس المعتمة والبطيئة والمغلقة بكلّ أشكال وأقفال التخلّف والجهل؟ بطبيعة الحال، هذا غير ممكن البتّة! 
في محيطنا الشرق-أوسطي ومجتمعاتنا العربية والإسلامية منها بوجه الخصوص، ما زلنا نعيش سكرات الانغلاق على الذات وهي تتحكمُ بنا يمينًا وشمالاً وتهزّنا كالرياح الموسمية الهائجة بين فترة وسواها. مثالُنا، ماتزال أفعال غير منضبطة وخطابات غير موزونة وتصريحات هوجاء تصدر هنا وهناك من أفرادٍ سوّدَ الغلوُّ عقلَهم وأبقتهم الرغبة بعيش قدسية الماضي المشوّه أو في حدود قوقعة الأحلام المتخلّفة رهائنَ ذاك الماضي التليد الذي لم يعدْ للكثير من صوره وفعالياته السحيقة نفعٌ ولا طعمٌ ولا شكلٌ للقبول به تحت أية مسمّيات كظاهرة اجتماعية غير مقبولة في العديد من فقراته ورؤاه وآليات عيشه بمبرّرات غير مقبولة أيضًا. حتى لو عُدّت مثل هذه التبريرات الشرعية من وجهة نظر البعض من المنغلقين على الذات والذين يرفضون كلَّ مختلِف معهم في الدين والمذهب والرأي والواقع الحضاري والاجتماعي والسياسيّ ولا يجيدون فسحة التعبير الصحيح وحرية الرأي التي خلقهم الله ليكونوا بها أحرارًا وليس عبيدًا للكلمة، فإنّها وبكلّ بساطة لم تعد مقبولة في زمنٍ تتحكم به اليوم التقنية الرقمية والتطور في كلّ شيء والتوجه نحو الحداثوية في الفكر والتعبير والسلوك اليومي الذي يقتضي وسائل أكثر انفتاحًا ويسرًا في عيش سمات التحضّر بما فيها من تسامح ومحبة وحوار ونقاش وتآزر وتعايش وتعاون كي تسهل الحياة في أعين البشر من مختلف الأديان والملل والإتنيات والتوجهات السياسية والحزبية والعقائدية. فما كان سائدًا في زمن الجاهلية والجهل والتخلّف، أو بالأحرى في زمن البداوة في منطقتنا أو ما قبلها في حياة الإنسان البدائي أيامَ كان الجملُ سفينة الصحراء والحمارُ ركوبة الإنسان والتراب للتنظيف من آثار الجنابة والأرضُ الواسعة لقضاء الحاجة أينما وكيفما اتفق وما شاكلَها من سلوكيات مماثلة غير مستساغة تربط الشعوب المقهورة ببركة ووساطة وعّاظ السلاطين، لم تعد هذه مقبولة ولا قابلة الممارسة في الكثير من أصقاع الأرض ولدى العديد من شعوب العالم إلاّ ما ندر لدى تلك التي أبقت رَسَن التخلّف شديدًا بين أيديها وفي فكرها وعقلها وسلوكها غير الراجح بل المُقرف بكلّ تفاصيله وأوجهه. فشرقُنا وبلدانُنا ومجتمعاتُنا ماتزالُ متخلفة عن الركب العالمي في كلّ شيء، وبعضُها مصرٌ عليه. وهذه من مظالم ومثالب تلك المنغصات التدويرية في حياة مجتمعاتنا!
لا سموَّ ولا قدسية لدينٍ أو شعبٍ إلا بتقوى الله والفعل الحسن
ما نشهدُه من تدهورٍ وانحدارٍ مخيفين لغاية الساعة في سلوك بعض البشر في أنظمة الحكم في المنطقة وتلك المنصاعة لفتاوى التخلّف والإشارات "المقدّسة" من بعض المنظرين الشرعيين المصرّين على ضرورة عودة المجتمعات إلى أضغاث أحلام الماضي "المقدّس" المندثر الذي لم يعد يتماهى مع تطور العصر وتنوير الفكر وطاقة العقل الهائلة، لا يبشّرُ بخيرٍ قادم للجميع. فأولى بوادر التدهور والانحدار في المجتمعات تبدأ بل بدأَت بالإيغال في رفض قبول الآخر المختلف وفي تكفيره والدعوة للابتعاد عنه وعدم مسايرته أو الاحتفال معه في مناسباته لكونه وردَ ذكرُه في كتب وتوصيات الأقدمين "المطهّرين" في خانة الكفر ويستحقُّ الرفض في كلّ ما يفعلُه أو يقولُه أو يعبّر عنه، أو حتى في وجودِه. وهذا خلافٌ صارخٌ للهبة الربّانية لبني البشر "كي يتعارفوا وينموا ويكثروا" في اختلافاتهم (وليس في خلافاتهم) التي تشكّل أساسًا لتعمير الأرض واستغلالها لصالح البشرية بالتعاون والخدمة المشتركة والخبرة في تطوير وسائل العيش من أجل راحة الإنسان ورفاهته أينما كان. فالأرضُ على سعتها ومساحتها وكبرها وما فيها من خيراتٍ وثرواتٍ ومصادر عيش متنوعة ملكٌ للبشرية جمعاء وليست حصرًا لنفرٍ أو شعوبٍ أو دينٍ أو ملّة أو طائفة تعدُّ ذاتها من "المقدّسات" وخير الأمم التي أُخرجت للناس" دون غيرها!!!
للقاء مثل هذه الأفكار الاستعلائية غير المتمدنة، ستتواصل الأزمات وتشتدُّ المشاكل وتكثرُ الصراعات وتتالى النزاعات وتنتشر الحروب وتطولُ طالما غابَ الحوارُ والتفاهم والمصارحة والمساواة والعدل والانفتاح عن عقول القائمين على السلطات، دينية كانت أم مدنية. فالسلطة الدينية عندما تغبى وتطغى في استخدام ادواتها السلطوية الجامدة وتنغلق على ذاتها في التفسير والتوجيه بعيدًا عن التأوين ومجاراة العصر ونفحة "الأخوّة الإنسانية" تكون قد فرضت ذاتها بأفكارها الغريبة بعيدًا عن أية مسحة ربّانية أبويّة بحيث ينطبق على رموزها وأدواتها قول الفيلسوف نيتشيه بوصفهم "دعاة عنف لكونهم مشلولين أمام العالم وغير خلاّقين ويخافون الحريّة". لذا هم يسعون للتحكم برقاب العباد بالعودة إلى ترّهات الماضي "المقدّس زيفًا" والمندثر مع عصره وغير الموجود إلاّ في مخيّلاتهم المريضة. مقابل هذا، تسعى السلطة المدنية إلى فرض طغيانها على مواطنيها بأدوات القهر والقوّة والسطو والاستغلال والمساومة والابتزاز وغيرها من وسائل القتل والترهيب والترعيب مستخدمة في أحيانٍ كثيرة أدواتٍ بغطاء دينيّ لحفظ سلطانها والإبقاء على منافعها ومكتسباتها غير المشروعة بدعمٍ من وعّاظ السلاطين، أبناء الشياطين. وهذا ما يجري في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومنها العراق الذي أجاد ساستُه الموغلون في الفساد والنهب وهدر المال العام كيفيةَ التعامل مع السلطات الدينية ومراجعها لتحقيق أجنداتهم وتعزيز مغانمهم السياسية والوجاهية ومكاسبهم المالية غير المشروعة في أعلى صورها. وهذا أيضًا ما يفسّر الفرق في النظر إلى الأحداث والبشر بين مَن يتحكم بمصير شعوبه من منطلق التسلط والترهيب بغطاءٍ دينيّ كما في أحوالنا، وبين مَن يحترم البشرَ عطيةَ الله الخالق ويترك له الخيار والحرية في التفكير والمعتقد والتعبير والحكم على الأمور وفق القناعات المرتكزة على فهم الحياة وتفاصيلها من موقع ثقافة الشخص ووعيه المجتمعي واستعداده للتفاعل والتعاطي مع المختلف عنه مهما كان شكلُه أو نوعُه أو دينُه لأجل الصالح العام. فالدّين لله ربّ السماوات والأرض والعناصر، والحياةُ لعباده من غير فصلٍ أو تمييز أو عنصرية في الأخذ والعطاء! من هنا، لا سموَّ لدين أو معتقدٍ ولا قدسية لشعبٍ أو طائفة إلاّ في ميزان تقوى الله والفعل الحسن الصادر عن هذه جميعًا.
بلدان الكفّار، هل تستحقّ مثل هذا الوصف؟
من المسلَّمات الحياتية البديهية والإنسانية في بساطة الحياة اليومية وأصولها اتّسامُ "بلدان الكفار" مثلاً (كما يطيبُ لأهل الإيمان المزيّفين تسمية مَن يختلفون عنهم في الدّين والمذهب ولاسيّما أتباعَ الغرب المتمدّن)، بسِمة التقدير والاعتزاز والاحترام لحياة الإنسان، مهما كان شكلُه أو لونُه أو دينُه أو طائفتُه أو واقعُه الاجتماعي. والسبب ببساطة، لأنّ حياة كلّ بني البشر هبةٌ من الله الخالق في نظر شعوب هذه البلدان التي ى تستحق مثل هذا الوصف المغلوط الجائر. فالهبة الإلهية مهما كانت طبيعتُها وشكلُها ورؤيتُها، لها شرفُ الاحترام والتقدير والصون كما توصي بها السماء، ضمن سياقات وسياسات وقوانين هذه البلدان والشعوب المتحضّرة. وأمّا عندنا في "بلدان الإيمان" (كما يجاهر المنافقون والمراؤون شرقًا عربيًا وإسلاميًا)، لم يكن لهذه الهبة يومًا شأنٌ كبيرٌ في قواميس التقدير والاحترام. فقد تعوّدنا القتل والاغتيال والمطاردة والتهديد والعربدة في وضح النهار وفي عتمات الليل بلا ضمير ولا خُلُق ولا رحمة ولا إنصاف.
-   في بلدان الكفار، يحترمون العلم والعلماء، ويقدّرون الطبّ والأطباء، وينحنون للمربّي والمعلّم وصاحب الفضل ويمنحونه الأسبقية المجتمعية في أية معاملة أو طلب أو مناسبة. وفي بلداننا المتخلفة بحسب معتقدات وفتاوى أهل الإيمان الزائف عندنا لا غرابة أن يسخرَ البعضُ من "شقاوات العصر" و"فتوّات اللاّدولة" و"جهلة القوم" من طالب العلم وصاحب المراتب وحامل الشهادات أو الإيغال في إهانة الطبيب الذي يعالجُ المريض أو الحطّ من قدر العالم ليتحكّمَ به الجاهلُ والفاشل والمعمّم الزائف في العمل والوظيفة. والسبب ببساطة، لأنّ العلم والطب والتربية لدى "أهل الكفر" نابعٌ من جنس الأخلاق والإنسانية وليس للتجارة والبازار مثلما تشهدُه أسواقُ "الإيمان والمعتقد الأوحد" عندنا.
-   ألموتُ عند "أهل الكفر" حدثٌ كبير وقاسٍ وزمنٌ مفصليٌّ، لأنه يعني نهاية حياة وبداية حياة أخرى جديدة في ديارٍ هادئة يلاقون بها وجه الخالق ويقفون أمام الديّان الأعظم للمحاسبة عن أعمال أرضية بالرحمة. أمّا عندنا وبالتحديد في بلدان شرقنا المنغلق شرعًا إسلاميًا لحدّ النخاع، فهو في نظر البعض المتزلّف لا يتعدى كونه حدثًا عابرًا وشائعًا وعاديّا كما الفطيسة سواءً كان قتلاً بفعل فاعل أم بسبب حادث عرضيّ نتيجة الإهمال وقلّة الوعي ونقص الثقافة وغياب العلم. ولا يهمّ السبب عند هؤلاء، فهو سيلاقي حتمًا كما موعود له، حورَ العين وما شاء من الحسان والجواري والقيان في انتظار المتعة الواصلة المتواصلة مهما كانت أفعالُه على الأرض.
-   في "بلدان الكفّار"، يُحاسَبُ الجميعُ وفق القوانين والأنظمة ولا أحد يشذُ عن القاعدة الوطنية العامة ولا أحدَ فوق القانون، رئيسًا أو موظفًا أو رجلَ دينٍ أو مواطنًا عاديًا، رجلاً أم امرأةً. فالكلُّ سواسية ولا أحدَ فوق القانون. وأمّا عندنا في "بلدان الإيمان"، فأصحاب النفوذ والجاه والمال والسلاح والسلطة الدينية والعشيرة فوق الجميع. والويلُ للقضاء أن يخرجَ عن طاعة أرباب السلطة أو أن يحكمَ بالعدل أو أن يحاسبَ نفرًا من هذه الطبقة المتسلطة الطاغية الفاسدة أو أن يقاضيَه وفق منظور المساواة والعدالة الذي لا يُطبَّقُ في الواقع إلاّ على المجتمعات الفقيرة ومَن لا سندَ لها من البسطاء من طبقات الشعب من "الرعاع" الذين لا حولَ لهم ولا قوةَ إلاّ باتّباع أهواء السلطان وأدواته. أمّا أصحاب النفوذ والجاه والمال والمقرَّبون من أهل المراجع السلطوية والدينية، فهُم دومًا فوق القانون، والويلُ لمَن يحاولُ المسَّ بهم وبمصالحهم وأدواتهم وأتباعهم، أو جرحهم أو خدشَهم بكلمة أو أن توجّه لهم التهم، أية تُهم. حينها سيقلبون الطاولة على رؤوس الشهاد، ويحرقون الأخضرَ واليابسَ لخاطر عيون السلاطين وأهل الحكم. فهُمْ دومًا على قائمة الخطٌّوط الحمراء!
-   في "بلدان الكفّار"، يقدّسُ بشرُهم الزمنَ ويحترمون ساعات الدوام المخصصة للعمل والإنتاج والتطوير وليس لفرش أنواع الأطعمة فوق مناضد العمل الرسميّ كما نشهد يوميًا خلال مراجعاتنا لدوائر الدولة الرسمية. وكلُّنا نعلم أن لا حسابَ من المسؤول أو الإدارة على مثل هذه السلوكيات المدانة للأسباب العديدة التي لا تنطلي على أحد. حينئذٍ، لا خيارَ للمُراجِع إلاّ الانتظار زمنًا قد يطول، وفي نهايته يتقهقرُ مضطرًّا للعودة إلى بيته بخفّي حنين بسبب انتهاء ساعات الدوام بحسب تصريح الموظف ولا يتلقى غير كلمات "تعال باجر أو بعد أسبوع". 
إزاء هذه التناقضات، وما أكثر من سواها، يحلمُ الكثير من "أهل الإيمان" في أوطاننا العربية والإسلامية بالهجرة إلى دول الكفر، بل يهرعون إليها مهرولين مجازفين بحياتهم وحياة أسرهم، رغمَ أنّ شعوبَ هذه الأخيرة محسوبة على الكفّار وليس لديهم "بركات إلهية"، بحسب وصف أحد الأصدقاء في النخبة الاقتصادية. أليس في هذا غرابة، ما بعدها غرابة في الأخلاق والسلوك وطريقة العيش والتفكير ولغة التعبير! ولكن لا بأس بالتقليب في دفاتر "الكفّار" في مجتمعات شرقية تقليدية تعدُّ نفسَها أمينة على "الإيمان" و"المعتقد" و"المذهب" و"الطائفة" في مظاهرِها الخدّاعة وأدواتها المنافقة وأحكامها الطاغية التي لا تقلُّ جرمًا وخداعًا ونفاقًا عن أعمال أعتى الطغاة، طالما الخاسرُ الأكبر يكون دومًا الشعب، والمضحّي المطلوبُ التضحيةَ به هو المواطن البسيط ورزقُه وعملُه وعائلتُه.
في اعتقادي البسيط، أجدُ في مثل هذه السلوكيات غير الأدبية وغير الأخلاقية حماقاتٍ ما بعدها حماقات حين يتسلّمُ الجهلة والحمقى وفاقدو الأهلية والجدارة والشهادة والخبرة مقاليدَ قيادة الدول والشعوب وتوجيه الرعايا وفق مقاساتهم المحدودة، وهُمْ غيرُ أهلٍ لها. وإذا كان غالبية ساستنا وزعاماتنا وفي غفلةٍ من الزمن قد استحوذوا على كلّ شيء لحدّ الاستخفاف بعقل المواطن البسيط وتركيعه وإذلالِه بسبب الفاقة والحاجة والضرورة واستغلاله في فترة الانتخابات بشراء صوته الذي يصعدُ سعرُه في ذروتها، فهذا من الإشارة البائنة إلى تراجع الأخلاق وغياب الضمير وحمل ملايين البشر للعيش على هامش الحياة. فالحياة عند فئة هؤلاء االمهمَّشين وبسطاء القوم كما يبدو، قد فقدت طعمَها وضاع لونُها وبهتَ جمالُها في نظرهم، ما حدا ببعضهم للسعي للتخلّص من أهوالها وتعاساتها ومراراتها باللجوء إلى وسائل رحيمة أو قاسية للخلاص من الأوضاع القاتمة التي رسمت سمات الحياة التعيسة في زمن الأزمات والشدائد وتراجع القيم وشراء الذمم والمساومات والابتزاز وما سواها من المنكرات التي لا تقبلُ بها قوانينُ السماء ولا البشر الأسوياء. فمثل هذه الآهات والكؤوس المترعة بمرارة الحياة وقساوتها وظلمها، نادرة الوجود في "دول الكفر" ومجتمعاتها، وإن حصلت فهي من قبيل الشذوذ والإدانة والمحاسبة. أمّا في مجتمعات "الإيمان" والنداء باسم الله الخالق الأكبر فهي تكادُ تبدو من الأمور الاعتيادية اليومية في الحياة!
هذا زمنُ الظلم والقهر وغياب الضمير والوعي، فلنتجنبْهُ! وكان اللهُ مع الصابرين الطيبين منتظري الفرج!


53
عندما تغيّر الأحزاب تسمياتها
لويس إقليمس
بغداد، 8 أيار 2022
بعد فوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بولاية رئاسية ثانية، بنسبة تصويت تصل إلى %,558 من الأصوات الانتخابية في عموم البلاد، خرج المندوب العام لحركة "الجمهورية إلى الأمام" التي أسسها "ماكرون"، السياسي والاقتصادي الفرنسي في 6 نيسان 2016 في مدينة أميان الفرنسية، لإعلان التسمية الجديدة للحركة (الحزب) تحت مسمّى "النهضة".
وبالرغم من تغيير المسمّى لفظيًا ولغويًا، إلاّ أنه احتفظ بنغمته الإصلاحية التقدمية الوسطية في المبدأ العام. فقد تكون هذه النغمة المتناغمة مع صوت الشارع الفرنسي المتذبذب في التأييد والمعارضة معًا، هي الرهان الأوسع الذي سيجيزُ للرئيس الفائز بولايته الثانية كي يغمر عموم الشعب الفرنسي بنظرته الواقعية إلى الحياة السياسية في مشكلة معالجة التحديات والأزمات المتزايدة سواءً على واقع فرنسا كدولة تتموضع على قمة دول الاتحاد الأوربي بعد ألمانيا اقتصاديًا أو في موقعها العسكري والتسليحي المتقدم على باقي دول الاتحاد. ولا ريب في أنّ هذا الفوز الواضح للتيار التقدمي الوسطي الإصلاحي "الناهض" ستكون له نتائج إيجابية على صعيد القارة الأوربية من جهة تعزيز صمودها الاتحادي وضمان التعويل لخمس سنواتٍ قادمات على ذات السياسة التي انتهجها الرئيس "ماكرون" في تعزيز قدرات الاتحاد ورصّ صفوف بلدانه في مواجهة ما ينتظرُه من تهديدات ومفارقات ومنغصات واضطرابات. فقد ألقى خروج بريطانيا من البريكسيت، ظلالَه على واقع السياسة العامة لأوروبا مجتمعةً. كما أصبح قدرُ هذه الدول على المحكّ بعد نشوب الحرب الروسية –الأوكرانية وتداعياتها الهائلة على مستقبل القارّة ودول حلف الناتو مجتمعةً بسبب ضراوتها ووحشيتها، لاسيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار السبب الرئيسي في شنّ هذه الحرب ورغبة أوكرانيا بالانضمام إلى كتلة حلف الناتو، وما يمكن أن تضيفه أو تتسبَّبَ به في حال استمرارها واستفحالها واشتدادها من أدواتٍ واختناقات وإرهاصات ونتائج قد لا تسرّ عموم أوربا والعالم.
من هنا يرى مراقبون أنَّ في هذا المنحى بتغيير التسمية الحزبية، قراءاتٍ كثيرة تشير في بعضها إلى التناغم والتعاطي مع المستجدّات ما بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أفرزتها النتائج النهائية وحازت فيها المرشحة المعارضة "مارين لي بين" على نسبة تصويت عالية قاربت 41,5% بالرغم من توصيف حزبها اليميني (الجبهة الوطنية) تقليديًا في خانة التطرّف. ومنها تواردُ الرغبة في التقرّب أكثر من صوت الشعب الذي يقتضي الانفتاح العفوي أحيانًا أو الاستراتيجي في غيره ضمانًا لتنفيذ السياسات العامة للجهة الفائزة التي عليها تحمّلُ أعباء إضافية لمواجهة المعارضة المشتدّة في الطرف الآخر. كما أن هذا الفوز يضيف لرمز الحزب الفائز التزاماتٍ إضافية تحتّمُ عليه الإيفاء بالوعود المقطوعة بتعزيز الدور الأوربي ورصانة توجهات حركته ومبادئها فيما يتعلّق بموضوعة المخاطر المناخية التي تثير قلقًا متزايدًا على الصعيد الدولي أكثر فأكثر، ومنه الالتزام الجادّ باتفاقية باريس للمناح. 
في اعتقادي، مثل هذا التوجّه المتحرّك وغير الجامد لا بدّ منه لأية جهة حزبية أو حركة تريد التجديد وتنشد التغيير والنجاح والتقدّم وتحقيق نتائج إيجابية على الأرض ولصالح البشر والحجر معًا. فإظهار قدرٍ من المرونة في تشخيص الأخطاء، وترسيم الاستراتيجيات بالتشاور، وتعّلم الدروس من إخفاقات سابقة أصبح اليوم مطلوبًا في العمل السياسيّ مع كلّ من الأطراف الموالية من جهة وكذا مع الأفرقاء الآخرين، وبالذات مع شخوص المعارضة الذين يعكسون غالبًا حركة الشارع ورغبة الناخب إضافة إلى ما يحيط بالسياسة العامة من تحرّكات مناطقية ودولية تفرزها الأحداث اليومية. من هنا، تأتي أهمية التسمية الجديدة، لتؤكِد النبرة أو النزعة "الماكرونية" في أي تحالف قادم مع الشركاء في الوطن. وهذا ممّا يستدعي نشاطًا محمومًا للسعي لإحراز نجاح قادم في الانتخابات التشريعية القادمة المقررة في الجولتين الأولى والثانية في 12 و19 حزيران القادم 2022 في هذه البلاد، والتي سيكون لها تأثيرٌ كبير على قدرة الرئيس ماكرون وفريقه لتنفيذ ما وعد به الشعبَ الفرنسي مستقلاًّ من جهة وعموم دول الاتحاد الأوربي من جهة أخرى.
هوية أم ماركة سياسية
يبدو أن تغيير مسمّيات الأحزاب أمرٌ طبيعيّ، في سياق التسابق نحو ماركات جاذبة يتأثر بها الشارع والناخب معًا. وفرنسا ليست بعيدة عن شكل هذه الظاهرة بالرغم من احتفاظ بعض الأحزاب التقليدية بهويتها الإيديولوجية منذ عقود من دون تغيير ولا تحديث، كالحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والجبهة الوطنية بصورة خاصة. لكنّ المؤكّد أنّ اسم أي حزب أو حركة تعمل على الساحة السياسية من قريبٍ أو بعيدٍ، تعني ما تحمله هذه من دلالات ومعاني في التعبير عن الأهداف المبتغاة التي تسعى الأحزاب لتحقيقها في مسيرتها "الوطنية" والنضالية وصولاً لتحقيق الفوز والنصر والسلطة في نهاية المطاف. فالحركات والأحزاب التي تبذل جهدًا من الطبيعي جدًّا أن تصل إلى غايتها. ومنها دمغُ شكل هذا الفوز عادةً بالتسمية التي يحملها الحزب كماركة سياسية لا تقلّ في أهميتها عن اية ماركة تجارية يتمّ الترويجُ لها بكافة الوسائل والطرق والأدوات. فالماركات السياسية غالبًا ما تحتفظ بصداها وسط جمهورها الذي يتعاطف عادةً ويتناغم مع ما تحمله هذه الماركة أو تلك من تشويق جماهيري وسمعة تكشف عن أهداف عامة لأحزاب أو حركات سياسية. كما أنها قد تشكلُ فرصة ملائمة لقلب صفحة الماضي ونسيان ما تم حصادُه من إخفاقات وأشكال الفشل لأية اسبابٍ كانت. وهذا بحدّ ذاته ينمُّ عن شكلٍ واضحٍ من الكفاح المستميت لبلوغ نتائج أفضل عبر التغيير الإيجابي حصرًا وليس الشكليّ واللفظيّ فحسب. فالبعدُ الحزبيّ يأخذُ عادة مداه بعد تجارب ومرورًا بخبرات قد تكون قاسية في بعضها. وهذا يبدو صدقَ ما توصل إليه الرئيس "ماكرون" وفريقُه بعد تجربة الخمس سنوات المنصرمة من حكم "الجمهورية إلى الأمام" التي اتصفت بشيءٍ من الوهن والضعف في طريقة ممارسة السلطة وصياغة القوانين والتقرّب من الشارع وادواته التي زلزلت النظام في تظاهراتها واحتجاجاتها عبر سنوات الحكم الخمس الماضية ولاسيّما من جانب أصحاب "السترات الصفراء" الذين ضاقوا ذرعًا من سياسة الحكومة الاقتصادية بحسب تعبيرهم.
من هنا تكون تسمية النهضة التي ارتآها الرئيس "ماكرون" وفريقُه الحزبي بابًا من ابواب التغيير وطيًّا لصفحة الماضي مهما كانت النتائج الإيجابية الأخرى التي حققها طيلة فترة حكمه للخمس سنواتٍ الماضية. فمجرد طرح تسمية "النهضة" للحركة "الماكرونية" الفتية، فهذا دليلٌ على رؤية شاملة وسعي متجدّد نحو الأفضل وفرصة أخرى لاجتذاب غير المتعاطفين مع فريقه الحكومي السابق ممّن نزلوا إلى الشارع أو أعربوا عن معارضتهم لسياسته الاقتصادية والضريبية وكلّ ما يتعلّق بحقوق العاملين والمشمولين بالضمان الصحي. وقد وصفها البعض بوسيلة "التعبير عن الهوية التعددية" التي يسعى فريقُه لضمّهم في المحصّلة إلى صفوف الحركة الجديدة وعدم إهمال مطالبهم ومشاركتهم رؤاهم وتجليات احتجاجاتهم. وهذا خيرُ ما فعله حرصًا منه دون انتظار هزيمةٍ لاحقة متوقعة وتوخيًا لعدم خسارة شرائح واسعة اتخذوا ويتخذون من الشارع وسيلةً للتعبير والاحتجاج والرفض بأية وسيلة وأي وقت أو مناسبة. فتواصل الاحتجاجات وتواتر الاعتراضات من شأنها إسقاط حكومات وتسقيط ساسة وزعماء. وقد كان للعراق منها نموذجٌ للتشرينيّين في 2019، بالرغم من اختلاف الظروف والأدوات والأهداف!
فبالعمل والتطبيق ونوع الخدمات الجيدة المقدمة للشعب وبالنزاهة والشفافية والخشية من إغضاب الخالق وعباده تُعرفُ هويةُ الأحزاب ويُكشفُ معدنُها، وليس بالكلام المعسول والكذب والسير وراء وعّاظ السلاطين والباحثين زورًا وبهتانًا عن سطوة المال والجاه والسلطة والنفوذ! ولنتعلّم الدروس من تاريخ الشعوب الإيجابية التي عرفت معنى الديمقراطية الصحيحة وتطبيقاتها دون مواربة أو غشّ أو خداع أو استغلال لأدوات السلطة لتحقيق منافع طائفية ودينية ومذهبية وفئوية أو شخصية ضيقة!


54
قلْ كلمة واحدة فقط، فيُشفى العراق!
لويس إقليمس
بغداد، في 28/4/ 2022
من أروع العبارات التي نطق بها قائد مئة روماني على عهد المسيح بن مريم في أورشليم-القدس، وهو يتوسلُه كي يشفي واحدًا من عبيده المرضى المضروبين بمرض قاسٍ لا شفاء منه لدى حكماء عصره، "يَا سَيِّد، لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي، لكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي." (متى 8: 8)
هذه العبارة كشفت آنذاك عن واقع إيمانيّ متميّز وتواضع ملحوظ من لدن القائد الأممي صاحب الطلب الذي ناشد في حينها نبيّا بدرجة المسيح بن مريم بالرغم من اختلاف عقيدتي الشخصين. ولكنّ كلّ ما سعى إليه هذا القائد الذي كان يتحكم بكتيبة قوامها مائة جندي وضابط روماني يحتلون "فلسطين"، أنه قدّم واجب الاحترام المطلوب لشخصٍ بحجم المسيح الذي تبعتْه آنذاك أفواجٌ من الشعب اليهودي المؤمنة بقدراته العجائبية ورسالته الخلاصية وأحاديثه النبوية، لاسيّما حين اطّلاعهم ومعرفتهم ومشاهدتهم باجتراح السيد المسيح للعجائب وقدرته على شفاء المرضى والممسوسين، وإعانة المتعبين وثقيلي الأحمال، وتعزية المحتاجين منهم لراحة الفكر وتنقية الضمير والنفس.
ربّاط الكلام، عراقُنا اليوم بأمسّ الحاجة لمثل هذه الالتفاتة المتواضعة من لدن الزعامات الحزبية والسياسية التي تتحكم عبثيًا بمصير شعبهم المغلوب كي تصحو من عقدة العفن المُلازم لحكمهم وما آلت إليه الأحداث ممّا يوصف بالانسداد في العملية السياسية العرجاء القائمة. فكلُّ أشكال المرونة والتواضع والتنازلات المتبادلة لمصلحة الوطن والشعب عبر الحوار الهادئ والتنازل عن أبراج عاجية مصطنعة، هي مطلوبة لمنح فسحة من الأمل بانفراج قريب ممكن، تيمنًا بسلوك ذات النهج الذي انتهجه قائد المئة الذي شكّل واجهة للحكم الروماني الطاغي على المنطقة وعلى الشعب اليهودي في فلسطين آنذاك. فكلّ الأفكار التي تقرّب ولا تُبعِّد الفرقاء أصحاب المصالح الضيّقة مطلوبة وبإصرار لبلوغ برّ الأمان والسماح بالسفينة المتهالكة للمرور إلى ميناء السلام والرفاهية والاستقرار بعد تشذيب البحر المائج من أشكال الألغام، كبيرها وصغيرها، من داخل البلاد وخارجها من خلال منح فرصة للجهة المتقدمة بنتائج الانتخابات بأخذ فرصتها وتحمّل مسؤولية نجاحها وفشلها عبر مشروع "الأغلبية السياسية" التي تسعى إليها وليس المذهبية والطائفية والأكثرية المكوّناتية التي تصرّ جهاتٌ خاسرة منافسة العودة بها إلى العفن السياسي العرفيّ ذاته، بالرغم من تيقّنها بجدب سلوك هذه الطريق وانتفاء أدواتها المدمّرة للبلاد والعباد.
حينها سيكون لكلّ حادثٍ حديث، كما يُقال. وما على حكماء الأمة، إنْ مازالوا بعدُ موجودين على الساحة الوطنية، إلاّ أن ينطقوا مجتمعين معًا بكلمة الحق وبقول الكلمة الوطنية الواحدة: "نعم لمصلحة العراق العليا، نعم لرفاهية الشعب، نعم لمشاركة الجميع وفق الأهلية والجدارة والمساواة" و "لا للعملية السياسية الجدباء، ولا لتقاسم المغانم وتوزيع المكاسب". حينها فقط، تُشفى البلاد!
الخروج من الاحتقان السياسيّ
يتفق الجميع، على أنّ أيةُ محاولات لأية جهة كانت رابحة أم خاسرة في الانتخابات الأخيرة، تسعى لتعطيل العملية السياسية ومصالح الشعب والوطن، تبقى محاولات يائسة وبائسة بسبب العفن السياسي الذي طال أمدُه منذ تاريخ احتلال الوطن والأرض والشعب في 2003.
فالكلّ متيقّن من فوح رائحة جيفة العملية السياسية وتغوّل ساسة البلاد وما يتبعها من ميليشيات وفصائل وأتباع خانعين في استغلال كلّ شيء وأية فرصة للإثراء وفرض الأجندات ولاسيّما الولائية منها، من أجل بقاء الواقع المتهرّئ على حاله طمعًا بالمزيد من قسمة الكعكة ونهشًا متواصلاً بجسم الفريسة الطريّ، طالما بقيت الموارد الريعية في أعلى سلّم التراخي والتراجع في القيم الوطنية والأخلاقية والإنسانية التي آلت إلى الزوال بفعل أحزاب السلطة وأجندات زعاماتها التي نزعت عنها الحياء والخشية ومخافة الله وفقدت عذريتها الوطنية.
كلّ هذا وكثيرٌ غيره، مقابل زيادة في نتانة جراحات الشعب الذي فقد هو الآخر الشيء الكثير من غيرته الوطنية المعروفة بوثباتها الثائرة في السنين العجاف الخوالي حينما كان باستطاعته قول كلمة الفصل في إثارة الشارع وتحقيق المطالب الوطنية بالوسائل التي كان يراها الزعماء الوطنيون مناسِبة والتي يبدو أنها غابت عن المشهد السياسي في زمن الرقمنة والتحوّل التكنلوجي الذي غزا الشارع والبيت والدائرة والشركة وكلّ ركنٍ من أركان البلاد المتراجعة في كلّ شيء، ولاسيّما في العلوم والتربية والثقافة والغيرة الوطنية التي تعدّها الدول المتقدمة أخطر بكثير من اية ميادين سياسية أو اقتصادية أو صناعية أو زراعية. فالجهل حينما يستبدّ في شعب كان له باعٌ في أصالة العلم والمعرفة والقيادة من موقع متقدم عالميًا في فترة حاسمة من تاريخه، فهو الدليل الواضح على وشك اندثاره وتراجعه إلى الدرجات السفلى في قائمة دول العالم. وهذا هو واقع العراق وشعب الرافدين للأسباب التي لا تخفى على أحد بسبب السلوك الشاذ ناقص الجدارة والكفاءة للمنظومة السياسية في إدارة البلاد ونتيجة طبيعية لعبث الدخلاء الراهن في فرض مصالح فئوية وطائفية ومكوّناتية بالية ضيقة الأفق وأخرى شخصية "تكسبية" لا تمتّ بصلة لسمات الوقار والشرف والقيم العليا التي ينبغي أن تكون عليها الطبقة السياسية التي تسعى لحكم أيّ بلد أو شعب. في حين كان الأجدر والأولى أن تتقدّمَ قيمُ الشراكة الوطنية الصحيحة ومبادئ الإيثار والتضحية والاستعداد لخدمة الشعب وصيانة المثل العليا للوطن ومصالحه على مجمل المكاسب والمصالح الطائفية والفئوية والشخصية والحزبية والمكوّناتية.
والأكثر من هذا وذاك، كان الأجدر أن تسمو زعامات أحزاب السلطة ومَن يتحكمون بالبلاد والعباد من ساسة الصدفة من غير المؤهلين والجديرين، وأن تكون على قدرٍ وافٍ من المسؤولية الأخلاقية والوطنية في صيانة الأمانة والحفاظ على الوديعة التي ضُربتْ عرضَ الحائط بالرغم من تعكّز أغلب الطبقة السياسية بكل طوائفها وكتلها البرلمانية والرئاسات الأربع بما فيها القضاء المسيَّس، على حِكَمِ وأقوال الأئمة قولاً وليس فعلاً في ظاهرة خادعة وخائنة للدّين والمذهب والعقيدة وما في هذه من أخلاقيات رصينة وأصيلة لا شائبة عليها.
معجزة من نوعٍ خاص
من الواضح ايضًا، بلوغ حالة البلاد مع تلاحق الأزمات وتكاثرها وتفريخها "عُقدًا انسدادية" لا مناصَّ من الالتجاء لطلب ما يُشبه أعجوبة الشفاء التي ارتآها قائد المئة من السيد المسيح. فهي وحدها اليوم، كفيلة بشفاء البلاد وانتشال العباد من كارثية ساسة المنظومة السياسية الفاشلة بجدارة. فالعراق لم يعدْ قادرًا للنهوض من كبواته وأزماته المتلاحقة، وما أكثرها، إلاّ بأعجوبة ربانية أشبه بما فعله السيد المسيح لغلام قائد المئة حين ترحّمَ عليه بسبب إيمانه وهو الأمميُّ الوثنيُّ. فكم بساستنا الذين يدّعون الإيمان وتقليد الأئمّة، كان الأجدرُ بهم أن يتعاونوا مع ربّ العباد في انتشال الوطن من براثن الجوع والعطش والتخلّف والجهل ونقص الخدمات الآدمية وكذا من التصحّر الماديّ والمعنويّ والروحيّ والأخلاقي في كلّ شيء. وإلاّ فلا مناص من الواقع المتهرّئ إلاّ بتغيير جذريّ في العقلية السياسية مرفقة بتغيير الوجوه الصلفة الفاشلة التي فقدت كلّ حياء بشري وكلَّ خشية برب العباد الذي ركنته وأنبياءَه وأولياءَه وحكماءَه ومثقفيه جانبًا كي تخلو لها ساحةُ الفساد بالضحك على عقول البسطاء من أبناء الشعب الذين ينزلقون بكلّ سهولة لأقوال مدّعي الدين والتديّن والمنادين بالطائفية وسيادة المذهب والأغلبية زورًا وبهتانًا. فهذا هو واقع حالٍ لم نخرج منه منذ 2003، حيث لم تنضج جميعُ الكتل والأحزاب التي حكمت البلاد والعباد في أدائها إزاء الشعب، ولا ارعوت من دعاء الثكالى، ولا خشيتْ من خوف الله، ولا دعتِ الشعبَ المسكين الغارق في متاهات الحيرة والجهل والتخلّف والتراجع يعي دورَه الحقيقي في إحداث التغيير الشامل والصاعق بوسائله الثورية ضدّ أركان الفساد بقطع رقاب الفاسدين بسببٍ من تحكّم هؤلاء بوسائلهم الطائفية بمصائر أتباعهم المغلوبين وعبر أدوات رخيصة وبالية وسهلة باستغلال الدّين والمذهب وقدسية الأشخاص وأركان الولاءات الخارجية للغريب الطامع على حساب المصالح الوطنية العليا للوطن والشعب دون غيرهما.
اليوم، وقد اقتربت مهلة الصيام السياسي التي فرضها زعيم التيار الصدري من نهايتها من جانبٍ واحد ولم تعترف بها الجهة الولائية المنافسة، لا يبدو حصولُ تقريبٍ بوجهات النظر، فيما تعرضه وسائل الإعلام والتصريحات من الطرفين، أو ما يُثار في وسائل التواصل الاجتماعي بالرغم من بروز مبادرات متنوعة ومتعددة تدّعي قدرتها على إخراج الموقف المتأزم من حالة الانسداد القائم بسبب تمسّك كلّ طرف بموقفه وآرائه. وهذه سمة سلبية لكلّ مَن يدّعي الحرص على وحدة الوطن ورصّ الصفوف في مواجهة ما يعتري العالم من أزمات وصعوبات، والعراق ليس استثناءً منها. لكنّ الكلّ متفق على أن أي انفراج في المواقف على أساس وطني وحلولٍ من الداخل العراقي لن يكون صالحًا ومقبولاً إلاّ بتغييرٍ حقيقيّ وجذريّ، سواءً توافقَ هذا مع مصالح أحزاب السلطة أم خاصمَها. ففي النهاية، لا بدّ من فائزٍ وخاسرٍ. لكنّ الرابح الأكبر في حالة ترجيح العقل والحكمة والقانون يبقى الوطن والشعب. فهذه حال السلطة وطلاّب الجاه والمال والنفوذ: يومٌ لك ويومٌ عليكَ، يومٌ تتمتع فيه بكلّ أهداب الحكم وأدواته ونتائجه وجبروته ونفوذه، وآخر تفقد فيه البهرجة والعزّ والجاه والمصلحة والبريق الدنيوي والمادّي الزائف! وهذا كلُّهُ يعتمد على شكل السلوك والنظرة إلى السلطة وما فيها من هذه الأدوات جميعًا حين الحُكم على أداء الشخص حيال موقفه الصحيح من الوطن والشعب.
ننتظر بفارغ الصبر خروج البلاد من عنق الزجاجة بفعل معجزة من أيّ نوعٍ كانت كي يعرف كلّ مواطن حقه في العيش الكريم وفق مبدأ المواطنة الصحيحة والجدارة والكفاءة في الأداء الذي ينبغي أن يشمل الجميع بالمساواة والعدل وليس بالتمييز العنصري (المكوّناتي) اعتمادًا على حيثيات الدين والمذهب والطائفة والمحسوبية والمنسوبية والأغلبية التي تقتل عنصرَ الوطنية والمواطنة في عقرها. من هنا، فإنّ أية تحالفات لا تخدم واقع المواطن ومصلحة الوطن العليا قبل اية مصالح أو مغانم تقليدية اعتادت عليها الكتل السياسية وأحزاب السلطة ومَن يواليها من الطارئين والولائيين خارج الحدود، لن تحقّق الدرجة الدنيا من أمنيات وتمنيات المواطن الحائر في أمر بلاده المحتلّة ولن تكون قابلة التحقيق في أدنى درجاتها. ولكن، تبقى الشراكة الوطنية هي القاعدة الرصينة في إعادة بناء الوطن وعودة سيادته وهيبته ودوره الدولي والإقليمي الرائد عنوانًا أساسيًا لنجاح أية منظومة سياسية غير هذه التي حكمت البلاد مصادفة ومن دون اية جدارة وبعيدًا عن اية مبادئ وطنية وأخلاقية وإنسانية. وبالتالي، لا يمكن التعويل بعدُ على أحزاب فاشلة وفصائل موالية لخارج الحدود وسياسيين جلُّ همّهم اكتناز المزيد من الأموال ونهب ما ييسرُه لهم مبدأ تقاسم المغانم من ثروات البلاد عبر إقطاعيات ووزارات ومناصب ودرجات خاصة هي كلّ ما سعت وتسعى إليه المنظومة الحاكمة منذ ما يربو على تسعة عشر عامًا خلت.
وتبقى كلّ الخيارات مفتوحة لحصول المعجزة والتغيير وإنهاء الانسداد بانتظار قول الكلمة الفصل مساهمةً في شفاء العراق. فمَن سيقولُها؟



55
ورّطها الغرب، ويقولون ستنتصر الأمّة الأوكرانية!
لويس إقليمس
بغداد، في 9 آذار 2022 
يبدو ان الورطة التي أوقعت الحكومة الأوكرانية نفسها بها بانزلاقها وراء تخرّصات وتحريض الكاوبوي الأمريكي راعي الحروب في العالم وتوابعه من دول الغرب الدائرة في فلكه، ستطيح بهذه الدولة الفتية وستحصد الأخضر واليابس، كما يبدو للعيان منذ بدء غزو الدبّ الروسي المنفوش. فالظاهر أن الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" الذي جاء إلى الواجهة السياسية في انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية في عام 2019، لا يتمتع برؤية سياسية شاملة للواقع الجديد الذي فرضته تغييرات ما بعد انحسار دور الاتحاد السوفياتي وتفتته وتفككه في 26 كانون أول 1991م إلى دول كبيرة أو صغيرة بحسب أهميتها الاقتصادية والجيوسياسية مع إبقاء باب الحنين إلى الماضي مفتوحًا. فالنظرة إلى الحياة السياسية ومصير البلدان لا تحصرها وجهة نظر ناجمة عن خلفية فكاهية لشخصية تركت التهريج لتدخل المعترك السياسي الغائص في أوحال الدجل والحيلة والنفاق والمساومات والصفقات والمصالح وما سواها من أدوات سياسية عرفَ خصمُه اللدود "فلاديمير بوتين" الشرس حُسنَ استغلالِها وتوظيفِها لصالحه ولصالح بلاده عبر أحلامه التي لا حدود لها بإعادة إحياء الإمبراطورية السوفييتية الجبارة التي اعتادت قول كلمة "لا" للقطب المنافس والغريم التقليدي اللدود. وبالرغم من انتهاك الاتحاد الروسي لمجمل الالتزامات المترتبة عليه في القانون الدولي باعتباره عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلاّ أن تبريرات الرئيس الروسي بوتين تكمن في كون ما أقدمت عليه جارتُه أوكرانيا يصبّ في خانة الهواجس من احتمالية تمدّد حلف الناتو صوب بلاده وخشيته من تغوّل دول الأخير على قدرات بلاده الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية في المستقبل.
لقد كان على الرئيس الأوكراني الشاب أن يكون أكثر حذرًا في التعامل مع ملف شائك على تخوم وريثة أكبر امبراطورية سياسية عقائدية حديثة وأن يمضي في سبيل إيجاد حلول شافية للمشكلة مع إقليم دونباس المتاخم لروسيا، لا أن يتغاضى ويتملّص من اتفاقاته مع هذه الأخيرة بطريقة أفضت إلى توارد شكوك وهواجس في عقلية ورؤية الرئيس الروسي الجسور من وجود شبه مؤامرة أمريكية-غربية لعرقلة بروز روسيا كقطبٍ عالميّ منافس لغريمه الأمريكي القديم. فالخبرة الواسعة التي اكتسبها رجلُ المخابرات الروسي بشيطنته في دهاليز السياسة وحنكته الوطنية وحرصه القوميّ وحنينِه المعتدّ لإحياء دور البديل عن الاتحاد السوفيتي السابق قد قصمَ ظهرَ التحالف الغربي -الأمريكي وحصره في زاوية ضيقة لا مناص من تحمّل أعباء المرحلة الصعبة القادمة وعواقبها السياسية والاقتصادية بفرض ما يسعى إليه شخصيًا وجعله أمرًا واقعًا بإملاءاته السياسية والاقتصادية والطوبوغرافية على السواء. وهذا ما أفصحَ عنه شخصيًا للرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" الذي سعى ظاهريًا أكثر من غيره للتوسط بإيجاد مخرج للحرب القاتلة والطاحنة والمدمّرة القائمة بين البلدين عبر قنوات تفاوضية.
في واقع الحال، تعتبر الحرب بين روسيا وأوكرانيا ليست وليدة اليوم، بل ترقى لعام 2014 بحسب متابعين للأحداث الساخنة. فقد كان على الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" أن يتعامل مع دولة القوة الضاربة الروسية بمزيد من الحنكة والدبلوماسية في مواجهة مطالبات الدب الروسي بعودة شبه جزيرة القرم إلى أرض روسيا الاتحادية في 2014 بعد نسفه لاتفاقات مينسك. لكنّ سوء النية والتنصّل من الاتفاقات من جانب روسيا، إضافة إلى التدخلات الجانبية والتحريض القادم من دول حلف الناتو وبالذات سيدة الحلف أمريكا لصالح أوكرانيا، قد أغرى قيادة هذه الأخيرة بالمواجهة الحتمية طمعًا بما وُعدت به من دعمٍ وتأييد لا محدود لمواقفها وتمرّدها ورغبتها الجامحة بالانضمام إلى الحلف والاتحاد. وفي المحصلة، يجد البعض في التنصل الغربي بالتدخل العسكري المباشر والمشاركة في العمليات الحربية وفي دعم المقاومة الوطنية لهذا البلد الغارق في الدم والدمار والفناء ومدّها المفتوح بالمال والسلاح حصرًا قد أفضى لترك هذه البلاد تلاقي مصيرها لوحدها في الدفاع عن أرضها ومستقبلها واستقلالها وحريتها. وبالنتيجة كان التشتت والهجرة واللجوء مصيرَ أكثر من مليوني شخصٍ لغاية الساعة هربوا من جحيم النيران المشتعلة في كلّ مكان وهم يعاينون تدمير البنية التحتية لبلدهم بأمّ أعينهم. فلا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا غذاء ولا راحة ولا نوم ولا أملَ، بل دمار وخراب وجوع وبحث عن ملاذ آمن بالدموع والحسرة والرعب المرافق والدهشة، تمامًا كما حصل مع العراق في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومثله في أحداث 2003 حين غزوه من قبل الكاوبوي الأمريكي ومَن معه من الأتباع الأذلاء من دول العالم، وبضمنهم أوكرانيا آنذاك بأعذارٍ واهية واستنادًا لمعلومات مصلّلة غير صحيحة. والحال يبدو للعيان أن أمريكا وإدارتها العسكرية والمخابراتية والتشريعية لا يهمّها أمرُ الحروب المفتعلة هنا وهناك طالما أن هذه الحروب والمآسي تُشنُّ بعيدًا عن أراضيها ومواطنيها ومصالحها المباشرة. هذه سياستُها الخارجية دومًا. ولنا أمثلة من التاريخ الحديث، حيث فيتنام وكوبا والعراق وأفغانستان، والحبل على الجرّار، إلاّ إذا توفقت روسيا ونالت مبتغاها بتسيّد الموقع الأول في العالم مع حلفائها الصينيين والإيرانيين والكوبيين والأمريكيين الجنوبيين ومَن والاهم في الفكر والمنهج، عسكريًا وتسليحيًا، ولاسيّما النووي منها، لتضع أمريكا والغرب التابعَ لها في عنق الزجاجة وتحاصرها كلّما سعت لخلق حربٍ من هذا النوع وبهذا الشكل القذر.
لا حوار قبل تحقيق الأهداف الروسية
قالها بصراحة وصلافة الشجعان: " لا حوار ولا انسحاب قبل تحقيق الأجندة الروسية". وما أدراك ما الأجندة الروسية التي يطبخها الرئيس بوتين على نيران هادئة أحرجت وأرهقت وأغضبت زعماءَ العالم، إلاّ الموالين لروسيا والمقتنعين بحقها في تأمين حدودها في مواجهة حلف الناتو الزاحف، بحسب "بوتين" الواثق تمامًا ممّا يفعلُه تجاه بلدان المعسكر الغربي ومطالبته لجارته أن تأخذ جانب الحياد في نظامها السياسي. فالحياد الإيجابي الذي انتهجته فنلندا مثلاً وحافظت به على كيانها ومصالحها الوطنية والقومية، كان جديرًا بانتهاجه سياسة حكيمة لأوكرانيا أيضًا. وهذا كان سيكون عينَ العقل ونعمَ الفعل! من هنا كان الأجدر بالحكومة الأوكرانية التوصل لحلولٍ وسطية مع الانفصاليين في كلٍّ من دونيتسك ولوغانسك بمنحهما نوعًا من الحكم الذاتي أو ما شابه ذلك من سلطة محلية بالتوافق والاتفاق مع الروس بحيث لا تُثار مشاكل بين أبناء القومية السلافية المشتركة والعقيدة الدينية التي ينتمي إليه غالبية فرقاء البلقان في هذه المنطقة.
إن تصريح الرئيس الأوكراني في أروقة مؤتمر الأمن المنعقد في ميونيخ الألمانية للفترة من 18-19 شباط المنصرم 2022، والذي سبقَ الغزو الروسي بأيام معدودات، بافتقار بلاده "للسلاح والأمن وحقها بالعيش" لم يلقى استحسانًا من جانب روسيا الاتحادية. بل اعتبره رئيسُها العنيد دغدغةً للمشاعر الغربية بالدعوة الصريحة لدعم طموحات هذا البلد بالانضمام إلى حلف الناتو ودول الاتحاد الأوربي، شأنه شأن دول الاتحاد الدائرة في ركب أمريكا التي ترغب بتكريس سياسة القطب الواحد وإبعاد شبح أية محاولة تنافسية من قبل الدبّ الروسي أو التنين الصيني. فالفكرة التاريخية لدى الرئيس "بوتين" تنحصر بكون البلدان السلافية لم تعرف قدرات قوية ومتميزة وسيادية غيرَ تلك التي تقترن بها اليوم روسيا الاتحادية كدولة عظمى ورثت أهليتها لقيادة باقي بلدان البلقان التي اعتادت السير في فلك امبراطورية الاتحاد السوفيتي سابقًا. وهذا ما يسعى "بوتين" لإثباته في سلوكه "الأسطوري" الرامي لإلغاء اية صحوة وطنية أو زوغانٍ عن الزعامة الروسية التقليدية لعموم دول البلقان من خلال السعي لإعادة إحياء قوة موازية ومنافسة لغريمها الأمريكي –الغربي في عالم اليوم المتناقض والمتصارع حدّ التقاتل بين أبناء الشعب الواحد. فالصراع قائم وفي تفاقم متزايد بين الشرق والغرب لا محالة. ولا مفرَّ من التملّص منه أو التقليل من شأنه ومن صحوته بين فترة وأخرى. فهذا واقع حال الأمم والدول. كما أنَّ الصراع سجالٌ بين المتخاصمين، والقوّة العسكرية والقدرة في إقناع الخصم هي التي تفرض شكل واقع الحال، سواءً قبِلَ به العالمُ أو رفضَه.
هل من نصر أوكراني ممكن على التعسف الروسيّ؟
إزاء التطورات العسكرية المتلاحقة على أرض الواقع والإرهاصات المدمّرة للبنية التحتية لأوكرانيا، هل يمكن التنبّؤ بعدُ بانتصار إرادة الأمة الأوكرانية كما تتداول بعض الماكنات الدعائية الغربية وتحرص غيرُها لإدامة عجلة الحرب الضروس بين البلدين؟ أشكُّ في ذلك كثيرًا. إلاّ أللّهمّ إذا كان حلف الناتو يخبئ مفاجأةً بنكهة أمريكية مميّزة لا علمَ لغيره بها، أو في حالة تعرّض الرئيس الروسي لشكلٍ من اشكال العجز أو الاختفاء من المشهد السياسي برمّته بفعل فاعل. لكنّ المؤكّد أن "بوتين" يتصرّف وفق مخطّطات تشيدُ له بقوته وثقته العالية بما يسعى إليه وهو يطبّقُ سياسة الأرض المحروقة لإزالة أيّ أثرٍ لمن يسمّيهم بالنازيّين والمافيويّين الجدد. فكلّ التصوّرات الحالية تشير إلى أنّ مصير أوكرانيا لم يعد بيدها. وهذا يتوقف على مدى ثبات قدراتها العسكرية ومقاومتها لشرور الزعامة الروسية وماكنتها الحربية التي وضعت كلَّ ثقلها في هذه "الحرب الانتحارية". فهي في نظر الرئيس "بوتين" حربٌ مفصلية بين قطبين متنافسين قبل أن تكون حربًا ضروسًا بين دولتين متجاورتين متخاصمتين أو شعبين اختلفا حول مفهوم شكل الحياة والسياسة والتوجه.
من المعروف أن أوكرانيا قد نالت استقلالها منذ أكثر من ثلاثين عامًا بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي في 1991، حيث صوّت لصالح حالة الاستقلال أكثر من 91% من نفوسها آنذاك. وبحسب القانون الدولي، هذا الوضع يتيح لها اتخاذ خياراتها الاستراتيجية وشكل نظامها السياسي في الحياة وفقًا للمواثيق والأعراف الدولية. وقد توالى على رئاسة البلاد لغاية اليوم ستة رؤساء عبر انتخابات وطنية ديمقراطية، سواءً ارتضت بها روسيا أو لا. وقد انصبّ تركيز جميع الحكومات المنتخبة على بناء هذه الدولة وفقًا لخيارات الشعب ورؤاه في نوعية وشكل النظام المطلوب للحياة. ولكن يبدو أن "الأسطورة" التي تدور في راس رجل مخابرات الاتحاد السوفيتي السابق ما تزال قائمة وثابتة في مخيلته. فهو يشعر بقدرته على تنميتها وإعادة توليفها بحسب رغباته وطموحاته الشخصية والقومية انطلاقًا من فكرة كون شعوب بلدان المنطقة واحدة لا تقبل التفتّت والتفكّك والانفصال في القومية واللغة والمصير والقيم، ما يتطلب بحسب وجهة نظره إعادة صياغة مستقبل دول المنظومة السوفيتية السابقة لتدور من جديد في فلك روسيا، وريثة الاتحاد السابق من منطلق الحفاظ على العنصر السلافي ومستقبل بلدانه وشعوبه. من هنا كانت هواجسُه من مغبة تمدّد قدرات حلف شمال الأطلسي باتجاه دول البلقان المستقلة والخشية من خسارة روسيا لمواقعها وحلفائها في المنطقة بسبب هذا التمدّد.
تاريخيًا، كانت هناك معاهدات واتفاقات بين روسيا الاتحادية ودولة أوكرانيا منذ عام 1997 تتيح للأولى التموضع في مناطق استراتيجية حساسة تؤمّنُ لها فرض السيطرة على البحر الأسود ومنطقة سيباستوبول، سرعان ما تم تمديدهُ لعشر سنوات إضافية، ثم لغاية 2042 على عهد الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا "فيكتور إيانوكوفيتش" مقابل صفقة بتسهيل تمرير الغاز الروسي لهذا البلد بأسعار تفضيلية تصل إلى 30% لصالح أوكرانيا. لكنّ التقرّب المشبوه غير المقبول للرئيس "إيانوكوفيتش" في نظر الشعب الأوكراني قد واجه معارضة عنيفة بسبب اتهامه بالعمالة للروس وبسبب الفساد، ما حدا به لمغادرة البلاد باتجاه حليفه الروسي. ومذ ذاك وروسيا تسعى لفرض سطوتها ورؤيتها الاستراتيجية على هذه البلاد الرافضة أن تكون تابعًا ذليلاً لغيرها بعد نيل استقلالها. وكان منها أن حرّكت أدواتها في منطقة القرم واحتلتها في عام 2014 وشكّلت حكومة موالية لها في انتخابات جرت في ظلّ السلاح وفرض السطوة لتعود إليها أرضًا ونظامًا.
وبعد هذا، هل يمكن للمساعي الأوربية والدولية أن تنجح بخلق حوار بين الدولتين المتصارعتين على المصير والمستقبل وشكل الحياة والنظام؟ واقعيًا، يبدو هناك انسداد سياسي وعناد من جانب الزعامة الروسية التي تصرّ على ترسيخ مزاعمها القومية في الإعلام وتعبّر عن هواجسها إزاء احتمالية تشكيل انضمام أوكرانيا لحلف الأطلسي خطرًا على المصالح القومية الروسية ومستقبل أمنها في المنطقة والعالم. ويبقى الصراع محتدمًا طالما لا توجد نوايا للتهدئة والحوار وتفهّم خيارات وهواجس الآخر على السواء، عبر منظومة قادرة على حلّ لغز الأسطورة الروسية من جهة والخيار الأوكراني من جهة أخرى والاستناد إلى ثلاث اتفاقيات بين الدولتين لرسم شكل العلاقة بينهما واحترام استقلال أوكرانيا وخياراتها في الأعوام 1994 و1997 و2010م. لكنّ عدم احترام الروس لهذه الاتفاقات قد أدخل الشكوك في حكومات أوكرانيا المتلاحقة، ما حدا بالرئيس الحالي للتعبير عن عدم مصداقية الروس في الالتزام بكلامهم ووعودهم. وهذا ما يفسّرُ شدّة المقاومة التي يبديها الأوكرانيون إزاء العنجهية الروسية وماكنتها الحربية المتفوقة. ولولا الدعم الغربي لحلف الناتو لكانت سقطت أوكرانيا في أول ساعات الصراع. إلاّ أنّ ما يديمُ أوار الحرب المدمّرة ويؤجّج القتال، هو ذلك الدعم المفتوح واللاّمحدود من قبل الغرب الأوربي وراعيته أمريكا، بالمال والسلاح والإفراط بفرض العقوبات الاقتصادية والمالية واللوجستية على روسيا، وآخرها فرض الحظر على توريدات النفط والغاز الروسي إلى دول الحلف.
من هنا، تأتي توقعات المراقبين والمحلّلين باحتمالية تحقيق نصر أوكرانيّ في نهاية الصراع بدعمٍ شعبيّ فاق التصورات بارتفاع نسبة الراغبين بالانضمام لحلف الناتو من نسبة تقل عن 30% قبل عام 2014 إلى 60-70% بعدها. وهذا ما يحثُّ حكومة الرئيس "زيلينسكي" على تعزيز وإدامة المقاومة الوطنية حتى تحقيق النصر. وقد تشهد الأيام القليلة القادمة مفاجأة بإنهاء الصراع ووقف قرقعة السلاح تفاديًا لخطرٍ داهمٍ أعظم وحفظًا لأرواح الأبرياء من الشعبين وخشية من توسع القتال خارج ساحة البلدين المتصارعين، لاسيّما بعد إدراك الغرب ودول حلف الناتو ممّا سبق وحذّر منه الرئيس الروسي "بوتين" قبل أشهر من اندلاع الصراع من ارتكاب خطأ جسيم في حالة تراصص الجارة أوكرانيا مع حلف الناتو المنافس لبلده والساعي لتقويض قوته وتأثيره في المنطقة والعالم. ومهما كانت النتيجة في حالة وقف القتال بمساعي ذوي الإرادة الطيبة والنوايا الصالحة من رؤساء وزعامات وشخصيات مؤثرة وأولهم قداسة بابا الفاتيكان، فالمنتصر سيكون العالمُ كلّه، وأولُهم الشعبان الروسي والأوكراني. فيا ربَّ السلام، امنحِ العالمَ السلامَ!


56
عندما يغزو الدينُ عالَمَ السياسة، البطريرك لويس ساكو زعيمًا وطنيًا
لويس إقليمس
بغداد، في 14 شباط 2022
قالوها: "إذا اختلط الدين بالسياسة كانت الفتنة"! لكنّ واقع الحال في أحيانٍ ما وظروفٍ ما تستلزم تدخلاًت قوية وتمريراتٍ متفاوتة بنصائح وملاحظاتٍ لا بدَّ منها من أجل وضع الأمور في نصابها بعد اختلاط الأوراق واغتصاب الحقوق وضياع القدرات واختزال الوطن بفئات متحاصصة متخاصمة متحاربة على الجاه والمال والنفوذ بسبب فساد الساسة وأدواتهم.
عالَمُ السياسة عالَمٌ مغري، فيه مشاهد كثيرة جاذبة للارتقاء بطموحات شخصية وبلوغ مراتب عليا في صفحة الشهرة والمال والجاه والنفوذ والطغيان والفساد، تمامًا مثلما تبرز فيه رجالاتٌ صادقةُ الزعامة تستحق أن تُرفع لها قبعاتُ الاحترام وتُنصبُ لها معالمُ ونُصُبٌ لتبقى في ذاكرة التاريخ والإنسانية الخالدة. وهذا حسبُ بعض رجالات الدين وزعاماته أيضًا في هذه الأيام الصعبة، حين استغلال هذا الأخير أو التجلبب بشكلٍ من أشكاله أو العبور فوق جسوره من أجل بلوغ مآرب شخصية ضيقة وأنانية لا تخدم مبادئَه ولا تحترمُ قيمَه ولا تسمو بمعانيه العليا التي ينبغي توجيهها لخدمة النفوس المتعطشة إلى كلمة الحق وعيش سمات الصدق والمحبة والعدالة الاجتماعية والأخوّة الإنسانية وسط المجتمعات وصولاً إلى تحقيق السلام والاستقرار في المجتمعات وبين الأمم والشعوب احترامًا لخليقة الله شاملِ الرحمة لجميع بني البشر. وطالما وردتْ تحذيراتٌ حكمية من انجراف زعاماتٍ دينية، من أيّ دينٍ أو معتقد أو مذهبٍ، باتجاه أعماق السياسة المحذورة وغير الآمنة بسبب ما قد تنتجه هذه من إشكاليات غير محسوبة النتائج، أو ما قد تفرّخُه من مآسٍ وتخلقه من تشكيكات وهواجس ومخاوف بسوء النية وضعف الإرادة في إدارة دفة هذا الاتجاه غير السالك، المحفوف بالعديد من المخاطر والانزلاقات التي لا تُحمدُ عقباها في حالة زوغانها عن الطريق المرسوم لها في ذاكرة وعقل مَن يختار سلك مثل هذه الطريق غير الآمنة في النتائج والأفعال والمصير. 
عن واقع الحال في عراقنا الجريح، تتأرجح المواقف وتتقاطع الرؤى في النظرة لرجل الدين وهو يخترق عالمَ السياسة ويجوب في غماره ودهاليزه متعثرًا حينًا وصائبًا في خطاه ومساعيه في أحيانٍ أخرى، مقبولاً في غيرها مرةً وساقطًا تحت حربات النقد وسيوف العقد وجنبات الفقد في أخرى. فمازال الجدلُ سيّدَ الموقف على مستوياتٍ عديدة، ومنها موقف عامة أتباع الأديان من زعامات دينية اخترقت عالم السياسة بأشكالٍ وسياقات مختلفة. فمنهم مَن كان حليفُه النجاح والقبول به زعيمًا، أيًا كان شكلُ زعامته، فارضًا نفسَه وشخصَه وتاريخ أسرته ومذهبه بالرغم من أنف الغير، فيما هذا الغيرُ صاغرٌ. ومنهم مَن أخفق في تبيان كاريزما الزعامة شكلاً وقولاً وإقناعًا، فوقعَ ضريرَ السمعة وحبيسَ سوء العشرة وغيابَ القدرة في الإقناع. وهناك شكلٌ آخر من زعاماتٍ دينية أكثر إيجابيةً غالبًا ما اتصفت بكاريزما مميّزة بفضل ثقافتها المنفتحة وعمقها الديني الواضح بفضل سموّ علاقاتها مع قيادات مدنية وشعبية ورسمية، ناهيك عن قربها من أفكار ورؤى وتطلعات ذوي الانتماءات الصادقة للأوطان، والحريصة على بناء الإنسان ومقاربة احتياجاته الإنسانية اليومية. وكان ممّا ساعد نماذجَ هذه الزعامات الدينية الصادقة في وعدها وحسّها وحرصها أن يكون لها دورٌ مميّز ومقبولية لدى عموم ساسة البلاد وزعاماتها بسببٍ من أفكارها الناضجة وقربها الإنساني من الجميع ورؤاها السديدة التي تصبُّ بالتالي في خدمة البلاد والعباد. ويكفي شعورُ العديد من ساسة البلاد وزعاماتها بالخجل والحياء بسبب طروحات هذه النماذج الوطنية من رجالات الدين المتميزين وممّا تطرحُه من أفكارٍ ورؤى ونصائح وتحذيرات تنفع دروسًا يومية في التعامل مع واقع الحياة. ذلكم هو واحدُها، سيدي وصديقي غبطة البطريرك الكاردينال لويس ساكو، سدّد الربُ خطاه دومًا. فهو ينفع اليوم معًا، زعيمًا روحيًا وقائدًا وطنيًا.
البطريرك لويس ساكو، زعيمًا وطنيًا 
من العدل أن أتطرق في هذه السطور إلى هذا الصوت الوطنيّ الصارخٍ في برّية العراق ينادي ويناشد ساسةَ البلاد بأعلى قدراته من أجل إعداد طريق الوطن وتقويم سبل الشعب والرحمة بالفقراء ومساعدة المحتاجين والركون للتعايش السلمي ونشر أدوات الأخوّة الإنسانية التي دعا إليها بابا الفاتيكان خلال زيارته للعراق قبل عامٍ. فحضورُ غبطة البطريرك ساكو، في مناسبات رسمية ووطنية وخاصة، يمثلُ في الواقع السياسيّ الهشّ علامة مضيئة على دور رجال الدين الإيجابيين من فئة المؤمنين حدَّ النخاع بالمبادئ الوطنية الساعية دومًا لنشر أدوات العدل والمساواة والألفة والتضامن والأخوّة والمحبة في أوساط شرائح المجتمع كافة، وليس في أوساط المسيحيين فحسب. فمَنْ مِن العراقيين والعرب والعالم لا يستمتع ويتفكّرُ بكلمات غبطته وهو يعتلي المنابر متحدثًا بصراحته المعهودة وموجهًا كلامه الأخوي بالرغم من قساوته في أحيانٍ كثيرة، للحضور والغائبين معًا بضرورة التكاتف والتآزر والوحدة من أجل وطنٍ موحد يتمتع جميع مواطنيه بحقوق كاملة غير منقوصة وفق الاستحقاق الوطني والجدارة والكفاءة وبموجب الدستور والقانون الشامل بعيدًا عن مسمّيات المكوّنات الطائفية التي أحرقت الأرض وأهلكت الحرث نتيجة تقاسم المغانم وإصرار الزعامات السياسية وأدواتها بمواصلة ذات النهج المحاصصي المقيت في تدمير البلاد ونهب ثرواتها ومنع تقدمها وتطورها أسوة بباقي الأمم والدول.
لا فُضَّ فوك سيدي البطريرك ساكو! بل سلمَ فمُكَ يا ناطقًا باسم المحبة، وصية المسيح الأولى، في كلّ مكان وكلّ زمان وأنتَ تحاصرُ ساسة البلاد في آخر مداخلاتك الوطنية والإنسانية في المنبر الحكيمي يوم 5 شباط 2022 بالاستشهاد والتذكير والرجوع لأفضل عبارات الحق الصارم قبل قرون خلت من جانب إمامٍ فصيح العبارة، حصيف الرأي، محكم العقل، طالما يتبجّحُ به وفيه أتباعُه الأدعياء من دون تطبيق معاني حِكَمِه وأقواله، أو تنفيذ ولو نتفٍ من مخارج هذه الحكم والنصائح النبوية، أو تقويم أدائهم السياسيّ والحكوميّ على أرض الواقع. فقد أوصى أميرُ المؤمنين، علي بن ابي طالب مَن ولاّه مصر أن "يشعر قلبُه بالرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، وألّا يكون عليهم سبعا ضاريا يغتنم أكلَهم... فالناسُ صنفان إمّا أخ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق”. ما أجمل الكلام وأفضل الحِكَم لو جرى تطبيقها والعمل بها لكان وطنُنا أفضل حالاً وشعبُنا أكثر سعادة وشوارعُنا أنظف وثرواتُ بلادنا في الحفظ والصون وأخلاقُنا أنقى من الثلج وعلاقاتنا الأخوية تسودها المحبة والتوافق والاتفاق بالحوار الهادئ واحترام الآخر المختلف واعتماد ميزان الأهلية والجدارة في إدارة البلاد والعباد.   
في مشاركته الأخيرة في ندوة عن الوئام بين الأديان في بغداد يوم 9 شباط 2022، بحضور مستشار الامن القومي السيد قاسم الاعرجي، رفع غبطة البطريرك ساكو صوتَه عاليًا أيضًا كعادته منوّها بضرورة "الخروج من النظريات والافكار الى التطبيق العملي في احترام المواطنين والمساواة بينهم بسبب وجود تهميشٍ وإقصاءٍ وظلمٍ سبّبته الطبقة السياسية الحاكمة الباحثة دومًا عن مصالح"، ومنبّهًا في الوقت نفسه  لضرورة الانتباه للخطاب الديني المتشدد الذي ينبغي معالجته على أرض الواقع من خلال  تغيير المناهج التعليمية و استبدالها بأخرى منفتحة، ما يتطلب الذهابَ لسنّ قوانين جديدة  تضمن حقوق الجميع". أليس في هذا التوجه الوطني إماراتٌ واعية وواضحة لزعامة وطنية ودينية تستحق التقدير وأن تُرفع لها قبّعة الاحترام وتولّى جانبًا من زمام القيادة والإدارة الوطنية، أقلّها تقديرًا في قبول توجيهاته السديدة والركون إليه في استشارات صائبة لخدمة الوطن وأهله جميعًا من دون تمييز أو تفرقة في الدين والمذهب والإتنية؟ سؤالٌ جديرٌ بالتقدير والقبول والاحترام ولا يقبل الرفض والنبذ والاستهانة.
هذه دعوة أخرى من مواطن عراقي صادق لزعامات دينية من مختلف الأديان والمذاهب تتمثل وتتجلى فيها الحكمة والرؤية السديدة والانفتاح والأصالة والحداثة معًا، للعمل على نشر الثقافة الوطنية والمجتمعية وبثّ روح الوعي الديني وتيسير الخطاب الوسطيّ المقبول عبر مبادرات حقيقية على أرض الواقع تدعو لاحترام خيارات الآخر والإقرار بحقوقه وعدم التجاوز على شكلِ ونوع هذه الخيارات ضمن حدود القوانين المرعية ودستور البلاد حامي حقوق الجميع بالعدل والمساواة والجدارة في الاستعداد للعمل والخدمة والوفاء بالالتزامات. حينها فقط، سيكون الوطن بخير وأهلُه في غاية السعادة متمتعًا بقدرٍ يسيرٍ من الأمن والاستقرار والرفاهة حالُه حال باقي شعوب الأرض عندما يصبح صاحبَ السيادة على أرضه ومياهه وثرواته وقراره الوطني.

57
أوربا وخطتها الطموحة لتحقيق هدف المناخ النظيف
لويس إقليمس
بغداد، في 8 آذار 2022
تسعى دوائر أوربية متنوعة الفعاليات منذ فترة لتحقيق ما أسمته بخطة "التكيف مع الهدف 55" وإحراز تسوية سياسية مناخية قابلة التطبيق ضمن خطة مدروسة للتقليل من الانبعاثات الغازية السامة بنسبة 55% لغاية 2030 ونسبة 60% لغاية 2050. هذه المبادرة المناخية الطموحة التي تولتها المفوضية الأوربية تحمل بين طياتها مراحل عديدة وصولاً للتخلص من المخلفات الكاربونية القاتلة التي تقرّب البلوغ نحو تحقيق هدف "البيئة النظيفة" من خلال تقليل استخدام الوسائل التي تسهم في تلوث البيئة، ومنها بطبيعة الحال ما يتعلّق بالاستخدام المفرط لوسائل إنتاج الطاقة واستخدامات وسائل النقل التقليدية المعتمدة في كلتيهما على أشكال الوقود الأحفوري بسبب ما يشكله هذا الأخير من منغصات ومشاكل بيئية أفسدت الهواء وخنقت الأجواء وآذت البشر والحجر والماء سواءً بسواء. وبحسب تحليلات مراكز بيئية متقدمة، قد تشكل مخلّفات هذا النوع من الطاقة الوقودية ما يصل إلى 75% من شكل الانبعاثات في أوربا وحدها. لذلك، ومن دون إيجاد بدائل كفيلة بمعالجة هذه المشكلة المتأزمة عبر تغيير أنماط الطاقة المستخدمة وابتكار غيرها ممّا يتلاءمُ ويتكيف مع خلق بيئة أكثر نظافة، فإنه يعسر بلوغ الهدف المنشود المعروف "بالميثاق الأخضر" أو ما يوازيه من "الحياد المناخي" بحلول 2050. وهذا ما يدعو إليه بإصرار أنصار "البيئة الخضراء" ودعاة تحسينها بتسريع وسائل الانتقال إلى نظام بيئي أكثر نقاءً واللجوء لترك وسائل الطاقة الملوِّثة تدريجيًا، بعد رصد ارتفاع درجات الحرارة على كوكب الأرض بمقدار 1,1درجة بين السنوات 1850-2017، وفي فرنسا بالذات بمعدل 1,5 درجة منذ عام 1900، ومثلها تقريبًا في دول القارة العجوز.
احترام اتفاقية باريس للمناخ
لقد تركت اتفاقية باريس للمناح آثارًا إيجابية لدى أصحاب "الدعوة لبيئة أكثر نظافة ونقاوة". وهذا ممّا حدا بمنظماتٍ وجهات رقابية بيئية عالمية ومناطقية ومحلية للتفكير الجدّي بالتخفيف من آثار الاحتباس الحراري الذي بدأ يهدّد البشر والكرة الأرضية بأسرها. وسواءً انتبه البشر "النائمون وأرجلُهم في الشمس" للآثار المدمّرة لهذه الظاهرة أم أهملوا ما ينتظرُهُم في الأيام والسنوات القادمة من منغصات جديدة ومشاكل بيئية وكوارث طالما حذّر منها أصحاب العلّة والتحليل والتنبؤات، فإنّ "الفأس سيقع في الرأس" لا محالة في حالة التغاضي عن المسببات والعلل والنتائج غير الظاهرة أو الضعيفة البادية للعيان. من هنا جاءت الدعوة المتكررة لاحترام اتفاقية باريس للمناخ التي رسمت الخطوط العريضة لاحترام البيئة ووضع السياسات التي من شأنها إنقاذ البشرية من خطر التلوث الداهم الناجم عن تزايد الانبعاثات الحرارية بلا تقييد ولا تفكير للنتائج المدمّرة القادمة. ومن شأن خطط التعافي الموضوعة بعد دراسة مستفيضة أن تقدّم حلولاً معقولة ومقبولة بالالتزام بتخفيض مستويات الانبعاثات سعيًا وراء مكافحة التغير المناخي بكلّ الوسائل المتاحة. وقد رُصدت لبلوغ هذا الهدف ميزانية كبيرة ووضعت له معايير صارمة حددتها اللجنة المكلّفة بمتابعة هذا الملف من أجل بلوغ ما يُسمّى بهدف "الحياد الكربوني" كي يكون متاحًا بحلول عام 2050، حيث من المقرر تناقص الانبعاثات في أوربا بنسبة 60% عام 2050. وهذا من شأنه إحراز نجاحات مماثلة في سبل تخفيض ما تنفثه المصانع والمعامل ووحدات أنتاج الطاقة وأدوات النقل بمختلف أشكالها وأحجامها من سمومٍ كاربونية قاتلة بسبب استخدامها لوسائل الطاقة التقليدية في تشغيلها.
على سبيل المثال لا الحصر، تشكلُ وسائل النقل التي تستخدم مشتقات الوقود التقليدية نسبة عالية من حجم التلوث الذي يحاصر الأجواء ويؤذي البشر الذين يعيشون فوق الأرض في كلّ مكان من البسيطة. وقد تنبهت العديد من الدول لهذه الظاهرة المتفاقمة بسبب ما تشكله من خطورة في تلويث الأجواء وكذلك من ارتفاع في مستويات درجات الحرارة المتزايدة سنة بعد أخرى. لذلك، فقد أوصت بتقليل استخدامات وسائل النقل الخاصة وهيّأت ما تيسر لها من وسائل نقل عامة في جميع المجالات مساهمةً منها في تقليل الانبعاثات الحرارية. وقد تكون المشكلة قائمة وصعبة التخفيف في الدول التي تفتقر إلى وسائل نقل عام تؤمّنُ نقل الإنسان المكلّف بعمل أو وظيفة أو لقضاء حاجة خارج المنزل وأوقات العمل. بل بالعكس، فقد لوحظ تزايد استخدام وسائل نقل خاصة متنوعة وبأعداد تفوق حجم استيعاب شوارع بعض البلدان، كما يحصل في العراق، بحيث اكتظت الشوارع بهذه الوسائل التي تنفث سمومَها في كلّ الأجواء. هذا إضافة إلى ما تشكلُه استخدامات توليد الطاقة عبر الوحدات التوليدية للقطاع الخاص (المولدات) من مشاكل بيئية كثيرة وما تنفثُه من سموم كاربونية في كلّ الاتجاهات، بحيث أصبحت تشكلُ هاجسًا على صحة المواطن والأرض التي يطأُها ويجد صعوبة في استغلالها لأسباب كثيرة.

أجندة الحياد الكاربوني والمسؤولية الجماعية
من هذا المنطلق عينه، تنبهت أوربا إلى هذه المشكلة حين أقدم برلمانُها على وضع أجندة زراعية وقائية صارمة في سياسته العامة في اجتماع 25 حزيران 2021، من أجل إيجاد بعض الحلول الناجعة في تقليل أدوات التلوث وصولاً لسياسة زراعية "أكثر خضرة وإنصافًا" ضمن مخططات صديقة للبيئة اتفقت جميع الأطراف على تبنّيها. وبحسب مصادر، تشكل هذه الروزنامة ما يعادل 25% من ميزانية المساعدة التي تتولاها دول الاتحاد الأوربي، أي ما يعادل 48 مليار يورو. وقد انضمّت الصين بصورة خاصة إلى هذه الفكرة بتبنيها سياسات بيئية إيجابية من جانبها لبلوغ ذات الأهداف بحلول عام 2030 وهدف الحياد الكاربوني في عام 2060. فيما أشارت دول أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية إلى بلوغ هدف الحياد الكاربوني بحلول عام 2050. فيما أبلغت الولايات المتحدة نظراءها الدوليين في اتفاقية باريس للمناخ، أنها عازمة على تخفيض مستويات الاحتباس الحراري بنسبة 52% بحلول عام 2030 مقارنة بمستواه في عام 2005.
كلّ هذا، يجري ضمن الالتزامات السياسية الدولية باتفاقية باريس للمناخ التي تعهدت دول العالم بإيجاد حلول واقعية لحالة البيئة المتراجعة في نقاوتها ونظافتها نتيجة الاستخدام المفرط للطاقة التقليدية والتباطؤ في إيجاد البدائل للطاقة المتجددة سواءً لأسباب اقتصادية أو جيوسياسية أو غيرها. وممّا لا شكَّ فيه، سيكون لهذه القرارات والإجراءات التعاونية الدولية فيما لو جرى الالتزام بمضامينها وأدواتها وتوقيتاتها، أثرٌ إيجابي على المستوى العام في منظور السياسة العامة للأمم والبلدان التي تعهدت بتنفيذ التزاماتها الأخلاقية والسياسية تجاه الكرة الأرضية لما تشكله هذه المشكلة من مخاطر أو تخلقه من أزمات بيئية لاحقة. وهنا لا بدّ من الإقرار بتباطؤ بلوغ الهدف الأسمى في تقليل الاحتباس الحراري بسبب تعثّر النمو الاقتصادي العالمي نتيجة هجمة COVID19 وتداعيتها وما تركته من آثار سلبية بالتعلّق باستخدام الطاقة التقليدية ومنها استخدام الفحم الحجري الذي زاد بنسبة 4,5 % في 2019 على سبيل المثال لا الحصر لصالح استخدامه في إنتاج الطاقة في دول اسيوية عديدة. وهذا الأمر قد انعكس سلبًا على التأثير المرتقب للمنظور الأوربي في بلوغ أهدافه المخطَّط لها، طالما بقي تعافي الاقتصاد في بعض الدول مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا باستخدام الوقود الأحفوري لأية أسباب كانت. 
لطالما حذّرَ خبراءُ البيئة من النتائج الكارثية والعواقب غير المدركة من مغبة ارتفاع درجات الحرارة على كوكب الأرض بمقدار 2 درجة مئوية، ما يقتضي التنبه للكارثة واتخاذ ما يلزم من إجراءات وقرارات مصيرية حاسمة لتلافي مثل هذه النتائج غير السارّة. وفي حالة التغاضي عن هذه كلّها أو التغافل عن بعضها، فإن العالم مقبلٌ لا محال على كارثة بيئية قاتلة ستغيّر من مواقع جغرافية وتزيد من مخاطر غمر وزيادة مياه البحار والمحيطات بمعدل 82 سم بحلول عام 2100 بحسب توقعات خبراء الأرصاد والبيئة بسبب ذوبان جليد المناطق القطبية التي يراقب العالم ضمورها تدريجيًا. ولنا ان نتصوّر ما سيترتب على هذه التوقعات من عواقب لاسيّما في مناطق السواحل وما يجاورها من كوارث ومآسي واحتفاء مساحات شاسعة من كوكب الأرض بسبب فيضانات عارمة وأعاصير ومواسم جفاف وحرائق غابات متوقعة الحدوث، ما ستكون له آثارٌ سلبية على واقع الحياة الطبيعية للبشر وعلى اقتصاد العالم عمومًا.  وهذا يعني أن هذه العواقب ستكون شاملة لجميع بني البشر، ما يحتّم كون المسؤولية الأخلاقية أيضًا أن تكون جماعية ولا مجال للتنصل منها.
ح



58
أنقذوا أرواح الناس في الطرق والشوارع
لويس إقليمس
بغداد، في 20 شباط 2022
هذا نداءٌ مستعجل جدّا بعد نفاذ صبر العباد إلى أصحاب الغيرة والضمير في كلّ من:
-   رئاسة الحكومة العراقية
-   أمانة بغداد
-   وزارة الإسكان والإعمار والبلديات
-   محافظة بغداد
-   كافة المحافظات
نداءٌ، ليس الأول من نوعِه من جانبي، إلى المعنيين في الجهات أعلاه، صاحبة الشأن في تقديم الخدمات الآدمية التي هي من أبجديات عملها ومسؤولياتها للمساهمة وحث الخطى الصادقة من أجل الاستعجال وعدم التباطؤ والتمهّل في إنقاذ أرواح المواطنين الذين يسلكون يوميًا طرقًا وشوارع مدمّرة مقرفة وكثيرة المخاطر والمفاجآت. فقد سبقني إليه كثيرون، ولكن من دون استجابة جادّة وحاسمة أو إعارة اهتمام يليق بالمشكلة بالرغم من كونها تمسّ أرواح بشرٍ ومواطنين يستحقون الأفضل في كلّ شيء. فكيف بطرقٍ مدمّرة، بعضُها مصنَّفٌ في حساب "الدولية" التي يجري سلكُها يوميًا من قبل مئات الآلاف من البشر وآلاف الشاحنات والعجلات مختلفة الأشكال والأنواع والأحجام، وقد تحوّلت العديد من أجزائها إلى أشباه سواقي وأخاديد مترعة بأكوام من الكتل "الزفتية" المقرفة على جانبي الطريق ولاسيّما قرب السيطرات والنقاط الأمنية التي تزيد من مشقات المسافرين بسؤالها التقليدي المزعج "منين جاي، وين رايح، إفتح الصندوق". إنّ مَن يسلكُ هذه الطرق سيّئة الصيت " عفوًا الدولية" يدرك مدى خطورتها، إلاّ سياسيّونا ومعظمُ المسؤولين في الدولة ومعهم نواب الشعب الذين غالبًا ما يستقلّون الطائرات للوصول إلى وجهاتهم، ما يضعفُ بل ويقلّلُ من تصوّراتهم لخطورة الموضوع عندهم لعدم شعورهم بما يعاني منه المواطن العادي من صعوبات في سلكها يوميًا لأغراض التنقل بين المحافظات والمدن.
في دولة نفطية مثل العراق، تمتلك كلّ أدوات العمل والمواد الأولية والموارد البشرية والطاقة العاملة، كان يُفترض أن تنعم طرقُها السريعة وشوارعها بأعلى درجات التقنية والحرص على حياة السالكين، خاصة للطرق الخارجية التي تكتظّ بوسائل النقل الخاصة والعامة كلّ يوم وكلّ ساعة ودقيقة. وممّا لا يخفى على الجميع، أنّ معظم شبكات الطرق الخارجية هي من إرث النظام السابق الذي حرص على تطوير واستحداث شبكات واسعة من الطرق الدولية والشوارع الجانبية والفرعية في عموم محافظات البلاد، وليس للحكومات المتعاقبة منذ سقوط ذلك النظام لمساتٌ ملموسة في استحداث غيرها إلاّ ما ندر أو حتى في إدامة القائم منها بوسائل حديثة وتقنيات جديدة. فالمطبات في الشوارع الداخلية والخارجية، حدّث ولا حرج. بل أصرّح وبأعلى صوت، بعدم خلوّ ايّ شارع أو طريق عام أو خاص من مطبات (طسّات)، الاصطناعية منها أو الطبيعية أو تلك التي خلقتها الكفاءات الهندسية التعبانة بعد زمن السقوط الأغبر!
 سوف لا أتحدث عن الطرق التي تربط العاصمة بغداد بمحافظات الجنوب، لعلمي أنها تتساوى في سوئها ودمارها واندثارها وعدم نظامية الكثير منها وفق المتعارف عليه في إنشاء الطرق الخارجية. بل سأتحدث عمّا ألمسُه كلّما اتجهتُ شمالاً نحو كردستان العراق والمحافظات الشمالية. فما تشهده طرق الوصول إلى شمال البلاد من حوادث وأعطال في المركبات السالكة إيّاها قسرًا، جديرٌ بالذكر والتذكير والتألّم والحسرة والخيبة معًا. فطريق بغداد-كركوك-أربيل وطريق بغداد-تكريت-الموصل، لا يمكن عدّهما سالكتين صحيحتين وآمنَتين بكلّ المقاييس الفنية والهندسية. فقد تحوّلت أجزاء كبيرة منها للدمار والاستهلاك، سواءً بسبب العمليات العسكرية في زمن تنظيم داعش أو بسبب سوء الاستخدام من جانب الشاحنات الكبيرة التي تخالف قوانين السير والحمل الصحيح الذي توصي به دوائر المرور العامة. ومن المؤسف أنّ هذه الأخيرة لا تطبّق لوائحها وقوانينها بالشكل الصحيح، بل تتساهل كثيرًا مع المخالفين، سواءً بسبب استشراء الرشوة بين عناصرها المكلَّفين بمراقبة السير أو بسبب تقاعس أفرادها من ضباط كبار أو عناصر مكلّفة بتطبيق القانون.
سؤالنا الضاغط إلى الجهات المعنية في وزارة الإسكان والإعمار والبلديات، ودائرة الطرق والجسور المعنية فيها، والمحافظات التي يمرّ بها سالكو هذه الطرق، ألم يكن بمقدوركم طيلة سنوات الحسرة والمرارة من معالجة التكسّرات في الطرق الخارجية وهي أمام أنظاركم تسوء يومًا بعد يومٍ وتتكّسّر وتتدمّر بفعل سوء الاستخدام والإهمال وغياب أو توقّف عمليات الإدامة والصيانة المفروضة ضمن مسؤولياتكم الوظيفية والمهنية والإدارية؟؟؟ وإذا كانت كلّ جهة تلوم غيرَها وتنسبُ الخلل إلى هذه أو تلك في الحكومات المتعاقبة، ألمْ يكن في جزءٍ من ضمائركم ولو شيءٌ يسيرٌ ممّا تبقى من الضمير الإنساني والحسّ الوطنيّ للتخفيف من آثار المشكلة والتقليل من حوادث السير التي تشهدها يوميًا تقريبًا حفاظًا على أرواح البشر إخوتكم وأبناء وطنكم وجلدتكم؟ وإذا كنتم تتحجّجون بعدم تخصيص موارد لاستحداث طرق جديدة وإعادة تبليط ما هو مدمَّر بفعل الاستخدام والتقادم، أليس بمقدور دوائركم في المحافظات التي تمرُّ بها هذه الطرق أن تتولّى مسؤولية الإدامة موقعيًا وعبر قدراتها وكوادرها البلدية المحلية بتقشير وإزالة المواضع والأمكنة التي ساءت وتسوء يومًا بعد آخر والتي تحوّلت إلى سواقي يصعب على المركبات الصغيرة واطئة البدن أن تجتازها بسهولة؟؟؟ ناهيك عن مزاحمتها من شاحنات كبيرة الأحجام يصرُّ سائقوها على السير يمينًا ويسارًا كالأفاعي بحثًا عن مخارج من الجحور المزعجة.
لقد شبعنا كلامًا معسولاً بقرب معالجة الطرق والشوارع وفق استراتيجية هذه الوزارة أو تلك الدائرة كلّما اقتربت ماكنة الانتخابات بحثًا عن أصوات ناخبين يستجدون من مرشحين لأحزاب تقليدية فاسدة وغيرهم من المغمورين غير التنفيذيين تعطفَهم بتبليط شارع أو طريقٍ أو باستخدام مادة "السبّيس" لجعل هذه الطرق سالكة ولو على مضض. بل هناك مَن يستغلّ موقعه وقربه من أصحاب القرار والحكومة وزعامات السلطة باستغلال آليات الدولة وبأموال هذه الأخيرة لتلبية مطالب مشروعة بالتمتع بطرق وشوارع ضمن الأحياء والقرى والبلدات والمدن الكبيرة، بما فيها الطرق الخارجية. نقول ونؤكد أنه لا يكفي التسليم والحديث عن استراتيجيات واهمة وخطط مستقبلية للترميم والصيانة وبناء طرق جديدة. فالواقع لا يتحمّل وزر هذه الاستراتيجيات التي لن يُكتب لها النجاح في المنظور القريب. في حين أنّ الواقع السيّء يستعجل قيام ورش وطنية تساهم فيها جميع آليات وإدارات المحافظات والبلديات في حملة وطنية لإصلاح الأضرار ومعالجة الاندثار في كلّ أنحاء البلاد. وما أكثرها من أضرار في عموم الوطن! مجرّد سؤال إلى من يهمّه الأمر!
أمانة بغداد والمحافظات
أمّا الحديث عن شوارع المدن الداخلية، ومنها العاصمة بغداد، فحدّث ولا حرج. فالأمانة بالرغم من مواردها الذاتية الكثيرة وما يُخصّص لها ضمن موازنات البلاد وما تدرّ عليها جبايات المحلات والأرصفة والساحات العامة وإيجار العقارات وضرائب الدوائر البلدية التابعة لها والمشكوك في عدالتها واستخدامها الصحيح لصالح الدولة، لم ترتقي لغاية الساعة إلى مستوى سمعة بغداد التاريخية والحضارية، مدينة المنصور والرشيد وقلعة الأسود التي كانت حلمَ ملايين البشر وقمةّ التألّق في الأزمنة الجميلة الغابرة. فالشوارع التاريخية فيها ماتزال تعاني من قسوة التآكل وكثرة التشقّقات والحفر والتشويه والاستغلال غير المشروع وتراكم النفايات التي تغزو الجزرات الوسطية والزوايا الجانبية في اغلب شوارع المدينة. وما قامت به هذه المؤسسة العريقة لغاية الساعة لا يرتقي لمستوى سمعتها السابقة. بل هي مطالبة بتواتر الخدمة وتواصل الحملات ليل نهار للمزيد من الصيانة وإعادة إكساء الشوارع بطرق فنّية حديثة ضمانًا للسلامة العامة وخدمة للمجتمع إلى جانب شعورها بالمسؤولية البلدية والحضارية والمهنية في منع التجاوزات في البناء وتقسيم الدور إلى إقطاعات عجيبة غريبة في البناء والتقطيع العشوائي وتشويه أحياء راقية وسلب حرية السابلة باستغلال الأرصفة والتجاوز عليها من دون رقابة ولا حساب.
عمومًا، فالعاصمة تعاني من شدّة الإهمال والمماطلة في التأهيل والتطوير وسوء الاستخدام بسبب انتشار المنسوبية والمحسوبية في التعامل مع مستخدميها ومستثمريها المزيّفين بحسب الجهة الضاغطة والمستفيدة والتي عادة تكون مرتبطة بحزب أو ميليشيا أو زعيم سياسيّ يُؤثر مصالحه الشخصية والفئوية والحزبية على هذه الجهة الرسمية او تلك. كما أنّ العديد من جسور العاصمة والجزرات الوسطية وجسور السابلة ماتزال لم تصلها يدُ الصيانة والتجديد والتطوير. وإنْ وصلتها، فهي لم تكن بذلك المستوى التقنيّ المطلوب، ولاسيّما الطرق السريعة الداخلية المليئة بالمطبات والعوارض الطارئة التي تدخلت أيادي التدمير والتشويه في تشكيلها سواءً أمام أنظار الجهات البلدية التي تقع تحت مسؤولياتها أم بعلم دوائر الأمانة نفسها. 
 من الملاحظ أيضًا، أنّ أمانة بغداد طيلة السنوات المنصرمة منذ سقوط النظام السابق ولغاية اليوم، لم تتوفق بإيجاد مخارج معقولة وحلول أساسية لمشاكل صغار تجار التجزئة من أصحاب البسطيات الذين يفترشون الشوارع والأرصفة أمام انظار مسؤولي الحكومة والأمانة ويشكلون عبئًا على المارة والمتسوّقين وعلى أصحاب المركبات على السواء. ومثل هذه المناظر البائسة والمشاهد غير الحضارية لا تليق البتة بالعاصمة بغداد ولا بأهلها الأصلاء بعد اجتياحها وغزوها من رعاع القوم الزاحفين إليها من محافظات تعاني الفقر والبطالة وسوء الأحوال بسبب غياب الاستراتيجيات في تطوير مدن الجنوب وقراها وضواحي العاصمة عبر سياسة وطنية استراتيجية بغية إيجاد فرص العمل بإنشاء المعامل والمصانع وتقديم الخدمات الآدمية التي تفتقر إليها في معظمها. والسبب بسيط وواضح، ظلمُ الحكّام وقهرُ الساسة وكذب ادّعاءات النواب الذين يلعبون بمصائر ناخبي هذه المدن ويدغدغون مشاعرهم في بداية كلّ دورة انتخابية بهدف كسب الأصوات، ثمّ ما يلبثون أن يتركوهم وراء الستار حتى الدورة التي تليها. وهكذا دواليك تستمرّ صفحة الغدر والخيانة للمبادئ وللثقة والأمانة التي يودعها الناخب في عنق المرشّح الفائز.
كردستان أفضل نموذج تطويري للاحتذاء به
خذوا نموذجًا، واقعَ حال كردستان! فمَن يتجوّلُ في عموم مدن كردستان الرئيسة والدوائر التابعة لها يثني على إدارة الإقليم في البناء والإعمار والنظافة والإسكان الجديد بملايين الوحدات السكنية التي جذبت وماتزالُ تجذب المستثمرين وأصحاب العقارات بسبب استقرارها ونظافتها وتطبيقها القوانين في أعلى درجاته. فيما لم تشهد العاصمة بغداد إلاّ القليل من التطور في هذا الملف. والسبب واضح لا لبس فيه، سوء الإدارة وغياب الإرادة الوطنية في خدمة الشعب وتطوير المدن العراقية عامة بسبب انتشار ظاهرة الفساد والرشى والكوميسيونات والأتاوات التي تفرضها أحزاب ودوائر مشبوهة في إدارتها وجهات ميليشياوية مستفيدة لا تسمح بتطوير الشوارع وبناء المساكن وفق منظورٍ حضاريّ لا يمسّ جمالية المدن وشوارعها ومواقعها التاريخية والحضارية. ناهيك عن مشكلة جمع النفايات المتراكمة ومشاريع معالجتها التي سمعنا عنها الكثير ولم ترى النور بسبب تلكّؤ الجهات المعنية، ومنها وزارة الإسكان والبلديات والصحة والبيئة وأمانة بغداد ومحافظة بغداد حصرًا. وليس غريبًا أن تشاهد تطاير قطع من نفايات تحملها سيارات غير مخصصة لجمعها أصلاً كالقلابات وأنواع الشاحنات غير الحضارية وبأشكالٍ قذرة في مناظرها في أحيانٍ كثيرة. أمّا بالحديث عن مناطق الأسواق العامة وأسواق الجملة، وخاصة في مركز العاصمة، فحدّث ولا حرج. فزيارة واحدة تكفي للبيب أن يصدر حكمَه العادل بمَن أُنيطت به مسؤولية نظافة العاصمة وتنظيم حركتها اليومية بكل أحيائها وشوارعها وأسواقها.
يبقى الحديث عن سلامة الطرق وسلوكها الآمن وكذا عن تهالك وتقادم البنى التحتية وما تشكلُه نظافة العاصمة وسائرُ المدن والقصبات في البلاد طويلًا، مبكيًا، مخجلاً، مخيبًا، وذا شجون! وفي انتظار حملات وطنية حقيقية وهمم الدوائر المعنية كي تشمّر عن السواعد من دون انتظار تخصيصات في موازنات الدولة التي تذهب في معظمها لجيوب الفاسدين عبر اتفاقات ضمنية مع أصحاب الشركات، محلية كانت أم إقليمية أم دولية. فما في هذه الدوائر البلدية من قدرات بشرية وآليات من شأنها معالجة الكثير من الثغرات والإشكالات والحالات عن طريق ردم الأضرار والحفر والتكسّرات القائمة في عموم البلاد.



59
المساواة بين الرجل والمرأة حكمة ربّانية وحقٌ إنسانيّ
لويس إقليمس
بغداد، في 10 شباط 2022
خلقُ اللهُ، جلّت قدرتُه، الإنسانَ ذكرًا وأنثى شريكين ليكملا ويؤنسا بعضهما البعض، ولم يَرِدْ في جميع الكتب السماوية تفضيل خالق الكون لأحد الجنسين على الثاني، ما يعني تحقيق العدل الإلهي بينهما على السواء. فقد "خلقهما الله، ذكرًا وأنثى على صورته ومثاله وباركهم ليثمروا ويكثروا ويملأوا الأرض" (تكوين1: 27-28). أمّا ما هو قائمٌ من اختلافات في الشكل والمظهر وطبيعة الأعضاء مجتمعة، فهي حكمة ربانية من لدن الخالق كي يتكيف الرجل مع شكل وهيئة المرأة الجميلة ويتفاعلا معًا في تبادل الأدوار والمهام وفي المشاعر والأحاسيس والحب والحياة التي تجمعُ الجنسين في موضوعة مشاركتهما الخالقَ بخلق وإنتاج بشرٍ جديدٍ لإدامة الحياة على الأرض الواسعة التي قدّمها الله لآدم وحواء هدية مجانية منذ نشأة الخليقة. وكان منهما أن تعارفا وتناغما وتناسقا للحياة في الفردوس الأرضي الذي صار لهما بيتًا ومأوىً وسكنًا لإقامة حياة زوجية بدائية، سرعان ما اتسعتْ وكبرتْ لتكبرَ وتتسعَ معها أعداد البشر عبر الزمن لغاية الساعة. فالحكمة الربانية مذ ذاك جاءت لقياس المعايير بين الرجل والمرأة على أساس المساواة في الخلق مع اختلاف الهيئة والشكل والصورة والأعضاء كي تكملَ كلٌ من هذه بالتالي عملية التزاوج الغريزي والالتحام الجنسيّ بين الاثنين لغاية بناء وتدبير وتعمير الأرض التي أوكلها الخالق لخليقته كي تقوم بما يترتب عليها من واجبات وترتيبات مادية ومعيشية محسوسة، احترامًا وتقديرًا لدور كلٍّ منهما في صنع حياة جديدة أو في عيش أشكال السعادة التي يرغبها الاثنان معًا بحريتهما ضمن مفهوم احترام حرية الغير وخياراته في نمط الحياة التي يرتئيها مناسِبة ومقبولة.
لستُ هنا بصدد محاججة الأسباب التي دعت الخالق لمثل هذا السبيل ولا لشرح المبررات الخَلقية التي قد يرى فيها البعض سلوكًا خارجًا عن المألوف في شرح ضرورة تبنّي مبدأ المساواة بين الجنسين في كلّ شيء. فهذه سنّةُ الحياة وحكمة القدير، كما أسلفنا. بل من باب التبجيل بحكمة رب السماء والأرض، تقف البشرية اليوم أكثر من أيّ زمن قضى، أمام امتحان كبير لفهم الحكمة الربانية من جرّاء هذا العمل العظيم في تبنّي الاختلافات في شكل وهيأة الجنسين لتظهرَ عظمةُ الخالق في خليقته من دون الانتقاص من صفات وسمات وميزات أحد الجنسين لصالح الآخر. وواضحٌ في شكل ومعايير هذا الخلق، الاعترافُ الضمني بتساوي الجنسين على أساس إكمال أحدهما ما ينقص أو يختلف عن الآخر من باب الاكتفاء والتكييف المحسوس بين الاثنين معًا. وهذه كلّ الحكاية الربانية في مسألة خلق الرجل رجلاً والمرأة امرأةً واعتداد كلٍّ منهما بما هو عليه في الشكل والصورة والهيأة والمشاعر والأحاسيس والرغبات والشهوات وما سواها.
عادةً، تخضع أحكام البشر والمجتمعات والشعوب اتجاه الفوارق والاختلافات الشكلية والجسدية والمادية بين الجنسين لطبيعة الثقافة وشكل التمدّن ونوع السلوك الاجتماعي والدينيّ والمذهبيّ وبحسب الأعراف السائدة في هذه جميعًا، والتي يمكن بل من المؤكد اختلافُها من مجتمع لآخر ومن شعب لغيره. من هنا نلحظُ اختلاف النظرة تجاه سلوك وأداء ورغبة وحركة كلّ من الرجل والمرأة بحسب المجتمع الذي يتواجدان فيه. وهذا يعتمد أساسًا على طبيعة حياة المجتمعات، إنْ كانت هذه منفتحة علميًا وفكريًا واجتماعيًا ومفتوحة الأبواب والنوافذ في شكل الحياة وإزاء متغيراتها وفي تقبّل سلوك الاختلاط والامتزاج في عمومياتها وخصوصياتها، أو منغلقة ومنعزلة في عيشها وسلوكها لا تتقبل الآخر المختلف، بل ترفضُه وتتعالى عليه وتسعى لتجريده من حقّه في عيش شكل الحياة الذي يرتئيها ويرتاح لها في قرارة نفسه. وهذا تشويهٌ وإيغالٌ في النظرة الدونية لهذا المختلف، سواءً كان رجلاً أم امرأةً.
من المؤسف أن مثل هذه النظرة المنغلقة تجاه المرأة، هذا الكائن اللطيف بكلّ جوارحه وهيأته وإثارته الأنثوية، تكادُ تكونُ سمة لصيقة بغالبية المجتمعات الشرقية، وبخاصة العربية والإسلامية منها التي ماتزالُ أسيرة فتاوى وتفاسير ونقل أقاويل مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرنًا عندما كان العالَم قاصرًا وحاصرًا ذاته في سلوكيات قبلية وعشائرية وعائلية لم تعد تنفع في زمن السرعة والتقنية الرقمية والحدود المفتوحة بين الدول والأمم التي سعت وجاهدت لجعل العالم قرية صغيرة في التعارف والتقارب والتعاون وتبادل المعلومات والخبرات والمساعدات من أجل جعله أكثر سعادة ورفاهةً عبر الحوار والتفاهم والنقاش على أسس إنسانية ووفق ما شاءت به قدرةُ الخالق "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا". وهذا يعني أيضًا، الاعتراف بضرورات حياتية بشرية تكفلُ الامتزاج والاختلاط وإحقاق الحقوق من دون تمييز، إلى جانب تحقيق غاية التعايش الإنساني بين الشعوب والأمم وليس نشدَ العزلة والانغلاق على الذات والفصل والتمييز في الجنس على أساس طبقي أو دينيّ يخضع لتفاسير يتيمة قديمة ضيقة الأفق لا تأخذ بنظر الاعتبار تطوّر الزمن وتقدم الشعوب في أفكارها وفلسفتها للحياة المتمدنة وفي علومها وثقافاتها المتجدّدة نحو الأفضل. وهذا أساس التعارف بين الشعوب والدول التي تعي الغاية الحقيقية من الحكمة الربانية في خلق الشعوب مختلفة، كما في اختلاف خلق الرجل والمرأة، آدم وحواء منذ الأزل. فالمرأة تبقى ذلك الكيان الراقي والحسَن الجميل في نظر الخالق كما في نظر المخلوق الذي يدرك عظمة هذا الخالق في خليقته الجميلة الناعمة المثيرة في شكلها وجمالها وحسن سلوكها وإدراكها لدورها في كيفية إسعاد الرجل. فهي لم تكن يومًا عورةً كما يريدُها البعض من المتخلفين، ولا يمكن أن تكون كذلك، طالما أنّ خالق الكون أرادها بهذا الشكل الجميل مكمّلةً لزميلها الرجل وقادرة على التكيّف مع الحياة سواءً حصل لها ارتباطٌ أسريٌّ أم بقيت حرة بلا ارتباط ومالكة لحرية جسدها.
أوربا أكثر القارات تقدمًا في مجال المساواة بين الرجل والمرأة
يُمكن وصف أوربا عمومًا، بكونها القارة التي تستحق لقب أفضل القارات في وضع وواقع تطوّر حياة النساء فيها، حتى لو لم تكتمل صورتُها تمامًا. ولكنها الأفضل بين قارات العالم الأخرى في حق المرأة بالمساواة مع الرجل، ما يجعلها نموذجًا للاحتذاء به من أجل تطور واقع المجتمعات وتمكين المرأة من أخذ دورها الفاعل وسط المجتمع الذي تقيم فيه بلا تحديد ولا تمييز ولا مضايقات. وإنّ نظرةً للنساء اللواتي تولّين مراكز متقدمة في قيادة بلدانهنّ وزعامة الأحزاب التي نجحت لتقف في الواجهة، تكفي لشرح هذا الواقع المتقدّم. ففي عام 2017، تزعمت نساءٌ عديدات رئاسة بلدانهنّ أو رئاسة حكومات بلغ عددهنّ 18 امرأة، بينهنّ 9 نساء من أوربا، إلى جانب مَن تمَّ استيزارُهنّ أو تولّين إدارات شركات ومؤسسات أو انتُخِبن نائبات في برلمانات بلدانهنّ من دون منّة من أحد أو "كوتا تجميلية"، ما يوضح مدى تطوّر واقع حال النساء في هذه القارة أكثر من غيرها. وبالرغم من كلّ هذا التطوّر الملحوظ، إلاّ أنّ الكفّة ماتزال متأرجحة لصالح الرجل، فيما المرأة تواصل نضالَها لبلوغ أعلى نسبة من المساواة في كلّ الميادين ولاسيّما في مجال القيادة والإدارة حيث تشيرُ الأرقام مثلاً على تصاعد نسبة النساء في دخول برلمانات بلدانهنّ على نطاق واسع وكذلك في توليهنّ مراكز متقدمة في إدارتها مع تطور الزمن وتقدّم الأيام.
 لسنا نختلف في حقيقة اختلاف النظرة المجتمعية بين دول الغرب المتمدّن وواقع مجتمعاتنا الشرقية التي نقرّ جميعًا بتخلّفها عن رُكب المجتمع الدولي الذي قطعَ اشواطًا طويلة ومهمّة في اتجاه تحقيق حقوق المرأة وفسح المجال لها واسعًا لإثبات جدارتها في القيادة والإدارة والزعامة في مواقع متقدمة عديدة في قيادة الأحزاب والحكومات والدول. وهذا حقٌ طبيعيٌّ من حقوقها. مثلاً لو تناولنا واقع حال دول الغرب الأوربي، فجميع المعاهدات التي سنّتها دولُهُ تشيرُ بشكلٍ وافٍ إلى اهتمام بالغ في موضوعة المساواة بين الجنسين والتي تعدّها من القيم الأساسية في حياة شعوبها. وهي تختلف بطبيعة الحال من دولة لأخرى في شكل التقيّد ببنود هذه المعاهدات. إلاّ أنها تتشارك في المعايير العامة في النظرة إلى حقوق كلّ من الرجل والمرأة التي لا يمكن تجاوزها أو تجاهلُها بأيِّ شكلٍ من الأشكال. بل تخضع لخيارات صعبة في تقييم أداء الحكومات والأحزاب التي تتولّى السلطة وتدير دفة الحكم. كما أنَّ مسألة حقوق المرأة تأتي في مقدَّم أولويات أية حكومة تصعد على المشهد السياسيّ. بل والأكثر من ذلك، خضوعُ موضوعة احترام حقوق المرأة للرقابة الصارمة والتأييد المتتالي في أية مناسبة ليكون مقياسًا تقييميًا لتقدّم وتطوّر أية دولة في الاتحاد. وهذا ما يجعل حصول دول الاتحاد على درجة 67.9 % وفقًا لمؤشر المعهد الأوربي للمساواة بين الجنسين (EIGE) لعام 2020 مثلاً. فقد التزمت دول الاتحاد الأوربي منذ سنوات طويلة بمسألة المساواة بين الرجل والمرأة، مع الإقرار ضمنيًا بعدم كفاية ما تحقق من حقوق وامتيازات لغاية اليوم، بحسب البعض. فبالرغم من حقيقة صعود نساء عديدات في قمّة المشهد السياسي واقتران ذلك بقيادة وزعامة أحزاب وحكومات بجدارة، إلاّ أنّه ماتزال هناك ثغرات تشعر بها النساء الأوربيات بالغُبن والتمييز في مسألة التعامل مع العديد من الملفات ومنها الكثير من البرامج الاجتماعية على أساس الجنس والتي خلت منها معظمُ الموازنات العامة للاتحاد مجتمعةً. هذا إلى جانب التمييز والغبن بين الجنسين في مجال الأجور حيث لا يتجاوز أجر النساء على مستوى العالم 77 بالمائة مما ينالهُ الرجالُ عمومًا، ومنها دولٌ في القارة الأوربية عينها. وهذا ممّا حفّزَ النساء لتكرار انتقادهنّ لحكوماتهنّ متهمة إياها بالاهتمام الضعيف بمطالباتهنّ بسبب غياب الإرادة بتلبيتها على الرغم من الإقرار بحقيقة فرض المرأة الأوربية جدارتَها القيادية والإدارية في مفاصل الحياة.
إهتمام أوربي متزايد
مؤخرًا، صار الحديث في صفوف المفوضية الأوربية برصد مبالغ كبيرة من الأموال ضمن برامج ما يُسمّى ب"الجيل القادم من الاتحاد الأوروبي" في إطار تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة ضمن موازنات 2021-2027 وذلك لتعزيز قدرات "البعد الجندري" للنساء وحث الدول على الالتزام بأدواتها وأهدافها. وضمن خطط الإنعاش المقترحة المطروحة هذه، لا بدّ من توفر النية والإرادة والمرونة الكافية لأجل الوفاء بتنفيذ الخطط الوطنية المتخذة التي من شأنها أن تكفل بلوغ الأهداف الجندرية من دون عوائق وتمكين المرأة من أداء دورها الفاعل وسط المجتمع ومساهمتها في بناء السلام والتنمية والتعاون الدولي على أكملِ وجهٍ. وهذا بحدّ ذاته يدخل ضمن الأهداف المرسومة من المجتمع الدولي ومنظماته غير الحكومية المنتشرة في جميع دول العالم في تأكيدها على الحريات الشخصية في الأداء والحركة والتعبير والعمل بعيدًا عن كلّ أشكال التمييز الجندري أو الدين أو اللغة أو اللون أو القومية أو شكل الانتماء وما سواها.
إن الاتحاد الأوربي مثلاً، وانطلاقًا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمَد من قبل الجمعية العامة في 10 كانون أول 1948، يعمل بموجب نص هذا الإعلان الذي يركز على أن "جميع البشر يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق". وكانت دول الاتحاد من بين الأعضاء الناشطين باتجاه تبنّي مطالب النساء للاستفادة من مخرجات مؤتمر مكسيكو سيتي المنعقد في المكسيك في عام 1975، وفيه تم تعزيز مكانة المرأة في المجتمع. تلاه مؤتمر كوبنهاغن في الدانمارك عام 1980، وفي هذا المؤتمر حصلت المرأة على مكاسب جديدة ضمنت أحقيتها في المُلكيّة والتمتع بحقوق التجنّس والميراث وحضانة الأطفال. وجاء العام 1985 ليشهد نقلةً نوعية في تمكين المرأة من الحصول على اعتراف دوليّ كاملٍ في المساواة بين الجنسين في المؤتمر العالمي المنعقد في نيروبي، ما ساهم بقوّة بولادة حركة نسوية عالمية تتبنى مطالب المرأة في كلّ مكان من الكرة الأرضية عندما شاركت فيه أعدادٌ كبيرة ممثِلةً لمنظمات نسوية وناشطات في مجال المرأة وحقوق الإنسان وكلّ ما يهمّ نساء العالم. فقد انفتحت حينها الآفاق أمامها للتعبير عن مشاكلها والمطالبة بحقوقها كاملة أسوة بزميلها الرجل في سائر مجالات الحياة، ولاسيّما الأسرية والاجتماعية وحقها في العمل وفق قدراتها الجسدية وما يلائمُ أهليتَها ويتناغمُ مع جدارتها وصولاً للأهداف العليا التي لا تتقاطع مع القضايا الجنسانية (الجندرية).
ظاهرة العنف والتحرّش الجنسيّ
زاد الحديث مؤخرًا حول ما تتعرّض له النساء في العالم من صعوبات ومشاكل تتعلّق بزيادة حالات التحرّش الجنسي وأعمال العنف التي تحدّ من قدر المرأة وكرامتها واحترامها. كما أصبحت في أعين البعض من البشر الضعيف سلعةً سهلة للتجارة ولشتى أشكال الاستغلال لأية أسبابٍ كانت من دون أن تلقى الحماية الاجتماعية التي تستحقها والدعم الوافي من قبل المجتمع ومؤسسات الدولة والمنظمات التي من المفروض أن تعينها على مواجهة هذه السلوكيات المجتمعية غير المقبولة. ومن الواضح زيادة دعوات النساء في العالم طلبًا للحماية من أعمال العنف وسلوكيات التحرّش اللفظي أو الجنسيّ التي تتعرّض لها سواءً في الشارع أو في محل العمل أو في المجتمعات المفتوحة أو حتى في داخل الأسرة الواحدة. كما ليس خافيًا ما تعانيه المرأة في مجتمعاتنُا الشرقية من العديد من حالات العنف الجسديّ والأسريّ والمضايقات باللفظ أو الهمس أو اللمس وما سواها من أعمالٍ تخدّش الحياء ممّا يتطلبُ التنبيه من هذه الظاهرة غير الحضارية التي لا تليق بكرامة المرأة ومجتمعاتنا المحافظة بعض الشيء. وهذا ما حثّ الجهات المعنية في بلادنا لتدارك أمثال هذه المنغّصات وتكثيف الجهود الحكومية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني بتبنّي محاصرة هذه الظاهرة وما تشكلُه من تحديات مجتمعية وأسرية عبر تشكيل دائرة متخصصة للدفاع عن حقوقها وصيانة كرامتها وحفظ قدرٍ وافٍ في حريتها وتمكينها بالوقوف ندًّا للرجل بإثبات جدارتها والكشف عن قدراتها الكامنة في تحقيق السلم الأهلي وإدارة المواقع التي تستحق أن تتولاها بكفاءتها العلمية والإدارية والنسائية المتميزة التي تتحلى بها، ما سيساهم في تخفيف حدّة تسيّد الذكورية في مجتمعنا العراقي في المستقبل المنظور.
إن الأمثلة الكثيرة والنماذج العديدة لحالات التعنيف اللفظي والجسدي وأشكال التحرّش الجنسي والضغوط النفسية والاجتماعية بسبب القيود الكثيرة التي تتعرض لها المرأة قد تجاوزت حدودها، ما اضطرّ هذه الإنسانة الضعيفة في مجتمعاتنا الشرقية خاصة والتي ظلمتها بسبب طبيعتها المنغلقة والمتعصّبة، أن تُحشرَ في المنزل أو تضطرّ لممارسة أعمالٍ حقيرة لا تليق بكرامتها ولا بجنسها الناعم ولا بكفاءتها وقدراتها العديدة. ومن الأسباب ما يتعلّق بالتقاليد والأعراف حين إكراهها بالزواج القسري أو زواج القاصرات ما اضطرّها في حالات صعبة وحرجة للبحث عن مخارج ومنافذ لهذه المزالق. وغالبًا ما تكون باللجوء إلى أقساها وأكثرها مرارة بالانفصال والطلاق وتشتّت الأسرة وضياع الأطفال أو عبر وسائل الانتحار التي زادت وتيرتُها وأدواتُها في مجتمعاتنا الشرقية، ومنها في بلدنا. فقد تحدثت إحصائيات عن تضاعف هذه الحالات إلى درجاتٍ مقلقة في السنوات الأخيرة في عموم محافظات العراق، من شمالِه إلى جنوبه. والأسبابُ هي ذاتُها، ناهيك عن استغلال هذا الجنس اللطيف في عمليات ابتزاز الكتروني صارخة خوفًا من التعرّض لفضائح بعد تهديدات طالت فتيات ونساء عديدات. وهذه تكون غالبًا نتيجةً لسوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ووقوعهنّ ضحايا لأشكال من الابتزاز عبر ضغوطٍ وتهديداتٍ وحتى اعتداءات بإحداث فضيحة.
ويمكن أن يُضاف إلى هذه جميعًا، أشكال التعنيف المباشر والقتل العمد لنساء وفتيات للأسباب المذكورة آنفًا ولغيرها من الأسباب ممّا يُنسب إلى ما يُسمّى في الأعراف والتقاليد العشائرية بجرائم غسل العار حفاظًا على الشرف من دون التأكد في أحيانٍ كثيرة من صحة هذه الأسباب ومن الحيثيات والظروف. فمهما كانت الأسباب والظروف والنتائج، يبقى لجوء الضحايا إلى مثل هذه الأفعال الاضطرارية نتيجةً للضغوط النفسية والاجتماعية والمعيشية والاقتصادية وحتى الجنسية في بعضٍ منها. كما ساهم عدم استقرار الأوضاع السياسية والأزمات الاقتصادية والمالية المتوالية في زيادة حالات الانتحار، ليس في صفوف النساء فحسب، بل دخل على الخط ذكورٌ رجالاً وشبابًا أصابهم اليأس والسأم والإحباط من عدم انجلاء الأزمات المتكررة التي تعرض لها العراق على سبيل المثال لا الحصر. وحالة العراق تنطبق تمامًا على غيره من بلدان المنطقة والمجتمع الشرقي في عمومه بسبب ذكوريته ونظرته الدونية للمرأة التي ترى في تكوينها وفكرها وعقلها عورة وكائنًا ناقص الدين والعقل بحسب البعض من المتخلّفين والمتجلببين بغطاء الدّين والأعراف والتقاليد البائدة! وهنا يأتي دور المؤسسات التربوية والاجتماعية والجهات الأمنية في تقديم النصح والإرشاد وملاحقة الشواذ من البشر وما سواهم من المترصّدين لحريات النساء والداعين لحصرها في أعمال منزلية ومنعها من التفاعل المجتمعي لإبراز قدراتها وكفاءاتها جنبًا إلى جنب مع أخيها وساعدها الأيمن، الرجل السويّ والحريص على بناء الأسرة والمجتمع والوطن.
تكريمٌ للمرأة
لقد كرّمت الأمم المتحدة المرأة وخصّتها بيوم عالميّ للاحتفاء بها في 8 آذار من كلّ عام، تقديرًا لدورها المتميّز في المجتمع وتعبيرًا عن تفاخرها بما بلغته من مسؤولية قيادية في العديد من البلدان المتحرّرة والمنفتحة عبر مشاركتها الرجل في الإدارة والقيادة التي أثبتت جدارتها على صعُدٍ كثيرة. كما أخذت في نظر الاعتبار والتقدير أيضًا دورها الرائد في بناء الأسرة وجهدها في مساعدة الرجل عند غيابه في أداء مهامه الأسرية في كسب القوت اليومي في البلدان التي يصعب على المرأة الخروج من المنزل للعمل لأية أسباب كانت. ولم ينسى المجتمع الدولي جهود المرأة في تربية الأطفال بغياب الرجل الذي أخذ مدى آخرَ من المهام الصعبة التي تؤديها المرأة. وقد لاحظنا ذلك بصورة خاصة في زمن الحرب العراقية-الإيرانية القذرة مثلاً في الثمانينات واضطرار التزام الرجل بأداء واجبه الوطني أثناءها حيث أثبتت المرأة العراقية جدارتها في ترتيب البيت وصيانته وتأمين قوته أحيانًا في ظروفٍ صعبة إلى جانب مهمة تربية الأطفال وما صاحبَ ذلك من مهام وأعمال تحمّلتها في غياب الرجل. وهذا حال الكثير من نساء العالم عندما تضطرُّ الظروف ابتعادَ الرجل عن المنزل. قد تكون هذه الظاهرة غير قائمة في دول الغرب حيث تلجأ المرأة الغربية لأخذ دورها في العمل خارج المنزل، حالُها حال الرجل انطلاقًا من مبدأ المساواة بين الجنسين في هذا المجال أكثر من غيرها من بلدان العالم، إلاّ أن هذا لا يعفي المرأة الغربية من تأدية مهامها الزوجية والمنزلية خارج وقت العمل. وهذا واضحٌ في شكل الروزنامة اليومية التي يتفق عليها الزوجان في تأدية المهام المنزلية بالاتفاق والتراضي حفاظًا على قدسية الأسرة وتواصل التحامها وديمومتها وحفاظًا على سعادة عشهما الزوجي المقدس.
في اعتقادي، ينبغي أن تتضافر جهود الجميع، من حكومات ومنظمات ونخب اجتماعية ودينية ومدنية منفتحة ومؤسسات معنية بدراسة أوضاع النساء وتمكينهنّ في كلّ بلد، في محاولة للبحث عن الأسباب الحقيقية لحالات التجاوز على العنصر النسوي المساوي للرجل في خلقه وفي حقوقه الإنسانية والاجتماعية والشخصية. فالحلول الصحيحة تأتي عبر تفهّم هذه الحقيقة ومعالجة مواقع الخلل والخطأ وصولاً إلى احترام شخص المرأة وتثمين جدارتها وقدراتها التي أثبتت أنها لا تقلّ عمّا هو قائمٌ عند الرجُل. بل تشير الحقائق إلى إبداع المرأة ومنافستها له في الكثير من المواقع والأعمال والمهام والمناصب التي تولّتها أو قامت بها أو أنجزتها.
كلّ التقدير للمرأة في أية بقعة من أرض الله الواسعة، ولاسيّما المبدعة منها. وكلّ الاحترام للمرأة العراقية التي لو قُدّر لها دخول كافة الميادين، لأثبتت جدارتها في ساحات العمل وأفرغت من قدراتها الخلاّقة أينما حلّت. ففيها النخوة والقوة والثبات، ومنها العبرة والفكرة والالتزام، ولها في هذه جميعًا كلّ الثناء والدعاء والتواصل في مشوارها الصعب. فهي خيرُ المعين وأحسنُ الرفيق وأجمل الشكل وأبدع الصورة وأفضلُ الصديق للرجل الصالح!
قالوا قديمًا: "المرأةُ الصالحة نصيبٌ صالحٌ، تُمنحُ حظّا لمَن يتقي الرب" (سفر يشوع بن سيراخ 26:3).

60
عامٌ على زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، أبعاد وتحديات
لويس إقليمس
بغداد، في 20 شباط 2022
ليس بمقدور العراقيين على اختلاف طبقاتهم وتلاوينهم العرقية والدينية نسيان الزيارة التاريخية لبابا الفاتيكان فرنسيس إلى بلدهم، بلد أور الكلدانيين، بلد إبراهيم أبي الأنبياء، بلد الأئمة والحضارة والتاريخ والثقافات الفسيفسائية المتنوعة. والأهم في هذا الحدث الكبير إصرارُ قداسته آنذاكَ على تنفيذ تلك الزيارة بالرغم من التحذيرات بشأن التحديات والتحوطات والصعوبات التي أُحيط بها شخصيًا، وتجاوزه العقد الثامن من العمر. فقد تمنى الشعب العراقي الذي رحبَ بها بعفوية عراقية صادقة بعد ختامها بنجاح، تكرارَها سنويًا بحسب الكثيرين كي تشهد شوارع المواقع والمدن التي تباركت بزيارته الميمونة لمساتٍ بلدية واجتماعية مفقودة من تنظيفٍ وخدماتٍ وزينة وبهجة وانفتاح على العالم بعد سنوات من القهر والكظم والانغلاق والكدر وحالة القلق والتوتر والضيم التي تحمّلتها البلاد والعباد بسبب سياسة الحكومات المتلاحقة غير الرصينة والمفتقرة لأبسط أنواع الحس الوطني والشعور الأخلاقي قبل السقوط في 2003 وما بعدها على وجه الخصوص.
ممّا لا شكّ فيه أيضًا، بلوغُ يقين الشعب درجةً عالية من الخذلان وخيبة الأمل في التغيير الموعود نحو الأحسن، الذي قاده الغازي الأمريكي بتعاونه الأرعن مع أعداء البلاد التقليديين ومَن لفَّ لفَّهم حينذاك من دول المنطقة بجهلٍ وعدم دراية بل وبحقد على شخوص النظام السابق من دون تقدير النتائج. فكان منه انفراطُ عقد المجتمع العراقي، وانحلالُ نسيجه، وتفكيك قدراته العسكرية العقائدية حامية الوطن والشعب، وتعرّضُ فسيفسائه الثقافي والاجتماعي والديني إلى سلسلة من الأحداث المأساوية في اغتصاب الحقوق والأرض والعرض والقتل والطرد والغدر على الهوية والتهجير القسري والدفع بهجرة الكفاءات والقدرات البشرية النوعية المتلاحقة. وكلّ هذا وذاك وغيرُه الكثير، كانَ ومازال يحصل بفعل الغزو الأمريكي الطائش عندما سلّمَ البلاد بأيادي غير أمينة على مصالح الوطن والشعب. فكانت النكبات المتلاحقة وسيادة أدوات اللاّدولة في إدارة شؤون البلاد والعباد من دون مقاييس ولا معايير أقلّ ما يُقال فيها وعنها أنها لا تمتّ بصلة لثقافة البلاد وتاريخها الحافل بالحضارة والثقافة والعلم والانفتاح المتمدّن والسلم الأهلي والتعايش بين مختلف مكوّناته. وأقلَّ ما يمكن أن توصف فترة الحكم بعد الغزو الأمريكي في 2003 فشلُها في تحقيق دولة المواطنة المنشودة. ولذا، جاءت زيارة قداسة البابا حينها لتكون بمثابة فاتحة أملٍ موعودٍ قادم للشعب والبلاد في الانفتاح على العالم وتغيير النمط الحياتي المتجهّم من أجل إحياء "الأخوّة الإنسانية" من جديد وعودة الوطن إلى أهلِه الحقيقيين من مغتصبيه وظالميه.

نظرة إنسانية
ربما كان من الأسباب التي حثت قداسة البابا لتحقيق الزيارة في أوانها، ما عانته البلاد وشعب العراق أيضًا، من أزمات متلاحقة بعد سطوة دولة الخلافة على مرابع تواجد المسيحيين في شمال البلاد، ومنها على وجه الخصوص فيما يُعرفُ بسهل نينوى الذي تمكنّ تنظيمُ "داعش" من اجتياح قراه ومدنه وتهجير أهلَه وتفريق ناسه شذرا مذرا في ليلة كالحة لم يشهدوا أمثالها طيلة حياتهم، حتى في زمن المغول قبل قرون خلت. حصل ذلك في قرارة نفس قداسته من دون أن ينسى ما بلغَ ذاكرتَه من إبادة جماعية وأعمال عنف وانتهاكات وحشية بحق أبناء مكوّنات أخرى من شعب العراق، ومنهم الإيزيديون المسالمون وسواهم من المكوّنات التي تقطن هذه المنطقة على وجه الخصوص.
    إنها نظرة إنسانية لا تخلو من شيءٍ من التعاطف الاجتماعي والروحي من جانب أرفع قائدٍ دينيّ مرجعيّ لأكثر من مليار ونصف مسيحي من أتباع الكنيسة الكاثوليكية في العالم. فالجرح الذي نزفت منه نينوى الآشورية وبلداتًها المنكوبة كبيرٌ، ولم يكن من السهل التئامُه ولا معالجتُه محليًا وإقليميًا ودوليًا بسهولة، بالرغم من إجراءات الطوارئ والمعالجات التي بدت هزيلة وضعيفة لا تتناسب مع حجم الكارثة التي خلّفتها دولة الخلافة طيلة قهر السنوات الثلاث من الغزو والسطو على حوالي ثلث الأراضي العراقية بفعل تقاعس السلطات الحكومية وحقد الحكومة التي كانت تمسك بمقاليد السلطة آنذاكَ على هذه المدينة العريقة وسكانها بكافة مكوّناتهم وأديانهم وطوائفهم. لقد كان الجرح من الشواخص التي لا تُمحى ذكراه في ضمائر العراقيين الأصلاء والشرفاء من أبناء الوطن ومحبيه والمتعاطفين معه على السواء، إلاّ أعداء العراق التقليديين وأدواتهم في الوطن والمنطقة.

أبعاد إيجابية ورسالة طمأنينة
توقع الكثيرون أن تكون للزيارة التاريخية لبابا الفاتيكان أبعادٌ إيجابية وأصداءٌ عالمية نظرًا للظروف الحرجة التي كانت وماتزالُ تعيشها البلاد والمنطقة عمومًا من عدم استقرار وتصاعد التوترات وتقاطع المصالح وصراع على السلطة والثروة والجاه بأيّ ثمن من قبل زعامات حزبية، أبسط ما يمكن وصف غالبيتها بزعامات فساد وإفساد، خاوية الضمير والغيرة والأهلية وناقصة الوطنية والحرص والإنسانية. ورأى العديدون ما يُنتظر من هذه الزيارة من معاني إنسانية ومن دعمٍ معنوي وروحي لجميع أبناء العراق وليس للمسيحيين فحسب، وأنه ينبغي الاستفادة منها وتوظيفُها بالشكل الصحيح وبما تحتاجه البلاد من أشكال المساعدة والدعم لانتشالها من قعر البؤس والتراجع في كلّ مرافق الحياة من دون استثناء بفعل الصراع على المغانم وتأمين المكاسب وإدامة وسائل الفساد وأدواته في مرافق الدولة بلا استثناء ومن دون تعلّم الدروس والعبر ممّا حصل وممّا يُنتظر أن يحصل.
قد تكون الزيارة البابوية بالتأكيد، أكثر ما لاقته غيرُها من حيث الترحيب الشعبي والحكومي والروحي، تنظيمًا وسمعة ومتابعة على صعدٍ كثيرة محليًا وإقليميًا ودوليًا. وهذه حقيقة لا يمكن نكرانُها، ومنها زيارتُه لأور الكلدانيين، مدينة إبراهيم الخليل أبي الأنبياء، ولقائه بالمرجعية الشيعية العليا سماحة السيد علي السستاني، ولقاءاته الرسمية والخاصة مع الرئاسات العراقية وكردستان العراق، ثمّ العامة منها والروحية في الكنائس، وإقامته قداسًا في أحد ملاعب مدينة أربيل وزيارته الميمونة إلى موقع حوش البيعة بالموصل التي شهدت دمارًا وتخريبًا مغوليًا من نوعٍ آخر، وبعدها بلدة باخديدا/ قرقوش كأكبر تجمّع مسيحيّ سريانيّ في العراق وبلدة كرمليس المجاورة، ممّا كان له الأثر الطيّب في نفوس أبناء هذه المناطق حين توشحوا بملابسهم التقليدية ورقصوا لمجيئه وغنّوا أطيب الألحان وأرق الأناشيد. وتلكم كانت أروعَ رسالة اطمئنان للشعب المسيحي والعراقي معًا، حين ظهر الجميع بتلك العفوية العراقية المعروفة برحابة صدر واسعة في استقبال الضيوف الأعزاء، ومنها الاستقبال الرسمي بأهزوجة الأغنية التراثية من الفلكلور العراقي "هلا بك يا لغالي هلا بك، هلا بك بين أهلك وأحبابك".

كلامٌ نبويٌّ مسؤول
لعلَّ من أرقّ وأحلى كلامٍ نبويّ ومسؤول سمعه العراقيون والعالم، ما صرّح به المرجع الشيعي الأعلى سماحة السيد علي السستاني، بتأكيده على سمة التلاحم والأخوّة بين الأديان والمذاهب والقوميات التي طالما شدّدَ عليها قداسة البابا وحفظها في ضميره وعقله وروحه ووجدانه، قولُ سماحته: "أنتم جزءٌ منّا ونحنُ جزءٌ منكم". فمن دون المسيحيين والصابئة والإيزيديين وسواهم من المكونات قليلة العدد، لن تكتمل اللوحة العراقية الوطنية الصادقة والصحيحة التي أرادتها أحزاب السلطة برعاية الغازي الأمريكي والطامعين بالبلاد أن تكون لوحة حصرية ثلاثية الأبعاد والمصالح والمغانم والمكاسب بتقاسم الكعكة حسب أمزجة زعامات ورغبات هذا المثلث الانتهازي وأسياده ورعاته الطامعين بكلّ شبرٍ من أرض العراق وأية ثروة بشرية أو مادية تنبع وتخرجُ منه. فاللحمة الوطنية، في حالة صدقها وتطبيقها وجدانيًا من شأنها الردّ الصاعق والحاسم على أية محاولة أو مخطّطٍ لضرب الوطنية العراقية وكشف زيف الانتماء للوطن والأرض والحضارة والثقافة. وتلكم من الأسس الكفيلة ببناء الأوطان وتعزيز روح الانتماء الصادق وصولاً إلى إعمار وإعادة تقويم ما دمّرته السنوات العجاف من حروبٍ وانقلابات متلاحقة دمّرت الحرث وأجدبت الأرض بعد أن كانت البلادُ قبلةَ الأوطان وملهمة الشعوب في الخير والمحبة والعطاء والإبداع.
هكذا يكون الرجال في القول والفعل. وهكذا تكون الأصالة في الوعد والانتماء. وهكذا تكون الرصانة في الفكر والانفتاح طلبًا لتأكيد الخير للجميع وبناء الأوطان، حجرًا وبشرًا. فحيث الضبابية في السلوك والفعل والتطبيق، لا يمكن وضع حدودٍ لأعمال التهميش والظلم والقهر التي تطال الإنسان العراقي منذ عقودٍ بحيث أصبحت الحياة لا قيمة لها بالرغم من كونها أفضل هبة من الله لبني البشر والعالم كي يعيش الجميع بسلام ومحبة وتفاهم كالإخوة، كما ردّدها ويردّدها البابا فرنسيس دومًا. فبناء السلام لا يأتي إلاّ من رعاته الحقيقيين من منفتحي الأذهان والعقول وليس من دجّالي العصر والفاسدين والمفسدين في الدنيا من المتشدّقين بغطاء الدّين ولابسي أوشحة التديّن الزائف كسبًا لودّ الأتباع وحفظًا لمكتسبات ضيقة المآرب لا تنفع يوم قيام الدّين ويوم الحساب العسير.

ترقّب مشوب بحذر
لقد سرّني جدّا أن تردني رسالة جوابية من قداسة البابا فرنسيس بشخص أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين، ردّاً على رسالة شخصية أودعتُها بين أيدي قداسته خلال زيارته لكنيسة سيدة النجاة عصر الخامس من آذار 2021. لقد وجدتُ فيها حقًا، ما أثلج صدري من اطّلاعه شخصيًا على كلّ ما أوردتُه من معلومات وبيانات مختصرة عن أحوال العراق السياسية وأوضاع كنيسته المتذبذبة وما تعانيه هذه الأخيرة من انقسام وضعف في صفوف زعاماتها الروحية المفتقدة لروحانية المسيحية في التفاهم والتواضع فيما يخصّ الكراسي.
عمومًا، لا أنكر أنني كنتُ من الذين لم يترقبوا أملاً كبيرًا، بحصول تغيير في أوضاع البلاد العامة والمسيحيين بخاصة، بسبب المنهج الفاشل والمدان الذي تنتهجه المنظومة السياسية والأحزاب التي تُحكم قبضتَها على مقاليد السلطة بأسلوب التحاصص وتقاسم المغانم بالتوافق بسبب استغلال مفهوم الديمقراطية المصدَّر الهجين لصالح المصالح الفئوية وليس للوطن وأهله الحقيقيين. وهذا ممّا جعلَ البلاد أسيرة هذا المبدأ المدمّر، فيما الشعب يئنُّ تحت نير هذا النظام غير المجدي وغير المنتج نتيجة لحجم الفساد الصارخ والرافض لأية مراجعات تقويمية للدستور والقوانين التي شرعنتها أحزابُ السلطة لصالحها إيغالًا منها في استمرار نهب الثروة الوطنية بأية وسائل وأية أدوات وإبقاء البشر في البلاد خارج معايير الحياة الطبيعية للإنسانية. فبالرغم من الترحيب الواسع الذي رافق زيارة البابا قبلها واثناءها وحتى بعدها، رسميًا وشعبيًا وروحيًا، إلاّ النتائج كانت مخجلة ولم ترقى أبدًا لغاية الرسالة التي أحبَ بابا الفاتيكان نقلَها للسلطات العراقية والدول الطامعة بالعراق والمصرّة على إذلال شعب الفراتين وإبقائه أسيرًا بأيادي دخيلة وغريبة على ثقافته وحضارته وتنوعه الديني والعرقي والمذهبي. لذا فالمبالغة في الأمل لم ولا يمكن ان تجد طريقها في التحوّل نحو الأفضل طالما أبقينا على ذات التوليفة التي تحكم البلاد والعباد بأسلوب التوافق غير المجدي الذي لا يمكنه بلوغ أدوات الإصلاح ونتائجه المطلوبة. فالتوافق بين الأفرقاء لا يبني ولا يطوّر ولا يقدّم بقدر ما يثبّت أدوات التمسّك بالسلطة وأغراضها لتحقيق مصالح فئوية ضيقة على حساب مصالح الوطن والشعب.
وهذا ما كشفته الأحداث ما بعد الزيارة حيث لم يلمس العراقيون، والمقصودون منهم تحديدًا من المكوّن المسيحي المتناقص على مدى الأيام والسنين غبَّ تلك الزيارة التاريخية، أية نتائج إيجابية أو بوادر حسنة لتثبيت أهل الدار في أرضهم وموطنهم مع مَن تشاركوا تاريخيًا حلوَ الحياة ومرّها على مدى السنين الخوالي، بسبب تتالي الأزمات وتوالي الأحداث المأساوية وعدم إنصاف أتباع المكوّنات قليلة العدد التي يعدّها المثلث الحاكم أصلاً ضيوفًا غير مرحَّبٍ بهم ولا يستحقّون سوى الفتات من موائدهم بالرغم من استحقاقهم الأفضل لكونهم الأفضل والأحسن والأقرب إلى الوطن في الانتماء والجدارة والصدق والصراحة وفي القدرات بمختلف أبعادها. وإن خرجَتْ بين الفينة والأخرى أو في مناسبات معينة من بعض هؤلاء، زعاماتٍ سياسية كانت أم حزبية، بعضُ أشكال الكلمات أو عباراتُ الإشادة بهذا المكوّن أو ذاك، فتلك لا تعدو كونها مجاملةً عابرة من باب الاستهلاك الدعائي والإعلامي ليس إلاّ وكسبًا لودّ بلدان غربية أو منظمات أو جهات مانحة بغية حلبها أكثر فأكثر بمثل هذه التشدّق غير الحقيقي. فالواقع يشير بما لا يقبل الشكك إلى انحسار الوازع الوطني وتراجع القيم في كلّ شيء، بما فيها قيم التسامح والتعايش مع ملاحظة تفاقم وارتفاع أشكال التشدّد الديني والعرقي والطائفي والمذهبي مع ما يمكن أن تحمله كلّ هذه التناقضات والتحديات من تزايد حالات العنف وتنوع أشكاله وأدواته، ما جعل ذلك ينعكس سلبًا على أوضاع المكوّنات قليلة العدد أكثر من غيرها بسبب ضعف أدوات الحماية التي تفتقر إليها وتدعم تواجدها المهدَّد دومًا بالزوال والتناقص. ومازال موضوع استعادة أملاك ومنازل أبناء هذا المكوّن ممّن اضطروا لمغادرة البلاد لأسباب متعددة تتفاعلُ بسبب تغوّل الجهات التي صادرتها بعمليات تزوير وتهديد وبغطاء وحمايةٍ من ميليشيات زعامات السلطة وأدواتها، ما يشكّل تحديًا لأية حكومة ضعيفة غير قادرة على تحمّل معالجة هذا الملف الشائك.
أمّا ما تنبئه الأيام القادمة، فلن نتحدث به، بل سنتركُه للزمن الصعب المستتر في قدَرِهِ وفي قِصَرهِ أو طولِه، إلاّ أللّهمَّ إن حصلت المعجزة وتغّير العقد الوطني بتغيير المنظومة السياسية برمّتها وتحوُّل البلاد إلى نظام رئاسيّ قادرٍ على ضبط إيقاع الأحزاب التوافقية غير الوطنية ووضع حدود صارمة بوجه الفصائل الولائية التي لا تمتّ للوطن وأهلِه بصلة. وإلى ذلك الحين لو حصلت المعجزة فعلاً بقدوم سرجون أكديّ بنسخته الحديثة أو حجاجٍ ثانٍ بمثابة الفارس الأصيل الذي سيقلب الطاولة ويغيّر الأوضاع نحو الأفضل ببناء دولة المواطنة وفق مبدأ العدالة والمساواة والجدارة، حينها سنقول، لقد استفادت البلاد من وقع هذه الزيارة التاريخية وتم توظيفها بالشكل الصحيح كما رسمها وأرادها الشيخان الوقوران حين لقائهما في النجف الأشرف.
فهل يمكن أن نترقب قريبًا شيئًا من التغيير الإيجابي نحو الأفضل في ضوء القيمة الرمزية لزيارة البابا فرنسيس في ذكراها السنوية الأولى في الفترة القادمة بعد تشكيل "حكومة الأغلبية الوطنية، لا شرقية ولا غربية" الموعودة؟ فواقع الحال يشيرُ إلى أنّ ما انكسر وجُرح صعبٌ جبرُه والتئامُه إلاّ بمعجزة من السماء عبر تغيير الواقع الحاكم المعاش جذريًا والإتيان بطواقم وطنية جديرة بحكم البلاد وإدارة شؤون العباد بما يرضي اللهَ وعبادَه المخذولين من زعاماتهم السياسية والدينية معًا.


61
مفاتيح راحة النفس وهداية الروح
لويس إقليمس
بغداد، في 30 تموز 2021
لا شيءَ أفضل من الركون في زاوية وحصر التفكير في النفس وفي مصيرها لدقائق معدودات. فمن شأن هذه الخطوة أن تُسهّلَ للكائن البشري التأمّل لوهلة بحالِه في استذكار الماضي وتقرير اللاحق ممّا تبقّى من حياته في ضوء عيشه الحاضر، مهما كانت طبيعة وشكل هذا الأخير. ولا غرابة أن نشهد حالات من الانزواء في زوايا المعابد والجوامع والكنائس والأديرة لأشخاصٍ دخلوا في غيبوبة التفكير والتأمل العميق بحثًا عن الأمان والسلام والسعادة وراحة البال للحظاتٍ أو ساعاتٍ بعيدًا عن مشاكل العالم وضوضائه في حوارٍ مع خالق الأكوان وفاحص الكلى والقلوب وجامع المتعبين والمهمّشين وأصحاب الحوائج. فهذه اللحظات هي من اسعد الأوقات لمَن يمنّي النفس بالاختلاء ومحاسبة الذات ولو لفترة. بل مثل هذه الخطوة، شخصية كانت أم جماعية، تقود البشر للاغتناء بالكثير من المعاني والأحاسيس التي تؤمّنُها أعمدة ثلاث في حياة الإنسان الملتزم: "الصوم، والصلاة والعطاء". فكلّ واحدةٍ من هذه السمات الثلاث لها قيمُها ومفاعيلُها وأدواتُها ونتائجُها في حياة الإنسان على الصعيد الشخصي والمجتمعيّ والعلاقة مع الله الخالق.
إنّ السعادة الحقيقية ليست في المتعة الوقتية. كما أنها ليست هدفًا بقدر ما هي وسيلة للإنسان لعيش حياته بصورة طبيعية ومقبولة وسط زحمة المشاكل والمصاعب والاهتمامات. وما أكثر هذه الأخيرة في عالم اليوم المتأجّج في كلّ شيء، حتى في الأحلام والتمنيات والأحداث وما في خانتها وأشكالها. كما أن السعادة الحقيقية عبر الشعور بملامحها لا تعدو كونها غرضًا محسوسًا فحسب، بقدر ما هي منبع للكثير من الخيرات والأعمال الجيدة وقوة للخلاص من المشاكل والمنغصات وكلّ ما يعادي النفس البشرية في مواجهة التحديات، أيّا كانت هذه ومهما كانت. بل إنها أيضًا شكلٌ من أشكال الذكاء في تذوّق كلّ ما هو جميل وحَسَن في نظر الخالق والنفس البشرية السويّة.
الصوم
في الصوم، لا يحرمُ الإنسانُ نفسَه مثلاً من ممارسة هوايته في متابعة ما يستجدّ من تقنيات حديثة مسلّية أو ألعابٍ قدّمتها أجهزة التقنية الحديثة على أشكالها وتنوعها ومفرداتها، وما أكثرها. والصوم الحقيقي أيضاً لا يعني الحدّ من شهوة الكائن البشري أو امتناعه عن أصنافٍ معينة من طعام وشراب وملبسٍ فحسب، بل في الابتعادِ عن عادات غير مستحبة وسلوكيات ضارة جالبة لأشكالٍ من الأذى على الإنسان نفسه أو على مَن حوله من أهل القربى أو في المجتمع الذي يعيشُ فيه او حتى ما يمكن من عملٍ أو فعلٍ ناشز قد يشكلَ خطرًا على المدينة والمنطقة والوطن الذي منه يتنفس الإنسان هواءه ويشربُ من مائه ويأكلُ من خيراته. ونكرانُ كلّ هذه الأفضال يدخل في دارة "الأنا" الملعونة وحبّ الذات البعيدة عن مفاهيم الصوم وموجباته وإيجابياته التي يتوق إليها الباحث الحقيقي عن مفاعيل مفيدة في حياته وعلاقته مع الله الخالق ومع البشر والمحيط الذي يعيش فيه. 
في الصوم ايضًا، يتعلّمُ الإنسان كيف يثبّت استقلاليتَه وإرادتَه من خلال التحكم بمفاتيح الأمور والأفعال غير الضرورية والبعيدة عن الطموحات الروحية النافعة في الدنيا والآخرة معًا. بل يلهمنا الصوم كيفية فهم ما يحتاجُه الإنسان حقًا في صُلب حاجاته وضروراتها التي تساهم في بناء حياته وتقوّي الروح والنفس والعقل والإدراك معًا مشكلةً له حصانة روحية راسخة بفعل الإرادة والعزم للسير نحو الأفضل. وحين التفكير في هذه جميعًا وفي غيرها من الأمور الأساسية للحياة السوية للكائن البشري، وبالذات في فترة ممارسة الصوم، يكتشف الإنسان أن الشعور بالجوع ليس أمرًا معقدًا غير قابل التحمّل والصبر عليه كما يعتقد البعض من الناس الذين يستصعبون الأشياء عامةً. بل بعكس هذه الأفكار الخاطئة، يمكن أن يكون الصوم أداة ووسيلة لتذوّق الطعام والشراب بشوقٍ أكبر عندما يتلذّذ أكثر بتناول طعامٍ أو شرابٍ بعد انقطاعٍ ولو لساعات خارج النظام اليومي المعهود لوجبات الطعام الاعتيادية التي باتت شبه إلزامية في مواعيدها بالنسبة للبعض على مدار الساعة. وهذا يكفي لمنح الإنسان الملتزم بالصوم وموجباته وطقوسه شيئًا وافيًا من السعادة وراحة النفس في ترويض الإرادة واختيار الصالح فيها وفي أدواتها.
العطاء
يُعدّ العطاءُ ركنًا ثانيًا في حياة الإنسان الروحية والإنسانية. فهو يوصف بكونه مقدار الالتزام الأخلاقي تجاه الآخر والشعور بوجوده وكيانه، بغض النظر عن أصل وفصل هذا الأخير. فهو فعلٌ يقوم به الإنسان بقدرٍ من التعاطف والتضامن ضمن شكل الالتزام الذي ينوي تطبيقه وتنفيذه بلا مقابل في صفحة معينة من حياته أو في الزمن الذي يقرّره صاحب الشأن والإدراك والفعل. ومن أشكاله ما يقرّرُه الميسورون بتقديم أموالٍ ذات شأن أو مساعدات عينية أو مادية للفقراء من البشر مباشرةً أو لمنظمات إنسانية تتولى المهمّة عبر شبكاتها وأفرادها، شريطة أن تذهب هذه العطايا لمن يستحقها وليس في جيوب إدارة هذه المنظمات، التي تحوّل الكثير منها لشبكات عائلية للإثراء ورفاهة العيش بفضلها. فالسخاء في العطاء يوحي لفاعله زيادة في الشعور بالراحة مع الذات ومع القيم التي يحملُها في قرارة نفسه.
لقد اثبتت دراسات ومقابلات شخصية قدرةَ العطاء بلا مقابل على ردّ السعادة للإنسان الذي له هذه الموهبة والقدرة والروحية الفاعلة. وهذه من أروع الفضائل التي لا يشعر بها أصحاب "الأنا" من الأنانيّين الذي تقلقهم مثل هذه المفردة ولا موقعَ لها في قواميسهم أو في حياتهم. فالشخص الذي يعطي يشعر بسعادة غامرة ومضاعفة وقت العطاء الذي من شأنه إسعاد الناس المحتاجين ومقاسمتهم أحوالَهم وضرورات حياتهم الصعبة بالتقرّب منهم عبر هذا العطاء أو شكل المساعدة الذي يقدّمه للغير المحتاج، مادّيًا أو روحيًا. وهناك مَن يشعر بفائدة أكبر وسعادة أكثر في زيادة العطاء خلال فترات الصوم، سعيًا وراء أجرٍ أعظم. وهذا ما نلاحظُه ونعيشُه في صفوف المؤمنين الملتزمين وغير الملتزمين على السواء أثناء الصوم الأربعيني للمسيحيين أو في شهر رمضان بالنسبة للمسلمين، وربما لدى غيرهم من أديانٍ ومعتقداتٍ أخرى، ما يزيد من فرحة وسعادة الشخص الواهب والمُعطي بجزالة وسخاء من كلّ قلبه وليس باعتباره فريضة ملزِمة لا بدّ من شرّها. وليس غريبًا أن يشعر الإنسان المتبرّع مثلاً، بعضوٍ من أعضائه لإنقاذ شخصٍ محتاج ومشرفٍ على فقدان حياته، بقدرٍ كبيرٍ من السعادة. أو أن "يبذل الإنسانُ نفسَه عن أحبائه" في أوقات الشدّة حبًا بهم وفرحًا بفرحهم وصولاً لسعادتهم وراحتهم وحلاً لمشاكلهم المعقدة. فالعطاءُ دومًا أفضلُ من الأخذ!
الصلاة
العمود الثالث الذي يراهن فيه الإنسان في حياته بحثًا عن الهدوء والراحة النفسية وشيءٍ كثيرٍ من الاطمئنان والسعادة، يكمن في الصلاة والخلوة بعيدًا عن الضوضاء وأدوات التشويش. ففي العهد القديم صلّى الأنبياء ونالوا عطاياهم ومرادَهم لإكمال مهمة أو نقل رسالة للبشر. وتوالى على خطاهم الأولياء الصالحون، وتبعهم المؤمنون بغض النظر عن الأسلوب والنوايا والأدوات زمانًا ومكانًا. كما أنَّ الصلاة توصي بها كافة الأديان، بل تحثّ عليها لأنها وسيلة المؤمن للوصول قريبًا من الله بسبب ما فيها من ثمار ومن مفاعيل لصحة الإنسان وصلاحه وشفاء نفسيته عبر الحوار المباشر مع الله الخالق. وفي الصلاة يجد الإنسان ما يريحُ فكرَه وعقلَه ونفسَه ويمنحه ما يحتاجُه من خيرٍ مفقود ربما في أيامه أو سنواته السابقة. فهي عند الكثيرين بمثابة الدواء الشافي، ولو للحظات أو ساعات أو أيام، لاسيّما إذا كانت مجبولة بنفحاتٍ إيمانية من القلب. وحينما لا تكون الصلاة مجرّد ترديدِ لكلمات ببغائية غير مفهومة بل نابعة من إيمانٍ حقيقيّ، حينها تكمن فائدتُها أكثر وتكبر مفاعيلُها وتُسهم في إزالة غشاوة الهموم والأحزان والمشاكل وتقلّل من الآلام الشخصية اليومية التي لا يخلو منها أيّ إنسان، لاسيّما حينما يشعرُ أو يستشعرُ قدرًا وافيًا من نعم السماء تنزل عليه في هذه الممارسة الإيمانية الصحيحة. فهي وسيلةٌ أخرى لإدراك عظمة السماء باستثمار ما يتوق إليه المؤمن من رجاء وعظمة من لدن الخالق العظيم سعيًا وراء شيءٍ من السعادة والاطمئنان النفسي والروحي في فترة الاختلاء والحديث المباشر مع الله بمثابة "الابن مع أبيه". وبذلك يشعر الإنسان في هذه الأوقات الخاصة من الخلوة مع النفس بسعادة أعظم حينما يبتعد في صلاته وحديثه المباشر مع الله عن كلّ ما هو مادّي واشتراطيّ ممّا يُفقد الصلاةَ مفعولها. ومع ذلك، من حق الابن أن يطلبَ ما يشاءُ من أبيه، ولكن ليس بصيغة شرطية تسقطُ مع عدم نيل المرام في مثل هذه الجلسة التأملية الانزوائية غير المقبولة. فالله عارفٌ بحاجة الإنسان في الاعتناء بخليقته. وعندما لا تتحقق أمنيات المؤمن الذي يصلّي أو يطلب مرامًا، فهذا شأنُه تعالى لأنه يعرف ما في خير الإنسان، وهو العالمُ بصالحه أكثر من الإنسان الضعيف.
هناك أشكالٌ من الصلاة، بعضُها لا يعدو كونه ترديدَ ألفاظٍ مجردة من الإحساس والعاطفة، أو حفظَ آياتٍ أو عبارات بهدف التباهي بالتديّن أمام الملأ. فمثل هذه الصلاة، ليس لها مفاعيل ولا بركات ولا كرامات كونها خالية من النية الخالصة. كما أن شكل هذه الصلاة لن يكون له القدرة لإعطاء الإنسان ما يتوق إليه من تأييد ربّاني أو دعمٍ إلهيّ لمرافقته في صلاته وانجذابه إلى خالقه. وغالبًا ما تتساقطُ دموع القائم بالصلاة العميقة الخالصة وهو يناجي ربّه لشعوره بقربه منه في هذه الفسحة الزمنية وهو غارقٌ في التأمّل والتساؤل والطلب وبما لا يخلو من عاطفة بشرية وإنسانية ممزوجة بقدرٍ من إبداء الضعف أمام عظمة الخالق والمكان الرهيب الذي يناجيه منه في حوار متبادل. والمصلّي الحقيقي لا بدّ أن يشعر بقوة تدفعُه لاتباع طريق الحق، وانتهاج أفضل السبل لبلوغ المُنى والحكمة والراحة النفسية والسعادة المنشودة والطريق الصحيح في الحياة، وأخيرًا السلام الداخلي، لاسيّما لمَن يفتقدُه في قرارة نفسه.  ففي الصلاة أيضًا قدرٌ وافٍ من الشجاعة لمواجهة الذات في حضرة عظمة الخالق الذي يهدي مَن يشاء من عباده الصالحين والخالصين في مشاعرهم وإرادتهم ونياتهم.
في اليهودية نشهد ليتورجية خاصة بالصلاة في طقوسها، فردًا وجماعةً. كما نقرأ في أناجيل العهد الجديد أهمية الصلاة في حياة المسيحي تأكيدًا على توصية السيد المسيح لأتباعه: "صلّوا ولا تملّوا" (لوقا 1:8). وفي الإسلام أيضًا تُفرض الصلاة من ضمن ثاني أركانِه، دلالةً على منزلتها الرفيعة في حياة المؤمن المسلم. بل هناك مَن يتباهى في هذه الديانات الثلاث بكونه من الملتزمين بالصوم والصلاة والزكاة والعُشر وكلّ ما تفرضُه الشريعة من واجبات. أمّا النعمة الحقيقية وما فيها من مفاعيل وفوائد روحية، فهي تكمن في الصلاة والصوم والعطاء بخفيةٍ ومن دون فرقعات أو تسليط أضواء إعلامية أو دعائية زائفة تغلق باب الثواب بل تنتفي فيها هذه النعمة وهذه البركة. فالله عالمٌ بخفايا وأسرار القلوب وهو يجازي بحسب النية والإرادة.
خلاصة مفيدة
كلُّ مؤمنٍ ومن أيّ دينٍ أو معتقدٍ، يحضُّ الخطى وما في وسعه في حياته الزمنية كي يخزن له في الآخرة أفعالاً تشفعُ له يوم الحساب أمام الديّان العظيم واسع الرحمة لمختاريه. وما أدراكَ ما يوم الدّين! فأمام هذا الرعب من يوم الحساب، يقف الإنسان العاقلُ إجلالاً وفي حيرة من أمرِه كيف به أن يزيّنَ حياته الأرضية بأعمال الرحمة والنعمة والمحبة عبر ثلاثٍ حكيمات: الصوم والصلاة والعطاء.
عندما تكون الصلاة الصادقة بعيدًا عن المظاهر الفارغة وبدواعي التباهي الزائف والتغطية على الواقع المتهرّئ للقائم بشكل هذه الممارسة ليراه الناس، فهي ذاتُ مفاعيل كثيرة تخدمُ المؤمن وتقوّي من عزمه وتقرّبُ نفسَه للّه ابيه السماوي. يقول المسيح " وإذا صَلّيتُمْ، فلا تكونوا مِثلَ اْلمُرائينَ، يُحِبّونَ الصّلاةَ قائِمينَ في المَجامِعِ ومَفارِقِ الطّرُقِ وملتقى الشوارع ليُشاهِدَهُمُ النّاسُ. الحقّ أقولُ لكُم: هؤُلاءِ أخذوا أجرَهُم" (متى 5:6). فأفضلُ الصلاة تكون لله الآب في الخفية، والله القادر على كلّ شيء ويرى كلّ شيء في الخفية هو الذي يجازي عبادَه. ومثلها المتصدّقُ تجاه الفقراء والمساكين والمحتاجين في عطائه السخيّ من كلّ جوارحه وليس استحياءً أو اضطرارًا أو دعايةً. فهو بهذا الفعل المجّاني بلا مقابل يستحق النعمة والبركة إذا تصرّفَ بحيث "لا تعرف يمينُه ما تفعلُه يدُهُ اليسرى." ويكملُ الصوم هذين الركنين عندما يكونُ مصحوبًا بإرادة صادقة ونية فاعلة تهدفُ حقًا للتقرّب من الله والتذلّل أمام عظمة هذا الإله الجبّار. فهو في كلّ الأحوال، عملٌ إيمانيّ ومن العلامات المميزة في بناء الروح وترويض النفس وصقل الإرادة والنيّة.
إنّ مَن يجيد الصلاة في خلوتِه والحوار مع الله أبيه السماوي، ومَن لا يمنع نفسه عن مشاركة إخوته المحتاجين في البشرية في عطائه المفتوح من دون تمييز ولا استعلاء ولا مراءاة، ومَن يعرف كيف يروّضُ نفسَه ويقمع شهوتَه ويمتنع عن أذى القريب والبشر والحجر بإرادته ونيته الصافية، فهذا حقًا يعرف عطايا الله الخالق ويستشعر قدرة رب السماء والأرض ورحمتَه وجبروتَه في حياة الإنسان. فبمثل هذه المزايا والسمات الإيمانية وبغيرها من الطيبات والحسنات، يمكن أن تصطلح أحوالُ البشرية المعذَّبة وبها تُبنى أسسُ الدول المتمدنة وتتشاركُ الشعوب في حب الخالق والبشر بعضها لبعض عوض أشكال الفساد والكراهية وأعمال العنف وما سواها من أنواع الرذائل التي ترفضها الأديان التوحيدية وغيرها من الأديان والمعتقدات الإنسانية في جميع بلدان العالم التي تنشد السلام والمحبة والطمأنينة وكفاف اليوم المشروع من الرزق الحلال.


62
تعزيز قيم التعليم العالي في العراق، أوربا أنموذجًا
لويس إقليمس
بغداد، في 30 كانون ثاني 2022
لا يمكن بناءُ الأوطان من دون وجود قاعدة تربوية تعليمية حقيقية وعلمية ورصينة. 
ففي حين يعتبر العديدُ من الساسة الأقحاح الناضجين علمًا وفكرًا وتخطيطًا، وفي ذات الخط أيضًا ما يعتقد به لفيفٌ من خبراء تنمية الشعوب وتطورها، بأنّ كلفة الجهل أكبر بكثيرٍ ممّا يتم إنفاقُه على أدوات التربية والتعليم في عددٍ من بلدان العالم المتقدم (أوربا على سبيل المثال)، إلاّ أنّ عجلة العلوم في بلدنا الجريح ماتزالُ خارج هذه المعايير في التقييم والتقويم وتعلّم العبر والدروس.
فالواضح أنّ ما نراهُ بأمّ أعيننا ونشهدُه في واقعنا التربوي والتعليمي من تراجع في القدرات التربوية والتعليمية بعد انتشار ظاهرة الأمّية وبلوغها حدودًا مخيفة بعد أن كان المثل يُضرب بواقع العراق المتقدم في هذا المضمار في سبعينيات القرن الماضي وخلّوه من هذه الآفة القاتلة، قد أصبح واقعًا مأساويًا يُنذرُ بشؤمٍ قاتلٍ للأجيال القادمة. ومنها ما شابههُ بما يواجهُه واقعُ التعليم العالي بالذات أيضًا من تخلّف في تحقيق الرصانة العلمية ومن عدم التزام بالمعايير الدولية التي تحفظ نزاهة هذا القطاع الحيوي المهمّ وتمنع عنه الانجراف نحو الإسفاف في أدواته سنةً بعد أخرى بسبب استشراء ظاهرة بيع وشراء الشهادات المزوّرة وتفاقم أدوات التخبط واختلاط الأمزجة غير المتناسقة التي تدير دفة التربية والتعليم على السواء منذ دخول البلاد والعباد تحت مظلة الغازي الأمريكي بالتعاون مع أدواته التي تديره علنًا أو من خاف الكواليس. وتلك مصيبة كبرى أحاقت بواقعنا التعليمي والتربوي وجعلته في ذيل قائمة أمم العالم بعد أن كانت جامعاتُ العراق تحظى بقصب السبق في تسلسلها العالمي عندما كانت منارًا للتعليم في المنطقة وعلامة بارزة للفخر والاعتزاز لمَن حالفه الحظ واستقى من عطر أروقتها الوارفة والنهل من علوم أساتذتها الأجلاء الذين نالوا شهرة واسعة في الأوساط العلمية والتربوية على غيرهم من نظرائهم في المنطقة والعالم لسنوات طوال.
وأنا أتصفح إحدى المنشورات الأوربية، قرأتُ تقريرًا عن واقع التعليم العالي في دول الاتحاد الأوربي، واطلعتُ على الجهود المبذولة في رصد كلّ أدواته ومعايرة حيثياته وصولاً إلى معالجة ما يعتريه من تحديات ليست بالهيّنة، وما يحتاجُه من تحديثات في ضوء المستجدات الدولية التي تفرض كيانَها ووزرها في ضوء مجمل هذه التحديات المستجدة ومنها موضوع التحوّل الرقمي والطاقة المتجددة وما يعتبرُه الغربيون شيخوخةً ديمغرافية ألقت بظلالها على الواقع الاقتصادي بسبب ما أحدثته من تداعيات وإخفاقات عالمية في مواجهة الأزمة الصحية العالمية الأخيرة. وحبذا لو بادرت الجهات العلمية في العراق بتكثيف جهودها وصولاً لأشكالٍ صحيحة من التعاون الدولي مع الجهات ذات العلاقة من أجل نقل مثل هذه الخبرات والاستراتيجيات المتاحة إلى الواقع التربوي والتعليمي المتهالك في البلاد بسبب الصراعات التي تكتنف المشهد السياسي والتي أضاعت هذا القطاع في متاهات غير جديرة به بكلّ المقاييس والمعايير.
من هنا، فقد أدركتْ مؤسسات التعليم العالي في دول الاتحاد الأوربي مدى أهمية تعزيز التعاون الدولي في مجمل هذه المجالات، ومنها طبعًا وعلى سبيل المثال لا الحصر ما يمكن أن تساهم به الجامعات الأوربية الرصينة في البحث والفكر والمتابعة والابتكار وصولاً إلى حاضنة غربية صحية عبر خلق وتشكيل اقتصادات مستدامة ومرنة للحدّ من التداعيات المتعاقبة التي نجحت في خلق أزمات اجتماعية واقتصادية كان لها اثرُها الواضح في التأثير في المجتمعات الدولية عمومًا. أملي أن يجد هذا القطّاع المتراجع في بلادنا ما يستحقه من دراسة ومراجعة وتقييم وتقويم على حدّ سواء بالاستفادة من تجارب الغير ومن هذه السطور الملخصة التي أدركها الاتحاد الأوربي واتخذها أهدافًا قابلة التنفيذ والتطبيق على أرض الواقع.
جسور للتعاون الدولي
في هذا الصدد، تواصلُ دول الاتحاد الأوربي عملَها بين الفينة والأخرى بطرح مبادرات مستجدّة تتناسب مع التحديات التي يفرضها واقع حال التعليم العالي في عمومياته وشكلياته من خلال أشكال الاستراتيجيات التي تصلح لعموم دول الاتحاد وتساهم في بناء جسورٍ للتعاون الفعال بشأن موضوعة هذا القطاع الحيوي وأدواته. ومن ضمن هذه المبادرات "الحرص على تفعيل دور الجامعات وجعلها مؤسسات شاملة قادرة على الإيفاء بدورها في مجتمعاتها المختلفة وفي تطورها وتعزيز نافذة الانفتاح والديمقراطية والمساواة فيها قدر المستطاع عندما يتعلّق الأمر بمسالة النمو المستدام وريادة الأعمال والاندماج والتوظيف"، على حدّ قول "مارجريتيس شيناس"، نائبة الرئيس المسؤولة عن نافذة الترويج لطريقة الحياة الأوربية في الاتحاد. ولعلَّ من جملة ما تهدفُ إليه هذه المبادرة أيضًا، "السعي لدفع أدوات التعاون الدولي في واقع التعليم العالي إلى ابعد ما هو ممكن وذلك من خلال مشاركة القيم المشتركة وتطوير موضوعة الانتقال بين المؤسسات التعليمية وتوسيع نطاق العمل والمؤازرة والتضامن ليأخذ هذا القطاع مداه وأبعاده الأوربية الحقيقية في مجال التعليم العالي". ولكي يأخذ هذا القطّاع الشكل الصحيح لهذا المدى ولدوره الحقيقي، لا بدّ من توفر المقوّمات اللازمة لجعله تعليمًا أوربيًا صريحًا وصائبًا بعمق تاريخ هذه القارة وحضارتها وتفوّقها العلمي على مدى قرون من خلال ما تعلمته واقترنت به واستفادت منه مجتمعةً أو من غيرها من الشعوب. ويقع هذا الطموح من ضمن ما ترتقبه دول الاتحاد الأوربي من توفير البيئة الأفضل لعمل وإبداع الجامعات والباحثين والخبراء فيها بجعلها جامعات حديثة متعددة الجنسيات سهلة التنقل والانتقال منها وإليها. وتعتقد "ماريا غابريال"، مفوضة الابتكار والبحث والثقافة والتعليم والشباب في دول الاتحاد، بإمكانية "الجمع بين التعليم والبحث والابتكار من اجل تحقيق الهدف الأسمى خدمة للمجتمع الأوربي والدولي على السواء".
استراتيجية أوربية لدعم واقع التعليم العالي
تفيد مصادر مقربة من قطاع التعليم العالي في دول الاتحاد الأوربي، بوجود مشروع رائد لهذا الأخير بتبنّي ميزانية طموحة لغاية منتصف 2024، عبر تقديم الدعم اللازم والمساهمات المالية الضرورية لما يربو على 60 تحالفًا أو تجمعًا جامعيًا يشمل ما يزيد عن 500 جامعة في عموم أوربا بغية بلوغ طموحاتها وأهدافها بحصول نقلة نوعية في قطاع التعليم العالي بالذات. ففي عموم أوربا يُحصى ما يزيد عن 5000 مؤسسة تعليمية جامعية تحتضن ما يربو على 7,5 مليون طالب جامعي وحوالي 1,35 مليون تدريسي بمختلف الدرجات العلمية وما يصل إلى 1,17 مليون باحث في مختلف التخصصات العلمية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من القطاعات التعليمية المعنية. وتهدف هذه الاستراتيجية لدعم عموم هذه المؤسسات التعليمية وتمكينها من التكيف مع الظروف العالمية المتغيرة وازدهار دورها وعملها في إنعاش أوروبا وتعافيها من أزماتها المحيطة بها، شأنها في ذلك شأن غيرها من بلدان العالم.
يتطرق تقريرٌ للاتحاد الأوربي بشأن تطوير المؤسسات الجامعية إلى جملة من الخطوات التي من شأنها تعزيز التعليم العالي في عموم الاتحاد، ومنها:
-   تعزيز البعد الأوربي للتعليم العالي والبحث العلمي بمختلف أهدافه.
-   اعتماد مكانة الجامعات كمواقع إشعاع لواقع وطريقة الحياة الأوربية بفضل الدعم المقدم في تسهيل إجراءات الأمور البحثية والمهنية ضمن الحرم أو التجمّع الجامعي وبما يتماهى وينسجم مع جودة المهارات والتنوع فيها وشموليتها وكذا في سائر الممارسات الديمقراطية والحقوق الأساسية والقيم الأكاديمية.
-    تمكين الجامعات من العمل على إحداث نقلة نوعية في مجال التحوّل البيئي والرقمي بحسب الظروف العالمية التي تفرض مثل هذا الواقع والهدف.
-    تعزيز عمل الجامعات بكونها من المحركات الأساسية لقيادة الاتحاد الأوروبي وتنشيط دورها على المشهد العالمي.
إن مثل هذا الفعل المقرون بالطموح الأعلى لبلوغ الأهداف المشار إليها في هذه المبادرة تتطلب مدّ وبناء جسور لتعاون أوربي مؤثر وفعّال في مجال التعليم العالي والبحث العلمي. كما أنه يهدف أيضًا إلى تمكين مختلف مؤسسات التعليم العالي للتعاون الأوثق من أجل تنفيذ سائر البرامج التطويرية الطموحة مع نظيراتها في العالم والمشاركة الفاعلة في أنشطة مشتركة عبر الأدوات المتاحة. وهذا ممّا سيسهّل نقل المعارف وتداول العلوم وإقامة روابط وثيقة بين الواقع التربوي والتعليمي وأدوات البحث والمجتمعات الصناعية المبتكرة التي تجتاح العالم وتحتاج لمثل هذا التعاون الوثيق بالاستفادة طبعًا من شكل المهارات المتوفرة وتيسيرها لطالبيها استجابةً للمتطلبات الاقتصادية والمجتمعية التي يحتاجها الإنسان في دورة حياته اليومية.
أربع مبادرات من أجل تعزيز البعد الأوربي للتعليم العالي
طرحت اللجنة ذات العلاقة بقطاع التعليم العالي في عموم أوربا، مبادرات أربع بغية تعزيز البعد الأوربي للتعليم العالي لغاية 2024. موجزُها في السطور التالية:
-   الوصول إلى ما مجموعه 60 تحالفًا أو تجمّعًا جامعيًا لغاية منتصف 2024 محتضنًا أكثر من 500 مؤسسة تعليمية وبحثية مختلفة، ودعمها بميزانية طموحة تبلغ 1,1 مليار يورو للفترة من 2021-2027. والهدف هو "تطوير وإقامة تعاون هيكلي مستدام ومنهجي طويل الأمد في مجالات التربية والتعليم العالي والبحث العلمي ومجال الابتكار من خلال إنشاء تجمعات جامعية أوربية مشتركة يستطيع الطلبة والباحثون وكوادرُها من خلالها وعبرها بالاستفادة من سهولة التنقل والانتقال والتمتع بنوعٍ مستدام من الحركة وخلق معارف جديدة عابرة للحدود ومن دون تحديد أو تقييد.
-   العمل معًا على تطوير الوضع القانوني للتحالفات أو التجمّعات الجامعية بين مؤسسات التعليم
العالي بهدف تمكين هذه الأخيرة من تعميم ومشاركة مواردها وقدراتها وقابلياتها بمساعدة مشروع "إيراسموس" بدءً من عام 2022. ومشروع "إيراسموس"، الرائد في مجال التعليم العالي الأوربي الذي يستقطب سنويًا أعدادًا جديدة من الطلبة، كان قد تم إطلاقُه في عام 1987، ويهدف لاستفادة الطلبة الجامعيين من محفزات التنقل الأوربي وتعزيز أبعاده العليا.
-   العمل على تقرير شهادة أوربية مشتركة تعترف وتقرّ بقيمة الخبرات العالمية المكتسبة خلال سنوات الدراسة الجامعية والسعي لتقليل الإجراءات الإدارية التي تعيق عمل البرامج المشتركة.
-   تطوير مبادرة بطاقة الطالب الأوربية من خلال اعتماد بطاقة تعريفية أوربية موحدة لجميع الطلبة الجامعيين المنتقلين للسنة الدراسية 2022 ومنها لجميع الجامعيين في أوربا في العام 2024 من أجل تسهيل عملية التنقل في جميع الاتجاهات والمستويات.
الخطوات الطموحة لتعليمنا العالي في العراق

تحدث الكثيرون عن الظاهرة المخيفة في التراجع الحاصل في مسألة التربية والتعليم العالي في عراقنا المهزوز منذ الغزو الأمريكي في 2003 وما شهده هذا القطاع من تدخلات سافرة غريبة وعجيبة في شؤونه من قبل ادعياء العلم وفارضي مصالح ومكاسب ومتسلّقي مناصب وحاصلي درجات وشهادات لا يستحقونها. وفي ضوء إرادات التغاضي عمّا جرى ويجري حينًا، وصيحات الاستنكار والتنديد وخيبات الأمل حينًا آخر، وفقدان الإرادة الوطنية في تعديل مسار العملية التربوية والتعليمية برمتها في البلاد، أضحى من الضرورة بمكان أن يجلب شكل هذا التراخي والتراجع والتخلّف عن الركب العالمي في هذا القطاع الحيوي المهمّ انظارَ السلطة القادمة والوزارات المعنية بإدارة هذا القطاع كي تضع في حسبانها ما اقترفته السلطات السابقة من جرائم وتعدّيات ضد تنميته ووضع العراقيل ضدّ تطويره بهدف انتشاله من الهوّة السحيقة التي سقط فيها متراجعًا عن الركب الإقليمي والعالمي بدرجات كبيرة.
وطالما كان السببُ معروفًا للجميع بسبب تفاقم الرشى والفساد وأشكال الابتزاز وشراء الذمم والمتاجرة بالشهادات، أو سواءً بالفشل في تهيئة المستلزمات التربوية والتعليمية أو في إعداد الكوادر التي تستحقها المؤسسات التربوية والتعليمية والبحثية أو في العمل على تهجير واستبعاد الكفاءات بسبب تنامي وسطوة أصحاب الولاءات والانتماءات غير الوطنية على مكامن ومواقع وأعمدة هذا القطاع، لذا تستدعي الإرادة الوطنية الصادقة، إن وُجدتْ، أن تشحذ الهمم في تقييم القائم الفاسد وإصلاحه، وتقويم المعوجّ الخارج عن سرب الحضارة والثقافة وإبعاده ومحاسبته في حالة عدم رضوخه للبعد الوطني التربوي والتعليمي الجامع للجميع. فلطالما أقرّت الدول المتقدمة والتي تحترم العلم والعلماء أنّ طريق العلم وأدواته من أفضل أبواب التنمية والتقدم والرفاه في تعزيز حسن العيش والسلم الأهلي وارتقاءً بالإنسان إلى مقام الإنسانية. وهذا هو أفضل الطرق لتفادي نكبة كبرى في هذا القطاع الحيوي والأساسي في إعادة بناء الوطن وانتشاله من براثن الدخلاء عنه ممّن لا يريدون له ولأهله التقدم ورفاهة العيش والالتحاق مجدّدًا بسرب الدول المتقدمة التي تحترم شعوبها ومواطنيها وتحفظ سيادتها وشكل هيبتها وسط دول وشعوب العالم.
وفي الأخير، لا بدّ من تعاضد جميع الأطراف الحريصة على عودة البلاد إلى موقعها الطبيعي إقليميًا وعربيًا وعالميًا بالبحث عن استراتيجيات جديدة أثبتت جدارتها عالميًا، كما هي في واقع حال بلدان الاتحاد الأوربي، من أجل العمل على ترسيخ الأهداف الواقعية التي تستطيع النهوض بهذا القطاع واستقطاب القدرات والكفاءات وتسهيل الاجراءات اللازمة لنجاحه. ومنها أسلوب التوأمة مع الجامعات الرصينة بعيدًا عن شكل الأطر السياحية والمنافع الفئوية والشخصية التي اتخذتها أو تفكر باتخاذها بعض الجهات لدى التفكير بمثل هذه المبادرات. وهذا ممّا سيساهم شكلاً ومضمونًا في استقطاب الكفاءات والعقول الوطنية المهاجرة أيضًا من التي غادرت الوطن قسرًا ومكرهةً بفعل الظروف غير الطبيعية التي مرّت على البلاد وأهلها والتي احتوتها حكومات دول الاغتراب للاستفادة من خبراتها وكفاءاتها المهنية والعلمية. نأمل أن تحظى مبادرات مستقبلية من أجل خلق جسورٍ للتعاون والشراكة العلمية الصحيحة مع الجهات العالمية ذات العلاقة بأهمية تستحقها الأهداف العليا لها، وذلك من أجل إعادة سمعة هذا القطاع بعد تشذيبه وتنقيته من العناصر المغرضة غير الكفؤة والدخيلة عليه بفعل سطوة أحزاب السلطة وتقاسم المناصب والمنافع من باب المحاصصة والاستحقاق السياسي المقيت. وهذا لن يتحقق إلاّ باستبعاد هذا القطاع من شكل المشهد السياسي المشوّش ومن تبعات مقاسمة السلطات وفق مبدأ "هذا لي وذاكَ لكَ".


63

الولاءات الفرعية تلغي الانتماء الوطني
لويس إقليمس
بغداد، في 17 كانون ثاني 2022
 
كتب الكثيرون وكتبنا، وسيستمر اليراع الناضج بالكتابة عن السكاكين الحادة الكثيرة التي اغتالت الوطن وقتلت روح الانتماء إليه وساهمت بفقدان هيبته وضياع سيادته في متاهات تعدد الولاءات الفرعية التي تصرّ جهاتٌ حزبية في المثلث الحاكم إبقاءَها وتصدّرَها المشهد السياسي المتهالك وفق مبدأ التوافق والمحاصصة غير المنتج. ولكن قصرَ النظر في رؤية بعض كتابنا المعروفين على صعيد المنبر الثقافي والصحفي والمحسوبين على كتلٍ سياسية أساسية ساهمت في تشظي الولائية الخالصة للوطن والانتماء له، قد ساهمت في تعزيز هذه الأدبيات عبر التغاضي أحيانًا، بقصدٍ أو بدونه، عن قول كلمة الحق وكشف الحقائق كما هي، حينما يتعلق الأمر بمكوّنهم صاحب الراية العليا في تقديم مسمياتهم العرقية والقومية والفئوية والمذهبية وتدوين سبقِها على غيرها في سارية الانتماء الوطني.
والمقصود هنا وبكل صراحة نموذجان من الساسة قبل غيرهم بسبب تفاقم تأثير هؤلاء وطغيان تعسفهم طيلة السنوات التسع عشرة المنصرمة من حكم المثلث المتهالك بعد السقوط الأهوج على يد الكاوبوي الأمريكي الظالم. ودخولاً في التفاصيل، فقد بان على الملأ مثلاً، تفاخرُ شرائح واسعة من الساسة الشيعة بإيثار مذهبهم وسبقه على أي مسمّى وطنيّ يخص تاريخ العراق وجغرافيتَه وحضارتَه وهيبته وسيادتًه. وقد لحقهم في ذات القطار الوصولي غير الجامع، ما صدَمَ العراقيين والعالم بتعنّتِ زعامات وساسة ونواب أكراد على تقديم مسمّى القومية الكردية والإصرار على مقاربتها والاعتداد بها على حساب أولوية سمة الانتماء الوطني الجامعة للعراق وشعب العراق قبل غيرها من المسميات. ومن المؤسف أن تتفاقم أدبيات مثل هذه الولاءات والانتماءات الفرعية وتتسيّد المشهد السياسي والاجتماعي على السواء في محاولة من أحزاب السلطة الفاشلة لفرضها بأية وسيلة ولتصبح جزءً من الحياة العراقية بتقدّمها على مفهوم الولاء الوطني الجامع.
لقد أعجبني ما كتبه الكاتب الماهر "كفاح محمود كريم" قبل ايامٍ على صفحات هذه الجريدة في عنوان مقالته "الوطن وتعدد الولاءات والانتماءات"، حينما افصحَ وأماطَ اللثام عن بعض منغصات وشكل هذه الولاءات والانتماءات بشأن مفهوم "الوطنية، وتحوّلها في ظل هذه الكائنات إلى مجرد أغنية أو نشيد أو شعار أجوف أو سلّم لاعتلاء كراسي السلطة ليس إلّا"، وذلك من خلال تركيزه حصرًا على أثر الدين والأحزاب الدينية في "تقزيم المواطنة وتصدّر شكل هذا الولاء أو الانتماء للمذهب والعشيرة"! لكنه في واقع الحال، قد أغفلَ أو حاول تجاهل شكلٍ معقدٍ آخر من أشكال هذا الانتماء أو الولاء غير الجامع الذي ينتمي إليه شخصيًا ولم يتوخى الحيادية في الوصف والنقد والتقديم. كنتُ أتمنى عليه أن يكون منصفًا وصريحًا أكثر. ففي ضوء ما نسمع ونقرأ ونشاهد، هل يمكن التغاضي عن صيرورة واقع حال التسمية "الكردساتنية" شكلاً من أشكال الولاء الفئوي في سياسة الإقليم والإصرار على سبق ذكرها على أيّ مسمّى وطني عراقي جامع؟ فإذا كان القبول بها كواقع حالٍ وكحقيقة ثابتة من دون لبسٍ أو خشية، فهي في نظر العراقيين جميعًا رؤيةٌ قاصرة وغير مقبولة. فالعراق أعلى وأرفع من أي مسّمى فرعيّ، قوميًا كان أم دينيًا أم مذهبيًا أم فئويًا أو ما سواه. وما على ساسة الإقليم إلاّ مراجعة الذات وتقرير المصير وعدم خداع شعبهم أولاً وعموم شعب العراق ثانيًا. فالشعب الكردستاني الطيب الذي عانى كثيرًا وصبرَ وضحّى، كان وسيبقى جزءً مهمًّا وأساسيًّا في نسيج المجتمع العراقي، ومساهمًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وعلميًا وفنيًّا في إدارة البلاد من منطلق "العراق وطن الجميع".
ولكن، لنفترض هذا سؤالًا بريئًا من مواطنٍ أغاضته مثل هذه المسميات الفرعية التي يسعى أصحابُها وأدعياؤُها تسويقَها من أجل فتّ عضد اللحمة الوطنية وإضعاف القدرة الانتمائية للوطن الجامع وجعله ألعوبة بأيادي الجهات التي تستغلُّ ضعفه وغيابَ الزعامة الوطنية الجامعة الصادقة فيه. فبحسبة بسيطة لا تحتاج إلى تعقيدات العجينة المختلطة بكل أنواع الطحين الجيدّ والرديء والممزوجة بالبهارات والمقبلات المجامِلة والمرائية والكيدية غير البريئة بتاتًا. فإنْ كانت هذه المسميات بكلّ أشكالها وألوانها لا تقبل بأولوية "العراقية" والانتمائية الصادقة والصريحة للوطن الجامع، فلماذا كلّ هذه المماطلات وصفقات الابتزاز والمساومات في الالتزام بالدستور أحيانًا وفي الرغبة بتغييره أو تعديله في أحيانٍ أخرى؟ وكيف بنا من هذا التناقض في الرؤى وفي مسارات الحكم المتعثرة منذ 2003 عندما ساهمت هذه الكتل العرقية والقومية والدينية والمذهبية والعشائرية والإقطاعية والفئوية بمجملها في كتابة الدستور لصالحها ولصالح انتماءاتها الفرعية حصرًا، بعيدًا عن مصلحة الوطن العليا وإيغالاً بإهانةً شعب الحضارات وتغييبًا لدوره، وهو صاحب السلطة كما يدّعي أدعياء السياسة المراهقون الذين سطوا على السلطة في البلاد بتلك الطريقة المعروفة بدعمٍ من أعداء البلاد المحتلين على اشكالهم وتكالبِ مطامعهم وتعدد المكاسب التي حصدوها من وراء إسقاط النظام السابق؟ فتلكم كانت من أكثر الجرائم التي اقترفها الغازي الأمريكي الطائش وأعوانُه من دول الشرّ العالمي والإقليمي وبلدان الجوار الطامعين على حدّ سواء في نشر الفوضى وإضعاف البلاد والسعي لعدم استنهاضها لسنواتٍ قادمات حتى يشاء القدر. وليس في ذلك شك!
سيادة أنماط فرعية من الولاءات
لا أحد ينكر سيادة أنماط عديدة من الولاءات والانتماءات الفرعية في المجتمع العراقي ما بعد التغيير الدامي الذي فرّطَ في مصالح البلاد وفي مصير العباد. ومنها أنّ بعضًا من الجهات التي حصدت منافع حصرية على عهد النظام السابق وما بعد سقوطه بفضل تكالب المجتمع الدولي على قدرات البلاد آنذاك لأية أسباب كانت، قد لاقت فرصتَها المؤاتية في فرض أجنداتها بفضل ما نالته وحصدته من دعم دولي فائق ومساعدات استثنائية لتحقيق مكاسب على حساب باقي مكوّنات الشعب الأخرى. فكان منها ومن سواها مّمن اجتمعوا على إعمال السكاكين الحادة في جسم الفريسة التي تهاوت كالنعجة التي تُساق للذبح من دون إرادتها، أن قتلت كلَّ روحٍ وطنية وفتّتت اللحمة المجتمعية العراقية التي قلّما شهدت نعراتٍ طائفية وخروجًا عن جادة الوطنية منذ عقود. فقد كانت السيادة للوطن شعارًا أبديًا والانتماءُ إلى أرضه وسمائه ومياهه علامة مضيئة في مسيرة جميع مكّونات الشعب بكلّ تلاوينه ومكوّناته وتفاصيله من دون أن تعلو قامة على غيرها إلاّ بالولاء إليه والانتماء له قبل أي انتماء أو ولاء، والتغنيّ بحبه وهم يعانقون ألوان علمه ويغدقونه بنشيد "موطني" الأزلي الكلمات.
تلكم كانت الحقيقة في واقع الحياة مع عدم نكران حالاتِ شذوذٍ في المسيرة السياسية. وهذا شأنٌ طبيعي في بلدٍ مثل العراق متعدد الثقافات والأصول والحضارات والأديان والمذاهب. لكنّ اللحمة الوطنية كانت هي السائدة، وليس الولاءات الفرعية، عرقية كانت أم دينية أم غيرها، إلاّ من جانب شواذ الأمة من الولائيين التقليديين للغير والتابعين لأجندات دولية مغرضة. وهكذا ضاع مفهوم المواطنة الصحيح وحلّت محلَّه ثقافات دخيلة ومغرضة جديدة معطِّلة لروح المواطنة ومسيئة للوطن وأهله، بحيث أصبح ألعوبة بأيادي غير أمينة ودخيلة على حضارته وثقافته وطباعه النهرينية. حتى نهراه الخالدان، لم يسلما من النهش والغدر بالسعي لتجفيفهما من دول الجوار أمام مرأى ومسمع من ساسة الصدفة الذين ركّزوا جلَّ همهم وغمّهم على كيفية الغرف من موارد البلاد واقتسام كعكته التي سال وما يزال يسيلُ لها لعابُ ساسة أحزاب السطوة بأي ثمن واية وسيلة، إلى حين تأزف الساعة. وقد باتت قريبة في إزالة الصورة المشوشة للحالة الشاذة السائدة بعد انتظار مرير عبر تقرير التشكيلة الحكومية المرتقبة "لا شرقية ولا غربية، حكومة أغلبية وطنية". عسى الجهة المعنية تثبتُ على قرارها وتقود همة الإصلاح الوطني الحقيقي بجدارة وعزيمة ونزاهة ومن دون مجاملة ولا تقاعس ولا تغاضي عن محاسبة أهل الفساد سابقًا وحاضرًا ومستقبلاً، بدءً من عناصرها المشبموهة ووصولاً إلى الرؤوس الكبيرة التي تسعى للتشبث بالسلطة والاحتماء بها بأيّ ثمن خشيةً من أن تطالها المحاسبة المرتقبة.
المفهوم الجامع للوطن
من هنا نقول، ليس الدين والمذهب والطائفة والعشيرة هي الأدوات الحصرية في "تقزيم المواطنة" وتأزيم العلاقة بين الشعب والوطن وفي تفتيت لحمة الأخير على حساب المفهوم الجامع. بل بالخروج عن الإجماع الوطني أيضًا في دفع وتقديم "قومية" بعض المكوّنات، أو في السعي لسيادة "العرق" وفرضه عنصريًا على غيره من أعراق المكوّنات الأخرى. فالمفهوم الجامع للوطن يكمن في تقديم المواطنة العراقية على غيرها من الهويات الفرعية، ولا مبرّرَ للتلاعب بالألفاظ وفي دغدغة مشاعر البعض زورًا وبهتانًا. فأنا لو حسبتُ نفسي وطنيًا قحًّا، فينبغي أن أكون "عراقيًّا" بتكويني وواقعي وشخصي وتطلعاتي وطموحاتي وهمومي وحرصي جملةً وتفصيلاً، قبل أن أكون عربيًّا أو كرديًا (كردستانيًا وهي التسمية التي استخدمتها شخصية برلمانية وسياسية مؤخرًا في لقاء إعلامي) أو فيليًا أو سريانيًا أوآشوريًا أو كلدانيًا أو إيزيديًا أو شبكيًا أو صابئيًا أو تركمانيًا أو شركسيًا أو يهوديًا أو معتنقًا الإسلام أو المسيحية أو البهائية أو أية ديانة أخرى معترفٍ بها في بلاد الرافدين بحسب دستور البلاد منذ نشأة الدولة العراقية.
وهكذا يبقى العراق ومستقبلُه رهينَ أداء الصادقين الأوفياء المنتمين إليه بكل جوارحهم وهمومهم وتطلعاتهم، وطنًا يجمع الكلّ بفسيفسائه وتعدّد ثقافاته وقومياته وأديانه، وليس لفئة دون أخرى. وهي ذات السمة الجامعة التي تربط الحاضر بالماضي وترفع من الأمنيات بمستقبل واعدٍ حين استعادة المبادرة بإحياء روح الانتماء الحقيقي للمواطنة والولاء للوطن والشعب عوضًا عن أشكال المسميات الفرعية الأخرى التي تفرّق ولا تجمع، وبعيدًا عن أية نظرة استعلائية لصالح مكوّن ديني أو قوميّ دون آخر. وهذا هو النهج الصحيح في إعادة بناء العراق وفق مفهوم المواطنة والمساواة والعدالة في الحق بحياة سعيدة وآمنة، كما في الحق بإدارة البلاد وفق مبدأ الكفاءة والجدارة ووضع الرجل المناسب في الموقع المؤهلِ له من دون تمييز أو تحييد أو مجاملة.
أمّا أن يًصار إلى تقديم وسبق قومية فرعية على "الهوية الوطنية الجامعة للوطن وفي الانتماء للشعب الأكبر" وعلى الملأ وبكلّ عنادٍ وإصرار، وعبر ما تيسر من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المختلفة أو في مناسبات ومؤتمراتٍ دولية، تمامًا كما فعلَ ويفعلُ أدعياءُ وأصحاب تقديم المذهب أيضًا على الانتماء الوطني، فذلك شأنٌ لا يمكن تمريرُه والقبول به بسهولة. وما على الجهات المعنية سوى تعديل المسار ووضع النقاط على الحروف لتبيان الغاية وكشف المستور المقصود واتخاذ ما يلزمه مثل هذا الخروج عن الجامع الوطني "العراقي" الذي ينبغي أن يسبق أية تسمية أو مسمّى غيره. فالمواطنة لا ينبغي "تقزيمها وحصرها في طائفة بذاتها او دين بعينه" كما كتب البعض. لكنّي أضيف وأؤكد، لا يمكن تقزيمُها أيضًا بالتسمية القومية لصالح كتلة أو مكوّن دون غيره. وهذا هو المفهوم الحقيقي "للوطن الجامع والانتماء للشعب الأكبر"! فالوطن يكبر في أعين الشعب داخليًا وخارجيًا حين تلتئم جميعُ مكوناته في بوتقته الجامعة، وطنًا موحدًا وشعبًا واحدًا، وليس في تفتيت عضده والنهش في لحمه كلّما تعرّض لمحنة أو صعوبة ليُترك ينزفُ حتى الموت!
حاشا لوطني أن يموت! فالأمل به وبالخيّرين والطيبين من الوطنيين من ذوي الأرحام الأصيلة كبيرٌ كبرَ بحور الماء، وعظيمٌ عظمة المحيطات، وواسعٌ رحابة صدور العراقيين من ذوي الإرادة الطيبة والنوايا الحسنة، طالما بقيت مياه النهرين الخالدين دجلة والفرات تغذينا بمياهها العذبة الدائمة الجريان. فإنّما الوطن الحقيقي في تقدّمِه وسيادته وهيبته وتقويمه وتشذيبه ووضعه على المسار الصحيح كما يليقُ بأيّ بلدٍ يحترمُ شعبَه ويقرُّ بقدراتِه البشرية والمادية ويصونُ هويتَه ويؤمّنُ مصيرَه. ولا شيءَ غيرَه من وراء القصد!

64
العظماءُ لا يموتون وإن رحلوا
(في ذكرى أربعينية المعلّم الكبير العلامة والمفكر والكاتب الأب ألبير أبونا )
لويس إقليمس
بغداد، في 10 كانون أول 2021
العظماء لا يموتون وإن أسكتهم الموت الزؤام، والعلماء لا يغيبون وإن فارقوا الحياة الفانية، وأصحاب الفكر تبقى أعمالُهم وكتاباتهم ومساهماتُهم علامة بارزة يسطرها التاريخ حتى بعد موتهم. هكذا العلاّمة والمفكر والكاتب معلّمنا الكبير الأب ألبير أبونا. كان كبيرًا في سموّ روحه وحصافة خلقه، جليلاً في مهماته الكنسية والتعليمية والكتابية، متواضعًا في سلوك حياته اليومية غير عابئٍ بارتقاء درجات كهنوتية عليا كان أهلاً لها، لكنه رفضها لكونها خارج إطار منهجه ورؤيته وطموحه. عرفناهُ أنيس المعشر، منفتحَ الذهن، ثاقب البصيرة، جزيلًا بعطائه وإنسانيته، ثريًا بمؤلفاته وتراجمه، رصينًا هادئًا ثابتًا في عزيمته، ملتزمًا صارمًا أحيانًا في حكمه على ما حوله ومنفتحًا صاحبَ نكتة وبديهة في أحيانٍ غيرها، عميقَ الرؤية في نقده واقع حال كنيسته وما يجري في بلاده من تشويه وفسادٍ وتدمير. تقبل كلَّ هذه الترّهات والسفاهات والانحدارات الوطنية والكنسية معًا، بحسرة الراعي الصالح على رعيته التي شاهدها بأمّ عينه تتفتّت ولم يعد منها ما يعين على توحيدها وتجميعها وإعادة تشكيلها وعودتها لعظمتها وسكتها الحضارية. فالدجاجة، الوطن الأمّ، التي كانت لديها القدرة على ضمّ فراخها تحت جناحيها، قد انكسرت إرادتُها بفعل شلّ جناحيها وفقدانها دفّة التوجيه وقدرة الإرادة وعزم الإدارة معًا. إنها قدرة القويّ على الضعيف والحاكم الظالم على بسطاء القوم أحباب الله والإنسانية.
 نعم، نردّدها جميعًا "كلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموت"! فالموت حقٌ على عباد الله أجمعين ولا رادَّ لقضاء السماء، وما مراحل حياتنا على الأرض سوى مراحل من الغربة في وطنٍ فانٍ. كما أنّ الموتَ هو النهاية الحقيقية للغربة وهو البداية الحقيقية للعودة إلى أرض الوطن الأبدية. وهو سنّةٌ بشرية ولازمة متلازمة، لا يفرّق بين غني وفقير، عالمٍ أو جاهلَ، جميل المنظر وحسن الوجه أو قبيح الشكل ومشوَّه الصورة، متعلّم أو أمّي، مؤمنٍ أو ملحدٍ أو لا أدريّ... لكن الحسرات تشتدّ وتتفاقم والرهبة تكبر وتعظمُ عندما يُخطف الأعزاء والأحبة، ويُغيَّبُ العلماء والأخيار ممّن تركوا اثرًا لخير البشرية بصالح الأعمال وممّن ساهموا في صناعة العلم والأدب وحسن الأخلاق والمعشر وسائر الفنون، أو حققوا نجاحاتٍ أعلتْ من شأن الأمم والشعوب والدول وسعوا لتنميتها وتقدمها وتطورها وتغييرها نحو الأفضل وليس الانغماس في التراجع والتخلّف عبر ترّهات مظهرية وقشور بلا جدوى. ولعلّ الأب ألبير أبونا الذي غادرنا إلى الأخدار السماوية يوم 4 من كانون أول 2021، يمكن عدُّه من ضمن هذه الفئة ممّن تركوا بصمات واضحة ساهمت في رفد البشرية بأثرٍ منتج وعملٍ فعّال لخدمة الإنسانية والتعريف بإرثها من منطلق نقل الحقيقة التاريخية والواقعية كما هي من دون التباس أو مجاملة أو محاباة. فكانَ لها وفيها من العظماء الذين سيسجلُهم التاريخ.
هكذا كان المعلّم والأديب والكاتب والمفكر والمؤرخ والكاهن والراهب ألبير أبونا المولود في قرية فيشخابور التابعة لمنطقة زاخو في عام 1928. هيأتُه وطلّتُه الجسدية طيلة فترات حياته وعمله منذ نشأته ونموه في الحكمة والقامة بتربيته الأسرية الطيبة، كانتا علامة بارزة على قدراته الكبيرة وإبداعاته الكثيرة ومواهبه المتنوعة بغرفه العميق منذ شبابه من طيات وبطون الكتب ومن أمهات النتاجات الفكرية والعلمية والأدبية والتاريخية. فكان لا يترك شاردة أو واردة يراها مفيدة إلاّ نقلها عبر مؤلفاته بعد تفحّصها وتدقيق أصلها وفصلها لتخرج عبر مؤلفاته الثرية ناضجة كعناقيد العنب الطازجة لتٌطفيء غليلَ الباحث عن مفردات غائرة وغائبة في عمق التاريخ اللغز أحيانًا.
ثلاثة وتسعون عامًا، هي سنواتُ عمر الفقيد الكبير، عاشها بدءً من بيت أهله وأسرته البسيطة في قرية فيشخابور على حدود المثلث العراقي- التركي – السوري. ألحقته أسرتُه بالدراسة الابتدائية فيها، ليبلغ به المطاف تلميذًا في معهد مار يوحنا الحبيب للسنة الدراسية 1941-1942 وليتخرج منه كاهنًا بعد عشر سنوات من المواظبة والالتزام والنهل من العلوم الدينية الفلسفية واللاهوتية واللغات التي كانت تشكل مناهج متميزة فيه دون غيره.
بعد التخرّج كاهنًا في 17 من حزيران عام 1951، أمضى الراحل الكبير بداية مشواره في خدمة أبناء إبرشيته في زاخو، ومتنقلًا أحيانًا بين القرى المجاورة متفقدًا أحوالهم ومُديمًا حاجاتهم الروحية والمادية معًا. بعدها انتُدبَ للعمل سنة 1955 في معهد مار يوحنا الحبيب الإكليريكي بإدارة الآباء الدومنيكان بالموصل في منطقة الساعة، حيث أمضى فيه سنوات طويلة في التعليم والإرشاد عبر تلقينه تلامذته مادةَ اللغة الآرامية وآدابَها والتي كان لي الشرف أن أكون واحدًا من تلامذته، بل من المتقدمين فيها على دفعتي طيلة سبع سنواتٍ أمضيتُها في كنف هذه المؤسسة الكنسية. وطالما افتخرتُ وسأظلُّ أفتخر بالحنين لذكرى تلك السنين الجميلة التي أحفظ جانبًا كبيرًا من تفاصيلها وقد بقيت راسخة في ذهني وسلوكي وثقافتي كعلامة بارزة عندي كما هي كذلك لدى زملاء وأصدقاء كثيرين، منهم مَن ارتقى درجات كهنوتية عليا ومنهم من ترك الدراسة والمسيرة الكهنوتية، وبعضهم رحلوا عن دار الفناء وآخرون ما تزال ذكريات ذلك الزمن الجميل عالقة في ضمائرهم وأفئدتهم والحسرة تعصرهم بسبب ما آلت إليه الأحداث بعد غلق أبواب هذا المعهد في عام 1973 وتفرُّق تلامذته بغير إرادتهم. بعدها تنقل معلمُنا الكبير الأب أبونا بين خورنات عديدة في الكنيسة الكلدانية في بغداد من دون أن يفقد شعلة التأليف والبحث والكتابة والمتابعة والخدمة من دون مقابل. كما جرّبَ لفترات قصيرة، شيئًا من الحياة الرهبانية في أديرة الرهبنة الهرمزدية والكرمليين، لكنه غادرهما لعدم ملاءمتهما لأفكاره ورؤاه وطموحاته الإصلاحية. فأصحاب الطموح كالمتمرّدين على الواقع المرّ غير مرغوبٍ بهم في بلدانهم ومدنهم وبين أهلهم وناسهم. هكذا هي دروس الحياة!
مسيرة طويلة حافلة بالهمة والنشاط والبحث العلمي الدائم والراسخ عن حقيقة الكنائس الشرقية وألغازها ودهاليزها وأوصافها وشخوصها ودياراتها عبر التاريخ الزاخر المليء بالأسرار والفجوات والدسائس والصعوبات والمناكفات التقليدية. هكذا نقرأُها سيرتُه الذاتية بعد رحيله وانطفاء شمعته الجسدية وصمته في قبره الهادئ. لكنّ بصماته الشخصية في نقل حقيقة التاريخ ستبقى الرمز الأكبر بعد موته مرتقية رفوف المكتبات العالمية والمحلية التي تزدان مؤلفاتُه وتراجمُه بها بفضل قدراته الكبيرة واسلوبه السلس في رسم الحرف سريانيًا وعربيًا وفرنسيًا وفي نقل الحقيقة الصادقة بعد الإيغال في التمحيص والفحص والتحليل.  إنها بحق مسيرة علمية ومهنية منتجة تحققت وحققت مؤلفات وتراجم وتحقيقات لمؤلفات غيره، يصعب عدّها والتعريف بها. ولعلّ أشهرها وأهمّها وأكثرها قربًا لدى القارئ والمتتبع والباحث النهم، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية بأجزائه وأدب اللغة الآرامية وديارات العراق وشهداء المشرق والآراميو ن في التاريخ وعشرات المؤلفات في السير الذاتية والأحداث الدينية والروحية والمدنية. فهو لم يدّخر وسعًا بكشف الحقائق التاريخية كما رآها وتصوّرها وحلّلها ونقلها بصبرٍ وعناية ورويّة. تمامًا، كما لم يُخفي تحسّرهُ وحزنَه إلى ما آلت إليه أحوال الكنيسة الشرقية، والكنيسة الكلدانية بخاصة في سنواتها العجاف الأخيرة. فقالها بحسرة ما بعدها حسرة عبر مؤلّفه: "كنيستي إلى اين؟". وقد أهداني شخصيًا في إحدى زياراتي له في بغداد نسخة منه. كما حظيتُ ببعض مؤلفاته ومنها أحد أجزاء تاريخ الكنيسة الشرقية ونسخة من ترجمة كتاب الرؤساء حيث اعتادَ المرحوم أن يخصّص شيئًا من مؤلفاته لتقديمها كهدايا للتلاميذ الأوائل على دفعاتهم في مادته "الآرامية" في احتفالٍ يُقام نهاية السنة الدراسية في معهد مار يوحنا الحبيب المذكور.
أمّا كلمة الحقّ، فلا بدّ أن تُقال. ففي ظل مشواره الشخصيّ مثير الجدل أحيانًا، والذي لم يخلو من سنوات شابها بعض التخبط في مسيرته الكهنوتية، فقد بانت على بعض توجهاته شيءٌ من علامات الاستفهام والحيرة مشوبة بالشكوك أحيانًا. وعلى ما يبدو، فقد تعثرت أحلامُه في فترة خدمته في معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل بالذهاب بين تأييد مرجعيته الكنسية المتمثلة بالبطريركية الكلدانية التي لم يطب لها حينها مدى التقدّم والشهرة والعناية التي أحاطت بالمعهد المذكور، وبين الالتحاق بمعهد شمعون الصفا الذي كانت تديره البطريركية الكلدانية ويفتقر إلى أركان التدريس والعلمية والتنشئة العالية. فقد شعر في فترة ما بأيادي خفية تسعى لمحاربة المعهد الأول الذي كان يحظى برعاية وعناية وشهرة كبيرة على صعيد كنيسة العراق والمنطقة. وهنا، ليس لي شأنٌ أن ألجَ إلى دهاليز تلك الحقبة التي أودت بمستقبل الرهبنة الدومنيكية في البلاد وإغلاق المعهد المذكور للأعذار الواهية التي خبرناها حينها. لكنّ المؤكّد في تلك الأحداث، تأرجح موقف الأب أبونا وعدم استقراره في قرارة نفسه، ما حمله للتنقل بين مؤسسات رهبانية وكنسية، كما أسلفنا بسبب ضبابية الرؤية وفقدان بوصلة الاستقرار لديه حول ما كان يدور في خواطره وطموحاته التي لم يشأ التعبير عنها إلاّ في مناسبات قليلة واحتفظ بالباقي منها لنفسه. وحتى في المناسبة التي فتحتها له البطريركية الكلدانية للتعبير عن طموحاته عندما توشح بالثوب الرهباني الهرمزدي لفترة قصيرة، لم يتأقلم مع القديم فيها، فغادرها غير متحسرٍ ورافضًا خيار الصدام الفكري العلني بين القديم والحديث الذي ارتآهُ في نقده لحال واقع كنيسته الكلدانية.
للفقيد الكبير الرحمة الواسعة، ولكنيسته ورئاستها وسائر أصدقائه ومحبيه وذويه كل العزاء. ولنا نحن تلامذتُه ومعارفُه وأصدقاؤُه ومريدوهُ كلُّ الفخر بطيب ذكراه وبما نهلنا منه أيام الدراسة على يديه سواءً في معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل، أو في مشواره القصير في معهد شمعون الصفا، أو في الكليات والمواقع الأخرى التي أمضى فيها فتراتٍ في التدريس وإلقاء المحاضرات. فقد حقّ له أن يُسجّل في خانة العظماء والعلماء والمؤرخين والمفكرين والكتاب البارزين والماهرين المهنيين الملتزمين.


 


65
لمناسبة مئوية الدولة العراقية:
الحكم الرشيد في بلد الرشيد
لويس إقليمس
بغداد، في 19 كانون أول 2021
عمر الدولة العراقية التي شاع وصفها ببلاد ما بين النهرين أو ببلاد الرافدين، لا يمكن قياسُه بمئوية سنوات تأسيسها الافتراضي حديثًا وحاضرًا. فالجميع يشهد لحضارتها الموغلة في عمق التاريخ وما واجهته البلاد إبان تلك السنين ولغاية الساعة من منعطفات تاريخية وتقلبات شكلية وجغرافية وطوبوغرافية، منها الإيجابية على قلّتها ومنها السلبية وما أكثرها وأشدها فظاعة وقساوة وظلمًا لأصحاب الأرض على مرّ السنين والعهود والقرون المنصرمة. لكنّ الصفة الملتصقة بأرض السواد "بلد شنعار" أكثر من غيرها، تكاد تكون صفة عدم الاستقرار طيلة تلك المراحل الطويلة والمضنية من التاريخ البشري بسبب تكالب الطامعين عليها من دول الجوار والعالم على السواء. ومَن يقرأ ما أوردته بطونُ التاريخ، بماضيه وحاضره، يدرك تمامًا صدق وصحة هذه السمة التي لم ولن تغيب عنه البتة، مهما قيل ويُقال، ومهما جرى فعلُه في الحاضر والمستقبل. فقد كُتب لهذا الوطن، تيههُ وضياعُه وانجرافُه نحو الهاوية لفترات مظلمة بأيادي مريبة دخيلة غير وطنية أو لا أبالية بمصلحته العليا ومصلحة أهله، إلاّ في فترات قصيرة عرفَ بها قيمتَه وفرضَ هيبتَه وأبدَعَ في سيادته وثقافته وحضارته، كما حصل في عهد الرشيد. وكلّ هذا وذاك حصل ويحصل بالأحرى من داخل عقر الدار المتأرجح أولاً بين الولاء للغير وللأجنبي من منطلق "ثروات الوطن للغريب وليست لأهله"، و"الغريب دومًا أفضل من أهل الدار وأكثر قبولاً"، وبين المصالح الخاصة، فئوية كانت أم عرقية أو حزبية أم طائفية. وهذه الأخيرة من السمات التي أثبتتها الأيام وسنوات الحكم غير الرشيد، خاصةً على مرّ سنوات المئوية التأسيسية التي يحتفل بها العراق هذه الأيام. ولستُ أدري عن أية مقاييس أو بأية معايير تجري الاحتفالات، فيما مصالح البلاد فيما عبادُها مرهونة بأيدي الدخلاء والأغراب عنها منذ سقوط النظام السابق. ناهيك عن سمة الشغف الأعمى بحياة الخارج ومتعِه ووردية الحياة فيه والتي تُرسَمُ لأهل الداخل من دون تمحيص وإعمال حكمة وتفعيل عقلٍ. 
نحن جميعًا، لا ننكر وجود منغصات ومعوّقات وصعوبات تقف حجر عثرة بوجه أصحاب الأرض الأصلاء من أبناء العراق الغيارى تتيحُ لهم التمتع بحياة حرة وكريمة ومرفهة حالُهم حال البشر في بلدان المنطقة المتقدمة أو في العالم. ونظرًا لكون مثل هذه الأدوات دينية أو بشرية صرفة، وكونها غير معصومة ولا يمكن أن تنطبق عليها صفة القدسية، فهي جميعًا إذن، مثار جدل وشكوك بأهليتها وقدرتها على خلق أجواء إنسانية وبشرية طبيعية مناسبة للحياة. من هنا تقتضي الضرورةُ التفكيرَ والترويج والعمل على ضرورة انفراط عقد هذه الأدوات الدخيلة ودفعها بكافة الوسائل المتاحة سلميًا لإخراجها من باحة الحكم ومغانمه، ومحاسبتها على ما جنت به على البلاد والعباد، وليس مجاملتها ومحاباتها ومسح أكتاف شخوصها. وإن حصل عكس هذا الفعل المطلوب، فذلك خروجٌ واضح عن جادة الصواب وإمعانٌ في التأسيس لإدامة الباطل على حساب الحق وبقاء الظالم في ساحة الظلم والجور وإطالة زمن الظلام والقهر وإمعانٌ في الفساد الذي صار لا يُطاق ولا يُحتمل. وكلّ هذا على حساب الوطن والمواطن المغلوب على أمره. وفي حالة الفشل في اتخاذ مثل هذه الخطوة الجريئة المطروحة سلميًا كما حصل في نتائج الانتخابات التشرينية الأخيرة، يكون الانتقال للمرحلة التالية والتي يترقبها الجميع، مجبَرين غير مخيّرين، بفارغ الصبر باللجوء لعناصر أكثر جرأة وشجاعة وحماسة في وضع النقاط على الحروف لمواجهة التمادي في المشكلة الأساسية المتمثلة بنظام الحكم ومنظومته السياسية الفاشلة. أمّا العودة إلى ذات الوسيلة في الحكم بتقاسم السلطة توافقيًا، ومشاركة الفائز والخاسر معًا في حكم البلاد والعباد، فتلك نكسة مضافة لا يمكن القبول بها. فهل يمكن أن يستوي الفائز مع الخاسر في جني ثمار الجهود بحجة وأد نيران الفتنة وترضية الخائبين تحاشيًا لأية صدامات أو انعكاسات هوجاء بفعل تمكّن السلاح المنفلت وسطوة الميليشيات بتحريضٍ طائفي ومذهبي واضح؟
انطلاقة صحيحة مرتقبة
لمناسبة مئوية الدولة العراقية، كرّر رئيس الجمهورية دعوته الملحة للأطراف السياسية كي تتوجه نحو "عقد سياسي واجتماعي جديد يُرسخ الحكم الرشيد". وهذا عين العقل، بل من المطالب الملحة لشرائح واسعة من المجتمع العراقي الباحث عن تغيير حقيقي في منظومة الحكم تعيد للبلاد وأهلها ما فقدته من أمن وطمأنينة وسلام وفرك عقدٍ مجتمعيّ وإعمار وبناءٍ وتنمية وثقافة وتعليم وخدمات. هذا إضافة إلى إعادة بناء شخصية الإنسان العراقي الذي فقد هويته الوطنية وشيئًا كثيرًا من وعيه ورصانته وطينته الأخلاقية والإنسانية والدينية الصحيحة بسبب انغماسه بترّهات المظاهر الفارغة بتحريضٍ من زعامات الطائفية والمذهبية والعشائرية والدينية المهزوزة أحيانًا. فمن المؤسف أن يسود شكل هذه الثقافة الناقصة في المجتمع العراقي الذي أضحى البسطاءُ رهينةً تحت أكناف أشكال مثل هذه الخلطات الغريبة والدخيلة ولاسيّما ذات الطابع الدينيّ والمذهبي منها بفعل بسط الفكر الطائفي المتشدّد الذي استخدمته ومازالت تستخدمه أحزاب السلطة وزعاماتُها وأدواتُها، ولاسيّما الإسلامية منها في فرض أجنداتها الضيقة لكسب ودّ الشارع الذي لفظَها وكره سلوكها وسئمَ من وسائل إيغالها المكشوف في الفساد والخروج عن القانون وفرض أجنداتها بفعل سطوة السلاح.
إن من جملة ما يعنيه هذا النداء الصادر عن أعلى سلطة في الوطن، بالرغم من الشكوك في النوايا والإرادات لكون الجهة الداعية تشكلُ جزءً من توافق السلطات على تقاسم المغانم والمكاسب والمناصب منذ التغيير الدراماتيكي في 2003، تكمنُ بإشارته إلى حالةٍ متهالكة من خيبة الأمل بعد بلوغ العملية السياسية شبهَ حالة من الانسداد السياسي بعد الانتخابات الأخيرة وما شابها من تشكيك وتنابز وتهديد بلغتْ حدّ التدخل بسطوة السلاح واستخدام العدّة والعتاد المتيسر بأيادي الخاسر الخائب لرفض النتائج. فيما الطرف المنافس الفائز بأريحية الأصوات، مازال متمسكًا بمشروعه الوطني بتحقيق "الأغلبية الوطنية السياسية"، وهو ذات المشروع المقدَّم من نفس الأطراف الفائزة في دورات سابقة، فيما هي ذاتُها لا تقبل به اليوم. ومثل هذا التناقض الواضح والفاضح في الرأي والتعبير وتغيير المواقف غير مقبول البتة في زمن الديمقراطية التي قبلت بها واتفقت عليها الأطراف المشاركة في العملية السياسية من دون تردّد أمام الملأ.
إن الأمور لا تُقاس بمثل هذه التقلبات في السياسة. فالديمقراطية الحقيقية لا تعني التوافق العرفي على تقسيم المناصب طائفيًا ومذهبيًا، وتوزيع الثروات بطرق غير شرعية بين أحزاب السلطة عبر نظام التحاصص الفاسد الذي يدرّ على سالكيه وطالبيه عسلاً ولبنًا ويحرم منه شرائح واسعة من الشعب. إنما الديمقراطية الصحيحة تتمثل بما تأتي به صناديق الاقتراع وتقبل به جميع الأطراف، بالرغم من علمنا وإدراكنا عدم إمكانية تطابق الديمقراطية في الأنظمة الطائفية والدينية والعشائرية والقبلية. إذ ليس من المعقول، حين تفوز كتلة او حزب أو تحالف يجري التصفيق له وإقامة الاحتفالات والمهرجانات والشماتة بالخاسر، وبعكسه حين الخسارة تتفاقم الأزمات وتوجّه الاتهامات بالتزوير وتشتد الدعوات بالثبور والتهديد وقلب الطاولة على الفائز. وهنا لا بدّ من الإشارة الواضحة لعدم رضا شرائح واسعة من الشعب العراقي عن أداء ساسة البلاد وشكوكهم المتزايدة بنجاعة العملية السياسية بسبب بلوغها أدنى دركات الفشل والخيبة والتهافت الجنوني في صراعٍ على السلطة ومكاسبها ومناصبها بحثًا عن أبواب ونوافذ درّت عليهم ثرواتٍ طائلة طيلة السنوات السابقة عندما رفعت أحوالَ غالبيتهم من أسافل الحضيض إلى اكتناز الثروات وفتح حسابات وشراء عقارات والتغوّل على عقارات بطرقٍ غير مشروعة. وما خفي يبقى الأعظم! ومن ثمّ، فلا مجالَ بعدُ لاستعادة ثقة الشعب في المنظومة السياسية ككلّ. بل نحنُ أمام تحديات جديدة وحسابات محسوبة النتائج وطنيًا تلوح في الأفق بمعايير صحيحة قادمة تنتظرُ التطبيق والتنفيذ بالرغم من اعتراض الأطراف الفاشلة في السلطة وشبه اللاّدولة.

طاولة للحوار والتفاهم وليس لتقاسم المغانم
كلّ ما يتوق إليه الشعب المغلوب على أمره، قبول جميع الأطراف بما آلت إليه الانتخابات التشرينية الأخيرة من نتائج والجلوس على طاولة وطنية للاتفاق على انطلاقة جديدة بين جميع الأطراف، ليس لتقاسم المناصب والمكاسب ثانية، بل لإتاحة الفرصة للأطراف الفائزة بتنفيذ مشروعها الوطني ذي "الأغلبية السياسية"، فيما الطرف الآخر يفرض رقابته الصارمة من وجهة نظر وطنية وليس طائفية أو حزبية أو مذهبية من أجل الخروج من الأزمة الشائكة وبلوغ مرحلة العقد السياسي الجديد الذي نسعى إليه جميعًا. وهذه فرصة جديدة لعودة الحكم الرشيد بأيادي عراقية وعقول وطنية تأخذ في بنود مشروعها إعادة بناء الدولة العراقية المنهارة من جديد وفق مقوّمات وطنية صحيحة بوضع الرجل المناسب في المناسب وإعادة اللحمة المجتمعية المثلومة والتفكير الجدّي بوضع حدود لهجرة العقول والكفاءات ووضع كل المقدرات في خدمة الوطن والمواطن على أساس العدل والمساواة والجدارة. وكل هذا لا يمكن رؤيته على أرض الواقع من دون إعادةة هيبة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، وكبح جماح تجار المخدرات ترويجًا وتوريدًا وتعاطيًا وتغطية، وتقويم العملية التربوية والعلمية التي تهاوت إلى الحضيض، ومحاسبة الفاسدين والمفسدين من أعلى الهرم وليس عبر صغار الموظفين بجعلهم أكباش فداء.
لذا، ومن منطلق البدء بالتأسيس لمرحلة قادمة وصحيحة من الحكم الرشيد، لا بدّ من تغيير المسارات ووضع النقاط على الحروف والبدء بتصفية بيدر الوطن من الأشواك والزؤان والأدغال الدخيلة كي يعود الحكم للشعب صاحب الإرادة والقرار والمصلحة في كلّ شيء وأيّ شيء. وحتى لو حصلت البداية ببضع ممثلين وطنيين من أصحاب الغيرة والنخوة والإرادة الوطنية، فهي ستكون بادرة خير وبشارة طيبة للمستقبل القريب. فمسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة. وهذه الخطوة ستنفذها هذه القلّة القليلة من النواب المستقلين ومن أصحاب الفكر الوطني المستقلّ الناضج بدعمٍ من ديمومة ثوار الانتفاضة الباحثين دومًا عن "وطن مفقود"، والذين لم يفقدوا جذوتهم ولا خفتت نارُ مطالبتهم بالتغيير المطلوب باتجاه تفعيل الوازع الوطني وعودة الحكم الرشيد إلى بلد الرشيد أيام كان للخلافة العباسة شأنٌ ورفعة وتطورٌ وسمعة حينما كانت بغداد منارة زاهية بزهو قدراتها في كلّ شيء، وسطرًا لمجد العروبة، وصخرة للمُلك الوطيد. فهل ستعود إليها بسمتُها الزهراء الناصعة قريبًا وتبشرنا الأيام القادمة بإشراقة أمل وبهجة وفرح في الأفق؟
هذا هو الأمل القادم الجديد الذي نتوق إليه ونريد حصوله في الدورة المرتقبة للبرلمان، كي نشهد بصدق سمفونية الوطن تخرج من أوتار عودٍ تغنّي له وتعيد أمجاده وثرواته وقراره وإرادته وإدارته إلى أهله الأصلاء من العراقيين الصالحين الوطنيين. دمتِ بغدادُ دارًا للنهى والفن والمحبة والأصالة. فأنتِ دومًا ستظلين بيتَ القصيد، كما أنشدَك قبلنا محبوكِ وأحبابُكِ وعاشقُوكِ! ونحن على وقع خطواتهم نغني لك كي تعودي عاشقةً للحكم الرشيد!



66
خطوات تمهيدية مهمة في خاصرة اللادولة
لويس إقليمس
بغداد، في 28 تشرين أول 2021
قالها تشرينيٌّ ساخطٌ حدّ النخاع بملء فمه: كفانا دولة الهزالة والمحاصصة والفساد والولائية! ومع هذا الصوت الهادر بالوطنية والطافح بالخيبة والأسى، ينبري كلّ الشعب وحشودُ الأخيار ممّا تبقى من الوطنيين فيه، وهم كثرٌ ويزدادون يومًا بعد آخر. والسبب، في كلّ هذه المؤشرات الإدراكُ الواعي بخطورةَ تسيّد أدوات اللاّدولة على مقاليد البلاد والتفريط بالعباد، وتفرّد أحزاب السلطة ومَن فيهم مِن ولائيّي الجارة الشرقية على مقدّرات البلاد من دون ضمير ولا خجل ولا صدّ ولا محاسبة. فبعد إعلان النتائج النهائية التي خرجت بها صناديق الاقتراع بموجب القانون الذي اتفق عليه الأفرقاء، أصدقاء الأمس وأعداء الحاضر، لم يبقى أمام الخاسرين والمعترضين والمشككين ايةُ حجج أو دواعٍ للاحتجاج والنفور وخلق الفوضى عبر النزوع لاستدرار عواطف البسطاء بغطاء الدين والمذهب والعشائرية والطائفية وذلك خشيةً من فقدانهم الحكم وزوال النعم والبركات الناجمة عن أساليب وأدوات حَلبِ مقدّرات البلاد وفرض السطوة والأتاوات على مواقع ومناصب تدرّ عسلاً ولبنًا. وما على الجميع إلاّ القبول بنتائج هذه الجدولة الجديدة من الديمقراطية التي قبِلَ بها حكامُ العراق وارتضتها أحزابُ السلطة ما بعد الغزو الأمريكي الأرعن للبلاد. لقد صدرَ حكمُ الشعب أولاً وآخرًا، في معاقبة فاقدي البصر والبصيرة، وخائني الشعب والبلاد، وهادري المال العام وسفاكي الدم العراقي بلا رقيب ولا حسيب ولا حساب. نقطة، رأس سطر!
كانت مرحلة، من أصعب ما مرّ به عراق الحضارة والطيبة والثراء في كلّ موارده البشرية والطبيعية على السواء. بل مرّت السنوات العجاف منذ تولّي الحاكم المدني الحاقد بريمر، الذي شقَّ لحمة النسيج الوطني بقراراته الجائرة منطلقًا من حقد الإدارة الأمريكية "البوشية" الموغلة في الكذب وفريقه الأفّاك من أجل تدمير كلّ ما تقع عليه أيديهم، بدءً من قدرات الجيش العقائدي الوطني، سور البلاد وحصن العباد المشهود له آنذاك بالخبرة والجنديّة والوطنية. وهذا الجيش ماتزال تنبض في شرايين وأوردة بعض ما تبقى منه وفي مخلفاته، سواءً في السرّ أو في العلن، ومضاتٌ من حبّ الوطن وتحرّكُه روحُ الجنديّة الصحيحة التي رافقت تسيَّده المشهد العربي والإقليمي والدولي لسنواتٍ وعقودٍ ومنه تخرّجت نخب عسكرية في المنطقة صارَ لها جاهٌ وشرفٌ وصيتٌ وتولّت مناصب ورتب عسكرية عليا لسمتها المتحدّرة من عقر الجندية العراقية المتميّزة.
أنصار اللاّدولة في مقياس حكم الشعب
ليس من الفخر ولا من سمات الرجولة تصاعد وتيرة الطغيان السياسيّ وهيجانُه من دون تبريرٍ موثَّق، إلاّ للثأر والثورة بسبب خسارة أطاحت بمصالح هذا البعض. فعلى ما يبدو للمراقب والمتابع أن هذه المفاجأة غير السارّة من شأنها الحدّ من المكاسب والصدّ من خطوات ومخططات يُرادُ لها إبقاء نهج اللاّدولة وضمان فرض نظام التوافق التحاصصي المقيت واستمرار المضيّ بسياسة منظومة دخيلة لا تمتّ للوطن والوطنية بأية صلة أو مقاربة أو مصاهرة. فالدولة في جبروتها وعنفوانها وهيبتها وسيادتها هي الوطن بأكمله، حكومةً وشعبًا وقضاءً. والدولة أيضًا، هي ذلك الكيان القوي الجامع لكلّ المكوّنات والقدرات والكفاءات من دون تمييز ولا فصل ولا عزل إلاّ في الكفاءة والولاء والأصالة وحسن الانتماء وصحة النفس والعقل.  والدولة أيضًا، تتمثُلُ أكثر بقدرة جهازها التنفيذيّ بكلّ تفاصيل ارتباطاته وعلائقه وفعّالياته، في رصد كلّ ما يسيءُ إلى شكل الدولة التي يمثلها رسميًا وشعبيًا، أو ما ينتزعُ من هيبتها ويزرع بذور الشك في قدراتها التنفيذية على تسيير أمور البلاد والعباد بموجب الثقة التي أولاها إياها ممثلو الشعب وتحرص الرئاسة على ديمومتها وصيانتها وحفظها باعتبارها حامية الدستور والقانون. ولعلّ من أهمّ واجباتها في هذا الظرف الحرج الذي تقف فيه أمام منزلقٍ خطير لمصيرٍ مجهول يهدّدُ كيانها ووجودها ومصيرها، يتمثل بالوقوف بوجه اية محاولات للنيل من صوت الشعب الذي قالَ كلمتَه الفصل في صناديق الاقتراع الذي ارتضاهُ جميعُ الفرقاء ووقعوا وثيقة القبول بنتائجه مهما كانت وكيفما كانت. ومن ثمّ ليس من الشرف ولا من الغيرة خلطُ الأوراق وفرض أجندات خارجة عن سلطة الدولة واتخاذ النهج "الهجيني" المنبوذ في تحقيق مسار التوافق بين المشاركة في إدارة الدولة ومهاجمتها والتنمّر عليها في آنٍ معًا، عندما تتأثر مصالحُها الخاصة وتُضرب مكاسبُها غير المشروعة التي يرفضها الشعب والجهاز التنفيذي الموكل بإدارتها. وإلاّ، فقدَ هذا الجهاز قيمتَه وتزعزعت هيبتُه هو الآخر عندما يسعى هذا "الهجين" المرفوض فرضَ أجندته ومصالحه على المصلحة العليا للوطن والشعب الذي أدركَ اللعبة مؤخرًا وحدّدَ بعضًا من سمات المرحلة القادمة التي ستكون مختلفة عن سابقاتها، وذلك عندما رفضَ عبر صناديق الاقتراع شكلَ هذا النظام ورموزه ومنظومة حكمه ونهجه الولائيّ للغير والمفتقِد لأيّ شكلٍ من أشكال الانتماء الصحيح للوطن والوفاء للشعب.
في كلّ الأحوال، ليس خافيًا ولا غريبًا الإقرار بوجود منتفعٍ ومتضرّرٍ، خاسرٍ وفائزٍ في أية جولة انتخابية في أية بقعة من بقاع الأرض الواسعة. وهذا أمرٌ طبيعيٌ ينبغي القبول به. أمّا في حالة وجود اعتراضات، حينئذٍ يمكن اللجوء إلى القضاء وفق الإجراءات الدستورية، بالرغم من الشكوك دومًا في دور القضاء. وهذا الشك قائمٌ حتى في أكثر الديمقراطيات في العالم، ومنها ما حصل في أمريكا في انتخاباتها الأخيرة. فعندما حاول أتباع الرئيس الخاسر خلط الأوراق والخروج عن الأطر القانونية والقضائية في المطالبة بحقوق افتراضية مضروبة ومشكوكٍ بها، كان للقضاء كلامٌ آخر وللشعب حكمٌ مختلف. فالديمقراطية في هذه البلدان العريقة بها، تحدّدها صناديقُ الاقتراع وليس وسائل التنمّر وأدوات الفوضى والدولة العميقة التي تفرض ما يحلو لها من أجندات خارجة عن القانون أو ولائية الحيثيات والنتائج. وهذه جميعًا خارجة عن حدود اللياقة الوطنية والأطر الأخلاقية.
كيف الخروج من المنزلق
لأجل الحفاظ على كيان شبه الدولة القائم وصيانة مكتسبات الديمقراطية الفتية، ولو في أدنى صورها في العراق ما بعد الغزو التدميريّ، لا بدّ من توفّر قاعدة شعبية تدرك أهمية الانزلاق الخطير إلى ما لا تُحمدُ عقباه في حالة إصرار الطرفين، الخاسر والفائز على السواء، على مواقف كلّ منهما. فالواقع المرير والمزري لا يتحمّلُ أكثر ممّا تحملته شرائح كثيرة وكبيرة من الشعب بسبب تغوّل ميليشيات وعصابات أحزاب السلطة ومافيات الفساد للمشهد السياسي منذ قيام أول حكومة محاصصاتية مدمّرة للبلاد والعباد وناسفة لأسس الدولة والإتيان بعناصر لا تؤمن بمفهوم الديمقراطية المدنية المتحضّرة، بل تتخذ من السلاح والتهديد والاسترضاء والاستهداء بالدين والمذهب والقومية والمناطقية والعشائرية والزعيم الأوحد والإرث المقدّس أفضل السبل لترويض الرأي المغاير وكسب ودّ المقابل الناقم على العملية السياسية برمتها. فأصحاب الورقة الخاسرة، يرون في إثارة مثل هذه النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية والمناطقية والعشائرية خيرَ وسيلة لزرع بذور الفتنة وإثارة الشكوك وفتح منافذ الشبهات بحثًا عن مخارج يعتقدون بجدواها. فيما يشير الواقع الجديد لخيبة آمال هذه المجاميع غير المنضبطة مهما حاولت أو تكررت مساعيها للحصول على مكاسب انتخابية إضافية أو تعديل بعض نتائجها. فمثل هذه الترقبات والتوقعات تبدو غير لائحة في الأفق في دوائر مفوضية الانتخابات، لا من قريب ولا من بعيد. ولو حصل شيءٌ من هذا القبيل، فلن يكون ذا تأثير عميق في النتائج المعلنة.
من هنا، فإن لجوء بعض القوى الخاسرة إلى أشكالٍ مدانة من العنف والفوضى والتشنّج في الخطاب السياسي بغية تأجيج الأوضاع من منطلق أيديولوجي غير مرحَّب به في كلّ صورِه وأشكاله، يدخل في خانة التمرّد على الجهاز التنفيذي للدولة، مهما كانت هذه الأخيرة في ضعفها القائم. كما أنّ التشكيك بالقضاء، سيأخذ مسارًا دراماتيكيًا ويصعّب من مراسه وموثوقيته ومهنيته على ما هو عليه في واقع الحال الذي لا يُحسدُ عليه البتة. وهذا ممّا سيكون له ومنه تداعيات غاية في الخطورة لا يطيق عليه واقع حال الشعب والبلد معًا. وهنا يكون للعقلاء دورُهم في تهدئة الأوضاع وحثّ الجهات الفوضوية التي تسعى إلى التصعيد غير المبرّر للقبول بالأمر الواقع، تمامًا كما كان عهدُها قبل الانتخابات. أليست هي التي قبلت بنتائج الانتخابات السابقة عندما فرضت نفسها فائزة في مشاهد تزوير فاضحة في الدورات السابقة؟ وحتمًا، اختلفت الأدوار في هذه الدورة التشرينية في مشهدِ رائعٍ تمثّلَ بمعاقبة الشعب البسيط لجلاّديه الذين كان ديدنُهم الكذب عليه طيلة السنوات العجاف الماضية، ولم يحققوا أمنياته بحياة حرّة شريفة ولقمة عيشٍ كريمة وخدمات آدمية تلبّي طلباته واحتياجاتهم اليومية كأي بشرٍ على وجه البسيطة. هنا مربط الفرس!
باختصار، وبعد صدور تقرير مجلس الأمن الدولي خاصة وإشادته بجهود المفوضية على قدر استطاعتها وخبرتها غير المكتملة في إنجاز اليوم الانتخابي أفضل من الدورات السابقة، تكفي للّبيب هذه الإشارة. فالحكومة القادمة لا بدّ أن تولدَ من رحم المعاناة كي تشهد للوضع المأساوي الذي بلغته أوجهُ الحياة المتعددة من تخلّف وتباطؤ وتراجع إلى الوراء بسبب سطوة أدوات اللاّدولة المتعددة على واقع الدولة الهزيلة بكلّ المقاييس. فقد حان الوقت لشدّ أحزمة البناء والإعمار الحقيقيين وتحمّل المسؤوليات الوطنية التي تثبت صدق الانتماء للوطن بعيدًا عن أجندات الولاء للغير، وهي الجهة المعروفة محليًا وإقليميًا ودوليًا في كل وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي، المقروءة والمسموعة والمرئية على السواء. وإنشاءَ الله، لا مجالَ بعدُ للعابثين بمستقبل البلاد ومقدّراتها وبمصير العباد وطموحاتهم كي يعود الوطنُ والشعب إلى حظيرة الدول والشعوب المتقدمة، ويتخلصوا من إرث الحكومات الفاشلة الفاسدة المحاصصاتية المتعاقبة منذ سقوط النظام البائد. وهذه من أولويات الحكومة القادمة، سواءً بشكلها التوافقي التقليدي أو بشكلها الأغلبي في جانبٍ كبيرٍ من أجزائها وبرامجها وأدائها، بالرغم من استقرائنا للواقع المنظور بحضور الشكل التوافقي غير المجدي في ظاهره وتكوينه الركيك. إذ ليس من السهل التخلّي عنه بحسب البعض، طالما أنّ روح التوافق التحاصصي وتقاسم المكاسب والمغانم ما يزالُ فارضًا شكلَه وعقدتَه التي لن يكون بالمقدور حلّها بسياسة القطبين الطبيعيين في أية إدارة للدولة: الحكومة والمعارضة، كما هي حالُ البلدان المتقدمة.
إلى ذلك اليوم، ننتظر بفارغ الصبر بزوغ فجر حكومة جديدة فاعلة بشخصيات تكنوقراط حقيقية وكفاءات وطنية غير ولائية وفاءً للعهد الذي قطعته الكتلة كثيرة العدد في تبنّيها تشكيل الحكومة القادمة، بالرغم من الشكوك القائمة التي تشوب عناصر عديدة في هذه الكتلة متورطة بالفساد والكسب غير المشروع على حساب الشعب والوطن عبر الحصول على أراضٍ واسعة بحجة الاستثمار في مولات والسطو على مواقع تدرّ موارد في المطارات والمرافئ والمنافذ الحدودية ووزارات ومؤسسات مصرفية ومالية. وهذه لا تعمل بمعزلٍ عن مسميات مماثلة في كتل أخرى نظيرة لها وشريكة بإيغالها في الفساد وسرقة المال العام وهدر أموال الدولة. فيما لم تستطع الحكومات المتعاقبة ولا أجهزتُها التنفيذية المعنية ولا القضاء محاسبةَ رموزها الكبيرة وزعاماتها التي تقف وراءَها وتغطّي عليها وتمنع كثيرًا في محاسبتها كلّما اقترب حبلُ القضاء للاقتصاص منها. فالدولة الهزيلة لغاية الساعة ما زالت تعمل وفق مبدأ "حاميها حراميها"، ولن يستقيم الوضع إلاّ في حالة أخذ جانب الحساب دورَه وتطبيقه على الجميع شريطة عمل القضاء بالنزاهة الوطنية والمهنية حفاظًا على سمعته. فالبداية الحقيقية للمحاسبة واسترداد الأموال المنهوبة وسرقات المال العام ليس لها أن تحصل وتحقق أهدافَها إلا انطلاقًا من أعلى الهرم وليس من القاعدة.
وحتمًا، قطعُ رأس الحية هو السبيل الصحيح للبدء بتصفية بيدر الوطن من الزؤان والأدغال والحشائش الضارة أينما تكون ومهما كانت.

67
المنبر الحر / الخاسرُ لا يُؤتمن
« في: 19:37 03/12/2021  »
الخاسرُ لا يُؤتمن
لويس إقليمس
بغداد، بتاريخ 10 تشرين ثاني 2021
في الأمانة الوطنية، لا مجال للتنازلات برهانات خاسرة تحملُها وجوهٌ سياسية خائبة وأفرادٌ دخلاء فاقدو الخبرة في حسن الإدارة وفي تسيير شؤون العباد وصون المال العام وتخطيط اقتصاد البلاد. فمَن جرّبَ حظّه لسنواتٍ خائبات وارتقى المشهد السياسي، والعراق خيرُ مثالٍ لهذه المشاهد الفاشلة، لا يُمكن ائتمانُه ثالثةً ورابعةً أو كلّما ومَتَما حلمَ بهذه على هواه فاقد الرؤية والروية. وهذه رؤية المرجعية الدينية منذ سنوات عندما قالتها بملء الفم. فكيف باللبيب أن يفهم غيرها ويفرض ما لا تستوجبه هذه المرجعية التي قالت كلمتها الفصل في وقت سابق ومازالت على موقفها الذي لم يتزحزح قيد أنملة إلاّ في تقريب وجهات النظر المذهبية وبما يكفل ضمان عدم فقدان السلطة الطائفية التي يروّجُ لها الكثيرون، إلاّ العقلاء منهم من الذين يرون في خيارَي السلطة الحاكمة والمعارضة القوية أفضلَ سبيلٍ للحكم الرشيد وتسيير دفة الحكم مثلما تستوجبه أصولُ الديمقراطية التي قبلتها منظومة الحكم الجديدة بما فيها من عيوبٍ فواحش ومن كبائر فساد في كلّ شيء وأيّ شيء! فالخاسرُ لا يمكن ائتمانُه أكثر ممّا حصل!
قراءة سريعة للواقع السياسي بعد انتخابات العاشر من تشرين 2021، تدلّنا على حدّة الانقسامات في صفوف البيت الشيعي الحاكم منذ السقوط الخائب في نيسان 2003. وإن دلّ هذا على شيء، فإنّما يشيرُ إلى هزالة الإدارة وفقدان الجدارة ورداءة الخيارات في تقرير الصالح الوطني وتغليب المصالح الطائفية والفئوية والشخصية والحزبية على مصلحة الوطن والشعب. ناهيك عن العنصر الولائي للجارة الشرقية في توجهات أغلب الأحزاب الشيعية الإسلامية التي تتبجح بهذه السمة في العلن. بل ويعلنها البعض عشقًا أزليًا ومشاريع تضحيات لقادة هذا البلد الجار الذي لم يخفي يومًا أطماعَه في عراق الرافدين، بلد الحضارات والتعددية الفسيفسائية دينًا ومكوّنات وأعراقًا. وأمام المقاربة الشائكة بين ما سبق حصولُه في انتخابات 2010 حيث الاستنجاد الماكر بمخرج الكتلة الأكبر التي استنبطتها المحكمة الاتحادية المنحازة وغير الحيادية حينها من أجل عدم ضياع الحكم الشيعي وتجاوز ما قد يلحق ذلك من خسارة أو من تصادم بين معسكري الخاسر والفائز، تجد المنظومة السياسية نفسها أمام ذات المشهد الذي لا تُحسدُ عليه. فالصراع بين معسكري القوتين الشيعيتين في أشدّها اليوم ولا يبدو هناك من مخارج سوى بعودة حليمة على عادتها القديمة، أي بتكرار ذات المبدأ التوافقي في تشكيل الحكومة القادمة، لا قدّرَ الله! وهذا يعني من جملة ما يعنيه تقاسم السلطة وتوزيع المكاسب بأي ثمن وإبقاء الشعب العراقي لسنوات أربع قادمات، أسيرَ الصراع الأيديولوجي المرتبط بشكل المنظومة السياسية الفاسدة والفاشلة التي أسّسَ لها اللّصّ الكبير والحاكم المدني سيّء الصيت "بريمر"، عرّاب أميركا وممثل مجرم الحرب على العراق "بوش الابن" في إدارة حكم العراق.
ومنه نخلص إلى حقيقة أنّ المنظومة السياسية القائمة وشكل الحكم البرلماني غير الناضج قد شلّا حركة الإصلاح وكبّلا أية مساهمات أو مساعٍ لإحداث التغيير نحو الأفضل في خدمة الوطن والشعب. وهذا السلوك غير الحضاري من جانب الخاسرين يبدو خارج السياقات الأخلاقية السياسية وموجهًا حتمًا ضدّ الطرف الآخر الفائز بأعلى الأصوات واتهامه بالتخوين وعدم الاعتراف بقدرته على تحقيق مشروعه الإصلاحي الوطني الذي ينادي به لكونه سيسحب البساط من تحت أقدام منافسيه الذين لفظتهم قواعدُهم. لقد كان من المفروض منحه هذه الفرصة لمعاينة ما يدّعي تحقيقه لمصلحة البلاد وراحة العباد في ضوء التراجع في كافة مجالات الحياة. فهذه المنظومة عبر السنوات التي تولت فيها حكومات شيعية رئاستها بإيعازْ من خارج الحدود، لم تتوفق في انتشال الشعب والوطن من الواقع المرير والحياة الرزيلة والتذيّل في آخر القوائم الدولية في كلّ شيء وأيّ شيء. أما الحديث عن فشل الحكومات المتعاقبة، فقد تعدّى نقاطًا ومسائل أساسية كثيرة، منها: انعدام الحرص المسؤول في تقديم الخدمات الضرورية والبنى التحتية، والفشل في إدامة وتطوير شبكة الحماية الاجتماعية وفي تأسيس ما يشمل الضمان الاجتماعي والصحي لكلّ مواطن، وغياب التخطيط الصحيح ووضع استراتيجيات مالية واقتصادية صحيحة ومدروسة للإعمار والاستثمار، وشبه خلوّ في إيجاد حل لمشكلة البطالة المتفاقمة وتكدّس جيوش الخريجين، وافتقار الخطط الناجحة بل عدم القدرة الصادقة لفرض الأمن والقانون على الجميع ومنع التجاوز على الدولة من جانب مافيات اللاّدولة، وضعف الجهود باتجاه إعادة اللحمة الوطنية بسبب الفاعل الطائفي شديد الوطأة، وعدم ادخار الوسع بجعل البلاد بتلك القوة المطلوبة لتأخذ موقعها ومكانتها بين شعوب الأرض والدول المتقدمة وكثيرٌ غيرها. فمذ ذاك ولغاية اليوم، مازلنا نعيش ضمن ذوات الدوائر التدويرية التعبانة المفرَغة غير المنتجة وغير الجديرة بالحكم بسبب اعتلاء المناصب بدواعي الشهادات المزوّرة ولأسباب حزبية أو طائفية أو قريبة من زعامات دينية أو سياسية "مقدسة" فاسدة. وكلّما سعت جهات وطنية، في راس السلطة أو في إحدى مؤسساتها أو دوائرها، لإيجاد مخارج للنجاة من المآزق، وما أكثرها، نجد مَن يلجمُها ويضع العراقيل أمام أيّ منحىً للإصلاح والتغيير ورأب الصدع في استخدام كلّ أشكال القهر والتخويف والابتزاز والتهديد والاغتيال والتسقيط بشتى الوسائل. 

دستور للتوافق
إنّ الإشكالية التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة مردُّها قصرُ النظر في بنود دستور البلاد الأعرج الذي كُتب لصالح فئات كان لها نفوذٌ بارزٌ في فرض ما تراه ملائمًا لمصلحتها الفئوية والطائفية على حساب المصلحة الوطنية. وبمعنى آخر، كانت مؤامرة لوأد كلّ ما يعين الوطن وأهلَه على التعافي السريع والطبيعي من أزماته ومشاكله التي أصابته جرّاء العنجهيات والعنتريات والحروب العبثية التي رافقت فترة الحكم العائلي السابق لسنوات عجاف. كما أنّ الاستفتاء الشكلي الذي جرى على الدستور في 2005، قد أفسد الحسّ الوطني وحرمَ النخب من إبداء الراي والاعتراض على ما احتواه من بنودٍ ومطبات وكمائن وقنابل موقوتة بوجه أية وسائل كانت تستهدف انتشال البلاد من أمراضها السياسية في محاولة واضحة لإبقائها والشعب في مرمى أعداء البلاد، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، وجعلِها تدور في دوائر مفرغة وفي أزمات متلاحقة لحدّ استنفاذ كلّ مقدّراتها المادية والمالية وحلبِ مواردها البشرية والاقتصادية بالطرق والوسائل الجهنمية التي نعيشها ونشهدها اليوم.
قد لا يختلف إثنان على الإشكاليات المنغصة التي أنتجها دستور 2005، ومنها معاناة البلاد والعباد من خلفيات كلّ دورة انتخابية وما تشهده الايام اللاحقة للاقتراع الهزيل المتهم في كلّ مرة بالتزوير من ماراثون طويل ومرهق في تشكيل الحكومة التي أخذت المشاركة فيها تقليدًا طائفيًا لاقتناص الغنائم وفرض أتاوات المحاصصة بموجب عدد المقاعد البرلمانية التي تحصل عليها كل كتلة أو حزب من دون بروز معارضة وطنية قوية لمراقبة أداء الحكومة ومؤسساتها وتقويم هذا الأداء بما تحتمه مبادئ الديمقراطية الفتية وغير الناضجة. وإنّ أقلَّ ما يمكن أن يوصف هذا الدستور غير القويم أنه قد كبّلَ البلد وجعله رهينة بيد أحزاب المثلث الحاكم لتقاسم المغانم وفق صيغة التوافق المقيت في مشهد غير وطني عجيب غريب لا مثيل له في العالم المتمدّن. فالكلّ مشارك في السلطة والكلُّ معارض وينتقد الجهاز التنفيذي في ذات الوقت.
لقد أفرزت الأحداث طيلة السنوات المنصرمة ما بعد إقرار الدستور بصيغته الحالية عن أزمات متفاقمة بسبب الأساليب القهرية غير المسؤولة المتبعة في صيغة الحكومات التوافقية المتعاقبة ومنها توليفات غريبة لأشكالٍ من الحكم والسطو خارج سلطة الدولة، تمثلَ بأدوات اللّادولة التي فاقت في تسليحها وعديدها قدرات السلطة الرسمية. كما تمخض مثل هذا السلوك عن خروجٍ واضح لشرائح تدّعي الانتماء لجهاتٍ رسمية ضمن تشكيلات الدولة في فرض قوانينها وابجدياتها ومفاهيمها وايديولوجياتها أحيانًا على الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلاد. وهذا كلُّه معروفٌ للقاصي والداني، ولستُ مبتكرًا إياه من بنات أفكاري.
من هنا كان لزامًا على النخب الفائزة في الانتخابات الأخيرة، ولاسيّما "المستقلّة" الوطنية منها أو تلك المدّعية بالانتماء للوطن والشعب أن تضع في أولويات حججها وفي عهدتها البرلمانية وفي برامجها إعادةَ كتابة دستور البلاد وفق رؤية وطنية صحيحة وصادقة ضمن نطاق ميزان الديمقراطية الوليدة. كما أننا نضع ثقتنا في رقاب الكتلة المستقلة الجديدة، التي يسرّنا تسميتها بكتلة "تشرين الوطنية"، كي تقوم بهذا الواجب الوطني وتكثّف من جهودها الصادقة لإحداث تغيير في شكل المنظومة السياسية للسنوات القادمة بدءً من هذه الدورة التي تختلف بالتأكيد عن الدورات السابقة من حيث فرزها الغثّ من السمين واستبعاد الجهات والفئات غير الوطنية التي أثبتت ولاءَها لغير الوطن وأهله. وفي هذا عقوبةٌ لها من مواليها السابقين وخروجٌ عن عقدة عبادة "المقدّس"، طائفة وشخوصًا وزعامات. فلا مقدّس بعد الله والوطن! وكلُّ خارجٍ عن خيمة الوطن أو موالٍ لغير هذا الأخير، لا يمكن ائتمانُه البتة، لكونه خسر الرهان وفقد المصداقية وثقة الشعب والوطن معًا.
وهنا نشير إلى أنه لا بدّ من الوصول إلى تحوّل عميق في الإدارة السياسية وفي الفكر الدستوري من جانب المختصين في هذا الشأن من أجل تقبّل فكرة حصول تغييرات في الدستور العراقي وتعديله أو إعادة قراءة البنود مثار الجدال. كما عليها عدم غضّ الطرف عن كلّ ما يمسّ سيادة الوطن ويحفظ وحدتَه ويصون ترابه وسماءه ومياهه وفق القوانين الدولية من دون خوفٍ ولا خشية في مواجهة دول الجوار الطامعة التي تستخفُّ بسيادة البلد وتخرق هيبَته وتستسهلُ اغتصابَ حقوقه من دون خجل ولا خوف ولا محاسبة أو تحدٍّ من جانب ساسة البلاد وزعامات السلطة الفاسدة للأسباب العديدة والصفات الرزيلة التي يستحقون نعتهم بها بسبب مواقفهم الهزيلة ولا مبالاتهم في إحقاق حقوق الوطن والشعب. وحبذا لو جرى عرض المقترحات المرتقبة لإعادة كتابة دستور جديد أو تعديل العديد من فقراته على الشعب للاستفتاء بعد إنضاجها إعلاميًا ووطنيًا بكل الطرق والوسائل وليس بأسلوبٍ شكليّ كما حصل في دستور 2005 الذي تمّ إقرارُه بطريقة مخجلة وغير ديمقراطية عندما حسمت الجمعية الوطنية "غير الوطنية" أمرها وأخرجه الساسة للناس بطريقة بهلوانية مفروضة على الشعب لضمان مكاسب ومصالح وفوائد لأحزاب السلطة وفق صيغة التوافقات السياسية بين المثلث الشيعي-السنّي- الكردي التي تمتعت بالكعكة العراقية ما طاب لها ولذَّ، بحسب اعترافات زعامات وأفراد وعصابات.

حكومة قوية ومعارضة قوية
إن ما ينتظر البلاد، ترقّبُ وصول حكومة قوية تتحمّل وزر المسؤولية الكاملة أمام البلد والشعب والعالم. وإنّ سرّ نجاحها بالتأكيد، ستحدّدُه سمتُها الوطنية وكفاءتُها الإدارية وجدارتها في خدمة الشعب وتأمين أمنه السلمي ورفاهته مثل سائر شعوب الأرض وفي تنويع مصادر الطاقة ووقف هدر المال العام ومحاسبة سرّاق الشعب ولصوص الخزائن، المركزية منها وفي الأقاليم والمحافظات من دون استثناء. فالجميع مثل الجميع يجب أن يخضع للقانون، ولا فضل أو تمييزًا لمواطن على غيره. فالشعب مصدر القوة والقانون، وليس أحزابُ السلطة ومافياتُها وكلّ مَن يتعكّز على غطاء مهلهلٍ بجلباب الدين او الطائفة أو المذهب أو الزعيم "المقدس" الذي لا ينبغي أن يُمسّ! مقابل ذلك، نترقب قيام معاضة قوية، كما هي حال دول الديمقراطيات في البلدان المتحضرة يكون من ضمن واجباتها واهتماماتها مراقبة أداء الجهاز التنفيذي في الدولة العراقية، أي الحكومة بكل مؤسساتها وتقديم الحلول والمعالجات لإقرارها ومناقشتها في برلمان الشعب وجهًا بوجه من دون تملّص أو مواربة أو محاباة أو مجاملة لطرف أو فردٍ دون آخر. وهذه هي حقيقة الحياة الديمقراطية في السياسة الصحيحة لهذا المفهوم. وحقًا تلكم هي فرصة النجاة المتاحة للتغيير والإصلاح بقيام حكومة قوية تقابلُها معارضة قوية لمراقبة الأداء وتقويم المعوج وتقديم النصح والاستشارة. فقد أثبتت الوقائع والأفعال والسلوكيات الشاذة عقمَ وعدم جدوى الحكومات التوافقية التي كبّلت هذه الأخيرة وجعلتها رهينة بأيدي زعامات السلطة وأحزابها المتاجرة بحقوق الوطن والشعب من هواة الطائفية والعرقية والفئوية.
من جملة ما ننتظره أيضًا من القوى المستقلة والوطنية ومنها تلك التي تدّعي الوطنية في البرلمان الجديد أن يصونوا الأمانة ويحثوا الخطى باتجاه قراءة جادّة لأسباب وحيثيات بلوغ البلاد هذا الدرك من الركاكة في الأداء واستشراء الفساد في كل مفاصل الدولة الإدارية والمالية الذي مردُّه الدستور وتطبيقاتُه الهزيلة وغير الجادّة. وهذا ممّا ينذر بقادم أسود فيما تم غضّ الطرف عن هذه الأسباب لأية دواعٍ. في اعتقادي، فإنّ ترافق العمل الرقابي مع الأداء، وكلاهما من صلب واجبات البرلمان وممثلي الشعب، سيكفلان بدرجة أو بأخرى إجراءَ تعديلات جوهرية في جميع مواقع الأداء والخدمات كي تتوافق مع المرحلة الراهنة. فما كان يصلحُ بعد سقوط النظام السابق لم يعد ينفع بعد خبرة أكثر من ثمانية عشر عامًا من الحكم غير الرشيد والفوضى في الإدارة وغياب الإرادة الوطنية.
إن البلاد بحاجة إلى تغيير مرتقب بعدَ قرب محاسبة الكثير من خلايا الفساد وبلوغ رؤوسها وعرّابيها ممَّن ارتهنوا البلاد والعباد بسبب نظام التوافق الفاسد الذي ضمنَ أدواتٍ لصوصيّة بدأت مواسيرُها بالصدأ والتعفن بحيث فاحت رائحتُها بسبب اشتداد وطأتها على البسطاء والفقراء والكادحين من الباحثين عن رزق حلال ولقمة عيش بكرامة وإنسانية بعد طغيان الغلاء في السلع وتدهور الحالة المعيشية لغير الملتحقين بجيوش وظائف الدولة الخاسرة وغير المنتجة. فالمشروع السياسي المرتقب الجديد تتحمّلُ الكتل والجهات الفائزة مسؤولية المضيّ في سبيل إخراجه للوجود مهما اقتضت الظروف وزادت التحديات. فهو سيكون بمثابة مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي وعلمي ناضج بدعائم قوية تؤسّسُ لدولة متحضّرة لا تخضع للمحاصصة والتوافق بقدر ما تلقي بكلّ طاقاتها وقدراتها في سبيل إنضاج مشروع وطني قادر على حماية البلاد من اية مزالق وعدم السماح بارتهانه بمصالح دول الجوار بعيدًا عن أية نسمات ونفحاتٍ وطنية صادقة. وهنا سيكون الرابح الأكبر هو الشعب وقواه الوطنية المؤمنة بالانتماء الصحيح للوطن والشعب قبل أي انتماء ديني أو مذهبي أو طائفي أو عرقيّ أو إقليمي أو دوليّ وكلّ ما من شأنه أن يعكرّ صفو الأجواء الوطنية ويوقف عجلة الاقتصاد والتحضّر والسلم الأهلي والخدمات بعمومها ومجملها. أمّا الخاسرون من أحزاب السلطة ولاسيّما الإسلامية منها وزعاماتُها، فلهم البكاء وصريرُ الأسنان والندم على أفعالهم غير الوطنية وخيبتهم وخذلانهم للشعب الذي قدّسهم وهرولَ باتجاههم سنوات مريرة.
فهل سيضع البرلمان الجديد خطوات جادّة باتجاه مشروع وطنيّ قحّ لعراق جديد بحكومة أكفاء وخبراء قادرة على مقارعة مكايد الأعداء والفاسدين والمزوّرين واللصوص، وما أكثرهم؟ وهل ستحزم الكتلة الفائزة أمرَها وتتحدى أصوات الباطل بعدم التنازل عن حقها بتشكيل حكومة وطنية عراقية مخلصة قوية لا تخضع للمحاصصة، تنصف المحرومين وتحسّن الخدمات، وتحاسب الفاسدين وقاتلي الأبرياء ومفتعلي الفتن ومعيقي تقدم البلاد؟ الأيام الماراثونية بيننا لغاية تشكيل مثل هذه الحكومة التي أصبحت ضرورة ماسّة للخروج من عنق زجاجة الحكم العقيم والدولة الاستهلاكية الريعية غير المنتجة. فلا مجال بعد، للخطاب المجامل والمنمّق والمداهن على حساب الوطن وأهله.

68
أوربا، ميثاق جديد للهجرة واللجوء والتحديات المرتقبة
لويس إقليمس
بغداد، في 6 تشرين أول 2021
نشرت مؤسسة روبرت شومان الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 4 تشرين أول 2021، تقريرًا للكاتبة "كاثرين ويهتول دي ويندن Catherine Wihtol de Wenden" قدّمت فيها مراجعة مسهبة عن الميثاق الجديد لدول الاتحاد الأوربي بخصوص مشاكل الهجرة وتحديات اللجوء المفرط الناجم عن ضغوط دولية بسبب الحروب التي شهدتها دول العالم المضطرب. وبحسب الكاتبة، فإن الميثاق الجديد الذي وصل مكاتب المفوضية الأوربية قبل عام، وبالتحديد في أيلول 2020، ليس مرجحًا اعتمادُه بسبب خلافات حادة وانقسامات في دول الاتحاد كونه لا يلبي تحديات المرحلة المعقدة. ويعدّ الميثاق الحديث، الثالث من نوعه ضمن سلسلة قرارات المفوضية الأوربية، حيث سبقه الميثاق الأول في عام 2008 والثاني في عام 2014. وبحسب مصادر مطلعة، فإن الميثاق الجديد قيد المناقشة لا يرتقي لشكل معاهدة، بل يقتصر في تصوراته على نوع من الالتزام الأخلاقي والمعنوي بين دول الاتحاد الأوربي إزاء موضوعة الهجرة واللجوء المتنامي صوبَ أوربا وسط خلافات حادة بين الدول الاعضاء نتيجة لانعدام الثقة وزيادة الضغوط الدولية والهجرات الجماعية وطلبات اللجوء المتنامية بلا رحمة باتجاهها.
ما يمكن ملاحظته في الميثاق الجديد بحسب الكاتبة، تقديمه تنازلات أكثر من سابقيه من حيث السعي الدؤوب لتقاسم الأعباء المتزايدة والهموم المشتركة للتصدي للهجمة الشرسة لطالبي اللجوء وقاصدي الهجرة وإنْ تعددت الأسباب والأغراض من ورائها. فهو من حيث المبدأ لا يضع "تابوهات" أمام هذه الغزوة العالمية لبلدان أوربا بقدر ما يسعى لتنظيمها بما يتوافق مع عدالة المنطق والقدرة الاستيعابية المعقولة تفاديًا لأية منغصات أو مشاكل قد تنجم في حالة تفاقم الأزمة وخروجها عن حدودها المعقولة والعادلة وبحسب خصوصية كل دولة عضو معنيّة في المفوضية الأوربية. فما تخشاها دول الاتحاد الأوربي أكثر، خروج الموضوع عن طاقة الاتحاد، ولاسيّما بفقدان السيطرة على الحدود الفاصلة بين دول المغادرة أي العبور ودول الوصول أي الهدف.
هناك دول يصعب الوصول إليها، إمّا بسبب بعدها عن دول العبور أو لصعوبة العيش أحيانًا في أجوائها المناخية التي لا تتوافق مع طبيعة طالب الهجرة أو اللجوء من العنصر الشرقي. لذا تقع خيارات هذا الأخير بالبقاء في أول موطئ قدم للبلد الذي وصلَ إليه بعد رحلة شاقة مضنية محفوفة بمخاطر لاقى فيها متاعب جمّة عبر تجار لا همَّ لهم سوى كسب المال وإلقاء البشر في مجاهيل البحار من دون مراعاة إنسانية ولا ضمير. وهذا ممّا يشكّلُ عبئًا إضافيًا على أرض دولة الوصول الأوّلي والمواطنين فيها. لذا، من الطبيعي جدًا أن يثيرَ هذا التحدّي غضبَ مواطني هذه الدول ويخلق أزمة لحكوماتها التي تعاني أصلاً من أزمات اقتصادية ومشاكل اجتماعية وسياسية قد تصل لغاية التصدّي لأية أبواب تسعى الحكومات المعنية فتحها تسهيلاً لدخول طالبي الهجرة أو اللجوء مهما تعددت الأسباب. ومنها بروز جماعات متطرفة ومتعصبة للأوطان تسعى للحفاظ على طبيعة شعوبها الأصلية وأعراقها وتماسكها ووحدتها. وهنا قد تدخل أهداف غير هذه ضمن مساعي الحفاظ على التركيبة السكانية الأصلية في العقيدة التقليدية وطريقة عيشها وممارساتها الاجتماعية والسلوكية اليومية. هذا إلى جانب المطالبة بالعدالة في مسألة تقاسم الأعباء للتخفيف عن النتائج الكبيرة والعديدة التي تحتمها هجمات اللجوء والهجرة غير الاعتيادية في الفترة الأخيرة واقتران هذه بالمشاكل والأزمات التي ترافقها. كما لا يمكن تجاهل نقاط الخلاف بين دول الانطلاق المحاذية لدول الاتحاد الأوربي ومشاكستها لهذه الأخيرة لأسباب خلافية في السياسة العامة، كما حصل مؤخرًا في الأزمة التي خلقتها بيلاروسيا وإطلاقها العنان لاختراق دول الاتحاد المجاورة مثل ليتوانيا وبولندا بهدف إحداث خروقات أمنية وخلق أزمات في المنطقة، ما يتطلب تعزيز مراقبة الحدود وتعاونًا أكثر في رصد ومنع اية خروقات لمحاولات غير شرعية للاتجار بالبشر.
حفاظًا على الهوية
كما يبدو للعيان، هناك مَن يرى صعوبة في تنظيم موضوعة الهجرة وطلبات اللجوء بسبب الخلافات المتجددة بين دول الاتحاد الأوربي وطبيعة الحكومات وشكل الأحزاب التي تحكمها. في الآونة الأخيرة، طغت على أوربا أحزابٌ يمينية لا تخفي في سياستها شيئًا من التطرف والترصّد لأية محاولات تهدف لإحداث تغييرات ديمغرافية في شكل التركيبة السكانية لتلك البلدان وهويتها الدينية والاجتماعية والعرقية. ولعلَّ هذا من ضمن حقوقها المواطنية. فالشعب هو صاحب الإرادة والقرار في الأول والأخير حفاظًا على صورته واصالته وعنوانه الديني وهويته القومية والوطنية. ومن جملة ما يعنيه مثل هذا الموقف وضع العراقيل الطبيعية أمام تحقيق هدف الميثاق الجديد، ما يعني بالتالي أيضًا ضآلةً وقصورًا في فرص نجاح تحقيقه على مستوى دول الاتحاد.
ومع تواصل الانتخابات العامة وقربها في بعض دول الاتحاد، نشهد عزوفًا عامًا ومعارضة واضحة إزاءَ هجمات الهجرة واللجوء المتزايدة في منهج بعض الأحزاب الوطنية والقومية، لاسيّما في أكثر الدول المعنية بالهجرة واللجوء وأهمّها، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وربما أخرى غيرها اكتوت بنيران هذه الظاهرة المقلقة. إضافة إلى دول المجموعة الاسكندنافية التي تخشى غزوها من مواطني دول شرق -أوسطية وآسيوية وأفريقية. وفي حين كانت هذه الموجات القادمة من شعوبٍ ودولٍ محسوبة حتى الأمس القريب عصبَ التعاون والشراكة معها منذ الحقبة الاستعمارية لحين تعثرها وفقدان شرعيتها وخسارة تبعيتها مرحَّبٍ بها طيلة سنوات العسل الطوال، إلاّ أنّ الصورة تكادُ تختلف اليوم بسبب تطور شكل العلاقة بين دولة الاستعمار القديم والشعوب المستعمَرة (بفتح الميم) بعد تمرّد هذه الأخيرة على شكل التبعية التقليدية. وهذا ممّا خلق مؤخرًا فجوة في التعامل الدبلوماسي بين طرفي المشكلة، حيث بدأت تتشكى هذه الأخيرة وحكوماتُها من قرارات تحدّ من سبل طلبات التأشيرات لأية أسباب كانت، كما حصل مع دول مغاربية مؤخرًا. وقد برز تأثير مثل هذه القرارات على طلبات البحث عن عمل أو لأغراض الاستقرار السكني والإقامة لأفرادٍ ومواطنين يسعون لترك بلدانهم الأصلية بعد شعورهم بخيبة أملٍ فيها أو بسبب مطاردتهم وكظم أحلامهم بحياة مستقرة في العدالة والحرية والديمقراطية التي افتقدوها في بلدانهم الأصلية بسبب حكومات وأحزاب فاسدة سعت وراء مصالحها الفئوية والخاصة. وهذا ديدنُ العديد من الدول الشرق-أوسطية والإسلامية ومنها منطقتنا العربية على وجه الخصوص لا التحديد.
ممّا لا يخفى ايضًا، وجود اتفاقات بينية بين دول الاتحاد الأوربي في مجال تنقل اللاجئين وفق معايير اشار إليها الميثاق. لكن ما يختلف عنه الميثاق الجديد المقترح مع نظيره ميثاق دبلن الأول في 1990، عدم إتاحة الفرصة لطالب اللجوء بالتقديم لخيارات عديدة أتاحها سابقُه. وفيما ينص اتفاق دبلن الثاني الذي أُقرّ في عام 2003 على حتمية تحديد طلب اللجوء في البلد الأولي الذي تطأ أقدامُ المهاجر أو طالب اللجوء وعدم السماح له بتغيير الطلب، ما شكّلَ فجوة وأزمة وغضبًا لدى مواطني هذه الدول التي تشكّل القاعدة الأولى لقاصدي الهجرة أو طلبات اللجوء بسبب معاناتها من كثرة قاصديها وتفضيلها على غيرها من بلدان بعيدة نسبيًا قد تتطلب جهودًا ومساعٍ ومتاعب ونفقات إضافية لبلوغها. وفي حين يشكل الهدف من مشروع الميثاق الجديد إيجاد قاعدة للثقة بين دول العبور ودول القصد وتوازنًا في الإقامة والاستقرار فيها، فإنّ الهاجس الأمني يبقى من ضمن المعالجات والسمات التي لا مناص منها في الحفاظ على الخصوصية الأمنية لبلدان الاتحاد وصونِها من أية مخاطر أمنية تسعى لخلق حالات من عدم الاستقرار أو الإرباك والاضطراب فيها لأغراض وغايات، منها معلومة ومنها ما يزال في قيد الجهل والغباء من جانب حكومات أوربية تعيش في سبات أفكارها الناجمة عن حسن نية وطيب إرادة ومدّ يد المساعدة للغريب المطارَد في وطنه وبين أهله وناسه لدواعٍ إنسانية بحتة. وهنا الطامة الكبرى!
إتزان وتحديات وأحلام 
صحيح أن التحديات كثيرة والمعالجات ضعيفة لا ترقى إلى مستوى التضامن والتآزر تلافيًا لمشاكل أوسع وأكبر. لكن ترجيح العقل والاتزان في التأنّي باتخاذ قرارات بقبول حالات اللجوء والهجرة أيضًا، ضروريٌ للبناء القوي لأسوار بلدان أوربا وصون هويتها والحفاظ على صورتها النمطية الخاصة التي يرى فيها طالب اللجوء أو المهاجر جنة عدن وخير مكانٍ للإقامة والعيش المترف الحر في أجواء تختلف كلّيًا عن محيطه السابق في وطنه الذي لفظَه وطردَه وضحّى بمواطنيته بسبب تفشّي الفساد والإفساد فيه وتعميم مبدأ الدكتاتورية المقيتة في الحكم وطرد الكفاءات والقدرات الوطنية بسبب صعود شرائح تافهة وجاهلة وطائفية لحكم بلدان الشرق-أوسطية والأسيوية والأفريقية، ومنها العربية والإسلامية بصورة خاصة. هذا إلى جانب خطايا عديدة اقترفتها وماتزال تقترفُها الأحزاب والحكومات الحاكمة بالحديد والنار، ممّا لا يتيح للعامة من المغضوب عليهم بلوغ العتبات الأولى من أحلامهم إلاّ بشقّ الأنفس وبعد التعرّض لمخاطر لا حدود لها. 
وإزاء الأبواب المفتوحة على مصاريعها للقادم الجديد، مهاجرًا شرعيًا أو غيره أم لاجئًا، تبقى سلوكياتُه هي التي تحدّد مدى اندماجه وتفاعلَه مع المجتمعات الجديدة، هذا إذا كانت نواياه سليمة وصاحَبتها إرادة قوية في تبنّي حياة جديدة بعيدة عن منغصات عديدة لامسها وعايشها في وطنه الأم الذي هجره لأسباب كثيرة، شخصية وعائلية وربما اقتصادية وسياسية بالتأكيد. ومن المفترض بمَن يخرج من هؤلاء عن حزمة التسهيلات التي تلقاها في بلده الثاني الذي آواهُ واحتضنه بصدر رحب وأيادي ضارعة للمساعدة، أن يكون على قدر المسؤولية الجديدة لا أن ينقل ترّهات وخزعبلات بلده المطارَد منه وينغّص حياة الناس الآمنين فيه. وكما يقول المثل الدارج "يا غريب، كُنْ أديب". وهذا يكفي للبيب والقارئ والمتلقي على السواء! 
هنا، يحق للدولة المستقبِلة للقادم الجديد أن تتخذ الحيطة والحذر في قبولها وخياراتها ومراقبتها ورصدها لأية خروقات طارئة غير مقبولة أو مثيرة للريبة والشك عندما تضع مثل هذه السلوكيات الشائنة البلد المضياف الذي احتضنه في مواقف مخجلة ومحرجة تعرّضُ أمنَه وسلامةَ أراضيه ونظامه إلى الخطر. فليس من المعقول ولا من المنطق ولا من الشرع أو المعتقد، أيًا كانت طبيعتُه، مقابلة الخير بالشر والمحبة بالكره والعون بالتخريب والأمنَ بالخيانة. وهنا فقط، يتوجب على دول المنظومة الأوربية أن تكون جادة في صرامتها باتخاذ ما يستوجبه ويستحقُه مثل هذا السلوك الشائن من إجراءات رادعة وعمليات استبعاد بموجب بنود المواثيق السارية جميعًا من دون تغاضٍ أو إهمالٍ أو تساهل طالما أن المسألة تخص السلامة العامة والأمن الوطني والمواطني لمواطنيها. فعلى هذا الأخير يُبنى استقرارُها وديمومتُها وبقاؤُها قوية ومتماسكة. لذا لا عجبَ أن تُتخذ إجراءات الحيطة والحذر في تسجيل طالبي الهجرة واللجوء ومراقبة الحدود ورصد تحركاتهم المشبوهة، كما حصل في عدة دول راقبت جمعيات خيرية ومراكز ثقافية ومواقع عبادة استغلّت مساحة التسامح الغربي المتيسر لتحقيق غايات ونشر أفكار اصولية متطرفة وأخرى طائفية وتخريبية تضع أمن وسلامة الدولة على المحكّ.
من هنا كانت النزعة الجديدة لبعض الأحزاب الحاكمة والمعارضة على السواء، والتي صحت من سباتها بعد نومٍ عميق، كي تتشارك في مبدأ واحد للحدّ من مثل هذه السلوكيات والحفاظ على سيادتها فوق أراضيها. فيما اتخذت أخرى، وساندتها جمعياتٌ ونقابات واتحادات ونخب وطنية وثقافية واجتماعية، توجيهاتٍ حاسمة في هذا الملف بالدعوة لصحوة وطنية لصيانة مجتمعاتها الأصلية من كلّ غريبٍ دخيل لا يحترم القانون أو قادمٍ غير شرعيّ يبحث عن مشاكل أو داعية يشكلُ هاجسُ التخريب أولى أولوياته من الهجرة، كما حصل في اعتداءات عديدة من هذا النوع. ومن ضمن هواجس الشعوب الأصلية لبلدان الاتحاد الأوربي أيضًا، تأتي الخشية من فقدان الإرث الديني والمجتمعي والمناطقي المتمّيز ومساحة الحرية والديمقراطية الحقيقية التي تزدان بها عموم شعوب أوربا. ولعلَّ هذه المزايا تشكّلُ السببَ الرئيسي في توجه أنظار طالبي اللجوء والهجرة باتجاه هذه البلدان المتقدمة والعيش في كنفها، بالرغم من عدّها في نظر البعض دولَ الكفّار!!!

نظرة إنسانية
عمومًا، تكفي النظرة الإنسانية بعديدة الرؤية المتمثلة بالبطاقة الزرقاء الجديدة التي اعتمدها البرلمان الأوربي في 15 أيلول 2021، في استقبال أصحاب المواهب والمهارات وفي قبول الكفاءات المهاجرة وتأمين إقامتها وتهيئة السبل الكفيلة لراحتها وتقدمها وتطوير مهاراتها الضائعة في بلدانها الأصلية. وإذ تتفق دول الاتحاد الأوربي على مبدأ الشراكة والتكامل في هذا الملف الشائك، فإنها من ناحية أخرى تترك مساحة من الحرية لكلّ دولة كي تقرّر ما يستجيب لطموحاتها وييسرُ تحقيق برامجها وخططها في تسيير شؤون البلاد والعباد من دون خرق للمواثيق والاتفاقات العامة أو خروج شاذٍ عن جادّتها. وهذا ما حصل مع موجات الهجرة واللجوء التي صاحبت ولحقتْ استيلاء طالبان على مقاليد الحكم في أفغانستان، حيث اضطرت دول الاتحاد الأوربي لقبول مئات الآلاف من المواطنين الأفغان الذين تدفقوا موجات متتالية ليتم إضافتُهم على كاهل هذه الدول وحكوماتها المثقلة أصلاً بطلبات لجوء دولية مشابهة، تمامًا كما حصل ومازالَ يحصلُ مع لاجئي سوريا والعراق ولبنان إبّان اشتداد الأزمة وتواصلها لغاية الساعة. وهذا ما بدأ يزرع الرعب في نفوس "الشعبويين" الذين نما حسُّهم الوطني تجاه غلبة الدخلاء والمهاجرين وطالبي اللجوء إلى حدٍّ كبير في بلادهم والمخافة من زيادة تأثيرهم وحضورهم الفئوي والطائفي والعرقي والدينيّ على أصحاب الأرض والتاريخ والإرث. كما أنّ أوربا كما يبدو من تباين سلوكيات الحكومات التي تحكمها بحسب توجهات الأحزاب فيها، ليست في وضع يسمح لها بتقاسم الأعباء بين أعضائها لأسباب كثيرة داخلية وخارجية. وهذا ممّا أفقدها سمة التضامن وسيادة التناقض في النهج الأمني لكل دولة بسبب اختلاف الرؤية في معالجة الخلل والحالة كلّ على حدة. من هنا يعتقد مراقبون أن الاتفاقية الأوربية للهجرة واللجوء الأخيرة التي قدمتها المفوضية الأوربية في أيلول 2020 لن تكون فعّالة بسبب غياب سياسة موحدة للجوء والهجرة التي ماتزال بعيدة في الحسابات العامة.


69
مهرجان بابل انتصار للثقافة العراقية
سلوكيات الدكتاتورية الدخيلة لا تنسجمُ مع طبيعة شعب الرافدين
لويس إقليمس
بغداد، في 3 تشرين ثاني 2021
بين الفعل والقول مساحة قد تتسع أو تضيق كما بين الجِدّ واللعب. هناك مَن يرتضي لنفسه التلاعب بمشاعر الناس واللعب على أوتار هشة دينية أو طائفية أو مذهبية أو عشائرية لم تعد تُؤتي أُكلها بعد تصاعد الصحوة الوطنية والنظرة الإنسانية للحياة ومتطلباتها واتساع آفاق التحرّر من براثن فئات خائبة ومريضة من طبقة رجال السياسة والدين وأرباب الكتاتيب ومَن يواليها بفعل خسارة مكامن جبروتها وحواضن سطوتها في أوساط بسطاء القوم وفقراء اليوم ومَن لا حولَ لهم ولا قوّةَ. وما أكثرهم في زمننا، بعد محاولات حثيثة ومتواصلة من بعض هؤلاء بزيادة حشو عقول العامة واستخدام كل التوصيفات التحذيرية والتهديدية بالثبور والعقاب في الدنيا والآخرة وبحجة الخروج عن عرف اجتماعي هشّ متخلّف. فما حصل من جهاتٍ خائبة ومغرضة قبل أيامٍ من افتتاح مهرجان بابل الثقافي بنسخته الخامسة عشرة بعد انقطاعٍ لسنوات والاعتراض على فقراتٍ ترفيهية وغنائية، لا يمتُ لحضارة العراق وثقافة شعبه بأية صلة. فالعراقيون بطبعهم وطبيعتهم ونفسيتهم أصحابُ سمر ونكتة وضحك وترفيه وطرب. كما أن المناسبات لا تحلو ولا يكون لها طعمٌ ولا لذةٌ إلاّ بالطرب الجميل والصوت الرخيم والأنس البهيج النابع عن فنٍّ رفيع بل فنون تطبَّعَ عليها ذوقُ العراقيين ونكهتُهم المتميزة منذ القدم. 
والحق يُقال، فإنّ مثل هذه العراقيل والمحرّمات غير المبررة لم تعد تنفع مهما سعى وحاول بعضُ أصحاب هذه السلوكيات الهزيلة من كارهي الحرية وأدواتها الديمقراطية في التعبير عن الرأي وإبداء الإحساس والشعور بمساحة شخصية، فردية أو جماعية. "هذه حريتنا! نريد أن نغنّي ونبدع ونضحك ونتسلّى، ولا أحدَ يمنعنا!"، قالها أحد المشاركين في مهرجان بابل الحضارة، طالما لا يوجد ما يسيءُ إلى الذوق العام ويخدّشُ الحياء، إلاّ أللهمّ لدى فئة دخيلة وغريبة اقترنتْ "تابوهاتُها" وتحاريمُها بثقافة قيادة البلد الشرقي الذي فرضَ ومازالَ يفرضُ سطوتَه المذهبية ونظرتَهُ الاجتماعية ورؤيتَه السياسية وثقافتَه المتأسلمة المتخلفة على مجمل شرائح البلد والشارع والنظام في العراق بلا منازع. فهذه بمجملها إنما هي شكلٌ من أشكال الثقافة الدكتاتورية الدخيلة التي لا تنسجم مع طبيعة شعب الرافدين وحضارته وقدراته البشرية والمادية، ما جعل أصحابَ الأرض "إيرانيين" أكثر من شعب إيران نفسه، بل وعشاقًا لها ولقيادتها في فرض قوانين واستنباط ممارسات والإيغال في أدوات التخلّف من ملبسٍ ومنعٍ لمظاهر اللهو والراحة وأشكال الفنون إلا في حدودها الدنيا خوفًا من أدوات غريبة تسعى لعودة أدوات "الأمر بالمعروف"، وكأنّ باري البشر وخالق الأرض والسماء والعناصر ما هو إلاّ دكتاتورٌ مسخٌ يرفض على عباده أيَّ شكلٍ من أشكال الترويح عن النفس ولا يرضى بأدوات الإبداع التي تقبل اللهو المتزن غير الخادش والجدّ في التقديم والعرض وبما يسبغ على البشر راحة الفكر واستراحة العقل بحسب الظرف والحاجة.

 صوتُ الحرية


هنا نقول، إنه بعودة موسم مهرجان بابل الدولي بكلّ فقراته ومنها الغنائية مثار الجدل، وكما كان مخطَّطًا له من الجهة المنظمة، قد انتصرت إرادة الفن وعلا صوتُ الحرية وصدحت الحناجر انتصارًا للعراق وأهله الطيبين وتاريخه العريق. فالعراق كما أعرب الكثيرون ليس بقندهار طالبان، ولا ذليلاً تابعًا للوليّ الفقيه، بل كان ومازال وسيبقى بلد الحضارة والأنس والفن والضحك واللعب والإبداع، بلد السياب والجواهري والبياتي كما هو بلد المسرح والطرب والغناء وموطن أبي نؤاس وشهرزاد وشهريار بعد زوال غمّة الهموم والترّهات الطافية فوق سطوحه بفعل تكالب الطامعين واجتماع الأعداء على خيراته ومقدّراته والعبث بأدواته البشرية بكلّ أشكالِ إبداعاتها وقاماتها وطموحاتها. كما أنه البلد الذي من حضارته صُنعت الحياة في دهاليز الزمن الماضي. وهذا قابلِ العودة والتجدّد بإرادة شعبه بعد إزاحة المعوقات والعراقيل والتابوهات عنه.
صحيحٌ أن شعب العراق يتقبل كلّ المتغيرات ويتلون بحسب الوضع والمقام، إلاّ أنه يتميّزُ بأصالته وحبه للحياة والترف والترويح عن النفس متى جاءته الصحوة، شأنُه في ذلك شأن ايٍّ من شعوب الأرض التي لها تاريخ وحضارةٌ وقدراتٌ بشرية ومادية وإبداعية. فكم بالأحرى ما يتميّز به العراق عن غيره من شعوب المنطقة والعالم. فهو سيّد الكتابة وباني الحضارة ومعلّمُ البشرية في أولى خطواتها العلمية والقانونية. وهذا ما يتيح له التربعَ على عرش التحضّر والتمدّن في كشف القدرات وبيان الطاقات بكلّ اشكالها وتفاصيلها، ومنها مهرجانات الفنون والموسيقى والمسرح والغناء والطرب في إشارة إلى ضرورة عودته إلى الحالة الطبيعية لمكانته المطلوبة بين شعوب وأمم الأرض وعدم حصره في بوتقة التديّن المصطنع ومظاهره الخادعة بأية حجةٍ أو مبرّرٍ أو داعٍ لا مبرَّرَ له أصلاً. فهو بلد الإيمان والمرح على السواء، ولا داعي للمتاجرة بهذه الأدوات الرخيصة. فلو كان أسلوب استمالة مشاعر البسطاء وعامة الشعب بشيءٍ ممَا يدّعي هؤلاء الأدعياء بتخديش الحياء وخرق أخلاقيات المجتمع، فقد بات هذا اسلوبًا غير ذي جدوى، بل قاصرًا ولا يمتُّ للواقع الشعبي المطلوب والرائج بصلة لكونه يعكس رؤية سلبية للمشهد الثقافي والإنساني والوطني، في محاولة للصق تهمة التخلّف بشعب النهرين الخالدين وتطلعات أبنائه وحاجتهم للمرح والرفاهة والترويح والضحك.

بابل تغني من جديد رغم المعترضين

"ألعراق بلد الكرم والأمان والطيبة"، قالته الفنانة الكويتية "شمس" وهي تتجول في شوارع بغداد على راحتها مستبعدة أية مظاهر للحماية. فهي آمنة ومطمئنة على حياتها في بلدها، في بغداد عاصمة الرشيد والمنصور، مدينة الكنائس والمآذن والجوامع وبين محبيها من أصحاب الذوق الرفيع من مجمل الفنون التي أبدعت فيها مدارس ومراكز حيوية وأجاد فيها مطربون وشعراء وعشاق الموسيقى والفن حبًا بالحياة. فيما أضفت مشاركة العديد من الفنانين العراقيين والعرب المعروفين الذين لهم جمهورُهم، لمساتٍ مبهجة على فعاليات المهرجان بتفاعلهم مع الجمهور وتجاوزهم حدود الإبداع المحلّي ليرتقوا إلى مصافي الفن العربي والعالمي في أوسع صوره وأدواته، شكلاً وصورةً وطاقةً. وهذه رسالة اطمئنان للعالم ببدايات طيبة لعودة البلاد إلى دورة الحياة تدريجيًا بالرغم من كلّ المعوّقات والعراقيل والمطبّات التي تضعها جهاتٌ متنفذة أو قريبة من السلطة، دينية كانت أم مدنية مهزوزة بتبريرات عديدة، ومنها جهاتٌ مرتبطة وموالية لدولة الجوار الشرقية التي لا تستأنس ولا ترضى بهذه العودة الطبيعية. فلو كان الهدف من هذه العراقيل بوجه تقديم فقرات غنائية وترفيهية حقًا بقصد تأجيج الأوضاع وخلط الأوراق لمنع عودة العراق إلى حظيرة الدول المتمدنة بعد تراجعه في كلّ شيء غبّةَ غزوه وتسليمه للجارة الشرقية، فهذا شأنٌ خطيرٌ لا بدّ من تفحّصه والتمعن به بعناية حفاظًا على هيبة البلاد ورغبة شرائح كبيرة منفتحة على العالم من شعب العراق الجريح حتى في نزهته وراحته ورفاهته. فقد أثبتت الوقائع أنّ الجارة الشرقية وأدواتُها في العراق لا تريد له خيرًا بل تسعى لإبقائِه متخلفًا خانعًا ذليلاً تابعًا لها خارج معايير الأسرة الدولية في نمط حياة ابنائه وفي واقع عيشهم بعيدًا عن أية مقاييس تضمن لهم الحرية والاستقلالية في العيش والتمتع بالهيبة والسيادة وتقرير المصير بعيدًا عن أية إملاءات وفي استغلال القدرات المادية والبشرية باتجاه التقدم والنموّ والتطور نحو الأفضل.
نقول، حسنًا فعلَ رئيس الوزراء الكاظمي بحسم الجدل حول هذا الموضوع والمضيّ في تقديم كل الفقرات ومنها الغنائية من دون تحفظات متعهدًا بضمان الحماية والأمن كما ينبغي. وبالرغم من ورود بعض ملاحظات سلبية رافقت فقرات العرض من حيث التقديم والديكور والتنظيم كما اعتدنا دائمًا، إلاّ أنّ التهافت اللافت والمشاركة الجماهيرية التي امتلأت بها مدرجات المسرح البابلي الثري طيلة أيام المهرجان، هي من الدلائل على نجاح فعالياته ومساهمتها في إرضاء الجمهور المتعطش لعودة الحياة العراقية إلى طبيعتها وإمتاعه لأيام جميلات. وهذه إشارةٌ إيجابية أيضًا، لحبّ العراقيين للحياة ودعمهم الصادق لأشكال الثقافة والفنون والطرب ورفض أية عناصر ظلامية أو رموزٍ أو أدوات سلبية تريد إيقاف عجلة الحياة وحرية المجتمع بأدوات دخيلة. فالدولة تحتاج رجال "إرادة" كي تثبت القدرة الصحيحة على "الإدارة" الجيدة واضحة المعالم في التعامل مع أشكال هذه العراقيل والأساليب غير المقبولة والتي لم تعدْ تتجانس وتتوافق مع بلوغ الفكر والعقل مراحل متقدمة في إطار عالم الرقمنة والتكنلوجيا المتقدمة التي تجاوزت مثل هذه الترّهات والأفكار المتخلفة التي تريد العودة بالبشرية إلى عصور الظلامية والتخلف. فهذا جزءٌ من حرية الفرد ومن أبسط حقوقه، لاسيّما إذا كانت الدولة بإداراتها وإرادتها هي الكفيلة بضمان سير مثل هذه الفعاليات التي تُعدّ من مفاتيح الترفيه للشعب ومن الدلائل على سعة الفكر والرؤية والمدارك في بناء الدولة والإنسان معًا. ومَن يرفض أشكال هذه الأنشطة الفنية فهذه حريتُه، وحريتُه موضعَ احترام. فهو ليس مكرَهًا بالمشاركة فيها أو التفاعل معها أو متابعة فقراتها التي قد لا تسرُّه. ولا بدّ للحياة أن تتواصل في جميع أوجهها الإيجابية التي تبعث النشاط والحيوية والتجدّد والإبداع في الفكر والرأي والرؤية، كما في تقدّم البلاد ورقيّها إلى مصاف الدول المتقدمة والمنفتحة على العالم المتجدّد كلّ يومٍ وكلّ ساعة وكلّ دقيقة.
من الأعماق نهنّئُ إدارة المهرجان باختتامه بنجاح منقطع النظير، ونشدُّ على ايدي المشاركين من الفنانين العراقيين والعرب وكافة الفرق الفنية، ونسبغ الشكر للجمهور الواسع الذي تفاعل وانسجمَ مع فعاليات المهرجان وفقراته، ولاسيّما الغنائية والمسرحية والراقصة وعروض الأزياء منها على وجه الخصوص. وسنظلُ ننشدُ للعراق ونعمل على تقدمه واستعادة دوره الطبيعي بالتربع على عروش الفن والإبداع والعلم. كما نتمنى له عودة سريعة وآمنة إلى حضنه العربي والدولي بعيدًا عن الدخلاء والأعداء التقليديين وذيولهم وأتباعهم من واضعي العراقيل أمام تطوره. فمَن يدعو وينشدُ لبقائه ذليلاً خانعًا ضعيفًا بلا سيادة ولا هيبة ولا تقرير مصير، ليس من العراق بشيءٍ ولا من أهله الطيبين ولا يؤمنُ بتاريخه الحضاري، ومنها بقايا جنائنه المعلقة التي حيّرت العالم وما تزالُ أسرارُها صعبة الاكتشاف بعد مرور أكثر من أربعة آلاف سنة، إلى جانب شواخص مهمة كثيرة مثل مسلّة حمورابي وأسد بابل والثور المجنّح والملوية والعاشق وأور وغيرها، من دون أن ننسى دياراته وكنائسه ومآذنه ومعابده على مرّ السنين والقرون والأجيال التي تحكي قصصًا رائعة في تجانس الاختلاف والتعايش البشري على مرّ التاريخ. ومَن يسعى لغير هذا، سيكون مصيرُه حتمًا في هامش التاريخ المنسي. فالانتصار أولاً وآخرًا، إنما سيكون للشعب!!!



70
الطفولة، ما أحلاها شكلاً وما أصعبها فهمًا
لويس إقليمس
بغداد، في 25 أيلول 2019
قبل أيام قرأتُ موضوعًا جميلاً في صحيفة فرنسية خصصت جانبًا يسيرًا من إحدى صفحاتها التي تعنى بالأسرة والمجتمع للاهتمام بأبجديات الطفل، ومن ضمنها ما يلحق بحياة الطفولة وكيفية التعامل مع حاجات هذه الأخيرة مع نمو الطفل في القامة ونضجه في العقل. في بعض الدول المتقدمة تبدأ عملية تعليم الطفل إلزاميًا بعمر ثلاث سنوات، إن لم يكن قبل ذلك بقليل في بلدان غيرها، وذلك عبر مؤسسات تربوية رصينة تأخذ على عاتقها هذه المسؤولية التعليمية الإلزامية الأولية، إلاّ إذا تعهدت أسرة الطفل بتوفير هذه الممارسة الإلزامية التي تفرضها الدولة. لكنها تبقى تحت مراقبة مؤسسات الدولة المعنية التي تتابع هذه الخطوة من عمر ثلاث إلى سنوات لكونها الفترة الضرورية التي منها ينطلق الطفل إلى الفضاء الفسيح في عالم التربية والعلوم والتكنلوجيا، وباختصار إلى العالم الفسيح. وهذا ما قمتُ به شخصيًا فيما يخصّ أولادي بالرغم من الأوقات الحرجة التي عشناها في بغداد في فترة الحصار في التسعينات من القرن المنصرم، واتّبعتُه اليوم أيضًا مع أحفادي في مرحلة "الدمقرطة" الخائبة التي تعاني منها البلاد حاليًا، إيمانًا منّي بالواجب الذي يترتب على الآباء والأمهات بالأخذ بيد أطفالهم لغاية تهيئتهم لدخول المجتمع من أوسع أبوابه وهم مسلحون بأدوات التربية والأخلاق والسلوك الصالح.
بحسب مفكرين واختصاصيّين بالطفولة، يكون الطفل بعمر 3 سنوات قادرًا على التناغم مع المحيط الجديد المختلف عن محيطه في البيت وسط الأسرة بمساعدة وإشراف مختصّين ومؤهلين وسطيين للمساعدة في تقبّله للاختلاط بالمجتمع الجديد الذي منه تتكون أولى بذرات تفاعلاته مع المحيط الخارجي بشيء من النظامية والرصانة في الأداء والسلوك. كما أن فائدة مثل هذا الاختلاط المبكر سوف تتيح له الفرصة المتيسرة لتنويع مفردات حديثه وسماع كلمات وعبارات جديدة تدخل في قاموس دماغه لأول مرّة. وهذا ما سيعزّز من قدراته الكلامية ومن طاقاته الحوارية في الحديث مع أقرانه ومع المشرفين عليه. وبحسب اختصاصيين، يكون الطفل السويّ بعمر ثلاث سنوات عادة قادرًا على فهم نفسه وجذب الانتباه لشخصه أي في استخدام كلمة "الأنا" بيسر. وبعمر أربع سنوات تبدأ تساؤلاتُه في الزيادة وفي توجيه الأسئلة والاستفسار عن أشياء يراها أو أخرى تخصّه. وبعدها بسنة يتقدم في ملَكته الكلامية ليتجرّأ على إخراج ألفاظ أكثر تعقيدًا وأن يكون واعيًا لمنطقة سكناه وعنوان داره ومؤسسته التربوية البدائية إذا وُجدت حتى اسم مدينته. كما أنه بعمر ست سنوات يصل إلى تعلّم أجزاء من الوقت وتنظيم أسلوب محادثاته وترتيب كلامه بشيء من التفكير والوعي. وهذا ما تسعى إليه المؤسسات التربوية الأولية لترسيخه وتطبيقه وتحقيقه بما يتيسر لديها من قدرات وإمكانات على تباينها واختلاف مؤهلاتها من مركز لآخر ومن من محيط لآخر ومن بلد لآحر. وبالرغم من أنّ هذه السياقات العمرية ليست قياسًا لما تقوم به من حركات وأنشطة، إلاّ أنها متفق عليها في ضوء دراسات علمية مختصة. وليس من شك مصادفة استثناءات تشير إلى تقدّم ملحوظ في ممارسات بعض الأطفال وفي سلوكياتهم سلبًا أم إيجابًا. فلكلّ قاعدة شذوذ.
عملية تربوية
إذن، هي عملية تربوية أساسية تبدأ بهذا العمر الطفولي من وسط الأسرة أولاً، وتتواصل في أحضان أول مؤسسة تربوية انتقالية يرتادها بدءًا من الحضانة فالروضة والتمهيدي وصولاً لعمر الانخراط في المدرسة الابتدائية النظامية. في هذه الأخيرة، يبدأ الطفل مشواره التعليمي وفق نظام منهجيّ وبخطى حثيثة تأخذ بيده إلى ما يمكنه الوصول من علوم ومعارف وخبرات. من هنا ندرك أهمية ارتياد الأطفال المبكر بعمر الطفولة لأية مؤسسة تربوية حكومية كانت أم خاصة، كي تسهّل عليه تعلّم أولى خطواته اللغوية والاجتماعية والتربوية وفق نظام وسلوك مؤطّر خاضع للتقييم والممارسة ولا تغيب عنه بعض التمارين والتطبيقات والفعاليات الاجتماعية والرياضية والتوجيهات والنصائح التربوية والأخلاقية التي تبقى عادة في الأذهان كلّما كبر الطفل ونما عقلُه وزادت خبرتُه. فالعلم في الصغر يبقى الكثيرُ منه في الأذهان ويترسخ ويدوم ويخلد في الذاكرة. فهو تمامًا "كالنقش في الحجر"، كما يقول المثل. وهذه حقيقة علمية وتربوية لا تحتاج إلى تفسير، وقد أثبتتها الأيام والوقائع.
محيط الأسرة وتفاعلُه
ليس من شك في ما يمكن أن يقدّمه المحيط الأسري للطفل ومدى تأثيره في تكوين شخصيته بدءً من أولى مراحل نموّه حتى اكتمال قدراته البنيوية والعقلية والفكرية. فالبذرة الأولى تخرج من البيت الأسري لتشكلّ أولى ملامح الهوية الشخصية لدى الطفل أي في البذرة التي يتمّ غرسها في أذهانه وفي توجيه سلوكه وحركاته وتصرفاته مع محيطه المصغّر ثمّ مع محيطه الخارجي. قد يلاقي المربون أو المسؤولون عن تربية الطفل ضمن المحيط الأسري أو في أولى المؤسسات التربوية التي يرتادها صعوبات في توجيهه أو ترويضه وذلك بحسب طبيعة تكوينه واستعداده وطريقة تلقيه لشكل التربية الأولية الخاصة. وهذا أمرٌ لا يقبل الجدال. بل هو من المسلّمات بسبب هذه التركيبة المعقدة والبسيطة في آنٍ معًا. وهنا يأتي دور الوالدين الأساسيّ أولاً في بلورة شخصية طفلهم وفي صقلها وتعديل ما يبدو غير مقبولٍ في سلوكه البدائي وفي توجيهه وفق طبيعة تكوينهما الأسري والشخصيّ وقدراتهما واستعداداتهما للتفاعل مع حاجات الطفولة وتنمية هذه الأخيرة. وهذا لا يمنع من توجيه الطفل الاتجاه الصحيح الذي يبني ولا يهدم أو يقف حائلاً دون ترسيخ الصالح في سلوكه وتحاشي ما يضرّه ويقف عثرة أمام تعلّمه الصحيح الذي يترافق مع قدراته في هذه المرحلة الأولية. وهنا لا ينبغي ترك الحبل على الغارب في انجذابه غير المتزن نحو عبادة الوسائل الالكترونية الحديثة التي لا تبني الشخصية ولا تقوّم المؤهلات، بل تجعله عبدًا لها وأداة لشرود الذهن وغياب الإرادة في السيطرة على الذات.
كلّ الأبحاث ومعظم المختصين في مجال علم نفس الطفولة والأسرة يعتقدون جازمين بأنّ شكل الحياة التي يعيشها الوالدان وطبيعة ثقافتهما وتعلّمهما وطريقة تفكيرهما وتوجيهما للطفل سيكون لها أثرها الكبير في غرس أولى بذرات الانطلاق الفردي للعالم الخارجي وفق ما يمليه عليه الوالدان أولاً لغاية تشكيل شخصيته الخاصة والتزام زمام السلوك والحركة والتصرف وفق ما آل إليه تفكيرُه وما يشير إليه عقلُه. وهذا واضح في محيط الأسرة التي يكون فيها المستوى التعليمي والتربوي للوالدين جيدًا وعاليًا حيث ينعكس مثل هذا الواقع إيجابًا على سلوك الطفل وعلى تلقينه الطيب والعالي لشكل التربية الذي يقدم له. فهذا من شأنه تسهيل مهمّة التعلّم السريع للطفل والأخذ بيده نحو شقّ طريقه بأمان ويسر. فتراه فتى صغيرًا تتوسم فيه الكثير من أطباع والديه المثقفين والمتعلّمين حيث يبرز مثل هذا التهذيب في أسلوب حياته في محيطه الأسري تمامًا وبالنتيجة في محادثته واختلاطه مع العالم الخارجي. وغالبًا ما تتراجع هذه السمة أو تكاد تنعدم إذا خلت الأسرة من وسائل عائلية سهلة وحميمة وعاطفية ضمن العائلة الواحدة مثل التحاور والنقاش والتفاهم وتبادل الرأي وارتقاء المفاهيم التي تسهم في إنعاش الحياة اليومية بدلاً من حالة الملل واللامبالاة والإهمال في الحياة التقليدية. وهذه هي حالة الطفل الذي يتربى في أسرة مفككة أو قليلة المعارف أو عديمة التربية والثقافة والتفاهم.
لذا من الطبيعي أن نشهد اليوم في ظلّ ظروف عدم الاستقرار الوطني والمجتمعيّ في البلاد عيش نماذج من هذه الحالة الأخيرة غير الصحيحة لطفولة مهملة وهي تعيش خارج إطار المنزل أو في الشوارع أو تراهم براعم غضة يتفحصون القمامة أو يجوبون في الأسواق العامة بحثًا عن لقمة أو مكسب أو لتلبية حاجات أخرى يدسّها رب المنزل والأم في عقولهم وفي رؤوسهم. وشتان ما بين الشكل التربوي الإيجابيّ الأول وهذا الأخير الذي يزداد وزنُه وتتسع مساحاتُه في البلدان النامية والمتخلفة. وعراقنا ليس ببعيد عن هذا النوع السلبيّ في التربية لاسيّما بعد فقد الحكومات المتعاقبة بعد 2003 للكثير من المواصفات والمتطلبات التي توفر حياة كريمة وتعليمًا إلزاميًا وخدمات آدمية مرفهة لمواطنيها. وهذا ما وسّع من زيادة متنامية في أعداد الهائمين من الأطفال والمتسرّبين منهم من المدارس والمقاطعين للتعليم أصلاً لأسباب عديدة حتّمتها ظروف البلاد البائسة بعد الغزو الأمريكي القاهر والظالم.
وبالرغم من أنّ هذه ليست القاعدة، لكنها من السمات الفرضية والنظرية في علم السلوك والاجتماع والتعلّم. وعمومًا في الحالات السويّة، يكون الاختلاط بمستويات مختلفة من أطفال قادمين من طبقات مجتمعية متقاطعة أو متناغمة في الثقافة وشكل الحياة عاملاً مساعدًا في تسريع تعلّم الطفل وتقبّله لكلّ جديد فيما يخصّ مفردات اللغة بخاصة وفي السلوك اليومي الناضج حين التعامل مع أطفال متباينين في القدرات والسلوكيات ونوع الحياة الأسرية. وهذا ما ألاحظه في حفيديّ منذ ارتيادهما دارًا للحضانة في إحدى مناطق بغداد المستقرّة نسبيًا. ففي كلّ يوم يخرجان عليّ بمفردات جديدة وبعبارات غالبًا ما تكون غائبة في مصطلحات المنزل. هذا إضافة إلى تحلّيهما بالشجاعة في مناظرة المقابل وفي الدفاع عن أطماعهما ورغباتهما الخاصة منذ الآن وفي المحاججة حين الضرورة وفي تساؤلات لا تخطر على البال أحيانًا. وهذا بطبيعة الحال بفضل الثقافة المنزلية وتأثير وتوجيه المؤسسة التربوية، على بساطة هيئتها وتنوع ثقافة القائمين على التربية فيها. وعلى العموم، لكلّ عمرٍ لغتُه وسلوكُه وخصائصُه في تنمية القدرات وتوسيع المدارك وتطوير المواهب.
تغييرات 2013 سيفٌ في خاصرة التربية والتعليم الوطني
لا خلاف على التأثير السلبيّ الذي شكّله الغزو الأمريكي في 2003 على طبيعة قطاع التربية والتعليم في العراق. فقد شكّل تغيير النظام السابق بآخَر بعيدٍ عن أي إحساس وطنيّ، سيفًا قاتلاً في خاصرة العراق والعراقيين حين جرى تفكيك المؤسسات التربوية والتعليمية الوطنية وتدميرها وتحييدها لتحلّ محلّها مؤسسات خاصة رثّة في توجيهها وفقيرة في تعليمها وبعيدة عن الركب العالمي وتطور العلوم والتكنلوجيا في مسيرتها الخالية من أية سياسة للنهوض بواقع التربية والتعليم، إلاّ ما ندر وبجهود فردية من أطراف لها باع في العملية التربوية وأخصّ بالذكر منها تلك المدعومة من جهات دينية، ولاسيّما المسيحية، منها باعتبارها مشاريع خاصة لا تخلو من شعور وطنيّ ظلّت تتمتع به هذه وغيرها قليلٌ من مثيلاتها من دون تردد ولا مواربة. ودليلُنا على ضعف الجهاز التربوي في الحكومات المتعاقبة، ما شاب العملية التربوية والتعليمية من تخلّف وتراجع في عناوينها ومناهجها وبرامجها وعزف واضح للتربويين في نقل خبراتهم والانخراط في أغلب المؤسسات التي أصابها الهون والتراخي في جلّ أسسها واستراتيجيتها التي اختفت منها أية نسمة هواء وطنية وإنسانية وتنموية. هذا إضافة للزيادة المطردة في أعداد الأمّيين والمتسربين من المدارس ومفترشي الأرصفة والعازفين عن التعلّم لِما أصبح يشكله هذا الأخير من إعاقة في تطوير القدرات ورعاية المواهب. فالواقع يشير إلى تراجع المؤسسات التعليمية في العراق بعد 2003 إلى مستويات دنيا، بل خارج المعايير الدولية بعد ان كانت خلت البلاد من آفة الأمّية قبل غيرها من شعوب المنطقة في بداية السبعينات من القرن المنصرم ونالت العديد من المؤسسات التعليمية آنذاك تقدير واستحسان الدول المتقدمة. بل كانت جامعات البلاد ضمن أفضل جامعات العالم في تصنيفها حتى أضحت بعد سقوط النظام السابق في الحضيض. 
من هنا، تكون الطفولة في عمومها قد تعرّضت لنكسة في جوهر كيانها بسبب نقص الرعاية وغياب توفير مستلزمات الدراسة التي أضحت تشكّل عبئًا إضافيًا على الأهل في التربية الأسرية وفي مسألة توفير لقمة العيش والنقل، علاوة على ما شكّله ومازال يشكّله الهاجس الأمني والأوضاع غير المستقرّة في عموم البلاد وتنامي ظاهرة الفساد في المؤسسة التعليمة على غرار مثلاتها في قطاعات أخرى. هذا إذا أضفنا إلى هذه وغيرها بالمجموع ما يمثله انتشار العصابات والمافيات من مخاوف جمّة على الأطفال وعلى ارتيادهم للمؤسسات التربوية والعلمية خوفًا على حياتهم وتجنبًا لمصير غامض قد يلحقهم. وفي اعتقادي أنّ كلّ هذا التراجع يعود في أحد أسبابه الرئيسة إلى تراجع دور البيت أولاً في توجيه الأبناء نحو العملية التعليمية وإلى التراخي في الجانب التربوي العام وغياب استراتيجيات التعليم للدولة بكلّ مؤسساتها وإلى غياب التنسيق بين الجهات ذات العلاقة في توفير الأجواء الطبيعية المناسب لمرتادي هذه المؤسسات.
سؤالُنا، متى نشهد تطورًا إيجابيًا في شكل التعليم بالعراق وفي نوعيته وأدواته واستراتيجيته الوطنية الخالية من كل شوائب الزمن القائم بعد 2003، ومنها الطائفية والمذهبية والعنصرية التي تقوّض الفكر وتغلق العقل وتأسر الإرادة بترّهات وتخاريف هذه جميعًا؟؟؟
 


71
انتخابات تشرين "المبكرة" 2021، وأسرارُها   بين الخاسر والرابح
لويس إقليمس
بغداد، في 14 تشرين أول 2021
الآن، وبعد أن كادت حرب الانتخابات البرلمانية "المفصلية الجزئية" في العراق تضعُ أوزارَها، وعرفَ كلُّ حزب أو سياسيّ أو مواطن أو مهتمّ أو متابع حجمَه وثقلَه وكشفَ عن رؤيته وتوقعاته وأمله بما ستؤولُ إليه أوضاع البلاد في الأسابيع المقبلة، كان لا بدّ من مراجعة صحيحة لمجريات الأمور ما قبل يوم الاقتراع من أجل الوقوف على احتمالات ما بعده. لن أدخل في تفاصيل نسبة المشاركة والتقاعس الشعبي الواضح في الإدلاء بالصوت الانتخابي، ولاسيّما عزوف جيل الشباب المتمرّد حدّ النخاع على تفاقم الأوضاع عامةً. فما ذكرته مفوضية الانتخابات عن نسبة مشاركة أولية بحدود 41% لم يكن دقيقًا في المقاييس الدولية في اعتمادها لهذه النسبة باحتساب عدد البطاقات البايومترية المصادق عليها، وليس وفق نسبة مَن يحقّ لهم التصويت من المجموع العام للطاقة البشرية المسموح لها بالتصويت. وبموجب هذه البطاقات، سواءً المستلمة منها أم التي لم يتم استلامها وتبلغ أكثر من مليون ونصف المليون بطاقة، فإنّ المراقبين قدّروا نسبة المشاركة الفعلية ب 34% كحدّ أعلى، فيما أشار سياسيون ومراقبون غيرهم عدم تجاوز نسبة المقترعين من مجموع مَن يحقّ لهم الانتخاب أكثر من 20% أو تجاوزها بقليل. كما أننا لا يمكن أن نتجاهل المشهد العام الذي أدى إلى انحسار المشاركة الواسعة كما توقعها الجميع بالرغم من الجهود المبذولة في الدعوة لمشاركة واسعة سواءً من شرائح نخبوية وثقافية واجتماعية أو من مراجع دينية أو منظمات دولية ومحلية ناشطة، وذلك بسبب فقدان الثقة بمعظم الطبقة السياسية الفاسدة حدّ النخاع، والتي تقف وراء تدني نسبة المشاركة في التصويت.
بطبيعة الحال، هناك أسرارٌ كثيرة قد يتم الكشف عنها في قادم الأيام والأشهر عندما يجلس المتقاسمون الجدد للسلطة التشريعية والتنفيذية على طاولة الكعكة المنتظرة في الدورة الخامسة من مجلس النواب الجديد. ولا بدّ من القول، بروز لاعبين جدد على المشهد السياسي. فإنّ نظرة عابرة على الأسماء الأولية المعلنة الفائزة تشير بحصول تغيير جزئيّ انتقاليّ في الوجوه، مع بقاء أو عودة بعض الوجوه القديمة للدورات السابقة. لكنّ ما يُشارُ إليه أكثر، غياب أسماء لزعامات كانت تمثّلُ الشرَّ بعينه بتسيّدها المشهد السياسيّ وسطوتها على مقدرات الدولة وتحكّمها بكلّ صغيرة وكبيرة، ما كان السبب في ضياع الزخم الوطني الغائب طيلة السنوات العجاف منذ عام السقوط وطيلة ثمانية عشر عامًا من غياب سيادة الدولة وهيبتها واهتزاز الأمن والطمأنينة والاستقرار وغياب الخدمات بكل أشكالها، المدنية منها والبلدية والتعليمية والتربوية وحتى الأخلاقية. هذا إلى جانب التسبّب بهشاشة الوضع الاقتصادي المتردّي وضعف العملة الوطنية وانحسار الحقوق المائية للبلاد بسبب تحكّم دول الجوار والمنبع واستهتارها بالحصص المائية كما تنصُّ عليه اللوائح والقوانين الدولية، حيث لم يكن للجانب العراقي تلك القوّة الوطنية والحجة التفاوضية لفرض حصصه المائية مع الجارتين تركيا وإيران بصورة أدقّ. ويبدوا أن مقولة "المجرَّب لا يُجرَّب" و "لا يُلدغُ الحرُّ من جحره أكثر من مرتين"، قد لاقت مآلهَا ونالت استحقاقَها ولو في أدنى صورها هذه المرة.

آمال وتوقعات
وسط الموج الهائل من كيد التهم بين الشركاء الأضداد والفرقاء الأعداء، والرفض الصارخ للنتائج الأولية المربكة لمجرى الانتخابات لاسيّما من داخل البيت الشيعي الخائب هذه المرة، برزت أصواتٌ متفائلة نسبيًا بغدٍ أفضل بعضَ الشيء بعد ملاحظة بصيصَ أملٍ في التغيير بصعود وجوهٍ جديدة وخلخلة قواعد اللعبة. فالجميع يترقب الأحداث بشيءٍ كثيرٍ من الأمل والرجاء بحصول ما كان يعتمرُ عقول وأفكار أبسط مواطن عرفَ مأساتَه طيلة فترة التغيير الدراماتيكي منذ 2003، عندما وقع ضحية فساد أحزاب السلطة والمنظومة السياسية المحاصصاتية التي كلّما تجددت دورات الاقتراع زاد معها فسادُ الساسة وتخاذلُ الحكومات بكلِّ أشكال الكذب والنفاق والخداع والإهمال والضحك على ذقون البسطاء الذين اكتشفوا اللعبة بعد أن لُدغوا من جحورهم مرارًا وتكرارًا. وفي العموم، يمكن القول إن الشعبَ قالَ كلمتَه، ولو جزئيًّا، في هذه المرّة بانتظار ما يترقبُه من تغييرٍ وتصحيحٍ في مسار العملية السياسية والنهج الحكومي. عساه لا ينخدعُ مرةً أخرى بقدوم مَن ادّعى ومازال يدّعي الإصلاح وإخراج البلاد من بوتقة الفساد وتسيّد السلاج المنفلت وتزايد تحشيد الدولة العميقة وفرض أدوات الخنوع للدخيل والغريب وطغيان صبغة الولائيين على مقدّرات البلاد على حساب الوطن والمواطن.
لقد أثبتت السنوات العجاف الثمانية عشر المنصرمة، عجزًا واضحًا في القرار الوطني وهشاشة في التخطيط وفي وضع الاستراتيجيات وتطبيق البرامج الحكومية والعمل بالقوانين السارية، حيث ثبت بما لا يقبل الشك، عدم قدرة الجهاز التنفيذي وعجز ملاكاته في تطبيق القانون وتنفيذ الالتزامات الوطنية بسبب ضعفه الواضح وعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب نتيجة تفشّي المحسوبية والمنسوبية الحزبية والطائفية والعرقية والعشائرية وتخييرها على الكفاءة الوطنية. ومنها كان فقدان كفاءات وطنية اضطرّت لترك البلاد والأهل والمدينة والقرية بحثًا عن ملاجئ أمينة تقدّرُ الجدارة الإنسانية والنخبوية وتحترم الكفاءة العلمية والثقافية. وهذا ما نلاحظُه ونسمعُ به يوميًا من بروز كفاءات عراقية وارتقاء شخصيات وطنية مناصب ومراكز متقدمة في دول الاغتراب. بل كان من بين هذه الكفاءات، مَن تسلّمَ مواقع مهمة في هذه البلدان بجدارة تفوق كفاءة ابن البلد الأصلي الذي واجه ومازالَ يواجه سلطة طاردة للكفاءات وأشكال الاستثمار فرص الإبداع والعمل بسبب عدم تمكين القطاع الخاص بأخذِ دوره الطبيعي في تنمية الابلاد وتطوير الصناعة والزراعة مهما تعددت الأسباب. والسبب غياب الاهتمام الواضح بالإنسان العراقي صاحب المبادئ الوطنية لكونه شوكةً في عيون ولائيّي أحزاب السلطة التي تقف عائقًا أمام طموحاته الكبيرة بسبب أطماع هذه الأخيرة وأفعال أفرادها الفاسدة الباحثة فقط وراء الإثراء غير المشروع على حساب الوطن والشعب. وفي الواقع، كلّما أوغلَت هذه الشرذمة المتسلطة على مقادير الدولة في التبجّح بالمطالبة بقيام دولة أو مكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين، تبيّنَ كذبُها وخداعُها وزادت من نفاقها ودجلها. فالدولة عبر الحكومات المتلاحقة السابقة كانت أسيرة هذه التوجهات وحبيسة أشكال هذه الأفعال الشائنة التي سطت على المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي بأمثال مزوّري الشهادات، وما أكثرهم!
لعلَّ من ضمن التوقعات بأمل جديد قادم، حصول توافق واتفاق بشأن علاقة المركز بالمحافظات ولاسيّما تلك التي تسعى منها للتمتع بصفة إقليم بحكم لامركزي، كما هي حال إقليم كردستان الذي قطعَ أشواطًا متقدمة باتجاه إعلان دولة مرتقبة حين اكتمال أسسها وصفاتها ومؤسساتها بعيدًا عن هموم المركز المهادن والمجامل والمخادع والنائم في سباتٍ عميق. فبسبب هذه العلاقة المشبوهة بين الطرفين، وقع الشعب وحقوقُه الوطنية المشروعة العليا ضحية توافقات واتفاقات وتنازلات عبر الحكومات المتعاقبة التي سعتْ كلّما وقعت في ورطة تشكيلها لكسب ودِّ سياسيّي الإقليم للحصول على موافقتهم وتمرير الكابينة الوزارية أو الموازنات السنوية بحثًا عن مكاسب ومغانم وامتيازات وما سواها. هذا إلى جانب تحسين الأوضاع العامة للمواطن العراقي بكلّ أشكالها وانتشال الشرائح المسحوقة من قاع الفقر والبؤس وسوء الخدمات والإهمال والبطالة. فما طرحه زعيم التيار الصدري الحائز على أعلى نسبة من الأصوات وطمأنته للشعب بقيادة دفة البلاد والعباد وفق منظورٍ وطنيّ بعيدًا عن تدخلات الخارج من دول الجوار والعالم نصرةً للشعب والوطن، وإعلانه أن لا مكان بعد اليوم للفساد والفاسدين وبضرورة حصر السلاح بيد الدولة، تبدو هذه الأفكار جميعًا وغيرها ممّا خفي للناظر والمترقب، صفحة جديدة مختلفة عن برنامج حكومي مرتقب ينوي تحقيقه و"فرضَه" بما يتيسرُ له محليًا من موقع شعبي وأتباع عقائديين مستعدّين لفعل ما يقولُه ويأمرُه ويفرضُه عليهم، زعيمًا عقائديًا حدّيًا لا يقبل الوسطية التي تخرج عن طوعه وعن إطار الانتماء للوطن والشعب قبل ايّ مسمّى آخر.
معوّقات وعراقيل وشكوك
الساحة السياسية في عمومها، ليس في العراق فحسب بل في معظم بلدان المنطقة والعالم التي تعيش ديمقراطيات فتية غير ناضجة، من الطبيعي حصول إحباطات سياسية وتحديات شخصية وقيام صراعات شرعية وغير شرعية لا تخلو من توجيه تهم وعمل مكايد وأشكال التسقيط والتشهير بل وأحيانًا التهديد العلني والضمني بسبب نتائج الانتخابات. وقد بدأت أشكال هذه البوادر في البروز منذ يوم إعلان النتائج غير النهائية والأيام التالية. ومازال التوتر قائمًا وفي زيادة مفرطة من جهات ولائية ترفض النتائج المعلنة وعدّها مفبركة. والأخطر من هذا وذاك، يكمن في حالة تدخل القضاء أو جهات خارجية في أية مساعٍ لتغيير اللعبة وقلب الطاولة بحجة الحفاظ على الشفافية والرضوخ لتوجيهاتٍ من خارج الحدود، تمامًا كما كان يحصل في سابقات الدورات في ترتيب المقاعد وفق مقاسات الأحزاب المتنفذة ومَن يقف وراءها.
لذا من الطبيعي ألاّ تجري الأمور بسهولة. كما لن تكون الأرضية مفروشة بالورود والرياحين أمام الجهة التي تترقب تصدّرَ المشهد السياسي أكثر من غيرها بفضل ما اكتسبته من اصوات ومقاعد تعتقد بقدرتها على تقديم الحلول لكلّ المعوّقات والعراقيل المتوقعة، وهذه لن تكون قليلة البتة. وما على المفوضية إلاّ الردّ على الطعون والشكاوى وحلّ الإشكاليات المتوقعة في مسألة تغيير مسار النتائج النهائية وفق القانون وليس غيره بالقبول بالضغوط من اية جهة كانت. فعدم الإعلان عن النتائج النهائية بحسب الوعد بعد ساعة من إغلاق صناديق الاقتراع وتأخيره ساعات بل أكثر من نهارٍ لأية اسبابٍ كانت، فنّية أم غيرها، يضع مصداقيتها على المحك. بل بدأت الهواجس بالبروز، فيما دبّت شكوك حول صحة الإجراءات وتأخير الإعلان لفسح المجال أمام طعونٍ أكثر خلال المدة الممنوحة.
هنا لا بدّ من الإشارة، إلى أنه بالرغم من الترحيب الدولي بما جرى يوم 10 تشرين وبالرغم من نسبة المشاركة الضعيفة لليوم المفصليّ المنشود، إلاّ أنّ جهات رقابية دولية ومحلية لم تخفي هواجسها ممّا شابَ هذه الانتخابات من عراقيل ومخالفات وخروقات انتخابية، سواءً من قبل أحزاب السلطة أو المرشحين أو المراقبين المنتدبين عن هؤلاء قبل أو يوم العرس الكبير أو ما بعدها. ففي النهاية، كلّ هذه الأمور لا تهمّ المنظمة الدولية التي راقبت المشهد عن بعد أو قرب، ولم يكن لها عينُ الإشراف الحقيقي على العملية الانتخابية برمتها، كون هذه الأخيرة "وطنية" وتخصّ الشعب والأحزاب المتحكمة بمصير هذا الأخير. وبالتالي، لا يهمّها مَن سيعتلي المشهد السياسي أو مَن سيكون على رأس السلطة التنفيذية، طالما أنّ مصالحَها مضمونة لدى هؤلاء أو لدى غيرهم، سواءً بسواء! ومن ثمّ، لا معنى لما صرّحت به ممثلة الأمم المتحدة في العراق بوصفها المجاملِ والمداهنِ للمشاركة الانتخابية الشعبية "الواسعة" التي تضمن انتخابات نزيهة. بينما لم تشر العديد من المنظمات التي راقبت عملية الاقتراع إلى الأسباب والحيثيات الحقيقية التي جاءت ردّا على عزوف الكثير من المواطنين عن المشاركة الواسعة الحقيقية في العملية، إلاّ ما ندر. فانعدام الثقة بالمنظومة السياسية باسرها والتعاطي الاستعلائي لما شهدته ساحات تشرين منذ انطلاقتها في عام 2019 والاستهتار بسواقي الدم التي سالت من صدور وأجساد المنتفضين ضدّ الطبقة السياسية الفاسدة، كلّها دلالات على فقدان هذه المصداقية بالعملية السياسية وبمن تولوا المشهد السياسي منذ 2003 وبحثهم عن مصالح خاصة ومكاسب ومغانم من الكعكة، على حدّ تعبير العديد من النواب الذين أثروا بصورة فاحشة من منظومة العملية السياسية الفاشلة. ويكفي تصريح أحد النواب السنّة الذي تولى رئاسة البرلمان في دورة لم يكمل معها رئاستَه، قوله: "لا يهمّنا مَن يتسلّقُ الرئاسة ولا مسؤولية إدارة الدولة، طالما يؤمّنون لنا حصتنا (كّياتنا).
صراع على الرئاسات
لعلَّ من ضمن الصراع المتوقع على المواقع الرئاسية التي أصبحت تقليدًا طائفيًا غيرَ مرحَبٍ به بين المكوّنات الرئيسية في البلاد، سعيُ جهات مغمورة باختراق العرف المتبع منذ تشكيل أول كابينة لرئاسة مجلس الوزراء. وهذا ما لوحظ بوضوح قبل فترةٍ من إنجاز العملية الانتخابية عبر زيارات مكوكية وعمليات تفاوضية بين زعامات الكتل الكبيرة. وبالرغم من كون المنصب خدمة وتكليفًا وليس امتيازًا وتشريفًا، إلاّ أن العديد من الساسة المتنورين وجماهير النخب لا يرون في هذا العرف استحقاقًا مقدسًا مدى الحياة. فالكفاءة والجدارة في تبوّء المواقع الأولى ينبغي أن تكون لها الأولوية وليس انسياقًا وراء فوزٍ حزبيّ أو عشائريّ أو طائفيّ أو عرقي دون سواه. وإنّ أيَّ تأخيرٍ في حسم هذا الشأن سيزيد من تعقيد المشهد السياسي. فالعراقيون ومصالح الوطن العليا لن تتحمل عبئًا إضافيًا وهزّات جديدة تزيد من المعاناة أكثر ما هي عليه فيما متوقع من الصراع المرتقب بين الجهات الفائزة المغمورة والخاسرة المتضررة.
قد تكون الأيام القادمة حبلى بكلّ توقعات، سيئة كانت لا قدّرَ الله، أم مُسِرّة بعونه تعالى. لكنْ في العموم، هذه فرصة العراقيين المتاحة ولو في أدنى درجات بداياتها للتخلّص من أدران وخطايا ساسة المفاجأة كما حلا للبعض وصفهم. وعليهم ألاّ يضيّعوا فرصة النجاة هذه المرّة بالرغم ممّا شابَ العملية الانتخابية من مساوئ، سواءً بعدم المشاركة الواسعة التي ترقبها الجميع، أم بسبب عدم صعود أسماء تكنوقراط ومهنيين مشهود لهم بالكفاءة والوطنية والمهنية، أو بسبب تسيّد أحزاب السلطة للمشهد السياسي مع الاختلاف الجزئي بتقديم وجوه جديدة أو ناعمة تابعة لها وبعناوين لأفراد مستقلين وأحزاب حديثة تبدو للناظر ذات استقلالية، لكنها في واقع الحال كانت مناورة شيطانية لإبقاء السطوة على الحكم. فليس من المعقول البقاء في جهالة عدم قراءة التاريخ والاستفادة من دروسه والانتقال من "حالة المأساة إلى حالة المهزلة" على حدّ قول الفيلسوف كارل ماركس.
الرابحون والخاسرون
باختصار، أحد الرابحين الكبار في الدورة الخامسة من الانتخابات التشريعية الأخيرة في العراق، هي الجهة التي ستتولى السلطة التنفيذية وتفرض أجندتها، الحزبية والعقائدية وتفرض سطوتها على مؤسسات الدولة من منطلق الأحقية بالسلطة قبل غيرها متفاخرة بإرثها الجهادي والنضالي مثل سابقاتها. وهذا أتعس الخيارات المتكررة من جانب مَن تولوا سابقًا زعامات البلاد وفق نظرتهم الناقصة للأحداث وقصر رؤيتهم في بناء دولة مواطنية قوية يحظى فيها الانتماء للوطن بمقام القدسية وليس في تقديس الإرث والأشخاص وأشكال النضال والجهاد عبر المتاجرة بالدين والمذهب والطائفة وبأرواح ودماء الشهداء الذين راح معظمُهم ضحية الدجل والغطاء بالدين والمعتقد والطائفة. إلاّ أللّهمَ إذا صدقت الحكومة القادمة في قولها ووعدها وتطبيق برنامجها "الوطني" لتكون رفاهة الشعب وأمنُه وسلامتُه ومعه تنمية الوطن واستقرارُه الاقتصادي والاجتماعي من أولوياتها بتحقيق مبادئ العدالة والمساواة والكفاءة من دون تمييز أو تحيّز أو ميلٍ للعرق والمذهب والطائفة.
أما ثاني الرابحين من الانتخابات التشرينية، فهُمْ آلاف العراقيين من البسطاء والباحثين عن لقمة عيش إضافية تلقوها من جمع مخلّفات اليافطات والدعايات الانتخابية بالاستفادة من كوم القطع الحديدية والخشبية التي جمعوها من الشوارع والجزرات الوسطية والجدران التي ملأت هذه المواقع وتزيّنت لأيام واسابيع بصور جميلة لمشرحين ومرشحات. وفي هذا المشهد التقليدي الغريب يكونون قد ساهموا ايضًا من حيث لا يدرون مع أجهزة أمانة بغداد والبلديات في مختلف المحافظات بحملة تنظيف شعبية لإزالة المخلفات طوعًا وبطرق بدائية مضحكة أحيانًا ومبكية في غيرها. فهذا كلّ ما يحصلون عليه من تركة نواب الصدفة. فهُمْ مثل غيرهم لم ولن يعوّلوا على وعود عرقوبية مثل ما حصل في الدورات السابقة. فهذا مكسبُهم الوحيد والأفضل في زمن الزنق والفاقة والحاجة.
فيما الخاسرون فيها، أشخاصًا وأحزابًا، ما عليهم سوى عضّ الأصابع ومراجعة النفس. فلن يفيدهم الندم، لاسيّما في حالة إقرارهم بكونهم من شلّة الفاسدين الذين لفظهم الشعب بعد إدراك الأخير كذبَهم وخيانتَهم للأمانة الوطنية وللناخب اللذين أوليانهم الثقة. هكذا هي رقصة الغجرية، متعة الراقص ولوعة المتفرّج والوعد بيومٍ قادمٍ أفضل! وبالتالي، فهذه هي معايير الديمقراطية، شئنا أم أبينا.
باختصار، هذه فرصة أخرى لتعديل المسار السياسي وفق منهج وطني يأخذ في الاعتبار حاجة المواطن وحق الوطن بالاستجابة الفعلية للحراك الشعبي الذي قاد التغيير قبل سنتين وفق معطيات جديدة لا تقبل المساومة في هذين العنصرين الأساسييّن. والمساران يستوجبان حقائق جديدة في المنهج والسلوك والإدارة والإرادة معًا. ومن دون هذه الأساسيات في السياسة لا يمكن للوطن أن يتقدم ويتطور. كما سيكون عسيرًا على اقتصاد البلاد أن يتطور ومعه تطور عجلة الزراعة والصناعة والعلوم والتربية والأخلاق والاجتماع وكلّ ما يساهم في بناء الوطن والمواطن بإشراك جميع المكوّنات وفسح المجال الحقيقي للقطاع الخاص للإبداع والتطوّر.
 


72
عربة التغيير من تونس إلى العراق، متى يحين وقتُ انطلاقها؟
لويس إقليمس
 بغداد، في 27 تموز 2021

ما تشهدُه تونس هذه الأيام من فوضى تكتنفها، سياسيًا واقتصاديًا ومجتمعيًا وصحيًا، تشيرُ إلى بلوغ السيل الزبى، بعد تجاوز إخوان النهضة كل ّ الحدود الوطنية ومحاولتهم زيادة التوسع في السلطات على حساب الأحزاب الليبرالية والعلمانية الوطنية. وجاءت القرارات الجريئة لرئيسها "قيس سعيّد"، بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الوزراء الإخواني ووزراء النهضة، لتضع حدّأ لمدى الاستهتار الذي بلغته حكومة المشيشي برعاية الغنّوشي، رجل الإخوان، الذي فقدَ مصداقية غالبية الشعب الذي عرفَ عيش الحرية "البورقيبية ". وهذا ما دفع سائر الأحزاب الوطنية المتحررة للثورة ضدّ المنهج الإخواني الذي أدخلَ البلاد والشعب في نفق الظلامية والتراجع في الحرّيات وفي رفض احترام الرأي الآخر المعارض. لقد بات مؤكدّا صعوبة التعامل مع نظام الحكم الإخواني الذي زرعَ الفوضى واشكال الفساد في كلّ مرفق من مرافق البلاد، وضرب عرض الحائط كلّ العهود والوعود الانتخابية بانتهاج سياسة وطنية حرة مستقلّة بسبب ارتباطاته ب"الإخوانية الدولية" التي تسعى ضمن مبادئها لفرض ايديولوجيتها الدينية والطائفية والحزبية الضيقة على الأمم والشعوب والدول ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
في ضوء الإجراءات الجريئة الصادمة الأخيرة، تكون الرئاسة التونسية الرشيدة وإدارتَها القوية قد وضعت يدها على قفل الأمان لتسيير عربة الوطن باتجاه التغيير المرتقب في المنهج بعد اشتداد الخلاف بين الأفرقاء، ووسط تجاذبات واتهامات تعمّقت مع مرور الأيام. ومن الملفت عدم محافظة الأحزاب القائمة بعد سقوط آخر نظامٍ "بورقيبي" متهم بالفساد، على المبادئ التي جاءت من أجلها إلاّ نادرًا. ولعلّ ما أبداه حزب الدستوري الحر بزعامة المرأة القوية وصاحبة الكاريزما والصوت النضاليّ الوطنيّ "عبير موسي" من مجاهدة وعناد وطني في معارضة البرنامج الإخواني في الحكومة والسلطة، يقع ضمن مبادئ الالتزام الوطني بالحداثة والتطور التي كان انتهجها الرئيس الراحل "بورقيبة" في طريقة بنائه لتونس ورفع شأنها عربيًا ودوليًا. وليس من شكّ تعرّض الصفّ الإخواني وسط زحمة هذه الأحداث، لصدعٍ داخليّ واهتزاز في مصداقيته بعد تراجع شعبيته بسبب الاختلال في سلوكياته الحزبية واتّباعه سياسةً غير وطنية وبعيدة كلّ البعد عن النهج الديمقراطي الذي اعتاد عليه الشعب التونسي المجاهد. ومن المؤسف أن يقع الشعب التونسي المعروف تاريخيًا بوعبه الوطني والديمقراطي، صيدًا سهلاً للتيار الإخوانيّ المتطرّف الذي أراد بغطاء الدين أيضًا، بناءَ أمجاده وتعزيز سلطاته على حساب حرية هذا الشعب العريق والمبادئ التحررية والليبرالية التي سار عليها بنيانُ البلاد على عهد بورقيبة على أسس حداثوية بعيدًا عن الروح الطائفية والتشدّد ورفضًا لأية مظاهر متخلّفة في المجتمع ومنافية لروح العصر قبل أن يتحول هو ومن خلفَه لاحقًا إلى حاكمٍ أوحد في تسيير شؤون البلاد والعباد.
وكما انتهى دور الحكم الإخواني القصير سيّء الصيت نسبيًا في مصر، هكذا سيوُضع الغنوشي وأتباعُه من غوغاء الفساد في سلّة المهملات وإلى مزبلة التاريخ بعد أن أفقر الشعب ورمى بالبلاد في ضنك الفوضى والتخلّف لابتعاده عن مشروع البناء الحداثوي الوطني لبلاده واستغلاله المنصة التشريعية في سنّ قوانين على مقاساته الأيديولوجية بهدف السطو على إرادة الشعب بالقانون. فكان من نتائج هذه السلوكيات ضيقة الأفق أن عمّت البطالة واشتدت المعارضة وزادت أعمال العنف وتفاقم غلاء المعيشة إضافة إلى ما تركته أزمة كورونا من آثار سلبية على المجتمع ككلّ. ويُؤخذ على حكومة المشيشي الإخوانية عدم اكتراثها بمصلحة الشعب العليا وتركيز جهودها على طريقة فرض السطوة الإخوانية تحقيقًا لمبادئ تنظيم الإخوان الدوليّ بنشر الفوضى وزعزعة المنطقة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً من أجل إبقاء شعوب هذه الأخيرة تشعر بحاجة مستمرة بحثًا عن وسائل العيش من أكل وشرب وقوت يومي ونسيان بناء الإنسان الحضاري المتمدّن وتحقيق الرفاهة والتطور التي كانت من أحلام "التوانسة" بعد التغيير. فتحقيق مثل هذه الأهداف والأغراض المشبوهة في نظر التنظيمات الأيديولوجية سواءً التشيعيّة منها أو الإخوانية على حدّ سواء، يعني من جملة ما يعنيه إيمانُها العقائدي بكلّ أشكال العبث بمقدّرات الشعوب والدول الناشدة للحرية والأمان والاستقرار والرفاهة والعيش الآدمي، والسير بعكس عقارب ساعة الحرية والديمقراطية التي تؤمن بها سائر شعوب الأرض المتمدّنة التي تعرف احترام البشر وتقدّر نِعَمَ السماء للجميع من دون تمييز ولا فصل ولا تعنيف.
تناظر في المواقف بين تونس والعراق
يُقالُ بأن "السياسة تقوم على سوء الظنّ". وسوء الظنّ يعني الشكّ في الآخر، مهما كان موقعُ هذا الآخر أو منصبُه أو أداؤُه أو دينُه أو قربُه من صاحب القرار. كما أنّ مسألة سوء الظنّ في الحكم تعني التروّي في أيّ سلوك أو رأي في دهاليز السياسة مهما تعمّقت خبرة الشخص في هذه الأخيرة. بل كلّما زادت حدّة الشكوك في نوايا المقابل الآخر في رؤيته السياسية، بقدر ذلك تتعزّز أركان الحكم الرشيد كسبًا للخبرات ووصولاً لأفضل القرارات. وهذا ما فعله الرئيس التونسي في صولته الأخيرة تثبيتًا للحكم الرشيد الذي مارسَه بقناعة السياسيّ الوطني المحنّك بعيدًا عن أساليب المسايرة والمجاملة والتغاضي و"التغليس" التي اعتدنا عليها في بلدنا المغدور، العراق، رئاسة وحكومةً وبرلمانًا وقضاءً، سواءً بسواء. ذلك أن قيادة الدول والأمم تحتاج دهاءً في الإدارة وعزمًا في الإرادة وسموًّا في الأخلاق ورفعةً في الضمير، إلى جانب إبراز رؤى استراتيجية تُعنى بالبناء والإعمار والتخطيط وكظم أية مسالك غير وطنية لا تخدم البلاد ولا تنفع الشعب ولا تأتي له بالخير والرفاهة التي يحلمُ بها كل مواطن. فحين تختفي المبادئ وتغيب الأخلاق عن السياسي وماسك السلطة وراعي القانون لا يبقى من الوطن شيءٌ يعتزُّ به الشعب ولا كرامة للفخر بها، مهما قدّمَ من مظاهر تديّنية ومذهبية فارغة لخداع المقابل. والسبب بكلّ بساطة، خروج مثل هذا الوطن وحكّامه عن معايير الدول المتحضّرة وأخلاق الشعوب التي تحترم ذاتَها وتبني أوطانها وفق مقاييس أخلاقية لا تخلو من سمة المواطنة الحقيقية، وليس التبعية للغير الدخيل وللأغراب. ولنا في هذه أمثلةٌ ونماذج من حقب العصر قديمًا وحديثًا. فالعراقيون بعد سقوط النظام البائد مثلاً، لم ينسوا أيام الفرهود الأسود كي يستغنوا عن أعمال السرقة والنهب والتحطيم والعنف التي صاحبت سقوط مؤسسات الدولة بيد الغوغاء من جهلة العصر والمتخلفين الذين يحلّلون الحرام ويعدّون كلّ ما يعود للدولة ملكًا مشاعًا ولا صاحبَ له، لذا يجوز إحلالُه وسرقتُه والتنعم به.
بحقّ السماء، أية أخلاقٍ هذه، وإلى أين وصل بنا الدهر من هزالة وانحطاط وتخلّف وتراجع في القيم والأخلاق والعلوم والاقتصاد والبناء والإنتاج، بل وفي كلّ شيء! وكيف بنا نبني وطنًا مستقلاًّ ذا هيبة وسيادة وبشعبٍ مثقلٍ بأدوات الجهل والجاهلية عندما تحوّلَ بفعل أشباه ساسة ما بعد التغيير الأحمق إلى قطيع ذليلٍ ولقمةً سائغة بيد الأغراب والدخلاء وأصحاب الولاء؟
لعلّ من جميل ما أسمعَه الشعبُ المتظاهر للملأ: "الغنوشي برّا برّا، وتونس تبقى حرّة"، وهو لا يختلف عمّا نادى به أشقاؤُهم العراقيون الثائرون التشرينيون ومَن والاهم وأيّدهم وساندهم من الوطنيين الأحرار وأصحاب الانتماء الوطني الحر الصادق من جميع النخب في زمن ثورتهم المتواصلة "إيران برّرا برّا، بغداد تبقى حرّة". فالموقف في البلدين متشابه لحدّ اللحمة النسيجية العربية البارزة من حيث سعي زعامات السلطة وأحزاب المحاصصة والولائية في كلا البلدين بفرض أيديولوجيتهم الدينية والمذهبية والطائفية والشخصية الضيقة التي تتسم بها منظومة الحكم الفاسدة في كلا البلدين. فهل ننتظر سنوات كئيبات اخريات ليصل الوعي الجماهيري في العراق مثل هذه الحدود، وبلوغ مثل هذه الجذوة في اتخاذ القرارات الجريئة الصائبة؟ أم نسدل الستار على كلّ أملٍ بمرحلة جديدة تَعِدُ بتغيير جذريّ مشابه في العراق لما يحصل في تونس الشقيقة، كي تقوم به الرئاسة العراقية المداهنة والمجاملة والمتشاركة وضمن الدستور أيضًا، مستفيدة من الإجراءات التصحيحية الصحيحة التي انبرى بها الرئيس التونسي الشجاع لقطع الطريق بوجه "الخطر ‭ ‬الداهم الذي  ‬بات يهدّدُ كيان‭ ‬الوطن‭ ‬وأمن‭ ‬البلاد‭ ‬واستقلالها،‭ ‬بحيث تعذرَ ‭ ‬معه‭ ‬السير‭ ‬العادي‭ ‬لدواليب‭ ‬الدّولة" بحسب كتاب خطابه الرسمي للشعب، ما اضطرّه لاتخاذ‭ ‬"التدابير الاحترازية ‭ ‬التي‭ ‬تحتّمها ‬الحالة‭ ‬الاستثنائية للبلاد ‭ ‬بعد‭ ‬استشارة‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬ورئيس‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشّعب‭ ‬وإعلام‭ ‬رئيس‭ ‬المحكمة‭ ‬الدّستورية "‬‭؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
لقد اتضح بما لا يقبل الشك، تحوّل الأنظمة البرلمانية في بعض البلدان العربية المهتزة مثل العراق وسوريا ولبنان ودول المغرب العربي إلى عصابات لتقاسم الثروات والمناصب بتبرير تحوّل هذه البلدان إلى بلدان ديمقراطية، هي أساسًا لا تصلح لبيئتنا الشرقية لعدم إيمان مَن يتداولها بمفاعيلها ومبادئها إلاّ فيما يزيد من سلوكها الأنانيّ ويعزّزُ من سطوتها على المال العام والنفوذ والقوة والجاه. وهذا حالُ العراق منذ السقوط الطائش في 2003 على أيدي الغازي الأمريكي الذي أتى بشراذم غير جديرة بالحكم والسياسة لإدارة بلاد الحضارة والتاريخ والإرث والتعددية الفسيفسائية التي تشكلُ تاجَ رأس البلاد وثروتَه الوطنية بعيدًا عن الدخلاء والأغراب وأصحاب الولاء خارج الحدود.
توافق شعبي على رفض النظام البرلماني بشكله المشبوه
من حقنا اليوم أن نحلم ونستيقظ لنسمع تباشير ما حصل في تونس الشقيقة من إجراءات وتدابير استثنائية،"‭ ‬توقّيًا‭ ‬من‭ ‬الخطر‭ ‬الداهم‭ ‬وسعيًا‭ ‬إلى‭ ‬إرجاع‭ ‬السير‭ ‬العادي‭ ‬لدواليب‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬تفشّي‭ ‬الوباء" بطريقة تراكمية، ولكن شريطة ألاّ تتحول إلى عقد أخريات من التفرّد والحكم الاستبدادي الذي عانى منه البلد والشعب والمنطقة والعالم معًا. كما من حقنا الشكّ بالفرص الضئيلة المتاحة لقيام ساعة التغيير في البلاد وسط إصرار المنظومة السياسية القائمة بالتشبث بالسلطة ما دامت بيدها كلّ أقفال ومفاتيح المال والجاه والنفوذ والسلاح. فعبارة "ما ننطيها"، رفعتها أحزاب السلطة الحقيقية في البلاد وأزلامُها والميليشيات الولائية والفصائل المسلحة منذرة بقلبِ "عاليها واطيها" إذا تمّ المسّ بحكم مذهبها وبمنافعها ومكاسبها وسلطتها التي تدرّ عسلاً طيبًا ولحمًا طازجًا ودولاراتٍ مرصوصات في مصارف وعقارات وعمارات ومولات تكفيها وأجيالَها وأحفادَ أحفادِها سنين طوالاً بل دهورًا بفعل ما تمّت سرقتهُ من أموال الشعب واقتناصُه من أفواه الفقراء والجياع وأولاد "الخايبة" الذين يندثرون ويستشهدون ويُقتلون دفاعًا عن سلاطين العصر بتحريضٍ من أبواق المرجعيات وأصحاب العمائم السوداء والبيضاء وأرباب السدارات واليشماخات (زي عربي) والشال وشبك (زي كردي أشبه بالسروال)، سواءً بسواء.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
لقد صار في شبه المؤكّد أن شكل هذه المنظومات السياسية المتمثلة بحكم برلماني مزيّف ومعطِّل (بكسر الطاء) للأداء السياسي الكابح للتطور الداخلي بحجة الانتقال إلى نظام ديمقراطي في بلداننا العربية، لم يعد قادرًا على الأداء الصحيح لا سياسيًا ولا اقتصاديًا ولا مجتمعيًا ولا علميًا ولا صناعيًا ولا استثماريًا. فقد سقطت الأقنعة وانكشفت عورة أحزاب السلطة التي ثارت عليها جماهير تشرين ومعها كل الوطنيين الأحرار والنخب في عراق الحضارة مثلاً. كما بات شكل النظام البرلماني في العراق والمنطقة في حكم المائت سريريًا بعد أن وثّقَ الواقع حقيقتَه وعزّزَ المنطقُ أهدافَه وتفاعلَ معه الشعبُ المقهور والجائعُ والباحثُ عن وطن مفقود وأمان مسروق في صفحات أشباه الساسة الذين اعتادوا خذلان البسطاء بفعل وتحريض وتنسيق وعّاظ السلاطين. وهذا ممَا عزّزَ نظرية عدم نفع النظام البرلماني في بلدان منطقتنا بسبب وقوع روّاده ومدّعيه والحاكمين باسمه في مستنقع الفساد والإفساد ونهب المال العام وهدر ثروات البلدان التي تحكمها عصابات وليس أحزاب تحترم مبادئَها. فالظاهر في شكل هذا النظام، تقديمُه صورة وردية في موضوعة ترسيخ الحريات العامة والديمقراطية، فيما غايتُه الباطنية اهتزاز أنظمة الحكم وزيادة الصراعات الداخلية واشتداد الاحتقان الشعبي وتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والعلمية والثقافية والتربوية، ووأد أية مساعٍ لنهضة وطنية صادقة تتولى تصحيح المسار الخاطئ الذي أقرته أمريكا الغازية وحلفاؤُها لإبقاء دول المنطقة وأنظمتها في وضع استهلاكيّ متواصل وبحاجة للدول الاستكبارية الكبرى وبشكل استعماريّ حديث لا يدع مجالاً لأية روح استقلالية تعتمد الذات في تولّي شؤونها ومصالحها.
من هنا بات لزامًا على أصحاب الأرض الحقيقيين التحرّك عاجلاً وليس آجلاً، لوأد هذه الخطط بعيدة الأمد في النهج الاستعماري الجديد بالاعتماد على أدوات محلية، خارجية وداخلية في تنفيذ هذه المخططات الشيطانية. فلا نستغربنَّ ما حصل في تونس أن يجري أيضًا في أية بلادٍ أخرى في قريب الأيام القادمة. بل هذا ما ننتظرُه في بلاد الرافدين التي فاحت فيها رائحة جيفة الفساد، وصار تدويرُ الفاسدين ديدنًا في كلّ دورة انتخابية، ولكن بأشكال أخرى وأدوات أكثر حداثة وشيطنة بفعل التحكم بالمال العام والنفوذ واتساع مساحات السلاح المنفلت المستخدم في كبح أية محاولات للتخلّص من المنظومة السياسية الحالية المتهمة في أغلبها عبر أدواتها التنفيذية بكلّ أشكال الفساد والسطو والسرقة واقتراف جرائم القتل والخطف والتهديد والابتزاز لضمان بقائها في السلطة واستكمال لغف ما تبقى من الكعكة وبقاء هؤلاء وزعاماتُهم التي تغطي عليهم خارج المحاسبة والإفلات من القانون. فالدولة ينبغي لها أن تستمر والقانون يجري تطبيقُه على الجميع من دون استثناء. وإلاّ لن تقوم للعراق ولا لغيره من دول المنطقة المهتزة قيامة في ظلّ غياب القانون وتطبيقاته وعدم الاعتراف بالحريات العامة ومنها حرية التعبير والتنقل. كما لا يمكن أيضًا، أن يبقى العراق لقمة سائغة بيد الأغراب ودول الجوار الطامعة.
‭ ‬‬






73
الأمم المتحدة وانتخابات 10 تشرين 2021 ، نوايا وإرادات
لويس إقليمس
بغداد، في 30 أيلول 2021
كف الحديث منذ أشهر عدة عن انتخابات مبكرة. فالتبكيرُ فيها كان قد فقد مكانه في روزنامات العدبد من أحزاب السلطة التي كانت قد وضعت في حساباتها ضرورة  إكمال المدة التشريعية المتبقية من دورة مجلس النواب الحالي الذي أدار البلاد منذ دورة 2018. وما لا يمكن نكرانُه ونسيانُه، شدة التزوير التي شهدتها صفحاتُ هذه الدورة المذكورة واعتراف سائر الكتل والأحزاب المشاركة وسط سكوتٍ خجلٍ من جانب المنظمة الدولية التي ساهمت بطريقة أو بأخرى للترويج بصحتها ومشروعيتها ومقبوليتها في حينها. وقد وجدت هذه الأخيرة نفسها في موقف حرج للغاية في فترة لاحقة، ما اضطرّها للخروج عن صمتها والإفصاح عن عمليات تزوير حقيقية خارجة عن السيطرة. وهذا ما يشكّل خرقًا وعارًا بسبب الدور غير النزيه الذي لعبته المنظمة الدولية وممثلتُها، وكيلة الدوائر الاستخبارية العالمية في العراق تحديدًا، عندما غضّت الطرف عن الخروقات وأشكال التلاعب في نتائج صناديق الاقتراع، ما أجاز القول بمحاباتها لاستكمال الكتل السياسية وأحزاب السلطة متمثلة بمثلثها الشيعي- الكردي- السنّي لإكمال مشوار مشروع المحاصصة بذات الطريقة التي بدأت وانطلقت منه على أيدي راعي سلطة الائتلاف بعد 2003.
وفقًا للتحركات الكثيرة لممثلة المنظمة الدولية جينين بلاسخارت في فترة التهيئة لانتخاباتتشرين 2010 في أوساط الكتل السياسية ومشاوراتها مع عموم الرئاسات في العراق، وزياراتها المتكررة للمرجع الشيعي الأعلى في النجف، وزيارتها إلى السؤولين في بلد الجارة إيران التي تُحكم قبضتها على قرار الحكومة العراقية وشبه دولتها، تتضح سعة المساحة التي تتحرك منها هذه المسؤولة الدولية. هناك مَن يرى تناغمًا في الرؤية العامة بين نوايا المنظمة الدولية وإرادة الكتل السياسية بخصوص ما ستتمخضُ عنه طبخة الانتخابات القادمة. فالأولى ومن منطلق الإيمان بشيءٍ من النزاهة الدولية والحرص على مصالح الشعوب المقهورة وإظهارًا لتحقيق العدالة بين مكونات الشعوب متعددة الأطياف والقوميات والأديان، تسعى للإشراف على انتخابات العراق هذه المرة بشيءٍ من الحرص وبادّعاء إخراجها أكثر قبولاً من سابقاتها بدرجات قليلات، حفظًا لماء وجه أحزاب السلطة شريكة المنظمة الدولية والدول التي حرصت على إبقاء خيوطٍ من الأمل مع الحكومات المتعاقبة أولاً، وتهدئة لمشاعر ثوار تشرين الذين لم تخبو جذوة انتفاضتهم طالما أنهم لم يحققوا أهدافهم بالانتصار لدماء زملائهم الذين سقطوا على مذبح الحرية التي سلبتهم إياها الأحزاب الحاكمة وميليشياتُها وجماعاتُها المسلحة التي ماتزال تشكل أركان الدولة العميقة المتغطرسة.
أيًا كانت النوايا والإرادات، فهي ستتقاطع حتمًا مع أهداف الشارع المنتفض الذي لم تركنْ جذوتُه ولم تبردْ سخونتُه جرّاء استمرار استهداف الثوار الوطنيين الحقيقيين الذي احتاروا مع مَن سعى لركوب الموجة وأخذَ بترديد ذات الهتافات والمطالب الوطنية التي أيدتها النخب الوطنية باختلاف تبعياتها وتلاوينها. فهذه شكّلت رأس الحربة في برامج أحزاب السلطة التي فطنت لتراجع شعبيتها ورضخت لبعض المطالب التي نادى بها الثوار تحت مطرقة "الشلع قلع" والتغيير الجذري في النظام والمنظومة الحاكمة التي مازالت سيدة هذه المطالب. لقد قال الشعب كلمته حين قدّم خيرة شبابه عبر مئاتٍ من شهداء الانتفاضة وآلافٍ من الجرحى وذوي العاقات، ما حدا بالمرجعية الشيعية العليا كي ترسل في وقت سابق رسالتها الغاضبة "المجرّب لا يُجرَّب" وتوجيهاتها الأخيرة بحثّ المواطنين على التصويت والمشاركة الكثيفة بهدف إحداث ما ينشده الشعبُ من تغيير في الوجوه السياسية التقليدية التي نالت شهرة الفساد والإفساد بلا منازع محليًا وإقليميًا وعالميًا. ولكن، ما الفائدة من الكلام الذي يُرسلُ على عواهنه، لاسيّما بوجه مَن لا يخجل ولا يخشى مخافة رب العباد ولا يشعر بحالة الفقير ولا ترمش له عينٌ إزاء الجائع والعطشان والمعدوم. حقًا، "إن لم تستحي، فافعلْ ما تشاء"!
لقد بات واضحًا، رفضُ الشارع العراقي لتدوير عموم الزعامات التقليدية لأحزاب السلطة وشخوصها التي خلت أجنداتُها من أية نفحة وطنية أو سمة انتمائية له ولشعبه طيلة حكم هذه الأحزاب والوجوه للبلاد منذ الغزو الأمريكي المهين لسيادة الوطن. وما محاولاتُها لإنتاج أحزابٍ فرعية بمسمياتٍ ديمقراطية وواجهاتٍ سياسية جديدة من حيث القوالب الظاهرية وحاملة لأهدافٍ ومطالبات "تشرينية" تسعى لتبنيها، سوى من الدلائل البيّنة على إفلاسها شعبيًا ومحاولتها التمسّك بقشة واهية برداء الأحزاب الفرعية الجديدة التي تبدو للعاقل والحكيم والمواطن الأمين لمبادئه غير رصينة تمامًا في نوايا شعاراتها المسروقة من الشارع المنتفض بسبب سوء أدائها. ومن باب الاحتراز والحيطة دأبت الزعامات على اختلاف تحزباتها وتوجهاتها الأيديولوجية التي أدخلتها في حالة من التخبط الفكري والسياسيّ بالتفكير جدّيًا بإعادة ائتلافاتٍ قديمة تعتقد بجدواها بالرغم من اتساع الهوة بينها وبين ما تشكله طموحاتُ أيٍّ منها منذ إعلان مفوضية الانتخابات فتح مكاتبها لتسجيل الكتل والائتلافات والكيانات استعدادًا لموعد الانتخابات القادمة. لكنّ ما بدا مخجلاً أكثر، تبجّح أحزاب وائتلافات باكتساحها لصناديق الاقتراع وفوزها الساحق مسبقًا، بل وصل الأمر ببعضها بتحديد المقاعد التي تريدها وأخرى بفرض شيء من سياسة الأمر الواقع بالحصول على منصب رئاسة مجلس الوزراء باستخدام كلّ الوسائل المتاحة وغير المصرَّح بها أيضًا.
مخاوف وقلق
مما لا شكّ فيه، ملاحظة بروز حالة من القلق والخوف التي تساور زعامات الأحزاب التقليدية هذه المرّة، لا سيّما وأنها تأتي بعد فترة حرجة شهدتها البلاد وتمثلت بقدرة الانتفاضة التشرينية لإسقاط وزارة "ولائية" مرتبطة ايديولوجيًا بأجندة الجارة الأرجنتينية التي شعرتْ ولأول مرة بخطورة المدّ الشعبي  الوطنيّ الجارف ضدّ مخططاتها وطموحاتها عبر تبنّيها الساحة العراقية لتصفية حساباتها مع أمريكا والدول الإقليمية. كما لا يمكن التغاضي عن الدور الذي لعبته المرجعية الدينية في فترة ما بالتحذير من خطورة الموقف عندما دعت الكتل الشيعية الحاكمة كي ترخي الحبل قليلاً من أجل امتصاص الغضب الشعبي وذلك عبر حث الحكومة السابقة للتنحي عن السلطة بادّعاء احتمال فقدان المذهب للسلطة والنفوذ في البلاد. لذا رأت في استقالة حكومة عبد المهدي أصلحَ النتائج وأيسرَها، تلافيًا لفقدان مقاليد السلطة وخشية من انجراف الثورة الشعبية نحو ما لا تُحمد عقباه. وقد نجحت في ذلك المسعى بامتياز بإعادة تدوير سياسة المحاصصة وإبقاء الهيمنة على السلطة لما تبقى من عمر الدورة التشريعية بحسب المخطّط بالإتيان بحكومة بينية ضعيفة تبقيها أداةً وتحرّكها وفق مصالحها متى ما شاءت وكيفما شاءت من دون أن يكون لها القرار الوطني الحقيقي الذي أضحى "تابو" وحرامًا في بلد الحضارات. فالسياسة العامة في الحكومة الجديدة التي اتُفق على تسليمها للسيد مصطفى الكاظمي لم تختلف أو تتغير من حيث الإبقاء على ذات الامتيازات في توزيع المناصب واحتكار العقود وإدامة السطو على المنافذ وتهريب الثروة النفطية بين الشركاء الأساسيين وعدم المساس بحصة الكعكة أو التقرّب من منابع الفساد التي تتولاها الحيتان الكبيرة. والدليل على ذلك، بطء التحرّك إن لم يكن شبه التوقف من جانب لجنة الأمر الديواني 29 لسنة 2020، في ملاحقة الفاسدين الأساسيين الكبار في الدولة العراقية، بدءً من زعامات السلطة ووصولاً لكبار موظفي الدولة من أصحاب المناصب العليا الذين يأتمرون بأمر مَن أتى بهم أدواتٍ لتنفيذ أجنداتهم ومواصلة سرقة المال العام بكلّ الوسائل المتاحة والتغطية عليهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فالتقارير والتصريحيات أشارت مرارًا وتكرارًا إلى جاهزية أكثر من 14 ألف ملف فساد في هذه اللجنة بانتظار حسمها ومعالجتها. فهل تجرّأ رئيسُها المكلَّف وفريقُه حقًا من شقّ جدار الشمع الأحمر واختراقها في ضوء الضغوطات الهائلة التي تعرّضت لها واشكال التهديد العلني والمبطَّن التي طالتها من قيادات فاسدة في البلاد أو من أدواتها الكثيرة ممّن دأبت على تقديم عروضٍ عسكرية استعراضية استفزازية كلّما صدرت أوامر قبض بحقّ رموز الفساد وهدر المال العام وسرقته أو بتهم القتل وتصفية الناشطين وكلّ مَن يتعرضُ سبيلهم أو ينتقد أفعالَهم وسلوكياتهم؟
من هنا، استشعرت الكتل السياسية الكبيرة خطورة الموقف هذه المرّة، عندما شهدت الساحة الدولية تحركات، على خجلها، باتجاه تحقيق نسبة معينة من التغيير في المشهد السياسي على الساحة العراقية من خلال دعم أو بالأحرى حثّ جهات لتبنّي مساعي وأفكار الانتفاضة التشرينية لدخول المعترك الانتخابي عبر تكتلات وطنية بغية تحقيق شيءٍ من المعادلة بالمشاركة في السلطة، وذلك من منطلق المشتركات الوطنية المفصَح عنها ظاهريًا. هذا في حالة تحقق شيءٍ ممّا في الروزنامة الدولية والإقليمية إذا سار القطار بحسب المخطط له من دون عرقلة أو مفاجآت، سواءً بالسماح بشيءٍ من التغيير في المشهد السياسيّ المتشنّج اصلاً أو في تحقيق نتائج وإن كانت خجولة في مجال تحقيق الشفافية ومكافحة الفساد ووضع حدود لعمليات ملاحقة ثوار الانتفاضة وتغييبهم قسرًا وبالوسائل المعهودة المدعومة من أحزاب السلطة. وهذا ما حدا بجهات ولائية تقليدية لزيادة الضغوط على أجهزة الدولة وسياستها الخارجية ومن بينها مفوضية الانتخابات للمطالبة برفض أيّ إشرافٍ دوليّ على الانتخابات القادمة بحجة الحفاظ على السيادة الوطنية، فيما السيادة الوطنية وهيبةُ الدولة قد انتزعتهما أحزاب السلطة وسلّمتهما للسيدة الشرقية رضوخًا ولائيًا لا غبارَ عليه.
    نحن نعتقد أنّ بين المخاوف التي تتذرع بها جهات في السلطة أو مَن يقف وراءها، تخشى على نفسها من عدم قدرتها على تزوير الانتخابات القادمة كما تسنّت لها فرص واضحة في سابقاتها. وهذا أمرٌ مفرغٌ منه بحسب المطلعين والمراقبين والمتابعين. فأية جهة إشرافية أو رقابة دولية أو إقليمية تعني فيما تعنيه جزئيًا أو كلّيًا، صدّ أية محاولة للتأثير على مجرى الانتخابات ونتائجها بفضل الأدوات التي تتحكم بها على الأرض من قدرات مالية ووجود ميلشياوي وعسكري ونفوذٍ عشائري وولائيّ يمكن أن يجيّرَ ويوجّهَ النتائج لصالحها. ويبقى الفرق بين الإشراف الدولي وشكل المراقبة الواهن الذي فرضته أحزاب السلطة والكتل السياسية كبيرٌ. وهذا ما حمل زعماء الكتل التقليدية التي حكمت البلاد وسادت العباد منذ السقوط تتخوّف من كلمة إشراف أمميّ لكونها من جوهر مطالبات الشارع المنتفض الذي فقد الثقة الكاملة ليس بالأحزاب الحاكمة فحسب، بل بمجمل المنظومة السياسية ككلّ. وكما يبدو، لم يعد هناك من أبوابٍ ونوافذ آمنة ذات مصداقية إلاّ بالإشراف الدولي على العملية الانتخابية حفاظًا على شعاعٍ ولو يسيرٍ من "النزاهة والشفافية في مختلف مراحل العملية الانتخابية"، حسبما صرّح المرجع الأعلى خلال أحد لقاءاته مع ممثلة الأمم المتحدة، ما أغاض مراجع سياسية ودينية لدى الجارة إيران التي خشيت على نفسها فقدان زمام التحكم بمقدراتها ومصالحها في العراق الذي تعدّه ولاية تابعة في سياستها وتصوراتها ومخططاتها.
تبقى كلمة لا بدّ منها بخصوص كوتا الأقليات التي تراهن عليها أحزاب وكتلٌ كبيرة بذلت جهودًا لاحتواء مرشحي المكوّنات قليلة العدد، وذلك زيادة في إفسادها وسرقةً لأصوات أبناء هذه المكونات. فنحن لا نعتقد البتة استجابة الغاية من إنشائها وتلبية استحقاقاتها بحسب الدستور وحقها في التعبير عن حرية رأيها بمَن يمثلها على أرض الواقع.
نوايا وإرادات متصارعة
تبقى النوايا والإرادات متقاطعة، كلّ جهة بحسب روزنامتها ومخططاتها. لكنه من الطبيعي في بلدٍ مثل العراق شهد انتكاسة سياسية وبشرية واقتصادية منذ احتلاله قبل 18 عامًا خلت، أن يطلب إشرافًا أو مراقبة دولية أو إقليمية على حدثٍ هامٍ يخصّ مستقبل شعبه ويصون سيادة وطنه التي ارتُهنت بأيدي الأغراب عنه والدخلاء عليه من مزدوجي الجنسية الانتهازيين وأصحاب الولاءات وجيوش النضال الجهادي وما على شاكلته. وهذا ليس انتهاكًا للسيادة، بل تعزيزًا لرسم مستقبل آمنٍ للبلاد ولشعب العراق المقهور ولمستقبل الأجيال التي لا تعرف مصيرها قبل أن تولد. في انتظار اليوم الموعود في العاشر من تشرين أول 2021، نأمل مشاركة واسعة من قبل الشعب كي لا تُعطى فرصة أخرى لأتباع وموالي أحزاب السلطة التقليديين كي تخلو لهم الساحة فيجتاحوا صناديق الاقتراع بجيوشهم الولائية، المنتفعة منها والمنبطحة والمنافقة والماكرة والسائرة في ركب وعّاظ السلاطين وتقديس الشخوص وعبادة الجلادين. وتبقى الانتخابات القادمة فيصلًا بين الحق والباطل. ولنعلمْ، أنه في حالة إعادة ذات الأحزاب التقليدية الفاسدة للواجهة وتدوير ذات الوجوه أو مَن يواليهم ويقلّدهم ويشابههم، فإنّ العيبَ والآفة والخطيئة الكبرى في الشعب الذي يرتاح ويقبل ويرضى بجلاّده. فالشعوب أولاً وآخرًا على أشكالها يولّى عليها!!!

.


74
خطوات مهمة تبني استقلالية الأطفال
لويس إقليمس
بغداد، في 5 شباط 2021
من الطبيعي جدًا للطفل وهو ينمو في القامة والجسم والعقل سليمًا معافىً أن تحتاج خطواتُه الأولى إلى إرشادٍ وإشرافٍ من والديه وأسرته ومَن حولهم وكلّ مَن سيكون له صلة بتقدّم خطواته نحو المستقبل. وليس خافيًا تأثير البيت الأسري على نشأة الطفل من أولى خطوات رؤيته النور عندما تتلقفه الأيادي الأولى مرحبة بقدومه الميمون ومستقبلةً إياه بتباشير الفرح و"الهلهولة" وتوزيع الحلوى وسلامة الصحة للأم التي حملته في بطنها تسعة أشهر أو ما يساويها من زمن الحمل. كما يواصل الأهل، الأسرة الأبوية والأمومية قبل غيرها برعايته ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً متحدية مصاعب وإشكالات ومتاعب كثيرة لا تُحصى في الكثير من الأحيان، لاسيّما تلك التي يصعبُ عليها توفير لقمة العيش الطبيعية من كفاف اليوم لأي سبب كان، كأن يكون بسبب البطالة المستشرية أو صعوبة العثور على عمل للاسترزاق منه أو فقدان المعيل أو غياب المساعدة الحكومية بسبب غياب نظام وطنيّ للضمان الاجتماعي أو بسبب الوضع الاقتصادي المتردّي وما سوى هذه كثيرٌ في ظلّ الفوضى الاقتصادية والأزمات المتلاحقة التي تشهدها دولٌ وشعوبٌ كثيرة في العالم. ولا تشذُّ منطقتنا وبلادُنا من كلّ هذا وذاك. فالعراق يتعرّض تحديدًا في هذه السنوات العجاف إلى نكسات متتالية، سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وأخرى غيرها بسبب غياب الوعي وتفاقم الفساد واحتكار الوظائف بأيدي شلّة أحزاب السلطة الحاكمة وجهاتٍ محلية وإقليمية ودولية متصارعة تضع العراقيل أمام سبل انتعاش القطاع الخاص ونهضة شركاته ومعامله ومزارعه الإنتاجية بوسائل وطرق شيطانية بعيدة كلّ البعد عن اية لمحة وطنية وفي غياب أية استراتيجية لانتشاله وشعبه من المآسي التي وضعهم فيها نظام المحاصصة المقيت والقاتل منذ الغزو الأمريكي في 2003.
لعلّ من المشاكل التي لا تقلّ خطورة في عراقنا اليوم، والتي ينقصها أبسط اللمسات الإنسانية الآدمية الأساسية تكمن في غياب السكن اللائق لملايين البشر من الذين يفترشون العشوائيات ويتخذون من مساكن التنك والبناء غير المنظم سكنًا يقيهم وأطفالَهم برد الشتاء ولهيب الصيف الحار. وهذا ممّا له الأثر البالغ والسلبيّ عمومًا في موضوعة توفير أبسط وسائل العيش الكريم لأطفالٍ يولدون بلا منازل ولا سكن ولا سقف يحميهم ويوفر ملاذًا آمنًا لهم ولذويهم الذين أنجبوهم ليكونوا مواطنين أسوياء منتجين ومثمرين في بلدهم. فالطفلُ الناجح، ذكرًا كان أم أنثى، في حياته عندما يتلقى تربية سليمة وطبيعية في طفولته، فهذا من شأنه أن يوفر لوالديه راحة البال بمسيرة طبيعية سالكة، ولمجتمعه ثقة بعلاقات رصينة وطيّبة، ولوطنه مستقبلًا واعدًا بحياة أفضل. وهذه من دواعي التنشئة الصالحة والطبيعية في كلّ المجتمعات والأوطان. وعليها تَبني الشعوبُ والدول مستقبلَها وترسم مصيرَ حياة شعوبها وتضع لمسات تقدمها على كفٍّ وتخلّفها عن الركب العالمي على الكفّ الآخر في حالة فشلها بتأمين سبل الحياة الكريمة لمواطنيها.
إنّ من الأساليب التي ترسم مستقبل الأطفال فيها من المتغيرات السلبية بحسب طبيعة المجتمعات وفكرها وتوجهها الدينيّ والمذهبيّ والطائفي، ممّا يقف صدًّا مانعًا أمام تأمين حياة إنسانية سوية للأطفال في أحيانٍ كثيرة. وهذا من مدعاة القلق في دولٍ تضع في أولوياتها اتباع لغة الحشو التلقيني التقليديّ في ذهن الطفل منذ نعومة أظفاره، وتَرافقُ ذلك مع كبره ونموه الذهنيّ والجسديّ على ذات الأسلوب الضيّق في ترويض أفقه وفي وسيلة تنمية قدراته الاستيعابية وتطوّر ذهنه بسبب الكمّ الهائل من أمثال هذا الحشو في النصائح والتوجيهات والنهر والزجر والنهي التي تسلبُ حريَته وتقيّد فكرَه في اتجاه واحد دون السماح له بالاستنارة بما حوله واستكشاف محيطه بحرية من أجل تطوير قابلياته الذاتية. نحن نقول، لا بأس بتدخل الوالدين في توجيه الطفل ومرافقته في نموه البدني لينشأَ عقلُه معافى سليمًا. فالعقل السليم في الجسم السليم، مقولٌة لا نختلف عليها. ولكن لا بدّ من ترك مساحة واسعة للطفل كي يبلى بلاءً حسنًا في تنمية أفكاره وقدراته العقلية ونظرته الإيجابية للمحيط والواقع من منظارٍ بشري وإنسانيّ متناغم مع نموّه الجسدي. ذلك أنّ عملية فرض مفاهيم أبوية وأمومية على الطفل، ذكرًا كان أم أنثى ستكون له آثارٌ سلبية غير طيبة وغير مثمرة على مستقبله ومستقبل مجتمعه ووطنه ككلّ. والسبب في ذلك، كون الإنسان حرًّا منذ الولادة، ولا بدّ أن تبقى له مساحة وافية من هذه الحرية التي منحته إياها السماء.
تربية تنفيذية
لستُ هنا بداعي الإثارة ضدّ أساليب التربية التلقينية السلبية غير الصحيحة التي ينتهجها بعض الآباء والأمهات والمؤسسات بحجة صيانة أخلاق أطفالهم وتعليمهم آداب الحياة على طريقتهم التقليدية التي تحابي مجتمعاهم التقليدية القبلية والعشائرية والدينية والمذهبية ضيقة الأفق والتفكير وناهية الانفتاح، خشية من اتهامهم بالخروج عن معايير هذه المجتمعات وثورتهم على البالي من سلوكياتها التي لم تعد منتجة ولا مثمرة ولا مفيدة في الزمن المعاصر. فالزمن قد تطوّر وأصبحت كلّ الوسائل التكنلوجية والالكترونية والرقمية المتقدمة بين ايادي الجميع من دون استثناء. ومن ثمّ لا حدود ولا محدّدات قادرة اليوم أن تقطع طريق الاستنجاد بكلّ ما هو جديد ورافض للقديم الرثّ البالي الذي فقد بريقه مع تطور الزمن والفكر والرؤية إلاّ فيما يعزّزُ ويديمُ سلّمَ الأخلاق والآداب العامة وأدوات احترام الآخر برغم الاختلاف عنه في الراي والمعتقد والفكر والدين والقومية وما سواها. فهذه تبقى من الأبجديات التي لا بدّ من قيامها وتعزيزها وإدامتها وسط المجتمعات الصالحة السوية المنتجة ولا أقول التقليدية الاستهلاكية غير المنتجة. وبالإمكان الغرف من هذه الوسائل المتجددة، بسمينها وغثّها، بخيرها وشرّها، بفعلها وعقمها ما شاء الطفل والمراهق والشاب والفتاة والرجل والمرأة والكهل والمسنّ، ومتما أرادوا وكيفما شاءوا وأينما رغبوا. فكلّ الطرق مفتوحة اليوم أمام الجميع، وليس فيها من مغالق ولا روادع ولا محدّدات.
سلوكيات سالبة تسلب الاستقلالية
ليس من السهل الوقوف على أفضل الأساليب التقويمية في تربية الأطفال وتعليمهم فنّ الاستقلالية في إدارة شؤونهم اليومية، بدءً من دواعي المنزل الأسري. فمن حق الطفل عندما يبلغ السنّ الذي يتيح له تدبّر أموره اليومية حين تجاوزه سنّ السنتين فما فوق، أن ينعم بشيء وافرٍ من الاستقلالية في أسلوب حياته، وفي إدارة دارته الخاصة باللعب وأنواع ألعابه المفضلة، وفي ترتيب منامه الشخصيّ والعناية بغرفته وتوضيبها ووضع ما يحلو له من صور وأدوات وملصقات وارتداء ملابسه وقضاء حاجاته، هذا في حالة توفر هذه الأدوات طبعًا. فهذه تشكلُ سِفرًا حياتيًا في مسيرة كل طفل، وتسهم في إدراك شيءٍ من تصوراته وطريقة تفكيره ومعالجته للأمور اليومية البسيطة في ضوء ما يتلقاه من دعمٍ وإشرافٍ مباشرٍ وتوجيه سديدٍ من الوالدين. كما أنه في هذه السنّ تبدأ مداركُه بالنمو ويزداد شغفُه باستكشاف محيطه وحاجاته بنفسه، ما يمهّدُ له الطريق للاعتماد على الذات بصورة شبه تامة، مدعومًا بتحفيز من الوالدين. وهذا من البديهيات في الحالات الطبيعية، وهو ما يكتشفه الوالدون في ابنائهم وأحفادهم، وأنا منهم.
تبدأ خطوات الاستقلالية في انفصال الطفل عن الفراش الوالدي الذي كان يؤمّنُ له الدفء والحماية وشيئًا من الحنوّ والعاطفة الأبوية طيلة فترة منامه وسط الوالدين أو على جانبٍ في منامٍ مستقلٍّ عنهما. في فترة ما من نموّ الطفل وبلوغ مداركه حول كلّ ما تقع عليه عيناه في السرير الوالديّ، ينبغي على الوالدين أن يتخذا القرار بتعويد طفلهما على الاستقلال عنهما في منام خاصٍ به عندما يلاحظان تطوّر مداركه وشدّة ملاحظاته ودوام بحثه عن أسئلة تخصّ ما تقع عليه عيناه من علاقة ودية وحميمية لوالديه. في البدء، قد يلاقيان صعوبة في إقناعه بالانفصال عن غرفتهما "المقدّسة" لأسباب مبهمة أو حتى واضحة للعيان تتعلق بشكل العاطفة الطبيعية التي تربطهما به. وقد يكون للأم تأثيرٌ أكبر في تأخير مثل هذا القرار بسبب بروز العاطفة الأمومية العليا والخشية من ابتعاد فلذة الكبد جسديًا وشعوريًا عنها بعد أن كان لصيقًا بها منذ الولادة وبداية أيام نموّه. إلاّ أنّ القرار الصحيح ينبغي اتخاذهُ في وقت ما ومن دون تأخير. فقد حان الأوان لاستقلاليته والبدء بترتيب أموره الشخصية بعيدًا عن أحضان الوالدين، ولو في أدنى أوليات الترتيبات الضرورية. فهذا من شأنه أن يخلق فيه روح التكوين الذاتي وتحمّل المسؤولية عندما يكون في غرقته بعيدًا عن حماية مباشرة أو غطاءٍ حضوريّ من الوالدين. كما ستوفر له هذه الاستقلالية المناخَ مستقبلاً لتعلّم المزيد من الممارسات المهمة التي تنتظرُه، ومنها الاستعداد للتأقلم لاحقًا مع التعلم في المدرسة في خطواته الأولى وتطوير مهاراته وتقوية منجزاته البدائية أمام مرأى الوالدين.
من الممكن أن يواجه هذا الانتقال الجديد في العلاقة بين الوالدين والطفل مشكلةً ليست قائمة إلاّ في فكره البدائيّ المهزوز في البدايات الأولى. وهذه تكمن في الخوف الذي يستشعرهُ الطفل في قرارة نفسه بصعوبة تأمين ما يعتقدُ أنه مبرّرٌ لهذا الخوف، وهي شكل الحماية الوالدية التي كان يتلقاها أيام الطفولة الأولى، والتي يرى أنه في الطريق إلى فقدانها والحرمان منها من دون إنذار. ومن ثمّ يقيم الحجج بالخوف من مجهولٍ قائمٍ في فكره أو يبدي الخشية من أشقائه الأكبر منه سنًا أو أقرانه أو أي شخصٍ آخر يشاركه السكنى الجديدة بعيدًا عن الوالدين. وقد تسنى لي شخصيًا معايشة هذا النموذج وإنجاحه مع أبنائي وأحفادي من بعدهم عبر تهيئة كافة الأجواء للتأقلم مع شكل هذا المناخ الجديد، من تهيئة لغرفة خاصة وفرشها وتأثيثها بما يجذب نظر الأطفال ويعطي انطباعًا براحة أكبر في الوضع الجديد ومزيدًا من الثقة بالنفس. وكلّ هذه من الأدوات الجاذبة والمشجعة لاستقلالية الطفل. هنا تحديدًا، في حالة تراجع أحد الأبوين عن قرارهما بتوجيه الطفل نحو استقلاليته لأيٍّ من الأسباب في أعلاه أو غيرها، فإنَّ آثارَها لن تكون طيبة، لا في صالح الطفل ولا في صالح الوالدين على السواء. فأيّ اهتزاز في الموقف سيعمّقُ الشعور بالحاجة للالتصاق أكثر بالسرير الوالدي لفترة أطول. ولكن لن يكون الأمرُ سهلَ التقبل في وقت لاحق. فاستسلام أيّ من الوالدين لبكاء الطفل وتوسلاته في البدايات الأولى للبقاء وسطهما في ذات الغرفة سيخلقُ لدى الطفل عقدةً عاطفية عندما يكبر، هذا إنْ لمْ يتعرّض لأشكالٍ من الاضطراب النفسي غير المبرّر. 
هناك نقطة هامة أيضًا قد تثير قلقًا بين الوالدين عندما ينحازُ أحدُهما لطفلٍ دون غيره. هنا تبدأ الغيرة لدى الإخوة في الأسرة الواحدة، إذا لاحظ بعضُهم شيئًا من التمييز لصالح أحدهما دون غيره. ومن شأن هذا التمييز أن يخلق صراعًا وسط الإخوة وينال من حجم سعادتها. بل قد يمتدّ الصراع لينتقل بين الوالد والأم ويزيد الجدال بينهما ليحتدم وصولاً للغضب من سلوك أحدهما ضدّ الآخر بسبب الانتصار لطفلٍ دون غيره. وهذا يتطلبُ المزيد من الحذر في الاتزان في المواقف بين أعضاء الأسرة الواحدة، وإلاّ وقع الوالدان في مغامرة الأبوّة التمييزية بين الأطفال والتي يصعبُ لاحقًا تغيير بوصلتها لصالح الاعتدال في المساواة بين الجميع وصولاً لقدرٍ مقبولٍ من السعادة. لكنّ هذا لا يمنع أن يكون لطفلٍ دون غيره دالّةٌ أو حظوة لدى أحد الوالدين لأية أسباب وجيهة، كأن يكون القربُ العاطفي بسبب طبيعة سلوك الطفل أو طريقة تحبّبِه أمام الأب أو الأم وفقًا لتجاوبه مع توجيهاتهم ورغباتهم، ما قد يجلب اهتمام أحدهما تجاهه دون غيره. لكننا عندما نتحدث عن سلوك أبوي في مسألة توجيه الطفل مع نموه في العمر نحو الاستقلالية في تأمين ضروراته اليومية، فهذا ينبغي أن يكون تعميمًا لجميع الأطفال ومن دون تمييز في إقراره واتخاذه، لكونه جزءً اساسيًا في التربية الأسرية الإيجابية.
السعادة في نوعية التربية
في كلّ الأحوال، تبقى التربية الإيجابية هي الخيار الأفضل لتعزيز شخصية الطفل والأخذ بيديه نحو حياة مستقرّة طبيعية تمنحه إياها فسحة الاستقلالية التي يكتسبها من لدن الوالدين. فكلّما شعر الطفل بزيادة قناعة الوالدين بما يأتي به من أفعال وحركات، يزيده ذلك اعتمادًا على قدراته، بل ويزيد من شعوره بشيءٍ من الاستقلالية في السلوك والتصرّفات عندما تكون هذه في منظار الوالدين وتحت نظرهما. وعندما تحدثنا عن ضرورة احتفاظ الوالدين بخصوصيتهما في غرفتهما الخاصة وبما يعزّز من سبل ومفردات سعادتهما الزوجية والعائلية معًا، فذلك كان من منطلق أحد الخيارات الإيجابية في التربية السليمة. فهذه الخطوة بالذات، هي البداية لفسح الطريق أمام مساحة واسعة من البحث المبطن عن الاستقلالية التي يسعى إليها الوالدان ويتقبلها الطفل على مضض في بداياتها الأولى. ولكن سرعان ما ينطلق للتوسع ضمن هذه المساحة المتاحة لإثبات الذات والقدرة على التفاعل مع مفردات الحياة التي تحيط به والتي من شأنها أن تكسبه مزيدًا من الخبرة والثبات والمعاندة في اكتشاف الذات أكثر.
مثل هذا النموذج من العلاقة السوية بين الوالدين والطفل، متاح أكثر وسط الأسر التي تتحلى بحياة مستقرّة ضمن مجتمعاتها والتي تستند فيها لتأمين سعادتها، بتوفر أدواتها الأساسية من مسكن وملبس ومادة. لذا، نرى ملاحظة عكس هذه الحالة تمامًا وسط عائلاتٍ تفتقد إلى أبسط سبل الحياة في افتقارها إلى سكنٍ ملائم يأوي أفراد الأسرة الاعتيادية في عديدها الذي يلائمُ قدرتها على تحمّل تكاليف المعيشة أولاً، واستيعاب أفرادها عندما لا تخرج عن المعقول في الإكثار والإنجاب بلا تحديد. فسرُّ الحياة وبهجتُها وطبيعتُها ليست بكثرة الإنجاب، بل في التربية الصحيحة وبأدواتٍ صحيحة تضمنُ لهم العيش الرغيد والسكن الصحيّ والاستقرار الأسري والسعادة العائلية بعيدًا عن إشكاليات التكاثر العشوائي كالأميبا وكالحيوانات التي تنجبُ صغارها غريزيًا وتلقي رحلَها في الشارع لتتلقفها أيادي الجريمة والشرّ والجهل وأنواعٍ لا تُحصى من الموبقات والأعمال التي تتقاطع مع حق الوطن والمجتمع بإيواء مواطنين صالحين تُعدُّهم أسرهُم لدخول معترك الحياة من منطلق صحيح وصائب.
ونتيجة لما سبق من ملاحظات وتشخيصات، يأتي الجهلُ بأساليب التربية والإعداد الأسري المقبول عاملاً سلبيًا في توفير السعادة الأسرية المفقودة، وذلك بدءً من سُنّة الزواج وأسبابها وأدواتها وضروراتها الأساسية المتمثلة بعدم توفير سكن آدميّ مقبول يحفظ خصوصية الزوجين والأطفال عندما يولدون وسط استعدادات آدمية غير متكافئة وغير متيسرة يُفترضُ أن تتكفلَ الحكومات بتأمينها. وهذا ما يعاني منه المجتمع العراقي بسبب الزيادات العشوائية وغير المنطقية في الولادات والزواجات غير المتوازنة أو المتكافئة، ولاسيما تلك التي تمسّ القاصرين والقاصرات، ما نجم عنه طبيعيًا حالات طلاق عديدة موازية كنتيجة حتمية لصعوبة توفير عش الزوجية ولقمة العيش وسط أزمات خانقة ومتلاحقة في السياسة والاقتصاد ونتيجة لسيادة العرف العشائري والطائفي على سيادة القانون في شبه الدولة العراقية التي فقدت كلّ مقوّمات الإدارة الوطنية السليمة في تلبية احتياجات أبنائها. ولعلّ أولى هذه الضرورات، قيام تعامل صحيح وفاعل يوازي في حجمه وطاقته ما يتناسب مع أزمة السكن الخانقة التي ستظلُّ شوكة عسيرة تواجه الإدارات الطائفية المتلاحقة الفاشلة لفقدانها استراتيجية العمل وفق إدارة فاعلة ناجحة وإرادة وطنية مفقودة أصلاً لم تستطع معالجة هذه الأزمة طيلة فترة حكمها الطائفي.
اختصارًا، لا يمكن تأمين السعادة لأية أسرة في حالة فقدان وضياع أيٍّ من أسسها الأساسية: العش الزوجي في تأمين السكن الصحيّ، التفاهم الأسري المبني على الحب الحقيقي، التربية الإيجابية في توجيه الوالدين للأطفال، الاحترام المتبادل بين الزوجين أمام الأطفال، الثقة المتبادلة ضمن الوضع الأسري، تشجيع الأطفال على الاعتماد على النفس. وغيرها كثيرٌ ممّا يدخل في خانة التربية الإيجابية التي تبقى من مسؤولية مؤسسات الدولة والمنظمات والجهات ذات العلاقة في تنميتها وتعزيزها وإشاعتها في المجتمعات دون تمييز.



75
ألمانيا تطوي أروع الصفحات في تاريخها
لويس إقليمس
بغداد، في 10 أب 2021
ممّا لا شكّ فيه أنّ ألمانيا تقف اليوم في مقدمة اقتصاديات القارة الأوروبية من حيث دينامية اقتصادها ومشاريعها السخية في تعظيم الموارد ودعم قطاع الأعمال وتنويع الإنتاج، كما في سعيها الحثيث لزيادة نسبة الرفاهية في مجتمعاتها بفضل زعاماتها التاريخية التي أسست لهذه القوة المتقدمة في العالم. فقد سبق غيرهارد شرودر زميلته أنجيلا ميركل على رأس المستشارية في إجراء شيءٍ وافرٍ من الإصلاحات التي وضعت البلاد في مصاف الدول الصناعية الكبرى التي يُحسب لها حساب على طاولات المفاوضات والقرار الدولي. لكنّ المستشار السابق شرودر الذي سعى حثيثًا لنيل ثقة الناخب الألماني من دون منافسة، خابَ ظنُّه ومُني في الانتخابات المبكرة التي دعا إليها في 2005 بهزيمة بسيطة أمام منافسته أنجيلا ميركل التي صعد نجمُها وسط الشارع الألماني.
وبذلك تكون ميركل قد دخلت مواقع القرار الأوروبي والدولي من أوسع ابوابه لتشكل طيلة فترة حكمها (2005-2021) ظاهرة نسوية قيادية في أبسط صورها عبر عيشها حياة مواطنية وعائلية بسيطة في شقة مع زوجها، والتي لم تتركها لتسكن في قصرٍ أو فيلاّ فخمة كما تستدعي الأصول، حتى بعد تسنمها منصب رئاسة الحزب والمستشارية. بل والأروع في هذا وذاك، أنها لم تكفّ عن تلبية طلبات سكنها البسيط وسط برلين باستمرارها بالتسوق الفردي من دون حمايات ولا مرافقين إلاّ من حارسها الشخصي، ما أضاف عاملاً مهمّا في مسيرتها السياسية والحزبية وميزة وطنية يُشارُ لها بالبنان في بعثها برسائل ثقة متبادلة إيجابية لمواطنيها وناخبيها. وما أروع أن تودَّعَ هذه المرأة البسيطة والعنيدة والقوية في آنٍ معًا بأكثر من ست دقائق متواصلة من التصفيق الحار الصادق المتواصل في البوندستاغ ومن على الشرفات والشوارع والبيوت ومؤسسات الدولة حينما آنَ أوانُ تنحيها عن السلطة طوعًا بعد 16 عامًا أمضتها في حكم بلدها المانيا واستحقت بحق لقب "المرأة الحديدية". وما أندرهنّ في التاريخ! 
قد تكون المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" التي حكمت بلدها ألمانيا بجدارة نسائية ناجحة وإخلاص وتفانٍ ومهارة قلَّ نظيرُها، من أروع ما قدمه بلدُها للتاريخ، ليس في ألمانيا فحسب بل في عموم القارة الأوروبية والعالم. فبعد انتخابات 26 أيلول القادم، ستسلّمُ المستشارة الناجحة بكلّ المعايير مقاليدَ السلطة بهدوء العظام وحكمة كبار القوم وحنكة الساسة الفطاحل، فاسحة المجال لغيرها لتكملة مشوار التقدم والتطور بعد أن تصدّر هذا البلد الأوروبي المشهدَ السياسي والاقتصادي والاجتماعي بوقوفه في الصف الأول في دول القارة العجوز. قرارٌ صعبٌ وشجاعٌ قلّ نظيرُه في التاريخ السياسي، وإنْ صحّ وصفُه بزلزالٍ سياسيّ هزّ البلاد بالرغم من بلوغها قمّة العطاء والقوّة والتأثير في حياتها السياسية على الصعيد الداخلي والخارجي. فيما يخشى مراقبون احتمالية حصول إرباكٍ غير مرتقب في الهيكلية السياسية للبلاد بسبب صعوبة التوافق على مرشح بديلٍ لها وبمواصفاتها بعد تنحيها عن منصبها. إلاّ أن القاعدة الرصينة للسياسة الداخلية والخارجية التي عزّزت بها "ميركل" بلادها بأروع اشكالٍ من الاستقرار والإنتاج والتطور لا يُخشى عليها من إمكانية حدوث نقطة تحوّل فاصلة في هذه السياسة، على المدى القريب والمتوسط في أقلّ التقديرات. فالتحالف الحكومي القائم تقليديًا بين أكبر الأحزاب الحاكمة في هذا البلد القوي، ونعني بها الحزب الاشتراكي الديمقراطي وائتلاف حزب الاتحاد الديمقراطي مع توأمه حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، مع أحزاب اليسار أو الخضر الليبرالية الأخرى، تعي تمامًا مسؤولياتها الوطنية والقومية في إدامة زخم تقدّم البلاد وتواصل تطورها بالرغم من العثرات المتناثرة هنا وهناك والتي سُجلّت أخيرًا على المستشارة وتحالفها بسبب طريقة إدارتها لأزمة الجائحة التي ألقت بظلالها، ليس على هذا البد ونظرائه في القارة فحسب، بل شملت العالم أيضًا. لكنها مؤخرًا، وفي أعقاب كارثة الفيضانات التي اجتاحت مقاطعات ألمانية عديدة وألحقت خسائر بشرية بلغت ما لا يقلّ عن 190 قتيلاً وأخرى مادية كبيرة في البنية التحتية، بادرت المستشارة أنجيلا ميركل على تخصيص ميزانية بمبلغ 30 مليار يورو لإعادة إعمار المناطق المتضررة التي ضربت غرب البلاد في منتصف تموز الماضي 2021. وهذا ما طالبَ به أيضًا أرمين لاشيت المرشح المحافظ لخلافتها لمنصب المستشارة.

أحزاب المعارضة تتهيّأ
هناك مَن يتوقع صعود أحزاب المعارضة مثل حزب الخضر والليبراليين للحكم بفضل ما تمتعت به هذه الأخيرة مؤخرًا من تأييد وتحشيد شعبيّين لارتقاء المواقع المتقدمة في السياسة بعد رحيل المستشارة "ميركل". لكنها لن تلجأَ أو لن تكون في موقع يسمحُ لها لإحداث تحولات جوهرية في السياسة الداخلية والخارجية للبلاد لأسباب تتحكم بها سياسة الاتحاد الأوربي من موقع أعلى وما يحكمها من توازنات وضوابط في إدارة شؤون البلاد كبلدٍ يتقدم اقتصاديًا على سواه من دول الاتحاد. هذا علاوة على أسس النظام الديمقراطي المنهجي الذي تؤمن به شعوب هذا البلد مع وجود فارق ربما في الرؤية العامة للسياسة الخارجية وأسلوب معالجة بعض القضايا الحساسة كالهجرة وما يمكن أن تشكله هذه من منغصات لاسيّما مع التطور المجتمعي الحاصل بتنحي الكوادر القديمة وابتعادها عن المشهد السياسي أو انتقال بعض كوادرها إلى صفوف أحزاب ليبرالية أقرب في تبنيها مطالبَ الشارع. وهذا ممّا يدلّ على إتاحة الفرصة للأجيال الشبابية لتولي المسؤولية وتبنّي رؤى جديدة قد تكون مختلفة عن أفكار مَن سبقوهم في الحكم. ومن شأن مثل هذا التوجّه أن يخلق تجاذبات مجتمعية بسبب الاختلاف في الرؤى والمصالح التي أبرزتها سمة التفرّد سواءً داخل الأحزاب الحاكمة أو في صفوف المعارضة في السنوات التالية لحكم "ميركل". وهذا ما يفسّرُ أيضًا، تشكيلة الائتلاف بعد انتخابات 2017 من أحزاب رئيسة وفرعية صغيرة كانت لها كلمتُها في القرار السياسي، سواءً داخل البلاد أو في صفوف دوائر الاتحاد الأوروبي.
إذًا، في ضوء المتغيرات المتوقعة بعد صعود رصيد الأحزاب الصغيرة التي انجذبَ إليها جيلُ الشباب بصورة خاصة وحازت على سماعٍ جيدّ من المجتمع الألماني، يرى مراقبون في إدارة المستشارة "ميركل" للبلاد منذ الانتخابات الأخيرة في 2017، أنها حققت توازنًا مقبولاً في ائتلاف حكومتها على حساب "البراغماتية البرامجية" التي سلكتها في إدارة شؤون البلاد عامةً، عندما قادتها حنكتُها السياسية والحزبية على انتهاج الوسطية في إدارتها بتغييب النقاشات الإيديولوجية والتوجه نحو ديناميكية أكثر قربًا من الشارع لتلبية مطالب الأخير، لاسيّما في ضوء تقاطع الرؤى مؤخرًا حول موضوعة الإجراءات المتخذة في إدارة أزمة جائحة كورونا واختلاف وجهات النظر بصددها.
على صعيد مستقبل الائتلاف الحاكم للبلاد، لا يخفي مراقبون ومقربون من دوائر القرار حصول شرخٍ في تشكيلته بعد أن تزعمته "ميركل" لسنوات بكلّ جدارة. والسبب كما يبدو، يكمن في الطموحات الأخيرة لبعض الزعامات بالرغبة بالصعود إلى المشهد السياسي بقوّة بفعل كاريزميتها السياسية بإقناع جمهورها بالتغيير. وهذا ما يوضح شكلَ الاختلاف في الاتفاق على المرشح البديل عنها " أرمين لاشيت" الذي خلفَ "ميركل" على رأس السلطة في حزبها الديمقراطي المسيحي مقابل منافسه على المستشارية "أولاف شولتس" الذي يترأس الحزب الاشتراكي الديمقراطي والذي تولى منصب نائب المستشارة "ميركل" ووزارة المالية في حكومتها الحالية. وسيكون على المرشح البديل الذي فاز بترشيح الحزب الديمقراطي المسيحي أن يستعدّ لمواجهة شكلٍ من الانشقاق المتوقع داخل الحزب أو بسبب تخلّي بعض النشطاء عنه لأية أسباب كانت. فالخلافات في الائتلاف الحاكم وإنْ ظلّتْ تحت الكواليس، فليست هناك شكوك بوجود تحركات يمينية من جانب ما يُسمّى بحزب "البديل من أجل ألمانيا" قد تتخذ خطًّا متطرفًا في تغيير سياسة الوسطية القائمة المنتهجَة حاليًا، وذلك من جهاتٍ تنادي بالدعوة لانسلاخ ألمانيا من جسم دول الاتحاد الأوروبي وفق برنامجٍ يعطي لها شيئًا من الخصوصية والاستقلالية في بناء دولتها بعيدًا عن الاتحاد. وإن نجح مثل هذا التوجّه في اصطياد المزيد من الناخبين والمؤيدين، فإنه سيكون علامة سلبية في استمرار بقاء أوروبا متماسكة في قوتها وقدرتها العسكرية والسياسية والاقتصادية. وليس هناك من شكوك باحتمال عودة اليمين المتطرف لحكم ألمانيا، تمامًا كما كانت على عهد هتلر.
حزب الخضر
في الوقت الذي يسعى فيه حزب الخضر للتحشيد لأفكاره ورؤاه في إعادة بناء الدولة الألمانية على أسسٍ تتخذ من فكرة تحديث المجتمع وانفتاحه بطريقة مختلفة إلى العالم من دون خرق لمبدأ احترام الحريات الفردية، فإنّ الفرصة أمامه كبيرة لحصدِ تأييد شعبيّ أكبر في الانتخابات القادمة، بحسب مراقبين، لاسيّما مع تقديمه عنصرًا نسائيًا لخلافة ميركل على المستشارية وهي "أنالينا بيربوك" ذات الأربعين عامًا. وهذا ممّا سيمنح لهذا الحزب فرصة أكبر للتأثير على القرار السياسي في حالة استمرار ائتلافه مع الحزبين الحاكمين المرشحين للفوز بأغلبية مقاعد البوندستاغ القادم. ويسعى حزب الخضر لعرض برنامج انتحابي فاعل مستفيدًا من الثغرات التي برزت في برامج الائتلاف الحالي للحكومة من حيث تركيزه على فكرة الاستثمار العام الكبير الذي من شأنه أن يُسهم في إحداث تحوّلٍ اجتماعي وأيكولوجي عبر تمويلات خارجية وتحديث النظام الضريبي الذي من شأنه المساهمة برفد ميزانية الدولة بالمزيد من الأموال من أجل إعادة بناء البنى التحتية المتهالكة وتطوير وسائل الإنتاج والتصنيع. هذا إضافة إلى برامج اجتماعية أخرى يسعى من خلالها لزيادة مدخولات الأسر محدودة الدخل وزيادة الحد الأدنى للأجور تعزيزًا للدور الاجتماعي للمواطن الألماني.
بالتأكيد لن يكون من السهل وضع برنامج وطني شامل باتفاق جميع الأطراف. فالمواقف ستكون متباينة في ضوء البرامج التي يدافع عنها كلُّ فريق من أجل فرض ما يراهُ الأقرب إلى رؤيته السياسية والاقتصادية والأمنية والدفاعية وحتى الاجتماعية بخصوص برامج الهجرة والمهاجرين وشكل الضرائب التي تفرضها الدولة على دافعيها وما تشكلُه هذه من مواقع الاضطراب في السياسة العامة لألمانيا وعموم دول الاتحاد على السواء. وتبقى الفوارق الثقافية والمواقف السياسية وشكل الهوية القومية من بين المعطيات التي سيكون لها الأثر الكبير في رسم سياسة وشكل البلاد بعد انتخابات أيلول القادمة. لذا، كلّ الاحتمالات مفتوحة أمام هذا الحزب المتنامي بهدوء ورصانة في طريقة كسبه للشارع المتحرّك نحو الإصلاح والتغيير في التحالف سواءً مع أية أحزابٍ حاكمة أو غيرها من تلك الصاعدة من صفوف المعارضة. هذا في الوقت الذي يذهب مراقبون إلى إنه من غير المحتمل التغاضي عن سياسة "الوسطية البراغماتية" التي سادت سياسة حكم "ميركل" طيلة السنوات المنصرمة. وهذا يعتمد أيضًا وبشكلٍ كبير على طبيعة برامج المرشحين أنفسهم وبصورة أكبر مرشحي الائتلاف الحاكم الذي سيبقى الأكثر قدرة على تلبية مطالب الشارع لغاية الساعة أكثر من غيره.
بدلاء عن ميركل على المستشارية
 على أية حالٍ، يرى مراقبون صعوبة محافظة حزب ميركل على قدراته الانتخابية في انتخابات أيلول القادمة. وهذا ما تراه المستشارة الألمانية ايضًا في قرارة نفسها. ففي حين شكلت نسبة شعبية حزبها ما بين 35-38٪ من أصوات الناخبين الألمان في زمن استلامها مقاليد المستشارية، تتوقع هبوط هذه النسبة بمقدار 10 درجات في الانتخابات المقبلة، بمعنى وجود صعوبة بتجاوز حزبها نسبة 25٪ من أصوات الناخبين الألمان. ويتحتم على حزبها المكافحة لتجاوز هذه النسبة. وبغير ذلك لن تتوافر أمامه فرص البقاء في الواجهة السياسية إزاء التحدي والمنافسة الشديدة من لاعبين مغمورين على الساحة الألمانية.
    لعلَّ من بين أقوى المرشحين لخلافة ميركل عندما تنتهي ولايتها في 26 أيلول القادم وكما أسلفنا، السياسية أنالينا بيربوك النائبة عن حزب الخضر منذ 2013 وتتولى منصب نائب رئيس حزبها منذ 2018. وهي تمتلك مهارات سياسية ولها شعبية وسط الشباب. وقد أبدت رغبتها بتشكيل ائتلاف مع الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم في حالة تحقيق نتائج متقدمة. يليها من حيث الأهمية مواطنُها أرمين لاشيت (60 عامًا)، وهو سياسي محنّك وصحفي حاز على منصب رئاسة الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم في كانون ثاني 2021. ويُؤخذ على المرشح لاشيت ضعف شعبيته السياسية. يليهما في الترشح على منصب المستشارية، أولاف شولز، من الحزب الاشتراكي الديمقراطي المحافظ الأقدم تأسيسًا في البلاد، وهو محامي وسياسي يبلغ 62 عامًا. ويتولى حاليًا حقيبة المالية في حكومة ميركل إضافة لمنصب نائب المستشارة منذ آذار 2018. بطبيعة الحال، لا أحد يتكهن بنتائج حاسمة في الانتخابات القادمة. ولكن من المؤكد تقاسم هذه الأحزاب الثلاثة نتائج متقدمة، قد تكون متقاربة، ممّا يتطلب ضرورة اللجوء الحتميّ لتشكيل ائتلاف حكومي لإكمال المسيرة القوية والناجحة للمستشارة ميركل.
مهما يكن، فألمانيا بحسب مراقبين مُقدمة على تطورات سياسية في هيكليتها، وقد تأتي بتشكيلة مغايرة للنهج البراغماتي الواضح وسياسة التهدئة والتوافق التي اتبعتها ميركل في إدارة دفة الحكم في بلادها. وما لا يمكن تجاهلُه أو نكرانُه، نيل المستشار ميركل أروع نياشين الشعبية التي أعلتْ من قدرها ورفعتْ من سمعتها وباركتْ حنكتها في طريقة زعامة بلدها، ما كان له الأثر البارز في تعزيز الاقتصاد الوطني الألماني والتأثير في رسم سياسة الاتحاد الأوربي أكثر من غيرها من الزعامات الأوربية. وهذا ما زاد من شعبيتها. فما يطيب للمواطن ويشعرُه بالأمان، قدرةُ بلاده اقتصاديًا وأمنيًا لكونهما مفتاح الرفاهة والسعادة والتطور.


76
العراق... كيف النجاة؟ سفينة نوح في طريقها إلى الغرق
لويس إقليمس
بغداد، في 17 آب 2021
السماعُ لصوت العقلاء والإصغاءُ لنصائح الحكماء والعمل بتوصيات نخب الخبراء من شيمة الساسة الأصلاء، هذا إنْ وُجد منهم أصلاً في شبه وطنٍ كان يُسمّى "العراق" في سابق الأزمان ويتصدر المشهد في سوح العمل والإنتاج والتطور وله الكلمة العليا في التأثير في المشهد السياسي الإقليمي والدولي على السواء. ولعلّ من حيثيات تراجعه في كلّ شيء، إلاّ من تصاعد وتيرة الشحن الطائفي فيه وزيادة أدوات القتل والتهديد والتخريب والحرق والتدمير وما رافق ذلك من شرور وأعمال غير أخلاقية بعيدة عن أصالته، فقدانُه للعديد من المبادئ الجميلة وأدوات السلم الأهلي ومبادرات التآزر والتعايش والتكاتف التي تربى عليها شعبُه المتآلف الذي شكّل َ عبر الزمن أجمل فسيفساء مجتمعي في التاريخ. دعونا لا نبكي أو نتباكى على الماضي ونتذكر أيام زمان، بل العبرة بكيفية إنقاذ البلاد من مازقها القاتل الراهن والوصول بالسفينة المتهرّئة إلى شاطئ الأمان لغرض إصلاح ما تكسّر وتعطّب بها بحكمة ربّانها الحالي. علّه يتحدّى الصعاب، ويتجرّأ أكثر لإيقاف أطناب الفساد ومحاسبة رؤوسهم قبل ذيولهم، ووقف مهازل القتل والخطف والسلاح المنفلت والجماعات الخارجة على القانون ومواقع الحكومة العميقة أينما وجدت وتواجدت.
إنْ يكن الإنسانُ بحاضرِه وليس بماضيه، إلاّ أنّ الحاضر إذا فسدَ ملحُه، فبماذا يُردُّ إليه طعمُه كي يستعيد دوره وأهميته ويعود نافعًا للزمن غير الطيب الذي يعيشُه شعبُ العراق وهو يعاني منذ أكثر من 18 عامًا من الضيم وشرَّ البلاء وشظف العيش وفقدان الأمل والرجاء والأمان وتراجع التعليم والثقافة والخدمات الآدمية في كلّ شيء بسبب فساد زعامات أقلَّ ما يمكن وصفُها بأشباه عصابات نصّبت نفسَها كي تسوس البلاد وتديمَ قوامَها وبقاءَها بالتزوير وخداع البسطاء من الشعب عبر استخدام المال والسلاح والنفوذ الديني والتمويه العقائدي الأيديولوجي المدلّس وغيرها من أدوات الشحن الطائفي والمذهبي والعشائري والقومي المتعصّب. فيما هؤلاء بمعظمهم قد أثبتوا طيلة هذه السنين العجاف بعدَهم كلّيًا عن أية جدارة أو حرص أو نزاهة أو سمة طيبة لخادم الشعب والراعي الصالح الساهر ليلَ نهار على رعيته. والمؤسف أن معظم مَن تولّى السلطة منذ غزو البلاد على أيدي المحتلّ الأمريكي المتغطرس وأعوانه وذيوله وأتباعه قادمٌ من خارج الأسوار وهم يتمتعون بامتيازات من الدولة الأجنبية التي حوتهُم وصرفت عليهم وقدّمت لهم كلّ وسائل الترف والأمان والضمان التي لم يكونوا يحلمون ولو بجزءٍ منها في بلدهم المغضوب عليهم. وعوضَ أن ينقل هؤلاء الساسة والزعماء الموغلون في الفساد وهدرِ المال العام وسرقة قوت الشعب بأدوات وطرق شيطانية، تجربة هذا البلد الأجنبي الطيبة والإنسانية والأخلاقية التي يُفترض أن يكونوا قد تعلّموها وأفادوا منها في بلد "الكفار" الذي مازال يصرّ البعض من هؤلاء الجاحدين وناكري الجميل وصف هذه البلدان بهذه الصفات القذرة التي لا تنمّ سوى عن تخلّف متأصّل وحقد متجذّر في نفوس هؤلاء البعض، إلاّ أن الطيفَ الغالبَ من هؤلاء الجاحدين والانتهازيين مازالوا مصرّين بل وغير مكترثين بإغراق سفينة البلاد المتأرجحة بذات الأدوات السيّئة والفكر الطائفي المتأتي من أيديولوجيات مقيتة في معظمها دينية- مذهبية- طائفية - عرقية- إقطاعية- فئوية- شخصية لا تمتُّ بصلةٍ لأخلاق المكوّنات الأصيلة لشعبٍ عريق كشعب العراق الذي علّمَ البشرية تباشيرَ أوّل حروفٍ للكتابة وزيّنَ مدنَه وبلداتِه بأروع تفاصيل الحياة المتآلفة المتكاتفة المتعاضدة عبر الزمن وسيرة الحياة منذ تشكيل أول أقوام بشرية على أرض النهرين الخيّرين.
سفينة على وشك الغرق، هلْ مِن مَن ينتشلُها؟
بعد أشهر عديدات من مرور البلاد بضائقة ماليّة كاسرة وأزمة سياسية لم تُحسدْ عليها للأسباب الكثيرة التي لم تعد خافية على أحد، لم تبدر أية علامات إيجابية فاعلة من جانب أحزاب السلطة في إحداث تغييرات في السياسة العامة للبلاد وإبراز الدور الحضاري في سموّ العلاقة بين السلطة والشعب التي افتقدت منذ زمن لأية مصداقية. فحتى البسيط من ابناء الشعب الذي "تفتّح باللبن" كما شاع المثل، قد أيقن جملة الأسباب التي أحالت البلاد وشعب العراق إلى حالة ميؤوسٍ منها، ومنها أزمة فقدان الهوية الوطنية بسبب التبعية الولائية للجارة الشرقية الطامعة، وتراجع هيبة الدولة بسبب تزايد أدوات الحكومة العميقة وتسيّد جماعات مسلحة منفلتة تعمل خارج أصول الدولة وأحكامها وقوانينها، وصعوبة ردع أذرع الفساد المتنامي في مؤسسات الدولة وعدم ارتقاء قرارات الحكومات المتعاقبة إلى مستوى صون سيادة الدولة ومؤسساتها بما لها من موجبات قانونية وبما يمنحها حق محاسبة مافيات الفساد لكونها جزءً من الأزمة وليس الحلّ. فمن غير المعقول تسليم ملف الإصلاح والمحاسبة للجان مشكلة من ذات الجهات وذات الأشخاص الذين كانوا جزءًا من عجلة التخريب والدمار والفساد. ناهيك عن إصرار الكتل والأحزاب السياسية الغارقة في تقاسم ما تبقى من ثروات البلاد لحدّ السعي لإفراغ ما في مخزونها الاحتياطي القائم حالًيا في خزائن البنك المركزي العراقي بعد نفاذ الوسائل التي وعدت وزارة المالية بتصحيح مسار الأزمة المالية في البلاد عبر الورقة البيضاء. كلّ هذا وما خفي كان أعظم، ممّا يوحي بتوجه البلاد إلى كارثة مقبلة لا محال، في حالة عدم إثبات حكومة الكاظمي وفريقه الحكومي مقدرة صادمة وصارمة في إدارة الأزمة من كلّ جوانبها والضرب بيدٍ من حديد لتطال الرؤوس الكبيرة المرتبطة بزعامات أحزاب السلطة نفسها التي تدير المافيات المتعددة في سرقة المال العام والتزوير في العقود الحكومية الوهمية والاتجار بالبشر وتداول أنواع المخدّرات استيرادًا وتوزيعًا وانتشارًا من دون روادع. فحتى الحراك الشعبي الذي انتفض له الشعب منذ أكثر من عامٍ في مختلف ساحات التظاهر في وسط البلاد وجنوبها، قد فقد بريقَه بسبب اختراقه والمتاجرة به من أحزاب مشاركة في السلطة ركبت الموجة بهدف إضعاف قدرات المنتفضين المطالبين بإصلاح شؤون الدولة وإدارتها من قبل ساسة وطنيين حريصين على البلاد ويؤمنون بقيم الدولة وهيبتها وسيادتها ويلتزمون بسيادة القانون والعمل بدستور جديد ليحلّ محل الدستور الأعرج القائم حاليًا على مبادئ المحاصصة الوقحة وتقسيم ثروات البلاد لصالح أحزاب السلطة الحاكمة وأتباعهم وأدواتهم وتسليم مقاليد سيادتها وحرية شعبها إلى الغريب والدخيل بحجة الولائية والتبعية المذهبية والطائفية.
لقد حذرت جهات عديدة من مغبة السقوط في الهاوية العميقة التي لا ينفع بعدها الندم والتي إن عادت أوضاع زمن الطائفية والفئوية لا سمح الله، فسوف تحرق ما تبقى من الأخضر واليابس هذه المرة. هكذا هي صورة المشهد السياسي اليوم كما نقرأُها ونراها بأمّ العين ونستشرف طلائعها من أحداث الساعة إبّان الأيام القليلة المنصرمة قبل اشتداد سعير التنافس الانتخابي في 10 تشرين أول القادم. هذا فقط في حالة تأكيد إجرائها في موعدها الافتراضي. وهناك من النخب الاقتصادية والثقافية والأكاديمية مَن يقف متشائمًا من سقامة الوضع وهشاشته بسبب تسارع الأحداث، ومنها تنمّر جماعات مسلحة وفرض إرادتها بسطوة السلاح المنفلت. وهذا لا يمكن أن يحصل من دون وجود دعم وتغطية ومساندة وضوءٍ أخضر من جهاتٍ متنفذة في الدولة تدير شؤون الحكومة العميقة بوسائلها وأدواتها وسلاحها وبأموال وأدوات الدولة ذاتها. وأخشى أن تفقد حكومة الكاظمي سيطرتها على الأوضاع الهشة الراهنة بالرغم من مدّها بوثيقة الائتمان الكليّة من الشعب والمرجعية والنخب التي حمّلتها الثقة والمسؤولية الكاملة لإنقاذ سفينة العراق من الغرق الوشيك في حالة عدم اتخاذ تدابير الصدمة المطلوبة في مقارعة أدوات أحزاب السلطة ووضع حدود لتجاوزات بعضٍ من نواب الشعب غير المؤتمنين على مصالح البلاد من كتل الأحزاب الحاكمة وإصرار البعض على إدامة بقائهم في السلطة ورفض تزحزحهم عن مواقعهم أو ترك مناصبهم لغيرهم الأجدر منهم والأكثر حرصًا وكفاءة في إدارة شؤون البلاد وانتشالها من الغرق الوشيك، لا سمح الله.
خيرُ العلاج لمُّ الصفوف وتشكيل جماعات موازية
في اعتقادي، في حالة استمرار ذات النهج الخاطئ والقاتل من جانب أحزاب السلطة وأدواتها الفاشلة في إدارة البلاد ومعها الجهات التي تقف خلف كلّ هذه الاضطرابات والاختلالات التي تسيء إلى الوطن وشعبه وتعصفُ بوحدته التي تقف على كفّ عفريت هذه الأيام بسبب زيادة الدسائس وأعمال الحرق والتخريب والتلاسن والمماحكات والمناكفات القائمة التي لا جدوى منها، لا بدّ من بلوغ إجماع وطنيّ في صفوف النخب الصاحية التي سئمت الموقف وبلغ اليأس مبلغه من إمكانية التغيير الشامل المرتقب لنجاة سفينة العراق الآيلة إلى الغرق. إلاّ أن هذه النخب على قلتها جديرة أيضًا بالقيام بما يمكّن البلاد من النهوض بأقلّ الخسائر ونجاة سفينتها من التقادم المتهرئ الذي أصاب جسمها المخضّب بالدماء وضربات الخناجر التي حرص نواب الشعب وأحزاب السلطة وسياسيو الصدفة توجيهها في خاصرة جسم العراق بلا خشية ولا رحمة عبر سلوكياتهم الولائية الصارخة والصريحة والمصلحية البعيدة كلّ البعد عن أية ملامح وطنية.
من هنا، تقتضي الظروف الملحة رصَّ الصفوف وتوجيه شرائح الشعب المختلفة، لاسّيما منها تلك ضعيفة الحجة وتقليدية الولاء ومرتهنة الإرادة بزعامات دينية ومذهبية منافقة، باتجاه تأييد جماعات متمدنة وأحزاب وطنية وتجمعات مجتمعية موازية للمافيات القائمة التي تدعمها أحزاب السلطة الحاكمة والتوجه بها نحو اختراق صفوف الشعب المقهور حتى أبعد نقطة في الريف العراقي من أجل توعية المواطن المغشوش المغلوب على أمره الذي صدّقَ ونخشى أنه مازال يصدّق الوعود المعسولة التي اعتادت زعاماتُ أحزاب السلطة، الدينية منها بصورة خاصة أي الاسلاموية المذهبية التي ما انفكّت تستغلّ أوضاع المواطنين البسطاء في التمويه والتدليس وتحسين صورتها السوداء القاتمة أمام الشعب. فيما هي في حقيقة الأمر، لا تتورع عن الإساءة إلى حقوق هذا الشعب التعيس البائس ونهب ثروات البلاد والسعي لإغراقها في أزمات مالية متكررة عبر زيادة النفقات التشغيلية وتحويل الدولة إلى حظيرة استهلاكية لدخلها الريعي الوحيد عبر تواصل استيراد كلّ شيء بسبب تحوّل هذه الدولة إلى حاضنة استهلاكية لمنتجات دول الجوار التي لا يرضيها نهوض العراق وتطور إنتاجه في الزراعة والصناعة والتصنيع. هذا إلى جانب المحافظة على إدامة الامتيازات الكبيرة والمرتبات والمخصصات الفاحشة التي سنتها أحزابُ السلطة عبر نوابها لصالحها ولا تريد مغادرتها أو إلغاءَها أو حتى تعديلها بما يرضي اللّه وينصف عباده بتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية في الثروات الوطنية.
إن البديل الناجع لن ولا يمكن أن يكون عبر تدوير ذات الوجوه التي مزّقت اللحمة الوطنية ونهبت البلاد وقهرت العباد وأوصلت أهلَه إلى الجوع والفقر والبطالة، وأقحلت أرضه وحوّلت الوطن إلى بقرة حلوب لهم ولدولة الولاء، فيما تحول الشعبُ إلى ايادي ضارعة وأفواه فاغرة لاستيراد كلّ شيء وأيّ شيء. فعودة المنتج الوطني إلى السوق الوطنية يعني وقف الاستيراد أو في الأقلّ الحدّ من تداعياته. وفي هذا سبب وافٍ لتقاطع مصالح أحزاب السلطة حصريًا مع أي تطوّر أو اية عودة محتملة للصناعة الوطنية والمنتج الوطني الكفيل وحده بوضع حدود للاستيرادات التي تستنفذ العملة مع عدم قدرة البنك المركزي على إيقاف مقدار الهدر في العملة الصعبة التي تخرج خارج البلاد بطرق وهمية ووسائل شيطانية غير مسيطَر عليها عبر نافذة بيع العملة المشبوهة أساسًا.
لذا، لا بدّ من تغيير جذريّ في سياسة البلاد الاقتصادية والنقدية والمالية ووضع استراتيجيات متعددة المديات لتجاوز ما وصلت إليه البلاد من تراجع وتباطؤ وتخلّف وتذيّل قائمة الدول الأكثر فسادًا وتراجعًا في كلّ شيء. ولعلَّ من البدائل المرتقبة وضع سياسات استثمارية صحيحة وناجعة عبر خصخصة شركات الدولة الخاسرة وتشجيع القطاع الخاص كي يبدع وينهض بالمشاريع الناجحة التي تخدم الوطن والمواطن. وهذا هو المطلوب من أجل رفع قدرات القطاع الخاص، ليس بالكلام وسنّ التشريعات البعيدة عن آماله وتطلّعاته فحسب، بل بمشاركته الحاضرة في صنع القرار وفي وضع أمثال هذه التشريعات كي تأتي منسجمة مع حاجة السوق الفعلية وتضع حدًّا لوقف استيراد المثيل المنتج محليا بعد تقديم كلّ الدعم اللازم والمطلوب من الحكومة لأجل تطوير هذا القطاع المهم المنتظَر منه أن يمتص جيوش البطالة ويدعم ميزانية الدولة بما تحتاجُه من النقد والعملة التي تخرج خارج البلاد. فهذا ما تستشعر به النخب الاقتصادية وتراه ملحًا من أجل تطوير الصناعة الوطنية ونهضتها من جديد، وليس كما يفعل نفرٌ آخر بالتفرّج والنحيب والصمت على ما يجري من دون حراكٍ شعبيّ لذوي الاختصاص والمهنة.
 هذه هي الفرصة الأخيرة لحكومة الكاظمي كي تثبت جدارتَها وقدرتها الوطنية بكمال الثقة التي منحها إياها الشعب وسوحُ التظاهر التّي ملّت الوعود ولم يعد أمامها سوى طرق أبواب أخرى مغايرة لانتشال السفينة وإنقاذها من الغرق الوشيك. عسى الصرخة وصلت المعنيّين لتجدَّ الجَدّ وتفرض هيبة الدولة وسيادتها وتوقف هدر المال العام وتحاسب الفاسدين من أعلى الهرم حتى أسفله وليس العكس كما هو جارٍ مجاراة ومجاملة وخشية من سطوة المقابل، حتى لو تطلّب ذلك فرض القانون بالقوّة وبالاستعانة بما متيسّر من قوات وطنية تتمتع بعقيدة عسكرية عراقية جاهزة للتضحية من أجل انتشال الوطن وأهله من الغرباء والدخلاء ومن المستغلّين التابعين لخارج الأسوار، وهم معروفون ومشخَّصون لدى جميع أبناء الشعب وحتى في حسابات الخارج. فلا سامح الله، إذا غرقت سفينة العراق، غرق الجميع ولن ينجو منها سوى الشلّة الحاكمة وأتباعُها المستعدّون للهروب بما حملته جعبُ جِمالهم المثقلة بثروات البلاد المسروقة.

77
أميركا أتعس المقامرين بالعراق والمنطقة
لويس إقليمس
بغداد، في 26 أيار 2021
يبدو أن الرؤية الضبابية التي تكتنف إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" منذ توليه الرئاسة الأمريكية في ظروف جدلية مربكة ولغاية الساعة، لن تتمكن من تحديد أهدافها في عموم منطقة الشرق الأوسط على وجه الدقة وترميم ما أفسدته إدارتا سلفيه الجمهوري المتهوّر "دونالد ترامب" أو سابقه الديمقراطي، الثعلب المهادن "باراك حسين أوباما"، والذي عملَ تحت إدارته نائبًا له لمدة ثمان سنوات للفترة من 2009-2017. فواقع الحال يشيرُ لانتهاج "بايدن"، أو بالأحرى يُحكم عليه بانقياده وتماهيه ظلاًّ ضبابيًا لرئيسه الأسبق "أوباما" وبما يشبه الحنين الوضعيّ لحقبة توليه ذلك المنصب. فهو كما يبدو في سلوكه المتذبذب بانتهاج سياسة دبلوماسية المطبخ الهادئ التي اتبعها في سيره على خطى سياسة "التقية والمهادنة والتحصّن" في عهد سلفه "أوباما" في مواجهة دول متمرّدة بعينها من تلك التي صارت تشكل مثار قلق وعدم استقرار لدول العالم ومنطقة الشرق الأوسط بالذات، يكون قد فتح الأبواب على مصاريعها لاحتمالية نسج اتفاقات استراتيجية دولية جانبية خارج الخيمة الأمريكية، من شأنها أن تسعى لخلق واقع آخر جديد ومختلف خارجًا عن هيمنة هذه الأخيرة في بقعة غنية وساخنة من العالم.
    من هذه الاتفاقات التي لاحت بواكيرُها في الأفق مؤخرًا، الاتفاقية الاستراتيجية للتعاون التي تم الإعلان عنها بين إيران والصين لمدة خمسة وعشرين عامًا بالرغم من الاختلاف الأيديولوجي بين البلدين. فقد وجدت فيها الجارة الشرقية فرصةً للتملّص من العقوبات القاسية التي فرضتها أمريكا عليها وبدايةً لخروجها عن عزلتها الدولية. وهذا مّما سيفتح أبوابًا لاحقة لغير الصين مثل روسيا وأوروبا لعقد اتفاقات مماثلة قد تكون بداية النهاية للخروج كلّيًا من أغلال الحظر الأمريكي والأممي المفروض عليها بسبب تحوّلها لبعبعٍ صعب المراس والتهجين والمهادنة تحكمه الأدلجة المتعصبة في التشيّع الولائي، بل وعنصرًا غير مريح لعدم استقرار المنطقة والعالم. وهناك مَن يرى أن مثل هذه التطورات الخطيرة في حالة تحقّقها وتوصّل إيران لاتفاقات متلاحقة خارج الهيمنة الأمريكية، مردُّه سياسة التساهل وأسلوب المناورة السياسية المجامِلة والمداهِنة للزعامة الديمقراطية التي أسَّسَ لانتهاجها "أوباما" وتبعها خلفاؤُه من بعده، سواءً الجمهوري "ترامب" الذي كان يعربد من دون أفعالٍ صادمة حقيقية على الأرض أو خلفه الديمقراطي "بايدن" الذي حدّد سياسته في أولى خطواته الرئاسية بسلوك ذات النهج الّلامبالي بدول المنطقة ومحاولة كسب الودّ بأي ثمن بسبب ضعف شخصيته الواضحة. ومن الواضح، أنّ الإدارات الأمريكية المتلاحقة منذ رئاسة بوش الأب ولغاية الساعة، كانت حددت أهدافها في إحداث تغيير في خارطة الشرق الأوسط. كما كان من ضمن تلك الأهداف الرئيسية كسرَ شوكة العراق العروبي وعدم السماح له برفع رأسه من جديد كي لا تقوم له قائمة بعد الذي شهدوا منه من سياسة الخروج عن الطاعة والمواجهة القاسية بكلمة "لا" للغطرسة والعنجهية الأمريكية.
لكن من المؤسف، ألّا تأخذ الإدارات الأمريكية المتعاقبة في حسبانها عند غزوها للعراق مصلحة شعب هذه البلاد وحقه بالعيش بسلام والتمتع بثرواته مثل سائر دول المنطقة التي تنعم بحياة مستقرّة ومحترمة وتعيش اليوم بكرامة ورفعة وانفتاح للعالم، إلاّ في العراق. فقد اقتصر تركيز الغزاة على كيفية استغلال ثروات العراق بطرقٍ تسهّلُ لهم تدمير قدرات هذه البلاد البشرية بأدوات داخلية وخارجية، إلى جانب فقدان سمة السعي الجادّ لإعادة بنيته التحتية التي دمّرتها دباباتُ جيوشهم الغازية وأسلحة حلفائهم الجرّارة التي استحلّت أرضه وأهانت شعبَه عندما جرى تسليمُه ظلمًا على طبقٍ ماسيّ جاهزٍ للجارة الشرقية، العدوّ التاريخي اللدود لإكمال الخطة الاستراتيجية بإنهاء وجود  ومحو حضارة العراق والحدّ من تأثير ثقافته وعروبته على دول الجوار تحديدًا. وفي ضوء هذه السياسة الظالمة وغير المنصفة، تكون أمريكا ومَن يقف بجانبها، مشيرًا وداعمًا ومنفّذًا، قد أوقعت العراق في مأزق يصعبُ الخروج منه سليمًا معافىً على المدى القريب والمتوسط، إلاّ في حالة خلط الأوراق من جديد واتخاذ خطوات الصدمة الدولية الجريئة التي من شأنها وحدها إخراج البلاد من الهوّة السحيقة التي وقعت فيها والنجاة بشعبها من كوارث هذه الهيمنة، ايديولوجيًا وسياسيًا واقتصاديًا وطائفيًا. فالويلات والأزمات المتلاحقة التي وقعت على أهل العراق بعد إسقاط النظام الدكتاتوري السابق على حساب حسن سياسة الاستقرار وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة تأخذ في الحسبان مصلحة البلاد الوطنية وشعبها، كلّها تولّدت بسبب سياسة الإدارات الأمريكية القاصرة المتلاحقة وغير المقبولة بعد الغزو نتيجة لافتقادها لرؤية جاهزة وإرادة صادقة من أجل إصلاح الأمور والسماح بعودة البلاد لأخذ دورها الوطني والإقليميّ المستقلّ بعيدًا عن سياسة المحاور والتبعية للجارة الشرقية. فكلّ الإشارات الواقعية تعني أن إيران ما تزال تنعم ضمنيًا بضوءٍ أخضر من الراعي الأمريكي وحلفائه الغربيين في تمكين سطوتها على العراق وشعبه وتسهيل الاستيلاء على مليارات الدولارات بفضل هيمنتها المذهبية على عقول الساسة الولائيين الذين يجاهرون علانية بتبعيتهم ودفاعهم عن نظام حكمها وقيادتها على حساب مصالح وطنهم وشعبهم.
سياسة الدبلوماسية الناعمة وسياسة القط والفأر
من الواضح بروز أشكال من سياسات التساهل والتنازل والتغاضي بل والتخاذل أحيانًا من لدن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والحالية بصورة أكثر، لصالح بعض دول المنطقة، ومنها إيران بالذات، حيث فاقت هذه السلوكيات غير الواقعية الحدود في بعضٍ منها بحيث صارت بعضُها تشكلُ عبئًا مضاعفًا، إقليميًا ودوليًا، على غيرها. وفي الواقع، بعضُ هذه الدول التي حقَّ وصفُها بالمتمرّدة والسفيهة والتي استخدمتها الإدارات الأمريكية "الاستكبارية" المتتالية "حصانَ طروادة" في فتراتٍ من الزمن الأغبرّ من أجل كسب جانبها كرهانٍ غير مأمون الننائج عبر المساهمة في إحداث تغييرات في خارطة الشرق الأوسط ومنها تدمير بلاد ما بين النهرين وإهانة شعبها منذ اتخاذ القرار الأممي، قد استغلّت الفرصة ومدى التعاطف الدولي ضدّ منظومة النظام السابق المتهوّر من أجل إثبات قدراتها وتعزيز وجودها وفرض رؤيتها الأيديولوجية وسياساتها المتشدّدة هي الأخرى بأشكال الابتزاز والمساومات والاستغلال مستفيدةً من الوازع الطائفي والمذهبي ومدى الكراهية المجتمعية التي رافقت مسيرة ذلك النظام البائد. فما كان من إيران بالذات، إلاّ أن فرضت هيمنتها بموجب سلوك السياسة الناعمة التي تشبه سياسة القطّ والفأر التي اتخذتها الإدارات الأمريكية المتلاحقة منذ غزوها للعراق تجاه سلوكياتها الاستفزازية في المنطقة. وقد ساهمت عدة أسباب لتسهيل هذه الهيمنة على العراق بسبب فقدان الأخير لأبسط قدراته السيادية وضياع شخصيته الوطنية بعد إفراغه من هذه كلّها لا لشيء إلاّ من أجل قلب نظام الحكم ليس إلاّ، والذي اتخذته أمريكا ومَن في طورها هدفًا وطبّقته شعارًا ونفّذته نهجًا من دون وضع خارطة واضحة لإعادة تشكيل البلاد بعد إسقاط نظام الحكم السابق وتغييره نحو الأفضل وفق الديمقراطية المصدّرة كذبًا وخداعًا ونفاقًا. 
ولعلّ من الأسباب التي تهيأت للغازي الأمريكي لانتهاج مثل هذا السلوك الأرعن وغير الناضج بعد تنفيذ الهدف الأسمى بإسقاط النظام السابق وخروج الموقف عن السيطرة بدأت مؤخرًا بالوضوح في الأفق وسوف تكشفها الأيام لاحقا حين إماطة اللثام عن وثائق ومراسلات وتسريبات بدأت بالتوارد يومًا بعد آخر. وهذا ما تفسرُه تحليلات سياسية وما يراه مراقبون حول واقع حال المنطقة في الوقت الراهن. فالخشية من سلوك إيران الاستفزازي في المنطقة ومن مغامراتها التي تجاوزت المعقول تبدو واحدة من هذه الأسباب التي تدمغ هذا الواقع المرير، بعد أن حوّلت عموم المنطقة إلى مستنقع للترسانة الدولية من مختلف الأسلحة والتي زادت من أشكال التوتر الدولي. كما يأتي الخوف الأمريكي والدولي معًا من إمكانية استخدام النظام الإيراني لترسانته العسكرية والصاروخية والتقدم المنجز في حلمه النووي والتي يلوّح بها قادتُه العسكريون والأمنيون علانية ومن دون تحفّظ بمناسبة وبدون مناسبة بعد أن ضمن هذا النظام سهولةَ توزيع أسلحته القتالية المتطورة في أراضي الهلال الذي هيمن عليه تحت بصر ونظر الراعي السياسي الأول وحلفائه من دون القيام بما يليق به من ردّ وردعٍ أمميّن للتقليل من المخاطر المتوقعة في حال خروج الأمور عن نصابها. وآخرها كميّة الصواريخ التي أطلقتها مؤخرًا "حماس" الموالية لإيران ضدّ اسرائيل في عربدتها الأخيرة والتي تطايرت في سمائها كأسراب الطيور المهاجرة. وهذا ممّا خلقَ أشبه ما يكون بفوبيا عالمية حيال النظام الثيوقراطي الذي يحكم هذه البلاد بقبضة الوليّ الحديدية ويسعى لنشر أيديولوجيته في دول المنطقة وخارجها بوسائله وعبر ذيوله وأتباعه. لذا من الواضح أنّ قدرات هذا النظام التوسعية لم يكن لها أن تتشعب وتتمدّد لولا الضوء الأخضر وأساليب المهادنة والتساهل من جانب القوة العظمى ومّن يدور في فلكها، أيًا كانت أسباب أو مبررّات هذه الجهة أو تلك. 
لذا، يبدو أن أسلوب السياسة "الناعمة" التي أعلنتها إدارة "بايدن" في حملته الانتخابية وما بعد فوزه في أكثر من مناسبة للتعامل مع الملفات العديدة في المنطقة وبالذات مع الجارة الشرقية للعراق سوف لن يأتي بنتائج مجدية، كما تشير الوقائع وتشهدُه الأحداث. بل إنّ مصلحة أمريكا العليا سوف تلحقها أضرارٌ بالغة نتيجة انسلال خيوط مهمة وعديدة عن النسيج العام الذي طبع حقبة هيمنتها على دول المنطقة. إلاّ أللّهمّ في حالة تقريرها إجراء تغيير شاملٍ في استراتيجيتها للخروج نهائيًا عن مصالحها القومية وترك إدارة سياسة المنطقة لغيرها من الدول التي بدأت بشائرُ هيبتها بالبروز كقوى اقتصادية مؤثرة دوليًا، ولاسيّما الصين وغريمتها التقليدية روسيا. فالعالم يترقب قرب تربع التنين الصيني على قيادة العالم اقتصاديًا خلال أعوامٍ قليلات إذا ما سارت الأمور حثيثًا في صالحها مقابل تراجع الهيمنة الأمريكية وخفوت تأثيرها وهيبتها بفعل ضعف إداراة هذه الأخيرة وفقدان القدرة على فرض سياساتها وشخصيتها كما اعتادت منذ خروجها منتصرة في الحرب الكونية الثانية وتفرّدها بسياسة القطب الواحد في توجيه العالم لعقودٍ عديداتٍ وفق مقاساتها ومصالحها بعد زوال الاتحاد السوفيتي غريمها التقليديٍ. وفي حالة التحاق الروس بقطار عقد اتفاقات استراتيجية مع دول المنطقة، وبالذات مع إيران، فسيكون ذلك مسمارًا إضافيًا آخر يُدقّ في نعش الهيمنة الأميركية على منطقة الشرق الأوسط وفي نهج تراجع مصالحها فيها وانتهاء صورتها الاستثنائية المهيمنة التي طبعت وجه الكرة الأرضية لعقود وعهود حديثة. وهذا ما يفسّرُ منذ سنواتٍ رغبةَ الإدارة الأمريكية بتقليل تواجدها في منطقة الشرق الأوسط إلى أدنى مستوياته. إلاّ أللّهمَّ في حالة عودة الصقور إلى المشهد السياسي من أجل إعادة هيبة أميركا إلى الواجهة الدولية وقلب الموازين القائمة والمباشرة فعليًا في إعادة تحديد الأولويات الاستراتيجية نحو طريق إحداث تغيير جذريّ في السياسة العامة التقليدية الإيجابية وترك منهج الدبلوماسية الناعمة وسياسة القطّ والفأر التي لا ولن تُؤتي ثمارها مادام الطرف المعني المؤدلج مذهبيًا لا يؤمن بسياسة الحوار والتفاهم والتنازل. وهذه حالُ وطريقة التفكير لدى العنصر الشرقيّ، أفرادًا وأممًا ودولاً. فهذه جميعًا لا ينفع معها إلاّ أسلوب الصدمات الجريئة التي تقطع وتبتر وتنزع بالقوّة في حالة اقتضى الأمر القيام بالتغيير الجذري، تمامًا كما حصل مع العراق حين تقرير غزوه للخلاص من النظام السابق. ولكن من المؤسف حصول ذلك بعنجهية تدميرية قاتلة، بغياب خارطة طريق واضحة تُعيدُ الأمور إلى نصابها وتحقّق لعموم الشعب العراقيّ ما كان ينتظرُه من ديمقراطية حقيقية غير مزيفة ومن حياة مرفهة هي من حقه بعد زمن القهر والظلم وعقود الحروب المدمّرة واستغلال الكرامة لمنافع شخصية وعائلية وعشائرية وفئوية.
مطلوب صحوة أمريكية قومية
في ضوء هذه الوقائع وإزاء السلوكيات المتراخية وغير العقلانية في إدارة الملف العراقي، لا بدّ للسياسة الأمريكية أن تكون أكثر صرامة وحذرًا في التعامل مع ما يجري من ضياع فرصٍ ونهب ثروات وهدر أموالٍ وتشتّتِ حياة ملايين العراقيين وتزايد فقرهم واستمرار نزيف هجرتهم بسبب هيمنة قيادة الجارة "المقدسة" على سياسته وإدارة شؤونه عبر مواليها الولائيين الذين لا تهمّهم مصلحة العراق وعودته إلى محيطه العربي الطبيعيّ. فهل ستصحو الإدارة الأمريكية في عهد "بايدن" بعد انقضاء فترة المائة يومٍ من عهده بعد الذي كشفته الأحداث وتحدّثَ به الواقع من استمرار التجاوز على هيبتها في المنطقة من قبل إيران بالعمل على إعادة الأمور إلى نصابها والعودة بها للالتزام بالاتفاقية النووية من دون غطرسة ولا استغلال لضعف الغرب الأوربي؟ حينها فقط، وعندما تُلجم سياسة إيران الاستفزازية والتسلطية على قرار دول الهلال الشيعي، يمكن توجيه القطار العراقي الضالّ إلى ميناء الأمن والاستقرار والسلام تحت راية وطن واحد ذي سيادة وهيبة واستقلالية، مؤمنًا بمبدأ التعايش السلمي وتقاسم الثروات وطنيًا بعدالة ومساواة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب في قريب الموسم الانتخابي القادم! فمازالت شرائح كبيرة من الشعب العراقي تؤمن بضرورة بقاء وتواجد وتدخُّل قدرات أجنبية من أجل إحداث التغيير الجذري في المنظومة السياسية الفاشلة بسبب فسادها وهزالة إدارتها وفقدانها للإرادة الوطنية الصادقة التي تضمن مواصلة الحياة الطبيعية مثل سائر شعوب المنطقة وإعادة الاستقرار للشارع الثائر المطالِب بحقّه بوطن مفقود، إلاّ ممَّن فقدوا صلة الرحم بالوطن وباعوا أنفسَهم ذيولاً أذلاّءَ للدخيل والغريب الطامع لفسح المجال لهذا الأخير للتغوّل على المنطقة والتدخل في ملفات دولها وفي شؤونها العروبية.
وبغير هذا وذاك، تكون الحكومة الأمريكية قد اقترفت أخطاءً جسيمة وترتبت عليها خطيئة كبرى أخرى مضافة لعظيم خطاياها. وما أكثرها في العراق خصوصًا! كما أن أميركا بثقلها الدولي، في حالة عدم تقويم الأمور بما تستلزمُه العدالة السماوية بالحفاظ على وجه بلاد الرافدين الحضاري والثقافي التاريخيين المتميّزين ووفق ما يستحقه الشعب العراقي المظلوم من حقٍ بالسيادة على موارده وقراره السياسيّ عبر تغيير جذريّ مدعومٍ من المجتمع الدولي الصادق في سلوكياته الأخلاقية بحيث يضمنُ حقوقًا عادلة وحالةً من الاستقرار النفسي والجسدي والمجتمعيّ بسبب خطيئة غزوها له في 2003، تكون قد خسرت في مقامرتها الدولية غير المحسوبة بحكمة واستحقت لعنة التعاسة التاريخية من أبناء سومر وأكد وبابل وآشور الأصلاء لغاية يومنا هذا.
فالعراق كان وسيظلّ صمّام أمان المنطقة وواحدًا من كبار ساداتها، شاء العذول أم احتجّ. فكلٌّ ما هو مطلوب، الخروج عن شرنقة الدول التي تستبيح أرضه وشعبَه وتسطو على قراره وثرواته بغير حق بسبب تهاون المجتمع الدولي، وبالذات أميركا الغازية التي ستلحقها لعنة العراقيين وكلّ شريف صادق في العالم وليس مَن يجامل وينبطح "تقية" وإذلالاً. كما أنّ العراقيين ليس في جعبتهم معاداة أحد، ولا قطع العلاقات مع أحد، بل إنمّا التعايش وفق مقاييس شرعة حقوق الإنسان وقيم الاحترام المشترك بغرض الخروج من أزماتهم الكثيرة الخانقة التي أوقعهم فيها الغازي الأمريكي ومَن أتى بهم لاستباحة البلاد والعباد بغير حكمة ولا وجه حقّ. وهذا لن يتمّ من دون تغيير المنظومة السياسية القائمة وتعديل نظامها الحاكم الذي أثبت فشله في إدارة البلاد، وبالانفتاح المتبادل مع المحيط العربي كخطوة أولية مأمولة نحو مثل هذا التغيير الإيجابي المنتظر تفاديًا لأية مزالق خطيرة قد تجرّ المنطقة بأسرها إلى نزاعات وصراعات لا تُحمدُ عقباها.
وإلى حين تحقيق المرتجى المأمول في الانتخابات المقبلة ببلوغ عقد اجتماعي وسياسي جديد وبتشكيلة مغايرة للمنظومة السياسية الفاشلة القائمة منذ 2003، وبنظام رئاسي وليس برلمانيّ متحاصص بغيض، يبقى الترقب ماثلاً للأحداث بما يمكن حصولُه من مفاجآت وتغييرات وتطورات.

78
العشائرية لا تبني وطنًا
لويس إقليمس
 بغداد، في 23 آب 2021
تطالعنُا مواقع التواصل الاجتماعي بين الفينة والفينة عن عجائب وغرائبَ عمّا يجري في كواليس الدواوين العشائرية من مهرجانات استعراضية بقصد تصفير مشاكل متنوعة حصلت وتحصل بين عشائر، وأحيانًا لأسباب تافهة. وبحسب ما يطرق سماعنا ونقرأ ونشاهد ما يحصل بين طرفي المشكلة، أي جهة المعتدي والمعتدى عليه، ففي اعتقادي كلّ هذا سلوكٌ شاذٌّ لا يبني مجتمعًا صحيحًا قائمًا على روح المواطنة والقانون والعدالة الاجتماعية التي غادرتنا منذ أن فُقدَ الوطن وغابت عنه هيبتُه وتلوثت سيادتُه بأيادي جاهلة لا تعي سوى قيمَ الفوضى وفرض سطوة القوي على الضعيف بعيدًا عن أعين القضاء وسيطرة الحكومة على كلّ شائبة سالبة تساهم في تدمير المجتمع. ولعلَّ إحداها وأكثرها فتكًا وأذىً وتخلّفًا بمجتمعنا العراقي هذا النمط السيّء من الفصل العشائري الذي راج مؤخرًا وأصبحَ لبعض الدعاة والمهووسين بحكم العشيرة إرثًا اجتماعيًا ومفخرة فارغة من الضمير والعقل والمنطق من خلال فرض السنن والأعراف العشائرية التي فرضت سيادتها على القانون وسلطة الدولة وأصبحت بديلها في تسيير شؤون البلاد والعباد. فقد استشرت استعراضات الفصل العشائري كظاهرة سلبية في السنوات الأخيرة، وتكادُ تخرج عن السيطرة بسبب تقاعس الجهات الأمنية والقضائية في أخذ دورها الأمني والوطني في سدّ ثغراتٍ عزّزتها الروح العشائرية المتنامية وشيوخُها لأغراضٍ تجارية وغير إنسانية، حتى إنها تعدّت حدودها لتشمل مقاضاة مؤسسات ودوائر الدولة ومنظمات لا تؤمن هذه الأخيرة بتعقيداتها. بل أصبح لها أعرافٌ وأصولٌ مكتوبة وشفاهية وفق مراحل غريبة بين المعتدي والمعتدى عليه بدءًا من "الفرشة" التي تعني مبلغًا من المال لتهيئة أجواء الديوان لاستقبال طرفي المشكلة. تليها "الكوامة" ونقضها، و"العطوة" و"النكل"، و"الفريضة" ومن ثمّ الجلوس في دواوين العشائر وما يدور فيها من خطابات لا تخلو من مساومات وتهديدات وفرض أتاوات، ثمّ الاتفاق على "دية" معينة مخفضة بعد تدخلات وسطاء ولخاطر عيون هذا الشيخ وهذا السيّد، وعقد "الراية" في ختامها دليلاً على الصلح وإنهاء التوتر والتهديد والخطر الداهم بين الطرفين. مسرحية رخيصة بحق فرضتها سوء الأوضاع الأمنية وغياب القانون وضعف الإدارة وغياب الإرادة. وكلّها لا تلبي حاجة المجتمع التعبان الغارق بالبحث عن لقمة العيش والأمان والرفاه التي يستحقها. كما أنها في كلّ الأحوال لا تبني وطنًا!
وليس غريبًا ما يطرق السمع أو الحديث عن حالات مقرفة وغير إنسانية بإقحام المرأة في مثل هذه المشاكل الفصلية. فقد تشمل "الدية" أو الفصل علاوةً على مبالغ مالية خيالية، فرض مصاهرة بإحدى فتيات الطرف المعتدي لتكون بمثابة سبيّة أو جارية مهانة، أملاً بأن تساهمَ في إطفاء فتيل العداوة بين الطرفين وتعويضًا لردّ الحيف الذي يدّعي الطرف المعتدى عليه قد أصاب عشيرته جرّاء الفعل المقترَف من جانب الطرف الجاني أي الطرف المعتدي. وهذا السلوك يتعارض مع حقوق الإنسان بحسب الكثيرين إلاّ من جانب شيوخ العشائر الذين يصرّون على أن تكون جزءً من الإرث العشائري المتخلّف والحلول محلّ القانون والقضاء. بل إنه لا يخرج عن صفة الاتجار بالبشر لكونه انتقاص فاضحٌ من قيمة المرأة التي يدّعي بعضُ أدعياء الدين ولاسيّما في المعتقد الإسلامي بعموم مذاهبه، إعلاء شأنها كذبًا وزورًا ورياءً ونفاقًا. فالمرأة هي الضحية في بعض هذه الحالات غير السوية.
من المؤسف القول بأن مثل هذه السلوكيات السلبية الخاطئة لا تحصل إلاّ في بلدانٍ فقدت سيادتها وتلاشت هيبتُها وتسيّسَ قضاؤُها بسبب ضعف الدولة وفقدان ساستها وزعاماتها لأية أبجديات الإدارة والقيادة وفرض السيادة بقوة القانون. وإلاّ ما سببُ المغالاة في طلب مبالغ خيالية لأبسط وأتفه المشاكل التي لا ترتقي إلى كونها مشكلة، كما تسردُ مواقع الكترونية أو تُروى حكايات غريبة عن مثل هذه الاستعراضات الفصلية التي تحولت بقدرة قادر إلى فرصٍ عند بعض ضعاف النفوس للاسترزاق والثراء واستغفال البسطاء في الكثير من الأحيان. وهذا هو دور المثقف ورجل الدين الرصين وأرباب النخب الوطنية التي عليها واجب التصدّي لمثل هذه السلوكيات غير الصحيحة التي تقوّض حكم الدولة وتُضعفُ مؤسساتها وتقودها إلى شفير الهاوية في التعامل الصحيح مع المواطن على أساس الالتزام بالقانون الذي يفرض تطبيقه القضاء النزيه، هذا إن وُجد مثل القضاء! وبعكس ذلك، فالمجتمع ماضٍ نحو تغوّل واسع لدور العشيرة وتقديمه على لغة القانون بفعل تقويض قوته وفاعليته وسط المجتمع، بل سيكون عاملاً مساعدًا في انتشار الجريمة وتوسعها على حساب صيانة أمن الدولة ومجتمعها والحفاظ على سمعتها بين الأمم والشعوب والدول.
دور إيجابيٌّ صحيحٌ للعشيرة
لا ننكر دور العائلة والعشيرة في المساهمة ببناء مجتمعات هشّة بحاجة إلى إضافات إيجابية من جانب عقلاء القوم وشيوخهم في إقامة الصلح والتوعية بسداد الأعمال والأفعال من أجل تحصين هذه المجتمعات، لاسيّما تلك التي تتعرّض لمحن ومصائب وخروقات وحروب تتسبّبُ بتدمير البنى التحتية والاجتماعية. وهذا ما عاناه المجتمع العراقي من دون تمييز في غضون العقود المنصرمة، ما كان له آثارٌ سلبية على أجيالٍ برمتها عندما فقدت كلّ مقومات الحياة وتأثرت بتخبطات ساستها وزعاماتها وابتليت بحكومات فاسدة لم تُعر الأوضاعَ الاجتماعية والعلمية والتربوية ما تستحقه من اهتمام. فكان منها أن سادَ الجهلُ وتراجعَ التعليم وفقدت التربية كلّ مقوّماتها لتنتج البلاد بالتالي جيوشًا جاهلة بشهادات مزوّرة وخلفيات لغوية وعلمية ركيكة تعزيزًا لأشكال التخلّف التي أصابت البلاد. ف "الشعوبُ على أشكالها يُولّى عليها"!
ليس من الصحيح أبدًا تبنّي العشيرة أخذّ دور الدولة في بناء نظامٍ مؤسساتيّ قائمٍ على القانون والنظام يكون فيه الجميع تحت طائلة الدستور والقوانين الوضعية بحسب حاجة البلاد وظروفها الزمنية والمكانية، وبما لا يسمح بالتجاوز على سلطة الدولة من أي طرفٍ. فالعشيرة، مهما كانت قوتُها وقدراتُها لا يمكنها منافسة الدولة وسلطتَها الوطنية في بسط نفوذها على المجتمع بالعدالة والمساواة وفي نشر الحق والأمن والسلام. فالدولة هي الدولة والعشيرة لا تعدو كونها جزءً صغيرًا من الدولة، أية دولة. ومن ثمّ، فلكلٍ جانبٍ دورُه في ترصين المجتمع وبناء صروح الوطن وتعزيز آيات السلام والمحبة والتفاهم والتحاور بشأن أفضل الخيارات لإنتاج أجيالٍ واعية صحيحة الجسم والعقل معًا لتكونَ نواةً إيجابيةً لبناء الأوطان وفق أنسب السبل وأكثرها صحة وضمانًا لحقوق الجميع وبما يخدم الجميع. ولا بدّ للجزء ان يكون إيجابيًا ومؤثرًا ضمن الكلّ الذي يمثل الوطن كخيمة وارفة للجميع، حيث لا تحيزَّ لمواطنٍ على حساب غيره، كما لا خيرَ في مواطن إلاّ بجدارته وكفاءته وما يمكن أن يقدمه للمجتمع والوطن من إضافة إيجابية في العلم والخدمات والبناء والتطوّر وأشكال الإبداع. 
نظريًا وعمليًا، لا يمكن الاعتماد على النظام العشائري في بناء منظومة وطنية، وباختصار في إنشاء وطنٍ له مقوّمات دولة عصرية متطورة يخولها التعامل مع غيرها من الأمم والشعوب وفق منظور التكافؤ في القيم والقدرات والنظام. وما يُلاحظ في أشكال النظم العشائرية التي تسود منطقتنا العربية والمجتمعات الإسلامية عامةً، هشاشة الحكومات التي تحكمها بسبب ضعف القوانين التي تسود البلاد والعباد وفق مفهوم الشرع الذي لا يقبل بديلاً عن تفاسير الأقدمين بالعيش في حقب الماضي السحيق الذي ولّى واندرسَ ولم يعد ينفع لزماننا ومكاننا. فلو كانَ نافعًا في زمانه ومكانه في حقب معينة، فهو ليس كذلك في عالم الرقمنة وتسارع التكنلوجيا ووسائل النقل والسيطرة والإبداع والاختراع. كما لا يوجد شيءٌ كاملٌ متكاملٌ لكلّ زمان وكلّ مكان. فالحياة في حركة دؤوبٍ كما قطارُ الأحداث باختلاف عرباته وما تحملُه من بضاعة وبشر ومتاعٍ.
اليوم تكمنُ قوة الفرد والمواطن في قوة الدولة التي ينبغي التكفلَ بكلّ حاجاته الحياتية. ولو ساد شيءٌ من الاختلال في هذه الموضوعة في بلادنا بسبب ما تعرضت له البلاد من نكسات وويلات ومصاعب بسبب الحروب العبثية المتتالية للأنظمة السابقة وخوائها من ساسة حريصين على قيادة دفّة البلاد بحنكة وجدارة ومفهومية وصدق وعدل، فذلك ليس مبرّرًا لصعود المنظومة العشائرية لتكون بديلاً للمنظومة الوطنية التي تجمع الكلّ تحت جناحيها كما الدجاجة تحمي فراخها. فالعشيرة مهما سمت وتجبّرت وتغوّلت، لا يمكنها أن تكون بديلاً للوطن، تلك الأمّ الحنون التي تُعنى بالجميع وليس بأبناء القبيلة والعشيرة والعائلة المصغرة. فما يربط البشر بالوطن أقوى وأشدّ ممّا يربط الشخص بعشيرته وقبيلته التي تتغيرُ فيها موازين الولاء بحسب شيخ العشيرة وأدائه ورغباته وميوله. بينما الوطن، يحكمُه دستور وفيه قوانين وأنظمة وتشريعات تصون الحقوق وتمنح المواطن ما يستحقُه منها في ضوء ما يقدمه من واجبات وقدرات وفعاليات بالمقابل. وفي حالة اختلال هذه العلاقة الجدلية بين الوطن والمواطن، تسقط معها كلّ القيم وأشكال الارتقاء به وبالمجتمع نحو الأفضل. ولا يخفى على الجميع إخفاق أية منظومة اجتماعية عشائرية التوكيل عن أتباعها في انتهاج سياسة عامة معترفٍ بها بين الدول والشعوب، ببساطة لكونها خارج منظومة الحكم وتفتقر للكثير من شؤون السياسة التي تحكمُ الوطن بالمواطن. فللعشائر رجالُها للحكم بين أفرادها وتوعيتهم بأصول الوطن وأخلاق المجتمع ووسائل التعامل والتعايش بين أبناء الوطن الواحد. كما للسياسة زعاماتُها التي ترسي هذه السلوكيات الإيجابية وسط المجتمع وتقود مواطنيه نحو التقدم والتطور والإنتاج والإبداع والتنافس مع أمم الأرض وشعوبها نحو الأفضل. فالأمم التي مواطنوها أكثر سعادة هي تلك التي تحكمها زعامات قوية، مخلصة، نزيهة، صريحة، شفافة، خدومة، صادقة مع نفسها ومع برامجها، كما مع مواطنيها في استخدام العقل والعقلانية وليس الوجاهة والتنمّر والمجاملة والمراوغة والمتاجرة بالإنسان ومشاكله.
وباختصار، لا هوية فرعية تعلو على هوية الوطن!


79
المنبر الحر / كشكول نفايات!!!
« في: 22:30 12/08/2021  »
كشكول نفايات!!!
لويس إقليمس
بغداد، في 12 آب 2021
صدمني ما قرأتُه في موقع البطريركية الكلدانية على لسان غبطة بطريركها في العراق والعالم، الكاردينال "الكاريزمي" والصديق الجليل لويس ساكو، من كلمات غير مستساغة وقاسية بحق مواقع إلكترونية ناضجة لها شعبيتُها ومهنيتُها في نقل الكلمة والرأي والرأي الآخر وعرض الحقائق مهما اختلفنا حيالها من منطلق نشر الوعي وتبيان الوقائع وفسح المجال للحوار والنقاش وكشف المستور، وأيضًا في تقديم النصح والاستشارة المجانية. لقد كتب غبطتُه بمناسبة إطلاق الموقع الالكتروني الجديد “البيت الكلداني” “Chaldean Home، للرابطة الكلدانية في 6 اب 2021، السطور التالية:
"من المؤسف ان نجد بين الكلدان شرذمة من الاشخاص، يعانون من الفراغ الداخلي، لا معرفة لهم بالواقع العراقي، انتهى بهم الامر الى تبعية من يحرّكهم للانتقاد والاثارة بسخرية وابتذال، والاستهانة بالآخرين، وبث الافتراءات ولصق الاتهامات، لتمزيق البيت الكلداني. انهم ينشرون “هراءهم” المصفوف كحقائق على مواقع هي أساساً كشكول نفايات. رجائي ألّا يردَّ الكتابُ الكلدان عليهم، لأنّ الردَّ نوع من الاستجابة لما يرومون."

ما يهمني في كلّ هذا الكلام، ما لحق من اتهام مواقع إلكترونية لها صداها ومهنيتُها وجهودها في نقل أخبار وتقريب وجهات نظر ونشر وعي في الوسط المسيحي والعراقي معّا، والتي بغيابها لما حصل التواصل بين أبناء الوطن الواحد في الداخل وفي دول الاغتراب التي أصبحت ملاذًا للكثير ممّن تركوا أرض الآباء والأجداد مرغمين. ومن هؤلاء ولأجلهم وبسببهم تكوّنتْ خورنات وتشكلتْ إبرشيات واشتدّ التنافس بين الرعاة، أساقفة وكهنة، لشغر هذه المواقع بوسائل وطرق لا مجال للخوض فيها بحيث صارت بعضُها عائلية ومناطقية بحتة. قولُنا في ما ورد أعلاه بوصف الحقائق التي تُنشر في مواقع إلكترونية بعبارة " كشكول نفايات" وما ضمنه من تشكيك واتهام وانتقاص من أهمية وجدارة ومهنية العديد من المواقع والكتّاب المحترمين الذين يتعاطون يوميًا مع مثل هذه الحقائق والوقائع، لا يطيبُ ولا يحلو للقارئ العاقل الرصين لكونه خارج السياقات المقبولة. فما في جعبتنا من معلومات وبيانات ومستورات للفضّ به قد لا يسرُّ البعض. ومن حقي التساؤل، هل اتسم موقع البطريركية الكلدانية منذ إنشائه بالمهنية في نقل الكلمة والعدالة في نشر ما يصلُه من مواضيع ومقالات وأفكار، أم إنه أغلق أبواب النشر وإبداء الرأي والرؤى أمام كتّابٍ من أمثالي حين مقاطعتي منذ سنوات لأسبابٍ عنصرية بسبب رفضي أن أكون بوقًا مواليًا وتابعًا من غير رأي؟ وهل الموقع الجديد للرابطة الكلدانية التي خرجت عن الغرض المرسومِ لها منذ تأسيسها كقاعدة مجتمعية داعمة لأفكار وجهود الكنيسة الكلدانية لتتحول إلى حزب سياسي يتنافس مع سائر الأحزاب المسيحية الهزيلة الذيلية على الساحة السياسية العراقية الهشّة اصلاً، سيكون أمينًا في نقل الحقائق والوقائع من أجل بناء البيت الكلداني والبيت المسيحي؟ ما هكذا تورد الإبل يا سيدي وصديقي البطريرك! الحقّ يُقالُ ولا يمكن إخفاؤُه بغربال!
التخصيص وليس التعميم
سيدي البطريرك، اسمحوا لي بالقول: إنّ تعميمَكم بهذه الطريقة المفتوحة لمَن "ينشرُ الهراء المصفوف كحقائق على مواقع هي أساسًا كشكول نفايات"، كما وردَ في اتهامكم أعلاه غير مقبول في أدنى درجاته. ولم أكن اتوقع أن يصدر يومًا ما شيءٌ من هذا القبيل القاسي وتعميمه بهذه الصورة الغليظة غير المنصفة. فالتعميمُ صفة المتطرّفين والمتزمّتين ومحتكري الواقع والرأي. أمّا التخصيص والتحديد والتشخيص بدقة ورفعة وعقل وإدراك ووعي وتفهّم وسعة صدر فهو صفة العقلاء ورواد الكلمة الناطقة بالحق والرأي السديد، إن عليه أو معه!
هناك كتاب محترمون، سواءً في صفوف الكلدان أم غيرهم من كنائس أخرى، يجيدون ترويض القلم وتلوينه بسموّ ورفعة واحترام، بالرغم من فارق التقويم والتقييم في ما يكتبونه وينشرونه من غث وسمين. فهذا شأن القلم الذي يتدفق من أعماق القلب ليقول ما يشعرُ به، سلبًا أم إيجابًا. فلكلّ قلمٍ رؤيتُه وتقنيتُه وأسلوبُه شريطة عدم خروجه عن الذوق الرفيع والآداب العامة وعدم تسويق ما يدلي به في مزادات "الافتراء والابتذال والاستهانة بالآخرين" وبقدراتهم وآرائهم. من هنا، لا ينبغي التعميم. فهو سلاح الطرف المتطرّف الاحتكاري لكلّ شيء وفي أيّ شيء. وفي اعتقادي، ما يُساق على بعض كتّاب الكلدان المتَّهمين من قبل رئاسة الكنيسة الكلدانية الرسولية الأصيلة، بالمعصية والخروج عن الطاعة قد ينسحبُ بطريقة أو بأخرى على غيرهم من الكتّاب المسيحيين الذين يسقون العطاش بالكلمة الصادقة ماءً زلالاً ولبنًا عفيفًا لا غبارَ عليه انطلاقًا من شعورهم الإنسانيّ أولاً، وتحمّسًا لنقل الكلمة الصريحة وإبداء الرأي السديد والاستشارة الواقعية ثانيًا في ظلّ المُعاش الواقعيّ كنسيًا ووطنيًا واغترابًا.
والسؤال الذي يقضّ المضاجع ولا يلقى جوابًا شافيًا من أهمّ المراجع من شأنه أن يقلب المواجع بدلَ استنهاض الهمم بالطريقة التي ينوي غبطتُه معالجة الثغرات وصدّ كلّ كلمة لا تغرّدُ في السرب. وهذا محالٌ! فمسألة قذف الغير من المعترضين أو رفضُ عديدِ الرافضين لشكل أسلوب الإدارة الكنسية في الكنيسة الكلدانية بخاصة، أو غيرها من الرئاسات الكنسية الأخرى، لن يجدي نفعًا بقدر ما يوسّع الهوّة بين طرفي النقيض فاتحًا المجال لالتحاق أقلامٍ غيرها في خانة الاعتراض والرفض لكلّ ما يبدر، سواءً من هذه الرئاسة أو غيرها. وهذا من شأنه تفاقم الأمور عوضَ البحث عن مخارج أكثر أمنًا ومعقوليةً وتسامحًا. كما أنّ الردّ على مسألة نشر الغسيل من نفرٍ من كتّاب متهمين بالإصابة ب"فراغ داخليّ" ساعة الغضب وتفاقم الشجون، لا يجدرُ أن يصير بهذه الطريقة الاستعلائية الهجومية. وإنْ كان هذا البعضُ المتهم حقًّا بالإصابة بالفراغ الداخلي وكلّ مَن على أمثاله وأشكاله مُساقًا هو الآخر كالقطيع من جهات محرّضة أو محرَّكًا للانتقاد والسخرية، فما بالُكم لا تعيدوا النظر في الكثير من الأدوات والسلوكيات التي فتحت المجال أمام القاصي والداني للدلو بدلوها في مشاكل كثيرة ضربت كنيسة العراق وكنيستكم بشكلٍ أوسع من حيث إدارة الموارد ورعاية المؤمنين وشكل العلاقة بين الراعي والرعية، وبين الرئيس والمرؤوس (الأسقف والكاهن) في معظم الإبرشيات التي نسمع ونتابع أخبارها بشكل مباشر أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت سفيرة مجانية لنقل الأخبار والحقائق والفضائح سواءً بسواء؟ أمام ما وصلت إليه تقنية المعلومات ومستجداتها في كلّ يوم وساعة ولحظة، لا يمكن التكهن او السيطرة على كلّ ما يُكتب ويُنشر في ضوء الحريات الشخصية في نشر الأفكار وإبداء الرأي. وما على القارئ الرصين سوى فرز الصالح من غير الجيّد والنافع. كما يستحيل إبداء الرأي كتابة أو صورة وصوتًا، ما لم تتوفر ولو أجزاء الحقائق حين إثارة أي موضوع أو مسألة فيها شيءٌ من الجدلية. والصحّ فيها، أن يًصارُ للاستيضاح بشأنها عبر الحوار والردّ المكفول. فالاختلاف لا يفسدُ في الودّ قضية طالما هناك حوار ونقاش وتبادل معرفة واستكمال الآراء.
في مسألة ثانية، لا تقلّ أهمية عن الأولى، هل جرى معالجة خلاف الكنيسة الكلدانية مع شقيقاتها في مسألة تشكيل مجلس كنسي عام رسميّ لمجمل كنائس العراق بدل تفرّد الرئاسة الكلدانية في عقد اللقاءات الرسمية والتحدث باسم عموم المسيحيين في العراق، بالرغم من عمق اعتقادنا بنوايا رئاسة الكنيسة الكلدانية الإيجابية في الدفاع عن عموم الشعب المسيحي وحرصها لإيجاد أرضية مشتركة لحلّ هذه الإشكالية المقرفة وغير المريحة، سواءً على الصعيد المسيحي الداخلي والخارجي أو على الصعيد الرسمي الذي يعطي انطباعًا محبطًا وسلبيًا أمام الدوائر والقرارات الحكومية الرسمية إزاء كلّ ما يتعلّق بشؤون وهموم مسيحيّي العراق ومن ثمّ وجودهم المقلق. وهل تتصورون حجم الانتقاد والرفض الشعبي وحتى الخجل من تعدّد الوفود المسيحية التي تلتقي الرئاسات ونفرًا من الرسميين والشخصيات والمنظمات داخليًا وخارجيًا، وكأن القائمين بها أبطالٌ يخوضون حفلة تنافسية لنيل قصب السبق في مضمار الساحة والميدان من دون مراعاة لفروض الاحترام للآخر المغيَّب؟؟؟
تناقض في أحوال البيت المسيحي
سيدي البطريرك الجليل، أستميحكَ عذرًا، بعدم القبول بالتناقض الصارخ في تعليقاتكم واستيضاحاتكم لمجريات الأمور بهذه الطريقة غير المجدية. ففرض السيادة على إدارة كنيسة العراق بالطريقة التي تنوون بها أو سوقها من دون تراضٍ من سائر الكنائس الثلاثة عشر الأخرى التي تشكّل مع كنيستكم عصب الحياة المسيحية في العراق لا يليق بمقامكم الكريم، بل ينتقص من كاريزميتكم بالفشل في إقناع الطرف الآخر بموجبات هذه الرئاسة التي نعتقد ونثق بقناعة وافية بجدارتكم الواقعية بتمثيل عموم كنيسة العراق في عصرها الراهن من دون منافس، شريطة التوافق على المسببات والموجبات والوسائل الكفيلة بتأمين مواقف الجميع من دون استعلاء "الأكثرية المزعومة" على "الأقليات المعدودة" بأسلوب استفزازي لا يقلّ خطورة عن اتهامكم بشيءٍ من عنصرية الأكثرية التي سادت المشهد السياسي العراقي ذاته منذ 2003. وهذه من ضمن النقاط السلبية التي رافقت تنظيم زيارة قداسة بابا الفاتيكان للعراق حيث سعيتم ما استطعتم لجعل الزيارة أكثر ميلاً للكلدانية وحصرها بكنيستكم ومناطقكم وطقوسكم، بالرغم من إبدائي شخصيًا ملاحظات جديرة بالتقييم والدراسة قبل موعد الزيارة بثلاثة أشهر بصحبة صديق لي لغبطتكم في مقرّ البطريركية. وهذا ما دفعني لتسليم قداسة البابا رسالة خاصة بشأن الأوضاع في البلاد والكنيسة العراقية عمومًا. وقد تسلّمتُ ردَّ قداسته شخصيًا في أيار الماضي. وهذا كان من دواعي سعادتي الغامرة. من هنا، ليس من المعقول القبول القسري باقتران حضور الكنيسة الكلدانية في العراق حصرًا وربط حاضرها ومستقبلها دون غيرها بعناصر ومقوّمات الأرض واللغة والتاريخ والتراث.
    أمّا بخصوص رغبتكم ترؤسَ مجلس كنائس العراق، فقد كنتُ صريحًا وواضحًا. لقد سبق أن قلتُها في أكثر من مناسبة وحرصتُ على نقلها بمعية زملاء عَمِلْنا معًا بإشرافكم ضمن لجنة توفيق الجهود المسيحية في مناسبات كثيرة قبل أكثر من أربع سنوات أو أكثر عندما كان الحراكُ المسيحي بضرورة لملمة جراح إدارة كنيسة العراق ساخنًا وسط تقاطع الرؤى وتناقض الآراء بينكم وبين رئاسات كنسية شقيقة. ولم نفلح في جهودنا بسبب تعنّت طرفي النقيض، كلّ في رؤيته ومطالباته ورأيه من دون تقديم أية أشكالٍ من التسامح والتنازل عن السلطة. فكلّ طرفٍ أراد أن "يجلس عن يمين المسيح أو عن يساره في المجد الزائل".
في الآخر، حريٌّ بكلّ كاتب حرّ غير مسيَّس أن ينقل الصورة الناصعة وبقلمٍ رصينٍ واقعَ حال كنيسته وكنيسة العراق عامة، بل وحال العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، بقلمٍ حرّ وشجاع ليس بغرض تشويه الحقائق والكذب على القارئ البسيط أو بهدف إثارة السخرية والابتذال والقذف غير المبرّر. كما هو جميلٌ أيضًا أن تتراصف أقلام الكتاب المسيحيين مشيدة بمواقف غبطة البطريرك الوطنية الشجاعة وعدم تماهي غبطته مجاملةً مع حالة الفساد والفلتان وسياسة التهميش التي تتبعها حكومات العراق الطائفية المتتابعة منذ 2003 ولغاية الساعة بحق المكوّن المسيحي الأصيل وغيره من المكوّنات التي تشكلُ فسيفساء الأرض العراقية الثرية. وهذه من بين المزايا الصارخة لغبطته بوجه الظلم وفساد الساسة والنواب غير المؤتمنين على مصالح الشعب.
أرأيتم، فالكلمة الصادقة تُقالُ ولا يُخفيها غربال الحق والصدق. وبغير هذا، لن تثمر الكلمة ولن تأتي أكلَها في توجيه النقد البنّاء حينما تقتضي الساعة والظرف بمزيجٍ من اللياقة والأدب والدقة في وصف الحالات وتشخيص الواقع وتقديم الحلول. في الختام، لشخص غبطنكم منيّ كلَّ تقدير ومودة واحترام.

80
نريدُ العراق دولة مواطنة، لا دولة مكونات وأحزاب
لويس إقليمس
بغداد، في 28 تشرين ثاني 2019
ما انفكّ زعماء الكتل السياسية وأحزاب السلطة والهامشيون من الأتباع الانتهازيين ومن سياسيّي الصدفة يراهنون على بقائهم في السلطة من أجل ديمومة مكاسبهم والحفاظ على مغانمهم وإدامة زخم سرقاتهم بالرغم من الرفض القاطع والصارخ من الشباب الواعي الثائر الذي ضرب أروع شواهد البطولة التي لم يشهدها الشارع العراقي ولا كان يحلم بها شعبُ العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه حينما ارتفعت أعينُ الجميع لتعانق علم العراق وتنشد بدموعٍ صافية مليئة بالحسرات نشيد الوطن "موطني". 
فكلما سمعتُ كلمات هذا النشيد الحماسية النابضة من رحم الوجدان العراقي الطيب الاصيل تغرورق عيوني بالدموع وتتداخلني حشرجة لا أخرج منها إلاّ وأنا ساكبٌ عبراتٍ أحبسُها في أعماقي بحسرات وتنهدات وشجون لفقدانِ وطنٍ جريحٍ كان بالأمس في صدر الحضارات الراقية. لكنه غدا اليوم في زمن الفلتان وغياب الوازع والضمير وسيادة الفساد وركوب الموجات في ذيل الأمم باستحقاق الاحترام. ففقدان وطن يعني ضياع الذات والوجود والكيان والوجدان والكثير من الميزات والخصائل والفضائل المجتمعية التي تجتمع عليها الدولة والشعب. ومن جملة ما يعنيه أيضًا، زوال الشرف والغيرة والهمّة في بناء كنه الإنسان الصحيح وروحه وكيانه الذي يأويه هذا الوطن والذي من دونه يبقى الإنسانُ متشرّدًا قابعًا في زوايا النسيان والتخلّف مرابضًا أكوام القمامة التي يعتقد الدخلاءُ الحاليون على العراق أنهم يمنّون عليه بفضلاتهم من كثير سرقاتهم ووسائل نهبهم لثروات البلاد أمام الناظر من القاصي والداني. 
إنّ الشعب الثائر يقارع اليوم طغمة فاسدة ارتضت لنفسها خطف الفرحة والبسمة والعافية من سائر طبقات الشعب، أطفالاً ويتامى وثكالى وطلبة ومثقفين وأكاديميين وعلماء وصناعيين وأرباب عمل لفقدانهم وطنهم وجعله أسيرًا بيد الدخلاء ومسلوبَ الإرادة. كما لا يمكن أن ينسى في ساحات اعتصامه المتجدّدة في كلّ يوم، تلك الدماء الزكية التي أُريقت على مذبح الحرية والحقوق وفاءً منها لهذا الوطن وأهلِه عندما فتح هؤلاء الشهداء صدورهم وعرضوا أجسادهم الطرية لحقد القنّاصة ومطلقي الرصاص الحيّ والقنابل السامة المسيلة للدموع المحرّمة دوليًا على أيدي أعداء الشعب من المغرضين الذين لا يدركون معنى مفردة الوطن ولا يفقهون مسلّمة ضياع الوطن ولا يعرفون مبدأ حب الوطن! شهداءٌ سقطوا من أجل عراق جديد توقًا لحياة أفضل وبحثًا عن هذا الوطن الذي أضاعه بل أذلّه فاشلون في الحكم، ونكّدوا عيشَ الشعب بسبب منهجهم الفاسد وإخفاقاتهم المتكررة واستشراء فسادهم اللامحدود. فكانت الانتفاضة الشعبية صوتًا صارخًا ضدّ الفساد وأزلامه وضدّ بائعي الوطن وعرّابي صفقاته المشبوهة وولاءاتهم للغير الطامع. وفي حالة إصرار الطبقة السياسية القائمة على إبقاء الحال على ما هي عليه من توتر وفقدان الإرادة الحقيقية بتغيير منهج الحكم جذريًا بالطرق السلمية والأصولية بحسب مطالب الشارع، فإنّ الأيام القادمة حبلى بالإجراءات والأفعال التي تضمن حق هذا الشعب الجريح ومنهم الشباب الثائر. وكما قالها سياسيون من على شاشات الفضائيات، "سيأتي اليوم الذي يُسحلون فيه في الشوارع"، عقابًا على أفعالهم وعنادهم بالتمسك بالسلطة، غير عابئين بنصيحة المرجعية ليوم الجمعة 22 تشرين ثاني 2019 التي أشارت بكل صراحة " في حالة استمرار سفك الدماء، سيؤول الحكم لغيركم". نقطة، رأس سطر! وحينها لات ساعة مندم!
الدولة تغرّد خارج السرب 
إنّ استمرار تبجّح البعض من الساسة وأحزاب السلطة بالاستخفاف بمطالب الشعب وكيل شتى الاتهامات ضدّ المتظاهرين وتوصيفاتهم غير المقبولة يشير بما لا يقبل الشك، أنّ أمثال هؤلاء يعيشون في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، وأنّ جبالاً شاهقة تفصلهم عن هموم الشعب وعن تحركات الشارع الثائر بكل طبقاته وهو يغلي على صفيح شديد السخونة. فلا المحتلّ الأمريكي الغاشم الذي أتى بحكم هذه الطبقة السياسية الفاسدة بمكيدة دولية ماكرة لمْ تعرف الخجل ولا الحياء ولا الخطيئة سيقف إلى جانبهم، ولا إيران الجارة الطامعة التي تحتل البلاد حاليًا بكلّ ثقلها الأيديولوجي ستنفعهم، ولا بقية الدول الإقليمية والدولية ومنها الأوربية بالتحديد ستذرف عليهم دموع الحسرة إذا ما حانت الساعة وسيق جميع الفاسدين من دون رحمة إلى مقصلة الشعب كي يقول فيهم كلمة الفصل. وحينها لا القضاءُ المسيّس المهتزّ سيكون له كلمة الفصل والفعل والحكم المداهن للساسة وأدواتهم، ولا الدول والأمم التي ماتزال تراهن وترهن مصالحَها على بقاء الطبقة الفاسدة الحاكمة الناتجة عن توليفة وإخراج المحتل الأمريكي بجميع أدوات الدعم والتستّر والتخاذل التي في حوزتهم سيكون لها أيّ أثر أو تغيير في مسار المرحلة القادمة من التغيير المرتقب باتجاه بناء الوطن على أساس المواطنة والعدالة والمساواة كسائر الدول المدنية المتحضرة في العالم. وهذا أبسط ما يطالبُ به المحتجّون منذ انطلاقة الثورة التشرينية في 2019.
في اعتقادي، من المعيب جدًّا أننا مانزال نسمع أصواتًا نشاز على لسان بعض الساسة والنواب ومَن همْ في مقدمة المسؤولية الحكومية في الدولة العراقية. فما صدر حينها بعد أحداث تشرين من وثيقة الشرف غبة اجتماع الساسة الأضداد في دار مغتصبَة أصلاً من دون وجه حقّ من قبل رئيس كتلة سياسية معروفة، فيها الكثير من التجنّي على مطالب الشارع. فهذه ماتزال تعيش أحلام السلطة والحكم ومكاسب الامتيازات ومغانم المحاصصة التي اغتالت الوطن والمواطن سحابة أكثر من ثمانية عشر عامًا من الظلم والفساد والاستخفاف بحق الشعب. هم الذين اعترفوا بارتكاب المعاصي والخطايا بحق هذا الشعب، وذرفوا بسببها دموع التماسيح من دون أن يرعَووا أو يغيّروا ما في جعبهم المليئة حقدًا على الوطن وأهل العراق، وتعهدوا أمام الملأ بتغيير المنهج والنظام. لكنّ "كلام الليل يمحوه النهار"، حقًا.
فهذا واحدٌ من اعضاء اللجنة القانونية يعلن بالأمس عن مهزلة إعادة صياغة القانون الانتخابي لصالح ذات الكتل السياسية التي ضمنت هيمنتها على نتائج هذا القانون مع بعض التعديلات التي تسمح لما أسماهم ب"الأقليات" بالحصول على مقاعد أكثر. وهذا نائب كردي يعتلي موقع النائب الثاني لرئيس السلطة التشريعية التي يشير فيها إلى رفض المكّون الكردي، الذي هو جزء من إشكالية الحكم في البلاد، لأية تعديلات تمسّ مكاسب هذا المكوّن. ويشاركه فيها زعماء ونواب ومسؤولون أكراد كثر. وهذه من الأدلّة على عدم الرغبة في التغيير والإصلاح الجذريّ. فالكلّ ينادي بهاتين المفردتين من دون أن تهتزّ عروش السلطة باتجاه إصلاح ما أفسده الساسة. فاللعاب بالتأكيد مازال يسيل لأموال النفط وأدوات تهريبه، وما تدرّه المنافذ الحدودية من واردات وأتاوات، وما تأتي به فواتير الاستيراد المزوّرة من منافع لتهريب العملة ومن كوميسيونات، وما يتقاضاه الساسة وأحزابُهم من مرتبات وامتيازات ومنافع بيع المناصب وتداول العقود وما سواها. والقائمة طويلة بشأن عمليات تزوير وابتزاز وتهديد وتبييض أموال واستيلاء على عقارات وسرقة أموال وتهريب ثروات وترويج تجارة مخدرات وما سواها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: أليس في هذه التصريحات والأفعال والممارسات والقرارات ما يمكن أن يزيد من إثارة الشارع ويضع أحزاب السلطة في مواجهة أكثر حتمية بين المنتفضين والمدّعين زورًا وبهتانًا وكذبًا بالإصلاح؟ وإلاّ أيُّ منطق هذا، أن تزيد قرارات الحكومة من امتيازات رفحاء والجهاديين والنضاليين في تعديلات قانون التقاعد؟ وأن تشهد البلاد فوضى إدارية غير مسبوقة فيما يتعلّق بشأن تجميد عمل وحلّ مجالس المحافظات التي يُرادُ إعادة تدويرها وتقنينها؟ وهل ذهب اهتمام المسؤولين في الدولة ولو يسيرًا باتجاه تحفيز المنتج الوطني ودعم القطاع الخاص وفتح المجال أمامه للإبداع وتنشيط الاقتصاد ومعه تأمين حقوق العاملين في هذا القطاع من حيث تضييق الفجوة في المرتبات والحقوق التقاعدية وتأمين الرعاية الاجتماعية للجميع من دون تمييز؟ أسئلة كثيرة تمسّ جوهر الأداء في الدولة العراقية وما يترتب على ذلك من نتائج وخسارة فيما لو طالت الأزمة بين الحكومة والشعب بغعل سطوة أدوات الدولة العميقة.
نتعلم الدروس من الشارع
من الشارع ينبغي تعلّم الدروس. فالشعب اليوم، مازال في رحلة البحث عن وطن مفقود، أسير، معروض للبيع. وسيجد ضالّتَه قريبًا بصبره وطول أناته، لأنّ الوطن يسكن بين حناياه وفي وجدانه، ويعيش حيًا بالروح والجسد، بالقول والفعل. فلا بعدَ مرحلة التغيير القادمة دولةَ مكوّنات بل دولة مواطنة، ولا حكومة محاصصة وأحزاب طائفية وفئوية وقومية بل حكومة حكماء وأكاديميين وخبراء وكفاءات، ولا بنكًا مركزيًا لتهريب العملة بالتواطؤ مع مصارف إسلامية مشبوهة بل مصارف وطنية ناضجة تؤمّن جميع الخدمات وتحفظ حقوق الدولة والمودعين من دون خوف أو تردد، ولا موازنة مالية للنهب والابتزاز بل منهاج مالي وخطط استراتيجية للبناء والتنمية والإعمار، ولا وزارات وإقطاعيات للبيع بالمزاد وللتحاصص بل وزارات منتجة وخدمية يحاسبها الشعب والحكومة معًا، ولا قضاء مسيّسًا يداهن ويجامل ويخضع للابتزاز والتهديد بل قضاء عادل يحكم باسم الشعب ويعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه من دون تأثير أو تهديدٍ من أحد أو من جهة نافذة.
من دون شكّ، إن استباحة الدولة العراقية من جانب كلّ مَن هبَّ ودبَّ قد أثقل كاهل العراقيين وأيقظهم من غفوتهم وأعاد إليهم نخوتَهم شيبًا وشباّنًا، صغارًا وكبارًا، فتية وفتيات. وهذا ما نشهدُه من امتعاض وتغيير في فكر الشارع بسبب توالي المصائب وعد تلبية مطالب الشعب بأية إصلاحات موعودة. ويكفي أحفادي الصغار مثل غيرهم من براعم وصغار الوطن في الحضانات والرياض والمدارس يعرفون اليوم أن يميّزوا العلم العراقي بالرغم من صغر سنّهم وطراوة فكرهم حين يمرّون في الشوارع أو يشاهدونه على شاشات التلفزة وأن يتغنّوا باسم الوطن. أمّا القائمون على الحكم الذين مازالوا حبيسي المنطقة الخضراء ودهاليزها أو الذين اختاروا الرحيل والابتعاد والهروب قبل تدفق الطوفان القادم، فإنّ عين الشعب ستظل رقيبة عليهم كي ينال كلّ مَن استأثر واستأسد وتنمّرَ بالحكم ما يستحقه من عقاب الشعب حين تأتي الساعة، وهي قريبة.
إنّنا نؤمن، أنّ التغيير قادم مهما تمادت أحزاب السلطة وأصرّ زعماءُ الكتل السياسية المنتفعة من الكعكة بالمراهنة على موقف المرجعية المتأرجح أحيانًا والتي تمسك العصا من الوسط في جميع توجيهاتها كونها توصَفُ جزءً من تشكيلة النظام السياسي القائم ومنتفعة في الكثير من منهاجه السياسي والأيديولوجي والطائفي والمذهبي. نعم، التغيير قادم، مهما تزايدت ضغوط نظام ولاية الفقيه لإبقاء السلطة بيد ذات الطبقة السياسية التي احترفت الطائفية منهاجًا في حكمها وإدارتها الفاشلة للدولة ومؤسساتها لأجل مصلحة الجارة "الشقيقة". والتغيير قادم مادام الشعب يحثّ دول العالم للاعتراف بعدم شرعية الحكومات العراقية المتعاقبة المتهمة بقتل مواطنيها بحسب ما تنص عليه المواثيق والأعراف الدولية. والتغيير قادم مادام الشارع المنتفض ماضيًا في طريق اللّاعودة في انتفاضته الشعبية الوطنية النابعة من رحم الوطن الغالي المضرّج بالوصمات الطائفية والقومية والفئوية المقيتة. والتغيير قادم مادام الوطن أغلى من النفس والجسد والمال لدى هؤلاء الفتية المنتفضين الذين علّموا العراقيين والعالم معنى حب الوطن ومعنى افتدائه بالروح والدم. و"بالروح والدم نفديك يا عراق"!



81
البعد الاجتماعي في قلب الحدث
لويس إقليمس
بغداد، في 17 حزيران 2021
تفصلنا بضعة أشهر عن الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤُها في 10 تشرين أول القادم. فالاستعدادات جارية على قدمٍ وساق، بالرغم من توافر شكوكٍ معينة لديّ ولدى غيري من متابعي الأحداث الساخنة التي تتوارد وتحصل يومًا بعد آخر، بتوقّع أحداث حبلى بالمفاجآت غير السارّة فيما لو واصلَ الانحدار الأمني مسارَه في التردّي وفرضَ نفسَه سيّدَ الساحة. وبالرغم من إنّ بعض المرشحين قد بدأوا حملاتهم الانتخابية قبل موعدها من دون أن يكون لمفوضية الانتخابات أيةُ إجراءات صارمة بتنفيذ قواعدها الأخلاقية والمهنية كما ينبغي، إلاّ أنّ المفوضية أيضًا، حالُها حال سائر مؤسسات الدولة الهزيلة لا تستطيع ردع المخالفات أو محاسبة المخالفين للأسباب التي يعرفُها الجميع. والغريب، كما تشير تسريبات على مواقع التواصل الاجتماعي وكما يحكيه الواقع المرّ، ملاحظة تسارع كتل متنفذة ومستقوية بالمال العام والنفوذ والسلاح ومعها أدواتُها ووسائلُها المرئية والمسموعة والمقروءة عبر لقاءات وتجمّعات انتخابية مُتّخذةً في الأغلب طابعًا عشائريًا وطائفيًا لاستخدام نفوذها بالتهيّؤ من الآن للسطو على أصوات الناخبين بطرق ووسائل غريبة هذه المرّة ومنها الإسراف والبذخ في الصرف على دعوات الولائم بين العشائر وتوزيع مبالغ مالية لكسب أصوات الناخبين وتأمين تصويتهم. فيما تشير تقارير أخرى إلى انسحابات مبكرة لمرشحين طالتهم تهديدات بالتصفية الجسدية أو إلحاق الأذى بهم وبمقرّبيهم من جهاتٍ مجهولة أو مرتبطة بفصائل مسلحة أو أفرادٍ يتمتعون بالقدرة الفعلية على إلحاق الأذى وتنفيذ أجندات الجهات التي يعملون لحسابها، وذلك تحسّبًا من أية منافسة شريفة مع مَن يجدُ في نفسه القدرة على كسب أصوات الناخبين بالاعتماد على جدارته وبرنامجه وتأثيره الشخصي والوطني والاجتماعيّ، لاسيّما بعد تقليص مساحة الدوائر الانتخابية وصغرها مقارنة مع سابقاتها، ما قد يشكّلُ تهديدًا لعدم صعود ممثلي كتل سياسية تقليدية بعينها بسبب ما طالها من شبهات اقتراف جرائم واتهامات بالفساد.
نحن نعتقد أنّ مثل هذه السلوكيات المدانة وغير الصحيحة وغير الوطنية التي تنتقص لأبسط مفردات الديمقراطية في التنافس الحقيقي لا يمكن لها أن تُحدث التغيير المرتقب في المشهد السياسي المتشنّج ولا أن تبني البلاد المنهارة في كلّ شيء، لاسيّما بعد تسيّد الفساد بكلّ أشكاله الإدارية والمالية. يُضافُ إلى هذا كلّه، فقدان القضاء هيبتَه واستقلاليتَه، كما اتضح من التدخلات المشبوهة وغير المقبولة الأخيرة من أعلى سلطة فيه بعدم ترك القضاء العادل لأخذِ دورِه في إدانة ومحاسبة مَن حامت حولهم شبهات القتل والسرقة والاختطاف والتهديد والتحييد السلبيّ وغيرها من أشكال الفساد والجريمة رضوخًا لسطوة أحزاب السلطة أو الجهات التي تحمي وتدافع وتغطّي على هذه الجماعات أو الأفراد لأيّ سببٍ كان. وبالتأكيد، فإنّ لمثل هذه السلوكيات غير المستساغة والمدانة، أبعادٌ اجتماعية سلبية بحق المجتمع ومكوّناته الوطنية الحقيقية التي تحلم بوطنٍ ذي سيادة تُحترمُ هيبتُه ويتصرّفُ مواطنوه بالشكل الذي يليقُ بحضارة الأرض وتاريخ البلاد وسمات التراث المكوّناتي التعدديّ الذي صان وحدة البلاد واحترمَ رموزَها من جميع الأديان والملل والطوائف والقوميات من غير تمييز ولا فصل عنصري أو دينيّ أو طائفي أو إتني وما سواها طيلة العقود والعهود المنصرمة.
لقد ساهمت النخب الوطنية المتقدمة في الوطن والمهجر بتقديم النصح والمشورة للحكومة وأدواتها بنقدها النصوح لتجنب الهفوات والأخطاء والخطايا الكبيرة التي اقترفتها أحزابُ السلطة ما بعد مغادرة الحاكم المدني الأمريكي سيّء الصيت "بريمر" وسادته في البيت البيضاوي، منذ استحواذها على مقدرات "شبه الدولة" على طريقة الكاوبوي الرعناء التي لا تعرف غير لغة القتل والتهديد والاغتصاب والنهب والتدمير والسطو المسلّح على كلّ ما تقع عليه الأيدي بفضل قوة اعتلائها لهذه السلطة ونفوذها في مؤسسات الدولة وضغوطها المستهجنة على القضاء وجعله أسيرًا بأيديها تحرّكُه وفق رغباتها وبحسب توجهات زعمائها خالي الوفاض من أية مسحة وطنية أو ضميرٍ أو رحمة. ومن المؤسف انسحاب كلّ هذه السلوكيات غير الصحيحة على أغلبية المجتمع العراقي الذي خسر سمة الوطن وثقة الشعب، بل وخسرَ ذاتَه والشيء الكثير من أخلاقه وحقَّه الطبيعي بالعيش سعيدًا مرفَّهًا مستقرَّ الحال ومرتاح البال في بيته وشارعِه ومحلّته ومنطقته ومدينته كباقي شعوب الأمم والدول الراقية المحترمة.
كلُّ شيءٍ يسيرُ طبيعيًا في مجتمعات راقية، متقدمة، منفتحة، متمدنة، متحررة، متعلّمة، متطورة في صناعتها وزراعتها وإنتاجها وثرواتها إلاّ في العراق حيث تغيبُ هذه جميعًا منذ تسلّط الحكومات المحاصصاتية المنتفعة المتعاقبة التي لم تعرف غير سرقة البلاد والعباد بأشكالٍ ووسائل وطرقٍ خبيثة لا تعرف الحق بل تقدّسُ الباطل، ولا تعرف الحياء بل توغلُ في الشين، ولا تصغي لصوت المرجعية الرشيدة بل تضربُ نصائحَها عرض الحائط، ولا تنصتُ لأصوات النخب الوطنية على أنواعها وأشكالها وتعدّدها بل تزيدُ من تجاهلِها لها ولدورها الوطني والمجتمعي وإهانتها بأشكال الطرق والوسائل والأدوات، ولا تريد أن تسمعَ صوت الشارع الثائر أو المواطن الحائر أو التاجر الحقيقي المستغيث أو الصنائعي المضروب في مهنته أو المرأة الثكلى أو الطفل المتسكع والمتسرّب من المدرسة. وغيرُها كثيرٌ ممّا يمكن ذكرُه أو نسيانُه لكثرة الهموم والمشاكل والصعوبات في المجتمع المتهالك التعبان.
سماتٌ وطنية ثابتة
كثيرةٌ هي الدول والأمم التي خبرت أزمات معينة، سياسية أو اقتصادية او أخلاقية أو اجتماعية أو صناعية أو زراعية أو علمية أو تربوية. ولكنّ الشعوب المتنورة بفضل وعي وتسامح قادتها وزعمائها من السياسيين ورجال الثقافة والدين والنخب كانت هي الرهانَ الحقيقي في تجاوز الأزمات وتعلُّم الدروس والعبر والاستفادة من خبرات الغير. والأمثلة كثيرة وعديدة لو تتبعنا مسيرة هذه الشعوب وتاريخها في تعديل المعوجّ وإصلاح المكسور واستئناف الحياة الطبيعية في ظلّ دستور عادل وقوانين إنسانية ووطنية لا تقبل بظلم أحدٍ ولا تستبعدُ مواطنًا مهما كانت منزلتُه وطبيعةُ مكوّنه وأصلِه وفصلِه. فهذه سنغافورة التي نهضت من كبوتها واستعادت عافيتها الاقتصادية بعد ركودٍ وتخلّفٍ عن الركب الأممي. وهذه جنوب أفريقيا التي انتشلت نفسَها من حطام العنصرية عندما قادها المناضل السياسيّ والاجتماعي مانديلا إلى طريق البناء والوحدة بفضل تسامحه وقلبه الكبير ووطنيته الصالحة. وهذه ماليزيا التي وقفت في الصفوف الأولى اقتصاديًا مع كبريات الأمم بفضل تغيير استراتيجياتها وتنوير العقل التدبيري الإيجابيّ لقادتها السياسيين الذين وضعوا مصلحة البلاد فوق أية مصلحة. وهذه اليابان التي خرجت خاسرة وخالية الوفاض من حربٍ لا هوادة فيها، ولكنها استعادت عافيتَها بالرغم من خلوّها من أية مصادر أو ثروات طبيعية. وهذه ألمانيا التي دمّرها الحلفاء لنازيّتها واستسلمت لتنهي حربًا كونيّة أتت على الأخضر واليابس، ولكنها استفاقت من صدمتها سريعًا وهي تقف اليوم في مقدمة دول أوربا صناعيًا وماليًا وعلميًا واجتماعيًا. وهذه دولة قطر الشقيقة التي ينعم مواطنوها بأفضل مراتب التعليم والاقتصاد والحياة المرفهة. وغيرُ هذه وتلك كثير. ولعلَّ السبب في صعود شعوب هذه الدول وارتقائها مراتب متقدمة في تسلسل دول العالم المتقدم، يعود قبل أيّ شيء لمواطنيها الواعين والحريصين على مصالح وطنهم وتقدم مجتمعاتهم وطبيعة ثقافتهم وخامة أسلوبهم في العيش وطبقاتهم السياسية الحاكمة الساهرة على خدمة الشعب وتنمية البلاد بوضع استراتيجيات ناجحة وممكنة التنفيذ وتطبيق القوانين سواسية بالعدل والمساواة والرحمة والمحبة انطلاقًا من المواطنة الصحيحة ومن نظرة إنسانية واعية.
إنّ الصحيح في مثل هذه السمات المواطنية أنها تجعل أبناء الشعوب المتحضّرة يشعرون بالانتماء الحقيقيّ للإنسانية أولاً، ثمّ للوطن والمدينة والمجتمع ويقفون صفًا واحدًا من أجل البناء والإعمار والتطوير والتعاون والوحدة طالما أن القانون يحمي الجميع ولا فرق في درجات المواطنة ولا تمييز في دهاليز القضاء والتعليم والثقافة والوظيفة وحق العمل، ولا إجراءات عبثية بطرد عشوائيّ متغابي لطالبي الاستثمار وفرص الإنتاج. وبعكسه سيكون للمظلومين والمقهورين مواقف اتجاه الظالمين والفاسدين وسارقي قوت الشعب وثروات البلد، ولن ترحمهم الأيادي الوطنية ولا العقول النظيفة ولا الأيادي النزيهة مهما تمادوا في الفساد وأوغلوا في الظلم واللصوصية وهدر المال العام والتفريط بحضارة البلاد وإرثها وتاريخها. كما لن يرحمهم التاريخ، بل سيكون مصيرُ العابثين بمصلحة الوطن وثرواته والناكلين بأهله الأصلاء، "البكاءُ وصريرُ الأسنان" حين تحكمُ ساعةُ الحساب العسير حيث لا ينفع بعدها ندمٌ ولا عفوٌ إذا زاد الظلمُ عن حدوده. وهذا ما يحصل في بلداننا الشرق أوسطية والإسلامية بصورة عامة، حيث طغيانُ الحكومات وفسادُ الساسة وجهلُ الحكّام هي التي تسود المشهد السياسيّ، ممّا له تأثيرُه السلبيّ على حياة المجتمعات عمومًا وزيادة في تدهور هذا البُعد النسيجي الذي يُعدّ من أساسيات بناء الأوطان والمجتمعات.
أمّا نحن في العراق، فقد تجاوزت زعاماتُنا كلّ الخطوط الحمر في التعسّف والفساد والظلم، فيما الشعبُ ينتظرُ ساعة الصفر لتلقى هذه مصيرَها، حيث حاوية النفايات والسحل بالشوارع، كما أفصح عنها على الملأ ساسةٌ وقياداتٌ في أحزاب السلطة عندما ثار الشارعُ في صحوته التشرينية في 2019. وماتزال ذات الجذوة ساخنة وحارّة سخونة الصفيح المحترق اللاّهب سخونة الصيف بسبب توجّه البلاد والعباد نحو المجهول وإلى ما لا تُحمدُ عقباه نتيجة لضعف الحكومة الحالية كما سابقاتها، واهتزازها وهزالتها أمام ضغط الأحزاب والكتل والفصائل والميليشيات التي تحكم قبضتَها على مقدّرات الدولة وسلطاتها الأربع وتفرضُ أجنداتها الولائية المرتبطة بمصالح الجارة الشرقية وتعزّز من سطوتها العميقة مع مرور الأيام وتوالي الأحداث غير السارّة. وكلُّنا شهودٌ على ذلك!
أزمة اجتماعية لا تبشّرُ بالخير 
مازلنا إذن ومنذ عقود خلت، نعيش أزماتنا الكثيرة بصبرٍ أحيانًا ورغبة في أخرى بإزالة كلّ هذه التجاوزات غير الوطنية وغير المقبولة مجتمعيًا عندما نشهد على انحلال المجتمع العراقي وطغيان شريعة الغابة في التعامل الاجتماعي بين المواطنين نتيجة تفشّي ظواهر سلبية كثيرة طالما كانت خارجَ حسابات مجتمعنا العراقي الملتزم أخلاقيًا وعائليًا وعشائريًا لحين تشويهه من الدخلاء والغرباء عنه بفعل فاعل عندما بيّتَ نواياه السيئة لأجل تدمير نسيج شعبنا المتعايش والمتآلف منذ القدم، إلاّ ما ندر. فقد غابت عن مجتمعنا في سابق السنين الكثيرُ من أشكال الفساد والإفساد في التعامل المجتمعي عندما كانت القوانين مصانة في أيادي أمينة تخشى من سلطة تنفيذها على كلّ مَن تسوّلُ له نفسُه العبث بمصلحة الوطن العليا أو تمسُّ أمنَه واستقرارَه وهيبتَه وسيادتَه. هذا مع عدم نكران حصول استثناءات أو تجاوزات هنا وهناك من بعض ضعاف النفوس وأصحاب العقول المريضة سواءً القريبة من مراكز القرار والسلطة أو من "الشقاوات" الخارجة عن قوانين المجتمع. كما لم يختبر مجتمعُنا المتماسك طيلة حقبِ السنين الغوابر شيئًا من إشارات التمييز في الدين والمذهب والطائفة والمكوّن، حيث كان الجارُ يجهلُ أصلَ وفصلَ جاره ونوع طائفتَه وانتماءَه العرقي والعشائري والسياسيّ. فهذا لم يكن من أخلاق العراقيين ولا من شيم العائلات الأصيلة بالدخول في الخصوصيات، وهي التي عرفت طريق التسامح والتآزر والتعاون والتزاور والتعايش من دون رتوش ولا قيود. فالسؤالُ عن مثل هذه الأمور الغريبة عن الأخلاق المجتمعية الأصيلة لم يكن مستحبًا البتة، إلاّ لدى الغرباء والدخلاء والطامعين في شيء أو القاصدين غرضًا غير مقبول في التعامل الاجتماعي الصحيح. قد لا تصدّقون عدم معرفتي الشخصية حديثًا جدّا بالطائفة التي ينتمي إليها زميلٌ لي حتى بعد أحداث 2003 بالرغم من عملنا معًا لأكثر من عشرين عامًا! فما يهمّ هو سلوكُ الإنسان وأخلاقُه وطبيعة علاقته الطيبة في العمل وتنفيذ ما مطلوب بكلّ دقّة وأمانة وإخلاص وصولاً لمصلحة الجميع. وغيرُ هذا وذاك، ليس من بين الاهتمامات الضرورية. فالآخر، و"إنْ لم يكن أخاكَ في الدّين، فهو أخوك في الإنسانية"، وهذا كفاية القول. كما أنّ "رأس الحكمة مخافة اللّه" في عباده. 
هكذا بعد السقوط الدراماتيكي في 2003 خصوصًا، ضاعت طبقات الشعب الأصيلة في بلادنا بين فساد وظلم وقهر الساسة وممثلي الشعب الذين فقدوا مع توالي الأيام ثقة مؤيديهم وناخبيهم، وبين تغوّل أحزاب السلطة وأدواتها على مسرح الأحداث في تغيير الملامح المجتمعية التي تطبَّعَ عليها المجتمع العراقي ومنها أخلاقُه العربية الأصيلة التي طبعت ثقافتَه وحضارته وتقاليدَه بين شعوب المنطقة. والقصد الواضح من هذه كلها تحطيمُ النسيج الاجتماعي وحرمانه من محاكاة غيره من الشعوب الراقية التي عملت حكوماتُها الوطنية الحريصة على تحصين مواطنيها بتطبيق القانون بالعدالة والمساواة والاحترام. وما زاد الطين بلّةً، اكتواءُ المجتمع العراقي بأسره أيضًا بنيران مروّجي الطائفية المقيتة من جهة والمحرّضين على التمييز العنصري الديني والمذهبي والإتني من جهة أخرى، ممّا كان له آثارُه البالغة في تفتيت عضده وإضعاف مقوّماته وتراجع قيمه وانحداره نحو الدركات السفلى والمراتب المتخلفة قياسًا بشعوب المنطقة والعالم. ومن المؤسف زيادة وتيرة مثل هذه النعرات الطائفية الانتقامية مؤخرًا واتخاذها مساراتٍ تأجيجية في الساحات والشوارع والطرق العامة على خلفيات افتراضية غير موثوقة المصدر وطائفية التوجّه، ما ينذر حقًا بصراعات طائفية ومذهبية قادمة يكون المجتمع فيها دومًا هو الخاسر الأكبر في النهاية.
هذا إلى جانب دخول آفة المخدرات من جارته الشرقية بشكلٍ واسع وبوسائل وطرق غريبة مبتكرة مدعومةً من جهاتٍ متنفذة في الدولة أو اللاّدولة، ترويجًا وتعاطيًا وتجارةً. وهذا ممّا أفقدَ مجتمعنا قيمَه الأصيلة ومصادر قوّته النابعة من طبيعة إرثه وثقافته وحضارته المشهود لها في التاريخ. فحين يفقد أيُّ شعبٍ نضارة أخلاقه وبريقَ حضارته وشعاعَ ثقافته الراقية ينزل إلى الحضيض ويصعبُ حينئذٍ علاجَه بالطرق الاعتيادية. وحينها لا ينفع إلاّ الكيّ، وهو آخر الدواء! واللبيبُ من الإشارة يفهم! فالبعدُ الاجتماعي بلا شكّ هو المقصد ألأساسيّ من وراء إغراق العراق بأزمات متلاحقة وإبعاده عن محيطه العربي والدولي والإنساني من خلال تحطيم أدوات العلم والتربية والتنشئة المنزلية والمدرسية أولاً، وتأجيل ووضع العراقيل أمام تطوره اقتصاديًا وماليًا وصناعيًا وزراعيًا كي يبقى أسير الاستهلاك ثانيًا، وتدمير قيمه الاجتماعية التقليدية وتفتيت شكل التعاطي الطبيعي بين مكوناته المتعددة التي تشكل صلة الرحم الوطنية الأساسية ثالثًا.

82
نساء أوربا بلا أطفال، كارثة ديمغرافية
لويس إقليمس
بغداد، في 15 حزيران 2021
نشرت مؤسسة روبرت شومان في واحدٍ من أعدادها السابقة دراسة قيّمة ألقت فيها أضواءً حول التركيبة السكانية في المجتمعات الأوربية وعزوف النساء عن الانجاب، ما يشكّل كارثة مجتمعية تلقي بظلالها على مستقبل الديمغرافيا السكانية في هذه القارة العجوز، التي لاحقتها هذه التسمية لهذه الأسباب وغيرها. وبحسب هذه الدراسة التي جرت في 2017 وجذبت انتباهي نظرًا للواقع الخطير الذي استعرضته، فإنّ "ما يقرب من ربع النساء اللواتي وُلدن في أوروبا في العقد الأول من القرن العشرين لم ينجبن أطفالًا"، حيث يُقدّر متوسط معدل الخصوبة في تلك الحقبة ب 23% بين النساء المولودات في 1900 مثلاً، مقابل معدل 7-10 % لصالح فكرة الإنجاب في الأربعينيات والخمسينيات، أي ما معدلُه واحدة من كلّ عشر نساء لم يكن لديهنّ أطفال. فيما ترتفع نسبة العزوف عن الإنجاب في نهاية الستينيات لتبلغ 15% في شمال أوربا و18% في غربها مع ملاحظة زيادة مقلقة في جنوبها في بداية السبعينيات لتصل إلى 25% من مجموع النساء لأسباب تتعلّق بسبل تأمين المعيشة والقوانين التمييزية بين الجنسين وغيرها من السياسات الأسرية التي ماتزال دون المقبولية في نظر نساء هذه القارة. وتدعم هذه المعطيات دراساتٌ معمقة عديدة أخرى قامت بها عدة جهات بحثية للتقصي، ومنها معهد فيينا للديمغرافيا "فيتجنشتاين" والأكاديمية النمساوية للعلوم والمعهد الوطني الفرنسي للدراسات الديموغرافية INED المتخصص في الدراسات السكانية وديمغرافيتها. وما يمكن ملاحظتُه منذ تلك الحقبة الحرجة ولغاية الساعة اقتصار الإنجاب في السنوات الأخيرة على أسرة صغيرة لا تتجاوز الطفلين، مع استثناءات في كنف العائلات الملتزمة دينيًا أكثر من غيرها والتي ترقى إلى احترام طبيعة الحياة التي أمر بها الخالق في بناء الأسرة عبر التكاثر الطبيعي ومشاركة كلٍّ من الرجل والمرأة في عمل الخَلق عبر الارتباط الأسري الشرعي الذي تقدّسه الأديان في عمومها.
كما تُظهرُ هذه الدراسة في جانبٍ من تحليلاتها قوّة الخصوبة لدى النساء الأوربيات والرغبة لديهنّ للإنجاب أكثر من الرجال. وبناءً على البيانات القيّمة المتاحة فيها والتي شملت دولاً أوربية عديدة، فقد لوحظ ضعف في سوق الزواج في فترة الحربين الكونيتين بسبب النقص في أعداد الرجال الذين انشغلوا بهما أو الذين فقدوا حياتهم أو هاجروا إلى بلدان أخرى لتأمين أرزاقهم، ما أحدثَ فجوة كبيرة في عدم عثور النساء والشابات على شركاء الحياة بهدف تكوين أسرة وبناء البيت العائلي. وهذا ما يفسّرُ حقيقة حصول زيادات مهمة في أعداد الولادات في الفترات بين الحربين الكونيتين وما بعدهما حين بدأ الاقتصاد بالانتعاش وعودة الماكنة الصناعية للعمل، ما مهّدَ للتفكير الجادّ بالإنجاب وزيادة أعداد الأسرة تعويضًا للنقص الحادّ الذي ضربَ القارة والعالم على السواء. وماتزال كلٌّ من بلغاريا والتشيك وروسيا في مقدمة البلدان الأوربية التي يمكن وصفُها بالفتيّة من حيث كثرة الإنجاب في صفوف نسائها، حيث تشيرُ الإحصاءات إلى اقتصار نسبة النساء غير الولودات أي مَن رفضن الانجاب لأي سببٍ كان، إلى 8% مقارنة مع المعدلات في بقية الدول الأوربية بنسبة تصل إلى 14%.. .. في المقابل، لوحظ انحسارٌ في الخصوبة في بلدان جنوب أوربا ولاسيّما في كلٍّ من إيطاليا واليونان وإسبانيا حيث وصلت النسبة 20% في بداية حقبة السبعينات مثلاً. أمّا في فرنسا، فهناك إشارات على انخفاض نسبة النساء اللواتي لا يفكرنَ بالإنجاب والتي لا تتعدى نسبة 3-5%. ويمكن إضافة نسبة 2-4% من النساء غير القادرات على الإنجاب بسبب العقم الطبيعي أو موانع أخرى تتعلق بالصحة العامة وما سواها من الظروف القاهرة.
حماية الأسرة
لقد كان للرعاية الاجتماعية التي تبنتها دول الغرب الأوربي وما رافقها من إجراءات الحماية للأسرة وتسهيل وسائل العيش والحياة بعد الحرب العالمية الثانية، الدور المهمّ في تغيير النظرة للإنجاب والابتعاد عن الأنانية لدى بعض الأسر التي انصبّ همُّها في فترة ما على العمل وتأمين العيش والراحة والمتعة الزوجية دن التفكير بغريزة الأبوّة التي تُعدّ ثمرة الزواج بين الرجل والمرأة. واستمرّ هذا لفترة سنوات وتحققت بعض الزيادة في الولادات عمومًا، لحين بروز واقع آخر جديد متعلّق بالسياسة والاقتصاد وكيفية تأمين العيش الرغيد بسبب التحوّل الوحشيّ باتجاه الرأسمالية، ما خلق حالةً من عدم اليقين في طبيعة السوق في المجتمعات الأوربية، ناهيك عن حالات من عدم الاستقرار في الحياة الاجتماعية للأسرة. حينها اختلّ التوازن بين مسؤولية رعاية الأطفال وهدف البحث الصعب عن وظيفة، ناهيك عن شروط العمل التي لم تُنصف المرأة العاملة، لحين تدخّل النقابات والمنظمات لصالحها، ما هيّأَ لها مساحة أكبر من الحرية للتفكير بالإنجاب ولرعاية الأطفال.
هنا يمكن الإشارة إلى حقيقة قائمة بين دول شرق أوربا وغربها ايضًا في مسألة الخصوبة لأسباب عديدة أخرى يمكن أن تُضاف إلى مسألة شروط العمل غير المنصفة أحيانًا والبحث عن وسيلة لكسب الرزق وتأمين الحياة، وهي تكمن في معاناة إضافية ترافق مسألة الإنجاب عندما يتعلّقُ الأمر بكيفية تربية الطفل بغياب الأم المرتبطة بالعمل. فالعملية مكلّفة للزوجين معًا، لاسيّما الزوجين المتعلّمين حيث ظروف التعليم تفرض عليهما الابتعاد عن الالتزام بمسألة الإنجاب أو تأخيرها قدر المستطاع. وأحيانًا يتمّ تفويت الفرصة بالإنجاب بسبب مثل هذه المبرّرات أو شكل هذا التأجيل. ويمكن ملاحظة زيادة في أعداد النساء المنخرطات في مؤسسات تعليمية أو وظيفية عليا أخذت منهنّ الوقت والجهد لغاية رفض التفكير اساسًا في مسألة الإنجاب وبناء البيت الأسري الذي يُعدُّ من أركان بناء المجتمع وديمومة بقاء المجتمعات متماسكة ومتكاثرة ومتوارثة. ومن الدول التي تأثرت بهذه الظاهرة، كلٌّ من ألمانيا والنمسا وسويسرا أكثر من غيرها، ما حثّ حكوماتها للتدخل وإيجاد أجزاء الحلول بهدف التقليل من تأثير الضغوط على المرأة العاملة التي تفكرُ بالإنجاب من خلال تطوير سياسات رعاية الأطفال والنظر في مسألة تيسير الإجازات عن العمل لفترة معقولة تتيح لها الوقت المتاح لرعاية الطفل من دون ضغوط أو إجحاف بحقوقها المشروعة في الأمومة الكاملة. وكل ذلك بهدف التوفيق بين شروط العمل وواجبات البيت التي تتطلبها رعاية الأطفال.
قوانين وأنظمة ولوائح مقيِّدة
لا تقتصر أسباب العقم أو الرغبة الشاردة الّلاأبالية في عدم الإنجاب على واقع حال الزوجين أو خيارهما التوافقي في شكل بناء بيتهما الأسري بقدر ما يتعلّق ذلك بجملة من الاشتراطات والظروف المعقدة أحيانًا من التي تفرض واقعَها على طبيعة حياة الزوجين، ومنها بطبيعة الحال ما يتعلّق بالتطلعات الشخصية والظروف الاقتصادية التي تحيط بهما بشكلٍ أدقّ. وهذه مسألة غاية في الأهمية في ضوء الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تتعرض لها بلدان العالم أجمع، ولا تقتصر حصرًا على قارة أوربا لوحدها. وحيث إنّ مثل هذا القرار يرسم طبيعة العلاقة بين الشريكين، فإنّه يفترض أيضًا البحث عن الشريك المناسب بقناعة الخيار المتخَذ بين الطرفين في مسألة الاتفاق على الإنجاب من عدمه وكذلك في تقرير حجم الأسرة وفقًا للمعطيات البيتية وطبيعة ظروف الأسرة قبل تكوينها. وربما تكون هذه المرحلة قبل الارتباط من أسس الاتفاق بين الشريكين المفترضين قبل تقرير مسألة الزواج والارتباط الزوجي لما له من أسس اجتماعية وشروط يفرضها أحيانًا الواقع الاجتماعي والمجتمع الذي يختلف من مجتمع لآخر ومن بلدٍ لغيره.
موضوع الإنجاب
من الأسباب والظروف التي تقف عائقًا أمام موضوعة الإنجاب تتعلّق بالقوانين الوضعية وشكل الأنظمة واللوائح التي تصدر من الجهات الرسمية في أية دولة بهذه الخصوص. ولعلَّ واحدًا من هذه يتعلّق بسوق العمل وما تواجهُه طبيعة هذا السوق من تحدٍّ بشأن بلوغ الوظائف غير المستقرّة والمحفوفة بشتى المخاطر التي تواجهُ طالبي العمل، سواءً في مواقع القطاع الخاص أو الحكوميّ. يُضافُ إليها، كما أوضحنا في السطور أعلاه، شكل وطبيعة السياسات المجتمعية التي تخصّ بناء العائلة والمقتصرة تحديدًا في أحيانٍ كثيرة على شكل المساعدات الضعيفة التي تقدمها الحكومات في موازناتها السنوية المحدودة للعائلات والتي بالكادّ تُؤمّنُ وتوفّرُ الحدّ الأدنى من الاحتياجات اليومية المتزايدة يومًا بعد آخر بسب طبيعة التحديات الكثيرة والأزمات المتلاحقة وطنيًا وعالميًا. وهذا ممّا يُصعّبُ القرار بتبنّي فكرة الإنجاب أساسًا لدى الشركاء قبل ارتباطهما رسميًّا. هذا علاوة على لوائح وأنظمة تزيد من تعقيد أوضاع المرأة العاملة بفرض ساعات طوالٍ من الدوام في مؤسسات ودوائر عامة أو خاصة لا تتلاءمُ عادة مع طبيعة الأم الحامل أو الأم المرضعة من حيث إفساح المجال أمامها للتمتّع بامتيازات تليق بأمومتها أو في فترة حملها قبل الولادة، ممّا يجعلُها تخشى فقدان وظيفتها لهذه الأسباب المنطقية. ناهيك عن فرض الرجل ذكوريتًه في الكثير من الأحيان على شريكته بتحميلها العبء الأكبر من مسؤوليات البيت الأسري وتهرّبه من جزءٍ من المسؤوليات التي تفرضها شراكة البيت الأسري بين الرجل والمرأة. وبالرغم من التفاهم القائم في احترام هذا الشقّ المهمّ في الحياة الزوجية في المجتمع الغربي أكثر من غيره في مجتمعات أخرى مختلفة كالمجتمعات الشرقية عادة، إلاّ أنّ مثل هذه الحالات ليست محرّمة الحصول حتى في أوساط البلدان المتمدنة والمنفتحة مثل أوربا. وهذا ممّا يؤشّرُ ارتفاع نسب الأسر غير الراغبة بالإنجاب في صفوف دول جنوب أوربا في العموم والتي تشهد أكثر من غيرها حالات انتهاك وتعنيف ضدّ حقوق المرأة وعدم مساواة جندرية في المشاركة المطلوبة في تقاسم أعباء البيت الأسري.
هناك مَن يتوقع انصياع هذا الجزء من أوربا أيضًا والتحاقَه بما شهدته مجتمعاتُ دول شمال وغرب ووسط وشرق أوربا عمومًا من حيث يُسر تطبيق حزم القوانين والأنظمة التي تسعى لتقليص الفرق بين حقوق الجنسين على أساس المساواة بينهما كما تتطلبُه لائحة حقوق الإنسان. فالجهود حثيثة لتحسين أوضاع المرأة العاملة ومنحها مزيدًا من الحقوق، لاسيّما في حقّها بالتفكير بالإنجاب لما له من فوائد في استمرار الولادات وتأمين القوى العاملة لمستقبل بلدان القارة والحدّ من التغيير الديمغرافي الزاحف بقوّة والذي يخشى منه السكان الأصليون، فيما لو بقيت أوضاع النساء من دون مراعاة ولا تشجيع على الحمل والإنجاب لتجديد النسل وتأمين البشر. وهذه حكمة الخالق القدير بارتباط وثاق الجنسين ضمن مفهوم الزواج الذي من ثماره إنجابُ الأطفال وتكوين الأسرة.
نخلص من التقرير أعلاه، من أنّ ما يعادل ربع نساء أوربا ممّن وُلدن في العقد الأول من القرن العشرين عشنَ حياتهنّ الزوجية بلا أطفال. ثمّ سرعانَ ما تراجعت هذه النسبة في العقود التالية لتقف في حدود معدّل امرأة من كلّ عشر نساء رفضن الإنجاب في بداية عقد الأربعينات والخمسينات. لكنها ازدادت مرة أخرى في بداية عقد الستينات لتصل معدلات رفض الإنجاب للنساء المولودات في نهاية عقد الستينات إلى 15% في بلدان شمال أوربا و18% في بلدان غربها. وبقيت معدلات عدم الإنجاب المؤشرة في حقبة مواليد نساء السبعينات في جنوب أوربا في حدودها العليا، تمامًا كما كانت عليه في العقد الأول من القرن المنصرم، أي واحدة من كلّ أربع نساء بقين خارج حسابات الأمومة للأسباب المؤشرة في أعلاه.

83

تأوين الممارسات المعتقداتية أفضل الخيارات
لويس إقليمس
بغداد، في 20 آذار 2021
في ضوء نضج العقل البشري باتجاه تقييم رؤاه الإيمانية وممارساته "التدينية" وسط المجتمعات، بات ينظر الكثير من الحداثويين والمتمدنين إلى ما يجري في حياة المجتمعات الشرقية، والمسلمة منها على وجه واسع من ممارسات وسلوكيات، بكون الكثير من هذه ومن مثيلاتها قد أصبحت أدوات شبه عقيمة لا تقدّم بقدر ما تؤخر وتقف حائلاً دون فهمٍ وإدراكٍ لأهداف الدين، أي دين أو مذهب. فالفِرَقُ والأحزاب التي اتخذت من الإسلام السياسي وصوره البانورامية الطقوسية الجدلية المستندة لماضٍ سحيق والنابعة عن الرؤية العبثية في تقديس الأشخاص أو غيرها من المسميات المعنوية الغريبة القائمة هذه الأيام، قد أصبحت تشكل عائقًا كبيرًا في قبول تأوين وسائل تلقين التعاليم الدينية وممارساتها وفق مناهج واقعية تتعاطى مع تطور العصر ومقتضيات الحياة المتمدنة. والسبب الأكثر تفسيرًا وترجيحًا لهذا الرفض بالحداثة والتأوين وإعادة التقييم يُنسبُ إلى خشية دعاة هذا المنهج من أية ملامح إصلاحية قد تعصفُ بطموحاتهم وتحدُّ من قدراتهم في إبقاء السطوة الطاغية على مريديهم وأتباعهم ورعاياهم الذين اعتادوا على مسايرة توجيهات مراجعهم وزعاماتهم الدينية والحزبية والعشائرية بحجة طاعة أولي الأمر طاعة عمياء مهما كانت الأسباب والدواعي والظروف. وهذا انتقاص واضحٌ من حرية الفرد في التفكير والتعبير والمعتقد.
لعلّ السبب الأساس في كلّ هذا، نابعٌ من التمسّك بأهداب الماضي الذي إن كان يصلح قبل ألف عامٍ ونيّف أو أكثر أو أقلّ، فهو لم يعد صالحًا في وقت بروز عصر الذرة والعولمة والتكنلوجيا المتقدمة والتطور الرقمي الحديث في حياة الأمم والشعوب. بل يرى البعض أن شكل هذا التحزّب والتمسّك والتشدّد بأهداب الماضي بما له وما عليه من دون تحديث ولا تمحيص ولا تطوير عملي ولا مراجعة فكرية صائبة لفرز الصالح من الطالح والنافع من ضارّه، كفيلٌ بغرز منهج غير مستقرّ ورافض لأية محاولات للتصحيح والتعديل في السيرة وقبول النقد بغاية الإصلاح وكأنه كأسٌ مقدّس لا يمكن المساسُ به. في حين أنَّ الدينَ وتعاليمه وتوجيهاتِ مرجعياته "الرصينة" "المعتدلة" "الحداثوية" من دون تعيين ولا تمييز، ينبغي أن تكون لصالح الإنسان وليس الإنسان لصالحها. ولنا في هذا أفضل قول سديدٍ للسيد المسيح حين انتقده الفريسيون بسبب قيام تلاميذه بقطف سنابل الزرع في اثناء سيرهم يوم السبت "المقدّس" لدى اليهود. فلمّا عرفَ أفكارَهم نهرَهم بالقول: " السبتُ، إنّما جُعل من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت" (إنجيل مرقس 2:27). فحاجة الإنسان أهمّ من أية مظاهر فارغة وغير منتجة. وهذه هي فلسفة الحياة بالدعوة لصناعة الحياة وضروراتها وليس بتقديس ما حصل في التاريخ الذي تُطمسُ (بضم التاء) ذكرياتُه حتى لو لم يكنْ عقيمًا. فالإنسانُ يبقى قلبَ الحدث مهما قالَ التاريخ وتحدثت الجغرافيا!
في هذا السياق أيضًا، لعلَّ أفضل ما فطنَ إليه بابا الفاتيكان في أحد أحاديثه ولنفس السبب، وهو يخاطبُ أوربا مجتمعة مستذكرًا تاريخَها وقيمَها، أنه حذّرَ من مرحلة عدم اليقين ومن مخاطر الانجرافات الفردية في التعلّق بما أسماه "ألبوم الذكريات" والاستعانة عوضه بنظرة موضوعية قادرة على بناء مستقبل حيّ وفاعل يمكن تقديمه للعالم أجمع. وليس غيرُ التضامن كفيلًا بتأمين الفسحة الحقيقية بين الشعوب، لاسيّما في عصرٍ تزداد فيه التحديات من حروب وأزمات وأشكال تمزّق وانقسامات وأوبئة تهاجم العالم أجمع بضراوتها التي يصعب التحكم بها بالرغم من تطور وتنوع التقنية الحديثة التي وقفت خجلة أمام كلّ هذه المشاكل والأزمات. وهذا ما يتطلّبُ اكتشاف سبلٍ جديدة ومثمرة لصناعة الحياة وعيش تفاصيلها الإنسانية بشكلٍ أفضل وأنجع، ليس بالعودة إلى الماضي البائد في محتواه وعناصره الضعيفة، بل بالاستفادة من دروسه المثمرة واكتشاف دروب سديدة أكثر منفعة للبشرية ولشعوب الأرض بحيث لا تخرج عن نطاق التعاون والتضامن والتآزر وما فيه من قيمٍ إنسانية عليا. وقد أسماه بابا الفاتيكان ب"درب الأخوّة" الذي وحده كفيلٌ بتأمين سبل السلام والسلم الأهلي والتوحد لصناعة حياة أفضل للبشرية جمعاء.
لا مجالَ للتشدّد والراديكالية
لقد أطلقت جائحة كورونا صافرة الإنذار بضرورة استعادة الدول والشعوب زمامَ المبادرة بإجراء تقييم إنسانيّ شامل للأزمات التي أحدثتها والتي لم تعد تنفع معها سمةُ الانفرادية والتشدّد والانعزالية والانفصالية في اتخاذ القرارات المصيرية وإدارة شعوب الأرض أو التحكم بها وفق أمزجة عبثية مختلّة. فالجائحة والأزمة التي خلقتها، إنّما هي عابرة للقارات والدول والشعوب. وفي حين لم تنجُ منها أية أمة أو دولة أو مجتمع أو فئة، فتلك رسالة تنذر بأسوأ ما يمكن أن يكون أو يحصل. وهذا الوضع غير المستقرّ في حياة شعوب الأرض خيرُ مناسبة وأفضل زمن لإعادة تقييم الأوضاع والقرارات وتهيئة الرؤى نحو مستقبل أفضل للبشرية ككلّ من حيث تجديد وسائل الإيمان والمعتقدات ونبذ أية مسحة مائلة إلى التشدّد والتطرّف في المواقف والمظاهر التقليدية الاستهلاكية غير المجدية، ومنها الإصرار والثبات على ممارسات ومظاهر لم تعد قادرة على خدمة الإنسان وتقديم ما يُصلحُ حالَه ويؤمّنُ حاجاته المتزايدة. فلنترك الماضي حائرًا بشخوصه وأحداثه، في ذات الوقت الذي يمكن للعالم أن يكتشف حاجاته المستقبلية في ضوء حاضره المنهك بالهموم التي جعلته أسير تلك "الذكريات" التي أصبحت من الماضي. فالعودة إلى زمن الماضي ضياعٌ للوقت والجهد في زمن يركض أسرع من البرق إلاّ فيما يمنح فرصًا أفضل لتقييم الأوضاع وتصحيح المسارات وإصلاح الذات ومصائر البلدان ووضعها في خدمة البشرية المتألمة.
بذلك نقول، لا مجال بعدُ للعودة إلى ذلك الزمن الذي ولّى لفقده سمة الضرورة، إلاّ بالاستفادة من دروسه وعبرهِ، وذلك بسبب ضياعه في متاهاتٍ ساهمت بشكلٍ أو بآخر في تخلّف أمم وثقافة شعوب كان يُفترض بها إدامة زخم زهوها وتقدمها ورفعتها فيما لو رفعت راية التأوين والتطوير والانفتاح في أفكارها وممارساتها الطقوسية المتنوعة وفي رؤيتها الصحيحة لحقيقة مَن ترفعهم إلى درجات "القداسة" وتمنحهم سمة "القدسية" بدون مسوّغ. ولو أدركت زعاماتُ العالم، ومنها الدينية التي تمسّ منطقتنا وشعوبَنا، وتفحصت العبرة بضرورة مراجعة الماضي، لأدركتْ قيمة ُ"الحاجة إلى الحقيقة" وشكل "العدالة الاجتماعية" التي أثارتها حضاراتُ شعوبٍ وبلدان متطورة وسياساتُها الحديثة المعاصرة التي عرفتْ طريقَها إلى التقدم والتفاؤل والتطور في كلّ مفاصل حياتها عبر حداثتها وتأوينها لحاجاتها المعتقداتية وفق الظرف والحاجة. وهذا ما حصلَ ويحصل لشعوبٍ أسدلت الستار على اية خبراتٍ سلبية ماضية أعاقت تقدمها وتطوّرَها، بعكس شعوبِ منطقتنا ومن دون تمييز في الدين والمذهب، ولاسيّما المتشدّدة منها والماضية بإبقاء ذات المفاهيم الدينية المتخلفة من دون إعمال العقل والقناعة، وإدامة زخم مراسيم وطقوسٍ استهلاكية لم تعد تنفع ولا تساير الزمن في أدواتها وأشكالها.
لقد أسهم مثل هذا الواقع غيرِ المستقيم ببروز أدعياء وأتباع صار لهم منهجٌ في فرض صفة "القداسة" و"القدسية" حتى على أشخاصٍ أو مؤسساتٍ أو أحزابٍ أو مسميات معنوية أو فئاتٍ القصدُ منها إبعادُ الشبهات عن سلوكيات هذه أو هؤلاء، والسعي لتوفير أقصى درجات التغطية والحماية على أدائهم وتأمين مواقفهم ومواقعهم ومناصبهم من أية انتقادات في مسيرتهم المتعثرة. وكلُّ ذلك يحصل باسم الدين والطائفة وبدعم من مرجعيات جدلية غير رصينة تحولت معظمُها إلى أدوات ساعية للاستثمار التجاري والدعاية في كلّ شيء أو بتحوّلها إلى مكاتب اقتصادية لجمع المال بأية حجة وأيّ عذر باستخدام الدين وسيلة. وما الإصرار من جانب أطراف تدّعي الولاء والخدمة والعشق الأزليّ للأئمة، وتشدُّدهم على إبقاء بعض مظاهر الطقوس غير الحضارية، سوى باب من أبواب الرضوخ لدعاة تقديس الأشخاص والأفراد والجماعات واتخاذها سبيلاً لبلوغ أهداف تجارية وأخرى سياسية بعيدة عن الوازع الإيماني والمعتقداتي الصحيح. وهذا جزءٌ لا يتجزّأ من مفهوم التشدّد والراديكالية المستخدمة في إدامة تدوير هذه المظاهر، والذي ينبغي معالجتُه وتعديلُه والنظر إليه باعتباره شأنًا غير مقبول في الزمن المعاصر الذي تغيرت فيه المفاهيم والقيم والرؤى تحقيقًا للعدالة الاجتماعية واحترامًا لباقي الأطراف الشريكة في الوطن والإنسانية.
إنَّ مَن يريد اليوم في مجتمعنا العراقي تحقيق حاكمية الله على الأرض بأية وسيلة أو محاربة الخارجين عن الملّة بحجة تحقيق الشرع، لا يختلف في رؤيته وسلوكه عمّن قتلَ وسبا واغتصبَ ودمّرَ وأحرقَ من دواعش الدولة الإسلامية إبان احتلالهم لأكثر من ثلث أرض العراق وتدنيسها بأفعالهم الشنيعة والمرفوضة بكلّ المقاييس والمعايير من جميع الأديان السماوية والشركاء في الوطن. فأولئك فعلوا ذلك أيضًا باسم الدين وحفاظًا على ما ادّعتهُ زعاماتُهم بالخروج عن الموالاة وبحجة حماية الدين والمذهب انطلاقًا من فكر راديكالي متشدّد. وفي الحقيقة كان الغرض الأخير منه توطيدَ سلطانهم وتبريرَ مظالمهم وتحقيقَ أطماعهم.
من هنا، وضمن ذات المعايير، لا يختلفُ عنهم مَن يُصرُّ اليوم على إبقاء ذات المظاهر الاستهلاكية وذات السلوكيات العنفية الرعناء لتحقيق هذه الحاكمية غير المقبولة التي يتضرّرُ منها الغيرُ المختلف عنهم ويتحفّظُ عليها الشريكُ في الوطن وتبقي حركة البلاد وإدارتَها شبه مشلولة ومضطربة. فإنزال القصاص في أشكالٍ من العنف غير المبرّر ومحاربة أصحاب محلات بيع الخمور المجازة رسميًا أو غير المجازة منها في هذه الأيام الأخيرة، كلُّها من مظاهر العنف غير المبرّر لكونها تحدث خارج نطاق القانون والدولة التي وحدها كفيلة بمؤسساتها الرسمية معالجة أي خرقٍ أو خروجٍ عن الآداب العامة والقوانين النافذة. وهذا جزءٌ من سيادة الدولة وبقاء هيبتها منتصبة في نظر المجتمع والأمم والشعوب. وأيّ انتقاصٍ من هذه الهيبة وهذه السيادة من شأنه أن يطيح بمصير شعبٍ بأكمله ويُسقط رهان الوطن إذا انتصر العنف على المحبة والرفق وطغا القتل على الرحمة والألفة وسادت الفوضى على القانون وتطبيقاته الدستورية. وما أحوجنا اليوم إلى ثقافة المحبة واحترام الآخر!

84
أوربا أفضل القارات للنساء
لويس إقليمس
بغداد، في 30 حزيران 2021
من طبيعة النفس البشرية أن تولي اهتمامًا خاصا بالنساء، بشكلهنّ وتكوينهنّ وجمالهنّ ووظيفتهنّ وجاذبيتهنّ الأنثوية وطبيعة سلوكهنّ ونظراتهنّ وحتى في مشيتهنّ وملبسهنّ ومأكلهنّ. فهنّ أفضل خلق الله في كلّ هذا وذاك، وهنّ الوجه الحسن للسعادة حين يكملنَ دورة الحياة وتمتزج هذه الحياة مع الماء والخضرة والعشرة الحسنة الطيبة دون استغلال لكلّ صفاتهنّ الرقيقة المعروفة بهنّ عمومًا ومن دون تخصيص. فالخالق الذي صنع حواء من ضلع آدم لترافقه وتسعده وتشاركه الجنّة بحلاوة ثمارها ونظارة أرضها وجمال طبيعتها، قد أجاز لها أيضًا أن تكون شريكة للرجل في كلّ شيء وان تتساوى معه في الحق في الحياة والعمل والإبداع. لا بل قد جاد عليها بأفضل ما في الخليقة وهي مشاركة الخالق في الخلق بنعمة الإنجاب التي لا يقوى عليها الرجل. وبذلك يكون الخالق قد حباها بنعم أكثر من الرجُل الذي وهبه هو الآخر نعمة مميزة وبما يعين المرأة على الحمل والإنجاب وملء الأرض بنينًا وبنات لمجد الله ونماء البشرية وتطورها نحو الأفضل.
قد تختلف نظرة البشر من منطقة لأخرى ومن دين لآخر ومن مذهب لغيره حول المرأة بحسب الثقافات والعادات والتقاليد والأعراف والقوانين. ففي أوربا التي تُعدّ أفضل قارة من حيث احترام حقوق المرأة وتمتعها بمساواة مع الرجل في معظم المجالات وسط مجتمعاتها المتنوعة، نجد هذه الأخيرة في تطور متواصل وباتجاه تنميةٍ وتقدمٍ في مسارات الحياة المتنوعة على غيرها من شعوب القارات الأخرى. وهذه الحالة يمكن الاعتداد بها عالميًا. بل هي نابعة من الفكر الغربيّ المنفتح على الدور المهمّ الذي تضطلع به المرأة بغضّ النظر عن أصلها ونشأتها ووظيفتها. فالمرأة شيء مقدّس عند الإنسان الغربيّ لا يمكن إلغاء دورها وحقها في المساواة مع رفيقها الرجل أو السماح بتعنيفها أو الاستخفاف بطاقاتها وقدراتها التي توازي في الكثير منها قدرات الرجل إن لم تتفوق عليه في بعضٍ منها. بطبيعة الحال، هناك استثناءات لحالات لا تتوافق مع طبيعة تريبة جسدها الناعم ورقتها المألوفة قياسًا مع هيئة الرجل. وهذا ليس من داعٍ للخوض به، لأنه لا يقدّم ولا يؤخّر من حقيقة واقعها ووضعها العام في القوانين الوضعية والتشريعات التي يسنّها الغرب تقديرًا لكفاءتها واحترامًا لقدراتها ومساهمتها في بناء أطر الدول التي تعيش في كنفها. والمرأة الأوربية هي مدعاة دائمة للفخر وإثبات الذات ونموذج يُحتذى به في كل دول العالم.

أوربا جنّة النساء على الأرض
صدقَ مَن وصف أوربا بجنّة النساء على الأرض. فقد ساعدتها آراء الرجل الأوربي المتحررة والفكر الليبرالي المستمدّ من مفكريها وكتابها وفلاسفتها وبالأخصّ خروجها عن شرنقة الكنيسة وولاية رجال الدين عليها وعلى حريتها، كي تكمل دورة الحياة وتثبت ذاتها بفعل إرادتها الصائبة ونزولها إلى معترك الحياة بقوة. فجاءت مساهمتها في إدارة مؤسسات الدولة وتنمية القطاع الخاص متوازية مع حاجات المجتمع إلى دورها الرائد بما تمتلكه من فكر ودراية وطول باع وبما تكتنزه من قدرات تدريبية ومعرفية سريعة في سوق العمالة وفي تسيير العملية الإنتاجية في المعامل والمصانع، بأدواتها الثقيلة والمتوسطة والخفيفة. فهي من جهة، لا تعبأ بالمصاعب ولا تدع طبيعة العمل تقف حائلاً دون تمكينها من كسب المهارات والإبداع وتحقيق أفضل النتائج. وهذا شأن الكثير من النساء المبدعات في هذه القارة اللائي عزّزن من مواقعهنّ في فنّ الإدارة والمناصب العليا التي كانت حكرًا على الرجل، وذلك بفضل ما أبدته المرأة الغربية من براعة ومهارة ودراية في المواقع التي تسلّقتها.
نظرة إلى واقع المرأة اليوم، نجدها حاضرة وبقوّة في مواقع متقدمة في المنظمات الدولية والمؤسسات الوطنية ترأس لجانًا ودولاً وحكومات وإدارات عامة، ناهيك عن تواجدها في المعامل والمصانع وورش صناعية وزراعية ومكاتب تجارية وشركات عامة وخاصة. بل تُعدّ أوربا أكثر قارة في العالم تديرها نساء كفوءات ومبدعات. ولو أحصينا المَلكات والكفاءات النسائية التي تحكم دول العالم، لرصدنا أن نصفهنّ أو ما قارب ذلك قادمات من أوربا أو منتميات لهذه القارة. وهذا يعطي مفهومًا بمساحة الاحترام والتقدير والاعتراف التي توليها أوربا والغرب عمومًا لدور المرأة في الحياة والذي لا يقلّ أهمية عن الرجل الذي مازال قابضًا بيديه العنيدتين دفة الحكم والإدارة في المجتمعات المتخلّفة ومنها منطقتنا الشرق-أوسطية التي تأبى التقاليد والعادات والأعراف الدينية البائدة الاعتراف بدور المرأة الشرقية وبقدراتها البشرية وطاقاتها الإنسانية والإبداعية إذا ما توفرت لديها الفرصة للتعبير عن الذات.
صحيحٌ أن المرأة في المشرق العربي وعدد من البلدان الإسلامية قد شهدت بعض التقدم، فصارت وزيرة ونائبة واحتلت مناصب إدارية سواء بفضل كفاءتها أم بدعمها من كتل وأحزاب السلطة، إلاّ أنّ ما تلقاه من معوّقات وما تصادفُه من مصاعب ومن عثرات أمامها تكاد تكون كارثية. فهي لا تجرؤ لغاية الساعة، إلاّ ما ندر، كي تخرج بحريتها وتعبّر عن آرائها وتكشف ما تريد قوله بكلّ حرية ومن دون إحراج. فهي في كلّ الأحوال ما تزال خاضعة في العديد من جوانبها وأنشطتها للرجل، سواء في المنزل أم في المؤسسة التي تعمل لصالحها أم لصالح الكتلة أو الحزب الذي يطوّعها ويملي عليها ما ينبغي قوله سواء للإعلام أم في المحافل الوطنية والعامة. وهذا انتقاص من كرامتها وعزة نفسها وعدم إقرار صريح بقدراتها وحرية تعبيرها ونشاطها وفكرها.

لا مجال للمقارنة
لا أريد إجراء مقارنة للمرأة الشرقية مع نظيرتها في الغرب، بقدر ما أودّ التأكيد على حرية كل إنسان في التعبير عن مواقفه وعن رغباته وإرادته. ففي الوقت الذي نجد المرأة الغربية تبتعد أكثر عن أجواء المنزل بحثاً عن وظيفة أو مهنة تؤمّن لها نفقات الحياة الصعبة في بلدان الغرب عمومًا، نجدها في المقابل تهمل دورها البشري في الطبيعة كأمّ منتجة ومتوالدة للحياة من أجل ديمومة هذه الحياة في هذه القارة العجوز التي ابتعدت عن مهمّة الإنجاب وتوالد البشرية بحسب مشيئة الخالق الأساسية. وهذه نقطة ضعف المرأة الغربية التي لا تقدّر هذه النعمة الكبيرة التي أحالتها جانبًا حتى عمر متقدّم قلّما يسمح أو يتيح لها الإنجاب بعد تقدم العمر وفوات الأوان. وهذا أحد الأسباب التي حثّت وشجّعت دولاً غربية ومنها أوربا لاستيراد البشر من دول ومناطق أخرى من العالم تعاني من التخلف والفقر والحاجة والجوع كي تستثمرها في تسيير ماكنتها الاقتصادية والإنتاجية والخدمية. فصارت وعاء للهجرة الشرعية وغير الشرعية، ما قلب الحاجة هذه إلى مأساة ومشكلة وأزمة مهاجرين عالمية في السنوات الأخيرة. 
بالمقابل، نلاحظ كثرة الولادات في العالم الشرقي والإسلامي بصورة خاصة. وهذا بفضل المساحة الشخصية التي تتيحها الأعراف القائمة المستندة إلى العرف العشائري والقبلي والديني بكون "الزواج نصف الدين"، وإلى القوانين الوضعية والشرعية التي تشجع إتمام أشكال الزواج وتعدده من دون محدوديات لدى بعض المذاهب. وقد أسهمت هذه جميعًا، إضافة لأسباب غيرها مثل تنامي البطالة وشيوع الجهل والأمية والبطالة في السنوات الأخيرة، بزيادات انفجارية في بلدان الشرق التي تفتقر أصلاً إلى استراتيجات للتخطيط السكاني والحضري، كما يحصل في العراق على سبيل المثال. ولا بدّ من ملاحظة ما أنتجته هذه الزيجات غير الرصينة وغير المتكافئة في العديد منها، من مشاكل ومآسٍ على طرفي المعادلة، فكثرت حالات الطلاق وتعرضت أسر بأكملها للانفكاك والانحلال. وكانت من نتائجها، زجّ هذه الأسر أنفسها أو لأبنائها في متاهات الشوارع والساحات والأماكن العامة للعمل في استجداء المارة وأصحاب المركبات وخروج العديدين منهم عن سواء السبيل للعمل في أعمال غير شريفة وفي مجال الدعارة والكسب الحرام. وهذا بطبيعة الحال قد جعل من هذه الحالة ظاهرة مستعصية تحتاج لجهود كبيرة وكثيرة من أجل إعادة أخلاقيات المجتمع العراقي إلى طبيعتها الوطنية والحضارية وبما يكفل حقوق جميع المواطنين، ومنهم مساواة المرأة مع الرجل ورفع كافة القيود عنها ومنحها مساحات من الحرية والحركة وإمكانية التعبير عن نفسها بالقبول أو الرفض في مسألة الارتباط الأسري واختيار الشريك المناسب من دون تدخل عشائري أو أسري وتحاشيًا لأية ضغوط أخرى خارجية من شأنها التأثير على قرارها وتقييد حريتها في المأكل والملبس والخروج والزواج والإنجاب والوظيفة وما سواها ممّا تحتاجه الحياة من حرية للتعبير عن الإرادة التي أحلّها الله الخالق في حياة كلٍّ من الرجل والمرأة على السواء. ومراجعة بسيطة للإحصائيات التي تصدرها المحاكم المدنية في عموم العراق بخصوص حالات الطلاق المسجلة كفيلة بتوضيح آثار هذه المشكلة. هذا إذا استثنيا الحالات الكثيرة التي لا تحصى التي تجري خارج هذه الدوائر الرسمية.
تبقى المرأة الغربية بتطلعاتها وقدرتها على التعبير عن إرادتها وإمكانياتها الفردية هي النموذج الذي يمكن الاحتذاء به في أوساط الجنس الأنثوي الرقيق في بلدان شرقنا ومنه العراق. فقد أثبتت قدرتها على مجاراة الرجل في الإدارة وفي المساهمة بمواجهة التحديات الحياتية الكثيرة وفي إلهام غيرها من نساء شعوب العالم ومنهنّ في العراق. فالماجدات العراقيات المتحرّرات المؤمنات بالليبرالية والحرية الشخصية والواثقات بقدراتهنّ في إثبات الذات والكفاءة، أثبتن في مواقف كثيرة أنهنّ على قدر وافٍ بالمسؤولية والوفاء بالأمانة. وما أكثر ما شهدتُ شخصيًا من أمثال هذه النخب التي لا تتوانى في الدفاع عن حقوق زميلاتهنّ وزملائهنّ وبما يحفظ الأمانة الوطنية والإنسانية التي في أعناقهنّ. فهنّ الزوجات وهنّ الأمهات وهنّ المربيات وهنّ المعلّمات وهنّ طالبات العلم والثقافة والمدافعات عن حقوق الإنسان والحريصات على بناء الوطن والمواطن وهنّ السائرات في طريق التضحية والشهادة والخدمة من دون مقابل في أحيان كثيرة. وستبقى المرأة هي المحرّك الفعلي للعالم إذا أُتيحت لها فرصة الإبداع وحرية الفعل والحركة.





85
ألتشرينّيون إلى أين؟
لويس إقليمس
بغداد، في 22 حزيران 2021
بين متفائلٍ لحدّ النشوة والثقة ومتشائمٍ لحدّ اليأس والإحباط تتراقص كالسراب المجهولِ العنوان أحلامُ العراقيين بكلّ مشاربهم وطوائفهم وتوجهاتهم الدينية والعرقية والطائفية. فوسط ما يجري من انتكاسات متكرّرة على الصعيدين الأمني والسياسيّ المضطربَين بسبب تغوّل قوى الميليشيات والفصائل المسلحة الخارجة عن سلطة القانون والتي لا تدين بولائها لقوةّ الدولة ودستورها وقوانينها بل للجارة الشرقية في كلّ شيء، يقف الشعب العراقي حائرًا متسائلاً إن كان مصيرُه سيبقى معلَّقًا في مهب الرياح العاتية لسنواتٍ عجافٍ أخريات، أم سيأتيه الفرَج مُهَروِلاً من حيث لا يدرون. ولكن كيف، وبأية وسيلة سيحصل هذا؟ ومتى سيتمّ وضع سكّة البلاد على قطار الإعمار الصحيح والبناء الفكري والحضاري والأخلاقي لشعبٍ أفقدتهُ قياداتُه السياسية الفاسدة بمعظمها وأحزابُ السلطة الفاشلة ولاسيّما الدينية منها غالبيةَ سماتِ التمدّن والتحضّر والأخلاق والعلم والتربية منذ سقوط النظام السابق الذي كان السبب فيما جرى بعد أحداث 2003. وصحّتْ اليوم الكلماتُ القوية الطنّانة " كلها منّه، مصايبنا وطلايبنا، من صاحبنا كلها منّه" التي أنشدها الفنان الهزلي الناقد "عزيز علي" في واحدٍ من أروع منلوجاته الوطنية والذي ينطبق بحق على صناعة رأس النظام السابق وقبله قادة الانقلاب المشؤوم على النظام الملكي. وذات المقولة تسري اليوم على النظام المحاصصاتي المقيت بشأن ما يجري من أحداث مأساوية بسبب سلوكيات أحزاب السلطة والميليشيات المسلحة والفصائل الولائية المنفلتة المستقوية بها والمنضوية في إطار ما يُسمّى بالحشد الشعبي التي تفرض سطوتها على إدارة الدولة العراقية خارج السياقات الدستورية والقانون، مستغلّة فتوى المرجعية الجهادية الكفائية التي أُخرجتْ عن سياقها ومفهومها حين دعتْ إليها في ظرفٍ وطنيّ حرجٍ لإنقاذ البلاد من كابوس الدواعش الذي ثبتَ، بالوقائع والوثائق التي بدأت تتوالى وتتوارد من مراكز القرار، إنتاجَه وتمويلَه وتوجيهَه بالشراكة بين إدارة فريق أوباما سيئ الصيت وإيران الجارة المنتقمة من كلّ ما هو عراقي وعربي.
بعد تفاقم الأوضاع وتكرار ذات السياسات الفاشلة للحكومات العراقية المتعاقبة وبلوغ الغضب الشعبي مداه الأقصى، جاء الحراكُ التشريني في موعده نهاية تشرين الأول 2019 ليقول كلمة الشارع: كفى انزلاقُ الأوضاع إلى ما لا تُحمدُ عقباه، وكفى انتهاكًا لسيادة الوطن وعراقته وحضارته وإرثه الثقافي والديني والإتني والتعددّي المتميّز في كلّ شيء. نقرُّ أنه لم يكن من السهل إدامة هذا الحراك الاحتجاجيّ الوطني الساخن سخونة الشارع الغاضب. فقد حاولت جهاتٌ عديدة ركوبَ موجته لتحسين صورتها بوجه النقمة الشعبية العارمة التي زادت وتيرتُها وتعددت مطالبُها مع تزايد انتهاكات الميليشيات والفصائل الولائية التي سعتْ لقضم أصابع الناشطين وردع مطالبهم وإسكات صراخاتهم بأية صورة أو وسيلة أو أداة متيسرة، وما كانت أكثرها ممّا نسمع ونشاهد ونترقب. وماتزال ذاتُ الأيادي القذرة تنشط أينما تحين الفرصة للنيل من إرادة المحتجّين الذين يزدادون يومًا بعد آخر بالرغم من وسائل التهديد وعمليات الخطف والاغتيال والتغييب التي طالتهم ولم تتوقف لغاية الساعة، فيما الدولة تقف عاجزة عن وضع حدودٍ لهذه الجرائم المتراكمة والمتواصلة بالرغم من الوعود التسويفية التي أطلقتها وماتزالُ بالكشف عن مصير الشهداء المغدورين والقتلة الذين تحتضنهم أحزابُ السلطة وتغطّي على جرائمهم وتستخدم سطوتها ونفوذها على القضاء العراقي كي لا يقوم بدوره المستقل في معالجة هذه الانتكاسات القانونية. وهذه مشكلة كبيرة لا تليق بتاريخ القضاء العراقي ولا بشخوصه، لاسيّما وأنّ أولى القوانين على وجه الكرة الأرضية صدرت من أرض الرافدين وطبّقها الملك حمورابي بقسوة شديدة آنذاك، وأضحتْ منارًا ونموذجًا ومصدرًا للقوانين الدولية فيما بعد. فالدولة التي لا يتفاعل فيها القضاء مع صوت العدالة والمساواة في تطبيق القوانين وتنفيذ الأوامر لا بارك الله فيها ولا تستحقّ تسميتها بدولة.
بين الدولة واللادولة
كلُّ ما نادى به الثوار التشرينيون أنهم طالبوا بعودة وطن مفقود، "نريد وطن"، أي بدولة تحترمُ مواطنيها. وهذا من أبسط حقوق أي مواطن يعيش في أية بقعة من أرض الله الواسعة. فمَن ليس له وطن أو دولة تحميه وتضمن حقوقَه، ليس له كيانٌ ولا هوية ولا يمكن أن يشعرَ بصدق الانتماء إليه. كما أنّ مَن يعيش بلا وطن حرّ ومستقلّ وسيدِ نفسه، إنّما كأنه مخلوق عشوائيّ لا يستشعرُ بالحياة السويّة الكريمة التي تليق ببني البشر. فيما الحياة مجانية من عند خالق الأكوان وليست منّة من أحد ولا مكرمة من حكومة ولا فضلاً من ساسة ولا هدية من سلاطين وحكام واباطرة وملوك الأرض. كما أنّ الوطن عندما يحتضن أبناءَه ويحرص على رفاهتهم من دون تمييز ولا منّة يكون مثل الدجاجة التي تحتضنَ كتاكيتها الصغار وتحميهم من شرّ الأعداء وغدر الغرباء ومكيدة الدخلاء. وهذا واجب الدولة الطبيعي تجاه مواطنيها. إنّما هذا لم يحصل في بلاد الرافدين منذ الغزو الأمريكي المتعجرف لغاية الساعة. ففي كلّ مرّة ينتفض فيها الثوارُ السلميون، يتلقون وعدًا من السلطات الرسمية بالحماية وملاحقة المجرمين أزلام أحزاب السلطة، بينما تغدرُ بهم أدواتُها الأمنية الخارجة عن سلطتها والمنفذة لأجندات سلطات ونفوذ أحزاب السلطة وميليشياتها وفصائلها المسلحة التي تعيث في أرض العراق فسادًا منذ استقوائها بفتوى المرجعية وتشكيل ما يُسمّى بالحشد الشعبي الذي أطلقوا عليه سمة المقدّس زورًا وبهتانًا. وفي حقيقة الواقع، أثبت هذا التشكيلُ الدخيل صفتَه الموازية لقوة الحرس الثوري الإيراني كي يكون أداةً تنفيذية وقوة ضاربة بأيدي الأحزاب الولائية التي تخشى فقدان مكاسبها في أية لحظة وتسعى لاستخدام مثل هذه الأدوات الخارجة عن القانون في تسويق أجنداتها وديمومة مصالحها وتمويل مشاريعها الفئوية والطائفية والشخصية. وقد كشفت التحقيقات المسرّبة عن اللجان والهيئات التحقيقية التي شكلتها حكومة الكاظمي خجلاً، الشيءَ الكثير من هذه الوسائل والأدوات. لكنها اصطدمت بإعاقات وصعوبات كثيرة ومعقدة من لدن أحزاب السلطة ومَن يُديرُ دفتها ويوجّهُ أنشطتَها ويكفلُ تحقيق أجنداتها على الأرض. وهذا ممّا وضعَ القائد العام للقوات المسلحة في مأزقٍ بين سعيه لفرض هيبة الدولة وتطبيق القانون وبين خياره بالامتثال لرغبات أحزاب السلطة الولائية التي تفرض سطوتَها عليه. فكلّما يعدُ ويسعى للحدّ من نفوذ هذه الأطراف المنفلتة خارج سيطرة الدولة، زادت من ضغوطها عليه وعلى فريقه للتراجع عن أية قرارات لا تخدمها. ومنها أن حكومة الكاظمي اكتسبت صفة "حكومة التراجع" عن القرارات. كان اللهُ في عونه!
حتمًا، لن يتراجع ثوارُ تشرين عن مطالبهم المشروعة باستعادة الدولة من أيدي العابثين بمصيرها من الذين يسعون لخلق واقع حال "الّلادولة" عبر فرض أجندات الجارة الشرقية في إبقاء مصير البلاد بأيدي العابثين بأمنه وسيادته وجعله تابعًا ذليلاً لها وسوقًا استهلاكية دائمية رائجة لمنتجاتها. كما أنّ هذه الجارة "المقدسة" وقفت بوجه إقامة أية صناعة وطنية وأعاقتْ بإصرارٍ اية جهودٍ لتطوير أية حقولٍ أو أراضٍ من شأنها تنمية وتأمين سلّة العراق الغذائية، وذلك خوفًا من توقف تدفّق العملة الصعبة التي ساهمت بتأمين ميزانيتها منذ 2003 والتي بسببها صمدتْ وقاومت العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضها الغازي الأمريكي للأسباب المعروفة للقاصي والداني. ومهما حاول أصحابُ السلاح المنفلت فرض مصالهم الولائية بقوة السلاح وغيره، فإنّ عزيمة ثوار الانتفاضة في ازديادٍ مضطرد ولن يصيبَهم الإحباط واليأس ولن يعرفوا التراجع عن مطالبهم المشروعة بطرقهم السلمية. ف"الدنيا تُؤخذُ غلابًا وليس بالتمنّي" وانتظار يدِ القَدَر لتفعلَ فعلَها. أمّا الوطن واستعادة هيبته وسيادته تبقى من أولويات المطالب، ليس للثوار في ساحات التظاهر في عموم البلاد فحسب، بل لجميع العراقيين من المتعاطفين مع الثوار والغاضبين على استشراء فساد السلطات الأربع، وحتى من أنصار وأتباع الميليشيات والفصائل المنفلتة ممّن سئموا من السلوكيات غير الرصينة لهؤلاء وممّن أساؤوا إلى سمعة المقاومة الحقيقية التي تنادت لصوت المرجعية الرشيدة. فقد أثبت الخارجون عن سلطة الدولة والعابثون بالقانون ولاءَهم الفاضح للدولة الجارة الشرقية وتنكّروا لشرف بلدهم وعزته وتاريخه وحضارته وإرثه الطويل المميّز بين الشعوب.
قد تكون الانتخابات القادمة فيصلاً ما بين تحقيق سيادة الدولة والّلادولة. ولكن ممّا يُخشى منه، استخدامُ أموالِ الدولة ووسائلها وأدواتها السياسية من جانب أحزاب السلطة ومّن يواليها خارجيًا ومَن يساندها داخليًا من رعاع القوم بدفعٍ من أصحاب العمائم والمغرضين الذين بدأوا يسوّقون أبواقَهم الطائفية والمذهبية للتحذير من فقدان الامتيازات والمكاسب وخسارة الأموال والجاه والسطوة والمناصب في حالة عدم تدوير نفاياتهم في الانتخابات القادمة. وهذه مشكلة بحدّ ذاتها. فالمستقلّون والمرشحون المغمورون من ثوار الانتفاضة لا يمتلكون مثل هذه الوسائل للترويج لبرامجهم والتعريف بأشخاصهم لجمهورهم، ممّا يقلّلُ من فرصهم بالفوز. ناهيك عن أدوات الترهيب والتهديد وإطلاق الوعود العرقوبية التي احترفتها أدواتُ أحزاب السلطة في كسب تأييد ناخبيها وإقناعهم بضرورة عدم الإخلال بالتوازن القائم حفاظًا على سطوة جماعة مذهبية معينة ماتزال تعيش تداعيات تخلّفها وجوعها ودوام شعورها بالغبن والظلم، فيما هي التي تتسيّدُ المشهد السياسي الحاكم منذ ثمانية عشر عامًا وتحصدُ الامتيازات التي لم تكن تحلمُ ولو بشيءٍ ضئيلٍ من مكاسبها وبهرجتها عبر إيغالها في أدوات الفساد والسرقة وهدر المال العام وفق مبدأ المحاصصة الذي شرّعته بإسنادٍ من الغازي المحتلّ الظالم.
‬‬   يبقى القاسم المشترك لكلّ الثوار في ساحات الشرف التي احتضنتها محافظات العراق، إصلاحُ الأوضاع المتدهورة وتقويم المعوجّ، منها وما أكثره. وهذا لا يمكن له أن يتحقق إلاّ بتغيير المنظومة السياسية القائمة من جذورها والتوجّه لاحقًا لتعديل الدستور، وإنْ أمكنَ تغيير الدستور وفق قواعد المواطنة الصحيحة وليس وفق التوافق الديني والمذهبيّ والإتني. فهذه جميعُها لا يمكن لها أن تبني وطنًا قويًا موحدًا ذا سيادة وهيبة وسمعة بجميع قواه وبتعدّد جماعاته وقومياته وأديانه التي تشكلُ فسيفساءَه المميّزة بين الشعوب والأمم. وفي اعتقادي، أن قدرات المنتفضين ماتزالُ قوية، والشعبُ مازالَ يراهن على نجاحها وفعلِها وتأثيرها وسط الجماهير التي يزدادُ غضبُها يومًا بعد آخر بسبب الشعور بفقدان الأمن والأمان والأدوات المستخدمة في استبعاد المبادرات الجماعية والفردية التي تسعى لإحداث التغيير في المنظومة السياسية. فما يلقاهُ ثوّار تشرين من دعمٍ دوليّ وإقليميّ واضح ومن تأييد شعبيّ قد أغاض أحزابَ السلطة ومَن يقف مساندًا لإبقاء الأوضاع على حالها بأيدي أصحاب السلاح المنفلت والفصائل المسلحة الخارجة عن القانون التي تسعى لإدامة زخمها وإبقاء سطوتها ما شاءت الأقدار والجارة الأرجنتينية "المقدسة". أمّا مَن يراهنُ على اختفاء الثوار من ساحات الشرف ومن خفوت أصواتهم، فهو واهمٌ. فالشعبُ كلُّه إلى جانبهم، مساندٌ وداعمٌ ومتأمِّلٌ بهم خيرًا نحو التغيير والإصلاح.
 

86
أصحاب السيادة والمقامات الكهنوتية والرهبانية الأجلاء
السيدات والسادة والأصدقاء الأعزاء

تحية طيبة
      وصلتني هذا اليوم رسالة ردّ مباركة من قداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، بتوقيع الكاردينال بيترو بارولان، أمين سرّ دولة الفاتيكان (رئيس وزرائها)، ردّا على رسالة شخصية أودعتُها بين أياديه المقدسة عصر يوم 5 آذار 2021 خلال زيارته لكنيسة سيدة النجاة ولقائه مع نخبة من مسيحيّي الكنائس الكاثوليكية من أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وشمامسة ومكرَّسين. فقد كان لي فخر عظيم بالتحدث مع قداسته في نهاية اللقاء وإيداعه رسالة شخصية بالمناسبة حول أوضاع العراق والكنيسة ورجالاتها. ونظرًا لما في ردّ هذه الرسالة البابوية من فهمٍ وإدراكٍ واطّلاعٍ عميق وواسع وقريب لقداسته بأوضاع العراق الذي ينال اهتمامه الأبوي الكبير، وددتُ أن تشاركوني في قراءة مضمونها والتأمل في معانيها واستخلاص الدروس التي قصدها قداستُه بين أسطرها بشأن أوضاع العراق والكنيسة الكاثوليكية بصورة خاصة. كما لم ينسى قداستُه التعرّض ضمنًا للفاجعة الأليمة التي ضربت هذه الكنيسة والتعبير عن تعاطفه مع الضحايا الأبرياء وقربه من الذين كانوا شهودًا وشهداء فيها وصلاته من أجلهم. ولعلَّ أهمَّ ما ختمه قداستُه في هذه الرسالة، تمنياتُه بتقدّم بلادنا والوصول إلى دروب السلام والمصالحة التي تنقصنا، والتي من دونها لا يمكن لهذا البلد أن ينهض من كبوته ومحنه ومشاكله للوصول إلى نعمة الطمأنينة في العيش المشترك والتطلّع الإيجابي نحو المستقبل. ومن أجمل ما ورد في ختام رسالة قداسته، الطلب من كلّ واحدٍ منّا المساهمة في وضع حَجَرٍ لتقوية بناء هذا البلد، وإيداعنا جميعًا تحت حماية العذراء مريم ببركته السخية.

في المرفق:
- رسالة قداسته باللغة الفرنسية
- ترجمة الرسالة إلى اللغة العربية

تقبلوا منّي وافر التقدير والاحترام

لويس إقليمس
في 22 حزيران 2021


أمانة سر الدولة
قسم الشؤون الخارجية                      الفاتيكان، في 4 أيار 2021   
الرقم: 496.034                            

سيدي،
وصلت رسالتك المؤرخة في 5 آذار 2021 إلى قداسة البابا فرنسيس، الذي اطلع عليها شخصيًا. إنه يشكرك على الانفتاح عليه بصدق وتعبيرك عن معاناتك. وهو يعبّر عن تعاطفه وقربه منك في المحن التي كنتَ شاهدًا لها، ويضع الضحايا الأبرياء تحت رحمة الله.
    الأبُ الأقدس على اطلاع جيد وبشكل خاص بالوضع في العراق. إن الغموض وعدم التناغم في السلوك وفي نوايا الأشخاص الذين يريدُ إقامة حوارات معهم لا يمكن أن تفوته. ومع ذلك، فإن اللقاء الأخوي والإصغاء المتبادل هما السبيلان الوحيدان اللذان يمكن اتباعهما لبناء تعايش سلمي حقيقي، بين الجماعات الموجودة، وفي المقام الأول بين الكنائس الكاثوليكية في الشرق التي تبقى مثار اهتمامه وتعاطفه وصلاته، بعد الجرائم والفظائع التي حصلت. وإنّ الأب الأقدس لا يكلّ بالطلب من الرب من أجل أن تتقدم بلادك الغالية على دروب السلام والمصالحة، وكي يعيش كل واحد فيها إيمانَه بطمأنينة بتطلّعه نحو المستقبل. إنه يدعوك لمواصلة المساهمة بسخاء في وضع حجرك في هذا البناء. وإذ يعهدكم وجميع الأشخاص الأعزاء عليك، تحت حماية العذراء مريم، فإنّ البابا فرنسيس يبارككم من كل قلبه.
 أرجو منكم، سيدي، أن تقبلوا مشاعري الدينية والمخلصة.

الكاردينال بيترو بارولان
   أمين سرّ الدولة
--------------------
-   عناية السيد لويس إقليمس
بغداد/ العراق

87
ترنيمة الانتخابات ولازمة الفساد والتزوير
لويس إقليمس
بغداد، في 6 حزيران 2021
لو اتصف غالبية الشعب العراقي بشيء مقنع من الإدراك وقدرٍ وافٍ من الوعي لِما حصل له على أيدي مافيات الفساد الإداري والسياسي الذي اتصفت به حكومات البلاد المتعاقبة منذ 2003، لتسنى له تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية بجرأة وشجاعة وصراحة ومن دون مجاملة ولا مواربة ولا خجل. بل توجبَ عليه أن يعلنها على أسماع الملأ يوم الانتخابات المنتظرة في 10 تشرين أول القادم، موعد الاستحقاق التشريعي المنتظر الجديد. هكذا صرخ الشعبُ وزاد من غضبه بالقول الصارم: "كفى ما لحقنا منكم من سرقات وتلاعب بمقدرات البلاد ونهب ثرواتها، ومن مظالم ووعود عرقوبية وضحك على الذقون، ومن كذب واحتيال وخداع لضعاف النفوس ولغالبية الشعب المغلوب على أمره، والذي اعتاد عبادة الأشخاص وتعظيم الجلاّدين والمشي خلف المستغِلّين (بكسر الغاء) للبسطاء". فمثل هذا الوعي النسبي في صفوف العامة بعد سنوات من التجربة والخبرة يمكن أن يكون رهانًا قويًا على إحداث تغيير جذريّ في المشهد السياسي باستبعاد ملحوظٍ للزعامات القديمة الفاسدة ورموزها من دون استثناءٍ ولا تمييز، تلك التي قوّضت الحسّ الوطنيّ ومزّقت النسيج الاجتماعي وأحالت البلاد إلى شبه دولة مستهلِكة للمنتجات المستوردة بلا رحمة، مستجدية للقروض المتكالبة عليها، غارقة بالديون المتراكمة من دون تخطيط ولا إدارة ولا نتائج إيجابية ملموسة في جميع القطاعات، ولاسيّما الإنتاجية منها والخدمية التي تشكلُ عماد الاقتصاد وواحدًا من أهمّ أركان السيادة الوطنية واستقرار الاقتصاد الوطني. وهذا كان فحوى توصية المرجعية الشيعية العليا "المجرَّب لا يُجرَّب". 
     ستكون خيبة أمل كبيرة ببقاء ذات الرؤوس القديمة الفاشلة التي تطلُّ علينا هذه الأيام، سواءً بتصريحاتها المبطنة أو عبر تراشقها الفاضح كاشفةً عورات بعضها بعضًا، السياسية منها والإدارية والمالية عبر مناكفات تنافسية وتسقيط زعاماتيّ واتهامات متبادلة بالفشل في إدارة البلاد والإيغال في الفساد. وإنْ تكن هذه الاستعراضات إلاّ جزءً من ذرّ الرماد في العيون استعدادًا لاستشراف واقع قيادة السلطة وبسط النفوذ منذ الآن والتهيئة لها، إن ترويعًا أو دعايةً أو تهديدًا. وسوف نرى في قادم الأيام ما سيصدر عن زعامات الكتل الكبيرة ولاعبيها الأساسيين من إعلانات ضخمة ويافطات كبيرة تتناسب طرديًا مع تخمة الفساد التي دمغت عموم ساسة البلاد وكتلهم وأحزابهم ومَن على خطاهم وسيرتهم، طيلة السنين العجاف المنصرمة. هي ذاتُها إذن، مَن يُخشى أن تعيد تدوير شخوصها لتتحكم بالعملية السياسية لسنوات أربع عجاف ظالمات سالبات قادمات لا محالة، لا سمح الله في حالة إعادة انتخابها مثل سابقاتها، مرة أخرى. فهي التي ستشكل حكومة المحاصصة التوافقية اللصوصية العرفية مرة أخرى، وهي التي ستكمل تقاسم ما تبقى من الكعكة المشتراة سلفًا بدماء الشهداء والجرحى، وهي التي ستزيد من تراكم الديون والقروض والتسليف المسبق التي من شأنها إبقاء البلاد والعباد أسرى الدول الخارجية المستغِلّة لسنواتٍ طوال قادمات، وهي التي ستحرم الأجيال القادمة التي لم تولد بعدُ من حقها في ثروة البلاد وفي عيش حياة آدمية وإنسانية مثل سائر الشعوب المتحضّرة، وهي التي ستبقي جواز سفر مواطني بلادهم الجريحة حتى العظم في ذيل القائمة الدولية ذليلاً مطارَدًا مُهانًا، وهي التي ستواصل وأدَ أية مساعٍ لنهضة القطاع الخاص الذي اقتُرفت بحقه أبشع المخالفات والمظالم واستبيحت مقدّراتُه وكفاءاتُه من دون وجه حق. ألا يكفي ما حصل من خراب ودوسٍ لكرامة البشر واختفاءٍ لكلّ ما كان حضاريّا وعلميّا وتراثيًا وأخلاقيًا وفنّيًا وتربويًا و و و. ولو حصل ذلك فعلاً، فإنّ اللوم هذه المرة أكثر من ذي قبل، سيقع على عموم شرائح الشعب بسبب إيغال هذا الأخير في الجهل والتخلّف وعبادة الأشخاص وما ينسجه حول بعضهم من هالةٍ لقدسية زائفة وإيمان ظاهريّ باطل وصدق كاذبٍ في الوعود والسلوك.
وكالعادة، سوف لن يتوانى زعماءُ ومرشحو أحزاب السلطة المتخَمون بالمال العام الفاسد لزيادة حمّى وطيس الانتخابات وجعلها تستعر عبر تجمعات انتخابية دعائية فارهة وإقامة احتفالات ومآدب مترفة صاخبة وتوزيع بطانيات ومدافئ وكارتات تشغيل الموبايلات ووعود بتعيينات في دوائر الدولة وتوزيع سندات قطع أراضي وسلال غذائية وما سواها، لخداع الشرائح الجاهلة من بسطاء وسذّج الشعب الجائع الباحث عن لقمة عيش شريفة في مكبات النفايات والأزقة المكتظة بحشود الفقراء، والعاطلين الباحثين عن فرصة عمل وغيرهم من الخريجين الذين خابت آمالُهم وآلت دراساتُهم وأتعابُهم العلمية إلى سوق الشورجة في بغداد وأسواق بيع الخضراوات والفاكهة في مدن وقصبات العراق بدل أن يمضوا ما اكتسبوه من معارف ومهارات في خدمة البلاد وفي تطويرها وتنميتها. وبالتأكيد سيجري ذلك باستخدام الدين والمذهب والطائفة والقومية والعشيرة والحزب غطاءً لضمان كسب هذه الطبقات المسحوقة. كما بدأ بازار شراء الأصوات وبطاقات الناخبين بأخذ دوره منذ أيام، وسيزداد وطيسُه مع قرب موعد الانتخابات. أمّا الدفع، فسيكون بحسب وسيلة ضمان صوت الناخب وتأمين الحصول على بطاقته الانتخابية كي لا ينكث بعهده. ناهيك عن الخوف من وسائل جديدة قد تلجأُ إليها أحزاب السلطة في تزوير الانتخابات. فمن المؤكد عدم مقدرة الجهات الرقابية والإشرافية الدولية والإقليمية والمحلية على مراقبة جميع مواقع الاقتراع وضمان عدم التلاعب بالصناديق وطريقة الاقتراع، لاسيّما هناك أحاديث منذ الساعة تشيرُ لشراء بطاقات انتخابية عبر بازار مفتوح بدأت بعضُ ملامحه بالبروز للملأ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك مَن يتحدث عن فقدان أو توفر أكثر من مليون بطاقة انتخابية غير شرعية، من شأنها أن تقلب النتائج لصالح مزوّريها. لذا من الصعوبة الحديث عن نزاهة حقيقية في الانتخابات القادمة، فيما لو جرت بحسب الموعد.
هكذا آلَ حالُ العراقيين أصحاب الحضارة والتاريخ العظيم وأولاد السلف الصالح من الأنبياء والأئمة الأطهار، ولم يجدوا مَن ينقذهم بعدُ من هذه الكارثة التي حلّت بهم وببلادهم. فكلُّ مَن توالوا على الحكم بعد حقبة الدكتاتورية الظالمة، ظهروا أشدّ قهرًا وعنفًا وأكثرَ فسادًا وظلمًا وأفظعَ خداعًا واحتيالًا. ساستُنا وزعاماتُنا ينطقون باسم مكافحة الفساد وهُم من أشدّ الناس سرقة ونهبًا ولصوصيةً وفسادًا وكذبًا وخداعًا. جميعُهم أثروا على حساب الشعب المغدور وكسبوا مناصب عليا وجاهًا ومالاً ونفوذًا وامتيازاتٍ ومقتنيات وعمارات وفللًا فارهة في دول الجوار والعالم. جميعُهم يدّعون مكافحة الفساد ويحملون ملفات فساد لشهرها ضدّ الخصوم والمنافسين. وحين مقاسمة الكعكة تصمتُ الأفواه وتسكت الأصوات وتدخل الألسن في محاجرها خوفًا من انقلاب السحر على الساحر. هكذا، لم نعد نعرف مَن هو الفاسد ومَن هو سارقُ قوت الشعب ولا مَن هو ناهبٌ لخيرات البلاد ومعطِّلٌ للانتماء الوطني وكارهٌ لتنمية واقع البلاد ورفاهة العباد منذ 2003 ولغاية الساعة. 
رهانات خاسرة
حين قدوم رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي مدعومًا من الغازي الأمريكي، ظنّ العديدون أنه حصانُ الرهان الأكبر في مسألة مكافحة الفساد وتنفيذ برنامج الإصلاح الذي نادت به المرجعية وطالب به عمومُ الشعب وبخاصّة طبقتُه المثقفة ونخبُ القطاع الخاص على السواء. لكنّ شيئًا من تلك الوعود لم يحصل، وظلّت سمة التسويف لصيقةً بخطابه عبر تلويحه الدائم بالعصا الغليظة في محاربة الفاسدين ودفع ملفاتهم إلى النزاهة، بحيث أصبحت كلمة "سوف" متلازمة مع مشروع محاربة الفساد غير القائم أصلاً. أربع سنوات مضت من عمر تلك الحكومة التي نالت تأييد المرجعية والشارع وغالبية الشرائح المجتمعية، لكنها لم تستغلّ الفرصة لوضع الأمور في نصابها وإعادة ما أفسدهُ سلفُه طيلة ثمان سنوات لولايتين متتاليتين اتسمتا بهدر كبير في المال العام وسرقات في وضح النهار وعقود وهمية وتبييض أموالٍ وتهريب عملة تزيد عمّا جرى تقديره بأكثر من أربعمائة وخمسين مليار دولار، وما خفي كان أعظم! وآخر سنوات ولايته، تكلّلت وبما لا يقبل الشك بتأكيد تواطؤ جهات قريبة من دارة حكومته مع أشدّ وأعتى تنظيمٍ إرهابيّ من أجل السماح له باستباحة مناطق ومدن بأكملها جرى تسليمها أو بيعُها كما يشاء البعض وصفها، من دون قتالٍ، وذلك نكاية بأهل تلك المناطق وانتقامًا لوطنيتهم وبسالة جنديتهم في الدفاع عن حياض الوطن من عدوّهم الطامع المنتقم القادم من الشرق. فكان ما أقدم عليه هذا التنظيم المتشدّد أن عاث في أرض العراق فسادًا ما بعده فساد، في القتل والتهديد والاغتصاب والتهجير والنهب والتدمير وكلّ ما يمكن أن يخطر على البال. وبذلك يتحمّل زعيم الكتلة الحزبية الحاكم آنذاك، كامل المسؤولية بما آلَت إليه البلاد من انهيارٍ ودمارٍ وشنارٍ وتراجعٍ أمنيّ وفسادٍ وتزويرٍ حتى القضاء على كيان ذلك التنظيم الإرهابي العسكري شكليًا، لكنَ شروره وآثارَه وأيديولوجيتَه لم تنتهي بعد.
وجاء الرهان الآخر مع خليفة العبادي الذي لم يستطع الخروج عن نطاق وتأثير أدوات الدولة العميقة التي حكمت البلاد فعلاً وواقعًا بحسب توجيهات وإشراف زعامة الجارة الشرقية، حتى سقوط حكومته بدفعٍ من ثوار تشرين وانتصارًا لدماء شهداء الانتفاضة وبناءً لإيعازٍ واضحٍ من المرجعية التي رغبت بتغيير أدوار اللعبة وشخوصها حفظًا لماء الوجه وخشية من تفاقم المشهد نحو الأسوأ. فحصول ما لا يمكن تصورُه بتغيير المنظومة السياسية برمتها، كان مطروحًا وبشدّة بسبب اتخاذ الفساد والتزوير أشكالاً خطيرة لم تعد تُطاق على عهده. وذلك كان يعني من جملة ما يعنيه فقدان السيطرة والسطوة والنفوذ والامتيازات والمال والسلاح. وبمعنى آخر أكثر وضوحًا، كان يعني اختفاء السطوة الشيعية على مقاليد الحكم في العراق واختلال التوازن الإقليمي والدولي الراهن لصالح أنداد الجارة إيران التي تسعى للاحتفاظ بالعراق ورقةً رابحة بوجه عدوتها اللدود أمريكا وحلفائها من دول الخليج التي أذاقتها المرّ، فاحتفظت به ليكون أفضل ساحة لتصفية حساباتها مع أمريكا والعالم الغربي بعمومه.
من هنا، كان لا بدّ من استقدام شخصية وسطية أخرى مقبولة تأتمر بأمر الحاكم الفعلي للبلاد وقياداته الأمنية والاستخبارية والمخابراتية والعسكرية على السواء. فكان السيد الكاظمي رهانهم الآخر المقبول في سلسلة الرهانات العاجزة المتتالية، بالرغم من اتسامه بشيءٍ من الحدّة والقرار الوطنيّ في معالجة الثغرات القديمة المتراكمة. لكنه في كلّ الأحوال، بقي أسير الإرادات والرغبات والضغوط من الجارة الشرقية وكذا من الزعامات الحزبية التي تسعى جاهدة ما استطاعت الحفاظ على مكتسباتها وعدم التفريط بها بأي حالٍ من الأحوال. وآخرها، الوقوف بوجه الموعد الذي اختاره لتحقيق وعوده بإنجاز انتخابات مبكرة في السادس من حزيران، حين اضطرّ للرضوخ لتأجيلها حتى 10 تشرين أول القادم بحسب إرادتهم في خطوة لمحاولة تمديدها حتى انتهاء الفترة المقررة للدورة الحالية لو تيسر لهم ذلك. وهذا من الدليل على أنّ المشهد التحاصصي الطائفي الذي يرفض فيه الجميع الخروجَ من عنق زجاجته والتخلّي عنه ما يزالُ هو نفسُه قائمًا. وسيبقى المشهد الهزليّ كذلك سيّدَ الموقف ولاعبًا قويا على الساحة مادامت ذاتُ الأحزاب وذاتُ الوجوه من الزعامات التقليدية باقية ومتسلطة بأدواتها في تعزيز دورها في الدولة العميقة ما استطاعت ذلك. حتى وإن تغيّرت بعض الوجوه عبر ترقيعات هنا وهناك أو عبر إنتاج نسخٍ جديدة من أحزاب بمسمّيات جديدة رنانة متشدّقة بأهداف ثوار الانتفاضة التشرينية، إلاّ أنها لا تعدو كونها مسألة تدوير أحزاب وأشخاص وإيهام بالإصلاح الزائف.
ملفات فساد مختومة بالشمع الأحمر
ستبقى موضوعة الفساد والتزوير التي تحوّلت إلى أعرافٍ معتادة في الدولة والمجتمع منذ 2003، من أكبر الملفات التي تحتاج الحماسة والشجاعة والجرأة والإرادة الصلبة للمعالجة والمتابعة بسبب تحوّلها إلى لازمةٍ متكرّرة في الحكومات المتعاقبة. ومع عدم نكران ما تحقق على عهد حكومة السيد الكاظمي لغاية الساعة من خطوات جادة بخصوص معالجة هذا الملفّ الشائك ولو بشيءٍ من الروية والتباطؤ والخشية والحذر، فإنه يُحسبُ له إنجازًا على طريق تنفيذ القانون والاستقرار الأمني بعد التجرّؤ الأخير على اجتياز بعض الخطوط الحمراء. ولكن تبقى ملفاتُ الكبائر والعظائم الأكثر جدليةً وحساسيةً مطوية ومركونة على الرفوف المحروم التقرّب منها، لكونها تمسّ زعامات أساسية ومن الدرجة الأولى في الصفوف الحاكمة لقيادة شبه الدولة. وربما سيبقى الغطاءُ مقفولاً ومشمَّعًا بالأحمر كي لا تفوح رائحتُه النتنة لسنوات وسنوات!
 هكذا لا أحد يجرؤ فتح ملفات الفساد الكبيرة التي ترعاها أحزابُ السلطة منذ 2003، مسندةً ومدعومة في معظمها بغطاءٍ دينيّ وبهالةٍ من القداسة في أغلب الأحيان كي لا يقتربَ منها أحد. فهل تتغيّر الحال بعد العاشر من تشرين أول القادم، في حالة إقامة موعد الانتخابات في موعدها المؤجَّل؟ أم ننتظرُ موعدًا جديدًا يتناغم مع رغبة أكثر النواب الذين يصرّون في الخفاء على بقاء تمثيلهم الفاشل لناخبيهم حتى إتمام فترتهم القانونية في موعدها في 2022؟ والعبرة دائمًا، بتعلّم الشعب من دروس الحياة ليدرك فداحة الكارثة التي أوقعته فيها الزعامات التقليدية التي حكمته وأذلّته وضحكت على عقول السذّج ممّن في صفوفه بسبب المتاجرة بحقوق المواطنين والرقص على دماء شهدائهم والانتقام من المطالبين بوطن مفقود ولقمة عيشٍ حلال ووظيفة في الأحلام. والأنكى من هذا والأكثر مرارةً من ذاك، احتفاظُ بعض الزعامات الحزبية والإسلامية منها على وجه الخصوص وأتباعُهم بمواقعهم وامتيازاتهم عبر المتاجرة بحقوق الشعب المواطنية بغطاء الدّين والمذهب واللعب على الوتر الطائفي.
ومادامت الكعكة طرية وسُكّرية وجميلة، فتذوُّقُها والقطعُ منها حلالٌ على زعامات الدولة ومَن يتحكم بها من أحزاب السلطة وأتباعهم، ولا تجوز لباقي شرائح الشعب المتخم بالمرارة وقساوة الحياة وشظف العيش، على قول قائل: "مَن لهُ يُعطى ويُزاد، ومَن ليس له، حتى ما هو لَه يُؤخذُ منه ويُعطى للذي له". حكمة زائفة في الحياة السياسية، ظاهرُها الدفاعُ عن حقوق الفقراء، وباطنُها نهبُ ثروات بلادهم وتدمير مستقبل أجيالهم بطرق شيطانية وبغطاءٍ ديني تارة، وقوميّ تارة أخرى، ومجتمعي متخلّف في طورٍ آخر. والغدُ لناظره قريب! فهل سنعيد ونكرّرُ ذات الترنيمة الانتخابية ونقتنع ونؤمنُ بذات اللازمة في التطرّق لآفة الفساد والتزوير؟

88
وجهة نظر في فلسفة وجود السماء
لويس إقليمس
بغداد، في 6 شباط 2020
تعلمنا منذ الصغر وجود سماء وجهنّم ومطهر وفردوس في انتظار مصير البشر بعد الموت. والموتُ لا يخطئُ أحدًا ولا يمازح احدًا ولا يجانب أحدًا. فهذه سنّة الحياة: ولادة وحياة وموت. ولكن ماذا بعد الموت؟ هل من حياة أخرى؟ وكيف ستكون؟ أو بالأحرى كيف سيكون شكلُها إنْ وُجدتْ؟ وما مصير الإنسان بعد سفرة الحياة القصيرة في مقياس الزمن الطويل، والتي قد تدوم ساعات أو أيامًا أو اشهرًا أو سنوات ما قدّر القدرُ مقدارها وسبيلها وتواصيفها، بحلوها ومرّها، بسعادتها وشقائها؟ وهل السماءُ مهمة إلى حدّ الحلم بمتاهاتها المجهولة وجنانها الخيالية ومَن عليها وبأشكالها المتباينة وفق ما يصوّرها البعض بحسب ثقافة وتربية كلّ إنسان، وبطريقة العيش في حدود أسيجتها، إذا كانت فيها سياجات تفصلها عن نيران جهنّم أو عن أبواب المطهر القريبة منها، بحسب ما بلغ أسماعَنا لحد الحشو في الصغر. من هنا يكون تساؤُلنا اليوم عن حقيقة هذه المفردات بعد أن تعلّمنا وخبرنا الحياة وكبرنا وسار بنا قطار العمر نحو محطته الأخيرة التي نجهل أوان بلوغها.
هذه نظرة عامة ورؤية بشرية ضعيفة ومحدودة للمراجعة في هذه السطور، علّها تختصر ردود أسئلة كثيرة، مثيرة في بعضها، ومتشنجة في بعضها الآخر، ومنغلقة جافة في غيرها، بسبب طبيعة الشكوك أو الوثوق في معانيها وفي حقيقة وجودها وبحسب استعداد ومحدودية فكر الكائن البشري الذي يبقى ضعيفًا وقاصرًا مهما سمتْ منزلتُه وارتفعَ شأنُه وفاقَ قدرُه في هذه الحياة الدنيا القصيرة على الفانية.
عمومًا، لقد أصبحت كلمات مثل الجنّة والنّار، السماء وجهنّم، الفردوس والأرض ضمن حقائق جوهرية يعوّل عليها البعض في قراءتهم لأصولها ومفاهيمها، تمامًا كما يصفها علم الأنثروبولوجيا الدينية المتعمّقة. وفي الحقيقة، نحن غافلون عن هذا العلم كثيرًا. لا بل إن الكثيرين من البشر ليس لهم وعيٌ كافٍ بما يمكن أن يقدمه هذا العلم من معارف وشواهد وحقائق عن طبيعة الخليقة وشواخص البشرية ومكنونات الكائن الحيّ من نبات وحيوان وبشر وكلّ دبيب على الأرض. ومن هنا، لا يمكن بل لا يجوز للمسيحية أو أيّ دين آخر أن يحتكر لنفسه التحدث باسم مصير البشرية ونوازعها وطموحاتها ومستقبلها من موقع الاحتكار والأهلية والأحقية. فالبشر وسائر خليقة "الكائن الأعظم" الذي نصفه بالخالق مهما كانت تسميتُه الإلهية، يقفون منذ بدء الخليقة تحت سقف سماء زرقاء يتطلعون إليها بعيونهم ويدوسون الأرض بأرجلهم ويعملون بأيديهم وعقولهم في فضائها وترابها الذي يعودون إليه من حيث جاؤوا بعد دورة الحياة. فالكلّ يتطلّع في لحظةٍ ما وزمنٍ ما ومكانٍ ما إلى السماء الزرقاء، صافية كانت أم متلبدة بالغيوم. ولنا في طيور السماء أصلح الأمثلة حينما تنحني برؤوسها لتشرب الماء لتعود ترفع عينيها إلى العلا وكأنها تشكر السماء التي تحتضنها ومَن خَلَقَها على نعمة تعدّها أكسيرًا ودواءً منعشًا.
هكذا الشمس والقمر، وسائر العناصر، جميعُها هي مثار الاندهاش والتأمل الخياليّ في ظهورها وخفوتها، في شروقها وغروبها، في انبلاجها واختفائها وفق موازين وتوقيتات سرمدية يصعب تفسيرُها وتأويلها والبحث في أسرارها وأغوارها. ومثلُها مازالت تُبهرُنا حقائق وغرائب ما يقع في مختلف بقاع العالم من تطورات طقسية عبر دورات غير ثابتة ومتحولة من عصر لآخر ومن منطقة لأخرى ومن قارة لغيرها ومن بلد لآخر. غيوم وأمطار، سيولٌ ورعود، شمسٌ وفيء، برد وثلج، مطرٌ وحالوبٌ، كلها ظواهر تتباين في شكلها وذروتها وحدوثها ضمن متلازمة غير متطابقة في شكلها ودورتها وزمانها ومكانها. ولا بأس أن نجد شمسًا تشرق هنا وقبالتَها مطرًا ورعودًا وفي غيرها ثلوجًا وعواصف وفي أخرى زلازل وهزّات، وما يمكن أن تأتي به كلّ هذه الثورات الطبيعية من فوائد ومكاسب أو منغصات ومشاكل لبعض الأقوام ولطبيعة أرضهم وبلدانهم خارج السياقات والطموحات والرغبات.
إنها الجغرافيا المتحركة التي لا تقبل التوازي والتساوي إلاّ لو حصل ذلك بأمر "خالق الأكوان" وربّان الأرض وحادي البشر. فهو وحده القادر أن يُعين البشر للقبول بوجود جغرافيا أخرى أسمى من تلك القائمة على الأرض التي تُسمّى بالفانية في مصطلحاتنا الحقيرة. وهذا ما تعتقد به المسيحية من أنّ ملكوت السماوات أي السماء يكمن في داخل قلب الإنسان الذي يُعدّ جغرافيا للسماء الحقيقية في حياة المسيحي، حيث "الملكوت السماوي الحقيقي يكمن في داخل الإنسان". هي إذن، جغرافيا مختلفة أو مقامٌ أمين متسامٍ لا يقبل الشك في راحته وعدم فنائه أو تعرّضه للهلاك والبور. جغرافيا من نوع آخر مختلف تمامًا ينشدها الإنسان ضمن سقف حياته الأرضية منذ بدء نسمة الحياة فيه حتى مغادرتها وفق السنّة الربّانية. إنها سماء أخرى دائمة غير مادية بحسب العرف الدينيّ المتوارث في ثقافات وحضارات منطقتنا الشرق أوسطية، بلد الأنبياء والرسل والأئمة والقديسين والصالحين. وهذا يدخل طبعًا، ضمن العرف الذي تقدمه الأنثروبولوجيا المسيحية في اختيارها وتخييرها، في تعريفها وترغيبها، في فهمها وتأويلها لماهيّة ومفاهيم السماء والأرض، الجنّة والنار، الملكوت السماوي والفردوس الأرضي.
في ضوء خضمّ هذه التساؤلات بما فيها من حقائق وتشكيكات، هل يمكن التأكد من وجود صاحب أو ربّ هذا المقام الأخير في مكان ما؟ أم سنقبل بما قاله رائد الفضاء الروسي يوري غاغارين: "طرت إلى الفضاء، لكنني لم أرَ الله؟" حينئذٍ، سنقرأ السلام على صلاتنا الربانية في نكراننا وجود كائن في السماء له كلّ القدرة والسلطة على ما في الأرض وما عليها وما تحتها. فالسماء التي تنشدها الأديان السماوية المؤمنة بالله خالق البشر جميعًا، ليست ولا يمكن أن تكون مادية بحتة غنية بجنانها وحورياتها ومتعها المحسوسة، كما تصوره الديانة الإسلامية ونصوصُها المادية التي لا تتعدى كونها وعودًا للمتعة ما بعد الموت حتى لو كان الموت زؤامًا على حساب قيمة الإنسان وخارج السياقات الربانية. إنما السماء الآتية، إنْ هي إلاّ مقامٌ للراحة والخلود الحقيقيين، تبدأ من بدء حياة الإنسان على الأرض الفانية وتتواصل في تشكيلها وإعدادها طيلة ما بقي حيًا وعملَ وجاهد وكافح لمجد الله الجبّار ولنصرة مَن في الأرض ممّن ينتظرون يومهم مثله لتسفر وجوهُهم برؤية الخالق ونخبة الأخيار والأبرار والصدّيقين من الطيبين الذين أجادوا أفعال الرحمة والمحبة والتضحية والعون لخلائقه من دون تمييز ولا تخصيص.
رؤى ما وراء الموت
سؤال حرج وجدليّ يتبادر إلى الذهن، لكنّه مشروع: هل يمكن التوفيق بين الإيمان والعقل، بين الواقع والعلم في إدراك معنى السماء والجنّة التي ترادفها مع ما ينتظر الإنسان بعد الموت وبحسب ما تلقّنه الأديان وتعلّمه الكتب أو تنقله الأحاديث والتقاليد؟ ليست الإجابة سهلة، بقدر ما هي معقدة في الوصول إلى تفسير أقرب إلى فكر الإنسان وقلبه وعقله في ظلّ التراكمات التقليدية والأعراف الساذجة مقابل اتساع العلوم وتطوّر أدواتها وتقنياتها والفراغ المتاح المتبقي بين هذه وتلك. ينقل لنا الدكتور باتريك ثيلر Patrick Theillier وهو مدير سابق لمكتب التحقيقات الطبية في مدينة لورد الفرنسية شهادة أحد المدنفين من الموت. بحسب هذا الأخير، ونقرأُ في وصفه ما يمكن ان يقع فيه كلّ إنسان مشرف على الموت من ورود تصورات وتخيّلات عجيبة غريبة، قد لا يفهم هو أو مَن حوله معانيها وأسبابَها. فحين يقترب الإنسان من حافة الموت ويكون ما يزالُ في جزءٍ من وعيه، يجد نفسَه في نفق مظلم وأمام خيالٍ واسع من جمال المناظر والطبيعة التي تتراقص أمامه كالأشجار والورود والجبال والوديان والمياه الجارية في أنهار جميلة والطرقات والأضواء والمدينة الساحرة والوجوه الحسنة للصالحين من جميع الفئات ولاسيّما المحبّين والمقرّبين وكلّهم يرفلون بسلام هادئ. إنها مجرّد تصوّرات من خيال بشريّ ناجمة ربّما عن حالة من الهذيان مع اقتراب الحياة من حافة الموت. لكنّها قد تكون أيضًا، علامة شاخصة لما ينتظرُه الإنسان في الحياة الأخرى وما يسعى لبلوغه.
هذه الحالة وحالات أخرى وثّقتها سجلات صحية مستقلّة وكنسية عديدة تشير جميعُها إلى اللحظات الحرجة التي يتصوّرها المدنفون على الموت ومّن قُدِّرَ لهم أن يعيشوا حياة جديدة بعد وشوكهم للاقتراب من نفقه المظلم. قد لا يستغرب الكثيرون منّا مثل هذه الرؤى والحكايات في مثل هذه التجارب الاستثنائية المنقولة من سجلاّت هؤلاء الأشخاص، سيّما وأنّ شبيهاتها وخبراتها ترد في كتب مقدسة وقصص قديسين وناس صالحين وصوفيّة من جميع الأديان والثقافات. وهي علامات ربما ليس من السهل القبول بها في عصرنا، بالرغم من عدم استحالتها. فالمريض عادة ولاسيّما مَن اشتدّ به المرض واقترب من حدود الموت يمكن أن يتخيّل الكثير من الصور والمناظر التي تتراقص أمامه كالأخيلة دون أن يعي ما تعنيه هذه، وكأنه يقترب من عالم آخر مختلف عن عالمه الدنيوي. ولكنها حالة واقعة أشبه بالظاهرة أثبتتها تحقيقات الأطباء بشهادات القائمين عليها ومن أصحاب التجربة أنفسهم. فهل يمكن الاستنتاج أنّ ما بعد هذه الحياة حياةً أخرى في ضوء هذه الظواهر والتجارب؟
في ضوء هذه المعطيات المتغيّرة والجدلية نفهم إذن، وجود حياة أخرى ما بعد الموت، شئنا أم أبينا. وهذا ما تعلّمُنا إياه الأديان ووفق ما نتلقاه منذ صغرنا عبر معرفة ومعلومة وتلقين في أبجديات الأديان التي تحاصر فكر الإنسان وعقله وتصدع رأسَه. ولكن كيف هو شكلُها بعد حياة الشقاء القصيرة قياسًا بالحياة الأخرى ما وراء الإقامة المؤقتة على الأرض؟ يقول الواعظ الفرنسي الكبير بوسيويه :"ما قيمة المائة سنة أو الألف منها بما أنّ لحظة واحدة تمحوها بلمح البصر؟".
في هذا المجال، نقرأ أيضًا اختلافات في مديات هذه التصورات وطبيعتها. لكنها جميعًا، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسألة اليقين  convictionوالقناعة مقارنة مع رأي العلم الذي لا يقبل  بغير الحقائق البيولوجية سندًا في مثل هذه الشهادات والخبرات الخارجة عن الطبيعة أحيانًا من أجل تثبيتها واعتمادها وثائق غير قابلة التشكيك والنقض. وحيث أن الحياة التي لا تُرى في مثل هذه التجارب تبدو غاية في الجمال والواقعية لأصحاب التجربة الذين تتراقص مثل هذه المناظر الماورائية في مخيلتهم في لحظات تجارب سكرات الموت، يقف العلم حائرًا أيضًا في كيفية فهم طبيعة عمل دماغ الإنسان الغائب عن الوعي في مثل هذه اللحظات الحرجة. فهل هذا يعني أن وعي الإنسان في هذه المرحلة الحرجة بين الحياة والموت يعمل من دون دماغه الذي يغيب عنه في اللحظات التي تُعرف بالوفاة السريرية علميًا؟ هذا ما ينبغي أن يثبته علم الطب في حالة تجربة الاقتراب من الموت التي تنتظر الكائن البشري، سواءً بوعيٍ منه أم بغير إدراكه. ولكنه من المؤكد، أن روح الإنسان تنفصل عن جسده حين الموت، وبحسب قناعات وتعاليم أديان معينة، هذه الروح التي تصعد إلى السماء أو أيّ مكان سواه، تعود لتعانق الجسد البالي بعد القيامة. فالصالح في أفعاله مصيرُه الجنّة استعدادً لرؤية الديّان العادل، ولكنْ بصورة جسدٍ روحيّ ونفس صالحة. أمّا الطالحُ فبئس المصير وإلى جهنّم حيث الهلاك في النار وصرير الأسنان. وهناك مَن يعتقد بوجود محطة وسطية بين الجنّة وجهنّم سُميت ب"المطهر"، حيث يُنتظر من المُدان المطلوب قضاءَ فترة الإصلاح والندم على بقايا آثار الخلل في بعض مواقع حياته.
ويبقى للإنسان أن يسمح لنفسه بالقبول بهذه الرؤية وهذا الاستعراض في ضوء ما اختزنه من إيمان أو يقين بشكل هذا الإيمان، أو الالتفاف عليه ونبذه وعدّه مجرّد خرافات فيما لو اعتقد جازمًا بعدم وجود حياة أخرى ما بعد الموت. ولا شيء من يقين جازم يمكن القبول به. فالأمر متروك لكلّ إنسان يلاقي مصيرَه في الموت بحسب يقينه وإيمانه أو جحوده ونكرانه.



89
حرائق العراق متواصلة، مَن يُطفئ أسبابَها
لويس إقليمس
بغداد، في 10 أيار 2021
تسارعت دول وحكومات ومنظمات لإعلان تعاطفها مع ذوي الهالكين والمصابين بكارثة مستشفى ابن الخطيب التي حصدت أرواح أكثر من ثمانين ضحية لجأوا إلى هذا المستشفى الحكومي للتشافي من الإصابة بفيروس كورونا لثقتهم بالنظام الصحي الوطني العراقي بالرغم من تهالكه الواضح. وبالتأكيد، لو تسنى لهؤلاء المرضى اللجوء لخيارات أفضل، لما ترددوا حينها. وجاء الردّ سريعًا من دولة رئيس مجلس الوزراء بسحب اليد من مسؤولين كبار في مؤسسات الدولة المعنية، بدءًا بوزير الصحة ومحافظ بغداد وإدارة المستشفى المنكوب بعد تصاعد مشاعر الغضب والاستياء الشعبي والمنظماتي في انتقادها لأشكال الإهمال والتقصير والاستخفاف بصحة المواطنين ودمائهم. كما لم تبخل تغريدات وتعليقات وكتابات وتحليلات بالمساهمة في التنبيه للحالة المزرية وأشكال الإهمال والتخلّف والضعف والهزالة التي تتصف بها مؤسسات أكبر وزارة خدمية ما تزال خاضعة لبازار المتاجرة والبيع في سوق السياسة التي تضطلع بها أحزاب السلطة، بل وتتكالبُ للحصول عليها بسبب ما تقدمه من عسل غنيّ يسيل له لعابُ أحزاب السلطة منذ 2003 ولغاية الساعة. ومن حق المغرّدين أن يستنكروا “صمت” بعض السياسيين والزعماء الدينيين في العراق عما حصل، “بعكس تفاعلهم الواسع مع الأحداث السياسية” وكلّ ما يخصّ مكاسبهم ومنافعهم ومصالحهم، ومنها استعدادهم غير المسبوق لجولة الانتخابات القادمة في 10 تشرين أول القادم، والتي يخشون فيها فقدانهم جزءًا كبيرًا من قاعدتهم الشعبية التي أيقنت في النهاية مدى مكرهم ودجلهم وضحكهم على عقول الناس والناخبين منذ 2003 مدعومين بغطاءٍ دينيّ وطائفيّ أصبح في عداد الاستهلاك السياسي الذي لم يعد ينفع.
ما يجري في العراق من حرائق وفواجع وكوارث صار من الأمور الاعتيادية لدى شعبٍ بائس أوكلَ همومَه ومصيرَه وحياتَه قسرًا بأيدي ساسة الصدفة الذين اعتادوا خديعتَه وغشَه وتخييب أمله بهواجس ومزاعم عديدة منها الدينيّة والأخروية والإماميّة والولائية والعشائرية والقبلية التي تصبّ جميعًا في مصلحة زعامات السلطة ولاسيّما الدينية والإسلاموية منها أكثر من غيرها. وقد أبدعت هذه الأخيرة وأدواتُها وأذرُعُها التي تكاثرت كالأميبا، في إدارتها للعملية السياسية بأدواتها القسرية مستخدمة المال السياسي والنفوذ والسلطة والسلاح في إقناع الأتباع بضرورة الاستمرار في الإذعان لأولي الأمر بحسب توجيهات زعامات دينية لا تدخّر جهدًا أو مناسبة إلاّ وأعادت التذكير بضرورة تواصل مثل هذا الولاء الأعمى خشية من فقدان السلطة وذهابها لجهات وطنية أخرى يكونُ ولاؤُها للعراق، وحينئذٍ سوف تخسر المكتسبات والامتيازات التي تجيّرُها لصالح جهة الولاء إليها.
لذا ومن منظار الاحتفاظ بالمناصب والمكاسب في دوائر ومؤسسات الدولة، وضمن نظرية التمسك بأهداب السلطة حفاظًا على الامتيازات العديدة، وما أكثرها، تدخل هذه الكوارث بأشكالها وأنواعها ضمن مفردات الحياة اليومية المعتادة. وحيثُ إنه من الطبيعي أن تتصدّر الفاجعة صفحات الصحف وأن تتناقلُها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة المحلية منها والعالمية في لقاءات وتحليلات بالصورة والصوت، إلاّ أنّ ما يُخشى منه، أن تلقى ذات النصيب السالب في ملفات قمامة النسيان والتي يُبدعُ ساسة البلاد وزعاماتُ السلطة ومتولّو هذه الوزارة "المملوكة" لجهة سياسية أو حزبية أو زعامة دينية أو حشدية بدرجها في الآخر على الرفوف مثل سابقاتها من أمثال فاجعة جسر الأئمة وسبايكر ومستشفى اليرموك وحوادث الشورجة والكرادة والحبيبية ومثيلاتها في محافظات العراق من دون تحديد. لذا، لا ضمان بعدم تكرار ذات المصيبة أو شبيهاتها في أية مؤسسة أو دائرة أو سوق أو مبنى أو مشفى آخر وبأشباه النتائج التحقيقية التي يُسدل عليها الستار كالعادة وتُطوَّق ضدّ مجهول أو بسبب تماس كهربائيّ لخاطر عيون الجهة الحزبية أو الزعامة السلطوية التي تتحكم بهذه الجهة، ليبقى الدم العراقي وحياة المواطن أرخصَ ما موجود في سوق البازار الرائج. وفي النهاية سيسكت أهلُ الضحايا بتخديرِهم بحفنة من ملايين الدنانير التي ستغدقُ عليهم من جهات حكومية ودينية ومنظماتية لتكون الفدية والديّة في احتساب شراء الدم العراقي بأبخس الأثمان بحجة الشهادة أو القتل غير العمد. ثم يأتي الدور التكميلي للمرشحين المنافقين، ونحن على أبواب انتخابات مستحقة، كي يكملوا دورة التخدير بهدايا وعطايا ووعودٍ إضافية تكميلًا لدور مؤسسات الدولة في طمس معالم الحوادث المؤسفة المتتالية. 
مهما كانت الأسباب وأيًا كانت نتائج التحقيقات التي ستخرج بها اللجنة التحقيقية المشكّلة من كبار المسؤولين في الدولة، فإنها لا تعفي الجهة السياسية التي تدير شؤون هذه الوزارة بمثابة "دكان" يدرّ عليها موارد وعائدات لإدارة شؤونها الحزبية والسياسية والفئوية الخاصة بها، حالُها حال باقي وزارات الدولة العراقية المتهالكة ومؤسساتها التي تُباعُ وتُشترى في بازار السوق الكبير قبيل الانتخابات وإبّان تشكيل أية حكومة. وهذا منوالُنا منذ السقوط الدراماتيكي للدولة العراقية المؤسساتية في 2203 ولغاية اليوم. لقد ساد الإهمال والهزالة إدارةَ عموم مؤسسات الدولة العراقية، وأضحى همُّ الجهات السياسية التي تتحكم بالوزارات التي تحصل عليها بموجب اتفاقات وتوافقات متبادلة المصالح بين الجهات السياسية يتلخصُ ببسط السطوة الكاملة على مقدّرات وموارد الوزارة أو المؤسسة أو الدائرة نزولاً إلى الأقسام والشعب ووصولاً إلى درجة المنظف (الفرّاش) والحارس. وهذه من الكوارث التي حلّت بالبلاد عندما أصبحت مؤسسات الدولة رهينة بأيدي هذه الجهات السياسية التي تدّعي الحكم باسم الاستحقاق الانتخابي وبغطاء الدين والمذهب والطائفة والقومية، فغابت عنه الاحترافية وغادرت الضمائر مواقعها في رؤوس أهل البلاد وأصبح الإخلاص والغيرةُ والإبداعُ في العمل في خبر كان. وهذا ما يُنذر من دون أدنى شكّ بتكرار مصائب قادمة في ظلّ غياب التخطيط الصحيح وضوابط العمل المهنيّ وفشل الإدارات غير الجديرة وفقدان الكوادر الكفؤة التي جرى طردُها وتحييدُها واستبعادُها لتحلّ محلّها عناصر جاهلة ومتخلفة لا تحمل القدر اليسير من الكفاءة والجدارة والاستحقاق في العمل والإدارة على السواء بحجة انتمائها لأحزاب السلطة وأركان الحشد المتنمّر من الولائيين غير العابئين بمصلحة الوطن وأهله الحقيقيين.
 من هنا، نعتقد ببقاء مؤسسات البلاد ودوائرها وأسواقها ومعظم أبنيتها بمثابة قنابل موقوتة قابلة الانفجار في أية لحظة لأسباب عديدة، منها الافتقار للآليات الصحيحة في الإعمار ووسائل البناء والضوابط التي تحكم أنظمة العمل والتشغيل وغياب الصيانة وتأمين حالات الطوارئ وما سواها من مستلزمات ضرورية للأمان. وهذا ممّا يستدعي تواصل الضغوط الشعبية على الجهات التنفيذية في مؤسسات الدولة، لاسيّما الخدمية منها كي تبقى بعيدة عن التنافس التحاصصي للأحزاب الفاسدة الحاكمة بعمومها من أجل ضمان ما يمكِّن من إبعاد هذه المؤسسات الخدمية عن مكامن الخطر ما أمكنَ ذلك.
ثقافة الاستقالة والاعتذار
في الدول المتحضّرة، ليس هناك ما يُشاع عندنا من حقّ شرعيّ بتولّي هذا المنصب أو ذاك وفق نتائج انتخابات مزوّرة في أعلى مسمياتها ومشكوك فيها من قبل أهل الدار قبل الغريب. فالمنصب يبقى تكليفًا وليس تشريفًا ويستحقه مَن لديه مواصفات القيادة الحكيمة والإدارة الرشيدة والكفاءة العلمية والعملية، مضافًا لها الخبرة المطلوبة في ميادين العمل ونضارة الضمير الحيّ في خدمة الوطن والشعب على السواء والالتزام الشريف بالعمل والمسؤولية الموكلة إليه بجدارة وأريحية ومهنية عالية. وكلُّ مَن يشعر بعدم قدرته على تلبية متطلبات المهنية والشفافية والجدارة يتوجب عليه الانسحاب من المسؤولية المكلَّف بها من دون تأخير ولا تردّد. ولنا في الواقع الحياتي العربي السابق والراهن نماذج ممّن تسنّموا مسؤوليات عليا ووزارات ومؤسسات ولم يستطيعوا تحقيق الالتزام المطلوب في العمل والإدارة، فانسحبوا من الحياة السياسية والعملية مرفوعي الرأس وبشرف. فقد سبق لوزيرة الصحة الكويتية قبل سنوات أن اعتذرت عن الاستمرار في موقع المسؤولية الأعلى على رأس الوزارة لفشلها في إدارة وزارتها وتردّي أوضاعها بسبب حريق ناجم عن الإهمال في أحد المشافي الوطنية. كما أحسن الوزير الأسبق للصحة بالعراق علاء العلوان بتقديم استقالته حينما تراءى له عدم المقدرة على محاربة مافيات الفساد المعشعشة في وزارته وشعوره باستحالة إجراء التغييرات والإصلاحات طالما بقيت الوزارة أسيرة نفوذ كتلة سياسية أو زعامة حزبية تتحكم في مواردها وعقودها وتعييناتها. وفي ذات السياق، نقف عند أقرب حادثة من هذا النوع، عندما تعرّض الأردن حديثًا في أحد مستشفياته لحادثة إهمال نادرة مشابهة قبل أسابيع حين اعتذر وزير الصحة وقدّم استقالته بسبب خطأ لم يرتكبه وراح ضحيته عدد من مرضى كورونا. ومثلهما العديد من الوزراء والمسؤولين في دول العالم من الذين شعروا بعدم القدرة على إدارة مواقع المسؤولية التي تسنّموها. 
هذه هي ثقافة تولّي المسؤوليات في البلدان المتحضّرة، إلاّ في العراق حيث يبقى المكلَّف لصيقًا بالكرسي ولا يروم المغادرة لو تسنى له ذلك. أمّا الاعتذار، فلا وجود لمثل هذه الثقافة العالية في سجلات المسؤولين والساسة في العراق. ومّن حاول منهم في فترة عصيبة وحرجة قبل سنوات، فقد كانت بداعي "التقية" حين الشعور بخوار القوى والخشية من فقدان القواعد الجماهيرية للأتباع والشعور بقرب سحب البساط من تحت سلطتهم والخوف من تعرّضهم لاحقًا لعواقب وخيمة يستحقونها بلا رحمة ولا شفقة بسبب الأذى الذي ألحقوه بعامة الشعب نتيجة لفسادهم وطغيانهم واستغلالهم للنفوذ لتحقيق مآربهم ومآرب الجهات والدول التي تقف خلفهم. 
لذا، وانطلاقًا من فرضية كون هذه الوزارة أو تلك المؤسسة من ممتلكات الجهة السياسية الفلانية التي حازت عليها بالتوافق مع بقية الكتل الفائزة في انتخابات شبه مزورة كاملةً، يكون من المستحيل على الوزير أو المسؤول في دائرة ما المبادرة بتقديم استقالته في مثل هذه الحالات. فهذه الوزارة أو تلك المؤسسة تُعدّ من الممتلكات الخاصة بل من المغانم التي تدرّ عليه وعلى الجهة التي أتت به ودعمته الأموالَ الطائلة طيلة فترة توليه المسؤولية للدورة البرلمانية أو في صفوف الحكومة المشكَّلة وفق نظام التحاصص سيّء الصيت. لذا فالدعوات التي تصدر من هنا وهناك أو عبر تغريدات غاضبة بهذا الخصوص لن تكون ذات قيمة إلاّ في حالة اتسام رأس الجهة التنفيذية في الحكومة العراقية بشجاعة الأسد الوثّاب ورصانة الحكيم الحازم في تقدير الموقف الصائب وإعطاء الحادثة المؤلمة الأخيرة وما سواها ما تستحقه من إجراء رادع بحق المقصّرين والمهملين والمستخفين بحقوق المواطن الذي لا حول له ولا قوة سوى الاستعانة برب السماء للتخفيف عن مصائبه، وما أكثرها وأقساها في بلادٍ ضاعت فيها المقاييس واختفت المعايير وتلاشت الغيرة والضمائر لتصبّ في جيوب الفاسدين. فالتيار الصدري مازال ممسكًا بكل قواه ويعاند لإبقاء هذه الوزارة الخدمية المهمة في حياة المواطن منذ 2005 لما فيها من مكاسب ومنافع وأموال تدرّ على التيار وأتباعه من دون رقيب ولا حسيب. وكان الأجدر برئيس مجلس الوزراء اتخاذ قرار جريء بسحب اليد من جميع وكلاء الوزارة والمدراء العامين المعشعشين فيها منذ سنوات لتلبية مصالح هذا التيار الذي أثبت فشله في أية وزارة خدمية تولاها بسبب سوء الإدارة والفساد. فهؤلاء بالتأكيد هم الذين يؤمّنون حصة التيار الصدري من ميزانية الوززارة التي تتطيار مع الهواء. وهذا ما يتطلب إبعاد الوزارات الخدمية عن أسلوب المحاصصة وتقاسم الثروات بهذه الطرق البشعة واللاأخلاقية.
وفي الأخير، فإنّ المسؤولية في هذه الفاجعة الكبرى لا تقع على عاتق رأس الوزارة فحسب، بل يتشارك معه مساعدوه والمسؤولون التنفيذيون والجهات الرقابية والتفتيشية في هذه الوزارة المؤتَمنة على صحة المواطن وعلاجه. وفي ضوء العواقب الوخيمة التي تسبب بها الحادث المأساوي، لا بدّ من عقوبات صارمة وقصاص ضدّ مَن يظهر التقصير والإهمالُ في مسؤولياته.  وهذا أبسط ما يترتب على رأس السلطة التنفيذية القيام به كي يحدّ من نوازع الإهمال والفساد المستشري، ليس في هذه المؤسسة الخدمية لوحدها، بل هذه حال جميع الوزارات ومؤسسات الدولة المتعثرة لغاية الساعة بسبب تنامي مصالح الأذرع الطائفية والإثنية والفئوية والعشائرية في مرابع الدولة المثقلة بهمومِ حُكمِ ساسة الصدفة ومَن ليس ولاؤُهم قطّ للوطن بل لجهات دخيلة وغريبة. والعبرة هنا في تعلّم الدروس وأخذ الحيطة والحذر في إجراءات السلامة والحرص على صيانة ممتلكات الدولة وتعزيز بنيتها التحتية والقيام بتحسين الخدمات كي تساعد هذه جميعًا في امتصاص نقمة المواطن المقهور أصلاً. كما أن الوقت ليس للشماتة والانتقام والمزايدات السياسية بهدف الدعاية الانتخابية، بل في البحث عن الأسباب التي ساهمت وتسهم في تفاقم الكوارث والحوادث والحرائق المتواصلة التي ليس لها نهاية، كما نسمع ونشهد في كلّ يوم جديد.
تمنياتنا لوزارة الصحة بالشفاء العاجل من أمراضها في الإهمال والترهل وسوء الإدارة وأشكال الفساد في دوائرها ومكاتبها. عسى أن تعود لها نضارةُ صفحاتِها المشرقة التي اتسمت بها أيام الزمان الجميل عندما كانت قبلةً للعلاج ورائدة في الشفاء يقصدها الأشقاء من جميع أقطار الوطن العربي ويصبو لها الأغراب من دول ومنظمات لاحتضان علمائها وأطبائها من الذين زيّنوا ومازالوا يزيّنون مشافي ومؤسسات علمية وطبية عالمية رصينة تفخرُ بشخصياتهم ومسؤولياتهم وقدراتهم الرائدة. حينها فقط، سيكون لعلوم الطبّ وأطباء العراق وعلمائه تقديرٌ يليقُ بهم في بلادهم وشأنٌ عالميٌ يٌحتذى به، عندما يعي كلٌّ مسؤولياتِه، وحينما يحترم السياسيُّ والمسؤول في الدولة رجلَ العلم، وعندما تضعُه الدولة في موقعه المناسب، وليس بمحاربته ومطاردته لكونه يشكلُ عبئًا على المسؤول الجاهل ومدّعي الدين المتخلّف خوفًا من مزاحمته إياهم على الموقع والمنصب الذي يستحقه العالِم الواعي وليس المدّعي الجاهل. هذه هي الحقيقة بين العالِم والجاهل. صراعٌ مريرٌ متصلٌ ومتواصلٌ، غيرُ جديرٍ بالتنافس ولا يقبلُ المقاربة والتشابه مهما علا قدمُ المسؤول في الدولة والسلطة وزاد ثراؤُه وعظمَ فسادُه وكبرَ دجلُه.

90
الجوائح في العالم، وقائع من التاريخ
لويس إقليمس
بغداد، في 7 نيسان 2021
عرف تاريخ البشرية أصنافًا شتى من الجوائح أو ما يمكن تسميتها بالأوبئة الفتاكة القاتلة التي صعبَ السيطرة عليها أو علاجها بشريًا وبما يخفّف من الخسائر العامة والخاصة التي أحدثتها هذه في صفوف الجنس البشري وعلى دبيب الأرض بأشكالها على السواء. فقد شهدت البشرية في الحقب التاريخية الماضية أوبئة قاتلة مثل الجدري والسلّ والطاعون والحصبة والجرب واشكال الحميات وأنواع الإنفلونزا، وحديثًا كارثة السيدا أو ما سُمّي بالإيدز (نقص المناعة المكتسبة)، وآخرُها فيروس جائحة كورونا الذي أقلق العالم وهزّ العروش وحجز شعوبًا وأممًا في منازلها وضمنَ أسيجة بلدانها وأدّى تفشيه المذهل إلى إغلاق الحدود ومنع التنقّل واتخاذ إجراءات قاسية للحدّ من انتشاره بعد أن حيّر العلماء والبشر العاديين في كيفية وروده والشكوك بصناعته بشريًا والخشية من وجود مؤامرة دولية تقوم بها جهات مستفيدة من ظهورِه ومن آثاره السلبية القاتلة على حاضر البشرية ومستقبل الأجيال التي لم تولد بعد. وهذا بحسب مراقبين ومحللين ومتابعين لأشكال الأزمات التي خلقتها هذه الجائحة المستجدّة والمتحوّرة بشكل غريب، سائرٌ ربّما ضمن التصوّرات الجديدة للخارطة المرتقبة للأرض على يد "الأسياد"، رعاة المال والاقتصاد بالاتفاق مع المقاولين في مجال الصحة والمال والسياسة.
عمليًا، لا يمكن نكران مساهمة وسائل التنقل السريع بسرعة انتشار الأوبئة مؤخرًا بالرغم من الوعي الصحي والتقدم التقني والطبي لدى عموم شعوب الأرض، تمامًا كما ساهمت الوسائل المتخلفة في أزمنة سابقة في انتشار هذه الأوبئة نتيجة لعدم توافر الوسائل المتقدمة التي من شأنها التخفيف من حدّة هذه الأمراض القاتلة وكذلك بسبب النقص الحاد آنذاك في العنصر البشري الذي يفترض قيامُه بما يترتب عليه من تهيئة المستلزمات المادية التي من شأنها المساهمة في الرصد والحدّ من الانتشار وفي استخدام العلاجات المتوفرة من صنع البشر. من هنا قد تكون المقاربة في مقارنة تأثيرات وخسائر جائحة كورونا مع ما شكّله وباء الطاعون الأسود مثلاً، والذي ضربَ مناطقَ عديدة من العالم في أزمنة مختلفة من التاريخ. ولعلَّ أشدَّها وأكثرَها عنفًا وألمًا وخسارة حينما اجتاحَ هذا الوباء العالم الأوربي في القرن الرابع عشر وبالذات في السنوات من 1346-1352م. ففي هذه الحقبة نجد الآثار الكارثية التي أوقعها الطاعون بحصاد أكثر من ثلث سكان هذه القارة بحسب "جوليان لوازو" أستاذ تاريخ القرون الوسطى في جامعة مرسيليا في فرنسا الذي يشيرُ إلى تقاربٍ وصفي في الكارثتين في مقابلة له مع مجلة "باري ماتش" الفرنسية. وفي وصفه لطريقة انتشار الوباء حينذاك، يشيرُ هذا العالم إلى نوعٍ من بكتيريا تنقلها بعض القوارض القذرة التي صعبَ مقاومتها والقضاء عليها ومعالجتُها حينذاك بسبب ضعف الإمكانيات المتاحة بشريًا وعدم استيعاب هول الكارثة التي شاع تسميتُها بالموت الأسود بسبب الرعب والدمار الذي أحدثه في المنازل والكنائس والشوارع. ووفقًا لرؤيته، وبسبب ذلك الوباء، فقد توقفت الحياة في بعض المدن المصابة والتزم العامة والخاصة منازلهم في انتظار الموت الزؤام على الأسرّة ووراء الأبواب المغلقة أو بملاقاة المصير الأسود على الطرقات وفي الشوارع والأماكن العامة، بحيث صعب التقاط الجثث ونقلها إلى المقابر لكثرة عددها والخوف من العدوى الحتمية. وجدير الإشارة إليه بحسب بعض الروايات في تلك الحقبة المظلمة، ارتفاع أسعار الشموع بسبب كثرة استخدامها في نقل جثث الموتى والهالكين بسبب الوباء إلى المقابر.
من المعلوم ايضًا، أنّ أقرب الوسائل لنقل عدوى تلك الأوبئة في حينها، كان بسبب التجارة عبر البحار التي كانت رائجة بين دول العالم على بطئها وخفتها حيث كانت تستغرق أسابيع وأشهرًا، وليس كما نشهده اليوم من سرعة انتشارها كالبرق بسبب تقدم وسائط النقل والتكنلوجيا وسرعة الحركة البشرية والسفر الرائج دون الاكتراث أحيانًا للنتائج المترقبة. هناك مَن يعتقد من أطباء العرب في القرن الرابع عشر بأنّ وباء الطاعون الأسود الذي وصل أوربا في حينها، قد أُتيح له الانتشار انطلاقًا من الصين أيضًا، تمامًا كما يسود الاعتقاد الراهن بكون هذا البلد مترامي الأطراف هو السبب في نقل فيروس جائحة كورونا في العام 2019.
عصيات الطاعون
بحسب دراسة علمية رصينة في علم الأنساب الخاصة بعصيات الطاعون، توصل المعنيون بكون هذه العصيّات هي السبب في انتشار وباء الطاعون في العالم، وذلك انطلاقًا من منطقة التبت حصرًا حيث موطن هذه العصيّات المستوطنة في مجموعة من القوارض البرّية وذلك ربما بسبب بعض الخصوصيات البشرية وطبيعة الحياة التي تتميز بها هذه البقعة من العالم. ويرى بعض هؤلاء أن الغزوات المغولية التي اجتاحت مناطق متعددة من العالم، ومنها أوربا ودول الشرق يمكن عدُّها من وسائل نقل أدوات الطاعون إلى هذه الشعوب، بالرغم من عدم الإقرار ضمنًا بكونها السبب الأساس الوحيد لنقل عدوى هذه الجائحة كي لا تُظلمَ جزافًا.
بذات الطريقة والوسيلة نخلص لافتراض نقل أدوات جائحة كورونا إلى العالم الراهن بسبب القدرة الاقتصادية المتميزة لهذه البلاد الشاسعة في الوصول إلى أقصى أراضي الكرة الأرضية وغزوها بطريقتها الخاصة بها. فنحن ندرك وسائل الاتصال المتاحة آنذاك في الربط بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود لأغراض التجارة، كونها من الوسائل الرئيسية في التنقل والتجارة. وهذا ما يفسّرُ وصول الطاعون إلى أوربا، ومنها فرنسا بالذات وعلى وجه التحديد بسبب التجارة الدولية التي كان يمارسها التجار بين البلدان، ولاسيّما في موانئ المدن الرئيسية مثل الإسكندرية في مصر ومرسيليا ونورماندي في فرنسا وصقلية في إيطاليا ولندن في بريطانيا وغيرها. وهذه المدن كانت رائجة تجاريًا، ما يمكن القول إن الحركة فيها قد يسّرت الطريق لانتقال العدوى أكثر من غيرها وإحصاء زيادة في عدد الوفيات الدراماتيكية المقلقة. وغالبًا ما، كانت الدوائر الكنسية وصفوف المؤمنين المقرّبين منها من المتطوعين هي الجهة التي تتبنى تقديم المساعدات الغذائية والعلاجية المتوفرة على شحتها وكذلك في عمليات دفن الضحايا الكثيرين بالرغم من المخاطر التي يمكن أن تشكلها وسائل الاتصال الجسدي والمادي المباشرة مع جثث الهالكين أو عائداتهم ومقتنياتهم والتلوث في الأجواء.
ظلمُ الزمان وقهرُه
لسنا هنا بصدد توجيه اللائمة على بلدان أو جهات أو أفرادٍ لاتخاذهم كبش فداء لما عانت منه البشرية في أزمنة سابقة ولا في أيامنا هذه عندما تمّ توجيه اللوم على بلد معين وشعبٍ معيّن متهمٍ بتناول حيواناتٍ ودبيبٍ غير مستساغٍ ترفضه شعوبٌ أخرى على وجه الأرض. فكما حصل في الماضي السحيق، حين اتُهم اليهود بنقل أمراض مثل البرص والجذام والتي عُدّت عارًا على بشرٍ ابتلتهم السماء كي "تظهرَ إرادة رب السماء وقدرتُه على البشر غير الأسوياء" بحسب نظرة بشرية ضيقة من فئاتٍ ترفعت عن طبقات ٍ مسحوقة من البشر والفقراء والمعدَمين، يمكن تسجيل ما يحصل حوالينا في أيامنا هذه من شبيه الاتهامات التي ساقها البعض ضدّ شعوبٍ في القارة الصينية. فهذه في ظاهرها وباطنها لا تخرج عن فحوى هذه النظرة الضيقة غير السوية وغير العادلة تجاه هذه الشعوب المتحركة في نشاطها المتنوع والتي تحب الحياة على طريقتها وتجيد استنباط الجديد والمتطور لتنميتها واستمرار عيشها وفق منظارها القارّي المتميّز. ولكن المهمّ في هذه الويلات التي تأتي من جرّاء الجوائح والأوبئة والأمراض تكمن في قدرة الإنسان على استغلالها واتخاذها عبرًا ودروسًا لتغيير العقليات والكفّ عن الحكم المسبق غير المنطقي على أشكال البشر وتصانيفهم وسلوكياتهم بالرغم من أن الحكم المطلق أولُه وآخرُه من اللهّ خالق الكون وليس من لدن البشر الذي يبقى ضعيفًا في قدراته الحقيرة التي لا يمكن أن ترقى إلى قدرات الخالق الجبارة. فظلمُ الزمن وقهرُه لا يميّز أحيانًا أحدًا. وهذا ما يفسّرُ أن الموت حقٌّ على الجميع وليس بمقدور كائنٍ مَن كان أن يقف بوجهه حينما تأتي الساعة ويخطف الموت بني البشر كاللصّ في الليل الذي لا يُعرف أوانُ قدومه ووقتُ هجومه على البيت من أجل سرقته. فتلك الساعة وذلك الوقت لا يعلمُه إلاّ ربُّ العالمين ولا أحد سواه. كما أنّ الموت في سلوكه العبثي أحيانًا لا يميّزُ بين الملك المتعالي والإنسان البسيط، بين الرئيس والمرؤوس، بين الفقير والغني، بين الزعيم الديني والمؤمن البسيط، بين الرجل والمرأة، بين الكبير والصغير. فالكلّ سواسية أمام القضاء الإلهي.
إنّ ما نشهدُه اليوم في سلوكيات البعض من البشر إزاء جائحة العصر كورونا، قد لا تختلف عمّا شهده العالم إبّان وباء الطاعون الأسود. فحينذاك، تذكرُ بعض كتب التاريخ لجوء ذواتٍ من الطبقة الارستقراطية للهجرة خارج مناطق سكنها هربًا من أشباح الموت الزؤام الذي حاصر مدنًا كبيرة بأسرها. وتتكرّرُ شبيه تلك الحكاية اليوم بمغادرة بشرٍ لمناطق عيشهم وسكنهم قصدًا للتحصّن من وبال الجائحة. وتلكم مفارقة لا تدخل في حسابات القدر الذي لا يعرف التمييز بين زيد وعبيد، بين قويّ وضعيف، بين سيد القوم وحقيره، وفي اية بقعة من أرض الرحمن الواسعة. فالكلّ يبقى عرضةً للإصابة بالمرض والكلُّ سيتأثر من قريبٍ أو بعيدٍ. فلا شروط للهرب منه مهما كان موقع الإنسان ومنصبُه وتأثيرُه وشخصُه، حتى المتلقون للقاحات المتعددة التي أخرجتها مصانع إنتاجية بقصد التجارة وممارسة مهنة الشفاء سواءً بسواء، خابت ظنونُهم ولم تتوفر لهم فرصة ضمان التحصّن من القادم المجهول. فما تزال اللقاحات المطروحة تثير شيئًا من الغموض في فعاليتها ونجوعها ومدى مواجهتها لقدرات الفيروس على التحوّل والتلوّن والتطوّر في أساليب مهاجمتها الشرسة للبشر.
لقاحات آمنة
إنّ الأمل يحدو بالبشرية والاختصاصيين بالأمراض الانتقالية والعاملين في المَخابر أن يصيرَ التوصل العلميّ العام إلى لقاحات آمنة وأكثر فعالية تسهم في منع الإصابة قدر المستطاع من أجل إبعاد الجنس البشري عن المخاطر التي تحوم حوله، ولكنْ بأقلّ الخسائر وبتصفير التأثيرات الجانبية المشكوك فيها والتي ماتزال تثير تساؤلات عديدة مشروعة، ما حدا بالبعض للتقاعس والتصدّي لأخذها، خشيةً من الوقوع في شراك تأثيراتها المجهولة على الصحة الجسدية. فكلٌّ يخشى على صحته وصحة وأحوال محبيه وأهله وأصدقائه وشعبه نتيجة لضعف الثقة التي عمّت عامة البشر والجهات العلمية والصحية التي اختلطت مخططاتُها وتوجهاتُها مع استراتيجيات وسياسات "أسياد العالم" غير الظاهرين الذين يديرون دفة القاطرة البشرية انطلاقًا من مواقفهم السياسية ومواقعهم الدولية، كلّ بحسب مصالحه ومنافعه ومكاسبه.
لذا، فإنّ ذات الوصف الذي عرفه التاريخ في أزمنة الجوائح، قد يكون قريبَ الشبه فيما يحصل بشأن فيروس كورونا والهالكين بسببه، حيث خيّمَ الخوفُ وساد الرعبُ على أيّ شيء وكلِّ شيء يمسُّ مريض كورونا والمدينة والبلد الذي انتشر فيه، بالرغم من ضربه كلّ بقاع الأرض وبشرها من دون تمييز بسبب سرعة التنقل ووسائل الاتصال المتعددة المساعدة في إمكانية انتشاره. إلاّ أنّ حالة الفوضى التي تركها فيروس كورونا ربّما تختلف في بعض آلياتها ودوافعها وأسبابها عن تلك التي تركتها جوائح التاريخ لأسباب عديدة منها مستوى الوعي وتوفر وسائل الوقاية وتعدّد مراكز العلاج والحملة العالمية لإيجاد العلاجات الواقية، ومنها اللقاحات التي ما تزالُ تثير القلق والحيرة والخوف في صفوف البشرية. ففي الوقت الذي تدعو فيه المنظمات الصحية العالمية ومراكز العلاج الدولية للتحصّن بأخذ اللقاح، هناك أطرافٌ علمية واجتماعية تشكّك في مقدرة اللقاحات المطروحة في الأسواق بمنح الحصانة الصحية لمَن يقتبلها. بل ذهب البعض لاعتبارها مؤامرة دولية تسعى من ورائها شركات عالمية كبرى تحقيق أرباح عظمى من ورائها. ناهيك عن الجدوى العالمية المخطَّط لها فيما يخصّ مستقبل البشرية على الأرض والأهداف المخفية وغير المكشوفة المنتظرة من وراء الجائحة. وفي كلّ الأحوال، فالبشرية ضائعة بين الأمل والخوف، بين الرجاء واليأس، بين الفرج والضيق ممّا يجري من دون بروز ما يمكن أن يشفي الغليل ويهدّئ من روع الإنسان المغلوب على أمره في أمر هذه الجائحة.
وقانا الله شرّ بلائها وشفى مرضاها ورحم الهالكين بسببها.


91
سوق العمل في ظل الجائحة، أزمات مضاعفة
لويس إقليمس
بغداد، في 24 آذار 2021
لا أحد يشكّ في ما آلت إليه أحوال الشعوب والدول من بؤسٍ وتراجعٍ في الحقوق الآدمية التي فرضتها ظروف الجائحة وتحوّرات فيروساتها المستجدّة منذ أن اجتاحت العالم نهاية 2019، وماتزال تداعياتُها قائمة بقسوة وبشدّة رهيبة تُخيف العالم وأساطينه وحكوماته، بالرغم من الجهود الدولية للسعي لاحتواء المرض القاتل بشتى الطرق الوقائية والدوائية لغاية الساعة. ولعلّ من بين التداعيات العديدة لهذا الوباء القاتل الذي لم يشهد التاريخ له مثيلًا من حيث الشراسة واكتساح كلّ شيء وأيّ شيء أمامه، تعريض البشر إلى أزمات متلاحقة في الاقتصاد والسياسة والإدارة والعلاقات على أشكالها وتفاعلاتها، ومنها شبح البطالة القاتل الذي خيّمَ على أجواء المصانع والمعامل، ما أدّى إلى إغلاق تامّ أو شبه تامّ لهذه ولغيرها من الشركات التي كانت سندًا وتمويلاً لمعيشة الملايين من البشر.
أساسيات الحقوق
بالرغم من كون العمل وما يأتي من ورائه من كسبٍ لكفافِ اليوم وما يضيفهُ من ادّخار للبعض الآخر يقع من ضمن أساسيات الحقوق المواطنية في أية بقعة أو بلدٍ، إلاّ أنّ البشرية وقفت حائرة متسمّرةً أمام معضلة البطالة وما حتّمته من تداعيات ومشاكل عائلية وأسرية ومجتمعية ووطنية وعالمية في شموليتها للجميع. ومع كلّ الإجراءات المساندة واشكال التمويل التي تقدمت بها دولٌ متقدمة حضاريًا ومدنيًا في أنظمتها السياسية انطلاقًا من حق المواطن بتأمين عيشه ومعيشة أسرته بكرامة وشرف، إلاّ أنّ النظام المالي والتمويلي لم يستطع الصمود في بعض هذه الدول أمام التحديات الكبيرة المتزايدة بسبب استطالة فترة المحنة وامتداد تأثيراتها لميادين أخرى تأثرت بها قطاعات واسعة وخلقت مشاكل منزلية وأدّت إلى أزمات عائلية بين الأزواج وأفراد الأسر والأصدقاء عندما حدّت من العلاقات المجتمعية بكلّ اشكالها ووسائلها ومفرداتها.
لقد تراجع سوق العمل في كلّ المجتمعات بدرجة مخيفة ومضطربة لا تُنبئ بخير قريبٍ قادم، إلاّ في حالة ترقّب تغيير جذريّ إيجابيّ قادمٍ في وسائل تفكير الزعامات التي تحكم العالم وتتسيّد المشهد العام للحكومات وأذرعها في مناطق نفوذها. ومن هذه الوسائل الإيجابية المنتظرة من زعامات العالم بطبيعة الحال، عندما تعمد بحسن النية على تطبيق معايير إنسانية غير استغلالية ضدّ فئات هشّة وقابلة الانكسار بسبب ضعف هذه الأخيرة وعدم قدرتها على مواجهة الواقع والتحديات الكبيرة بسبب فقدانها الوسائل والأدوات التي تمنحها الثقة بالنفس والقدرة على المواجهة وكسب الرهان بكفاءتها المغيّبة وبقدراتها الكامنة التي تخشى إبرازَها لأية ظروفٍ أو أسباب. فعندما لجأت دولٌ متقدمة تفاعلت "مواطنيًا" باحترامٍ مع مجتمعاتها المتحضّرة، حصل ذلك لكون مواطني هذه المجتمعات اتصفت بكامل الثقة بالنفس وبقدرتها على مواجهة التحديات الصعبة بتعاونها المتضامن مع الدولة والمؤسسات التنفيذية للوصول إلى الأمان النفسي والجسدي والفكري والعلمي وتجاوز سقف المحنة بأقلّ الخسائر الاقتصادية والبشرية. وهذه تُحسب تمامًا لهذا الصنف من الدول المتقدمة، بالرغم من الخسائر البشرية التي راحت ضحية الجائحة بسبب التهاون وعدم الاكتراث أو الالتزام القاصر ببروتوكولات الوقاية والحماية والحذر. إلاّ أنّ سلوك الحياة اليومية في هذه الدول المتحضّرة صمدَ وواظبَ على شكل وأسلوب الحياة الجديدة التي فرضتها شروط الجائحة بسبب الضمانات وأشكال المساعدة والحزم التمويلية الضخمة التي تكفّلت بها حكومات هذه الدول في علاج الأزمات الاقتصادية وتأثيراتها الجانبية على الحياة المجتمعية وأشكالها ومفرداتها التي تأثرت بفعلها.
إنه من المؤسف أنّ بعض الأنظمة السياسية القلقة والمضطربة في منطقتنا، ومنها بطبيعة الحال النظام السياسي الهزيل القائم في العراق، بسبب غياب الإرادة القوية والإدارة الرشيدة، قد وقعت فريسة لأشكال عديدة من المخالفات والخروقات بحق المواطن البائس الذي احتار في أمر معيشته واستصعبَ تدبير شؤونه ومتطلبات بيته وأسرته بسبب شحة فرص العمل أو فقدان عمله أو وظيفته في أسواق القطاع الخاص. في حين واصل حياتَه الطبيعية من دون مشاكل تُذكر مَن احتمى بوظيفة عامة في صفوف الدولة المترهلة التي صارت ملجأً تمويليًا للمجتمع العراقي بالرغم من انتفاء وقصور إنتاجية موظفيها وبلوغها نسبة مقرفة لا تتعدى عشر دقائق في يوم الدوام الكامل، هذا في حالة عدم احتساب ما تفجّرت به قرائحُ الساسة ونوابُ الشعب بزيادة مثيرة في أيام العطل الرسمية وما زيد أو يُزاد عليها من أيام أخريات حسب قناعة الجهة التنفيذية في المركز أو المحافظات. وهذا ما يُعزى لتراكض المواطنين للتعيين في دوائر الدولة التي تكفل مرتبًا مضمونًا للمعيشة دون القطاع الخاص. والسبب واضح ومؤسف، لكون الدولة وإداراتها الفاشلة افتقدت لأبسط إجراءات التخطيط وخلت برامجُها من أية استراتيجيات تكفل وسائل وأدوات بناء الوطن والبشر معًا بالتكافل والتضامن مع القطاع الخاص الذي هو أساس بناء الأوطان وتقدّم صناعته وزراعته عبر تشجيع وسائل الإنتاج وتحفيز هذا القطاع المهمّ لأداءٍ أفضل من خلال سنّ التشريعات والقوانين الصحيحة التي تكفلُ له مثل هذا التقدّم في العمل والإبداع والإنتاج كي يتنافس مع المستورد الخاضع لإرادات جهات سياسية مرتبطة بدول الجوار التي لا يطيب لها تقدّم القطاع الخاص الوطني في البلاد.
ضمان اجتماعي مقابل المواطنة

صحيحٌ أنّ شرائح مجتمعية في الدول المتقدمة قد خسرت وظائفها غير الثابتة في سوق العمل في القطاع الخاص بسبب الإغلاق التام أو الجزئي لصغار الشركات والمصانع، لكنها لقيت من جانب حكوماتها كلّ الدعم وأشكال المساعدة بصورة مباشرة أو عبر تنظيمات حكومية أو منظمات خيرية فاعلة في مجتمعاتها. وهذا يُحسب سلوكًا إيجابيًا لهذه الحكومات التي تضمن قوانينُها أبسط أنواع الرعاية الاجتماعية ولو في حدودها الدنيا، تقديرًا للصفة المواطنية لكلّ فردٍ يعيش فوق أراضيها. ومنه ما يتنعم به اللاجئون الشرعيون وغير الشرعيين المقيمون في هذه الدول. وممّا لا شكّ فيه هناك أفرادٌ ومواطنون عراقيون سبق أن اتخذوا من دول غربية ملجأً آمنًا لهم ولأسرهم، مازالوا يستفيدون من حسنات نظام الرعاية الاجتماعية في دول الاغتراب بالرغم من تمتعهم بامتيازات مالية ووظيفية في بلدهم الأصلي بسبب ميزة المواطنة المزدوجة، بعكس مَن بقي صابرًا صامدًا من مواطنيهم طيلة فترة الأزمات التي تعرّض لها الوطن والشعب بسبب تقلبات أنظمة الحكم.
ومن محاسن الأنظمة المتقدمة في العالم، بما فيها دولٌ إقليمية وعربية شقّت طريقها نحو التحضّر والتمدّن واحترام حقوق البشر الذين ترعاهم أبويًا، التزام أرباب العمل باللوائح الوطنية في بلدانها بأقصى ما يمكنها ذلك حين تولدت لديها القناعة الكافية بمراعاة ظروف موظفيها وعمالها بعملٍ جزئيّ حفاظًا على كرامة المواطن لحين استتباب الظروف وعودة الحياة إلى دورتها. وهذا الإجراء جاء في بعضٍ من أسباب جزئياته بسبب تعاون الحكومات مع سوق القطاع الخاص من أجل إبقاء كرامة الموظف عالية قدر المستطاع وعدم تعريضه للإهانة والتسمّر في الساحات والشوارع بحثًا عن مورد خائب شحيح في زمن الغدر والفاقة. ومن المفارقات بين ما حصل في العراق قبل أكثر من عام فيما يخصّ انتفاء الحاجة لأربع مواليد متتالية وإحالتهم على التقاعد القسري وتوظيف بدائل عنهم بحجج واهية للتخلّص من عبئهم بسبب تقادمهم في السنّ، نرى مواقف مغايرة أكثر إنسانية في احتفاظ دول متقدمة بطاقات المسنّين لأطول فترة ممكنة تجاه الذين تجد فيهم كلّ خيرٍ وبركة ومواظبة في زيادة الإبداع والإنتاجية بسبب خبراتهم القوية ومهاراتهم المكتسبة، ما ينمّ عن عمق التقدير والتمسّك بالطاقات المبدعة وليس برميها رمية الكلاب لتجد مصيرها تمدّ يديها بسبب تفاقم الحاجة وصعوبة توفير لقمة العيش لقلّة المرتّب التقاعدي الذي لا يسدّ رمق العيش في أدنى صوره. فليس بهذه الصور الشائنة يتمّ التعامل مع كبار السنّ الذين عندما لا توفّر الدولة ما يضمن حياة حرة كريمة لمواطنيها الذين تقفر بهم فرص العثور على العمل حين تسريحهم قسريًا وعدم توفر نظام اجتماعي وطني يقي حياتهم ويديمُ حصولهم على مورد إضافيّ لإدامة حياتهم بما يستحقونه من لدن وطنهم والمؤسسات التي خدموها طيلة فترة عملهم. وهذا ينطبق أيضًا على سوق العمل في القطاع الخاص حينما تفتقر شركات ومكاتب القطاع الخاص إلى نظام عادلٍ للرعاية الاجتماعية الذي يكفل حياة كريمة للعامل حينما تنتهي فترة عمله لأية أسباب.
في هذا الصدد، ولتسهيل اندماج المنتهية عقود عملهم في الدول المتقدمة، نجد ما يملأ فراغ الدولة عبر نقابات أو منظمات تتولى تسهيل البحث عن فرص عمل ومبادرات اجتماعية لمَن فقدوا وظائفهم أو للباحثين عن عمل يدرّ موردًا يكفي حاجة الحياة اليومية قدر المستطاع. وهذا من حسنات الأنظمة السياسية الصادقة مع شعوبها والباحثة عن خدمة مواطنيها، والسبب يعود للخشية من محاسبتها من قبل الشعب وعزوف الناخبين في دورات لاحقة عن إعادة تدويرهم بسبب الفشل في تأمين ما يسدى من خدمات للناخب. وهذا، بعكس ما يحصل في أنظمتنا المتخلفة والأنانية والمصلحية حيث يفتقر الناخب لأدنى درجات الوعي والإدراك لمصلحته ومصلحة وطنه عندما يقع في كلّ مرة فريسة لوعود معسولة كاذبة في معظمها من جانب القائمين المتلاعبين بمصيره ومصير وطنه. من هنا لا نجد سببًا موجبًا لإدارة الظهر لكبار السنّ الباحثين عن عمل لاسيّما عندما يكونون من طبقة الذين يتصفون بالخبرة الجادة والمهارات الإدارية والمهنية التي من شأنها خلق أجواء إيجابية لزيادة الإنتاج وتقدّم تطبيقات العمل. فحينما يجتمع صناع القرار وأصحاب الخبرات التنفيذية والمهنية يمكن للمشروع، أيّ مشروع، أن يخلق نسيجًا اقتصاديًا ومنتجًا في أعلى مراحله. فهذا إلى جانب الفائدة المرجوّة من الخبرة المهنية والمهارة الإدارية، سيخرج بنتائج مفيدة على صعيد امتصاص البطالة قدر المستطاع عندما تدور الماكنة ويسير العمل بوتائر صحيحة ضمن المخطَّط له.
من هنا، يبقى العمل الوظيفي من القضايا الأساسية لمستقبل المجتمعات في أية دولة أو منطقة من أجل ازدهار اقتصاديات هذه الدول وتعافيها وتجاوز أزمات البطالة وصولاً للتماسك الاجتماعي والتوازن الأسري بدل البحث عن مفرّ أو أنفاق غير مجدية لخلق المشاكل أو الوقوع في المحاذير أو الالتجاء إلى وسائل جرمية غير طبيعية في إنهاء الحياة. فالعمل الجيّد نوعٌ من العبادة وبه يستحق العامل أجرَه كي يعيش كريمًا حرًّا على أساسه والدفع به للمساهمة في صالح الخير العام له ولأسرته ولمجتمعه ووطنه من خلال تطوير القدرات وشحذ القابليات نحو الأفضل. كما أنّ العامل الصالح أو الموظف الجيّد هو مَن يشعر بالفرح الغامر ويجد معنى لعمله حين تحقيقه تقدّمًا في أدائه من دون معاناة أو منغّصات تقف عثرة أمامه. وهذا ما نحتاجُه من صفات وإجراءات لتحقيق العدالة الاجتماعية في محيطنا الوطني. فالكثير من هذه ومن غيرها مفقودٌ في بلادنا وفي مخططات أنظمتنا السياسية المتتالية التي لم تتقدّم خطوات جادّة باتجاه تأمين حياة مواطنيها كما يليق في كلّ مراحل حياتهم.
 



92
البابا غادرَ العراق والعراقيون باقون إخوة
لويس إقليمس
بغداد، في 12 آذار 2021
    غادر البابا فرنسيس بغدادَ صبيحة الاثنين 8 آذار 2021، مبتهجًا سعيدًا وصادقًا مع شعب العراق، عائدًا إلى دولة الفاتيكان بعد إمضاء أربعة أيام مباركة حافلة بلقاءات رسمية ودينية وشعبية، أجمع الجميعُ بأنّها كانت مثمرة. وقد توّجَها في كلّ محطة بلقاء شرائح من المجتمعات المسيحية في سلسلة صلوات وقداديس في مواقع تمّ انتقاؤُها لرمزيتها ودلالاتها والهدف من زيارتها. قد تكون هذه من أكثر الزيارات المتعبة والمنهكة جسديًا لرجلٍ مسنٍّ مثله، ولكنّها ربما تندرج ضمن حساباته الشخصية بكونها من أروع أيام حبريته، بل حياته. وهذا ما حدا به للتعبير عن عظم تقديره ومحبته لكلّ العراقيين، رسميّين ومدنيّين ورجال دين بكلّ أطيافهم وألوانهم، أينما حلَّ وارتحلَ. وقد أبى إلاّ أن يترك جزءً مؤثرًا من شخصه الرعويّ والأبويّ الكريم ومن روحه المُحبة الطيبة، عندما قالَ في القداس الذي أحياه في ملعب فرنسو الحريري في أربيل: "الآن، اقتربت لحظة العودة إلى روما. لكنّ العراق سيبقى دائماً معي وفي قلبي".
غادر البابا إذن، تاركًا جزءً من قلبه الحنون الرؤوف المتسامح الكريم الكبير في كلّ شيء، بين أيادي شعب بلاد الرافدين، مهد الحضارات ودار الثقافات بتلاوينها وتعدديتها وتقاليدها وإرثها. لقد سرّهُ وأسعدهُ كثيرًا أن يشبعَ نهمَه الإنساني من رائحة العراق الذكية الطيبة وناسِه الطيبين طيلة أيام زيارته الميمونة وأن يتلذّذ بأكلة بقلاوته الشهيرة بعدما أيقنَ استحقاق وصفِه بالحديقة الغنّاء وارفة الظلال التي من شأن قدراتها الفياضة الكامنة شمولَ كلّ أبناء مكوّنات العراق بلا تمييز وبالحق في العيش الحرّ المشترك وفق مبدأ "الأخوّة الإنسانية" التي اتخذها شعارًا ومحورًا في رحلته "جميعُكم إخوة"، تأكيدًا على ضرورة التعايش السلميّ الذي وحدَه كفيلٌ بالتأسيس لمجتمع متحضّر، آمنٍ، منفتح، متضامن، مستقرٍّ، متسامح، كريم في مفهوم احترام الاختلافات، مهما كانت في طبيعة الدين أو العرق أو الجنس، وذلك حفاظًا على رصانة البلاد والعباد وحمايتها من كلّ أشكال التمزّق والفرقة والعنف والاضطهاد والتمييز غير المبرّرة التي تهدم ولا تبني، تضرّ ولا تنفع، تمزّق ولا توحّد.   
غادر البابا، ولكنّ الكثيرين مصرّون على قطف ثمار هذه الزيارة التاريخية بالبقاء متجذّرين في أرض إبراهيم أبي الأديان والمؤمنين، أملاً بانتظار عودة مَن خرجَ مضطرًّا غير مُخيَّرٍ في ظروفٍ حتّمت عليه مغادرة البلاد قسرًا، بسبب ما عاناه من قهرٍ وظلمٍ وقسوة وتهميشٍ وتمييزٍ وتهجيرٍ وخسارة ممتلكات وأعزّاء للظروف الاستثنائية الظالمة التي نعرفُها. فقد ساهمت الحكومات "اللاوطنية" المتعاقبة بشيءٍ كثير من هذه الظروف الظالمة عندما أشاحت النظر عن حقائق صادمة عاشتها مجتمعاتُ المناطق المتضررة من سيطرة عصابات الإرهاب الداعشي عليها من دون الالتفات إلى حقها بإعادة ما جرى تدميرُه من بشرٍ وحجرٍ وثقافة وتراثٍ وممتلكات وإرث حضاريّ وتعويضُها بما يحتمُ عليه الواجب الوطني. بل جاءت مثيلاتُها من ميليشيات مدعومة من أحزاب السلطة وتحت غطائها الحمائي لتكملَ ذاتَ النهج في مواصلة سلسلة الإرهاب والعنف والترعيب، ولكن من طرازٍ جديد تمثّلَ بأشكالٍ "فانتازية" من التغيير الديمغرافي، لاسيّما في المناطق التي تشهد تاريخيًا لجذور الأقليات الدينية والعرقية في محافظات بشمال البلاد التي ما تزال تعاني من آثار الدمار والخراب التي شهدها البابا بأمّ عينه متحسّرًا ووصفها بالخسارة الفادحة. فقد تعمّدت جهاتٌ متسلطة عبر الحكومات المتعاقبة على إبقاء ذات النهج التمييزي في أشكال الإهمال والاستخفاف والتغاضي عمّا يحصل في مناطق تواجد الأقليات الدينية والعرقية في المناطق التي شهدت أقسى مراحل التهجير والنزوح والتهديد بالعَرض والأرض، ما ساهم بما لا يقبل الشكّ في المشاركة ضمنيًا بعملية منهجية مخطَّط لها بعناية من أجل استمرار الدفع بتغييب وتهجير ما أمكن من ابناء هذه المكونات الأصيلة وتواصل إبعاد أتباعِها عن الوطن وتمزيق نسيجهم المجتمعي والدفع بانسلاخهم قسرًا من مسقط الرأس والأهل والأحبة. فكان نصيبُهم طرقَ عتباتِ التهجير القسري والتشرّد في بلدان الاغتراب طلبًا للأمن والسلام وكفاف الخبز المضمون والاستقرار النفسي والعائلي بعد أن ماتت الضمائر وطغى صوت القتل والعنف واشتدت وطأة الفساد لتعمّ الإدارات الفاشلة للحكومات الهزيلة المتعاقبة منذ سقوط البلاد على أيدي الغازي الأمريكي الظالم وشلّة استقدمَها بغباء لكونها لم تفهم غيرَ لغة التخوين والانتقام ونهب الثروات والإثراء على حساب الوطن والشعب الصابر.
نظام اجتماعي بثقافة جديدة 
لم تشهد زيارة أي مسؤول في أية دولة في العالم في الزمن الحاضر، ما نالته زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق من حيث الاستقبال الرسمي والجماهيري وتفاصيل اللقاءات رفيعة المستوى وتعددّ المواقع الرمزية روحيًا وتراثيًا واجتماعيًا وتاريخيًا. فكلّ موقع وطأته قدماه، كان بدافع المشاركة الوجدانية الصميمية بغية إعطاء نفحة إرشادية مقصودة المعاني ودروسٍ مهمة لصالح إعادة بناء النسيج المجتمعي الوطني على أسس العدالة والمساواة ورفض التمييز بين المكوّنات على أسس دينية ومذهبية وعرقية، والتأكيد على الحق في الحياة الإنسانية وكسب القوت اليومي الشريف لكلّ المواطنين من منطلق كونِ الثرواتِ الوطنية ملكًا للجميع وليس للمتسلطين والحكام والفاسدين وأذنابهم وأتباعهم. فما تفوّه به أمام المسؤولين رسميًا أو الحضور شعبيًا، لم يجرؤ غيرُه لقوله، لكونه أخرجَه من صميم قلبه ومن بواطن روحه الإنسانية الطيبة التي حملت سلامًا وتفاؤلاً وأملاً ورجاءً بغدٍ أفضل للجميع ومن دون تفرقة. وحين لقاء القطبين الروحيين، قداسة البابا فرنسيس الفقير إلى الله مع نظيره المرجع الشيعي السيستاني الذي وصفه برجل الله وبالحكيم، سادت أجواء الوقار والألفة والتسامح لتكون نهجًا وطريقًا أمينًا لبناء الوطن عبر التأكيد على ضرورات العيش المشترك ضمن أجواء التسامح الديني المطلوب بين مختلف الأديان والطوائف، ما حدا بالرئيس العراقي لوصفه بلقاء "قمة الاعتدال والتسامح وخير منهجٍ في الوسطية والتحاور والتعايش". ولعلَّ هذا من أهمّ مفردات الرسائل التي حرص الطرفان على نقلها لعموم الشعب الجريح المظلوم الذي يعاني منذ ما يربو على ثمانية عشر عامًا من قهر نفرٍ من ساسة فاقدين للضمير والحياء طغوا بظلم سلوكياتهم غير الوطنية وغير الإنسانية على بني وطنهم بعدما تغوّلوا على سلطة الدولة وأفرغوها من محتواها الوطني الضامن لحقوق الجميع بحسب الدستور والقوانين والأعراف الإنسانية التي لا تقبل بظلم أو تهميش أو أذية أحد. 
لقد سرى مفهوم التسامح الديني الذي أرسى له لقاءُ الحبر الأعظم مع سماحة السيد السيستاني، ليكون خارطة طريق واضح ضمن أولويات ساسة البلاد، والذي بغيابه لا يمكن خلق مجتمعات متجانسة ومتعايشة بنظام سياسي عادلٍ يكفل حق الجميع بوطنٍ ذي هيبة وسيادة وعصمة تكون بيد الشعب وليس بأيدي الغرباء والدخلاء الذين ارتضوا أن يبيعوا أنفسهم ووطنهم وأهلَهم للغير من دول الجوار وولاتها الطامعين بأرض الوطن وثروات البلاد. ومن دواعي نجاح هذا اللقاء، أن ترنوَ نخبٌ وطنية وثقافية وسياسية مستقلّة رصينة باتجاه البحث عن عقد اجتماعي جديد ونظام سياسيّ مختلفٍ تمامًا عن الذي سلكته حكومات ما بعد الغزو الأمريكي المجحف بحق العراق وأهلِه، تمامًا كما أشار السيد رئيس جمهورية العراق في كلمته الترحيبية المؤثرة. ومن شأن مثل هذا النظام الجديد المرتقب الذي يُتوقع أن تُثمر عنه نفحاتُ التغيير المنتظر القادم عندما يصحو العراقيون ممّن مازالوا في غفوتهم ليدركوا مدى الكارثة التي أوقعتهم فيها زعامات السلطة الحاكمة وأحزابُها الفئوية في كلّ مرّة يقترب العراقيون فيها من موعد الانتخابات. فقد أجاد الساسة لعبتهم بجدارة وبمهارة خيّبت الآمال الوطنية في كلّ مرة، بالرغم من إدراك الكثير من ابناء الشعب العراقي مدى تغوّل الأحزاب الحاكمة بلا رحمة وإثراء معظمها على حساب الشعب والوطن وتفوّقها في أشكال الفساد والإفساد وفي كلّ ما تعجزُ عنه الألسن وتسرد له صفحاتُ الصحف وتصفه مواقع التواصل الاجتماعي وتتطرق له الفضائيات على اختلاف مسمياتها واتجاهاتها.
من هذا المنطلق عينه، أيقنت النخبُ والقطاعات المختلفة في البلاد، أن لا بديل إلاّ بتغيير العقلية وطبيعة الثقافة ونهج التفكير لتصبَّ جميعُها في خانة نظام سياسيّ مختلف النهج والرؤية وبعقد اجتماعيّ- سياسيّ جديد عبر الدعوة الناصحة والداعمة لمثل هذا التغيير الجذري في السلوك والآليات إيمانًا بقدرة الشعب على التجديد والتجدّد وانتشال البلاد والعباد من الوضع المزري الذي آلت إليه. وهذا ما ينتظرُه حقًا مَن تبقى من شرفاء الوطن الباحثين بفارغ الصبر والأمل عن وطنٍ مفقود، مرهونٍ بأيادي غير أهله. وتلكم من جملة النتائج المؤملة التي يمكن أن تلهمها الزيارة التاريخية لبابا السلام والتي ينتظر الجميع ثمارَها على أرض الواقع. ولعلَّ إعلان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، باعتبار يوم السادس من آذار من كلّ عام، يومًا للتعايش السلميّ في البلاد ودعوتَه لعقد حوار وطني بين جميع القوى العراقية لحل جميع المشاكل والصراعات بشكل جذري، تندرجُ ضمن بوادر هذه الإيجابيات وتبيان مفعولها.
في اعتقادي، ما حصل من تفاعلٍ كبير من جانب شرائح واسعة من مختلف المشارب والثقافات والأديان في المجتمع العراقي الباحث عن مفرّ آمنٍ وخروجٍ سلميّ من عنق الزجاجة الخانق الذي أوجدته زعامات السلطة ومَن سار على دربها المدمّر للمجتمع، هو الطريق الآمن الصحيح للتفكير ألف مرةّ ومرّة بتغيير السلوك في خيارات الحياة بعد إفسادها من أطراف الأحزاب الحاكمة وفق مبدأ المحاصصة وتقاسم الكعكة. وهي البداية الصحيحة للدعوة لتشكيل لوبيات مجتمعية والانخراط في تشكيلات سياسية جديدة لا تمتُّ بأية صلة لأحزاب السلطة الحالية وتفرّعاتها التدويرية لشخوصٍ تلبي وتكمل ذات الفكر الطائفي والنهج المحاصصاتي ولكن بوجوهٍ شبابية وأخرى لطيفة جاذبة تسعى لفتنة المواطن البسيط بعَسَل الكلام وجمال الوجه الحسن.
من هنا، جاءت جزئيات من رسالة البابا أيضًا، لتؤكدَ مضمون التغيير المطلوب في منظومة الحياة السياسية والاجتماعية للعراقيين باستلهام قدراتهم الكبيرة من أجل إنهاض البلاد من قساوة أحزاب السلطة بسبب ابتعاد هؤلاء عن مصلحة الوطن والشعب عندما تطرّقَ قداستُه إلى مسألة ضرورة "ترميم المجتمع والإنسان بالتزامن مع ترميم ما أصابَ المدن والبنى التحتية من دمار". لذا، وجبَ على ساسة البلاد أن يدركوا أنه عندما جاءَ البابا "حاجّأ تائبًا طالبًا شفاء الجراح وعزاء القلوب"، فإنّما تلك دعوة ملحة للتغيير التي تنتظر دعمًا ومساندة من المجتمع الدولي وأصحاب النوايا الحسنة والإرادات الطيبة في تغيير الفكر والعقل والرؤية والاستراتيجيات التي تبني وتعمّر وتُسعد البشر بدلًا من قساوة القلب وظلم الناس وهدر المال العام والسرقة واللصوصية والانتقام والتشبّث غير المبرّر بالسلطة وفرض الأجندات الدخيلة والغريبة على أهل الوطن وإدامة الشعور السلبيّ بالمظلومية الدائمة لفئات استأثرت بالسلطة حين اعتلت المشهد السياسي بدعمٍ من الغازي المحتلّ من غير استحقاق للكثير من شخوصها، لاسيّما القادمين على ظهور الدبابات الظالمة بالرغم من تجاوز هذه المرحلة السلبية منذ زمنٍ.
استثمار الزيارة
بعد الأيام الجميلة المعدودات من الفرح العام الغامر الذي ساد معظم أوساط المجتمع العراقي بزيارة بابا الفاتيكان، إلاّ من ذوي الإرادات السلبية الطاردة لنهج التسامح والعيش المشترك السليم بين إخوة الوطن، كان لا بدّ من البحث عن مخارج وطنية لاستثمار مفاعيل هذه الزيارة التاريخية بحقّ بالشكل الصحيح الذي يرسم الطريق لكسب ثمارها المرتقبة وبما يُؤمّنُ المصلحة العليا للوطن والشعب على السواء. هناك مَن رأى فيها مجاملة ومساندة للمشهد العراقي السياسي القائم من جانب أعلى رئاسة مسيحية كاثوليكية في العالم وفقًا لرؤىً مداركية قاصرة لا تأخذ في الحسبان جملة الرسائل التوبيخية المبطنة الموجهة للزعامات الكتلوية والحزبية والإسلامية والطائفية المتسلطة على رقاب الشعب منذ ما يربو على ثمانية عشر عامًا. وهذه الفئة القليلة المعترضة على الزيارة التي لم يتيسّر للحبر الأعظم اللقاء معها أو بالأحرى لم يسعفهُ برنامج الزيارة المنهك والمكثّف أن يملآَ فراغها ويكسب ودّها، لم تتعمّق جيّدًا في الأسباب والتبريرات الموجبة التي وقفت حائلاً دون قدرته على تلبية كافة الطلبات والتمنيات باللقاء. فقد وضع قداستُه في حسبانه ما اختلج أفكار هؤلاء وغيرهم ممّن منّوا النفس بتحقيق اللقاء أو المشاهدة عن قرب توثيقًا للذكرى. فمن الواضح، أنّ برنامجه المكثّف كادَ أن يرهقه بسبب سنّه المتقدّم ووضعه الصحّي غير السليم تمامًا. ومع كلّ هذا وذاك، فقد حافظ على ابتسامته الراعوية وحسن تفاعله مع المستقبلين بكلّ جوارحه، معربًا في كلّ لقاء وحدث وموقع عن عظيم امتنانه لشعب الحضارات والثقافات الذي لا يستحق مثل هذه المعاملة السيئة وأشكال أدوات الاستخفاف من قادته السياسيين الذين تراكضوا نحو مصالحهم الشخصية والفئوية والطائفية الضيقة تاركين الشعب غارقًا في ويلات الأزمات والحروب المتلاحقة منذ عقود. ومَن يتمحص في كلمات وعباراتٍ ساقها قداستُه في مجمل لقاءاته، يرى فيها تباشير خيرٍ قادمٍ للشعب المظلوم في قليل الأشهر القادمة بما يخصّ إعمار ما جرى تدميرُه في مدن العراق من دون تمييز. وهذا من ضمن الوسائل الكفيلة في إيجاد رؤية وطنية شاملة لاستثمار دروس الزيارة بجذب انتباه المجتمع الدولي نحو إعمار ما دمّرته الحروب المتعاقبة على العراق وبخاصّة ما فعلته عصابات الإرهاب الداعشي طيلة فترة احتلاله لبلدات ومدن عانت من عنفه وبطشه وتدميره ونهبه وتعنيفه وقتله وسبيه واغتصابه وتهجيره لشرائح كثيرة بسبب فقدان الأمان والحياة الكريمة.
إنّ ما شخّصته عيناه من آثار الدمار الشامل في مدينة الموصل التي خصّها بصلاة أبوية وسط الأنقاض، كفيلٌ بالإشادة بما قام به هذا الشيخ الثمانينيّ وهو يتأملُ ويتفكّرُ ويعيدُ في مخيلته تلك المشاهد المرعبة التي عاشها أهل المدينة، ومثلُهم أهلُ العراق بعموم تلاوينه الدينية والقومية. ومن أروع ما شهدته عيناه ذلك العرس العفويّ الذي ترافق مع هلاهل النساء والرقص التقليدي وكلمات الترحيب من أهل بلدة قرقوش بأطراف الموصل والتي تمثل أكبر تجمّع مسيحي سريانيّ في العراق، حين اشاد البابا فرنسيس بدور المرأة العراقية التي خصّها بسلام خاص وتحية حارة نظرًا لدورها الرائد في بناء الأسرة والعمل مع الرجل في إعادة ترميم ما دمّرته أيادي العنف والتشدّد والانتقام. لقد هاله حقًا، ما شاهد من أعمال التدمير الوحشيّ في كنائس وجوامع ومساجد ومعابد هذه البلدة ومساكن أهلها المسالمين الآمنين، معبّرًا في ذات الوقت عن دهشته لسرعة الاستجابة لأعمال الترميم القائمة بفضل مساعدات المنظمات الدولية والكنسية المختلفة من دون أن تحظى بأية لفتة "تعويضية" من جانب السلطات الحاكمة لغاية الساعة. وفي اعتقادي، سوف تزيد جهات دولية من اهتمامها بشؤون العراق بعد هذه الزيارة التي يمكن عدُّها لفتة وفرصة استثمارية يمكن للحكومة والجهات الرسمية والشعبية استغلالها لصالح البلاد والعباد بالتفاعل مع الجهات الدولية المستعدة للمساعدة والمساهمة في إعادة بناء الإنسان العراقي وبلد الحضارات وبلداته المدمّرة التي تنتظر فعاليات كبرى لإعادة التأهيل والبناء واسترجاع اللحمة المجتمعية. ولعلَّ ما يسرُّ أكثر، تفاعل رؤساء دول وزعامات دينية مختلفة مع أجواء الزيارة الإيجابية ودروسها الكثيرة التي تُنبئ بانتظار حصول نقطة تحوّل حقيقية في المنظومة السياسية في هذا البلد وفي عموم دول الشرق الأوسط التي تعاني من أزمات مستفحلة ومتلاحقة نالت قسطًا وافرًا من عدم الاستقرار والفوضى والفساد وأوجه الظلم.
كما أنه من اللطيف جدّا، أن تتواصل صفحاتُ الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات لأيامٍ وما تزال لغاية الساعة، بتطرقها إلى تفاصيل الزيارة ومضامينها ومفاهيمها والمخرجات المتوقعة منها عبر تقارير موقعية ومتابعات جريئة مع شرائح مختلفة في المجتمع العراقي وخارجه، وذلك لاستبيان أهمية الزيارة والنظر بكيفية استثمارها على الكثير من الأصعدة، ومنها بطبيعة الحال كيفية إصلاح النظرة الخاطئة للبعض ممّن يصرُّ على الشذوذ الفكري والمجتمعي لعدم اعترافهم بصحّة "أخوّة بني البشر" بعضهم للبعض. وتبقى مقولة الإمام علي من أروع العبارات:" الناس صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق". فهذه ما تزالُ ترنُّ في أذهان البشر الأسوياء، ومنها اقترانُها بشعار البابا الذي رفعه في زيارته. وهذا جديرٌ بترك أدران الماضي المليء بالترّهات والأقاويل التي لم تعد تنفع مع تطوّر العصر وتقدم العلم وأدواته. لذا كان لا بدّ أن يدرك الجميع بأن أفضل وسيلة لتقدّم المجتمعات والأمم تكمن بخلق بيئة إنسانية يتشارك فيها جميع ذوي الإرادات الصالحة كي تنعم مجتمعاتهم على اختلاف أديانها وقومياتها وأعراقها وأجناسها بما يتناغم مع ما يجمعها من مشتركات جامعة وليس بما يفرّقها في حسن تلاقيها وتعارفها وتآزرها وتضامنها بدل صراعاتها وحروبها وانتقاماتها غير المبرّرة. فالجميع إخوة ضمن خيمة "الأخوّة الإنسانية" التي دعا إليها بابا الفاتيكان في الوثيقة التي وقّعها مع شيخ الأزهر في 2019. وما يزال صدى هذه الوثيقة شاهدًا على ضرورة آليات التغيير القائمة في عقلية التداول وأساليب الاعتدال والتسامح التي أعقبت التوقيع عليها. ومن شأن نشر هذه السمة الجليلة في وسط الناس والمجتمعات أن تسهم بما لا يقبل الشكّ بوضع حدود لكلّ أشكال التمزّق والانقسام في المواقف الوطنية التي لا تقبل الجدل طلبًا لحياة أفضل واستقرار دائمٍ يكفل الحياة الشريفة والآمنة لكل المواطنين، والانطلاقة من مثل هذا الاستقرار نحو وضع الآليات والبرامج الوطنية من أجل جذب السياحة واستثمار ما هو قائم من شواهد حضارية ومواقع آثارية تجمع الديانات التوحيدية الثلاث، كما حصل في أور مدينة أبي الديانات إبراهيم. فالشعوب المنفتحة على العالم والتي تجيد كيفية استغلال طاقاتها البشرية وكنوزها التراثية والحضارية والآثارية هي تلك التي تعرف أهمية السياحة التي يمكن أن تدرَّ ثروات إيجابية مضافة تعزّزُ من اقتصاد البلاد في تنويع وجذب الاستثمارات التي تخلق فرصًا للعمل وتمتص اشكال البطالة القائمة في كلّ مكان وموقع.
إيذانٌ بالتغيير
في الأخير نقول، مع انفتاح البلاد نحو القوى الإقليمية والدولية، ننتظر وبحرص شديد انعكاس هذه الزيارة على كلّ أشكال الحياة في بلاد الرافدين. فنحن ننتظرُ تفاعلاً جادًّا بين أبناء الوطن الواحد من منطلق الانطباع الإيجابي الذي تركته بصمات هذه الزيارة التاريخية التي نأمل أن تكون بابًا واسعًا نحو استقرار العراق السياسي وعودة اللحمة المجتمعية التي حاول وما زال يحاول البعض من الشواذ ومن المرتبطين خارج الأسوار أحيانًا أن يضعوا العراقيل باتجاه إصلاح ذات البين وما تركته سياسة أحزاب السلطة بوسائلها التدميرية بسبب نهجها التحاصصي المرفوض شعبيًا ونخبويًا. وهذا يتطلبُ من جميع الوطنيين والحريصين على إعادة لحمة النسيج المجتمعي الأصيل كي يستثمروا جهود بابا الفاتيكان ونصائح المرجعية الحكيمة لجذب أنظار العالم واستقدام المساعدات الدولية الضرورية بإعادة البناء الوطني والمجتمعي على السواء. وهذا لن يكون ممكنًا، إلاّ في حالة حصول تطورات وتغييرات جذرية في شكل ونهج المنظومة الاجتماعية والسياسية القائمة بفعل أنانية وفساد الأحزاب المتسلطة منذ 2003 وسط تفرّج وضحك دول الجوار والعالم على هزالة الإدارات السياسية المتعاقبة وفقدان الإرادة الوطنية بالتغيير الضروري وعجزها عن الخروج من براثن العقلية الرخيصة المتمثلة بالخيانة للوطن وأهله وبالطائفية والانتقام ولا تريد الإقرار بسمة المحبة والتسامح التي تفوق في مفعولها مبدأَ القتل والسلب والاغتصاب والسرقة وتنكر فيما تنكر أيَّ احترام للاختلافات العرقية والدينية والجنسية والثقافية والحضارية التي يمكن أن تشكل غنى وثروة للبلاد وأهلها في وجه اية متاهات أو أطماع لشواذٍ من الداخل ودول الجوار والعالم.
كلّ التقدير والاحترام لكلّ مَن ساهمَ في إنجاح هذه الزيارة التاريخية وسعى لأجل تحقيقها بالرغم من كلّ المنغصات والعراقيل والتغريدات التشويهية التي سعى البعض لوضعها أو بثّها. لكنّ رجاء العراقيين وأدعيتهم ودعواتهم لم تخبْ، بل أفلحت وستفلحُ رغمًا عن أصحاب النوايا السيئة. ونحن جميعًا بانتظار نتائجها الإيجابية، باقون في أرض الآباء والأجداد لنعيد إرثهم ونجدّد حضارتهم ونؤيّدَ تمازج الثقافات المتعددة بفسيفسائها الجميلة وفق رؤى متجددة إيجابية لمعاني الأخوّة المتنوعة، وإنْ تكن حالمة في بعض جزئياتها.


93
تقديس التاريخ والبشر أم صناعة الحياة
لويس إقليمس
بغداد، في 10 تشرين ثاني 2020
كنّا دومًا نقول ونردّد، إنّ في العراق خزينًا واسعًا من الأفكار والقيم والرؤى التي يمكن الاعتماد عليها في صنع حياة جديدة لأبناء العراق ومشاركتهم للإنسانية جمعاء في البناء المعاصر الشامخ الذي يمكن أن يشكّل قاعدة معيارية مستقبلية لإعادة بناء الشخصية العراقية وفق مقاييس وطنية تجابه العصر والحاجة والظرف بعد جرفها مرغمةً بطوفان التبعية والولائية والتقديس العبثي المفرط لأشخاص ومسمّيات ومراسم ومظاهر دخيلة وغريبة لا ترقى لتاريخ الوطن الحضاري والثقافي والتعددي. فالمغالاة في أية مظاهر "تقديسية" للفرد أو الجماعة أو الدين أو المذهب أو الطائفة أو القومية أو العشيرة أو القبيلة وما سواها من مفردات دونية أو فرعية ثانوية هي في نظر القيم السماوية المقدَّسة (بفتح الفاء) خروجٌ عن طاعة خالق السماء والأرض والعناصر. فهو وحده هو القدّوس الطاهر ولا أحدَ سواه، إلاّ ما يخصّ الأوطان الطيبة التي تحتضن البشر القاطنين فيها والمستغيثين بها والمعتاشين عليها بفضل نعم السماء ورحمة الله الخالق الواسعة. وأية محاولة أو انجرار باتجاه إضفاء صفة "القداسة" و"المقدَّس" لأية مسميات أخرى لغير الله بقدرته الجبارة والأوطان بخيراتها الفياضة، بما فيها من مسميات بشرية ضعيفة ومواقع مستحدثة للعبادة والزيارة، هي خروجٌ عن إرادة الله القدير الماسك الأرض والسماء بيديه دون سواه. بل يُعدّ ذلك عبثًا ومساسًا بصفة لا تليق إلاّ بالخالق العظيم وأوليائه وقدّيسيه الأصفياء، بعد أن انتشرت مؤخرًا صيحات نشاز تُسبغ سمة "المقدَّس" على بشرٍ وأضرحة لا شأنَ لها بأضرحة الأئمة والقدّيسين الذين أكرمهم التاريخ ومنحهم حقّ حمل هذه الصفة حصرًا، حفظًا لكرامتهم وتقديرًا لمنزلتهم التاريخية وعلوّ شأنهم بين البشر بفضل أعمالهم الطيبة وكراماتهم.
صناعة الحياة
مربط المقدمة يترافقُ مع مقترح رائع لأحد الزملاء في نخبة اقتصادية متميزة في تغريدة أخرجها بكلّ جدارة وجرأة نابعة عن حرصٍ وطنيّ غير مشكوكٍ فيه. وفي حالة تطبيقه سيكون له شأنٌ في إعادة بناء الشخصية العراقية وزرع بذور التنوير في صفوف الشعب اللاّهث وراء ترّهات وتقاليد غير منتجة في حياته عندما يجري تعطيل الحياة قسرًا في مناسبات الزيارة الأربعينية لأخوة الوطن من أبناء المذهب الشيعي وغيرها من مناسبات مذهبية ولأيام عديدات، كما هي الحال هذه الأيام في تقليد استفزازيّ لمناسبة زيارة الإمام موسى الكاظم. ففي هذه الزيارات المليونية غير الحضارية التي تتقاطع مع العقل والحكمة والمنطق، صارت تتأثر بها مصالح الوطن والناس على السواء، لأنها تجري بغير مسوّغ ولا حقّ، بل  أصبحت تُفرض على عموم الناس ورغمًا عن الجميع. وفي هذا السلوك غير المسوّغ، الشيءُ الكثيرُ من انتهاكٍ لحقوق الناس واغتصابٍ لحريات باقي المكوّنات أو حتى لشرائح كبيرة من أبناء ذات المذهب الذين ينساقون إليها تماهيًا مع الدعاة إليها، حتى في حالة إدراكهم انسياقَها لأخذ مسارات وأشكالًا غير حضارية، ومع ما تسببه من اختناقات مرورية بسبب قطع طرقٍ لتأمين مسيرات الزوار البسطاء السذّج المعتقدين بما لا يفقهون به أو يدركونه. هذا إذا أضفنا إلى هذه جميعًا ما تعانيه مؤسساتُ الدولة العراقية طيلة فترة المناسبة من شللٍ شبه مطبق يُضفي ضعفًا على هيبتها المسلوبة أصلاً ويلقي بظلاله على وسائل تنمية اقتصاد البلاد المترنّح. وهذا ما يتطلّبُ تنضيجَ الأفكار وتنوير البسطاء من الناس الذين ينساقون كالخراف بلا روية ولا تفكير ولا تمحيص وراء دعوات وتحريضات دعاة تكريس التخلّف وإبقاء البشر أسرى مثل هذه التقاليد الاستهلاكية المتخلفة التي لا تخرج عن سمة التبعية الساذجة لأولي الأمر بدعوى "التشوير" في حالة رفض المشاركة أو عدم الانصياع للضرورة المذهبية التي يعدّها هؤلاء جزءً من سلوكيات إيمانية لا بدّ منها لبلوغ المرام وحصول الكرامات وتعزيز القدرات وإنفاذ سلطة الحكم.
    فكرة هذا الزميل المبدع في أفكاره، تنبع من مداركه الواسعة ورؤيته الوطنية الطيبة بتطرقه العملي لإمكانية تغيير شيءٍ كثيرٍ من مظاهر "التقديس" غير المجدية الجارية في مناسبات الزيارات المليونية إلى المدن "المقدسة!". وقد تنفع الفكرة أيضًا، حين تطبيقها في غيرها من الزيارات والمناسبات الشعبية عند سائر المكوّنات الأخرى في جنوب العراق ووسطه وشماله حتمًا، في حالة وجود الإرادة الكافية لتحويل مثل هذه المناسبات إلى أدوات لشحذ همم الزوار وتوجيههم باتجاه "صناعة الحياة" عبر المبادرة بزرع نخلة نادرة أو شجرة مثمرة لكلّ زائر في الأراضي التي يجتازُها الزائر للوصول إلى المواقع المقصودة. وبذلك نكون قد حوّلنا الصحراء والأراضي البور إلى مزارع وارفة وحدائق خضراء مثمرة، وأعدنا البلاد لتكون "أرض سوادٍ" من جديد تختال بخضرتها وتطيبُ بثمرتها لتضيفَ عوائد غير مسبوقة لخزينة الدولة تعزيزًا لاقتصاد البلاد المنهار. ولنا في مبادرة الفتاة الكردية في شمال الوطن بكردستان، ومثيلتُها التي أقرتها حكومة رئيس الوزراء الأثيوبي "آبي" مؤخرًا، خير نموذج لزرع بذور الأمل بين الحكومة والشعب وتعزيز أدوات جديدة لإدامة تعظيم الثروات والعمل على تنظيف المناخ.
ولأجل بلوغ هذه الغاية، لا بدّ من تكاتف الجهود الجماعية والتوعوية عبر مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة وجهاتٍ ذات قدرة في التأثير على إرادة الزوار وسلوكياتهم، ومنها المرجعيات الدينية المتنورة والمتمدنة وأدواتُها المنفتحة بالتعاون مع أجهزة الدولة في الوزارات والمؤسسات المعنية والدوائر الإعلامية والمنظمات الجماهيرية المدنية التي يمكنها التكفّل جميعًا بإدامة هذه المبادرة عبر تهيئة مستلزماتها وضمان متابعة إروائها ونموّها بما هو متيسر ومتاح من أجهزة ريّ متطورة. وبتطبيق هذه المبادرة الرائدة يكون الزائر المؤمن والمواطن الناضج قد ساهم روحيًا بشيء من إيمانه بمعتقده بدل إسباغ صفة القداسة اعتباطًا على الحجر والبشر وترسيم خطوط حمراء على تقاليد ومظاهر استهلاكية غير منتجة بل خارجة عن سمة التحضّر والتمدّن في عصرٍ مضنك لم يعدْ في مقدوره القبول بتخريفات وتأويلات وأحاديث وطرائف عفا عليها الزمن، لاسيّما بعد أن اجتازَ البشر مرحلة العولمة إلى سارية الرمز الرقمي الذي يتحكم اليوم في كلّ شيء وأيّ شيء.
من هنا، نقول إنّ حاجات الإنسان المتغيرة تقتضي اليوم التزام رؤية جديدة في النظر إلى الحياة المعاصرة، إلى "صناعة الحياة" وليس بالتراجع المتقهقر إلى تاريخٍ أصبح من الماضي ولم يعد مقبولاً إعادةُ توليفه وإنتاجه بوسائل غير حضارية فيها الشيء الكثير من مظاهر الغرابة في التقديس والاستهلاك غير المبرّر وفي البذخ الذي يحضّ لأشكالٍ جديدة من أدوات الفساد. فهذه، كما نشهد جميعًا، صارت تكلّف الدولة والشعب أوقاتًا ضائعة ومبالغ مهمّة، هي والشعب بأمسّ الحاجة إليها لإعادة بناء المؤسسات المتخلفة المنهارة، ولاسيّما التربوية والتعليمية منها، والتي هي السبب الرئيس بالهرولة باتجاه إبقاء زخم هذه الممارسات غير المنتجة وإدامة تدويرها بشكلٍ كارثيّ سنة بعد أخرى بالرغم من تحوّلها إلى تقاليد استهلاكية متخلفة لا تمتّ بصلة إلى عمق الإيمان والاعتقاد.
للحاضر همومُه
يكفينا التعظيم بالماضي الآيل الذي يمكن فقط استنباطُ أفضل الدروس منه وأيسرها بغية إصلاح الذات والمجتمع والدولة على ضوء نتاجات الأمس وليس بتدوير محتواها ومظاهرها التي لم تعد تنفع مع تقدم العصر وتزايد الحاجة إلى وسائل أخرى تساهم في بناء كيان النفس البشرية بمظاهر إيمانية أكثر مقبولية وأكثر تمدنًا.  فالحاضر أهمُّ من الأمس. ولكلّ زمنٍ همُّهُ. فما يمكن أن تقدّمه هذه وبدائلُها الحضارية من اجل تقدم المجتمع وتطور مدنه وبلداته والسيرالصحيح والحثيث نحو سلّمِ رقيّ الوطن ورفعته بين الأمم وشعوب ودول العالم، هي الأَوْلى بالسمع والطاعة. كما أنّ الإيغال غير المتمدّن في جزئياتٍ من هذه الممارسات الاستهلاكية غير المنتجة عندما تطغى على قدرات العقل وتسلبها إرادتها وفكرها وتمحيصها، فإنها بالنتيجة تقود العقل والعقلاء إلى مرافئ الجهل والتخلّف. حينئذٍ تتضاعف تكاليفُ الجهل ويصعب معالجتُه إلاّ بالكيّ، وهو آخر العلاج.
عندما سُئلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يومًا عن فحوى الإنفاق الكبير على المعرفة والعلم والعلماء، ردّت بأنّ تكاليف الجهل أكثر بكثير من تكاليف المعرفة، داعية إلى ضرورة "تهديم أسوار الجهل وضيق الأفق، لأن لا شيءَ يبقى على حاله". هكذا الشعوب التي خرجت من نفق التخلّف والجهل، وجدت تقدمها وتطورها باستقلال إرادتها ونضج تفكيرها وحداثة تصوراتها الإيمانية، وليس بالطاعة العمياء والسلوكيات غير الحضارية التي تضرّ بقدر ما تنفع.

94
المنبر الحر / ثورة الجياع قادمة
« في: 20:03 08/03/2021  »
ثورة الجياع قادمة
لويس إقليمس
بغداد، في 27 شباط 2021
في ضوء الأحداث غير المطمئنة  وتتالي الوقائع المضطربة والفشل المرصود في تبنّي الحكومات العراقية المتعاقبة لمسار وطنيّ حضاريّ متوازن مستقلّ، أكادُ مثل غيري من المتشبثين بأهداب الوطن  أن أصل إلى نتيجة صادمة إن لم تكن مخيّبة، في تحويل مسار فكري وحكمي الشخصيين (ولو متأخرًا وأنا في منتصف العقد السادس من العمر) على واقع الحياة السياسية والاقتصادية القائمة وعموم الوضع السائد بسبب الضبابية المرافقة لإدارة الدولة ومن ثمّ الصعوبة المتوقعة بإمكانية رؤية الضوء السليم في نهاية النفق المظلم الذي احتجزنا فيه جميعًا والذي تكادُ مشاكلُه وعثراتُه ومعوقاتُه المتلازمة لا تستشرف حلولاً أو تحسنًا نحو الأفضل. فكلّ الأحداث المثبطة التي تلاحق البلاد وقاطنيها بلا توقف منذ الغزو الأمريكي الوقح في 2003، وكلّ الصور والمآسي التي تزداد قتامةً وبؤسًا يومًا بعد آخر، وكلّ التصريحات والنقاشات والتحرّكات المتلاحقة المشبوهة والمقيتة والفاشلة بإمكانية تشكيل أركان دولة متحضرة، وكلّ الفبركات السياسية التي تبدر من الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية بصدد الإصلاح الموعود والادّعاء بالقضاء على آفات عديدة طارئة ومنها آفة الفساد وصعوبة فرض هيبة الدولة في إدارة البلاد وفي الحفاظ على المال العام من السرقة التي تجري أمام الأنظار ومغازلة المرجعيات الدينية متقاطعة المصالح للجهاز الحكومي والتشريعي والقضائي بتبرير ديني وطائفي واضح المعالم، كلُّها لا تبشّر بخير قادم سياسيًا ودينيًا واقتصاديًا وتربويًا واجتماعيًا. فقد خلطت كل هذه التخريجات القاتمات السوداوات الشكَّ باليقين وخلقت كمًّا من الإحباط واليأس والقنوط بصعوبة إصلاح ما خرّبته السنوات السبع عشرة المنصرمة من حكم أساطين التخلّف وأدوات الفساد والقتل والانتقام الذين أضافوا أكوامًا من الإهانة والنفاق والاستهزاء بالشعب المغلوب على أمره الذي تحوّل إلى شبحٍ مؤمن بسخرية القدر الذي يتلاعب بالعراق وأهله منذ عقود بسبب غياب القاسم الوطني واستبداله بالانتماء الولائي لإحدى دول الجوار. وبسبب هذه وأخرى غيرها لا حصر لها، بين عامة وخاصة، بَهُتَ بسببها شموخُ العراق وخبا صوتُه الدولي والاٌقليمي وتراجعت سمعتُه حتى بلغت الدركات الدنيا في سلّم ترتيبات الأمم والدول والمجتمعات المتحضّرة في موضوعة احترام مواطنيه و الفشل في تقديم أبسط الخدمات الآدمية وتراجع الصناعة والزراعة والتربية والتعليم وما في شاكلتها نتيجةً لإدامة سمة الفساد وتبييض الأموال وتهريب مليارات الدولارات في مصارف عالمية. كلُّ هذه وغيرها، لخاطر عيون دولة الولاء المقدسة.
عدالة اجتماعية ضامنة للمواطنية ولا سواها
إذًا، تراجُعُ العراق ومجتمعُه ضمن خارطة الأمم والشعوب المتحضرة المسلحة بالعلم والمعرفة والثقافة والتكافل المجتمعي، وانتقالُ مجتمعاته من خانة الثقافة والحضارة والولاء للوطن إلى مفهوم الخنوع والولائية كالقطيع في أحضان الغير بتبريرات عرقية وطائفية ودينية ومذهبية، هي من بين مسببات أخرى كثيرة في أشكال هذا التراجع. فالوطن الحقيقي الذي يفتخر المواطن بالانتماء إليه، هو الذي يحمي الفرد ويحتضن جميع أبنائه بمساواة وعدالة ومن دون تمييز في العرق والدين والطائفة واللون، ويقدم له ما يحتاجه من أمن واستقرار وخدمات ورفاهة عيش وعمل شريف يكسب منه رزقه بالحلال في ضوء الكفاءة والأهلية والحب العذري له ولأرضه ولسمائه ومياهه قبل غيره. فعندما تختفي العدالة الاجتماعية من القاموس السياسيّ لأية حكومة أو دولة بحجج واهية وبتبريرات مذهبية وطائفية وجهادية ونضالية فارغة، فذلك إنذارٌ بفقدان ذلك البلد سببَ وجوده، وتبريرٌ منطقيّ للتفكير بهجره لعدم قدرته على حماية مواطنيه وتأمين عيشهم وحريّتهم وحركتهم. وهذا ما تتطلّبه أبسط شروط الحياة الإنسانية المتمدنة.
فالوطن الحقيقي الصحيح هو مَن يحترم أبناءَه ويحتضنهم بين كنفيه ويُؤمِّن لهم سبل العيش الكريم والأمن والاستقرار وسائر الخدمات الآدمية المطلوبة في نطاق مساواة مواطنية محترمة وعدالة اجتماعية متوازنة لا تقبل بالتمييز ولا بالتعسّف في المبدأ الوطني العام الذي يشمل الجميع بكافة الحقوق والواجبات المطلوبة من جانب الطرفين، وكأنه عقد اجتماعي بين الوطن والمواطن. ولكن، متى اختلّ التوازن في هذه المعيارية التي ترسم خارطة الطريق بين الطرفين، حينئذٍ من الطبيعي أن تختلف أساليب المعالجة وتتباين وسائل التواصل والتجاذب وحتى الاحتكاك الماديّ والمعنويّ بينهما. ومن الممكن أن يصل التمادي في طريق الخلل إلى قطع صرّة العلاقة بين الطرفين. وربّما يصل الأمر في حالة إغلاق كل المنافذ المتاحة لمعالجة الخلل لتصل في أسوأ الأحوال إلى الصدام المسلّح مع الفئة أو الفئات التي تستخفّ بحقوق الوطن والمواطن وكرامتهما بسبب فقدان الدولة لهذه الكرامة ولسيادتها وهيبتها للأسباب الوضعية الشاذة وغير المقبولة إنسانيًا أولاً ثمّ وطنيًا وإقليميًا ودوليًا. فقطع الأرزاق وغياب الكرامة الوطنية وضعف السيادة على البلاد وفقدان المقدرة على محاسبة سرّاق المال العام وقتلة أبناء الشعب واختطافهم وتهديدهم، ومنهم منتفضو تشرين وأصحاب الرأي العام، من شأنها حتمًا أن تقود الحراك إلى علاج صعب آخرُه الكيّ، بالرغم من عسره وصعوبته ومدى الألم الذي يمكن أن يأتي به والمآسي التي يجلبُها في حالة الاضطرار إلى استخدام آخر الدواء بإعلان البيان رقم 1، والذي لن يكون ممكنًا من دون تدخلٍ دوليّ مأذونٍ به.
يؤلمني اليوم أكثر من ذي قبل، تسارعُ الأحداث النحسة في الوطن نحو الأسوأ بسبب رفض ساسته وزعامات أحزابه المتسلّطة المستقوية بدول الجوار، كلّ حسب مصالحها ومنافعها، التراجع عن مواقفها المتصلّبة بالتمسّك بالسلطة وإصرارها على إدامة بقائها ما تسنّى لها ذلك بقوة السلاح والأدوات الأخرى من مال ونفوذ وغطاء ديني ومذهبي، تتحكم بها في تقوية هذا المنهج الذي أثبت خطأَهُ، والذي بسببه ثار عليهم الشعبُ قبل أكثر من سنة ومازال مفترشًا سوح الكرامة والشرف المتعددة في أرجاء البلاد المتألمة، ومنها أنموذجًا، ما يجري في محافظة ذي قار البطلة سليلة لكش وأور وسومر. والمعيب في كلّ هذا وذاك، وبدل أن يتعظّ ساسةُ البلاد من نتائج الثورة العارمة الوخيمة اللاحقة لا سمح الله، والتي طالبت برحيل الفئة الفاشلة الحاكمة "شلعًا وقلعًا"، جابهوا الثوار بقساوة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً إلاّ في زمن البلاشفة والرايخ الثالث والدكتاتوريات العربية والإقليمية والدولية الحديثة التي أفقدت بلدانَها سمة الحرية الحقيقية والنفحة الإنسانية التي توصي بها السماء. وبسبب التعنّت الوقح ورفض مغادرة السلطة بسلاسةٍ نزولاً عند رغبة فئات كثيرة للشارع الثائر المقهور، درءً لمخاطر الانزلاق نحو حربٍ أهلية لا يستبعدُها المراقبون، فقد آثرتْ أحزابُ السلطة الحاكمة بضغطٍ خارجي غير مبرّر من دولة جارة،  ضربَ آليات الديمقراطية الفتية التي اختبرها الشعب لأول مرة متوقعًا منها تغييرًا في الأحوال نحو الأفضل. لكنّ الوقائع سارت بعكس ما تمنّاه أصحابُ الأرض بسبب فقدان الاستراتيجية السياسية للغازي الأمريكي لفترة ما بعد الاحتلال، حيث خلتْ خططُ الغزاة من أية لمحة واضحة وصريحة بترتيب الأوضاع بعد تحقيق هدف القضاء على النظام السابق ورأسه الرمز، فتركوا مستقبل البلاد ومصيرها بيد المجهول ليقرّر مصيرها الزمنُ الغادر وروّادُه فاقدو الوطنية والنخوة والإنسانية. وهذا ما جرى تمامًا، حين تحولت البلاد إلى لقمة سائغة وجسد منهك تنهشه الذئاب المسعورة، وكعكة لذيذة يقتطع منها الساسة وذيولُهم وأتباعُهم، وما أكثرهم في الداخل والخارج، لغاية ترك خزينة البلاد خاوية بسبب إغراقها بالديون وتحويل الأموال المنهوبة خارج البلاد تحت حماية وغطاءٍ من دول طامعة داعمة لإبقاء البلاد في الفوضى الخلاّقة التي أحدثها الغازي الأمريكي المحتل بكل وقاحة وفخر.
لقد رفض ساسةُ البلاد وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية طيلة السنوات المنصرمات منذ الغزو الأمريكي القبيح، كلّ دعواتٍ ونصائح للتوجه إلى الإصلاح الحقيقي في مسار الدولة المتعثّر في إدارتها على أسس استراتيجية ووطنية بحتة تضع الوطن في مقدمة الأولويات وتقيّمُ الرجلَ المناسب ليحتلَّ موقعَه في المكان المناسب. إلاّ أن إصرار الزعامات الفاسدة التي تتولى إدارة البلاد بتمثيلها الصريح لجهات خارجية مشبوهة طامعة وبعيدًا عن أية مسحة وطنية، قد مزّقَ خيمة البلاد الوارفة وجعلَ من الطائفة والمذهب والعرق والعشائرية والإقطاعية مرة أخرى أدواتٍ لحكم البلاد والعباد. وهكذا ضاع الاثنان، الوطن والشعب، في دهاليز وأنفاق الخندق المقيت والمرفوض من معظم طبقات الشعب بعد أن بلغ السيلُ الزبى ولم يعد من طريق آخر سوى الثورة على التعسّف والظلم وصنّاعِه وأدواتِه حين حوّله معظم ساسة الصدفة والفساد وأحزابُهم المتأسلمة الكريهة إلى بقرة حلوب لأطماعهم عبر سياسات زيادة النفقات العامة غير الضرورية في آخر ميزانية للعام 2021. وهذا ما يعني استمرار هدر المال العام، ونهب الثروات بذات طريقة مقاسمة الكعكة، وتردّد الجهات التنفيذية والفضائية المعنية والعديد من لجان مكافحة الفساد أو تقاعسها بمحاسبة السراق واللصوص الحقيقيين والكشف عن قتلة المتظاهرين والحدّ من مافيات الاتجار بالمخدرات التي استفحلت وأصبحت ظاهرة. ومثلُها الكشفُ عن فرق الاغتيال ضدّ كلّ من نادى بوطن مفقود، وذلك  عبر تشريعات لا تتبنى نهجًا ناجعًا لوسائل المحاسبة والتعقّب والملاحقة الجادّة المطلوبة بسبب ضعف الإدارة وهزالة الإرادة.
صولات الصدمة
 مع كلّ ما يصدر عن الجهات الرقابية الرسمية ومكاتب الرئاسات الثلاث هذه الأيام من كلام معسول بالحرص على ملاحقة الفاسدين والحدّ من ظاهرة الفساد المستشرية في مفاصل الدولة، إلاّ أن واقع الحال يقول بغير ذلك. فما يُقالُ لا تلحقُه  دومًا أفعالٌ في كلّ الأحوال، بل يبقى مجرّد وعود عرقوبية لا ترقى لمستوى التنفيذ في ملاحقة حيتان الفساد الحقيقيين وقد أصبحوا معروفين لدى القاصي والداني. فإذا كانت الحكومة واجهزتُها الرقابية جادّة في ملاحقة سرّاق الشعب واستباحة قوتهم اليومي، فما عليها إلاّ أن تبدأ صولات الصدمة الجادة مع كبار اللصوص من زعامات الأحزاب التي تتحكم بالبلاد والعباد منذ السقوط الدراماتيكي في 2003 بقوة المال والسلاح والنفوذ، لاسيّما وقد توفرت هذه الأيام وبما لا يقبل الجدل والشك الكثير من الوثائق والأدلة والشهادات التي تدين عصابات اللصوصية والسرقة في وضح النهار بغطاءٍ من سلطات وزعامات عليا تتحكم بمصير البلاد والعباد وتحمي اللصوص والفاسدين مباشرة أو عبر أدواتها التي اعتادت فرضَ فتواّتها بقوّة السلاح وبوسائل الترعيب والتهديد نهارًا جهارًا. فأين الادّعاء العام واين القضاء الذي يدّعي "الاستقلاليّة" من هذه التوثيقات والفضائح التي إنْ تحرّكت دولٌ أجنبية لتقتصّ من مرتشين تشاركوا مع شخصيات وساسة ومسؤولين عراقيين في الكسب غير المشروع، لم نرى تحرّكًا حقيقيًا وصادمًا للقضاء العراقي حيالَ هذه الجرائم الكبرى. بل مازال العديد من الفاسدين يتولّون مسؤوليات سياسية ومناصب عليا في الدولة، وكأنَّ شيئًا لم يكن. فحتى القضاء وأجهزتُه وشخوصُه قد وقعوا أسرى هيمنة أحزاب السلطة والمثلث الحاكم. أمّا ما بدرَ مؤخرًا من الإيقاع بقيادات ثانوية تنفيذية تابعة لأجندات زعامات السلطة، وما سيبدرُ لاحقًا، لا يكادُ يصل العتبة الثالثة أو الرابعة لهذه الزعامات الفاسدة التي تُمسكُ ببوصلة القضاء وتوجهُه وفق مصالحها الشخصية والفئوية والمذهبية والعشائرية كيفما كان وحيثما يطيب لصالحها.
إنه من الأجدر، بعد أن فاحت جيفة الفضائح، وآخرها عصابة التقاعد وتراخيص شركات النفط والهاتف النقال واستمرار فساد نافذة العملة وسطوة مصارف إسلامية على سياستها ورهن نفط كردستان العراق لأجلٍ غير مسمّى خارج سلطة الدولة الفدرالية، وما خفي كان أعظم، من الأجدر اليوم بدء حملة الصدمة بتعاون حقيقي وجادّ من قبل القضاء والحكومة بدءًا من زعامات الأحزاب وكبار المسؤولين وصولاً إلى القاعدة وليس العكس. فمعروفٌ أنّ تنظيفَ البيت يبدأ من أعلى الدرج وليس من أسفله، أي بدءً من الزعامات السياسية التي تمسكُ بمفاتيح الإدارة السيئة العامة في البلاد ووفق مبدأ: من أين لك هذا؟ هذا إذا كانت "سيدة البيت" جادة وحريصة على تنظيف دارها من الأدران والأوساخ وما يلصق بالجدران والأسقف والأرضيات من ملوّثات تجعل البيت يفوح جيفة وخيسة ورائحة نتنة. فأين لساسة العراق من مثل هذه السيدة الحريصة على بيتها وعائلتها، أو هذا السيّد الوفي لداره وأسرته، كي يتعلّموا الدروس والعبر من زعامات دولية وطنية نزيهة كانت لها بصماتُها في تغيير معالم بلدانها وشقّ طريقها نحو التحوّل الشامل والتطوّر المتنامي، كما حصل مع اليابان وألمانيا اللتين خرجتا من حربين عالميتين خائرتي الاقتصاد، ومثلها سنغافورة والبرازيل وراوندا وجنوب أفريقيا وماليزيا وأثيوبيا مؤخرًا وغيرها من دول العالم الثالث التي أدارها زعماء ناجحون اتسموا بحب الوطن والنزاهة في العمل والإدارة الرشيدة والاستشارة الصحيحة في بناء الأوطان وتوجيه دفة البلاد نحو الأفضل. والملاحظ في مثل هذه الزعامات التاريخية أنها تنحت عن السلطة والحكم وانسحبت من الحياة السياسية بهدوء من دون أي تعنّت أو تشبّث بالسلطة ومفاتنها وبهرجتها تاركين المجال لغيرهم من مواطنيهم لإكمال مسيرة الإبداع والإدارة الرشيدة. وما أحلى ما قاله دي سيلفا، الرئيس البرازيلي الخامس والثلاثون الذي اختير كأكثر شخصية مؤثرة في العالم للعام 2009م في تحقيق العدالة الاجتماعية لمواطنيه وتضييق الفجوات بين الأغنياء والفقراء بسبب برنامجه الإصلاحي الوطني الخالص الذي نقل البلاد من اقتصاد خاسر بمديونية قاتلة إلى بلد صناعي متقدم انتشل مواطنيه من الفقر وجعلها في مصاف الدول المتقدمة بفضل حنكته ورؤيته بعيدة النظر لحالة البلاد. ولعلَّ أجملَ ما صرّح به حين انتهاء ولايته الثانية ومطالبة حشود المؤيدين له بتغيير الدستور للفوز بولاية ثالثة: "أنا أمضي ولكن سيأتي بعدي مليون دي سيلفا". وغادر السلطة مطمئنًا وغير نادم عائدًا إلى حياته البسيطة في مسقط رأسه.
هذا هو الفرق بين منطق الدولة واللادولة، بين التبعية الولائية للخارج والأجنبي الدخيل وبين المواطنية التي تقدّس الوطن وتحرص على بنيانه وصيانته أرضًا وشعبًا وثروة. فعندما تفقد الأممُ هيبتها ويتراجع مصيرُ الشعوب وتتخلّف الأوطانُ عن الركب العالمي، لا يكون مصيرُها سوى الوقوع بين أنياب ساسة اللاّدولة وعصابات ومافيات الدولة العميقة التي تتحكم بمصائر الجميع وتضع الوطن وأهلَه رهائن سذّجًا بأيدي الغرباء والدخلاء والجهلة. وقانا الله من شرّ البلية. فقد يكون الغدُ أتعس من اليوم ومن الأمس عند بقاء الأوضاع كما هي، لحين انتظار ثورة الجياع القادمة الكاسحة، لا محالة!

95
في رحاب أرض الرافدين، العراقيون في انتظار بابا الفاتيكان
لويس إقليمس
بغداد، في 17 شباط 2021
تجري استعدادات حثيثة ومكثفة في عدد من المدن والبلدات العراقية، ومنها بغداد العاصمة، وعلى كافة المستويات، سياسيًا ودينيًا وكنسيًا وشعبيًا، لاستقبال أول حبر أعظم للكنيسة الكاثوليكية حرصَ وبإصرار لزيارة العراق للأيام من 5-8 من آذار القادم 2021، وذلك في أول مبادرة نوعية لافتة. والكنيسة الكاثوليكية يبلغ تعدادها اليوم بحسب تقديرات دولية أولية حديثة، ما يربو على مليار ونصف مسيحي من المجموع الكلّي التقريبيّ للمسيحيين في العالم الذين يشكلون ما تعدادُه أكثر من 2, 3 مليار مسيحي، اي ما يعادل ثلث التركيبة السكانية في العالم. من الجدير ذكرُه، أنّ المسيحيين الكاثوليك في العالم أجمع يخضعون قانونيًا وكنسيًا لسلطة الكرسي الرسولي ومقرُه دولة الفاتيكان، وهم يشكلون اليوم نسبة تقريبية تصل إلى ما يربو على 51% تقريبًا من مجموع تعداد مسيحيي العالم. يقابل ذلك رقمًا مهمًا للكنائس البروتستانتية والإنجيلية وما في دارتهما من كنائس حديثة غير رسولية ليصل عديدُها بحدود 37% من المجموع العام للمسيحيين في العالم، وما نسبتُه التقريبية 12% لأتباع الكنائس الأرثوذكسية المختلفة بحسب إحصائيات مقربة من الدوائر الفاتيكانية.
كان لإصرار بابا الفاتيكان، فرنسيس الأول، على تحقيق أمنية سلفه الراحل يوحنا بولس الثاني، وقعٌ كبيرٌ لدى أوساط عالمية وعراقية متابعة لرحلات بابوات الكنيسة الكاثوليكية. وهذه الزيارة لها من الأبعاد المختلفة ما يجعلها اليوم محطّ أنظار العالم بأسره، لكونها ستسبغُ بركة بابوية متميزة على شعبٍ مقهور وجريحٍ مصاب بأشكال العاهات والأمراض والمصائب، إنسانيًا وسياسيًا واقتصاديًا وبيئيًا وعلميًا وثقافيًا وتربويًا وأخلاقيًا، بل وفي كلّ شيء. فالعراقيون يعيشون منذ عقودٍ ضمن اسلوب حياة شعوب القرون الوسطى في تتالي الحروب والنزاعات وأعمال العنف غير المبرّر، وفي الفساد والانفلات الأمني بوجود الدولة العميقة وأدواتها التخريبية، وفي غياب الضمير الإنساني وروح التآخي، وفي انحسار الروح الوطنية في زمنٍ صار الغريبُ والدخيلُ في البلد سيّد الشعب والأرض والثروة. من هنا ندرك شكل هذه الزيارة التي تتخذ طابعًا تضامنيًا مع العراق، حكومةً وشعبًا، بهدف إعادة اللحمة المجتمعية والغيرة الوطنية وتحفيز زمن التآخي والتعايش والتضامن والمحبة والمصالحة بلا حدود ولا رسوم ولا تمييز على أساس ديني أو عرقيّ أو مذهبيّ. كما أنها لا تخفي شيئًا من الرمزية الراعوية الأبوية لأكبر سلطة كنسية في العالم تتنازل للقاء أتباعٍ مسالمين تلقوا صفعة موجعة على ايدي فئة إرهابية تبنت عناوين دولة الخلافة الإسلامية التي عاثت في مدنهم وبلداتهم وقراهم خرابًا ودمارًا، ونهبت بيوتهم وحلالهم ودفعت مئات الآلاف منهم لترك ديار الآباء والأجداد والبحث عن ملاجئ آمنة في دول الاغتراب القاسية.
إنّ هذه الزيارة الميمونة ستكون الأولى من نوعها لأول بابا يحطّ أقدامَه على أرض الرافدين، بلد إبراهيم أبي الأنبياء، مهد الحضارات وبوابة الثقافات وتعددية الإتنيات والأديان المختلفة المتعايشة على امتداد التاريخ الإنساني، وصاحبة جذور تمتدّ لبداية انتشار المسيحية فيها منذ القرن الأول الميلادي، حيث نمت فيها المسيحية وسط تقلبات الزمن المختلفة. وبشهادة التاريخ ورموزه وروّاده الحقيقيين، كان للمسيحية وأتباعها دومًا اثرُها الكبير على الحياة العامة في العراق والمنطقة، في تميّزها الثقافي والأخلاقي والأدبي والعلميّ والاقتصاديّ والوطني على السواء حتى قدوم الدولة الإسلامية وتعاقب أزمنة الحكم في هذه الأخيرة على عهود الخلافة الراشدية والأموية والعباسية بالتتالي. ومع نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، بدأت أهمية المسيحية الحضارية والثقافية والأدبية والسياسية بالانحسار التدريجي لصالح انتشار أدوات الثقافة الإسلامية كنتيجة عملية لطبيعة تعاملها مع باقي الشعوب والأديان من نظرة دونية تجاه المختلفين مع توجهاتها وقيمها ونزعاتها التشددية بفعل إعمال السيف الذي كان سيدّ الموقف والواقع وما شابهه من أدوات القتل والتهديد والترويع. وقد اتخذت تلك الأفعال شكلَ فتوحات توسعية تعسفية آنذاك بهدف نشر الدين الإسلامي بالسيف، إلاّ أنها في الواقع يمكن وصفُها ما يشبه الغزواتٍ القبلية والعشائرية التي آمنَ بها الخلفاء وأتباعُهم وحواشيهم. وبالرغم من كل تلك الأحداث المأساوية التي حدثت للشعب المسيحي عبر التاريخ، إلاّ أنها لم تخلو بين الفترة والأخرى من بروز أعلامٍ وعلماء وأدباء وزعامات مسيحية مؤثرة كانت لها بصماتُها على الصعيد الوطني والمنطقة والعالم في حقبٍ مختلفة ولاسيّما إبان النهضة العربية التنويرية حتى يومنا هذا.

اهتمام القيادة العراقية وزعاماتها الدينية
مَن يتابع ويراقب الاستعدادات الحثيثة الجارية على الساحة العراقية يدرك تمامًا الأهمية الكبيرة التي توليها زعامات عراقية دينية وسياسية وبرلمانية لهذا الحدث الكبير. فعلاوة على الاستقبالات المعلنة التي ستجري لبابا الفاتيكان على الصعيد الرسمي، يبرز الحدث الأكبر بلقاءٍ مرتقب لشيخ الفاتيكان المسالم مع سماحة المرجع الشيعي الأعلى الشيخ الوقور، علي السستاني، في مدينة النجف الأشرف. وقد أُثيرت تساؤلات عمّا إذا كان اللقاء المرتقب سيتضمن فعلاً توقيع ما يشبه "وثيقة الأخوّة الإنسانية" التي سبق أن وقعها قداستُه مع شيخ الأزهر أحمد الطيب في 4 شباط 2019. لكنّ الأخبار المتوالية من مراكز المراجع العراقية المتعددة الشيعية والرسمية استبعدت هذه الفكرة تمامًا. ولعلّ من أسباب هذا التراجع، خشية جهات مرجعية وسياسية مقربة من دارة المرجع الديني الشيعي من القبول بأية التزامات أدبية وأخلاقية ودينية تجاه مَن تشملُهم بنود مثل هذه الوثيقة، ونقصد بهم أبناء الأقليات الدينية والإتنية بمن فيهم المواطنون المسيحيون والإيزيديون والصابئة المندائيون وآخرون على شاكلتهم على وجه الخصوص. فهؤلاء هم المتضررون الأكثر من غيرهم بسبب ما يجري من خروقات واعتداءات وتهميشٍ من جانب سطوة المثلث الحاكم وفق معايير المحاصصة القاتلة والظالمة بحق الوطن وأبنائه. وفي هذا التراجع أو عدم القبول، هناكَ مَن يثير تساؤلات حول تأشير توقعاتٍ بوجود دوافع سياسية وضغوط خارجية تقف خلفه، بسبب ما قد يحتمله مثل هذا الالتزام من انحسار محتمل لسطوة دولة جارة تمسك بزمام الحكم والسيطرة والتوجيه بلا منافس على الساحة السياسية العراقية وبالتواطؤ مع الراعي الأمريكي وحلفائه للعملية السياسية برمتها. وفي اعتقادي، لو كان حصل التوقيع على مثل هذا البروتوكولٍ الأخوي الإنسانيّ، لفُرزت له أصداءٌ دولية قوية بسبب ما يحمله من رموزٍ دينية ودلالاتٍ إنسانية في إبرازٍ واضحٍ لسمات الوئام والسلام والتسامح والمحبة التي تؤمن بها الديانات التوحيدية الثلاث، وعلى رأسها وفي مقدمتها المسيحية، وذلك من دون اختلاف أو خلافٍ في المبادئ الإنسانية العامة إلاّ في ما لا يؤمنُ به أدعياءُ التشدّد والتطرّف وعرّابو الحروب والقتل والنهب والسلب ورافضو التعايش السلمي والاختلاف التعددي في الدين والعرق والمذهب.
في كلّ الأحوال، فإننا ندرك أهمية الزيارة التاريخية المرتقبة التي توليها الزعامات العراقية المعتدلة جميعًا لكونها تصبُّ في أمل إعادة الدولة العراقية إلى مسارها الصحيح بين الدول وشعوب المنطقة والعالم بالعمل على إعادة هيكلة السياسة الوطنية وتوجيه دفتها نحو بناء الإنسان العراقي والابتعاد عن اية نزعات ولائية غير وطنية لصالح أطرافٍ خارجية. فكل هذه العناوين الفرعية الدخيلة غير الوطنية القائمة في حاضرنا الراهن، لا يمكن بأيّ شكلٍ من الأشكال أن تكون حريصة على بناء البلاد والعباد أكثر من أبنائها الأصلاء في حالة العمل بعيدًا عن الانتماء الصادق للوطن والأرض والحضارة والثقافة الخاصة به. وستبقى هذه المسميات الدخيلة المهيمنة منذ ما يربو على ثمانية عشر عامًا والناجمة عن الهزالة في إدارة البلاد ووسط غياب واضح للإرادة والضمير والروح الوطنية المطلوبة الضامنة للاستقرار والتنمية والتطور والرفاه للشعب، مثار امتعاضٍ وسخط ورفض دائمٍ من قبل عامة الشعب ونخبه الصابرة. 
لقد تناهى لأسماعنا أيضًا، تمنياتُ العديد من الزعامات السياسية والدينية من إسلامية ومسيحية وإيزيدية وصابئية، اللقاء مع قداسته. ونأمل أن تكون الفرصة مؤاتيه لمثل هذا اللقاء التضامني الأخوي والإنساني على عتبة "زقورة أور" التاريخية في ثاني أيام الزيارة يوم السبت المصادف 6 شباط والتي خصّص لها البابا مكانة في قلبه وضميره ضمن برنامج الزيارة، حيث ستكون فرصة لتوالي الحوار بين الأديان والمعتقدات وفق مبدأ احترام التعددية والتنوع التي من شأنها زيادة ثراء عناصر المحبة والأخوّة والتضامن من أجل خلق مجتمعات متعايشة سليمة إنسانيًا وبشريًا. فالاختلاف في الدين والعرق والبشرة واللون والفكر والتقاليد، مثلُه مثل اختلاف أنماط الحياة وسلوكيات البشر. فكلّ اختلاف هو بحدّ ذاته غنى إيجابي وثراء تكاملي يُكملُ ما ينقصُ الآخر ويبني على ما يقدّمُه الآخر من مبادرات وأعمال خير ومحبة وتفاهم وتعاضد، وعلى كلّ شخصٍ أن يقبلَ الآخر كما هو وليس وفق مقاساته وتفكيره ورؤيته التي قد تكون قاصرة أو ناقصة في بعض جوانبها وطروحاتها. كما أنّ اختلاف الألوان والأفكار والرؤى يمنح اللوحة البشرية جماليًتها ويزيدُ عليها إذا كانت جميلة ومتميزة. هكذا نحن في عراق الحضارة والثقافة، تتميّز شعوبُنا وأتباع دياناتنا بشيٍء من الجمال في بعض ملامحنا وسلوكياتنا. كما أنه ليس بالضرورة أن تكون المنظومة بأكملها متشابهة ومتساوية في السلوك والفعل والأداء، بل إن أيّ اختلاف فيها دليلٌ على وجود نوعٍ من الاستقلال في تلك المنظومة. وإنّ أيَّ اختلاف هو دومًا محطّ تقديرٍ وتفاعلٍ وتكاملٍ بالحوار والنقاش والتفاهم على الحدود الدنيا من الرؤى والأفكار ووجهات النظر، شريطة أن تصبّ جميعًا في صالح الإنسان والمجتمعات والأوطان. فهي الأداة الصحيحة لبناء الإنسان والأوطان واستقرار شعوب الأرض وسلامتها وأمنها، طالما أنّ الإنسان هو محور الحدث وصاحب الحياة!

لا للتطرف في الأفكار والسلوك
لا ننكر أن من أهداف الزيارة البابوية، تأكيد الفاتيكان الرسمي على ضرورة حماية التعددية والاختلاف في الدين بين الأقلية والأغلبية الحاكمة. فالزيارة فيها من الأبعاد السياسية ما يساويها ممّا تحملُه من أهدافٍ روحية وتعزيزية وتشجيعية ترقى لتثبيت أتباع الديانة المسيحية والمطالبة الحثيثة بزيادة حمايتهم من أجل المحافظة على جذورهم التاريخية والحضارية والثقافية، في بلاد "شنعار"، العراق. وهي رسالة شاملة أيضًا لجميع أتباع الديانات الأخرى التي تشكل اليوم أقليات ضعيفة وواجبة الحماية في البلاد. وفي هذه الزيارة نقرأ أيضًا بين السطور نداء ملحًا ودعوة واضحة لإشاعة روح التآخي والتعايش ونبذ اية نزعة للتطرف والتشدّد على أساس الدين والمعتقد والعرق والطائفة. فهذه جميعًا تعسّر الحياة لأتباع الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية ولا تيسرُها لهم. بل إنّ أيَّ شكلٍ للتشدّد والتطرف في الأداء والفكر والتعاطي مع الآخر المختلف عن دين الحاكم من شأنه قتلُ أيّة روحٍ للتفاهم والحوار من أجل غدٍ أفضل يهدف لتكوين مجتمع تسوده المحبة والوئام والتفاهم والتوافق، ليس من أجل تعزيز المكاسب غير المشروعة، بل من أجل البناء السليم لمجتمع سليم يحظى جديرٍ بوطنٍ يحمل الخير والرفاهة والسلام للجميع على اساس تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وفق مبدأ الجدارة والكفاءة والأهلية وصحة الانتماء للوطن. وهذا ما ينقصنا في بلدنا منذ عقود، وزادت منه الزعامات السياسية الحاكمة بأمر الغازي الأمريكي الصلف منذ ما يربو على ثمانية عشر عامًا بعد التغيير الدراماتيكي الوقح في 2003 بحجج واهية وتبريرات سياسية منتفعة بناءً على تهريجات وتخريفات معروفة الأغراض والأهداف والتوجهات.
إن في رسالة بابا الفاتيكان رائحة ذكية من الروح الإنسانية يودّ نقلها لعموم الشعب وللزعامات الدينية والسياسية بتكريس الحكمة وإعمال العقل وسيادة العدل وتشجيع روح الإحسان وتبادل الاحترام وترسيخ علاقات الثقة المتبادلة بين جميع مكونات الوطن الواحد الذي يفخر بكونه أرض أبي الأنبياء إبراهيم، أبي إسحق ويعقوب وابنائه الاثني عشر وأسباطهم الذين عاشوا على هذه الأرض الطيبة وتباركوا بها وباركوها بأيديهم وأرجلهم واعمالهم وذرّيتهم من بعدهم. أفلا يستحق ابناؤُهم من بعدهم العيش الرغيد الهانئ المفعم بالتفاهم والتآزر والسلم والأمان والاستقرار والرخاء بعد السنين العجاف من توالي المصائب والآلام والأزمات؟
من موقع آخر، لو لاحظنا، فالزيارة التاريخية هذه ستشمل وسط البلاد وجنوبه وشمالَه، وفيها دلالات طيبة على احترام ورؤية قداسته لجمالية الإرث الإيمانيّ والإنسانيّ والحضاريَ الذي لا مثيلَ له في العراق، فشاءَ أن يُظهرهُ للجميع ولأبناء الوطن بوجه أخصّ. وفي اعتقادي، أن لقاءه التاريخي الذي سيجمعُه مع المرجع الشيعي، سماحة الشيخ الوقور علي السيستاني، كما فعلَ مع فضيلة شيخ الأزهر أحمد الطيّب ، سيفتح ابوابًا عديدة للتفاهم والتحاور وتجاوز التمييز بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين والمذهب والطائفة، ومنه وضع حدود حاسمة للتجاوزات الحاصلة بسبب الراديكالية القائمة لدى بعض الفصائل المسلحة التي تتخذ مِن ما يُسمّى بشعار المقاومة سبيلاً لفرض سطوتها وتشكيلها تهديدًا لكلّ مَن لا يواليها في الفكر والأهداف أو يعترضُ سبيلَها. وفي كلّ الأحوال، يمكن الانطلاق من وراء تحقيق هذا اللقاء التاريخي المهمّ، نحو فضاءات أوسع لتقديس حرية الفرد في الدين والفكر والتعبير. وكما أشار قداستُه يوم توقيع الوثيقة مع شيخ الأزهر بالقول :"بدون الحرية، لا يمكن أن نكون أبناء العائلة البشرية الواحدة". فالحرية الدينية حقٌّ مكفولٌ لأيّ إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، ومن شأنها أن تعمّق مفهوم الأخوّة بين البشر في البلد الواحد وفي العالم على السواء. وهذا ما حدا بالأمم المتحدة لاعتماد تاريخ التوقيع على تلك الوثيقة من كلّ عام "يومًا دوليًا للأخوّة الإنسانية" ليكون بمثابة دعم عالمي لجميع الجهود الإنسانية الرامية لنشر ثقافة التسامح والتعايش والتضامن وكذا لمكافحة كلّ أشكال التمييز والتطرّف والتشدّد والعنصرية والكراهية بين الأجناس البشرية مهما كانت أديانُها وحضاراتُها وألوانُها وأعراقُها ومذاهبُها ومعتقداتُها. فالأديان لله والأوطانُ وثرواتُها وخيراتُها لمَن يعيش فوقها ويستغلُّها للصالح العام للأوطان وأهلها ولعموم البشرية، كونها خليقة الله الحسنة.
وأخيرًا أغرّد مع أبناء وطني من ذوي الإرادة الطيبة: مرحبًا بالبابا فرنسيس في رحاب أرض الرافدين!
تنويه: تأتي زيارة البابا فرنسيس إلى العراق في الأساس بناءً على دعوة خاصة من رأس الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم غبطة البطريرك (الكاردينال) لويس ساكو، باعتباره رأس الكنيسة الكاثوليكية في العراق أيضًا. وبتحفيزٍ من غبطته، ونظرًا لسعة علاقاته الطيبة مع الرسميين في الدولة العراقية وعددٍ من زعامات الأحزاب السياسية، تبنت رئاسة الجمهورية الفكرة، وكثفت الخارجية العراقية من جهودها لتحقيق حلم هذه الزيارة. لذا، لا غرابة أن تتسم الزيارة ببصمات واضحة للكنيسة الكلدانية في تنظيم برنامج الزيارة التاريخية من حيث اختيار مواقع الزيارة وإدارة فعالياتها وفرض ما تراه موائمًا لكنيسة العراق بالتفاهم مع سفير الفاتيكان المتعاطف مع رئاسة الكنيسة الكلدانية. فكنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك أو كنيسة الطاهرة الكبرى في قرقوش، كانتا الأجدر بتكرّم قداسته إقامة قدّاس في إحداهما، لكون كلتا الكنيستين تمثلان رمزًا ودلالة على الشهادة الخالصة للرسالة المسيحية في العراق، وقد نالتا قسطًا وافرًا من قساوة الدهر والشهادة وأعمال العنف والتخريب والدمار والنزوح والتهجير. لذا وجب التنويه مع وافر التقدير والاحترام لجميع الجهود بإنجاح الزيارة!


96

 تقنين تجارة الخمر وعلب الليل ولا لسموم المخدرات
لويس إقليمس
بغداد، في 23 آذار 2019
تقارير أمنية شبه يومية تشير الى تنامي ظاهرة سلبية قاتلة وسط الشباب العراقي وشرائح أخرى في المجتمع العراقي البائس، وهي ظاهرة الترويج للمخدرات، زراعة واستيرادًا وتسويقًا وتداولاً. آخرها ما صرّح به محافظ واسط من اكتشاف مزرعة لنبتة ثمينة من أنواع الهيروين على ضفاف نهر دجلة قرب مخيم الكوت الكشفي واعتقال صاحبها، داعيًا لاتخاذ ما يلزم لوضع حدّ لمثل هذه الآفة ومعالجتها. وقد سبقته قبل أشهرمحافظة كربلاء التي أشارت إلى هذه الظاهرة السلبية أيضًا وانتشارها على نطاق واسع في المحافظة عندما عقدت مؤتمرًا خاصًا للتنبيه من آفتها التي باتت تغزو المجتمع العراقي من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. وفي ذلك المؤتمر، بادرت كل من هذه المحافظة وبالتعاون مع العتبة الحسينية للتحذير من تنامي هذه التجارة القاتلة وتحوّلها إلى ظاهرة يصعب السيطرة عليها. كما سبقتها تصريحات لمسؤولين عديدين من محافظات أخرى من جنوب العراق حصرًا، تشكو من فقدان السيطرة على تداول هذه السموم في محافظاتهم، سيّما وأنها أصبحت ظاهرة كبيرة التداول في الشارع والمنزل والعمل وأماكن خاصة يصعب على الجهات الرقابية وصولها.
إذن، هذا خطر آخر يهزّ المجتمع العراقي منذ فترة ليست بالقصيرة وبالذات منذ إسقاط النظام السابق، حيث خرجت إجراءات الخدمات الرقابية الرصينة الفاعلة والمشدّدة عن نطاق قدراتها بعد أن كانت المعالجات والإجراءات آنذاك في أقسى مظاهرها. أجراس عديدة للإنذار دقت وماتزال تدقّ بين فترة وأخرى، وأخرها هذه المبادرة الملفتة للنظر إنْ كان القصد منها حقًا الحد من الترويج لهذه الظاهرة وفرض عقوبات مشدّدة على المتاجرين بهذه السموم القاتلة والمدمّرة وعلى مستخدميها ومروجيها وداعميها على السواء. وما تصريح السيدين محافظي كربلاء وواسط مؤخرًا، بإطلاق صافرة الإنذار من "تحوّل تجارة المخدرات في كربلاء إلى ظاهرة وحصول ما لا يحمد عقباه" سوى تحذير حقيقيّ خطير بإمكانبة غزو هذه المواد السامة لمجتعات البلد كافة بعد أن فعلت فعلها في محافظات جنوبية مستمدّة دعمها من هشاشة الوضع على الحدود الشرقية مع الجارة إيران وسطوة جهات ميليشياوية أو أخرى مرتبطة بأحزاب أو شخصيات في هرم السلطة تقف وراء التغطية والحماية للمتاجرين والمروجين لها. 
إن التحدّي الجديد المتمثل بانتشار ظاهرة المخدرات بأنواعها وأشكالها ووسائل إنتاجها وترويجها وتسويقها وسط المجتمع العراقي لا يقلّ في التعاطي مع مشكلته مع ما تشهده الدولة العراقية برمتها بقطاعيها الحكومي والخاص، من استشراء ظاهرة الفساد المالي والإداري والرشى في مفاصل الحياة العراقية بمجملها، بحيث عجزت أجهزة الدولة في محاربة هذه الآفة، بالرغم من تعدّد الأجهزة الرقابية والأمنية والهيكلية والقضائية المستنفرة شكليًا من أجل محاربتها. والسبب لا يقبل الجدال، كون الجهات التي تقف حائلاً أمام مواجهة هذا التحدّي والقضاء عليه أو تحجيمه هي جزء من هرم السلطة أو هي فعلاً مشاركة في عمليات الفساد بطريقة أو بأخرى، أو إنها تمنح الغطاء الشرعي لمثل هذه السلوكيات من خلال تقديم أشكال الحماية الأمنية والتجارية والشرعية. وبهذا المسعى، فإنها تهدف وضع العقبات للوصول إلى الرؤوس الكبيرة الداعمة أو التي تغطّي على هذه التجارة بدءً من مواقع الإنتاج ومرورًا بالمنافذ الحدودية وأسلوب الترويج والمتاجرة والتوزيع في الداخل والخارج.
مَن المستفيد ومَن المسؤول؟
لكون هذه المشكلة أصبحت تلقي بظلالها على مجموعة من الجوانب الاجتماعية والاخلاقية والاقتصادية والدينية كما جاء في سرد مسؤولين في محافظات جنوبية وعلى لسان أجهزة أمنية مطلعة، وهم يعون حقًا ما يراودهم من هموم مؤرّقة، فإنّ المسؤولية الأخلاقية والمجتمعية والصحية تقع اليوم على عاتق الجميع من أعلى هرم السلطة إلى القواعد العامة في المجتمع ومَن لهم مسؤولية النصح والتوجيه في المنابر الدينية جميعًا وفي المؤسسات والمنظمات المجتمعية من دون استثناء، سيّما وأن المسؤولية إن لم تكن تضامنية، فلن تجدي نفعًا، لكون الشرخ كبيرًا والواقع خارج نطاق السيطرة. وهذا ما يدعو للبحث عن الأسباب والمسببات وتحديد الجهات المستفيدة من انتشار هذه الظاهرة وغيرها من تلك الدخيلة على المجتمع والأغراض الخسيسة التي تقف وراءها جهات متنفذة في مواقع السلطة وعلى الحدود والتي تيسّر دخول هذه السموم وتساهم في ترويجها وزيادة حجم تداولها بسبب ما تدرّه من منافع وموارد تزيد الشهوة وطلب المزيد.
لقد سبق لجهات رقابية وناصحة ومصلحة من قبيل مراقبة السلوك المجتمعي في البلاد أن تداولت في أساس هذه الظاهرة وانتشارها الكبير في صفوف المجتمع العراقي ولاسيّما في الأوساط الشبابية. ومن جملة ما جرى تحديده وتوصيفه بعد تحليل دقيق للمشكلة وأسبابها، أن من بين المسببات الأساسية لها ما تعانيه طبقات مجتمعية بائسة من آلام عاطفية وفراغ مجتمعي للترويح عن النفس الضائقة ونقص في الحاجة الجنسية وفي الحرية المفقودة في اختيار نهج الحياة وفي التعبير عن الذات التي ظلمها المجتمع نفسه ومَن في هرم السلطة. فالغزوات الظالمة المتعاقبة على محلات بيع الخمور والنوادي والعلب الليلية المجازة التي كانت في السابق تحت مراقبة أعين السلطة والأجهزة الرقابية، كان لها هي الأخرى وقع كبير في تحوّل الحاجة الطبيعية للترفيه والتريح عن النفس بالبحث عن متنفس آخر ليكون هو البديل. والنتيجة أنّ البديل الجديد كان أكثر تدميرًا للذات والمجتمع والبلد. ولم نسمع في السابق أحاديث عن تداول سموم المخدرات في حقب الأنظمة السابقة إلاّ نادرًا حيث القوانين الرادعة آنذاك كانت كفيلة بمنع معظم أشكال السموم والأنشطة غير المشروعة وتلك الدخيلة منها على المجتمع. وهذا ما يفسّر سيادة الأمن والأمان ونقاء المجتمع العراقي وانفتاحه وتميّزه عن غيره من دول الجوار والمنطقة.
بلد المرح والرفاهة
إنّ ما نشهده اليوم يأتي ضمن الانحلال السلطوي والفوضى في مراكز القوى والأجهزة الرقابية وفقدان السيطرة على الشارع بما فيه من مآسٍ قائمة في بعض أسبابها نتيجة لتعدّد السلطات التنفيذية وخضوع معظمها لأحزاب السلطة التي تعتاش وتتاجر وتثرى من وراء المتاجرة بمصائب الشارع ومآسي الشعب. وممّا زاد في الطين بلّة، دخول أحزاب ومكاتب اقتصادية تابعة لكتل سياسية متنفذة أو أشخاص أو جماعات ومافيات وعصابات أحيانًا تعمل تحت غطاء أحزاب وشخصيات مقربة من مراكز السلطة في تحديد عمل تجارة الممنوعات الجديدة التي طغت على تجارة الخمور، بالرغم من أنّ هذه الأخيرة قد تطبّعَ عليها البلد ولم تكن تشكل يومًا خطورة طالما كان التداول بها ضمن القوانين والأصول وتحت رقابة أجهزة الدولة. فقد عُرف العراق بلدًا منفتحًا أكثر من غيره من دول المنطقة في التمتع بالحياة الحرة الطبيعية المرحة في حقب خالدة من الزمن الجميل الذي ولّى. فكان حقًا دار استراحة للأشقاء والسياح والزوّار للاستمتاع بليالي أبي نؤاس وشواطئ دجلة الخالد ونخيل البصرة ومشاحيف العشار وربوع نينوى المعروفة في صناعة الخمور والعرق البعشيقي والمسيّح والعصرية. أمّا اليوم، فقد اختلفت الموازين وفقد العراق بريقه وضاع الشعب الطيّب بين إرادات مصالح أحزاب السلطة ورغباتها وأهوائها ومفاسدها التي لا حدود لها ولا ننسى تأثير دول الجوار الطامعة. ومن المؤسف أن نرى جهات كثيرة قد سمحت لنفسها بمراقبة نشاط محلات بيع الخمور والمراكز الترفيهية القائمة والنوادي المجازة، ومنها متابعة وسيلة التعاطي مع أصحابها والمتاجرين بها بدءً من المساومة على استيرادها وفرض الشروط والحصص والكوميسيونات في بيعها وفي توزيعها وتداولها عبر وسائل خسيسة بالتهديد المتكرر بمنعها وغلقها أحيانًا أو بالتعرّض لهم بالخطف والقتل والتصفية الجسدية من دون رحمة كما حصل مع العديد من المتاجرين بها طلبًا للرزق الحلال من أبناء المكوّنين المسيحي والإيزيدي بصورة خاصة.
كل هذه الأفعال الشنعية وغير الحضارية ساهمت في تدهور الوضع الأمني في البلاد واضطرار أبناء المكوّنات التي تتعامل بهذه التجارة إلى مغادرة البلاد أو الانتظار في طابور البطالة بسبب الخوف الدائم من ابتزازهم من قبل نفر من القائمين على السلطة والمافيات التي تعمل تحت غطاء هذه الأخيرة وتفرض ما يسعها من أتاوات أو تعمل على اتخاذ سلوك التهديد بالمنع والقتل وقطع الأرزاق. كما ساهمت في تدمير القوة البشرية في البلاد عبر انجرار العاطلين وأصحاب السوابق لارتكاب الجرائم والخروج عن القيم المجتمعية والتقاليد البيتية المتعارف عليها.
بالنتيجة، فإنّ منع تعاطي الخمور وأنواع الكحول وإغلاق البارات والنوادي الليلية المجازة سابقًا بموجب أنظمة وقواعد أمنية صارمة، قد فتح الأبواب لتجارة وترويج المخدرات التي هي في واقع الحال أكثر خطورة وأعظم فتكًا وأكثر إيذاءً للمجتمع ولاسيّما في المقدمة من الجميع طبقة الشباب المظلوم. ويرى الكثيرون أن مَن يقف وراء منع الكحول وتعاطيها وغلق المراكز والنوادي والبارات هي جهات متنفذة في السلطة تسعى من وراء هذا المنع لزيادة مبيعاتها من المخدرات التي لاقت رواجًا كبيرًا بعد الاحتلال الأمريكي في 2003، ما دفع المحرومين منها للتحول للبضاعة المحظورة الجديدة. فكلّ "ممنوع مرغوب" بحسب القاعدة المعروفة. فما يتم تداوله وما تكشف عنه السلطات الرسمية من وضع اليد على أنواع المخدرات التي تدخل عبر المنافذ الحدودية غير المسيطر عليها تمامًا مثل الكرستال وحبوب الهلوسة وأقراص التخدير وأشكال الحشيشة وغيرها ممّا لم نسمع عنه، تدعو الجهات المسؤولة للتضامن والتكاتف من أجل محاصرة هذه التجارة والقضاء عليها تدريجيًا. وما دامت الحدود مفتوحة مع دول الجوار ولاسيّما إيران، وبوجود ثغرات متعمدة في المطارات والمنافذ الحدودية المخترقة من قبل أفراد تابعين لأحزاب السلطة والكتل السياسية المتحكمة في إدارة هذه المواقع كونها تدرّ عسلاً ومالاً وفيرين لتأمين نفقاتها وبرامجها الانتخابية ومشاريعها الخاصة التدميرية للبلاد، فإنّ الأمور ستسير من سيّء إلى الأسوأ بحسب مراقبين ومتابعين لهذه الظاهرة.
تبقى الحلول بيد السلطات العليا وفي الإجراءات الصارمة التي يمكن أن تتخذها الجهات ذات العلاقة للحد من دخول هذه السموم عبر الثغرات القائمة في المنافذ الحدودية الجوية والبحرية والبرية على السواء. فليس مقبولاً أن تحتفظ جهات مرتبطة بأحزاب السلطة، كما يبدو، بوجود أفراد يعملون على تسهيل هذا النوع من التجارة المحظورة مقابل رشى وأتاوات وكوميسيونات وعلى مرأى من السلطات العليا التي تغض النظر في أحيان كثيرة. كما عليها الأخذ بنظر الاعتبار عدم قبول إمكانية عودة البلاد إلى الوراء في انفتاحها المعروف على العالم وفي طبيعة ثقافة مجتمعاتها المتعددة في العرق والدين والمذهب، وأنه لا يمكن تحويلها إلى قندهار أفغانستان ولا إلى قم ومشهد إيران. وهذا يفتح الباب أمام الجهات المعنية بالسياحة والأمن المجتمعي لتدارس وضع برنامج وطني طموح ومنفتح النظرة والرؤية لحماية مراكز اللهو والنوادي الليلية الموجودة ومحلات بيع الخمور والجهات التي تقوم بتجارة استيرادها وتوزيها وبما لا يؤثر على السلم المجتمعي والأخلاقي لتبقى تحت أنظار الجهات الرقابية بعيدًا عن تدخلات جهات وميليشيات وعصابات أحزاب السلطة. فسلطة الدولة وقرارات الحكومة ينبغي أن تكون الأعلى وفوق كلّ المسميات الفرعية الأخرى وفق القوانين والنظم التي تكفل الحريات للجميع بما فيها حرية تجارة الخمور بأنواعها، إنتاجًا واستيرادًا وتداولاً واستهلاكًا. وهذا أفضل من تحويل البلاد إلى مستنقع للمخدرات والجريمة المنظمة ومراكز للإدمان بسبب ما تأتي به هذه من فظائع ومآس وخراب البيوت وتهديد للأمن المجتمعي. ونعتقد أنّ للإعلام والمرجعيات الدينية والمراكز الثقافية ومنظمات المجتمع المدني دورًا أساسيًّا في التوعية بمخاطر سموم المخدرات وتهديمها للأسرة والمجتمع والبلاد على السواء. فهذا ما يسعى إليه أعداء العراق!


97
اتفاقية باريس للمناخ بعد خمس سنوات من السعي والمجاهَدة
لويس إقليمس
بغداد، في 28 كانون ثاني 2021
حققت اتفاقية باريس (COP21) للمناخ منذ اطلاقتها قبل خمس سنوات نتائج إيجابية متقدمة على صعيد تحسين البيئة وجعل الأرض نظيفة وخالية نسبيًا من التجاوزات المناخية المتصاعدة عالميًا بسبب تزايد المخلفات الصناعية الناجمة عن تكدّس المواد الكاربونية المضرّة، وذلك عبر السعي الحثيث لمعالجتها بوسائل التقنية النظيفة التي تحفظ للبيئة نقاوتها نسبيًا قدر الإمكان. ومن الأهمية بمكانٍ، أنّ الاتفاقية ماتزال حية وقائمة وتتفاعل معها الحكومات والمنظمات المختلفة، وآخرها عودة الولايات المتحدة الأمريكية للعمل بها في ظلّ الإدارة الديمقراطية الجديدة، والتي كانت من ضمن القرارات الأولى التي وقّعها الرئيس جو بايدن يوم تنصيبه رئيسًا للقوة العظمى الأولى في العالم. وتمرُّ الأيام ليعلن "بايدن" لاحقًا عن قرارات جريئة داعمة للحدّ من الانبعاثات الحرارية والغازية بعزم إدارته تنظيم‭ ‬قمة‭ ‬دولية‭ ‬حول‭ ‬المناخ‭ ‬في‭ ‬22 من نيسان القادم من هذا العام لمناسبة "يوم الأرض" والمصادف للذكرى الخامسة للتوقيع على قمة باريس للمناخ،‭ ‬وفق‭ ‬بيان‭ ‬للبيت‭ ‬الابيض. وقد أرفق قراره هذا بتجميد‭ ‬منح‭ ‬التراخيص‭ ‬للتنقيب‭ ‬عن‭ ‬المحروقات‭ ‬من خلال التخلي‭ ‬تدريجا‭ ‬عن‭ ‬مصادر‭ ‬الطاقة‭ ‬الأحفورية‭ ‬بهدف تحييد‭ ‬أثر‭ ‬الكربون‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬الطاقة‭ ‬بحلول‭ ‬2035، والتوجه عوضًا عنها إلى البدائل المتاحة النظيفة الأخرى من‭ ‬موارد‭ ‬الطاقة‭ ‬المتجددة‭ ‬كالرياح وما سواها.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
لعلّ من أهداف الاتفاقية العالمية التي جرت المصادقة عليها في 12 كانون الأول 2015، والتوقيع عليها في 22 نيسان 2016، ودخلت حيّز التنفيذ في 4 تشرين ثاني 2016، تقتضي العمل على تخفيض ارتفاع درجات الحرارة في الجو بمقدار 1,5 درجة مئوية عبر التخفيف من الانبعاثات الغازية التي تعكّر صفو المناخ على الكرة الأرضية. وقد عُدّ هذا البرنامج من المشاريع الوطنية لعموم الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. بل عُدّ المشروع قانونًا ملزمًا يتحتم في ضوئه تقليل نسبة الانبعاثات الغازية إلى أدنى مستوياتها بحسب جهود كلّ دولة واستعداداتها المالية والفنيّة والتقنية ومستواها الإنمائي بالالتزام ببنوده ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
بالتأكيد، لا يزال التحدّي المناخي في أعلى درجاته، ولكنه مرهونٌ بالأمل بإمكانية تحقيق غاياته النبيلة في جعل بيئة الأرض أكثر صحيّة للبشر القاطنين عليها والمسترزقين من خيراتها، وما أكثرها، بعقلانية ودراية وحكمة وضمير حفاظًا على الصحة العامة وما عليها وفيها من بشرٍ وحجرٍ ودبيبٍ وماءٍ وهواءٍ. لقد دأبت كلّ دولة على تحديد مساراتها لتحقيق هذا الهدف الكبير، وأولُها فرنسا على رأس قائمة دول الغرب التي حرصت على الالتزام ببنود الاتفاقية بكل قوة وعقلانية وعلمية من أجل الوصول إلى هدفها مع حلول العام 2030. وبالرغم من كون الاجراءات المتبعة لبلوغ الهدف الأسمى ليست سهلة ومفروشة بالورود، إلاّ أنّ الرغبة الصادقة لدى الدول المتقدمة بتأمين بيئة نظيفة لمواطنيها أولاً ولسائر دول وشعوب العالم بالتالي، هي الرهان الكبير للبوصلة المناخية الآمنة التي ستقود العالم لتحقيق الهدف. وهذا بطبيعة الحال يجري ضمن برامج معدّة لهذا الغرض حيث يتم تقييم التجارب والأدوات والإجراءات على مدار السنة ممّا يتيح للجهات الحكومية والدول المعنية بالاطلاع على ما تحقق في الدول المتقدمة في مسألة معالجة الانبعاثات الغازية للاحتباس الحراري المرصودة فيها دوريًا. وهذا يتطلب من ضمن الخطوات المهمة المتخذة، التوفيقَ بين الرغبة في نموّ اقتصاديات الدول وطموحات كل دولة مع ما يمكن أو ما تصبو هذه إلى تحقيقه من الناتج المحلّي الإجماليّ. وبطبيعة الحال، قد تكلّف بعض هذه البرامج خسارات معينة في ثروات بعض الدول من الناتج المحلّي لصالح تحقيق تقدّمٍ في تحسين البيئة وإنضاج فكرة أهمية صحة المواطن قبل التفكير في أيّ ربح أو خسارة على حساب ذلك. فمسألة التحوّل البيئيّ لن تكون ممكنة من دون تحقيق الشيء الكثير من هذه الجهود الجماعية التي تتطلب انحيازًا إيجابيًا لصالح بيئة آمنة شبه خالية من تزايد الأبخرة الغازية القاتلة للبشر والبيئة معًا.
أهمية الاتفاقية للأجيال القادمة
   من هنا نستطيع فهم مقدار وأهمية اتفاقية باريس في تحقيق الصحة العامة للجميع، بشرًا وأرضًا وسماءً وماءً وحيوانًا وحشرةً وما سواها من خليقة الله التي صنعها لمنفعة الأرض والتمتع بها وبخيراتها بأريحية ممكنة في حالة استخدام ما عليها برويّة وعقلانية وحكمة، كما أسلفنا. لذا تكمن القوّة الكبيرة في هذه الاتفاقية بالإجماع العالمي حول بنودها وأدواتها وأهدافها، مدركين حجم المسؤولية البشرية وحجم التحديات المناخية المتصاعدة على السواء، ما يجعل الأطراف الحريصة على نقاوة المناخ وصحة البشرية وتعافي الأرض، تسعى للالتزام قدر المستطاع بالإجراءات الضرورية المقترحة أو المتخذة جماعيًا لتحسين البيئة تلافيًا لأية منغّصات جانبية وتبديدًا لأيّ قلق مرتقب. ونظرًا لما نالته هذه الاتفاقية من زخمٍ كبيرٍ متزايدٍ من دول ومنظمات وجهات دولية أخرى ذات العلاقة بشأن ما تتعرّض له البيئة عمومًا، فقد جاء تصريح النائب البلجيكي فيليب لامبيرتس عن حزب الخضر والرئيس المشارك حاليًا لائتلاف الخضر في الاتحاد الأوربي متناغمًا مع أهمية احترام بنود وجهود المشرفين والمدافعين عن الاتفاقية التي نالت زخمَها من جهود أعضائها ودعواتهم الملحة في الحفاظ على بيئة نظيفة لما فيه خيرُ الأمم والشعوب والأجيال القادمة. ‬
بالإشارة إلى ما شكلته موضوعة انسحاب الإدارة الترامبية من اتفاقية باريس في العام 2017، من صدعٍ جزئيّ أو اضطرابٍ شكليّ نظرًا لموقع أميركا كدولة عظمى، إلاّ أنّ المجتمع الدوليّ مضى قدمًا في أنشطته وفعالياته المناخية من دون أن تتأثر إجراءات الحفاظ على البيئة، كما كانت تتوقع الإدارة الأمريكية في حينها. وجاء العام 2020 ليسجلَ درجات حرارة ساخنة على غير العادة بعد أن لوحظ تواري كتل جليدية ضخمة من على وجه القارة القطبية الشمالية تحديدًا، ما شكّلَ هواجس جديدة من تصاعدٍ جديدٍ للمشكلة المناخية. وهذا ممَا انسحبَ طبيعيًا على بلدانٍ عديدة ومنها القارة الأوربية التي شهدت صيفًا ساخنًا بعض الشيء وبلدان غيرها في شتى أرجاء المسكونة التي عانت من عواصف وموجات جفافٍ وانجرافات ثلجية واضحة، ما حدا بالأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيرس كي يعلن عن معركة المنظمة الدولية ضدّ هذه الظاهرة الكونية المضرة ويطالبَ بمقابلة الضربة المناخية السلبية بضربة إيجابية أكثر قوة ومعالجة، مشيدًا بما اتخذته الصين وهي أكبر قوة لمصدر الاحتباس الحراري في العالم من خطوات للتخفيف من حدة الأبخرة والغازات المتصاعدة من مصانعها ومعاملها. فالصين تشكل اليوم لاعبًا مهمًا لا يمكن التغاضي عن مسؤوليته التي تبلغ 28% من نسبة الانبعاثات الحرارية في العالم بحسب خبراء ومهتمين في مجال البيئة باعتمادها كثيرًا على حرق الفحم. من هنا يكون التزامُها ببنود الاتفاقية ضرورة أساسية لإنجاح البرنامج العالمي لمكافحة الغازات والانبعاثات الناجمة عن حرق الكاربون والغازات في معاملها ومصانعها المتنامية سنة بعد أخرى. لكن الأملَ قائمٌ بقدرة التنين الصينيّ على التعامل مع هذه المسألة التي تؤرّق أصدقاء البيئة النظيفة في العالم من حيث ما تكتنزه من قدرات مالية وتقنية وبشرية هائلة للتعاطي مع الموضوع.
في ذات الصدد، تشير المعلومات الأولية المنقولة عن الجانب الفرنسي، راعية المبادرة واللولب الفاعل في تقريب وجهات النظر في الاتفاقية، إلى جهود الحكومة الفرنسية ببلوغ خفضٍ قياسيّ في الانبعاثات الحرارية في استراتيجيتها الوطنية بحلول عام 2030 إلى أدنى مستوى متاح. وبالأرقام، اعتمادًا على ما ورد في تقارير معهد Rexecode، وهو أحد المصادر الفرنسية قريبة الصلة بالحكومة، فإنّ هذه الأخيرة قد خططت في توقعاتها ببلوغ معظم استراتيجيتها الوطنية في التقليل من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول عام 2030. فاستراتيجيتُها تقتضي بلوغ انبعاث غازي بمستوى 310 مليون طن في عام 2030 مقابل الحجم المرصود له 414 مليون طن في العام 2019. ولكن لن يكون هذا الطموح ممكنًا إلاّ إذا تضافرت الجهود لبلوغه عبر مفردات كبيرة الأهمية تتعلّق بتوفر الشروط البشرية والإمكانيات المالية التي تعالج جنبًا إلى جنب مشاكلَ الركود الاقتصادي وتأثيراته وربط ذلك بإتاحة مسألة تجديد الطاقة وإزالة الكربون وتحويل الصناعة والاهتمام بمسألة تخضير الكرة الأرضية قدر المستطاع. وما ينطبق على فرنسا، ينسحبُ أيضًا على سائر الدول المعنية بالموضوع.
لعلَّ من ضمن هذه الأدوات الجوهرية في بلوغ أهداف الاتفاقية أيضًا، الاهتمام بصناعة السيارات التي تشكّل القاسم المشترك في تصاعد الانبعاثات الغازية بسبب ما تستهلكه من وقود متنوع لا يخلو من ملوثات كاربونية قاتلة. وهذا في الأساس ما تسعى إليه شركاتٌ رائدة في عالم السيارات للتحول من استخدام نظام الوقود المحترق بأنواعه إلى نظامٍ أكثر نظافة واقلّ تلويثًا للبيئة. هذا إلى جانب الاهتمام بما يٌسمّى بالنيتروجين "الأخضر" واللجوء إلى أنواع أخرى لإنتاج الطاقة النظيفة المبتكرة في توليد الطاقة الكهربائية، كالرياح واشعة الشمس والقدرات النووية للأغراض السلمية وما في ذلك من وسائل نظيفة غيرها من تقنيات رقمية مرتبطة بإدارة الطاقة.
تحذير دوليّ
هناك إشارات بحصول خفضٍ حقيقيّ في الانبعاثات الحرارية لثاني أوكسيد الكاربون بحدود 7% لغاية الساعة، بحسب مصادر بحثية عالمية. ولكنّ كلّ هذه الجهود بحسب مصادر في الأمم المتحدة، لم تمنع من ارتفاع ملحوظٍ في درجات حرارة كوكب الأرض بحدود 3 درجات في ظلّ جائحة كورونا التي عصفت بالعالم وما يزال تأثيرُها واضحًا على مجمل الفعاليات للدول قاطبة. وبحسب خبراء دوليين في مجال البيئة، فإنّ المؤمَّل ضمن استراتيجية اتفاقية باريس أن تستمرّ الجهود الجماعية لبلوغ حدود 1,5 درجة مئوية لغاية نهاية العقد الحالي، ما يتطلب تخفيضًا في الانبعاثات الغازية للاحتباس الحراري بحدود 7,6% سنويًا، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة. فقد حذرت هذه الأخيرة من التأثير الضئيل الذي حققته دول العالم في مسألة الانخفاض الفعليّ في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بسبب الجائحة والنقص الحاصل في تأمين مستلزمات مكافحتها. وليس خافيًا مثل هذا التأثير على مجمل الفعاليات بهذا الصدد، ما دفع المنظمة الدولية لإعطاء دفعة جديدة للالتزامات الدولية بالرغم من الصعوبات والمشاكل التي رافقت تأثيرات الجائحة.
   من هنا، يشيرُ خبراء في الأمم المتحدة، إلى ضرورة الاستفادة من دروس جائحة كورونا للتفكير مليًّا بما ينتظر الكوكب الأرضي من مآسٍ وتقلبات طقسية لا تُحمدُ عقباها للأجيال القادمة التي لم تولد بعدُ. ومن ضمن التوصيات، يرى هؤلاء بضرورة التفكير في برنامج "التعافي الأخضر" الذي لا مناصَّ منه لتفادي الكارثة قبل وقوعها. ولعلَّ من هذه الوسائل الفاعلة، توفير مستلزمات الدعم المباشر والسخيّ للبنى التحتية وتخفيض دعم الوقود الأحفوري والقضاء على محطات الطاقة العاملة بالفحم الملوِّث والتوجه نحو التقنيات الخالية من انبعاثات الغاز القاتل بأنواعه والتي تزايدت بسبب إهمال الحكومات وأصحاب المصالح الاحتكارية الكبرى في العالم لوسائل الصناعة والإنتاج والتسويق بحثًا عن أرباح أعلى من دون الاكتراث لما تسببه وسائلُهم من اضرارٍ على البيئة وعلى البشرية جمعاء. ومن شأن هذه الحلول القائمة على ما توفره الطبيعة من وسائل آمنة عبر دعم زيادة الرقع الخضراء عوضًا عن التجريف العشوائي للأراضي والحقول والمساحات الخضراء، كما يجري في بلادنا المبتلاة بساسة جهلة في التخطيط الاستراتيجي. وفي حالة اتباع هذه التوصيات عالميًا، فإنه من الممكن خفض ما يصل إلى 25% من الانبعاثات المتوقعة من اليوم لغاية عام 2030، بحسب البرنامج المعدّ في دوائر المنظمة الدولية.
وفي الأخير، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ برنامج الأمم المتحدة للبيئة يخلص إلى حقيقة مفادُها، أن "الوباء هو تحذير يوجبُ على الجميع تركَ مسار التنمية المدمرة بشكل عاجل. فهو محرك الأزمات الكوكبية الثلاث: تغير المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والتلوث".


98
رفسة الثور الجامح في آخر سكراته
لويس إقليمس
بغداد، في 14 كانون ثاني 2021
مع تتالي الأيام القليلات القوادم، تقترب ولايةُ "الثور" الأمريكي الجامح من نهايتها بسقوط مهين ل"الجاكي" الاستفزازي في أواخر أيام زعامته لأقوى دولة في العالم. فقد اعتقدَ خطأً خارج حسابات الزمن والواقع أن أنفتَه وتعاليَه وثروته ستؤمّنُ له فوزًا ساحرًا سهلاً بولاية جديدة لسنوات أربع تاليات مترعات بالعبثية والاستفزاز والسياسة الرعناء. فحسابات البيدر غير حسابات الأحلام. الرئيس الأمريكي المنتهية ولايتُه " دونالد ترامب" بدا أشبه بالثور الجامح في أيامه الأخيرة التي تفصله عن موعد ترك البيت البيضاوي. فهو الذي أصرَّ منذ بداية ولايته على تجاهلِ حقوق دولٍ وشعوبٍ وضعَها في أسافل رفوف سياسته الاستفزازية، ولم يكن يهمّه مصيرُها ولا مستقبلُها ولا حياتُها. بل كلُّ ما كان في جعبته المثقلة بالمشاكل هي أمريكا أولاً. ولم يكن العراق أفضلَ حالًا ضمن قائمة هذه الدول والشعوب المتهالكة، عندما قبل هو الآخر مثل سابيقه إبقاء الحبل سائبًا لأحزاب السلطة في الحكومات العراقية المتعاقبة ضمن فترة ولايته الجدلية كي تواصل هزالتها وفسادها في إدارة شبه الدولة العراقية سائرةً في طريق المجهول المظلم الأسود. فقد ساعد بطريقة أو بأخرى بإبقاء ارتباط مصير العراق رهن الولائية العمياء للجارة الشرقية  بعيدًا عن أية نفحة وطنية.
سياسة عامة
هكذا هي السياسة الأمريكية العامة للحزبين التقليديين الحاكمين لا تتغير عادة بين ليلة وضحاها حتى يأمر الأسياد عكس ذلك. وهذا التغيير المرتقب لم يأزف وقتُه بعد، كما يبدو. فمازال النهج تجاه العراق والمنطقة، هو ذاتُه الذي رسمه الحاكم المدني "بريمر"، الحرامي النموذجي الأول، عندما سلّمه بين أيادي هزيلة الإدارة المحاصصاتية وفاقدة الإرادة في الإصلاح وناهبة الثروات بطرق ووسائل شيطانية طيلة 17 عامًا المنصرمة.وقد بلغت معالمُ هذه السياسة الفاشلة قمّةَ الهزالة وشدّةَ الدناءة في مشروع الموازنة المقترح للعام الجديد 2021، حين أصرّ كلُّ طرفٍ على تأمين حصته من الكعكة بالرغم من إدراكهم بالزيادة الكبيرة والمخيفة في مديونية الدولة المرهقة بالقروض والديون والسندات والالتزامات المحلية والإقليمية والدولية والبطالة المتفاقمة والصناعة الغائبة والزراعة المتراجعة.
نعود للثور الآمريكي الهائج وما قد يبدر منه قبل مغادرته سدّة الرئاسة من حركات أو سلوكيات أو قرارات ضمن صلاحياته حتى يومه الأخير رسميًا. من الطبيعي للثور الهائج عندما تتكالبُ عليه سكاكين الأعداء وسفاهات الأنداد أن يرفس، وأن يكون لرفسته أو رفساته تأثيرٌ أو أن يتسبّبَ بجروحٍ بسبب ضرباته الموجعة. فهو لم يترك حسرة في صدور هؤلاء الأعداء المتكالبين طيلة فترة رئاسته. ونحن عامةً في العراق نقول، إنه لو كان للإدارة "الترامبية" أية سمة من الأخلاق السياسية العامة في بدء ولايته قبل 4 أعوامٍ، لكانَ أنهى ما شرعتْ به إدارة مَن سبقَه من غرمائه في الحزب الديمقراطي الذي لا يختلف من حيث المبدأ في مشروع سياسته العامة واستخفافه بقدرات ومصير ومستقبل شعب العراق والمنطقة عندما فسح رئيسُه "أوباما" آنذاك المجال لتنظيم الدولة الإسلامية الداعشي كي يعيث في أرض العراق فسادًا وقتلاً ونهبًا واغتصابًا وتهجيرًا وتهديدًا للبنية التكوينية لشعبه متعدد الأديان والأعراق والمذاهب. وحينها، لم يرف جفنٌ للإدارة الأمريكية لغاية أن استفحل الأمر بوضع اليد على مساحة تعادل أكثر من ثلث أراضيه  في 2014 على مرأى ومسمع من الإدارة الديمقراطية التي سهّلت لهذا التنظيم مهمّة تدمير بنية العراق التحتية والتهاون بنهب ثرواته والعبث بمقدرات شعبه الصابر بالمساهمة بطريقة أو بأخرى بفرط عقد نسيجه المجتمعي وتشتّت مجتمعات مكوّناته الأصيلة من الأقليات الدينية والعرقية متجاوزًا ما خلّفاه مجتمِعَين جنكيزخان وهولاكو قبل أكثر من سبعة قرون خلت بجيوشهما الجرارة.
هكذا تركت السياسة الأمريكية، بديمقراطييها وجمهورييها، شبهَ دولة العراق وشعبَه المجروح والمظلوم لقمةً سائغة لدول الجوار وسلّمته على طبقٍ من ذهب بأيدي عدوته الشرقية التقليدية لتستنفذ مواردَه وتنتهك حقوق شعبه وتخترقَ سيادته وتهينَ هيبته أمام أنظار إدارتِها التي تعمّدت تركَ الحبل على الغارب. فمن الواضح أن الإدارة الأمريكية بحزبيها، قد تهاونت متعمدةً مع كلّ الطامعين والضالعين في إبقاء البلاد وشعب الحضارات فريسة سهلة الطعن والجرح والافتراس من دون مبررات. حتى تلك المبررات التي ساقتها إدارتا بوش الأب منذ تسعينيات القرن الماضي وبداية عهد بوش الابن، لم تكن محبكة الصنع ولا مبررّة الأعذار والحيل التي لم تنطلي على القاصي والداني. ولكنّها كانت قدرة الجبارين على ضعفاء الحيلة، وسطوة الأسياد على "العبيد"، وقدرة الأشرار على الطيبين مع التحفظ على بعض الألقاب وأصحاب المسؤوليات. ولكن، بالتأكيد، لكلّ بداية نهاية، ولكلّ باطلٍ صولة، ولكلّ شرّيرٍ جولة، ولكلّ زعيمٍ رقصة. وقد انتهت الغجرية من رقصتها المعتادة استعدادًا لتولّي غيرها زمام حفلةٍ جديدة بأسلوب قد يختلف عن سابقتها لو حصلَ أن تعلّمتْ درسًا، بل دروسًا على طريق الأخلاق المجتمعية والإنسانية القويمة. وفي انتظار أن يأتي المنقذُ الوطنيُّ الكبيرُ، الظالمُ بحكمة سليمان والحاكم الحكيم بقسوة  حمورابي، فيضعُ النقاطَ على الحروف ويغلقَ مأساة شعبٍ تعبٍ ويوقفُ ترنّحَ بلدٍ متهاوٍ سائرٍ بكلّ المقاييس نحو الإفلاس والهزيمة والفوضى، لا سمح اللهُ!
أميركا في أتون فوضى
من الواضح تعرّض الديمقراطية في أقوى بلدٍ في العالم هذه الأيام للخطر بفعل طيش الثور الجامح المترنّح الذي يتلقى آخر طعناته ويرفس آخر سكراته "الزعاماتية" بعد أن وقعت بلادُه شاسعةُ القدرة وعظيمةُ الجبروت في أتون نرجسيته التراميية التي تصوّرَ خطأً أنها ستحفظُ له كرامتَه وسطوتَه وتجبّرَه من دون حساب ولا محاسبة. والخوف، كلّ الخوف أن تكون هذه "الرفسات" الأخيرة قوية بما يكفي لضعضعة شكل الاتحاد الأمريكي وبداية لتخريب مؤسساته بسبب الطبيعة الاستفزازية التي طبعت سلوكيات "ترامب" الخارجة عن العقلانية الطبيعية والبعيدة في أحيانٍ كثيرة عن الواقعية غير الحضارية التي يمكن أن تهدد بإسقاط البلاد وفي انحطاط قيمها. كما لا ننسى مغازلته المستمرة للطغاة وبعض الحكومات الفاسدة في المنطقة، ومنها حكومات العراق، التي نهبت شعوبها وأفقرت بلدانها لغاية الاستجداء بعد أن أذنتْ للدخلاء والغرباء عنه باستباحة سيادته وسلب هيبته بسبب عبثيتها وفئويتها وولائها للغير. ومثل هذا ينطبق اليوم تمامًا على واقع العراق، إذ لم تفعل إدارتُه شيئًا لوضع حدود للسلوكيات الولائية الطافية، بحجة الديمقراطية المزيفة التي تشدّقت بها وكان هو الراعي والمشرف على خرقها وتدنيسها.
إنّ القانون الأمريكي ومؤسساته الدستورية فوق أية زعامةٍ أو رئاسةٍ أو حزبٍ أو فردٍ أو شيخٍ أو نائبٍ. هكذا هي ديمقراطيتُهم التي يسعون لتصديرها إلى بلدان العالم، ومنها منطقتنا الشرق-أوسطية. ومن المؤسف أنّ معظم الإدارات الأمريكية السابقة ومعها حكومات الغرب، لا تعي تمامًا طبيعة ذهنيات شعوب هذه المنطقة ولا تريد أن تدركَ أو تفهمَ أصول هذه العقليات التي لا يمكن أن يُكتبَ لها تحقيق ولو جزءٍ يسيرٍ من شكل هذه الديمقراطية الفوقية المصدَّرة عبثًا بسبب بقاء هذه الشعوب أسيرة الشرع الذي لا يقبل الجدل ولا يؤمن بالتأوين والحداثة في تفسير القيم الدينية وفق تطورات العصرنة. فأساسُ أي دستور في دول المنطقة يشير بعدم تعارض القوانين والأحكام مع أحكام الشرع. لذا حرصت حكومات الغرب في عمومها، على إبقاء منطقتنا الشرق-أوسطية أسيرة تجاذبات فكرية ونزاعات أيديولوجية وصراعات دينية ومذهبية وطائفية لا نهاية لها من أجل إذلالها واستغلالها لمصالحها القومية غير عابئة بمصلحة شعوب المنطقة المتخلفة عن الركب العالمي بسبب قيمها الدينية والمذهبية والقومية الضيقة التي ترفض الانفتاح وقبول الرأي الآخر المختلف. وستبقى كذلك حسب مشيئة الأسياد وحتى تتبدل الأقدار وتتغيّر موازين القوى لصالح دولٍ علمانية "تعطي ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه".
أميركا اليوم تمرّ بأيام فوضى وبعملية قبصرية قاسية غير مضمونة النتائج فيما لو قرّر الثور الهائج وضع اليد على الزرّ النووي لا سمح الله أو شاءَ أن يكون لرفسته الأخيرة ضربة موجعة لكلّ مَن وقف في طريقه لأجل ولاية ثانية، أو تهكّمَ بسلوكه السياسيّ، أو استهان بقدرته على إيذاء أعدائه، أو شمتَ بسقوطه الرئاسيّ المهين. فما أقدم عليه أتباعُه ومؤيدوهُ في الاستعراض الفوضوي يوم 6 كانون الثاني الجاري بالهجوم الأرعن على مؤسسة الكابيتول جديرٌ بوصفه مسخًا للديمقراطية على أيدي الرعاع في مشهدٍ لا يُحسدُ عليه الشعبُ الأمريكي المتشدّق بالديمقراطية. وهذه باعتقاد الكثيرين، بداية نهاية المنظومة الديمقراطية في أرقى بلد عرف مفاهيمها منذ تشكيل اتحاد ولاياتها. ولنا أن نتذكر فقط ما جرى في استفتاء حزيران 2020 عندما عبّرَ فقط 42% من الشعب الأمريكي عن تفاخرهم بانتمائهم القومي لأمريكا بعد أن كان هذا الافتخار في استفتاء سابق في 2003 قد سجّلَ 69%. وهذا من الدليل على تهاوي الفخر القومي الأمريكي إلى أدنى مستوياته المنحطة في تاريخها على الإطلاق.
وهناك مَن يتوقع الأسوأ باحتمالية انفراط عقد دولة القطب الواحد وفق تصوّرات سيقت مع بروزٍ صاعدٍ للتنين الصينيّ كقوّة اقتصادية وسياسية واعدة، إبى جانب الرغبة الملحّة المدروسة بإحكام من قبل الغريم الشيوعي القديم المتمثل براعي الدب الروسي الحالي الأكثر صلادة وقدرة وديناميكية في التعامل مع الأحداث وفق مفهوم استخباريّ محبوك الجوانب والعلاقات الذي يُعتقد بدورٍ خفيّ له في إضعاف قدرات هذه الدولة الكبرى.
وبذلك، ما من شيءٍ موعود الثبيت يُبقي على تأمين مستقبل الأمة الأمريكية التي حافظت على ثباتها ورصانتها وقدراتها منذ نشأتها الرسمية كدولة اتحادية من ولايات متعددة في 1789. فالعد التنازلي لسقوط دولة الأسطورة الأمريكية كما يبدو وبحسب ما يريد أسياد النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب سيبدأ مع نهاية زعامة "ترامب" ودخول "بايدن" البيت الأبيض. فهناك مؤشرات لحرب أهلية متوقعة على الأبواب بين الولايات الأمريكية، سيّما بوجود لغط عن مخططات تُطبخ في كواليس إدارة الرئيس المنتهية ولايتُه بتوقيعه مؤخرًا على وثيقة في غاية الخطورة قد تقلب الموازين في حالة تعلّق الأمر بالترتيب للقيام بعمل عسكريّ مرتقب. وهذا ما اشارت إليه الديمقراطية "نانسي بيلوسي" رئيسة مجلس النواب التي ناصبت الرئيس "ترامب" العداء العلنيّ السافر منذ بداية ولايته ولغاية نهايتها. وتلكم قد تكون بداية نهاية أمريكا.

99
ما زال البحث جاريًا عن وطن مفقود
لويس إقليمس
بغداد، في 10 تشرين أول 2020
شاءت الأقدار أن يقع العراق وسط بلدان سفيهة لم تتوقف أطماعُها ولا تراجعت أحقادُها ولا خبت دسائسُها يومًا للإيقاع به أرضًا وسماءً ومياهًاً وحضارة وثقافة وتنوعًا في شعوبه المتجانسة منذ أصول التاريخ. فكلُّ الأنظار وكلّ الكيانات وكل الدول، الصديقة قبل العدوّة، كانت وماتزال متوجهة صوبه وتسعى لنهش ما تبقى من جسمه العليل بسبب قسوة عوادي الزمن ومؤامرات بلدان الخارج التي أفقدته هيبتَه وسلبته سيادته وجعلته في مصاف الأمم والشعوب الأكثر تخلّفًا في كلّ شيء، بل متذيّلاً صفوف بلدان العالم. وهي بفعلتها الخبيثة، قد قرّبته هذه الأيام من شفير الإفلاس بالرغم من طفوه على مليارات البراميل النفطية ومكامن الغاز إلى جانب تميّز جلّ أراضيه وتمتعها بثروات معدنية وطبيعية ليس لها مثيل في دول المنطقة حصرًا. ناهيك عن منابعه المائية ونهريه الخالدين اللذين تسعى دول الجوار الخبيثة ما تمكنت، من صدّ المياه عنهما وتجفيف قاعيهما بهدف الإيقاع بشعب العراق وتجويعه إن أمكن مع سبق الإصرار والترصّد وبلا خشية من ربّ العباد ولا استحياء بشريّ. بل إنّ سلوك بعض هذه الدول، ومنها دول الجوار حصرًا، شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا وبلا تمييز ولا استثناء، تسعى وبكلّ صلافة وبحقد أسود دفين للإتيان على ما تبقى من هيبته وسيادته وطيبة أهله بشتى الوسائل والأدوات لجعله أضحوكة وألعوبة وبقرة حلوب لطوابير من الأغراب والدخلاء عنه من ساسة الصدفة والجماعات والعصابات والفئات المقتاتة على الكومسيونات وما تدرُّه عليها العقود الفاسدة الكثيرة والمنافذ الحدودية من موارد بأشكالها وما تحصل عليه بفعل الاتفاقات المشبوهة في زمن ضياع السيادة الوطنية وانكسار هيبة الدولة بفعل أدوات الدولة العميقة التي تسرح وتمرح وتعربد وتتحكّم في مفاصل الدولة الشاملةً.
هذه الأوضاع المأساوية التي وصلت إليها البلاد، لاسيّما بفعل الانفلات الأمني المصاحب لأدوات الدولة العميقة، وصعوبة سيطرة الحكومات المتعاقبة على مقاليد الحكم والإدارة بسبب استشراء الفساد وتغوّل أدوات هذا الأخير في كلّ مفاصل الحياة وما ترتب عليه من الهبوط الحادّ في الموارد الريعية المتأتية من بيع النفط الذي تسببت به جائحة كورونا، إضافة إلى التهاون الواضح من قبل المجتمع الدولي وعدم وضوح الرؤية في العقل المدبّر للراعي الأمريكي للعملية السياسية ومغازلته الفاجرة لغريمه في التنافس على إدارة حكم البلاد وسطوة الجارة الشرقية على القرار العراقي الذي أفقدته وطنيته وجرّدته من قدرته على استعادة هيبته وسيادته، كلّ هذه وغيرها ممّا لا نحبّذ التذكير به قد ضعضعَ العلاقة بين المواطن والحكومات الهزيلة المتعاقبة وأفقدَ المصداقية بين الشعب وحكامه المتهمين بالفساد والإفساد لغاية بلوغ اليأس والقنوط من العملية السياسة برمتها والتفكير بالانتقال إلى وسائل أخرى قد يكون الصدام المسلح أحدى أدواتها الرئيسة عندما لن تعود تنفع وسائلُ التغيير السلمية المرجوّة من المنظومة السياسية برمّتها.
كما ليس خافيًا هو الآخر، بلوغ الخيبة من الدور المثير للريبة الذي تضطلع به المنظمة الدولية وممثلتها المثيرة للجدل جينين هينيس-بلاسخارت بظهورها بمظهر سيدة مخابراتية في تحركاتها ونقاشاتها وزياراتها المتكررة لأدوات السلطة ومراجع مختلفة دينية وسياسية، في معظمها بعيدة كلّ البعد عن أية نفحة وطنية. بل هي لا تتورع عن إبداء تذمرها بين الحين والآخر من الهياج الشعبي المتفاقم ضدّ أداء الحكومات المحاصصاتية المتعاقبة، إضافة لعدم إخفائها تعاطفها مع الفصائل الولائية ومجاراة أدوات السلطة وأحزابها كلّما استطاعت ذلك. فهي قد أجادت بفضل حنكتها المخابراتية اقتناص الفرص وإدراك مكامن التسلّل المتاحة التي تنتهزها كوسيط دوليّ لتحقيق مكاسب شخصية ودولية لصالح جهات مستفيدة من بقاء أوضاع البلاد على حالها متشرذمة ومهزوزة وفاقدة للسيطرة على إدارة شؤون البلاد وثرواتها وفرض هيبتها وبما يؤهلها للاضطلاع بدورها الوطني. لذا لم يعد من الصعب الحكم على انحيازها الواضح إلى جانب السلطة وأدواتها العميقة مقابل تهميشها لمطالب ثوار الانتفاضة التشرينية الذين فقدوا ثقتهم بشرعية مهمتها في الفترة الأخيرة.
لا زحزحة عن السلطة المستلمة من الأمريكي !
ما علينا. نحن اليوم في خضمّ تحوّلات واضطرابات وإشكاليات اقتصادية وسياسية ودينية ومذهبية وعرقية لا نترقب نضوبها ولا نعتقد بنهاية لها في القريب العاجل ولا المتوسط. فأحزاب السلطة، ولاسيّما الإسلامية منها تفعل ما بوسعها للبقاء في السلطة ما استطاعت عبر أدوات مستنبطة جديدة ساندة لإدامة بقائها في السلطة. بل هي تشرّع في دهاليز مقرّاتها بغطاء ديني ومرجعيّ ومذهبيّ وبأسلوب محاصصاتيّ مقيت ما يتناسب مع البقاء والتشبّث اللاّواعي بشتى الوسائل والطرق، التشريعية منها والتنفيذية والترغيبية والتهديدية التي تتوجه بها نحو بسطاء الشعب خاصة من رافعي الشعارات المذهبية ومقاومة الأجنبي "الاستكباري الكافر"، ومعهم ومنهم المنغمسون في التخريفات المذهبية والعرفية والعشائرية والمظهرية من الذين لا حولَ لهم ولا قوّة إلاّ بإبداء الخنوع والخضوع لأدوات المراجع الدينية التي بيدها كلّ مفاتيح السياسة والحكم والإدارة بإشارة واحدة تكفي وتفي. وهذه الأحزاب المغضوب عليها من معظم فئات المجتمع، تفعل ذلك انطلاقًا من قاعدة مذهبية ترفض التنازل والإزاحة أو التنحي عن المواقع التي تحصنت بها في أروقة الدولة الفاسدة بدعم من الجارة الشرقية وصمت مريب من الراعي السياسي الأمريكي والغرب المتفرّج وذلك تيمنًا بمقولة "أخذناها وبعد ما ننطيها"، ناسين أو متناسين أن السلطة لا تدوم لأحد. فلو دامت لغيرهم، ما آلتْ إليهم! 
هذه حال الدنيا. والعبرة فيمَن يعرف خشية الله في وطنه وشعبه ويعمل جاهدًا لخدمة الإنسان مواطنه، ويُشبع جوعانًا، ويسقي عطشانًا، ويأوي فقيرًا، ويزور مريضًا، ويكسو طفلاً، ويعزّي حزينًا ويحفظ هيبة البلاد ويطّوّر أحوال العباد ويرمّم المكسور ويشجع الفلاح على حراثة الأرض والصناعيّ على زيادة الإنتاج، ويؤمّن البلاد أرضًا وسماءً ومياهًا، ويعزّز من سيادتها، ويأمن على ثرواتها، ويحرس على مالها العالم من السرقة والنهب والتبذير. وهذا ما لم تقم به، بل فشلت في تحقيقه أحزابُ السلطة منذ 2003 ولغاية الساعة عندما جلست غير مصدّقة على عروشها وكراسيها بدعم من الغازي الأمريكي المتعجرف الذي سلّم البلاد للأغراب عنه وأدخلها في فوضى خلاقة لم تستطع الخروج منها لغاية الساعة. فهل من معتبر؟ وهل من تائب؟ وهل من محاسب لنفسه قبل غيره؟ وهل من حريص على وطن مفقود وضائع يطالب باستعادته ثوارُ الانتفاضة التشرينية الذين تتهمهم بعض أحزاب السلطة بالتخريب وتصفهم غيرُها بالمندسين وقيادات أخرى تدعو لوضع حدّ لثورتهم الباحثة عن وطن واتهام أصواتهم الوطنية بالمهازل؟
     هناك مَن يستعجل حصول انتخابات مبكرة بحسابات سياسية ومجتمعية شبه ضامنة بإبقاء الحكم وما فيه من مكاسب ومنافع ومناصب بأيادي أحزاب السلطة سيئة الصيت التي أتت على الأخضر واليابس وحصدت ما دخلَ خزينة الدولة من ريع بيع نفطه ومشتقاته وإبقاء بنيته التحتية الزراعية والصناعية رهنًا بنظام استهلاكيّ-استيراديّ ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. بل إنّ أحزابًا متنفذة وبإسنادٍ وحماية من جهات منفلتة تحتفظ بسلاح وسطوة خارج نظام الدولة تتولى مهمة هذه التجارة الاستهلاكية وتقف حائلاً ضدّ أية محاولة لنهوض القطاع الخاص الذي يرون فيه تهديدًا لمصالحها ومصالح أدواتها التي تسيطر بفعل نظام المحاصصة والهيمنة المذهبية على السلطة على مجمل النظام الاستيرادي لكلّ شيء. ناهيك عن سطوة جهات متنفذة تابعة لأحزاب السلطة على المنافذ الحدودية بكلّ أشكالها ومواقعها من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وهيمنة غيرها على مقتربات ونقاط استيرادية بهدف التحكم بما يدخل عبرها من موارد قد تضاهي موارد الريع النفطي بحسب خبراء ومراقبين ومحللين. وهذا ما يشير بشكل أو بآخر إلى تحايل أحزاب السلطة على الشعب المقهور والمغلوب على أمره عبر الإيحاء بنواياهم بإجراء الإصلاحات الموهومة، ومنها موافقتها على إجراء انتخابات مبكرة في ظلّ بقاء الظروف الحالية وسطوتها على أهمّ عوامل تحقيق النجاح فيها بفضل انتفاعها من المال العام والسلاح المنفلت والسلطة من دون نسيان دور المرجعية التي حذّرت في أوقات سابقت من خشية فقدان أصحاب المذهب للسلطة التي ماتزال تديرها بقوة النفوذ المذهبي وبدعم خارجي مشبوه، سواء من أمريكا غير المكترثة لما آلت إليه أحوال الشعب الكارثية أو الجارة الشرقية التي تستسيغ اللعبة مع غريمها الأمريكي وتدفع بتصفية حساباتها على الأرض العراقية وتراهن على بقاء أدواتها لفترة قادمة أخرى من دون تغيير في المنظومة وأدواتها. من هنا يرى البعض أن استعجال أحزاب السلطة بإجراء الانتخابات القادمة في 6 حزيران 2021 كما هو مقرّر، وفي ظلّ الظروف الراهنة التي تطبق فيها هذه الأحزاب على مقاليد الأمور، لن يكون نافعًا وإيجابيًا ما لم تتدارك قيادات التنسيقيات ومثقفو الأمة والنخب بعمومها، ما يحيط بالعملية السياسية برمتها من مخاطر بسبب تغوّل هذه الأحزاب وفروعها المنتجة حديثًا على مقاليد الحياة العامة وعدم بروز أحزاب وطنية منافسة أو تشكيلات موازية تأخذ على عاتقها مسؤولية التغيير الجذري المرتقب. ونحن نأمل ألاّ يقتضي مثل هذا التغيير استخدام العنف في تحقيقه.
إنتاج سلبيّ لأحزاب فرعية
لقد بدا واضحًا للعيان، ظهور أولى طلائع تشكيل أحزاب سياسية جديدة من إنتاج الأحزاب الإسلامية الفاشلة بهدف تضليل الراي العام والظهور بمظهر الإصلاح البعيد كلّ البعد عن مفاهيم بناء الدولة الحديثة التي يطالب بها عمومُ الشعب والتي أفرزتها أصوات الانتفاضة التشرينية حين نادى أبطالُها وثوارُها بأنهم يريدون وطنًا يحميهم وليس غولاً يتحكم بمصائرهم وينهب ثروات بلادهم ويسرق قوت الفقراء ويدمّر ما بنته مؤسساتُه السابقة وما أتى به النظام البائد من تطور وبناء في كلّ الميادين بعيدًا عن حسابات سياسية مليئة حقدًا وعداءً حين سعت وما تزال تسعى أحزاب السلطة الفاسدة منذ 17 سنة خلت، كي تطمس معالم الثقافة والتمدّن والتطور التي ميّزت العراق في عهد النظام البائد. ويكفي ترحّم قيادات وشخصيات سياسية وإدارية في الحكومات المتعاقبة لما تحقق في ذلك الزمن في حين عجزت قيادات البلاد منذ 2003 بإضافة ما يستدعي التفاخر به إلاّ في مشاريع نهب المال العام وإفراغ خزينة الدولة وسرقة موازناتها الانفجارية وضياع المليارات التي لو جرى استغلالها لصالح الوطن والمواطن لانقلبت أحوال البلاد والعباد إلى أفضل ما يكون.
    كما أنّ الملاحظ في هذه التشكيلة الجديدة من الأحزاب الفرعية المنبثقة عن الأحزاب التقليدية الفاشلة المغضوب عليها، قد أدخلت تحسينات شكلية بإقحام عناصر نسائية وشبابية من الجيل الثاني والثالث لتكون واجهة، القصد منها السعي لامتصاص الغضب الشعبي ضدّ الزعامات التقليدية الفاشلة التي كانت وماتزال تشكّل سبب الكارثة في بلوغ البلاد والعباد إلى هذه الأحوال السلبية بالخشية من اقترابها من شفير الإفلاس بحسب خبراء ومراقبين. فهذا ما تشير إليه مفردات وزارة المالية المضطرّة للزيادة في الاقتراض الداخلي والخارجي من أجل سداد مرتبات ومخصصات الموظفين الحكوميين، بمن فيهم آلاف الفضائيين والمزوّرين وأصحاب الدرجات الخاصة والسمة الجهادية والنضالية من الذين يغرفون من ميزانية الدولة بلا حساب ولا تخطيط ولا خشية، وسط تراجع مدخلات الريع النفطي وزيادة النفقات وعدم القدرة على إدارة ملفات الضرائب والجمارك والمنافذ الحدودية بسبب تواصل هيمنة العصابات والجماعات المسلحة والعشائر وأحزاب السلطة عبر أدواتها الحكومية الرسمية عليها.
إنّ الحسرة على ما يجري تكتنز القلوب وتستدعي حدّ الأسنان لغاية إزاحة المنظومة السياسية الحاكمة برمتها "شلع قلع"، ومن دون تمييز ولا استثناء. فكلّ الأحزاب التي دخلت العملية السياسية قد اقتطعت ما أمكنها من الكعكة وما تزال تقتنص الفرص لاستكمال النهب والسرقة واللصوصية. فكيف بها تقبل بمطالبات الشعب بتنحيها عن السلطة التي فشلت بكل المقاييس والمعايير بإدارتها وتوجيهها نحو الصالح العام الوطني؟ وهذا ممّا يستدعي وقفة عمومية، لدعم مطالب الثوار المطالبين برصّ الصفوف والعمل على إخراج أحزاب وطنية قوية موازية للأحزاب الحاكمة تكون منافسة ندّية لها في إثارة الرأي العام وحثّ فئات الشعب للاصطفاف إلى جانب مطالبه المشروعة باستعادة الوطن من براثن اللصوص والسرّاق ووقف مساعي أحزاب السلطة ومَن يقف مساندًا لها من مراجع دينية ومذهبية وسياسية فاسدة وكشفها أمام الراي العام وتسمية الأشياء بمسمياتها من دون مواربة ولا خشية ولا ألغاز. فالماضي الفاسد المدمّر لا بدّ أن يزول لتحلّ مقامَه وجوهٌ وطنية مشرقة يُشهد لها بالولاء للوطن، أرضًا وشعبًا وحضارة وثقافة وتربية ومجتمعًا وفكرًا ملهمًا ورؤية سديدة في النظر إلى المواطن، جوهر الحياة وصانع الحدث وهدف الوطن والإنسانية.




100
على خطى إبراهيم، حجٌّ بابوبي تاريخي إلى أرض العراق
بغداد وأور وأربيل والموصل وقرقوش في انتظار الزيارة الميمونة للحبر الأعظم، بابا الفاتيكان
لويس إقليمس
بغداد، في 25/12/2020
بين مصدِّق ومنذهل، سيتحقّقَ الحلم الكبير بتأكيد حاضرة الفاتيكان في 7 كانون أول 2020 نبأ الزيارة الميمونة التي سبق أن وعد بها بابا الفاتيكان "فرنسيس" إلى أرض السواد العراقية، بلد إبراهيم أبي الآباء وحاضرة أكد وسومر وآشور وبابل، بعد أن كان مقررًا لها أن تجري في 2019 بسبب ضبابية الظروف الأمنية. سيباركُ قداستُه أرضَ شنعار-العراق ومياهَه وسماءَه ويحاورُ أهلَه الطيبين أصلاء الحضارة والثقافة قبل أن تتدخلَ أيادي الشرّ الخبيثة وتزرع الفتنة والفساد وتعملَ قتلًا ودمارًا وتشتيتًا في أبنائه وبناته، في شيبه وشبابِه، في نسائِه وأطفالِه، أحباء الله الخالق العظيم ومالك الأرض والسماء والعناصر بغير منافس. وعلامةً على حسن تدبيرِه وخياره، سيحلُّ البابا "فرنسيس" للفترة من 5-8 آذار من العام القادم 2021، ضيفًا كريمًا عزيزًا على مدينة بغداد دار السلام ومنارة المجد والخلود. وسيتعطّرُ قداستُه بتراب مدينة أور أبي الأنبياء، ويزور أربيل (حدياب الآرامية -مدينة الأربعة آلهة) عاصمة كردستان العراق ورمز التسامح المجتمعي والتآخي، وبعدها الموصل (نينوى الآشورية) قلعة الصمود والتحدّي والتعدّد الإتني والديني. وأخيرًا يأتي دور مدينة "راسن" / قرقوش (بغديدا / بخديدا بالسريانية) التي سيخصّها ببركة رسولية خاصة باعتبارها أكبر تجمّع مسيحي للكنيسة السريانية ورمزًا للمسيحية في محافظة نينوى الجريحة، وفيها أكبر كنيسة في العراق (كنيسة الطاهرة الكبرى) والثانية في الشرق الأوسط من حيث السعة والمساحة والعمران. فقداستُه لم ينس هذه البلدة الحالمة في أطراف مدينة الموصل الأصيلة في كلّ شيء، وما عانته مع غيرها من بلدات السهل متنوعة الأديان والأعراق والمذاهب من تهجير ونزوح لأهلها ومن تدمير لكنائسها ومعابدها وأديرتها ومزاراتها وحرق وتفجير وتخريب وسرقة وسلبٍ ونهبٍ لمنازل أهلها ومؤسساتها الإدارية على ايدي تنظيم الدولة الإسلامية الذي عاث في مدن العراق المحتلة على أياديه الظالمة فسادًا بسبب تقاعس المنظومة السياسيّة الفاشلة وإدارتها الفاسدة عندما سهلت دخوله بالطريقة السالبة التي لا تنطلي على أيّ متابع للأحداث والوقائع والوثائق.
قصارى القول، لقد رحب العراقيون، صغارًا وكبارًا، عامةً ومثقفين، رجال دين وعلمانيين، سياسيين ومدنيين بخطوة الفاتيكان الجريئة التي تُعدّ أول حدث تاريخي لصالح شعب العراق، قبل أيّ مسمّى آخر. فالزيارة المرتقبة كما نفهمها، ستكون لها آثارٌ إيجابية، ليس على الصعيد المحلّي فحسب، بل والإقليمي والدوليّ على السواء. فالعراق مازال يحتلُّ موقع استقطاب دوليّ حسّاس على أصعدة كثيرة نظرًا لموقعه الجغرافي وعمقه الحضاري والتاريخي والثقافي والدينيّ وتميّز أهله وناسه بالطيبة والأصالة والإبداع، لاسيّما مَن حافظ منهم على الأمانة الوطنية ولم يخن الوديعة ولم يتأثر البتة بفساد الساسة وبحكمهم الظالم لشعبهم بشتى أدوات القهر والعشائرية والمذهبية والطائفية واللصوصية والمحاصصة التي قصمت جميعُها حاضرَه وأهانت ماضيه وأضاعت مستقبلَه بفعل الحروب غير المبررة التي خاضها و السياسات غير الحكيمة التي مارستها الأنظمة والحكومات المتعاقبة، ولاسيّما بعد الغزو الأمريكي الظالم في 2003.
لفتة بطولية تعزيزًا لروح الأمل
يقول أحد المتابعين لأنشطة البابا "فرنسيس"، أن الخبر جاء مفاجئًا للجميع حيث لم تُرصد اية زيارة لقداسته منذ أكثر من سنة بسبب آثار فيروس كورونا الذي جمَّدَ حياة البشر وأحالَ العالم إلى كتلة راكدة ضعيفة الحركة في الصناعة والسياحة والتنقل. فيما يرى غيرُه أنّ تحقيق هذا الحلم للعراقيين جميعًا في هذا الوقت الأغبر بالذات، كان لفتة بطولية تعزيزًا لروح الأمل والرجاء بغدٍ أحسن، ومن الدلائل المبشرة بأيامٍ أفضل قادمات لشعب العراق والمنطقة ودلالةً على ترقبٍ واضح وحدسٍ واعد بخفّة حدةٍ مرتقبة في آثار الجائحة وفي تحسّن الأوضاع على عموم البشرية المعذبة في ضوء هذا التاريخ الذي وقع الاختيار عليه. كما أنّ من شأن هذه الزيارة أن تعزّز روح الوحدة الوطنية بين سائر مكوّنات الشعب العراقي وتعيد البسمة إلى شفاه التعساء والفرحة للبؤساء والأمل للفقراء وأن ترسمَ الضوء الأخضر لمَن اضطرّته الظروف الظالمة كي يترك أرضَ الآباء والأجداد ويهجر البلدَ بأهله وأرضه مضطرًا بفعل المعاناة والقهر والظلم والتهديد، للتفكير بالعودة إليه راجيًا حياة معيشية أفضل وعدالة اجتماعية أكثر ومساواة في الحقوق والواجبات من دون تمييز ولا تفرقة ولا تجاهلٍ ولا استخفافٍ بسبب الاختلاف في الدين أو المذهب أو العرق، وفي اعتماد الكفاءة معيارًا لتكافؤ الفرص في كلّ شيء.
عسى أن تجد بركاتُ الحبر الأعظم بلسمًا شافيًا من لدن من تبقى من حكماء العراق ممّن في الحكم ومن ناسه الطيبين من خارج الحكم من القادرين على أداء دورٍ وطنيّ في إعادة بناء ما تمّ تدميرُه على أيدي فئاتٍ متحزّبةٍ منفلتة من رعاع الجهل والتخلّف التي تدير دفّة الحكم الحقيقي بأدوات حكومة عميقة متغلغلة في كافة مفاصل الدولة بفعل المال والنفوذ والسلطة التي استقوى بها هؤلاء وأتباعُهم وذيولُهم.
ترتيبات الزيارة
مَن يتابع خطّ سير الحجّ البابوي المرتقب لا بدّ أن يعيد للأذهان رغبة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي تمنّى تحقيق هذا الحلم في العام 2000 على خطى إبراهيم أبي الأنبياء عندما كان العراق يعيش أوضاعًا صعبة بسبب تتالي الأزمات وانعزال نظام حكمه آنذاكَ عن المجتمع الدولي بسبب الحماقات العديدة لأركانه، لاسيّما في خطيئته الكبرى بحق جارته الجنوبية في حرب الخليج الثانية. فقد سعى البابا الراحل منع حدوث حرب وشيكة ضدّ هذا البلد بسبب قساوة قلب معظم أنظمة المجتمع الدولي ضدّ العراق وشعبه و"تكأكُئِهم على ذي جِنّةٍ"، لكنّه لم يفلح في ردع القوى العظمى المتكالبة عليه. فكانَ أن ظلَّ العراقُ بلدًا ذليلاً مستباحًا وهزيلاً مذ ذاك. وهو اليوم بسبب تلك الحماقات يعاني من تبعات تلكم السياسات الخاطئة وما سواها من أزمات متلاحقة في ديمغرافيته واقتصاده وسياسات حكامه غير الرشيدة منذ 2003، عبر أحزابٍ فاقدة الضمير والأهلية الوطنية سطت على ثروات البلاد وأرهبت ناسه وهجّرت عقولَه وطردت كفاءاته ما اضطرّ الملايين للنزوح والهجرة بسبب فقدانهم لأهمّ ركنٍ من أركان المواطنة، وهو الوطن والمواطنية.
بحسب ما متوفر من معلومات من مصادر حكومية ومرجعيات كنسية، فقد تمت جميع الترتيبات والتحضيرات اللوجستية والأمنية في أقصى درجات السرية مع الجانب العراقي من قبل مبعوثين من الفاتيكان زاروا العراق للتداول بشأن تفاصيل الزيارة، لاسيّما وأنّ البلاد تعاني من أخطر أزمة مصيرية في تاريخها ومن هزالة واضحة في إدارتها. فالمشاكل السياسية والاقتصادية قد أربكت حياة عموم الشعب بسبب فقدان الإرادة السياسية الإيجابية بإصلاح ما فسدُ منذ سنوات، وتفاقم الصراع على السلطة والنفوذ من قبل رؤوس الدولة العميقة وأدواتها التي تعيث في الأرض فسادًا وقتلاً ونهبًا وترويعًا وسط صمتٍ من السلطات التي تشعر أنْ لا حول لها ولا قوّة ولا مقدرة لوضع حدودٍ لمثل هذه السلوكيات الشائنة الخارجة عن الانتماء الوطني الصحيح. فما تزال هذه الأدوات تتحرك بحرية أينما شاءت وكيفما شاءت وسط معالجات خجولة من الأجهزة الأمنية والقضائية التي تخشى تقاطع ذلك مع مصالحها ومكاسبها، إنْ مجاملة أو محاباة أو خشية على أرواحها ومصيرها ومكاسبها غير مكترثة بمستقبل عامة الشعب ومصالح البلاد العليا المهدّدة بالانهيار في اية لحظة.
رسائل البابا في زمن الرجاء
إنّ زيارة بابا الفاتيكان المرتقبة، ستحمل عمومًا في طياتها رسائلَ كثيرة للعراق والمنطقة والعالم وسط زحمة المشاكل وتقاطع المصالح الداخلية والإقليمية والدولية المتكالبة على هذا البلد الجريح بسبب الحالة الراهنة من عدم الاستقرار الأمني والاجتماعي والسياسيّ والأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي زادت من حدّة التقاطعات والمناكفات والتسقيطات بين أحزاب السلطة الحاكمة وبسبب الدور السلبيّ اللاّوطنيّ الذي تضطلع به ميليشيات هذه الأحزاب، لاسيّما الدينية منها. وفي اعتقادي، ستشكل هذه الزيارة لبلدنا فرصة لمراجعة المشهد السياسيّ برمته نظرًا للرسائل المهمة الكثيرة التي سيوجهها قداستُه. وما علينا شعبًا وحكومةً وأحزابًا حاكمة، إلاّ ان نغتنمها فرصةً طيبة لصالح بلدنا وأرضنا وناسنا ومواطنينا. بل ستكون دعوة مفتوحة وصادقة لوضع الاختلافات الدينية والمذهبية والعرقية وغيرها من الصراعات العشائرية والحزبية والمناطقية جانباً، وذلك طلبًا للتلاحم والتعاون والتآزر ومن اجل اشاعة قيم التضامن والسلام والاستقرار، وترسيخ العيش المشترك، واحترام التنوع والتعددية، بكوننا اخوة في عائلة واحدة، ومواطنين لأرض واحدة، هي العراق بيتًا وخيمةً وملاذًا للجميع. حينها فقط، ستمتدُّ يدُ السلام لترفرفَ خفاقةً فوقنا جميعًا لتحفظَ بلادَنا وأرضَنا وشعبَنا. وحينها فقط سنبدع جميعًا في خلق مجتمع عراقيّ أفضل يقبل بالآخر المختلف مهما كانَ دينُه أو مذهبُه أو عرقُه أو قوميّتُه أو لونُه أو شكلُه ضمن الانتماء لهوية الوطن الواحد وليس لسواها من هويات فرعية أخرى انفصالية وتمزيقية وتمييزية وولائية.
إنّ هذه الزيارة وفي سياق الترتيبات والتطلعات تمثلُ رمزًا قويًا وعلامة فارقةً للغاية، وهي تفوق أكثر بكثير ممّا تشكلُه زيارة أي رئيس دولة في العالم مهما تجبّر. ويكفي أن يحلمَ بابا الفاتيكان الذي يرأسُ أكبرَ تجمّعٍ دينيّ في العالم أن يسير على خطى إبراهيم أبي الأنبياء في أولى خطوات حجّهِ عندما تطأُ قدماهُ أرض أور الخصبة وتتغزّلُ عيناهُ بعظمة زقورتها التاريخية متطلّعًا للسماء ومتضرّعًا كي تحمي العراقَ وشعبَه وتصونَ أرضَه وأهلَه من أشرار الأرضِ وأفعالهم الشائنة بحق مواطنيهم المعذَّبين وبحق الوطن الجريح الذي خانته أيادي وأفعالُ هؤلاء الوكلاء غير الأمناء على مصالحه ومصالح الشعب عندما لم يحفظوا الأمانة ولم يصونوا الوديعة، ولم يكونوا رعاة صالحين للرعية.
وفي العادة، من ضمن رسائل البابا في أية بقعة أو دولة أو أمةٍ يخصُّها بالزيارة، يركّزُ قداستُه على مواضيع رئيسية مثل موضوع الأخوة الإنسانية التي تمثلُ مطلبًا ملحًا لتصالح البشرية جمعاء وتساهم بجعل العالم قرية نموذجية متآزرة ومتسامحة وإيجابية في سلوكيات البشر. وهذا ما نحتاجُه بإلحاح في ضوء المشهد السياسي المربك والاقتصادي المتراجع والاجتماعي الممزَّق المتأزم وسط صراعات مثلث السلطة الحاكم بلا رحمة ولا ضمير ولا دراية بشكل عناصر المنظومة السياسية الفاشلة منذ تشكيلتها وفق نظام التحاصص البغيض الذي أثقل كاهلَ الدولة وساهمَ بتمزيق لحمتها الاجتماعية وأحالَ ثرواتها إلى هباء منثور بسبب سوء الإدارة وغياب الإرادة في الإصلاح الحقيقي.
رسالة البابا في هذه الزيارة إذن، ستتضمن دعوة للوحدة الوطنية المهدّدة بسبب الصراعات القائمة التي فلّت من عضد الدولة ومن نسيجها المجتمعي إلى جانب رسالة السلام القوية وطنيًا وإقليميًا ودوليًا. ومن أهمّ عناوينها، توجيه رسالة خالصة لمدينة الموصل وأهلها، والتي لم تتعافى بعدُ من جراحاتها الكثيرة منذ طرد رعاع الدولة الإسلامية المتشددة من أراضيها. وستكون رسالتُه أكثر وضوحًا بل وتحملُ أملًا مشعًا لمسيحيي هذه المدينة، ولاسيّما بلدة قرقوش/ بخديدا (30 كم جنوب شرق مدينة الموصل) "رمز المسيحية" في شمال الوطن والتي كانت تحصي بين 50-60 ألف نسمة من أتباع الكنيسة السريانية قبل غزوها على ايدي تنظيم "داعش" الإرهابي المتشدّد. فآثار الدمار والسلب والعبث فيها وفي كنائسها ومنازل سكانها ماتزالُ قائمة بانتظار بلسمة جراحاتها وعودة أهلها الذين تشتتوا في بقاع العالم، ومثلهم سائر أهالي القرى والبلدات المجاورة الأخرى.
وبالتأكيد، لن تخلو لقاءات بابا الفاتيكان مع ممثلي مكوّنات البلاد، شيعةً وسنّةً وأكرادًا ومكوّنات أخرى تشكلُ فسيفساءَ الوطن المتآخية عبر الزمن، تمامًا كما اعتاد فعلَه في كلّ زيارة راعوية أو خارجية لبلدٍ أو منطقة. وفي اعتقادي، ستكون التفاتة أبوية وأخوية يقصدُ بها إشاعة الحقيقة الغائبة في زمنٍ غابَ فيه الأمل بمستقبلٍ أفضل وصارَ الرجاء في غياهب الظلمات.
مشهد غامض وأقليات في مرمى فصائل مسلحة
مَن يراقب المشهد في العراق والمنطقة وموعد الزيارة التاريخية الذي اختارهُ الفاتيكان والتي تُعدّ الأولى لبابا الفاتيكان للبلاد، سيرى توقيتَها متناغمًا مع المطالبات بضرورة إنصاف مواطني المكوّنات التي أحالَها الزمن الأغبر الظالم إلى جماعات "أقليات"، ليس ضمن المجتمع العراقي فحسب، بل في كلّ أنحاء الوطن العربي والمنطقة. فهناك شعورٌ قائمٌ بتحوّل بلدان المنطقة إلى صحارى بلون رمالٍ وحيدة في حالة فراغها من هذه المكوّنات، ولاسيّما المكوّن المسيحي الذي كانت له عبر الأزمان والدهور بصماتٌ مهمّة وأساسية في بناء الأوطان وتشكيل حضاراتها ومدّها بثقافة مميّزة تفتقرُ إليها الأغلبية القائمة في العهود والقرون الأخيرة. لذا تقترن هذه الزيارة قبل موعد الانتخابات المقررة في 6 حزيران من العام القادم برغبةٍ ملحة من لدن الفاتيكان ودوائره، لتشجيع أبناء المكوّن المسيحي للاشتراك فيها بقوّة وبنداءٍ وطنيّ لإثبات حضورهم الدائم والضروري في إعادة بناء الوطن على أسس حضارية واجتماعية سليمة ووفق اللوائح التي تديم عنصر المواطنة وتشجّع الالتزام الصحيح والصادق بالانتماء للوطن والأرض التي تذكّرُ الجميع بجهود الآباء والأجداد ودوام حضورهم "الغائب" عندما شكوا للزمن مرَّ الحياة وشظفَها. فمستقبل البلاد جديرٌ بأن يؤمّنَهُ الجميع بعيدًا عن أية خلافات تشهدها البلاد في صراع الأصدقاء الأنداد الأعداء هذه الأيام.
ومن المؤسف أن تستأنف فصائل خارجة عن القانون ومارقة عن إرادة الدولة توجيه سهامَ عدائها وعربدتها إلى أفرادٍ وكسبة من أبناء مكوّنات الأقليات بمحاربتها في عيشها ورزقها بعد أن أُغلقت بوجهها أبوابٌ غيرها لكسب الرزق الحلال. فاستهداف اصحاب محلات الخمور في هذه الأيام الأخيرة، موجَّهٌ أساسًا ضدّ أبناء المكوّنين المسيحيّ والإيزيدي المسالمَين تحديدًا. وهذه ليست رسالة جيدة قبل موعد زيارة البابا المقررة قبل الانتخابات لكونها لا تصبُّ في مصلحة العراق والعراقيين جميعًا. إنها رسالة عداء وحسد وغيرة فحسب، ولابدّ من وضع حدّ صارمٍ لما تتولاه فصائل القتل والرعب والترويع التي تدّعي تنفيذها بحجة "النهي عن المنكر". ف"الدين لله والوطن للجميع"، ولا حاجة للإله الواحد الذي نعبدُه جميعًا لتوكيل بشرٍ ضعاف النفوس للنطق وكلاءَ باسمه أو الدفاع عنه. فالله، ربُ السماء والأرض والعناصر جميعًا ليس عاجزًا عن حماية اسمه والدفاع عن قدرته الربانية وحقه الإلهي. أليس "اللهُ خير الماكرين"؟
في اعتقادي، مثل هذه السلوكيات العدائية الإجرامية وغير المهذبة تعمل على زيادة تمزيق النسيج المجتمعي بزرع الرهبة والخوف والرعب في صفوف أبناء هذين المكوّنين المسالمين. وقد تكون وراء هذه الأعمال العنفية والهجمات المسلحة الجرمية أهداف اقتصادية وتجارية تسعى الجهات المنفذة من ورائها لسحب البساط من المتداولين التقليديين بهذه التجارة وإبعادهم عنها لكي تتولى جهاتٌ تخضع لمصالح هذه الفصائل وأحزابها ومن يقف وراءَها لتحقيق أرباح من ورائها. بل والأنكى من ذلك، ما يُفهم من وراء هذه الأعمال فسحُ المجال لجهات تتولى ترويج أنواعٍ مختلفة من المخدرات القادمة من شرق البلاد والداعمة لهذه الفصائل في أعمالها وسلوكياتها وتجارتها. لذا على المراجع الدينية قول كلمة الفصل فيها وبما يحصل وليس الصمت والسكوت، وكأنها ضمنًا تقرّ بشرعيتها. فهذا عكس ما تصبو إليه زيارة البابا من تشجيع للحمة الوطنية، وتركيزٍ على وحدة البلاد، وضمان حرية الجميع باختيار سبيل الرزق والعيش الذي لا يخرج عن أدبيات القانون الوطني والأخلاقي، والدعوة لتثبيت عزم جميع ابناء الشعب العراقي، وبضمنهم المسيحيين الآيلين للانقراض بسبب مثل هذه الأعمال الشائنة التي تحاربهم في أرزاقهم وفي وجودهم وفي ثقافتهم وعاداتهم وفي ملبسهم ومشربهم وسلوكهم اليومي وتقاليدهم.
كما لا ننسى أنّ إقرار ممثلي الشعب الأخير باعتبار مناسبة عيد الميلاد عطلة رسمية للبلاد هي دلالة على اعتراف الوطن بحقّ أبناء هذا المكوّن وغيره بعاداتهم والحرية بكسب أرزاقهم وبما لا يخرج عن المألوف والقانون. فمثل هذه الأفعال الخارجة عن إرادة الدولة ومؤسساتها الرسمية والأمنية ستزيد من خطورة المشهد وتفاقم الخوف في صفوف هذه المكوّنات المسالمة أصلاً وتحجمُ أبناءَ المهجر من التفكير بالعودة إلى ديار الوطن ومناطقهم الاصلية بعد طردهم من قبل "داعش". فتكرارُ المأساة على أيدي فصائل مسلحة مدعومة من أحزاب السلطة بغطاء الدين والمذهب والولائية لا تقلّ جرمًا عن أفعال عناصر الدولة الاسلامية. بل إنّ مثل هذه الممارسات بحقّ هذه المكوّنات الأصيلة ستحدّ من سبل التعايش "المواطنيّ" الصحيح، كما ستسهم في غياب الثقة من جديد بين المكونات وأجهزة الدولة وفي فقدان "الأمل" المرجو من هدف الزيارة البابوية تعزيزًا لإدامة "فسيفساء الثروة البشرية" في العراق في ظلّ الدرجة العالية من الخلاف القائم الذي يضع البلاد ومستقبلَه على المحك في كلّ شيء.



101

عيد الميلاد من جديد، ولكن في ظلّ كورونا وزمن الرجاء
لويس إقليم
بغداد، في 12 كانون أول 2020
اعتاد العالم المسيحي انتظار يوم 25 كانون أول من كلّ عام ليعيد ذكرى ولادة المسيح التي جرت قبل أكثر من ألفي عام، بحسب التاريخ البشري. وقد اعتاد ذوو الإرادات الطيبة من أديان ومعتقدات أخرى مشاركة إخوتهم في الإنسانية، هذه المناسبة المارانية ذي المعاني السامية للبشرية جمعاء. وتترافق ذكرى زمن الميلاد هذا العام مع ما تشهده البشرية المعذبة من معاناة بسبب الأزمة الاقتصادية التي ماتزال تجتاح الأمم وتضربُ شعوب الأرض قاطبة بقسوتها في كلّ شيء بسبب ما خلفته جائحة كورونا من ويلات وما تركته من آهات وعذابات وفقدان أحبة وطفو ظاهرة البطالة وفقدان مصادر الرزق وزيادة الفقر والفاقة لدى طبقات واسعة من مجتمعات كثيرة في العالم. كلّ هذا وكثيرٌ غيرُه يجري هذه الأيام وسط ترقب مشوبٍ بحذر بما يمكن أن تحمله السنة القادمة الجديدة من متغيرات على المشهد الإنساني والسياسي والاقتصادي والتربوي والعلمي والاجتماعي، بسبب اختلاطات واختلاجات محلية وإقليمية وعالمية ساقت نفسها صوب شعوب الأرض جمعاء. وقد لا ندري ما ستوقعه الأيام القوادم التي لن تكون سهلة، بحسب تنبؤات خبراء الفلك والمنجمين الذين يقرّون في معظمهم بأن ما سيشهده العالم في سنة 2021 لن يكون سهلاً البتة، ولاسيّما في منتصفه الأول في أقلّ تقدير. ومع ذلك، فالأمل والرجاء معقودان على ربّ السماء وخالق الكون بتغيير دفة الضرّاء إلى السرّاء والعسر إلى اليسر والشدّة إلى السهولة والراحة والأمان. وكفى العالم هبوطًا إلى هاوية العصور الحجرية ودائرة الاقتتال وهواجس الشدّة والتخلّف والفساد وزيادة الخطايا بسببٍ ومن دون سبب.
إنّ ذكرى ولادة المسيح "عيسى" من مريم العذراء النقية الطاهرة التي ظفرت لوحدها بنعمة استثنائية من لدن ربّ السماوات والأرض لتكون وعاءً لفادي البشر، بحسب المعتقد واللاهوت المسيحاني، ينبغي أن تشدّنا مجدّدًا إلى الأمل والرجاء بقدرة السماء على صنع المعجزات وتخليص البشرية من العناء والأمراض وأنواع العنف غير المبرّر. إنها لمناسبة ميمونة جامعة وسامية دخلت التاريخ منذ أكثر من ألفي عامٍ خلت، فأخذت حيزًا من عقل البشرية وفكرها واستعدادها وممارساتها العبادية والظاهرية التقليدية التي تخطّت العالمية في احتفالياتها وأدواتها ورموزها، ما استوجب شكلاً من التشاركية المسكونية والتعاطف والتماهي المجتمعي مع المحتفلين بها، كلّ وفق رؤيته وإيمانه واستيعابه ومعاييره وجاهزيته وجيبه. أمّا ما يميّز الدلالات السامية العليا لهذه المناسبة مسيحيًا ووطنيًا وعالميًا هذا العام بالذات، فيتمحور بالتأكيد حول "رسالة السلام والمحبة والرحمة والرجاء" التي يحملها دومًا مولود المغارة، يسوع ابن مريم، يوم مولده. فهذا شاعر العرب الكبير أحمد شوقي يلخص الرسالة السمحاء لكلمة الله في الأرض يوم مولده في واحدة من أروع قصائده:
وُلِدَ الرِفقُ يَومَ مَولِدِ عيسى          وَالمُروءاتُ وَالهُدى وَالحَياءُ
وَاِزدَهى الكَونُ بِالوَليدِ وَضاءَت     بِسَناهُ مِنَ الثَرى الأَرجاءُ
وَسَرَت آيَةُ المَسيحِ كَما يَسـ         ـري مِنَ الفَجرِ في الوُجودِ الضِياءُ
تَملَأُ الأَرضَ وَالعَوالِمَ نورًا        فَالثَرى مائِجٌ بَهًا وَضّاءُ
لا وَعيدٌ لا صَولَةٌ لا اِنتِقامُ        لا حُسامٌ لا غَزوَةٌ لا دِماءُ
شجرة الميلاد، رمز العيد وبهجتُه
بعيدًا عن هموم اللاهوت والإيمان والمعتقد، فقد أصبح عيد الميلاد الذي تمّ "الاتفاق" على تعيينه في 25 كانون أول من كلّ عام، مناسبة وطنية بلْ ودولية للاحتفال على نطاق واسع في معظم بلدان العالم. ففي مثل هذه المناسبة الكبيرة التي يحتفل بها العالم المسيحي قاطبة، تحتار العائلات وإدارات الكنائس والمنظمات والحكومات التي لا تفوّت هذه الاحتفالية التي يفرح لها الصغار قبل الكبار، في كيفية نصب شجرة الميلاد محور الاحتفالات في المنازل والكنائس وفي الطرقات والساحات العامة ومحلات البقالة والأسواق الكبيرة التي تتنافس سنويًا في عرض المزيد من اشكال الزينة والشجر بحيث لا يكاد يخلو بيتٌ أو مدينة أو قرية أو ساحة من مباهجها. وبالمناسبة، فقد غزت الصين أسواق العالم في إنتاجها وتصديرها أشكالَ هذه المباهج التي غطّت أسواقًا عالمية ومنها بلدان الشرق الأوسط والعراق من بينها. إلاّ أنّ جانبًا مهمًّا في هذه المناسبة مازال يشكلُ هاجسًا للكنائس وإداراتها حول إمكانية المشاركة الدينية والطقوسية بهذه الاحتفالية ليلة عيد الميلاد بالذات، بسبب المعوقات والإجراءات التي حتّمتها جائحة فيروس كورونا المستجّد. فمِن جملة ما تتطلبه الوقاية من الوباء، فرض شرط التباعد الاجتماعي، ما يعني حرمان الملايين من إمكانية الاحتفال بالطقوس الدينية التقليدية التي اعتادوا عليها المشاركة الوجدانية في الصلوات والطلبات والأدعية بعيدٍ سعيد ومبارك ينعم فيه الباري تعالى على العالم أجمع بالصحة والسلامة والأمان وسط فوضى السياسة الطائشة لزعامات دول وأعمال عنف تسود معظم بقاع العالم. وسيبقى الخيار الأفضل لجميع المحتفلين بهذه المناسبة اقتصار الاحتفال‭ ‭ ‬ضمن‭ ‬مجاميع‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬لقاءات‭ ‬عائلية‭ ‬موسعة أو إقامة حفلات صاخبة في القاعات والنوادي والساحات العامة، وقاية من الإصابة بالجائحة اللعينة المنتشرة في أغلب دول العالم، على الأرجح. وهذا لن يمنع جميعَ البشر من ترنيم رسالة الملائكة بإعلان بشرى الميلاد " المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة الصالحة لبني البشر".‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
اليوم، في الوقت الذي ينهمك فيه العالم الغربي أكثر من غيره بمظاهر الاحتفال بنصب شجرة رمزية لإحياء هذه المناسبة كما تشهد ذلك مثلاً ساحة القديس بطرس في دولة الفاتيكان، المقر البابوي الذي يستقطب مئات الآلاف من الزوار سنويًا في هذه المناسبة بالذات، هناك مدنٌ غيرها تمضي أيامًا بل أسابيع لنصب مظاهر إضافية للزينة والبهجة، إلى جانب رمزية الشجرة التي تختلف نوعًا وشكلاً بحسب مشيئة الجهات التي تتولى هذه المهمة والمتاح فيها من أشكال المزروعات التقليدية. ولا يفوت الجهات الكنسية عادة، توظيف أشكالٍ أخرى تزيد من جمالية الرمزية التي تمنحها شجرة الميلاد، حيث تعكف كنائس العالم قاطبة لنصب مغارة الميلاد الرمزية التي تتراوح عادة في اختلاف هيئتها وشكلها وتتقارب في مضمونها وغرضها. ولكنها في كلّ الأحوال تشير إلى رمزية الموقع البسيط الذي وُلد فيه مخلصّ البشرية حين اختار أن تكون ولادتُه في مغارة وضيعة تأوي حيوانات تكفلت هي أفضلَ من البشر بتدفئته في تلك الليلة القارسة. وهذه رمزية أخرى تشير إلى وداعة المسيح المولود في مذود ضمن مغارة في مدينة "بيت لحم -أفراطَ"، طفلاً "ملكًا" رضيعًا جميلاً عجيبًا كاملَ البهاء وسط ظروف جوية قاسية شديدة البرودة. فهو لم يشأ أن يكون مُلكُه بشريًا من العالم أو أن يرفع السيف ويصول ويجول قتلاً وهتكًا للأعراض وانفلاتًا بلا حدودٍ في متع الأرض والنساء. فملكوتُ المسيح ليس من هذا العالم، كما أعلن في بشارته لكلّ الأرض، إذْ لم يشأ تقبّلَ التيجان ولا الثروات ولا الملذات ولا المتع الأرضية، كما فعل أنبياءٌ كذبة وتبجّحَ ملوكٌ وزعماء ورؤساء كثيرون عبدوا المال والسلطة والمتعة وآثروا ظلمَ إخوتهم البشر وممارسة سياسة قهر الشعوب وتجويعهم بفعل سطوتهم وقساوة قلوبهم واحتقارهم للبشر إخوتهم في الخلق. بل فضلَ هذا "المَلِكُ" البسيط مولودُ المغارة، عوضًا عن كلّ أشكال المفاخر والمتع البشرية أن يتقبّلَ هدايا الأشراف (المجوس) القادمين من الشرق حاملين "ذهبًا ومرًّا ولبانًا"، تجسيدًا ورمزًا لحياة المسيح على الأرض طيلة 33 عامًا التي أمضاها في رسالته الإلهية وسط البشرية، وبالذات في موطنه إسرائيل (فلسطين). فالذهب إنّما يُقدّم للملوك، والمسيح وُلد ملكًا بغير تاج بشريّ باعتراف ملوك الشرق الثلاثة. و"اللبان" إشارة واضحة إلى رمزية ملء الكهنوت التي حملها المسيح في حياته. فيما "المرّ"ّ دلالةٌ للآلام التي سيكابدها المسيح في نهاية رسالته حينما أنكرُه اليهود ورفضُه أهلُ بيته، بحسب ما ورد في مواقع عديدة في أسفار الكتب المقدسة والأنبياء.
في العراق، أمنية بعيد وطنيّ رسميّ للميلاد
اعتاد الكثير من العراقيين ومازالوا في مشاركة أصدقاءَهم وجيرانَهم وبني وطنهم ممّن تبقى من مسيحييّ العراق وطنيًا، بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة في كرنفال وطنيّ لا يقلّ شأنًا عن احتفالهم بأعيادهم الخاصة، إن لم تزد عليها. وقد اتسعت المشاركة لتشمل حضور القداس مساء العيد الذي كان يجري في السابق منتصف الليل كتقليدٍ مسيحي في كنائس العراق والعالم. وإن دلّ هذا على أمرٍ، فإنّما هو دلالة على الألفة والمحبة وصفاء النية والتفاهم والمودة، وهي أشكالٌ من التعاطف التي يحلم بها جميع ذوي الإرادة الصالحة وأصحاب النوايا الطيبة من أبناء الوطن الواحد بمشاركة بني جلدتهم في الوطن الذي يحلم به الجميع كي يكون خيمة وارفة لكلّ المكوّنات الوطنية بأديانها وأطيافها ومذاهبها وأعراقها. وهذا ما يشكلُ اليوم قاسمًا مشتركًا للمواطنين الواعين حول إيجاد صيغة فاعلة للتفاهم الوطني المبني على الحوار وتقاسم المصير وصناعة مستقبل الأجيال التي وضعتها سياسة الحكومات المتتالية في مهبّ الريح بسبب سلوكياتها الأنانية غير الوطنية والبعيدة عن أخلاقيات الحكم والإدارة الرشيدة.
ومن الجميل أن تتصاعد دعواتٌ وطنية ومجتمعية لإصدار قرارٍ حكوميّ رسميّ باعتبار عيد الميلاد ضمن الأعياد الوطنية التي يحتفل بها العراقيون جميعًا. وهذا ما طالبت به أيضًا "مرجعيات مسيحية وطنية" حفاظًا وتعزيزًا للروح المجتمعية المتآلفة والمتكاتفة والمتناغمة في عمومها، وكي تبرز أهمية هذا المكوّن وثقافتَه وجدارتَه وحضورَه الوطني وتجذّرَه في الأرض ومشاركته مع غيره من سائر المكوّنات في بناء الوطن وتسهيل العيش المشترك ونبذ التطرّف وأشكال العنف والعمل بموجبات القانون ومنطق الدولة التي لها هيبتُها وسيادتُها فوق كلّ الولاءات وبالضدّ من كلّ المصالح الشخصية والفئوية والتحزبية والطائفية التي يرفضها الطيبون. فالمسيحيون مهما قلّوا، سيبقون تلك القوّة الإيجابية التي تساهم في بناء الأوطان والمجتمعات وذاك الملح الذي يزيد من نكهة المجتمع العراقي المتآلف تقليديًا. والمجتمع أو البلد الذي يخلو من فئة هذا المكوّن يبقى ناقصًا وغير قادرٍ لخلق سبل العيش المشترك وضمان سمة الانفتاح وصناعة أشكال الحوار والتفاهم في أسس بناء الأوطان. كما أن مثل هذا القرار الجريء سيكون بمثابة جرعة ناشطة لما تبقى من مواطني هذا المكوّن الأصيل ومَن غادروه مرغمين، للشعور بوجود مَن مازالَ من بني وطنهم مَن يشعر بالحزن على غيابهم وتركهم أرضَ الآباء والأجداد للعودة من بلدان الغربة من أجل المساهمة في إعادة بناء النسيج الاجتماعي المثلم وعودة اللحمة الوطنية لسابق عهودها.
مشاركة وجدانية ترفض التابوهات
هذه المشاركة الأخوية الوجدانية التي اتسع مداها في أوساط المجتمع العراقي خلال السنوات القليلات الأخيرة والتي تنامت وتيرتها عبر أشكال التعاطف المجتمعي مع المحتفلين بهذه المناسبة من إخوة الوطن من جميع الطوائف المسيحية، تأتي نتيجةً لزيادة الوعي المجتمعي وتقارب الرؤى الوطنية بضرورة الخروج من عنق الزجاجة الذي حصرهم فيها أدعياء "التابوهات" والتحريم في زمن مضى بحسب تأويلات هذه الفئة الضالّة التي مازالت تعيش أجواء الماضي المتخلّف قبل أكثر من 14 قرنًا من الجمود والتأخر عن مراقي التجديد والتحضّر والتأقلم والتعاطف بين الشعوب والأمم. فما كان يصلح في ذلك الزمان، لم يعد صالحًا ولا منطقيًا ولا مقبولاً في زمن التكنلوجيا الرقمية المتسارعة في خطاها لمعرفة كلّ شيء والوقوف على أيّ شيء لا يخطر على البال ولا يأتي في الحسبان. وهذا العيد وما يُحلمُ به أن يجلبه من راحة بال واطمئنان ومباهج ومن تشاركية وطنية ومجتمعية في الصلوات ومن ممارسات جانبية وهدايا وزينة وحلويات لها خصوصيتُها ونكهتُها، كلّها أدواتٌ جاذباتٌ لخلق عقد وطنيّ إيجابيّ بين أبناء الوطن الواحد مبنيّ على احترام حق الآخر في الاحتفال بمناسباته الدينية والمذهبية والاجتماعية من دون تمييز ولا تفرقة ولا استهانة ولا استخفاف ولا تحريمٍ ولا فرض مراسيم واحتفالات بقوة التهديد والوعيد. لذا لا عجب أن نجد اليوم عائلة مسلمة أو غيرها من سائر المكوّنات المتآخية الأخرى تتسابق لشراء شجرة عيد الميلاد ونصبها باحترام في موقع بارزٍ في المنزل أو في موقع العمل أو في مواقع التسوّق احتفاءً بمناسبة دينية كبيرة لإخوتهم المسيحيين في الوطن.
اليوم، صار من حقّ الإنسان المخلوق حرّا لا عبدًا أن يتناغم مع محيطه ويتقارب في رؤاها مع مواطنيه وجيرانه ويتشارك معهم حلو الحياة ومرّها، بهجتَها وأحزانَها. وبغير هذا، سيقفُ عنهم ومنهم ولهم غريبًا دخيلاً شاذًا في سلوكه ونطاق حياته، ليبقى تمثالاً جامدًا صامتًا لا حياة فيه ولا طعم ولا رائحة ولا منفعة ولا عاطفة ولا إحساس بمحيطه وسط المجتمع. لقد تنامت فكرة التعاطف الوطني مع أبناء الوطن الواحد وسط المجتمع العراقي المتكاتف لتجتمع حولها جميعُ سبل التوافق والتفاهم والتقارب التي من شأنها لمّ شمل أبناء هذا الوطن الغارق في متاهات الطائفية وفساد الزعامات السياسية التي اعتادت الرقص على أحزان وأشجان الشعب عبر المتاجرة بالشعارات الدينية والعرقية والطائفية لأغراض فئوية ضيقة وأخرى شخصية وغيرها مذهبية أو حزبية مقيتة لا يُترجّى منها تغييرًا في المنهج الوطني المفقود على طاولة هذا الصنف من الساسة والزعامات الحزبية التي قتلت الروح الوطنية ووأدت أية آمالٍ بالتغيير الإيجابيّ نحو الأفضل في ظلّ تدوير ذات الشخوص أو عبر محاولات خبيثة وحثيثة لإنتاج مثيلاتها السيّئات. وقد بدأت بوادر مثل هذه المحاولات السلبية بالبروز على الساحة السياسية العراقية منذ أسابيع وأيام عبر أولى الخطوات التي كشفت النقاب عن سعي حثيث لإعادة إنتاج أحزابٍ ثانوية بأهداف متماهية مع شعارات الانتفاضة وعبر شخصيات شبابية أو جاذبة في السحنة والشكل والصورة والجندر في محاولة للظهور بطابع الادّعاء بالإصلاح. كما آلت جهات سياسية على نفسها وأخرى غيرها ومنها تياراتٌ تدّعي الإصلاح أن تتجرّأَ بتخوين إرادة الانتفاضة التشرينية وشخوصها ووصمها مؤخرًا بصفات لا تليق بأهدافها الوطنية العالية في بحثها السلمي عن "وطن مفقود". فسوح الثورة والشرف، وإن تخللتها بعض السلوكيات الفردية من نفرٍ غير ملتزم منذ انطلاقتها في تشرين أول 2019 وحتى تاريخ انسحابها لأسباب ستظلُّ غامضة في جزئيات منها، لا ينبغي وصفُها ب"سوح الفاحشة ومعصية الله" من جانب تيارات تدّعي الوطنية والإصلاح باطلاً وهي شريكة في الحكم، أو بأية صفات أخرى لا تليق بالثورة الشعبية الصادقة التي أحدثتها الانتفاضة الاحتجاجية التي هزّت الزعامات الفاشلة التي حكمت البلاد منذ الغزو الأمريكي الخبيث ولغاية اليوم والتي سوف تقتلع عروشَهم السياسية والاقتصادية وتقتصّ منهم حين تتغيّر موازين اللعبة في قادم الأيام.
أملٌ ورجاء بربيع عراقي
مع استعداد العراق، بلد "شنعار" وأرض السواد لاستقبال عيد الميلاد بطريقته الوطنية التقليدية، تتلاقى الرؤى لاستقبال أيامٍ أفضل من سواها من سابقات مريضات بعاهات كثيرات في شتى الميادين. عسى الرجاء بميلاد المسيح يحمل أملاً مضافًا باستعدادات البلاد شعبيًا ورسميًا لاستقبال الحبر الأعظم، بابا الفاتيكان "فرنسيس" للفترة من 5-8 من آذار 2021 كما هو مقرّر، تعزيزًا للروح الوطنية وشدّا من عزم ما تبقى من المسيحيين الآيلين إلى الانقراض بسبب سوء الظروف وتفاقم الفساد واشكال التهديد والوعيد ونقص الحكمة وزوال الرحمة وانحسار التفاهم، وذلك لتشجيعهم بالثبات في أرض الآباء والأجداد وإكمال مسيرة بناء الوطن. ومن شان هذه الزيارة المباركة أن تشكلَ لنا جميعًا، عيدَ ميلادٍ جديد يدخل منازل جميع العراقيين من كافة الأديان والطوائف والمذاهب لننصت له، وهو الحدث الأول في التاريخ العراقي أن تطأَ أقدامُ أرفع شخصية دينية مسيحية "كاثوليكية" أرضَ العراق ليجدّدَ الأمل فينا جميعًا بحياة ممكنة نحو الأفضل في البناء والسعادة والفرح.
مبارك عيد الميلاد لجميع البشر في المسكونة. ودعواتٌ وتمنياتٌ خاصة للعراقيين الطيبين المقهورين ممّن شكوا غدر الزمن وهُمْ يسعون هذه الأيام لحمل همومهم على كفِ وهموم وطنهم الجريح في الكفّ الأخرى من أجل رفعها أمام مولود المغارة للشفاعة بإعادة الأمان والسلام والاستقرار والطمأنينة والشفاء من كلّ الأمراض البشرية والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها مجتمعات كثيرة، ومنها العراق.


102
وما زال البحث جاريًا عن وطن مفقود
لويس إقليمس
بغداد، في 10 تشرين أول 2020
شاءت الأقدار أن يقع العراق وسط بلدان سفيهة لم تتوقف أطماعُها ولا تراجعت أحقادُها ولا خبت دسائسُها يومًا للإيقاع به أرضًا وسماءً ومياهًاً وحضارة وثقافة وتنوعًا في شعوبه المتجانسة منذ أصول التاريخ. فكلُّ الأنظار وكلّ الكيانات وكل الدول، الصديقة قبل العدوّة، كانت وماتزال متوجهة صوبه وتسعى لنهش ما تبقى من جسمه العليل بسبب قسوة عوادي الزمن ومؤامرات بلدان الخارج التي أفقدته هيبتَه وسلبته سيادته وجعلته في مصاف الأمم والشعوب الأكثر تخلّفًا في كلّ شيء، بل متذيّلاً صفوف بلدان العالم. وهي بفعلتها الخبيثة، قد قرّبته هذه الأيام من شفير الإفلاس بالرغم من طفوه على مليارات البراميل النفطية ومكامن الغاز إلى جانب تميّز جلّ أراضيه وتمتعها بثروات معدنية وطبيعية ليس لها مثيل في دول المنطقة حصرًا. ناهيك عن منابعه المائية ونهريه الخالدين اللذين تسعى دول الجوار الخبيثة ما تمكنت، من صدّ المياه عنهما وتجفيف قاعيهما بهدف الإيقاع بشعب العراق وتجويعه إن أمكن مع سبق الإصرار والترصّد وبلا خشية من ربّ العباد ولا استحياء بشريّ. بل إنّ سلوك بعض هذه الدول، ومنها دول الجوار حصرًا، شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا وبلا تمييز ولا استثناء، تسعى وبكلّ صلافة وبحقد أسود دفين للإتيان على ما تبقى من هيبته وسيادته وطيبة أهله بشتى الوسائل والأدوات لجعله أضحوكة وألعوبة وبقرة حلوب لطوابير من الأغراب والدخلاء عنه من ساسة الصدفة والجماعات والعصابات والفئات المقتاتة على الكومسيونات وما تدرُّه عليها العقود الفاسدة الكثيرة والمنافذ الحدودية من موارد بأشكالها وما تحصل عليه بفعل الاتفاقات المشبوهة في زمن ضياع السيادة الوطنية وانكسار هيبة الدولة بفعل أدوات الدولة العميقة التي تسرح وتمرح وتعربد وتتحكّم في مفاصل الدولة الشاملةً.
هذه الأوضاع المأساوية التي وصلت إليها البلاد، لاسيّما بفعل الانفلات الأمني المصاحب لأدوات الدولة العميقة، وصعوبة سيطرة الحكومات المتعاقبة على مقاليد الحكم والإدارة بسبب استشراء الفساد وتغوّل أدوات هذا الأخير في كلّ مفاصل الحياة وما ترتب عليه من الهبوط الحادّ في الموارد الريعية المتأتية من بيع النفط الذي تسببت به جائحة كورونا، إضافة إلى التهاون الواضح من قبل المجتمع الدولي وعدم وضوح الرؤية في العقل المدبّر للراعي الأمريكي للعملية السياسية ومغازلته الفاجرة لغريمه في التنافس على إدارة حكم البلاد وسطوة الجارة الشرقية على القرار العراقي الذي أفقدته وطنيته وجرّدته من قدرته على استعادة هيبته وسيادته، كلّ هذه وغيرها ممّا لا نحبّذ التذكير به قد ضعضعَ العلاقة بين المواطن والحكومات الهزيلة المتعاقبة وأفقدَ المصداقية بين الشعب وحكامه المتهمين بالفساد والإفساد لغاية بلوغ اليأس والقنوط من العملية السياسة برمتها والتفكير بالانتقال إلى وسائل أخرى قد يكون الصدام المسلح أحدى أدواتها الرئيسة عندما لن تعود تنفع وسائلُ التغيير السلمية المرجوّة من المنظومة السياسية برمّتها.
كما ليس خافيًا هو الآخر، بلوغ الخيبة من الدور المثير للريبة الذي تضطلع به المنظمة الدولية وممثلتها المثيرة للجدل جينين هينيس-بلاسخارت بظهورها بمظهر سيدة مخابراتية في تحركاتها ونقاشاتها وزياراتها المتكررة لأدوات السلطة ومراجع مختلفة دينية وسياسية، في معظمها بعيدة كلّ البعد عن أية نفحة وطنية. بل هي لا تتورع عن إبداء تذمرها بين الحين والآخر من الهياج الشعبي المتفاقم ضدّ أداء الحكومات المحاصصاتية المتعاقبة، إضافة لعدم إخفائها تعاطفها مع الفصائل الولائية ومجاراة أدوات السلطة وأحزابها كلّما استطاعت ذلك. فهي قد أجادت بفضل حنكتها المخابراتية اقتناص الفرص وإدراك مكامن التسلّل المتاحة التي تنتهزها كوسيط دوليّ لتحقيق مكاسب شخصية ودولية لصالح جهات مستفيدة من بقاء أوضاع البلاد على حالها متشرذمة ومهزوزة وفاقدة للسيطرة على إدارة شؤون البلاد وثرواتها وفرض هيبتها وبما يؤهلها للاضطلاع بدورها الوطني. لذا لم يعد من الصعب الحكم على انحيازها الواضح إلى جانب السلطة وأدواتها العميقة مقابل تهميشها لمطالب ثوار الانتفاضة التشرينية الذين فقدوا ثقتهم بشرعية مهمتها في الفترة الأخيرة.
لا زحزحة عن السلطة المستلمة من الأمريكي !
ما علينا. نحن اليوم في خضمّ تحوّلات واضطرابات وإشكاليات اقتصادية وسياسية ودينية ومذهبية وعرقية لا نترقب نضوبها ولا نعتقد بنهاية لها في القريب العاجل ولا المتوسط. فأحزاب السلطة، ولاسيّما الإسلامية منها تفعل ما بوسعها للبقاء في السلطة ما استطاعت عبر أدوات مستنبطة جديدة ساندة لإدامة بقائها في السلطة. بل هي تشرّع في دهاليز مقرّاتها بغطاء ديني ومرجعيّ ومذهبيّ وبأسلوب محاصصاتيّ مقيت ما يتناسب مع البقاء والتشبّث اللاّواعي بشتى الوسائل والطرق، التشريعية منها والتنفيذية والترغيبية والتهديدية التي تتوجه بها نحو بسطاء الشعب خاصة من رافعي الشعارات المذهبية ومقاومة الأجنبي "الاستكباري الكافر"، ومعهم ومنهم المنغمسون في التخريفات المذهبية والعرفية والعشائرية والمظهرية من الذين لا حولَ لهم ولا قوّة إلاّ بإبداء الخنوع والخضوع لأدوات المراجع الدينية التي بيدها كلّ مفاتيح السياسة والحكم والإدارة بإشارة واحدة تكفي وتفي. وهذه الأحزاب المغضوب عليها من معظم فئات المجتمع، تفعل ذلك انطلاقًا من قاعدة مذهبية ترفض التنازل والإزاحة أو التنحي عن المواقع التي تحصنت بها في أروقة الدولة الفاسدة بدعم من الجارة الشرقية وصمت مريب من الراعي السياسي الأمريكي والغرب المتفرّج وذلك تيمنًا بمقولة "أخذناها وبعد ما ننطيها"، ناسين أو متناسين أن السلطة لا تدوم لأحد. فلو دامت لغيرهم، ما آلتْ إليهم! 
هذه حال الدنيا. والعبرة فيمَن يعرف خشية الله في وطنه وشعبه ويعمل جاهدًا لخدمة الإنسان مواطنه، ويُشبع جوعانًا، ويسقي عطشانًا، ويأوي فقيرًا، ويزور مريضًا، ويكسو طفلاً، ويعزّي حزينًا ويحفظ هيبة البلاد ويطّوّر أحوال العباد ويرمّم المكسور ويشجع الفلاح على حراثة الأرض والصناعيّ على زيادة الإنتاج، ويؤمّن البلاد أرضًا وسماءً ومياهًا، ويعزّز من سيادتها، ويأمن على ثرواتها، ويحرس على مالها العالم من السرقة والنهب والتبذير. وهذا ما لم تقم به، بل فشلت في تحقيقه أحزابُ السلطة منذ 2003 ولغاية الساعة عندما جلست غير مصدّقة على عروشها وكراسيها بدعم من الغازي الأمريكي المتعجرف الذي سلّم البلاد للأغراب عنه وأدخلها في فوضى خلاقة لم تستطع الخروج منها لغاية الساعة. فهل من معتبر؟ وهل من تائب؟ وهل من محاسب لنفسه قبل غيره؟ وهل من حريص على وطن مفقود وضائع يطالب باستعادته ثوارُ الانتفاضة التشرينية الذين تتهمهم بعض أحزاب السلطة بالتخريب وتصفهم غيرُها بالمندسين وقيادات أخرى تدعو لوضع حدّ لثورتهم الباحثة عن وطن واتهام أصواتهم الوطنية بالمهازل؟
     هناك مَن يستعجل حصول انتخابات مبكرة بحسابات سياسية ومجتمعية شبه ضامنة بإبقاء الحكم وما فيه من مكاسب ومنافع ومناصب بأيادي أحزاب السلطة سيئة الصيت التي أتت على الأخضر واليابس وحصدت ما دخلَ خزينة الدولة من ريع بيع نفطه ومشتقاته وإبقاء بنيته التحتية الزراعية والصناعية رهنًا بنظام استهلاكيّ-استيراديّ ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. بل إنّ أحزابًا متنفذة وبإسنادٍ وحماية من جهات منفلتة تحتفظ بسلاح وسطوة خارج نظام الدولة تتولى مهمة هذه التجارة الاستهلاكية وتقف حائلاً ضدّ أية محاولة لنهوض القطاع الخاص الذي يرون فيه تهديدًا لمصالحها ومصالح أدواتها التي تسيطر بفعل نظام المحاصصة والهيمنة المذهبية على السلطة على مجمل النظام الاستيرادي لكلّ شيء. ناهيك عن سطوة جهات متنفذة تابعة لأحزاب السلطة على المنافذ الحدودية بكلّ أشكالها ومواقعها من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وهيمنة غيرها على مقتربات ونقاط استيرادية بهدف التحكم بما يدخل عبرها من موارد قد تضاهي موارد الريع النفطي بحسب خبراء ومراقبين ومحللين. وهذا ما يشير بشكل أو بآخر إلى تحايل أحزاب السلطة على الشعب المقهور والمغلوب على أمره عبر الإيحاء بنواياهم بإجراء الإصلاحات الموهومة، ومنها موافقتها على إجراء انتخابات مبكرة في ظلّ بقاء الظروف الحالية وسطوتها على أهمّ عوامل تحقيق النجاح فيها بفضل انتفاعها من المال العام والسلاح المنفلت والسلطة من دون نسيان دور المرجعية التي حذّرت في أوقات سابقت من خشية فقدان أصحاب المذهب للسلطة التي ماتزال تديرها بقوة النفوذ المذهبي وبدعم خارجي مشبوه، سواء من أمريكا غير المكترثة لما آلت إليه أحوال الشعب الكارثية أو الجارة الشرقية التي تستسيغ اللعبة مع غريمها الأمريكي وتدفع بتصفية حساباتها على الأرض العراقية وتراهن على بقاء أدواتها لفترة قادمة أخرى من دون تغيير في المنظومة وأدواتها. من هنا يرى البعض أن استعجال أحزاب السلطة بإجراء الانتخابات القادمة في 6 حزيران 2021 كما هو مقرّر، وفي ظلّ الظروف الراهنة التي تطبق فيها هذه الأحزاب على مقاليد الأمور، لن يكون نافعًا وإيجابيًا ما لم تتدارك قيادات التنسيقيات ومثقفو الأمة والنخب بعمومها، ما يحيط بالعملية السياسية برمتها من مخاطر بسبب تغوّل هذه الأحزاب وفروعها المنتجة حديثًا على مقاليد الحياة العامة وعدم بروز أحزاب وطنية منافسة أو تشكيلات موازية تأخذ على عاتقها مسؤولية التغيير الجذري المرتقب. ونحن نأمل ألاّ يقتضي مثل هذا التغيير استخدام العنف في تحقيقه.
إنتاج سلبيّ لأحزاب فرعية
لقد بدا واضحًا للعيان، ظهور أولى طلائع تشكيل أحزاب سياسية جديدة من إنتاج الأحزاب الإسلامية الفاشلة بهدف تضليل الراي العام والظهور بمظهر الإصلاح البعيد كلّ البعد عن مفاهيم بناء الدولة الحديثة التي يطالب بها عمومُ الشعب والتي أفرزتها أصوات الانتفاضة التشرينية حين نادى أبطالُها وثوارُها بأنهم يريدون وطنًا يحميهم وليس غولاً يتحكم بمصائرهم وينهب ثروات بلادهم ويسرق قوت الفقراء ويدمّر ما بنته مؤسساتُه السابقة وما أتى به النظام البائد من تطور وبناء في كلّ الميادين بعيدًا عن حسابات سياسية مليئة حقدًا وعداءً حين سعت وما تزال تسعى أحزاب السلطة الفاسدة منذ 17 سنة خلت، كي تطمس معالم الثقافة والتمدّن والتطور التي ميّزت العراق في عهد النظام البائد. ويكفي ترحّم قيادات وشخصيات سياسية وإدارية في الحكومات المتعاقبة لما تحقق في ذلك الزمن في حين عجزت قيادات البلاد منذ 2003 بإضافة ما يستدعي التفاخر به إلاّ في مشاريع نهب المال العام وإفراغ خزينة الدولة وسرقة موازناتها الانفجارية وضياع المليارات التي لو جرى استغلالها لصالح الوطن والمواطن لانقلبت أحوال البلاد والعباد إلى أفضل ما يكون.
    كما أنّ الملاحظ في هذه التشكيلة الجديدة من الأحزاب الفرعية المنبثقة عن الأحزاب التقليدية الفاشلة المغضوب عليها، قد أدخلت تحسينات شكلية بإقحام عناصر نسائية وشبابية من الجيل الثاني والثالث لتكون واجهة، القصد منها السعي لامتصاص الغضب الشعبي ضدّ الزعامات التقليدية الفاشلة التي كانت وماتزال تشكّل سبب الكارثة في بلوغ البلاد والعباد إلى هذه الأحوال السلبية بالخشية من اقترابها من شفير الإفلاس بحسب خبراء ومراقبين. فهذا ما تشير إليه مفردات وزارة المالية المضطرّة للزيادة في الاقتراض الداخلي والخارجي من أجل سداد مرتبات ومخصصات الموظفين الحكوميين، بمن فيهم آلاف الفضائيين والمزوّرين وأصحاب الدرجات الخاصة والسمة الجهادية والنضالية من الذين يغرفون من ميزانية الدولة بلا حساب ولا تخطيط ولا خشية، وسط تراجع مدخلات الريع النفطي وزيادة النفقات وعدم القدرة على إدارة ملفات الضرائب والجمارك والمنافذ الحدودية بسبب تواصل هيمنة العصابات والجماعات المسلحة والعشائر وأحزاب السلطة عبر أدواتها الحكومية الرسمية عليها.
إنّ الحسرة على ما يجري تكتنز القلوب وتستدعي حدّ الأسنان لغاية إزاحة المنظومة السياسية الحاكمة برمتها "شلع قلع"، ومن دون تمييز ولا استثناء. فكلّ الأحزاب التي دخلت العملية السياسية قد اقتطعت ما أمكنها من الكعكة وما تزال تقتنص الفرص لاستكمال النهب والسرقة واللصوصية. فكيف بها تقبل بمطالبات الشعب بتنحيها عن السلطة التي فشلت بكل المقاييس والمعايير بإدارتها وتوجيهها نحو الصالح العام الوطني؟ وهذا ممّا يستدعي وقفة عمومية، لدعم مطالب الثوار المطالبين برصّ الصفوف والعمل على إخراج أحزاب وطنية قوية موازية للأحزاب الحاكمة تكون منافسة ندّية لها في إثارة الرأي العام وحثّ فئات الشعب للاصطفاف إلى جانب مطالبه المشروعة باستعادة الوطن من براثن اللصوص والسرّاق ووقف مساعي أحزاب السلطة ومَن يقف مساندًا لها من مراجع دينية ومذهبية وسياسية فاسدة وكشفها أمام الراي العام وتسمية الأشياء بمسمياتها من دون مواربة ولا خشية ولا ألغاز. فالماضي الفاسد المدمّر لا بدّ أن يزول لتحلّ مقامَه وجوهٌ وطنية مشرقة يُشهد لها بالولاء للوطن، أرضًا وشعبًا وحضارة وثقافة وتربية ومجتمعًا وفكرًا ملهمًا ورؤية سديدة في النظر إلى المواطن، جوهر الحياة وصانع الحدث وهدف الوطن والإنسانية.




103
بايدن الرئيس 46 لأميركا، رؤى مستقبلية
لويس إقليمس
بغداد، في 20 تشرين ثاني 2020
بعد أن صار شبه مؤكد إعلان فوز المرشح الديمقراطي "جو بايدن" الرئيس 46 لأكبر قوة عالمية تحكم البشرية وتتحكم بمقدّرات الشعوب بقطبية واحدة لغاية الساعة، يترقب متنبئون بالمستقبل حصول هزّات سياسية وتغييرات في الخارطة الأمريكية قد تعيد فيها تداعيات انحلال دولة السوفيات العظمى في العقد الأخير من القرن المنصرم الذي ختمَ الألفية الثانية بتفكّك دوله وزوال دكتاتوريات لصيقة به. هكذا شاء أسيادُ العالم ترسيم قدرات الشعوب والدول بمقاسات لا تتعارض مع مصالحهم بل تتجاذبُ مع تطورات السياسة والاقتصاد والزمن الرقمي الناعم. ومع ذلك كله، فقد تخرج الأمور عن نصابها استثنائيًا حينما يطفح الكيل وتتفاقم شدّة التنافس الدولي لهاثًا وراء المصالح، وإنْ تعارض ذلك إجمالاً مع رغبة الأسياد وشركائهم في حقبة حرجة من تاريخ البشرية إثر تسيّد أميركا على العالم بعد تفكك المعسكر الاشتراكي من دون منافس. فتنبؤات قرّاء المستقبل تخبرنا بتغيرات قادمة لا مناص منها قد تكون هي السائدة في عالم المتغيرات السريع في مسارات مهمة من حياة البشر والأمم، في تحولات السياسة والاقتصاد والسلطة، وفي أشكالها ودروبها وأدواتها. لكنّ مثل هذه الفرضيات في التنبؤات الحاصلة، إنْ صحّ التعبير، تظلّ محلّ شؤمٍ حينًا، وتفاؤلٍ بمستقبلٍ أفضل حينًا آخر. وهي في كلّ الأحوال متراوحةً بين تفاؤل اليقين المفعم بالإيجابية وأشكال الشكّ الذي لا يخرج عن سلبيات الإحباط بسبب التراجع الحاصل في بناء عالمٍ على أسسٍ ترضي خليقة الله وعباده المقهورين وإرادة هذا الخالق الذي حيّرَ هؤلاء في طول صبره وأناته على البشر وأفعالهم السمجة بفعل فساد وفسق وشرور مَن يديرون دفة العالم وسياسة الشعوب والدول بلا رحمة ولا شفقة ولا غيرة ولا ضمير.
كلّ الدلائل تشير إلى أسرار قادمة قابلة التطبيق والحدوث في تحولاتها وتطوراتها في بلد "الكاوبوي" و"العم سام" الذي بإشارة منه كان العالمُ وقادتُه يتحركون مثل بيادق الشطرنج قدومًا وخروجًا من السلطة وتنفيذًا لأوامر الأسياد حسب الحاجة والرغبة وحصول الإرادة وفق المصالح الكبرى لهؤلاء الأسياد الذين مازلنا نشكّ بصحة نواياهم وحسن سلوكياتهم رغمًا عن إرادة الشعوب المغلوبة. ولا أعتقد أنّ ما يتمّ تسريبُه من معلومات وفرضيات وترشيحات لأحداث وتطورات، سواءً في وسائل الإعلام أو عبر تغريدات خاصة أو في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، يخرج عن سياق هذه الإرادة الشعبوية التي تقترن بكلّ تأكيد باستراتيجية شمولية تسعى لتجديد القائم من هياكل الأمس وفق متغيرات الساعة وشيوع نظام الرمز الرقمي المتنامي الذي سيؤطّرُ حياة البشر والأمم والدول في السنوات القادمات من حياة البشرية.
فيما يرى كثيرون أن حقبة انتخاب " جو بايدن" الحليم المسالم ظاهريًا، ستكون ساخنة بالأحداث بعد عبثية سلفه الجمهوري "دونالد ترامب" الذي سعى لتأسيس سياسة خاصة به عبر "النزعة الترامبية"، وبإمبراطوريته المالية والاقتصادية عبر ترسيخ هيكلية الفوضى بين الشعوب ودول العالم كي تبقى الأمة الأمريكية على رأس زعامة العالم بلا منافس وفق شعار "أميركا أولاً". وهذا ممّا أرهق سياسة الشعوب وخلق غضبًا مكنونًا مستترًا وغير مكشوف عند العديد من زعماء العالم، ومنهم بطبيعة الحال حلفاؤُه في أوربا السائرة في ركبها ومنافسوه الأنداد من دول الروس واليابان والصين الذين سيكون لهم شأنٌ في تسيير دفة العالم في السنوات القليلات القادمات، لا محالة، وخاصة التنين الصينيّ المتنامي.

"بايدن" في وسط النار
الرئيس الأمريكي القادم "جوزيف بايدن" المولود في 20 تشرين ثاني 1942، والذي سيحلُّ سيّدًا على البيت الأبيض، ليس نكرة ولا غريبًا ولا جاهلاً بمشاكل بلاده وسياستها الخارجية والداخلية. بل هو شخصٌ مخضرمٌ خبرَ السياسة والاقتصاد والقانون والدين والمجتمع والأسرة. وقد أمضى حقبة من تاريخه السياسي سيناتورًا ديمقراطيًا منذ 1973 وخاض غمار حياة سياسية صعبة ممّا أكسبه خبرة متمرسة بتنقله وعمله في لجان مختلفة في الكونغرس. هذا إلى جانب تأهله لقيادة متقدمة على مستوى الأمة الأمريكية حينما لازمَ الرئيس الديمقراطي "باراك أوباما" مثير الجدل، نائبًا فائزًا في انتخابات 2008، بفضل درايته في مجال السياسة الخارجية لبلاده وفي قضايا الدفاع عن الأمة الأمريكية بأسلوب المجاراة والتماهي والتغاضي عن سياسة بلدان حاولت تحاشي التعرّض لمخالب البيت الأبيض المؤذية. 
ما ينتظر الرئيس الفائز "بايدن " لن يكون سهلاً. فهو واقع في وسط نيران متأججة، داخليًا أولاً، من حيث التحديات التي مازالت تشكلها جائحة كورونا بسبب سياسة فتح أبواب الحياة مشرعة للحياة الطبيعية والتي سعت من ورائها انتشالَ النمو الاقتصادي العام المتهاوي ودعم الوضع المالي المتهالك بسبب العجز الذي ترزح تحته الحكومة الفدرالية نتيجة لتمويلها الواسع للشركات الخاسرة وتبنيها أشكال المساعدات من أجل انتشال القطاع الخاص ومساعدة المواطنين لمواصلة الحياة الطبيعية. فقد وضعت الخسائر الكبيرة في الأرواح التي أتت بها الجائحة، وتواصل تزايد الإصابات اليومية، وعدم الرسوّ لغاية الساعة إلى علاج ناجع، وانتظار التوافق على لقاح فعال يقي صحة المواطنين والأجيال القادمة، والمشاكل العرقية الأخيرة وما خلفته من اضطرابات داخلية وأعمال عنف مدمّرة، كلّ هذه وغيرها قد وضعت أميركا "الدولة العظمى" على المحكّ، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وطبقيًا وعرقيًا. وسوف يرث الرئيس الديمقراطي القادم هذه التركة الثقيلة التي توجب عليه التعامل معها بحذر وروية لكونها ستكون بمثابة الشوكة اللاسعة في جسم بلاده المترنحة في وحدتها وقوتها وأمنها واقتصادها وديمقراطيتها وسمعتها الدولية المتراجعة.
أما التحديات الخارجية، فهي لا تقلّ في خطورتها وأهميتها. فالعقد السياسي الذي يؤطر العلاقة القائمة منذ حين بين حلفاء أميركا من دول الاتحاد الأوربي، قد تكون له نتائج عكسية تصطدم مع رغبة الإدارة الجديدة إذا ما قرّر الأوربيون الخروج عن عصا الطاعة التي فرضتها إدارة البيت الأبيض الحالية. وفي ضوء هذا التطور، سيتحرك الأوربيون بحرية أوسع وفق شراكة أكثر معقولية واستقلالاً لأجل تقرير سياسة بلدانهم المهددة هي الأخرى بالتراجع بفعل أزمات عديدة متلاحقة، منها ما يتعلق بكيفية التعامل مع المشكلة الديمغرافية التي تؤرّق عموم هذه البلدان وتهدّد كيانها الغربي العلماني المتمدّن وتركيبتها "القومية" وأصولها المسيحية التي لا يمكن التغافل عن ترسيخها والحفاظ عليها من الاندثار بفعل العابثين بها بحجة تطبيق العلمانية والحفاظ على مبادئ حقوق الإنسان على حساب أصحاب الأصل والأرض والحضارة والتاريخ. وليس بأقلّ من هذه الأهمية، خروج الإدارة الأمريكية بقيادة الجمهوري الخاسر "ترامب"، عن الإجماع الدولي بصدد اتفاقات المناخ التي تبنتها باريس وما يستلزم منها من التزامات دولية لم ترق لإدارة الرئيس الأمريكي الخاسر. كما أضافت الانتخابات الأمريكية الأخيرة عبئًا آخر للإدارة القادمة متمثلاً بكيفية إدامة زخم الديمقراطية المهدَّدة والتي عرفتها الحكومات الفدرالية المتعاقبة وتسعى الإدارة الخاسرة لفرط عقدها واهتزازها بالأسلوب المتهالك الذي يطعن في شرعيتها وفي سلمية نقل السلطة لخلفه الرابح، من حيث المبدأ. إلاّ أللّهمّ لو شهدنا أعجوبة غير طبيعية تعكس الحال.
إلى جانب هذا كله، لا يمكن فصل ما يتبناه الرئيس الديمقراطي الفائز، وهو كاثوليكي المذهب، من أفكار ليبرالية تخص المجتمع الأمريكي، ومنها ما هو حديث الشارع الساخن. فما يؤمن به من قناعات دينية شخصية قد تتقاطع مع تماهيه مع فكر الشارع الليبرالي بخصوص موضوعين اجتماعيين يرفضهما معتقده الكاثوليكي، وهما يتعلقان بتوفر قناعة وافية لديه بموضوعة جواز المثليين وإجازة حرية الإجهاض. وهذان الموضوعان يرفضهما تمامًا المذهب الكاثوليكي. وفي حالة انسياقه لمثل هذه التشريعات الشاذة بدفع من الشارع الفوضوي والمنظمات والجهات التي تقف وراء مثل هذه المطالبات المشبوهة بحجة الانسجام مع الرغبات الطاغية بتبني الحريات الشخصية في كلّ شيء وأيّ شيء، فإنه سيكون لها انعكاس أخلاقيّ عامٌ على أدائه المجتمعي وسوف تطعن في صدقيته المعتقدية وفي إيمانه الذي يخفيه ظاهريًا.
سياسة مختلفة!
هناك مَن يترقب أيضًا، سياسة مختلفة في حالة دخول الديمقراطي "بايدن" للبيت الأبيض، تجاه مواضيع سياسية عامة تتعلق بسياسة أميركا تجاه دول كانت إدارة الجمهوري "ترامب" طالما تعدّها ضمن قائمة العصيان على أوامرها في مختلف دول القارات، ومنها على وجه التخصيص لا الحصر، إيران والمكسيك وكوبا والصين وروسيا. وما على القادم الجديد للبيت البيضاوي إلاّ أن يحتكم إلى رجاحة العقل والحكمة والنظرة الإنسانية للأشياء والأحداث وفق منظور الاحترام الندّي المتبادل مع شعوب ودول العالم كي يستحق تقدير هذه جميعًا ويتفاعل مع القوى الخيّرة من أجل بناء عالمٍ متفاهم ومتحضّر قائم على تبادل المنفعة والخير العام للجميع. هذا إذا أراد حقًا تغيير النظرة السلبية والسوداوية تجاه بلاده التي تسعى للسطوة، بل تتسيّد فعليًا حركة العالم بقطبية سالبة طالما أثارت اشمئزاز الشعوب المقهورة التي تئنّ تحت نير مبدأ المصلحة العليا للقطب الواحد وتضرب مصالح غيرها عرض الحائط في الوقت والظرف الذي تريده هي.
وبالرغم من إعلان المرشح الفائز عن إجراء تغييرات في سياسة بلاده وإشارته إلى عدم استنساخه لسياسة سلفه الديمقراطي أوباما في إدارته القادمة، إلاّ أنّ مراقبين يرون بغير ذلك. فالسياسة الأمريكية العامة العليا تُرسم من خلف الكواليس ووفق سياقات مدروسة واستراتيجية كما هو معروف. ومن ثمَّ قد لا يشكل الرئيس سوى حلقة من حلقات هذه الإدارة مع احتفاظه بالزرّ النووي كامتيازٍ رئاسيّ في أحسن الأحوال، ومنه إعلان شنّ الحروب الخارجية وغزو البلدان وفرض العقوبات على أقراد ومؤسسات ودول. أما نحن في العراق، فيكفينا أن نتوقع الأسوأ. فالرئيس المرتقب سيظلّ أسير سياسة بلاده العليا في ترك الحبل على الغارب في إدامة هوس السلطة بأيدي أحزاب المحاصصة لتكملَ ما أكلته من حرث البلاد وتنهي وجودَه في حالة بقاء ذات الوجوه وتسلّط ذات الأحزاب بأدواتها الفاسدة واللصوصية والترهيبية للقضاء على ما تبقى من حضارته وثرواته وطيّ صفحة مكوّناته الأصيلة التي تتزايد هجرتُها بسبب توالي تردّي الأحوال وعدم تعويض ضحاياها بعكس ما حصل ويحصل لأتباع المثلث الحاكم الفاسد. فلا فرق بين رئيس جمهوري أو ديمقراطي. فالاثنان سيّانِ لنا بإبقاء البلاد تابعة خانعة خاضعة لسطوة الجارة الشرقية وفريسة سهلة لكلّ مَن يسيلُ لعابُه للاغتناء على حساب الوطن والشعب.
.

104
الكنيسة وحكمُ الديموغرافيا المتغيرة
لويس إقليمس
بغداد، في 2 أيلول 2020
خبراء البيئة والديمغرافيا في الغرب يحذرون من عواقب التزايد المفرط المطّرد في عدد سكان العالم بلا حساب ولا حدود، لما قد تشكله مثل هذه الزيادة من تفاقم مشكلات كثيرة على مصير الأرض والمجتمعات. ومن هنا دعوة البعض لوضع حدود للتكاثر السكاني على الكرة الأرضية. فحين تتجاوز الزيادة آفاق الانتاج وما تدرّه الأرض من خيرات، فتلك مشكلة تُدخل العالم ومَن يسوسُه في إنذار وأزمة بشأن ما يمكن القيام به من إجراءات وتدابير لسدّ سلّة الغذاء التي يضربُها الاختلال في تلبية الاحتياجات والطلبات. ولو حصل مثل هذا الاختلال في الناتج والطلب من دون تحقيق شيء من التوزان في الحالتين، فهذا بكلّ تأكيد ستكون له آثارٌ وخيمة على إدارة البلدان وتلبية حاجات مواطنيها، ومن ثمّ حصول اختلال في التوازنات الدولية بين الطلب المتزايد والعرض القاصر.
هناك مَن يرى في برامج الانفجار السكاني في بعض الدول النامية عائقًا حقيقيًا أمام برامج التنمية التي تخرج عن نطاق قدراتها في توفير الحاجة لإدامة الحياة ومنها بطبيعة الحال حصول قصورٍ في توفير البنى التحتية التي تتعاظمُ شكلاً وكمّا ونوعًا. يواجه مثل هذه المحاذير أقوالٌ طوباوية واعتباطية بقدرة السماء على إعالة خليقة الله وتأمين عيشها من فضلات الأرض واستغلالها بأفضل السبل والوسائل العلمية والتقنية المتاحة والتي تتطور مع تقدّم العلوم والتكنلوجيا. وهذا في نظر هؤلاء المنظرين، كفيلٌ بتأمين ما تحتاجه البشرية من سلّة غذائية ووسائل أساسية تقيها عيشها وتضمن قوت حياتها. وليس من شكّ في تبنّي مثل هذه الأفكار البسيطة والساذجة في جزئيات منها من قبل جهات تحملُ مفاهيم دينية واعتبارات كهنوتية في أغلبها، وذلك اعتمادًا على قدرة الخالق برعاية خليقته تمامًا كما "يقوت ربُّ السماوات طيورَ السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى الأهراء"، كما يرد في انجيل متى (متى6:26).
ردّا على آراء الفريقين المتقاطعين في وجهات النظر، لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار أيضًا، ما تتعرّض له شعوب العالم من ويلات وحروب وكوارث طبيعية وأخرى ليست في الحسبان يُضمرها الزمن الصعب ويلفها الغموض والتي من شأنها المساهمة في الحدّ من التزايد السكاني الانفجاري بسبب ما تسببُه هذه النكبات بمجملها من تناقص في أعداد البشر حينما تكتسح آثارُها شعوبَ الأرض لأيّ من الأسباب، طبيعية كانت أم بفعل البشر. فالتاريخ كفيل بنقل صور مرعبة لتناقص سكان العالم حين مهاجمة الأوبئة الفتاكة للبشر مثلاً، كما حصل في سابق السنين وعبر توالي القرون من مآسٍ بسبب أوبئة متوطنة ضربت دولاُ عديدة، مثل الطاعون والكوليرا والجدري والملاريا والحصبة والإيدز وأشكال الحمّى والأنفلونزا والالتهابات البشرية والحيوانية وأمراض غريبة أحدثت أعدادًا كبيرة من الخسائر البشرية. ولم يخلُ العالم من مثل هذه الأوبئة حتى في عصرنا الحالي، حيث يجتاح وباء فايروس كورونا هذه الأيام معظم بلدان العالم ليوقع ضحايا بشرية، وإنْ ليست بذات الأهمية التي أوقعت أوبئة سابقة آلاف البشر بل الملايين منهم. ومثلُها ما حصل في حروب دامية بين الأمم والدول، وآخرها مآسي الحربين الكونيتين في القرن المنصرم والحروب الحالية في مناطق عديدة من العالم.
بالمجمل، ينبغي أن يدرك قادة العالم وساستُه ما يستدعي اتخاذهُ من إجراءات تحوطية وإدارية فاعلة للحفاظ على البيئة والنظم الإيكولوجية التي من دونها، يحصل خرقٌ في التوازن العام في الحياة. ولعلَّ من الدلائل القائمة ما يشيرُ حقًا إلى مستقبل غامض وغائمٍ لكوكب الأرض، ما يشكلُ خطرًا كبيرًا على جميع شعوب الأرض من دون استثناء من حيث فقدان القدرة على الإنتاج وحصول أزمات اقتصادية حادة من شأنها التأثير على طبيعة حياة البشر ووسائل كسب قوتهم اليومي بيسر ودون معاناة.
أشير في هذه السطور إلى مقالة جديرة بالاهتمام نشرها واحد من ألمع علماء الاجتماع واللاهوتيين الاقتصاديين "دومنيك غرينر" على إحدى صفحات جريدة لاكروا الفرنسية بتاريخ 15 تشرين ثاني 2017، أشار فيها إلى تحذير صادر من أكثر من 15000 عالم من 184 بلد التقوا في مؤتمر بتاريخ 13 تشرين ثاني من العام 2017 لمناقشة التطورات المناخية والنظم البيئية وآثار الزيادات العشوائية لسكان الأرض. وقد أوصى هؤلاء الباحثون بشكل خاص في إعلانهم النهائي بضرورة الحد من النمو السكاني غير الطبيعي في البلدان النامية، واستنفار أجهزة الدول والمنظمات عبر تعميمات وأدوات توعوية وتثقيفية تتطرّق مباشرة لبرامج معدَّة حول تنظيم الأسرة وتعليم المرأة، لما للموضوع من حساسية مجتمعية وحميمية في جزئيات عديدة منه.

الكنيسة الكاثوليكية: الغاية لا تبرّر الوسيلة
عبّرت الكنيسة الكاثوليكية في مناسبات عديدة عن حرصها بضرورة تنظيم حياة البشرية على أكمل وجه من دون أن تشكّل الأزمات الدولية المتنوعة مخاطر على الجنس البشري وقدرة البشر على إدامة زخم الحياة والحفاظ على بيئة آمنة مهما كانت التحديات. ولكون الموضوع فيه الكثير من أوجه الحساسية ولعلاقته المباشرة او غير المباشرة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية في حياة الناس على حدٍّ سواء، فقد راعت الكنيسة الكاثوليكية طيلة مسيرتها جميع هذه المسائل كما راجعت الظروف المرافقة وكذلك فعلَ التوتر الممكن حصولُه بخصوص مسألة إحداث تغيير في الخصائص الديمغرافية للبشرية. كما أبدت مراعاة متوازنة في مسألة تعزيز قدرات الأفراد واستقلاليتهم في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب من دون أن يشكل مثل هذا التحدّي توترًا في الأداء والنتيجة، مع إدراكها الكلّي بكون الزيادة المتفاقمة في عدد سكان العالم ليست هي الوحيدة من الأسباب التي تؤدي للاختلال في شكل التوازن وأدواته. ويمكن للمتابع أن يطّلع على المفاهيم والأفكار المطروحة من جانب اللاهوتيين فيها منذ الخمسينات من القرن المنصرم، سواءً في تعاليمها أو في منشورات رجالاتها المؤتمنين. وهذا ما نستشفُه من مفردات التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية في العدد 2402 "في البدء أوكل الله الأرض ومواردها إلى إدارة مُشتركة تضطلع بها البشريّة لكي تعتني بها". فالغاية من خلق البشرية هي للتعارف والعيش المشترك والتكاثر في حديقة الله الكبرى والعيش من ثمار الأرض بالتكاتف والتعاون المثمر، من دون الانزلاق وراء دعوات للاستغلال غير المبرّر والحدّ من النسل البشري بحجة عدم كفاية ثمار الأرض.
في متابعة استقرائية لآراء بعض رجالات الكنيسة الغربية في أعقاب ملتقى 2017، يمكننا الوقوف على رأي وسطيّ مقبول في أوساط الكنيسة الكاثوليكية، تارة بمراعاة وجهة نظر منظّرين يخشون من اختلال التوازن الديمغرافي في عالمٍ متلاطم بالمشاكل والأزمات، وبين فئة أخرى ترى في إدارة سياسات البلدان وفي النظام العالمي ذاته ثغرات وأخطاء يمكن تفاديها فيما لو تأرجحت الحكمة الحسنة والنية الطيبة والإرادة الصالحة لدى بني البشر. حينئذٍ يمكن للكوكب الأرضي أن يسير في طريق الأمان وبالتفاعل والتآزر والتعاون بدل إدارة البشر مثل القطيع الذي يوجهه الرعاة والزعماء بحسب المزاج والأهواء والرغبات عبر أنظمة طاغية لا تمتّ للإنسانية ولا لخليقة الله بصلة. وهذا بطبيعة الحال، من دون أن يغفل العالم وقادتُه الاستخدامَ الأفضل للقدرات البشرية في تعزيز التعاون وتطويع الطاقات لخدمة البشرية بالطريقة التي تقبلُها السماء عبر تحقيق العدل والمساواة والشراكة في تقاسم الخيرات الأرضية والموارد البشرية بما يمليه الضمير الإنساني الحيّ. وهنا، تسقط جميعُ التوقعات والنظريات التي لا تخفي خشيتَها من تفاقم نسبة السكان في الأرض وتأثير ذلك على مسار حياة الشعوب والدول. فالمشكلة لم تعد مجرد مشكلة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية بحتة. بل تتعدى بكونها أخذت آفاقًا جديدة في عالم اليوم من حيث تحوّلها إلى مشكلة أخلاقية بتأثير الجانب الديني المعتدل المجبول بأعمال التعاون وأدوات التفاهم ومفهوم التشاركية التضامنية بين شعوب الأرض من أجل خلق عالمٍ خالٍ من الظلم والاستغلال ويتطلع نحو مساواة اجتماعية لا تقبل التمييز والقهر والتسلط. ومن واجب البشرية وزعماء الدول العمل على تكثير الثمار الطيبة في الأرض والتشجيع لتبادل المسؤولية بين البشرية وبين الطبيعة للحفاظ على قدرة هذه الأخيرة في توفير القوت الآدمي لجميع شعوب الأرض بالتكاتف والتآزر والتعاون المشترك.
من هنا يمكن أن يدخل الوازع الديني بكلّ قوته وتأثيره ليجعل واقع الحياة البشرية أكثر حساسية من حيث الحاجة الجامعة إلى تعاون مثمر وصحيح بين الأمم والدول وشعوب الأرض على قاعدة تقاسم الموارد. ولعلّ مِن بين مَن تطرق إلى هذا الشأن من جانب الكنيسة الكاثوليكية هو رئيس أساقفة مدينة ليون الفرنسية (1937-1965) الكاردينال "جيرليير- Gerlier"، رجل المرحلة في حينها والذي أيّد بكلّ جرأة وصراحة ضرورة العمل بمبدأ التشاركية في الثروات الأرضية بقوله: "من هذا المنظور نفهم أنَّ الثروة صُنعت للإنسان وليس الإنسان من أجل الثروة، ويتوجب على البعض معرفة كيفية التجرد قليلاً والتضحية بالفائض لديهم من أجل توفير الحدّ الأدنى الضروري منها للغير المحتاج. هذا هو درس الإنجيل".
في ضوء الرؤية الواضحة لمثل هذه المفاهيم الإنسانية، لا يمكن لأيّ دين أو عقيدة سويّة القبول بزيادة ثراء الأثرياء أضعافًا مضاعفة مقابل زيادة نسبة الفقر والفقراء إلى مستويات قاتلة لا تصلح للإنسانية في عالم اليوم المتحضّر. كما لا يمكن القبول باستغلال الدول الغنية لنظيراتها من الدول المتخلّفة التي ترزح تحت نير عبودية الأولى التي تحلبُها بشتى الوسائل والطرق من دون أن تضع لها خارطة طريق للصحوة من تخلّفها والشفاء من أوجاعها والتخلّص من فقرها بالسيادة على مواردها واستغلال خيرات أرضها بنفسها وبجهود مواطنيها. وهذا يفسّرُ أيضًا موقفًا صائبًا آخر ينبغي أن تقوم عليه الاستراتيجية الدولية إذا ما صلحت نوايا الكبار الذين يُحكمون سطوتَهم على اقتصاديات العالم وسياسات الدول من خلف الجدران. فحين يكون السلام والتعاون والتفاهم بين الشعوب والأمم، تسقط كلّ التحديات الاستكبارية للزعماء الطرشان الذين يرفضون صوت الحق الصارخ القادم من الشعوب المغلوبة المستغَلَّة (بفتح الغاء) من قبل الدول المستغِلّة (بكسر الغاء) من دون وجه حق والذي بسببه تقوم الحروب ويهدّد شبحُها دولاً أخرى تنتظر مصيرها من حروب لها بداية وتُجهل نهايتُها.
للفاتيكان وجهة نظر
يأتي اهتمام الفاتيكان بمبادئ العدل والمساواة بين شعوب الأرض في أولى الأولويات التي تتبناها الكنيسة عمومًا، والكنيسة الكاثوليكية بصورة خاصة، متمثلة بما يصدر عن لسان البابا نفسه من تعاليم وتصريحات مباشرة أو من الدوائر التابعة له. كان البابا صريحًا في تعليمه الاسبوعي ليوم الأربعاء 26 من آب 2020، والذي بُثَّ من مكتبة القصر الرسولي  بدلًا من لقائه التقليدي مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس بسبب جائحة كورونا. فقد ندّد البابا بما أسماه "فايروس الاقتصاد المريض"، مشيرًا إل أن هذا "الفايروس يأتي من اقتصاد مريض تهيمن عليه عدم مساواة اجتماعية ويديره أشخاصٌ لا تهمّمهم إلاّ الحسابات". ويرى البابا أنه في الوقت الذي بإمكان بعض الدول التعاملَ مع آثار هذاالفايروس القاتل بإيجابية وقدرة على تجاوز هذه الآثار، فإنّه بالمقابل تبقى دولٌ ضعيفة أخرى رهن السمتقبل وما يمكن أن يتمخض عنه من نتائج، سلبًا أم إيجابًا. وفي رأي بابا الفاتيكان، أنّ " أعراض عدم المساواة هذه تكشف مرضًا اجتماعيًا بسبب النمو الاقتصادي غير العادل الذي يتجاهل القيم الإنسانية الأساسية، حيث قلّة من الإغنياء يملكون أكثر ممّا تملكه بقية البشر. وهذا ظلمٌ صارخٌ إلى السماء". ولعلّ ممّا قاله ايضًا في سياق ما تعانيه البشرية والعديد من دول العالم النامي الغارق في الفقر والتخلّف داعيًا العالم وذوي الإرادة الطيبة إلى العمل بمبدأ شمولية الأرض وفضيلة الرجاء: " علينا جميعًا أن نعمل في الرجاء بأن نخلق من جديد عالمًا أكثر صحة وإنصافًا"، مذكرًا بما أسماه تصميم الخليقة ليكون في خدمة جميع شعوب الأرض وسكانها. وقد أعاد إلى الأذهان، ما ورد في الكتاب المقدس في عهده القديم، من أنّ الله الخالق قد أتاح للبشرية فرصة إخضاع الأرض باسمه وزراعتها والاعتناء بها كحديقة عامة للجميع للحفاظ على هذه الأرض "العطيّة" منه تعالى والتمتع ببيئة نظيفة تخدم الكلّ. وهذا يتطلب من الجميع حماية هذه العطيّة الكبيرة وصيانتها كي تأتي بثمار أكثر وتديم تواصل البشرية ضمن الرجاء بالله ومحبة الآخر وبموجب معتقد كلّ شعب من دون تقاطع ولا تحارب ولا تنافس إلاّ لما فيه خير البشرية وشعوب البلدان كلّ بحسب اجتهادها وجهودها وأتعابها وليس بصيغة التملّك الظالم وهوس السطوة غير المقبولة.
قصارى القول، ما يهدّد البشرية هذه الأيام، ليس بفعل الزيادة السكانية الانفجارية فحسب، بل فيما يبدو للجميع فضيحة مبدأ استغلال الشعوب ومن ثمّ الفجوة القائمة في واقع حال عدم المساواة بين دول الكرة الأرضية التي تزداد هوتُها مع زيادة أطماع "الأسياد" وتهاون الذيول المقصرّين بحق شعوبهم وأوطانهم بسبب بيعهم إياها ب"ثلاثين من الفضّة:، تمامًا كما فعلها "يهوذا" الذي باع سيَده لأزلام رؤساء كهنة اليهود ليصلبوه ويميتوه شرّ ميتة قبل أكثر من ألفي عام خلت. دروسٌ بليغة يسوقُها التاريخ وابطالُه ممّن كانت لهم بصمات في تنوير العامة وفتح الطريق أمام اكتشاف زيف ادّعاء الزعماء والرؤساء وسادة العالم. فليس مقبولاً أن يُجعل من الإنسان، خليقةِ الله الحسنة والجميلة، عبدًا للمال وقوته وجبروتِ مَن يتولّون إدارته بغير عدل وإنصاف، بل ينبغي أن يكون الإنتاجُ من الأرض في كلّ بقاع العالم في خدمة الإنسان وحاجاته الإنسانية. فيما يعمل التفاوت الاقتصادي بين الشعوب والمجتمعات والدول إلى خلق هوّة سحيقة فيما بينها، بل إنه يساهم في تمزيق النسيج الاجتماعي لهذه الأخيرة في حالة خروجه عن السيطرة.
    من هنا، لا بدّ أن يكون للأديان السويّة الباحثة عن خدمة الإنسان وتنمية الإنسانية، رؤية واضحة في معالجة حاجات الكائن البشري ومشاكله وتسهيل متطلبات حياته. وما تفعله الكنيسة الكاثوليكية في هذه الظروف الصعبة عبر نشاط رئيسها الأعلى، الرمز الديني والإنساني الجامع لكلمة الحق والصوت الصارخ في البرّية، يدخل ضمن هذه الخدمة الإنسانية والأخلاقية في إطار مفهوم التقارب بين الشعوب وإيجاد الحلول في المسائل الديمغرافية التي لا تتقاطع مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية في مسايرة الحاجات اليومية وتلبية الضرورات المعاصرة من دون القفز على المبادئ الإنسانية العامة وتبرير الوسيلة لتحقيق هدف أو غاية معيّنة. فالغاية عندها لا تبرّرُ الوسيلة، ولكن من دون تجاهل بلورة رؤية معاصرة تأوينية أكثر نضجًا تسلّمُ بإمكانية التنسيق في دمج ٍسلسٍ بين الأخلاقيات الأسرية والجنسية مع الأخلاقيات الاجتماعية والاقتصادية التي لا تخرج عن سواء السبيل، بل تنحصر ضمن إطار القيم العليا للإنسانية وقوانين السماء.


105
أوربا في مواجهة الإرهاب الجهادي المتنامي
لويس إقليمس
بغداد، في 4 تشرين ثاني 2020
بعد أن "وقعت الفأس في الرأس"، ولم يعد أمام دول الغرب المحسوبة خطأً على المسيحية "الكافرة" بحسب تأويلات صاخبة ومغرضة لفئة ضالة في صفوف الإسلام السياسي المتنامي والإخوانيّ منه بصورة أخصّ بغير حق ولا منطق ولا حكمة، فإنه لم تعد تنفع أية لحظة ندم ولا حسرة على سياسة التساهل والتسامح والتراخي والتغاضي التي سلكتها أوربا عمومًا بهدف منح فرصة بعد أخرى لسياسة الاندماج المجتمعي للقادمين الجدد الفارين من هول وظلم وتعاسة بلدانهم بقصد العيش بكرامة وحرية وأمان في صفوف هذه القارة المتمدنة، كما توصي به شرعة حقوق الإنسان. كما من المؤسف حقًا، أن تخفق سياسة دول الاتحاد الأوربي المتسامحة حدّ الإنسانية في تحقيق استراتيجيتها القومية الواسعة بتغيير سلوكيات مَن قصدَها لينعم بنعيم الحياة ورفاهتها وقدسيتها عبر خلق مجتمعات مندمجة متضامنة تؤمن بالمبادئ العليا لهذه الدول ولا تخرج عن جادتها، سيّما وأن معظم القادمين الجدد إليها قد خاضوا تجربة بل تجارب صعبة وشاقة وقاتلة في أوطانهم التي كرهت بقاءَهم مواطنين بكرامة وشرف وعزة النفس التي افتقدوها فيها. والسؤال المطروح بالرغم ممّا حصل من ردود فعل غير منضبطة بعد حادثة الرسومات وإساءة فهم الخطاب المنسوب لأعلى سلطة في فرنسا: هل بهذه السلوكيات النافرة الشاذة الخارجة عن الأخلاق الإنسانية والناكرة الجميل تُجازى دول الغرب التي فتحت أبوابها أمام المطرودين والمكرهين والهاربين من نيران بلدانهم ومظالم زعاماتهم وفساد أحزابهم ليعمّوا على الطيبين من أترابهم وبني أوطانهم ممّن وجدوا في هذا الحضن الدافئ خيمة أمينة ووارفة لهم ولأسرهم وأحبائهم وسط مجتمعات احتضنتهم بمحبة ورحابة صدر؟ فالجميع في حيرة بل في صدمة يحبسون الأنفاس لما حصل ويحصل بعد سلسلة العمليات الإرهابية التي طالت دولاً عدة، بما فيها فرنسا والنمسا مؤخرًا، وقبلها ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وبلجيكا وغيرها من دول الغرب الأوربي.
إذن، ليست الهجمة الأولى من موجة الإرهاب التي تضرب هذه القارة، سيّما بوجود نوايا خبيثة لجهات دولية مرتبطة بتنظيمات إرهابية تقودها زعامات إخوانية في المنطقة تحدثت صراحة عن غزو إسلاميّ مخطَّط له للقارة العجوز من خلال زيادة أفواج المهاجرين بطريقة غير شرعية وبفعل التكاثر السكاني غير المبرمج وغير المحدود للجاليات الإسلامية في عموم أوربا. وهذا ما خلق بيئة حاضنة لأشكال أدوات الإرهاب والتطرف التي تتصرف وتتحرك وفق منظور أيديولوجي بحت تديره مافيات لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بقيادات إسلامية أخذت على عاتقها تحقيق هذه الخطة الجهنمية بفعل توفر الأموال المهربة وعمليات غسيل الأموال عبر منظمات وجمعيات عديدة ظاهرُها خيرية غير ربحية وباطنها مدسوسة تسعى للسطو على ممتلكات وعقارات وشراء ذمم بهدف إيجاد موطئ قدم صلد وتحقيق "ضربة المعلّم" بعد انتفاء الحاجة لسياسة "التقية" المتبعة في مثل هذه الظروف المتلبسة.
منهاج لمكافحة الإرهاب
في 2005، كانت دول الاتحاد الأوربي قد وضعت لها منهاجًا لمكافحة الإرهاب بصورة مجتمعة من دون أن تنسى مبدأ التسامح في إدارة هذه الاستراتيجية، فأعطت لها الأولوية لضمان سلامة دولها وحفظ أراضيها من سوء التصرف القادم المتوقع من فئات ضالة من صنف هذا النفر غير المنضبط والمرتبط بأيديولوجيا سوداء مبطنة. ومن المعلوم أنّ دول الاتحاد تديم سياسة تبادل المعلومات بشكلٍ دوريّ ضمن مراجعة سياساتها وإجراءاتها التي تتطلب متابعة مستمرة لهذا الملف الأمني الخطير. وحينها ارتكزت تلك الاستراتيجية على أربع ركائز بحسب مصدر في المجلس الأوربي، وهي تتعلق:
-   أولاً: اتخاذ ما يلزم من إجراءات "الوقاية" من الأعمال الإرهابية عبر معالجة الظروف والأسباب التي أسهمت بخلق بيئة التطرف والوسائل المتخذة لإنجاح مهمة تجنيد الشباب في صفوف الإرهاب وارتباطهم بتنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعش وما سواها، بوسائل مباشرة أو باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي حققت الغاية بدرجات كبيرة.
-   ثانيًا: توفير "الحماية" المناسبة للمواطن والمؤسسات العامة والخاصة واتخاذ الحيطة والحذر من احتمالية التعرض لعمليات إرهابية في الداخل مع تعزيز الإجراءات التي تتطلبها سلامةُ أراضي دول الاتحاد الأوربي وحدودها ومتابعة تحركات الأفراد القادمين والمغادرين وفق بيانات متبادلة بينها. وهذا ما دعا العديد من دول "الشنغن" مؤخرًا لمراجعة جادّة تقويمية لقوانين الهجرة والسفر بهدف ضبط الحدود خوفًا من اختراقها وإساءة استغلالها.
-   ثالثًا: نالت سياسة "الملاحقة والمتابعة" أهميتها في خطط دول الاتحاد بعدم التهاون بتقديم المخالفين والإرهابيين إلى العدالة لنيل ما يستحقونه لقاء أعمالهم التخريبية والإرهابية والإجرامية. وقد تطلبت هذه الفقرة تعزيز القدرات الوطنية لكلّ دولة وتبادل البيانات والمعلومات حول تحركات المشكوك فيهم من أفراد ومنظمات وحصر نياتهم في عقولهم المريضة وعدم إتاحة الفرصة لهم لتحقيق مآربهم الخسيسة وحرمانهم من أيّ دعم مفترض أو محتمل بضمنها عمليات غسيل الأموال المتنامية. وهذا غير ممكن التحقيق إلاّ باتخاذ إجراءات جماعية حاسمة لا يُسمح فيها لأوبة دولة عضو في الاتحاد الأوربي للخروج عن الإجماع الأوربي.
-   رابعًا: أما الركيزة الأخرى فقد اتخذت من قيام "ردود أفعال" فورية لمعالجة الأحداث الجرمية الآنية استعدادًا لعواقب اية هجمات محتملة وإدارتها جمعيًا وفق المعطيات المتداولة بين دول الاتحاد عبر تنسيق محكم، ومراجعة مثل هذه الإجراءات كلّما استجدّ جديد.
تنسيق وحوار
ممّا لا شكّ فيه، أنّ أمنَ دول الاتحاد الأوربي واستقرارها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بإمكانية التنسيق المتلازم فيما بينها من حيث تبادل المعلومات والبيانات والتحركات المشبوهة على مستوى الدول منفردة ومجتمعة، ناهيك عن ضرورة التنسيق مع الشركاء الدوليين الآخرين على مستوى المنظمات والدول والأفراد والوكلاء على السواء. وقد تطلبت مثل هذه الأعمال الوقائية قيام حوارات وتكثيف لقاءات لأجل إحكام السيطرة على منابع الإرهاب قدر المستطاع بالرغم من بروز ثغرات غاية في الأهمية غفلت عنها خططُ الاتحاد، منها التساهل في معالجة حوادث إرهابية خطيرة حصلت في حقب متباعدة بحجة التسامح والتغاضي لأسباب وضعية أو آنية بقيت طيّ الكتمان. ومن الأسباب التي فاقمت من فشل الإجراءات الأمنية في عموم دول أوربا، يأتي الفهم غير الصحيح من جانب دول الاتحاد وحكوماته لنوايا خلايا الإرهاب وتحركات المنخرطين فيه وأفكارهم ومعهم الجهات التي تمولهم أو تقف داعمةً لأعمالهم وتخرّصاتهم وتحريضاتهم وتحركاتهم في ظلّ المراقبة الضعيفة المشروطة وغير الجادة من جانب الجهات الأمنية. وكذلك تقليل هذه الأخيرة من قدرة هذه الخلايا على إلحاق الأذى في الأراضي التي اختاروها لتكون حرثًا خصبًا لأعمالهم المشبوهة. كما يقف الجهل المحكم حتى الغباء بشأن حيثيات وخلفيات القادمين الجدد وأشكال اللاجئين الشرعيين وغير الشرعيين وما يحمله هؤلاء من أفكار دخيلة منغلقة متخلفة حتى التشدّد في الكثير من الأحيان على المجتمعات الغربية المنفتحة ممّا يزيد من صعوبة اندماجهم فيها. وهذا من ضمن الأسباب النفسية التي تنمي دوافع الغيرة الدينية والعرقية عندما يفشل القادم الجديد بالاندماج في المجتمع الجديد لشعوره دومًا بالنقص الحادّ في التماهي والانخراط العفوي مع الواقع الجديد وتقليد الصورة الجديدة التي عليه التوافق معها والعيش ضمن سلوكها رغمًا عنه.
ومن الملاحظ أنه بالرغم من الاتفاقيات الدولية التي تم التوصل إليها مع عموم المجتمع الدولي  عبر الحوارات واللقاءات والاجتماعات الأمنية التي شكلت نواة لتلك الاتفاقيات، ومنها اتفاقية لشبونة لعام 2007، وإعلان 12 شباط 2015  للمجلس الأوربي وغيرها، والاتفاقية مع الولايات المتحدة، إلاّ أنه اتضح بما لا يقبل الشك هشاشتها وعدم جدواها الوافي من حيث التطبيق للأسباب التي ذكرناها في أعلاه، وكذلك بسبب التساهل غير الاعتيادي وغير المبرّر الذي أبدته دولٌ منفردة لقناعاتها بالثقة التي أولتها للجماعات القادمة من خلف البحار من دون تدقيق في النوايا والأغراض والدوافع، عادّة جميع المهاجرين من القادمين إليها بذات المستوى من الثقافة والاستعداد لبدء حياة جديدة تفصلهم عن واقعهم المنغلق السابق الذي ذاقوا منه الأمرّين في بلدانهم عندما رفضتهم حكوماتُهم وصفقت لمغادرتهم وعيشهم في بلدان الاغتراب. صحيح أنّ نوايا الاتحاد الأوربي للعمل بالشراكة والتنسيق مع مختلف الدول والمنظمات المعنية تصبّ في سعيها من أجل بناء مجتمعات متكافلة متفاهمة متسامحة، إلاّ أنها أغفلت إحدى أهمّ الحلقات التي من شأنها تعزيز هوية سكانها الأصليين وحثهم للتجذّر في بلدانهم عبر تكاثر مجتمعاتهم وتشجيع الإنجاب وتسهيل هذه الضرورة بغية إدامة واستمرار دماء شعوبهم وعدم الاعتماد على استيراد أقوامٍ دون تدقيق وتحليل لبيانات هؤلاء ومن دون التأكد من إمكانية تحقيق اندماجهم ضمن المجتمعات الجديدة، ومن ثمّ التعاطي مع السكان الأصليين بروح الشعب الواحد الذي يضمن التفاعل الصحيح مع المبادئ العلمانية التي تنادي بها أوربا. وقد بلغت المشكلة أوجَها بخروج جماعات راديكالية عن هذه المبادئ وتكفيرها علنًا للحكومات الغربية التي أوت أفرادها وقدمت لهم المأوى والمال والدعم المادي والمعنوي دون أن تحصل هذه الحكومات من هؤلاء على ضمان احترام المبادئ التي قامت عليها والقوانين التي تسنّها لإدامة مجتمعاتها وإضفاء سمة التسامح والتضامن والاندماج المطلوبة على وجودها ضمن هذه الأراضي. وهذا ممّا كان له الأثر الواضح والمؤلم على باقي المهاجرين الذين وجدوا في أجواء البلدان العلمانية الغربية أفضل مأوى لحياتهم التعيسة في بلدانهم الأصلية التي هجروها قسرًا وبلا عودة، خوفًا أو تهديدًا أو هربًا من سوء الأقدار أو العيش المنكّد المحفوف بشظف العيش أو نجاةً لهم ولأحبائهم من بطش السلطات في بلدانهم المطبوعة بالانتقاص من حقّ الإنسان في حياة حرة كريمة وبالتعبير عن الرأي التي وجدوها سارية في بلدان المهجر.
لكن، يبقى الهدف الأسمى تحقيق أكبر قدر من التعاون الدولي في مسار تحييد الإرهاب وأدواته ومنابعه ضمن الإجماع الدولي الذي لا بدّ منه من أجل تحقيق هذه الغاية وهذا الهدف. وأية ثغرة هنا أو هناك، من شأنها تقويض هذه الجهود وطعن هذا الهدف في الظهر من أية دولة تتساهل في متابعة تحركات الإرهابيين الذين تتبجّح جهات أمنية غربية كثيرة، بمعرفتها بمواقعهم وأشكال خلاياهم وباحتفاظها بقوائم بأسمائهم دون أن تعمل شيئًا عمليًا لوقف تحدياتهم وتحييد جرائمهم التي من المحتمل جدّا ثورتها في أية لحظة حين توفر الظروف لصحوتها. وهناك دعوات ملحة لاتخاذ خطوات استباقية لمنع مثل هذه الأعمال الإرهابية المحتملة قبل وقوعها. وفي حالة وقوعها، ينبغي اتخاذ إجراءات صارمة وفورية لطرد وترحيل أمثال هؤلاء مع عوائلهم وكلّ مَن يثبت تعاطيه وتماهيه وتعاطفه مع أعمالهم من دون تردّد ولا خشية حفاظًا على أمن واستقرار مواطنيهم وتأكيدًا لصيانة حقوق مَن احترم نفسه من صفوف اللاجئين الذين آثروا الاندماج في المجتمع الجديد بكل أريحية وقبولٍ طوعيّ لا يقبل الجدال.
من هنا، ليس من العدل أخذُ المندمجين الحقيقيين مع المجتمعات المدنية المنفتحة بجريرة فئة ضالة من الإرهابيين والمتطرفين الذين ليس لهم هدف سوى التخريب والتدمير والقتل باسم الدّين والمقدّسات التخريفية التي لا تؤمن بها المجتمعات الأوربية العلمانية المتمدنة. فمَن يقصد الهجرة ومغادرة بلدان الأحزان والدكتاتوريات وأشكال الظلم والانتهاك الفاضح لحقوق الإنسان، عليه بالمقابل القبول بمبادئ الغرب وشكل الحياة المجتمعية فيها مهما كانت مختلفة مع مبادئه ودينه وتوجهاته الفكرية والاجتماعية. وهذا يستدعي منه التفكير ألف مرة ومرة قبل تقرير وجهته. بالمقابل، من شأن سياسة تشديد الإجراءات الأمنية لدى دول الغرب أن تضعها في حرج كبير في كيفية خلق توازن صعبٍ بين تدابير القمع والردع الصارمة وبين احترام مبادئ سيادة القانون.



106
الانتخابات المبكرة بين الشك واليقين
لويس إقليمس
بغداد، في 1 تشرين ثاني 2020
تسعى قوى متحالفة نافذة في السلطة زرع بذور الشك في إمكانية تحقيق ما تعهد به رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بإجراء انتخابات مبكرة في الموعد الذي حدده بتاريخ 6 حزيران 2021. إنّ تحليلاُ عابرًا لما يصدر من تسريبات من لدن مكاتب أحزاب السلطة ولاسيّما تلك التي تشكّل عصب المنظومة السياسية أو التصريحات المبطنة تشير بما لا يقبل الشك إلى حقيقة واقعة تتمثل بسعيها الحثيث لوضع العراقيل أمام إنجاز هذا التعهد الذي بدا واضحًا من ضمن أولويات أجندة رئيس الحكومة الانتقالية الذي اتُفقَ على اختياره قائدًا لهذه المرحلة الحرجة للأسباب التي يعرفها صناعُ القرار قبل غيرهم. فأسلوب التوافق والمساومة والتحاصص هو ذاتُه الذي طُبقَ على متولّي رئاسات الوزارات العراقية منذ الغزو الأمريكي القبيح قبل أكثر من 17 عامًا خلت. ويبدوا أنّ من بنود شكل هذا التوافق أن يخضع في تطبيقه وتنفيذه لتبريرات وتغييرات واتفاقات لاحقة آنيّة وبحسب حاجة الواقع بين الكتل والأحزاب التي تهيمن على شكل النظام وأدواته وطريقة تسيير مهام الدولة والحكومة ومؤسساتها.
في كلتا الحالتين، لو توصلَ رئيس الحكومة لتحقيق عقد هذه الانتخابات في التاريخ الذي حدده هو بحسب ما تعهد به أي قبل التاريخ التقليدي لموعد الانتخابات البرلمانية المقرر في 2022، فسيكون عليه ضمان نزاهتها وتأمين كافة مستلزماتها الأمنية واللوجستية، وربما الاستعداد للتصادم مع قيادات سياسية وكتلوية وحزبية تقليدية حول أسلوب إخراجها بطريقة أكثر شفافية من سابقاتها حفاظًا لماء الوجه من ناحية، وتهدئة لخواطر الكتل التي أتت به إلى السلطة من ناحية أخرى وإرضاءً للشارع المنتفض في نهاية المطاف. فمن هذا المنظور عينه، سيبعث الكاظمي ايضًا، رسالة اطمئنان للشعب وللشارع المنتفض الذي وعده بتأمين مشاركة ثواره فيها تطبيقًا لمبدأ الديمقراطية المفترض والذي يعلم علم اليقين أنَّ المدة المتبقية غير كافية لتحقيق الحدّ الأدنى من رغبات الشعب وثوار الانتفاضة التشرينية بترميم وتوحيد صفوفها استعدادًا لخوض المعركة الانتخابية بندّية تبدو غير متكافئة بكل الأحوال مقارنة مع قدرات أحزاب السلطة الحاكمة وأدواتها من مال وسلاح وهيمنة على مفاصل الحياة. حتى لو كانت رسالتُه "الوطنية" تنطلق من سعيٍ شخصيّ أو استشارة خارجية أو محلية، لإحداث فسحة أوسع للتغيير المرتقب الذي يتطلع إليه الجميع، فإنّه لن يستطيع ضمان هذا الحدّ الأدنى من التمنيات الشعبية بتحقيق مثل هذا التغيير وشكله الذي يظلّ ضبابيًا غير واضح المعالم والأهداف في ظلّ الفوضى الأمنية وتعدد مداخل ومخارج السلطة وسطوة ميليشيات الأحزاب على مقدّرات الدولة وتمتعها باليد الطولى في تسيير شؤون البلاد والعباد بفضل الغطاء الديني والمذهبي الذي يؤرّق مؤسسات الدولة الهزيلة ويبقي على تراجعها في كلّ شيء.
 في اعتقادي، كان لرئيس الوزراء وجيوشه الالكترونية والجماعات المدربة التي احتكّت مع تنسيقيات التظاهر، تأثيرٌ واضح في إقناع قيادات معينة في ساحات التظاهر ما أدّى لتراجع حدّتها وكثافتها مع تقدم الأيام وأخيرًا بانسحابها بهدوء وسط ذهولٍ غير متوقع لإنهاء الاحتجاجات التي دامت عامًا كاملاً باعتصامات طويلة لا مثيل لها أثبتت قدرة الشعب وفئة الشباب منهم بخاصة، على التصدّي لأشكال الغبن والظلم والرفض إذا توفرت الإرادة والأدوات. وقد يكون التعهد الذي قطعه رئيس الوزراء على نفسه بتحقيق هدف الانتخابات المبكرة واحدًا من الأسباب الرئيسية لمثل هذا التراجع. لكنّ السبب المقابل في عدم تحقيق الثورة التشرينية جميع مطالبها التي تمثل مطالب عموم الشعب أيضًا، يكمن في اختراقها من جهات سعت لركوب الموجة وخلق حالات من الإحباط، علاوة على ضعف التنسيق وافتقارها لوحدة الصف والكلمة بالرغم من وجود ما يُسمى بالتنسيقيات التي اختفت أسماء قياداتها من المشهد، فلمْ يُعرف لها زعامات واضحة. فغياب الزعامة يعني الانجرار وراء المجهول والضبابية في توحيد مطالب المتظاهرين وكذا صعوبة في تحقيق الهدف بأقصر الطرق عندما يقف الفريقان ندّا لندٍّ. لذا ظلّت التظاهرات تراوح في مطالبها وصيحاتها وحتى في هدف "التك تك" وحركته التي خبت هي الأخرى، وسط عناد أحزاب السلطة ومماطلتها وتسويفها بمراهنتها على الوقت في ضمان تراجع ثورة الشعب كلّما طالت فترة الاحتجاج في مختلف الظروف الجوية التي رافقتها في عموم البلاد. وإنّ كنّا نشيد ببطولة الشباب الثائر ونتأسف على مَن فقدوا حياتهم بسبب قنّاصي الحكومة السابقة الماجنة، فإننا جميعًا نتفق على سوء إدارة أزمة الانتفاضة الثورية التي غيّرت مجرى السياسة وفتحت الطريق لمزيد من التغيير، كان أولُ بوادرها الضغط باتجاه استقالة الحكومة القاتلة السابقة والمطالبة بتغيير النظام الانتخابي، بالرغم من عدم تلبية هذا الأخير في شكله ومضمونه الشامل العام رغبة المتظاهرين كلّيًا. فما يزال مطلبُ الكشف عن القتلة ومحرّضيهم وأدواتهم ومحاسبتهم كما تقتضي عدالةُ السماء ومصلحةُ الوطن غير متحققة. فاللجنة أو اللجان المتعددة التي أُعلن عن تشكيلُها، ومنها هيأة النزاهة، ما تزال متلكئة في عملها وتخشى الحديث عن الحقائق التي يمكن أن تغيّر وجه الواقع المتهرّئ سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا وتربويًا وعلميًا وصناعيًا وإنتاجيًا، بل وتغّير من شكل المنظومة السياسية الحاكمة التي ينتظرها الجميع بفارغ الصبر واستبدالها بنظام رئاسيّ أو شبه رئاسي مؤثر شعبيًا بسبب استغلال المؤسسة التشريعية موقعها لسنّ قوانين تتوافق مع مصالح أحزاب السلطة الحاكمة بعيدًا عن مصالح الوطن العليا والشعب، ما جعل الشعب في وادٍ والبرلمان ونوابُه في وادٍ آخر.
 أمّا في حالة اصطدام رئيس الوزراء بجدران صلدة تُحاك ضدّ عدم تمرير الانتخابات في الموعد "المبكر" المحدَّد لها، فإنّ مثل هذا الموقف ستكون له آثارٌ غير طيبة في نفوس مَن يتشبث باستعجال عقدها بحسب أجندة رئيس الوزراء، ولاسيّما الشارع الذي ظلّ يغلي عامًا كاملاً لحين استكانته واسترخائه بعد الذكرى الأولى لانتفاضة شبابه الثائر الذي أعطى أكثر من 600 شهيد وما يربو على 30 ألف إصابة في صفوف الثوار في وسط البلاد ومحافظاتها الجنوبية الشيعية. قد يرضخ رئيس الحكومة في النهاية لمساومات أحزاب السلطة، وهذا متوقع جدًّا، بعدم إجرائها وفق هذه الأجندة بسبب ضعف أداء فريقه الوزاري وتلكّؤ أو تمادي الجهات التي اعتمد عليها في الاستشارة والأمن والقدرة العسكرية الخاضعة لقوى ماورائية عميقة في الدولة والمتخفية بأشكال وأدوات صعبة الاختراق من دون قوة ساندة من الخارج. وهذا الأمل الأخير بحصول تدخلات خارجية غير متوقع أبدًا إنْ لم يكن مستحيلاً في الظروف الشائكة الراهنة. ففي ظلّ الرغبة الجارفة بالانسحاب الأجنبي من مشاكل المشهد السياسي العراقي المعقد كلاعبٍ رئيسيّ، وخاصة الجانب الأمريكي الذي سئمَ التدخلات الخارجية للإدارات السابقة والدخول في حروب غير منتجة لا تؤتي ثمارًا في أسلوب غزو المنطقة وتركها بالتوافق والمساومة للجارة الشرقية، فإن الأوساط المقربة من دوائر القرار الأمريكي لا تعتقد بحصول تدخلٍ مرتقب في هذا الشأن. ناهيك عن أنّ الغرب الأوربي له ما يكفي من مشاكل معقدة في الاقتصاد المتراجع بسبب الجائحة القاتلة. فهذا الأخير، جلُّ ما يهمّه تحقيق المنافع الاقتصادية وحصد المكاسب حتى لو تعرّض عموم شعب العراق البائس لأصناف المرارة والهوان والاستهتار بحقوقه وبمصالح البلاد الوطنية العامة. فدولُهُ، كما المنظمة الدولية ومَن على غرارهم، متماهية ومتعاونة ومتشابكة مع أحزاب السلطة والحكومة المؤقتة ولا يهمّها ما تشهدُه البلاد من اختراق للسيادة وفقدان للهيبة وتراجع في الاقتصاد ونهب لأموال الشعب واستهتار بمقدرات البلاد عبر عقود وتفاهمات لا تحمل في أغلبيتها سمة المواطنة والحرص على مصالح البلاد العليا.
لذا، ليس خافيًا أن تصبّ حجة الأطراف التي لا تتجاوب مع موعد الانتخابات المبكرة، بسبب ما تعرضت له من انتقادات وخسائر شعبية وطعون واتهامات بالفساد ومطالبات بالمحاسبة وتحقيق العدالة بسبب سلوكياتها غير الوطنية وتقاعسها بل بخيانتها الأمانة في إنقاذ البلاد من شرور زعامات السلطة وأدواتها التي عاثت خرابًا ودمارًا وقتلاً ونهبًا وسرقة لموارد البلاد وإفراغ خزينة الدولة وتحويل ما غنمته من أموال إلى خارج البلاد نقدًا في مصارف مؤمّنة أو عبر شراء ممتلكات عقارية ومشاريع استثمارية بغطاء سياسيّ أحيانًا، ودينيّ - مذهبيّ  في أحيان أخرى وتوافقيّ في حينٍ آخر بين المثلث الحاكم. فمن الطبيعي أن تخشى أحزابُ السلطة والكتل السياسية التي تهيمن على البلاد بسبب كشفِ عورتها وعرض المستور من أعمالها وسلوكياتها وخروقاتها أمام الراي العام في الداخل والخارج. وهذا ممّا سيكون له الأثر الواضح، جزئيًا أو كلّيًا، في مسيرة ومستقبل حياتها السياسية وبخسارتها المتوقعة لإعادة الدعم الذي اعتادت عليه من قواعد فئوية تقليدية. فليس من المعقول، أن يبقى الشعبُ فاغرًا فاه ومستسلمًا لا يعرف تدبير قدَره المحتوم بأيدي ساسة يتحكمون بالمشهد ويديرون منظومة فاسدة وفاشلة بسلطاتها الأربع الأساسية.
في كلّ الأحوال، من المتوقع جدّا، بل من المؤكد حصول إزاحة لبعضٍ من القيادات السياسية التقليدية من الخطّ الأول ممّن سطت على المشهد السياسيّ بدون وجه حق وبدون جدارة أو حرصٍ وطنيّ. فمنها مَن شبعت حتى التخمة بفضل هذه السطوة على السلطة بعد أن مهرَها الزمن لسنواتٍ بوصمة التسكع والعيش على فتات التحريض والخيانة الوطنية. فما كان من هذا البعض بعد فرصة التغيير التي أتاحها الغزو القبيح إلاّ فرضَ نفسه وكيلاً غير أمينٍ وراعيًا سيئًا وزعيمًا غير مرغوبٍ به على شعبٍ عريقٍ مثل شعب العراق، من دون أن يتعلم هذا البعض النشاز واحدًا من أهمّ دروس الحياة بعدم ديمومة السلطة لأحد. فنسي أو تناسى أنّ الوطن وحدَه "مقدّسٌ" لا يقبل المساسَ به ولا خيانةُ أمانته، وأنّ مواطنيه من جميع المكوّنات والأطياف من دون تمييز، خطوطٌ حمراء لا يمكن تجاوزها. فالسلطة تأتي وتذهب، والوطن باقٍ والشعبُ هو مّن يقرّر مصيرَه في نهاية المطاف وليس الزعامات الفاسدة والسلاح غير المنضبط والعصابات التي تتحرك بهديٍ وغطاءٍ ودعمٍ من السلطة ومراجعها وأولي أمرها، مهما تجبّرت وسطت واحتقرت الغير في سلوكها ومهما خزنت من مالٍ وحصلت من جاهٍ واكتسبت من نفوذٍ.
وقانا اللهُ والعراقَ الأسير معنا، شرّ المهازل وبلاء المنازل واستهتار العواذل.


107
الوزيرة المتألّقة إيفان جابرو نموذجٌ رائع في خدمة الوطن والمواطن
لويس إقليمس
بغداد، في 20 تشرين أول 2020
مهما كانت الصفات التي أُطلقت وتُطلقُ على المواطن العراقي والواردة على لسان علماء السايكولوجيا والاجتماع والسياسة وأرباب الثقافة والتربية والعمل من كونه عنصرًا جادّا وقت الجدّ في العمل والدرس ومتباطئ التفكير أو كسولاً متى قرّر منح نفسه فترة استراحة، إلاّ أنه في حقيقة تركيبته فردٌ مبدعٌ حين تتوفر بين يديه وأمامَه فرصُ الإبداع ويُمنح الوقت الكافي لإبراز هذا النمط من النشاط والتألّق. وهناك الكثير من المواهب والقدرات الكامنة التي لو أُتيحت لها فرصة لنطقت مشاريع وأنجبت عملاً في التخطيط والتنفيذ والتوجيه والإشراف وتقديم الحلول الناجعة. ومن الطبيعي حينما يُمنح الشخص الكفوء مجالاً لإطلاق ما في جعبته من مبادرات وخطط ومشاريع وتوصيفات نافعة في مجال عمله، تتفجّر تلك الطاقات لتُترجمَ إلى أفعال ومنجزات بفضل الكاريزما الخفية التي يكتنزها في ذاكرته وعقله وروحه الفياضة بالرغبة بتقديم الأفضل دومًا لخدمة الآخر، مهما كان هذا الآخر وأينما كان من دون تحديد الزمن والمكان. فالمبدع يبقى مبدعًا في مسيرته وسلوكه رافضًا المراوحة في مكانه لحين حثّه أو إبلاغه بفعل ما يترتب عليه من عمل أو تفرضه عليه الوظيفة المكلّف بها لخدمة العامة وليس في تحديد مهام عمله وحصرها في حدود ما يخصُّه هو أو يخصّ فئتَه أو طائفتَه أو دينَه أو عائلتَه.
هذا هو الإبداع بعينه في أي مجالٍ تبرزُ فيه كفاءة الفرد من دون أن يتنمّرَ على الغير أو يتغوّلَ أو يفرض رأيًا أو سلوكًا لا يتوافق مع حاجات الغير الضرورية والآنيّة التي تتزاحم أحيانًا مع الحدث وتفرضها ظروف غير طبيعية وشاذة تتطلّبُ الجرأة وسرعة البديهة واتخاذ القرار الصائب. ووزيرة الهجرة والمهجَّرين المتألّقة إيفان جابرو قد أثبتت منذ توليه المنصب الوزاري ولغاية الساعة أنها جديرة به بفضل نشاطها المتألّق وكفاحها من أجل نشر الفرح والمحبة والرحمة وزرع أشكال الراحة والسكينة والاستقرار في نفوس مَن تمّ تكليفُها بخدمتهم ورعايتهم والإشراف على احتياجاتهم بفعل ما أصابهم من هول الكارثة وبسبب مجمل الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية من قبل دولة الخرافة الإسلامية التي أحرقت ودمّرت وقتلت وسبت وهجّرت واغتصبت وأربكت البلد والمنطقة والعالم على السواء.
طاب لي جدًّا وأثلج صدري حين لقائي قبل أيام ضمن مهمة وظيفية بمعالي السيد وزير التخطيط، مبادرتَه وثناءَه على النشاط والعمل الدؤوب للوزيرة المسيحية الوحيدة في كابينة السيد الكاظمي ومناشدتها إياه لتكرار زيارة المناطق المحررة الخاصة بالمكوّنات قليلة العدد (الأقليات) والسؤال عن احتياجات أهلها، وذلك حينما رجوتُه وأنا أغادر مكتبه بالاهتمام بمنطقة "الحمدانية" في محافظة "نينوى" وغيرها من المناطق الأخرى التي عانت وماتزال تعاني من مخلفات وتداعيات تنظيم داعش الإرهابي ومن معاناة في تنفيذ وإكمال المشاريع المتلكئة بالرغم من الجهود المثابرة التي تكافح دوائر المحافظة عمومًا وقائممقام الحمدانية خصوصًا من أجل تغيير حالتها السلبية إلى منطقة آمنة وجميلة تزهو بأهلها وقاطنيها. وكلّنا أملٌ، حين تكتمل خدماتُ المنطقة البلدية الأساسية من مجاري وماء وكهرباء ونظافة فإنها ستشكلُ مهمازًا وأملاً بعودة الحياة الطبيعية إليها بأسرع ما أمكن وكي تعمل سحرَها بعودة أكبر قدرٍ من أهلها الطيبين الذي ألقت بهم عوادي الزمن الأغبر في عهد الإرهاب إلى دول المهاجر المجهولة. ومن دون شكّ، تلكم هي حالة مناطق عديدة ضربها إرهابُ داعش وما أحاطه من خيانة قرى الجوار وانتهازهم الفرصة للعبث بمساكن أهل المنطقة وإكمال تدمير وسلب وإحراق ما أمكنهم ذلك ليزيد الطين بلّة والهمومَ أضعافًا.
على اية حال، أعود لشخص السيدة الوزيرة إيفان، لا مدحًا بها ولا دعايةً رخيصة لها، فإنّي لا أعرفها شخصيًا ولم أتعرّف عليها. بل ما جذب انتباهي نشاطُها المفعم بالحيوية وتحرّكاتُها المحلية والدولية وزياراتُها الميدانية المتكررة للمناطق التي دمّرها الإرهاب وأعملَ فيها الخرابَ والدمارَ أينما حلّت أدواتُه، وسعيُها المتواصل لزيارة مخيمات اللاجئين وتقديم سلال الإغاثة والمساعدات الإنسانية المتاحة لهم واللقاء بأصحاب القضية ومنهم بطبيعة الحال، أبناء المكوّن الإيزيدي أيضًا، الذين نالهم القدرُ الأوفر من الظلم والقهر والتدمير، ليس في المجال المادّي فحسب، بل النفسي والجسدي والمجتمعي حين جرى تهجيرهم هم أيضًا وعمل القتل في رجالهم وبيع بناتهم ونسائهم العفيفات في سوق النخاسة وسبيهنّ واغتصابهنَّ من دون رحمة ولا شفقة ولا خشية من لدن السماء وبعيدًا عن أية مشاعر إنسانية. وإنّي غير منكرٍ بتوارد شكوك لي بادئ ذي بدء بالطريقة التي تمّ استيزارُها وما أُثير من ضجة حينها. لكن والحق يُقال إنها لغاية الساعة قد أثبتت جدارتَها وحرصَها على إكمال الشوط والمهمة التي كُلّفت بها. وما حثُّها ودعوتُها للوزراء المعنيين بتكرار زيارة المناطق المحررّة ومنها بلدات وقرى مناطق سهل نينوى وديالى وصلاح الدين والأنبار بصورة أخصّ سوى أدلّة على إثبات هذه الجدارة وتبيان الحرص لتقديم أفضل الخدمات والحلول لمَن مازال يحتاجُها، لاسيّما من القاطنين في المخيّمات والنازحين الذين يمنّون النفس بالعودة إلى مناطق سكناهم الأصلية. هذا إضافة إلى تواصلها المثمر وتنسيقها المتكرّر مع وزارة التخطيط لوضع الخطط اللازمة لإعادة ما تبقى من النازحين إلى ديارهم وبلداتهم وقراهم بعد اندحار داعش وتوفير الأجواء المستقرة أمنيًا ومعيشيًا لضمان حسن وسهولة عودتهم. كما أنّ مسألة رفضها العودة القسرية للنازحين والمهاجرين الذين تم رفض طلبات لجوئهم في بلدان المهجر ينطق بمدى الاهتمام المتواصل من لدنها بضرورة إجراء تقييم موضوعيّ لطلبات اللجوء وإدراك مدى الحاجة والتشبّث بهذه الطلبات لأسباب وظروفٍ بعضُها إنسانية وغيرُها آنّية تتعلّق بسلوك الحياة اليومية وما فرضته سنوات النزوح والهجرة من منغصات وموجبات تستحق التقييم وإعادة النظر في القوانين والقرارات. كما لم يخلُ برنامجُها من تضمينه زيارة زعامات المكوّنات الدينية الأخرى من صابئية ومسيحية وإيزيدية أينما تواجدت هذه، شمالاً وجنوبًا واللقاء مع المعنيين للوقوف على آرائهم ومقترحاتهم من أجل تسهيل حياة مواطنيهم والمساهمة في تقديم الحلول لحالات تتطلب ذلك. وهذا يوضح تواصلها الطيب مع أبناء الشعب من جميع المكّونات والديانات والمذاهب.
أتمنى للوزيرة الشابة إكمال مشوارها الوزاري بالتألّق والإبداع لخدمة مَن يحتاجونها لتقديم أفضل الخدمات لعموم النازحين، وهم كثيرون، ومن ضمنهم المرأة العراقية التي لم تغفل في متابعة منغصاتها ومشاكلها وما تتعرّض له من عنف أسري واستهانة بقدراتها الطبيعية وجدارتها الوطنية والمجتمعية. كما أشدّ على يدها في تبيان جرأتها وألاّ تيأس من محاولات البعض المغرضة التي تستهدف زرع بذور الإحباط وتشكيل ضغوط غير مبرّرة لتثبيط العزيمة والحد من حركة النشاط التي التزمت بها وحرصت على مواصلة جهودها من أجل إعادة البسمة للشفاه التي فقدتها والقلوب التي دخلها اليأس والنفوس التي احتارت بين خيار الوطن والمهجر. فكلّما كانت الحلول أقرب إلى نفس المحتاج وأفضل إلى تطلعات المحتار في أمره، كلّما كانت التداعيات أقلّ ضررًا وأقرب لاتخاذ البقاء في الأرض والتجذّر فيها مواطنًا يفخر به الوطن ويفرح له الشعبُ الأصيل وليس الدخيل والغريب!


108
أوربا في زمن كورونا وما بعدها
لويس إقليمس
بغداد، في 15 تشرين أول 2020
نشرت مؤسسة شومان الفرنسية التي تأسست في 1991، في عددها 906 الصادر بتاريخ 5 تشرين أول 2020، تقريرًا عن تطلعاتها تصف فيها ظروف منطقة الاتحاد الأوربي في ظل زمن تفشّي جائحة كورونا التي نالت من أحوالها المجتمعية وضربت قطاعات مهمة فيها، وعلى راسها اقتصادها الذي تأذى كثيرًا بسبب تدهور الأعمال وتراجع عجلة الانتاج وتوقف الأشغال في مواقع ومدن عديدة. وفي هذا التقرير نلاحظ عمق التحديات التي واجهتها، ما دفعها لتقرير الأصلح في مسيرة الاتحاد مجتمعًا من دون إغفال الصعوبات في مواجهة هذه التحديات وإيجاد الحلول المناسبة لدول الاتحاد، مجتمعةً أو منفردةً. ولا أحد ينكر ما يشكله الاتحاد الأوربي من ثقل في العالم من حيث قدراته الصناعية والمالية والتقنية والبشرية على السواء. 
أمّا المواضيع التي شملها التقرير، فقد تطرق فيها إلى شؤون الاتحاد الإدارية والاقتصادية والسياسية والأمنية والنقدية والمالية غير متغافلٍ قدرة دول الاتحاد على إيجاد البدائل في ترويض التراجع الحاصل في اقتصاد السوق بسبب بطء تدوير الماكنة الصناعية للقارة، والتوجه الحثيث لبذل المساعي بإبقائها قوّة صناعية متنامية منافسة لأندادها في الأمريكتين وآسيا والبلقان، ولاسيّما التنّين الصيني والدبّ الروسيّ اللذين يمثلان شاخصين مؤثرين في سياستها الاقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية. ولعلّ ما يميّز دول الاتحاد عمومًا، قدرتُها على إدامة وتحديث سلّة الإصلاحات في قوانينها وفق المتغيّرات والظروف وحاجة هذه الدول نتيجة لتتالي المستجدّات، ما يجعلها ديناميكية في حركتها التغييرية المتجاوبة مع الظروف الزمانية والمكانية، وبما يتيح تموضعها في مقدمة البلدان الدولية بسبب نهجها الاستراتيجي الواضح الموازي لحاجة السوق والملبّي لتطورات الاقتصاد العالمي المتغيّر وفق الظروف هو الآخر. لذا لا غرابة أن يلاحظ المراقبون والمتتبعون وخبراء الاقتصاد والديموغرافيا السكانية إعادة نافعة في التفكير في سياسة الاتحاد الخارجية والأمنية والاقتصادية وبما يضمن ويحقق مجالات متقدمة ومستديمة للتنمية المتجددة في الموارد والقرارات التي تهيّء لهذه التنمية الضرورية لبقاء قدرة الاتحاد في الصفوف المتقدمة في اقتصاديات العالم. ومع كلّ هذا وذاك، فليس خافيًا أيضًا ما تعانيه دول الاتحاد من تحديات ضاغطة واختلاف في وجهات النظر أو خلافات حول مواضيع الساعة وطريقة معالجتها بسبب تقاطع المصالح.
ولكن، ما يمكن ملاحظته في قرارة نفس مجمل دول الاتحاد، لجوؤُها لإيجاد الصيغ الكفيلة بالدفاع عن نفسها في ظلّ تنامي التحديات الكثيرة، ومنها الأمنية أيضًا التي صاحبت وماتزال تصاحب عمليات الهجرة غير الشرعية نحو أراضيها بسبب سياسة التحدّي والتهديد التي تشكلها حليفتُها المشبوهة، تركيا، العضو في حلف الناتو والتي تأمل دخول نادي الاتحاد الأوربي عضوًا كامل الأحقية بفضل مشاكساتها المتواصلة وافتعالها الأسباب والذرائع والأزمات التي تسعى لدخولها الاتحاد بأي ثمن لصالحها. كما تنامى للأذهان منذ حين، سعيُ دول الاتحاد لتشكيل أداة تنفيذية جديدة بصيغة هيئة لمكتب المدّعي العام وإقراره مع نهاية هذا العام 2020، تأخذ على عاتقها التصدّي للجرائم الخطيرة الكبرى العابرة للحدود التي يمكن أن تشكل ايضًا تحدّيًا ماليًا لميزانية الاتحاد في زيادة الإنفاق. ومن شأن هذه الهيئة المستقلة قضائيًا أن تعاج حالات الفساد والاحتيال والتهرّب الضريبي وما إلى ذلك ممّا يضرّ بموازنات دول الاتحاد عمومًا. ويأتي هذا التشكيل الجديد إنجازًا آخر في سعي الاتحاد الأوربي للتكامل في جميع المجالات الحياتية التي تؤمّن وتشكّل عصب الحياة لشعوب القارة وتتفاعل مع مصيرها ومستقبلها كقارة موحدة التراكيب والتكوينات ومتقاربة الأفكار والرؤى والمفاهيم بين شعوبها والحفاظ عليها من الشيخوخة والعجز والتراجع لأية أسباب وصمودًا أمام أية تحديات تجابهها في خضمّ الأحداث المتحركة والمتغيّرة. وهذا بحدّ ذاته يمكن أن يشكل عامل قوّة نحو زيادة تعزيز التعاون القائم وتبادل الآراء المتواصل وصولاً لتفاهم مستديم عبر الحوار ونقل الخبرات والشعور بوحدة الصف لشعوب بلدان القارّة مجتمعةً في الدفاع عن مصالحها عبر تعزيز قدراتها العسكرية والدفاعية إلى جانب تقوية اقتصاديات أعضائها المتعثرة وتقديم الدعم اللازم لأي عضو حين اقتضاء الضرورة.
الصفقة الأوروبية الخضراء
أبدت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، وهي أول امرأة تتولى هذا المنصب، عزمها على إطلاق مشروع ما يسمّى ب"اللجنة الجيوسياسية"، ضمن مساعي الاتحاد لتوسيع آفاق ومهارات مؤسسات المجتمعات الأوربية، والاستفادة من زمن الأزمة الراهنة غير المسبوقة التي يمر بها العالم بسبب جائحة كورونا وانصباب الجهود للتركيز على تحقيق قفزة أوروبية مأمولة في العمل والتفاعل مع المجتمع الدولي بالرغم من كل التحديات. وهذا يتطلب بالتأكيد من الجميع، حكومات وساسة واختصاصيين التركيز على ما هو أساسيّ وبنّاء ومشجّع والابتعاد عن كل ما هو زائد وهامشيّ وغير مؤثر في وقت الأزمات. وفي توقعها لخروج الاتحاد من تأثيرات الجائحة الكثيرة والمتعددة على نطاق واسع، تتوقع السيدة أورسولا خروج دول الاتحاد معافاة وأكثر قوة وشكيمة وحيوية من خلال تكثيف الجهود لتغيير مسار الأحداث نحو الأفضل عبر وضع الخطط والاستراتيجيات الصحيحة المثمرة لجعل القارة أكثر قربًا في خضرتها البيئية واستخداماتها الرقمية وبأساليب لا تخلو من المرونة المطلوبة في الأداء والتنفيذ لصالح النفع العام لشعوب القارة وحكوماتها. 
ولعلّ الموضوع الأهمّ في مشروع هذه الصفقة يأتي عبر الوسائل المتاحة لمكافحة التغيير المناخي والحفاظ على البيئة حينما تنجح الجهود المشتركة بإيقاف تسرّب الكاربون بحلول منتصف القرن الحالي. وقد وصفت المسؤولة الأوربية هذه الخطوة بالنقلة النوعية والمهمة في مجال حماية البيئة، إضافة لما تحققه ابتكاراتُ مواطنيها من نجاح في تنويع مصادر الطاقة والانتقال إلى منطقة خالية من التشوهات البيئية حين بلوغ الهدف الأدنى وهو التخفيض في نسبة انبعاث الكاربون بحدود 40% بحلول عام 2030 من أجل تفادي نسب الاحتباس الحراري التي تحذّر منها جهات عديدة، ومنها تلك التي تهمّها العيش ضمن بيئة نظيفة وصحية. وبالرغم من كون مثل هذا المشروع قد ينال من اقتصاديات بعض دول الاتحاد ويستهلك جزءًا كبيرًا من ميزانياتها ويضعف من إمكانياتها في حالة الانتقال إلى قانون البيئة النظيفة، إلاّ أنّ الاتحاد قد حسب حسابَه لهذه الإشكالية من خلال تشكيل صندوق لدعم الشركات التي قد تتوقع تأثيرها بفعل الكفّ عن استخدام الطاقة التقليدية من الوقود التي تبدو للبعض أرخص من الطاقة النظيفة الجديدة. وفي هذا الصدد، هناك حزم من الدعم والتمويل التي تقدمه الحكومات والوكالات والمصارف للشركات الصغيرة والمتوسطة قد تتجاوز أقيامُها المليارات لتأمين انتقال هذه الشركات إلى الطاقة الخضراء من دون مشاكل وذلك عبر استثمارات ناجحة تدعمها حكومات ومصارف وجهات استثمارية ذات شأن.
المهمّ في كلّ هذا، أن يبقى الإنسان في المشروع الأوربي هو قلب الحدث وهو الهدف الأهم في مجمل سياسات وتوجهات حكومات بلدان الاتحاد. فالاقتصاد وتعزيزُ دوره ومعالجة الثغرات فيه بسبب الآثار التي ستتركها الجائحة سيكون لها الأولوية في إعادة الثقة بالنظام الحياتي بين الحكومات وشعوبها سعيًا لتقديم كلّ ما يكفل حماية وأمن واستقرار حياة شعوب القارة وتخفيف تلك الآثار على الأشخاص والشركات والوكالات التي تأثرت جراء الجائحة. وفي ضوء هذه التوجهات تتحرك بلدان الاتحاد كلّ وفق مقدّراتها واستعداداتها، لإعادة حركة الحياة بما يكفل الحفاظ على حياة الإنسان وتواصل الأعمال واستمرار تشغيل الماكنة وإنتاج الصناعة وحركة الشارع والمجتمع بأفضل وسيلة متاحة وبما يحصّن قدرة المواطن الأوربي في التعامل والتعايش اليومي العقلانيّ مع مخاطر الجائحة ويساعده في درء أخطارها وتجنّب الإصابة بها بعناية وحذر وحرص بهدف استمرار الحياة وكسب القوت اليومي وإدامة نمط الحياة بطريقة صحيحة. وهذا من شأنه بالتالي أن يحثّ ويساعد الشركات الصغيرة والمتوسطة لاستئناف أعمالها هي الأخرى وتقليل الفجوة الناجمة بسبب البطالة التي تفاقمت نتيجة لإغلاق عدد كبير من هذه الشركات والمعامل والاضطرار لتسريح موظفيها وعمالها وعدم قدرتها على تسديد المرتبات والأجور. فالأشغال تبقى تحظى بقدسية كبيرة في مفهوم دول الاتحاد التي تطالب بمزيد من التضامن والتكافل من أجل حماية المواطن وتأمين استقرار حياته كي يبقى عنصرًا فاعلاً في المجتمع ويحظى برعاية الدولة التي أخذت على عاتقها تأمين معيشته عبر دافعي الضرائب بصورة أخصّ.
برنامج "أفق أوربا"
يشير تقرير شومان أيضًا، إلى اهتمام دول الاتحاد الأوربي بمشروع متقدم جديد من شأنه تطوير أدوات البحث وسبل الابتكار في عموم صفوف دول الاتحاد. وهو يمثل في حقيقته أحد البرامج التي لا تقلّ في أهميتها عن سائر الأنشطة التي تترقب دول الاتحاد وضعها حيّز التطبيق في برنامجها للأعوام 2021-2027 بعد إقرار ونجاح مشروع برنامج "أفق أوربا 2020". ومن المتوقع إطلاقُ هذا البرنامج الإطاري الطموح الجديد الذي هو قيد المناقشات والتفاوض، في الأول من كانون الثاني 2021 القادم. فيما تشير الأرقام إلى رصد ما يربو على 100 مليار يورو لتنفيذه، أي بزيادة ما يربو على  1,6% من سابقه المنجز في 2020، وذلك بالرغم من الأزمة الصحية لجائحة Covid-19 التي تعصف بالعالم أجمع وما تركته وتتركه من تأثير على القطاع المالي في عموم دول الاتحاد، والضائقة المالية التي تسببت بها نتيجة للانكماش المحتمل في الإنفاق، ومنه على سبيل المثال، تأثيره على صناديق التعاون. وسوف يركز البرنامج بصورة خاصة على تعزيز الأسس العلمية والتكنلوجية وطريقة عمل مراكز البحث التي تتميز بها دول الاتحاد، وتشجيع قدرة أوروبا على الابتكار وفسح المجال للقدرة التنافسية والعمالة، إضافة إلى تحقيق أولويات المواطنين ودعم النموذج الاجتماعي-الاقتصادي الأوربي والحفاظ على قيم القارة عمومًا.
ومع ذلك، لم يتردد الاتحاد الأوروبي في اتخاذ مسارات داعمة لاقتصاده من خلال التركيز على استثمارات يعتقد بمساهمتها نوعيًا في التخفيف من الآثار السلبية على الأمور المالية التي ضربت شركات وشخصيات. وهذا ما يشير إلى تواصل القارة في برامجها البحثية والتطويرية وجعلها في أولويات شؤونها السياسية، ليس أوربيًا فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى اهتمامها الدولي أيضًا. وفي حالة عدم حصول طفرات مفاجئة بسبب الجائحة وتأثيراتها على الواقع الاقتصادي العالمي، فسيكون التركيز على رؤية ما يسمّى ببرنامج الابتكار على نقاط مركزية فيه، ومنها العمل على تقوية الأسس العلمية والتكنولوجية للاتحاد الأوروبي ومنطقة البحث الأوروبية، وتعزيز قدرة أوروبا التنافسية على الابتكار والتوظيف. هذا، إضافة إلى تحويل أولويات المواطنين إلى واقع ودعم النموذج الاجتماعي والاقتصادي والقيم التي تشدّ من موقف دول الاتحاد عبر تعزيز الدور الاستثماري الأوربي في هذا المجال ورصد ما يحتاجه البرنامج من زيادة في قدراته المالية المرصودة.
وللحديث عن الصناديق الأوربية الداعمة لجهود الإنعاش الاقتصادي، تتوزع هذه الصناديق في فئتين للدعم المباشر وأخرى للدعم غير المباشر. فصناديق الدعم المباشر تتأتى من خلال وضع البرامج الموضوعية التي تديرها المفوضية الأوربية ووكالاتُها، بحسب المصدر. وهذه يتم تقريرُها في دوائر المفوضية في بروكسل التي تتولى تحديد المعايير والمبادئ التشغيلية لمختلف البرامج المتفق عليها وما يترتب على ذلك من مَحافِظ مالية وإجراءات اقتصادية والتوافق في تحديد مساهمات الأعضاء. وقد تشمل الذهاب إلى تشكيل شراكات او شركات مساهمة تتولى القيام بالمهمات الموكلة إليها. فيما الصناديق غير المباشرة يمكن إدارتُها عبر وسطاء أوربيين أو حكومات محلية أو إقليمية تأخذ على عاتقها إصدار المناقصات وتوجيه الدعوات بعد تحديد الأولويات والاستراتيجيات الضرورية التي تضمن إنجاز البرامج المتوخاة التي من شأنها الأخذ بنظر الاعتبار قبل كلّ شيء تحقيق الفائدة المباشرة لدول الاتحاد.
 وهنالك مشاريع حيوية أخرى لا مجال للإفراط في ذكرها بهذه العجالة. وكلها تقع ضمن ذات الجهود للخروج من أزمة الجائحة بشكل اقوى وأفضل، وهي تخصّ مهمة أخرى في حياة شعوب القارة. من هذه المشاريع، ما يتعلق بإجراء إصلاحات مهمّة في خطط نقل المسافرين بطريق السكك الحديد من خلال تحسين سبل ووسائل النقل وتسهيل وصول المسافرين، ولاسيّما من ذوي القدرات المحدودة على الحركة إلى وجهاتهم ضمن الشبكة المشتركة لبلدان الاتحاد وتسهيل الحصول على التذاكر بيسر ودون مشقة أو تعقيد. وكذلك في خطط الاتحاد، إجراء مراجعة لسياسة التنقل في دول الشنغن وبما يضمن تحقيق أكبر قدر ممكن للسلامة. كما لم يخفى على دول الاتحاد انصباب الاهتمام على شكل التعليم والتدريب المهني الضروري وإدامة تطوره بأحدث الوسائل تجاوبًا مع الظرف الصعب الذي خلقته جائحة كورونا، ليس في دول القارة فحسب بل في كلّ دول العالم. وهذا ما توحي به مفردات التطور في هذا المجال وصولاً إلى هدف بناء أوربا نظيفة خضراء ورقمية بكل تفاصيل تقنيتها ومهاراتها. ومن المتوقع بلوغ هذا الهدف بحلول عام 2025 بتعاون جميع دول الاتحاد التي اتفقت على وضع خطط استثمارية ناجعة ومؤثرة لبلوغ الهدف المنشود في وقته وتاريخه بالاستفادة من خطة التعافي الشاملة التي وضعها الاتحاد لبلوغ التعليم الرقمي باعتباره من الأهداف الاستراتيجية في العصر الرقميّ. وبالتأكيد، فإنّ وحدة الصف الأوربي والكلمة وسبل التعاون والتفاهم كفيلة بوضع هذه المشاريع والقرارات والخطط موضع التنفيذ لأجل رفاهة شعوب الاتحاد وضمان مستقبلها وإدامة زخم قدراتها.
منهم ومن سواهم ممّن يحترمون الإنسان ويحرصون على صونِ حقوق شعوبهم المواطنية، يمكن أن تتعلّم الدول المتعثرة والحكومات الفاسدة والأحزاب المدالّسة والموالسة والشعوب المقهورة والمخدوعة بساستها وحكوماتها، خيرَ الدروس والعبر، والثورة على الظلم والباطل وعدم مجاراة الظالم والسارق والمتجاوز على المال العام والثراء غير المشروع على حساب الوطن والشعب! ومتى سارت الحكومات وفق المنهج العادل والإدارة الرشيدة ومحاسبة الفساد بكلّ أشكاله وعدم الرضوخ لقوى الظلام وسطوتها التي تفرضها أحزابُ السلطة، حينئذٍ تبدأ خطوات وضع البلاد على السكة الصحيحة في إصلاح الأوضاع الشاذة وغير المقبولة لكي تبلغ ما بلغته أوربا وغيرها من دول العالم من تقدّم وتطور وانفتاح ورفاهة للوطن والمجتمع على السواء.
.

109
بناء البشر قبل تصفيف الحجر
لويس إقليمس
بغداد، في 20 آب 2020
الدول تشكلها مجاميع البشر المتعلمون دروسًا وعبرًا ممّن خبروا هموم الحياة وحلاوتها وجادوا بالنفس والفلس والفكر والوقت من أجل تكوين نهضتها وتطويع حجرها لصالح تقدمها وازدهارها ورفاهة شعوبها. وهذا أمرٌ مفرغٌ منه في أبجديات السياسة والإدارة الحكيمة وصولاً لبناء المجتمعات وتعزيز قدرات الشعوب المتآلفة وهي تسابقُ الزمنَ لبلوغ أرقى درجات الرقي والتطور والرخاء والأمن والاستقرار. ولنا في دولٍ غربية سبّاقة أمثلةٌ ونماذجُ يٌحتذى بها. واليوم، تطمحُ مجتمعاتٌ كثيرة ماتزال سائرة في طور النموّ والتجديد والانفتاح بالوصول إلى ما وصلته الدول المتقدمة المنفتحة على العالم من تطور وتقدم وبناء ونمو بفضل مواطنيها الحريصين على وضع خطط استراتيجية مبنية على حسن إدارة واقع الحياة وضروراتها من بشرٍ وحجر ضمن السياقات الآمنة للتطور. فالإدارة الصحيحة الناضجة لأية دولة، حين تمتزج بالحرص الوافي على الممتلكات العامة والثروات الطبيعية والإنتاجية، وترتبط شعوريًا أو لا شعوريًا بمصير الأمة التي تتشكل منها هذه الدولة، ستكون قادرة على خلق بشر حريصين على التفاعل مع المصلحة العليا للوطن من دون أن تتقاطع مع طموحات الشعب بصرف النظر عن اختلاف أديانه ومذاهبه وطوائفه وقومياته، بل ومن دون أن يختلف الساسة والأحزاب التي تقود مسيرة البلاد على الأسس العامة التي تشكل أعمدة بنائه الرصين وتديم زخم موقعه بين الأمم والشعوب. 
هكذا إذن، هي الأمم والشعوب والدول التي تحترم البشر المقيمين على أرضها، مهما كانت أصولُهم وخلفياتُهم، وبغضّ النظر عن تعددها واختلاف مشاربها وثقافاتها. قاعدة لاتقبل النقض والخلاف وإنْ تشابكت فيها وبها وجهاتُ نظر متباينة واختلافات في الرؤية والتجربة. فالسيادة والكرامةُ للدولة هنا هي الحكَمُ الفصلُ ولا فروعَ غيرها تتقدّمُ على هيبتها وسياستها العامة التي لا تتبدّل ولا تتغيّر بتغيير الحكام إلاّ في أسلوب البناء وأدوات التطوّر المتجدّد دومًا نحو الأفضل. ولنا أن نقيس واقع بلادنا ممّا هو قائم لدى غيرنا من الأمم والشعوب والدول التي تسعى دومًا نحو الأفضل لأجل البقاء في المواقع الأمامية وإدامة هذه الأخيرة ضمن معايير التطور البشري والعلمي والاقتصادي والتكنلوجي والتربوي والاجتماعي. ويكفينا حزنًا وغمًّا أن يردَ مسامعَنا بلوغ الجواز العراقي المرتبة الأخيرة ضمن المقياس الدولي لاحترام الإنسان، والمرتبة المتقدمة في الفساد وغسيل الأموال، مع كلّ ما يترتب على هذا التخلّف والتراجع في موقع الشعب العراقي عالميًا من إشكالية وأسف لما يحصل له منذ احتلاله في 2003.
 لقد شكّلَ هبوطُ العراق دوليًا إلى الدركات السفلى في صفوف التصنيف العالمي حسرة في نفوس وقلوب الأصلاء فيه ولدى فئات واسعة من مثقفيه وأعلامه وأحراره ومواطنيه الذين كاد اليأس يسود جوارحهم الوطنية بسبب سوء إدارة  البلاد على أيدي ساسة المفاجأة الذين دمروا البلاد والعباد ونشروا ثقافة الفساد في صفوف المجتمع ولم يتركوا مجالاً لأصحاب الحق والرؤية الوطنية من أجل البناء والبحث عن مخارج آمنة إلاّ أللّهمّ في الأمل القادم بالصحوة الأخيرة التي استحثّتها الانتفاضة التشرينية الثورية على مكامن الفساد وأسيادها وأدواتها ومَن يقف لهم داعمًا ومديمًا زخم الكارثة. وبأية تواصيف مهينة أو استخفافية أو طفولية أطلقها ومازال يطلقها ساسة الصدفة على المنتفضين الأحرار المطالبين باستعادة "وطن مفقود ومرهون بأيادي الفاسدين والأغراب عنه"، إلاّ أنّ الحق عائدٌ إلى أصحابه لا محالَ، والسلام في أرض الفراتين قادم والأمن مستتب واللحمة الوطنية في طريقها إلى الشعب الأصيل بعيدًا عن الانتهازيين من مزدوجي الجنسية، مع احترامي للشرفاء من هذه الفئة التي اضطرّت للبحث عن ملاذات آمنة وأمينة لها في بلدان الاغتراب، هربًا من شراسة التهديد متعدد الأشكال وسياسة المساومة والمحاصصة وتقاسم المغانم التي سادت المشهد السياسي منذ السقوط بسبب تسليم البلاد على طبق من ذهب للأغراب والدخلاء والفاسدين بغية إنهاء وجود البلد بحاله.   
الإنسان عملة البلاد الصعبة
أفرزت الكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية الأخيرة التي رافقت آثار جائحة كورونا مؤخرًا، العديد من نقاط التساؤل والاستفهام حول النظام العالمي القادم المجهول. فأين يسير بنا هذا النظام اللغز الذي يكثر الحديث عنه هذه الأيام؟ وما هي المبرّرات لدعاة التغيير فيه؟ وهل لهذا التغيير المرتقب حدودٌ وأهداف مغايرة عمّا هو قائم حاليًا بحيث تقي البشرية شرَّ القاتم الأسود القادم، كما يصوّره لنا أصحاب النظريات الجديدة بخلق نظام أكثر أمانًا وأفضل إنتاجًا وأحسن سلوكًا أم العكس هو السائد؟ فإذا كنّا نشكّ في مثل هذه التبريرات التي لا تخرج عن أمراضٍ نفسية ونوبات هستيرية لدى أصحاب مثل هذه النظريات العالمية المطالبة بتغيير نمط الحياة البشرية من حيث تضاؤل الاحترام للكائن البشري والسعي للحدّ من طموحه بحياة أفضل، فكيف لبلدان هزيلة أن تثق بهذه النظريات، في حين هي تعيش أصلاً مقتاتة على فضلات موائد الأسياد بعد أن أفقدها هؤلاء سيادتها وهيبتها وحدّوا من قدرات شعوبها ولم يتركوا لساستها العبثيين غير اللهو بحروب مدمّرة والانشغال بأشكال النهب والسرقات واللصوصية من بيت المال العام حين عدّوه جائزًا مشاعًا حلالاً زلالاً؟ 
جميلٌ أن يتغنى الواحد بالوطن ويفخر لكرامته ويسعى لاستعادة حضارته وتبيان ثقافته التي عكست تاريخه عبر الأجيال حينما كان سيّدًا على غيره قبل هذا الغير الذي قلب الآية، ما جعل الأصلَ يتذيّلُ في نهاية المطاف قائمةَ البلدان الأكثر فسادًا في العالم والأقل احترامًا بين شعوب الأرض والأكثر تندرًا بسبب استشراء ثقافة الفساد وشيوع جريمة غسيل الأموال التي صبغت طبيعة بشر العراق عمومًا وساسته خصوصًا طيلة سبعة عشر عامًا من حكم المثلث الشيعي-السنّي الكردي المشبوه. ولكن الأجمل أن يعرف المواطن، كلّ مواطن يدّعي العراقية والوطنية والانتماء الإنساني، قدرَ هذا الوطن ويساهم في إصلاح المكسور فيه أينما وجده، والانقلاب على الذات قبل المطالبة بإصلاح الغير، ومن ثمّ الانتقال إلى مرحلة البناء والنموّ والتغيير الجذري الذي تحتاجُه البلاد من كلّ بد. فالتغيير ينبغي أن يبدأ من داخل الإنسان بادئ ذي بدءٍ ليخلق من همومه منفذًا نحو السعادة، ومن أخطائه حافزًا للإصلاح، ومن كبوته فرصة للنهوض من جديد بعزيمة أقوى وفعلٍ أشدّ من خلال المساهمة في رتق الممزَّق والنزول إلى ساحات العمل كلّ بحسب مقدرته وجدارته واستعداده، من دون الاستخفاف أو الاستهانة بأدنى الأعمال، بطرًا مقيتًا وأنفة فارغة وكبرياءً مدلّسًا. فالعمل المتاح بحسب الجدارة في أي موقع أو وظيفة مهما بلغت قيمتها العليا أو الدنيا، شرفٌ للمواطن الأصيل. ومن ثمّ ليس مقبولاً إتاحة الفرصة للعمالة الأجنبية القادمة من دون حدود، فيما أهلُ البلد يتطلعون أو يبحثون عن فرصة عمل. فهذا نابعٌ من سوء إدارة البلاد وعدم وضوح الرؤية في تقويم المواطنة وإرشاد المواطن إلى سبل العيش المحترمة في أي عملٍ شريف يعتاش عليه بعرق الجبين . وفي اعتقادي هذا شأنُ جميع مؤسسات الدولة ومجتمعاتها ومنظماتها للعمل على ضرورة فرض العمالة المحلية في أية مشاريع استثمارية كبيرة، من دون أن يتقاطع هذا الفعل مع الحاجة لتواجد الخبراء الأجانب في ساحات العمل الاختصاصية. مهما قيل ويُقال عن إدارة البلاد وسياستها الراهنة غير الرشيدة بل الغائبة في العديد من الأوقات والفرص، فلا شيء غير التغيير الجذري كفيلٌ باستبدال الواقع المتهرّئ وانتشاله من براثن الفساد والمفسدين الذين أتى بهم الاحتلال الأمريكي والذين بفضله وبتوافقه مع غرماء العراق الذي كان لهم دومًا بالمرصاد، شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، قد أدخلوا البلاد في فراغ وطني بعد تحطيم كلّ قدراته ونهب ثرواته بدءً من حلّ جيشه العقائدي وصولاً لرهن ثرواته المتعددة ومقدّراته البشرية بأيدي الأغراب عنه في المنطقة والعالم.
    لقد عمل المحتلّ الأمريكي على قتل كلّ روح وطنية ملتصقة بأهداب الوطن. بل عملَ جاهدًا انطلاقًا من استشارات مشبوهة وغير رصينة داخليًا وخارجيًا، على قطع حتى الشعرة الرفيعة للصرّة التي كانت تربط المواطن البسيط بالوطن، حين نصّبَ على البلاد طبقة حاكمة في معظمها لا تتمتع بالأهلية الوطنية ولا الجدارة الإدارية ولا الكفاءة الاستراتيجية لإدارة وطن مثل العراق العظيم في كلّ شيء لديه، بدءً من الحضارة العريقة والثقافة الراقية والإرث المتجذّر والتعددية الدينية والمذهبية والعرقية التي مكّنته من أن يشكل  فسيفساء نادرة الفلكلور في تلاوينه وأفكاره وصوره، وصولاً للبشر والحجر وما اتصف به هذان الأخيران من أوصاف غاية في الاختلاف عن غيره من شعوب المنطقة. فالبشر فيه كان عاشقًا للوطن وليس لسواه، وولاؤُه لأرضه وليس للدخلاء والأغراب عنه ومحبًا للعمل في الأرض والانتاج في الصناعة والإبداع في كلّ شيء. فيما الحجرُ فيه، ظاهرُه وباطنُه، من أغنى حجارة الدنيا. فأينما حللتَ فيه شمالاً أو جنوبًا، شرقًا أم غربًا، تلاقيك فيه ثروات لا تخطر على بالٍ، من نفط وغاز ومعادن ومياه ومواقع سياحة طبيعية ودينية وتجارية.
لكن المشكلة بعد 2003، اصبحت تكمن في الثقافة الجديدة التي اتشحها ولبسها الشعب العراقي مرغمًا بفعل سياسة تفضيل المصالح الشخصية والطائفية والمذهبية والفئوية والعرقية على مصلحة الوطن العليا، والتي كانت قد برزت بوضوح مع بدء مرحلة الانقلابات العسكرية المتتالية التي أدخلت البلاد في أتون حروب ومعارك وأنواع قتال داخلية وخارجية أنهكت قاعدته الوطنية ونقلت فئات منه تحت إغراءات السلطة والنفوذ والمال الحرام إلى أدوات بأيدي الدول الاستعمارية والإقليمية، كلّ حسب مصالحها وأولوياتها وضروراتها الخاصة. وبذلك فقد الشعب مصداقيته حين تحوّل ذيلاً ذليلاً للغير الدخيل، مهما كان جنس هذا الدخيل وموقعه وسياستُه وتوجهُه تحقيقًا لمصالحه الضيقة وبغضّ النظر عن الآلام والأزمات والمشاكل التي خلقها لعموم شعب العراق ومكوّناته، حين تحوّل النظامُ الوطني إلى دولة مكوّنات وإمارات إقطاعية وعشائرية ومذهبية تتحكم بها كتل سياسية تنتمي لأحزاب السلطة التي استقدمها الغازي الأمريكي وفرضَها لتسوس البلاد وفق منهج المحاصصة والتوافق والمساومة على مغانم وتحقيق مكاسب غير مشروعة.
لنا يقينٌ حين استعادة الوطن هيبته وسيادته وقراره، ستعود المياه الطبيعية إلى مجاريها ويعود الإنسان العراقي ماسة لامعة وجوهرة خالدة، ولكنْ بعيدًا عن النفايات التدويرية الدخيلة القائمة، مع الاحترام والتقدير للشرفاء أصحاب النوايا الطيبة في البلاد من الساهرين والمجاهدين والحريصين بصدق عمق المواطنة لإعادة الشخصية العراقية الأصيلة وإعلائها لتعود عملة صعبة في أية معادلة إقليمية ودولية كما كانت على سابق العهد. وهذا لن يكون سهل  التحقيق والمنال إلاّ بعد إعادة تقويمٍ صحيحة للإنسان العراقي وإيجاد السبل التي تكفل استعادة النفحة الوطنية والتوعية الذاتية لشخصيته التي افتقدها واضاعها في متاهات سياسة المجهول الخالية من أي تخطيط واستراتيجة وطنية للعيش وإدامة زخم الحياة الإنسانية في إعادة بناء الوطن من جديد على أسس سليمة. أي بعبارة أخرى، بالانسلاخ عن الشخصية المشوهة التي لبسها راضخًا للظروف القاهرة  طيلة السنوات العجاف المنصرمة منذ الغزو الأمريكي لغاية الساعة. وهذا ممّا جرف فئات ومجتمعات كثيرة من الشعب عانت من شظف كسب القوت اليومي وحملها للاستخفاف بالمبادئ الأساسية للحياة الإنسانية، ومنها ضرب التوصيات الوقائية الضروررية من جائحة كورونا عرضًا، بل وتكذيب وإنكار وجود هذه الأخيرة أصلاً، وذلك بدفعٍ وتحريضٍ وإيماءة من أرباب التخريفات والدجالين الذين أفهموا أتباعهم بوجود مَن يحمي حياتهم ويصون صحتهم عبر الدعاء وغيرها من السلوكيات الساذجة التي لا تختلف عن أعمال الدجل والسحر والشعوذة. وهذا هو دور النخب الثقافية والمنظمات والجهات الرسمية ذات العلاقة لبذل المزيد من الجهود في ترصين مبادئ التوعية الشخصية والمجتمعية ونشر ثقافة الوطن وحب الانتماء إليه دون غيره في التعامل اليومي من أجل بنائه وإعادة مواقع الاعوجاج فيه بكلّ الوسائل المتاحة. فبناء البشر يأتي أولاً قبل تصفيف الحجر! فهو الأساس في بناء الأوطان وترصين المجتمعات وأداء المؤسسات على أسس سليمة!















110
صفقة الواقع ولوعة الممانع
لويس إقليمس
بغداد، في 1 أيلول 2020
منذ أن وعينا والحديث عن القضية الفلسطينية  التي أضحت أسطورة الشارع، لم تخلُ منه صحيفة يومية ولا مجلة اسبوعية أو شهرية أو حولية ولا توقفت عنه شبكات الاعلام المسموعة والمرئية والمؤتمرات والاجتماعات واللقاءات متعددة الأشكال والأهداف، ولا غاب يومًا عن الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي بعد أن شهدت هذه طفرات كبيرة في التقنية والاتصال والتمويل والانتاج والإخراج وما سوى ذلك كثير. فيما الواقع يحكي قصة بل قصصُا كاذبة لا تخلو من دجل وتدليس وتبجّح فارغ وضحك على بسطاء البشر والمغرّرين بالشعارات الشعبوية والقومية والدينية واليافطات الكذابة لأجل الدعاية والتغطية على حقائق تُركّبُ في مطابخ مشبوهة لا تمتُّ بصلة إلى معاناة القضية الأسطورة هذه، والتي كما يبدو، أصبحت بقرة حلوب للمتاجرين بها والمزايدين عليها ولمروّجي أفكار أمثال هؤلاء ولمشاريعهم الشخصية والفئوية والدينية والمذهبية والحزبية بل والأممية في آنٍ معًا. وقد أظهرت الحقائق مشاركة هذا النفر، أفرادًا وحكومات ودولًا وشعوبًا وطوائف، بشيء من هذا الدجل وأشكال النفاق التي ساهمت بزيادة مباشرة في معاناة شرائح تعبانة وبسيطة وساذجة في المجتمع الفلسطيني قبل غيره من شعوب المنطقة العربية منها والإسلامية بشكلٍ خاص، فيما طبقة أخرى مرفهة ومترفعة من صفوف هذا الشعب المقهور افترشت وماتزال تفترش القصور والفلل، وتدير مخازن ومتاجر ومحلات وفنادق، وتواصل زيادة إيداعات مستديمة في حساباتها في مصارف وبنوك وزيادة أسهم في شركات مساهمة، سواء في داخل فلسطين نفسها أو في بلدان المهجر. فقد أجاد هؤلاء ومَن آزرهم واصطفّ إلى جانبهم في كيفية إدارة اللعبة التجارية الفلسطينية الماكرة، فأوهموا الشعب الفلسطيني قبل غيره من شعوب ودول العالم بأنهم أفضل مَن يدافع ويساند ويؤازر وينفق عليه أكثر من غيرهم، انطلاقًا من حرص زائف على مصالح "الأمة العربية" الكبرى وضمانًا لديمومة "عروبة" دول المنطقة وحماية ل"الدين الاسلامي الحنيف"، بحسب التصريحات الهوليودية والبوليودية والاعلانات المجانية في وسائل الاعلام المتنوعة الاتجاهات والاهتمامات والسياسات، وبحسب مصالح كل دولة أو فئة أو شخصية.
والحقيقة الماثلة في نتائج هذه جميعًا، أن ضاعت القضية الفلسطينية في هذه المتاهات والتعرّجات والتخريفات والتناقضات والمزايدات، وفقدت المقاومة المعلنة صدقيتها وبدأ بريقها بالخفوت وسط دعوات متناقضة في المواقف والمبادئ والوسائل التي أصبحت قلقة ومتحركة لا تعرف الثبات بسبب تقاطع المصالح والرؤى والانتماء والولاء. فلا الداعون لتحرير القدس بفيالقهم المؤدلجة الجرارة تقدموا بخطوة الصدمة لإفناء مَن أسموهم بعدوّ الإسلام ومغتصب الأرض، ولا المتبجحون فيما أُسميت بالمقاومة اتخذوا القرار الجريء وتواصلوا معه وأداموا زخم الحروب والمعارك التي جرت طيلة العقود المنصرمة. والحقيقة أنّ كلّ تلك المحاولات، سواءً حصلت بتوافق عربيّ ضمن مؤتمرات جمعت العرب فيما بينهم أو ضمّت بين ظهرانيها زعماء دول وأمم اسلامية ادّعت رفضها لقيام دولة اسرائيل، قد حققت تقدمًا في اختراق جدار هذا المسمّى بالعدوّ. والجميع يعلم، كيف انتهت كل تلك المحاولات، والتاريخ جدير بالكشف عن النوايا والرغبات والإرادات وأسرار الصفقات والخيانات والتواطؤات. وقد لا نشهد ذلك نحن الذين عاصرنا تلك الحقبة السوداء من النضال المفتعل والكاذب ضدّ الدولة اليهودية القائمة بالرغم من الجميع! 
من هنا في اعتقادي واعتقاد الكثيرين من الذين أحكموا العقل وتروّوا بالحكمة، لم تعد تنفع لا الشعارات البراقة ولا الدعوات الطنانة ولا التأوهات الباطلة المتباكية على فقدان الوطن أو ما تبقى من أرض وطن يسمّونه بفلسطين، حين يأتي اليوم الذي تخفت فيه تمامًا سمةُ العروبة المزيّفة وتتوارى عنه صفة المقاومة وتنتهي سنّةُ العداء والعداوة بين شعبي فلسطين واسرائيل. فسيأتي اليوم الذي يستفيق فيه الشعب الفلسطيني "العربي" ويدرك كونَ القضية لم تعد سوى لعبة التجارة يتولاها متاجرون ومقاولون كبار رئيسيون وثانويون يتقاضون أجورًا وامتيازات عن كل خطوة سواءً باتجاه التطبيع الواقعي أو باتجاه تأجيج القضية في مناسبات لكسب المزيد من الأموال والعطايا. فكلّ ما يجري ويحصل في هذا وذاك، ليس سوى جرعات تخديرية للناس البسطاء والطيبين ممّن أكلوا الطعم وصدّقوا ما قيل منذ عقود وسنين بالدفاع عن قضية مصيرية تحكي قصة وجود شعب بائس تعرّض مثل غيره في المنطقة لماكنة التغيير في الجغرافيا المتقلبة التي ليس بالضرورة أن يشعر بها البشر في سيرة حياتهم المحدودة. فدولاب التاريخ قد سبق هذا الشعب حين دار على غيره وغيّر مجراه لمراّتٍ وكرّاتٍ عبر الزمن وبفعل الظرف الذي نجهل حدوثه أحيانًا. فهذه هي حركة التاريخ وهذا دولاب الزمن يجري، سواءً شعرنا به أم لا، طالما حياةُ البشر لا تعرف أو تدرك غيرَ صدق وواقع السنوات القليلات التي يعيشُها على الفانية مقارنة بآلاف بل بملايين السنين التي سبقتنا والتي قد تدركنا بعد قضاء مشوار الحياة القصيرة على الأرض. فيما الحكمة توصينا بل تأمرنا أحيانًا بالعيش حسب الواقع المتاح والإيمان بما هو قائم وحاصل وموجود وواقع ممكن ومن دون تكلّف أو مراءاة أو نفاق. فهذه الأخيرة قد أضحت من سمات  العديد من البشر وأخلّت بحياتهم وحياة مَن يجاورهم ومَن يتماهى معهم صدقًا أو تبجحًا أو نفاقًا زائفًا لا ينفع صاحبه ولا غيرَه.
صفقات التطبيع ورنّاتُ التركيع
قد يكون الواقع الحكيم للتطبيع مع اسرائيل في عصرنا المشوَّش هذا، صفقة جيدة ومناسبة لإدامة الحياة ونشر الاستقرار وأشكال الأمان والسلام بسبب التقاطعات في المصالح التي ابتليت بها مجتمعات كثيرة غاصت في وحل النزاعات والحروب العملية والنظرية والأيديولوجية التي لا نهاية لها. وهذه هي حال عموم شعوب الدول الاسلامية التي غرقت في مفاهيم المقاومة ونشر العداء ضدّ كيان سياسيّ زرعته دول عظمى بقوتها وجبروتها وسط دولٍ تنتمي في قوميتها وعراقتها لصفة أخرى تتخذ من الدين والمذهب والطائفة سبيلاً لإثبات الذات والأحقية في الحكم والأرض والنفوذ والسيادة. وهذا يحصل بالرغم من ثبات هوية الشعب اليهودي تاريخيًا هو الآخر على أرض فلسطين إلى جانب غيره من شعوبٍ كانت قائمة بحسب التاريخ والجغرافيا التي لا تكذّبها بطون الكتب ولا يمكن أن تمحوها الآثار الماثلة للعيان. فالتاريخ يتحدث عن شعوبٍ سادت ثمّ بادت عبر حركته المتغيّرة دومًا.هكذا هي حركة الشعوب والأمم عبر التاريخ: تولد وتسكن وتعيش، تسود وتبيد، تثبت وتتنقل، تسالم وتحارب، تتشرّد وتعود إلى أصلها، تنتظر وتترقب، تصبر وتصابر، وهكذا. لكنّ ايادي الشر يبدو عليها صعوبة العيش من دون إبراز أدواتها بوجه الأفضل منها حياةً واحترامًا وتفاعلاً وتعاونًا مع البشر جميعًا. والأنكى من هذا وذاك أنّ مجرّد الاختلاف في النظرة إلى حياة الإنسان ككائن بشري فيما يخصّ احترام خياراته أو الحكم على المجتمعات عمومًا بسبب التقاطع في ثقافات الشعوب، صارَ يشكل إحدى أهمّ السمات التي ترسم له طريقه وخارطتَه وفكرَه وإرادتَه في الحياة، سواءً كانت هذه الأخيرة تتطابق مع الواقع المعاش أو خارجًا عن إطاره الإنساني والواقعي.
    من هنا جاء التدخل السافر في مصير الشعب الفلسطيني من أطراف خارجة عن إرادته أحيانًا، حيث لم تتح التدخلات في شؤونه الوطنية الفرصة المناسبة لمعالجة جروحه بنفسه وإيجاد طريقه لحياة أفضل من دون هذه التدخلات بحجج كثيرة ومختلفة، لاسيّما حين دخلَ الدينُ والمعتقد والأيديولوجية والقومية والمصالح عونًا مشبوهًا في السياسة التي لم تأتي بنتائج إيجابية، ولن تأتي بها البتة طالما الانغلاقُ على التسفيه والعناد قائمٌ، بل وتؤججُه الفتاوى والتفاسير الناقمة والأحاديث والروايات التي انتهى دهرُها وفقدت بريقها الزمني بتقادم الزمن وتغيّرِ المجتمعات وتقدمِ الشعوب وتطور الدول. فالأمم والشعوب لا يمكن أن تبقى أسيرة الماضي السلبي الذي مازال يدمغ أفكار ورؤى مجتمعاتٍ وجهاتٍ تأبى التغيير والانفتاح وفتح صفحات جديدة ناصعة للتاريخ بأشكالٍ أكثر واقعية وقربًا من الواقع الذي تفرضه الظروف الزمانية والمكانية حين تحكيم العقل وترجيح المنفعة العامة التي تأتي بثمار أكثر نضجًا عوض التعنّت والممانعة التسفيهية التي لم تعد تنفع مع تطور العصر وأدواته.
     في الحقيقة، هذا ما أفضت إليه القضية الفلسطينية من تركيع للغير حين وقعَ الشعب الفلسطيني رهينةً بأيادي المتلاعبين بمصيره من مختلف قادة العالم وساسته باختلاف الاتنيات والأديان والمذاهب والطوائف، كلّ بحسب قوة النظام السياسي التي يمسك بها في بلده وطائفته وحزبه وأتباعه وروّاده. وهذا ممّا جعل تفاصيل الادّعاء والمداهنة والتفاوض وفرض الآراء والواقع يتناقض في أغلب الأحيان مع رغبة وإرادة أصحاب القضية أنفسهم. ألم تفتح دولٌ عربية منذ بدء بواكير النزاع العربي-الاسرائيلي بابَ التطوّع لتحرير فلسطين والقدس بسبب ادّعاءات واتهامات من البعض للحكومات بالتخاذل في مواجهة الادّعاءات بمحاولات التدنيس للمقدسات وبحجة تحرير للأرض؟ ولماذا تخلّفَ الأدعياء والمروجون عن خوض الحرب المقدسة التي ادّعوا ودعوا إليها مرارًا وتكرارًا؟ وهل نسي العراقيون فتح نوري السعيد سعيد الذكر باب التطوّع للمتظاهرين الثوريين المطالبين بالتوجه لمحاربة "العدو" دولة اسرائيل في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، بعد اتهام النظام الملكي بالعمالة والتخاذل. فما كان من هؤلاء إلا القلّة القليلة منهم، كي يتواروا عن المشهد الثوري المنافق وترك الميدان لعلمهم المسبق بالنتيجة. وكم من الحروب التي خاضها العرب و"المسلمون" معًا ولم يفلحوا آنذاك في تحرير شبرٍ ممّا اغتصب. بل العكس، حصل الأدهى والأكثر مرارة حين توسعت اسرائيل لتشكّل دولتها الكبرى التي ماتزال في طريقها للاكتمال متى شاءت الأقدار التي لن يكون لنا نصيب برؤية ما قد يحصل لاحقًا. ورحم الله الزعيم المصري الخالد محمد أنور السادات الذي حكّمَ العقل ووضع مصلحة البلاد العليا فوق كلّ منفعة، فنجح في الحصول على سيناء آنذاك مقابل السلام.
صفقات من تحت الكواليس
ما جرى ومايزال يجري من تحت الكواليس وفي الغرف المظلمة بشأن أسطورة القضية الفلسطينية لم يتم الكشف عنه كلّه بعدُ. فالتسريبات التي تتوالى والتي ستشتدّ وتيرتُها في ظروف أخرى أكثر انفتاحًا ومكاشفةً، ستكشف "بلاوي" كثيرة، قد لا يتصورها عقل الفرد المسلم المغرَّر البسيط قبل غيره، "عربيًا" كان أم أجنبيًا أم "أعجميًا" أو "عصمليًا". فهؤلاء جميعًا عبر سياسات زعاماتهم المتهالكة والقائمة كانوا المرتهنين والمقاولين الرئيسيين لما جرى لفلسطين، أرضًا وشعبًا، عبر صفقات من خلف الكواليس درّت عليهم وعلى أعوانهم وأتباعهم مكاسب كثيرة محلية داخلية وأخرى خارجية على حساب حقوق أهل الأرض. ومَن يصرخ اليوم ويعربد ويعاند ويشجب ويهدّد بسبب انصياع العقل البشري لدى دولٍ وشعوبٍ أدرك ساستُها جزءًا من الحقيقة وليس كلَّها، لا ولن ينفعه هذا العناد غير المبرّر، طالما هناك ولو بضعة أفرادٍ من الشعب صاحب الأرض يقبل بالتطبيع وعيش حياة طبيعية طلبًا للأمن والأمان وحياة الاستقرار المفقودة والرفاهية بسبب تبجّح فئات وزعامات ومافيات لا يهدأ لها بال ولا تستقرُّ لها حياة إلاّ بالنبش في أتربة المقابر وتأجيج النيران وتنظيم صفقات التسليح المدمّرة التي تُجنى من ورائها الأموال والامتيازات. أمّا مَن يغرّدُ خارج السرب بالعويل واللطم والبكاء على الحقوق جهارًا وهو في قرارة نفسه يضمر عكس ما يجاهر به، فهذا شيطانٌ أخرس ربيبُه الزيف والكذب والنفاق والضحك على ذقون البسطاء من شعوب المنطقة، سواء في صفوف العرب أو العجم أو العصملّية. فعندما تتناقض الحقيقة والواقع مع الخفي المدسوس سمًا زعافًا بهدف الكسب المشبوه شعبيًا والظهور بزيّ الراعي الحريص لأهداف سياسية زائفة لا تتمتع بالمصداقية، حينئذٍ يُفترضُ قراءة السلام على هذا الصنف من البشر الكاذب المنافق. وخير مثال على ما ذهبنا إليه استنكار دول لها ممثليات أو تبادل دبلوماسيّ رسميّ مع اسرائيل، لكنّها استشاطت غضبًا حين اتخذت دولة الإمارات العربية المتحدة قرارها بتحكيم العقل الذي ينمّ عن رؤية صائبة وحكيمة بعيدة المدى لما يجري من أحداث وما يُحاكُ في الكواليس. وبذلك نالت ما تستحقه من تقدير في قرارها الشجاع الذي يحكي قصة إدارةٍ سياسية محنكة في هذا البلد الذي جذب الأنظار في نقلته التطورية النوعية خلال بضع سنوات بسبب انفتاحه الكبير على العالم وفتحه أبوابًا ونوافذ أدخلته في عالم آخر في التقنية والتقدم والتطور بعد أن عاش معظم طبقات شعبه في غياهب الصحراء وأتربتها مستخدِمَة الجمال والحمير وبيوت الطين والنوم في العراء غير عارفةٍ كيف تقضي حاجاتها طيلة فترة سباتها. وقد عشنا جزءً من تلك الحقيقة حين تمنّى الراحل الشيخ زايد آل نهيان باني البلاد الكبير في إحدى زياراته لبغداد مطلع الثمانينات أن يرى في بلده شارعًا على غرار شارع حيفا. والعاقل مَن يقارن ما وصل إليه البلدان بين الأمس واليوم! 
هناك دولٌ مشهود لها بتاريخها الطويل بل المملّ في المتاجرة بالقضية الفسلطينية، في حين أنها لم تقدّم سوى أدوات الشر والغلّ والحقد والكراهية ضدّ شعوبٍ ودولٍ راغبة بالسلام. والشهادة لله، كلّ ما قامت به لم يكن سوى جرعات تخديرية دائيمة لأصحاب القضية عبر عملائها من مقاولي الشعب الفلسطيني من منظماتٍ تدّعي المقاومة والتصدّي لدولة اسرائيل بألعاب صاروخية بدائية في الكثير من الأحيان وبدالّة اشخاصٍ سذّج توهموا بحملهم شعار المقاومة، بينما زعامات هؤلاء يسرحون ويمرحون في المنتجعات ويسكون الفلل الفارهة ويرفلون بحياة أمراء الحرب. فقد نجحت بعض هذه الكيانات والدول صاحبة الادّعاءات الفارغة، ولاسيّما زعاماتُها الدينية التي تتخذ من السياسة جسرًا لتحقيق المصالح الخاصة وزيادة المكاسب على حساب شعوبها المقهورة، بفرض أجنداتها الدينية والمذهبية والطائفية عبر إثارة المشاعر وزيادة الأحقاد البعيدة عن أية نفحة إنسانية كما أمر بها ربُ السماوات والأرض حينما دعا الأمم والشعوب للعيش بسلام والتعارف فيما بينها على المحبة والوفاق والتضامن. ومثل هذه السلوكيات التحريضية ساهمت بطريقة أو باخرى في تعميق الانقسام في صفوف الشعب الفلسطيني نفسه ووضع العراقيل بوجه أية خطوة إيجابية تساهم في توحيد الصف العربي، حينما ادّعت "الفلسطينية" الزائفة أكثر من أهل البيت الفلسطيني نفسه. فقد تصرّفَ هؤلاء المتبجحون والمنافقون ومازالوا من دون تخويلٍ رسمي من عامة الشعب الفلسطيني المنكوب والمقهور، ربّما إلاّ من أدوات ومنظمات المقاومة المستفيدة من إبقاء الوضع المأساوي على حاله. فإذا كانت الحكومة الفلسطينية ورئاستُها بالذات تتعامل مع دولة إسرائيل رسميًا، فما شأنُ الغرباء والدخلاء والمهووسون أيديولوجيًا ودينيًا ومذهبيًا؟ أليست السياسة إدارة حكيمة تهمّ بتحقيق مصالح ولا تنساق للعواطف التي تدمّر ولا تبني، تعطّل ولا ترمّم؟
شجاعة في الطرح ورجاحة في الحكمة
ومن هذه المنطلقات الإنسانية، جاءت مبادرات السلام العديدة للتطبيع والتعايش البشري المطلوب بين المجتمعات التي تحتضنها المنطقة التي ما تزال تعيش على طبق ساخن منذ بدء الصراع بين الشعبين. وقد جنت الدول التي سبقت غيرها في التطبيع مع اسرائيل بتمثيل مباشر أم غير مباشر، نتائج قرارها السيادي بعيدًا عن تأثيرات خارجية دخيلة. وهذا ما أثبتته الأيام مع كل من مصر والأردن حصريًا، فيما سعت دول أخرى لعقد اتفاقات ثانوية للتخفيف من وطأة العداء بينها وبين الدولة العبرية تفاديًا للآثار غير الطيبة التي قد تترتب في حالة استمرار ذات البين القديم والرضوخ في نهاية المطاف لرنّات التركيع المهين في الشكل والصورة والمصالح. وليس من شك بوصف الخطوة الإيجابية الأخيرة لدولة الامارات بالشجاعة والجرأة حين وعت لضرورة تحقيق تبادل المصالح المشتركة وإرساء السلام في المنطقة الساخنة منذ عقود، لاسيّما عندما أدركت أسرار وحقائق النفاق الأممي والدولي ولاسيّما من داخل الحظيرة الإسلامية، العربية منها والأجنبية، من شرق-أوسطية وأعجمية وعصملية ممّن ساهمت بوضع العراقيل أمام اية مبادرات دولية لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية وذلك بحجة حماية وتحرير المقدسات الاسلامية التي أصبحت شماعة لهذه الأخيرة. بل تشير تسريبات حديثة إلى محاولة دول اسلامية غير عربية متمثلة بباكستان وتركيا وإيران وماليزيا ومَن في دائرتها، لأخذ المبادرة من دول عربية بهدف عزل هذه الأخيرة والتوجه بالعالم الاسلامي لتشكيل منظمة اسلامية بديلة عن المنظمة القائمة حاليًا برعاية السعودية. وكلّ ذلك بسبب وجود تيارات معتدلة تسعى للتطبيع حفاظًا على الأمن الدولي والسلم الأهلي وتحقيقًا لمصالح عليا للمنطقة وبلدانها. وإن صحّت الأخبار، فهذا سيكون بمثابة توجه واضح وخطير يضع دول المنطقة في مواجهة "اسلامية عربية- اسلامية أجنبية"، ستزيد من الهوّة القائمة بين شعوب هذه الدول وحكوماتها. والخاسر الأكبر، سيكون الشعب الفلسطيني في نهاية المطاف الذي لا تنفكّ الدول والأمم بالتدخل في شؤونه والتحدث باسمه وفي تقرير مصيره بعيدًا عن إقامة الحكمة وإحكام الروية وطول الأناة بغية تحقيق سلام دائم وشامل بعيدًا عن أرباب المتاجرة بمصيره والمقاولين الكبار وفروخهم الثانويين في العالم الاسلامي وفي صفوف الشعب الفلسطيني نفسه من أمثال المنظمات الاسلامية والإخوانية المتشددة الممولة سواء من الصف العربي المشبوه لغاية الساعة أم من زعامات دول إسلامية أجنبية مثل إيران وتركيا تحديدًا. فعندما يكون القرار بيد الشعب الفلسطيني ذاته من دون تدخل في شؤونه ومصيره ومستقبله، سيجد حتمًا طريقه إلى السلام والرفاهة والتعايش المشترك ضمن سيادة دولتين جارتين تنعمان بالأمان والاستقرار. 
هذه هي الواقعية المطلوبة والعقلانية في الدبلومساية والإدارة الحريصة التي ينبغي البحث عنها في التعامل مع اسرائيل. فمن حقّ أية زعامة أو أمة أو دولة أن تبحث عن مصالحها العليا ومصالح شعبها من أجل إسعاده وتحقيق رفاهته بما تراه متوافقًا مع تلك المصلحة، وليس بالبقاء أسيرة مستنقع المقاومة الفارغة وما يترتب عليها من سمات الكراهية البربرية والحقد الأبدي والحروب والنزاعات والخصومات التي لا تنتهي. فالتاريخ لم يثبت أن أرض فلسطين كانت ملكًا لسواه دونه، مثلما هو العراق واية دولة أخرى. هذه مسيرة التاريخ والجغرافيا. شعوب سادت ثمّ بادت، وأخرى عاشت وتنقلت وتهجّرت ونزحت، ثم عادت وعاشت وتعايشت. هكذا هي حركة البشر والحجر. وستكشف الأيام صدق المطاوع ولوعة الممانع، كما  أنها لن تخفي لهفة المقاوم لدخول صفقة الواقع هو الآخر!




111
ثلاثيات العجب العجاب في العراق
لويس إقليمس
بغداد، في 3 آب 2020
للرقم ثلاثة (3) دلالات ومعاني في حياة الإنسان، تختلف تفاسيرُها  وضروراتها وحيثياتُها من شخص لآخر، ومن مجتمع لغيره وحسب الظرف الزماني والمكاني. كما يشكل الرقم "ثلاثة" أو مصطلحات "الثلاثية" أو "المثلث" أو "التثليث" في الحياة، رمزًا مقدسًا لدى أديانٍ وشعوبٍ ودول. فالقدماء من الساميين وشعوب سنعار (العراق قديمًا أو ما بين النهرين) كانوا يقدسون هذا الرقم. فآلهة البابليين هنّ ثلاث: "آنو" للسماء و"بعل" للأرض "وأيا" للمياه، كما تفيدُنا كتب التاريخ. وفي العهد القديم لدى العبرانيين اليهود، نشهد على تثليث أشخاص ورموز ذوي دلائل كانت لهم أهميتهم في تاريخ اليهود العبرانيين، ومنها معتقدهم بتكوين الكون من ثلاثٍ: السماء والأرض والبحار. كما أنّ المسيحية تقرّ بوجود الثالوث المقدس المكوّن من آب وابن وروح قدس كأساسٍ معتقداتي في إبراز إيمان مؤمنيها به، ويُستقى منها رموز ثلاثية كثيرة أخرى يعجز عن ذكرها القلم. وقد صاحب الرقم ثلاثة ومضاعفاتُه حياة السيد المسيح التي عمّر فيها 33 سنة، أي منذ ولادته حتى صعوده إلى السماء وبضمنها سنوات رسالته الثلاث الأخيرة من حياته التي أمضاها بين اليهود. وفي الإسلام نقرأ ذكرًا للرقم ثلاثة ومضاعفاتها في العديد من الآيات والعادات والممارسات السنّية، وفي ذكر اسم الله ثلاثًا في صلوات الاستغفار وما إليها من قَسَمٍ بالطلاق ثلاثًا للإشارة إلى انتهاء الرباط الزوجي بين الرجل والمرأة.  كما أنّ الكثير من الدول تعتمد ثلاثة ألوان في أعلامها التي تمثلها ويحترمها مواطنوها بشيء من القداسة والفخر والاعتزاز، إلى جانب اعتمادها شعاراتٍ ثلاثية لأهدافها الوطنية والقومية. فيما تشكلُ ثلاثيات الأهداف شعاراتِ العديد من أحزاب السلطة والدول والأمم في العالم وحتى لدى رجال السياسة، من قريبٍ أو بعيد.
ولكوني غير مختصّ برمزية الأرقام وما تمثلها لدى الإنسان من مدلولات ومعاني، طاب لي التطرق فحسب، إلى ما يشكله هذا الرقم في زماننا الأغبر في بلد عريق الحضارة والشموخ والعزة والكرامة مثل العراق، طيلة مسيرته التاريخية منذ بدء الأزمان. وبكلّ أسف وخيبة، لا بدّ من الإقرار بالحالة البائسة التي يعيشها العراق منذ سنوات عجاف وهو يتأرجح بين سكرات الاحتضار وتتالي الأزمات وتعاظم الفساد وأعمال النهب والقتل والاختطاف والتهديد والتدليس والإيغال في الخرافات والتهريجات وضياع الهوية وفقدان السيادة  منذ أكثر من سبعة عشر عامًا خلت، ولا تريد له جهاتٌ عديدة بل أعداءٌ كثيرون أن يتعافى وينهض من كبوته القاتلة بفعل فاعل.
 كلّ هذه وغيرُها كثيرٌ ممّا لا يتجرّأ قلمُ العاقل ولسانُ الحكيم وحتى المواطن البسيط الصادق بحسه وفكره، قولَه والتصريح به أحيانًا خشية ملاقاة الأذية والتصفية الجسدية كما حصل مع وطنيين أحرار وأصحاب فكر متحضّر وأرباب أقلام وطنية صارخة ضدّ الظلم والقهر والفساد وضدّ سياسة ديمومة السطوة غير المنطقية التي تفرضها أحزاب السلطة وأدواتُها المنفلتة. وبالرغم من الصحوة الوطنية التي أشعلتها الانتفاضة التشرينية في صفوف جموع المواطنين بجميع أطيافهم عبر ثوارها الأبطال والخالدين من شهدائها ومَن يتولون التنسيق في ساحات الكرامة والشموخ، إلاّ أنّ هذه الأحزاب المتشبثة بالسلطة بكافة رموزها الفاسدة المستنفعة التي خرّبت البلاد ومزّقت العباد لا تريد مغادرة سلوكياتها الهائمة في البحث المتكالب الدائم عن مكاسب ومصالح ومغنائم بالضدّ من إرادة الوطن والشعب المغلوب على أمره. ولعلّ واحدًا من التبريرات التي تتشدّق بها للبقاء في السلطة ما قدّر لها البقاء والإطالة في عنادها وإصرارها على مداومة أشكال الفساد والقهر والظلم، ما تنالُه من تشجيع ودعم خارجي مشبوه من دولة الولائية وما ترفده بها دلالات مثالية طائفية وعرقية ومذهبية بتغطية دينية مدلّسة ومتزلّفة في أغلب صورها. فيما هذه االصورة السلبية الأخيرة قد كشفت عورتَها مؤخرًا تصريحاتٌ وتسريباتٌ ومكاشفاتٌ من دواخل دهاليزها المتهرّئة ذاتها.
 وستأتي أيام، وهي قريبة بقوّة الإيمان بالوطن وأهله الطيبين، حين تنكشف أسرارٌ وتطفو رموزٌ ويُطاح برؤوسٍ كبيرة كانت السبب في بلوغ العراق وأهلِه مهالكَ الحياة ورزالةَ العيش وشظف القوت وغياب الرحمة وفقدان الهوية وضياعَ السيادة بعد استبدال كل إرثها الوطني بثقافة التبعية والولائية للغير الدخيل، مهما كانت قدرةُ هؤلاء وجبروتهم وسطوتُهم ودعمهم الولائي الخاسر في نهاية المطاف.

نونات العراق الطيبات الثلاث
اكتسب العراق شهرة عجائبية في "ثلاثيات نوناته" الجدلية، السلبية منها والإيجابية، التي لصقت بتاريخه وجغرافيته وأوضاعه السياسية منذ نشأته وعبر مسيرة حياة شعوبه متعددة الموارد والأديان والمذاهب والإتنيات، والملتصقة بثقافات هذه الأخيرة المتنوعة وحضاراتها المتأصلة في التاريخ. بعض هذه الثلاثيات "النونية" تعود لطبيعة موقعه الجغرافي وثرواته الطبيعية المتمثلة بنون "نهريه" الخالدين اللذين بدا عليهما آثار الشيخوخة والنضوب بفعل فاعل، وأخرى تتعلق بنون ثروته "النفطية" الريعية التي انقلبت عليه وبالاً ونقمة، واخيرًا، في ثالثتها التي تزيّن "نخيله" الجميل الباسق الذي عبثت به يدُ الحرق والدمار والتجريف لأسباب عدة منها الحروب الشرسة والسطو غير المشروع على البساتين وتغيير مجرى القنوات المائية بهدف قطع الحياة عن بساتينه الوارفة التي كان التمر العراقي يزدان بل ويزّين موائد سادة الدول وشعوب كثيرة في العالم بسبب تنوع أصنافه وندرتها وحلاوة طعمها الذي لا يُضاهى.
قبل ايام تناول شيخ الثقافة ونديم الصحافة العراقية حسن العلوي، أمدّ اللهُ في عمره، على صفحات جريدة الزمان ما تتمتع به بلاد الرافدين من خيرات غزيرات تبدأ أفضالُها بنونات ثلاث عامرات "نون النهرين، ونون النفط ونون النخيل" التي أنعمت بها السماء أرضَه لتقيتَ البلاد وعبادها والبشرية من ثمارها ومنتجاتها الطيبة وثرواتها الكثيرة ومياهها العذبة وخضرتها الوارفة. وكانت حسرةُ الرجل في مكانها حين وصفه ببلوغ مأساة العراق حدّ الإفلاس وخواء الميزانية لغاية عتبة الاستجداء بسبب ما يعانيه منذ سنوات عجاف من تخلّف في كلّ شيء، بدءً بغياب السيادة ونقصان الهيبة وخشية من إفلاسٍ متوقع وخوفٍ من أعمال سلبٍ ونهبٍ وسطوة غير مشروعة تحصل على أيدي ساسة البلاد وأحزاب السلطة وأدواتها. ناهيك عن زيادة في الفقر في صفوف العامة وتعطّل ماكنة الصناعة وتراجع في الزراعة والثقافة والعلم وخدمة المجتمع. فنوناتُه الثلاث العامرات الطيبات قد عطّلتها أيادي دخيلة على الوطن بفعل سياسة الفساد وإقطاعيات المحاصصة التي تتحكم بمقدرات البلاد بلا ضمير ولا وازع ولا خشية من السماء وخالق العباد، وهذه هي التي قصمت ظهر العراق وأعادَتهُ إلى قرون الظلام بدعم وتوافق دوليّ على بقائه في أسفل دركات الحضارة والتنمية والتقدم خشية من قدرة شعوبه متعددة الأديان والأطياف والإتنيات التي تشكل فسيفساءَه النادرة من أن تصحو من جديد وتقيم لها جبروتًا نهرينيًا خالدًا يليق بتاريخها الأثيل. فما في جعبة الطبقة المتسلطة الحاكمة من أنانية فاحشة ومن قهر وجهل وتبجّحٍ بالولائية الخانعة لدخلاء وأغراب من خلف الأسوار، قد كشف زيف ادّعائها بالولاء للوطن وخدمة الشعب، حيث أصبحت السلطة لديها تشريفًا وتبجحًا وسطوة ونهبًا وقتلاً وتهديدًا وليس خدمة وتكليفًا ومحبة بالشعب الباحث عن وطن مفقود ولقمة عيش شريفة ووظيفة محترمة وشارع نظيف ومياه عذبة صافية وأمنٍ واستقرار في البيت والموقع والشارع.
حقًا، صدق الشيخ الوطني بقولته الصحيحة حين محاججته ساسة البلاد بالقول: "من المعيب بل من العار ان يتقبل العراق اية مساعدة وكأنه الصومال، وقد وهبه الله ثلاث نونات، نون النهرين، ونون النفط ونون النخيل".
ثلاثيات جدلية أضرّت بالعراق
 يتحدث ساسةٌ أصبحوا خارج أروقة السلطة ومفكرون ومثقفون وحكماء قوم عن ثلاثيات أغلبُها جدلية ضارة وماكرة في حيثياتها ومخارجها السياسية والمجتمعية. فقد دخل العراق زمنَ مثلث السلطة الحاكم "الشيعي- السنّي -الكردي" الذي فرضه الغازي الأمريكي المتغطرس سيّدًا مطلقًا ولا أحد سواه بدل تأمين وتشويق الحسّ الوطني الذي يساوي في المواطنة والعدل في الحكم دون تمييز. كما أنَّ الظرف الاستثنائي الذي عاشته بلاد ما بين النهرين الخالدين منذ الغزو الأمريكي المقيت في 2003 والإتيان بطبقة سياسية دخلية وغريبة في معظم شخوصها ورؤوسها التي حطّمت ودمّرت وأنهكت وأضرّت بحياة شعبه، لا يمكن استمرارُه إلى ما لا نهاية. ولا بدّ للعبة "الأمريكية-الغربية-الإقليمية" أن تنتهي وتنهي مشوارها غير القويم الذي دنّست به سيادة البلاد وانتهكت حقوق العباد الطيبين في أصولهم النهرينية العريقة وحقهم بالعيش أحرارًا وطنيين في بلادهم وتحت ظلال خيمة عراقية مستقلة وليس غيرها. ولا بدّ لليلِ المثلث العاهر أن يزول وتنبلج أضواءُ نهارٍ عراقي جديد بشعور وطنيّ وحسّ نهرينيّ خالص في سومريته وبابليته وأكديته وعراقيته الحديثة التي جسّدها الحكم الملكي بأروع صورها في استقرار البلاد على عهده، وكانت فيها بوادرُ رائعة لمشاريع التحديث والتمدّن والبناء بفضل نزاهة حكوماته المتتالية حتى القضاء عليها في صبيحة 14 تموز الفاجرة التي نقلت البلاد إلى عهود جمهوريات الظلام وأدخلت مواطنيها في ثورات جنونية متتالية كانت ثمارُها العليا سكبَ أنهارٍ من دماء زكية كان يمكن استخدامُها لأجل البناء والتنمية وإصلاح البشر والحجر معًا، لولا غيلة السلطة والجاه والمال ومغرياتُها وأدواتُها القاتلة. فكلنا على دراية كافية بأن من يصنع سياسة البلاد ويرسم لها مواقفها ومنهاجَها أحزابٌ وأشخاص فرضها الحاكم بريمر بتمثلها بزعامات المثلث الحاكم "الشيعي- السني- الكردي" التي تتفق وتتوافق وتساوم وتتفاوض على تقاسم الكعكة أو ما تبقى منها. وهؤلاء، لكل منهم مصالحه الحزبية والطائفية والفئوية والشخصية. كما لهم مخاوفهم من أية نزعة أو ثغرة لتغيير مسار العملية السياسية ومنظومتها الفاسدة. فتغيير المسار والمنهج يعني من جملة ما يعنبه الخشية من فقدانهم دفة الحكم وما فيه ومنه من مزايا وامتيازات وثروة وجاه ونفوذ، وأخيرًا خوفهم من محاسبة الشعب إياهم على إساءتهم السلطة وتسليمهم البلاد للغريب الدخيل خنوعًا وخضوعًا وولاءً مشبوهًا.
من هنا، فإنَّ معظم شخوص نظام السلطة الذين قُدّر لهم الخروج أو الطرد من دهاليزها لا يتوانون بالحديث عن سلبيات تسلّط المثلث المحاصصاتي البغيض الحاكم منذ 2003، أحيانًا بشيء من الريبة والتورية والتدليس، واخرى علنًأ كشفًا للمستور وفضحًا للقائم من الواقع المشين أو تأنيبًا للضمير ونأيًا بالنفس عن المضرات والأذيات التي لحقت بالبلاد وشعب العراق الجريح حتى العظم. ولكن الجميع متفقون وبدون مواربة على سلبية هذا الحكم السلطوي الثلاثي الذي رسمه الحاكم الأمريكي الفاسد بريمر، وبه أوكلَ لكلّ حزب فاسد أو شخصية انتهازية دورًا للقضاء على ما تبقى من شبه الدولة العراقية آنذاك. وبالفعل، فقد أجاد الجميع ومن دون استثناء، أداء دورهم المرسوم لهم في تغييب سمة الولاء للوطن وكلّ ما يمكن أن يخدم طبقات الشعب المنهارة. وقد حصل ذلك من خلال خلق طبقة سياسية متسلطة على رقاب جماهيرها باستخدام أدوات الدين والطائفة والمذهب دعمًا لأجندتها الشاملة بتدمير ما تبقى من مؤسسات البلاد وتخريب نسيجها المجتمعي عبر إثارة نار الطائفية وجعلها منهجًا في الحكم والولاء وبالاتفاق مع دولة الولاء ذاتها تقاسمًا لأدوار السلطة ونهبًا للثروات وتركيع العباد.
ولعلَّ من الأمثلة المقبولة من هذه الترسيبات والتصريحات وليس الحصر، ما كشفته شجاعةُ أعلى سلطة رقابية سابقة في الدولة العراقية، متمثلة بالسيد عبد الباسط تركي، حين حديثه عن شيئ مخيف عن هذا المستور، بالرغم من معرفة الجميع وحديثهم عنه في كلّ زاوية وكل شارع وكل بيت. فقد صدق القولَ بكون أبواب البلاد مشرعة للاستثمار بشكل استثنائي، الا أن هناك "مثلث "موت سياسيّ قائم على قدمٍ وساق يضع العراقيل أمام نهوضه وتطوره الا وهو "الفساد والمحاصصة والعنف". وبحسب رؤيته الوطنية الصائبة، إنْ صدقت النيات، لا بدّ من توفر الإرادة السياسية لكسر أضلاع هذا المثلث الذي بات ضرورة للنجاح خلال المرحلة المقبلة.
إنها رؤية سليمة سياسية لا تتقاطع مع تصريح الخبير العسكري سرمد البياتي بوجود "مثلث" جغرافيّ مميت لا يقلّ خطورة عن أعمال القتل والترويع وعدم الاستقرار التي تشهدها البلاد منذ الغزو الأمريكي وما لحقها من مؤامرة احتلال دواعش قرون الجاهلية وسيطرتها على "ثلث" أراضي العراق وفرضها دستور الظلام في تلك المناطق الساخنة. وجميعُنا على دراية بمثلث الموت القاتل الذي يقع بين المحافظات "الثلاث" الساخنة لغاية الساعة، صلاح الدين وكركوك وديالى. فما تزال هذه المناطق تشهد اختلالاً أمنيًا وأحداث قتل وخطف وسلب من جهات خارجة عن القانون لها صلة بجيوب تنظيم الدولة، ما يصعب معالجتُها بسبب ضعف التعزيزات الأمنية للدولة وهزالتها الهشة وارتباط بعضها بهذه العصابات أو تسهيلها للقيام بعمليات نوعية بين فترة وأخرى إشعالاً للأحداث ولأجل خلق فوضى وإشغالاً للأجهزة الأمنية ونهيها عن السعي لإعادة الأمن والاستقرار وفرض هيبة الدولة التي تسعى لها حكومة السيد الكاظمي، بما عليها من ملاحظات بسبب تساهلها في هذا الخصوص، إنْ مراعاة لجهات آزرتها في تقلّد الموقع أو تحاشيًا لأي صدام مع جيوش ولائية غير خاضعة لقانون فرض هيبة الدولة وسيادتها على الأرض والحجر معًا، أو خشية من قيام صراعٍ وطني-ولائيّ لا تُحمد عقباه.
وقانا الله شرّ كيد أعداء العراق وحفظ أهلَه وأرضه وسماءَه ومياهَه، وأيّدَ رجاءَه بغد مشرق قادمٍ أفضل!
.

112
الانتخابات المبكرة في العراق وفرصة الخلاص المأمولة
لويس إقليمس
بغداد، في 10 آب 2020
ظلّ مشروع قيام انتخابات مبكرة مطلبًا شعبيًّأ طالما نادى به أبطال الانتفاضة التشرينية وضمنوه من بين شروطهم لإعادء شيء من اللحمة الوطنية العراقية ولأجل تعبيد الطريق نحو استواء العدل والاستقرار والأمن وفتح آفاق آمنة بإمكانية العودة لنهضة البلاد واستعادة كرامتها وهيبتها عبر تغيير مرتقب في طبيعة المنظومة السياسية المتسلطة. وكان من البديهي أن يلقى هذا المطلب منذ بروزه إلى سطح الحياة السياسية بعد التحقق والتأكد من فشل العملية السياسية برمتها منذ قيام سلطة الائتلاف لغاية يومنا، دعمًا متناهيًا لا حدّ له ممّن يسعون للتغيير الجذري في حياة العراقيين الذين ابتلوا لحدّ النخاع بطبقة سياسية اتضح أنّ جلّ همها وجزيل سعيها لم يكن سوى تقاسم الكعكة العراقية بين مقاولين كبار أجادوا لعبة الكراسي والسلطة بدعم من شريكين ماكرين: الراعي الأمريكي المتغطرس الحاقد على العراق وشعبه بكافة أطيافهم ومكوناتهم والماضي في استراتيجيته الفاسقة باستمرار تفتيت البلاد وتشرذم العباد بالتعاون والتنسيق مع حلفائه الغربيين الغادرين من ناحية والمساومة عليه مع غرمائه في المنطقة ومَن يدور في فلكهم من دول الجوار، والثاني من المحتل الفعلي الجاثم على صدره والقادم من حدوده الشرقية، لكونه صانع القرار الفعلي، وذلك بالتضامن والمساومة والتوافق في المنهج السياسي والسلوكى التدميري للبلاد مع راعي العملية الرئيسي.
بغض النظر عن الموعد الذي حدّده رئيس الحكومة العراقية من جهة ملائمته أو عدمها من ناحيتين اساسيتين، فالشجاعة فيه وافية بدء ذي بدءٍ، إذا استبعدنا العذرين التاليين: أولاً، بحسب بعض الفلكيين، لا يبدو الموعد متفائلاً أو إيجابيًا كثيرًا من ناحية تشكيل موعد تاريخ الانتخابات في 6/6/2021 رقم 8، وهو رقم غير مناسب للحظ، بحسب هؤلاء. وثانيًا، أعرب عدد من المهتمين بعدم ملائمته أيضًا من الناحية الطقسية، فالأجواء ستكون حارة أيضًا، ولن يكون من السهولة مواكبة الحدث من قبل جميع فئات الشعب بسبب ما قد تشكله هذه الصعوبة من معاناة في التنقل والوصول إلى مواقع صناديق الاقتراع بيسر وانسيابية.
نعود لمناقشة نقاط أساسية تمس قانون الانتخابات الذي لم يُقرّ لغاية الساعة ومازال يدور في دهاليز مجلس النواب. فالواقع بحسب اعتقادنا يشير إلى تأرجحه بين أيدي خبراء ومقاولي أحزاب السلطة كي يتناغم في صياغته الأخيرة مع رغباتهم ووسائل سطوتهم من جديد على حركة الناخب باستخدام قدرات الدولة التي تسهل لهم الحركة والتأثير في الناخب وعبر استغلال المال الحرام في الإقناع والتهديد إن لزم الأمر، كما حصل في سابقات المسرحيات، فكانت النتائج فضائح انتخابية مكشوفة بالصوت والصورة. وليس مستغربًا أن تلجأ أحزاب السلطة ومَن يساندها إقليميًا ودوليًا بدون حياء ولا خجل، إلى التلاعب بطبيعة الدوائر الانتخابية وتشكيلها، هذا في حالة إقرار نظام الدوائر المتعددة مناطقيًا، وهو الأكثر قربًا لضمان وصول مستقلين أو أحزاب صغيرة لها خلفيتُها المجتمعية ومريدوها وأتباعُها في مواقع عديدة من محافظات البلاد إلى قبة المؤسسة التشريعية التي بقيت رهينة بأيدي الكتل الكبيرة من مقاولي أحزاب السلطة بمثلثها الفاسد. هناك مَن يسعى لخلق العراقيل الفنية أمام مفوضية الانتخابات بحجة عدم تطابق أعداد الناخبين في الدائرة الانتخابية الواحدة مع ما هو مطلوب في صلب القانون. وهذا عذر لا ترى فيه المفوضية وخبراؤُها عقبة كبيرة من حيث قدرة وزارة التخطيط على المناورة في تحديد وتقريب أعداد الناخبين ضمن المراكز الانتخابية المتجاورة لحلّ هذه الإشكالية. أي بمعنى آخر، لن تشكل هذه المسألة مشكلة في تسهيل تحديد الناخبين في المراكز الانتخابية التابعة للدائرة الانتخابية ضمن المحافظة التي تتبعها بحجة عدم وجود إحصاء سكاني. وواضح أنّ القصد من وراء هذا التأخير أو الإرجاء هو لكسب الوقت والتمديد للمجلس النيابي الحالي حتى انقضاء ما تبقى من فترته التشريعية الفاشلة أصلاً. فالانتخابات ستجري في وقتها، وليكنْ ما يكون رغم أنف المعترضين والرافضين!
لا تسلبوا كوتا الأقليات
وهنا لا بدّ من التذكير بضرورة إيلاء كوتا المكوّنات القليلة العدد (الأقليات) ما تستحقه من اهتمام ورعاية خاصة بحيث لا تفقد قيمتها المرسومة لها من حيث تمثيلها الحقيقي لمكوّناتها. وهذا يستلزم رفض القبول باستمرار وضعها في موقع الوصاية من أطراف الكتل الكبيرة والأحزاب التي بسطت هيمنتها على إرادتها بمصادرة صوتها بشتى الوسائل الجهنّمية، تارة بحجة حمايتها واخرى بجرمٍ أكبر من العذر المفضوح بانتمائها إلى صفوفها المذهبية أو العرقية أو القومية أو الدينية. وهذا من الفواحش في السياسة غير الآمنة التي تتبعها أحزاب السلطة سعيًا حثيثًا ودائمًا لفرض سطوتها على المكوّنات الضعيفة التي تحتمل وتتقبل التطفل على موائد الأسياد "المقدَّسين" زورًا وبهتانًا. من هنا ينبغي على من يجد في نفسه الكفاءة والجدارة والقدرة على تمثيل أبناء "الأقليات" أن يتجنب التنازل عن الحق المشروع لصيانة أصوات الناخبين من أبناء الأقليات واستغلالها في مكانها الطبيعي من دون تطفل ولا خنوع ولا خوف ممّن يدّعي تأمين الحماية له، مرشحًا أو ناخبًا. ولو خيروني بالتمني لأي موقف أنساق إليه، لناديتُ بأعلى صوتي برفض هذه الكوتا المهينة والقبول بصوت الوطن والمواطنة خيارًا في اية انتخابات قادمة. فالوطن حين يستفيء تحت ظلاله الجميع، يدرك شعبُه قيمته العليا ويصطف مع مصالحه الأساسية ويميل لكلّ شيء وكل مشروع يتألٌّقُ فيه وطنًا من الجميع ولأجل الجميع اينما كانوا وارتحلوا.
خطوات وإجراءات للتقليل من التزوير
ما يُخشى منه، أن تفشل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي حصل تشكيلُها بطريقة مشكوك بها وغير مقبولة من أشخاص قريبين بل مفروضين أو تابعين أو موالين لزعامات حزبية وكتل سياسية تمكنت في حينها من السطوة على مقدرات هؤلاء ومَن يؤازرهم من موظفين تم تعيينهم في هذه المفوضية، في تحقيق مهمتها بطريقة نزيهة خالية من التزوير بسبب التأثيرات الخارجية والمحلية من أصحاب النفوذ والمال والسلاح المنفلت. وفي هذه الحالة المريبة، لا بدّ من الاستعانة بخبرات دولية ومدّها بمراقبين لا يخشون في الحق لومة لائم شريطة أن يدير هؤلاء العملية برمتها، من ألف باء استقبال طلبات الترشيح، لغاية تهيئة الدوائر الانتخابية وتحديد مراكزها والسهر على مسارها بسلاسة ومن دون ضغوط وتهديدات لغاية تجميع صناديق الاقتراع ومصاحبتها شخصيًا إلى مواقع مأمونة بإشراف دوليّ أيضًا والبدء فورًا بفرز الأصوات تحت إشرافهم وإعلان النتائج باسرع ما يمكن تحاشيًا لتدخلات سافرة من قبل جهات أو أحزاب أو اشخاص ذوي تأثير ديني أو مذهبي أو حزبيّ أو فئوي.
هناك حلول فنيّة ولوجستية اقترحها أصحاب الشأن وخبراء المعلوماتية من شأنها أن تقلّل كثيرًا من حالات التزوير المتوقعة. ومنها وليس وحدها، إتمام مشروع الحوكمة الالكترونية واستنفار دوائر وزارة الداخلية لإتمام مشروع البطاقة الموحدة فيما تبقى منه في محافظات البلاد والذي من شأنه أن يحدّ من إمكانية التزوير باعتماد بطاقة الناخب الرسمية التي تمثل هويته التي لا تقبل الجدل والتلاعب. فالحوكمة الالكترونية تعدّ المفتاح الأول لإدارة الدولة. وإذا ما سعت الجهات الرقابية في الحكومة ممارستها وفرضها في تأمين بطاقة الناخب وفرز الأصوات والتحقق منها جميعًا، فستكون كفيلة بالتقليل من أدوات التزوير التي شهدتها الانتخابات السابقة جميعًا من دون استثناء. وهذا ما يراه العديد من خبراء المعلوماتية الحريصين على تحقيق الهدف المنشود من إقامة هكذا انتخابات مبكرة . ومن الجدير ذكره، هناك مَن بادر من العراقيين الأكفاء في هذا المجال ومن الطيبين من أمثالهم بالتطوع لتحقيق الفكرة وتقريب الأدوات التي تؤمّن المشروع الذي ينتظره جميع العراقيين بكافة انتماءاتهم، باستثناء أحزاب السلطة بطبيعة الحال الذين يخشون الفشل واحتمالية فقدان أشكال التأثير الذي كانوا يمارسونه في السابق في صفوف البسطاء باستخدام غطاء الدين والمذهب ورجاله من المزمّرين والمطبّلين بغية إبقاء المنظومة الحاكمة ما شاءت يد السلطان وأمرت الأسياد ونادت به العمائم الناشزة والزائغة عن الحس الوطني.
إنّ التصريح الصادر عن مكتب رئيس الوزراء بخصوص تشكيل فريق خاص لإعداد خطة خاصة لاجراء الانتخابات المبكرة وفق المعايير الدولية فيه نكهة من الشعور بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على رئيس الحكومة وفريقه الوزاري والاستشاري الجديد، من خلال ضمان رؤية مماثلة وجادّة من جهتي رئاسة الجمهورية والبرلمان على السواء. فالعقبة الكبيرة تأتي اليوم من نواب الشعب الذين يخشون الاستبعاد والابتعاد عن المشهد السياسي بفضل صحوة الشعب المغلوب على أمره والذي مازال يعاني من الاستخفاف به والضحك على عقول عامته ومن إهمال واضح بحاجاته وضروراته اليومية، فصار يعيش في وادٍ وممثلوه في وادٍ آخر لا يتلاقيان ولا يتفاهمان إلاّ حين تستعر نيران الطائفية والمذهبية والعرقية حيث تصفى النوايا ويجتمع المختلفون خوفًا من فقدان الحكم والمنصب والمال الحرام والمكسب غير المشروع من صنبور شبه الدولة الذي كاد يفرغ ويجفّ. وهنا الطامة الكبرى، إذ يطغى الدين والمذهب والمكوّن على مصالح الوطن العليا وتتشابك مصالح أرباب السلطة مع المنتفعين والطفيليين والمستغلين وصولاً لتثبيت أركانهم كلّما دنت ساعة الخلاص منهم ومن أعمالهم الشريرة غير الوطنية وغير الأخلاقية في عالم السياسة والإدارة حين تطغى السياسة القذرة على الإدارة الرشيدة الحديثة لدولة تحترم نفسها وشعبها. فالإدارة الرشيدة المحتكمة إلى الحكمة والولاء للوطن والشعب دون غيرهما، وبما فيها ولها من عناصر القوة في فرض هيبة الدولة وضمان السيادة في استقلالية حقيقية للبلاد، لا يمكنها أن تقبل بتفوّق أو تقدّم السياسة الخادعة عليها. وهذا هدف كلّ إدارة حديثة إيجابية تضع نصب أعينها استغلال الكفاءة الوطنية في خدمة الاقتصاد ووضع الخطط الاستراتيجية التي تضمن وتساعد للتخلّص من السياسات الخاطئة للحكومات المتعاقبة الفاشلة.
تفاؤل بحذر
إنّ ما يزيد التفاؤل بإمكانية إنجاز هذه الانتخابات وخوضها بطريقة مغايرة عن سابقاتها، وجود الإرادة الشعبية والوطنية التي تطالب أيضًا من جملة مطالبها بتأمين بيئة إيجابية مستقرة آمنة مرنة وغير مقلقة من تأثيرات أطراف الدولة العميقة التي تعبث بمقدرات البلاد بكل سهولة ويسر وبحركة سلبية تخشى أجهزة الدولة القائمة التعرّض لها ، بسبب التهديد الذي يمكن أن تشكله مع كلّ مّن يتقاطع مع الرغبات الفئوية لهذه الأخيرة ومشاريعها الولائية. فمسألة فرض النظام بكلّ صرامة حفظًا لهيبة الدولة وتقديرًا لقدسية المشروع المصيري، وتأدية المهام الموكلة كما ينبغي لأية جهة مسؤولة عن فقرة من فقرات هذا المشروع، هي الرهان على نجاح العملية الانتخابية القادمة، في حالة سارت الأمور كما ينبغي وطنيًا وشعبيًا وأخلاقيًا بعيدًاعن تأثير الفاسدين والمتطفلين والدخلاء والمارقين. ناهيك عن تنامي الوعي لدى طبقات الشعب المسحوقة المتأثرة لغاية الساعة بتعظيم الأشخاص وتمجديهم وعدّهم أساطير لا يمكن المساس بها، بل وممّن يعدّهم الدخلاءُ ضمن المقدسات بفعل تأثير الوازع الديني والمذهبي والعرقي. يضاف إليها، حاجة المواطن لقائد وطني يعي مسؤولياته الوطنية قبل أية مصالح أخرى بحيث يكون قادرًا لوضع حدود مقبولة ورادعة للزعامات الاستغلالية التي تهيمن على المشهد السياسي من غير وجه حق. وهذا وحده كفيلٌ بمغادرة ثقافة تقديس الأفراد وإعلاء صوت الوطن المفقود منذ أكثر من 17 عامًا والذي يبحث عنه العراقي في كلّ شبرٍ من أرض الفراتين، ويجسده اليوم شباب الانتفاضة في ساحة التحرير والحبوبي وأم بروم والنجف وكربلاء والمثنى وغيرها من الساحات الفرعية المتناثرة في المدن والمحافظات الثائرة.
    أمّا مَن يدعو لمقاطعتها بحجة المقاومة التي أصبحت اسطوانة مشروخة أو بحجة عدم اكتمال مشروع إخراج القوات الأمريكية التي أتت بساسة المفاجأة إلى الحكم نكاية بالنظام السابق، فهو شرّير وماكرٌ مدفوع الثمن يرتبط باجندة خارجية مشبوهة، ويسعى سعيًا لإجهاض أي توجه بتغيير العملية السياسية ومنظومتها الفاشلة جذريًا. وهذا هو الهدف الأسمى الذي يترقبه الشعب ونخبُه السياسية والاجتماعية والمنظماتية والاقتصادية الواعية المجبولة بحب الوطن والإيمان بقدرة أبنائه البررة الطيبين على استنهاض الهمم وإعادة النسيج المجتمعي وتنميته وتقدمه وتطوره في المسار الصحيح له باستخدام موارده الكثيرة التي لا تنضب أفضل استخدام في ظلّ إدارة سياسية متطورة ناجحة. وسيبقى الرهان على نجاح الانتخابات القادمة وتحقيق الهدف المنشود منوطًا بسعة التوجه لصناديق الاقتراع وكثافة المشاركة مضمونًا بحُسن تقدم مرشحين أكفاء ذوي خبرة ووعي ورؤية سديدة ترفع راية الوطن عاليًا خاليًا من الولائية للغير الغريب، وتتوجه لخدمة الشعب شرفًا. 
وللمزيد من الحيطة والتحذير من مغبة استغلال زعامات الأحزاب الحاكمة لسطوتها وتأثيرها  في العملية الانتخابية القادمة،لا بدّ من الانتباه لسلوكيات مشبوهة قد تشوّش على مسار هذه العملية ونتائجها المؤمّلة وتأتي بوجوه لا تختلف عن سابقاتها في فرض ذات المبادئ والأغراض التي تديم منهج المحاصصة وتقاسمَ السلطة وفق المكوّنات الطائفية التي لا يمكنها أن تصنع دولة حقيقية ذات سيادة تحكمها الوطنية قبل أي مصلحة أخرى. فقد تسعى الكتل والأحزاب الحاكمة للمقاربة والتماهي مع انتفاضة الشارع واستغلال شخوص الثورة التشرينية بزجّ عناصرها في صفوف أحزاب جديدة وبمسميات متعددة للظهور بملاءة مختلفة من حيث الشكل بهدف تبيان تعاطيها وتماهيها مع مطالب الشارع ونداءات النخب كسبًا لأصوات الناخبين وتشويهًا لحقيقتها المزيفة. وقد بدأت أولى بوادر هذه السلوكيات تظهر على الملأ بالإعلان عن تشكيل أحزاب جديدة متبرعمة عن أصولها الفاسدة، إلاّ ألّلهمّ في حالة سلمت النيات وقادت مثل هذا التوجّه نخبٌ وطنية مستقلة "أقحاح" تضع نصب أعينها مصلحة الوطن وتتمتع باستراتيجية حقيقية واضحة في إدارة البلاد اقتصاديًا أولاً وقبل كلّ شيء، ثمّ سياسيًا وعلميًا وتربويًا واجتماعيًا وعمرانيًا وصناعيًا وزراعيًا بعد أن أفسدت الأحزاب منذ 2003 هذه السمة الوطنية بمنهجها المحاصصاتي الفاشل الذي أوقع البلاد ومؤسساتها في فساد أكبر من أن يتصدى له ما تبقى من الدولة نفسها. بل إنّ إشارات تسقيطية مشبوهة لإعادة رصّ الصفوف وسط الكتل والأحزاب القائمة الحالية تساهم فيها فئات تسعى لإثبات القدرة على تولي السلطة، قد لاحت في الأفق قبل أن يتمّ تأكيد إقامة هذه الانتخابات بسبب ما يشوب العملية السياسية من غموض في مسائل عديدة، ومنها ما يتعلّق بتوجهات سياسية جريئة في منهج الكابينة الوزرارية الحالية التي تُعدّ مغايرة لما في جعبة أحزاب السلطة وزعاماتها الولائية لدول إقليمية طامعة.
ومهما حصل، فالتغيير الجذري مطلوب بهدف انتشال البلاد من هوتها السحيقة ونجاتها من براثن الفساد الذي طغى وطفا، وكبّل البلاد ورهنها بيد الأغراب عنها، وسرق العباد وأهانَ الوطن وحصر العلمَ وحدّ من الفكر وسلب حرية التعبير وسيّسَ القضاء لصالح الطبقة الحاكمة ومصالحها. وما أكثر الحديث في هذا الصدد. فالحديث فيه ذو شجون، والتفاؤل به في غاية الحذر! والفرصة مؤاتية، فلا نضّيعها!

113
لبنانُ لو خيّروهُ اليوم لاختارَ فكرَ بانيهِ
لويس إقليمس
بغداد، في 5 آب 2020
احترقت بيروت يوم الثلاثاء 4 آب 2020، كما أرادَ لها أعداؤُها من خارج البيدر العربي القحّ والحاسدون لدارها الوطنية الآمنة في الفكر والسلوك والأخلاق والإنتاج والمرح والثقافة والأنس والتحرّر بكلّ رموزها وأيضًا في رمز أرزها الشامخ. أحرقوها بالأمس بمواد قاتلة لم تبقي ولا تذر، فأدمعتْ لها عيونُ أهلها وأصدقائها ومحبيها دمًا مصحوبًا بمرارة العلقم على ساكنيها وقاصديها ولاعبيها وشاغليها ومؤنسيها. ولا عجب في تجدّد مثل هذا الفعل القبيح في الزمن المعتم العقيم. فقبلها حديثًا وليس قديمًا، أحرقها أعداؤها زمنَ الحرب الأهلية القاتلة في نيسان 1975 وأصبحت موقدًا مشتعلاً لسنوات، حين دخلها الزؤان الفلسطيني عنوة لإحداث تغييرات ديمغرافية في خارطتها السكانية والجغرافية والسياسية بفعل فاعل. ونظرًا لتشابك المصالح وتقاطعها بحسب الظروف وشكل الضغوط وتبادل الأدوار، لم يتوانى الغرباء والدخلاء من تكشير أسنانهم على تركيبتها السكانية المعقدة طيلة تلك الحرب الضروس، ومنها ما يتعلّق بتركيبتها التقليدية المسيحية المتميزة بهدف إنهاء دور هذه الجماعة المتسيّد تاريخيًا وعصريًا وثقافيًا وسياسيًا وسكانيًا. وهذا ما حصل حين اضطرار الآلاف من اللبنانيين ومنهم المسيحيين بخاصة لاختيار الهجرة والاغتراب في بلدان المهجر المتعددة سبيلاً للوقاية والنجاة من هجمات الأعداء الذين كثروا وتكالبوا آنذاك داخليًا، وزادوا شكيمة وعزيمة وقهرًا وكيدًا بدفعٍ من تدخلات خارجية إقليمية ودولية سافرة. وإني لا أعتقد بفظائع أتعس وأشدّ ممّا أذاقه النظام السوري لاحقًا لهذا البلد حين تيسر لهذا الأخير احتلال لبنان وإحداث تغييرات في تركيبته السكانية وفرض إرادته السياسية على الفرقاء لحين انقشاع الغيمة قليلاً لفي وقت لاحق.
لعلّ ما يثير الدهشة والحيرة، أنه ما أن حطت الحرب الأهلية المدمّرة أوزارها حتى تراجعت القهقهرى جميعُ الميليشيات المتحاربة بموجب اتفاقات دولية وإقليمية، ماعدا ميليشيا حزب الله التي أصبحت تتنامى على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي والإقليمي وبدعم خارجي معهود، وربما حتى من الغرب "الكافر". ولا أحد كشفَ السرّ الغامض وراء تلك الخطوة الماكرة. فهل جرى التخطيط مذ ذاك التاريخ للبدء بزرع بذور فاسدة لإمارة مذهبية شيعية وسط بقعة جميلة مثل لبنان لم يعرف شعبُه المتآخي سوى المحبة والأمل و اسلوب عيش ثقافة الحرية والجمال والفكر والطرب والأنس بهدف استبدال كل هذا الإرث وهذه الثقافة بنظام محاصصاتي لتخريب البلاد وتدميرها من خلال خلق بؤرة جدلية مشبوهة مليئة بالمتفجرات والعثرات والسفاهات؟ ولصالح مَن كلُّ هذا التسفيه والتدمير والخراب؟ ولماذا يرفض ساسة لبنان سماع صوت الحق الحكيم المطالِب بتبنّي سياسة الحياد الإيجابي الذي من شأنه الحفاظ على سيادة البلاد واستقلاليتها وتحصين أرضها وسمائها وترابها من اية تدخلات خارجية تنوي دقّ الأسفين بين الفرقاء السياسيين وتحمي البشر والحجر معًا من أية مساعي أو محاولات للنيل من تركيبة البلاد الدينية والإتنية والثقافية والحضارية والمجتمعية؟ أسئلة كثيرة تنتظر الردّ والتحليل والتفاهم.
إنّ ما يتداولُه النشطاء وتتحدث به وسائل إعلام محلية ودولية يثير الريبة والخوف من تفاقم غول ميليشيا حزب الله في لبنان، والذي أصبح ومنذ سنوات يُحكم قبضته على مداخل العملية السياسية ومغالقها برمتها ويُحرّك الأحزاب المتشاركة معه كبيادق قابلة التغيير والاستهداف والتطويع بحسب مصالحه وتنفيذًا لأوامر الأسياد بإحكام السيطرة على ما يُسمّى بالهلال الشيعي قابل التوسّع والتعاظم ضمن سياسة الجارة الشرقية. فإذا كان ما تردده وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وما تكشفه القنوات الفضائية والتقارير الإخبارية المتنوعة من معلومات من قلب الحدث صحيحًا ويشكل واقع المشهد السياسي الراهن، فإنّه من دون شكّ يُحصى ضمن سياق الهيمنة الانفرادية على مقاليد السياسة برمتها. وهو أمرٌ في غاية الخطورة عندما لا تتوانى مثل هذه الوسائل المتشعبة عن الحديث في هذه الأيام علنًا عن سطوة ميليشيات حزب الله على الإرادة السياسية للبلد والشعب ومنها بطبيعة الحال مصالحُه الإقليمية ومنافذه الحدودية الجوية والبحرية والبرية، ما يجعل هذه الميليشيات تتحكم انفراديًا بما يدخل ويخرج منها من دون رقابة حكومية ولا عين وطنية. وهذا يتطلب وقفة وطنية جريئة من شعب لبنان وسائر مكوّناته المتهالكة التي أعيتها سياسة المنظومة الحكومية المحاصصاتية القائمة التي لا تقلّ فسادًا عن نظيرتها العراقية التي تتحكم فيها ميليشيات مماثلة بمقاليد السلطة والثروة والسياسة بذات الطريقة. فالمنظومة السياسية المحاصصاتية التي أتى بها الغازي الأمريكي في العراق وفرضها قسرًا في سياسة البلاد ومنظومتها التحاصصية المستنفعة لا تختلف عن نظيرتها التي كرستها آنذاك مقررات الطائف والدوحة وغيرها من التوافقات السياسية الداخلية التي لم يُكتب لها ديمومة التواصل بسبب تقاطع مصالح أحزاب السلطة والدول التي تقف وراءها، فيما الشعب كان هو الضحية كالعادة ولم يحصد من وراء نلك السياسات سوى الخيبة والقهر والظلم والفقر وسوء الخدمات وتحمّل فساد السادة وتتالي فشل الحكومات .   
لمذا احترقت بيروت؟
بين بيروت وبغداد مساحات شاسعة من التفاهم والعشق العربي الخالد. فبيروت حقًا، هي صاحبة الفضل في إشاعة ثقافة الجمال والانفتاح في صفوف نظيراتها العربيات، إلى جانب تشغيلها وبجدارة ماكنةَ الثقافة والمعارف ليتذوّقها القارئ النهم في الوطن العربي والعراق بشكلٍ خاص بشيء من الشوق والامتنان والغيرة. وبيروت أيضًا، هي التي أتاحت ل"بلقيس" بنت العراق، بنت العرب وحسناء السفارة العراقية الغوص في متاهات السياسة التي حسبتها نظيفة. لكنّ يد الغدر طالتها مع مجموعة وطنية بريئة، فأسقط هؤلاء بجريمتهم النكراء كلّ حلاوة ذلك العشق السرمديّ بين بغداد وبين حسناء العراق حين سقط جسدُها الغضّ مضرجًّا بالدماء الساخنة وضاعت ظفائرُها الجميلة بين طيات غبار التفجير الإجرامي. وقد جسّد الشاعر السوري زوجها المفجوع نزار قباني هذه الجريمة في أروع قصيدة أبكت الملايين إلاّ السفهاء. وتلكم جزء من المقارنة والتشبيه بما يجري ويحصل غبّة تلك السنوات العجاف بين العاصمتين المنكوبتين حيث لا يريد الدم أن يجف بسبب ذات الأدوات وذات الفكر الإيديولوجي القاتل المعوجّ. فالأيادي هي هي ذاتُها التي تتحرّك وتهدّد وتقتل وتبطش بالأحباب وتُهجّر البشر وتغتال أناسًا آمنين بكلّ خيلاء وتفاخر وعجرفة وتبجّح.
حين غرقت بيروت في حربها الأهلية وروت أرضها دماءُ الأبرياء الزكية تحت أمرة زعماء الحرب من سائر مكوّناتها، فقد كانت حربًا طائفية بامتياز. أمّا المقصود بها فكان بلا شكّ تقويضُ أركان أهمّ مكوّن وطنيّ كان يدير تقليديًا شؤون البلاد بفكر غربيّ منفتح ومتطور ممزوج بعروبة وطنية لا لغطَ فيها. فكان أن تكالبت على هذا المكوّن الأصيل يدُ الفرقاء السياسيين في الداخل بتأثير دول الجوار التي تختلف في دينها عن دين الأغلبية المسيحية المحسوبة على الغرب ظلمًا آنذاك، فيما واقعُ هذا الأخير كان يفصح عن علمانيّة واضحة لحدّ الكفر واللاّأدرية والتجاهلية لكلّ ما يمتُّ بصلة للمسيحية والكاثوليكية بالذات. وظلمًا انبرى نفرٌ ضالٌّ في حينها ومازل البعض على ذات الاسطوانة من أمثال أصحاب بعض الأقلام المتطفلة والقنوات المشبوهة بتبيانه للناس هذه الأيام افتراءً. ولم تنفع معها حكمة الشيوخ ولا نداءات الدعاة محبي السلام ولا تحذيرات خبراء السياسة الذين حذروا من القادم الأخطر القاتل. وها قد وقع المحذور وأخذت الجريمة طريقها للتنفيذ الفعليّ حين اضطرّ الآلاف من ابناء الطائفة المسيحية أكثر من غيرها للهجرة وترك البلاد تحت تأثير المدّ الإسلامي والطائفي الذي تبنته آنذاك دول الجوار وأطبق عليه صمتُ الغرب "الكافر". ألا يكفي ما حصل من مآسٍ لهذا البلد الصغير المتآخي لسنوات كي يدخل من جديد في متاهات السياسة الجاهلة التي أغرقته في دماء بريئة وأزمات متتالية وآخرها ما اصابه من دمارٍ لا يقلّ في شدّته وأذيته ودماره عمّا فعلته القنبلتان النوييتان في كلٍّ من هيروشيما وناكازاكي على السواء؟
حسدوكِ يا بيروت
يبدو أنّ اكتساب لبنان صفة سويسرا الشرق مصرفًيا واقتصاديًا ونيلها استحقاق سمة باريس الشرق موقعًا وحدثًا وثقافةً ومجتمعًا ومناخًا وديمقراطية قد أغاض الكثيرين ممّن استكثرها عليه بسبب طبع المجتمع اللبنانيّ المنفتح عامةً بوشاح وطنيّ متحضّر أقرب إلى الغرب المتقدم في العديد من جنباته وسلوكياته ورؤاه للأحداث وقرب هذه السلوكيات للإنسان المتحضر. كما أصبح لبنان من دون مواربة ولا تدليس ذلك الملاذ الآمن للهاربين من جحيم الأنظمة العربية المتخلفة التي تدير سياسة بلدانها بجهلها الذي علتْ راياتُه كثيرًا واستنفذت حيلَها ومكرَها وكذبها المتواصل على شعوبها التي كلّما اقتربت هذه الأخيرة من إحكام الطوق على الطبقة السياسية الفاسدة التي تحكمها، تقوم أحزاب السلطة الحاكمة بفتح نوافذ جانبية للتملّص والحماية بهدف الوقاية من غضب شعوبها باستخدام أقصى حركات المكر السياسي المصحوب بأدوات الدين والطائفة والمذهب وبحجة الخشية والخوف من فقدان المكاسب ضمن هذه الخانات التي أصبحت لعبة بايدي ساسة الصدفة في بلدان مثل العراق ولبنان والسودان واليمن وسوريا والبلدان المغاربية كما هي الحال هذه الأيام. فالطبقات الحاكمة في هذه البلدان نموذجًا، بقيت تراوح مكانَها من دون إشارات أو نوايا حسنة للإصلاح، بل فعلت كلّ ما بوسعها للحفاظ على منهجها ومنظومتها السياسية بعيدًا عمّا تتطلبه إرادة الإدارة الصحيحة والحكم الرشيد الذي يرضي الله والإنسان معًا. 
ولعلّ أحد الأسباب المهمة التي أتت بالغضب المتساوي المتتالي على بلدان المنطقة وشعوبها يكمن في فشل هذه البلدان بإدارة شعوبها على أسس موضوعية وإنسانية تتوافق مع العصر والفكر الإنسانيّ المتجدّد الذي يقرّ بكلّ المعايير العليا للإدارة الرشيدة في موضوع الإباء والنزاهة والتكليف والخدمة وليس في التشريف واستغلال النفوذ والسطوة والنهب والبطش ضدّ كلّ مختلف عنها في الرأي والفكر والمنهج. فالمقياس الأساس في الحكم الرشيد الصحيح المقبول ينبغي له الابتعاد كثيرًا عن اي انزلاق في متاهات جانبية لم تعد مقبولة لا تغني ولا تسمن مثل أدوات الدين والمذهب والطائفة والمكّون. فالذي ينبغي أن يحكم أولاً هو الوطن، وقانون الولاء له وليس لسواه هو الأجدر بالسير في إثره كي يقدسه المواطن الصادق وليس الانجرار جهلاً وعبثًا وراء تقديس الأفراد والأشخاص ورفعهم إلى قامات القدسية التي لا تقبل التكذيب والطعن حتى لو ضاع في مفهومها حقُ المستضعفين ولحقَ الفقرُ والموتُ بالطبقات الفقيرة التعبانة التي أنهكها أصحاب القامات المقدسة بالدجل والخبث والضحك على ذقون الفقراء والبسطاء والبائسين. وما أكثرهم هذه الأيام.
واليوم، من حق شعوب المنطقة أن ترتفع أصواتُها صارخة بملء أشداقها مطالبة برحيل الطبقات السياسية الفاسدة في بلدان أشبعتها هوانًا وكذبًا ودجلاً ونهبًا وسلبًا للثروات ولحرية الرأي. ومن المعيب بل من العار تركُها تُحكم قبضتها الحديدية على مقاليد السلطة وتشبثها غير المشروع بالحكم، طالما رفضتها شعوبُها الثائرة وعبّرت عنها في ساحات الشموخ والكرامة. فالمطالبات برحيل ساسة الصدفة ومغادرة الطبقات الفاسدة الحاكمة في كلّ من لبنان والعراق وسوريا لهي خيرُ دليل على حق شعوب هذه الأوطان بالعيش الرغيد والسلام والأمان في ظل حكومات عادلة ترسي المحبة والمساواة والعدل في سلوكها ودساتيرها وقوانينها الوطنية القريبة من مشاعر وحقوق الشعب وطموحاته المشروعة.
أخيرًا يا بيروت الجريحة وليس آخرًا، لا بدّ لليل البهيم أن ينجلي وللظلم أن ينزوي والظالم أن ينال قسطه من العقاب في الدنيا والآخرة. ويقينًا شوقُك يتوق لبانيكِ ومهندسكِ وراعيكِ. فاسمحي لي أن أشارك أهلك الحزن مع أهلي وبلدي وأرثيك وأبكيكِ كما رثاك وبكاكِ الكثيرون. فما اشبه اليوم بالأمس حين رثاك شاعر العرب الفطحل الجواهري بأبيات مؤثرات، لعلَّ بغدادَ تتعظ من مصابك الجلل وتطرد مَن أبكاها هي الأخرى وأحالَ نهارَها ليالي مظلمات ظالمات:
 جللٌ مصابُك يا بيروتُ يبكينا         يا أخت بغداد ما يؤذيكِ يؤذينا
 ماذا أصابك يا بيروت دامية           والموتُ يخطف أهليكِ وأهلينا
 يا جنّة الشرق يا حسناء غانية       قد كنتِ بالأمس موسيقا وأغانينا
 عضّي على الجرح يا بغداد صابرة      بيروت تعرف ما فيها وما فينا
     عضّي على الجرح يا بغداد واتعظي     مَن أحرق الأرز لن يسقي بساتينا


114
متى يكون الوفاء واجبًا؟
لويس إقليمس
بغداد، في 23 تموز 2020
لا شيء أسمى وأرقى وأروع من الوفاء لأربعٍ أساسيات في الحياة: الوطن الذي يحتضنك بين جناحيه ويحيطك في أفياء خيمته الوارفة ويطعمك من ينابيع نعماته المتفاضلة، والأم التي أرضعتك من ثدييها الطاهرين وسكبت حبها الأمومي طيلة طفولتك حتى وقوفك على رجليك وسهرت الليالي لأجل أن تكبر وتنمو في الطول والنعمة والقامة، وثالثُها الإنسانية المتحضرة التي تعلم الإنسان عِظَمَ رحمة الله الواسعة في خليقته واحترام الغير مهما كان مختلفًا وتقديرَ مَن يستحق الحياة، ورابعُها وليسَ آخرَها المعلّم الذي علّمكَ الحرف والرقم وأصول السموّ في المعرفة والعلم لحين دخول معترك الحياة الصعبة المعقدة. أمّا المقدس الأوحد والأعظم والأسمى الذي يتشارك مع الوفاء سموًا وعلوًّا ورفعةً والذي لا يعلو شيءٌ غيرُه عليه فهو حبُّ الوطن والولاء له والدفاع عن حياضه وحرائره وسيادته واستقلاليته إزاء أيّ تعدٍّ سافر على هذه جميعًا. ومَن مازال يعتقد بقدسية الدين والمذهب والفرد وتنصيبه سيّدًا مطلق الصلاحيات والحاكمية باسم الله، فهو في وهمٍ كبير، إذْ لم تعد هذه المفردات ترنّ ولا تطنّ ولا تجلجل في عالم الثقافات والحضارات والاختراعات التي يتشكل يقينُها  الأساس بالاعتقاد بالقناعات الشخصية للفرد الذي يشغّل تفكيرَه، شريطة عدم انحياز هذا الاعتقاد أو خروجه عن الأداب والأسس العامة لثقافات المجتمع.
اليوم، لم يعد الوفاء للمبدأ أو للصديق أو للوظيفة أو حتى للوطن عنوانًا كبيرًا في عالم المتناقضات والمصالح والفوضى الأخلاقية التي يشهدها عالم السياسة المليء بكلّ أشكال النفاق والكذب والتسويف والخيانة والولاء للدخلاء وللأغراب بكل أشكالهم وأدواتهم وسفاهاتهم، إلاّ ما ندر لدى مَن مازالت الأخلاق والآداب العامة والشيم العائلية والروح الوطنية المتأصلة حتى العظم تؤطّر حياتَهم وترسمُ سيرتَهم المستقيمة الطيبة وسط المجتمع الماثل إلى الانحلال والتفكك. ولعلّ أهم أسباب التراجع في أسس هذه الأخلاق العامة يكمن في تكالب واستحواذ وسطوة المصالح، الخاصة منها والفئوية الضيقة، على حساب المبادئ والأخلاق العامة المتعارفة في مجتمعات متحضرة لم تخسر سمعتها الإنسانية الطيبة بفضل النصائح التي يوصي بها حكماء الأديان وعلماء الاجتماع الذين يدعون ويشجعون لتكوين مجتمعات متماسكة متعايشة ومتآزرة مبنية على احترام الآخر والقبول بخياراته طالما لا تنتقص هذه الأخيرة من حرية الغير ومن خياراته بحسب قناعاته.
ومن أشكال الوفاء الصادق الذي تعرفه وتتناغم معه المجتمعات المتحضرة التي تؤمن بحرية الفرد في الدين والتعبير والرأي الحرّ، سمةُ الإخلاص الكامن في دواخل النفس البشرية للمبدأ الذي يؤمن به الإنسان، وطنًا كانَ أم دينًا أم أيديولوجية أو فلسفة في الحياة، إلى جانب الصدق في العمل والقول والاحترام للمواعيد والعهود والتقيّد بالآداب العامة التي لا تخرج عن سياقها الإنساني العام. فمَن يعرف الوفاء الصادق غير المغشوش ويسلك طريقه، فقطعًا سيقوده هذا المبدأ إلى سمة فضلى تقدّس لديه نوافذ الحب والرحمة والغيرة وتفتح أبوابًا مشرعة للإخلاص والسلوك الصحيح في البيت والشارع والمدرسة والعمل والوظيفة وفي أية وسيلة أو موقع يكون فيه.
في الوفاء، تكبر مصداقية الإنسان وترفع منزلته وسط المجتمع الذي يكبّر فيه صفات الثقة والصدق والأمانة والحماسة التي ترقى لأفضل السمات في المجتمعات المثالية التي تحترم حقوق الإنسان وتعدّه أسمى ما في الأرض من خليقة الخالق متسيّدًا باقي المخلوقات والأهداف. هكذا هي المجتمعات التي تسود فيها هذه السمات الطيبة من إيفاء بالعهد والسلوك الصحيح في الحياة والتي تعتبر من المؤشرات الصحيحة لرقيّ المجتمعات وتطورها وسلوكها في الطريق السليم للوصول إلى الغايات والأهداف العليا في كلّ شيء، ومنها وعلى رأسها حبُّ الأوطان وبذل النفس اتجاهها حين اقتضاء المصلحة العليا. وهذا ما ينبغي أن يرِدَ ويكون في سلّم الأولويات بعد حب الله والإنسان، حبيبًا وجارًا وزميلاً وصديقًا وأيّ شخص يمكن التعامل معه على أساس الإنسانية والاحترام. وبعكسه، نجد تراجعًا في المجتمعات التي لا تعير اهتمامًا لهذه المؤشرات والمعايير الأساسية من الأخلاق والصفات الطيبة التي في حالة الاتسام بها، فإنها تبني القدرات البشرية والفكرية والإنسانية والتربوية والعلمية والاقتصادية للمجتمعات والأوطان معًا. أمّا غيابها والتغاضي عن التحلّي بها، فهذا دليلٌ على فقدان الثقة والمصداقية في السلوك اليومي للحياة وفي العمل أينما حلّ الإنسان وارتحل ومهما بلغ من مرتبة ومنصب وجاه ومال. وهذا ما نحن عليه من واقع حالٍ كارثيّ في بلدنا المتشرذم الممزّق في نسيجه بفعل تناقض السلوكيات وتعارض المصالح وتعدد الولاءات للغير الدخيل وتجاوز هذه الأخيرة للخطوط الوطنية والإنسانية المسموح بها في مصاف الدول والشعوب المتحضرة.
سلوكيات خارجة عن سمة الوفاء
قد يأخذ الوفاء سلوكيات عديدة وتطبيقات كثيرة في حياة الإنسان والمجتمعات. لكنّه يبقى القاسم المشترك لكلّ أنواع الأفعال الحسنة التي تعطي لكلّ ذي حقّ حقَّه، سواء كان هذا في مجال الإيمان والمعتقد والوطن والمبادئ أو تجاوز في تطبيقاته إلى ما يصون كرامة البيت والأسرة والزوجة أو حتى لو طال موقع العمل والشارع والواجب الوظيفي. ويدخل ضمن هذا الفعل، ما يرد من تعهدات ووعود تقطعها الحكومات والإدارات والساسة على اختلاف مواقعهم ومناصبهم وواجباتهم للشعب. وما أكثر ما تشهده البلدان والمجتمعات النامية والمتخلفة في هذه الأيام من نكث للوعود ونقض للعهود وتراجع في الأداء بل وإهمال قائم لحاجات الشعب اليومية لأسباب عديدة وغايات كثيرة وأغراض لا تلبي سوى مصالح خاصة للقائمين على رعاية الرعية. فهذه أبعد ما تكون عن الشيم الحسنى المتعارف عليها في المنتدَبين لخدمة الشعب الذين ارتأوا في أنفسهم وتعهدوا بالخدمة وليس بالتشريف والتسلّط والتكسّب والانتفاع غير المشروع. فمَن يتقدم لتولّي منصب أو لتمثيل فئة أو جماعة أو مكّون، فالأساس فيه خدمة الشعب والوفاء بتعهداته، لاسيّما وأنه قد أقسم وقطع على نفسه العهد بالاستجابة لمطالب الشعب المشروعة وتقريب طلبات هذا الأخير للحاكم الذي قد لا يكون ملمًّا تمامًا بحاجة واحتياجات وضرورات وحقوق كلّ طبقات الشعب. هنا إذن، تكمن مسؤولية ممثل الشعب، وليس باللّهاث وراء مهنة تعقّب وتمشية معاملات المواطنين مقابل ثمنٍ والتكسّب من خلف شركات ورجال أعمال والبحث عن كوميسيونات هنا وهناك واستغلال الموقع والانتماء الحزبي والوظيفي للتكسب غير المشروع بفرض الإرادة بسطوة السلاح والمال والموقع. فحين تدخل المصالح الخاصة والأنانية والفئوية والطائفية المقيتة في أجندات السياسيين وأصحاب المناصب العليا التنفيذية منها والتشريعية من أوسع أبوابها، حينئذٍ يفقد الوفاء سمته كفضيلة تطلبها إرادة السماء من وراء سلوك المسؤول عن الرعية عندما يوجّه جلَّ أنظاره نحو السعي للسطو على كلّ شيء وأيّ شيء ضمن هذه الأسباب. وهذا جزء موغلٌ في فساد المجتمعات المعاصرة والحكومات الفاسدة التي ابتعدت كثيرًا عن سمات الوفاء بالعهد وتلبية حاجات الناس كما ينبغي، ما يضعها حتمًا ضمن خانة النفاق والكذب والرياء والتدليس والخيانة التي تؤسس بأفعالها للفساد وللظلم في المجتمعات والأوطان. 
مبدئيًا، سمة الوفاء تعني ما يمكن أن يقدمه الإنسان لخدمة شخص آخر أو مؤسسة معينة أو جهة يكنّ لها كلّ احترام ويمنحها حقًّا واجبًا عليه بالإيفاء بشيء متميز من البذل والحماسة في العطاء وفي الخدمة. وهذا يعكس تمامًا ما ينبغي أن يقوم به مَن يتحمّل مسؤولية أي عمل أو وظيفة أو واجب، أيًا كان نوعه وشكلُه وقيمتُه، ضمن ما يستطيع فعله بكلّ أمانة وإخلاص. وهذه الحالة تنطبق على مَن يعمل ويتقاضى مكافأة أو أموالاً لقاء عمله هذا أو مسؤوليته من دون تردّد أو امتعاض أو تقصير. فالطبيب الحريص في مهنته يعبّر عن أرفع أوسمة الوفاء لما يقوم به من أداء في حالة ممارسته لمهنته بالأمانة المعهودة إليه. ومثلُه العامل في عمله والسياسي في واجبه والمعلّم في رسالته ورجل الدين في نصحه وصدقه والزوجة في أدائها الأسري والزوج في واجباته. وهكذا تسير الحياة الصحيحة في مسيرتها، عندما يؤدي كلُّ فردٍ واجبَه ويعرف حدوده ويتقيّد بما ينبغي عليه فعلُه.
وذات الغرض يمكن انسحابُه اليوم على دور الحكومة العراقية ورئيسها بالتقيد بوفائهم للوطن والشعب، تمامًا كما كان تعهدُهم في أن يكونوا خدامًا للوطن والشعب وليس العكس أن يجلسوا على الكراسي كي  يُخدَموا. فالراعي الصالح هو الذي يسهر على أحوال رعيته ويصون حقوقها ويلبي احتياجاتها قدر المستطاع وليس ضربها عرض الحائط والابتعاد عن خطوط الخدمة فيها. وحين يرى الناس أعمال الحكومة بصفة رئيسها ووزرائه ومستشاريه ومعاونيه الأقربين، حينئذٍ يسري رضاهم عنهم جميعًا و"تباركهم السماء أضعاف تعبهم وسهرهم بثلاثين وستين ومئة".

احترام القوانين شكلٌ آخر من الوفاء

ما أحبَّ على قلب الإنسان السويّ حينما يرى ويسمع ويقرأ قصصًا جميلة وحقيقية عن تأنيب مواطن أو تحذير أو نصيحة لنظيره عندما يرى أو يلحظ تقصيرًا أو مخالفة غير مستحبة لدى هذا الآخر. فأية مخالفة مجتمعية، حتى لو كانت صغيرة، تقع ضمن المحرّمات في المجتمعات المتحضّرة التي تحترم الحياة. وقصة المواطن العراقي "الشقي" الذي نقلت مواقع التواصل الاجتماعي في سالف الأيام حكايته في أحد شوارع إحدى العواصم الغربية في وقت مضى، خيرُ شاهدٍ على احترام المواطن الغربي لقوانين بلاده والإيفاء بواجبه تجاه مؤسسات بلاده وجميع مرافقها. فقد ترفّع هذا "الشقي" ولم يعرْ اهتمامًا لزجر امرأة عجوز إياه بضرورة رفع أعقاب سيجارة رماها أمام زملائه متعجرفًا ومتحديًا الأصول والقوانين والآداب العامة السائدة في مجتمع ذلك البلد المتحضّر. ولدى إصراره على عدم رفع قاذورته، اتصلت السيدة العجوز بالشرطة التي حضرت فورًا وأنّبت الشخص بسبب هذا السلوك غير الحضاري وغير المقبول. ولدى رفضه الانصياع لأمر الشرطية، فرضت عليه هذه الأخيرة واجبًا إنسانيًا إضافيًا في خدمة البلدية بعد أن أجبرته على رفع أعقاب السيجارة بيده ووضعها في المكان المخصَّص لها صاغرًا ذليلاً. هكذا يكون الوفاء والإخلاص للوطن وللمهنة عبر الالتزام بما يكفل رقيّه وتقدّمه ونظافة مدنه وبلداته. فمثل هذا السلوك المتعجرف وغير المسؤول لمثل هذا الشخص "الشقي" الدخيل دليلٌ على سلوكه غير الحضاري في بيته ومجتمعه وبلده. وكم من شكل هذه الصورة السلبية غير الحضارية تصادفنا كلّ يوم في المنزل والشارع وموقع العمل والسيارة ولا تُقابَل بما تستحق من تأنيب ضمير ونصح وملاحظة وتوبيخ؟
إنّ سمة الوفاء في حدّ ذاتها، من السمات التي تحمل في طياتها قيمًا إنسانية عليا ترتقي بالإنسان إلى الدرجات العليا من الفضيلة والرحمة. وبالرغم من ندرة الأوفياء في هذا الزمن، إلاّ أن الوفاء للمبادئ وأداء الواجب بإخلاص وكما ينبغي من دون زوغان ولا حيلة ثعلبية، يبقى من كبائر الفضائل في حياة الناس الأسوياء وفي حياة الشعوب النموذجية التي تبنى وتنمو وتتطوّر وفق مثل هذه الأسس. وهذا ما يحتّم على الإنسان السويّ المؤمن بسمة الوفاء في أداء الواجب وتنفيذ العمل الموكل إليه، في أن يضع في حسبانه شيئًا من خيبة أمل قد يلاقيها في طريقه، على حدّ قول الشاعر الانكليزي شكسبير: "إنّ البشر لا يتذكرون ما قمتَ به من أجلهم بل يتذكرون ما لم تستطيع القيام به". لذا تبقى قناعة الشخص بما قام به وفق ضميره "الصاحي" هو المعوَّل عليه في تقييم الذات والأداء في البيت ووسط المجتمع والمدرسة وموقع العمل والشارع. وحين يشعر الإنسان براحة الضمير في أداء هذا العمل، فهذا سيرفع من مقامه ومن منزلته ومن فضيلته ويترك الباقي السلبيّ الذي لا فائدة منه، أي ما يقوله الناس والذي عادة يكون في غير صالحهم. لذا على الإنسان السويّ واللبيب "ألاّ يرهق نفسه بالوفاء أحيانًا للجانب السلبيّ في الحياة، لأنّ الجميع يريده حسب حاجته". إنّما يصير التركيز في قناعته الإيجابية بصحة ما يسديه من خدمة ووفاء للمجتمع والوطن معًا.





115
كلّما استجدّ جديد، استبشرنا قرب العيد
لويس إقليمس
بغداد، في 17 تموز 2020
كيفما يمكن أن نسوّغ أو نتيقن من حقيقة انبثاق حكومة السيد مصطفى الكاظمي من رحم العملية السياسية الحالية بمنظومتها المتسمة بالفساد حدّ التخمة، إلاّ أنّ علامات واضحة لتغيرات واقعية على المشهد السياسي لا يمكن تجاوزها أو في الأقلّ التقليل من شأنها. وأيًا كانت هذه المتغيرات، مهنية فعلية جريئة في موقفها أو محابية مجارية متقية في إصدارها، فهي تستحق وقفة قد تمنح شيئًا من المصداقية لشخصية لا تقلّ جدلية عن سياسيّي المنظومة الحاكمة من حيث الحكم العام على الساحة من موقع رسميّ.  فحزمة الاجراءات الجريئة التي يقتحم بها مصطفى الكاظمي محميات أحزاب السلطة، الاسلامية منها على وجه التحديد والتشخيص، تنمّ عن مستجدّات وشيكة الحصول في ذهنية المواطن العراقي وعلى الأرض، سيّما وأنّ غالبية الشعب المقهور ينتظر ساعة الصفر لإجهاض زمن هذه المنظومة السياسية الفاشلة وأعمدتها المستنفعة المتكسبة من التغيير الدراماتيكي منذ احتلال البلاد. ولعلّ من الأولويات التي يتطلع إليها عموم الشعب، إلاّ رؤوس الفساد وأدواتُهم وتفرّعات هؤلاء في جميع مفاصل الحياة، تقريرُه فرضَ هيبة الدولة وتأمين سيادتها عبر الاستعانة بأدوات وطنية مدنية وعسكرية متحزمة بتاريخ الجندية العراقية وشبه بعيدة عن شبهات اللعب بالنار الطائفية والمذهبية والعرقية.
ولعلَّ من أولويات هذه الإجراءات الجريئة التي صرّح بها الكاظمي شخصيًا فيما لو سار بها وفق منهج وطني مبرمج وبصدق النية والإرادة، قدرتُه على حصر السلاح بيد الدولة والقضاء على أدوات الدولة العميقة الشائعة، بالمهادنة حينًا والضرب الصادم حينًا آخر وفقًا لمقتضيات الواقع والظرف وصولاً لتحقيق الاستقرار والأمان للشعب وصيانةً لبناه التحتية وتشجيعًا للاستثمار بفضل الاستقرار المتحقق المأمول من وراء العمليات النوعية الهادفة لتنقية البيدر الوطني من الزؤان والأشواك التي تعيق عودة الحياة الوطنية الطبيعية إلى حالها المتعارف عليها. وثانيها الذي لا يقلّ أهمية في استراتيجتها، تقرير فرض سيادة الدولة وأجهزتها على المنافذ الحدودية التي تدرّ عسلاً ولبنًا لمافيات أحزاب السلطة من شمال البلاد لجنوبها ومن شرقها لغربها، بضمنها منافذ شمال البلاد (كردستان العراق)، وفق إقطاعيات تتقاسمها هذه الأحزاب فيما بينها منذ 2003. وهذه المغانم بحسب الخبراء والمراقبين قد تشكل وارادات تدرّ مبالغ طائلة لا تقلّ عن 8-10 مليار دولارًا سنويًا يمكن إضافتُها إلى ميزانية الدولة العراقية. ناهيك عمّا يمكن أن تشكله نظيراتُها من واردات الكمارك والضرائب التي يمكن تحقيقها من ضريبة الدخل التي تفرض على الشركات والأفراد فيما لو تم تطبيق قوانينها على الجميع من دون محاباة ولا فساد ولا تشاركية في هذا الأخير. ومن الأولويات الجريئة أيضًا، التعهد بالوصول إلى قتلة المتظاهرين الخالدين من الذين طالبوا بوطن يحميهم ويحنو عليهم وعلى عوائلهم ويعينهم على كسب القوت اليومي وتحقيق الرفاهة التي يستحقها المواطن العراقي الذي لا يقلّ إرادة وعزةً وكرامة وحقوقًا أساسية مثل سائر شعوب المنطقة والعالم. وفي القائمة أيضًا، التوصل إلى قانون منصف للانتخابات المبكرة التي طالبت بها ساحات العزة والكرامة في بغداد وسائر محافظات البلاد، والتي مازلنا نأمل دومًا اصطفاف ما تبقى من محافظات الشمال والوسط مع ساحات الخلود الوطنية لتعطي ثمارًا أكثر غزارة وشمولية لعموم مناطق البلاد المبتلاة بفساد الساسة ومن دون استثناءات. فهذا القانون مازال بصيغته الحالية غير مقبول شعبيًا من قبل ساحات التظاهر وعموم المثقفين والقانونيين الوطنيين بسبب صياغته وفق مصالح الطبقة الحاكمة التي تجيز لها بنوده استخدام السلطة والمال السياسي والسلاح للحدّ من وصول المستقلين المؤمنين بحب الوطن ومصالح الشعب للفوز بمقاعد في مناطق أحكمت أحزابُ السلطة هيمنتها على عقول وأفكار البسطاء وعلى جيوش الفضائيين وأصحاب مزايا الجهاد المتنوع الأشكال والولاءات.

منجزات جزئية
وحين تحقيق هذه المنجزات الجريئة وغيرها ممّا يأمل الطيبون من العراقيين، بالحقيقة الواقعة وليس بالتدليس والكذب والغش والتسويف، حينها سيجوز بل يحق للشعب العراقي المؤمن بوحدة ترابه وجمال سمائه وحلاوة مياهه أن يحتفل بحقّ بعودة الوطن إلى حضن طبيعته الإنسانية وحظيرته العربية والإقليمية والدولية. وسوف يرى جميع الغيارى من الوطنيين الصادقين في هذه الهيبة وهذه السيادة المستعادتين بالهمة والغيرة والإرادة الوطنية علامة مضيئة على استعادة شيء من حضارته وقيمته الدولية وأخذه الدور الذي يستحقه بين الأمم والشعوب والدول على أساس الندّية والتشاركية وليس التطفلية والتبعية والولائية. وهذا لو حصل في قادم الأيام، فلن يكون على أساس الترفع والتعالي على الغير، بل ضمن مشتركات السياسة الصحيحة التي تتناغم مع حركة الشعوب المسالمة التي تعرف التمييز بين الخير والشر، بين الدين والسياسة، بين المقدّس والمدنّس، بين الصالح والفاسد، بين الحاكم العادل والوليّ المستبدّ. فهذه جميعًا، هي التي ترسم الخطوط العريضة والصحيحة لمسيرة الأمم والشعوب المنضبطة التي تعرف احترام نفسها واحترام غيرها على هذه الأسس الآدمية التي رسمتها شرعة حقوق الإنسان التي لا تخرج عن تعاليم الأديان السماوية الثلاث وغيرها من أديان طيبة أخرى وجدت في أرض الله الواسعة.

هل الجديدُ قادم والعيدُ مستبشر؟
قد يقول قائل، إنّ وقت احتفال العراقيين بعيد النصر الوطني الكبير قادم ووشيك بفضل صمود أبطال الثورة التشرينية وقدرتها على اختراق هزالة المنظومة السياسية وهزّها لكيان "اللادولة" أو شبه الدولة القائم، وإن يكن قد تأخر كثيرًا. فالانتفاضة الوطنية الحقيقية التي انطلقت في تشرين أول 2019، ماتزال جذوتها لم تخفت وإن تكن قد سكنت برهة بسبب الخشية من آثار الجائحة التي ماتزال تمثل تحديًا وطنيًا غير قابل الإهمال. فهناك دومًا جهات محبِطة ومحرّضة تسعى بكل قدراتها لاستغلال صحوة المتظاهرين المطالبين بالوطن الغائب وأخرى راكبة للموجة وغيرها ناقمة على المطالبين بإنصاف  الخالدين من شهداء الانتفاضة. ولكن مهما كان من هذه الأخيرة في استغلال الأدوات المحبطة في التأثير على بساطة تفكير عامة الناس، فإنّ صحوة الأبطال وتنسيقياتهم، إلى جانب يقينهم المصدِّق المتجدد بصحة ما يجري وما يُحاك لهم من خلف الكواليس لأغراض التغطية على سرقات الطبقة الحاكمة من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وبالرغم من النجاح الجزئيّ لهذه الطبقة الفاسدة بطمس الحالة الوطنية الطبيعية التي كان يتسم بها غالبية الشعب العراقي والتي فقد جزءً كبيرًا منها طيلة السنوات السبع عشرة المنصرمة، إلاّ أنّ الأمل مازال حليفها بتحقيق عيد النصر الوشيك.
في الحقيقة، إزاء ما حصل ويحصل طيلة الأسابيع القليلة الأخيرة من أحداث ساخنة وحوادث وعمليات وصفت بالصادمة والجريئة، سلبًا أم إيجابًا، فإنّ الكثيرين ممّا تبقى من المنتمين الصادقين للوطن والمتجذرين في أرضه وحضارته، أبدوا استياءهم الشديد من مغبة التفريط بمصالح الوطن العليا لصالح جهات دخيلة من خارج الأسوار. وهذه في حقيقتها جهاتٌ لم تحجم أو تتوانى في نفث سمومها التاريخية بكل الوسائل والأشكال، ومنها بحجة الانتماء المذهبي والطائفي التي أججت أفعال النكوص في المبادئ في أوساط الشعب الخانع وأوصلت فئات وجماعات فيه إلى الدركات السفلى، بل شكلت طيفًا واسعًا لا يؤمن بغير التبعية والولائية ومنها الاستعداد لبيع الوطن بالمزاد بأي ثمن وفي أية مناسبة وفرصة.
لكن ما لم يدركه المتربعون على السلطة لعدم تعلمهم دروس الحياة من نماذج حكم سياسية شرق-أوسطية  جرّبت العمل بغطاء الدين والمذهب، أنّ كلّ استغلال ودغدغة من هذا القبيل لم تعد تنفع في زمن ولّت فيه السطوة الدينية والمذهبية وصحت غالبية طبقات الشعب من الفعل السيّء الذي قدمته هذه النماذج التي تجاوزها التاريخ. فلو نفعت هذه في زمن الجهل والجاهلية وظلامية القرون الوسطى حيث الحكم الالهي بيد الحاكم المستبدّ الذي يفرض سطوته ظلاًّ للقدير الأعلى في الأرض باعتباره المقدّس الذي لا يُعلى عليه، إلاّ أن زمن هذا المفهوم لم يعد مقبولاً شكلاً وتفصيلاً. فالمقدس المنظور والمقبول لا يمكنه تجاوز قدرة الله الخالق وليس أحدًا سواه. أمّا مَن يسعى لإعادة فرض هيبة المقدّس البشري خارجًا عن قدسية الوطن بعد الإله الحقيقي الذي تعرفه خلائقُه الهادية الجميلة المفعمة بمحبته غير المتناهية للبشر جميعًا بلا استثناء، فهو واهم ويعيش الظلام، ويا ويله من ظلام الدنيا والآخرة. لذا ليس من الصحيح إقحام المسائل الدينية وما يوازيها من عبادات وتقويات وتخريفات وتحريفات وتوهيمات في تداعيات السياسة وكواليسها المظلمة التي تستغلها للتغطية على أهداف غير أخلاقية لا تنفع المجتمع والبلد والمنطقة والعالم. وفي اعتقادي أنّ كلّ مَن رفع شعار "الإسلام هو الحل" قد اضطر للتراجع عنه والبحث عن أسباب أخرى تبرّر السعي وراء الهدف الإنساني المشروع الذي يمكن أن يوصل بالبشرية إلى ميناء السلام المنشود والتحاور والتفاهم والتضامن على أسس إنسانية وليس غيرها. فغطاء الدين كشف عورة المدّعين والدعاة، مهما كانت مشاربُهم وأغراضُهم. وإنْ لم يحن الوقتُ بعدُ لسقوط ما تبقى من هذه الأصنام الحاكمية، إلاّ أنّ وعي الشعوب سيقودها لإسقاطها عاجلاً أم آجلاً، وحينها ستنال حقها العادل وتستحق نصيبها من وسائل الغش والخيانة والظلم التي مارستها عبر تغيير جلدها وفق الظروف والأزمان واستغلالها لغيرها في فرصتها في الحكم بدعم من خارج الأسوار، أيًا كان غرضُه وهدفُه ووسيلتُه.
عسى هلالُ العيد الوشيك يبشرنا خيرًا بدلَ شرٍّ اعتدنا عليه، ونعمةً بدل نقمة أصابتنا في الصميم، وأملاً ورجاءً بغدٍ أفضل ويومٍ أسعد ومستقبلٍ أوفر حظًّا وأيسرَ مجرىً.


116
سياسة فرض العقوبات والاتفاق بين الحكومات

لويس إقليمس
بغداد، في 11 تموز 2020

           لم تعد سياسة فرض العقوبات التي تتمترس بها دول عظمى ضدّ أخرى أضعف منها أو ضدّ مؤسسات أو أفراد، تؤتي ثمارها كما كان يعتقد. فلكل باب أصبحت له نافذة بل نوافذ يتحذلق منها وتشرئبُّ منها الأعناق للخروج من السياج الذي يقيّدها بسبب مثل هذه العقوبات هزيلة التطبيق في أحيانٍ كثيرة. بل يبدوأن هذه الوسيلة لم تعد ذا فائدة مهمة كما كان يرتجي منها صاحبُ القرار الذي يظنّ أن بإمكانه تركيع المقابل سياسيًا واقتصاديًا، وهما موضوعا الساعة اللذان يحركان مطابخ الدول العظمى التي طالتها ضائقة اقتصادية ودخلت في مرحلة كساد أضافت أعباء مالية على ما كانت عليه قبل بروز جائحة كورونا. أما الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتبجّح بقدرة كبيرة على فرض عقوبات في الزمن والمكان اللذين ترتأيهما، فقد نالها التعب ووجع الرأس بعد خيبات الأمل التي تكررت بسبب عدم إتيان النتيجة المطلوبة من تلك العقوبات وتملّص الجهة المعاقَبة (بفتح القاف) من أدوات العقوبات وأساليبها ومفرداته ونجاتها بالتالي من نتائجها غير المحكمة، وكأنّ المسألة أصبحت لعبة. بل هي فعلاً لعبة يجرّبُها الطرف المتجبّر، علّها تفتح أبوابًا غيرها للكسب وفرض المزيد من المطالب والأوامر والقرارات.
          واقعيًا، الكثير من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً لم تنجح في قطع الطريق أمام الدول المتمردة على سياستها، شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا. فدول أمريكا اللاتينية التي ترى الإدارة الأمريكية في سلوكها التمرّد على سياساتها عصيانًا على إرادتها، أمكنها التعايش مع العقوبات المفروضة عليها لغاية الساعة بوسائلها وسياساتها المحلية الخاصة. وفي الواقع، مَن يقع عليه الظلم والقهر نتيجة فرض هذه العقوبات فعليًا هي شعوب هذه الدول قبل حكوماتها. فالحكومات سائرة في أسلوب حياتها وفق سياسة زعمائها وأحزابهم المهيمنة على السلطة والمال والبشر. فيما الشعب هو الذي يواصل الرزوح تحت طائلة شكل هذه العقوبات وفنونها، تمامًا كما شهدتها حالة العراق أيام النظام السابق.
         وذات الحال كاد ينطبق على شعب سوريا وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها من شعوب المنطقة والعالم النائم (عفوًا النامي). والعقوبات مهما كانت شديدة التنوع والظلم، لا بدّ أن يجد لها الطرف المعاقَب طرقًا للتصرف معها والبحث عن ثغرات فيها لأجل التملّص من تأثيرها وأدواتها. وهذا ما تفعلُه إيران مثلاً إزاء العقوبات المفروضة عليها منذ سنوات على يد الإدارة الأمريكية. لكنها تمكنت من المناورة والمراوغة والنجاح في الالتفاف عليها جميعًا، حكومة وأفرادًا وشركات بوسائلها ومتابعاتها وتعاونها وصفقاتها مع دول عظمى أخرى تكنّ تقليديًا العداء والحقد والنديّة للإدارة الأمريكية، مثل الصين وروسيا، ما يؤمّن لنظامها الثيوقراطي المتخلف البقاء في الحكم وديمومة السياسة العنجهية بسبب تأمينها كليًا شكلًا منافقًا ومتحايلاً للتعاون الدولي مع دولٍ منافسة لأمريكا في مسألتين مهمتين: سياسيًا عبر ميكانيكية التوسع الديني والمذهبي على حساب شعوب المنطقة والعالم حين توفر الظرف الملائم، ومنها تأتي سياستها في التوسع الجغرافي والطوبوغراغي بالاستيلاء على ما أمكن من أراضي وثروات الدول التي تنضوي فكريًا وأيديولوجيًا تحت مظلة زعامتها، واقتصاديًا عبر بسط سطوتها على شؤون المال والثروات الوطنية للدول الضعيفة التي تحولت إلى أشباه دول بلا سيادة حقيقية. ومما لا شكّ فيه أنّ ممّا ساعدها في تحقيق هذا الهدف بل مجمل الأهداف المعلنة وغير المعلنة، قدرة زعاماتها الدينية على استغلال حاجة أشباه هذه الدول التي تحولت إلى ولايات تابعة خانعة لسلطتها الدينية ولسياستها الاستفزازية في المنطقة والعالم. وقد ساعدها في ذلك، العامل الديني والمذهبي اللذين تتذرع بهما الزعامات الجديدة والأحزاب الدينية التي تسلطت على المشهد السياسي بعد 2003  في تبعيتها الواضحة للجارة الشرقية. وعلاوة على هذه، يمكن أن نضيف مدى استعداد هذه الزعامات لفعل أيّ شيء إرضاءً للأسياد في المذهب الذي صار أقوى وأولى من أيّ إحساس وطنيّ أو حرص على إتمام سيادة الوطن وحفظ كرامة المواطن. ناهيك عن استغلال ثروات العراق ونهبها بطرق ووسائل شيطانية عبر أدوات السلطة الجاثمة على صدور العراقيين منذ أكثر من 17 عامًا خلت، وتفننها باختلاس ونهب ما يستطيعونه طالما هم يؤدون واجب الجباية والحلب غير المتناهي في البلاد.
           أمام هذه الحقائق والوقائع، يبدو مشهد فرض العقوبات غير مجزٍ تمامًا، طالما توجد مثل هذه الثغرات التي تغطي وتسمح بالتنفس عبر رئات بديلة أمام أنظار الدول والتحالفات المشاركة في سياسة فرض العقوبات ومتابعة تطبيقها. وهذا ممّا يفسح المجال للتيقن بوجود توافق دوليّ بين حكومات الدول القوية وكارتلاتها وأجهزتها الأمنية والاستخبارية والسياسية والاقتصادية على السواء، على شكل العقوبات وطريقة تطبيقها مع ضمان هوامش متاحة للتملّص من شدة تطبيقها أحيانًا عبر اتفاقات جانبية لا تخلو من صفقات فساد.

 حالة العراق


          مَن منّا ممّن عاش فترة العقوبات التي فرضها التحالف الدولي بقيادة أمريكا وحلفائها الغربيين في فترة التسعينات غبة غزو الكويت بما حملته آنذاك من قهر وجوع وحرمان ويأس من الحياة لم يعشها غير شعب العراق المسكين، وهي فترة ظالمة ومظلمة في تاريخه، ولم يكن للشعب فيها لا ناقة ولا جمل. ومازلنا نعاني من آثارها المدمّرة لغاية الساعة، ديمغرافيا وماليًا واقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وعلميًا وأخلاقيًا بعد أن فقدنا كلّ شيء إلاّ الأمل بقادم أفضل في  يوم من الأيام. ونأملُه قريبًا ووشيكًا جدًا!
         لكن الأمريكان وإدارة حكومتهم الحاقدة آنذاك ودومًا، وانطلاقًا من حب الانتقام بسبب وطء كرامة دولتهم العظمى من جانب رأس النظام السابق المتمرّد على سياستها التعسفية، قد أوغلوا في فرض عقوبات أفقرت قدرات عامة الشعب لحدّ الجوع والضائقة في كلّ شيء، وأطاحت بطموحات مكوناته لأخذ المبادرة والاستعداد لتجربة التغيير التي اختفى بريقُها وتلاشت آمالُها من الداخل، في الوقت الذي ألّبت هذه الإدارة الظالمة فئاتٍ مطرودة وعاصية وغير مرغوبٍ بها في البلاد للاستعداد لاستلام السلطة من على ظهور دباباتها المتوحشة التي تجاهلت كرامة العراق والعراقيين في نيسان 2003، حين وطأت سرفاتها الدنسة أرض الحضارات والثقافات والأديان والإتنيات المتعددة التي لم تشعر يومًا بالغربة عن الوطن ومشاكله. فقد كان بإمكان هذه الدول المتجبرة المنزعجة من استمرار حقبة النظام السابق تسهيل إحداث التغيير في النظام الحاكم بوسائل أقلّ خسارة وأخفّ وطأة على قلوب ونفوس وضمائر وممتلكات وحقوق وطموحات المواطنين الذين كانوا يعلقون آمالاً كبيرة على أي بريق أملٍ قادم بالتغيير.
               لكنّ هذه الإدارة عبر أجهزتها الاستخبارية والمخابراتية وبالتعاون والتنسيق مع مثيلاتها في دول طامعة أخرى بالعراق، قد أفشلت كلّ المحاولات التي جرت في مديات ومناسبات مختلفة للإطاحة بالنظام السابق داخليًا، سواء بالتعاون مع دول إقليمية أو دولية بالكشف عن اية نوايا أو مشاريع أو تحركات تصبّ في هذا الهدف الذي كان مطمع الكثيرين من الذين استاؤوا مما وصلت إليه البلاد وأحوال العباد في السنوات الأخيرة من كمّ للأفواه وخوف على الأرزاق وخشية على الحياة. وهذا ما قصم ظهر المثقفين وأصحاب المروءة والحماسة والشجاعة حين تيقنوا بوقوف جهات دولية ذات نفوذ وسيادة أمام أي تحدّ أو مشروع من هذا النوع بسبب الخوف من ملاقاة مصير ذات الجهات التي حاولت طيلة أكثر من عقدين من الزمن بإحداث عملية التغيير داخليًا، حتى وقوع البلاد بيد أهل الجور والفجور ومّن سار في دروبهم ذيلاً ذليلاً ستظلُّ الأجيال تستمطر عليه نقمات السماء ولعنات الشعب المغدور في الداخل الخارج.
         
غياب الدولة
  واليوم يجد العراق نفسه غارقًا في مستنقع اللادولة بل غياب الدولة بسبب ما أفرزته الصولات والجولات والحماقات الأمريكية التي لم تنقطع ولم تتوقف منذ فترة فرض العقوبات الجائرة على الشعب وليس على النظام في حقبة التسعينات ولغاية الساعة. فقد ضاعت فيه مفاهيم الدولة واختفت المؤسسات الرصينة التي يمكن الاعتماد عليها في تسيير شؤون البلاد والعباد على أسس العدالة والمساواة والتفاهم والتضامن. بل قد انقلبت فيه موازين الحياة، ولم يعد للمعايير الإنسانية وحقوق البشر التي كفلتها شرعة حقوق الإنسان والعراق أحد أطرافها الموقعين، اية آمالٍ لإعادة الحياة الطبيعية إلى هذا البلد المتهالك في كلّ شيء بسبب إيداعه بأيادي غير أمينة من قبل المحتلّ الأمريكي والمتحالفين معه من دول الغرب المنافقة التي تشاهد بأم عينيها ما جرى ويجري للأحرار من طالبي الوطن المفقود والباحثين عنه في ساحات التظاهر والكرامة وفي الشارع وحتى في القمامة التي يبحثون بين أكوامها عمّا يمكن أن يسدّ رمق حياتهم ويحفظهعم وعوائلهم من جوعٍ فرضه ساسة الصدفة وأسيادُهم، وهي لا تفعل شيئًا محسوسًا لأجل إنقاذهم من هول الكارثة التي ماتزال قائمة منذ أكثر من 17 عامًا.
         لقد طفح الكيل ووقع البلاء في إبلاغ البلاد إلى حافة الإفلاس والاستجداء واشتداد أفعال الجرم والقتل واغتيال الكلمة وكمّ أفواه كلّ مَن يجرؤ على نطق كلمة الحق وكشف الباطل. ولعلّه بسبب هذا الصمت المخزي وطنيا وإقليميًا ودوليًا، اشتدت عزيمة الجماعات الخارجة عن سلطة الدولة وعصابات الدولة العميقة لتصول وتجول وتهدّد أركان الدولة وتخيف القائمين والأوصياء عليها ممّن بخشون بطش طاغوت أدواتهم التي يتم التحكم بهم من خلف الأسوار الشرقية. وإذ ينقسم العقلاء والمثقفون والمراقبون الساكتون عن إبراز صوت الحق لأي سبب كائن، فالجميع متفقون سرًا أو علنًا على ضرورة تغيير المنظومة السياسية بأكملها. ومن ثمّ فقد أيقن الجميع، أنه لن تنفع مع هذه المنظومة السياسية القائمة أية إجراءات ترقيعية أو ما يُدّعى بالمصالحة أو المشاركة أو الحفاظ على حقوق الشعب بعد أن فقد الشعب كلّ أملٍ له مع الطبقة الحاكمة وأحزاب السلطة المثقلة بالفساد. فهذه الأخيرة تفعل ما تريده، ولا تطبق ما تقول وما تعد به. ورهانُها اليوم، بالرغم من الثورة التشرينية الوطنية الخالدة قائمٌ على الزمن وعلى إمكانية تمديد فترة بقاء المنظومة السياسية الهزيلة التي أتى بها المحتل الأمريكي والتمادي في الحكم الفاسد ما أمكنها ذلك بدعم من أطراف المعادلة جميعًا، أمريكا وإيران وتركيا بخاصة، مع دول الجوار وباقي اللاعبين الغربيين المتفرجين. لقد فقدت هذه المنظومة السياسية شرعيتها في ظل الثورة الشعبية الوطنية التي لن تتوقف حتى عودة البلاد إلى سالف عهدها وكرامتها وسيادتها وحضارتها وشموخها وعزتها، لتعود بلد المنصور والرشيد وأبي نؤاس والمتنبي معانقة ثورة العشرين في طرد الغزلة الطامعين والدخلاء والأغراب. حينها لن يكون المقدس سوى الوطن وليس الفرد، ولن تكون الطاعة سوى للقانون وليس لشريعة الغاب، ولن يكون العراقي إلاّ في مقدّم صفوف الدول والشعوب المحترمة في عزة نفسه وكرمه وصدقه ونظافة يده وطيب سريرته وحسن نيته.




117
مافيات أحزاب السلطة ومنظومة حقوق التوارث
لويس إقليمس
 بغداد، في 10 حزيران 2020
يوم سألني صاحبي لماذا لا تنخرط في الشأن السياسيّ؟ فالفرصة فيه قائمة لإبداء الرأي ونقل معاناة الشعب في زمن الديمقراطية الحديثة، وأنتَ من الناشطين في مجال الدفاع عن الأقليات من المكوّنات المهمّشة، كما يمكن أن تفتح لك طرقًا عديدة  للكسب والتكسب واعتلاء المناصب في زمنٍ ضاع فيه الحابل بالنابل واصطبغت سياستُه بالتخبط وضبابية الرؤية، وأنتَ لديك من المؤهلات الموجبة وطنيًا ودينيًا وثقافيًا واجتماعيًا ومن علاقات دولية ما يفتقده الكثيرون ممّن تسلّقوا المناصب العامة زورًا وبهتانًا.
لم أتحرّج حينها من السؤال أبدًا. فصاحبي ربما لا يعلم بما في بواطني ودواخلي من مبادئ تربيتُ عليها وطنيًا ودينيًا واسريًا وثقافيًا ومجتمعيًا ممّا يحظر عليّ سلوك مثل هذه الطريق الشائكة غير المعبَّدة بالحرص الوطني وحب الأرض والشعب بسبب ممّن تولّوا السلطة وأداروا دفة البلاد بلا غيرة وطنية ولا ضمير إنسانيّ ولا سلوك أخلاقي إلاّ فيما يحفظ المكاسب الأنانية الخاصة والمصالح الفئوية والحزبية والكتلوية والدينية والطائفية والعرقية الضيقة. وقد وجدتُ نفسي إزاء مثل هذه المرذولات غير الوطنية واللاّإنسانية وأشكال هذه الأنانية في المسلك  خارج سياقات سماتها السلبية التي لا تتوافق مع مبادئي ورؤيتي للحكم الرشيد الرصين الممزوج بحب الوطن والأرض والدفاع عن شعب مقهور وخانع لسنوات وعقود خلت. وقلتُ له حينها والدمعة في مآقيّ، ستأتي أيامٌ وهي قريبة، سنبكي فيها على ماضٍ جميل اندرس وعلى شيء اسمُه وطن سوف يُباع ويُشترى بايادي قذرة. فالوطن سيكون خارج سياقات هذه الزمرة التي تحكم في زمن اللاوطن واللاّدولة واللاّضمير طالما بقي هدف مجمل الأحزاب التي تشكلت بعد الغزو الظالم متمسكة بنظام متهالك مقيت للمحاصصة هدفه ضمان السلطة وإدامة المكاسب وتجاوز عدالة الحساب. وفي زيارة من زياراتي إلى بلد أوربي، التقيتُ صاحبي وذكّرتُه بما جرى ويحصل لغاية الساعة في بلد الحضارة والمجد والمسلّة والزقورة والمراقد والأديرة والنواقيس المجلجلة وهي تناطح المآذن والمعابد. حينها قال لي قد صدقتَ!
ذلكم كان الحرج الأساس في مثل هذه الدعوة الجانبية والمتمثل بعدم استعدادي  لمجاراة الممارسات السيئة لأحزاب السلطة التي حكمت البلاد منذ احتلالها في 2003 وتسليمها على طبق من ذهب لأدوات دولة الجارة إيران كي تسوسها كواحدة من محافظاتها الفارسية أمام مرأى ومسمع المدّعين بالوطنية وبتوافق مع الغازي الأمريكي الذي انصبَّ جلُّ همّه آنذاك قبل الاحتلال وما بعده على كسر شوكة أعتى نظام، ربما عرفه التاريخ العربي الحديث في المنطقة بغية تفتيت عضده المجتمعي وتحطيم ماكنته العسكرية والصناعية والانتاجية والعلمية كي لا تنهض البلاد ما شاءت الأقدار ويأمنَ المتعاقدون الأقوياء من بقائه خارج الحسابات الإقليمية والدولبة فريسة سهلة وصيدًا هنيئًا لكلّ مَن هبَّ ودبَّ. من هنا كانت مسألة الانخراط في الأحزاب، بكلّ أشكالها الدينية وغير الدينية "تابو" غير ممكن الاقتراب منها بالنسبة لي، كما لغيري من الواعين والمترقبين للأحداث، لأنها ببساطة ليست من ثوبي الوطني بشيء ولا من مبادئي الإنسانية والاجتماعية التي تتحلى بها أسرتي وبلدتي وديانتي. فالأحزاب في بلدان نامية ليس من شيمها الجوهرية صيانة الوطن والدفاع عن مكتسبات البلدان، بل جلُّ همّها حلب الأوطان وسحق المعارضين واستعباد المطالبين واستبعادهم بأية وسيلة، إلى جانب سمة التوسم بالجاه والنفوذ والسطوة وتواصلُ ذات المنهج السيّء في عيش مسارات عميقة رسخت لمصالح متجذرة، هي الأخرى أصبحت بمثابة حقوق متوارثة بمسيات شتى جهادية ونضالية واستشهادية ومرجعية وعائلية وعشائرية وحتى مناطقية وما سواها من تخريفات وتخريجات ساسة الصدفة ومراجعهم حتى اليوم الذي ستحصد فيه ما زرعته من بذرة فساد وما جنته من مكر وخداع وكذب ونهب وسرقة، وهو قريب إن قضت الأقدار. ويكفي اللبيب النبيه والمثقف المدرك لمكر الأحزاب في عراقنا عمومًا ومن دون تمييز، الشهادة الواضحة أمام الأعين على سوء نوايا هذه الأحزاب وبؤس أفعالها ودجل سياساتها وتدليس تصريحاتها وتكرار أكاذيبها وخيبة وعودها للوطن والشعب طيلة السبعة عشر عامًا المنصرمة بما أتته من خراب ودمار للبلاد والشعب في كلّ مفاصل الحياة ومن دون استثناء ميدان من غيره، وآخرها ما سعت إليه من سرقة مدخرات المتقاعدين بوسائل شيطانية وتعرّضها لمستحقاتهم ومرتبات الموظفين محدودي الدخل بحجة سدّ نفقات الدولة التشغيلية وتأمين السيولة. وهي في حقيقة الواقع خطوة لا تخلو من نوايا سيئة لإدامة زخم السرقات ونهب الثروات والاستخفاف بالعامة، ولو بأطر مختلفة.

المثقف والمعارض أنواع
إن أصحاب المبادئ من غير المتلوّنين ولا الدجالين ولا المنافقين ولا المحابين ولا الساكتين ولا الصامتين عن أشكال الظلم والقهر والفساد واللصوصية باسم ممارسة السياسة، لم يكن من السهل عليهم الصمت والسكوت على عملية نحر الوطن وجزر المستضعفين من أبناء الشعب ونهب الثروات بالطريقة التي حصلت وماتزال بعد مرور ما يقرب من 17 عامًا خلت من المرارة والعلقم والتخلّف في كل شكل وميدان في الحياة اليومية. وهذا دور الطبقات المتعلمة والمثقفة منها خصوصًا، ومَن هم في أدنى درجات الوعي الوطني والمجتمعي. فمنهم مَن آثر السكوت والانزواء متحسرًا من الخوف والهلع. ومنهم مَن جاهدَ وناطحَ وفشلَ حينًا وأحرز النجاح حينًا آخر، فكان منهم مَن ضحى بحياته فداءً للوطن والشعب، ومنهم مَن كُتبت له النجاة ومازال في ساحة المعركة يقارع الفاسد والمفسد في الأرض. ومنهم، مَن عبّأَ قلمَه بمداد الدم صرخةً مدوية حبًا للوطن والشعب المجاهد، فأرسى بذلك لأوراقه رائحة ذكية يستنشق منها القارئ والمتابع شيئًا من بلسم ذكريات تُعيد إلى الأذهان جهاد الأبطال في التاريخ في مقارعة الطواغيت والفاسدين في الأرض من يوم خلقها الله وملأها بآدم وحواء لغاية الساعة السوداء القائمة التي تتعرّض فيها البشرية لواحدة من أعتى التحديات الوبائية في تاريخ الإنسانية المتمثلة بالجائحة كورونا.
أمّا مَن شقَّ له طريق التزلّف والمجاملة والمحاباة على حساب الحق والوطن ومصالح الشعب العامة، فقد جنى على نفسه وأهله ووطنه وشعبه سواءً بصمته الأخرس أو بلسانه المتزلّف، ولن يُحسب ضمن نخب المجاهدين الصادقين حين ينتصر الحق على الظلم وتندحر زعامات الأحزاب المتسلطة وأدواتُها ومراجعها إلى غير رجعة وغير ماسوفٍ عليها. فمثل هذا الشخص الخاوي من صدق المواطنة ليس لديه ما يستحق منحه صفة المواطنة وغيرة الضمير وسموّ الفضيلة. فالثقافة الوطنية  تعني أيضًا من جملة ما تعنيه، التَمثّلُ بالشجاعة والغيرة والحماسة والعزيمة والإرادة الصائبة في مطاردة الباطل وزجر الفاسد ومحاسبته وقطع يد السارق ونهر المخطئ في مكانه، أيًا كان مصدرُه وجبروتُه ومنبعُه. ولم يعد خافيًا ما تفرضه أحزاب السلطة وأدواتُها وذيولُها من شروط وموجبات كأساس للقبول بتولي أية شخصية منصبًا في الدولة العراقية أو في اقتناص أية وظيفة متقدمة أو أولية. وهذا ديدنُها منذ التأسيس لنظام المحاصصة البغيض في توزيع المناصب والنفوذ فيما بينها وعلى الأبناء والأقارب والذيول التابعين الذين يشكلون جيوش هذه الأحزاب في صناديق الاقتراع. ولأجل هذا السبب يعترض اليوم بعض زعماء الأحزاب وذيولهم وأتباعُهم على أية إصلاحات ينوي الكاظمي وفريقُه الوزاري إجراءَها لأنها تضرّ بمصالحهم ومكاسبهم.

صيانة المكاسب وديمومة المنافع أولاً، من أهداف أحزاب السلطة وأتباعهم
لا جدلَ في أنّ معظم الذين تورطوا في الشأن السياسي، او بالأحرى وبالتحديد الأصحّ، مَن انخرطوا في أحزاب السلطة طوعًا أو قسرًا أو مراعاة أو تشفيًا أو لغايات في نفوس أصحابها، لم يضعوا في أولى أولويات حساباتهم شيئًا ممّا يعلي ويسمو بسلوكهم انطلاقًا من سمة حب الوطن. فهذا الشعار كان ومازال في نظر الثوار الحقيقيين الصالحين يشكل رأس الحربة في نضال هؤلاء، ومنه المضيّ في قطار التضحية لغاية بلوغ الأهداف النبيلة التي يفترض أن ثاروا من أجلها ولتحقيقها للصالح العام، وطنًا وشعبًا ومجتمعًا ومدنية.  فمَن يحبّ حبًا صادقًا، يمشي في مشوار هذا الحب زمنًا طويلاً وفي كفه راية التضحية بالغالي والنفيس لأجل المحبوب، شخصًا كان في افتراضنا أم وطنًا أم شعبًا أم بلدة أم منطقة أم أي هدف اسمى.    
هناك ساسة أتوا على متن قطار الغزاة أو اعتلوا دباباتهم التي دكّت العراق وشعبَه قبل أن تطيح بحكم النظام السابق مهما كانت الأحكام بحق هذا الأخير. وآخرون نبعوا من رميم الفقر والحرمان وبرزوا في التسلّق الماكر والتزلّف السافل، وقد سمح هؤلاء لأنفسهم أن يعتاشوا على فتات الحكم الشيعي بعد سطوة هذا الأخير على مقاليد الحكم باتفاق وتوافق مع الغزاة العتاة الماكرين. وكان جلُّ همّ هذه الفئة الطافية على المياه الراكدة في الزمن الأغبر، ضمانُ حصولهم على حصتهم من الكعكة، وليس غير ذلك. وقد ساق مثل هذه التصريحات الخائبة الخائنة وغير المسؤولة بعضُ من ساسة هذه الفئة بلا خشية ولا تردّد، ومنهم مَن احتل منصبًا تشريعيًا عاليًا حين تصريحه من على شاشة إحدى القنوات الفضائية يومًا، أنّ جلّى همّ ممثلي هذا المكوّن بعد فقدانهم الحكم أن يحصلوا على حصتهم من أموال الدولة، ولا يهمّهم مَن يحكم البلاد. وكل هذا يجري ضمن صفقات فساد سياسية بين أحزاب السلطة بعيدًا عن أي شعورٍ بالوطن  ومصالحه العليا.
وفي اعتقادي هذه جريمة كبرى، ليس بحق مكوّن أصيل أثبت دومًا قدرته على حكم البلاد بغض النظر عن ارتباط بعض رجال ساسته بتشكيلة النظام السابق أو بعدمه، بل هي جريمة بحق الشعب الذي ائتمنهم على مصالحه وحقوقه المهضومة في زمن الغدر واللاّدولة. إنه لمن المعيب حقًا، نطقُ بعض السياسيين الدخلاء الانتهازيين بكلمات كفر وهرطقات وهلوسات سياسية وهم يحتلون شاشات القنوات الفضائية حين تبجحهم بنجاحهم بتأمين مكاسبهم الشخصية والفئوية والحزبية والمناطقية أولاً وقبل كلّ شيء، وتغليبها على مصلحة الوطن العليا. فالمهمّ لدى هؤلاء الطفيليين صيانة هذه المكاسب وديمومتها وتوارث نيل المكاسب وإدامتها ما شاءت يد الأقدار وأدوات الفساد، ومن بعدهم الطوفان. وهذا ما حصل طيلة السنوات المنصرمة وما أوصلتنا إليه أهداف وغايات أحزاب السلطة التي ربما تجاوزت الثلاثمائة حزب، وجميعُها تأكل من الكعكة بطريقة أو بأخرى لغاية الساعة.
وإذ تدور في هذه الأيام نتف كلام وأحاديث عن عزم الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي وفريقه الوزاري المفروض عليه بعضُ وزرائه بذات نهج التحاصص اللعين، عن عزمه على التغيير وبدء الإصلاح بالرغم من صعوبة المرحلة وعبء التركة الثقيلة التي خلفتها الحكومات الشيعية الفاسدة المتلاحقة، إلاّ أنّ الشكوك ماتزال تراود أصحاب الفكر والتخطيط وأرباب العمل من مجاميع القطاع الخاص الذين مازالوا يشعرون بالغبن من عدم مشاركتهم في صنع القرار السياسي- الاقتصادي الذي لا يمكن فصل الهدف الواحد منه عن الآخر. فالاقتصاد هو الذي يقود سياسة البلدان في هذه المرحلة الحرجة من زمن البشرية. ولا بدّ من بداية جريئة حاسمة تضع القطار على سكة البلاد الصحيحة، سكة الوطن والمواطنة التي تؤمن بالعدالة والمساواة واحترام الأهلية والتخلّي عن أدوات التخلّف والجهل والفقر التي آلت إليها بلاد الرافدين وجعلتها أحزاب السلطة، ولاسيّما الدينية منها المتبجحة بالخرافات والترّهات والحكايات المدسوسة الغريبة التي تريد أن تبقي الشعب في غياهب الجهل والتخلف وتبعده عن ناصية العلم والمعارف وتشجعه على رفض تقبّل فكرة التحرّر من الدين والمذهب والمرجع وكلّ ما يمكن أن يقف حجر عثرة أمام تقدم وتطور الشعوب المبتلاة بساستها المتفقين المتوافقين مع سادة الدين والمذهب والطائفة والعرق. 
    من المؤسف أن تقف جانبًا أو تنزوي خشية شرائحُ مهمة من الطبقات المثقفة وأصحاب الفكر ومَن وقعت عليهم كوارث الحياة بسبب سلوكيات ساسة الصدفة وزعماء الأحزاب التي تشدّقت بالدين واتخذت المذهب أدواتٍ لأبقاء الشعب المغلوب في سباته والبقاء صامتًا في نومه كي لا يصحو على ما جرى ومازال يجري بالرغم من صحوات شعبية متتالية لم تاتي بثمارها لغاية الساعة. ويُخشى من الصحوة الأخيرة للانتفاضة التشرينية المتعثرة في بعض أدواتها، والتي اتخذت مسارات متعددة، متناقضة في مطالباتها حينًا والمتوالمة مع جهات في السلطة حينًا آخر، أن تخبو وتُركن موجتُها الوطنية الصحيحة جانبًا وتُغيَّر وجهةُ مرساتها على أيدي أدوات أحزاب السلطة نفسها وميليشيتها. فهذه الأخيرة بكل ما أوتيت من قوة وبطش وقسوة، تحاول الاجتهاد والدفع  بثوار الانتفاضة لتغيير مرساتها وتوجيهها بحجة ما يُشاع دينيًا ومذهبيًا بالتوجه الشامل لدعم ما يُسمّى بالمقاومة المسلحة والتحذير بالخشية من عودة أدوات الشماعة التقليدية للنظام السابق التي يخشى البعض من هؤلاء المتصيّدين بالماء العكر قلبُها الطاولة رأسًا على عقب على أرباب وزعامات السلطة وأركانها ومراجعها في حال أزفت ساعة الانفراج وقُهرت أدوات الفساد التي تحكم البلاد والعباد بعد انفراط عقد الراعي السياسي الأمريكي مع المتعاقد الرئيسي الفارسي الذي يراهن هذه الأيام على كسب الجولة الأولى من المفاوضات التمهيدية الافتراضية بين العراق وأمريكا. وهي في واقع الحال مفاوضات صعبة بين أميركا وإيران التي تدير دفة العراق وتوجه سياسته وتغتصب اقتصاده وتُؤجل تقدمه وتنميته وتطوره ما أمكنها ذلك كي يبقى أسيرًا ذليلاً بين أيادي حكم ولاية الفقيه. 
أما ما نترقبه من نتائج من هذه المفاوضات غير المتكافئة في المنطق والحذق والذكاء والمكر السياسي الدولي، فلن يتجاوز من جانب المفاوض العراقي وكيل أحزاب السلطة، التأكيدَ على ضمان استمرار السلطة بأيدي أدوات سطوة ولاية الفقيه ووكلائها في الوطن. وسيبقى هدف مَن في السلطة بموجب نظام الحكم القائم،  صونُ المنافع وديمومة المكاسب وتجاوز عدالة الحساب وتوريث حقوق المنتفعين ظلمًا وجورًا، شئنا أم أبينا.




118
على نفسها جنت براقش!
لويس إقليمس
بغداد، في 19 أيار 2020
كانت جريدة الصباح الرسمية العراقية قد نشرت في عددها ليوم الأربعاء 29 كانون ثاني 2020 ما مفادُه بأن "تقديرات المجلس الأعلى لمكافحة الفساد لقيمة الأموال المنهوبة المهربة من العراق توازي الموازنات الاستثمارية التي أُقرت منذ عام 2003 وحتى الآن". وقد يفيدنا المختصون بالأرقام عن قيمة هذه المبالغ التقديرية وغيرها ممكّا في الكواليس، ليس كمعلومة عامة عابرة فحسب، بل لتكون من وثائق الجهات العدلية النزيهة التي تقبل بمتابعة هذا الملف الشائك، بالرغم من عدم وثوقنا جزئيًا بصدقية الجهاز القضائي القائم حاليًا بسبب اعتقادنا بمجاراته لأحزاب السلطة ومحاباتها، لكون نفر من عائلته يُعدّون من الأتباع والمجالسين لعدد من الفاسدين في السلطة. لذا لا نعوّل كثيرًا وتمامًا على الأجهزة العدلية والقضائية الحالية واية أجهزة رقابية أخرى في الوقت الراهن، بسبب تشابك الأحداث وتداخل العلاقات، ما طبع هذه الأخيرة بصفة المجاراة للواقع حتى انقشاع الظروف وتبدّل الوجوه والشخوص. ما دعانا للتذكير وإثارة الموضوع مجددًا ما بدا للمواطن العراقي وغيره، عن استعداد مكنون مشوبٍ بالحذر من جانب سابع رئيس لمجلس الوزراء في العراق بعد الغزو الأمريكي، لفتح أوراق هذا الملف الشائك ضمن منهاجه الوزاري، لكونه من المواضيع الساخنة المسكوت عنها بل المهمَلة من قبل مَن سبقه على هذا المنصب.
قد يكون ما نسمعه ونقرأه عن أرقام الفساد الخيالية "صادمًا جدّا"، لكنه في نظر شرائح من أرباب الطبقة الفاسدة وأتباعها يدخل ضمن خانة "العادي جدّا". فحيث كانت صفة الفساد والسرقة والنهب والقتل حرامًا في العرف الاجتماعي العراقي "العربي"، أصبحت في ظلّ نظام الحكم بعد 2003، نوعًا من التفاخر والشيم المجتمعية لنفر ضالّ ارتضى لنفسه الانخراط ضمن منظومة الفساد التي تحكمها أحزاب السلطة، ولاسيّما الإسلامية. ويا للعار! ولكن، حسنًا فعل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد بمكاشفة الشعب بالمشكلة بل بالمشاكل الكبيرة والكثيرة التي تتقاطع مع جهود بعض أعضائه الذين نتوسم فيهم الرغبة الصادقة والنزاهة الشخصية. ونحن نعتقد أن هذا لن يكون ممكنًا إلاّ في حالة توفرت لديهم الحرية الوافية والمساحة الكافية للعمل وفق الضمير والمواطنة الصادقة للحفاظ على ثروات البلاد وحقوق المواطنين المحرومين منها بسبب ما شهدته البلاد منذ السقوط في 2003. فقد سمحت قوة الاحتلال الغاشم آنذاك لساسة البلاد بنهب الثروات على مرأى ومسمع بل ودعم من رموزها وعلى رأسها الحاكم المدني سيّء الصيت بريمر الذي مسك العصا من الوسط ووزع المناصب والمكرمات بموجب نظامه المحصصاتي البغيض الذي كان السبب المباشر في نشر الفساد واستشرائه وتمكنه من الاتساع بطريقة أخطبوطية وأميبية ماكرة لغاية الساعة.
لا ننكر صعوبة العمل التي يمكن ان يواجهها مجلس مكافحة الفساد وغيرُه من المؤسسات الرقابية في ملفات معقدة يعود جلُّها لحيتان الفساد الكبيرة من زعماء كتل وأحزاب في السلطة منذ 2003 أو تلك التي تعود لأتباعهم وذيولهم من مسؤولين ولدى قيادات مدنية وعسكرية تحظى بوصاية وحماية من لدن قادة الكتل والأحزاب التي يخشى القضاء التقرّب منها أو التعرّض لها لأسباب عديدة ومنطقية في مجملها. فقد صرّح زعيم كتلة مهمة في تصريح إعلاميّ سابق أن القضاء واقع تحت مطرقة الأحزاب والكتل السياسية وأنه يخضع لتأثيرات الأحزاب والساسة في البلاد. بل إنه تفاخر بذلك أمام الملأ. ولعلَّ من نماذج محددة ومعينة وبارزة لهذا التأثير ما حصل ومازال يحصل في معالجة حقوق مواطنية لموظفين وعسكريين سابقين ايام النظام السابق من حجب لمستحقات وتراكم مرتبات واستحقاق حقوق تقاعدية اسوة بالغير كما تنص عليه الحقوق الوطنية الأساسية، مقابل تسهيل حصول فئات غيرهم ومن أتباع أحزاب السلطة حصرًا على حقوق تفوق استحقاقاتهم بحجة الجهادية والمظلومية وبمسميات أخرى ما أنزل الحاكم الظالم من أوامر سلطانية.
 في اعتقادي أن السيد مصطفى الكاظمي، قد وضع نصب عينيه موضوعة الفساد وكيفية معالجتها ضمن أولويات كابينته الوزارية. فالشارع الغاضب منذ أكثر من سبعة أشهر لانطلاقة الانتفاضة التشرينية الوطنية السلمية، وأنا منهم مثل باقي أترابي من المفكرين والمثقفين والأكاديميين وغيرهم من محبي الوطن والمتمسكين بأرضه وحضارته وتراثه والمفتخرين بفسيفساء تعدديته الجميلة الملهمة للعالم أجمع، نتطلع لعمل وطني جماعيّ دؤوب مصحوبٍ بغيرة متقدة من الجهات الرقابية جميعًا وبغطاء من لدن رئيس مجلس الوزراء الحالي العازم على وضع حدود لهذه الآفة ومحاسبة ومتابعة اللصوص وناهبي ثروات البلاد من دون وجه حق . وهذا ممكن التحقيق في حالة انسلاخ هذه الجهات ومَن حولها وفي خطوطها الرقابية عن سطوة أحزاب السلطة وأزلامها وذيولها. ونحن نعلم أن في الأدراج الكثير من ملفات الفساد العديدة المركونة محظورة التقرّب منها لأنها لو فُتحت فإنّ رائحتها النتنة ستفسد البيئة القريبة من أبطالها من الرابضين في المنطقة الخضراء او الذين لاذوا بالفرار في دول الجوار وبلدان الاغتراب ومعهم الملايين من الورق الأخضر الذي سُرق ظلمًا من أفواه أهل العراق الطيبين واقتطع من حقوق الشهداء والثكالى والأرامل المستحقين ونُهب من أمام عيون الشباب العاطل الباحث عن فرصة عمل والخريجين الذين يفترشون الشوارع أو يعملون في العتالة في سوق الشورجة وبسطات الأسواق والساحات العامة رغم أنّي لا أنتقص من ايّ عمل او وظيفة مهما كانت طبيعتُها دنيا أو حقيرة في نظر البعض.
هناك مَن يتعامل أو يذكّر بأرقام فساد خيالية عالية تصل مبالغُها إلى أكثر من خمسمائة مليار دولار أو تتجاوز هذا السقف المفترض في ضوء حسابات خافية أخرى يجهلها القارئ والمتتبع البسيط الغافل. ناهيك عن اعترافات من مصادر القرار التي تحدثت وتتحدث صراحة عن أكثر من أربعمائة مليار دولار أو ما يقاربها مفقودة ولا أحد يعرف دهاليز مواقع صرفها وكيفية سرقتها. أمّا مَن فتحَ فاه من الجريئين، فكان مصيره التغييب. لكن المشكلة أنّ الكلّ مثل الكلّ متآزر في إبقاء الشرّ وأدوات الفساد وإدامة هذا الأخير وفق مبدأ "أنتَ هص وآني هص والاثنان بالنص".  وهذا ممّا يحافظ على متانة العلاقة لغاية الساعة بين الأصدقاء الأعداء في مراكز القرار والمتسلّطين على رقاب الشعب ودوائر الدولة، حين توحُدِهم واجتماعِهم على كلمة واحدة عندما يوشك خطر الاقتراب بفضح مصالحهم وفسادهم أو عندما يحصل الخلاف بين الفاسدين ويجري التهديد والتلويح بالملفات المحفوظة التي تراكمت عليها الأتربة منذ سنوات.

على نفسها جنت براقش
جميلٌ جدًا، أن يُفرد السيد رئيس مجلس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي في منهاجه الوزاري مادة منفردة ومستقلة عن مكافحة الفساد والإصلاح الإداري (المادة الخامسة). وهذا من الدليل على حرصه، في حال صدقت هذه النية، للتعامل الجادّ مع هذه الآفة التي تُعدّ من التحديات الكبيرة التي ستواجه برنامجه. وبطبيعة الحال لن يكون بمقدوره منفردًا أن يزيل هذه الغيمة السوداء الثقيلة الجاثمة على صدر البلاد والتي نحتت جسم الخارطة الوطنية بسبب المشهد السياسي الفاسد الذي تديرُه أحزاب السلطة، والدينية منها بصورة خاصة. وهذه دعوة للسادة في المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في حالة استئناف عمله الوطنيّ، بعدم الانزعاج من طروحات أبناء الوطن الطيبين، والأصلاء منهم بصورة خاصة ولاسيّما في هذه الأيام العصيبة الصعبة التي يمرّ بها اقتصاد البلاد المتهاوي بسبب الانخفاض الحادّ في أسعار النفط الذي يشكلُ الدخل القومي الريعي للبلاد، وما يعانيه أو قد ينتظره من مصير صحّي مجهول بسبب عدم الامتثال الصحيح لإرشادات الوقابة من الوباء الفتاك المتمثل بفايروس كورونا القاتل. لسنا هنا بصدد فضح هذا أو ذاك، أو الانتقاص من قيمة هذا أو ذاك ممّن قدمَ على ظهور دبابات المحتل، أو ممّن جاءت بهم صناديق الاقتراع المزورة إلى السلطة من غير أهلية ولا جدارة وفي خلوٍّ من أية مسحة وطنية أو شعور بالولاء للوطن وأهله.
كان الأمل وسيبقى هدف كلّ الطيبين والحريصين في الإصلاح والبناء والتنمية عبر التصدي للفاسدين وإعادة ما أمكن ممّا تمّ نهبه وسرقتُه وتهريبُه من الأموال السائبة. فالزمن الصعب الحالي يستدعي تعاونًا ملموسًا من الجميع من أجل المساهمة والعمل على إيجاد حلول شافية وآنية للأزمه المالية والاقتصادية الراهنة. وهذا جزءٌ أساسيٌّ أيضًا من مطالب الشارع المنتفض في وسط وجنوب العراق. ونعتقد جازمين وقوف باقي مواطني المحافظات الشمالية والغربية مع مطالب المنتفضين واللحاق بهم قريبًا جدًا بالانتصار للمواطنة الحقيقية ووضع حدّ لاستهتار المنظومة السياسية القائمة على حكم البلاد بنظام المحاصصة التوافقي الذي يديم نهب الثروة الوطنية وسرقة مستقبل الأجيال التي لم تولد بعد، بل ستكون  مدينة لدول العالم بسبب سوء إدارة أساطين الحكم الفاسدين.
نحن انطلاقًا من هذا المنبر الإعلامي الوطنيّ السمتقلّ، فقط نريد التذكير بنقاط إضافية قد تساهم وتساعد في حثّ النيات الطيبة لدى بعض أعضاء المؤسسات الرقابية الوطنية، تذكيرًا وتشجيعًا ليس إلاّ.
هناك قوانين جائرة ولصوصية شرّعتها الأحزاب الحاكمة لنفسها ضمن الموازنات التشغيلية بغية تمكين سطوتها بنهب ثروات البلاد وشرعنتها في غفلة من الشعب. فالمرتبات الخيالية والامتيازات الغريبة العالية للرئاسات الأربع وأصحاب الدرجات الخاصة ممّا أنزل الله بها من سلطان من التي ليس لها مثيل في العالم إلاّ ما ندر، ومثلها ما يُخصّصُ ويُنفق أصلاً من موازنات على هيئات خاصة وعلى الوقفين الإسلاميين، وكذا الصرف غير المشروط وغير المحدود للإيفادات عمومًا لأمور ومهام غير منتجة، وما يتبع هذا وذاك من مرتبات غير مشروعة ومخصصات وامتيازات بمسمّيات مظلومية وجهادية ونضالية ورفحاوية، وكلّها تستهلك موارد الدولة وتنخر ميزانيتها. ونحن اليوم أحوج ما نكون لادخار دينار إضافيّ لصالح ميزانية الدولة الهزيلة التي تهاوت بفعل هبوط أسعار النفط عالميًا واعتماد حكوماتنا على هذا المورد الريعي ولم تتمكن من سدّ الثغرات الأخرى في المنافذ الحدودية التي يمكن أن تساهم بموارد إضافية مهمة إلى ميزانية الدولة في حالة سيطرة أجهزة الدولة على إدارتها وخضوعها لسلطة الحكومة بدلاً من تركها سائبة بأيادي ميليشيات أحزاب السلطة في شمال الوطن ووسطه وجنوبه على السواء. وممّا يُؤسف له عدم تنفيذ البرلمان العراقي لوعوده بإيقاف مهزلة هذه الامتيازات والتخصيصات والنفقات غير الضرورية إضافة للتشريعات غير العادلة التي كان قد سنّها نواب الشعب ظلمًا وإجحافًا لصالح فئة أصحاب المنافع الاجتماعية الخياليين من جيوش صناديق الاقتراع غير الشريفة. فكان تحرّك رئاسة البرلمان ساخنًا حينذاك سخونة الشارع المنتفض. وما أن هدأت الزوبعة حتى تم ركن كل تلك القرارات الإصلاحية التي تبجحت بها رئاسة البرلمان جانبًا ولم يتمّ تفعيلُها أو تنفيذُها.
كما لا ننسى أن نذكّر بأدوات فساد غيرها تتمثل بظاهرة ابتزاز أرباب الشركات والأعمال من أجل تسهيل متابعاتهم لأعمالهم في دوائر الدولة والوزارات الإقطاعية التي تخضع في مجملها للرشاوى ولفساد الجهات التي تهيمن على هذه الوزارة أو تلك المؤسسة. وما يتبع ذلك من استغلال المواطنين البسطاء لدى وقوعهم ضحايا فساد الموظف غير الوطني الذي يضع كل العراقيل بهدف إعاقة إنجاز المطلب المشروع في أحيان كثيرة. ومثل هذا الموظف الفاسد لم يكن له أن يتصرف وفق هذا الأسلوب لو لم يجد مَن يشجعه ويدعمه مثالاً سيئًا أمام باصريه وسمعًا بأذنيه وقراءة لفضائح ترد هنا وهناك. فهذه جميعًا جزءٌ من أشكال الفساد أيضأ وبانتظار المتابعة والملاحقة والمحاسبة.
أخيرًا، إذ نشدّ على أيدي الجهات الرقابية الرصينة المؤمنة بالمواطنة والوطنية بالقصاص من كلّ ظاهرة تنبع منها رائحة فساد، نترجى الكثير من المجلس الأعلى لمكافحة الفساد مدعومًا برغبة رئيس الوزراء الجديد، حين وقوف الجميع فعلاً في خانة الوطن والمواطن وبجانب مطالب الشعب المنتفض ضدّ الفساد وظلم الفاسدين من ساسة الصدفة والذيول المحترفين. فالبلاد لا يمكنها أن تنهض وتُبنى إلاّ بالقضاء على اشكال الفساد وأنواع الشرّ المستشري بسبب النظام السياسي الفاشل وإيداع الفاسدين والمفسدين في الأرض في الموقع الذي يستحقونه لنيل ما ينتظرهم من مصير محتوم. فعلى نفسها جنت براقش!


119
عندما "يتكلّم النساء"، "تنصتُ الرجال"
لويس إقليمس
بغداد، في 18 أيار 2020
على سفوح جبال الهملايا في منطقة التبت، تركن قبيلة "الموسو" ذات النظام المجتمعي الأمومي الذي تديره النساء وتهيمن فيه على مقاليد السلطة بما في ذلك حرصها على ضمان استمرار النسب للنساء دون الرجال الذين لهم دور هامشيّ في إدارة الأسرة والمجتمع. وذات الواقع ينطبق على قبائل أفريقية أخرى حيث صوت النساء لا يعلو عليه صوت وبيدهنّ مقاليد إدارة البيت والمجتمع. بل إن "النساءَ سوافرُ والرجالَ محجبات" في قبائل الطوارق! وفي هذه وتلك، نظرة تستحق النظر بحقيقة تحرر المرأة وشقها حياتها بالطريقة التي ترتأيها هي وليس ما يُفرضُ عليها. ومهما كان رأي بعض المجتمعات الشرقية المتخلفة بسبب العرف والتقاليد قاصرًا ودون المستوى العالمي المطلوب إزاء الدور الذي تضطلع به المرأة في البيت والمجتمع والسياسة والتربية والاقتصاد، إلاّ أن ذلك لن يغيّر من حقيقة طموحها ومن الاعتراف بواقع جريء تسعى إليه بالرغم من حصرها وحصارها بوسائل لا تناصرها وتنتقص من شخصها وكرامتها وجدارتها وحقها في التعبير عن رأيها وعيش حياتها كما أراد لها الخالق من دون المبالغة والزوغان والخروج عن الطريق القويم وبما يضمن حقها بالمساواة مع نصفها الآخر، الرجل.   
على أية حال، جاء سياق هذه المعلومة الصادمة بعض الشيء للبعض الذي مازال متخلفًا في عقليته ورؤيته القاصرة لدور النساء في المجتمع وحقّهنّ في التعبير عن الذات والطموح وتحديد المصير ورسم المستقبل، لمناسبة مشاركة المرأة إلى جانب نصفها في المجتمع من الرجال شيبًا وشبابًا وقاصرين في التظاهرات الوطنية الجريئة منذ انطلاقتها في تشرين أول من العام المنصرم. فقد شهدت محافظات عراقية عُدتّ محافِظة تقليديًا وعرفًا كالنجف الأبية وكربلاء الشجاعة مؤخرًا، متحدية كلّ دعوات الاستهانة بالمرأة وبقدراتها وحقوقها الكاملة في المجتمع التي تريد جهات متخلّفة ديمومة حصرها في شؤون المنزل وانغلاقها عليه ما شاء المجتمع الذكوري الشرقي. لم تعد المرأة بعدُ وفق النظام الدولي المتطور بحاجة لنيل الاستئذان من الرجل، مهما كانت صفتُه، لعيش حياتها بحريتها التي كفلها لها الخالق الذي خلق السماء والأرض تمامًا كما خلق الرجل والمرأة بمساواة وشراكة تكافلية تكاملية من أجل المساهمة في بناء مجتمعات مفيدة نافعة حصينة ترقى لمستوى الأداء والعيش الكريم وبناء السلام بين الشعوب والأمم والدول. ومن غير الممكن أن تبقى النساء لعبة أو مجرّد زينة أو ايقونة جامدة يتفاخر بها الرجال ومرضى الهوس الجنسي وحب الجمال لاسيّما في المجتمعات الشرقية المتخلفة عن الركب العالمي الذي يؤمن ويصرّ بالقبول بتساوي الإنسان، ذكرًا وأنثى، في الخلق والقدرات البشرية وفي العمل وحرية التعبير والاختيار والجدارة وتولّي المناصب والحقّ بالثورة على الموروث البالي وأشكال الفساد والخداع والدجل والاستغلال في المجتمعات.
عندما خرجت نساءُ النجف وكربلاء دعمًا وتواصلاً مع نساء بغداد ومحافظات جنوبية "شيعية" ثائرات يبحثن عن دورٍ سياسيّ لهنّ وعن حقوق مسلوبة في مجتمعهنّ المنغلق بسبب أعرافٍ وتقاليد حطّت من قيمتهنّ الإنسانية والبشرية لعقود من الزمن بأعذارٍ دينية وحجج شرعية، فذلك لشعورهنّ بأنهنّ "ولدنَ عراقيات ليصبحن ثائرات"، كما أشارت إحدى المشاركات بكلّ شجاعة. فقد اقتنعت هذه الشابة أنّ الأعراف الموروثة البالية لم تعد صالحة في عالم اليوم المتطوّر والمختلف عمّا كان عليه قبل أكثر من 1400 عامٍ خلت. فالعراقية المتحرّرة بعقل وحكمة ورؤية موضوعية وشخصية بعد الثورة التشرينية الوطنية تسعى مع شريكها الرجل بكلّ جدارتها وقدراتها لاستعادة دورها الطبيعي الذي اغتاله مّن راهنَ على ديمومة انغلاقها وجعلها أسيرة المنزل ومتعة ومتاعًا بين أحضان الرجل المستبدّ ونزواته وسطوته الذكورية التي انتهت ولم يعد لها من وجود إلاّ في خيالات مرضى النفوس في المجتمعات الشرقية التي تحتاج إلى عقود بل قرونٍ لردم الفجوة القائمة في العلاقة بين الرجل والمرأة بين الشرق والغرب.

البحث عن وطن مفقود وحق مسلوب
لقد أثبتت الانتفاضة التشرينية الثورية طابعها الوطني من حيث الشعور وإعمال الضمير والبحث عن مخارج لأبواب الفساد الإداري والسياسي والمالي والقصور المجتمعي بحق المرأة التي هبّت لمشاركة الرجل ودعمه وربط مصيرها بمصيره ومطالبه المشروعة باعتباره شريكًا مساويًا لها ومتساويًا معها في الحقوق والواجبات وفي الثورة ضدّ أشكال القهر والظلم والفساد ونهب ثروات البلاد على أيدي طبقة سياسية استهانت بقدرة الشعب واستخفّت بحقوقه وضحكت على عقول البسطاء منه باسم الدين والمذهب والشرع والولاية الظالمة على مقدّراته. فجاء صوت المرأة "النجفية" و"الكربلائية"، الباحث مع أخيها الرجل ومَن انتفض معه في محافظات جنوبية مسحوقة مظلومة، ومن عمق أعماق مدينة مقدسة لها أعرافُها وتقاليدُها وحدودُها، بمثابة الزئير الصارخ الباحث عن وطن مفقود وحق مسلوب ومطالب مشروعة مازال ساسة البلاد يرفضون التعامل بها مع الواقع الجديد للشارع المنتفض بقوّة ضدّ العملية السياسية الفاشلة برمّتها. 
مهما كانت وجهة نظر الجهة المقابلة المتهمة بصدّ المطالب المشروعة الصارخة في ساحات التظاهر والكرامة حيال هذه الخطوة التصعيدية من جانب العنصر النسائي ودلالاته المتقدمة في تطوّر الواقع السياسي والاجتماعي في المجتمع العراقي الناهض الرافض لكلّ اشكال الاستغلال غير المقبول وغير المشروع لحقوق الشعب وكرامة الوطن وسيادته، فمن المؤكد أنّ هذه الخطوة المباركة سيكون لها صدى في الداخل والخارج مع تزايد الرصيد الشعبي للشارع الثائر وما يتعاظم فيه من روح وثابة في الوطنية والانتماء. وهذه من الأمور التي يخشى منها الساسة والذيول من تابعي الدول الإقليمية الذين يتحكمون بمقدّرات الشعب العراقي ويسرقون ميزانية الدولة وينهبون الثروات الريعية المختلفة بالشراكة والمحاصصة فيما بينهم. فالدولة بمجملها أثبتت أنّها حاميها وحراميها في ذات الوقت. 
لقد ولدت المرأة العراقية لتكون حرة كريمة أبيّة عاقلة شجاعة صبورة، بل إنسانة تعرف واجبها في المنزل كما تعشق العمل خارجه تأكيدًا على جدارتها وقدراتها الجبارة التي وهبها إياها الخالق الجبار. من هنا، كان وقوفها ضدّ كلّ "تابوهات المقدّس" التي حاول البعض أسرها في قفصها وتكبيلها بما فرضه بعض هؤلاء من ممنوعات ومحظورات باسم الدّين الذي تم ويتمّ توظيفُه حين الضرورة للانتقاص من دورها وكرامتها وحريتها الطبيعية من أجل تحقيق غايات فئوية ومذهبية وشخصية ضيقة. فالمقدّس الوحيد بين أيديها وفي ضميرها وبتوافق واحد مع المنتفضين في ساحات الكرامة هو الوطن، وما زاد عنه فهو من صنع الدجالين والمنافقين والمراهنين على حقوق البسطاء وإرادات هؤلاء المكبّلة بأوامر الدين والعرف والشرع خارجًا عن المألوف والمقبول. ولعلَّ آخر الصيحات بعد الاحتلال في 2003 وصعود الأحزاب الدينية والإسلامية إلى السلطة، حصر المرأة العراقية فيما سُمّي بالغطاء الشرعيّ والملابس الشرعية التي كادت أن تطبع المجتمع بصورة سوداء قاتمة وأشكال من خيمٍ متنقلة تغطّي غطاء الرأس والجسد الجميل الذي خلقه الله حسنًا مثل صورته ومثاله. فما تفعله المرأة العراقية الثائرة بشأن ما يُفرض عليها منذ عام 2003، ليس قناعة من جانبها بل مجاراة للعرف وخوفًا من العائلة وخشية من المتربصين المنافقين ومن سوء تقدير هؤلاء وغيرهم في اتهامها بالتمرّد على هذه الفروض التي ليس لها أصلٌ ولم تعد مقبولة في مجتمعات تبحث عن التحرّر من مثل هذه القيود الظالمة بحجة الدين والشرف والعرف السلبي. من هنا صدحت أصواتٌ نسائية بشعارات وطنية قوية تستحق الثناء والدعم والتقدير. لذلك لم يعد غريبًا أنْ تُسمِعَ امرأةٌ أكاديميةٌ معروفة صوتها رافضة أية سطوة للتأثير على خياراتها، وهو أمرٌ يستحق التقدير بقولها: "نحن‭ ‬أحرار‭ ‬لم‭ ‬نخرج‭ ‬بفتوى‭ ‬ولن‭ ‬نتراجع‭ ‬بقرار، إنما جئتُ‭ ‬لأسترد‭ ‬الوطن‭ ‬الضائع‭ ‬الذي‭ ‬خربته‭ ‬الأحزاب‭ ‬والمحاصصة‭ ‬المقيتة‭ ‬ولأسترد‭ ‬الحقوق‭ ‬المسروقة‭ ‬وأطالب‭ ‬بدولة‭ ‬مدنية‭ ‬تحترم‭ ‬الإنسان."‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ فقد خرجن حقًا من أجل الوطن ومن أجل استرداده من أيدي مختطفيه وناهبيه، وفي هذا كلّ الوطنية والجهادية ولا شيء غيره جهادٌا ونضالاً!‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
دورٌ في المجتمع لا مناص منه
الدول المتحضرة استفاقت منذ سنوات للدور المهمّ والمركزي الذي يمكن أن تلعبه المرأة في المجتمعات على شتى الأصعدة الحياتية. فمن الدراسات البحثية مَن تقدّر نسبة مشاركة المرأة مثلاً في سوق العمالة في منطقتنا الشرق أوسطية مقارنة مع شريكها الرجل بما لا يتجاوز 20%. وهذه النسبة المتدنية للمرأة الشرقية في هذا الخصوص دليلٌ على تراجع حقوق المرأة ونسف طموحاتها في المساواة مع الرجل كإنسانة لها ما للرجل من حقوق وواجبات وطموح ومبادرات لتحقيق الهوية الشخصية وإثبات القدرات الكامنة. ومع كلّ ما نراه من تحرّر وتقدّم في صفوف المرأة وحقوقها، فما تزال المرأة العراقية وضيعة في تمرّدها مقارنة مع غيرها من نساء العالم المتطور. لكنّها في خطواتها ومبادراتها واقتحامها الأخير لساحات التظاهر على الظلم والتعسّف والبحث عن الوطن المفقود، قد أثبتت بحقّ تمرّدها على الواقع المزري الظالم ورفضت اشكال التسلّط الذكوري في السلطة المستبدّة التي سعت لتقييدها بأغلال الشرع والدين والمذهب والعرف الاجتماعي حصرًا لحريتها المكفولة في الخلق والدستور والقانون وحقها في إسماع صوتها ضدّ الظلم وأشكال الاستغلال ومنها تعرّضُها للتحرّش وأشكال العنف الأسري والاغتصاب وهي ساكتة.
اليوم، قالت المرأة العراقية بصوت واحد: لا للظلم ولا للتعسّف! نعم لحرية المرأة وخوضها غمار الحياة أسوة بالرجل، شريكة كاملة في الحقوق والواجبات من دون تمييز كي ينتهي عصر العبودية والاستغلال والتوظيف باسم الدين وشخوصه محاصِرَةً إياها ولدورها الطبيعي، إلاّ فيما حرّمه ربُّ السماء والعزّ. كما أن تجارب الدول والشعوب أثبتت أنّ مشاركة المرأة في القرار السياسي وصيانة النظام المجتمعي وسوق العمالة قد أسهم في تحقيق أهداف سامية في التنمية البشرية المستدامة وفي رفد الاقتصاد الوطني بطاقات متعاظمة وإضافات في الجدوى وزيادة في الموارد والناتج المحلّي بدل عزلها وركنها وحصرها في مهمّة زيادة الإنجاب كالأرانب وترك الأطفال فريسة في الشوارع من دون رعاية صالحة ولا توجيه منزلي متقدم ومتحضّر. 
في خطوة جريئة كهذه الأخيرة، تستلهم نساء العراق القوة والعزم لتحقيق الذات واختصار الوقت الضائع المفقود بسبب ظلم الزمن وقهر الساسة والحكومات المتعاقبة الفاشلة وما قبلها من حكومات لم تُصلح حالَ النساء. وهذا من شأنه أن يختصر طريق الألف ميل ويقلل من الفجوة المفروضة بين الرجل والمرأة ضمن الشراكة الإنسانية المطلوبة عالميًا واجتماعيًا ووطنيًا. فلم يعد زمن انتظار المعجزات ينفع ولا نيلُ المطالب بالتمنّي. إنّما اليوم زمنُ ردم الفجوات بالإرادة الصلبة وفرض المطالب المشروعة بالصوت الصارخ والصورة الواضحة غير المتكلّفة ولا المواربة. وهذه فقط ستقلّل المسافات في تحقيق المعجزات وإزالة الفوارق وتنفيذ المطالب مهما كانت عصية وغير قابلة التنفيذ من أيدي طغمات السياسة والأحزاب المتسلطة بقوة المال والسلاح والنفوذ والاستغلال العرفي.


120
الفيروسات أداة للتهويل وفرصة للترويع
لويس إقليمس
بغداد، في 28 نيسان 2020
لم يشهد العالم قط ما تعرضت له شعوبُ الأرض ودولُها ونظامُها البشري من خوف وترهيب وترويع في أيامنا هذه على يد فيروس كورونا العجيب في شكله التاجي منظرًا، والشرس في تأثيره المباشر وغير المباشر قتلًا، والمارد بالعثور على علاج لسرّه الغامض الذي لا مفتاح له لغاية الساعة. فالجهود ماتزال تُبذل حثيثًا لرصد مفاتيح منابعه والاطلاع على سرّ نوافذ صناعته أو تصنيعه أو تركيبه والوقوف على الأيادي الخفية التي أذنتْ بزيارته في هذه الحقبة الزمنية من حياة الجنس البشري التي شابها ومايزال يشوبُها منذ عقود، الكثير من التغيرات الجيوسياسية والتقلبات الديمغرافية المقترنة بحروب وأزمات كثيرة لها بداية ولا يُعرف لها نهاية. ولعلّ أكثر التأثيرات التي لم يشهد مثلها العالم قط لغاية الساعة اضطرار ملايين البشر للحجر الإجباري في المنازل وترك مواقع العمل وتوقف أنشطة الصناعة وشلل في الإنتاج كلّيًا أو جزئيًا لدى أكثر من ثلث سكان العالم، ما كان له آثارٌ واضحة ومدمرة في اقتصاد البلدان وخسارة مؤلمة في بشر قضوا نحبهم في غير مواعيدهم وغادروا الفانية من غير وداع ولا عويل ولا سلوان.
العديدون من علماء وخبراء السياسة وقادة الاقتصاد وحتى المنجمون والمتنبئون بشأن الجنس البشري قد سبق لهم أن استحضروا سمات غير أمينة لما يمكن أن تمرّ به البشرية وشعوب العالم في غضون العام 2020. ولا أجد منفذًا أو مبرّرًا أو سببًا لمثل هذه التنبؤات الكئيبة والاستحضارات السوداوية  في هذه السنة بالذات. ومع بروز الشك المصحوب باليقين دومًا بشيء من هذه التنبؤات والتوقعات غير السارة الذي طغى سمةً عليا بخصوص أمور هامة وجليلة المخاطر لم يتهيّأ لها العالم فعلاً، فقد أتت كلّ هذه التوقعات بما حملت جِمالُ كورونا السريعة الخطى وهي تجوب دولاً وتزور شعوبًا وتحطّ الرحالَ في أراضٍ من غير جواز سفر ولا إذن بالدخول ولا سابق عهدٍ، غير عابئة باللون البشري ولا جنسه ولا دينه ولا مذهبه ولا عرقه. بل والأنكى من ذلك عدم اكتراثها لواقع حال البشر في الموقع والمنصب والغنى والفقر حين ضربت الرضيع الصغير وفتكت بالشاب اليافع وغيّبت كبير السنّ ولم ينج منها لا السادة ولا الغلمان، لا العلماء ولا الأغبياء، لا حسانُ صالات ولا ربات منازل. وهذا واحد من أسرار الزائر غير المرحَّب به إجمالاً إلاّ ممّن زرعه وفرضه على العالمين، حتى لو كان من لدن ربّ السماء والأرض قدرًا محتومًا. فلا أعتقد أن خالق البشر الذي أراد لخليقته أن تكون حسنة مثل صورته وأذِنَ لها بالنمو والتكاثر زيادة في نسل الأرض، يشاء في لحظة غضب إلهيّ أن يزدري خليقته ويعمل على إبادتها بهذه الوسيلة القاتلة والمعذِبة، إلاّ إذا زاغت عن طريق السماء وتمرّدت على ربوبيته بدون سبب وصعد دخانُ كبريائها إلى أعالي السماء وفاحت جيفتُها في أعماق الأرض وأعاليها. فأراد عوضًا عنها أن يخلق نسلاً جديدًا لإبراهيم أبي الأنبياء ثمنًا لهذا التمرّد والعصيان والخروج عن جادة الصواب. فالله في تصوّرنا البشري الضعيف حرّ في اختيار نوعية الشعب الذي يريده أن يملك الأرض ويتغنى بسحرها ويتمتع بمواردها ويسعى بجدّ وعناية لتطويرها وتنميتها مخافة به وعرفانًا بنِعَمه ومحبة بالأرض وساكنيها وأحبابها. كما أنه لا يريدها أن تكون آنية من العدم ولا فائدة تُرجى من خلقها وزرعها في الأرض، وإلاّ أصبحت فخارًا مكسورًا ومحطمًّا لا يُرتجى من وجوده شيءٌ نافع!

نظام سياسيّ واقتصادي يتهاوى
لم يكن من المنطقي أبدًا أن يتداعى بمثل هذه السهولة نظامُ العولمة الذي صرف له الساسة وقادة العالم الكثير من الوقت والمال والأعوان بعد انهيار جدار برلين وانحسار المدّ الاشتراكي الذي كان يقوده المعسكر الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق. وبالرغم من أنّ بوادر نظام العولمة لها أصولُها الأولى مع بداية النهضة الأوربية حيث أخذ موقعَه السياسي والاقتصادي في المنظومة العالمية بعد الحرب الكونية الثانية ومع بزوغ فجر تكنلوجيا الاتصالات، إلاّ أنه كما يبدو لم يستطع الصمود لأكثر من ذلك بسبب الحاجة لتغيير أدواته في إدارة القطب الواحد للعالم المرتهَن بالقوة الاقتصادية التي يمثلها قادة الاقتصاد العالمي بأعمدته التقليدية التي يرعاها ويمولها الثنائي "عائلتا روكفلر وروتشيلد" المرتبطتين بالماسونية العالمية التي تقود العالم في الحقيقة والواقع لغاية الساعة. فقد تمكنت هذه الأعمدة الرئيسة التي قادت العالم سياسيًا واقتصاديًا أن تطبع النظام العالمي طيلة الحقبة السابقة بهيمنة الرأسمالية الغربية على جميع شعوب الأرض وفرض شروطها وفق مصالحها. فصارت توجه دولاً وتدعم ساسةً وتملي شروطًا على السوق في كيفية سياقها وتحركاتها ونتاجها وتسويقها فيما يُعرف باقتصاد السوق وتغييب الحواجز بين الدول وخلق حروب في مناطق منتخبة وتجهيز أسلحة من أجل قتل أكبر عدد ممكن بل أكبر كمّ من الناس من دون تحديد الهدف الخفي وراء مثل هذه الأزمات. قد يكون هذا جزءًا من سياسة معاصرة لتقليل العنصر البشري على الأرض بعد الزيادة الانفجارية في السكان في مناطق عديدة ومنها بلدان أفريقيا والشرق الأوسط ولاسيّما المسلمة منها التي تؤمن وتتبع ما يمليه عليها شرعُ التزاوج المتعدّد والرمي العشوائي بالبشر المولود في أتون الحياة وزحمتها من دون إعارة الاهتمام لنوع البشر بل للكمّ الهائل الذي يحسب البعض من المنظرين في هذه الشعوب التعبانة، المتخلفة منها أو النامية، حسابًا كميّا لشأن الكثرة العددية كوسيلة وطريقةٍ لغزو الكرة الأرضية وفرض معتقدٍ معيّن دون سواه، بموجب ايديوجيات مريضة تجري وراء مقولة جدلية "خير أمة أُخرجت للناس".
ولكن السؤال الغامض الذي يتطلب إجابة صريحة يبقى التالي: ماذا سيكون شكل النظام الجديد الذي  يخطط له قادة العالم وساستُه وطُغاتُه؟ فإذا كان الغرض من تشكيل نظام العولمة الآيل إلى الانحسار شيئًا فشيئًا أمام أعين البشرية هو إلغاءُ حدود البلدان الجغرافية وتحجيم قدرة الدول وسيادتها على مقاليد الحياة بطريقة سيادة الغني على الفقير وإبقاء الأخير فاقدًا لمقدرته على مجاراة الغني الذي يزداد غنى وثراء على حساب الفقير والمعدَم، فإنّ النظام الجديد الذي لا تُعرف تواصيفُه الرئيسة بعدُ سيلغي الكثير من سمات النظام الدولي السابق بكلّ تأكيد، حيث بدأت تباشيرُه تظهر من حيث التوجه نحو الانغلاق والاكتفاء الذاتي ربما في بعضٍ من أدواته. وبعبارة أخرى، بدأت تباشير الخوف من القادم المجهول تحطٌّ رحالَها من غير توصيفٍ لشكل مقبول لنوعيته وأدواته، بسبب غطاء الأنانية والحذر والشك الذي يحوم حوله وحول مَن يسعى لتنفيذه وإخراجه بالشكل الذي يُبقي على سياسة سطوة قطبٍ أو اثنين أو حتى ثلاثة أقطاب على شؤون العالم واقتصاده مستقبلاً. ولكنه بالتأكيد لن يكون أفضل وأرحمَ وأيسرَ على الشعوب المهظومة والموصوفة بالنامية بل المتخلفة كمًا ونوعًا وشكلاً، طالما أنّ أدوات التقدم التقني المعتمد بشكل أساسيّ على تقدّم التكنلوجيا الرقمية للاتصالات ستكون بيد فئة أو جهات جامحة تملك مفاتيح الاقتصاد وتوجّهه وفق مساراتها الرابحة غير مكترثة بحاجات هذه الشعوب الفقيرة المغضوب عليها إلى يوم القيامة والتي ستظلّ منغمسة في فقرها وتخلفها بسبب فساد قادتها وأنانية ساستها. ولعلّ دول المنطقة الشرق-أوسطية وجزء غير يسير من أفريقيا وأميركا اللاتينية ستكون حتمًا من ضمن هذه التشكيلة.
في الحقيقة ومن المتوقع، أنَّ هذا ما سيعمل عليه أسياد النظام العالمي الجديد حين تنتهي الهجمة الحالية من جائحة كورونا لتنام وتصحو على صرخات أزمة ثانية وربما ثالثة أخرى قادمة. فالسيادة حينئذٍ وبموجب واقع الحال المرتقب لن تكون بيد قيادة  القطب الواحد الذي اعتاد العالم عليها. فقد لاح في الأفق ومنذ حين لاعبٌ جديد وهو التنين الصيني الذي بيده مقاليد حديثة ومتطورة للمشاركة في قيادة العالم، بالرغم ممّا يواجهه من اتهامات من الطرف الآخر المتخوف من تقدمه السريع. وهذا القطب الجديد، قد يكون من صالح البشرية فيما لو تمكن من تشكيل موازنة مقبولة لصالح العالم الثالث عبر تحديد وتقزيم دور القطب الأوحد الأمريكي الذي تسيّد العالم من دون منافس منذ صعود فلسفة العولمة الحديثة بعد الحرب الكونية الثانية تحديدًا. وبالرغم من توقع بروز قطب ثالث محايد آخر كي يكون إلى جانب اللاعبَين العالميين الكبيرَين في ايديولوجيتهما السياسية والاقتصادية كي يمثل بيضة القبان في قيادة العالم، إلاّ أن التحليلات الأولية والتوقعات الليبرالية ترى في تطلعات النظام العالمي الجديد القادم صراعًا جديدًا في المصالح وفي الاقتصاد بصورة خاصة، وفي السيطرة على التكنلوجيا الرقمية أكثر من اعتمادها على مسارات مادية وثروات تقليدية باحتفاظ كلّ قطب بأسراره وإخفائه مفاتيح اللعبة الجديدة القادمة التي ستظلّ من أسرار الكون للسنوات القادمات التي قد لا يتيسر لنا العيش في كنفها والاطلاع على مساراتها، سلبية كانت أم إيجابية. والحكم سنتركه للأجيال القادمة. 

كورونا، أداة للتهويل وفرصة للتخويف
من دون شك، جاء اجتياح فيروس كورونا المفاجئ لدول وشعوب بهذه الطريقة القاتلة والغامضة ليضعَ العالم ومستقبله على كف عفريت وليجعله يتوقع تغييرًا في السلوك اليومي في التعاطي مع الحاجات وأسلوب الحياة. فيما بدأت العناية الصحية من جهتها تأخذُ حيزًا كبيرًا من اهتمام العالم، دولاً وزعامات وخبرات، وسط الحيرة العلمية في العثور على ترياق للشفاء من الوباء وكذا بسبب النقص في الجيوش الطبية والصحية الذي ظهرت الحاجة لمزيد من عديدها بعد وصفهم بخط الصدّ الأول البطل. كما فرضت الجائحة سلوكيات اجتماعية وعادات مختلفة وغيّرت أخرى لم تتعارف عليها مجتمعات وأمم ومنها الوسوسة من كلّ قادم مجهول الهوية وما يترتب على ذلك من أدوات الحيطة والحذر والشك. فلكلّ حالةٍ موقفٌ ولكلّ موقفٍ ثمنٌ ولكلّ ثمنٍ سياسةٌ وسلوكٌ قد تؤدي بالإنسان إلى تغيير معيّن في نمط حياته واختيار شكلها وتحديد مرافقيها ومتابعيها.
لكنّ ما يمكن التأكد منه، أن هذه الجائحة فرضت هيبتها وسطوتها على البشر جميعًا بغض النظر عن شكلهم ودينهم وموطنهم وعرقهم وطبيعة عملهم ومنطقتهم وشخصيتهم بعد أن ساوت في حصادها أمثلةً ونماذجَ من هؤلاء جميعًا بدون تمييز إلاّ في إخفاء أسرار ظهورها وطبيعة انتشارها وتسويقها وبقائها لغزًا حيّرَ العالم والعلماء وخبراء البيئة والصحة والطب لغاية الساعة. ومن المؤسف أن بعضًا من ساسة العالم قد وزّعوا اتهامات من  طرف لآخر حول حقيقة هذا الظهور والانتشار بل وفي كيفية التخلّص من هذه الأزمة التي أرّقت شعوبًا وأممًا ودولاً. وهناك مَن اتخذ منها أداة للتخويف والترهيب والتهديد بعقاب جماعي وفرديّ ضدّ بلدان بل وبلدٍ محدَّد يتفجر قوة واستقطابًا متمثلاً بالصين التي برزت قوة عظيمة فارضةً قدراتها كقطب رئيسيّ بارز قادم يتطلعُ للمشاركة في قيادة الكون سياسيًا واقتصاديًا ورقميًا، ربّما من دون منافس بارز آخر غير أميركا التي بدأت تهتزّ وتتراجع أمام هذا التنّين المارد الذي يعمل بهدوء وبسرية تامة وبحكمة وروية  لابتلاع العالم  بثباته وتقنيته والتزامه البشري بحدود لا ينقصها العقل والحكمة والجدارة.
    إنّ مَن يستمع اليوم لكثرة القنوات الخاصة ومواقع التواصل الاجتماعي وما تسطره وتنقله ويعبّر عنه المتحدثون بها والناقلون عنها، يثير لغطًا أحيانًا، تمامًا كما من شأنه أن يشكّل قاعدة لتكوين فكرة عمّا تمثله هذه الجائحة وتثيره من خوف وتهديد للجنس البشري. فهناك بالتأكيد مَن استغلّها لتشكيل كتائب تنشر التهويل والخوف من أجل السيطرة على سلوك معين للبشر. وهذا نوع من تسويق تجاري يستغلُه سادة العالم عبر الساسة ووعاظ السلاطين ورجال الدين لإحكام السيطرة على عقول البشر وتحركاتهم وجعلهم أدوات طيّعة بأيديهم، لاسيّما البسطاء من هؤلاء الذين يؤمنون بشيء من الخرافات والخزعبلات التي يسوقها هؤلاء المتحكمون بمصائر الناس المفترَضين من أجل التخويف والتهويل وحتى التهديد لو أمكن.
إنّ هذه المقدمات يمكن أن تشكل قاعدة لمبدأ جديد مرتقب يسعى من ضمن نظرياته وفرضياته للتقليل من عديد الجنس البشري الذي بدأ يشكل بحسب بعض هؤلاء الأسياد عبئًا وعالة على دول وحكومات من حيث كون جماعات هائلة من أعداد هؤلاء من الموصوفين بعديمي الإنتاجية وحتى عديمي الفائدة بسبب توقف إنتاجيتهم أو عدمها من الأساس من الذين يعيشون عالة على مجتمعاتهم التعبانة أصلاً. فيما يرى آخرون في الزيادة الهائلة في أعداد البشر معضلة عالمية كبيرة ومصيبة بحاجة للتعامل معها بشيء من القسوة أحيانًا بغية التخلص من كمّ الزيادة السكانية التي تقع في الخانة غير المنتجة. وما يفسّر شيئًا من هذه الهواجس، عدم التوافق العالمي على تقديم معطيات موحدة كما اعتادت دول ومنظمات تعنى بصحة الجنس البشري. ومثل هذا التردد والاهتزاز في توحيد الجهود الصحية والطبية وتبادل الخبرات التحليلية والمخبرية لمعرفة المزيد عن طبيعة الفيروس وطريقة علاجه والوقاية منه يزيد ويفاقم الشكوك حول الأغراض والأهداف التي تقف وراء هذا الصدّ الدوليّ بعمدٍ أو بغيره. وهذه بداية غير طيبة لضعف التعاون بين دول وشعوب الأرض بسبب ما أفرزته الجائحة من أفعال وردود أفعال واتهامات وتهديد بشنّ حروب أو فرض عقوبات على دول وحكومات وأفراد. ومهما يكن من أمرٍ، فالتهويل قائم والتخويف حاضر سواء في حضرة كورونا أو ما بعد كورونا.
وقانا الله من كلّ شرٍّ وحكّمَ عقولَ الزعماء وضمائر الساسة لما فيه خير البشرية وليس من أجل إذلال الجنس البشري وضرب كرامة الإنسان. فالأخير يبقى أشرف خليقة الله، لا لشيء إلاّ لكونه صورتَه الحسنة ومثاله الطيب!


121
مصطفى الكاظمي، حاكم آخر للقهر والظلام أم حارس أمين لشعب ووطن فقدَا الأمل والوئام
لويس إقليمس
 بغداد، في 11 أيار 2020
أُسدل الستارُ عن تاريخ أتعس رئاسة وزارة ولائية محصصاتية فاسدة حكمت العراق بلا غيرة ولا كرامة ولا شهامة وبالطريقة المخجلة وبوصمة العار التي استحقتها حقًا. ففي عهدها طار ما تبقى من النعم السماوية التي حبا بها الله أرض الرافدين وشعبها. فكان الإيغالُ في الفساد مادة دسمة لكلّ مَن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وتسابقَ الذيول والموالون زيادة في الولاء للجارة الشرقية "الأرجنتين". في حين صار بيع المناصب سبيلاً سهلاً وبازارًا مفتوحًا ومرتعًا مباحًا للإثراء غير المشروع أكثر من سابقاتها من الوزارات الشيعية الحاكمة منذ 2003. أمّا فرض الإرادات والفتوّات على أيدي مافيات السلطة وزعاماتها السياسية الإسلامية والطائفية فقد ازدهرت علاماتُها وبامتياز مشهود.
كما صار القتلُ والسلبُ والاغتيالُ من السمات البارزات على عهدها وأسلوبًا آخر للقمع وترويع ثوار الانتفاضة وملاحقة النشطاء واغتيال الشرفاء من الوطنيين الأحرار من أصحاب الرأي والمطالبين باسترداد الوطن المسلوب. وفي عهدها أيضًا، اشتدّ السأم وعمّ الاستياء بسبب سوء الأوضاع الأمنية والخدمية والاجتماعية والتربوية التي سادت ويسّرت أمرَ مصادرة القرار الوطني على أيدي فئات منفلتة مسلحة أذنت لنفسها فرض سطوتها الميليشياوية بحكم ما جنته في ماضيها المخجل من مال سياسي وجاه حكومي ونفوذ مدعوم بغطاء دينيّ من مرجعيات وشخصيات دينية مازال بعضُ تأثيرها قائمًا لغاية الساعة. ثم جاء دور الجائحة، طاعون العصر القاتل والمخيف الذي هاجم الأرض وما فيها، سواء بفعل الطبيعة أو بتدخل خليقة الله، ليكون إشارة مشتركة من لدن السماء والأرض على الحاكم الفاسد ومَن والاهُ حينما عدّ هذا الأخير نفسه ومَن ناصره وسانده  معصومًا بغطاء الدين والمذهب والحزب الطائفي. وهنا، ما كان من المحكوم المغلوب إلاّ التزام الصمت خشية ومخافة أو الانزواء ضعفًا وقهرًا أو المغادرة غير آسفٍ على أحواله التعسة ومن دون انتظار لما سينجلي عنه الوضع بعد اشتداد الأزمات وتكرارها من دون بصيص أمل في نهاية النفق المظلم.
هل بانتْ تباشيرُ الأمل؟ 
لغاية الآن لم يتبيّن بعد الخيط الأبيض الناصع من الخيط الأسود الناشز مع أولى أيام الكابينة الجديدة. وعلينا انتظار ما ستكشفه الأيام القلائل القادمات كي نتصوّر مصير كابينته ونتبيّن شكل ومستقبل حقبة سابع حكومة تسوس البلاد منذ السقوط واحتلال العراق بالطريقة الظالمة التي ساقها المحتل الأمريكي ولحقته بسببها لعناتُ السماء والأرض وشتائم المواطن الصابر الطيّب إلا ما شذّ من حاقدي القوم والمتزلفين والمنافقين والدجالين واللاهثين وراء النفوذ والسلطة والمال والجاه لأسباب شخصية أو فئوية أو طائفية وما كان في أصولها وجوارها من كارهي الحق ومحبي الباطل. فقد توهم هؤلاء القوم ممّن أمعنوا في تسريع القضاء على النظام السابق بالطريقة المخجلة وغير الأخلاقية التي حصلت، أنهم على حق عندما داسوا على كرامة الوطن وسهّلوا للغازي وطءَ أرض السواد وبلد إبراهيم أبي الأنبياء وأرض الأئمة والقديسين الصالحين والطيبين من أهل دجلة والفرات. 
ولكن يمكن القول، أنّ بعض تباشير الخيروالوعي والأمل قد لاحت في الأفق مع أولى خطوات أقدم عليها الكاظمي بالنظر في شأن أول ظاهرة فساد وظلم تمسّ شرائح المتقاعدين الذين أفنوا سنيّ حياتهم في خدمة الوطن، وهم جديرون بالاهتمام والرعاية الفضلى على مَن سواهم ممّن يسوسون البلاد وينهبون ثرواتها ويثرون من السحت الحرام على حساب الشعب. وانطلاقًا من هذه المبادرة الطيبة، ومِن سواها ممّا بدر لغاية الساعة بإعادة الكرامة الوظيفية للشرفاء من موظفي الدولة السابقين من مدنيين وعسكريين، قد نستدلّ على حسن نواياه وعزيمته بالتحلّي بسمة القائد الماكر الصادق والحاكم العادل القاسي الذي يجمع في جعبته وفكره وأسلوبه ما بين الوداعة والحماسة معًا، إلى جانب شدّة المراس في التعاطي مع الأزمات والمشاكل العديدة والتحلّي بمزيّة النزعة الفلسفية في معالجة شؤون الدولة وبسرغة التنفيذ الجادّ في برنامجه الحكومي الذي يلائم جزءًا من المرحلة. وهذه فرصتُه في تقويم المعوجّ وترميم الممزّق وإصلاح الرتق الكبير الذي طال العراق دولة وشعبًا.
ومازلنا ننتظر منه المزيد من الجرأة والشجاعة في معالجة الكسور، وما أكثرها، وفق الأولويات المطلوبة، بدءًا من اتخاذ قرارات جريئة لمعالجة الجائحة الصحية، ومداواة العجز المالي وتوفير السيولة النقدية الكافية لإدامة حياة فئات كثيرة تعتمد في عيشها وإدامة لقمتها على الدولة الريعية. وهذا قد يتطلب من ضمن الفرضيات مجابهة جريئة مع أصحاب الزعامات السياسية النافذة وأرباب المافيات القاسية التي اعتادت الهيمنة على مقاليد السلطة من خلف الكواليس والتي تدير دفّة الحكم العميق منذ تشكيل أول حكومة محاصصاتية مقيتة أدت إلى خراب البلاد وتمزيق نسيج أهل العراق الطيبين حين تغوّل العديد من ساسة الصدفة لحاقًا وتحولوا إلى ديناصورات فاسدة لا تخشى لا من إله ولا من عبده، ولا من صاحب كرامة وطريقة، بل صاروا يشكلون الصورة السيئة لأهل البلد في الداخل والخارج. وفي انتظاره ملفات كثيرة، لعلّ أولى أولوياتها التهيئة الصائبة لانتخابات مقبلة قد لا تكون قريبة ومبكرة كما ترقب الكثيرون، ومنهم مطالبات ساحات الاعتصام. لكن الأهم فيها أن يُعاد النظر في تشكيلة تكوينها غير المقبولة أساسًا من قضاة وبالطريقة التي حصلت وسُنّت توافقًا وحفظًا لمصلحة أحزاب السلطة التي رهنت نجاحها بهذه التوليفة المشبوهة. 
ومن الأمور المهمة الأخرى التي ينتظرها المواطن تنفيذه الوعد المقطوع بتطبيق القانون وفق مسطرة مستقيمة الخطى لا تقبل التمييز والتفرقة والمحاباة ولا التجنّي لصالح جهة على حساب أخرى. أما الأزمة الاقتصادية المستفحلة بسبب ما أنتجته سياسات الحكومات السابقة بسبب فقدانها لاستراتيجية وطنية تنقذ البلاد من الاعتماد على الاقتصاد الريعي لمبيعات النفط غير المستقرة، فهي ستكون من أصعب الاختبارات لقدرة كابينته في التعامل مع نقص النقد الأجنبي والسيولة المحلية. وهذه لا يمكن التخاص منها إلاّ بالتعاون والتشاور مع القطاع الخاص منبع الاختصاص والخبرة والمغيَّب في الحكومات المتعاقبة لأسباب في نفس ساسة الصدفة. وهنا ينبغي حثّ الوزارات والشركات غير المنتجة للعمل على تسخير جهودها واتخاذ قرارات حازمة وحكيمة تؤدي إلى تحويل الشركات العاطلة إلى أخرى منتجة ورابحة تساهم في تعزيز اقتصاد البلاد وامتصاص البطالة. وهنا يأتي دور القطاع الخاص بأخذ دوره الطبيعي في تسيير عجلة الاقتصاد والانتاج والإبداع. فهذا ما عرفناه فيه إذا توفرت النية وساد العزم وبدأت ماكنة الانتاج تؤتي ثمارها الطيبة. حينئذٍ سيتعافى البلد من مرضه الاستهلاكي والاستيرادي الذي عوّده عليه ساسة الأحزاب الاسلامية التي تحكم البلاد منذ السقوط خدمة للجارة الشرقية وبلدان المنطقة ومَن في حلقتهم.

حكمة وحماسة ووداعة
لعلّ من سمات القائد الفذ والحاكم الناجح، أن يسوس الرعية بالوداعة والحكمة وشيء من القسوة والعدل. وهذا يرتّب عليه أيضًا شيئًا كثيرًا من الحماسة والشدّة في معالجة شؤون البلاد والعباد من دون  التفرّد بالقرار والعناد في الرأي. فالاستشارة أمرٌ لا بدّ منه، حين يكون الاعتماد على حكماء القوم الحقيقيين غير الانتهازيين، وما أكثرهم في القطاع الخاص من أهل الداخل أو خارجه، من أصحاب الخزين الكبير في الفكر والهندسة والاستشارة والاقتصاد والسياسة والعلم والتربية والأخلاق ممّن لم تهتمّ بهم الحكومات المتعاقبة. فقد فضلت حكومات الفساد الطائفية المتعاقبة ركنَ أرباب القطاع الخاص المنتج والمبدع جانبًا تحسبًا من تفوق هذه الفئة التي ماتزال تلقى محاربة من هؤلاء الساسة ومن زعامات الدكاكين الاقتصادية للأحزاب التي ترى في تقربهم من مفاصل الدولة ومن مقترحاتهم قضاءً على أفعالهم السيئة في الإثراء وخطرًا على تعوّدهم سياسة التغوّل على المال العام وعلى الإدمان على الفساد، مؤثرين بقاءَ حال البلاد على ما هي عليه من دون تنمية وتطور وإصلاح حال. ومن سخريات القدر إيمانُ بسطاء القوم بماكنة الساسة العاملة من دون كلل ولا ملل على إقناعهم بما سيدرّ عليهم المستقبل من ازدهار ورفاهة في حالة صبرهم وإطاعتهم العمياء لحكامهم المتورطين حتى النخاع بالضحك على ذقونهم باسم الدين والطائفة وتحت عناوين مغلوطة وساذجة توصي بإطاعة أولي الأمر، حتى لو تحول كلّ الشعب إلى جيوش من الجياع والعاطلين والشحاذين.
في برنامجه الحكومي، نستشف وجود تقارب في الرؤية مع جزءٍ مما طرحته ساحات الانتفاضة التشرينية والشارع الثائر من مطالب، ومنها حصر السلاح بيد الدولة ومحاسبة القتلة وملاحقة الميليشيات المنفلتة التي تعربد بسلاحها على طريقتها وتسرح وتمرح من غير حساب ولا حدود، ووضع اليد على أدوات الفساد ومحاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة بغير حقّ. وهذه كلُّها ملفات تنتظر المراجعة والحسم وعدم التأجيل، كما كان يحصل في الحكومات السابقة. وطالما أنّ الحديد ساخن، فما على دولة رئيس مجلس الوزراء سوى الطرق بيد من نار كي يعود الحق لأصحابه والماردُ إلى رشده والمجرم يأخذ حسابه وعقابه الذي ينتظره. فالمسطرة المستقيمة لا تتحمل الزوغان والثني عن الخط المستقيم. فهذه وما سواها هي من صلب مسؤولية إعادة هيكلة الدولة العراقية بأسلوب وطنيّ صادق. ولتكن البداية الأولية البسيطة على عهد الكاظمي، رغم أنّي لم أسمع به من قبل ولا أعرف عنه الكثير. لكنّ مَن يتولى جهازًا مخابراتيًا وطنيًا مثل العراق، لا بدّ أن يكون لديه ما يكفي من وداعة وحسم وحماسة بغية الوصول بحال البلاد والعباد إلى الهدف الوطني الأسمى بإعادة اللحمة الوطنية إلى سابق عهدها، وفرز الزؤان غير الأمين الذي لا ينتمي إلى الوطن وأهله، وإعادة ماكنة الاقتصاد بالاعتماد على القدرات الانتاجية للمعامل والمصانع والشركات المعطلة، وإيقاف التلاعب بالمال العام ووضع حد لفساد أحزاب السلطة وأدواتها في توزيع المكارم والمرتبات العالية لمّن لا يستحقونها من فضائيين ومدّعي النضال والسجناء السياسيين والرفحاويين، وتقليل نفقات مؤسسات الدولة وعلى رأسها الرئاسات الأربع وأصحاب الدرجات الخاصة والنواب وتخفيض حماياتهم وتحجيم سياراتهم، إن لم يكن بقطع كلّ هذه الامتيازات غير الضرورية. فالمسؤولية خدمة وتكليف  قبل أن تكون تشريفية وامتياز ومكاسب. من هنا لا حاجة ولا مبرّر لكلّ هذه الضوضاء والبهرجة والامتيازات.
عسى مثل هذه الدعوات الصادقة وغيرها من جانب أصحاب الفكر والقلم والثقافة ومن أرباب الاقتصاد والعلم والشهامة تلقى آذانًا صاغية، فيعود الوطن إلى سموّه وكرامته وترتسم الابتسامة على أفواه مَن ظلمهم الدهر وقهرتهم السلطات ويحظى الجميع بحقوق عادلة ومتساوية في ظلّ دستور مدنيّ جديد يراعي الرعية بالسواء والعدل والأهلية.

 

122
في الزمن الصعب يسهل التمييز بين بيئة نظيفة وبيئة وسخة
لويس إقليمس
 بغداد، في 3 أيار 2020
خلقت جائحة كورونا أشكالاً غريبة من التعامل البشري، منها ما هو سلبيّ في حدود سياسته وآثاره الإنسانية والمناطقبة والعالمية، وغيرُه ما جنتْ البشرية نتيجتَه من منافع متغيرة في أشكالها المادية والفكرية والعلمية والمجتمعية هي الأخرى وفقًا لمقاييس كلّ مجتمع. كما أتاح طاعون العصر هذا، فسحة ولو مؤقتة  للطبيعة كي تحسّن من بيئتها المريضة والملوثة بفضل ما جلبته اجراءات الحجر القسري من تحسّن واضح فيها بسبب ترسبات الملوثات النووية والنفطية والكيمياوية الناجمة عن تشغيل مفاعلات ومصافي ومصانع ووسائل نقل متنوعة اعتادت الحركة اللولبية جوًا وبحرًا وبرًّا. ولعلَّ هذا يسجل كأفضل ما استطاعت أن تجنيه الأرضُ المتعبة لنفسها، بما لها وما عليها وفيها من عناصر الطبيعة بفضل التحسن الواضح في بيئتها نتيجةً لمنافع الشلل الجزئي الذي ضربَ حياة البشر بسبب الجائحة. فكان من ضمن نتائجها الحسنة، الإنعامُ على مناطق واسعة من العالم بشيء من الراحة والهدوء في الكثير من مفاصل الحياة الطبيعية والصناعية والاجتماعية في هذه الفترة العصيبة من حياة البشر نتيجة الاستغلال الكافر لأدواتها. يُضاف إليها شذراتٌ من نعمٍ أخرى جمعت بين صفاء السماء وهدوء حالة الشارع الساخن التي تعودنا عليها بسبب الصمت الإجباريٍّ لأزيز المحركات وضوضاء المكائن وحركة البشر. فأينما تطلّع الإنسانُ وتأمّلَ ما حوله سيجد أجواءً شبه صافية مغايرة عمّا كانت عليه قبل حلول الجائحة، وبيئة مختلفة ولو جزئيًا في بعض تفاصيلها النوعية ولو إلى حينٍ. فلا المؤتمرات المتلاحقة ولا الاجتماعات الكثيرة فيما مضى، كُتب لها أن تسمح بمثل هذه النظافة والنقاء في بيئة الأرض مثلما شهدناه في عهد كورونا. وحدها كورونا كانت الأكثر تأثيرًا والأقوى تطبيقًا في كلّ هذا وذاك لمفاهيم نظافة البيئة. مفارقة عجيبة!
مقابل كلّ  هذل التحسّن القسريّ في بيئة الطبيعة كانَ من المفترض مرافقته بتحسّن في شكل البشر وفكر الأمم وخبرة الشعوب وتعامل الدول مع بعضها بروح أكثر تساميًا وأنبلَ تسامحًا وأفضل انفتاحًا وأقرب محبة مع بعضها البعض ضمن مجتمعاتها ومع  الغير في أرجاء العالم. فكلّ وباء وكلّ مرضٍ مستعصٍ وكلّ ضائقة بشبه المعضلة التي يُستعصى حلُّها على أيدي بشرية ضعيفة محدودة القدرة والمعالجة مقارنة مع قدرة السماء وجبروت الخالق، كان يُفترض بها أن تلقى تغييرًا في سلوك البشر أصحاب "العين القوية" و"النفس الأمّارة بالسوء"، وتشهد تعديلاً وتحسنًا في التعامل فيما بينها لغاية التعاون والتآزر والتضامن بغية الوصول إلى ما من شأنه معالجة مثل هذه الأوجاع والأمراض والأزمات المستعصية. لكنّ البيئة البشرية بالرغم من كلّ هذه الهواجس الواقعية من الحياة، والمخاوف من ملاقاة الأسوأ، ظلّتْ وسخة في أفكارها ونتنة في سياساتها وأنانية في البحث عن مصالحها، وضيقة الرؤى في العثور على مخارج مقبولة في حدودها الدنيا خلاصًا من الواقع المرّ وطلبًا للتغيير الإيجابيّ في مجالات  الحياة المتنوعة. وشتّان ما بين الأبيض الإيجابيّ والأسود السلبيّ، ورفضًا لكلّ ما ظهرَ رماديًا في السلوك والفكر والرؤية والمعالجة.
بيئة وسخة لساسة العراق
    لو لوحظ شيءٌ من نظافةٍ وتحسّنٍ في بيئة العراق فيما تم اتخاذه من إجراءات ومتابعات من قبل خلية الأزمة وحُسب بالتالي إيجابًا، إلاّ أنه من المؤسف أن البيئة السياسية في العراق لم تتحسن ولم تتغير ولم تتحرّك نحو الأفضل بل ظلّت حبيسة المصالح الضيقة التي رسم لها الساسة الطارئون وحكوماتُ البلاد المتعاقبة خطوطَها الأساسية الانتهازية ومشاريعها الوهمية النتنة. فظلت البلاد منذ السقوط في 2003 أسيرة المنافع والمكاسب والدكاكين الاقتصادية لأحزاب السلطة التي تربعت على عروش الوسائل الجهنمية في كيفية نهب الثروات وقنص الفرص وتفريغ الخزينة بتأثير الأيادي المغرضة اللاّوطنية التي كتبت بنود الدستور الأعرج والقوانين الكثيرة اللاحقة التي سُنّتْ لمصلحة الفئة الحاكمة بتأثيرٍ من معظم أعضاء المجالس النيابية التي تعاقبت على المشهد السياسي في البلاد. فجاءت هذه المجالس مثقلة بالفساد وأدوات التزوير حينًا، والمحاباة والصمت حينًا آخر إزاء كوارث مالية واقتصادية وسياسية واجتماعية على السواء. وبالرغم من تعدّد الأزمات في بلاد الخير والحضارة والنخوة، وغياب الرؤية الصحيحة لساسة الصدفة في التعامل مع أزمات البلاد المتلاحقة منذ الغزو الأمريكي، وإيغال جهات طارئة لا تمتّ بصلة لسمة المواطنة في سياسة إسقاط البلاد في قبضة الجارة الشرقية الطامعة، والإيمان المطلق لدى أطراف بعينها بولائها غير قابل النقاش لدول من خارج الأسوار الوطنية، إلاّ أنّه لم تبدر من معظم ساسة البلاد ونواب الشعب أية بوادر للإصلاح الحقيقي ولمّ التشرذم في المواقف والعودة بالوطن وأهله إلى سكة التنمية والاستقرار كي تلتئم حول جراحه الكثيرة وتستعجل في إدارة شؤون البلاد والعباد بما يرضي الله والشعب والضمير بدل الانجراف في سجالات ومماحكات وخلافات على مناصب ومكاسب ومنافع تهدف للإبقاء على الأوضاع الشاذة القائمة ما تسنّى لها من وقت حتى لو حصل هذا على حساب جماجم الشهداء وفوق جراحات الأبرياء ورغمًا عن جوع الفقراء وآهات الزمن الغادر. فالزمن لا ينتظرُ أحدًا، وهو  يسير بسرعة وسط تفاقم الأزمات وغياب بوادر إيجابية حكومية لا يُرتجى من وراء اجتماعات لجانها ما يُثلج الصدور. فقد اعتاد الشعب المسكين على سماعها والحديث عنها سواءً في الحكومات الفاشلة السابقة أو في زمن حكومة تصريف الأعمال الكارثية. كما لا نترجى شيئًا إيجابيًا حقيقيًا في الحكومة القادمة لأنها واقعة حتمًا في فخاخ ساسة المحاصصة والفاسدين من زعماء أحزاب السلطة ومَن والاهم من ميليشيات وجماعات اتخذت من ترهيب العامة والمعترضين سبيلاً وأداة للقمع وإسكات صوت الحق. وكلّ ما استطاع ساسةُ البلاد فعلَه وإنجازَه بنجاح منقطع النظير ضمانُهم تأمينَ مستقبلهم ومستقبل أحفاد أحفادهم من بعدهم بفعل ما اكتنزوه من مكاسب وأموال من السحت الحرام وسرقات المال العام ووضع اليد على عقارات الدولة والسطو على أراضيها. أمّا حالُ الشعب المهضوم والشارع المستنجد وأفواه الأرانب الفارغة، فليست بتلك الأهمية، كما يرى ذلك بعض الساسة ويصدر عن مراجع ومن وعاظ السلاطين من الانتهازيين ومن سارقي الخُمس والمترَفين على حساب الفقراء والضاحكين على عَبَدة المزارات.
عن حقيقة الأزمة الاقتصادية الكارثية التي يتعرض لها العراق في ضوء جائحة كورونا، فكلُّ ما يمكن قوله أنّ الحكومات المتلاحقة الفاشلة بامتياز قد تعوّدت تقسيم ميزانيات البلاد منذ السقوط وفق التمثيل النيابي المزوّر في توزيع المناصب وتحديد النفقات والمصاريف والنثريات فيما بين الكتل السياسية بحسب موالاتها للحكومات التوافقية، و"البرمكة" بغيرها من المكرمات والهدايا والعطايا (من هذا المال، حمّل جمال) على الحبايب والخلاّن والأتباع من جيوش صناديق الاقتراع من أمثال جماعات رفحاء وأصحاب الجهاد المستهلَك وأرباب النضال السياسي الزائف ضدّ النظام السابق من شمال البلاد إلى جنوبه، وأشكال الذيول والأتباع والروزخونات الكثيرة التي صار لها وقعٌ في حياة الحكومات الطائفية المتلاحقة بردائها الجديد الذي يتيح لهؤلاء وبواسطتهم إدامةَ الولاء لمراجع دينية معينة أو لزعامات سياسية يُؤخذُ عليها الخنوع لسياسة دول الجوار لقاء بقاء الأوضاع على ما هي عليه ما شاءت الأقدار ذلك. وقد تركت الطبقة السياسية سياسة البلاد الاقتصادية على المحك من دون استراتيجية أو تخطيط يحسب حسابًا للزمن الغادر وللأوقات الصعبة. وقد وقع الفأس على الرأس ولن يكون في مقدور الحكومة، أية حكومة، في ضوء واقع الحال الناجم عن الانهيار الفظيع في مصدر الاقتصاد الريعي للبلاد أن تواجه هذا الانحدار والنقص في السيولة النقدية والمالية. وهذا ما حذّر منه الحكماء وخبراء القطاع الخاص والأمناء من الاستشاريين في موقاع الدولة المتعددة. ولكن المؤسف أنه لمْ يتم الاصغاء لصوتهم الصارخ، فوقع المحذور وكانت الحيرة وعلامات الاستفهام عمّن كان السبب في كلّ هذا وذاك. فكما يبدو، أنّ كبار القوم ممّن في السلطة وأحزابها، لا يهمّ في نظر هؤلاء إنْ كان عامة الشعب من الفقراء والجوعى والعطشى ومرتادي القمامة وساكني بيوت الصفيح وكسبة القوت اليومي بفضل ممارسة خدمة الدعارة أو الاستجداء وما سواهما من دونية الأعمال. بل الأهمّ بقاءُ هذه الشرائح البسيطة الساذجة على ولائها الأعمى للمرجع المترفّه والسياسيّ الفاسد والأسياد في الداخل ومن خارج الأسوار!!!
وسط هذه البيئة الوسخة الساعية لإدامة صناعة السياسة العراقية الولائية الفاشلة التي تهيمن عليها أحزابُ الإسلام السياسي الشيعي الناطقة باسم ولاية الفقيه أكثر من غيرها من بقية ساسة البلاد الانتهازيين المتبقين الذين لا يقلّون فسادًا وإفسادًا في الأرض، ومن عقر دار العراق المغضوب عليه منذ الأزمان والدهور، كنا نتوقع شيئًا من الرأفة والرحمة بحق الشعب الذي سلّمَ أمرَه طوعًا أو مرغمًا في لحظة من الزمن لزعامات خذلته منذ اللحظات الأولى لتوليها السلطة إيمانًا منه بإمكانية الإصلاح والتغيير اللذين لم ولن يتحققا ببقاء ذات الوجوه وتدويرها في المشهد السياسي الفاشل. وزادت من ذلك كلّه خيانة هذه الطبقة السياسية للأمانة الوطنية بنهبها ثروات الشعب منذ توليها السلطة على مرأى ومسمع منه ومن المجتمع الدولي ومن راعي العملية السياسية نفسه الذي اختار هذه الزعامات وأتى ببعضها على ظهور دباباته بحجة بناء ديمقراطية على طريقة الكاوبوي الأمريكي. فكانت النتيجة الحتمية حصادُنا الخيبة والخذلان والإفلاس، والأكثر من هذا وذاك فقدان كرامة الوطن وضياع الحقوق وزيادة في دماء الشهداء ودموع الثكالى.
هل من ضوء في نهاية النفق؟
لقد بلغ السيل الزبى ونفذ صبرُ المؤمنين بالوطن وطال انتظارُ أصحاب الحق، لكنهم مازالوا يؤمنون ببزوغ فجر جديدٍ للحرية الحقيقية المؤمنة بالوطن والشعب والأرض والحضارة والتاريخ، ويتطلعون لرؤية الضوء في نهاية النفق إيمانًا منهم بوضع حدّ  للمعاناة التي قد تطول بعدُ أيامًا وأسابيع وربّما أشهرًا، طالما ظلّت ذات العقلية السياسية تتصدّر المشهد وبقيت الأعين ترنو لإدامة المصالح الذاتية والطائفية بعيدًا عن الاهتمام الوطني وشعورًا بحاجة المواطن. كما سيبقى البلد أسيرًا ذليلاً للمال والثروة الريعية الواردة من مبيعات النفط غير المستقرة والتي تتبخر بفعل ديمومة فساد أحزاب السلطة وعدم إيلاء الحكومات التي تتشكل من أوساطهم ما يستدعي الاهتمام المطلوب في سياسات البلاد الاقتصادية الرصينة من خلال الإبقاء على ذات الوجوه الاستشارية والإدارية الانتهازية المستفيدة من الوضع القائم. كما ستبقى عائدات النفط هدف الفاسدين والمتمرّسين منهم بصورة خاصة تاركين باقي المنافذ والأبواب الداعمة للسياسة النقدية من منافذ حدودية برية وبحرية ومطارات ودوائر ضريبية وكمارك خارج سيطرة الحكومة المركزية وبيد مَن يواليهم ويؤيدهم من الأتباع ومن وعاظ السلاطين. فهؤلاء إلى جانب هذه المنافذ التي تدرّ عسلاً وذهبًا، قد استطابوا السطوة على شيء كثير من نفوط البلاد، كلّ بحسب منطقته ونفوذه بالاعتماد على أتباعه ومواليه الانتهازيين من الذين اعتادوا الغرف من السحت الحرام على مرأى من زعماء الأحزاب وتحت غطائهم وفي ظلّ خيمتهم الحمائية التي يخشى ما تبقى من الوطنيين في البلاد الاقتراب من هؤلاء اللصوص والحرامية. حتى لجان النزاهة والرقابة بمن فيهم السلطة القضائية ماتزال تتردّد في الاقتراب من عرين هذه الزعامات ومن بؤر دوائرها الاقتصادية والمالية التي ماتزال قائمة وتعمل بوتائر عالية بالرغم من الادّعاءات الكاذبة باختفائها. ومن نتائج هذه المخاوف، ما يتردّدُ هذه الأيام من وجود ضغوط شديدة وهجوم غير مسبوق من ساسة ومسؤولين حاليين وسابقين في المشهد السياسي على دوائر القضاء ورجاله بغية إحباط جهوده وأنشطته في متابعة ملفات الفساد وملاحقة الفاسدين عبر صدّه عن القيام بدوره ومسؤولياته العدلية.
كما لا يمكن السكوت دهرًا لينطق المواطنُ الحقيقي، أو ما تبقى من شكل وصورة هذا المواطن، كفرًا حيال ما يجري. فبالرغم من بقاء الشعب الصابر الصاغر ساكتًا صامتًا لا يقوى أن ينبس ببنت شفة بسبب أدوات القهر والرعب والتهديد بالثبور وفقد حور العين والخشية من خسارة المنافع التي ينبّهُ إليها وكلاءُ المرجعيات الدينية المتنوعة وتحذّر منها أحزاب السلطة بمناسبة وبدونها، وكذا أدواتُهم من الميليشيات والجماعات المسلحة التي تعمل تحت إمرتهم بتوجيه من خارج الأسوار، وتخوينهم لكلّ مَن لا يقدم ولاء الطاعة للزعامات المفروضة، إلاّ أنّه لم يرفّ جفنٌ لجميع أدوات القهر القائمة وشخوص الحكم الفاسد التي سطت على مقدرات البلاد. والأنكى من ذلك، أن هذه الفئات راحت تلعب مؤخرًا بورقتها الأخيرة في سعيٍ منها لإدامة الحكم وإطالة وجوه الفاسدين وتدويرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً حفاظًا على مكتسباتهم ومكتسبات الطرف الإقليمي الذي يدعم وجودهم وكيانهم ويضمن إنقاذهم من الحساب وإفلاتهم من العقوبة في حالة تغيير قواعد اللعبة وإعلان ساعة الصفر بفجر جديد مرتقب. حتى في أشدّ الأزمة التي خلقتها الجائحة كورونا وتعرّض البلاد إلى كارثة اقتصادية ونقدية ومالية مقبلة لا محال، بسبب نقص السيولة وتعثّر الواردات المعتمدة أساسًا على عائدات ريعية عبرعمليات بيع النفط غير المستقرّة، لم نلحظ ذلك الحرص المطلوب من الجهات الحكومية في محاسبة المخالفين للتعليمات الصحية من جانب أو في اعتماد سياسة نقدية واقتصادية طارئة مبنية على استراتيجية فاعلة تنفع لهذا الزمن الصعب. فالخبراء يتحدثون ومثلُهم من المسؤولين والمستشارين في الدولة وخارجها من  الذين بيدهم بعض مفاتيح السياسة الاستشارية والتأثير في الأحداث يعلنون عن آراء ومقترحات، ولكن من غير فعلٍ تنفيذيّ من جانب الحكومات المكبلة بمصالح أحزاب السلطة ومكاسب زعمائها والمتأثرة بتقاطعات نواب البرلمان ومناطقيتهم ومرجعياتهم الولائية.
هذه دعوة ملحة لخلق بيئة نظيفة للحكم والأعمال والنزاهة والنأي بالنفس عن كلّ مصلحة خاصة ضيقة أو طائفية أو حزبية أو دينية لا تنطلق من معيارية الوطنية المطلوبة في الزمن الصعب، كي تسير بالتوازي مع البيئة النظيفة التي خلقتها جائحة كورونا قسرًا حين حجرت ما يقرب من نصف سكان العالم في منازلهم وأوقفت الشيء الكثير من ماكنة الصناعة والتلوث. وبذلك قدّمت هذه الجائحة أفضل هدية للبيئة ومحبيها، وجمعت البشر بين ثنايا أسرهم لأطول أوقات من حياتهم كي يتعارفوا ويتعلموا الدروس في معنى الحياة وفي قدرة الخالق وفي حقيقة ضعف بني البشر مهما طغى الإنسان وسطا وأثرى ونهبَ وسرقَ وظلمَ وأهدر من دماءٍ وثروات وأوقات في غير محلّها. وفي النهاية لن يصحّ غيرُ الصحيح!


123

ترييف المدن وتقفير الأرياف، ظاهرة بحاجة لعلاج
لويس إقليمس
بغداد، في 25 نيسان 2020
لا أخفي سرًا أنّي كثير التذمّر والانزعاج كلّما زرتُ مدنًا مكتظة بالسكان، سواء في داخل العراق أم خارجه. وهذه أصبحت تشكلُ لديّ مسألة نفسية واجتماعية وأخرى شخصية لا ابوح بها. فالناس في المدن الكبرى جلُّ همّهم ينصبُّ في كيفية تأمين لقمة العيش والنجاح في تلبية نفقات السكن والنقل والاستقرار، أي كلّ ما من شأنه مواجهة صعوبات الحياة التي تفرضها هذه المدن الكبرى بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والإتنية المعقدة. ولعلّ السبب في تناغم أو تقاطع هذه الأبعاد المتخاصمة أحيانًا يعود لتعدد الجنسيات واختلاف الثقافات وتنوع الحضارات التي تلتقي في الشارع والمقهى والمؤسسة الإدارية والثقافية وأدوات النقل المتطورة وما تشكله كلّ هذه المتطلبات من تعقيدات لساكنيها وسط زحامها جميعًا.
لذا تهتمّ الحكومات التي تعرف مدى أهمية الأرياف عمومًا عبر برامجها التنموية وخططها الاستراتيجية بالسعي الحثيث لتقليص الزخم على المدن الكبيرة من خلال التفكير بتحسين وسائل العيش في القرى والأرياف جذبًا لأكبر عدد ممكن من طالبي الراحة والباحثين عن الاستقرار وبعيدًا عن تعقيدات الحياة في المدن الكبرى مهما كانت جاذبية هذه الأخيرة وبريقها وسحرُها. ولعلّ من أهمّ الأركان الأساسية في تجهيز البلدان بالسلال الغذائية الأساسية تأتي من الأرياف وليس من المدن الكبرى وصخبها وترهلها، ما يتطلب الاهتمام بمسألة أساسية تتعلق بتهيئة السكن اللائق لعشاق الريف ومتطلباته من البنى التحتية الأساسية التي تقدم له ما يتيح له الاطمئنان والراحة وتساعده في الحصول على فرص الإبداع والكدّ وبذل الجهد لكسب رزقه بشرف وكرامة وراحة بال والإبداع في تطوير وسائل الزراعة وتنويع المنتجات التي تغطي البلاد من شماله إلى جنوبه.
اهتمام بالريف ضرورة وطنية
في العراق، ما يزال هذا الملف المهمّ خارج التفكير الاستراتيجي للحكومات المتعاقبة، كما يتضح. فهو لم يحظى البتة باهتمام مقبول بسبب سوء الإدارة وغياب التخطيط الحضري وانشغال أغلب ساسة البلاد ولاسيّما الطفيليين والطارئين منهم على مرّ الحقب المتتالية من حكم البلاد بمشاريع ضيقة الأفق ومصالح شخصية أو مناطقية أو طائفية لا ترقى لمستوى الإدارة الرشيدة المطلوبة من سياسيين يفترض بهم التعامل مع واقع حياة متطور يأخذ بنظر الاعتبار نظريات تخطيط المدن وتنفيذ برامج تنموية واستراتيجيات متنوعة تغطّي جميع مناحي الحياة وتولي الرعاية المطلوبة لحاجات واهتمامات المواطنين والسكان من دون تمييز وفي جميع مناطق البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. فالريف العراقي لم يتلقى تطورًا ملحوظًا منذ نشأة الدولة العراقية إلاّ ما ندر وبفعل مبادرات هزيلة سواء في العهد الملكي أو على عهد الجمهورية الأولى وما تلا هذه ولغاية الساعة. أمّا ما شهده الريف العراقي وبعض قراه وقصباته الريفية من جزئيات هذا الاهتمام على عهد حكم البعث، فهو الوحيد الذي بقي في الأذهان، وماتزال صورُه ماثلة في عدد من المشاريع التي غيّرت الصورة النمطية للأرياف والقرى لفترة محددة عندما توجهت عدد من الوزارات الخدمية آنذاك لبناء شبكات الطرق والجسور، وشقّ الترع وتهيئة مستلزمات الزراعة والمزارعين عبر مبادرات كان لها وقعُها التنموي، مل ساهم حقًا ولو بشكل جزئي بتقليل الفجوة بين الريف والمدينة من حيث الاهتمام بالخدمات الصحية وإيصال الكهرباء وبناء مستوصفات ومدارس ودعم طبقة الفلاحين والمزارعين في مناطق نائية وما تبع ذلك من خدمات بلدية متواضعة، لكنها كانت حلقة مهمة في فترة انتقالية.
هذه الصورة النوعية الوطنية في الاهتمام بالأرياف وتمدينها، كان ينبغي لها أن تتطور وتتواصل لغاية تقليل الفوارق بين المدينة والريف قدر المستطاع من أجل تحقيق عدة أهداف، يأتي في مقدمتها زيادة التوعية والتعليم والتثقيف في صفوف أبناء الريف، وتقديم الخدمات الإنسانية والآدمية التي يستحقها المواطن أينما وجد سكنُه، وتقليل الضغط الحاصل على المدن لمواجهة تحديات السكن المتفاقمة مع مرور السنين عبر بناء قرى عصرية متكاملة الخدمات من أجل تهيئة الأجواء السليمة للعيش الآدمي في المَواطِن الأصلية وليس بالدفاع المستميت عن العشوائيات وساكنيها الذين غزوا بغداد العاصمة بصورة خاصة من دون قيد أو محاسبة أو متابعة. وهذا الموضوع الذي ينال اليوم شيئًا من الاهتمام من قبل بعض النخب الاقتصادية والشخصيات السياسية المنظرة بسبب ما خلّفته جائحة كورونا من منغصات وآثار جانبية من شدّة الاكتظاظ في المدن، ومنها العاصمة بغداد، يستحق العودة إليه لغرض المعالجة واتخاذ الخطوات الحاسمة بوضع حدود للانفلات السكني والعمراني حتى لو كانت صارمة في بعض قراراتها طالما أن الهدف الأسمى هو رسم معيارية مدنية متحضرة لإعادة الهيبة إلى العاصمة باحترام تصميمها الأساسي ومنحها ما تستحق من تاريخ عمراني قلّ نظيرُه.
أمّا الهدف الأسمى الآخر الذي لا ينبغي تجاهلُه ضمن هذه الجهود والحلول المطلوبة، فهو يتمثل بتشجيع المواطن للتجذر في أرضه واستغلال طاقاته لتطوير الوضع الاقتصادي الوطني وتأمين الزراعي منه عبر مواصلة تأمين سلّة الوطن الغذائية التي تفتقر إليها المدن المزدحمة. فالمواطن البسيط الذي لا يقوى على تأمين قوت عيشه وسائر مستلزمات حياته اليومية من خدمات بشرية بسبب غياب وسائل الراحة البسيطة من أمن واستقرار وماء وكهرباء وعمل يدرّ عليه مصروفه ونفقاته، سيكون مضطرًّا بالتأكيد لترك الأرض والتوجه إلى المدينة التي تبهره أضواؤُها وصخبُها. حينئذٍ، يضيع في متاهات المدينة بعد أن يفقد مهنته الحقلية ويخسر طاقاته الريفية ليعيش مضطرًا على هامش الحياة المدنية محمّلاً بسلوكياته الريفية وأفكاره البدائية وعلاقاته العشائرية والعصبية التي لا تتركه. وبذلك نراه يجد صعوبة بالغة في التأقلم مع الواقع المديني الجديد بسبب عدم قدرته على الانسلاخ الجدّي عن واقع القيم التقليدية والأعراف الريفية ذات الأصول البدوية التي اعتاد عليها وظلّت راسخة في دمائه وأطباعه وسلوكياته وطريقة تفكيره.
مزاحمة في كلّ شيء
جملة هذه الأسباب وغيرها ممّا يصبّ في مسألة تهميش واقع القرى والأرياف واللامبالاة القائمة تجاه الحقوق الآدمية الدنيا لسكانها، قد أسهم في الواقع بسيطرة الشريحة المهاجرة بشراسة والزاحفة بلا شفقة على المدن بإضعاف نمط العلاقات الحضرية المتعارف عليها، وبالتالي اخضاع هذه الأخيرة لإرادة القادمين الجدد وسلوكياتهم وعصبياتهم ما أدى إلى ضعضعة بل توتر في العلاقة بين الطرفين بسبب الاختلاف في الرؤى والأهداف والأفكار والأطباع والخلفية والعقلية. وهذا ما يكشفه واقع حال العديد من المدن ومنها العاصمة بغداد التي وقعت ضحية القوة الكميّة وليس النوعيّة للزحف المتفاقم المستمرّ لغزو المدينة والانتشار العشوائي في كلّ منطقة وحيّ وشارع ومؤسسة. وليس خافيًا، مساهمة الدولة وحكوماتُها المتلاحقة في تعزيز هذا الواقع المزري واستمرار تدهور الريف بسبب غياب البرامج التنموية والاستراتيجيات الحضرية والقوانين الوضعية وعدم قيام متابعة جادة من الجهات ذات العلاقة أو تشريع قوانين رادعة للمحاسبة، ما عمّق هذا الواقع بتعاظم مسألة ترييف المدن وتفقير الأرياف بشكل مقلق للغاية. وهذا بدوره خلق مزاحمة مع السكان الأصليين في المدن بسبب الهجمات المكثفة والممنهجة لهذه الشرائح التي استقدمتها أحزاب السلطة لاختراق مؤسسات سياسية وعسكرية وإدارية واقتصادية وثقافية وحتى الاجتماعية كالنوادي وما سواها من منظمات في سعيٍ رهيب لاقتناص أية فرصة للتسلق إلى قمم هذه المواقع بفعل الزخم الكمّي الذي يمنحها الشرعية في بعض جوانب الديمقراطية المستوردة عبر صناديق الاقتراع المفزعة وما يجري خلف الكواليس من أدوات ترغيب وتحريض هذا الكمّ الهائل من الأتباع الذي يفتقد إلى أبسط متطلبات الحرية والرأي والقرار بسبب سطوة أحزاب السلطة ولاسيّما الدينية منها على عقول الرعاع والبسطاء من الشعب المغلوب على أمره.
ومن الواضح تمامًا، أنّ الجهات الحاكمة والمتسلطة من أحزاب قومية ودينية على مقاليد الحكم على مرّ السنوات المنصرمة قد رأت في هجرة هذه الشرائح وفي نزوحها من الريف إلى المدينة عامل دعم وقوّة لاستمرار تربعها على عروش السلطة والالتجاء إليها في محاربة خصومها بسبب قوتها الكميّة وتفكيرها البدائي وطباعها العاطفية التي لا ترقى في أغلب الأحيان للسلوك الحضري المتمدّن باعتبارها سريعة الرضوخ والتبعية لكلّ ما هو عشائري وقبلي وعائلي وديني ومذهبي وطائفي وليس الوطنيّ. وبموجب هذه النظرية الفوضوية تكمن قوة أصحاب السلطة في زمن التردّي الحالي أيضًا بسبب صعود قوّة الفئات الجديدة النازحة وسطوتها على المشهد السياسي والاقتصادي وحتى التسليحي عبر ميليشيات أصبحت هي النافذة في الشارع والمؤسسة والجامع والحسينية والمناسبات الدينية والمذهبية وما سواها. وهذا ما ظهر للعيان مثلاً حين سقوط الملكية في العراق وتأليه السلطة الجديدة، وتعمّق أكثر في ظل نظام البعث ضمن استراتيجية ممنهجة قُصد بها إحداث تغييرات ديموغرافية في مدن رئيسة ولاسيّما في العاصمة بغداد والمدن الرئيسة. فقد استغلت الطبقة الحاكمة منذ سقوط الملكية تخلّف الواقع الريفي القائم لاستغلاله في تقوية سلطتها عبر توزيع أراضٍ سكنية أو منح امتيازات خاصة أو تخصيص وحدات سكن لهذه الفئات المناصرة لحكام السلطة بلا تردّد كي تقف إلى جانبها حين اقتضاء الضرورة وتساند سلطتها واستمرارية حكمها.
وهذا ما شجّع لاحقًا موجاتِ النزوح الكاسحة كي تعيش في المدن التي نزحوا إليها واقعًا مدنيًا مهزوزًا بصيغة ريفية عشائرية غير متمدنة لم تلقى ترحيبًا من سكان المدن الأصليين بسبب العقلية النمطية العشائرية البعيدة عن روح الانفتاح والتحضّر التي أصرت هذه الفئات التمسّك بها ونقل تقاليدها شبه المتخلفة. بما معناه أن هذه الفئات المهاجرة عبثيًا كانت قانعة وراضية في بادئ أمرها بافتراش الأرصفة والساحات العامة وزوايا مؤسسات الدولة وحتى العيش في صرائف أو بيوت من صفيح أحيانًا وصولاً لتأسيس موطئ قدم في رصف وبناء وتشكيل عشوائيات ضاغطة. وهذه الأخيرة سرعان ما اتخذت شكل مدن مجاورة في ضواحي المدن الأصلية، كما هي عليه الحال في العاصمة بغداد التي فقدت في السنوات الأخيرة ما بعد 2003 مدنيتَها وزال تحضّرُها وكثرت إرهاصات سكانها الأصليين بحيث ضاقوا ذرعًا اليوم، بعمليات شبه ممنهجة ومدروسة في غزو كاسح لمناطقهم الأصلية بدعم من القوى الطائفية الحاكمة. ويلاحظ أنَّ غالبية سكان هذه الموجات النازحة هم من فئة مَن يُسمّون بحديثي النعمة الذين أترفوا واغتنوا وظهرت ثرواتُهم بين ليلة وضحاها، ولا مِن سائل ولا مِن تحرّ عن شكل هذا التحوّل الخطير في المجتمع وما يمكن أن يترتب عليه من مشاكل اجتماعية واقتصادية وتربوية وحتى أخلاقية في مسألة الاندماج الصعب بالمجتمع الجديد الذي يتطلب استعدادًا نفسيًا ومجتمعيًا وانتماء صافيًا للوطن وليس للعشيرة والطائفة والدين والجهة التي تقف خلف هذا التحوّل غير المتسق.
الحلول في القرارات الحضرية
إزاء هذه الظاهرة غير الصحية وغير المتوازنة سكانيًا وحضريًا واقتصاديًا وثقافيًا وتربويًا بالسكوت عن واقع ترييف المدن، ينبغي على الحكومة باعتبارها جهة تنفيذية والجهات الأخرى ذات العلاقة بالتخطيط الحضري أن تفكّر مليًا بإيجاد السبل الكفيلة بوضع حلول متوازنة وعبر تنفيذ برامج وطنية حثيثة وإيجاد مخرج للبطالة المتزايدة والنقص في وحدات السكن من أجل إيقاف الزحف السكاني باتجاه المدن ومنع تغوّل هذه الفئات الطارئة على مقدرات هذه الأخيرة ومدنيتها. فالواقع القائم يشير إلى استفحالها وتفاقمها أكثر في حالة استمرار تهميش الأرياف والبلدات الصغيرة وغياب المشاريع والبرامج التنموية التي تهتمّ بالريف والقرية وكلّ قصبة نائية عبر سلسلة من المشاريع الحقيقية والواقعية لاسيّما في مجالي الزراعة والصناعة وبما يكفل ويهيّئ سبل العيش الآدميّ ويحقق التوازن بين الريف والمدينة. وهذا من شأنه بالتأكيد أن يساهم جزئيًا بتحسين القيمة المضافة للقطاع الزراعي من خلال زيادة الإنتاج وتحقيق الربحية والركون للاستقرار العائلي، ما سيساهم بالتالي بتقليص حركة النزوح من الريف إلى المدن والتفكير بحصول هجرة معاكسة نتيجة للآثار الطيبة التي سيحدثها التوجّه الجديد في برامج تطوير الريف. والمطلوب من الجهات المتنفذة في الدولة والحكومة أن تبادر عمليًا وبالتعاون مع أرباب القطاع الخاص من مقاولين وأصحاب النظريات العقلانية والنخب الاقتصادية والمتخصصة في مجال العمران والبناء لإخراج مشروع متزن ومتوازن للتنمية الريفية الحقيقية والإسكان في القرى والأرياف بطريقة البناء الذاتي وبمساعدة أصحاب الخبرة في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص من أجل النهوض بقطاع الريف ووقف الهجرة المتصاعدة إلى المدن بحثًا عن مستلزمات الحياة وكسبًا للقمة العيش الغائبة في المناطق النائية. وهذا هو الطريق الصحيح لوقف الهجرة من الريف إلى المدينة والأداة الناجعة لعودة معاكسة للمهاجرين من المدينة إلى الريف عندما تتوفر المستلزمات الأساسية للحياة.
كما أنّ التفكير بأية حلول أخرى قابلة التطبيق يمكن أن تضع حدًا للغزو الريفي للمدينة لكون هذه الشرائح الوافدة دون رقابة أو تقنين أصبحت في السنين الأخيرة تشكل مصدر قلق سياسي حقيقي ومثار تأزم اجتماعي بين المكوّنات لما تخلقه من توترات ومنغصات بسبب الاختلافات الاجتماعية أولاً والسياسية ثانيًا والصحية ثالثًا وليس آخرًا،وما يترتب على ذلك من مشكلات اقتصادية وأخلاقية لا ترقى إلى المجتمعات الحضرية التي تتصف بها المدن العريقة بأهلها ومنها بغداد. فالجميع يشهد للخلل ومدى الفوضى التي ضربت بعض المدن العريقة بأهلها بسبب تغلغل القيم والسلوكيات العشائرية في الحياة العامة ما جعل الدولة العراقية عاجزة عن معالجة مواقع الخلل الحاصلة بسبب هذه التحوّلات. وهذا من باب الضعف في إدارة الدولة وتغوّل النازحين الجدد وسيطرتهم على منافذها وسلطاتها، ما يشكل عائقًا كبيرًا أمام أية جهود للدولة فيما لو حصل وأن سعت هذه في أية فاصلة من الحكم من أجل خلق مواطن متزن يكونُ ولاؤُه للوطن عبر مواطنة تجمع الكل في هوية وطنية جامعة وليس للدين والطائفة والمذهب والعشيرة والحزب والشخص.
وبهذه الجهود والإرادة الوطنية فقط، تزدهر المدن وينمو الريف ويتطور أهلُه ويسعد سكانُه وتتغير رؤاهم وتتنور أفكارُهم ليصبحوا قادرين على التفاعل مع الحدث باتزان أكثر والتعايش مع أهل المدينة عبر إدراك أهمية الريف وفوائده في جميع نواحيه وأنشطته والأهمّ في القناعة بالعيش فيه وليس اعتبار العيش في المدينة طموحًا وهدفًا وغايةً.


124
مرثيات في زمن كورونا
لويس إقليمس
بغداد، في 11 نيسان 2020

أفرزت جائحة كورونا عن وقائع لا تخلو من يقين بخصوص صانعيها ومنتجيها وناشريها عبر تسريبات أو تصريحات أو تطمينات بشأن أصلها وفصلها وطريقة االخروج منها بما خطّط له مَن سمح بهجماتها اللعينة على كلّ المستويات. وكانت لهذه الجائحة، طاعون العصر الجديد، آثارُها وتداعيتُها على صعيد الأوطان والشعوب في التأثير والتأثر بنتائجها ووقائعها. فقد تعثرت حركة البشر وتوقفت ماكنة الصناعة جزئيًا أو كليًا في بعض البلدان، وزادت من الأزمات الاقتصادية لبعض البلدان التي كانت تعاني أصلاً من أزمات داخلية ومن تراجع في اقتصادياتها. كما كان لانهيار أسعار النفط إلى أقلّ من نصف الأسعار عالميًا بسبب تراجع الطلب على مصادر الطاقة نتيجة لتوقف مصانع ومصافي ومعامل وحركة السير والنقل في العالم، ما أضاف أعباء ثقيلة أخرى على دول تعتمد في معيشتها على الدخل الريعي ببيع نفوطها المتداعية أصلاً. وكان من آثار هذه الجائحة، إعلان غير مرئي باحتمالية سقوط النظام العالمي الذي كانت تحركه قوة القطب الواحد، ما أنذر بصعود قوى طامحة أخرى لقيادة العالم وسط صراع وجوديّ لا يُؤتمن عليه إنسانيًا واجتماعيًا بعد أن ظلّ النظام السابق يهيمن على الساحة السياسية عقودًا من الزمن، لاسيّما بعد نتائج الحربين الكونيتين الأخيرتين.
مما يجدر الإشارة إليه، ذلك التأثير الكبير الذي يمكن أن يطرأ على العالم وبالذات بعض الدول والمناطق التي تعاني من مشاكل داخلية وأزمات في تركيبتها الديمغرافية والسياسية. فهناك إشارات واضحة لتقلّبات في سوق الاقتصاد العالمي، وقناعات بضرورة تغيير النظام الاقتصادي الراهن. وهناك مناطق مهمة من العالم مثل أوربا بأكملها، قد تعرّضت لهزّات سياسية واقتصادية لا تبشّر بالخير، بل هناك مَن يتنبّأ لها بالانحلال والتمزّق والتشرذم بسبب ما خلفته الجائحة من ضعف في التعاون والتضامن والتكاتف. ناهيك عن الأضرار الاجتماعية التي خلفتها هذه الأخيرة من نقص في الإنتاج وتهافت غير مبرّر على اقتاء السلع والمواد من قبل البشر، وكأنّ قيامة العالم حالّة قريبًا، و"يا روح ما بعدك روح"، كما يقول المثل. حتى إن البعض قد تخلّى عن إنسانيته بتخلّيه عن أحبة وقعوا ضحية الطاعون الجديد، فتركوهم إلى رحمة الله من دون وداع ولا حسرة ولا دموع. فيما أثارت هذه الجائحة شعورًا معاكسًا لدى البعض الآخر الذي رأى فيها دروسًا بليغة من السماء كي تعود النفوس إلى هداية الخالق والعقول ‘لى سواء السبيل وتتجه الأفكار والجهود العالمية نحو مزيد من التآزر والتعاضد لحماية المنظومة الإنسانية ونقاء الأرض والبيئة خدمة للصالح العام.
•   موت بلا وداع:
صعبٌ جدًّا أن تخسر أحباء، بالأمس كانوا من ندمائك وأمام ناظريك يمتعونك بالضحك ويسهلون لك الحياة من دون منّة أو ملل أو ضجر. وعندما هاجمتهم الجائحة الملعونة واستقرّوا في مشافٍ أو مراكز حجر ظالمة ومظلمة، لم يكن في يديك ما تستطيعه للنخفيف عنهم من هول الوحشة وآلام الليل والنهار والحرمان من مناجاتهم كأحبة والاستمتاع بالنظر إلى وجوههم الطيبة وأجسادهم النظرة. كلّ شيء انتهى بالنسبة لهؤلاء: لا أمل سواى برحمة السماء، ولا رجاء سوى بجهود أبطال الصحة العامة، ولا أماني سوى الطلب من رب السماء والأرض أن يشمل الباقين من الأحبة القريبين والبعيدين بعافية أصبحت مهددة في كلّ لحظة وكلّ خطوة وكلّ حركة. 
لقد لازم الجميع المنازل إلاّ السفهاء من الذين استخفوا بقدرة الجائحة على استئصالهم من عقر دارهم وتفنيد خرافات مَن شجّعهم وحضّهم على كسر الحجر بحجة قدرة القدسية الموهومة على التصدّي لأي مكروه أو مرضٍ أو وباء. وهذا جزءٌ من من جنون الأقدار وعسرة الإدراك ونقص الفكر والاستعياب بكون الجائحة لا تعرف أن تفرّق بين الغني والفقير، بين الرئيس المسؤول والعاطل المذلول، بين الدين والمذهب والمنصب وبين مَن لا دين له ولا عقيدة ولا إيمان. فجائحة كورونا طبقت العدالة الاشتراكية في ضربها أساطين الدول وشعوب الأمم وأراضي البلدان بالتساوي ومن دون محاباة. تلكم هي حياة الاشتراكية في الإصابة بالأوبئة. ومَن لا يعير للمعايير والمقاييس والإجراءات حسابًا، شملته اشتراكية الإصابة بالوباء من دون تمييز. أمّا المؤسف في كلّ هذا وذاك، ألاّ تستطيع مواساة المصاب عن قرب والنوح والبكاء لفقدانه، والأكثر أن تُحرم من وداع الأحبة والأعزاء. إلى رحمة الله. ما لنا فيهم سوى رحمة السماء وصلاة الغائب.   

•   قناعة من غير شكوك
الشكُّ يولد اليقين، واليقين يقود إلى القناعة، والقناعة كنزٌ لا يفنى. أمّا قناعة العالم في زمن الكورونا، فهي خضوع شعوبه وزعاماته ليقين شبه حاسمٍ بكون البلاء الأخير من صنع الإنسان. ومهما كانت اليد التي أتاحت الفرصة لهذا الوباء كي يأخذ دوره الشرير وسط الأمم والشعوب بفعل فاعل من لدن زعامات تتصارع لأجل سيادة العالم بشتى الوسائل والطرق والتحشيد لأعمال عدائية بإدخال منظومات تسليحية مستجدة في كلّ يوم إيغالاً منها بالرغبة بكسر شوكة دولٍ أخرى واستهدافًا لزعامات تُعدّ منافسة تقف في طريقها، إلاّ أن الشر يبقى شرًا وطريقُه للسيادة والزعامة قصيرٌ جدًا ولا يضاهي ما ينتظر أشرار العالم من عذاب جهنّم ونقمة الطيبين والصالحين المتبقين من أحباب الله في الأرض.
وكما يبدو للعالم أجمع، لم يتنبه البشر وزعماء الأرض بصورة أخصّ، لهول الكارثة التي لم يتحسبوا لها أوبالأحرى لم يترقبوها ولا تهيأوا لها لا من قيرب ولا من بعيد بالرغم من وجود تنبيهات لمتنبئين وأصحاب حدس ودراية بوقوع كارثة قد تأتي على الأخضر واليابس. فهذا بيل غيتس، واحد من أثرى أثرياء العالم، سبق له أن نبّه لشيء شبيه بكارثة فيروس كورونا من غير أن يسمّيه، وهو الملتزم بتمويل برامج إيجاد علاجات لأمراض وأوبئة وأمصال ولقاحات لصالح دول نامية وفقيرة. لقد نبّه هذا الرجل بحصول كارثة وطالب بالاستعداد لنتائجها الكارثية، وليس من مصدّق أو مقيِّمٍ لكلامه في حينها. وإن يكن ثمّة شيء من قناعة بكلامه، إلاّ أن انشغال زعامات العالم بأزمات سياسية واقتصادية ومحلية كانت لها الأولوية على كلّ شيء. ومن عقر هذه الانشغالات الجانبية جاءت الشكوك بكون الطاعون الجديد المستجدّ هو من صنع الإنسان، وايّ إنسان! إن لم يكن من جنس الإنسان الشرّير ذي القلب القاسي الذي لا يعرف الرحمة ولا يحسب حسابًا بشريًا ضعيفًا لعظمة خالق السماء والأرض والعناصر من دون منازع. فأينَ شوكتُكَ يا إنسان؟ وأين جبروتُكِ أيتها النفس البشرية الضعيفة من خليقة الله التي أراد لها أن تكون حسنة وتعمل الصلاح وتعيش في أجواء النعمة الالهية والرحمة السماوية من دون زوغان أو حيد عن طريق الحق والعدل الإلهي الذي خصّ الله به العالم وجعلَ خلائقَه من أفضل ما في الكون. أمّا تبادل التهم فيمن كان السبب في تصنيع الفيروس وانتشاره بقصد أو بغيره، فسيقول التاريخ قولتَه ولن يكون للبشر فيه سيطرة على المدّعي ولا على المدّعى عليه. وسنبقي ذلك لعدالة السماء وكلمة الحقيقة.

•   طقوس باكية وأعياد كئيبة

مرّت ايام الصوم الأربعيني بالنسبة للمسيحيين في العراق والعالم وسط حزن وغمّ وفاقة ولوعة لم يشهد لها التاريخ إلاّ نادرًا. وها هو العالم يستذكر في نيسان الجاري 2020 أعياد موسم الفصح بدءًا من أحد الشعانين ومرورًا بخميس الفصح والجمعة العظيمة وصولاً إلى عيد القيامة يوم الأحد 12 نيسان، فيما البشر محجورون في منازلهم من غير أن يشاركوا حسّيًا وجسديًا في احتفالات وطقوس اعتادوا عليها منذ نشأة الكنيسة، ولاسيّما المشرقية في بلاد الرافدين الغنية بإرثها الطقوسيّ الجميل والمشهود له عالميًا. فقد اضطرت غالبية الكنائس إلغاء طقوسها بهذه المناسبة ابتداءً من تاريخ مناشدة الإعلان الحكومي بموجب توصيات لجنة الأمر الديواني. فقد التزمت الكنائس بإلغاء الصلوات التقليدية لما تبقى من موسم رياضة درب الصليب أيام الجمع التي سبقت يوم خيمس ا موسم أعياد الفصح والقيامة. ومن الجميل أن يُصار إلى نقل بعضٍ من هذه الاحتفالات أو جميعها مباشرة عبر مواقع بعض الكنائس لتنتعش بها نفوس المؤمنين المتلهفين إليها من الذين اعتادوا إكثار الصلاة وطلب المغفرة والتقرّب من رب السماء ومن بعضهم البعض في مثل هذه المناسبات الدينية الجميلة.
سيغلق المسيحيون هذه الصفحة الحزينة من زمن الوباء بعد أن تركوا العذراء تنتحب لوحدها وتندب إبنها يسوع يوم الجمعة العظيمة وهو يُقاد من جنود سفهاء حرّكهم رؤساء الكهنة وطغمة الفريسيين من اليهود وأزلامهم الذين عادوا المسيح وأرادوا له أن يكون قائدًا زمنيًا يخلّصهم من شرّ السلطة الرومانية الجاثمة على صدورهم.  سيغلق المسيحيون في العراق، هذه الصفحة الكئيبة من تاريخ بلادهم وكلُّهم أملٌ بفتح صفحة لاحقة أكثر رخاء وأمنًا وطمأنينة لإخوتهم المسلمين من الذين ينتظرون بلهفة أيضًا قدوم شهر الخير والبركة، شهر الطاعة والغفران، شهر رمضان، ومن بعده عيد الفطر. ليس أجمل من أن يتمنى المسيحيون لغيرهم من شركاء الوطن غيرَ الفرج القريب من آثار طاعون العصر الجديد وابتعاده عن بيوتهم كي يمضوا الشهر الفضيل بين الأحبة والأصدقاء وفي الشوارع والأزقة وليس محجورين بين جدران المنازل وصبات الكونكريت التي تقطّع أوصال المناطق والجسور والأحياء وتمنع الاجتماع على موائد المحبة والرحمة. فطقوسنا أضحت باكية ومبكية وأعيادُنا كالحة ومظلمة وأبناؤُنا وأحفادُنا قد قتلهم الصبر الطويل وأعياهم الملل والضجر: فلا مدارس، ولا تسليات، ولا حدائق، ولا سفرات، ولا لقاءات، ولا مصافحات، ولا عناقات، ولا علاقات... كلُّها بدت ممنوعة ومحظورة إلى ما شاء القدر. عساه لن يطول الانتظار.
أمّا نحن، فلنا في قدرة السماء يقينٌ وإيمان وقناعة بانقشاع قريب للغيمة السوداء وعودة الاباء والأبناء والأحبة إلى الديار والمنازل الدافئة بعد ابتعاد مرغَم وعسرٍ مرير. فإنَّ بعد العسر يسرًا!


125
أحوالُنا في زمن كورونا وما بعد كورونا
لويس إقليمس
 بغداد، في 1 نيسان 2020
يعيش العالم عبر أكثر من 183 دولة، حالة صعبة من الهستيريا النفسية والعقلية بسبب نتائج جائحة فيروس كورونا المثير للجدل، سواءً في كيفية ظهوره أو إنتاجه أو انتشاره بسرعة فائقة لم تعرف حدود العرق واللون والدين والطائفة والمنزلة والصفة المجتمعية وما في هذه جميعًا من قدرات بشرية ومالية واقتصادية وعلمية لم تستطع جميعًا مقارعة الوباء. الصين بقدراتها البشرية والاقتصادية الهائلة، وهي البلد المتهم الأول بإخفاء معلومات عن تحديد زمن ظهور الوباء وكيفية علاجه أو الاتقاء منه، تعافت أخيرًا، ليس بطريقة شاملة ونهائية. إذ مازالت تترقب وتسجل حالات هنا وهناك، سواء تلك القادمة من خارج حدودها، أو البارزة من تحت الأنقاض المخفية من دون إثارة مخاوف بصدد هذه الحالات التي تعتبرها طارئة بعد إعلانها وضع حدود للانتشار الجارف للوباء منذ الإعلان عنه نهاية العام الماضي 2019.
هناك مَن يرى في الوسائل والأساليب المتبعة من قبل أجهزة هذه الدولة الشيوعية بالرغم من وحشيتها أحيانًا وفرضها قوانين صارمة لا تقلّ قساوة عن سياسة نظامها الاشتراكي الماركسي في الحياة اليومية، أنه كان لا بدّ من استخدام شيء من القسوة والقوة والعنف للحد من انتشار الوباء قبل أن يتمكن من الفتك بشعبها الذي يتجاوز المليار ومائتي مليون إنسان يعتمد عليهم النظام في تشكيل قوة اقتصادية وتكنلوجية مرتقبة قادرة أن تجتاح الأسواق العالمية من دون منافسة في السنوات القليلات القادمات. حتى الطاغوت الأمريكي الجاثم على صدور سائر دول العالم، سوف لن يكون قادرًا في الحدّ من صعود هذا البلد الأسيوي الناهض من بعد انغلاقه الحزبي القديم بسبب تغيير منهجه الاقتصادي وانفتاحه الصحيح محسوب الخطوات على عالم اليوم مستفيدًا من تقنيات الأخير الحديثة المستجدة والمتجددة وكذا من قدراته البشرية وعبر منح شعوبه مزيدًا من مساحة الحركة والانفتاح والتعبير وبما لا يخرج عن سيطرة النظام المستبدّ في فكره وطريقة حكمه. ومادام الشعب راضيًا بطريقة حياته، فليكن ما يكون من أمر حكم قادته وطريقة سياسة البلاد والعباد!

أحوال الداء والدواء في العالم
في فلسفة الحياة هناك منطق للقول بأنّ "لكل علّةٍ دواءً ولكلّ كبوة قومةً"، إلا ما عصى على البشر من ذلك الخبيث مجهول المصدر وعاصي العلاج لغاية الساعة. ونحن لا نعتقد دخول فيروس كورونا ضمن خانة عصيان العلاج الممكن لهذا الوباء الجارف الذي أقعدَ نشاط العالم وشلّ حركة التنقل والسير وحجرَ ملايين البشر في منازلهم وجمّد الآلاف المؤلفة من المعامل والمصانع وأوقفَ تكتكة الماكنة الصناعية وعطّلَ برامج التنمية وألحقَ أضرارًا كارثية وخسائر اقتصادية فادحة في عموم دول العالم ولاسيّما الصناعية والنفطية. ولعلّ أشدّها هولاً وانكسارًا كانت على الدول التي تعتمد في بيع نفطها الريعي لسداد رمق العيش وتسيير الحياة مثل العراق.
ونظرًا لكون التعمّق في البحث عن لقاحات أو أمصال تحظى بموافقة الجهات الصحية الدولية من حيث نجاعتها وكفاءتها الدوائية يتطلب استثمارات طائلة من قبل شركات ومراكز بحوث عالمية، فإنّ بعض هذه الأخيرة لا ترى في إيجاد لقاحات أو علاجات أو مضادات، جدوى اقتصادية كبيرة مثل صناعة الدواء الذي لا تنقطع طلباتُه العالمية وهو يخضع لمنافسة دولية شرسة من شركات إنتاج الأدوية التي لا تخلو بعضٌ منها من سمات الغش لتحقيق أرباح خيالية. وهذا هو السرّ في عدم تسارع وتيرة البحث عن إيجاد لقاحات تحدّ من قدرة هذا الفايروس المستجدّ بل المصنَّع والمطوّر بشريًّا وذاتيًا بحسب ما نقرأ ونسمع. وقد تطول فترة البحث أو اتخاذ القرار الحاسم بإقرار نوع وشكل العلاج الناجع، كما تطلع علينا يوميًا نشرات طبية وبحثية واستثمارية وتصنيعية متعددة. والحكم كما يبدو، يبقى بيد المختصين بالتأكيد، لكنه يدخل أيضًا في حسابات أصحاب القرار السياسي والشركات الاستثمارية الكبرى ومَن يسود العالم وعلى رأسهم أميركا التي لم تحسب حساباتها جيدًا فدخل الوباء من أبوابها الواسعة وليس من شبابيكها فحسب، بغير التوقعات وخارجًا عن الحسابات.
وإذا كانت جهات اختصاصية أو وكالات أو شركات لا تستشرف الوقوف على علاج ناجع وسريع للحالة التي تضيّق الخناق على أكثر من مليار من البشر، ومنها دول متقدمة في العلوم والتكنلوجيا، فيسجلُ العالم هذا الوباء حينئذٍ كونه من دواعي" القضاء والقدر"، كما حصل في سابقيه أيام الطاعون والملاريا والكوليرا والإيدز والسارس والحمّى وما سواها من أوبئة قاتلة حصدت أرواح الملايين من البشر في غابر الأزمان، حتى انتخت البشرية ولانت النفوس وتكاتفت الأيادي وتعاطفت القلوب مع ضحاياها. فكانت الكلمة الأخيرة للرحمة الإلهية التي ألهبت النفوس وليّنت القلوب وكسرت الحواجز بالعودة إلى رحمة السماء وحنان خالق الأرض وشعوبها الذي لا يرضى أبدًا أن يترك عبيدَه عزلاً وفي وحدة قاتلة يصارعون الموت، حيث تسارعت المعامل وشركات الأدوية لتقديم الأفضل في أنتاجها بل والدخول في منافسات عالمية شديدة. وربما ذات الموقف تسجله اليوم محنة جائحة كورونا التي فتحت أبواب الانتقاد على حكومات ودول دون غيرها بسبب سوء إدارة علاج هذا الوباء والشكوى من موقف عدد من الأحزاب الحاكمة التي أساءت التقدير في كيفية التعامل مع الأزمة وتخبطها الواضح واستخفافها الابتدائي بنتائجه وقدرته على إفناء البشر وإيقاف عجلة الحياةالمتمثلة فيما نراه ونشهده بأمّ أعيننا من كساد اقتصادي وأزمة مالية وربما لاحقًا من غلاء لا يحتمله الفقراء الذين لن يجدوا ما يؤمّنُ لهم خبزهم كفافهم اليومي إلاّ بصعوبة بالغة.
من هنا، ليس من شكوك فيما يحذر منه خبراء في الاقتصاد والمال ومعالجة الأزمات من غياب التكاتف الدولي في المشاركة بالمعطيات والمعلومات التي ينبغي اعتمادها في محاصرة الأزمة الوبائية بجهود دولية استثنائية تعتمد الثقة والمصداقية في البحث عن مخارج علاجية سريعة قبل فوات الأوان والعمل على حصر المسببات للخروج سريعًا من الأزمة التي لم تفرّق بين دولة وأخرى أوشعب وآخرأو دين وآخر أو شخص وآخر، طالما أن الفايروس تنقل بكل يسر وسهولة عابرًا الحدود والدول من دون جواز سفر. ولو وُجد نظامٌ عالمي محترم من قبل الجميع لما تمكن مثل هذا الوباء من عزل ربع سكان العالم وحجرهم في بيوتهم مرغمين. وفي اعتقادي، ليس الوقت مناسبًا لإلقاء اللوم على هذا البلد أو هذه الجهة والتداول فيمن هو المستفيد من صناعة الفيروس وانتشار الوباء والمعرقل لسرعة اكتشاف المصل المضادّ. بل الحكمة والروية والرحمة والإنسانية تكمن في التكاتف الدولي والتعاون للخروج من الأزمة بأقلّ الخسائر البشرية. فالإنسان يبقى الأعزّ والأغلى، فيما الاقتصاد يمكن أن يتعافى والكساد يُعالج والمال يأتي ويذهب ولا يبقى منه إلاّ الأحاديث والذكر، كما يقول حاتم الطائي في عتابه لزوجته ماويّة. كما أنّ الأهمّ يبقى في الاستعداد لمرحلة ما بعد كورونا التي لن تقلّ شدّة في آثارها. فوجه العالم سيكون قابلاً لإعادة الهيكلة في العديد من مضامين الحياة. فما بعد الوباء لن يكون كما قبلها بالتأكيد!     
حالُنا في العراق
إذا كانت البلدان المتقدمة علميًا وصناعيًا وإنتاجًا، ومنها دول الغرب وأمريكا والصين بشكلٍ أخصّ، يُشكّ في قدرتها على الصمود طويلاً أمام الأزمة الحادة التي أنتجها وفرضها وباء كورونا، فكيف بالدول النامية والفقيرة التي لا تتمتع بمثل هذه الحصانة العلمية والفكرية والثقافية والصناعية والإنتاجية والمجتمعية؟ هذا إذا أضفنا إلى هذه العوامل ما تتسم به بعض هذه الدول والشعوب ومنها دول المنطقة وبضمنها العراق، من واقع الجهل المجتمعي والعرف القبلي والعشائري القاتل وسيادة التقاليد والأعراف الدينية التي لا ترحم بقدر ما يستخفّ مروّجوها ومتولّوها بعقول أتباعهم للإبقاء على تخلّفهم وجهلهم بهدف السيطرة على إراداتهم الغائبة أصلاً في التفكير والتقدير والتعبير. لقد أثبت الواقع المجتمعي في العراق افتقاره إلى شيء اسمُه الامتثال لقانون فرض حظر التجوال منذ فرضه بتوصيات اللجنة العليا الوطنية لحين الاستنجاد بالأجهزة الأمنية لفرضه بالقوّة على مضض. ومن المؤسف أن يرى فيه بعض من هذه الأجهزة وسيلة جديدة للابتزاز والثراء وكسب المال بالتحايل على القانون المذكور وعدم تطبيقه بحذافيره على الجميع. فهل يُعقل أن يساوم بعض شخوص السيطرات الأمنية ما بين المحافظات وداخلها أصحابَ المركبات التي تنقل قوت الشعب والأدوية وسائر احتياجات العوائل المحجورة في منازلها من أجل السماح لها بالدخول للمدن مع البضاعة المحمولة؟ تلكم هي أقسى غايات الفاسدين الذين تعلموا هذه الدروس الفاسدة من أسيادهم الساسة في نهب المال العام وفي ابتزاز الشرفاء من رجال الأعمال والمقاولين واصحاب الشركات التي أذعنت بعضُها صاغرة لمساومات أحزاب السلطة وزعاماتها وذيولها بسبب ما تحمله وتتمتع به من سطوة ونفوذ وجاهٍ ومالٍ وسلاح.
كلّ هذا يُضاف إلى الحالة الاقتصادية المتهالكة لشبه الدولة العراقية المهزوزة التي تعتمد في سياستها على ريع بيع النفط الذي تدنت أسعارُه إلى أقلّ من الثلث قبل دخول البلاد في هذه المصيبة العالمية لتقف عاجزة بعد اشهر على دفع مستحقات موظفيها والمستحقين من المتقاعدين والمعتمدني على معونات الضمان الاجتماعي المتهالك أصلاً. فيما لم تبذل حكوماتنا المتعاقبة أية جهود لتدارك مخاطر هذه السياسة الخاطئة بسبب خلوّها وفراغها من أية مسحة استرتيجية أو رؤية بعيدة المدى. لذا بقيت ميزانية هذه الحكومات منذ السقوط في 2003 ولغاية الساعة أسيرة التذبذب في أسعار النفط العالمية تاركة غيره من الموارد في أيدي زعامات السلطة وميليشياتها تتقاسمُها وفق منهج كتلوي وحزبي وعرقي ومذهبي وطائفي مقيت في كلّ صيغه ووسائله. فالمنافذ الحدودية، جوًا وبحرًا وبرًا، يمكن أن تدرّ ما يعادل ثلث ميزانية البلاد فيما لو أُحسنتْ إدارتُها بأيادي نظيفة لمواطنين يعرفون قدر بلادهم ويحترمون سيادتها ويتبنون نهجًا وطنيًا في الانتماء والعيش والوظيفة. ومثلُها آلية جباية الضرائب التي ماتزال قاصرة ومقصّرة في واجبها وقوانينها ومفردات أساليبها وكوادرها الذين ليسوا استثناءً من تعرّضهم لإغراءات مادية تحدّ من نزاهتهم وتشكّل منهم أدوات للابتزاز المباشر وغير المباشر. وماذا نقول عن ابتزاز المقاولين في القطاع الخاص من جهات نافذة في السلطة لا تتورع في حلبهم مزيدة لهم ولغيرهم عناء البحث عن كسب غير مشروع، ومضيفة للبلاد شقاء الانتظار في إكمال مشاريع كان مصيرُها التلكّؤ بسبب تدخلات الساسة وسماسرتهم في الضغط للمزيد من الاستغلال على أرباب الشركات التي اضطرت لترك العمل بسبب هذه المنغصات. وللمزيد من الإيضاح، علينا بما سمعناه ونسمعه، ورأيناه على شاشات الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي من فضائح يندى لها الجبين بسبب خلوها من أية مسحة وطنية وإنسانية حين تعرّضها لقوت الشعب وخبز الفقراء الذين مازال يتاجرُ بهم ساسة الصدفة ولم يتعلموا بعد دروس الساعة!
ناهيك عن حال الجهل المطبق الذي أفرزه احتلال البلاد منذ السقوط على يد أميركا التي تحكمت وماتزال تتولى رعاية العملية السياسية في البلاد متقاسمة الأدوار مع الجارة المحتلة إيران ودول إقليمية وعالمية وأخرى مجاورة تفرض شيئًا من السطوة بأيادي محلية ملطخة بالفساد والدم والجهل. وهذا الأخير ليس من صنع غرباء، بل فرضته أجندات دينية وطائفية وغيرها من تلك المتأسلمة بغطاء الدين  والمذهب لتفرض شكلاً من أشكال السطوة المجتمعية والطائفية بهذا الغطاء الذي ساهم علنًا وخفية في حلب ثروات البلاد والاستيلاء على ممتلكاتها بوسائل وطرق غير نظيفة بفحوى النفوذ والجاه والمنصب وفرض السلاح المنفلت. 
وهنا الطامة الكبرى! ففي كل مرّة، يصحو الشعب على وتيرة الغطاء الديني ليسكت عن الحق الذي يتغافل عنه في غفلة من الزمن الغادر ليعود أسيرًا لخرافات وخزعبلات أصحاب العمائم الموغلين بإبقاء أتباعهم أسرى ترّهاتهم المذهبية والطائفية بلطع الأبواب والشبابيك والحيطان والدروج وما سواها من المحروسة والمقدسة والمطهّرة بحسب نهج وتعليمات وتخاريف وكلاء وعّاظ السلاطين والموسومة بالقدسية والطهارة. ولا أدري من أين أتت هذه الطهارة وهذه القدسية لتكون هذه المواقع والمزارات حصينة ومحصنة ضد أنواع الوباء مثل كورونا وغيره. والمثير للسخرية والضحك في هؤلاء الأتباع من جهلة الشعب والمتخلّفين بينهم، الهرولة الطوعية بكلّ جهلٍ وراء بعض أصحاب العمائم ورجال الدين ضاربين عرض الحائط خطورة الوباء وتعليمات الجهات الصحية التي حذرت وماتزال محذرة من خطورة الموقف في حالة عدم الانصياع للتعليمات والحجر المنزلي قدر المستطاع. والأنكى من هذا وذاك، خروج بعض المعمّمين أو ممثلين عنهم للتشجيع بعدم الانصياع للجهات المعنية بحماية صحة الشعب وحفظ البلاد من القدر المحتوم.
إنه التخلّف، بل الجهل بعينه! وكأنّ البطولة واحترام القدسية لا تكمن إلاّ باتباع الأسياد صغورًا وتقبيل أيادي أصحاب العمامات واللطع والتقرّب من مواقع أصحاب الكرامات بالطريقة التي يحددها وكلاء الأئمة الذين لو عادوا اليوم لنفوا كلّ علاقة لهم بهذه التخاريف، ونهوا عن مثل هذه السلوكيات التي إنْ صلحت بالأمس فهي لم تعد مقبولة في هذه الأيام. فالبعران والأحصنة والحمير والفيلة وما سواها من وسائل النقل قبل أكثر من 1400 عام استبدلت بالطائرات والقطارات والسيارات والدراجات وما إلى ذلك من وسائل حضارية متقدمة. ويا ويل مَن يبقى أسير دياجير الأمس الجاهلي. فمصيرُه الهزء به وافتقاده لأدنى احترامات العالم وأمم الأرض. وويلي على أمة ضحكت من جهلها الأمم! وحذار حذار من الإيغال في الاستخفاف بالجائحة ونتائجها الكارثية. ففي حالة عدم الانصياع للتعليمات والتوجيهات والمناشدات، فما ينتظرُنا أكثر حلكة وظلمة وسوادًا. ووقانا الله من شرّ البليّة.





126
صوت الشعب وكورونا والمنظومة الحاكمة
لويس إقليمس
بغداد، في 15 آذار 2020
الحياة دروس بليغة، ودروبُها شاقة في بعضها ويسيرة على قلتها في شقها الآخر. وخير الدول وأفضل الأمم مَن تستعين بالدروس البليغة التي تفرزها الحياة في كل الميادين، ومنها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية وما على شاكلتها ممّا يصادفها البشر في كلّ يوم. ومن الزعماء والحكام الذين يتولون زعامة بلدانهم ما يشهد لهم مواطنوهم ومريدوهم بالحكمة والنزاهة والتضحية وسموّ الأخلاق ورفعة النفس في كلّ خطوة من أنشطتهم التي تتيح لهم الحكم باسم الشعب الذي ائتمنهم على تسيير شؤون البلاد والعباد بما يرضي الله وخليقتَه، إلاّ في العراق ومنطقتنا الشرق أوسطية. فالسياسة في هذه المنطقة المتخلفة ما تزال تشكّل للساسة والحكام بؤرةً متلازمة للفساد والرشى ووسيلة لنهب الثروات والأموال وخذل الوطن والمواطن بسبب إصرار رموزها وشخوصها على ترجيح المكاسب الفئوية والمصالح الخاصة التي لا تخدم المواطن البسيط ولا تلبّي احتياجاته وطموحاته الوطنية والمجتمعية بأيّ شكلٍ من الأشكال.
من الواقع القائم المؤلم نستدل على حقائق ووقائع ماثلة للعيان تشير إلى صعوبة تلاقي مصالح الساسة والشعب، إن لم نقل إلى عدم تلاقيها أصلاً في بلدٍ مثل العراق الغارق في أوحال الفساد والنهب والثراء بغطاء الدين والمذهب والفئة والعرق والطائفة وغيرها من المبررات الجهادية والنضالية المستحدثة الخائبة. فطموحات الطرفين وغاياتُهما تسير بخطين متوازيين متقاطعين وغير قابلي الالتقاء مهما صرّح الطرف الأول معربدًا ومخادعًا أو اشتكى الطرف الثاني متشكيًا ومناشدًا. لكنْ، يبقى تصريحُ السياسيّ الفاسد قويًا ملعلعًا وفضفاضًا، فيما مناجاة المواطن المغلوب على أمره وحتى المثقف في صنفه أو الساكت مراعاة لأوضاعه المعاشية لا تلقى آذانًا سامعة من الطرف الأول المتسلّط بسبب صمّها وإغلاق وطء تنظيم نغماتها المضبوطة فقط على وتيرة الفساد والاستغلال والاستهانة والاستخفاف ونهب الثروات وسرقة الأموال والعقارات وكلّ ما يمكن الوصول إليه وبأية وسيلة كانت.
في هذه الأيام الصعبة، كاد التلاقي الوطني ممكنًا على وقع الكارثة التي اصبحت تهدّد حياة البشر وتضع الوطن على أزمة اقتصادية ماثلة إلى جانب أزمتنا السياسية المستفحلة. فقد بلغت نتائج فيروس كورونا نسبًا متقدمة ومخيفة من القلق والهلع والخوف في كل دول العالم بعد متابعة ما يحصل من وفيات قاتلة وإصابات أخذت شكل وباء عالمي بحسب إعلان منظمة الصحة العالمية مؤخرًا، وليس العراق بمنأى عمّا يحصل في العالم. كما أنّ شيئًا من النتائج الاقتصادية الكارثية لهذا الوباء لا يمكن إخفاؤُها أو الاستهانة بها من منظور وطنيّ وقومي وعالميّ. فالعالم مقبل على كساد اقتصادي وكارثة حقيقية بسبب تباطؤ هذا الأخير وضربه لأكبر قوة اقتصادية صاعدة في عقر دارها، الصين، ما كاد يؤهل هذه لقيادة العالم اقتصاديًا في السنوات القوادم بالتنافس مع غريمها الأمريكي الذي حدّ سكّينَه ومازال ينتهز الفرصة للانقضاض عليها بأشكال حديثة ووسائل لا تخرج عن إمكانية تورطه بشيءٍ من الحرب البايولوجية المفتعلة هذه الأيام.
وممّا لا شكّ فيه أيضًا، أنّ الفايروس كاد يصبح عاملًا شاملًا لا يفرّق بين قارة وأخرى، أو بلد وآخر، أو دين وآخر أو طائفة دون غيرها، لا سيّما بعد تحول العالم إلى قرية صغيرة بحسب تعبير البعض. وهذه حقيقة أخرى من شانها تسهيل نقل ليس هذا الوباء فحسب، جميع الأمراض المتوطنة والأوبئة الانتقالية بشتى الوسائل والطرق. وهذه أيضًا، من الهواجس التي لا ينبغي الاستهانة بها. فقد ضرب هذا الفايروس القاتل منطقتنا ووصل العراق وأصابَ أهلَه بالرغم من سذاجة البعض ممّن احتكم إلى الدين والمذهب والأئمة في استبعاد آثار هذا الوباء وحتمية هروبه وخشيته من هذه الجماعة أو تلك الطائفة أو ذلك الدين عبر الاستهانة بانتشاره في بلدان اتهموها أساسًا واعتباطًا بحسب اجتهادهم الديني المتخلّف بالخروج عن مخافة الله وجزاءً عادلاً من ربّ السماء وذلك إمعانًا في استنادهم إلى تخاريف دينية ومذهبية في بعضٍ من تبريراتهم الساذجة وأفكارهم الحاقدة.
تحذيرات رشيدة
كلّ امرئ قد حباه الله الخالق بقلب ينبض بالحياة وبعقل يعمل على الفكر والحكمة وبجسد يتنقل ويتحرك لخدمة حاجات الأسرة والمجتمع والوطن وتأمين سيرة حسنة في السلوك والتعامل مع خليقة الله ومع البشر في الوسط والمدينة والبلد والموقع الذي يعيش فيه. وهذه حكمة الخالق في خليقته. ولكن إذا توقف القلب عن النبض وتجمّد العقل عن التفكير وتحجّرت الروح بحيث لا تصلح للتفاعل مع الواقع، واقتصرت الحركة على مزايا تنهى عنها السماء وترفضها أخلاقياتُ الإنسان السويّ، حينئذٍ نقرأُ على هذا الصنف من البشر السلامَ ونغلق ملفه الإنساني ونحوّلُه إلى حظيرة الحيوانات الهمجية التي لا تعمل بالعقل والذهن والروح الخالصة وتتحرك بعيدًا عن أية حكمة بشرية مغروسة أساسًا في ضمير الإنسان العاقل. هنا المشكلة في ساسة بلادنا. فهُم "أشبه بقومٍ لهم عيون تنظر ولا يبصرون، لهم آذانٌ ولا يسمعون، لهم عقل مطبوع في سجيتهم ولكنهم لا يعملون به" بل تم ركنُه على دروج الفساد والإفساد إيغالاً في كسر وصايا الخالق وإمعانًا في تجاهل مطالب الشعب الصاغر البائس الذي احتار في كيفية العامل مع هذا الصنف من البشر غير السويّ والرافض لسماع صوت الحكمة والعقل وإعمال الفكر والروية في إيجاد مخارج أمينة من أزمة البلاد المستفحلة. فلا هُم يسعون للإصلاح الجذري المطلوب، ولا يدعون غيرَهم كي يؤدي ما في فكره وعقله وخبرته من طاقات قد تتيح لهم ولمَن في أصنافهم العمل على إيجاد السبل الكفيلة بالخروج من المأزق القائم. وكما يقول المثل:" لا هُم يدخلون الجنّة ولا يدعون الغير يدخلها". وما عليهم منذ حين سوى الإدراك والاعتراف بسقوط سلطتهم وزوال شرعيتهم حينما رفضوا سماع صوت الشعب ومالوا إلى قتل المطالبين بالإصلاح والتنكيل بالمتظاهرين، وحين تواترت وتكررت أفعال الاغتيالات والمداهمات والاختطافات والملاحقات المشينة من دون ردع ومحاسبة.
منذ سنوات وأدواتُ النخب الاقتصادية والسياسية والمتطوعون من المثقفين والكتاب في بلد الحضارات والثقافات يغرّدون ليل نهار ويقرعون نواقيس الخطر ويحذرون من القادم الأسود الذي من شأنه تنغيص حياة المواطن في النواحي المالية والاقتصادية بعد تمزيق النسيج المجتمعيّ سياسيًا وديمغرافيًا. ومن المتنبئين مَن طلع علينا قبل حلول العام الحالي 2020 بتنبؤات غير سارة إنْ لمْ تكن محبطة لتنبؤهم بكوارث عظيمة في مطلع العام. وها نحن وسط هذه المعمعة التي شغلت العالم بأسره وشلّت الاقتصاد والسياسة والمجتمع في مجمل أنشطتها. وفي حين، هناك دول حجرت على مناطق واسعة وحظرت أية حركة إلاّ لأجل الضرورات القصوى منها، واتخاذ دول أخرى تدابير كبيرة وغريبة طارئة في محاولة لوضع حدود لانتشار فايروس كورونا الذي تحوّل إلى وباء قاتل والحد من آثاره الاقتصادية على الشركات ورجال الأعمال والمواطنين على السواء، إلاّ أننّا في العراق، ما نزال بعيدين عن اتخاذ الخطوات والإجراءات حتى البسيطة منها لمعالجة تفشي الوباء. فماتزال حدودنا مرتعًا لمواطني الجارة إيران بالرغم من المطالبة بإغلاق جميع المنافذ الحدودية معها، مع علم السلطات بكونها بؤرة لهذا المرض. بل هناك مَن تراوده شكوك بوجود أفعال متعمدة لنشر المرض عمدًا وسط شعب العراق عبر استغلال المواسم والمناسبات الدينية إيمانًا بقول " قلْ لن يصيبنا إلاّ ما كتبه الله لنا".
لقد غرّد كثيرون وناشد عديدون بضرورة عدم الاستخفاف بقدرة الفايروس القاتل على شلّ حركة البلاد والعباد إذا لم تتخذ خلية الأزمة المشكلة بموجب الأمر الديواني خطوات إجرائية تنفيذية حقيقية وليس على الورق فحسب وأمام الإعلام، من أجل إبطاء حركة الوباء ومحاصرة وسائل انتشاره ومنها غلق الحدود كاملة وعزل المصابين والأهم في الظرف الراهن حجب حركة المواطن قدر المستطاع، إن لم نقل الانزواء الطوعي في المنازل وفرض منع التجول إلا للأغراض الطارئة حصرًا والخدمات الغذائية والصحية. فالضرورة تقضي اليوم بالتكاتف والحراك الشعبي الجادّ لمواجهة انتشار المرض بكل الوسائل والسبل، الإجرائية منها والتوعوية والإدارية والمالية على السواء. فقد تتابعت المصائب على البلاد التي تعيش اليوم حالة من الهلع من الوباء في حالة تفاقمه وعدم السيطرة عليه، إلى جانب الخشية من انهيار الموارد بشكل كارثي بسبب اعتماد البلاد على ميزانية ريعية من مبيعات النفط التي تهاوت إلى النصف مع المدّ الوبائي وانحسار الطلب العالمي على الطاقة والتنافس على إغراق السوق بالنفط الرخيص.
لقد قالها صراحة رئيسُ خلية الأزمة في البلاد، وزير الصحة، بافتقار البلاد وأجهزتها الصحية إلى الإمكانيات الضرورية لمواجهة الوباء في حالة تفاقم الأزمة وازدياد أعداد المصابين به واحتمال تفشّيه كما لدى الجارة إيران. فلا بنية تحتية صحية جاهزة ولا أموال متوفرة ولا أجهزة طبية وأدوات متخصصة استعدادًا لأية طوارئ. فالحالة ستكون كارثية، لا سمح الله.

127
هوس السلطة في العراق ذكاء سلبيّ بامتياز
لويس إقليمس
بغداد، في 3 آذار 2020
نقرأ بوجود أنواع عديدة لأوجه الذكاء، منها العلمي والعاطفي والمنطقي والنفسي والطبيعي واللغوي والرياضي والاجتماعي وآخرُها الاصطناعي. وهذا ممّا في طبيعة الخلق وما غرسه الخالق في عقول ونفوس مخلوقاته من قدرات وطاقات للإبداع وتطوير البلدان والشعوب.
ولكن لم يشهد العراق وأهلُه وحضاراتُه على مرّ العصور والدهور وطيلة حكم سلالات الملوك القدامى وسلاطين الحكم المعاصرين منذ تشكيل الدولة العراقية، أعتى وأقذر وأشدّ وطأة من ظاهرة ذكاء خارقة وطارئة تمثّلَت بفساد الساسة وممثلي الشعب بعد الغزو الأمريكي القذر في 2003. فقد فتح المحتلّ الانتهازيّ المراوغ أبوابَ الفساد في البلاد على مصاريعها لطبقة سياسية عجيبة غريبة في سلوكياتها الفاسدة والمفسدة. فكان من نتائجها الكارثية تورّط الشعب لمراتٍ بائتمانها على مصالحه وثروات بلاده في كلّ فرصة انتخابية من دون أن يعي نتائج فعلته السمجة الاعتباطية وغير المبرّرة بإطاعة أولي الأمر عشوائيًا وبعناوين شرعية بغطاء الدين والطائفة والمذهب. ومن المؤسف مقابلة هذه الأمانة الشعبية الساذجة بخيانة من جانب الساسة في كلّ دورة انتخابية وتحوّلها إلى ما يشبه سياق عمل متكرّر من أشكال الاستهانة والاستخفاف بآمال الشعب وتطلعاته بحياة أفضل، لا سيّما حين تحوّلت مناصب الدولة ومواقعها إلى إقطاعيات للفاسدين لأشكال النهب واللصوصية والسرقة في عزّ النهار وحلكة الظلام. كما أنّ الطبقة الحاكمة والمتسلطة بعناوين مشوهة عديدة عبر هذه الأفعال الشنيعة الفاسدة قد أفسدت كلّ شيء في البلاد وثبرت العباد حين سطوها على كلّ شيء. فيما لم تبقي للشعب الصاغر الصابر أيَّ شيء سوى اللجوء لرفع راية الوطن الجامعة في صراخها وعويلها ومطالبها والنزول إلى الشارع عبر مليونيات تنسيقية وطنية سلميّة مستقلّة بعد أن تأكّدت استحالة استعادة الوطن المسلوب من قبل أصحاب الضمائر الميتة من هؤلاء الساسة ومن زعامات الأحزاب وأتباعهم من الذين حكموا وسرقوا وسطوا باسم الدين والمذهب والطائفة والعرق والقومية وما سواها.
 من هنا، كان رفعُ سقف مطالب ساحات الانتفاضة والتظاهر في الوسط والجنوب بضرورة زوال الطبقة الحاكمة الفاسدة مجتمعة مع ذيولها "شلع قلع" بعد أن تحوّل فسادُها وإفسادُها بحق الوطن والمواطن إلى شكلٍ من أشكال "الذكاء" الخبيث الماكر وإلى قاعدة مؤدلجة في التسويف والمماطلة وفي الاستخفاف والاستهانة بمقدرات الشعب وإلى سعيٍ مشرعَن وممنهج لتجاهل أبسط الحقوق الوطنية المشروعة ومطالب الشارع الرافض للمنظومة السياسية برمتها. فقد تأكد بما لا يقبل الشك عدم وجود النية الصادقة والرغبة الوطنية الحقيقية والإرادة السياسية الصالحة لإصلاح هذه المنظومة في شكلها القائم. كما أنّ ما جرى اتخاذُه من استجابات ترقيعية لمطالب أساسية إصلاحية خالية من أية استراتيجية وطنية وخطط تنموية صالحة في واقع الحال السياسيّ، لا يمكن أن تغني أو تسمن أو تصلح الحال الآيل إلى السقوط في أية لحظة وبأية هزّة شعبية متوقعة في قادم الأيام.
ذكاء اصطناعي سياسيّ عراقيّ، ولكن من نوع ضارّ وفاسد
عرفت البشرية في مسيرتها أشكالاً من القيم وأدوات التطور وتبادل المنفعة خدمة للصالح العام. كما أبدعت دولٌ متحضّرة بوضع أفضل السياسات والبرامج في خدمة بلدانها وشعوبها وصولاً لتطوير طاقات مواطنيها من أجل حياة أفضل وأكثر رفاهة في عيش الحقوق والتمتع بالخدمات الآدمية ووضع كلّ المبتكرات في خدمة الإنسان. وآخرها ما بلغ البشرية من تطور في الذكاء الاصطناعي الذي هو حصيلة الفكر البشري وعصارة التقدم في الحياة الآدمية الطبيعية للشعوب التي تحترم مواطنيها وتسعى لتطوير أدواتها وتقديم الأفضل دومًا في خدمة شعوبها.
يوصف أحدث أشكال الذكاء الاصطناعي الذي أخرجته للنور دولٌ متقدمة في الفكر والعلم والتعبير والحريات بكونه تقنية متطورة تسمح للروبوت وأيّ محرك بحثي مبتكر جديد أن يقوم بأداء المهام التي اعتاد البشر على تأديتها اعتمادًا على مفهوم خوارزميّ متقدّم. والهاتف النقال وما سواه من المبتكرات الالكترونية في متناول أيدينا اليوم، تقع ضمن هذا المبتكر الجديد. وهذا دليلٌ على إمكانية تنافس وسائل التقدم الحديثة من أحدث المبتكرات العلمية والتقنية والالكترونية مع القدرات البشرية، إنْ لم تكن متفوقة عليها في بعض معالجاتها وحساباتها.
 ربّاط الحديث، ما بلغه العراق في هذه الأيام، من "ذكاء سياسيّ اصطناعيّ" ضمن آخر مبتكرات أدوات الفساد والتسلطّ وإدارة الحكم منذ 2003، بحيث فاقت التصوّرات من حيث الخبث والخداع والنفاق واستغفال العامة واستغلال المال السياسي والسلاح المنفلت خارج سيطرة الدولة. وكلُّها وسائل تنمّ عن "ذكاء سياسيّ ممنهج متوافق عليه" من عموم الطبقة الحاكمة في كيفية ابتكار لغة مصطنعة لإدامة الفساد، جديدة في شكلها وعرضها وقديمة في صورها ومضمونها. فقد استخدم زعماء الكتل وممثلوهم وذيولُهم من ممثلي الشعب آخر صيحة في ذكائهم الاصطناعيّ الفاسد برفض رئيس وزراء مكلّف، ظاهرُها جدليّتُه وعدم مطابقة تواصيفه مع مطالب الشارع المنتفض، وباطنُها خشيةٌ وخوفٌ ورعبٌ على مناصبهم ومكاسبهم ومصالحهم من مغبة انقلابه عليهم وفضحهم ومن ثمَّ محاسبة الفاسدين منهم بضغط الشارع الساخن.
من المؤسف أن يجري استغلال المؤسسة التشريعية في صراع الإرادات وتقاسم المصالح وتشارك المغانم عبر سياسة ليّ الأذرع بين الكتل المتصارعة. وآخرها ما جرى من سلوكيات متقاطعات في منع تمرير كابينة علاوي بذات الطريقة التي اعتادت ممارستها كتلٌ سياسية متصارعة على النفوذ والمال والسلطة، بالرغم من الثغرات العديدة المشخصة في الكابينة الأخيرة وفي تركيبتها غير المتوازنة. فما ورد على لسان المكلَّف المعتذِر عن التكليف في كتاب انسحابه الموجه إلى رئيس الجمهورية يكفي لإدراك الغايات والمقاصد من حيث "تعرّضه لضغوط سياسية لغرض تمرير أجندة معينة على حكومته" التي ولدت ميتة ولم ترى النور أصلاً. وهذا من الدليل القاطع على ما هو قائم ومؤكَّد في مكنونات الكتل السياسية ونوايا زعمائها وفي تحايلهم واستخفافهم بمواطنيهم وخشيتهم من تضرّرهم ومن فقدانهم أدوات الطائفية والعرقية التي تؤمّنُ لهم ولذيولهم وأتباعهم ما اتسع لهم من وسائل فساد وإدامة لزخم السرقات والنهب المتواصل بشتى الوسائل والطرق والأدوات. وهذا ممّا يوقن ايضًا، بعدم وجود النية الطيبة ولا الإرادة الصالحة لإصلاح البيت الوطنيّ وتهدئة الشارع الثائر ضدّ طغمة الفساد وذيوله ممّن ارتضوا لأنسفهم البقاء في قائمة الفساد والتبعية وفي خانات المذهبية والعرق والطائفة التي إنْ أُجبروا على مغادرتها يومًا تحت ضغط الشارع وبتأثير الانتماء الوطني، لفقدوا جلّ امتيازاتهم وتعرّضوا للسحل في الشوارع والمحاسبة الشديدة وإعادة كلّ ما سلبوه وسرقوه من أفواه الفقراء وحقوق الأيتام والأرامل بغطاء الدين والمذهب والطائفة والعرق. فهذه بالتالي ستكون نهاية "ذكاء" الفاسدين السلبيّ المبتكَر.


128
في الصوم الأربعيني يستذكر المسيحيون جراحات الوطن وآهات المواطن
لويس إقليمس
بغداد، في  27 شباط 2020
دخل المسيحيون في العراق موسم الصوم الأربعيني يوم الاثنين 24 من شهر شباط 2020 (وعند الكنائس اللاتينية يوم الأربعاء المسمّى بأربعاء الرماد)، وسط زحمة الأحداث الداخلية المتشابكة التي تزداد اشتدادًا بوتائر مخيفة لا تبشّر خيرًا. فتواصل الانتفاضة الوطنية وتصاعد حدتها، والمخاوف من اختراق البلاد بحالات الإصابة بوباء كورونا المقلق وانتشاره في ظلّ هزالة الأوضاع وتحدياتها، ومشهد الانقسامات في الوسط السياسي بسبب جدلية اختيار رئيس وزراء لا يحظى بمقبولية الشارع المنتفض مقابل طموحات كتل وجهات سياسية تسعى لضمان حصصها وديمومة مكاسبها ونفوذها في الحكومة المقبلة، كلّها إشارات على كون القادم غير مريح، بل هو سائر نحو الأسوأ لو لم يجري استباق الأحداث وحلّها بروية على نيران هادئة وبحكمة العقلاء والتخلّي عن المصالح الخاصة الضيقة.
وأيًا كانت الأحداث السابقة والراهنة ومهما تكون القادمة منها، مأساوية قاتلة كانت أم تفاؤلية مؤمَّلة، فالمسيحيون في فكرهم وضميرهم وأخلاقهم وحبهم لأرضهم ووطنهم ومواطنيهم همْ بالأمس واليوم وغدّا، لا يغيّرون البوصلة ولا المبادئ ولا وسائل التعايش والعيش مع أترابهم وشركائهم في الوطن. فهمُ في كلّ مناسبة صلاة أو احتفالية عيدٍ يذكرون العراق وأهلَه بالخير والمحبة والدعاء بانفراج المآسي بالرغم ممّا أصابهم من قهرٍ وتهميش ونزوح وهجرة وحقد من فئات وجهات أرادت لهم سوءًا وسعت لطردهم بوسائل وطرق شتى. لكنهم مازالوا متشبثين بأرض الآباء والأجداد وينهلون من جذور حضاراتهم قوة ومنعةً وإرادة في مواجهة المصاعب والمشاكل بعين التسامح والرحمة والمحبة. وهذا سرّ قوتهم وسموّ أخلاقهم وعلوّ مبادئهم وأفكارهم.
صوم الأربعين يومًا في المسيحية يقابله صوم رمضان لإخوانهم في الوطن والعالم من المسلمين وبتسميات غيرها لدى شركائهم الآخرين في الإنسانية. وهذا الصوم الذي يسبق عيد قيامة سيدنا المسيح مرورًا بما يُعرف بأسبوع الآلام، يُفتتح عادة باحتفالٍ خشوعيّ جميل يذكّر أتباعَ المسيح ببدء حقبة زمنية طقسية ممزوجة بالإكثار من الصلاة استعدادًا لغسل الخطايا والتوبة ونيل رحمة السماء. يتخلّل الاحتفالية صلوات وطلبات لرتبة طقسية يتمّ فيها مسح جبين المؤمنين من الحضور بالزيت المقدس المعروف في الكنائس، شرقية كانت أو غربية، دلالة على المصالحة مع الله الخالق وبدء مرحلة جديدة من حياة أكثر تقرّبًا منه والحوار معه بدلالة الابن الضال التائب إليه بعد حياة المعصية والانجراف وراء ترّهات الدنيا ومظاهرها بكلّ ما تحمله من رذائل الكذب والنفاق والخداع والمراءاة وما سواها من أشكال الفساد والإفساد في المجتمع.
 أيًا كانت الوسائل والبدائل لدى أتباع المعتقدين المسيحي أو المسلم أو غيرهما من أتباع الديانات الأخرى الشقيقة في الوطن والبشرية، إلاّ أنها جميعًا تلتقي عند منبع مشترك يدور حول نوايا حسنة وإرادة طيبة تصلح للنفس البشرية كي تستريح من أتعاب الحياة وشقاء الجسد والكفاح المتواصل من أجل كسب لقمة عيش شريفة وسلوك حياة كريمة تليق بأبناء الله والإنسانية وترضي خليقته الحسنة. فالصوم فيه من المنافع والفوائد ما يعجز المرء عن تعدادها إذا أمضاه الإنسان الضعيف في تنقية النفس وهداية الروح وصفاء القلب والمصالحة مع النفس ومع الله الخالق ومع البشر إخوته في الخليقة. وإكثارُ الصلاة فيه نعمة وبداية طريق الهداية لحجز موقع في السماء بين الأخيار والصالحين قبل فوات الأوان. تقول إحدى التراتيل القديمة بهذا الموسم:
هذا زمانُ الصومِ            قُمْ وانحُ الصلاح
وَدَعْ دواعي الاثمِ          واقصدِ الإصلاح
وقلْ ولا تخشى ربي      أن تغتفرْ ذنبي حسبي

أصول متقاربة لأصوام أتباع الديانات في العالم
الصوم الأربعيني أو ما يُعرفُ أيضًا بالصوم الكبير، له أصولُه وجذورُه في عمق التاريخ البشري وفي العديد من الديانات القديمة، ومنها استمدّته أيضًا الديانات الإبراهيمية التوحيدية بكلّ تأكيد. نقرأ في الأدبيات العالمية التاريخية مثلاً، نزوع البشر إلى الانقطاع عن ممارسة معينة مرغوبة كسرًا للإرادة والشهوة، سواءً في الملبس أو الطعام أو الكلام أو أيّ سلوكٍ غير طبيعيّ أو غير مقبول يؤذي النفس البشرية ويوغل في غيّها، ومنها الشهوة الجنسية كبحًا للرغبة المفرطة. فقد كان الصوم، كما يبدو، من الأدوات التعبدية لدى شعوب الأرض كسبًا لرضى الإله أو السيّد الأعلى المعبود جهلاً أو إيمانًا. كما كان أداة لترويض النفس والتعبير عن الحاجة إلى شيء من الهدوء النفسي والفكري، وحتى إلى الحماية من المجهول أو خشية من الكوارث.
هناك أشكال لأصوام متعددة في بعض الديانات الوثنية قد تبدو غريبة من حيث الشكل والغاية وكيفية أداء هذه الشعيرة، كما هي الحال لدى الهندوس، حيث تصوم المرأة مثلاً طلبًا لسلامة زوجها وصحته وإطالة عمره. وتشترك البوذية أيضًا بأدوات الصوم الأساس المستند إلى الانقطاع عن الطعام لفترات زمنية معينة، إلى جانب ضرورة الانقطاع عن العمل طيلة وقت الصوم. أما في الديانة الإيزيدية، فإنّ الصوم عمومًا، لا يختلف كثيرًا من حيث المبدأ والغاية والوسيلة عن صوم أتباع الديانات في العراق والمنطقة إلاّ بوجود الرغبة في تعذيب الذات تقرّبًا من الله وكسبًا لرضاه. وعلى منوالهم، يصوم الصابئة عن أنواع من الطعام والمشرب وأعمال يومية اعتادوا عليها في حياتهم مضافًا إليها الصوم أيامَ الأزمات والكوارث الطبيعية.
بحسب الشريعة اليهودية، صام موسى النبي مثلاً أربعين يومًا استعدادًا لتسلّم شريعة العهد القديم. ومثله فعل المسيح بحسب إنجيل لوقا، عندما صام هو الآخر أربعين يومًا وأربعين ليلة وهو في البرّية عندما عاد من الأردن، بعد أن جاعَ وجرّبه الشيطان بشتى الحيل ومغريات الدنيا، ولم يستطع النيل منه. بل كان أحد أجوبته القاطعة: "مكتوبٌ أن لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ" (لوقا4:4). في حين يمثل شهر رمضان في الإسلام، زمنًا للطاعة والغفران وأعمال الرحمة والخير والاستزادة من فروض الصلاة، مع اختلاف في وجهات النظر فيما يعقب ساعات الصوم والإكثار بتناول سلالٍ مختلفة من الطعام ما لذّ وطابَ ومن دون حدود!
اللّه لا يقبل صوم المرائين والمنافقين
نقرأ في إنجيل (متّى: 16:6-21): "مَتَى صُمْتُم، لا تُعَبِّسُوا كَالمُرَائِين، فَإِنَّهُم يُنَكِّرُونَ وُجُوهَهُم لِيَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّهُم صَائِمُون. أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُم قَدْ نَالُوا أَجْرَهُم. أَمَّا أَنْتَ، مَتَى صُمْتَ، فَٱدْهُنْ رَأْسَكَ، وَٱغْسِلْ وَجْهَكَ، لِئَلاَّ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صَائِم، بَلْ لأَبِيكَ الَّذي في الخَفَاء، وأَبُوكَ الَّذي يَرَى في الخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيك."
كلام بليغ عن حقيقة الصوم الصحيح وحق الصائم بإزاء ربه وحقّ المجتمع عليه، طالما أضحى الصوم من الظواهر بل من المظاهر الاجتماعية التي يتغنى بها بعض الناس ويتفاخرون بإقامة المآدب الفاخرة وتقديم أنواع الأطعمة تبجحًا ورياءً وتكابرًا زائدًا لا معنى له بحيث يُفقده الهدف والغاية عبر هذه الوسائل المظهرية الخادعة. في حين تكمن الغاية الأساسية في الصوم الصحيح والحقيقي في كبح جماح الرغبات المفرطة غير الضرورية، إن لم نقل القريبة من شهوات حيوانية غرائزية لا تليق بالبشر العاقل.
في المسيحية بعد تأوين النصوص مسايرةً مع تطور العصر وتقدّم البشرية ومشاغل الناس بأمور وقضايا تختلف عمّا كانت عليه البشرية من حياة بدائية بسيطة، لم يعد يمثل الانقطاعُ عن أنواع الطعام فحسب هو الأداة الأساسية في تقويمه وفي الحكم على تقرّب الانسان من خالقه بهذه الوسيلة، بالرغم من بقائها وعدّها للبعض من الكنائس الرسولية التقليدية ركنًا أساسيًا في كظم الذات وترويضها وفي بناء الشخصية وكبح الإرادة الجامحة. فبسبب ظروف العصر ومشاغل الناس وتعدد اهتماماتهم في قطاعات مهمة تتطلب فكرًا صاحيًا وعقلاً مرتكزًا وقدرة بدنية في العطاء والعمل، جعلته بعض الكنائس ولاسيّما الغربية منها اختياريًا للمؤمنين. والحكمة في هذا التقدير تعود لكون الصوم علاقة شخصية بين الخالق وخليقته، بين الإله والإنسان الذي يقدّر هو بنفسه مدى حاجته للصوم والانقطاع عن الطعام. فهو اليوم مدركٌ تمامًا بوجود وسائل وأدوات أخرى كفيلة بتعويض عدم المقدرة في الانقطاع عن تناول الطعام للأسباب التي ذكرناها وغيرها من حالات المرض وأخرى تساير الركب والعشرة في تجمّع أو جماعة أو مجتمع. حينئذٍ يكمنُ سموّ الروح عنده ليس بالانقطاع عن الطعام، بل بتحرير النفس من أدناس الفكر الشرّير والابتعاد عن العمل غير الشريف وعن الغش في العمل وعدم التحايل في الوظيفة وابتزاز المراجِع في الدائرة وسرقة المال العام والخاص وفي حفظ العين من النظرات الشهوانية غير الشريفة والكف عن الخيانة في كلّ شيء ومنها أداء الأمانة للناس ولمستحقيها وما سواها من أعمال الخير والمحبة والرحمة. هذا هو جوهر الصوم في المسيحية، وما سواه أدوات مادية تقليدية شكلية تبقى في ميزان التقدير بين الإنسان وربه. وفي هذه الفكرة تكمنُ قمةُ الحكمة في تكرار المسيح ما أورده سفر تثنية الاشتراع من أنه " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" (تثنية 8:3)
في الختام، لا بدّ من التذكير ببقاء الصوم والصلاة من أدوات التقرّب من الله مدعومًا بأعمال الرحمة والخير والمحبة والصدقة ومساعدة المحتاج. ولكن من المفضّل أن يتمّ ذلك بعيدًا عن أشكال الدعاية والتباهي أو المقايضة مع الله بصفة تجارية. وإلاّ، حينئذٍ يفقد الصائم أجرَه وينقلب عليه وبالاً ونقمة من ربّه ونقدًا سالبًا من المحيطين به، وحتى من مقربّيه الذين يسايرونه في العلن، ولكنهم يكنّون له الحقد والكره في السرّ والخفاء من حيث لا يعي ولا يدرك. والله وحدَه عالمٌ بأسارير القلوب ونوايا البشر. فهو أدرى بنوعية البشر الذين خلقهم.
يا رب، بجاه الصوم المقدس الكبير ورمضان المبارك القادم قريبًا، احفظ العراق وأهلَه! واهدِ مَن يسوسُه ويحكمُه وألهمهُم الشعورَ بقيم الضمير وحقّ الوطن عليهم وعلى غيرهم! واجعلْ مِن كلّ صلاة ودعاءٍ وطلبةٍ نورًا مشرقًا وضياءً هاديًا وبلسمًا شافيًا لجراح مثخنة طالت وتأبى الاندمال! واهدِ الساسة الخارجين منهم عن طريق الحقّ والضمير والوطنية إلى سواء السبيل والعودة بالبلاد وبشعب الرافدين الحضاري إلى الأصالة والجذور وقيم الحضارة والعيش المشترك التي تطبَّعَ عليها، ولا تجعلْ من تلوّن البعض قياسًا ولا من تقلّب غيرهم قاعدة ولا مِن فساد كثيرين منهم دستورًا. أللّهمّ أنتَ المجيب الرحيم. آمين.
.


129
كلٌّ يبكي على ليلاه
لويس إقليمس
بغداد، في 12 شباط 2020
ممّا لا شكَّ فيه أنّ الوضع السياسي المربك في عموم البلاد واستمرار الاحتجاجات الشبابية الوطنية الواعية وما تتعرض له هذه الأخيرة من قمع واستخفاف بقدراتها والرهان على زمن الوقت بتلاشيها واختفائها قد نالت حيزًا واسعًا من آذان صاغية وانبهارًا بطاقاتها المتجددة وبتفاعل أوساط واسعة من الشعب المغلوب على أمره مع ثبات صبرها وإصرارها. هذا من دون تناسي أو تجاهل ما عنته لأوساط عالمية ودول وشعوبٍ أشادت بجرأة الشباب الذين فتحوا صدورهم العارية بوجه الهجمات القمعية الشرسة التي خلت من أية رحمة من الطرف الثالث بكلّ التواصيف السمجة التي يستحقها هذا الأخير، سواءً بتواطؤ أو صمت خجل من السلطات الأربع التي تحكم قبضتها على مقاليد السلطة أو من أطراف ومجاميع أخرى مسلحة منفلتة متغلغلة في عمق هذه السلطات حفاظًا على مكاسب الأسياد وامتيازات الفاعلين من الذيول والأتباع حتى درجات متسلسلة في الانتماء والتبعية.
إنّ توزّعَ الرؤى بين مؤيد ورافض أو بين متفائلٍ ومتشائم إزاء ما يحصل في المشهد السياسيّ منذ الانتفاضة التشرينية التي دخلت شهرها الخامس من دون كلل ولا ملل، تعود في بعضها لمدى ومستوى التعاطف الإيجابي الكبير أو السلبيّ الضعيف، الداخلي منه والخارجي المرتكز على مفهوم الحق الطبيعي لجموع المنتفضين الباحثين عن وطن مفقود، أو للرفض الشامل أو الجزئيّ من الأطراف الحاكمة التي رأت فيها انتقاصًا لكيانها وتهديدًا لمصالحها ومكتسباتها وزوالاً لامتيازاتها ومَن يقف وراء أجنداتها البعيدة عن أية معطيات وطنية صادقة. لذا راح مَن على رأس السلطة ومن الأتباع المغرّدين مع السرب الطاغي يسعون للانتقاص من أهداف الانتفاضة التي انقلبت ثورة شعبية مع توالي الأيام والأحداث وتصاعد الرفض الشعبي حيال الانتهاكات الخطيرة التي اتهمت بها السلطة ومعها الميليشيات والجماعات المسلحة المنفلتة التي تعمل وفق أجندات سواءً بعيدًا عن أعين السلطة أو بالنيابة عنها في الكثير من الأحيان.
أمّا العاقل والواعي سواءً من عامة الشعب أو من أركان السلطة ذاتها ممّن أصبحوا يدركون في السرّ والعلن تعاظم النقمة على أحزاب السلطة الفاشلة منذ 2003، والذين أيدوا هذه الحقيقة الصارخة في "مصارحات" جماهيرية وحزبية في مناسبات عديدة، فوجدوا أنفسهم بين نارين، نار الخشية من غدر محتمل من أية جهة أو شخصٍ مندسّ، ونار الصمت والسكوت عن الحق والوقوع لاحقًا بدمغة الشيطان الأخرس الساكت عن الظلم والقهر والنفاق. وفي هذا قصاصٌ أدبيٌّ من لدن السماء العادلة وآخَر طبيعيٌّ من المظلومين والمقهورين حين يكتشفون الحقائق ويعلنون المستور ويفضحون ما في أسرار الغافلين والمُجالسين والمواربين والمجاملين على حساب الحق.
مواقف دولية
في الشأن ذاته، ولكن على صعيد اختلاف الرؤى أو تطابقها في المواقف الدولية التي تعبّر عنها دولٌ ومنظمات وشعوب وشخصيات مرموقة في مجتمعاتها، لا أعتقد بوجود تناقضات أو اعتراضات إزاء ما يجري في البلاد وبوصفها مجرّد زوبعة في فنجان أو مجرّد حركة صبيانية أبطالُها شباب ثائر باحث عن مكاسب أو مناصب أو وظائف، كما أُشيع في أوساط أحزاب السلطة الحاكمة. فما كان من هذه الأخيرة إلاّ أن استعجلت الأمور واتخذت قرارات فورية غير مدروسة ينقصها التخطيط الحكيم والاستراتيجية في التنمية والبناء والرؤية الصائبة في معالجة الخلل والأزمات ولاسيّما تلك المتعلقة بمعالجة مشكلة البطالة، في محاولة منها لامتصاص مؤقتٍ لنقمة الشعب بحسب المعهود والمأمول. ولكن هيهاتِ! فقد تجاوزت مطالب المنتفضين مبدأ البحث عن لقمة العيش الكريم والخدمات العامة باتجاه البحث عن وطن أسير ومستباح عندما لم تتجاوب أركان السلطة مع تلك المطالب البسيطة المشروعة في حينها عندما كانت بعدُ في بداياتها الأولى تمثل الحاجة والعوز والمبتغى. فعندما لم تجد تلك المطالب آذانًا صاغية ولا استجابات صحيحة استهانةً بها وبأصواتها المستغيثة، حينئذٍ تضاعفت المطالب لاسيّما مع الرؤى التنويرية للمنتفضين وتشعّب أدوات انتفاضتهم واتساع رقعتها لتشمل طبقات الشعب كافة وليلتحق بصفوفها نقابات واتحادات ومنظمات وجماهير طلابية من مختلف المستويات حتى شملت إضرابات عن الدوام واعتصامات شعبية وخطوات تصعيدية بمنع الحركة وصدّ الانتظام في الدوام حتى الساعة. 
إلاّ أنّ ما يُؤخذ على مواقف الخارج من هذه الجهات، سواءً كانت حكومية أو دبلوماسية أو "منظماتية"، أنها لا تخفي مجاملاتها للحكومة النافذة وشخوصها المؤثرين في سياسة النظام ومن ثمّ نفاقها الطبيعي في مواجهة الطرف الآخر حتى لو كان ذلك على حساب الشعوب المقهورة ودماء أبنائها، كما يجري هذه الأيام في ساحات التظاهر حيث يُقتل المتظاهرون بدمٍ بارد سواءً بأدوات الدولة وسلطتها أو على أيدي ميليشيات السلطة وذيولها في الدولة العميقة من قبل الخارجين عن السيطرة. وقد يكون ذلك منطقيًا من وجهة نظر دبلوماسية بحتة تلافيًا لأية منغصات سياسية ودولية أو تحاشيًا لفقدان مصالح متغلغلة بين أطراف السلطة وجهات تقف وراء مثل هذه المواقف المجاملة والمتخاذلة. ولكنْ، ممّا لا شكّ فيه أيضًا أن استقرار الوضع السياسي وسلامة أرض العراق الذي يعتبر حلقة الوصل بين الشرق والغرب، ينبغي أن تشكّلَ أيضًا عناصر أساسية في سياسة الدول الإقليمية والدولية، ومنها الولايات المتحدة الراعي السياسيّ الأول للنظام الطائفي الفاشل القائم منذ احتلاله للبلاد واستقدامه شخوصًا غير جديرين بالحكم قدموا على ظهور دباباته في 2003. ولعلَّ من جملة ما تُؤخذ عليه أمريكا أيضًا، رعايتُها لأشكالٍ من الإرهاب الذي ضرب البلاد وآذى العباد وجعلها أسيرة الخراب والدمار وأشكال الفساد بهدف إبقاء العراق بلدًا ذليلًا خانعًا غير مستقر تلبية لمخططات شيطانية وتأمينًا لمصالح قومية.
شهادات للدعاية والإعلام
في ضوء المستجدّات والقراءات القائمة حول الوضع الحالي والمشهد السياسي بالعموم، نلاحظ ونقرأ ونسمع ونطّلع على تصريحات دبلوماسية رسمية وشخصية تحمل في مضامينها شهادات إدانة واستنكار بحق ما يجري على الأرض من حالة انفلات أمنيّ وجرائم قتل عمد وأخرى باستخدام قوة مفرطة ضدّ محتجين سلميين عزَّل يُقتلون على أيدي أجهزة السلطة أو أمام مرأى منها، ومثلُها حالات اغتيال وقمع ناشطين وإعلاميين بسبب حرية التعبير. ونحن نرى أن مواقف بعض الدول الإقليمية والعالمية وما يصدر من تصريحات حتى لو كانت نارية وصارخة بشأن الأزمة الراهنة، ليست بما فيه الكفاية إنْ لم ترافقها ردود أفعال حقيقية وإجراءات رادعة من عموم المجتمع الدولي ومن المنظمة الدولية بالذات. فهذه الأخيرة، عليها واجبُ الاهتمام والنظر في مشاكل الشعوب والسعي لحفظ استقرارها وأمن أهلها وسلامة مواطنيها المهددين من قبل السلطات التي تحكمهم، كما يحصل في العراق الذي يُحكم وفق نظام محصصاتي توفيقي طائفيّ فاسد لا يكترث لحقوق الشعب وإرادته ومطالبه.
يمكن القول أيضًا، أنه لغاية الساعة، لم نشهد تحركات حقيقية وإجراءات رصينة لوأد الفتنة القائمة منذ احتلال البلاد في 2003 عبر إغراق البلاد في مستنقع آسنٍ بسبب سماح راعي العملية السياسية بفساد السلطة. ويأتي هذا الموقف الهزيل من جانب البيت الأبيض وحلفائه بالرغم من انقلاب السحر على الساحر وتنمّر ساسة الأحزاب الحاكمة وانقلابهم عليها ونكثهم للعهد معها وارتمائهم عوضًا عنها في أحضان الجارة إيران، عدوتها اللدود ظاهرًا والمتشاركة بتقاسم المغانم الوطنية مع نظامها سرًّا. بل هناك من الدول مَنْ تستغلّ الأزمة من أجل ترسيخ مكاسبها القومية الخاصة ولو على حساب دماء الأبرياء في مشاهد إعلامية ودعائية كسبًا لودّ أنصارٍ جدد لأحزاب تعمل لصالحها أو لحكومات أو أشخاص نافذين في تلك الحكومات ممّن يسعون ربما لنيل مناصب مرموقة في بلدانهم لاحقًا على حساب المتاجرة بدماء مئات الشهداء وآلاف الجرحى الذين ضمّخوا بدمائهم الزكية أرضَ العراق في ساحات الشرف والكرامة حبًا بالوطن وأهله. فحقًا صدق القول: كلٌّ يبكي على ليلاه!
 إنه وبالرغم من قناعة مسؤولي هذه الدول أو المنظمات الدولية باتساع رقعة الاحتجاجات من منطلق وطنيّ بحثًا عن وطنٍ مفقودٍ متألمٍ جريحٍ صابرٍ على الضيم والظلم وقهر الأسياد، إلاّ أنهم لم يصلوا إلى اليقين التام بما يمثله هذا الوطن لهؤلاء الفتية الأبطال من ضمير حيّ في ظلّ الصحوة الوطنية الجديدة. فالوطن عند هؤلاء يبقى الأغلى، والتضحية بالنفس لأجله ولأجل الشعب ولأجل الزوجة والأمّ والأخت والضنى والأب والحبيبة تبقى هي المعيار الجديد في العيش الكريم وعزة النفس والإباء وفي رفض الذلّة التي يفرضها عليهم شخوصُ السلطة بمرأى ومسمع من المجتمع الدولي المتفرّج خجلاً. وعلى هذا الأخير أن يعي حقيقة المجتمع العراقي في طباعه وثوراته: متقلّبًا في عواطفه، ثائرًا في عنفوانه، مثابرًا في جبروته، صابرًا في نكباته، جريئًا في خطواته، كاسرًا في ردّه، مضحيًا بدمائه من أجل رفعة بلده وكرامته وحبه للأرض وخضرتها، وإباء نفسه ومَن يتعلّق بها من أهلٍ ومحبين وأولياء صالحين.
تقييم لخطورة المشهد السياسيّ
من هنا، كان ينبغي أن تعي الأمم والشعوب والدول المتفرّجة على ما يجري من جرائم في العراق ومن عدم استقرار بسبب هزالة النظام السياسي القائم، وأن تقف على حقيقة حجم المعضلة التي تحوّلت إلى أزمة جدلية غير قابلة التفاوض على المصير والمستقبل إلا في الحوار الجادّ البنّاء الذي يتيح فقط لتغيير سلسٍ في تسليم السلطة إلى ثوار الانتفاضة الوطنية وفق مقاييس يتم الاتفاق عليها من دون إراقة دماء إضافية وحقنًا لأرواح زُهقت ظلمًا وقهرًا. فلا مجال بعد ولا متسع للكلام عن مفاوضات لا تأخذ بنظر الاعتبار الصحوة الوطنية الجارفة لكل فساد السنوات الست عشرة المنصرمة ومطالبها المشروعة التي شرعنها الشارع المنتفض ورسّخَ لها العقلاء بسلميّتهم وحكمتهم في مواجهة طاغوت السلطة وأذيالها ورموزها، باستثناء الشرفاء فيهم من الذين آثروا النأي بالنفس والصمت لاعتبارات معينة تفرضها الظروف زمانًا ومكانًا ووظيفةً وما سوى ذلك. وكان على هذه القوى الخارجية أن تكون مؤثرة أكثر وأن تصطفّ كلّيًا مع رغبات الشعب ومطالبه المشروعة لا أن تتفرّج وتسوّف وتماطلَ كما تفعل أحزاب السلطة ومثلُها السلطاتُ الأربع ومَن يواليها في الشكل والأداء والمنفعة. ولعلَّ من نتاج هذا التخبّط والمماطلة وتجاهل المطالب وعدم الإقدام على اتخاذ خطوات وإجراءات دولية صارمة بحق طغيان أحزاب السلطة وشخوص الدولة العميقة، ما صار وحصل بتكليف رئيس وزراء جدليّ بتحمّل أعباء الحكومة القادمة خارجًا عن إرادة المحتجين الذين سبق وأن أعربوا لرئيس الجمهورية عن تواصيفهم للشخص المقبول وطنيًا. لكنه خذلهم هو الآخر!
أمّا على الصعيد المحليّ، فما تزال الكتل السياسية والأحزاب الرئيسة متمسكة بحصصها العنكبوتية وإقطاعياتها التي تدرّ ذهبًا وعسلاً ونفوذًا ضاربةً كشحًا كلَّ الاعتبارات الوطنية والخسائر البشرية في صفوف الشباب المنتفض الرافض لكلّ أشكال الفساد الإداري والمالي والمتصدّي لناهبي ثروات البلاد والمستخفّين بالعباد وحقوقهم. ولا نية لهؤلاء كما يبدو لتغيير هذا النهج الذي دمّر الوطن وفسخ نسيجه الاجتماعي وجعله أسيرًا مستباحًا لكلّ مَن هبَّ ودبَّ من دول الجوار والعالم، ناهيك عن سطوة الجماعات المسلحة التي تعيث في أرض الأنباء والصالحين فسادًا، دولةً عميقة داخل دولة هزيلة ليس لديها من مقوّماتٍ ترفعها لمصاف دول العالم المتقدّم. فمازال العراق يقف في آخر صفوف دول العالم تخلّفًا في التنمية والتعليم والتربية والخدمات والمجتمع والتقييم الأدبي والأخلاقي، أللّهمّ إلا بتقدّمه على غيره في صنوف الفساد والرشى وترويج المخدرات والممنوعات والقتل والقمع والترويع.
وأخلص بالاستشهاد بما قاله أياد علاوي، الشريك الأصيل في الحكومات المتعاقبة وأول رئيس للوزراء بعد الاحتلال وزعيم كتلة مهمّة ناصرَ المنتفضين جهرًا ومن دون مجاملة، واتهم علنًا دولاً ومنظمات وحكومة تصريف الأعمال الحالية وأجهزتها الأمنية بالقول: "‫إنّ صمت الحكومة وأجهزتها الأمنية عمّا يجري بحق المتظاهرين، وعدم تحركها لإيقافه يؤكد ضلوعها أو تواطؤها وموافقتها، ولن يعفيها من المساءلة القانونية،‬ كما أنّ تكليف رئيس وزراء بعيدًا عن الجماهير غير صحيح، وبتأييد من جهتين سياسيتين لا تمثلان العراق جميعًا بل جهات مسلحة، وأن الحكومة ومجلس النواب الحاليّين لا يمثلون الشعب العراقي، بل المتظاهرون هم مَن يمثلوه، وأنّ ممثلة الامم المتحدة ب‍العراق، جينين هينيس بلاسخارت لا تفعل ولا تعني شيئا، وهي تعمل الآن للحصول على منصب رئيس الوزراء في بلادها، هولندا".  ‬‬‬
أمّا نحن المتكلين على رب السماوات والأرض والمؤمنين بما ستمطره علينا السماء ونجومُها من فرحة البشرى الكبرى ومن فرَج ورحمة طالَ انتظارُهما، فجلُّ أملنا وعظيم سرورنا أن نضمُّهما معًا إلى ما ينتظره الشرفاء في الوطن وخارجه من ثبات وعزيمة شبان الانتفاضة التشرينية في وقفتهم الوطنية كي نشهد جميعًا للحقّ ونبصر النورَ الصريح في عراق جديد منفتح ومختلف، حين تتحقق الحرية الدينية والمجتمعية وتنتصر حرية التعبير والرأي على جبروت القمع والتهميش والترويع، ويحلّ السلام والاستقرار في ربوع الوطن الجريح بدل قرقعة السلاح والحرب بالإنابة وعوض نفاق الساسة والمتسربلين بالدين ودجاليه من أرباب صفقات الفساد. ومهما طغى الطغاة واستبدّ العتاة، ف"الكلمة الأخيرة لن تكون للموت، إنما للسلام وللحياة"، كما قالها المرجع الدينيّ المسيحي الوطني رأس الكنيسة الكلدانية غبطة البطريرك لويس ساكو.


130
مساءلة وعدالة في زمن "اللاّوطن"
لويس إقليمس
بغداد، في 20 كانون ثاني 2020
لا أعرف تمامًا من أين وكيف ولماذا تمّ استقاء مفهوم "المساءلة والعدالة" بعد الحملة الجوفاء العارمة المسمّاة "اجتثاث البعث" التي ضربت وآذت شرائح كبيرة بريئة في المجتمع العراقي إثر إسقاط النظام السابق من قوّة الاستكبار العالمي الأمريكية المقيتة واجتياح السيادة العراقية بطريقة أقلَّ ما يُقال عنها أنها كانت ظالمة وقاسية ومهلكة للشعب العراقي وأرضه وثروته وعرضه. وجميعنا نعلم كيف أصدر الحاكم المدني سيّء الصيت "بريمر" قانونه المثير للجدل في نيسان 2003 حول اجتثاث عناصر حزب البعث الحاكم بعد سقوط هرم السلطة واحتلال البلاد وبدء التلاعب بمقدراته بفتح جميع الأبواب والنوافذ الممكنة لتكون مشرعة وبلا حدود لشرعنة نهب ثروات البلاد والتفرّد بحكم العباد على طريقة الكاوبوي.
 ومع قبول فكرة حظر حزب البعث شعبيًا حينذاك باحتوائها على ملامح إيجابية معيّنة في ضوء التأكيد في قانون الاجتثاث المذكور على عدم استنساخ الصورة الدكتاتورية وخلوّ أهداف ومبادئ الكيانات الحزبية الجديدة الحاكمة من أية نوازع أو غايات عنصرية وتطهيرية وطائفية وعرقية، إلاّ أنّ الذي حصل لاحقًا ولغاية اليوم لم يكن سوى توليفة من شيء شبيه بالتطهير الطائفي والسطو العرقيّ والمذهبي على السلطة ناهيك عن سيطرة الأحزاب والكيانات على مقدرات البلاد حينما أحكم مثلّث السلطة سطوته عليها وتقاسمت أحزابُها وأمراؤُها ومَن والاهم وسار في دربهم العاثر المغانمَ والمكاسب. فالجميع وباعترافٍ واضح من سادة هذه الكيانات وأحزابها وأتباعها وممثليها في السلطات الأربع وما يلحق هذه السلطات من ذيول وأتباع، قد اقتطعت حصتها من الكعكة غير خجلة من فعلتها الاثمة، إلاّ أللّهمّ نفرٌ ممّن استعان بالله وراجع الذات وأبدى ندمًا ظاهريًا غير مكتمل الجوانب والتطبيق. فالحال باقية لغاية الساعة كما كانت بالأمس قبل أكثر من 16 عامًا خلت، بالرغم من توارد النصح ونداءات التحذير من جانب المرجعية الشيعية الرشيدة العليا وغيرها من المرجعيات الدينية الأخرى التي طالما حذّرت من مساوئ هذه السلوكيات ومن انزلاق البلاد والعباد إلى ما لا تُحمد عقباه بعد استشراء أنواع الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة المرتهنة بأحزاب السلطة. وآخر تلك النصيحة ما نطقت به حكمة السيد السستاني بشخص ممثله عبد المهدي الكربلائي عن فضيلة "الصدق والأمانة" لدى الإنسان في عمله وسلوكه وبكون كثرة الصوم والصلاة ليست معيارًا لفضيلة الإنسان والمجتمعات.   
اليوم، تعود هذه المفردة الجدلية إلى الواجهة من جديد، ولكن بصناعة أممية مختلفة في المقصد والمنهج، ليس على لسانٍ عراقيّ بل نطقت بها الممثلة الأممية بالعراق "جينين بلاسخارت" في تصريحها الصحفي ليوم 20 كانون ثاني 2020، وفيه تحثّ على "تجديد الجهود من أجل الإصلاح" وتحذّر من "مناخ الخوف" القائم حاليًا في الشارع العراقي، وتعدّ "المساءلة والعدالة للضحايا أمرًا حاسمًا لبناء الثقة والشرعية والقدرة على الصمود". وهذا أبلغ الكلام والردّ الشافي من مسؤولة أممية تتحدث عن مفردة تحقيق مبدأ "المساءلة والعدالة" في ضوء الفوضى التي تعيشها البلاد. ومثلما جرى ومازال يجري تطبيق قانون ما يُسمّى بالهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم 10 لعام 2008 بحق مواطنين عراقيين، جلّهم أبرياء من أعمال القتل والفساد من الذين ساقهم القدَر ليكونوا جزءًا من منظومة النظام السابق، هكذا ينبغي أن يطال ذاتُ القانون كلّ مَن خرقَ وبخسَ وقتلَ وخطفَ وهدّد واعتدى ونالَ من حقوق أهل البلاد منذ السقوط ولغاية الساعة. فما حصل منذ 2003 من نهب ثروات البلاد وسرقة قوت الشعب البائس بغطاء الدين والمذهب وبالنفاق والكذب وخيانة الأمانة وغياب الصدق في صون البلاد وحكم العباد لا يقلّ جريمة عمّا يُدّعى على النظام السابق باقترافه. فما جرى من إفراغ خزينة العراق في كلّ موازنة سنوية وما عاناه الشعب الحائر في أمره من سوء حكم ساسة الصدفة وما يلاقيه الثوار في ساحات الشرف والاعتصام في بغداد ومحافظات الجنوب المظلومة، يستحقّ تطبيق ذات القانون ضدّ أركان السلطة الحاكمة وأتباعها وذيولها من دون تمييز ولا استثناء ولا مواربة. فالجميع مثل الجميع مشاركٌ ومؤازر ومساندٌ لحالات الفساد والقتل والخطف والانفلات الأمني الجارية هذه الأيام منذ انفجار "الانتفاضة التشرينية الوطنية" التي ثارت ضدّ فساد السلطة وساسة الصدفة والانفلات الأمني من جانب عصابات مرتبطة بالسلطة وأحزابها ونقص بل انعدام الخدمات في مناطق كثيرة من البلاد وزيادة البطالة التي عالجتها الدولة بطريقة عشوائية تفتقر إلى أبسط أدوات ومبادئ الشفافية وفي غياب استراتيجية واضحة لمعالجة مواقع الخلل. فالسارق والقاتلُ والخاطفُ والمنافق والكاذب والخائن الأمانة والفاسدُ من أركان السلطة وأتباعها يستحقون قصاص الشعب، ومثلهُم الساكتُ عن أفعالهم وسلوكياتهم السالبة، مشارك في ذات الجريمة بطريقة أو بأخرى. و"قلْ كلمة الحق ولا تخف لومة لائمٍ". فجزءٌ من هذا الكلام منقول عن ساسة عراقيين مازالوا في السلطة وقد حذروا مرارًا وتكرارًا في السرّ والعلن من مغبة حصول أعمال سحلٍ في الشارع بحق أركان السلطة ما لم يتم تحقيق مطالب الثوّار حقنًا للدماء.

الصدق والأمانة في سلّة العدل والمساواة
إنّ فكرة هيئة "المساءلة والعدالة" كانت تعني في حينها بعدًا ثقافيًا أملته المسؤولية الوطنية حين التغيير الحاصل أكثر ممّا عنته لاحقًا من تدابير انتقامية من كلّ مَن ثبت انتماؤُه للحزب المحظور. وفي البعد الثقافي الأول وليس الانتقاميّ شيءٌ مقبول من المعقولية والحكمة من دون أن يفقد قانون الهيئة المفروض اتزانه لتتحول هذه المؤسسة إلى بؤرة للمساومات والصفقات بعد أن اتخذت لنفسها دور القاضي والجلاّد معًا. ومثل هذا التداخل مع صلاحيات القضاء في شؤون المشمولين بهذا القانون الجدليّ كان في الأساس شأنًا غير مقبول، بسبب استخفافه بقدرة القضاء العراقي وتهميشه بأخذ دوره الطبيعي واتخاذ الإجراءات المكفولة بسلطته وليس بغيره بحقّ المستبيحين للدم والشخص العراقي. لذا لا غرابة أن يخضع هذا القانون لنوايا عبثية واجتهادات صاخبة وتدخلات غير مدروسة سواء من جانب الهيئة أو المتنفذين من أحزاب السلطة وأعوانهم بالتأثير على أعضائها والتدخل في قراراتها إرضاءً لمصالح وإرادات سياسية وسيادية مختلفة النوايا.
وبعد مرور ما يناهز 17 عامًا على صدور قانون اجتثاث البعث وأكثر من 11 عامًا على استبداله بقانون هيئة المساءلة والعدالة، كان ينبغي إعادة النظر في هذا القانون بعد أن استوفى الكثير من أساليب الاقتصاص والانتقام بحق شرائح في المجتمع، كان العديد من ضحاياه من الأبرياء ما عدا مَن ثبتت بحقه جرائم القتل والتنكيل والعنصرية، وذلك نظرًا للمستجدّات على الساحة السياسية والحاجة الملحّة لتفاعل مجتمعيّ أكثر تقرّبًا من بنود يكفلها الدستور أصلاً مثل الحق في حرية الاعتقاد والرأي والضمير من دون تمييز ولا تفرقة بين المواطنين جميعًا. لكن القانون ما يزال خاضعًا لمزاجيات شخوص السلطة الحاكمة والأدوات التنفيذية ومنها ما يتعلّق بالاستحقاقات الوظيفية والتقاعدية لشرائح كثيرة نالها الظلم والإجحاف من دون أسباب وجيهة. وهذا بطبيعة الحال خاضعٌ في بعض جزئياته إلى فشل النظام السياسيّ القائم والتخبّط في اتخاذ القرارات وغياب البعد الاستراتيجي للحكومات الطائفية والمذهبية المتعاقبة ومعالجة الثغرات، ومنها الثغرات المجتمعية.
في اعتقادي أنّ ما صدر من تصريح صحفيّ للممثلة الأممية بشأن تطبيق المساءلة والعدالة في ضوء المستجدّات على المشهد السياسيّ الساخن مع دخول الانتفاضة التشرينية شهرها الثالث إنْ هو إلاّ تذكيرٌ بقانون هيئة المساءلة والعدالة النافذ لغاية الساعة. ومن شأن هذا التلميح أن ينال قسطًا من المراجعة الذاتية والسياسية كي يكون جزءًا من فورة الإصلاح المطلوبة التي تسبب بها النظام السياسيّ بديمقراطية مستوردة لم ترقى للنضوج بسبب طبيعة المجتمعات العراقية متعددة المطامع والتوجهات والغايات وبسبب اختلاف الثقافة والعرف الاجتماعي بين مجتمع وآخر. ولم يعد هذا خافيًا للجميع.
لذا، عجبي من ساسة الصدفة الذين اعترفوا صراحة في مناسبات عديدة بفشل النظام السياسي الذي تمسكوا به منذ أكثر من 16 عامًا، وبه حكموا البلاد بنظام المحاصصة والإقطاعية وسرقوا ثرواته وأوصلوه إلى شفير الهاوية بتسليم ثلث أراضيه لأعتى تنظيم إرهابيّ فتك بالأرض والعرض سحابة ثلاثة أعوام من القهر والذلّ والقتل والبطش. كما هم أدرى بما اقترفوه من ظلم وإجحافٍ بحق الشعب الذي انتخبهم وائتمنهم على حقوقه. فما كان منهم إلاّ أن قابلوه بخيانة الأمانة والكذب والنفاق وتدمير البنى التحتية للمدن والقصبات والتواطؤ مع المغرضين وتجار الحروب والمخدرات وتسهيل دخولها وترويجها وبيعها ونقلها. كما ليس خافيًا على المتابع الحثيث لما يجري في الكواليس والدهاليز المظلمة من فساد وإفسادٍ في الأخلاق واسترقاق المحارم بغطاء الدين والمذهب والطائفة والعرق. والقائمة طويلة ساقها قبلي العديدُ من أصحاب الفكر والقلم والرأي.
بحق ربّ السماء، أسألكم، جميعًا: متى كانت "الصلاة ومتى كان الصوم مفتاحًا أو معيارًا لصدق الحديث وأداء الأمانة؟ حسناً فعل ممثل المرجعية حين إشارته مؤخرًا في خطبته الأخيرة إلى حديث الإمام الصادق بالتذكير بحسن الكلام ورفعة الأخلاق وأداء الأمانة وصدق الإيمان: "لا تَغْتَرُّوا بِصَلاتِهِمْ وَلا بِصِيَامِهِمْ فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلاةِ وَالصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ وَلَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأمَانَةِ". لقد نطق بهذا الحديث الرائع الصادق تمامًا، السيدُ المسيح قبل أكثر من ألفي عام حينما وجّه ذات الكلام إلى الكتبة والفرّيسيين المرائين من اليهود الذين كانوا يكثرون من الصوم والصلاة في المجامع والساحات، فيما داخلُهم مترعٌ بالكذب والنفاق وسرقة أموال الشعب بحجة أداء أحكام العشور والزكاة حماية للدين أيضًا. فقال فيهم:" كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. فمِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى 7: 19 -21). إنه حقًا، ذات النهج في التعامل مع الرعية من جانب السلطة الحاكمة ومن يتشدّق منها بتلابيب الدين والطائفة حفاظًا على مغانمه ومصالحه وتغطية لأعماله غير المشروعة وغير المقبولة في المجتمع.
ولنا أن نسأل، متى سيتم تطبيق ذات القانون في "المساءلة والعدالة" الذي نادت به الممثلة الأممية بحق مَن استأثر بالسلطة خارجًا عن المألوف ومَن سرق ونهبَ وقتلَ وخطفَ واستغلّ الموقع الحزبي والوظيفي لأغراض فئوية وطائفية ومذهبية وشخصية؟ فمهمّة تنظيف البلاد من ثقافة الطائفية والفساد المستشرية التي أضحت مفخرة وقاعدة للبعض وما غيرها شذوذًا، لن تكون سهلة بالتأكيد.

131
مواقع الكترونية وازدواجية العمل المهنيّ
لويس إقليمس
بغداد، في 4 شباط 2020
بعض المواقع الالكترونية ومثلُها بعض الصحف عندما لا تريد تبنّي مسؤولية ما يُكتب ويُنشر على صفحاتها تضع تحذيرًا من أن المقالات المنشورة في الموقع أو الصحيفة تعبر عن رأي أصحابها وأنها غير مسؤولة عن محتواها. وهذا أمرٌ مقبول وطبيعي ومنطقي إلى حدّ كبير حينما لا يرغب هذا الموقع أو تلك الصحيفة تحمّلَ وزر ما يُكتب ومَن يكتب. فالكاتب مسؤولٌ أولاً وأخيرًا، عمّا يكتب ويعرض من رأي وفكر وتحليل شريطة ألاّ يخرج عن أصول الآداب العامة في الكتابة والتعبير. بمعنى آخر، ألّا يتضمن ما يسطره ممّا في دواعي القذف والسب والشتم والتخوين والطرح العشوائي غير المسؤول الخالي من أدلة ثبوتية، إذ في هذه الحالة يعرّض نفسه للمساءلة القانونية. أمّا أن تتخذ بعض المواقع الالكترونية إجراءات بمقاطعة كتابات مهنية لا تخرج عن السياق العام للآداب بحجة نقدها فقط لأحداث سياسية أو دينية أو مجتمعية، أو تعرّضها لتبيان حالات خرق بحق الوطن والمجتمع، أو التحذير من عواقب مخالَفة لممارساتٍ غير مقبولة لجهات سواءً كانت في السلطة الحاكمة أو مَن هُم في قمة المسؤولية عن مجتمعات ومؤسسات مدنية كانت أم دينية أم نقابية أم تنتمي إلى جهة حزبية لها سطوة ونفوذ، فهذا أمرٌ غير مقبول لكونه يخرج عن المهنية التي تدّعي وسيلةُ النشر هذه ممارستَها. كما أن هذه الوسيلة وهذا الموقف غير السويّ يخرقان أحد أهمّ بنود حرية التعبير والفكر والرأي التي من أجلها وُجدت هذه الوسيلة أو هذا الموقع لأجل النشر والتعريف والتعبير.
من هنا، قد تفقد بعض وسائل النشر في حالات معينة مهنيَّتها ومصداقيتها بسبب التعامل المزدوج أو التقاطع في ما يُرسل أو يُنشر فيها في ضوء قناعات إدارة هذه المواقع المتقلبة المزاج وتعاملها غير المنصف مع الكتّاب بازدواجية، أيًا كانت اتجاهاتُهم ومشاربُهم وآراؤُهم.
لعلّ ما أدهشني مؤخرًا، قيام موقع عشتار الالكتروني بحذف بعضٍ من مقالات منشورة لي أساسًا في صفحة "المقالات"، ومن ثمّ مقاطعة نشر ما تمّ إرساله لاحقًا، بالرغم من عدم خروج تلك المقالات والطروحات عن سياق نبض الشارع العراقي الوطني المنتفض ضدّ الفساد في مؤسسات الدولة الهزيلة الأداء. وذات الشيء قد ينطبق أيضًا على كلّ ما من شأنه الإشارة إلى نقد أداء بعض سلوكيات مؤسساتنا الدينية أو الكنسية وشخوصها وإبداء الرأي في بعض شؤونها وشجونها. فالكاتب المثقف الواعي الموضوعيّ المجبول بحب الوطن والشعب والدين حينما يرصد مواقع خلل في الأداء من طرف اية جهة كانت، يحزّ في نفسه إلاّ أن يتعرّض لمثل تلك السلوكيات التي يرفضها العقل الظاهر والباطن معًا من دون محاباة لأحد أو مجاملة الجهة التي بدرَ منها الخطأ، بقصد أم بدونه، مهما علا منصبُها وسما قدرُها. بل إنّي أعتقد، أنّ قبول النقد البنّاء والتحذير من مغبة وقوعٍ في الخلل لأجل التصحيح والبناء والتنمية والإصلاح هو من شيم كبار القوم في الجرأة والكرم والشرف. ذلك أنّ الاعتراف بالخطأ فضيلة. وهذا ملخص الكلام.
ليس استجداءً
لستُ هنا بصدد الاستجداء من مواقع الكترونية أو فرض الرأي كي تنشر كلَّ ما أكتب أو أرسل لها من أمّهات أفكاري وبنات آرائي وتقديرات تحليلي وقراءتي للواقع العراقي، سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا. فهناك وسائل أخرى بالطبع للتعبير عن خلجات الأفكار وطرح الآراء طالما أن الكاتب الماهر والباحث عن الكلمة الصادقة الصريحة والعارف بالمعلومة يستطيع الوصول إلى ما يصبو إليه في نقل ما يعتمر في فكره وقلبه وعقله في الزمان والمكان الذي يريده.
لي شرف كبير أن أحتفظ بقرّاء أعزاء كثيرين يتابعون ما أنشر على موقع عنكاوا واسع الانتشار مثلاً، والذي يستحق وصفه بالجامع الشامل من حيث العمل المهنيّ والسلاسة في التعامل أكثر من غيره. وهذا بالطبع من دون الانتقاص من شأن باقي المواقع المحترمة الأخرى التي أكنّ لها كلّ التقدير والاحترام، ومنها بطبيعة الحال موقع عشتار الذي أخذ مساحة واسعة من الانتشار هو الآخر وله روّادُه ومحبّوه أيضًا. المهمّ في الكاتب الناجح أن يتسم بقدرٍ من الحنكة والواقعية والموضوعية في تشخيص الوقائع مع شيءٍ من الحكمة في معالجة المواضيع عبر رؤية واضحة المعالم في الطرح كي يكون مقبولاً للقارئ، سواءً كان الطرح سلبًا أم إيجابًا بحسب رؤية هذا الأخير الذي هو "صرماية" الكاتب وكنزُه في الاطّلاع على ما يكتب ويطرح، لاسيّما حينما لا يخرج الكاتب العاقل عن سياق السلوك الأدبي المقبول وعن احترامه لآراء غيره ومدى تفاعلهم مع ما يكتب. ومن الدليل على اهتمام القارئ النبيه في أي موقع الكتروني ما يحصيه الموقع والكاتب معًا من عدد القرّاء لمقالاته وتفاعلهم مع أفكاره وآرائه أو تقاطعهم معها. وفي الفكرتين شيء من الإيجاب قبولاً أو رفضًا.
في اعتقادي، إنّ لكلّ إنسان فكره وأسلوبه وآراءه ورؤيته في قراءة الواقع من وجهة نظره الثاقبة وخبرته في الحياة وتفاعله مع الواقع واختلاطه مع المجتمع وترافُقِ ذلك مع قراءة نبض الشارع. وهذا شيءٌ إيجابيّ من شأنه تنوير القارئ ووضعه في صورة أفضل تصبّ في صالح حاجات المجتمع والوطن. وذات الشيء قد ينطبق على واقع الشأن الديني في حالة صدور أفكار تحديثية وتنويرية يُراد بها رفع الوعي إلى أعلى درجاته عبر الحوار وطرح الآراء البنّاءة التي تبني، سواءً في نقد ما هو قائم معوجّ أو تأييد ما هو مطروح مقبول يتوافق مع الزمن والعصر وتطور المكان والمجتمع.
من هنا، فإنّي أرى أنّ ما أقدمَ عليه موقع عشتار مؤخرًا من سحب آخر مقالاتي من صفحة النشر الرئيسة والتوقف مذ ذاك عن نشر ما تمّ إرسالُه إليه لاحقًا، لم ولن يصبّ في دائرة قبول الرأي والرأي الآخر. فالاختلاف في الراي لا يفسد في الودّ قضية. بل لهو من السبل في تطوير الفكر وتقويم الذات ولمعرفة المزيد عن واقع حال المجتمع الذي لا يمكن أن يتطور ويتحدّث إلاّ بالتنوع الفكري والرأي التعدّدي الذي يُعدّ غنى وثروة. وبالرغم من أنّ هذه ليست المرة الأولى التي تقاطعني فيها إدارة موقع عشتار الالكتروني الموقر، إلاّ أنّ العتب قائم وصارخ، سيّما وأن منشورات ومقالات لأسماء معروفة وكتّاب ونقاد نافرين أكثر منّي بسبب الأوضاع السياسية الراهنة أو الدينية القائمة مازالوا يتصدرون صفحاتها، رغم كوننا "في الهوى سوا" وفي ذات المركب الناقد النافر الرافض. وفي رأيي هذا ظلمٌ أدبيٌّ وأخلاقيٌّ لا ينبغي أن تقبل به إدارة الموقع التي أكنّ لها كلّ الاحترام والتقدير، مؤكدّا لها ولغيرها أنّ أمثالي من أصحاب الأقلام الحرّة المستقلّة الجريئة لا تقبل بالظلم والخطأ أو التمادي بتجاهل الحقائق والحقوق مهما كانت الأسباب، لا سيّما إذا كانت تمسّ حالة الوطن الجريح والمجتمع الصاغر منذ سنوات عجاف ومن دون وجه حقّ. فقد رفضتُ وما أزالُ رافضًا أن أكون بوقًا أنفخ فيه لأيّ سيّد كان، سياسيًا كان أم دينيًّا. كما لا أقبل أن اكونَ صوتًا مغرّدًا لشخوصٍ من سرب ناشز غير جدير أو أهل للتقييم والاحترام. وأفضّل أن أغرّدَ خارج السرب تاركًا التاريخ والوقائع كي تقول كلمتها وحكمها على ما أكتب. ولي في هذا السبيل في زمن النظام السابق تجربة أثقلت كاهلي وجرحت كياني وكادت تفقدني مستقبلي ومصيري وأنا في أواخر أيام تخرّجي من جامعة الموصل. والمقرّبون العارفون بي ربما يتذكرون الواقعة!
على اية حال، بعد اتصالات عديدة ومضنية للسؤال عن السبب وراء السلوك المؤلم لموقع عشتار للوقوف على حقيقة الموقف، أتاني الردّ الذي بدا لي ساذجًا وأكثر من هزيل بحجة "عدم مطابقة ما كتبتُه مع سياسة الموقع"، بحسب ما نقله لي شخص محترم يعمل في أحد مكاتب الموقع في أربيل منقولاً عن لسان مسؤول إداريّ بالتأكيد. فهل السياسة الصائبة تكمن في رفض عرض الحقائق من دون رتوش ولا تجريح ولمجرّد الاختلاف في الرأي ليس إلاّ؟ أليس يتفق الكثير من أبناء الشعب العراقي المغلوب على أمره منذ الاحتلال الأمريكي الذي سلّم البلاد لقمة سائغة بأيدي إيران وذيولها الوطنية وأنتج منها حيتان الفساد والفاسدين من شمال البلاد إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، بالحقائق السلبية لما يجري مذ ذاك التاريخ؟ فالشعب كلُّه منذ انطلاقة الانتفاضة التشرينية الوطنية مُجمِعٌ على رفض الواقع المزري لساسة البلاد الذين فشلوا في إدارتها. وسيبقى الفسادُ وروّادُه على رأس الحربة وفي قمة الصراع والمحاربة من عموم الشعب المقهور وعلى أيدي أصحاب الأقلام الحرّة مستلهمين القوة والعزم والثبات والصبر من بطولات الشارع المنتفض الباحث عن وطن وعن لقمة عيش كريمة وعن أمن وخدمات آدمية. فهل في هذه الإيماءات والدعوة للتصدّي عبر الكلمة الصادقة لحقيقة ما يجري من مآسٍ، فيها مخالفة لسياسة موقع عشتار أو غيره، أو تجنّي على ساسة البلاد الفاشلين في إدارتها؟ إنّي تاركٌ الحكم والرأي لأصحاب القرار أنفسهم وللقرّاء بمراجعة ما هو منشور في ذات الموقع هذه الأيام وبهذا الخصوص بالذات.
الشيء بالشيء يُذكر
إنّ الشيء بالشيء يُذكر. فقد هالني وآلمني في وقت مضى أيضًا، ما جنيتُه من مواقفي ومن كتاباتي على أيدي مسؤولين في موقع "بخديدا" قبل سنوات عجاف سابقات حين مقاطعتي بتوصية من رجل دين اختلفتُ معه في إدارة ملف الشأن المسيحي في منطقة سهل نينوى بعد سنوات من السقوط في 2003. ومثلُه أصابني لاحقًا ذات الموقف من جانب موقع البطريركية الكلدانية سواءً بالسواء قبل سنوات قريبات، بالرغم من تدخل غبطة البطريرك لويس ساكو بمعالجة المقاطعة والاتفاق على نشر فقط ما ليس له صلة بشؤون السياسة. ولكن بقيت الحال كما هي عليه. وبذلك فقدتُ قرّائي الأعزّاء في هذه المواقع.
أملي ألاّ تلقى كتاباتي لاحقًا ذات المصير من وسائل نشر مقروءة ومواقع عزيزة أخرى، لا لشيء إلاّ بسبب التقاطع في الرأي والاختلاف في طريقة التطرّق إلى ملفات ووقائع وقضايا هامّة مستلهمة من واقع الحياة أعدُّها وطنية مصيرية، عراقيًا أولاً ومناطقيًا ثانيًا ومسيحيًا ثالثًا وشخصيًا رابعًا وليس آخرًا. مع محبتي ومودتي وتقديري لجميع مَن يفهم المبتغى ويعي حجم المعاناة في النشر وإبداء الرأي والمشورة.
 

132
مَن يدق طبول الحرب ساذج وواهم
لويس إقليمس
بغداد، في 28 كانون ثُاني 2020
تكرار الهجمات بصواريخ الكاتيوشا على المنطقة الخضراء مستهدفة بصورة أدق محرّمات السفارة الأمريكية فيها، له دلالاتٌ عديدات، منها استعجال الجماعات الجامحة والمنفلتة لدقّ طبول الحرب. وهذه لعبة خطيرة تنذر بردود مقابلة لا تقلّ في حماقتها وشدّتها وزئيرها ما شهدته حروب شاملة في سوابق السنين مع متغيرات باعتماد استراتيجية حرب حديثة قد تُستخدم فيها أكثر الأسلحة فتكًا بالإنسان والأرض من شأنها أن تأتي على الأخضر واليابس من دون تمييز للأهداف. فكلّ متحرّك حينئذٍ، سيكون موضع استهداف للقوى الكبرى وتحالفها الدولي لاسيّما ضدّ دول مارقة ومتمرّدة في منطقة الشرق الأوسط. كلّ هذا يأتي مع تصاعد أشكال الغضب والرفض بوجه إيران التي تعدّ في نظر أمريكا وحلفائها في قوى التحالف الدولي، البلد المارق والأكثر رغبة في التوسع على حساب غيرها من دول المنطقة والعالم انطلاقًا من عقيدتها الغريبة في الإسلام الشيعي السياسيّ. فأمريكا سيدة القطب الواحد لغاية الساعة ما تزال متسيّدة على المشهد السياسي والعسكري والتسليحي العالمي، هذا إلى جانب اقتصادها القوي الذي يتيح لها السيادة على العالم من دون منازع في الفترة الراهنة. وهذا ممّا لا شكّ فيه. بل ينبغي الإقرار به من دون انتقاص أو استخفاف بالواقع الراهن من جانب، وبعيدًا عن مزايدات وتكابر الفصائل الميليشياوية غير المنضبطة التي تتباهى بقدراتها التسليحية المحدودة من خلال تثوير أتباعها الطائفيين من بسطاء الشعب المغلوب على أمره ضدّ مَن تسمّيهم بالشيطان الأكبر، تنفيذًا لأجندة الأسياد في الجارة الشرقية التي تحرّك الذيول هنا وهناك.
أيًا كانت الجهة التي تطلق الهجمات الصاروخية من هذا النوع، إنْ ميليشياوية تستلم أوامرها من إيران مباشرة أو من ذيول هذه الأخيرة من قادة الفصائل المسلحة، أو من طرف آخر مجهول. إلاّ أن اللعبة خطيرة حقًا، كما أنّ الآثار المترتبة على مثل هذا السلوك غير السويّ ستكون وخيمة. إذ لا يمكن لأمريكا أن تنسى أو تتناسى أو تغضّ الطرف عن إساءة من هذا النوع، لأنها متيقنة ومتأكدة من كونه قادم من عدوتها اللدود إيران وبتوجيهات مباشرة او غير مباشرة من عندها. قد تتغاضى مؤقتًا وتؤجل فترة، لكنّها لا تقف مكتوفة الأيدي. وقد رأينا ردودها الحادة والحاسمة والصاعقة في آخر تعاملٍ لها مع قادة لفصائل على قدرٍ من الأهمية لكل من العراق وإيران سواءً بسواء على طريق مطار بغداد في ماضي الأيام. 
استهداف السغارة
إن استهداف السفارة الأمريكية بصورة مباشرة بأسلحة صارت تدمغ بها ما يٌسمّى بالمقاومة الإسلامية التي تقودها الميليشيات الشيعية، وما سبقها من هجمات وأعمال حرق وتحطيم لأبنيتها المحرمة دبلوماسيًا، تعني استعجال البعض غير الواعي للحرب مع أقوى قوة عسكرية في العالم ماتزال ترعى وتقود تحالفًا دوليًا بإذنٍ من حكومة العراق وبموجب وثائق ومواثيق واتفاقات دولية وثنائية وفق ترتيبات سبق أن اتفق عليها الطرفان. ونقض مثل هذه الاتفاقات لن يكون بتلك السهولة التي يتصورها البعض. فهذا لا يمكن أن يسقط أو يُلغى بجرّة قلم من جانب السلطة التنفيذية أو التشريعية ولا من أية جهة أو فئة أو جماعة تعتقد أنها ممسكة بمقاليد السلطة التي تتيح لها التصرّف وفق أهوائها ونزولاً عند طلبات أسيادها. فكلّ الترتيبات من تلك المواثيق والاتفاقات فيها من الشروط المكلّفة ومن الاثار المترتبة حين نقضِها بطريقة عشوائية غير مدروسة من كافة الجوانب.

اختلاط الأوراق
لقد اختلطت الأوراق بين صناع القرار أنفسهم أي الفصائل الشيعية التي تحكم قبضتها على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. فيما تبقى رئاسة الجمهورية عصية عليها لغاية الساعة. لكنّ هذه الأخيرة لم تسلم ايضًا من انتقادات وتهديدات عقب رفضها الحكيم لمرشحيها لرئاسة الوزراء الذين سعت لفرضهم الفصائل الميليشياوية التابعة للجارة إيران التي تدير حكم البلاد والعباد من خلف الأسوار أو بأيادي حاضرة داخل مؤسسات الدولة من دون استثناء باعتراف قادة وزعماء ميدانيين. ففي الوقت الذي أكدت مصادر مقربة من مصادر القرار الشيعي في وقت سابق، تأجيل الرد العسكري على مقتل مسؤولين من إيران وتابعيها في العراق، ممّن يعملون في صفوف الحشد الشعبي الذي يدير العمليات في البلاد ضد ما يُسمّى بداعش وضدّ الوجود الأجنبي الأمريكي بصورة خاصة، ظهرت تصريحات غيرُها تتنصل من الحادث وتشير إلى احتمالية تنفيذ هذه الهجمات الأخيرة من قبل جهات لا تمتّ بصلة لصفة الحشد ومتهمةً جهات غيرها ودولاً خليجية باختلاق الفتنة خلطًا للأوراق. ورأى زعماء آخرون أن مثل هذه الحركة غير محسوبة النتائج، ستزيد من التوتر القائم حاليًا وتضع العراق على مفترق طرق بتحوله إلى ساحة حقيقية للصراعات الإقليمية والدولية بالوكالة.
    مهما كان من أمرٍ، فالظرف آخذٌ بالتصعيد مع حصول الهجمة الأخيرة المباشرة التي أحرقت كافتيريا داخل مباني السفارة الأمريكية. وهذا مؤشرٌ خطير قابل للردّ في أية لحظة وبأية وسائل لا يقدّرها إلاّ صناع القرار في البيت الأبيض في الزمن والمكان الذي يرتؤونه، ولهم فيه موافقة ضمنية من المجتمع الدولي ومن سفارات بدأت تشعر بخطورة الموقف أكثر من ذي قبل بالترافق مع ما يحصل من قمع وبطش وقتل وخطف وتهديد في ساحات التظاهر بعد الخيبة الأخيرة التي خلقتها المليونية المزيّفة يوم الجمعة 24 كانون ثاني 2020. وهذا ممّا سيؤجّج الصراع المحتدم أصلاً بين الشعب المنتفض وأدوات الدولة العميقة بسبب انقشاع النوايا وفضح المستور وما يدور في دهاليز وكوليس الساسة وزعماء الأحزاب وقادة الفصائل المسلحة في البلاد بعد نقل صراع الميليشيات ضدّ الوجود الأمريكي تحت نفوذ ما يُسمّى بالمقاومة الإسلامية. وهذا يذكرنا تمامًا بذات الفكر الأيديولوجي الذي تبنته داعش ضدّ كلّ مَن يقف في وجهها وأفكارها وتحرّكاتها، مع استثناءات إعلامية بعدم مسّ أتباع باقي المكوّنات المختلفة عنها في الدين والمذهب في المرحلة الراهنة، بحسب البعض من المتابعين لمجريات الأحداث وسوقها بهذه الطريقة الفظّة.
يقينًا، لا تقبل الأعراف الدولية استهداف اية بعثة دولية مهما كانت الأسباب والظروف. فهناك وسائل دبلوماسية للتعبير عن رفض أية سلوكيات لا تتماشى مع العمل الدبلوماسي لهذه الجهات. كما أنّ هناك مجالات أخرى للتعبير عن الاستياء والغضب الشعبي أو الفئوي أو الشخصي عبر قنوات وأدوات تقرّها دساتير البلدان ذات السيادة. وبموجب الأعراف الدولية، تتمتع السفارات والممثليات الأممية بحصانة دولية لا يمكن المسّ بها ويعاقب عليها النظام الدولي وهي بذلك تستحق الحماية الكافية والضرورية من أية مضارّ أو سلوكيات غير مقبولة. ولمثل هذا السلوك تداعيات كبيرة وخطيرة لا تنذر بقادم وردي. نضيف إلى ذلك، ما يمكن أن تتعرض إليه سمعة البلاد وحكومتها ومختلف مؤسساتها العامة من تأثيرات وآثار اقتصادية ودبلوماسية وسياسية على جميع الأصعدة. وليكن هذا تحذيرًا جادّا، تمامًا كما صدر من جانب السلطات العراقية الرسمية، سواءً كان ذلك برغبة منها أم من دونها ولأجل الإعلام فحسب! فعندما يجدّ الجدّ وتكون الحديدة ساخنة، يتنصّل الفاعلون من الحدث!




133
هل يذهب المنتفضون باتجاه تدويل مطالبهم؟
لويس إقليمس
بغداد، في 2 شباط 2020 
بعد ان انقطعت السبل أمام أصحاب المطالب المشروعة في الانتفاضة التشرينية التي تدخل شهرها الخامس على التوالي، ظهرت بوادر جادة لنقل التحديات الخطيرة التي يواجهها المتظاهرون السلميون في ساحات الاعتصام في عموم البلاد، إلى دوائر الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي بغية الاستنجاد بسبب ما يتعرضون له من منغصات وتهديدات واستخدام القوة المفرطة وأعمال قتل العمد والخطف والاغتيال والترويع، لاسيّما بعد فرض فصيل ميليشياوي سطوته على موقع الاعتصام الرسمي في ساحة التحرير وعلى رمز الصمود والمقاومة في المطعم التركي (جبل أحد). ولا أحد يتكهن بما ستؤول إليه الأوضاع الخطرة حتى بعد تكليف رئيس الوزراء الجديد لقيادة المرحلة الانتقالية التي في اعتقادنا لن تخلو من فرض إرادات وإطلاق تهديدات واستباحة الساحات من قبل أحزاب وعصابات وجماعات مسلحة تُقاد كالرعاع في الساحات والشوارع متى ما شاءت أحزاب السلطة وزعاماتُها وكيفما شاءت وأينما شاءت من دون قيود ولا ردود. 
هذه حالة فلتان واضحة تتطلب إرادة صارمة من رئيس الوزراء الجديد الذي وعد بوضع حدود قاطعة لهذه السلوكيات غير الحضارية ولأمثالها، طالما اثبتت الرئاسات الأربع القائمة حاليًا فشلها الواضح في معالجة الأزمة منذ تولي رئيس الوزراء السابق صاحب الوعود العرقوبية والتصريحات الإنشائية الرنانة. وإذا كانت هذه الحركة الجديدة يُقصد بها فرض تثبيت رئيس الوزراء المكلَّف بالقوّة، والمرفوض من الشارع المنتفض كغيره من السياسيين الذين شاركوا في مناصب هامة وقادوا البلاد إلى شفير الهاوية ليُفهَمَ منها أنَّ سلطته ستكون في قبضة التيار الذي يقود هذا الحراك غير الوطني وغير المقبول شعبيًا وسياسيًا وإنسانيًا، فإن الأداة والسلوك والغاية بهذه العنترة لن تفي بالغرض في ضوء ما يُقرَأُ بين السطور وما يجري من وراء الكواليس من صفقات ومساومات. فالمكلّف برئاسة الوزارة الجديدة القادمة، بالرغم من صدق حدسه ومعرفته بدهاليز السياسة والسياسيين وانتقاده لأداء الكابينات السابقة، إلاّ أنه ليس من خيار الشعب والشارع المنتفض بل هو كسابقه حصيلةٌ لتوليفة سياسية لصفقة أخرى بين أحزاب نافذة في السلطة. والعِلم والخبر بالتأكيد عند حليمة!
مطالب الشعب
من المخجل حقًا أن يدير ساسة البلاد ظهورهم لمطالب الشعب المنتفض بالرغم من ادّعائهم جميعًا بشرعيتها ودعمها وتواصل استمرار تظاهراتهم حتى تحقيق الغايات المنشودة. وهذه الدعوة ذاتُها أعلنها المكلّف الجديد بقيادة الحكومة القادمة في خطاب ليلة الترشيح. فالمسألة لم تعد في التهريش والتصريح والادّعاء بشرعية المطالب بقدر ما هي تعبيرٌ وافٍ عن فقدان لشعور وإحساس وإرادة وقصد لا تتسم بالمواطنة بسبب غياب الرغبة الجادة في معالجة مواقع الخلل في النظام السياسي. فهذا الأخير هو أصل الوبال وأساس الفتنة. وكما يبدو، فلا نية في جعبة ساسة الصدفة والمتنفذين في الحكم مغادرة شكله البائس، خشية من فقدان نفوذهم وخسارة مكاسبهم وضياع مصالحهم وما كانت تدرّ عليهم إقطاعياتُ الوزارات والهيئات الخاصة من منافع وأموال وفضاءات استغفال للعامة واستغلال للمنصب. حتى المرجعية التي كان الطيبون يعتقدون بوقفها مع الشارع المنتفض منذ انطلاقة التظاهرات، كانت في حقيقة الأمر تمسك بالعصا من الوسط ما جعلها مثار شكّ وسط المنتفضين، أو هكذا يُقرأ خطابُها الأخير ليوم الجمعة 31 كانون ثاني 2020، حيث أبدت تراجعًا ضمنيًا واضحًا لدى نقدها لأسلوب الانتفاضة و"تأكيدها على مسألة الإسراع في إجراء انتخابات مبكرة ليقول الشعب كلمته" بهذه العجالة المنقوصة قبل تلبية مطالب ملحة ينبغي تنفيذها ضمن الأولويات. فهي من حيث الشكل والمضمون، تتوقع بل هي متأكدة لدرجة كبيرة من إعادة تدوير ذات الوجوه المهيمنة على شكل النظام السياسي القائم في حالة إجراء مثل هذه الانتخابات السريعة بالطريقة التي خططت لها أحزاب السلطة وسنّت لها القانون الانتخابي الذي لا يختلف ضمنًا عن سابقه من حيث بقاء هيمنة ذات الأحزاب وذات الشخوص. ولا غرابة من وقوف شخوص مقرّبين من المرجعية العليا ضمنًا وفي السرّ في مناصرة أحزاب وزعماء الإسلام السياسيّ الذين أثبتوا فشلهم الذريع في قيادة البلاد وفي تبعيتها لدول إقليمية ودولية بالشكل المخزي القائم.  ولا ننسى ما حذرت منه هي ذاتُها قبل أسابيع من أيلولة الحكم للغير وخسارتهم مكاسبهم ومنجزاتهم منذ السقوط على أيدي المحتل الأمريكي المراوغ عدوّ الشعوب الحرة والمتلاعب بمقدرات العراق والمنطقة وفق أهوائه ومصالحه القومية.

أولويات لا بدّ منها قبل الانتخابات المبكرة
في اعتقادي، إن المرجعية التي كان الشعب يعدّها صمام الأمان من دون انحياز لجهة أو فئة دون غيرها، قد تناست الأولويات التي لا بدّ منها من أجل الإصلاح وفتح صفحة جديدة في البلاد وحسم متاعب العباد ومنغصاتهم على ايدي رموز النظام السياسي الحالي. كما خذلتهم رئاسة الجمهورية بخنوعها للضغوط عبر فرض أجندات الكتلة الأكبر وأحزاب السلطة التي كانت رفعت مؤخرًا راية التهديد والوعيد في حالة خروج الرئاسة عن طوعها وإرادتها. أما المطلوب بعد أن وقع الفأس بالرأس، أن يأخذ رئيس الوزراء المكلّف بنظر الحسبان أولى أولويات مطالب الشعب المنتفض التي من شأنها وضع البلاد على سكة الأمان والإصلاح تحديدًا، ومنها حصريًا وبالتوازي مع استمرار الحراك الشعبي الوطني المسالم و"مِن دون شراكة راكبي الموجة":
1-   محاسبة قتلة شهداء الانتفاضة أيًا كانت هوياتهم ومرجعياتُهم، ومنحهم حقوقهم الوطنية ومعالجة الجرحى الذين سقطوا ضحايا العنف والقوة المفرطة من "الطرف الثالث".
2-   وضع حدود صارمة وحاسمة بوجه السلاح المنفلت والعصابات والجماعات المسلحة المرتبطة بميليشيات أحزاب السلطة والتي تقوم بأعمال قتل وخطف واغتيال وترويع بحق متظاهرين سلميين وناشطين مدنيين طالبوا بوطن مفقود ولقمة عيش كريمة وخدمات مدنية وأمن لهم ولعوائلهم.
3-   محاسبة حيتان الفساد الكبيرة التي تخشى السلطات الأربع الاقتراب من محيطها والتعامل مع الفاسدين والمفسدين بما يسهم بتحقيق العدالة والمساواة في محاسبة المقصرين وفق الدستور "الأعرج" والقانون ومن دون محاباة لأحد.
4-   إطلاق سراح المحتجزين الأبرياء من المنتفضين الذين اختلطت أوراقُهم بأوراق المجرمين وعُدّوا خارجين عن القانون ظلمًا.
5-   البدء بإصلاحات جوهرية في الحكومة الجديدة وحث باقي السلطات لمراعاة حاجات المواطن اليومية وفتح أبواب الدولة مشرعة أمام شراكة حقيقية مع القطاع الخاص وعدم احتكار المهمات والأعمال التي من شأن الشركات الخاصة القيام بها بنجاح أكبر باستقطابها للعاطلين عن العمل.
6-   تشكيل مفوضية عليا موثوقة للانتخابات يشارك في تشكيلها ممثلون عن الشارع المنتفض وعن النقابات والاتحادات والمثقفين والأكاديميين كي تمثل صوت الشعب وليس أحزاب النظام بشكلها القائم بالرغم من تشكيل هذه الأخيرة مؤخرًا من قضاة بالطريقة التي يُشكّك بها.
7-   إجراء انتخابات مبكرة لا تتعدى من ستة أشهر- سنة في أقصى تدبير، وذلك بعد تحقيق المطالب المشار إليها في أعلاه أولاً وحتمًا باعتبارها أولويات الحكومة الجديدة كي تثبت مصداقيتها مع وعودها للشعب والتزامها بما تعهد به الرئيس المكلّف.
وفي حالة فشل هذه الأخيرة بما ورد في أعلاه وما التزم وتعهد به في خطاب التكليف، وهذا ما نتوقعه بسبب شكوكنا بعدم قدرته على مجاراة أحزاب السلطة والخروج عن طوعها وإرادتها وفرض أجندتها التي أتت به من خلف الكواليس، فإن الانتخابات المرتقبة لن تكون ذات فائدة تذكر من حيث قدرة أحزاب السلطة لاستخدام المال والنفوذ والسطوة والسلاح وقدرات الدولة وجهدها العام في حملاتها الانتخابية وكسب التأييد لها ولشخوصها. وهذا ما حصل فعلاً في التحشيد للمليونية الأخيرة في الجادرية حينما سُخّرت جهود الدولة في نقل الأتباع إلى مواقع التظاهر المزيفة. وسيحصل حتمًا لاحقًا في استغلال قدرات الدولة ومبانيها ومؤسساتها والضرورات اللوجستية من سيارات ومؤمن لمصلحتها ولأغراضها الفئوية والحزبية والشخصية.

خط آمن
إننا نعتقد أنّ سير الخط الآمن لسكة الحكومة الجديدة المرتقبة في قادم الأيام، هذا إن لم تحصل مفاجآت أخرى ليست في الحسبان، سيحتّم عليها مسايرة وتلبية الشارع المنتفض وصولاً لبرّ الأمان في حالة التزام رئيس الوزراء المكلَّف الجديد بما تعّهد به من دون ضغوط بفرض أجندات معينة رغمًا عن إرادته وحرصه الوطني الذي أظهره في لقاءات وتصريحات سابقة لترشيحه. ولو حصلت هذه، فحتمًا سيترتب عليه الانسحاب من المشهد كي يتثبت الشعب من حسن النوايا في مسألة التسويف والمماطلة وكسب الوقت لحين تحقيق غاية أحزاب السلطة ومَن يقف خلف أجنداتها والترويج لمخططاتها.
حينئذٍ لن يكون قدّام ساحات التظاهر سوى المضيّ قدمًا في موضوعة تدويل قضيتهم لتكون فعلاً "قضية وطن" من أجل كسب الرهان والبدء لاحقًا بخطوات أكثر صرامة وتحديدًا وأنجع أسلوبًا وشكلاً. فقد سئم الجميع تفرّج العالم على ما يجري من مشاهد قتل وخطف وترويع من أطراف مشاركة في السلطة ومعارضة لها في ذات الوقت، وكذا من تقلّب وتلوّن وركوب للموجة من البعض الاخر حبًا بالزعامة وفرض الذات بعد كشف المستور وفضح المعمول في الدهاليز.
فهؤلاء وإنْ تزعموا وطغوا، فهم يمثلون جزءً من الشعب وليس كلّ الشعب، وليس من حقهم فرض الوصاية والولاية بعيدًا عن إرادة الشعب وبالضدّ من رغبة الشارع.

 

134
الانتماء للوطن، بين زيف الادّعاء والنبض الصالح
لويس إقليمس
بغداد، في 27 كانون ثاني 2020
أن يكون الشخص مواطنًا صالحًا صحيحًا صادقًا في انتمائه للوطن ويعي واجباته تجاه بلاده وأترابه من أهلٍ وأصدقاء وزملاء ومختلف شرائح المجتمع بالرغم من الاختلافات في تعدديتها، يعني أنّ هذا الإنسان قد تربى في بيئة وطنية واجتماعية صالحة أهّلته لفهم قدر نفسه وقيمة غيره وفق المنظور الإنساني الذي ينبغي الاعتماد عليه في أية علاقات شخصية أو اجتماعية وما سواها ممّا في حال الدنيا ومتاعبها ومشاكلها. وكما أنه ليس من السهل كي يعي الفرد الاعتيادي الخالي من وفاض التربية الوطنية والمجتمعية المتزنة ما ينبغي عليه من واجب تجاه طبيعة هذه المواطنة، فإنه ما من شكٍ أيضًا يتوجب عليه أن يسعى ما استطاع حين يصحو لنيل شيء من قسط واجب هذه المواطنة الحقيقية ولو في مقاديرها الدنيا عبر وسائل التربية المتاحة الأخرى والخبرة الحياتية التي تقتضي أيضًا شيئًا من ترويض الذات وتعلّم ما تعني مفردة الوطن والمواطنة في ضمير الفرد والمجتمع.
من هنا يشكل مفهوم التربية على المواطنة جزءًا ممّا توفره الحياة من خبرات وتجارب واستجابة لمتطلبات لا تقلّ عن حاجات الإنسان اليومية من مأكل ومشرب وملبس وترفيه وسموّ في العلاقات وما إلى ذلك من مقوّمات الحياة المختلفة. بمعنى آخر، يأخذ مفهوم الانتماء للوطن شكلاً متقدمًا بل مقدّسًا في أولويات الفرد اليومية بوعي قابل التطور والتجدّد في نوعية المواطنة التي تتبلور من خلال المعايشة للواقع وبالتوازي مع ضرورات تناول القوت اليومي. وهذا الأخير يحتّم عليه تحكيم الضمير وتحريك الشعور عبر مزجهما بشيء من تربية مجتمعية صالحة ووطنية صادقة كي يكون فردًا صالحًا في المجتمع والوطن. فهذا هو الأصول حين رهن الانتماء الصادق للأوطان بالشعور العالي بالمسؤولية النابعة من ثقافة أساسية مرتكزة على حب الوطن والرغبة برؤيته مستقرَّا وآمنًا. كما أنه لا يكفي لحامل الجنسية فحسب أن يوضع في عداد المواطنين الصالحين الغيورين على الوطن والأرض والشعب ما لم يُثبت ذلك في سلوكه اليومي ويعبّر عنه وقت الشدّة وحين الطلب. فبطاقة الجنسية التي تُسطَّر فيها معلومات الفرد لا تعبّر بالضرورة عن الهوية الوطنية مهما كانت مزركشة ومزينة بصورة جميلة. وما أكثر نماذج هذا الصنف في عراقنا الجريح ممّن باعوا الوطن وما فيه وما عليه من بشرٍ وحجر وعرض وحرث وعاثوا في أرضه فسادًا ولصوصية ونهبًا وتدميرًا لخاطر عيون الأغراب عنه والدخلاء على أرضه وحضارته وتراثه وقيمه وترويعًا لشرائحه النادرة الأصيلة التي تشكل فسيفساء تعدديته الجميلة والتي أثبتت الأيام صدق انتماء هذه الأخيرة للوطن وتمسكها بوحدته وحضارته في عزّ شدائده وأوج مشاكله أكثر من غيرها من المتشدّقين والمدّعين زورًا وبهتانًا.
إنّ سمة الانتماء للوطن من أرفع الخصال التي عرفتها الشعوب والأمم والدول التي تحترم مواطنيها وتسوسهم وفق معايير إيجابية غير جدلية مبنية على العدل والمساواة من حيث الحقوق والواجبات في القوانين. ولطالما جرى التعبير عن الانتماء الصحيح والصادق بأشكالٍ وطرق شتى وفق المواقف التي تقتضيها الظروف زمانًا ومكانًا من دون تردّد حين الحاجة. فالمواطنة تبقى مرتبطة بمثل هذه المواقف الوطنية التي تتطلب التضحية والمثابرة والثبات على كلّ ما يجمع الأفراد على حب الوطن والتكاتف مع الشعب وقت الشدائد وترك الخلافات جانبًا من أجل المصلحة العليا عبر التفاهم والحوار. ثمّ إنّ الاختلافات في الرأي وفي التعبير عن حب الوطن والانتماء إليه أرضًا وشعبًا لا تفسد في الودّ قضية. بل بالعكس، هي غنى ومهمازٌ للتطوّر وتبادل الأفكار وتقريب وجهات النظر من أجل خلق الأجواء المناسبة لتنمية الحياة في مختلف أوجهها واشكالها. والبلد الذي تنقصه شجاعة الحوار والتفاهم لا بارك اللهُ فيه ولا يُنتظر منه التقدم والازدهار وتطوير الذات، بل سيبقى متقوقعًا على الذات معزولاً عن المجتمع الدولي وغير قابل الحركة والتغيير وإصلاح الذات.
وطن مفقود
وهذا ما يعانيه أبناء العراق في هذه الأيام الصعبة جدًا من حيث فقدان سمة المواطنة الصالحة الحقيقية. فلا يمكن للوطن الذي يحترم نفسَه وفيه مواطنون صالحون وصادقون مع الذات ومع الغير، وساسة حكماء متمرّسون وغيورون ونزيهون على قلّتهم، ونخب يشهد لها بالكفاءة والجدارة والعطاء، وشرائح تؤمن بالتعددية سبيلاً للحكم والحوار والتفاهم، أن يسمح بتعرّضه للبيع والشراء في مزاد المناصب والتبعية والذيلية للغير الطامع. فمثل هذا الوطن لا بدّ أنه مفقود وغائبٌ عن روزنامة المواطنين الصالحين أصلاً كما هي حال العراق هذه الأيام، وتمامًا مثلما يعبّر عنه لسانُ حال المتظاهرين الوطنيين في ساحات الاعتصام والشرف الذين نكبّرُ فيهم صحوتهم الوطنية النزيهة ونطقَهم الصريح بشكل ونوع الداء الخبيث الذي ينخر جسد البلاد وبحثهم عن الدواء من أجل بلسمة جراحه الكبيرة. لكنّ الساسة ومَن في صفوفهم ومِن أتباعهم من ذيول دول الجوار مازالوا مصرّين على مواقفهم المتعنتة بفرض سياساتهم الفاشلة، غير واعين ولا مدركين لواقع اللادولة واللاّوطن التي يعيشها العراقيون والتي مازال يعبّر عنها المتظاهرون بلا كلل ولا ملل ولا خوف بالرغم من أشكال التهديدات وأنواع القتل والخطف وحالات العنف المفرط بحقهم. والسبب لأن هؤلاء المنتفضين ببساطة مازالوا يبحثون عن وطن مفقود وحقوق مشروعة يأبى ساسة المحاصصة الإقرار بها وتنفيذ المطالب المشروعة.
والحقيقة أنّ ساسة الصدفة من ذيول الغير بالرغم من اعترافهم بخطاياهم وأخطائهم الكبرى بحق الشعب مازالوا يأبون مغادرة السلطة حفاظًا على مغانمهم ومكاسبهم الشخصية والفئوية والحزبية وامتثالاً لأوامر مَن يأتمرون بأمرهم من خارج الأسوار.  وكما يبدو، فإنهم لم يصلوا بعد حدّ الشبع بسبب سياساتهم الفاشلة ونهبهم لثروات البلاد واقترافهم الجرائم البشعة بحق أبناء جلدتهم على أيدي ميليشياتهم التي دخلت في عمق الدولة وأصبحت هي الحاكم الفعلي للبلاد والعباد مستبيحة كلّ الحرمات وباحثة عن الجاه والمال والسلطة والسطوة بشتى الوسائل والأشكال. ومازال الشعب المسكين في انتظار الفرج عبر معجزة تخرج من قلب ومن ضمير ساحات التظاهر والشرف المنتفضة في بغداد ومحافظات الجنوب لتلتحق بها محافظات أخرى في شمال البلاد وغربها انتخاءً لصوت الوطن المفقود والحق المنشود للجميع بالتساوي والتوازي كما يقتضي العدل والإنصاف الإنسانيان.
نماذج من وطنية
تاريخ الشعوب الحية مليء بحكايات وأساطير عن ملاحم بطولية حققها مواطنون حبًا بالوطن والأرض. إذ حينما يقع مكروه لشعب ويصبح في ضائقة، يحتّم عليه الظرف القاهر التكاتف والتعاضد من أجل تحقيق هدف أسمى لحماية الأرض والعرض من أذى وأطماع قوى خارجية تحاول النيل من سيادة الأوطان وإخضاعها لسيطرة الدخيل. ودروس الحياة كثيرة في هذا الصدد عندما تتلاحم النفوس وتجتمع القلوب وتتحد الأيادي بعيدًا عن الخلافات التي تُترك جانبًا من أجل إفشال مخططات الأعداء انطلاقًا من صدقية الانتماء للمنطقة والبلد والمدينة. وهذا ما يحدثنا عنه تاريخ مدينة الموصل على سبيل المثال لا الحصر، حين تناغمت الأفكار وتعاضدت الإرادات وتكاتف أهل الموصل جميعًا من سائر الملل والأديان والطوائف في مسعى حثيث ومستميت لصدّ الهجمة الصفوية بقيادة نادرشاه الذي حاصر المدينة أربعين يومًا بلياليها ولسنتين متتاليتين 1732-1733 م. وما كان من الأهالي إلاّ أن يجتمعوا على كلمة واحدة بقيادة الوالي حسين باشا الجليلي حيث تكاتفوا ولبّوا نداء الوالي في دفاعٍ مستميت عن مدينتهم بمختلف الوسائل والسبل. فكانوا محاربين أشدّاء مستميتين أو داعمين صابرين بوسائل معاشية وإسنادية حتى خاب أمل الغزاة وفشلوا في احتلال الموصل فشلاً ذريعًا ووقع فيهم أي مقتل لا يمكن نسيانُه بحسب مدوّني التاريخ. والسبب في قدرة الموصليّين على ردع الغزاة، حبُهم لمدينتهم وانتماؤُهم الصادق لتاريخها وأرضها ومقدساتها وتراثها.
ولنا في التاريخ المعاصر القائم مثال آخر لمسناه لدى الجارة الشرقية إيران في أواخر هذه الأيام حين تكالبت عليها قوة الاستكبار العالمي وما في دوائرها فنالت من بعض شخوصها المهمّين، إن قتلاً أو عبر عقوبات صارمة. وبغضّ النظر عن طبيعة هذا النظام الذي طبعته سمات العنجهية وتمرّد أزلامه على القانون الدولي وطريقة قمعه لشعوبه وسعيه الحثيث لتصدير أفكار التشيع عبر الحدود وعدم مراعاة حقوق الإنسان في تشريعاته واضطهاد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى التي لا تدين بالإسلام الشيعي ومصادرة الحريات الشخصية وتحديد خيارات مواطنيها وفق معايير أيديولوجية ولاية الفقيه التي لا يجوز تجاوزها وقمع الشارع المنتفض ضد سلوكيات رجال الدين الذين يحكمون قبضتهم على مقاليد السلطة من دون منافس منذ قدوم هذا النظام قبل أربعة عقود خلت، إلاّ أنّ الشعب الإيراني اجتمع على كلمة واحدة حول قيادته الجدلية رافضًا التدخلات الخارجية في شؤونه ومجرِّمًا أعمال قوة الاستكبار العالمي باستهداف قادته وزعمائه. وهذا من الدلائل على سموّ صفة المواطنة لدى شعوب هذه الدولة التي تنطلق من إيمانها بعقيدة ولاية الفقيه التي توازي في سمتها إن لم تتقدّم أي انتماء أو ولاء للوطن والأرض وقت الشدّة والتهديد حيث تُركت الخلافات وأجواء المعارضة جانبًا.
إنه لمن المؤسف أن تتراجع في السنين الأخيرة سمةُ المواطنة والانتماء الصادق في صفوف الشعب العراقي إزاء ما تتعرّض له البلاد من انتهاك للسيادة وقفز على الحقوق من أية جهة كانت مهما كانت الأسباب والأعذار. فسمة التلوّن في شخصية الفرد العراقي والتقلّب بالانتقال من حضن لآخر ومن فكر لآخر ومن أيديولوجية لأخرى لتحقيق مصالح ذاتية أو فئوية أو طائفية لم يذكر لها التاريخ من وجود واسع ومقيت إلاّ في زمن التقلبات التي رافقت ما بعد عصور الخلافة الراشدية وما تلاها من أنظمة تختلف في ولائها وموالاتها لهذه الإمبراطورية أو هذه المملكة أو هذه الزعامة بحسب الدين والمذهب والطائفة وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم من مآسٍ وانحسارٍ لسمة المواطنة الصالحة وكسرٍ للحمة الوطنية بسبب هذه التبعية أو تلك، أو هذا المذهب أو ذاك الزعيم وما إلى ذلك. فقد أصبح الوطن ومقدراتُه وشرائح من شعبه تحت رحمة زعامات دينية أو ساسة جعلوا من أنفسهم قادة وزعماء في حين لا يعدون كونهم أنفسُهم اتباعًا أو ذيولاً خانعين للغير من خارج الأسوار. وكان من بين ترّهاتهم وشدّة سطوتهم على أتباعهم أن قادوهم كالرعاع والنعاج إلى مراعي الذلّ والهوان من دون محاولة من الأتباع البسطاء بإعمال الفكر والبحث عن مخارج مقبولة في استقلالية الذات وفي التعبير عن هذه الأخيرة بما لها من مساحة من الحرية المتاحة في تمييز الخطأ من الصواب. وقد اتضح شيءٌ من هذه السياسة في التبعية والتلّون والتقلّب في المواقف ما حصل مؤخرًا بطريقة غريبة في فضّ المظاهرات الأخيرة في بغداد والمحافظات المنتفضة ضدّ فساد السلطة وأزلام الدولة العميقة، حين انكشف المستور وبانت في العلن نوايا مبيّتة وشكوك سابقة حول طبيعة إدارة أزمة البلاد والمعارضة الظاهرة المعلنة بالتوازي مع السعي للحصول على مكاسب إضافية بمثل هذه الأساليب غير الوطنية.
إنّه بسبب عدم وضوح الرؤية السياسية والاجتماعية لدور المواطن وحقّه في المواطنة، يضطرّ الفقير وطالبُ الرزق النزيه والمثقف العارف واجباته أن يدفع حياتَه قربانًا وضحية بسبب الانفلات القائم حاليًا في الشارع العراقي تحت مسميات كثيرة، ومنها بذرائع التخوين والموالاة. لقد كان الأجدر بالعراقيين جميعًا أن يجتمعوا على كلمة الوطن بعد دحر عدوّ الإنسانية "داعش" الذي أعمل في الأرض والحرث فسادًا وفتكًا وتدميرًا، لا أن يتوزعوا فصائل موالية لهذا الطرف أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك.

فرصة سانحة
 والفرصة سانحة اليوم أكثر من أي وقت ضائع مضى مع تواصل الثورة التشرينية الوطنية في ساحات الكرامة والعزّة والنخوة بنبضها الوطنيّ الصالح والواعي كي تتكاتف جهود الجميع وتلتقي الأفكار عند اقدام وطن واحد من أجل صون شرفه وأرضه وسيادته من الدخلاء والمحتلّين من دون تمييز وخلاصه من الفاسدين والمفسدين وحماية ثرواته من أيدي اللصوص والسارقين وفرز الزؤان والدغل والشوائب من العناصر التي ادّعت زيفًا وبهتانًا بالانتماء إليه في حين ظهر ولاؤُها لدولٍ من خارج الحدود حين اشتداد المواقف.
 فحين يبان الانتماء الحقيقي للوطن وتُرفع راياتُه دون غيرها، حينئذٍ يفرض هذا الوطن هيبتَه ويضمن سيادتَه ويعقد نصره لتكون الغلبة لصوته وليس لغيره. إذ لا صوت يعلو سواه في بلد حرّ مستقلّ يعرف أن يزرع قادتُه وساستُه وزعماؤه بذور العدل والمساواة وينشروا المحبة والتفاؤل والفرح والأمن والسلام والتكاتف في كلّ زمن ومكان.




135
لعبة جديدة في موضوعة فلسفة الأقاليم
لويس إقليمس
بغداد، في 16 كانون ثاني 2020
بدءً، لسنا بصدد البخل بحق أية منطقة أو محافظة أو تركيبة لمحافظات مجتمعةً بالمطالبة بتشكيل إقليم خاصٍ بها. فهذا الحق يكفله الدستور العراقي وفق المادة 119، بالرغم من عدم قدرة هذا الأخير على تقديم حلول ناجعة لمشاكل البلاد التي كان لها بداية ولا نترقب لها نهاية في المدى القريب والمتوسط في أقلّ التقديرات وفي ضوء الصراعات المحتدمة، داخلية كانت أم مع دول من خارج الحدود. لذا لا غرابة أن ترتفع أصوات في هذا الاتجاه وهي تحمل أغراضًا وأهدافًا مذهبية ومناطقية وحتى قبلية متشدقة بأسباب لا يفسرُها سوى أهل الظنّ أنفسُهم.
هناك مَن وجد في نموذج إقليم كردستان في شمال العراق ضالّتَه وراح يبحث عن خفايا المبررات والحيثيات من أجل الوصول إلى نقاط إيجابية حتى وإنْ كانت بشكل ثغرات سياسية حتّمتها ظروف قاهرة بدعمٍ خارجيّ، ليس حبًا بزعامات الإقليم أو شعب هذا الأخير، بل من أجل خلق مرتكز استراتيجي لتلك الدول، ولاسيّما الغربية منها، وأقصد الأوربية تحديدًا بدفعٍ من اللاعب الكبير في العملية السياسية في الشرق الأوسط. وهذا اللاعب الكبير ما يزالُ كبيرًا ومهمًّا وقادرًا على فرض ما يريد وحينما يريد وكيفما يريد، بالرغم من "الجعجعات الفارغة" التي تصدر بين الفينة والأخرى من بعض "صغار" الساسة في العراق ودول جواره، إنْ خوفًا على مصالح ومكاسب يخشى فقدانها أو تأييدًا وموالاة لتبعية خارجية أصبحت مكشوفة النوافذ والغايات بعد التصعيد الخطير الأخير بين أميركا وإيران.
حينما لوّح سياسيّو البصرة تكرارًا في سنوات ما بعد 2008 بجمع تواقيع على مستوى نوابها وفي استفتاء شعبيّ غير متحيّز، اثارت هذه المطالب "المشروعة" وفقًا للدستور، جدلاً واسعًا في الوسط السياسيّ المتجهّم. وفي نسختها الرابعة والأخيرة في نيسان 2019، حصدت المطالبات الجديدة جملة من التعقيدات بين صدّ وقبول وتخوينٍ واتهام بالانقلاب على شروط الائتلاف بين أحزاب السلطة المتصارعة على الكعكة في المحافظة. وما تزال حالة النفور والاستنفار من هذه المطالبات قائمة عندما أثارتها من جديد ساحاتُ التظاهر اليومية المسالمة والمطالبة بمحاسبة المتسببين بضياع حقوق أهلها وثروتهم من أيدي العابثين واللصوص والمزايدين والمخادعين باسم الدين والمذهب، سيّما وأنّ محافظتَهم تسبح فوق بحيرات نفطية سوداء تشكل الحصة الأكبر من سلّة البلاد في أية موازنة بينما يعيش مواطنوها في فقر مدقع إلاّ مَن تصل أياديهم إلى "خُرج" النفط الكبير وميزانيتها المنهكة التي يتقاسم أحزابُ السلطة فيها ما استطاعوا من تهريب للموارد النفطية وغير النفطية من تلك التي ترد عبر الموانئ والمنافذ البرية مع الجارة إيران. فهذه الأخيرة بمعظمها لا تخضع تمامًا لسلطة المركز الاتحادية، شأنُها شأن إقليم كردستان وسائر المحافظات الحدودية التي تتحكم فيها الأحزاب المتنفذة بموارد المنافذ الحدودية المشار إليها، وما أكثرها. 

لماذا الخشية من الإقليم السنّي؟
ما يخشاه العقلاء في محاولات سنّة غرب العراق أن تلتحق هذه المحافظة الغربية الشاسعة الأراضي بقطار الكرد ردّا على الانفعال العاطفي لنواب شيعة العراق بإخراج القوات الأجنبية من أراضي البلاد، والمقصود هنا بالذات القوات الأمريكية التي تقاطعت مصالحُها مؤخرًا مع عدوتها اللدود "إعلاميًا"، إيران. وحينها تكون محاولة جرّ البلاد لهدف التقسيم قد أخذت طريقها للتنفيذ الفعلي ضمن مشروع التقسيم الكبير الذي تسعى إليه دوائر ودول كثيرة محلية وخارجية على أساس مذهبي ومناطقيّ. وتلكم ستكون النهاية الحتمية لوحدة العراق أرضًا وشعبًا وحضارة وتاريخًا، هذا إن حصلت هذه الصفقة أو ردّة الفعل من دون حوارٍ ولا تفاهم ولا حكمة بدراسة كلّ النتائج المترتبة على مثل هذه الخطوة الحاسمة غير محسوبة النتائج والأحداث من حيث عدّها ضربة إضافية قاتلة لاستمرار تمزيق النسيج الوطني المتراجع بعد السقوط في 2003، وتواصل أشكال النقمة والعنف بين الأطراف المتصارعة. وهي أيضًا غاية الاحتلال ومَن يقف في صفّه في خضمّ الأحداث المتفاقمة في هذه الفترة الصعبة من تاريخ العراق والمنطقة.
فيما تبقى الأبواب مفتوحة لإقامة أقاليم على أساس إداريّ يكون الهدف منها إتاحة فرصة أكبر لإدارة كل منطقة على ايدي ممثليها الذين يفترض بهم أن يكونوا أدرى بشعاب مدنهم وبلداتهم وأريافهم وأكثر قربًا من احتياجات ساكني محافظاتهم ومن حاجاتهم الخدمية والإدارية والبشرية. وفي اعتقادي إذا سلمت النوايا وصلحت الإرادات، فإنّه سيكون بالإمكان إعادة التوازن إلى نسيج البلاد المتهالك بسبب القضايا الخلافية المرتكزة على المذهب والطائفة بعيدًا عن كلّ انتماء للوطن والأرض والشعب. وهذا ما يحصل اليوم بين الأطراف المتصارعة على المال والسلطة والجاه بعيدًا عن أي شعور أو سيماء بالشعور بالانتماء للوطن، حيث بانت التقاطعات واضحة بين أبناء الوطن الواحد حيال سلوك كلّ من أمريكا وإيران سواءً بسواء بنقل صراعهما المقيت على أرض العراق. والسبب بطبيعة الحال، هزالة الموقف الحكومي الخاضع للمحاصصة، وفقدان الإجماع على حفظ وصيانة البلاد من دنس البلدين المتصارعين، والدور الطائفي غير المتزن الذي تؤديه أدواتُ الدولة العميقة الموالية لبلد جار كان يُفترض به أن يراجع نفسه في ضوء الرفض الشعبي العلني الواضح في ساحات الكرامة والعزّة الحاملة راية الوطن في كفّ ومشروع الشهادة في كفٍّ آخر حبًا به.
في اعتقادي أنه مع كلّ هذه التحرّكات والترتيبات والمناورات الجارية في هذه الأيام العصيبة، لاسيّما بعد التصعيد الأخير الخطير الذي كاد يفجّر المنطقة وما زال ينذر بخطر محتوم، فإنّ شيئًا ممّا في توقيتات بعض الجهات المخدوعة والمغمورة لن يحصل، طالما تبقى شيءٌ من الهمم الوطنية الصحيحة في جعب نخب الأخيار من عاشقي البلاد، أرضًا وشعبًا وتعددية في فسيفساء الدين والطائفة والمذهب والتراث والحضارة التي ماتزال هي رأس المال الذي تُعلَّق عليه آمال العقلاء والحكماء والنخب الثقافية والأكاديمية. فيما ستبوء بالفشل والخيبة كلُّ محاولات أحزاب السلطة الآيلة إلى اللاّشرعية واللّادستورية حينما تنتصر إرادة المنتفضين في سوح الكرامة رافعة الأيادي النظيفة لعاشقي الوطن براياتِ تمثل تعددية أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم واختلاف وجهات نظرهم وليس في خلافاتهم، لترسم صورة جديدة للوطن بالرغم من أنف الحاسدين وطمع الطامعين وألوان المغرضين.
ففي الأخير لا يصحّ إلاّ الصحيح. والصحيح في العراق، الاجتماع على المشتركات التاريخية والدينية والحضارية والتراثية والثقافية ونبذ كلّ أشكال العنف الدينيّ والطائفي والمذهبي والقبليّ والمناطقيّ التي تغرّد خارج السرب الوطني ومعها كلّ ألوان الانحياز والتحيّز للغير الدخيل، مهما علا شأنُه وسما اسمُه. فالعراقُ لا يعلو عليه اسمٌ أو صفة أو لصٌّ أو ظالمٌ أو دكتاتورٌ مهما كان موقعُه. وهذا شأن بلدان الحضارات والتاريخ المُشرق التي تبقى لها السيادة مصانة والكرامة محفوظة مهما خانتها الأقدار وتلاعبت بها أيادي قذرة وحاولت سرقة سيادتها بسبب خيانة أهل الدار وتقاعسهم وبيع وطنهم للأجنبي بأبخس الأثمان حفاظًا على مصالحهم الضيقة، دينية كانت أم مذهبية أو طائفية أم عرقية أم شخصية. ف"أبو رغال" مازال فاعلاً حتى يأتي به القصاص على ايدي أهل الوطن الشرفاء حين يجتمعون قريبًا جدًّا على وحدة الصف وجدارة الكلمة ويضعون مصلحة البلاد فوق كلّ مصلحة خاصة أو فئوية ضيقة لا تدوم إلاّ لحقبٍ سوداء تدمغ جبين المتلوّنين و"الوطنيين المزيّفين"، لتلاحقهم لعناتُ أهل البلاد الأصلاء والمؤمنون بقدرة الشعب على مقاومة الذلّ والهوان فعلاً وليس قولاً.


136
العملية التربوية في العراق، ما لها وما عليها
لويس إقليمس
بغداد، في 23 تشرين أول 2019
مفهوم التربية واسع ومتشعب وجدير بالاهتمام من قبل الجميع، أسرة تربوية ومجتمعًا ومؤسسات تعليمية عامة وخاصة، وجهات تخطيطية ومالية إضافة إلى الدور الرئيس الذي يمكن، بل الذي يتوجب أن يضطلع به البيتُ الأسري ذاتُه قبل كل هذه وتلك. فالبيت الذي يتربى فيه الطفل يمكن عدّه، بل هو النواة الأولى للتربية المجتمعية الصحيحة التي تضعه في الاتجاه الصحيح للخروج من قمقم الدار وأجوائه المنغلقة نحو المحيط الخارجي واللقاء مع محيط واسع مختلف المدارك والقدرات والاتجاهات والأفكار وجهًا لوجه. هذا إذا أضفنا موضوعة إلزامية التعليم للجميع من دون تمييز ولاسيّما في مراحله الأولى. فهو حق مفروض للجميع بموجب الحقوق العامة في الدول المدنية التي تنشد حقوق الإنسان.
حدثتني زوجتي قبل أيام، عن مقترحات جديرة بالاهتمام وقابلة التطبيق تختلج أفكارَها من حين لآخر في ضوء ما بلغت إليه العملية التعليمية والتربوية المتهالكة في البلاد التي تترنح على كفّ عفريت منذ عقود. وإنّي إذ لا أشكّ بغيرة أمّ أولادي الوطنية وكفاءتها العلمية ونضجها التربوي أولاً، إلى جانب تصوّرها الصادق لشكل التربية والتعليم والوسائل الطبيعية والسلسة لإنجاحها بغية الإصلاح والذهاب بها نحو تعزيز التنمية ثانيًا، فإني أرى أن مجمل هذه العملية تتطلب قبل كلّ شيء وأيّ شيء وجود أرضية صحيحة وصحيّة توكل إليها عملية تأهيل عام وصحيح للقائمين عليها وعلى أدواتها المتعددة المعنية.
كما لا أنتقص من ضرورة وجود إشراف علمي مطلوب من قبل مختصين وعلماء اجتماع وتربويين جديرين برسم سياسة المناهج التربوية العامة للدولة مع تعزيز الرقابة على مناهج المدارس الخاصة واحتواء نزوعها والحدّ من سلوكياتها خارج المقررات الرسمية الوطنية. هذا إضافة إلى ما يمكن أن تضيفه من فوائد وخبرات، اقترانُ العملية التربوية في بداياتها بمقررات مهنية وفنية ودروس لا منهجية وترفيهية شاملة في الرياضة والموسيقى والزراعة والصناعة والتجارة وتقنية المعلومات والفنون التطبيقية المعروفة القريبة من معترك الحياة، بحيث تعين الطالب لتسهيل خياراته من أجل تشجيعه في بناء مستقبله والارتكاز على مهنة يتقنها ويحبها وتتوافق مع مهاراته الشخصية وليس بفرض مهنة عليه. هنا كان لا بدّ من الوقوف إزاء كل مقترح معقول وقابل للتطبيق. ففي كلّ فقرة ومحور نجد خطوات مهمة ينبغي التريث والوقوف إزاءها لما تحمله من كمّ هائل من النصح والإرشاد والتنويه والتحذير والدعم في الوقت عينه.
التربية الأساسية تبدأ من المنزل
من حيث المبدأ، يرى علماء الاجتماع والتربويون أن العملية التربوية تبدأ من البيت الأسري كما أسلفنا، وفيه تقع مسؤولية الأخذ بتربية الطفل رضيعًا حتى يكبر وينمو في العقل والقامة تمهيدًا لإدخاله إلى المراحل الأولى من العملية التربوية التي تبدأ عادة في الدول المتقدمة منذ سن الثالثة وتتدرج لغاية تأهيله للعبور إلى المرحلة الابتدائية حيث من شأنه أن يكون مؤهلاً في سنّ السادسة لتقبّل دروس منهجية منتظمة تؤهلُه للتقدم في درجات التربية والعلوم إلى ما استطاع ذلك سبيلًا بحسب قدراته ومؤهلاته واستعداداته وظروفه الزمانية والمكانية. ومن شأن المتابعة الميدانية للوالدين أن تعزّز من ثقة التلميذ بقدراته وتزرع فيه حبّ طلب العلم والنهم ما استطاع إليه في هذه السنّ الطرية التي تحتاج إلى رعاية أولية خاصة ومثابرة في ذات الوقت. ولكنْ في كلّ الأحوال الطبيعية، يتوجب على الأهل والمتولين أمر التلاميذ المتعلّمين، ذكورًا وإناثًا ومن دون تمييز، من سنّ الابتدائية حتى المتوسطة والثانوية أن يكونوا أكثر يقظة ورعاية وحرصًا على مستقبل أولادهم ويحسنوا التعامل مع حاجاتهم وطلباتهم المتطلّبة أحيانًا في المدرسة أو إزاء الهيئات التعليمية والتربوية أو مع أقرانهم بحيث يخفّفوا من حدّة التمايز الطبقي والتباين في المستوى المعيشي في حالة وجودهما في المحيط المدرسي. وإذا ما نجخ التلميذ المجتهد باجتياز كلّ هذه المراحل بنجاح، حينئذٍ تنفتح أمامه آفاقٌ جديدة، ربما تكون أكثر تعقيدًا، ولكنها أخفّ وطأة في المتابعة والإرشاد بسبب بلوغ الفرد السنّ الذي يؤهله الاعتماد أكثر على نفسه وعلى قدراته الذاتية في استيعاب الأمور وتقرير الصالح من غيره في مسيرته العلمية والأدبية. وهنا فقط، يشعر الأهلون بشيء من الراحة النفسية لنجاحهم بإيصال فلذات أكبادهم إلى سكة الطريق التي تؤهلُهم لدخول المجتمع من أوسع أبوابه بالاعتماد على ما اختزنوه بعد التخرّج من علوم وخبرات اجتماعية وتربوية مفيدة تعينهم في تكوين مسيرة حياتهم.
سياسة تعليمية صحيحة وصحية للدولة
نعود لفقرات مهمة تخصّ فلسفة السياسة التربوية والتعليمية للدولة وكيفية إعداد المناهج عبر الجهات المرتبطة بها من حيث المبدأ. فعندما تضع الدولة في سياستها فكرة كون العملية التعليمية ركنًا أساسيًّا من أركان العدالة الاجتماعية ومن صحة المجتمع ومن تساوي الفرص وبكونها خطوة لا بدّ منها من أجل نقل البلاد إلى قيم التطور والتمدّن وإدخال التنمية المستدامة بفضل ما يستوعبه ويناله الطالب طيلة سنيّ دراسته، تكون قد أخذت هذه العملية مسارها الصحيح حين تطبيقها على أرض الواقع. وهنا تكمن الخطوة الأولى في تأهيل الشخص القائم على العملية التربوية أي في كيفية إعداد المعلم الذي يُعدّ محور العملية التربوية برمتها، حتى في أبسط مظاهرها وصولاً لتقدّمها دراسيًا وعلميًا من خلال إعداده مجتمعيًا وثقافيًا وعلميًا وتعلّمه طرق التدريس الضرورية التي تكفل نجاحه وتفاعله مع الطالب ومع العملية التربوية ككلّ لا انفصال فيهما. فالمعلّم في كل المراحل، بحاجة إلى عملية تأهيل صحيحة وإلى اكتساب مهارات كثيرة تعينه لتقديم أفضل ما لديه لتلميذه وكي يحظى بتقدير الأخير واحترام المجتمع والدولة له ولكفاءته. وإنّي شخصيًا ما أزالُ أحتفظ بشيء كثير من الوقار والاحترام والفخر للعديد ممّن علّموني وزرعوا فيّ فضائل الطاعة والحوار والاحترام إلى جانب مختلف العلوم التي استقيتُها بفضلهم والتي بسببها يخطُّ يراعي في هذا المنبر هذه الكلمات وأقطع بها ما تبقى من شوط في الحياة إكرامًا للعلم والمعارف والخبرات التي أعتزّ بها لغاية الساعة. وكلّ هذا بفضل تربيتي المنزلية أولاً وسهر المربين والمعلّمين الذين توالوا على تلقيني ونصحي وإسنادي. من هنا يأتي الاهتمام بدور المعلّم كي يأخذ قسطه من البرامج التدريبية المستمرة وصولاً للارتقاء بوظيفته إلى أفضل ما يستطيع ضمن نطاق قدراته وقابلياته واستعداداته.
حقًا، ينبغي لنا التنويه أن التراجع الذي حصل في العملية التعليمية والتربوية في العراق بعد الاحتلال في 2003 ولغاية الساعة لهو إشارة على تردّي هذه العملية في كلّ مفاصلها. بل إنها تعني من جملة ما تعنيه وفاة سريرية للعملية برمتها لا سيّما وأنّ إدارتَها وسياستها ما تزالُ خاضعة لعمليات مساومة سياسية من قبل أحزاب السلطة بحيث أضحت لا تختلف عن أية إقطاعية أخرى للتنافس بصددها، بسبب ما تشكله الموارد المسخرة لها من أطماع وأموالٍ يسيل لها لعاب الساسة. وأفضل دليل على مثل هذا التراجع يتمثل بوسائل البنى التحتية التي غابت عن الأنظار من مدارس ليس لها من وجود على الأرض في بعض القرى والقصبات والمدن أو تلك التي انتصبت أعمدتُها من دون إكمالها أو حالة الاكتظاظ القائمة في مدارس عديدة تعج بالتلاميذ أو تلك الخالية من أدوات ووسائل إيضاح مناسبة تساعد العملية التربوية مثل الرحلات المدرسية والقرطاسية والمناهج الوطنية والعلمية المستقرّة الهادفة التي ينبغي تهيئتها قبل بداية الدوام في كلّ سنة دراسية. هذا إذا ما أضفنا إلى هذه جميعًا موضوع غياب الجدارة وأصحاب الاختصاص في عملية إعداد المناهج التي تعاني من فوضى وارتباك تختلط فيها مشكلة الدين والمذهب والتقاليد العشائرية والقيم المجتمعية البالية التي تحدّ من تطورّها وبناء الإنسان على أسس وطنية خالصة بعيدًا عن كلّ هذه المؤثرات غير المقبولة لدى الشعوب المتحضّرة التي تنشد العلم والتقنية الحديثة والتنمية والتطور في كلّ شيء، وأولها تنمية الفكر وترويض الرأي وتنقيتهما من كلّ أشكال الشوائب الدينية والطائفية والتعصّب.
فشل الدولة والحلول
هنا، ينبغي على الدولة أن تقرّ بفشلها في صنع عملية تربوية صحيحة وصحيّة بسبب الصراع المذهبي والتنافس السياسيّ غير الشريف الذي استبعد من سياسته وجود أية استراتيجية تربوية للنهوض بالواقع السيّء المتهالك ليأخذ دوره الطبيعي. فغياب البنية التحتية بكلّ فقراتها وضعف تأهيل المعلّم وعدم الاستقرار في المناهج مضافًا إليه تراجع احترام الشخص القائم على التعليم من جانب المجتمع والحملات التشويهية ضد العملية التربوية وضدّ مؤسسات الدولة التعليمية المتعددة من قبل القطاع الخاص دعمًا لمشاريعهم التجارية تجاه تأسيس مدارس وكليات خاصة، كلّها تساهم في تردّي دور الدولة الأساسيّ في دعم العملية التربوية والتعليمية. كما أنّ المضي غير المبرّر في تقديم تسهيلات وعروض المكرمات من جانب وزارتي التربية والتعليم العالي بهدف تسهيل اجتياز الطلبة الفاشلين بإضافة درجات أو القبول بأداء امتحان الدور الثالث، كلها إشارات على فشل وتعثّر العملية التربوية والتعليمية.
 وهنا فقط، على الجهات التنفيذية في الدولة، وحبذا لو توجهت هذه الأخيرة لتشكيل مجلس أعلى للتعليم والتربية في البلاد كي يُعنى بوضع سياسة وطنية قائمة على العلوم والمعارف والخبرات طالما أن الوزارات المعنية غير قادرة على صيانة حقوق الطالب والمعلّم والمؤسسة التعليمية على السواء. فالتغوّل على حقوق هذه العناصر عبر التوجه السهل للسماح بخصخصة التعليم ليس سوى تنصّل من الدولة ومؤسساتها التعليمية عن أداء دورها الإلزامنيّ المطلوب منها. وهنا أخشى مثل غيري، أن تشهد البلاد في السنوات القادمة فراغًا في الكفاءات العلمية والتربوية والإدارية والسيادية والاقتصادية لأجيالٍ بكاملها ولأسباب عدة، منها مغادرة الكفاءات التي تسلحت في الماضي بشتى العلوم والخبرات إلى بلدان المهجر من غير رجعة بسبب عدم استعداد الجهاز التنفيذي للدولة بطاقمه المحصّصاتي القائم منذ السقوط في 2003 لكون هؤلاء المغادرين أفضل من الباقين ومن أتباعهم الجهلة الذين تولوا مراتب ومناصب ليست من حقهم. وكذلك بسبب ضعف التعليم القائم وغياب الخبرات المكتسبة سيّما وأنّ أغلب الذين تدّعي الدولة ومؤسساتها خضوعهم لدورات تدريبية وتأهيلية لا تعدو كونها سفرات سياحية للترفيه وكسب مخصصات السفر وزيارة الأهل والأقرباء في الدولة المختارة. وأتحدى أن يُقال بغير هذه الحقائق.
صحيحٌ أن العملية التربوية بدأت في الانتكاسة والركود والإهمال بعض الشيء في عقد الثمانينات حين انشغلت الدولة ومؤسساتها في الدفاع عن الأرض والعرض وصيانة التراب التي استلزمت وقفة وطنية بوجه الشرّ القادم من الشرق، وبعدها بسبب ما عانته البلاد من شرور الحصار الدولي. إلاّ أن مؤسساتها كانت لا تزال قائمة، ومن الإشارة إليها وإلى تفاعلها تحقيقُ القضاء على الأمّية تمامًا وعدّ العراق من أفضل البلدان في المنطقة في التعليم ولاسيّما جامعات البلاد المتقدمة. فيما اليوم ربع البلاد تعاني من أمّية قاتلة ومن تخلّف وتراجع في العلوم وفي القراءة والكتابة. ودليلُنا على ذلك، عدم قدرة العديد ممّن تسنموا مواقع المسؤولية في البلاد بعد 2003 على إجادة القراءة والكتابة أو إنّ إجادتهم غير كافية ومن ثمّ فقد استأثروا بدعم الأحزاب التي ينتمون إليها أو تبجحوا بأسباب وحجج ركيكة أخرى بها يدّعون التضحية والخسارة والشهادة. ولا مناص من التذكير بتقديم العديدين من أمثال هؤلاء شهادات مزوّرة أو أخرى ليس لها علاقة بالاقتصاد والإدارة والعلوم والمعارف التي أصبحوا مسؤولين على إدارة مؤسسات مهمة من غير كفاءة ومن دون وجه حق. وآن الأوان للنظر في كلّ هذه وتلك من منطلق الحرص الوطني ومصلحة البلاد العليا وإلّا فلنْ تقوم للعراق قائمة من غير صحوة جديدة تطالب بتصفية البندر وفرز الشوك والعوسج والزؤان من الحنطة الوطنية الخالصة التي تنتمي للوطن وتجلّ ارضَه وتحفظ كرامة المواطن وتعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه بعيدًا عن سياسة المحاصصة والمحسوبية والمنسوبية والعشائرية والحزبية والطائفية والدينية والعرقية.


137
ساسة العراق، كلام كثير وفعل هزيل
لويس إقليمس
بغداد، في 27 تشرين ثاني 2019
قيل في وقت مضى، لا خير يرتجى من أية عملية إصلاح أو تغيير في النظام السياسي السائد والقائم على المحاصصة المهلكة منذ 2003 وليس فيه مكان للتكنوقراط والكفاءات العلمية والوطنية على حدّ سواء. قبيل الانتخابات البرلمانية قبل أكثر من عام، ظلّ الساسة وزعماء الأحزاب يلوكون بأحاديث وتصريحات وتعليقات عن مساوئ نظام المحاصصة وعن ضرورة تغيير هذا المسار القاتل الذي أدّى بالبلاد إلى شفير الهاوية ولم يتلقى الشعب سوى خيبة الآمال فيمن رفعهم واختارهم ليمثلوه في قبة البرلمان من أجل تحسين ظروفهم المعاشية وتقديم الخدمات الأساسية التي افتقروا إليها طيلة السنين العجاف منذ السقوط. ناهيك عن ذرف دموع التماسيح التي شهدناها واطلعنا عليها وهي تستغفر الله وتلتمس الصفح من الشعب المغلوب على أمره عمّا بدر من ساسة البلاد من تقصير في الإدارة والخدمات ومن هدر للمال العام ومن سرقات واغتيال حقوق وضعها الشعب المسكين أمانة في رقاب مَن اختارهم وأجلسهم في كراسي السلطات الأربع. وردَ شيءٌ من هذه الحركات المتلاعبة بعواطف الناس البسطاء مثلاً، على لسان زعيم كتلة سياسية متنفذة في مناسبة سابقة جمعت ساسة ورجال دين وشيوخ عشائر وشخصيات من مختلف الطبقات المجتمعية في البلاد. ومثله كثير، سمعناه من غيره في مناسبات غيرها. لكنّ بسطاء الشعب لم يرتفعوا أو بالأحرى لم تسعفهم الشجاعة الكافية للسموّ إلى عتبة الوعي والصحوة الوطنية والبلوغ بالقرار الفرديّ الصائب لتقرير مصيرهم في كلّ دورة انتخابية. فكانوا فريسة سهلة لساسة الصدفة والمتلاعبين بعقولهم التي اختُرقت غدرًا بتوجيهات من بعض زعماء الأحزاب الدينية واصحاب العمائم بحجة الدفاع عن الدّين أحيانًا والمذهب في أحيان أخرى والعشائرية والفئوية والقومية في غيرها لحين وقوعهم في مصيدة هذه الترّهات وبلوغ السيل الزبى مع مرور عام على الكابينة الوزارية الهزيلة التي تولاها عادل عبد المهدي مدفوعًا بالتوافق من أجل ضمان بقاء مكاسب مَن أولوه هذه المهمّة. وهذا ما آلت إليه الأمور مع تصاعد ثورة الشباب التشرينية التي نشهد اليوم شدّة صحوتها المتأخرة وهي في قمّة سخونتها ومطالبها. 
كلّ القلوب وكلّ العيون وكلّ الآذان كانت محلّقة ومتجهة نحو تصريحات السيد عبد المهدي النارية وبرنامجه الحكومي وطريقة اختياره لوزراء كابينته، وهو المغمور بتاريخه النضالي الأسري والشخصيّ. ولكن الذي حصل بالتوافق والتمرير والضغوط والفرض، نسف كلّ الآمال والأمنيات. فسقطَ الرجل في فخّ الأحزاب والكتل السياسية كسابقيه ومال ظهرَه لأمنيات الشعب وتغاضى عن مطالب الشارع الساخن الذي كان رأى فيه منقذًا وسطيًا لما يجري منذ سنوات من هتكٍ لمبادئ وحدة دولة العراق وضرب مصالحه الوطنية وإبقائه رهينة سطوة دولة جارة أحكمت قبضتها على مقاليد السلطة بتحكمها بانتقاء شخصيات للرئاسات الثلاث. وهذا ما صدر من تصريحات واضحة من نفر محسوبين على الجارة إيران ومن مسؤولين في السلطة في حكومة هذه الأخيرة. وهذا ليس فيه شائبة بل واضح وضوح الشمس، وكأنّ السيناريو الأميركي-الإيراني أراد إعادة التجربة المريرة لسنوات أربع لاحقات بالتوافق للوقوف على ردود فعل الشعب العراقي وإمكانية ترويضه لسنوات أخرى من أجل استمرار حلبه واستغلاله بهذه الطريقة وعبر ذات الشخوص والوجوه السياسية التي أبدت قبولها لمثل هذا السيناريو المشين الفاضح.
    من خلال تحليل أدق لهذا السيناريو، يرى البعض أنّ ما جرى حقًا ومازال يجري من مناكفات وسجالات سياسية سواء قبل الانتخابات أو بعدها، كان مرسومًا له من قبل العرّاب الأميركي. حتى التوجّه الوطني من جانب التيار المدني وأتباعه ومؤيديه وحضورهم في المظاهرات الأسبوعية في ساحة التحرير، بدا للبعض حينها، شكلاً من أشكال الخلاف المصطنع ومجرّد اختلاف في أداء الأدوار وتوزيعها بحسب مصلحة هذا أو ذاك أو هذه الجهة أو تلك. وكلّها تصبّ في مصلحة الإبقاء على شكل النظام القائم أي تكريس المحاصصة والتمسّك بها بكلّ الوسائل والأشكال. وهذا ما صرّح به زعماء كتل وأحزاب في مناسبة وفي غيرها. والسبب واضح، فأيّة ثغرة في جدار هذا المبدأ المدمّر ستقلب الطاولة على رؤوس الفساد وتعرّي زعماء المافيات وتعرّضهم وأتباعهم ومؤيديهم للمحاسبة من قبل الشعب ومن أية حكومة ذات نهج وطني تمسك زمام الحكم بعدهم. 
اليوم، بات الجميع مقتنعين أنّ إصلاح الدولة برمتها، يبدأ بإصلاح النظام السياسيّ أولا، اي نقل البلاد من حكومة محاصصة ومشاركة في المناصب والوظائف وما تدرّ من مكاسب ومغانم إلى حكومة وطنية يدير دفّتها شخصيات نخبوية وذات كفاءة ولها باع طويل في السياسة ولها برنامج حكومي واضح المعالم بتحديدات زمنية وليس في المتاجرة بمصلحة البلاد والشعب، كما هي الحال لغاية الساعة والتي بسببها انتفض الشعب في بغداد العاصمة ومحافظات جنوبية محسوبة على أحزاب دينية في السلطة. ومثل هذا الإصلاح الجذري، من شأنه أن ينقل البلاد إلى برّ الأمان وتصحيح المسار الخاطئ الذي شقّه المحتلّ الأمريكي من أجل مطابقته لمصالحه القومية ومصالح دول الجوار. فراعي العملية السياسية ليس من مصلحته تعافي البلاد وعودة الشعب وحكومته إلى حظيرة الأمم المتطورة وأخذ دوره الريادي في المنطقة. لذا فإنّ بقاء نظام المحاصصة يخدم العرّاب الأمريكي قبل غيره مثلما يخدم مصالح دول الجوار، ومنها إيران والسعودية ودول خليجية أخرى تدير حربًا بالوكالة في العراق والمنطقة. والسبب في ذلك، كي يبقى العراق تلك البقرة الحلوب لأمريكا والغرب ودول الجوار وأتباعها ورموزها وأدواتها في البلاد ممّن نصبتهم على رأس السلطة حين اجتياح الديار في 2003. أمّا ما يتحدث عنه الساسة من خلافات مع المحتل ومخططاته، فهو لا يعدو كونه فرقعة وزوبعة في فنجان، سرعان ما يتلاشى وينتهي بمجرّد قرصة أذن بسيطة ومزيد من المكاسب وتكديس الحسابات.
المرجعية صمّام أمان البلاد
إنّ مَن يدفع ثمن كلّ هذه الأخطاء الناجمة عن شكل النظام السياسيّ الفاشل القائم هو الشعب وليس غيرُه. فنحن متيقنون أن قوة البلاد تكمن بقوة الشعب إذا بادر وتخلّى عن خنوعه وتبعيته لمَن خذله ولدغه مرارًا وتكرارًا بسبب سذاجته وبؤسه الذي حصره فيه ساسة الصدفة والقائمون على السلطة عبر وعود عرقوبية كاذبة وتطمينات من جهات وأحزاب دينية غير ملتزمة بخطوط المرجعية العليا إلاّ في ادّعاءات إعلامية وبيانات تمويهية. فقد اشارت المرجعية بكلّ صراحة إلى حالة التخبط والفشل في الأداء الحكومي ودعت مراراً وتكرارًا لتغيير الوجوه واستبدال الأشخاص الذين فشلوا في إدارة البلاد وسياستها وأوصلوها إلى حافة الإفلاس المالي والمجتمعي على السواء حين قالت كلمتها "المجرَّب لا يُجرَّب". وها هي اليوم عبر وكلائها وخطبها الأسبوعية تنذر وتحذّر من التمادي في التسويف والمماطلة في تلبية مطالب المتظاهرين المتصاعدة في كلّ يوم لحدّ المطالبة برحيل الطبقة السياسية برمّتها ومحاسبة كلّ مَن تثبت إدانتُه وخيانتُه للوطن ونكثه للعهد بالحفاظ على أمانة الناخب وإيثار المصالح الحزبية والطائفية والخاصة قبل مصالح الوطن العليا ولصالح الشعب بكلّ أطيافه.
من المؤسف حقًا، أن يبقى الحديث عن الإصلاح مجرّد كلام في أروقة البرلمان والحكومة وأسلوبًا إضافيًا آخر لتخدير الشعب وإسكات صوت الوطنيين المطالبين بتقويم الاعوجاج وعلاج الخلل ومكامن الضعف التي أدت إلى حيد البلاد والابتعاد عن أخذ دورها الوطني والعربي والدولي على السواء، حيث كان يُحسب للعراق ألف حساب وحساب. إنّ فشل الدولة العراقية برئاساتها الأربع بتلبية مطالب الانتفاضة الشبابية ومَن يؤازرهم، يعني فضّ العقد الاجتماعي بين هذه وبين الشعب الذي يرفض بقاء سلطاتهم بشكلها القائم حاليًا. من هنا ركزت آخر المطالب بالانصياع لصوت الشارع ورحيل الفاسدين من الساسة وانتصاح القضاء ليأخذ دوره العادل بعيدًا عن التسييس والانصياع لتهديدات الأحزاب وزعمائها كما هو حاصل وواضح فعلاّ في حالات لذرّ الرماد في العيون. وقد حذّرت المرجعية الدينية في آخر خطبتها ليوم الجمعة 22 تشرين ثاني 2019، من "المماطلة والتسويف وإلاّ زال الحكم إلى آخرين".
أخيرًا، يترتب على الرئاسات الأربع جمعًا، أن تلتفت لحالات الانفلات القائمة في الإدارات اللامركزية في محافظات البلاد غير المنتظمة بإقليم. فالفوضى القائمة بين المحافظين ومجالس المحافظات المنحلّة تلقي اليوم بظلالها على المشهد السياسي. ولمّا كانت النخب الثقافية والسياسية المعتدلة الحريصة على بناء الوطن قد أجمعت على التخلّي عن الحلقات الإدارية الزائدة التي مارست الفساد في إدارتها لأموال محافظاتها، وأكّد البرلمان ضرورة إلغاء هذه المفسدة، لذا كان مطلوبًا من الجهاز التنفيذي بالدولة أن تكون له كلمة الفصل وإيقاف هذه المهزلة ووضع حدّ لهذا التهوّر بالخروج عن توجيهات المركز. كما أنّ مثل هذه الخطوة الجريئة إن حصلت وحُسمتْ، ستعيد الثقة بالدولة وحكومتها وتمنح زخمًا إضافيًا للبرلمان المتهالك الذي يواجه العديد من أعضائه اتهامات كبيرة بالفساد وهدر المال العام والسرقات عبر وسائل وأدوات عديدة.
حكومة فاعلة
إنّ مطالب الشعب الثائر في بداياتها لم تتعدّى سوى ما يُؤمِّنُ له حكومةً فاعلة ونزيهة تعمل من أجل البناء والتنمية وتقديم الخدمات الآدمية التي يستحقها وفرض سلطة القانون وتطبيق الدستور بالرغم من مثالبه الكثيرة، وليس سلطات منفلتة عميقة داخل سلطة الدولة. لكنّ صبره قد نفذ واشتدّ الغضب ممّا آلت إليه أحوال البلاد. وحينما يغضب الشارع العراقي، يعني الشعب ما يريد بقول كلمته وفعل فعله. وقد شهدنا وما نزال نشهد ما فعله ويفعله البصريون وأقرانهم في محافظات الجنوب المنتفضة ليضيفوا لساحات التظاهر في العاصمة زخمًا مضاعفًا بسبب التمادي في الفساد والمماطلة والتسويف في تنفيذ الوعود، ومنها محاسبة المنفلتين والقتلة في ساحات الاعتصام وحالات الخطف القائمة من جهات مسلحة مجهولة الهوية. وبالتالي، فسفينتُنا واحدة، ولا بدّ من الركوب معًا صوب برّ الأمان وميناء السلام والبناء والإعمار والسلم الأهلي والمصالحة والتنازل من دون التغاضي عن ضرورة فرز الزؤان والأدغال ومحاسبة الفاسدين وسراق الشعب والبلاد.



138
أزمة ثقة أم زمن الغباء والحماقات
لويس إقليمس
بغداد، في 9 كانون ثاني 2020
تبادلت إيران الردّ بالمثل عسكريًا على قوة "الاستكبار العالمي" التي تنفذ أجندتها في ضوء مصالحها القومية في كلّ الأحوال، فيما تسعى بها لتحييد قوى وشخصيات ترى فيهم أدوات للشر وعدم الاستقرار. لكنّ الردّ المقابل جاء هزيلاً في الفعل والقدرة وصار محل تهكم، ما حدا بالبعض كي يصوّره بما يشبه مسرحية كوميدية هزيلة خفيفة الظلّ تستخدم فيها أسلحة مائية عقيمة التأثير والفعل، وليس مثل ما توعّدت به جهات عليا ضمن محاولة منها للتخفيف من الغضب الشعبي المتفاقم وخفت ثورة الشارع "المذهبي" المطالب بالانتقام لمقتل أذرع شاخصة كان لها تأثيرها المدمّر في المنطقة لسنوات عديدات. ولعلّ التراشق العدائي القائم بين الخصمين اللدودين، أميركا وإيران، نابع في بعضٍ من جزئياته عن أزمة ثقة بين الطرفين بسبب التنافر والتسابق لتحقيق المصالح الوطنية والقومية لكل منهما أولاً، والسعي للهيمنة وتوسعة قوة النفوذ لكلّ منهما في منطقة كانت وستبقى محور الصراع طالما هي تحتفظ ببراميل ثروة يسيل له اللعاب من جانب كلّ طامع ارتفعت فيه متلازمة "الأنا" لتحقيق مسعى الهيمنة وقيادة المنطقة بأيّ ثمن وأية أدوات. 
نعود للشوط الأخير من اللعبة القذرة التي انتهت في أرض عراقية كالعادة بالتعادل في التراشق المتبادل بين أميركا وإيران في انتظار الخطوة اللاحقة التي لن تكون أقلّ من سابقاتها. ففي جعبة قائد الفريق الأمريكي، يتوقع اتخاذ خطوات ومتابعات وقرارات ستأتي لاحقًا لتضع حدودًا لحالات الانفلات والاستغلال، وبعضٌ منها يتعلّق بحسابات قديمة مع أركان غير منضبطة في الحكم في العراق والمنطقة من الذين قرروا الخروج عن حماية العرين الأميركي وانضموا إلى المعسكر التوسعي المتهم بمحاربة مصالح راعي التغيير في 2003. وكان طبيعيًا أن تتضعضع الثقة بين راعي العملية السياسية مع الأدوات التي أتى بها للحكم "غير الرشيد" طيلة السنوات الفائتات من ضياع ثروة البلاد وأمان العباد وفقدان الخدمات وتراجع التعليم وازدياد البطالة وانتشار الموبقات واستشراء الفساد في جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها العامة والخاصة بلا استثناء. وقد قاد هذا أيضًا إلى أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم. ونحن نعلم أنه في حالة غياب مبدأ الثقة بين أطراف الحكم والشعب في أي بلد، فهذا يعرّض الأخير لتقلبات غير مأمونة الجانب لأسباب عدة منها سمة التخوين التي أضحت الأسطوانة المشروخة وسط الأحزاب التي تتكالب اليوم على السلطة وتتشبث بها بكل الوسائل المتاحة، سواء في بلدنا التائه في متاهات الدين والطائفة والمذهب والعرق أو في أية بقعة غيره تفتقد إلى الحنكة والحكمة والرؤية السديدة والاستراتيجية متعددة المديات التي من شأنها أن تبني وتطوّر وتخلق فرصًا للسلام والتنمية المستدامة والرفاهة للشعب والكرامة للوطن.
لا ننكر أننا في العراق، فقدنا تمامًا هذه الصفة التي غادرته بلا رجعة منذ الإطاحة بالعهد الملكي الذي ساده آنذاك شيءٌ من الاستقرار والأمان والإعمار معًا. والسبب ليس بخافٍ. فإصرار أحزاب السلطة اليوم التي حكمت البلاد بعد تجربة فاشلة رعتها الدوائر الأمريكية الاستكبارية في 2003، والتي تأبى مغادرة الحكم وإفساح المجال لدماء وطنية جديدة صحت صحوتها التشرينية الكبرى على فقدان وطن تسعى لاستعادته ومطالب شعب بائس يسأل عن انفراج أزمة كأداء ويبحث عن لقمة عيش كريمة وأمان له ولأهل بيته وبخدمات تضمن له كرامة آدمية، هي من أسباب فقدان الثقة بين الحاكم المتسلط والمحكوم المارد هذه الأيام من دون الدخول في تفاصيل مَن هو القائد ومَن هو المحرّض ومَن هو الصامت الراضخ، سواءً بحريته أو غصبًا عنه. ممّا لا شكّ فيه ممّا سمعناه وما اطلعنا عليه بشتى الوسائل المتعددة وما وضّحته وبيّنته وكشفته مراجع عليا دينية وأخرى ثقافية وأكاديمية واجتماعية، كلها تشير إلى بلوغ رسالة فقدان الثقة بين الأحزاب الحاكمة الفاشلة المتهمة بالفساد في كلّ شيء وبين ناخبيها واتباعها الذين أولوهم هذه الثقة بتمثيلهم حين هرعوا وتسابقوا إلى صناديق الاقتراع بالرغم من معرفتهم وإقرارهم بما جرى في تلك الصناديق من عمليات تزوير ومساومات وصفقات بين اللاعبين الكبار وبتوجيه من جهات عليا من خارج الأسوار طبعًا.
 لقد سمعنا وشاهدنا واطلعنا على مقاطع فيديوية واعترافات واتهامات لزعامات وأتباع كتل وأحزاب نافذة كما تناقلتها وسائل إعلام ومواقع تواصل اجتماعي، تنطق وتشهد لفساد العملية السياسية القائمة والتي سحبت الانتفاضة التشرينية مشروعيتها ودستوريتها حينما رفعت شعار "نازل آخذ حقّي، و"أريد وطن" و"إيران برّا برّا، بغداد حرّة حرّة". وفي اعتقادي نجد في هذه الشعارات وفي غيرها كثيرٌ ممّا يشير إلى فقدان ثقة الشعب المغلوب على أمره، بفعل هيمنة عنصر "الدين والمذهب" الذي يوصي بإطاعة أولي الأمر مهما طغى هؤلاء واستفحل فسادُهم وكذبهم، كطبقة حاكمة تسلّطت على رقاب الشعب في غفلة من الزمن وبرعاية غبية حمقاء من قوة الاستكبار العالميّ التي سلّمت العراق لفئات أشبه بعصابات سطت على كلّ شيء. وبفعل هذه الأعمال والسلوكيات غير المتزنة تراجعت حبال الوصل والثقة في صفوف شعبنا الساذج المتلوّن البائس إزاء الحاكم الفاسد الجائر الانتهازيّ الذي لم يدرك لغاية الساعة مدى خطورة أفعاله وخروجه عن معصية السماء وتوجيهات الأئمّة وسماتهم الفضلى في حكم الرعيّة ورعايتها بحكمة وحنكة وصلاح. وحتى لو أدركت هذه الطبقة الحاكمة المتسلطة مؤخرًا مدى خطورة أفعالها وأخطائها بحق الوطن والشعب، فهي بجبروتها الوجاهية وقدراتها المالية وقواتها التجييشية لأتباعها رافضةٌ ومعاندةٌ للقبول بالتغيير في سلوكها الشائن وبإعادة التوازن للعملية السياسية التي تقف اليوم على كفّ عفريت بفعل مماطلتها وتسويفها في النظر بجدّية بمطالب المنتفضين والمحتجين سلميًا في الساحات ومواقع التواصل وعبر ما يٌنشر في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. وها هي ذي تستغلّ الأحداث الساخنة الأخيرة لتركب الموجة حسب هواها ولتشيح النظر عن المطالب المشروعة للمنتفضين في ضوء ما تشهده البلاد والمنطقة من فوضى باستباحة الأرض والكرامة بين خصمين لدودين عرفا وخبرا كيفية تقاسم المغانم طيلة السنوات الست عشرة المنصرمة على حساب المصلحة العليا للعراق وشعبه المسكين الصاغر والتابع للغير دومًا.
 
المصلحة العامة عنوان سيادة البلدان
في الوقت الذي وعى الجميع لخطورة ما يحصل في العراق عندما اتخذه "الأصدقاء-الأعداء" ساحة للحرب بالوكالة على أرضه وسمائه ومياهه، نجد مَن يغازل ويجامل، ومَن يعاند ويجافي، ومَن يسكت دهرًا لينطق كفرًا، ومَن يرفع صوتَه مندّدًا ومعترضًا ورافضًا بعد أن خانه ضميرُه واكتفى بما ناله من مكاسب ومغانم وامتيازات فضّلها على المصلحة العليا للوطن والشعب. لقد آن الأوان إنْ لم يتأخر بفضل صحوة أبطال ساحات الكرامة، كي تصحو أحزاب السلطة من غفوتها وتترك جانبًا البحث عن مصالحها الفئوية والمذهبية وتدرك مدى خطورة انزلاق البلاد إلى صراعات جانبية داخلية إضافية وإقليمية ستأتي على الأخضر واليابس. فمصلحة البلاد العليا لا يمكنها أن تتجزّأ ولا أن تخضع لمقياس أحد أو تتماهى مع مزاج جهة أو حزب أو طائفة أو أن تنزلق لعواطف آنيّة وانفعالات طائفية أو مذهبية أو جهوية بعيدًا عن المصلحة العليا للوطن التي ستبقى المعيار الحقيقي الصامد للجميع مهما كانت الظروف أو تقلّبت المواقف. وهذا ما يحّذر منه أصحاب الفكر والرأي والخبرة في حالة المضي في اقتراح تشريعات غير رصينة أو اتخاذ قرارات عاطفية غير مدروسة تنحرف عن المعيار القياسي الذي يمكن أن يجتمع عليه المختلفون في الرأي وفي الردّ السليم والمقبول. وقد أشار في بعضٍ منها رئيسُ البرلمان حينما حذّر من العواقب الوخيمة باستصدار قرار ارتجاليّ في الجلسة "الشيعية" الصرفة لإخراج القوات الأجنبية من البلاد بالرغم من الشكوك الواردة بعدم اكتمال النصاب وعدّ الجلسة ردة فعل عاطفية لاستدرار عواطف الشارع الشيعي وتهدئة الخواطر وتأكيد التبعية لولاية الفقيه. لقد كان من شأن هذه الجلسة غير المتزنة أن يزيد من هوّة فقدان الثقة بين اللاعبين الكبار في البرلمان غير المتجانس أصلاً بسبب طغيان الصوت الشيعي الذي أراد تسجيل حضور طائفيّ ومذهبيّ لافت ردّا على اغتيالات الجمعة المشهودة.
من هذا المنطلق، نقول ليس للعراق وشعبه قدرة إضافية لتقبُّل مواسم عقابية جديدة في حالة انزلاق البلاد إلى حافة الهاوية والاصطفاف والانسياق مع العواطف التي قد تدمّر وتخرّب وتأخذ بالبلاد إلى متاهات الغياهب السود. وقد ذقنا فيما مضى شيئًا كثيرًا منها بفعل حماقات لم تنفع معها كلُّ أشكال النصح والعبر والدروس التي أملاها التاريخ ولم يتعظ بها حكّام سابقون، سواءً بسبب جهلٍ مستفحل أو غباءٍ مكتسب أو كبرياء فارغ أو عناد لا فائدة منه في كلّ الأحوال والظروف. ففي الأخير يبقى صوت الشعوب أقوى من أفعال الطغاة مهما تجبّروا واستفحلوا وتمادوا. 
لعلّ الحكمة تقول: "ألف صديق ولا عدوّ واحد". فالألف صديق قليلٌ ويبقى قليلاً والعدوّ الواحد يبقى كثيرًا على ندرته، وذلك في ضوء سعة العالم الذي أصبح قرية مصغّرة بفعل التكنلوجيا المتطورة والتنمية المستدامة التي تنشدها جميع الأوطان والبلدان المتحضّرة والشعوب والأمم المتحرّرة إلاّ نحن في العراق والمنطقة! فإبقاء الصداقة والعلاقة مع الجميع، مهما اختلفت الأطراف في نواياها ونتائج أفعالها وسلوكياتها التي حتّمتها ظروف استثنائية خارجة عن الإرادة، ستكون دومًا مفتاحًا لحلّ ألغاز وأحاجي وطلاسم لم تكن في حسبان الساسة وشعوبهم المتعاطفة معهم في وقت الشدّة والانفعالات خارجًا عن إرادتهم بسبب ظروف أو ضغوطٍ حتّمتها وقائع وأفعال شاذّة خارجًا عن المعيار الوطني الذي يضمن المصلحة العليا للوطن والشعب، تمامًا كما هي حالة البلاد هذه الأيام. كما أنّ الحليف الرديف الذي ينفع وقت الشدّة وحين الطلب خيرٌ من عدوّ طامع مدسوس تحرّكُه عواطفٌ وانفعالات مذهبية ضيقة عفا عليها الدهر وأصبحت من الماضي بحيث لا تنفع سوى للاستهلاك المحلّي الفارغ. كما أنَّ الشعوب والأمم والدول لا تُبنى إلاّ على ما يقوم به حكامُها والمتولّون على أمرها من فعالٍ صالحة وخدمات تشرح صدور الفقراء والمحتاجين والبؤساء من أبنائها وبناتها. وهذه لا تخرج اليوم عن المقاييس الإنسانية التي ترسمها مجتمعات رصينة متطورة تقدّس الإنسان وتأمن حريتَه ولا تضّيق عليه الخناق بحجج وأسباب واهية تخدم مصلحة الغير الدخيل قبل مصلحة الوطن العليا. فليس من مصلحة الوطن أن يعود شعبُه لسمة "الشقاق والنفاق" التي طبعت صفاته التاريخية بسبب تلوّنه وعدم قدرته على ضبط النفس بوتيرة وطنية عليا تحفظ مواطنيتَه كما يفصح عن ذلك تاريخ العراق. فيما الإبقاء على بصيص أملٍ وشيء من الثقة بين الأطراف المتنافسة خيرٌ من خسارة وطن بأكمله وضياع شعبٍ لم يعرف الاستقرار لحقب طويلات.
إعادة الثقة بين اللاعبين في الساحة العراقية
ما يهمّ البلاد أكثر في هذه الأيام الصعبة إعادة الثقة في الملعب العراقي بين الشعب والسلطات للوصول بالبلاد إلى برّ الأمان وإزاحة كلّ أشكال الخلاف التي تفرّق ولا توحد مع الاحتفاظ بسلمية وتيرة الانتفاضة التشرينية وديمومتها كي لا تستغلّها جهات سعت منذ بدايتها لسرقة مجهودها وشعارها وهدفها بركوب الموجة، ليس حبًا وتعاطفًا مع مطالب المنتفضين بل سعيًا لإطفاء جذوة فعالياتهم وأهدافهم السامية وتحريفًا لمسار انتفاضتهم المشروعة وخدمة لأجندات خارجية فرضتها الجارة الشرقية الطامعة التي رأت في انتفاضتها سقوطًا سياسيًا لأتباعها وزوالاً لأذرعها في العراق وخشية من امتداد تأثيرها على دول توسعت فيها على حساب شعوبها. وهذا يتطلب مزيدًا من الحرص والروية في معالجة اية ثغرات قد تظهر هنا وهناك من شأنها تشتيت الانتباه العام عن المطالب المشروعة للمنتفضين في ساحات الكرامة كي لا تذهب دماء الأبرياء من الشهداء والجرحى والمعاقين بسببها سدى. فالدعم المرجو لهؤلاء المنتفضين الأبطال يكمن في تواصل واستمرار جذوة مطالبهم وفي كشف المندسين وإخراج الزؤان والأدغال من صفوفهم كي لا تفقد انتفاضتهم مشروعيتَها وتخسر ما حققته لغاية الساعة من انتباه العالم الحرّ وتعاطف وطني داخليّ وشعبيّ ومن دول وشعوب رأت فيها صناعة بطولية لا تخبو أنشطتها ومقاومتها في مواجهة كلّ أشكال القمع والردع والقهر التي مورست طيلة هذه الفترة ضدّ وجودها وحضورها ورؤيتها وتماسكها ورويّتها في إدارتها معًا. 
ولعلّ ممّا يثلج الصدور ويريح النفوس الوطنية الطيبة، أن الحراك الشعبي الذي انطلق منذ تشرين أول الماضي 2019 ما يزال في أشدّ تماسكه بالرغم من ملاحظة انحسار جزئيّ في أعداد المتظاهرين الذين مازالوا يتوافدون في أوقات متباينة على ساحات التظاهر والكرامة حاملين على أكفهم وفي أفئدتهم هموم الوطن المفقود الذي يبحثون فيه عن هويتهم. وهذا مؤشر إيجابيّ في سياق الإصرار على الأهداف العليا والأولويات التي تحملها مطالب المنتفضين الصامدين بالرغم من سوء الأحوال الجوية والبرد وما يلاقونه من منغصات من راكبي الموجة ولاسيّما من ميليشيات معروفة تسعى للظهور بمظهر قيادة الانتفاضة، وهي التي لم تستطع طيلة سنوات الادّعاء بالتظاهر الفئوي الفارغ من تحقيق المبتغى الذي حققته الانتفاضة التشرينية منذ انطلاقتها. فقد تغيّرت المعادلة حينما أجبر هذا الحراكُ الصامد أركانَ الدولة العراقية برئاساتها الأربع كي تقدم شيئًا مهمًا من تنازلات للمطالب المشروعة التي نادى ومازال ينادي بها شباب الانتفاضة الأبطال بصدور مفتوحة ضدّ قوى الشرّ اللاوطنية التي تسعى لتخوينهم و اتهامهم  بالعمالة للأجنبي حينًا، وتركيعهم وتهديدهم حينًا آخر بأدوات مُسخية غير شريفة، أو بالمماطلة والتسويف في المطالب كما يتضح هذه الأيام التي تشهد تصعيدًا متزايدًا على أرض العراق بين دولتين طامعتين بالبلاد تتحاربان بأدوات يؤدي أدوارها بالوكالة أحزاب وميليشيات طائفية ورموزٌ معلومة في بعضها ومجهولة في بعضها الآخر، لكنّ جميعها تشترك في صفة الحماقة السياسية.
المهمّ في المحصّلة، أن يستعاد شيء من ثقة مفقودة بين الشعب والسلطات الماسكة لأدوات القوة والمال والجاه وصولاً لبناء عراقٍ جديد مستقل الإرادة وليس بإبقائه وطنًا مكسور الأطراف، مسلوب الإرادة، منقوص السيادة، غارقًا في بحور الفساد والتراجع، فاقدًا للأمن والإدارة الرشيدة. ولعلّ الامتحان العسير الأخير خيرُ حافز لاتخاذ مواقف وطنية صحيحة في هذه الأيام الصعبة عبر تغيير جذريّ ضروريّ يزيح عن البلاد كاهل السنوات العجاف وينهي خلافات الشركاء ويخفّف من أوجاع الشعب ومشاكله الجمّة التي حتمتها وفرضتها العملية السياسية العرجاء المبنية على التوافق والمحاصصة وباستقواء كلّ طرف بطرف خارجيّ يبحث عن مصالحه ومكاسبه.



139
ماذا بعد التصعيد الأمريكي-الإيراني؟
لويس إقليمس
بغداد، في 6 كانون ثاني 2020
قد يقع العراق والمنطقة في مستنقع حرب لا تُحمدُ عقباها بالإنابة بين أميركا وإيران، في البلدان التي يطغى عليها النفوذ الإيراني منذ سنوات، وبصورة أخصّ في العراق بسبب قرب الجيرة بين البلدين وتشابك النسيج الطائفي الذي يطغى على سياسة "الهيمنة" و"التبعية" المتبادلة بين الاثنين من دون منازع ولا تردّد. وقد بانت طلائعُ هذه الحرب الوشيكة بعد حادثة اصطياد العسكري البارز ومهندس التوسع التشيّعي في المنطقة قاسم سليماني أثناء زيارته الأخيرة للعاصمة العراقية بغداد فجر الجمعة 3 كانون ثاني من العام الجديد 2020. ولنا أن نقرّ أنّ بعضًا من تنبؤات عدد من المنجمين المعروفين في المنطقة وقارئي الأحداث قد نوّهوا في بعضٍ من تلك التنبؤات عن أحداث ساخنة ستشهدها المنطقة والعالم، ومنها عمليات قتل واغتيال شخصيات مهمة وغياب ساسة معروفين، هذا إلى جانب مواجهة العالم أزمة اقتصادية حادة في هذه السنة بالذات من شأنها أن تغيّر من وجه بعض الدول وترسم خطوطًا مغايرة ومختلفة لسياسات عدد آخر من الدول.
مهما قيل ويُقال عن الوضع الذي لا يُحسد عليه العراق والعراقيون بعد مقتل صانع الأيديولوجية التوسعية للجارة إيران في وسط المحيط العربي وخارجه، إلاّ أن هذا الفعل ومهما وُصف أيضًا بصفات سلبية أو تفاؤلية فهو لن يأتي بالخير لهذا البلد المستباح من قبل شعوب ودول طامعة، قريبة منه أم بعيدة تفصله آلاف الأميال. فالطمع في بلاد الرافدين الخالدين وما بينهما ممّا في باطن الأرض وفوقها تبقى اللقمة التي يسيغ لها لعاب اللاعبين الكُثر كما الزهرة التي تجذب النحلة التي تقطع مسافات لتستمتع بالتغذّي على الرحيق المنتخب بخبرة وحاسة وغاية من حيث الشكل والجوهر والطعم. فالعراق كان وسيبقى بلد الخير والبركات وأرض الحضارة والديانات وبيت الصلاة والأنبياء وساحة العز والأمجاد تماما كما بنقيضه اليوم ليكون مداس الطامعين والفاسدين وساحة للحرب وتصفية الحسابات وأرضًا للكفر والنفاق في تناقض واضح وفاضح في تاريخه. 
قد يرى البعض في مقتل القائد الإيراني البارز مثار الجدل الذي اصطادته قوة الاستكبار العالمي قبل ايامٍ، صفعةً شديدة وُجهت بوجه إيران ومصالحها التوسعية في الوسط العربي والعالم بعد أن شغل الدنيا والعراقيين وأهل المنطقة منذ الاحتلال المقيت للعراق من قبل رأس البلاء في العالم أميركا بغطرستها واستكبارها حينما وضعت هذه الأخيرة استراتيجيتها التافهة بتغيير النظام البائد بحجة إنقاذ أهل العراق من بلاء أعتى الدكتاتوريات في المنطقة والعالم بحسب وصف رئيس الشرّ آنذاك. لكن غيرهم يرون في هذا الصيد الناجح بداية لحقبة زمنية تُدخل العراق والمنطقة وربما العالم أيضًا في متاهات ليس لها حدود فيما لو اشتدّ أوار التوتر وفقد بعضُ اللاعبين الكبار زمام السيطرة على أعصابهم. حينئذٍ ستدخل البلاد والمنطقة في بؤرة ساخنة من حروبٍ طاحنة لا أحد يرتجي منها سوى الدمار والخراب وفقدان المزيد من الأرواح البريئة التي تأبى السماء والعقلاء والحكماء إزهاقها لمجرّد اختلافات في كيفية التسيّد والهيمنة على الغير وفرض الرأي والإرادة بأيّ ثمن ومن دون وازع ولا ضمير إلاّ لترضية شبق الطامعين والفاسدين والمفسدين في الأرض. 
أمّا الرهان الآخر المختلف في وجهة النظر والرؤية بعد هذه الحادثة العاصفة، فهو يرى في المستقبل القريب زمنًا أكثر تفاؤلاً وأفضلَ أمنًا لمستقبل العراق والمنطقة والعالم. ومهما كان ما قيل ويُقال، فلكلٍّ وجهة نظره المحترمة. فكلٌ ينظر من حدقة عين مغايرة في الشكل والهدف والأداة. لكنّ شيئًا واحدًا مهمًا ينبغي على العراقيين إدراكه، أنّ الأوان قد حان للتخلص من أيّ نفوذ خارجي، أمريكيًا كان أم إيرانيًا أم غيرها كي يعود العراق وطنًا شامخًا إلى سابق مجده وجلال عزته ويعيد كرامة شعبه وأرضه وسمائه ويستعيد عافيته المنهوبة ورفاهته المسلوبة وسيادته المخترقة من قبل جميع اللاعبين في مقدراته بلا استثناء ولا مجاملة ولا مواربة. وعلى الجميع أن يدرك سخونة الموقف واشتداد التوتر الذي قد يدخل أهل العراق في نفق مظلم آخر ليس فيه ما يشير إلى بصيص ضوء ممكن في قادم الأيام طالما بقي فريسة سهلة لكلّ مَن هبَّ ودبَّ بفضل استمرار الإدارة الفاسدة في الوطن الجريح، والتي ليس لها شأنٌ وطنيٌ في رؤيتها في حكم البلاد ولا استراتيجية اجتماعية تعيد اللحمة الممزقة للنسيج العراقي المتهالك يومًا بعد آخر. بل جلّ ما يهمّ حكام السلطة والأحزاب الدينية المتسلطة، سنّية كانت أم شيعية أم عرقية أو مكوّناتية أخرى، هو الحفاظ على مغانمها ومكاسبها الطائفية داخل تشكيلة النظام السياسيّ المقيت الفاشل الذي لم يعد ينفع مع صحوة الانتفاضة التشرينية التي استعادت الوعي الكامل بكلّ ما يجري خلف الكواليس من دسائس وحيل ومكر فاقت حدود الخيال وفجّرت الغضب الشعبي والاجتماعي بسبب كلّ ما جرى وما يجري في كواليس السياسة القذرة.
كفى العراقيين استغلالهم من طغمات وجماعات وفئات بحجة الدين والمذهب والطائفة والعرق والجهادية والمظلومية. فالمظلوم مع الأيام قد تحوّل بطرف عين إلى ظالم مقيت يستغّل ضعف مكوّنات أصيلة مسالمة ويسير بها نحو المجهول بل ويساعدها بكلّ مكرِه وكلّ حيلِه المتيسرة بالعبور إلى شواطئ العالم الآخر وإلى بلدان الاغتراب بألف وسيلة ووسيلة. وهناك مَن يصفّق لفعل هؤلاء الدهاقنة والماكرين والفاسدين في السرّ والعلن بوعي منهم أو بدونه. ومع أنّ المظلوم الذي تحولَ ظالمًا بفعل الزمن الغادر كان ينبغي عليه الكف عن التصرّف كمظلوم بفضل ما اكتسبه من سطوة ونفوذ وجاهٍ ومالٍ بفعل المحتل الأمريكي في 2003، إلاّ أنه مازال يعيش في قوقعة المظلوم الذي اختار مواصلة البكاء والعويل بسبب هذه الحجة التي لفظها التاريخ والواقع والحقيقة.
كفى العراقيين سمةُ التبعية للغير الغريب والاكثار من العويل على ترّهات وخرافات أدخلها هذا الدخيل في صفوفه غير المنضبطة وغير المتزنة بحجة استذكار المظلومية والولاء لأصحابها والتي لم تعد تنفع في زمن الألفية الثالثة التي تشهد تطورًا وتغييرًا وتقدمًا في كلّ سنة وكلّ شهر وكلّ يومٍ وكلّ ساعة وكلّ دقيقة وكلّ لحظة. فما بالُنا وأين بأسُنا وأينَ إرادتُنا كي يعود بنا الغير من الدخلاء إلى زمن اللطم والعويل والبكاء لفعلٍ لم ترتكبه أجيالُنا ولا لنا به ناقة ولا جمل. 
دعونا نفرح ونبتهج ونتطور ونتقدم ونرفه عن أنفسنا بنعمٍ وبركاتٍ وخيراتٍ حبتنا بها السماء وأنعم بها الباري الخالق بكلّ نعماته وكلّ خيراته وكلّ رحماته. وعلينا أن ندرك أن الدول التي تشعر اليوم باهتزاز مصالحها في ضوء الأحداث المتسارعة في العراق والمنطقة، ليس لها أو فيها من هموم سوى الإبقاء على هذه المصالح وإدامة زخمها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. فلا أحد منها تراه يذرف دموع الحسرة والتوجع والأسف إلاّ رياءً على شهداء أبرار يفترشون الساحات منذ أشهُر وهم يبحثون عن وطن مفقود السيادة وبلد مسلوب الإرادة وشعب مغلوب العزيمة وسياسيين فاقدي الرؤية والروية معًا. فهذه الهموم اليومية والمشاكل الشعبية التي تشهدها ساحات الاعتصام "الوطنية" المسالمة لا "الراكبة للموجة" لا تدخل ضمن حسابات هموم الدخلاء القومية القاصرة التي تنشدها أوطانُهم وترسمها سياساتُهم الفوقية المتعجرفة.
وإذا كان عددٌ من السياسيين أو ممّن يعدّون أنفسهم سياسييّن بعد هذه الحادثة الجلَل قد أداروا وجوههم ضدّ أمريكا التي أتت بهم للحكم سواء على ظهور آلياتها العسكرية أو بتشجيع ودعم من أجهزتها الاستخباراتية المتناقضة الوجوه والمصالح والأدوات، فهذا من دون شكّ شأن العراقيين متعددي الوجوه ومزدوجي الشخصية. فهل نسينا وصف أمثال هؤلاء بهذه الصفة كما يورده عالم الاجتماع العراقي على الوردي؟ فأمثال هؤلاء، لا عقيدة اجتماعية واضحة لهم في حياتهم وسط المجتمع، ولا استراتيجية ناضجة تعينهم على إدارة حقوق شعبهم وأهلهم، ولا دراية ناضجة تكفلُ لهم صياغة برامجهم ومشاريعهم التي من المفترض أن توجَّه لصالح الشعب والوطن ولا لغيره، ولا كاريزما مفترضة يتحلّون بها تعيد بهم إلى ماضي حضاراتهم الناصعة وسجلات بلدهم التاريخية التي نادت بها شعوب الأرض وتمنت دول وحكومات وشعوب في حقب زمنية عديدة أن يكون لها ولو قسطًا من نضج ذلك الماضي التليد. وبالتأكيد، ففي ظلّ مثل هذه القوقعة الفارغة والمنغلقة سيبقى المجتمع العراقي مجتمعًا بائسًا ليس فيه ما يعتدّ به سوى أن يكون تابعًا لغيرٍ نال ما استحقه ذليلاً عبر التاريخ من دروس وعبر.
    تلكم دورة الحياة! وحتى نصحو ثانية وثالثة وعاشرة، ستطوينا السنين وسوف تطوي أجيالاً من بعدنا وإلى ما شاءت الأقدار وسمحت السماء المغبرّة. هذا إنْ لمْ تسقط حتى هذه السماء خجلاً وثبورًا ويأسًا من تراجع الإرادة العراقية تذكيرًا وتنويرًا من عهد سومر وأكد وبابل وآشور مرورًا بعهد الرشيد والناصر لدين الله ومَن على دربهم وحتى آخر فارس سقط من صهوة جواده بغدر المحتل وأذيالِه وأدواته.

140
الراعي الصالح والملح الفاسد
عديدة هي الأمثال التي ضربها المسيح طيلة فترة رسالته الإلهية على الأرض، وهي تمثل شيئًا كبيرًا من تعاليمه لتلاميذه وأتباعهم من بعده، أي لعموم الكنيسة والعالم. من هنا، يمكن عدُّ ما يرد في هذه الأمثال حقائق إيمانية وروحية، بل ودستورًا مسيحيًا للاقتداء والعمل به. ففي بعض هذه الأمثال، تنجلي روح التعاليم المسيحية التي تجعل من أتباع المسيح خميرة صالحة في مجتمعهم وملحًا طيب النكهة في الأرض. ناهيك عن توصياته بما ينبغي أن يتسم به المؤتمَن على حفظ وديعة الإيمان كي ينال صفة الراعي الصالح بجدارة ويقود الرعية نحو المرعى الجيّد المثمر.
حسنًا يفعل البعضُ عندما يطلقون وصف "ملحِ الأرض" على المسيحيين بسببِ ما يتسمون به من مزايا وخصائص قلّما نجدها في سلوكيات غيرهم من المجتمعات لدى أديان أخرى، إلاّ ما ندر أو قد نجدها في أشخاص حققوا الاندماج الفعليّ في ذهنية المجتمعات المسيحية وفي طريقة أدائهم وسلوكهم اليومي في الحياة. فهذه السمة بل بالأحرى هذه الوصية قد سبق لربهم المسيح أن أوصاهم بها ليكونوا "ملح الأرض ونور العالم" (متى13:5) في تفاعلهم في المجتمع الذي يعيشون فيه. وانطلاقًا من هذا الوصف، يمكن اختزال رسالة المسيحي في المجتمع والعالم حيث ينبغي أن تسود كل مواصفات الإنسان الطيب الصالح بالتحلّي بالصدق والإخلاص والتواضع والوداعة والحرص والعطاء اللامتناهي والبذل في سبيل إنعاش المسيحية والأوطان والمجتمعات بموجب الصورة التي أرادها وبشّر بها المسيح. لكنّه خصّ أيضًا مَن يتولون الخدمة الإنجيلية العميقة أي الخدمة الكهنوتية بشيء متميّز كي يكونوا "رعاة حقيقيين يسهرون على مصالح القطيع" وإيمانهم، أي في أن يكونوا القدوة. والقدوة عادة تتجلّى في شخوص القائمين على المؤسسة الكنسية أكثر، أي في الإكليروس بصورة أخصّ قبل أن تكون منهاجًا لباقي أتباع المسيح، مهما كانت صفتُهم وأشكال عباداتهم ومرجعياتهم. والسبب، كون الاكليروس يمثل النخبة التي تتحمل الحرص والسهر المطلوبين في إدارة الرعية بموجب الثقة والصفة الكهنوتية الممنوحة لهؤلاء بكافة التراتبية التي يكونون فيها في حضن الكنيسة. والنخبة لا بدّ أن تتمثل فيها أروع صفات القائد، "الراعي الصالح" الذي تبع سيّدَه وقرّر ذات يوم السير على خطاه وتمثيلَه على الأرض يوم "مسحه بزيت الكهنوت على رتبة ملكيصاداق".
عندما يتفاعل الراعي مع الرعية وفق شروط الخدمة أو الرسالة التي يقوم بها من دون امتعاض أو تذمّر أو تشكّ أو خروج عن القوانين الجارية في كنيسة أو جماعة، فهو حينذاك يمثل صفة الراعي الصالح الذي يرعى الخراف ويعرفُها بأسمائها ويقودها إلى المرعى الحسن والحظيرة الدافئة التي تأتي بثمار جمّة، في الدنيا والآخرة. هكذا عرفت المسيحية الأولى رعاتَها، بدءً من التلاميذ الاثني عشر وامتدادًا لما بعدهم مرورًا بالعديد من الاضطهادات التي ضربتها، لكنها صمدت لكونها مقامة على قاعدة صخرة صلبة لا تهتزّ ولا تتخلخل بمثل هذه الصعوبات وأعمال الترهيب والقتل والتهديد. ولنا في التاريخ أمثلة لمثل هذه الأحداث والوقائع والاضطهادات تعجز الكتب والمخطوطات عن سردها، وبقي فيها الرعاة صمودًا كالطود الذي لا يميل ولا يهتزّ. ولكن عندما يخرج "الراعي" عن الطريق القويم ويخرق القوانين الكنسية التي أقسم بالالتزام بها حين سيامته ويدخل دروبًا زمنية شاذة ويعصي الرئاسة ويتجاهل كلّ الأصوات الناصحة، مهما كانت الأسباب الموجبة لهذا العُقوق سلبًا أم إيجابًا، فإنّه حينئذٍ يفقد سمة "الراعي" الصالح في سلوكه وحياته. من ثمّة، لا يستحق حمل سمة القدوة والأبوّة والراعي، بل يصبح "حجرَ عثرة وخير له أنْ يُعلّقَ في عنقه حجر الرحى ويُلقى في البحر".
هكذا يفقد الراعي مذاقه إذا فسدُ ملحُه أكثر من المؤمن البسيط، ولم يعد يصلح لإعطاء نكهة طيبة في رسالته ومهمته التي وعد بالسير بها في تكريس حياته للجماعة والكنيسة وليس لكنيسته التي ينتمي  إليها فحسب. فهو ملحٌ دائم النكهة أينما ذهب أو حلّ أو أوليَ مسؤولية الرسالة. فمثل هذا الراعي في قدوته وسيرة حياته الفاضلة سيبقى الأمل المبتغى في نظر الشعب المؤمن الذي يتطلع لذوبانه في وسطهم واندماجه مع متطلبات حياتهم الروحية والزمنية معًا. فالاثنان ينموان معًا من أجل تكوين ثمار طيبة فتخرج من أشجار صالحة تنقل البشرى والسعادة والصلاح وشذرات من الإيمان الضمني للغير وللأجيال.
دعوة للمراجعة والإصلاح في المؤسسة الاكليروسية
إن كنيسة المسيح، لا تنمو بكثرة تعدادها، كما اشار البابا فرنسيس في رحلته الأخيرة إلى المغرب، وهي دولة مسلمة محافظة، بل بالمثال الصالح ونوع العمل المتميّز الذي يعكس وجه التعاليم المسيحية الحقيقية ومدى الالتزام بها. فهذه الأخيرة أشدّ تأثيرًا في الكرازة والتبشير والدعوة. وهذا ينبغي أن ينسحب أولاً على الأشخاص المؤتمنين على صيانة تعاليم الكنيسة ودساتيرها وإيمان شعبها في نطاق الحياة الروحية التي تؤهلهم لنيل نعمة الالتزام بهذه جميعًا. فإذا كان قدوة الجماعة مِلحًا فاسدًا، فكيف به العمل وسط جماعة قد لا يشكل الإيمان العميق في حياتهم سلوكًا مسيحيًا صحيحًا وراسخًا؟ أي بمعنى آخر، حينما يكون الإيمان لدى الجماعة مهتزًّا ومتخلخلاً أصلاً، فكيف بمثل هذا "الراعي" غير المؤهل إيمانيًا وروحيًا وكنسيًا أن يتفاعل مع الجماعة ومع احتياجاتها الروحية والزمنية معًا؟ وكيف به يصون نفسه وجسده ويضع حدًّا لرغباته البشرية وحاجاته الطبيعية في زمن العولمة والتطوّر في كلّ شيء، حتى في نوع وشكل وصيغة الخدمة الكهنوتية التي يمارسها أحيانًا بعيدًا عن أعين الكنيسة؟ فمَن يضع يدَه على المحراث لا يلتفت وراءَه، بل الأجدر به إكمالُ المسيرة الرسولية وفق عهد الالتزام الذي قبله ووقّع عليه أمام الرئاسة والمؤمنين يوم تقبله الرسامة. وإنْ لم يفلح ولا يغدو تحمّل المسؤولية وعبء الرسالة، فالأحرى به الانسحاب من حقل الخدمة وترك الرسالة بدل البقاء أسير العقدة النفسية والجسدية وارتكاب الحماقات في لحظة ضعف بشريّ تكون فيه العاطفة والرغبة الجسدية أقوى من إرادته والعهد الذي قطعه أو الدرب الذي سلكه لمختلف الأسباب، إنْ كان بسبب الغيرة، أو اللهاث وراء امتياز، أو استغلال الرسالة وسيلة لقصد بلدان الاغتراب، أو جريًا لمنصب كنسيّ رفيع كما هي حال البعض من رعاتنا اليوم والتي يشهرونها في الخفاء والعلن.
هناك مَن يعيش تناقضات الحياة، "قدَمٌ في الجنّة وأخرى في النار"، كما يقول المثل. فالبعض من أمثال هذا الصنف سعى حثيثًا، وغيرُه مازال يسعى لغاية الساعة للاحتفاظ بشيء من مغريات الحياة ومتعها وتفاصيلها الزمنية. وفي ذات الوقت يجالد للإبقاء على نتفٍ من القشور الروحية التي تؤهله للبقاء في صف الإكليروس لما فيه وبه ومنه من احترام وامتياز لهذه الطبقة، تمامًا كما كانت عليه في الأزمنة المظلمة السابقة في حياة الكنيسة عندما كانت هذه الأخيرة جزءً من تركيبة الطبقة البرجوازية وطبقة النبلاء لعدد من المجتمعات، حتى الشرقية منها، قبل انحسارها وتحديد دورها بفضل الثورات الإصلاحية والرفض المجتمعي الثائر في حقب من التاريخ. فمَن يشتهي الكهنوت، فقد فعل الشيء الحسن، ومَن يشتهي الأسقفية فلا غبار عليه إن كان هذا ضمن التوصيفات والمؤهلات المطلوبة في الراعي الصالح. ونحن لا نشكّ أنّ في طريقة اختيار طالبي الكهنوت وترقية قساوسة إلى رتب أعلى أو فخرية سواءً في تاريخ الكنيسة القديم أو الحديث قد شابه المحسوبية والمنسوبية وشيئًا لا يخفى من العائلية والعشائرية والسيمونية ضمن ترتيبات الرئاسات والمجامع التي تتولى هذه المهمة العسيرة. وهذا ما يفسّر الفجوات والهفوات التي نسمع عنها ونراها ونشهدها حتى في مجتمعاتنا الشرقية. والأمثلة عديدة في العقود الأخيرة من تاريخ كنيسة العراق بصورة أكثر حصرًا. فما زلنا نسمع عن شذوذ شخصيّ وخروقات قائمة مستفحلة ومتلاحقة في صفوف الاكليروس والكنيسة الكاثوليكية بالذات، سواء من الرابضين المستميتين في أرض الآباء والأجداد، أو في صفوف الذين تدبروا أمرَهم وهجروا البلاد طمعًا برغبات في نفس عيسو.
إزاء هذه الصورة السلبية وغير المقبولة القائمة حاليا والمرصودة لدى نفرٍ من خُدّام الكلمة، حرّاس "الشعب المؤمن" وما يعنيه شكل هذه الصورة في عالم المتغيّرات والعولمة والانفتاح، لا بدّ من مراجعة حثيثة ووقفة جادة للقوانين والتشريعات الكنسية النافذة من أجل إعطاء توصيف أكثر قربًا للراعي من الرعية وبما يؤمّن له حياة طبيعية مريحة تبعده عن أيّ شذوذ أو تفكير أعمى خارجٍ عن سيطرة الإرادة والرغبة بحيث يكون مصيرُه واضحًا وشخصُه جليًّا وموقفُه صريحًا للعيان أمام الله والرئاسة الكنسية والشعب. فهو خادمٌ على مثال سيده المسيح، لكنه يبقى بالتالي عنصرًا بشريًّا يتكوّن من جسد ونفس، من لحمٍ ودم، من رغبة وروحٍ، من شهوة وطموح على غرار باقي البشر إنْ لم يستطع صون نفسه وكبتَ غرائزه وكبح جماح اهتماماته الجانبية، من عاطفة وتجارة وميسر ومجتمع أعمال وما سواها. وإلاّ سيبقى ما هو عليه من سلوك متناقض وعدم استقرار فكري ونفسي وجسدي وروحي ووظيفي، ضمن خانة التظاهر والنفاق والكذب على الذات وعلى الجماعة وعلى المؤسسة الكنسية.
من هنا، لا ينبغي لنا انتظار مصلحين جدد في هذا الصدد من أجل إصلاح المنظومة الكنسية قبل أن تعيد الكنيسة الكاثوليكية نفسُها خاصة، ومعها سائر الرئاسات الأخرى المعنية للنظر بجدّية وفاعلية وإرادة منفتحة ومن دون تشنّج أو تردّد أو خوف، بل بشجاعة الفرسان في دراسة الحيثيات والأسباب التي أوصلت بنيان بعض الكنائس وإكليروسها بكافة مناطقيّتهم ومذاهبهم وطوائفهم إلى ما هم عليه من أوضاع غير تفاؤلية ومن خروج عن المألوف والمعهود فيما تحمله هذه التداعيات المتزايدة في طيات القوانين الكنسية التي وُضعت أصلاً في "خدمة الإنسان، وليس الإنسان في خدمتها". وكما صعدَ نجمُ التيار الإصلاحي البروتستانتي "الرافض" بعد العصر الوسيط الذي كانت تميّزت به الكثلكة على أيدي مصلحين غيارى من أمثال فيكليف وكالفن وهوس ولوثر ومَن على شاكلتهم، نعتقد بضرورة قيام صحوة إدارية وقانونية شاملة على غرار تلك الصحوة الإصلاحية التي أدارها هؤلاء بصدقية وإيمان بعد تفكير بضرورة الإصلاح والتغيير في النظام الكنسي المتهالك آنذاك، والذي كان من نتائجه حصول الانقسامات والتشظّي في الكنائس بين محافظٍ متباكٍ مستميتٍ ومصلحٍ ثائرٍ صارخٍ. وكلّ ذلك بسبب أخطاء لم تسعى المرجعيات الكنسية المتقدمة لتجاوزها قبل استفحالها ومعالجة حاجاتها وأخطائها بثورة إصلاحية واقعية شاملة بحسب العصر والزمان.
لقد مرّ على المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني "الإصلاحي" أكثر من خمسين عامًا، لكنّ جزءً مهمًّا من تعاليمه وتعليماته لم ترى النور كيفما ينبغي، ومنها مسألة مشاركة الشعب المؤمن في إدارة دفّة الكنيسة وتقديم العون حين الحاجة وتقديم شهادة الحضور الفاعل فيها. وستبقى المؤسسة الكنسية، أيًا كانت هويتُها، بحاجة لتفاعلٍ حثيث من قبل الجماعة المؤمنة، سواءً كان إيمانُ هذه الأخيرة صادقًا راسخًا أم سطحيًا ظاهرًا. وأيُّ نفورٍ غير مقبول أو امتعاض متشنّج في هذا المجال من قبل الرئاسات الكنسية بكافة تراتبياتها حتى القمّة منها ولاسيّما الرسولية الكاثوليكية، أو أي تصدٍّ لرسالة الجماعة والناشطين والمكرَّسين في المجال الرعوي والتبشيري والخدمي، فإنّ مثل هذا الفعل سيقابلهُ ردُّ فعلٍ صارم وحاسم أحيانًا. هذا إنْ لم يكن قد حصل مثل هذا الردّ القاسي في صفوف عدد من الجماعات الكنسية، سواء في دول الاغتراب والمهاجر البعيدة أو بين ظهرانينا في كنائسنا الشرقية المتنافرة لحدّ الغيرة والحسد والنفاق والسجال غير المجدي والإصرار على مواصلة الخروج عن الإجماع الشعبيّ في نشد الوحدة الكنسية في أقلّ ما تجتمع إليه مجملُها.
فهل سنرى، خطوات في اتجاه إصلاح ما يسعى الشعب المؤمن، على بساطة إيمان شرائح كبيرة فيه، للعودة إلى الجذور الإيمانية الأولى على بساطتها الرسولية الأولية مع شيء من تأوين وتحديث ما ينسجم مع روح العصرنة ويتماشى مع انشغالات الناس بأمور الحياة الأساسية التي لم تعد شؤونُ الكنيسة عمومًا من بين أولوياتها لأسباب عديدة ومبررات مختلفة؟



141
أعياد الميلاد ورأس السنة 2019-2020: نحتفل؟ نعم، لا. لا نحتفل
لويس إقليمس
بغداد، في 23 كانون أول 2019
مع عيشنا الأيام الأخيرة من السنة القائمة 2019 بكلّ تجلياتها الحلوة والمرّة، وتحدياتها الكثيرة وآلامها الفظيعة وخيباتها العديدة وخسائرها الجسيمة وإشكالياتها العقائدية والوطنية والاجتماعية، يقع المسيحيون مرة أخرى ضحية أخطاء ساسة البلاد وسراق المال العام ولصوص الليل والنهار وأدوات القتل على أيدي جماعات مسلحة منفلتة غير منظبطة تأبى إلاّ فرض أجنداتها على واقع الشارع العراقي الوطنيّ الثائر الذي يغلي على صفيح من نار وفكر يرفض المكر والتسويف والمماطلة بفعل الشرّ والشنار. لكنّ العقل والمنطق والإرادة المستقلّة لا يمكنها الرضوخ لهذه جميعًا بإلغاء طقوس رمزية كنسية شرقية عريقة لا تتضمن سوى صلوات وابتهالات وتراتيل تمجّد رب السماء والأرض وتبتهج بميلاد مخلّص الأكوان بحسب العقيدة المسيحية التي ترفع نشيد الملائكة المسالم "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة الصالحة لبني البشر". 
من هنا فإنّ الارتجال غير المبرّر من جانب غبطة البطريرك الكاردينال لويس ساكو هذه السنة بإلغاء التقاليد الكنسية الشرقية بمناسبة أعياد الميلاد وراس السنة من قداديس وصلوات ورموز طقوسية باسم كنائس العراق من دون تفويض واضح من باقي رؤساء الكنائس الشقيقة ليس مقبولاً، وإنْ جاء بحجة مسايرة الظرف والتعاطف مع محنة العراق والعراقيين. ومع تقديري بكون الإعلان غير الموفّق هذا جاء بناء على استشارة أو تدخّل أو نصيحة من جهات أمنية داخلية غير رصينة بالغت في تحذيراتها، إلاّ أنّ الرضوخ بهذه البساطة لمثل هذه التحذيرات الهزيلة لم يكن متوقعًا من غبطة بطريكنا المحبوب المعروف بكارزميته المجتمعية وفكره المستنير ووطنيته العالية بالتعاطف مع شعبه العراقي وليس المسيحي حصرًا. فهو أبٌ للجميع وقدوة للمرجعيات المسيحية وغير المسيحية وعلامة وطنية بارزة في سماء الوطن لا يخشى في الحق لومة لائم حين يقتضي الظرف بقول كلمة الحق والعدل والإنصاف. لقد كان الأجدر بغبطته أن يوصي بنصب خيمة ميلاد متميزة وسط ساحة الشموخ والتحدّي والكرامة، يعلوها شعار السلام وترتيلة الملائكة إيمانًا بسلمية الاحتجاجات، وتأكيدًا لشعار العدالة والمساواة الذي ينشده الجميع ومنهم المسيحيون وسائر المكوّنات الأصيلة في البلاد الصغيرة منها والكبيرة، ومناصرةً لحقوق المحتجين والمنتفضين والثوار ضدّ الظلم والفساد. 
عتبي اليوم كما بالأمس القريب، على رئاسة الكنيسة الكلدانية بالدرجة الأولى التي تتولى زمام تقديم تنازلات غير مقبولة للواقع المتأزم الذي يحاصر المسيحيين منذ عقود مظلمة ليكونوا دومًا ضحية ما يجري بسبب الأحداث السلبية التي شهدتها وما تزال تشهدها البلاد من دون إنصاف ولا هوادة. فمطابخ السياسة النتنة وغير النزيهة تواصل اليوم كما بالأمس القريب إبراز رائحة الفساد بكلّ اشكاله، مزيدًا عليه حرمانَ أهل البلاد الأصليين المتجذرين بعمر التاريخ لأكثر من سبعة آلاف سنة من الاحتفال بتقاليدهم التي اعتادوا عليها منذ ميلاد طفل المغارة في بيت لحم. ومن المؤسف أن يعتاد المسيحيون صاغرين على مثل هذه التنازلات خاصة في عراق ما بعد الغزو الأحمق في 2003، كما حصل فيما قبلها حينما كانت قيادات كنسية هزيلة "تتبرمك" وتعلن عن مبادرات خائبة بإلغاء مناسبات دينية "طقوسية" متجذرة في تقاليد الكنائس الشرقية الرسولية العريقة، تمامًا كما يحصل اليوم بإلغاء قداديس ليلة العيد ومثلها حفلة شعلة الميلاد المعروفة. فهل شهدنا اتخاذ أديان أو مذاهب أخرى في المجتمع العراقي مبادرات من هذا النوع بإلغاء طقوس عيدية أو صلوات أو ابتهالات في ظروفٍ مشابهة؟ إنّ احتفالات المسيحيين بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة لا تخرج عن كونها طقوسًا محض دينية وتقاليد كنسية بعمر الكنائس الرسولية الشرقية وليست احتفالية ترفيهية زائدة وخارجة عن المعتاد. والأمرّ من هذا أنّ الكنيسة الكلدانية قد اعتادت النطق باسم مسيحيّي العراق بالرغم من كونها جزءًا من هذه الأخيرة وليست سيّدتَها ووصية عليها وذلك بحجة تشكيل أتباعها غالبية الشعب المسيحي. في حين أنّ مسيحيّي شمال العراق الذين يشكلون قاعدة الكنيسة الكلدانية يُؤثرون تعدادَهم ضمن عِرق الشعب الكردي قبل أن يرفعوا راية الصليب والمسيحية ثم الكلدانية. في الأقلّ هذا ما رشح من أفواه قادة هذه الكنيسة وأتباعها في مناسبات عديدة. وذات الشيء ليس غريبًا في هذه الأيام العصيبة.
تحيتي ومحبتي وتهانيّ الصادقة لرئيس الكنيسة الكلدانية بمناسبة عيد ميلاد سيّد البشر ومخلّص الأكوان بحسب العقيدة المسيحية، الطفل المولود في مذود بسيط قبل أكثر من ألفي عام علامة مضيئة على تواضعه وبساطته وأخذه صورة طبيعة البشر. ولغبطته منّي مواطنًا أمينًا وأخًا صغيرًا وصديقًا وفيًّا وزميلاً سابقًا، كلّ كلمة طيبة ومؤازرة ميدانية وكنسية. وهذه دعوة ملحة كما في سابقاتها، لغبطته باستشارة رؤساء باقي كنائس الوطن مستقبلاً لحين تفويضه رسميًا النطق باسمها جميعًا، وهذا ما دعونا إليه مرارًا وتكرارًا حين توفر الظروف وتصافي النيات وعقد الإرادات. فما سبّبه إعلان غبطته من لغطٍ في أوساط الشعب العراقي عامة والمسيحيين بصورة خاصة ومَن يعني لأمرهم في الداخل والخارج، بإلغاء احتفالات أعياد الميلاد هذه السنة ومنها إقامة القداديس والصلوات الطقسية بحجج وتبريرات وتحذيرات صادرة من جهات غير رصينة أو مقربين أمنيين بتحديد تنقلاته وزياراته، لم يكن موفقًا من وجهة نظري. ولو استشار أهل العلم والدراية والحرص، لكنتُ من المشيرين إليه بالاحتفال مح المنتفضين والمحتجين في ساحة الكرامة والشموخ، هو أو وكيلُه أو مَن ينسّبُه لهذه المهمة المسيحية الوطنية. وإنّي مُزيدٌ عليه محبتي واحترامي لما فيه من قوّة كارزماتية شعبية ومن حب وتقدير وسط المجتمع العراقي نتيجة مواقفه المؤازرة لحقوق الشعب كلّ الشعب وجرأته الشخصية في تبيان التحرير والتحرّر والتأوين في العقيدة اللاهوتية وإبراز الفكر الوطني والاجتماعي المستنير بمناسبة وبدون مناسبة.
تهاني القلبية لكلّ شعب العراق الطيب المظلوم بهذه المناسبة، ونحن نشهد صدق مشاعره وتعاطفه مع مسيحيّي البلاد من المرابضين الصامدين أو المهاجرين أو المهجّرين الذين عرفوهم شعلة متقدة في الوطنية والحماسة والجدّية والإخلاص في العمل. فذكريات الأمس الطيبة لشعب متكافل متآزر محبّ لا تنتهي ولن تنتهي، بل ستبقى مدى الأزمان في ذاكرة كلّ الطيبين المحبين للوطن ولأهله. وما النصر القادم والفرَج الموعود إلاّ من عند الله بجهود الغيارى وحسن النوايا.



142
لم تعدْ ثورة جياع بل ثورة كرامة وطن وشعب
لويس إقليمس
بغداد، في12 كانون أول 2019
أفرزت الانتفاضة التشرينية بأصالتها العراقية وبامتياز، شرائحَ على قدرٍ كبير من الوعي السياسي والمجتمعي والاقتصادي، بعد أن حاولت جهات مدسوسة وحانقة إلصاق تهمة البحث عن فتات الأسياد الفاسدين الذين ظلموا شعبهم لسنوات عجاف. وهؤلاء الفاسدون والمفسدون "سيعلمون أيَّ منقلبٍ سينقلبون" في وقت حالكٍ لن يُتاح لهم حتى لملمة ما تبقى لهم من حاجيات وأوراق ووثائق تدينهم، هُم ومَن والاهُم وسارَ في طريق الشرّ والفساد والظلم الذي ساروا عليه منذ سقوط الوطن بأيدي شلّة أعماها الفساد ورذيلة نهب المال العام وسرقة حقوق الشعب بأساليب ووسائل لا يقبلُها أيّ دين أو مذهب أو مجتمع فيه ولو شعرة من الضمير والوجدان الوطني. ولا ينطبق على الشلّة الحاكمة من أحزاب السلطة التي ماتزال متمسكة بتلابيبها عبر وصفات الجرم المشهود بالعنف والاعتقال والتعذيب والقهر والتهديد والخطف والاغتيال إلاّ وصفهم بأتباع مذهب الشياطين الذي اختطّه زعماء الكتل والأحزاب لتثبيت مواقعهم غير المرغوب بها من قبل الشعب الذي نادى بأعلى صوته: " كفى! ارحلوا يا طبقة الفساد واللصوصية والنهب والقتل"!
لقد فاجأ الشباب الثائر في ساحات التظاهر والاعتصام من بغداد إلى البصرة، العالمَ بقدراتهم الثورية النابضة بالحيوية والفكر المستنير والصحوة الوطنية بحب الوطن والحرص الشديد بمواصلة سلميّتهم عندما طالبوا بعودة الوطن المسلوب إلى أهله الشرعيين، إلى شعب العراق الأصيل الذي ثخنت جراحاتُه وسُلبت مواردُه وأهينت قاماتُه وغُيِّبت طاقاته وعُطِّلت صناعتُه ووُئدت زراعتُه بسبب غياب الوازع الوطني والحرص السياسي لإدامة بقاء الوطن حرًّا منيعًا وغير تابعٍ للأجنبي الطامع. فمَن يتابع تصريحات ومداخلات وآراء المحتجين من شباب الثورة عبر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، يُدرك حقًا قمّة الوعي الوطني الذي بلغته هذه الشريحة المنتفضة ضدّ الظلم والفساد واللصوصية في زمن الديمقراطية الطارئة المنقوصة. وهذه الشريحة النامية إذ تسجل ثلث النسبة السكانية الحالية، فهي بسبب هذا وذاك تستحق كلّ تقدير واحترام للإنصات إليها وتلبية مطالبها من دون تردّد ولا تأخير. ونتيجة للوعي المتزايد بالحفاظ على سلمية التظاهرات والاحتجاجات، جاء تحذير تنسيقياتها الحريصة على حياة المحتجين عبر منع جهات مجهولة ومدسوسة من محاولة اقتحام طائشة للمنطقة الخضراء دليلاً آخر على وعي شباب الانتفاضة ويقظة مَن يتولى تنظيمهم، بحث وُئدت المؤامرة في عقرها ونُسفت كلّ التحضيرات والتجهيزات التي استعدّت لها ميليشيات السلطة بهدف إطلاق مجزرة أخرى بحق المقتحمين المفترضين ومن ثمّ إسدال الستار على الثورة الشعبية السلمية، كما خططّت له جهات شيطانية لها باعٌ وخبرة بقمع الثورات.
إن هذه الروحية العالية بحب الوطن والنابعة من جوهر الوجدان العراقي الأصيل كان لها تأثيرُها الكبير على شرائح كثيرة في أوساط المجتمع، من عشائر ومثقفين وأكاديميين ومحامين ونقابات على تنوعها علاوة على الدعم اللاّمحدود من شخصيات سياسية ومستقلة من خارج الحدود، إشادةً بالوعي الكبير للمنتفضين وهُم يسطرون ملاحم البطولة بصدور عارية بوجه الرصاص الحيّ لطغمة الفساد التي غادرها الخجل والحياء والضمير طيلة سطوة الحكومات الشيعية المتعاقبة منذ السقوط في 2003. ولن يستكين صوت الشباب الثائر أو يصمت مهما حاول زعماء الكتل وأحزابُ السلطة تقديم جرعات تخديرية من إصلاحات ترقيعية غير مجدية لا تغني ولا تسّمن. كما أنّ الاحتجاجات لن تتوقف وتيرتُها حتى تحقيق جميع مطالب الشعب التي تجاوزت مرحلة المطالبة بالقوت الآدمي والوظيفة المحترمة التي يستحقها كلّ مواطن، سيّما وأنّ سياسيّي السلطة المرفوعة عنهم شرعيتُهم من قبل الشعب المنتفض لم يصحوا بعد من غفوتهم وحالة أحلام اليقظة التي مازالوا يتقيدون بها ويوهمون النفس بقدرتهم على إقناع الشعب والشباب منهم بصورة خاصّة بالعودة إلى منازلهم وأعمالهم، وكأنّ شيئًا لم يكن!
من هنا، ليس من الممكن ولا من المعقول إسدالُ الستار بهذه البساطة عن ثورة شعبية انتفض فيها شعبٌ بشبابه وشيبه، بذكوره وإناثه، بنسائه ورجاله وهم يطالبون بعودة وطن مسلوب وبحقوق مشروعة من أمن وخدمات ورفاهة يستحقها كلّ مواطن عراقي. وهلْ من السهولة طيّ صفحة الدماء الزكية التي أُريقت على أيدي نظام فاشيّ بحكومة قتلت شعبَها بهذه الخسّة وهذا الحقد واستخدمت أسوأ أشكال العنف والقتل والخطف والتهديد والقوة المفرطة بحق متظاهرين سلميّين طالبوا برحيل طغمة فاسدة أتت على ثروات البلاد وأفرغت خزائنَه وسرقت أموالَه لصالح اتباعها وأحزابها وكتلها ومَن ينتمون إليها ويأتمرون بأوامرها من خارج الحدود؟
شهادة أمميّة 
لقد وعى العالم أجمع لما يجري من ممارسات إجرامية غير أخلاقية ولا وطنية بحق شباب عزّل أرادوا لثورتهم أن تبقى سلمية حتى تحقيق النصر وتلبية المطالب المشروعة بالعيش في كنف وطن آمنٍ يحترم مواطنيه ويمنح لهم حقوقهم الوطنية بخدمات آدمية وأمن واستقرار. ونظرًا لاستخفاف السلطة الحاكمة بهذه المطالب المشروعة في بداياتها وتعقيد المشهد في تطورات لاحقة، فقد ازدادت المطالب ولن يرضى الشارع بعد اليوم إلاّ برحيل لفيف الطبقة الحاكمة ومغادرة أحزاب السلطة وحلّ ميليشياتها وإنهاء دور ذيول الجارة إيران التي أرادت من هيمنتها على العراق كي يكون رئة تتنفس منها للتخفيف عن العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي بدأت تُؤتي ثمارَها حين انتفض شعبُها هو الآخر على فساد حكومة ونظام ولاية الفقيه بعد سقوط المقدّس فيها. فالعنف المفرط ضدّ متظاهرين سلميين كان ومازال موقع إدانة واستنكار من المجتمع الدولي ومن دولٍ غربية أعربت عن سخطها واستيائها ومخاوفها من مواصلة أجهزة القمع المنفلتة الخارجة عن القانون بحق المتظاهرين.
بهذا الصدد، هذا أكدته ايضًا ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة جينين يلاسخارت في تقريرها الصارخ أمام مجلس الأمن يوم الثلاثاء 3 كانون أول 2019، وفيه تطرقت بصراحة إلى حقيقة وجوهر حُكم أحزاب السلطة وسطوة ميليشياتها المنفلتة الخارجة عن سيطرة أجهزة الدولة التي تعيث في بلاد وادي الرافدين فسادًا بلا رقيب ولا حسيب وتمارس أشكال القمع والقتل المتعمد والاختطاف والاحتجاز التعسفي على أيدي رجال مسلحين ملثمين مجهولين. كما كان لزيارتها قبل ذلك في جولتها الاستطلاعية المشهورة لموقع التظاهر في ساحة التحرير أثرُها في نفسها حين تكشفت الصورة لما يجري فيها وعليها بلقائها مع نماذج من المتظاهرين الذين أكدوا لها "حاجتهم لوطن" يشعرون فيه بأمان ويعيشون على أرضه حياة تليق بشعبٍ له ماضٍ مشرّف والاستفادة من طاقاته وموارده بهدف مغادرة حياة الفقر والجوع والحرمان التي حصرهم فيها ساسة الصدفة منذ السقوط في 2003 بدعم الغازي الأمريكي. وفي آخر تقرير للبعثة الأممية أشارت فيه صراحة إلى "استمرار ارتكاب اعتداءات وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك انتهاكات للحقوق في الحيا ة والسلامة البدنية والحرية والأمن الشخصي وحرية التجمع السلمي وحرية التعبير".
كما كان لشهادة رئيس إبرشية الكلدان في أربيل المطران بشار وردة لجلسة مجلس الأمن المذكورة، وقعُها الكبير في صفوف الحضور بتأكيده على حق المواطن بالعيش في دولة مدنية تحترم كرامة الإنسان وتضمن له الحياة وفق مبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع. فيما شدّد أيضًا على "حقيقة الدلالات الكبيرة التي منحها الشباب في قيادة التظاهرات بوجود إرادة وطنية صادقة للفوز بوطن مستقلّ ومتحرّر من أيّة تدخلات خارجية بحيث يعيش المواطن في بلدٍ يحترم التعددية وكل مكوّناته"، مع تأكيده بتأييد المسيحيين وسواهم من المكوّنات المهمّشة لهذه التظاهرات أملاً بتغيير النظام السياسيّ الفاشل القائم.
أمام هذه الشهادات التي نقلت صورة حية عن واقع الحياة بعد 2003 في العراق، وما تعرّض له الوطن من انتكاسات وإخفاقات وتداعيات، وما طالَ المواطن من خرق واستخفاف بالحقوق وتهجير ونزوح بسبب سلوكيات أحزاب السلطة ومَن يواليها حين أهملت حقوق المواطنة وسعت عوض ذلك للتأبيد والتأسيس لنظام محاصصاتيّ مقيت منذ قدوم ديمقراطية الدجل، كان لا بدّ للمجتمع الدولي أن يتخذ قرارات للحدّ من حالة الانفلات في السلطة وغياب مؤسسات الدولة المدنية. وهذا ما يترقبه العراقيون جميعًا في القريب العاجل كي يأخذ المجتمع الدولي دوره الحقيقي والفاعل بوضع حدّ لحالة انهيار الدولة إلى منزلقات لا تُحمد عقباها، ما يتطلب مراجعة صريحة وجادّة لواقع وطبيعة النظام السياسي القائم الذي أثبت فشلَه الذريع في خلق وطن قويّ لجميع المواطنين وليس لفئة فاسدة وحاشيتها ومَن يدعمها من خلف الأسوار. وكلّنا أمل ببلوغ الحراك الشعبي والشبابيّ مبتغاه قريبًا جدًّا، بالتأسيس لدولة عراقية جديدة بعيدة عن مبدأ المحاصصة الذي اخترعه الغازي الأمريكي بعرفٍ سياسيّ مدسوس وماكر وأوهم الشعب بنواياها الخبيثة. لقد كان الفساد إحدى نوافذ هذا النظام السياسيّ المحاصصاتيّ. وهو يشكل اليوم أهمّ بنود الإصلاح المطلوبة من جانب المحتجين والشعب على السواء. وحينها فقط، سيعود العراق وطنًا سعيدًا وأمنًا للجميع بعد اغتصابه ورهنه من فئات لا ولم تعرف حب الوطن ولم تراعي حاجات أهله، لأنها ببساطة لا تمتُّ لوجدانه وكيانه وتاريخه بأيّة صلة.



143
السيجارة الالكترونية ظاهرة وبائية غامضة
لويس إقليمس
بغداد، في 3 تشرين أول 2019
يُخطئ مَن يعتقد بتفضيل تدخين السيجارة الالكترونية التي تم تقديمها لأول مرة في 2003 من قبل صيدليّ صيني، على نظيرتها التقليدية بهدف الإقلاع عن التدخين لكون هذه الأداة الحديثة لا تشكل مضارًا لمدخِّنها. فقد أثبتت الوقائع تعرّض الكثيرين من مستخدميها لأشكال من الإخفاقات والمشاكل الصحية التي لا تقلّ في خطورتها عن تدخين السيجارة التقليدية التي تستخدم أنواعًا مسمومة من التبوغ، غالبيتُها غير خاضعة للتصاريح والمعايير المقبولة في أدنى أضرارها ومخاطرها. فيما تشدّد دول أخرى مثل فرنسا التي تضع استخدام هذا النوع من التدخين الحديث تحت الرقابة وإشراف الجهات الصحية المعنية.
وكذلك مَن يعتقد أنه قد فطمَ نفسَه من أذى السيجارة التقليدية وغيرها من أشكال التبوغ السامة التي نعرفها، فهو مخطئ ايضًا. فالطفل الذي يُفطم عادة، تُستبدل أدوات تغذيته المعتمدة على حليب الأم إلى أخرى مفيدة وأكثر فاعلية في تعزيز نموه والأخذ بقدراته الجسدية نحو القوّة والاكتفاء الذاتي من شكل التغذية الجديد وذلك انسجامًا مع نموّه الجسدي والعقليّ. بعكسه، فإنّ مستخدم السيجارة الالكترونية يكون قد انتقل من عادة سيّئة إلى أخرى أسوأ منها، وبها يجاهر مدّعيًا أنه ترك عادة التدخين التقليدية السيئة أساسًا. فيما تشير آراء أصحاب الخبرة والأبحاث التي انطلقت تنشط حديثًا لمراقبة هذه الظاهرة منذ تموز من هذا العام الجاري انطلاقًا من ولاية وسكنسن الأمريكية إلى أنّ ما تقدّمه هذه الأداة الجديدة لا يقلّ خطورة عن سابقتها. بل من الممكن أن تشكّل هذه الأداة الأخيرة أزمة صحية محتملة لمستخدميها. وهذا ما أثبتته تقارير طبية من مراكز صحية عالجت واطّلعت على حالات مرضية غامضة في معظمها.
 من الجدير ذكره، أن السيجارة الالكترونية قد أضحت مدعاة للزينة والتفاخر والتباهي في التعاطي معها بسبب تعدّد أشكالها الجميلة مع "أكسسواراتها" المزينة. بل أضحت هذه الأداة لدى البعض نوعًا من الترف الذي يضاهي استخدام الشيشة المقرف في أماكن عامة وجلسات السمر والسهرات الليلية في النوادي والبارات ومحلات اللهو، وحتى في المنازل. بل هناك مَن يتبختر بنفث دخان السيجارة الإلكترونية إلى أبعد مسافة ممكنة، في إشارة إلى متعته والسباحة في مخيلته الحالمة ناسيًا أو متناسيًا أنّ ما يستنشقه من سمومها الالكترونية يجهل الكثيرون كنهها وتركيبتها ونوع مادتها.
صحيحٌ أن رائحة التبوغ المستخدمة في السيجارة التقليدية مقارنة مع نظيرتها الالكترونية تكاد لا تُطاق، وخاصة حين التقرّب أكثر من المدمنين عليها والاختلاط بهم بسبب ما تنشره هذه السموم من روائح كريهة وما تتركه من آثار على وجه المدخّن وشكل الشاربين المصفرّين حدّ الاحتراق. لكن في المقابل، لا يبدو للناظر السويّ أنّ ما ينفثه ويستخرجه المدمن على الأداة الجديدة من دخان أبيض كالثلج وما يستنشقه عبر منخاريه من بخار للمحلول الالكتروني الذي يحتوي على مواد مثل النيكوتين والجريسرول والبروبيلين غليكول ونكهات وما شاكلها من مواد مضافة ومن ملوّثات ومسرطنات، هو في حقيقته غير صحيّ تمامًا وغير مقبول ولا مستساغٌ من حيث المنظر وشكل الاستخدام وسط العامة. ولعلّ منع التدخين بأشكاله في دوائر عامة ومطارات ومواقع صحية يدخل ضمن هذا المفهوم بكون عادة التدخين غير مقبولة وغير مستحبة أساسًا، سعيًا بالتالي وراء خلق بيئة صحية مناسبة ومقبولة للجميع. فالأماكن العامة ومنها المغلقة تحديدًا، ليست ملكًا للمدمنين على أشكال التبوغ وأدوات التدخين، حتى لو كانت بتقنية جديدة تدّعي الحفاظ على صحة البشر وبيئة الطبيعة التي ازداد تلوثُها وسوء استخدامها.
من الجدير الإشارة إلى ما تقوله مصادر أميركية موصولة بهذه الظاهرة بحسب جريدة اللوموند الفرنسية الصادرة بتاريخ 27 أيلول 2019، من أن استخدام السيجارة الإلكترونية، والتي تم تقديمها كبديل لسموم التبغ المعروفة، قد شاعت مضارُها، وبدأت تظهر للعيان حالات وبائية غامضة أخذت تثير لغطًا كبيرًا لما سبَّبته من أزمات صحية لعدد لا يُستهان به من مستخدميها، مثل الغثيان وآلام البطن والصداع وتهيّج أعضاء مهمة من الجسم دون سابق إنذار. وهذا بعينه، مدعاة لشعور مستخدميها بشيء من القلق بعد تشخيص حالات طارئة من أمراض الرئة الغريبة التي تسببت في وفاة العشرات، بحسب مصادرهم الصحية. وهناك مَن يعزو هذه الحالات المرضية وهذه الوفيات إلى سوء الاستخدام أو إلى المواد السامة المضرّة المستخدمة في تركيبة المحلول الالكتروني الذي يتبخر بفعل التسخين ويستنشقه المدخن عبر النفث المستمر في هذه الأداة. فقد وجدت في عدد من الحالات المشخصة في شهر أيلول المنصرم بعض آثار ممّا يُعرف برباعي هيدروكانابينول ومادة أخرى ذات تأثير نفسي لها صلة بمادة القنب وهي عبارة عن نوع من حشيش مخدِّر.
مع جهود الجهات الدولية المصنّعة لهذا الشكل الجديد من أدوات التدخين بالحدّ من آثارها السلبية العارضة وتقليل ما أمكن من المخاطر المصاحبة في استخدامها اليوم على نطاق واسع وبشكل ملفت للنظر، إلاّ أنّ خبراء الصحة مازالوا يحذرون من الإدمان عليها، خاصة بسبب عدم التزام الجهات المصنّعة بالمعايير الصحية التي تم اكتشاف هذا النوع من أدوات التدخين لغايات سليمة تهدف لابتعاد البشر عن سموم التبوغ والمخدرات التي شاع استعمالها وتعاطيها بشكل خطير. وتبقى هذه المحاذير قائمة أمام اتساع مساحة المدخنين والمدمنين على هذا النوع الجديد من ادوات التدخين التي أصبحت ظاهرًا نوعًا من الترف والتباهي والسرحان في أجواء حالمة لا تقلّ في شكلها عن أحلام اليقظة وأجواء المخدرات وتعاطي المسكرات.



144
جيش وطني+ شعب واع = وطن محترم
لويس إقليمس
بغداد، في 25 آب 2019
الأمم العظيمة والدول القوية تعتمد في قدراتها وجبروتها على طبيعة ومتانة قواتها المسلحة بكافة فصائلها وصنوفها. فهي الأمان وهي الرهان وهي الأداة بتصاعد قدراتها الاقتصادية والدفاعية والتجارية والعلمية وتحصين مجتمعاتها المختلفة ضمن بوتقة الوطن الواحد الذي لا يقبل التمييز والظلم والتفرقة في المواطنية إلاّ على أساس الكفاءة والجدارة والانتماء للوطن وليس للمجتمعات الطائفية والدينية والمذهبية والولاءات الحزبية. هذه التوصيفات الأخيرة للمجتمعات العربية القائمة هذه الأيام، ليس لها من وجود في أوساط الدول المتحضرة والمتقدمة التي تتكفل باحترام أوطانها وشعوبها. فالأحزاب التي تتولى السلطة فيها لفترات مهما قصرت أو طالت، تقف وقفة خشوع وهيبة وخشية أمام شعوبها لتؤدي لها الوفاء والحساب لفترة حكمها. فإنْ حكمت بالعدل والنزاهة والجدارة جدّدت لها ولاياتها وأشادت بأدائها، وإلاّ كان مصيرُها الانسحاب من الساحة السياسية باحترام وهدوء وكرامة نفس. أمّا العسكر فلا حاجة له في مثل هذه الترّهات التي يعدّها لعبة بأيدي الساسة وعشاق السلطة والجاه. فدوره يتمحور حول حماية البلاد ورعاية الدستور وتحقيق الأمن والاستقرار الذي يوفر حياة طيبة وهادئة ومرفهة للمواطن المشغول في مهماته وحياته الخاصة، كلّ على طريقته.
لا ريب أنّ اية دولة تعتمد على قواتها المسلحة الوطنية في مراقبة حدودها وضمان أمن أراضيها وسمائها ومياهها إيمانًا منها بقدرة هذه القوات على القيام بواجبها الوطني بعيدًا عن المصالح المغرضة، يعني الكثير لنظامها وشعبها وتطوير فرصها بحياة أفضل. فالجيوش هي صاحبة اليد الطولى في قول الكلمة الفصل في شؤون البلاد والعباد حين الضرورة، وهي حامية الحجر والبشر إذا ما زاغ الفكر وانحرف النظام وانجرفت الحكومات وسلطاتُها إلى غير طريق الإدارة الصحيحة للبلاد ومواردها وترصين قدراتها الداخلية والخارجية على السواء. فالجيش كما اعتدنا إنشاده "سورٌ للوطن، يحميه أيام المحن". وهذا هو دورُه الأساس في إعطاء القوة والزخم والثقة في صفوف الشعب الذي يعوّل في العادة على قدرة القوات العسكرية في البلد في مسك الأرض وأمنها وحمايتها ومَن عليها من أية مخاطر أو مهالك أو اعتداءات أيًا كان شكلُها. لذا يكون اللجوء للسلطات العسكرية دومًا في تأمين استقرار الحياة ونسقها وفق القوانين والحرص على مراعاة النظام بأي ثمن في بعض الأحيان. 
ولكن، عندما يفقد الجيش، وأقصد الجيش العقائدي المبني على استراتيجية قوية واضحة ورؤية علمية ملتصقة بالوطن والشعب، عندما يفقد مثل الجيش عقيدته العسكرية ويتغافل عن مبادئه التي تأسس عليها ويخرج عن نطاق واجباته الوطنية في حماية البلاد والعباد وينصرف لتأدية واجب الولاء للأشخاص وأحزاب السلطة ودول الجوار وغيرها، فإنّ مثل هذا المسار غير الآمن وغير المقبول جدير بقصم ظهر المؤسسة العسكرية وإنهاء دورها الوطني والعسكري بسبب تحولها إلى دكاكين حامية لمصالح أحزاب السلطة ومافيات الفساد وتجارة كلّ أنواع الممنوعات التي نشهدها اليوم ونسمع بعجائبها وغرائبها. فالعديد من مثل هذه المخالفات والمفاسد والاختراقات في عراق ما بعد الغزو الملعون تحصل بحماية من قبل أجهزة السلطة وتحت رعاية جهات عسكرية متنفذة تأخذ على عاتقها تمرير الصفقات وبمساومات غير نزيهة تهدف لتحقيق مصالح ذاتية ضيقة في غير صالح الوطن والمواطن. والسبب بسيط، لكون مثل المفاسد والخروقات تعظّم من قدرة المافيات والميليشيات المرتبطة بها والتي تعمل نهارًا جهارًا بحمائية لجهات وأدواتٍ متنفذة في السلطات الثلاث. وهذا شرّ البلية. فهو الطريق الموصل إلى الانحلال والانحطاط والتراجع في قدرات البلاد ومواطنيها الصاغرين الذين لا حول لهم ولا قوّة سوى الالتماس من ربّ العباد أزف ساعة الصفر لإسقاط رموز هذه المفاسد وإعادة العراق الجريح وأهله الطيبين إلى أيام الزمن الجميل حيث الحضارة والثقافة والانفتاح وليس تكبيل الحريات ونهب المال العام والإفساد باسم الدّين والمذهب والطائفة.
من المؤسف القول إنه لم يعد لجيش العراق منذ إنهاء قدراته العسكرية في 2003 وحذف جنديّته العقائدية تمامًا من جدول الجيوش العالمية، أية مصداقة أو ثقل على الساحة الوطنية العراقية، بعد أن أصبح جزءً من مجتمعات طائفية ومذهبية وحزبية تتعاطى السعي وراء مكاسب ومغانم خاصة وضيقة على حساب الوطن والمواطن. فالتعيينات فيه خاضعة للمحاصصة وكذا الترقيات والدراسات إن وجدت، بعد أن كان في مصاف الجيوش العالمية وفي مقدمة جيوش المنطقة حيث كان يُحسب للجيش العراقي ألف حساب وحساب في العقيدة والبطولات والتضحيات. بل تشهد الأحداث والوقائع والتاريخ ان كبار الضباط العرب كان لا بدّ من مرورهم عبر جندية الجيش العراقي في الاستكانة لاستراتيجيته ونيل رعايته والتفاخر بعقيدته على حد سواء. أمّا ما حصل ومازال قائمًا، من إقحام عناصر غير مختصة ودمج أخرى من خارج المؤسسة العسكرية الطبيعية بصفة ضباط وبرتب عالية وبغير استحقاق لتنافس أبناء هذه المؤسسة الأصلاء و"المسلكيين"، فليس له من هدف سوى إبقاء هذه الأخيرة ضعيفة وتحت رحمة أجهزة السلطة وأدواتها والمتنفذين فيها من أحزاب وما يتبع من ميليشيات هذه الأخيرة التي لا تخضع لسيطرة الدولة والحكومة، كما يتضح من المشهد القائم.
لذا، ومن أجل أن يستعيد الجيش العراقي صورته المعروف به وإشراقته وقدراته وجنديّتَه العقائدية، لا بدّ من نظام سياسيّ جديد يعيد له هيبتَه أيضًا عبر توحيد الأجهزة الأمنية جميعها من دفاع وداخلية وأمن وكلّ ما يعيد له بريقه ليعود كما كان بالأمس مؤسسة عقائدية قوية خالية من الشوائب والدخلاء والتأثيرات الحزبية والطائفية لأدوات السلطة. وبهذا فقط، سيتمكن من استعادة دوره حاميًا للوطن وأرضه وسمائه ومياهه ومواطنيه بعيدًا عن تدخلات الساسة والمغرضين والفاسدين. وهذا يتطلب من القادة المخضرمين الذين تلقوا تدريباتهم وعلومهم في مؤسسات عسكرية عقائدية وطنية أو عالمية أن يتحلّوا بالشجاعة في رفض كلّ شعرة دخيلة ومحاربة كلّ تدخلات غير مقبولة في واجبات العسكر والوقوف على الحياد لصالح الوطن وشعبه أولاً وقبل كلّ شيء. فتنقيةُ بيدرِ الوطن تبدأ من داخل أهمّ مؤسساته الحامية له وللشعب، أي العسكر لتعمّ سائر البلاد. فحيث يترصن عمل العسكر ويعرف تمامًا قدراته وتتضح مهماته ويبسط سيطرته على مقاليد الأمن ويفرض النظام حتى لو كان بالقوّة في بعض الأحيان حين استدعاء الضرورة، فهذا من شأنه أن يسهم بفرض المزيد من الاستقرار والأمان والثقة لسائر أنشطة الدولة الأخرى التربوية والاقتصادية والعلمية وما سواها. وهذا لن يحصل إلاّ إذا اتسم قادة الجيش بالهيبة واحترام شرف البدلة العسكرية ومطالبة مراتبهم باحترام السياقات العسكرية التقليدية والاتسام بالانضباط الكلّي وتنفيذ الأوامر من دون القبول بأي تهديد من أي طرف كان في السلطة أو الرضوخ لمصالح الأحزاب الحاكمة أو بالمماطلة، إضافة لمحاسبة المقصّرين من أفراده وعدم السماح لهم بالتهرّب من شرف مسؤولية حماية النظام والوطن والشعب. فإذا انتصح الجيش واستعاد قوتَه واستقلاليته، استعاد الشعب أيضًا ثقته به من أجل وضع الأمور في نصابها وتشذيب الشاذة منها بالوسائل الكفيلة التي يمكن اعتمادها بحسب الظرف والوقت المناسب. إنّما العسكر، انتماؤه الأبدي والاعتيادي للوطن وللشعب.

145
نريدُ العراق دولة مواطنة، لا دولة مكونات وأحزاب
لويس إقليمس
بغداد، في 26 تشرين ثاني 2019
ما انفكّ زعماء الكتل السياسية وأحزاب السلطة والهامشيون من الأتباع الانتهازيين ومن سياسيّي الصدفة يراهنون على بقائهم في السلطة من أجل ديمومة مكاسبهم والحفاظ على مغانمهم وإدامة زخم سرقاتهم بالرغم من الرفض القاطع والصارخ من الشباب الواعي الثائر الذي ضرب أروع شواهد البطولة التي لم يشهدها الشارع العراقي ولا كان يحلم بها شعبُ العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه حينما ارتفعت أعينُ الجميع لتعانق علم العراق وتنشد بدموعٍ صافية مليئة بالحسرات نشيد الوطن "موطني". 
فكلما سمعتُ كلمات هذا النشيد الحماسية النابضة من رحم الوجدان العراقي الطيب الاصيل تغرورق عيوني بالدموع وتتداخلني حشرجة لا أخرج منها إلاّ وأنا ساكبٌ عبراتٍ أحبسُها في أعماقي بحسرات وتنهدات وشجون لفقدانِ وطنٍ جريحٍ كان بالأمس في صدر الحضارات الراقية. لكنه غدا اليوم في زمن الفلتان وغياب الوازع والضمير وسيادة الفساد وركوب الموجات في ذيل الأمم باستحقاق الاحترام. ففقدان وطن يعني ضياع الذات والوجود والكيان والوجدان والكثير من الميزات والخصائل والفضائل المجتمعية التي تجتمع عليها الدولة والشعب. ومن جملة ما يعنيه أيضًا، زوال الشرف والغيرة والهمّة في بناء كنه الإنسان الصحيح وروحه وكيانه الذي يأويه هذا الوطن والذي من دونه يبقى الإنسانُ متشرّدًا قابعًا في زوايا النسيان والتخلّف مرابضًا أكوام القمامة التي يعتقد الدخلاءُ الحاليون على العراق أنهم يمنّون عليه بفضلاتهم من كثير سرقاتهم ووسائل نهبهم لثروات البلاد أمام الناظر من القاصي والداني. 
إنّ الشعب الثائر يقارع اليوم طغمة فاسدة ارتضت لنفسها خطف الفرحة والبسمة والعافية من سائر طبقات الشعب، أطفالاً ويتامى وثكالى وطلبة ومثقفين وأكاديميين وعلماء لفقدانهم وطنهم وجعله أسيرًا بيد الدخلاء ومسلوب الإرادة. كما لا يمكن أن ينسى في ساحات اعتصامه المتجدّدة في كلّ يوم، تلك الدماء الزكية التي أُريقت على مذبح الحرية والحقوق وفاءً منها لهذا الوطن وأهلِه عندما فتح هؤلاء الشهداء صدورهم وعرضوا أجسادهم الطرية لحقد القنّاصة ومطلقي الرصاص الحيّ والقنابل السامة المسيلة للدموع المحرّمة دوليًا على أيدي أعداء الشعب من المغرضين الذين لا يدركون معنى مفردة الوطن ولا يفقهون مسلّمة ضياع الوطن ولا يعرفون مبدأ حب الوطن! شهداءٌ سقطوا من أجل عراق جديد توقًا لحياة أفضل وبحثًا عن هذا الوطن الذي أضاعه بل أذلّه فاشلون في الحكم، ونكّدوا عيشَ الشعب بسبب منهجهم الفاسد وإخفاقاتهم المتكررة واستشراء فسادهم اللامحدود. فكانت الانتفاضة الشعبية صوتًا صارخًا ضدّ الفساد وأزلامه وضدّ بائعي الوطن وعرّابي صفقاته المشبوهة وولاءاتهم للغير الطامع. وفي حالة إصرار الطبقة السياسية القائمة على إبقاء الحال على ما هي عليه من توتر وفقدان الإرادة الحقيقية بتغيير منهج الحكم جذريًا بالطرق السلمية والأصولية بحسب مطالب الشارع، فإنّ الأيام القادمة حبلى بالإجراءات والأفعال التي تضمن حق هذا الشعب الجريح ومنهم الشباب الثائر. وكما قالها سياسيون من على شاشات الفضائيات، "سيأتي اليوم الذي يُسحلون فيه في الشوارع"، عقابًا على أفعالهم وعنادهم بالتمسك بالسلطة، غير عابئين بنصيحة المرجعية ليوم الجمعة 22 تشرين ثاني التي أشارت بكل صراحة " في حالة استمرار سفك الدماء، سيؤول الحكم لغيركم". نقطة، رأس سطر! وحينها لات ساعة مندم!
الدولة تغرّد خارج السرب 
إنّ استمرار تبجّح البعض من الساسة وأحزاب السلطة بالاستخفاف بمطالب الشعب وكيل شتى الاتهامات ضدّ المتظاهرين وتوصيفاتهم غير المقبولة يشير بما لا يقبل الشك، أنّ أمثال هؤلاء يعيشون في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، وأنّ جبالاً شاهقة تفصلهم عن هموم الشعب وعن تحركات الشارع الثائر بكل طبقاته وهو يغلي على صفيح شديد السخونة. فلا المحتلّ الأمريكي الغاشم الذي أتى بحكم هذه الطبقة السياسية الفاسدة بمكيدة دولية ماكرة لمْ تعرف الخجل ولا الحياء ولا الخطيئة سيقف إلى جانبهم، ولا إيران الجارة الطامعة التي تحتل البلاد حاليًا بكلّ ثقلها الأيديولوجي ستنفعهم، ولا بقية الدول الإقليمية والدولية ومنها الأوربية بالتحديد ستذرف عليهم دموع الحسرة إذا ما حانت الساعة وسيق جميع الفاسدين من دون رحمة إلى مقصلة الشعب كي يقول فيهم كلمة الفصل. وحينها لا القضاءُ المسيّس المهتزّ سيكون له كلمة الفصل والفعل والحكم المداهن للساسة وأدواتهم، ولا الدول والأمم التي ماتزال تراهن وترهن مصالحَها على بقاء الطبقة الفاسدة الحاكمة الناتجة عن توليفة وإخراج المحتل الأمريكي بجميع أدوات الدعم والتستّر والتخاذل التي في حوزتهم سيكون لها أيّ أثر أو تغيير في مسار المرحلة القادمة من التغيير المرتقب باتجاه بناء الوطن على أساس المواطنة والعدالة والمساواة كسائر الدول المدنية المتحضرة في العالم. وهذا أبسط ما يطالبُ به المحتجّون منذ انطلاقة الثورة التشرينية الأخيرة.
في اعتقادي، من المعيب جدًّا أننا مانزال نسمع أصواتًا نشاز على لسان بعض الساسة والنواب ومَن همْ في مقدمة المسؤولية الحكومية في الدولة العراقية. فما صدر من وثيقة الشرف غبة اجتماع الساسة الأضداد في دار مغتصبَة أصلاً من دون وجه حقّ من رئيس كتلة سياسية معروفة، فيها الكثير من التجنّي على مطالب الشارع. فهذه ماتزال تعيش أحلام السلطة والحكم ومكاسب الامتيازات ومغانم المحاصصة التي اغتالت الوطن والمواطن سحابة أكثر من ستة عشر عامًا من الظلم والفساد والاستخفاف بحق الشعب. هم الذين اعترفوا بارتكاب المعاصي والخطايا بحق هذا الشعب، وذرفوا بسببها دموع التماسيح من دون أن يرعَووا أو يغيّروا ما في جعبهم المليئة حقدًا على الوطن وأهل العراق، وتعهدوا أمام الملأ بتغيير المنهج والنظام. لكنّ "كلام الليل يمحوه النهار"، حقًا.
فهذا واحدٌ من اعضاء اللجنة القانونية يعلن بالأمس عن مهزلة إعادة صياغة القانون الانتخابي لصالح ذات الكتل السياسية التي ضمنت هيمنتها على نتائج هذا القانون مع بعض التعديلات التي تسمح لما أسماهم ب"الأقليات" بالحصول على مقاعد أكثر. وهذا نائب كردي يعتلي موقع النائب الثاني لرئيس السلطة التشريعية التي يشير فيها إلى رفض المكّون الكردي، الذي هو جزء من إشكالية الحكم في البلاد، لأية تعديلات تمسّ مكاسب هذا المكوّن. ويشاركه فيها زعماء ونواب ومسؤولون أكراد كثر. وهذه من الأدلّة على عدم الرغبة في التغيير والإصلاح الجذريّ. فالكلّ ينادي بهاتين المفردتين من دون أن تهتزّ عروش السلطة باتجاه إصلاح ما أفسده الساسة. فاللعاب بالتأكيد مازال يسيل لأموال النفط وأدوات تهريبه، وما تدرّه المنافذ الحدودية من واردات وأتاوات، وما تأتي به فواتير الاستيراد المزوّرة من منافع لتهريب العملة ومن كوميسيونات، وما يتقاضاه الساسة وأحزابُهم من مرتبات وامتيازات ومنافع بيع المناصب وتداول العقود وما سواها. والقائمة طويلة بشأن عمليات تزوير وابتزاز وتهديد وتبييض أموال واستيلاء على عقارات وسرقة أموال وتهريب ثروات وترويج تجارة مخدرات وما سواها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: أليس في هذه التصريحات والأفعال والممارسات والقرارات ما يمكن أن يزيد من إثارة الشارع ويضع أحزاب السلطة في مواجهة أكثر حتمية بين المنتفضين والمدّعين زورًا وبهتانًا وكذبًا بالإصلاح؟ وإلاّ أيُّ منطق هذا، أن تزيد قرارات الحكومة من امتيازات رفحاء والجهاديين في تعديلات قانون التقاعد قيد الإنجاز؟ وأن تشهد البلاد فوضى إدارية غير مسبوقة فيما يتعلّق بشأن تجميد عمل وحلّ مجالس المحافظات؟ وهل ذهب اهتمام المسؤولين في الدولة ولو يسيرًا باتجاه تحفيز المنتج الوطني ودعم القطاع الخاص وفتح المجال أمامه للإبداع وتنشيط الاقتصاد ومعه تأمين حقوق العاملين في هذا القطاع من حيث تضييق الفجوة في المرتبات والحقوق التقاعدية وتأمين الرعاية الاجتماعية للجميع من دون تمييز؟ أسئلة كثيرة تمسّ جوهر الأداء في الدولة العراقية وما يترتب على ذلك من نتائج وخسارة فيما لو طالت الأزمة بين الحكومة والشعب.

نتعلم الدروس من الشارع
من الشارع ينبغي تعلّم الدروس. فالشعب اليوم، في رحلة البحث عن وطن مفقود، أسير، معروض للبيع. وسيجد ضالّتَه قريبًا بصبره وطول أناته، لأنّ الوطن يسكن بين حناياه وفي وجدانه، ويعيش حيًا بالروح والجسد، بالقول والفعل. فلا بعدَ مرحلة التغيير القادمة دولةَ مكوّنات بل دولة مواطنة، ولا حكومة محاصصة وأحزاب طائفية وفئوية وقومية بل حكومة حكماء وأكاديميين وخبراء وكفاءات، ولا بنكًا مركزيًا لتهريب العملة بل مصارف وطنية ناضجة تؤمّن جميع الخدمات وتحفظ حقوق الدولة والمودعين من دون خوف أو تردد، ولا موازنة مالية للنهب والابتزاز بل منهاج مالي وخطط استراتيجية للبناء والتنمية والإعمار، ولا وزارات وإقطاعيات للبيع بالمزاد وللتحاصص بل وزارات منتجة وخدمية يحاسبها الشعب والحكومة معًا، ولا قضاء مسيّسًا يداهن ويجامل ويخضع للابتزاز والتهديد بل قضاء عادل يحكم باسم الشعب ويعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه من دون تأثير أو تهديدٍ من أحد أو من جهة نافذة.
من دون شكّ، إن استباحة الدولة العراقية من جانب كلّ مَن هبَّ ودبَّ قد أثقل كاهل العراقيين وأيقظهم من غفوتهم وأعاد إليهم نخوتَهم شيبًا وشباّنًا، صغارًا وكبارًا، فتية وفتيات. ويكفي أحفادي الصغار مثل غيرهم من براعم وصغار الوطن في الحضانات والرياض والمدارس يعرفون اليوم أن يميّزوا العلم العراقي بالرغم من صغر سنّهم وطراوة فكرهم حين يمرّون في الشوارع أو يشاهدونه على شاشات التلفزة وأن يتغنّوا باسم الوطن. أمّا القائمون على الحكم الذين مازالوا حبيسي المنطقة الخضراء ودهاليزها أو الذين اختاروا الرحيل والابتعاد والهروب قبل تدفق الطوفان القادم، فإنّ عين الشعب ستظل رقيبة عليهم كي ينال كلّ مَن استأثر واستأسد وتنمّرَ بالحكم ما يستحقه من عقاب الشعب حين تأتي الساعة، وهي قريبة.
إنّنا نؤمن، أنّ التغيير قادم مهما تمادت أحزاب السلطة وأصرّ زعماءُ الكتل السياسية المنتفعة من الكعكة بالمراهنة على موقف المرجعية المتأرجح أحيانًا والتي تمسك العصا من الوسط في جميع توجيهاتها كونها توصف جزءً من تشكيلة النظام السياسي القائم ومنتفعة في الكثير من منهاجه السياسي والأيديولوجي والطائفي والمذهبي. والتغيير قادم، مهما تزايدت ضغوط نظام ولاية الفقيه لإبقاء السلطة بيد ذات الطبقة السياسية التي احترفت الطائفية منهاجًا في حكمها وإدارتها الفاشلة للدولة ومؤسساتها لأجل مصلحة الجارة "الشقيقة". والتغيير قادم مادام الشعب يحثّ دول العالم للاعتراف بعدم شرعية الحكومة العراقية المتهمة بقتل مواطنيها بحسب ما تنص عليه المواثيق والأعراف الدولية. والتغيير قادم مادام الشارع المنتفض ماضيًا في طريق اللّاعودة في انتفاضته الشعبية الوطنية النابعة من رحم الوطن الغالي المضرّج بالوصمات الطائفية والقومية والفئوية المقيتة. والتغيير قادم مادام الوطن أغلى من النفس والجسد والمال لدى هؤلاء الفتية المنتفضين الذين علّموا العراقيين والعالم معنى حب الوطن ومعنى افتدائه بالروح والدم. و"بالروح والدم نفديك يا عراق"!



146
حذار! ليس ما بعد الاحتجاجات مثل ما قبلها
لويس إقليمس
بغداد، في 18 تشرين ثاني 2019
بعد جبل "أُحد" (المطعم التركي)، جاء اعتلاء المحتجين السلميين "جبل شهداء التحرير" (مرآب السنك) ليعطي زخمًا جديدًا للانتفاضة الشعبية الوطنية وحافزًا مضافًا لتواصل الاحتجاجات مترافقًا مع موقف المرجعية الرشيدة الواضح الرادع الذي لا يقبل الجدال ولا التأويل ولا المماطلة ولا التسويف في تنفيذ مطالب الشارع الهائج الذي يزداد سخونة وغليانًا وتصعيدًا بوتائر متلازمة. ولا ندري كيف ستؤول الأمور قريبًا، وواقع الحال في الشارع يشير إلى إصرار المحتجين على مواصلة اعتراضاتهم الحاسمة على بقاء أركان السلطة وأحزابها والمنتفعين منها من أطراف ثالثة ورابعة وعاشرة، معلومة كانت هذه أو مجهولة تسعى بكلّ ما لديها من سطوة ومال وأدوات للتشبث بالسلطة حفاظًا على مكاسب ومغانم طائفية وفئوية ومذهبية وحزبية قبل أي شيء سواها، كما اشارت المرجعية ذاتُها وكما يحكي واقع الحال.   
إنّ الوقائع والأحداث وما يُشاع ويُستدلّ من مواقع التواصل الاجتماعي وما يرشح من مصادر مقربة من أركان السلطات الأربع على السواء، لا يبشّر بخير ولا يشير إلى نوايا حسنة لتنفيذ توجيهات المرجعية التي أصبحت صمّام أمان للعملية السياسية برمتها وعلامة مضيئة يستنير بها المنتفضون، في الأقلّ في المرحلة الحرجة الراهنة. فما تزال جهاتٌ مغرضة وأطراف يُشار إليها رسميًا أو تحت الكواليس بالثالثة تعمل ميدانيًا على وأد المشروع الوطني لشباب الانتفاضة ومريديهم وداعميهم والمتعاطفين معهم من خلال السعي لحرف الاحتجاجات عن مسارها بشتى الوسائل والطرق، قتلاً وخطفًا وتهديدًا ودسّا للسموم القاتلة والقنابل الصوتية وتلك المسيّلة للدموع المحظورة والمجهولة المصدر.
فالطرف الثالث الذي تحدث عنه مسؤولون أمنيون في قمّة السلطة من دون الإفصاح عن هويته وأغراضه، مازال طليقًا قويًا كاسرًا وسرابًا مجهولاً غير قابل الردع والإمساك به ومعالجته بسبب بأسه وقدراته العسكرية والأمنية وتفوّقه على أجهزة الدولة وسلطاتها. وهذا دليلٌ واضح بعجز حكوميّ قاصر في إيجاد استراتيجية رادعة لهذا الطرف الغامض الذي بات يقضّ مضاجع الحكومة إعلاميًا وسياسيًا ويحيّر أجهزتها الأمنية، إنْ صحّت المزاعم بجهل هويته وفي العثور عليه وتعقبَه والقصاص منه إرضاءً للشارع وتهدئةً لبال المتظاهرين الذين تأيّدوا أكثر بقوة الله والشعب وتوحدوا وتعاضدوا بحب الوطن ولم يعد يخيفهم الموت في سبيله من أجل كرامة العيش وإعادة البلاد إلى حقيقة أصالتها وعراقتها وهويتها الوطنية المفقودة منذ الغزو الأمريكي في 2003. فالجميع يبحث عن وطن. وقد ضاع هذا الكنز الثمين بين كواليس أحزاب السلطة ومصالحها ومكاسبها بسبب تغييب ضمائرها وهجر أحاسيسها الوطنية. فقادة هذه الأحزاب الطائفية والقومية والمذهبية والفئوية عبر المقترحات الإصلاحية الركيكة المتسرّعة الواردة من جانب الرئاسات الثلاث المتسابقة لكسب جناح الشارع المتأزّم، ما تزال تريد المضيّ في العملية السياسية الفاشلة التي تقاسموا بها المغانم والمكاسب عبر السعي لنهب ما تبقى من الكعكة بالضدّ من إرادة الشعب. ولعلّ أهمّ مطلب تتسارع هذه الجهات الثلاث للحديث عنه والتطرق إلى مزاعم إصلاحه، ما سطّروه في الدستور الأعرج الذي يأبى زعماءُ أحزاب السلطة وعرّابوها مغادرته وتعديل الكثير من البنود والفقرات التي ظلمت الشعب وجزّأت الوطن وقسّمت المقسوم بحجة التوافق والمحاصصة والمظلومية التي لا تنتهي، وكأنهم مازالوا بعدُ يعملون في جانب المعارضة.
إمّا الدولة أو الّلادولة
كم هي من عبارة مدوية صاعقة ومخيّبة محزنة في آنٍ معًا، أن ينطق بها مسؤولٌ على رأس السلطة التنفيذية وهو يتوسل بالخارجين عن القانون والخاطفين بإعادة ضحاياهم، سواء العامة من الناس أو الناشطين المدنيين المعترضين على أداء السلطة وفساد أحزابها الحاكمة أو تلك التي تُعدّ جزءً لا يتجزّأ منها في أجهزة الكيان الهزيل للدولة؟
إنه الاحتضار الحاضر للدولة ما بعد الاحتلال. بل هو الاستدلال عينُه بواقع جديد ينبئ بولادة مختلفة أكثر نضجًا ومنهجية يتهيّأُ لها رحمُ العراق الأصيل في قوادم الأيام التي نرجو ألاّ يتأخر موعدُ مخاضها. وحتى لو وُلدت بعملية قيصرية، فيستقبلُها الشعب لأنها ستكون بإذنه تعالى مختلفة في المفاهيم الوطنية والمعايير الإنسانية والآليات الاستراتيجية المدروسة التي يحملُ أجزاءَ منها شبابُ الانتفاضة التشرينية وبعضٌ منها ستؤول إليهم من أصحابِ الغيرة العراقية وفتيان الحنين إلى الوطن الجريح ممّن أبعدَهم قدَرُ الاحتلال الغاشم في 2003 والقادمون معه بدعم من آلياته العسكرية وغطرسته الفاقدة للشرعية آنذاك. ومهما ذهبت الرئاسات الأربع وأدواتُها وشخوصُها ولجانُها بإصدار حزم إصلاحات يعدّونها كبيرة أو تعديلات مهمة على الدستور والقوانين النافذة وضخّ جرعات ترقيعية على واقع الحال المتهرّئ، فإنّ ذلك لن ينفع ولن يردع أو يقوّضَ من عزيمة المنتفضين البتة. فالحقيقة الواضحة في فساد الطبقة السياسية الحاكمة غيرُ قابلة التغيير من حيث استعداد هذه الطبقة التنازل عن مغانمها وامتيازاتها بالرغم من كلّ ما يحصل وما صدر مؤخرًا من توبيخات قاسية شديدة اللهجة من المرجعية التي يدّعي الجميع تقليدها والامتثال لتعليماتها.
لقد فات الأوان لهذه التوسلات المجبولة بدموع التماسيح، ولم يعد للمنتفضين الأبطال من مجال للتراجع الجادّ والحثيث في بحثهم المشروع عن وطن آمن يكون حصنًا منيعًا لجميع الشعب وليس آلة صرافة تخرج المليارات من رصيد هذا الشعب عبر نافذة مزاد العملة وإقطاعيات الوزارات التي تستغلّها أحزاب السلطة ومكاتبُها الاقتصادية المدسوسة لصالح فئة مستغِلّة (بكسر الغاء) تعيش في واد، والشعب في وادٍ آخر. تلكم دروس بليغة لم يكن في الحسبان تعلمها من فتيان وفتيات الانتفاضة الشعبية ومّن تعاطف معهم ودعمَهم بوسائله المتاحة.
الكلمة الفصل للمرجعية
خشي الفاسدون وارتعدت أركان السلطة عندما قالت المرجعية الرشيدة كلمتَها الفصل التي تزداد حدة في خطبة كلّ يوم جمعة اتجاههم واتجاه القائمين على استغلال مرافق الدولة ومؤسساتها وتطويع ثروات البلاد لصالح أحزابهم وتابعيهم ممّن أثروا على حساب الوطن والشعب وملأوا جيوبهم من مال السحت الحرام واقتنوا أملاكًا وعمارات وفللاً واكتنزوا الملايين بل المليارات في حساباتهم الخاصة في دول الاغتراب التي يتطفلون عليها بفضل جنسياتهم المزدوجة. ولعلّ ما أشرت إليه المرجعية مؤخرًا بقوة وأدانت واشارت بالسلب القاطع أحزاب السلطة حين تحذيرها: "وإذا كان مَن بيدهم السلطة يظنون أنّ بإمكانهم التهرّب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة، فإنّهم واهمون، إذ لن يكون ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كلّ الأحوال، فلينتبهوا لذلك". إنه التحذير الأخير! وبعدها سيكون لها وللشعب خيارات أخرى غيرها. وهذا ما أشارت به ممثلة الأمم المتحدة نفسُها.
على اية حال، الأيام بيننا، وستكون حبلى بالمفاجئات. لكننا نعتقد أنه حين يُقتاد المارد والفاسد واللّص بالقوّة صوب النصيحة بالابتعاد عن الإثم والرذيلة والمفاسد، فمن شأن هذا الجهد أن يكون شاقًا غير قابل الإصلاح حتمًا بسبب فوات الأوان واستفحال الفساد الذي أصبح سرطانًا يسري في العروق والدم والجسم، بل جزءًا من هوية ساسة البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مطاوعة الرذيلة والتماهي مع الجاه والسلطة والمال بشتى الوسائل والطرق. وفي الحقيقة، انساق السياسيون كالغنم السارح ومن دون استثناء وراء نصح المرجعية وتسابقوا في وسائل الإعلام تأييدًا ودعمًا وتقليدًا لجهودها. بل هناك مَن ذرف دموع الندامة والحسرة والتوبة عن إثم اقترفه هو وأركان السلطة بحق الشعب البريء الذي أمّن عبر صناديق اقتراع مزيفة مقاليدَ حياته بأيدي أشخاص غاب عنهم الضمير فتربعوا على عرش السلطة على حساب جماجم الشهداء وحسرات الثكالى وبكاء الأيتام وجامعي القمامة ومفترشي الأرصفة والساحات العامة وتقاطعات الشوارع استجداءً بسبب الفاقة والحاجة والنزوح والتهجير والبقاء بلا مأوي في بلد يسبح على بحيرات من الثروات الطبيعية ويمتلك أفضل مقامات الأئمة والقديسين والصالحين وأروع مرافق السياحة وأصفى مواقع الهواء النقي وأروع منابع المياه العذبة الخالدة.
ولكن، ما الجدوى من عودة حليمة على عادتها القديمة. فآخر العلاج الكيّ والطرقُ على الحديد طالما كان الحديدُ حارًا ساخنًا سخونة حب الوطن والإصرار بعودته لحضن الشعب وحقه بالتمتع بخيراته وأمنه وسلامه كباقي بلدان العالم المتحضّر والمتمدّن.


147
شباب العراق ينتصرون للوطن والشعب في الرياضة والسياسة
يشهد العالم أجمع للبطولات التي يسطرها شباب العراق هذه الأيام في ميادين الرياضة والسياسة  على السواء. في خليجي 24 المقامة على ملاعب الشقيقة قطر، تقدم أبطال العراق بفوزهم الساحق على فريقي قطر والإمارات العربية المتحدة ليقتربا من الفوز بالبطولة، ربما بلا منافسة متوقعة. وجاء الفوزان ليحركا مشاعر العراقيين جميعًا الذين كانت ترنو أبصارهم وعقولهم ومشاعرهم لتمتزج بمشاعر وجهود وقدرات اللاعبين الرياضية الفذّة النادرة الصادقة وهم يهدون الفوزين لشهداء الثورة التشرينية وجرحاها الذين سطروا هم أيضًا ومازالوا يحققون أروع ملاحم البطولة والإيثار وهم يفتحون صدورهم وأجسادهم الغضة حبًا بالوطن أمام أعداء الشعب الذين ارتضوا لأنفسهم الوقوف بالضدّ من مطالبهم المشروعة ومطالب الشعب الصابر الجريح منذ أكثر من 16 عامًا من الاستغلال والاستخفاف بعقول البسطاء منهم وبشتى أدوات التسويف والمماطلة والغدر وبيع الوطن والضمير للغريب الطامع بلا خجل ولا خوف من الله وعباده. فكانت رصاصات الغدر التي وجّهتها جهات غادرة لا تنتمي للوطن بمثابة سموم مضافة أخرى لما اقترفته أحزاب السلطة والحكومات الطائفية الفاشلة المتتابعة وموالوها وأتباعُها وذيول الجارة "الشقيقة" المترعة حقدًا وغلاّ وطمعًا بكلّ ما هو عراقيّ وعربيّ على السواء. 
جاء الفوز في الملاعب إيذانًا بقرب النصر الكبير في السياسة والمواطنة عبر الانتصار لوطن أثخن الأعداءُ في جراحاته وأشبعوه مهانة ومذلّة، وهم المدّعون طيلة السنوات المنصرمة من الحكم الطائفي منذ الاحتلال الأمريكي في 2003 ب"هيهات منّا المذلة". لكنّ الواقع أثبت ذلّة الوطن والشعب معًا طيلة السنوات العقيمات الفائتات، تلك المتمرّغة بأطيان الفساد والإفساد وكلّ الغدر والموالاة للغير بسبب غياب حب الوطن والأمانة للشعب الخانع المساق كالقطيع  أولاً، وكذلك بسبب عدم وجود أية رغبة بالعمل من أجل إعادة بناء الحضارة وتنمية اابلاد وانتشال شعبها البائس ممّا آلت إليه أحوالُه من تراجع وتخلّف في كلّ شيء وفي كلّ ميدان بعد الغزو الأمريكي الغاشم. 
لحظات الفوز في الملاعب تزامنت مع اشتداد حراك ساحات الاعتصام الثائرة وميادين الثورة والاحتجاج البطولية التي أثبت فيها عموم الشعب، إلاّ الغادرون ممّن فقدوا سمة المواطنة وحب الوطن، انتماءهم الصادق لوطن الحضارات والثقافات وتعدّد الأديان والمذاهب والقوميات من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. فحينما سقط شهداء ذي قار والنجف والبصرة وبغداد والسماوة والديوانية برصاص الغدر والحقد والنفاق تناخى لهم أهل الشمال والغرب ليشدوا الأيادي معًا من أجل وطن بكت له الأم والزوجة والأخت والطفلة لتمتزج دموعهنّ بصراخات أبنائهن وهتافاتهم، شيبًا وشباببًا وأطفالاً، طلبة ومثقفين ورجال أعمال ونقابات وتجمعات دينية ومجتمعية وعشائر، من أجل عزة الوطن وعودة جبروته وشرفه وكرامته التي سلبتها أحزاب السلطة الموالية للغير الطامع من دون خجل ولا هوادة وبلا حسيب ولا رقيب.
لحظات الفوز في الملاعب، جاءت ناطقة لتقول للزمن الغادر الماكر: كفى استغلالاً.. كفى مماطلة.. كفى استهتارًا بحق شعبٍ أبيّ سُرقت بسمات الصغار منه واستغلّت عقول البسطاء من عامته بأعذار وحجج وتخريفات فرضها أصحاب العمائم ومَن في مزيتهم من المستغلّين والوعّاظ والانتهازيين تعميقًا لمكاسبهم وترسيخًا لمغانهم التي فرضوها بدعم من الأمريكي الغاشم الذي عمّق الهوة بين السلطة والشعب لغايات في نفس يعقوب. فالأجنبيّ المحتلّ، مهما قال ومهما صرّح ومهما فعل، لم ولا يمكن أن يصطفّ مع حقوق شعب مثل شعب العراق ووطن مثل العراق إلاّ لكونه يسبح على بحيرات من ثروات وخيرات يسيل لها اللعاب، والأكثر منه ما تتمتع تركيبتُن السكانية متعددة المكوّنات والأديان والمذاهب من لحمة تاريخية وتكافلية ومن طاقات بشرية وقدرات إبداعية أضحت في المقامات المتقدمة في دول العالم.
أول الغيث في انتصار ثورة تشرين السلمية
أمّا الفوز الثاني وأول الغيث في صفوف الشارع الثائر، فقد تناغم وترافق مع النصر الذي أحرزه الفريق الوطني لكرة القدم حين أعلن رئيس الوزراء المتلطخة أياديه ومَن معه في الحكومة المتهرّئة المنتمية لأحزاب السلطة، نيّته تقديم الاستقالة مباشرة بعد خطبة الجمعة وقبولها يوم الأحد من قبل مجلس النواب. فهل كان مثل هذا القرار المتأخر بحاجة لنصيحة ثالثة ورابعة وعاشرة من المرجعية الدينية التي حذرت ونبّهت لخطورة الوضع مرارًا وتكرارًا، ولكن من دون إنصات وحكمة وتعقّل من قبل أحزاب السلطة الفاسدة؟ وليعلمْ مَن في فكره وديدنه ورؤيته الضحلة ب"عودة حليمة إلى عادتها القديمة"، أي بإعادة تدوير وجوه ذات الأحزاب المتسلطة ومَن يواليهم ويسير في ركابهم، أنّ النصر السياسي الكامل هو الآخر قادم في قوادم الأيام بهمّة الغيارى من عموم أبناء الشعب وبنخوة كلّ مَن دغدغ الوطن ونشيدُه الملحمي مشاعرَه واصطفّ مع ثوار الساحات ومتسلّقي "جبل أحد" و"كراج الشهداء" رافعًا ألوانه وهاتفًا مهلّلاً "بالروح بالدم نفديك يا عراق!". وعسى ألاّ يتأخرَ ركبُ هذا النصر!
في تشرين، قرّر العراقيون وبلا رجعة، التخلّص من  براثن الماضي السحيق الذي وُجد فيه أبناء الوطن الجريح بين أنياب ذئاب خاطفة لا تعرف الرحمة ولا المحبة ولا الضمير بسبب ابتلائهم أولاً بنفاق المحتل الأمريكي بحجة تخليص البلاد من الدكتاتورية. لكن هذا الأخير في حقيقة الأمر، كان قد قدّم العراق هدية جاهزة على طبقٍ من ذهب لعدوّ تاريخيّ حاقد وجدها خير مناسبة لاحتلال البلاد الجارة التي ناصبها العداء التاريخي قرونًا وليس سنوات قليلات. فكان حقًا أشبه باحتلال ثانٍ، ولكنْ تحت خيمة أمريكية ودولية تحت مسمّى إنقاذ الشعب من الدكتاتورية لحين استفاقة الشعب من غفوته نحو صحوة وطنية صحيحة.
لقد آن الأوان، ولو متأخرًا، لتغيير قواعد اللعبة وأدواتها، بعد أن فتحت الانتفاضة الجادّة بوابة المراجعة الشاملة للنظام السياسي الفاشل القائم وأنهتْ شرعيتَه بأوجهها وأدواتها المختلفة. فالخطوة الأولى تحققت باستقالة الحكومة بعد أن هزّت الانتفاضة أول كرسي مطلوب للشعب. ونأمل أن تليها الخطوات اللاحقة بتشكيل حكومة طوارئ انتقالية تضع الأسس المطلوبة لحلّ البرلمان بطريقة قانونية ودستورية قدر المستطاع. وإلاّ ففي حالة مماطلة أحزاب السلطة والسلطتين التشريعية والقضائية بوضع العراقيل وبالتسويف، فسيواجه جميعُ مَن في السلطة جبالاً صامدة من المعارضة الشعبية والإقليمية والدولية لغاية تحقيق الهدف المنشود. وسيكون  ومن واجبات هذه الحكومة المؤقتة "المصغرة" أن ترعى وتشرف على إعداد قانون مدنيّ جديد وعادل للانتخابات يضمن مطالب المحتجين ويُنهي سطوة الأحزاب الفاسدة تمامًا ويُصاغُ على أساس التنافس الفردي وليس بقوائم أو أنصاف قوائم كما تسعى إلى ذلك أحزاب السلطة في مقترحاتها هذه الأيام. ولا بدّ لهذا القانون العادل أن يضمن حرية المرشح والناخب معًا عبر اشتراط استبعاد أحزاب السلطة لفترة يتفق عليها كي يزول تأثيرُها السلبي على مسار الأمور ولغرض امتصاص نقمة الشعب المتصاعدة. وحبذا لو يتم عرضه على الاستفتاء الشعبي كي يتحقق الشعب من تضمين جميع مطالبه كاملة بحيث يكون بعيدًا عن أية تأثيرات دينية أو مذهبية أو طائفية وخاليًا من أية نعرة طائفية أو قومية ويحقق العدالة والفرص المتكافئة للجميع. وهذا يتطلب بطبيعة الحال، تشكيل مفوضية مستقلة جديدة للانتخابات من نخب وطنية ترعى في عملها تحقيق العدالة والمساواة في هذه الفترة الانتقالية وبإشراف دولي وفقهاء في الدستور والقانون والتشريع وتشارك فيه نخب ثقافية وأكاديمية ونقابية وأصحاب خبرة والأهمّ ممثلون عن الانتفاضة الشبابية اصحاب الفضل الأول في التغيير. وسيتولى البرلمان الجديد عملية صحيحة وهادئة وحكيمة لإعادة كتابة دستور مدنيّ وطنيّ جديد للبلاد يساهم فيه الفائزون الجدد في المجلس الجديد وفقهاء في القانون الدولي ومحامون ومدنيون أصحاب خبرة في التشريع ونقابات ورجال فكر ومثقفون بعيدًا عن أية أيدويلوجية دينية أو جهة إقليمية أو دولية أو فئة حزبية.
عسى أن يتواصل الحراك الشعبي في الساحات والدوائر والمنابر الثقافية والإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي حتى إسقاط العملية السياسية كاملة وتغيير النظام السياسي الفاشل من أساسه ليعرف كلّ ذي حقٍّ حقَّه وينال كلّ مذنب وفاسد وذيل خسيس عقابه. فتعود البسمة على شفاه الأطفال وتنتصر التربية والتعليم الصحيحان في المدارس والمعاهد والجامعات وتعود ماكنة الصناعة للدوران وتُحرث الأرض التي جدبتْ لتثمر ثلاثين وستين ومئة لكلّ غلّة، وتكتحلَ عيون الأرامل والثكالى برؤية وطنٍ شامخ تحرّرَ من دنس الفاسدين والطامعين بدماء شهدائهم الزكية وصمود أبنائهم الأبطال بوجه الظلم والغدر والفساد. ونقول: لا ثمّ لا ثمّ لا لتدوير نفايات النظام السياسي القائم في أي تعديل وزاري مرتقب يسعى لتأبيد وإعادة أنتاج ذات الأدوات الفاسدة في القانون الانتخابيّ المقترحفي أروقة البرلمان وبين دهاليز الأحزاب الفاسدة التي تسعى بأيّ شكلٍ من الأشكال إدامة نزواتها الفاسدة والإبقاء على مغانمها ومكاسبها الإقطاعية التي حرصت على تضمينها في اجتماع الكتل السياسية الوارد في وثيقة "اللاّشرف". وحذار حذار من محاولة السلطة التشريعية إقحام شخصيات من أحزاب السلطة ومن نتاجها في الترشيح لمنصب رئاسة الوزراء، كما تشير المداولات الراهنة. وحتى الشخصيات المقترحة حاليًا من صفوف القضاء كما يروّج لها، لن تكون بمأمنٍ عن معارضة الشعب. فالقضاء نفسُه كان ومازال خجولاً في فتح ملفات حيتان الفساد الذين يخشى الاقتراب منهم، وهو أدرى بهم جميعًا. فالخط الثاني والأول منها، مازال طليقًا وخارج الصيد بسبب فساد الأدوات والخوف من سطوته وتهديد مَن يستقوي بهم في الدولة العميقة.
 عاش العراق. عاش العراق. عاش العراق وطنًا مستقلاً جميلاً وشعبًا كريمًا متكافلاً.

148
ماذا لو نام الحارس؟
لويس إقليمس
بغداد، في 16 تشرين أول 2019

يؤمن أهل الكتاب، اليهود والمسيحيون منهم بصورة خاصة، بما جاء في الكتاب المقدس على لسان سليمان الملك الحكيم، من أنه "إنْ لم يحفظ الرب المدينة، فباطلاً يسهر الحارس". وهي مقولة مكمّلة لحكمة قبلها تقول: " إذا الرب لا يبني البيت فباطلاً يتعب البنّاؤون". ما أجملها من حكمة تنفع لكلّ زمان وكلّ مكان. وما أروعها من كلمات تجمع ربّ العباد وخليقته في عمل مشترك ينمّ عن حب الخالق لما خلقه من كائنات حية متنوعة على وجه البسيطة، وما أوجده من مباهج حياة ومن تدابير تكفَّلَت بها جهود البشر الأسوياء إرضاءً لهذا الخالق العجيب والمحيّر حتى الساعة. فالطرفان، الخالق والمخلوق، يشاركان في الخلق وفي إدارة الحياة كلّ من موقعه في جزئيات كثيرة منها، وكلاهما يشتركان في حماية ما أبدعاه على هذه الأرض كلّ وفق قدراته، إلهية كانت أم بشرية. وفيما يبقى الرب الخالق من أعظم البنّائين ومن أفضل الحراس الساهرين على الخليقة وتلبية حاجاتها وحلّ مشاكلها من حيث يدري أو لا يدري البشر، يصطدمُ العالم بخرق هذه المعادلة وبضربِ متلازمتها بشيء من قلّة العرفان بعظمة الخالق وتدبيره للكون على أيدي ناكري الجميل ممّن كان ينبغي أن يؤدوا وكالة هذا البنّاء الكبير وهذا الحارس الأصيل بأمانة بالسهر على رعاياهم وتلبية حاجات مَن صارَ تحت حكمهم وإدارتهم وتسلّطهم، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وتربويًا بل في جميع مجالات الحياة المعقدة.
والسؤال الذي يكاد يعصف بأذهان الكثير من العقلاء والحكماء وأصحاب الغيرة والفكر والثقافة، لا سيّما في هذه الأيام العصيبة التي تمرُّ بها البشرية التي ابتليت بفئات ناكرة العرفان لما آلتْ إليه أحوالُها بعد انتقالها من حال بائس لحالٍ لم يكن في الحسبان ولا في الأحلام: ماذا لو نام الحارس؟ وهل تبقى عيون العناية الربانية شاخصة تحفظ البشر وتسهر على رعايتهم وتوجيههم حيث ينبغي أن يكونوا بموجب هذه الإرادة الإلهية التي تؤمن بها الأديان السماوية وغير السماوية على السواء؟ وبالرغم من كون مفهوم السهر ذا صلة بحلكة الليل وأحلامه وتفرّعاته ودياجيره، إلاّ أنه يأخذ طابعًا معنويًا وحياتيًا في مسيرة الإنسان عندما يقرنُه بحاجاته وتحليلاته وقراراته في إدارة دفّة الحياة وتوجيهها نحو الوجهة الفضلى التي تجلب له الطمأنينة والاستقرار والتوفيق في مسيرة هذه الحياة التي تزداد تعقيدًا وفوضوية مع تقدم العلم والتكنلوجيا وأساليب المعيشة والتعامل.

من سمات البنّاء الجيّد والحارس الأمين
من هذا المنطلق، يمكن الاحتكام بأنّ سمات البناء والسهر في طبيعة البشر تأخذان حيّزًا كبيرًا في فكر الإنسان وحركته وتفاعله مع المحيط الذي يعيش في أكنافه عندما يسعى كلّ من موقعه كي يكون الحارس الأمين على حياته وحياة محبيه وحياة المجتمع والوطن والعالم كتحصيل حاصل. وهذا ما أحاول تناوله في هذه السطور وليس ما يعنيه سهر الليل والهدوء والسكينة التي تمنحها هذه وغيرها للإنسان الذي يمكن أن ينجح أو يفشل في مهمة الحارس الأمين والحريص الذي يعتمد في رؤيته وفي مساحة تقديره لما يجري حوله وما يمكن أن يتخذه من قرارات ذات قيمة مضافة لشخصيته أو ناقصة في سلوكه.
من المعلوم، أنّ البنّاء الحقيقي الصادق (الأسطة) في مهنته يقدّم أفضل ما لديه من خبرة في باب العمارة من أجل إخراج البيت الجديد بأفضل حالٍ وبرونق يشدّ الناظر ويأسر أهلَ الدار والمحلّة والمدينة. وكذا، مهمة الحارس الأساسية تكون في السهر على مَن أولي الاهتمام بهم من بشر أو رعايا تحت حمايته وإدارته في فترة أو حقبة أو زمن معين، والحرص على تأمين متطلبات حياة الرعية من دون تمييز ولا ملل ولا تعالٍ أو مكابرة. كما من واجبه، العمل على تحقيق الأمن والطمأنينة والرفاه والعدالة والمساواة لعامّة الناس ضمن المجتمع والوسط الذي يقيمون فيه، ليل نهار. فالحارس الأمين كالكلب الوفي يرافق صاحبًه الذي ائتمنه على حياته وعلى حمايته من أيّ مكروه طارئ. وهذا حال مَن يديرون دفة البلدان والمجتمعات والأديان والمذاهب من منظور عام وشامل. فالسياسيّ وممثل الشعب ورجل الدّين وايّ إنسان في سلّم السلطة والمسؤولية الإدارية هم بالتالي حرّاسٌ للشعب الذي ائتمنهم على إدارة شؤونه والاهتمام بشجونه وحلّ ما يصادفه من مشكلات ومصاعب ومنغّصات. وإلاّ ما قيمة السلطة وما فائدة المسؤولية والإدارة إن لم ترسّخ هذه السلوكيات في مبادئها وتثبتها في أدائها العملي اليومي؟ حينها يفقد القائد والإداري في الدولة أهميتَه ومسؤوليتَه وجدارتَه عند إهمال واجبه وابتعاده عن مصالح الشعب وهمومه وطلباته التي تتلخص بالسعي للعيش الكريم ولشيءٍ من الأمن والاستقرار، تمامًا بحسب المشهد القائم في بلادنا منذ سنوات وفي المنطقة والعالم من دون تمييز مع قيام مفارقات هنا وهناك. ومثلهم، لا ننكر دور رب الأسرة والمؤتَمن على إدارة أية مؤسسة أو جمعية أو جماعة أو دين أو مذهب أو طائفة. فضعفُ واجب الحراسة المنوط بهؤلاء على أسرهم وأبناء جلدتهم وهيئاتهم، يحمّلهم مسؤولية نكران العرفان لرب السماء والأرض الذي شاركهم في البناء والخلقة والحراسة على السواء، بأشكالٍ وطرق ووسائل قد لا ترقى لفهمهم وإدراكهم المحدودين.

مسؤولية إدارة البلدان وإدارة البيت
بالتالي، فإنّ إدارة البلدان ومؤسساتها وعلى غرارها إدارة البيت والمجتمع، تتطابقان في العمل والنية وفي تطبيق مبادئ الرعاية التي تعني من جملة ما تعنيه البناءُ الجميل والسليم، وتأمينُ الحراسة المطلوبة لهذا البناء بأشكاله الكثيرة، ورعايةُ الرعية بأفضل السبل والوسائل. وإلاّ لما صحّت هذه المسؤولية على أولي الأمر، أيًا كانت حدود مسؤولياتهم وامتداد باعهم وصلاحياتهم.
قد يبني البناؤون أو يخطّط المعماريون شيئًا صالحًا من وجهة نظرهم. وليس بالضرورة أن يكون هذا صالحًا في كلّ الأحوال والأزمان، إذ قد تبدي الأيام والوقائع عدم صحة هذا الإجراء أو ذاك. ومن ثمّ يكون مثل هذا القرار في غير صالح الاتجاه المقابل أو عامة الشعب والمجتمع. وهذا ديدنُ السياسة والسياسيين ورجال الدين وقادة المجتمعات عندما لا يوفَّقون أو حينما يخفقون عمومًا في وضع الخطوات اللازمة لبناء الأوطان وترصين المجتمعات وسياسة الرعايا عبر آليات غير محكمة أو هزيلة أو مختلّة تسلكها الدولة أو المؤسسة الدينية في سياستها. ومنها تأتي الإخفاقات والاحتجاجات والاعتراضات والانتقادات التي ليس لها حدود ولا يمكن تهدئتها حينئذٍ بإصلاحات ضعيفة وترميمية متأخرة، كما حصل من ردود أفعالٍ حكومية وسياسية إزاء ثورة الغضب والانفجار الوطني التي أبداها الشعب العراقي مؤخرًا والتي نبعت من جوهر طبيعة هذا الأخير الشفافة البسيطة الوطنية حينما "نزل إلى الشارع طالبًا أخذ حقّه". وذات الشيء يُذكر إزاء سلوك الآباء والأمهات في إدارة المنزل، والذي قد لا يكون دومًا في صالح الأبناء عندما يخطئ ربُ المنزل في سياسته وإدارته تجاه أسرته الصغيرة. حينئذٍ تبدأ المشاكل.
ومثلما أنّ إدارة البيت تعني في فحواها السهر على مصلحة الأبناء وتناوب الحراسة على رعايتهم، هكذا الدولة ايضًا تُبنى على ذات النهج. فالدولة أو المؤسسة الدينية أو الاجتماعية وما سواها، والتي تفتقر أساسًا لحرّاسٍ أمناءَ على القطيع، أي على الرعية والمجتمع والمواطن، هي دولة زائفة لا يستحقّ قادتُها وساستُها تسميتَهم أو وصفهم بهذه السمة الرفيعة التي تعني سلطة إلهية تسمح بها السماء في آخر الأمر من وجهة نظر ثيوقراطية ولاهوتية. فالمسؤول عن الرعية لا يستحق تمثيل رعاياه والسهر عليهم وإحاطتهم بالعناية اللازمة عندما يفقد الأمانة ويفشل بالوفاء بها وبالوعود التي قطعها لصالحهم حين اغتصب السلطة او استلمها غدرًا أو في غفلة من شعبٍ بائس. تلكم هي حالة العراق ما بعد الغزو الأمريكي بامتياز. أي بمعنى آخر، يضع مثل هذا المسؤول، وهو الحارس الفاشل، نفسَه مقيّدًا قابعًا في فندق الأحلام، سارحًا يغطُّ في نومه بعيدًا عن مصلحة الرعية وباحثًا عن مصالحه ومكاسبه، تمامًا كما هي حال ساسة البلاد ممّن غزوا المنطقة الخضراء وما حواليها وتقاسموا ثروات البلاد وأملاكها ظلمًا وقهرًا تاركين الشعب البائس يزداد جهلاً في جهله وفقرًا على فقره وحرمانًا على حرمانه.

صحوة أخرى قادمة
فهل من صحوة أخرى قادمة أكثر وعيًا ومواطنة وإحساسًا بضرورة التغيير الجذريّ في نظام العملية السياسية برمّتها والسعي الدؤوب الذي لا يتوقف باتجاه الإتيان ببنّائين صادقين أصحّاء جدد وبحرّاسٍ أكثر وعيًا وقربًا من الشعب وقاعدتِه، بحيث يعرفون قيمة الوطن والمواطن وحاجتَه وطلباته المشروعة وحقوقه المهضومة؟
ولكنْ قبل أيّ شيء، لا بدّ للشعب أن يعود لوعيه فيتعرّف على القصور القائم في فكره وعقله وضميره لدى خنوعه "اللاواعي" لجلاّديه وخضوعه وتأثره بالخزعبلات وأصناف الترّهات التي يزرعها الساسة وبعض أصحاب العمائم ومّن في مقاماتهم من رجال الدين وأصحاب المذاهب والذيول التافهة من دون تمييز في نفوس العامّة وفي عقول الكثيرين من البسطاء والسطحيين منهم، وبها يؤثرون على جوارح هؤلاء بحجة حماية الدين والمذهب واحترام المرجعيات التي تتشارك أحيانًا مع حكّام السلطة في استخفافها بالشعب المسكين عند عدم تسمية الأشياء بمسمّياتها أو عند مجاملتها لأركان السلطة والإدارات المحلية. فقد اتضحَ للقاصي والداني أنّ لكلٍّ من هؤلاء ومَن في مكاتبهم مِن أتباعهم ومقلّديهم وأذيالهم، حصص من الكعكة الكبيرة المشاعة بإحلال الحرام وفق مفهوم شائع "السرقة من الدولة حلال زلال".
لعمري، عندما ينام الحارس ويترك القطيع فريسة لذئاب خاطفة متوحشة، حينئذٍ يسهل نقبُ البيت وسرقتُه وتدميرُه وإشاعة الفوضى فيه وبمن يستكنُّ به. هكذا يتمّ "فرهدة" بلاد وادي الرافدين وسرقة ثرواتها وتدمير حضارتها بحجرها وبشرها. فالبلاد أضحت بلا حارس أمين ولا بنّاء "أسطة" محترف. والله يبقى نعم الوكيل والنصير والعون. فهو دومًا أفضلُ الحرّاس وأجود البنّائين! وبين هذا وذاك، فالصحوة القادمة ستكون أكثر وعيًا ونضجًا وأشدَّ تعلّقًا بحاجات الوطن والمواطن. وحذارِ مَن يسعى لركوب الموجة لأجل الغدر واقتناص الفرص ثانية وثالثة ورابعة! فالفاسدون والطامعون والسارقون أشباهُ النعامة وأذيالُهم وأتباعُهم أصبحوا مكشوفين. وما على القضاء وروّاد العدل والحريصين على تطبيق القانون، إلاّ البدءُ الجدّي بفتح الملفات الجاهزة وبالمحاسبة من دون تأخير ولا تأجيل. هكذا أرادهم حمورابي العظيم! والمسلّة خير شاهد على الحراسة الجّيدة على القانون وتطبيق بنوده على الجميع من دون تمييز ولا مواربة ولا استثناء ولا مجاملة على حساب الوطن والمواطن.




149
إعادة هندسة الدولة العراقية بإطار وطني
لويس إقليمس
بغداد، في 28 تشرين أول 2019
تطورُ الأحداث وتفاعلُها منذ يوم 25 تشرين اول 2019 وما تلاها لا يترك مجالاً للشكّ بشهادة الجميع على ثورة شعبية عارمة وانتفاضة وطنية عفوية من كافة قطاعات الشعب هذه المرة. فقد برز في ساحات الاحتجاج مؤخرًا، فئات من شباب عاطل باحث عن حقوق مشروعة ومن نخب اقتصادية وقانونية وأكاديمية ومن عامة الناس من كلا الجنسين ممّن ذاقوا الأمرّين وضاقوا ذرعًا على أيدي طبقة سياسية فاسدة لا تمتّ في أغلب شخوصها للوطن وأرضه ومصالحه أرادت إزاحته عن محيطه العربي الطبيعي وتعددية مكوناته التي تشكل فسيفساءَه الغني بتاريخه وحضارته.
اليوم، تخرج نخب اقتصادية وطلابية وأخرى متوقعة غيرُها مشاركة وداعمةً للحراك الشعبي الذي يطالب بتنحي أحزاب السلطة وأركان الفساد ممّن ارتضوا أن يمسخوا ضمائرهم ويلوثوا أياديهم بالمال الحرام واستغلال البسطاء بحجة حماية الدين والدفاع عن المذهب والطائفة أو بحجة المظلومية السياسية والمذهبية التي أضحت شمّاعة للكثيرين ممّن تمتعوا بدعم فاسدي السلطة بامتيازات ومرتبات لا حدود لها. كلّ الذين ارتضوا ركوب مراكب الفساد وخيانة الوطن والشعب ومَن وقف في صفوفهم ممّن ادّعوا على طول مسيرة السنين السبع عشرة التي انقضت من عمر العراق والعراقيين، ومنهم المصرّون لغاية الساعة على سياسة التطبيل بقطع الوعود والتسويف والضحك على ذقون البسطاء الذين خسروا أغلى ما عندهم، مازالوا يحاولون بكلّ الطرق والوسائل قمع الانتفاضة الشعبية الصاعدة المتواصلة ووأد أحلام الشعب الثائر وحرمانه من حلمٍ ببسمة قادمة على شفاه الأبرياء وعباد الله البسطاء كي تشفي جراح الأمس المظلم بكل جرمه وكلّ فساده وكلّ سطوته.
لقد صحا الشعب من جديد لاستعادة حقوقه وكرامته وفرحته وليعيد للوطن حضارته وقيمه وعروبته وللطفل والفتوة والشيب والشباب بسمتَهم المفقودة منذ عقود. ثورة شعبية عارمة بكلّ المقاييس تكفي لأخذ الدروس والعبر والاستجابة لجميع المطالب ولتحقيق أملها بضرورة رحيل أحزاب السلطة ومَن خاب ظنُّ الشعب بهم بعد الوقوع في فخّ إعادة انتخاب ذات الشلّة من زعامات الأحزاب وأزلامهم وأتباعهم من الذين تغوّلوا وتنمروا واستخفوا بالشعب وبحقوقه وبثروات بلاده بلا وازع ولا ضمير ولا حدود. ولا أعتقد بعودة الأوضاع بعدُ إلى حالة التهدئة والركون للوعود الرنانة ولأبواق الإصلاحات الترميمية التي لن تجدي نفعًا بعد اتساع مساحات الاحتجاج ورفع سقف المطالب التي لن تتنازل بأقلّ من استقالة الحكومة الهزيلة، التي عُرفت بحكومة بيع المناصب وتعزيز المحاصصة وتوزيع الإقطاعيات الربحية والنفعية على فصائل مسلحة وميليشياوية تمرّست واستأسدت وتغلغلت في عمق الدولة بدعم واضح من جهة مهيمنة على مقاليد الحكم في البلاد.
من هنا، فقد أيقن الجميع وفي مقدمتهم النخب الواعية منذ سنوات بأنّ الخلل يكمن في النظام السياسي القائم على المحاصصة وتقاسم السلطة والثروة والمناصب بين أحزابٍ جلّ همّها وكلّ غايتها السطو على مقدرات البلاد بحجة الدستور القاصر وغير الوطني الذي يعلم الجميع تضمينه فخاخًا قاتلة وقنابل موقوتة قابلة الانفجار في أية لحظة أرادها المحتل الأمريكي أن تكون أدوات قاتلة لعدم استقرار العراق والمنطقة بمكر الحاكم بريمر سيّء الصيت وأدوات الأحزاب والكتل التي راهنت على هذا الدستور لتحقيق مكاسبها والإبقاء على مغانمها ما شاء القدر. إنها أزمة نظام سياسيّ فاسد لم يعد للشعب قدرة على تحمّل المزيد من مفاسده وآن الأوان كي يقدّم أركان العملية السياسية اعتذارهم جماعيًا من الشعب ولخيانتهم لأمانة الوطن عبر احتقار شعب بكامله والاستخفاف بعقله بحجة حماية الدين والطائفة والقومية والمذهب. والأجدر بهؤلاء الركون لتلبية المطالب والتنحي بعيدًا عن الأنظار وللأبد والتمتع بالشجاعة الكافية لقول كلمة الحق بوجه الظلم وإزالة الغشاوة من العيون وقهر الخوف من قلوبهم والوقوف بوجه ميلشيات السلطة والفصائل المسلحة والجماعات المنفلتة التي تشكل الدولة العميقة في سلوكياتها وهي التي تقود عمليات القتل والقنص والترهيب والتهديد بحق المتظاهرين والناشطين والكتاب ووسائل الإعلام ومراسليهم بحجة اتهامها بالتحريض فيما هي تنشر الحقيقة وتطلع المواطنين والعالم على حقيقة ما يجري خلف الكواليس وفي الدهاليز المظلمة للجهات التي تريد قمع المتظاهرين بأي ثمن وبأية وسيلة بالرغم من تفاعل الشعب والعالم والأمم المتحدة مع الحق الشرعي لإبداء الرأي وفي التعبير وكشف الحقائق.
لقد قال الشعب كلمته وهو مصدر السلطة بعد أن فقد الثقة والمصداقية بساسته وممثليه ممّن لعبوا بمقدراته وبعقله واستباحوا حقوقه المشروعة بوطن يتفيؤون تحت ظلاله الوارفة بأمن وسلام وطمأنينة. وإذْ خذلت الشجاعةُ مّن ائتمنوا على السهر على حقوق شعب العراق الطيب بطينته العروبية المجبولة بحضاراته العريقة من عهد بابل وسومر وآشور، ومرورًا بعهد إبراهيم أبي الأنبياء، فقد آن الأوان لكسر الأغلال واكتساح جحور الفساد والفاسدين والاقتصاص من كلّ مَن خرج عن طيبة عباد الرحمن وأثرى على حساب الشعب من دون وجه حق واستعادة أموال البلاد المسلوبة التي تقاسمتها أحزاب السلطة في دستور المحاصصة، ومن ثمّ استرداد الدولة لعقاراتها التي بيعت لهؤلاء بأبخس الأثمان أو سطت عليها حيتان الأحزاب والكتل السياسية وأتباعُها وأذياُلها من دون وجه حقّ. فالكلّ مثل الكلّ، عملوا في هذا الاتجاه الخاطئ وباعتراف صريح وواضح من العديد ممّن تولوا مسؤوليات في الدولة العراقية ما بعد الغزو الأميركي المقيت. فالفساد من دون شك، أصبح اليوم حديث الشارع وهمّ المواطن الأكبر الذي يتطلّع لصحوة حقيقية لأجهزة القضاء وأدواته في تشخيص الفاسدين ومحاسبة كلّ مَن تثبت إدانتُه بالأدلّة الدامغة في ضوء المتيسر والسائد والبادي للعيان من ملفات ووقائع وثراء فاحش غير مبرّر للكثيرين ممّن شاركوا أو كانوا جزءًا من العملية السياسية الفاسدة والفاشلة في عراق ما بعد 2003 وعبر تعاقب الحكومات الشيعية الطائفية المتعاقبة.

صوت الحق
إنّ صوت الحق لن يخفت بعد اليوم ولا يمكن ان يخفت البتة، طالما بقي نفر كبير من الفاسدين والمفسدين في البلاد أحرارًا من دون محاسبة ولا عقاب. أمّا محاسبة صغار الفاسدين، فلن يحلّ المشكلة ما لم تطال يدُ القضاء المستقلّ كبار الفاسدين وحيتانهم الذين يخشى البعضُ من رجاله التطرق لفسادهم وتشخيصهم والاكتفاء بتلميحات غامضة وكأنهم أشباح قادمون من الفضاء. فلو عاد حمورابي اليوم بمسلّته وقوانينه الوضعية الصارمة حفاظًا على حقوق مواطنيه، لأعاد للعراق هيبتَه وللشعب كرامته وللحكومة مصداقيتها وللمحرومين حقوقهم وللعلماء والمثقفين استحقاقاتهم المشروعة. وهذا ما نطمح إليه جميعُنا.
قصارى القول، تحتاج البلاد إلى إعادة هندسة من أجل بناء دولة مدنية جديدة متطورة وفق المعايير الدولية وعلى أسس حديثة لمواجهة التحديات بالاعتماد على مهندسين أكفاء قادرين على تحمّل مسؤولية إعادة البناء الشامل، في الفكر والعقلية والتربية والعلوم، وما أكثرهم لو تمّ التعويل على كفاءاتهم الوطنية والعلمية والأكاديمية والبحث عنهم في بلدان الاغتراب وفي أسواق البلاد والساحات العامة.


150
أوربا أفضل القارات للنساء
لويس إقليمس
بغداد، في 7 تشرين أول 2019
من طبيعة النفس البشرية أن تولي اهتمامًا خاصا بالنساء، بشكلهنّ وتكوينهنّ وجمالهنّ ووظيفتهنّ نّوجاذبيتهنّ الأنثوية وطبيعة سلوكهنّ ونظراتهنّ وحتى في مشيتهنّ وملبسهنّ ومأكلهنّ. فهي أفضل خلق الله في كلّ هذا وذاك، وهنّ الوجه الحسن للسعادة حين يكملنَ دورة الحياة وتمتزج هذه الحياة مع الماء والخضرة والعشرة الحسنة الطيبة دون استغلال لكلّ صفاتهنّ الرقيقة المعروفة بهنّ عمومًا ومن دون تخصيص. فالخالق الذي صنع حواء من ضلع آدم لترافقه وتسعده وتشاركه الجنّة بحلاوة ثمارها ونظارة أرضها وجمال طبيعتها، قد أجاز لها أيضًا أن تكون شريكة للرجل في كلّ شيء وان تتساوى معه في الحق في الحياة والعمل والإبداع. لا بل قد جاد عليها بأفضل ما في الخليقة وهي مشاركة الخالق في الخلق بنعمة الإنجاب التي لا يقوى عليها الرجل. وبذلك يكون الخالق قد حباها بنعم أكثر من الرجُل الذي وهبه هو الآخر نعمة مميزة وبما يعين المرأة على الحمل والإنجاب وملء الأرض بنينًا وبنات لمجد الله ونماء البشرية وتطورها نحو الأفضل.
قد تختلف نظرة البشر من منطقة لأخرى ومن دين لآخر ومن مذهب لغيره حول المرأة بحسب الثقافات والعادات والتقاليد والأعراف والقوانين. ففي أوربا التي تُعدّ أفضل قارة من حيث احترام حقوق المرأة وتمتعها بمساواة مع الرجل في معظم المجالات وسط مجتمعاتها المتنوعة، نجد هذه الأخيرة في تطور متواصل وباتجاه تنميةٍ وتقدمٍ في مسارات الحياة المتنوعة على غيرها من شعوب القارات الأخرى. وهذه الحالة يمكن الاعتداد بها عالميًا. بل هي نابعة من الفكر الغربيّ المنفتح على الدور المهمّ الذي تضطلع به المرأة بغضّ النظر عن أصلها ونشأتها ووظيفتها. فالمرأة شيء مقدّس عند الإنسان الغربيّ لا يمكن إلغاء دورها وحقها في المساواة مع رفيقها الرجل أو السماح بتعنيفها أو الاستخفاف بطاقاتها وقدراتها التي توازي في الكثير منها قدرات الرجل إن لم تتفوق عليه في بعضٍ منها. بطبيعة الحال، هناك استثناءات لحالات لا تتوافق مع طبيعة تريبة جسدها الناعم ورقتها المألوفة قياسًا مع هيئة الرجل. وهذا ليس من داعٍ للخوض به، لأنه لا يقدّم ولا يؤخّر من حقيقة واقعها ووضعها العام في القوانين الوضعية والتشريعات التي يسنّها الغرب تقديرًا لكفاءتها واحترامًا لقدراتها ومساهمتها في بناء أطر الدول التي تعيش في كنفها. والمرأة الأوربية هي مدعاة دائمة للفخر وإثبات الذات ونموذج يُحتذى به في كل دول العالم.

أوربا جنّة النساء في الأرض
صدقَ مَن وصف أوربا بجنّة النساء على الأرض. فقد ساعدتها آراء الرجل الأوربي المتحررة والفكر الليبرالي المستمدّ من مفكريها وكتابها وفلاسفتها وبالأخصّ خروجها عن شرنقة الكنيسة وولاية رجال الدين عليها وعلى حريتها، كي تكمل دورة الحياة وتثبت ذاتها بفعل إرادتها الصائبة ونزولها إلى معترك الحياة بقوة. فجاءت مساهمتها في إدارة مؤسسات الدولة وتنمية القطاع الخاص متوازية مع حاجات المجتمع إلى دورها الرائد بما تمتلكه من فكر ودراية وطول باع وبما تكتنزه من قدرات تدريبية ومعرفية سريعة في سوق العمالة وفي تسيير العملية الإنتاجية في المعامل والمصانع، بأدواتها الثقيلة والمتوسطة والخفيفة. فهي من جهة، لا تعبأ بالمصاعب ولا تدع طبيعة العمل تقف حائلاً دون تمكينها من كسب المهارات والإبداع وتحقيق أفضل النتائج. وهذا شأن الكثير من النساء المبدعات في هذه القارة اللائي عزّزن من مواقعهنّ في فنّ الإدارة والمناصب العليا التي كانت حكرًا على الرجل، وذلك بفضل ما أبدته المرأة الغربية من براعة ومهارة ودراية في المواقع التي تسلّقتها.
نظرة إلى واقع المرأة اليوم، نجدها حاضرة وبقوّة في مواقع متقدمة في المنظمات الدولية والمؤسسات الوطنية ترأس لجانًا ودولاً وحكومات وإدارات عامة، ناهيك عن تواجدها في المعامل والمصانع وورش صناعية وزراعية ومكاتب تجارية وشركات عامة وخاصة. بل تُعدّ أوربا أكثر قارة في العالم تديرها نساء كفوءات ومبدعات. ولو أحصينا المَلكات والكفاءات النسائية التي تحكم دول العالم، لرصدنا أن نصفهنّ أو ما قارب ذلك قادمات من أوربا أو منتميات لهذه القارة. وهذا يعطي مفهومًا بمساحة الاحترام والتقدير والاعتراف التي توليها أوربا والغرب عمومًا لدور المرأة في الحياة والذي لا يقلّ أهمية عن الرجل الذي مازال قابضًا بيديه العنيدتين دفة الحكم والإدارة في المجتمعات المتخلّفة ومنها منطقتنا الشرق-أوسطية التي تأبى التقاليد والعادات والأعراف الدينية البائدة الاعتراف بدور المرأة الشرقية وبقدراتها البشرية وطاقاتها الإنسانية والإبداعية إذا ما توفرت لديها الفرصة للتعبير عن الذات.
صحيحٌ أن المرأة في المشرق العربي وعدد من البلدان الإسلامية قد شهدت بعض التقدم، فصارت وزيرة ونائبة واحتلت مناصب إدارية سواء بفضل كفاءتها أم بدعمها من كتل وأحزاب السلطة، إلاّ أنّ ما تلقاه من معوّقات وما تصادفُه من مصاعب ومن عثرات أمامها تكاد تكون كارثية. فهي لا تجرؤ لغاية الساعة، إلاّ ما ندر، كي تخرج بحريتها وتعبّر عن آرائها وتكشف ما تريد قوله بكلّ حرية ومن دون إحراج. فهي في كلّ الأحوال ما تزال خاضعة في العديد من جوانبها وأنشطتها للرجل، سواء في المنزل أم في المؤسسة التي تعمل لصالحها أم لصالح الكتلة أو الحزب الذي يطوّعها ويملي عليها ما ينبغي قوله سواء للإعلام أم في المحافل الوطنية والعامة. وهذا انتقاص من كرامتها وعزة نفسها وعدم إقرار صريح بقدراتها وحرية تعبيرها ونشاطها وفكرها.

لا مجال للمقارنة
لا أريد إجراء مقارنة للمرأة الشرقية مع نظيرتها في الغرب، بقدر ما أودّ التأكيد على حرية كل إنسان في التعبير عن مواقفه وعن رغباته وإرادته. ففي الوقت الذي نجد المرأة الغربية تبتعد أكثر عن أجواء المنزل بحثاً عن وظيفة أو مهنة تؤمّن لها نفقات الحياة الصعبة في بلدان الغرب عمومًا، نجدها في المقابل تهمل دورها البشري في الطبيعة كأمّ منتجة ومتوالدة للحياة من أجل ديمومة هذه الحياة في هذه القارة العجوز التي ابتعدت عن مهمّة الإنجاب وتوالد البشرية بحسب مشيئة الخالق الأساسية. وهذه نقطة ضعف المرأة الغربية التي لا تقدّر هذه النعمة الكبيرة التي أحالتها جانبًا حتى عمر متقدّم قلّما يسمح أو يتيح لها الإنجاب بعد تقدم العمر وفوات الأوان. وهذا أحد الأسباب التي حثّت وشجّعت دولاً غربية ومنها أوربا لاستيراد البشر من دول ومناطق أخرى من العالم تعاني من التخلف والفقر والحاجة والجوع كي تستثمرها في تسيير ماكنتها الاقتصادية والإنتاجية والخدمية. فصارت وعاء للهجرة الشرعية وغير الشرعية، ما قلب الحاجة هذه إلى مأساة ومشكلة وأزمة مهاجرين عالمية في السنوات الأخيرة. 
بالمقابل، نلاحظ كثرة الولادات في العالم الشرقي والإسلامي بصورة خاصة. وهذا بفضل المساحة الشخصية التي تتيحها الأعراف القائمة المستندة إلى العرف العشائري والقبلي والديني بكون "الزواج نصف الدين"، وإلى القوانين الوضعية والشرعية التي تشجع إتمام أشكال الزواج وتعدده من دون محدوديات لدى بعض المذاهب. وقد أسهمت هذه جميعًا، إضافة لأسباب غيرها مثل تنامي البطالة وشيوع الجهل والأمية والبطالة في السنوات الأخيرة، بزيادات انفجارية في بلدان الشرق التي تفتقر أصلاً إلى استراتيجات للتخطيط السكاني والحضري، كما يحصل في العراق على سبيل المثال. ولا بدّ من ملاحظة ما أنتجته هذه الزيجات غير الرصينة وغير المتكافئة في العديد منها، من مشاكل ومآسٍ على طرفي المعادلة، فكثرت حالات الطلاق وتعرضت أسر بأكملها للانفكاك والانحلال. وكانت من نتائجها، زجّ هذه الأسر أنفسها أو لأبنائها في متاهات الشوارع والساحات والأماكن العامة للعمل في استجداء المارة وأصحاب المركبات وخروج العديدين منهم عن سواء السبيل للعمل في أعمال غير شريفة وفي مجال الدعارة والكسب الحرام. وهذا بطبيعة الحال قد جعل من هذه الحالة ظاهرة مستعصية تحتاج لجهود كبيرة وكثيرة من أجل إعادة أخلاقيات المجتمع العراقي إلى طبيعتها الوطنية والحضارية وبما يكفل حقوق جميع المواطنين، ومنهم مساواة المرأة مع الرجل ورفع كافة القيود عنها ومنحها مساحات من الحرية والحركة وإمكانية التعبير عن نفسها بالقبول أو الرفض في مسألة الارتباط الأسري واحتيار الشريك المناسب من دون تدخل عشائري أو أسري وتحاشيًا لأية ضغوط أخرى خارجية من شأنها التأثير على قرارها وتقييد حريتها في المأكل والملبس والخروج والزواج والإنجاب والوظيفة وما سواها ممّا تحتاجه الحياة من حرية للتعبير عن الإرادة التي أحلّها الله الخالق في حياة كلٍّ من الرجل والمرأة على السواء. ومراجعة بسيطة للإحصائيات التي تصدرها المحاكم المدنية في عموم العراق بخصوص حالات الطلاق المسجلة كفيلة بتوضيح آثار هذه المشكلة. هذا إذا استثنيا الحالات الكثيرة التي لا تحصى التي تجري خارج هذه الدوائر الرسمية.
تبقى المرأة الغربية بتطلعاتها وقدرتها على التعبير عن إرادتها وإمكانياتها الفردية هي النموذج الذي يمكن الاحتذاء به في أوساط الجنس الأنثوي الرقيق في بلدان شرقنا ومنه العراق. فقد أثبتت قدرتها على مجاراة الرجل في الإدارة وفي المساهمة بمواجهة التحديات الحياتية الكثيرة وفي إلهام غيرها من نساء شعوب العالم ومنهنّ في العراق. فالماجدات العراقيات المتحرّرات المؤمنات بالليبرالية والحرية الشخصية والواثقات بقدراتهنّ في إثبات الذات والكفاءة، أثبتن في مواقف كثيرة أنهنّ على قدر وافٍ بالمسؤولية والوفاء بالأمانة. وما أكثر ما شهدتُ شخصيًا من أمثال هذه النخب التي لا تتوانى في الدفاع عن حقوق زميلاتهنّ وزملائهنّ وبما يحفظ الأمانة الوطنية والإنسانية التي في أعناقهنّ. فهنّ الزوجات وهنّ الأمهات وهنّ المربيات وهنّ المعلّمات وهنّ طالبات العلم والثقافة والمدافعات عن حقوق الإنسان والحريصات على بناء الوطن والمواطن وهنّ السائرات في طريق التضحية والشهادة والخدمة من دون مقابل في أحيان كثيرة. وستبقى المرأة هي المحرّك الفعلي للعالم إذا أُتيحت لها فرصة الإبداع وحرية الفعل والحركة.





151
البطريرك لويس ساكو ورسالة التك تك
لويس إقليمس
بغداد، في 5 تشرين ثاني 2019
على خطى جينين بلاسخارات، ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، أبى غبطة بطريرك الكلدان في العراق والعالم لويس ساكو، إلاّ أن يشهد بأمّ عينيه ثورة العراقيين ضدّ الفساد والظلم وكلّ اشكال الحرمان والاستخفاف واللصوصية التي تمارسُها الطبقة السياسية الفاسدة التي تحكم البلاد منذ الغزو الأمريكي المقيت في 2003. وبالرغم من عدّ البعض لهذه النزهة الشعبية جزءًا من ممارسة إعلامية لصالح الكنيسة الكلدانية حصرًا، إلاّ أنّ في طياتها ما يمكن أن يُفهم ضمنًا، دعمًا وترويجًا ومساندة للمحتجين والمعتصمين والمتظاهرين منذ استئناف الحراك الشعبي في 25 تشرين أول المنصرم. ومن شأن هذه الأشكال المتعددة للتعاطف أن تزيد من اتساع رقعة الشرائح التي تلتحق كلّ يوم في صفوف المتظاهرين وهم يزدادون قدرة ومنعة وإصرارًا للمضي في هذه الطريق الشائكة المشروعة حتى تحقيق كافة المطالب بالركون لوطن حرّ أبيّ مستقلّ سيّد نفسه وشعبه وأرضه وسمائه. فالمجتمع العراقي الذي غمرته النخوة الوطنية هذه المرّة أكثر من سابقاتها في صحوته التشرينية الجديدة والتي انساقت إليها بشكل أو بآخر قطاعات مهمّة من طلبة ونقابات ومنظمات مجتمع مدني ونشطاء وعاطلين عن العمل قد أكّد انتماءَه للوطن والأرض والشعب، مصدر السلطة الأول الذي بأيديه مفاتيح الحلّ والربط.
أمّا أصحاب التك تك، فقلْ عنهم ما شئت من صفات البطولة والشهامة والرحمة والإنسانية في تعاملهم وتكاتفهم وكرمهم وتعاطيهم مع أحداث ساحات الاعتصام في بغداد وسائر المحافظات في نقل الجرحى والشهداء وأشكال التموين الضروري لإدامة زخم الاحتجاجات مؤثرين المصلحة العامة في الشوارع والساحات على مكاسبهم البسيطة اليومية التي بها كانوا يعينون أسرهم في كدحهم ليل نهار لتأمين رزقهم وفاقة عائلاتهم المسحوقة. وإنّ مشاركتهم الوجدانية النابعة من أصل وطنيتهم التي صحوا ولو متأخرًا على سلامتها وضرورة تأمينها وإدامتها وتعزيزها بعلامات التضحية الواضحة كفيلة بتحقيق الغاية التي يطمح إليها المتطوعون بعد أن ضربوا أمثلة فذّة في الشجاعة والرجولة والجرأة في مواجهة المتصدّين للتظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات الشعبية الجارفة التي ستُؤتي ثمارَها بدعاء الناصحين الشرفاء والوطنيين النبلاء الممتزجة بدماء الشهداء الأبرياء الذين سقطوا ضحايا العنف غير المبرّر والقسوة المفرطة في التعامل مع المحتجين.
عندما شاءت بلاسخارات أن تختبر غيرة وأهداف هؤلاء الذين وصفهم بعض الساسة والقادة والرؤساء بالمراهقين الذين هاجوا طمعًا بوظيفة أو ببعض المال الذي يحسبُ حكامُ البلاد وقادةُ أحزاب السلطة أنهم يمنّون على بعض هؤلاء المطالبين بحقوقهم الوطنية المشروعة وبوطن يحميهم ويحنو عليهم، وجدتْ أنّ غيرة أصغرهم من شأنها أن تقنع المشاهد والناظر والمراقب بكلام لا يقولُه غيرُ العقلاء والحريصون والمحبون للوطن. كانت شعاراتهم في الأيام الأولى لا تعدو كونها طلبات بسيطة بحياة كريمة وعمل يسترزقون من ورائه لهم ولعوائلهم ويحفظ ما اختزنوه من معارف بشهادات لم تعد تنفع ولا تُصرف إلا في أسواق الشورجة والساحات العامة. وحين استخفّت حكومة المحاصصة وبرلمان أحزاب السلطة والرئاسة المجامِلة على حساب المطالب الشعبية المشروعة، هاجت عند العديد غيرتُهم الوطنية وزادوا من مطالبهم بأساليبهم البسيطة وأدواتهم السلميّة وهتافاتهم العفوية ضدّ طغمة الفساد وحيتانه لفقدان هذه الأخيرة لجانب الثقة والمصداقية.
    اليوم تشارك قطاعات واسعة من عامة الشعب مع أفواج المحتجين المتزايدة يومًا بعد آخر في ساحة التحرير في بغداد متخذين من بناية المطعم التركي قلعة لصمودهم بعد تشبيهها بجبل أُحُد. ومع إصرارهم العنيد للمضيّ قدمًا حتى تحقيق الغايات والأهداف المنشودة برحيل شخوص السلطة منذ 2003، فإنّهم يعبّرون عن أروع الصور في مواجهة كيد مفترشي المنطقة الخضراء ووقوفهم صامدين بوجه أعتى قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحيّ الموجه على صدورهم من جهات لا تعرف معنىً للوطنية، بل تقبع بعيدة كلّ البعد عن مسار الانتماء للوطن وللشعب. لذا لا غرابة أن يزيد المتظاهرون من سقف مطالبهم ويرفضوا الجرعات المخدّرة التي لو كانت نافعة في ما مضى، فإنها لم تعد تنفع في هذه المرحلة المتطورة. فالمتظاهرون لم تعد تعنيهم الوظيفة شيئًا ولا هُم متسوّلو فتات موائد السياسيين الذين باعوا الشعب والوطن، بل يريدون وطنًا يحميهم وخيمةً يستظلّون تحت أفيائها بشرف وقوتًا حلالاً يحفظ كرامتهم. وللأسف، فما تزال بعض أحزاب السلطة ومَن يتولون حكم البلاد والعباد غارقين في أحلام سبات المحاصصة وفي قلاعهم بالمنطقة الخضراء أو في فللهم الفارهة في دول الجوار والعالم. وهُمْ كما هُمْ، لم يستوعبوا درس الوطنية الذي ضربه المحتجون، كما لا يتصورون حجم الكارثة المرتقبة بسبب تشبثهم بالسلطة بأيّ ثمن، ومن ثمّ لا يريدون الاتعاظ من الدروس التي أفرزتها الصحوة الجديدة ولا الاستجابة لفحوى المطالب المشروعة التي تتزايد أسقفُها يومًا بعد آخر.
إنّ المرجع الديني المسيحي ساكو، بكلّ قوته الفكرية الكارزماتية وبكلّ محبته المسيحية الأصيلة وبكلّ تعاطفه الوطنيّ المتجذّر في أرض حضارة بلاد ما بين النهرين، أراد أن يقف وقفة إجلال وإكبار وإسناد لأعمدة الوطن الشبابية التي عليها تُبنى آمالُ العراقيين كي يستعيدوا أمجاد بغداد التي كانت والتي ستبقى قلعة الأسود ومنارة للنصر تلفُها صفة الخلود مهما طغا ظلمُ أعدائها ومهما تمادى مَن يحكموها من زعماء القهر والطغيان ومن ساسة الصدفة والفلتان والفساد. فهذا هو دور الراعي الصالح الساهر على رعاياه والحامي غنمَه وتيوسه ونعاجَه وكباشَه من غول الدخلاء وأطماع الغرباء وكيد الأعداء في الداخل والخارج. رسالة البطريرك ساكو في هذه الحقبة المفصلية من أوضاع البلاد المتأزمة، هي أبلغ إشارة كان ينبغي أن تبادر إليها الرئاسات الثلاث من منطلق التوحد والاتحاد مع الشعب الثائر والتماهي مع مطالبه المشروعة التي لم تخرج في بداياتها الأولى في التعبير عن أبسط الحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها شعبٌ مثل شعب العراق في توفير خدمات بلدية آدمية وحياة كريمة وأمن مستقرّ. وبالرغم من ازدواجية الشخصية العراقية في طبيعة تكوينها وتشكيلها، إلاّ أنّ مشتركات وطنية ومجتمعية وطموحات شعبية وشوق لرؤية وطن قوي حرّ مستقلّ يتباهى به الجميع أمام العالم، ثبتتْ أركانُها في الصحوة الأخيرة، وهي الكبرى في تاريخ العراقيين منذ العهد الملكي ولغاية الساعة، إلاّ في المليونيات الشيعية التي خص بها قادة العراق الجدد بإشارة من جارة الشرّ شعبَهم منذ الغزو الأمريكي وشجعوها لتكريس اللطم والعويل وزيادة قدور أكل الهريسة والقيمة والتمّن لأكثر من شهر ونيّف من الأيام في كلّ عام.
تحية للسيدة بلاسخارات المطلوب منها أن تكون أكثر واقعية وإنصافًا بجانب المتظاهرين والابتعاد عن مجاملة السلطات وأحزابها التي عاثت في بلاد الرافدين فسادًا وتدميرًا. وتحية للبطريرك ساكو الذي عرفناه إنسانًا وطنيًا ورجل كنيسة بحجم العراق واقفًا دومًا إلى جانب الحق من دون مجاملة لأحد. وتحية إكبار وتقدير لكلّ مَن ساند وتماهى وتعاطف مع المنتفضين حتى تحقيق أهدافهم، بشرط ألاّ يزيغوا عن سلميتها أو يحيدوا عن تحقيق أهدافها وحسن جوهرها. وهنيئًا لكلّ مَن خَبِرَ وذاق طعم الانتفاضة الجديدة، مشاركةً وزيارة وتعاطفًا وصلاة وتأييدًا. فقد كان لي أنا أيضًا، شرف التعاطف معهم ومع مطالبهم المشروعة حين عاندتُ وزرتُهم مساء يوم الخميس 31 تشرين أول، وهي الذكرى التاسعة لمجزرة كنيسة سيدة التي نلتُ شرف كوني واحدًا من جرحاها المصابين. وكان الله مع الصابرين!



152
الدستور لن يكتبه إلاّ المستقلّون والمؤمنون بصوت الشعب وقوة الوطن
لويس إقليمس
بغداد، في 30 تشرين أول 2019
من أجمل ما صدر من شعار من بين شعارات مشروعة ووطنية جميلة رفعها المتظاهرون المنتفضون شعار "نريد وطن" و "ماكو وطن، ماكو دوام". شعارٌ ينمّ عن حرقة في قلوب المتظاهرين الذين تقاطروا تلبية لنداء الوطن الجريح والشعب الغاضب المقهور. فملأوا الساحات وافترشوا الشوارع وجالوا بأعلام الوطن المفقود منددين باستغلال أحزاب السلطة وغيرهم من الانتهازيين والمدّعين الدفاع عن الدّين وحماية لمذهب. يقينًا، فإنّ معظم الشعارات المرفوعة طيلة الأيام السابقة من عودة التظاهرات "التشرينية" الصادمة، الشخصية منها والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والطبقية والوطنية، كلها نالت رضا عامة الشعب والنخب الثقافية والأكاديمية وحتى السياسية المؤمنة بكرامة الوطن والانتماء الصادق إليه والحرص على حفظ أمانه وسلامه وصيانة حضارته وتعزيز عروبته وعودته الطبيعية إلى مكانته الوطنية والإقليمية والدولية.
ولعلّ من بين المطالب الكبرى التي شكّلت صدمة لدى عدد كبير من ساسة الصدفة والمتطفلين على الشأن السياسي والاقتصادي والمالي وغيرهم من الماسكين بمفاتيح أبواب ونوافذ السلطة والجاه والثروة بادّعاءات المظلومية السياسية والاتنية والمذهبية وغيرها من أشكال التظلّم المنتهي بالتقادم، تلك التي تتعلق بضرورة تعديل الدستور الأعرج الذي أتاح لأمثال العديد من هؤلاء السياسيين الدخلاء كي يعيثوا في أرض العراق فسادًا ويستغلوا ما فيه من ثغرات لتجييرها لصالحهم ولخدمة أحزابهم وأتباعهم ومكوناتهم بحجة إقرارها فيه في غفلة من الزمن الماكر. والجميع يعرف كي كُتبت بنود دستور البلاد في 2005 وفق مصالح الكتل المتنفذة آنذاك وبدعم واستشارة من الحاكم المدني الماكر بريمر الذي ضمّنه هو ومستشاروه الماكرون مثله بنودًا مفخخة قابلة الانفجار في أية مواجهة مرتقبة بين الأحزاب. وهذا ما حصل ومازال يجري بين الكتل المتنازعة على الثروة والسطوة والمناصب بكلّ ما لديها من قوة سلطوية وعزيمة شرّيرة لا تريد قبول غيرها شريكًا إلاّ ذليلاً. وهذا ما يفسّر أيضًا الذلّة التي وجد أتباع المكوّن السنّي قد اضطرّوا لاتشاحها لغاية الساعة بدراية منهم أو بغيرها بسبب عزوفهم عن المشاركة في صياغة الدستور آنذاك وترك الأبواب مشرّعة لباقي أتباع الكتلتين الكبيرتين من الشيعة والكرد حصرًا كي يفرضوا أجندتهم الطائفية والاتنية ويثبتوا مصالحهم ويرفعوا ورقة "الفيتو" بوجه أية تعديلات محتملة قادمة حينما ضمنوها شرط فقرة الرفض المقرونة بثلاث محافظات. وكان يُقصد بها بطبيعة الحال، مصلحة المكوّن الجانب الكردي الذي نال حصة الأسد من الدولة الفدرالية في كلّ الظروف والأزمان وعلى تعاقب الوزارات الشيعية الفاشلة مذ ذاك إلى جانب ضمان التصرّف بثرواته الطبيعية ضمن الإقليم والتي ظلّت عصيّة على الحكومات الشيعية المتعاقبة. فحينًا كانت المهادنة والتوافقية بين الإقليم والمركز وفي أخرى يشتدّ الصراع من دون نتيجة وفي غيرها وآخرِها بالذات كانت المجاملة والتنازل على حساب مصلحة الوطن وباقي المحافظات التي حُرمت من مواردها.
إن مجلس النواب الموقر بقراره الأخير بتشكيل لجنة من نوابه للنظر ببنود الدستور واقتراح تعديلات عليه خلال أربعة أشهر بغية تلبية مطالب المحتجين ومن أجل امتصاص غضب الشعب وتهدئة الخواطر والتقليل من نقمة العامة والخاصة، قد أوقع نفسه في إشكالية كبيرة أخرى حين أوكل هذه المهمة الضرورية والمطلبية للنواب الحاليين حصرًا. والسبب بات واضحًا وجليًا، وهو فقدان الثقة والمصداقية بممثلين خاب ظنّ الشعب بهم طيلة الدورات السابقة لهذا المجلس بسبب ما أصاب العمليات الانتخابية في كلّ مرة من تزوير وبيع للمناصب في أروقته، وآخرها هذه الدورة غير الموفقة التي شهدت عملية فرض الإرادات في مشهد بل في مشاهد يندى لها جبين العراقيين وخابت بهم كرامة الوطن وأهينت حضارتُهم حين التلاعب بصناديق الاقتراع وفرض أجندة أحزاب السلطة لمرشحين خاسرين لم يوفقوا في نتائجهم، لكنهم صعدوا بقدرة قادر وبغطاء قضائيّ مهتزّ وغير منصف.
إن دساتير البلدان المتحضّرة، لا يكتبُها السياسيون المنتفعون الزائلون لوحدهم، بل يساهم فيها مختصون في فقه القانون الدولي ومحامون وقضاة متمرّسون إلى جانب مثقفين وأكاديميين وممثلي نقابات وقطاع خاص ووجهاء يُشهد لهم بالوطنية وحب الشعب والتجذّر بالأرض ومَن في وصف هؤلاء ممَن يًصار إلى اختيارهم من بين صفوف العامة كي يكون هذا الدستور وطنيًا شاملاً ووافيًا في أغراضه وأهدافه وقابلاً للتعديل كلّما اقتضت الضرورة وتغيّرت الظروف والحاجات. وهذا ما تقف بعض الكتل المنتفعة من الدستور القائم ضدّ أية تعديلات مقترحة أو استبدال لفقرات تتحمل تفاسير محتملة كثيرة بحسب مصلحة كلّ كتلة أو حزب أو فئة. كما أنّ الدستور أيّ دستور في أية بقعة من الأرض يكتبه بشر وهؤلاء معرّضون للخطأ والصواب وبحسب الظرف الزماني والمكانيّ الذي كُتب به. ومن ثمّ، فالدستور ليس قرآنًا كي لا يُمسّ من قبل البشر أو كتابًا مقدّسًا غير قابل التأويل والتفسير بحسب الزمان والمكان والظرف والحاجة. 
هذه دعوة ملحةّ، كي تعيد رئاسة البرلمان النظر في ما ذهبت إليه بتشكيل اللجنة المذكورة. فهي لن تكون مقبولة من قبل الشعب ولا من قبل سائر طبقاته الاجتماعية والنقابية والأكاديمية والقانونية والعلمية. فلا يمكن انتظار إصلاح حقيقي مرتقب من طبقة شكّلت أساس المشكلة وكانت السبب في ما آلت إليه البلاد من تراجع في البنية التحتية وفي الخدمات ومن تخلّف في العلم والثقافة والتربية ومن فساد مالي وإداري في كل مؤسسات الدولة من دون استثناء. فهل يُتوقع من ممثل اية كتلة أو حزب سُمّي لهذه اللجنة أن يدين أفعاله وسلوكيات أعضاء كتلته غير النزيهة ويقبل بتغيير البنود التي تكفل مكاسبه وتثبّتُ مصالحه وتعزّزُ من موقعه في العملية السياسية المهزوزة أصلاً؟ أم ننتظر من السارق أو اللص أن يقول: "ها أنا ذا خذوني" ويكفيني ما نلتُه وما خزنتُه وما نقلتُه من أموال في حسابات مصرفية عالمية أو ما حققته من مغانم غير مشروعة في عقارات الدولة من دون وجه حق؟
أفيدوني لوجه الله! هل تقبلون بهذه الخطوة كي تمرّ ايضًا ضمن صفقات سابقاتها وباستغفال واضح للشعب بحجة تقرير جرعات إصلاحية للتخدير الموضعي والزمني لحين اجتياز الأزمة كما يعتقد البعض؟
لك الله العادل القهّار والشعب الغاضب الناقم ودعوات الثكالى وصيحات الأرامل وحرمان اليتامى، يا عراق! فالصبح قادم ليقهر ظلام السنين الخوالي وضياؤُه كفيل بمحو دياجير الظلمات التي زرعها الفاسدون والمفسدون ولصوص الليل والنهار في الأرض والتي ارتضى بها الساكتون والمتزلّفون وأبَوا قول كلمة الحق أو الوقوف بوجه طغاة العصر ولصوصه، لأنّ كلمة الشعوب أقوى من هؤلاء جميعًا!



153
من بيروت إلى بغداد، كفى! إرحلوا يا ساسة المحاصصة
لويس إقليمس
بغداد، في 20 تشرين أول 2019
من بيروت إلى بغداد، تعانقت أصوات المحتجين مع نظرائهم في العراق ليقول الشعب صاحبُ السلطة الشرعية كلمته الفصل: كفى، كفى، كفى، إرحلوا يا ساسة المحاصصة! من بيروت إلى بغداد، تقاسم الشعبان مآسي سياسة المحاصصة التي فتكت بأحلامهم وأذلّت حياتهم وأنهكت قدراتهم وغيّبت كلّ أملٍ بإصلاح الذات والأوضاع. فما سمعه الشعب في كلا البلدين طيلة السنوات المنصرمة وما تلقاهُ في كلّ انتفاضة جديدة لا يعدو كونه جرعاتٍ من كافايين سام مخلوطٍ بمخدراتٍ سياسية معسولة مجبولة بطعم دينيّ وطائفي ومذهبيّ لغاية تهدئة الخواطر وامتصاص النقمة وتخدير الثائرين بشيء من وعود عرقوبية لا تغني ولا تسمّن.
إذا الشعب يومًا أراد العيش بكرامة وحرية ورفاهة، لا بدّ أن يُجبر القَدَرَ نفسَه للتجاوب معه في كسر الأغلال وقهر الظلم ومحاسبة الجلاّدين من السياسيين الذين استغلّوا ومازالوا يستغلّون بمكرهم وسطوتهم ووسائلهم العنكبوتية الزائغة مواقعَ الضعف في بؤسه المتزايد في الفاقة والحاجة وفي تدبير وسيلة لقمة العيش التي شحّت وقلّت وغابت بركتُها. فكان الاستغلالُ السياسيّ باسم الدين والمذهب أقربَ طريقة لإبقاء هذا الشعب البائس ذليلاً محتاجًا خانعًا ينتظر الرحمة والشفقة والمنّة من ساسته الفاسدين الذين ائتمنهم خائبًا على حاله وثروات بلاده وشرف بناته ونسائه. فقد نجح زعماء الأحزاب الدينية الخلط بين أوراق السياسة والدين وتجييرها لصالحهم ولصالح أتباعهم وجماعاتهم وأذيالهم من المنتفعين والطارئين على العملية السياسية. وهكذا اختلط المقدّس بالمدنّس والسياسيّ بالدينيّ ليلقي بظلاله على العملية السياسية برمتها في كلا البلدين الجريحين. وهنا كانت المصيبة حين اكتشافه أسرارًا خافية ومصائب كبرى بسرقة أحلامه وأحلام أجياله التي لم تولد بعد لتبقى رهينة دول ومنظمات الاقتراض والديون إلى ما شاء القدر بإثقال ميزانياته في كلّ سنة بقروض وديون وعجز غير مبرّر، بالرغم من الثروات الكبيرة التي تدخل ميزانيته السنوية والتي تتجاوز ميزانية دولٍ عديدة مجاورة له. والمصيبة الأعظم، تبجّح ساسة الصدفة بتقليد مراجع دينية والتسربل بأكمام رجالات معمّمين يقودون القطيع إلى الذلةّ والمهانة بإصرار وعنادٍ واضحين وباستخفاف ما بعده استخفافٌ ولا يخلو من إهانة وإذلال واستغلال. فأين من الشعب المسكين شعارُه "هيهات منّا الذلة"؟
لكن، وبالرغم من أنّ الشعب قد وعى مؤخرًا بعض الشيء وفهمَ اللعبة وأدرك مدى الدور التخريبي والاستغلالي لأحزاب السلطة ومنهم بالذات أحزاب الإسلام السياسي، الشيعية منها والسنّية على السواء وأحزابٌ غيرُها متحالفة معها ولاسيّما الكردية من تلك التي عزّزت مكاسبها العرقية والإتنية والقومية على طول المسار عبر التمسك بمكاسبها المناطقية التي فرضت بها أجندتها الحزبية والعشائرية والإقطاعية على سياسة البلاد والحكومات المتعاقبة، إلاّ أنّ سمة الخضوع والطاعة لهؤلاء باسم الدّين والمذهب ماتزال هي الطاغية في التفكير والعمل واتخاذ المواقف حين تُفرض إرادة الدين والمذهب والطائفة. واشيء بالشيء يُذكر. فنحن لا ننكر ذات الدور الذي لعبه واستخدمه ساسةٌ وطارئون من أديان أخرى لتحقيق ذات الأهداف وذات النتائج الكارثية بحق شعوبهم التي ادّعوا التحدّث باسمها وتمثيلها زورًا وبهتانًا.
اليوم، في بيروت ثار اللبنانيون، وليست هذه أول ثورة شعبية لهم، تمامًا كما كانت ثورة العراقيين الكاسحة في الأيام الخوالي. وقطعيًا، هذه الجديدة لن تكون الأخيرة. فنحن نتوقع ثورة عارمة كاسحة في قوادم الأيام القليلة التي ينتظرها الجميع لتكون ساعة الصفر الحقيقية لقلع رؤوس الفساد وإنهاء هيمنة الأحزاب المنتفعة وكسر شوكة سياسة المحاصصة المقيتة التي نخرت جسم البلاد وأنهكت العباد وشوّهت قيمة الحضارة والثقافة والدين وأهانت رموز العراق من عهد سومر وبابل وآشور مرورًا بالحسين الثائر الذي يعيد العراقيون وأتباعُه من كل بقاع العالم ذكرى ثورته الإصلاحية على الظلم والطغيان والفساد في هذه الأيام المباركة. لقد صحا الشعب العراقي مؤخرًا، وأتباعُ المذهب الشيعي بالذات في جنوبه المنهك بالآهات المتراكمة ليتعانق مع السائرين والناشدين طريق الحرية الصادقة في بغداد العاصمة، ومنهم المثقفون والأكاديميون وأصحاب القلم الحرّ المستقلّ الصادق والمتطوعون من أجل الإصلاح كي يقولوا كلمتهم ويفرضوا إرادتهم بالحق الذي كفلته لهم الشرائع السماوية وإرادة الربُ الخالق والقوانين الوضعية وشرعة حقوق الإنسان التي قبلها وصادق عليها العراق، بالرغم من عدم التزامه ببنودها طيلة السنوات المنصرمة بكلّ أمانة. فكانت هذه الأخيرة أشبه بحبر على ورق في سجلاّت ساسته وحكوماتهم الخائبة والفاشلة المتعاقبة منذ بدء العهد الجديد للديمقراطية المفروضة من خلف الأسوار. وآخر دليل على هذه الانتهاكات خروج العراق من لجنة حقوق الإنسان الدولية وخسارته للعضوية فيها بسبب الانتهاكات الأخيرة التي رافقت الثورة الشعبية الأخيرة.

ما ضاع حق وراءه مطالب
لستُ هنا بصدد إثارة المشاعر لدى الثوار ومَن يتماهى ويتعاطف معهم في قادم الأيام مستغلاً سخونة الموقف وهشاشة الوضع والاستعداد الشعبي لأيّ شيء وكلّ شيء بعد أن تجاوزت قوات الأمن الحدودَ المقبولة في التعامل مع الشعب الثائر المطالِب بأبسط حقوقه الآدمية. وفي اعتقادي أن الاحتجاجات المتجددة القادمة ستشهد رفع سقف المطالب لتتجاوز الخدمات والعيش الكريم والحق بالعمل وكسب الرزق الحلال إلى مطالب سياسية تطالب بالاقتصاص من أحزاب السلطة ومحاسبة الفاسدين منهم ومن مافياتهم المتسلطة على رقاب الناس على مرأى ومسمع من أركان الدولة. فالقاعدة الجديدة التي ستتخذها مسيرة الاحتجاجات القادمة ستكون أكثر وعيًا وأشدّ صرامة وأرفع تحديًا وإجراءً عبر مطالبة زعماء الكتل والأحزاب الفاشلة بالتنحي عن الحياة السياسية والابتعاد عن السلطة وترك الحكم للكفاءات النخبوية في السياسة والقانون والاقتصاد والصناعة والزراعة والإسكان والخدمات وما سواها. كما أنّ الصحوة الجديدة التي برزت مؤخرًا والانتفاضة التي أخذت طابعًا وطنيًا صرفًا من نوع آخر وبعيدًا عن ركوب الأحزاب للموجة، تشير لضرورة بدء مرحلة أخرى أكثر إشراقًا للحكم المقبول في العراق بعد أن ضاق الشعبُ ذرعًا باللعب بمصيره وتدمير مستقبله ومستقبل أجياله ونهب ثروات بلاده التي هي من حقّه وليس من حقّ لصوص السلطة وأتباعهم ومَن يقف في صفوفهم من دول الجوار والمستفيدين من الوضع القائم أبد الدهر. 
لقد قالها الشعب الثائر فيما مضى وأعادها في الانتفاضة الأخيرة بكلّ وضوح وجلاء وقوة عندما نطق أتباعُ المذهب الحاكم أنفسُهم في جنوب البلاد المتخلفة ورفعوا شعارات غاية في القوة والجرأة والصدق: "باسم الدين باقونا الحرامية"، و"إيران برّا برّا بغداد حرّة حرّة". وهذا من الأدلة على إشارة إيجابية وحصول تطوّر مهمّ في التوجه العام لدى عامة الناس ممّن كانوا مغشوشين بأحزابهم الدينية. كما أنّ الصحوة الجديدة تشير إلى وعيٍ من نوع آخر بعد أن عرفوا دروب اللعبة وأحسنوا التعامل معها مهما كلّفت من دماء لأجل إحقاق الحق ونيل المطالب. ف"ما ضاع حق وراءه مطالب". وهذا كفيلٌ بوقف حمامات الدم والأصوات النشاز التي مازالت تغنّي وتبجّل لأحزاب السلطة بسبب تأثير أصحاب العمائم ورجال الدين من دون تمييز ولا تخصيص وتدخلهم في حياة الناس وفي سياسة البلاد، فيما مكانُهم الطبيعي النصحُ وتقويم الخطى والسيرة والصلاة لرب العباد في المساجد والجوامع والمعابد والكنائس.
نقولُها اليوم وغدًا، معًا جميعًا في لبنان والعراق وفي كلّ مكان، وكما فعلها الشعب السوداني ونخبُه الوطنية، معًا نحو قطع الطريق أمام المسرحيات السياسية الخائبة التي ملّ منها الشعب وخرجَ عن طوعه بعد أن نفذ صبرُه وضاقت يدُه ومدّها لتجاورَ أكوام المقامة بحثًا عن رزق غائب لبعض فئاته المقهورة. معًا لتتعانق ثورة اللبنانيين والعراقيين ولتتجدّد الاحتجاجات حتى إسقاط رموز الفساد والمتلاعبين بقوت الشعب وسارقي المال العام والمستغلين لمواقعهم وأحزابهم بالسطو على عقارات الدولة وثروات البلاد الريعية منها والمكتسبة عبر المنافذ الحدودية والأجواء والضرائب التي لا يُعرف الكثير عن أسرارها ودهاليزها. معًا لنسرْ، ضدّ إقطاعيات المحاصصة ومافيات الفساد والدور التخريبي لميليشيات أحزاب السلطة الملتحفة بالدين أو تلك التي تدّعي تقليد مراجع دينية، أو المتسربلة باسم الدين والمذهب، تلك التي سطت على ممتلكات عامة ووضعت اليد على مساحات شاسعة بحجة الاستثمار والمحاصصة والمظلومية التي أرهقت ميزانية الدولة بمرتبات خيالية متعددة وامتيازات لا حصر لها ولا حدود.
فمَن يسكتُ دهرًا، ليس بالضرورة أن ينطق كفرًا. ولعلّ قول الإمام علي وهو يصرخُ بوجه الظلم والطغيان خير رادع وأفضلُ ردّ لمن لا يخشى مخافة الله في عباده: "حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق." هذا ختام النصح!

154
العراق يحترق وأحزاب السلطة تتوارى
لويس إقليمس
بغداد، في 3 تشرين أول 2019
مع بدء العد التنازلي لقدوم شهر تشرين أول الجاري 2019، وغبّة مرور أقل من عام على عمر الكابينة الوزراية التوافقية المهزوزة للسيد عادل عبد المهدي، شهدت عموم البلاد انتفاضة جديدة لا تقلّ في وصفها عن ثورة شعبية وطنية قد تنذر بما لا تُحمد عقباه، في حالة عدم معالجة الأسباب والحيثيات والدوافع الحقيقية وراء اشتعال أوارها. شهدنا بعضًا منها على الملأ كما شاهدنا مجملها موصوفة على شاشات فضائية تسابقت لنشر الحقيقة كيدًا أم تحريضًا أم استعطافًا أم استدرارًا لجانب سلبيّ أم إيجابيّ بحسب الأمزجة التي نقلت شيئًا من حقيقة ما جرى ومازال يجري لليوم الثالث على التوالي.
طبيعة الانتفاضة الجديدة التي اعتاد الشعب العراقي البائس حدوثها أو افتعالها أو التفرّج أو التحريض أو الشماتة بها بين فترة وأخرى أصبحت معروفة للقاصي والداني، وبالذات من قبل أحزاب السلطة الحاكمة التي تسعى في كلّ مرة وتترقب مثل هذه الأحداث لترسيخ مكاسبها والاستزادة من مغانمها عبر فرض أجندات عرضية استغلالاً للظروف التي تجعل الحكومة قاصرة وضعيفة ومهزوزة في نظر الشعب والمنطقة والعالم من خلال تواري هذه الأحزاب ورموزها خلف الحكومة ونسب كل الإخفاقات إليها واتهامها بغياب أية استرتتيجية لديها بحسب البعض. ولا ندري متى كانت الحكومات السابقة تحمل في جعبتها شيئًا من مثل هذه الاستراتيجيات أو ما يُسمى بسياسة الحكومة سواء قبل تشكيلها أو في أدائها ومراقبتها ومتابعتها لمسارات وزاراتها ومؤسسات الدولة كافة التي من واجبها تقديم الخدمات الآدمية الكريمة للشعب والاعتراف بحقوقهم الدنيا في ثروات البلاد وفي الخدمات وفي الأمن والاستقرار والتعليم. وهذه من أبسط حقوق أي شعب حي، مثل شعب العراق المعروف بحضارته العريقة وبموقعه بين دول العالم من حيث الثروة الوطنية والعقل والفكر والإرادة والرغبة في الحياة الحرة الكريمة.

شعارات، صورة من أجندة سياسية تطالب بالإصلاح
بدءًا، لو صح القول بعدم وجود أجندة سياسية لهذه الموجة الجديدة من التظاهرات الشعبية العارمة وما رافقها من أعمال تخريبية وإشعال النيران بوسائل بدائية وتدمير مؤسسات عامة ونهب بعضها، وكلها مسيئة لأصل قيامها وأسباب اشتعالها ومضرة بالبيئة المتراجعة أصلاً، إلاّ أن مجرّد قيامها يعني الكثير، بالرغم من تباين الشعارات المرفوعة ومطالب المنتفضين. ولعلّ أبسط ما تعنيه هذه الموجة العارمة من هذا الكثير المنتظَر يتمثل بإظهار مدى السخط الشعبي وسط عامة شرائح المجتمع وشريحة الشباب البائس بصورة خاصة، والذي تزداد أحوالُه بؤسًا وتراجعًا في كل شيء، في العلم والتعليم والتربية والتوظيف والخدمات والبنية التحتية والحق بالرفاه. ونحن نشهد بأمّ أعيننا تزايدَ جيوش البطالة في صفوفه والصعوبة في تلبية متطلبات الحياة الحرة الكريمة التي يستحقها سيّما وأنه يبصر بأم عينيه مدى استهتار أحزاب السلطة، وتلك الإسلامية منها بالذات، بحقوقه الإنسانية وحقه في ثروات البلاد التي تتبخر في ظلّ أية حكومة تتولى مقاليد السلطة بسبب تقاسمها بين هذه الأحزاب وأدواتها من الفاسدين والمفسدين في الأرض من دون رقيب ولا حساب حقيقيّ. فاختفاء أكثر من 450 مليار دولار وربما أكثر، من أموال الشعب من دون معرفة طريقة اختفائها وتسربها والمتسببين بها أو بالأحرى التغاضي عن كشف المتورطين بها وعدم تمكن الحكومات المتعاقبة من محاسبة المقصرين، لهي الدليل الواضح بتورط هذه الحكومات المتعاقبة بتقاسم هذه المغانم والاتفاق فيما بينها على تجاهل جميع المطالبات الشعبية بكشف مصير الأموال المنهوبة إيغالاً بفتنة الفساد والاستخفاف بعقول الشعب البائس وبخسًا لحقوقه المشروعة وفق الدستور الأعرج.
أمّا طريقة معالجة هذه الموجة الأخيرة من الاحتجاجات واستخدام القوة في قمع وتفريق بعضها سواء في بغداد أو سائر المحافظات المشتعلة، فهي إشارة واضحة بتجاهل مطاليب المتظاهرين الذين ضاقوا ذرعًا بتصرفات أحزاب السلطة وأدواتهم من الميليشيات المنفلتة والعصابات التي تعيث في أرض العراق فسادًا واقترافًا للشنائع وإدخالاً لأنواع السموم من المخدرات مدعومة من جهات متنفذة وأخرى تستلهم قوتها من جهات لها صلة ودعم سياسي وتسليحي من ذراع الجارة  القوي "إيران" التي تتحكم بمقدرات البلاد فعليًا عبر أدواتها النشطة التي تسيطر على مفاتيح النظام السياسي بشكل أساسي من دون منافس ولا رقيب ولا معارضة حقيقية. وهذا دليلٌ آخر على عجز الحكومة في معالجة الأوضاع بالرغم من قطعها وعودًا قاطعة بمعالجة مواقع الخلل في برنامجها الحكومي "الوطني" المطروح والذي لم يتحقق منه بعد سنة تقريبًا من توليها السلطة إلاّ القدر الهزيل الذي لا يرقى للحديث عنه. فكلّ ما حصل لم يكن سوى كلمات وحديث إنشائي وخطابيّ معسول عن مشاريع وقطع وعود على الورق وفي برامج ايفادات المسؤولين في الدولة التي لها بداية وليس لها نهاية. فما نسمعه في هذا المجال من معنيين في مؤسسات الدولة على تنوع مفاصلها ودرجاتها وما نرقبه بأمّ أعيننا يكاد لا يُصدّق. فالمسؤولون العراقيون قلّما يوجدون في مكاتبهم، وحين السؤال نفهم أنهم في مهمة إيفاد رسمية أو زيارة شخصية إلى الدولة الفلانية، ومنها إلى دولة أخرى وهكذا دواليك. وهذا شيءٌ قليل من فساد أجهزة السلطة التي تستنزف موارد الدولة في عقد الصفقات المشبوهة وزيادة مخصصات المسؤولين وما يُسمّى بالحوافز الخرافية في الشركات الرابحة والاستيلاء على عقارات الدولة من دون وجه حق، ناهيك عن استنزاف ميزانية الدولة عبر الزيارات والإيفادات غير الضرورية في العديد منها. ونحن هنا لسنا بصدد المطالبة بمنع الإيفادات الضرورية التي تتطلب المشاهدة والاستفادة من مراكز بحثية والسعي للبحث عن شركاء حقيقيين لمشاريع تبني وتعالج وترمم وتعيد بناء ما تم تدميره واستهلاكه منذ سقوط النظام البائد ووصول أحزاب الإسلام السياسي الشيعي منه والسنّي على السواء.
لقد تعددت المطالبات التي رفعها المحتجون والشباب الغاضب بالذات ومعهم أقلام الطبقة المثقفة وما تبقى من الوطنيين محبي العراق من دون مقابل. وبالرغم من تنوع هذه المطالبات واشكال عرضها، إلاّ أنها ستظل كالعادة من دون استجابة حقيقية ومعالجة جذرية للأسباب التي قامت من أجلها، ومنها معالجة ملفات الفساد الذي تنخر جسم البلاد منذ 2003، وزادت منه الحكومة الحالية عبر تحييد سبل علاجه والغرق في تشكيل لجان وهيئات لا تحلّ ولا تربط، بل كلّ ما تفعله هذه الحلقات الفارغة تستخدم لتخدير الشعب وتسويف المعالجات الصائبة ووضع ملفات الفاسدين على رفوف هذه اللجان بدل محاسبة حقيقية وجادة من القضاء العراقي الذي يخشى التقرّب من أحزاب السلطة ولا يجرؤ فتح ملفات الفاسدين الحقيقيين من كبار المسؤولين في الدولة وفي صفوف الأحزاب المتسلطة بالذات بدءًا بزعماء الكتل والسياسيين والنواب من دون تمييز، والذين يتركز جلّ همّهم على تعزيز مواقعهم في السلطة لا أكثر.

غياب الحسّ الوطني
نحن مثل العديدين من الوطنيين، لا نشك بوجود مَن يريد أن يركب الموجة ويحاول تسييس هذه الانتفاضة الجديدة وتجيير بعض أنشطتها واحتجاجاتها لصالح هذا الحزب أو ذاك أو هذه الجهة السياسية أو تلك. ولكنها في حقيقة أمرها ستبقى عراقية ونابعة من وجدان الشعب ومن بنات أفكار طبقة الاهتياج الوطني الذي برز على الساحة وأجبر البعض في غفلة من الزمن للحنبن إلى زمن الماضي القريب الجميل بحسب وجهة نظره قياسًا بالبديل الزائف المهزوز، بالرغم من عسر الأول واتصافه بسلوكيات دكتاتورية وغير إنسانية في بعضٍ منها. ولعلّ هذا البعض الذي يشدُّ الحنين  إلى ذاك الماضي القاهر اضطر للتذكير به بعد أن أفقده النظام السياسي الجديد بدمقرطته المزيفة والمغلَّفة بأحزاب السلطة التابعة لولاية الفقيه في جوهر سياستها وليس بولائها المفروض للوطن وللشعب. وهذا ما عبّرت عنه هذه الثورة الشعبية الجديدة بسبب فشل الحكومات المتعاقبة في إصلاح النظام المعتمِد على المحاصصة المذهبية والطائفية والحزبية، ما قطع أية آمال بقدرة الدولة برئاساتها  الثلاث ومعها القضاء الذي أخفق هو الآخر لحدّ اليوم بالتعاطي مع ملفات حيتان الفساد ومحاسبة رؤوسه الذين يتربعون على قمة السلطة لغاية الساعة.
أما ما صدر مؤخرًا من قرارات مستعجلة بالتضحية بعدد محدود من موظفي القطاع العام وبعض الإصلاحات المادية، فهو لن يحلّ المشكلة ولن يُنظر إليه سوى من نافذة ضيقة وآنيّة. فهؤلاء المضحّى بهم ليسوا ولن يكونوا سوى أكباش فداء للرؤوس الكبيرة التي تواصل نهب ثروات البلاد بطرق ووسائل شتى بفضل ما تسنه من قوانين وما تصدره من تعليمات إدارية لصالح بقاء نفوذها وتواصُل حكمها الفاشل بسبب غياب الحسّ الوطني بشكله المواطنيّ. كما أنّ الحكومة من طرفها، أبدت عجزها الواضح بإدارة الأزمات المتلاحقة وتلبية الحاجات والمطالب الشعبية بالإصلاح وبفرض القانون وقطع الطريق أمام أدوات الدولة العميقة التي تسيطر على المشهد السياسي بدعم من قوى متنفذة تستمدّ قوّتها من أدوات التدخل الإيراني القائمة والحاضرة بقوّة وبفاعلية في كلّ مفاصل الحياة العراقية. هذا إضافة إلى تقاطع مصالح الشركاء "الأعداء"، والتي كان من ضمن نتائجها الفشل في إدارة حكيمة للسلطة وغياب للعدالة في توزيع الثروات والاستيلاء على الممتلكات والعقارات العامة والخاصة بحجج ووسائل شيطانية ومن نهبٍ فاضح للثروات من دون وازع ولا شبع ولا خجل، وكذا بسبب إبعاد قيادات وطنية من الساحة العراقية ومن المشهد السياسي والعسكري الذي يتمثل باستبعاد كلّ مَن يحمل فكرًا وطنيًا يطالب باستقلالية الوطن وإبعاد تأثير القوى الإقليمية وإيران بالذات.
كما لا يمكن التغاضي عن وجود غياب ملحوظ في الاستراتيجيات التي تخطط من أجل البناء والتنمية والإعمار وفراغ متعمّد لدور القطاع الخاص الذي يمكن أن يشكل أعمدة شامخة للبناء وإعادة الاعمار فيما لو أخذ دوره الريادي في الإعمار وفي مبادرة البناء وإعادة تدوير عجلة الصناعة والزراعة من خلال مساهمته هو الآخر في تعزيز الاقتصاد وبناء الدولة واستعادة كرامة الإنسان العراقي، سليل الحضارات وابن الثقافات المتعددة والتنوع الاتني والقومي والدينيّ الذي هو مفخرة وغنى للبلد والمنطقة والعالم.
إنّ غياب الحسّ الوطني من جانب غالبية أحزا ب السلطة الموغلة في فسادها بعمومها قد عجّلت من ضيق صبر الشعب بسبب سلوكيات هذه الأحزاب وأنشطة التيارات والمجاميع التابعة لها التي لا ترقى للسلوك المواطني الصحيح. ناهيك عن تواصل كذبها واستهتارها واستخفافها بمطالب الطبقات المظلومة التي تزداد فقرًا وقهرًا وتخلفًا يومًا بعد يوم، بحيث غابت عن معظم العملية السياسية سمةُ الوطنية والحرص على البلد وأهله وثرواته. وممّا جعل أحزاب السلطة، وجلّها من أوساط الإسلام السياسيّ ومَن ركب موجتها ومَن والاها من أصحاب النفوس الضعيفة، تستقوي أكثر وتوغل في غيّها بالرغم من نداءات الشرفاء وتحذيرات المرجعيات الدينية النصوح من شتى الأديان والمذاهب، فإنه يكمن في اعتماد هذه الأحزاب على تخرّصات وتحزّبات مذهبية وطائفية تقف وراءها عناصر وأصحاب عمائم تدّعي المرجعية أو الموالاة لها والإفتاء باسمها من دون وجه حق بسبب الفوضى الخلاقة القائمة في كلّ ركن من البلاد وكل مفصل من الحياة، بحيث صار المعمَّم هو الآمر والناهي، القاضي والجلاّد، الموجّه والمتحكم في فكر العامة وفي نشاط رجل السلطة التابع له أو لمذهبه وطائفته. فيما الشعب المغلوب على أمره باقٍ في بؤسه يجد صعوبة في تحديد سلوكه غير المستقرّ بسبب تعدد المراجع التي تفتقر معظمُها للمصداقية في أدائها وأقوالها ونصحها. أمّا كلّ ما فعلته وتفعله السلطة برئاساتها وسائر أدواتها، فقد تراوح ما بين استنباط الطرق والوسائل الكفيلة بوضع برامجها ومخططاتها من أجل زيادة مكاسبها المالية عبر إقطاعياتها من نظام المحاصصة اللعين وفي الترشيح لمناصب لأتباعها وأدواتها من اجل زيادة تلك المكاسب والمغانم من ثروة البلاد التي تفرّدت بها دون الشعب صاحبها والمتولي عليها من حيث المبدأ. وإلاّ أين تذهب ميزانية البلاد السنوية منذ السقوط في 2003 ولغاية الساعة، فيما معدل مبالغها تقارب المائة مليار دولار من موارد النفط الريعية وما ينبغي أن يلحقها من مدخولات البلاد الأخرى عبر المنافذ الحدودية وأجواء البلاد وغيرها من الرسوم الداخلية الأخرى؟

تحقيق الغايات هدف الثورة الشعبية
هذا غيث من فيض ما دعا الاحتجاجات الأخيرة كي تنفجر من جديد. ولعلّها لن تتوقف كما حصل في سابقاتها حتى تحقيق المبتغى بإسقاط رموز الفساد وتغيير نظام العملية السياسية برمته والعمل لعودة الكفاءات الوطنية وأهل المقامات العلمية والإدارية والوطنية، وما أكثرها من تلك التي غادرت البلاد ولم تجد مكانًا لها وسط الكمّ الهائل من رموز الفساد والطائفية وراكبي موجة الإسلام السياسي الفاشل. أما الإجراءات التعسفية التي شهدناها من قمع للتظاهرات السلمية بطرق غير مقبولة وبالقنص والقتل المتعمّد ومحاصرة المحتجّين وإلقاء القبض على أعداد كبيرة منهم ومنهم الجرحى الذين استقبلتهم بعض المستشفيات وزجهم في السجون وقطع الانترنت وحجب مواقع الكترونية، فهي لن تثني من عزم الشعب الثائر الذي يطالب بإصرار بمحاسبة القائمين على السلطة والفاسدين منهم في الحكومات المتعاقبة كي يأخذ كلّ ذي حقٍّ حقه ويصلح حال البلاد والعباد. ففي النهاية، هذا ما سيؤول إليه مصير الفاسدين وسراق المال العام والمتحكمين بمصير شعوبهم عبر سياسة الظلم والقهر والتهديد والخنوع. وسيلحقون آجلاً أم عاجلاً بمصير مَن سبقهم ممّن لم يراعي أمانة شعوبهم في أعناقهم. وما على المنتفضين والثائرين إلاّ مواصلة التحشيد والاحتجاج والاعتصام وعدم فسح المجال لامتصاص غضبهم المشروع بطرق ماكرة، ظاهرُها حرصٌ بتلبية المطالب وباطنُها امتصاصٌ للغضب الشعبي بوسائل ماكرة عبر الدعوة للتهدئة والحوار والتفاهم أو عبر عقد اتفاقات جانبية ضيقة ومحدودة الاستجابة. أمّا الدعوة المفتوحة للحوار، فستكون مع مَن؟ فهل ستقرّ أحزاب السلطة ومَن بيدها القرار في الرئاسات الثلاث وفي القضاء الذي لم يأخذ دوره القانوني والوطني، بما هو قائم من فساد، وهم جزء من تركيبة العملية السياسية التي أتت بالحكومات الشيعية المتلاحقة الفاشلة وهي التي أنتجت الحكومة الحالية أيضًا؟
أمنية الشرفاء والوطنيين أن تتواصل الاحتجاجات حتى تحقيق المطالب المشروعة لجميع المنتفضين وحتى المترددين واليائسين من العملية السياسية برمتها. فكلٌّ يبغي حقه في الثروة العامة وفي الخدمات الآدمية وفي الأمن والاستقرار والرزق الحلال. وكلٌ يتمنى الخير والرفاه له ولجميع الشعب المغلوب على أمره ولشعوب المنطقة وللعالم. فجنّة العراق كبيرة وخيمتُه وارفة الظلال، ومن طبعها أن تحتضن الجميع من دون منّة من أحد كما تحتضن الدجاجة فراخها وتحنو عليهم وتحميهم من أي مكروه طارئ. فالعراق للجميع وليس لشلّة أو جهة أو دين أو مذهب أو حزب أوعصابة.
وهكذا عندما يثور شعب بأكمله بسبب بلوغ السيل الزبى، فتلك إشارة على بلوغ الأوضاع حدودها وإيذانٌ بضرورة التغيير بعد فشل السنين الغوابر. فللصبر حدودُه أيضًا. ولا بدّ من حكومة طوارئ قريبة قادمة تستبعد رموز التغيير ما بعد 2003. أما أحزاب السلطة ومَن يواليها ويتبعها ومَن يدعم تواصل فسادها وإصرارهاعلى نظام المحاصصة، فلتلتحف جيدًا وتغطّي عورتها كالنعامة بعد اصطدامها بثورة الشعب. فإرادة الشعوب أقوى من الطغاة وأسمى من الفاسدين وأكبر من المتاجرين بقوتها وحريتها وكرامتها وعرضها وسائر حقوقها الوطنية والفردية. وما أغلى الوطن! إنّما الغدُ لناظره قريب!

155

بين الحكومة والبرلمان ضاعت النزاهة
لويس إقليمس
بغداد، في 2 تموز 2019
تقاطع الرؤى والإرادة في معضلة كيفية التعامل مع ملف الفساد المستشري في مؤسسات الدولة العراقية ما بعد كارثة الغزو الأمريكي في 2003، وكذا في مسألة إيجاد أفضل السبل وأسهلها وأقلّها خسارة وإثارة للحساسيات بين الأحزاب والكتل المتسلطة على الحكم، قد وضعت الحكومة الحالية في مأزق كبير، بل في حيرة إزاء كيفية الالتزام بما تعهدت به للشعب. والموضوع بلا شك، له إشكالياتُه وحيثياتُه وتوقيتاتُه بحسب ما مخطَّط له مِن قبل مَن يديرون دفة العراق من خارج الأسوار. أمّا القائمون على حكم البلاد في الظاهر، فليسوا كما يبدو من واقع الحال سوى أدوات لتنفيذ إرادات وتسيير معاملات وتسهيل سرقات البلاد والسماح بإحداث تغييرات دراماتيكية في جغرافية البلاد وديمغرافيتها وفي مواقع وأمكنة ومناطق منتخبة سواء في العاصمة بغداد أم في مناطق ومدن طالها الإرهاب والتدمير والتخريب بهدف إعادة تشكيلها وفق تلك الإرادات والأهداف والسياسات.
في الواقع، إنّ توالي الحكومات المذهبية المتلاحقة منذ سقوط نظام البعث على أيدي الغزاة الأمريكان وأعوانه وأذياله وأدواته بالطريقة المخزية التي شهدها العالم، لم تسعى بصدق وحرص للتأسيس لوطن حرّ ومستقلّ في قراره، وطن له مقوّمات دولة محترمة تقدّس المعايير الدولية في التعامل مع شؤون البلاد وحفظ كرامتها وكرامة شعبها وصيانة النظام الديمقراطي المستورد على الطريقة الأمريكية -الغربية. بل نستطيع القول إن الحكومات السابقة لم تكن لها الإرادة الصادقة والوعي التام للقيام بتلك المهمّة الوطنية أصلاً. والسبب واضح وهو فقدان سمة الولاء لشيء اسمُه الوطن. فالوطن وما فيه وما عليه من حجر وبشر وماء وهواء صارَ، بل تُرك رهنًا لإرادة الجارة إيران وسياساتها الانتقامية التاريخية المتأصلة ضدّ العراق وأهله. وهذا هو التاريخ عينه ينطق بما تشهد عليه أعينُنا وما تسمعه آذانُنا، ولا حاجة للتعب في التحليل والبحث والدراسة والسؤال.
بالعودة إلى موضوع النزاهة ومحاربة الفساد والفاسدين، فإنّ واقع الحال يشير إلى تعمّق الظاهرة "الآفة" أكثر، وإلى استفحالها بحيث أصبحت خارج نطاق السيطرة كالسرطان الخبيث الذي سرى في جسم أجهزة الدولة والعامة على السواء، ليس على عهد الحكومة الحالية فحسب، بل في الحكومات التي سبقتها وكانت السبب في استشرائها واستفحالها. وهذا ما تؤكده المحاولات الخائبة للحكومة الحالية المدّعية القبض على مفاتيح مافيات الفساد من دون أن تقدّم علامات ملموسة عن كيفية محاربة زعامات هذه الآفة المتأصلة في بنية مؤسسات الدولة على أيدي الأحزاب المتسلطة على هذه المفاتيح التي تدرّ عسلاً وذهبًا وتتنافس في كسب وتكديس المزيد من الأموال المسروقة والعقارات المنهوبة بشتى الطرق والوسائل. أمّا ما يجري من علاجات ترقيعية خجولة، فهذه لا تقدّم سوى جرعات من المهدّئات لإسكات صوت الشعب وتخفيف حدّة الغضب وبهدف الاستعراض الإعلامي والسياسيّ وليس من ورائها سوى ذلك.   
لا أحد يخفى عن باله حدّة التصريحات النارية الصاعقة لرئيس الحكومة السابق الذي لم تتوقف تهديداتُه بالضرب بيد من حديد على رؤوس الفساد. وفي الواقع، كانت مجرّد فقّاعات للاستعراض السياسيّ الرخيص وتهدئة الشارع الغاضب وكسب المزيد من التأييد الشعبي لبرنامجه الضبابيّ الذي لم ينضج. وذات الشيء اليوم قريب من واقع الأمس. فرئيس الوزراء التوافقي الحالي لن يكون بمقدوره البتة إشاعة فضيلة النزاهة في صفوف حكومته ومؤسسات الدولة التي تنخرها متلازمةُ سرقة المال العام ومال الغير بأشكاله المتنوعة والذي يجري من دون وازع ضمير ولا شعور بمصلحة البلاد والشعب. فما تنقله وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات المتلفزة ووسائل الإعلام كفيل بتأييد واقع اليوم من ضعف الأداء الحكومي وعدم قدرته على مواجهة حيتان الفساد، باختصار لكونهم جزء من تركيبة الحكومة وشبه الدولة القائمة بسلطاتها الأربع، التشريفية والحكومية والتشريعية والقضائية.
إنّ العتب كلّ العتب، يقع على عاتق رئيس الحكومة المعروف باتزانه وحكمته وخبرته بالاستفادة من سنيّ إقامته في دولة غربية. لكنه كما توقعنا منذ توليه السلطة كشخصية توافقية، فهو مكبَّل بالتزامات وشروط قطعها على نفسه لصالح كتل وأحزاب ساندت ترشيحه، وهي تضيّق عليه الخناق كلّما سعى لإعادة النظام واتخاذ قرارات وطنية تحدّ من مصالح هذه الأخيرة، ومنها ما يتعلّق بموضوعة قطع أيادي حيتان الفساد. وهذا ما دعاه لطلب السند والعون من المجلس الأعلى للفساد الذي أعاد تشكيله وأراد تفعيله. لكنّ المهمّة صعبة والطريق طويلة والأشواك والعوسج تفترش كلّ أرض البلاد وهي في تزايد كلّما وهنت إرادة الحكومة وأرخت الحبل وتغاضت عن مخالفات وجرائم وتجاوزات هنا وهناك.
والعتب الآخر يقع على عاتق أداء المؤسسة التشريعية المتصارعة التي أقلّ ما يُقالُ عنها في هذه المرحلة، أنها واقعة في حيص بيص بسبب إخفاقها في وضع حدود قاطعة ضدّ سياسة التوافق والمجاملة في اتخاذ القرارات وسنّ القوانين، والتي بانت واضحة منذ تشكيل الحكومة الحالية وفي عدم اكتمال نصابها بعد مضيّ أشهر على تشكيلها. ويأتي سكوتها عن سرقات وعمليات فساد متنوعة تجري في كلّ زاوية وكلّ منطقة وكلّ محافظة وكلّ دائرة من دون أن تقوى على صناعة تاريخ تشريعي مشرّف، بسبب تكبيلها هي الأخرى بسياسة التوافق والمحاصصة وتقاسم الأدوار والغنائم والمكاسب عبر المناصب التي تتصارع عليها. وهذا من الأسباب التي يقف حائلاً دون القدرة على وضع حدود للفساد وإيجاد حلول جادّة لأشكال التراخي القائم في الأداء الحكومي من حيث تطوير المراقبة الجادة وتحسين الخدمات العامة ولاسيّما باتخاذ قرارات صائبة وفورية في معالجة أزمة الكهرباء الأبدية بسبب غرق الوزارة المعنية في أروقة الدراسات والتحليلات والتخمينات بالرغم من قدرة الدولة على اتخاذ قرار مشابه لما أقدمت عليه مصر في توفير طاقات كبيرة في فترة قياسية. والعراق قادر على تنفيذ ذات السياسة وذات القرار بالاستفادة من زيادة أسعار النفط والفائض في الميزانية من الأموال المتحققة. لكنّ الصراع القائم حول منع تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه الصناعة كما يبدو، ليس بيد أهل الوطن، بل تتداخل فيه مصالح دول الجوار من أجل إبقاء الشعب حائرًا وباحثًا دائميًا عن الحاجة والفاقة ومستهلكًا مستميتًا في استيراد كلّ شيء كي لا تقوم له قومة الإنتاج والتصنيع والإبداع. وهذا يعني أنّ الكلّ مثل الكلّ مشارك أو موافق أو ساكت عن كشف الحقيقة بشأن ما يجري من خروقات وتجاوزات كي لا تفتح جهنّم نارها عليهم جميعًا. وحينها لات ساعة مندم! وحتى حينما تحفظت هذه المؤسسة "التحاصصيّة التعبانة" على المهام الموكلة لما سُمّي بالمجلس الأعلى لمكافحة الفساد، بسبب ادّعاء تداخلها مع مهام لجنة النزاهة البرلمانية والتجاوز على مهامها الأخيرة، فإنها لم تبدي ذلك الحرص والجدّية في التكاتف والتناسب والتعامل مع أداء هذا المجلس على أساس مصلحة الوطن العليا بالمضيّ في البرنامج الذي حُدّد له في مجلس الوزراء كفرصة أخرى للقضاء على آفة الفساد. وهذا ما فتح الأبواب لزيادة الشكوك وسط عامة الشعب من مغبّة تقاطع الأجهزة المتعددة التي تدّعي جميعًا مراقبة ومحاربة الفساد وحيتانه، فيما هذه الآفة تتنامى بشكل مستمرّ وتتسع مدياتُها. ويكفي ما نسمعه ونشاهده، وآخرها ما تحدثت به إحدى القنوات الفضائية وكشفها بالوثائق أشخاصًا يتقاضون أكثر من عشرين مرتبًا وبأشكال وصيغ متعددة، فيما أجهزة الدولة المالية صاغرة ولا تحرّك ساكنًا. 
لا شكّ أنّ مثل هذه التجاوزات والخروقات تساهم بشكل أو بآخر في إعاقة عمل الشرفاء من الوطنييّن المتبقين من أصحاب الضمائر الحيّة في أجهزة الدولة الوطنية من حيث البقاء على الحياد أو السكوت أو الخوف من كشف أعمال الفساد المتعددة القائمة. وهذا ممّا خلق هوة كبرى بين الدولة والشعب في مسألة تزايد فقدان مصداقية الحكومة المحصّصاتية الضعيفة القائمة منذ تشكيلها وعدم قدرتها على تنفيذ تعهداتها بتضييق الخناق على الفاعلين الأساسيين في مسألة الفساد ممّن هم ضمن تركيبة السلطة نفسها التي تدّعي مكافحة هذه الآفة. ولا أدري كيف يمكن تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود حينما يكون القاضي والجلاّد والمتهم جزءًا من تشكيلة السلطة ذاتها. لعمري، إنها لأحجية محيّرة حقًا!
لقد تعددت المسميات بوجه مكافحة الفساد وتنوعت لجانُه وتشكيلاتُه، فيما الفعل الحقيقي للأداء والتنفيذ شبه غائب. وإذْ يبدو قرار الاتهام أصعب بسبب تقاطع المصالح، يقف المتهم مهدّدًا بنسف العملية السياسية، ملوّحًا بحصانته ومذكٍّرًا بجهاديته ونضاله وفتاوى مَن يناصرُه. كان الله في عوننا جميعًا!


156
البشر جميعا اخوة، حقيقة إنسانية مغيَّبة
لويس إقليمس
بغداد، في 27 آب 2019

كلّ مخلوقات الله حسنة وجميلة ومتساوية في البشرية وفي الإنسانية أمام الله خالق المسكونة وضابطها. وهذه حقيقة مغيبة في سجلّ الكثيرين ممّن ينكرونها أو يترفعون عنها ولا يسلّمون بها لكونها تؤذي مصالحهم وتقضّ مضاجعهم ليلَ نهار، خوفًا من تراجع المكاسب الخاصة والضيقة التي تكون في الغالب جشعة وغير نزيهة، أو خشية من فقدان جماعات معينة لمراكزها وامتيازاتها ووجاهتها لصالح الأجدر من نظرائهم في الخليقة من دون تحديد الزمان والمكان والظرف والحالة.

مجتمعات متكافلة

لستُ هنا بصدد الانتقاص من امتيازات أحد أو تجاهل خصائص مجموعة عرقية أو جنسية أو الاعتراض على جماعة حاكمة ومترفة لحدّ التخمة، بقدر ما بودّي تبرير عدم استساغة المجتمعات المتكافلة والمتعايشة إنسانيًا لأشكال التعامل غير الإنساني والرؤية الناقصة والفكرة الزائغة لنفرٍ من أمثال هؤلاء المتطاولين على البشرية والمتكبرين على نظرائهم  والمستصغرين غيرهم من المتساوين مثلهم في الخلقة والناكرين حقَ هذا الغير في العيش الآدميّ الذي تكفّلت به السماء حين خاطب الله آدم وحواء وأرادهما أن يكثرا وينموا ويملآ الأرض بنينًا وبنات ليهنئوا ويعيشوا سعداء في فردوسه الأرضي بادئ ذي بدء. هذا كان مشروع الله الكبير والعظيم في خلق البشرية كي تجتمع على المحبة وعلى حبّ الخالق بأدواتها وسلوكياتها اليومية وكي لا تغضبه ولا تزيغ عن مشروعه الإلهي.
هولُ الحروب التي تضرب عالم اليوم وما خلّفته وماتزال تخلّفُه من مآسي وويلات ونكبات وكلّ أشكال الشرّ تمثل اليوم طعنة كأداء في رؤية الخالق الإلهية وخيبةً في المشروع السماوي بالرغم من كون أغلبية البشر إن لم يكنْ جميعُهم يتناغمون قولاً وظاهرًا مع إرادة هذا الإله الذي تعددت صورُه وأشكالُه وأخلاقُه مع تغيّر فكر البشر ورؤاهم بحسب اختلاف مصالحهم وذرائعهم وانتماءاتهم. فالمتديّنون من كلّ الأديان والمشارب يكبّرون ويدعون ويصلّون باسمه ليلَ نهار ويدّعون تأدية الصدقة والعشر والزكاة ويتبجحون بالصوم والصلاة والظهور على شاشات القنوات الفضائية والبرامج الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، فيما معظم هؤلاء بعيدون في الواقع عن حقيقة أمرهم وعيشهم فيما يقولون وما يصرّحون بما لا يفعلون. فالظاهر شيء، أمّا الباطن والفعل الحقيقي فهو شيء آخر مختلف تمامًا حين يضربون عرض الحائط حقيقتهم البشرية التي هي ملك الخالق وبها ينبغي أن تسمو بالسمات الإنسانية وكلّ الصفات التي يحبها الله من تلك التي تقرّب إليه وإلى الجنّة العتيدة التي تنتظر الأخيار وطيبي القلوب وأصفياء النفس والعقل والفكر وصالح الأعمال والخشية من فعل الشر. فحينئذٍ، لا الثروات المكتنزة بالحرام تنفع ولا ممارسة اللصوصية بحق المال العام الذي هو ملك الجميع يدفع شرّ المصير ولا شتى أنواع الشرور والمكاره والظلم والقتل باسم الله يشفع. كما لا تنفع القبور المكلّسة التي يشتهي أصحابُ الفساد تهيئتها أو التوصية بها بعد الممات. فمتى تدنو الساعة، حينئذ ينتهي كلّ شيء. فيقف الظالم والفاسد والماكر وصاحب الشرّ أمام عرش الديان العادل الذي بإشارة منه يرسل مختاريه الطيبين إلى يمين فردوسه الجميل. أمّا الأشرار وناكرو حقِّ الغير في عيش إنسانيتهم وحياتهم كما أرادها الخالق العظيم، فمصيرُهم النار وصريرُ الأسنان، وهناك لا ينفع ندم ولا بكاء ولا شفاعة ولا رشوة بالمال الحرام.
وسؤالُنا، متى سيدرك البشر أنهم جميعًا خليقة حسنة لإلهٍ طيب، عظيم، رحمن، رحيم، مالك كلّ شيء ومحبّ لجميع البشر من دون تمييز في الجنس والعرق واللون والفكر والحرية التي حباها لخليقته بإرادته العظيمة ومحبته الكبيرة لبني البشر أجمعين؟
إن دروس الحياة كثيرة وكبيرة، وهي خير طريق لمراجعة الذات بالفرص الكبيرة والكثيرة المتوفرة في كلّ زمان ومكان. ولعلَّ مَن يقف مناديًا وصارخًا بوجه الظلم البشري ضدّ نفر فاقد الطيبة والرحمة، له الحق كلّ الحق بالدعوة بالثبور واللعنة على كلّ بشرٍ ظالم أو حاكم جائرٍ أو مجتمع فاسد بأكمله لا يعر ف مخافة الله ولا يعي دعوته السماوية في احترام البشر، كلّ البشر خليقة الله الحسنة. هذا الإله الطيب الرحيم وغير القاتل الذي أُلصقت باسمه العديد من الجرائم وأشكال القتل وسفك الدماء البريئة بتأويلات وتفاسير زائغة لا ترقى لأية سمة إنسانية، هذا الإله لا يستحق كلّ هذه الصور السوداوية والمظاهر المزيفة التي تدّعي الانتماء لدينه والشكل المشوّه لهذا الدّين الذي يسعى الأشرار والفاسدون والمفسدون في الأرض التماهي بها لتسهيل ارتكاب الفظائع باسمه. فالدّين من هؤلاء براء براءة الذئب من دم يوسف الصدّيق. ألم يشكّك يعقوب بادّعاء إخوة يوسف حين جلبوا له قميص عزيزه ملطخًا بالدم؟ 

هكذا الإنسانية أيضًا بريئة من ادعّاء كلّ فاسد ولصّ وجائر وظالم في الأرض مهما سما قدرُه وعلت منزلتُه وتضاعفت ثرواتُه وتوسعت سطوتُه ضدّ بني جنسه من البشر المتساوين معه في الخلقة وفي الإنسانية.  وهذا يعني، بلهو موقفٌ لحث كلّ الطيبين محبي البشر والمؤمنين بعدالة السماء ورحمة الله الخالق على سلوك طريق النصح والتوعية والتثقيف من دون تردد ولا تغافل ولا خوف. فاللامبالاة لم تعد خيارًا في عالمٍ مزدحم بكلّ انواع السلوكيات غير الصحيحة والزائغة معًا، ما يدعو صفوة المجتمعات في كلّ مكان للمطالبة بتحقيق العدالة والمساواة والرحمة والتكافل ورفض التمييز على أيّ أساس كان وفق مبدأ الخالق العادل في تساوي كلّ خليقته بالحق المكفول في الحياة الآدمية المقبولة.

أسرة واحدة

وهذا هو المبدأ الذي ساقه وسعى لتطبيقه المهاتما غاندي حينما كتب بأنّ "الإنسانية جمعاء أسرةٌ واحدةٌ غيرُ مجزأةٍ وغير قابلةٍ للتجزئة، وكل واحدٍ منّا مسؤولٌ عن أعمال القتل التي ارتكبها جميع الآخرين". وهذا ما أكّدته لائحة حقوق الإنسان وتسعى منظمات دولية وخيرية عديدة لتطبيقه في الحياة اليومية ضمن مجتمعات فقدت توازنها واختلّت قواعدُ عيشها بسبب تصاعد أعمال الجرم والقتل والجور والظلم بحقّ بشرٍ بل بحقِّ مجتمعات بأكملها بحجج واهية. ولا ريب أن يشهد عالم اليوم هذا التخبّط الكبير في تفسير حق العيش بحسب نزوات ورغبات وأجندات فئات وجماعات تدّعي أحقيتها بالسطوة على العالم وعلى البشر بالطريقة التي ترضيها ناكرة حق الآخرين في عيش حياتهم وكرامتهم بحسب رضا الله الخالق وقوانين السماء التي لا تقبل الظلم والتعسّف والمكابرة.
وفي النهاية ينبغي أن يدرك الجميع ويعرفوا حقيقة كون جميع البشر إخوة وأخوات لبعضهم البعض، أولاد وبنات لإله طيب رحيم ومحب للجميع من دون تمييز.




157
الضمان الاجتماعي حق للجميع
لويس إقليمس
بغداد، في 25 حزيران 2019
تسعى الدول المتحضّرة والمحترِمة (بكسر الراء) لمواطنيها بتقديم كلّ ما يساهم ويعمل على تلبية احتياجاتهم والسهر على راحتهم بأساليب وطرق تليق بهم كبشر وكأفراد في مجتمعات متماسكة تحظى باحترام قادة بلدانها وزعمائها وساستها. وهذا ينمّ عن القيمة العليا للسلوك الإنساني والحضاري ومدى التفاني لدى الحكومات عندما تعمل هذه بالتعاون والتواصل مع المنظمات والأحزاب معًا من أجل ضمان حياة أفضل وعيش مرفّه للمواطنين من دون تمييز أو تقاعس. والسبب لكون مثل هذه الدول تعرف قيمة الإنسان وتقدّر وجوده كفرد آدميّ مخلوق فوق ترابها لغاية أسمى من قبل الخالق. ومن ثمّ لا بدّ لإدارة هذه الدول وزعاماتها من تكثيف جهودها والبحث عن أفضل السبل لإسعاد مواطنيها. وهذا ما فتح باب التنافس بين الدول المتقدمة لتولّي المواقع المتقدمة في سلّم الشعوب الأكثر سعادة ورفاهة سنويًا، وكأنها تتبارى لبلوغ هذا الهدف الأسمى. وبالتأكيد، لا مجال لذكر الشعوب الإسلامية والعربية والأفريقية ودول العالم الثالث أو تلك التي اعتدنا تسميتها بالدول "النايمة"، عفوًا النامية، بالرغم من غزارة ثرواتها الطبيعية وكثرة ولاداتها البشرية وسعة أراضيها الصالحة للزراعة وللتربية الحيوانية.
ونظرًا لما يمثله هذا الموضوع من أهمية ويشكله من حساسية بين الحكومات المتقدمة في السلوك الحضاري والإنساني والعلمي والاقتصادي والاجتماعي وسائر مضامير الحياة وبين مواطنيها، يجدُّ زعماؤُها ويجدّدون مساعيهم لإجراء مراجعة دورية ومناقشة الوسائل والكيفية التي يمكن بها تطوير نظام الضمان الاجتماعي للمواطن بالتنسيق والنقاش والتفاوض مع النقابات والمنظمات التي تمثل كافة فئات المجتمع وليس العاملين في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص فحسب. وهذا البرنامج الطموح يشمل العاطلين والباحثين عن العمل والمرضى والطلبة وسائر طبقات المجتمع من المواطنين والمتجنّسين على السواء. وهذا جزءٌ من حقوق المواطن في أعناق حكوماتهم وزعاماتهم. وإلاّ، ما جدوى هذه الزعامات وسياساتها إنْ لم تصبْ استراتيجياتُها في إسعاد شعوبهم ورفاهتهم وراحتهم! وهذا هو الفرق في سموّ استراتيجيات الغرب المتقدّم واحترامه للبشر فوق أراضيه مقابل أشكال التخلّف القائم في بلداننا في المنطقة وبالذات في بلدنا العراق في السنوات العجاف الأخيرة. فهم يبحثون عن كلّ جديد لإصلاح نظام التأمين الاجتماعي لجميع الفئات بما فيها الإحالة على المعاش للعمال والموظفين في القطاعين العام والخاص. ويكاد هذا الموضوع بالذات يشكل أحد الأسباب الموجبة في إسقاط الحكومات والأنظمة في هذه الدول المتقدمة في حال عدم إيفائها بالتزاماتها تجاه شعوبها في هذا المضمار، إذ تستخدمه النقابات وبعض المنظمات سلاحًا بوجه حكوماتها وإداراتها حين الضرورة.

واقع الرعاية الاجتماعية في العراق
لو نظرنا إلى ما هو قائم في مجتمعنا العراقي وقارنّا ما يحصل عليه مواطنونا من رعاية في هذا المجال، نكاد نصطدم بواقع بائس ضعيف مغاير تمامًا وبعيد عن أشكال نظام التامين الصحي والضمان الاجتماعي والرعاية التي يحظى بها المواطنون في دول الغرب المتقدّم. لسنا نختلف بشأن الاختلاف في طبيعة وشكل البشر في بلادنا وما هو قائم في هذه البلدان السعيدة بحظوة مواطنيها بنظام اجتماعيّ متقدّم موحّد ومن دون تمييز يؤمّنُ الحياة بشكل محترم ومعزَّز ولو في متوسط صوره. لكنّنا سوف نجد بالتأكيد أن لا مجال للمقارنة به مع نظامنا الاجتماعي البائس والمترنّح والمتعثّر في أبسط صوره. حتى ما تقوم به دوائر الرعاية الاجتماعية التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية ما تزال الإجراءات والمتابعات والتعليمات التي تصدر في صورها البدائية من حيث مسألة التفاعل مع حاجات الشرائح المشمولة به. ومثله الأسس التي يقوم عليها نظام التقاعد لموظفي الدولة بسبب ما يعانيه من فوضى وسوء تنظيم واجتهادات شخصية في تفسير القوانين والتعليمات. ناهيك عن حرمان شرائح كثيرة تعاني من البطالة ومن سوء معيشة ضمن عوائل لا تتلقى أية معونات من الدولة. ويكاد التعب والإرهاق والغمّ يلاحقها في البحث عن لقمة عيش كريمة، بالرغم من طفو البلاد على بحيرات من النفط، إلى جانب غيره من الموارد الطبيعية النادرة التي تدرّ أموالاً طائلة ولا يُعرف مصيرُها.
عندما يشعر المواطن في الغرب بالقلق من التدابير التي تستهدف حقه في عيش المواطنة بكرامة، يجد مَن يقف إلى جانبه ويتحمّل مسؤولية إيصال مطالبه ومشاكله بطرق مختلفة ولكنها حضارية تنمّ عن عمق الفهم لدور المواطنة وما يمكن أن تلقاه هذه من صدى لدى الجهات التي تدير دفّة البلاد والتي تخشى على مواقعها من تذمّر مقبول ومعقول لأصحاب الشأن. فالجهات المدافعة عن هذه الشرائح المتضرّرة في نظرهم، تجيد إدارة اللعبة وكيفية توجيه الجهات المعنية صوب تحقيق الشيء الكثير من تلك المطالبات والمناشدات. وهذا ما لا نجيده نحن في بلدنا. بل نفتقر لأدنى مستويات العمل والتنسيق في هذا المجال. ولهذا نلحظ عدم خلوّ برامج الأحزاب المتنافسة على الحكم من برامج تخصّ أو تتطرّق حصرًا إلى مواضيع الرعاية الاجتماعية والضمان الصحّي للجميع بهدف كسب الناخبين إلى جانبهم. فهذا الموضوع بالذات يشكّل إحدى الركائز الأساسية في البرامج الانتخابية للأحزاب والتنظيمات في الغرب المتقدم، وحتى للأفراد المستقلّين. والمتنافسون على الحكم من أحزاب ومنظمات ونقابات وأفراد لا يخذلون في الغالب ناخبيهم الذين يحاسبونهم في حالة الإخفاق بتطبيق البرنامج الانتخابي. فالإخفاق في أيّ من الوعود المقطوعة للناخبين يقابلها صدّ واعتراض ومقاطعة ثمّ الرضوخ للمطالب المشروعة، إمّا بتنفيذ هذه الأخيرة أو بحمل الحكومات والإدارات على الاستقالة. وهذا ما يحصل في الأغلب.

هموم أصحاب الشأن

من خبرتي في العمل، يطيب لي نقل مجمل هذه الهموم إلى الجهات المعنية في إدارة البلاد، متمثلة بالرئاسات الثلاث والقضاء والسلطة الرابعة لإيلاء هذا الملف ما يحتاجه من اهتمام بالغ بسبب معاناة شرائح كثيرة في المجتمع العراقي من تداعيات خطيرة في البحث عن لقمة العيش وكرامة الحياة المفقودة. فيما ساسة البلاد وزعماء الأحزاب وأتباعُ كتلهم ومَن يشكّلون الحكومة العميقة الخارجة عن سلطة الدولة غارقون في بحار الفساد وبأيديهم السلطة والمال والمكاسب وحتى أرزاق المواطنين الذين يخشون على حياتهم من بطش الفئات الضالة والميليشيات الوقحة التي تتصدّر الواجهة.
ولنا أن نسأل الكثير: كم من المواطنين المتقاعدين ينالهم الغبن في احتساب مرتباتهم التقاعدية والطريقة غير الحضارية في تقاضي استحقاقاتهم؟ وكم من العاملين خارج مؤسسات الدولة الرسمية يلحقهم الظلم والإجحاف بسبب غياب نظام الضمان الاجتماعي والصحّي وأيّ شيء يمكن أن يساعدهم في إعالة أنفسهم وأسرهم في حالة فقدانهم لأعمالهم ووظائفهم لأيّ سبب كان؟ وكم من العاملين في دوائر المنظمات الدولية والهيئات الدبلوماسية يشكون عدم وجود قوانين لحمايتهم ومن غياب لوائح تنظم عملهم وتحفظ استحقاقاتهم في مواصلة العمل وحين الإحالة القسرية على المعاش بلا مستحقات في حالة بلوغهم السنّ القانونية أو لأية اسباب تحول دون مواصلتهم الوظيفة بعد سنوات من العمل في أوساطها. هذا إضافة إلى الحيرة في تطبيق القانون الذي ينطبق عليهم، المحلّي أو العائد للجهة التي يعملون لصالحها؟ فهل سينتبه المعنيون بشمول جميع فئات الشعب العراقي في ظلّ المراجعة القائمة للقوانين التقاعدية وما يخص الضمان الاجتماعي لغير المضمونين بهذا النظام لغاية الساعة؟
تنوع في قوانين الدعم الاجتماعي
هناك قوانين دولية تمنح الموظف المستقيل حقوقًا تسمح له بمتابعة العمل في مشروع مستقلّ بدعم من الدولة التي تسانده وتدعمه حتى استقراره في العمل الجديد. وكلّ هذا مجانًا، حيث يجد تحت تصرفه متطوعين في القطاع الحكومي جاهزين لإرشاده نحو العمل الذي يناسب قدراته وكفاءته عبر ورشة تدريبية تتيح له التأقلم والتكيّف مع الوظيفة الجديدة المقدمة له. وهذا النظام متاح للجميع عبر التسجيل الالكتروني للبحث عن العمل في غالب الأحيان أو عبر دوائر مشابهة منتشرة في مدن ومناطق عديدة من البلاد. ومن المهمّ هنا في هذا البرنامج، أن يجد العاطل عن العمل ما يوفر له لقمة العيش ولو في أدنى صورها ومقبوليتها اجتماعيًا.
لذا تجد أنّ معظم الدوائر الحكومية ومعها منظمات ونقابات متنوعة الأهداف والمراجع في سباق مع الزمن وفي سعي حثيث لتقديم أفضل الخيارات والخدمات للعاطلين عن العمل أو لمساعدتهم في البحث عن وظيفة تؤمّن حياتهم. وهذه الحقوق تضمنها قوانين هذه البلدان التي تتولى تقديم حساب عسير في حالة خرقها أو تجاوزها. ولعلّ أحدث ما صدر من هذه القوانين في فرنسا ودول غربية أخرى مثيلاتها، منح الحرية والوسائل المتاحة لشركات القطاع الخاص التي تدير دفة اقتصادات الدول المتقدمة بجدارة، في مسالة اختيار نوع التدريب وتطوير الجانب الاحترافي في العمل عبر وسائل الكترونية حديثة ودعم المتقدّم بتوفير مكاتب استشارية متجددة الأفكار والتطور مع تطور الزمن والآلة والهدف. وقد لاقت هذه الوسائل الحديثة أصداء طيبة وسط العامة وخلقت سوقًا متنافسة في العمل وفي تطوّر آليته وصولاً لتحقيق نتائج مرضية للجانبين المتعاقدين وللدولة على السواء.
ولنا أن نتساءل ونحن في ظروف بلادنا المتأرجحة بين الفساد والتخلّف، وصراع الأحزاب والميليشيات من أجل اقتناص المكاسب والمناصب، وغياب الألفة والثقة بين الدولة وحكوماتها المتلاحقة الفاشلة في تأمين أبسط مستلزمات الخدمات الإنسانية: هل يمكن اعتماد شيء من نفحات هذه الأنظمة المتطورة ولو بوسائلها الأولية وبما يحقق حقوق العامة والخاصة بكرامة بشرية تليق بأبناء حضارات سادت العالم في يوم من الأيام حتى أصابها القهر والظلم والحرمان والتعسّف بسبب فساد الذمم وتراجع الأخلاق وفساد الساسة وتفشّي الممنوعات وشرعنة سرقة المال العام من فئات مشاركة في السلطة؟


158
المنبر الحر / ورطة أم لعبة؟
« في: 18:05 23/08/2019  »
ورطة أم لعبة؟
لويس إقليمس
بغداد، في 20 آب 2019
حالة الاستنفار التي مانزال قائمة هذه الأيام والاستعدادات المتواصلة لمواجهة اية تطورات أمنية أو عسكرية جديدة بين المتخاصمين اللدودين، أميركا وإيران، تلقي بظلالها الكثيفة على العراق وأهله في توتر لم نشهد له منذ سنوات. ففي الوقت الذي لم يتعافى فيه البلد بعدُ، من الدمار الفكري والمادّي والاقتصادي الذي أحدثه أعتى تنظيم إرهابيّ متشدّد، وفي ضوء الصورة المزرية القائمة لعراق ما بعد الغزو الأمريكي في 2003، تتجه كلّ الأعين والعقول والأفكار بشيء فيه الكثير من الريبة والخيبة معًا نحو استغلاله ثانية وثالثة وعاشرة أرضًا للتدمير والقتل والهلاك والترهيب من قبل عدوّين لدودين يحاول كلٌّ منهما استغلال أدواته المحلية لنيل مبتغاه وفق روزنامته. فالاثنان يريدان أرضَ الرافدين مكانًا لشنّ الحرب فيها بالوكالة، فيما وكلاء العدوّين جاهزون لها بموجب الوقائع وفي ضوء حالة الاستنفار والجهوزية القائمة في بعض أطراف الوسط الميلشياوي الشيعي خاصةً، حتى لو كان العراقيون فيها حطبًا سريع الاشتعال تلبية لرغبات الأسياد من خارج الأسوار أو من الأدوات القوية التي تمثل ذراع هؤلاء الأسياد.
الساسة العراقيون اليوم جميعًا أمام امتحان عسير بالقبول بإيثار المصلحة الوطنية العليا على مصالح دول الجوار أم بالرضوخ لرغبات الأسياد ولإراداتهم الشيطانية والقبول بتوريط البلاد والعباد في حربٍ طويلة وشرسة لا تُحمد عقباها ولا يُعرف مداها ولا آثارُها ونتائجها. فالعراق لم يعد يتحمّل أكثر ممّا أصابه وابتلي به منذ عقود حينما ورّطَ نفسه في حروب دامية ظلّت مشتعلة منذ عقد الثمانينات وما تزال آثارُها شاهدة. وفي الحقيقة، ليس مَن يتحمّل مآسيها وتداعياتها وآثارَها غير الشعب المسكين البائس الذي مازالَ غارقًا في الترّهات والخرافات واتّباع الأسياد من خارج أسوار البلاد الذين يتحكمون به وكأنه قطعة شطرنجية أو تابع ذليل لولاية الفقيه الإيرانية التي تتحكم اليوم بكلّ مقدّراته وتوجّه سياساته بحسب مزاجها ومصالحها وفلسفتها الدينية المذهبية الساعية لتشييع المنطقة برمتها والتربع على عرش اللاعب الكبير فيها.
ممّا لا شكَّ فيه، أنّ ضعف الحكومة الحالية وعدم قدرتها على فرض رأي أو اتخاذ قرار وطنيّ صائب يصبّ في خدمة البلاد وأهله بتجنيب الطرفين المتصارعين شرّ حرب جديدة بالوكالة في البلاد، هو الآخر يعتبر عامل ضعف في إدارة البلاد، بسبب التيارات السياسية والطائفية والمذهبية القائمة. هذا إلى جانب تقاطع المصالح الشخصية في أوساط أغلب الكتل السياسية وزعاماتها المنتفعة الفاسدة التي ترعى مصالحها قبل مصلحة الشعب والبلاد. وهذ واضح في التشرذم القائم إزاء التحديات الجديدة التي تضع البلاد والمنطقة في طريق حرب، لا سمح الله إذا ما وقعت، ستستخدم فيها أحدث أنواع أسلحة الفتك والدمار، وهي تدقّ اليوم طبولها على قدمٍ وساق عبر ضربات أو حوادث أو أشكال من التمرّد هنا وهناك. لذا ليس على هؤلاء الساسة الذين ابتلينا بهم صاغرين، سوى التفكير بنتائج الأفعال الطائشة والاستفزازات القائمة والتصريحات النارية غير المسؤولة لبعض من الغافلين والمعتوهين والمجانين من الخانعين التابعين للجارة إيران بالسعي لجرّ الطرفين إلى حرب ضروس غير معروفة النتائج والحقائق. ولا يخفى علينا، وجود زعامات حكيمة، على قلّتهم، إلاّ أنّ ما ينضح في الوسط السياسيّ يُنذر بخطرٍ داهمٍ وكارثة جديدة، إن حصلت وقامت هذه الحرب المجنونة بالوكالة.
هناك اليوم مَن يتحدث عن سيناريوهات قائمة على قدم وساق ضمن هذه الأزمة القديمة الجديدة بين أميركا وإيران وبموجب عقوبات اقتصادية متتالية شديدة الوطأة على هذه الأخيرة لم تشهد لها دول العالم، إلاّ كوريا الشمالية. وهذه السيناريوهات تُصاغ ويُخطَّط لها في دوائر استخباراتية دولية شديدة الحنكة والخبرة. ومنها ما هو تخريبيّ يمسّ التركيبة السكانية، الديمغرافية والجغرافية لأهل العراق. ويُقصد منها إعادة تشكيل خارطة البلاد وفق كانونات مناطقية بطابع مذهبي وعرقيّ بامتياز. ويدخل ضمن هذا المخطّط مشروع إعادة إحياء تشكيل "الدولة الكردية" الذي برز مجدّدًا مؤخرًا للواجهة في بعض تصريحات المعنيين بالأمر في وسائل الإعلام والتفاعل الاجتماعي. فهذا المشروع القديم الذي حاولت أطرافٌ عديدة تمريرَه ولم يتحقق لأسباب وأعذار مؤجلة، ستُتاح له فرصة جديدة مؤاتية قابلة التحقيق فيما لو اختلطت الأوراق وسادت الفوضى من جديد، ممّا سيتيح الفرصة أيضًا لأكراد إيران وسوريا بالانضمام إليه أو تقليد خطى جيرانهم في العراق لإعلان طموحاتهم بتشكيل دويلاتهم وفق المعطيات الجديدة على الأرض بتشجيع مباشر وغير مباشر من الدول الساندة لمثل هذه الطموحات بحجج ولأسباب تخصّ كلَّ طرف. هذا إلى جانب تتويج طموحات أطراف سنّية بتشكيل إقليمهم الخاصّ بمناطقهم بهدف تخفيف حدّة الاصطدام بين الأطراف السياسية الداخلة في اللعبة والمشاركة في الحكومة. ومجمل هذه السيناريوهات يعدّها البعض من المحللين والمتابعين جزءً من لعبة كبرى لا تخلو من ورطة محتملة بين الطامعين ببلاد الرافدين واللاعبين الكبار الذين وضعوا أيديهم على العراق ومقدّراته من أجل تقاسم المغانم عبر أدوات كلّ منهم وتوزيع الأدوار بينهم.
صحيحٌ أن العراق قد سُمح له أخيرًا أن يتعافى ممّا لحق به طيلة سنوات الحكم الشيعي القائم منذ 2003. ولكن الدلائل تشير أيضًا إلى أنّ مثل هذا السناريو لا بدّ أن يمرّ عبر تفاهمات الأضداد الأعداء، "الأصدقاء" في النهاية في التنعم بالمكاسب التي يحصل عليها كلّ فريق متصارع. فمن الواضح أنّ مسألة تعافي البلاد لا يمكن تمريرُها من دون صفقات بين الفرقاء المتخاصمين على كعكة المصالح، وغالبًا ما تكون مريبة وتجري من تحت الكواليس. ومن  هذه المفردات المريبة تفاعس الحكومة في محاسبة الفاسدين الذين ازدادوا فسادًا وقوة وجبروتًا بسبب تعدد تسميات الجهات التي تدّعي محاربة الفساد وملاحقة الفاسدين، فيما هؤلاء ليسوا ببعيد عن السلطة وشركائها.وهذا يدخل أيضًا ضمن فلسفة إدامة مشروع مصالح الدول الكبرى المؤثرة على الساحة التي تتحدث بلغات مريبة تاركة المجاميع الفاسدة تتسيّد مشهد السلطة من دون مساندة الشرفاء في الوطن بالسماح لهم بمحاسبة أدوات الفساد ومَن يقف وراء هذا الكمّ الهائل منه. وقد يدخل من ضمنه أيضًا، طريقة إدامة المشاركة التحاصصية الطائفية التي سادت الحكومات المتعاقبة للمكوّنات بدلاً من سيادة دور المؤسسات التي تبني الدولة وتدير شؤونها وفق الدستور والقوانين الوضعية. وبهذا تبقى البلاد ضعيفة ومحكومة كي تدور في فلك غيرها وغير قادرة تمامًا على الاستقلال بذاتها والتحكم بإرادتها المسلوبة غصبًا. ومن نتائج كل هذا وذاك، أن ملّت نداءات الشرفاء وبحّت أصوات الأخيار وأصابت الخيبة جموع ما تبقى من الوطنيين والمثقفين والأخيار في البلاد ولم يعد للقلم الصارخ ولا للصورة المدانة ولا لسوء الأحوال المجتمعية أية مفاعيل وسط سطوة الميليشيات وتنامي قدراتها المالية والعسكرية والعقارية بدعم من شركاء في السلطات القائمة.
لذا في اعتقادي أن الأزمة الحالية التي دامت وقد تطول سنوات، بين أميركا والجارة إيران والتوتر الشديد الذي تتصاعد حدتُه بين فترة وأخرى، ليست متعلقة بقرار الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب المصمّمة على إلغاء الاتفاق النووي أو تعديل عددٍ من بنوده الأساسية، بقدر ما هي صراعٌ آخر جديد للاستحواذ على ثروات المنطقة ووضع حدود لتوسع النظام الإيراني ونشر تشيّعه في دول الشرق أوسطية بسببٍ من تفاقم قدراته العسكرية وخروجها عن السيطرة. فقد بدا المشهد السياسي مربكًا وغير مطمئن بعد سطوة نظام ولاية الفقيه على مقاليد الأمور في كلّ من سوريا والعراق ولبنان واليمن وربما دول خليجية أخرى مرشحة في الأفق، وما نجم عن هذا السطو السياسي والعسكري والمذهبي من آثار على سائر دول المنطقة التي بدأت تخشى على مستقبلها ومصير أنظمتها. وهذا يُعدّ في نظر النظام العالمي وبعض دول العالم المحبة للسلام ومنها دول المنطقة، قدرًا مثيرًا للريبة وعدم استقرار للنظام العالمي وتهديدًا للسلم والأمن الدوليين، سيّما وأنّ أكثر من ثلث تجهيزات العالم وتجارته يمرّ عبر ممرات في هذه المنطقة. فيما تسيطر إيران على واحد من أهمّ خطوط الملاحة البحرية في مضيق هرمز الاستراتيجي، وهذا كفيلٌ بخلق هواجس متعددة الأسباب والنتائج. وهذا ما حصل فعلاً خلال الأسابيع المنصرمة. كما تنظر دول العالم بجدّ للتهديدات الإيرانية بإغلاقه بقدرٍ كبير من التحدّي للإرادة الدولية ومصالح الدول في المنطقة والعالم من دون استثناء ما دفع دولاً سيادية للتفكير بتشكيل تحالف لحماية مصالحها في هذه المنطقة الساخنة التي تطفو على بارود قابل للتفجير في أية لحظة. لذا فإنَّ أيَّ تصعيد سواءً من قبل الطرفين المعنيّين أو من اية جهة أخرى في حدود البلدان المحيطة بالجارة إيران، سيكون لها عواقب وخيمة، سيّما وأنّ الماكنة الحربية جاهزة وعلى أهبة الاستعداد حال اندلاع الشرارة الأولى التي ستقصم ظهور الجميع، ولاسيّما مَن في المنطقة الذين يؤدون الأدوار بالوكالة صاغرين.
ما نحتاجه تمامًا، ترجيح الخيار الحكيم الذي يهدّئ النفوس ويشرح القلوب ويضع مصلحة جميع البلدان في المنطقة والعالم في أعلى درجات سلّم السلام. فالحوار الهادئ وحده على طاولة النقاش المفتوح وبصدر رحب هو الكفيل بإيجاد الحلول المقبولة بين الأطراف المعنية المتخاصمة عبر القبول بالامتثال لرغبة دول العالم بالسلام أولاً، وترك سباق التسلّح الذي نهجته الجارة إيران خصوصًا بعد حربها الضروس مع العراق ثانيًا، وترك النهج التوسعي في تشييع المنطقة على حساب غيرها من الشعوب والمذاهب ثالثًا. وأيّا كان ما نحن مقبلون عليه، فنحن في ورطة ونخشى من اللعبة التي تدور دوائرُها علينا هذه الأيام ، فتحرق الأخضر واليابس مرة أخرى.


159
حين يكون رئيس البلاد قدوة ونموذجًا
لويس إقليمس
بغداد، في 4 آب 2019
لم أستغرب، كما زملائي، أن أقف صبيحة السبت 3 آب 2019، أمام رمز وطنيّ يستحق التقدير والإعجاب في دماثة الخلق وبساطة المعشر ولطافة الكلام من دون تكلّف ولا مجاملة ولا تزلّف. قامة وطنية عراقية بشخص الدكتور علي شكري، الذي تتمثل فيه كلّ مواصفات الكادر المهنيّ الوطني، علميًا وقانونيّا وإنسانيًا تستحقّ التقدير والاحترام. رجل ولا كلّ الرجال، يحمل بصدق هموم وطن تعبان متراجع وشعب بائس غارق في مجاهيل الفساد والتخلّف والتراخي. بالأمس، أرسى علي شكري ممثلاً لفخامة رئيس البلاد برهم صالح، أرقى أسس الاحترام والتقدير والتقييم لرسالة القلم الحرّ المستقلّ باعتذاره للخطأ غير المقصود الذي وقع فيه مكتب رئاسة الجمهورية في الأسبوع الماضي وتجاهله لكلمة رئيس تحرير الزمان في احتفالية تكريم السيد حسين محمد هادي الصدر. بحضوره شخصيا كما وعد، أثبت الدكتور علي شكري سلوك راقيًا في التعامل مع السلطة الرابعة. فالحضور هو بعينه تكريم وتقييم لكلّ قلم حر ورأي مستقلّ متمثل بقامة صحفية مهمة في البلاد متمثلة بالدكتور أحمد عبد المجيد وكادر الجريدة وكتابها وقرائها على السواء. بل هو بالشمول، تكريمٌ للصحافة العراقية أجمع ونشطائها وروادها ومَن على أمثال هذه الصحيفة النشطة، ومنها نظيرتها في النهج الوطني "المدى" الغرّاء وأخواتها السائرة على ذات النهج المستقلّ.
لم تكن صحيفة الزمان تسعى لمثل هذه الهالة الإعلامية التقديرية، أو لشيء متميز ومبهرج كي يثلج صدور إدارتها المتزنة ومعها كافة الحضور، ويعمّق الثقة بقدرة هذه الصحيفة اليومية المستقلّة المجتهدة على مجاراة الحدث بكلّ قدرة صحفية وبكل كلمة ناطقة عبر سياسة إدارتها ومن خلال آراء كتابها المتميزين بالجرأة. فالزمان، كما المدى ومَن على نهجهما الوطني الجريء، تعبّر عن هموم وطن ومعاناة شعب وصرخات محتاج وصيحات جيوش العاطلين طلبًا للعيش الكريم في بلد ضاق بأهله وغابت عنه كلّ مباهج الحياة وتراجعت فيه رايات العلم والتربية والأخلاق إلاّ ما جاد به ساسة الصدفة بكلّ خبث ورياء مِن بحثٍ غير شريف وتهافت مقيت على مكاسب غير مشروعة وإيغالٍ متزايد في سرقة المال العام وفي مفاسد غير مباحة. 
في اعتقادي المتواضع، فإنّ صاحب الجريدة، ورئيس تحريرها وكادرها المتمرّس وكتّابها بتلوّن اتجاهاتهم وآرائهم الحرة المستقلّة النابعة في معظمها عن حسِّ وطنيّ صادق، أرقى من انتظار تقييم أو تقدير إعلاميّ. وهُمْ لها في الجدارة والكفاءة والتعبير. ولكن عندما يصدر مثل هذا السلوك الراقي في التقييم من رأس دولة معروف بشعوره الوطنيّ وكياسته المتزنة في إدارة شؤون البلاد وبالجدارة التي عرفناها عنه لغاية الساعة، فهذا مدعاة مضافة أخرى للفخر والاعتزاز. وإنْ يدلّ هذا على شيء، فإنّما هو دليلٌ آخر على احتفاظ البلاد بكفاءات وطنية وأخلاق راقية وسيرة إنسانية من أمثال الرئيس برهم، الذي يعرف قدر نفسه وقدر الآخرين و"يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، راغبًا في السير بالبلاد على طريق البناء الوطني السليم وفق أسس المواطنة والمساواة والجدارة وليس طبقًا للمحاصصة وتجيير المناصب لصالح أحزاب وأشخاص.   
أمّا حديث المعلّم المتواضع الراقي "علي شكري" بين الحضور، فيشعر المتلقي من خلاله بذلك النبض الوطني الذي يحرّك دواخل الرجل الزاهد في مكاسب الدنيا ومفاخر المناصب وبهرجة مواكب السيارات الفارهة. فهلْ من شجاعة للآخرين البعيدين عن مثل هذه الروح الوطنية الصادقة أن يتعلموا دروسًا وعبرًا من هاتين الشخصيتين الوطنيتين الفذّتين؟   
لقد استمع شخصه الكريم لمداخلات السادة الحضور بآذان صاغية وبروح منفتحة وبفكر نبيه، وكأنه يبحث عن مخارج وطنية سلسة من هذا اللقاء مع نخبة مثقفة ليضعها في برنامج وطني وينقلها بكلّ أمانة لرأس البلاد، راعي الصحافة والصحفيين، ومشجّع الثقافة والمثقفين، والقارئ النبيه لما ينقلُه القلم وما يسطّره أساطين الصحافة كلّ يوم.
لكما منّي يا سيادة الرئيس، ويا سيدي رئيس هيئة مستشاري الرئاسة، ولأمثالكما في سهول الوطن وجبالها، في سهوبها وصحاراها، في حقولها وأهوارها كلّ تقدير واعتزاز. فهذه المبادرة ستبقى في الذاكرة صورة وللقلم الناطق مهمازًا وللرأي الحرّ سراجًا. فعندما يكون الرئيس، أيّ رئيس تنفيذي أو تشريعي أو رئيس دائرة أو شركة أو مؤسسة أو حتى رأس أسرة نموذجًا في السلوك القويم وساميًا في احترام الغير وفي تقدير الآخر، فذلك دليل على بقاء شيء من نفحة الأخلاق الحميدة ومن جذوة المشاعر الصادقة باتجاه احترام جدارة الآخر واإقرار بوجوده وإن يكن مختلفًا. وهذا ما تسعى إلى التذكير به الأقلامُ الوطنية الحرة المستقلّة المليئة بحب الوطن والطامحة لرفعة شعبه الجريح وتنقية بيدره من الزؤان والشوك والعوسج. 

160
أسلمة العراق تراجع في الحريات العامة وانتكاسة في الديمقراطية
لويس إقليمس
بغداد، في 10 تموز 2019
يبدو أن مضيّ البرلمان العراقي في نهجه الحالي بالإصرار على مناقشة قانون المحكمة الاتحادية المثير للجدل بصيغته القائمة سيخلق توترًا جديدًا بين مكوّنات البلاد. هذا في الوقت التي تتضافر جهود الطيبين والوطنيين والمثقفين باتجاه انتشال البلاد من براثن الماضي وترسباته الطائفية وما زرعه أوثانُ التشدّد والطرّف في الحقبة الماضية. كما أنّ هذا الإصرار وبقوّة سيكسر كلّ الجهود المتجهة نحو بناء وطن مستقلّ بنظام علمانيّ مدنيّ متحرّر ومتطوّر وصالح لكلّ الأزمان ولكافة المكوّنات والفئات والأديان والطوائف. وإنْ صحّ ما يتمّ تداوله في أروقة البرلمان ولاسيّما التحرّكات غير المأمونة من جانب كتل وأحزاب الإسلام السياسيّ التي أثبتت فشلها وكادت أن تقوّض العملية السياسية برمتها في وقت من الأوقات وما تزال تسعى لذلك، فإنّ هذا يُعدّ مؤشرًا آخر بالرجوع إلى الوراء والتقهقر في جهود نسيان حقبة سوداء من الشحن الطائفي منذ السقوط المأساوي في 2003.
ممّا لا يقبل الشك أن غير المسلمين من المكوّنات الأصيلة من المسيحيين واليهود والصابئة والإيزيديين كانوا ذات يوم أصحاب الأرض والكلمة والثقافة والحضارة، ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة برمتها. وهم مازالوا لها لغاية هذا اليوم في أفعالهم وانتمائهم ووطنيتهم، ولا غبار على هذه الحقيقة. فكيف بالدخلاء الذين أعانتهم عوادي الزمن وأتاحت لهم نكباتُ الأصلاء وعيون المتفرجين من دول وشعوب العالم والمنطقة أن ينقلبوا على حقوق هذه المكوّنات التي تراجعت أعدادُها بسبب مثل هذه السياسات الشوفينية والتمييزية وغير الوطنية وغير الإنسانية بحق شعوب ومكوّنات لها تاريخُها وحضورها الفاعل بالرغم من تناقص أعدادها؟
حقًا، لو حصل هذا الإقصاء في قانون المحكمة الاتحادية بحق هذه المكوّنات غير المسلمة، فهذا مؤشر خطير على توجه البلاد الحقيقي نحو نهج أسلمة الشعب والبلد وقراءة الفاتحة على ما تبقى من وجود وقدرات هذه المكونات. كما أنّ مثل هذا التوجه، لو صحّ فعلاً ومن دون حصول تدخل عاجل لإيقافه، فإنّه يُعدّ تهديدًا إضافيًا آخر للنسيج الاجتماعي الذي لم يستطع النهوض من كبوته على أيدي الإرهاب الداعشيّ ومَن والاهم في فكرهم وأفعالهم وسياستهم الرعناء. وهذا من الأدلّة على وجود ذات الفكر في مخيلة وإرادة عدد كبير من أحزاب السلطة المتنفذة ولاسيّما الاسلامية منها التي تتجلبب بالدين وبفتاوى مراجع تعود في فقهها إلى شريعة استبعاد وتجاهل كلّ ما ليس مسلمًا. وإن اقتضت الحاجة، فلا بدّ من تدخل سريع من أصحاب الشأن من ممثلي هذه المكوّنات، ولاسيّما من نوابهم ومرجعياتهم الروحية مجتمعة ومن دون تردّد أو خوف أو مجاملة، لأنّ مصير أتباعهم سيكون على المحك لا ريب. وهذا يستدعي من جملة الإجراءات السريعة التواصل الحثيث مع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كي تُضمن صيانة حقوق الجميع على أساس المساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات، وليس باعتبار المكونات غير المسلمة مواطنين من الدرجة الثانية.
إنّ النخوة تشدّ أصحاب الأمر من مرجعيات دينية وقيادات سياسية ومنظمات مجتمع مدني لوأد هذه الفرية الجديدة والنهج الخطير بسيادة رأي خبراء الفقه الإسلامي بوصفهم أعضاء في المحكمة الاتحادية العليا على إدارة هذه السلطة القضائية، ومن ثمّ ضمانهم رفض أية تشريعات أو قوانين لا تتماشى مع الشريعة الاسلامية. وهذا يعني من جملة ما يعنيه، تثبيت تشريعات تؤسس وترسخ لمبدأ أسلمة البلاد حتى لو كان ذلك على حساب مواطنين غير مسلمين. وهو تمييز واضح وخرق جائر لمبدأ حقوق المواطنة التي كفلها الدستور ومن قبله دساتير البلاد قاطبة. كما أن مثل هذا الإجراء لو حصل، فإنه يعني تراجعًا في الحقوق وفي الحريات العامة ورفضًا لمبادئ الديمقراطية التي أتت بأحزاب السلطة ومنها الإسلامية إلى الحكم في البلاد في 2003. وكان الأَولى بممثلي الشعب ممّن سار في هذه الطريق الشائكة والمحذورة، العمل على ترسيخ مبادئ الديمقراطية والحرية بدل تقويضها وإعادة البلاد إلى دائرة الظلمة وإبعادها عن الركب المدني والحضارة الإنسانية التي يُراد لها التقدم نحو الأفضل في بناء البلدان والإنسان وليس التراجع في وضع القيود والمحظورات والتلوّن بلون واحد سيفقد طعمه ورائحته ولونه مع مرور الزمن.
إن الدول المتقدمة بسائر أنظمتها السياسية وأحزابها تسعى دومًا للإمام في تطوير قوانينها وتشريعاتها بحيث لا تقف حاجزًا أمام الحريات العامة لمواطنيها جميعًا. وهذا ما نلاحظه في قوانين الغرب المتقدم عمومًا التي غيّرتها وطوّرتها كي تتجاوب مع التغييرات الحاصلة في تركيبتها السكانية، لاسّيما بعد غزوها من قبل مواطنين تعود جنسياتهم لدول شرق أوسطية وآسيوية تدين بالإسلام حصرًا. ولعلّ مّما جعل دول الغرب تسمو بسياساتها المدنية المتحضّرة أنها "تركت ما لله لله وما لقيصر لقيصر". وهي بهذه السياسات الديمقراطية المتقدمة قد وضعت دولها وشعوبها في مصاف الرقيّ الإنساني والمجتمعي والعلميّ والتربوي والثقافي والصناعيّ والاقتصادي بلا منازع مع قدر كبير من الاحترام لخياراتها الدينية والمذهبية والاتنية. وما على سياسيّي العراق ومراجعهم الدينية والروحية وقيادات المجتمع الثقافية والقضائية إلاّ أن تنتبه لهذا التحوّل في فكر الغرب باتجاه ترسيخ الحريات العامة وتطوير الديمقراطيات ضمن بناء الإنسان ومؤسسات الدولة. هذا إذا صحّ إيمان هؤلاء بهذه المبادئ الإنسانية السامية التي عزّزتها لائحة حقوق الإنسان التي وقّع عليها العراق رسميًا وهو ملزم بالعمل وفقها من دون تمييز في مستويات المواطنة على أساس الدين والمذهب والقومية واللون. ومن ثمّ لا ينبغي أن يكون كلّ شيء، حتى حركات الشعوب وكيفية عيش حياتها وحرياتها وسلوكياتها، تحت رقابة رجال الدين وفقهاء هذا الأخير. فلكلّ جهة واجباتُها والتزاماتُها، ولا مجال للحاكمية في تشريعات البلاد، حتى لو وُجد مواطن واحد مختلف في الدين.
ولكن يبدو بحسب التقارير، أنه بالرغم من عدم اكتمال النصاب القانوني لتمرير مشروع هذا القانون غير المنصف، فإنّ كتلاً سياسية تدين بالإسلام السياسي تقف وراء الإسراع بإنجازه بأيّ ثمن ضمن صفقة كسائر الصفقات التي سبقت غيره، في مخالفة صريحة بعدم مراعاة الاغلبية المطلوبة عند مناقشته. وهذه دعوة مفتوحة لنواب الشعب بمراعاة مواطني المكوّنات غير المسلمة التي ستدفع ثمنًا إضافيًا آخر بعد ما لقيته من مصاعب ومشاكل وتحديات، كانت بعض الكتل السياسية السبب في ما أصابها من أذى ونزوح وهجرة متفاقمة بسبب مثل هذه الإجراءات والقوانين الطاردة للمواطنة الصادقة بعيدًا عن الانتماء الديني والمذهبي. وهذا لن يكون ممكنًا إلاّ بسنّ قوانين مدنية تضع المصلحة العليا للوطن والمواطن من دون تمييز في أولى الأولويات بحيث تتفق مع الدستور نصاً وروحاً وتحفظ الإطار القانوني المدني لدولة عراقية مدنية متحضرة على غرار سائر الدول التي تحترم شعوبها وتصون حقوقهم.



161
أحزابُنا وإشكاليتُها
لويس إقليمس
بغداد، في 20 حزيران 2019
في بانوراما سريعة حول طبيعة الأحزاب القائمة هذه الأيام في عراقنا وما تسعى إليه زعاماتُها والمنتمون إليها في ضوء ما يحصل من تراجع في نضج الفكر السياسي والأداء الوطني، أرى من الضرورة بمكان أن يُصار للتنبيه لإيجاد صيغة منطيقة وواقعية لقاعدة وطنية تحدّد هذه الطبيعة وتوضّح نطاق العمل وما تستنفرُه هذه من موجبات العمل الحزبي. فالغرابة كلّ الغرابة أن تتسع أعدادها بطريقة جنونية لتنتشر كالأميبا بعد الغزو الماكر للبلاد في 2003 من دون قيود أو لوائح.
إنَّ أيّ حزب سياسيّ ضمن تكوينه ووصولاً لتهيئة الطريق له للعمل في الخضمّ السياسيّ، لا بدّ ان تكون له رؤية عن الوضع السياسيّ في البلد وعن تطلعات الشعب وطبيعة المتنافسين وتوجهاتهم. فهذا يسهّل عمله وسط الجمهور ويمنحه قوّة وزخمًا لكسب التأييد والأتباع. أي بمعنى آخر، يسجّل ضمن أهدافه ما يطمح الوصول إليه وتحقيقه في مشواره السياسي مهما طال أو قصر. وبالتأكيد هي السلطة والنفوذ والجاه والمال والمناصب هي ما تسعى إليه معظم الأحزاب هذه الأيام إنْ لم يكن هدف جميعها من دون استثناء. فيما الصورة مغايرة في بلدان تجاوزت أزماتها ووصلت إلى النضج السياسي والوعي الفكري في تقييم أوضاع بلدانها وحاجات شعوبها، ليس في وضع استراتيجيات في قيادة البلاد سياسيًا، بل وعسكريًا واقتصاديًا وعلميًا وفنّيًا وتربويا، وباختصار في سائر دروب الحياة ومضامينها وقطّاعاتها ومجالاتها.
هناك أحزاب تصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات، وهذا هو الأمر الطبيعي لمسار الديمقراطية وتداول السلطة. وبغير هذه، هناك أحزاب أخرى تفضّل السير عكس هذا التيار الحضاري مستخدمة أساليب الترهيب والترعيب والقوة من أجل بلوغ الهدف. لكنّ مثل هذا الأسلوب من التوق غير النظيف والشهوة الجامحة للسلطة، لا بدّ أن يطيح به الزمن ولو بعد حين. وهذا ما أثبتته الوقائع في العديد من المناطق والدول التي شهدت مثل هذا السلوك غير الحضاري للوصول إلى السلطة. وخير شاهد على هذه الأمثلة، ما شهده العراق ودول عربية وإسلامية وأفريقية من انقلابات عسكرية فرضَ فيها أزلامُها سطوتهم وجبروتهم وطغيانَهم لفترات ثمّ آنَ لهم أن يسقطوا بفعل ضربات الشعب حين يصحو أو بغيرها من الوسائل، وما أكثرها. وهذا ما تنتظرُه البلاد من صحوة شعب غارق في سبات منذ الغزو الأمريكي أيضًا.
من المفروض بأي حزب سياسيّ يتم تشكيله أن تكون رؤيته مبنية على ركائز وطنية أساسية يعمل بموجبها على كسب ودّ الناخب من خلال إقناعه ببرنامج وطني واضح وغير ضبابيّ يخدم شرائح معينة من الشعب، إن يكن كلّ فئات الشعب. والحزب الناجح هو الذي يفكر بشمول كافة شرائح المجتمع ويستفيد من آراء وتطلعات مؤيديه ورافضيه على السواء، ويعمل على دمجها مع برنامجه وتوظيفها من أجل تحقيق نجاح على الصعيد الوطني وتطوير المجتمع ونقله من حالة ركود وفساد وتراجع إلى حالة أفضل في الخدمات وترسيخ اللحمة المجتمعية وإبراز دور البلاد بين جيرانها وفي المنطقة وعلى صعيد الدول قاطبة. وهذا لن يكون في المنال، إلا إذا وضع هذا التنظيم مصلحة الشعب والبلاد في أولويات عمله التنظيمي كي يكسب ودّ الجمهور وتزداد فرص تقبّله من قبل الشعب وشرائحه المتنوعة في الفكر والاتنية والتوجّه دينيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا وخدميًا. وهذا التوصيف قلّما نجده في الأحزاب العاملة في منطقتنا، وبالذات في بلادنا. كما أنّ أيَّ حزب لا يعمل ضمن إطار القانون والدستور والتشريعات، لن يُكتبَ له النجاح في مسيرته وأهدافه، حتى لو استطاع لفترة فرض سطوته بأدوات مشبوهة وغير حضارية.
معظم أحزابنا السياسية العاملة على الساحة اليوم أو بالأحرى تلك التي تدّعي المعرفة والعمل بالسياسة، خارجة عن الإطار الصحيح لتشكيل تنظيم سياسيّ يهدف لخدمة البلاد والشعب. وهذان هما العنصران الأساسيان اللذان ينبغي أن يهدف لهما تشكيل أي حزب سياسيّ ذات أهداف نبيلة وواضحة. فمنذ بداية تشكيل الأحزاب في العراق، هناك تنظيمات لم تستطع الوقوف على قدميها لفترات طويلة بسبب إشكالية أهدافها وعدم قربها من الجمهور وابتعادها عن تطلعات هذا الأخير وانعزالها في بوتقة مصالح خاصة او ضمن أهداف دينية ضيقة الأفق أو نتيجة حتمية لالتصاقها بشخص زعيم الحزب وشلّته حصرًا، ما شكّل في عملها غير المتزن فجوات وثغرات كبيرة لم تسعفها في إكمال المشوار، فسقطت وتلاشت أو إنها في طريقها إلى الزوال والتلاشي. 
يقابلها أحزاب سلكت سلوكًا ضيقًا في تنظيماتها بالاعتماد على متحسسات عرقية أو دينية أو طائفية أو قومية أو مذهبية أو عشائرية أو شعبوية متزمتة أو راقصة تارة بين اليمين واليسار وفق طبيعة المصالح التي تحكم البلد. وهذه أيضًا، لم يُكتب لها النجاح. ومن هذه الأصناف من الأحزاب ما هو قائم اليوم بعد الغزو وسقوط نظام الحزب الشموليّ الذي كان تسلّط هو الاخر وجثم على صدور العراقيين فترة من الزمن، وكاد أن يكون حزبًا عشائريًا وعائليًا ما أوصله إلى نهايته المهلكة بالطريقة التي رأيناها وخبرناها. والسبب تحوّل حزب البعث من تنظيم عقائدي في بداياته، إلى شكل تجمّع أو شرذمة من أشخاص يدينون بالولاء لشخص القائد الأوحد ومَن حولَه بعيدًا عن سلوكيات الديمقراطية والعقائدية الحقيقية التي نشأ عليها التنظيم في بداياته.
أحزابٌ دخيلة وأخرى غير ناضجة
اليوم، تكاد ذات الصفات تتكرّر، وذات السلوكيات تعود إلى المشهد بعد الغزو. فقد وصلت أحزاب ضيقة الأفق إلى الحكم وهي لم تكن صاحبة خبرة سياسية، بل جاءت بها إرادة الغازي الأمريكي أو بدعم من دول إقليمية لها أجنداتها، لا لشيء بل لكونها ستساهم أو ساهمت فعلاً في إسقاط النظام السابق وفي الاستحواذ على مقدّرات الدولة وتوجيهها وفق سياساتها ومصالحها الضيقة. وهذا ما سعت إليه الإدارة الأمريكية بعيدًا عن المصالح الحقيقية للشعب والبلاد عندما تركت الساحة مفتوحة لكلّ مَن هبَّ ودبَّ كي يأخذ قسطه من الكعكة سياسيًا واقتصاديًا وماديًا. فما كان من هذه الأحزاب إلاّ تنامت وبلغت أعدادًا فاقت مئتي حزب أو ربما أكثر من ذلك. وهذا هو الغريب في الأمر، بل الكارثة في جهل تبنّي فكرة أين تكمن مصالح البلاد برصّ الصفوف وليس بالتشرذم على حساب المصلحة العليا للوطن والشعب.
من هذه الأحزاب الغريبة والدخيلة، نذكر الإسلامية منها، التي فشلت فشلاً ذريعًا في إثبات صحة برنامجها الإيديولوجي ونزاهتها وصدقيتها في خدمة البلاد والعباد مستغلّة تعاطف فئات بائسة من الشعب في كسب ودّها وتأييدها لجانب إسلامها السياسي مستخدمة ومستفيدة من الوازع الدينيّ ليس إلاّ. ومازال الدق على الوتر الدّيني من قبلها من صفات المرحلة بالرغم من كشف المستور فيها وعند القائمين والمدافعين عنها. وهناك الأحزاب المذهبية التي كرّست الطائفية وأزاحت كلّ مَن يقف في طريقها حين تولّت السلطة لفترة طويلة. وهذه الأخرى فشلت أيضًا ولم تستطع ترميم البيت العراقي، بل تركت جروحًا بليغة في قلوب العراقيين وخيّبت آمال الوطنيين الصادقين وهمّشت مكوّنات أصيلة وتسببتْ بأكبر كارثة وطنية نجم عنها تسليمُ أكثر من ثلث أراضي البلاد بأيدي شرذمة خرقاء أرادت العودة بالحياة إلى غياهب العصور المظلمة والجاهلية. ومازالت مدن وقصبات كثيرة تعاني من جسامة الدمار والخراب والتهجير والنزوح والسبي والاغتصاب من دون محاسبة حزب السلطة الحاكم آنذاك. 
وهنا لا بدّ من تمييز تيارات دينية تدعمها مرجعيات محلية وأخرى من خارج الحدود. وهذه أخذت مع مرور الأيام بانتهاج سبل الترهيب والترعيب في المجتمع عبر تشكيلات مسلحة وأزلام جاهزين لفرض إرادة القيادة والمرجعية التي يتبعونها. وبالرغم من تحولها لاحقًا إلى تنظيمات سياسية، إلاّ أنها مارست الهيمنة القسرية على الساحة السياسية وفرضت أجنداتها ورموزها بتولي مراكز مهمة في الحكومات المتعاقبة بعدما حوصرت فكريًا وسياسيًا ووطنيًا بخيارين لا ثالث لهما. والأنكى من هذا كلّه، أنها تحوّلت مع توالي الأيام والأحداث إلى غول في التنافس على المكاسب، وأصبحت تشكّل مراكز قوى خطيرة على الحكومات المتعاقبة. أي أنها بالمختصر، أصبحت تشكل حكومات عميقة داخل حكومة المركز وتهدّد كيانها وتفرض ما تريده على أرض الواقع، ولا حسيب ولا رقيب ولا سلطة للدولة عليها وعلى أفعالها وسلوكياتها.
فيما نجد هناك أحزابًا تقليدية اتخذت طابع الفكر والفلسفة والثقافة في نهجها اليساري مستفيدة من تجارب الأحزاب الاشتراكية في المنطقة والعالم مثل الحزب الشيوعي عبر نضاله الطويل. وهذه بالرغم من عدم حصولها على موطئ قدم عميق في العملية السياسية منذ إنشائها ولغاية الساعة، إلاّ أنها تستحق أن يقالَ عنها أنها تحمل قسطًا من الوطنية في تاريخها النضالي لما تتمتع به من رؤية بانورامية واسعة وثقافة متقدمة حول الأحداث وموجبات الحياة ومستلزمات الولائية للوطن والالتصاق بالشعب أكثر من أحزاب الإسلام السياسي الذي استغلّ طابع الدّين والمذهب لكسب التأييد والبقاء في السلطة. يقابلها أحزاب عشائرية اتخذت من شخوص العائلة منهاجًا لعملها مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي مازال يتداول السلطة بين أفراد العائلة الواحدة بعيدًا عن معايير الديمقراطية التي يتسمّى باسمها. تقابلُها أحزاب أخرى اتخذت من الليبرالية والنضال من أجل الحرية وتقرير المصير والوطنية سندًا وشعارًا. وهذه تمثل بقية الأحزاب التي لا تتطابق وجهات نظرها مع الحزب الحاكم، بالرغم من مشاركة بعضها في الحكومات المتعاقبة وفق مبدأ المحاصصة.
أمّا بقية الأحزاب القومية، العروبية منها والكردية والمدّعية بتمثيلها لمكوّنات أخرى ناشطة كالتركمانية، فهي في أغلبها رهن بأيدي زعاماتها التي تفرض شيئًا من العبادة والتبعية لشخوصهم والولاء لهم قبل أن تكون للحزب الذي ينتمون إليه. أي بمعنى آخر، تم اختزالُها بشخص زعيم الحزب والولاء له أكثر من الاهتمام بالمبادئ التي أتى بها أو تلك التي رسمها في بداية مشواره. وهذه السمة أي عبادة الأشخاص تكاد ايضُا ترسم مسيرة العديد من الأحزاب المتواجدة والعاملة على الساحة العراقية بعيدًا عن المعايير الديمقراطية وذلك بتأثير الدّين والمذهب والطائفة في الكثير من الأحيان. كما يؤخذ عليها تأثرها بشعارات تقليدية لا تنمّ عن تطوّر في الفكر والطرح والعمل. وهذه من ضمن الأسباب التي خلقت خيبةً وسدودًا بينها وبين أوساط العامة ومنهم الطبقة المثقفة التي فقدت ثقتها بما تطرحه من شعارات فارغة جامدة وبما تعطيه من وعود عرقوبية للناخبين حيث يزداد نشاطُها إبان فترة الانتخابات ثمّ تختفي وتنحسر في كواليس المكاسب والمصالح. كما يُؤخذ على الكثير من الأحزاب المتواجدة على الساحة العراقية ارتباطُها بدول إقليمية أو خارجية في تبعيتها السياسية والاقتصادية والمذهبية، ما يبعدها عن الاستقلالية في تنفيذ برامجها واستراتيجياتها، هذا في حالة كان لها برامج واضحة واستراتيجيات أصلاً. ولا حاجة بنا للتطرق إلى الأحزاب المكوّناتية التي تدّعي تمثيل المكونات الأصيلة المتبقية القليلة العدد مثل الأحزاب المسيحية والإيزيدية والصابئية وغيرها إنْ وُجدت. فهذه لا تأثير لها لكونها خاضعة أو تابعة بطريقة أو بأخرى لأحزاب أو زعامات كبيرة في البلاد، وقد فقدت مصداقيتها وأهميتها في كلّ الأحوال.
من هنا، لا بدّ للشعب العراقي أن يعي حجم الكارثة التي أوقعته فيها خارطة هذه الأحزاب غير النظامية وضيقة الأفق ومحدودة الفكر، وخاصة تلك اللاّهثة وراء مصالحها الضيقة والعابثة بمصير البلاد والعباد والمتصارعة على المناصب والمنافع من دون كلل ولا ملل. فالدرس بليغ ومازال القرار بيد الشعب ومثقفيه وما تبقى من الوطنيين في البد.


162
الحوار لا النزاع سبيل العقلاء
لويس إقليمس
بغداد، في 7 حزيران 2019
بين الأمل والتفاؤل بنزع فتيل الأزمة القائمة منذ اسابيع بين الإدارة الأمريكية التي تركب موجة افتعال الأزمات منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب إدارة البيت الأبيض مع الجانب الإيراني المصرّ على تصدير أيديولوجية ولاية الفقيه لدول الجوار والمنطقة والعالم، هناك فسحة أخرى من العقلانية والمنطق في انتظار ما قد تحسمه الأيام القوادم عبر "وساطة عراقية محيّرة". ففي اعتقاد الكثيرين، يقع العراق وسط هشيم نيران الطرفين بل أطراف أخرى إقليمية ودولية متورطة في لعبة الشدّ والمدّ التي قد تغرق المنطقة بأنواع من حروب مختلفة غايتُها الأساسية تركيع دولها واقتصاداتها وكسب ولاء السلاطين والحكام والأدوات السياسية الفاعلة لصالح زعيمة القطب الواحد "أميركا" ومَن يواليها من دول الغرب الطامعة. ومن ثمّ ليس من السهل خروج العراق متعافيًا في حالة حصول ما لا تُحمد عقباه فيما لو اهتُلس عقلُ الطرفين المتنازعين واصرّ كلّ طرف على غلق أبواب الحوار والنقاش والتفاهم والتنازل. فقدرُ العراق وأهله، أن يكون دومًا وسط المعمعة وصليل السيوف وقعقعة السلاح والخنوع للآخر وتراجع أداء الحكومات المتلاحقة التي فقدت مصداقية الوطنية منذ الغزو بسقوط النظام المؤسساتي في 2003.
أضحى البلد أشبه بذاك الحصان الأصيل الذي أتعبته المعارك وأقعدته المهالك وتلقفته أيادي دخيلة غير نزيهة فقدت توازنها الوطني إن لم تكن قد باعت الوطن ورهنت الشعب والأرض والثروات بالولاء للغير، في حين أنه لا ناقة له في الأمر الجلّل القائم ولا جمل. فقد استولى الغريب الدخيل على الجَمَل بما حملَ، وسَطا على مقدرات البلاد وسط صمت رهيبٍ لعموم شعب هائم بائس فقدَ النخوة والغيرة. أمّا مَن بقي في جعبته بعضٌ من الغيرة وشيءٌ من الإحساس بالوطن ومصالحه، فقد تنحى جانبًا مستعينًا إمّا بصراخه بوجه الفساد والفاسدين أو بقلمه بانتقاده وكشف المستور عن الحقائق والوقائع أو بهتافه من أجل إثارة الرأي العام ووسائل الإعلام.
ما شهدته البلاد منذ افتعال الأزمة ولغاية الساعة من حراك دبلوماسي فعّال ومن نشاط حكومي وسياسيّ على أصعدة كثيرة فيه شكوك كبيرة من الأمل والتفاؤل بإمكانية تحقيق شيء من التهدئة في التوترات التي تحيط بالمنطقة. هذا من حيث التوقعات ودراسة الوقائع في أقلّ تقدير. فالعراق شاء أم أبى، واقع بين نارين: نار الابتزاز بالحمائية الأمريكية والرضوخ لمعسكرها واستراتيجيتها في المنطقة، ونار التبعية الولائية الإيرانية المقيِّدة (بكسر الياء) لحرية البلاد المرهونة برمتها وبوضوح لا يقبل الشك بمصير الجارة إيران التي تعدُّ العراق من ولاياتها الفارسية التي تخضع لسياستها التوسعية في التشيع وفرض ولاية الفقيه. وقد ألقت كل هذه الشجون بظلالها على الواقع الأمني عمومًا، ما أسفر عن خروقات عديدة في مناطق ماتزال تعاني من أرضية رخوة للأمن. والدليل على هذا، ما شهدته مدن وبلدات ومناطق عديدة من حوادث خطيرة ومن خروقات أمنية كثيرة ومن توترات سياسية بين الكتل المتصارعة على الكعكة التي تديم درّ العسل، وكذا من مشاكل مجتمعية وثارات عشائرية وتصفيات جسدية بسبب تقاطع المصالح والاختلاف على تقاسم المكاسب والغنائم المتواصلة التي لا تعرف التوقف، وأخرى أخذت شكل ظواهر خطيرة مستفحلة تغلغلت بشكل رهيب في المجتمع العراقي غير المستقرّ بطبيعته. 
هناك مَن يعتقد أن العراق وحكومته لم يكن من شأنهما التدخل والتوسط لدى الأطراف المعنية بالأزمة كي لا يُؤخذ بجريرة أحد الأطراف على حساب الآخر. فما به يكفيه من أزمات ومن مشكلات ومن تجاوزات على حرمة مؤسسات الدولة وعلى المال العام ومن اعتداءات متكررة على حقوق المكوّنات الوطنية الأخرى التي يتمّ استبعادها في الصفقات السياسية التي يحيكها زعماء الكتل المتنفذة في المثلث الحاكم. فالقاصي والداني بات يعرف برائحة المفاسد التي فاحت رائحتها على أيدي المتسلطين على مؤسسات الدولة واستغلال البعض منهم للأرض والضرع والثروات كلّ بحسب قدرته وأذرعه الطويلة التي لا تعرف الشبع ولا تخشى مخافة الله ولا تتورع من وخز الضمير الذي غاب عنهم ولم يعد له موقع في هيكلهم البشري الفاسد.
في الأخير، لا بدّ لأصحاب الأزمة المباشرين الجلوسُ على مائدة الحوار والتفاهم وضرورة خروج البلاد من المأزق الذي وضعتها فيه الحكومة والدولة والساسة وزعماء الأحزاب الذين أدّوا الرقصة على طريقة الغجري الذي لا يجيد الرقص. وهذه دعوة للدولة العراقية، حكومة وشعبًا وجهة تشريعية، أن يتركوا البلاد لتنعم بشيء من الراحة ويفكروا بمصالح العراق وشعبه قبل أية مصلحة خارجية أخرى كي يعيدوا إعمار ما دمّرته أدوات الشرّ بعد سقوط النظام السابق. فالمشكلة كبيرة والأزمة خطيرة تتعلق ليس ببناء الحجر فحسب بل بإعادة تأهيل البشر ورفد قدرات البلاد بطاقات وطنية خالصة الولاء للوطن وللشعب وليس للأجنبي والأعجمي وكلّ دخيل طامع.
رعبٌ من فقدان الامتيازات
على الصعيد الداخلي، دخلت أحزاب وأذرع مسلّحة كثيرة وجهاتٌ ميليشياوية تابعة للجارة إيران في إنذار شامل بسبب الخوف على مصالحها ومغانمها ومكتسباتها التي تدفقت وماتزال تتدفق عليها روتينيًا بسخاء لا مثيل له من قبل الحكومات الشيعية المتتالية منذ السقوط في 2003. هذا إضافة إلى ما تخشى عليه هذه جميعًا وأتباعها ومواليها ومَن يقف خلفها من سرّ البقاء والوجود بعد أول إطلاقة نار قد تحصل في حالة نفاذ صبر الحصان الأميركي الجامح من مماطلات خصمه اللدود، غريم الخليج وشرطيّ المنطقة الذي مازالت لغة التهديد والوعيد لديه في أعلى شدة السخونة النارية. فأية غفلة أو خطأ أو تصعيد لا مبرّر له قد يبدر من حكومة ولاية الفقيه أو من أتباعهم وأذرعهم المسلحة، فإنّ الدائرة قبل أن تدور عليها ستطيح بعروش أدواتها في العراق أولاً وستمتدّ إلى البلدان التي ترزح تحت وصايتِها وتعتدّ بحمايتها وتبذل الغالي والنفيس والروح من أجل بقاء نظامها التوسعي. وهذا ما تفسّره الهواجس الراهنة ومقدار الخوف القائم في أوساط أدوات إيران بالعراق واختفاء الكثير من صورها وتواجدها المظهري والمادي على أرض الواقع، ولو رسميّا بعض الشيء. والسبب لمثل هذه الاحتياطات الأمنية واللوجستية هو الرعبُ الواضح الذي غرسته الغطرسة الأمريكية وتوعّدُ إدارتها بامتداد عقوباتها كي تطال جميع الأدوات والأذيال والرؤوس المستعدة للتضحية بالوطن العراقي لصالح الجارة "العزيزة".
نحن مع نزع فتيل الأزمة بكلّ الوسائل السلمية المتاحة والوساطات التطوعية التي تنمّ عن إرادة صالحة ونية خالصة مُحِبة للسلام والتفاهم والاستقرار. فلو اندلعت حربٌ جديدة، لا سمح الله، فهي ستكون كارثية على الجميع. وأوّلُ المتضرّرين سيكون العراق وشعبُه وبنيتُه ومصادرُ ثرواته وقدراته التي لم تنهض بعد من كبوتها بل من كبواتها المتلاحقة. لذا، لا بدّ من بذل الجهود وتكثيف الحوار من أجل التوصل لتخفيف حدة التوترات القائمة ومنع ايّ تصعيد خطير من شأنه أن يهدّد استقرار شعوب المنطقة أكثر ممّا هي عليه اليوم. وهذا يحتّم على الجميع الركون للعقل والحكمة وتفادي أشكال الاستفزاز اللاّمبرّر واتباع الحوار الجاد والبنّاء في معالجة الازمات ونزع الفتيل القابل للانفجار في أية لحظة.
نأمل أن يتعامل العراق مع الأزمة، انطلاقًا من مواقفه الثابتة باحترام شعوب العالم والمنطقة ودولها في ضوء استقلالية قراره الوطني وسياسته الواضحة لتجنيب المنطقة المزيد من التصعيد والتوتر والازمات أولاً، وأن يصون مصالحه الوطنية ويحقق السلم الأهليّ المنقوص ثانيًا، وأن يرسخ الاستقرار النسبيّ المتحقق للعراقيين في فترة ما بعد داعش ثالثًا. وأخيرًا ما يُرتجى من الحكومة الحالية، وضعُ حد لآفة الفساد المستشري ومعالجة التلكّؤ في علاجه لكونه مرتبط بجزئيات من تفاصيله بالأزمة السياسية والاقتصادية القائمة في المنطقة مع الجارة إيران، وذلك نتيجةً لوجود لحكومات عميقة متعددة نافذة مرتبطة بهذه الأخيرة داخل الحكومة الفدرالية. فالبعض من هذه الجهات مازالت تستغل قوتها ونفوذها الفاعلين المقتبسين من إرادات فاعلة في النظام الإيراني بسبب الثغرات الموجودة في مؤسسات الدولة الضعيفة وفي النظام المالي غير المتزن، ما يتيح لها تغطية سياسية وحزبية ومذهبية تشجعها لإبقاء أنواع الفساد وديمومته ما استطاعوا من أجل حلب ثروات البلاد بطرق ووسائل لا تنمّ عن روح الحرص الوطني والضمير العراقي الأصيل. فحينما تقطع الدولة هذه الأيادي وتغلق صنبور الفساد بكلّ جدّية وبواعزٍ وطني صادق، حينئذٍ ستكون بداية الصحوة للعودة للحكمة والمنطق ولعب دور وطنيّ ودوليّ وإقليميّ بارز في استقرار البلاد والمنطقة وتقدمها وتمدّنها.




163
ثقافتنا المجتمعية فوضى وواقع حال
لويس إقليمس
بغداد، في 12 آذار 2019
سلوك البشر وأسلوب حياتهم اليومية تعكس ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه إلى درجة كبيرة. وقد تتعداها بإلصاق صفات وسمات سلبية أو إيجابية على الشعوب التي تشكل هذا المجتمع أو ذاك بسبب الاختلاف أو التقارب في حقائق كثيرة منها الدين والعقيدة والعرق والذهنية السائدة والموقع الجغرافي وطبيعة الوضع الاقتصادي وما سواها.
هناك مجتمعات ألفت تطبيق القانون وهي تمارس النظام بأعلى صوره وتفاصيل يومه تمامًا كما تفعل الماكنة من دون تقاعس أو شكوى أو امتعاض، لا لسبب باهت بل لكون هذه المفردات تمثل خبزًا يوميًا لا يقلّ أهمية عن الزاد الحقيقي الذي يتناولُه أفرادٌ من هذه المجتمعات المتميزة بحفظ النظام العام وتطبيق القوانين المرعية ومنها الحفاظ على نظافة البيئة من ضمن سلوكيات النظام اليومي في الحياة. وضمن هذه الخانة يمكن احتساب المجتمعات الغربية التي تطورت وتقدمت وترفهت بفضل تطبيقها للقوانين وحفظها للنظام العام وحرصها على تهيئة بيئة حياتية نظيفة تليق بالعيش الآدمي الطبيعي وتتلقى الخدمات المطلوبة مقابل احترامها للنظام العام. تقابلُها مجتمعات موغلة في التخلّف ومصرّة بالعودة إلى الوراء ممّا لا يسمح لها بتطوير الذات. والسبب لأنها اعتادت عيش أسلوب الغابة والأزمنة الغابرة الموغلة في الجهل والجاهلية ولا يهمها ما يعنيه تطبيق النظام والحفاظ على بيئة نظيفة خالية من التشوهات والسموم. ومن هذه الشعوب، أفرادٌ يديمون ذات السلوك الحياتي اليومي المعتاد حتى لو تسنى لهم العيش في بيئة متطورة في بلدان الغرب. لكنهم يظلون حفاة عقليًا ومتخلفين ذهنيًا ومتأخرين عن الركب اجتماعيًا بسبب عدم مقدرتهم على الاندماج في المجتمعات الجديدة.
عندما خلق الله تعالى العالم، خلقه وفق نظام كونيّ محكم، وأعطى للفرد المخلوق حرية التصرف والعيش وفق ما يرتئيه، سواءً باتباع نظام سائد أو بعيدًا عنه. وهذا ما يمنح البشر القدرة على تقدير شكل هذه الحرية واحترامها ومدى تطبيقها في حياتهم اليومية. والنظام كما نعلم جميعًا، يخص كلّ مفاصل الحياة. فهناك سلوك خاص في المنزل والمدرسة والعمل، وهناك نظام للسير والبناء والتصنيع، وهناك نظام في الشوارع والأرصفة ومقترباتها، وكذا في الأحياء السكنية وفي القرى والمدن. تمامًا كما هناك نظام للسلوك والأخلاق بين البشر وفي تفاعلهم مع بعضهم البعض. لكنّ البعض وبسبب غياب الوعي التربوي والثقافي الذي ضرب أطنابه في كلّ مفاصل الحياة العراقية، مصرّون كما يبدو على ضرب كلّ أشكال المدنية والتحضّر عرض الحائط والبقاء في دارة الفوضى التي يرون فيها المتعة واللذة ما طاب لهم ذلك، بحيث أصبحت ثقافتُهم المجتمعية واقع حال، تمامًا كما هي حالة العشوائيات والاستيلاء على الملك العام.
صحيح أن مؤسسات الدولة يقع على عاتقها جزء كبير من عملية تنظيم الحياة المجتمعية، وبالخصوص منها ما يتعلّق بالعملية التربوية التي تُكمل ما بدأته الأسرة والعائلة لحين التحاق الطفل بهذه المؤسسات. فالتربية تبقى أساس ثقافة الشعوب وتقدمها ورقيّها وتطورها. والدولة التي لا تولي التربية والتعليم والثقافة ما تستحقه في حياة المواطن هي دولة فاشلة وستبقى كذلك لأنّ أساس تطور الشعوب مرهون بهذه السمة أولاً وآخرًا. فما الفائدة من الأموال ومن تكديسها؟ وما فائدة من الثروات وأحجامها إنْ لم تُسخَّر في خدمة الإنسان والمواطن وتعمل على تثقيفه مجتمعيًا وترصينه ذهنيًا وصقل سلوكه اليومي في البيت والشارع وموقع العمل؟ الأموال والثروات تزول وتفنى وتختفي، أمّا التربية والعلوم والثقافة، فإنها تبقى شواهد على هوية الشعوب والمجتمعات والأمم. لكنّ غير الصحيح أن تتنصّل الأسرة والعائلة ولاسيّما الإباء والأمهات عن المسؤوليات الأساسية الملقاة على عواتقهم. فالتربية المنزلية تنعكس سلبًا أو إيجابًا على السلوك اليومي للفرد في الشارع والعمل والمقهى والمطعم. وما أيسر للمشاهد أن يرى مختلف أشكال السلوكيات بين البشر. ففيها المؤدب والرصين والمهذَّب والراقي الذي يُعتدُّ به فخرًا وحسدًا وغيرة. وفيها الهابط والناقص والمقزّز والمنفر حدَّ الاشمئزاز والإدانة والاستنكار. وشتّان ما بين السلوكين!
هكذا هي أخلاق الشعوب وسلوكياتهُا. فهوياتُها تبقى معيارًا لحضارتها وثقافتها ولجزء كبير من هذه الأخلاق التي تتسم بها وتحملها على أكتافها وفي ضمائرها وعقولها وأفعالها أينما حلّت وارتحلت. فإنْ ارتفعت الأخلاق وسمت السلوكيات، ازدهت بها هوياتُ شعوبها. أمّا إن هبطت مستوياتُها وتلاشت أخلاقُها لحدّ الانحطاط والإسفاف، زالت عنها سمة التمدّن والتحضّر وبقيت غارقة في سبات عميق بانتظار صحوة متأخرة. ويبدو أن مجتمعنا العراقي قد دخل في سباته الشتوي المستغرق في النوم لحين بلوغ صحوة المدنية والتحضّر من جديد. لستُ أجور عليه من باب النقمة والتقليل من القيمة. فلو كُتب له أن تكون له قيادة حكيمة وحكومة قوية رشيدة وإدارة نزيهة مبنية على العلمية وحسن التدبير والتخطيط، لصار في الخطوط المتقدمة في مسار تطور الشعوب والأمم ورقيها ونهضتها. فقد عرفه العالم شعبًا متجذرًا في الحضارة والرقيّ وصاحب غيرة في البناء والإعمار ومثالاً في التآزر والتعايش والكرم والتكافل وخدمة الغير. أمّا الغيمة السوداء المكفهرّة التي يمرّ بها، فهي بعون الله زائلة بزوال الأحداث والظروف والشخوص الذين أحالوا البلاد والعباد إلى هذه الحالة من التخلّف والفساد ومن الإرباك وغياب النظام والقانون.
ربّاط الحديث، هناك مظاهر أصبحت لا تتحمّل المزيد من الانتظار والاضطراب والصبر، ولابدّ لمؤسسات الدولة ولاسيّما التربوية والتوجيهية والتثقيفية منها وبدعم من المنظمات الناشطة مجتمعيًا، من استعادة المبادرة لوضع القانون والنظام في واقع الحياة المريرة للمجتمع العراقي. فقد خرجت الأمور عن نصابها كثيرًا في الشوارع والأرصفة والأزقة والأحياء السكنية بعد أن غزتها الأسواق المتنقلة المتمثلة بالبسطات والعربات التي اكتسحت هذه جميعًا ولم يعد للسابلة إلاّ اللجوء إلى الشوارع لارتيادها وسط زحمة البضاعة التي تفترش الأرض متجاوزة على حقوق السابلة وحقوق أصحاب المحال التجارية الذين يشكون تفاقم هذه الظاهرة. لقد أصبحت هذه الحقائق اليومية القائمة كواقع حال، تشوه المنظر العام للمناطق البغدادية التراثية والسكنية التقليدية دون مراعاة لأصحاب الدور السكنية وأصحاب المحلات التجارية التي كسدت تجارتُهم بسبب مزاحمتهم من قبل أصحاب البسطات. كما أنّ العديد من هؤلاء أصبحوا يشكون الكساد في مبيعاتهم، ما حدا ببعضهم في مناطق عديدة لتأجير الأرصفة أمام محلاتهم لتعويض جزء من خسارتهم. وقد راجت هذه التجارة كثيرًا ولاسيّما في المناطق والمواقع المزدحمة التي تلقى رواجًا كبيرًا في العرض والطلب، حيث تحصل المتاجرة بهذه الواجهات بين صاحب المحل التي تقع أمام محله مع صاحب البسطة مقابل مبالغ مالية كبيرة بحيث أضحت الأرصفة هي الأخرى خاضعة للبازار تباع وتشترى بمثابة محلات تجارية. وهناك مَن يدّعي استئجار الأرصفة والشوارع من أقسام بلديات أمانة بغداد أو حتى من الجهات الأمنية التي تتولى حماية المنطقة والإشراف على وضعها الأمني والاستخباري.
إنّ الجهات المعنية، ومنها على وجه الخصوص أمانة بغداد التي يقع على عاتقها الحفاظ على رونق الأحياء السكنية ونظافتها وبصورة أخصّ على جمالية الشوارع الأساسية في العاصمة بغداد، علاوة على الجهد الأمني الذي يتولى حفظ النظام، أن تعي خطورة تشويه العاصمة بغداد والمدن العراقية في عموم البلاد. فالتجاوزات الحاصلة على أملاك الدولة والشوارع الرئيسة ومقترباتها وفروعها وما تشكله هذه مستقبلاً من مشاكل ما يسمّى بواقع حال سواء في البناء العشوائي القائم من دون رقابة ومحاسبة شديدة، أو بترك المخلفات وتراكمها من دون بذل جهود للحفاظ على البيئة التي زحفت إليها يد التجارة وفعل الاستثمار العشوائي، هي بحدّ ذاتها مظاهر للتخلّف والتراجع في الثقافة المجتمعية وفي الذوق السليم. فهوية المجتمعات وسماتُها تبقى شهادة لواقع حالها ومدى تفاعلها مع جهود الجهات المعنية بتطوير البلاد وتغيير ملامح التخلّف نحو ثقافة ترقى لتاريخ العراق وحضارته ومكانته بين الأمم والشعوب. وإنّ جزءًا من هذه المسؤولية يقع أيضًا على عاتق الجهات الإعلامية في الوزارات والمؤسسات المعنية والقنوات الفضائية في البلاد من أجل توعية المواطن من دون أن ننسى الجهد المدني والبلدي بتوفير مواقع بديلة لأصحاب هذه البسطات وفق نظام مقبول كما هو معمول به في دول متقدمة تسمح بمثل هذه الأنشطة التجارية المحدودة والمقنّنة على مدار أيام الأسبوع والسنة.


164
حين يكون التخلّف صفة مجتمع!
لويس إقليمس
بغداد، في 15 أيار 2019
يكره الله الماكرين في العمل والوظيفة والمنافقين في التداول والتعامل وسرّاق المال العام والخاصّ والأدعياء في الدّين والتديّن، وكذا كلّ مَن يقترف آثامًا حرّمتها السماء وألزمت بتجنبها لوائحُ الشعوب والأمم المتحضّرة بقوانين ولوائح وضعية خدمة للمجتمع وساكني الأرض. هكذا الأوطان الحرّة المستقلّة والأمم المتحضّرة أيضًا، فهي لا ترضى عن كلّ مَن خرج عن الركب الاجتماعي في مجتمعه وبلده أو مَن شقَّ له طريقًا ناشزًا خارجًا عن الذوق العام ومليئًا بالأشواك والعوسج من الموروثات البالية التي ألزمتها بِسِمَةِ الخرافات والعادات البالية في شيوعها. والحجج غير المبرّرة لمثل هذه الفئة المتخلّفة لا تسمح لها بالنأي عن أيِّ سعي أو رغبة بتطوير الذات وتهذيب السلوك والآداب العامة بحجة الحفاظ على الدين والمذهب والموروثات البالية. فالكثير من هذه الموروثات والتقاليد والعادات تدخل اليوم في باب الترّهات والتخاريف. وهي في مجملها تبدو ممارسات غير مقبولة عن شيء من التخلّف في النفس البشرية. فلو كانت بدواعي الجهل بحقائقها، فتلك مصيبة. أمّا إنْ حصلت عن سابق إصرار أو بخنوع قطيع يُساق كالشاة إلى الذبح من دون تفكير أو وعيٍ فتلك مصيبة أعظم! وهذه حالُنا في عراق اليوم!
أدوات التخلّف من سمات المرحلة
هناك الكثير من الأدوات السيئة والسلوكيات الشاذة غير المتحضّرة التي أصابت مجتمعنا العراقي الذي تراجعت آدابُه وتخلّفت أخلاقياتُه وعاد بنا وضعُه الاجتماعي والعلمي والاقتصادي والتربوي والعلمي والثقافي مئات السنين إلى الوراء بعد التغيير الدراماتيكي سيّء الصيت في 2003. فقد دخلت الكثير من آفات التخلّف المرير بيوتَنا واكتسحت الممارساتُ الدخيلة شوارعَنا وتلوثت مدارسُنا ومؤسساتنا الحكومية والمجتمعية بأيدي دخلاء ولصوص على البلد والمجتمع عندما أتاح الغازي الأمريكي لهم ولأتباعهم أن يغرفوا ما شاءوا من نعمه وثرواته من دون رحمة ولا وازع من ضمير، فأصبحت صفة لاصقة بالمجتمع.
وهكذا تحوّل العراق على أيدي هؤلاء السادة الجدد، حديثي النعمة وساسة الصدفة من بلد للحضارة والرحمة والتقدّم إلى اسطبل لأشباه الرعاع والمتخلّفين يأتمرون بأمر أسياد لا يستحق معظمُهم مثل هذه الصفة أو جهلة في أغلبهم من أصحاب عمامات ارتدوها زورًا وبهتانًا واستغلّوها لحرق الأخضر واليابس فكرًا وعلمًا وتربية وتراثًا وحضارة وتطورًا بحجج وتبريرات دينية ومذهبية لا ترقى للحياة الآدمية. وإلاّ، كيف يمكن أن توصف فئاتٌ منغلقة موغلة في سواد الفكر ورافضة لكلّ صور الحداثة والتطور إسكاتَ أصوات الحقّ الحرّة المنفتحة المنادية بضرورة تغيير المنهج في الحياة والفكر والتربية والتعليم والاقتصاد، وساعية لانتشال البلاد من آنية منغلقة ومغلّفة بحجاب الظلم والقهر إلى رحاب الألوان الزاهية التي تزهو بها الدول المتطورة تماشيًا مع تقدم العصر وتطور المجتمعات والأمم في جميع ميادين الحياة من دون أن يفقد مجتمعها أصالتَه وأصول حضارته؟
لا يكفي اليوم أن تصعد الأصواتُ متفاخرةً بحضارات سادت ثمّ بادت. فالأصل فيما نحن عليه وفيما نستطيع فعله وتقديمه من أشياء متميزة للمجتمع والناس والدولة كي نسمو بالبلاد وبالشعب إلى ما فوق ونحظى بتقدير العالم والشعوب في أسلوب حياتنا وفي تطوير بنيتنا وتغيير فكرنا وأفعالنا نحو الأحسن والأفضل. وما أكثر أشكال التخلّف التي تحيط مجتمعنا العراقي، ونحن أدرى بها. لكنّ الكثيرين يتغاضون أو يخشون أو يخافون من البوح والاعتراف بها أو نشرها أو التحدث عنها لأسباب أمنية ولغاية تحقيق مصالح ذاتية خشية من فقدان امتيازات أو خوفًا من التعرّض لأذى.  وإلاّ كيف يمكن إعطاء وصف دقيق لمظاهر التخلّف القائمة في بلادنا؟
دعونا نستقرئ الرأي الصائب في هذه الأمثلة من أدوات التخلّف عن الشعوب، ليس المتمدنة منها فحسب، بل القائمة في دول الجوار أيضًا لنتعرّف على ماهية التخلّف وأشكاله وأدواته. فعندما تفتقر مدننا وقرانا إلى مدارس نموذجية تتيح لأطفالنا الجلوسَ المريح على مصطبات الدراسة كما هي الحال في مدارس البلدان المتقدمة التي تحترم العلم والعلماء، فهذا شيءٌ من التخلّف في بنيتنا التحتية. وعندما نفتقد إلى معلمين أوفياء ونجباء يكثرون من العطاء والبذل لصالح قيام أجيال متعلمة تساهم في بناء البلاد والعباد، فهذا من الجهل والتخلّف أيضًا. وعندما يُجيَّرُ التعليم والمنهج التربوي الوطني لصالح فئة أو مذهب ويُستعاض به عن احتفالية رفع العلم الوطني بلطمية سوداء في رحاب المدرسة، أليسَ هذا أمرًا مقززًا يثير السخرية والاشمئزاز والأسف في تخلّفه؟ وعندما نمنع الاختلاط في المدارس والمؤسسات التعليمية أو نسعى لمنع ذلك في مواقع العمل بحجج واهية، أليس في هذا شيءٌ صارخ من التخلّف في الفكر والحياة؟ وعندما تصرّ جهات دينية ومذهبية "دمج الموروث الفقهي بالمنتج الاجتماعي" كي نرى في الشوارع والطرقات ومواقع العمل نساءً وفتيات بعمر الزهور وكأنّهنّ كتل سوداء متحركة، ألا يشكل هذا أدواتٍ صارخة للتخلّف، مع احترامنا لما لا يتعارض مع الحشمة والتبرّج المعقول كلّ في محيطه؟ وعندما لا يحصل المواطن على حاجته من الطاقة ومن وسائل الاتصال المتطورة عالميًا، فهذا تخلّفٌ في واقع الحال. وعندما تُرمى النفايات والقاذورات من فتحات السيارات وهي سائرة في الشوارع أو في الأماكن غير المخصصة لها، فهذا عينُ التخلّف والنفور. وعندما لا يراعي المكلَّف بواجب حكومي طلبات الناس أو يعيق المسؤول تمشية معاملات المواطنين إلاّ بتعاطي الرشوة، فهذا تخلّف أيضًا. وعندما لا يمتثل سائق مركبة أو راكب دراجة لإشارة رجل المرور أو للإشارة الالكترونية في الشارع ويستخدم الرعونة والعنف مع رجال الشرطة الساهرين على راحته، اليس هذا تخلّفًا عن الركب المجتمعي؟ وعندما يستغلّ المسؤول في الدولة منصبَه وموقعه من أجل سرقة المال العام الموكل إليه حفظُه وصيانتُه وتغاضيه عن أشكال كثيرة وعديدة من الفساد تحت أمرته وأمام مرأى من ناظريه، أليس في هذا شيءٌ من التخلّف عن الأمم والدول المتحضّرة التي تحترم المنصب الذي مصدرُه الشعب؟ وعندما تتسيّد سمة العائلة والعشيرة والدين والمذهب المشهدَ السياسي في البلاد وتعلو هذه على سمة الوطن والعدالة والمساواة، اليس في هذا ما يمكن عدّهُ تخلّفًا؟ وعندما يتحول البلد إلى قطيع استهلاكي لمنتجات أجنبية عبر التأسيس لثقافة المولات الغريبة العجيبة الجارية وتُركن أدوات الإنتاج الوطني قهرًا متعمَّدًا لإعاقة الصناعة الوطنية، أليس في هذا قتلاً متعمَّدًا للاقتصاد الوطني، مردُّه التخلّف في إدارة البلاد وفي التخطيط الوطني؟ وعندما تتسع مساحات العشوائيات ويتنامى الاعتداء على عقارات الدولة والغير وتُخرق قوانين التخطيط العمراني للمدن والقصبات تحت مرأى الجهات المعنية، أليس في هذا تخريب للبنى الأساسية للبلد وللعمارة الوطنية بسبب تخلّف الدوائر المعنية أو عدم قدرتها على معالجة المشكلة المستديمة؟ وعندما يُزاح الرب الخالق جانبًا وتُستبدل عبادته بعبادة شخص مخلوق، نبيًا كان أم إمامًا أم مرجعًا أو حاكمًا، أليس في هذا قمّة الكفر والنفاق والرياء التي يغلّفها التخلّف؟ وعندما تُنهب ثروات البلد عبر تجيير الدستور وسنّ القوانين لصالح فئة ومذهب وشخوص نافذة وتُصرف لها أموالٌ بالهبل ويُترك الشعب المسكين فاغرًا فاه لتلقّي لقمة العيش بصعوبة والبحث عن عمل يجد فيه خبزتَه ليعيل أسرتَه فيما لا تستطيع الحكومة أو لا تسعى لمحاسبة الفاسدين وسرّاق المال العام، أليس هذا قمّة الظلم النابعة من التخلّف في إدارة شؤون البلاد؟
... ووووو وأشكالٌ أخرى كثيرة ولا تُعدّ من الآهات والويلات والحسرات بشأن ما يجري في بلد الأربعين حرامي الذين توالدوا وتكاثروا كالأميبا الزحارية بحيث أصبح الفسادُ قاعدة والتخلّف أمرًا واقعًا، فيما النزاهة أضحت شذوذًا والنزيه مضطهَدًا في زمن القهر والظلم والفوضى التي تلت حقبة الغزو الغاشم بحجج واهية وخيالية.
لو عاد الحسين!
قد يكون التخلّف بأشكال وطرق شتى، وليس بالضرورة أن يكون متعمّدًا في بعض الأحيان. فالوراثة، أسريةً كانت أم مجتمعية، لها تأثيرها في إشاعة أشكال من الموروث المتخلّف عبر أجيالٍ لم ترقى إلى حياة سوية قادرة على تمييز الصائب المقبول من الشاذّ المنفر. وهذا يمكن أن يدخل في باب التخلّف الفكري والعقليّ بسبب الذهنية المجتمعية السائدة في منطقة أو مدينة أو قرية نائية عن أيّ محيط متمدّن قابل للتطوّر والتغيير.  كما تختلف نظرة المجتمع إلى طبيعة المظاهر والصور وأشكال التخلّف السائدة. فهناك مَن يتحرّز على الكثير من مثل هذه المظاهر التي يجدها منفرة وغير مقبولة لكونها لا تليق بعصر العولمة والتطور الذي نحن فيه اليوم. وبعكسه، تجد فئة ضالّة تأبى الانخراط في متواليات أيّ تطور وتعدّه خروجًا عن الدين والشرع وخالقه، والأخير بريء من مثل هذه الأفكار الخبيثة المتخلّفة براءة الذئب من دم يوسف. ولكن يبقى التخلّف سمة سائدة في مجتمعات كثرة تبعًا لطبيعة المجتمعات
عجيبٌ أمر العراقيين والعراقيات هذه الأيام. عندما تخرج امرأة بكلام واقعيّ منتقدة مظاهر مدانة في مجتمعها، تتكالبُ عليها ألسنة طويلة لا تعرف الخجل وترتفع رؤوس سوداء غارقة في أشكال التخلّف لتقوم بتجريمها وتحريمها والتحريض على محاسبتها بسبب أمانتها الوطنية بضرورة إصلاح ما تمّ إفسادُه بحق الوطن والشعب من قبل فئاتٍ غارقة في الخرافات والتخريفات التي يصلح أن يُطلق عليها بالمتخلفة حقًا. فالنائبة هيفاء الأمين التي نطقت بكلمة حق، ومثيلاتُها من الماجدات العراقيات من ذوات الأصوات الصادحة والجريئة والفاعلة يستحققْنَ أن يصفنَ بالأيقونات لأخواتهنّ الماجدات من الوطنيات الّلائي يفتخرنَ بالانتماء للوطن ومراجعه وليس بالخنوع لغيره وللدخيل على البلاد. هيفاء الأمين مثل زميلتها هناء أدور ومَن على شاكلتهما من النساء الغيورات الفاعلات في المجتمع وفي المنظمات غير الحكومية الصادقة في عملها، تستحقان لقب الماجدة العراقية لتصدّيهما لكلّ أشكال التخلّف ولمناداتهما في المنابر والمناسبات بالإصلاح الضروري في مرافق البلاد المختلفة. وبهما وبغيرهما من كلّ الوطنيين الأحرار، يمكن إعادة بناء العراق على أسس وطنية مستقلّة بالوسائل المتاحة وبالضغط على الجهات الرسمية وغير الحكومية من أجل إبعاد الفئات المسببة لهذ الآفة من تولّي أية مسؤوليات في المجتمع والدولة، كي نشهد زهوًا جديدًا لبلاد الرافدين وصورة مشرقة أخرى لمواطنيه عندما يتعاطون إيجابيًا مع التغيير الضروري في الفكر والعمل والأداء وفي عكس روح الحضارة التي تأسست عليها البلاد منذ آلاف السنين. فلا يكفي البكاء على ماضٍ درس، وحضارة أفلتْ، وشخوص ماتوا، وشواخص اندرست بفعل الزمن. بل المطلوب الإيمانُ بنهضة جديدة قادمة من الداخل وانقلابٍ في المفاهيم في كلّ شيء، ولاسيّما بالانسلاخ عن شرنقة الماضي المتخلّف الذي تسببت به أجندات الأحزاب الإسلامية التي أثبتت فشلَها ومشاركتها في الفساد الذي استشرى في البلاد منذ 2003. نقطة رأس سطر!
واليوم لو عاد الحسين، شهيدُ كربلاء والناطق باسم الحق، والعابدُ لله الواحد الأحد، والناشد الإصلاح في بلد المآسي والثورات والانقلابات والكفر بنعم البلاد، بلد "النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق" كما وصفه الحجاج يومًا، فإنّ الإمام المغدور سيقيم الثورة على ما يجري من مخالفات ومفاسد وخروقات في شبه الدولة العراقية التي خرجت عن المعايير الدولية واتسمت بسمة الفساد في كلّ مفاصلها. بل إنّه سيستلُّ سيفه العادل ويحاسب ويصفّي التجار واللصوص والفاسدين الذين توالدوا وتكاثروا وتفرعنوا ولم يتركوا للفضيلة مجالاً ولا للأخلاق سبيلاً ولا لإصلاح الذات والغير نافذة. هكذا فعلها المسيح أيضًا، عندما دخل الهيكل فوجده يعجّ بالباعة والتجار والصيارفة. فما كان منه إلاّ أنْ "أخذ سوطًا من حبال وطردَ الجميع من الهيكل ومنهم باعة البقر والغنم والحمام، وقلبَ موائدَ الصيارفة، لجعلهم إياه مغارة للصوص". أليس المشهد يعيدُ نفسه عبر التاريخ، ويذكّرنا كيف يكون التخلّف؟
مع الاعتذار، فالوصف لا يطال الشرفاء والغيارى وما تبقى من الوطنيين الأحرار من محبّي العراق والحريصين على استقلاليته وزهوه وحضارته وانتشاله من الكثير من آفات التخلّف التي ألمّت به مؤخرًا.


165
مفهوم الشرّ في المقياس البشري، أسبابُه، أدواتُه وشكلُه
لويس إقليمس
بغداد، في 28 نيسان 2019
موضوعة الشرّ في صفوف البشرية لها بداية وليست لها نهاية. فقد تناولتها الألسن وسالت بسببها أحبارٌ ملأت كتبًا وأوراقًا ومجلّداتٍ، وتطرقت إليها أديانٌ وفلاسفة ووعّاظ للتعريف به وبآثاره السلبية على الأفراد والمجتمعات على السواء. بل غدا مفهوم الشر من أسئلة الحياة المعقدة. فالشرّ منذ الأزل في تطوّر مذهل، لم ولن تكبحه كلُّ المحاذير والنصح وأشكال التوعية والتربية. كما خبرته الأمم والشعوب، أفرادًا ومجتمعاتٍ بأنواعٍ وأشكالٍ مختلفة تأتيها بالتعاسة والأذى، سواءً عبر أدوات وظواهر طبيعية ليس للبشر فيها يدٌ، أو أخرى تقترفها أيادي بشرية لأسباب معلومة وأخرى تبقى مجهولة، كالحروب وأدوات الدمار وأشكال الفساد القائمة. فالإرهاب والعنف المنتشران في عالمنا المعاصر، اليوم مثلاً، يُعدُّان من أخطر أشكال الشرّ ومن أدواته الضاربة، حالُهما حال مفهوم القتل والتخريب والتدمير وأنواع السلوكيات الأخرى التي توصف بكونها من نمط كلّ ما هو غير أخلاقي سائد في المجتمعات السوية. وقد اتخذ الشرّ أشكالاً ووسائل تفنّنَ بها أصحابُه ومنفذوه والمخططون له سواءً بسواء. فهل يخضع مفهومُه لثقافة الدين والمجتمع ونوع التربية التي نما عليها الفرد "الشرّير" ومن ثمّ على غرائزه ورغباته السلبية الكامنة التي شبّ وشابَ عليها في محيط عائلته ومجتمعه وبلده؟

الشرّ في المفهوم الفلسفي للمجتمعات
في رأي بعض أصحاب الفكر واللاّهوت والفلسفات، يكمن الشّر في طبيعة النفس البشرية وفي إرادته الضعيفة وفي كنه ذاته التي لا تقوى على مقاومة مكايدِه. ومَن يمارس الشرّ يصبح عبدًا له، من حيث يعلم أو لا يعلم. وهو لدى البعض منهم، ذات مفهوم جدليّ نسبي قد يخضع لطبيعة المجتمعات والظروف التي تعيشها هذه الأخيرة في سياق عصور تختلف في الفكر والرؤية للأشياء والأحداث وكذا في التطبيق اليومي للحياة وبحسب الطبيعة البشرية عينها. أي أنّ الشرّ ومفهومُه، هو كلّ ما يضادّ الخير ولا ينفع البشر ممّا يُعدُّ سلبيًا في سيرة الأمم والشعوب الطبيعية وفي سلوكها اليومي. وقد نرى تصنيفات عديدة للشرّ وفق رأي بعض الفلاسفة، منها ما هو طبيعي وأخلاقي وميتافيزيقي أي ماورائي، ومنها ما يُنظر إليه بكونه دافعًا شكليًا نابعًا عن الجهل وعدم المعرفة بفاعلية تأثيره، وخروجًا عن سلوك الطبيعة البشرية، أو فيه شيءٌ ممّا يعزّز النزعة الفطرية لإلحاق الأذى لدى الإنسان غير السويّ.
في ضوء التباين في تقدير مفهوم الشرّ، يكون الاختلاف أيضًا في النظرة إليه وفي تفسيره من أوجه مختلفة والحكم على نوعه بحسب تقاطع الرؤية والنظرة من فكرٍ لآخر ومن عصرٍ لآخر من حيث السلبية والإيجابية. في المجتمع الهندي مثلاً، لا وجود لمفهوم الشرّ. بل يدور الحديث عن سمات الألم والمعاناة التي ترافق حياة البشر على الأرض. أمّا من وجهة نظر أتباع بوذا، فهناك حديث عن توازن قائم بين طاقة سلبية وأخرى إيجابية كامنة في باطن الإنسان. فهو في نظرهم يشكل جزءًا من العالم ويجب ببساطة توجيهه عبر إماتة كلّ أنواع الرغبات التي يمكن أن تجلب معاناة ومشاكل وآلام للإنسان الذي لا ينجح في تحقيقها. فيما يختلف مفهوم الغرب الذي يرى أن معاناة الإنسان تأتي بسبب المشاكل التي تلفه من كلّ حدب وصوب، ومنها ما يمكن أن يُعزى إلى أساس اجتماعي بحت أو اقتصادي طارئ أو سياسيّ مستفحل. وللفلاسفة نظرتُهم أيضًا. فالمدرسة الفلسفية لسبينوزا مثلاً، تذهب في تصوّرها بكون " كل إنسان يسمّي خيراً ما هو ملائم له هو، ويسمّي شراً ما لا يسرّه". أمّا توما الأكويني، ويتفق معه في الرأي العديدُ من مفكري الكنيسة الكبار منهم القديس أغسطينوس، فهو يرى فيه "عدمًا وسلبًا للخير"، أي بمعنى آخر هو "غيابٌ للخير". ولكن يبقى من المنصف القول، إنّ في النفس البشرية صراعًا دائمًا بين الشرّ والخير، تمامًا كما تراه المانوية، ومنه استعداد الإنسان لفعل أيّ منهما بحسب الظرف، زمانًا ومكانًا وحكمًا على الحدث والحادث. فالمجتمع لم يأتي بشروره من لا شيء، بل دخلت عليه بفعل الإنسان وأعماله ورغباته وتهوّره وكبريائه، أي ببساطة بفعل إرادته. أليست "النفس أمّارة بالسوء"؟

الشرّ من وجهة نظر الأديان
بالتوازي، تختلف الرؤية حول مفهوم الشرّ في الأديان أيضًا. فالصراع بين قوى الخير والشرّ قائمٌ مادامت "الأنا والأنتَ" تتنافسان بسبب قوانين ثنائية الجسد والروح ومتطلباتهما. وهذا ما يشير إليه بولس الرسول بإشارته إلى الصراع القائم بين الاثنين. ومن نظرته الفكرية البعيدة الرؤية إلى هذه الثنائية تنطلق أخلاق المسيحية في تعاليمها وأدبياتها باتجاه تعزيز كلّ ما هو خير وحسنٌ للكائن البشري، وبدعوتها في أبجدياتها للابتعاد عن الشرّ وأدواته وعناصره وأشكاله. وتشاطرها في هذه الرؤية مع الاختلاف في جزئيات منها، أديانٌ توحيدية وغير توحيدية أخرى، انطلاقًا من أنّ الشرّ قاتل وزائل، ولا يبقى للذكرى الطيبة غيرُ ما هو صالح وجيّد في نظر البشرية. فالأشرار هم المفسدون في الأرض وعليهم نقمة السماء ولعنة الله الخالق، وأمّا الصالحون فَلَهُم الجزاء الطيّب من ربّ الأكوان والدعاء من عباده المؤمنين. وفي كلتا الحالتين، يقع على الإنسان العاقل بحسب النظرة التوحيدية للأديان الموحدة الثلاثة، أن يميّز بين الشرّ والخير. ولعلّ ما توصي به الوصايا العشر في التعاليم اليهودية والتي تتمسك بها المسيحية كثيرًا وجوهريًا، وأقلَّ منها في الإسلام، هي خير مثالٍ للدعوة للأعمال الصالحة وللتحذير والنهي عن أضدادها ممّا يوقع في شراك الشيطان وإبليس الخنّاس الوسواس. وهذا من باب التعريف والتوعية والتربية على الخُلُق الحميدة وترك أبواب المعصية وكلّ الأدوات المساعدة التي من شأنها تدمير النفس والجسد معًا، ومنها تدمير المجتمعات وإفساد الأخلاق العامة.
لدى الحكم على أيّ فعلٍ شرّير إذن، لا بدّ من توفر شرط المعرفة بفعل الشرّ المرتكب. أي أنّ عنصري الوعي والمعرفة ضروريّان لفرز أعمال الشرّ عن الخير بفضل نوافذ التربية وأدوات التوعية التي تقودها فعاليات دينية نابعة من حرص الأديان على تقويم المجتمعات ونشر قيم السلم الأهلي وبذور الخير والرحمة والمحبة والصفاء بين الناس. هنا تقع المسؤولية الكبرى على العقل الناضج للكائن البشري والذي يبقى الشفيع الأهمّ في التمييز والفرز بين ما هو خير وصالح وما هو عكسُه، حيث تقوده هذه المعرفة إلى الوقاية من الشرّ وأعوانه وأدواته المتنوعة التي كثرت وانتشرت في عالم اليوم عبر وسائل عديدة بعضُها تتسلّل وهي بثياب الحملان الخاطفة. وهناك المعرفة السلبية بالشرّ وأدواته، حين يوغل الإنسان في ممارسة أنواع منه بالرغم من معرفته بالخطأ الذي يمثله عليه وعلى غيره. وهذا من باب الضعف في التحكم بالغرائز الباطنية الدفينة التي يحرص الإنسان الضعيف على ممارستها بدوافع خاصة تخضع للحالة القائمة لدى أمثال مثل هذا الشخص، فتقودُه نحو السقوط في الإثم أي في ممارسة الشرّ، أيّ كان شكلُه ونوعُه.

الشرّ، التحدّي الأكبر للفلاسفة واللاهوتيين
تتزاحم الأسئلة حول كثرة أنواع الشرّ في العالم. ولكن شيئًا كبيرًا منها يقع على عاتق الطبيعة، ما يشكّل تحديًا صعبًا بحدّ ذاته في تفسير ماهيّته وأسبابه. في العالم تكثر الحروب والزلازل والكوارث الطبيعية وأنواع القتل والإبادة والاستغلال والقهر التي لا تبدر على بالِ أحد. ليست هذه جديدة، بل إنّ ما يمنحها مزيدًا من القلق البشري والتساؤل الفكري، تطوّرُ أدواتها وأنواعها وأشكالها وتحدياتها للبشرية بالرغم من تطّور وسائل هذه الأخيرة في مقارعتها وأساليب التعامل معها. فهذه جميعًا، ستبقى لغزًا ما عاشت البشرية ومهما تطورت وتفاعلت مع موجباتها وسلبياتها جميعًا، ولن يجد الفلاسفة واللاهوتيون تفسيرًا واحدًا موحدًا يمكن أن يقتنع به الفكر البشري مهما بلغ من تطور وعصرنة وحضارة وتفوّق علميّ. وما تشهده مناطق ساخنة من العالم في هذه الأيام، وما مرّت به العديد من بلدان العالم في سابق السنين والأيام تشكل مشهدًا مؤلمًا للعالم المتحضّر.
من وجهة نظر أصحاب الفلسفة واللاهوت، هناك ما يُعزى إلى الشرّ الأخلاقي في وصف أنواع الجرائم والفساد والقتل وارتكاب الفواحش وأشكال الأضرار التي يمكن أن تلحقها اليد البشرية ضدّ نظيرتها في الخلق. وهناك الشرّ الجسديّ الذي يتعرّض له الكائن البشري في أعضاء جسمه وممتلكاته بقصد أو بغير قصد سواءً بفعل أبناء جلدته البشر أو بسبب عناصر الطبيعة من حرائق وفيضانات وزلازل وأعاصير. وهذه الأخيرة، لا يمكن التكهّن بحدوثها في الكثير من الأحيان، كما حصل بالأمس القريب بسبب أعاصير التسونامي التي ضربت أندونيسيا وقبلها بعض الولايات الأمريكية المتحدة وغيرها من بلدان العالم. وهناك ما يلحق بحياة الإنسان بسبب التقادم في السنّ أو الأمراض لاسيّما تلك التي تستعصي معالجتُها على الطب البشري وأدواته.
نظرة الفلاسفة واللاهوتيين إزاء فعل الشرّ وأنواعه تصطدم بعنصرين مختلفين: صانعُ الشرّ ومتحمِّلُه. ولكنّ ما يحيّرهم أكثر، أنّ صانع الشر ومرتكبَه لا يبالي بالأذى الذي يمكن أن يلحقه فعلُه على الطرف المقابل. فيما يمكن أن يبدي الشخص الواقع عليه نوعُ الشر المرتكَب ضدّه، شيئًا من الصبر والتحمّل بالرغم من قسوة الفعل وتأثيره عليه وعلى حياته وحياة مَن يعيش وسطهم. وهذا النوع من البشر، قد يبدو خارجًا عن المألوف البشري، ولكنه قائم في التاريخ. ومثالنا على هذا، ما وقع من ألم وشرور واذى لصفيّ الله أيوب الذي ابتلاه ربُّه بحيث انعزل عن المجتمع، بموجب إرادة ربّانية فائقة عن الطبيعة. ولنا من هذه الأمثلة في العهد القديم (التوراة) وما يسردُه العهد الجديد (الإنجيل) الكثير من نماذج المرضى والمصابين بعاهات من الذين كانوا يضطرون للعيش خارج المجتمعات أي خارج أسوار المدن الآهلة، بحجة أنَّ ابتلاءَهم بتلك الأمراض كانت تشكل عقابًا إلهيًا لهم من السماء. وهذا مفهوم خاطئ ناقشه الفلاسفة واللاهوتيون ولم يجدوا إجابة شافية لحصول تلك الأعمال لأشخاصٍ محدودين من بشر دون غيرهم. ففي الوقت الذي وجد فيه البعض منهم تجربةً أو اختبارًا من السماء أي من الله الخالق بحق خليقته، رأى البعض الآخر أنّ ذلك يشكّل ظلمًا لفئة بشرية دون أخرى وتعدّيًا أخلاقيًا بحق إنسان طبيعيّ بريء. فما لا يمكن قبولُه من وجهة نظر إنسانية سويّة، أن يرى البعض في الألم الذي يرمز إلى الشرّ عقوبة للفرد المبتلى به خارج خياره وإرادته.
في منظارنا البشري اليوم، هل يمكن اعتبار الشرّ عقوبة أو فضيحة أو قصاصًا للإنسان المبتلى به؟ تبقى الإجابة على هذا السؤال أكثر جدلية ونسبية وقابلة للنقاش والتفسير والتأويل بحسب طبيعة الثقافة والرؤية الفكرية والأرضية الدينية لصاحب الرأي والفكر.



 




166
الدولة العميقة والحكومة العميقة
لويس إقليمس
 بغداد، في 5 نيسان 2019
لا شكّ أنّ تراجع الأداء الوطني في العراق بعد سقوط نظام البعث في 2003، كانت له انعكاسات تراجيدية على صعيد الأداء الحكومي بل على صعيد الدولة العراقية ككلّ. وكان لتداخل السلطات وتعدّد الجهات التي تدّعي الأحقية في الحكم أو السلطة أو في فرض أجنداتها الخاصة بحسب تبعيتها العرقية والحزبية والدينية والمذهبية، آثارٌ سلبية على صعيد هذا الأداء بما فيه تسيير شؤون الدولة وفق السياقات المتعارف عليها من حيث السيادة الوطنية والمركزية في الحكم. فقد انتشرت ظاهرة فرض السلطات وإدارة المؤسسات التي أصبحت من حصة أحزاب السلطة الحاكمة بشكل مريب بغياب سيادة القانون والتراخي في تطبيق الدستور، ممّا كان له الأثر البالغ في ضياع هيبة الدولة وانتشار مجاميع مسلحة منفلتة أو جماعات تدّعي انتماءها للسلطة أو قربها من مرجعيات دينية لها الوصاية على أمر القائمين على رأس هذه السلطة. وهذا ما فتح الباب أمام عناصر هذه الأخيرة للتقرّب والتودّد من المرجعيات الدينية صاحبة الشأن وفي التأثير المجتمعي معًا، بحجة الادّعاء بالسير وفق توجيهاتها وأوامرها، سواء كسبًا للودّ الشعبي وللدعاية الانتخابية أو لنيل البركة وتحقيق المطامع بأساليب التذلّل والخضوع والخنوع. والنتيجة حصول تداخل في السلطات مع بعضها البعض وبروز سلطات ثانوية وجانبية داخل سلطة الدولة الرئيسة تنافسها بل وتفرض روزنامتها الضيقة وتعيق العمل المؤسساتي بوسائل وطرق عديدة لغاية تحقيق مآربها بفضل تأثيرها السياسي والعسكري في اتخاذ القرارات، بحيث أصبحت أشبه بدويلات داخل دولة العراق.

حركة رخيصة
مثل هذه الحركات الرخيصة والسلوكيات المشبوهة والبعيدة عن البعد الوطني في الأداء والتي أغاضت المرجعية الدينية الرشيدة نفسها في أحيان كثيرة عندما أفصحت هذه عن عدم رضاها للأداء الحكومي طيلة حقب الحكومات الفاشلة المنصرمة، قد وضعت قدرات الدولة العراقية في مهبّ الريح. فضاعت الأموال العامة بأيدي جهات فاسدة وضعت أيديها على وزارات ومؤسسات وفق نظام تحاصصي مقيت أثقل كاهل الوطن والمواطن بسبب سوء استخدام أموال الميزانيات السنوية الضخمة. فلا المواطن شعر بتحسّن وضعِه المعيشي ولا الدولة شهدت تطورًا وتحسنًا في بنائها الحضاري وفي الخدمات المقدمة للمواطن بسبب التعامل مع مشاريع وهمية في معظمها. كما تفنّنت أحزاب السلطة الحاكمة المتولية أمرَ الوزارات صاحبة الشأن عبر دكاكينها الاقتصادية ولوبياتها التجارية، في كيفية التخطيط لاقتناص المشاريع وإدارتها وكذا في وسائل تبرير عدم اكتمالها وتلكّؤها أو ضياعها بين أيدي مكاتبها الاقتصادية ومجاميعها المسلحة أو المتعاونين والمشاركين معها من المقاولين وكبار السرّاق. والدليل على ذلك، الاكتفاء بما هو قائم من مؤسسات وحواضر وأبنية وشواهد علمية وتربوية ومشاريع ضخمة من طرق وسدود وقنوات مائية ومجسّرات وجسور تعود لأزمنة سابقة، وعدم إضافة شواخص جديدة عليها. فكلّ ما هو قائم اليوم يعود لعمل الأنظمة السابقة وجهودها في إعمار البلاد وتطويرها وجعلها في مصاف الدول المتقدمة بين شعوب المنطقة بحيث كان يُضرب بها المثل قبل السقوط بأيدي الغزاة الأمريكان ودول الغرب وأذيالهم من القادمين من خلف الأسوار ومن مزدوجي الجنسية الذين تهافتوا وتكالبوا لنيل حصصهم من كعكة البلاد السائغة ولغاية الساعة.
من هنا، كبرت هذه المجاميع الحزبية بقوة ما كسبته من أموال السحت الحرام وسرقة نفط البلاد والتعامل بمشتقاته بطرق غير مشروعة. كما تعمّقت مكاتبها الاقتصادية التكسبية وأصبحت تمثل دويلات شبهَ مستقلة داخل شبه دولة العراق التي أصابها الهون والضعف والتخاذل بحيث أضحت غير قادرة على رأب الشرخ ومعالجة الوضع المتردّي لسنوات عجاف لغاية بداية هذه السنة عندما انبرت حكومة السيد عبد المهدي لاتخاذ بعض التدابير التي ماتزال ناقصة لمعالجة مواقع الخلل ووضع الأمور في نصابها وإعادة هيبة الدولة وسيادتها ليعود العراق حرًّا مستقلًّا في أدائه السيادي ولتعود حكومته فارضةً برنامجها ومقيّمةً أعمالها وواضعةً حدًّا لحالة الانفلات الأمني والاقتصادي والخدمي. وهذا هو السبيل الوحيد للخروج من نفق مفهوم الحكومة العميقة والدولة العميقة الموصوفة في البرنامج الحكومي للحكومة الحالية، بعودة مؤسسات الدولة للعمل وفق برنامج وطني غير مخترَق من قبل لوبيات الكتل السياسية وأحزاب السلطة ودكاكينها الاقتصادية التي تمثلها غالبًا في صفوف هذه المؤسسات وفي الدوائر التي لا تخلو إحداها من ممثلين تابعين لها.
 فقد أُشيع في الوزارة الحالية مثلاً، تعيين مدراء لمكاتب وزراء كي يقوموا بمهمة حماية الحصص والحفاظ على المنافع المترتبة من وراء عقود ومشاريع يتم إحالتها بصيغة التقاسم بين أحزاب السلطة وفق مفهوم التفاهم والتشارك أحيانًا وعقد الصفقات والمساومات في أحيان أخرى. والبادي للعيان أن مثل هذه البؤر المنتشرة في مؤسسات الدولة العراقية هدفها الحفاظ على المصالح السياسية لأطراف في السلطة وضمان بقائها على رأسها ما شاءت الأقدار كنوع من الحماية الاستخباراتية وتوجسًا من أية محاولات لزعزعة شكل النظام السياسي الفاشل القائم منذ السقوط.
نظام قائم
إن مفهوم الدولة العميقة في العراق واضح للعيان ولو مجازيًا، من خلال تعدّد مراكز القوى المتحالفة المتشاركة المتناقضة المتنافسة معًا سياسيًا والمختلفة في اتباع الأجندة الخاصة بكلّ منها وبضمنها تشكيلات الحشد الشعبي، حمايةً للنظام السياسي القائم. أي أنها من ناحية، تبدو متفاهمة على شكل النظام القائم الذي يحمي مصالحها من حيث المبدأ، لكنها مختلفة في ذات الوقت على شكل الروزنامة التي تسعى لتطبيقها وسط الفوضى العارمة التي شهدتها البلاد منذ ما يربو على ستة عشر عامًا من تغيير النظام. فخيار التهديد والانتقام وتخريب الساحة مازال سيّد المشهد كلّما تعمّقت الخلافات السياسية وطغت الاختلافات حول المصالح والمنافع والمناصب، ما يجيز لنا القول بسيادة مبدأ وجود دويلات داخل الدولة العراقية، يتحكم بها أشخاص أو مجاميع ميليشياوية مسلحة، بغياب سيادة لغة الدستور والقانون والنظام التي ينبغي أن تحكم المواطن والوطن. وهي بفضل سطوتها قادرة على تغيير المواقف وإخضاع سياسة البلاد وفقًا لمسار ورغبات الجهات التي تتبعها وتمولها وتضمن لها ديمومة البقاء. أي بمعنى آخر، يمكن رصد تأثيرات ذات بُعد سياسي واقتصادي وقضائي على إدارة البلاد يتولاّها أتباع أو أشخاص مقرّبون من مراكز القوى المهيمنة على مقدّرات البلاد بفعل ما يملكه هؤلاء من سطوة وتخويل من قبل أحزاب السلطة ومَن يواليها ويدعمها في الداخل والخارج. وهذا ما يجعل هذه المجاميع المتجذرة خارج صفوف السيادة الوطنية وعصيّة على الدولة والشعب المسكين الذي جلّ همّه يبقى في البحث عن أمنه وأمانه ولقمة عيشه بشرف وضمير وكبرياء وطني.
لقد أثبتت الأيام أن أحزاب السلطة منذ تشكيل أول حكومة منتخبة، قد أجادت دورها في خلق كيانات مزروعة داخل جسم مؤسسات الدولة لتؤدي دور الدويلة الحاكمة داخل دولة العراق الهشة خوفًا على مصالحها ومكاسبها من أية هزات شعبية مناهضة أو معترضة، وحفاظًا على كيان وجودها وديمومة بقائها في السلطة. وهي بذلك تكون قادرة على الإمساك بمقاليد السلطة بفضل ما تملكه من دعم من جهات دينية وقضائية مسيّسة وما تكتنزه من طاقات أمنية وتسليحية وقدرات اقتصادية وأدوات إعلامية ماكرة تجعلها قادرة على التأثير في صفوف العامة والخاصة.
وبذلك ضاعت المعايير الوطنية التي كان ينبغي أن تكون سيدة الموقف في تعزيز استقلالية الدولة وعدم تبعيتها لدول الجوار أو للأجنبي أيًا كان. لذا فإنّ المرحلة الراهنة تتطلب اليوم من الحكومة القائمة أن تنأى بنفسها عن دعم اية محاولة لإبعاد البلاد عن سيادتها الوطنية و"الضرب بيد القضاء" كلَّ مَن يسعى لإدامة زخم دائرة الفساد الذي تقف وراءه رؤوس هذه الدويلات العميقة المتجذرة في بنيان الدولة، والشروع بالإصلاح الحقيقي للإنسان العراقي ومن ثم إجراء تغييرات جذرية في النظام المؤسساتي المثقل بالهموم والمتاعب والذي أفقد البلاد سمة الدولة الحديثة المتحضرة بسبب صراع الإرادات والأداء الطائفي والفساد المستشري.

167
                                      هل يفعلها عبد المهدي حقًا؟


لويس إقليمس
بغداد، في 13 آذار 2019


جميل جدًّا ما طرق أسماعَ الشعب العراقي على لسان السادة الرؤساء الثلاثة في جلسة بدء
الفصل التشريعي الثاني لمجلس النواب الموقر من خطب وطنية حماسية تشعر الآخر المقابل أنّ البلاد
بخير وأنّ المستقبل الأفضل في طريقه للإنجاز. تحدث الجميع عن تمنيات ومشاريع تصب في خدمة
الوطن والمواطن وعن ضرورة توحيد الجهود بين السلطات من اجل مكافحة الفساد الاداري والمالي
وعن إصلاحات ضرورية جذرية وجدية متأخرة ينتظرها الشعب بفارغ الصبر. وفي واقع الحال تبقى
التمنيات رأس مال المفلسين. فهي مجرد أضغاث أحلام لذرّ الرماد في العيون ما لم تكن هناك إرادة
رادعة لكلّ أشكال الفساد والترهل والأخطاء.

قصارى القول، مجمل هذه الأحاديث والمداخلات بانت خطبًا رنانة وخطوطًا عريضة تليق بفنّ
الخطابة الوطنية المثالية. فقد أُلقيتْ على عواهنها من دون تشخيص دقيق للخلل الفاضح والواضح على
رؤوس الأشهاد. أو لنفترض أنها تحاشت أن تسمّي الأشياء بمسمياتها في كشف رؤوس هذه الآفة القاتلة
التي طالما تحدث عنها الجميع علنًا بمناسبة وبغيرها بابتسامات عريضة وأفواه فاغرة وعيون سافرة.
ربما لم يشأ المتحدثون إحراج البعض ممّن في القاعة من الذين يتوسدون المقاعد الأمامية منها أو الخلفية
من الذين تحوم حولهم شبهات كبيرة بالفساد، لكنهم اعتادوا خلط الأوراق واتهام غيرهم به وبتعاطيه بلا
خجل ولا ضمير ولا رحمة. إلاّ أن اللبيب لم تعد تنطلي عليه مثل هذه الألاعيب وهذه السيناريوهات التي
أصبحت مكشوفة للجميع.

لو افترضنا عرضًا، أن المقصود بالاتهامات التي يسوقها القائمون على السلطة هم مافيات
وعصابات اخترقت العملية السياسية من الباب والشباك وسمحت لنفسها بتعاطي الفساد وسرقة المال
العام، فهل تعصى الإجراءات القانونية والعقابية التي يتمتع بسلطتها القضاءُ العراقي الذي يُوصف بأنه
قضاء مستقل؟ وإذا كان القضاء حقًا مستقلاً إلى هذه الدرجة من النزاهة والعفة والوطنية، لماذا لم يبادر
إلى كسر رؤوس كبيرة متورطة مشاركة في السلطة يحتفظ بملفاتها مثلما تفعل مكاتب رئاسات الوزراء
المتعاقبة وهيئة النزاهة ومكاتب المفتشين العموميين والرقابة المالية ودوائر أخرى في الدولة العراقية؟
ممّا لا شكّ فيه أن مسألة قلب الطاولة بهذه الشاكلة ستكون لها عواقب وخيمة على معظم شركاء
العملية السياسية منذ السقوط في 2003 ولغاية الساعة. وهذا ما يفسر عدم تجرّؤ رؤساء الوزارات
السابقون من نشر قوائم بالفاسدين والمفسدين الحقيقيين بحسب تهديداتهم وتصريحاتهم المتواصلة طيلة
فترة تسنمهم أعلى المناصب التنفيذية في البلاد. فقد آثر هؤلاء تأجيل فتح مثل هذه الملفات السرية الفاسدة
خوفًا أو تحصينًا للذات وحماية للدين والحزب والكتلة والمذهب التي ينتمون إليها. فقلب الطاولة ممكن
ومتوقع في اية لحظة بين الشركاء الحقيقيين، أصدقاء الأمس وأعداء اليوم. فالمال والجاه والسلطة تبقى
من المغريات القاتلات الفاتنات. لذا ليس متوقعًا في ظلّ حكومات التوافق التحاصصي القائمة أن نشهد
شيئًا من هذا القبيل. فالكل  في الهوا سوا تحميهم خيمة المصالح التي لو تقطعت أوصالُها وتقاطعت
لانفرط عقدها وآلت إلى مصيرها المحتوم، من بعدها الطوفان كما أنّ وجود الحامي الأكبر المتمثل
بالمرجعية الدينية ووكلائها وأتباع دول لها مصالح متشابكة في البلاد هو الآخر يقف حائلاً دون تقديم
مثل هذه الملفات التي لو وجدت طريقها للقضاء، فإنها ستخلط الأوراق وتكشف العورات وتنهي تأثير
مرجعيات وأحزاب وكتل وتقصم ظهر شخصيات. وليس من يستطيع فعلها سوى من يرسو على مغاد
السلطة طوعًا أو قسرًا، أو يترك الأهل والبلاد معًا خوفًا على حياته وحماية لأسرته وأحبائه. فمَن تجرّأ
وفعلها في غفلة من الزمن نال جزاءه ولقي مصيره المحتوم بالطريقة المأساوية التي شهدناها.
في ضوء الأحداث والوقائع، هناك مَن يعلّق آمالاً كبيرة على عهدة السيد عبد المهدي الذي يدير
مركب البلاد بكثير من الرويّة والتأنّي والحيطة وربما المجاملة على حساب طموحات وآمال الشعب
العراقي الذي ينتظر منه وضع الأمور في نصابها. فهل سيفعلها ويقطع دابر الفساد ويقصم ظهر
الفاسدين والمفسدين في مفاصل الدولة التي شهد لها هو نفسه مؤخرًا تنامي هذه الآفة بشكل كبير
وتواصل إدامتها من جهات متنفذة تقف عائقًا أمام أية مساعٍ تبحث عن حلول لمعالجتها أو إجراءات
لمكافحتها؟ فالجهات المعنية المتنفذة في السلطة والتي قد تطالُها مثل هذه الإجراءات الرادعة ربما قد
وضعت خطوطًا حمراء لن تمكن الجهات العدلية والقضائية من تجاوزها بفعل تحديد صلاحيات هذه
الأخيرة وعدم السماح لها بتجاوزها، ما يعني أنّ جزءًا مهمًّا من صلاحياتها مسيّس. كما أنّ السارق ليس
من شيمه الاعتراف بفعلته إلاّ إذا تاب واستغفر الخالق ربه واعتذر من شعبه وأهله ومواليه الذين أولوه
الثقة ليكون في خدمتهم لا أن يسرقهم ويختطف منهم ومن أبنائهم فرحة التمتع بخيرات البلاد وبراحة
البال والخدمات لتسهيل عيشه اليومي.

لذا لو توفرت الإرادة الصادقة والقدرة على مواجهة الخصم اللدود المتمثل بالفساد وأدواته والذي
ينخر جسد البلد منذ أكثر من ستة عشر عامًا من عمر الحكومات الفاشلة المتعاقبة، فإن رؤوسًا كبيرة من
الزعامات السياسية والحزبية والإدارية ستسقط مثل ألواح الدومينو بسبب وقوفها وراء استشرائه، تنفيذًا
وحماية ودعمًا وتغطية. وهنا يكمن دور القضاء الذي تُعلّق عليه آمالٌ كبيرة هذه الأيام لمطالبة كلّ مَن له
ملفات فساد تقديمها له من دون تردد، وبالتالي بمحاسبة كلّ مَن يمتنع عن ذلك بسبب ادّعائه بوجود مثل
هذه الملفات والتهديد بكشفها في مناسبات وعبر منابر حية وتحت الطاولات حين اشتداد التقاطع في
المصالح. فالقضاء وحده، هو الأول والأخير المعنيّ بمحاسبة مَن تحوم حوله الشبهات ومَن تثبت إدانته.
حينها سنهلّل له ونرفع راية النصر المنجز بمرحلة جديدة من الحياة الحرة الكريمة التي تليق بالعراقيين
الأصلاء اصحاب الغيرة والشهامة والعدل من سليلي الحضارات وأبناء ثورة العشرين وكلّ الأخيار
الذين كانت أعينُهم وعقولُهم وضمائرهم على البلاد ومصالحها. فقد تعوّد الشعب التأديب بالعصا الغليظة
التي تبث الرعب وتنشر العدل وتحقق النظام وتفرض سطوة القانون. فهذه وحدها القادرة على إعادة
التوازن للمجتمع إذا رُفعت بإرادة قوية وقدرة فاعلة وغاية نبيلة تطبيقًا للقانون واحترامًا للنظام وتنفيذًا
للعدل بدون تمييز ولا تحيّز ولا مجاملة. ولا مجال للحيرة حينئذٍ في كيفية معالجة هذه الآفة مادام القانون
والعدل والقضاء تأخذ مجراها الطبيعي حرصًا على مصالح الوطن وخدمة للمواطن.

168
اليوم العالمي للشباب JMJ نفحة من الرجاء
كانت المبادرة التأسيسية الأولى لليوم العالمي للشبيبة في نهاية عام 1984 من لدن بابا الفاتيكان يوحنا بولص الثاني الراحل، الذي أراد آنذاك أن يخصّ الشباب برعاية متميزة في قلب الكنيسة. جاءت الفكرة في ضوء احتفال الكنيسة الكاثوليكية بيوبيل السنة المقدسة للفداء المسيحاني للبشرية المقرر في 1983-1984. وانطلاقًا من هذه المناسبة، شاء قداستُه عقد تجمّعات شبابيّة مسيحية على مستوى الابرشيات لمناسبة احتفال العالم المسيحي بأحد السعانين بدءً من سنة 1984. حضر اللقاء الأول الذي فاق التوقعات آنذاك أكثر من 250 ألف شاب من مختلف الابرشيات الإيطالية. وحين إعلان الأمم المتحدة ليكون العام 1985 سنة عالمية للشباب، تكررت فكرة عقد لقاء شبابي متميز آخر في روما وسائر الأبرشيات في إيطاليا ضمن مبادرة أخرى للفت الأنظار إلى هذه الشريحة الهامة في المجتمع وفي الكنيسة على السواء. حضر اللقاء الثاني أكثر من 300 ألف شاب من مختلف الابرشيات أيضًا وانتظموا في تجمعات صلاة وتأمل وتعليم في مختلف كنائس روما قبل أن تحتضنهم ساحة القديس بطرس وجهًا لوجه مع البابا القديس يوحنا بولس الثاني. 
مع النجاح منقطع النظير لهذين التجمّعين الشبابيين تساءل البعض ما الفكرة وما الهدف من مثل هذه اللقاءات. فكانت الإجابة من لدن البابا نفسه أن للشباب رغبة جامحة للقاء بعضهم بعضًا من أجل مقاسمة خبراتهم والتداول في مشتركاتهم وتبادل أفكارهم والاستماع إلى أصواتٍ تدعم طموحاتهم وتعزّز التزاماتهم حيال الكنيسة والمجتمع والنظام السياسي في البلاد إلى جانب توجيه تطلعاتهم نحو المستقبل. من هنا جاء إعلان بابا الفاتيكان في نهاية 1985 عن إنشاء "اليوم العالمي للشباب" ابتداء من العام الذي تلاه 1986، يُعقد في كلّ سنة على مستوى الابرشيات والكنائس في العالم تزامنًا مع مناسبة أحد السعانين للقاء المسيح الداخل إلى اورشليم وسط هتافات الشعب الحامل لأغصان الزيتون ليتفاعلوا مع الحدث وليكونوا رسلاً للسلام والمحبة.
من حينها، تطورت الفكرة فأراد قداستُه أن تتوسع المبادرة ليُصار للاحتفال بهذه المناسبة مع شبيبة العالم بصورة متناوبة، أي سنة على مستوى الأبرشيات وأخرى على مستوى الدول، في دولة يقع عليها الاختيار كي يكون بمثابة حجّ للفرح لهذه الشريحة المهمة ومناسبة لإعطائهم دورًا رياديًا في قيادة المجتمع ودفعهم باتجاه تعزيز بذور الفرح والصلاح والمحبة ونشر السلام والوحدة والأخوّة بين الشعوب والأمم والدول عبر مجتمعاتهم. هذا إلى جانب الرسالة الروحية السامية والنابعة من ديناميكية الكنيسة وتفاعلها مع قضايا العالم المتخبط في متاهات السياسة العمياء في أحيانٍ كثيرة والغارق في أزمات متلاحقة في شتى شؤون الحياة وشجونها. فالفكرة مزدوجة في ثناياها وأهدافها، وهي تتمثل بضرورة "إصغاء الكنيسة لهذه الشريحة ومرافقتهم" في مسيرة حياتهم وتطلعاتهم وآمالهم. وهذان الهدفان هما من ضمن النتائج التي تمخضت عنها الوثيقة الختامية لسينودس الأساقفة حول الشباب الذي شهدته الفاتيكان في تشرين أول الماضي 2018. فقد رأى آباء السينودس ضرورة تواجد العنصر الشبابي في مثل هذ اللقاءات لكونهم العنصر الأساس وسط المجتمعات والروح المنعشة والمحرّكة للشعوب والأوطان.

نظرة تاريخية حول الحدث
 شهد العام 1986 أول لقاء عالمي كبير للشباب احتفلت به سائر إبرشيات الكنائس الكاثوليكية في العالم، كل في موقعها يوم أحد السعانين، ليصبح بعدها حدثًا عالميًا مهمّا يُعقد كلّ سنيتن أو ثلاث في بلد معيّن من بلدان العالم ليشمل القارات الخمس، مع الاحتفاظ بعقد لقاءات شبابية محلية في إبرشيات كافة الكنائس سنويًا يوم أحد السعانين حصرًا ليكون بمثابة مهرجان لهذه الشريحة العطشى للكلمة ولكلّ شيء جديد ذي قيمة عليا.
كانت الأرجنتين (بوينس ايرس) ثاني محطة لهذه الاحتفالية العالمية في عام 1987 التي مثّلت علامة رجاء لصحة هذا البلد الخارج من دكتاتورية تسلطت على رقاب الشعب لسنوات. أعقبه اللقاء الرابع للشباب في اسبانيا سنة 1989، ثمّ السادس في بولونيا سنة 1991 وهو أول تجمّع في دولة أوربية شرقية بعد سقوط جدار برلين. بعدها كان اللقاء الثامن في دنفر الأمريكية سنة 1993، وتلاه لقاء 1995 العاشر في مانيلا بالفيلبين.
في عام 1997 جاء اللقاء العالمي الثاني عشر الذي احتضنته العاصمة الفرنسية باريس وفيه كانت شهادة الشباب لإيمانهم واضحة وهو يجوبون شوارع عاصمة النور والجمال مطبوعين بعطش روحي كبير لإبراز هذا الإيمان الذي خبا نورُه بسبب العولمة وعسر الأنظمة السياسية التي اختارت العلمانية طريقًا محفوفًا بالمطبات الإيمانية والتراجع في التقرّب من الكنيسة وتعاليمها. أعقبه لقاء روما الخامس عشر في سنة 2000 والتي صادفت سنة الألفية الميلادية مع تقدّم البابا القديس يوحنا بولس الثاني في العمر بعد أن أعياه المرض، إلاّ أنه كان مصرًا على مشاركة الشبيبة أفراحهم بهذا الملتقى العالمي. تلاه لقاء تورنتو السابع عشر في كندا سنة 2002، وهي تعد من البلدان الحديثة نسبيًا. ثم جاء لقاء كولونيا العشرين في ألمانيا سنة 2005 برعاية البابا الألماني الجديد بندكتس السادس عشر بعد أيام على رقاد البابا يوحنا بولس الثاني. أعقبه اللقاء الثالث والعشرين سنة 2008 الذي عقد في سدني الأسترالية التي تسمى ب"أرض الروح القدس"، لمنح نفحة من الرجاء لهذه القارة الجديدة نسبيًا والنائية بعض الشيء. بعدها عادت العاصمة الاسبانية مدريد ثانية لتحتضن التجمع العالمي السادس والعشرين سنة 2011، ثم كانت ريو دي جانيرو البرازيلية سنة 2013 بنسختها الثامنة والعشرين التي شارك فيها نخبة من الشباب العراقي. أمّا كراكوفيا البولونية فقد نالت حظها من هذا المهرجان الشبابي سنة 2016 بنسختها الواحدة والثلاثين، وأخيرًا بنما في هذه السنة 2019 بنسختها الرابعة والثلاثين العالمية.

من أهداف الزيارة
بنما التي وقع عليها الاختيار لاستقبال شبيبة العالم في 2019، والتي تحظى اليوم باستقرار نسبي ووضع اقتصادي أفضل من جاراتها ضمن دول أميركا اللاتينية (الوسطى)، هي الرحلة العالمية 26 في حبرية بابا الفاتيكان فرنسيس التي زار قبلها 39 دولة. هذه الرحلة الشاقة مثّلتْ تحديًا للمنطقة التي تشهد العديد من بلدانها تداعيات سياسية وأزمات اقتصادية إلى جانب مشاكل داخلية وتدبيرية في كنيستها المحافظة. في اليوم العالمي للشبيبة بنسختها الجديدة 34 التي عقدت للفترة من 22-27 كانون ثاني 2019، شارك أكثر من 700 ألف شاب احتضنتهم هذه الدولة اللاتينية بكل فرح وارتياح. وبالرغم من ضعف هذه المشاركة نسبيًا مقارنة مع سابقاتها، فإن ذلك يعزى لجملة أسباب جغرافية وديمغرافية داخلية تتصل بالعدد القليل لنفوس هذا البلد اللاتيني الذي لا يتجاوز عديد نفوسه 4 ملايين نسمة. لكنّ فرح اللقاء مع البابا في رسالته الدينية والروحية والاجتماعية والتي لم تخلُ من لمحات سياسية، كان هو السائد. فقد كان قداستُه الصوتَ الصارخ لمَن لا صوتَ له.
في هذه الزيارة حرص البابا أن يكون ضمن منهاجه، عرضٌ لمصالحة مجتمعية عبر طقوس توبة حصلت في أحد معتقلات يقبع فيه مجموعة من الشباب القاصرين المغرّر بهم والخارجين عن النظام، كإشارة لعدم نسيان الكنيسة لأمثال هؤلاء لحين عودتهم إلى حضن المجتمع، وأيضًا كشهادة للرحمة الإلهية التي يحتاجُها كلّ إنسان والتي بمقدورها أن تنتصر على الشرّ وعلى الألم الكبير بحرمان الإنسان من حريته البشرية لأي سبب كان. كما حرص قداستُه على لقاء مرضى السيدا (الإيدز) ضمن التفاتة روحية كبيرة تعني أن الكنيسة ستبقى قريبة من جميع أبنائها المحتاجين إليها في هذه القارة التي تمزقها الصراعات وأعمال العنف وتشهد لانتهاكات يومية من جانب السلطات ما يجعلها كغيرها من البقع والدول التي تبقى تعاني من عدم الاستقرار ومن أزمات متلاحقة بسبب تسلّط حكامها والفساد المستشري فيها. هذا إضافة إلى موضوع الهجرة الجماعية التي تضرب بلدان القارة اللاتينية هربًا من مشاكل بلدانها باتجاه الولايات المتحدة الأميركية بصورة خاصة، وابتعادًا عن أزماتها المتلاحقة وكذا بسبب حالة البؤس التي تعاني منها طبقات من المجتمع بسبب فساد الأنظمة.
هناك إشارة التفتَ إليها البابا في هذه الرحلة، وهي سعادته الدائمة بمشاركة شباب من مختلف بقاع العالم ومن جنسيات مختلفة من القارات الخمس، حاملين رايات بلدانهم التي يعتزون بها في هذه التظاهرة العالمية التي توليها الكنيسة الكاثوليكية ما تستحقه من رعاية وتوجيه وتعليم رسولي. فهي علامة للوعي الشبابي برفع رايات السلام والمصالحة وسط هذا التجمع المبارك الذي منه تصير الانطلاقة لنقل هذا السلام إلى بلدانهم ومجتمعاتهم المقهورة. وهي تأتي أيضًا في سياق الإشارة إلى رفض الكنيسة كلّ أنواع الاستغلال للبشر ومنها ما يتعلق بمسألة التحرّش الجنسيّ المتهم بها رجال مقربين من الكنيسة والذي مازال مثار النقاش والشك لغاية الساعة. فقد كان تعليم البابا واضحًا برفضه أيّة أشكال لاستغلال الكائن البشري مهما كان جنسُه أو لونُه أو دينُه.

في ضوء العناصر أعلاه، صبّت زيارة البابا ايضًا، على نقل قيم الرجاء للمتألمين والعجزة والخارجين عن الطريق القويم من أجل إعطاء دفق روحيّ لكنيسة هذه البلاد ومن خلالها للقارة برمتها. كما أنها ترنو لحث زعامات دولها على تقويم السياسات واتخاذ الخطوات التي من شأنها المحافظة على قيمة الإنسان وصيانة كرامة الكائن البشري. من هنا جاءت لقاءات رأس الكنيسة الكاثوليكية في هذه المناسبة مع الشباب لكونهم النخبة في قيادة المجتمعات وفي تشكيل القدرات الحقيقية لبلدانهم. إذ عليهم تقع مسؤولية إحداث ثورة في النظام العالمي وفي إصلاح المجتمع وفي الخدمات الضرورية لسائر طبقاته من دون تمييز وفي المشاركة القريبة والحضور الدائم في مواقع الحدث. وإليهم يصبو أصحاب الرجاء من البؤساء والفقراء والمظلومين ليكونوا الأمل في إحداث تحولات إيجابية مستقبلية في بلدانهم بفعل الالتزام الأدبي والروحي والوطني الذي يحملونه في صدورهم وعقولهم وطاقاتهم. وهذا ما برز في أحاديثه المتتالية عن دور هذه الشريحة التي قال عنها:" أنتم لستم المستقبل بل أنتم زمن الله. هو يدعوكم في مجتمعاتكم ومدنكم… انهضوا وتكلّموا… وحققوا الحلم الذي يملكه الربّ لكم". وختمها بالقول:" عودوا إلى رعاياكم وجماعاتكم وعائلاتكم وأصدقائكم وانقلوا هذه الخبرة حتى يستطيع الآخرون الاهتزاز بهذه القوّة وهذا الأمل الذي تملكونه".

الخاتمة:
إنها رسالة المصالحة والرجاء التي أراد بها البابا فرنسيس أن يكون أكثر قربًا من الشبيبة المتألمة والعطشى إلى الكلمة والأمل والرجاء عبر حوار منفتح وبلغة جديدة قريبة من طموحات وأفكار وتطلعات شباب اليوم وليس وفق اللغة التقليدية القديمة والعقيمة التي لم تعد تجذب الشباب أو تؤثر فيهم بسبب تقادمها ورتابتها.   
أما توصية الحبر الأعظم في اليوم الختامي الذي شهد إقامته قداسًا جماهيريًا للحشود المتجمعة وسط حضور رسمي وكنسي واسعين، فقد حث فيها الجميع على "العمل لمقاومة الخوف والاستبعاد والشك والتلاعب". وقال مخاطبًا الشباب بصورة خاصة: "فلتشعروا أنّه لديكم رسالة، ولتقعوا في حبّها كي تحافظوا على السير وعيش الإيمان".
وبحسب الإعلان عن النسخة القادمة من هذه التظاهرة الشبابية العالمية، فإنّ لشبونة عاصمة البرتغال، هي التي ستستضيفها في 2022. إلى ذلك اليوم مع شبيبة العالم، نرفع كل الأمنيات ونواصل قول "نعم" على غرار مريم العذراء بقبول كلام الملاك "الآن" وليس غدًا ومن دون تردّد.


169
إلى متى تبقى نينوى تُستباح وتبكي وتنزف؟
لويس إقليمس
بغداد، في 25 آذار 2019
حين بلغت مآثم "نينوى العظيمة" حجمًا كبيرًا من الفساد لم يعد يطيقها "يهوه"، أرسل لهم الله يونان بن متاي (النبي يونس) نبيًا من عنده ينذرهم بكوارث كبرى ويدعوهم إلى التوبة إلى الإله الحقيقي. فقد ضاق هذا الإله ذرعًا بهذه "المدينة العظيمة التي كانت تضم أكثر في حينها من مائة وعشرين ألف نسمة لا يعرفون يمينهم من شمالهم، فضلاً عن بهائم كثيرة"، كما يورد سفر يونان النبي في العهد القديم، فأراد أن يعطيهم درسًا تعليميًا بشخص النبي يونان. كان ذلك على أيام جبروت نينوى في القرن الثامن قبل الميلاد، بحسب البعض من العلماء والمفسرين. وبالرغم من أن هذه الحكاية تأتي في نطاق درس تعليمي مرحٍ بعض الشيء في نقل تعاليم الإله الحقيقي بحسب البعض، من حيث إنها لا تخلو من الدعابة والطرفة في بعض تفاصيل سردها وشرحها، إلاّ أنها تكشف عن مدى عظمة نينوى في ذلك الزمان، دولة وشعبًا وحياة. فقد ورد اسمها صريحًا في العديد من الكتب والأسفار التاريخية في العهد القديم بشكل إشارات أو مواعظ على أفواه أنبياء آخرين يتحدثون عنها كلامًا سلبيًا من أمثال النبيين ناحوم وإرميا اللذين يتحدثان عن فساد أهل نينوى في ذلك الزمان على عهد الملك نبوخذنصر الجبار. فقد كان لها من مكانة مرموقة ومتقدمة على غيرها من المدن في ذلك الزمان. لذا فرح بها الله فرحًا عظيمًا عندما استجابت لكرازة يونان فتابت ورجعت إليه بالمسوح والرماد.
رباط الحديث، مأساة نينوى الكبرى قبل أيام بغرق عبّارة الموت التي قتلت أرواحًا بريئة وحوّلت ربيع الموصل إلى مأتم مفتوح وفتحت جراحًا مثخنة طعنت أهالي المدينة وفتحت الأبواب لسينوريوهات عديدة لاحقة. فهذه الكارثة ستدخل التاريخ مثل غيرها ممَا ألمّ بهذه المدينة التاريخية العظيمة.
كوارث عبر التاريخ
 لقد حلّت بالموصل نوائب وكوارث كثيرة عبر التاريخ، وأحدقت بها مخاطر وقصدها غزاة وسقطت مرارًا وقاومت في غيرها، ثمّ نهضت تلملم جراحها مع مرور الأيام. وهذه أحوال المدن الكبرى والشعوب المتميزة، مثل مدينة نينوى التاريخية العظيمة وشعب نينوى المتمرّس الصامد المدبّر المضروب به المثل في الحرص والاجتهاد والتدبير والصبر، وقل ما شئت من سمات وصفات يستحقها أبناء الموصل، سواء في مركز المدينة، أو ما يحيط بها من بلدات وقصبات تعود لمكوّنات متعددة الأديان والأعراق والمذاهب ولا تقلّ تميّزًا في سمات وصفات وطنية وخاصة. فالمدن العظيمة مثل الموصل التي دخلت التاريخ فخلّدها، لا يمكن أن تقع فريسة للغرباء والدخلاء وأصحاب المطامع غير الشريفة. ولو أنّ الزمن التعس قد غدر بها ونالت حظها من الخراب والدمار في حقب سوداء من التاريخ فغادرتها الفرحة والطيبة وحسن الإدارة، إلاّ أنّ هذه لن تكون النهاية، وآخرها حادثة العبارة. فالمدينة باقية وأبناؤها الأصلاء ما زالوا على ذات الحرص والطيبة والأنفة والقدرة وعلى العهد باقين. وسينتفضون، بل لقد انتفضوا أمس كما انتفضت البصرة بعد أن بلغ السيل الزبى وعانت مدينتهم وبلداتها من عسر الحياة وإهمال الدولة ومن استهانة بقدراتها البشرية في الحكومات المتعاقبة بعد التغيير.
حادثة العبّارة القاتلة التي نالت قسطًا وافرًا من الكتابة عنها ومن التصريح بحادثتها الأليمة المفجعة ومن أشكال التعاطف والحزن الكثير على ضحاياها الأبرياء، لا يمكن أن تعبر من دون دروس للاتعاظ والتعلّم والاستفادة. فهي حبلى بملفات كثيرة متراكمة بانتظار فتحها ومعالجتها من دون تردد. بل طالما أن الحديد ساخن، ينبغي الطرق عليه بقوة وفتح ما يمكن من ملفات مخزية وما يدور ويجول بين الأسطر وما تحويه طيات الكواليس والرفوف المطمورة بفعل فاعل لا يريد لهذه المدينة ولأبنائها النهوض من كبوة الغزو الأمريكي في 2003 وما لحق بها وبهم من ويلات ومصائب وكوارث كان الهدف منها كسر شوكتها وتحجيم تأثير كفاءات أبنائها على المستوى الوطني.فهُمْ أهلٌ لها في ميادين الوطن والوطنية والعمل والزراعة والصناعة كما في الجندية العقائدية المتميزة بالدرجة الأولى التي لا يُعلى عليها.
استرخاص النفس البشرية
لقد أثبتت هذه الحادثة المروّعة رخص الإنسان العراقي واستخفافًا كبيرًا لا نظير له بالقيمة البشرية عندما أهمل القائمون على مثل هذا الموقع السياحي وإدارة المدينة، لجميع معايير الأمان والمراقبة والحرص في يوم ربيعي كان يحلم به قاصدوه زرع البهجة والحبور والراحة في نفوس أطفالهم وفلذات أكبادهم. لكنهم كانوا على موعد مع الموت، وأي موت، موت بعبّارة "دوبة متهالكة" تسارعَ الركابُ فيها ليكونوا قرابين رخيصة أخرى لتضاف إلى مأسي وتضحيات وخسائر لم تجف بعد شوارع مدينتهم من دماءٍ سفكت بقدوم تنظيم داعش الإرهابي عندما استباح هذه المدينة ونشر الرعب والقتل والترهيب وجعل من بعض أبنائها مريدين ودعاة باسمه وآخرين ضحايا وسبايا وأداة لتجارة الرقيق وسط مسامع ومرأى العالم. فهل كان العراق بحاجة لمثل هذه المصيبة كي يستيقظ من سباته ويعاود الانتفاض والثورة والغضب ويزيد من المطالبات بوضع حدود للمآسي والكوارث التي يعاني منها المجتمع والدولة على السواء؟
وإذا كانت الدولة، مجتمعة بالرئاسات الثلاث ومعها القضاء الذي أسمع صوت القانون عندما أنذر بمعاقبة المقصّرين، قد أرادت بخطواتها وإجراءاتها امتصاص غضب الشارع وأهل هذه المدينة بالذات، فذلك لن يكون على حساب المطالبة بتغيير السياسات العامة للنظام السياسي الفاسد القائم عل أساس سرقة المال العام وسوء الإدارة وتجيير القوانين لصالح الطبقة المتسلطة على رقاب المواطنين وفق النظام السياسيّ الممقوت السائد حاليًا. فالغضب القائم ضدّ أشكال الفساد الإداري والمالي سيزداد ويتعاظم لحين وضع الأمور في نصابها وقيام نظام سياسي وطني يضع مصالح الوطن والشعب في أولى الأولويات ويلفظ جميع الأجراء والدخلاء والأغراب من السياسيين المنتفعين والفاسدين والمفسدين، إلاّ القلّة النادرة منهم، ويتم محاسبتهم أمام الشعب وبقوّة الشعب ولمصلحة الشعب أيًا كان انتماؤه السياسي أو الحزبي أو الديني أو المذهبي. فالمعادلة الوطنية لم تعد تتحمّل أكثر ممّا هو قائم منذ سنوات من دون صحوة ضمير وعودة عقل إلى رشده واستقدام يد نظيفة تستطيع تحمّل المسؤولية.
الفارس المنقذ قادم
نحن لا ننظر إلى مسألة توالي النكبات والكوارث والمصائب على شعب فقد دفة حياته على أنها قصاص من السماء، ولكن الشيء بالشيء يُذكر. فيونان النبي حينما نادى أهل نينوى للتوبة والعودة إلى الإله الحقيقي، لم يقم بذلك الفعل من عنده، إنما مشيئة الإله في ذلك الزمان جعلت الحوت تبتلعه وترميه قريبًا من نينوى ليقوم بتحذير أهلها من كوارث قادمة في الانتظار. ففي الأفق العراقي و"النينوي" ما يشير إلى نكبات مرتقبة في حالة لم تقم الدولة العراقية، رئاسة وحكومة وبرلمانًا وقضاء وشعبًا بما ينبغي فعله الآن وليس غدًا. فانتفاضة البصرة التي لم يخبو أوارها بعد، قد لحقتها موصل الحدباء التي فقدت منارتها على أيدي أعتى التنظيمات الإرهابية التي عاثت في الأرض فسادًا وحوّلت المدينة القديمة وآثارها التي لا تُقدّر بثمن إلى ركام وأبنية وحواضر متهالكة يُرثى لها. وهذا ما حدا بالجموع الغاضبة يوم وقوع كارثة العبّارة للتنفيس عن خلجات دفينة برفض التعاطف الظاهري لمسؤولين زاروا موقع الكارثة فهتفوا هتافاتهم الصارخة والمدوية: "حرامية" أي لصوص كما رشقوا سياراتهم بالحجارة وحطموا الزجاج. وربما هذا لم يحصل في السابق إلاّ نادرًا. فالألم عميق والمأساة كبيرة والمدينة تحولت إلى بيوت تسكنها أشباح وتفوح منها رائحة الجيفة الباقية تحت الأنقاض، كما أضحت مقطوعة الأوصال بعد تحطيم وتدمير جسورها، وعدم صلاحية ما هو قائم منها حاليًا.
إن المشكلة في هذا البلد المنكوب لا تكمن في نقص الأموال أو القدرات البشرية، بل في كيفية إدارة هذه الأموال وفي نزاهة المسؤولين والإداريين وفي الحكم الوطني الرشيد الغائب عن أي استراتيجية معمول بها لغاية الساعة. ولعلّ أهمها، كيفية التعامل مع الحيتان الكبيرة للفساد التي تسببت بنكبات وما تزال تتسبّب بمصائب ونوائب كبيرة وكثيرة في العراق وأهله، وآخرها فاجعة العبّارة في الموصل. فالمطالبون بمكافحة الفساد في البلاد هم مَن يشكلون عماده ضمن الحلقات الفاعلة والحقيقية للسلسلة الطويلة من الفاسدين القائمين على إدارة الدولة وحكم الشعب البائس. وهؤلاء ينطبق عليهم المثل القائل "إذا كان رَبُّ البيتِ بالدفِّ ضارباً، فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرَّقصُ". هذا هو الواقع المرير. فهل سيحاسبُ الفاسد نفسَه؟ وإن فعلها، فمتى يكون ذلك؟ فنحن نعلم أن هذه ليست من ثقافة أهل المنطقة ولا من آداب دولها ولا من شيم الزعماء والمسؤولين. لكننا نسمع ونقرأ ونشاهد في دول العالم المتحضّر، أن المسؤول المكلّف بواجب وطني أو مجتمعي في أي مجتمع متحضّر يحترم شعبه، حينما تحصل أدنى مشكلة تمسّ مصلحة البلاد أو تتضرّر بها أية فئة في المجتمع، يبادر من تلقاء نفسه ومن دون تردد لتقديم الاعتذار ومعه الاستقالة.
كلّنا نسأل: مَن ينقذ الموصل في ظروفها المرّة القاهرة؟ هل من "يونان" آخر ترسله السماء للمناداة بعودة البشر فيها إلى جادة الصواب والتخلّص من براثن الفساد والإهمال السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعد استباحتها من جديد من قبل فصائل وميليشيات وأحزاب ومكاتب اقتصادية تعمل لصالح تنظيمات إرهابية واخرى لصالح أحزاب في السلطة تنهب وتسرق خيراتها وتتلاعب بالمعونات المقدمة لأهاليها من دون رحمة ولا غيرة ولا شرف؟
قلناها فيما مضى ونكرّرها اليوم: دعوا الموصل لأهلها، ودعو أهلها الأصلاء يسوسونها على طريقتهم "المصلاوية" وعلى سجيتهم الوطنية، فهم أدرى بشعابها. وهذه دعوة نصوح لكلّ غريب أو دخيل حطّ الرحال في هذه المدينة وفرض فيها إرادته المرفوضة انتقامًا من أهلها بسبب مواقفهم الوطنية النبيلة في محاربة الأغراب عن الوطن وأعداء البلاد التاريخيين، أن يخرج منها ومعه الأذيال الخائبة من المحسوبين على أهلها الشرفاء. فدمار هذه المدينة وإهمال الحكومات المتعاقبة لمطالبها والاستخفاف بقدراتها البشرية والوطنية وبتركيبتها السكانية الفريدة وإعادة إعمارها بالسرعة المطلوبة يتطلب نجباء حقيقيون من بين مواطنيها ليقوموا بهذه المهمة بعيدًا عن تأثيرات أحزاب السلطة وخارجًا عن مطامع بعض المغرضين والفاسدين من أهلها ممّن لحقوا بصفوف فساد السلطة منذ السقوط الدراماتيكي.
في الأخير، نقول كفى استباحة لحقوق هذه المدينة والمتاجرة بمآسي أهلها والنازحين فيها ومنها. فقد ظلمتها الحكومات المتعاقبة بعد السقوط في 2003، وحوّلها داعش الإرهابي إلى إمارة طالبانية حينما عاث فيها فسادًا وقتلاً وتنكيلاً لحين إحالتها إلى ركام ومدينة أشباح في أشرس معارك قادها التحالف الدولي في 2017 لإنهاء حكم الخلافة المزعوم. وعسى أن تتحلّى اللجنة الجديدة المكلّفة بإدارة حكومة نينوى المحلية بكلّ المقاييس الوطنية التي تتيح لها وضع حدود قاطعة أمام أشكال الفساد المستشري، الذي أضحى ظاهرة عامة في عموم البلاد، بالرغم من أن الحاجة تدعو لتعيين حاكم عسكري على رأس إدارتها لغاية قيام إدارة جديدة منتخبة. فالموصل لن تنهض من كبواتها في ضوء القوانبن التقليدية السائدة، ما لم تتمتع الإدارة الجديدة المؤقتة بصلاحيات واسعة. وسوف تتكالب الأحزاب الفاسدة على منصب محافظها مهما قيل ويُقال وفق مبدأ المحاصصة.
ونقول للشهداء والمفقودين: ليس لنا سوى الدعاء بالرحمة والمغفرة لملاقاة رب السماء. ولهم نوقد شموع الدموع التي نزلت من مآقينا مدرارًا. فعساها تكون عنوانًا للسلوان الوطني لأسرهم وأحبائهم وأهل مدينتهم، ودرسًا بليغًا لنا نحن العراقيين جميعًا. فيونان النبي قادم للتبشير بغضب الله من شعبه بعد سماعه جرس الإنذار يدعوه للرحيل باتجاه نينوى لوقف زؤام الموت وبكاء الثكالى والعودة إلى جادة الصواب والنزوع للعقل في البناء والإعمار وإصلاح الذات.


170
ظواهر سلبية بصورة مظاهر متخلفة
لويس إقليمس
بغداد، في 10 آذار 2019
لا توجد مجتمعات كاملة حدّ الكمال في سلوكياتها، كما لا يمكن الحكم على أخرى بالسلبية القاطعة. فالمجتمعات عمومًا، لا تخلو من مظاهر إيجابية أو سلبية. إلاّ أنّ العبرة تكمن أساسًا في انتقال تلك المجتمعات من حالة السلبية إلى الأفضل في السلوك اليومي ونحو حالة أحسن في التعايش وفي إدارة الحياة اليومية بأفضل السبل الكفيلة عبر الحفاظ على تعاضد النسيج الاجتماعي وتكاتفه. والمجتمعات الأفضل في سلّم الرقيّ هي التي تحمي السلم الأهلي وتحافظ على نظارة البلاد وبيئتها ونظافة مدنها وأحيائها ومؤسساتها وشوارعها، انطلاقًا من السلوك الأسري داخل المنزل، ومرورًا بالمؤسسات التعليمية التي ترسّخ للسلوكيات الصحية الصحيحة وتكمّل ما تكون قد بدأت به الأسرة والعائلة.
بعض هذه المظاهر تصبح مقرفة ومضجرة إلى حدّ التخلّف في أشكالها وأبعادها، خاصّة حين تتحوّل إلى ظواهر سلبية مدانة تخرج عن دارة التمدّن والتحضّر والقاعدة. فالمجتمعات السليمة تبحث عن كلّ ما هو سليم وصحيح ويصبّ في مصلحة البشر في الشارع أو الحي أو المدينة التي يسكن فيها. ولنا في هذا ما تتّسم به دول الغرب المتحضّر من تطبيق لقوانين النظافة والنظام النابعة من شعور المواطن نفسه بنظافة سكنه وشارعه وحيّه ومدينته وبيئته وبتنظيم كلّ متطلبات الحياة. قد نجد مظاهر متخلفة من هذا النوع أو ذاك في هذه البلدان الغربية أيضًا، ولكنّ الأداة الأكثر شيوعًا في إظهار بعض صور شيء كبير من هذه المظاهر المتخلّفة تجدها متأتية من أشخاص غرباء أو قادمين جدد من خلف الأسوار فشلوا في الاندماج في المواطن والمجتمعات الجديدة. والسبب، لكونهم لم يستوعبوا بعد نوع الحياة الجديدة في هذه البلدان التي قدموا إليها سيًّاحًا أو لاجئين أو هاربين من جحيم بلدانهم المتخلفة. ولكن تبقى المظاهر الإيجابية في هذه البلدان المتحضّرة هي الأكثر والأفضل والأكبر حجمًا ونوعًا وتطبيقًا.
 في بلدي الجريح الذي لم ولن يستطيع لملمة جراحه المثخنة بسهولة، كلّما طرق مسامعي أو وقع أمام ناظري شيءٌ من مظاهر التخلّف التي تشهد لتراجع البلاد والمجتمع إلى الوراء يومًا بعد آخر، أبكي وأتحسّر وأتأوّه لأنّ أحلامي قد طارت برؤية وطنٍ ناهضٍ متحضّر يعيد مجد حضاراته ويرفل بعزّة جبروته ويتمتع بخيراته الكثيرة التي لا ينتفع منها المواطن الصاغر البائس. ليس بيدي حيلة ولا بيد كلّ حالمٍ مثلي بالعيش في بلد آمن يقدّر نعمه ويحافظ على ثرواته ويحمي حدوده، تمامًا مثلما يحترم فيه خيارات الآخر الذي يشاركه العيش والأرض والمصير ويقبل بتعددية المكونات فيه على أساس الاحترام والمساواة والعدل. وبطبيعة الحال، كلّي إيمانٌ وثقة بأنّ المظاهر قد تكون خدّاعة في أحيان كثيرة. لكنّ مظاهر نابعة أصلاً من نوع التخلّف في العيش والسلوك اليومي في الشارع وموقع العمل تعبّر بصورة لا تقبل الشكّ عن طبيعة المجتمع السائدة. كما قد تذكّر هذه بنوعية الفكر وأخلاق العقيدة وطبيعة الذهن والبنيان الشخصي التي يرسو عليها الفرد ويتعامل معها في هذا المجتمع أو ذاك انطلاقًا من هذه مجتمعة. لستُ هنا بصدد اللوم على هذا أو ذاك، فالكلّ معنيون بتخلّف المجتمع أو رقيّه، بتأخرّه أو تقدّمه. وهذه الصفة سلبية كانت أم إيجابية، فهي تعكس صورة المجتمع وفكره وأسلوب حياته.
مظاهر الحواجز العشوائية
اليوم، كلّما وقع بصري على حواجز من أيّ شكلّ كانت وفي أيّ موقع، فهي تعيد لذاكرتي آلامَ مراحل شاقة متعددة في تاريخ بلدي الجريح، وهي تقلبُ عليّ وعلى سواي المواجعَ وتُذكّر بخيبة مستديمة بعدم إمكانية رؤية الضوء الساطع على المدى القصر والمتوسط في نفق الظلام المستديم الذي يعيشه عموم الشعب العراقي. أينما تسير راكبًا أو راجلاً في الشارع والحيّ ومداخل المدن ومخارجها، تتراقص أمام الأعين مثل هذه الحواجز بأشكالها المتعددة والغريبة في عادة الأحيان. فمنها الكتل الكونكريتية التي ماتزال بقاياها ماثلة بالرغم من جهود جهاتٍ حريصة للتخلّص منها في الحملة الأخيرة التي نأمل استكمال رفع وإزالة ما تبقى من مناظرها المقرفة كي تعود نظارة المدن إلى واجهاتها الأصلية الجميلة. أمّا الطامة الكبرى، فهي الحواجز والمطبّات الاصطناعية العشوائية غير النظامية الكثيرة بشكل خرسانة أو فواصل بلاستيكية أو اسطوانات وأواني فارغة أو جذوع الأشجار أو سياجات غير نظامية تراها متراكمة أو مصفوفة على امتداد الشوارع والمحلات والبنايات وفي أحياء المدن، ومنها العاصمة بغداد تحديدًا. فعتبي على الجهات المعنية في أمانة بغداد ودوائرها البلدية وكذا مديريات البلديات في المدن الأخرى، وهي تتعايش مع مثل هذه المظاهر المتخلفة التي أصبحت ظاهرة منتشرة أمام هذه المواقع بصورتها غير الحضارية. فنحن ندرك أن لجوء المواطن إلى استخدام مقتربات الأرصفة وجوانب الشوارع لاستغلالها لفترة من الزمن بركن مركبته مثلاً من أجل قضاء حاجة أو تمشية معاملة في دائرة أو مؤسسة أو محلّ قريب، سببُه يعود لعدم توفر مثل هذه الخدمة الضرورية. ولو توفرت حقًا مواقع لركن السيارات أو كراجات آمنة عامة، لما لجأتُ أنا وغيري من المواطنين لركن سياراتنا في غير المواقع المتاحة.

هل من حلول لمشكلة مواقف السيارات
إنَ من مسؤولية أمانة بغداد ودوائرها البلدية المنتشرة في العاصمة، وكذا دوائر البلديات في المحافظات كافة وإدارات هذه الأخيرة، أن تجد حلولاً شافية لهذه المعضلة المتفاقمة. أمس اضطررتُ لزيارة منطقة الحارثية في الكرخ، وليتني ما فعلتُ! فقد استغرق منّي وقت كثير للوصول إلى مضيّفي وقبلها لإيجاد مكان لركن سيارتي. ومثلها شوارع المنصور والربيعي والكرادة وبغداد الجديدة والأعظمية والشورجة والرشيد وباب المعظم وغيرها ممّا لا أذكر، وهي تعاني من ذات مشكلة الازدحام المروري ومن غياب لمواقف سيارات رصينة. فقد سمح نفرٌ من ضعاف النفوس ومن الشقاوات لأنفسهم بتملّك شوارع واستغلالها لصالحهم لتدرّ عليهم أجورًا يتقاضونها من جراء ركن السيارات على جنبات الشوارع بحجة استئجارها ضمنًا من أمانة بغداد أو من دوائر بلدية في المنطقة أو الحيّ أو من جهة أمنية مشرفة على المنطقة. فيما الجهات المعنية، البلدية منها أو في أجهزة الأمن المعنية، متغاضية عن مثل هذه الظاهرة المدانة ولا تحرّك ساكنًا وكأن لسان حالها يقول: هذا لا يعنيني، أو إنّ ما يحصل يجري بالاتفاق بين أطراف لها مصلحتُها المشتركة مع هذا النفر. هذه حالة أخرى من مظاهر التخلف والاستغلال التي أصبحت هي الأخرى ظاهرة سلبية تطبع عددًا من شوارع وأحياء بغداد والمدن الرئيسة.
 هنا لي السؤال: هل تيسرت فرصة لمسؤول في الدولة العراقية أو مسؤول معنّي بأزمة المرور في الشوارع ليس لرصد هذه الظواهر السلبية والمظاهر غير الحضارية الناجمة عن الزحام القاتل والفوضى القائمة يوميًا والصعوبة في الحركة، بل من أجل التفكير بحلول عاجلة وعدم ترك الأمور تعيش واقع حال مرير؟ وكيف للدوائر البلدية أن تجيز بناء عمارات من دون التفكير بفرض إقامة كراجات داخلية في كلّ مشروع للإسكان أو بناية مخصصة للأغراض التجارية، كما هي حال المولات التي أصبحت ظاهرة لا يُعلى عليها في مجال التسوّق، وكأنّ العراقيين لم يعد لهم غير التسوّق الاستهلاكي الذي يفرغ الجيوب ويكسر الخواطر؟
لم تعد الحالة تُطاق، والضرورة تقضي اتخاذ ما يلزم للتخفيف عن كاهل المواطن وإيجاد البدائل التي تتيح لأصحاب المركبات اللجوء لأماكن تتيح لهم ركن سياراتهم في مواقع مخصصة لهذا الغرض. فهذه من صلب اهتمام أمانة بغداد ودوائرها والدوائر البلدية التابعة للمحافظات. ومثل هذه الخطوة يمكن طرحها كمشاريع للاستثمار بعد تحديد المواقع وتخصيص قطع أراضي قريبة من الشوارع والأحياء المكتظة بالمحلات التجارية المتميزة والمولات المتنامية كالأميبا الزحارية. وكفى تدميرًا لمدننا المسكينة وعاصمتنا الجميلة بالبناء العشوائي وغير المنتظم الذي أصبح "واقع حال" للبعض بحجة الاستثمار هنا وهناك. فلو قمنا بجولة في مواقع متميزة من العاصمة بغداد تحديدًا، لوجدنا أنّ العديد من المشاريع الاستثمارية التي مُنحت، كانت غير موفقة في المواقع التي تقوم عليها الآن، سواءً من حيث هندسة البناء التجاري الكيفيّ الذي شوّه الطراز البغدادي أو من حيث الموقع الذي لا يصلح أصلاً لمثل هكذا مشاريع تجارية سواءً بسبب إقامتها وسط أحياء سكنية لها طابعُها السكني المعماري والديمغرافي أو بسبب مزاحمتها لمشاريع مماثلة لا تتحمّل أعباء وخدمات إضافية. عسى أن تحظى هذه المناشدة بشيء من الاهتمام والتفكير العاجل بحلول مقبولة.


171
المنبر العراقي، ضوء أخضر لنظام أفضل
لويس إقليمس
بغداد، في 2 شباط 2019
تواردت ردود أفعال متباينة بعد إعلان أحد أعمدة السياسة المخضرمين في العراق، اياد علاوي، عن تأسيسه لتشكيل سياسيّ جديد تحت مسمّى "المنبر العراقي". 
هناك مَن يقرأ أسطرًا عديدة في هذه الخطوة لاسيّما وأنّ السيد علاّوي سياسي له باعٌ طويل في سياق الأحداث السابقة للغزو الأمريكي-الغربي للبلاد، والراهنة المتقاطعة والمخيبة للآمال. فهو مازال يحتفظ بشيء من اللياقة السياسة في التوجيه والتحدّث والتصريح والتوضيح والتحذير والتهديد من مستقبل قاتم في مناسبات كثيرة ويدعو مثل آخرين ممّن تبقت لديهم ذرّات قليلة من الانتماء الوطني من أجل استعادة العراق دورَه في الحاضنة العربية والإقليمية والدولية على السواء. قد لا يظهر للبيان ما تعنيه مثل هذه الخطوة الجديدة أو المبادرة بالأحرى من حيث أهميتها وفاعليتها في هذا الوقت بالذات، إلاّ أنّها بالتأكيد لم تأْتِ مِن فراغ، كما أنه بحسب اعتقادي لا يقصد إلقاءَها على عواهنها من دون تمحيص وتفكير وحيازة مسبقة لما تحتاجه من ضوء أخضر من جهة أو جهات متنفذة أو راعية للعملية السياسية أو حتى وطنية فاعلة أو غائبة عن المشهد السياسي المضطرب منذ أكثر من ستة عشر عامًا.
سوف لن أسمح لنفسي بالخوض في مفردات الأسس أو المبادئ أو الخطوط العريضة التفصيلية لهذا التشكيل. ولكنّي مقتنع كل القناعة بأنّ من شأن هذه الخطوة أن تكون خيطًا آخر من خيوط الرغبة بمغادرة المنهج السيّء والسياق الفاشل للنظام السياسي السائد الذي تشكّل بعد سقوط رجل الدولة القوي الذي حكم بالحديد والنار وأذاق الجميع المرّ والعلقم، بالطريقة الدرامية التي حصلت. ولولا قناعة مؤسس هذا التشكيل الجديد ومَن معه من مريدي السلطة ومن الوطنيين وكذا من الناقمين على النظام المحاصصي القائم حاليًا، لما جاء به لطرحه في خضمّ الأحداث المتشابكة والمؤتمرات المنعقدة لناشطين وساسة ومسؤولين سابقين في الدولة ووسط زحمة وسائل التواصل الاجتماعي المتفاعلة مع رغبات وتطلعات الشارع بتغيير مرتقب في النظام السياسيّ القائم. فهو من حيث الحدث والواقع، إلى جانب انتقاداته اللاّذعة أحيانًا للعملية السياسية وبما أوتي به من قوّة وفاعلية وتأثير، مازال شريكًا أساسيًا في العملية السياسية على مرّ الحكومات المتعاقبة. كما أنه تقلّد مراكز متقدمة في شبه الدولة العراقية منذ السقوط في 2003، ما يمكن أن يمنحه الريادة في توجيه المسار المرتقب نحو شيء من برّ الأمان، هذا إنْ كُتب له النجاح.
إذن، ما العبرة من التشكيل السياسي الجديد الذي يقطع طريق الانتماء إليه أمام كلّ متحزّب أو متذرّع بحزب أو كتلة حين تأكيده على المشاركة الشخصية الوجدانية والوطنية بعيدًا عن سطوة الأحزاب لاسيّما الدينية منها العاملة على الساحة والشريكة بالغرف من المكاسب واقتناص المناصب أو مِن تلك المتشدقة بأهداب الطائفية والمذهبية التي لم تغادرها في حقيقة الأمر بالرغم من التصريح بهذه في وسائل الإعلام وفي اللقاءات والحوارات والمؤتمرات؟ سؤال محيّر وبسيط في آنٍ معًا. إنّ الشعور بالحاجة لتفعيل النظام السياسي وتحريك المياه بهدف خبط هذه الأخيرة لترقّب شيء قادم جديد، ربما هو المقصود من هذه الخطوة الغريبة بعض الشيء، والتي قد تمهّد لمعادلة جديدة في مراكز القوى التي استقطبتها أجندات الإسلام السياسي طيلة السنوات المنصرمة، باستثناء أحزاب قليلة ادّعت الوطنية، ومنها حزب علاّوي نفسه، وأخرى قومية أو غيرها ممّن تعود لمكوّنات لا حول لها ولا قوّة.
لا غرابة، أنّ فئة من السياسيين المعتدلين على قلّتهم، ومَن يقتفي أثرهم من الناشطين والباحثين عن بهرجة السلطة والجاه والمال ومعهم مثقفون حائرون بأمر الدنيا وغرائب الأعمال والسلوكيات التي لا تمتّ للسياسة الصادقة بصلة، متفقون في الرؤية والتحليل والإرادة على وجود ثغرات في النظام السياسيّ القائم الذي يدير البلاد والعباد بأسلوب التوافق الخائب والنهج الطائفي الفاشل، تمامًا كما يضمرون خيبة أمل ويتخوفون من القادم الأسود. فالبيئة السياسية ليس في العراق وحده فحسب، بل في المنطقة كلها تطفو اليوم على صفيح ساخن بعد أن أصبحت حاضنة جيدة للانقسام السياسيّ وتقاطع المصالح ومرتعًا لمشاريع الطائفية والمذهبية الدينية ومنهج التهميش والإقصاء الذي يديرُه مثلّث السلطة منذ 2003. لذا ليس مستغربًا أن نسمع صوت علاّوي صادحًا ومغرّدًا مع أصوات الشارع ومترافقًا مع نغمات المتظاهرين وصيحات المطالبين بالإصلاح والتغيير في ساحات الجمعة في بغداد والمحافظات المنتفضة منذ سنين ولا مِن سامعٍ صادق ولا مِن مجيب حقيقي. وإذا كان السيد علاّوي يدعو لنقاهة النظام السياسيّ القائم ويحذّر من داعش جديد مرتقب ويحرّض للوقوف بقوّة بوجه المشاريع الطائفية التي حوّلت البلاد وأهلَها إلى تابع خانع لا يتحرّك إلاّ باستشارة الأسياد وبإذنٍ من جهات متنفذة فيها، فذلك لشعوره ربّما بقتامة المرحلة المقبلة على البلد وأهلِه وبغية استباق الأحداث والاستعداد لها مخافة أن "يقع الفأس على الرأس" كما يُقال.
لقد تأكد من خبرات متراكمة لسنين متتالية، بأنّ المتنفذين في أعلى هرم الدولة، ونقصدُ بذلك أحزاب وكتل المثلّث الحاكم المتمثل بشيعة العراق وسنّته وكرده المتقاسمين السلطة والمال والجاه والمتمتعين الأكثر بكعكته التي درّت ذهبًا وعقارات ودولارات لم يكن أغلبُهم يحلمون بفتاتها يومًا، يضعون اليوم مصالحهم الحزبية والقومية والشخصية قبل مصلحة البلاد. فحينما قربت الانتخابات تزايدت التصريحات وكثرت اللقاءات وتشعبت الدعايات واحتلّت الكتابات صفحات الجرائد ووسائل التواصل الاجتماعي والتغريدات فيها. وكلّ هذه كانت تنتقد النظام السياسيّ الذي فرضه الغازي الأمريكي وفق مقاسات الشركاء اللاّهثين وراء السلطة والمال بأيّ ثمن. بل والأكثر من هذا وذاك، أنّ هذه الأحزاب التي انتهجت بمعظمها الإسلام السياسيّ منهجًا للوصول إلى غاياتها وأطماعها وتراقصت مع الأحداث على أنغام الوتر القوميّ والعائلي والعشائري في المناسبات والأدبيات، قد وأدت اية فرصة لانتصاح الواعز الوطنيّ وبروزه طالما هي باقية في السلطة. وهكذا بدا الشعب والبلد معًا رهائن بأيدي ساسة الصدفة ولاسيّما مزدوجي الجنسية والأغراب والدخلاء عليه وعلى العملية السياسية ككلّ. فقد غدا الجميع ومعه مؤسسات الدولة بلا استثناء، شئنا أم أبينا، توابع لهذه الأحزاب وأجنداتها ومخططاتها من دون أن يُترك بصيص أمل للتخلّص من الهوّة السحيقة التي وقع فيها العراق وأهلُه. حتى الإعلام الرسميّ والخاص ووسائلُهما المتعددة أصبحت تخضع لأجندات بعض الأحزاب المتنفذة وتُسيَّر وفق استثماراتها السياسية والاقتصادية والمالية عبر مكاتب اقتصادية تتحرّك كالبيادق وكخلايا نمل تحفر ما شاءت وتأكل ما تشاء ممّا فوق وتحت الأرض.
يقينًا، إن المنبر العراقي، لو كُتب له النجاح وتحلّق حوله الشرفاء من المواطنين الغيارى ومن الوطنيين الأصحاء في الفكر والتوجّه والمبادئ المستندة إلى الديمقراطية والحرية والإنسانية، سيُكتب له حظٌّ وافر للبدء بتصحيح النظام السياسيّ القائم على التوافق والمحاصصة وتقاسم السلطة بهذه الطريقة المقيتة أولاً، ومن ثمّ البحث عن مخارج عملية وحقيقية للتخلّص من آفة الفساد المستشرية كالأميبا ثانيًا، وفرز الدخلاء والأغراب على مسار العملية السياسية والغازين مؤسسات الدولة والمقتحمين مفاصل السلطة من صغيرها إلى كبيرها ثالثًا. ولو تحققت هذه أو أجزاءٌ كثيرة منها، حينئذٍ سنجد البلد في طريقه إلى التعافي وقد تنفسَ شعبُه الصعداء بعد محنته الطويلة بسبب اختراق منظومته الوطنية، وأنّ مشاكله في طريقها إلى الحلّ بعودة حثيثة إلى دولة المؤسسات التي تضمن العدالة والمساواة وحق الجميع في الثروة والسلطة وفي حرية التعبير والفكر والدّين من دون تمييز ولا تأثير ولا تهديد ولا محاباة ولا استفزاز في الشارع والساحات العامة ولا مبالغة في الشعائر الخاصة أو المغالاة في هذه جميعًا. فالغيرة العراقية مشهودٌ لها حين تُنتخى وتُرفع الراية شرفًا وعزّا وبهاءً وفخرًا.

172

حين يتحول الفساد إلى ثقافة مجتمع
لويس إقليمس
بغداد، في 25 شباط 2019
ربما لا يوجد بلد عربي أو شرق أوسطي بلغ فيه الفساد ما وصل إليه العراق بعد 2003. فقد انتشرت فيه كلّ أصناف الفساد الإداري والمالي والمجتمعي والأخلاقي والاقتصادي. وبعبارة أدق، فسد فيه الملح ولم يعد صالحًا لإعطاء نكهة الطعام الذي تعوّد المواطن تناوله في بلد الخيرات والأمجاد التي نخشى عدم عودتها، في الأقلّ لما تبقى لنا في هذه الفانية من أعمار هي في قدرة وإرادة السماء.
أوساط كثيرة، سياسية واجتماعية وثقافية وكتّاب جريؤون تحدثوا ومازالوا يشيرون إلى محنة العراقيين التي أصبحت ظاهرة مستعصية وغير قابلة العلاج بسبب ابتلائهم بآفة الفساد من كل هذ الأصناف التي أتينا لذكرها. وربما هناك أنواع من فساد آخر غير ظاهر، قد يبدو خافيًا على أمثالي ومَن بقي في جعبته وروحه وفكره شيءٌ من الماضي الزاهي بشتى تقاليد وأخلاق الأمس وأيام زمان اضطررنا للتحسّر عليها والتأسّف على ما جرى وما يجري.
هذه الظاهرة الخبيثة التي استعصت كسمكة التونة العنيدة على المصلحين في المجتمع من رواد الكلمة ورجالات دين وباحثين اجتماعيين ومَن في حاشيتهم من منظمات وجمعيات لا تبخل في التوجيه والنصح، قد واجهها ربابنة السياسة وأركانُها ممَّن جاء في السلطة بعد الغزو الأمريكي السافر، بشيء من الاستهتار بالمصلحة العليا للوطن وأهله من البسطاء الذين لم يتعلموا الدرس بعد ومازالوا واجمين في غيّهم وغبائهم وعنادهم بمنح الثقة بساسة الصدفة الذين خذلوهم مرة وثانية وثالثة ورابعة. أليس من المؤسف حقًا أن يعيد الشعب المغلوب ذات الخطأ الفادح في إعادة تدوير ذات الوجوه أو مَن على شاكلتهم من سرّاق ثرواتهم ومستقبل أجيالهم القادمة في عزّ الليل ووضح النهار، وهم غافلون بين الصحوة والنوم؟ شعب بائس في عمومه، إلاّ القلّة المتمسكة بأهداب الوطنية وبقايا الضمير وتقاليد المدنية التي تأبى الذلّ والمهانة. كلّ ما نستطيع قوله إنه في معظمه، قد فقد النخوة والشجاعة وسمة الانتماء الرصين للوطن ومستقبله ومال إلى معسكر الكسالى والصيد السهل باللحاق بأذناب ساسة الخذلان والخمط والنهب وانتظار الفرهود. شعبٌ فقد الغيرة ولم يعد يعي ما يعيد تكراره في كلّ مهرجان انتخابيّ فاشلٍ يشهد تزويرًا وتضليلاً ونفاقًا وقفزًا على حقائق صناديق الاقتراع بوسائل وطرق شتى. ونحن المساكين أصحاب الكلمة، ليس لنا سوى اقتحام هذا الصخب والدخول في هذه الجلبة اضطرارًا أم حرصًا. ففي كلّ مرّة نعيد ذات الانتقادات وذات التنبيهات وذات الاتهامات، مقابل آذانٍ صمّ لا تسمع، وعيون عمياء لا ترى وأفواه فاغرة تبغي المزيد لتغرف من الريع النفطي ما يتسنى لها ومن باب المدخولات غير الريعية ما تطوله يدها.
نعم، لا يوجد بلدٌ مثل العراق، ميزانيتُه بحجم مجموع ميزانيات عدة بلدان متطورة وكبيرة في المنطقة، تتقاذفها أيادي دخلاء وتتقاسمها إرادات غرباء عنه في التخطيط والإدارة والتنفيذ. ومَن يسعى لتصحيح المسار، يُزاح في غفلة منه وتحت أنظار أسياده، هذا إن كان له أسياد يستحقون السيادة في زمن الغفلة السياسية. فجلّ ما يهمّ هؤلاء الأغراب مقدارُ ما يدخل جيوبهم من رشا ومن كوميسيونات ومن موارد من هذا المشروع أو ذاك ممّا في حوزة أحزابهم وكتلهم السياسية من وزارات وهيئات ودوائر. فهُم قد تعوّدوا مذ ذاك، تقاسم المقسوم من كعكة البلاد حتى لو حصل ذلك على حساب مصلحة الوطن والشعب. كما لا يهمّ الكثير منهم ما آلت إليه أحوال البلاد وتعاسة الشعب من مستويات متقدمة ومخيفة، حتى لو حصلت مفاسد كبيرة تطال التلكّؤ في إكمال هذا المشروع الخدمي الشامل أو ذاك، وما أكثرها منذ أعوام، أو جرى تأخير في تقديم خدمة بلدية أو صحية أو بيئية للترفيه عن المواطن وتحسين حياته وظروفه المعيشية التعسة في العديد من مفاصل الحياة، تمامًا كما حصل مع مشاريع فساد الأبنية المدرسية والوحدات السكنية والعلاجات الصحية والطبية ومشاريع المياه الصالحة للشرب والصرف الصحّي الكذّابة وما سواها ممّا يدخل في خدمة المواطن وتسهيل عيشه. فهذا إنْ يكنْ، فهو من أبسط حقوقه التي يستحقها في حياته الآدمية المهدورة والمهانة والمهمّشة، من دون أن يمنّ بها عليه أربابُ السياسة وزعاماتُ الأحزاب الذين احترفوا الكذب والنفاق والمخادعة وأشكال الفساد بدراية من شعبهم وأتباعهم أو بغيرها.
سؤالٌ مقبول في زمن ضياع التوازنات والموازين: كيف لشعب يهينُه ساستُه ويستغلّه حكّامُه ويضحك على عقله الصغير القابل للمساومة والإقناع بكلمة ماكرة أو بوعد ساذج، أن يتطور وينتقل من جادة التعاسة إلى ناصية المعرفة والمدنية والرفاه والحرية بمفهومها الإنساني والعالمي في زمن العولمة والديمقراطية وحرية الرأي والفكر والتعبير والدين؟  أهو الخوف أو الستر على المال والعرض أم الّلامبالاة أم السير مع القافلة عملاً بالمثل البغدادي "المفلس بالقافلة أمين"؟ فيما الدلائل تشير أن هذا الأخير لم يعد هو الآخر أمينًا في قافلة العراق الذي تحكمه التوافقات فوق الدستور، والمساومات خارج القانون، وبيع المناصب بعيدًا عن الأخلاقيات.
بعد أكثر من ستة عشر عامًا من الإطاحة بالنظام البائد السابق، تراجع تصنيفُ العراق، وطنًا وشعبًا، في كل مفاصل الحياة، العلمية منها والتربوية والصحية والخدمية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والاقتصادية، إلاّ في آفة الفساد وزيادة المخدرات وبروز المنهج الطائفي وتراكم الديون والتشدّد في وضع الحجاب والاستزادة من المواكب الحسينية والترويج لها وصرف مبالغ طائلة لإحيائها استفزازًا للشارع الصاغر، وفي الإغارة على مستوردي الخمور وبائعيها وتعدّد مراكز التدليك والمساج التي تشكل بابًا آخر لإجازة بيوت الدعارة. وبشهادة أصحاب الأرض والمربين ورجالات السياسة المعتدلين وما تبقى من الوطنيين الأحرار والدول والمنظمات الدولية والمحلية المعنية، يكون المجتمع العراقي قد انحدر فعلاً إلى الدركات السفلى في سلّم الفساد الإداري والمالي تطبعًا بسلوكيات ساسته من صنف الأغراب في الولائية له ولشعبه. والخطر في كلّ هذا، تحوّلُ هذه الآفة إلى ما يشبه بثقافة عامة في أوساط العامة والخاصة.
لقد دقّت نواقيس الخطر مرارًا وتكرارًا وماتزال معلنة ضرورة القضاء على هذه الظاهرة السلبية المتنامية بسبب استفحالها وما يمكن أن تتركه من آثار سلبية على مسيرة الشعب العراقي ومستقبل البلاد المرهون بإرادات فاسدة تدير دفة الحكم وتتحكم بثرواته وقروضه ومساعداته الخارجية كما تشاء وكما يحلو لها وفق مصالحها ومشاريعها ومناهجها. وهنا لا بدّ من التعريج على آفة قديمة جديدة، أصبحت هي الأخرى ظاهرة كاسحة كالتسونامي في صفوف الشباب خاصة، وهي ظاهرة المتاجرة بالمخدرات، إنتاجًا وتوزيعًا واستهلاكًا واستيرادًا وتصديرًا. فبعد أن كان العراق قبل الغزو ممرّا سرّيًا فقط لمثل هذه التجارة المحرّمة، أصبح في السنين الأخيرة بعد الغزو في 2003، الملاذ الآمن والسوق الرائجة القادمة مع الرياح الصفراء من الحدود الشرقية بصورة رئيسية. ويكاد لا يمرّ يوم من دون أن تتصدى جهات المراقبة لمتورطين في هذه التجارة، بحيث أخذت حيزًا واسعًا من كواليس المحاكم والسجون. ولا أدري ما العبرة من تحريم الخمر وأنواع المشروبات الروحية مقابل خنق الحريات في التعبير والنقد وانتشار الميليشيات المنفلتة والجماعات المسلحة وإجازة فتح مكاتب بيع السلاح بهدف عسكرة المجتمع وتسهيل تجارة المخدرات والترويج لها أحيانًا دعمًا ودفاعًا ومشاركة في إدخالها للبلاد أو التغاضي عن ترويجها واستيرادها وتصديرها تحت أكناف ورعاية جماعات محترفة ليست بعيدة عن جهات سياسية حاكمة، أو في الأقلّ جهات متنفذة في السلطة تتدخل للدفاع عن مرتكبي هذه الجرائم إذا ما تطلّبت الحاجة للإفراج عنهم تحت ضغوط سياسية وحزبية وعشائرية.
جلُّ ما يمكن قوله إنّ البيئة السياسية في العراق لا تبشّر بخير قادم قريب طيلة السنوات الأربع القادمات من فترة الحكومة الحالية. والسبب لا يقبل الجدل، لكون هذه الأخيرة نسخة عن سابقاتها التي حافظت على امتيازات السادة الساسة في الرئاسات الثلاث ومَن في أذيالهم على رأس القائمة أولاً، وعدم قدرتها على الخروج من قوقعة الكتل والأحزاب المتمسكة بالسلطة وبمنهج المحاصصة والتوافق وإدامة زخم الطائفية ثانيًا، وترددها في اتخاذ خطوات إيجابية قوية وصارمة في إصلاح مؤسسات الدولة وتنقيتها من الفساد والمفسدين لأنّ الجميع في مركبها سائرون ثالثًا. وأخيرًا وليس آخرًا، لأنّ الفساد وعقدة النقص والنفاق الديني والسياسي والجوع الدائم المستمكن في النفس والعقل للمزيد من النهب والتملّك وأشكال الطائفية وتهميش الآخر قد أضحت مناهج تدرّ ذهبًا وسلوى وعسلاً لأرباب السياسة والمتعاملين والمتعاونين معهم، ما ينذر بقادم أسوأ. وحين تخرج الهفوة والغلطة والخطيئة عن سيطرة الطبيعة البشرية ويصبح الفساد في المجتمع آفة سرطانية وظاهرة مستعصية، حينئذٍ يخسر دعاة الإصلاح والطيبون الرهانَ ويتحول المجتمع إلى غول سفيه وكاسر بانتظار الفارس المصلح وليس لرحمة السماء.







173
لماذا التغنّي بالوطن؟
لويس إقليمس
بغداد، في 22 شباط 2019
تتلاقى وتتقاطع، بل تتناغم وتختلف موسيقى وألحان مَن ينشد للوطن كلّ وفق رؤيته وسجيته ونيته سواء للتعبير عمّا في خلجات القلب أو للتظاهر والادّعاء بحبّه والتضحية لأجله وبذل الدماء رخيصة حين يقتضي الأمر. فالوطن له دلالاتُه المتعددة لدى الفرد الذي يعيش تحت كنفه ويرتوي من مياهه ويأكل من خيراته ويتقاسم البرد والحر، الخير والشر، الحلو والمرّ، الاندحار والنصر، الفرح والترح، تمامًا كما العروس التي تتعاهد لعريسها بالذوبان في قلبه وروحه وجسده فيكونان جسدًا واحدً.
تعريف الوطن تقليديًا، هو تلك البقعة من أرض الله الواسعة التي تحتضن مجموعة من أفرادٍ على اختلاف مشاربهم ومكوّناتهم وأديانهم ومذاهبهم وأعراقهم ليكوّنوا شكل الخيمة التي تأوي الجميع من دون تمييز ولا تفرقة ولا بخل في خدمة الجميع ومن أجل الجميع. والوطن أشبه بالدجاجة التي تجمع فراخها جميعًا تحت جناحيها العريضين الوارفين الحنونين بعيدًا عن أذى الدخيل والغريب والطامع بهم جميعًا. والوطن الذي يعيش هذا النوع من الحماية العطوفة الشاملة على أساس العدل والمساواة وبأشكال الكرم والخدمات الممتزجة بالاحترام والتقدير لمواطنيه من المتصفين بالجدارة والكفاءة ومن الشاعرين بروح الانتماء الصادق لأرضه وسمائه ومياهه ومن الساهرين على مصالحه وحدوده واستقلاليته، يستحق التبجيل والتضحية والبذل والوفاء في سبيله كي تبقى راياته عالية خفاقة لا يهزّها الأعداء ولا يقهرها الطامعون ولا يغدر بها الفاسدون والدخلاء. 
كلّ مَن تغنّى بالوطن وكتب وأنشد له القصائد نثرًا وشعرًا، يتراءى للسامع والقارئ في جوانح قلبه وفي خلجات روحه وفي بواطن عقله شيءٌ بارزٌ من إحساس غريب تجاهه، أرضًا وشعبًا ومصيرًا، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. فهموم المواطن ومصالحُه، سعادتُه وشقاؤُه، نجاحُه وتراجعُه، هي ذات هموم الوطن حامي الجميع ومعيلهم الكبير والساهر عليهم على غرار الأمّ التي ترافق أولادها بدءًا من البذرة الأولى التي يزرعها شريكها في رحمها لحين ولادتهم ونموهم بالعقل والقامة وبلوغهم كبارًا يعتمدون على أنفسهم. وحتى في كبرهم وبلوغهم، تبقى أعين الأم الحنون تراقب عن كثب سلوك الأبناء وتصرفاتهم وتوجهاتهم من دون أن تتغافل عن احتياجاهم وتوجيههم متى احتاجوا الاستشارة والنصح. هذا هو الوطن الذي يبقى "مزارًا وحصنًا ودارًا لكلّ النعم"، من دون الولوج بالغلوّ في المديح الذي لا خير منه أو الشعور بالرفعة على غيره من الأمم والأوطان. بل هذا هو الوطن الوديع المسالم الطيب الذي يحفظ لأرضه وابنائه كلّ معاني "الجلال والجمال والسناء والبهاء والحياة والنجاة والهناء والرجاء والحب والسلامة والنعمة" في روابيه وسهوله وهضابه وجباله وأنهاره وروافده وترابه ومياهه وسمائه في سمفونية مهذبة وديعة سامية تحترم وتوقر وتهدي وتُوجِّه.
إذا أردنا أن نخدم أوطاننا بصدق، فلا بدّ من الابتعاد عن المزايدات الزائفة بشأن حقيقتها والكفّ عن الادّعاء بعلوّ أوطان أو شعوب أو أمم على غيرها. فلا خير في أمة لا تعرف حدود قدراتها، ولا خير في وطن لا يعرف تقدير أهله، ولا خير في شعوب تدّعي شيئًا أعلى من قدرها وطاقاتها وعلمها. فهذه جميعًا تخضع للنظام الكوني في ظرفها المكاني والزماني على السواء. فالأرض والسماء والكواكب وما فيها وما عليها من بشر وماء وثروة وتراب ودبيب وعناصر كثيرة لا حصر لها هي كلها ملكُ الله الخالق وهي تخضع لذات السلطان الإلهي وتديرها ذات اليد السماوية من بديهية حصولها من الذات الإلهية وعودتها إليه ضمن دورة كونية عجيبة. وحينما تتعاضد الأوطان وتتعاون الأمم وتبتعد عن لغة العربدة والفتنة والتلويح بأداة السلاح والسيف وتتخلى عن روح التعالي والتجافي على الغير، تكون قد استوجبت رضا الخالق واحترمت سيادة الشعوب وعزّزت من حالة السلم داخل بلدانها ومع بعضها البعض وفقًا لقانون السماء وعملاً بشرائع الله السمحة التي لا تجيز للغير بالتجاوز والتهديد والقتل والفساد والإفساد.
هناك حقيقة ينبغي الالتفات إليها، وهي أنّ الوطن يبقى في الصميم وفي أعماق القلب والروح مهما بعدت عنه المسافات وجارت على أبنائه عوادي الزمن في غفلة منه، على قول الشاعر: " بلادي وان جارت علي عزيزة، واهلي وان ضنوا عليّ كرام". وفي رأي البعض أنّ مثل هذا الكلام لم يعد نافعًا في زمن العولمة التي أحالت العالم إلى قرية صغيرة بعد فتح الكثير من الأبواب للعيش في أكناف بلدان احتضنت بشرًا من أعراق وأديان ومذاهب وأوطان ومناطق مختلفة من منطلق إنساني تسامحي بحت. فهذا الفريق يرى أنه بالرغم من تقاطع مثل هذا الكلام مع واقع حال الأوطان المبتلاة اليوم بحيتان الفساد وقيام مكاتب اقتصادية متخصصة بنهب المال العام وانتشار عصابات الإجرام والممنوعات التي تقف وراءها دول وكتل وأحزاب سياسية تحرّكها نوازع دينية ومذهبية وطائفية كما في بلدنا الجريح "العراق"، تبقى مثل هذه الأمنية للكثيرين ممّن غادروا الوطن لأسباب معروفة أو مجهولة في عداد الأسلوب الإنشائي العاطفي الذي لم يعد ينفع بعد اليوم. ولعلّ مثل هذا الرأي السائد حصل بعد انكشاف جزء كبير من المستور المذكور ودراسة واقع الوضع الراهن الذي يسود أسلوب السلطة والتحكم بمقدّرات البلاد من قبل جماعات ومافيات تمرّست العمل. فهذه لا تختلف في أسلوب حكمها عمّا تمارسه عصابات إجرام وقتل وتهديد وسرقة في بلدان ماتزال تسودها الدكتاتوريات والفوضى وعدم الاستقرار وانتشار السلاح بلا رادع ولا رقيب بعد عسكرة المجتمعات. 
إنّ الوطن الحقيقي اليوم، هو الخيمة التي توفر لك الأمن والسلامة وحرية التنقل والفكر والرأي والخدمات الآدمية والإنسانية والرعاية الاجتماعية بما فيها خدمة المرض والدواء والعلاج والشيخوخة ككائن بشري يستحق الرعاية وكإنسان يستحق الاحترام والتقدير لأنّ الله خلقه جميلاً وحسن الصورة على صورته ومثاله. من هذا المنظور الإنساني، ينبغي الانطلاق في معالجة آثار الجروح المثخنة للشعب العراقي الذي تتابعت عليه نكسات الانقلابات والثورات، وبسببها سفكت دماء بريئة وسُحلت أجساد غضة واغتصبت نساء وعذارى وتعرّضت جماعات أصيلة لإبادات جماعية واضطهادات عرقية ودينية وطائفية كي يؤول المصير إلى ما نحن عليه. لذا تبقى مسألة الوطن تتأرجح في مختبرات التقييم الإنساني فريسة للأحداث تنتظر انقشاع الغيمة السوداء وزوال الرياح الصفراء القادمة من خارج الأسوار بسبب عدم أمانة رجال السلطة وغياب الانتماء الصادق للوطن وارتقاء الدخلاء والأغراب عنه على رأس السلطة. فأمثال هؤلاء لم ولن يكونوا حريصين على الوطن وأهله مادامت نوازع الفساد والطائفية والانتقام مستشرية في عروقهم وتسير في دمائهم الملوثة. ولن يكون للعراق من قومة صحيحة إلاّ باستئصال شأفتهم ووضع حدود لجبروتهم وتسلّطهم العنجهيّ ومعالجة الفساد الإداري والمالي والاجتماعي والتربوي والأخلاقي في كلّ مفاصل الحياة. حينئذٍ فقط، سنقول عاد العراق معافى إلى حظيرة الإنسانية وخيمة البشرية وشيء من الحضارة التاريخية.
 


174
المنبر الحر / أوربا في خطر
« في: 19:34 26/02/2019  »
أوربا في خطر
لويس إقليمس
بغداد، في 18 كانون ثاني 2019
تداعيات خطيرة في انتظار أوربا بعد الشرخ الكبير الذي سيحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي سواء حصل ذلك بصورة منظمة أم بغيرها. ومن شأن هذا الشقّ أن يُضاف إلى سلسلة أزمات قائمة، سواءً تلك التي تعود لموضوعة تنامي أنشطة الإرهاب وعدم وجود سلطة فاعلة أو إرادة قوية لاستئصال أدواته وشخوصه أو تلك المتمثلة بالاحتجاجات الأخيرة التي قد تؤطّر الخارطة المستقبلية للقارة بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية لفئات عديدة، ناهيك عن الامتعاض الشعبي من تزايد قوانين فرض الضرائب وتحميل المواطن أوزار القادمين الجدد من خلف الأسوار.
إنّ ما حصل منذ سنوات فيما يتعلق بتزايد الأنشطة الإرهابية التي أخذت أشكالاً متنوعة بحسب تورط الجهات التي تخطط لها أو تدعمها أو تقف على الحياد منها ومن نتائجها، قد يسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بقصم ظهر هذه القارة التي ما يزال السياسيون فيها وبعض زعمائها لا يقتنعون أو لا يريدون تصديق أنَّ ما يحصل يقع فعلاً ضمن مخططات استراتيجية تتولاها جهات مسلحة بأيديولوجية لا يخشى أصحابُها ومؤيدوها الإفصاح عنها وعن أهدافها بمناسبة ومن دون مناسبة. فالهدف واضح بجلاء ماء الخلجان، وهو غزو هذه القارة "العجوز" بجماعات تحمل أفكارًا متطرفة أو تتعاطف مع مروجيها بهدف اختراق المجتمع الأوربي المحسوب على المسيحية ظلمًا. ولعلّ هذا السبب إلى جانب تصدير الديمقراطية والحرية التي يُتهم بها الغرب بنقلها إلى مجتمعات وأمم لا تتقبل تقاليدها وموروثاتُها هذه الأفكار المتقدمة وأيّ اختلاف أو تعددية مهما كان نوعها، تشكل في حدّ ذاتها تبريرات وافية للتغلغلَ في أروقة السلطة ليس في أوربا وحدها بل في دول الغرب عامة وبأي ثمن سعيًا وراء تغيير الأنظمة السياسية فيها شيئًا فشيئًا.
في حقيقة الأمر، تشكل الهجرة المنظمة وحالات اللجوء المتزايدة مؤخرًا والتي يُرتجى منها السعي لتشكيل الأغلبية في دول الاتحاد في قادم السنوات عبر تكثير النسل والتزاوج من نسائها الشقراوات سعيًا وراء غزوها بشريًا في مرحلة لاحقة، تشكل هذه الحقيقة واحدة من أهمّ التحديات التي ستقلب الموازين البشرية فيها. فقد تمّ تأشير مثل هذه المخاوف الخطيرة من قبل منظمات وأحزاب شعبوية ويمينية ومن السكان الأصليين أيضًا الذين تزداد مخاوفُهم من احتمال تناقصهم على حساب الإقرار بمشروعية الهجرة إلى بلدانهم. كما كان لتساهل زعامات بعض دول الاتحاد الأوربي في السنوات الأخيرة وانصياعها لدعوات فتح الحدود على مصاريعها للاجئين والهاربين من بلدان لا تحترم مواطنيها ولا تعترف بالديمقراطية والحرية، كان لها آثارُها الأولية على مسار الشعوب الأصيلة فيها من حيث امتعاض الكثيرين ممّا يحصل من تغيير ديمغرافي قاتل، ليس لشيء بل بسبب عدم جهوزية القادمين الجدد لتقبل فكرة الاندماج وترك أدران ماضي الدول التي لفظتهم ولم تقدم لهم حاجتهم الآدمية ولا ما يستحقونه من احترام وكرامة في بلدانهم الأصلية. فقد رأى البعض من الساسة المتحفظين في أوربا، أنّ طلبات اللجوء الحاصلة باتجاه بلدانهم قد أخذت مسارات أخرى من أجل تحقيق غايات الغزو القادم إليها بسبب تقادم أصحاب القارة في العمر وعجزهم عن تلبية حاجات بلدانهم بأجيالٍ متجددة من البشر لتحقيق التوازن في المجتمع بسبب أنانيتهم المبالغ فيها. وفي ذات السياق، جاء تصريح المستشارة الألمانية الخارجة عن السلطة قريبًا، ضمن هذا المبرّر لتعويض بلدها بطاقات بشرية جديدة وإضافية من أجل تشغيل الماكنة الصناعية وتعويض النقص الحاصل في اليد العاملة. فقد رأت في القادمين الجدد أيادٍ بشرية متجددة من شأنها أن تضيف زخمًا صناعيًا وعلميًا واقتصاديًا لبلادها عبر اندماج القادمين الجدد. لن ندخل في مدى مطابقة مثل هذه الرؤى مع الأهداف المكشوفة أو المخفية، لأنّ صحة شعوب هذه البلدان تبقى أمانة في أعناق زعمائها من حكام وساسة وأحزاب عاملة على الساحة. والمستقبل هو الحاكم في تقرير الإيجابيات والسلبيات. لكن التحذير يبقى من الموجبات!
في شأن آخر، هناك مَن يرى أن الإصلاحات الترقيعية ولاسيّما الاقتصادية منها لبعض بلدان الاتحاد الأوربي لن تجدي نفعًا، سيّما وأنّ المنافسة التجارية قد زادت حدتُها ليس بين بلدان القارة فحسب، بل مقارنة مع دول العالم مجتمعة ولا سيّما الدب الروسي والغول الأمريكي والثور الصيني، مع عدم نسياننا تنامي صناعات دول أخرى وتعافي اقتصاداتها لحدّ التخمة كتركيا واليابان والهند وتأثير دول شرق آسيا ومنطقة الشرق الأوسط مثل السعودية ومصر. لذا من الممكن جدًا أن تساهم التغييرات الحالية والعتيدة ضمن الطواقم الحاكمة في بعض بلدان أوربا في زيادة المخاوف والقلق داخل العائلة الأوربية. فما شهدته إيطاليا مثلاً في منتصف العام المنصرم 2018 من توافق تحالفي لأصحاب مشروع الإصلاح الحكومي المناهض للنظام الذي رًصد له مبلغ 100 مليار يورو، قد زاد في وقتها من القلق حيال مستقبل السياسة العامة للقارة بسبب ما قد يشكله مثل هذا الإصلاح المخالف للاتفاق ضمن دول الاتحاد من تحدّ لاقتصادات باقي دول القارة في مجال تخفيض الضرائب وتقليل سنّ التقاعد والضمان الصحي والتربية وأصحاب الإعاقات البشرية وتحديد المدخولات الدنيا للمواطن الإيطالي بمقدار 780 يورو شهريًا. وهذا المشروع في حالة تطبيقه يُعدّ مخالفة لتوجهات باقي دول الاتحاد الأوربي مجتمعةً نتيجة لغياب التمويل فيه وانتهاكه لقواعد ميزانية الاتحاد. هذا إضافة إلى ملاحظات هامة تجاه الجيل الجديد من الساسة الأوربيين ممّن يسعون لاستعادة زمن الفاشية بالاستشهاد بأفعال قادتها السابقين الذين أستنكرهم التاريخ والإنسانية سواءً بسواء. وقس عليه ما طالَ دولاً غيرها مثل اليونان والمجر والنمسا وبولندا في السنة ذاتها. وكلّها تشهد للخلاف القائم بين دول القارة المتهالكة حيال نظام الاتحاد والقواعد المتفق عليها، ما ينذر باعتراضات لاحقة قادمة أخرى في دول غيرها بخصوص المعايير المتفق عليها في مجال الخلاف حول مواضع مثل الهوية الأوربية ومسارات الهجرة الشرعية وغير الشرعية ومشاكل الاندماج وما سواها ممّا خفي. وليس من شك في أنّ مثل هذه المشاكسات والمنغصات ستخلق صداعًا لبعض دول أوربا الرئيسية وبالذات لزعامات الدول الكبيرة ممّن يعلّقون آمالاً على بقاء قوّة الاتحاد وثبات قدرة عملتها الموحدة وصيانة أهدافها الضامنة للحريات العامة والخاصة وتعزيز الديمقراطية المعهودة لديها.
إنّ تنامي الفكر اليمينيّ الشعوبيّ المتطرّف بسرعة في صفوف بلدان الاتحاد الأوربي وصعود سياسيين من أصحاب الدعوات القومية المعادية للأجانب إلى السلطة أو من مؤيديها، له بطبيعة الحال أسبابُه وحيثياتُه، كما سيكون له تأثيره على تسيير وتطبيق سياسة دول الاتحاد وما قد يصحب ذلك من قلق مشروع حيالَ مستقبلها السياسي والمالي والأمني والاقتصادي معًا.  وقد يساهم هذا الفكر جزئيًا في تدمير مشروع الاتحاد الذي ظلّ منذ إنشائه بعد أهوال الحرب العالمية الثانية، عاملاً أساسيًا لحفظ الأمن والسلام ووحدة الصف، بل والملاذ الآمن لسيادة القانون وحفظ النظام والازدهار المجتمعي وكرامة الإنسان في ممارسة الديمقراطية والحرية بأقصى تجلياتها. في حين أنّ أي انزلاق بالخروج عن الاجماع العام سوف تكون له آثارُه التدميرية على مستقبل شعوب القارة وأراضيها فيما لو فقدت تماسكَها المهدَّد بسبب الاختلاف في وجهات النظر السياسية والحياتية والأمنية والدفاعية والاقتصادية معًا.
ما يمكن قوله اليوم، إنه في ظل الظروف الدولية الراهنة ونتيجة لتصاعد أوجه الاختلاف في طريقة معالجة مشاكل القارّة عبر التفاهم والحوار والركون للاتزان كما كانت اعتادت، يسود اعتقاد مصحوب بشكوك مقبولة بذهاب بعض دول المجموعة الأوربية باتجاه الانعزالية والانفرادية في اتخاذ قرارات خاصة بكلّ بلد بحجة الحفاظ على خصوصيات كلّ دولة وضمان حقوق مواطنيها. وستكون الانتخابات القادمة المقررة للبرلمان الأوربي في أيار القادم من هذا العام هي المحك لإيجاد حلول لجميع هذه الإرهاصات والتجاذبات، أو ببساطة قد تكون مناسبة لوضع خارطة طريق جديدة متفق عليها إجماعًا. وفي كلّ الأحوال وكما يبدو من المشهد القائم، سيحصل كلّ هذا وسط الكثير من التخوفات والتحذيرات إزاء محاولة البعض خلق مناخ من الخوف والفوبيا ليس تجاه الأجانب القادمين من خلف الحدود فحسب، بل أيضًا ما بين دول الاتحاد ذاتها وبين شعوبها المختلفة في الرأي والرؤية حول صيانة وجه أوربا وتاريخها وحضارتها. فهل ستنغلق دول أوربا على ذاتها ثانية ويتفتّت اتحادها بعد أن شهدت دولُه أروع انفتاح في الأرض والعقل والرسالة الإنسانية؟ أم ستخرج متعافية وتعيد حساباتها وتراجع مسيرتها في كافة شؤون الحياة، ومنها مصالح دول منطقتها المهددة بالانسلاخ والتشرذم؟


175
القطاع الخاص نافذة معطلة ومجهولة الهوية
لويس إقليمس
بغداد، في 14 شباط 2019
منذ أن دخل العراق في نفق الحروب المهلكة في بداية الثمانينات حصرًا، وصولاً إلى احتلاله الغاشم في 2003، وهو يتراجع في سلسلة مراتبه العالمية في كلّ شيء، بما في ذلك خسارتُه لهويته العربية وتبعيته للجارة إيران، ما أفقده بريقه الحضاري والاجتماعي والأخلاقي والخدمي إلى جانب تخلّفه التربوي والعلمي اللذين يُعدّان عماد البناء البشري والوطني لأية دولة أو أمة سوية. وقد استكمل هذا التراجع بوضع العقبات المتواصلة والمتعمدة في أكثرها أمام الصناعة الوطنية والمحلية بقطاعيها العام والخاص. ففي الوقت الذي تُرك فيه القطاع العام أسيرًا لمصالح الصراع السياسي المحاصصي من دون أن تمتد إليه يدُ الإدامة والتأهيل لأسباب لم تعد مجهولة، فقد جرى خنق طموحات أرباب العمل في القطاع الخاص إلى جهة محاصرتهم ومحاربتهم بحجة استسهال الاستهلاك للبضاعة الأجنبية عملاً بمقولة "مغنّي الحي لا يُطرب". فكلّ ما يأتي من الخارج حسن ولا أفضل منه مقارنة مع المحلّي الصنع بحسب قادة النظام الجديد للتجارة مع بلدان الخارج. وهكذا تراجعت الصناعة العراقية واهتزّ المنتج الوطني والمحلي بعد أن أصبح لا ينافس الأجنبي بسبب غزارة الأخير ورخصه حتى لو كان خارج نطاق الجودة والصلاحية.
غداة توقيع الاتفاقية التجارية والضرائبية بين العراق والأردن، قامت الدنيا ولم تقعد من جانب نفر رأى فيها انتقاصًا وإساءة للمنتج الوطني والمحلّي. وعلى الرغم من الثغرات العديدة التي وردت في هذه الاتفاقية بخصوص موضوع الحمائية المطلوبة تجاه المنتج المحلّي، إلاّ أنّ البعض الآخر رأى فيها معادلة مطلوبة في هذا الظرف الحالي نتيجة الإخفاقات في تحقيق منتج محلّي ووطنيّ يتمتع بالجودة والمنافسة. وكان ينبغي عدم التغافل أيضًا، بكون العديد من مفردات البضاعة القادمة من الجارة الأردن، يحققها أرباب عمل عراقيون اضطرّتهم ظروف التغيير والتهديد والمحاربة على الرزق والحياة لإقامة أنشطتهم الصناعية والإنتاجية في هذا البلد الآمن الذي استغلّ هذه الطاقات لتنميته ونماء سكانه والقادمين إليه لجوءً واستثمارًا.
    في ظلّ هذه الفوضى غير المقبولة والملامة ليس من القطاع الخاص فحسب بل من كل مواطن عراقي حريص على سمعة بلاده ورفعتها وتقدمها، لا بدّ من وقفة حازمة وصادقة لإعادة الحياة إلى هذا القطاع وأخذ دوره في العملية الصناعية والإنتاجية. إذ لا ينبغي الانتظار متى تأتيه الفرصة واستمرار التحكم بقراره أو بالأحرى بالسماح له بأخذ دوره الريادي في العملية الإنتاجية الوطنية وإسدال الستار على تغييبه قسرًا وظلمًا من قبل الدخلاء والأغراب على البلاد وعلى سياساته الاقتصادية والصناعية والإنتاجية. هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يجمع عليه عمومُ رجال الأعمال من أصحاب المشاريع والمعامل والمصانع شبه المتوقفة في الماكنة الصناعية والإنتاجية منذ حقبة الحصار الغاشم وعلى زمن الاحتلال في 2003 ولغاية الساعة لطرحه على أنفسهم أولاً وعلى المعنيين في الحكومات العراقية المتعاقبة، وبالذات في حكومة رئيس الوزراء الحالي عبد المهدي لكونه رجلاً اقتصاديًا. فممّا لا شكّ فيه أنَّ معظم النخب الصناعية التي خبرت دوران الحركة الإنتاجية وأهميتها في إدارة اقتصاد البلاد ما تزال تحلم بعودة الماكنة الصناعية والإنتاجية إلى عهدها السابق مستفيدة من خبرات وإبداعات السنوات المتراكمة التي شهدت لجودة المنتج الوطني والمحلّي على السواء حيث كان التنافس على أشدّه لتقديم الأفضل والذي كان يعدّ مفخرة للسوق العراقية المحلية بل ويتفوق على مثيله الأجنبي في الاستهلاك والتصدير.
قبل كلّ شيء وقبل التعريج على هوية القطاع الخاص والموقف الصعب الذي يقع فيه منذ أكثر من خمسة عشر عامًا وعقب سنوات مريرة من الحصار امتدت سحابة حقبة التسعينات من القرن الماضي، يقتضي من أصحاب الشأن الحقيقيين أن يرفعوا أصواتهم عاليًا من دون مجاملة لأحد أو لجهة نافذة في دهاليز الدولة التي غزتها رؤوس ماكرة ومتمرّسة بالكذب والنفاق حين التطرّق إلى شأن القطاع الخاص وهمومه وتطلعاته. فالحقوق لم تتحصل يومًا على طبق من ذهب ولم تُمنح مجانًا ومن دون شقّ الأنفس وبالجهود المضنية والمثابرة للوصول إلى الهدف الشريف وهو إعادة ما دُمّر في بناء الدولة من بشر وحجر. لقد طال التدمير كلّ مفاصل الحياة العراقية منذ السقوط الدراماتيكي بحجة القضاء على نظام دكتاتوري وتخليص البلاد والعباد من سوء حكم رأس النظام البائد وأعوانه التي لا نشكّ بوجود ثغرات كبيرة في سلوكياته وإدارته. لكنّ من المؤسف أن واقع الحال بعد التغيير قد كشف زيف كل تلك التبريرات وبشهادة الغازي الأمريكي وأتباعه من الخانعين لأجنداته ومصالحه القومية الخاصة التي تناغمت مع مصالح وأطماع مَن سال لعابُه لحكم السلطة وما فيها من مالٍ وجاه وامتيازات وفرهود وخمط ونهب على حساب الشعب الصاغر الخانع المقهور ظلمًا وتعسّفًا.
أمام هذه الحال المزرية التي أفقدت البلاد زهو نسيجها الاجتماعي وأوقفت ماكنتها الصناعية والإنتاجية التي كان الأهلون في الداخل والأصدقاء في الخارج يتغنون بها ويعدّونها مفخرة ليس للوطن فحسب بل لدول الجوار وللمنطقة بأسرها، لا بدّ من مراجعة جادة للقوانين وتكثيف الجهود لتأخذ الأمور مسارها الصحيح، ليس بالعاطفة والتهور والمقاطعة غير المجدية، بل بالحكمة والمثابرة وتحسين المنتج ليقبل المنافسة مع المستورد. فقد شهدت صناعتنا الوطنية في أزمنة الازدهار والتنمية في سالف الحقب وبفضل روادها من المجتهدين وأصحاب الخبرة ما عجزت عنه دول المنطقة ودول الجوار في بعض مفرداتها سواء في المجال التصنيعي المدني الاستهلاكي أو العسكري. وهذا لم يكن ليحصل من دون وجود قاعدة قوية رصينة وصحيحة في مجال الصناعة والتصنيع المرتكزة على العلوم والتقنيات والمهارات التي تشهد للمصنّع والمنتج العراقي على السواء.
من البديهي إذا توفرت الإرادة الصادقة للنخب من رجال الأعمال بإيجاد حلول شافية لمعاناتهم وتغييبهم قسرًا في مسألة تقرير مصير العجلة الصناعية والإنتاجية، فلا بدّ لهم من ترصين خطوات فاعلة وناضجة في هذا الاتجاه من أجل الوصول إلى بداية الطموح والانطلاق نحو نافذة أوسع لاستعادة الطاقة العراقية في إعادة عجلة التصنيع والإنتاج بزخمها المعهود. ومثل هذه الخطوة تتطلب منذ الآن زجّ طاقات رجال الإعمال في صراع الانتخابات البرلمانية ومجالس المحافظات المقبلة وتحفيز النقابات وأية مؤسسات لها باع في التأثير على القرارات التي تعيق تطور القطاعين التصنيعي والإنتاجي في البلاد. فمن شأن هذه الخطوة أن تنتج نخبة قيادية تستطيع التأثير على شكل القرارات المتخذة في تقرير مصير مصالح القطاع الخاص وفي نوع التوجهات لإدارة السياسة الاقتصادية في البلد على أفضل وجه. هذا إضافة إلى الفعاليات الاقتصادية المتنوعة في مجال الاعلام المرئي والمقروء والمسموع وفي الوسائل المختلفة من أشكال التواصل الاجتماعي عبر فضح ما يجري من تدمير منظَّم للبنية التحتية للقطاع الخاص عبر تهميشه ومواصلة إغلاق المعامل والمصانع التي كلفتهم أموالاً طائلة بسبب استمرار إغراق البلاد بسلع استهلاكية يمكن للقطاع الخاص إنتاج الكثير منها، أو هو ينتجها فعلاً ولكن من دون أن تحظى بحمائية وطنية من لدن الجهات الحكومية المعنية. ولا يمكن تجاهل أشكال الاحتجاجات الأخرى المتمثلة بالتظاهر في مواجهة ما يصدر من الجانب الحكومي ضدّ المنتج المحلّي سواء عبر إثارة الشارع أو أصحاب الشأن في المطالبة بحقهم الوطني في تعزيز قدرات مصانعهم ومنتجاتهم الزراعية في المواسم الكثيرة. ولا بأس باعتصامات نخبوية تقود مثل هذه التظاهرات والاحتجاجات السلمية، طالما كفلها الدستور وضمن القانون. هذا إذا أضفنا الانتقاد الموجَّه لأصحاب بعض شركات القطاع الخاص في الكشف عن الطاقة الإنتاجية لمعاملهم لأسباب تبقى مجهولة وغير مقبولة وبما لا يساعد الجهة الداعمة للإنتاج الوطني والمتمثلة باتحاد الصناعات العراقي الحريص بالدفاع عنهم من أجل حماية إنتاجهم بالطرق الأصولية ووفق اللوائح والتعليمات، حتى لو تطلّب ذلك التدخل لدى المحاكم المختصة.
في اعتقادي أنّ لقاء دولة رئيس الوزراء مع نخبة من رجال الأعمال من القطاع الخاص يوم الأربعاء 13 شباط الحالي، يمكن عدُّه نقطة الانطلاق لبداية التحدّي للعقبات التي تقف عثرة أمام إعادة دوران عجلة الماكنة الإنتاجية للقطاع الخاص وتطوّر مفاصله الاستثمارية والتعاقدية وعودة الحياة لحضوره الفاعل في مشاريع بناء الدولة عبر توسيع نشاطه الاقتصادي المتنوع وإسهامه برفد الاقتصاد الوطني بما يتيسر له من قدرات وطاقات وخبرات. نأمل أن تشهد الأسابيع القادمة وضع التوصيات والاستشارات والمناقشات المستفيضة موضع التنفيذ وعدم إضاعة الفرصة المتاحة مع الحكومة الجديدة التي يبدو أنها عازمة على فتح الحوار مع أرباب العمل وتوأمته مع القطاع الحكومي كي يأتي بثمر أكثر من أجل إنعاش اقتصاد السوق العراقي ورفد البلاد بعطاء إنتاجيّ وصناعي وطنيين، ما سيساهم في الحفاظ على جزء من العملة الصعبة التي تخرج من البلاد يوميًا بملايين الدولارات سواءً بفواتير صحيحة أو مزوّرة غير مسيطَر عليها.


176
إكرام الوالدين فضيلة ونعمة
لويس إقليمس
بغداد، في 25 أيلول 2018
في أحد لقاءاته الأسبوعية مع الجماهير الغفيرة المعتادة أن تزور ساحة القديس بطرس في روما، تطرّق بابا الفاتيكان مؤخرًا، إلى العلاقة الواجبة بين الوالدين والأبناء. في هذا اللقاء المتجدّد كلّ يوم أربعاء من كل أسبوع، حثّ البابا، وهو أعلى مرجعية كنسية كاثوليكية ودينية في العالم، حثَّ الأبناء الذين جرفتهم عوادي الزمن ونَحوا سلوك الشطط والتمرّد اللاّمبرّر بخروجهم عن واجبات إحدى وصايا الله العشر، للعودة إلى حضن الآباء والأمهات، أي إلى البيت الأسري الذي تكفل بوجودهم وتربيتهم ونموهم. وقد عدّ ذلك من باب فضيلة الاحترام والإكرام للوالدين اللذَين ينبغي أن يكونا مصدر نعمة ورحمة للأبناء. 
إنّ مثل هذه الدعوة من قبل مرجع دينيّ رفيع، تدلّ على أسمى اهتمام من قبل مؤسسة دينية ترى أنّ من صلب واجباتها واهتماماتها إعارة البشرية وخليقة الله في الأرض ما تستحقه من تقدير واهتمام ورعاية، لا لشيء بل لكونها صنيعة الله الخالق الجبّار الذي يسوس الكون العظيم وما فيه من عناصر وأجرام وحياةٍ بكل أنواعها وأشكالها. فالآباء والأمهات يشاركون الله في خلق البشرية من خلال اتحاد جسديّ مقدس وعبر فعلٍ جنسيّ يحتفظ بقدسية كبيرة، ما يتطلب أن يوليه البشر ومَن يسوسون الأمم والشعوب ما يستحقه من احترام ورعاية من جانب أفراد الأسرة أولاً قبل غيرهم في صفوف المجتمع.
نقرأ في سفر الخروج ما في هذا المعنى من قيمة عليا لعلاقة الإكرام الواجبة من الأبناء تجاه الآباء: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ (سفر الخروج 20: 12). إنّ هذه العلاقة المفترضة بين الطرفين لها من عمق الفضيلة والنعمة ما يستوجب قيمًا عليا من التبجيل والاحترام تجاه كلّ من الأب والأم. من هنا يبرز فعل الخلق المشترك الذي يقوم به الوالدان باتحاد جسديهما معًا ليتشاركا بخلق نسمة روح سامية منحها الربُّ الخالق قيمة إنسانية عليا ورفعها عن سواها من سائر المخلوقات حين حباها بالعاطفة والفكر والعقل والجمال وما سواها من صفات البشر الحسنة.
ليس من شكّ أنّ علاقة الله الخالق بخليقته هي علاقة أبوية بين الأب المحبّ الحاني والرؤوف الذي هو الرب الخالق تجاه خليقته من أبناء وبنات جنس آدم وحواء. فقد أكرم الله الإنسان حينما خلقه على صورته ومثاله، كما زاد من كرمه حين آنسَهُ بحواء كي تسكن الجنّة معه، فيأكلا ويشربا ويستمتعا بخيراتها وينميا ويكثرا قبل أن يزيغا عن أمره ويعصيا وصيته. لكن، في الوقت الذي أقرّ الله أنَّ ما فعله كان حسنًا، نرى جحودًا من خليقته المتمثلة بأبوينا الأولين، آدم وحواء، حين نقضِهما للوصية وخرقِهما للعهد. ولعلّ هذه الهفوة الكبيرة "الخطيئة الأصلية"، كانت بداية مشاكل الانقسام في العائلة وشرود الأبناء عن البيت العائلي وابتعادهم عن الوالدين، وما يفرضه مثل هذا الابتعاد من سوء العلاقة بين الطرفين ومن جفاء ومشاكل وفقدان واجب الاحترام والتقدير الذي أوصى به الله الخالق خليقته.
في الأديان المساوية عمومًا، وفي المسيحية بصورة خاصة، نقرأ ونتعلم الكثير عن مفردات وأمثلة وتوصيات، وهي تتحدّث عن الإكرام الواجب للوالدَين من دون نسيان ما ينبغي على الوالدين من واجب التربية والتوجيه للأبناء بحسب مخافة الله ومحبته للبشر. يقول القديس بولس في إحدى رسائله العظيمة: "وأنتم أيها الآباء، لا تغيظوا أبنائكم، بل ربّوهم بتأديب الرب ونصحه" (أفـسـس 6/4). من هنا تأتي التربية المنزلية في أولويات الحياة الأسرية التي تقتضي من الوالدين إظهار المثال الصالح أمام الأبناء في سلوكهم اليومي وفي تصرفاتهم مع القريب وفي وسط المجتمع الذي يقيمون فيه. فالحركة والفعل والسلوك التي تبدر وتصدر من عند الوالدين تبقى في ذاكرة الأبناء بمثابة الحفر في الحجر. ومن هذه البذرة تكون أولى السلوكيات في الأخلاق مع البيت الأسري الذي يعيشون فيه، ومنه تنتقل في جزئيات كثيرة منه إلى المحيط الذي يختلطون ويقيمون فيه. فما يتعلمه الطفل في الصغر، يبقى الكثير منه محفورًا في ذاكرته ويظل يتحدث عنه حينما يكبر ويواجه المجتمع. من هنا يكون فضل الآباء على الأبناء كبيرًا وجوهريًا وليس من المفترض تجاهله أو التغاضي عنه. فيما المدرسة وأشكال التعليم من شأنها صقل هذه السلوكيات وتوجيهها في ضوء مستجدّات الحياة المعقدة التي تتطور وتتغيّر في الفعل والإجراء وحسب الزمان والمكان. لكنّ النبتة الجيدة تبقى تعطي ثمرًا جيدًا، وتلك السيئة تكون ثمارُها مرّة وحصرمًا.

أختلال في الرؤية والمفاهيم
من أجل أن تسير سفينة الحياة بانسيابية وبخطى واثقة بحسب ما رسمها الله الخالق حين خلق العالم وما فيه وما فوقه وما تحته في ستة أيام بحسب سفر التكوين، لا بدّ حينئذٍ من قيام التزامات بين الآباء والبنين. فالحياة التي يمنحها الوالدان للأبناء هي مقدسة في نظر الله، وينبغي أن تكون كذلك في تصوّر وفي فكر وعقل الأبناء أيضًا. وبمعنى أشمل، يفترض وجود نوع من الالتزام الأدبي والأخلاقي بين الطرفين. فالطرف الأول "الخالق للحياة"، يتولى كل الرعاية الإنسانية والجسدية للأبناء حتى ينموا ويكبروا ويعتمدوا على النفس وعلى تسيير شؤون حياتهم حتى استقلالهم الذاتي والشخصيّ والمنزلي. وهذا التطور في الكبر وفي النمو الجسمي والعقلي والفكري لا يعني انقطاع صلة الرحم بين الأبناء ووالديهم. بل هنا تبدأ صلة من نوع آخر أكثر تميّزًا تحدّدها التزامات جديدة أدبية وأخلاقية تفرضها المجتمعات، كلّ وفق مفاهيمها رؤيتها للأحداث والأمور الحياتية بحسب الزمان والمكان. ولعلّ أهمّ ما في هذه المرحلة المتقدمة من حياة الطرفين، تنامي الاحترام والتبجيل والإكرام تجاه الوالدين الّلذَين يستمران بالسهر على مصلحة الأبناء والتفكير بهم حتى لو فارقتهم المسافات وأبعدتهم البلدان. فالوالدان يبقيان في دارة الاهتمام والتقدير والاحترام لدى الخلَف الصالح مهما طال البعد والزمن. وهذا ما نفهمه من قول بابا الفاتيكان فرنسيس بصدد الإكرام الواجب من الأبناء تجاه الآباء:" إنّ إكرام الأب والأم يعني الاعتراف بأهمّيتهما حتى من خلال أعمال ملموسة، تعبّر عن الاهتمام والمودّة والعناية".
بالنظر لتغيّر سلوك الحياة والرؤية إلى الأشياء والأحداث في المجتمعات لأسباب عديدة، منها التنوع الثقافي والنزعة الدينية والتربية المنزلية وسلوك المجتمع نفسه، لذا فإنّ قوانين الحياة معرّضة هي الأخرى للخرق والكسر بفعل التقصير والإهمال وعدم القدرة على تحمّل المسؤولية من طرف على حساب الطرف الآخر. وهذا من شأنه أن يخلق مشاكل وصعوبات، ويقيم حساسيات بين الآباء والأبناء، قد تصل لحدّ القطيعة والانتقام في حالات من اليأس وعدم الرضا والشعور بالقنوط بسبب هذا النوع من الإهمال. لكنّ مثل هذه الحالات الشاذة لا ينبغي أن تكون مدعاة لقطع العلاقة وصلة الرحم بين الطرفين ولا سببًا مبرّرًا للانتقام. وإذا كان الغضب في ظلّ هذه الأحداث والوقائع محتملاً، إلاّ أنه ينبغي أن يبقى في حدود عدم الرضا والاختلاف في الرؤى إلى الأشياء القابلة للتقدير والتقويم من دون الانزلاق وراء القطيعة مهما كانت الظروف. فالأبناء ليس من حقهم ولا من سلطانهم محاسبة آبائهم على تقصير حاصل في التربية الأسرية بسبب ظروف ٍ قد تكون أملتها عليهم أوضاعُهم الاستثنائية أو المعاكسة لمشيئتهم. 
نستخلص من كلّ هذا أنّ إكرام الوالدين واجبٌ استوجبته إرادة الخالق من الأبناء تجاه الآباء، مهما كانت الظروف والوقائع، ذلك لأنّ هذا الفعل بإكرام الوالدين يدخل ضمن وصايا الله العشر في المسيحية التي استخلصتها من وصايا النبي موسى والتي أُنزلت على شعب إسرائيل في العهد القديم. ويتضح ذات التأثير الذي طغى على تعاليم الإسلام فيما بعد، والذي يوصي ببرّ الوالدين وتحاشي نهرهما ومعصيتهما وتقديم واجب الاحترام والإجلال لهما مهما كانت الظروف والأسباب: "وبالوالدين إحسانًا" (النساء 36 والأنعام 151). والأكثر من هذا ما أوردته الآية التالية بلمزيد من الإكرام للوالدين: "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ" (لقمان: 14). وفي اعتقادي أنّ هذا النوع من الاحترام والتبجيل ليس من شأنه إذلال الأبناء أو التقليل من شأنهم ومن وضعهم، بقدر ما يشدّ من أزرهم ويدفعهم للمزيد من أعمال الرحمة والمحبة والصبر التي جزاؤُها جميعًا رضا الله ورضا الوالدين في الدنيا وفي الآخرة. وهذا أمرٌ لا يقبل التأويل والاجتهاد والاعتراض، لأنه وصية الرب الخالق، وقد اتفقت عليه الأنبياء والرسل والأئمة، تمامًا كما حسبه واعتمدُه الناشطون والمنادون بحقوق الإنسان والداعمون لإنشاء أسرة متماسكة مبنية على المحبة والخدمة والرحمة والاحترام والمصالحة مع الذات ومع الآخر.
أخيرًا، مهما كانت وجهات الاختلاف والخلاف بين الآباء والبنين، تبقى المودة والرحمة والاحترام من ضرورات العيش اليومي ومن الفضائل والنعم التي يسعى إليها البشر السويّ. إذ بهم صارت حياة الأبناء، ومنهم جاءت التربية، مهما كانت هذه ناقصة أم كاملة أم متزعزعة. لذا يبقى إكرام الوالدين من الوصايا الكبرى التي أمر بها الله، رب الأكوان ومالك السماء والأرض وما فيهما من عناصر. فحياتُنا وحياتُهم بين أيديه. ومَن يرضي الوالدين في الأرض يلقى رضا الله في الأرض والسماء على السواء!


177
بين الرجل والمرأة مساواة لا انتقاص
لويس إقليمس
بغداد، في 10 كانون ثاني 2019
الإنسان، ذكرًا كان أم أنثى، كللاهما مخلوقان جميلان متساويان في نظر الله ومختلفان من حيث السلوك والأداء والوظيفة. وإذْ خلقهما الله مختلفين في الشكل والوظائف، إنما كان ذلك لحكمة ربانية كي يكمّل أحدهما الآخر في مسيرة الحياة الإنسانية، فيتجلّى جمالُه في خلقه وفي الوظيفة المناطة بكلٍّ منهما. فالاثنان يشتركان معًا في ذات الحواس الخمس الأساسية من سمع وبصر وذوق وشمّ ولمس. ولكن في الوقت الذي خصّ به الخالقُ الرجلَ بإشارات رجولية "ذكورية" مميزة إضافية، يكون قد أكرم المرأة أيضًا بغيرها ممّا يميّزها من مظاهر شعورية أنثوية حساسة ومن جاذبية جنسية تتجلّى في سمات الرقة واللطف والنعومة والجمال. ولدى التعمّق في حكمة الخالق، نجد هذه الميزات ناجمة عن الاختلاف الطبيعي في نوع الوظيفة التي يؤديها كلٌّ من الرجل والمرأة وفي السلوك النفسي والفيسيولوجي بين الاثنين اللذين يتشاركان بأحاسيس عامة وسلوكيات يفرضها نظام الحياة اليومي في الظرف والزمان والمكان. لذا، ما يؤسف له أن يرى البعض في هذه المخلوقة الجميلة "ناقصة عقل ودين"، وأيضًا في مجمل صفاتها البشرية من جسد وهيئة وروح شكلاً من أشكال الضعف والنقص والتبعية أو آنية لقضاء حاجات الرجل والخضوع له من حيث الإطار العام والخاص.
تختلف نظرة المجتمعات إلى خليقة الله، ذكرًا أم أنثى، بحسب طبيعة التربية الدينية والنظرة المجتمعية والفكر السائد حسب العصور والأزمنة. ففي بدء الخليقة، تجلّت وظيفة الرجل في حماية بيته وأسرته من خطر الوحوش الكاسرة في البراري نتيجة عدم توفر ملاذ آمن تقي الأسرة من أخطارها ومن الظواهر الطبيعية على السواء. هذا إلى جانب توفير الطعام والملبس قدر المستطاع عبر الصيد والبحث في باطن الأرض وعلى سطحها ممّا يؤمّن كسر الجوع وتواصل العيش على قساوته. فيما انزوت الأنثى لتلعب دور المربية ومتعهدة المنزل وإعداد الطعام وتوفير الراحة في أدنى صورها آنذاك. ومع تطور الزمن، بدأت الصورة تختلف وتتطور. كما تنوعت الوظيفة بموجب هذه التطورات لحدّ وقوف الطرفين على عتبة التساوي في الحقوق والواجبات في بعض المجتمعات المتقدمة التي تنعم بالرقيّ في الفكر والمعيشة وفي الرؤية إلى الخالق والخليقة معًا. فيما بقيت غيرُها من المجتمعات التي حنّطتها المعتقدات المنغلقة بفعل فقهاء يرفضون التأوين والتطور، أسيرة الماضي وخارج رياح الزمن رافضين أي تغيير في النظرة وفي فلسفة الحياة إلى وظيفة وجنس كلّ من الرجل والمرأة. فالرجل في نظر هؤلاء هو القواّم والآمر على البيت من دون منافس. فيما المرأة تبقى ذلك الإنسان الضعيف الذي يقع عليه فعلُ الرجل وأوامرُه وقراراتُه وسطوتُه. فهي ماتزالُ "عورةً، فإذا خرجتْ اسْتَشْرَفَها الشيطانُ، وأقربُ ما تكونُ مِن وَجْهِ ربِّها إذا هي في قَعْرِ بيتها".
لستُ أدري ما سرُّ العيش في زمن الماضي العقيم، فيما العالم قد أصبح اليوم قرية صغيرة. ألمْ يخلق الباري تعالى كلا الجنسين حرّين ومتساويين إنسانيًا ليكمّل أحدهما الآخر وظيفيًا من أجل تبيان عظمة جماله في خلقه "رأى الله أن ذلك حسن"؟ لقد مضى زمن العبودية التي فيها كانت المرأة سلعة تُباع وتُشترى كالحيوانات خارجًا عن إرادتها في بعض المجتمعات المتخلفة في عموم العالم، ومنها منطقتنا العربية والإسلامية. فقد صعقني مقطع فيديو لأحد ملالي إيران وقد جمع حوله نسوة حائرات صاغرات من شيعته ينصتن إلى فتواه ويتروّضن بكلامه وهو يصف المرأة بذلك "الحيوان الذي خلقه الله ليكون فقط في خدمة الرجل"، حالُها حال باقي الحيوانات التي تؤدي وظيفتها ضمن حظيرتها الدنيا.  وهذا يفسّر تأثر بعض المجتمعات الدينية لمثل هذه الأحاديث والأفكار المتداولة لغاية اليوم والرافضة للاعتراف بالحقوق الكاملة للمرأة وبحريتها في التصرّف وفي التنقل وفي العمل وفي اتخاذ القرار الشخصيّ في حياتها. فبعضٌ من هذا الشيء مازال قائمًا لغاية الساعة ويؤسّسُ لتقاليد عقيمة موروثة كنتيجةٍ لسطوة الرجل على البيت والشارع على السواء. ففي الغرب، تخلّصت المجتمعات التي دخلت إليها حضارة شرعة حقوق الإنسان، من مثل هذه الموروثات البالية التي كانت تهين المرأة وتنتقص من كرامتها وتحسبُها إناءً للإنجاب والتفريخ وتلبية حاجات وغرائز وشهوات الرجل برضاها أم بدونه.  وهذا ما جعلها في مصافي الدول والشعوب المتقدمة التي تستحق الاحترام والعيش بين حناياها وعلى أراضيها.
اليوم، لا يكفي أن يتحدث البعض عن إكرام المرأة فيما حقوقُها مسلوبة في نظر بعض المعتقدات الدينية والتقاليد القديمة المتخلفة، ومنها في العديد من البلدان العربية والإسلامية وبعض المجتمعات البدائية التي لم تدخلها الحضارة والتطور والتغيير الإيجابيّ في الفكر والعلم وفي سلوك الحياة اليومية السويّة. فمثل هذه السلوكيات تجاه المرأة لم تعد مقبولة، لأنها أصبحت من زمن الماضي الذي لن يعود. ومن حق المرأة الإنساني والأخلاقيّ أن تكون متساويةً مع الرجل نصفها الثاني، زميلها في العمل، ورفيقها في البيت، وصديقها في المجتمع من دون تمييز أو انتقاص من قدراتها العقلية والبشرية والعلمية والتنويرية والإبداعية. ولِمَن يدّعي أو يشيعُ أو يذهب بكون "المرأة من أعظم حبائل الشيطان وأوثق مصائده"، أن يلتزم الآداب العامة وأن يشيح بنظره ويعرض عنها تفاديًا لما يسميه بتجربة الوقوع بالمعصية والخطيئة والذنب بسبب صفة الإغواء وما ماثلَها. فالعلّة تكمن في طبيعة التكوين الشخصيّ والسلوك البشريّ لهذا الصنف من البشر غير السويّ وغير المتزن الذي يعاني من عقد شهوة الجنس المتلازمة. ومثل هذا الصنو من الأشخاص سيظلون يعانون من هذه المتلازمة الجنسية التي تجعله لا يشبع من رغبات النفس الأمّارة بالسوء ومن متلازمة التملّك لكلّ شيء ومنه المرأة. إنّ مثل هذه الفكرة الجامدة التي تبقي عقل الإنسان وإرادته أسيرة دارة التفكير الأعمى غير المتناهي إزاء شهوة الجنس، سوف تبقي المجتمعات التي تتطبع عليها، درايةً أو جهلاً، في جاهلية التخلّف بالرغم من الاعتراف القرآنيّ صراحة "بمسؤولية المرأة في شؤون الحياة شانها شأن الرجل". وهذا ما ينبغي الرجوع إليه في تقييم حال المرأة تجاه الرجل في كلّ الأمور الحياتية، ومنها مساواتُها في الإدلاء بالشهادة وفي الميراث وفي العمل وفي التنقل وأي نشاط بشريّ تستطيعُ القيام به ضمن قدراتها البشرية. وهذا ممكن فقط في حالة وجود الإرادة والقدرة على الخلاص من عقدة النقص هذه التي تأسر الإنسان الشرقيّ والعربي على وجه الخصوص.
حبذا لو عالج المهتمون بصحّة المجتمعات، والباحثون الاجتماعيون والمنظِّرون، هذه العقدة التي بقيت مطبوعة كظاهرة متلازمة في المجتمعات الشرقية وأضحت بمثابة آفة مستفحلة. فالحياة تتطلب من كلّ من الرجل والمرأة أن يقوم كلٌّ منهما بما تُملي عليه طبيعتُه ووظيفتُه حفاظًا على ديمومة العلاقة البشرية والإنسانية المتساوية والاحترام بينهما من أجل تقدّم المجتمعات وتطويرها وتنميتها، وليس بخلق التنافر والتناشز في نظرة الواحد للآخر. وهذا لن ينجح إلاّ بتعاون مثمر وجادّ ومتزن من جانب الطرفين في إعمال الحكمة واتباع الفكر المستنير في تقدير دور كل منهما في المجتمع وفي البيت وفي الشارع وفي العمل. وهنا يقع على المرأة واجب إضافيّ في ترسيخ سبل التواصل الأسري الصحيح والمجتمعي بسبب طبيعة هيئتها وشكلها وطريقة تفكيرها السلس وقدرتها على التأثير في الرجل. فمن المعروف أنّ "المرأة التي تكسب عقل الرجل أذكى من التي تجذب قلبه، لأن الرجل له عقل واحد ولكن لديه ألف قلب"، كما ينصح علماء الاجتماع. ومثل هذا النجاح من جانب المرأة، من شأنه الحفاظ على البيت الأسري من الانهيار في مواقع كثيرة، ومنه الحفاظ على تركيبة المجتمعات كي تحافظ بالتالي على تماسكها الإنساني والوطني. فالحياة إنما هي خليطٌ من المودة والرحمة، ومن التفاهم والتوافق، ومن التعامل بالحسنى والاحترام للجنس الآخر المتساوي في الخلقة وفي الحقوق.
من هنا نعتقد أنه لم يعد هناك مجالٌ واسع للقبول بذكورية الرجل ونزعته الأبوية التي ماتزال قائمة في مجتمعاتنا الشرقية والإسلامية بشكل لافت للنظر. ولعلّ من أسباب هذه الظاهرة القائمة، تدخلات غير مقبولة من جانب الآباء والأمهات ومن نفرٍ من رجال الدين الظلاميين، إلى جانب ضغوطات جانبية من أركان العشيرة التي تلجأ لمثل هذا التعامل بسبب موروثات بالية لم تعد صالحة في زمننا الحاضر. ولا بدّ من سنّ قوانين معاصرة تتيح للمرأة، شأنُها شأن الرجل، أن تواصلَ الحياة بأوسع أبوابها ومن دون منغصات ولا مضايقات ولا تحديدات. فمن بين حقوقها أيضًا، استخدامُها لحريتها البشرية والإنسانية كاملة كي تكون صاحبة الشأن في التصرّف بما تملكُه من إرادة وفكر وجسدٍ من دون مسٍّ لحقوقها العامة والخاصة ككائن بشري متكامل العقل والروح والإرادة والرغبة.
تحية إكبار وتقدير لكلّ امرأة وأمّ ومربية وعالمة وسيدة أعمال عرفت قدرَ نفسها ورفعت من شأن الرجل ومن مجتمعها ووطنها في حدود إمكانياتها وطاقاتها المتفجرة. فهي باقية منبعًا للعطاء ومدرسة تستذكرها الأجيال وراعية للبيت الأسري وصدرًا حنونًا يرتاح له الرجل متى أعياه التعب وساريةً تتزيّن بفضلها المجتمعات والمؤسسات والشعوب.


178
نظامٌ سياسي في طريقه للاحتضار وآخر في الانتظار
لويس إقليمس
بغداد، في 5 كانون ثاني 2019
"لو دامت لغيركَ ما آلت إليك". هذه هي حالُ أنظمة الحكم وسيادة المناصب في شؤون الحياة، دينية كانت أم سياسية أو اجتماعية أو وظيفية. لا أحدَ دائم. فالدنيا دوّارة. هناك مَن أخذَ دورَه في الحياة وحكمَ وأمرَ وساسَ، ثمّ أبى التمسّك بالكرسيّ بالرغم من نجاحه في فترة الولاية التي استلمها تاركًا الفرصةَ لغيره كي يجرّبَ حظَّه ويأخذ نصيبَه. وبعكسه، هناكَ مَن فشلَ في حكمه وفسدَ في سياسته ونهبَ وسرقَ وقتلَ وغشَ ونافقَ، لكنّه ظلَّ مصرًّا على عنجهيّته وإدامة فساده بكلّ الوسائل. وشتّان بين ذاك وهذا. وللشعب الحكم فهو صاحب الشأن ووليُّ القرار.
أسوق وصفي هذا وأقول: لعلَّ خبرة الحكم في العراق طيلة السنوات المنصرمة من تاريخ الغزو الأمريكي للبلاد ولغاية الساعة تكشف لنا عن خللٍ واضح في نظام الحكم السائد الذي سنّه المحتل وفق مصالحه القومية الشرّيرة. فالكثير من الفعّاليات السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الدينية "المرجعية" من جميع الأطياف والأديان والقوميات تشهد على "الفوضى الخلاّقة" التي أحاطت بالبلاد وجعلت منها ومن ثرواتها الوطنية لقمة سائغة أمام شلّة من ساسة الصدفة ومحدثي النعمة ومن الطارئين على العمل السياسي والأغراب من مزدوجي الجنسية. فلا أحد يشكّ في أنَّ الأزمة القائمة في إتمام التشكيلة الوزارية الحالية مثلاً هي سياسية بحتة ناجمة عن ثغرات كبيرة وواسعة في شكل النظام السياسي الفاشل المتبَّع منذ السقوط المأساوي. وهي إن طالت وتلكأت أكثر ووأدت، فهذا شيء طبيعي لكونها ناجمة عن تقاطع مصالح حزبية وكتلوية وطائفية وشخصية في آنٍ معًا.
توقع الكثيرون مع استلام دولة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي رئاسة الوزارة أن تشهد البلاد حقبة جديدة من الانفراج الفكري والنضوج السياسي والصحوة الوطنية للبدء بمرحلة جديدة من البناء والتعافي من آثار مدمّرة لأعتى تنظيم إرهابي دوليّ كشّر عن أنيابه ودمّر البلاد وجدّبَ الأرض واقتلع البشر والشجر طيلة أربع سنوات عجاف إنْ لم نقل أكثر بسبب طبيعة النظام السياسي الطائفي والصراع المصلحي بين لاعبيه الكبار. إلاّ أنّ الأحداث والوقائع تنذرُ بقادم أسود ما لم يُبادر ما تبقى من الوطنيين في الدولة رئاسة وحكومة وشعبًا، على قلّتهم، لوضع حدود قاطعة أمام أيدي العابثين من نواب الشعب أولاً الذين عليهم تقع مسؤولية حماية الدولة ومؤسساتها والوقوف مع الشعب المخذول بعد تربعهم على كراسي البرلمان. فما تشهدُه أروقة مجلس النواب وأداء النواب بالذات في قاعة المجلس التي لم تعد تختلف عن أيّة صالة للمزاد، تعيدُنا إلى حال الدورات السابقة. والنقطة المشتركة بين السابقين واللاحقين تشير بما لا يقبلُ الطعن والشك دأبَ الأغلبية على الاستهانة بمطالب الشعب وترويض البسطاء منه وتخدير آخرين بوعود التسويف والمماطلة، فيما الطبقة الحاكمة من أصحاب النفوذ وزعماء الأحزاب ووعّاظُهم من الميليشيات والأتباع والمسترزقين زادَهُم فخرًا وتبجحًا تواصلُ دوامِهم باقتناص المكاسب والمغانم والبحث عن منافذ نهب جديدة مستنبطة ما استطاعوا من مقدرات شبه الدولة القائمة بوضع اليد على العقارات والوصول إلى المشاريع وقبض الكوميسيونات بطرق ملتوية وأساليب شيطانية وحتى عبر التهديد بأصناف الأشكال والوسائل. هذا حال المجلس النيابي "برلمان العراق" الحالي وكذا كانت حالُ سابقيه من دون حسد. هذا الكلام ليس من عندي ولا هو تلبيسٌ أو افتراء، بل جزءٌ ممّا نسمعُه ونقرأه عن نواب سابقين وحاليّين ومن مسؤولين في الدولة ومن أصحاب الفكر والرأي والإعلام.
أمام هذه الانتكاسة المدوَّرة في كلّ دورة انتخابية والمتكررة في طبيعة تشكيلة مجلس النواب العراقي على الشاكلة الضعيفة التي عرفناه بها والتي شابت عمليات الاقتراع وما تبعها من حرق الصناديق الانتخابية والتلاعب في الأصوات وفي فرزها، لا بدّ من صحوة حقيقية في التعريف بمدى خطورة بقاء وكينونة هذه المؤسسة التي غلّفها التزوير منذ إقرار العمل بها بعد السقوط في 2003. ومن ثمّ، يترتب على العقلاء وأصحاب الكرامة الوطنية، بالرغم من قلّة أعدادهم، التوجه الحكيم لإيجاد مخرج من متلازمة الفساد والتزوير والمحسوبية وبازار المناصب التي يعيشها البرلمان الحالي والتي فاحت ريحتُها ونتنت جيفتُها وبلغت حدودًا لا تُطاق. ومن أسباب هذه الانتكاسة عدم نضوج فكرة الديمقراطية والحرية اللتين تتقاطعان مع الواقع الفكري والدينيّ والمذهبي لدى شعوب المنطقة. وذاتُ الشيء يتقاسمه البرلمان مع الحكومة بسائر مؤسساتها العامة وربما الرئاسة والقضاءُ غير المستقلّ لغاية الساعة نتيجة لبقاء الكثير من ملفات الفساد الإداري والمالي على الرفوف إنْ مجاملة أو تحاببًا أو مشاركة أو خوفًا وما إلى هذا وذاك ممّا لا نستطيع قوله أكثر.
لقد استغلّت جهات عديدة متنفذة في الدولة موضوعَ القضاء على داعش الإرهابي ودماءَ الشهداء التي روت أرض الوطن وبسببها أتاحوا الحياة لغيرهم من أهلهم وأحبائهم ومواطنيهم، كي توغلَ بالمتاجرة بهذه الدماء الزكية وبتضحيات الشهداء الأبرار من أجل التشبث أكثر بأدران الفساد والتأسيس لحكومات صغيرة متنفذة متغلغلة داخل الحكومة الرسمية عبر أنشطة مستقلّة وميزانيات خاصة تتيح للقائمين عليها وعلى أعوانها وأزلامها غير المنضبطة بالسطو على ما تقع عليه أيديهم من أموال وعقارات ومنافع خاصة وعامة بحجة الانتماء إلى هذه الجهة المجاهدة أو تلك المناضلة ضدّ أزمنة الحكم السابقة. وما تزال هذه الجهات عبر مسمياتها المتعددة من مؤسسات جهادية وميليشيات طائفية وألوية نضالية بمثابة البقرة الحلوب تستنزف ميزانية الدولة وتفرض وجودها غير المبرّر، ولا أحد يطيق إيقاف عملها أو في الأقلّ الحدّ من منافعها غير المقبولة بعد أكثر من خمسة عشر عامًا على تمتعها بامتيازات خيالية غير معقولة. فهل يُعقل استمرار تمتّع فئة تعيش خارج أسوار الوطن منذ سنين ولم تعد تربطُها به أية صلة سوى ما أُنعمَ عليها ساسةُ الفساد والطائفية بصفة النضال والجهاد ظلمًا وجهلاً، وبامتيازات مذهبية بحتة بحيث أصبحت هذه الأخيرة تؤرّق كاهل الميزانية وتستنزف فقراتها؟ ألا يجدر بمجلس النواب الموقر أن يعيد النظر بهذه الامتيازات وبأمثالها، وما أكثرها، وأن يسعى بنقل تخصيصاتها باتجاه إعمار البلاد وإكمال المشاريع المتلكئة منذ سنوات وإعادة بناء المدن التي أصابها الدمار وتأمين الماء والكهرباء والخدمات الأمنية المطلوبة لعموم الشعب في البلاد؟ فما سنّته أحزابٌ دينية أو فرضته ميليشيات طائفية تقف وراءَها جهات خارجية متنفذة تُحكم سطوتَها على البلاد من خلف الستار، يستحق المراجعة والعدول وإعادة التقييم والتقويم.
أسئلة كثيرة مثيرة للجدل أصبحت ملحةّ وتنتظر ردودًا شافية. فإزاء هذه جميعًا، أين يقف البرلمان اليوم؟ وما هي أو بالأحرى كيف ستكون ردود فعل ممثلي الشعب حول ما يجري من فوضى في إدارة البلاد وفي تبعيتها لحكم ولاية الفقيه الذي كسب الرهان وأصبح يمسك بمقدّرات الرئاسات الثلاث التي صيغت وفق مقاساته ومخططاته وأمام مرأى المحتل الأمريكي الذي يتفرّج على اللعبة من موقع أعلى؟ أليس هذا دليلاً على الصورة الهزيلة التي يعكسها ممثلو الشعب في البرلمان والتي هي بالتالي من نتاج هيبة شبه الدولة القائمة؟ ويكفي تصنيف البرلمان العراقي من ضمن أسوأ جهة تشريعية غارقة في الفساد والتزوير بين برلمانات العالم ووضعه في صورة لا يُحسدُ عليه كي ترتفع أصواتٌ بتغيير الدستور وإلغاء البرلمان ومعه حلّ سائر الحلقات الفارغة الزائدة من مجالس محافظات ومَن على شاكلتها والهيئات واللجان التي أهدرت ثروات البلاد بمرتباتها الضخمة وامتيازاتها الكثيرة من دون نتائج أو خدمات آدمية مقبولة لصالح الشعب بسبب تقاطع المصالح والاحتراب الحزبي والطائفيّ. ومع كلّ هذا الضجيج الناهض حول الأداء المربك للبرلمان والشخوص التي شوّهت سمعة البلاد في الدورة الحالية والدورات السابقة، أليس الأجدر بمَن جاء بضمير مرتاح ليخدم الشعب أن يقول كلمة الحق بوجه الخلل والفاسدين وأن يواجه الأغراب عن الوطن والمتاجرين بحقوق المواطن حفاظًا على الأمانة وأملاً بالإصلاح المرتقب لصالح الشعب الجريح الصامت عجزًا أو خوفًا أو ترهيبًا؟ فالمثل يقول: "الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس". وأنا أردّد القول إنّ الساكت عن الظلم الذي طال الشعب العراقي برمّته يضع نفسَه وضميرَه في خانة الإجرام والفساد والخطأ والجريرة بحق الوطن والشعب على السواء قبل نفسه. فمن لا يتصدّى للظلم والقهر والفساد يكون قد أساء لنفسه أولاً ولأهله وشعبه ثانيًا ولوطنه عمومًا ولا يستحق صفة المواطنة.   
تلكم هي الحالة العامة التي تستدعي الوقوف على أسبابها ونتائجها والعمل من جانب الشرفاء والأسوياء للتصدّي لها بكل أشكالها ومحاسبة مرتكبيها من مستغلّي السلطة وأصحاب القرار كي يكونوا عبرة للغير. وهذا هو المطلوب منذ سنوات. فهل يبادر مجلس النواب الموقر بوضع آليّة للإصلاح الحقيقي الذي طالَ انتظارُه ولمكافحة الفساد بالتعاون مع الحكومة في حالة صدقها والتي أعادت العمل بالمجلس الأعلى لمكافحة الفساد؟ أمْ سيستمرُّ غطاءُ المجلس للفاسدين ليكون ذات المظلةً الوارفة لسارقي قوت الشعب والمتلاعبين بمصيره وثرواته وممتلكاته وراحته وحقوقه؟
هنا الكلمة الفصل. ففي حالة فشل مجلس النواب الموقر في إصلاح الدولة بمراجعة الدستور ليكون دستورًا مدنيًا وطنيًا شاملاً وغير طائفيّ، أو التعثّر بسنّ قوانين وطنية واقعية صحيحة لخدمة الصالح العام، والمماطلة في وضع اليد على مكامن الخلل والفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة كافة وإزالة وإلغاء الامتيازات غير المنصفة لصالح فئاتٍ سياسية مذهبية سُنّت بقوانين طائفية توافقية وبصفقات سياسية لصالح مسمّيات نضالية وجهادية من أمثال متقاعدي رفحاء والسجناء السياسيين ومَن على شاكلتهم، فلا الكيّ حينئذٍ يفيد ولا النصيحة تشفع ولا الندامة تنفع. إنّما يقع على عاتق الأحرار من الشعب الجريح التوجه حينذاك وبأصوات عالية متتالية للمطالبة بعودة البلاد للنظام الرئاسي كي يأخذ فرصتَه ودوره. وهذا يتطلّبُ من جملة شروط صلاحِه وفاعليته وقدرته بروزُ شخصية عراقية وطنية قوية في قرارها، حكيمة في رؤيتها، شاملة في وطنيتها وجديرة بسياستها وفكرها المستنير الشامل بحيث يكون من أولى أولوياتها وفي صلب استراتيجية سياستها احتضانُ جميع المواطنين من دون امتياز لأحد أو الانتصار لدين أو لطائفة أو لقومية أو لعشيرة. حينها فقط، وعندما يسود نظام المواطنة وليس المحاصصة، سيعود العراق إلى سكته الصحيحة، مدنيًا، نظيفًا، وطنيًا وزاهيًا ليعيد نضارة حضاراته العريقة المتعاقبة وأخذ دوره في العالم والمنطقة بعيدًا عن متناقضات السياسة ومصالح الساسة وتحالفات المحاور ورهاناتها الشريرة المحبطة.
من هنا، فكلّ الدلائل تشير إلى احتضار النظام السياسيّ القائم الذي أثبت فشله على كافة الأصعدة إلاّ في الفساد ونهب ثروات البلاد وتخلّف العباد، نتيجة لولاء زعامات سياسية في دفة الحكم لغير الوطن وعدم إخلاصهم له وتفضيل مصالح الغير ومصالحهم الشخصية على مصالح الشعب. والغدُ لناظره قريب!


179
الاقتراض الخارجي حصار آخر
لويس إقليمس
بغداد، في 14 كانون ثاني 2019
لا يخفى على أحد، ما قد يشكله نظام الاقتراض الخارجي على مستقبل الدول والشعوب بسبب الآثار المدمّرة لاقتصادها الوطني وما ترتبه هذه على مستقبل الأجيال التي لم تولد بعد. فبعض الدول حينما تلجأ لهذا الأسلوب، يجلس خبراء الاقتصاد فيها لدراسة الأسباب وتقييم الآثار وفرز النتائج الإيجابية والسلبية بحيث يتم حصر الآثار السلبية لأدنى الحدود. أمّا ترك الأمور على الغارب والمضيّ في سياسة الاقتراض المفتوحة من دون تحسّب للآثار المدمّرة نتيجة لعدم إجراء التقييم الموضوعي لمدى الفائدة من الاستمرار بهذه السياسة، فهذا ليس من الحكمة ولا من المسؤولية الملقاة على عاتق أولياء الأمر من المسؤولين الذين يتولون إدارة الدولة والمتحكمين بمواردها ومقدّراتها التي هي ملك الشعب. 
لعلّ من أسباب الاقتراض التي تلجأ إليها بعض الدول، إقرار قيام مشاريع استراتيجية تقتضي توفر أموال كبيرة ليست ضمن قدرة هذه الدولة أو تلك بحيث تستدعي اللجوء لمثل هذا الأسلوب من أجل سدّ الحاجة وإكمال المشاريع التي تراها الجهة المقترضة ضرورية في ضوء الحدود الزمنية والمكانية القائمة. وعند استكمال هذه المشاريع، شكلاً وتنفيذًا، ووضعها في خدمة المواطن والبلاد، تنتظر السلطة الحكيمة وخبراء البلد أن تعمل هذه المشاريع الاستراتيجية الضرورية المنجزة على إضافة مصدر آخر من الفائدة التي تعود على المواطن بحيث يتم استرجاعُ أقيام هذه المشاريع من مقدار مدى الفائدة المكتسبة التي تدرّ على البلاد أو المدينة أو المنطقة التي تُقام فيها. وهذا أمرٌ طبيعي جدًا. من هنا لا ينبغي على الحكومات أن تسترسل في مسألة الاقتراض الخارجي لأيّة أسباب كانت إلاّ في ضوء الحكم على ضروراتها وموجباتها وألاّ تنجرف للدعوات التي تردُ من هنا ومن هناك من دون دراسة موجبة ووجود حاجة قصوى للاقتراض بسبب ما يشكله مثل هذا الأسلوب في حالة التمادي به، من عواقب على سمعة البلاد واقتصادها ومواردها التي يمكن أن تتعرض للنهب والضياع تحت هذا المسمّى أو ذاك، أو تحت مسميات عديدة أخرى ولغايات كثيرة وبعيدة عن روح الحرص الوطني وصحة القرارات وسلامة الأجيال.
في العراق، بعد تعافيه من هجمة أعتى عدوّ للإنسانية كان لا بدّ من مراجعة موضوعية لحجم الديون المترتبة على أنظمته السابقة وعلى حاضره بعد السقوط في 2003 قبل الإقدام على حلول الاقتراض الخارجي. فحجم الواردات النفطية التي دخلت البلاد بما يتجاوز الألف مليار دولار بسبب تعافي الأسعار في فترة ماضية كانت الأفضل في تاريخها، إضافة إلى الموارد الأخرى من ضرائب ورسوم المنافذ الحدودية وتشغيل ما تبقى من شركات منتجة، كان يمكن أن تشكل فارقًا في نوع المشاريع الاستثمارية والتشغيلية والخدمات العامة والأمن إضافة إلى سدّ هوّة البطالة والفقر التي انتشرت بنسب كبيرة في المجتمع والمدن ما أدّى إلى هجرة غير معهودة إلى العاصمة بغداد بصورة خاصة. ولو توفرت للبلاد حكومة رشيدة ووطنية ونزيهة، لما اضطرّت البلاد لأسهل الحلول بالاقتراض من الخارج ولأمكنها تسديد ما بذمتها من ديون على عهد النظام السابق وما تطلّبته الأوضاع بعد الاحتلال من إعادة البنية التحتية بشكل صحيح وما اقتضته فترة محاربة داعش خلال ثلاث سنوات عجاف لغاية شبه القضاء عليه عسكريًا، حيث مازال فكرُه وقواعدُه النائمة باقية وتستيقظ متى اقتضت الأوضاع على مرأى من الدولة، حكومة وشعبًا.
سوف لن أخوض في مسألة الرؤية السياسية للحكومات الفاشلة المتعاقبة منذ السقوط في 2003، بالرغم من أنّ الحرص على الوطن وثرواته وعلى مستقبل سياساته هي من حقّ أي مواطن بل أيّ وطني يرى في المشهد السياسي الحالي حيدًا وابتعادًا عن المصلحة العليا للوطن. فعندما يكون الوطن في وضع المريض المتهالك بسبب الجهة التي تحكمه وتتحكم بمقدّراته، على المواطن أن يخشى أيضًا تعرّضه هو الآخر لانتكاسة صحية في أية لحظة، بمناسبة أو غير مناسبة. فصحةُ المواطن من صحة الوطن وحكومته. فإذا كان وليُّ الأمر مريضًا أو شاذًا أو لصًّا أو مخادعًا أو منافقًا أو كذاّبًا وما إلى ذلك من سوء الصفات القائمة عند العديد ممّن يحكمون البلاد منذ السقوط، فتلك طامة كبرى. حينئذٍ، لا يرتجى من وراء مثل هذه الأشكال لا صحةً ولا استقامة ولا محبة ولا تسامحًا ولا سلمًا أهليًا ولا مدارس ولا مؤسسات علمية ومراكز اجتماعية ولا شوارع نظيفة ولا جسورًا مؤهلة ولا زراعة محلية ولا صناعة وطنية ولا مشاركة وجدانية في المصير والبناء ولا تنمية مستدامة ولا تطورًا ولا تغييرًا في العقلية المذهبية والدينية المؤدلجة بسبب الروحية المحنَّطة لدى البعض ولا تقويمًا في الرؤية الإنسانية المتقوقعة بسبب تقاطع المصالح وغياب الضمير وانتشار العنف وأنواع المخدّرات.
إن هيبة الدولة في الأساس هي جزء لا يتجزّأ من سياستها الاقتصادية ومن مواردها المالية وطريقة أداء فريقها الحكومي وكيفية تنفيذ برامج هذا الأخير (هذا إنْ وُجدت) وقدراتها العسكرية وما إلى ذلك ممّا يعزّز من كيانها السياسيّ ووضعها في مصافي الدول والأمم. وإذا كانت عصابات الإرهاب قد دُحرت، فإنّ الواقع يشير إلى نوعٍ آخر من الإرهاب المتمثل بالفساد الذي لا يقلّ عنفًا وتدميرًا وسطوة عن داعش الإرهابي. وهذا الكلام بحسب مصادر من داخل الأروقة الحكومية والنيابية وليس من عندنا. فالأمراض الداخلية، وما أكثرها، ما تزال تنخر جسد البلاد المتهالك وتستنجد أصحاب الضمائر الوطنية الحية من أجل فكّ أغلال البلاد من مثل هذه العصابات الفاسدة التي من ضمن ممارساتها المغلوطة تكبيل العراق بالتزامات مالية ثقيلة تجاه دول ومنظمات مالية دولية وإقليمية ومحلية كي يبقى فريسة سائغة للطامعين ولا يقوى للنهوض من كبوته الاقتصادية والمالية التي في جزءٍ منها يعود بسبب السياسات العنجهية للنظام السابق الذي قاد البلاد والعباد إلى تهلكة الحروب ومحرقة الموت لسنين طوال.  أمّا ما شهدته البلاد بعد الاحتلال في 2003، فقد كان بالتأكيد جزءًا من النتائج المدمّرة لذلك النظام المتهور، وهو نتيجة طبيعية حاصلة بسبب الاختلال في الموازين الوطنية وغياب الحرص الشخصي والمجتمعي وسبات الضمير الوطني والإنساني.
من هنا، فإن سياسة الاقتراض المتبعة في الحكومات المتعاقبة منذ سنوات هي تمامًا من بين مواقع الخلل الأخرى في سياسة البلاد، وما أكثرها. وليس من بدّ أن يستفيق البرلمان وممثلو الشعب من سباتهم العميق كي يتخذوا الخطوات الضرورية لإيقاف مواصلة الحكومة لسياسة الاقتراض القائمة. وهذا يتطلب جرأة وافية ووقفة وطنية جادة من أجل وضع حدود قاطعة لمثل هذا السلوك الاقتصادي المهلك لاقتصاد البلاد والمدمّر لمستقبل البلاد ومصير الأجيال التي لم تولد بعد. فهو سيكون بمثابة حصار آخر على البلد والشعب لحين سداد جميع الديون المستحقة. بل ستبقى الأجيال القادمة مرهونة للأجنبي ومطلوبة الذمة للدول والمنظمات لعشرات السنين بسبب السياسات الفاشلة وغير الحكيمة، للحكومات المتعاقبة التي استخفّت بقَدَر العراق وأحكمت سطوتها على موارده وسرقت ما استطاعت بمدّ يدها الطولى على قوت الشعب عبر مشاريع وعقود وهمية وكوميسيونات مجزية ونهب للثروات النفطية عبر أساليب التهريب الجارية التي لا حصر لها وبأساليب وأشكال شيطانية. وما على الجهات المعنية في الحكومة والدولة وبالأساس البرلمان، إلاّ أن تتصدى لأية مشاريع قادمة للاقتراض بحجة تنشيط الاستثمار وتأسيس مشاريع جديدة. ففي البلاد اليوم، هناك أصحابُ الرؤى المستنيرة وأرباب الخبرات الاقتصادية سواء في القطاع العام أو الخاص، ممّن هم حريصون على ممتلكات الشعب وحماية الثروات الوطنية وممّن بمقدرتهم تقديم النصح والأفكار والمشاريع التي يمكن أن تساهم في الحد من هذه السياسات الخاطئة عبر اقتراح مشاريع وسياسات بديلة يمكن أن تبادر إليها جهات مالية واقتصادية محلية كالمصارف الحكومية والخاصة على السواء إضافة إلى الراغبين في الاستثمار في حالة توفر شروط هذا الأخير وصلاحية قوانينه وتطورها مع الزمن. هذا علاوة على تنشيط  دور القطاع الخاص الذي من شأنه دعم سياسات الدولة عبر لجان مشتركة تقوم بتفعيل المصالح بين الطرفين، ممّا سيعزّز من دورة الإنتاج والصناعة المحلية كي تأخذ دورها الريادي في دعم الاقتصاد الوطني وتوفير السيولة المطلوبة بدل ضياعها في صفقات استيراد لا حصر لها تساهم في تسقيط الإنتاج المحلي ووأد تأثيره وتحجيم تطوره مقابل الأجنبي منه.
إنّ ما يترتب على القروض القائمة حاليًا الداخلية منها والخارجية والتي تبلغ بحسب تصريحات مقربة من مصادر في الدولة العراقية بما يصل إلى مائة وعشرين مليار دولار، هذا إذا استثنينا سداد القيود المالية الموقوفة على النظام السابق، من فوائد ونفقات إضافية فيه الشيء الكثير ممّا يثير القلق والحيرة معًا. وعلى مجلس النواب أن يضع نصب عينيه التقديرات الإيجابية للمنظمات المالية والاقتصادية الدولية من أمثال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حيال النموّ المتوقع في الاقتصاد الوطني العراقي مستقبلاً. فهناك عوامل عديدة تشير إلى مثل هذا النموّ المرتقب بالرغم من تباطؤِه الحالي. هذا إضافة إلى تعافي أسعار النفط والزيادة الملحوظة في الإنتاج الوطني منه وسدّ حاجة السوق من مشتقاته، وكذا في زيادة القدرات التصديرية لكلّ من النفط والغاز على السواء. فهي كلها مؤشرات لتعافي اقتصاد البلاد والانطلاق منها لوضع سياسات صحيحة لمسار الاقتصاد الوطني جنبًا إلى جنب مع مسار العملية السياسية المتعثرة التي تحتاج وقفة ثورية انقلابية ومراجعة وطنية شاملة يقودها الشعب نفسُه وليس الأحزاب المنتفعة من السلطة، حتى تحقيق الغرض المنشود في وطن خالٍ من أشكال الفساد قدر الإمكان، وطن يتمتع بسمعة عالمية جيدة في تمدّنه وأسلوب حكمه واستقلاليته ونشره المساواة والعدل وتوفير الفرص للعاطلين ولقمة العيش للجائعين والخدمات الأمنية والبلدية التي تليق بالآدميين. فالعراقيون الأصلاء وليس الدخلاء والمفسدون في الأرض من لصوص اليوم، ليسوا ولم يكونوا أبدًا خارج هذه المقاييس وبمبعدة عن مثل هذه الحقوق العامة والمشروعة التي تليق بهم وبتاريخهم وبحضارتهم.





180
المسيحيون ملح الأرض وعطرها
لويس إقليمس
بغداد، في 2 كانون ثاني 2019
وسط أحلام السلام والتأكيد على سبل العيش المشترك وتعزيز النسيج المجتمعي، احتفل العراقيون وبامتياز هذا العام بقدوم العام الجديد 2019 مودّعين العام المنقضي المليء بالمطبات السياسية والمتناقضات الوطنية والتحديات الاقتصادية. فقد دقّت أجراس الكنائس احتفالاً واستكمالاً لعيد ميلاد ربّ الأكوان "عيسى"، مسيح السلام والمحبة والرحمة. والأجمل ما بدر من تصريحات من عددٍ من رجال دين من الطائفتين الشيعية والسنّة ومن غيرهم من أبناء العراق بلا استثناء ومن مسؤولين في الدولة العراقية الذين عدّوا مشاركتهم المسيحيين إخوانَهم في الوطن والمصير وفي الإنسانية خيرَ ردّ على تخرّصات وتحريضات وتلفيقات نفرٍ شواذ من بشرٍ مريضٍ أعماه التخلّف وأبى إلاّ العودة إلى عصور الظلام والتكفير وشقّ الصفوف. لكنّ صوت المحبة والتسامح والانفتاح على الآخر المختلف واحترام خصوصياته قد انتصر وطغى على سواد القلوب وغضاضة النفوس وأصحاب النوايا السيئة. فمرحبًا وألف مرحى لكلّ صاحب ضمير مؤمن بالله الخالق الأحد يرفعُ راية التسامح وينشر الفرح ويعيش المحبة لإثبات جمال الخالق في خليقته وحسن صورته.
لِمَن لا يعرف جوهر المسيحية بعدُ، أو مَن خانه الضميرُ الإنسانيّ الهشّ في فهم ما يعني عيد الميلاد والاحتفال بالسنة الميلادية كلّ عام، ولمَن فقد توازنه الدينيّ والزمني ولم يتسنى له اختبارُ أخلاق وسلوكيات أتباع "روح الله" و"مسيح الله" و "ابن الله" المتجسد بأعجوبة من العذراء مريم سيد ة الأكوان، فقد آن الأوان أن يعود إلى رشده ويتوغل في التاريخ كي يدرك ما قيمة مولود المغارة الحقيرة الذي "عرفته الحيوانات يوم مولده العجيب وتنكّرت له خاصتُه".
لقد ردّ العديدون بما ينبغي على التصريحات الأخيرة الهوجاء للشيخ السنّي السلفيّ مهدي الصميدعي مفتي جمهورية العراق المعروف بمواقفه المتطرفة الشاذة الخارجة عن السرب ومعه رئيس أعلى هيئة دينية شيعية السيد علاء الموسوي بخصوص تحريم الاحتفال أو المشاركة الوجدانية من أتباع الإسلام بهذه المناسبة العالمية. وهذه الهجمة الشرسة على خصوصيات الطائفة المسيحية ومناسباتهم ليست الأولى، وكما يبدو لن تكون الأخيرة في سلسلة "فتاوى التحريض والتطرّف الأعمى" في حال عدم محاسبتهما وتعنيفهما، ليس تجاه المسيحيين بخاصّة فحسب، بل إزاء كلّ مختلِف في الدّين عنهم. ومَن يرجع إلى مجمل آيات القرآن المكّية، يروق له ما يقرأُه ويطّلعُ عليه من رؤية واضحة وجميلة لدينٍ متسامح في زمن معتدل يخصّ جميع الأنبياء ومنهم "عيسى" ووالدته الطاهرة مريم العذراء بكلّ آيات التقدير والتبجيل والاحترام. أمّا ما لحق تلك الحقبة من تغيرات وتحالفات وخروج عن دائرة "التقية" وما تبع ذلك من نقلٍ لأحاديث منقولة غير متزنة أو معروفة وغير مكتملة الموثوقية والمصدر عن فلان وفلان وفلان، فيبقى في دائرة الشكّ والطعن ومن باب الغيرة والتحريض والحسد والفتنة وزرع بذور الشقاق بين عباد الله أولاد إبراهيم الموحِّد أبِ المؤمنين.
يعلم العالمُ أجمع، إلاّ مرضى النفوس فيه ومثيرو الفتنة الدينية والطائفية وأصحابُ النظريات الإقصائية والتهميش، أنّ "أعياد الميلاد ورأس السنة بصورة خاصة لم تعد عيداً للمسيحيين حصراً، وإنما عيداً للبشرية جمعاء" و "مهرجانًا للفرح لجميع البشرية كي تخرج ولو لزمن يسير عن عباءة القهر والحزن والانكفاء على الذات" وتمنّي النفس باستبدال كلّ هذه الآهات والمشاكل وصور السواد القاتمة والكراهية الشنعاء بشيء من "التلاحم والتراحم والتصافح والتعانق على بساط من الحب والالفة بعيداً عن رائحة الازمات والحروب وعوامل الدمار"، تمامًا كما أشار إلى هذه الرغبة العديدُ من المتنورين وأصحاب العقول المنفتحة المُحبّة للإنسان أيّ كان شكلُه ودينُه ومذهبُه. وهل أجمل ممّا قاله أميرُ الشعراء أحمد شوقي في مناسبة مولد طفل المغارة "عيسى الحيّ" وسيّد الكون وحبيب الله، وكذا في رسالته الإنسانية وفي خلُقه وصفاته:
ولد الرفق يوم مولد عيسى          والمروءاتُ والهدى والحياءُ
وازدهى الكون بالوليد وضاءت    بسناه من الثرى الأرجاءُ
وسرت آية المسيح كما يسرى    من الفجر في الوجود الضياءُ
تملأ الأرض والعوالم نوراً       فالثرى مائج بها وضاءُ
لا وعيدُ، لا صولة، لا انتقام      لا حسامٌ، لا غزوة، لا دماء
 
بعد قراءة هذه الصورة الشعرية الجميلة عن "نبي الله عيسى" كما يعرفه المسلمون، إخوتنا في الإنسانية، هل للشيخ الصميدعي الموقر والسيد الموسوي المحترم أن يدلاّننا على موجبات إنسانية وشرعية معقولة ومقبولة ومنطقية بتحريم أتباع المسيحية ومشاركة مواطنيهم في الإنسانية بمباهج الاحتفال من منطلق عفويّ ديني او انساني او عاطفي، بمناسبة ذكرى مولد هذا النبيّ العظيم الذي أذهل العالم بميلاده العجائبي من امرأ ة عذراء خصّها ربُّ الأكوان بكل النعم والمزايا والأوصاف الجميلة كما يصفها القرآن كتابُ  المسلمين نفسه، لتكون سيّدة العالمين وقبلة الزائرين من كلّ الأديان والمشارب لمزاراتها في الكنائس والقرى والمدن في كافة أرجاء العالم؟ وأين مظاهر المجون والعربدة والرذيلة التي يتحدثان عنها والتي ليس لها من وجود إلاّ في مخيلتهما المريضة ومَن على شاكلتهما من المنغلقين على الذات القاصرة والمنزوين في صومعة الجمود الفكري والعائشين في زمن التحنّط العقائدي الذي لا يقبل الآخر ولا يطيق احتمال المختلف عنه دينًا ومذهبًا وفكرًا ولونًا وشكلاً وعمامة وعباءة ولحية؟ فهذا يبدو ديدنَ الكثير من أمثال الشيخين المحترمين من الذين يرومون العيش في ظلمات القرون الوسطى المدمّرة في تخلّفها، وممّن لا يحتملون التنفس والعيش إلاّ من رئةٍ مريضة تحنّ لأتربة الماضي المليء بالفتنة والتحريض وزرع الشقاق والمموّه بهواء الصولة والغزوة والوعيد والانتقام لا بالرحمة والهدى والحياء والمروءات، تمامًا كما جاء في وصف أمير الشعراء.

ترميم البيت العراقي لا تخريبُه
ليس من مصلحة أبناء الوطن الواحد أن ينزلقوا مرة أخرى إلى الدروب المظلمة من الطائفية وتكفير الآخر المختلف بسبب فتاوى التحريض والتطرف التي اكتوينا بها جميعًا في الماضي القريب منه والبعيد على السواء. فالعيش في زمن الصحراء والبداوة والغزوات والصولات والكراهية والحقد لم يعد الرهانَ المقبول عصريًا بعد تجاوزنا عتبة القرن الواحد والعشرين بعولمته ونهضته وتطور الفكر والعلوم ووسائل الترفيه والراحة والتقنيات فيه على السواء. وكفانا إعادة عيش مرارة السنوات العجاف لنبقى أسرى أزمنة داعش الإرهابي المتطرّف حدّ العظم وأشباهه في متلازمة أحادية في الفكر والدين والعرق والسلوك. فقد ولّى زمن الأرحام الخبيثة التي نزل منها هذا التنظيم الإرهابي وأمثالُه ولا بدّ من إعادة تقييم وتقويم للزمن والتاريخ والفكر والرؤية كي ندخل تاريخ الإنسانية من أبوابه الواسعة من جديد حيث تشهد لنا حضارات بابل وسومر وأكد وآشور، وما تركه من إرث ثري آباؤُنا السريان الآراميون الذين فرشوا أرض بلاد الرافدين بالمحبة والعلم والتسامح والاحترام مع قدوم الدين الجديد إلى الجزيرة العربية. فهل يُعقلُ محو تاريخ شعوب أصيلة بهذه السهولة وبمجرّد فتوى نشاز تصدر من هنا وهناك وليس لها من موجبات إنسانية أو شرعية إلاّ ما صدر عن بشرٍ عاشوا فترة من التخلّف في ترتيب البيت الإسلامي لظروف وأسباب حتّمتها حقبة زمنية متشنّجة انتهى دورُها زمانًا ومكانًا؟ ما هكذا تُبنى الأوطان ولا بهذه العنجهية الكارهة تعيش الشعوب بل بالمحبة والرحمة والتكافل.
شاء البعض أم أبى، فإنّ رائحة خلق الازمات والحروب الدينية التي زكّمت الأنوف وقتلت الضرع والزرع وأتت بكلّ عوامل الدمار التي عاشتها البشرية في حقب التاريخ المظلمة قد ولّت ولا عودة إليها. بل السعي كلّ السعي للأبرار وذوي الإرادة الطيبة بفتح كل الأبواب أمام حوارات وتفاهمات متزنة ومنفتحة على الآخر المختلف، حيث في الاختلاف، أي اختلاف دينيًّا كان أو عرقيًّا أو قبليًا أو اجتماعيًا أو شكليًا أو بشريًا وكذا في التعددية غنى وإثراء ونجاح وسموّ في النفس والقلب والفكر أكبر وأكثر وأوسع. فهل يدرك أمثال المعترضين على احتفال البشر في العالم أجمع بهذه المناسبة الكبيرة وبرأس السنة الميلادية أنّ التاريخ الميلادي قد أصبح عالمّيَ الاستخدام كما شاهدنا على شاشات التلفزة في جميع القنوات العالمية وفي الساحات والشوارع وصالات الترفيه. وما العيب في ذلك، كما تساءلُ أحدُهم؟ ولماذا لا يجهد هؤلاء المعترضون المتشدّدون أنفسهم للبحث عن صيغ أخرى جامعة للبشر على المحبة والتصافح والسلام ويلفظوا هواءَ العصور الفاسدة ورياح الأفكار المتخلّفة التي لا تبني ولا توحد بقدر ما تهدم وتفرّق؟
      لقد ذقنا العلقم ورُوينا المرّ حينما اكتسح تنظيم الدولة الخرافية، السلفيّ المتشدّد مناطقنا الآمنة قبل سنوات عجاف، فقتلوا الأبرياء في إبادة جماعية مشهودة وشرّدوا الملايين من دورهم وقضوا على ممتلكاتهم وسبوا الحرائر وتم بيعهنّ في أسواق النخاسة. وهذا احتقار لخليقة الله الذي خلقهم أحرارًا لا عبيدًا لتمجيد اسمه والعيش في الأرض كي يخلقوا فيها بذرة ناضجة وثمرة طيبة. فهل نُعيد تلك الأيام العجاف ونقبل ثانية بالفكر الداعشيّ الذي مازال يعشعش في صدور نفر ضال؟
في ظلّ الظرف القائم والحاجة الملحة، آن الأوان إن لم أقل قد تأخر كثيرًا، بمراجعة الذات كلّ من موقعه والتوجه نحو إرساء ركائز المحبة والرحمة والمصافحة والمصالحة وفرض أسس التعايش السلمي التي تلزم الجميع بأخذ دورهم في إعادة بناء الوطن وترميم النسيج المجتمعي الذي أهانه الساسة ومزّقه حكّام الصدفة واستباحته الميليشيات المنفلتة بالسماح ببروز الفتنة الطائفية بين فترة وأخرى وكلّما شعروا بالخطر على مكاسبهم غير المشروعة. وبعودتنا إلى الأسباب الحقيقية وراء مثل هذه السلوكيات الشاذة، تتراءى لنا الصورة واضحة وناجمة عن غياب الرؤية الوطنية للقائمين على السلطة، وفي القصور الواضح للجهات التنفيذية في الحكومات المتعاقبة الفاشلة بفرض القانون ومحاسبة الخارجين عنه ومحاربة الفاسدين بمن فيهم مَن في رأس السلطة ووعّاظها، وكذا بسبب انتهاج سياسات الإقصاء وتهميش الآخر من أبناء المكوّنات القليلة العدد الناتج عن نظام المحاصصة المقيت. ولولا مجمل هذه السياسات الرعناء غير المسؤولة التي سمحت بتسييس الدّين وفرض النمطية المذهبية للجهة الحاكمة التي تغاضت عن محاسبة كلّ مَن هبَّ ودبَّ بالتطاول على كرامة الغير ومَن تسوّلُ له نفسه فرض عقيدته ومنهجه وسياسته وسطوته، لَما تناقصت أعداد هذه المكوّنات ومنها المسيحيين والإيزيديين والصابئة وقبلهم اليهود. 
بعد كلّ هذا وذاك وما شهده العالم أجمع ومن ضمنهم العراقيون دولةً وحكومةً وشعبًا ومعهم المقرّبون من المرجعيات الدينية والمحسوبون على الوقفين السنّي والشيعيّ على السواء وسائر المدن العراقية ومنها مدينتا كربلاء والنجف المقدستان، من احتفالات بهيجة ومشاركات شعبية ووجدانية عفوية ومنظماتية في أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، هل يكون جميع هؤلاء قد وقعوا في فخّ الفسق والرذيلة؟ وهل تكون الدولة العراقية وحكومتها الشرعية ومعهما الساسة والمسؤولون المشاركون بهاتين المناسبتين "مارقون وواقعون في الشرك" كما حلا لأصحاب الفتنة ودعاة التطرف والتحريض والكراهية؟
في الختام، ندعو أن يكون العام الجديد مناسبة للتلاحم الوطني والتعايش السلمي والمصالحة المجتمعية من أجل إعادة بناء عراق المواطنة والمساواة والعدل، والتبشير بدولة مدنية تحتضن جميع المواطنين بعيدًا عن خطابات التحريض والفتنة والتفرقة. نصلّي معًا، ونحتفل معًا، ونبني معًا، ونفرح معًا، ونتكافل معًا من منطلق الإيمان الكامل بحرية الأديان والاحترام الكامل للآخر المختلف حفاظًا على التعددية التي إنْ هي إلاّ بركة وثراء وخير وغنى قلّ نظيرُه.

   


181
في العراق، عطلة عيد الميلاد من رسائل الاطمئنان للمسيحيين
لويس إقليمس
بغداد، في 27 كانون أول 2018
تلقى العراقيون والمسيحيون منهم بصورة خاصة بمزيد من الارتياح، إعلان الحكومة العرقية ليوم 25 من شهر كانون أول من كلّ عام عطلة رسمية لكلّ العراقيين لمناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح بموجب قانون يجري سنّه. وفيما عدّها الكثيرون من ضمن رسائل الاطمئنان الموجهة لأتباع المكوّن المسيحي، رأى فيها غيرُهم تعبيرًا عمّا يتحدث به الساسة والمسؤولون في الدولة العراقية بكون المسيحيين مكونًا أصيلاً وفاعلاً في بناء تاريخ العراق ورفد حضارته في الماضي والحاضر بعصارة حبهم لوطنهم وبشدة انتمائهم إليه ومن ثمّ بتمسكهم بالأرض وجذورها الطيبة.
في الحقيقة، يأتي هذا الإعلان المفرح تتويجًا لجهود رأس كنيسة العراق، المتمثلة بغبطة البطريرك - الكاردينال لويس ساكو الذي ما انفكّ يجاهد في سبيل إعلاء شأن الوطن والدفاع عن جميع أبنائه من دون تمييز ولا اختلاف إلاّ في الرؤية الوطنية الحقيقية وفي معيار الجدارة وحب الانتماء للوطن التي يسعى غبطتُه مع كلّ الطيبين والوطنيين لزرعها ونشرها في صفوف جميع الأطياف والمكوّنات. وهناك إجماعٌ مجتمعي ونخبويّ وشعبيّ باعتماد المواطنة معيارًا صحيحًا في تقييم المواطن وأدائه وفي عيشها بضمير وطنيّ حيّ خدمة للوطن والشعب. فالوطن يبقى القاسم المشترك الذي يأوي الجميع تحت أفيائه ويحمي كلّ أبنائه من دون تمييز مهما كان الاختلاف في الرأي والمنهج والدين والمذهب، تمامًا كما الدجاجة تحمي صغارها تحت جناحيها ولا تفرّق في لون ريشها. هكذا هي أجنحة الوطن شامخة شموخ النخيل، واسعة سعة المحيطات، وارفة الظلال، مريحة، جميلة، دافئة شتاءً ومنعشة صيفًا.
قد تكون أجواء أعياد الميلاد مختلفة بعض الشيء هذا العام. فالكثير من الشوارع والأزقة والمحلات التجارية وواجهات الساحات العامة والمباني والمنتديات والمطاعم وحتى العديد من دوائر الدولة الرسمية قد شهدت مظاهر الفرح والبهجة بهذه المناسبة الجميلة التي أصبحت رمزًا للتآخي والتآلف والاجتماع. والأهمّ في احتفالات هذا العام، تلك المشاركة الوجدانية من فئات كثيرة من العائلات العراقية التي جالت الأسواق لتتبضّع ما يضفي مزيدًا من البهجة احتفاء بالعيد ولاسيّما رموز الميلاد "بابا نويل" الأسطوري وأشجار الميلاد وزينتها التي تنوعت شكلاً ولونًا وحجمًا عبر منافسات لم تشهدها الأسواق العراقية من قبلُ. وهذا ما أضفى بهجة وسعادة على العيد والمحتفلين به من داخل المكوّن المسيحي ومن مواطنيهم وجيرانهم وأحبائهم من المكوّنات الأخرى ولاسيّما المسلمين بصورة خاصة، ممّن تمنّوها مناسبة لإعادة لمّ اللحمة المجتمعية التي خفتت في السنوات الأخيرة بسبب تصاعد موجات التطرّف وبروز النعرات الطائفية وأشكال التمييز والإقصاء. عبارات جميلة سمعتُها شخصيًا من مواطنين ومن مثقفين، وأخرى تلقيتُها من أصدقاء وجيران أو قرأتها عبر صفحات الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي المختفة. وكلُها تدعو للتفاؤل بمستقبل واعد للعراق، وفيها ما يشير حتمًا لصحوة وطنية في صفوف المواطنين الذين أخذوا يتفاعلون مع الأحداث وينشدون خروج البلاد من النفق المظلم الذي ضاعوا فيه بسبب ظلامية المحاصصة وفساد الساسة وتمهّل القضاء بأخذ دوره كما يجب.
هكذا بدا الشعور الوطني عبر المشاركة الوجدانية للمواطنين عامة، المعبّرة عن المحبة القائمة منذ الأزل في وسط النسيج الاجتماعي المتآلف عبر التاريخ. هذا النسيج الطيبُ الجذور الذي جرحه الدخلاء المتطرفون وأهانه الأغراب المفسدون في الأرض عندما زرعوا فيه أشواكًا وحسكًا وأذاقوا مَن فيه مِن أبناء الأقليات الدينية الأخرى مرارة الهجر والنزوح والتهديد والقتل والتهميش والإقصاء والتمييز. والأجمل في المشاركة الوجدانية والاجتماعية البارزة في هذا العام، الشعور المتبادل بين أتراب الوطن الواحد في الرؤية الوطنية والمجتمعية بضرورة مشاركة الآخر فرحته ومقاسمته حزنه على السواء في المواسم والشعائر والأعياد والمناسبات التقليدية الشعبية. كيف لا، وقد خصّ القرآن الكريم السيد المسيح له المجد، بالكثير من الآيات التي تمجّد اسمَه وترفع من مرتبته النبوية والرسولية وسط سائر الأنبياء والمرسلين.

زيارة البابا بادرة أمل ورسالة اطمئنان إضافية 
أما الحدث الأهم الذي يتطلع إليه الجميع، حكومة وشعبًا في هذه الأيام المباركة، وبات في حكم التهيئة اللوجستية والبروتوكولية، فهو الزيارة المرتقبة لبابا روما، الحبر الأعظم فرنسيس إلى العراق في العام القادم. فقد تزامنت فرحة الأعياد مع زيارة أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين الذي هو بمثابة رئيس وزراء لأصغر دولة في العالم، للبلاد ولقائه بالسيدين رئيس جمهورية ودولة رئيس الوزراء العراق، وتأكيد الأخيرين لعرى الصداقة والمحبة والتآلف التي تجمع العراقيين والنظرة الرسمية تجاه المسيحيين بكونهم المكوّن الأصيل ضمن مكوّنات الشعب العراقي.
قد تكون هذه الإلتفاتة المهمة من لدن بابا الفاتيكان، علامة رجاء جديدة لمسيحيّي العراق والشرق ورسالة إضافية للاطمئنان بضرورة التشبث بأرض الآباء والأجداد بالرغم ممّا جرى لهم من ويلات ومصاعب ومتاعب عبر حروب عبثية طيلة الحِقَب المتتالية من حكم البلاد ونتيجة لنزاعات طائفية مقيتة بعد الاحتلال في 2003 وأخيرًا بسبب عمليات التهجير والنزوح التي وقعت على أيدي تنظيم داعش الإرهابي الذي اقترف أبشع الجرائم بحق أبناء هذا المكوّن وغيره من الأقليات الدينية الأخرى، ما أفرغ البلاد من الكثير منهم. ففي الوقت الذي كان عديدُهم في الثمانينات من القرن الماضي أكثر من مليون وربع مواطن، باتوا يعدّون اليوم بين ثلاثمائة إلى أربعمائة ألف مؤمن بحسب ترجيحات غير رسمية. فقد اضطر الكثير من هؤلاء الذين فقدوا ممتلكاتهم وطُردوا من مساكنهم وهُجّروا بين ليلة وضحاها للجوء إلى بلدان الاغتراب ومغادرة البلاد بسبب الفوضى الخلاّقة التي زرعها الاحتلال الأمريكي منذ 2003 وقدوم دخلاء على الوطن ليديروا دفته بعيدًا عن الحرص الوطني وخروجًا عن أخلاقيات الضمير الإنساني وإيغالاً في سرقة وهدر المال العام. 
في ذات السياق، تأتي كلمات اللطف والمشاعر الطيبة والتمنيات التي صدرت من لدن السيدين رئيسي الجمهورية برهم صالح ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي خلال استقبالهم لأمين سرّ دولة الفاتيكان وترحيبهما بزيارة البابا، بمثابة تداوي للجراح التي ألمّت بأبناء هذا المكوّن من خلال سعي جهات دخيلة لاقتلاعه من جذوره أو بواسطة أغراب لا يمتّون بصلة للنسيج المجتمعي التقليدي المتآلف في أرض العراق الطيبة. فمن حيث السلطة الكنسية والروحية، يجمع بابا الفاتيكان تحت سلطته الكنسية أكثر من مليار وربع من الكاثوليك متوزعين في جميع أصقاع الأرض وفي جميع بلدان العالم. ومن هنا تأتي أهمية هذه الزيارة لكونه رمزًا دينيًا وإنسانيًا وروحيًا ودوليًا له كلمتُه التي يمكن أن تهزّ عروش الزعماء والبشر على السواء. فيما يمكن أن تسهم هذه الزيارة الميمونة برفع معنويات المسيحيين خاصةً والعراقيين عامة باتجاه ضرورة التجذّر بأرض الآباء والأجداد، وفي جدوى الالتفاف حول الوطن، وفي التوجه نحو بنائه بروح وطنية وعلى أسسٍ إنسانية بعيدة عن روح التعصّب والتطرّف والأنانية.
في رأيي المتواضع، أنّ هذه الرسائل جميعًا بحاجة لتعزيزها برسائل أخرى أكثر اطمئنانًا، ليس لصالح أبناء المكوّن المسيحي فحسب، بل كي تشمل جميع شرائح وأطياف الشعب العراقي المنكوب وبخاصة منهم الأقليات التي تعرّضت لنكبات في نسيجها وتركيبتها وممتلكاتها وكرامتها. ومن رسائل الاطمئنان المنتظرة بالأفعال وليس بالأقوال:
- تعويض الدولة للمتضررين من النازحين والمهجّرين في الدور والممتلكات والمصالح سواء بسبب جرائم داعش أو نتيجة للعمليات العسكرية.
- إعادة النظر بالمناهج الدراسية التي تحرّض على الفتنة وتميّز بين فئات الشعب بسبب الدين والمذهب والعرق وفيها نبرة تطرّف توحي بفكر مريض وأزمة في تقبّل الآخر.
- إنصاف أتباع المكوّنات الدينية غير المسلمة التي تناقصت أعدادُها ومنهم المسيحيين والإيزيديين والصابئة وغيرهم للأسباب التي لا تخفى على أحد في مسألة تولّي المناصب في الدولة بعيدًا عن أساليب المحاصصة المتبعة في الحكومات المتعاقبة منذ السقوط في 2003.
- احترام التعددية الدينية والمذهبية والإتنية والفكرية وعدّها جميعًا مصدر قوّة وغنى للبلاد وليس ضعفًا، وإشاعة ثقافة الحوار والتفاهم وتطبيق مبادئ السلم والمحبة والعدالة والمساواة واحترام كرامة الغير المختلف وصولاً إلى العيش المشترك الكريم للجميع.
تلكم من رسائل الاطمئنان التي ينتظرها الشعب عندما يتخلّى الساسة وأصحاب النفوذ وزعماء الأحزاب عن نواياهم الخبيثة اللاوطنية التي تشقّ صفوف الشعب، فيتجهوا عوض الركض وراء مصالحهم الضيقة الشخصية والمذهبية والحزبية نحو بناء دولة مؤسسات فيها يُحترم الجميع على أساس المساواة والعدالة بلا تمييز ولا إقصاء بسبب الاختلاف في الدين والمذهب والطائفة، إلاّ في مقياس الجدارة والكفاءة والانتماء للوطن.
هذا ما ينبغي أن نسعى إليه جميعًا مع كلّ ذوي الإرادات الصالحة وأصحاب النوايا الحسنة وصولاً لتعزيز عرى التعايش السلمي المشترك الذي افتقده العراقيون. عسى أن تتحقق أمنية رئيس البلاد برهم صالح ودعوته بالترتيب لعقد مؤتمر للحوار بين الأديان والطوائف في مدينة أور لمناسبة الزيارة المرتقبة لبابا الفاتيكان للعراق في العام المقبل، فتكون أرض النبي إبراهيم منطلقًا لاستئصال الفكر المتطرّف الأعمى ولتعزيز وحدة الصف وبناء السلم الأهلي وعودة اللحمة الوطنية والمجتمعية بين المكونات العراقية لمجابهة الدخلاء ووضع حدود لسارقي ثروات البلاد والمفسدين وسارقي قوت الشعب والمتاجرين بقضاياه ومآسيه.


182

هل القادمُ حقًا أعظم، فلننتظرُه!
لويس إقليمس
بغداد، في 7 كانون أول 2018

شهدت جلسة الثلاثاء 4 كانون أول 2018، التي عقدها مجلس النواب العراقي حالة من الفلتان والفوضى العارمة بين النواب لأسباب معلنة وغير معلنة تبقى في طيات صدور البعض، الحاضرين والمتغيّبين. بالتأكيد، تأتي نقطة التشكيك بالنصاب القانوني التي أُثيرت في حينها من أبرز النقاط، حيث حصل فيها دخول أشخاص لا يمتّون بصلة إلى عضوية مجلس النواب، بحسب بعض النواب الذين أثاروا هذه النقطة وطالبوا بتحقيق لمعرفة الهدف من ورائها. وقد سعت هيئة رئاسة البرلمان تمرير عقد الجلسة رغم عدم اكتمال النصاب وتأجيل انعقادها لمرات عديدة وسط سجالات وتجاذبات غير منضبطة وصراخ ومشادات كلامية بين النواب. وهذا ما حدا برئيس الوزراء عادل عبد المهدي والمرشحين للوزارات الثمانية المتبقية الذين أتى بهم للمصادقة على استيزارهم، مغادرة البرلمان دون حسم الموضوع.
ببساطة الرأي، يسود اعتقاد أنّ خيار الكتل السياسية لشخصية الدكتور عادل عبد المهدي، المعروف عنه اعتدالُه وهدوءُه ومجاملاتُه ووداعتُه وسياستُه في إرضاء الجميع، لم تكن موفقة. ففي الوقت الذي كان ينبغي ترك سياقات المحاصصة ومبدأ تقسيم الغنائم بين فرقاء السياسة التي تسببت بدمار البلاد وضياع ثروات الشعب لتدخل جيوب الفاسدين من الساسة والحكام وأصحاب الجاه الجدد منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003، إلاّ أن ساسة البلاد والمتسلطين على رقاب الشعب العراقي المقهور الغاطس في سبات عميق أعادوا دورة الفساد التحاصصية وأصرّوا عليها جميعًا باختيار عبد المهدي، إلاّ الندرة النادرة من الذين أفاقوا وسلكوا سبيل الاعتراض العلني على النظام السياسيّ القائم على مبدأ الفساد في إدارة دفة البلاد. والدليل على هذا، رضوخه لضغط الكتل السياسية في إكمال الكابينة الوزارية العرجاء. 
ظاهريًا، جميعُ مَن برزوا في الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع مؤخرًا، من سياسيين ونواب ومسؤولين في شبه الدولة القائمة، أعلنوا رفضهم لمبدأ المحاصصة واعتراضَهم على طبيعة النظام السياسي القائم مطالبين بإجراء إصلاحات جذرية عميقة، عمودية وأفقية في البلاد وترك أسلوب تقاسم الغنائم. بل طالب هؤلاء ومازالوا يطالبون بضرورة اعتماد الأطر والممارسات الديمقراطية حفاظاً على وحدة الصف الوطني والمكتسبات الديمقراطية خدمة للعراق وشعبه. هذا ما نقرأُه ونسمعه من أفواه ساسة الصدفة ونواب الفجأة، والراقصين على أنغام فاقة الفقراء وتجارة النازحين، والسائرين في مجاراة أرباب الفساد وأصحاب العقود الوهمية والمشاريع الغريبة التي لا تخدم الوطن والمواطن لا من قريب ولا من بعيد، في ضوء سوء الأوضاع وتراجع الخدمات يومًا بعد آخر من دون الوقوف على نهاية للإشكالية القائمة في حكم الدخلاء عن الوطن وأهله الصابرين الصامتين البائسين. ولكنَّ واقع الحال يقول غير هذا وذاك. فمبدأ المحاصصة واضح وضوح الشمس في تشكيلة الكابينة الحالية، والدليل على ذلك استمرار الخلافات حول ما تبقى من حقائب وزارية، بعضٌ منها كان مثار جدل ومتاجرة ومساومات ومزادات فاحت رائحتُها وطغت فضائحُها حتى إنها زكّمت الأنوف بشهادة المرشحين لها أنفسهم.
هناك مَن يرى أنّ القادم أعظم! وإنْ صحّ مثل هذا الكلام، فإنّ البلاد مقبلة على مرحلة لا تُحمد عقباها وكارثة قد تشكّل علامة سوء لبدء مرحلة من تصفية حسابات وعرض عضلاتِ لفتوّاتٍ من أحزاب وكتل ودول جوار تخشى خروج الأوضاع عن سطوتها وتأثير أزلامها في الأحداث والمصالح والمكاسب التي اعتادت عليها طيلة الخمسة عشر عامًا المنصرمة من عمر البلاد الغارقة في وهم الديمقراطية وأشكال الفساد. وإن حصل شيءٌ من هذا، وهذا ما لا نتمناه طبعًا، فإنّ البلاد ستغرق في أشكال الفوضى والخراب عندما نرى الميليشيات الجاهزة لوجستيًا وعقائديًا وطائفيًا وشخصيًا، ولاسيّما التابعة لأحزاب وشخصيات دينية، تصول وتجول في ظاهرة من فرض الإرادات واستخدام وسائل القمع والتهديد ضدّ المعارضين والمختلفين، وحتى القتل إن استوجب الأمر ضدّ كلّ مَن يقف في طريقها. فمَن اعتاد النهب والسلب والسرقة والتمويه واستلام الكوميشنات والاستيلاء على عقارات الدولة والمواطنين وفرض الرسوم خارج نطاق الدولة في المنافذ الحدودية الجوية والبرية والبحرية وسرقة النفط ومشتقاته عبر وسائل شيطانية اعتادت شبه الدولة ومؤسساتها القضائية والتنفيذية التغاضي عنها خوفًا أو إرضاءً أو مشاركة، سوف يجد مصالحه مهددة عندما يُقطع عنه صنبور السرقة والفرهود ليجد نفسه أمام مَن يُحاسبُه ويكشف الخفايا وما كان أعظم. هذا في حالة صحوة القضاء واتسام الحكومة الحالية أو غيرُها بشيء من الوطنية كي تحاسب وتتابع وتقاضي كلّ مَن يستهتر بقامة الوطن في سلوكياته ويصرّ على تعاطي الفساد تجاه ثروات البلاد ماليًا وإداريًا، وكلّ مَن يخرق الدستور ويأبى الخضوع القانون ويرفض الانصياع للنظام. 
في حفل تكليف السيد رئيس الجمهورية برهم صالح للدكتور عادل عبد المهدي بمهام تشكيل الحكومة الجديدة، وعدَ الأخير باتباع سياقات جديدة خارجاً عن المحاصصة في تشكيل كابينته وبعدم الرضوخ للإملاءات الخارجية، وهذا لم يتحقق. فكلّ الدلائل تشير إلى أنّه سايرَ الكتل السياسية وجاملَ زعماءَها وشاركهم سعيهم في تثبيت وترسيخ مبدأ المحاصصة ولم يخرج عنها، أو بالأحرى لم يُترك له خيار الخروج عن سطوة الأحزاب المهيمنة على المشهد السياسيّ وإرادات زعمائها ومَن يقف وراءهم من دول الجوار، وبخاصةّ في موضوع تقاسم السلطة والغنائم. والمشهد واضح. فأسلوب النافذة الالكترونية للترشيح للوزارات لم يكن القصد من ورائه كما اتضح، سوى امتصاص غضب الشارع العراقي الذي ملّ وطالما اعترض على أسلوب تقاسم السلطة والمال والجاه المتبع منذ احتلال البلاد في أسلوب تشكيل الوزارات التي سبقته. والدليل على ذلك، دخول مرشحي الكتل السياسية في دائرة الترشيح المفتوحة هذه وعدم حصول أيّ من المتقدمين المستقلين وما يُسمّى بالتكنوقراط على حقائب، بالرغم من الادّعاء عكس ذلك.
لقد أُتيحت للسيد عادل عبد المهدي فرصة ذهبية لإثبات استقلاليته عبر تخويل مرجعيّ وشعبيّ واسعين، بل ومن كتلة سياسية كبيرة ومن زعيم له ثقلُه على المشهد السياسيّ. لكنّ مشروع الكابينة الوطنية المستقلّة ذهب أدراج الرياح وسط ضغط الكتل التي ظلّت تراقب المشهد وتعمل من خلف الكواليس بهدف وأد أي مشروع وطني للخروج من مبدأ المحاصصة والانقضاض على مغانمها ثانية والإمساك بناصية الحكم والإقطاعيات الوزارية التي تستميت للحصول عليها. وهذا ما حصل بالفعل. فقد وقع الرئيس المكلّف عبد المهدي في فخّ هذه الكتل وزعمائها ولم يجاهد في الاستمرار بالنهج الذي وعده وخطّه، ما يثبتُ كونه جزءًا من التركيبة السياسية القائمة التي يناصرها سرّا وخلف الكواليس ليبقى القرار لصالح المحاصصة وتتالي تقاسم الثروة والمناصب، كلّ حسب ثقله وإرادته وجبروته وما يحصل عليه من دعم وتأييد من خارج الحدود. وهكذا لم تخرج رسالة الاستقالة التي ما زال يحتفظ بها السيد رئيس الوزراء في جيبه والتي هدّد بها في حالة فرض أسماء وشخصيات لا يرضى بها ولا يجدها مناسبة من حيث الجدارة والكفاءة والوطنية، كما صرّح وهدّد ولم ينفّذ تهديده.

المشهد السياسيّ القائم لا يبشّر بخير، إذن. ولا بدّ من تضافر الجهود من أجل تعزيز العمل المشترك وتغليب المصلحة العليا للوطن والشعب وتجاوز ما يراه البعض من اختناق سياسي مكفهرّ والابتعاد عن مشاريع المحاصصة القاتلة والاستماتة في تقاسم المغانم وفق ذات الأسلوب السابق الفاشل. فالوطن يبقى الأغلى ومصلحة المواطن تبقى ضمن الأولويات في إيجاد حكومة ووزارة ودائرة تأتي بما يحتاجه هذا الأخير من ماء وكساء وكهرباء وخبز شريف وخدمات بلدية ومركز شرطة حريص غير فاسد وقضاء نزيه ونظيف غير مسيّس كما هو واقعُه اليوم. وبغير ذلك، سيكون الفشل بانتظار حكومة عبد المهدي لا محالة. بل هناك مَن يتحدث عن سقوط حكومته بعد أسابيع وليس أشهر. فحدة الاستقطاب السياسي الشيعي وتبعيةُ معظم كتله وشخصياته للجارة إيران حصرًا والإصرار على فرض مرشح معين ليكون على رأس أهمّ                       وزارة أمنية وهي الداخلية، وعمق الازمة القائمة بين الكتل البرلمانية ورئاستها، وتشتّت التوافق السنّي، إضافة إلى هشاشة الدعم السياسي من معظم الكتل لرئيس الوزراء هي في اتجاه افشال الحكومة الراهنة وبالضد من مصلحة الشعب والوطن. وتلكم "رسالة غير مطمئنة وطلقة تحذير من القادم الأعظم".
. هل القادمُ حقًا أعظم، فلننتظرُه!


183
على مَن يبكون وعلى مَن يضحكون؟ إنهم أساطين الشرّ والفساد!
لويس إقليمس
بغداد، في 5 كانون أول 2018
"الشجرة الطيبة تثمر ثمارًا طيبة وتبقى طيبة بأصلها". حكمةٌ قديمة وقولٌ مأثورٌ أثبتته الوقائع في حياة الإنسان. فمَن زرعَ خيرًا، لاقاه في يوم من الأيام في حياته، أو في عيالِه أوبين أهلِه وأقاربِه. هكذا تعوّد الإنسانُ أن يدعو لصاحب الزرع الطيّب بكلّ خير والتكثير من أمثاله. وعكسُه مَن أثقلَ البشرية والأرضَ بالمآسي والآلام، وزرعَ ما بينهما وفيهما من فتن وشرور ومشاكل، واستخدم لأجل إضعافهما وتثقيلهما بمبتكرات شيطانية ليست من عمل الله وأصفيائه وأحبابه بطبيعة الحال، بل من عمل الرجس والشيطان. مثل هذا العنصر الشاذّ والمسيء للبشر تحلّ عليه لعنة الأرض والسماء، على السواء! كان عليه ألاّ ينسى أنَّ الدنيا دوّارة، وأنّ في السماء عدالة تحاسب الأشرار يوم الدّين! فكما سادت حضارات وبادت ولم تدم، هكذا دول الشرّ ومحاورها وتوابعُها، سيأتي يومٌ لتزول وتُحاسب على أفعالها بحق البشرية يومَ الدّين، يومَ لا تنفع الأموال المكتنزة بالسرقة وأفعال الفساد والنصب والاحتيال والفرهود، ولا تشفع الجرائم المقترفة بحق الإنسانية وبحق بسطاء البشر من أحباب الله الخالق، ولا تجدي المجاملات وأصناف الاصطفاف مع الظالم والمتجبّر واللصّ على حساب المقهورين من الذين لا حول ولا قوة لهم بما ابتلوا من ساسة وحكام ورؤساء يقبعون في قمّة اللصوصية والفساد والجور. فلا شيء ثابت ولا أمرَ دائم! هذه شرعة الدنيا وقانون الحياة. ويا ويلَ الأشرار من "البكاء وصرير الأسنان".
دول الغرب المتقدّم، ومنها زعيمة القطب الواحد أميركا، جاهدت بكلّ الوسائل المتاحة لتقرير مصيرها وبناء قدراتها ومستقبلها على حساب الدول والشعوب المقهورة. وهذا لا أحد يناقش في مدى صحته وواقع حالِه. فالدلائل كثيرة وعديدة، ومنها سعيُها المستميت للهيمنة على قدرات ومقدّرات واقتصادات وسياسات دول العالم وتوجيهها وفق الدفّة التي ترتضيها هي بعيدًا عن احترام سيادة الدول وحق شعوبها في تقرير المصير وبناء بلدانها وفق حاجاتها وتقاليدها ومقتضيات مصالحها الوطنية والقومية. أمّا عن الشرق الأوسط، فحدّث ولا حرج. فقد نفذت أميركا مخططات ربيبتها المدللة إسرائيل، واتّبعت في سياستها أفكارَ زعامات "المثالية الغربية" ومخططاتها التي توجّهُ العالم انطلاقًا من محافلها وحجرات اجتماعاتها الدورية في الكواليس.
عندما يذرف زعماءُ دول الاستكبار وساستُهم دموعًا إزاء ما تعانيه دولٌ وشعوبٌ مقهورة من أزمات متلاحقة ومن اضطرابات في تركيبتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فهي في حقيقة الأمر لا تختلف عن دموع التماسيح التي تصدر عن شيوخ الإرهاب وأرباب الفساد في المنطقة أو على أفواه الطغاة والفاسدين من الحكام والساسة الذين يتلاعبون بمقدّرات شعوبهم ومصائرها على أهوائهم ووفق مصالحهم من حيث يدرون أو لا يدرون، يشعرون أو لا يشعرون. فواقع الحال يشهد للأفعال المشينة لكلا الطرفين ولممارساتهم الّلاأخلاقية التي لا ترضى بها الإنسانية بسبب مشاركة الطرفين، دولٍ عظمى وأتباعها وأدواتها على السواء، في هذه جميعًا. فالدول العظمى تجيدُ اللعبة عبر زراعتها لجراثيم سرطانية وأوبئة بايولوجية جديدة تحمل كلّ يوم جديدٍ مشاكلَ وأحداثًا تستنبطها كلّما اقتضت الحاجة لخلق أزمة جديدة في أية منطقة منتخبة بهدف جعل الدول الضعيفة والشعوب المقهورة تدور في فلكٍ بل في أفلاكٍ دائمة من الفاقة المستديمة والإرهاب المتنامي والفقر المتزايد والحاجة الأزلية للغرب "المثالي" الذي يرفض التراجع عن درجة السيد "الخبير" أو "الماستر" في سياساته ومخططاته وسلوكياته الأدائية. فقد زرعت الدول "العظمى" الإرهاب في كلّ بقعة من الشرق في حقبة الثمانينات من القرن المنصرم وربما قبلها أيضًا بمعاونة أدواتها في المنطقة وبتمويل من بعض حلفائها ودعم لوجستي وبشري ومالي من قبلها في آنٍ معًا. كما عملت أميركا وحلفاؤُها لاحقًا ولغاية الساعة، على تغذية وتمويل نشاطات الإرهاب والإرهابيين وتثبيت أقدامهم في مناطق منتخبة وحسّاسة في سباقٍ استخباراتي مع مثيلاتها وتوابعها وأدواتها في بلدان الشرق بهدف إدامة زخم الفصائل الإرهابية التي تنامت وتناسلت وانتشرت كالأميبا وسط جهل وتخلّف شعوب المنطقة التي بقيت أسيرة ذيول الغرب وتحت رحمة فتاوى أرباب القلانس والعمامات والطيالس. 

حرب اقتصادية شرسة
قبل أيام فقط، أُسدلَ الستار عن اجتماعات مجموعة دول العشرين G20 التي عقدت في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس وحضرها قادتها وسط انقسامات حادة في العديد من النقاط، ومنها ما يتعلّق بشأن لوائح التجارة العالمية والحمائية والقواعد المتفق عليها. فقد ظهر تقاطع المجتمعين مع قيادة العم سام الذي يطمح منذ توليه إدارة بلاده للتفرّد بتوجيه اقتصاد العالم وفق رؤيته الاحتوائية التي ترفض بروز اقتصاد قويّ على المشهد الدولي غيرَ بلاده. فالإدارة الأمريكية التي تخشى تقليديًا دور الدبّ الروسي وتأثيره على مسار السياسة العالمية، بدأت تترصّد بروز الصين كقوّة اقتصادية عظمى قد تتفوّق عليها في السنوات القادمة على أكثر تقدير. فالنموّ النسبي الذي تشهده الصين مثلاً بحسب تقديرات مؤسسة فوكس إيكونوميكس العالمية  Focus Economics، يضعها على عتبة 6,4% متفوقًة على نظيرتها الأمريكية بثلاثة أضعاف والذي يُقدّر هذا الأخير بنحو 2,4%. أي ما معناه، أنّ حجم الإجمالي الإسميّ للناتج المحلّي للصين الذي يتراوح اليوم في حدود 13,09 ترليون دولار قد يفوق ما وصل إليه حجم الإجماليّ الأمريكي الإسميّ الذي تضعه هذه المؤسسة العالمية في حدود 20,25 ترليون دولار.
من هذا المنطلق في الرغبة الدائمة بالتحكم في اقتصادات الدول الأعضاء في هذا الملتقى العالمي نفهم جيدًا فحوى اعتراض الإدارة الأمريكية التقليدي على أية قوة يبرز اقتصادها أو يهدّد هذا الأخير بتفوّقه على الاقتصاد الأمريكي، ما يعني أيضا استخدام الإدارة الأمريكية أسلوب الابتزاز والمساومة والهيمنة بفرض قوانينها الخاصة في محاسبة غيرها من الأمم والبلدان التي تخرج عن طاعتها وإدارتها، في دلالة على بروز دلائل لحرب اقتصادية شرسة عالمية قادمة. وهذا ما يشير بالنتيجة إلى أسلوب فرض العقوبات والحظر والضرائب على إنتاج وتصدير السلع بين الدول وبما يؤمّن مصالحها القومية في كلّ الأحوال. فالصين لم تعد ذلك "العملاق النائم"، بل بالأحرى كما أسماها البعض، تمثل اليوم "ماردًا اقتصاديًا" يمنع غيرها من الدول المهزوزة إزاء سطوة أميركا من النوم والخوف والهيمنة. إنها بحق حرب في السياسة وفي الاقتصاد وفي الإنتاج وفي التصدير، بالرغم من اتفاق الأطراف المعنية في المجموعة جميعًا على هدف موحد أسمى يتكفّل بتعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي بين الدول الكبرى عبر النقاش والحوار والاتفاق والتشاور بحضور مؤسسات مالية دولية رصينة ومعتمدة من قِبَلها جميعًا تُعدّ الراعية للحفاظ على نوع الاستقرار المطلوب.
إن هدف أمريكا من سياساتها التعسفية هذه ومَن يسيرُ في ركبها، البقاء في قمّة الهيمنة على العالم والتربع على عرش الاقتصاد العالمي ما يسهل عليها التحكم بإدارة دفة الدول والسيطرة على سياساتها وتوجيه سلاطينها ووعّاظهم بشكل يتوافق مع مصالحها القومية قبل أي شيء، ولا شيء سوى هذا. أمّا دموع التماسيح التي تذرفها هنا وهناك على شعوب ابتليت بساسة وزعماء فاسدين من صنعها، فهي لن تشفعها ولا تبرّد حرارة الآلام والأزمات والصعوبات الجمّة التي تعانيها معظم شعوب البلدان النامية التي يتمّ استغلال ثرواتها بأبشع الطرق ويجري حلبُها في عزّ النهار وظلمات الليالي الكالحة. فهي تقتل القتيل وتمشي في جنازته. أليست أساسَ الفتن والحروب بخلقها أزمات متلاحقة واضطرابات فكرية وتأجيجها لصراعات دينية وطائفية وعرقية مترافقة مع إضعافها لاقتصادات هذه الدول الغارقة في أتون مختلف الصراعات المشار إليها؟

شتّان ما بين سياسة الغرب والشرق
على النقيض من الوجه المظلم لأميركا والغرب عمومًا، يحسبُ البعض حسنات لهذه الدول الاستكبارية التي تختلف تمامًا في تركيبتها الاجتماعية والفكرية وفي فلسفة الحياة والاقتصاد إزاء مواطنيها. فالكثير منّا يرى فيها بلدانًا تنبض بالحياة التي تقدّرها وتمنح الأمان والرفاه والراحة والحرية لمواطنيها بالرغم من اختلافات أصولهم وأعراقهم وأديانهم وألوانهم. صحيح أن الشعوب والأمم هي بناتُ اليوم. ف"الفتى ليس مَن يقول كان ابي، ولكن الفتى مَن قال ها أنا ذا". وصحيح أيضًا، أنّ تاريخ أمريكا حديث العهد من حيث الحداثة والتطوّر والتأسيس لدولة عظمى لم تكن فيها حضارة راقية في الأزمنة الغابرة كالتي نعرفها في شرقنا المبتلى بتخلّفه عن الركب العالمي بعد أن كان هذا الأخير يتمتع بحضارات راقية سادت آلاف السنين ثن بادت بفعل الأهوال والتغيرات في أداء البلدان والشعوب والأمم. لكن والحقّ يُقال أيضًا، أنّ الحسنة الأبرز التي تُحسب للغرب عامةّ وبخاصة أميركا، أنّ هذه الأخيرة تمكنت من بناء قدراتها من الفراغ ومن وضع الأعمدة الصلدة لأساس اتحادها مستفيدة من الطاقات المهاجرة إليها على مرّ الأزمان، بسبب إدراكها ما يعنيه التنوع الفكري والطائفي والعرقي والمذهبي للعقول المهاجرة التي وجدتْ فيها رعاية وحماية وتشجيعًا، بعكس السياسات الهدّامة لزعامات الدول النامية (النائمة) الطاردة للكفاءات المحلية والوطنية ولأصحاب الأفكار المتنورة.
    هذا هو الفرق بين ساسة القطب الواحد في أميركا الذين أحكموا سيطرتهم على سياسة العالم واقتصادها وبين ساسة الصدفة والمفاجأة وحديثي النعمة ومن وعّاظ السلاطين في مشرقنا المتخلّف، بسبب أنّ "مغنّي الحيّ لا يطرب" في بلداننا النامية، كما لا مكان لأصحاب الأفكار الرشيدة والعقول المتنورة والكفاءات العالية. وستبقى بلداننُا "أمينة ووفيّة" على تخلّفها وغائصة في أهوالها وغاطسة في شعاراتها العروبية وشعائرها المذهبية التي لم تعد تنفع مع الثقافة الجديدة والتأوين المعاصر للمعتقدات والأديان والمذاهب للبشرية جميعًا. فلكلّ عصر شعارُه ومسارُه، ولكلّ يومٍ همومُه ونوافذُه النافعة أو الضارة للبشر والأتباع. فما كان نافعًا ومتداولا قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا لم يعد حالُه كما بالأمس، ولا بدّ من التغيير نحو الأفضل والأحسن والأكثر فائدة، وليس بجرّ الإنسان والبشرية إلى متاهات الدهور المظلمة ودهاليز الصحراء والبادية "الحَرْفية" في العيش المتخلّف الذي لا يقبل التغيير. هذا طبعًا من دون الاستخفاف بكرم هذه الأخيرة وشجاعتها وما تمثله البداوة الأصيلة من شهامة وبطولة وفروسية في اتخاذ المواقف الرجولية لدى اقتضاء الضرورة. ومن هذه المواقف، الثورة على الظلم والانقلاب على ساسة الصدفة وقلب الطاولة على رؤوس الفساد والفاسدين والمفسدين ووعّاظهم في بلداننا الشرق الأوسطية أينما وجدوا وظهروا.
في ضوء الأحداث والفوضى القائمة في عراق ما بعد الغزو في 2003 حتى الساعة، لن تنفع بعدُ كلُّ الترقيعات الوقتية الجارية في تشكيلة أية حكومة جديدة. فجميع الشرفاء ومحبّو الوطن مقتنعون أن الحلّ الوحيد يكمن في التغيير الجذريّ والانقلاب على الذات اولاً ومن ثمّ الانقلاب على رؤوس الفساد والمتاجرين بمصير الوطن وأهله وناهبي ثرواته. وهذا لن يكون ممكنًا إلاّ بتعزيز السلم الأهليّ وإبعاد الدخلاء والأغراب عن الوطن وأهله الطيبين، والتوجه نحو بناء دولة مدنية تسودها العدالة والمواطنة والانتماء الصادق. حينئذٍ، نقف سدّا منيعًا ضدّ كلّ مَن يبكي أو يضحك علينا زورًا وبهتانًا سواءً بسواء.

184
صراع الميزانية... ملاحظات وأفكار
لويس إقليمس
بغداد، في 21 تشرين ثاني 2019
كثير هو اللغط الذي صاحبَ كتابة الميزانية وإعداد بنودها لعام 2019، تخطيطًا واسترشادًا وإرادة. فالتخطيط لها والاسترشاد بفقراتها وفرض الإرادة في التخصيصات لكل فقرة فيها، كان بلا شكّ بتدبير قادة الكتل المتنفذة الماسكة بناصية ثروات البلاد وتوجيه الأموال صوب الوزارات والجهات التي تضمن لها فيها حصصًا وقدرةً على إدارة تلك الوزارة أو توجيه المؤسسة أو الدائرة التابعة لها. فهذا ديدنُ سياسيّي الصدمة من محدثي النعمة في بلد ضاع فيه التخطيط لتحقيق مشاريع استراتيجية تخدم المواطن وتساعد على تنمية البلاد وتعزيز الموارد بطرق أصولية وحضارية لا تخرج عن المألوف والمشروع والقانونيّ. 
إعادة الميزانية من قبل مجلس النواب مؤخرًا إلى الحكومة العراقية وإلى  وزارة المالية تحديدًا لمراجعتها وتعديل العديد من بنودها وفقراتها كان أكثر من متوقع، بسبب ما احتوته من شوائب ونواقص وتخصيصات خارجة عن المألوف أحيانًا وأخرى مغالية في التخصيص لجهات مترعة لا تحتاجهُا بسبب ما تكتنزه من أموال السنوات السابقة، وكأنّ الإصرار على إبقائها جاء إيغالاً في تثبيت حصّة سنوية تحاصصية تطالب بها هذه الجهة أو تلك بالرغم من عدم حاجتها إلى مثل هذا التخصيص المالي في حين يتم حرمان جهات ومحافظات هي بأمسّ الحاجة إلى إعادة البناء والإعمار والتنمية.
المؤسف في الموضوع، أن أصواتًا وطنية كان منتظَرًا منها أن تعترض أو ترفض أو تطالب الجهة أو الجهات التي فرضت فقراتٍ مالية وأبوابًا غير أصولية وأخرى انفجارية في بعضٍ منها، لم ينبسوا بكلمة، بل لاذوا بالصمت. والصمتُ خير دليلٍ على الموافقة والقبول والرضا بما سرّهم من حصة وتخصيصات تضمن لهم المنافع والامتيازات التي أمّنتها لهم مسودة الميزانية التي أرادت جهات نافذة تمريرها بصيغتها الحالية بالرغم من مقادير الهدر في المال العام الذي يكتنف بعض الأبواب غير الضرورية بكلّ وضوح. أما الأصوات التي نادت برفضها وطالبت بردّها لعدم مقبوليتها، فقد عدتها ميزانية النكبة والظلم والانتقام، خصوصًا في الأبواب المخصصة للمدن المحررة ومنها المحافظات السنّية بالذات، والموصل والأنبار بالتحديد. فحجم الدمار الكبير الذي أصاب الموصل مثلاً وأقضيتها ونواحيها وبلداتها التي اجتاحتها ما يسمّى دولة الخلافة الإسلامية لا يمكن تصوّره من حيث التدمير والتخريب والتعطيل في البناء والبنى التحتية والمؤسسات الحكومية والمحلات التجارية والأسواق، إضافة إلى نهب الممتلكات وحرق المنازل وقل ما شئتَ أكثر مما رأيتُ بأمِ عيني.   
أمّا الصنف الآخر من المغرّدين بالاعتراض على مشروع الميزانية المذكور، فهو لا يتجاوز البحث الحثيث عن حصص إضافية لما هو مخصَّص أصلاً لوزاراتهم أو محافظاتهم أو إقليمهم أو الهيئات المستقلّة، أملاً بكسب المزيد لصالح هذه الجهة أو تلك. فقد كان المفترض أن تركّز ميزانية العام القادم 2019 على قاعدتين أساسيتين تصبان في خدمة المواطن وتنمية البلاد وليس منافع الكتل السياسية التي يشتعل فتيلُها حين الحديث عن التخصيصات. فكلُّ جهة توجّه مكاتبها الاقتصادية نحو البحث عن مزيد من التخصيصات من الأموال التي يمكن التلاعب بمقدراتها في ضوء الصراع القائم على الحصص الوزارية والمناصب التي كانت وما تزال تدرّ ذهبًا وعقارات ومخصصات وعمارات ومشاريع اكتظّت وتمتعت بها دول الجوار والخليج وحتى الغربية منها. فقد استغلّ مزدوجو الجنسية صفاتهم ووظائفهم ومناصبهم لاكتناز المزيد من الأموال والثروات في هذه البلدان في ضوء القوانين السائبة التي تسمح لهم بتبييض وغسل الأموال بالطرق الشيطانية أو تحت طائلة القوانين الجائرة التي صاغها ممثلو الشعب لتأمين تمتعهم بامتيازات خيالية جعلت التهافت على الانتخابات النيابية يأخذ مديات وأساليب وطرقًا ملتوية وصادمة أحيانًا لبلوغ قبة البرلمان.
لقد كان الأجدر والأجدى أن يستفيق ممثلو الشعب ليشعروا ولو للحظات ممّا أصاب أحوال مواطنيهم الذين أوصلوهم إلى قبة السلطة التشريعية، لا ليعتاشوا عليهم ويغتنوا من ورائهم ويستغلّوا مناصبهم عبر الضحك على ذقون البسطاء والرقص على جراح الفقراء والمعوزين الذين يتزايدون فقرًا على فقرهم، مقابل ثراء نواب الشعب وتزايد امتيازاتهم ومعهم كبار المتنفذين في الرئاسات الثلاث. كما أنه من المؤسف أن يبقى القطاع الخاص رهينة بيد قوانين محدثي النعمة من الساسة والمسؤولين في الدولة من الذين لا يهمّهم تطور هذا القطاع وتعزيزه بقدرات صناعية وإنتاجية تقف بالمنافسة مع المستورد الذي يتحكم به هؤلاء الساسة عبر مكاتبهم التجارية والاقتصادية وتحكّمهم بتوجيه سياسات الوزارات التي يتم الاستيلاء على مقدّراتها وعقودها بموجب صكّ إقطاعيّ لهذا الحزب أو ذاك.
من الواضح أنّ الحكومة السابقة سعت لإعداد ميزانية 2019 على عجالة بهدف كسب الوقت والظهور بمظهر الحرص الوطني على تقديم شيء مبكر يسهم في تعزيز ثقة الشعب والجهات المعنية بمقدرتها على مواصلة نهجها في قيادة البلاد بفضل فريقها الوزاري. لكنها وقعت في أخطاء كثيرة بسبب سوء التقدير أحيانًا، وفي غيرها بسبب تجاذبات ونزاعات وفرض إرادات من جانب كتل سياسية على حساب كتل أخرى. في حين لم تعر الاهتمام الكافي لقطاع الاستثمار مثلا، والذي خصصت له ما نسبته 25 %، وهي نسبة دون الطموح بحسب الكثير من المهتمين في الجانب التنموي إذ يعدّونها غير متكافئة مع ما تم تخصيصه للإنفاق العام ومنها مخصصات الرئاسات الثلاث السابقة والقائمة حاليًا. فالحاجة للاهتمام بهذا القطاع يأخذ مداه الواسع والضروري إذا أخذنا بنظر الاعتبار، مدى تقدير الحاجة الفعلية لحجم الدمار الحاصل في المحافظات المدمَّرة الخارجة من حرب ضروس مع تنظيم داعش الإرهابي وما خلّفته العمليات العسكرية التي رافقت تحرير المدن والبلدات والقرى وما أصاب البنى التحتية ودمار المساكن وغيرها. وهذا يتطلب تخفيض تخصيصات بعض الوزارات والجهات التي لم تعد فيها من الأولويات بسبب تناقص الحاجة في تقديراتها واحتياجاتها الآنية، ومنها وزارتا الدفاع والداخلية والمؤسسات الأمنية غير الضرورية التي أصبحت في جزءٍ منها منافسة للوزارتين المذكورتين.
في واقع الحال، فإن ميزانية 2019 لا تختلف عن سابقاتها من حيث اعتمادها في مجملها (حوالي 90% منها) على الثروة الريعية التي تأتي من بيع نفوط البلاد، من دون إيجاد بدائل حقيقية استراتيجية ومشروعة وفق قوانين منطقية قد تدر للبلاد ذهبًا لا يقل أهمية عن الثروة النفطية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر صناعة السياحة، الآثارية منها والدينية والطبيعية، التي لا تقلّ أهمية عن الثروة النفطية فيما لو جرى استغلالها بطرق أصولية ومن دون استغلال لجهات تهيمن علي مدخولاتها وطريقة جبايتها، كما يحصل حاليًا في السياحة الدينية التي لا يعلم إلاّ الله مقاديرها وطريقة استغلالها والتصرف بها. ناهيك عن الإهمال الحاصل في مجال السياحة الآثارية التي تعجّ بها أرض السواد العراقي من شماله إلى جنوبه. فلو استغلّت هذه جميعًا وغيرها كثيرٌ بطريقة أصولية ووطنية لدرّت للبلاد والعباد خيرًا وبركة واعتاشت عليها نفوس جائعة وعملت فيها أيادي عاطلة عن العمل تبحث عن رزقها اليومي كفاف يومها بطريقة مشروعة ومشرّفة.
ناهيك، عن الجهات ذات العلاقة باستحصال الضرائب الأصولية المعتادة بكافة صنوفها والمعمول بها في بلدان متحضّرة، لم توفّق لغاية الساعة في ترتيب وتنظيم هذا النوع من الضرائب الذي يعدّ من الموارد الكبيرة الذي يرفد ميزانيات الدول المتقدمة. فهناك جهات دخيلة غير أصولية تنافس الهيئات والمؤسسات المالية الرسمية، وهي في الواقع تهيمن على مداخل البلاد من موانئ ومطارات ومنافذ حدودية تدرّ عليها بملايين الدولارات سنويًا من دون أن تتمكن شبه الدولة القائمة حاليًا مثل سابقاتها بوضع حدود لليد الطويلة لهذه الجهات، من ميليشيات وعصابات وأزلام تابعة لأحزاب متنفذة ومشاركة في الحكومة. مقابل كلّ هذا وذاك، فقدأطلقت الحكومات المتعاقبة يدها من أجل تكبيل البلاد وثرواتها بديون وقروض متوسطة وطويلة الأمد ستضع الأجيال القادمة رهينة بيد الجهات المقرِضة بحجة حاجة البلاد إلى الأموال لأغراض الإعمار والبناء والاستثمار. والحقيقة أنّ معظم هذه القروض ضئيلة النفع العام بسبب غياب التخطيط المسبق وعدم توفر استراتيجية فاعلة وصحيحة لدى الجهات المعنية في مسألة وضع النقد المستدان والمنح والمساعدات في مكانها الصحيح إلاّ ما ندر. والسبب معروف لا يحتاج إلى تفسير، آفة الفساد الإداري والمالي التي تنخر في جسم الدولة العراقية ولا مناص من محاربتها والقضاء عليها بالرغم من حديث الساسة والمسؤولين التنفيذيين والتشريعيين بها جهارًا. لكنَّ الحقيقة غير ما يتحدثون عنه ويقولونه ويصرّحون به علنًا. فالبادي للملأ شيء كثيرٌ ومدهش، لكنَّ ما خفي كان أعظم!




185
بالقلم الأحمر: نداء إلى رئاسة الكنيسة الكلدانية الموقرة
لويس إقليمس
بغداد، في 19 تشرين ثاني 2018
معظم الشرقيين، ليس من السهل تغييرُ ذهنياتهم وتطوير طريقةِ تفكيرهم والتأثير الكبير على سبل تفاهمِهم سواءً مع المحيط الجديد الذي يحلّون فيه أو مع أترابهم وأتباع جماعاتهم الذين يقاسمونهم الغربة والأرض الجديدة والعيش المختلف. وقد يحتاجون إلى أجيال كي ينسلخوا عن جلدهم الشرقيّ الطباع وتغيير العادات التي تطبعوا عليها ومن ثمّ الاندماج في المجتمعات الغربية الجديدة بعقلية تساير وضعهم الجديد. 
فيما يلي، ثمرة من بقايا العادات والطباع والنظرة إلى الأحداث ومعالجة الحاجات وترتيب البيت في دول الاغتراب، وهي تحتاج إلى مراجعة ناقدة للمواقف وتفحّص للآراء وتغيير الرؤى في العمل المشترك بين الجماعات المغتربة. 
قبل أسابيع قليلة، كان الكاهن العراقي السرياني "الراهب سيبساستيان إقليمس" من الرهبنة الفرنسيسكانية، وأحد رؤساء دير في الأراضي المقدسة، في زيارة خاصة إلى فرنسا لزيارة ذويه في مدينة "نانت" الفرنسية. كانت رغبته كبيرة بإقامة قداس للمغتربين في هذه المدينة وكي تتكحل عيون والدته وذويه وأصدقائه المغتربين، الذين تشتتوا في أصقاع الأرض هربًا من عتوّ الإرهاب وداعميه وجالبيه، بقداس شرقيّ وفق الطقس السرياني. تمّ الترتيب مع القائمين على تنظيم شؤون الجماعتين الكاثوليكيتين من الكنيستين الكلدانية والسريانية لإقامة هذا القداس في الكنيسة التي اعتادت الجماعتان اللقاء دوريًا مع كاهن زائر من الكنيستين يَقدَمُ من إحدى المدن الفرنسية القريبة مقابل أجور تنقلاته ومصاريفه. كان اقتراح جماعة الكنيسة السريانية أنّ كاهنًا راهبًا سريانيًا موجود في زيارة لذويه وبإمكانه القيام بهذه المهمة مجانًا والللقاء مع الجماعة بهذه المناسبة. لكنّ عراقيل وضعها الشخص الموكَّل بتنسيق وترتيب هذه الطقوس واللقاءات المتفَق عليها بين الجماعتين، وذلك بعد استشارة كاهنه الكلداني الزائر كما يبدو، بحجة أنّ رئاسة الإبرشية اللاتينية التي تعود إليها الكنيسة التي تشترك فيها الكنيستان الكلدانية والسريانية لإقامة القداس لا توافق على كاهن غريب غير مخوّل مسبقًا من قبل رئاسات الكنيستين المذكورتين للقيام بمثل هذه الخدمة. وفي هذا التبرير غير المبرّر نلمح عدم صدقية القول بحسب رأيي المتواضع. بل مثل هذا الكلام تشوبه شكوك مبطنة وافتراءات غير جديرة بذوي الشأن الكنسي. فهل إقامة قدّاس لكاهن في زيارة خاطفة لدولة أو مدينة أو بلدة أمرٌ محظورٌ وممنوعٌ وغيرُ مقبول في نظر الكنيسة الكاثوليكية ووفق القوانين الرومانية والدوائر الفاتيكانية؟ هذه الحجة في التبرير بالرفض تحتاج إلى تفسير معمّق من الجهات ذات العلاقة في الكنيسة الكاثوليكية أولاً، ومن رئاسة الكنيسة الكلدانية الموقرة بالتحديد.
في اعتقادي، إنّ ما حصل قبل أيام "للراهب الكاهن سيباستيان"، وهو برتبة رئيس دير في أشرف مدينة مقدسة للمسيحية يستحق الاستهجان والسؤال والتنبيه والزجر والمساءلة، ليس لكونه شقيقي، بل قد يكون هذا قد حصل فعلاً لغيره في وقت سابق وسيحصل مستقبلاً لآخرين. فإقامة القداديس في بلدان الاغتراب التي تفتقر إلى كهنة ينبغي أن تكون نعمة وبركة وأُمنية، خصوصًا من كاهنٍ بمرتبته، وكونه يجيد الفرنسية والإنكليزية والسريانية والعربية. لكنه عادَ خائبًا وفي قلبه غصّة ولوعة وربما نقمة على مّن وضع مثل هذه القوانين أو افتعل الفعلة وحمّلها لغيره.
 أضع هذه الملاحظة المهمة أمام أنظار رؤساء الكنائس المشرقية كي تُدرج في جدول أعمالهم خلال اجتماعاتهم المنتظرة بعد أيام في حاضرة العراق، بغداد
.
للمزيد بهذا الخصوص، فقد طرقَ مسامعي خلال زيارتي الأخيرة إلى فرنسا قبل ما يقارب الشهر أي في العشرين من شهر تشرين أول المنصرم لذات الهدف أي لزيارةأهلي ووالدتي، انتقاداتٌ لاذعة مماثلة من جانب أصدقاء ومقرَّبين، وهي تصبّ في ذات المشكلة القائمة بين الجماعتين في هذه المدينة بالذات، حيث صار الحديث عن نوايا قائمة بفرض الفريق الكلداني رأيه وإجراءاته في ترتيب إقامة القداديس والأنشطة والمناسبات المشتركة بين الجماعتين وفي وضع اشتراكاتٍ بالمصاريف المستحقة على العائلات المسيحية في المدينة مقابل قدوم الكاهن الزائر. كما أنّ الثنائي الذي طغى الحديث عنه في جلسة الأصدقاء تلك، والمتكون من الكاهن المحترم "فادي"، راعي الجماعة الكلدانية والسيد "ماجد"، وكلاهما من "شيعة الكلدان"، والمتولّي التنسيق مع "سنّة السريان الكاثوليك" بخصوص ترتيب مناسبات الاحتفالات وإقامة القداديس الدورية، اعتادا وضع العراقيل أمام الكاهن السرياني المكلَّف بزيارة أبناء الجماعة السريانية كما هو متفق عليه. ومثل هذا التصرّف غير المقبول قد خلق شيئًا من الامتعاض والبرود وعدم الرضا من الجماعة السريانية تجاه إخوتهم الكلدان الآخرين بسبب النظرة الطائفية المتعصّبة التي يحملُها نفرٌ من أتباعهم والمتولّين أمرهم. (عذرًا على استخدامي مصطلحات طائفية منبوذة من واقع الحال العراقي للسخرية من الفعل الحاصل).

مبدأ مستهجن للتفوّق العددي
إنّي بهذا الصدد، أعيد إلى الأذهان أنّ مثل هذا السلوك غير المقبول في التعصّب الطائفي المبني على الأكثرية والأقلية العددية من جانب الجماعات العراقية المسيحية المغتربة يذكّرنا بذات النظرة القائمة في أوساط الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الغزو الأمريكي في 2003، والتي يعاني الشعب العراقي المغلوب بكافة مكوّناته. فهو كارثة مدمّرة قتلت الروح والجسد وأفسدت الفكر والرأي ودمّرت الأخضر واليابس وأوقفت النموّ والتطور وأرجعت البلاد والعباد سنوات ٍ إلى الوراء في التخلّف في كلّ شيء.
أمّا خلاصة هذه النظرة، فهي ترتقي إلى حجة التفوّق العددي من حيث الأكثرية الشيعية مقابل الأقلية السنّية بعيدًا عن مبدأ التساوي في المواطنة والعدالة والجدارة. فالشيء ذاتُه تطبّقه الجماعة الكلدانية في هذه المدينة تجاه أتباع الكنيسة السريانية. وربما هو ديدَنُ غيرهم في دول ومدن وبلدات أخرى. فشيعة العراق قد أصابهم التيه والكبر والاستعلاء، ما منحوا لأنفسهم التصرّف بموارد العراق على هواهم والنهب من ثرواته وفرهدة كلّ ما يتمكنون منه. ففي نظرهم وفي فكرهم وفي سلوكهم، كلّ ما تقع عليه أياديهم الطويلة وأعينهم العريضة وأفواهُهم الفاغرة حلالٌ زلالٌ متاحٌ من دون عوارض ولا مساءلة ولا حواجز. وخير مثال على تطبيق هذا المنهج الفاضح، النهجُ الطائفي في وضع ميزانية الدولة للعام القادم. فهي مصمّمة وموجهة في معظمها لتلبية مصالحهم وتسيير شؤونهم بعيدًا عن الاستراتيجية المطلوبة لكبح الفساد وأدواته وللتخصيصات المطلوبة للخدمات ومعالجة البطالة وإعمار المدن المحرّرة التي أُهملت وجُرحت مرارًا وقُتلت بفعل طيش الأداء الحكومي وأسبابه وأدواته ونهجه، تمامًا "كالموءودة التي سُئلت بأيّ ذنبٍ قتلتْ".أمّا السبب  في إيذاء وقتل شعوب المناطق التي اجتاحتها عصابات داعش بفعل فاعل، فقد كان أكثر سخفًا وأشدَّ استهجانًا لكونه إيغالاً في التمادي بالنهج الطائفي لإنهاء دور المحافظات السنّية ورجالها والأقليات المتعايشة في أكنافها منذ آلاف السنين. من هنا يشيرُ هذا الفعل المدمّر بتوجيه ميزانية الدولة لصالح المكوّن صاحب الأكثرية العددية، إلى نوايا سيئة مع سبق الإصرار. فهمْ بهذا الفعل قد ضربوا عدة عصافير بحجر واحد وأمّنوا للحشد التابع للأكثرية الشيعية موقع قدم بحجة استكمال محاربة "داعش" والمتعاونين مع التنظيم الإرهابي الذي كانت له ملاذاتُه وبعض مواقعه لدى كردستان ولدى الجارتين تركيا وإيران المشاركتين في ذات الفعل والخطيئة.

الصراحة لا تفسد في الودّ قضية
عذرًا لمزيد من الصراحة في معاينة ما حصل وقد يحصل. فبسبب الحدث الأخير الذي أنا بصدده في هذا التنبيه الموجه أساسًا إلى عناية رئاسة الكنيسة الكلدانية الموقرة في العراق والعالم، لم يكن بودّي إلاّ العودة إلى الوراء للتذكير فقط، وليس لإإثارة المواجع وآلام السنوات التي رافقت احتلال داعش لمناطق سهل نينوى واستغلال الوضع الاستثنائي من قبل جهات كنسية طبّقت ذات الفكرة في مبدأ الأكثرية حيال عمليات النزوح وما رافق ذلك من شبهات في عمليات توزيع الاستحقاقات على النازحين لتلبية احتياجاتهم طيلة فترة النزوح. ومع احترامي لكلّ التبريرات والحجج التي قدمتها حينذاك رئاسة الكنيسة الكلدانية والمحلية في كردساتان، إلاّ أن واقع الحال لم يعفها البتة من التلاعب بما ورد بين أياديها من معونات ومساعدات وحوالات مالية ضخمة وفرص دراسية، مخصّصة أصلاً للنازحين من القرى والبلدات المنهوبة والمدمّرة، لا لشيء بل لكونها صاحبة الأرض المضيافة وتقديرًا خاصًا لصاحب الكاريزما المتميزة والكلمة الجريئة والباع الطويل في التواصل مع أركان السياسة في الداخل والخارج، غبطة البطريرك الصديق لويس ساكو أدام الرب عزّه. فممّا لاشكّ فيه، أنّ اليد الكلدانية في كردستان كان لها باعٌ طويل في التحكم بمعظم ما ورد بين أياديها، فتقاسمت تلك المساعدات والمنح مع الكنائس وفق منهج العدد الكتلي لأتباع كلّ كنيسة وليس وفق الحاجة الفعلية للنازحين. فواقع الحال حينها، لم يسجّل تأثّر القرى الكلدانية والعديد من بلداتها إلى التدمير والخراب كما حصل مع البلدات السريانية، مثل قرقوش وبرطلة وبعشيقة، ماعدا بلدة كرمليس المتاخمة والتي تقع ضمن محور الحمدانية. ولو تفحصنا عدديًا ومساحة، لرأينا أن الدمار الذي أصاب البلدات السريانية أكبر بكثير من الذي أصاب القرى الكلدانية الصغيرة مثل تلكيف وباطنايا وباقوفة وتلسقف نسبيًا قياسًا إليها، باستثناء مدينة الموصل طبعًا. ومع ذلك، فقد كان للكنيسة الكلدانية النصيب الأوفر ممّا ورد على يديها، وبه تمكنت بالنتيجة من ترتيب شؤونها في إعمار مدارس وجامعات وبناء كنائس ومراكز ثقافية مستفيدة من الثقة التي أوليت لها من جانب دول ومنظمات باعتبارها جهة رائدة وقائدة لعمليات الإغاثة وصاحبة الأرض والنعمة. وهنا لعبت التجارة دورها الفاعل في وضع اليد على الكثير ممّا وصل للمسيحيين اللاجئين إلى كردستان وسط ذهول الكثيرين حينًا والصمت الموجع للبعض حينًا آخر والاعتراض الفاضح من جانب أصوات أخرى ارتفعت علنًا في أحيان أخرى وتلقت النقمة واللعنة بسببها، وأخيرًا الخرس الاستحيائي الذي بقي ومازال سيد الموقف لجهات أخرى آثرت السكوت والمجاملة على حساب الواقع والحق.
أرجو من المعنيين في هذا الشأن عدم الزعل والامتعاض من صراحتي التي عهدتُ بها في متابعتي للشأن الوطني والكنسي والمجتمعي معًا، وعدم الذهاب في خيالهم أبعد ممّا تستدعي هذه الصراحة والمكاشفة من كلمات وتشبيهات واتهامات ومن مفارقات في آنٍ معًا. فالاختلاف في الرأي وفي تقدير الأمور والحكم على الأحداث وفي الرؤية المختلفة لا يفسد في الودّ قضية. فهناك حقائق على الأرض وهناك صروح واقفة شمّاء ووقائع وشخصنة لهذه الأخيرة نالت حظَّها على حساب استحقاقات النازحين وبمسمياتهم، وبحجة إعمار مناطقهم وديارهم التي سلبت ونُهبت وحرقت ودُمّرت وخرج منها أهلوها خوالي الوفاض بعد أن غادروها بلا رجعة. وفي هذا النطاق، أودّ التذكير أنّ مَن غادر من هؤلاء الذين بُخست حقوقهم بأيادٍ عديدة، دولية وحكومية ومحلية وحتى كنسية، لن يفكروا بالعودة إلى خراب البلدة ودمار الدار وانحراف الفكر وانتهاء البلد بما فيه من بنيان وبنية تحتية وفكر منحلّ وعصابات منفلتة ولصوص الليل والنهار وقضاء متعب مسيَّس وحكومات تحت طائلة المحاصصة التي تفرضها الأحزاب الفاسدة وبرلمان جلّ ما يقدر على فعله زيادة مخصصات أعضائه ومرتباتهم التي لا تعرف للسقف حدودًا وساسة الصدفة الذين لا يعرفون غير لغة الخمط والغرف من العقود التي تدرّها على أحزابهم وكتلهم موارد الوزارات التي تقع تحت إقطاعياتهم والقفز على عقارات الدولة ودور المواطنين البسطاء ومنهم المسيحيين بالذات.
أفَهلْ إزاء كلّ هذه المتاهات والمتناقضات والمفارقات والأعمال المنكرة سيفكر المغترب والمهاجر بالعودة إلى بلد متهالك، مهما كثرت نداءات الغرب الماكر ومهما علتْ أصواتُ سياسيّي الفجأة المفسدين في الأرض ومهما ارتفعت وتعالت وطالت صياحاتُ رؤساء الكنائس الذين يهمهم القطيع الصغير المطيع كي يبقى مطيعًا خاضعًا تحت رحمة الأقدار وتجار السياسة وطالبي المناصب والكراسي المدنية والكنسية على السواء؟ فهذه البلاد لن تعود لها عافيتُها في القريب العاجل، وعلينا الانتظار لعقودٍ لن يكون بمقدورنا نحن المتقدمين في العمر أن نرى أضواءَها ونفرح لتباشيرها، هذا إن حصلتْ. فالمغادرون بلا رجعة كانوا السابقين وغيرُهم اللاحقون وعلى ذات الدرب متوجهون، ولنا في الأمر ما يقرّب الرأي والرؤية معًا في ضوء الأحداث والوقائع. مع تمنياتي بدوام العزّ والجاه والصحة ومواصلة الكلمة الصادقة المجلجلة لغبطة رأس الكنيسة الكلدانية، صمّام أمان المسيحية وسائر ألأقليات ومحبّ العراق وشعبه بكلّ أطيافه وتلاوينه كي يبقى وطنًا صالحًا للجميع تسوده المساواة والعدالة وفيه يطبّق القانون بالعدل على الجميع ومن دون تمييز بطابع الأكثرية والأقلية.



186
الحركة الكشفية، جذورها وفاعليتُها
الجزء الثالث والأخير
لويس إقليمس
بغداد، في أب 2018
نبذة عن الحركة الكشفية في العراق
كان العراق سبّاقًا دومًا للانخراط في الحركات التنويرية التي تخدم الوطن والمجتمع وتسعى لتقديم الأفضل من أجل خلق أجيالٍ يصنعون الحياة ويبنون الوطن على أسس صالحة وصحيحة. إنّ خير مَن كتب عن الحركة الكشفية في العراق، الدبلوماسي الراحل نجدت فتحي صفوت في كتابه "أحاديث في التاريخ". كما لا يمكن نسيان أو تجاهل غيره ممّن تطرقوا إلى هذه الحركة في مقالاتهم نقلاً عمّن سبقوهم. يذكر المرحوم، الكاتب والمؤرخ والمترجم نجدت، أن تاريخ هذه الحركة في العراق يعود إلى أواخر عهد الدولة العثمانية، التي أدخلت هذا النظام تقليدًا بحلفائها الألمان. ويعود تأسيس أول فرقة كشفية في بغداد إلى عام 1915م في مدرسة السلطانية. ولكنها سرعان ما اختفت بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى. 
جاء العام 1918م ليُعاد نشاط الفكرة بعد احتلال الانكليز للعراق وتسلّم ضابط بريطاني، يدعى المستر "غاربت"، لشؤون المعارف والمالية فيما بعد، حيث تم تشكيل عدة فرق كشفية في عدد من مدارس العاصمة بغداد ومنها مدرسة البارونية والحيدرية والفضل وباب الشيخ والكرخ ورأس القرية. هناك ذكر لمدرسة أهلية تابعة للطائفة الكلدانية أدخلت النظام الكشفي في أنشطتها، بحسب بعض المقالات التي تتطرق في بعض المواقع الالكترونية إلى تاريخ نشوء هذه الحركة، ولم يتسنى لنا التأكد من صحتها.
في سنة 1919م تم تشكيل جمعية من قبل ضابط بريطاني آخر يدعى "الميجر بومن"، أخذت على عاتقها العمل على تسهيل أنشطة الفرق الكشفية وجمع التبرعات التي تساعد على إحياء برامجها وأنشطتها. لكنها لم تستمر طويلاً أيضًا، وكان مصيرها الاختفاء. وبعد تأسيس الدولة العراقية، وتولّي ساطع الحصري لإدارة المعارف بالعراق، عمل هذا الأخير على إعادة توجيه العملية التربوية وفق منهج وطنيّ وقوميّ. وكان للنظام الكشفي حصة من برنامجه، ومنها إصدار مجلة (الكشاف العراقي) في العام 1924م، والتي كانت تصدر مرتين في الأسبوع وتعنى بأنشطتها ونقل أخبارها وأخبار الحركات الكشفية في الوطن العربي والعالم. إضافة إلى تشجيعه بتأسيس فرق كشفية في ألوية (محافظات) أخرى مثل الموصل وكركوك والبصرة والعمارة والناصرية، حتى بلغ مجموعها 62 فرقة، ليصل عديد المنتمين إليها بين 1930-1931 حوالي اثنا عشر ألف كشاف من كلا الجنسين. ويضيف صاحب الكتاب، أن جمعية الكشاف العراقي أخذت على عاتقها الاهتمام بالحركة الكشفية في البلاد، كما تبنّت لها آنذاك نشيدًا وطنيًا يتغنى به الكشافة في المناسبات الوطنية.
يختلف المؤرخون حول تاريخ تشكيل أول فصيل للمرشدات في العراق، تابع للحركة الكشفية. وأكثر الظنّ أن هذا الفصيل تم تشكيله في عام 1925 بنواة صغيرة انطلاقًا من دار المعلمين الابتدائية وليتسع أعداد المنضوين إليه في العام 1957 عبر تشكيل ست فرق.
استمر النشاط الكشفي في العراق حتى سنة 1936م لحين استبدال تسميتها بما سُمّي بنظام "الفتوّة" الذي وضعه آنذاك الدكتور سامي شوكت الذي كان مديرًا عامًا للمعارف ثم وزيرًا لها. وكان هذا أشبه بنظام عسكري في الزيّ والرتب والشارات، واستمر هذا النظام حتى قيام "حركة مايس" عام 1941م. وبعد عودة الخبراء الانكليز ثانية بعد فشل حركة الضباط الأحرار، تم إلغاء نظام الفتوّة الذي شُبّه بمنظمات فاشستية ونازية مرتبطة بدول المحور، ألمانيا وإيطاليا.
في سنة 1949 تولت وزارة المعارف إعادة تنظيم الحركة الكشفية في العراق بإيعازها إلى مديرية التربية البدنية إقامة دورات لقادة الكشافة عبر إيفاد عدد منهم إلى بريطانيا لينالوا ما سُمّي ب"الشارة الخشبية". وحين عودتهم، تولوا تدريب غيرهم وتوسيع نشاط الحركة وتأسيس فصائل جديدة. في عام 1954، كان العراق من ضمن الدول التي ساهمت بقوة بتأسيس المنظمة العربية للكشافة، واستضاف العديد من الأنشطة الكشفية العربية، إضافة إلى مشاركته في المخيم الكشفي الأول المنعقد بالزبداني في سوريا. واستمر النشاط الكشفي في العراق بعد ثورة 14 تموز 1958م، بعد تقسيم الأنشطة إلى "كشافة" للفتيان و"مرشدات" للفتيات. فيما توسعت أنشطتها لتشمل زيارات ميدانية بين المدارس والمشاركة في أنشطة اجتماعية وفنية.
في عام 1965، صدر قانون نظام المجلس الأعلى للكشافة الذي وُضع بإشراف وزير التربية ويتمتع بالشخصية الحكمية. وجاء في المادة 4 من النظام:"الحركة الكشفية حركة تربوية اجتماعية وطنية ذات نفع عام ترعاها وزارة التربية وتساعد على نشرها ماديا ومعنويا". 
بعد ثورة تموز 1968، زاولت هذه الحركة أنشطتها الشبابية عبر دورات تثقيفية وإرشادية تفيد المجتمع أو عبر المخيمات الكشفية التي أُقيمت لأجل هذه الغاية في بعض مدن العراق أو خارجه. لكنّ مجمل هذه الأنشطة والأهداف تمّ تحويلها لاحقًا لصالح الحزب القائد وتمجيد رئيسه من خلال تسييسها. وقد شهدنا جميعًا انخراطًا شبه إلزاميّ لناشئة الوطن في فترة من الفترات تحت مسمّيات "الطلائع" و"الفتوة" بعيدًا عن الالتزام بالتعليمات واللوائح العالمية للنشاط الكشفي الذي نعرفه والمعتمد على المبادئ الإنسانية الأساسية للحركة الكشفية. لكن ذلك التوجه لم يمنع قيام بعض الأنشطة الكشفية في مراحل معينة وفقًا للظروف. فقد استضاف العراق المخيم الكشفي العاشر في غابات الحدباء بالموصل في عام 1972 مثلاً. وظلت أنشطة هذه الحركة متذبذبة في تواصلها حتى بداية التسعينات حيث حرب الخليج التي انقطعت فيها البلاد عن العالم. وبعد الغزو الأمريكي في 2003، حصلت جهودٌ حثيثة لإعادة إحياء أنشطة الحركة الكشفية بعد استقرار نسبي في البلاد. ومنها ما قامت به وزارة الشباب والرياضة بتفعيلها للكشافة المدرسية، وكذلك جامعة بغداد في كانون ثاني 2013، ومثلُها بعض محافظات العراق، ولو على نطاق ضيّق. كما ساهم تنظيم اتحاد الطلبة "الكلدو-الآشوري" الذي يعود له الفضل بتأسيس كشافة حمورابي في 2015، بقسط من الفعاليات الكشفية في بعض كنائس العراق من خلال مخيمات أو في الاحتفالات الرسمية والكنسية.



187

الحركة الكشفية، جذورها وفاعليتُها
الجزء الثاني
لويس إقليمس
بغداد، في أب 2018

المؤسسون والرواد الأوائل
للحديث عن تاريخ تأسيس الحركة الكشفية، لا بدّ من المرور ولو على عجالة على ذكر الرواد الأوائل والقادة الذين طبعوا بصماتهم الشخصية عليها وفقًا لمبادئ مسيحية اتسموا والتزموا بها. فقد كانوا حقًا روادًا بموازين ومزايا عالية في الإنسانية وفي التعامل البشري المثالي، فسعوا عبر تفاعلهم مع المجتمعات التي عاشوا فيها من أجل خلق جسور للتفاهم والمحبة والتعاون بين الأمم والشعوب أجمع.
•   روبرت بادن باول (1857-1941م) المعروف باسم "إمبيسا " (Impeesa)
روبرت بادن باول Robert Baden-Powell مواطن بريطاني، نال شهرة واسعة في بلده وفي العالم بسبب جدارته وشجاعته وسعة تفكيره. ولد في 22 شباط 1857م في لندن بانكلترا، وهو السادس بين الأخوة والثامن بين أفراد الأسرة. لُقب بلقب "Impeesa" وتعني في إحدى اللغات الجنوب الأفريقية المحلية المعروفة ب "بانتو" Bantu، ب"الذئب الذي لا ينام أبداً". وقد رافقه هذا اللقب في مسيرته العسكرية أثناء خدمته في الجيش البريطاني في أفريقيا، وبعدها لدى تأسيسه لمنظمة الكشافة العالمية كحركة شبابية في 29 تموز عام 1907م. 
ينحدر "باول" من أسرة بسيطة فقدت معيلها وهو في سن الثالثة من عمره. لم يسعفه الحظ أن يحظى بنظام دراسي جيد، بسبب عدم مقدرته على مجاراة الدراسة في صغره. بل كان شغفُه البارز ينصبُّ في استطلاع طبيعة الغابة التي كانت تجاور مدرسته وفي اكتشاف ما فيها من جواهر ومناظر طبيعية وحياة تعجّ بها. وهذا ما لاحظه عنه المقيمون على تعليمه منذ الصغر. فقد شوهد مرارًا وهو يتعقب الحيوانات البرية ويطارد الأرانب ليصطادها ويقوم بشوائها خلسة وبحذر، خشية تصاعد دخان نار الشواء وكي لا يفتضح أمرُه فيتحاشى المحاسبة. وعندما لم يستطع دخول الجامعة، اتجه صوب المدرسة العسكرية التي أثبت فيها نجاحه وتفوّقه بجدارة في سلاح الفرسان. وعندما أصبح برتبة "كابيتين" أي نقيب في الجيش، طرأت في مخيلته فكرة تشكيل دوريات استطلاعية قادرة على استكشاف منطقة الغابة ومعرفة ما في أركانها المترامية.
 جاء العام 1899 الذي فيه انبرت شجاعته وأثبت جدارته كعقيد في الجيش البريطاني عندما قاد سرّيته لإنقاذ مدينة Mafeking من الحصار المضروب عليها أثناء ما يسمّى بحرب "ال Boers  الثانية (1899-1902) في جنوب أفريقيا من قبل الهولنديين. ومنها انطلقت شهرتُه حيث استقبل في بلده إنكلترا استقبال الأبطال لدى عودته إليها بعد تحقيق النصر. ومما زاد في شهرته، اهتمامه بدور الشباب وإصداره كتابًا يتحدث فيه عن وسائل لمساعدة الكشافة Aids to Scouting. فقد استطاع بفضل خبرته في الجيش والفترة التي أمضاها في بطون الغابات، أن يحثّ مفاصل هامة في المجتمع البريطاني ومجاميع من الشباب للاستعانة بخبرته وطلب المشورة عبر رسائل مثيرة للغاية. وممّا ساعد في تغيير منحى حياته، استقالتُه من الجيش في عام 1907والتوجه نحو تعليم الشباب فنّ صناعة السلام بدل الحرب عبر الحركة الكشفية التي أسسها. وكان هدفه في بدايتها تعليم الفتيان فنون الاسعافات الأولية ووسائل بسيطة للدفاع المدني. وهذا كان أول الغيث حين تشكيل معسكره الأول للشباب في جزيرة "براونسي" لاختبار مبادئه في التربية والتعليم من خلال الألعاب الممارسة فيه وفسحة الاستقلال بالذات وبناء الثقة التي حاول زرعها في نفوس المشاركين. وبعد عامين، جاءته فكرة إنشاء فرقة خاصة بالفتيات، بعد تفاجئه بمشاركة فتيات في تجمّع أعدّ له على المستوى الوطني، وأوكل إدارته إلى أخته. ومن هذا التاريخ 1909 تشكلت فرقة المرشدات في الحركة الكشفية الدولية التي نعرفها اليوم على مستوى عالمي. وتلكم كانت انطلاقة الحركة الكشفية العالمية بشقيها الكشفي والإرشادي.
نال السير "بادن باول" وسامَ جوقة الشرف برتبة قائد في 1922 ووسام الصليب الأكبر والوسام الملكي وأوسمة وجوائز كثيرة أخرى. آخرُ وصاياه تُختصر في رسالته الأخيرة للمنضوين في الحركة الكشفية. ومما قاله فيها:" أعتقد أن الله قد وضعكم في هذا العالم كي تكونوا سعداء وتستمتعوا بالحياة. ليست الثروة ولا النجاح ولا التسامح هي التي تخلق السعادة. دراسة الطبيعة تعلّمكم أنّ الله قد خلق أشياء جميلة ورائعة للتمتع بها. إفرحوا بما لديكم واسعوا لتحقيق الأفضل. انظروا إلى الجانب المشرق في الأمور وليس الظلامية منها. إجعلوا العالم أفضل مما كان عليه حين قدومكم. وحين اقتراب ساعة الموت، يمكنكم قبوله بسعادة لأنكم لم تضيعوا الوقت، وأيضًا لقيامكم بفعلِ أفضلَ ما لديكم. كونوا مستعدين للعيش بسعادة والموت بسعادة. كونوا دائماً أوفياء للوعد المقطوع، حتى حين بلوغكم سن الرشد. أعانكم الله. محبُّكُم بادن باول".
 كانت وفاتُه في 8 كانون ثاني 1941 عن عمر 83 سنة.
جاك سيفن Jacques Sevin (1882-1951)
ولد جاك سيفن في 7 كانون أول 1882م في مدينة ليلي بشمال فرنسا. سيم كاهنًا في 2 آب 1914م. ينتمي جاك سيفن إلى الرهبنة اليسوعية، ويُعدّ المؤسس الحقيقي للحركة الكشفية في فرنسا عام 1919 بالمشاركة مع كاهن آخر يدعى كورنيت، بالرغم من ظهور أولى بوادرها في عام 1911م أي بعد أربعة أعوام من تشكيلها في إنكلترا على ايدي بادن بأول. وكان قد وضع برنامجه لتأسيس أول فرقة كشفية في عام 2017، سرعان ما تطورت إلى حركة واسعة في البلاد بعد عامين ليتولى قيادة الحركة في بلاده سنة 1920م. دامت قيادته لها أكثر من عشر سنوات، وقد منحها طيلة تلك الفترة عمقًا روحيًا عندما أعاد صياغة قوانينها والقَسَم الذي يردده المنتمي إليها بحيث جعلها ملتصقة بإيمان الكنيسة الكاثوليكية ومبادئها وعقائدها. وهنا كان لا بدّ له من محاججة أصحاب الظنون الخبيثة من الوسط الكنسي نفسه، من المشككين بمفاعيل هذه الحركة ومبادئها من الذين صبّوا جام اتهاماتهم آنذاك بتبنّي مؤسسيها أفكارًا فراماسونية أي ماسونية (البنّاؤون الأحرار) التي تدعو لتحقيق الإنسانية وفق تصورات الفرد الشخصية واستخدام السبل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف. وهذا المفهوم قريب بعض الشيء ممّا أورده المفكر الفرنسي جان-جاك روسو في طروحاته ومؤلفاته عبر سمفونية تجمع بين شكل الطبيعة والإيمان الذي يعدّه روسو شيئًا إلهيًا واحدًا. بمعنى آخر، تُتهم بدايات الحركة الكشفية في فرنسا بتبنيها المفهوم الفكري الذي كان ينظر إلى الطبيعة والكون باعتبارهما إلهًا أي أن الله هو الكون وهو الطبيعة أيضًا.
لا شكّ أنَّ مثل الأفكار والمفاهيم كانت تشكل في تلك الفترة الناهضة شيئًا من الإشكالية وتحتاج لنوع من التصفية أو الفلترة والعزل الفكري بين الهدف والنتيجة. ولعلّ من جملة ما كانت تشكله هذه الحركة في بدايات تأسيسها أيضًا، ما رآه البعض من منافستها لأصحاب القرار في المؤسسات الكنسية أو الراعوية من حيث تسليمها بأهمية مشاركة العلمانيين في اتخاذ القرارات التي تخص المؤمنين والمؤسسة الكنسية في كل رعية. وهذا ما حدا بالأب "سيفن" تحت سيل الانتقادات أن يتخلى عن مسؤوليته في عام 1924، وابتعاده النهائي عن اي نشاط فيها في عام 1933 لأسباب تتعلق بسوء فهم واختلاف في وجهات النظر. ولكن الحركة احتفظت له بجملة تراتيل وأنشودات، ولاسيّما المتعلّق بلحن القَسَم الذي يؤديه الفتى والفتاة.
عانى "جاك سيفن" من الإهمال والتجاهل لسنوات. لكنّ الكنيسة قد أعادت له ما استحقه من واجب التقدير والاحترام والشرف في عام 2012.
التقى لأول مرة مع المؤسس الأول للكشافة العالمية "بادن باول" في لندن في 20 أيلول 1913، وفيه تناقش الرائدان حول تشكيل كشافة كاثوليكية في فرنسا.
توفي ليلة 19/20 تموز 1951م والصليب لا يفارقه. أعلنه البابا بندكتس السادس عشر طوباويًا في 10 أيار 2012.

•    ألبرتين دوهاميل Albertine Duhamel  (1871-1937)
لم تكن حياة هذه المرأة سهلة، فقد تيتمت وهي في عمر 14 عامًا، لكنها أبدت من القوة والشجاعة في شخصيتها ما جعلها ترتقي منصب الأمين العام لرعاية الإناث في عام 1910. وكان أنْ فقدت ابنها في أتون الحرب العالمية الأولى، ما دفعها للانخراط في منظمات عديدة، منها تلك المهتمة آنذاك بإنقاذ الطفولة والأيتام القاصرين. تولت إدارة أول مدرسة لإعادة تأسيس دار تأهيل المشوّهين والمعاقين بين عامي 1914 و1919. كما اتخذت على عاتقها مشروع الوجبات الشعبية ومحطات استراحة للعلاج للمحتاجين من المهمّشين لهذه الخدمة الإنسانية. ومجمل هذه المشاريع قادتها لاحقًا للانخراط في أنشطة الحركة الكشفية. فقد تمكنت بالتعاون مع زميلتها ماري دييمر Marie Diémer الرائدة في مجال العمل الاجتماعي لصالح النساء من تقدير أهمية استقطاب الفتيات في العمل الكشفي. لذا في عام 1923، تمكنت من توحيد مجموعات مختلفة للإرشاد الكاثوليكي لتخرج بنتيجة أكثر تعميمًا للفائدة عبر تأسيس ما أسمته بالمرشدات في فرنسا. وهذا العمل حمّلها مسؤولية إدارة فرق المرشدات الرئيسية في البلاد حتى وفاتها في عام 1937.

•   ميشيل مينو Michel Menu (1916- 2015)
ولد "ميشيل" في 3 شباط 1916م من أسرة فرنسية مسيحية كاثوليكية، وعلى أساسها ربّى أولاده الخمسة. حصل على شهادة الهندسة ومارس الكتابة. يُنظر إليه باعتباره واحدًا من أعمدة الحركة الكشفية ليس في فرنسا فحسب، بل على الصعيد العالمي. تولى إدارة الحركة الكشفية في فرنسا في فترة حرجة بين 1946-1956م. من جملة ما أضافه إليها، التأكيد على الاحتياجات الروحية للمنضوين للحركة الكشفية وحث الشباب على إعادة إعمار البلاد.
 أسّسَ "رابطة الكشافة" ومن ثم جرى دمجها مع الحركة الكشفية والمرشدين فيها. عمل بجدّ على تجديد الحركة الكشفية عبر أساليب مستنبطة من أجل خلق نخبة من الشبيبة متحمسة لممارسة تقنيات حديثة تمسّ الحياة اليومية، كالميكانيكا والطيران والهبوط بالمظلات، والرياضة القتالية وما سواها. وقد وصل أعداد الشباب الذين تعلموا الفنون القتالية في فترة 10 أعوام ما يربو على 10-15% من عموم المجاميع الكشفية ممّن أتيح لهم وضع القبعات الخضراء فوق رؤوسهم.  وأضاف إلى هذا النشاط فكرة إنشاء شبكة من "الدوريات الحرة"، لتعمل في المناطق الريفية أو في الضواحي. كما يُحسب له دفاعُه عن "علم التربية الأساسية المتكاملة" المستندة إلى مفهوم "الوحدة" للمجاميع العمرية بين 12-17 عامًا، كنوع من التصدّي لبوادر الانشقاق التي ظهرت خلال فترة أزمة الستينات من القرن المنصرم.
في عام 1969، أطلق مبادرة رياضية جديدة تحث الشباب من الفئات العمرية بين 18-35 عامًا لمسيرات من المشي الطويل لفترة قد تمتد أسبوعًا في عمق الصحراء وقطع مسافة تصل إلى 150 كيلومترًا أحيانًا. وقد بلغ عدد المتطوعين في هذه المسيرات الشاقة ما ينيف على 15000 شابًا يرتدون جلابية موحدة، خبروا فيها برنامجًا مكونًا من رياضة المشي وتناول وجبة رئيسية من الرز والنوم تحت جناح الظلام وترقب النجوم والتأمل في السماء. وكل هذا من دون اللجوء إلى وسائل اتصال أو استخدام هاتف أو ارتداء ساعات تذكّر بالوقت كي يبقى الفرد المشارك خارج الوقت. وبهذه الأفكار اثبت "مينو" قدراته كقائد ومفكر ومراقب.
بوفاته في 2 آذار 2015 عن عمر يناهز 99 عامًا، فقدت الحركة الكشفية واحدًا من أهمّ رموزها، وقد استحق منها كل اعتبار وتقدير.
•   فرانسوا ليبوتيه François Lebouteux (ولد في24 تموز  1929م)
كانت ولادته في عام 1929م، وسُمّي بالمجدّد. خلف "ميشيل مينو" على رأس الحركة الكشفية في فرنسا وهو بعمر 85 عامًا. كما ترأس مفوضية الحركة الكشفية الوطنية لمدة خمس سنوات، عندما وصل عديدُها مائة ألف مرشدة ومائتي ألف فرد من الكشافة. كانت له أفكار مجدِّدة في ترسيخ الأهداف وأساليب العمل واقتراح البرامج وتنفيذها، ما سهّلَ له تجديد القوانين الكشفية في فرنسا حينما سنحت له الفرصة بذلك. نالت تساؤلاتُه وأفكارُه قدرًا من الاهتمام في تحديد النمط المطلوب في عصره من الرجال والنساء في المجتمع، وفي طبيعة الالتزام الأدبي والأخلاقي الذي يحتاجه كلٌّ من المجتمع والدولة على السواء. وهذا ما رفعه إلى مصافي المصلحين الكبار ومهندسي الحركة في العام 1964، عندما ارتأى أن الوقت قد حان لتغيير قوانينها عبر تقسيمها إلى فئتين عمريّتين من الجوالة Rangers (11-13 سنة)، والطلائع Pionniers (14-17 سنة) وتطوير عملها وتغيير زيّها. كان الهدف من هذا التغيير إحداث طفرة في مفهوم وسائل التعليم التربوية في فرنسا تماشيًا مع الحاجة والعصر. لكنّ هذه الخطوة لم تسلم من الانتقادات من جانب نفر من قدامى الكشافة التي رأوا فيها خروجًا عن الأسس الأولى، ما جعل التناغم بين القديم والجديد صعب القبول بسبب هذا التقسيم العمري.
كان ملهمُه الأول في هذه الرؤية الجديدة، الأب اليسوعي "سيفن"، مستفيدًا من فكرة أسلوب حياة العمال في المعسكرات السوفييتية آنذاك بالتقليل من مسارات العمل المؤسسي وأسلوب الإدارة ولاسيّما في المجال الروحي. لكنه استفاد من المبدأ الذي استقاه من رائد الحركة الكشفية "بادن باول" في الاعتماد على مبدأ الحدس في تقدير الأحداث. ويدور الزمن لتعود وحدة التسمية "الكشفية" إلى الحركة في فرنسا في العام 2004.


188
الحركة الكشفية، جذورها وفاعليتُها
الجزء الأول
لويس إقليمس
بغداد، في أب 2018
شهدت مدينة ستراسبوغ الفرنسية بين 16-23 تموز 2018، تجمّعًا كشفيًا أوربيًا بمشاركة أكثر من 15000 من الكشافة (الطلائع والمرشدات) بأعمار مختلفة تتراوح بين 14-17 عامًا أو ما يزيد أو يقلّ عنها، قادمين من 29 بلدًا، وذلك منذ عقد من السنين بحسب ما أوردت مجلة الحياة الكاثوليكية Catholique La Vie ومواقع الكترونية أصدت لهذا الحدث الشبابي. كان التجمع حافلاً بالعديد من البرامج الثقافية والفنية والاجتماعية والدينية بهدف تقاسم الثقافات وتعلّم مواجهة التحديات والتشارك في القيم العليا والإنسانية والتربوية التي تحرّكهم، حاملين في جعبهم كومًا من الأحلام والتمنيات والطموحات. كما تخلّل التجمّع الكبير، سهرات وزيارة رسمية لوفد من 700 كشافٍ ومرشدة للبرلمان الأوربي، وورش عمل حول العديد من المواضيع الشبابية والدولية الراهنة التي تعزز من روح التعايش، ومنها ما يتطرق إلى ثقافة حقوق الإنسان وسمات التضامن والديمقراطية والبيئة والشبيبة والثقافة وغيرها، إضافة للمشاركة في مراسيم دينية من صلوات وقداديس أقيمت بالمناسبة. ومن هذا التجمع انطلق وفد شبابيّ للمشاركة في التجمع الكشفي العالمي الكبير الذي احتضنته اليابان بدءًا من 28 تموز 2018، والذي يقدّر عدد المشاركين فيه بأكثر من ثلاثمائة ألف شاب وشابة من مائة وخمسين دولة.
هذه الفرصة، وجدها البعضُ من المشاركين مناسبة للتعبير عن مدى الحرية والراحة النفسية واستراحة الضمير ومجالًا متجددًا للتواصل بين المشاركين من جنسيات وبلدان ومدن مختلفة ومن مختلف الأعمار والملل والأديان والأعراق. فهي حقًا إحدى الوسائل لإدامة زخم التواصل بين الأمم والشعوب المختلفة في الأرض تمامًا مثلما هي كبريات المناسبات الرياضية العالمية التي تجمع رواد الرياضة، إضافة إلى الجانب المعنوي ومدى الآثار التي يمكن أن يتركها مثل هذا التجمع الشبابي في نفوس المشاركين من حيث نقل التجربة العالمية إلى بلدانهم وشعوبهم ومدنهم وأقرانهم ومحيطهم. وهي مناسبة أيضًا للاعتراف بالتحديات الكبيرة التي تتعرض لها مجتمعات وأمم وشعوب ودول في مسيرة حياتها اليومية نتيجة للتنوع الثقافي والفكري والاجتماعي وبسبب الاختلاف العقائدي والديني والمذهبي. فالمخيمات الكشفية هي ساحة مفتوحة ومدرسة ثانية لصقل الشخصية وتبادل الخبرات والمهارات بالتعاطي مع ما تقدّمه البيئة من تحديات وصور وأشكال للطبيعة عبر العيش في الخلاء أو في الغابة أو في الصحراء.   
إنّ الإقامة لأيام تحت سقف خيمة صغيرة واستكشاف الأجواء الطلقة هي بحدّ ذاتها تجربة غنية عن التعبير، فيها يشعر المشارك بفضاء أوسع يتنفس من خلاله هواءً حرًا نقيًا من الطبيعة بعيدًا عن الأجواء الضيقة في المنزل والشارع والمؤسسة. إنها قمة الحرية حينما يتخلى المرء، ولو لأيام عن حياة تقليدية يسودها الملل والرتابة والانزعاج من كلّ حدود عملية رتيبة أو قيود تفرضها الحياة اليومية المملة. هنا يشعر المشارك أنه تحرّر فعلاً من هذه كلّها لينفتح على عالم أوسع، أكثر بساطة، وأغنى انفتاحًا، وأروع في التجاوب مع الأمنيات والتطلعات والحريات حين الاعتماد على النفس واكتساب تجارب جديدة لبناء الشخصية واحترام القناعة والرأي لدى الغير الآخر وسط فضاء واسع متنوع الحركة. في ختام هذه التظاهرة، ترك المشاركون انطباعات عالية بإمكانية المجتمعات الاعتماد على دورهم الريادي في تثقيف البشر بترك بصمات إنسانية جميلة في التعاون والتكافل والمبادرة لخدمة الآخر.
دروس الاستكشاف التي تقدمها الحركات الكشفية للعالم، تشمل البشر جميعًا بتنوعهم الثقافي والإتني والعلمي تمامًا، وفيها صورة مجسمة ورمزية عالية لما يسعى الكشافة لاستكشافه في بطون الغابات من كنوز ودبيب وماء، وبالصيغة الرياضية الراقية التي يتعاملون فيها مع هذه جميعًا بروح متسامية وفكر متطور غاية في السموّ والرقيّ الإنساني. وإن كانت معسكرات الكشافة قد أصبحت تقليدًا في دول شهدت انفتاحًا وتقدمًا في الفكر والتنمية والحريات العامة، فإنها شهدت تراجعًا في غيرها وبالذات في بلدان منغلقة رأت في ممارسات مجتمعية غير تقليدية وفي حرية الاختلاط نوعًا من الفساد المجتمعي، بسبب ما أملته ثقافة مثل هذه البلدان المتخلّفة أو النامية من إشكاليات وتخاريف وترّهات فرضتها أفكارٌ دينية تريد العيش في غياهب الطبقات السفلى من العالم، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية. وهذه فرصة أخرى تقدمها المجتمعات المتنورة والمنفتحة على العالم كي تدعو الأمم والشعوب جميعًا للتعاون والتكافل والتعاضد من أجل عالم أفضل تتمتع مجتمعاتُه بالحرية والانفتاح والسلام بدل القهر والظلم والتخلّف ووسائل القتل المدمّرة للإنسان والأرض والفكر على السواء.

أهداف الحركة الكشفية ومراحلُها
يرى البعض أن الحركة الكشفية استجابت إلى حدّ كبير لأهداف التحرر الاجتماعي والتعايش المجتمعي والتبادل الفكري والتقاسم في الرؤى التي يمكن لها أن تخلق مجتمعات متناغمة تتقاسم الفرح والألم وتتشارك في البحث عن حلول للمشاكل التي تعاني منها مجتمعات ودول. من هنا، فإنّ التربية المجتمعية والأدبية التي تنطلق منها الحركة الكشفية، من شأنها تعزيز روح التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع الواحد والوطن الأم وبين الدول والشعوب مع بعضها البعض. فالمبادئ التي أُنشئت من أجلها هذه الحركة، تتيح الفرصة للشباب الغض لاكتساب مزايا تحتاجها المجتمعات والأوطان عن طريق تبنّي تنشئة مجتمعية سليمة وسامية تحمل في ثناياها كلّ صفات المبادئ الأساسية في الحياة التي تفتقدها المجتمعات المعاصرة من طاعة ونظام وانضباط وتعاون وحبّ وتعاطف وشجاعة واعتماد على النفس. وهذه لا تقلّ في أهميتها عمّا يسعى إليه كل إنسان عاقل من علوم ومعارف وطموحات لأجل تطوير الذات وتحقيق أحلام النجاح والطموحات الذاتية المقبولة. وما حققته هذه الحركة العالمية منذ نشأتها، كفيل بردّ كلّ ما وجّهه البعض من اتهامات للرواد الأوائل وللمشاركين أو المنتمين إليها بوصف أنشطتها بالرجعية وذات خلفية قديمة في التعبير عن حق الإنسان بالبحث عن فضاءات تريح النفس وتصفي الفكر وتحث على مراجعة الضمير والمواقف خدمة لهم ومن أجل المنفعة العامة. في حين أنّ التاريخ الحافل للرواد والمؤسسين الأوائل كفيلٌ بالرد على مثل هذه الترّهات التي تنتقص من هذه الحركة العالمية الشبابية المنفتحة التي انطلقت من مبادئ وأهداف عليا سامية تريد الأخذ بأفكار الأحداث والشباب، فتية وفتيات، للوصول بهم وبمجتمعاتهم ودولهم إلى قمّة الروح الرياضية في خلق فرص أفضل للتعايش المجتمعيّ وفي التعامل اليومي الصحيح بين البشر على اختلاف أجناسهم وشعوبهم بلا تمييز ولا تفرقة ولا حدود.
لو عدنا إلى تاريخ هذه الحركة وبالذات لتحديد أصلها وتعريف معناها، لتوقفنا عند جذورها الفرنسية القديمة escoute)) التي تعني المُستطلع أو الكشّاف (éclaireur)، ومنها أتت كلمة (Scout) الإنكليزية. والكشافة هو الشخص النبيه سريع البديهة والحركة والحدس الذي يتم اختياره من ضمن مجموعة أشخاص ليقوم بالمراقبة واستطلاع موقع والعودة بكمّ من المعلومات الدقيقة حول تضاريس المنطقة المستطلعة وما فيها وعليها من دبيب وبشر وحجر ليُصار إلى تحليلها واتخاذ اللازم من إجراء لمواجهة الموقف. وهي بذلك من حيث المبدأ، لا تختلف عن مصطلح استخدامها للأغراض العسكرية. فهذا الأسلوب في الاستطلاع والمراقبة كان جاريًا منذ القدم في الغزوات والحروب المستخدمة بين القبائل أو الجيوش التقليدية منذ نشأة التاريخ. وما يزال ذات الأسلوب قائمًا مع تطور في التقنية والوسائل والمستلزمات بفضل تطور التكنلوجيا والعلم والفكر البشري والتخطيط الاستراتيجي المطبّق.  اليوم، وبحسب إحصاءات عالمية يبلغ تعداد هذه المنظمة بفصائلها الكشفية (كشافة للذكور) والإرشادية (مرشدات للفتيات) وغيرها من التسميات الأخرى، أكثر من 38 مليون فرد يضمّهم 217 بلدًا ومنطقة من كافة الأديان والجنسيات عبر منظمات أو جمعيات على المستوى العالمي، بحسب المعلومات التي تذكرها مواقع الكترونية موثوقة.
الحركة الكشفية، جاء تأسيسُها كمنظمة شبابية من فتية وفتيات بأعمار تتراوح بين 11-17 سنة تجمعهم أهداف عليا ومبادئ إنسانية مشتركة ترقى إلى تربية الأجيال على حب الوطن وحب الآخر، وإلى تفعيل قيم الاحترام والطاعة والنظام، والصبر على الشدائد، والاعتياد على تحمّل المشقات ومجابهة الصعوبات بروح رياضية، ونشر القيم الاجتماعية النبيلة مثل مدّ يد العون والتضامن بين أفراد المجتمع وصولاً لتطبيقها بين الشعوب والمجتمعات والدول. وتتجاوب هذه الأهداف مع النية للأخذ بيد الشبيبة من كلا الجنسين عبر صقل الشخصية وتمرين الذات والاعتماد على النفس وبناء التكوين الإنساني وشذب القدرات لديهم عقليًا وروحيًا وبدنيًا لتهيئتهم لأخذ دورهم الصحي الصحيح في المجتمع. وهي في ضوء هذه الأهداف لا تبدو كسائر التجمعات او المنظمات الترفيهية التي تركز جهودها للترويح عن هذه الفئة العمرية فحسب، بل من ضمن ما تسعى إليه تقوية القدرات العلمية والتربوية عبر مفردات الأنشطة المتعددة التي يتشارك بها هؤلاء الشباب عبر تشكيلاتهم التنظيمية ضمن فِرَق ومجاميع تمارس شتى الأنشطة من ألعاب وتمارين بدنية ومساهمات روحية ومجتمعية يحتاجها المجتمع.
طرأت لاحقًا، تحديثات على تسميات المجاميع الكشفية بحسب مراحلها، حيث اختلف أيضًا في تحديد السنّ والتسمية لكل مجموعة بحسب البلد. وهناك مَن قسّمها في ضوء الفئة العمرية كما في كشافة مصر الكنسية مثلاً، بدءًا بالبراعم (3-7 سنوات)، والأشبال والزهرات (7-11 سنة)، فالكشاف والمرشدات (11-14 سنة)، ثم الكشاف المتقدم (14-17 سنة)، فالجوّال (17 سنة فما فوق حتى يجتاز المنهج)، ثم تأتي مرحلة القيادة وهي أعلى درجة الجوّالة، وأخيرًا مرحلة الرواد (40 سنة ما فوق) لذوي الخبرة والتشريف. أما الوعد الذي يقسم به الكشافة ويلتزمون به في تطبيق قوانين الحركة، فهو واحد، ويتلخص بهذه الكلمات: "أعدُ بشرفي بأن أبذل جهدي في أن أقوم بواجبي نحو الله والوطن وأن أساعد الغير وأن أعمل بقانون الكشافة". كما يتميز الكشافة بتحيتهم الخاصة وبشكل ولون الزيّ
تبقى الأهداف الأربعة الأساسية التي وضعها مؤسسها الأول "بادن باول" ماثلة في كلّ الحركات الكشفية العالمية من حيث تركيزها على تنمية روح الفرد وحصانته البدنية والصحية من خلال جملة أنشطة منها:
- تهذيب الشخصية عبر معسكرات في الهواء الطلق تُمارس فيها شتى أنواع الأنشطة والفنون والتمارين البدنية وأخرى تساعد على العيش المشترك وتنمية روح العمل الجماعي.
- السعي للتمتع بصحة وافرة وبناء قدرة بدنية صحيحة تساعد في تطوير الذات الشخصية وتحثّ على الاعتدال في التعامل اليومي من أجل اقتناء أجسام صحية ومعافاة.
- تطوير الذات عبر الحذق في الأعمال اليدوية وفي التمسك بالمواطنة الصالحة ليكون الشاب فردًا نافعًا في المجتمع والوطن.
- تشجيع الشباب على خدمة الجار والقريب المحتاج أي خدمة المجتمع الذي يقيمون فيه ويتعاملون معه يوميًا بكل أريحية وطيبة نفس. وهذا ما يُطلق عليه بالروح الرياضية أو الفروسية في العمل اليومي.
هذا وقد تم إضافة فقرة أو مبدأ آخر لاحقًا على أيدي الأب اليسوعي "سيفين" بموافقة المؤسس "باول"، وهو يتطرق إلى الشعور الدّيني والعلاقة تجاه الله الخالق.

-يتبع-

189
لمناسبة الذكرى الثامنة لحادثة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010:
 كنيستي...وطني، بين الواقع والأمل
لويس إقليمس
بغداد، في 27 تشرين أول 2018
مع حلول الذكرى الثامنة للحادثة المفجعة التي لا تغيب عن بالي وعن بال الكثيرين من الذين خبروا هول الساعات العصيبة الأربع التي أمضيناها معًا تحت رحمة شلّة من إرهابيين كارهي الحياة، أنحني إجلالاً لمن سقطوا شهداء وجرحى الحقد والكراهية التي لا ترحم. لا أحد ينكر أو يتجاهلُ ما فعلته تلك الحادثة الأليمة بإيقاظ أصحاب الضمائر الحية من المخلصين للوطن والمنادين بالمساواة في المواطنة ومن الذين تعاطفوا مع المصلّين المحتجزين في ذلك المساء المرعب في حضن كنيسة سيدة النجاة. فقد شكّلت الفاجعة بالنسبة للكثيرين حدَّا فاصلًا في الحكم على مستقبل البلاد المرير وتوقُّع تتالي المصائب والأحداث المأساوية أملاً في البحث عن المصير المجهول الذي ينتظر العراقيين عامة ولاسيّما أتباع الأقليات من المكونات المهمّشة من مسيحية وإيزيدية وصابئية وبهائية وغيرها إن وجدت.  فمجمل الشكوك التي لا نهاية لها في ضمائر وعقول محبي العراق والملتصقين بأرض الآباء والأجداد، وفي أولهم أتباع هذه المكوّنات المقهورة، خرجت من نظريات وفرضيات سمة التهميش المعتاد إلى واقعٍ مرير في الأفعال والإجراءات والقوانين التي سنّتها الحكومات الطائفية المتعاقبة والتي قصدت من ورائها وضع العراقيل أمام الأمنيات المشروعة لهذه المكونات بالبقاء والتجذّر والعيش في سلام وشراكة حقيقية من العدالة والمساواة مع مواطنيهم كما كانت في الأيام الخوالي. 

انطباعات واقعية سوداوية
قد تكون هذه آخر مرة ينساب فيها قلمي المتألم الجريء في الكتابة عن ذكرى حادثة كنيسة سيدة النجاة المفجعة التي تعرّضت لها عصر الأحد 31 تشرين أول 2010 أثناء صلاة القداس،وكنتُ أنا واحدًا من شهودها. أمّا الأسبابُ التي دعتني لمثل هذا التوقف المتوقع في الكتابة، فهي كثيرة، منها الشخصية والكنسية والوطنية والمجتمعية، هذا إن لم يكن غيرها. فقد كانت كلماتي تمثل دومًا صرخة استنجاد وأمل ورجاء مقابل تشكٍّ وتململٍ وانزعاجٍ كنتُ أخفيه أحيانًا وأبوح به عندما يقتضي الظرف، حالي حال المتوسمين بالوطنية والمتعلقين بقشة أمل لم يتمخض عنه سوى الحسرة على سنوات العمر التي مضت سدى وضاعت عجافًا وسط عواصف الطائفية والفساد التي استنبطها المتسلّطون الجدد على رقاب العباد وأجادوا تدويرها وإنتاجها وإخراجها مع كلّ دورة انتخابية برلمانية ومع كلّ تشكيلة جديدة للكابينة الوزارية.  وهكذا بقي الشعبُ في وادٍ نائمًا وغافلاً عمّا يجري في الكواليس وأرجلُه في الشمس كما يقول المثل، أو مستغرقًا في أحلام وردية يرسمها له روّاد الفساد والصفقات والمساومات بستار الدّين أحيانًا والطائفية والمذهب والعرق في غيرها، فيما الساسة ووعّاضهم وحاشيتُهم وحماياتُهم وميلشياتُهم في وادٍ آخر يتقاسمون الكعكة ويتحاصصون المناصب ويختزنون الثروات ويبنون أو يشترون قصورًا ويتملّكون العمارات في بلدان الاغتراب ودول الجوار.
من هنا، فالمناسبة المفجعة بعد فقدان بصيص الأمل المتبقي، تستحق منّي ومن كلّ مَن شاركني مأساتها وهولَ ساعاتها العصيبة الأربع، استشهادًا وشهادة للعصر، وكذا مِن كلّ صاحب ضميرٍ حيّ، إعادةَ ذاكرة شريطها، تخطيطًا وإخراجًا ومونتاجًا وتسويقًا. فالدروس والعبر من الواقع المؤلم المتهالك يومًا بعد آخر كثيرة وعديدة، وقد تتعدّى نطاق أفكاري ورؤيتي ووجهة نظري "البشرية"، بالرغم من إيماني بالقَدَر النحس حين اقتحام الإرهابيين للكنيسة وتنكيلهم بمصلّين مسالمين حقدًا وكراهية وترهيبًا باسم الدّين والمذهب. فمذ ذاك والأمور والوقائع تتسارع وتتشابك، ويمتزج أساها وألمُها مع بصيص الأمل المتبقي، أو يتناطح مع الرجاء الخائب وسلاطينه من رجال دين بكلّ مسمياتهم وتلاوينهم ومن سياسيين ومتحزّبين من الذين اعتادوا المتاجرة بمثل هذه المناسبة وصنوها على حساب جراحات الفقراء والبسطاء من المصدّقين بأقوال أنبياء العصر الكذبة من المنافقين والمتسترين بثياب الدين ولابسي ثياب الحملان بحجة مخافة الله كذبًا وخداعًا.
    في ضوء هذا الذي أمام ناظري من واقع متهرّئ متراجع في كلّ مجالات الحياة، حتى الكنسية منها، أجد نفسي بعد سنوات من الانتظار والأمل والرجاء التي لم تثمر ولم تتبلور، في زوبعة نارية يصعب الخروج منها منتصرًا، وطنيًا وإنسانيًا واجتماعيًا وحتى وظيفيًا. وهذا ممّا تطلّب منّي التفكير المليء بخطّ سيرٍ آخر لما تبقى لي من عمرٍ على هذه الفانية. فالنقمة على كلّ ما حولي من منغّصات ومخالفات وتعدّيات وتجاوزات قد أخذت مداها وما مِن أملٍ آخر غير البحث عن خيار أكثر أمنًا وألطف شأنًا وأحسن عيشًا، شخصيًا وعائليًا وإنسانيًا، مع إبقاء جذوة التأصل الوطنيّ في الأعماق وفي الذاكرة وفي الكلمة التي لن تتوقف لحين استبيان الأمور وانقشاع الغيمة الطائفية والتحاصصية السوداء التي لا نعلم وقت نهايتها. وكلّ هذا ليس كرهًا أو حقدًا أو بغضًا ضدّ أحد، بل حبًا ورأفة ورحمة وحرصًا ونقدًا صادقًا وعتبًا على المتجاوزين على سلطة الشعب والمستخفّين بقدراته والناهبين ثروات البلاد دون وجه حق والمتاجرين بجراحاته والمكثرين من آهاته وحسراته. وهذا من دواعي الإصلاح الذي لم ولن يجد طريقه طالما بقي التمسك بمبدأ تقاسم السلطة والمال والجاه سلطانَ الساسة الفاشلين وأسلوب الوزارات الفاسدة المتلاحقة. وما الكابينة الوزارية الأخيرة سوى حلقة أخرى ضمن سلسلة الوزارات الفاسدة الفاشلة التي لن تقدّم شيئًا جديدًا أو بديلاً عن سابقاتها. فهذا الثعلبُ من ذاك الذئب! هكذا أنا لآ أقوى على السكوت.

لا مكان للعتب أو الاتهام
قد يتهمني البعض بمعاينة النحس في رؤيتي وتصوّري لكلّ هذه الأحداث الحاضرة وغيرها من غير الواردة على بالي أو بال أحد بعد مرور ثماني سنوات على تلك المجزرة الوحشية. لكنّي مؤمن بما هو قادم مهما كان غيبيًا، فهو لن يكون أفضل من سواه الذي عشناه بالأمس.
قد يرى البعض الآخر فيما أقدمه من صورة منطبعة أمامي فيها الكثير من التشاؤم والسوداوية بسبب معطياتٍ غير مستجيبات لآمال البسطاء من الفقراء والأبرياء وطبقة المثقفين والمهمشين، لكنها تحديات يومية متلاحقة تتحدث هي عن نفسها ولستُ أنا.
قد يحكم نفرٌ آخر بالانتقاد على ما أعانيه من حالة اليأس بتغيير الأوضاع والأحوال أو العجز في بلوغ ما كنتُ أصبو إليه شخصيًا من آمال وتوقعات وترجيحات إيجابية في شؤون عديدة تخص حياة العراقيين جميعًا وحياتي الخاصة وحياة المقربين منّي من الأهل والأصدقاء والأحباء. أقول نعم، شيءٌ من هذا ومن سواه جار وقائم، سواء لي أو لغيري من الحالمين والمشككين بما يحصل على أرض الواقع.
قد تتهمني شريحة خاصة من المقربين من أهل وأصدقاء ومن مؤمنين وممّن عملتُ باحتكاك معهم في الحقل الكنسي (الدينيّ) منذ الصغر وأنا في عمر الطفولة أو بعد انتقالي إلى بغداد في بدايات الثمانينات، بشيء من النرجسية والتعالي والأنفة وبتحوّل مغاير في الرأي والرؤية إزاء سلوك إدارات كنسية حول طريقة عملها وتفكيرها وأسلوب تسييرها لشؤون المؤمنين وأوقافها. وفي هذا شيء قائم لا يُنكر، بسبب الخذلان الذي لقيته من ذواتٍ ناقصي الخبرة وقليلي الحكمة وناكري وزنات الغير وفاقدي الرؤية البعيدة للأمور، من جانب بعضِ مَن زجَّهم القدَر وقادهم الزمن الطائش لتولي إدارات هذه المؤسسة التي تراجعت هي الأخرى حالُها حال مؤسسات الدولة العامة ونظيراتها الدينية المختلفة في البلاد، بسبب توالي الحكومات المتعاقبة الفاشلة في العطاء والحكمة والرويّة والخدمة والتنمية وتماهي بعض رجال الكنيسة وزعاماتها في السير أحيانًا مع القافلة نفاقًا أو مجاملة لأهل السلطة، أو الضحك على ذقون الأتباع المقهورين بوسائلهم الشيطانية وغير الإنسانية في أحيانٍ كثيرة.
وأخيرًا وليس آخرًا، قد أجد نفسي في مأزق إزاء كلّ هذه الانتقادات لسلّة المظاهر السلبية العامة والخاصة، والتي أجد فيها طيفًا آخر مؤكّدًا للفشل الإداري وللفساد القائم وعدم الانتصاح والاستفادة من الدروس الكثيرة التي مرّت على العراق وأهله. وفي هذا خذلان للثقة التي أولاها حشود الشهداء الأبرار وشهود الأحداث في ميادين السياسة والدين والمجتمع على السواء. وإني لا أجد بأسًا في التعبير عن مدى السخط واليأس وعدم الرضا ممّا جرى وممّا مازال يجري في شتى مجاري الحياة المتجهة نحو الأسوأ.

حنين إلى الزمن الجميل
بدوري أنا أيضًا، من حقي أن اتهمَ الزمن الغادر ومعه أولئك الذين أوصلوا البلاد والعباد إلى هذه الهوّة الخطيرة من التخلّف والتراجع في كلّ شيء إلاّ في زيادة الفساد وتراكم الأخطاء واللصوصية التي أصبحت معيارًا للحياة " الّلاشريفة" لمَن فقدوا الغيرة الوطنية والشرف المجتمعي والصدق والأمانة على الأتباع، حيث أصبحت اللصوصية بطولة وترفًا بعد أن كانت عارًا وحياءً. فالزمان التعس قد قلب الموازين في كلّ الاتجاهات والميادين وأدارَ ظهره بلا رجعة لكلّ الكفاءات وأصحاب النوايا الصالحة وأرباب المشاريع الإنسانية والمتطوعين في صفوف المجتمع التعبان منذ عقودٍ لم نرى فيها راحة البال والفكر والعافية. لذا لا مندوحة من الحسرة على زمن الأمس الجميل والحنين لذكرياته وتذكّر أيام الطفولة البريئة وإدارات البلاد وساستها عندما كان الهاجس الوطني وبناء الوطن وتدعيمُ أبنائه بركائز البنيان للحاق بالركب العالمي في الحضارة والعلم والتربية والاقتصاد والصناعة وأشكال الإنتاج، من الأولويات وفي مقدمة المسؤوليات. حينها كان العراق في مقدمة بلدان المنطقة في كلّ شيء، وأهمها في الرؤية الإنسانية والرسوخ العقلي والتطور الفكري والعلمي في تعدد مؤسساته العلمية والحضارية والثقافية التي كانت تجذب القاصي والداني ممّن كان يتمنى أن تطأ أقدامُه أرضَ العراق ويحلّق في سمائه وتصافحَ يدُه بشرَه وحجرَه. كيف لا نتحسر على ذلك الماضي، وقد انقلبت الموازين بمجيء أغراب تولّوا فيه الحكم والسلطة وعاثوا في أرضه فسادًا وسرقوا ثرواته جشعًا وقتلوا الروح الوطنية في صفوف نسيجه ودمروا بنيته التحتية ولم يضيفوا شيئًا صالحًا للأرض والبشر سوى الدمار والتخلّف في الركب العالمي والبشري كي يقف في ذيل قائمة البلدان الأكثر فسادًا في الإدارة والمال والأكثر تخلفًا في العلم والمعرفة والأكثر تخندقًا طائفيًا ودينيًا وعرقيًا. أليس في هذه جميعًا، ما يدعو للترحم على "أيام زمان" والبدء بالبحث عن وطن بديلٍ والترحال إلى أرض تحترم الإنسان وخياراته وتوقّر الكفاءة وتحترم الفكر والإبداع والحرية في كلّ شيء؟؟؟
كنتُ أخشى قدوم مثل هذه الساعة السوداء، بعد أن أقنعتُ نفسي بالتروّي والصبر والتحمّل لسنوات لحين عودة الروح العراقية الوطنية إلى مَن غدروا بالعراق وأهله وتسلّموا مقاليد السلطة والمال والجاه فيه بلا استحقاق. لكنها أزفت ولا اعرف متى توقيتُها ولا تفاصيلُها. سأتركها للزمن، مهما قصر أو طال. فالزمن بين حقبة الغزو وفاجعة سيدة النجاة، بالرغم من كونها كافية لتقرير الصالح، إلاّ أنّي ارتأيتُ الانتظار وأناة الصبر، عسى ولعلّ الأمور تتبدل وتتغير نحو الأفضل. لكنها منذ الحادثة المفجعة ماتزال في تدهور مستمر ولا تبشّر بقادم أفضل. فحقبة "داعش" وبروز "ماعش" موازٍ لها على الساحة عبر ميليشيات وجماعات مسلحة منفلتة أو مرتبطة بأحزاب وجهاتٍ تنفيذية في السلطة تتاجر بالدّين وتقوم بعمليات سرقة في وضح النهار وبأعمال خطف وقتل واغتيال للمختلفين في الرؤية والفكر وطريقة العيش، تنذر بقادمٍ أسود خارجًا عن سيطرة الدولة التي لا تمتلك لغاية الساعة مقوّمات دولة قادرة على حفظ الأمن والنظام وتقديم الخدمات الآدمية التي يستحقها الوطن والمواطن. ومع قدوم تموز، شهر القيظ والثورات والانقلابات، كانت انتفاضة الجنوب من ثغر البلاد، من البصرة الفيحاء إنذارًا بقادمٍ أسود ولتؤكد فشل أية حكومة تحاصصية تساومية في إدارة دفّة البلاد ولوضع حدّ لأشكال الفساد والتراجع في الخدمات العامة وفي الأمن وفي التنمية وفي البناء وما إلى ذلك ممّا يطال حياة الفرد والمجتمع والشارع.

حادثة كنيسة سيدة النجاة، الصعود إلى الهاوية
كأني بحادثة كنيسة سيدة، رسمت الحدود بين سكّتي التقدمّ والتراجع، أو بين إرادتي الخير والشرّ، حيث انتصر الأخير وقهرَ كلّ ذوي الإرادات الطيبة وأصحاب المشاريع الوطنية التي رُكنت على الرفوف ليتسلّق المشهدَ عوضَها مراهقو السلطة ولصوص العصر ليُخلوا ثلثَ البلاد بعد بضع سنوات من الحكم الطائفي المقيت لصالح إرهابيي "داعش" القادم من رحم شبيهاته السابقة في الفكر المتخلّف والرؤية الدينية والطائفية والعرقية الضيقة. من هنا، تكون حادثة سيدة النجاة برأي الكثيرين وأنا منهم، الإشارة ببداية الصعود إلى هاوية التعاسة وناصية النحاسة وقمة الشراسة في التعامل البشري والإنساني الذي اختطّ قادتُه وسادتُه ومعمّموه سبيلَ التشدّد والتستّر بأهداب الدّين والتمسّك بالمذهب والطائفة عن طريق سنّ قوانين طائفية أو الإيغال والاستزادة في الشعائر الطائفية والمذهبية الاستفزازية وفي مظاهرها المتخلفة. ومنها نبعت ترّهات ونُسجت تخاريف وقيلت حكايات بحجة حماية هذه جميعًا من هجمات "الكفار" ومن أحزاب مدنية ووطنية شقّت طريقها إلى العلمانية والتحضّر بعد خذلان البلاد والعباد بسبب المتاجرة باسم الدين والمذهب والعرق. وإزاء مثل هذا المدّ الزاحف في الفكر الساذج في أوساط الساسة وقادة الأحزاب الطائفية "اللاوطنية" واختلاط الأوراق وتقاطع المصالح، أثبت هؤلاء جميعًا قمّة الفشل إلاّ في اللصوصية وسرقة المال العام وسوء الإدارة والزيادة في النفاق والكذب على ذقون الفقراء المتزايدين والبسطاء من أبناء الخائبة.
مذ ذاك، والأمور تسير من سيّء إلى أسوأ. وإن كان قد أُعلن عن دحر "داعش" عسكريًا بصورة رسمية في 2017، إلاّ أن فكر التنظيم الإرهابي باقٍ بالتوازي مع تجذّر الفكر الطائفي المستميت. فيما أتباع الاثنين يتنامون مهما قيل عن تناقصهم وتراجع تأثيرهم، إضافة لتمادي أحزاب السلطة في التشبث بنظام المحاصصة المقيت. فالأحداث الأخيرة المتلاحقة في الأسابيع المنصرمة خير دليل على بقاء هذا التأثير، طالما بقيت ذات الوجوه السياسية وذات القيادات على رأس الأحزاب والحكومات الفاشلة المتلاحقة التي تسببت بانهيار الدولة العراقية وساهمت في سرقة ثروات البلاد وتكبيد العباد مآسٍ كثيرة. فمَن قتلَ الأبرياء في كنيسة سيدة النجاة وفي مجمّع الكرادة وفي مدينة الصدر والطارمية والشعلة والموصل وديالى وتكريت وغيرها من محافظات العراق، لازالوا بطريقة أو بأخرى يهددون بإفشال أية مبادرة وطنية للمّ شمل العراقيين والعودة للمصالحة ورأب الصدع في النسيج المجتمعي المجروح وبإعادة بنيته وصروحه العلمية والحضارية والثقافية والتراثية الرائدة كونها تتقاطع مع مصالحهم. ألم يكن تصريحُ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد فضيحة الانتخابات العراقية صادقًا حينما نعت الساسة باللصوص والحرامية وإلقائه اللوم على الشعب الساذج الذي أعادَ انتخاب ذات الوجوه الفاشلة التي تسيّدت المشهد السياسي منذ الغزو ولغاية الساعة؟
وبعد هذا وذاك، ألا ينبغي لي ولأمثالي من تغيير في نظرتنا ورؤيتنا للأمور وللحياة وللمحيط الذي يلفُّنا بكلّ ظلم وقهر وتعسّف؟ فمَن تُنكَرُ له قيمتُه فقط لكونه لم تسعفه الدنيا التائهة لتسلّق المناصب بكفاءته بسبب عدم انتمائه لأحزاب السلطة في بلد ضاع في متاهات المجاهيل، خيرٌ له أن يتنحى جانبًا وينسحب عن المشهد الخادع في السياسة والدّين معًا بكل هدوء حفاظًا على قيمته التي يدركُها هو أكثر من غيره. فالدّين والسياسة أصبحا توأمن سياميين لمظاهر الاستعراض والمجاملة والمتاجرة، ومجالاً للغدر والخداع والنفاق عندما تضيع الضوابط وتختفي القوانين ويتسلق ناصيتها أغراب ودخلاء ومراهقون. لذا مَن لم يقوى على التغيير، أو مَن تردَّد في لحظة ضعف في السعي إليه بكلّ قوته، فليسعَ لذلك إن استطاعَ. فالوقت مازالَ في دارته كي يقول كلمة الحق والصدق والصراحة في مواجهة الطارئين وليس البقاء كالقطيع في خانة التابعين والخانعين والخاضعين للغير عن غير جدارة. أما البقاء جامدًا كالثلج أو اتخاذ جانب الصمت وناحية التفرّج على الأحداث والواقع المؤلم في مواجهة أهل الكذب والنفاق والرياء، فلن يكون إلاَ تراجعًا في المواقف وضعفًا في الأداء ونقصًا في الأهلية والجدارة وتخاذلاً في الشجاعة والمواجهة مهما كانت هذه الأخيرة وكيفما آلت وأينما وقعت. فالمواجهة الحقيقية تكون في كلّ هذه وفي غيرها، بالصوت والصورة والكلمة وعبر النصح والنقد والتأنيب والانتفاضة والثورة على الواقع المزري. وبالتالي، فالأبيّ لا يصلح أن يقبل اللعبَ في دور التابع والخانع كالشاة التي تُساق إلى الذبح لا تفتح فاهًا ولا تصدر آهًا. وإن كان البعض يعدّ هذا الموقف المتراجع في الرؤية وفي الحكم على الواقع تنصلاً، فهو يجاري الظلم ويساند الظالم كمن يقول "أنصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا". ففي زمن ضياع الحقوق واختلال الموازين واختفاء الخجل والحياء بقدر اختفاء الجدارة والأهلية من قبل المتولين إدارة البلاد والعباد في السياسة والدين معًا، لا بدّ من تسجيل مواقف.
قد قلتُ ما شئتُ في الحادثة الأليمة ما يكفي من كلام وعبارات وأفكار اعتدتُ الإفصاحَ عنها في كلّ سنة تحلّ علينا ذكراها المفجعة. وقد لا أعود للحديث عنها مستقبلاً كما أشرتُ. فقد سئمتُ خطابات المتاجرة بها، واستعراضاتها في الكنائس والصحف والمحافل، وأصناف الاستعطاف المحلّي والدولي بقصد الترويج والتكسّب من فاجعتها كلّما اقتربت وحلّتْ ذكراها، حتى من أطراف بعيدة وخارجة عن جراحاتها. وسأترك للأقدار وللزمن تحديد هولها وتقييم نتائجها وكشف المستور في حيثياتها والأهداف المرجوّة منها، مع تذكيرٍ بالظلم الذي وقعَ على مرتادي هذه الكنيسة في ذلك المساء المفجع وتأثيره في نفوس عموم أتباع الديانة المسيحية وسائر الأقليات الوطنية في البلاد. 


190
سرطان الفساد ومحاسبة الأدوات
لويس إقليمس
بغداد، في 30 أيلول 2018
لم يأخذ ملف الفساد، المالي والإداري بخاصة، في العراق ما يستحقه تمامًا من إجراءات رادعة وصارمة في كشف المستور وتبيان الفضائح، ليس في صفوف الساسة فحسب بل في مفاصل الدولة الإدارية برمتها من دون استثناءات. فالملفات التي هدّد البعض ممّن في أعلى السلطة التنفيذية بكشفها في مناسبات كلّما اشتدّت فيها ألوان الخلافات بين الشركاء الأعداء، أو تلك التي ماتزال ملفاتُها تركن على رفوف القضاء المتماهي والمراوغ، ماتزال مثار حديث الشارع الساخن الذي ينتظر ويبحث عمّن سيقلب الطاولة في لحظة غضب وطني أو شعور بنخس الضمير المستغرق في سبات عراقيّ عميق. فهذه الآفة التي تحركت كالنحلة العاملة وشوهدت تهرول وترقص في كلّ زاوية وتبحث كالسرطان في كلّ شبر في مؤسسات شبه الدولة التي أدارتها منذ السقوط المأساوي على أيدي الغازي الأمريكي وأعوانه، ماتزال فاعلة حتى في أحلك الظروف التي تمرّ بها البلاد وبالذات بعد فصل الانتخابات التشريعية المأساوي بحيثياته ونتائجه وبالمستقبل الغامض الذي ينتظره العامة من السلطات التي سينتجها البرلمان الجديد.
إنّ الأساس الذي تبنى عليه ديمقراطيات العالم، ليبرالية كانت أم علمانية أم شعبية أو ما سواها من الأشكال، يشير إلى سلطة الشعب في اختيار ممثليه، أي أنْ يكون الشعب هو مصدر السلطة. وهذا في اعتقادي قد ينطبق على البلدان المتحضرة حصرًا حيث يقظة الشعب الرقابية على أداء الدولة وأركانها، وعبر معارضة قوية فاعلة تعي ما تفعله وما يترتب عليها من واجب وطني وشعبي مسؤول. أمّا في منطقتنا العربية ودولنا الإسلامية، والعراق من ضمن صفوفها، فمثل هذا المبدأ ما يزال بعيد التطبيق بسبب ضعف الوعي الجماهيري، وضعف الرصانة في مراقبة أداء الحكومات والسياسيين، ورفض أحزاب السلطة التخلّي عن مفهوم التوافق المدمّر المعتمد على اقتسام الثروة والسلطة بطرق غير مشروعة، إضافة إلى أدوات المحسوبية والمنسوبية والمجاملات والصفقات التي تجري من تحت الكراسي وعلى المناضد من دون ملاحقة ولا محاسبة. وهذا ما شهدناه في أحدث تجربة "ديمقراطية" في البلاد حينما عزف أكثر من ثلاثة أرباع الشعب عن المشاركة في الانتخابات التشريعية في أيار 2018 بسبب حالة الياس والقنوط التي أخذت مأخذها عبر فعاليات سابقة ولم تسفر عن تغييرات في الحياة العامة ولا في الخدمات ولا في حماية المال العام والحفاظ على ثروات البلاد من السرقة والسطو بكلّ الأشكال والوسائل عن طريق أحزاب السلطة التي ماتزال تراهن وتتمسك بسياسة المشاركة في السلطة عبر التوافق والتحاصص في إجراءٍ احترازيّ للبقاء فيها قدر ما ساتطاعت من أجل تحاشي المحاسبة والاقتصاص. فمعظم طبقات الشعب العراقي ما تزال من السذاجة وضعف الوعي ما يجعل استمرار بقائها فريسة للمخادعين من قبل ساسة أحزاب السلطة الذين يجيدون ترويضهم وخداعهم بمسميات دينية ومذهبية وطائفية وعرقية وعشائرية. وبالرغم من استفاقة البعض، كما عبّرت عنها الانتفاضة البصراوية الأخيرة ومناطق غيرها بعد تجارب مأساوية متكررة في النتائج والأفعال وواقع الحال، إلاّ أنَّ الفأس ما يزال واقعًا في الرأس، و"كأنّك يا أبا زيد ما غزيت"!
السؤال المحيّر والمريب في آنٍ معًا، لماذا تلكّأت جهات في السلطة، القضائية والتشريعية والتنفيذية كانت لها قوتُها وصلاحيتُها ودعمُها الشعبي والمرجعي والشارعي والثقافي، وأخفقت في وضع حدّ للكمّ الهائل من أدوات الفساد والشخوص والأيادي القذرة وأصحاب الضمائر الميتة التي خانت الوطن وضربت عرض الحائط بأمنيات الشارع الذي بقي مكتويًا بنيران هذه الأدوات السياسية والإدارية؟ والإجابة بسيطة في نظر المراقب اللبيب والمتتبع لحركة الفساد وأدواته، وهي ممكنة التلخيص بكون "الكلّ مثل الكلّ" في السلطة، مشارك ومؤازر ومستفيد ومستنفع من الوضع القائم وفق منهج المحاصصة المعتمد منذ عقد ونصفه. فالسارق لا يقوى على الاعتراف بجريرته طالما كان حرًّا طليقًا ويجد في أركان السلطة مَن يحميه ويبرّر فعلتَه أو يشاركه أو يتسترُ على أفعاله وسرقاته وخدعه في العمل. وحينما يجد قوّة أقدرَ منه على حمله للاعتراف بما سرقه ووضعَ يدَه عليه من دون وجه حق أو بالحيلة أو الغش، حينئذٍ فقط يمكن وضع حدود جازمة على كلّ مَن تسوّلُ له نفسُه العبث بمقدّرات الدولة وثروات البلاد لكونها من حق الشعب وليس للحكّام ووعاظ السلاطين ولصوص الليل والنهار من أحزاب السلطة، لاسيّما تلك التي تتستر بأذيال الدين وتتاجر باسم الفقراء ومآسيهم وترقص على جراحاتهم اليومية بعباءة دينية وطائفية ومذهبية بحيث جعلت شعب العراق في الحضيض بين شعوب العالم تُداس كرامتهم بعد أن  كانوا بالأمس اسياد الحضارة وأركانها لحقب مختلفة.

مَن يكشف الفساد ومَن يحاسب عليه
ليس كافيًا أن نسمع مَن يلوّح بأصابعه بكشف أركان الفساد وأدواته ولا يطيق فعل شيء إزاء آفة سرطانية نخرت جسد البلاد والحكومة واستنفذت مواردَ الميزانية الريعية بل زات من المديونيه كي ترهنَ مستقبل الأجيال القادمة التي لم تولد بعد، بحيث تم تقييد البلاد بأغلال الديون والقروض التي لا طائل من ورائها سوى تكبيل اقتصاد البلاد وارتهانها بالدول التي تقدّمها. وهناك تخوّفات أن يتحول مصير جزء كبير من هذه القروض والديون والمساعدات لتجد طريقها إلى جيوب أحزاب السلطة كما في سابقاتها. وهذا ما حصل وما طرق أسماعَنا بمطالبة جهات معينة بحقها في جزء منها لصالح مؤسساتها أو وزاراتها أو حتى أقاليمها. ومن المؤسف حقًا، أن يتجاوز الفساد المواردَ الريعية ليطال المساعدات والقروض والديون، إن صحّ مثل الكلام.
لقد كشفت رسالة المرجعية العليا، الحريصة على ثروات الشعب وموارد البلاد في شقها "الإعلامي" في الأقلّ، عن تخوّفات وتسريبات أنباء عن حالة ميؤوس منها في حالة استمرار ذات الوجوه في قيادة السلطة في البلاد. فعبارة "المجرَّب لا يجرّب"، واضحة في دلالاتها، وقاصمة في ردعها، ومتشكية من الوضع القائم منذ أكثر من 15 عامًا من الحكم الفاسد، ومنتقدة للأحزاب الفاشلة التي حكمت وماتزال من دون الرسو إلى ميناء الأمان وخدمة الشعب وتثبيت الأمن والاستقرار. فالتظاهرات التي شهدتها مدن الجنوب الغنية بثرواتها والفقيرة في خدماتها ومشاريعها، إلى جانب مختلف الجرائم وحالات الاغتيال التي طالت نفوسًا بريئة في الأسابيع والأيام القليلة المنصرمة، كلها تنذر بشؤم متواصل حول حالة اليأس والقنوط التي توشحَ بها المجتمع في عموم البلاد. فلا صاحبة الجمال والأناقة نجت من المطاردة والقتل، ولا صاحب الراي الحرّ والتعبير وجد نافذة للترويح عن النفس والنجاة من الملاحقة، ولا منتقد الأحزاب والميليشيات السائبة بدأ يشعر بالأمان والاطمئنان. وهذا بطبيعة الحال بسبب استمرار حكم أحزاب السلطة التي جرّبت الحكم وفشلت، ولكنها ما تزال متمسكة بتلابيبها بأسنانها وأرجلها وأياديها، خوفًا من كشف عوراتها وفضح سرقاتها والذهاب بها إلى القضاء العادل عندما يستيقظ هذا الأخير من غفوته ويتسلّم زمام المبادرة في محاسبة أهل الفساد من دون خوفٍ من أدوات السلطة وأحزابها التي عليها ملفات فساد تنتظر فتحها من جهة وطنية شجاعة لا تخشى قهر أركان الظلم والفساد. فالملفات جاهزة لدى الجميع، والكلّ مثل الكلّ متهيّء لتقديمها للقضاء إنْ بقصد المقايضة او المساومة أو بدافع النكاية والانتقام أو لأسباب أخرى في نفس عيسو!
ما من شكّ، أنّ مَن يتردّد في كشف الفساد وأدواته وشخوصه وكذا في تسمية الأشياء بمسمياتها، وهو في موقع المسؤولية التنفيذية والتشريعية والقضائية أو حتى المعنوية والأدبية من دون لفّ ولا دوران ولا مجاملة ولا تهاون في سبيل أداء الواجب الوطني، يكون بالتأكيد شريكًا وربيبًا وحاميًا وداعمًا لصانعه وفاعله على السواء. وإلاّ ما السرّ في إرجاء تقديم ملفات لصوصية كشفت بعضها جهاتٌ مستقلّة وطنية وأخرى حكومية مثل سرقة ثروات نفطية، وعمليات غسيل أموال ضخمة لأحزاب في السلطة وساسة عبر مكاتبهم الاقتصادية، وكذلك الاعتداء على المال العام، ووضع اليد على ثروات البلاد السائبة وعقاراتها، والتحكم بالمنافذ الحدودية والكمارك، والتصرّف بميزانيات وزارات جعلتها أحزاب السلطة إقطاعيات ملك صرف وما شاكلها.
لسنا هنا بصدد إلقاء اللوم على القضاء العراقي الذي لا نعرف طبيعة تشابكه مع الأحداث ومع أحزاب السلطة والحكومة ومَن يقف وراء مثل هذا السلوك غير القويم. كان الأرجح بالقضاء الذي يصل إلى سمعه خدوش أو حتى نتفٌ من رائحة هذه الملفات الفاسدة أن يبادر إلى اتخاذ ما يلزم إزاءها وعدم التردّد في تقفي آثارها والبحث عن مصادرها ووضع اليد على شخوصها ومواقعهم تأكيدًا على استقلاليته ونزاهته وعدم تأثره بمصالح أركان السلطة والأحزاب المتسلطة وزعمائها الذين يديرون دفة القضاء من خلف الكواليس. ففي الوقت الذي ندرك تمامًا حجم الضغوط التي تفرض على هذه السلطة بطريقة أو بأخرى، سواءً من جهات دولية خارجية أو أخرى داخلية قريبة من المرجعيات الدينية التي لها باعُها وتأثيرُها في توجيه سياسة البلاد، فإننا نؤكد أنّ مصلحة الوطن فوق كلّ مصلحة وأرفع من مصالح الساسة والأحزاب الدينية والطائفية والعرقية التي تدير شؤون البلاد والعباد بطريقة أقلّ ما يُقال عنها أنها فاشلة وخارج السياقات الوطنية وبعيدة عن مصالح الشعب الذي يُسيّر كالقطيع بلا راعٍ صالح! فمحاربة الفساد تكون بالأعمال وليس بالأقوال.


191
المحاصصة "سفينة الخراب"
لويس إقليمس
بغداد، في 18 أيلول 2018
يبدو أنَّ النظام السياسيّ الهجين الذي أوصى به الغازي الأمريكي وسار عليه ساسةُ العراق، المخضرمون منهم والمراهقون ومَن أتى بعدهم ليتصدر المشهد السياسي في غفلة من الزمن، قد جعل البلاد أسيرة لشهوات ورغبات ومصالح الزعماء السياسيين ومَن سار في طريقهم بهدف الانتفاع والقفز على جراحات الشعب المغلوب على أمره والمتاجرة بمآسيه. هكذا يقرأ المشهدَ السياسي كلُّ مَن يتعمّق فيما آلَت إليه البلاد وأحوالُ العامة منذ أكثر من عقد ونصفه. فالعملية السياسية، شئنا أم أبينا، ماتزال عرجاء متعكزة على نظام التوافق المقيت عرقيًا وطائفيًا ومذهبيًا، والذي يرفضه غالبية الشعب. لكنّ الزعامات السياسية وأحزابُ السلطة وأذيالُها من المنتفعين من الوضع الراهن، مصرّون عليه كما توضّح بالأمس القريب. فهم يخشون مغادرته بالرغم من استغلاله الفظيع لصوت الشعب ومساهمته في زرع الفساد وتحويل البلاد إلى دولة استهلاكية معتمدة على اقتصاد ريعيّ زائل لا محالة، بسبب تفكيك بنيته الاقتصادية وتعطيل ماكنته الصناعية ليعتمد في مقدراته الاقتصادية الأساسية على حيتان الفساد والانتهازيين في تجهيز كلّ ما يحتاجه المواطن في قوته اليومي ونزهته وراحته. ومَن يعتقد بكون مفهوم هذا النظام التوافقي "سفينة للنجاة" يكون مشاركًا بطريقة أو بأخرى في ظلم العراق والعراقيين وفي "شرعنة" التغوّل الحاصل على مقدّرات البلاد وحقوق العباد.
رئاسة مجلس النواب صفعة للراعي الأمريكي
بالأمس حقّقت السلطة التشريعية وبشقّ الأنفس عملية اختيار رئيس لها بسبب اشتداد الخلافات بين أصحاب الحصة المكوّناتية وتشرذم اتفاقهم على تسمية مرشّح تسوية من دون شقّ الصفوف. وهذا الذي حصل، ينذر بخراب لاحق ستظهره الأيام القادمة في ضوء ما تناقلته وسائل إعلام من داخل قبة البرلمان وفي وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشارع على حدّ سواء، بشأن ما تسرّب من شائعات عن بيع وشراء الذمم والمساومة على مناصب، سواءً من نواب السنّة أنفسهم أو من غيرهم من المطّلعين على المجريات الحاصلة تحت قبة البرلمان أو خارج أروقته. وهو بحدّ ذاته موقف لا نريد تكرار الحديث عنه بعد أن أشبعته وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أكثر من قدره. لكنّ حصوله وسط ضجة إعلامية وشعبية والحديث عنه في صفوف العامة والخاصة لحدّ التندّر وإلصاق القدرية وسمة البؤس بالشعب المغلوب على أمره، ينبئ بمرحلة أخرى قادمة من بقاء الفساد واستمرار استشرائه والتستّر على الفاسدين بين الكتل السياسية والأحزاب المستفيدة من مثل هذا النظام التوافقي المضرّ بالمصلحة العليا للوطن وبأهله. كما أنّ هذا الإيغال والإصرار على مجاراة مثل هذا النظام الذي أثبت فشله بسبب تفسيره الخاطئ للقيم الديمقراطية الصحيحة التي كان يفترض أن تصحبه في التشريع والتطبيق، نابعة من عدم تقدير الأشياء وفي الخطأ في حساب المسببات والعواقب منذ كتابة الدستور الذي أراده الغازي الأمريكي ومستشاروه وأذيالُهم مليئًا بالمفاجآت والقنابل قابلة الانفجار في أية لحظةِ غضبٍ أو خلافٍ أو اختلافٍ في شؤون إدارة البلاد والقيادة والمال.
في ضوء هذه العواقب والمخرجات إذًا، يتضح جيدًا أنّ المشكلة القائمة سبُبها في الأساس هو الدستور الذي يرفض زعماءُ السلطة وأذيالهُم واتباعُهم وميليشياتُهم مغادرة مبدأ النظام التحاصصي الذي حمله تحت ذريعة مفهوم الشراكة بين اللاعبين الكبار الثلاثة (العرب الشيعة والعرب السنّة والأكراد) الذين يتقاسمون المال والجاه والسلطة منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. فمثل هذا النظام وليس غيرُه ممّا يليق بأطماعهم ويحفظ امتيازاتهم ويشرعن حقوقهم خارج الاستحقاق. كما أنه الكفيل بضمان حصيلة دسمة من ثروات البلاد في جيوبهم وحساباتهم وتأمين حياة مرفهة لهم ولعوائلهم ولمَن تعكّز عليهم، وهي امتيازات لا مثيل لها في جميع دول العالم. وسيبقى الدستور هو المشكلة والشمّاعة التي يتعكّز عليها زعماء الكتل والأحزاب المستفيدة من العملية السياسية القائمة.
من هنا تأتي الاستماتة والنضال والصراع الشديد من جانب أحزاب السلطة ومن بعض الطارئين والطامعين للانضواء تحت قبة البرلمان لأجل الفوز بعضويته حتى لو حصل ذلك على حساب الغير وبعيدًا عن الضمير والغيرة والشرف وبشتى الوسائل والطرق المشروعة وغير المشروعة، القانونية منها وغيرها. وستظل إشكالية العملية السياسية في البلاد وطريقة إدارتها وكذا السياسة الخارجية قائمة حتى تعود الضمائر الغائبة للسياسيين إلى رشدها حينما تراجع النفس والمواقف وتتمسّك بخطابها الوطني بعيدًا عن منهج المحاصصة المكوّناتية والطائفية القائم حتى الساعة، والذي تجدّد تأكيد التمسّك به في الدورة الأخيرة بكل ما أوتيت به أحزاب السلطة من قوة وتأثير وضغوطات أفشلت سعي أصحاب التيار الوطني الغاضب والثائر منذ سنين بتحاشيه وإزاحته. لكنْ كما يبدو، فإن قوة الخصم العنيد المناهض لإقامة دولة مدنية متحضّرة قائمة على العدل والمساواة والاستحقاق والجدارة كانت اقوى عزيمة وأشدّ تأثيرًا في معسكرها الذي خطّط بجدارة بدعم من الراعي الخبير في ترتيب المساومات وتجارة المناصب وتوزيع المهام وفق مصلحة الجار العزيز صاحب اليد الطولى في العراق. وهو بهذا النصر الأول، يسعى لانتصارات قادمة ليردّ الصاع صاعين لراعي العملية السياسية ومَن في دارته بعد سقوط أوراق الأخير وفشله في التحشيد لمعسكره والموالين له.
منهج الحسين ثورة على الذات
في هذه الأيام الحسينية الساخنة، يتغنى الأتباع المتشيعون بمفاخر الإمام الحسين ويحرصون على المناداة والدعوة باتّباع المنهج الذي سار عليه الإمام المغدور لكونه مدرسة في الإثارة والبذل والتضحية والإصلاح. بل هناك مَن يعدّه، متبرّكًا به، ويرى فيه "سفينة النجاة" للمؤمن بالأهداف السامية التي صرّح بها وعاش من أجلها وبالتضحيات الجسيمة التي قدمها في مناهضته للظلم والنفاق وأشكال الدجل. وهذا إنْ يكنْ، فمن بركات السماء. ولكن الصورة التي نختبرها ونراها في حياتنا اليومية منذ تولّي أصحاب المذهب التشيّعي للسلطة في البلاد تعاكس وتناقض ما أتت به مدرسة صاحب هذا المذهب، والتي كان ينبغي ألاّ تَغيبَ ولا تُغيَّبَ في صميم الحياة اليومية للأتباع، ولاسيّما المتولّين الحكم وزمام السلطة وبيت المال من غير رقيب ولا ضمير. فقد خرج الكثير من السياسيين والمتولّين السلطة في البلاد التي تحتفي كربلاؤُها هذه الأيام بصاحب مدرسة الشهادة والإيثار، عن منهج الحسين الإصلاحي، شاؤوا أم أبوا، بفعل ما بدر ومازال يبدر منهم من ابتعاد عن منهج مناهضة الظلم ومقارعة الفساد بكلّ أشكاله. وبدل محاربة هذه الآفات المستشرية منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن الغادر، والصحوة من السبات الفكري في التعامل وفق المنهج الحسيني العادل الشريف بالثورة على الذات الأنانية، فقد حوّل الكثيرون مثل هذه المناسبة الرمزية الكبيرة إلى مجرّد شعائر للطم والتطبير والتفاخر في نصب السرادقات والخيم وتقديم الأطعمة على قارعة الطريق وفي الشوارع متناسين اشكال الظلم والتخلّف والإجحاف في أبسط الحقوق والخدمات التي يعاني منها الشعب. ففي اعتقاد مَن يسوسون البلاد ويقفون على رأس السلطة، أيًا كانت أهميتُها، أنهم بتشجيع مثل هذه الأدوات والمظاهر المتخلّفة عن الركب الحضاري، سوف يدخلون أكثر في قلوب الشعب ويكسبون ولاء البسطاء والفقراء من أجل ضمان ولائهم وبقائهم في مواقعهم في المستقبل القادم وبالقبول بما هم عليه والسكوت عن السلوك الخاطئ الذي ينتقدهم فيه عامة الشعب والذي ثاروا بسببه وعبّروا عن غضبهم وامتعاضهم في تظاهرات البصرة ومحافظات غيرها.
لستُ هنا بصدد الانتقاص من قيمة هذه الأعمال الخيرية والشعائر الطيبة في حدود ارتقائها لمناصرة الفقير ومساعدة المحتاج للتمتع بأيام معدودات من الرفاهة والشبع إلى حدّ التخمة. ففي هذا أجرٌ عند الله إذا حسنت النية ورافقها تغيير ومراجعة وتجديد في مضمون دروس الحياة والمنهج على السواء. وهذا هو المطلوب، أن يعود الإنسان في هذه الأيام المباركة الذكرى لإحياء المنهج الحسيني في الأعماق جزاءً لما عاشه الإمام وضحّى واستشهد من أجله. فالكل متفق على أن الحسين يُعدّ بالنسبة للمذهب الشيعي وللإنسانية نموذجًا في الانتصار للإنسان على الظلم والتمسّك بقيم العدل والخير والصلاح وبالرغبة في إصلاح المسيرة. 
ما نحتاجه اليوم إذن، هو إعادة التفكير في مجمل هذه الدروس وربطها بما يحدث اليوم من مظالم ومفاسد ونفاق، هي من جوهر سلوكيات العديد من السياسيين وراكبي موجة الأحزاب الدينية والمنضوين تحت مسميات الميليشيات التي تحسب قوّتها ومنافعها من قوة المنهج التشيعي وبمباركة الثورة الحسينية بحسب مفهومهم الضيّق وغير الناضج. وإنْ أرادوا السير وفق منهج الحسين، عليهم التفكير ألف مرّة قبل أن يتخذوا أية خطوة في غير صالح البلاد والشعب والإنسان. فالمنهج الحسيني يرتّب عليهم الوفاء للأمانة والبذل في سبيل المحتاج والفقير والتضحية بالراحة والمال في سبيل عزّ البلاد ورفعتها وليس بالغرف من مال السحت الحرام وسرقة قوت الشعب ونهب ثروات البلاد بالطرق الملتوية وحسابات البازار الحاصل من خلف الكواليس وفي أروقة الفنادق الفاخرة والفلل الفارهة والأملاك المتكدسة هنا وهناك.
قصارى القول، إنّ الشعب يطالب السياسيين وزعماء الأحزاب المتسلطة بالكف عن امتصاص دماء الأبرياء وسرقة الأموال وخرق الحقوق أمانة للمنهج الحسيني الشريف. وهذا لن يكون في المستطاع إلاّ بالنوايا الصالحة والإرادات القوية التي تقرّر إجراءَ إصلاح جذريّ في العملية السياسية برمّتها عبر إعادة كتابة دستور يرسم ملامح دولة متحضرة، متحرّرة، عقلانية، تستند إلى تفويض الشعب وتأييد المراجع الدينية والنخب الثقافية وأصحاب الخبرة من التكنوقراط، بعيدًا عن تأثيرات الخارج مهما كانت. فالحسين قصد العراق مصلحًا ايضًا وليس طالبَ حقّ فحسب. من هنا، يبقى الأساس بإصلاح المجتمع والعملية السياسية برمتها عبر معالجة أساس المشكلة، أي التسامي على العيوب والنقائص والأخطاء التي نشأ عليها النظام السياسي. وبمعنى أدق، في معالجة مشاكل البلاد من جذورها وليس عبر الترقيع والإصلاحات الجزئية والمعالجات العشوائية الغائبة عن أية استراتيجية أو برنامج شامل للتغيير والبناء. فهل سيتمسك المحاربون وأدعياء الوطنية والإصلاح والإعمار والبناء بالمنهج الحسينيّ الشريف؟

192
رجل الدين ... رجل السياسة، بين الحقائق والمحدِّدات
لويس إقليمس
بغداد، في 10 أيلول 2018
للسياسة والإدارة فلسفات وفنون ورؤى عديدة، متناغمة أو متناقضة، قد تختلف من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر ومن دين لآخر. وهذا ما يجعل شكل البلدان والشعوب والأمم، وأسلوب حياتهم وطريقة تفاهمهم متباينة بحسب طبيعة النظام وشكل المفاهيم التي تتبعها أنظمة الحكم والحكومات. لذا لا بأس في اختبار الدول والمجتمعات عددًا من هذه الأنظمة للوقوف على الصالح منها، هذا إن وُجد، وتعلّم فرزه من السيّء الذي مازال ينخر في أسس هذه البلدان ويحيل شعوبها إلى قطيع خانع تتلاعب به أيادي قذرة لا تعرف مخافة الله، بل وتتكابر على حاجات الشعب وتتاجر بمآسيه كلّما أُتيحت الفرصة وفي غفلة من شعوبها المنبطحة والنائمة إلى ما شاءت الأقدار. والأنكى من هذا وذاك أن يُقحَمَ الدين وأركانُه ومرجعياتُه وأدواتُه في أتون صراعٍ أو تماهٍ أو نفاق مع أنظمة الحكم ولصالح زعامات سياسية تتقاسم المغانم والمنافع بعيدًا عن مصالح الوطن العليا ولملمة الجراحات التي يتزايد ثخنُها مع مرور الأيام وتوالي الأشهر والسنين.
هذه حال جلّ الأنظمة الحاكمة في منطقتنا العربية والإسلامية التي ارتقت الحكم بالوراثة أو بطرق ملتوية بعيدًا عن الديمقراطية الصادقة والجدارة والكفاءة والاستحقاق، إلاّ ما ندر! ولعلَّ نظرة بانورامية على الواقع المتهرّئ في هذه الحقبة من الزمن المتراجع، كفيلة بالحكم على ما نشهده من صور الاستهتار والاستخفاف بمصائر الشعوب في استخدام الظاهرة الدينية وتوشيحاتها في كواليس السياسة، من أية ديانة كانت ومن دون استثناء. ولنا في الأمثلة القائمة ما يحصل حاليًا في العراق حصرًا منذ سقوط النظام البائد، حيث أصبح التستر بالدين والتعكّز على مرجعياته ورموزه من أسهل السبل، بل السبيلَ الأكثر سلوكًا لبلوغ المآرب وتسلق المناصب ووضع اليد على كلّ ما يتيسر لطالبه من دون حدود ولا قيود ولا محدِّدات، كما شهدناه لدى السنّة والشيعة والمسيحيين وديانات أخرى على السواء! فقربُ هذه الشخصية المتعكزة على مراجع أو شخصيات دينية مؤثرة في سياسة البلد أو حتى الإدّعاء بقربها من هذا المرجع أو تلك الشخصية، كفيلٌ بتخويف الناس وتهديد المجتمع وفرض الإرادة على المؤسسة أو الدائرة التي تخشى سطوة هذا النموذج من الأدعياء والمنافقين والتجار. وهذا ما خلق مساحة واسعة من الاستياء العارم والغضب الشعبي في الشارع، ليس إزاء زعامات سياسية وأشخاص متنفذين في السلطة بل تعدّى ذلك بعضَ الرموز الدينية التي كان لها وزنُها وتتحلى بوقع مؤثر في صفوف العامة والخاصة. وقد فُهمَ من مثل هذا السلوك المدان تدخلُ نفرٍ من رجال الدّين في شؤون السياسة، ما يوحي بفرض إرادة دين أو مذهب أو طائفة على غيرهم من أبناء الوطن.
إنّ مثل هذه الوسيلة الجارية  في الأوساط السياسية منذ سنين، تمثل بحدّ ذاتها شيئًا من المسلّمات التي تقرّ بأن يتحول الحكم على مَن يمارس مثل هذا السلوك المغلوط والخطير إلى ظاهرة استياء واستنكار واتخاذ موقف صادم بسبب اعتماد هذا المسار سفيرًا سهلاً وتأشيرة مفتوحة لاستغلال كلّ شيء وأيّ شيء ومن ثمّ الدفع باتجاه الحصول على مكاسب ومنافع وترشيح لمنصب خارج إطار الكفاءة والاستحقاق، ليس لشيء بل بسبب التقرّب من هذا المرجع أو الانتماء لهذه الهوية الدينية أو المذهبية، أو لهذا الحزب المغمور العامل تحت لواء ورعاية هذا المرجع أو ذاك السيد المعمَّم. وهذا ما يشير إلى مفهوم إفساد الدّين بالسياسة والعكس صحيح في الاتجاهين. فحين يتداخل الدين بالسياسة يُفسد أحدُهما الآخر ولا مجال لإصلاح بينهما تحت أية ذرائع. وفي النهاية لا يصح إلاّ الصحيح، بضرورة ترك السياسة لروادها الحقيقيين وليس الطارئين والدخلاء من الفاسدين واللصوص، وإيلاء الدينَ وأصحابَه ومرجعياته الصادقين الأتقياء في مخافة الله ما يستحقونه من احترام وتبجيل بالانصراف لإصلاح المجتمع وذات البين بين الناس. 
في المجتمعات المتحضّرة، يُنظرُ إلى الدّين والمعتقد بكونه علاقةً خاصة سامية بين الله وعباده، بين الخالق ومخلوقه، وليس من شأن أحد، حاكمًا كان أو رجل دين أو عالمًا أو أي صفة يحملها الإنسان، أن يفرض رأيه وإيمانَه ومعتقَدَه بالدين أو المذهب أو المرجع الذي يعود إليه أو يدّعي السير وفق طريقته. وما أكثر ما صدر من تصريحات من لدن مسؤولين في السلطة ونواب باتباعهم طريقة هذا المرجع أو ذاك تبجحًا وتزلّفًا. في حين كشفت الحقائق اليومية والسلوكيات العملية عكس هذه التصريحات والإشارات. ثمّ أنّ الحرية الدينية والإيمان بالله حقٌ من حقوق البشر في تبنّي هذا المعتقد أو عدمه أو حتى في الإيمان بوجود الله أو عدمه. فلا فضلَ لإنسان على سواه، ولا تفضيل لبشر دونه سوى بما يقدّمه من الفعل الصالح والعمل الطيّب له ولمجتمعه ولبلاده ضمن ما حلّله الرب الخالق وحرّمته الرسالات والأديان وما أقرّته لوائح حقوق الإنسان ودساتير البلدان المتقدمة التي تسامت فوق الأديان والمذاهب. ومن ثمّ، فالدّين يبقى مسألة جدلية متحرّرة تتيح للإنسان، أي إنسان، أن يتصرّف وفق رؤيته واستعداده وقناعته ومَلَكَتِه البشرية وطبيعة نظرته للحياة وللمسار الكونيّ ومَن يقف وراء هذا التشكيل المعقّد من العناصر والأجرام والحياة، وفيما إذا كان وراء هذه الفانية مثوى آخر من عدمه. وهذه هي إشكالية العلاقة القائمة بين القوة الدافعة الخارقة التي تقف وراء تركيبة الكون والتي نعزوها مجازًا للإله أو الرب الخالق في خليقته!
من هذا المنطلق يبقى الإنسان مخلوقًا حرّاً في تصرفه وسلوكه، لأنّه هكذا خُلق حرًّا وليس عبدًا. فمَن شاء آمن بما اعتقد به ومضى في طريقه، ومَن لم يشأ يبقى حرًا غير قابلِ العتب والاتهام والتكفير. كما أنّ الله الخالق ليس بالضعيف العاجز كي يوكِل بشرًا ضعيفًا مخلوقًا من طينة كي يتولى أمرَ حسابِ أخيه البشر المجبول من ذات الطينة وذات التراب عبر السوط والتهديد والجلد والعقاب. أمّا أن يُصار إلى إقحام الدين ومرجعياته بالسياسة فهذا من باب الفضول المفضوح والاسترزاق المشبوه والتزلّف المستنكر والنفاق الواضح. لذا إذا شاءت الأمم والشعوب أن تتحرّر وتتقدّم وتتطور لابدّ من تحرّرها وانعتاقها عن قيود الدين من خلال فصله عن السياسة. فالسياسة وروّادُها وراكبوها أبعد ما يكونون في احترامهم لإرادة الله والخشية من المحذور لكون إدارة السياسة غير إدارة مؤسسة دينية التي من بين واجباتها الأساسية النصح والإرشاد والتوجيه والقدوة الحسنة وليس الشراكة أو المشاركة في تبنّي مشاريع استثمارية وتجارية وتكديس الأرباح وامتلاك العقارات ومزاحمة أرباب العمل في القطاع الخاص عبر سياسة دعم هذا الحزب أو التعاطف مع هذا السياسي أو الوقوف مع ذاك الشخص طمعًا بتحقيق مكاسب ومنافع.

صرخة البصرة ضدّ الفساد
في ظل الظروف الساخنة التي يعيشها الإنسان العربي في منطقتنا المشتعلة منذ عقود، والعراق خير مثالٍ، تتعقد المشكلات وتتقاطع الأفكار وتتباين الأحكام في أغلب الأوقات بسبب سوء الفهم الواضح في تقدير مهمة أرباب الدين والمؤتَمنين عليه وأدواتهم، مع المختلفين عنهم أم مع المصطفين معهم من أصحاب الشأن السياسي الذين يمسكون بعصا السلطة وفي أيديهم كلّ أشكال القوة والمال والجاه والقهر والاستعباد. فإنْ خضعَ صاحبُ الدين ومرجعُه وأتباعُه لسلطة أولي الأمر، لقوا الأمان وتقاسموا "الثريد" والسمن والعسل على مائدة السلطان وأتباعه من المتسلطين من وعاظِه من الذين نسوا أنهم صعدوا من ذات الصفوف من عامة الشعب. ولا يتردّد نفرٌ من هؤلاء بمدّ الأذرع طويلاً للقضم ما استطاعوا من الكعكة الكبيرة التي يتزاحم ويتقاتل عليها زعماء الأحزاب ومَن في دارتهم، حتى لو كان ذلك بفعل الفساد وبقصد نهب المال العام وفرهدة (من الفرهود) خزينة الدولة التي يعدّها نفرٌ من أتباع بعض المذاهب حلالاً زلالاً، شأنهم شأن مَن يحلّل الاستعباد وسبي النساء ووأد البنات وما سوى من هذه الترّهات والتخاريف والأحكام الظالمة التي لم تعد تجاري العصر ولا الفكر ولا العلم. أما مَن يقف بالضدّ من هذا السلوك المشين أو يعترض أو يرفع صوته غاضبًا، فما عليه سوى الانتظار وطول الأناة والوقوف في طوابير الفرج ورحمة السماء في الصفوف الأخيرة وتوخي العواقب.
ما يجري اليوم من ظلمٍ ومن قهرٍ بسبب الفاقة والحاجة لأبسط مسلَّمات الحياة البشرية في جنوب العراق، وبالذات في البصرة الفيحاء، لم يكن بدّ من الانتفاضة والثورة بسببه إذا أُريد "للدنيا أن تُخذ غلابا وليس بالتمنّي أو الانتظار" بعد الإهمال والتقصير اللذين عانتهما هي ومثيلاتُها من محافظات البلاد. وبعكسه، كان على أهلها تسليمُ الأمر لله والأقدار والدخول في احتضار بطيء لمدينة تُعدّ ثغر البلاد ومصدر ريعها الأساس. فقد سئم أهلُها، وهُمْ من أكثر المتضرّرين في البلاد في هذه الأيام السوداء في حياتهم، وملّوا تكرارَ الوعود وأساليبَ الدجل والكذب والنفاق من الحكومة المركزية والمحلية والزعامات الحزبية والسياسية من دون استثناء وهم يُشاهدون بأمّ أعينهم منذ أكثر مِن عقد، سفهاء ولصوصًا من أحزاب دينية تولوا سرقة ثروات مدينتهم وميزانيتَها في عزّ النهار وحلكة الليل بأساليب وطرق مستنبطة من دون رقيب ولا حسيب. فقد صار "حاميها حراميها". وإلاّ أيُعقل أن تبقى مدينة تطفو على بحيرات من ذهب تعاني من أبسط الخدمات الآدمية ومن بطالة ومن فاقة، فيما زعامات الأحزاب، وأغلبُها بغطاء دينيّ، تتبجّح وتتقاسم الكعكة على بصيرة من الملأ وبعلم وربما بتنسيق من أركان الحكومة والرئاسات التي تتستر على هذه السرقات، بطريقة التغطية المتبادلة بين الفاسدين الذين لا يمكن استثناء أحدٍ بعد اليوم؟؟؟
هذه هي الحقيقة وليس غيرُها ممّا يمكن الحديث أو التغاضي عنه. وهنا فقط، تسابقت الأحزاب الدينية، الشيعية بخاصّة، كي تعترض على غضب الشعب وانتفاضته بعد ازدياد حمّيته بحجة تدمير المقرّات والرموز المتسلطة. فقد اتضح بما لا يقبل الشك، أن الانتفاضة الشعبية قد هزّت عروش الفساد في هذه المدينة العريقة وأيقظت ضمائر الفاسدين والمفسدين من سباتهم في طول البلاد وعرضها كي يتعاطفوا إعلاميًا أكثر منه فعليًا مع مصائب الشعب الذي فقد أبسط مستلزمات الحياة اليومية وهو الماء الصالح للشرب والكهرباء الذي يغذّي كلّ شيء والخدمات التي يستحقها أي مواطن في أيّ بلد. ومّن يعتقد بانتهاء أوار الانتفاضة ووأدها، فالأيام القادمة ستكشف عمق خطأه وقصر نظره حتى إزاحة جميع رؤوس الفساد والزعامات الدخيلة والمراهقة ومن مزدوجي الجنسية الذين ركبوا الموجة وحكموا البلاد وهم غير أهلٍ لها، ومن ثمّ محاسبة اللصوص واسترجاع الأموال المنهوبة والأرصدة المسروقة المودعة في بلدان الاغتراب.

التغيير الشامل مطلب الشعب
قساوة الحياة وسيادة حكم السلاطين ولهاث الوعّاظ من مُحدثي النعمة بالطريقة الفاسدة التي أجاد فيها الزعماء السياسيون والمسؤولون على رأس الحكم تحريرَها تشريعًا وتنفيذًا، قد بلغت أوجهَا ولابد اليوم من تغيير جذري في سياسة البلاد وفي العملية السياسية برمتها. أمّا الإصلاح الذي تحدثنا عنه فيما سلف حينما كان في متناول اليد، أو الذي مازال البعض يتحدث عنه سبيلاً للخروج من المأزق، فقد ولّى أمرُه بعد أن فقد مكانه واستنفذ زمانَه حين كانت الفرصة مؤاتية للقيام به قبل سنوات خلت، وبالذات في زمن الحكومة المنتهية ولايتُها التي لم تحقق شيئًا من الإصلاح الذي وعدت به والذي ظلّ مدفونًا في عبارة التسويف المشهورة "سوف"، بالرغم من التأييد العام والخاص الذي كانت قد نالته في بدء تشكيلها.
 كنّا نتمنى أن يكون صوت المرجعية الشيعية حاسمًا في تحديد مكامن الخلل وفضح مواقع الفساد والفاسدين وتسميتهم بمسمياتهم وأسمائهم وشخوصهم وليس بالتعميم والنصح العام والتوجيه والدعوة للإصلاح فحسب، طالما حصل تدخلُها في السياسة أمرًا واقعًا. فهذه الأخيرة رغم أهميتها وضروراتها منذ التغيير الذي حصل في 2003، إلاّ أنَّ صداها لم يعد فاعلاً بعد مضي عقد ونصف على ذاك التغيير الذي لم يحقق شيئًا إلا في الخلاص من "نظام دكتاتوري بائد" بنى البلاد وعمّرها ونفّذ مشاريع كثيرة أكثر مما ادّعاه القادمون الجدد الذين لم يقدّموا شيئًا، بل حتى القائم من ذلك الإعمار في الزمن الماضي أحدثوا فيه الخراب والدمار. وهذا ما يلاحظه الشارع الغاضب في موقف المرجعية الشيعية العليا الذي لم يتوضح حتى الساعة حيث شمُّ رائحة التواطؤ أو المجاملة أو "الطمطمة" والتستّر لصالح جهات متنفذة في السلطة محسوبة عليها لم تقدّم للبلاد سوى الدمار والخراب والفساد وخواء الخزينة والمديونية الفاضحة وتعطيل الصناعة الوطنية وجفاف موارد المياه وما أكثر غيره من هذه وتلك. فرسالة المرجعية الشيعية بالذات، بقيت عامة وغامضة ومدجّنة بالألغاز والهمس والغمز، أو في حدود النصح والإرشاد والخطب، ليس إلاّ. وهذا ما حدا بمراقبي الأوضاع في الشارع البصري والوطني على السواء أن يوقنوا بضعف قرارها وبترك الكرة في ملعب البرلمان وبما يُسمّى ابتداعًا بالكتلة الأكبر في اختيار رئيس للحكومة القادمة.
إن هذه الحالة من الضبابية في القرار وفي عدم تحديد النقاط على الحروف، قد خلقت استياءً في الأوساط الثقافية أيضًا، التي خرجت تأييدًا للشارع البصري وقبلها في الشارع البغدادي طيلة أربع سنوات من الضياع والفساد في الإدارة والسياسة معًا. وإنْ يكن هناك مَن تجرّأَ وعلا صوتُه من صفوف العامة والخاصة بحصر الفشل في السلطة التشريعية المنتفعة من العملية السياسية برمتها وفي ضعف الأداء الحكومي والإداري لمؤسسات الدولة وأركان الحكومة بجميع وزاراتها، إلاّ أن مثل هذه الأصوات الصادقة الصارخة بقيت في حدود التمنيات والرصد والمراقبة من دون إصغاء أو تنفيذ بسبب ضعفها وضآلة تأثيرها في العملية السياسية. وجاء أخيرًا صوتُ الشعب الذي بدا أعلى واشد وقعًا من صوت أية جهة أو مرجعية ادّعت الحرص الصادق على حقوق الشعب والمساواة بين صفوفه وتحقيق العدالة التي ظلّت منقوصة بتفضيل مصالح ومنافع فئة دون غيرها. وهذا من أسباب التراجع والتخلّف في تلبية الحقوق وتنفيذ الواجبات حينما يغيب الحس الوطني ويختفى الضمير الإنساني من نواب السلطة التشريعية أولاً من الذين تخلّوا عن الأمانة التي وضعها الشعب في رقابهم وأتى بهم إلى الواجهة، وكذا من السلطات الأخرى التي من المفترض أن تبدي حرصها على مصالح الوطن والشعب، ولكنها آثرت اللهاث وراء مصالحها الحزبية والمذهبية والعرقية والشخصية فيما تركت الشعب في حالة من الفقر والفاقة والجوع والعطش والبطالة ونقص في الخدمات الآدمية البسيطة. والأيام أثبتت أنه مهما طغى الحكام واستأسد وعّاضُهم وتفاقم ظلمُهم وكثرت خطاياهم، فإنّ وجع الفقراء سيبقى مهمازًا للتغيير والبحث عن الأفضل وليس الاصطفاف في صفوف الفاسدين وسرّاق الشعب وناهبي ثروات البلاد.
في الآخر، هناك حقيقة قائمة في أي تغيير مرتقب في شكل العملية السياسية يتمثل في خوف بعض الجهات المتنفذة والحاكمة ومَن يساندها في الخفاء والعلن من كشف المستور وفضح منافذ الفساد والإشارة إلى أدوات الفشل في الدولة العراقية في ضوء ما يعانيه مجتمعنا البائس المسكين المستكنّ في دوّامة طول الصبر ومرارة الانتظار الميؤوس منه بخاصة في هذه الأيام السوداء التي نشهد فيها أشكال الصعوبات والمناكفات التي تعرقل تشكيل حكومة وطنية نزيهة اليد ونظيفة الذيل بعد أن بلغ السيلُ الزبى. فعندما حثّت المرجعية السياسيين وزعماء الكتل بالإسراع بتشكيل الحكومة، بدا من الواضح أن الرسالة وصلت وهي تتضمن لملمة أخطاء الماضي والتستر عليه بكلّ فضائحه ومفاسده وشخوصه من جانب اللاعبين الكبار وأذيالهم ممن عاثوا بالوطن وثرواته، وممّن شكلوا دوائرهم الاقتصادية ضمن كتلهم وأحزابهم من أجل تكديس أمولهم وأرصدتهم واستغلالها في استثمارات عقارية في دول الجوار والعالم. وهذا الأمر، إن وقع فعلاً، فقد تسقط بسببه الكثير من الأقنعة ولاسيمّا ممّن هم في عداد الرموز الدينية التي لا ترضى بتغييرات تؤثر في شكل المحاصصة الطائفية القائمة بين الكتل.
 لقد ثبت بما لا يقبل الشك، فشل السلطات الثلاث في إدارة دفة الحكم في البلاد بعد أن أدارت الأحزاب الحاكمة في السلطة ظهرها لمصلحة الوطن ومواطنيه وأخذت جانب النهب من الموارد الريعية وغير الريعية عبر تقاسم المغانم وفق أساس المحاصصة الذي بُني عليه الدستور الأعرج. وهذا ما تتخوّف منه المرجعية الرشيدة العليا من أن تفتح هذه الملفات في حالة حصول تغيير شامل في إدارة دفّة العملية السياسية. فمتى صحا الساسة وقبلوا الجلوس في منبر الاعتراف أمام الشعب وصارحوه بالنية الصادقة في خدمة البلاد والعباد وإعادة الأموال المنهوبة والمسروقة والمختلسة، حينئذٍ يمكن الجزم ببدء مشوار التغيير الحقيقي الشامل الذي يبدأ بأول خطوة عبر رفض جميع الوجوه السياسية التي سطت على الحكم سواءً بدعمٍ من الغازي الأمريكي وأذياله أو من دول الجوار،  وقد قالت فيهم الإدارة الأمريكية كلامًا لا يُحسدون عليه عندما وضعتهم في خانة اللصوص والسراق والفاسدين. وهذا يكفي! وإن لم يحصل هذا، وهذا ما هو متوقع بسبب تقاطع إرادات أتباع مثل هذا المطلب الشعبي مع مصالح الأحزاب الحاكمة في السلطة والمتهمة معظمها، إن لم نقل جميعُها، بالفساد وسود الإدارة منذ 15 عامًا، حينئذ، يكون البديل القادم عبر حاكم مدني مستقلّ بعيدٍ عن أحزاب السلطة يُتفق عليه، أو فرض حاكم عسكري يتحلّى بالجندية العراقية المعروفة بالصرامة في تطبيق القانون والنظام وبالحكمة وقوّة الإدارة والإرادة في تقدير حاجات الشعب وأولوياته بعيدًا عن المحاصصة وأحزاب السلطة.

193
السياسة تحصد ما تزرعه
لويس إقليمس
بغداد، في 2 آب 2018
"على قدر العطاء تأتي الثمار"، و "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد".
 حِكَمٌ إنسانية لا يمكن للبشر العادي والعاقل تجاهلُها أو نقضُها. وهذه إن هي إلاّ شذراتٌ من خبرة الحياة. وهي بالتالي معيار للعمل والحركة والتعامل اليومي مع النفس ومع الغير الآخر، ليس في الحياة العادية فحسب، بل في مختلف قطاعاتها وأنشطتها وظروفها وأزمانها. والسياسة اليوم، في دهاليزها وخبثها وحنكتها لا تخرج عن هذه المفاهيم المختبرية في الحياة اليومية. فالحاكم الجائر لا يحصد في النهاية سوى نتائج أفعاله الشائنة، والملك الظالم لا يتلقى من مملوكيه سوى اللعنة في الدنيا والآخرة، والسياسيّ الفاسد لا يتلقى ممّن أوكلوه الثقة سوى السب والاحتقار والندم على توليتهم إيّاه على حقوقهم وطموحاتهم. أمّا الذين يزرعون الطيبة ويرسمون البسمة ويعينون الضعيف ويقفون مع المحتاج ويعرفون العمل والسلوك وفق مخافة الله ولائحة حقوق الإنسان، فأولئك هم الأغنياء أحبابُ الله وعباده الساهرون. وهؤلاء لا يحصدون سوى الرضا من الله وخليقته ومحبة البشر ودعاء الأبرار لهم ولأمثالهم.
تعاقبت على العراق منذ نشأته حكومات بلون الدين الواحد بمختلف مذاهبه، وكانت الوطنيةُ السمةَ البارزة لمعظم هذه الحكومات المشكَّلة في بدايات حكمها حتى قدوم ساعة الثورة السوداء من زمرة اتسمت بالنرجسية والطغيان العسكري على الحكم الملكي المسالم. والكل يشهد على الخطيئة الكبيرة التي اقترفتها طغمة العسكر والطريقة التي تم فيها تصفية العائلة المالكة والسياسيين الوطنيين الذين أفنوا حياتهم في سبيل استقلال العراق وتأسيس الدولة العراقية وفق مبادئ أممية سامية أجبرت الغرب الاستعماري على الاعتراف بقدرة البلاد وأهميتها، أرضًا وشعبًا وحضارة. 
نوري السعيد، من أكثر الشخصيات العسكرية والسياسية الذي أثيرت حوله جدالات واسعة بين المقبولية والكراهية، وبين الوطنية والتبعية، وبين الإيجابية والسلبية. لكن الرجل يستحق الإنصاف، حيث أثبتت الأيام والسنين حنكته وحسَّه الوطني في قيادة البلاد في أحلك الظروف، بل كان عرّاب السياسة في البلاد وفي المنطقة. وممّا اتصف به أيضًا، أنه كان مناورًا مجتهدًا في سياسته، حازمًا حكيمًا في قراراته، وإنسانًا طيبًا عاديًا في سلوكه اليومي بالرغم من عصبية مزاجه وغموضه "اللغز" وطريقة إدارته للحكم بتولّيه رئاسة الوزارة لأربعة عشر مرة في تاريخ العراق القديم في العهد الملكي حتى الإطاحة به ظلمًا وجورًا في تموز 1958. حتى في حياته العادية، لم يبتعد عن مواطَنته وحبه لكلّ ما هو بغدادي وعراقي، وعيشه من دون تكلّف ولا محاذير أمنية في تنقلاته الخاصة أو في زياراته لأصدقائه أو بتسوّقه بالقرب من موقع عمله حين كان يُشاهَد وهو ينتقي فاكهتَه بنفسه من بائعٍ قرب تمثال الرصافي حين خروجه من مكتبه في القشلة من دون حمايات ولا مصفحات ولا طوابير المظللات التي تزعق الشارع. كما يُحكى عنه شهيتُه البغدادية بتناول ثريد الباميا بيده من دون تكلّف واستمتاعه بالمقامات العراقية وحرصه على الاستفادة من أي فلس زائد لصالح الشعب. وحين كان يتجاوز الحدود في بعض صرفياته من دون قصد، كانت عيون الموظفين ترصده وتعترض عليه، ليأتي باعتذار مؤدّب عمّا فعله. هكذا كان السياسيّ الحريص على المال العام وعلى مصلحة الشعب والبلاد. وظلّ الباشا نوري في قلوب البغداديين قريبًا منهم، إلاّ الفئة الضالّة التي لم يرق لها اتسامُه بهذه الصفات الكارزمية وهذه الوطنية المميزة والقدرة الكبيرة في السياسة وفي المناورة وفي الإقناع، وصولاً لبناء البلاد على أسس حضارية. ولعلّ من بين أهمّ منجزاته الإعمارية في عهده، بناء صروح وتشييد عدة سدود وجسور ومشاريع خدمية ما تزال قائمة.
ربّاط الحديث، عقد مقارنة بين ساسة وحكام الأمس مع نظرائهم ما بعد عهد المَلَكية، ولاسيّما ما بعد الغزو في 2003. فقد شهدت هذه الفترة تراجعًا في الحريات وزيادة في القسوة والبطش وانقلابات وانتفاضات لأسباب حزبية وقومية وعرقية وعشائرية ومناطقية. ولم يهدأ البلد إلاّ لفترة قليلة نسبيًا خلال حقبة السبعينات حيث شهد نوعًا من الرفاهة والبناء والتطور لتلحقها صفحة سوداء بقتامة السخام المتفحم حين دخوله في رحى حرب مدمّرة مع الجارة العنيدة إيران ثم حقبة احتلال البلد العربي الجار، الكويت، ليكون آخر مسمار يُدقّ في نعش النظام البائد الذي لم يعرف قائدُه "الأوحد" استخداَم ولو نفحة من جعبة الحكمة والحنكة والإدارة التي كانت في عقله وفكره في بدايات ظهوره السياسيّ. أمّا الديمقراطية ومظاهر الحرية التي افتقدها الشعب خلال تلك الحقبة السوداء، فقد جاءت نقمة على عموم البلاد بعد الغزو في 2003، لكونها مستوردة ومدفوعة الثمن من جلد العراقيين البسطاء السذّج الذين منحوا ثقتهم للقادمين المراهقين سواء على ظهور دبابات ومدرعات العم سام، أم من مزدوجي الجنسية الذين استقدمهم راعي العملية السياسية لنهب ثروات البلاد وشقّ وحدة شعبها وتكريس الطائفية في شكل كتابة الدستور وتوزيع الميزانيات الضخمة بين الشركاء وفق مبدأ المحاصصة :"هذا لكَ وهذا لي، هذه الوزارة لك وهذه لي، هذا العقد لك وهذا لي". وما تزال العملية السياسية عرجاء كأداء صحراء لحين قدوم الفارس الوطني الذي ينتظره الشعب المغلوب على أمره. أين أنتَ يا فارس الشعب وكاريزما الشهامة والبطولة والإنسانية والحكمة والبناء والعقل المتنور معًا؟ فنحن منذ خمسة عشر عامًا نعيش في دوامة من إخفاقات وتراجعات متلاحقة في كلّ شيء، في السياسة والعلم والبناء والخدمات والتربية والأخلاق حتى وصلنا في نهايات التصنيف العالمي في كلّ هذه وغيرها.
في ضوء ما نرى ونشهد ونختبر، أليس من حقنا القول: شتانَ ما بين حكام الأمس وزعامات مافيات نهب المال العام، اليوم؟ يُحكى عن نوري باشا أيضًا، أنه كان من النزاهة بحيث كان في إحدى المرات موضعَ محاسبة من الجهات الرقابية بوزارة المالية على عهده لتجاوزه بصرف "مائة فلس" خارج الضوابط والتعليمات في إحدى سفراته الرسمية. وكذا لقي اعتراضَ المحاسب بوزارة الدفاع التي كان يرأسُها نوري السعيد آنذاك بطلب الأخير شراء قاموس انكليزي-عربي بخمسة دنانير، لكونه طلبًا شخصيا ولا يوجد تخصيصات، فما كان منه إلاّ أن ينصاع للمحاسب ويشتري القاموس من جيبه الخاص. وغيرها من الحكايات الطريفة من هذا القبيل التي تخص هذه الشخصية الوطنية أو غيرها من الشخصيات التي حكمت العراق في العهد الجمهوري. ومثلُه عبد الرحمن عارف، الذي تولى الرئاسة وهو غير جاهدٍ لها. فقد كان عارفٌ نظيفَ اليد، نزيهًا، مسالمًا، بسيطًا، ولم تتلوث اياديه بأموال العامة ولا بدماء الأبرياء.
يذكرُ مَن عاصر رئيس الوزراء المرحوم "علي جودة الأيوبي" خلال إحدى مهماته الرسمية لحضور اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها السنوية المعتادة في نيويورك، أنّ خطة السفر كانت تقضي بمغادرة بغداد الى بيروت، ومنها الى نيويورك والعودة بخط السير ذاته. لكنه اضطرّ في خط العودة للمرور بدمشق، ما ألزمه باستئجار سيارة أجرة في بيروت للذهاب الى دمشق. وحين عودته وتقديم قوائم مخصصات السفر، لاحظ اشارة باستقطاع مبلغ عشرة دنانير من مصاريف السفر، ولدى استيضاحه من المحاسب عن ماهية ذلك الاستقطاع، علمَ أن هذا الإجراء جاء وفقًا لبيانات الايفاد التي لا تتطرق إلى هذه السفرة. فما كان من المرحوم الأيوبي إلاّ تقبلها وصرف تكاليف السفرة من جيبه الخاص.
هكذا كانت الغيرة الوطنية والشعور بالمسؤولية والحرص الشخصيّ على المال العام وثروة البلاد في صفوف موظفي الدولة، كبارًا وصغارًا. وهكذا عرفت البلادُ جلَّ قادتها وحكامها وساستها السابقين الذين عُرف عنهم تقديسُهم للمال العام وعدم ترك أملاك وميراث وعقارات بعد مغادرتهم مناصبهم أو بعد موتهم. فتلكم كانت أخلاق أولئك السابقين بالرغم من الملاحظات العديدة عن طبيعة وسلوك أيّ منهم ورؤياه في بناء الدولة وتسيير قطارها.
مع قرب تشكيل الحكومة العراقية القادمة التي لن ترى النور قريبًا بحسب الكثير من التوقعات، من حق العراقيين الذين انتفضت نخوتُهم بحب البلاد طلبًا بالحق في الآدمية في بلد يسبح على بحار من ثروة نفطية نصفُها ضائعٌ في جيوب المهربين واللصوص، منذ بدء الأزمة في البصرة ومدن الجنوب عمومًا، وصولاً إلى بغداد وكردستان، من حقهم أن يستلهموا العبر والدروس من ماضي الحكومات الملكية وساستها المحنّكين كي يعيدوا عجلة الدولة إلى سكتها الصحيحة ويرفضوا كلّ تجاوز على حقوق المواطن والاستهتار بالمال العام والتغوّل على المناصب والمكاسب بحجة قوانين يتمّ سنُّها ظلمًا وجورًا من مؤسسة تشريعية أو بمثابة قوانين تصدر عن جهاز تنفيذي أو رئاسيّ في غفلة من الشعب البائس الذي اعتاد السير كالقطيع الخانع.
لستُ هنا بصدد التحريض أو التشهير أو التقليل من شأن الساسة والزعماء والحكام، بقدر ما أنوي التذكير بحكومات أيام زمان وأخلاق روادها وسادتها. فذلك الزمن الجميل سيظلّ جرسُه يرنّ في آذان كلّ عراقيّ حرّ ووطنيّ لا يخشى في الحق لومة لائمٍ. ومَن امتلك ولو جزءًا يسيرًا من الشجاعة في قول الحق، سيكون موضع إكبار واحترام من الغريب قبل القريب. وحين لا تنفع المحاولات والكتابات والخطابات بنصيحة الحكام والساسة، حينئذٍ لا بدّ للغضب الشعبيّ من أن يجد طريقه إلى دوائر هؤلاء ليقضّ مضاجعهم ويتصدّى للدوائر والحكومات التي أتت بهم حكامًا غير جديرين بالثقة، وذلك باستخدام الشارع الثائر وكشف المستور ونشر الفضائح كي يتبيّن اللون الأسود من الأبيض. فلا لونَ رماديًّا أصبح مقبولاً بعد انتفاضة الشعب الأخيرة في 8 تموز المنصرم، والتي لا ينبغي أن تتوقف أو تتعطل أو تتراجع تحت أية ظروف أو مسميات بحجة رفض التشهير بالحكام الفاسدين وكون مثل هذا الرفض للواقع المزري يعمل على زرع الفتنة والعداوة بين الشعب والساسة. حتى المرجعيات الدينية بكافة أطيافها وموازينها، لم يعد لها وزن ولا شخصية مستقلة بسبب مغازلتها للحكومات الفاشلة المتعاقبة زورًا وبهتانًا بحجة الطاعة لوليّ الأمر. فمثل هذا المفهوم الخانع للحاكم الظالم لم يعد صالحًا في بلدٍ عانى من تجاوزات لا حصر لها على حساب حقوق الشعب والمواطن، بلدٍ فقد بركات رافدين أزليين كانا يزخران بأطيب مياه الكون.
أمّا محاولات الحكومة المنتهية ولايتُها، الترقيعية الأخيرة من دون توفيقها بإجراء إصلاحات جذرية في العملية السياسية وفي إدارة البلاد وبالضغط على المؤسسة التشريعية بإعادة كتابة الدستور، فهي لم تعد اليوم نافعة هي الأخرى، وما هي مثل هذه المساعي الخائبة سوى ذرّ الرماد في العيون ومحاولة لاسترضاء الشعب المنتفض وامتصاص غضبه بعد أن ملّ الوعود وكره الردود الخائبة. فقد كانت السنوات الأربع المنصرمة فرصة لإثبات الجدارة والنخوة الوطنية والحرص بالقضاء على الفساد ومحاسبة الفاسدين وفضح أعمالهم الشائنة. لكنها ظلّت ساكتة أو خجولة أو مترقبة لسلوك المؤسسة التشريعية التي حرصت كل الحرص لتعزيز مكاسبها ومصالحها على حساب الشعب الفقير الجائع المستنجد بقطرة ماء صالحة للشرب وبخدمات آدمية تحفظ كرامته. فالثورة والغضب الشعبي ماضيان حتى إسقاط العملية السياسية الحالية الفاشلة ومحاسبة الفاسدين والمفسدين ممن تاجروا بقوت الشعب وترفهوا على حساب جوعه وفقره وتخلّفه وتاجروا بجراحاته وتهجيره ونزوحه.
الأيام القادمة ستقول لنا الكثير. أمّا ما زرعته أمريكا ومَن تعاون وتشاركَ ونسّقَ معها في زرع الأحقاد واستشراء سرطان الفساد وعسكرة الشعب والدولة، فستحصدُه هي وأمثالُها عاجلاً أو آجلاً.



194
المنبر الحر / ماذا لو...؟
« في: 13:25 25/08/2018  »
ماذا لو...؟
لويس إقليمس
بغداد، في 15 آب 2018
بعد إعلان مجلس القضاة المنتدبين لمفوضية الانتخابات لنتائج العدّ والفرز اليدوي لعدد من المحطات المشكوك فيها يوم 9 آب الجاري، وبيان مطابقتها للنتائج السابقة المعلنة من قبل المفوضية العليا المجمَّدة، يبقى الشك قائمًا لغاية الساعة وإلى يوم الدّين بالطريقة التي تمّ فيها تسويق العملية الانتخابية الأخيرة والتدخلات المريبة لعدد من الأيادي التي تلاعبت بالعملية السياسية ككلّ، سواء الداخلية منها أو الخارجية. فقد مثلت نتائج الانتخابات الأولية ومطابقتُها مؤخرًا من قبل الجهة القضائية المنتدبة خيبة أمل كبيرة وغصّة للمطالبين بالكشف عن مواقع التزوير ولاعبيها.
على أية حالٍ، مهما طالت أو قصرت فترة طبخ القرار الأخير الذي ستصدره المحكمة الاتحادية، سواء بالمصادقة المتوقعة على النتائج النهائية أم بالطعن بها، رغم استبعاد هذه الفرضية الأخيرة، فإن العملية السياسية بشكلها القائم ستبقى عرجاء وسط سياقات ليّ الأذرع في تثبيت المصالح الحزبية للكتل النافذة. أي أنها ستبقى في حدود ما اعتدنا عليه منذ 2003 مرتعًا لصراع الإرادات والمصالح والتفرّعات الأخرى البعيدة عن مصالح الوطن العليا وتمنيات الشعب البائس المغلوب على أمره.
مطالب المتظاهرين بداية، ما نهايتُها؟
للحق نقول، إنه بعد اشتداد المظاهرات الأخيرة التي انطلقت شرارتُها في الثامن من تموز المنصرم، واتساع ساحاتها وبلوغها مناطق ومدنًا عديدة، طاف وشارك فيها شيبٌ وشباب وأطفال ونساء من طبقات محرومة ومهمَّشة ومن جياع ينقبون في القمامة بحثًا عن قوت ومكسب يقي حاجاتهم اليومية المتعثرة، كنا ننتظر أحداثًا مغايرة تقلب الموازين وتضع البلاد والعباد على سكّة جديدة تستبعد في أبجدياتها تقاسم السلطة وفق أسلوب المحاصصة المقيت الذي نصح به الغازي الأمريكي وأراده لهذا البلد نكاية بأهله وتدميرًا لنسيجه وتكريمًا لمزدوجي الجنسية كي ينهبوا ثرواته ويقضوا على ما تبقى منه من مدنية وثقافة وتراث وعلم وأخلاق. فحيث كان الكذب والنفاق والسرقة والاختلاس والفساد في العشيرة والبيت والشارع والدائرة مفسدة وعارًا على مَن يتعاطاه، أصبح اليوم بعد أحداث 2003 منبرًا للتفاخر والاعتداد والمكابرة بأحجام المبالغ التي تدرّ للبعض من وراء صفقات مريبة وعمليات فساد إداري ومالي فاقت التوقعات والشبهات والتخيّلات.
بسبب هذا الوضع المتردي في كلّ شيء، كنا وما زلنا نتوقع قدوم فارس وطني أو فرسان نتوسم فيهم علامات بطولة عراقية تتسم بحزم الزعيم المقتدر الصارم الآمر وبحكمة الحاكم العادل الإنسانيّ الطيّب الذي تتوفر فيه مثل هذه القدرات من الكاريزما الإنسانية والأبوية والوطنية معًا من أجل العمل على إنقاذ البلاد والعباد من براثن الفساد والفاسدين والقضاء على مهرجانات ليّ الأذرع في المساومات والصفقات التي نتنت وفاحت جيفتُها ولم تعد مقبولة. أمّا المطالب المرفوعة، فهي تكاد تكون مشتركة وواحدة من شمال البلاد إلى جنوبها ومن طولها إلى عرضها، متمثلة بمطالبة الجهة التنفيذية أي الحكومة، بمحاربة آفة الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات الدولة التعبانة وفي توفير الخدمات الآدمية من ماء وكهرباء وإيجاد فرص عمل لجيوش العاطلين وإعادة ماكنة الصناعة الوطنية إلى العمل من أجل توفير فرص العمل وتعزيز الاقتصاد الوطني وتحديد الاستيراد الاستهلاكي الذي يسهّل خروج العملة الصعبة عبر صفقات وعقود وقوائم تجارية سهلة التزييف والتزوير. فهل ستحقق هذه التظاهرات أهداف المتظاهرين الثائرين ضدّ أشكال الفساد كي ينعموا في النهاية بقسط من الخدمات التي افتقدوها وبالراحة الآدمية التي يستحقونها، أم ستفتر فورتُها وتتراجع أمام دعوات المتصيّدين باسم الدّين وفتاوى السادة والمعمّمين الذي سيوبخونهم باسم الدين والمذهب على اعتراضهم ووقوفهم بوجه أولياء أمورهم، كما اعتادوا عليه في المرات السابقة؟ لنا عودة لنرى الحكم والنتيجة ...

لوائح الفاسدين وقانون العفو
في أول ظهورٍ لرئيس الحكومة المنتهية ولايتُها، استبشر العراقيون خيرًا بإطلاق رئيس الوزراء حيدر العبادي عند تسلمه السلطة بالطريقة الشائكة التي يعلمها الجميع، لسلسلة من التصريحات النارية التي واصلت سمتها التسويفية (سوف) طيلة أربع سنوات قاضيات. وقد وجدها الأخير فرصة موائمة لإطلاق المزيد منها بعد انتهاء فترة الأربع سنوات، عبر تسويقه لذات التصريحات النارية قبل تشكيل الحكومة القادمة، ولكن هذه المرة بالإعلان عن لوائح مهمة بأسماء مَن وصفهم بالفاسدين من المسؤولين في الدولة. ولا نعلم، مَن هو الذي يقرّر مَن هو الفاسد ومَن هو النظيف؟ فأغلب الذين تولوا مناصب في الرئاسات الثلاث، إن لم يكونوا جميعًا، مشتركون في آفة الفساد بصورة مباشرة أم غير مباشرة. وإلاّ ما المانع منذ بدء ولايته قبل أربع سنوات من كشف المستور وإعلان الخفايا والصفقات والمساومات التي جرت وحدثت وتمّت منذ بداية الغزو ولحين الساعة ولاسيّما في صفوف زعماء الكتل والأحزاب المستأثرة بالسلطة؟ نحن نعتقد أنه بسبب هامش الفضاء السياسيّ الضيق القائم أمام رئيس الحكومة الحالية للتفاوض، قد لجأ إلى هذا الخيار الصعب بعد أن أضاع فرصًا عديدة. ولكنْ، لات ساعة مندم!   
مِن حق الشعب المغلوب أن يستفهم ويستدلّ ويتحرّى عن المليارات من ثروة البلاد التي هي ثروة العراقيين جميعًا، التي ضاعت أو اختفت أو اختلست أو مُنحت هدايا وعطايا وصرفيات غير محدودة الإطار والأبواب. ولعلّ من هذه الأخيرة ما طفا على السطح عبر تسريبات إعلامية أو مواقع تواصل من استغلال السلطات الثلاث لميزانية البلاد عبر مرتبات خيالية أثناء الوظيفة أو بالإحالة على التقاعد وما يرافق هذه من مرتبات تُصرف للحمايات الشخصية وللسيارات الفخمة المستخدمة والمخصصة لمتنفذين في الدولة والأحزاب، وسلسلة الإيفادات التي ليس لها حدود بحيث استنزفت ميزانية الدولة. هذا إلى جانب الترهل في توظيف أبناء عوائل المسؤولين والمتنفذين ومن الأقارب والعشيرة في مواقع تدرّ أموالاً طائلة في مواقع ومناصب تمويهية لا وجود لها ضمن الملاكات المعمول بها. ولعلّ أكثرها غرابة وضررًا القانون الذي سنّه نواب الشعب في دورته الأخيرة الذي يمنح امتيازات خيالية لا تخطر على البال لأعضائه وعائلاتهم وحماياتهم مدى الحياة. أمّا حزمة الامتيازات التي منحتها الحكومات الشيعية المتلاحقة لمَن وصفتهم بضحايا النظام السابق وأفردت لهم سجلات خاصة ومؤسسات سنّت لهم مرتبات وعطايا وامتيازات لا حصر لها ولا يتخيلُها العقل، فهذه حدّث بها ولا حرج. حتى إنه يُقال إن البعض من هؤلاء يتقاضون أكثر من مرتب في آن معًا، ومنهم مَن يُعرفون بسجناء رفحاء والسجناء السياسيين والجهاديين بأنواعهم وما خفي كان أعظم!
أمّا ما لا يمكن السكوت عنه، أن يسنّ نوابُ الشعب ومَن ادّعوا تمثيل مناطقهم ومدنهم وأتباعهم قانونًا للعفو مثيرًا للجدل كصفقة بين الساسة وزعماء الكتل والأحزاب. فقد ساهم هذا القانون سيّء الصيت في التستّر على الفاسدين والسكوت عن اللصوص وسرّاق المال العام في وضح النهار. والأنكى من ذلك، السماح لأمثال المشمولين به في دخول البرلمان ثانية أو في تولّي مناصب في الدولة والاستفادة من نفوذهم في تمرير مصالحهم ومصالح مَن تستّرَ عليهم من دون وجه حق. ففي الوقت الذي تدّعي السلطة التنفيذية محاربتها الفساد وملاحقة الفاسدين، نجد السلطة التشريعية تسدّد ضربتها للحكومة الضعيفة التي لا تستطيع في الأغلب تنفيذ ما تَعِدُ به بسبب الضغوطات العديدة من الكتل المتنفذة ومن دول إقليمية مستفحلة في العملية السياسية ولها مصالحها الاستراتيجية في البلاد. ومن المؤسف له أن تُضيّع الحكومة الحالية فرصًا عديدة للضرب بيد من حديد على أيدي اللصوص ورؤوس الفساد عندما نالت في بداية تشكيلها تأييدًا واسعًا من الشعب والمرجعية الدينية ونخب المثقفين وحتى من البرلمان. لكن رئيسها لم يستثمرها، بل أضاعها جميعًا، وقد خسر الرهان. فالفرصة الضائعة قد لا تتكرّر. وسنرى ذلك في قادم الأيام.

حكومة "أغلبية" وحكومة "أبوية"

لغاية الساعة، لا موقف سائد عن بانوراما أو سيناريو معيّن حول تشكيل الحكومة القادمة. ففي الوقت الذي تدّعي فيه كتل سياسية بتقاربها مع غيرها لتشكيل الكتلة الأكبر التي ابتلينا بمفهومها المثير للجدل وبمشاكلها منذ اقتراحها من جانب المحكمة الاتحادية في حينها، فإن التخريجات الأخيرة قد تناقض المفاوضات الجارية وفق حساب الصفقات والمساومات. وكما يقول المثل "حساب البيدر غير حساب الحقل". واقع الحال يشير إلى ضبابية المفاوضات الجارية خلف الكواليس بين الكتل والزعماء من أجل كسب الرهانات وما أكثرها! وهذه بحسب التوقعات والخبرة، قد لا تخرج عن مبدأ المحاصصة المعتمَد في سابقاتها. فالكلّ مثل الكلّ، يسعى لتثبيت الأقدام والإبقاء على المغانم عبر مفهوم الإقطاعيات التي تشكلت على ضوئها الحكومات الهشّة السابقة. من هنا، لا نعتقد برؤية الضوء في الأيام القريبة القوادم، إن لم نقل في الأسابيع القوادم. والسؤال يبقى: ماذا لو لم تتشكل الحكومة بسبب تشابك المطالب وتنوع المطامع واختلاف الرؤى. فهل نتحدث عن سيناريوهات أخرى مازالت تُطبخ على نارٍ هادئة في مطابخ العم سام ودول الجوار وقيادات عسكرية سابقة محترمة في أصالتها وانتمائها التاريخي العسكري المشهود له بالوطنية والجندية الحقيقية؟
في ضوء الأحداث الساخنة هذه الأيام، فإنّ الشعب ينادي، والمرجعيات الدينية المتنوعة الأديان والمذاهب والمشارب تحثّ، والمثقفون يكتبون، والسياسيون يتحركون، وكل الجهود تصبّ في الدعوة لتشكيل حكومة وطنية "أبوية" قوية تساوي في العدل بين الناس وتكون قادرة على وأد الفتنة وإغلاق ملفات الفساد وشحذ الهمم في عودة الخدمات الآدمية وإعادة النظر بأسلوب عمل المؤسسات التربوية والعلمية التي خرجت عن الخدمة وباتت في الصفوف الأخيرة عالميًا. وفي ضوء المخرجات السياسية المطروحة، لا يبدو في الأفق ما يحملُ صدقَ ما يُقال ويُصرَّحُ به ويُكتب عن حسن نية الكتل السياسية النافذة وزعمائها بإصلاح الأخطاء وإعادة الروح الوطنية في حكم البلاد وتسيير عجلة الاقتصاد والصناعة والزراعة وإدارة المؤسسات بما يرضي الله والمواطن العراقي المغلوب.
من دون شك، هناك مزايدات كثيرة ولغط كبير في صفوف العامة والخاصّة إلى جانب مخططات عديدة تقودها وتديرها دول أجنبية وإقليمية وشخصيات لها وزنها على الساحة الوطنية من أجل الدفع بالعملية السياسية، كلّ بحسب وجهات نظره ومصالحه. لكننا نعتقد في النهاية، أن سيناريو غير هذه التي تنسج خيوطُها في مطابخ دبلوماسية وسياسية سيكون لها الحظ الأوفر. فما يخرج عن معامل الجهات الاستخباراتية هو الذي يسود في النهاية على غيره. وهذا يعني أنّ مجمل الأسماء التي يتم تداولها لرئاسة الحكومة القادمة لن تُكتب لها حظوظ كثيرة لتولّي هذا المنصب الذي سيكون من نصيب قائد وطنيّ على الأغلب، يحمل في ضميره نوائب الشعب وآلامه ومطالبه المشروعة في ضوء الحراك الأخير لمدن الجنوب والوسط والشمال على السواء. فما حصل وجرى منذ 2013 يكفي للاعتراف بغضب الشعب والاستجابة لاعتصاماته وتظاهراته المتزايدة التي نأمل عدم توقفها حتى تحقيق كافة المطالب المصرَّح بها وبغيرها.

حكومة بشروط
من جملة ما ينادي به الشعب عبر ما تردّد أثناء التظاهرات، ليس كثيرًا عليه. فتاريخ البلاد وحضارتُها وما يتمتع به العراق من ثروات وقدرات بشرية واقتصادية ومائية وطوبوغرافيا قلّ ما تتمتع به دول أخرى فاقته في كلّ شيء في السنوات العقيمة الأخيرة، وكلُّها دلائل وإشارات على نهضة ممكنة بعد كبوة الجواد القاسية. وما الشروط "الأربعينية" التي وقفت صدّا أمام عودة شخصيات مشبوهة ومتهمة بإفساد العباد وخيانة البلاد، سوى نتفٍ من مطالب الشعب الوطنية التي ينبغي العودة إليها إذا حسنت النوايا وحصل الندم على الأفعال الشائنة التي اقترفت بحق شعب العراق، كما صرّح بها بعض السياسيين مؤخرًا. وإنْ تكنْ هذه من الصراحة والاعتراف بالذنب، فهي جزءٌ ممّا ينبغي حدوثُه إذا أُريد إصلاح العملية السياسية برمتها عبر إعادة كتابة دستور وطنيّ خالص بأيادي عراقية خالصة وخبراء مستقلين لا تستهويهم سوى النزعة الوطنية ولا يعلو على تفكيرهم سوى مصلحة الوطن ورفاهة شعبه. أما الديمقراطية التي دخلت أبوابنا من دون استعداد كافٍ لها، فهي لم تكن سوى فقاعة أو لذرّ الرماد في العيون ردّا على سلبيات النظام البائد. ومن المؤسف استغلال هذه الديمقراطية من قبل أحزاب السلطة وتحوُّل مؤسسات الدولة إلى إقطاعيات تخدم مصالحها وإلى جماعات تذرّعت بقربها من مراجع دينية، فغرفتْ ما استطاعت وبما طالت أياديها وما تزال تفعل ذلك بإنهاك ميزانية الدولة التي لجأت للاستجداء والاستدانة من دول ومؤسسات دولية من أجل إرضاء هذه الأحزاب أو تلك الجماعات. فالتستّر بجلباب الدين والمذهب، كانت وما تزال من النوائب الكبرى التي أثقلت عقل المواطن وأفسدت ضميرَه وجرحت نسيجَه المتدهور. فباسم الدّين والمذهب، اقترفت خطايا كبيرة وحصلت جرائم خطيرة وهُتكت أعراض وحقوق وممتلكات مكونات وأطياف عُدت مواطنين من الدرجة الثانية وما بعدها، بل تم استباحة وطن بكامله!
قصارى الحديث، هناك شبه إجماع أن الحكومة القادمة لن تتشكّل وفق إطار التخندق الدينيّ والطائفي والمذهبي. فهذا سيجعلها أسيرة الأحزاب ومصالح الجهات المرتبطة بها إقليميًا ودوليًا، ما سيحدّ من تحركها المطلوب من أجل إصلاح ما دمّرته الحكومات المتعاقبة الفاشلة منذ الغزو الأمريكي. حتى حكومة التكنوقراط التي نادت بها جهات سياسية أو مرجعيات علمية ودينية وثقافية ووطنية، قد تم استغلالُها وفق النهج التحاصصي في الحكومة السابقة. وهذا ما يستدعي العزوف عن اختيار رأس الحكومة القادمة وأعضائها من صفوف أحزاب السلطة الحاكمة. هذا إذا أُريد للعملية السياسية أن تتحدث وتجد طريقها إلى قلب الشعب وضمير الوطن بمواصفات الشراكة الحقيقية بين جميع المكونات والأطياف من دون تمييز أو استخفاف أو استئثار بالسلطة. فالوطن ليس الحكومة. الحكومات تتبدّل وتتغيّر، لكن الوطن باقٍ والإنسان حاضر والأمل قائم حتى تحقيق الأحلام الوردية التي هي من حق كلّ إنسان، ومن حقنا كعراقيين. فماذا لو تغيّر السيناريو وخاب أملُ الغرماء وانتصر صوت الغضب المتعالي؟



195
تأثير الإعلام في ذاكرة وسلوك الأطفال، مَن المسؤول؟
لويس إقليمس
بغداد، في 25 نيسان 2018
فتحت الاكتشافات الإلكترونية ووسائل الاتصال والإعلام المتعددة نوافذ وقنواتٍ لا حصر لها من مغريات إعلامية ودعائية، ما تتطلب واجبًا مضافًا للمجتمع في توجيه الأجيال، ليس في اختيار الأفضل والحكم على الصالح منها فحسب، بل في تقنين مشاهدتها والاطلاع عليها بسبب تزايد وقت التسمّر الملحوظ أمام الشاشات الصغيرة واتخاذ الأخيرة معبودًا جديدًا للكثير من الأطفال. فهذه الظاهرة غير الصحيحة، لا يمكن أن تجري بعيدًا عن دور الأهل، ولاسيما الوالدين ضمن العائلة، لما للبيت الأسري من تأثير مباشر في توجيه فكر الطفل والحفاظ على توازن عقله مع المنظور والمنشور والمسموع. فعلى عاتق الأبوين أولاً، يرتكز جهدٌ أكبر في توجيه الأطفال لقبول الأفضل، ومساعدتهم لتنمية روح الاختيار النافع والنقد الهادف للكمّ الهائل من المعلومات التي تقدمها وسائل الاتصال والإعلام بعيدًا عن أساليب التهريش والحكم غير الناضج لما يُعرض أو يُنشر أو يُقال عبر الأثير. وهذا شيءٌ أساسيٌّ في مسارات التثقيف الصحيح التي تتولاها وسائل الإعلام المختلفة، التي من صميم واجبها شأنُ التوجيه والتعليم والملاحظة بحيث لا يتحول الطفل إلى كائنٍ منعزل خلف الشاشة الصغيرة.
عمومًا، لا يمكن التعامل مع مسألة التثقيف الإعلامي كظاهرة متقدمة وباعتبارها مشكلة معزولة عن دور الأسرة والبيت وثقافة المجتمع، طالما أنّ عالمنا قد غزته هذه الوسائل، وهي دائمة التطوّر والتقدّم في تقديم الحديث المتجدّد والمبتكَر الجديد. لكن ما يمكن الجزم به، بقاءُ حرص الآباء والأمهات مهمازًا أساسيًا في مساعدة أطفالهم كي ينموا في المجتمع أفرادًا متحضرين، ناضجين، يعرفون التمييز بين الغثّ والسمين من بينِ كمّ المعلومات التي تغزو الفكر والعقل والشارع والمدرسة والمجتمع والمؤسسات، وليس أفرادًا موسومين بوصمة التوحد التي أخذت في النمو. ولعلَّ من أجمل ما يمكن أن تقدَّمه وسائل الإعلام الموجّهة المتزنة، الأخذ بأيادي الصغار منذ نعومة أظفارهم كي يستعدّوا ليكونوا أفرادًا متزنين، منتجين، مؤهلين، نافعين وقادرين على احترام قواعد الحياة الاجتماعية والقوانين السائدة التي تهيّء لخلق مجتمعات متناسقة، متوازنة، متمدنة قادرة على التفكير الجيّد الناضج الذي يؤمن بسلمية العيش المشترك الذي يقبل الآخر مهما كان وجه الاختلاف قائمًا، وليس أفرادًا منعزلين خلف شاشات عوالم الكترونية معقدة.
من ناحية مقابلة وعلى سبيل تقديم نماذج حيوية بسيطة، يمكن أن تأخذ جملة توجيهات تربوية عامة وإرشادية في أبسط مراتبها وأغراضها وتنوعها، طريقَها إلى عقل وفكر الطفل إذا ما صيغت بوسائل تشجيعية تساعد على تنمية المهارات الفكرية والذكائية والذوق العام بحيث تخلو من سمات التعقيد والنَّهر والزجر والتهديد التي تسود مجتمعاتنا الشرقية عامة. فالنصحُ المتأتي من توجيه تربوي صحيح خالٍ من التخويف والتهديد، يكون عادة أكثر قبولاً لدى مسامع الطفولة، لكونه خاليًا من تجريح فكره وتهريش عقله. من هنا، يكمن أن تبدأ الانطلاقة الصحيحة الأولى مثلاً من أمورٍ في غاية البساطة، كأن يتم توجيه الطفل بعدم رمي النفايات مثل كيس الجبس أو الحلوى التي يتناولها بعد الانتهاء منها في الشارع أو على الأرصفة أو في الساحات العامة أو في غير محلّها المطلوب. ويمكن أن يكون هناك أيضًا تنبيه إلى احترام إشارات المرور لضمان سلامة المشاة والإيعاز بعبور السابلة حين ظهور الضوء الأخضر والتوقف في اللون الأحمر. فهذه من ألف باء الثقافة الشارعية والنظافة الشخصية والسلوك المجتمعي الصحيح. كما أنها من أبجديات وبوادر النضج في التفكير المتدرّج في الأشياء المحيطة، التي يمكن أن تتكفل بها مختلف وسائل الإعلام، ومنها بطبيعة الحال وسائل التواصل الاجتماعي التي غدت أسرعَ انتشارًا من البرق. ومثل هذه التوجيهات التربوية يمكن العثور عليها في قنوات اتصال متخصصة تقدّم مثل هذه البرامج الهادفة.
حقيقة، إنّ الكثير من هذه أمثال هذه المفردات البسيطة في الحياة اليومية، تشكلُ اليوم أيضًا جزءً مهمًا من ثقافة احترام وتقبّل شيءٍ أكبر، متمثل بالقوانين المجتمعية التي تسنّها المؤسسات الدينية والمدنية، وعلى نطاق أكبر الدولة المتمدنة التي تسعى باتجاه تطوير البلد وتوفير الوسائل الخدمية الآدمية الأساسية للمجتمع. فهذه الأمور، مهما بدت بسيطة وتافهة في نظر البعض، إلاّ أنها من الوسائل التي ترتقي بفكر الطفل عندما يكبر وينضج، وتجعله يتطلّع إلى أشياء أبعد من تفكيره المحتجَب في الحفظ الببغائي لتوجيهاتِ دكاكينَ مغلقةِ الفكر وناقصة في الرؤية المدنية المتحضّرة التي لا تعير اهتمامًا كبيرًا في مجال تشذيب فكر الطفولة وتطوير رؤيته مجتمعيًا نحو الأفضل وباتجاه الرفاه والرقيّ.
من هنا، فالمجتمع الذي تربى على ألف باء هذا الاحترام للإنسان المقابل وللشارع الذي يسير فيه وللساحة التي يلعب فيها وللبيت أو المدرسة التي يمضي فيها الكثير من وقت طفولته حتى رشده، تجعل منه لاحقًا، مواطنًا نافعًا ومنتجًا يشعر وهو سائرٌ في الشارع أو يعمل في دائرته وكأنه في منزله ووسط عائلته وأهله وإخوته. فمثل هذا الشعور ينمّي وسائل الاحترام ويعزّز من فرص التطوير في ميادين أخرى أكثر أهمية وتعقيدًا، وصولاً لبناء ثقافة المجتمع وتطوير هيكل الدولة وفق أسس متحضّرة مبنية على مرتكزات علمية ذات جدوى للفرد والمجتمع والبلد. وهذا ما يوجه به فلاسفة التربية وخبراء الاجتماع بأهمية دور الوالدَين في البيت أولا، باتجاه تعزيز هذه السلوكيات الصائبة التي تكمّلها المدرسة أو أية مؤسسة تربوية تتولى متابعة تربية الأجيال وتطوير ما غرزه الأهل في نفسية وعقلية الطفل من خلال تغذيته بما يحتاجه في تعامله مع الآخرين في محيطه الصغير والكبير. وبهذه الوسائل المتطورة والمنفتحة ينمو المجتمع وفق تكامل الأدوار بين البيت والشارع والمؤسسة التربوية، دينية كانت أم مدنية.
هنا يأتي التساؤل عن كيفية مساعدة الطفل في تقبل هذه المعرفة، ممّا يمكن عدُّه أمرًا مقبولًا وقابلًا للنقاش لدى الجهات التربوية. فالطفل في بداية مشواره لتقبُّل الحياة والاختلاط والدخول في المجتمع، يحتاج لمَن يساعه في اكتشاف محيطه بالتدريج عبر توجيهه بالنظر إلى الأشياء والمشخصات وفق مبدأ الاحترام والتقبل والتعامل بما يجعلُه يزداد بشعوره بالمسؤولية تجاه مَن أو ما يلتقيه. فكلّ جديد بالنسبة له هو وسيلة إعلامية أو حدث إعلاميّ يستحق التوقف عنده والتقدير والتفكير. فهو يكتشف المعرفة في البيت والشارع والمدرسة والمعمل وفي كشك الباعة والمولات والمحلات التجارية وفي دوائر الدولة، إضافة إلى الوسائل الإعلامية المتعارف عليها المسموعة والمنظورة والمنقولة أو التي يجدها بين أيدي المحيطين به عبر أجهزة الاتصال الالكترونية التي اعتاد التعامل معها هو الآخر منذ صغره. ولا بأس في ذلك، فهو يجد نفسه مبهورًا بما في حوزته أو أمامه من تعدد هذه الوسائل. لكنّه يفتقر بكلّ تأكيد إلى مَن يرشده في اكتشاف الأصلح والأفضل منها له من أجل بناء شخصيته وترصين فكره وتحصين عقله في مواجهة هذا الفيضان من مصادر غير رصينة في معظم الأحوال، كونها لا تتلاءم مع مقدراته بعدُ. إزاء هذا الهجوم الكاسح من وسائل الإعلام متعددة المصادر والأهداف، لا يمكن للآباء البقاء في خانة الصمت وممارسة دور سلبيّ تجاه أبنائهم. فالمسألة تستحق القلق حينما تظهر بوادر العجز لدى الآباء أو المتولين أمرَ التربية الأولية في البيت الأسري أو في المجتمع، أيًا كان نوعه وشكلُه وبيئتُه.
في مسح أجراه مؤخرا مركز تثقيفي فرنسي يعنى بشؤون التربية في وسائل الإعلام والمعلوماتية (كليميCLEMI- )، أظهر شعور العديد من الآباء والأمهات بالعجز تجاه مسألة مساعدة الأبناء في كيفية اختيار وسائل الإعلام النافعة أو الأقلّ ضررًا في الأقلّ في تصفحهم أو تسمّرهم أمام عديد هذه الوسائل. وبالنتيجة، نفهم وجود عجز واضح في كيفية توجيه الأبناء الذين يتمتعون بتقنيات ذهنية متقدمة وهائلة أحيانًا تفوق ما كان لآبائهم ومعلّميهم. لكنّ الأبناء يبقون دومًا بحاجة ماسّة إلى نوعٍ من التوجيه والتهذيب في تقبّل النافع والمفيد كي يكون ذا معنى في حياتهم ويساعدَ في بناء مستقبل حياتهم، بدل الاندفاع غير الحكيم أو الشطط في اختيار الناشز وغير النافع لهم ولمجتمعاتهم. كما أنَّ موثوقية المصادر تبقى هي الفيصل في أية عملية تربوية صحيحة تسعى لخلق مجتمع صحيح الذهن، واسع الرؤية، متفتح العقل ومتقبّل في الوقت ذاته لأيّ تطوّر في مستلزمات الحياة اليومية. وهنا يأتي اتساع المصادر الإعلامية كوسيلة من وسائل التنوير الفكري وتطويره نحو الأفضل من حيث القدرة على اختيار الصائب والمفيد منها في التعلّم والتثقيف الذاتيّ، شريطة عدم الانجرار في الاختيار وراء المعقَّد الذي لا يأتي بثمر ولا يُنتج. فالمعلومات المعقدة التي تأتي عبر وسائل اتصال وإعلام غير رصينة أو موجّهة نحو أعمال الشرّ والعنف مثلاً، ستخلق مشاكل للطفل عوض ترقّب فائدته وتنمية أفكاره نحو الأفضل في العيش بفكر ناضج ومسالم ضمن المجتمع.
من هنا، تحتّمُ مسؤوليات المجتمع، مربّين وخبراء وأولياء أمور ومؤسسات تربوية ودينية باختلافها، أن يضطلع كلُّ فردٍ بواجبه في توجيه وتقويم الأطفال عبر تشجيعهم المداولة بوسائل الاتصال النافعة والابتعاد قدر الإمكان عنّ كلّ ما شأنه خلق حواجز ووسائل صدّ بين الطفل وتطوير المجتمع. ومنها أنّ الكراهية ووسائل الطعن والغدر والعنف المستشرية في هذه الأوقات في العديد من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي، يمكن عدّها من بين السلوكيات التي ينبغي الابتعاد عنها وعدم الترويج لها أو السماح بتداول تأثيرها الإعلامي. وعوض هذه الآفات التي نخرت المجتمعات ومنها مجتمعاتُنا الشرقية الغارقة في بحار الفتن والقتل والغش والفساد، والتي غزتها بفعل فاعل وعبر وسائل إعلام مغرضة متعددة بسبب ثقافة العنف السائدة في هذه الأيام، لا بدّ من زرع بذور الحُب والسلام واعتماد الوسطية المقبولة عقليًا وحضاريًا في التعامل مع مفردات التعليم، ليس في المؤسسات التربوية الرسمية فحسب، بل أيضًا أن تضطلع وسائل الإعلام كافة بمسؤولياتها المجتمعية وتوجيهها لتكون في خدمة المجتمعات والأوطان وليس للمتاجرين بالبشر والدين والطائفة والعشيرة. فهذه الأخيرة، محدّدَة المكاسب، ضيّقة الآفاق، ناقصة الرؤية، فيما حبُّ الأوطان وتشذيب المجتمعات من مثل هذه الآفات، هي اللغة الصحيحة للانتشار والنشر عبر الوسائل الإعلامية المتاحة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
أخيرًا، إنّ محبة الإنسان لأخيه الإنسان، واحترام بعضهم البعض بالرغم من الاختلافات في الدين والمذهب والطائفة والعرق واللون، وإيثار حب الوطن، والمصلحة العامة على تلك الخاصّة والضيّقة منها، وبناء الإنسان الفكري والمجتمعي، وترصين العقل بدل العربدة وفرض الرأي بوسائل غير حضارية، هي التي ينبغي أن تحكم وليس صوت الجهل والتخلّف والظلم والطغيان الذي يرتفع عبر المنابر الإعلامية وتتفاعل معه وسائل التواصل الاجتماعي في أحيان كثيرة، بحسب أغراض ومصالح كلٍّ منها. وهذا هو الدرس الكبير، في مسؤولية تأثير وسائل الإعلام على الإنسان، منذ طفولته حتى نضجه، ومنها توجيهه في اختيار الأفضل والأكثر نفعًا له ولمجتمعه ووطنه الكبير وللعالم.





196
من أجل أوربا قوية تواجه الغريم
لويس إقليمس
بغداد، في 20 تموز 2018
تمرّ العلاقات الأوربية الأمريكية في هذه الفترة من الزمن الصعب بهزّات عميقة وأزمة حادة أدّت إلى ردود أفعال كبيرة من الجانبين. ففي الوقت الذي عدّ فيه الرئيس الأمريكي ترامب مؤخرًا كلاً من روسيا والصين وأوربا أعداءَ لبلاده، توجه الأوربيون شطر الصين واليابان للبحث عن شراكات تجارية واقتصادية متزنة في مواجهة تسلّط الإدارة الأميركية التي تنوي اللعب بموازين التجارة العالمية للمنظمة الدولية التي ستنهار لا محال في حال إصرار القرار الأميركي باللعب بالنار. وهذا التوجه الجديد الملفت للنظر من جانب دول الاتحاد الأوربي لن يكون قابلاً للتطبيق إلاّ عبر توافقات صلدة وقرارات قوية للوقوف بوجه الطاغوت الأمريكي، ما يستدعي مزيدًا من وحدة الكلمة والفعل واستراتيجية شاملة في تطبيق السياسة الأمنية والخارجية لدول الاتحاد موحدة.
لقد حققت دول الاتحاد الأوربي منذ تكوينه في عام 1992م بموجب معاهدة ماستريخت في هولاند مزيدًا من الرفاهة والأمن والتنمية والتقدّم لمواطنيها وغيرهم من القادمين إليها، إلى جانب تطبيقها لحرية الفرد في مفهومها الشامل والجوهري للديمقراطية التي تعطي للكائن البشري قيمته وتكفل له حقوقه من دون تمييز في اللون والعرق والدين. ولعلَّ السبب الأساس في هذا النجاح يكمن في منهجيتها الموحدة واستراتيجيتها الإنسانية ورؤيتها الشاملة للوقائع والأحداث، هذا إضافة إلى قبول إيوائها الملايين من طالبي اللجوء من كلٍّ من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وما سواها، من الذين ضاقت بهم بلدانُهم ذرعًا ولم تستوعب حكوماتُهم الفاسدة والموغلة في الدكتاتوريات وجودَهم على أراضيها. كما أصبحت أوربا قبلة طلاب العلم والمثقفين وأصحاب المهارات، بسبب إيمانها بحق الإنسان في العيش في المكان الذي يرتاح فيه ويجد فيه المأوى والمأكل والحرية في تنقله وحركته وفكره.
بموجب الأحداث، يبقى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المنطقتين الأكثر تذبذبًا في استقرار مواطنيهما والأكثر نشاطًا في التوجه الفكري نحو التشدّد والعنف والإرهاب والأكثر تخلفًا في الركب العالمي. وهما ما يزالان يشكلان تحديًات كبيرة وجدالات كثيرة وتباين في طريقة تعاطي بعض دول الاتحاد الأوربي مع موجات الهجرة المكثفة التي لم تنقطع لغاية الساعة من أراضيهما الآيلة إلى التصحّر ليس في الأرض فحسب بل في الفكر والعلم والتنمية والتقدم واحترام البشر. من هنا، جاءت بعض التقاطعات في مسألة التعاطي مع هذه المشكلة التي تحولت إلى أزمة بين دول الاتحاد في فترات متلاحقة منذ بدء تلك الموجات غير الطبيعية من الهاربين إلى المجهول والعالقين بقشّة في مواجهة موجات البحر بكلّ عتوّه، أملاً بالوصول إلى برّ الأمان على أرض تعيد لهم الحياة من جديد وتمنحهم شكل الآدمية التي فقدوها في بلدانهم.
لقد دفعت أوربا شيئًا من فاتورة هذه الاستراتيجية في التعاطي مع مسألة الهجرة القانونية وغير القانونية على السواء، عندما انقلب بعضٌ من هؤلاء الأوباش المغالين في التشدّد الأعمى والتطرّف التافه على مَن آواهم وجعلهم في عداد البشر عندما تركوا أوطانهم وأرضَ آبائهم وأجدادهم طمعًا بشيء من الراحة والرفاهة والاحترام لآدميتهم التي فقدوها في بلدانهم الأصلية. ومع ذلك، جاءت قرارات السلطات السياسية والأمنية للاتحاد لتضغط على صانعي القرار بالتروّي والحكمة في معالجة أوضاع شاذة هنا وهناك. وقد تناسقت هذه الرؤية مع توفير الفرص الملائمة لخلق أجيال منفتحة تؤمن بالحقوق العامة وتكفل هذه الحقوق من دون تمييز، وذلك ضمن إطار عام يوفر شيئًا كثيرًا من التضامن والشراكة بين أبناء البلاد الأصليين والقادمين الجدد الذي شعروا بحياة مختلفة قابلة للانسجام والاندماج في المجتمع الجديد المختلف تمامًا عن مجتمعاتهم المتخلفة، إلاّ من فئات قليلة كانت لها أجنداتُها الخبيثة في العمل على فرط عقد دول الاتحاد وغزوه بحسب تصريحات وتعليقات صدرت على ألسنة هؤلاء ومَن يروّج لهم ويدفع ويدعم. لكنّ الكثرة الكثيرة استجابت للأوضاع الجديدة وانسجمت مع المجتمعات الجديدة حينما رأوا الاختلاف في التعامل اليومي وعاشوا الحركة الديناميكية والتقدم التكنلوجي والرفاهة والجدّية في البشر الأوربي وفي مجمل حياتهم اليومية.
مثل هذه السياسيات وغيرها كانت هي الأساس في التناغم بين المنافع والقيم الأصيلة التي سارت عليها أوربا مجتمعة في برامجها العامة وتوجهاتها نحو العالم الآخر. إذ حظيت مواضيع هامة كالأمن والاقتصاد والسلام والديمقراطية والرفاهة الاجتماعية بشيء كبير من الاهتمام والرهانات السياسية التي بسببها تغيرت حكومات وتراجعت أحزاب وسقطت شخصيات من الحسابات الوطنية بسبب انعكاسات تلك السياسات على الوضعين الداخلي والخارجي على السواء. وهذا ما جعل مسألة الحفاظ على الأمن الوطني الداخلي على كفّ عفريت في حقب متداخلة من التشنّج السياسي والرؤية الضبابية للوقائع والأحداث بسبب تداخل المعطيات والأجندات ومراكز القوى على السواء إضافة للتأثيرات الخارجية. بل تجاوزت هذه المسألة حدود الأمن الداخلي لبعض البلدان في أوربا إلى مناطق الصراع السياسي والاقتصادي والتجاري في العالم. فمسألة الأمن القومي لأي بلد مرتبط في الكثير من خطوطه وخيوطه مع الأمن الخارجي، ليس لدول الاتحاد مجتمعة فحسب، بل مع شركاء أقوياء لهذا الاتحاد في بلدان أخرى مثل أمريكا وروسيا والصين واليابان وكندا والهند بصورة خاصة. فالتنافس بين هؤلاء العمالقة اقتصاديًا وتكنلوجيًا يتطلب الكثير من الجهود من أجل الحفاظ على السلام العالمي واستقراره اللذين يعنيان بالتالي استقرارًا لهذا البلد وهذه المنطقة وسكانها وتنمية مستدامة في المشاريع والخطط التي تعني بالتالي النجاح والتقدم.
لذا تبدو محاولة أوربا اليوم في الخروج عن عصمة الإدارة الأمريكية التي كانت لغاية الساعة من الحلفاء الاستراتيجيين لها، تعني طلاقًا بين حليفين، لو حصل فعلاً ستكون له عواقب غير آمنة لكلا الطرفين. فهذا يعني أولاً خروجًا عن الطاعة الأمريكية التقليدية وثانيًا يتطلب البحث عن شركاء استراتيجيين جدد وفق مقاسات جديدة ومعايير قد تختلف عن الاتفاقات مع العمّ "سام". فأوربا القارة العجوز، ما تزال تمسك بناصية التقدم اقتصاديًا وسياسيًا وعلميًا وتجاريًا من حيث التعامل مع مختلف منتجاتها المرغوبة في دول العالم بالرغم من فارق الأسعار بين منتجاتها وما تطرحه دول متقدمة أخرى مثل الصين والهند وروسيا واليابان والكوريتين ودول شرق أوسطية حازت على بعض التقدم.
أمّا الحدث الأهمّ الذي بسببه وقع الشرخ بين الحليف الأوربي ونظيره الأمريكي، فلعلّه خروج أمريكا عن الاتفاق النووي مع إيران وطلبها من حلفائها الدوليين الالتزام بقواعد اللعبة وتطبيق نصوص الحظر مهما كانت عواقبه على حلفائها. فقد فشلت مساعي الاتحاد لاستثناء شركات كبرى أوربية لها مصالح استراتيجية من الحظر المفروض على هذه الدولة التي تُتَهم بتعريض أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط والعالم للخطر عبر دعمها للميليشيات والأحزاب المرتبطة في فلكها التشيّعي الواسع في المنطقة، ما يستوجب حجب كلّ مساعدة وتعاون وتبادل بسبب سياساتها التعسفية. كما أن رغبة الإدارة الأمريكية، المتمثلة بقرار الرئيس ترامب بفرض رسوم كمركية على منتجات أساسية مثل الحديد الصلب والألمنيوم بصورة خاصة، قد استحثت دول صناعية أخرى منافسة لاتخاذ إجراءات مماثلة، ما سينجم عنه اختلال في قانون التجارة العالمية الذي تتبناه منظمة التجارة العالمية وتسعى للإبقاء على توازنه بهدف دعم استقرار الإنتاج والدول المصنّعة بموجب قانون التجارة الحرّة المعمول به منذ حين.
إن الموقف الجديد المتأزم بين الحليفين التقليديين، أوربا وأمريكا، لا يمكن أن يُكتب له النجاح بغير وحدة هذه القارة مجتمعة، في عالم معقد يئنّ تحت وطأة المنافسة الشديدة في التجارة والاقتصاد وفي عرض الإنتاج الذي أصبح يُصنَّعُ في بلدان تقلّ تكلفتها عن نظيره من المنتوج الوطني في داخل نفس البلد. وهذا من التحديات الجديدة التي يتسع نطاقُها يومًا بعد آخر. فالتعقيدات العالمية حيث التشتت الواضح في مركز الجاذبية في القدرات، تقتضي مثل هذه الوحدة في الموقف ضمانًا لوحدة الصف وحفاظًا على الموارد. وعندما تكون أوربا في اصطفاف جبهة موحدة، تستطيع فرض إرادتها وسياستها في سلّم الاقتصاد العالمي ليس حفاظًا على مصالح مواطنيها وشركاتها المنتجة فحسب، بل تعزيزًا لمنطقة اليورو من التباطؤ في الإنتاج وفي الاقتصاد المتهالك أصلاً بسبب متطلبات الهجرة المتواصلة التي تعني فرض ضرائب أكثر على الإنتاج والماكنة الصناعية، علاوة على وفرة المعروض من البضائع وتنوع درجات تصنيعها واختلاف التكاليف من بلد لآخر ومن منطقة لأخرى، ما يشكل تحديًا مضافًا للقارة ولصناعتها. وستبقى أوربا تحظى بفرص أكثر من غيرها في حالة بقاء اتحادها متماسكًا في مواجهة ما يعتري السياسة النقدية العالمية وسبل الإنتاج والتصنيع والتسويق من مشاكل ومنغصات لا تنتهي، طالما بقيت أميركا تتمادى في فرض سطوتها للبقاء شرطيًا دائميًا لمراقبة أدوات الإنتاج والصناعة والنقد.
قصارى الكلام، بقاء أوربا موحدة يعني من جملة ما يعنيه مواجهة الغريم الأمريكي، الحوت الأكبر عالميًا، وإلزامه باحترام خياراتها ولو في أدنى قوانينه. كما أنها تتمتع برهانات أخرى موازية مع كبار الصناعة العالميين. فموقفها الموحد مثلاً من خروج بريطانيا من الاتحاد ومن فرض ما يستلزم هذا الخروج من شروط قاسية على أصحاب مشروع "بريكست"، يعني اتسامها بقوة الفعل وفرض الشروط التي تمليه عليها قوانين الاتحاد. كما أنّ رفضها لمشروع طريق الحرير الذي ينوي تحقيقه العملاُق الاقتصادي المغمور، أي الصين بهدف الاستفادة من التعاريف الكمركية لصالح تجارته، يعني أيضًا فرض عزيمتها كقارة موحدة تتمتع بكلمة عالمية في ميزان التجارة العالمي. أمّا تقرّبها من عملاق الصناعة والتكنلوجيا الياباني، فهذا دليل آخر على حسن خياراتها وبحثها عن أهمّ الركائز التي تعزّز صناعتها وتجارتها مجتمعة مع العالم.
هكذا هي السياسة الصحيحة. وهي لم تكن يومًا خارجة عن أهداف البحث عن المصالح الوطنية والقومية للبلدان بما ينسجم عقلانيًا مع مصالح الغير من دون أن تقوى هذه الأخيرة على الأولى. فالدفاع عن مصالح أوربا والعمل على تحقيق المزيد منها لصالح بلدان الاتحاد وسكانه يعني في النهاية دفاعها عن حقوقِها مجتمعة بوجه أية تحديات خارجية، اقتصادية كانت أم أمنية أم بيئية أو غيرها. فهذه من الأشياء التي تحفظ نظامها الديمقراطي أيضًا وتتكفل بإدامة احترامها للمواثيق الدولية وبحرصها على بقاء حرية الفرد والرأي والتعبير مكفولة ومصونة من دون تهريش ولا تقاطع ولا انتهاك.





197
سؤال من الحياة:
ما الأجدى، المقاومة أم الرضوخ للواقع؟
لويس إقليمس
بغداد، في 15 تموز 2018
في حيانا البشرية، تتباين سبل التفكير والفعل الإجرائي بشأن أسئلة مهمة ومفصلية أحيانًا في سياق العيش العام والخاص. وإزاءها تتباين بالتالي ردودُ الأفعال أيضًا من شخص لآخر لأسباب عديدة، منها تربيته البيتية، وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، وشكل التعليم الوطني الذي يتلقاه، وطراز المصدر التي يستقي منها علومه، وربما أسباب أخرى منها النفسية والاجتماعية والأخلاقية وما سواها من مسببات.
السكوت والرضوخ أو الرفض والمقاومة، من العبارات بل من المفاهيم الفلسفية التي يصادفها كل إنسان وسط المجتمع الذي يقيم فيه. وهي بطبيعة الحال من الأسئلة التي يمكن أن توجه للجميع طالما فينا نفحة بشرية ونسمة إنسانية وعقل يفكر ويحلل ويقرر. ففي هذه المفاهيم من الخصوصية بقدر ما فيها من الجماعية في تحديد الرؤى والأهداف واتخاذ القرار المناسب بالتناسب مع التحديات التي تطرحها الظروف وشكل المقاربات التي يلاقيها البشر في المكان والظرف المناسبين أو المختلفين. فالظرف أو المكان قد يكونان من بين الأسس والعوامل التي تطرح وتؤثر في مثل هذه التحديات، مهما كان نوعها وشكلها وحجمها. أما التاريخ، فسيكون من الدعامات الأولى بسبب ما يتركه من آلام وذكريات ومنغصات حياتية في حياة الإنسان والمجتمعات والأمم والشعوب. فهو يبقى المرجع الذي يعود إليه الإنسان في رسم ملامح مستقبله أو في تغييرها، إن كان نحو الأفضل مستفيدًا من عبره ودروسه أو نحو الأسوأ ضاربًا عرض الحائط كل ما قدمه من هذه ومن غيرها من العبر.
إن روح المقاومة ومن ثمّ رفض الواقع المعاش، هي في الأغلب من طبيعة النفس البشرية، وهي تُحسب ضرورية أيضًا في مسيرة الأمم والدول والمجتمعات التي تفكر وتحلّل وتعتز بوجودها وتفخر بكيانها، بالرغم من أنّ البكاء على الماضي المندرس من دون تفكير ولا تفعيل ولا تعديل ولا تغيير يبقى ناقصًا لا ينفع. فعندما اكتسحت العولمة معظم المجتمعات المتقدمة وانساقت دول ومجتمعات لتبريراتها وتحولاتها بكل انسيابية وسط تأييد أممي صارخ، صار لها أعداء في المعسكر المقابل الذي لم يسعفْ ذاتَه للقناعة بكون هذا الشكل الجديد من السياسة الدولية قد جعل العالم قرية صغيرة وتحوّل إلى كيان جديد أكثر ديناميكة وأكثر حركة وأكثر ليونة في التعامل اليومي مع ضرورات الحياة المختلفة المستجدّة. لكن مثل هذا التحول في الفعل والسلوك اليومي قد جرّ الويلات على شعوب وأفراد ومجتمعات رأت فيه تضييقًا للحريات وتقييدًا للتقاليد وخروجًا عن المألوف في الحياة التقليدية.
من هنا، نجد من الطبيعي تكرار مثل هذا السؤال من قبل كثير من البشر والأشخاص الذين يُعملون الفكر سلبًا أم إيجابًا على صعيد شخصيّ أكثر منه مجتمعيًا في بعض الأحيان. فعلى الصعيد الأسري مثلاً، كثيرًا ما نجد الحيرة في عيون وأفكار أحد الأزواج المتأثر بمشكلة منزلية مع الشريك الآخر وبسؤاله: هل أستمرُّ في نسق الحياة هذا بالرغم من تنغيصه حياتي وإحالتها جحيمًا منذ أمد؟ ونجد ذات التساؤل إزاء زوجة متطلبة أو أمَ متسلّطة. وهذا ينطبق على الصعيد الاجتماعي للأوطان والمجتمعات. ففي العراق تشتد هذه الأيام وطأة المقاومة والرفض من لدن مجتمعات ومدن وقصبات ابتليت منذ سنين بساسة فاسدين وأحزاب فاشلة ليس لها من مسوّغ للوجود سوى العمل على نهب ثروات البلاد وإفقار العباد وتخلّف الحياة في كلّ شيء إلاّ في زيادة جيوش العاطلين وتدمير البناء وزيادة تصحّر الأرض وجفاف الموارد المائية بسبب الفشل في إدارة شؤون الوطن والأرض والإنسان وفقدان الخطط والبرامج التي تبني وتعمّر وتقدّم. فكلّ ما ينتمي إلى الوطن ومصلحته العليا وخدمة المواطن ليس قائمًا أو بالأحرى ليس من أولويات أحزاب السلطة في البلاد، ما أدّى إلى الانتفاضة الشعبية التي يشتدّ أوارُها بالتتالي والتوالي. فمن حق أي إنسان أن يقرّر النافع لمصلحته ولا يبقى تحت قبة الانتظار المملّ طيلة حياته فاغرًا فاه من دون نتيجة. فهو لن يعيش سوى مرة واحدة، ذلك أنّ الحياة إنْ هي سوى لحظات إحساس وشعور، وحرية حركة وفكر، واستراحة بعد تعب. من هنا تأتي أهمية اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب من أجل تقرير النافع والصالح للتوجه إليهما والابتعاد عن غيره من الضارّ والمقزّز ورفض كل أداء تافه وضار وقاتل. والعبرة في مَن يُقدم على خطة جريئة لكسر جليد الانتظار ورفض البقاء في دارة الخنوع والخضوع لأجندات دخيلة مدمّرة للنفس والجسد معًا.
قد يكون القرار باتخاذ الصالح من غير النافع، من اللحظات الحاسمة في حياة الإنسان، أي التوجه نحو مقاومة الواقع ورفضه بالتمام والكمال أو الرضوخ إليه والقبول به مهما كان ما يقدمه ويأتي به مرًّا أو علقمًا. وتلكم مثلاً، من مشاكل الأزواج في عصرنا الحالي، حيث تفاقم المشاكل وزيادة التحديات الأسرية لأبسط الأشياء وأكثرها تفاهة. وهي تنسحب بالتالي على مشاكل المجتمعات والأوطان والشعوب التي فقدت انسجامها نتيجة تداخل العولمة وما أتت من مظاهر استفاقت لها أجندات مهرّجي الدّين والطائفة والمذهب والعرق والشخصانية على السواء. وبالنتيجة، فإنه لا يمكن التعويل على قرار السكوت والقبول أو الرفض والمقاومة إلاّ في ضوء استعداد الشخص ونوع القيم والثقافة التي يحملها ويستجيب لها والشعور والغيرة والضمير التي يتحلى بها في قرارة نفسه وبراعة عقله. فهناك من البديهيات ما لا يمكن تجاوزه في الحياة الأسرية مثلاً، تبعًا للتقاليد والقوانين العائلية. فالأم، مهما كانت متسلطة في نظر الكنّة ستبقى كلمتُها هي الأعلى في البيت، والأخ الأكبر أو البنت البكر سيكون لهما الباع الطويل في قرارات العائلة، والأنثى كذلك سيكون حظُّها أوفر في التقدير والاحترام أكثر من الذكور في الأسرة الواحدة. فهذه من طبيعة الحياة. وكذا بالنسبة للأوطان والأمم، يبقى السكوت لخاطر عينِ فلان وعلاّن، أو خوفًا من سطوة هذا الحزب أو ذاك التشكيل المسلّح، أو خجلاً من هذا المرجع الدّيني أو صاحب تلك العمامة. وقد يطول الصبر حتى حدود الانفجار، حيث يفقد البشر ما عنده من طاقة لمثل صبر أيوب. وهذا ما يحصل لشعبنا المنتفض ابتداء من ثغر البصرة ومرورًا بمدن الجنوب المجاورة ووصولاً إلى العاصمة بغداد. ومَن يدري، إلى أين سيقف المدّ الغاضب؟
هناك مَن يقول بالصبر على الأشياء والرضوخ لها في النهاية، مهما كانت الأسباب والعواقب. وهذا من سمة القبول الأعمى بشكل الحياة والترسخ في القناعة الناقصة والساذجة بما هو قائم بالرغم من قتامته وعدم وضوح الرؤية فيه. بل هذا إنما هو شكلٌ من أشكال العجز وعدم المقدرة في اتخاذ المواقف الصائبة وتقرير المصير. وقد يشكّل أيضًا ظاهرة سلبية تطبع سمة شعب بأكمله، حين القبول بما هو قائم والرضوخ للواقع المتهرّئ مهما كان مزريًا أو حرجًا في حيثياته ونتائجه التي قد تبدو كارثية. أي بمعنى آخر، مثل هذا السلوك يعني هروبًا نحو المجهول أو إلى اللّاوضوح والضبابية في الانتقاء الأمثل للأمور والقرارات، ما يعني، فقدان الوعي في الاختيار وترتيب الأولويات والاحتياجات. وتلك سمة الشعوب النائمة والبائسة التي تقبل وتقرّ بسلطة عليا للقاضي الظالم والجلاّد القاسي والحاكم الفاسد الذين ائتمنتهم جهلاً على لتقرير مصيرها بسبب رؤيتها الناقصة مهما كانت قساوة قرارات وأفعال هؤلاء جميعًا.
بالمقابل، لو اتجهنا صوب سمة الرفض أو مقاومة ما ليس منصفًا وإنسانيًا وعلميًا، فإننا سنجد أنفسنا أمام كمّ هائل من الأسئلة والاستفسارات لغاية بلوغ الجدلية في انتقاء صلاح وجدوى أيّ منهما. هناك مَن يرى أن مبدأ الرفض والمقاومة، قد يكون قاسيًا في محتواه وشديد التقبل في فحواه من جانب الجهة المقابلة، نظرًا لفراغه من أية سمة للمرونة ومن ثمّ بالقبول بالحلول أو حتى بأنصاف الحلول. لذا تبقى فرضية الصبر وطول الأناة والمثابرة لدى هذا النفر المتذبذب في انتظار الحل أو الحلول القادمة من السماء هي الأرجح في ضوء تفعيل نظرية الانتظار ومنح المشكلة القائمة مزيدًا من الوقت والإدراك لزيادة التفاعل مع الحدث ومع الظرف، لحين بلوغ عتبة الصدّ التي لا رجعة عنها ولا مجال للتراجع عن رفض ما هو قائم من وضع مزرٍ ومثبّط. لكنّ مثل هذه النظرة الوسطية بالتجمّل بالصبر غير المجدي تبقى تدور ضمن نظرية التوافق التي يكون حبلُها قصيرًا أو متوسطًا، ولا يمكن التعويل عليه إلى مديات أكثر. "إنّما للصبر حدود"، كما تقول أم كلثوم في إحدى أغانيها. ومن ثمّ، إن كان مفهوم الانسجام والتناسق بين المعطيات القائمة والمتناقضة في بعض ردودها وآلياتها سيدَ الموقف لفئة معينة في حقبة من الدهر، فإنه لن يكون كذلك لأتباع شعوب حيةّ يمكنها في لحظات حاسمة استرجاع حضارتها وتاريخها وهيبتها عبر اجترار ماضيها وتطبيق ما أفلحت فيه في لحظة تاريخية حاسمة من الزمن، لتعيد أمجادَها وتغلق الطريق أمام الأغراب والدخلاء والمندسّين والمفسدين في الأرض.
المطلوب من العراقيين اليوم، مزيدًا من الشجاعة في اتخاذ القرار الصائب، والتناغم مع موسيقى المثقفين والعقلاء والتكنوقراط وسائر الداعين إلى بناء دولة مدنية والمطالبين بإعادة هيبة الوطن وسيادة القانون والتحكيم للمساواة وتطبيق العدالة ومحاسبة الفاسدين واستبعادهم واستعادة الأموال المسروقة للخروج من النفق المظلم. والحكمة في الرفض ومقاومة الواقع الفاسد تنبع من الضمير الحيّ والرؤية الوطنية الصادقة والحرص الصحيح على مصلحة الوطن العليا وعلى حقوق المواطن الذي بقي أسير أحزاب ورموز نكثت بوعودها وتاجرت بمشاكله وضاعفت من أزمات البلاد وسرقت آمالَه في دياميس الليل وعزّ النهار من دون حياء ولا خجل ولا خوف من السماء. أمّا الإضرار بالممتلكات العامة وتجاوز الحدود السلمية التي تعطي الحق كلّ الحقّ للتظاهر والتعبير عن الرأي وكشف المستور، فهذه تبقى خطوطًا حمراء لا مجالَ لتجاوزها. فهذه الممتلكات العامة أينما وُجدت، لا ينبغي أن تكون مشاعًا "للفرهود العراقي" المتعارف عليه، إنّما هي ملك الجميع وللجميع. ومن ثمّ تحطيمُها وخسارتُها هي خسارةٌ للعابث بها قبل غيره.


198
المنبر الحر / حيّاكِ يا بصرة
« في: 23:23 16/07/2018  »
حيّاكِ يا بصرة
لويس إقليمس
بغداد، في 12 تموز 2018
البصر ة الفيحاء تنتفض منذ أيام بعد أن ضاقت ذرعًا بإهمال حكومي في الخدمات الآدمية: حيث لا ماء صالح يدخل معدة الفقراء، ولا كهرباء وطنية تقي أهلَها من لفحة قيظ الصيف القاتل، ولا أمن يحمي المتقين الله من فقراء وبسطاء الشعب الخاضع لإرادات ميليشيات الأحزاب الدينية في غالبيتها والمسؤولين الحكوميين المتاجرين بحقوق أبناء هذه المحافظة التي تسبح على بحور من الذهب الأسود وأهلوها محرومون من نعيم عوائدها. 
البصرة تنتفض، ومن حقها أن تنتفض وتثور وتقطع الطرق من دون مظاهر عسكرية مستنكرة أو   إضرار بالخدمات العامة والمنشآت ودوائر الدولة التي هي ملكٌ لهم ولكلّ الشعب. فالفالة والمكوار اللذان استخدمهما الشعب في انتفاضة 1920 أيام شعلان أبو الجون، كفيلان بأداء مهمتهما في طرد الأغراب عن حكم البلاد. فهؤلاء لا يختلفون في أطماعهم عن حكم الإنكليز أيام زمان. ولنتذكر أن التاريخ يعيد نفسه.
البصرة تنتفض في شهر أغر ساخن عُرف بموسم الثورات والانتفاضات والانقلابات، ليس في العراق فحسب، بل في عدة مناطق من العالم. لكن موسم هذا العصر له عطرٌ آخر لأن حيثيات الانتفاضة القائمة، قد تجاوزت في صبرها حدود الطاقة التي أذعنت لها قدراتُ العراقيين من شمال البلاد إلى جنوبها. فالمشاكل في عموم البلاد تتفاقم، والعلائق بين الإخوة الأعداء من الأحزاب الحاكمة تتعقد، والتوترات بين شبه الدولة والشعب تتسع وسط ارتفاع سلطة الميليشيات والعشائر التي صارت سيدة الحكم والموقف والقرار، فيما سلطة شبه الدولة تتراجع أمام هذه المظاهر غير الحضارية. بتنا اليوم نخضع للفصل العشائري أكثر من سيادة القانون الغائب في الكثير من مفاصله. فهذا الأخير، بحكم الواقع خاضع لتأثيرات الأحزاب الحاكمة، شئنا أم أبينا.
البصرة تنتفض، وقد تتبعها محافظات أخرى، بل نأمل أن ينتفض كلّ العراق من شماله إلى جنوبه كي يقول كلمة القرار الحق: آن الأوان لتنفيذ مفهوم "الشلع قلع" بحق العملية السياسية برمتها، التي نعتقد أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، بل صار مَن يعتقد بقراءة سورة الفاتحة عليها برمتها، في ضوء الواقع المتردي. فبعد خمسة عشر عامًا من الفساد السياسي والإداري والمجتمعي الذي احتجزتنا فيه الأحزابُ الحاكمة وزعماءُ البلاد، ومجملُهم من مزدوجي الجنسية الذين أثبتت الأيام تنكُّرَهم لأية سمة وطنية وبعدَهم عن هموم الشعب واهتمامَهم بتكديس أموالهم من مال الشعب ومن السحت الحرام، يكون الأجدر بالشعب البائس أن يواصل انتفاضته من كبيره إلى صغيره ليقول: كفى للظلم! كفى للضحك على الذقون! كفى للمخاتلة! كفى لسرقة أموال الشعب! كفى للمجاملة على حساب المظلوم! كفى للمتاجرة باسم الدين! فباسم هذا الدين، وباسم هذه الطائفة أو تلك، وباسم هذا الإمام، وباسم هذا المرجع، وباسم تلك العمامة مارسَ اللصوص والسراق والعصابات أفعالهم اللصوصية وسرقوا فرحة الأطفال وكدّروا سعادة الآباء ودمّروا مدنية البلاد وجرحوا نسيجها المجتمعي. وبسبب الأوضاع المتردية هذه، تصدعت العلاقات بين المجتمعات المتكافلة وكثرت المشاكل بين الأسر والعائلات وزادت الزيجات غير الشرعية وانتشرت في البلاد مراكز التزوير والترفيه المقنّع وسادت القوانين العشائرية على سلطة الدولة والقانون وأصبحت الميليشيات المدعومة من أحزاب مسلحة متنفذة هي التي تحكم وتقرر وتفرض الرأي.
إنتفاضة البصرة، وإن جاءت متأخرة، إلاّ أنها تحمل بصيص أمل قد يقود للضوء الباهر في نهاية النفق المظلم الذي عاشه العراقيون، ليس منذ السقوط في 2003 فحسب، بل قبل ذلك بسنوات. فالأمل بمستقبل قريب يحمل تباشير الخير والانفراج والعودة إلى السكة الوطنية، قد يبدو قادمًا مع تصاعد حدة الانتفاضة واتساع رقعتها لتشمل محافظات أخرى، مرورًا ببغداد كي تُسقط أصنامَ المنطقة الخضراء بلا استثناء بأيدي عراقية خالصة وروح وطنية عارمة وغاية تنموية صحيحة تعيد للبلاد ألقَها ولبغداد رونقها ولمدن العراق كافة عزتَها واستحقاقها، ليس كما أسقط الأمريكان الصنمَ لغايات تدمير العراق والاستخفاف بشعبه وإبقائه رهن المشاكل والأزمات والتعقيدات في مفاصل حياته اليومية إلى أمد غير مسمّى.
إنتفاضة البصرة، هي البداية ولا ينبغي أن تتوقف أو تترهل أو تتراجع حتى تحقيق كل مطالب أهلها من ماء وكهرباء وأعمال واستقرار وطرد كلّ مظهر مسلّح لتعود قبلةَ العالم وليس الخليج فحسب. لذا ليس على البصريين القبول بأرباع أو أنصاف حلول. فحياتُهم هي على كف عفريت منذ أجيال ولا مجال لمزيد من الصبر وطول الأناة والانتظار. فهذه قد فاقت الحدود ولم يعد لها مكانٌ في قاموس الأحرار الذي ارتضوا لسنوات عجاف أن يبقوا رهن الخنوع والخضوع والتبعية لهذا البلد وهذا المرجع وهذا الحزب وهذا السيّد وهذا المعمَّم. البصريون هم السيّاب الذي تغنى بنخيلها الباسق في يوم من الأيام وأصبح رمزًا للحرية ولانفتاح أهلها ولكرمهم وطربهم وأغنياتهم وأهازيجهم الشعبية الجميلة.
إنتفاضة البصرة في حالة استمراها حتى تحقيق المطالب الوطنية والمحلية من دون تنازلات، بداية لتغيير المشهد السياسي ولإسقاط رموز الفساد وإبعاد اللصوص من الحكم ووضع حدّ للتبعية للجيران. إنها شجاعة الاحتجاج التي عُرف بها الشعب منذ تشكيل الدولة العراقية كلّما نكثت الحكومات وزعماؤُها بوعودها لتحقيق الرفاهة والسعادة والتنمية والإنجازات الخيالية والإصلاح التي أضحت جميعُها أسيرة المؤتمرات الصحفية الدعائية ولا شيء منها على أرض الواقع. فالقطاع الخاص الذي كان ينبغي أن يشكّل عصب البلاد الاقتصادي مازال يترنح تحت وطأة الضرائب المتنامية والقوانين الجائرة غير المنضبطة في معظمها لأسباب كثيرة. أما الخدمات العامة، فحدّث ولا حرج علاوة على اندثار ما كان قائمًا من مقومات الدولة وعدم إضافة أية مشاريع استراتيجية مهمة في الطرق والجسور والمياه والأجواء والمرور والتجارة والصناعة وما إلى ذلك، وهي عديدة تشكو المعالجة وغياب الإدارة الصحيحة والمتابعة المهنية.
إنتفاضة البصرة إذن، لا تراجع فيها، ولتقتفي غيرُها من المدن ما قامت به من شجاعة من دون إضرار بالممتلكات العامة والخاصة بالشعب. فاستمرارُها يعني إحياءُ وطنيةِ ثورة العشرين وانتفاضة سمّيل وثورة الشواف والانتفاضة الشعبانية حتى تحقيق الأهداف في رسم سياسة جديدة للبلاد بعيدًا عن زعماء المشهد الفاسد القائم منذ 2003. وكان الله في نصرة شعب الفيحاء ومّن يحذو حذوَهم!


199
حرب المياه، حرب الأقوياء
لويس إقليمس
بغداد، في 10 حزيران 2018
جفاف شط العرب ليس مأساة البصريين فحسب، بل هو كارثة سوف يبتلي بها كلّ العراقيين بعد انحسار المياه في أركانه وبروز أشباه جزر كشفت عن أراضي جديدة قد يسيل لها لعابُ مافيات الفساد السياسي والإداري في شبه الحكومات القائمة منذ 2003، لتستغلّها بمثابة مشاريع استثمارية كمولات تجارية ربما ماتزال تفتقدها البلاد، أو مواقع ترفيهية خاصة أو لتبنى عليها قصور لأمثال هؤلاء وغيرهم. فالطبقة السياسية التي فرزها التغيير الدراماتيكي في 2003، قد أنتجت طبقة سياسية موغلة في الفساد والطمع والنهب والسلب، من أمثال الذين لا يشبعون من ملء بطونهم بالسحت الحرام. فيما الشعب الساذج البائس يراوح في مكانه دون أن يتحرك أو يثور ليقلب الطاولة على الشلّة الحاكمة التي أثبتت الأيام فشلها في إدارة البلاد وخدمة العباد والحفاظ على الضرع والحجر. وفي اعتقادي، ستلحقها كوارث تالية تضرب عصب الحياة اليومية كما تشير الأحداث وتتحدث التقارير عن شحّة مياه ستضرب البلاد هذا الصيف والموسم القادم.
جرس الإنذار كان قد دقّ منذ سنين ولم يتجاوب معه أهل الاختصاص والمسؤولية، عندما تقاعست الحكومات المتتالية بعد التغيير ولم تحرّك ساكنًا في اتجاه تأمين حصة البلاد من المياه الطبيعية التي أسبغت السماءُ جزءًا كبيرًا منها خلال مواسم الفيضانات والأمطار التي ضربت بغزارة طولَ البلاد وعرضَها. وما يُؤسف له أن الوزارات المعنية لم تتحسب للاستفادة من الكميات الكبيرة المتساقطة من تلك الأمطار طيلة السنوات المنصرمة، فضاعت هدرًا عوض الاستفادة منها في عمليات خزن في السدود التي جاء بناؤُها على أيدي النظام السابق في فترات حرجة من حكمه، فيما الحكومات المتعاقبة منذ 2003م ولغاية اليوم لم تقوى حتى على صيانتها وتنظيف وكري الأنهار والترع والقنوات التي باتت تسكنها جثث متفسخة وأطنان من المخلفات والحجارة والقذارة من دون رقيب ولا حسيب. 
حين استعراضنا للسدود التي أنشأها النظام السابق، سوف يجد المواطن العراقي المنصف حجم المسؤولية الوطنية التي كان عليها ذلك النظام وأزلامُه، فيتحسّر القارئ والسامع على تلك الإنجازات التي سُجّلت لصالحه ولصالح تاريخه الوطني، بعيدًا عن تصرفاته المستنكرة الأخرى. ففي الأعوام 1973 و1974 تم بناء سدي الأبيلة والاغري على التوالي. وبعدها بعامين أي في 1976 أنشئ سدّا الحسينية وسري. وشهد عام 1981، أي في فترة الحرب العراقية-الإيرانية المشؤومة، بناء سدّي حمرين والرطبة، وبعدها بعام سدّي الرحالية وأم الطرقات. وفي عام 1986 جاء سدّ حديثة والموصل، ليليه بعد عامين سد دهوك، ثم سدّ العظيم في 1999، وسدّ الأبيض في 2002. فيما بقي سدّا بادوش وبخمة مشروعين غير مكتملين منذ سنين. هذا إضافة إلى سدّي دوكان الذي تم إنشاؤُه في 1959 ودربنديخان في 1961. أي أنَّ عدد السدود المنجزة خلال الحرب العراقية-الإيرانية فقط كان سبع سدود، وسدّان خلال فترة الحصار المفروض على العراق من قبل التحالف الدولي المقيت. أما عدد السدود المنجزة من قبل الحكومات العراقية الفاشلة المتعاقبة منذ السقوط في 2003، فهي "صفر" ولا شيء غير تدمير البنى التحتية والإهمال لهذه المنشآت الخدمية.
لذا لا عجب أن تتحسّر العيون التي فيها شيءٌ من المسؤولية تجاه الوطن وأهله، لتبكي هذه الأيام مدرارًا جفافَ شط العرب والنهرين الخالدين "دجلة والفرات" وعددًا من روافد أخرى، لحدّ الترحم على منجزات النظام السابق بالرغم من مساوئه. ومن الغريب أن الغيرة قد ضربت زعماء سياسيين وألهمت رؤساء كتل وأحزاب ومسؤولين في الجهاز التشريعي والتنفيذي كانوا حتى الأمس نيامًا وغافلين عن خطورة الأزمة، ليقفوا اليوم في طوابير الناصحين والمتفلسفين في كيفية شحذ همة الحكومة التي يشكلون جزءًا من تشكيلتها، من أجل درء الخطر المحدق بالبلاد وبالمحاصيل التي لحقها الجفاف أو تلك التي غادرتها المياه منذ أشهر أو سنين.
إنّ التطورات الأخيرة بعد تشغيل سد "أليسو" التركي وما سيلحقه من خطوات مُقدمة عليها الحكومة "العثمانية" القائمة ببناء سدّ أكبر لاحقًا، لا تنبئُ بخير. فحكومة أردوغان الإسلامية لها تفاهمات مع صانعي القرار بالمنطقة كي تبقي العراق دائرًا في أزمات متلاحقة. فبعد الخلاص من داعش والاعتراضات على تواجد قوات بلاده في شمال الموصل، يسعى لإلهاء الحكومة العراقية وانغماسها في أزمة المياه التي لا تقلّ خطورة عن داعش التي كان لتركيا دور مرسوم في دخولها العراق وفي دعمها لحين انقلابها عليه، ربما من حيث الظاهر او بسبب تفاهمات دولية عليا. لكنّ العتب لا يقع على تركيا وقيادتها. فقد سبق لرئيسها المتزمّت أن حذّر العراق مرارًا وتكرارًا من خطوات ستقدم عليها حكومتُه منذ عشر سنوات خلتْ، عندما أنذر ببرنامج طموح لبناء عدة سدود، ومنها هذا السد الضخم. لكنّ الحكومات العراقية المتعاقبة الفاشلة ومَن تولّى الوزارات المعنية بالثروة المائية لغاية الساعة لم يكن لها برامج واضحة للتحسّب لنتائج هذا السدّ ولا هيّأت المطلوب للحفاظ على الثروة المائية المتيسرة وإدامة زخمها أو إيجاد البدائل والدعائم ورسم الخطط وتنفيذها. أي أنه من حيث الواقع العملي، لم يتم اتخاذ خطوات جريئة وإيجابية للحدّ من المخاطر الكثيرة المحتملة التي كانت وماتزال تهدّد هذه الثروة الطبيعية التي حباها الله لشعب "شنعار" (العراق) منذ الأزل. فالنهران الخالدان اللذان يعتمدان بنسبة نصف إيراداتهما على تركيا، قد فقدا شيئًا كبيرًا من سمعتهما وتاريخهما عندما بدأت المياه بالانحسار عنهما سنة بعد أخرى. وها هما في طريقهما إلى مفارقة نضارتهما وفقدان أهميتهما ودخولهما سجلّ الأموات، إن لم تقدم الجهات المعنية على وضع حدود قاطعة وإجراءات آنية ومستقبلية فاعلة وفرض عقوبات صارمة على مَن تسبب بوصول الأمور إلى هذه النقطة الحرجة، سواء من المسؤولين عن ملف المياه في الداخل أو من دول الجوار التي استغلّت ضعف الحكومات الفاشلة وتمادي أقطابها ولهوهم في اقتناص المغانم والبحث عن حصة من الكعكة التي لم تنضب بعد. فما قامت به دول الجوار، ولاسيما تركيا وإيران والكويت مجتمعة، يستحق الردع بل يفرض على الحكومة الحالية والقادمة أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية التي تنصلت منها الحكومات المتعاقبة طيلة السنوات العجاف منذ تولّي حزب السلطة الحاكم إدارة سياسة البلاد بعد 2006.
من المعلوم أن العراق كدولة لا يمكنه فرض إرادته لإلغاء الاضرار الناتجة عن بناء السدود في منطقة المنبع، بل ما يستطيع فعله هو تقليل الاضرار من خلال رصد البرامج والخطط العملية وتوفير الأموال اللازمة لزيادة طاقة السدود الحالية وتنظيفها وكريها، والعمل على بناء سدود جديدة ترفد الطاقة الخزنية في مواسم الأمطار والفيضانات عوض تسرّب هذه الثروة وهدرها من دون الاستفادة منها. هذا إضافة إلى وضع استراتيجية وطنية طموحة للاستفادة من مشاريع متنامية في طول البلاد وعرضها عبر الاعتماد على حفر الآبار الارتوازية التي من شأنها رفد منظومة المياه والحفاظ على الطاقة الخزنية القائمة ومنعها من التراجع، وبهدف إتاحة الفرصة لاستمرار المشاريع الزراعية للفلاحين في المناطق الزراعية التي تعاني من شحة المياه. هنا، يمكن الاعتماد على العناصر الوطنية والخبرات القديمة ممّن استُبعدوا عن مراكز ومواقع إدارة المياه بسبب كفاءتهم واتهامهم بالانتماء إلى غير الأحزاب الحاكمة وإلى النظام السابق. فهذا الأخير، شئنا أم أبينا، كان قد خلق كوادر فنية وعلمية لا يُستهان بها في ملف إدارة المياه وتنظيم النواظم والسدود وزيادة كفاءة هذه الأخيرة على اسس علمية وفنية تشهد لهم المنابر في الداخل والخارج.
أما الحديث عن تدويل أزمة المياه بين العراق ودول الجوار، فليس ثمة ما يشجع التعاطي فيه، لاسيّما وأن البلاد غارقة في مشاكلها، تمامًا كما عموم المنطقة. فلكل بلد همّه ولا مجال للتفاهمات والحوار. فحكم القوي هو القاضي ولن يكون سواه إلا قاضيًا وجلاّدًا، طالما أن القوى الكبرى المتحكمة بالمنطقة هي التي ترسم وتخطط وترفع وتنزل القائمين على الحكم. ألم تقطع الجارة إيران المياه عن نهر الزاب الصغير وقبله الكارون والوند؟ وهذا ما تفعله تركيا اليوم. وستبقى دول المنبع هي المتحكمة في مجاري المياه من أراضيها ولن يكون لدول المصب سوى الرضوخ لشروطها طالما بقيت فيها حكومات ضعيفة وسياسيون مهزوزون لا يفقهون شيئًا عن إدارة البلاد بحنكة وحكمة ملهمين بدافع الوطنية الغائبة عن أجنداتهم الشخصية والحزبية.
إن مشكلة العراق اليوم تكمن في شقين: مشكلة داخلية تتمثل كما نعلم في سوء إدارة الحكم، ومنه سوء إدارة ملف المياه بعد فقدان وخسارة الخبراء العاملين في وزارتي الزراعة والري (الموارد المائية حاليًا). فقد ساهمت الأزمة السياسية منذ السقوط في 2003 في تراجع حجم المساحات المزروعة في البلاد بسبب شحة الأمطار من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب الإهمال الذي تعرضت له المنشآت المائية ومنها السدود والأنهر والروافد والقنوات المختلفة التي كان يمكن أن تحوي خزينًا مائيًا جيدًا طيلة ايام السنة. هذا إذا زدنا على هذه المشاكل الطبيعية والتقنية، ما تعرضت له مجمل هذه المنشآت من هدر ومن تلويث ومن تجاوز ومن تقصير في اتخاذ إجراءات جادة لدعم القائم من هذه المنشآت وزيادتها. فما صُرف من أموال طائلة على هذه المنشآت مثل غيرها من المجالات الأخرى من ميزانية الدولة منذ 2003، كان يمكن أن يغيّر المعادلة بدل البقاء في دارة الخوف والقلق من مهزلة التصدع المحتمل لسد الموصل الذي جعل الأمريكان منه بعبعًا وغولًا يمكن أن يقضي على مدن ومساحات بأكملها. وهناك مَن ما يزال يرواح ضمن ذات الفكرة ولم يستطع تجاوزها. أما الخارجية، فهي تتعلق بدول الجوار التي استغلت ضعف شبه الدولة العراقية والمجاملات القائمة بهدف الحفاظ على مصالح ضيقة لبعض المسؤولين العراقيين. فبالرغم من حديث عن اتفاقات لحماية حصة الدول المتشاطئة، إلاّ أن هذه الاتفاقات تعتبر ضعيفة وغير ملزمة. وما يحتاجه العراق هو بروتوكولات صارمة تنظم بموجب قوانين دولية معمول بها وتقوم بتنظم جريان الماء من المنبع إلى المصب بحيث تُحفظ حصة كل بلد من دون مشكلة ولا استغلال للأوضاع.
وخلاصة الكلام والتحليل، أن المشكلة المفتعلة لسد الموصل من قبل الفيلق الأمريكي، كانت للمماطلة وفسح المجال للحليف التركي كي يمضي في مشاريعه التنموية في الاستزادة من بناء السدود على منبعي النهرين الخالدين وترك العراق في حالة من الخوف والرعب والقلق. وهذا يدخل أيضًا ضمن نظرية التآمر على العقلية العراقية الوطنية التي اختفت بسبب مثل هذه الأفعال وبسبب تهاون الساسة الجدد وابتعادهم عن معالجة باقي الأمور السياسية والاقتصادية بحيث أضحى العراق رهنًا لاستهلاك منتجات دول الجوار بسبب تراجع الصناعة والزراعة فيه، وهما عصب الحياة. وعندما يقضى على هذا العصب، فلن يقوم للبلاد قائمة. وهذا يا يريده المحتل ومَن يدخل في دائرته من الساسة ونواب الشعب ومَن يلف لفَّهم من المستفيدين من صفقات الاستيرادات التي لا نهاية لها والتي تستنفذ ميزانية البلاد وتفرغها بلا رحمة. وما مبيعات البنك المركزي من العملة الصعبة في مزاد العملة اليومي التي تتجاوز أحيانًا المائتي ملون دولار، سوى جزء يسيرٍ من هذه المؤامرة التي تجري بعلم الحكومة وأركان الدولة ورئاساتها الثلاث.
في الختام، لا بد من التنبه إلى الآثار الخطيرة التي تطال الإنسان العراقي وثروة البلاد الزراعية والحيوانية والصناعية على السواء. فهذه سيكون لها آثار جانبية كبيرة، منها تعرّض تركيبته السكانية إلى حركة معاكسة لا يُحمد عقباه في حال مغادرة السكان مناطق سكناهم بسبب شحة المياه. وفي اعتقادي أن للعراق أوراقًا وليس ورقة واحدة يمكنه كسب الرهان على ضوئها كي يخرج سالمًا من هذه الأزمة. فبقاؤُها يعني قطع الأرزاق والأعناق معًا.
تكمن في ورقة ضغط سياسية واقتصادية لحماية أهداف التأثير، التي تعمل بها دول جوار العراق.

200
"سلام الرب عليك"! وعليك السلام والرحمة
لويس إقليمس
بغداد، في 30 أيار 2018
ثلاث كلمات كبيرة في معانيها ومعبّرة في دلالاتها، أطلقها رجل الدين الشيعي سماحة السيد مقتدى الصدر لتهنئة غبطة البطريرك لويس ساكو رئيس الكنيسة الكلدانية و"العراقية"، بالإنعام المتميّز الذي حظي به من لدن بابا الفاتيكان بإسباغ القبعة الكاردينالية الحمراء عليه مع أربعة عشر كردينالاً من شتى القارات والذي ستجري المراسيم الاحتفالية بهم  في 28 حزيران 2018.
 ثلاث كلمات تبدأ بالسلام المنسوب للرب "الله الواحد الأحد" إلى عباده، هزّت مشاعر صاحب الكاريزما الكنسية والهمّ الإنساني، ساكو، الذي يشغله الهاجس الوطني والأخلاقي والأدبي لشعب العراق الجريح ليلَ نهار، أكثر من سياسييّ الصدفة الذين ركنوا جانبًا هيبة الوطن ورفعتَه وداسوا على حقوق المواطن واستبعدوا هموم رفاهه وراحته ومشاكله من أجنداتهم وأنشطتهم الأنانية الضيقة. ولعلَّني أضمّ أمنياتي مع تساؤلات الكثير ممّن يهمّهم الشأن العراقي، بإمكانية وقدرة التيار الذي يقوده هذا الرجل "اللغز"، على تغيير مسار العملية السياسية وجعل الحكومة القادمة فعلاً ذات صبغة "أبوية" تعطف على فقراء ومساكين ومهمّشي هذه البلاد، وما أكثرهم، فتقطع دابر الفساد والمفسدين والخراب والمخرّبين والأذناب والمرائين والتابعين، تمامًا كما وعدَ وصرّح، وهو الذي حصد تيارُه الذي يتزعمه "سائرون" أكثر الأصوات في الاقتراع الأخير؟ أتمنى ذلك من كلّ قلبي.
لستُ أبالغ في توقعاتي، إنْ صدقت النوايا، أن يضمّ هذا التيار صوتَه للأصوات الصارخة المتزايدة التي سئمت العملية السياسية برمتها والاصطفاف حقًا بجانب الأيادي الكثيرة الضارعة المنادية بالتغيير حرصًا منها على إنقاذ البلاد من مقابض الطائفيين التابعين اللاوطنيين الذين عاثوا في أرض العراق الطيبة فسادًا وعملوا على تجفيف الزرع والضرع. فقد أثبتت السنوات الخوالي منذ الاحتلال المشين في 2003، صعود غرباء ودخلاء على العملية السياسية وعلى نوع الديمقراطية التي صنّفها وهيّأها المحتل وفق مقاساته السياسية ومصالحه الاحتلالية عبر مَن وظّفهم في ميليشيات وعصابات ودكاكين سياسية ومجتمعية بمسميات عديدة. ومن الواضح، أنَّ نفرًا جائعًا وغير مصدِّقٍ بما آلَ إليه بعضُ هؤلاء الدخلاء على الوطنية والمواطنة، قد استغلّوا بساطة وسذاجة الغالبية العظمى من أبناء الوطن بحجج وأعذارٍ ظاهرُها التمدن والمدنية وباطنُها أطنان الكذب والنفاق والرياء والمساومات والصفقات المريبة، ما منحهم مزيدًا من فسحة الاستهتار والاستهانة بالعامة من البسطاء والمهرولين الساذجين واستغلالهم لصالحهم ولصالح الجهة الداعمة لمشروعهم، دينيًا كان أو طائفيًا أو مذهبيًا.
اليوم، أمام المدّ الجارف المخطَّط له بعناية من بعض الدول الكبرى الطامعة ودول الجوار المؤثرة في أساليب الخداع والتمويه والضحك على الذقون، وقفت شبه الدولة العراقية وحكومتُها الحالية عاجزة عن تلبية مطالب الجماهير المعترضة على أنواع الفساد الإداري والمالي، والمنادية بالتغيير منذ أربع سنوات، والمطالِبة بمحاسبة كلّ مَن سوّلت له نفسه أن يلعب بقوت الشعب ويرقص على مشاعر البسطاء ويدغدغ عواطفهم المهزوزة بحجج دينية ومذهبية وطائفية. كما لم يترشح عن التصريحات والوعود الرسمية لرأس الحكومة وأركانها سوى أدوات التسويف والمماطلة وتمشية الأيام، بحيث اكتسبت هذه الأخيرة صفة حكومة مغانم نهاية الشهر المتمثلة بالمرتبات والامتيازات الكثيرة المتنوعة التي يحصل عليها القائمون في الحكم وخلاّنهم وأتباعهم والمقربون منهم والمتعاطفون معهم. و"ما شاء الله"، شعبُ العراق بصفته المتلونة واستعداده لتقديم شخصية مزدوجة في سلوكه اليومي لا يحتاج إلا لدقّ الطبلة والمزمار كي تهتزّ مشاعرُه ويبدي نخوتَه المشهودة وغيرته المعهودة على أدعياء الدين والمذهب والطائفة. فكلنا نعلم أنه إزاء هذه الأخيرة لا شيءَ يقف حائلاً ولا راحمًا ولا رادعًا، بالرغم من بروز صحوة متأخرة لنفرٍ اكتوى بمثل هذه الترّهات والحجج، عندما تجرّأت أفواج من المعترضين من شتى التيارات الوطنية لترفع في ساحات الجمعة طيلة الفترة المنصرمة شعارهم المدوّي: "باسم الدّين باقونا الحرامية" و"شلع قلع"، الذي نخشى اغتياله وأفوله ضمن ترتيبات تشكيل الحكومة القادمة.
إن شعب العراق بكافة مسمياته وتلاوينه المكوناتية، ليس بطامع بأكثر من عبارة "سلام الرب" أي "سلام الله" التي انتقاها بكل عناية كما يبدو، سماحة الرجل الديني مقتدى الصدر في تهنئته المرفوعة لمقام واحد من أرفع الرموز المسيحية في البلاد الذي يستحق بجدارة ما ناله من استحقاق من لدن رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم. فبتكريم بابا الفاتيكان للبطريرك الكلداني يكون قد كرّمَ كلَّ العراق وأهلَه، وأعاد للبلد الجريح شيئًا من الثقة بالنفس وكثيرًا من البسمة التي غادرته بعد أن عزفت عنه معظم دول العالم وأصبح في عداد المحتضرين في صالة الإنعاش منذ عقود. إنها التفاتة أبوية تستحق التقدير والثناء!
"سلام الرب" الذي اختاره السيد الصدر في هذه المناسبة المبهجة، هو ذات السلام الذي يتفوه به الجميع، وهو ذاتُه الذي يتغنى به الزعماء ويتحدث عنه الملوك والعامة سواء بسواء، ويسعى إليه ذوو الإرادة الطيبة في العالم. فكيف به إذا تناغم مع خطوات وأهداف وتطلعات قائدَين وطنيين من ديانتين توحيديتين، سمة اثنينهما رسمُ خارطة طريق سليمة وصحيحة ووطنية للبلاد التي غرقت في أطيان الفساد والتخلّف والمخدّرات التي باتت تفتك بشباب الوطن بسبب العوز والحاجة والبطالة والسأم من القائمين على إدارة شبه الدولة. فالصدر وساكو، ومَن على خطواتهما من المتنورين المنادين بدولة مدنية بمعايير إنسانية ونخب المثقفين الصابرين وأفواج الحريصين على لحمة الوطن الاجتماعية وعلى أسلوب بنائه ونموه بهدف استعادة مكانته الدولية والحضارية والعلمية والمجتمعية، هم المعوَّل عليهم في توجيه سياسة البلاد والسياسيين نحو الاستقامة في الأداء وفي صحة تقديم الخدمات الآدمية وفرض الأمن وسيادة القانون وتثبيت أركان دولة مدنية حقيقية تتبع المعايير الدولية والإنسانية المتمثلة بالعدالة والمساواة ورفض التمييز على أسس عرقية ودينية ومذهبية.
حسنًا فعلها ائتلاف سائرون الديني بتحالفه مع نقيضه المدني المتمثل بالحزب الشيوعي ومَن على خطاهم  وخطهم الوطني والمدني كي يخرج بتوليفة وطنية صادقة مقربة من الشعب ومطالبه وطموحاته بحياة أفضل وأمان أكثر وخدمات أحسن. فمثل هذه الطموحات والأمنيات تتعانق مع مقتضيات نوع السلام الذي أرسله السيد الصدر. وهو ذاتُه الذي لا يفارق أفواه الجميع في كلّ يوم وكلّ ساعة منذ الصباح الباكر وحتى المساء. ومهما كان تاريخ هذا الرجل ومهما كان ما يُقال ويُكتب عن قائد "سائرون" بعد فوز كتلته بأعلى الأصوات، فهو يستحق اليوم أن يدخل ضمن خانة الحريصين على وحدة البلاد وخدمة العباد، وأن يكون في محور اللقاءات والاجتماعات والمفاوضات، سواء توقّعَ منه المواطنون والسياسيون والعقلاء والمثقفون والأتباع الكثيرَ أو القليل. فقد اكتسب بحق سمة الدعاة من أجل تحقيق المواطنة الكاملة والرعاية المفقودة للجميع من دون تمييز، وهي "سمة وطنية" بامتياز يتشارك بها مع صاحب الإنعام بالدرجة الكاردينالية، البطريرك لويس ساكو. فكلاهما ينظران للمستقبل ويتطلعان للوصول الى نتيجة مثمرة من خلال المناقشات والمفاوضات مع كل الفرقاء والزعماء والكتل والأحزاب، شريطة أن يتولى رئاسة الحكومة شخصية وطنية معتدلة لا تدين بالتبعية لأحد، بل بالولاء  للوطن وأهله وأرضه وسمائه ومياهه. وكذا يجب أن يكون أعضاء الحكومة من الأكفاء في العلم والإدارة والخبرة معًا، بعيدًا عن اشتراطات المحاصصة والطائفية التي نخشى إعادة ترويجها وتكرارها، "فترجع حليمة على عادتها القديمة."
في الوقت الراهن وفي هذه الفترة المفصلية، على الجميع أن يضع نصب عينيه، أنّ الكلَّ أبناءُ وطن واحد، لهم تاريخ مشترك واحد، وينتظرهم مستقبل مشترك واعد، به يحفظون ماء الوجه وبه يذودون عن الوطن وبه يصنعون الإنسان الجديد ويتركون جانبًا أية صراعاتٍ مقيتة خلقها المحتل ودول الجوار، دينية كانت أم مذهبية أم عرقية. وأي فريق يضع شروطًا مسبقة للفوز بمناصب سيادية أم غيرها، لا يستحق منذ الآن أن يحمل اسم "العراق"، ولا أن يعيش على أرضه، ولا أن يشرب من مياهه، ولا أن يطير في سمائه، ولا أن ينال من ثرواته. فهذا الصنف من العناصر الأنانية، سيكون منبوذًا ويبقى مضرًا للبلد وأهله.
أخيرًا، لك منّي هذه الرسالة يا سيدي مقتدى. أدعوك لأن تصنع سلامكَ وفق رؤيتك الوطنية الصريحة المستقاة من ثوابت مرجعياتك الوطنية الرشيدة. دعْ هذا السلام يتناغم مع سلام المسيح الذي وجّهته لنظيرك ومحبك ودليلك في الوطن، ساكو. فالمسيحيون طيبون بطيبة الشعب العراقي الأصيل، وليس لديهم أسلحة ولا سيوف ولا غدارات، بل هذا السلام الذي اقتبسته ليكون مع الجميع وعلى الجميع وللجميع في الطريق القويم. وأنتم وكلّ الطيبين المسلمين الحقيقيين يقدّرون هذا السلام ويستأنسون بهذه الطيبة وينشدون ما يحمله أتباع المسيح في العراق من محبة وغيرة وجدارة وتسامح وتكافل وتضامن وتعاون مع إخوتهم في الوطن. فهذا وذاك، دليل على قرب إيماننا المشترك بسلام الله ومحبته ورحمته للبشر جميعًا.
 


201
الانتخابات والفساد
لويس إقليمس
بغداد، في 9 أيار 2018
لو اتصف غالبية الشعب العراقي بشيء مقنع من الوعي والإدراك لِما حصل له على أيدي مافيات الفساد الإداري والسياسي الذي اتصفت به حكومات البلاد منذ 2003، لتسنى له تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية من دون مجاملة ولا مواربة ولا خجل ولا خوف. بل توجبَ عليه أن يعلنها على أسماع الملأ يوم السبت القادم 12 أيار 2018، موعد الاستحقاق التشريعي المنتظر: كفى ما لحقنا منكم من سرقات وتلاعب بمقدرات البلاد ونهب ثرواتها، ومن مظالم ووعود عرقوبية وضحك على الذقون، ومن كذب واحتيال وخداع لضعاف النفوس ولغالبية الشعب المغلوب على أمره، والذي اعتاد عبادة الأشخاص وتعظيم الجلاّدين والمشي خلف المستغلّين للبسطاء. فمثل هذا الوعي النسبي في صفوف العامة بعد سنوات من التجربة والخبرة كان يمكن أن يكون رهانًا قويًا على إحداث تغيير جذريّ في المشهد السياسي باستبعاد كلّيٍّ للزعامات القديمة التي قوّضت الحسّ الوطنيّ ومزّقت النسيج الاجتماعي وأحالت البلاد إلى شبه دولة مستهلكة للمنتجات المستوردة بلا رحمة، ومستجدية للقروض المتكالبة عليها، وغارقة بالديون المتراكمة من دون تخطيط ولا إدارة ولا نتائج. وهذا كان فحوى توصية المرجعية الشيعية العليا "المجرَّب لا يُجرَّب". 
     هي خيبة أمل كبيرة ببقاء ذات الرؤوس الكبيرة القديمة التي طلّت علينا منذ أيام من جديد، بإعلاناتها الضخمة ويافطاتها الكبيرة التي تتناسب طرديًا مع تخمة الفساد التي عاث بها هؤلاء في البلاد ومَن على خطاهم وسيرتهم، طيلة السنين العجاف المنصرمة. هي ذاتُها إذن، مَن ستتحكم بالعملية السياسية لسنوات أربع عجاف ظالمات سالبات قادمات لا محالة، إن هي أُعيد انتخابُها مرة أخرى. فهي التي ستشكل حكومة المحاصصة الوفاقية، وهي التي ستكمل تقاسم ما تبقى من الكعكة المشتراة سلفًا بدماء الشهداء والجرحى وبتراكم الديون والقروض والتسليف المسبق التي من شأنها إبقاء البلاد والعباد أسرى الدول الخارجية المستغِلّة لسنواتٍ طوال قادمات. ألا يكفي ما حصل من خراب ودوس لكرامة البشر واختفاء لكلّ ما كان حضاريّا وعلميّا وتراثيًا وأخلاقيًا و...، أم إن نوع البشر المغفل في عراق الحضارة ليس قادرًا على تعلّم الدروس ولا الثورة على الظلم والقهر والمتاجرين بمقدراته ومصيره ومستقبل أجياله؟
منذ أيام، وحُمّى وطيس الانتخابات تستعر في تجمعات انتخابية دعائية وإقامة احتفالات لخداع شرائح كبيرة من الشعب الجائع الباحث عن لقمة عيش شريف في مكبات النفايات والأزقة المكتظة بحشود الفقراء، والعاطلين الباحثين عن فرصة عمل وغيرهم من الخريجين الذين خابت آمالُهم وآلت دراساتُهم وأتعابُهم العلمية إلى سوق الشورجة في بغداد وأسواق بيع الخضراوات والفاكهة في مدن وقصبات العراق بدل أن يسخروا ما اكتسبوه من معارف ومهارات في خدمة البلاد وفي تطويرها وتنميتها.
 هكذا آلَ حالُ العراقيين أصحاب الحضارة والتاريخ العظيم وأولاد السلف الصالح من الأنبياء والأئمة الأطهار والأبرار والقديسين، ولم يجدوا مَن ينقذهم بعدُ من هذه الكارثة التي حلّت بهم وببلادهم. فكلُّ مَن توالوا على الحكم بعد حقبة الدكتاتورية الظالمة، ظهروا أشدّ قهرًا وعنفًا وأكثرَ فسادًا وظلمًا وأفظعَ خداعًا واحتيالاً، ينطقون باسم مكافحة الفساد وهُم من أشدّ الناس سرقة ونهبًا ولصوصيةً وفسادًا وكذبًا وخداعًا. جميعُهم يدّعون مكافحة الفساد ويحملون ملفات فساد لشهرها ضدّ الخصوم والمنافسين، وحين مقاسمة الكعكة تصمتُ الأفواه وتسكت الأصوات وتدخل الألسن في محاجرها خوفًا من انقلاب السحر على الساحر. هكذا، لم نعد نعرف مَن هو الفاسد ومَن هو سارق قوت الشعب ولا مَن هو ناهب خيرات البلاد منذ 2003 ولغاية الساعة. 
حين قدوم رئيس الوزراء حيدر العبادي مدعومًا من الغازي الأمريكي وبمباركة من الشارع والمرجعية الرشيدة، ظنّ العديدون أنه حصان الرهان الأكبر في مسألة مكافحة الفساد وتنفيذ برنامج الإصلاح الذي طالب به عموم الشعب وبخاصّة طبقتُه المثقفة والقطاع الخاص على السواء. لكنّ شيئًا من تلك الوعود لم يحصل، بالرغم من سمة التسويف التي اتسم بها خطابُه وتلويحه الدائم بالعصا الغليظة في محاربة الفاسدين ودفع ملفاتهم إلى النزاهة، بحيث أصبحت كلمة "سوف" متلازمة مع مشروع محاربة الفساد غير القائم أصلاً. أربع سنوات مضت، وقد أصبحت هذه الكلمة أسيرة خطابات رنانة تزويقية إعلامية بلا تطبيق ولا تأثير على الممسكين بناصية المشهد السياسي بأسلوب المحاصصة الطائفية التي يرفض الجميع علنًا بمن فيهم وعلى رأسهم التحالف الشيعي وحزب رئيس الوزراء نفسه، الادّعاء بالخروجَ من عنق زجاجتها والتخلّي عنها تمامًا. وفي الأخير، تُركن جميع الملفات جانبًا كي لا تؤثر على مجرى الانتخابات وتبقي غطاء القدر مستورًا ومقفولاً ومشمَّعًا بالأحمر.
 هكذا يُحارَبُ الفساد في العراق منذ 2003. فهل تتغيّر الحال بعد 12 أيار ويعي الشعب فداحة الكارثة التي أوقعته فيها الزعامات الحالية التي تاجرَ قسمٌ منها باسم االدّين، وآخرون بالوتر الطائفي والمذهبي، وغيره بالشرف العراقي، وجميعُهم نال من الكعكة ولم يشبع، ويريد المزيد "أربعَ أخريات لتجربتهم"!!! لا تدعوا العقارب ترجع ثانية، فلسعاتُها ستكون أكثر أذىً، والسمومُ التي ستنفثُها ستمدّر ما تبقى من البلاد...
قالوها "سندمّركم". "مَن له أذنان سامعتان، فليسمع"!

202
"مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"
لويس إقليمس
بغداد، في 25 نيسان 2018
تفاعلت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا، ولحقتها الفضائيات بسرعة البرق لتدلي بدلوها، سلبًا أم تنويرًا أم شماتة أم تبريرًا أم صمتًا، لحقيقة ما حصل للمرأة الجريئة والمثقفة ذات المرتبة العلمية المتميزة الدكتورة انتظار أحمد الشمري، مرشحة قائمة النصر التي يرأسها رئيس الوزراء العراقي حدير العبادي. وبغض النظر عن الخطأ الذي ارتكبته هذه الأستاذة الجامعية في لحظة غباء بشري وعدم احتراس لمثل هذا الفعل المدان في نظر المجتمعات الشرقية والإسلامية عامة، فهناك مَن تعاطفَ معها، ليسَ تأييدًا لفعلتها المستنكرة التي أهانت بها ذاتَها شخصيًا وعرّضت المرأة العراقية عامة للانتقاد وما لحقه وسيلحقه مثل هذا الفعل الطائش بمثيلاتها ضمن المجتمع المنغلق الذي يعشن فيه، بل إنصافًا لحقها في التحكم بما تملكه من غرائز وعواطف وميول، هي من حقّ كلّ كائنٍ بشريّ طالما أنّ الفعل المرتكَب ليس فيه أذيةٌ لأحد بالرغم من استنكاره كفعلٍ شائن لا يليق بمقامها العلمي. فجسد الإنسان ملكٌ له شخصيًا ولسلوكه وليسَ لغيره التحكم به. من هنا كان تعاطف البعض ممّن يحملون بعدًا إنسانيًا ورؤية بعيدة في حقّ المرأة بالتصرّف بالجسد الذي تملكُه وفق قانون السماء العام والحرية الشخصية التي كرّستها لائحة حقوق الإنسان التي اعترفت بها معظم دول المنطقة، ومنها العراق.
ليسَ دفاعًا، وبعيدًا عن الهدف من وراء نشر هذا الفيديو الفاضح لإنسانة متميزة في مجال عملها أرادت في لحظة ضعف بشريّ أن تمارسَ حقها في التمتع بغريزة شخصية دعتها لإرضائها ظروف معينة يجهلها المتلقي أو المشاهد، إلاّ أنّ ما لم تحتسب له، قد أوقعها في فخاخ الشماتة والمهانة. فكانت الهجمة الشرسة التي طالتها من دون خجل ولا خوفٍ ولا حساب من غضب السماء من جانب نفرٍ مغرض يجهل القارئ والسامع عقليتَهم وسلوكياتهم وربما ارتكابَهم هم أنفسهم ذات الفعل المستنكر في الكواليس المظلمة وغرف الفنادق وعلب الليل في الداخل والخارج. وهذا شيءٌ من سلوك الازدواج في الشخصية العراقية بوجه خاص والشرقية بوجه عام. في مجتمعنا، نرى كلّ يوم نفرًا عديدًا من أمثال هؤلاء المنتقدين والديّانين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون ويصرّحون بعكس ما يرتكبون من غباء وشين في السرّ وتحت الغطاء وخلف الستائر المظلمة، فقط كي يظهروا بمظهر الطهر والنقاء والتديّن الزائف، اللهم لا حسد ولا شماتة!
لو نظرنا إلى الحادثة من وجهة نظر إنسانية وأخرى اجتماعية وثالثة دينية، لاختلفت الآراء والتحليلات بصددها. فمن وجهة نظر إنسانية، حرية الإنسان تمنحه الحق بالتصرّف بما يملك من دون أن يتجاوز في الأذى على غيره، سواءً كان ذلك الأذى شخصيًا أو أدبيًا أو مجتمعيًا. واجتماعيًا، طالما نحن نعيش في كنف مجتمع متخلّف يعتبر كلّ ما في المرأة عورةً وكلّ ما يلحقها من نظرة ولمس وكلام وفعلٍ شكلاً من مفهوم الشرف الذي يخضع لشيءٍ من المهانة في التعامل معه، فإنّ مثل هذه الفعلة لا مجال لقبولها في مثل مجتمعاتنا. في حين، مثل هذه الأعمال تُرتكب كثيرًا وكلّ يوم في الكواليس والبيوت والفنادق، من قبل أشخاصٍ وجهوا سهامهم الغادرة لهذه المرأة الجريئة التي تستحق أيضًا شيئًا من التقدير والتسامح بغضّ النظر عمّا فعلته من شيء يوصف بالشائن والمعيب. فهل يُعقل أن يُحكم على مثل هذا الفعل المرتكب من قبل الرجل فيكون حلالاً عليه وعلى غيره، وحرامًا على المرأة وعلى بني جنسها الضعيف؟ أليسَ ردّ الفعل هذا كيلًا بمكيالين، وهو من وجهة نظر المجتمعات المتمدنة نوعًا من غدر المجتمع للمرأة وخرقًا لقانون السماء وانتقاصًا من الحريات الشخصية؟ أمّا دينيًا، فلنا في التاريخ أروع مثالٍ لحكمٍ صدر عن المسيح قبل أكثر من ألفي عام. فعندما قام نفرٌ من اليهود المتعصبين دينيًا بتقديم امرأة قُبض عليها متلبسة بفعلٍ جنسيّ أمام المسيح كي يحكم عليها، انتصب وقالَ لهم " مَنْ كان بلا خطيئة، فليرمِها بأول حجر". حينئذٍ انصرف الجميع واحدًا بعد الآخر وهم يجرّون أذيال الخيبة لمثل هذا الردّ الإنساني الذي تتضح فيه الرحمة الإلهية. فالمسيح، وهو سيّد العالمين والمعلّم الكبير في زمن اليهود، لم يحكم عليها ولم يدنها. وكان جوابه لها "إذهبي ولا تُخطئي بعد الآن". (إنجيل متى1:8-11)
هكذا هي الحياة، يُترك الأقوياء والأسياد الفاسدون يفعلون ما يحلو لهم، فيما تتجه سهامُ هؤلاء وغيرهم من المنافقين صوبَ إنسانة ضعيفة سقطت في نزوتها في لحظة ضعف بشريّ لتحقيق هدفٍ أو نزوة في نفسها، فكانت النتيجة ما لم تتوقعه سواءً بغرض التسقيط أو التسفيه أو الانتقام. ولو عاد المسيح لوجد معظمَ هؤلاء الناقمين والفاضحين والناشرين لهذه "الفضيحة" مخطئين وغارقين في وحل الرذيلة، ولكانوا انصرفوا هم أيضًا مثلما انصرف وتفرّق جمع اليهود في حادثة الزانية. فهل الشرف يكمن بالتشهير بامرأة جرى استغلالها وفق مخطَّط ربما يكون من ورائه مشروع مشبوه لا يتعلّق بجسد هذه الإنسانة المقدس، بل بشيء أكبر وأبعد منه من أجل تحقيق غايات أكبر وأكثر تعقيدًا أو قد يكون استهدافًا سياسيًا واجتماعيًا مع قرب الانتخابات التي قد تطلع علينا بمفاجآت ليست في الحسبان؟ 
إن هذه الحادثة قد وضعت البلاد في موقف دفاعيّ عن حالات الفساد والعربدة المجتمعية والأخلاقية التي تسود طبقات وشرائح كثيرة في أوساط الشعب العراقي. فهذا الأخير لم يعد مغمض العينين بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي وتعددها على نطاق واسع، حتى الطفل الصغير صارت له حصة من هذه الوسائل وما تقدّمه من مغريات وأفلام وأحداث ودعايات، فيها الكثير من الإفساد والقليل المنتخَبُ النافع. فبالرغم من اعتقادنا بأنّ سمعة البلاد قد زادت سوءًا بعد السقوط في 2003، بحيث أضحى العراق يقف في سلّم الدرجات الأولى من الفساد عالميًا، ومنها سمعتُه الاجتماعية بعد الانفتاح على العالم، إلاّ أنّ مثل هذه الحوادث الفاضحة وصفقات الفساد الإداري والمالي قد زادت من تراجع سمعته، نظرًا لفشل الحكومة الحالية ومؤسسات البلاد التشريعية والتنفيذية بوضع حدّ للفوضى التي تسود المجتمع الذي يعاني من تمزّق في نسيجه الاجتماعي بسبب غياب القانون واستغلال القويّ المدعوم بميليشيات متنفذة لحالة الضعيف وفرض ما يحلو لأمثال هؤلاء الذين يسيطرون على الشارع والدائرة والسوق. فما يُنشر ويُنقل ويطرق المسامع عن فضائح شخصية وسجالات عقيمة ومناظرات تسقيطية ومناكفات عنفية قبل فترة الانتخابات، هي من النتائج السلبية التي فرزها الواقع اليومي المعاش بسبب سوء الأداء الحكومي وغياب سلطة القانون وانتشار قوة السلاح المنفلت وغير المنضبط وسطوة الأحزاب التي تهيمن على المشهد السياسي وتسعى لتدمير المجتمع والإنسان والبلاد بشتى الطرق ووسائل الفساد والقهر والتهديد، إنْ استدعى ذلك. فالطرفان، الشعب والزعماء يتبادلان الاتهامات والتهديدات بتدمير الواحد للآخر. فمَن هو الضحية ومَن صار الجلاّد؟
 كلمة أخيرة، لا بدّ منها بشأن تفاعل المغرّدين والجهات الرسمية في الحكومة العراقية والقائمة الانتخابية التي احتضنت ترشيح هذه النائبة الضحية واستبعدتها بسبب هذا الفعل المرتّب بدقة وضمن التوقيت المنتخب. فهذه أيضًا تدخل ضمن دارة التراجع في الشخصية الوطنية، شأنُها شأن تراجع أداء الدولة الرسمي والمجتمعي منذ أكثر من أربعة أجيال، وبصورة أخص منذ السقوط الدراماتيكي في 2003. ومنها محاولة العديد من الأغراب على المجتمع والوطن القفز على الاستحقاق والجدارة بالدخول خلسة من النوافذ واقتحامها عنوة أو بفعلٍ لا يخلو من سموم الدس والغدر والانتقام ورغبة في كسب المال والجاه والسلطة. وبهذا يكون قد ضاع السبب والهدف معًا.
إني أعتقد أنَّ  مَن حاول التصيّد بالماء العكر في هذه الحادثة الموصوفة ب"الفضيحة"، يكون قد ساهم فعلاً في تدمير إنسانة لها مركزُها العلمي والاجتماعي، كما يكون قد دقّ أسفينًا في المجتمع العراقي، في محاولة للتغطية على ما هو مخفي وأعظم، ولثني كشف فضائح كبيرة ضمن صفوف زعامات يخشى الإعلام أحيانًا التعاطي معها وكشفها، بل هناك مَن يتستّر ويهدّد في حالة الاقتراب منها ودخول دهاليزها المظلمة. ومن هذه ما يطرق أسماعنا منذ سنوات من أقوالٍ وتصريحات حكومية في أعلى الهرم الحكومي، تتحدث عن القضاء على آفة الفساد وتقديم الفاسدين للقضاء وللنزاهة والتهديد بفتح ملفات فساد. ولكن مثل هذا الحديث لا مكان َ له من حيث التطبيق الفعلي. فأيدي القضاء لا تطال سوى أصحاب الأخطاء والسرقات البسيطة، في حين لا تجرؤ الوصول إلى بؤر الفساد الكبيرة التي تمسك بناصية إدارة البلاد المتمثلة بالأحزاب الكبيرة وزعماء الكتل التي تتوافق وتساوم بعضها البعض ضمن مبدأ المحاصصة الذي نخر جسد البلاد ة وأغرقه بديون ستدفع الأجيال وزره. ومثلُها أيضًا، لا يكشف الإعلام الرسميّ ولا الدوائر التي تعنى بالأخلاق المجتمعية عن الفساد الأخلاقي والاجتماعي المتزايد الذي تشهده مسارح ونوادي وقصور وبيوتات يتستّر تحتها وفي عقرها ذوو النفوس الضعيفة من كبار الرؤوس المتنفذة في المشهد السياسي العراقي. لكنّ سلوك هذه المرأة الغريب يبدو أنه قد أشعل أهل الغيرة والحسد معًا، وأتاح الفرصة لغيرهم بتحقيق غايات غير مرئيات وقطع دابر مَن يسعى لتسلّق جدار السلطة دون وصاية أو تصريح من قوى خارقة تقف وراء الكواليس. واللبيب من الإشارة يفهم!


203
التغيير وسحرُه، شعار خادع ومدسوس
لويس إقليمس
30 نيسان 2018
أضحى شعار التغيير هوسًا ملازمًا لكلّ مَن يسعى للصعود إلى هاوية البرلمان العراقي، بسبب ما يدرّه هذا الأخير من امتيازات وحقوق ومنافع كانت غائبة عن إدراك طبقات كثيرة من الشعب العراقي البائس في فكره والغائص في تخبطه واللاّهث وراء جلاّديه بلا كرامة ولا تفكير ولا وعي. وما أن تنبهت لها مؤخرًا شرائح عديدة منه بسبب الفضائح المقزّزة وعمليات الفساد المزكّمة للأنوف وشراكات الصفقات المنفّرة التي كشفها أرباب السلطة أنفسُهم بأنفسهم ومنهم مَن تسلقوا عضوية السلطة التشريعية، أيًا كانت الدوافع أو الأسباب والأغراض، حتى تهافتت على قوائم الترشيح أسماء مغمورة ومشدوهة جديدة دخلت غمار السباق الانتخابي إلى جانب المخضرمين ممّن أفسد العديدُ منهم هذه المؤسسة الديمقراطية الفتية واتخذوها حصانًا لبلوغ مآربهم، شخصية كانت أم دينية أم طائفية أم عرقية أو عشائرية. فهذه الأخيرة كلّها يفترض أنها حرامٌ ومن المحرّمات التي تتقاطع مع المبادئ الوطنية والخلقية العامة التي رُسمت للديمقراطية الفتية كي تنتعش في هذه البلاد المرتبكة والجريحة بسبب غياب الحسّ الوطني المفقود منذ غزو العراق في 2003. وما يُؤسف له أنّ الشعار الأكثر رواجًا واستخدامًا يجري رفعه تحت يافطة "التغيير"، الذي أصبح هوسًا استهلاكيًا بلا معنى ولا لون ولا طعم ولا رائحة لكلّ مَن آثرَ بلوغ السلطة وسعى لتسلّقها وصولاً إلى غايات تمناها "عيسو" في غير وعيه أو تراءت له في ضباب أحلامه.
في دول الغرب المتقدم، لا تُرفع شعارات لا يمكن تنفيذها في الأرجح، بسبب الخوف من وعي الشعب المتربّص المتابع عادة لشعارات المرشحين والساعين إلى السلطة ووعودهم المقطوعة في حملاتهم الانتخابية المتحضرة وليس الفوضوية والمنفلتة التي تتراءى أمامنا اليوم. ناهيك عن إرادة الناخب بمحاسبة الفائز الذي ينتهك الوعود وينكث العهود التي صرّح بها خلال الفترة الانتخابية. فالفضيحة تبقى تلاحق هذا الفاسد السيّء الذي يتنصل من تنفيذ شعاراته الواضحة التي تتطرق إلى مشاريع اقتصادية أو برامج سياسية تخصّ التنمية البشرية وتطوير الخدمات وتحقيق الإنجازات وزيادة الرفاهية، حتى يتمّ إسقاطُه ويضطرّ تحت مثل هذه الضغوط الشعبية للانسحاب وترك السلطة باحترامٍ تاركًا المجال لغيره ولمَن هو أفضل منه وأكثر كفاءة وجدارة وصدقًا وتلاصقًا مع الناخب. وما زلنا نفتقد لمثل هذه الثقافة السياسية ليس في العراق وحسب بل في مجمل الحكومات الإسلامية والعربية في منطقة الشرق الأوسط عامة.
عندما يُرفع شعار التغيير في دول متقدمة ومتمدنة في الغرب، ومنها أميركا وكندا وأستراليا وأوروبا وما سواها من دول عرفت مسؤولية الحرية والديمقراطية والتنمية، فإنها تعي ما ترفعه وما تطرحه وما تريده. الرئيس الأميركي باراك أوباما، كان الأوفر حظًا برفعه شعار "التغيير" في حملته الانتخابية في 2008، مستغلاً عناصر الهاوية التي اتسمت بها فترة رئاسة سلفه. وقد أجاد اللعبة عندما أعاد ذات الشعار في حملة ولايته الثانية في 2012 مع الأمل ببلوغ نوعية التغييرات التي وعد بها في الولاية السابقة، فنجح بذلك بالبقاء في البيت الأبيض خمس سنوات أخريات، ما منحه الفرصة لإحداث تغييرات في سياسة بلاده تجاه تساهل إدارته وتعاملها مع التنظيمات الإرهابية. ومثله عمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على وتر التغيير، وقد أجاد هو الآخر في إدارة الحملة الانتخابية بالرغم من قصر الفترة التي تأسس فيها حزبه الجديد. فالشعب الفرنسي كان قد أبدى كلّ الاستعداد لرؤية تغييرات في السياسة العامة في إدارة الدولة ومؤسساتها وتفعيل اقتصادها نحو الأفضل. وهذا ما يبدو في الأفق من تلمّس شعبي حقيقي في سياسة هذا البلد الذي يبقى مع حليفته الدائمة ألمانيا مفتاحًا لمعالجة مشاكل أوربا الاقتصادية والبشرية. ولنا في العراق مثال بسيط تمثل بحركة التغيير الكردية السياسية "كوران" التي تأسست في 2007. فقد تمكنت هذه الحركة من كسر ثنائيةَ حكم الحزبين الكرديين التقليديين في شمال العراق-كردستان، ونجحت تدريجيًا في تشجيع الشعب الكردي للانتفاض ضد أسلوب احتكار السلطة الذي مارسه الحزبان التقليديان وأحكما سطوتهما على كلّ منافذ الحياة في منطقة كردستان لسنوات طوال.
السؤال المطروح، ما المغزى من رفع ذات الشعار الساحر "نعم للتغيير" من أطراف سياسية وحزبية، ساهمت وهي في السلطة وما زالت، وكانت في الأساس طرفًا في إفساد العملية السياسية وإخفاق الديمقراطية الفتية؟ أليس ذلك لأغراض استهلاكية خادعة وللضحك على ذقون البسطاء والعامّة من الشعب البائس الذي اعتاد عبادة جلاّديه حتى النخاع؟ أليسَ غريبًا أن يرفع مرشحٌ عن كتلة أو ائتلاف، مازالت أذرعُهما تطالُ كلَّ مفاصل السلطات، التشريعية والقضائية والتنفيذية، وحتى التفصيلية في هذه الأخيرة سواءً الإدارية أو في مجال التعليم أو التربية أو الثقافة المجتمعية أو الاقتصاد أو المال؟ حتى هذا الشعار الذي جلجلَ صداه وارتفع صدّاحًا وبحّت به أصواتُ المتظاهرين أيام الجمع منذ تشكيل الحكومة الأخيرة ولغاية الساعة، قد سعى الفاسدون في كتل كبيرة وأتباعهم من الفارغين من أيّ حسّ وطنيّ، لسرقته من أفواه الثكالى والأرامل والفقراء وأصحاب البسطات والأكشاك وجيوش العاطلين عن العمل والمظلومين وما أكثرهم ومن أصحاب الشهادات الذين اضطرّهم الزمن الغادر لتعاطي أعمال العتالة والتنظيف التي لا تليق بهم، بالرغم من عدم انتقاصي من طبيعة الشرائح التي تتولى هذه الأعمال التي تُعدّ من الأعمال الدنيا في المجتمع والتي تدرّ رزقًا حلالاً على متعاطيها.
    جميلٌ جدًا، أن يدعو مرشحونا إلى التغيير ويرفعوا أصواتهم المتناغمة في حملاتهم الانتخابية مع أصوات الشعب المسكين الذي سُرقت ابتسامتُه واغتيلت أحلامُه الوردية واستُهلكت ثرواتُ بلاده وهو يرى ويسمع بمئات المليارات من الدولارات التي ضاعت هدرًا ولا يعرف عن مصيرها أي شيء؟ فهل هذا قدَرُ شعبٍ عريق الحضارة استطاع سياسيّو الغفلة وسارقو الليل ولصوص النهار ترويضَه ليبقى إلى الأبد ضمن خانة الخنوع والطاعة والصمت؟ أم حان الوقت لعملية "الشلع قلع" التي نادى بها المتظاهرون منذ حين ولم تتحقق لغاية الساعة؟ لقد ملّ العراقيون الوعودَ العرقوبية بالإصلاح وتحسين الخدمات والرفاه، وآن الأوان بالرغم من تأخره، للتغيير الحقيقي عبر وجوهٍ جديدة مدنية منفتحة مثقفة ومدجَّجة بحب الوطن والشعب في كفة، وحاملة لبصمة التغيير الصادق في الكفّة الأخرى غير خاشية سطوةَ الأحزاب الكبيرة التي اغتالت حلمَ الوطن والعباد ونشرت الفوضى والفساد وسرقت أموال الشعب والبلاد، وماتزال تتعاطى هذه السرقة المكشوفة في مزاد العملة المشبوه بسبب ضغوط الساسة على إدارة أموال البلاد. 
إنّ الشعب العراقي يقف اليوم برمّته مع مطلب التغيير الملحّ، بعد أن ساءت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتربوية والخدمية وسط الكمّ الهائل من فضائح الفساد الإداري والمالي وحتى الأخلاقي. ولكن السؤال الذي يتردّد اليوم: أيّ تغيير يسعى المرشحون للوصول إليه؟ أهو تغيير في الوجوه والأشكال والأزياء باستبدال وجوه الفاسدين بأخرى تسعى لبلوغ ذات المآرب والتمتع بذات الامتيازات وفق القوانين المدسوسة التي سنّها السابقون لهذه المؤسسة التشريعية التي لم تعرف أن تحترم نفسها وتصون كرامتَها وتؤدي واجبها الوطني كما عهدها الشعب؟ أم تغييرٌ حقيقي في سياسة البلاد يتضمن برنامجًا سياسيًا واضحًا قابل التنفيذ وخططًا آنية وأخرى متوسطة وغيرُها بعيدة المدى تنتشل البلاد والشعب من هوّة التخلّف والتأخر عن الركب الحضاري الذي آلت إليه بعد أن كانت ضمن خانة الدول المتقدمة إقليميًا وعالميًا؟ فما تعرضه القنوات الفضائية وتنقله وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة من ضيق وامتعاض صريحين في الشارع العراقي بسبب فضائح وأشكال فساد وعمليات تزوير وفساد إداري ومالي ومساومات انتخابية وبيع تسلسلات مرشحين في بازار مخجل وتعاطي مخدّرات والاتّجار بها على نطاق واسع وبمشاركة وتغطية من قيادات أحزابٍ في السلطة، كلّها من دواعي التغيير. وما خفي كان أعظم!
الخوف، كلّ الخوف أن تبقى الكلمات الرنانة واللطيفة التي تنادي بالتغيير، والتي تحملها تصريحات المرشحين في الندوات والملصقات أسيرة التأثير الزائف في سحرها. فالناخب المتبصّر لا يرضى أن ينتهي كلّ شيء مع انقضاء الحملة وصدور النتائج، ومعها بدء مرحلة الخمط والصفقات والمساومات بين الأطراف الفائزة التي تتحكم بها زعامات الكتل والأحزاب الماسكة بناصية الحكم بأرجلها وأسنانها وأيديها منذ التغيير في 2003 ولا نية لها للتخلّي عن المكاسب التي وفّرتها السلطة بدعم من الغازي الأمريكي وحلفائه. تلكم هي خشية أخرى من القادمين الجدد ألاّ يكونوا مثل أسلافهم الذين جاؤوا حينها ليبقوا ويؤسسوا لدولة الفساد وهم مازالوا يرفضون تسليم الراية لغيرهم بعد تجربتهم وفشلهم وذلك بحجج واهية، منها دينية وأخرى عرقية وغيرها طائفية. والمؤسف أنَّ بعضًا من هذه الحجج يُشعلهُا كبار أشباه الساسة بمعيّة مراجع دينية مستفيدة من العملية السياسية العقيمة القائمة. فبعضٌ من هذه الشخوص، وبسبب انغلاقها على ذاتها، تتخذ من آفة التحريض على الطائفية وسيلةً للبقاء في السلطة، لما لهذه الأخيرة من مغانم ومنافع ومكاسب وجاه ومال، غير عابئة بمسألة تنمية الإنسان ونوعية الوطن الذي يحتضن هذا الإنسان مهما كان دينه وعرقه ومذهبه ولونه. فهل "يُجرّبُ المجرَّب ثانية"؟
إنّ "التغيير، كما أشار أحد الكتاب، هو الفعل الوحيد الذي لا ينتهي أبداً". ولكنّه قادم لا محالَ، مهما تمّت إعاقتُه من قبل رؤوس سياسية فاسدة تسعى لإطالة أمد المنافع المجتناة من مبدأ المحاصصة، أو تلك الدينية الطائفية المتخلفة التي تخشى صعود التيار المدنيّ الجارف إذا تمكنَ هذا الأخير من شق طريقه الصحيح، وذلك لتقاطعه مع مصالح هذه الفئة الضيقة في الأفق والرؤية والتفكير. ففي مجال السياسة، كلّ شيء جائز، ولا مكان لليأس المتوطن في أفكار الطبقة المثقفة والواعية. كما ليس من الحكمة الحكمُ بالعقم السياسي العام. ففي الأفق، نرتقب بروز نخبة واعية ينتظرها الشعب من الوجوه الجديدة المغمورة التي قد تغيّر صفحة المشهد السياسي، بعد اصطفاف الشارع ووسائل الإعلام والمرجعيات الرشيدة الوطنية المعتدلة والتنظيمات المثقفة والأحزاب الوطنية الصادقة معها. لكنّ مماّ هو مؤسف وغير مقبول، سمة اليأس الفردي والجماعيّ السائدين معًا لدى البعض، إلى جانب العجز السياسي المستفحل لدى فئة الذين لا يعتقدون بإمكانية حصول تغيير قادم، متناسين أنّ مسألة تركَ الساحة للوجوه التقليدية والأحزاب الدينية التي أثبتت الأيام فشلَها الذريع سيُحسبُ اصطفافًا لهذه الأخيرة ولسياسة الإبقاء على نهج المحاصصة وأركان الفساد من دون محاسبة. ولا يغرّنّ الشعب، توجهُ بعض الأحزاب الدينية والطائفية مؤخرًا لتحسين صورتها عبر تغيير شعاراتها ومسمّياتها وغطائها الديني والطائفي والمذهبي، عبر تبنيها لشعارات التمدن والدولة المدنية والأحزاب المدنية في حيلة يظنون أنها ستنطلي على وعي شرائح كثيرة فطنت لما يجري. 
لعلَّ ممَا يعزّز مثل هذه التطلعات لحصول تغيير مرتقب في البرامج والسياسات، هو انقلاب مرتقب لبعض المرشحين ضمن القوائم الكبيرة التي احتضنت وجوهًا مشبوهة ومتهمة بالفساد على قيادات هذه الكتل نفسها بعد فوزها المرتقب، خوفًا من نقمة الشعب ومن الملاحقات والاتهامات التي قد لا ترضى الوجوه الجديدة الصاعدة أن تتلوثَ بها سمعتُها وتاريخها وأسماؤُها. والأكثر من هذا وذاك، أنّ شريحة المرشحين من الشباب والطبقة المثقفة ومن العنصر النسائي من ذوي الشهادات تبدو في انسجام مع تطلعات الشعب المغلوب على أمره بعد اتساع أصوات الاعتراض والرفض للطبقة السياسية الحاكمة التي أكثرت من الأقوال وقلّلت من الأفعال، ممّا يبشّر بنقلة نوعية، أياً كانت درجتُها وقدرتُها، نحو الأفضل والأحسن عبر تغيير مرتقب في بعض الوجوه والأهداف والسياسات. وهذا مؤشر إيجابيّ بحدّ ذاته، لكونه إشارة خضراء بحدوث رجّة متوقعة وهزّة مخطَّط لها خلف الكواليس في صفوف العامة والخاصة بعد سلسلة فضائح الفساد والسرقات التي طالت مؤسسات الدولة المرهونة تحت سطوة الكتل السياسية الثلاث التي تتحكم بكلّ مفاصل الدولة منذ أكثر من أربعة عشر عامًا بسبب مبدأ المحاصصة المقيتة التي انتهجتها هذه في إدارة دفة البلاد والطريق التي أوصلتها إليه. فالشارع والأسواق والمنتديات والمؤسسات التربوية المستقلة وحجم التأثير الخارجي، كلّها من أدوات الدعم والتأييد للتغيير، ليس في الوجوه فحسب، بل في السياسات العامة للبلاد وفي الانفتاح المرتقب للخارج والاستقلالية في القرار وعدم تكبيل البلاد والعباد بتأثير ولاية الفقيه والتبعية للجارة إيران وحصر اهتمام الدولة ومؤسساتها بمظاهر اللطم والمواكب الطائفية في المناسبات الدينية المذهبية التي فاقت التصوّرات ولأجلها تُعطّل الدولة ومؤسساتُها وتُسبى شوارعُها وطرُقُها وتُغتالُ حريات الناس من دون وجه حق.
في الختام، لا يمكنني القول، سوى أنّ الشعب الذي لا يتعلم من الضربة الأولى، يستحق الثانية والثالثة والعاشرة، بسبب خشيته وتردّده من تجاوز مرحلة الخنوع والخضوع والبؤس والتبعية والمهانة التي اعتاد العيش بين أكنافها مع جلاّديه ومع مَن يعدّهم خطأً زللاً أسيادًا وولاةً له دون غيرهم. وهذا عكس أصحاب المبادئ. فهؤلاء اليوم نادرون!




204
الصّراع الانتخابي، مناورةٌ بين الشعب وجلاّديه
لويس إقليمس
بغداد، في 11 نيسان 2018
بدأت حمّى الصراع على الانتخابات القادمة المقررة في 12 أيار القادم 2018، تتفاعل بشكل ساخن بين الكتل التقليدية التي أثبتت السنوات الخوالي فشلَ غالبيتها في إدارة شبه الدولة القائمة منذ 2003 ولغاية الساعة. وبوادر الصراع هذا، كانت مطالعُه ما حصل ويحصل في أروقة السياسة المظلمة من تفاهمات وصفقات ومساومات يجهل غالبية الشعب البسيط بما يدور فيها من ألاعيب السياسة القذرة التي زادت من فنونها وفتنها مؤخرًا في قبول ترشيحات اللاّهثين وراء الكعكة التي يحلم بها الكلّ في هذه الأيام الغادرة، بمن فيهم الغني والفقير، العالم والجاهل، صاحب الشهادة العليا ومزوّرها. فالشعب يبقى دومًا تلك الضحية البائسة والرقم المجهول الغائب عن أية معادلة وطنية مأمولة أو أيّ قرار أو خطوة أو صفقة تتم من خلف الكواليس.  ولعلّ ما زاد من حنق ومن فورة الكتل التقليدية المهيمنة على الساحة السياسية منذ السقوط الدراماتيكي، دخولُ أحزاب وكتل جديدة على خط المنافسة الساخن بما أتته من توجهات مدنية لا تسرّ الكتل التقليدية التي التزمت خطّ الطائفية الدينيّ منذ أول فرصة "لا ديمقراطية" أُتيحت للعراقيين. كما أشّر ثيرموميتر هذه الكتل، جنوح العديد من المرشحين صوب التسربل بالثوب المدني الذي عبّرت عنه رغبات الشارع طيلة السنوات الأربع المنصرمة، فوجدت هذه الأحزاب الدينية الخائبة نفسها مضطرّة للقولبة ضمن هذا الغطاء الأخير.
اليوم، ليس بالإمكان الوقوف على صحة قواعد العمل السياسي الحالي الذي لا يعرف الخجل في عراق ما بعد الغزو الظالم في 2003، وكذا بسبب حالة الجهل المستديمة التي يُحاصرُ فيها عموم الشعب اللاّهث وراء فتات الساسة والمسؤولين وبعض المراجع الدينية المنغمسة في لعبة الانتخابات بطريقة أو بأخرى على السواء. فالجميع تزداد عندهم حمّى الوعود والتعهدات والتأكيدات في سلوكياتهم وخطبهم ولقاءاتهم على الجانب الدينيّ الطائفيّ كلّما اقترب موعد الإدلاء في صناديق الاقتراع، بحجة الحفاظ على المكتسبات وعلى أسرار السلطة وامتيازاتها. وليس خافيًا على أحد، ما يُنقل من جوانب تجارية سلبية حول طبيعة الترشيح الحاصلة في هذه الدورة الانتخابية بالذات من وسائل شراء التسلسلات المتقدمة ضمن القوائم الانتخابية وتلك المبالغ المدفوعة ومعها الهدايا والعطايا الخيالية المقدمة من قبل مرشحين لرؤساء الكتل ورؤساء القوائم من أجل ضمان الصعود إلى هاوية البرلمان بمثل هذه الوسائل التي تشمئزُّ منها النفس لحدّ بلغ بازار بيع البطاقات الانتخابية، بحسب وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى ورقتين خضراوين بعد ارتفاعها عن نصف ورقة خضراء أي خمسين دولارًا بداية الترويج. 
أمّا الحدث الأهمّ الذي أثار الانتباه قبل موعد الانتخابات، بالرغم من تقليل جهات منافسة لفاعليته وصداه، فقد تمثل بإصرار سماحة السيد مقتدى الصدر ومَن في خطّ سيره الوطني، بشأن مفوضية الانتخابات وبضرورة تغييرها وإجراء تعديلات في القانون الانتخابي قبل أكثر من عام. إلاّ أنّ إصرار الكتل التقليدية الكبيرة على حصر المنافع والمكاسب ضمن مدارها، أجهضت التعديلات المطلوبة، فجاء قانون سانت ليغو المعدّل غير عادل بصيغته الحالية1.7، لاسيّما في ما يتعلّق بطموحات الكتل والأحزاب الصغيرة، تمامًا كما جاء مخيّبًا لآمال الأقليات التي تخشى سرقة أصوات ناخبيها المتفرّقة بهذه الصيغة. ففي ضوء هذا القانون المجحف، ستُحكم الكتل الكبيرة سيطرتها على صناديق الاقتراع وستحصل على أكبر عدد ممكن من المقاعد، ما سيتيح لها السيطرة على المشهد السياسيّ مرة أخرى ولمدة أربع سنوات قادمات فاسدات ومظلمات. أي أن البلاد ستتمرّغ مرة أخرى تحت وطأة رغبات ومنافع وسياسات الأحزاب الكبيرة الفاسدة، بالرغم من نشر غسيل بعضها بعضًا فيما يتعلّق بعمليات السطو على ميزانيات الوزارات والهيئات والدوائر التي تتحكم بها هذه الأحزاب ورؤساؤُها والتي تتخذها كإقطاعيات حصرية لها غير قابلة التفاوض والتراجع عمّا تدرّ عليهم وعلى كتلهم وأتباعهم من منافع ومكاسب بفعل المال الحرام والجاه والسلطة التي تمنحها لهم المقاعد التي تفوز بها.
إن المشهد السياسي في البلاد يزداد تعقيدًا مع عدم بروز بوادر للتغيير المرتقب. فمن خلال قراءة عابرة لقوائم المرشحين التي صادقت عليها مؤخرًا المفوضية العليا التي وقعت مرة أخرى أسيرة تفاعلات وتجاذبات ومساومات الكتل السياسية الكبيرة المهيمنة على الساحة، يمكننا الحكم مسبقًا على نوعية الحكومة القادمة. لذا أعتقد أنَّ مَن دعا لمقاطعة هذه النسخة الجديدة من الانتخابات التشريعية، له أكثر من حق، بسبب ما يراه أمامه من مؤشرات سلبية، ومنها الاضطراب الحاصل في الحملة الانتخابية قبل أوانها، ومن وعود عرقوبية غير قابلة التطبيق يقطعها المرشحون للناخبين، ومن أنواع الكذب المجاني غير مدفوع الثمن، ومن الكلام المعسول الذي أطلقه ويطلقه البعض الآخر في حملاتهم الآنية. وأخيرًا وليس آخرًا ما يتمّ كشفُه من صفقات ورشى وهبات تجري خلف الكواليس في طرق الترشح والقبول بها من قبل بعض الكتل المعروفة والتي فاقت التصورات عندما ينبري مَن دفع الشيء الفلانيّ لهذا الحزب وهذه الكتلة وهذا الشخص من أجل ضمان ترشحه وصعوده في المنافسة كي يضمن هو الآخر حصته من الكعكة المنتظَرة. ويأتي قرار مجلس الوزراء ليوم الثلاثاء 10 نيسان 2018، "بإيقاف بيع وتوزيع الاراضي تلافيا لتوظيفها لأغراض انتخابية"، دليلاً على سريان سرطان مؤشرات البازار الانتخابي ضمن الحراك القائم بهدف ضمان كسب الأصوات الانتخابية وزيادة مقاعد الكتل والأحزاب المهيمنة على المشهد السياسيّ، في حين لا تملك الأحزاب الصغيرة مثل هذه الفرصة للترويج بها لصالح مرشحيها.
هناك مؤشرات واعتبارات ووقائع من المفترض أن يضعها الناخب قبالته في الاحتكام إلى العقل والروية والقناعة الكافية في اختيار المرشح الأجدر والأفضل والأكثر نزاهة والأقرب إليه في تقديم الخدمات الآدمية اليومية والأكثر تفانٍ إزاء تلبية احتياجات ناخبيه. فصورة الإنجازات المتحققة خلال السنوات المنصرمة من الدورة أو الدورات السابقة، كلُّها مؤشرات ينبغي الاحتكام والعودة إليها في حسم اختيار الشخص المناسب من أجل وضعه في المكان المناسب. فالمشاكل التي عاناها المواطن في فترة الأربع سنوات الماضية كبيرة ومعقدة وشائكة، ولاسيّما ما يتعلّق بسيطرة داعش الإرهابيّ على مساحات واسعة من البلاد والخطر الذي ألحقه في نفسية المواطن وممتلكاته ومستقبله وكذا في مصير بيته وأهله ومدينته وعموم بلده. 
هناك مَن يتعاطى مع المشهد الانتخابي وفق مبدأ الفكرة الحزبية إزاء القائمين في أعلى السلطة معتقدًا بمقدرة هؤلاء على تلافي الأخطاء السابقة بسبب ما امتلكوه من خبرة ومن معرفة بدهاليز الحياة. وهذا ما يدفعه لعدم المجازفة بتجربة اختيار وجوه جديدة لا يعلم شيئًا عن توجهاتها وأغراضها.
 والبعض الآخر يسير وفق مبدأ التأييد الطائفي وعدم الخروج عن هذه الدارة المقيتة والدائرة المظلمة التي طبعت الحياة العراقية وختمت بها توجهات العائلة العراقية بعيدًا عن البحث عن منافع المواطنة وفكرة الوطن والوطنية التي غادرت أفكار الشعب العراقي البائس، الذي يزداد بؤسًا وتخلّفًا وتراجعًا في المدنية والحضارة والتقدّم بحسب ما نرى في تكرار ذات الحالة في المناسبات الدينية والزيارات الإمامية التي تعطّل الدولة وتغلق شوارع المدن ومنها العاصمة بغداد بطريقة لا ترقى إلى التمدّن والحضارة، بقدر ما تشوّه صورة البلاد وتجعل من الشعب يركض وراء جلاّديه بمثل هذه الوسائل والمناسبات.
ناهيك عن التزام البعض الآخر والتصاقهم بالفكرة العشائرية التي تطبع توجهاتهم بحسب ما يفرضه منطق العشيرة والقبيلة وتحت مسميات اجتماعية وأخرى لا تخرج عن هذا الإطار الضيّق، ليصعد بالتالي مَن لا يجيد دور وأهمية المؤسسة التشريعية في رسم سياسة البلاد ووضع الخطط وإدارة البلاد وفق منهج علمي مدروس لا يخلو من المدنية والتطور في الحياة اليومية والاجتماعية.
أية خيبة أمل هذه في معظم المرشحين وفي كتلهم الثقيلة على كاهل الوطن والمواطن؟ ألمْ يكن أجدر بالمرجعيات الدينية، وهي صاحبة الرأي والقرار أكثر من غيرها، أن تتفاعل مع رغبات الشعب وصيحات الشارع التي دوت منذ أكثر من أربع سنوات في تظاهرات الجمعة مطالبة بضرورة تغيير في الوجوه الكالحة التي أرهقت ميزانية الدولة وعفّرت حياة المواطن بسوء الخدمات وعقّدت المشهد السياسي أكثر وأكثر؟ أم إنّ ما يجري في هذه الجولة الجديدة من انتخابات السلطة التشريعية القادمة، هو تحصيل حاصلٍ باتفاقات الساعات الأخيرة بين المتشاركين في الكعكة وتمرير ذات التوجهات الطائفية بهدف استمرار إحكام السيطرة على مقاليد السلطة وعلى مقدَّرات الدولة، وأنّ ما صدر من دعوات على المنابر بضرورة التغيير لا يعدو سوى ذرّ الرماد في العيون حفاظًا على المكتسبات الطائفية قبل أيّ شيء؟
هذه دعوة ملحة، للشعب المغلوب على أمره، أن يعي حجم الكارثة في حالة تكرار ذات الأخطاء السابقة بانتخاب ذات الوجوه التي أوصلت البلاد والعباد إلى هاوية الإفلاس والتأخّر والتخلّف في كلّ شيء. فالمؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرتين. فكم بالعراقيين وقد لُدغوا مرارًا وتكرارًا من دون أن يصحوا من سباتهم البائس وينهضوا من نومهم العميق!


205
هل يتدخل الله في حياة البشر؟ وكيف؟
لويس إقليمس
بغداد، في آب 2017
قد يختلف مفهومُ البشر ورؤيتُهم حول الطريقة التي يتدخل بها الله الخالق في حياة الإنسان، عبر الوسائل المتعددة التي عرفتها البشرية منذ نشأة الخلق. ولعلّ من هذه الوسائل، ما عرفته وأقرّته بعض الأديان التي تؤمن بقدرة السماء وخالق الأكوان لحصول مثل هذا التدخل. فقد تشكل المعجزاتُ جزءًا مهمًّا لمثل هذا التدخل، نظرًا لما لصدى الأعجوبة (المعجزة)، وما تعنيه هذه في طبيعتها ومسبّباتها وهدفها والنتائج المترتبة عليها، من أهمية في حياة نوعٍ من البشر المؤمن بها، ومنها المسيحية التي تنفرد دون غيرها من الأديان، بقدرة إيمانية جلية المفاعيل، لكونها تتصل بالقدرة الإلهية عبر وسطاء من أبرار وقديسين عاشوا حياة البرّ والتقوى ومخافة الله وخدموا العالم والمجتمعات بكثير من العفّة والنقاوة، وأيضًا بشيء وافرٍ من المحبة والإيمان والرجاء.

المعجزة "الأعجوبة"، علامة بارزة
المعجزة أو الأعجوبة بحسب المعروف عنها، أنها وسيلة أو علامة من علامات تدخل الله الخالق في حياة مخلوقاته من بشر وحيوان ودبيب وما سواها. وهي اصطلاحًا، تتعدّى العقل في نظر البشر، بل تتحدّاه. ومن ثمّ، فهي ليست مقتصرة على حالة شفاء من مرضٍ نادرٍ يصعب معه تفسيرُها علميًا وطبيًا، بل هي قد تنسحبُ إضافة لمثل هذه الوقائع، على ما سواها من أعمالٍ طبيعية مختلفة خارقة تتعدّى المعتاد في حياة البشر. وهو ما يُنسب إلى قوّة خارقة اعتدنا القول بوقوفها خلف هذه الخوارق، ممّا يصعب على العلم والطب وعقلِ البشر تفسيرُه وفهمُه ضمن محددات العقل البشري، مهما سما هذا الأخير وتطوّر. من هنا، لن يكون للطبيعة البشرية وما عليها من علوم مهما تقدمت، فضلٌ في تفسير الأعجوبة، وإلاّ انتفت الحاجة لوصف مثل هذا العمل الخارق بالأعجوبة. وقد تكون الأعجوبة بمثابة علامة مميزة لإعطاء درسٍ معيّن لفئة أو منطقة دون غيرها، بحسب حكمة الله وتدبيره. وبغض النظر عن حالة الشكّ أو اليقين الملفوف بنبرة إيمانية حيال هذا العمل الخارق، يجوز للمرء أن يتساءل: هل يمكن القبول بالمعجزات في عصرنا هذا في ضوء تطوّر العلم بمختلف نوافذه وأشكاله؟ وهل من ثمّة تداخل في حقائق المعجزات التي يعجز العلم عن تفسيرها أو تلك الناجمة عن أعمال سحر وشعوذة؟
للحديث عن الأعجوبة، لا بدّ من إظهار أنّ ما يحصل يفوق قوى الطبيعة. وهنا، لا ينبغي الخلط بين العلم والإيمان، بين الروحيّ والنفسيّ الذي تقرّه أساسيات علم النفس ونظرياتُه وتطور مراحله. في الجانب الآخر، وعن التفسيرات المتاحة لشكل الأعجوبة وطبيعتها وقدرتها الظاهرة، يميل أهلُ الشرق أكثر من غيرهم، للإيمان بالأعمال الخارقة التي نسمّيها بالأعجوبة أو المعجزة. وليس من شكّ في طبيعة مثل هذا الإيمان الذي قد تتسم به شعوبُ بلدان أخرى تعيش في بحبوحة الفكر وارتقاء العلم وتطوّر الزمن. لقد عرفت شعوب المنطقة التقليدية، تدخلَ الله في حياة أسلافهم وحضاراتهم أكثر من غيرهم، بحسب ما يحدثنا به تاريخ تلك الحضارات. ولعلّ الكتاب المقدّس "التوراة"، يحكي لنا الكثير من أمثال هذه التدخلات الإلهية في حياة شعوب الأقدمين. ومن أمثالها، حادثة الطوفان العجائبية التي بها عاقب اللهُ البشرَ خليقتَه بسبب جنوحهم. ومثلُها عقوبتُه لشعبه اليهوديّ المختار، ولشعب مصر عبر الضربات المؤلمة العديدة التي توخى منها الإصلاح والعودة عن المآثم نحو عبادته ثانية عندما كسروا الوعد.
    عمومًا، أية أعجوبة، لا بدّ أن تقترن بما نسمّيه "الإيمان"، كي يتقبلها الشخص عندما تفوق قدرته على التصديق والتفسير. فأساسُها ومحورُ تفسيرها سيبقى دينيًا وروحانيًا مرتبطًا بشيءٍ من القدسية. والعقل البشري، عندما يعجز عن تفسير عملٍ خارق، حينئذٍ يأتي دورُ الإيمان الذي يغذّيه الدّين أو المعتقد الذي يتدخل لتوضيح ما حصل من فعلٍ خارق، وتسهيل فهم البشر بموجبه للفعل القائم الحاصل الذي يعدّه البعض "نعمة" كبرى من لدن القدرة الإلهية الخارقة، تجاه شخصٍ أو شريحة من البشر تعيش ظاهرةً غير طبيعية من عطاء الله لفترة أو حقبة غير محددة المساحة أو الإمكانية. ولئن كانت شعوبٌ أخرى خارج حدود منطقة الشرق قد عرفت مثل هذه الظواهر والأعمال الخارقة، كبلاد اليونان القديمة والصين وشعوبٌ غيرها، كما يحكي التاريخ، إلاّ أن هذه قد اتخذت طابعَها الروحي المقدّس عبر الأعاجيب التي اجترحها عيسى بن مريم "المسيح" في زمانه. وبسببها آمن به كثيرون وساروا خلفَه، مدفوعين بإيمانهم بقدرته وحكمتِه وقربِه من الله الخالق، ابيه السماوي. بل صاروا يتبعونه حيثما يسير ويتجه ويتنقل في مدن وقرى فلسطين في حقبة حكم القيصر على المنطقة، متشحين بهذه القوة الإيمانية به. وهذا ما كان يقولُه المسيح للذي يُشفى "إيمانُك قد خلّصك". وفي الشرق اليوم، عمومُ الكنائس الرسولية الأصيلة، كاثوليكية وأرثوذكسية ونسطورية، تقرّ بهذا الجانب وتكرّم القديسين والأبرار الذين على أيديهم حصلتْ معجزات منذ نشأة المسيحية. كما تكرّمُ أجساد القديسين الذي احتفظوا بأشكالهم وهيئاتهم، وترى فيها معجزات إلهية تستحقّ التكريم والاحترام.

الأعجوبة في نظر الأديان
يحدثنا التاريخ، أنّ بعضًا من أصفياء الله، قد قاموا بأعمال خارقة، شبيهة بالتي قام بها المسيح، ومنهم الأنبياء الذين كانوا يتحدثون باسم الربّ، كما يشير الكتاب المقدس. فإيليا مثلاً، هو الآخر أقامَ الموتى. وموسى بعصاه السحرية، شقّ البحر الأحمر لتسهيل عبور الإسرائيليين "شعب الله المختار" الذي كان زاغَ عن عبادته ودعاه للعودة إلى حياة البرّ والتوبة وعبادته هو وليس غيره لكونه ربَّهم الحقيقي. لكنَّ اجتراحَ الأعاجيب والمعجزات كانت بدأتْ عهدًا متميزًا مع قدوم المسيح، ومن بعده الرسل والقديسين بفضل الكرامات والشفاعات التي منحهم إياها ربّ الأكوانُ. فاللهُ لا ينسى عبادَه ويركنهم من دون تكريم ولا تذكار أو تذكير بالصنيع الطيب الذي فعلوه في حياتهم وبتمجيدهم إياه. وما فعله المسيح من معجزات ماثلات وبيّنات واضحات من شفاء للعديد من الأشخاص المبتلين بأمراض متنوعة ومستعصية ومن إقامة للموتى من أمثال لعازر، ومن تكثير للخبز والسمك على الشاطئ وسط الجموع المحتشدة لسماعه، وتكثيره الخمر في عرس قانا، وأخرى غيرُها، كلّها خير شاهدٍ على قدرته الإلهية التي تميّز بها والتي لم يرتقي إليها غيرُه. بل إنّ ما ادّعاه ويدّعيه غيره من الأنبياء الكذبة باجتراح معجزات، يدحضه التاريخ والعلم والواقع على السواء.
إنَّ نظرة سريعة إلى سلوك وأبجديات بعض الديانات أو المعتقدات أو المذاهب التي عرفتها الإنسانية، ندرك من خلالها، عدم إقرار بعضها بفاعلية المعجزات على أيدي أولياء الله، ولا بكينونتها أو وجودها. وهذه بمعظمها، تنسبُ كلّ شيء خارق، ربّما للأقدار، أو أحيانًا للقدرة الإلهية دون غيرها، وما هؤلاء الأولياء والأبرار من البشر الذين تجري على أيديهم هذه البيّنات سوى وسطاء ضعفاء لدى الله. فالإسلام مثلاً، لا يقرّ بشيء اسمُه معجزة إلا القرآن الذي يُعدّ إعجازًا بيّنًا دون سواه. والبوذية، تنسبُ الأحداث الخارقة التي تصاحب حياة أتباعها، إلى وجود قدرات عجائبية ناجمة في الأساس عن عمل داخليّ ذاتيّ ليس له شأنٌ بتدخّل آلهة (إله) خارجية. فيما عند الهندوسية، تظهر المعجزات باعتبارها أمورًا شاذة خارجة عن المعتاد وليست بمثابة مظاهر اعتيادية من العلاقة القائمة بين الأشياء. فمن الممكن، بحسب البعض، لمن يمارس رياضة اليوغا المعروفة في هذه الديانة، أن يحصل المعلّم على قدرات فائقة تصل لوصفها بالمعجزة، مثل القدرة على تقليل الطول والحجم وبلوغ خفّة الريش في لحظة من اللحظات. أمّا اليهودية، فهي توقن بكون الله هو "الشافي الحقيقي"، وأنّ أيّة معجزة تحصل، تشهدُ لقدرته وحده وليسَ لغيرِه. كما أنها لا تنكر الخوارق التي قام بها الأنبياء، كما يصفها التوراة، بل تنسب أمثال هذه الأعمال وغيرها ضمن تقليدها، إلى شاكلتها على عهد الأنبياء من أمثال إيليا وإليشاع. إلى جانب كلّ هذا، فإن بعض الفرق المسيحية، مثل البروتستانتية عمومًا، لا تقرّ بشيء يُسمى بالمعجزة، لاعتقادها بأنّ الإيمان ليس بحاجة إلى معجزات، ومن هنا كان رفضُها لهذا الجانب.

الأعجوبة في الكنيسة الكاثوليكية
ليس مثلَ الكنيسة مَن دافع ونظّم ودقّق بالأعاجيب التي عزّزت مسيرة المسيحية وأتباعها وحفظت كرامات الأبرار والصدّيقين والقدّيسين من أصحاب الشفاعات والكرامات. فقد رافقت مثلُ هذه الأعمال الخارقة حياةَ الكنيسة منذ نشأتها بعد صعود المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب السماوي وإرساله المعزّي، الروح القدس الذي ثبّتَ الكنيسة ورجالها في تلك الحقبة الصعبة. وقد تواصلت أمثال هذه الأعمال الخارقة من شفاء للمرضى وإقامة للموتى، منذ عهد الرسل الأوائل، وعلى مرّ التاريخ والظروف، زمانًا ومكانًا. فكان للقديسين مكانة متميزة وسط مجتمعاتهم وكنائسهم. بل إنّ دورَهم في تعزيز دعائم الإيمان حبًا بالمسيح وعروسه الكنيسة المقدسة، يُعدّ مكمِّلاً لعمل ربهم ولعمل الروح القدس وسط الأمواج العاتية من أنواع الحقد والكراهية وأعمال البطش والقتل والتنكيل التي تعرّضت لها هي ومؤمنوها عبر التاريخ، وماتزال شاهدة وشهيدة لغاية الساعة. وبحسب السجلّ الرسميّ للأعاجيب التي أقرّتها الرئاسة الكنسية الكاثوليكية مثلاً، طيلة حقبة القرون الأربعة المنصرمة، وبالأخصّ الشفائية منها، هناك ما يربو على 1100 حالة دخلت دارة الأعجوبة، بتسجيلها بمثابة شفاءات خارقة عجزَ العلمُ والطبُ تشخيصها وتفسيرَها، ولاسيّما مثل أمراض الشلل والسرطان صعبة الشفاء عادة، إضافة لأكثر من 100 حالة أخرى وُصفت بالعمل غير الطبيعيّ الذي يعجز وصفُه.
تأتي مدينة لورد بالدرجة الأولى، ضمن المناطق أو المدن التي يقصدُها أصحاب الحاجات والأمراض المستعصية، محمّلين بالإيمان واليقين بقدرة السماء على تحقيق أمنياتهم المصحوبة بالصلاة والثقة بمَن يلتجئون إليها. فقد أضحت لورد ظاهرة عالمية تستقطب هؤلاء، وكذلك غيرهم من الواثقين والمؤمنين بقدرة السماء كي يروا بأمّ أعينهم تلك الحشود التقية التي تصلّي وتضرع، طالبةً مواهب الروح وشفاعة العذراء للنقاهة من عاهة أو التخلّص من معضلة، قد تكون شفاءً للروح والجسد والفكر معًا. وبطبيعة الحال، هناك مزارات أخرى كثيرة حول العالم تستقدم زوارًا وحجّاجًا بقصد معاينة مواقع حصلت فيها أعاجيب عبر التاريخ، ومنها بلدتا فاطمة وساليت في فرنسا حيث ظهورات العذراء لفتيان وفتيات، غالبًا ما كانوا بشبه رعاة بسطاء يتفقدون المروج رعيًا للماشية. كما نالت مدينة ميديوغوريه في البوسنة حظًّا وافرًا من اهتمام الزوار منذ الإعلان عن ظهورات للعذراء في عام 1981، وكذلك مدينة غوادلوبي في المكسيك التي يُشار إلى ظهور العذراء فيها لمواطن هندي في عام 1531. وقصّة هذه المزارات لا تختلف عن تلك التي أتينا على ذكرها. فجميعُها تشترك بظاهرة ظهور العذراء مريم لأشخاص أدلوا بشهاداتهم وقد وثّقتها الدوائر الكنسية، فاكتسبت صفة مزار واستقطبت الملايين سنويًا، كما حققت شهرتها بحصول أعاجيب شفاء عجز العلم عن فهمها وتفسيرها.
إلى جانب هذا النوع من المعجزات أو الأعاجيب، يقف بعض العلماء منذ السبعينات من القرن الماضي، في حيرة أمام نوعٍ آخر من أعمال خارقة وغاية في التعقيد، لاسيّما ما يُنسب إلى زوال عفويّ لآثار أمراضٍ غير قابلة الشفاء من أنواع السرطان الذي مازال الطبّ الحديث والقديم على السواء، عاجزين عن مجاراته وتقديم أدوية شافية منها. فعندما يختلط مفهوم الروحي والجسدي في مثل هذه الحالات، يجد الطب المعالج نفسَه خارج هذه السياقات وما يترتب على ذلك من تفسيرٍ مقنع باعتباره ظاهرة يصعب التنبّؤ بها وبنتائجها. ومع مطلع القرن العشرين، هناك مَن يجد أنّ الطب الوضعي القائم على منهج علميّ معروف دوليًا، وبما تيسر له من بيانات آمنة وقوية، قد أخلى الطريق لنوعٍ آخر من علوم طبية وجدها أكثر نسبية وواقعية بفعل تأثيرات وتحكّمات جانبية كثيرة، تفترض نوعًا من الريبة وضعف اليقين بما يرى ويسمع، بحسب العالم الاجتماعي Laëtitia Ogorzelec-Guinchard، الذي تطرّق في أحد مؤلفاته عن معجزات لورد المعترف بها والمثبتة بموجب لجان المعاينة والكشف والتحقيق والتدقيق.
ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، ما هو موقف الكنيسة من مثل هذه المعجزات؟ وهل يمكن لها أن تصدّق كلَّ ما يُروى أو يوصف من دون دليلٍ أو تحليلٍ أو رأي علميّ؟ الكنيسة كانت منذ البدء تنظر إلى هذا الملف بعين النباهة والحرص والتمعّن والحذر الشديد. إزاء حصول مثل الطلبات أو الظواهر، تكثّف السلطات الكنسية في الكنيسة الرومانية من تدقيقها ولا تعبأ بأنواع الخداع أو التشويش التي قد تحصل أو تُثار. وهي تتخذ الإجراءات اللازمة التي تضمن تحقيقات كثيرة ومتشعبة وتؤدي زيارات وتستقبل شهود عيان وآخرين لهم صلة بما رأوا وسمعوا وعاينوا وشهدوا، مقترنة بالرأي الطبي النزيه الصادر من لجان متعددة تُشكَل لمثل هذا الغرض للوقوف على طبيعة الحالة وحيثياتها وموجباتها وفحص كلّ ما من شأنه المساعدة على التقييم وإصدار القرار الصحيح، طالما أنّ القرار أضحى خاضعًا لعمل قضائيّ وقانونيّ، وليس بيد فريق دينيّ أو كنسيّ فحسب.

لورد، لجنة طبية لفحص المعجزات
إن الكنيسة، تلافيًا لأية مهاترات أو إشاعات مغرضة لأي سبب كان، سواء بسبب هجمات مضادّة للكنيسة وعملها أو انتقادًا أو انتقاصًا من قيمة هذه الأعمال الخارقة التي ترقى إلى المعجزات، ومن أجل وضع حدّ للمشككّين بما يجري، فقد ارتأت السلطات الكاثوليكية في روما، تشكيل لجنة مختصة أو مكتب طبيّ في حينها أي في سنة 1883 في مدينة لورد الفرنسية حيث جرت العديد من الشفاءات الأعاجيبية. وما يزال هذا المكتب قائمًا يزاول نشاطه ومسؤوليتَه لغاية اليوم. وهناك مَن يجد أن مثل الإجراءات قد طالها نوعٌ من الاحتياطات المفرطة، بسبب تعقيدها وقساوتها بعض الشيء من جانب السلطة الكنسية العليا.
عمومًا، يمكن القول، أنّ عمل هذا المكتب قد طرأ عليه شيءٌ من التحديث في جمع المعلومات وفي التحليل والتدقيق والفحص وإصدار القرار، كي يتوافق مع ظروف العصر. وهو يعتمد على ثلاث ركائز أساسية لتقرير حالة الشفاء بأعجوبة من عدمه: شفاء غير متوقع، شفاء مؤكَّد، وشفاء عجائبيّ بالمعنى القانونيّ للحالة المشخّصة. وفي الوقت الذي كان من ضمن معايير اللجنة الأولية القديمة المشكلة في لورد عام 1734، عدم خضوع المريض مثلاً لأي علاج أو دواء، انتفى مثل هذا الشرط ضمن شروط المكتب الطبّي الجديد، كي يساير العصر. فالمعجزة من الممكن أن تتأكد أكثر عندما يرى الطبيب أو المريض نفسُه أنَّ الأدوية الموصى بتناولها لفترة طويلة نسبيًا لم تأتي بفائدة، وأن شيئًا خفيًا شعر به المريض في حالة لجوئه لشفاعة قديس أو بارٍّ يقدّم له شيئًا من الإكرام، كما يحصل مع طالبي شفاعة العذراء مريم مثلاً. يضيف الطبيب Patrick Theillier، الذي ترأس المكتب الطبي في لورد في فترات سابقة، بأنّ ما يحصل من أعمال شفاء نفسية أي داخلية، ينبغي أن يحظى هو الآخر، بالكثير من الاهتمام، لأن هذا النوع من شفاء النفس أكثر بكثير ممّا يحصل بشفاء الجسد والأعضاء البشرية التالفة، إن صحّ التعبير. وهذا النوع من الشفاء غير المرئي وغير المنظور بطبيعته، يُعدّ الجزء المغمور من كتلة الثلج الكبيرة الطافية، بل هي مَن تستحق الاهتمام والنظر بكونها معجزة، لأنها تغيّر الإنسان وتحوّل طبيعة حياته وتمكنه من قلبِها رأسًا iعلى عقب. وهذا هو الأهمّ في الرؤية البشرية.

206
بين سنغافورة والعراق، دروسٌ ومفارقات!
لويس إقليمس
بغداد، في 13 شباط 2018
حكاية علي بابا والأربعين حرامي، وإنْ كانت من صنع الخيال، إلاّ أنها ذات أبعاد أخلاقية واجتماعية لا تخفى على أحد. بل إنّ كلّ مَن يمرّ بجانب الساحة التي تتوسط التمثال الرمز لهذه الحكاية وسط بغداد، يتذكر ما يجري في البلاد من كارثة تعيدنا إلى زمن حرامية بغداد في وصلة مظلمة من الدهور الماضية. إلاّ أنَّ ما يميّز دهاقنة السرقات التي تجري اليوم في أيام الفرهود العراقي المفتوح في عزّ الليل والنهار وأمام مسمع ومعرفة الدولة، حكومة وشعبًا وقضاءً ومراجع دينية وعلمية وأخرى اجتماعية، أنَّ هذه السرقات ليست بحاجة بعد إلى كلمة السرّ المعروفة "إفتحْ ياسمسمْ"، لأنّ خزائن الدولة وثروات البلاد وعقاراتها وممتلكات العباد أصبحت مشاعًا لمَن تسلّقَ السلطة بكلّ الوسائل المتاحة، "الشبه ديمقراطية" منها أو التي شاع فيه أشكال التزوير باستخدام شتى الفنون وأصناف الجنون.
"لي كوان يو"، سياسيّ من سنغافورة، يُعتبر باني هذه البلاد الصغيرة بعض الشيء، والتي لم يكن لها ذكرٌ في التاريخ بين الشعوب المعروفة، إلاّ بكونها من أفقر بلدان آسيا. لكنها بفضله، علتْ شأنًا وتسلّقت أعلى درجات الرقيّ في كل شيء، في البشر والحجر، في الاقتصاد والخدمات، في العلم والثقافة وما سواها من رقيّ وتطوّر إلاّ في الفساد. فقد قرّر هذا السياسيّ النزيه، مع الفريق الذي تولى سلطة الحكم الذاتي في البلاد ضمن الاتحاد الماليزي في 1959، حتى طردها من الاتحاد المذكور وإعلان الاستقلال في 1965، أن يغيّر وجه البلاد وينقلها من دولة نامية تقبع في حضن العالم الثالث إلى دولة متحضرة ومتقدمة في اقتصادها يُحسب لها حساب في مصاف الدول العظمى. كانت تركة البلاد ثقيلة آنذاك، لكنْ بفضل الحكومة النظيفة التي تولّت السلطة فيها، تمكنت من تنظيف البلاد من أدران التخلف والفساد، حيث البداية الحكيمة كانت من أعلى قمة الهرم، أي من المسؤولين في الدولة نزولاً للأدنى في القاعدة.
كانت نظرة "لي كوان يو" إلى الفساد، أنّ التنظيف الداخلي لمعالجة هذه الآفة يجب أن يبدأ من فوق الدرج أي من الأعلى، بالماء كي يجرف الأوساخ الطارئة في طريقه. وهذا كان غير ممكن إلاّ من خلال البدء من أعلى قمة هرم السلطة. وبذلك تمكنت حكومته من اقتلاع الأوساخ الكبيرة بجرف مدمني الفساد وكشف الفاسدين فيها وإرسالهم إلى حيث ينبغي أن يكونوا في غياهب قنوات الصرف الصحي. لقد تيقّنَ هذا الرجل المعجزة من أنّ تنظيف الدار من القاعدة أي من صغار الفاسدين واللصوص، إنّما هو مضيعة للوقت والطاقة معًا، ولن يأتي بالنتيجة الحاسمة. فصغار اللصوص، إنّما يقتدون دومًا بالكبار الذين يديرون اللعبة ويوجهون اللاعبين الصغار ويحمون وعّاظ السلاطين ومَن على شاكلة هؤلاء من المتفذلكين والمنتفعين والمتزلفين والمنفذين لأجندات الأسياد والمعلّمين الكبار. وبذلك قطع دابر الفساد في بلاده، ولم يسلمْ من التحقيق والتدقيق كلُّ "حديثي النعمة" من الذين ظهرت عليهم مظاهر الثراء الفاحش فجأة. وبذلك وضع حدودًا ونهاية إعجازية لظاهرة الفساد واللصوصية، وكان منها مقولتَه: "حينما يسير اللصوص في الطرقات آمنين، فهناك سببان: إمّا النظام لصّ كبير أو الشعب غبي أكبر". ويُقال إنّ "لي كوان يو"، استخدم في فترة حكمه أقصى أنواع الصرامة والمحاسبة بحق المقصّرين والسارقين والمرتشين لغاية تنظيف البلاد تمامًا من أمثالهم. وهناك قصص واقعية تستحق التذكير وأخرى مؤلمة حصلت لمَن سمح لنفسه بالانزلاق في فخاخ الفساد ومصادره. فمَن سوّلت له نفسه ممارسة رذيلة الفساد والرشوة، كانت له الدولة بأجمعها بالمرصاد، وكان مصيرُه السجن أو اختيار طريق الاختفاء والانتحار عوض العيش ذليلاً طيلة حياته. وهذه الأخيرة وغيرُها، تُظهر صحة ما ذهب إليه هذا السياسي الوطنيّ النزيه الناجح في سياسته المتوازنة من أجل صناعة دولة ذات هيبة وسيادة تتمتع إدارتُها السياسية بأقصى أنواع نظافة اليد ونزاهة الفكر ورجاحة العقل وجدارة العمل.
ما أشبه ما يمرّ به العراق اليوم، ليس منذ الغزو في 2003 فحسب، بل منذ نشأة الجمهورية العراقية التي قضت على المَلَكية النزيهة حيث كان فيها رجالات عظام يهتمون بأمر البلاد والشعب، بعيون ساهرة وعقول صاحية وآذان مصغية لصوت الشعب. فهل ننتظر أمثال هذا الرجل النزيه في يده، الرصين في عقله، القويّ في إرادته، العادل في محاسبته لكلّ أشكال الفساد في العراق؟ 
بين فترة وأخرى يطلع علينا مسؤولون في الدولة العراقية، ومنهم نواب الشعب الذين خذل معظمُهم مَن أصعدَهم من مواطنيهم إلى هذه السلطة التشريعية كي يكونوا صوتَهم الصادح ضد المظالم والفساد والباطل، وهم يتفاخرون بما أنجزوه من قرارات وقوانين تحفظ لهم ولمَن في السلطة امتيازات ليس لها مثيل في أرقى دول العالم التي تعتمد النزاهة والجدارة والعمل المثمر الجادّ لصالح الوطن والمواطن. فهل يُعقل أن يتبجّح بعض هؤلاء المسؤولين باستلامهم أكثر من مليار ومائتين وخمسين مليون دينار منذ دخولهم ما يُسمّى بالجمعية الوطنية ولغاية صدور قانون في 2012 يمنع تقاضي عدة رواتب أجازها البرلمان؟ ناهيك عن امتيازات شرائح عديدة أخرى تتقاضى مرتبات خيالية متعددة أجازتها مثل هذه القوانين التعسفية التي أثقلت كاهل الميزانية العراقية في كلّ سنة مالية منذ السقوط الدراماتيكي والغزو الطائش في 2003.
لقد بات البلد كعكة كبيرة لمَن يشتهي انتشال ما يمكنه من فرهود في ظلّ غياب الضمير والحياء وقوة السلطة القضائية منها والتنفيذية على السواء. فبالرغم ممّا يصدر من تصريحات بيّنة تدلي بحقائق تتحدث عن فساد وسرقات عامة وعن تلاعب وتزوير في صفقات وعقود، إلاّ أنّ ما يقابلُها من إرادة فاعلة ومن نوايا صادقة للوقوف بحزم إزاء هذه الألاعيب والجرائم، لا يرقى لمستوى المسؤولية والمواطنة الصادقة. فطالما بقيت ذاتُ الرؤوس المشبوهة تدير العملية السياسية من دون رقيب قوي، صادق، نزيه، صاحب قرار لا يخشى لومة لائم بقول كلمة الحق بوجه الظلم والشرّ والخطأ، ومن دون تردّد أو خوف على مصالحه الشخصية والطائفية والفئوية والحزبية، فالبلاد لن يحدث فيها تغيير ولا إصلاحٌ يُذكر. وها هي ذي ذاتُ الكتل السياسية الفئوية وذات الأحزاب الدينية والطائفية، تعيد تشكيلاتها ولكنْ بأسماء رنانة مدنية جديدة، ظاهرُها زيف الملبس الديمقراطي المدني وباطنُها حيتانٌ دينيّة مصرّةٌ للسير في ذات الطريق المخصص لها لابتلاع الأسماك الصغيرة ولفلفة القائم من تمثيل باقي المكوّنات بحجة الأغلبية السياسية التي استأثرت بالسلطة وهي غير جديرة بإدارة دفة البلاد، بحسب ما كشفته حقائق ووقائع الولايات المتتالية لحزب السلطة الذي لا يختلف عمّن سبقه بوصف حكمه بالدكتاتورية.
هؤلاء أيضًا قالوها: "أخذناها ولن نفرّط بها أو نتنازل عنها"، وكأنها أضحت نظامًا توريثيًّا لكلّ مَن تسمح له الظروف بمسك زمام السلطة في مرحلة طائشة من الزمن. فممّا لا شكّ فيه، أنّ الأحزاب وشبه القيادات السياسية والحزبية والكتلوية التي وُهبت السلطة من قبل الغازي الأمريكي، قد أثبتت فشلها الذريع ولم تخض غمار بناء ما حصل من تدمير بسبب سوء الإدارة وضعف المواطنة وضياع الضمير والرغبة الواضحة بنيل كلّ من هذه وهؤلاء حصته من الكعكة. أمّا مصالح الوطن والشعب المقهور، فهذه ليست من الأولويات. فما هو قائم من بنى تحتية ومن شوارع وطرق ومبانٍ وقوانين وتشريعات مدنية، في أغلبها يعود الفضل فيها إلى حقبة النظام السابق، ولا فضل للنظام القائم الحالي إلا بتدمير ما بناه وحققه نظام الدكتاتورية البائدة.
فهل نعوّل على نتائج مؤتمر الكويت المخيّبة لإعادة الإعمار، ودروسًا إيجابية باتجاه التغيير نحو الأفضل، أم سيسيل لعابُ المتسلطين على رقاب الشعب رابعة وخامسة وعاشرة على مبالغ الاستثمار وعلى مشاريع القروض المتزايدة الإضافية  التي ستزيد من تكبيل البلاد تحت الوصاية الدولية؟ أم ننتظر صحوة جديدة متوثبة للشعب المظلوم الذي يزداد فقرًا مقابل مَن ازدياد الشلّة الحاكمة ثراءً واحتكارًا وامتيازات على حساب الأول؟
    أمّا أنا فأقول، ما كان معوجًّا في أساسه، لن تقوى المناشدات والانتقادات على إصلاحه. وحده، هو الشعب المتوثب الشجاع الواعي الذي بإمكانه تولّي زمام الإصلاح بتغيير الوجوه الفاسدة والزعماء المترفين المترهلين الذين سرقوا ثروات البلاد واستهانوا بعقلية العباد ورهنوا الشعب البسيط الطيّب بفتاوى وحكايات عندما جعلوا من الدّين والطائفة والعمامة والشرع مادة لكسب التعاطف لجانبهم بغطاء ديني وطائفي ومناطقيّ. والردّ على ذلك، لن يكون إلاّ بصحوة جادة من النخب لتطالب بإصلاح السلطة من القمّة وبالتغيير الضروري بدءً بأعلى الهرم وليس من القاعدة، تمامًا كما فعل زعيم سنغافورة الوطني، "لي كوان يو". فمَن هو السعيد المنتظَر ليتولى المهمّة في العراق الصابر الجريح؟ حتمًا، حسب الوقائع الأخيرة والاصطفافات في التحالفات الانتخابية، لن تتوفر فرص كبيرة لرئيس الوزراء الحالي المتردّد الذي خيّب آمال الشعب والنخب حينما لم يستغلّ كلّ الدعم الذي تلقاه من الشعب الذي نادى "شلع قلع" و"باسم الدين باكونا الحرامية"، ولا من التفويض الصريح الذي أولته إياه المرجعية الدينية الرشيدة، ولا من دعاء الثكالى والمهجَّرين والنازحين الذين أمَّلوا بإيجاد حلولٍ لمظالمهم على أيديه وبفضل قدراته وصلاحياته. لكنه وعدَ ولمْ يفي، قالَ ولمْ ينفّذ، شهَرَ تهديده ولمْ يفعّله، رفع إصبَعَه مرارًا فخفضَّه نزولاً لمصالح شركاء العملية السياسية. فالقائد لن يكون قائدًا إلاّ إذا فعل ما قال، ووفى بما وعد، وحاسبَ مَن أخطأ، واستبعد المنافق من حاشيته والكاذب من داره والمتملّق من مجلسه. والعبرة بمن اعتبر.


207
ترامب: دبلوماسيةُ المواجهة تقوّضُ الحقائق
لويس إقليمس
بغداد، في 22 كانون ثاني 2018
قد يكون الزمن خان ذاته في حقب مختلفة من التاريخ، حينما سمح بقدوم قادة يشكلون ألغازًا في حياة البشر والمجتمعات والشعوب والأمم على السواء. سبق للتاريخ أن استقبل قادة عظام طبعوا بصمات هامة في حياة شعوبهم، سلبًا أم إيجابًا، وبالتالي في حياة العالم ككلّ. من هؤلاء، مَن زرعوا ورود المحبة وفرشوا زهور السلم الأهلي ورسخوا خطوات التطور والتقدم نحو الأفضل. وبعكسهم هناك نوع ثانٍ من قادة وزعماء اثاروا الشكوك ونجّسوا الأرض والسماء والماء بزرعهم بذور الفتن وممارستهم أشكال العنف وممارستهم الفساد والسماح لضعاف النفوس من أتباعهم باستغلال بساطة الشعوب وجهلها وضعفها من أجل تحقيق نزوات نرجسية وشخصية أو منافع ضيقة أو مصالح فئوية بعيدة عن الصلاح الذي توصي به الأديان السمحة والمفاهيم المنفتحة التي تقرُّها معتقداتُها المنبثقة عن إرادة السماء الحسنة وشرعة حقوق الإنسان.
من هنا وفي ظلّ هذه التواصيف، يكون الرئيس الخامس والأربعين لأميركا، دونالد ترامب (71 عامًا)، من بين هذه الشخصيات المثيرة للجدل، من التي تزعمت أكبر دولة في العالم. وهو يشكل اليوم لغزًا آخر في السياسة الدولية وفي مواجهة الحقائق والواقع. فمنذ اعتلائه رئاسة أميركا في 20 كانون أول 2017 وخبطاتُه السياسية بين الحين والآخر، تنزل كالصاعقة وسط أمواج هائجة في عالمٍ يزداد توترًا مجتمعيًا واهتزازًا طبيعيًا وصدامًا فكريًا وسياسيًا قد يقود لكارثة لا تُحمد عقباها. والخوف القادم قد يكون من اشتداد توتر رَسَن الحصان الأمريكي وفقدان القدرة الاستشارية للمحيطين به والمقرَّبين منه من الحمائم، ما يُخشى طغيانُ هياجه الكارثيّ غير المأمون على قرارات مثيرة للجدل، ما ينذرُ بالتالي بأزمات مرتقبة من العلاقات المتشنجة بين الأمم والشعوب والدول.
إنَّ بعضًا ممّا يجري اليوم في أروقة البيت الأبيض السياسية، مردُّهُ فقدان الثقة وغياب الحكمة وضعف الرُشد الأدبي والأخلاقي النابع من القيم الدينية الراسخة والنظرة الإنسانية الصائبة في التأسيس لنظام عالميّ عادل تختفي في صفحاته سياساتُ استغلال الشعوب المقهورة والدفع بالبشر نحو البغضاء والكراهية والحروب التي تقوّض السلم المجتمعي، ومن ثمّ لا تخلق سوى الدمار والقتل ومزيد من الضحايا. وربما يعود بعضٌ من دواعي هذه السياسة الاستفزازية المثيرة إلى نشوة النصر غير المتوقع الذي حققه سيدّ البيت الأبيض في سباق الرئاسة، بالرغم من جبال المتناقضات والاعتراضات والشائعات التي رافقت حملته الانتخابية الصعبة وتصريحاته البارودية. فسجلُّه الشخصيّ، كواحد من مليارديرات البلاد، كانت خير حقلٍ للطعن بقدراته في إدارة البلاد سياسيًا، هذا إذا استبعدنا مجال الاقتصاد الذي برز فيه ولاسيّما في مجال العقارات والأسهم.
أميركا اليوم كما بالأمس، بسيادتها على عالم المال والاقتصاد ومَن يقف وراء هذه جميعًا، أثبتت دومًا نظرتها الفوقية على سائر الأمم والدول واستخفافها بغيرها وتطاولَها على كلّ صوت تخرج منه أدوات الاعتراض على سياسات البيت الأبيض ومَن يدعم زعاماته. وهي كانت وماتزال، من خلال استعراضها لهذه القدرات المالية والاقتصادية التي تسيّرُ دفة الاقتصاد العالمي، تفرض ماكنتَها السياسية على غيرها من الدول وتهدّد بعقوبات جمعية وأخرى اقتصادية بهدف تشديد الخناق على إرادات هذه الأخيرة وثنيها عن أيّ مسعى للخروج عن طاعتها وطاعة مَن يقف وراء سياساتها من أسياد العالم المعروفين.
لقد شهد العامُ الأول من تولّي الرئيس ترامب للسلطة الكثيرَ من المتغيّرات في الشأن السياسي لقيادة العالم. ومن هذه التغييرات على وجه الخصوص، تصدّيه العنيد لتحديات ومغامرات دول "متمرّدة" تقليديًا على السياسة الأمريكية، ومنها كوريا الشمالية وإيران، بسبب الاتفاق النووي المعروف وما يلحقه من تخزين وتسويق واستخدام للأسلحة الفتاكة والصواريخ البالستية. أمّا نظيرة أميركا في الحرب الباردة المتمثلة بالدب الروسي ورئيسه المحترف الذي يسعى لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق بالبحث عن مواطئ قدم في مناطق الصراع الدائرة في مناطق عديدة، ومنها منطقتنا العربية والقرن الأفريقي والقارة العجوز بصورة أخصّ، فهي قد أخذت حيزًا كبيرًا في استراتيجية ترامب تجاه هذا البلد بسبب سعي رئيسه كي تبقى بلادُه قطبًا أساسيًا في تسيير السياسة الدولية، بالرغم من محاولات الإعاقة الجارية في كواليس السياسة الأميركية. فقد اتضح مثلاً، تدخل قياداتُ الكونغرس لوضع عراقيل بوجه محاولات إدارة الرئيس ترامب تعزيزَ صداقته مع بوتين، وقد كانت هذه مأمولة ومنتظَرة بعد تحقيقه الفوز على منافسته الديمقراطية وما أُشيع عن تدخل روسيّ في الانتخابات الأميركية.
هنالك اليوم، الكثيرُ ممّا يمكن تأشيرُه من مغالطات وأكاذيب ووسائل تشويه الحقائق والكذب في سياسة ترامب وفريقه. تلكم كانت قناعة السناتور الأميركي الجمهوري بوب كروكر مثلاً، الذي التقاه مؤخرًا في لقاء صاعق. فيما اضطرَّ الأخير لوصفه بشخصية من "وزن الريشة" وب"غير الكفء"، دليلاً على شكوكه بكفاءته. وممّا أضافه بكل صراحة: "أعتقد أنّ الامور التي تحدث اليوم سيئة بالنسبة لبلادنا". ربما يكون مثل هذا الحكم من شخصية سياسية قريبة من مركز القرار الأمريكي، قريبًا من واقع حال ما يجري في دوائر إصدار القرار على الصعيد الداخلي لأميركا. ولكنه بالـتأكيد، يعكس مدى الاستياء من الكيفية التي يُدار بها العالم في هذه الحقبة من قبل سادة القطب الواحد. فيما يرى آخرون أنّ السياسة الخارجية لأميركا هي طبيعية، وهي تسير وفقًا للتعهدات التي قطعها الرئيس في حملته الانتخابية والتي على ضوئها جرى انتخابُه. فهو سائرٌ في تخليص بلاده ممّا أسماه "بالصدأ" الذي اعتراها في حقبة زمن الديمقراطيين وما أتت به من تراجع للبلاد في القدرة على التحكم بسياسة القطب الواحد التي تسعى إليها دومًا زعاماتُ البيت الأبيض، وكذا ما حصل من بلاء وويلات متلاحقة على شعوب كثيرة ومنها شعوب منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي، فالزمنُ كفيلٌ بالحكم على سير الأحداث والوقائع والقرارات.
لعلَّ ممَا يمكن الإشارة إليه في هذا السياق، خروجُ أميركا المتواتر دوليًا عن إجماع المحافل الدولية في الكثير من القرارات التي تخصّ قضايا هامة في حياة دول وشعوب. شهدنا مثلاً، اعتراضها على قرارات قمم المناخ وانسحابها من بعضها، وكذلك اعتراضها على الاتفاقات التجارية ونكثها لها. وهذه من الأدلّة على تعالي سادة البيت الأبيض على الإجماع الدولي بسبب سياسة العجرفة وفرض الرؤى التي تتعارض في الأغلب مع مصالح الشعوب المهضومة والمستغَلَّة (بفتح الغاء) والمقهورة التي زادت فقرًا وتخلّفًا في مسيرتها. فأميركا، شاركت في استغلالها لشعوب العالم عن طريق الاستعانة أو السماح بقدوم ساسة وقادة فاسدين على رأس دولهم، بحيث يصعبُ أحيانًا لمثل هؤلاء الزعماء إيجاد طوقٍ للنجاة أو الانعتاق من مظلة السيادة الأمريكية المتعجرفة التي تسعى قبل أي شيء تعزيز مصالحها التي تفوق أية مصلحة أخرى. وتلكم هي قاعدة سائر الدول الغربية التي ما تزال تدور في سياساتها بذات الأفكار الاستعمارية التي طبقت في أزمنة خلت. فالرئاسة الأمريكية الحالية تحمل في جعبتها الكثير من جزئيات الرئاسات المتلاحقة من حيث الفكرة في الترويج والقدرة في المناورة والكذب والحكم. لذا يكون الرئيس ترامب ضمن هذه السلسلة استكمالاً لحقبة أسلافه مع بروز شيء من الغرور الشخصيّ والعنفوان السياسيّ اللذين يطبعان كارزميتَه الشكلية بسببٍ من خلفيته التجارية في مجال الأعمال والعقارات بشكل ملفتٍ للنظر. فهو مثلاً، لا يختلف عمّن سبقه من حزبه الجمهوري بتوصيف كلٍّ من كوريا الشمالية وإيران، ب"محور الشر" من جهة تهديدهما للسلام العالمي، ما يشكل في نظره خطراً كبيراً ومتزايداً. فكما ارتأت إدارة سلفه بوش في أعقاب كارثة 11 أيلول 2001 شنَّ حرب وقائية ضدّ هاتين الدولتين "المتمرّدتين"، كذلك يؤمن ترامب بذات الرؤية، ما يدعم ذلك في تهديداته المستمرة وبكون "زرّه أكبر وأقوى من زرّ الرئيس الكوري"، بعد أن انقلبت المسألة إلى ما يشبه اللعبة أو المزاح.
أمّا الطامة الكبرى، فقد تمثلت مؤخرًا بتحدّي الرئيس ترامب للمجتمع الدولي، حين اعترافه بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل وقراره بنقل سفارة بلاده إليها وتحقيق ذلك قبل نهاية عام 2019، بالرغم من قرارات المنظمة الدولية بحلّ المشكلة المؤرقة ضمن إقرار مشروع الدولتين والعاصمتين. فهذه المسألة الجوهرية، تأتي تأكيدًا لتعهداته التي قطعها في حملته الانتخابية أيضًا. بمعنى أنّ هذا الإجراء وإن بدا استفزازيًا، إلاّ أنه في نهاية المطاف جاء تطبيقًا لتعهداته المقطوعة لناخبيه وكذا للمجتمع الدولي الذي رحّب به رئيسًا كاملَ الأهلية والمعرفة بما قطعه. وبالتالي، فإنّ ما يبدو على أرض الواقع، هو استمرار الإدارة الحالية وتبعيتها لفكر المدارس الأمريكية السابقة التي تطبّعت على ذات النهج الاستخفافي بغيرها من الشعوب، وبالذات التهكم بقرارات الهيئة الدولية التي من بين وظائفها الأدبية والأخلاقية زرع العدل وتنظيم الحياة السياسية وحلّ الخلافات بالحوار والتفاهم والإجماع الدولي، وليس بالابتزاز وفرض الرؤى والسياسات. فقد سبق لعهود رئاسية سابقة أن كانت انتقائية في قراراتها، وعدوانيّة في تحرّكاتها، واستفزازيّة في سياساتها تجاه غيرها من الشعوب، ومنها شعوب المنطقة الشرق أوسطية. فالصراع في المنطقة، ظلّ ساخنًا طيلة السنوات المنصرمة منذ نشأة إسرائيل، وسيظلّ كذلك إلى ما شاءت الأقدار وارتأى الأسياد طالما هناك فرصة بل فرص مؤاتية تهيّء لأجواء مثل هذا الاستغلال بوجود أشباه الساسة والزعماء المنبطحين والتابعين الذين يُؤثرون مصالحَ ضيقة الأفق على مصالح شعوبهم وشعوب المنطقة ولا يهمهم استقرار بلدانهم. ومن قائلٍ، سيبقى الصراع الإسرائيلي-العربي أبديًا لغاية حصول هزّة سياسية قوية أو كارثة طبيعية تحصد الأخضر واليابس ولا تبقي شيئًا ممّا كان وممّا حصل.
إن العالم يعيش اليوم على صوت دقات ما يمكن تسميتُه ب "صراع الفناء" بين الأمم والشعوب. لذا، ليس غريبًا البتة أن يرى البعض في شخصية الرئيس الأميركي ترامب، كابوسَ العصر، وهو نوع من الاستياء الموجَّه لإدارته المثيرة للجدل في العديد من قراراته التي يتضح منها توجُّهُه لقرع طبول حرب كارثية ثالثة، هذا إنْ اختلّ توازنه وقررّ الضغط على الزرّ النووي "الأقوى" الذي يهدّد به هذه الأيام. فهناك بالتأكيد ما يمكن التكّهن بوجود فجوة بل فجوات على الساحة السياسية في هذه الدولة العظمى بين قوى الإدارة الحالية وتلك التقليدية التي فرزتها النخب منذ نشأتها والتي أخذ استياؤُها من سياساته الحمقاء يشتدّ ويزداد بسبب سياسة الاستقطاب المتطرّف التي يتبعها. فشعارُه " أميركا أولاً "، لن يكون ممكنًا في ظلّ سياسة المواجهة مع العالم بأسره. صحيح أنَّ سلفه الديمقراطي قد يكون تواطأ مع أعداء أميركا التقليديين بخنوعه لترتيبات بعض هؤلاء سياسيًا ومنفعيًا عندما خضع بطريقة أو بأخرى أمام تحدياتهم وإصرارهم على برامجهم التي يمكن أن تقوّض فرص السلام إقليميًا ودوليًا. فممّا لا شكّ فيه، يعود جزءٌ من هذه المخلّفات إلى تلك الحقب الأمريكية التي دفعت بعض مناطق العالم إلى صراعات وحروب إقليمية ودولية كانت مكلّفة لأميركا ولغيرها على السواء. ألَمْ يصف في حملته الانتخابية حلفَ الناتو بأنه منظمة عفا عليها الزمن، فيما هدّد بانسحاب الولايات المتحدة منه؟
إننا نعتقد، أنَّ بعضًا من السلوكيات الشاذة أو الخائبة التي يتصرفُ وفقها الرئيسُ ترامب، تفضي بشيء كامنٍ من النرجسية والشعور بعنفوان السلطة والتعالي الزائد إزاء الأشياء والأحداث والوقائع. فهو عندما اتخذ من شعار " إعادة الاحترام لأميركا "، فذلك لا يخلو من حكمة وطنية في كبرياء الأسياد، وكذا من بروز عطش متزايد للسلطة وإدارة الأشياء بطريقة استعلائية تجارية لا تنقصها فظاظة الرؤية والتطبيق العملي في الحياة السياسية والاقتصادية. وإزاء هذه الرؤية نحو الأحداث والخطوات الجريئة والمثيرة على السواء، والمنجزة دوليًا في عهده، كان من الطبيعي أن تُثار الشكوك حول مقدرته النفسية والصحية. لذا سارع البيت الأبيض لينقضَ وينفي كلّ ما أُشيع عن هذه التكهنات، وبالتالي ليبطلَ الشكوك بصحة قواه العقلية، مؤكدًا في الوقت ذاته صحة مؤهلات سيد البيت الأبيض و"استقرار عبقريته" في إدارة البلاد، حتى لولاية قادمة إنْ حصل الفوز بها في حينها. وبحسب طبيب البيت الأبيض فإنّ للرئيس الأشقر، الكثيرَ من الطاقة وإمكانية التحمّل بسبب الجينات غير العادية التي يمتاز بها. فهل تطلعنا الأيام القادمة بشيء جديد آخر عن سياساته بعد طيّ عامٍ كاملٍ في سدّة حكم أكبر دولة وأقوى اقتصاد عالميّ؟


208

زعاماتنا وزعاماتُهم، شتّان!
لويس إقليمس
بغداد، في 5 شباط 2018
قد يرى البعض في الاقتباس والاستشهاد التالي الذي وددتُ أن أُوردَه عن الإنجيل، وبالتحديد في الكلمات التي وردت في رسالة بولس الرسول الأولى إلى تلميذه طيماثاوس (1:3-7)، شيئًا من الغرابة في الربط في عنوان الموضوع مع متنه. فالرسول بولس، يوصي هذا التلميذ مذكرًا إياه بمواصفات الراعي، أي الرئيس الذي يرعى مجموعة من البشر ويقودهم نحو صلاح النفس والعمل بما يديم العلاقة مع سائر المؤمنين من البشر تحت رعيته. يقول في توصيته: "صادقة هي الكلمة: إن ابتغى أحدٌ الأسقفية، فإنما يشتهي عملا صالحا". والأسقفية في الكنيسة أي في المسيحية هي درجة عليا من الكهنوت تسمو في دورها في رعاية الرعايا والشعب المؤمن. ويسترسل في توصياته متحدثًا عن صفات القائد الراعي، "يجب أن يكون الأسقف بلا لوم، بعل امرأة واحدة، صاحيا، عاقلا، محتشما، مضيفا للغرباء، صالحا للتعليم، غير مدمن الخمر، ولا ضرّاب، ولا طامع بالربح القبيح، بل حليما، غير مخاصم، ولا محب للمال، يدبر بيته حسنا، له أولاد في الخضوع بكل وقار... وأن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج لئلا يسقط في تعبير وفخ إبليس".
في الحقيقة، رأيتُ في هذا الاقتباس بذرات أصيلة وتوصيات طيبة لمن يسعى للسلطة، دينية كانت أم زمنية. فقد اختلطت المفاهيم وصار الطموح في الجاه والمال والسلطة من دواعي العصر ومن متطلبات الحياة الدنيا بالرغم من التباين في الهدف بين الدينيّ والزمنيّ. فالرئاسة الدينية في الأديان التوحيدية عمومًا، هي كرامة وخدمة واستعداد للتعليم والتضحية والنصح قبل أن تكون سلطة تفرض السطوة وتجذب الشهوة وتمارس الظلم وتوغل في الفساد باستخدام أشكال المداهنة والكذب والدجل.
أنقل في هذا السياق عن الإمام علي نظرتَه إلى السلطة التي قد تختلف فقط في ترتيب الكلمات واختيار الألفاظ التي تدلّ على النظرة الإنسانية للبشر وتفاعل هذا المفهوم مع الرؤية الإلهية للأشياء والوقائع بحسب الزمان والمكان. فقد كان شديدًا في محاسبة الفساد ورفض الباطل. وهذه الرؤية في عمق فحواها مقاربة للتي اقتبستُها عن الكتاب المقدس. فالسلطة عند الإمام علي من حيث الشرعية والبعد الإنساني هي ذات بعدين: إلهي وشعبي، من دون أن تتقاطعا أو تتصارعا. ومن ثمّ فقد تمّ اتخاذُها منهجًا شرعيًا عبر مدرسة سياسية بأبعادٍ إنسانية لتضع وتعيد الحق إلى نصابه وتقاوم الظلم والطغيان وترفض الباطل أيًا كان مصدرُه أو فاعلُه. كما أنها بموجب هذه المسلّمات ليست هدفًا ولا ينبغي أن تكون كذلك، بل وسيلة لإنجاز الحق وخلع الباطل وأهله ومحاربة الفساد وإزاحة الفاسدين. وتلكم إشارة واضحة لرفض أي مذهب أو سعيٍ للاستئثار بالسلطة من قبل ما اعتدنا عليه في مفهوم أحزاب السلطة، كما هو شائع هذه الأيام. فقد أجازت أحزابُ السلطة في بلدان الشرق المسلم عمومًا، والعراق خصوصًا، أجازت لنفسها ولأتباعها فعل ما رفضه وفضحه الإمام علي خلال فترة حكمه، عبر فرض أحكامٍ وسنّ قوانين وتشريعات تسهّلُ لهم استغلال الحكم والاستيلاء على ثروات البلاد وإفراغ خزينة الدولة بأشكال وأساليب شيطانية. 
آن الأوان للتغيير الحقيقي. فقد طفح الكيل وبلغ السيلُ الزبى بسبب تفاهمات المحاصصة الخارجة عن السياق الوطني والمترفعة عن أصول الدستور، بالرغم من عديد الثغرات الخائبة في هذا الأخير. أمّا القوانين والتشريعات الجائرة التي باتت تزكم الأنوف والتي أجاز ممثلو الشعب تشريعَها خدمة لمصالحهم الشخصية والفئوية والحزبية والطائفية، ومنها على سبيل المثال وليس التحديد، قانون العفو العام الذي يبرّئ الفاسد بدعم من كتلته، وقانون الأحوال الشخصية الذي ينتقص من سموّ المرأة وحريتها وكرامتها ويجعل منها عورة في حركتها ومطالبتها بالمساواة مع الرجل، وكذا ما أُشيع عن تشكيل اتحاد للبرلمانيين الذي سنّته السلطة التشريعية بغياب وسائل الإعلام، والذي غايتُه المحافظة على امتيازات النواب وأسرهم مدى الحياة، جلّ هذه القوانين لا تقوم على مبدأ المواطنة ولا تغلّب المصلحة الوطنية العليا ومصالح الشعب. وإنْ صحّت مصادقة رئاسة الجمهورية على القانون الأخير لاتحاد البرلمانيين العراقيين، فهو يعدّ جريمة بحق الوطن والشعب، من حيث استمرار سرقة أموال الشعب وحقوق المواطن والأجيال القادمة عبر امتيازات غريبة وشاذة لا يوجد أمثالُها سوى في بلد مُشاع ومستغَلّ (بفتح الغاء) كالعراق. هذا إلى جانب قوانين غيرها من تلك التي فرضتها المحاصصة من حيث استملاك أحزاب السلطة لميزانيات الوزارات أو المؤسسات التي تديرها ضمن حصتها وتحت تصرّف هيئاتها الاقتصادية غير المشروعة. وهذا من براهين استغلال السلطة من قبل أحزاب السلطة الحاكمة التي غاب عن معظم زعمائها وعن نوابهم الحسُّ الوطني ومفرداتُ النزاهة وطغى على أفعالهم عقدُ الصفقات وبيع المناصب والاستئثار بالمال العام من دون رقيب وسط هَون السلطة التنفيذية والقضائية وضعف الحكومة في مواجهة المافيات وتهيّبها من محاربة الفساد والفاسدين وعدم قدرتها على تنفيذ الوعود بالإصلاح، بسبب هيمنة أحزاب السلطة على مقاليد شبه الدولة القائمة وتفوّق مصالحها على القانون وسموّها على المصلحة العليا للوطن والمواطن. فالمشكلة كما ندرك، ليست فقط بوجود فاسدين في الدولة بل في الإرادة القوية بمعالجة الفساد وعدم القدرة على معاقبة الفاسدين، وفي المراوغة والمماطلة والمساومة مع عصابات الفساد ومافيات السلطة.
لدى قراءتنا للمواصفات الطيبة والصفات المجتمعية الحميدة الواردة في وصايا مار بولس الرسول والإمام علي بخصوص السلطة، نرى أنها قد تنفع في عملية الإصلاح، أيّ إصلاح من دون تحديد الزمان والمكان. فهي نافعة وجديرة بالتطبيق على أيّ راعٍ أو زعيم أو قائد اجتماعي أو سياسيّ أو دينيّ، من حيث قدرتها على خلق نفوس نظيفة في الفكر والتطبيق، وفي الترويج لمجتمعات آمنة، مستقرّة، سليمة في قدراتها العقلية، صحيحة في مسيرتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعلمية والسياسية والدينية معًا.
شهوة السلطة من غرائز البشر عامة، وهي مشروعة، هذا إنْ كانت ضمن حدود القوانين والدساتير التي تقرها الدول والشعوب المتمدنة، ولا تخرج عن اللياقة العامة وآداب المجتمع والقيم العليا للإنسانية والأديان السمحة التي تكفل حياة حرة كريمة للشعوب واحترامًا بين الرئيس والمرؤوس. فللزعامة شروط ومقومات وحدود، وليس فقط ما تأتي به من جاهٍ وسلطة أو امتيازات جليلة تجعل من الزعيم أو المسؤول بطلاً فارغ الجعبة، جلُّ همّه التركيز على مصالحه الشخصية الخاصة ومصالح المقرّبين منه من المتحذلقين ومن مقتنصي الفرص ومن وعّاظ السلاطين الفاسدين.
ربّما تصفح العديدون من مرتادي التواصل الاجتماعي، الحياة اليومية لبعض الزعماء في الدول المتحضّرة، ومنها الغربية على وجه الوصف لا التحديد، أو تابع سلوكيات الحياة السياسية لبعض الزعماء النظيفين في العالم. فالسيدة الأولى في ألمانيا، أنجيلا ميركل شوهدت مرارًا وهي تتبضّع من الأسواق العامة بصحبة زوجها أو أفرادٍ من أسرتها بلا حماية ولا حراسة تُذكر ولا قَطع للطرق ولا إزعاج لصفارات سيارات المواكب التي اعتدنا عليها في بلدنا، وعموم بلدان الشرق ومنها العربية والإسلامية تحديدًا. كما أنّ ميركل وغيرُها من قادة هذه الدول، لا يتلقون خدمات مجانية من دولهم ولا يستطيعون إنفاق أية مبالغ عامة لراحتهم الشخصية أو لنشاطاتهم خارج الحكومية منها. وهم في الغالب يقودون سياراتهم ويتنزهون على راحتهم من دون حمايات ظاهرة في الغالب. فقد شاهدتُ بأمّي عيني نيقولا ساركوزي بملابس الرياضة عندما كان وزيرًا للداخلة وهو يمارس رياضة الركض بصحبة رياضيّ آخر على جانب نهر السين في إحدى زياراتي للعاصمة الفرنسية قبل سنوات. فهل يستطيع أحد من قادة بلادي فعلها اليوم هنا أو في أي مكان آخر من دون فوج من حمايات من خاصته مدججين بأسلحة وبمسدسات تزيّن خاصرتهم وتظهر من خلف بزاتهم الفاخرة؟ أشكّ في ذلك. وهذا رئيس وزراء كندا الشاب، ترودو الذي ينزل إلى الشارع ويجالس الناس في مناسباتهم الدينية والاجتماعية، وآخرها مشاركته في منتدى دافوس وهو يرتدي جوارب بنفسجية عليها صور طائر البط، ممّا أثار موجة من السخرية في وسائل التواصل الاجتماعي. وعند الاستفهام تبيَّن أن الرجل قصد بهذه الحركة في هذا المحفل الدولي الهامّ، المساهمة بدعم مشروع صاحب شركة هذا المنتوج وهو من أصحاب الاحتياجات الخاصة. إنها قمّة الإنسانية والرؤية المتواضعة للأحداث والشعور بحاجة المواطن، أيّ مواطن للدعم والمساعدة. ومن منّا لا يتذكر رئيس وزراء السويد أولف بالما، الذي اغتالته يد الغدر والظلم في شباط 1986 وهو خارج من دار السينما بصحبة زوجته مثل باقي المواطنين من دون حمايات ولا سيارات ولا حاشية. وهل ننسى المناضل نيسلون مانديلا الذي رفض أموالاً مقابل نضاله، وقد عبّر ذلك بكلماته المضيئة " إذا قبضتُ ثمنًا لنضالي، أتحول من مناضل إلى مرتزق". أو رئيس وزراء سنغتفورة الحديثة لي كوان يو، الذي اختار خدمة شعبه ووطنه، ونقلَ بلاده إلى مصاف أفضل عشر دول اقتصادية في العالم، بتجنّبه خيارًا ممجوجًا آخر كان من الممكن أن يدخله وأسرتَه في تاريخ أغنياء العالم بترك شعبه في العراء وبلاده ترزح تحت نير الفقر والتخلّف، لكنه اختار الخيار الأول. هكذا هم الزعماء العظماء!
كيف لنا أن نقارن هؤلاء بما لدينا من بعض زعامات ورئاسات وأرباب السلطة. لا أقصد النزيهين والمفعمين بحب الوطن وشعبه، ممّن يعرفون أنفسَهم، ولا يتباهون مثل أندادهم الذين يحلّلون المحرَّم ويتجنبون المحلَّل والرزق الحلال الذي توصي به أديانُ السماء وينصحُ به الرجالُ التقاة المتعفّفون، عملاً بوصايا الله الحسنة. فشتان ما بين أولئك وما لدينا من النماذج الفاسدة في أيامنا هذه. فبعضُ زعاماتنا، أستميحهم عذرًا، مثال صارخٌ للبذخ والإسراف في كلّ شيء، والخروج عن وصايا السماء والأئمة الأطهار والأنباء الأصفياء والمتعففين من القديسين وطيبي النيات. إنّما بعض زعاماتنا، تقبل النهبَ من المال العام وتعدُّه حلالًا زلالًا عليهم طالما هُم في السلطة. فهذه الأخيرة، بحسب قناعتهم القاصرة، تفوّضُهم التصرّف الحرّ غير المحدَّد بالمال العام وبثروات البلاد والعباد عبر التلاعب بمقدرات الدولة والحصول على المقاولات والعقود لهم ولزبانيتهم من التابعين لهم من دون وجه حق. أليس الصراع بعدم التمكن من إقرار ميزانية 2018 يدخل ضمن هذه الممارسات؟
السلطة لدى بعض زعاماتنا ناقصةِ الرؤية وعديمةِ الخجل والحياء، تتيح لهم أشكالَ التباهي والتعالي بالمناصب وما يمكن أن تأتي به من إيغال في أنواع السلوكيات اليومية غير النزيهة التي تشمئزّ منها النفس البشرية، وكذا في أشكال الفساد الذي تنهى عنه الشرائع الدينية وترفضه القوانين الوضعية وتدينه المجتمعات الإنسانية. فعندما يقبل مسؤول في الدولة، في أية مرتبة أو منصب، أن يكون متعاليًا ومترفعًا عن المواطن الذي ائتمنه عندما قصد صندوق الاقتراع وتجشم عناء الانتخاب ليساعد في تشكيل حكومة تعنى به وبأمثاله وتعالج مطالبَه وتنظر في احتياجاته، فهذا قمّة الدناءة وعينُ الإسفاف والاحتقار الموجَّه نحو عامة الشعب الذي هو مصدر السلطات. ومن ثمّ، فالتخويل الذي منحه صاحب الصوت لهذا المسؤول الذي ارتقى المنصب والذي لولاه لما بلغه، ينقلبُ عليه غضبًا وبغضًا وشجبًا للتصرفات والسلوكيات الشاذة غير المبررة التي اتخذها هذا الزعيم أو هذا المسؤول أو هذا الحزب أو هذه الجهة وهي في سدّة الحكم الجائر.
للأسف، من عادة الشرقيين أن يبجلوا قادتهم ويصفقوا لزعمائهم، حتى لو كانوا من الفاسدين ومن أصحاب السوابق ومن الفاشلين، لأسباب عديدة، منها عدم نضوج الثقافات لدى الكثيرين منهم، وقصر النظر في رؤية الأشياء، وضعف الحكم على نوعية البشر، والخوف القاتل في النفوس الضعيفة، والخجل من قول كلمة الحق، والأعراف العشائرية المتخلفة التي تحدّ من الاعتراض على أرباب السلطة، وأخيرًا وليس آخرًا بسبب طبيعة المجتمع الشرقي الذي يحبّ الأقوياء ويصفّق للجلاّدين ويرحب بالفاسدين رغم إدراكه أحيانًا للخطأ الذي هو واقعٌ فيه. وليس أكثر مرارة وعلقمًا أن نرى شرائح من مجتمعاتنا تعيش الفقر والفاقة والمرض وتقطن العشوائيات وبيوت التنك والطين والكرفانات، وهي راضية أن ترى طبقة مترعة تعيش في عالم آخر، تسكن القصور المترامية والبيوت العامرة والسيارات الفارهة، وتتمتع بأطيب الأطعمة في مطاعم العواصم الكثيرة التي يتهافتون عليها، وتشتري أرقى النستلات والمشروبات التي تبحث عنها في تلك البلدان. وإنّي هنا، لا أجد تبريرًا لسكوت المواطن السوي الذي يتفرّج على هذه السلوكيات صاغرًا وقد فقد كرامتَه واحترامه وصحتَه، ثمّ ليأتي ويعيد ذاتَ الخطأ في كلّ دورة انتخابية؟
إنّ الوطنية الصحيحة كما الديانة الحقة والمبادئ الإنسانية الأساسية لا تفرض على المرؤوس أنواعًا من الخنوع والخضوع والانبطاح أمام الزعيم والرئيس والمسؤول غير النزيه، مهما سما هذا في منصبه وعلا في قدره. فالمسألة تكمن في أساس الحياة التي حباها الخالق لبني البشر وبأهدافها ووسائل العيش فيها عبر سلّة متكاملة بين الرئيس والمرؤوس على اساس الاحترام والمساواة وصون الكرامة، وفق قانون الطبيعة الذي يرسم العلاقة المتبادلة الصحيحة بين الاثنين. وهذا جزءٌ أساسٌ من حقوق المواطن في أيّ بلدٍ يقيّمُ مثل هذه العلاقة بين الشعب والسلطة من دون أن يخنق الشوك والحسك ما تبقى من ورود وأزهار البلاد.
قالها الصحابي أبو ذر الغفاري: "كان الناس ورداً بلا شوك، فأمسوا شوكاً بلا ورد."



209
دور النخبة في بناء الدولة المدنية
لويس إقليمس
بغداد، في 5 كانون ثاني 2018
لم يتمكن قطار الدولة العراقية أن يصل بعد إلى محطة الأمان والاستقرار والبناء وإعادة نسيجه الاجتماعي المتفكّك، بالرغم من الإعلان الرسميّ "غير الواقعيّ" لانتهاء العمليات العسكرية ضدّ تنظيم داعش الإرهابي. فالفكر الداعشي التكفيريّ بشتى وسائله ما زال يعشعش في بنية الدولة ومؤسساتها وخدماتها العامة والخاصة بأشكال وطرق شتى. وهو سيظلّ كذلك، ما لم يتمّ تخليص البلاد والعباد من شلّة الفاسدين وداعميهم، وكذلك فك القيود من مسألة شرعنة مبدأ المحاصصة الذي أضحى قانونًا بحدّ ذاته، يصعب على الشرفاء والوطنيين الغيارى اختراقه ودحره وفرض سلطة الدولة والقانون كي يحظى كلّ ذي حق بحقوقه وينال ما يستحقه من امتياز مواطنيّ، ليس منّة بل كحقّ من حقوقه المشروعة التي تفرضها مواطنتُه وكفاءتُه وجدارتُه. وقد صدق دولة رئيس الوزراء حيدر العبادي بتحذيره من عودة داعش في حالة عدم القضاء على اصول الفساد وتجفيف منابعه.
في الوقت الذي يقترب فيه العراقيون من استحقاق انتخابيّ في مطلع أيار القادم والذي قد يكون مفترقًا للطريق الفاصل في حياة الشعب والدولة، لا بدّ من مراجعة ذاتية تقوم بها كلّ الفصائل الوطنية والنخب المثقفة للتعريف بمخاطر بقاء ذات الوجوه الفاسدة التي نهبت وسلبت وأرعبت وأخّرت تقدّم البلاد بوسائل لا تُحصى ولا تُعدّ، وجلبت الوبال والدمار والتفكّك وساهمت في تراجع بناء الوطن الواحد وفي فتح جراحات كثيرة ومتنوعة. هذا هو الوقت الصعب لتقرير مصير البلاد: إمّا بناء دولة مدنية قوية متماسكة بعيدة عن الطائفية وعن صراعات المنطقة ومشاكلها وغير تابعة لهذه الجهة أو هذا المعسكر أو هذا التحالف أو تلك الدولة، أو قراءة الفاتحة على شيء اسمُه "وطن" و "مواطن" و"وطني". لذا على الأحزاب الوليدة النابعة من خضمّ الخبرات المتكونة منذ السقوط في 2003 وتلك المحتكمة إلى سلطة القانون والمؤمنة بسيادة الدولة وليس العشيرة والحزب والدين والطائفة، أن تتصرف وفق السلوك الذي يمليه عليها واجبُها الوطني والأخلاقي والحضاريّ والإنسانيّ معًا، عبر تحالفات صادقة ذات بُعد وطنيّ بنّاء ممّن تحمل في جعبتها مشروعًا صالحًا للبناء والتطوير والإصلاح والتغيير نحو الأفضل. فالفرصة أمامها مفتوحة لإحداث التغيير المرتقب، بعد الذي جرعه الشعب والوطن والمجتمع من وجوه القتامة والشؤم والغفلة.
هنا يأتي دور التيارات الوطنية والنخب المثقفة، والعلمانية "المستقلّة" منها على وجه الخصوص، تلك المؤمنة بدولة مدنية لا تخلو من بذور التقوى والرحمة والمحبة والخير والعدل والمساواة والصلاح، وليس بدولة دينية طائفية تتستر على الفساد وتحمي الفاسدين، كما هي الحال قائمة منذ التغيير مثار الجدل في 2003. وعلى هذه القوى المتصاعدة أن ترفع صوتها عاليًا وتتجرّأ بتحذير الشعب وطبقاته الفقيرة المجروحة بخاصة، من الوقوع في حبائل وفخاخ ذات الجهات الدينية الطائفية والحزبية التي استغفلت عامة الشعب باسم الدين وسرقت ثروات البلاد في عز الليل والنهار (باسم الدين باكونا الحرامية) وطيّرت فرحة الأكباد والعباد وكمّمت وجه البنات والسيدات، تمامًا كما أثبتت فشلَها في تمثيل الشعب وفي بناء الوطن وتقديم الخدمات وفي مسيرة تطوير البلاد وتأمين سلامة المواطن وصيانة شرفه وعرضه وأمواله وحرية تعبيره وتنقله وحقه في حياة حرة كريمة. فحالة الإحباط القائمة والمتزايدة يومًا بعد آخر بسبب سوءِ أداء السلطات الثلاث، وفشلها بتحقيق تحوّلات هامة على كافة الأصعدة وكذا في الإصلاح، أصبحت حالة يومية تتشابك مع أحداث الساعة، وفق متغيّرات الشارع الثائر الساخن، الذي مازال أسير الكتل الاسمنتية والسيطرات غير الناضجة منتفية الحاجة التي لا ترحم، وكذا بسبب الأحداث السياسية والتفاعلات البينية والعلائقية بين الكتل السياسية والزعامات وأجندات كلٍّ منها، وما شهدته هذه مؤخرًا من تشظيات وانقسامات واتهامات. والخشية من كلّ هذا الحراك التشظوي في هذه الأخيرة وفي اتساع كمّ الأحزاب على الساحة السياسية، أن تكون ضمن لعبة سياسية تجيدها أحزاب السلطة لتغيير الوجوه والمسمّيات والبقاء في دارة السلطة والواجهة من جديد، ولكن بتسميات جديدة ووجوه تتلاعب بمشاعر الناخب الحائر. فالجميع يشجب ويندّد ويستنكر الفساد ويدعو لمحاسبة الفاسدين، ولم نعد نعرف الفاسدَ من البريء. ألعلَّهُ الشعب المسكين الجاثم في بيوت التنك أو أفراد العائلات التي تنبش القمامة لتحصل على ما يسدّ الرمق اليوميّ أم أصحاب البسطات والأكشاك الذين احتاروا في كيفية اللهاث وراء أرزاقهم المتراجعة؟
من جانبٍ آخر، ما يمكن تسميتُه بالعجز القائم في السلطة التنفيذية في التصدّي للانفلات المتواصل في الشارع وإصابة الأهداف المتورطة في أعمال خطف وسطو وقتل وتهديد وما شاكلها، تشكّل اليوم تحديًا آخر يُضاف إلى نصاب المشاكل القائمة بين الأطراف الحاكمة، المشاركة منها والمعارضة، ومن تلك المتهاونة فيها في رصد الجرائم ومتابعة سلوكيات فاعليها والواقفين لها دعمًا وسندًا وتشجيعًا وتستّرًا على فاعليها على السواء. وهذا ينمّ بالتأكيد عن الضعف في مواجهة الحدث الجرميّ والفشل في تقديم الحلول الناجعة التي ينتظرها المواطن البسيط من الدولة، لا يقلّ في أهميته عن الفشل القائم في تحسين الخدمات وسدّ الثغرات الاقتصادية والمالية وبتر منافذ الفساد وأدواته. تواصلُ هذه السمة الفوضوية في الإدارة، التنفيذية منها والتشريعية والقضائية، تفضي إلى نتيجة صائبة وهي غياب الرؤية السيادية وعدم وجود استراتيجية للتخطيط في البلاد، السياسية منها والإدارية والاقتصادية والمالية والعلمية وحتى المجتمعية التي أضحت فريسة للحكم العشائري وأصحاب الميليشيات المتنفذة في بعض المناطق والأوساط، ما يُبعد الدولة عن تطبيق مبدأ القضاء العادل بحق المخالف والخارج عن القانون وغير المنضبط من المنضوين تحت ألوية مسمّيات كثيرة لا حصرَ لها، بحيث ضاع الخيط ومعه العصفور، فأضحينا شبه دولة بلا قانون نافذ إلاّ في حبر الملفات. وتلكم حالة واضحة لا تحتاج لشرح تفصيليّ أو سند توثيقيّ.
ما يحصل على الساحة العراقية، قيام كانتونات وتنظيمات ومؤسسات أشبه بحكومات موازية للحكومة الرسمية، لها ميزانياتُها وسياساتُها التي تفرضُها على الحكومة بفضل ما تتمتع به من سطوة وباعٍ طويل في شبه الدولة الغائصة في بحورٍ من المشاكل التي لا حصرَ لها، كما أسلفنا. ولعلّ الحلّ الوحيد الذي بإمكانه انتشال شبه الدولة هذه وإيصالها إلى برّ دولة ذات سيادة واعتبارٍ دوليّ صحيح، تكمن بتعزيز نهج "السيادة الوطنية" على غيرها من السياسات والوصول بها إلى نتيجة قيام إدارة سياسية واضحة المعالم مستندة إلى شرعية الشعب وتتحمّل المسؤولية الوطنية بموجب تخويل حقيقي من الشعب والفعاليات المختلفة التي لها حق المشاركة في الحكم وإبداء الرأي والاعتراض ومراقبة الأداء الحكومي بكلّ جوانبه. وهذا يدعو إلى اعتماد مبدأ فصل السلطات الذي مازال يعاني من تداخلها ومن تسييس في أدائها وسياساتها لشتى الأسباب والأهداف التي تتقاطع مع طموحات التيارات الوطنية، المدنية منها بخاصّة والشعبية الرافضة التي ترفع صوتَها، ولكن ما من مجيب إلاّ على خجل. من هنا، نجد أنه لا بدّ من رفع مثل هذا الغموض في هذا التداخل غير الحضاريّ والناقص للشفافية في اعتماد مبدأ المساواة وتحقيق العدالة في صفوف العامة والحفنة الخاصة التي استقطبت وسيطرت على مقاليد السلطة وثروات البلاد، وهي بمعظمها غير أهلٍ لها.
أمّا ما تعانيه البلاد من أزمة مالية واقتصادية وديون بسبب سياسة الاقتراض التي لم تتوقف، فمردُّها بالتأكيد، سوء التخطيط والإهمال والتقصير وتفضيل المصالح الفئوية والطائفية على العامة والوطنية والفشل في إقرار استراتيجيات بعيدة المدى، واستنزاف الاحتياطيّ من أموال البلاد في مزاد صرف العملة المتزايد يومًا بعد آخر، بحيث كادت المبيعات تزيد عن الواردات الريعية في بعض الأحيان. هذه الأزمة الاقتصادية شكّلت بالأمس وما تزال تشكل اليوم تحديًا كبيرًا شائكًا في خاصرة الوطن وأبنائه ومستقبل الأجيال التي ستبقى دائنة لسنوات وأسيرةَ للدول المقرضة وشروطها. وهي إن دلّت على شيء، إنّما هي عنوانٌ آخر على سوء الإدارة وضعف القيادة وغياب الاتساق في الجدارة والأهلية وعدم وضع الأشخاص المناسبين من "النخب" من أصحاب الخبرات الرائدة وليس من "حفنات" من الموظفين والمسؤولين من ناقصي الخبرة والرؤية الوطنية والبعد الاستراتيجي في وضع السياسات الناجعة. حتى النزيهون المتبقون في بعضٍ من مفاصل الدولة المتهالكة، يواجهون جبالاً من الصعوبات في تأدية الواجب الوظيفي والوطنيّ، بسبب صراع الإرادات الحزبية والطائفية والعرقية في التشريع وفي اعتلاء المناصب وفي اتخاذ القرارات وفي التنفيذ على السواء. والدليل على وجود تخبّط في معظم أجهزة الدولة، يتمثل بالفشل في تقديم أجوبة أو مقترحات حلولٍ تسهم في ردع المقصّر ومحاسبة الفاسد، وفي توجيه سياسة الدولة نحو برّ الأمان بحيث ينتصر الحق على الباطل، ويسود العدل بدل الظلم، ويُردعُ الفسادُ وصاحبُه وفق القوانين وعدالة السماء، إذا ما اقتضت الضرورة من دون تقاعس. وهذا ما ليس قائمًا في أوساط حكومتنا وسياسيينا وزعاماتنا، لسبب بسيط وهو تعارض محاسبة الفاسد مع منهج التوافق الذي تحميه أطراف سياسية متنفذة في السلطات الثلاث، بحيث أصبح التوافق والتقاسم والتحاصص سمة الحياة السياسية، بل وفوق القانون والدستور.
من هنا، سيبقى مشروع الإصلاح الحقيقي في بنية الدولة، حكومةً ومؤسساتٍ وقوانين، مجرّد أقوال منثورة وشيئًا من الدعاية الشخصية والحزبية مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الساخن، ما يستلزم شنَّ حملة حقيقية هادئة ومركزة، حكومية وشعبية، لا تخلو من الجرأة والأمانة والمصداقية بهدف اجتثاث مكامن الفساد ومحاسبة الفاسدين واسترجاع الأموال المنهوبة ظلمًا وقسرًا وصولاً لإدارة رشيدة لمؤسسات الدولة تكفل خدمة المواطن وتطوير البلاد وانتشالها من براثن الدخلاء عن الوطن والوطنية والبعيدين عن أحاسيس العباد وحاجاتهم ومتطلبات حياتهم الآدمية. فلا خير في إصلاحٍ لا يجدُ المواطنُ النزيهُ والمستقلّ والكفوء فيه مكانةً في إدارة البلاد وفي تطبيق الوسائل الفضلى في تسيير دفة الاقتصاد وصيانة الأمانة في الحريات العامة واستخدام ثروات البلاد في البناء الصحيح وفي تحقيق الرفاهية وتسارع الخدمات وصولاً إلى مصاف الدول المتقدّمة التي تعرف كيف تحترم الآدميين لديها وتحاسب لصوص النهار وسرّاق الليل بداعي المواطنة الحقيقية المفقودة في بلدٍ كالعراق. فقد اتضح بما لا يقبل الشك، أنّ فقدان البلاد جلَّ مؤسساتها الأساسية والبنيوية سببه الأساس سمة الفساد والمفسدين التي أضحت متلازمة في حياة الساسة الطارئين وذيولهم من المنتفعين والمنتشرين في كلّ مفاصل الدولة ومؤسساتها كجزء مهمٍ ضمن جيوش الموظفين العاطلين الذين باتوا يرهقون ميزانية الدولة ويقفون حجر عثرة أمام أيّ إنجاز أو مشروع للإصلاح والتطوير. ومثل هذا الإصلاح يتطلب فعلاً حقيقيًا وجهدًا مضاعفًا على الأرض كي لا يبقى حبرًا على ورق أو مجرّد دعاية لغرض في نفس عيسو.


210
نحو عالم أكثر اعتدالاً وحكمة ورحمة
لويس إقليمس
بغداد، في 8 كانون ثاني 2018
في سابقة فريدة، بادرت قيادات دينية إسلامية محلية وإقليمية ودولية بارزة، بكسر قاعدة تحريم تهنئة غير المسلمين، ومنهم المسيحيين (النصارى بحسب كتابهم) أو التشبه بالاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم، بحسب دعوات بهذا الخصوص، ومنها دعوات حديثة العهد.
ما ورد في رسالة التهنئة لمناسبة أعياد الميلاد، التي بعث بها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، مخاطبًا البابا فرنسيس بابا الفاتيكان والمسيحيين في العالم ينبئ بفتح صفحة، بل صفحات جديدة تدعو إلى احترام الغير المختلف في الدين أو المذهب أو اللون. فمثل هذه الخطوة المتقدمة في الرؤية السديدة والنظرة الثاقبة الواقعية إلى الحياة وإلى مستجدات الأوضاع، من شأنها "ترسيخ فلسفة العيش المشترك بين الناس، وإحياء منهج الحوار، واحترام عقائد الآخرين، ونشر ثقافة التسامح والسلام، وتنقية الأديان مما علق بها من فهوم مغلوطة، وتديّن كاذب يؤجج الصراع ويبث الكراهية ويبعث على العنف"، بحسب الرسالة المنشورة والتي تستحقُ كلّ تقدير وإعجاب وتشجيع. وهي أيضًا تَعِدُ بالأمل بغدٍ أفضل بين الأديان والشعوب. كما أنّ إشادة شيخ الأزهر الموقر بجهود بابا الفاتيكان من أجل "إيقاظ الضمير الإنساني لرفع المعاناة عن الفقراء والبؤساء والمستضعفين في العالم، ودعاءَه كي ينعم الله على البشرية جمعاء بنعمتي الأمن والسلام "، دليلٌ ملموس واعتراف منه شخصيًا، ومن مشيخته دينيًا ممثلاً عن شرائح كبيرة من أتباعه، بما تقوم به الرئاسة المسيحية التي يمثلها رأس الكنيسة الكاثوليكية التي تضمّ غالبية أتباع المسيحية في العالم، والتي تشترك مع أتباع كنائس شقيقة غيرها في نشر ثقافة السلام والحوار والتفاهم والدعوة إلى احترام الآخر المختلف ضمن مبادئ الرجاء والمحبة ووفقًا لإيمان ومعتقدات كلّ طرف.
إنّ احترام الإسلام والمسلمين من المؤمنين والقابلين بوعد الله من عباده الصادقين من غير "المكلّسين" والمبَطَّنين بنيران الحقد والكراهية والفتنة، يُعدّ لهم هذا من "أعمال البر"، وتواصلاً مع الرسالة المحمدية المكمّلة لرسالة المسيح (عيسى) بحسب آراء علمائهم وفقهائهم. فقد ورد اسم المسيح (عيسى) في خمسة وعشرين آية قرآنية، ومنها هذه الاية: "إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ..." (سورة النساء،171). فيما يرى آخرون أنّ مثل هذه العلامة هي "أبلغُ ردٍّ على مثيري الفتن" والمتصيّدين بالماء العكر من ضعاف النفوس ومن المفسدين في الحياة من الذين لا همّ لهم سوى تكفير الآخر من خلال نفث السموم في خطابات تحريضية، جلّ فحواها وقوامها نقل صورة خاطئة عن المبادئ التي يحتكمون إليها بحسب تأويلات وتفاسير خاطئة أو تلك التي عفا عليها الزمن. فهذه، إنْ كانت صالحة في ظرف زماني ومكانيّ معيّن، فهي لم تعدْ كذلك في الزمن الراهن لأسباب كثيرة حتّمتها الحاجة لخلق أجواء إيجابية من العيش المشترك والتآزر والتآخي والجهاد الصالح والبحث عن طرق ووسائل جديدة ومبتكرة في محبة الله والتقرّب من رحمته اللامتناهية ومن خلقه الذين منحهم نفحة الحياة وجعلهم في خانة حُسنِه وجمال صورته واحترامه.
سوف لن أتطرّق إلى احتفالات أعياد الميلاد وبدء السنة الميلادية الجديدة في أنحاء العالم، بل سأقتصر في وصفي وتقديري الإيجابي على بلدنا الجريح، عراق الخير والحضارات والتسامح والعيش التقليدي المشترك. فالكرنفالات الكثيرة المتميزة التي عشناها منذ يوم تحرير المدن والبلدات السليبة التي عاث بها طغيان "دولة الخرافة" لأكثر من ثلاث سنوات، وما لحقها من انتصارات هذا العام بحيث قوّضت ودحرت قدرات التنظيم الإرهابي الهائلة، كانت تلك بالتأكيد من علامات الزمن الحاضر، زمن التعايش وعودة اللحمة الوطنية وصحوة الضمائر الميتة أو النائمة التي انتفضت مؤخرًا مطالبة بالقضاء على كلّ أشكال الفساد المستشري في مفاصل الدولة ودوائرها، كما في الشارع وفي السوق وفي المنازل وفي بيوت الله من دون تمييز ولا استثناء، وبمحاسبة الفاسدين والمفسدين.
أليس فخرًا ونصرًا وطنيًا أن تشهد مدينة كربلاء المقدسة ولأول مرّة، نصب أكبر شجرة ميلاد في أحد المنتجعات بطول ثمانية أمتار مزيّنة بزينة جميلة جذبت الأنظار، تضامنًا مع الشركاء في الوطن من المسيحيين؟ وهذه كانت مناسبة أخرى، لتحفيز الجهات ذات العلاقة بالتراث والآثار في المدينة، كي يُثار موضوع إعادة النظر بالآثار المسيحية التي تغطّي معظم أراضي ومواقع هذه المنطقة المهمة التي كانت قبل قرون خلت من مآثر البلاد، تشعُّ بأنوار المسيحية وبإمارة خاصة بها في الحيرة من آل المنذر، ومنها "كنيسة الأقيصر" التي لا تزال آثارها باقية دليلاً على وجود مسيحيّ راسخ في المنطقة. 
موقف مماثل من المستشار الخاص للرئاسة الإيرانية بشخص السيد علي يونسي، في رسالة تهنئة الميلاد الموجهة إلى رأس الكنيسة الكلدانية، وفيها كلمات مفعمة بالأمل والرجاء والمحبة التي أتى بها مولود مغارة بيت لحم، هديةً إلى العالم أجمع، والتي جاء فيها: "عالم اليوم متعطش الى التفاهم والصلح والسلام والاعتدال والعقلانية، وإن أساس هذه المفاهيم هو في الأديان التوحيدية المبنية على كرامة الانسان والعدالة الاجتماعية... الاعتقاد بكرامة الانسان هو أساس احترام حقوق الانسان والانسجام بين الشعوب." وخلص للقول: "إن رسالة كافة الاديان التوحيدية هي أن نواجه العنف والتعاليم الشيطانية بالتفاهم والمداراة والمروة. تعليم الاديان السماوية هو أن نقبل الاخر ونسعى للعيش بالسلام والمحبة، وللوصول الى هذا الهدف، علينا أن نشجع الحوار بين الأديان لكي نبتعد عن التطرف وكل أنواع العنف."
في طيات هذه الرسالة، نقرأ  ما يصبو إليه كلّ ذوي الإرادة الطيبة والنوايا الصالحة المتطلعة نحو بناء الإنسان وتقويم الفكر وتعزيز النسيج الاجتماعي بين المجتمعات على اختلاف أديانها ومعتقداتها وأعراقها. هكذا تُبنى الحياة وتُعاش في تفاصيلها وألوانها وواقعها من دون الهروب ممّا تتطلبه حياة البشرية، كلّ ضمن المحيط الذي تتواجد فيه وتعيشُه.
مثل هذا التعاطف المتميز في أعياد المسيحيين وما رافقه من كرنفالات السنة الجديدة، تشيرُ حتمًا إلى الحاجة بانتقال البلاد وأهلها من واقع الفساد والتخلّف والإحباط إلى حالة مغايرة من الصلاح والتطوّر والتشجيع والتحفيز نحو الأفضل في كلّ مناحي الحياة، الاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدمية وحتى الشخصية من خلال التحاور وامتزاج الآراء والتفاهم بالمودة والرحمة التي تؤمن بها الأديان التوحيدية جميعًا على السواء. من هنا، يكون ميلاد المسيح "عيدًا للرجاء، وبه نقبل البشرى السارة لمحبة الله لنا"، مهما اختلفت أديانُنا وتنوعت التفاسير والتأويلات.
وهذا دليلٌ على أنّ ما هو مشترك بين شركاء الوطن والمجتمعات الشرقية بالذات، أكثر بكثير ممّا يفرّق. وعلى ضوء هذا المفهوم، تتعزّز الشراكة ويترسخ أساس العيش المشترك الذي يبني السلم الأهلي ويؤسّس لبناء مجتمع مدني متسامح، منفتح، متكاتف، متآزر، ينتخي في السرّاء والضرّاء. 
أمّا الردّ المسيحي، فقد أفصح عنه البطريرك لويس ساكو، رأس الكنيسة الكلدانية التي تشكّل غالبية المسيحيين في البلاد، في كلمة بمناسبة حلول العام الميلادي الجديد 2018، يوم الإثنين 1 كانون الثاني: "إنّ ما لمسناه نحن ‏المسيحيين، في أعياد رأس السنة من التعاطف معنا، بعد كل الذي أوجعَنا، جاء معزيًا ومشجعًا وشاحنًا للآمال ورافضًا للتيارات المتطرفة التي تُكَفِّر المسيحي والصابئي واليزيدي، مستهدفة إفراغ البلد منهم". ‏وهو يشارك سواه من المهنّئين ومن المحتفلين من أشقائه أتباع الكنائس الشقيقة الأخرى في بلده ومن خارجه، بحقيقة ضرورة العودة إلى الفكر المنفتح الذي يقبل بالآخَر المختلف عنه في الدين والعقيدة والعرق، والحالم ببناء نظام مدني معتدل يحترم القيم الانسانية والدينية، ويتعامل مع المواطنين كافة على قاعدة المساواة والشراكة في الوطن، وليس وفق أشكال أخرى تفرّق وتميّز في نوعية المواطنة وفي الانتماء للأرض التي هي ملك الجميع وللجميع. ومثل هذا الأمل والطموح الواقعي لن يكون قابل التحقيق إلاّ بخطوات جادّة وصريحة وشجاعة، وبتنازلات حقيقية لصالح مصلحة الوطن العليا، ومنها: "تجريم الخطاب الديني التحريضي، وتنقية المناهج الدراسية من كل ما يزرع الفتنة ويحث على العنف ويفتت النسيج الوطني، والقضاء على آفة الفساد المستشري"، وفقًا لدستورٍ عادل وقوانين مجتمعية لا تخرج عن الأطر الإنسانية التي وردت في شرعة حقوق الإنسان التي حظيت باهتمام وموافقة جميع بلدان العالم. وهي ذات التعاليم والآمال التي لا تخرج عن صميم تعاليم الأديان التوحيدية، السماوية منها وغير السماوية في موضوع الرحمة والألفة والمحبة بين الأمم والشعوب.
ليكن العام الجديد 2018، أجدى من سابقه في زرع الألفة والمحبة والتفاهم بين الأمم والشعوب عبر الحوار وتبادل الرأي والانفتاح على الآخر المختلف. وفي العراق، بعد أن تحطمت شوكة الفتنة الكبيرة للتنظيم الإرهابي المسلح الذي فتك العرض وجفّف الضرع وكسّر الحجر وفتّت البشر بلا رحمة، ننتظر الإعلان الحقيقيّ للنصر المؤزّر بإعمار البلاد والعباد معًا، بنية تحتية وفكرًا وطنيًا ونسيجًا اجتماعيًا، تماهيًا مع سابق عهده المزدهر وانتماءً لحضارته وإرثه وعظمته التاريخية. أمّا الانتصارات الكبيرة التي حققتها الأجهزة الأمنية الوطنية والشعبية المتعاونة مع جهد الدولة، فهي عنوان آخر لأملٍ ببداية حقبة وطنية جديدة تؤسس لبناء دولة مدنية قوية متقدمة، تأخذ في الاعتبار قبل كلّ شيء، بذل المساعي لعودة النازحين والمهجَّرين إلى ديارهم. كما ينبغي أن تصاحب هذه الجهود، حملة وطنية جادة لإعمار البلدات والمدن التي أصابها الخراب والدمار من جراء العمليات العسكرية المدمّرة، وإعادة الخدمات الآدمية والإنسانية والبلدية إلى حالتها الطبيعية، ونشر الوعي المجتمعيّ الجامع، وترسيخ الوحدة الوطنية، وإشاعة مبدأ التسامح، وانتهاج الفكر المعتدل المنفتح الذي يبني ولا يدمّر، يوحّد ولا يفرّق، يعدلُ ولا يميّز.

211
على أشكالهم يولّى عليهم
لويس إقليمس
بغداد، في 12تشرين ثاني 2017
كان ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني، من بين الشخصيات السياسية البريطانية التي نالت القسط الأوفر من الاهتمام في تاريخ بريطانيا السياسي والاقتصادي، في ضوء دوره المتميّز بتعزيز المقاومة البريطانية ضد الخطر النازيّ حتى تحقيق النصر. وهذا ما أكسبه زخمًا وصيتًا دوليين على مرّ السنين. فكانت كلماتُه وخطاباتُه أشبه بالحِكَم في توجيه عقول العامة والخاصّة بفضل إدارته الواقعية لشؤون البلاد والمواطن. والكثير من المقولات التي نُقلت عنه، ماتزال رائجة بسبب جدّيتها وواقعيتها، ومنها مقولتُه الرائعة:"كلشعبفيالعالمينالالحكومةالتييستحقها". ومن وجهة نظره أيضًا، أنّ برلمان الشعب وتشكيلتَه يعكسان صورةَ طبيعةِ الشعب الذي يختاره وشخصيتَه، ومن خلاله يمكن الحكم على ذلك الشعب، إنٍ كان يستحق الأفضل أم بعكسه. ومعروف عن تشرشل استعداده للتحالف، حتى مع الشيطان من أجل مصلحة بلاده. وهذا ما أكسبه قيمة وطنية مضافة إلى سجلّه السياسي والاقتصاديّ الحافل بالانتصارات والتفوّق على غيره من سياسيّي عصره ولغاية اليوم.
حالُ الدول والأمم، تفوّقُها وتراجعُها، فوزُها وخسارتُها، تقدّمُها وتأخرُها، منوطة بطبيعة شعوبها ونوعيتها وأسلوب تفكيرها وسلوك السياسيّين وممثلي الشعب فيها على السواء. فإنْ ارتفع هؤلاء وارتقوا في سلّم الفضيلة والنزاهة والتطور ومخافة الله في ممثليهم، كانت شعوبُهم من أجلّ شعوب الأرض وأكثرها سعادة وتقدمًا وأقربها إلى ربّ العالمين علمًا وصناعة وفضيلة ومحبة ورحمة. وإنْ هبطت بهم الأخلاقُ وزاغوا عن طريق الحق، واستأثروا بالسلطة هدفًا، واستهتروا بحقوق ممثليهم واستغلّوا بساطتَهم في فرض القوانين التي لا تسايرُ تطور المجتمعات وبثروات بلادهم التي هي ملك الشعب وليس السلطة، فإنّهم قصدوا بذلك طريق الضلالة، ولهم عند رب لعلمين يوم القيامة حسابٌ عسيرٌ. تلكم بعضٌ ممّا ننتصح به في الأديان السمحة وما تعلّمناه من أبجدياتٍ في الحياة الإنسانية التي تولي قيمةً عليا للإنسان وترتفع به نحو الفضيلة كونه صورة الله الجميلة في الأرض، وكونه أيضًا، من أرفع الكائنات ممّا هو قائم على الأرض بعد الخالق.
الحياة تتطوّر نحو الأمام، ولا يمكن أن تتراجع إلى الوراء. ف"مَن وضع يدَه على المحراث، لا ينظرُ إلى الوراء"، أي بمعنى أنه لا يمكنه التراجع حتى تحقيق حراثة كامل الأرض كي تأتي بثمار جمّة في موسم قادم. ومواسمُ البلدان لا يرسمُها ويخطّطُ لها ويُعدّها إلاّ الخيّرون وذوو الإرادة الطيبة وأصحابُ الأفكار المستنيرة الذين يرتبطُ مصيرَهم نظريًا وفعليًا، بمصير الوطن والشعب معًا، وموازاتهما بالإنسانية جمعاء. فالاثنان قاربُهما واحد، إنْ هزّته الرياح وقلّبَته الأمواجُ العاتية يمينًا ويسارًا بلا هوادة، فقدَ توازنَه ومال إلى الغرق. وتلكم نهايتُه القاتمة، فيخسرُ ما حصدَه في أيام العزّ والنضال والجهاد، ليذهبَ هباءً منثورًا.والأمثلة في التاريخين القديم والحديث المعاصر كثيرة ولسنا بصدد ذكر نماذجها العديدة. بل لنا منها من أفضل ما حصل حديثًا لأحد أهمّ مكونات الشعب في شمال الوطن، فأطاح بمقدّرات الشعب الكردي وأفقده مكاسبَ ناضلَ من أجلها عشرات السنين، بل أجيالاً.
المنطقة الشرق أوسطية منذ زمن، على كفّ عفريت، والعراق ليس استثناءً.هذه المنطقة بالذات، تتجاذبُها اليوم، أمواجٌ داخليةمنها عنيفة صاعقة لا تقبل المهادنة، وأخرىضعيفة مهزوزةتقارعُها مصالح وضعية لا تتعدى مرمى منافع ذات طابعيّ شخصانيّ أو فئوي محدود الرؤية والمفاعيل، أو غيرها دخيلة مدسوسة أو هجينة معتوهة. وجلُّ هذه التطورات الخائبة، لا تنطق باسم الخير والحق ولا تسير وفق الصراط المستقيم، وطنيًا وإنسانيًا ودينيًا ومجتمعيًا. وإنْ لم يدرك أربابُها والقيّمون عليها من الساسة والزعماء ما يُرتكب من عمق الشرّ والتشظّي والانقسام بفعل القوانين وإجراءات الجائرة البعيدة عن خطّ الإنسانية والحضارة والمدنية وإرساء سبل السلام العالمي، فالمنطقة ماضية فعليًا في سيرها القائم الحثيث نحو الهلاك والتشظّي والتحوّل نحو الأسوأ، بحسب الشواهد والوقائع والحقائق على الأرض. والسبب في كلّ هذا وذاك، ضعفُ الرؤية البعيدة لواقع الحال وتسمّرُ القائمين على حكم البلدان والشعوب في المنطقة بفكر قاصرٍ ونزعة منكفئةٍ على الذات ونظرة طائفية ضيقة غير قادرةٍ على استيعاب تطوّر الأحداث وآفاقها وتصوّر مستقبلها الذي ينبغي فيه ضمانُ مصلحة عليا تسمو فوق أيّ شيء، تُسمى بالمصلحة العليا للوطن والشعب والإنسانية. وهذا يتطلب قبل كلّ شيء إدراكٌبضرورة فصل الأشياء والوقائع عن بعضها، من حيث فصل اختصاصات السلطات وتمييزها وإعطاء كلٍّ منها ما تسحقُّه من مسلَّمات الحياة من دون خلطٍ ومزجٍ عشوائيين، إلاّ في التنسيق فيما بينها من أجل رفعة البلدان والشعوب المقيمة فيها وتقدّمها وتحقيق أرفع نتائج التلاحم مع هذه الأخيرة بضمان تلبية مطالبها الطبيعية وحقها بحياة آدمية تكفلُ للجميع حرية الرأي والمعتقد والتنقل والتملّك والاختيار الأمثل وليس بفرض إرادات طائفية ضيقة على الغير أو استفزازات إجرائية لمكوّن دون غيره. فالإنسان أينما حلّ وارتحل، يبقى كائنًا بشريًا يستحق كلّ أنواع الرفاهة والسعادة والخير، وليسهو من ثمّة، سلعة للمتاجرة أو بضاعة مستهلكة بأيدي السياسيين والحكّام والسلاطين الذين يستغلّون طيبتَه وخلفيّتَه الدينية وبساطتَه الشعبية متى ما شاء الأسياد والفقهاء من أجل تحقيق مكاسب شخصية وفئوية وحزبية وطائفية ضيقة في أغلب الأحيان.
في هذا السياق يأتي ما أُريد به مؤخرًا، من تعديل في قانون الأحوال الشخصية بالعراق، والمرقم 188 لسنة 1959م الذي صان أحوال جميع المكوّنات بنظرته الشاملة من خلال صيانته للطفولة وفق اتفاقية الطفل الدولية التي أقرّها العراق. فأبسطُ ما يمكن قوله في السائرين في طريق التعديلات الطائفية الجديدة بحسب الشرع الجعفري، أنهم ماضون فيتأصيل الفكر الطائفي في البلاد وتقسيم المجتمع العراقيمن خلال إضعافهمللهوية الوطنية الجامعة لكلّ العراقيين، التي حافظ عليها قانونالأحوالالشخصيةرقم 188 لسنة 1959، مستبعدًا التشبث بالهويات الفرعية الجزئية التي لا يمكنها الحفاظ على مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون، كماينص عليه الدستورالعراقي. وإنْ حصلت الكارثة وتمت المصادقة على هذه التعديلات، فعلينا أن نترقب عودة قادمة مؤلمة وكارثية تعيد العراق وشعبَه إلى حظيرة البلدان المتخلفة، أكثر ممّا هو عليه اليوم،لنعيش خارج المسارات المتحضّرة للإنسانية. أي أننا، سنسجل انتكاسة إنسانية جديدة للبلاد والعباد، عبر الانتقاص مجتمعيًا وثقافيًا وحضاريًا وإنسانيًا من كلّ امرأة عراقية، لكون بنود هذه التعديلات المجحفة لا تحفظ للمرأة العراقية كرامتَها وحقّها في الاختيار الذي يجري اغتصابُه بهذا القانون الطائفي بامتياز، بحجة الدين والطائفة والشرع الذي ينظرُ إلى الزواج كونه عقداستمتاعوليسعقدزواج ورضا بين طرفين ناضجين. بل ستكون الطفلة القاصرة في ضوء هذ1ه التعديلات، سلعة ومتعة للبازار ولمَن له ومَن يدفع أكثر في مجتمع ذكوريّ يريد فرض السطوة واستغلال المرأة والقاصرات منهنّ بعبارة أدقّ، بعيدًا عن قيم الرحمة واحترام خيارات الطفولة. كما أن مثل هذه القوانين الطائفية التي يراد سنُّها، ستبقيهذه الإنسانة المظلومة عورة، في شكلها وحديثُها وعلمها ونشاطُها ومساهمتها في بناء الأسرة والوطنوالمجتمع. فأين منها وقول أحمد شوقي:
الأم مدرسة إذا أعددتها     أعددتَ شعبًا طيب الأعراق
أساس المشكلة في شعوب المنطقة الشرق أوسطية ومنها العربية والإسلامية، عدمُ إحكامِ العقل والرويّة في إدارة البلدان والمجتمعات، ذلك لأنها في مفرداتها الدينية والمجتمعية، لا تقرّ جوهريًا بحريّة الفرد والكائن البشريّ وبمنهج الديمقراطية والتطور الذي سادَ غيرها من المجتمعات الأخرى في العالم منهجًا إنسانيًا قائمًا. فمجتمعاتُنا كانت وما تزال منكفئة عقليًا ومنغلقة فكريًا وأسيرة الذات القبلية والطائفية والشرع القاصر والنهجٍ الحرفيّ في التفسير والتطبيق والتحليل والتعليل. فهناك مَن يريد حصر هذه المجتمعات بلون واحد، وهو يصرُّ عليه بالرغم من قتامته وبهاتته وخلوّه من الطعم والرائحة. وهذا الفكر الناقص كفيلٌ بإبقاء بلدان المنطقة مهزوزة، ضعيفة الشخصية، ركيكة العلم والمعرفة، لكونها تُدار من حفنة أو شلّة صلبة القوالب في تخلّفها، ناقصة الخبرة في تقييمها للأمور، وليس من نخبة ارتوت من العلم والمعرفة ووسائل الديمقراطية الصحيحة التي تكفل تداول السلطة والإتيان بالأشخاص المناسبين لقيادة البلدان وشعوبها على أساس المواطنة والكفاءة والرحمة وكلّ المعايير التي تتطلبُها الحياة بكافة تفصيلاتها وفروعها ودهاليزها، وليس وفق نصوص شريعة قديمة لم تعد مقبولة في عصر التقدم والرقيّ.
مع طيّ استذكارنا لأربعينية الإمام الحسين، نسأل بجدّية: هل هذا الذي يجري اليوم في مجتمعنا الذي يدّعي الالتزام الدّيني والأخلاقي، وفي بلدنا الغارق في الفساد بشتى أنواعه ونوافذه والذي أصبح قاعدة لا استثناءً، فيه لمساتٌ من ثورة الحسين الحقيقية ضدّ الظلم والاستبداد والفساد واستغلال الدولة والبشر من أجل مصالح ضيقة، شخصية وحزبية وطائفية؟ أليسَ هذا جزءًا بل بابًا مضافًا من سيادة رجال السياسة من الذين تجلببوا بغطاء الدين والمذهب والطائفة على عقول البسطاء من الأتباع الذين يهرولون مضطرين وراء هذه الفئات السلطوية بوعي أو بدونه بسبب حاجتهم إليهم جرّاء ضائقتهم الماديّة والاقتصادية التي تسبب بها مَن تولّوا أمرَهم؟
ولكن، تلكم سنّة شعوب المنطقة والبلدان التي تأبى التطوّر في الحياة، فكرًا وعقيدةً وإنسانيًا ومجتمعيًا. فهي تستحق مَن يولّى عليها من حكّام الفساد وانتهاب المال العام والسطوة غير المنضبطة على العامّة من البسطاء وبؤساء العصر، إنْ هي أبقت ذاتَها وفكرَها في حدود بوتقة القصور الذاتيّ. أليس ينطبق على المنطقة الحديث المنقول"كيفماتكونوايولّعليكم"؟فالشعبُ الذي يتحرّج أو يتردّد بالثورة والانتفاضة الشجاعة على الطغيان بأية حجة أو أعذار، يستحقّ ما يقع عليه من مثل هذا الظلم وإبقائه في بؤسه صاغرًا منبطحًا وتابعًا ذليلاً. ونموذج العراقيين خيرُ شاهدٍ. فهم يعيدون ذات النكبة وذات الخطيئة في كلّ دورة انتخابية لاختيار ممثليهم، حين عودتهم لإعادة لحس مؤخرات مرشحيهم الفاشلين الذين سرقوهم في عزّ النهار وتغوّلوا بغير حقّ على المليارات التي كان ينبغي أن تُصرف من أجل سعادة الإنسان العراقي وتحسين الخدمات البلدية في حيّه وبلدته، والترفيه عن حاله المتعبة حتى الانهيار وعدم المقدرة على إقاتة النفس الجائعة والسكن الآدمي الذي يستحقه.أليست هذه النزعة السلبية في حياة العراقيين، تعزّز من سمةالازدواجية في الشخصية،التي تحدّث عنها بإسهاب،عالم الاجتماع الوطنيّعلي الورديّ، ومَن يؤازره في الرأي والتحليل من علماء الاجتماع والسيكولوجيا؟
كلنا اليوم مسؤول عن إعادة الأمور إلى نصابها والذود عن الانتصارات المطّردة المتحققة ضد قواعد الإرهاب ومموليه وداعميه، ومؤازرة الحكومة في المكتسبات السياسية والاقتصادية المتنامية، والتي نتوقع منها المزيد في خانة الإصلاحات والكشف عن رموز الفساد ومحاسبتهم،والوقوف بوجه مَن يستغلّ بساطة البشر وفاقتَهم الحالية من أجل تحقيق منافع طائفية أو فئوية أو شخصية ضيقة الأفق تسيء إلى سمعة البلاد وشعب العراق العريق. وهذا هو السبيل الأمثل لرسم خريطة طريق جديدة للوطن والنهوض به وبمقدراته وفق أنجع السبل وأكثرها حضارة، كي نحافظ على ديمومة شعبٍ متجدّد التفاعل مع الأحداث وواضح الرؤية في التعامل مع احتراف السياسة والاقتصاد والاجتماع. وهنا فقط، يمكن قطع دابر مَن يسعى للولاية على الشعب المظلوم باستغلال ما أصابه من أحداث مؤلمة، ومن تخلّف مفروض عليه ومن رؤية قاصرة استغلُّتها إرادات ذكورية بحجة تطبيق مفاهيم فقهية طائفية لا تساير العصر والمنطق والعقل.
فهل "سيقع الفأس على الرأس" مرة أخرى، ويُلدغ العراقي من جحره ثالثة ورابعةً، ويولّي عليه ذات الشخوص الغائصة في الفساد والاستغلال السلبيّ للبسطاء من الشعب؟

212
عالَم بلا ألم ولا عنف؟ في المشمش!
لويس إقليمس
بغداد، في 25 آب 2017
"كلّ ما خلقه الله حسن وجميل"! هذا ما يراه أتباع الديانات التوحيدية عمومًا. فيما تعتقد الفلسفة البوذية بأّن الحياة مبنية على الألم، ولا شيء سواها. فإذا كان كلّ ما خلقه الله الجبّار الخالق حسنًا، فمِن أين أتى الشرّ؟ ولماذا انتشارُه الواسع الذي طغى على الحياة الآدمية، وينوي دومًا حرق الأخضر واليابس سعيًا وراء القتل والتدمير؟ وهل إنّ العنف المستشري بين البشر من دون مسوّغ في الكثير من الأحيان، ناجمٌ عن خطأ لاهوتيّ في الفكر البشريّ أو سقطةّ في غفلة من الزمن؟ ولو كان كذلك، فهل تستحق الإنسانية أن تظلَّ أسيرة العذاب والألم والعنف المتصاعد كالأتون المتأجّج؟ وهل يمكن القبول بفكرة ساديّة الخالق إزاء خليقته؟ أسئلة كثيرة كلّما سعى العقلُ البشري الضعيف، بالرغم من تطوّره وتقدّمه،للتخلّصمنهاوإيجادأجوبةمقنعة قبالتَها، فإنه يبقى عاجزًا عن الردّ على مثل هذه التساؤلات الإنسانية الطبيعية. فهل هناك فرصة لقيام عالمٍ من غير عنف ولا ألم؟
بدءًا، أتساءلمع الشاعر الإنكليزي اللورد "تينيسين"، الذي يغرّد في إحدى قصائده الرائعة بعنوان(في الذكرى):"هل الله والطبيعة في صراع؟وهل الطبيعة تضفي على الحياة شيئًا من أحلامٍ شريرة؟وهل مَن وضع ثقته بالله هو الحبُّ بذاته ولا شيءَ غيرُه؟ وهل كان الحب قانونًا أخيرًا للخليقة؟ وهل أضحت الطبيعة حمراء بأسنانها ومخالبها؟وهلْ مَن أحبَّ كثيرًا عانى من عللٍ عديدات، ومَن ناضلَ من أجل الحق والعدل كان نصيبَه غبارُ البراري وبين تلالٍ من حديد".(نقلتُ هذه الأفكار عن الشاعر المذكور بتصرّف.)
   هذه الروعة في وصف معاناة الإنسان في طبيعته، التي إنْ هي إلاّ صورة ناطقة لواقع البشرية المتألّمة، هي في واقع الحال ما ينطبق ويشعر به كلّ ذوي الإرادة الطيبة. إزاء تفاقم مشاكل العالم من شرور معنوية وأخرى طبيعية، أخذت مسيرةُ الحياة نصيبَها من الألم والمعاناة والعوز والفاقة والعنف. فيما العالم لم يعدْ سوى عبارة عن ركامٍ ناجمٍ عن نواتج أعمالالعنف المتزايدة في القتل والبطش والتنكيل والاستغلال متعدّد الأغراض والوسائل، وكأنَّ البشرية تعيش وسط غابة، أسيادُها وحوش كاسرة بأجسام بشرٍ تصطاد طرائدَها في كلّ الاتجاهات ولأية أسبابٍ. وهنا، حاشا لله أن تُلصقَ به صفة السادية، لأنّ مجرّد إقدامِه على تكوين خليقته الجميلة على صورته وشكله، يُعدّ عملاً من أعمال الحب الأبوي الإلهيّ الذي ينبغي تمجيده به. فما "خلقه الله رآهُ حسنًا"، وأعان الإنسان الضعيف على أعمال المحبة والرحمة فيما أكرمَه بعقلٍ وجسد وحواس من أجل فائدته ومن أجل منفعة جميع البشر في محيطه، وليس لاستخدام هذه الخليقة في أعمال القتل والتدمير والاغتصاب وفعل الشرور على أنواعها. فالله حين منح الحرية لخليقته، أعطاها أيضًا إرادةً وعقلاً وبصرًا وبصيرةً لفعل الخير ولتمييز الأخير عن الشرّ. وحين يزيغ البشر عن طاعة الله ويبتعدون عن مشروعه الإنساني، فتلك حالة شاذة في اقتراف الخطأ والإثم، وليست من ثمة قاعدة. والبشر يعتمدون ويستندون إلى القاعدة وليس إلى الشذوذ في كلّ شيء. هذا هو النظام الإلهي في تسيير الكون وما عليه.
ليس من المنطق أن تذعن البشرية لهذا النوع من الطبيعة الظالمة وغير المتكافئة أو غير العادلة من منظارٍ إنسانيّ بحت. كما ليس من المعقول قبول هذا الوضع باعتباره واقعًا أو حقيقة مطلقة، بالرغم من كلّ هذه القساوة والظلم ووسائل العنف التي تحتويها مثل هذه الحقيقة ومثل هذا الواقع. وهل هناك مَن يعقلُ قبول هذا الوضع المأساوي الذي يرصّن ويثبّت مفاهيم همجيةوعنفية وسط البشر الذين حاصرهم غول العصر وأشرارُهم بكافة أصنافهم. إنْ هذا إلاّأشبه بقانون الغابة؟
مع إدراكنا الواقعيّ بقيام حالة العنف والألم شاهدة وماثلة في حياة البشرية، تبقى مثل هذه المشكلة، على رأس أولويات أصحاب النظريات الإصلاحية في المجتمع، والمستندة منها بصورة خاصة على أبجديات الأديان السمحة والحضارات الرصينة التي عرفتها البشرية منذ نشأة الخليقة. ألمْ يسنّ حمورابي أول القوانين الوضعية قبل آلاف السنين التي سبقت وضع دساتير البلدان الحديثة؟ لكنّ الفرق بين هذه القائمة حاليًا وبين تلك السابقة التي مضى عليها أزمان ودهور، أنّ تلك القديمة كانت أشدّ فاعليّةً وأكثر لصقًا بحياة الناس وإدارة شؤونهم، في التنفيذ والتطبيق من دون محاباة ولا مجاملة ولا قفزٍ على أدوات العدل والمساواة.

صورة الألم وفلسفتُه
حسنًا، إذا كان العنف والألم من القضايا الشائكة التي لم يستطع الفكر الفلسفيّ أو الميتافيزيقي معالجتها، بسبب الفوضى القائمة في النظام العالمي في حياة البشر، فهلْ من العدل أن يخلق الله أمثلةً مشابهة لصورته في البشر كي تعاني وتظلّ في دائرة الألم والعنف طالما فيها نفحة من الحياة ومن صورته؟ سؤالٌ قد أجابت عنه جزئيًا، بعضُ الأديان المنتشرة على نطاق واسع. بحسب إحدى الحقائق النبيلةالمسماة "دوكها"، لدى بوذا، يسعى الأخير مثلاً، في فلسفته لتكريس واقع الألم والمعاناة في حياة الإنسان، وكأنها لازمة لا بدّ منها في حياته. وهذه سوف ترافقه منذ خروجه من بطن أمّه عريانًا وتظلّ تصاحبُه مدى الحياة وحتى الممات، بغضّ النظر عن مسبباتها ونوعياتها وطبيعة تفاعلاتها، شخصيًا أو مع الغير. وبموجب هذه الفلسفة الإنسانية القاسية، تبقى هذه الحقيقة شوكةً في حياة الكائن البشري، غير قابلة الانفصال عن مسيرة حياته، مادامت أو طالت، طالما أنّ في فكره ومسيرته تتواجدُ رغبةٌ ما أو شهوةٌ، هي أصلُ كلّ هذه المعاناة.وإذا كانت مثل هذه الرؤية للحكيم بوذا، ترى في الألم والمعاناة فعلاً عفويًا أو طبيعيًا لا يحتاج إلى تفسير أو تأمّل أو تبرير في المسببات والحيثيات،فإنها ببساطةوبالتوازي مع هذا الفعل، تجعلمن أيّانعكاسوجوديّ "أنثولوجي"علىطبيعةالشر أمرًا فائضًا وغير ذي جدوى.
بالمقابل، قد تختلف مثل هذه الرؤية لدى الديانات التوحيدية من جهة قناعتها ويقينها بطبيعة الله الخالق، الذي يتصف بِسِمَة الرب الطيب، الجبّار، القادر على كلّ شيء، مع الإقرار بوجود الألم والمعاناة كجزءٍ من الاستحقاق البشري الذي رسمه له الخالق بسبب تجاوزه على الأمر الإلهي وخروجه عن طاعته في الفردوس الأول. أي أنّ الإشكالية تبقى قائمة حول السبيل للتوفيق الصعب بين فكرة هذا الربّ الطيّب مع الألم الذي فرضّه على خليقته من يوم حُبل به ومولده لغاية انتهاء حياته بالوسيلة المرسومة، إلهيًا أو قدَريًا. عندما تحمّلَ أيوبُ آلامه ومعانته التي ابتلاه بها خالقُه، زادَ صبرًا ويقينًا أنّ هذا الإله طيّب وقادر على التدخل في حياة خلائقه وتسييرها بالطريقة التي رسمته إياها القدرة الإلهية. وهذه قمّة القناعة والرضى والتعلّق بعظمة الخالق، مقارنة مع أصحابه وأهل بيته الذين نفروا منه وتركوه متعذّبًا لوحده يلعق جلدَه المتقرّح من دون مواساة أو تعزية بشرية. وعدّ تلك التجربة حكمةً وقوةً تستحق الصبر الكبير الذي تجمّل به لينالَ الأفضل من لدن إلهه. مثلُه، يوسف الصدّيق، خضع للمعاناة لحين صدور تدبير إلهيّ جميل استحقّه مقارنة مع ما قام به إخوتُه إزاءَه من عنف وإهمال خارجة عن أصول الأخوّة والإنسانية. وهذا أيضًا من حكم الله في خليقته، عندما يُكافأُ الشرّ بالخير.
آلام المسيح الكبيرة أيضًا، غير ممكنة الوصف، وهو ابن الله وحبيبُه في المعتقد المسيحي. وقد وظّف الخالق هذا الألم ليكشف للبشرية عمق محبته لخليقته بواسطة المسيح الذي كُتب له أن يتألم ويتعذّب ويُصلب من أجل إنقاذ الجنس البشري بموجب تعاليم المسيحية. كما وظّف الإسلام، صورة الألم وفلسفتَه في نقل صورة التضحية عند الإمام الحسين مثلاً، تمامًا كما نقلها في صورة مشابهة عند المتصوّفة من أمثال الحلاّج ورابعة العدوية وآخرين غيرهم،في صيغة تقرّبهم من ربّهم وعبادتهم إياه، كلّ بطريقته، والتي بسببها عانوا ما عانوا من اضطهادات وويلات وعذابات وشقاء الزمن وغدره. فهؤلاء وأمثالُهم، كانوا شهودًا وشهداء للعشق الإلهي ولخدر السماء.

عنف وصراع بين الأقوياء والضعفاء
في ضوء هذه الأمثلة والمعطيات المرصودة، ماذا يمكن ان نقول عن الألم الطبيعيّ أيضًا، أي المتسبّب حصرًا من جانب الطبيعة عبر ظواهرها الكاسحة مثل الطوفان والفيضانات الكبيرة والزلازل والهزّات الأرضية القاتلة والحرائق وما إلى ذلك من قوانين تفرضها الطبيعة بين القوي والضعيف، بين الفريسة والضواري، بين الظالم والمظلوم؟  فهذه بمجملها، أدواتٌ للقسوة والعنف والأذى والألم والوحشية في التعامل بين الخلائق، بشرية كانت او حيوانية. وهي خير شهادة على قتامة العلاقات بين الخلائق، وكأنّ الله خلقها لتكون في صراعٍ مع الحياة ومع الوجود الذي لا يمكن تثبيته إلاّ من خلال القوة واستخدام وسائل الدفاع المتاحة للحفاظ على الجنس البشري والحيواني والحياة بجميع صورها وأشكالها. في تصوّر العالم "دارون"، لم يخفي هذه الحقيقة بشأن تثبّت الألم والعنف في هذا العالم، عبر نظريةالانتقاءالطبيعي التي رأى فيها صراعًا من أجل الوجود، شبيهًا بما وصفه الشاعر الإنكليزي "تينيسون"، في عالمه المغلّف ب"الحمرة بالسنّ والمخلب" على السواء، أي بالدم.
إزاء هذا الواقع القائم بوجود العنف في الطبيعة، بكلّ أشكاله وألوانه وأسبابه، هناك مَن يعتقد بالتالي أنَّ مثل هذا التدخل في الطبيعة هو جزء من فرض قدرةٍ قادرةٍ على واقع هذه الطبيعة التي حصلت بفعل خالق أراد حصول مثل هذا التدخل بإرادته وتصوّره وتدبيره الربّانيّ.وبالتالي يكون من دواعي الشرّ الطبيعي، تشكيلُه مشكلة صريحة في مصداقية الخلق،إذا أخذنا بنظر الاعتباررؤيةَ البشر حول حقيقة الإيمان التوحيدي والرجاء القائم وسط البشر الطيبين برؤية "الحمل والذئب، يسرحان بأمان وسط المروج" التي أوجدها الخالق لجميع خلائقه، بالرغم من كون هذا الأمل أو الرجاء لا يخلو من شاعرية وعفوية ملفوفة بالتمنيات الطوباوية، صعبة التطبيق أو التحقيق.
في الأخير، ماذا يعني كل هذا الخلط والفوضى في الطبيعة الذي يتجاوز حاجزَ الفكر العلمي أحيانًا، وصولاً لبلوغه علامة اللغز في تفسير ما يجري من أعمال عنف وصراع مصالح بين الأقوياء والضعفاء من الدول والشعوب والأديان. واقعُ حال العالم يؤكد وجودَ صراع على المصالح، مرتبط بطريقة أو بأخرى بصراع خفيّ بين الحضارات والأديان والأعراق والألوان. كما أنَّ العالم المتقدّم يساهم هو الآخر، بطريقة أو بأخرى، بتدمير الطبيعة وما عليها من بشر وحيوان وحجر، بفضل تطوّر ماكنته التكنلوجية وتسييرها بوسائل غير نظيفة تُنهك البيئة وما عليها.

الخاتمة
هنا، لا تجد البشرية وأصحابُ الإرادة الطيبة ممّن ينبغي أن يكونوا إخوة في الإنسانية، مفرًّا من إدانة واستنكار ورفض ما يحصل من تزايدٍ في أعمال عنف لاصقة بسبب تصاعد التطرّف والتعصّب الدينيّ الأعمى في السنين المتأخرة، بسبب المدى البعيد الذي بلغته حدّة هذا العنف المستشري بعد تطوير أدواته في العالم بشكل مذهل وسريع بفضل تقدّم التكنلوجيا وما أتت به وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات من تسهيل لأدواته في التوسّع والانتشار السريع. فهو نتاج الانكفاء والانعزال والانغلاق للأفراد والشعوب والمجتمعات على نفسها، ورفض بعضها مسايرة التطوّر في مجالات الحياة ومنها الاعتراف بوجود الآخر المختلف، مهما كان مثل هذا الاختلاف. فعندما خلق الله الأرض والكون وزيّنها بالعناصر الجميلة والكواكب السيّارة، ثمّ أضاف إليها تحفتَه من الدبيب والبشر بمختلف الألوان والأعراق والخيرات، أرادَ لها الخير والسعادة لتنعم بخيرات الفردوس السرمدي. أمّا زوغانُ البشرية وخروجُها عن سواء السبيل بكسر الوصية والأمر الإلهي، فتلك كانت ضمن الحريّة التي حباها الله لبني الإنسان كي يعملواالعقل ويوجهوا الفكرويديروا الجهدَ نحو الخير وليس بعكسه. إنها إشكالية الحرية وعنوان الإرادة اللتين تشكلان نمطَ الحياة القائمة التي تحوّلت إلى ظاهرة، إنْ خيرًا أو شرًّا!


213
هُمْ نالوا الشهادة، ونحن كُنّا شهودًا
لويس إقليمس
بغداد، في 21 تشرين أول 2017
لا يختلف اثنان على أنّ شعب العراق بكافة مسمّياته وطوائفه ومكوّناته الدينية والعرقية على السواء، عايشَ الشهادة والاستشهاد مرارًا وتكرارًا منذ نشأة دولته السياسية الحديثة في 1921. إلاّ أنَّ الشهادة، أساسًا وفكرًا وهدفًا، تتباين من فئة لأخرى ولدى طائفة لأخرى ومن دين لآخر. وهي في المسيحية مبنية على أساس الإيمان بما هو مكتوبٍ من مصيرٍ للكائن المؤمن بربّه، وبالرجاء بقيامة الأموات يوم الظهور الإلهيّ الكبير ليدين الأحياء والأموات، وبالحياة الجديدة المختلفة ما بعد الموت التي لا أنهارَ ولا خمرة ولا نكاحَ ولا حوريات عليها وفيها. حينها، أي يوم الدينونة، " يَسمعُ جميعُ مَن في القبور صوتَه (أي صوت الربّ)، فيخرجُ الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيّئات إلى قيامة الدينونة" (إنجيل يوحنا5: 28-29). "عن الأعمال على الأرض، إنّما يُدان الإنسان".
في بداية المسيحية، لم تكن الحياة سهلة. فقد كانت هذه الديانة الغريبة التي بشّرت "بالإله المجهول"، قد فعلت فعلَها، وتمكن الرسلُ الأوائل وتلاميذُهم، من تغيير مفاهيم بالية وقديمة كانت سائدة في العهود الوثنية مع بدء انتشار المسيحية. كما لم تكن أسُسها قد رسيت بعدُ، بل إنها لاقت اضطهادًا شنيعًا وحملات قتل وتهديد وإبادة، ما حدا بالمسيحيين الأوائل للعيش في الدياميس ووسط المقابر وفي المغاير مختفين أحيانًا، خوفًا على أرواحهم. لكنّ إيمانَهم الوطيد كان بمثابة "ترس عنيدٍ وبيضة خلاص وسيفًا للروح" بوجه الأعداء والمتكالبين عليهم من شيوخ اليهود ومن الأمم على السواء، كما حصل ذلك مع نيرون الطاغية. وقد استحق مَن سقطَ قتيلاً في تلك الأزمنة الصعبة الغابرة، أن ينال إكليل الشهادة ليروي بدمه الأرض التي تطهّرت من الدنس الوثنيّ، فصارت تلك "الدماء بذارًا لحياة جديدة"، وعنفوانًا لسلمية الديانة الجديدة التي تمكنت أن تنهي بأخلاقها ومبادئها الراقية، أزمنةَ الوثنية التي سادت الامبراطوريات القائمة آنذاك، أي الرومانية والفارسية. وبالرغم من الحملات التشهيرية الكثيرة التي شكّكت بمبادئها والاضطهادات العديدة التي ضربتها بشدّة، ظلّت المسيحية وإلى يومنا هذا من أكثر الديانات انتشارًا في العالم، بسبب عالميتها وسلميّتها ووداعتها ومبادئها ولاسيّما باتخاذها مبدأ الخيار والحرية في الحياة، وإيمانها بفصل الدين عن الدولة واحترامها لقدسية الإنسان، كونه صورة الخالق الحسنة على الأرض.
بعد أكثر من ألفي سنة، تدور الدوائر وتُلاحَقُ هذه الديانة ثانية وثالثة ورابعة، مثل غيرها من الأديان التاريخية في العالم، ولاسيّما في منطقة الشرق، ويُضطهدُ أتباعُها من قبل جماعات أعماها الغلّ الأعمى والكراهية النتنة من نفرٍ ضالٍ من العاشقين المغترّين بثقافة الموت والمتشبعين بخطاب الكراهية، لا لشيء إنّما بسبب اختلاف غيرهم عنهم في الدين والعقيدة والفكر والسلوك وحسب، وبسبب عدم اعترافهم بثقافة الحياة وجمالها وأحقيتها لكلّ إنسانٍ خَلَقَ فيه إلهُ البشر الطيّب نسمةً حسنةً للإنشاد باسمه القدوس ورفع الطلبات والمدائح له، وهو خالق الأرض والسماء والعناصر. إنه لَمِن المؤسف حقًا، أن تحصل مثل هذه الانتهاكات المفسدة والمخجلة، في زمن العولمة   والتطور والتقدّم في أدوات الفكر والعلم والتكنلوجيا، بجرّ العالم المتنامي إلى زمن التخلّف والبوادي والصحاري والجِمال ووأد البنات، حين يُنحر بشرٌ أبرياء في الساحات العامة والمصلّيات والكنائس والشوارع والمسارح باسم صيحة "الله أكبر".
هكذا ارتفعت أصوات الإرهابيين الذين اقتحموا كنيسة سيدة النجاة مساء الأحد 31 تشرين أول 2010 أثناء رفع الصلوات لله في قداس مساء ذلك اليوم، واقترفوا جريمتَهم مثل غيرهم، كما يحصل ذلك لغاية الساعة في أماكن أخرى من العالم هذه الأيام.وهذه إشارة بارتهان الفكر والذهنية عند هؤلاء المارقين من الإرهابيين، ليبقوا أسرى عصور التخلّف التي كان ينبغي أن يمحوها الزمن منذ أجل بعيد. فهذه الفئات المغالية في فساد الفهم والموغلة في ترّهات الإدراك، مصرّةٌ كما يبدو بالمضيّ في غيّها الطائش، بسبب قصورِها وعدم قدرتهاعلى احتواء التعددية الجميلة في حياة البشر، والإقرار بجمالها وغناها للبشرية، وفهم الاختلافات الطبيعية في حياة البشر التي تعزّز من الابتكار في تطوير حياة سكان العالم وتقريبها نحو أعمال الخير والصلاح التي رسمها لها الخالق من خلال المنافسة الشريفة في التقرّب من هذا الجبّار محبّ البشر. فما يزال نفرٌ مارق متعطّش لسفك الدماء البريئة مصرّا بالعودة إلى سُنن التخلّف التي إن كانت صَلُحتْ استثناءً وفي حالات شاذة وفي ظرفٍ زمانيّ ومكانيّ محدَّد، بالأمس البعيد، فإنها لا يمكن أن تكون مقبولة في الألفية الثالثة. لم تتغيّر لدى هذا البعض الذي يصرُّ بالبقاء أسيرَ الأزمنة القبلية البالية والأحاديث الظرفية المنقولة غير المسنَدة التي لم تعد تنفع مع تقدّم الإنسان وتطوّر فكره وآلته وسلوكه البشري المتحضّر.
   مع قدوم القاعدة وداعش ومَن على شاكلتهما ووصماتهما منذ السقوط الدراماتيكي في 2003 بأشكال عديدة، بأفكارهم البالية وكراهيتهم العالية للمختلف عن أجندتهم ومعتقدهم، حافظ المسيحيون على وديعة الإيمان والمعتقد، عندما خُيروا بين ثلاثٍ لا سواها: إمّا الإسلام، أو الجزية، أو القتل، تمامًا كما كانت هي ذات المواقف بالنسبة لأتباع ديانات أخرى مثل الإيزيديين وغيرهم. لذا آثروا ترك الأرض والمال والممتلكات والبيوت، مقابل حفاظهم على ترس الإيمان الذي فيه بيضةُ الخلاص، أملاً بالرجاء في الأبدية التي لا تنتهي مع مَن وعدَهم بالملكوت السماوي الذي لا تنضب جنانُه، ليس بشكلها الأرضي والماديّ التي صوّرتها التنظيمات والجماعات الإرهابية الإسلامية وفتاوى شيوخ القتل والكراهية والترهيب لأدعيائها المغرَّرين بهم، بل بالتمتّع بصورة الله، الرب، خالق السماء والأرض والعناصر، ومالك جميع البشر والحجر والهواء والأرض والماء والسماء. هكذا رسم المسيحيون، حتى في أيامنا هذه الصعبة، صورة رائعة للشهادة للإيمان والرجاء والمحبة التي ترافقهم منذ الولادة حتى الممات.
يمكن وصف ما يعيشه أبناء كنيسة العراق ومنطقة الشرق الأوسط عمومًا، منذ زلزال 2003، وقدوم الخريف العربي "الأصفر" المشحون بالتشدّد الإسلاميّ المتطرّف حدّ النخاع، بالشهادة، ولو من نوعٍ آخر. عندما يبرز المسيحي إيمانَه من دوت خوفٍ، فهو شاهدٌ وشهيدٌ أمامَ الغير الآخر الذي يستكثرُ عليه مثل هذا الإيمان الراسخ في ضميره وفكره وقلبه ونفسِه. هو استشهاد أخضر مفعَم بالحياة، كتعبير عن الرجاء والاستعداد للحياة وللبذل والعطاء من أجل غد أفضل للجماعة وللمجتمع الذي يعيشُ وسطَه. أي بعبارة أخرى، هو شهيدٌ وشاهدٌ في إبراز "النمذجة" المسيحية المتميّزة والقدوة الإنسانية المشهودِ لها ضمن المحيط الذي يتواجد فيه. وهذا لا خلافَ فيه البتّة. فقيمةُ الشهادة تدوم مع التاريخ وفي قلب الشعوب ووسط الأمم ما عاشت ودامت وتذكرتْ.
الشعوبُ والأمم تفتخرُ بمواطنين، مدنين أو عسكريين، ضحوا بحياتهم من أجل الوطن في صراعاتٍ أو حروبٍ زُجّوا بها قسرًا، أو أُهلكوا دفاعًا عن مبدأ نبيلٍ عاشوا له أو هدفٍ سامٍ ذادوا عنه. كما تُقام لهم احتفاليات ويُشاد بفعلهم البطولي، لأن فعلَهم هذا كان متميزًا. ولو كان غير ذلك، لما أقاموا لهم أعيادًا وتذكارات واحتفالات تعيدُ ذكراهم، ذلك لأنهم خالدون مدى الدهر. واستشهاد مدنيين أبرياء ومصلّين مسالمين من أمثال شهداء كنيسة سيدة النجاة وما في أمثلتها وعلى شاكلتها، هي الأخرى شهادة تستحق التقدير والتبجيل والاحتفال بذكراهم. حتى وإنْ لم يقاتلوا في ساحات المعارك، لكنهم واجهوا الموت في لحظة عشق لملاقاة الخالق على طريقتهم، وهم يصلّون ويرفعون آيات الشكر والمديح للخالق الرحمن ويدعون بالخلاص والأمان والسلام لبلدهم وللعالم. كانوا هم أيضًا شجعانًا، لأنهم لم ييأسوا من رحمة الرب وواجهوا الموت في وجه شراسة مجرمين عتاة لا يعرفون تقدير الرحمة في الحياة. إنهم شغورٌ من الرحمة التي لا يعرف أمثالُ هؤلاء الإرهابيين مداها ولا مفعولَها ولا مصدرَها، وهم الذين يرددون كلّ يومٍ مرارًا وتكرارًا أنَّ الله الذي يعبدونه رحمن ورحيم، غفّارٌ وكريم!
هذا الصنف من البشر المتوحش، يعيشُ تناقضًا في الحياة وفي الفكر وفي المنهج، لا يقبلُه أيُّ صاحب عقلٍ رزين أو إنسان طبيعي خرج من بطن أمّه إلى الحياة حرًّا، جميلَ المنظر كما أراده الله الخالق أن يكون وأن يعيش. إلاّ أنَّ أمثال هؤلاء الكواسر، قد كسروا سنّة الخالق واختاروا ثقافة الموت واستهانوا بخليقة الله الحسنة المجبولة على صورته وشكله. أيُعقلُ أن يكره أمثال هؤلاء وجه الله الحسن الذي صوّرَه في حياة خليقتِه، لا لشي إلاّ لاختلاف ضحاياهم عنهم في الدين أو العرق أو المعتقد أو اللون أو أيّ انتماءٍ آخر؟ نعم، قد فعلها هؤلاء الأوباش، وسوف يفعلُها غيرُهم من أمثالهم الضالّين، كما يحصل اليوم في مواقع مختلفة وكثيرة من العالم الغربيّ الذي يأوي الآلاف وربما الملايين ممّن يُعدّون قنابل موقوتة قابلة الانفجار في أية لحظة أو مناسبة، طالما هناك فكر منحرف ومنهج معوجّ ونية مبيّتة وخطاب كراهيّة ساخن يرفضُ تكفيرَ أمثال هؤلاء، وفي ظلّ وجود دول وساسة وحكومات تخطّط وتدعم وتموّل وغيرِها تغضّ الطرف، وذلك في تواصل للإساءة إلى الغير المختلف أو المعترض.
في حادثة كنيسة سيدة النجاة المؤلمة، خسرنا كاهنين في ريعان الشباب والنشاط، ورجالًا ونساء وأطفالًا. همْ الذين نالوا الشهادة مساء ذلك الأحد 31 تشرين أول 2010، فانضمّوا بالتالي إلى قافلة شهداء المسيحية والإنسانية، إلى شهداء العراق والديمقراطية والحرية، حرية الدين والعقيدة والفكر والتنقل والراحة والاختيار. ونحن كنّا شهودًا للحدث، بل من "المعترفين" في المصطلح الكنسيّ المعروف. ولنا أن نفتخر بهذا، وأن تكون بعض دمائنا قد سالت هي الأخرى، شهادة حيةً للحدث، بل للمجزرة التي قصمت ظهر المسيحية من حينها ولغاية الساعة. فقد سالت دماءُ بعض الحضور المحاصَر في جنبات الكاتدرائية، وتعرّض العديدون للجروح والآلام والأذى في بعض الأعضاء والأجهزة الجسدية، طيلة أربع ساعاتٍ من القهر النفسيّ والرعب الجسديّ المتواصل.
اختصارًا، وبمقتضى الشهادة التي نعرفها، يُحصى شهداء كنيسة سيدة النجاة، مثل غيرهم من الذين سقطوا ضحايا العنف الأحمق والحقد الهمجيّ والكراهية الممقوتة في كلّ شبرٍ من أرض الوطن الجريح والإنسانية في كلّ مكان وزمان. هم شهداء الشجاعة أيضًا، لأنهم لم يتخاذلوا أو يضعفوا أمام السيف المستلّ على رؤوسهم والسلاح الأحمق الذي صُوِّب باتجاه أجسادهم البريئة. ونحن أيضًا شهودُ الشجاعة والبأس والرجاء، لأنّنا عشنا لحظاتها بإيماننا وصلاتنا وتقرّبنا من الله في محنة لا أحدَ حسدَنا فيها أو تمنّاها.
كيف لي أن أنسى الشهيد الشاب "أيوب" المرتمي إلى جنبي الأيسر في تلك الغرفة المظلمة بجانب المذبح "السكرستيا"، وهو مضرَّجٌ بدمائه الزكية. كان االشهيد الشاب أيوب، يصلّي بحرارة صلاة الوردية "أبانا والسلام" من دون كلل ولا ملل، بالرغم من إصابته الخطرة، وغادر بعدها الحياة نزفًا شديدًا بعد أن طالت المأساة وتأخرت النجدات. حالةٌ فريدة تستحقّ التأمل ولا يمكن نسيانُها. وهل لي أن أنسى أيضًا، ابتسامة الكاهن الشاب وسيم، وأنا ألج باب الكنيسة الرئيسي وهو يحيّيني بمحبته، أو القس ثائر الذي لم يخلُ حديثي معه قبل بدء القداس من طرافة وتندّر. فكانت تلك آخر ذبيحة إلهية يقرّبها على مذبح الرب. وتلك الذبيحة، إن هي لم تكتمل كما المعهود، فقد أتت كمالَها بلستشهاده وهو يسلّم نفسَه بيد باريها أمانةً، مطمئنًّا كما الفعلَة الأمناء في كرم الرب.
إنّي لمعتقدٌ أن العديد من الذين سقطوا شهداء تلك الجريمة وكذا مَن نجا من تلك الكارثة، كانوا محاصَرين في ذات الموقف من الصلاة وتسليم النفس والروح والجسد بيد الخالق والعذراء سيدة النجاة. بسببهم وبسبب شهادتهم، نحن نعيش اليوم لحظات الحزن والفرح معًا: حزنٌ لفقدانهم أعزاء وأحباءَ بيننا، وفرحٌ لكونهم نالوا الجعالة مكافأةً لتميّزهم عن غيرهم. ونحن اليوم معهم شهودًا ومعترفين، الذين عشنا معهم ساعات تلك الشدّة، بصدد إعداد ملفاتٍ لتطويبهم، إنْ شاءت السماء. لا أحد يستطيع تصوّر الموقف، إلاّ مَن شهد الواقعة المجزرة وهو بين الحيّ والميّت ينتظر المصير المجهول!
ليس كثيرًا أن تخصصَ كنيسةُ العراق، وشعبُ العراق وكلّ الأخيار فيه وفي العالم، لحظاتٍ لاستذكارهم والدعاء بشفاعتهم كي تزول الغمّة عن هذه الأمّة المبتلاة بالفساد والفاسدين والمفسدين، والمغالين والمتطرّفين والمتشدّدين منهم في الأرض. وما أكثرهم اليوم!
هذه اللحظات تستدعي منّا أن نجاهد في سبيل القيم الإلهية والإنسانية معًا، تلك التي يريدها الخالق من خليقته أن تتحلى بها أمام السماء وأمام البشر خليقته، باحترام الآخر المختلف والاعتراف بوجوده وبقيامه على الأرض مخلوقًا من ربّ السماوات والأرض.
شهداؤنُا، هم فخرُنا وعزّتُنا ورفعةُ رؤوسنا، ليسَ لأنَّ دماءَهم سالت، وروتْ أرضيةَ إحدى أهمّ كنائس العراق والشرق، فحسب، بل لأنهم شهدوا شهادة حقّ لربهم عندما قصدوا بيتَه للتعبّد له وللصلاة والاستراحة فيه. تلك كانت دعوةُ ربهم لهم كي يشهدوا تلك شهادة الحقّ لمخلوق تجاه خالقه أمام العتاة والطغاة والسفّاحين، تمامًا كما كان طغاةُ روما يقدّمون مَن سبق من الشهداء من المؤمنين فرائس للأسود النهمة التي لا تعرف الرحمة ولا الشفقة بأجساد ضعيفة.
إنْ كان كلُّ شهيد، له خصاله وشخصيتُه وسلوكُه تميّزُه عن سواه، إلاّ أنَّ الجميع اجتمعوا مساء ذلك اليوم حول مائدة الرب لتسبيحه والهتاف باسمه القدوس. فكانوا على موعد مع قدسية الشهادة. وأية شهادة؟ في كنيسة سيدة النجاة، لتُسعد أن تُدعى سيدة الشهداء.
شهداؤُنا، صاروا مثالاً للأمانة لكنيستهم ولرسالتها الإيمانية كما لأمّهم العذراء التي احتضنتهم في ديار ابنها التي لا تزول ولا تنتهي. ليست بمثل تلك الديار التي يشتهيها العتاة والمنحرفون من الجهاديين كارهي الحياة، ديارًا للخمرة والعربدة برفقة الحوريات العذارى، بل ديارٌ للخير والشراكة في الحياة مع الله الخالق ومع أوليائه وقدّيسيه الأبرار. إنهم شهداء الله، بل أحبابُ الله ومختاروه في فردوسه الذي لا تنضب فضائلُه ولا تنتهي نعمُه ولا تنفذ بركاتُه.
كنيسة المسيح ترافق اليوم، شهداء كنيسة سيدة النجاة في رحلتهم التي بدأوها في مساء الأحد 31 تشرين أول قبل سبع سنوات خلت، كلّ بحسب ظروفه وشخصيته وزمان عيشه وسلوكه. مبادئها   الأخلاقية والعقائدية كانت سفينتَهم نحو الشهادة، بعلمهم أو بدونه، بإدراكهم أو بدونه. وكما كانت الشهادة للمسيح ومن أجل المسيح، في بدايات المسيحية علامة للرفعة والافتخار والفرح، هكذا شهداؤُنا ومعهم كلّ الشهداء عاشوا تلك اللحظات الحرجة من حياتهم في ضيافة ديار الله. ما ينيف عن أربع ساعات مروّعة أمضوها بين الثنايا الكثيرة في بيعة الله المقدسة، كان خلالها أحباؤُهم خارج أسوار الكنيسة المجروحة يشاركونهم الألم والقلق والمصير المجهول.
ما زلنا مسيحيين، نواصل اليوم، عيش عصر الشهادة منذ سنوات في العراق الجريح، وما زلنا في هذه الأيام الصعبة، وعديدُنا يتناقص كلّ يوم، بسبب من هول تلك الكارثة.ما العمل؟ ما المصير الذي ينتظرنا؟ أنذرفُ دموعَ الحسرة والحيرة ونطيل البكاء والعويل كما يفعل الوثنيون ومَن على شاكلتهم؟ أم نعيشُ حياتنا وأيامَنا بالالتزام بالمبادئ الرسولية المعهودة والوقائع الإنسانية الوضعية والسلوك المسيحيّ المتميّز دائمًا وأبدا، كبشرٍ يحبّون الحياة ويعيشون حلوَه ومرَّها ويقدّرون ويحترمون أمثالَهم من البشر على اختلاف دينهم وعرقهم ولونهم ومذهبهم؟

214


ما بعد الاستفتاء، عن الإصلاح والصلاح في العراق
لويس إقليمس
بغداد، في 26 أيلول 2017

الجزء الثاني:
في فترة استعداد المكوّن الكردي للاستفتاء وما بعده، وجّه الشريك الكردي التشكياتِ واللّوم تجاه الحكومة المركزية متهما قيادتها الشيعية في بغداد بالتهميش. وبالرغم من ايماننا بعدم صحة مثل هذه الاتهامات جميعًا لاعتقادنا بتدليل القيادة الكردية ومحافظاتهم أكثر من سائر المحافظات، إلاّ أنّ ما ورد في بعضٍ منها من إشارات سلبية في سياق التكوين الوطنيّ، قد تكون أثرت في انفراط عقد تلك الشراكة في السنوات الأخيرة. ولستُ هنا بصدد التذكير بما كان قائمًا من تعهدات ومصالح ثنائية على حساب المصلحة العليا للوطن والشعب والمواطن بين الشريكين المتصارعين اليوم. ولكنّ الحقيقة والواقع، تضطرّ المواطن العاقل للاعتراف بما يُعدّ معقولاً ومقبولًا ضمن تلك الإشارات السلبية التي تركتها الحكومات الشيعية المتعاقبة لغاية 2014، ولاسيّما فيما يتعلّق بمحاولة أحزاب ومتنفذين من الشريك الشيعيّ الأساس، بتحويل البلاد إلى دولة دينية طائفية تستحوذ على الشارع وتسخّر جهود الدولة ومؤسساتها الهزيلة وجزء من ميزانيتها  للمناسبات الطائفية والدينية الخاصة على حساب المكوّنات الأخرى. وهذا يعدّه الكثير من المواطنين، وليس الكرد وحدهم، نوعًا من الاستفزاز والتفرّد في الشارع والسوق والدائرة. وبالرغم من تنامي الأفكار وتطوّر الرؤى وانقشاع الغيمة عن المضيّ بالتوجه الدينيّ المرفوض، إلاّ أنّ الحكومة والبرلمان والقضاء لم تتوفر فيهم الشجاعة الكافية لمغادرة هذه الفكرة إلى قطار اللاّعودة، بالرغم من الاعترافات الكثيرة بفشل التسويق الدينيّ، الصادرة في مناسبات عديدة من جانب الأحزاب الدينية والطائفية التي بدأت في الآونة الأخيرة بالتشظيّ والانقسام على بعضها وركوب الموجة المدنية التي حرّكها التيار المدنيّ في الشارع العراقي.
لقد كان من ضمن أبجديات حكومة العبادي، تشكيل حكومة "تكنوقراط"، ضمن رؤية التوجه نحو دولة مدنية تساوي بين جميع المواطنين، حكومة قادرة على مواجهة البلاد الغارقة في أزماتٍ عديدة لا حصرَ لها. وبالرغم من موافقة "ظاهرية"، أو بالأحرى موافقة "إعلامية ودعائية" مبطنة بنوايا مشكوكٍ فيها من جانب زعماء الكتل وأتباعهم من المنتفعين من نواب البرلمان، إلاّ أنّ تلك الرغبة من جانب رئيس الوزراء، سواءً كانت صادقة أو مراعية لصوت الشارع ظاهريًا، قد اصطدمت بصخرة الرفض من تحت الكواليس. وجرى ما جرى لإجهاضها ووأدها وهي في التكوين الرحمي. وفي الحقيقة، أنّ صفة التكنوقراط، بعيدة بعض الشيء في وصف الوزارة الحالية، إلاّ في حقائب معدودات يتسم وزراؤُها بالكفاءة التي تدعمُها الشهادة والخبرة معًا. أمّا مَن اعترض أو حاول إجهاض مشروع التكنوقراط، فجلُّهم من الأحزاب والكتل والنواب من غير ذوي الكفاءة والجدارة والأهلية في إيثار مصالحهم الفئوية الضيقة والحزبية والطائفية على حساب المصلحة العليا للوطن والشعب، بسبب أنّ مثل هذا التوجه نحو الكفاءات الوطنية العراقية، ومنها تلك المستقلّة بوجه خاصّ، كان سيضع حدّا لطموحاتهم الشخصية في التسلطّ على الحكم والمال، كما هو قائم حاليّا. فالمؤسسة التشريعية، بسبب بعض الدخلاء من المزوّرين والفاسدين ومن غير ذوي الخبرة والنهج الوطنيّ في التعامل مع السياسات العليا للبلاد، بقيت وماتزال عاجزة عن تمثيل الشعب، إلاّ بنشاطها ما قبل الانتخابات عبر الكمّ الهائل من الوعود والتعهدات التي تُقدّم للناخب المسكين الذي يصدّق كلّ شيء بسبب من هشاشة فكره وعوزِه وضعف توجهه الوطنيّ هو الآخر.
أمّا من حيث تعزيز مبدأ الديمقراطية الذي ينادي به الجميع دون إدراكٍ حقيقي لما يُرتكب من جرم وفساد وخرق باسم هذه المفردة الشائعة التي أضحت شعارًا فضفاضًا للمتسترين على فضائح الفساد وسوء الأداء وضعف الفعّالية في إحداث التغيير المرتقب في الدولة والمجتمع على السواء، كان لابدّ من سيادة مبدأ التوازن في السلطات على ما سواه من سيادة مبدأ المصالح والامتيازات التي أخرجت النظام الديمقراطي عن سكّته المخطَّط لها، كما هو قائم في الدول التي مرّت بتجارب مماثلة واستطاعت اجتياز المحرَّمات التي ماتزال تعشعشُ في معظم الأنظمة العربية، ومنها بلادنا. من هنا، وبسبب سطوة أحزاب السلطة التي ماتزالُ تضع يدَها على كلّ مفاصل الدولة الغارقة في مشاكل لا حصر لها، اعتمادًا على أساس النهج المحاصصي المقيت الذي أغرق البلاد والعباد في دوّامة الفوضى الخلاّقة، كان لابدّ أن يدرك الساسة أن مسألة فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، تُعدّ من أركان الديمقراطية التي ينشدها جميع المؤمنين بمبدأ الحساب والعقاب من دون تهاون أو تمييز أو امتياز، وكذا وضع الرجل المناسب في المكان المناسب الذي ينبغي أن يكون فيه وفقًا لجدارته بعد أن يتمتع الجميع بالفرصة المتاحة للمكان المؤهَّل لكلّ فرد وكلّ مواطن.
إنّ مسألة تداخل السلطات وفرض الإرادات وإجازة القوانين والتعليمات تبعًا للجهة الأقوى، تُعدّ كارثة في بناء أية دولة لا تقيمُ قدرًا للديمقراطية ولحرية الفرد وكفاءة الأشخاص. وهذا دليلٌ إضافيّ آخر على الفوضى وخلط الأوراق بين شركاء العملية السياسية الذين يقيمون في وادٍ ويعيشون في أبراجٍ عاجية، وبين الشعب الذي يقيم بعيدًا عنهم ويعيش في وادٍ آخر مليء بالدموع والكوارث والأحزان ويقوم على الوعود العرقوبية. وهنا، ليسَ مَن يُلام على هذه الإشكالية، هم المسؤولون في السلطات الثلاث وأحزاب السلطة فحسب، بل الشعبُ أيضًا بسبب من سذاجة شرائح واسعة في صفوفه وهشاشة أفكارهم وتبعيتهم واعتيادهم السير وراء الجلاّد من دون مراجعة ولا تفكير ولا تحليل ولا تمييز للأسباب والنتائج والمؤهلات والظروف.
هنا يأتي دور التيارات الوطنية والنخب المثقفة والمدنية، العلمانية المستقلّة منها على وجه الخصوص، برفع صوتها بالتحذير من الوقوع مجدّدًا، في حبائل وفخاخ ذات الجهات التي أثبتت فشلَها في تمثيل الشعب وفي بناء الوطن وتقديم الخدمات وتطوير البلاد وتأمين سلامة المواطن وصيانة شرفه وعرضه وأمواله وحرية تعبيره وتنقله وحقه في حياة حرة كريمة. فحالة الإحباط القائمة والمتزايدة يومًا بعد آخر بفضل سوء أداء السلطات الثلاث، وفشلها بتحقيق تحوّلات هامة على كافة الأصعدة وكذا في الإصلاح، أصبحت حالة يومية تتشابك مع أحداث الساعة، وفق متغيّرات الشارع الثائر الساخن، بسبب قيظ الصيف الشديد الحرارة وكذا بسبب الأحداث السياسية والتفاعلات البينية والعلائقية بين الكتل السياسية والزعامات وأجندات كلٍّ منها، وما شهدته هذه مؤخرًا من تشظيات وانقسامات واتهامات. والخشية من كلّ هذا الحراك، أن تكون ضمن لعبة سياسية تجيدها أحزاب السلطة لتغيير الوجوه والبقاء في دارة السلطة والواجهة من جديد، ولكن بتسميات جديدة ووجوه تتلاعب بمشاعر الناخب الحائر. فهناك دومًا مَن يشعر أنَّ أوراقَه قد احترقت، لذا يلجأُ إلى إيجاد بدائل أو إثارة مشكلات من أجل الحفاظ على الكرسي والسلطة والثروة التي يخشى فقدانَها مع كلّ صحوة جديدة، ولو ضعيفة، للشعب والمجتمع.
من جانبٍ آخر، ما يمكن تسميتُه بالعجز القائم في السلطة التنفيذية في التصدّي لانفلات الشارع وإصابة الأهداف المتورطة في أعمال خطف وسطو وقتل وتهديد وما شاكلها، تشكّل اليوم تحديًا آخر يُضاف إلى نصاب المشاكل القائمة بين الأطراف الحاكمة والمشاركة والمعارضة، ومن تلك المتهاونة فيها في رصد الجرائم ومتابعة سلوكيات فاعليها والواقفين لها دعمًا وسندًا وتشجيعًا وتستّرًا على فاعليها على السواء. وهذا ينمّ بالتأكيد عن الضعف في مواجهة الحدث الجرميّ والفشل في تقديم الحلول الناجعة التي ينتظرها المواطن البسيط من الدولة. هذه السمة الفوضوية في الإدارة، التنفيذية منها والتشريعية والقضائية، تفضي إلى نتيجة صائبة وهي غياب الرؤية السيادية في البلاد، السياسية منها والإدارية والاقتصادية والمالية والعلمية وحتى المجتمعية التي أضحت فريسة للحكم العشائري وأصحاب الميليشيات المتنفذة في بعض المناطق والأوساط، ما يُبعد الدولة عن تطبيق مبدأ القضاء العادل بحق المخالف والخارج عن القانون وغير المنضبط من المنضوين تحت ألوية مسمّيات كثيرة لا حصرَ لها، بحيث ضاع الخيط ومعه العصفور. وتلكم حالة واضحة لا تحتاج لشرح تفصيليّ أو سند توثيقيّ.
ما يحصل على الساحة العراقية اليوم بعد الاستفتاء الكردي على تقرير المصير، أشبه بزلزال هزّ وحدة البلاد وشعبها المتنوع الأديان والأعراق والتراث والحضارات. وإن كان هذا قرارُهم الأخير، فليكن هادئًا ومن غير تجاوز على حقوق غيرهم وفرض الأمر الواقع باستقطاع مناطق وأراضٍ لا تمتّ بصلة إلى جغرافية الإقليم التاريخية. فهذا خرقٌ فاضحٌ للوطن والمواطنة، لا يمكن القبول به، حتى لو كانت الحكومة الحالية تعاني وضعًا ضعيفًا لا تُحسدُ عليه بسبب تفاقم أزماتها وانشغالها بمقارعة أعتى عدوّ للإنسانية، كان للكرد دورٌ في تغلغله في المناطق التي كانت تسيطرُ عليها قوات الإقليم. وهذا ما يترتب على الطرفين زيادة الحوار الهادئ والانصياع للمصلحة العليا لكلا المكوّنين من دون الإساءة لسائر المكوّنات التي تأثرت بهذا الصراع الذي يُعدّ عائقًا لتقدم البلاد وفرصة لقيام كانتونات وتنظيمات ومؤسسات أشبه بحكومات موازية للحكومة الرسمية. ونحن نعتقد أنّ زيادة الشحن بين الكتل السياسية المتصارعة مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي القادم في 2018، وبروز بوادر انفصال الإقليم الكردي بعد إصرار قيادتهم على إجراء الاستفتاء، كانت من الأسباب التي أبرزت تشكيل هذه الكانتونات والجماعات المسلحة خارج التشكيلة الأمنية الوطنية.فكانت لهذه ميزانياتُها وسياساتُها التي تفرضُها بفضل ما تتمتع به من سطوة وباعٍ طويل في شبه الدولة الغائصة في بحورٍ من المشاكل التي لا حصرَ لها وتجد طريقَها بين فترة وأخرى. 
لعلّ الحلّ الوحيد الذي بإمكانه انتشال شبه الدولة من أزماتها العديدة هذه، وإيصالها إلى برّ دولة ذات سيادة واعتبار دوليّ صحيح، تكمن بتحقيق حزم إصلاحية كثيرة وأساسية في عدة اتجاهات، من شأنها تعزيز نهج السيادة الوطنية على غيرها من السياسات والوصول بها إلى نتيجة قيام إدارة سيادية مدنية وسياسية واضحة المعالم مستندة على شرعية الشعب وتتحمّل المسؤولية الوطنية بموجب تخويل حقيقي من الشعب والفعاليات المختلفة التي لها حق المشاركة في الحكم وإبداء الرأي والاعتراض ومراقبة الأداء الحكومي بكلّ جوانبه. وهذا يدعو إلى اعتماد مبدأ فصل السلطات الذي مازال يعاني من تداخلها ومن تسييس في أدائها وسياساتها لشتى الأسباب والأهداف التي تتقاطع مع طموحات التيارات الوطنية والشعبية الرافضة التي ترفع صوتَها، ولكن ما من مجيب إلاّ على خجل. من هنا، نجد أن لا بدّ من رفع مثل هذا الغموض في هذا التداخل غير الحضاريّ والناقص للشفافية في اعتماد مبدأ المساواة وتحقيق العدالة في صفوف العامة والحفنة الخاصة التي استقطبت وسيطرت على مقاليد السلطة، وهي في الغالب غير أهلٍ لها.
أمّا ما تعانيه البلاد من أزمة مالية واقتصادية، فمردُّها بالتأكيد، سوء التخطيط والإهمال والتقصير وتفضيل المصالح الفئوية والطائفية على العامة والوطنية والفشل في إقرار استراتيجيات بعيدة المدى، واستنزاف الاحتياطيّ من أموال البلاد في مزاد صرف العملة المتزايد يومًا بعد آخر. هذه الأزمة الاقتصادية شكّلت بالأمس وما تزال تشكل اليوم تحديًا كبيرًا شائكًا في خاصرة الوطن وأبنائه ومستقبل الأجيال. وهي إن دلّت على شيء، إنّما هي عنوانٌ على سوء الإدارة وضعف القيادة وغياب الاتساق في الجدارة والأهلية ووضع الأشخاص المناسبين من "النخب" وليس من "حفنات" من الموظفين والمسؤولين من ناقصي الخبرة والرؤية الوطنية والبعد الاستراتيجي في وضع السياسات الناجعة. والدليل على وجود تخبّط في هذه جميعًا، الفشل في تقديم أجوبة أو مقترحات حلولٍ تسهم في ردع المقصّر ومحاسبة الفاسد، وفي توجيه سياسة الدولة نحو برّ الأمان بحيث ينتصر الحق على الباطل، ويسود العدل بدل الظلم، ويُردعُ الفسادُ وصاحبُه وفق القوانين وعدالة السماء، إذا ما اقتضت الضرورة من دون تقاعس. وهذا ما ليس قائمًا في أوساط حكومتنا وسياسيينا وزعاماتنا.
وسيبقى مشروع الإصلاح الحقيقي في بنية الدولة، حكومةً ومؤسساتٍ وقوانين، قائمًا حتى تحقيق قدرٍ من الاستقرار في كلّ مفاصل الحياة. فلا خير في إصلاحٍ لا يجدُ المواطنُ النزيهُ والمستقلّ مكانةً في إدارة البلاد وفي تطبيق الوسائل الفضلى في تسيير دفة الاقتصاد وصيانة الأمانة في الحريات العامة واستخدام ثروات البلاد في البناء الصحيح وفي التنمية المستدامة وفي تحقيق الرفاهية وتسارع الخدمات وصولاً إلى مصاف الدول المتقدّمة التي تعرف كيف تحترم الآدميين لديها وتحاسب لصوص النهار وسرّاق الليل بداعي المواطنة الحقيقية المفقودة في بلدٍ كالعراق الذي فقدَ جلَّ مؤسساته البنيوية وهيبتَه الوطينة، بسبب الفساد والمفسدين والسكوت عن الأخطاء والتجاوزات والسرقات ونهب المال العام، بسبب نهج المحاصصة المقيت.


215
ما بعد الاستفتاء، عن الإصلاح والصلاح في العراق
لويس إقليمس
بغداد، في 26 أيلول 2017
الجزء الأول:
نال موضوع الإصلاح في الدولة والحكومة بالعراق، قدرًا من التفاعل الرسميّ والمجتمعيّ وإبداء الرأي في الشارع العراقي، مذ تولّي رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي رئاسة الحقيبة الوزارية من سلفه الذي لم يصن أمانة الحفاظ على سلامة الأرض والعرض والثروة الوطنية، بل أشعل فتيل الفتنة الطائفية وقاد البلاد إلى شفير الإفلاس والتناحر والتمزّق، وأطاح بأي أملٍ بانتقال البلاد من الفوضى الخلاّقة إلى دارة الدولة المدنية المنشودة من معظم أبناء الوطن الجريح.
 فالمشروعُ الإسلاميّ المشبوه الذي مازال زعيم حزب الدعوة يسعى لتسويقه ضمن برنامجه ليضمن سطوتَه على مقدّرات البلاد، لا يمكن أن يُكتب له النجاح ويجد النور، لأسباب كثيرة وواقعية، منها ما يمسّ ذهنية المواطن العراقي وتطلعاته المدنية المنفتحة على العالم، وأخرى ترجع إلى طبيعة الأرض التي احتضنت حضاراتٍ وشعوبًا وأديانًا متعددة لها تاريخُها وتراثُه وصفحاتُها المشرقة الخالدة في حياة شعوب المنطقة والبلاد على السواء. فهذا المشروع، علاوة على شبهات ارتباطه بدولة الجارة إيران، والذي يتطلع فيه إل تقليدها في مبدأ ولاية الفقيه التي لا تنسجمُ مع ما هو قائم تقليديًا وحضاريًا واجتماعيًا من تعددية في الأديان والأعراق والمذاهب والأجناس، سيكون طعنة مثخنة في خاصرة التوّاقين لرؤية العراق بلدًا مدنيًا متطوّرًا ومتحضّرًا، ليعود إلى حاضنة المجتمع الدولي معافى من أدران الماضي المعفّر بالدم والكراهية والطائفية والحقد والخصام والتمزّق والدكتاتورية المتوارثة عبر الأجيال لدى شعوب المنطقة، ومنها بخاصة الدول الإسلامية على وجه التحديد. من هنا كان الاتفاق على ضرورة استبدال المالكي بعنصرٍ من كتلته ومن حزبه ظاهريًا، كي يقوم بما عليه في ساحة الإصلاح من أجل نقل البلاد وأهلها إلى واحة مختلفة ترفل بالأمن والسلام والرفاهية وإجراء مصالحة مجتمعية لإصلاح ما تمّ التفريط به على عهد سلفه. 
عملية الإصلاح، أيًا كانت بداياتُها أو غاياتُها، لا تخلو البتة من مغامرات وهواجس واختلاجات وإرهاصات على الصعيد الشخصيّ للأفراد، وكذا على صعيد المجتمعات كمكوّنات جامعة ومنضوية تحت لواء دولة موحدة الأطراف والمكوّنات وذات سيادة، على السواء. والعراق كان في غابر السنين ضمن مثل هذه المواصفات التي تحققت وتكوّنت منها هوية أية دولة لها شأن في التاريخ البشري. فبلادُ وادي الرافدين، بتاريخها الموغل في القِدَم والحضارة البشرية، تشهد لها آثارُها وتركتُها الثقافية الغزيرة والسِيَر المأثورة لعلمائها ومفكريها ومثقفيها وما تركه هؤلاء للأجيال. وهذه العملية، لا تتحدّد بهدف معيّن أو شأنٍ محدّد دون غيره، إذا أُريد لها أن تكون شاملة بمفرداتها ومعطياتها وبنودها التي تغطّي سائر مكامن الحياة وشؤون البلاد والعباد. 
بدءًا، يأتي إصلاح النظام السياسي والاقتصادي على رأس الأولويات، لأنه يحفظ للبلد سيادتَه وتحكّمَه بشؤون مقدراته الأمنية، الداخلية والخارجية التي تجعلُ منه قوة تتحكم بمصادر القرار، وتمنحه مَنَعةً وتحصينًا إزاء أية محاولة لزعزعة الأمن والاستقرار فيه أو تلك التي تسعى لإبقائه رهينة بيد القوة التي تصرف عليه وتوجه أداءَه الداخلي والخارجي وسياستَه السيادية وفقًا لأجنداتها ومصالحها في استهلاك أيّ شيء وكلّ شيء. ومن المهمّ بمكان، الاستفادة من الدروس السابقة والاسترشاد بالخبرات المتراكمة حول نوع النظام الأصلح لسياسة أية بلد، بالوقوف على شكل النظام السياسيّ الذي ينفع ويأتي بالسعادة والاستقرار والرفاهة للمواطنين بغضّ النظر عن تلاوينهم وتشكيلاتهم وخلفياتهم الدينية والعرقية والمذهبية والثقافية والاجتماعية. فهناك النظام البرلماني الذي يُؤمّن نوعًا من الديمقراطية وحرية التعبير والرأي والتنقل، هذا من حيث المبدأ لا الواقع. وهناك النظام الرئاسيّ، الذي في حالة استغلالِه من قبل هرم السلطة بتحويله إلى أداة لحكم العائلة بالتوريث والقرابة والمحسوبية والمنسوبية، يتحول إلى كابوسٍ لكمّ الأفواه وزجّ الأحرار في الغياهب وقتل أية بادرة للتعبير عن الرأي والحرية في اتخاذ الخيارات الشخصية والاجتماعية وتقرير وسائل العيش الحرّ الكريم. وهذا التوصيف الأخير تعمل به غالبية دول المنطقة، والإسلامية منها بصورة خاصة. ولدينا من أشكال هذا النظام، الكثيرُ من الأمثلة والدروس السلبية، إلاّ في حالة واحدة قد تنفع، وهي أن يكون مثل هذا الحاكم عادلاً بحكمة سليمان الملك وشديدًا بحدّة حمورابي صاحب المسلّة وأول قانون نظاميّ يُطبَّق على الجميع. وهذا من النادر إيجادُه والعثور عليه. فهذا الصنو من الحاكم "الدكتاتور العادل"، سيكون قادرًا على إحلال الطمأنينة في قلب المواطن وفي إرضائِه من حيث حقوقه في التساوي بالمواطنة وتحقيق العدالة وفقًا للدستور الناضج الذي ينبغي أن يتولى كتابتَه ووضعَه أصحابُ الاختصاص وفيه تُرسم سياسة البلاد الداخلية والخارجية لتنسجم مع طموحات عامة الشعب بجميع مكوّناته، حينما يُكتب بنَفَس مدنيّ حافظ لحقوق الجميع.   
أمّا لماذا فشل النظام البرلمانيّ في العراق، وهو الذي من وظيفته من حيث المبدأ إتاحة فسحة أوسع للحريات العامة، فهو لكون الدستور الذي وضعه مَن أتوا على ظهر الدبابات الغازية أو بدعمٍ من إدارتهم لاحقًا، لم يكن عقدًا وطنيًا ومجتمعيًا متكاملاً بسبب وجود ثغرات عديدة في بنوده وتضمينه ألغامًا كثيرة وتسييسه لجانب فئة على حساب العامة من سائر الشعب. وكذلك باعتماده على مبدأ المحاصصة والسماح للزعامات أو بالأحرى لمافيات الزعامات السياسية لاستغلال هذه وتلك في مسألة انتهاب ثروات البلاد واقتسام موارد الدولة والمناصب الرسمية والحكومية ووضع أيديهم على فعاليات السوق الوطنية التي همّشت دور النخب وأهملت دور القطاع الخاص في بناء دعامات اقتصاد البلاد، وهو الأجدر بقيادة وإدارة هذا الأخير والأكثر نزاهة في توجيه السياسات التجارية والاقتصادية وتطويرها نحو الأفضل.
يُضاف إلى كلّ هذا وغيره، العمل بمبدأ المساومات، وعقد الصفقات، وأشكال الابتزاز، والغض ن التجاوزات على مصالح الوطن العليا، وتفضيل المنافع الضيقة في اتخاذ القرارات وصيانة أمن الدولة، وسنّ القوانين بصيغة التوافق غير المجدية والبعيدة عن رؤية المواطنة والطنية التي خلا منها غالبية السياسيين القائمين على الحكم، إلاّ من استثناءات قليلة جدًا. وهذا ما قاد البلاد إلى كوارث ومشاكل لا حصرَ لها، ومنها ما حصل مؤخرًا من زلزالٍ هزّ الضمير العراقي لكلّ مَن له ضميرٌ وطني أصيلٌ. فإصرار الكورد على الانفصال الذي كانت رئاستُهم الدكتاتورية وحزبُهم القائد تهدّد به في مناسبة أو بدونها استغلالاً للفرص من أجل كسب المزيدٍ من المكاسب والمنافع في صفقات ابتزاز مشبوهة وغير وطنية، هو من صلب ما كان يتخوّف منه المواطن الملتصق بالأرض والمؤمن بسيادة الوطن وصيانة وحدة أراضيه والحفاظ على حدوده. وهكذا عندما سنحت الفرصة للأكراد وانتهت سنوات الاستغلال والحلب المتنامي للثروات ولميزانية الدولة الذي لم يكفّ ولم يتوقف، تعالت أصواتُ الإصرار على الاستفتاء، بالرغم مما حصل عليه طيلة السنوات المنصرمة منذ الغزو الأمريكي في 2003، من قسط وافرٍ من الامتيازات والرفاهة أكثر من سائر المحافظات في البلاد. أمّا حجتُهم في ذلك، فلم تكن مقنعة أو حاضرة، ذلك أنَّ سمةَ التهميش، لمْ تكنْ قطّ مبرّرًا كافيًا للاقناع والإيمان بصحته. فالحقيقة الصارخة، أنّ القيادة الكردية في أربيل، كانت ناوية لتنفيذ مشروع الانفصال في أية لحظة. وتلك حقيقة لا تحتاج إلى تمحيص وتحليل وسؤال. أي أنّ مشروع الاستفتاء وبعده الانفصال الناجز لاحقًا، كان ضمن الرؤى والنوايا الدفينة.       
الآن وقد حصل الاستفتاء فعلاً، بالرغم ممّا شابه من خروقات ومن وسائل لإجبار النازحين بالتوصيت وتهديد المستفيدين من الامتيازات بقطع الأرزاق والمكرمات، وبالرغم من الاعتراضات الكثيرة داخليًا وخارجيًا، وبعكس الصرخات الخائبة التي لا فائدة منها، شرع شركاءُ الأمس وحلفاءُ الكورد بالبكاء والعويل لحدّ اللطم وإعلان الحداد الذي لا فائدة منه بعد. ومن المؤسف، أنَّ التحالفات السابقة بين القوائم الشيعية الكبيرة والكتلة الكردية، جاءت نتيجتُها لغير صالح الوطن والمواطن العربي والكردي وسائر المكونات الأخرى على السواء. ذلك أنَّ تمزيق النسيج الوطني العراقي، يعني التوجه نحو خرابٍ قادم مجهول النوع والكمّ إلى جانب ما قد يخلقه من مطامع من دول إقليمية وخارجية وقوى طاغية أخرى تراقصت لشقّ اللحمة الفسيفسائية التي كانت لها نكهتُها الخاصة التي يقلّ نظيرُها في أيّ بلدٍ آخر. بل هناك مَن يدفع اليوم أيضًا، باتجاه بقاء الشعب بائسًا خائبًا يهرول في كلّ مناسبة دينية لإدامة تقاليد البكاء واللطم، وسط تشجيع من قادة الأحزاب الدينية التي ترى في مثل هذه الممارسات غير الحضارية إبقاء سطوتها على الشعب البائس الذي يصرُّ على التمسّك بسوط جلاّده أملاً بكسب ما يُملى عليهم في هذه المناسبات من تخريفات وحكايات غاية في الخيال مهملين حصةَ الوطن ومصالحَه العليا وتقدّمَه وتطوير أدواته وصيانة سيادته ضمن دولة مدنية متحضّرة لا تقبل بسطوة الثيوقراط على مقاليدها وأفكارها وحريتها.
 مثل هذا الفشل في صيانة الحق الطبيعي للفرد والوطن بسبب تراكم الخروقات والأخطاء، يعني الحاجة لتأكيد النزوع إلى نظام بديلٍ ونزيه ومتطور يحفظ توازن المصالح العليا للبلاد وليس فرض منافع لسلطات حاكمة ومافيات متنفذة ليس بإمكان الحكومة الضعيفة الحالية محاسبة الفاسدين والمفسدين منهم، بسبب ضعف الأداء العدلي والقضائي والجهات الأمنية التنفيذية التي يُفترض توليها حماية البلاد وثرواتها وسيادتها، والحرص على صيانة أمن المواطن على السواء.
في ضوء هذا التوجّه نحو إصلاح الدولة، حكومةً ومؤسسات وأفراد، هناك حاجة ملحة قبل كلّ شيء، لمراجعة دستورية جذرية، بعد هذا الزلزال الكبير. كما ينبغي إعادة التفكير في هذه الفترة الحرجة بإصلاح النظام الانتخابي الذي يمثل إحدى حلقات الفساد عبر التحكّم بطبيعة القانون الانتخابيّ وإخراجه عن الشفافية في طريقة الترشّح وأدواته وشروطه، بموجب الاتفاق التوفيقي على نسخته الأخيرة. فهناك، مَن يسعى دومًا لفرض الذات وأجندة الحزب والكتلة والجهة التي تسند وتدعم وتقدّم المرشَّح "ممثلَ الشعب" المفترض، وتوجهه في حالة الفوز بمقعد برلماني، بالطريقة التي تحفظ عادة مصالح الأحزاب الكبرى ذات الأغلبية، والمتنفذة دومًا في العملية السياسية. فالقانون الانتخابي مازال غير قادرٍ على إتاحة الفرصة لجميع المواطنين بالمشاركة في الانتخابات والترشح، بسبب غلبة الأحزاب المتسلطة والمتنفذة التي ماتزال تتخاصم وتهدّد وتفرض أدواتها القسرية بصياغة القانون الانتخابي وفق مصالحها، كلّما سعت جهاتٌ وطنية مهمّشة لإجراء تعديلات عليه كي تُتاح فيه الفرصة لمشاركة أوسع، لاسيّما من أوساطٍ مستقلّة ذات توجهات وطنية ومدنية أو من جانب مكوّنات ترى نفسَها خارج العملية السياسية بسببٍ من قلّة أعدادها. وهذا ما يجري حاليًا، حيث هيمنت الكتل والأحزاب الكبيرة فارضة شروطَها في تشريع القانون الانتخابي بنسخته الأخيرة، بالرغم من اعتراض الكثير من الكتل والأحزاب الصغيرة التي ترى نفسَها مغبونة في حقوقها الانتخابية. فقانون سانت ليغو الحالي، سواء بنسخته1,9   أو 1,7 ، لا يلبي طموحات المستقلّين والأحزاب الصغيرة التي تمثلها الأقليات. وما تطالبُ به هذه الأخيرة يقارب المنطق والحق في التعامل العادل والمتساوي بين كافة المواطنين، وبما يتيح لإجراء توازن وفق المصلحة العليا للوطن وبالاستناد إلى مبدأ المواطنة المتساوية للجميع التي تتيح الحق للجميع من دون استثناءات أو امتيازات لفئة دون أخرى.






216
الدولة المدنية، هاجس أم ضرورة؟
لويس إقليمس
بغداد، في 3 آب 2017
يخشى الكثيرون ممّا يجري على الساحة السياسية العراقية من مناورات وتغييرات واتفاقات جديدة وتشظيات لأحزاب وكتل، من أن تتحول كل ّ هذه التحرّكات إلى هاجس يقضّ مضاجع أصحاب الفكر المتلوّع منذ سنين بفعل أجندات الأحزاب الطائفية والإسلامية التي أثبتت الأيام فشلَها الذريع وعدم تلبيتها لطموحات العامّة من الشعب الذي أولاهم الثقة مرّة تلو الأخرى. ومع اقترابنا من موعد استحقاق انتخابيّ وشيك، إنْ سارت الأمور بحسب المخطَّط له، تلوح في الأفق تساؤلات كثيرة ومبرّرة تقتضيهاماجريات المرحلة وخطورة الوضع الساخن والشدّ القائم بين الزعامات ومراجعها، داخليًا وإقليميًا ودوليًا. هذا إضافة إلى اتساع حيّز الخلافات بين الحكومة الاتحادية وتقاطعهامع طموحات إقليم كردستان الذي زاد من مكابرته بتهديداته المتواصلة بالانفصال وتقريره إجراء الاستفتاء في مناطق خارج حدوده، وذلك باستخدام سياسة ليّ العنق وفرض الأمر الواقع على مناطق محرّرة لم تكن يومًا جزءًا من المنطقة الكردية المتنامية على حساب المركز، مستغلاً انشغال الدولة وتشكيلاتها الأمنية بتطهير البلاد والأرض والإنسان من خوارجالعصرالمتمثلة بروافض داعش الإرهابي.
إذن، مع تزايد حدّة التوترات بين شركاء العملية السياسية عمومًا، ومنها ما ضربَ أوساط أحزابهم التي نخرتها التحزّبات والخلافات والانقسامات، يبدو المشهد السياسيّ أمام خيارات صعبة، وبسببها وعلى ضوئها تسعى بعض الزعامات التقليدية التي لبست عباءة الدين في بداية مشوارها، للهرولة للحاقبالتيار المدنيّ الذي غزا الشارع العراقي بفعل نشاطه وحراكه الشعبوي والجماهيري، لعلّهم بذلك يسترجعون نزرًا من تعاطف الشعب الذي منح حراكَ هذا التيار العفوي ثقته بعبور محنة الفشل نحو بصيصٍ من برّ الأمان. وسواءً التحق بعضٌ من هؤلاء المتسارعين الفاشلين، نحو القاعدة الشعبية التي التحقت منذ حينبحراك التيار المدني-العلمانيّ وسارت وفق منهاج مخطَّط له بخطى ثابتة، أم اتخذوا لهم خطوطًا ومسارات جانبية محاذية لهذا التيار، فإنهم بهذه الحركة الذكية يكونون قد أدركوا أنّ الشعب قد أصدرَ حكمه على فشلهم وعلى خيبة أمله من سلوكياتهم ومن لهاثهم وراء مصالحهم الضيقة، أيًا كان عنوانُها.فشعار"باسم الدّين باقونا الحرامية"، الذي رفعته جماهير هذا الحراك، ما يزال يرنّ في آذانالشعب ويقضّ مضاجع المعنيّين به. ومن ثمّ، فأيةُ محاولة في هذا الاتجاه لثني الشعب عن مطلبه بضرورة التوجه نحو دولة مدنية متحضّرة سوف لَن يُكتب لها النجاح، حتى لو تخلّى أمثال هؤلاء عن عباءة الدين والطائفة والمذهب والعرق، وانتفضوا أو انقلبوا ضدّ مشاريع أحزابهم الدينية والطائفية والعرقية أو غيّروا من الشعار والهدف والتسميات. والسبب بسيط، لأنّ مثل هذه الألاعيب قد أصبحت مكشوفة، ولا يمكن للبيب أنْ يُلدغ من جحره مرتين. فجزءٌ من الشعب الذي فعلها أكثر من مرة ويريد تكرارها، لا سمح الله، إنّما لأنّه سيبقى مجموعة بائسة و"حفنةً" هشّةمن التوابع بلا غيرة وطنية ولا شعور بالمواطنة الحقيقية أو بالانتماء الأصيل إلى الأرض والوطن.
من هنا، يأتي دور النخبة الواعية في هذا التيار، بعد إجادة دراسة الأسباب والمبرّرات وإحاطتها بطموحات الشعب وطلباته. وهذا ما أتت به ضمن برامجها واستراتيجيتها الملهمة بعد دراسة كلّ هذا وذاك، حيث لم تأتي من فراغ، بل من قدرات وطاقات مفعمة بحب الوطن ومترعة بالفكر النيّر والرؤية الوطنية الواضحةالتي تسعى لتوجيه الدولة نحو بناء ديمقراطي مؤسساتي بكلّ مفاصلها وفق المتغيرات الجيوسياسية والتحولات المادية المتعاقبة وليس الانكفاء على عقيدة أو مذهب أو أيديولوجيا غريبة عن الواقع أو عفا عليها الزمن. ومن ثمّ ينبغي مواصلة المسيرة الظافرة حتى بلوغ المأرب وتحقيق الهدف.
عندما انبرى التيار المدني، "الوطني" في وصفه أكثر من غيره، بسبب رفضه للنهج الدّيني والطائفيّ والمذهبيّالضيّق الذي سلكته أحزاب السلطة واستقوت به سلطة بعض الأحزاب، لاسيّما المحسوبة على تيار الإسلام السياسي وأصحاب المشروع الإسلامي، أقامت هذه الأخيرة الدنيا ولمْ تقعدها، متهمة أتباع التمدّن والتحضّر بالخروج عن نهج تعاليم الدين السمح، وبمحاولة علمنة الدولة وسلطتها، وبإبعاد الحكومة وأساطينها عن تطبيق شريعة الله في الأرض بالطريقة التي يريدها هؤلاء، أو بعض هؤلاء. ومع مرور الأيام، استطاع هذا التيار "الوطني" النشط أن يستقطب الجمهور ويكسب شرائح محسوبة على أتباع السلطة، أو بالأحرى بعضًا من المكوّنات الحزبية المنخرطة في العملية السياسية، ومنها بما لا يقبل الشكّ تيار الأحرار الذي لقي دعمًا ومشاركة من زعيمه الجريء، شريطة بقائه أمينًا للغاية المرجوّة من التحاقه به، ورهنَ مواصلة المشوار مع باقي التنسيقيات المثابرة من دون العبث بالهدف الأسمى الذي يرنو إليه أصحاب الرؤية الوطنية الصادقة.
مثل هذا النجاح المحسوب للتيار المدني "الوطني"، إنْ دلّ على شيء، إنّما يندرج ضمن المكاسب والمآثر التي استحقها الناشطون فيه، بعد إفلاحه بكسب ودّ الشارع الثائر الغاضب المتلوّع، وقد انتخى له متطوّعون وعفويّون اكتووا بنيران أحزاب السلطة الفاشلة، مثل سائر أبناء الشعب الذي مازال يتحمّل وطأة أخطاء السلطات المتعاقبة ويرزح تحت ثقل فسادها وفشلها. من هنا، كانت مساهمة هذا التيار في كشف المستور من فساد السلطة عبر إدامة تظاهرات الجمعة المطالبة بالإصلاح وبالخدمات وبمحاسبة الفسادين الذين مازالوا أحرارًا يديرون امبراطوريات مالية ومشاريع وهمية وسرقات تثقل كاهل ميزانية الدولة، سواءً بمرتباتهم الخيالية أو بالمكارم التقاعدية أم بوضع اليد على تخصيصاتالوزارات التي تُقيّدُ للجهة التي تتولى تسييرَ دفتها وإحكامَ سطوتها عليها.
كلنا نعلم، أنّه لولا تراخي أصحاب السلطة والصراعات المتواصلة المتصلة بالعملية السياسية وبين أحزاب السلطة، لما سقط أكثر من ثلث مساحة البلاد بيد حفنة من العصابات الإجرامية التي لا وطنَ لها. ألمْ تضطرّ الحكومة الحالية تحت تزايد الكثير من هذه الضغوط، لإنقاذ البلد وأهله من مصيبة كادت تنهي حضارة وادي الرافدين ويُقرأ السلام عليه وعلى أهله لفترة غير محسوبة من الزمن؟ إنّ التعجيلبتحرير الأرض، التي تسبّبَت بها زعامات في الحكومة السابقة بتلكؤِّها عنأداء واجبها الوطني، قد قطع الطريق أمام تحقيق حلم عصابات العصر المجنونة بفكرها المتخلّف والمهووسة بأدواتها الجرمية البشعة، لإلغاء حضارة وادي الرافدين وشطب اسم العراق من الخارطة. فما حصل، كان ناجمًا عن صراعات طائفية ومذهبية وفئوية وأحيانًا فردية وشخصية بين أطراف تتشارك الحكم والسلطة والمال. وإزاء ذلك،فقدَ المواطنُتوازنَه ولم يعد يدرك إنْ كانت هذه الأطراف تحكم بحكم الشراكة والتوافق والاتفاق، أمْ إنها تسلك خطّ المعارضة بالاعتراض على كلّ شيء يصدر أو يبدر أو يُنجز من جانب حفنة السلطة، دولة وحكومةً وقضاءً. من هنا، يكون أتباع هذا التيار "الوطني" قدأجادوا الحكمَ لصالح توجيه كل أنشطتهمباتجاه بناء دولة مدنية متحضّرة تساوي بين مواطنيها وتحكم بالعدل ويسودُها دستور متطوّر يتناسب مع تقدّم العصر وتنوّع الفكر، وكذا بتحدّي أية محاولة لشقّ وحدة الأرض وتمزيق أواصر الشعب ومنع تقدّم المواطن أيًا كان،ومن دون تمييز.
ليسَ من السهل إحداث تغيير في ثقافة شعبٍ صادرتْ أحزابُ الإسلام السياسيّ إرادتَه بالطريقة التي عرفناها، وما تزال هذه وموالوها،يبتكرون غيرها من أجل ترويضه وإبقائه أسيرًا لأجنداتها وضمن قفصها العاجيّ بسبب ما أتى ذلك من ثمارٍ مادية وسلطوية على زعاماتها وأفرادها ومَن يقف وراءَهم داعمًا ومشجّعًا ومهدّدًا في أحيانٍ كثيرة. ف"مَن شبَّ على شيء، شابَ عليه". لكنّ روح المثابرة التي اتسم أتباع هذا التيار ومَن التحق به لاحقًا ومازال، كانت خيرَ محفّزٍ للمضيّ قدمًا، مهما كانت الصعاب وبلغت وطأة الاعتراض ولغة التهديد وأدوات التعسّف التي رافقت تظاهرات أيام "الجمعة" التي أصبحت تقليدية، من أجل نشر الوعي الثقافي والدعوة للدولة المدنية التي أضحت ضرورة بعدما شكّلت هاجسًا يتخوّف منه أصحاب المقدرة لدى الزعامات وفي صفوف السلطة التي روّضت القضاء وجعلتْ منه أداة لتأييد توجهاتها المنحرفة. ولو أنّ سلطة القضاء كانت على استقلالية في نهجها، لما استطاع مَن يمسك بزمام السلطة وبأبوابها الاقتصادية ونوافذها المالية أن يظلّ خارج دائرة المساءلة والأحكام العادلة. وهذا واحدٌ من أسباب عدم حصول تقدّم في الوضع المزريّ القائم منذ الغزو الأمريكي في 2003، بعدما خبرنا حكمًا دكتاتوريًا عائليًا دام أكثر من ثلاثة عقود، ولم نتعلّم الدرس. فالفاسدون والمفسدون في الوطن مازالوا أحرارًا طلقاء يتخوّف القضاء من ملاحقتهم ومحاسبتهم.
في الاستحقاق القادم، قد تبدو الطموحات بتحقيق شيءٍ من جزئيات الدولة المدنية، بمثابة ضوء آخر يلمع في أفق المستقبل. وهذا بحدّ ذاته بعضٌ من نجاح يُحسبُ لصالح النشطاء في التيار المدنيّ المتنامي الذي ينطلق ويتحرّك وفق رؤية سياسية واضحة، واسعة، إيجابية في التخطيط والمتابعة والتنسيق. فقد سئم العراقيون وعود الساسة الذين صادروا كلّ شيء، حتى إرادة الناخب وطموحاته في العيش الآمن وتحقيق السلام وراحة البال وبناء ما دمّرته الحروب والنزاعات والخصومات. وهم اليوم، أمام انتصارٍ ثانٍ، إن استطاعوا تحقيقه برفض كلّ فاشلٍ وفاسدٍ وكاذبٍ من الساسة الذين لعبوا بمقدّرات البلاد والعباد وأهانوا الإرادة وخانوا الأمانة، فسيثبتون حقًا أنهم أحفاد حضارات وسليلو أمجاد وبناة بلدان. ولكنْ، إنْ حصل وأعاد هؤلاء الساسة الفاشلون، المفسدون منهم والفاسدون، أو بعضٌ منهم، ذاتَ الدعاية الانتخابية وأفلحوا باستمالة شرائح من الناخبين البسطاء إلى صفوفهم ثانية بأية وسيلة قدرية أو دينية أو أية إرادة قهرية أو ترغيبية، فإنّ الدور الأكبر سيقع على المثقف وصاحب النهج الوطنيّ وحامل الفكر الإنسانيّ الناضج الذي لا يرضى بالظلم ولا يقبل بالوسائل القسرية مهما تنوعت وتشعبت وامتدت. فدور هذه الفعّاليات الثقافية والتنويرية مهمّ في إدامة تنوير العامّة التي يسهل اختراق إرادتها بفعل المغريات على تنوعها، مادية كانت أم بشكل وعود أو على أطباق دينية أو أوتارٍ مذهبية أو دفوفٍ فئوية. فهذه الأخيرة، أي الأحزاب المتجلببة بعباءة الدّين والعرق والمذهب، قد أثبتت الأيام، أنها غير قادرة على بناء وطن موحد جامع لكلّ المواطنين باختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، ولا أن ترسي سلامًا، ولا أن تخلق واحة للأمن وطمأنينة البال وراحة الفكر، بسبب نهجها الطائفي وسلوكياتها في الفساد المستشري في عظام زعاماتها ومَن والاها وناصرها وركبَ مشاريعها الطائفية والفئوية.
إزاء ذلك، ينبغي أن يأخذ هذا التيار ضمن استراتيجيته المستقبلية ودعواته للإصلاح بشيء من الأولوية، تأييد إجراء مراجعة شاملة للدستور ولبعض القوانين المجحفة التي تمّت المساومة عليها بالتوافق، بالرغم من فداحة مضارها وتأثير تطبيقاتها على شرائح واسعة مهمّشة في المجتمع العراقي ومنها تلك القليلة العدد، بسبب من تعالي بعض الزعامات وأحزاب السلطة على هذه الأخيرة وعدّها ثانوية، وعلى هامش الأغلبية الحاكمة. وإنْ كان فات أمرُ تفعيل بعض البنود التي أقرّها الدستور الأعرج الذي كُتب بنهج محاصصة طائفية تؤمّنُ حصص المشاركة في الحكم على أساس مكوّنات طائفية وإتنية، فلا بدّ من الضغط أيضًا قبل التوجه للاستحقاق الانتخابي القادم، باتجاه إعادة مطالبة النظر بهذا الدستور منذ الآن، وتكليف فقهاء ومتخصّصين في القانون لإعادة النظر في الكثير من بنوده التي خلت من سمة المواطنة والوطنية، ومالت أكثر لسياسة التحاصص على حساب المصلحة العليا للوطن ووحدة الأرض وبناء الإنسان وبيته وحفظ ممتلكاته وصيانة فكره وتأمين حرية الاعتقاد لديه.
هنا، لا بدّ من التذكير أيضًا، بضعف دور الجهة التشريعية التي لمْ تأمنْ من نخرها بالفساد وابتعاد ممثلي الشعب عن صيانة عهودهم لناخبيهم واللهاث وراء منافعهم الخاصة عبر مساومات وتشكيل صفقات مشبوهة بالضدّ من إرادة ناخبيهم. ونظرًا لضعف الرقابة على هذه الجهة، ولما يدور في الكواليس في مثل هذه الصفقات والمساومات، حبذا، لو زاد هذا التيار "الوطني" كذلك، من فعّالياته نحو المطالبة بإقرار تشكيل المجلس الاتحادي، الذي قد يكون ذراعًا قويًا في مراقبة الجهة التشريعية، التي زاغت وتلكّأت عن تلبية طموحات الشعب بإقرار القوانين التي تعزّز من قدرة الشعب وتجعلُه صاحب الحق قبل المسؤول في الدولة. فهذا الأخير، يُفترض أن يكون خادمًا للشعب وليسَ تمثيلَهلدور السيّد القابع في البرج العاجيّالمُحاط بالخدم والحشم، والمفعم بتكديس الأموال وبناء مؤسسات عقارية وشركات تجارية وأبراج انبهارية، بعد أن أعانه الدهر على تسلّق منصب واحتلال مسؤولية، غالبًا ما لا يستحقّها. وهذه حال الكثيرين من حديثي النعمة الذين أسقطتهم الأحداث المأساوية بأقدارها ليتسلّقوا على أكتاف غيرهم ويستغلّوا ما يستطيعون لصالحهم بالوسائل التي تعينهم على ذلك أو تلك التي يسعون إليها بوسائلهم الخاصة.
العراقيون اليوم جميعًا، أمام امتحان عسير، إن لم يستطيعوا تجاوز الأسئلة الصعبة فيه والردّ عليها بصورة إيجابية للتخلّص من الورطة التي أوقعتهم فيها الفلسفة الأمريكية الغازية لعقول الساسة الفاشلين ومَن والهم، بإدامة مشروع المشاركة التحاصصية للمكوّنات بدلاً من سيادة دور المؤسسات التي تبني الدولة وتدير شؤونها وفق الدستور والقوانين الوضعية، فإنّ مصيرهم الفشل مثل ساستهم. في هذه الحالة وفي ضوء نتائج الفشل، لا سامح الله والقدر، سيضطرّ الكثير من أتباع الديمقراطية الحقيقية والمنادون بها سبيلاً حيّا لإرساء السلام وعودة اللحمة الوطنية، إلى مغادرة الأرض وتفضيل الغربة حيث الأمن والأمان وسيادة القانون واحترام الإنسان مهما كان لونُه وشكلُه وعرقُه ودينُه ومعتقدُه.
لم يعد بوسع العراقيّ الناضج أن يتحمّل أكثر ممّا لاقاه وما شهده من مآسٍ وتجاوزات، بسبب حالة الفوضى وضعف المؤسسات الخدمية والأمنية والسيادية التي خلت منها الديار العراقية المعروفة بأصالتها وقدراتها. فكلّ يومٍ يمرّ، يطلع علينا البدر والقمر والشمس بمصائب وأعمال قتل ونهب وسلب واحتراب بين الإخوة الأعداء. وإنّه بسبب عدم وضوح الرؤية السياسية لدور المواطن وحقّه في المواطنة، يدفع الفقير وطالبُ الرزق النزيه حياتَه قربانًا بسبب الانفلات القائم حاليًا في الشارع العراقي، تحت مسميات كثيرة، ومنها بذرائع تطبيق الشرع بحقّ المختلفين عن دين الأغلبية. فهل نحن نعيش في دولة تحكمها شريعة الغاب وفق مفهوم نفرٍ من الفقهاء ضيّقي الأفق وعديمي النظرة الإنسانية وفاقدي البصر والبصيرة في حقوق خلق الله، الذي خلق العالمين مختلفين وفق نظرة ربّانية واسعة الأفق وتحت خيمة إنسانية وارفة الظلال؟ أمْ إننا نسعى لبناء دولة حضارية، عصرية، "مدنية"، ترقى بالإنسان إلى مقام الآلوهة التي حكمتْ بقدرتها بتساوي البشر في الخلق، إلاّ في الكفاءة وجودة الأداء وحبّ الله والإنسان والرحمة للآخرين وبالعبادة الصالحة والنصح بالحق بلا ملامة ولا افتراء ولا نفاق؟
يبقى هذا السؤال، نصب أعين المواطن البسيط والمثقّف على السواء، شاخصًا. ويتحمّل قادة التيار المدنيّ ومناصروهم من المتطوّعين ومن أتباع الأحزاب النظيفة التي تطالب وتسعى لتحقيق بلوغ الدولة المدنية، مسؤولية مواصلة الفعّاليات الوطنية من تظاهر متكرّر وتنسيق عالٍ بين روّاد الفكرة والشارع، وتجييش الأخير وتحشيد كلّ جهوده لصالح هذا المشروع، الذي إنْ جرى تجاوزُه إيجابًا في الاستحقاق الانتخابي القادم، فذلك يعني، وضع سكّة البلاد على الطريق الصحية الصحيحة. وفي ضوء هذه الأمنيات التي نأمل تحقّقها، سنصل بالبلاد والشعب على السواء إلى برّ الأمان وعودة البلاد وأهلها إلى الرقيّ في كلّ شيء، في الفكر المتنور والخدمة العامة والعلوم المختلفة التي فقدناها بسبب زلّات الساسة وفساد الحكّام والسلاطين.



217
مَن له حق الحديث عن مصير السهل ومستقبله؟
لويس إقليمس
بغداد، في 12 تموز 2017
صدرت الترجمة المعتمدة للبيان الختامي والتوصيات التي أعدّها منظمو مؤتمر بروكسل المنعقد بالعاصمة البلجيكية، للفترة من 29-30 حزيران 2017، وشاركت فيها رئاسات كنسية وزعامات سياسية وشخصيات مستقلة ومنظمات مجتمع مدني، إلى جانب الحاضرين من نواب وشخصيات غربية رعت وأيدت الحدث.
لستُ هنا بصدد إطلاق هتاف تأييد أو صرخة رفض بخصوص نوعية المشاركة وحجمها والغرض الفعليّ المتوخى من وراء تنظيم المؤتمر الذي يخصّ شريحة متألمة ومهمّشة ومتناقصة باضطراد ممنهج، بسبب الهجرة والنزوح للأسباب التي يعلمها الجميع. إنّما يبقى من حقّ العقلاء والمثقفين ورواد المجتمع، الدلوُ بدلوهم، بالرغم من حرمانهم القسريّ من المشاركة في إبداء الرأي فيما يخصّ شؤونهم ومستقبل أهلهم وأحبائهم ومصير بلداتهم المنكوبة، بسبب استبعادهم من مثل هذا الحق من جانب الزعامات، دينية كانت أم سياسية. فهذه الأخيرة، وبما أوتيت من قوّة وعزم وإرادة ونوايا مدفونة ومعلنة، لا يطيب لها الاستماع دومًا لآراء هذه الشريحة المدنية المستقلّة في فكرها ورؤيتها للواقع المزري، سواء كان ذلك في رحاب الدولة الاتحادية أم في الدولة الفتية القادمة المولودة من طموحات إقليم كردستان الحالي.   
بيان بروكسل، تضمّن من جملة المطالب المشروعة، أفكارًا جانبية مدسوسة قابلة التأويل، يقرأ اللبيبُ من بين سطورها، الغاية الأولوية من تقرير عقد هذا المؤتمر في هذا التوقيت بالذات: الاقتراب من نهاية داعش الإرهابي في مدينة الموصل، عقر دار دولة الخلافة الإسلامية المزعومة، وإعلان الإقليم قبل أيام عزمه الذي لا تراجع عنه بإجراء الاستفتاء وتضمينه مشاركة ما يُسمّى بالمناطق المتنازع عليها فيه. ومثل هذا التوقيت، جاء للتأكّد من حصول وإيلاء ضمانات شبه أكيدة من المشاركين من مكوّنات الأقليات الرئيسة، ومن المكوّن المسيحي بالذات، الذي ترتب عليه تأكيد مثل هذا الالتزام بما سبق أنْ أقرّه وبصمَ عليه عرّابون آخرون في وقت مضى، سياسيًا وحزبيًا وثقافيًا، بعضهم دفنهم التاريخ وآخرون ما زالوا يلوكون ذات التغريدة. فقد اقتنع العديد من هؤلاء، إنْ لم يكونوا قد ارتضوا صاغرين من ناحية توقيت عقده والنتائج الصادرة عنه بما فيها من دسّ مستتر، نتيجة لما نالوه من منح وبركات ووظائف وهدايا وإكراميات وعمارات وبناء مؤسسات لمختلف الأغراض وكنائس وغيرها كثير. وبالطبع، كلّ هذه الإكراميات لا يمكن أن تكون بغير ثمن. فهذا الأمر، لا غبارَ عليه، مهما جاء أمرُ إنكاره أو تحاشيه أو نقضه أو تكذيبه. ما علينا، كما يقول صاحب الرواية الطويلة وخبير مثل هذه المفاهيم، وهو مجهول الهوية بطبيعة الحال، فالعصفورة اللطيفة لا تكذب ولا تُكذِّبُ ما يجري في الكواليس وما يُدار في أروقة السماسرة من كلام واتفاقات ومجاملات وتعهّدات.
الأمر المهمّ في مثل هذه المؤتمرات، سواءً التي عُقدت في السابق، أو تلك القادمة المنتظر تكرارُها بسبب ما تدرّ على المنظمين من فوائد جمّة لهم ولمواليهم، ومن استغلال هؤلاء لسذاجة بعض المشاركين الذين يرتاحون لتغيير الأجواء المظلمة في عراق الفوازير والعجائب بسبب نقص الكهرباء، والشديدة القيظ بسبب نقمة السماء على أهل الدار السوداء، هو أنْ يعي المنظمون والمشاركون معًا، مَن هي الجهة المخوّلة حقًا بالتحدث باسم المكوّن المسيحي ورسم صورة مستقبلهم في ضوء الوقائع والأحداث والتخبّط، في كلّ من حكومتي المركز والإقليم، حيث اضطرّ غالبية النازحين والمهجّرين من بيوتهم للإقامة في أراضي الإقليم بسبب قربها من مناطقهم التي طُردوا منها، وبعد أن فقدوا أملاكهم وأمانهم، وسُلبوا حرّياتهم بالتعبير عن آرائهم وإبداء تصوّراتهم.
الرئاسات الكنسية التي تحوّلَ بعضُ لاعبيها إلى زعامات وخاضوا مجال التجارة في السياسة وأجادوا في ترويض النفوس الجائعة وفي إقناع أصحاب النفوس المريضة من التي لا حول ولا قوّة لها، لم تُثبت استقلاليتَها ولم تصنْ مجالَ خدمتها للنفوس كما ينبغي، وهي الكفيلة بهذه الرسالة لا غيرُها. وهذا واضح في المناكدات والاعتراضات والثورات التي حصلت من داخل المؤسسة الكنسية نفسها وبين بعضها البعض، سواء داخل الطائفة الواحدة أو الكنيسة الواحدة، أم فيما بين الطوائف نفسها، زعامات وكوادر وقواعد للمؤمنين على حدّ سواء. بل إنّ اتهامات متبادلة تُشاع بين فترة وأخرى، وقلّما تخلو صفحات المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي من مثيلاتها. والأنكى من ذلك، ما يرِدُ من ردود التكذيب أو التأكيد وبما يخلق حالات من الشك واليقين فيما يُقال ويُكتب.
بدورها، الأحزاب المسيحية المتواجدة على الساحة السياسية، بالرغم من كون أغلبها، إلا الأصيلة منها التي لا تتجاوز اثنين أو ثلاث على أوسع تقدير من ذوات القاعدة الشعبية الواسعة نسبيًا، هي عبارة عن دكاكين أو مكاتب صغيرة، كما جاز لأحد الزملاء وصفَها، وقد صدق. فهي حقًا مقرّات لنفر قليل من المنتمين الموالين لحكومة الإقليم، والذين لا يُجاز لهم الخروج عن طاعة وليّ النعمة. فهُمُ بمثابة جنود وُدَعاء يأتمرون بأمر وليّ النعمة الذي تكفّل بكلّ المصاريف والمرتبات والمخصصات والهدايا وإيجار المقرّات وعقد المؤتمرات والندوات وسائر النشاطات التي تؤدّي جميعًا إلى تأييد الرغبة بالانضمام المبدئي إلى الإقليم والدولة الكردية القادمة، بموجب فرمانات مصدّقة صدرت عن نفرٍ من شخوص الأحزاب وزعامات الكنائس وتمّ استلام أثمانها. أنا لا أعمّم، بل الحقيقة القائمة لا يمكن نكرانُها أو إخفاؤُها. فهناك من السامعين الجيدين ومن القارئين المجيدين وممن المحلّلين الأكفاء في كلّ هذا وذاك. وذاتُ الوصف الذي ينطبق على المجموعتين المعنيّتين، يمكن قولُه عن الذين استلموا مواقع حزبية ومناصب إدارية متقدّمة في حكومة الإقليم. فهؤلاء ليسوا بأفضل من المجموعتين المذكورتين. فلا استقلالية في اتخاذ القرار ولا حرية في إبداء الرأي. كيف ذلك، وهم بين المطرقة والسندان؟
هنا السؤال والتساؤل: أين موقع النبخة المثقفة من كلّ هذا وذاك؟ وهل من حقّ الكنيسة ورجالاتها، والأحزاب وأزلامها، وأصحاب المناصب ومَن يتودّد إليهم قربًا ومنفعةً، أن يكونوا أوصياء وناطقين باسم الشعب، الذي من حقّه قول كلمته بشأن مصيره ومستقبله عندما يستوفي شروط النطق والاختيار والتقرير؟ وإذا كانت الحرية المنقوصة التي أتى بها الغازي الأمريكي بعد سقوط ما سُمّي بالنظام الدكتاتوري البائد، ومثلُها الديمقراطية غير الناضجة التي طالما تمنيناها وحصلنا عليها بهذه الطريقة المخجلة، هي حادينا ودليلنا وأملنا لمستقبلنا ومصيرنا، فتبًّا لهما كليهما. فالغرب وأدلاّؤُه وعملاؤُه وأزلامُه هم مَن خلقوا هذه المشاكل وأوجدوا الأسباب لكلّ هذه وتلك. ثمّ إنّ "المطالب لا تأتي بالتمنيّ بل تُغتصب وتؤخذُ غلابًا". وهذا ما شنّفت به أسماعَنا إحدى أغنيات الراحلة كوكب الشرق وهي تحثّ شعب الكنانة والعرب على ما قاله الشاعر المبدع أحمد شوقي في إنهاض الهمم وإيقاظ الأمم من سباتها. 
في مناسبات كثيرة، في المؤتمرات كما في الشارع وفي لقاءات المقاهي والنوادي والمراكز الدينية والمدنية ومقرّات الأحزاب والمنظمات، تحدث الكثيرون وسيتحدثون عن جملة مطالب وتصوّرات وطموحات، هي من صلب حاجات أهل المنطقة المنكوبة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالأرض وديمغرافية البلدات والانتماء والهوية الوطنية، فهذا لم يعد شأنًا للمساومة ولصفقات التجار والعرّابين وأصحاب الرهانات، أيًا كان شأنُهم ودينُهم ومذهبُهم وتوجهاتُهم ومواقعُهم في السلطة أو خارجَها. ولكون المرحلة الراهنة فترة حرجة تشهد فيها البلاد فترة من عدم الاستقرار والفوضى الخلاّقة والصراعات الطائفية والعرقيّة والمذهبية، وتدير معركة ضروس ضدّ أعتى تنظيم جهاديّ مسلّح نشأ ونما واستأسدَ وحكمَ وسبى وقتلَ واغتصبَ وطردَ ونشرَ فكرًا متطرّفًا يصعبُ قلع شأفته بسهولة، فهذا يُضاف إلى سائر الأسباب الوجيهة التي تقتضي التروّي في تقرير المصير ومن ثمَّ الكفّ عن المطالب غير المنطقية والبعيدة عن العقلانية والابتعاد عن التسقيط والتخوين، لحين انقشاع الغيمة السوداء التي قد تطول لسنوات أخرى.
 من هنا يكون ترك مسألة تقرير المصير حتى استتباب الأمن والأمان، وعودة المهجَّرين والنازحين بعد تهيئة إجراءاتها وما تتطلبه هذه الفترة من إعادة الخدمات الأساسية وإعمار البنى التحتية وإصلاح البيوت المدمّرة وتعويض المتضرّرين والتأكّد من تجفيف منابع الفكر التكفيري في القرى المجاورة للبلدات المنهوبة والمدمّرة التي داسها أهل هذه القرى ودنّسوها وسلبوها وأعملوا فيها الخراب والدمار بتشجيع من عصابات داعش المسلحة التي احتلتها لأكثر من عامين. 
لستُ هنا أجافي الحقيقة ولا أقول بنتَ عمّها، بل هي الحقيقة القائمة التي يعرفها كلّ مَن يُعملُ الفكر والعقل والضمير. فليس من المعقول أنْ تطلب ممن استجارَ بك أن ينكرَ ما أبديتَ تجاهَه من مساعدة وتكريم وتعاطف. فهو في كلّ الأحوال عندما يجد السيفَ مستلاً على رقبته، لن يكون بمقدوره نفيَ ما تريدُه أو التقاطع مع ما تقوله. وهذا ما خشيناه ونخشاه من نية رئاسة الإقليم وحزبها الحاكم من فرض أجندته على عموم النازحين الذين استجاروا بهم وسكنوا في أرضهم، وهي ما تزال جزءًا من أرض العراق الاتحادي وليستْ ملكًا لأحد.  فلا الحشد الشعبيّ ولا سطوة حكومة الإقليم ولا أية جهة غيرهما حتى لو أتت من جانب الرئاسات الدينية والحزبية، من حقهم فرض أجندتهم على أهل سهل نينوى المنكوبين، سواء كان هؤلاء من المسيحيين أو الإيزيديين أو الشبك أو الكاكائيين أو التركمان أو حتى العرب منهم.
أمّا الطموح بإنشاء محافظة في منطقة سهل نينوى أو منح أجزاء منه نوعًا من إدارة ذاتية، فهذا حق مشروع، ويكفلُه الدستور لسائر المكوّنات. ولا بأس بالتفكير مستقبلاً بإنشاء إقليم على غرار إقليم كردستان. فإذا كان الغربُ المتبجّح وساسةُ البلاد صادقين مع أصحاب الشأن ومع أنفسهم ومع العالم، لماذا لا يدعمون مثل هذه المطالب مستقبلاً عندما تستقرّ الأوضاع ويعود المشرَّدون إلى ديارهم وأملاكهم ومساكنهم ويكونوا سادة أنفسهم من دون إملاءات أو فرض إرادات أو ضغط إدارات. هذا هو عينُ الحق، وهو ما يجدر بأصحاب الأجندات أن يعملوا وفقه وليسَ وفق مخططات وأطماع غيرهم. 
فلا تقاطع إذن، مع قائمة المطالب المشروعة والتوصيات التي خرج بها مؤتمر بروكسل الأخير، بالرغم من المقاطعة من جانب قيادات دينية وحزبية وشخصيات قليلة، إلاّ فيما تُشمّ منه رائحةُ مخطّط لتقسيم الموصل وإلحاق أجزاء من أراضيها بالإقليم بالطرق والوسائل والأدوات التي باتت معروفة للجميع. فمثل هذا السلوك القسريّ بهذه الأدوات، غير مقبول في هذه المرحلة الحرجة، ومثل هذا الرفض والتحذير يتفق تمامًا مع ما أصدره البرلمان العراقي بقراره بتاريخ 26 أيلول 2016 برفض تقسيم محافظة نينوى.
نحن مع المبادئ والأسس التي خرج بها مؤتمر بروكسل على الأسس الأربع: "أساس التمكين للبناء والإعمار، وأساس التمكين الأمني، وأساس التمكين السياسي، وأساس التمكين الإداري". فهذه تنطق بما يحتاجه أتباع الأقليات جميعًا، ومنهم المسيحيون، من تأكيد لضمان العيش المشترك وإدامة السلم الأهليّ وإعادة دمج مكوّنات الأقليات التي تعرّضت للتهجير القسريّ ولإجراءات التكفير، إلى أحضان المجتمع العراقي ونيل حقوقها المشروعة في دولة مدنية متحضّرة تعمل وتحترم الجميع وتسوسهم بالعدل والمساواة والتآخي.
وأنهي الكلام بما لخّصه رئيس الكنيسة الكلدانية من رأي سديد عقب تحرير الموصل بالقول:" يبقى مَنْ له الحق برسم مستقبل خارطة مناطقه وتحديد مصيره، هم أبناء الأرض الأصليون وأصحاب القضية والمأساة، عبر الحوار والتفاهم والتصالح مع جيرانهم من أتباع الديانات والأعراق والمذاهب الأخرى، من مسلمين وغير مسلمين، بعيداً عن الاجندات الخارجية او المصالح الشخصية الضيقة".


218
ما بعد "بريكسيت"، هل ستبقى أوربا قلب العالم؟
بغداد، في شباط 2017
لويس إقليمس
تتشابك الأحداث وتتداخل المصالح وتتعقّد العلاقات يومًا بعد آخر، وكأنّ العالم ليس له شغلٌ شاغل سوى تصاعد غليانه على صفيح ساخن، وزيادة في توتر العلاقات. حتى الدول والأقطار والشعوب التي كانت حتى الأمس القريب بعيدة عن مسمّيات الإرهاب وتقلبات السياسة والاقتصاد، وتفاعلات هذه الأخيرة مجتمعة وانعكاساتها، قد جاءها الدور لتدخل المعمعة الدولية وتصير جزءًا من المشكلة وليس الحل.
أميركا، أكبر قوة عالمية وأكثرها تأثيرًا في السياسة والاقتصاد وفي تقرير مصير الشعوب، تقرّرُ اليوم في العهد الجديد الذي بدأه الرئيس اللغز "دونالد ترامب"، أن تلتزم البيت العائلي وتعيد بناءَه السياسي والاقتصادي على أسس قومية وطنية أمريكية بحتة أكثر من صرفها اهتمامات جانبية وأخرى ترفيهية وغيرها ترقيعية في مناطق ساخنة لا تدرّ على اقتصادها القومي فائدة بل تبقيها أسيرة الفكر الاستعماري الغربيّ (البريطانيّ الأصل)، الذي زاد من قرف الناس وامتعاضهم واستهجانهم من هذه الوسائل التي تقيّد حركة الشعوب المستضعفة وتزيد من بؤسها وشقائها وعوزها وتأخرها. والإدارة الجديدة ضمن استراتيجيتها متوسطة وبعيدة المدى، تنوي خلق معادلة متوازنة بين الفرقاء في منطقة الشرق الأوسط بالذات، وبالتحديد بين حليفتها التقليدية السنّية وحلفائها الخليجيين من جهة، وبين القطب المنافس لها في المنطقة إيران الشيعية، التي تسعى من جانبها لزيادة الاستقطاب والتمدّد خارج الهلال القائم حاليًا، بفضل تهديدها بما تتغنّى به من تسليح متطوّر وقوات عرمرم قادرة على الصمود والإغارة والدفاع. كما أنّ إدارة ترامب كما يبدو، مصرّة أيضًا، على إيقاف المدّ التشيّعي الإيراني في عدد من دول المنطقة والحدّ من نفوذه المتعاظم الذي أرخى حبله رئيس الإدارة السابق، والذي بسببه يجري ما يجري في منطقة الشرق أوسطية الساخنة. وهناك مّن لا يستبعد صدامًا من أيّ نوع، بين إدارة ترامب وخطط الساسة الإيرانيين التوسعية على حساب العنصر العربي.
ومهما يكن من أمرِ القرارات التي اتخذها والتي سيتخذها رئيس أعظم قوّة عالمية مهيمنة لغاية الساعة، فإنها أقلُّ ما يمكن القول فيها أنها وليدة خبرة اقتصادية وفكر رأسمالي وعقل إداري، تمكن "ترامب" من بناء إمبراطوريته المالية على أساسها. وهو وإن يكنْ قد أغاض الكثيرين، ومنهم حكومة الديمقراطيين الذين ساسوا العالم على مدى ولايتي راعي التسامح مع الإرهاب الدولي وعصابات التشدّد، "أوباما"، لأيّ من الأسباب التي يعلمها الكثيرون وغيرها من التي يجهلها غيرُهم، فإنه بحسب الكثير من العقلانيين وأصحاب الفكر النيّر والمتابعين لمسيرة الشعوب وأحوالها وأهوالها، قد وضع ليسَ أمريكا وحدها، بل العالم كلّه على سكّة جديدة تقضي باهتمام كلّ دولة بمستقبل شعوبها وبوضع أولويات مكوّناتها ومصالحها قبل غيرها وبرسم مستقبل أبنائها وبناتها وفق نمط جديد من الحياة التي تحترم الآخر وتقدّر خياراته وطموحاته من دون الانتقاص ممّا للغير من حق امتلاك ناصية هذه جميعًا على أساسٍ وطنيّ خاصٍّ بها دون غيرها. هكذا قال: أمريكا أولاً! ولِما لا؟
روسيا، هي الأخرى، أثبتت جدارَتها وقدرتَها على تحريك المياه بوجه الطاغوت الأمريكي الذي تسيّد المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي في فترة ولاية الديمقراطيين، باختزاله قرار العالم عبر دَور المنظمة الدولية بما كان يقرّرُه هو لها ولمسيرتها الدولية، ومعَ مَن كان يسير في سلكِه وفي خطه الاستعماري، ونعني به أوربا على وجه التحديد، المتمثل بنظامها الاتحادي الذي لم يستطع الحفاظ على تماسكه. فقد تمكن القطب العالمي الثاني من إعادة توازنه وحساباته وفرض أجندته وتصوّراته هو الآخر من خلال إصراره على رأيه ورؤيته للأحداث والأشياء والوقائع، فيما يخصّ الأزمة السورية بصورة خاصة، قافلاً الباب الأوحد الذي صنعته السياسة الأمريكية بعد تفرّدها بقيادة العالم على نمط اللّوبيات المهيمنة على اقتصاد البلاد وتقرير مصيرها. وبهذه العودة القوية إلى المشهد السياسي العالمي، تكون روسيا قد أعادت مجدها، ولكن على طريقة "دائرة المنطق" التي اتبعها زعيمُها القوي المحترف، وصاحب الخبرة المخابراتية "السوفياتية" السابقة وجهازها الأمنيّ الضليع، "فلاديمير بوتين"، في سياسته، نِدّاً سياسيًّا قادرًا على فرض الرأي ونوعية السياسة التي تستجيب للمنطق والواقع والحق في تسيير دورة الأرض السياسية.
لكن، من المؤسف بالمقابل، أنَّ أوربا لم تقوى على تماسك وحدتها التي ظلّت هشة بعض الشيء، كما لم تستطع أن تفرض رؤيتها المستقلّة وتحتفظ بهيبتها المنقوصة أو تقوى على تعزيز عملتها الموحدة التي واصلَ وضعُ قيمتها بالتدهور أمام غيرها من السلّات العالمية، مقارنة مع بدء سريان تداولها الرسمي في 2002 غداة دخولها نظام النقد الدوليّ. ولعلَّ الهيمنة الأمريكية الواضحة أو الباطنة في بعض تفاصيلها، كانت من بين أسباب هذا الضعف، أو هي حالت دون استقلاليتها في الرأي وفي اتخاذ القرار المناسب في قضايا دولية تطلّبت شجاعة ورأيًا سياسيًا مستقلّا عن الراعي الأمريكي. وهذا ما وضعها في خانة التابع لهذا الراعي لغاية اليوم. 
حين كان الرئيس الفرنسي الأسبق "جاك شيراك"، يقف بالمرصاد في بداية الألفية الثالثة بوجه أية محاولة لفرض الرأي والتبعية للسلوك الغربيّ عبر تصدير مبادئ الديمقراطية التي تتقاطع مع قيم منطقة الشرق الأوسط وبلدانها الغنيّة بالثروات، والفقيرة في مجال التنمية والتطوّر والحرية، كانت بريطانيا تتفاوض مع راعي الديمقراطية الأمريكي لفرض نهجهما في إعادة تشكيل خارطة المنطقة على عادة الهيمنة الاستعمارية المعروفة التي اتصفت بها. فكان الربيعُ العربي الذي انقلب خريفًا قاحلاً بل شتاءً قارسًا أغلق أبوابَ الاقتصاد والسلام والعيش الهادئ بثلوج تراكمت مع مرّ السنين لتغلق هذه الأبواب بانتظار ذوبانها، ولتنقشع الصورة النهائية للأرض والبشر والحجر في الزمن الموعود. ولكن، مَن حدّد هذا الزمن، وكيف وإلى متى؟ فذلك هو السؤال اللغز! ومثلُه الرئيس الاشتراكي "فرنسوا ميتران"، الذي ظلّ عنيدًا في انتقاده للخطط والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بخاصة، وفي النظام الدوليّ عمومًا، بدعمها أنظمة دكتاتورية حمايةً لمصالحها القومية، ممّا لم يأتي ذلك منسجمًا مع ادّعاءاتها بالدفاع عن حقوق الإنسان وحماية المستضعفين وما إلى ذلك من سياسات خاطئة. وقد أتت الأيام على صدق هذه التوقعات والآراء.
    ألمْ تعترف السيدة الأمريكية الأولى السابقة حين تولّيها حقيبة الدبلوماسية لبلادها على عهد أوباما، أنها سعت لعقد صفقات مع منتمين لتنظيمات إرهابية، وتعيين بعضهم في مراكز وظيفية مهمة في إدارة أوباما، من بينهم أفراد من القاعدة والإخوان المسلمين المعروفين بتوجهاتهم الإرهابية المتطرفة والمغالين في التشدّد الذي برز في فترة رئاسة أوباما على وجه التحديد، وبالسكوت عن مشاريعهم لإنشاء ولاية الخلافة في دول شرق أوسطية، ومنها مصر؟ وإلاّ ما كان سرّ ذلك التزواج المريب بين الإدارة الأمريكية وأتباع هذه التنظيمات الإرهابية، في ذات الوقت الذي كانت تدّعي فيه هي وزوجها ومن بعدهم أوباما، محاربة بلادهم لهذه التنظيمات في وسائل الإعلام ذرًا للرماد في العيون؟ ألمْ تقلْ أيضًا أن ثورة 25 يناير/ كانون ثاني شكّلت لها صدمة، وأيةَ صدمة، مع حليفها الإخوانيّ الذي كان وضعَ بلاده على سكّة دولة الخلافة بقراراته المريبة التي تنافت مع الدستور المصري والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان وبالتعاون مع تركيا التي كانت وتزال تحلم بعودة الخلافة العثمانية تحت جناحيها وبدعم من دول تحريضية أخرى؟ كان ذلك مقابل دعمها في حملتها الانتخابية التي فشلت بها فشلاً ذريعًا، ليبدأ عهد جديد لإدارة تضع حدّا "للإرهاب الإسلاميّ"، بحسب وصف الرئيس الأمريكي الجديد "ترامب".
ومَن يعرف المستشار الألماني "هيلموت كول" أو يقرأ عنه، وكذلك خلفه " غيرهارد شرودر" يدرك سعي بلادهما ضمن الغرب الأوربي المتكامل آنذاك، لتحقيق الوحدة والاستقلالية الأوربية في السياسة الخارجية وتقوية دورها العالميّ بوجه الهيمنة الأمريكية. لكنّ تلك الخطوات التي رصّنت من موقف القارة العجوز طيلة حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولغاية بدايات الألفية الثالثة، لم تستطع الصمود. لذا لا عجب أن تعرب ألمانيا اليوم على عهد المستشارة "ميركل"، عن صدمتها للخروج المفاجئ لبريطانيا عن منظومة الاتحاد. فهذه بحسب البعض، بدايات انفراط عقد الاتحاد الذي أُريد له أن يوازن بل أو يوازي اقتصاد الكارتلات الاقتصادية التقليدية الكبرى التي هيمنت على الساحة على مدى السنين الغوابر. وميركل في سياستها، كما يبدو، لم تحسب جيدًا ما ستؤول إليه قراراتها الارتجالية بخصوص فتح أبواب بلدها على مصاريعها، ليس لأفراد ومجتمعات من دول أوربية شرقية بل من خارجها أيضًا. كما أنها لم تدرك أيضًا، ما ستخلّفُه هذه السياسة المفتوحة من مشكلات اقتصادية وسياسية ومجتمعية لاحقة. وفي حين تسعى لتبديد مخاوف شركائها في الاتحاد، من خلال اتخاذ ما تعتقد اتخاذه عقوبات على بريطانيا بسبب هذا الخيار الداخلي المفاجئ الذي ينذر بانهيار الاتحاد بين حدث وآخر، فإنّ اليمين البارز على الساحة الأوربية ومعه الشعبويون والقوميون الجدد يقفون لها بالمرصاد، في كلّ خطوة تُقدِم إليها. وبالرغم من حصول المستشارة الألمانية على ما يشبه الموافقة من الإدارة الأمريكية السابقة على ما اتخذته من إجراءات تحصينية ووقائية لمنع مثل هذا الانهيار ومنع إقدام دول أخرى لحذو ما قامت به بريطانيا، حفاظًا على حليف دوليّ خاضع للسياسة الأمريكية التقليدية وتنفيذ ترتيباتها ومخططاتها السياسية منذ سنوات، إلاّ أنّ واقع الحال لا يبشّر بخير. فالأحداث المتلاحقة، تشير إلى صعوبات اقتصادية بدأت تعاني منها ألمانيا نتيجة للتراكمات المتضعضة والمهتزّة في السوق الأوربية المشتركة التي كاد المنتَج الألماني يهيمن على سوقها أكثر من غيرها، لما تشكله المانيا من قوة اقتصادية ضاغطة على دول الاتحاد. وبهذا، فهي من حقها أن تخشى فقدانها سرّ الهيمنة الاقتصادية التي طبعتها طيلة السنوات التي تلت تأسيس الاتحاد والسوق المشتركة.
والسؤال الذي يطرح ذاته، هل ستتمكن أوربا من الاحتفاظ بدورها الريادي، كي تبقى قلب العالم، كما يتصوّر ساستُها وما تبقى من الأحزاب اليسارية الحاكمة؟ هنالك مّن يرى أنّ خروج بريطانيا لن يكون له تأثير كبير، بسبب كون الأخيرة خارج محيط منطقة اليورو كعملة موحدة واحتفاظها بعملتها الخاصة. وقد يكون هذا ضمن المنطق الاقتصادي أكثر منه دخولُه ضمن نطاق السياسة والحراك الدولي لمصالح الكبار. فيما يرى الأوربيون أنّ هذا الطلاق لن تكون له تأثيرات قوية بالرغم ممّا كانت تمثله بريطانيا من قوّة اقتصادية وسياسية لا يُستهانُ بها على الصعيد الدولي. والأيام القادمة هي الكفيلة بالإجابة على هذا التساؤل. فجزء من الردّ قادم مع سلّة الانتخابات التي ستشهدها فرنسا هذا العام ومعها ألمانيا لاحقًا، باعتبارهما أكثر الأعضاء متانة في الاقتصاد والسياسة والإنتاج على السواء.


219
عن الإصلاح والصلاح في العراق
لويس إقليمس
بغداد، في 15 آب 2017
نال موضوع الإصلاح في الدولة والحكومة بالعراق، قدرًا من التفاعل الرسميّ والمجتمعيّ وإبداء الرأي في الشارع العراقي، مذ تولّي رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي رئاسة الحقيبة الوزارية من سلفه الذي لم يصن أمانة الحفاظ على سلامة الأرض والعرض والثروة الوطنية، بل أشعل فتيل الفتنة الطائفية وقاد البلاد إلى شفير الإفلاس وأطاح بأي أملٍ بانتقال البلاد من الفوضى الخلاّقة إلى دارة الدولة المدنية. فالمشروعُ الإسلاميّ المشبوه الذي مازال هذا الأخير يسعى لتسويقه ضمن برنامجه ليضمن سطوتَه على مقدّرات البلاد، لا يمكن أن يُكتب له النجاح ويجد النور، لأسباب كثيرة وواقعية، منها ما يمسّ ذهنية المواطن العراقي وأخرى ترجع إلى طبيعة الأرض التي احتضنت حضاراتٍ وشعوبًا وأديانًا لها تاريخُها وصفحاتُها المشرقة الخالدة في حياة شعوب المنطقة والبلاد على السواء. فهذا المشروع، علاوة على شبهات ارتباطه بدولة الجارة إيران، والذي يتطلع فيه إل تقليدها في مبدأ ولاية الفقيه التي لا تنسجمُ مع ما هو قائم تقليديًا وحضاريًا واجتماعيًا من تعددية في الأديان والأعراق والمذاهب والأجناس، سيكون طعنة مثخنة في خاصرة التوّاقين لرؤية العراق بلدًا متطوّرًا ومتحضّرًا، ليعود إلى حاضنة المجتمع الدولي معافى من أدران الماضي المعفّر بالدم والكراهية والطائفية والحقد والخصام والتمزّق والدكتاتورية المتوارثة عبر الأجيال لدى شعوب المنطقة، ومنها بخاصة الدول الإسلامية على وجه التحديد. من هنا كان الاتفاق على ضرورة استبدال المالكي بعنصرٍ من كتلته ومن حزبه ظاهريًا، كي يقوم بما عليه في ساحة الإصلاح من أجل نقل البلاد وأهلها إلى واحة مختلفة ترفل بالأمن والسلام والرفاهية وإجراء مصالحة مجتمعية لإصلاح ما تمّ التفريط به على عهد سلفه. 
عملية الإصلاح، أيًا كانت بداياتُها أو غاياتُها، لا تخلو البتة من مغامرات وهواجس واختلاجات وإرهاصات على الصعيد الشخصيّ للأفراد، وعلى صعيد المجتمعات كمكوّنات جامعة ومنضوية تحت لواء دولة ذات سيادة، على السواء. والعراق كان في غابر السنين ضمن مثل هذه المواصفات التي تحققت وتكوّنت منها هوية أية دولة لها شأن في التاريخ البشري. فبلادُ وادي الرافدين، بتاريخها الموغل في القِدَم والحضارة البشرية، تشهد لها آثارُها وتركتُها الثقافية الغزيرة والسِيَر المأثورة لعلمائها ومفكريها ومثقفيها وما تركه هؤلاء للأجيال. وهذه العملية، لا تتحدّد بهدف معيّن أو شأنٍ محدّد دون غيره، إذا أُريد لها أن تكون شاملة بمفرداتها ومعطياتها وبنودها التي تغطّي سائر مكامن الحياة وشؤون البلاد والعباد. 
بدءًا، يأتي إصلاح النظام السياسي والاقتصادي على رأس الأولويات، لأنه يحفظ للبلد سيادتَه وتحكّمَه بشؤون مقدراته الداخلية والخارجية التي تجعلُ منه قوة تتحكم بمصادر القرار، وتمنحه مَنَعةً وتحصينًا إزاء أية محاولة لزعزعة الأمن والاستقرار فيه أو تلك التي تسعى لإبقائه رهينة بيد القوة التي تصرف عليه وتوجه أداءَه الداخلي والخارجي وسياستَه السيادية وفقًا لأجنداتها ومصالحها في استهلاك أيّ شيء وكلّ شيء. ومن المهمّ بمكان، الاستفادة من الدروس السابقة والاسترشاد بالخبرات المتراكمة حول نوع النظام الأصلح لسياسة أية بلد، بالوقوف على شكل النظام السياسيّ الذي ينفع ويأتي بالسعادة والاستقرار والرفاهة للمواطنين بغضّ النظر عن تلاوينهم وتشكيلاتهم وخلفياتهم الدينية والعرقية والمذهبية والثقافية والاجتماعية. فهناك النظام البرلماني الذي يُؤمّن نوعًا من الديمقراطية وحرية التعبير والرأي والتنقل، هذا من حيث المبدأ لا الواقع. وهناك النظام الرئاسيّ، الذي في حالة استغلالِه من قبل هرم السلطة بتحويله إلى أداة لحكم العائلة والقرابة والمحسوبية والمنسوبية، يتحول إلى كابوسٍ لكمّ الأفواه وزجّ الأحرار في الغياهب وقتل أية بادرة للتعبير عن الرأي والحرية في اتخاذ الخيارات الشخصية والاجتماعية وتقرير وسائل العيش الحرّ الكريم. وهذا الأخير، تتصف به غالبية دول المنطقة، والإسلامية منها بصورة خاصة، ولدينا من أشكاله الكثير من الأمثلة والدروس، إلاّ في حالة واحدة قد تنفع، وهي أن يكون مثل هذا الحاكم عادلاً بحكمة سليمان الملك وشديدًا بحدّة حمورابي صاحب المسلّة وأول قانون نظاميّ يُطبَّق على الجميع. وهذا من النادر إيجادُه والعثور عليه. فهذا الصنو من الحاكم "الدكتاتور العادل"، سيكون قادرًا على إحلال الطمأنينة في قلب المواطن وفي إرضائِه من حيث حقوقه في التساوي بالمواطنة وتحقيق العدالة وفقًا للدستور الناضج الذي ينبغي أن يتولاّه أصحاب الاختصاص وفيه تُرسم سياسة البلاد الداخلية والخارجية لتنسجم مع طموحات عامة الشعب بجميع مكوّناته، حينما يُكتب بنَفَس مدنيّ حافظ لحقوق الجميع.   
أمّا لماذا فشل النظام البرلمانيّ في العراق، وهو الذي من وظيفته من حيث المبدأ إتاحة فسحة أوسع للحريات العامة، فهو لكون الدستور الذي وضعه مَن أتوا على ظهر الدبابات الغازية أو بدعمٍ من إدارتهم لاحقًا، لم يكن عقدًا وطنيًا ومجتمعيًا متكاملاً بسبب وجود ثغرات عديدة في بنوده وتضمينه ألغامًا كثيرة وتسييسه لجانب فئة على حساب العامة من سائر الشعب. وكذلك باعتماده على مبدأ المحاصصة والسماح للزعامات أو بالأحرى لمافيات الزعامات السياسية لاستغلال هذه وتلك في مسألة انتهاب ثروات البلاد واقتسام موارد الدولة والمناصب الرسمية والحكومية ووضع أيديهم على فعاليات السوق الوطنية التي همّشت دور النخب وأهملت دور القطاع الخاص في بناء دعامات اقتصاد البلاد، وهو الأجدر بقيادة وإدارة هذا الأخير والأكثر نزاهة في توجيه السياسات التجارية والاقتصادية وتطويرها نحو الأفضل.
 مثل هذا الفشل في صيانة الحق الطبيعي للفرد والوطن بسبب تراكم الخروقات والأخطاء، يعني الحاجة لتأكيد النزوع إلى نظام بديلٍ ونزيه ومتطور يحفظ توازن المصالح العليا للبلاد وليس فرض منافع لسلطات حاكمة ومافيات متنفذة ليس بإمكان الحكومة الضعيفة الحالية محاسبة الفاسدين والمفسدين منهم، بسبب ضعف الأداء العدلي والقضائي والجهات الأمنية التنفيذية التي يُفترض توليها حماية البلاد وثرواتها وسيادتها، والحرص على صيانة أمن المواطن على السواء.
في ضوء هذا التوجّه نحو إصلاح الدولة، حكومةً ومؤسسات وأفراد، هناك حاجة ملحة قبل كلّ شيء، لإصلاح النظام الانتخابي الذي يمثل إحدى حلقات الفساد عبر التحكّم بطبيعة القانون الانتخابيّ وإخراجه عن الشفافية في طريقة الترشّح وأدواته وشروطه. فهناك، مَن يسعى دومًا لفرض الذات وأجندة الحزب والكتلة والجهة التي تسند وتدعم وتقدّم المرشَّح "ممثلَ الشعب" المفترض، وتوجهه في حالة الفوز بمقعد برلماني، بالطريقة التي تحفظ عادة مصالح الأحزاب الكبرى ذات الأغلبية، والمتنفذة دومًا في العملية السياسية. فالقانون الانتخابي مازال غير قادرٍ على إتاحة الفرصة لجميع المواطنين بالمشاركة في الانتخابات والترشح، بسبب غلبة الأحزاب المتسلطة والمتنفذة التي ماتزال تتخاصم وتهدّد وتفرض أدواتها القسرية بصياغة القانون الانتخابي وفق مصالحها، كلّما سعت جهاتٌ وطنية مهمّشة لإجراء تعديلات عليه كي تُتاح فيه الفرصة لمشاركة أوسع، لاسيّما من أوساطٍ مستقلّة ذات توجهات وطنية أو من جانب مكوّنات ترى نفسَها خارج العملية السياسية بسببٍ من قلّة أعدادها. وهذا ما يجري حاليًا، حيث هيمنت الكتل والأحزاب الكبيرة فارضة شروطَها في تشريع القانون الانتخابي، بالرغم من اعتراض الكثير من الكتل والأحزاب الصغيرة التي ترى نفسَها مغبونة في حقوقها الانتخابية. فقانون سانت ليغو الحالي، سواء بنسخته1,9   أو 1,7 ، لا يلبي طموحات المستقلّين والأحزاب الصغيرة التي تمثلها الأقليات. وما تطالبُ به هذه الأخيرة يقارب المنطق والحق في التعامل العادل والمتساوي بين كافة المواطنين، وبما يتيح لإجراء توازن وفق المصلحة العليا للوطن وبالاستناد إلى مبدأ المواطنة المتساوية للجميع التي تتيح الحق للجميع من دون استثناءات أو امتيازات لفئة دون أخرى.
كان من ضمن أبجديات حكومة العبادي، تشكيل حكومة "تكنوقراط"، قادرة على مواجهة البلاد الغارقة في أزماتٍ عديدة لا حصرَ لها. وبالرغم من موافقة "ظاهرية"، أو بالأحرى موافقة "إعلامية ودعائية" مبطنة بنوايا مشكوكٍ فيها من جانب زعماء الكتل وأتباعهم من المنتفعين من نواب البرلمان، إلاّ أنّ تلك الرغبة من جانب رئيس الوزراء، سواءً كانت صادقة أو مراعية لصوت الشارع ظاهريًا، قد اصطدمت بصخرة الرفض من تحت الكواليس. وجرى ما جرى لإجهاضها ووأدها وهي في التكوين الرحمي. وفي الحقيقة، أنّ صفة التكنوقراط، بعيدة بعض الشيء في وصف الوزارة الحالية، إلاّ في حقائب معدودات يتسم وزراؤُها بالكفاءة التي تدعمُها الشهادة والخبرة معًا. أمّا مَن اعترض أو حاول إجهاض مشروع التكنوقراط، فجلُّهم من الأحزاب والكتل والنواب من غير ذوي الكفاءة والجدارة والأهلية في إيثار مصالحهم الفئوية الضيقة والحزبية والطائفية على حساب المصلحة العليا للوطن والشعب، بسبب أنّ مثل هذا التوجه نحو الكفاءات الوطنية العراقية، ومنها تلك المستقلّة بوجه خاصّ، كان سيضع حدّا لطموحاتهم الشخصية في التسلطّ على الحكم والمال، كما هو قائم حاليّا. فالمؤسسة التشريعية، بسبب بعض الدخلاء من المزوّرين والفاسدين ومن غير ذوي الخبرة والنهج الوطنيّ في التعامل مع السياسات العليا للبلاد، بقيت وماتزال عاجزة عن تمثيل الشعب، إلاّ بنشاطها ما قبل الانتخابات عبر الكمّ الهائل من الوعود والتعهدات التي تُقدّم للناخب المسكين الذي يصدّق كلّ شيء بسبب من هشاشة فكره وعوزِه وضعف توجهه الوطنيّ هو الآخر.
أمّا من حيث تعزيز مبدأ الديمقراطية الذي ينادي به الجميع دون إدراكٍ حقيقي لما يُرتكب من جرم وفساد وخرق باسم هذه المفردة الشائعة التي أضحت شعارًا فضفاضًا للمتسترين على فضائح الفساد وسوء الأداء وضعف الفعّالية في إحداث التغيير المرتقب في الدولة والمجتمع على السواء، كان لابدّ من سيادة مبدأ التوازن في السلطات على ما سواه من سيادة مبدأ المصالح والامتيازات التي أخرجت النظام الديمقراطي عن سكّته المخطَّط لها، كما هو قائم في الدول التي مرّت بتجارب مماثلة واستطاعت اجتياز المحرَّمات التي ماتزال تعشعشُ في معظم الأنظمة العربية، ومنها بلادنا. من هنا، وبسبب سطوة أحزاب السلطة التي ماتزالُ تضع يدَها على كلّ مفاصل الدولة الغارقة في مشاكل لا حصر لها، اعتمادًا على أساس النهج المحاصصي المقيت الذي أغرق البلاد والعباد في دوّامة الفوضى الخلاّقة، كان لابدّ أن يدرك الساسة أن مسألة فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، تُعدّ من أركان الديمقراطية التي ينشدها جميع المؤمنين بمبدأ الحساب والعقاب من دون تهاون أو تمييز أو امتياز، وكذا وضع الرجل المناسب في المكان المناسب الذي ينبغي أن يكون فيه وفقًا لجدارته بعد أن يتمتع الجميع بالفرصة المتاحة للمكان المؤهَّل لكلّ فرد وكلّ مواطن.
إنّ مسألة تداخل السلطات وفرض الإرادات وإجازة القوانين والتعليمات تبعًا للجهة الأقوى، تُعدّ كارثة في بناء أية دولة لا تقيمُ قدرًا للديمقراطية ولحرية الفرد وكفاءة الأشخاص. وهذا دليلٌ إضافيّ آخر على الفوضى وخلط الأوراق بين شركاء العملية السياسية الذين يقيمون في وادٍ ويعيشون في أبراجٍ عاجية، وبين الشعب الذي يقيم بعيدًا عنهم ويعيش في وادٍ آخر مليء بالدموع والكوارث والأحزان ويقوم على الوعود العرقوبية. وهنا، ليسَ مَن يُلام على هذه الإشكالية، هم المسؤولون في السلطات الثلاث وأحزاب السلطة فحسب، بل الشعبُ أيضًا بسبب من سذاجة شرائح واسعة في صفوفه وهشاشة أفكارهم وتبعيتهم واعتيادهم السير وراء الجلاّد من دون مراجعة ولا تفكير ولا تحليل ولا تمييز للأسباب والنتائج والمؤهلات والظروف.
هنا يأتي دور التيارات الوطنية والنخب المثقفة والمدنية، العلمانية المستقلّة منها على وجه الخصوص، برفع صوتها بالتحذير من الوقوع في حبائل وفخاخ ذات الجهات التي أثبتت فشلَها في تمثيل الشعب وفي بناء الوطن وتقديم الخدمات وتطوير البلاد وتأمين سلامة المواطن وصيانة شرفه وعرضه وأمواله وحرية تعبيره وتنقله وحقه في حياة حرة كريمة. فحالة الإحباط القائمة والمتزايدة يومًا بعد آخر بفضل سوء أداء السلطات الثلاث، وفشلها بتحقيق تحوّلات هامة على كافة الأصعدة وكذا في الإصلاح، أصبحت حالة يومية تتشابك مع أحداث الساعة، وفق متغيّرات الشارع الثائر الساخن، بسبب قيظ الصيف الشديد الحرارة وكذا بسبب الأحداث السياسية والتفاعلات البينية والعلائقية بين الكتل السياسية والزعامات وأجندات كلٍّ منها، وما شهدته هذه مؤخرًا من تشظيات وانقسامات واتهامات. والخشية من كلّ هذا الحراك، أن تكون ضمن لعبة سياسية تجيدها أحزاب السلطة لتغيير الوجوه والبقاء في دارة السلطة والواجهة من جديد، ولكن بتسميات جديدة ووجوه تتلاعب بمشاعر الناخب الحائر.
من جانبٍ آخر، ما يمكن تسميتُه بالعجز القائم في السلطة التنفيذية في التصدّي لانفلات الشارع وإصابة الأهداف المتورطة في أعمال خطف وسطو وقتل وتهديد وما شاكلها، تشكّل اليوم تحديًا آخر يُضاف إلى نصاب المشاكل القائمة بين الأطراف الحاكمة والمشاركة والمعارضة، ومن تلك المتهاونة فيها في رصد الجرائم ومتابعة سلوكيات فاعليها والواقفين لها دعمًا وسندًا وتشجيعًا وتستّرًا على فاعليها على السواء. وهذا ينمّ بالتأكيد عن الضعف في مواجهة الحدث الجرميّ والفشل في تقديم الحلول الناجعة التي ينتظرها المواطن البسيط من الدولة. هذه السمة الفوضوية في الإدارة، التنفيذية منها والتشريعية والقضائية، تفضي إلى نتيجة صائبة وهي غياب الرؤية السيادية في البلاد، السياسية منها والإدارية والاقتصادية والمالية والعلمية وحتى المجتمعية التي أضحت فريسة للحكم العشائري وأصحاب الميليشيات المتنفذة في بعض المناطق والأوساط، ما يُبعد الدولة عن تطبيق مبدأ القضاء العادل بحق المخالف والخارج عن القانون وغير المنضبط من المنضوين تحت ألوية مسمّيات كثيرة لا حصرَ لها، بحيث ضاع الخيط ومعه العصفور. وتلكم حالة واضحة لا تحتاج لشرح تفصيليّ أو سند توثيقيّ.
ما يحصل على الساحة العراقية، قيام كانتونات وتنظيمات ومؤسسات أشبه بحكومات موازية للحكومة الرسمية، لها ميزانياتُها وسياساتُها التي تفرضُها بفضل ما تتمتع به من سطوة وباعٍ طويل في شبه الدولة الغائصة في بحورٍ من المشاكل التي لا حصرَ لها، كما أسلفنا. ولعلّ الحلّ الوحيد الذي بإمكانه انتشال شبه الدولة هذه وإيصالها إلى برّ دولة ذات سيادة واعتبار دوليّ صحيح، تكمن بتعزيز نهج السيادة الوطنية على غيرها من السياسات والوصول بها إلى نتيجة قيام إدارة سيادية وسياسية واضحة المعالم مستندة على شرعية الشعب وتتحمّل المسؤولية الوطنية بموجب تخويل حقيقي من الشعب والفعاليات المختلفة التي لها حق المشاركة في الحكم وإبداء الرأي والاعتراض ومراقبة الأداء الحكومي بكلّ جوانبه. وهذا يدعو إلى اعتماد مبدأ فصل السلطات الذي مازال يعاني من تداخلها ومن تسييس في أدائها وسياساتها لشتى الأسباب والأهداف التي تتقاطع مع طموحات التيارات الوطنية والشعبية الرافضة التي ترفع صوتَها، ولكن ما من مجيب إلاّ على خجل. من هنا، نجد أن لا بدّ من رفع مثل هذا الغموض في هذا التداخل غير الحضاريّ والناقص للشفافية في اعتماد مبدأ المساواة وتحقيق العدالة في صفوف العامة والحفنة الخاصة التي استقطبت وسيطرت على مقاليد السلطة، وهي غير أهلٍ لها.
أمّا ما تعانيه البلاد من أزمة مالية واقتصادية، فمردُّها بالتأكيد، سوء التخطيط والإهمال والتقصير وتفضيل المصالح الفئوية والطائفية على العامة والوطنية والفشل في إقرار استراتيجيات بعيدة المدى، واستنزاف الاحتياطيّ من أموال البلاد في مزاد صرف العملة المتزايد يومًا بعد آخر. هذه الأزمة الاقتصادية شكّلت بالأمس وما تزال تشكل اليوم تحديًا كبيرًا شائكًا في خاصرة الوطن وأبنائه ومستقبل الأجيال. وهي إن دلّت على شيء، إنّما هي عنوانٌ على سوء الإدارة وضعف القيادة وغياب الاتساق في الجدارة والأهلية ووضع الأشخاص المناسبين من "النخب" وليس من "حفنات" من الموظفين والمسؤولين من ناقصي الخبرة والرؤية الوطنية والبعد الاستراتيجي في وضع السياسات الناجعة. والدليل على وجود تخبّط في هذه جميعًا، الفشل في تقديم أجوبة أو مقترحات حلولٍ تسهم في ردع المقصّر ومحاسبة الفاسد، وفي توجيه سياسة الدولة نحو برّ الأمان بحيث ينتصر الحق على الباطل، ويسود العدل بدل الظلم، ويُردعُ الفسادُ وصاحبُه وفق القوانين وعدالة السماء، إذا ما اقتضت الضرورة من دون تقاعس. وهذا ما ليس قائمًا في أوساط حكومتنا وسياسيينا وزعاماتنا.
وسيبقى مشروع الإصلاح الحقيقي في بنية الدولة، حكومةً ومؤسساتٍ وقوانين، قائمًا حتى تحقيق قدرٍ من الاستقرار في كلّ مفاصل الحياة. فلا خير في إصلاحٍ لا يجدُ المواطنُ النزيهُ والمستقلّ مكانةً في إدارة البلاد وفي تطبيق الوسائل الفضلة في تسيير دفة الاقتصاد وصيانة الأمانة في الحريات العامة واستخدام ثروات البلاد في البناء الصحيح وفي تحقيق الرفاهية وتسارع الخدمات وصولاً إلى مصاف الدول المتقدّمة التي تعرف كيف تحترم الآدميين لديها وتحاسب لصوص النهار وسرّاق الليل بداعي المواطنة الحقيقية المفقودة في بلدٍ كالعراق فقدَ جلَّ مؤسساته البنيوية بسبب الفساد والمفسدين.

220
الدولة المدنية، هاجس أم ضرورة؟
لويس إقليمس
بغداد، في 3 آب 2017
يخشى الكثيرون ممّا يجري على الساحة السياسية العراقية من مناورات وتغييرات واتفاقات جديدة وتشظيات لأحزاب وكتل، من أن تتحول كل ّ هذه التحرّكات إلى هاجس يقضّ مضاجع أصحاب الفكر المتلوّع منذ سنين بفعل أجندات الأحزاب الطائفية والإسلامية التي أثبتت الأيام فشلَها الذريع وعدم تلبيتها لطموحات العامّة من الشعب الذي أولاهم الثقة مرّة تلو الأخرى. ومع اقترابنا من موعد استحقاق انتخابيّ وشيك، إنْ سارت الأمور بحسب المخطَّط له، تلوح في الأفق تساؤلات كثيرة ومبرّرة تقتضيها ماجريات المرحلة وخطورة الوضع الساخن والشدّ القائم بين الزعامات ومراجعها، داخليًا وإقليميًا ودوليًا. هذا إضافة إلى اتساع حيّز الخلافات بين الحكومة الاتحادية وتقاطعها مع طموحات إقليم كردستان الذي زاد من مكابرته بتهديداته المتواصلة بالانفصال وتقريره إجراء الاستفتاء في مناطق خارج حدوده، وذلك باستخدام سياسة ليّ العنق وفرض الأمر الواقع على مناطق محرّرة لم تكن يومًا جزءًا من المنطقة الكردية المتنامية على حساب المركز، مستغلاً انشغال الدولة وتشكيلاتها الأمنية بتطهير البلاد والأرض والإنسان من خوارج العصر المتمثلة بروافض داعش الإرهابي.
إذن، مع تزايد حدّة التوترات بين شركاء العملية السياسية عمومًا، ومنها ما ضربَ أوساط أحزابهم التي نخرتها التحزّبات والخلافات والانقسامات، يبدو المشهد السياسيّ أمام خيارات صعبة، وبسببها وعلى ضوئها تسعى بعض الزعامات التقليدية التي لبست عباءة الدين في بداية مشوارها، للهرولة للحاق بالتيار المدنيّ الذي غزا الشارع العراقي بفعل نشاطه وحراكه الشعبوي والجماهيري، لعلّهم بذلك يسترجعون نزرًا من تعاطف الشعب الذي منح حراكَ هذا التيار العفوي ثقته بعبور محنة الفشل نحو بصيصٍ من برّ الأمان. وسواءً التحق بعضٌ من هؤلاء المتسارعين الفاشلين، نحو القاعدة الشعبية التي التحقت منذ حين بحراك التيار المدني-العلمانيّ وسارت وفق منهاج مخطَّط له بخطى ثابتة، أم اتخذوا لهم خطوطًا ومسارات جانبية محاذية لهذا التيار، فإنهم بهذه الحركة الذكية يكونون قد أدركوا أنّ الشعب قد أصدرَ حكمه على فشلهم وعلى خيبة أمله من سلوكياتهم ومن لهاثهم وراء مصالحهم الضيقة، أيًا كان عنوانُها. فشعار"باسم الدّين باقونا الحرامية"، الذي رفعته جماهير هذا الحراك، ما يزال يرنّ في آذان الشعب ويقضّ مضاجع المعنيّين به. ومن ثمّ، فأيةُ محاولة في هذا الاتجاه لثني الشعب عن مطلبه بضرورة التوجه نحو دولة مدنية متحضّرة سوف لَن يُكتب لها النجاح، حتى لو تخلّى أمثال هؤلاء عن عباءة الدين والطائفة والمذهب والعرق، وانتفضوا أو انقلبوا ضدّ مشاريع أحزابهم الدينية والطائفية والعرقية أو غيّروا من الشعار والهدف والتسميات. والسبب بسيط، لأنّ مثل هذه الألاعيب قد أصبحت مكشوفة، ولا يمكن للبيب أنْ يُلدغ من جحره مرتين. فجزءٌ من الشعب الذي فعلها أكثر من مرة ويريد تكرارها، لا سمح الله، إنّما لأنّه سيبقى مجموعة بائسة و"حفنةً" هشّة من التوابع بلا غيرة وطنية ولا شعور بالمواطنة الحقيقية أو بالانتماء الأصيل إلى الأرض والوطن.
من هنا، يأتي دور النخبة الواعية في هذا التيار، بعد إجادة دراسة الأسباب والمبرّرات وإحاطتها بطموحات الشعب وطلباته. وهذا ما أتت به ضمن برامجها واستراتيجيتها الملهمة بعد دراسة كلّ هذا وذاك، حيث لم تأتي من فراغ، بل من قدرات وطاقات مفعمة بحب الوطن ومترعة بالفكر النيّر والرؤية الوطنية الواضحة التي تسعى لتوجيه الدولة نحو بناء ديمقراطي مؤسساتي بكلّ مفاصلها وفق المتغيرات الجيوسياسية والتحولات المادية المتعاقبة وليس الانكفاء على عقيدة أو مذهب أو أيديولوجيا غريبة عن الواقع أو عفا عليها الزمن. ومن ثمّ ينبغي مواصلة المسيرة الظافرة حتى بلوغ المأرب وتحقيق الهدف.
عندما انبرى التيار المدني، "الوطني" في وصفه أكثر من غيره، بسبب رفضه للنهج الدّيني والطائفيّ والمذهبيّ الضيّق الذي سلكته أحزاب السلطة واستقوت به سلطة بعض الأحزاب، لاسيّما المحسوبة على تيار الإسلام السياسي وأصحاب المشروع الإسلامي، أقامت هذه الأخيرة الدنيا ولمْ تقعدها، متهمة أتباع التمدّن والتحضّر بالخروج عن نهج تعاليم الدين السمح، وبمحاولة علمنة الدولة وسلطتها، وبإبعاد الحكومة وأساطينها عن تطبيق شريعة الله في الأرض بالطريقة التي يريدها هؤلاء، أو بعض هؤلاء. ومع مرور الأيام، استطاع هذا التيار "الوطني" النشط أن يستقطب الجمهور ويكسب شرائح محسوبة على أتباع السلطة، أو بالأحرى بعضًا من المكوّنات الحزبية المنخرطة في العملية السياسية، ومنها بما لا يقبل الشكّ تيار الأحرار الذي لقي دعمًا ومشاركة من زعيمه الجريء، شريطة بقائه أمينًا للغاية المرجوّة من التحاقه به، ورهنَ مواصلة المشوار مع باقي التنسيقيات المثابرة من دون العبث بالهدف الأسمى الذي يرنو إليه أصحاب الرؤية الوطنية الصادقة.
مثل هذا النجاح المحسوب للتيار المدني "الوطني"، إنْ دلّ على شيء، إنّما يندرج ضمن المكاسب والمآثر التي استحقها الناشطون فيه، بعد إفلاحه بكسب ودّ الشارع الثائر الغاضب المتلوّع، وقد انتخى له متطوّعون وعفويّون اكتووا بنيران أحزاب السلطة الفاشلة، مثل سائر أبناء الشعب الذي مازال يتحمّل وطأة أخطاء السلطات المتعاقبة ويرزح تحت ثقل فسادها وفشلها. من هنا، كانت مساهمة هذا التيار في كشف المستور من فساد السلطة عبر إدامة تظاهرات الجمعة المطالبة بالإصلاح وبالخدمات وبمحاسبة الفسادين الذين مازالوا أحرارًا يديرون امبراطوريات مالية ومشاريع وهمية وسرقات تثقل كاهل ميزانية الدولة، سواءً بمرتباتهم الخيالية أو بالمكارم التقاعدية أم بوضع اليد على تخصيصات الوزارات التي تُقيّدُ للجهة التي تتولى تسييرَ دفتها وإحكامَ سطوتها عليها.
كلنا نعلم، أنّه لولا تراخي أصحاب السلطة والصراعات المتواصلة المتصلة بالعملية السياسية وبين أحزاب السلطة، لما سقط أكثر من ثلث مساحة البلاد بيد حفنة من العصابات الإجرامية التي لا وطنَ لها. ألمْ تضطرّ الحكومة الحالية تحت تزايد الكثير من هذه الضغوط، لإنقاذ البلد وأهله من مصيبة كادت تنهي حضارة وادي الرافدين ويُقرأ السلام عليه وعلى أهله لفترة غير محسوبة من الزمن؟ إنّ التعجيل بتحرير الأرض، التي تسبّبَت بها زعامات في الحكومة السابقة بتلكؤِّها عن أداء واجبها الوطني، قد قطع الطريق أمام تحقيق حلم عصابات العصر المجنونة بفكرها المتخلّف والمهووسة بأدواتها الجرمية البشعة، لإلغاء حضارة وادي الرافدين وشطب اسم العراق من الخارطة. فما حصل، كان ناجمًا عن صراعات طائفية ومذهبية وفئوية وأحيانًا فردية وشخصية بين أطراف تتشارك الحكم والسلطة والمال. وإزاء ذلك، فقدَ المواطنُ توازنَه ولم يعد يدرك إنْ كانت هذه الأطراف تحكم بحكم الشراكة والتوافق والاتفاق، أمْ إنها تسلك خطّ المعارضة بالاعتراض على كلّ شيء يصدر أو يبدر أو يُنجز من جانب حفنة السلطة، دولة وحكومةً وقضاءً. من هنا، يكون أتباع هذا التيار "الوطني" قد أجادوا الحكمَ لصالح توجيه كل أنشطتهم باتجاه بناء دولة مدنية متحضّرة تساوي بين مواطنيها وتحكم بالعدل ويسودُها دستور متطوّر يتناسب مع تقدّم العصر وتنوّع الفكر، وكذا بتحدّي أية محاولة لشقّ وحدة الأرض وتمزيق أواصر الشعب ومنع تقدّم المواطن أيًا كان، ومن دون تمييز.
ليسَ من السهل إحداث تغيير في ثقافة شعبٍ صادرتْ أحزابُ الإسلام السياسيّ إرادتَه بالطريقة التي عرفناها، وما تزال هذه وموالوها، يبتكرون غيرها من أجل ترويضه وإبقائه أسيرًا لأجنداتها وضمن قفصها العاجيّ بسبب ما أتى ذلك من ثمارٍ مادية وسلطوية على زعاماتها وأفرادها ومَن يقف وراءَهم داعمًا ومشجّعًا ومهدّدًا في أحيانٍ كثيرة. ف"مَن شبَّ على شيء، شابَ عليه". لكنّ روح المثابرة التي اتسم أتباع هذا التيار ومَن التحق به لاحقًا ومازال، كانت خيرَ محفّزٍ للمضيّ قدمًا، مهما كانت الصعاب وبلغت وطأة الاعتراض ولغة التهديد وأدوات التعسّف التي رافقت تظاهرات أيام "الجمعة" التي أصبحت تقليدية، من أجل نشر الوعي الثقافي والدعوة للدولة المدنية التي أضحت ضرورة بعدما شكّلت هاجسًا يتخوّف منه أصحاب المقدرة لدى الزعامات وفي صفوف السلطة التي روّضت القضاء وجعلتْ منه أداة لتأييد توجهاتها المنحرفة. ولو أنّ سلطة القضاء كانت على استقلالية في نهجها، لما استطاع مَن يمسك بزمام السلطة وبأبوابها الاقتصادية ونوافذها المالية أن يظلّ خارج دائرة المساءلة والأحكام العادلة. وهذا واحدٌ من أسباب عدم حصول تقدّم في الوضع المزريّ القائم منذ الغزو الأمريكي في 2003، بعدما خبرنا حكمًا دكتاتوريًا عائليًا دام أكثر من ثلاثة عقود، ولم نتعلّم الدرس. فالفاسدون والمفسدون في الوطن مازالوا أحرارًا طلقاء يتخوّف القضاء من ملاحقتهم ومحاسبتهم.
في الاستحقاق القادم، قد تبدو الطموحات بتحقيق شيءٍ من جزئيات الدولة المدنية، بمثابة ضوء آخر يلمع في أفق المستقبل. وهذا بحدّ ذاته بعضٌ من نجاح يُحسبُ لصالح النشطاء في التيار المدنيّ المتنامي الذي ينطلق ويتحرّك وفق رؤية سياسية واضحة، واسعة، إيجابية في التخطيط والمتابعة والتنسيق. فقد سئم العراقيون وعود الساسة الذين صادروا كلّ شيء، حتى إرادة الناخب وطموحاته في العيش الآمن وتحقيق السلام وراحة البال وبناء ما دمّرته الحروب والنزاعات والخصومات. وهم اليوم، أمام انتصارٍ ثانٍ، إن استطاعوا تحقيقه برفض كلّ فاشلٍ وفاسدٍ وكاذبٍ من الساسة الذين لعبوا بمقدّرات البلاد والعباد وأهانوا الإرادة وخانوا الأمانة، فسيثبتون حقًا أنهم أحفاد حضارات وسليلو أمجاد وبناة بلدان. ولكنْ، إنْ حصل وأعاد هؤلاء الساسة الفاشلون، المفسدون منهم والفاسدون، أو بعضٌ منهم، ذاتَ الدعاية الانتخابية وأفلحوا باستمالة شرائح من الناخبين البسطاء إلى صفوفهم ثانية بأية وسيلة قدرية أو دينية أو أية إرادة قهرية أو ترغيبية، فإنّ الدور الأكبر سيقع على المثقف وصاحب النهج الوطنيّ وحامل الفكر الإنسانيّ الناضج الذي لا يرضى بالظلم ولا يقبل بالوسائل القسرية مهما تنوعت وتشعبت وامتدت. فدور هذه الفعّاليات الثقافية والتنويرية مهمّ في إدامة تنوير العامّة التي يسهل اختراق إرادتها بفعل المغريات على تنوعها، مادية كانت أم بشكل وعود أو على أطباق دينية أو أوتارٍ مذهبية أو دفوفٍ فئوية. فهذه الأخيرة، أي الأحزاب المتجلببة بعباءة الدّين والعرق والمذهب، قد أثبتت الأيام، أنها غير قادرة على بناء وطن موحد جامع لكلّ المواطنين باختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، ولا أن ترسي سلامًا، ولا أن تخلق واحة للأمن وطمأنينة البال وراحة الفكر، بسبب نهجها الطائفي وسلوكياتها في الفساد المستشري في عظام زعاماتها ومَن والاها وناصرها وركبَ مشاريعها الطائفية والفئوية.
إزاء ذلك، ينبغي أن يأخذ هذا التيار ضمن استراتيجيته المستقبلية ودعواته للإصلاح بشيء من الأولوية، تأييد إجراء مراجعة شاملة للدستور ولبعض القوانين المجحفة التي تمّت المساومة عليها بالتوافق، بالرغم من فداحة مضارها وتأثير تطبيقاتها على شرائح واسعة مهمّشة في المجتمع العراقي ومنها تلك القليلة العدد، بسبب من تعالي بعض الزعامات وأحزاب السلطة على هذه الأخيرة وعدّها ثانوية، وعلى هامش الأغلبية الحاكمة. وإنْ كان فات أمرُ تفعيل بعض البنود التي أقرّها الدستور الأعرج الذي كُتب بنهج محاصصة طائفية تؤمّنُ حصص المشاركة في الحكم على أساس مكوّنات طائفية وإتنية، فلا بدّ من الضغط أيضًا قبل التوجه للاستحقاق الانتخابي القادم، باتجاه إعادة مطالبة النظر بهذا الدستور منذ الآن، وتكليف فقهاء ومتخصّصين في القانون لإعادة النظر في الكثير من بنوده التي خلت من سمة المواطنة والوطنية، ومالت أكثر لسياسة التحاصص على حساب المصلحة العليا للوطن ووحدة الأرض وبناء الإنسان وبيته وحفظ ممتلكاته وصيانة فكره وتأمين حرية الاعتقاد لديه.
هنا، لا بدّ من التذكير أيضًا، بضعف دور الجهة التشريعية التي لمْ تأمنْ من نخرها بالفساد وابتعاد ممثلي الشعب عن صيانة عهودهم لناخبيهم واللهاث وراء منافعهم الخاصة عبر مساومات وتشكيل صفقات مشبوهة بالضدّ من إرادة ناخبيهم. ونظرًا لضعف الرقابة على هذه الجهة، ولما يدور في الكواليس في مثل هذه الصفقات والمساومات، حبذا، لو زاد هذا التيار "الوطني" كذلك، من فعّالياته نحو المطالبة بإقرار تشكيل المجلس الاتحادي، الذي قد يكون ذراعًا قويًا في مراقبة الجهة التشريعية، التي زاغت وتلكّأت عن تلبية طموحات الشعب بإقرار القوانين التي تعزّز من قدرة الشعب وتجعلُه صاحب الحق قبل المسؤول في الدولة. فهذا الأخير، يُفترض أن يكون خادمًا للشعب وليسَ تمثيلَه لدور السيّد القابع في البرج العاجيّ المُحاط بالخدم والحشم، والمفعم بتكديس الأموال وبناء مؤسسات عقارية وشركات تجارية وأبراج انبهارية، بعد أن أعانه الدهر على تسلّق منصب واحتلال مسؤولية، غالبًا ما لا يستحقّها. وهذه حال الكثيرين من حديثي النعمة الذين أسقطتهم الأحداث المأساوية بأقدارها ليتسلّقوا على أكتاف غيرهم ويستغلّوا ما يستطيعون لصالحهم بالوسائل التي تعينهم على ذلك أو تلك التي يسعون إليها بوسائلهم الخاصة.
العراقيون اليوم جميعًا، أمام امتحان عسير، إن لم يستطيعوا تجاوز الأسئلة الصعبة فيه والردّ عليها بصورة إيجابية للتخلّص من الورطة التي أوقعتهم فيها الفلسفة الأمريكية الغازية لعقول الساسة الفاشلين ومَن والهم، بإدامة مشروع المشاركة التحاصصية للمكوّنات بدلاً من سيادة دور المؤسسات التي تبني الدولة وتدير شؤونها وفق الدستور والقوانين الوضعية، فإنّ مصيرهم الفشل مثل ساستهم. في هذه الحالة وفي ضوء نتائج الفشل، لا سامح الله والقدر، سيضطرّ الكثير من أتباع الديمقراطية الحقيقية والمنادون بها سبيلاً حيّا لإرساء السلام وعودة اللحمة الوطنية، إلى مغادرة الأرض وتفضيل الغربة حيث الأمن والأمان وسيادة القانون واحترام الإنسان مهما كان لونُه وشكلُه وعرقُه ودينُه ومعتقدُه.
لم يعد بوسع العراقيّ الناضج أن يتحمّل أكثر ممّا لاقاه وما شهده من مآسٍ وتجاوزات، بسبب حالة الفوضى وضعف المؤسسات الخدمية والأمنية والسيادية التي خلت منها الديار العراقية المعروفة بأصالتها وقدراتها. فكلّ يومٍ يمرّ، يطلع علينا البدر والقمر والشمس بمصائب وأعمال قتل ونهب وسلب واحتراب بين الإخوة الأعداء. وإنّه بسبب عدم وضوح الرؤية السياسية لدور المواطن وحقّه في المواطنة، يدفع الفقير وطالبُ الرزق النزيه حياتَه قربانًا بسبب الانفلات القائم حاليًا في الشارع العراقي، تحت مسميات كثيرة، ومنها بذرائع تطبيق الشرع بحقّ المختلفين عن دين الأغلبية. فهل نحن نعيش في دولة تحكمها شريعة الغاب وفق مفهوم نفرٍ من الفقهاء ضيّقي الأفق وعديمي النظرة الإنسانية وفاقدي البصر والبصيرة في حقوق خلق الله، الذي خلق العالمين مختلفين وفق نظرة ربّانية واسعة الأفق وتحت خيمة إنسانية وارفة الظلال؟ أمْ إننا نسعى لبناء دولة حضارية، عصرية، "مدنية"، ترقى بالإنسان إلى مقام الآلوهة التي حكمتْ بقدرتها بتساوي البشر في الخلق، إلاّ في الكفاءة وجودة الأداء وحبّ الله والإنسان والرحمة للآخرين وبالعبادة الصالحة والنصح بالحق بلا ملامة ولا افتراء ولا نفاق؟
يبقى هذا السؤال، نصب أعين المواطن البسيط والمثقّف على السواء، شاخصًا. ويتحمّل قادة التيار المدنيّ ومناصروهم من المتطوّعين ومن أتباع الأحزاب النظيفة التي تطالب وتسعى لتحقيق بلوغ الدولة المدنية، مسؤولية مواصلة الفعّاليات الوطنية من تظاهر متكرّر وتنسيق عالٍ بين روّاد الفكرة والشارع، وتجييش الأخير وتحشيد كلّ جهوده لصالح هذا المشروع، الذي إنْ جرى تجاوزُه إيجابًا في الاستحقاق الانتخابي القادم، فذلك يعني، وضع سكّة البلاد على الطريق الصحية الصحيحة. وفي ضوء هذه الأمنيات التي نأمل تحقّقها، سنصل بالبلاد والشعب على السواء إلى برّ الأمان وعودة البلاد وأهلها إلى الرقيّ في كلّ شيء، في الفكر المتنور والخدمة العامة والعلوم المختلفة التي فقدناها بسبب زلّات الساسة وفساد الحكّام والسلاطين.



221
هواجس الوجود المسيحي في العراق: سيُقال كان في هذه الأرض مسيحيون!
لويس إقليمس
بغداد، في 20 آب 2017
- الجزء الثاني -
تناولنا في القسم الأول، ما يثير قلق أتباع الأقليات، ومنهم المسيحيين بصورة خاصة، من منغصات ومخاوف حول مستقبل وجودهم وما يرسمه القدر وأرباب السياسات من مصير مجهول يقضّ مضاجعهم ويضعهم هذا المصير على المحك. كما تطرقنا إلى الرسالة المسيحية وتجذّرها في المنطقة وفي المجتمع العراقي بصورة خاصة، والتي من مبادئها زرع بذور المحبة والرحمة من حيث انفتاحها على البشر جميعًا. في الجزء الثاني والأخير، نتناول دور الرعاة الكنسيين عبر التاريخ والتحديات التي تواجه هذا المكوّن الأصيل وهو اليوم في مفترق طرق صعب. ونختم المقال برؤية وطنية، هي أمنية كلّ مواطن نزيه يحب بلده ويضع مصلحتَه فوق أية مصلحة فئوية أو شخصية ضيقة.

دور الراعي في رعيته
كما نعلم، أنه في بدايات المسيحية الأولى وفي أيام انتشارها الرسولي وحتى مطلع القرن السابع عشر، ظلّت العقيدة النسطورية مهيمنة على جزء كبير من مدن العراق وبلداته، إلى جانب المذهب اليعقوبي (الأرثوذكسي) في بعض أجزائه، مع التزام الجماعتين باللغة السريانية التي ألهمت القائمين على كلتا الكنيستين بالسهر الدائم والحرص الرعوي على الرعايا وجماعاتهم. فكان الرئيس الأعلى للكنيسة من كلا الشقين، قائدًا روحيًا وراعيًا إيمانيًا وأبًا ساهرًا على حياة أتباعه وباحثًا عن حلولٍ لمشاكلهم ومدافعًا عنيدًا عن حقوقهم ومؤازِرًا متضامنًا معه في حياتهم اليومية مع بعضهم البعض ومع جيرانهم. أي أنّ الرأس في موقع المسؤولية الكبيرة، كان متهيّبًا من عظم المسؤولية الملقاة في أعناقه. بل كادَ أن يخشى عدم قدرته على مجابهة الصعوبات والتحديات التي يتوقع مواجهتَها بسبب ظاهرة الاضطهادات التي كانت تطال أتباع هذه الديانة على مرّ تاريخها، ليسَ خوفًا على روحه ونفسه وشخصه، بل من هاجس عدم القدرة على تأدية واجب المسؤولية التي تفرض عليه أن يكون خادمًا للجميع في ارتقائه لمسؤولية الجماعة ومستعدًّا للشهادة عن خرافه. فمسؤولية الجماعة كانت تعني، من جملة ما تعنيه، استعداد الراعي للتضحية بنفسه في سبيل الرعية، والقبول بتحمّل الشهادة عوضًا عنها، في أيّ وقت وأي زمنٍ قد يقلب الحاكم أو الملك ظهر المجنّ وينكّل بالأتباع لأيّ سبب كان. والشواهد في التاريخ كثيرة.
لذا لا عجبَ أن نقرأَ مثلاً، تهيّبَ الكثيرين ممّن وقع عليهم الاختيار كي يسوسوا الرعية، وتوجسَهم من تحمّل المسؤولية، بسبب عظم هذه الأخيرة التي كانوا يستشعرون بها، وكذا بسبب ضخامة العمل الذي كان في انتظارهم، الأدبي منه والروحي والأخلاقي والمادّي والجسديّ، على السواء. وهذا ما كان مطلوبًا من الرئيس الكنسيّ في مواجهة الصعاب مع الشارع والدولة والحاكم، بل حتى مع زملائه ومقرّبيه في مواقع الكهنوت المختلفة لأسباب عديدة.
بالمقابل، لا يمكن نكران حصول صراعات واحتدام نزاعات بسبب رغبة البعض بتقلّد مواقع الزعامة لأسباب شخصية وأخرى عائلية أو تحزبّية ضيقة. فقد كان لمثل هذه التصرفات والسلوكيات والنوازع، آثارٌ سلبية على حياة الرعية والجماعة، وعلى سير يوميات الإيمان في الكنائس والأديرة والمراكز الروحية والتثقيفية والعلمية واللاهوتية والأدبية. ولنا من هذه الأمثلة والنماذج، الكثيرُ في تاريخ كنيسة المشرق السريانية بفرعيها، وحتى بعد تحوّل جماعات من أتباعهما إلى الكثلكة بفعل تدخّل الإرساليات التبشيرية المتعددة التي لم تتورّع في إقامة الدسائس ونشر الفتن مع المختلفين والمقاومين لمعتقدهم، من الكاثوليك أو الانكليكان على السواء. ومازال هناك مَن يمنّي النفس ببلوغ السلطة الأسقفية ويسعى إليها بشتى الوسائل والطرق، حبَّا بالظهور وسعيًا للجاه والسلطة وما بين حنايا الأخيرة. وشتّانَ بين اشتهاء الرئاسة من الرعاة الصالحين والخدام الحقيقيين للرعية بالأمس، وما بين نفرٍ ممّن زادت شهوتُهم حدود المقبولية في هذه الأيام المنقلبة!

كنيسة العراق في مفترق طرق صعبة
اليوم، وبعد المآسي الكثيرة التي خبرتها الجماعات المسيحية ورئاستُها غير المتوافقة مع بعضها في العديد من الرؤى والهموم المشتركة في العراق، على تنوع هذه الكنائس، وعلى اختلاف الرؤى التي تتبناها هذه الرئاسات في تسيير دفة الأتباع وفي التفاهم مع الكنائس الشقيقة، يمكننا القول أنَّ كنيسة العراق أمام مفترق طرق يصعب التكهّن بمستقبلها ومصيرها. لقد دقّ الجميع نواقيس الخطر، بعد أن أنذر الكثيرون منذ زمنٍ، بشؤمٍ قادمٍ غير محسوب النتائج. فتراجعُ الوجود المسيحي في هذا البلد لأعداد كارثية، جديرٌ أن يُؤخذ بعين الحساب وبكثيرٍ من جوانب الخطر الذي يكتنف هذا الوجود الذي حافظت عليه أجيالٌ وأبطالٌ وهاماتٌ لغاية اليوم. فالوضعُ يُنذر بمصيرٍ مجهول، بل الوجود ذاتُه متوجه نحو الاختفاء والانقراض، بحسب الأحداث والبيانات أمام الأنظار وعلى أرض الواقع. وهذا ما نخشاه، لا سمح الله. فحقبة ما بعد داعش وما هو مخطَّطٌ له دوليًا في كواليس السياسة وفي مطابخ الساسة وكارتلات الاقتصاد، لا يمكن التنبّؤُ به. فقد تلد الأحداث ما لا تُحمدُ عقباهُ!
من جملة ما يعنيه التراجع القائم في الأعداد، التنصّل بطريقة أو بأخرى، بعدم حفظ الوديعة التي أوكلها الآباء والأجداد لأجيالهم عبر رئاساتهم الكنسية، أوّلًا ومَن يدّعي الدفاع عن الأتباع في دكاكين الأحزاب الفئوية، شأنُها شأن أحزاب الإسلام السياسيّ القائمة وغيرها من الأحزاب الطائفية التي تُحكم قبضتَها على مقاليد السلطة وبوّابات الجاه والمال والاقتصاد. ومن شأن هذا إن حصل، إسدالُ الستار عن أمانةٍ تقع على عاتق أعناق الجميع وضمائرهم، من رئاساتٍ كنسية أولاً، ومن أحزاب "مسيحية" أو "قومية متعصّبة تدّعي المسيحية" وتسعى لاستغلال الكنيسة لمصالحها ثانيًا، ومن مؤمنين ونشطاء مدنيين ومثقفين على السواء ثالثًا، ورابعًا وليسَ آخرًا الدول والكنائس الأخرى والجمعيات والمنظمات المسيحية وغير المسيحية التي تتفرجّ على النتائج الكارثية التي حلّت بواحدٍ من أهمّ البلدان في المنطقة التي دخلت فيها المسيحية ونمت وترعرت عبر كنائس وديارات ومزارات ومراكز ومدارس حملت معها عطورًا طيبة ومناهلَ صافية من ثقافة وتراث وحضارة وأخلاق تميّز بها المؤمنون عن سائر الجماعات في حياتهم الخاصة والعامّة.
خوفي وخوفُ العديدين، أن يُسدلَ التاريخُ والأحداث الأخيرة، الستارَ عن الهوية المسيحية، مرة أخرى، تمامًا كما حصل لها في مناطق ومواقع عراقية كانت بالأمس غنية بوجودهم، عنيدة بمقدرتهم، زاخرة بعطائهم الكبير. واليوم أضحت تلك، آثارًا وبقايا أبنية وخرائب في مناطق مترامية من أرض السواد العراقي. فيما يعمل الآثاريون والمتهمّون على جعلها مواقعَ سياحية جذبًا للأنظار واستدرارًا للحنين للأيام الخوالي، وكأنّي بهم يؤكدون توثيق حقبة تاريخية، كما فعل غيرُهم بتهيئة متاحف تشهد لذلك التاريخ المنقرض. أختام الشمع الأحمر المستقبلية التي يعدُّها التاريخ واللاّعبون الكبار فيه، إعلانًا بانتهاء الدور المسيحي وتاريخ المسيحية في العراق في قوادمِ السنين، ستكون خسارة كبيرة لما تبقى من آثار الهوية المسيحية المشرقية الرسولية وإنهاء دورها الريادي على مدى الأزمان والقرون والأجيال في بناء الأوطان، ومنها العراق. فنحنُ أمام أطرافٍ عديدة: منها من هي قاسية القلب وغير مكترثة دوليًا، ومنها من أثبتت أنها سلطوية ومتعصّبة العمل كنسيًا، وأخرى أنانية بفعلها وممارساتها، وغيرُها محبَطة وخائبة مسيحيًا.

ختامًا:
إننا ندرك تمامًا ما في الأفق وخلف الكواليس، وما يجري في مطابخ السياسة الكبيرة. فالأسياد يعدّون لطبخة صاخبة وقاسية لسيناريوهات جديدة بشأن ما تبقى أو سيتبقى من أتباع المسيحية وسائر الجماعات الدينية والعرقية، التي غدرَ بها الزمن وأحالَها إلى مكوّنات قليلة العدد اصطبغت بتسمية "الأقليات"، كما أرادها الأسياد، للمزيد من الإهانة وبهدف الاستخفاف بحقوقها والمتاجرة بمصيرها ومستقبلها، في الداخل وفي بلدان الشتات. فموجات الهجرة المخيفة التي نشهدها كلّ يوم، نتيجةً للضغوط الكثيرة وخيبات الأمل المتلاحقة والإرهاصات الكثيرة في التعامل مع هذه الجماعات المسالمة جميعًا، والمكوّن المسيحي بالذات على تنوع طقوس أتباعهم ومللهم ورئاساتهم، كلُّها إشارات سلبية لا تبشّر بخير، مهما ثابرَ وصبرَ ودعا الخيّرون والطيبون إلى وقف هذه المنغّصات ووضع حدود لمثيريها ومسبّبيها. فالمشكلة أعظم ممّا يتصوّرُه العديدون، حتى كاتبُ هذه السطور. فالمسألة هي مسألة حياة إنسانية حرّة كريمة وآمنة، أو موت بطيء لا يُعرف شكلُه وأوانُه وطريقتُه، أو انتظار معجزة، وعصر المعجزات ولّى ولن يعود!
لذا، ومن أجل إعطاء قدرٍ وافٍ من بصيص الأمل لما تبقى من هذه الجماعات المتناقصة التي آثرت سلك طريق الهجرة لشديد ما عانت منه من مآسٍ طالت جوهرَها ووجودَه وهويتَها، بالرغم من وطنيتها المشهودة، لا بدّ من بذل المزيد من الجهود لتبيان هذا الأمل حفاضًا على جذورها وأصالتها وتراثها وهويتها المتميّزة. فالعراقيون أمام امتحان عسير: إمّا أن يكونوا أوفياء لمواطنيتهم التي امتازوا بها طيلة تاريخهم المعهود في العيش المشترك الذي تناغم مع تعدديتهم الدينية والمذهبية والعرقية التي شكّلت خارطة البلاد وجغرافيتها وتراثها وهويتها العراقية، أو قراءة الفاتحة على ذلك الجبل الأشمّ الذي أُريد له أن يسقط، تمامًا كما يسقط الفارس من صهوة جواده، فينكسر ويخسر السباق بدل إكمال مسيرة الحياة الحضارية التي عرفه بها التاريخ، وما تزال بعضُ شواخصها قائمة بالرغم من إعمال يد الخراب والدمار بها على أيدي كواسر العصر من خوارج التطرّف المتشدّد الذي شوّه المقدّسات وحطَّ من قدر العفيفات وأراد العودة بالإنسان والبشرية إلى سوداوية عصور القبلية ووأد البنات وإلغاء الآخر المختلف عن ايديولوجيته العفنة والمتخلّفة.
لكنّ الشرفاء سيختارون الأصلح وسوف يعملون قريبًا على إعادة البيت الذي جرى تخريبه من جديد إلى عهد جبروته السابق، زاخرًا بالمجد والأنفة والمواطنة التي تقدّس العيش المشترك وتحترم خيار جميع المكوّنات وأديانها وأعراقها ومذاهبها، في إطار دولة مدنية متحضّرة مبنية على أساس المساواة والعدل والمحبة والاحترام. فالحلّ لن يأتي به الغريب ولا الأسياد الطامعون به ولا الغشاشون ولا اللصوص القادمون من خارج الأسوار الذين نهبوا الخيرات وحطّموا اللحمة المجتمعية وكسروا عصا العزّة الإنسانية وأهانوا هيبة الدولة، بل أبناءُ الوطن الأوفياء من الصابرين النزهاء. فمتى ينفذ الصبر، وقد آن أوانُه في الهجعة التالية من الانتخابات القادمة، سيكون للشعب المظلوم صولةُ وجولة إزاء سرّاق قوته وناهبي ثرواته وكاسري وطنيته. فالحكومة القادمة ينبغي أن تكون حكومةَ مواطنةٍ وليس جزءًا من دولةِ مكوّنات تتخذ من المحاصصة مشروعًا للثراء وتقسيم الثروات بين الحرامية وإلغاء الآخر وإقصاء أتباع الأديان والقوميات الأصيلة القليلة العدد ودفعهم للهجرة إلى المجهول. فالعراق وطن الجميع وسيبقى كذلك.
    

222
هواجس الوجود المسيحي في العراق: سيُقال كان في هذه الأرض مسيحيون!
لويس إقليمس
بغداد، في 20 آب 2017
- الجزء الأول -
تتوالى الأيام وتمضي الأشهر وتنقضي السنون، ومعها تتراكم المشاكل وتكثر المنغصات والمحن، وسط مستجدّات سياسية واجتماعية وأخرى غيرها، ليس على المسيحيين في العراق فحسب، بل على شعوب المنطقة ككلّ. كتابات كثيرة، ومتابعات مثلُها، وردود أفعال متباينة تتصدر المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وكلّها تستنجد بتوقّع الأسْوَد القاتم القادم حول مصير كنيسة المشرق الرسولية ومسيحيّيها في العراق والمنطقة على السواء، حالُهم حال باقي أتباع الديانات القليلة العدد التاريخية الأصيلة في المجتمع النهرينيّ. ومجملُ هذه، لا تحمل بيانَ رجاء وتطلعاتِ أمل في طياتها وتحليلاتها وقراءتها للواقع المرّ المتدهور، المتجّه من سيّء إلى أسوأ، بل الماضي نحو التراجع والتناقص الكارثيّ المتلاحق، ما يهدّد بآفة الانقراض في الوجود والهوية والبقاء.
تُرى، هل سيأتي يومٌ، فيه ستذكّر أجيالٌ قادمة بوجود جماعات مسيحية أو إيزيدية أو صابئية أو بهائية أو ما كان من أمثال هذه المكوّنات الدينية والعرقية قليلة العدد، في أرض العراق، كما حصل مع اليهود مثلاً؟ وهل سيتحدث التاريخ بصدق عن بقايا أو آثار هذه الجماعات الأصيلة وعن مواقفها الوطنية التي لا شائبة عليه وعن الحضارة والمدنية والثقافة والتراث التي ساهمت ببنائها وتكوينها بكل إخلاص وثقة وأمانة في بناء البلد وتميزت عن الأكثرية الحاكمة والمتسلطة من خارج تشكيلاتها وأديانها وأعراقها؟ وهل ننتظرُ أعجوبة تعيد الحقّ إلى نصابه، وتردّ "ما لقيصر لقيصر وما لله للّه"، وتنصف المظلوم على      الظالم كي تحظى هذه الجماعات بما تستحقه من حياة عادلة ومتساوية دينيًا وماديًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعلميًا وما سواها؟ أم إنَّ زمنَ العجائب قد ولّى، ولم يعد له من وجود ولا ظهور في زمن العصرنة والتأوين والحداثة والخدمات الالكترونية المستنبطة المتكاثرة مع تطوّر العلم واتساع خيال الفكر البشري وطموحات البشر التي ليس لها نهاية ولا حدود؟

رسالة المسيحية
رسالة كنيسة المسيح بعيدة الرؤية، متجذّرة، منفتحة لا تعرف الحدود ولا التقوقع ولا الانكفاء على الذات ولا العزلة في زوايا التخلّف، لأنَّ قوتَها من قوّة مؤسسها، وهي مبنية على الصخرة، صخرة المحبة أولاً، وصخرة الرجاء ثانيًا، وصخرة الإيمان بإله واحد قادر على كلّ شيء ثالثًا وليسَ آخرًا، ومنها اجتراح العجائب في الوقت المناسب. ممّا لا شكّ فيه ونؤمن به، أنّ هذه الثلاث معًا: الإيمان والرجاء والمحبة، هي مفتاح كلّ سعادة وكلّ خير وكلّ مشروع يبدر عن كنيسة المسيح، أينما كانت وكيفما كانت ومهما كان حجمُها وطبيعتُها وشكلُها، ذلك لأنّ من بين ينابيعها الرحمة التي تقدّرها الأديان التوحيدية جميعًا. قد يكون هذا من باب "اليوتوبيا"، أي "الطوباوية" غير ممكنة التحقيق والتطبيق بسبب ما تحمله هذه الرؤية المنفتحة من عناصر فكرية تتجاوز نطاق التفكير البشري وقدرتَه على التفاعل مع المستجدّات ونوازع العصر الكثيرة والترّهات التي تضربُ أطنابَها في كلّ مكان وكلّ حدث وأيّ بلد ومنطقة وجماعة. لكنّ كلمات المسيح "وأبوابُ الجحيم لن تقوى عليها"، تُبقي في حناياها بقايا أملٍ وسلوانٍ بمدى مفعولها وسط التسونامي الظالم الذي يضربُ المسيحية في العراق والمنطقة والعالم.
لستُ هنا بصدد مناقشة تأييد أو رفض ما يُطرح عن إشكالية كنيسة العراق، بالأمس واليوم وغدًا، ومعها مشاكل المسيحيين عمومًا وما سواهم من جماعات تتناقص أعدادُها مأساويًا مع توالي الأيام، في ضوء ما تقرأُه الأحداث وتسرده الوقائع اليومية المستجدّة التي لا تبشّرُ بالخير أبدا. فكثيرة هي الأفكار والنظريات التي تسير في مثل هذا الاتجاه السلبيّ لتَصَوُّر الأحداث في قوادم السنين، التي قد لن تشهدُها أجيالُنا الحالية. ولكنّ الأجيال القادمة، ستكون هي مَن يشهد على الأحداث، مهما حصل واستجدّ. إلاّ أنَّ ما يمكن قولُه وإثارتُه بشيء من الحسرة والخذلان، مدى التذمّر القائم والإحباط الحاصل في صفوف أتباع هذه الديانات الثلاث المهدَّدة أكثر من غيرها بالانقراض.
 هذا ما يخشاه المسيحيون، قبل غيرهم من المكوّنات الأخرى القليلة الأعداد، من أن يأتي يومٌ تقول فيه أجيالٌ قادمة بعد سنوات عجاف: كان في العراق يومًا مسيحيون، وكانت بلداتُهم من أمثال قره قوش وبرطلة وكرمليس وبعشيقة وتلكيف وباقوفا وباطنيايا وتللسقف وألقوش والشرفية وميركه والموصل والبصرة وبغداد والعمارة والحلّة وغيرها، تمامًا كما نتحدث نحن اليوم، في ضوء قراءتنا للتاريخ وفي ضوء تقليبنا لصفحات أحداثه ونبش دُرَرِه ومزاياه التي لا تُحصى ولا تُعدّ. فكُتُبُ الأقدمين خيرُ شاهد على ماجريات الأحداث وما سطّره فيها أتباع هذه الديانة المسالمة بخاصة، منذ قرون خلت قبل أكثر من ألفي سنة، عندما سطعت شمس المسيحية وانتشرت في كلّ ركن وكلّ رقعة، ولم تترك مقاطعة أو منطقة دون أن يكون لهم فيها من شهادة تاريخية زاخرة عبر دير أو كنيسة أو مركز ثقافيّ أو مدرسة تنشر الخير والإيمان والسلام والمحبة. فقد رَسمَ المسيحيون القدامى، شهاداتٍ ساطعة بتدوين شيءٍ من ذلك التاريخ الوفير الزاخر، فيما غيرُهم نَقروا شيئًا من حياتهم الإيمانيّة النابضة آنذاك في صخور الجبال وبواطن السهول وأعالي الروابي والأكمات بأشكالٍ ووسائل مختلفة. فكان هؤلاء جميعًا، مثل غيرهم من ذوي النيات الحسنة والإرادات الطيبة، شهودًا وشهداء للحقيقة للإيمان وللأرض والوطن.

عمق تاريخي في الذاكرة
حين نقرأ تاريخ الآباء الجهابذة والأجداد الأفذاذ، تنتابنا القشعريرة ونُصابُ بالدهشة ويغلبُ علينا الغضب معًا، عندما نحاول معرفة الأسباب والبحث عن المسببات التي قلبت الزمن من ورديّ مزيَّنٍ ببياض الطهارة والنقاوة وصفاء النية إلى أسودٍ قاتم مترَعٍ بحمرة الدم ومصحوبٍ بعلقم المرّ الذي يمسك بالخناق حتى الموت المشؤوم. فذلك التاريخ الزاخر المأسوف عليه، كلّما أمعنّا فيه تحليلًا وتدقيقًا ومذاكرةً، يخطفُنا بألبابنا وأفكارنا وأمنياتنا إلى حقبة شهادة الأيام الخوالي المرصعة ببذرة الإيمان الحقيقية والمطيَّبة ببخور الخير والمحبة والعطاء حيث نبوغ الرؤية وعمق العقيدة ورسوخ الفكر والاستعداد الدائم للشهادة، للحياة والموت على السواء. ليس في هذا التذكير من تجنٍّ بقدر ما هو قراءة للحدث، أتشاركُ فيه مع العقلاء والحكماء والمتنورين من منصفي التاريخ والأحداث، بأيّ شكل كانت أو أيّ نوع أتت.
مقصد التذكير هذا، يحملُنا على الابتعاد عن كلّ توجّس معاكس ومنافٍ للحقيقة والواقع. فهذه إرادة السماء وقدرة الأقدار التي تفوق طاقة البشر أحيانًا، مهما حاولَ واستبسلَ وقاومَ. وبالتالي، نكون نحن بسطاء الشعب، قد اقتنعنا جميعًا، أو بالأحرى أقنعنا أنفسَنا بأنّ الحياة ماضية في طريقها المرسوم، وأنها لن تكون أفضلَ ممّا هي عليه "ما تصير أحسن"، وأننا قد فعلنا ما توجب علينا رصدُه والتحذير منه والخوف عليه، والباقي على الله والأقدار وما يمكن أن تأتي به هذه من نعَم ونقَم.
بالتوازي، بل بالتناقض من موقف البسطاء من أمثالنا من الذين لا سطوة ولا سلطة ولا قدرة على فرض الأشياء وتقرير الأمور وتوجيه الزعامات المختلفة في الدّين والمجتمع والكنيسة، يترتب على الرئاسات الكنسية المالكة سعيدًا، أن تقرأ الأحداث من مناظير مختلفة ومن زوايا عديدة كي تعي حجم المشكلة وتبادر إلى خلق الأجواء التي تتيح لمختلف جماعاتهم وأتباعهم وكنائسهم بتبيان خارطة الطريق لمستقبل أكثر إشراقًا وأفضل حياة وأمنًا وحريةً. وهذه دعوة ملحة كي يتحققوا بالتالي، من الأمانة التي أُوكلت إليهم عندما تدرّعوا بسلاح الرئاسة ولبسوا صليب الجلجلة على صدورهم في قيادتهم للرعايا والكنائس، بنعاجها وكباشها وتيوسها وغنمها وثيرانها (عذرًا على الوصف المتجاوز للأصل)، وكلّ الأشكال والأنواع التي تحويها إبرشياتُهم وكنائسُهم ورعيّاتُهم. وفي هذا الوصف، لن أستثني أحدا، وبدون زعل أو تبجّح. فالمسيحية مثل سائر الجماعات العرقية والدينية المتناقصة باطراد، قد وضعتها الأحداثُ والوقائعُ الأخيرة على المحكّ، وأمام خيارات صعبة، ربّما لا تقوى على حملها بعض الرئاسات الراهنة التي كاد عقدُ بعضها ينفرط، ونحن نشهدُ على تآكلها وهونِها من الداخل بسبب تراكمات التاريخ وأنواع الضغوط ومتاهات المغريات والوقائع الصعبة التي تجاوزت بطبيعتها وقوتها وأدواتها، المقدرةَ البشرية والطاقة الاستيعابية على التحمّل والصمود. ولئن، كنّا نعذر في وصفنا بعضًا من هذه الرئاسات، بسبب ما شهدته المنطقة والبلاد من ضغوطٍ وممارسات وإرهاصات تجاوزت حدود الصبر المقبول والطاقة المحدودة لشخوصها وتأثيراتها، فإنّ ذلك لا يعني من جملة ما يعنيه إعفاءهم من ترتيبات وإجراءات وممارسات وسلوكيات أثارت شكوكًا وزرعت شبهاتٍ وخلقت إحباطًا لدى المؤمنين والأتباع، بغضّ النظر عن تعلّق بعض هؤلاء الأتباع وتمسّكهم بالدين وبالولاء للكنيسة وللمسيحية بشكلٍ عام.
 ما ينبغي أن نتحقق منه وننادي به في السرّ والعلن، أنّ "الكلّ في الهوا سوا"، وما يصيبُ هذه الكنيسة وهذه الطائفة وهذه "الزعامة" وهذا المكوّن سيكون له تأثير على الجميع. إن تداعى عضوٌ في الجسد الواحد، تداعت له سائر الأعضاء!
عندما نتصفح التاريخ ونقلّب أوراقَه العتيقة، يتبادر إلى ذهننا، ذلك الكمّ الهائل من الجماعة المسيحية وأدواتها، التي شملت مختلف مناطق العراق، من شماله إلى جنوبه، مرورًا بوسطه العامر ووصولاً إلى غربه وشرقه. فمن جبال كردستان العراق العصيّة إلى سهوله في السليمانية وأربيل ودهوك، مرورًا بسنجار والموصل وسهله المترامي وبلداته وقراه، عبورًا بكركوك وتكريت وسامراء، ومنها إلى بغداد والمدائن وبعقوبة والحبانية والكوفة والحيرة والنجف وكربلاء، وصولاً إلى واسط والحلة وانتهاءً بالعمارة والبصرة والعشار. فكلّ مناطق العراق وبلداته وقراه المنتشرة في مضارب أرض شنعار (العراق)، كانت تنبض بالتاريخ الزاخر للمسيحية التي سطّر فيها أتباعها صفحاتٍ مشرقة ألهمت البلاد والمنطقة بكلّ آثار الفكر والثقافة والتنوير إلى جانب أثواب الإيمان والزهد والصلاة، وتلابيب الأخلاق والعلم والحكمة على توالي السنين والقرون والأجيال. وكلٌّ من هذه المدن والأصقاع لها حكاياتُها وتاريخُها وشخوصُها وشعراؤُها وملافنتُها وفلاسفتُها وحكماؤُها وملوكُها ووزراؤُها وعلماؤُها وسادتُها وأديرتُها وكنائسُها وجثالقتُها وقسسُها ورهبانُها وأديرتُها وكتّابُها ونقلتُها. ومّن يريد غرف المزيد بصددها، فما عليه سوى العودة إلى كتب التاريخ، على قلّتها واندثارها بسبب عوادي الزمن والتقاعس بالقراءة والعزوف عن النهل من الينابيع الصافية للآباء والأجداد ومن كتاباتهم ولغتهم وتراثهم التي تزخر بها متاحف العالم وتفتقر إليها بيوتُنا وقلوبُنا وأفكارُنا.



223
مَن له حق الحديث عن مصير سهل نينوى وتقرير مستقبل شعوبه؟
لويس إقليمس
بغداد، في 12 تموز 2017
صدرت الترجمة المعتمدة للبيان الختامي والتوصيات التي أعدّها منظمو مؤتمر بروكسل المنعقد بالعاصمة البلجيكية، للفترة من 29-30 حزيران 2017، وشاركت فيها رئاسات كنسية وزعامات سياسية وشخصيات مستقلة ومنظمات مجتمع مدني، إلى جانب الحاضرين من نواب وشخصيات غربية رعت وأيدت الحدث.
لستُ هنا بصدد إطلاق هتاف تأييد أو صرخة رفض بخصوص نوعية المشاركة وحجمها والغرض الفعليّ المتوخى من وراء تنظيم المؤتمر الذي يخصّ شريحة متألمة ومهمّشة ومتناقصة باضطراد ممنهج، بسبب الهجرة والنزوح للأسباب التي يعلمها الجميع. إنّما يبقى من حقّ العقلاء والمثقفين ورواد المجتمع، الدلوُ بدلوهم، بالرغم من حرمانهم القسريّ من المشاركة في إبداء الرأي فيما يخصّ شؤونهم ومستقبل أهلهم وأحبائهم ومصير بلداتهم المنكوبة، بسبب استبعادهم من مثل هذا الحق من جانب الزعامات، دينية كانت أم سياسية، ولسبب بسيط لكونهم من خارج التشكيلات الحزبية أو من خارج دارة القرابة والصداقة والانتفاع. فهذه الأخيرة أي الأحزاب والرئاسات، وبما أوتيت من قوّة وعزم وإرادة ونوايا مدفونة ومعلنة، لا يطيب لها الاستماع دومًا لآراء هذه الشريحة المدنية المستقلّة في فكرها ورؤيتها للواقع المزري، سواء كان ذلك في رحاب الدولة الاتحادية أم في الدولة الفتية القادمة المولودة من طموحات إقليم كردستان الحالي.
بيان بروكسل، تضمّن من جملة المطالب المشروعة، أفكارًا جانبية مدسوسة قابلة التأويل، يقرأ اللبيبُ من بين سطورها، الغاية الأولوية من تقرير عقد هذا المؤتمر في هذا التوقيت بالذات: الاقتراب من نهاية داعش الإرهابي في مدينة الموصل، عقر دار دولة الخلافة الإسلامية المزعومة، وإعلان الإقليم قبل أيام عزمه الذي لا تراجع عنه بإجراء الاستفتاء وتضمينه مشاركة ما يُسمّى بالمناطق المتنازع عليها فيه. ومثل هذا التوقيت، جاء للتأكّد من حصول وإيلاء ضمانات شبه أكيدة من المشاركين من مكوّنات الأقليات الرئيسة، ومن المكوّن المسيحي بالذات، الذي ترتب عليه تأكيد مثل هذا الالتزام بما سبق أنْ أقرّه وبصمَ عليه عرّابون آخرون في وقت مضى، سياسيًا وحزبيًا وثقافيًا، بعضهم دفنهم التاريخ وآخرون مازالوا يلوكون ذات التغريدة. فقد اقتنع العديد من هؤلاء، إنْ لم يكونوا قد ارتضوا صاغرين من ناحية توقيت عقده والنتائج الصادرة عنه بما فيها من دسّ مستتر، نتيجة لما نالوه من منح وبركات ووظائف وهدايا وإكراميات وعمارات وبناء مؤسسات لمختلف الأغراض وكنائس وغيرها كثير. وبالطبع، كلّ هذه الإكراميات لا يمكن أن تكون بغير ثمن. فهذا الأمر، لا غبارَ عليه، مهما جاء أمرُ إنكاره أو تحاشيه أو نقضه أو تكذيبه. ما علينا، كما يقول صاحب الرواية الطويلة وخبير مثل هذه المفاهيم، وهو مجهول الهوية بطبيعة الحال، فالعصفورة اللطيفة لا تكذب ولا تُكذِّبُ ما يجري في الكواليس وما يُدار في أروقة السماسرة من كلام واتفاقات ومجاملات وتعهّدات. وها هي التصريحات والإعلانات والانبطاحات تتوالى حول حتمية شمول سهل نينوى بقرار الاستفتاء وبضمّه إلى الدولة الكردستانية العتيدة. فهؤلاء المنبطجون واللاّهثون من دون تفكير معمّق وراء هذه الإرادات والرغبات المشبوهة في مجملهم إلاّ النزر اليسير، ليسوا أصحاب الشأن ولا أرباب الأرض ولا أهل الدار ولا أصحاب القضية، بل هم أغراب ممّن يسعون لإحداث تغيير ديمفرافي في مناطق تواجد المسيحيين الذين يتباكون على حالهم ويتاجرون بمأساتهم حتى لو كانوا من ذات المعتقد، لأنّ سموم الدسّ مؤشرة في جميع تصرّفاتهم وتحرّكاتهم.
الأمر المهمّ في مثل هذه المؤتمرات، سواءً التي عُقدت في السابق، أوتلك القادمة المنتظر تكرارُها بسبب ما تدرّ على المنظمين من فوائد جمّة لهم ولمواليهم، ومن استغلال هؤلاء لسذاجة بعض المشاركين الذين يرتاحون لتغيير الأجواء المظلمة في عراق الفوازير والعجائب بسبب نقص الكهرباء، والشديدة القيظ بسبب نقمة السماء على أهل الدار السوداء،هو أنْ يعي المنظمون والمشاركون معًا، مَن هي الجهة المخوّلة حقًا بالتحدث باسم المكوّن المسيحي ورسم صورة مستقبلهم في ضوء الوقائع والأحداث والتخبّط، في كلّ من حكومتي المركز والإقليم، حيث اضطرّ غالبية النازحين والمهجّرين من بيوتهم للإقامة في أراضي الإقليم بسبب قربها من مناطقهم التيطُردوامنها، وبعد أن فقدوا أملاكهم وأمانهم، وسُلبوا حرّياتهم بالتعبير عن آرائهم وإبداء تصوّراتهم.
الرئاسات الكنسية التي تحوّلَ بعضُ لاعبيها إلى زعامات وخاضوا مجال التجارة في السياسة وأجادوا في ترويض النفوس الجائعة وفي إقناع أصحاب النفوس المريضة من التي لا حول ولا قوّة لها، لم تُثبت استقلاليتَها ولم تصنْ مجالَ خدمتها للنفوس كما ينبغي، وهي الكفيلة بهذه الرسالة لا غيرُها. وهذا واضح في المناكدات والاعتراضات والثورات التي حصلت من داخل المؤسسة الكنسية نفسها وبين بعضها البعض، سواء داخل الطائفة الواحدة أو الكنيسة الواحدة، أم فيما بين الطوائف نفسها، زعامات وكوادر وقواعد للمؤمنين على حدّ سواء. بل إنّ اتهامات متبادلة تُشاع بين فترة وأخرى، وقلّما تخلو صفحات المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي من مثيلاتها. والأنكى من ذلك، ما يرِدُ من ردود التكذيب أو التأكيد وبما يخلق حالات من الشك واليقين فيما يُقال ويُكتب.
بدورها، الأحزاب المسيحية المتواجدة على الساحة السياسية، بالرغم من كون أغلبها، إلا الأصيلة منها التيلا تتجاوز اثنين أو ثلاث على أوسع تقدير من ذوات القاعدة الشعبية الواسعة نسبيًا، هي عبارة عن دكاكين أو مكاتب صغيرة، كما جاز لأحد الزملاء وصفَها، وقد صدق. فهي حقًا مقرّات لنفرقليلمنالمنتمين الموالين لحكومة الإقليم، والذين لا يُجاز لهم الخروج عن طاعة وليّ النعمة. فهُمُ بمثابة جنود وُدَعاء يأتمرون بأمر وليّ النعمة الذي تكفّل بكلّ المصاريف والمرتبات والمخصصات والهدايا وإيجار المقرّات وعقد المؤتمرات والندوات وسائر النشاطات التي تؤدّي جميعًا إلى تأييد الرغبة بالانضمام المبدئي إلى الإقليم والدولة الكردية القادمة، بموجب فرمانات مصدّقة صدرت عن نفرٍ من شخوص الأحزاب وزعامات الكنائس وتمّ استلام أثمانها. أنا لا أعمّم، بل الحقيقة القائمة لا يمكن نكرانُها أو إخفاؤُها. فهناك من السامعين الجيدين ومن القارئين المجيدين وممن المحلّلين الأكفاء في كلّ هذا وذاك. وذاتُ الوصف الذي ينطبق على المجموعتين المعنيّتين، يمكن قولُه عن الذين استلموا مواقع حزبية ومناصب إدارية متقدّمة في حكومة الإقليم. فهؤلاء ليسوا بأفضل من المجموعتين المذكورتين.فلا استقلالية في اتخاذ القرار ولا حرية في إبداء الرأي. كيف ذلك، وهم بين المطرقة والسندان؟
 من هنا، لا ينفع من كلّ هؤلاء، ولا يُقبل منهم سوى النصح والمساعدة للخروج من المأزق وتذليل الصعاب من أجل اتخاذ القرار المناسب بمصيرهم، اي بعيدًا عن وصاية الأحزاب الغريبة عن أهل المنطقة، حتى لو ادّعت الانتماء لذات الدين. أمّا التدخل السافر القائم حاليًا من جانب بعض هذه وغيرها من االذوات غير المستقلّة في الرأي، أو المنحازة لجهة لا تجمع ولا تؤمن بوحدة البلاد والأرض، أو ممّن يستسيغون التملّق لجهات طامعة على حساب حق ومصير أصحاب الشأن وأهل الدار والأرض أو يدّعون فرض الوصاية عليهم من دون وجه حق، أو يعلنون النطق باسمهم، فهذا لا يمكن القبول به وينبغي فضحه وردّه ورفضُه من العقلاء والحكماء والمثقفين وأصحاب الشأن.
هنا السؤال والتساؤل: أين موقع النبخة المثقفة من كلّ هذا وذاك؟ وهل من حقّ الكنيسة ورجالاتها، والأحزاب وأزلامها، وأصحاب المناصب ومَن يتودّد إليهم قربًا ومنفعةً، أن يكونوا أوصياء وناطقين باسم الشعب، الذي من حقّه قول كلمته بشأن مصيره ومستقبله عندما يستوفي شروط النطق والاختيار والتقرير؟ وإذا كانت الحرية المنقوصة التي أتى بها الغازي الأمريكي بعد سقوط ما سُمّي بالنظام الدكتاتوري البائد، ومثلُها الديمقراطية غير الناضجة التي طالما تمنيناها وحصلنا عليها بهذه الطريقة المخجلة، هي حادينا ودليلنا وأملنا لمستقبلنا ومصيرنا، فتبًّا لهما كليهما. فالغرب وأدلاّؤُه وعملاؤُه وأزلامُه هم مَن خلقوا هذه المشاكل وأوجدوا الأسباب لكلّ هذه وتلك.ثمّ إنّ "المطالب لا تأتي بالتمنيّ بل تُغتصب وتؤخذُ غلابًا".وهذا ما شنّفت به أسماعَنا إحدى أغنيات الراحلة كوكب الشرق وهي تحثّ شعب الكنانة والعرب على ما قاله الشاعر المبدع أحمد شوقي في إنهاض الهمم وإيقاظ الأمم من سباتها.
في مناسبات كثيرة، في المؤتمرات كما في الشارع وفي لقاءات المقاهي والنوادي والمراكز الدينية والمدنية ومقرّات الأحزاب والمنظمات، تحدث الكثيرون وسيتحدثون عن جملة مطالب وتصوّرات وطموحات، هي من صلب حاجات أهل المنطقة المنكوبة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالأرض وديمغرافية البلدات والانتماء والهوية الوطنية، فهذا لم يعد شأنًا للمساومة ولصفقات التجار والعرّابين وأصحاب الرهانات، أيًا كان شأنُهم ودينُهم ومذهبُهم وتوجهاتُهم ومواقعُهم في السلطة أو خارجَها. ولكون المرحلة الراهنة فترة حرجة تشهد فيها البلاد فترة من عدم الاستقرار والفوضى الخلاّقة والصراعات الطائفية والعرقيّة والمذهبية، وتدير معركة ضروس ضدّ أعتى تنظيم جهاديّ مسلّح نشأ ونما واستأسدَ وحكمَ وسبى وقتلَ واغتصبَ وطردَ ونشرَ فكرًا متطرّفًا يصعبُ قلع شأفته بسهولة، فهذا يُضاف إلى سائر الأسباب الوجيهة التي تقتضيالتروّي في تقرير المصير ومن ثمَّ الكفّ عن المطالب غير المنطقية والبعيدة عن العقلانية والابتعاد عن التسقيط والتخوين، لحين انقشاع الغيمة السوداء التي قد تطول لسنوات أخرى.
 من هنا يكون ترك مسألة تقرير المصير حتى استتباب الأمن والأمان، وعودة المهجَّرين والنازحين بعد تهيئة إجراءاتها وما تتطلبه هذه الفترة من إعادة الخدمات الأساسية وإعمار البنى التحتية وإصلاح البيوت المدمّرة وتعويض المتضرّرين والتأكّد من تجفيف منابع الفكر التكفيري في القرى المجاورة للبلدات المنهوبة والمدمّرة التي داسها أهل هذه القرى ودنّسوها وسلبوها وأعملوا فيها الخراب والدمار بتشجيع من عصابات داعش المسلحة التي احتلتها لأكثر من عامين. أمّا الضغوط الكثيرة التي تُلقى هنا وهناك والتحرّكات المشبوهة لنفرٍ من المرتمين في أحضان أصحاب المطامع والطوحات الكبيرة التي لا حدود لسقوفها، فهي غير مقبولة ولا أخلاقية، بينما لا تزال المأساة قائمة والهاجس الأمني باقٍ وأصحاب الأرض خارج مساكنهم وأملاكُهم في مهبّ الريح وتاريخُهم وتراثُهم وثقافتُهم في خبر كان. تقرير المصير ينبغي التمهّل فيه والتروّي ولا يمكن أن يصير بجرّة قلم أو تحت ضغط سيف مستلّ على الرقاب أو تحت طائلة الانتفاع والتجارة بمستقب شعبٍ مغلوبٍ على أمره لا يملك غير سلال الغذاء التي يتكرّم ويتحكّم بها صانع القرار وفقًا للمزاج والمصلحة والظرف. وهذا لا يتقاطع مع حق الكرد في تقرير مصيرهم لوحدهم وليس زجّ غيرهم فيه من دون وجه حق! أنا مثل غيري أقف مع الشعب الكردي في مسألة تقرير مصيره وحقه في الاستقلال، إنْ كانت هذه هي إرادتُه. فهو أدرى بشعابه. ولكن من دون إقحام شعوب المكوّنات المغلوبة على أمرها في هذه الإرادة والرغبة، التي قد تتحوّل إلى إشكالية شديدة التعقيد، فينقلبُ السحرُ حينئذٍ على الساحر. وهنا الطامة الكبرى!
لستُ هنا أجافي الحقيقة ولا أقول بنتَ عمّها، بل هي الحقيقة القائمة التي يعرفها كلّ مَن يُعملُ الفكر والعقل والضمير. فليس من المعقول أنْ تطلب ممن استجارَ بك أن ينكرَ ما أبديتَ تجاهَه من مساعدة وتكريم وتعاطف. فهو في كلّ الأحوال عندما يجد السيفَ مستلاً على رقبته، لن يكون بمقدوره نفيَ ما تريدُه أو التقاطع مع ما تقوله. وهذا ما خشيناه ونخشاه من نية رئاسة الإقليم وحزبها الحاكم من فرض أجندته على عموم النازحين الذين استجاروا بهم وسكنوا في أرضهم، وهي ما تزال جزءًا من أرض العراق الاتحادي وليستْ ملكًا لأحد.  فلا الحشد الشعبيّ ولا سطوة حكومة الإقليم ولا أية جهة غيرهما حتى لو أتت من جانب الرئاسات الدينية والحزبية، من حقهم فرض أجندتهم على أهل سهل نينوى المنكوبين، سواء كان هؤلاء من المسيحيين أو الإيزيديين أو الشبك أو الكاكائيين أو التركمان أو حتى العرب منهم. وأمّا الذين ينعقون وراء السرب في أبراجهم العاجية من غير رويّة ولا تقدير للمواقف ولا رؤية مستقبلية لما قد تأتي به الأحداث، فعليهم مراجعة الذات ألف مرّة قبل الإقدام على ارتكاب هذه الخطيئة القاتلة في الروح والضمير والعقل والأخلاق.
أمّا الطموح بإنشاء محافظة في منطقة سهل نينوى أو منح أجزاء منه نوعًا من إدارة ذاتية، فهذا حق مشروع، ويكفلُه الدستور لسائر المكوّنات. ولا بأس بالتفكير مستقبلاً بإنشاء إقليم على غرار إقليم كردستان. فإذا كان الغربُ المتبجّح وساسةُ البلاد صادقين مع أصحاب الشأن ومع أنفسهم ومع العالم، لماذا لا يدعمون مثل هذه المطالب مستقبلاً عندما تستقرّ الأوضاع ويعود المشرَّدون إلى ديارهم وأملاكهم ومساكنهم ويكونوا سادة أنفسهم من دون إملاءات أو فرض إرادات أو ضغط إدارات. هذا هو عينُ الحق، وهو ما يجدر بأصحاب الأجندات أن يعملوا وفقه وليسَ وفق مخططات وأطماع غيرهم.
فلا تقاطع إذن، مع قائمة المطالب المشروعة والتوصيات التي خرج بها مؤتمر بروكسل الأخير، بالرغم من المقاطعة من جانب قيادات دينية وحزبية وشخصيات قليلة، إلاّ فيما تُشمّ منه رائحةُ مخطّط لتقسيم الموصل وإلحاق أجزاء من أراضيها بالإقليم بالطرق والوسائل والأدوات التي باتت معروفة للجميع. فمثل هذا السلوك القسريّ بهذه الأدوات، غير مقبول في هذه المرحلة الحرجة، ومثل هذا الرفض والتحذير يتفق تمامًا مع ما أصدره البرلمان العراقي بقراره بتاريخ 26 أيلول 2016 برفض تقسيم محافظة نينوى.
نحن مع المبادئ والأسس التي خرج بها مؤتمر بروكسل على الأسس الأربع: "أساس التمكين للبناء والإعمار، وأساس التمكين الأمني، وأساس التمكين السياسي، وأساسا لتمكين الإداري". فهذه تنطق بما يحتاجه أتباع الأقليات جميعًا، ومنهم المسيحيون، من تأكيد لضمان العيش المشترك وإدامة السلم الأهليّ وإعادة دمج مكوّنات الأقليات التي تعرّضت للتهجير القسريّ ولإجراءات التكفير، إلى أحضان المجتمع العراقي ونيل حقوقها المشروعة في دولة مدنية متحضّرة تعمل وتحترم الجميع وتسوسهم بالعدل والمساواة والتآخي. أي أنَّ ما ينشدُه المسيحيون ينطبق في معظمه على حق سائر الأقليات الأخرى ومكوّناتها في تقرير مستقبلها بنفسها وليس بالإملاء عليها وفرض الإرادات الشيطانية.
وأنهي الكلام بما أتيتُ عليه وقد لخّصه رئيس الكنيسة الكلدانية من رأي سديد عقب تحرير الموصل بالقول: "يبقى مَنْ له الحق برسم مستقبل خارطة مناطقه وتحديد مصيره، هم أبناء الأرض الأصليون وأصحاب القضية والمأساة، عبر الحوار والتفاهم والتصالح مع جيرانهم من أتباع الديانات والأعراق والمذاهب الأخرى، من مسلمين وغير مسلمين، بعيداً عن الاجندات الخارجية او المصالح الشخصية الضيقة".


224
السياسة والنفاق، شراكة مشبوهة!
بغداد، في 27 حزيران 2017
لويس إقليمس
 ليسَ أسوأ من أن تتحول مجتمعاتٌ تقليدية معروفة بتاريخها المتعايش الزاخر بالأخلاق والمبادئ، إلى كتلة من الرذيلة والآفة القاتلة في زمن القتل والنهب والسرقة والفساد، لتسقط بالتالي في جُبّ النفاق الذي يتسيّد المشهد السياسيّ العراقي في هذه الأوقات، منسحبًا بالتالي على المجتمع ككلّ. كما ليسَ بالعجب العجاب أن تسمع وتشهد المتلوّنين في مشهد متكرّر أو مناسبة، ممّن يستمتعون ويتلذذون بالإيغال في منهجية هذا النوع من آفة العصر وممارسته عبر وسائل متنوعة، سمعية وبصرية وخطابية. وحينما تأخذ مثل هذه الآفة وطرَها في أي مجتمع وتتحول إلى شكل ممنهج في ممارسة أشكال النفاق، السياسيّ والاجتماعي، فإنها تصبح ظاهرة. وأية ظاهرة، تعني تطبّع المجتمع أو الجماعة، على شيء يصبحُ جزءًا من الحياة اليومية المعاشة، وإن يكن مثل هذا التوجّه في غاية الرفض والابتذال. أي بمعنى آخر، تضحي هذه الظاهرة شكلاً من أشكال الحياة اليومية المبتذلة التي تتلازم مع هذا الصنف من البشر الذي سمح لنفسه بلبس هذا البرقع. 
هذا السلوك من فئة هذه الرذيلة كانت دومًا حاضرة. ولكنها في العراق ما بعد 2003، طفت إلى السطح وأضحت ظاهرة. بل أصبح منظرُ النفاق أمرًا اعتياديًا في سلوك الحياة اليومية لمعظم السياسيين والعاملين في مؤسسات حكومية أو حتى تلك التابعة لمنظمات مجتمع مدني تدّعي هي الأخرى الحرصَ على إصلاح أحوال المواطن التعبان، المصدِّق كلَّ شيء وأيَّ شيء أحيانًا، ومن دون أن يتحقّقَ من كلّ هذه، أو من دون أنْ يسعى بجهده للتمييز بين الغثّ والسمين لدى محاوريه من سياسيّي آخر زمان ممّن نخر الفسادُ ضمائَرَهم وقلبَ وجوههم وسوّدّ قلوبَهم. لذا لا عجبَ أن تسمع أو تتطّلع أو تشهد بأمّ عينيك، نماذجَ حية وصاخبة من متشحي هذا النوع من الرذيلة التي تسيّدت المشهد. بل إنّ بعضًا من هؤلاء قد أتقنوا الصنعة وأجادوا ترويجها والتعاملَ بها وإقناع الغير بما يعرضونه من أشكال السلوكيات والأفعال، التي تخفى حقيقُتها على البسطاء، فيصدّق هؤلاء بهم ويرضخون لمجاملاتهم الساحرة في سرد ما يحلو لهم من روايات مضللّة ومن إجادة بتتابع الأحداث وصناعة الإقناع عبر طروحاتهم. وما أكثر ما نشهد من مثل هذه السلوكيات.
في إحدى المناسبات، كنتُ مشاركًا في استقبال مهنّئين في مركز دينيّ أصبحت له خصوصية عند أهالي بغداد، خاصة بعد تعرّض كنيسته المتميّزة لجريمة إرهابية بشعة في 31 تشرين أول 2010، وطالما قصده ومازال يقصده السياسيون وأصحاب الجاه والفكر، لأهداف متنوعة. سمعتُ كلامًا معسولاً، ضحكتُ له في سريرتي، ولعنتُ ذلك اليوم الأسود الذي أوصلَنا إلى هذه المساحات من الكذب والنفاق والرياء. كلّ الزوّار أشادوا، بل تفنّنوا بالمديح بالدور الحضاري والريادي للجماعة المسيحية في العراق ونصارى العراق، مؤكدين أصالة هذا المكوّن وتميّزهم في كل المجالات، ولاسيّما في أخلاقهم وأمانتهم وإخلاصهم ومثابرتهم وانتمائهم للوطن والأرض وحبّهم للآخر المختلف عنهم في الدين والمذهب والعرق والفكر والتعبير. وهذه من أسمى سمات الإنسان المتحضّر، بل أفضلُ ما يتمناه المرء العاقل والإنسان المعتدل الباحثُ عن الأمان والسلام والاستقرار في مثل هذا الزمن الصعب الذي اختفت فيه محبة الغير وإكرام الجار، كما توصي به الشرائع والعادات والتقاليد. ومثل هذا الحديث ما زال يتكرّر في كلّ مناسبة.
وبالعودة إلى مطابقة القول مع الفعل، نرى العجب العجاب. فأكثر القرارات والقوانين التي يشارك في وضعها هؤلاء السياسيون وممثلو أحزابهم وكتلهم بالضدّ من حقوق المكوّنات الصغيرة اليوم، تناقض أقوالَهم وتكذّبُ تصريحاتهم. وحين المحاجة بشأن مثل هذه الازدواجية في التعامل وفي اقتراح التشريعات وسنّها وتطبيقها لغير صالح هذا المكوّن وغيره من المكوّنات المظلومة والمهمّشة الأخرى، يخرجون إلينا بذرائع وحجج واهية. ولعلّ آخرها، ما كشف عنه بصراحة، زعيمُ التحالف الوطني حين تقديمه ورقة التسوية وعرضها على نخبة من رؤساء هذا المكوّن وبعضٍ من ممثلي الشعب والمثقفين من العلمانيين والمدنيين في أيار 2017. فقد ردّ على سؤالٍ محرج من قبل أحد الحضور، فيما إذا كان التحالف وشركاؤُه في العملية السياسية يعدّون الأقليات ومنهم المكوّن المسيحي شركاء حقيقيين لهم". وعند إجابته بالإيجاب، وهذا جانبٌ إيجابيّ، أعقبه السائل بسؤال أكثر حراجة، عن الغاية من إعادة البعض بين فترة وأخرى لنصّ قرآني، "يخيّر النصرانيّ بين ثلاث" لا غيرها، وكأنّه تذكيرٌ أو تحذير أو تفعيل لقانون أو دستور قائم مدى الأزمان والدهور. فكان الردّ صاعقًا: "لن نستطيع تغيير كتاب الله وسنّته... هذا شرع الله"، بالرغم من قناعة الكثير من المتنورين والمثقفين بأنّ ما ورد وما جرى وما طُبّق في سالف الأيام الغوابر، لا ينسجم مع مقتضيات العصر وتطوّر الزمان والفكر والأداة. وعليه ينبغي تجديد الفكر والتأويل والتفسير بحسب العصر والحداثة وتطور الزمن. لذا، عبثًا يسعى مَن يسعى لجبر الخواطر وتطييب النفوس وتهدئة القلوب. فما كُتب قد كُتب، ولن يفلح زيدٌ ولا عمرٌ في تغييره أو تحييده أو إلغائه. بل إنّ ما نسمعه في هذا الخصوص من كلام معسول، لن يكون إلاّ ضمن دارة الرياء والنفاق السياسيّ القائم على قدم وساق، ولن يزيغ عن الهدف المرصود أساسًا، بالرغم من تخفيف مفعوله وترطيب لهجته وتعويم غرضه وعدّه "تراثًا" من الماضي غير قابل التطبيق في أيامنا هذه، كما صرّح قياديّ من التحالف الوطني كان حاضرًا، فأجاد وصدق بقوله "مثل هذا القول أصبح من التراث"، وعليه أن يفي بما قال.
على شاكلة هذه الرواية، يتكرّر المشهد عند طغمة سائر الساسة والزعماء والمسؤولين من مختلف الكتل والاتجاهات والتيارات في الدولة العراقية المنهارة. وكلّ ما نشهده لا يعدو سوى ممارسةٍ منافِقة ومراوَغةٍ ذكية و"شطارةٍ أستاذية" ضمن أداة الاستهلاك السياسي الجارية، ونوعٍ من أدوات اللعب بمشاعر العامة بعد كسب ودّ شرائح خاصة رضيت بيعَ ضميرها على حساب العامة ومصلحة الوطن العليا. وهذا ينطلق بطبيعة الحال على حال مَن ركب قطار السياسة حديثًا من أتباع المكوّن المسيحي ومثلهم من سائر الأقليات المهمّشة الأخرى، التي ترفع شعار المدافعة عن حقوق شعويها في العلن، في حين لا يشكّ المتبصّر والعاقل والعارف بارتمائها في أحضان أصحاب النعمة وأولياء الأمر، سواء في الإقليم أو المركز. وهذا جانبٌ خفيٌّ من ممارستها أساليب النفاق والتخبّط. وخير دليل على ما ذهبنا إليه، المشاركة أو المقاطعة لسيل المؤتمرات واللقاءات والندوات العديدة، المحلية منها والإقليمية والدولية التي عُقدت وما تزال تُعقد، حيث تتسابق الأحزاب والشخصيات والمنظمات للمدافعة أو التنديد بها وبمنظميها وبالواقفين خلفها والداعمين والممولين لها، كلّ بحسب الانتماء والولاء ونوع المنفعة التي يرتجيها منها.
ما يمكن التحقق منه اليوم من دون صعوبة، بروز مفهوم سارٍ بين السياسيين، قائمٍ بذاته يتخذ من المواربة والنفاق والكذب على زملائهم وأترابهم كما على بسطاء الناس، منطلقًا في عالم التنافس الذي يشتدّ ويحتدّ لاسيّما إبّان فترة الانتخابات ومع اقترابها، ونحن نقترب من أجوائها. أمثال هؤلاء الساسة لا يمكنهم الاّدعاء ما ليسوا عليه من حملهم للفكر الإقصائيّ لأية جهة منافسة في هذا السلوك الشائن، حتى في صفوف أتباعهم أو أحزابهم أو طوائفهم، كما هي عليه الحال في أحداث العراق. فالتنافس بين شخصيات السياسيين، سواءً المشاركين في الحكم منهم أو المتنفذين في السلطة، واضحة المعالم في الذي يُلاحظ من شعور بالغيرة والتخوين والتسقيط عمومًا. وهذا الشعور أو المفهوم المبنيّ على إرادة داخلية وذاتية نابعة من روح الأنانية وشيء من غطرسة الأنا المتحكمة في ضمير أمثال هؤلاء، يبقى عنصرًا ذاتيًّا معشعشا في ثنايا الصدور المنغلقة التي لا تقبل بالآخر ندّا في ميزان العدل والمساواة والحياة. ومن ثمّ لم ولن يكون ممكنًا لمثل هذا التطبّع بهذا الشعور القاصر أن يخلي الصدور المريضة لساسة يرفضون التعلّم من دروس الشعوب وأحداث البلدان وكوارث الزمان والمكان ونصح الأديان.
في حياتنا العراقية، شهدنا وما زلنا نقارع ونتصدّى لهذا النوع من الآفة المتغلغلة في كلّ خطوة وكلّ مسار في الحياة الصاخبة التي أدخلتنا فيها الفوضى الخلاّقة قبل وما بعد الغزو الغربي الخبيث للبلاد. فالنظام السابق لم يتورّع الأسيادُ الطغاة فيه في استخدام أقصى وسائل الكذب والنفاق السياسيّ والاجتماعي إزاء الشعب الذي لم يكن له لا حول ولا قوّة، سوى العياذ بالله والصبر على الشدّة حتى يأتي الفرج. ومع التغيير الذي انتظره الشعب المظلوم بفارغ الصبر، إلاّ النزر اليسير من حديثي النعمة آنذاك، شاءت الأقدار أن تدفع سفينة البلاد والعباد للرسو بأيدي طبقة جديدة ومن نوعٍ جديد من الفاسدين الذين لم يتورعوا بالإيغال بنهب المال العام والاستيلاء على عقارات الدولة وتهديد السلم المجتمعي بسبب شبه غيابٍ للقانون والعدالة التي أخفقت منذ السقوط بردع مَن سوّلت له نفسُه العبث بمقدّرات البلاد والعباد من دون ذرّة ضمير ولا خجل ولا خوف من حُكم السماء يومَ الدّين. فقد مارس الكثير من أمثال هؤلاء أشباه الساسة الجدد، حديثي العهد والنعمة بفعل السطو المسلّح الذي يمارسونه وبفضل ما تقدّمه إرادة المتنفذين في السلطات الثلاث من دعم وتغطية وشراكة في السرقة والسلب والنهب والضحك على ذقون البسطاء من أبناء الشعب الراضخ لولاية القائمين عليها من دون رادع. والسبب بسيط، لا يقبل الجدال، وهو أنّ الكلّ مثل الكلّ، "في الهوى سوى"، سائرون ومواظبون على ذات النهج "طمطمْ لي وأطمطم لك" فالكعكة كبيرة وستظلّ كذلك إلى أن يأتي المنقذ! ولكن إلى متى الانتظار؟
بل إنّ البعض من أركان الفساد او مَن يسعى للتغطية على الفاسدين والمزوّرين، يعتقد أنّ مثل هذا السلوك في النفاق والكذب على الشعب يبقى في جزءٍ منه ضمن عملية رأى فيها البعض دخولها ضمن عملية "موازنة" أو "توازن" بين القوى المتنافسة التي لا تعير أهمية للانتقادات والرفض الصادر من مواقع ومصادر حريصة على سمعة الوطن ومصالح الشعب والسلوك العام لبلدٍ مثل العراق كان يوضع ضمن الدرجات المتقدمة حضاريًا وعلميًا واجتماعياً وصحيًا واقتصاديًا. إلاّ أن السياسة قد خذلته، وأوقع به مفسدوها في أتون صراعات عقائدية وطائفية وعرقية، كان لها بداية ولا نعرف نهاياتها! فليس أمامنا نحن الصابرين المثابرين الرافضين سوى انتظار حلّ هذه العقدة التي لن تكون ممكنة إلاّ ببروز تيار التغيير المدنيّ المؤدلج بالعصرنة والتمدّن والحضارة والتجديد في الروح والفكر والرؤية. مثل هذا التيار المدني- العلمانيّ، هو المعوَّلُ عليه من أجل تعزيز روح الوطنية والمواطنة والانتماء للوطن الذي يعيد للدولة هيبتَها ويرسم نجاتَها من جديد بعد فرز الزؤان عن الحنطة الأصيلة ورفض السارق ومحاسبة القاتل وإخراج الداعم لكلّ أعمال الشرّ والكراهية والإرهاب من صفوف هذا الشعب الطيّب في عمومه. ولا خيارَ آخرَ لدينا، إن عشقنا طيبَ الحياة، ونَشَدنا حسنَ المعشر، وأردنا إكمال إرادة الخالق في خلقه في أن يكون الجميع متساويين في سلّم الاستحقاق المجتمعي الذي ينصف الجميع من دون تمييز ولا إقصاء ولا عداء.
ما ينطبق على النفاق السياسيّ، ينسحبُ طبيعيًا على النفاق الاجتماعي الذي قد لا يقلّ ضررًا وسوءًا عمّا يقترفه الساسة في ميدان السياسة وإدارة البلاد والعباد. فكما أنّ السياسيّ لا يتورّع بالتلوّن بحسب مزاجه ووفق ما تتطلبُ مصالحُه وتوجهاتُ كتلته أو قوميّته أو حزبه أو طائفته أو الجهة الداعمة لكيانه ولوجوده ضمن الدائرة التي يعمل فيها، هكذا الفرد الذي نزعَ عنه كلّ اشكال الإنسانية والخُلق الحميدة وخرج عن صفاء النصح الذي يأمرُه به دينُه ويوجبُه ضميرُه ويفرضُه واجبُه الوطني والإنسانيّ معًا. ومثل هذا السلوك الاجتماعي بالتالي، ينسحب على سائر المجتمعات، بغض النظر عن طبيعة الشخص، رجلاً كان أم امرأة، صغيرًا أم كبيرًا. فالمجتمع، أيّ مجتمع، من طبيعته أن يخضع هو الآخر، لتجاذبات ومصالح ومنافسات تجسّدُ ما هو عليه في فكره وأخلاقه ونظام حياته، من دون تحديد مجال معيّن أو قطاّع خاصّ بذاته. لكنه يختلف في حجمه ودرجاته بتقمّص هذا السلوك بحسب الظرف، زمانًا ومكانًا وثقافةً واستعدادًا.
لقد تغيّرت المجتمعات هي الأخرى وأخذت تقفل على ذاتها أكثر فأكثرَ، متخذة مسارات معوجّة في التعامل والسلوك غير الحضاري الذي ساد أوساطَها، ولاسيّما التعبانة منها التي أقفلت عليها أنظمة وحكومات فاسدة وسياسيون طغاة لا يعبؤون بمصالح مجتمعاتهم ورفاهتها واستقرارها، تمامًا كما هي الحالة في البلدان الإسلامية بصورة عامة، والعربية ومنها دول الجوار بصورة خاصة. فالكلّ يعيش حالات من النفاق والرياء والكذب على الآخر، حتى في البيت الواحد، والمجتمع الواحد، والحيّ الواحد، والبلد الواحد. وهذه آفة تنذر الإنسانية بانفصام عرى الاحترام والعيش الآمن والحق في الحياة، كلّ وفق ما يراه ويرتئيه. إنها لسعة العصر المارد، آفة المواسم التي أوجبتها الموضة السائرة في ركاب الفساد والمفسدين، في السياسة والمجتمع، في الشارع والعمل، في المدرسة والمعهد والجامعة، في البيت وفي المؤسسات المختلفة الأهداف والمناهج والأغراض، على السواء.
هناك دومًا، أناسٌ يتخفّون تحت ستائر كاذبة وشخصيات منافقة تجيد الرقص على مصالح العامّة وتنجح بالقفز على جروح الآخرين والمتاجرة بمعاناتهم، سواء بالتمويه أو التسلّط أو الكذب الذي يتخذونه سبيلاً لتحقيق المآرب والغايات من دون تحديد الزمان والمكان والنوع والكميّة. فما يهمّهم هو الهدف وبلوغ الأرب حتى لو كان تحقق على رؤوس الجماجم وفقر الفقراء وعوز المعوزين وفاقة المحتاجين. فما يُستخدم من كلام معسول كفيلٌ في أسراره وطياته أن يوصل أمثال هؤلاء إلى الهدف المنشود. من بين هؤلاء مَن يدّعون بُعدَهم عن السياسة والسياسيين، ولكنهم في واقع الحال، لا يختلفون عن الصنف الأول في أكاذيبهم ومراوغاتهم وأساليبهم الملتوية التي بإمكانها إذابة جليد النقمة المتفاقم بشيْ من مثل هذا النفاق المجتمعيّ الصارخ الذي يجيد التعاطي معه نفرٌ ضالٌّ يعيش على هامش الأخلاق، وهو لا يتورّع بضرب كل العناصر الطيبة التي تدعو لها الأديان المؤمنة بإرادة الخالق وقدرته على إدامة حياة البشر وإنهاء كلّ أنواع الشرّ بإشارة منه. فهو القادر الجبار الذي لا يُقهر بالتالي، مهما تجبّر وطغى الطغاة وأفسد المفسدون على الأرض.
في الحياة قيم، ولعلَّ إحداها احترامُ الآخر المختلف، جنسًا ودينًا وطائفة ومجتمعًا وعِرقًا ووضعًا قائمًا، أيًا كان هذا الأخير. ومَن يرفض عناصر هذه القيم، فهو يقيم جبلاً من ثلوج يصعبُ إذابتُها، وكتلاً صلدة من الخرسانة الصمّاء التي لا يسهلُ كسرُها، طالما أنّ ديدنَه الكذب والنفاق والرياء والاستغلال المجتمعي بأبشع صوره. وهذه الأخيرة، بما فيها من أذى وخروجٍ عن الصراط المستقيم الذي رسمه الخالق للبشر جميعًا، لا يمكن أن تُعتمد كشرّ لا بدَّ منه في حياة الإنسان. ببساطة، لأنّ الخالق قد أوصى خليقتَه الجميلة أن تكون بمستوى صداقته لها وعنايته بها وبُنوّتِه تجاهها، بالرغم من علوّ شأنه. فطالما أنه قد خلقَها على صورته وشكله الحسن واستحسن خلقَها، فتلكم إشارة على ضرورة السير وفق إرادة هذا الإله الطيّب، الغيور والمحبّ للبشر جميعًا دون تمييز في الشكل واللون والعرق والزمان والمكان. وهذه مدعاة كافية للسير بموجب قوانين السماء كما رسمتها دساتير الأديان ووصاياها وتعاليمها المستوحاة من كلام الله ومن محبته للبشر، حبًا بالحياة وليس قتلاً وأذيةً وكبحًا لها. أليسَ الدينُ نصحًا وخُلقًا وحبًا للقريب، حتى سابع جار؟
لقد علمتنا الحياة، أنَّ المواقف التي تمرّ بالإنسان كثيرة، وأفضلُها متعة وأشدّها قربًا من رضا الله، تلك التي تحترم الآخر وترضى لغيرها ما تهواه لذاتها: "أحببْ لغيرك ما تحبُ لنفسك". وتلكم هي المصلحة العليا والمنفعة الحقيقية للذات وللغير عندما ينطلق كلّ شيء من حب الآخر المحتاج أولاً وقبل كلّ شيء وينتهي إليه. فهذا الآخر هو صورة الإله الخالق، صنيعتُه الجميلة على الأرض، الصغيرُ المهمَل والفقيرُ المهمَّش: "فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كلّ ما فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الصغارِ، فَبِي فَعَلْتُموه." (إنجيل متى 25: 40).
فهل مِن ناشدٍ للنصح ومتعلّم للدرس الأخلاقي البليغ؟ حينها سيصلح الجزء الكبير من سلوكيات المجتمع المعوجّ بوقفة صادقة وجادّة ضدّ الفاسدين والمفسدين للمجتمعات بسلوكياتهم الخاطئة التي ترفضها الأديان والمجتمعات الصالحة. فالمجتمع الذي لا دينَ له كي يقدّم النصح ويرسم الطريق للإنسان المخلوق باعتدال ووفق معايير إنسانية متحضّرة ومعاصرة، أو لا يحترمُ فيه الأديان والمتديّنين الصادقين مع الله والقريب ومع الذات، يبقى مجتمعًا لا خيرَ فيه يُرتجى. فأفضل المجتمعات وأكثرُها رفاهة وسعادة تلك التي يسودُها القانون والأخلاق قبل المادة والأكل والمشرب، ولا تقبل بالفساد، وتشيد بمساعدة الآخر واحترام خصوصياته وحريته في الفكر والتعبير والمعتقد، وليس بالثروة والعقارات التي يكتنزها الفاسدون ويحصلون عليها بشتى الوسائل الملتوية، ولا في الجاه الذي يتباهى به روّادُه، ولا في السلطة التي تُستخدم للنيل من كيان الآخر وهويته وحريته، ولا بمصادرة حقوق الشعوب وحريات البشر والبلدان، ولا بتشويه المعالم والآثار والتراث، ولا بقتل النفس البريئة.
من هنا، نعتقد أن إنقاذ البلاد والعباد من مثل هذه الآفة ومن غيرها، يكمن بإرساء مبدأ المواطنة واحترام الآخر المختلف والتخلّي عن كلّ ما من شأنه دقّ الأسفين بين المكوّنات التي تشكل فسيفساء المجتمع العراقي منذ قدم التاريخ، وأنّ النفاق مهما استشرى لا يمكنه أن يدوم إلى ما لا نهاية. والحلّ يكمن بالمضيّ في مشروع المصالحة الوطنية الحقيقية التي تبني البلاد وترسي السلام والأمن في المجتمع وتغيّر أخلاق الإنسان وتقوّم المعوجّ فيه فكرًا ونهجًا وتطبيقًا. وبعبارة أخرى، لن تنهض البلاد ولن تستقيم أخلاق الشعب إلاّ في تطبيق دولة المواطنة التي ليس فيها لا غالب ولا مغلوب، لا سيّد ولا تابع، لا أمير ولا خادم، بل الجميع متساوون أمام القانون. وفي ضوء الكفاءة والولاء الخالص للوطن والأرض والشعب يكون الاستحقاق.



225
بابا السلام في مصر السلام
لويس إقليمس
 بغداد، في 1 أيار 2017
رحلة بابا الفاتيكان، فرنسيس الأول، للفترة من 28-29 نيسان 2017، إلى "مصر أمّ الدنيا"، كما أسماها في خطابه الرسمّي ونطقها بلغة الضادّ، مع تحيته للحضور في مؤتمر الأزهر للسلام العالمي بعبارة " السلامُ عليكُم"، ذات معاني روحية غزيرة، وأبعاد إنسانية وسياسية كثيرة، إلى جانب ما تحملُه من تصوّرات وآمال وبشائر رجاء راعوية ومستقبلية لخير المسيحية فيها وفي المنطقة، ولصالح الكنيسة القبطية وشقيقاتها. فهي، إضافة لكونها تأتي بُعَيد أيامٍ لحادثتي الكنيستين القبطتيتين المأساويتين في طنطا والاسكندرية، وما تستحقه من تعاطف أخوي وإنسانيّ وكنسيّ، فهي تحمل أيضًا تباشير خلاص وسلام وانفتاح ورؤية ثاقبة لرأس الكنيسة الكاثوليكية، وهو اليسوعيّ المنهج في الفكر والعطاء، والمسكونيّ التوجُّه في اللقاء والحوار، والإبراهيميّ الطريقة في التقرّب من الخالق ومن خليقتِه، والإنسانيّ في التعاطف مع الفقراء وأصحاب الحاجات الخاصة والمهمَّشين والمحتاجين إلى الرحمة، رحمة الله والبشر معًا.
زيارة البابا لمصر الثقافة والحضارة، لها دلالاتُها أيضًا، في زمن الفوضى الخلاّقة وعمل المفاهيم المتطرّفة والمتعصّبة، المنغلقة والبعيدة عن روح الله ومحبته الكبيرة لخليقته التي تعاني من سكرات الحبّ الإلهي الجَمّ الذي تنكرت له في أوجه قاسية وأحداث عنف دموية غير سارّة تحزّ النفس وتقطع القلب وتصمّ الأذن. لم يعبأ بالهواجس المثارة ولا بهمسات التهديد المتصاعدة. فهو ليسَ بأقلَّ من الشهداء التسعة والعشرين الذين سقطوا يوم الجمعة العظيمة، ولا بغيرهم ممّن سبقوهم على مذبح الشهادة وأضحوا بذارًا للمسيحية ورووا بدمائهم الأرضَ لتزهر في زمن الحقد والكراهية وتنمي ورودًا وزهورًا في الأخوّة والإنسانية وفي التواضع والتنازل عبر الحوار والنقاش، لا عوسجًا وحسكًا من الغلّ والحقد والكراهية والتعصّب الأعمى الذي لا يعرف غير ثقافة الموت والقتل والهمجية والبربرية وإلغاء الآخر.
هذه الزيارة، أضفت أشعة من نور على مصر الصعايدة "والجدعان"، وحاضرة المعادي والسويس والاسكندرية، وبالذات على الكنيسة المرقسية الرائدة ومعها برّية النسك والترهّب المسيحي في سيناء والعريش. انحنى له أصحابُ القلسنوات و"القلّوزات" والعمائم والطرابيش والهامات الكبيرة على السواء.  صفّق له كلُّ مَن أسعدَهُ لقاؤُه، لتكتحل عيونُه بعنفوان رَجُلِ العصر، الكبيرِ بين الإخوة مسكونيًا، والمتميّزِ بين الحشود روحيًا، والعظيم بين الأحبار كنسيًا، والبسيط المتواضع المتنازلِ بشريًا. وكلّ هذا كي ينشرَ عطرَ السلام وسط عواصف العنف الهوجاء التي ضربت مصر الكنانة، "أمّ الدنيا"، تمامًا كما آذتْ وجرحتْ بلدانًا غيرها في المنطقة كالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين بسبب الغلّ الأعمى والكراهية الفاشية في نفوس كارهي الحياة من المعتقدين بزنى المحارم ونكاح الحوريات والحكم باسمِه وهو الرحمن الرحيم، محبّ البشر الذي يُروَّجُ نفرٌ ضالٌّ لعبادته والتكبير باسمِه عبر القتل وحزّ الرقاب ونحر الرؤوس البريئة من دون وجه حقّ.

صوتُ صارخ في البرّية
على خطى العائلة المقدسة، حجّ البابا فرنسيس إلى مصر أبي الهول، لتتقدس أرضُها ثانية، كما تقدّست قبل أكثر من ألفي عام، عندما حلّت فيها العائلة المقدسة، يوسف ومريم ومعهما الطفل يسوع، لجوءً وهرَبًا من ظلم وقساوة وعنف هيرودس، الذي تتمثل به اليوم، الأيادي القذرة لجماعات التيار السلفيّ الإخوانيّ، بتكفيرِها كلَّ مختلف عنها، وبعدائها لكلّ مَن لا يسيرُ على هدى أفكارها الخبيثة المنغلقة على الذات وعلى الروح وعلى الإنسان وحقه في الحرية والعيش الآمن ضمن الحدود الإنسانية التي حباه بها الخالق.
في عالم اليوم، حيث اختلطت أوراق العولمة مع تأثيرات التيارات الإسلامية في المصالح القومية لأسياد العالم، لتتلاقى في الكثير من هذه الأخيرة مع سياسات غارقة في الفساد والكراهية وحبّ الثروة، حتى لو كانت خارج الأطر المقبولة في مجمعات سوية. ضمن هذه الأجواء، جاءت مشاركة البابا في مؤتمر الأزهر للسلام، ليعلنَ صرختُه المدويّة بوجه الظلم وبضرورة الحوار بين أتباع الأديان والمذاهب والثقافات والحضارات لتلافي الاصطدام بينها. فالتحديات كثيرة وكبيرة، كما أشار إلى اثنين منها البطريرك لويس ساكو الذي ترأس الجلسة الأولى للمؤتمر. "أول التحديين يتمثل بالسياسة التي تبحث عن المنافع الاقتصادية من دون النظر الى الانسان، فهي غاشمة تحتاج الى أنسنة، والتحدي الثاني وهو أكثر ضراوة على مستوى الفكر الارهابي ويحتاج الى تجفيف منابع التمويل المالي والعسكري وتقديم فكر معتدل ومنفتح يقبل الاخر من خلال المنبر الديني ووسائل الاعلام وإصلاح البرامج التعليمية."
مثل هذا التوجه المنفتح الجديد، لو صدقت نوايا المؤتمرين، سيأخذ بالمنطقة وبشعوبها نحو برّ الأمان والعيش المشترك خارج السياقات العنفية ووصمات الكراهية والحقد وأعمال القتل والتهجير على الهوية والدّين التي تجري في هذه السنوات العجاف. منطقة الشرق الأوسط تحتاج إلى مثل هذه الثورة الحقيقية ضدّ مفاهيم الكراهية التي ضربت مجتمعاتنا الشرقية، وقد ضاقت ذرعًا بحمامات الدمّ الناجمة عن ثقافة إلغاء الآخر، بسبب خروج نفرٍ ضالّ عن التعليم القويم للدين الإسلاميّ الحنيف الذي تأسّس على كلمة "السلام"، حالُه حال الأديان التوحيدية "السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتُه". فالدّينُ سلامٌ ورحمة وبركة! وأيُّ دين يخرج عن هذه، فهو ليس بدين، ولن يبقى دينًا، بلْ سمِّهِ ما شئتَ من ألقاب الكفر والعنف والقتل ومفرداتٍ كثيرة شاعت عنه كالنكاح وطلب الحوريات عبر تقديس الموت وكراهية الحياة حبًا بهذه الترّهات التي لا وجودَ لها البتّة، إنّما هي من خيلاء مشايخ الحقد والتحريض والكراهية! أيّةُ أيديولوجية فاسدة هذه التي يروّجُ لها هؤلاء؟ ونحن نقول مع أصحاب الفكر المعتدل: لا يمكن الجمع بين الإيمان والسلام وبين الحقد والكراهية، كما لا يمكن تصوّر ما يجري من أعمال قتل وتكفير جارية بسبب الاختلاف في الدّين وفي الرؤية وفي المذهب. فإلهُنا الواحد الأحد، ليس إلهَ موت وقتل ولّذة، بل إله محبة وسلام وفرح. ونحنُ مع إله المحبة هذا، نسير في طريق بناء الإنسان وسعادته من أجل بلوغ الملكوت الأبدي الذي في انتظار الأخيار من البشر. والإنسان القويم هو الذي يبني بيتَه السماوي من على الأرض، بأشكال الخير والمحبة والرحمة وليسَ بالقتل والحقد والكراهية.
كلمات البابا، نداءٌ صارخ "صوتُ صارخٍ في البريّة، أعدّوا طريق الربّ واجعلوا سبلَه قويمة". لا يمكن تقديس الموت بقتل الآخر الذي لا ذنبَ له، إنّما فقط لاختلافه في المنهج والدّين والمعتقد. هذه شريعة الغاب، وليست شريعة دينٍ توحيديّ يدّعي الإيمان بإله واحد رحمن رحيم وجبارّ خالق السماء والأرض والعناصر وما عليهما وما بينهما. إنها أزمة أيديولوجيا بحاجة إلى مراجعة وتقويم وتشذيب الدخيل على ما اعترى الدّين الإسلاميّ من أحاديث وإضافات غير موفقة في أزمنة لاحقة للدعوة الإسلامية، لأغراض دنيوية ومن أجل تثبيت سلطات طارئة. مثل هذه الأعمال وهذه الأفكار الهدّامة، هي لعبٌ بالنار، عندما يتمرّدُ الإنسان ويوغل في قتل أخيه في الإنسانية وينوي إلغاءَه بشتى الوسائل. كيف لمدّعي الدين أن يقيم العدالة، وهو نفسُه ظالمٌ لنفسِه وللغير؟ أليسَ هذا اغتصابًا باسم الدّين؟
بكرٌ بين الإخوة
ضربَ الباب فرنسيس مثالاً آخر في التواضع والغيرة على وحدة كنسية المسيح، عبر التفاهم المسكونيّ مع باب الاسكندرية والكرازة المرقسية، تواضروس الثاني، بابا النسك والترهّب المعاصر. وقمّة هذا التفاهم تصاعدت في الصلاة المسكونية بصحبة أحبار الأرثوذكسية، العنيدين المعاندين تاريخيًا. لكنّ البابا عبر دوائره وإرشاداته كأخٍ "بكرٍ" بين الإخوة، كسرَ حاجزَ الصمت والعجرفة والزعامة كي يثبت وحدة الإخوة في المسيح "نحن مع الرب واحد". ومن هنا كان حرصُه على تلافي أخطاء الماضي والتأكيد على مقررات المجامع الثلاثة الأولى للكنيسة الجامعة التي جمعت المسيحية على مبادئ ثابتة غير متزعزعة بمحاربة السفسطات والبدع التي أرادت تمزيق وحدة الكنيسة في مجامع لاحقة مغرضة متأثرة بمصالح سلطوية دنيوية لنفرٍ من المغترّين المارقين على طريق الرسالة المسيحية الرسولية الأولى.
في هذه الزيارة التاريخية التي تعيد إلى الأذهان زيارة البابا الطوباوي بولس السادس في 10 أيار 1973 ولقائه البابا الراحل شنودة، يعيد البابا فرنسيس النهج المسكوني المتنامي بين الإخوة الذين تجمعُهم شركة واحدة في المسيح في عقيدة اتفقوا عليها وآمنوا بها وساروا على ضوئها في القرون الأولى لانتشار المسيحية، ولم يتفرّقوا إلاّ بُعَيد المجمع الثالث. فأوجهُ الاختلاف في الرأي وفي النهج وفي أسلوب العلاج والعيش، من دون أن يقوّض أساسَ البناء، أمورٌ طبيعية، تمامًا كما حصل من اختلاف بين بطرس هامة الرسل واالرسول بولس في معالجة شؤون المسيحيين الأوائل. قد تتلاقى الأفكار وقد تختلف من دون أن تصل إلى حدّ الخلاف. وهذه ظاهرة إيجابية في التعبير وفي إبداء الرأي والمعالجة. فلقاء "بطرس" الجديد مع أخيه "مرقس"، أضفى على الزيارة بعدًا مسيحيًا ومسكونيًا تاريخيًا، نأمل قطف ثماره من أجل خير الكنيسة وسعادة مصر وسلام المنطقة.
 ولعلّ من نتائج تواصل الانفتاح المسكونيّ بين الكنيستين، ما صدر من وثيقة أو بيان وقّع عليه بابا الفاتيكان وبابا الكنيسة المرقسية ب"السعي" للاعتراف بسرّ العماد بين الطرفين. وقد كان هذا من أدبيات الجهود الرسولية الأولى التي شهدتها المنطقة منذ القرن الأول الميلادي عندما دخلت المسيحية بسواعد الرسل وتلاميذهم الذين جابوا القفار والبراري وتجشموا عناء السفر والتعب والجوع، لحدّ الاستشهاد حبًا بنشر تعاليم المسيحية وإنشاء كنائس وأديرة طغت على المنطقة ونمت وترعرت في ظلّ حراسة الرب ورسلِه وتلاميذهم من بعدهم.
رسولان للسلام
من حق الدموع أن ترسم سيولاً على وجنات المحبين للسلام والمحبة والوفاق. ما أجلَّ وأهيبَ المنظر، حينما تعانق الجبلان، المسيحي والمسلم، ليرسما تباشير فرح وسلام وتفاهم وتوافق بحق الإنسان كي يعيشَ حرًا بمعايير إنسانية تلزمُه احترام الآخر مهما اختلف معه. عناقهما الساخن والمتكرّر وسط ترحيب وتصفيق الحضور، أضفى على اللقاء شعلةً مستديمة من الأمل والرجاء ببدء صفحات جديدة بين مختلف الأديان التي مثَّلَ أكبر دينين منها الرجُلان المبتسمان الطافحان فرَحًا وبهجةً ونيةً صافية لطيّ صفحة الماضي الأسود وإدانة كلّ أشكال العنف والقتل الناجمة عن إساءة البعض للتأويلات غير الموفقة لنصوص دينية.
من هنا كان مؤتمر الأزهر للسلام العالمي، مناسبة للدعوة للانتقال من فكرة تهديم الحضارة وقتل النفس البريئة إلى مفهومٍ آخر للرقيّ بالإنسان وأهدافه في الحياة البشرية القصيرة على الأرض، استعدادًا لرسم مصيرٍ أبديّ يدوم في السماء. قالها" لنكن صانعي سلام" وليسَ رافضين للعنف قط، أو مقاومين لأشكال العنف والقتل والظلم. تلك الصراحة في طرح فكرة رسالة نبذ العنف وتقاسم تباشير الحياة الإنسانية والعيش المشترك على أساس المواطنة المتساوية واحترام الآخر المختلف والقبول به أخًا في الإنسانية وفي الوطن وفي المصلحة المشتركة، كان لها صداها الواسع في أوساط المعتدلين ودعاة السلام والمحبة والتآخي. "طوبى لفاعلي السلام، فإنّهم أبناء الله يدعون".
وإنْ كانت هذه الصرخة قد أغاضت "صفّ الشيوخ والفرّيسيين المعاصرين"، من حاملي الأفكار الهدّامة للإسلام والبشرية ومن دعاة التحريض والكراهية، تمامًا كما اغتاظُ صفُ الشيوخ والفرّيسسن عندما دخل يسوع إلى أورشليم وطردَ الباعة من هيكل الله الذي حوّلوه إلى مغارة لصوص، إلاّ أنها قد لاقت صداها الواسع والعميق وسط الحضور وكذا في الأوساط الإعلامية. فالبابا فرنسيس دخلَ مصر حاملاً غصن الزيتون علامةَ السلام، وشاهرًا سوط الغضب إزاء أعمال القتل والعنف التي تُرتكبُ باسم الدّين، والدينُ كما أشار المؤتمرون، براء من كلّ ما يجري.
لا حضارة وسط العنف
بهذه الكلمات القوية، خاطب البابا جمعًا من السلطات المدنية والمنظمات والسلك الدبلوماسي في فندق الماسة، بحضور رئيس أكبر دولة عربية تشهدُ تحولاً في مفهوم المواطنة وتعزيز الديمقراطية والمساواة. فلا حضارة وسط العنف!
    كيف يمكن بناء حضارة في وسط تعشعشُ فيه أيديولوجية منحرفة تدعو للتطرّف أو في وسط بشرٍ يمارسون شتّى أعمال العنف والقتل الممنهج ضدّ إخوتهم في الوطن وفي الإنسانية؟ تمامًا، كما لا يمكن الجمع بين الإيمان الحقيقي والعنف المستشري كواجب الوجوب بحسب شرع نفرٍ من المتطرّفين الذين يقيمون الحدّ باسم ما يُسمّونه شرع الله، والله بريء من أفعالهم النجسة، براءة الذئب من دم يوسف. إنّه واجب البشر المعتدلين المؤمنين بإله واحد خالق السماء والأرض وما عليهما وما فوقهما وما تحتهما. فهوّ الديّان وحده لاغيرَ سواه. فهو لمْ يُنَصِّبْ حثالةَ البشر كي تنطق باسمه القدّوس. لأنه إله جبار عظيم، وهو أيضًا سلام ومحبة وليس إله قتل وضغينة.
وأخيرًا، السلام الذي تحدث به البابا، هو سلام النفس والإنسانية المتعذبة بسبب أعمال العنف وأدوات القتل والإرهاب التي انتشرت بسبب أيديولوجيات منحرفة زاغت عن السبيل القويم الذي أتت به الأديان السمحة في بادئ الرسالة. وهو هبة من الله للبشر، جميع البشر، كي ينعموا بقوة القانون العادل وليس بقانون القوّة الذي يريد نفرٌ ضالٌّ فرضَه على الغير من دون وجه حق.

226
مصير "الأقليات" والحقيقة المرّة
لويس إقليمس
بغداد، في 12 أيار 2017
مع تواصل عمليات تحرير مدينة الموصل القديمة (أو ما يُعرف بالجانب الأيمن منها) على قدمٍ وساق وبجدارة ملفتة للجيش ومَن تجحفلَ معه من نشامى الوطن ومحبيه، بعد الانتهاء المقتدر من تحرير بلدات سهل نينوى والجانب الأيسر من المدينة، يتكرّر السؤال اللغز عن مصير المكوّنات الوطنية الأصيلة التي أحالَها الزمنُ الغادر إلى أقليات عددية صغيرة، هزيلة القدرة، كثيرة الشجون وفقيرة الأمل الذي تتعلّق به كالنملة بالقشّة النحيفة. فهذه المكوّنات آيلة اليوم إلى الانقراض، بحسب ما تشيرُ إليه الأحداث والوقائع على الأرض، وكما تدور الأحاديث في دكاكين تجار السياسة والمتلاعبين بمصائر البشر والمستضعفين منهم بخاصّة، وهي التي قطنت أرض هذه الولاية التي تُعدّ مناطقها التقليدية منذ مئات بل منذ آلاف السنين. وعليها وانطلاقًا من أراضيها الخصبة بكلّ شيء، بنت هذه الشعوب المستضعفة جزءًا كبيرًا من حضارة العراق وطبعت فيه ثقافتَها وأثرتْ تاريخ البلاد بإرثها وجدارتها وانتمائها الوطني الحر الصادق من دون رتوش ولا تصنّع. وانقراضُها خسارة كبيرة، لن يعوّضها البتة تحوّل العراق إلى كيانٍ بلون شاحبٍ واحد، وبطعمٍ مرُّه كالعلقم، وبرائحة ستفوح جيفتُها وستزكم الأنوف مع توالي الزمن وتتالي الأيام. فالطامعون في هذ المكوّنات الصغيرة، كثروا اليوم، وتنوعوا وتوزعوا بين فاسد ومفسد في الأرض، وبين لصٍّ في الليل وناهب في النهار، وبين مروّج لأيديولوجية تتخذ من الشرع وتجلياته والجهاد وتجنيّاِه في المنطقة والعالم سبيلاً لإعلان قطع الأرحام وكسر الأشكال وتغييب النفوس والأجسام بطريقة فَضّة وهمجية تتناقض مع تطوّر الزمن وعصر الحداثة ورواج الفكر المنفتح الذي يشترط فيه قبول الآخر المختلف، مهما كان لونه وجنسُه ودينُه وملّتُه وعقيدتُه وفكرُه.
لقد واصل وجودُ هذه المكوّنات الأصيلة في النسيج العراقي والإقليمي، وكذا تواجدها في المنطقة ككلّ، واصلَ التدحرج والتراجع والتناقص على مرّ السنين الغوابر التي بقيت على مداها المتعاظم هدفًا سهلاً لتجار السياسة المتضلّعين منهم والهواة على السواء، إلى جانب المراهقين الطامعين الذين فرزتهم الأحزاب الدينية بصورة خاصة ما بعد الغزو الأمريكي في 2003، كي يوجّهوا اهتماماتهم العقارية الجشعة ومشاريعَهم التوسعية باتجاه الأرض الخصبة للآباء والأجداد الغيارى من قاطني هذه المناطق، مستخدمين شتى الوسائل لتحقيق هذا الهدف، ومنها استخامهم أدوات النفاق كسلوك للتخدير والتناسي والتغافل وإظهار أشكال التمييز والاستهانة بحق هوياتهم المختلفة عن دين الأغلبية عن طريق اٌيهام بتقدين مشاريع للتسوية والمصالحة المجتمعية التي إنْ هي إلاّ نتاج منهج سياسيّ معيّن يُراد الترويج له وتصديرُه بأي أدوات متاحة.     
الهجمة الجديدة القديمة، تتخذ اليوم طابعًا ممنهجًا ومنظمًا أكثر من سابقاتها. وآخرها تجريحٌ رُوِّجَ له حديثًا في مواقع التواصل الاجتماعي، لأحد شيوخ الشيعة المتقدّمين والمحسوبين على القيادات الشيعية، في محاضرة أمام أتباعه تطرّق فيها إلى تأييد النصوص القرآنية "المدنية" للجهاد بحق النصارى واليهود، وما ينبغي على أهل الذمّة من الكفّار، بحسب الوصف، من واجب الوجوب تجاه المسلمين من أداء الجزية، أو الإسلام أو القتال، بالرغم من كوننا نعيش في القرن الواحد والعشرين، وندّعي الشراكة في الوطن وأنّ "إلهَنا وإلهُكم واحد". ومثل هذا المنهج غير السليم الذي يتقاطع مع دعوات وطنية للعيش المشترك وإصلاح اللحمة المجتمعية المنفرطة وتحقيق المصالحة، لا يختلف عمّا يفعله شيوخُ القتل والتحريض الوهابيون والإخوالنيّون وأمثالُهم من المتشدّدين المنغلقين من نماذج الدواعش ومَن على شاكلتهم، الذين يملأون مواقع التواصل الاجتماعي ويغسلون أدمغة العامّة في قاعات المحاضرات والمؤتمرات والمضافات الخاصة. وهذا مردُّه أن العقلية هي هي لا تتغيّر. فلا تغيير مرتقب، كما يبدو، في إصلاح الاجتهادات والتفسيرات المنغلقة التي صلحت أو كادت، في زمن الجاهلية وبداية الدعوة، ولم تعد صالحة في زمن العولمة والتكنلوجيا المتطورة والفضاء. وعند السؤال والاحتجاج على مثل هذه المواقف غير المتزنة والمنافقة، تأتي التبريرات والاستجابة للرفض والاحتجاج من الطرف الآخر، أكثر خجلاً بدلاً من اتخاذ قرارات شجاعة للحدّ من مثل هذه التجاوزات بحق المختلفين في الدّين ومن دون أية إدانة صريحة لأشكال هذا الخطاب التحريضيّ الذي يأخذ شكلاً متجدّدًا بين فترة وأخرى. بل إنَّ مثل هذا السلوك الاستفزازيّ الواضح، يعبّر عن رغبات مستورة ونوايا دفينة مخفية لحينٍ، لأسباب دعائية وانتفاعية مرحلية، كي يتغوّل المتسلّطون على ما تبقى من آثار وجود وبقايا تراث هذه الأقليات التي يزدادُ تكفيرُها ومضايقتُها كلّما تتطلّب أمرُ تناقصها بحسب إرادة الأسياد المتقاولين مع إرادات الشرّ حرصًا على مصالحهم الشخصية والقومية والمرحلية. فاللسان بنطق بما في القلب، "من فضلات القلب يتكلّمُ اللسان"!
وهكذا تبقى الأقليات ومصيرُها، رهن مثل هذه السلوكيات غير الحضارية التي ترنو إلى الماضي التعيس في كلّ شيء، وسط تعالي صيحات البشر من ذوي الإرادة الطيبة والنَّفَس الوطنيّ الصادق بقرع أجراس الإنذار الكثيرة، في كلّ يوم وكلّ ساعة، خوفًا من مستقبل غامض. وهذه من دواعي مخاطر الانقراض الممكن والتراجع في دورها الحضاري والوطني والاختفاء المتنامي لهويتها الوطنية والدينية والقومية.
تشير السير التاريخية والوقائع، عن عناد ودفاع مستميتين للآباء والأجداد على مرّ عقود مضت وقرون ولّت، وهم صامدون ومصمّمون في الدفاع عن مناطقهم التاريخية وحمايتها من غول الأشرار والطماعين والسرّاق واللصوص وسائر المتربصين من كلّ فرصة سانحة على مدى التاريخ الطويل. وما أكثر ما يسردُه هذا الأخير عن أحوال أتباع هذه الشعوب المقهورة والمهمّشة والمضطهدة، ولاسيّما المختلفة في دينها ومعتقدها وأصولها عن دين الأغلبية في عموم البلاد والمنطقة، في سياق حملات تكالبت على البلاد في فترات سوداء من تاريخ الغزوات والغارات والمداهمات المحلية والغريبة على السواء. لقد ظلّت أمثال هذه المكوّنات التي لا تدين بدين الأغلبية، كالمسيحية والإيزيدية والصابئية والكاكائية والبهائية واليهودية، وتلك التي تختلف في العرق كالسريان (الآراميين) والشبك والتركمان والشركس أو في اللّون من ذوي البشرة السوداء الذين اعتاد أهل الجنوب إطلاق تسمية "العبيد" التمييزية عليهم من دون وجه حق، وما سواها إن وُجدت، ظلّت دومًا هدفًا سهلاً للمتجاوزين على حق الشعوب في العيش الكريم، وصيدًا رخيصًا للأقوياء الذين نصبوا أنفسَهم أسياد الشعوب المغلوبة والمقهورة والضعيفة، على مدى التاريخ السحيق. وهذه كلّها وقائع مدعومة بحقائق على الأرض وبشهادات موثقة ومتناقلة، شفاهيةً وكتابةً.
إنها لمناسبة جديرة مع اقتراب النصر المبين على برابرة العصر الذين اتخذوا من جلباب الدين سبيلاً لكلّ أنواع الشرور التي تنأى عنها سائر الأديان وترفضهُا الإنسانية وأصحاب العقول المنفتحة المستنيرة، أن نشدّ الأكفّ ونتسامى في الرؤى والفكر ونتنادى لانتصار وطنيّ حقيقيّ موازٍ. ولكننا نريدُه انتصارًا من نوعٍ آخر، على كلّ التركة الكارثية التي خلّفها ويخلّفها الفكر الداعشيّ المتخلّف ومَن أيّد والتحق بأيديولوجيته المنحرفة في المنطقة والعالم، وفي العراق بالذات. وهذا الصنف الآخر من النصر المنتظَر، ينبغي أن يأخذ مديات عديدة وكثيرة ومتشعبة من مختلف الجهات، الحكومية منها والمجتمعية والدولية، عبر التكثيف في وسائل الإعلام المتنوعة، المرئية منها والمسموعة والمقروءة وكذا في وسائل التواصل الاجتماعي المتنامية، تمامًا كما في المناهج التعليمية التي تتبناها الدولة أو تشرفُ عليها مؤسسات دينية تتمتع بشيء من الحرية المطلقة في التعبير وإطلاق المناهج الخاصة بها. ولا يخفى على أحد، ما تشكله مجالات التثقيف والتربية العامة الأخرى، ولاسيّما إعادة النظر في وضع مجمل المناهج الدراسية السارية لكافة المراحل والتي يتطلب مراجعتها كي تنسجم مع الطموح الأسمى بالوصول لتحقيق دولة مدنية معاصرة تسير وفق الركب المتطوّر والمتمدّن للشعوب الديمقراطية الحرةّ. يُضاف إلى كلّ هذا، ما يمكن أن تحققه وسائل التواصل الاجتماعي المتيسرة حاليًا من تأثير في النفوس والعقول والقلوب، عبر الرسالة الإنسانية والإصلاحية التي يحملُها أصحاب النخب المنفتحة والباحثة عن مجتمعات نموذجية تحترم الإنسان وتقدّرُ خياراته، حتى في حالة الاختلاف.
وهذا أقلُّ ما يمكن أن يرضى به أتباع هذه الجماعات المسالمة وسط الفوضى التي تضربُ أطنابَها في الوسط السياسيّ المراهق المتعثّر من دون بروز ما يمكن أن يشير إلى صحوة حقيقية وسط الشعب الذي اعتاد السير كالخراف وراء مَن فرضَ نفسَه قائدًا، بما يُسمّى بصوت صناديق الاقتراع المسيّسة أو بغيابها. لقد كان على الشعب الذي لدغته لسعات الساسة المتاجرون منذ الغزو الأمريكي-الغربيّ للبلاد، أن يصحو من غفوته اللعينة، ويستفيد من تجربة السنين العجاف التي تراجعَت فيها أحوالُه ورفاهُه وصحتُه وخدماتُه وأمنُه وتعليمُه وشخصيتُه، من دون بيان بصيص أملٍ في النفق المظلم الذي صارَ إليه مذ ذاك.
    من هنا يأتي دور المستنيرين والمثقفين والعقلاء والحكماء في اتخاذ المبادرة، أو بالأحرى في استكمال ما بدأه الأحرار الوطنيون من النخب المدنية التي لم تتدنّس أو تتلطخ أياديهم بالفساد بكلّ أشكاله وألوانه، من سرقة المال العام، ونهب ثروات البلاد بحجة إحلال المحرَّم، وكذا من عمليات السطو والخطف والقتل والتسليب والتهديد التي أزكمت رائحتُها الأنوف. فهذه مجتمعة، كانت وما تزال من الأسباب الدافعة لاتخاذ الأبرياء ومَن لا نصيرَ لهم في الحكومات التنفيذية السلطوية والتشريعية الطائفية والقضائية المسيَّسة، القرار الصعب بمغادرة البلاد والبحث عن الأمن والسلام والاستقرار النفسي والجسماني، والنجاة بجلدهم بسبب ما يجري في البلد منذ الغزو الأمريكي من فوضى في ظل غياب القانون والعدل والمساواة، وتعطيل عمل المؤسسات الرصينة التي كانت تضمن آنفًا، حرية المواطن وأمنَه وحركتَه وطموحاته بعد التغيير الدراماتيكي المشبوه.
إنَّ بازارَ الأحزاب وزعماء الكتل السياسية الطائفية والفئوية من دون تمييز، ما يزال ساخنًا، بل زاد تأجيجُه مع اقتراب القضاء على أدوات الإرهاب ودحره. بل إنّ جزءً من هذا التأجيج الإعلامي بين الكتل السياسية المتصارعة على السلطة والثروة والزعامة، له صلة ببشائر الانتصارات القادمة في لاحق الأيام.، لاسيّما مع اقتراب سوق الانتخابات الساخن. وجميعنُا مدركٌ للأسباب التي تقف وراء التصعيد بين الزعامات الفاشلة التي أوصلت البلاد إلى حالة من الفوضى في كلّ شيء، بل إلى شفير الإفلاس الاقتصادي والمجتمعي والعلمي والصحي والخدمي وفي قطاعات الحياة المتنوعة. كما تشير حالة تبادل الاتهامات بين الإخوة المتصارعين على الكعكة، شركاء الأمس وأعداء اليوم، إلى نتيجة مفادُها مشاركةُ الأحزاب التي تولت السلطة، في قدَر العراق وبلوغه هذه الدرجة من التعاسة والتخلّف عن ركب الدول المتحضّرة، بعد أن كانت بغداد عاصمة العرب وقبلة الزوّار وباحة المشتاقين وأرض الثقافة والعلم والتطوّر بلا منازع.
هناك حقيقة أثبتت واقعَها الذي لا مهرب منه. فمَن همْ قائمون على الحكم الطائفي بعد الغزو الأمريكي للبلاد، لا يريدون بقاء التنوّع الديني والعرقي والمذهبي في عراق عُرف بمثل هذا التنوع الثري منذ القدم. هؤلاء يريدونه أرضًا جدباء بلون الصحراء، لا تنمو فيه خضرةٌ ولا فاكهةٌ ولا شجرةٌ مثمرة. فما يبدر عنهم اليوم من قرارات ومن سنٍّ لقوانين مجحفة بحق مكوّنات قليلة العدد، أي الأقليات مصطلحًا، سواء في مؤسسات الدولة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية، تتناقضُ تمامًا مع ما يُصرّحُ به عبر وسائل الإعلام الرائجة بكل أشكالها وفي أدوات التواصل الاجتماعي المختلفة. ولعلّ إحداها، تأجيل التصويت ثلاث مرّات، على مشروع تقدّم به ممثلو هذه المكوّنات في السلطة التشريعية حول اعتبار ما تعرّضت له مناطق هذه المكوّنات من تهجير وقتل وسبي واغتصاب وتدمير ونهب وحرق، جرائم ترقى إلى اكتسابها صفة الإبادة الجماعية. فهل أكثر ممّا حصل أن تُقلع مكوّنات من جذورها وتبقى بلا مأوى ولا مال ولا بشر، وتُشتّت عوائل وأُسر، أو أن ينتهي بها الأمر في متاهات بلدان الاغتراب تستجدي المساعدات والمنظمات، وبلدُهم قابعٌ على بحيرات من الثروة الوطنية التي تُنهب في وضح النهار، سواء من قبل الإرهاب أو أذناب الكتل السياسية المتنفذة؟ فلا فرق بين هذا وذاك. فالاثنان سيّان، يتشاركان في قتل الرفاهة المجتمعية وفي وأد الروح الوطنية وفي سرقة المال العام وفي نهب الثروة الوطنية التي هي ملك الشعب الذي أُريد تهجيرُه واستغلالُه لمصالح فئوية ولحساب شرائح ضيقة أخذت تبني لها مستعمرات طائفية وحزبية وسط الأحياء التقليدية في بغداد وسائر المحافظات.
مَن يقرأ تاريخ هذه الجماعات التي تُسمّى ظلمًا وإجحافًا بالأقليات، يعي صدقًا حقيقةَ تهميش مصيرها ووجودها والاستخفاف بهوياتها وحقها في المواطنة المتساوية والعادلة، حالُها حال المستفيدين من القائمين على السلطة وأتباعهم المتزايدين على حساب شرائح هذه الجماعات الطيبة في المعشر، والمتميزة في السيرة والأخلاق والوطنية. فأتباع القائمين على السلطة، كلّ بسطوة أحزابه وقدرة ميليشياته وما يدرّ عليهم من ثروات ومداخل مالية، سواءً تمويلاً من جهات خارجية أو نهبًا لثروات وطنية من دون وجه حق، هؤلاء تتزايد أرصدتُهم جميعًا وتتنامى ثرواتُهم وعقاراتُهم يومًا بعد يوم، في مصارف محلية وأخرى إقليمية وحتى دولية. بل إنّ المستحوذين على السلطة بدعم الراعي الأمريكي والغربي، بحجة الأكثرية العددية والمظلومية التاريخية، لم يتورعوا في مناسبة ومن غيرها، بتسخير جهد الدولة بكامله لصالح أتباعهم وصرفهم الأموال الطائلة لشعائر موسمية ومناسبات لا حصرَ لها، بالرغم من أنّ مثل هذه الوسائل والأدوات قد أخذت طابع الاستفزاز أحيانًا عندما يتوقف واجب المؤسسات بأداء أعمالها الخدمية اليومية للمواطن، على هزالتها وضعف أدائها. وهذا السلوك الذي يتجاوز في أحيانٍ كثيرة سقف المعقول، يثير السخط والريبة بل والخوف من خروج الأمور عن نصابها، ما يؤدي لانكفاء شرائح "الأقليات" في مواقعها والاكتفاء بحماية موقفها وحياتها بعدم الخروج من المنزل وإيقاف أعمالها التي قد تكون موضع باب رزقها لأيامٍ بل لأسابيع. أليسَ في هذا، شيءٌ من الاضطهاد الممنهج الذي تصرّ عليه جهات متنفذة ومتسلطة في السلطة والشارع؟
أسئلة كثيرة، لا بدّ من توجيهها لأصحاب الشأن وأرباب النخب وكلّ مَن يهمّه شأن العراق، وطنًا وشعبًا وحضارة. وهذه تحتاج إلى معالجات جادّة وعملية لإحقاق الحق ووضع الأمور الوطنية في نصابها، وليس إلى ردود دبلوماسية ومجاملية كما اعتدنا عليه من تلقي مجاملات وسماع تزويق كلاميّ معسول في المناسبات والزيارات واللقاءات والفبركات الإعلامية التي لا تنصف هذه الجماعات، بقدر ما تلصق بها الكثير من صفات الاستخفاف والإهانة والضحك على الذقون، بدل إيجاد حلول جذرية إزاء ما تعانيه من مصاعب وما تنشده من حق وعدل وإنصافٍ. ففي الوقت الذي نسمع فيه كلامًا معسولاً عن دور المسيحيين الحضاري، نرى في المقابل أصواتًا ناشزة وخطابات تحريضية تخرج بين الفينة والفينة من قبل بعض شيوخ التحريض والفتنة من المذهبين بتكفير المختلفين عن دين الأغلبية التي تدّعي عبادة إله الحق. ونحن نعلم أنَّ إله الحق هو صاحب المحبة والرحمة والعدل وليس إله القتل والغصب والسيف! وإن كان تصرّف أو رأي بعض هؤلاء شخصيًا، إلاّ أنّه ينمّ عمّا يضمرُه المقابل في القلب والروح والفكر والمنهج. مثل هذا الخطاب التحريضيّ الذي يثيرُه البعض  تذكيرًا باالأحكام الإسلامية بحق أهل الذمّة، يُعدّ توجهًا لمرحلة خطيرة قادمة، لأنه كلام لا يختلف عمّا يفعله "داعش" وأخواتُها من أمثال القاعدة وبوكو حرام وشباب الصومال ومثيلاتُها، ومَن يدري ما بعدَها. مثل هذا المنهج الجديد، يحتاج إلى وقفة شجاعة وصارمة واعتراض رسميّ، تمامًا كالذي صدر عن الصرح البطريركيّ الكلداني، على أن يلحقه بيان واضح من جميع أركان وزعامات الأديان المختلفة، إلى جانب إدانات واضحة تصدر عن زعامات ورئاسات وقيادات المذهبين الشيعيّ والسنّي ضدّ كلّ مَن يثير مثل هذه الخطابات التي باعتراف المستنيرين من أتباع هذه المذهبين، قد أصبحت هذه من "تراث الماضي"، ولم تعد تصلح لزماننا ولا لبشرنا ولا لشجرنا ولا لحجرنا.
ونحن نتساءل مع غيرنا: كيف يمكن تصوّر بقاء جماعات وطنية أصيلة ومتسمة بكلّ السمات الوطنية والإنسانية، أسيرةَ الاضطهاد في وطنها ووسطَ أبناء جلدتها وفي موطن آبائها وأجدادها، أصحابِ الحضارات التي سادت العالم ورسمت تاريخ البلاد والمنطقة والعالم بأدقّ تفاصيل الصورة الحسنة التي ماتزال تتزينُ بها متاحف البلاد والعالم وتذكّر بها الخلف عن السلَف؟ وهل يُعقل أن يبقى مصير أتباع هذه الجماعات رهن المخططات الأجنبية التي تعمل وفق أجنداتها المصلحية والقومية، ضاربةً عرض الحائط كلَّ الحقوق التاريخية والحضارية والإنسانية التي تتميز بها هذه الجماعات المسالمة والتي لها الحقّ بتفعيلها وترويجها واستغلالها لصدّ أطماع المغرضين وعملاء الأجنبي ومزدوجي الجنسية من الذين تربعوا وسكنوا القصور الرئاسية ونزلوا في الفلل الفخمة واستحوذوا على المنازل والدور الفارهة بالقوة ومن دون وجه حق؟ وكيف لنا أن نتصوّر بروز صراعات واحتدام نزاعات مع اقتراب حسم النصر لصالح الوطن وأهله، بين الفرقاء السياسيين الذين تسببوا هُم، بمعاناة هذه الجماعات حين تعرّضِهم لصفحة الإرهاب المتوحش الذي نجح بقلع شرائح من أتباعهم من جذورهم وفي مواطن سكناهم الأصلية التي قطنوها منذ آلاف السنين؟ وهل يمكن الرضوخ للتجاذبات الجارية من خلف الكواليس وفي مطابخ الساسة العفنة وزعماء الكتل بشأن حق عودة النازحين والمهجَّرين إلى دورهم وبلداتهم وأملاكهم؟ أإلى هذه الدرجة بلغت صفاقة البعض من السياسيين في تقرير مصير العودة من عدمه كي يتسنى لهم إحداث ما ينوون القيام به من تغييرات ديمغرافية ظالمة ومجحفة؟ فالدلائل تشير إلى نوايا سيئة لبعض الساسة والزعماء بالتحكم الديموغرافي في مناطق النزوح وفي مصائر النازحين من أجل تحقيق مصالح قومية وعرقية وفئوية وطائفية ضيقة.
ولكن يبقى القرار الأهمّ في رأيي للشعب نفسه: كي يثور حين تُصدّ بوجهه كلّ الأبواب وتُغلق النوافذ، وكي يصول صولتَه حين يصرُّ البعض على الاستخفاف بحقوقه والاستهانة بوضعه واستدرار عواطفه بالزيف والكذب والنفاق، وليقول كلمتَه بوجه أدعياء "الخير والرحمة والمودّة" الكذابين والمنادين بالحرية غير القائمة وأدعياء الديمقراطية المزيّفة وحرامية الليل والنهار، وكلّ مَن يتشدّق بالدفاع عن المظلوم ضدّ الظالم ويدّعي محاربة الفساد وقلعَ الفاسد، وهو نفسُه غارقٌ في دياميس الفساد ودهاليز الظلام ودياجير الفسق والمجون.
 وأخيرًا، لن يصحَّ إلاّ الصحيح. فالبسطاءُ من الشعب يسعون لحياة آدمية آمنة وإلى سلام وشراكة مع الجميع وللجميع. فيما المتنوّرون والمثقفون يسعون إلى هذا وذاك، عبر تغيير في الخطاب السياسيّ والدينيّ والمجتمعيّ، والابتعاد عن الخطاب التحريضيّ وإدانة كل أشكال العنف والإرهاب والتهديد والتسلّط، وبما تتيحه وسائل التحضّر والتمدّن في إطار دولة مدنية لها دستور جامع شامل إنسانيّ بعيدٍ عن الشرع الظالم وغير المنصف. نريدُها دولة مدنية تطبّق القانون على الجميع ومن أجل مصلحة الجميع بالمساواة والعدالة والاستحقاق والجدارة، بدل فرض واقع المتسلطين عبر منهج المحاصصة المدمّر للبشر والحجر والشجر. ومّن أعلنها "شلع قلع"، يعي حقًا ما يريد وما ينفع للبلاد الغارقة في شتى أنواع الفساد والظلم. وهذا دور النخب والمستنيرين ورواد التواصل الاجتماعي لتحذير الطبقات المستضعفة من مغبة إعادة توليف وإنتاج ذات الوجوه الفاسدة والفاشلة والفئوية والطائفية التي لا يهمّها مصلحة الوطن العليا ومصير أبنائه المتجه نحو التقهقر والتراجع والأفول يومًا بعد آخر.

227

ألدّين والمسؤوليات التاريخية والأخلاقية
لويس إقليمس
بغداد، في 1 أيار 2017
شهدت العقود المتوسطة من القرن العشرين، والأخيرة منه على وجه الظاهرة، موجة من التأسلم والتجلبب بأطراف الدّين وشرعه ، متأثرة بأفكار نفرٍ من المنظّرين السلفيين الذين اتخذوا من تطبيقات الدّين وتفاسيره القديمة الضيقة، كتابًا وأحاديث ونقلاً، منهجًا وتوكيلاً في تطبيق ما بدا لهم شرعَ الله على الأرض. وهذا ممّا كان له أثرٌ بسبب إساءة التأويل أو التفسير المنقوص غير مكتمل الأطر في النصوص الدينية على حياة الإنسان والدول والشعوب. وإنْ كان هذا النهج السلفيّ المائل إلى التشدّد والانغلاق والتعصّب في الفكر والتطبيق والتفسير، لدى أتباع كلا المذهبين السنّي والشيعي على السواء، في أدواته ومناهجه وطرائقه وشخوصه، من السمات التي انساق لها هؤلاء المنظِرون من دون التمحيص بالنتائج المترتبة على أفكارهم المتطرفة في معظمها، إلاّ أنّ إيغالَهم في مسألة تكفير الغير المختلف عنهم منهجًا، أيًا كان دينُه أو مذهبُه أو عرقُه أو مرتبتُه، والدعوة إلى رفض ما لا يتطابق مع أفكارهم وسلوكياتهم وتوجهاتهم، واستخدامَهم شتى أنواع التصدّي لكلّ مَن يرفض هذه كلّها، قد وضعهم في زاوية حرجة، لاسيّما حين خروج الأتباع مؤخرًا عن السيطرة، سيطرة الدين والدولة والحياة الطبيعية الإنسانية كباقي البشر على وجه الأرض. "فمَن شبَّ على الشيء شابَ عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيء حُشِر عليه". هكذا أمثالُ مَن يغالون ليس في تفسير ما كُتب، بل في عيش ما قيل وفي ما يقرأون وما يسمعون وما ينسجون في أخيلة مريضة تحتاج إلى العلاج الاجتماعي والفكري والعقائدي المنفتح على الآخر والمستفيد من تجليات العصرنة وفوائدها ومن دروس الحياة عبر التاريخ. فاللهُ حبا بني البشر بعقل لإدراك ما يشعرون، وبروية للتبصّر بما يفعلون، وبعيون لتقييم ما يشهدون.
الشريعة، أية شريعة، لا يمكنها أن تخرج عن أدبيات الحياة الدنيا المتشكلة من جسد وعقل وروح، وأيضًا من رؤية معاصرة تساير تطور الزمن وتسمو بالإنسان وبالبشرية نحو سلّم السلام والرفاه والتقدّم. كما لم يعد مقبولاً الاستغلال الفاحش لما حلّله الخالق للبشر بحق، ولا التجاوز على قوانين الحياة بحجة إكمال وتطبيق شريعة خاصة بشريحة على حساب الغير من البشر، وإنْ كانوا أغلبية والآخرين أقلية. فلا دينَ لنفرٍ يعلو على دين غيرهم مهما كانت الأسباب، ولا شريعة تسمو على غيرها من الشرائع والقوانين التي تتعاطى بها مختلف الشعوب والأمم، ولا شعوبَ مخلوقة بأمر الخالق بأفضلَ من غيرها. فتلك كذبة أطلقها ويحشّدُ عليها ضعافُ النفوس، ويسعى المندسّون كما سعى غيرُهم من قبل، في هذا الدّين أو ذاك، أو في هذا المذهب، أو هذا المعتقد أو ذاك، كي يحصدوا ما في ذواتهم من طمع وخبث واستغلال، ويحققوا من غايات وأهدافٍ ما لم يحلّلُه الخالق الذي خلق الشعوب والأمم والبشر، ذكورًا وإناثًا، متساوين، إلاّ في المودة والرحمة ومحبة الله وحب الغير وإكرام الغريب واحترام الجار والتمنّي للغير أيِّ كانَ، كلَّ خير وفرح وسلام وطمأنينة وراحة بال. ثمّ إن الدّين الذي تخلو مفرداتُه من سمة المحبة الإلهية، لا يمكن أن يندرج ضمن الأديان التوحيدية ولا الإلهية، ذلك أنَّ "الله كلُّه محبة"، ولا يبغي للبشر من مخلوقاته غيرَ المحبة! وهذه الأخيرة إلزامية وليست اختيارية في العُرف الإلهي!
من هنا، يبقى الدين، بل ينبغي أن يكون بالتالي ضمن دارة العلاقة الشخصية بين الله وبني البشر، بين الخالق والمخلوق، بين المعبود والعابد الذي وحده يحقُّ له تقرير مصير البشر وإحلال الحكم السماوي العادل، وهو مسيِّرُ الأكوان والأجرام، والمتحكّمُ بأسماء البشر وأشكالهم، وبالأرض والعناصر بحكمته وقدرته وطيبته ومحبته. فليس الدّين إذن، مجرّد كتاب للحفظ والختم والمهر، بقدر ما هو حياة ونصح وأخلاق، وتطبيق لمبدأ محبة الله لبني البشر، من أي عرق أو جنس أو لون، أم دين او معتقد أو فكر، ومن ثمّ التعبير عن هذه المحبة التي هي من سمات الأديان التوحيدية "السماوية" للغير من البشر مهما كانت الاختلافات البشرية والعرقية والشكلية والفكرية والدينية والمذهبية. حتى أصحابُ الأفكار الملحدة والّلاأدريون والّلادينيون، ليس من حق البشر الحكمَ عليهم أو إدانتَهم. فهذا الخيارُ إنْ هو إلاّ حقٌ لكلّ بشرٍ بعيش نهج الدّين او المعتقد أو المبدأ الذي يختارُه لنفسه ليعيشُه على هواه من دون إكراه "لا إكراهَ في الدّين"، طالما كان ملتزمًا بقوانين الطبيعة في احترام الآخر بكلّ ما في الأديان من إيجابيات أو وصمات وفق الفكرٍ أو المنهج وما سوى ذلك ممّا يختارُه الإنسان بحريته. وليسَ بعيدًا، أن تكون روحانيّة هذا الّلاأدري أو الّلادينيّ أكثر توفيقًا وتطويعًا للنفس إزاء الخالق والبشر معًا من حافظ الكتاب أو من الذي لا ينقطع عن الصلاة ومَن لا تغادر السبحة أناملَه ولا يفوّت ركعة أو شعيرة، فيما قلبُه مليء حقدًا وغلاًّ وخبثًا، وفكرُه متعطّش للسفح والشرّ والقتل والفساد والإفساد وسط خلق الله والوطن والأرض. هذه هي حرية البشر المعقولة، فهي "تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين". وفي نهاية المطاف، يبقى الدّينُ، أيُّ دين، مسؤوليةً اجتماعية وإنسانية وروحانية وتربوية، بل منهجًا للنصح والإيثار والخُلق الحميد، وليسَ أداة للترهيب والتأديب والغصب والسَّوق للصلاة بالسوط وبالجَلد والتهديد.
لقاء بابا الفاتيكان الحار والعناق الأخوي والإنسانيّ معًا مع شيخ الأزهر أحمد الطيّب، ومواجهتَه الحضارية والإنسانية مع المؤتمرين في المؤتمر العالمي للسلام يوم 28 نيسان 2017، من شأنه أن يُحدث ثورة في المفاهيم وفي الحوار وقبول الآخر، للسير معًا في بناء السلام وتحاشي الظلامية وأشكال التخلّف وأدران التعصّب والانغلاق وإدانة ورفض كلّ ما لا ينسجم مع حق الكائن البشري في العيش بسلام في المكان والزمان الذي يبغيهما. كما أنَّ ما طرحه البابا فرنسيس، الذي حيّا مصر ب "أمّ الدنيا" وتحيتُه لشعب مصر بكلمات عربية فصحى "السلامُ عليكم"، له مدلولاته على صعيد الهوية الدينية والمجتمعية لكلّ مجتمع من دون إهمالٍ لصدق النوايا لدى كلّ الأطراف المطلوب منها أن تتحلّى بشجاعة الاعتراف بواقعية الاختلاف وبكون الأخير غنى وليسَ خلافًا أو خروجًا عن المنطق والواقع، وكذا بروحية الإنسان المخلوق متساويًا عند الشعوب، على صورة الخالق ومثاله الحسن. فكلّ ما خلقه الله حسنٌ وينشد باسمه كما يخضع تمامًا لجبروته وليسَ لغيره وفق مقاساتٍ شاذّة دينيًا ومجتمعيًا وروحيًا. كما أنّ هذا الخالق الطيّب، الرحمن الرحيم، لم يوكل أحدًا للحكم بدَلَه أو عوضًا عنه، إلاّ بحسب ما تشرّعُه قوانين الأمم المتحضّرة وفق لائحة حقوق الإنسان، التي اعتمدت وصايا الكتب المقدسة، وعل سبيل الخصوصية ما تضمنه العهد الجديد من الأخلاق المسيحية السمحة التي أتى بها عيسى، المسيح الحيّ.
تلكم هي التربية الأساسية للبشر العاديين، أحباب الله على الأرض بانفتاحهم على سمة احترام الآخر المختلف، مهما كان دينُه أو لونُه أو مذهبُه أو عرقُه. ومن شأن هذه الثقافة أن تزيد من فرص خلق عالم نظيف في كلّ شيء، في السياسة والبيئة والاقتصاد والإنسانية، تمامًا كما في تحقيق الرفاهة للجميع وفي استغلال الثروات لصالح الإنسان والبشرية والأرض قبل أن تجدبَ وتجفّ ثرواتُها بسبب قساوة نفرٍ مغترٍّ أعمتهم الغيرة والغلّ والكبرياء وحبّ الجاه والثروة وإيذاء الآخر من دون مبرّر. فاللهُ قادرٌ أن يقيم لإبراهيم نسلاً جديدًا عتيدًا معجونًا بأطايب المزايا الإلهية الصادقة عوضًا عن آفات غلاظ الرقاب المهووسين بقتل الأبرياء وحزّ الرقاب ونحر الأجساد. فالدّين، كما أشار بابا الفاتيكان فرنسيس، ليس بمشكلة، بل هو جزءٌ أساسيٌّ من الحل، يساعد البشر في بناء مدينتهم الأرضية وفق أسس المساواة والعدالة والاحترام. كما أن الله الخالق، يحب البشر، وقد أعلن هذا الحب مرارًا، عبر أنبيائِه وخدمِه وعمّاله وأئمّته على الأرض، ومنهم مَن يُفترض به من رجال الدين، أن يوجّه الناسَ نحو الخير وبناء الإنسان والمصالحة والحوار، وليس في تهديم ثقافة الحوار وضرب شرعة حقوق الإنسان والتحريض ضدّ الآخر المختلف. وهذا هو طريق الإنسان الحقيقي الناضج والمنطقي في وضع حدّ للصراعات الثقافية والحضارية والدينية واستبداله بمعايير منفتحة من أجل الخير العام وبناء كرامة الإنسان وبيته الأرضيّ، تمامًا كما يريده الخالق. فالبيت السماوي الذي يرنو إليه البشر، ينبغي ألاّ يختلف عن مثيله الأرضي، لأنّ المثوى السماوي يبتدأ من الأرض.
من هنا، لو عدنا عودة لسِيَر المتصوّفة والنسّاك، أحبابِ الله من كلّ الأديان والألوان، تعيدُ إلى اذهاننا ذلك النموذج الناصع لعيش نمط الحياة الزهدية والروحية الصريحة بين الله ومخلوقاته الضعيفة، ليس في شكل التزهد والنسك أو الانقطاع عن المأكل والملبس فحسب، بل في حفظ وصايا الخالق في أمر مخلوقاته وفي إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وفي تجنّب المعصية وإيذاء الغير وبالتفكير في المصير بعد سحابة السنوات الضئيلة فوق الفانية التي لا تدوم، وفي إدامة ذلك النهج الصحيح والمضيّ في سبيله بكلّ إصرار وعناد كونَه طريق الصواب الذي لا يخالف أمرَ الله. فالصوفيّة في الإسلام كما في المسيحية واليهودية والبوذية والفارسية وما سواها إن وُجدت ولو بأشكالٍ مغايرة، هي الصورة الفضلى لحياة البشر على الأرض وفي تعامل بعضهم مع البعض من دون تحسّسات ولا إيغالاتٍ ولا مراءاة في تبادل العيش المفترض. وهي بحدّ ذاتها نوعٌ من الحكمة التي عرفها قدماء اليونان في تواصلهم وفي غاياتهم في فهم الله وخليقته وفي التعامل وفق هذا المنظور، ضمن إطار تربوي وأخلاقيّ محمود. وكانت هذه الطريقة هي كذلك في بدايات الإسلام، علمًا وعملاً وموهبةً، بل دلالةً على علامة رضى الخالق عن معبوديه في تقويم النفس من الاعوجاج والتقرّب منه بأعمال البرّ والخير والإحسان، وفي مواجهة فساد الحكّام والولاة والملوك بسبب نوازع هؤلاء، الشخصية والفئوية والطائفية. ولنا في التاريخ عبرٌ وأمثلة كثيرة، راح ضحية تلك الفوضى في الحكم، العديدُ من الأئمة الكرام ممّن ذاقوا الأمرّين والعذابات في غياهب سجون أمثال أولئك الحكّام القساة الغلاظ الذين مرقوا وحادوا عن أخلاق الدّين وأركانه الواضحة وأوغلوا في تأنيب الآخر المختلف عنهم وفي تكفيره ونعته بالمروق، وفقًا لمقاساتهم المنحرفة.
 الحياة لم تدم لأحد، كي تدوم للأشرار والفاسدين والمراءين في الدين والمذهب وفي التنظير باتجاه المغالاة والمناهج التي أضحت في زمن كان، ولم تعد صائبة ولا مقبولة ولا محبّذة في عصر العولمة الذي أحالَ العالم إلى قرية صغيرة. كما أنّ "ما زاد عن حدِّه انقلبَ ضدّه"، بالتالي. هكذا في ميزان المزايدات الدينية والتأويلية والتفسيرية، وكذا الشعائرية المذهبية التي نشهد فصولَها اليوم في بلادنا في جميع المناسبات، وما أكثرَها، والتي صارت تخرج عن المعقول وتستغلُّ القائم الموجود لصالح شريحة متسيّدة دون غيرها، مضيفة أشكالاً من لوعة الاستفزاز، الذي بقصدٍ أو بدونه، ينعكس على مجموع البشر المحيطين بمثل هذه المسالك والشعائر والممارسات التي تحوّل مناسباتٍ عديدة في السنة ولأيامٍ طوالٍ، إلى ساحة لجمع القمامة ومناظر بشعة للنفايات التي تفترش الطرقات والشوارع والأزقة وتقطع الكثير منها، وتتلف الحدائق العامة وتوقف مصالح الدولة وتؤخر معاملات وحاجات المواطنين وتتوقف فيها عجلة البناء والصناعة والاقتصاد، مضيفة أعطالاً جمّة على المتراكم منها في الحياة اليومية الرتيبة.
هناك طريقة حسنة مرغوب فيها وأخرى سيّئة مرغوب عنها، للتعبير عن حبّ الناس للخالق وعباده الأولياء من أصحاب الكرامات والقداسة والبرّ. وحبّذا لو يُعاد النظر في وسائل أكثر عصرنة في طرق التعبير عن حبّ الإنسان لمَن يجلّه ويقدّرُه ويسمو بنفسه لبلوغ الأرَب في أسلوب التربية المُجدي الذي ينفع في الزمان والمكان وحسب تطوّر المجتمعات وبما يتوافق مع السلوك اليومي المعاصر والأخلاق الثابتة التي لا تتبدّل، لكنّها ترتبط دومًا بنهج الذوق والتربية المجتمعية التي تأخذ بالعلوم وتتأثر بها مع تقدّم الزمن وتطوّر أدواته.
من هنا، لا يمكن لمجتمع فيه حضارة ولديه مثقفون وأسياد وأصحاب شهادات عليا وخبرات حقيقية أن يقبل بمثل ما يجري في بلدٍ أتعبتهُ عوادي الزمن وأمضى سنيّ عمره في حروب ومعارك ونزاعات داخلية محلية وخارجية، بحيث أضحت ثرواتُه لغير أهلِه، إلاّ مَن ساورَه الطمع والجشع وامتهن الفساد سبيلاً في سلوكه لبلوغ مآربه التقويضية للبلاد والأرض، حجرًا وبشرًا. فمثل هذه الصنو من البشر، ليسَ له وطن، كما أنه لا يتشح بثوب المواطنة التي تفرض فيما تفرضُه، نظافةَ الذيل في الحكم ونزاهةً في العيش مع الغير ومراعاة في احترام الخصوصيات والمشاعر والمصالح العامة.
إنّ ما يجري اليوم من ممارسات ومن مزايدات في مناسك الشعائر للإخوة الشيعة في العراق، قد شابه المزيد من المغالاة والمزايدات في استعراض ما يسعى القائمون على المواكب من تقديمه للزائرين. وأنا في اعتقادي، أنّ مثل هذه المزايدات المتفاقمة سنة بعد أخرى، قد تفقد القائم والزائر معًا من أجرهما السماوي أو "الإلهي" أو "الإمامي" الذي يصبو إليه الطرفان، أو ما يعتقد به هذان الطرفان الحصولَ عليه من خلال هذه الشعيرة التي هي في حدّ ذاتها من دواعي الفخر والطيبة والجودة، إذا ما سارت بعفويّة وبِحُريّة وبدون قطع للطرقات وإيقافٍ للحياة العامة وإجبار مواطنين من إخوتهم في الوطن على تحمّل ما يُرغمون عليه غصبًا وإكراهًا وقسرًا، رغمًا عنهم. ليست هذه من أساسيات الحريات والكرامات والمقدّسات التي لو عاد أصحابُها اليوم، لما رضوا بما يجري وما يُقام من إفراط في كلِّ شيء، في البذخ بالصرف بميزانية مفتوحة على حساب حق سائر المواطنين، وفي إيذاء أصحاب المصالح الذين يضطرون لإيقاف عجلة الحياة اليومية المساهمة في بناء بلدٍ عانى ومازال من آثار التخلّف ومن أزمات متلاحقة ومن حروب خارجية ونزاعات داخلية بين المتصارعين على الجاه والثروة والسلطة.
هذه دعوة للمعنيين والقائمين على تنظيم هذه المناسبات، لمراجعة ذاتية لما اعتادت البلاد أن تشهده في كلّ مناسبة تفرضها قوةٌ مهيمنة على مقدّرات البلاد كي تجعله أسيرًا لمثل هذه السلوكيات التي ليسَ لها مثيلٌ في البلدان المجاورة، ومنها الجارة إيران التي تستغلّ هذه المناسبات للترويج لشتى أنواع الدعايات والعروض واستهلاك المنشورات والصور التي تدرُّ عليها أموالاً طائلة من جرّاء هذه الاستخدامات غير المقيَّدة والمفتوحة من دون تبصّر ولا تحكيم للعقل والرويّة. وعلى مَن يتصوّر أو يخال نفسَه الولاية على الغير بهذه الأساليب التي خرجت عن إطارها التقويّ المتديّن باتجاه المتاجرة وحصد المغانم والمنافع التي تسرف فيها الدولة بلاد رقيب، عليه أن يدرك بالمقابل أنه عاجلاً أم آجلاً، سيصطدم بواقعٍ يرغمُه على التفكير بمصلحة الوطن العليا قبل أن يفوت الأوان وتسقط الصورة الطيبة التي يكنّها سائر أفراد الشعب، ومنهم المثقفون وأصحابُ الفكر المستنير وأتباعُ الحريّة والمؤمنون بالاعتدال في كلّ شيء من أجل البلوغ بالبلاد إلى مرافئ الأمان وبناء الذات وفي إعمار المتهالك والمدمَّر، أرضًا وبشرًا وفكرًا ومؤسسات.
هذه هي الرؤية الوطنية التي ينبغي أن نتصارح بها جميعًا، بالرغم ممّا قد تنطوي عليه من ضربٍ وأذى لمصالح فئة أو شرائح تستغلّ هذه المناسبات، وما أكثرها، لتحقيق منافع ذاتية أو حزبية أو شخصية. وهي تبدأ من مثل هذه الخطوات التي تنكر الذات وتضعُ مصلحة الأمّة والشعب والوطن وبناءَه ورفاهَه وراحة أهلِه في مقدمة كلّ خطوة قبل الإقدام عليها. فالأولى بنا جميعًا أن نحثّ الخطى بإصلاح المنابع التربوية التي تنطلق من مناهج دراسية معتدلة تتحدث عن المواطنة ومحبة القريب واحترام الآخر المختلف بدل الإيغال في شروحات الأزمنة الغابرة التي عفا عليها الزمن ولم تعد تنفع في زمن العولمة والتكنلوجيا المعاصرة والأفكار المستنيرة. ولكن قبل أيّ شيء، لنبدأ العمل من البيت الأسري كي يكون مفتاحًا لثقافة تربوية منهجية في مدارس ومؤسسات الدولة التي نتوقع تغيير مناهجها كي تتعامل مع هذه المبادرة الحضارية. فالعودة إلى الوراء في عيش الماضي بكلّ ترسباته المتخلّفة والانكفائية، من شأنها التراجع في القيم وفي الفكر وفي التطور وفي البناء وفي كلّ شيء. وبعكسها يكون التطلّع نحو تقييم أرفه وأسمى ومتحضّر في فهم ذلك الماضي وما احتواه من فكرٍ كان نافعًا وممكنًا بالأمس في أوانه ومكانه، ولم يعد كذلك وفق حياة اليوم ومتطلباتها وتطورها وتقدمها في العلم والمعرفة والرؤية الشاملة للأشياء والأحداث.
أمّا بعدُ، وقد نضجت الفكرة وتوضحت الصورة وبانَ ما يعكّرُ صفو الأجواء وسط البشر في الوطن الواحد، فلا بدّ من شجاعة ومقدرة حكيمة في أصحاب الشأن، كي يعيدوا التفكير بتغيير المفاهيم العتيقة في التأويل والتفسير والعيش المشترك. كما على الإكليروس الشيعيّ أن يعيد النظر في أسلوب الشعائر الجاري، والتي نأمل بقاءَها وطنية وليسَ مذهبية أو فئوية أو طائفية كي يشارك في إحيائِها مجموع الشعب، ولكن ليسَ بهذه الأساليب وهذ الصيغ "المتخلّفة" وغير الحضارية، وعذرًا على الصراحة في الطرح. فإننا شعبٌ متديّنٌ نحب الله والبشر، وتلكم بركةٌ من السماء أن يكون لنا نصيبٌ في حبّ الله والأئمة والقديسين، ولكن بأسلوبٍ حضاريّ مقبول لا يعيق أحدًا ولا يغيرُ أحدًا ولا يمتعض منه أحدٌ. فالشعب الذي لا متديّنون فيه لا يستحقّ أن يكون وريثًا لأرض الله! والوطن الذي لا يؤمن بحريّة الغير المختلف واحترام خصوصياته وخياراته لا يستحقّ أن يُكنّى بالبيت الجامع لمختلف الأطياف والمكوّنات! والدّينُ والمذهبُ اللذان لا يحترمان حرمة الغير من الأديان والمذاهب لا يستحقّان أن يُسمّيا بالدّين أو المذهب، طالما أنّهما مفترَضٌ بهما أن يسيرا وفق شرع الخالق من دون المساس بحرية الغير المختلف ولا استغلال الظروف لصالح منهجه وفكره ومنفعته! فرقابة الخالق هنا على أداء البشر وسلوكهم، أشدُّ من المخلوق الذي يناطح السحاب للتباهي والمزايدة فيما فعله في هذه المناسبة أو تلك. فلو عاد اليوم أصحابُ الكرامة والقدسية ووجدوا ما يجري بحجتهم، لما صبروا على الكثير من الممارسات التقليدية غير المؤتلفة مع روح العصر والمخالفة لبنود الشرع وأصحاب المنهج، كما كانت في البدايات.
إنّ السلوك الدّيني وحريّة التعبير في تطبيقاته وممارساته، أمرٌ يتطلّبُ قدرًا واسعًا من المسؤولية، الفكرية والروحية والمنهجية والتربوية إلى جانب ما يليق لأصحاب الكرامات والقداسة من أفعال تقويّة في صميم الروح والنفس، وليس في المظهر والتبذير والبذخ غير المسؤول وغير المقبول أو في إعاقة حياة الغير وإيقاف عجلة الحياة العامة بحجة حماية زائر الكرامة. فتلك ينبغي أن تبقى في إطار العلاقة الخاصة والفردية بين الخالق والمخلوق. ومثلها ينبغي على الدولة أن تكون خيمة الجميع ولا تفرّق في تطبيق الدستور والقانون، وكذا في حصّة الثروات العامة كما في ممارسات الحياة اليومية، وترك شؤون العباد الدينية والروحية لأهلها من دون تدخل في النهج والتطبيق والتسيير. ف"ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، لمْ تُلقى على عواهنها ولم تكن مجرّد أقوالٍ، بل ينبغي أن تُعاش في الواقع اليوميّ، كي تبقى سلوكًا لثقافة مجتمعية راسخة جامعة وليسَ غاية للتضليل والاستفزاز وفرض واقع الحال. وهذا جزءٌ من ضرورات العودة الى الأفعال الحضارية التي يفرضُها تطور الزمن المتقدم، تمامًا كما حصل مع سلوكيات التجديد والتطوّر في الأفعال والممارسات الروحية والجهادية في المسيحية عندما انحسر دور الكنيسة ورجالاتُها في التدخل في الأمور الزمنية حينما حان وقتها.
وليكن مؤتمر الأزهر للسلام في العالم، بداية المبادرة التي تكفل العيش المشترك وتتصدى للأفكار الهدّامة والتكفيرية الخاطئة من أجل بناء الإنسان والأوطان وتقريب الشعوب وتحضّرها وقبول بعضها البعض بالاستفادة من أشكال الاختلاف بينها، تمامًا كما في تنوّع أزهار الحدائق وأشجارها وورودها ورياحينها العطرة.

228
رئاساتنا الكنسية: رعاة أم زعامات؟
لويس إقليمس
بغداد، في 18 نيسان 2017
جاءت زيارة وفد عالي المستوى من مجلس "رؤساء الطوائف المسيحية" بالعراق، مساء يوم الاثنين 17 نيسان 2017، لتقديم التهاني لغبطة البطريرك لويس ساكو، رئيس الكنيسة الكلدانية، لمناسبة عيد القيامة، جاءت لتكسر حاجز الجمود والتوتر القائم منذ أشهر بين الطرفين، بعد انسحاب الكنيسة الكلدانية رسميًا من تشكيلة هذا المجلس. وكان الوفد على قدرٍ من الأهمية والثقل ليعطي لمبادرة التقارب والمصالحة بعدًا مسكونيًا آخر، كنّا في انتظاره. وقد اضطررتُ لتعديل مقالتي المسطورة منذ أكثر من شهر، بعد تأجيل نشرها متوقعًا بروز ضوءٍ في هذا الاتجاه الميمون. ضمّ الوفد كلاًّ من اصحاب الغبطة والسيادة: قداسة مار آداي الثاني بطريرك كنيسة المشرق الأشورية القديمة، والمطران يوسف عبّا رئيس أساقفة بغداد السريان الكاثوليك، والمطران آفاك أسادوريان رئيس أساقفة بغداد للأرمن الأرثوذكس، والمطران جان سليمان رئيس أساقفة بغداد للاتين.
وحسنًا فعلها الوفد، بتضمين مناسبة تقديم التهاني بعيد القيامة المجيدة، عيد الانتصار على الموت، طلبًا بضرورة عودة الكنيسة الكلدانية إلى المجلس نظرا لثقلها وامكانياتها. يعني أنّ هذه المناسبة، قد أعادت فتح الأبواب للحوار الهادئ، والعودة إلى الحكمة المسكونية والرؤية الوطنية والاستعداد للتعاون لما فيه مصلحة الجماعة المسيحية، من دون الالتفات إلى المعايير المتآكلة بخصوص الأكثرية والأقلية والزعامة والتبعية. ونفهم من طريقة طرح الموضوع بصيغة بعيدة عن الدبلوماسية والمواربة، أنّ في الأفق نورًا بل أنوارًا ستضيء للمساكين من أبناء هذه الجماعة، من التائهين في ظلمات القهر والتهجير والمصير المجهول.
حالة الجمود القائمة منذ أشهر، بين رئاسة الكنيسة الكلدانية من جهة، وباقي رئاسات كنائس العراق، عبّرت بحق، عن هوّة كانت تتعمّق بمضيّ الأيام، وعلى ضوئها كانت تتباعد فرص التراجع عن المواقف المشروطة والمطروحة مسبقًا لكلّ طرف. لذا تأتي هذه المبادرة، إشارة خير ستلقي بظلالها الإيجابية على مشاريع إعادة إعمار البلدات المستباحة لأكثر من عامين على أيدي عصابات داعش الإرهابية المتطرفة، التي قلعت أبناء هذه البلدات من أصولها وهجّرتهم وشرَّدتهم وأرهبتهم بلا رحمة، في انتظار المصير المجهول!
فمِن مأساة حقبة الانشقاقات والانقسامات والحرومات والنزاعات، إلى فترة الاضطهادات القاسية والهجمات العاتية التي لم تتوقف لحين الساعة، بمختلف أشكالها ووسائلها وتجلياتها، سواءً بسبب سياسات شوفينية، تعصبيّة، طائفية، قومية ودينية، أو بسبب غياب رؤية موحدة لرؤساء الكنائس الذين تحولَ بعضُهم إلى زعماء مادّيين ودنيويين ينشدون الزعامة الدنيوية بدل الرئاسة "الخادمية" و"الراعوية" التي أوصاهم بها رأس الكنيسة الأول عندما أوصى تلاميذه: "مَنْ أراد أن يكون فيكم عظيمًا، فليكن لكم خادمًا، ومَنْ أراد أن يكون فيكم أولاً، فليكن لكم عبدًا» (متى 20: 26،27). وهذا كلامٌ لا يقبل الجدال في ما ينبغي أن يكون عليه طالب الرئاسة، ليس من أجل التسلّط وفرض الذات على الغير، بل من أجل الخدمة بالمحبة وطيبة القلب وتسامي النفس وانفتاح الروح والقبول بالحوار الهادئ مع المختلف معه، حتى لو كان من الأقلية المنسية أو التي لا شأنَ لها. فمَن يرغب الرئاسة، يشتهي عملاً صالحًا. فهو كمثل "مَن يشتهي الأسقفية، فقد عملَ عملاً صالحًا"، كما يقول رسول الأمم بولس الرسول في رسالته الأولى إلى طيمثاوس (1:3)، بالرغم من أنّ موقع الأسقفية كان يعني في زمان الأقدمين وفي بدايات الكنيسة الأولى، كما يعلّمنا التاريخ، الاستعداد للشهادة والتضحية من أجل الرعية، وليس للتمتع بالمنصب الدنيوي الذي يقدّمُ الامتيازات ويؤمِّنُ المكاسب ويجعل الموقع دارةً للمقرّبين والعائلة "المالكة".
إننا ندرك تمامًا، سعي البعض من رؤساء كنائس العراق بخاصة، لحصر أعمال الخير والمساعدات والمكاسب السياسية منها والمادية وحتى الإعلامية والدعائية، في ظلّ الفوضى العارمة في كلّ شيء، كلٌّ ضمن أسيجة الطائفة والكنيسة والمنطقة التي تعود ضمن كرسيّه وملّتِه، بسبب ظروف البلاد الاستثنائية الحالية، كونَها حالة شاذة لا يُحتذى بها، وكذا بسبب الإغراءات المادية التي تأتمر بها النفس الأمّارة بالغيرة والحسد وحب الظهور والمال، أو بقصد المتاجرة بمآسي الأتباع.
وهذا جزءٌ من التفاعل والجدال القائمين في جسم تشكيلة مجلس رؤساء الكنائس (الطوائف) الذي أربكَ العمل المسكوني والكثير من أشكال التعاون والتنسيق بين مختلف الرئاسات الكنسية، بغضّ النظر عن حجمها وشكلها، عادّين جميعَ مسمّياتها أعضاءَ فاعلين في جسد الكنيسة، عروسة المسيح، بطريقة أو بأخرى. ومن ثمّ، كان لا ينبغي أن تتحول اختلافاتٌ في وجهات النظر بين القائمين عليها إلى خلافات مستعصية غير قابلة التفاهم والنقاش والحوار، أو إلى انعزال في زاوية حرجة، أو أن تُضحي حجرَ عثرة كأداءَ أمام تضافر جهود العقلاء لرأب الصدع ولمّ الشرخ ومداواته بالمحبة والتواضع والاستعداد للخدمة الرسولية من دون تحزّب ولا تعصّب ولا توظيف موقع لفرض الرأي والهيمنة وفرض الذات.
لقد كان الأجدر منذ البداية، ترك مسألة الرئاسة "الخدمية" وليس "الزعامية" التي نادى بها غبطة رئيس الكنيسة الكلدانية، ذي الكاريزما المتميّزة، أنْ تُقدّرَها عقولُ باقي الرؤساء أنفسهم بحكمتهم وتقييمهم واسترشادهم بنشاط الأجدر فيهم على الساحة الوطنية أولاً والمسيحية ثانيًا، والشخصية ثالثًا وليسَ آخرًا، وهو الأجدر في وسطهم جميعًا في ظلّ المعطيات القائمة الحالية. فما جرى من توسيع للشرخ القديم، بانسحاب رئاسة الكنيسة الكلدانية من مجلس رؤساء الكنائس بتلك الطريقة غير المقبولة طيلة تلك الفترة، لم يكن أوانُه ولا تبريرُه بالرغم من بروز ضعف واضحٍ في الأداء والتقييم وإصابة الرأي في جسم المجلس. إذ إنّ مثل هذا الإجراء، مع ما فيه من تبريرات ومسوّغات، لمْ يصبّ قط، في خانة مصلحة الشعب المسيحي، بعد أحداث العنف التي ابتدأت منذ الغزو الأمريكي في 2003، وما لحقها في تسونامي الإرهاب الذي طالَه ومازال تأثيرُه وأحداثُه ضاربة في جسم أتباع هذه الجماعة المتناقصة باضطراد شبه يوميّ.
 لستُ هنا أعبأُ بما يثيرُه هذا القول وهذه الصراحة وهذا التحليل وهذه الرؤية في الطرح، من منغصات أو زعل من هذه الجهة أو تلك. فالمصلحة العليا للوطن والكنيسة والشعب، ينبغي أن ترتفع فوق كل الحسابات الخاصة والفئوية والطائفية، وأن تسمو بالنفس فوق المصالح والطموحات والمكاسب الشخصية والخاصة. فكما أنَّ هناك دومًا مَن يسعى لترميم البيت الوطني وتقديم فرص الإصلاح على الفساد والكساد، بالرغم من المصاعب والمشقات والتحديات التي لا حصر لها بسبب الإيغال في آفة الفساد الضارب أطنابَه في كلّ موقع ومؤسسة وفي الشارع، كذلك لا بدّ من بروز أصواتٍ مسيحية وكنسية حريصة على ترميم البيت الكنسيّ والمسيحيّ، بالرغم من تنامي الهوّة بين "خدام" الشعب و"رعاتهم"، ممثلي المسيح على الأرض، بسبب ما جرى من مواقف غير مقبولة في صفوف المجلس الأسقفي المذكور، حتى لو كان أتباع هذه الكنيسة أو تلك أغلبية وأكثرية. فالخدمة "المجانية"، لا تعرف الأغلبية والأقلية ولا تعترف بهما مبدأً وغاية ووسيلةً، بل تقرّ حصرًا بروح الاستعداد للخدمة بالمحبة والتواضع والإيمان، وفق الجدارة واعتراف الآخرين بما لهذه الأخيرة من تأثيرٍ وقدرة على إقناع المتحاورين والمطالبين بضمان حقوق الأتباع والحرص على البناء الكنسي للبلاد من دون تمييز أو تحديد أو تكابر. فإذا كنّا نقيسُ الأشياء وفق هذا المنظور القاصر، فنحن لا نختلف عن الفرقاء السياسيين في البلاد، أصدقاء الأمس وأعداء الساعة، من الذين يُؤثرون مصالحهم الفئوية والطائفية الضيقة ويسعون للزعامة بشتى الوسائل، أو بتخريب الملعب السياسيّ في حالة عدم تلبية مطالبهم وطموحاتهم وإغراءات السلطة والجاه والمال. ونحن نقول، سواءً كان مثل هذا الادّعاء بالأكثرية والأغلبية، دقيقًا من عدمه، إلاّ أنّه في ذات الوقت، يتطلّب موقفًا عاليًا من الحكمة والرزانة بذات الحجم الذي تمثلُه كنيسة ما، وتسعى لزعامة غيرها وفق هذا المنظور أو غيره. 

هل من علامة رجاء؟
كلُنا في هذه البلاد، ندعم توجهات الروح المسكونية التي أتى بها المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وفيها شدّد على خلق أجواء الروح المسكونية بين الكنائس المختلفة حين قرّر الانفتاح على جميع الكنائس. لم يدعُ المسكوني الثاني للزعامة والتسلّط، بقدر ما وضع وصية المحبة فوق كلّ اعتبار في التعامل بين الكنائس وفي الأوساط المسيحية عامة. وفي غياب هذه المحبة، يُعدّ كل عملٍ باطلاً. ف"الإيمان بدون أعمال باطلٌ"، يقول مار يعقوب (2: 14). لقد كان الهدف الأساس من تشكيل المجالس الحبرية، سواءً من قبل الدوائر الفاتيكانية أو من جانب الكنائس التي لا تخضع لسلطة البابا، تقديم التقارب بين أتباع كنيسة المسيح، والتقليل من الاختلافات والخصومات والفوارق بشأن العقائد وتقريب الأفكار والرؤى في اتجاه تطوير الوحدة المسيحية المنشودة. ومن دون شكّ، كان هذا هو الهدف من تشكيل مجلس أساقفة كنائس العراق، في اتجاه التقارب وليس التباعد بسبب نزعة استعلائية وطلبٍ للزعامة استهجنَ فيها جميع الأعضاء طريقة اشتهائها واعترضوا على عدم مراعاة أصولها، بالرغم من غياب الجدارة والكفاءة والمقدرة في معظم هؤلاء المعترضين على طريقة طرح الموضوع في حينها. وربما تكون الغيرة والهاجس الطائفي معًا، إزاء ما يتمتع به رئيس الكنيسة الكلدانية الحالي من شخصية مرموقة ومقدرة على الإقناع والكلام وإدارة الحوار، من جملة ما ورد في اعتراضات البعض ورفضهم المطلب، في حينه.
إنّ روح الاستعداد التي توضحت في الردّ الإيجابيّ من جانب البطريرك ساكو، بإمكانية عودة الكنيسة الكلدانية إلى تشكيلة المجلس بعد إجراء التعديلات الضرورية عليه، حفاظًا على دوره وأهميته ودعمًا لتفاعله الوطني والجماعي معًا، تعطي بشائر أملٍ كبير في الأفق. فغبطته لا يتوانى دومًا، بوضع إمكانيات كنيسته وقدراته العديدة الخاصة في خدمة "المكون المسيحي" وخدمة الوطن. وتلكم من معاني الرجاء بقيادة أكثر حكمة ورويّة وبعد نظر للمستقبل، مجبولة بروح التفاني وبعطاء المحبة ومواجهة الصعاب والمجهول معًا. وهذا من ضمن ما تحتاج اليه قيادة الجماعة مجتمعةً، عبر توحيد خطابها ومواقفها وصولاً لإيجاد الوسائل الكفيلة لممارسة الضغط المطلوب من أجل تحقيق مطالبها كقوة اصيلة فاعلة في المجتمع العراقي، وليس كمكوّن ضعيف، خانع، خاضع، مستجير، مستجدي أو متلقّف للفتات.

إنني أدعو، من منطلق تقديم علامة شهادة مسيحية نموذجية للخدمة المجانية وعلامة أمل ورجاء بوحدة الصفّ والكنيسة العراقية، لإعادة النظر في شكل الخلاف القائم الحالي في اللقاء القادم المقترح الذي نتج عن هذه المبادرة الأخيرة لوفد المجلس. كما أنادي وبقوّة، بضرورة مقابلة مبادرة حسن النيّة هذه، بروح الغيرة المسيحية من جميع الأطراف لرأب الصدع الذي أوشك بحصول قطيعة. والمراجعة الذاتية اليوم، تكفل ترميمه بالوداعة والتواضع والمحبة وروح الخدمة والتنازل وغسل الأرجل، الواحد منهم للآخر، تمامًا كما فعلها سيدُهم في ليلة العشاء الأخير حين أقدم على غسل أقدام تلاميذه. وكما فعَلَها بعدَه رؤساءُ كنائس عظام وقديسون، ومن أواخرهم البابا القديس يوحنا بولس الثاني والبابا المالك سعيدًا برغوليو (فرنسيس الأول).
وبهذه المناسبة أيضًا، أتمنى من صاحب مبادرة تشكيل "مرجعية مسيحية مستقلّة موحدة" من المدنيين، التي رعاها شخصيًا، غبطة البطريرك الكلداني لويس ساكو قبل أكثر من سنتين، أن يعيد النظر بتجديد فاعلية هذه المبادرة التي تنصّلَ منها في وقت لاحق، ليلقي بثقلِه الجمّ وبكلّ طاقاته على كنيسته من أجل ترتيب أوضاعها لأغراض انتخابية بحتة تحفظ تمثيلاً مريحًا لجماعته. ونحن هنا لسنا نعترض على طموحات أتباع هذه الكنيسة العريقة، بقدر ما يهمّنا مصلحة كنيسة العراق الشاملة ككلّ وبالتنسيق مع الكلّ كي يبرز العمل الجماعي ويتحقق الهدف الأسمى ويعمّ خيرًا على الجميع بعد التفاهم على الخطوات الواجب اتخاذها والتي تضمن تحقيق هدف الجماعة بالاحتفاظ بالأرض والتراث والممتلكات والاستقلالية في تقرير المصير. فنحن ندرك مدى الضغوط التي تلقاها رأس الكنيسة الكلدانية من لوبيات مؤثرة ومن شخصيات مهجرية ومغتربة تدّعي التهميش في الوضع السياسيّ وفي الحصص وكذا في موضوع التسمية القومية التي يسعى نفرٌ لفرضها على غيرهم، نكاية بالطرف الآخر من الكنيسة النسطورية (الآثورية). وهذا مربط الفرس. فغبطتُه من دون شكّ، يمثل اليوم واحدًا من أهمّ مفاتيح اللعبة وألغازها، كنسيًا ووطنيًا وكلدانيًا، ولا ينبغي له الانجراف وراء أفكار تعصّبية لا تليق بكارزميته المتميزة وبثقافته العالية ورزاته دوليًا ووطنيًا وكنسيًا.
أنتظر، ومعي كلّ الطيبين وذوو الإرادة الصالحة، ونحن بعد في أجواء الفصح الكبيرة، مبادرة تنازلية ، أولاً من رئيس الكنيسة الكلدانية البطريرك لويس ساكو بسبب ما حباه الله من مواهب وجدارة وعلم وكاريزما جذابة ومؤثرة، ومن بعده سائر الرؤساء كي يعوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع بسبب ما يعتري أتباعَهم من تحوّل في مصيرهم ويهدّد مستقبلهم ومستقبلَ كنائسهم على السواء. وهي دعوة ايضًا، لإعادة النظر بالشكل الحالي للنظام الداخلي لمجلس رؤساء الكنائس، كي يكون أكثر تأثيرًا وقوّة وفاعلية ضمن تراتبية معاصرة تمنحه، ليسَ التسلّط وفرض الرأي، بقدر ما تعطيه زخمًا في الإفادة والاستفادة من موقع البطريرك الكلداني وعلاقاته الواسعة من أجل مصلحة كنيسة العراق قاطبة، وليسَ كنيسته حصرًا في ضوء تركيزه الأخير على إعادة تنظيم صفوف هذه الأخيرة لأغراض انتخابية تكسبّية ضيقة، شأنُهُ فيها شأن باقي الأحزاب والمذاهب والكتل السياسية التي تسعى من دون توقف لترسيخ نظام الطائفية والعرقية والفئوية من أجل إدامة المكاسب والمنافع على حساب الغير الخانع. فإذا كنّا نحن ومعنا الشعب العراقي نرفض مثل هذا التوجه من جانب زعماء الكتل من السياسيين الطائفيين، فكيف بنا نقبل ونوافق ونرضخ لشيء من ذات السمة من قبل جماعة كنسية لها تاريخُها وتأثيرُها وإمكانيتُها؟ وبغير هذا وذاك، فنحن ماضون إلى الاندثار والأفول، لا محالَ، إذا بقينا على نزاعاتنا وخلافاتنا وخصوماتنا الطائفية.
أختم حديثي، بالدعوة كي يتحمّل كلّ رئيس كنيسةٍ مسؤولياته الخدمية والراعوية بما يتوجب عليه، بحسب وصية معلمه الأول عندما دعا الرؤساء كي يكونوا رعاة صالحين لغنمه، وأن يعرفوا خرافَهم بحق، ويحثوا الرعية للتوجه إلى المرعى الصحيح المفيد والمثمر، والاستفادة من دروس الحياة والتعلّم مِن عبر الأحداث والوقائع. ف "الحياة مدرسةٌ تُساهم في تنشئتنا وبناء شخصيتنا، وأحداثُها دروسٌ نتعلم منها العِبرَ لنتقدم ونرتقي فنكتسب عقلاً يقضًا وقلباً سخياً وإرادةً مطواعةً وهدايةً متواصلةً. وجودنا يمكن جعله عبورا دائما إلى فضاءات أكثر رحابة ونضجا وعمقا وروحية… وهذا مطلوب من رجل الدين، ومن الوالدين: الأب والأم ومن المربي المعلم، والمسؤول. كلٌ في مجاله هو راعٍ!"، كلامٌ جميلٌ أخرجه غبطة البطريرك لويس ساكو، ونشره في موقع البطريركية الكلدانية بتاريخ 29 آذار 2017، حيث تعوّدنا مثل هذا الكلام الموزون والحريص والمسؤول منه دومًا. وهي دعوة صادقة لغبطته أولاً ولأخوته ثانيًا، كي يثبتوا هذا القول بأفعالهم الطيبة في الحياة اليومية ووسط الشعب وفي الوطن، بذات الإيمان والرجاء والمحبة وبشيء من التواضع والتنازل، الواحد للآخر إذا اقتضت المصلحة العامة للكنيسة والشعب والوطن.   
ونحن أيضًا نقول: لابدّ من الانفتاح للآخر والتفكير بالخروج من الضبابية القائمة، عبر "حضور تراتبي كنسي رسمي"، وتدارس كل الواقع القائم لما فيه مصلحة الحفاظ على ما تبقى من تعداد المسيحية عبر آليات الحوار والتفاهم بعيدًا عن منغّصات التعصّب وترّهات الأكثرية والأقلية. حينها الرب، سيبارك الجهود الخيّرة، سواء أتت من جانب أتباع الأقلية أو الأكثرية أو من بشرٍ منسيين لا أحدَ يتنبه لهم. وبهذه الروحيّة المستنيرة والمنفتحة، سيبقى الباب مفتوحًا لعودة أعدادٍ مهمّة من المهجَّرين والنازحين إلى بيوتهم ومناطقهم، في حالة رؤية رعاة صالحين يعرفون خرافَهم وينادون الواحدَ منها بأسمائها ولا يتركونَها بأيدي الذئاب والحرّاس غير الأمينين من تجار الأحزاب ودكاكينهم، المسيحية منها أو التابعة لاتجاهات سياسية غير رصينة لا تعترف بقدرة الله وصيانة الوطن وحبّ الشعب ومصلحة الأمّة.
كان اللهُ في عون البؤساء والبسطاء والفقراء ومّنْ لا حيلةَ لهم ولا حولَ ولا شفيعًا!


229
للألم معنى: صناعتُه، هدفُه؟
بغداد، في 11 كانون ثاني 2017
لويس إقليمس
من طبيعة الأديان، التوحيدية منها بقصد الإشارة، تقديمُ مفردات الأمل والرجاء، سلاحًا وحبلاً للضعفاء، يعزّي النفس ويهدّئ الروح وينقل الفكر إلى باحة النسيان، ولكنّه لا يسند القلب المجروح بذلك القدر من الشفقة والرحمة أو يدعم الجسد المنهك أصلاً بسبب عوادي الزمن، وما أكثرها عبر التاريخ. ففي المسيحية مثلاً، تُقَرّ (بضم التاء وفتح القاف وضمّ الراء) فضيلتا الإيمان والرجاء، اللتان بواسطتهما تضحي التعزية اللفظية والروحية معًا، سبيلاً لبلوغ الأمل والهدف والرضا بقبول القدَر المجهول والمقسوم المحتوم. فعندما نقرأ مثلاً، "لا تخف أيها القطيع الصغير" (إنجيل لوقا 12: 32 وما يليها)، فهذا الكلامُ فيه سلوان لفظيّ وسلاحٌ روحيّ وارتقاء رمزيّ سرمديّ، رغمَ أنه لا ينفع في زمن العولمة واقتصاد السوق وتنافس الأقوياء من الأسياد على كلّ شيء، بما فيه البشر والحجر. ومثل هذا القول في كلّ الأحوال، يبقى ساميًا ضمن القياسات البشرية، بحملِه أملاً ورجاءً ناقصَين في عالمٍ متلاطم المصالح والمطامع الذي فيه تُمارس كلّ أشكال الاستغلال.

العهد القديم
في العهد القديم، تعرّض أيوب البارّ لشتى أنواع العذاب والآلام التي ابتلاه بها إلهُه، فتحمّلها راضيًا شاكرًا الرب على نعمته وتجربته التي خرجَ منها بارًّا مبرَّرًا ومعافى من الخطيئة. لم يكن أيوب يتلذّذُ في مدى الألم الذي لحقه وخبرَه وقاساه، كما يفعل الماسوشيون، فيجدون فيه نشوتَهم المنشودة ضمن دارة الانحراف التي تطبّعوا عليها. ولكنَه قبلَه وتعاملَ معه على أساس اختبار من إلهه في قدرته على تحمّل المصيبة وفي استحقاقه للبرّ والتبرير على غيره من البشر.
وعلى مدى التاريخ، نقرأ قصصًا ورواياتٍ تتحدّث عن آلامٍ تحمّلتها شعوبٌ أو أفرادٌ بشتّى الحجج والأسباب والظروف. وفيها، اختبرَ أصحابُها قيمةَ الألم وبركاتِه وما أنعمتْ عليهم من قوّة في التحمّل والمرابطة والمعاندة في البقاء على أمانة الرسالة أو التجربة أو المهمّة التي دخلوها وخرجوا منها بنجاح وكرامة تستحق الثناء والاقتداء. فالمسيح نفسُه تعذّب وأُهين وصُلب. لكنّ اللهَ أباه الذي رضي بتعرّضه لتلك المصيبة، أكرَمَه وأقامَه من بين الأموات في اليوم الثالث، كي يتمجد اسمُ الله، أبي البشرية وخالق الكون وما فيه من عناصر. والحسين نموذجٌ آخر من الأئمة الصالحين والرجال الأبرار والقديسين الذين تعذبوا وقاسوا الآلام المبرحة حبًا بالله أو لهدفٍ في ضمير كلّ منهم. وهؤلاء وآخرون غيرهم، كلٌّ منهم عاشَ وتألّمَ وقاسى وتحمّل، كلٌّ على طريقته وحسب نياته نالَ خيارَه واستحقاقَه وجزاءَه.

الألم سوسيولوجيًا
الألم من منظور سوسيولوجي ونفسيّ، يعني شيئًا من الإحساس بالغبن والشعور بالظلم وعدم السعادة التي تجلب الحزن والغمّ والقلق والتوتر إلى حياة الإنسان. ويختلف استعداد تقبّل الألم وتأثيراته من شخص لآخر، بحسب طبيعة النشأة والانتماء والاستعداد والتهيّؤ الفكري والاجتماعي والدّيني وحتى الوراثيّ. وهناك من الآلام ما طالَ في تأثيره بسبب عمقِ فداحته. لكنّ نعمة النسيان التي حباها الله لخليقته، تساعد في التقليل من آثارها. وهناك مَن يرى أن تأثير الألم عند الأنثى أكثر منه وأطوَل فترة ممّا لدى الرجل، لأسباب بيولوجية وتكوينية في طبيعة الجسد في كلّ منهما. ومنها أنّ الألم العاطفي الذي يخلّفه فشلٌ فيها، يبقى في الذاكرة أكثر من غيره. ونترك ذلك للمختصّين لمزيدٍ من الإيضاح والتوجيه، فهناك من أنواع الألم، ما يحزّ في النفس ويديم الجرح فيها ويأبى المغادرة.
والألم أو المصاب أو المحنة، التي يتعرّض إليها الإنسان في رحلة عمره القصيرة في هذه الدنيا، ينظرُ إليها البعض، سواءً كانت جسدية أو نفسية أو معنوية، بمثابة بَرَكة أو تجربة من الله الخالق، كي تظهر أعمالُ الله في بني البشر خلقِه، وتساعدهم في مسيرتهم نحو الملكوت المرتقب أو الجنّة التي في انتظار الأخيار والصالحين. إنها خلاصة فلسفةٌ روحية للأديان السماوية، ومنها المسيحية بصورة خاصة، تعطي للألم نوعًا من القدسية. وهذه الفلسفة التي لا تخلو من تصوّف وسموّ في الروح تجاه رب الأكوان وفي التعبير عن خضوع المخلوق للخالق، تكتسب صفة النار التي تمحّص أدران النفس البشرية والجسد الهزيل الذي يحمله الإنسان، بالرغم من الجدليّة الصائبة القائمة في الأسباب والأهداف والنتائج.

وجهة نظر علم النفس
في الألم، يجد علماءُ النفس مسارين: الواحد جسديٌّ والآخر نفسيٌّ يقتنص شفاءَه من القبول الإراديّ للأول وبالتغلّب عليه بقدرات الإنسان الطبيعية وبإرادتِه. وهذا الأخير، قد يفوق في تأثيرِه ما يصيبُه الألم الجسديّ أحيانًا، عندما يبقى محفورًا في الذاكرة وغير قابل الزوال على المدى البعيد أو المتوسط أو القريب، وفقًا للمعطيات والأسباب والظروف. وفي عالمنا اليوم وفي زمن العولمة القائم، تكثر أنواع الألم المعاصر، تأسّفًا وحسرةً على ما تقع عليه العين من مظالم تَنهى عنها جميعُ الأديان وترفضُها البشرية وكلّ ذوي الإرادة الصالحة والضمائر الحيّة.
ولمّا كانت العولمة، ليس من بناتِ مفرداتِ أخلاقها الدفاع عن المظلوم ومحاسبة الظالم، والبحث عن حقوق الشعوب المستضعفة وطموحاتها، فقد لفظتها هذه الأخيرة وأصدرت حكمَها على ما يُقترف باسمها من فظائع، ومن أشكال الاستغلال والمتاجرة بالبشر وبحقوقهم وبثروات بلدانهم التي هي من حقّهم وليسَ لغيرهم. وهي بذلك، تشكّلُ آلامًا مضافةً للبشرية، غير قابلة الحدود. من هنا، فالعولمة بالرغم من الأهداف العليا المبدئيّة التي رُسمت لها كي تقرّب البلدان والشعوب والأمم من بعضها البعض وتجعلها أشبه بقرية جامعة للجميع بما أتت به من تكنلوجيا وأدوات ساحرة، إلاّ أنّ من ضمن أهدافها أيضًا، محاولة أساطين السياسة والاقتصاد استغلالَ البشر والأرض والحدّ من مطالباتٍ بالمساواة مع مَن يمسك بزمام المال والاقتصاد وإدارة شؤون الكون. فالعالم اليوم، ليسَ أكثر من غابة لصراع الكبار ووحوش السياسة فيمَن يقتنص أكثر الأموال ويكدّس أعلى الثروات ويستغلّ أفضلَ الشعوب. 

في العراق
السياسيون في عراق اليوم، بحسب ما يبدر من عددٍ كبيرٍ منهم وحسبما تتفاعلُ معه وسائل الإعلام المتعددة ووسائل التواصل الاجتماعي، ليسوا بمنأى عن هذه الصفات في إحداث الألم لمجتمعاتهم وشعبهم بسبب أنانياتهم وتساميهم عن رفع الظلم عن المظلوم. أمّا نكران هذه الحقيقة والهروب من هذا الواقع، فهو بمثابة الاصطفاف مع الظلم والظالم على المظلوم والوقوف مع القاهر المتجبّر على المقهور. والعاقل الصالح ينأى بنفسه عن هذا الفعل الخسيس ويعرضُ عن الأهدافِ والنوايا غير الإنسانية التي تأتي بها هذه كلُّها. واقع اليوم يوحي بوجود كبارٍ وصغار، مستغِلّ (بكسر الغاء) ومستغَلّ (بفتح الغاء). وبهذا السلوك يسوسُ أقوياءُ الغابة مَن في وسطها وبين أشجارها وحناياها.
أمام هذه الحقائق على الأرض التي ضاقت من شدّة الألم والمآسي المتلاحقة، يقف أصحابُ الأمل والرجاء من المستضعفين البسطاء، وهم الغالبية العظمى من البشر، ومعهم كلّ مفردات العزاء الروحية وأشكال السلوان اللفظي الفارغ من نفحة الحقيقة في أغلبه، عاجزين أحيانًا عن لملمة الجراح وطيّ المآسي بشتى أشكال التعازي والمواساة التي لا تنفع في زمن المظالم وسيادة المادة على الروح وسموّها. والسبب بسيط، لا يحتاج إلى تعقيد في التفكير. فالأسياد لا تهمّهم متلازمات الروحانيات وما يعنيها ويتخللُها من صلوات وتضرعات وطلبات الفقراء الذين يشكلون شريحة واسعة في مجتمعات العديد من الدول النامية، بقصد التقليل من الألم الذي يحزّ في نفوسهم وأجسادهم وطموحاتهم. فبقاء مجموع عدد الفقراء المدقعين لغاية الساعة بحدود مليار شخص، عارٌ على البشرية وقادتها وسط رفض الأسياد تقاسم الثروات وتكريس مبدأ إبقاء الشعوب المقهورة في خانة المتلقين للمساعدات والوقوف في طوابير الاستجداء والمذلّة.   
لقد بقي الألم سيّدَ العالم على مدى الأزمان، ينظرُ إليه الأسياد من ثقب إبرة، وسط ابتعاد مترادف لأيّ انفراج يعوّلُ عليه الضعفاء والفقراء والمهمّشون في تطلعهم إلى كلّ ما يمكن أن يقودهم إلى شيءٍ اسمُه الأمل المفقود والرجاء الموعود.

الخاتمة 
في العراق، تقاسمنا ذات المصير مع شعوبٍ بالمنطقة وفي العالم. صورتُنا مازالت مشوّشة لدى غيرنا، حتى من قبل دول الغرب الطامع في ثروات بلدنا وقدرات كفاءاتنا، بالرغم من كبر المعاناة وشدّة ما نحنُ فيه من ويلات متلاحقة عبر حكومات افتقرت لميزان الوطنية والإنسانية وخدمة الشعب. فما زال أشكال الألم والفقر والفاقة تعتصر في طيات غالبية طبقات الشعب بأشكال وصيغ عديدة لا تخلو من مآسٍ متراكمة وأحزان متزايدة في مستويات الحياة اليومية الدنيا. أمن المعقول في بلدٍ يطفو على بحارٍ من ثروات وطنية وأخرى طبيعية تقدّمها أرض السواد هدية لبنيها، أن نجد البؤس والفقر والألم في وجه وقلب ونفس عموم أبنائِه، إلاّ الفاسدين المنغمسين في نهب المال العام وسلب البيوت والعقارات والاستيلاء على أملاك مَن لا حولَ ولا قوّةَ لهم إلاّ الاستعانة بأصحاب النفوذ طلبًا للمساعدة أو لإنقاذ ما يمكن إنقاذُه ممّا استُقطع أو نُهب أو سُلب أو هُدِّدَ. فالدولة سُلخت عنها مؤسساتُها وغاب عنها القانون وأُفرغت من هيبتها. وهي اليوم تعاني من أزمة إدارة في كلّ مفاصلها، تديرُها قوى جانبية موازية تتحكم في قراراتها وفي مصير أبنائها، قوى لا ترحم ولا تخجل ولا تشبع، تنفّذُ ما تُأمرُ به وتلقنُهم إياها قوى خارجية إقليمية ودولية لها أجنداتُه، ما زاد من نوافذ الألم وأبوابه في شتى مجالات الحياة، الاجتماعية والخدمية والعلمية والتربوية والاقتصادية والمالية والإدارية والوظيفية، بل في كلّ شيء.
لم يعد بدّ للخروج من سطوة هذا البؤس المستفحل. فقد طال الانتظار النظري للفرج الوهميّ. ولابدّ من وثبة ثورية في وجه مسبّبات هذا الألم المستفحل بسبب ظلم الزمان وقسوة الأسياد وإهمال صوت الحقّ الذي تنقصه فورة صادقة من الشجاعة ويقظة الضمير وإناء العدل والرحمة والمحبة.



230
مسيحيّون أمْ نصارى؟
الجزء الثالث والأخير
لويس إقليمس

تطرقنا في الجزء الأول من هذه المقالة، إلى المقصود بلفظتي المسيحيين والنصارى وما شكلته هذه التسمية من إشكاليات في الفهم والموقف بسبب التصور الخاطئ لعقيدة أتباع المسيحية وتمسك المقابل بقصور فهمه واستيعابه للمسيحية الحقيقية، وقبول عقيدة البدعة النصرانية التي كانت سارية أيام انتشار الدين الجديد المتمثل بالاسلام. كما تطرقنا إلى المشتركات بين الديانات التوحيدية، وما اقتبسه الإسلام من البدعة النصرانية بما تيسر لصاحب الدبن الجديد من تلقين على يد مصدر الوحي، ورقة بن نوفل، الذي كان بين يديه نصّ الإنجيل العبراني المنقوص.
في الجزء الثاني أتينا على ذكر ما كان سائدًا في الجزيرة العربية من بدع في عهد الإسلام، وتأثير ذلك على الحياة الاجتماعية ومجتمع البداوة فيها.
في هذا الجزء الثالث والأخير، سوف أتطرق إلى مسألة طغيان تسمية النصرانية مذاك ولغاية اليوم، مع خلاصة بشرح المفاهيم غير السليمة التي تم اعتمادُها آنذاك، والتي أضحت من مقدسات الدين الجديد، بالرغم من قصورها وعدم صحتها، ما جعل كل ما يتناقض مع ما ورد في قرآن الإسلام، كفرًا وخروجًا عن دين الحق. أرجو أن أكون قد وفيتُ ونقلتُ ولو جزءً من الحقيقة، بالرغم من صراحتها ومرارتها بالنسبة للبعض غير الملمّ بحقائق التاريخ.

طغيان تسمية النصرانية
من المؤكد، أن كلمة النصرانية طغى استعمالُها على عهد الدين الجديد أي في العصر الإسلامي تحديدًا، للأسباب التي ذكرناها في السطور السابقة. وكما ذهبتُ إليه، مستفيدًا من النتف المتيسر من المعلومات بخصوص هذه البدعة ومثيلاتِها من الشيع الأخرى التي سادت الجزيرة العربية تحديدًا والمناطق المجاورة لها بفعل حركة التجارة ونقل الفكر والفلسفة، فقد كانت أفكارُها هي السائدة في منطقة الجزيرة العربية. والنصارى فيها، كانَ جلُّهم من يهود متنصرين إلى المسيحية، سكنوا المنطقة في يثرب والحجاز وخيبر وتيماء ومكة واليمامة ووادي القرى، إلى جانب أقرانهم من يهود قنيقاع وبني النضير وقريظة وغيرهم من الذين كانوا نزحوا عن ديارهم العبرانية الأصلية وسكنوا الجزيرة. وإنَّ عددًا من هؤلاء تنصروا مع حفاظهم على أغلب تقاليدهم اليهودية السابقة وبقائِهم على أفكارهم الناقصة عن حقيقة المسيح. فبنوا لهم شريعة جديدة مستفيدين من رهبان وقساوسة خارجين عن الطاعة في ذلك الزمن، مّمن تزعموا تلك الفرق. وهذه التسمية، أي النصرانية، لم ترد قبل ذلك الا في القرآن، بإيحاء من القس ورقة بن نوفل الذي صاحبَ رسولَ الإسلام، لكونِه عمّ السيدة خديجة زوجة الرسول محمد آنذاك. وظلَّ "ورقة" مرافقًا للرسول حتى مماته، حيث انقطع الوحي فترة، وبعدها تغيّر مسار الجماعة الجديدة وشرائعُها وطريقة التعامل مع الغير تمامًا، بعد استقوائها والهجرة إلى المدينة.
أمّا لماذا شاع استخدام كلمة "نصرانيّ" و"نصارى" في بلدان عربية وإسلامية بالذات، ذلك لأنّ رسولَ الإسلام لم يعرف مسيحيّين حقيقيين في زمانه ولم يتعامل معهم على كونِهم أتباعَ المسيح، "مخلّصًا وإلهًا ابنَ إله"، بسبب أنَّ الشيعة أو الجماعة التي كانت قائمة آنذاك في الجزيرة العربية كانت فريقًا يهوديًا موسويًا متنصرًا خارجًا عن تعاليم العقيدة المسيحية الصحيحة، كما أسلفنا. وهذه الشيعة لم تكن تؤمن بقيم العقيدة المسيحية الحقيقية، كما أتى بها المسيح وأكملَها تلاميذُه "الحواريون" والرسل من بعدِه. فقد ثبت أتباعُها على الكثير من العادات والقيم اليهودية القديمة بحسب التلمود، ولم يتغيروا في سلوكهم، فاحتفظوا من العقيدة المسيحية بالقشور، فحسب. أي أنهم مازجوا بين اليهودية والمسيحية، بحسب الظرف والزمان. وهناك ما يشير لكون النصرانية، بدعة ناشزة وعالّة عن المسيحية أساسًا حاملةً أفكار الفرقة الأبيونية المذكورة.
إنه وبسبب ظروف المنطقة آنذاك والأرضية الخصبة لتقبّل رياح التغيير، فقد كثر نشاط أهل هذه البدعة واتخذوا لهم منحى مغايرًا، بسبب خلافاتهم الكثيرة حول العقيدة والإيمان والإدارة مع الكنائس الرسولية المعروفة آنذاك في كلّ من أنطاكيا والقسطنطينية والإسكندرية وروما. وقد دخل هذه البدعة يهود كثيرون، كما انضوى إليها نفرٌ من رهبان قمران، بعد خراب هيكل أورشليم، ما اضطروا للهجرة إلى قريش ومكة والحجاز، بعد أن شقوا عصا الطاعة لرؤسائهم وانتهجوا خطَّ العداء والتلفيق والتزوير، حالُهم حال سائر الهرطقات التي ظهرت آنذاك بسبب انشقاقات متتالية في الكنيسة الأولى. وكان من أتباع هذه البدعة، ورقة بن نوفل الذي انتهى به الأمر أسقفًا (كبير قسس) لهذه الجماعة في مكة. فهو الذي شهد، بل قام بتزويج بنت عمه السيدة خديجة من رسول الإسلام محمد بن عبدالله، لقرابةِ عمومةٍ بينهما، وهي كانت تعمل في التجارة. وقد حافظ الزوجان، أي الرسول محمد والسيدة خديجة، على عقيدتهما الأبيونية النصرانية، حتى وفاة السيدة خديجة وابن عمها ورقة. فقد كان الثلاثة على ذات البدعة، حتى تحوّلت إلى حركة جديدة ظهرت في قريش، تنادي بالإسلام دينًا جديدًا. وكان الرسول محمد قد أظهر ذكاءً في التجارة، كما أظهر براعةً في كسب ودّ القبائل إلى جانب دعوتِه، بمساعدة القس ورقة الذي كان يوحي إليه بما في إنجيل متى العبرانيّ المعروف آنذاك في المنطقة، وليس بغيرِه. وساعدته في ذلك أجواء قريش ومكة غير المستقرّة، كي يبرز ويخلف ورقة في زعامة الجماعة، وهو ما كان يهيّئُه لها ورقة حتى وفاتِه. إلاّ أنَّ الأمور سارت بغير ذلك!
نذكر أنه من بين القبائل القريشية المعروفة التي دخلت دينَ النصرانية آنذاك، بحسب كتاب تاريخ اليعقوبي، قبيلة بني أسد بن عبد العزّى، التي ينتمي إليها ورقة وخديجة، وهما من عمومة الرسول محمد. (تاريخ اليعقوبي، 1/257). كما يؤكد بن قتيبة الدينوري في كتاب المعارف أيضًا شيئًا من هذا القبيل، من أن "النصرانية كانت في ربيعة وغسان وبعض قضاعة" (المعارف لابن قتيبة الدينوري ص621). وفي قريش، التحق بهم حشدٌ من قبائل عربية معروفة، سبق سرد بعضٍ منها.
ولعلَّ هذا ما يدعو اليوم العديد من علماء الدين الاسلامي والمسلمين إلى رفض تسمية "المسيحي" والتشبث بكلمة "نصارى"، تعميمًا على المسيحيين، استنادًا إلى ما ورد في القرآن آنذاك. وهذا خطأ بالغ، عرّض المسيحيين ظلمًا ومازال، للكثير من المتاعب والمشكلات والمخاطر، لعدم التمييز بين التسميتين والتطبيق بحقهم، كلّ ما خرج به القرآن وأوردهُ عن أتباع تلك البدعة المنشقّة، على أنهم همْ أتباع المسيحية. فمازالَ المقصود بهم دومًا، هم المسيحيون أمس واليوم وغدًا.
ومع أنه هناك العديد من الآيات التي يذكرهم فيها القرآن بالخير في طلائع الدعوة الإسلامية، كما وردت في الآيات المكية على عهد القس ورقة، إلاّ أنه انقلبَ عليهم بعد وفاة الأخير ووفاة ابنة عمّه خديجة. فقد كان الرسول يعامل الصابئيين والنصارى بمودة وإحسان، إلى حين استقوائِه وجماعتهِ، ونزول آياتٍ قاسية بحقهم، معتبرة إياهم "ذميين". فاختلف التعامل معهم لاحقًا، آخذًا شكلاً مغايرًا بعد الهجرة إلى المدينة وزوال تأثير صاحب الوحي (ورقة)، حيث يعدّهم مشركين يستوجبون القتال أو الجزية أو الإسلام ويحرّم توليتهم في المؤسسات، بل ويشرعنُ استباحةَ أموالهم وحرائرهم وما إلى ذلك.
وهذا ما نشهده اليوم من تطبيقات مضللة لتلك التعاليم المتناقضة أساسًا في القرآن في مواضع عديدة. فمن الآيات التي تذكرهم بالخير والمودة، ما يرد في سورة المائدة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (سوره البقرة 62). وبعكسها، نجد ما ورد في سورة المائدة أيضًا"وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّـهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" (سورة المائدة:13). وهذا عين الظلم في دينٍ يدّعي أتباعُه التسامح والرحمة وطاعةَ الرحمن!
ومن المثير، أن بعض البحاثة والمهتمّين، يشيرون إلى أنَّ كلمة "نصراني" في الإسلام، كانت وماتزالُ تُطلق على حاملي الثقافة المسيحية، لغاية اليوم. بل وبسبب الجهل بأصول المسيحية، هناكَ مَن يُطلق كلمة "نصرانيّ" على كلّ صاحب بشرة بيضاء! وليسَ غريبًا أيضًا، أن نسمعَ نعوتًا سلبيةً غيرَها، وفيها شيءٌ من التحريض والرفض من منطلق سياسيٍّ بحت، حينَ نعتِ كلّ ما هو غربيّ ب "الصليبيّ" و"الكافر"، بسبب الجهل بالحقيقة التاريخية. فلو كان المقصود بتسمية المسيحيين بالنصارى تاريخيًا، كونَهم أتباع يسوع الناصري الذي عاش في هذه المدينة، فلا بأس ولا اعتراض عليه. وبعكسه، فإنّ ما قصده القرآن بتسميته المهينة للنصارى (المسيحيين) وحسب تصوّره الناقص لهم ولعقيدتهم الجوهرية كما توردها آيات تنتقص منهم ومن عقيدتهم، فهذا غير مقبول البتة. ولابدّ من إعادة قراءة التاريخ والتفسير بموجب الحقائق والوقائع والكتب الصحيحة وليس المنحولة.

مفاهيم غير سليمة
من المؤكد، هناك حالات تشويه للحقائق التاريخية بسبب الجهل بالماضي أو في تفسير غيرها، سواءً بسبب النقص في الأصول التي تؤمّن الحقائق والمصادر الملتزمة، أو بسبب الفهم الخاطئ والشارد لتلك الحقائق لعدم الاستعانة بالمراجع والكتب القانونية الموثوقة. وهذا التشويه ينسحبُ مثلاً، على الإرباك وعدم الفهم القائم في إشكالية التثليث التي يرى فيها القرآن، ومن ثمَّ المسلمون عامةً، أنها إشراكٌ في الإله الواحد. فيما أنَّ التثليث أو الثالوث القدّوس الذي يؤمن به المسيحيون، أتباع المسيح، لا تنكر وحدانية الّله، بلْ تعدُّ المسيح إلهً وابنَ إله مشاركًا ومساويًا له في الجوهر عبر الروح القدس المنبثق من الآب والابن، كما يشير إلى ذلك قانون الإيمان المسيحي. فالأقانيم الثلاثة هي جوهرٌ متحدٌ واحدٌ في شخص إلهٍ. والمسيحية لا تؤمن بغير إلهٍ واحد قادرٍ على كلِّ شيء وخالقٍ للسماء والأرض وما فيهما.
 وبالرغم من صعوبة إدراك سرّ التثليث، إلاّ أنَّ الإيمان وحدَه كفيلٌ ببلوغ هذا الإدراك العجيب، بسبب عمق العلاقة بين الأقانيم الثلاثة، تمامًا كما أنّ للنار ثلاث خواص: فالنار بوحدتِها وذاتِها، تتولدُ منها حرارة، كما ينبثق منها نور. وهذه ليست ثلاثًا، بل وحدةً واحدة غير منفصلة، كما يرى أحد آباء الكنيسة. هكذا الثالوث الأقدس، بحسب آباء الكنيسة ومفسّري العقيدة.
والإشكالية الثانية تلحق بعبادة سيدتنا مريم العذراء الذي يراه القرآن بمثابة الشرك، بسبب الفهم الخاطئ لصلة العذراء بالمشروع الخلاصيّ ومرتبتِها عند الله وابنها المسيح، الذي شاركته في المشروع الخلاصي من وجهة نظر مسيحية. من الجدير بالذكر، أنه لا يوجد في العقيدة المسيحية أيةُ إشارة إلى آلوهية مريم العذراء، أمّ المسيح، كما يقرأه البعض، أو كما يشاء آخرون الاّدعاء بورودها في بدعٍ ونحلٍ شاعت على عهد نشأة الإسلام أو قبلَه أو وردّ ذكرُها في كتب منحولة لا تعترف بها الكنائس الرسولية. فهذا ما كانت تنادي به بدعة المريمية (المريميين) التي اندثرت تمامًا مع مطلع القرن السابع، والتي تجعل من مريم العذراء أمّ المسيح، مشاركةً له في الآلوهة، تمامًا كما في الأساطير القديمة التي تشارك فيه إلهة إلهًا آخر. وهذا ما ترفضه وتشجبه الكنيسة منذ نشأتها، من دون أن تنتقص من منزلة مريم. فحاشا لله أن يتخذ له صاحبة، كما تورد بعض التفاسير الخاطئة!
بعد هذه الشذرات، وما تشهده المنطقة من غلوّ في التفسير والتطبيق لتعاليم الإسلام، هذه دعوة ملحة لنشر الوعي وتفعيل سبل الحوار بين الأديان والحضارات بمختلف الوسائل والطرق وبنية صافية وإرادة طيبة، سعيًا وراء خلق مجتمعات متحاورة متحابة تقبل الآخر المختلف، كلّ على دينه وتعاليمه وتقاليدِه ومن دون الانتقاص من هذه كلّها. فالمجتمع مختلف الأطياف ومتعدد الأعراق والأديان والمذاهب، هو غنى وليسَ فقرًا أو نقصًا. فهذه جميعًا باختلاف أفكارِها وتراثها وعقائدها ومذاهبها، يمكن أن تشكل دائرة متحابة متجانسة باسم الله الواحد الأحد، الذي يرعى الجميع ويهدي مَن يشاء إلى طريق الخير والقداسة، لمدح اسمِه القدوس وليسَ لتشويهِه والقتل باسمِه وتنصيب الذات حاكمًا بدلاً عنه. فهو الديان الكبير وهو الحافظ للجميع والهادي للجميع دون سواه.

لويس إقليمس
بغداد، في 21 حزيران 2015



231
مسيحيّون أمْ نصارى؟
لويس إقليمس
تطرقنا في الجزء الأول من هذه المقالة، إلى المقصود بلفظتي المسيحيين والنصارى وما شكلته هذه التسمية من إشكاليات في الفهم والموقف بسبب التصور الخاطئ لعقيدة أتباع المسيحية وتمسك المقابل بقصور فهمه واستيعابه للمسيحية الحقيقية، وقبول عقيدة البدعة النصرانية التي كانت سارية أيام انتشار الدين الجديد المتمثل بالاسلام. كما تطرقنا إلى المشتركات بين الديانات التوحيدية، وما اقتبسه الإسلام من البدعة النصرانية بما تيسر لصاحب الدبن الجديد من تلقين على يد مصدر الوحي، ورقة بن نوفل، الذي كان بين يديه نصّ الإنجيل العبراني المنقوص.
في الجزء الثاني نأتي على ما كان سائدًا في الجزيرة العربية من بدع في عهد الإسلام، وتأثير ذلك على الحياة الاجتماعية ومجتمع البداوة فيها. قراءة ممتعة.

شيوع البدع في عهد الإسلام
كانت المنطقة العربية (شبه جزيرة العرب) خاضعة للإمبراطورية الرومانية، وفيها عاش اليهود والمسيحيون والوثنيون من الرومان واليونانيين والعرب قبل الإسلام، وما سواهم من قبائل، معًا ضمن ذات الأجواء الصاخبة. بل إنّ عددًا غير يسير من القبائل العربية كانت قد تنصّرت، مثل تنوخ وحمير وتغلب وغسان وكلب وأياد وبكر وشيبان وطي وتميم وكندة والحارث وغيرها كثيرٌ، إذا ما رجعنا إلى التاريخ المجهول لنا. وقد "تلاقت المسيحية لأول مرّة بالإسلام في جزيرة العرب، لكنها كانت مسيحية غير صحيحة ومشوّهة، كان يمثلها تقليد شفهيّ منطبع انطباعًا قويًا بالأناجيل المنحولة"، بحسب الأب جورج شحاتة قنواتي (أنظر كتابه: المسيحية والحضارة العربية ص 96)، وهو من المؤرخين والباحثين التقاة. ويضيف الكاتب في ذات السياق: " كان للبيئة التي نشأ فيها الإسلام في بداية الدعوة بعض الاطلاع على الكتاب المقدس. لكنَّ هذا الاطلاع تناولَ كتبًا منحولة فقط"، مثل إنجيل متى العبرانيّ المنحول، الذي اعتمده القرآن بحسب إيحاء ورقة بن نوفل.
كانت الأرضية في جزيرة العرب والمنطقة، مرتعًا للعديد من الفلسفات والشيع والبدع والفرق والهرطقات التي كثرت آنذاك. من هنا يمكن عدّ النصرانية مثلاً، بمثابة فلسفة فكرية قائمة إلى جانب غيرها من البدع أو الفلسفات السائدة آنذاك، كالغنّوصية والمرقيونية والآريوسية والمانوية والمريمية والكسائية والأبيونية (وتعني الفقراء-المساكين)، وشهود يهوه والأحناف والداوودية (ذكرها الأب أنستاس ماري الكرملي في إحدى مقالاته في الشرق، ويعودون بها إلى يهودية داود الملك مع اقتباسات عن المسيحية) وغيرِها. فقد تأثر القس ورقة بن نوفل نفسُه مثلاً، ببدعة الأبيونية، كما يبدو، والتي كانت ترى في المسيح نبيًّا عظيمًا كسائر الأنبياء، جاء ليكمل ناموس موسى، لا أكثر. ومعروف عن ورقة، تبحّرُه في العلم وتتبعُه للكتب وتفسيرها مستفيدًا من خلفيته الغنوصية الكسائية التي كانَ متأثرًا بها أيضًا، بحسب البعض. ومنهم مَن يقول إنَّ فرع عبد العزّى بن قصي، ألجدّ الرابع لرسول الإسلام وآخرون أحناف من قريش، كانوا من أتباع هذه الفرقة المؤمنة بالنصرانية، أي المسيحية المنحرفة (أنظر أبو موسى الحريري، قس ونبي).
 لذا، جاء فهمُ أتباع هذه الجماعات وإيمانُهم بالمسيح من منطلق بشري ناقص لا يرى في رسالتِه، قدرتَه الإلهية ومشروعَه الخلاصيّ كابنٍ لله، وُلد وعاشَ وتألمَ وصُلب وقام وصعد إلى السماء. وربّما هذا ما حتّمَ على القرآن أن يتعاملّ مع أتباع هذه البدعة فقط التي كانت سائدة آنذاك في المنطقة أكثرَ من غيرِها، من منطلق بشريّ ومادي لا يتعدّى القبول الحرفيّ بماهيّة المسيح وتشبيهه البشري. وعدَّ كلَ ما جاءَ خلافًا لتعاليمِها بمثابة التحريف والكفر والإشراك، تمامًا كما كان فعَلَ اليهود المتنصرون بقبولِهم للمسيح من وجهة نظر ناقصة وعلى مقاس أفكارهم اليهودية المنحرفة. والقرآن نفسُه يشيرُ إلى تكاثر الأحزاب والشيع والفرق والبدع في مكة والحجاز على أيام الرسول محمد في مواضع عديدة (القرآن 19/37 و43/65، و2/136 و3/84). وقد ظلّ اليهود يناصبون المسيحية العداء ويكيدون الدسائس ضدّهم، تارة مع العرب وتارة مع الفرس وأخرى مع الرومان، ولم يعملوا بالتسمية المسيحية، بل ظلّت التسمية النصرانية على ألسنتِهم، وشايةً بهم وانتقاصًا من سيدهم الذي عاشَ في مدينة الناصرة، ومنها أتت التسمية (ناصري ونصراني).
وعلى ذكر الأبيونية على وجه التحديد، لا الحصر، كانت قد ظهرت في القرن الأول الميلادي، مع اليهود المتنصرين الجدد وخلقت إرباكًا في الرسالة الإنجيلية، ما اقتضى ردعَها وإدانتَها من قبل الرسل وتلاميذهم من بعدهم. ويقول أبيفانوس أسقف قبرص من أواخر القرن الرابع (310-403م) بحقهم، أنهم" ليسوا مسيحيين ولا يهود ولا وثنيين، بل هم يقفون في منتصف الطريق، فليسوا هم شيئًا". ويضيف المؤرخ يوسابيوس القيصري: "لقد دُعوا أبيونيين، لأنهم اعتقدوا في المسيح اعتقادات فقيرة ووضعية، فهم اعتبروه إنسانًا بسيطًا عاديًا قد تبرّرَ فقط بسبب فضيلتِه السامية، وكان ثمرةً لاجتماعٍ رجلٍ معيّن مع مريم. وفي اعتقادهم أنّ الاحتفاظ بالناموس الطقسيّ ضرورة جدًّا، على أساس أنهم لا يستطيعون أن يخلصوا بالإيمان بالمسيح فقط وبحياة مماثلة". والقديس إيرونيموس يقول مخاطبًا القديس أغسطينوس في إحدى رسائلِه: " ماذا أقول عن الأبيونيين الذين يدّعون أنهم مسيحيون؟ أرادوا أن يكونوا يهودًا ومسيحيين في وقت واحد، وما استطاعوا لأن يكونوا يهودًا أو مسيحيين". وهذا كلامٌ واضحٌ على ضحالة إيمان أتباع هذه البدعة التي كان عليها القس ورقة بن نوفل وأتباعُه في الجزيرة العربية أيام رسول الإسلام. وقد انقرضت تمامًا.
 مّا لا شكَّ فيه، أن أحد زعماء هذه البدعة كان القس ورقة بن نوفل الذي لعبَ دورًا رائدًا في ظهور الدين الجديد المتمثل بالإسلام. فهذه البدعة التي لم تكن تعترف سوى بإنجيل متى العبرانيّ، كانت تدين هي الأخرى ب "النصرانية" بدعةً وليس عقيدة مسيحية رسولية. أي أنَّ عقيدتُها كانت ناقصة، من حيث خروجها عن تعاليم المسيح والرسل من بعده، كما وردت في الأناجيل الأربعة الصحيحة التي حافظت على مصداقيتها وصحتها من تأثيرات جماعات منتفعة وخارجة عن التعاليم الرسولية الصحيحة. ف"النصرانية"، التي أتت بها الأناجيل المنحولة، هي التي يقصدها ويتحدث عنها القرآن حتمًا، وليس المسيحية الأصيلة في تعاليمها الأولية. وهذا ما يشيرُ إليه أبيفانوس أيضًا في موقع آخر، الذي "يعدّ النصارى في ذلك الزمن، بأنهم هراطقة ينحدرون من أصل يهوديّ، بعد تنصّرهم، مع التأكيد على تمسكهم بعيش الشريعة اليهودية وتطبيقها، معتبرين أن الإيمان ليس كافيًا للخلاص وأنّ المسيح ليس الله!". وهذا ما يؤكده آباء الكنيسة من أنَّ الكثير من نصارى الجزيرة العربية، لم يكونوا مستقيمي العقيدة، وإنّ إيمانَهم كان ناقصًا لعدم اعترافهم بآلوهية المسيح وبكونِه ابنّه الوحيد، إلهًا وإنسانًا في ذات الوقت، ومساوٍ للآب في الجوهر، كما تقول العقيدة المسيحية المستقيمة. ويرى ذات المعنى فيما ذهبنا إليه، الحسنُ البصري، بقوله: "أنهم (أي النصارى) ابتدعوا النصرانية وتسموا بها، ولم يكونوا على منهاج الذين اتبعوا المسيح في زمانه من الحواريين".
ومع قدوم الفاتح الجديد المتمثل بالإسلام، حاول المسيحيون التأقلم مع الوضع الجديد، ودخلوا فيما بعد، في دواوين الخلفاء وفي الخدمات العامة، وارتقوا مناصب مهمة، ونقلوا حضارة اليونان والفرس والهنود عبر تآليفهم وتراجمهم الكثيرة وعبر التطبيب والعلوم والفلسفة والحكمة التي مارسوها من دون منازع. فكانوا أهل ثقة الخلفاء والولاة والأشراف في العمل والعبادة والأمانة والمحبة، أينما حلّوا وارتحلوا. كما حافظوا على كنائسهم وعباداتهم ومواسمهم في المناسبات والأعياد. بل إنّ الكثير من الخلفاء والوزراء وأتباع الإسلام، كانوا يشاركون في مثل هذه المناسبات، بل صاروا يتقنون السلام بالسريانية، ويقولون (بارخمور، أي بارك يا سيّد)، كما يشير إلى هذا ابن العبري، بل واصبحوا يدركون معاني الديانة المسيحية وأسرارها.
كما قامت مناظرات جدلية صريحة بين الطرفين، مثل المناظرة المشهورة للخليفة المهدي مع البطريرك طيماثاوس الأول الشهيرة. وهذا ما يفسّر التلاقح بين الديانتين المسيحية والإسلام في بطون القرنين الأول والثاني لقدوم الفاتح الجديد للمنطقة. إلاّ أن الحالة الطيبة لعموم المسيحيين، لم تسرْ دومًا ضمن هذا السياق الهادئ المتسامح. بل شهدت اعتراضات وكبوات كثيرة قائمة على تطبيق حرفيّ لما أوردته آياتٌ قرآنية مدنية ناسخة تقلّل من شأن المسيحيين (النصارى بالتعميم) ومن ديانتهم، وترفض توليتهم في مواقع الدولة. بل شهدت المسيحية وماتزال ونحن في الألفية الثالثة، اضطهادات عديدة وتصفياتٍ بحدّ السيف أو أداء الجزية المهينة أو إنكار الدّين والتحول للإسلام، استنادًا لما كان أورده القرآن بحقهم في حقبة غابرة معينة من الزمان، تختلف تمامًا عمّا تعيشه الإنسانية اليوم من تحوّلات ورقيّ وتطور علمي وتكنلوجي، لا يمكن أن يعود بها الزمن إلى أيام الجهل والظلامية والقتل والسيف والفوضى. وليسَ هناكَ من قادرٍ أو شجاعٍ أو مجازف لتبيان أنّ طبيعة الحياة قبل أكثر من خمسة عشر قرنًا وكذا طبيعة الشعوب والوضع الاجتماعي تختلف تمامًا عن أيامنا، بسبب تطور العصر وزيادة القدرات البشرية والعلمية والفكرية هذه، بل وفي نوعيّة البشر.

-   يتبع الجزء الثالث والأخير

232
أوربا: هل هي بحاجة إلى إعادة بناء؟
بغداد، في 28 كانون أول 2106
لويس إقليمس
يبدو أن القارة الأوربية، ستظلّ في مرمى الإرهاب الدولي المتنامي الذي رأى فيها خير حاضنة لمؤيديه، وأفضل أرضية خصبة لتنفيذ عملياته الدموية المتزايدة، طالما بقيت الأسباب والذرائع قائمة. وهناك مَن يعتقد أنها هي التي جنت على نفسها، كما فعلت "براقش"، حين بادرت لاحتضان عددٍ غير منظورٍ من المتسلّلين، بينهم متشدّدون ومتطرّفون، عبر موجات الهجرة الكاسحة، المنظمة منها وغير المنظمة، وإيواء غيرهم من المغضوب عليهم في بلدانهم على يد حكامهم المتسلّطين. فهؤلاء أصبحوا قنابل موقوتة، قد تنذر بالانفجار في أية لحظة حينما تتسنى الفرصة. وأوربا عمومًا، يُؤخذُ عليها، تنفيذُها برامج إعادة توطين عشوائية لم تأخذ في نظر الحسبان خلفياتِ بعض هؤلاء المنغمسين في أعمال الجريمة المنظمة والكراهية المتنامية ضدّ كلّ شيء فيها وفي تركيبتها الغربية الحضارية التي تحملُ بصماتِ أخلاق لا ينتمي إليها أصحاب هذا الفكر المنحرف. فالإرهابيون ضمن منهجهم هذا، يَعدّون القارة العجوز أرضًا صليبية واجبة الجهاد والقضاء عليها وعلى عقيدتها، بالرغم من أنّ معظم بلدانها لا تعير للدين وللمعتقد اهتمامًا في أنظمتها ودساتيرها العلمانية، بحيث يخجل حكامُها أحيانًا أو يتهرّبون أحيانًا أخرى، حتى من ذكر اسم الله في حياتهم العامة والخاصة وفي العمل والشارع. 
إنَّ تنامي المنهجَ التكفيري الذي يحملُه الإرهابيون من أصحاب الفكر المنحرف، ضدّ كلّ مَن يختلف معهم في المنهج والرؤية والتطبيق للعقيدة التي يؤمنون بها، قد جعله في تصاعد متنامٍ بسبب غياب وسائل الردعٍ الدوليّة الصارمة ضدّ انتشاره الواسع وتهيئة الأرضية له من قبل دول كبرى قوية الاقتصاد، لاستخدامه ورقة في شنّ النزاعات من أجل تحقيق مصالح قومية ضيقة تخدم أسياد هذه البلدان الاستكبارية. كما ساهم في جبروته واتساع رقعة عملياته وتوسعة مشاريعه، الدعم اللاّمحدود الذي قدّمته وما تزالُ تقدّمه بعض الدول الراعية والجهات الممولة والساندة له، ومن ضمنها مراجع دينية غير رصينة وشيوخ الكراهية والقتل، الذين يساهمون في غسل أدمغة البسطاء من الشباب المغرَّر بهم بذرائع خرافية بنوال الجنّة وحور العين ومن العذارى ما طابَ لهم ومن حلقات الخمر الطيب، في حلقات الجوامع والمراكز الدينية غير المرصودة التي لا تخضع للرقابة.
ليلة الثلاثاء 20 كانون أول 2016، تكرّرَ ذات الفعل الإرهابي في برلين الألمانية، بطابعه العنصريّ المتنامي، لشبيه الجريمة التي اقترفت في مناطق أخرى من أوربا، ومنها مدينة نيس الفرنسية قبل أشهر، وبالذات في 14 تموز من العام الجاري، ضدّ حشد من المواطنين الأبرياء كانوا يحتفلون بالعيد الوطني لفرنسا. في حينها، راح ضحية ذلك الاعتداء الإجراميّ، 86 قتيلاً وأكثر من 400 جريح، لتضاف إلى قافلة قتلى سبقوهم قبل عام في أحداثٍ شهدتها مدنٌ فرنسية أخرى، لا تقلّ مأساوية حين حصدت أكثر من 230 قتيلاً أيضًا. وبالرغم من ضآلة الضحايا في اعتداء برلين، حيث تتحدث مصادر عن مقتل 12 شخصًا فقط وجرح أكثر من 40 آخرين في عملية دهس بشاحنة اقتحمت سوقًا تحتفل تقليديًا بعيد الميلاد، إلاّ أنَّ الحادثة الجديدة، قد أعادت مرة أخرى، أشكالاً من مشاعر الغضب والرعب والاحتجاج على سياسات بلدان الاتحاد الأوربي غير المنضبطة، ولاسيّما سياستَها في استقبال موجات اللاجئين من دون تمحيص للهوية أو اهتمام بالنوعيّة، من الذين لا تعنيهم فكرةُ الاندماج التي تتوخاها بلدان المنظومة الأوربية في سياساتها وفي توقعاتها الخاطئة. فجلُّ اهتمام أصحاب الفكر المنحرف من المتسللين ما بين اللاجئين االفارّين من بلدانهم التعبانة، غزوةُ بلد الكفّار والعيش فيها أفرادًا وجماعاتٍ على هامش المجتمع ما طابَ لهم، ليكونوا عالّة على دافعي الضرائب وحكوماتهم المهزوزة، اقتناصًا لأية فرصة سانحة للسطو على الحكم فيها متى ما زادت أعدادُهم واستقووا بمواردهم البشرية التي لا تعنى بالنوعية بل بالعدد والكمية.
مثل هذه السياسات المتراخية أحيانًا، وغير المتزنة في أخرى كثيرة، من جانب حكومات بعض الأقطار الأوربية والأحزاب القائمة في السلطة، بحاجة دائمة وجادّة للمراجعة والتغيير بحسب المستجدات والهواجس والأحداث، قراءةً لواقع الحال وفي مواجهة ما يصدر من عربدات ووثائق وتغريدات ومروّجات منشورة، السمعية منها والبصرية والمرئية، عن هذه التنظيمات الإرهابية الدولية. وهذا ما يدعو ساسة وعقلاء هذه البلدان المتحضّرة لإجراء مراجعة شاملة لسياساتها وخططها وبرامجها بهدف احتواء الضعيف منها واتخاذ خطوات جادّة تهتمّ بمصالح شعوبها قبل أي شيء.
صحيحٌ أنّ الأسس القائمة عليها القارة العجوز، تقليدية وقوية وراسخة. لكنّ الأساس الذي لا يُصانُ بعناية في كلّ موجة مطر قوية، وبردٍ قارسٍ، وعاصفة شديدة، يمكن أن يتآكلَ بفعل عوامل التعرية العولمية القائمة والتجريف السياسيّ والاجتماعيّ الذي بإمكانه تقويض أكبر ممالك العالم، مهما تجبّرت واعتدّت وتفاخرت. فإذا كانت بلدان هذه القارة الجميلة ترى في بنائها الديمقراطي "العلماني"، طريقًا آمنًا لمستقبل أجيالها من دون مراعاة ما يُحاك ضدّ تركيبتها وبنيتها المجتمعية من دسائس من قبل الطامعين من أصحاب الأفكار المنحرفة، فهي مخطئة وعليها أن تدرك مدى خطورة هذه كلها. أمّا ما تراه من جانبٍ واحد، من مساهمتها المميزة في تغيير الزمن وتسريع العلوم والتكنلوجيا وفرض العولمة وقوانينها وفق مقاساتها، فهذه جميعًا تصبّ اليوم في خانة مستقبلٍ غامض مشكوك فيه وسط ضبابٍ كثيفٍ أحالَ فكرة سعادتها التقليدية إلى كابوس أمنيّ لن تتوقف آثارُه عند حدود ما تشهدُه من عمليات إرهابية، فحسب. وعليها أن تعي حجم هذه الاثار وتبادر إلى دراسة موجباتها الإشكالية، فتجد لها ما يوازي هذه المشاكل من حلول فاعلة لا تتقيّد بعاملَي الحرية والديمقراطية اللذين أصبحا شمّاعة تعلّق عليهما تراجعها ونهيَها عن اتخاذ ما يلزم بل ما يحتّم من إجراءات احترازية. وهذا ما يوصيها بالعودة إلى الينابيع الأولى التي أُقيمت عليها هذه الأسسُ التقليدية القوية المميَّزة. وإذا اعتقدت جزافًا، أنَّ دارَها مازالَ محتفظًا بصلابته وتماسكه، فإنّ صورتها اليوم، قد اهتزّت، وسقف دارها منذِرٌ بالسقوط فيما لم يعد شكلُها مقبولاً، كما كان بالأمس. فالمواطن الأوربي الأصيل، بدأ يعي حجم التحديات التي تنغّص حياته، وهو أيضًا مثلنا في الشرق بعض الشيء، لم يعد يشعر بالأمان وهو في العمل أو الشارع أو حتى في داره أو مصلحته.
إنّ الإرهاب وأدواتِه قد تمكنوا من اختراق أبواب أوربا من أوسعها عندما رضخ الساسة فيها ومَن في الحكم، لتهديدات مصدّري الإرهاب المعروفين، ومَن على شاكلتهم بفتحهم هذه الأبواب مشرعة، بحجة تفادي صِدامِ معيّن أو حفاظًا على مصالح قومية أو آنية أو شخصية. فنالوا بذلك، موقفًا معارضًا بعض الشيء، بل متشدّدًا أحيانًا، من شرائح في مجتمعاتهم الشعبوية التي زاد قلقُها على مصيرها وحياتها وهويتها الوطنية المهدّدة بفعل مثل هذه التنازلات غير المبرّرة. ومن المؤسف، صدور دعوات من مستويات سياسية عالية في السلطة، تستجدي مواطني بلدانها بعدم النزوع إلى شكوك بمَن تحوم حولهم رعاية الإرهاب وتمويله وتصديره، بالرغم من وضوح الرؤية وبروز الوقائع.
اليوم تقف أوربا أمام تحديات كبيرة، زادت من همومها في مواجهتها، بعد أن تنوعت وتشعبت وأخذت مسارًا ممنهجًا بدقة وعناية. فالهجمة الشرسة التي تضربها بين فترة وأخرى في عقر دارها، في المجال الأمنيّ قبل كلّ شيء، قد دقّت في دوائرها ومؤسساتها المتطورة ناقوسَ الخطر. وهي اليوم في موقف لا يُحسد عليه، بالرغم من التعاطف الدولي الذي يحيطُ بها، حتى من الدول والزعامات التي تخرّجت منها مدارس الإرهاب، تمويلاً وتدريبًا وعقيدة. فعندما يتمكن السارق من دخول بيت آمن ويعبث بممتلكات صاحب الدار ويسرق ويغتصب ويقتل ويختفي من دون رقيب ولا حسيب، فهذه قمّة الضعف وبداية الانحدار نحو الهاوية.
في تفكير الغرب المتقدّم الراسخ على مبادئ إنسانية وأخلاقية تسامحية تربى عليها منذ قرون بفعل التربية المسيحية التقليدية، هناك نوع من اللامبالاة في الأحداث الدراماتيكية التي تحلّ عليها بين فترة وأخرى. أو لنقل بعبارة أكثر دقة، هناك تقليلٌ من وطأة ما يحصل لها بفعل الاختراقات الأمنية، بالرغم من جسامة الفعل والحصيلة وما يترتب على ذلك من هزّة إعلامية تُجنّد لها مؤسسات وتُعقد مؤتمرات واجتماعات وتتوالى لقاءات لكشف الدليل والوقوف على المستور. فالزعاماتُ ومعها دوائرُ دولهم الاستخباراتية، تنفعل وتنشط وتغضبُ حينًا، ثمّ تهدأ مع هدوء العاصفة. ربما، تلكم هي من بركات الخالق الذي منح البشر نعمة النسيان والعفو عمّا سلف!
لقد نعمت أوربا عمومًا، بشيء كبيرٍ من الاستقرار النسبي لسنوات طوال، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، حيث تعمّرت بعد دمار رهيب، وسادها الرفاه والسعادة بفعل دفع عجلتها الاقتصادية وتطورّ إنتاجها وإصدار قوانين تمتثل لدساتير تأخذ في نظرها القيم الإنسانية العليا في أقصى تجلياتها. وفي السنوات الأخيرة، زادت أزماتُها الاقتصادية، كما ارتفعت فيها أعمال الإرهاب والتخريب والجريمة، بفعل سياسات غير متزنة في معالجة الثغرات والمشاكل. فساهمت بطريقة أو بأخرى، ببروز تنظيمات متطرفة، كان الغربُ نفسُه مسؤولاً عن إخراجها إلى مواقع العمل الحقليّ وإلى تزايدها وتنوعها، ما أدخلَها في حالة إنذار وطوارئ يحتّم عليها اتخاذ المزيد من الحذر ووسائل الدفاع لمواجهة هذه الأدوات الغريبة عنها.
لكن، تبقى الأسس التي بفضلها ما تزال هذه الدول تقود شعوبَها بامتياز حضاري، هي الأساس في تواصل تقدّمها وحضارتها ورسم أبعاد خططها للحياة والسيادة بالرغم من كلّ التحديات والهموم. وهذا هو الأساس في نهاية المطاف. فالديمقراطية التي تنعم بها، على اختلاف خلفياتها ومبادئها وتطبيقاتها، قد مكنتها من تطوّر أنظمتها وتحديث علومها وتقنياتها المتسارعة باستمرار، في كل يوم بل في كلّ ساعة، ومنها تبنّيها سياسة العولمة التي أرادت بها فتح الحدود على مصاريعها وجعل العالم مطواعًا سهلَ الانقياد والمرور في تنقل البشر والمادة والمنتج من مجمل هذه جميعًا. بالمقابل، هذا التطور قد جلب نتائج لم تكن في الحسبان، عندما ازدادت كثبان الصحارى الفكرية المترعة بضباب كثيف زاد من وطأة جمال الرؤية ومديات التفاعل المجتمعي والإنساني التي ارتبكت أسسها هي الأخرى، بسبب تنامي تراجع أركانه، التي من بين أسبابها، فساد الساسة وسطوة دكتاتوريات الجمهوريات والممالك والإمارات التي أعاقت فكرة تطوير ما هو متخلّف.   
    هناك مَن يعتقد، أنَّ بداية الانحدار في سلّم الاستقرار الغربيّ في عمومه، قد أشرتها أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. وحينها دخلت أوربا مثل أمريكا، في غرفة عمليات بالسهر الاضطراري على مصالحها وكياناتها وحكوماتها ومؤسساتها ومواطنيها على السواء. لكنّها لم تستطع قطّ، إحكام قبضتها على مقاليد الأمور، بالرغم من اتساع رقعة المراقبة عندها وتنوّع أدواتها وزيادة ملاكاتها الاستخباراتية وميزانياتها الوطنية في مجال الأمن والمراقبة. والسبب واضح لا غبارَ عليه، وهو تطوّر الأدوات التي يستخدمها العدوّ اللدود الجديد، الإرهاب الدوليّ المتنامي، ردًّا على سياسات غير مقبولة أو على أحقاد دفينة لما اقترفه الغرب إزاء دولٍ سبق له استعمارها واستغلالها ونهب مواردها وسلب حرياتها وحقوق شعوبها لسنوات.
أخيرًا، عندما يتساءل العاقل، هل يمكن إعادة عقارب الساعة إلى ما كانت عليه بالأمس؟ هنا، لا يمكن أن نسمع ما هو إيجابيّ في الموضوع، لأنّ إعادة الماضي غير ممكن من جميع النواحي، التاريخية والجغرافية والطبيعية والاجتماعية وحتى الجيوسياسية. وهذا يعني أيضًا، أنّ الفكرة بإعادة البناء، مهما دخلتها جوانب تطويرية واحترازية، فهي تبقى في ضمير المحتمل غير قابلة التطبيق من منطلق التكامل والنجاح، مهما بلغت الجهود والتخصيصات والمروّجات.


233
مسيحيّون أمْ نصارى؟
الجزء الأول 1/ 3
لويس إقليمس

مسيحيون أم نصارى؟ لفظتان تثيران لغطًا كبيرًا وإرباكًا واضحًا في صفوف أتباع الديانة المسيحية وسواهم على السواء. فالنصارى المذكورون في القرآن والمقصود بهم في آياتٍ عديدة، ليسوا البتة من المسيحيين الحقيقيين. بل يُقصد بهم أتباع إحدى البدع التي استفادت من بعض مبادئ المسيحية آنذاك واستغلّت هذه الصفة في تعاملِها مع المحيط الذي ظهرت فيه الرسالة المحمدية، مستفيدة من خلافات إدارية كنسية وديرية لنفرٍ من الرهبان خرجوا عن طاعة تعاليم كنائسهم وأديرتهم ليشكلوا أمثال هذه البدعة في أرضية كانت مهيّأة لتسهيل خروجهم عن عصا الطاعة. ومن ثمّ فالتسمية الشائعة عن المسيحيين بكونهم نصارى، خاطئة. وقد جلبت لهم هذه، مآسي كثيرة وسوء فهمٍ من لدن إخوتِهم المسلمين، حين تفسير الأغلبية للنصوص التي يأتي القرآن على ذكرهم فيها في كيفية التعامل معهم، ولاسيّما في الآيات المدنية الناسخة لسابقاتِها المكّية للأسباب التي سنأتي على ذكرها.
فالحقيقة المخفية، هي في الجهل القائم في التفريق بين نصرانية الأمس أيام نشأة الإسلام وبين المسيحية الرسولية على حقيقتِها المطلقة، كما وردت في الأناجيل الأربعة الرسمية وكما نقلها التقليد وقصص التلاميذ الحواريين والرسل مع بدء انتشار المسيحية. وهذا يقابلُه جهلٌ آخر في الإسلام الذي أتى به الرسول محمد وبين إسلام اليوم، ولاسيما في التطبيق، دون الأخذ بنظر الاعتبار أوضاعَ وطبيعةَ أهلِ الأمس وسيرتَهم وأحوالَهم والظروف التي أحلّت نشأة الإسلام ومصدر الوحي (ونقصد به القس ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصي، عمّ السيدة خديجة، زوجة الرسول محمد الأولى والوحيدة على أيام عمّها القس)، الذي بانتهائه وموته انقطع الوحي فترةً، وتغير بعده شكلُ نزول الآيات، وغاياتها ومقاصدها. فالإسلام، كما يرى المؤرخون قد نشأ ونما على أنقاض النصرانية التي كانت معروفة في مكّة والجزيرة آنذاك. وهذه كانت ديانة مشوّهة عن المسيحية الحقيقية، أراد بها القس ورقة، وبسبب قرابته من السيدة خديجة، أنْ يجمع شتاتَ أهل مكّة الموزَّعين بين بدع وأحزاب ونحل كثيرة في دين واحد وتحت راية زعيم واحد، هو الرسول محمد، الذي حثَّ وجاهدَ من أجل تهيئتِه لهذه المهمة الصعبة. وهذه حقيقة تاريخية لمن يرغب في البحث عنها في بطون الكتب والمؤلفات التقاة.
 في هذا السرد التوضيحي البسيط، سنحاول أن نكتشف مَنْ همْ المسيحيون، وعلى مَن أُطلقت تسمية النصارى؟ وذلك تفسيرًا للفظتين وتوضيحًا لما قد يفيد في هذا الشأن، تحاشيًا لكلّ سوء فهمٍ وغموض معنى.

من هم المسيحيون؟
ألمسيحيون، ومن دلالة التسمية ذاتها، هم أتباع المسيح، يسوع الناصري (ناصرة الجليل بفلسطين)، التي ينتسب إليها بسبب عيشِه فيها سنوات عديدة. ومن هذه الأخيرة، جاءت تسمية يسوع ب "الناصري" أيضًا، لكونها كانت كورتَه وبلدتًه. وقد كانت هذه التسمية تحمل شيئًا من الاحتقار والدونية في ذلك الوقت، بسبب انتماء الناصرة إلى منطقة الجليل. والمعروف عن الجليليين، أنهم كانوا شعبًا خشنَ المعشر وغير لطفاء. والمسيح الذي عُرف لدى اليهود ب "ماشيحا"، كما تسمّيه الآرامية القديمة و "مشيحا أو مشيحو" بالسريانية، كان يهوديًا، وقد عاش ديانتَه اليهودية بحسب الشريعة وطبّقها كسائر أبناء جلدتِه لحين بلوغِه سنَّ الرسالة في الثلاثين من عمرِه. والمسيح لم يأتي ليحلَّ الناموس والأنبياء، بل ليتمّمَهم (متى5: 17). وكلمة "المسيح" تعني الشخص الممسوح للرب بالدهن المقدّس، والمقتصر على الملوك والكهنة والأنبياء حصرًا، وهي صفاتٌ ثلاث اتسمَ بها المسيح، كما تنبأ بذلك، الأنبياءُ قبلَه وأعلنوا عن قدومِه في ملء الزمان. ومازال اليهود في ضلالتِهم بحسب تلمودِهم، في انتظار هذا "الماشيحا" مخلّصًا لهم، لعدم إيمانهم به حين وافاهم مولودًا في مغارة، بسبب نفاقهم وقساوة قلوبِهم وعماوة عقولِهم وسخافةِ أفكارِهم، ذلك لأنّهم كانوا يريدونه مسيحًا ملكًا دنيويًا يتولى تقويض أركان الإمبراطورية الرومانية ويخلّص الشعب اليهودي من جبروتها وقسوتها وظلمها آنذاك. ومن ثمَّ لم يستوعبوا ما ذُكرَ في كتبهم على أيدي الأنبياء.
المسيحية، ديانة تاريخية، أسسها المسيح. ومن ثمّ فليست أيديولوجيا أو بنية فكرية أو فلسفة دخلت المجتمع من باب التبجّح أو الزوغان عن الطريق الصحيح أو لتحريف دين. بل وُلدت مع ولادة المسيح مؤسِّسها، الذي شاء التجسّد بشخص إنسان لينقذ هذا الإنسان ويصالحَ البشر مع اللّه بهذا التجسد، ومن ثمّ الموت، شرَّ ميتة، مصلوبًا بسبب حبّه الكبير لبني البشر، وفقًا للمشروع الخلاصيّ، وتمامًا كما تنبّأ به الأنبياء في العهد القديم من أجل تأسيس ملكوت سماويّ.
 كانت ولادة المسيح، في بيت لحم أفراطَ باليهودية في مذودٍ وضيع، حينما لم يجد والداهُ، يوسف النجار ومريم العذراء، وهما في طريقهما للاكتتاب العام، مكانًا لتلدَ فيه ابنَها البكر يسوع. وجاءَ في بشارة الولادة أنّ ملوكًا من الشرق رأوا نجمَ وليدٍ عجيبٍ وملكٍ عظيمٍ، فجاؤوا للسجود له في موقع المذود حيث وُلد. وقد شاهدوا وعاينوا بساطة الربّ الإله، "ملك إسرائيل" وليدًا بين حيوانين، ليتمّ ما قيل في الكتاب المقدّس، " الثور والحمارُ عرفا ربَّهما، وأمّا إسرائيل، فلمْ تعرفْهُ"، دليلاً مادّيًا على جحود شعب إسرائيل لربّه الذي رافقه في خروجِه من مصر وأنقذَه من سلطان فرعون وأعانَه في سبيِه في بابل.
عاشَ المسيحُ رسالتَه في فلسطين لثلاث سنوات، أمضاها في التبشير والتعليم. واختارَ اثني عشرَ تلميذًا لمرافقتِه، أغلبُهم من بسطاء الناس، وعلى رأسهم الصيّاد "بطرس"، الذي بشّره المسيحُ أنّه سيصيرُ صيّادًا للناس، وهامةَ الرسل. ولكي يتمّ الكتاب وتتحقّق أقوالُ الأنبياء التي تنبأت به وبالمشروع الخلاصيّ، وكي تكتمل إرادةُ الآب السماويّ أبيه، اتهمَهُ اليهود بنقض شريعتِهم وبالتجديف بكونِه إلهًا، ممّا كان يستوجبُ الموت. فالمسيح، لم يتحمّل أن يتحوّل هيكلُ الله (الهيكل الذي بناه سليمان الملك) المخصَّص لعبادة اليهود لإلههم، إلى مغارة للتجارة واللصوصية في وضح النار. فما كان منه إلاّ أن أعملَ السوط وطردَ الباعة من الهيكل، ما أغاض اليهود ورؤساءَهم.
وبسبب الفوضى هذه التي أتى بها المسيح لتنظيف بيت الّله، والأعاجيب الكبيرة التي اجترحَها في صفوف الشعب اليهوديّ في سنيّ رسالتِه الثلاث، ولما شكّله ذلك من غيضٍ في صفوف الطبقة الحاكمة المتمثلة برؤساء الكهنة والفريسيين والمشايخ الذين رفضوا ما أتى به من شريعة جديدة مكمّلة لسابقتِها، شريعة تنتقد وترفضُ وتكشف أعمالَهم الخبيثة وابتعادَهم عن الوعد والعهد الذي قطعهُ الله، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، لذا اتجهوا لاتهامِه بالتجديف والخروج عن المألوف وبمنافسة القيصر الرومانيّ آنذاك. فوشوا به لدى الحاكم الروماني بيلاطس الذي قضى بموتِه، بالرغم من عدم اقتناعِه بالأسباب التي قدّمها رؤساء اليهود ضدَّه. لم يقتلْهُ بنفسِه، بل سلّمَه إياهُم، غاسلاً أيديَه أمام الشعب اليهوديّ في دار الولاية، دلالةً على براءة المتّهم من ذنبٍ لم يقترفه وتبرئةً لشخصِه من الحكم الذي اضطرّ للنطق به لترضية اليهود. وبعد صلبِه يوم الجمعة العظيمة، اظلمّت السماء وكسفت الشمس، لأنّ ملكًا عظيمًا، هو يسوع المسيح، "إبنُ اللّه" (الأقنوم الثاني)، قد مات! وقد دُفن في قبرٍ جديد، تبرّعَ به أحدُ سادة اليهود من الأشراف. وبعد ثلاثة ايامٍ قامَ من القبر بإرادة الّله أبيه، وظهر للمريمات وللرسل مرارًا، حتى صعودِه إلى السماء في يوم الأربعين. وهنا ظلَّ التلاميذ والرسل في حيرة منكمشين على ذواتِهم ومختفين خائفين، لحين انقضاء اليوم الخمسينيّ الذي فيه نزل الفارقليط (المعزّي)، أي الروح القدس عليهم، كما كانَ وعدَهم المسيح، ليقوّي من إيمانهم ويثبّتَ من عزمهم ويشجّعهم على إكمال رسالتِه على الأرض من بعده. وهكذا، بعد امتلائِهم من الروح القدس والنار التي حلّتْ عليهم، أخذوا يبشرون بالإنجيل وبيسوع المسيح مخلّصًا للبشر. فطافوا في أرجاء فلسطين، حيث مسقط رأسهم وموطن سيدهم، ثمّ تبلبلوا وانتشروا في أرجاء المسكونة كلّها. فنمت المسيحية وانتشرت، بفضلهم، وهم كانوا من أبسط الناس. لكّن الروح القدس حوّلهم إلى دعاة شجعان للإنجيل وأصحابِ حجّة قوية، لهم قضيّة وهي نشر بشارة المحبة والسلام والمسرّة وسط الناس. وكان لاهتداء شاول الطرسوسيّ (بولس الرسول)، ذلك الفرّيسي العنيد، الذي حاربَ المسيح في بداية التبشير الرسوليّ، الأثر الكبير في سرعة انتشار المسيحية خارج المناطق اليهودية، وفي عموم أرجاء الإمبراطورية الرومانية، لأنّه كان مواطنًا رومانيًا ايضًا.
بعد سنواتٍ من التبشير بالدّين الجديد، بدأت تسمية المسيحية (ويقالُ إنّ أول تسمية للمسيحية صدرت من كنيسة أنطاكية)، حيث عُرف أتباعَ المسيح بها وليسَ بغيرِها، تحقيرًا لهم في البداية ونكايةً بمَن كان يهتدي إلى الديانة الجديدة المحظورة آنذاك من الإمبراطورية الرومانية التي ناصبتها العداء في بداية انطلاقِها. ولمْ يكن المسيحيون الأوائل يهابون السلطات ولا الموت، بل عاشوا متآزرين ومتعاضدين لبعضهم البعض. بل إنّهم طبقوا نوعًا من النظام الاشتراكي في حياتِهم المشتركة اليومية على عهد الرسل والتلاميذ الأوائل، كما يشير كتاب أعمال الرسل. ولم يأنفوا أو يخجلوا من هذه التسمية التي كانوا يُنعتون بها بغرض التهكّم والتحقير أحيانًا كثيرة، حيث اعتبروا صليبَ المسيح فخرًا ووسامًا، بحسب قول رسول الأمم بولس الرسول: "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ." (غلاطية 5،14) وكانت السمكة رمزًا لوجودِهم وبقائِهم ورسالتِهم.
واليوم، تُعدّ المسيحية من أكثر الديانات انتشارًا في العالم، ويفتخرُ أتباعُها بكونِهم من المؤمنين بالّله وابنِه الوحيد الذي سُرَّ به، ذبيحةً حيةً من أجل خلاص العالم، ومن حاملي بشرى السلام والمحبة التي هي من أهمّ وصايا ربّهم المسيح التي أوصاهُم بها. فهي تُعدّ أكثر من ملياري ونصف نسمة منتشرة في عموم القارات وبلدانها المترامية.

مشتركات للديانات التوحيدية الثلاث
لم تخرج المسيحية عن الاعتقاد اليهودي بإله واحد، كما تشير إليه نصوص الكتب المعترف بها في العهد القديم، أي التوراة. جاء في سفر تثنية الاشتراع مثلاً "الرب هو الله، وليس إله سواه" (تثنية 4: 35 ). وهذا ما أكدته تعاليم المسيحية التي تُختصر بقانون الإيمان الواحد "نؤمن بإله واحد، آبٍ ضابط الكلّ، خالق السماء والأرض، كلّ ما يُرى وما لا يُرى). وهذا ما يؤكّده القديس بولس في رسالتِه إلى أفسس "للجميع رب واحد، ومعمودية واحدة، وإله واحد، وآب واحد هو فوق الجميع ومع الجميع وفي الجميع" (أفسس 4:5-6). وجاء في القرآن في سورة الإخلاص أيضًا، ما يؤكد وحدانية الله " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤًا أحد" (112: 1-4).
في الديانات الثلاث، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، مشتركات إيمانية عميقة توحي بل تؤكد نفيًا قاطعًا لأية علامات للشرك بالإله الواحد، خالق الكون وما فيه من عناصر. كما تتجسد سمات الحب والرحمة والغفران والقوة والعظمة في سلوك الإله الذي يؤمن به أتباع هذه الثلاث من دون اختلاف، إذا عدنا في الأساس إلى الإيمان الأولي من دون تشويه. فالله "هو الحكم والحاكم، وهو العدل المقسط، يحب البر والعدل"، كما يقول المزمّر داود النبي (سفر المزامير 32:5). هناك إذن إجماع، على عدل الله وحكمه في يوم الدّين، ومن وجودٍ للثواب والعقاب والجنّة والنار، مع اختلاف الرؤية والتصوّر، ربما. وأيًا كان الاختلاف، فالموصى به عدمُ الخروج عن مشيئة الله وعبادته وإطاعة إرادته، لكونه خالق البشر جميعًا أحرارًا ومتساوين في حق الفكر والرأي والحركة. ولاريبَ في المسيحية، أن وصلت الطاعة للمسيح وفي اتّباع تعاليمه حدَّ الاستشهاد، أيامَ الاضطهادات منذ بدء تاريخ المسيحية ولغاية اليوم.
الأديان الثلاثة تتحدث عن مسألة الثواب والعقاب للأعمال التي يستحقها كلّ إنسان في حياته الفانية القصيرة على الأرض، ومنها إيمانُه بالحياة الأبدية وبوجودٍ للآخرة حيث الحاكم الديّان، إله البشر، ينطقُ حكمَه على الأبرار والأشرار. فيذهبُ الأبرار إلى الملكوت والجنة (باختلاف شكلِها لدى أتباع الديانات)، فيما الأشرار يُدفعون إلى النار حيث الهاوية واصطلاؤهم بنيران جهنّم، جزاءَ أعمالِهم.
اليوم، ومن حيث المبدأ، هناك شبه اتفاق بين المتنورين في الديانات الثلاث وخارجها، على ضرورة احترام الآخر وعدم الازراء بالمفاهيم التي أتى بها كلّ دين، من الناحية الإنسانية والاجتماعية، انطلاقًا من حقيقة كون جميع البشر مخلوقين على صورة الله ومثالِه من أجل تمجيد اسمِه القدوس. كما يدعو العقلاء فيها إلى نشر مفاهيم التقارب والتآلف والمحبة والسلام والتعاون بين جميع الأديان وبين جميع البشر، مع الاحتفاظ، كلّ بخصوصياته ومبادئه وعقائدِه وقيمه وطريقة سلوكه باحترام المختلف وعدم التحريض، بل بجعل الحوار والتفاهم قاعدةً للعيش المشترك. فاللهُ واحدٌ للجميع!


-يتبع ج2 و3

234
سيدي البطريرك ساكو: كنيستُنا بحاجة لوحدة الصف والكلمة والموقف لا التشظّي والتشرذم والتباعد
بغداد، في 16 كانون ثاني 2017
لويس إقليمس
لو بحّت الأصوات وخفتت، فإنّ الأقلام الصادقة الشجاعة المؤمنة بمصلحة الشعب والوطن، والأمّة والمواطن، والكنيسة والجماعة، لن تركنَ الحقيقة المطلوبة جانبًا، أو تتخلّى عن الواقع المؤلم القائم، أو تغادر الطموح المرتجى.

 بمناسبة اللقاء الثالث لكهنة العراق الكلدان حول "التنشئة المستدامة" في عينكاوا 23-25/1/2017، كتب غبطة بطريك الكنيسة الكلدانية لويس ساكو، أفكارًا جميلة، "تعبر عن محبته للكنيسة والبلد والناس" بحسب وصفه، "كي يدرك المعنيون أبعادَ هذه الكلمات الجميلة ويتفاعلوا معها بعمق ومسؤوليّة".
ولعلَّ ممّا جاء أيضًأ من كلام منير، أنّ "كنيسة المسيح هي كلُّ المؤمنين الذين يجمعهم الروح الواحد في أخُوّة شاملة، ويجدِّدُهم يوميّاً حتى اكتمال بنوتهم لله أبيهم. الكلُّ أخوة، وتلاميذُ الرب الواحد، ولكلِّ واحدٍ موهبة خاصة للإسهام في بنيان الكنيسة (الجماعة)، مع التأكيد أن الرئاسة هي أبُوّة لضمان الوحدة والتنشئة، ورعاية لتسيير الأمور، لكنْ يبقى "الأكبر فيكم يكون لكم خادماً (متى 20/26). الأنسان ليس عظيمًا لأنه يحتلّ هذا المنصب أو ذاك، بل يبقى متميزاً عندما يرسم ملامحه الخاصة بعمله وجديّته ومثابرته ومحبته وبذل ذاته بفرح."
يسرّني أن أتخذ من هذا الكلام الجميل، مدخلاً لمقالتي بخصوص الحدث المؤلم المتمثل بانسحاب رئاسة الكنيسة الكلدانية من مجلس رؤساء الطوائف (الكنائس)، أيًا كانت الأسباب والحجج والذرائع. فالقرار صادم ووقعُه قاتل ونتائجُه أكثر ضررًا من فوائده. "مَن اشتهى الرئاسة، فقد اشتهى عملاً صالحًا". ولكن لهذه أصول وشروط وسياقات، لاسيّما ونحن نعيش في الزمن الصعب الذي فيه هويتنا ووجودُنا ومسقبلُنا المسيحي أصبح على المحكّ.

مرجعية مسيحية منشودة متعثّرة
أبدأُ حديثي بحقيقة ذي صلة بالقرار الصادم لرأس الكنيسة الكلدانية، ولابدّ أنه كان الخيار الصعب أمام رأسها، تاج رأس الجماعة المسيحية في عموم العراق، وليس للكلدان فحسب، تمامًا كما الجميع يوقّر ويحترم ويلثم أيادي سائر الرئاسات، كلّ حسب مقامه ورتبته وشخصه.
كتب العديدون فيما مضى، عن ضرورة قيام مرجعية مسيحية مستقلّة مدنية موحدة تتبناها الكنيسة ورئاساتُها في العراق، كي تتولّى المطالب الوطنية المشروعة الموحدة لشعبنا المهمَّش، بعد الإدراك بتواصل تهميشه وإذلالِه بفعل الإرادة الشريرة للقائمين على الحكم وأحزابهم الطائفية الجشعة المنتفعة من الوضع القائم والممزّق. ولهذا التوجه كانت له مبررات وحيثيات ودواعٍ ملحة، تكمن في تشرذم مرجعياتنا الكنسية حينًا، وتحسّسها مع بعضها البعض فيما بينها، ما نجم عن عدم اتفاقها على توحيد الخطاب الكنسي والآخر العام بشقيه السياسي والدينيّ.
 وفي مناسبات عديدة، أعربتُ شخصيًا، عن الضرورة الملحة لتشكيل مثل هذه المرجعية (راجع الروابط كما نُشرت في عدة مواقع إلكترونية: في تموز 2016، وفي كانون أول 2016 وفي تموز 2015، وفي أيار 2015 وفي أيلول 2013). وقد ساهمتُ مع غيري من أصحاب النوايا الطيبة بدفع هذه الفكرة إلى الأمام قدر المستطاع، خاصةً من خلال لجنة التنسيق الخماسية التي شرفني أن أكون عضوًا فيها، والتي كانت انبثقت عن هيئة الرأي المشكلة بموجب مبادرة غبطة البطريرك لويس ساكو في صيف 2015، وضمّت آنذاك رؤساء طوائف وكنائس وشخصيات كنسية ومدنية وممثلي أحزاب مسيحية. فقد دأبت هذه اللجنة المصغرة على المثابرة في عملها وكثّفت من لقاءاتها مع رؤساء الكنائس والطوائف. لكنّها حين اقتربت من قطف الثمار بتطويع إرادات الرؤساء الكنسيين جميعًا وإقناعهم بها خدمة للصالح العام، جاءت الصدمة. فقد تفاجأنا على حين غرّة، بقرار ارتجالي من جانب غبطة البطريرك ساكو، يوجّهُنا فيه بالاعتماد على إمكانياتنا وقدراتنا في موضوع تشكيل هذه المرجعية المسيحية المستقلة. وقد أدركنا أنَ مردّ هذا التوجّه المستجدّ بالتنصّل عن دعم المبادرة، أتى انطلاقًا من نية غبطته كرئيس أعلى للكنيسة الكلدانية بالانسحاب من تشكيلة مجلس رؤساء الطوائف المسيحية، بسبب خلافات على رئاسته وبحجة عدم فاعليته، انطلاقًا من واقع الكمّ العددي لأتباع هذه الكنيسة في العراق، وربما بسبب تأثير اللوبي الكلداني في دول الاغتراب، ناهيك عن أسباب ذاتية ظلّت طيّ الكتمان لا يعلمُ دهاليزَها سوى مَن اختبروا الزمنَ وأحداثَه وتأثيراته. ونحن نعلمُ جيدًا، أن الشعب والجماعة ينظرون إلى المراجع الدينية، والكنسية منها بصورة خاصة، كونها رموزًا واجبة الاحترام والإجلال والسمع. وبموجب هذا التوجيه الجديد، أدركنا أنّ الكنيسة قد تنصلت عن هذا المشروع المصيريّ وسلّمت الراية للمصير المجهول مرة أخرى، مسترخية في سراديب النوم والغفو العميق واللامبالاة بشأن ما يحدث ويجري. وحسَبنا أن مثل هذا التنصّل يجري بالتوازي مع آراء وأفكار جهات تدين بالولاء لأحزاب مسيحية متلكئة وهزيلة في الساحة السياسية، ترى في هذه المبادرة، سحبًا للبساط من تحت اقدامها، وصدًّا لمصالحها ومكاسبها ومشاريعها الفئوية الخاصة التي ينعمون بها منذ 2003.

تداعيات انسحاب الكنيسة الكلدانية من مجلس رؤساء الطوائف
كتبَ بعضُ الإخوة في هذا الاتجاه، أي في مسألة انسحاب الكنيسة الكلدانية من مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق، كلّ حسب رؤيته للأحداث والهدف الذي يرمي إليه وبحسب قناعاته وموجباتها. وظهرت ردود فعل عديدة متباينة، بين مؤيد ومعترض، بين ناقد وداعم، بين ذاتيّ وموضوعيّ. فيما آثر آخرون السكوت والانتظار والترصّد. وهذا الموقف الأخير، ليس من طبعي. فحاملُ الفكر والرأي والمبدأ، يقول ما يمليه عليه ضميرُه، مهما كان وقعُه على المقابل، صديقًا أم غريمًا أم ندّا أمْ عامًّا، سلبًا كان أم إيجابًا. لكنْ في اعتقادي، يبقى الرأي الأهمّ للجماعة المسيحية بكافة تشكيلات كنائسها للردّ الموضوعي وإبداء الرأي فيما حصل والتحرّك بصدق النوايا كلٌّ من موقعه وشخصه، درءً لطامة كبرى أخشى مع غيري وقوعَها، مع تناقص أعدادنا يومًا بعد آخر.
قد لا يُحمّلُ الفردُ من البشر الضعيف أكثر من طاقته، مهما عظمَ ودافعَ وحاججَ. فالقرار بالانسحاب، بحسب بيان البطريركية الكلدانية المنشور على موقعها الرسميّ، يحملُ الكثير من التجنّي عبر أداة غير مقبولة لفرض الرأي وإملاءِ واقعٍ غير معهود، نَشَرَ الأسى والانزعاج في نفوس الطيبين الحريصين على ما بقي من أتباع كنيسة العراق المتألمة. حيث جزءٌ من هذا الألم الذي يعتصر القلوب والنفوس قادمٌ، بل سببُه عثرات كنسية كارثية ناشئة من رجالات الكنيسة بمختلف درجاتهم. لستُ أتجنّى على أحد. فهذا واقعٌ لا يُنكر وحقيقةٌ لا يمكن تغطيتٌها بغربال المجاملة والنفاق والرياء والسكوت عن الأخطاء التي تتراكم مع تقادم الزمن. فالقرار رأى فيه المنصفون، انفرادًا استعلائيًا من جانب رئاسة الكنيسة الكلدانية ومَن يقف وراء مثل هذه التطلّعات والضغوط والأفكار التي لا تقلّ في بثّها عمّا هو جار بين الكتل السياسية من شحن طائفيّ بموجب لزوم سيادة الأكثرية على الأقلية في هذا الزمن التعس الذي جفّت فيه المحبة الصادقة والإيثار والتواضع، حيث "عظيمُ القوم خادمُهم"(متى 26:20)، والساعي إلى الجلوس في رأس المتّكأ بحثًا عن كرامات، لا يمكن أن يُحسب من أتباع يسوع الذي يوصي الإنسان العاقل المؤمن ب "الاتضاع كي يرتفع." (لوقا 14:11). ما سردتُه ليس وعظًا، بل هو جزءٌ من موجبات تطبيقاتنا لكلام صاحب وصية المحبة والتواضع والطريق والحق والحياة.
هناك سياقات وخطوات وتفاهمات، لا أعتقد بخروجها عن حقيقة مَن يجدرُ أن يكون الأحقَ والأكثر ملاءمة واستحقاقًا لتمثيل الجماعة المسيحية في هذا البلد. وهذا الأمر تعكسُه حقيقة الشخص الأكثر كفاءة وجدارة وتفوّقًا، بل الأكثر كارزميةً وموهبةً واستعدادًا من غيره للعمل والتعبير والمحاجة. وفي هذا لا أرى شخصيًا في غير شخصية صاحب الطلب، أي غبطة البطريرك ساكو، لتمثيل كنيسة المسيح أمام السلطات والعالم. ولكن الاعتراض قائم لكون الطلب جاء بصيغة الفرض والإملاء على سائر الأشقاء المتفقين والمتوافقين على منهاج المجلس المُقَرِّ، بالرغم من الثغرات العديدة القائمة في نظام هذا المجلس.
نحن لا نقف بالضدّ من ضرورة إعادة هيكلة مجلس الطوائف المسيحية، أو بالأحرى "مجلس الكنائس العراقية"، بسبب ما تشكله لفظة الطائفة من قرفٍ واشمئزاز ورفض وطني، لأنها أصل البلاء فيما حصل للبلاد والعباد. بل من الضرورة إعادة هيكلتِه بطريقة أصولية وقانونية كي يكتسب الصفة الرسمية التي يحتاجُها في مؤسسات الدولة العراقية، لاعتماده في المخاطبات الرسمية والحكومية في الداخل والخارج. وهذا ما سيمنحه هيبة وقوة وفاعليةً، لها فعلُها عندما تكون جميع الكنائس مجتمعة على قول واحد وفعل واحد وقرار واحد لعموم الجماعة. فالغاية فيه والهدف، إنما اصطفافُ المكوّن المسيحي، أو ما تبقى من آثاره، حول "خطاب سياسيّ ودينيّ مسكونيّ موحّد ومستقلّ".
عمومًا، أنا لم ولا أرى انحرافًا في مسيرة ما سُمّي بمجلس رؤساء الطوائف المسيحية بالعراق، من حيث الهدف من إنشائه في ظروف استثنائية تطلبتها المرحلة. فبالرغم من هشاشة مرحلة التأسيس وغياب الفعل الحقيقي المرجو منه طيلة هذه السنوات وضعف الأنشطة التي تولاها، إلاّ أنه كان علامة رجاء للمّ الصف المسيحي والتقريب في وجهات النظر بين المختلفين حول طبيعة إدارته التي بقيت مثار جدالات وخصومة، إن كانت معلنة أم غير مرئية. في اعتقادي، أنّ هذا المجلس، كان ينبغي له أن يُصار إلى تسجيله كجمعية أو منظمة مستقلّة بموجب لوائح تسجيل المنظمات غير الحكومية التي تعتمدها الدولة العراقية من أجل أن يكون أكثر فعالية وأشدّ تأثيرًا في المشهد السياسي والوسط المسيحي، على السواء. كما أنّ هذه الخطوة الرسمية كانت ستجعلُه جهة وطنية مسيحية رسمية موحدة أمام الحكومة العراقية والدول والمنظمات الدولية، الرسمية منها والشعبية والإنسانية، لاسيّما لو تمّ تطعيمُ هيئته العامة، بعقلاء من مدنيين وأكاديميين وعلمانيين مشهودٍ لهم بمواقف حيادية مستقلّة لا تخضع لقياسات الأحزاب الطائفية ومغرياتها المادية، التي تدمّر كلّ مشروع وطنيّ مستقلّ لصالح الشعب. وهذا ما كنّا نتأملُه لاحقًا، من وراء تواصل نشاط لجنة التنسيق المشكلة ضمن مبادرة البطريرك لويس ساكو، والمختارة في أول لقاء لهيئة الرأي المجتمعة لمشروع تشكيل المرجعية المسيحية المستقلة بموجب تلك المبادرة حينها.

ظاهرُ المشكلة وباطنُها رئاسة
إن المشكلة وما فيها باختصار، صراع زعامات وخلاف على رئاسات. أنا لستُ مع المنظّرين أو الداعمين لفكرة أحقية أو أسبقية أو أولوية صعود ممثل أو رئيس الأغلبية العددية في كنائس البلد إلى موقع الصدارة والرئاسة، او المطالبة به جهرًا. فالدول الصغيرة والكبيرة لها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة وفي مؤسساتها الدولية نفس الحقوق في التصويت والانتخاب والرئاسة. وكذا هي الحال في المنظمات الدولية والتحالفات، إلا فيما هو خلاف السياق الديمقراطيّ المعهود. وما حصل بشأن مجلس رؤساء الطوائف كان خارج السياقات المعتادة في النهج الديمقراطيّ والكنسيّ، طالما أنَّ الجميع أبناءُ الله، يعملون لخدمة المذبح ولصالح الشعب والوطن على السواء، وليس لفئة معينة أو شريحة مستقطعة من كنيسة العراق. فالبطريرك ساكو نفسُه، قالها مرارًا وصرّح بها، أنه منفتح على الكلّ ويتعاون مع الكلّ ويعمل لصالح الكلّ من دون تمييز في الطائفة والمنطقة. لكنّ مثل هذا التوجّه الغريب بعض الشيء، في طلب الزعامة غير مقبول ولا يليق بمقام صاحب الطلب، إنْ كان صادرًا من غبطته شخصيًا، أو عن قلايته الإعلامية والاستشارية التي تفتقر إلى المرونة وتقدير الأمور والكياسة. فما صدر في البيان الرسمي، هو في كلّ الأحوال، مطالبةٌ لا تعبّر عن روح الانفتاح في الطوية والبساطة في العمل الرسولي، والتواضع المطلوب في شخص الراعي الصالح، واللياقة في الوسط الكنسيّ التي عُرف بها غبطتُه، من كاريزما معهودة أعرفها شخصيًا عنه عن قرب، كما يعرفُها غيري، وهم كثيرون. فما يجعل الشخص يتفوّق في الفعل والعمل، ينعكس من خلال النشاط والكفاءة وحسن الأداء وبعد النظر والرؤية السديدة إلى الأشياء والحياة، للمسؤول عن الرعايا، سواءً على الصعيد الداخلي او الدولي أو الإقليمي، وليس بفرض الرأي وليّ الذراع، كما يقول المثل "ألعب، أو أخرّب الملعب". وكان يمكن للإخوة المجتمعين، بعد فرز الأنشطة وتحكيم العقل وطلب عون الروح القدس وصلاة المؤمنين وتوفر النيات الصافية والرؤية المسيحية الثاقبة، أن يروا في شخص البطريرك ساكو، ما يعزّي ويمنح الثقة له دون غيره، نظرًا للكاريزما التي يتحلّى بها ولجهوده الشخصية ومثابرته في حثّ الدول والمنظمات على وعي دورها في إنصاف المظلومين والمهمّشين والنازحين ومَن اقترف بحقهم جرائم وصلت لحد الإبادة الجماعية. فهو أشدّهم قربًا من الزعامات الروحية والرئاسات الدنيوية والقيادات الحزبية في الوطن، وأكثرُهم قربًا من صنّاع القرار والساسة والأحزاب، بسبب كلمته المسموعة وسمعته المحترمة وإجادته للحوار مع المقابل في التعبير والإقناع والحجّة. ومَنْ يُنكر عليه دوره ومثابرته في تعزيز اللحمة الوطنية والتقريب في وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين؟ وكذا دورُه المرتقب بإمكانية تولّي مبادرة مشروع المصالحة المجتمعية وتعزيز الحوار بين الأديان والشعوب؟ وفي انتقاده البارع لزعماء الدول والأحزاب في الداخل والخارج؟ وكلّ هذا وذاك، سعيًا منه وراء تعديل مناهج هذه الجهات غير الرصينة وتغيير سياساتها غير الأمينة، التي لم ينل من ورائها الشعبُ العراقي وشعوب المنطقة سوى الدمار والخراب والتراجع في كلّ شيء.
لستُ هنا فقط أنتقد ما بدر من موقف صادم وغير رصين من جانب رئاسة البطريركية الكلدانية بالانسحاب من مجلس رؤساء الطوائف بهذه الطريقة التي فاجأتني، كما صدمت الكثيرين من المتابعين لأوضاع كنيسة العراق ومصالح الشعب، ممّن يستبعدون ويمقتون ما هو قائم من أطماع ونوايا لأحزاب قائمة على الساحة السياسية، ومنها الأحزاب المسيحية ذاتُها وزعماؤها ونوابها من التابعين في مجملهم والخاضعين لأجندات غيرهم، إلاّ ما ندر. فقد كان الأجدر بغبطته، كراعٍ صالحٍ لكنيسة وطائفة يعدّها كبيرة عدديًا، المشاركة في الاجتماع الأخير والمصارحة والمكاشفة علنًا، عوض اتخاذ موقف مسبق، تمّ الهمس به في الأروقة واللقاءات منذ فترة ليست بالقصيرة، وأنا شخصيًا على اطلاع بالنية. وكنتُ قد عبّرتُ مع عقلاء آخرين، باعتراضنا على سلوك مثل هذا الطريق الشائك المشكّك، من دون رتوش ولا مجاملة. هذا في ذات الوقت الذي أؤيد ما تمّ طرحه من إعادة النظر في النظام الداخلي للمجلس المذكور وفي التسمية كي تتجانس مع العمل والنشاط والهدف الوطني والروحي معًا.
وبذا، كان يمكن تفادي مثل هذا الانشقاق الذي أقلُّ ما يمكن القول فيه وإشاعتُه، أن رأس الكنيسة الكلدانية بشخص بطريركها الجليل الثاقب البصر وصاحب الرؤية الوطنية والداعي في كلّ تصريحاته ولقاءاته إلى تشكيل دولة مدنية متحضرة تدعم السلم الأهلي وتساوي بين مواطنيها، قد اختارت بشخصه الوقتَ المناسب لاغتصاب رئاسة الكنيسة في العراق بهذه الطريقة، بالرغم من كونه أهلاً لها من دون منافس، للصفات التي أوضحناها في أعلاه. فالأقاويل كثرت والهمسات فاحت رائحتُها من أنّ الكنيسة الكلدانية، بعد تشكيلها للرابطة الكلدانية وزجّ كل طاقاتها وإمكانياتها الإعلامية والشخصية سائرة في تكوّشها وسطوتها على ما يردُ للمسيحيين من مساعدات وأموال ودعم معنوي ومادّي، بسبب سمعة رئيسها الطيبة وعلاقاته الواسعة وتأثيره في الأوساط الكثيرة أكثر من غيره من رؤساء الكنائس. فهذا ما شاع ويُقالُ بين الناس في هذه الأيام، بسبب من شخصية رأس الكنيسة الكلدانية، التي خدمتها الأحداث لتتفوّق على غيرها من رؤساء الطوائف (عفوًا الكنائس الأخرى)، بفعل السمعة الكبيرة التي نالها محليًا ودوليًا، والهالة التي أحاطت بشخصيته الكاريزماتية التي لا تُنكر. أمّا أنا فقد عرفتُه، إنسانًا منفتحًا على الجميع ويعمل مع الجميع ولأجل الوطن وأهله، تمامًا. كما أننا نتشارك أفكارًا كثيرة تصبّ في مصلحة الوطن والأمة المسيحية وكنيسة العراق، إلى جانب وقوفنا الصارم بوجه الانتهازيين حتى لو كانوا من أبناء شعبنا من الخانعين لأجندات الغير.

مجرّد رأي على طريق الصواب
لستُ هنا بصدد تقريب وجهات النظر. فمَن أنا إلاّ عبدٌ ضعيفٌ أكتب ما يملي عليّ ضميري وأنشر ما يحتّم عليّ كمواطن عراقيّ أصيل لا أرضى بالظلم لأحد، ولا أجاملُ على حساب الحق، ولا أقبل ظلمًا عليّ من أحد. فمثل هذا الكلام، قد يقوّض العلاقة بيني وبين غبطته أو أتباعه ومؤيديه. ولكنّي مقتنع في قرارة نفسي، أن غبطتَه سيولي ما ورد في هذه الأسطر البنوية الصادقة، ما يليق بها من همّة وحيادية ورويّة خبرتُها عنه وتعلمتُها منه. فالمكاشفة بيننا قائمة، ورأيُه فيما أكتب وأنشر مقبول بل أضعه فوق رأسي وبين مقلتيّ. فكلانا تشرّبنا من معين رفيع واحد، وتعلّمنا على أيدي أفضل المعلّمين والمرشدين والروحيين، وتثقفنا عبر رجال ونساء عشنا وتعايشنا معًا بروح الأخوّة والاحترام خلال فترة دراستنا في معهد مار يوحنا الحبيب في سنوات الخير والمحبة والاحترام وأدمنا العلاقة الودّية الصريحة حتى هذا اليوم
وهذه مناسبة للعودة للفكرة الأساس الأخرى التي تعثّرت بسبب الشرخ الجديد بين رؤساء الجماعات المسيحية في عراقنا الجريح، والمتمثلة بالسعي لتشكيل مرجعية مسيحية مستقلّة. قلتُ في هذا الصدد، في مقالات وطنية سابقة، أنَّ قيام مرجعيات دينية ومذهبية جامعة في هذا الوقت الحرج من تاريخ العراق المتضعضع وغير المستقرّ، سيخلق نوعًا من وضوح الرؤية باتجاه تقييم الأوضاع وتعديل نهج المسيرة الوطنية، عندما تنصهر الأفكار وتتوحد الإرادات في خطاب موحّد بدل التشظّي وهدر الوقت والجهد وفقدان الثقة بين الشركاء، سواءً في الوطن الواحد أو فيما تتطلبه خصوصيات كل دين أو مذهب أو كنيسة. وبخصوص ما يتعلق بمرجعية كنسية، فهذا كان ومازال الأملَ الأخير، لما تبقى من مسيحيين في هذا البلد التائه بسبب الضياع في الهوية والوطنية والشخصية. في حينها، لم تخرج ورقة العمل التي كان أعدّها غبطة البطريرك لويس ساكو عن هذه الفكرة في مبادرته الطيبة. لكنّ انصباب اهتمام رئاسة الكنيسة الكلدانية في تلك الظروف على تأسيس الرابطة الكلدانية والتسريع بانتشارها والتعريف بها محليًا ودوليًا بتلك الموجة العارمة بسبب ما لقيته من ضغوط من جانب اللوبيات الكلدانية في بلدان الاغتراب ومن أفرادٍ شعروا بالغيرة من غرمائهم وأندادهم القوميين في "الكنيسة المشرقية الآثورية"، قد قلب المشروع وزاغه عن السكّة الجامعة بحججٍ تبقى طيَّ الكتمان لحين إماطة اللثام عن خفاياها وخباياها.
 عمومًا، فقد توسم العراقيون خيرًا بطرح فكرة توحيد المرجعيات في العراق، دينية كانت او سياسية. فالسياسيون من أتباع المرجعية الشيعية كادوا أن يقتربوا من مشروعهم الخاص كي يتهيؤوا لمحاورة أندادهم من مكوّنات تنتمي لمراجع أخرى. تمامًا، كما تبشّر المسيحيون خيرًا بحصول تقارب في لقاءات أربيل نهاية العام المنصرم، بهدف إحياء مشروع المرجعية السياسية الذي ابتدأ مشوارُه قبل أكثر من عام ونصف في أولى خطواته من بغداد، بمبادرة من رأس الكنيسة الكلدانية التي تُعدّ ذات الأغلبية بين شقيقاتها. وما يُفرح اليوم، وجود توجّه من جانب المكوّن الإيزيدي بمرجعيته الروحية الموحدة، للتقارب مع المكوّن المسيحي ومن مرجعيات كنائسه، سعيًا من أجل مزيد من توحيد الكلمة والرؤية والمنهج في الوطن الواحد والمصير الواحد، لاعتبارات عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، سلميّة المكوّنين وتعرّضهما لإبادة جماعية وتهميشٍ وإقصاء ملحوظين على تعاقب الحكومات، والرغبة لدى كلاهما بالعيش بسلام وأمان وعدالة ومساواة، كمواطنين متساوين مثل سائر المكوّنات الأخرى المهيمنة على مقدّرات الدولة وسياستها ومنهجها.
قد يكون العراق، من أكثر البلدان في المنطقة، لم تتوافق فيه الإرادات الدينية والسياسية لتشكيل مرجعيات موحدة لكلٍّ منها لغاية الساعة. فراعي العملية السياسية في العراق والمنطقة، منذ التخطيط لإحداث زلزالٍ عظيم ينسجم ويتوافق مع مصالحه القومية ويتفق مع مخططات اللوبي الدولي الذي يحرّكه، كشّرَ عن أنيابه مرارًا، في السرّ والعلن، من أجل تفتيت ما تبقى من وحدة هذا البلد والمنطقة. فقد رأى فيه أرضيةً خصبة وحاضنة جيدة لمثل هذا التفتيت والتشرذم عبر إحداث صراعٍ في الإرادات والزعامات، المدنية منها والدينية. وشعبنا المسيحي كان طبعًا، ضمن هذا المخطَّط العدواني، بجعله يقع ضحيةً، وسط صراعات لم يكن له فيها لا ناقة ولا جمل. فقد أعطى مَنْ لا يملكُ (الغازي الأمريكي) مَنْ ولاّهم على البلاد (الساسة الجدد)، الجملَ بما حمل، عندما سمح لأشخاصٍ أغرابٍ عنه من مزدوجي الجنسية وغير المشهود لهم بالانتماء الصادق للوطن منهم، كي يصولوا ويجولوا تحت رعاية أميركية وأخرى أوربية تدين للأولى بالطاعة والانحناءة، مهما كان الثمن الذي يمسّ شرف ومصير وممتلكات شرائح مسالمة من الشعب العراقي البسيط الذي كان جلُّ همِه أن يضمن له ولأجياله مستقبلاً آمناً وحياة آدمية هانئة، بعيدًا عن إرادات الأشرار القادمين من خلف الحدود للنهب والسلب والسرقة والقتل والاغتصاب من دون محاسبة ولا رقابة ولا نهي عن المنكر الحاصل على نطاق واسع. 

دور الغازي الأمريكي في شقّ الصفوف
في ضوء الواقع المرير لعموم البلاد، كانت كنيسة العراق في المرمى. فالراعي الأمريكي الغادر، الذي سار وفق مخططاته بخطى خبيثة وحثيثة، كان قد وضع بالتأكيد مصير أبناء المكوّنات الصغيرة الأصيلة المتجذّرة في الهوية العراقية في الحسبان، ومنهم بطبيعة الحال المسيحيون والإيزيديون والصابئيون وما سواهم من أقوام أخرى ظلّت تحت مطارق حكومات ظالمة متعاقبة في عهود الاحتلال السابقة وما بعد تشكيل الدولة العراقية، لغاية الغزو الكافر لهذا البلد في 2003 بحجج واهية. وقد اعترف الرئيس الأمريكي الجديد المنتخب دونالد ترامب مؤخرًا، من أنّ أسوا ما شهدته أميركا في العصر هو غزوُها للعراق من دون وجه حقّ.
 بعد الغزو الأمريكي مثار الجدال للبلاد، كان لا بدّ للرؤساء الروحيين القائمين على رأس الجماعات المسيحية في البلاد، من تسجيل وقفة صارخة لجماعاتهم بوجه الظلم والتهميش والإقصاء والإهمال. وبموجب النفور القائم أصلاً بين كنائس العراق المتعددة وما بينها من حساسيات، كانت هناك مبادرات لرتق الممزّق التقليدي ورأب الصدع وتقريب وجهات النظر بين العقلاء من أبناء الجماعة مع رجال الكنائس. فتعشّم المسيحيون على اختلاف انتماءاتهم الكنسية حينها خيرًا، بتشكيل مجلس رؤساء الطوائف في 2010. إلاّ أنَّ ما يُؤسف له، فقدانُه لرؤية بعيدة وقرارات مؤثرة إلاّ ما ندر، وفقط حين كانت تشتدّ وطأةُ المآسي ليخرج هذا المجلس ببيان ضبابيّ غير فعّال بسبب فقدانه للصفة الرسمية وافتقاره لوحدة الكلمة والصف خارج نطاقه. وكاد نشاطُه يقتصرُ على لقاءات تقليدية باردة وتبادل التهاني والزيارات في مناسبات ولقاءات للصلاة المظهرية، مثل أسبوع الصلاة لأجل وحدة المسيحيين الذي يفتقر إلى النية الطيبة والإرادة الحسنة لجمع المؤمنين حول كلمة واحدة وراعٍ واحد، كما أرادها الربّ " احفظهم في اسمك الذين أعطيتني، ليكونوا واحدا كما نحن" (يوحنا 17: 11). ففي هذه المناسبة التقليدية التي تقترب منّا هذه الأيام، اعتاد الحضور ترديدَ ذات الأمنية في شفاههم، وسماع ذات الدعوة الملحة إلى وحدة الكلمة ورصّ الصفوف. لكنها بقيت وتبقى كلمات ترددها الشفاه وترفضها القلوب والنفوس المريضة. فما زلنا بعيدين عن تحقيق هذه الأمنية، وأبسطُها توحيد الأعياد الرئيسة.   
سأظلّ أناشد الرئاسات الكنسية في العراق، كي تضع المصلحة العليا للشعب العراقي عامة والمسيحي بخاصة، في بؤبؤ وحدقات عيونهم وعلى رأس أولوياتهم. أمّا المناصب والزعامات، فهي للاهثين وراء السراب الذي يزول والجاه الذي يؤول والمال لا يدوم. وكفانا نفاقًا وضحكًا على الشعب وتلاعبًا بمصيره، وأعدادُنا وحضورُنا في تناقص وزوال، وكنائسنا تُحرق وتفرغ، وبلداتُنا تُدمّر، ومنازلُنا تُنهب وتخرّب، وأهلُنا يتوزعون في دول الشتات لتختفي كلّ حضارتنا ويزول تراثُنا وننسى أسلافنا.
عذرًا، لم أقصد جرح أحد، بل تضميد ما هو قائم من جراح. فأنا الضعيف دومًا، لكوني أحب وطني وأعتزّ برئاسات كنائس بلدي وأفتخر بلقائهم وطلعاتهم البهية، تمامًا كما أعشق كنيستي العراقية المشرقية السريانية!
 



235
رسالة قصيرة: شعورٌ مشترك يجمع العراقيين في 2017
بغداد، في 7 كانون ثاني 2017
لويس إقليمس
استهل العراق عام 2017، بموجة دامية من التفجيرات وأعمال العنف، طالت العاصمة بغداد بصورة خاصة، ومدنًا أخرى، موقِعة العشرات من الضحايا بين قتلى وجرحى، ناهيك عن خسائر شهدائنا الأبرار في حرب الشوارع الضروس الجارية في مدينة الموصل لتحريرها من براثن الدواعش وأعوانهم من أهلها.
 وهذه أولى الرسائل القصيرة والمفيدة التي حملتها لنا السنة الجديدة، ومفادُها أنّ مصيرَ الوطن والمواطن واحدٌ، وأنَّ القواسمُ مشتركةٌ بين الجميع. وهذه إن لم تتعزّز باللحمة الوطنية والمصالحة المجتمعية، فباطلاً يعمل البنّاؤون وذوو الإرادة الطيبة. كما أنّ، من جملة ما نستخلصه، أنَّ أمنَ الوطن والمواطن سيظلُّ يشكّل معضلةً عصيّة، حتى مع دحر الإرهاب. ذلك لأنّ فكرَه وآثارَه ومسبباته، ستبقى قائمة ومؤثرة طالما لم ولا يتمّ التخلص من العناصر والأدوات التي ساهمت بنشأته وتناميه عبر إضعاف أركان الدولة وتفكيك النسيج المجتمعي وزرع أشكال الفساد، وتكريس الطائفية وبالإصرار على تفضيل المصالح الفئوية والحزبية والمذهبية والعرقية الضيقة على مصلحة الوطن العليا. وهذا يعني أيضًا، سريان تأثير كلّ هذا وذاك على الواقع الاقتصادي المتردّي في البلد، وإبقاء شرائح كثيرة ومتنامية من جيوش العاطلين، إلى جانب الزيادة في خانة الفقر والعوز والتهميش والإهمال بسبب ما تخلّفه الأزمة المالية وانشغال الدولة في دحر داعش، وغيرها من دواعي النقص في الخدمات والأمن وتعطيل الإعمار وما سواها. وهذا ما يعني بالتالي، إدامةَ الفرص لزيادة حواضن العنف والنزوع إلى فكر التشدّد والتماهي مع أشباهه واتخاذ وسائل الإرهاب والقتل والانتقام سبيلاً متبقيًا للعيش، بالرغم من كونه ليس سبيل الكرامة والحرية التي ينشدها المواطن العراقي في عيشه التقليدي.
إلى جانب هذه السمة السوداوية، تظهر في الأفق الوطني علامات رجاء وأمل، تتمثل على نطاق متباين بإصرار العراقيين الأوفياء وبعض الساسة والمراجع المستنيرين والمعتدلين، للتفاعل مع خيارات النخب المدنية والديمقراطية النشطة منذ زمن والمطالِبة بالإصلاحات المتعثرة للأسباب ذاتها المشار إليها في أعلاه. كما أنَّ ما شهدته العاصمة بغداد ومدنٌ عراقية غيرُها، ليلة طيّ السنة الفائتة وبدء العام الجديد، وقبلها المشاركة المجتمعية الوجدانية مع المسيحيين في إحياء مناسبة عيد ميلاد رسول المحبة والسلام، فيها إشاراتٌ ودلالاتٌ عديدة على تلاحم النسيج العراقي المتآلف والمتآزر والمتكافل على مرّ السنين والعهود والأزمان. وما أكثر مثل هذه المبادرات الجميلة والمشجعة من جانب شرائح واسعة من المسلمين، بصفاتهم الدينية والسياسية والوظيفية والمجتمعية على السواء، من الذين نصبوا الأشجار التقليدية، رمزَ الميلاد، وهمّوا بتقديم التهاني وحضور الشعائر الاحتفالية من قداديس واحتفالات خاصة. فهذه من "علامات الرجاء بغدٍ أفضل للعيش المشترك"، وترنو لرأب نسيج اللحمة المجتمعية المتمزّقة التي اختلّت وتراجعت صورتُها وفترت أواصرُها بعدَ أنْ قوّضتها الأحداث بفعل الغزو الأمريكي للعراق في 2003. بل في هذه المبادرات، شعرَ المحتفلون المتجذّرون في أرض شنعار (العراق)، من أحفاد سومر وبابل وأكد وآشور من العراقيين المسيحيين بمختلف طوائفهم ومللهم، أنّ العراقيين عادوا إلى رشدهم في تقدير أهمية التعددية واحترام المختلف عنهم، والذي رأوا، بل ينبغي أن يروا فيه، غنى وثراء وزيادة في الثروة الوطنية التي يشارك الجميع في استثمارها واستغلالها لسعادة الإنسان، ولصالح العراق وأهله، ومن أجل رقيّهم ونمائهم وعودة عهده إلى عصور الحضارة والرقيّ والتقدّم. فالشعور، مهما كان وكيفما حصل، إنْ كانَ موصًى به سياسيًا أو بتوجيه من مرجعيات معتدلة أو عفويًا تضامنيًا، فقد بدا شعورًا مشتركًا جامعًا العراقيين في ظلّ خيمته وارفة الظلال، حين استقبال العام الجديد!
كلمةٌ لا بدَّ منها، كي لا تمرّ الإطلالة من دون تعليق ولا تصويب ولا تقويم. فمع بداية الأحداث المتشابكة بالفرح والمآسي بمقدم العام الجديد، هناك مَن يرى أنَ حكومة بغداد بهذه المشاركة العفوية أو المدفوعة، تسعى من جهتها في ظلّ الارتباك الذي يكتنف عملَها والصراع القائم بين الأحزاب والكتل السياسية المشاركة في العملية السياسية، إلى إقناع دول العالم بسيطرتها على الأوضاع وبعودة اللحمة الوطنية إلى مجتمعاتها وبتغيير فكرها المتجمّد والممتزج بمصالح متناقضة داخلية وإقليمية. أي بعبارة أخرى، قد تكون المشاركة الوجدانية والوطنية الواسعة في صفوف المجتمع العراقي بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية هذا العام، مناسبة لتحريك الساكن في كلّ ما يجري في البلد والارتقاء به نحو الأفضل عندما تتحقّق المصالحة الوطنية الصادقة وليس المظهرية الكاذبة المجامِلة أمام وسائل الإعلام والفضائيات، وبعدها تعود حليمة إلى عادتها القديمة وإلى نفس النهج الطائفي والعرقي والتمييزي بين المواطنين ومكوّناتهم.
وهذا بحدّ ذاته، من شأنه أن يضع دولَ الجوار والعالم الغربيّ أمام حقيقة لا مفرّ منها، هذا إن لم يكن فعلاً قد حصل، وهي حاجة هذا البلد خصوصًا والمنطقة عمومًا، إلى جميع دول العالم كي لا تدّخر جهدًا أو تتراخى بتقديم المزيد من الدعم والمساعدة، المعنوية والمادية والعسكرية والمالية، بقصد مواجهة ظاهرة الإرهاب الذي يهدّد الجميع، والذي عاد في الأيام الأخيرة ليؤكّد وجودَه وقدرتَه على ضرب أهداف ينتخبُها في المكان والزمان الذي يختاره، عبر خلاياه النائمة التي تستيقظ في مثل هذه المناسبات، كما حصل مؤخرًا، في برلين وإسطنبول ومدن عراقية عديدة.
من هنا، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أيضًا إلى العراق وكردستان، ضمن هذه الإشارة التي أعطت زخمًا للعراق ولقواته المسلحة الشجاعة ومَن يتجحفلُ معها، كي تمضي في عملياتها الشاقة بقطع دابر التنظيم الإرهابي ومَن يساندُه ويموله ويدعمه. فقد رأى هولاند، أنّ محاربة داعش في العراق، من شأنه أن يمنع هجمات محتملة ضدّ فرنسا وشعبها.
 في الجانب المقابل، رأت نخبٌ ومراجع دينية وسياسية، أن مثل هذه الزيارة، لم تكن لتعطي ثمارَها لولا إصرار فرنسا على ضرورة تقويض الفكر المتطرّف وأتباعه أينما كانَ وكانوا. وفرنسا، هي إحدى أهمّ دول الاتحاد الأوربي المكتوية بأعمال الإرهاب الناجم عن خلايا تكفيرية ومتطرفة نائمة فيها، كما في غيرها من دول الاتحاد. كما أنها بهذه المبادرة المتميّزة، أثبتت قدرتَها وإرادتَها السياسية والاجتماعية المستقلّة عن القرار الأمريكي. حيث تشير تقارير أنّ الإدارة الأميركية كانت تفضّل بل وتسعى جاهدة لتأخير حسم الصراع مع داعش لسنوات أخرى، بهدف إطالة الحرب معه وبقائه أداة بأيدي "الديمقراطيين"، لاسيّما وأنّ الرئيس المنتهية ولايتُه، "باراك (بارق) حسين أوباما"، يُعدّ الأب الروحي لداعش وأمثاله من التنظيمات الإرهابية التي طفت على السطح أكثر بعد غزوها للعراق، ونشرِها لربيعها الفاشل في دول عربية أخرى، ومنها الجارة سوريا وليبيا، ولاسيّما في فترة ولايته.
إنّ المكوّنات الصغيرة ولاسيّما المسيحية منها، ترى في المبادرة الأخيرة لأركان الدولة والمراجع الدينية العليا، بالمشاركة في الأفراح والمناسبات الدينية الخاصة بها، وكذا في زيارة الرئيس الفرنسي للبلاد، فرصةً للاصطفاف حول الوطن والذود عن مصالحه ومستقبله وإعادة رسم معالمه من جديد، كي يبقى بلدَ الأنبياء والأصفياء والحضارات والتآخي والمساواة، يسوده قانون إنسانيٌ لا تخلو بنودُه من نفحات متديّنة تعطي قيمة للكائن البشري، مهما كان دينُه أو عرقُه أو جنسُه. فالبشر جميعًا متساوون أمام الله خالق الجميع.
 "فلنكتب في القلوب وعلى الجدران: كلُّ البشر إخوان". هكذا تقول أغنية جميلة أجهلُ ناظمَها ومغنّيها. وليعدِ الحمامُ الذي غادر وطنَ التآخي التعايش، إلى عشّه مرفرفًا فوق البلاد الجريحة، كي يضمّد مع الطيبين تقرّحاته الكثيرة وجراحاته المفتوحة بفعل عوادي الزمان وجحود الإنسان. ولنحاصر الأشرار وأصحاب العدوان في جحورهم السوداء الداكنة. فحبُّ الوطن من الإيمان! وتجسيدُه يكون بالعمل المشترك لإنقاذ البلاد والعباد من واقعهم المزري بالتخفيف من الظلم والجهل والفقر والمرض ومعالجة البطالة واحترام حرية الناس وكرامتهم.
عسى أن تضحي كلُّ الأفراح والمناسبات في العراق، مناسبات للعراقيين جميعًا، وأفراحًا دائمة للوطن الغارق في الآلام والجروح والدماء، فيتحوّل العام الجديد إلى سنة نصر وعيد واحتفال. فالقواسم المشتركة كثيرة، والأعراف المتداولة عديدة، والتقاليد المتوارثة التي نحيي الكثير منها معًا من دون أن نفطن لها نتشارك فيها بروح الألفة والجيرة والمحبة.
أمّا الوجود المسيحي في البلد والمنطقة، فقد أضحى أيضًا بعد كلّ هذا الذي خبرناه، قضيةً إسلامية واجبةَ الدفاع عنه، لأنه ببساطة، جزء من الهوية التاريخية والحضارية والبشرية لشعب العراق والمنطقة وليس للمسيحيين فحسب.



236

مانديلا عادل بمواصفات عراقية
بغداد، في  15 كانون أول 2016
لويس إقليمس
لا أحد ينكر ما حققه الحراك النخبوي في الشارع العراقي من تأثير في نفس المواطن على المستوى الوطني منذ انطلاقته الصحيحة بفضل حرص التيار المدني الديمقراطي وأتباعه، ومَن لحقه تباعًا. كان ذلك، انطلاقةً صادقة بانتظار أن تتبعه خطوات أكثر حراجةً للفئة السلطوية التي تأبى مغادرة معاقلها الطائفية والمصلحية الضيقة. فهذه الأخيرة، ولاسيّما القريبة منها من المسوّغ الدينيّ والطائفيّ، كلّما اشتدت نقمة العامّة على أدائها واختراق صفوفها وفضح مفاسدها ومحاجة مآخذها ومبرّراتها الانتهازية، ازدادت تمسكًا وتعلّقًا بمنهجها وسلوكها السلطوي على رقاب البسطاء من الذين يستسلمون من دون وعيِ لتشريع المقدّس في وعظ سلاطين الدين والطائفة والمذهب ضمن الحلقات المشبوهة التي يقيمونها لكسب صوت الناخب وتوجيه يقينه وتصوراته وفق ما تقتضي مصلحة أصحاب الشرع والحلال والحرام. إلاّ أنّ هذا الحراك، بالرغم من أهميته وتاثيره، ما يزال دون المستوى المطلوب، كي يأتي بثمار أكثر وأكبر. فهو بحاجة إلى تطعيمٍ متواصل من وسائل التواصل الاجتماعي وسائر الفعّاليات المجتمعية والمنظماتية، إلى جانب نخبة الأكاديميين والمثقفين والكتاب وأصحاب الغيرة الوطنية التي تقتضي تلاحمًا أوسع في صفوفها، تخطيطًا وتنسيقًا ومنهجًا برؤية قصيرة ومتوسطة وبعيدة على السواء. وهذا هو عمل التنسيقيات النشطة بتنوّعها، من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
من شأن تواصل هذا الحراك الوطنيّ، تقييم المسيرة السابقة وتحديد مكامن القوة التي ما يزال السلاطين في قمة الهرم السياسيّ ووعّاظُهم يستقوون بها ويتخذون منها منهجًا واستكمالاً لمشاريعهم الطائفية التي أسسوا لها منذ الغزو الأمريكي الذي أتاح لهم مثل هذه السلطة عن غير وجه حق، حينما جعل الكثير من أمثال هؤلاء يتربعون على عرشها من غير استحقاق وطنيّ ولا جدارة، إلاّ لكونهم أسيادًا في دين وطائفة وحزب وكتلة سكتوا ومازالوا يسكتون عن الضيم الذي لحق بالشعب المقهور وعن الحيف القائم لغاية الساعة بنهب ثروات البلاد وفي التغافل عن المصلحة العليا للوطن، حفاظًا على مكاسبهم ومصالحهم وخوفًا من زوالها ونقصانها وخسارتها.
بعد بلوغ العملية السياسية مرحلة من الكساد والعجز في كلّ خطواتها، اتجهت الأنظار نحو ترقيعات في إصلاح ما تمزّق وتعثر وفشلَ، دون التنبه إلى جذور المشكلة ومن دون الإقرار بالخطيئة الكبيرة التي لم ولن تستطيع أجيالٌ قادمة ولاحقة من محوها والصفح عن مرتكبيها، من جانب ذوي قساة الرقاب وغلاظ الطباع ومتشحي النفاق، في السياسة والدّين والمذهب. حتى حزمة الإصلاحات المفترَض تصريفُها وإخراجُها بالطريقة التي وُعد بها إتيانُ رئيس الحكومة الحالية، لم تأتي بثمارها إلاّ جزئيًا وضمن نطاق محدود، ذرًا للرماد في العيون! فقد تراجعت هذه، هي الأخرى، وهمدت بحجة الانشغال في مقارعة معاقل الإرهاب ودحرِه وإنهاء وجوده على الأرض التي كان للشركاء في حكومته فضلٌ ومساهمة مباشرة أو غير مباشرة في استقدام هذا التنظيم المتوحّش وفي تعزيز قدراته وإطالة وجوده لأكثر من عامين. 
ومن حق السائل أن يستنفر ويستحثّ ضمائر الساسة التي ضعفت بفعل انهماك الكثير منهم في نيل المبتغى وفق شريعته ومنهاجه وبرنامج مرجعيته. فأين كان حماة الوطن بكل فصائلهم، من الذين صرفت الحكومات المتعاقبة على تعيينهم وتدريبهم وتسليحهم ما فاق صرفيات جيوش العديد من الدول لسنوات عديدة؟ جملة استفسارات وتساؤلات غيرها، ترتكض في مخيلة الشرفاء وحتى البسطاء من أبناء الشعب من أجل معرفة الأسرار الكامنة وراء الإخفاقات طيلة السنوات المنصرمة من بناء قدرات الجيش العراقي المتهاوي الذي أنهى الغازي الأمريكي صفحاتِه المشرقة بإشارة وقبول بل بتحريض من مراهقي السياسة القادمين بعد السقوط المأساوي للشرف العراقي، وطنًا وجيشًا وشعبًا وتاريخًا وتقليدًا!
أمام هذه التصورات الوطنية المحقة، كان الأجدر بمن تلطخت أياديهم بفساد المال العام منذ السقوط وبتدمير البنية المجتمعية للشعب، أن يخشوا خيفة الله ويحفظوا ماء الوجه بتغيير السلوك الماكر ومغادرة نهج التشبث الأعمى بالمنهج الذي جلب الوبال والدمار على البشر والحجر في البلاد. فالنوايا ما تزال خبيثة، والإرادة ما تزال قوية للمضي في الطريق الشائك الذي يرسّخ للهوية الطائفية ويحاول إطالة ما أمكن في مشروع المحاصصة في الطروحات الجديدة لبعض القوى، التي اعتقدت مخطئة أنها بهذه الطروحات الحديثة- القديمة لمشروع التسوية مثار الجدال، ستتمكن من إزاحة جدار الغضب من أمام مشاريعها الانتهازية بالإبقاء على المغانم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وإلى ما شاء القدر وارتضت يد الفساد ومَن يقف في الصفوف الخلفية الداعمة والساندة بغية شرعنته وتعزيز بقائِه. 
إزاء كلّ هذا الكمّ من الفساد المتفاقم الذي تسعى قوى سياسية ودينية وطائفية للإبقاء عليه لدورة قادمة من حكم العراق، بهذه الطريقة المخجلة من توليفة التسوية غير الناجعة المطروحة، لا بدّ من سعي مواطنيّ وشعبيّ ونخبوي على كافة الأصعدة، فيه يتمّ تصعيد المطالب بالإصلاح الجذريّ الحقيقي وليس الترقيعيّ الذي لا فائدة مرجوة منه على المدى المتوسط والبعيد. فموضوعة الاستحقاق الانتخابي التي يعلّق على شمّاعتها بعض الساسة المستفيدين بإبقاء منهج المحاصصة ساريًا، لم تعد مشروعة ولا بدّ من إنهاء أسطورتها في شكل القانون الجديد للانتخابات الذي ينبغي أن يضع حدًا لمثل هذا الطغيان والتسلّط بسبب الوضع السابق الذي تبنته هذه القوى الفاشلة وفق مقاسات مصالحها والطريقة التي تحفظ مكاسبَها لأطول فترة ممكنة من خلال القانون الانتخابي المتحيّز لجانب الكتل الدينية والطائفية صاحبة المشاريع الإسلاموية التي لا تقرّ بمطالب الشارع بإرساء سياسة منفتحة لدولة مدنية متحضّرة تحترم الجميع وفق مبدأ المساواة والعدالة والحقوق المواطنية الكاملة وغير المنقوصة للجميع. وكفى سماعنا لأصوات نشاز تدّعي ما لم يعد يتحملُه الشارع العراقي الثائر المترَع بالمشاكل والمظلّل بضلالات تستقوي شرعًا بطاعة المحكوم للحاكم الظالم في ظلّ يافطات دينية وأخرى طائفية وغيرها عرقية أو تحت رايات استعلائية تتخذ من حاجة الناس وعوزهم عذرًا لفرض أسلوب للحياة وفق مقاسات الأسياد ومصالح مَن في بطانتهم من المستفيدين الفاسدين. لقد أضحت هذه الفئة التي تكاثرت ونمت كالأميبا تحت خيمة شخصيات متنفذة في الحكومة وفي الأحزاب المهيمنة على الحياة السياسية، ظاهرة مقلقة يصعب الخلاص منها في اقتفاء أثر أصحاب الأموال والعقارات وأرباب الشركات بملاحقتهم بغاية الابتزاز والسطو وفرض الإرادة من دون أن تبدر من الجهات الأمنية ردود صارمة ومن الدوائر العدلية إجراءات رادعة.
لا شكّ أنّ إدارة البلاد تتطلب من جميع ذوي الإرادة الطيبة أن يتكاتفوا مع جهود الدولة بجميع مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والرقابية على بطء فهمها ونهجها الوطني، للسير بالبلاد نحو برّ الأمان والاستقرار والطمأنينة. فالسفينة العراقية الكبيرة، تتقاذفها أمواج عاتية داخلية وخارجية تستدعي وقفة مواطنية واحدة موحدة بعيدة عن رؤى ضيقة الأفق، قد تخدم نفرًا أو شريحة على المدى الحاضر، لكنها تضرّ بمصالح شعب وجدارة أمة وحضارة مكوّنات مجتمعية أصيلة تشكّل أعمدة الهيكل الساند للبلاد على مدى الأجيال. وهذا ما يستنفر ويحث الجهات التي ابتدأت بالحراك النخبوي في الشارع العراقي ومَن التحق به لاحقًا، أن يواصلوا المسيرة حتى تحقيق الرؤية الوطنية الصحيحة في بناء دولة المواطنة، الدولة المدنية التي تحترم الجميع باختلاف أطيافهم وتوجهاتهم ومللهم ونحلهم، وتعدّ الجميع مواطنين على قدم المساواة في مقياس التساوي والعدل والإنصاف من دون تمييز في أيّ شيء وفي كلّ شيء.
إنّ الحاجة والضرورة إلى اجراء تغيير فعلي وجوهري في بنيان الدولة العراقية، بات حتميًا غير قابلٍ للطعن أو الرفض، مهما حاولت جهات متنفذة وضع العراقيل امام صحوة كاسحة للفساد والفاسدين، عبر ترقيعات هنا وهناك، لا تغني ولا تسمن. فهذه أضحت من هموم الشارع الثائر، يجري استحثاثُها بمناسبة ومن دونها بالدعوة لفكر جديد في الرؤية البنائية للقدرات الوطنية الصادقة وفي استبعاد مَن وما لا يتوافق مع مطالب التغيير الجذري المطلوب. وهذه الاسترتيجية المطلوبة في إيجاد منهجية متكاملة تسعى لبناء مثل هذه الدولة المدنية، ينبغي مناقشتُها وتداولها من دون خجل ولا تردّد ولا تشكيك. وما يجري الحديث عنه عن استحقاقات دينية وطائفية وحزبية فرضتها ظروف الغزو الأمريكي للبلاد ، كلّما شغرت حقائب وزارية، ليست سوى معوقات على طريق بناء هذه الدولة المدنية المنشودة. فالحديث عن مثل هذه الاستحقاقات المشبوهة وغير المجدية بعد الفشل الذريع في إدارة أصحاب الاستحقاق لشؤون البلاد بكلّ المقاييس، لم يعد مقبولاً في الشارع المنتفض ولدى الشعب المظلوم وكذا في صفوف المتعلمين والمثقفين والأكاديميين بالرغم من تناقص فورة هؤلاء لأسباب معروفة أمنيًا وأخرى مجهولة ضمنيًا.
إنّ ما بات أكيدًا، أنّ الشارع العراقي بمعظمه، رافضٌ لسلوك مبدأ المحاصصة في إدارة الدولة، إلاّ من قبل السياسيين وأصحاب النفوذ في الكتل السياسية، التي تنافِقُ لأجل منافع ومكاسب حصدتها وما تزال تنالُها من جرّاء التشبث بهذا المبدأ الذي دمّر البلاد وفرّق العباد وسوّس العقول وأثقلها جرمًا وغيلة وجرمًا. وما زلنا نتطلّع لجهد وطنيّ مخلص وجامع لأفكار الجميع على اختلافها من أجل تكوين مثل هذه الرؤية الصحيحة الضامنة لمستقبل الوطن وطمأنينة أبنائه وسعادة أجياله بعد زوال الغمّة السوداء. وهذا قد يتوق لبروز شخصية كارزماتية تحمل صفة المدبّر والراعي والرائد في التصورات والإداريات وفي تحقيق العدل وسيادة القانون وإنصاف المقهورين ومحاسبة الفاسدين والمقصّرين. أي أننا، بحاجة إلى "مانديلا عراقي" قويّ وصارم وعادل، بمواصفات وطنية عراقية حضارية، يأمر بنيل كلّ مواطن ما يستحقّه، وينهى عن اية انتهاكات ضدّ أفراد وجماعات وشرائح تشارك في المواطنية وفي الاستحقاق. عراقُنا وأهلُنا ينتظرون زعيمًا وطنيًا مخلصًا للوطن والشعب، لا تأخذه في الحكم سنّة ولا نومٌ، ولا ينجرف وراء الفساد أو يغطّي على الفاسدين ومَن يستقوي بجنسية مزدوجة أو بأسياد من خارج الحدود، ولا يتعالى على القوم أو يستخفّ بقدرات مواطنين ومثقفين وكادحين على السواء.
وإلى أن يأتي هذا الرجل، القائد العادل، السياسيّ المنصف، الإنسان المنفتح في الفكر والرؤية والمنهج، الوسطي المقبول من الشارع البسيط ومن دهاليز السياسة الماكرة، يبقى عزاؤنا الآنيّ في دحر وانتهاء صفحة الإرهاب وفكرِه المدمّر، الذي ضرب أطنابَه في أرض السواد منذ تهيئة ساسة العملية السياسية لتكوينه وتشكيله بفعل سياساتهم الخاطئة، والمساهمة بتسهيل قدومه بفعل سلوكياتهم الطائفية، وفي استفحاله وتأخير دحره بفعل انقساماتهم وعدم وجود الرغبة الصادقة لتسوية خلافاتهم، وكذا بسبب غياب الإرادة الصارمة لمغادرة أسلوب المحاصصة.
فالشعب يترقب بصبر كبير في الأيام القوادم، بروز هذه الشخصية الكاريزماتية مع قرب الدورة الانتخابية القادمة، كي يكون خادمًا للشعب وليس العكس، قائدًا قديرًا يدير مشروع المصالحة المعطَّل ويهيّءُ الطريق للسلم الأهلي الدائم في ربوع البلاد. لكننا، نريده شخصية عراقية أصيلة تزرع الراحة والطمأنينة في القلب والنفس والفكر، وتضع نهاية أكيدة للفساد، وتحاسب الفاسدين والمتلاعبين بثروات البلاد والمتاجرين بمستقبل العباد. وهذا ما يستلزم تعديلات أساسية في القانون الانتخابي الذي ما زال تحت رحمة نفوذ الكتل السياسية المتنفذة والسلطات الحاكمة التي روّضت وتروّض هذا القانون ليتماشى مع طموحاتها واستمرار هيمنتها على صناديق الاقتراع بالصيغة التي أقرّ بها لغاية الساعة.




237
جعبتنا للعام الجديد   2017
بغداد، في 21 كانون أول 2016
لويس إقليمس
قبل أيام قلائل احتفل العالم الإسلامي بعيد مولد رسول الإسلام. وفي هذه الأيام يحتفل العالم المسيحي بعيد ميلاد المسيح، رسول المحبة والسلام، حيث أنشدت الملائكة نشيدَها المشهور: "المجدُ للّه في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة الصالحة". وستليها احتفالية العالم أجمع بمقدم عام ميلاديّ جديد آخر 2017، في أجواء صاخبة وسعيدة ومنفتحة كالعادة، ولكن وسط هواجس ومخاوف أمنية قد تعكّر صفو هذه الاحتفالات. وكالعادة، لم يكن العراق، بعيدًا عن هذه الأجواء. فقد اعتلت شجرة عيد ميلاد باسقة بارتفاع 25 مترًا حدائق متنزه الزوراء الجميلة، وقد تكون أكبر شجرة تُنصب في الشرق الأوسط، تضامنًا مع ما تبقى من مسيحيي هذا البلد المغدور من الأصلاء في ولائهم وجدارتهم وأخلاقهم. هذه الاحتفالية الجامعة الأخيرة التي نسّقت لها أمانة بغداد، تأتي إيمانًا من منظميها بتقاسم الأفراح والمشاركة الوجدانية في المناسبات الدينية السعيدة التي اعتاد عليها العراقيون الأصلاء وسط مجتمعاتهم على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم. وهي دعوة جمعية وطنية بتحويل الأعياد والمناسبات الدينية المسيحية والإسلامية والإيزيدية والصابئية وأخرى غيرها، إلى أعياد وطنية تعزز من الاخوّة وتزيد من العيش المشترك وتفتح صفحات جديدة ناصعة من المحبة والتآخي والتآزر، عندما يلتفّ الجميع تحت خيمة الوطن الواحد، ويتطلّعون لمستقبل زاخر، فيه يرتفع البناء والإعمار من جديد وتعود إليه اللحمة المنفرطة.     
في نهاية كلّ سنة ميلادية، اعتاد الناس تبادل التهاني والهدايا والعطايا لمناسبة طي عام واستقبال عام آخر جديد. وفي كلّ سنة تتكرّر ذات الكلمات والأمنيات المتلونة بالطموحات الوردية لرؤية عام أفضل ممّا سبقه. وفي هذه الكلمات الرائعة، يعيش المرسِل والمتلقي معًا، أجواءً حالمة ممتزجة بالنشوة، قد تدوم وتثمر وتتحقق رغبات أو جزءٌ من أحلام هذه الأمنيات أو تتلكّأُ فتخيب. ولكن بالتأكيد، أياً كان نوعُ ما يتحقق منها وشكلُها، فهي تنزل بلسمًا وشهدًا في قلب العزيز وتمنحه قدرًا من الاستحقاق البشري والإنسانيّ الذي يستحقه، باعتباره خليقة الله الرائعة في جمال الصورة والمنظر، وأقرب إلى القلب في مثل هذه اللحظات المفرحة. وما أروع أن تجتمع في هذه المناسبة العالمية، الكلمةُ الطيبة مع حسن الصورة وجمال الخلق وطيبة النفس والفعل الحسن. لكنّ الرياح العاتية تأبى أحيانًا، إلاّ أن تسيّرَ سفينة هذا العالم المارد بعكس تيار هذه التمنيات والطموحات. 
عندما تحتفل البشرية بمقدم كلّ عام جديد، فهي تقدّم أدوات الشكر اللازمة لخالقها، لأنه بأمرته يسمح لها بإكمال ما بدأتْهُ من حياةٍ يومَ ولادة كلّ كائن بشريّ فيها. وفي مثل هذه المناسبة السنوية، تتنوع الأماني وتكثر الرسائل وتُرفع الصلوات والأدعية من البشر في جميع أرجاء المعمورة من أجل سعادة مفقودة خاصة، أو عودة غائب عزيز أو مهجَّر أو نازح إلى دياره، أو شفاء مريض متألم، أو إعادة حقّ مغتصب، وما إلى ذلك من أمنيات ورغبات ومرامات، منها ما يبدو ممكنًا، وأخرى غيرُها ما لا تطاله اليد مهما تمنّت وسعتْ ودعتْ. وأمثالُ هؤلاء الذين ينتظرون مثل هذه المناسبة العالمية التي لا تتكرّر إلاّ مرةً كلّ بداية عام جديد، هم كثر ولا حدَّ لشوقهم للاحتفال بها بشريًا وإنسانيًا، مقابلَ مَن ينكر مدى الفرح والسعادة التي تجلبه هذه المناسبة على قلوب البشر وتزرع فيهم غرسة الخير والسلام والمحبة التي يفتقر إليها نفرٌ من المغالين والمتشدّدين في الفكر النافق الأجدب الذي لا طعمَ له ولا رائحة ولا لون كي يبتغيه الخيّرون والطيبون على أرض الله الواسعة.
في كلّ عام جديد، تتجدّد المناسبات بتقليدها المتعارف عليه في كلّ بلد ومنطقة ومجتمع، باكتشاف أجواء جديدة وآفاق تستحق المتابعة والتمنّي ببلوغها بنجاح وسعادة. والتقليد بالاحتفال بهذه المناسبة، مختلف من حضارة لأخرى، ومن بلد لآخر ومن مجتمع لآخر. لكنها جميعًا، تلتقي في الأماني الطيبة والأدعية الرائعة والأمل بعام أفضل من سابقه من أجل تحقيق الأماني المتعثرة وسدّ الثغرات والإخفاقات التي رافقت الإنسان والبشرية في السنة الفائتة. فهناك من يجدّ للسفر بعيدًا لاكتشاف بلدان ومدن وأراضٍ جديدة ويقضي أيامًا سعيدة بعيدًا عن صخب العمل وضغوطات المكاتب والمراسلات والالتزامات المتعددة. وغيرُه مَن يسعى لنزع غبار الأحزان عن سيرته ويقرّر شق طريق جديد، يهيئ له ما فقده فيما مضى من مسيرة الركب. في حين، يترقب نفرٌ آخر هذه المناسبة لزيادة العربدة وإفراغ ما في جعبته من متع الحياة التي يحلم بها طيلة الأيام الخوالي عبر الرقص والموسيقى وما تيسر من أدوات الاستمتاع المعاصرة. فيما غيرُهم يحتفلُ عائليًا في بيت العائلة الكبير، حيث يتفنّن المحتفلون ويستمتعون بما يقدّمونه أو يتناولونه من أنواع الأطعمة الطيبة التي لا تعوّض ولا تتكرّر إلاّ نادرًا. وآخرون يتشاركون الأحزان والأحداث والمآسي، وسط أملٍ مهزوز بعودة ميمونة للبسمة على وجوهٍ صبغتها الأيام بسحنات الحزن والألم واليأس.
ونحن في العراق والمنطقة، عشنا وخبرنا الحياة، كما فعلَها غيرُنا قبلَنا. وقلنا كلماتٍ وكتبنا أخرى كثيرة، كما قالَها وكتبها آخرون. تمنينا لأحبتنا ولعراقنا ولأصدقائنا كلَّ خيرٍ في بداية كلّ عام قادم جديد.  واليوم نعيد ذات الأماني لنا ولغيرنا كي تعود البسمة إلى وجوه العراقيين الطيبين المكتحلة عيونُهم والممتلئة أفئدتُهم والعامرة نفوسُهم بطعم الإخاء والعيش المشترك والتكاتف المجتمعيّ الرائع الذي طبعوا عليه منذ عرفهم التاريخ والمجتمع. واليوم مجتمعين، هل من أمنية أفضل وأغلى من إزاحة خطر الإرهاب عن أرضنا المدنّسة، ونزع فكره السيّء عن المجتمعات التي فتك بها وأحالَها إلى أدوات للقتل والسبي والاغتصاب والتهجير والحكم باسم الله البريء من أفعالهم وسلوكياتهم المنحرفة؟ عسانا نحسبُ جميعًا، قيمة كلّ عام قادم، ونعطي حقَّه كما ينبغي في صواب الخير والفعل الحسن والكلمة الطيبة والسيرة الفاضلة والاحترام المتبادل والمحبة من إنسان لأخيه الإنسان ومن جارٍ لجاره في الحياة والحيّ والمنطقة. فالعام الجديد، ونحن نحتفل به بمثل هذه السعادة، محسوبٌ من عمرنا، كلّما تقدمنا في هذا الأخير سنة بعد أخرى، ولا يتبقى منه سوى الأحاديثُ والذكرُ الطيب وحُسن الأفعال.
مع قدوم كلّ عام جديد، ماذا لو افتكر البشر أنَّ نظام الحياة الأزليّ لا يتوقف، ولا مسيرة الأيام تتعثّر لأنها سائرة ضمن منظومة كونية دورية لا يجيد ولا يقوى على تغييرها سوى ربُّ الأكوان، خالق السماء والأرض والعناصر وما فيها من حجر وبشر وماء وثروات أعدّها الخالق الرحمن في خدمة البشر وسائر الكائنات، من أجل سعادتها ورفاهتها وراحتها. إنّما العثرة في إرادة الإنسان الذي لا يجيد الرقص في حفلة مهرجانية يومية لا تعرف الزمن ولا المكان، حفلة يعدّها هذا الخالق الجبار لمتعة خليقته الناكرة الجميل في مواقف كثيرة. فمن الممكن جدًا، أن تتحوّل أيام البشر كلّها إلى أعياد ومناسبات سعيدة، كاحتفالهم بمقدم العام الجديد المتميّز، إذا أحسنوا الفعلَ وعملوا الخير وساروا بموجب شرع الله الصحيح غير المنحرف وقوانين السماء ونظام الأرض من دون مغالاة ولا مجاملة ولا محاباة ولا خرق لحرية المقابل ولا تهميش أو تجاهلٍ لوجوده.
إحتفال العالم في نهاية كلّ سنة وبدء عام جديد، يذكرنا بقوله تعالى: "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كلّ حيوان يدبّ على الأرض" (تكوين 1:28)، إيذانًا بحقّ البشرية بالاستمتاع بالزمن وما يدور حوله من تفاصيل الحياة ضمن شروط اللياقة العامة وبما لا يتنافى مع مشروع الخالق في خليقته. لستُ هنا بصدد مناقشة سرّ الخليقة العظيم لمناسبة قدوم العام الجديد. فالمناسبة جديرة أن تتحدث عن نفسها على ألسنة البشر باختلاف أعرافهم ومللهم واعتقاداتهم وأعراقهم. فهؤلاء يشتركون جميعًا بفضل عميم أنعمه عليهم الخالق ليكونوا صورتَه الحسنة أينما حلّوا وارتحلوا في الزمان والمكان، كي ينموا ويكثروا ويعمّروا، لا أن يدمّروا ويقتلوا باسمه بحسب قياسات خائبة خارجة عن قانون الطبيعة والعصر والظرف المتجدّد مع الزمن ومع البشر على السواء. فالّله العظيم الشأن، لا يعرف للزمن حدود، كما ليسَ لمحبته للبشر من سقف زمكانيّ معيّن. وهو يعمل في حياة الإنسان ليجعل منه وعاءً سرمديًا في احترامه لنسمة الحياة هذه ولمَن وهبه إياها من أجل إسعاد هذا الإنسان ورفعه لآيات الشكر والعرفان للخالق بحُسن الأفعال، ما عاش من أيام وسنوات. فهذه الأخيرة مهما طالت أو قصرت، تبقى لحظات معدودات في حسابات الخالق ونظامه الكونيّ الجبّار المليء بالأسرار والحكم. 
في كلّ عام جديد، تشهد الحياة البشرية كما اعتادت على مدى تاريخها، تقييمًا لسلوكيات مختلفة مرّت بها وعليها. والبشرية مدركة أنّ الصالحة منها تكون قد نالت رضا الله الخالق وإعجابَ خليقته وإطراءَها، فيما الزائفة فيها والمارقة والسيّئة والمنحرفة منها أضحى مكانُها مزابلَ التاريخ. وهذه الأخيرة، مهما طغت واستبدّت وتجبّرت، فستلاحقها نقمةُ الشعوب والمدافعون عن القيم الإنسانية وحقوق البشر من أي نوع أو دين أو معتقد أو لون أو عرق. وشتّان ما بين السلوكين والطريقين. أن تكون الشجرة يابسة مجدبة لا ثمرَ منها، شيءٌ. وبعكسه أن تبقى طرية كثيرة الثمر، شيءٌ آخر مختلف تمامًا. ففي الأولى، تنزل لعنة الله وتحرق الروح والقلب، فيبقى الإنسان اليابس بلا قلب ولا روح، كما العنصر الذي بلا طعم ولا رائحة ولا لون. وهذا لا نفع منه سوى للرمي في القمامة أو للحرق، ومصيرُه النار الأزلية وصريرُ الأسنان في الآخرة التي لا نهاية لها، لأنه لم يقدّم في حياته سوى شوكًا وحسكًا وعملاً سيّئًا. أمّا الأخيار الصالحون، الذين يلبون نداء الخير، نداء الله الخالق الرحمن الرحيم الطيب الحكيم، بالفعل الحسن والعمل الصالح وليس بكلمات فضفاضة بالتمتمة الحرفية التي لا تنفع ولا فائدة مرجوة منها لخدمة البشر والإنسانية، فهؤلاء هم أحبابُ الله وأصدقاءُ البشر والمدافعون عن الإنسانية المتألمة بعمق. هؤلاء مَن ينالون بركة الله ورضاه، لأنهم خدموا الإنسان الذي خلقه الله أداة حسنة لتمجيد اسمه المقدس. هؤلاء مَن يرثون الأرض لأنهم شربوا وانتعشوا من مطر السماء، من بركات الخالق الذي رفعهم طيورًا محلِّقة بريئة في فضاء الكون الواسع، بحسب استحقاقهم ومتاجرتهم بالوزنات التي منحهم إياها هذا الخالق، ليقدّموا عنها حسابَهم يوم الحساب، بوزنات إضافية كسبوها بفعلِ جدّهم وسيرتهم الطيبة وأعمالهم الصالحة.
في بداية كلّ عام جديد، يتمنى الحبيب لحبيبته والعزيز لمحبّيه وأصدقائه ومقرّبيه ومَن يتشارك معه العمل والمصير، أيامًا مليئة بالسعادة الغامرة التي لا يحدّها سقفٌ ولا حدود. ومَن منّا ليست له حبيبة أو عزيز أو غالي؟ فعندي أنا، كلّ الشعب العراقي، بل البشرية جمعاء، أحبابي وأعزائي وإخوتي في الإنسانية، باستثناء الأشرار والقتلة وسفّاكي الدماء البريئة والمتاجرين بمصائر الناس وحقوق البشر وناكري الجميل وسرّاق المال العام وناهبي ثروات الشعوب والمنافقين ومَن على شاكلتهم. فأمثال هؤلاء، بفعل أفعالهم الشريرة الخبيثة الماكرة، لم يتركوا مجالاً للبشر والمجتمعات كي تتعاطف معهم وتنساق مع جنوحهم إلى سكّة الشرّ وإيذاء البشر والأوطان والمجتمعات، بل إلى تدمير الإنسانية بكلّ صورها وشرائحها وتقديراتها. ولكنّي مع ذلك، لا أكنّ لأمثال هؤلاء حقدًا أو كراهيةً، ذلك أنهم خليقة الله، وقد يهديهم إلى سواء السبيل يومًا، فيعودوا إلى رشدهم وعقلهم فتطمئن قلوبهم وقلوب مجتمعاتهم وأُسرهم وعوائلهم بفعل رحمة الإله الرحوم الغفور المحبّ لكلّ البشر.
 والعام الجديد، مناسبة أيضًا، للتذكير بكلّ عمل صالح وأيّ فعل خير متاح في جعبة الإنسان المتحضّر العاقل الذي يعرف خيرَه وخيرَ الآخرين من خلائق السماء. هكذا نكون في أجواء الاحتفال بهذه المناسبة التي ينتظرُها الكثيرون، عندما نترك العَبث بمقدّرات البلاد والعباد والشعوب، ونمحو البغض من النفوس، وندفن الكراهية في جبّ النسيان، ونجفّف الدموع من عيون طفل أو طفلة فقدت معيلاً، ونكسو عريانًا ثوبَ حبّ، ونعود مريضًا بائسًا، ونُطعم جائعًا قتله جوع الروح والقلب والفكر، ونسقي عطشانًا كأسَ ماء قراح، ونملأ القلوب بالرجاء والأمل، ونقبّل جارَنا ورفقاءنا من دون غشّ ونفاق، ونضمّد جراح مريض أو غريب كما فعلها السامري الطيب في درب الحياة الشاقّة.             
ليكُن العام الجديد القادم 2017 في عراقنا، مناسبة لربح درجة إضافية في سلّم المواطنة الصالحة وفي درجات الإنسانية وفي أخلاقيات الخير والتقدم والنجاح والسلام، بالتأكيد على إعادة بناء الوطن على أسس مدنية ومؤسساتية، واحترام خيار الآخر المختلف. فالاختلاف، مهما كان حجمُه ولونُه، إنّما هو غنى مضافٌ للوطن والمجتمع، وورقة ملونة أخرى تنشر السعادة والأمل. وهذه من دواعي كل أصحاب الإرادة الطيبة والنوايا الحسنة، بالتأكيد على كرامة الإنسان وحريته وحقوقه التي حبا الله بها جميع البشر وفق سلّم المساواة والعدل والحرية! وليكن فرصة أيضًا، لمزيد من التلاحم والتكاتف والتعايش بين مكوّنات الشعب العراقي، صيانةً لوحدة ترابه وحفاظًا لتراثه وحضارته وخصوصياته وعامًا للسلم الأهلي والمصالحة الحقيقية وسدّ الثغرات الأمنية والخدمية ووقف نشاط الميليشيات غير المنضبطة.
نريدُه عامًا جديدًا بكلّ المقاييس، يندحرُ فيه الإرهابُ إلى الأبد، ومعه شبيهتُه الطائفية المقيتة التي نخرت أساسات المجتمع العراقي المتآلف عبر الدهور، ونشهدُ فيه انسحاب الفاسدين عن المشهد السياسي، وعودة الأمن والأمان والخدمات المفقودة في الشوارع والمؤسسات والأحياء السكنية.
نتمناه عامًا سعيدًا حافلاً بالمسرات والأخبار الطيبة والأماني بعودة النازحين والمهجَّرين إلى ديارهم وقراهم وبلداتهم بعد إعمارها وتعويض المتضررين منهم، وهم كثيرون.
نتمناه عامًا مليئًا بالبهجة والأفراح، تعود فيه البسمة إلى وجوه الأطفال وشفاه الثكالى وقلوب الأرامل واليتامى والمشرّدين وجيوش العاطلين. أللهمّ آمين.
وكلّ عام وعراقنُا وأهلُنا وأحباؤُنا بألف خير

238
المنبر الحر / هواجس ما بعد داعش
« في: 21:03 18/12/2016  »
هواجس ما بعد داعش
بغداد، في 5 كانون أول 2016
لويس إقليمس

مع اقتراب انحسار التنظيم الإرهابي الداعشي من العراق وأفول أسطورته وزوال سطوتِه، بدأ الكثيرون بوضع علامات استفهام حول شكل البلاد ووضعها السياسيّ المرتقب، من خلال وضع سيناريوهات عديدة. في بعض هذه الأخيرة، دلالات وإشارات وتلميحات على قراءة الأحداث من الواقع السياسيّ الراهن والخوف من فرض واقع الحال على المناطق المحرّرة من أطرافٍ في النزاع على طبيعة الأرض ونوع الإنسان. وفي أخرى تصوّرات ضامرة يشوبُها الكثير من التشاؤم والسوداوية، وقد لا تبعث على الارتياح، لاسيّما بعد نجاح الكتلة المستقوية مجتمعيًا بشرعنة قانون الحشد الشعبي الذي خلق هواجس لا تخلو من نبرة طائفية. فيما يرى آخرون أنّ مسألة فرض واقع الحال، فيه استقواء طائفي وإتني قد يعزّز من هوّة هذه الآفة ومن اتخاذها مستقبلاً نهجًا استراتيجيًا ثابتًا في كلّ خطوة وبادرة وسياسة.
بالمقابل، يتوسم فريقٌ مغاير غيرُهم، خيرًا بمفاجآت إيجابية تقف في قافلة الانتظار. وهذه الأخيرة، بالرغم من قلّتها، تعطي أملاً بصحوة وطنية خفية تدعو لطيّ أخطاء الماضي واستقبال صفحة جديدة تعتمد على الشعب والشارع وهمومه. ومثل هذا الأمل على بهاتة أضوائه لغاية الساعة، سيبقى بريق الرجاء بإعادة توظيف التوليفة الدولية الناهضة والساعية إلى محاولة بناء اللحمة الوطنية، وإعادة إعمار ما دمّرته الحملة الدولية على داعش وما خلّفه هذا الأخير وأشباهُه من الداخل من الذين لا يقلّون ضررًا وجرمًا عنه، في الفكر الرجعيّ وفي الشعار وفي الفعل العنفيّ الذي فتك بالمجتمع وأهله وأرضه وبنيانه.
وفي اعتقادي، هذا التوجه الأخير لهذا السيناريو الضعيف المشوب بشكوك محتملة، قد تُتاح له فرصة جيدة قابلة للبروز والتنامي على غيره. ويكفي ظهور تباشير هنا وهناك، وعلامات واضحة أو أضواء لعلامات تبشرُ بصعود صحوة وطنية إيجابية تدعو لبناء دولة مؤسساتية قوية تحترم الإنسان العراقي وتضمن حقَه في العيش الكريم على مبدأ المساواة والعدل. فالأحداث والفعاليات المختلفة، دوليًا ووطنيًا ومنظماتيًا وشارعًا، تتحدث عن مداولات ونقاشات وحوارات من هذا القبيل تجري في أروقة السياسة وما بين السياسيين، إنْ سراًّ أو في العلن.
وما خطوة التحالف الوطنيّ وجهودُه الأخيرة لرتق الصدع مع الشركاء المشكّكين في النيات، إلاّ ضمن سياق هذا الأمل المعقود والمعقول. فالنعرات الاستفزازية والمثيرة التي بدرت وماتزال من أطراف في الكتلة الأكبر، بقصد أو بدونه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، حمل الشعارات والأعلام الطائفية في الحرب ضدّ داعش في المدن المعروفة في وطنيتها، كلها إشارات على التشكيك في النيات المعقودة على مشروع التسوية وشرعنة الحشد الشعبيّ وما في بواطنهما. كما يمكن إضافة مسببات أخرى بعيدة عن الطابع الوطني العراقي الخالص، وهذه تدخل أيضًا، ضمن هذا التشكيك ذاته، بالإبقاء على شعارات شعائرية خاصة في الشوارع والأبنية ودوائر الدولة، بعد غزوها جميعًا من دون رقيب ولا حسيب ولا مراعاة لمشاعر الغير المختلف. هذا إضافة إلى تصريحات استفزازية من جانب مسؤولين ونواب، ومعظمها تصبُّ في تهديدها بحسم الصراع بالذهاب إلى استحقاق الكتلة الأكبر.
   على أنَّ التشكيك الوارد بمشروع التسوية الذي تقدّم به التحالف الشيعيّ، باعتباره الكتلة الأكبر، قد يحمل في طياته احتمالين قابلين للتطبيق أو المواجهة: أولُهما الخوف والحيطة من محاولة إعادته للمشروع الطائفي الفاشل ونظام المحاصصة المرفوض من الجميع مجتمعيًا وإعلاميًا ودوليًا. وهذا ما يُستشفُ في الكثير من بنوده وفي طريقة طرحه وأدواته وتبويبه. وإن صحّت مثل هذه التحوّطات والمخاوف، فتلك ثغرة فاسدة وسلبية في نية القائمين عليه، تخطيطًا وتنفيذًا وهدفًا. فذلك يعني من جملة ما يعنيه، بقاء البلاد أسيرة بيد الجهة والدولة التي ترعى الفصائل المسلحة المنضوية في لواء التنظيم العسكري الجديد الذي اتخذ تسمية الحشد الشعبي، ليكون قوّة موازية للمنظومة العسكرية الرسمية الوطنية في البلاد. وهذا من شأنه خلخلة النظام المجتمعي لما فيه من استقواء واضح بجهة إقليمية راعية تسعى لإبقاء البلاد رهنَ سياستها الخارجية في الانتماء والتوجه والقرار. وفي الثاني، يمكن لهذا المشروع في حالة اصطفافه مع الشعب ومع الشارع المتذمّر الهائج منذ أكثر من عام ضدّ سلوك رجال الدولة من المترعين الغائصين بالفساد، يمكن له أن ينال رضا الشعب، فقط في حالة إيثاره مصلحة الوطن العليا على غيرها من المصالح الفئوية والدينية والطائفية والشخصية الضيقة التي يُتهم بها ساسةٌ منضوون في صفوف هذا التحالف ذاته. وهذا إن صحّت التوقعات، فإنّ نتائجَه مرتبطة بمدى حسن النية لدى ساسة المكوّن الشيعي وقياداته وفي استقلاليتهم للقرار الوطنيّ والمجتمعي العراقي الصرف. ففي حالة إثبات الرؤية الوطنية في تطبيقه انتماءً وتوجهًا وإجراءً، فذلك قد يغيّر من السلوك النمطيّ الطائفي الذي طبع تشكيلة كتلته وجلب عليها النقمة وشتى أنواع النقد والاتهام باصطفافها المعروف لجانب الجهة التي ترعاه وبها يستقوي في سياسته وطروحاته.
على جانبٍ إيجابيّ آخر من أجل حلحلة حالة النفور والريبة والغيرة، تبدو في الأفق بوادر مغايرة صادرة عن بعض الساسة السنّة المعترفين بالفشل في سياستهم ومنهجهم منذ الغزو الأمريكي للبلاد، عبر تصريحات أخيرة لا تخلو من المصداقية والواقعية، بالرغم من فقدان ميزان الثقة بين الحكومة ورجالها مع الشعب الحائر. ومن جملة ما بدر من نفر من بعض هؤلاء، دعوتُهم إلى ضرورة مراجعة الذات والمنهج والأدوات التي تحمي الوطن والمواطن من التلاعب بمصائرهم، بعيدًا عن إملاءات دول الجوار وغيرها من المتربصين بمصير الوطن وأهلِه. وقد ذهب البعض في تعويلهم للاهتمام أكثر بالشارع المجتمعي الغاضب وبالعودة إليه في نهاية المطاف، بسبب ما أصابه من النكبات والمآسي التي تعرّضت لها مختلف شرائح المجتمع. ومثل هذا التوجه الفكري والوطنيّ المعقول، فيما لو اقترن بحسن النية وصلاح الإرادة، سيعني الكثير لمَن يتابع عن كثب مسار العملية السياسية ويحاول إعادة قراءة المسار السياسيّ المضطرب.
إنّ مجرّد بروز مثل هذا الشعور بالفشل والخطأ من جانب هؤلاء الساسة، دليلٌ قبل أي شيء على توجس الأطراف السياسية من تصاعد نقمة الشارع الهائج وعدم رضا هذا الأخير ممّا يجري من أحداث وتراجع في كلّ شيء. بل هو إقرارٌ من أطراف شريكة في العملية السياسية بالسير بعكس التيار الذي يتوخاه الشارع العراقي المناهض في الاستجابة لطموحاته وحقوقه. ناهيك عن كونه إشارة همزْ وغمزْ بضرورة تنحّي الفاشلين ومحاسبة المتسببين بتمزيق النسيج المجتمعي وبروز النَفَس الطائفي وهدر المال العام وسرقة أموال الشعب والاستيلاء على عقارات الدولة والسماح بتكوين وانتشار الميليشيات السائبة بحجج مختلفة لا تخلو من روحٍ طائفية نتنة. هذا إن كان بقي لمثل هؤلاء الساسة الفاشلين شيءٌ من الخجل لحفظ ماء الوجه بسبب وصمة العار التي لحقت ببعضهم وبسلوكياتهم منذ سطوتهم وتسلّطهم على شؤون الوطن، دينًا ودولةً.
قبل أيام حدّثني طويلاً عبر الهاتف، مسؤول حكوميّ يحتلّ موقعًا قياديًا في حزب سنّي متنفذ مشارك في العملية السياسية. ولشدّة ما أسرني به، حديثُه عن شعور قائم وصريح لدى مكوّنهم، باعتراف قياديين في الجهة التي ينتمي إليها، بأخطاء ارتكبها قادتُها منذ الإطاحة بالنظام السابق، حينما رفض بعضهم التعاطي مع الواقع الجديد كما ينبغي والقبول بالمستجدات التي فرزها مشروع الشراكة، ما كانَ له أثرٌ واضحٌ على عقد مسار العملية لجهة دون غيرها حين استفراد الأخيرة بكلّ شيء من غير رقابة. ولعلَّ من جملة ما يبدو قد بدر من مقترحات لبعض العقلاء في هذه الجهة، بحسب محدّثي، هو الإقرار بالظلم الذي نالته الأقليات عامة والمسيحيين خاصةً، بسبب ممارسات استعلائية غير متزنة وعشوائية، إنْ لمْ تكن منتقصة من وجود هذه الجماعات المتأصلة في نسيج الشعب العراقي وفي أرض الوطن. وقد كان متحمّسًا لطورٍ جديد في النهج والفكر والأداء، ومنها ما ارتآهُ نفرٌ ضمن هذه الكتلة بضرورة إيلاء الأقليات ما تستحقه من حقٍ واجب بإدارة مناطقها بنفسها على شاكلة يتمّ الاتفاق عليها، ليسَ منّةً من أحد، بل ضمن إطار وطنيّ يعطي استحقاق هذه المجتمعات من حقوق ومطالب طالما تجاهلتها الأنظمة المتعاقبة، وآخرُها نظام الحكم الطائفي القائم على المحاصصة حاليًا. ولعلَّ ما دعا مثل هذه الأطراف لسلوك هذا النهج الجديد في سياستها وتوجهاتها، ما تعرّضت له مجتمعات هذه الأقليات من غبنٍ وظلم وتهميشٍ وقتلٍ وسبيٍ واغتصاب وتهجيرٍ قسريّ وتشريد ونهبٍ لممتلكات وحرق البيوت والمحلات، وكذا من أعمالٍ عنفٍ إجرامية ترقى إلى الإبادة الجماعية باعتراف منظمات ودولٍ وهيئات عالمية.
وللحقيقة أقول، أنّي توسمتُ بتطرُّق هذا المسؤول الحزبي والحكومي، رؤية وطنية جديدة مختلفة عن سابقاتٍ سطحية وأخرى رافضة لمثل هذا التوجه أو معاندة من دون وجه حقّ. بل إنّ حديثَه المسترسل قد جرّني لتصديق قيام رؤية تبرز للساحة حديثًا، وهي مؤمنة بضرورة رسم خارطة طريق جادّة تقدّمُ صورة مختلفة عن خطابات سابقة متزمتة ومعاندة لمْ يكن لها هدف ولا حدود لسقف المطالب التعجيزية لأجل المضيّ قدمًا في نهج المشاركة في العملية السياسية. أي أنها ذات طابع انفتاحي أكثر للآخر المختلف بحملها بوادر جديدة للتعايش المجتمعي السلميّ بعد انحسار الظاهرة الداعشية.
وحبذا، لو اقتفت أثرَ هذا التصوّر والتوجّه الجديد الذي يستحق الثناء والتأييد من باقي الأحزاب والكتل السياسية المتسلّطة، ولاسيّما تلك الحاملة منها للمشاريع الإسلامية والطائفية، بالإقرار هي الأخرى بضرورة تصويب مسيرتها ولفظ تركة السنوات السوداء من الفساد والتسلّط والطائفية المثيرة للاستفزاز والاشمئزاز والقرف. وهذا ما ينبغي السعي إليه جميعًا، سياسيين ومثقفين ومنظمات وآكاديميين، لإبراز الوجه المختلف في شكل التوجّه الطموح الذي يصوّرُه لنا السيناريو التسامحي الثالث المطروح هذه الأيام عبر مشاريع التسوية، ليُضاف إلى المشاريع الوطنية الصادرة عن شخصيات متزنة ومن عقلاء مجتمع وحكماء ومثقفين مستقّلين في الرأي والمنهج والفكر. وهذا لن يكون قابلَ التطبيق والقبول، إلاّ إذا رست النية لبناء دولة مدنية حديثة ذات سيادة وطنية تحترم حقوق الجميع سواسية، وتتمثّلُ بمؤسسات دستورية رصينة قائمة على حكم الشعب وليس تابعة لجهات إقليمية أو نوازع دينية أو طائفية أو خاضعة لتأثيرات تيارات متطرفة ترفض وجود الآخر المختلف وتختزل حقوقَه بمواطنة دنيا وتذكّرُه بمناسبة ومن دونها بدونيّتِه مقارنة مع الأغلبية المتسلّطة. 
وفق هذا المنظور المعقول، كان الأجدر بممثلية الأمم المتحدة أيضًا، وهي الراعية لإيجاد تسوية سياسية وطنية تحظى بمقبولية لدى جميع مكّونات الشعب، أن تراعي مثل هذا التصوّر النابع من صميم الروح الوطنية للشعب العراقي، وبموازاة تعلّق الأخير بالوطن وبالحرص الشديد على مصيره ومستقبله. إلاّ أنها مارست سياسة ثعلبية حين تغليبها لتسامي مبدأ الأكثرية على الأقلية، بل وإهمالها حق المكونات قليلة العدد التي تسميها بالأقليات، بالتساوي في المواطنة وحقوقها مع المثلث الذي يتولى السلطة. وهذا التغاضي في المشروع المطروح عن مثل هذا الحق الوطني في التأكيد على مبدأ التساوي في المواطنة، تعزيز واضح لمبدأ المحاصصة الذي استنبطه الحاكم المدني بريمر، ومن ورائه جاء الدمار والخراب لغاية الساعة. فالظرف الذي جرى فيه تمرير قانون الحشد الشعبي ورعاية المنظمة الدولية لمشروع التسوية المطروح من الكتلة المتسلطة الذي يتركز أساسًا على أحقية مكونات ثلاث رئيسية في المجتمع العراقي دون غيرها، وما سيلي ذلك من توزيع السلطة والثروة على هذا المثلث، كما اعتدنا خلال الفترة المشؤومة الفاشلة السابقة، كلها إيحاءات بعدم وجود النية للتخلي عن سياسة المحاصصة في الأمد القريب والمتوسط. وبالرغم من صدور تصريحات ودعوات من أطراف متسلطة ومشاركة في السلطة بشأن هذا الآفة، إلاّ أنها جميعًا تخلو من إرادة لمغادرة نوازعها ومكاسبها. بل إنّ مشروع التسوية ذاتُه، الذي ترعاه ممثلية الأمم المتحدة، يكاد يكون صيغة حديثة لنسخة قديمة تشرعنُ مبدأ الطائفية وترسخ لمبدأ المحاصصة المعمول به. لقد عارضته أطراف شريكة ورأت فيه أخرى نسخة مكرّرة لمشاريع تسوية مطروحة سابقة، ولا جديدَ فيها.
إنّ الإنصاف الوطني يكمن بالتروّي في تمرير مشروع التسوية كي يراعي الهاجس الوطني والمجتمعيّ المتمثل بضمان حرية الفرد، أيَا كان، في الدين والمعتقد والفكر والعمل والرأي والملبس والسفر والتنقل والاسترزاق، أي بالعيش الكريم لكل العراقيين من دون استثناء ومن دون تمييز على أساس الدين والطائفة والاستكبار. وهذا لن يكون ممكنًا إلاّ بسيادة الدولة على كلّ مفاصل الحياة، والتعويل على القضاء العادل غير المسيَّس، ووضع حدود وقوانين صارمة لمحاسبة المقصّرين والفاسدين والجلاّدين والمستقوين باسم الدين والطائفة من المكوّن المتسلّط قبل غيره، عبر الكيانات الميلشياوية غير المنضبطة التي تصول وتجول وتؤدي دور الرقيب والحسيب والحاكم والجلاّد وتقرير مصائر الناس والحكم على الأشخاص وتولّي معالجة الحالات والظروف وفق ما تتلقنه من مصادرها ومراجعها في غيابٍ واضح للدولة وأجهزتها الأمنية والرقابية والقضائية.
في هذا السياق عينه، نكرّر الأسف المشوب بالحذر، للدور المتخبّط والانتهازيّ والمتحيّز للأمم المتحدة بالوقوف مجدّدًا إلى جانب مثلّث المكوّنات المتسلّط الذي أوجده الغازي الأمريكي، والذي تسبب بدمار اللحمة المجتمعية والحضارية والنفسية لعموم الشعب بالقفز على حقوق الغير من هويات ومكوّنات لم تعرف في تاريخها معنى للتعصّب والعنف والإرهاب والقتل والاعتداء على الغير وعلى الممتلكات العامة والخاصةّ، كما هي حال البعض من أتباع المتسلطين من هذا المثلّث الحاكم. وبطبيعة الحال، لا نقصد في هذه الملاحظة الواقعية، نخبة العقلاء والمثقفين والمواطنين الأبرياء من الذين تجري في عروقهم دماءٌ وطنية خالصة وممّن تهتزُّ قلوبُهم حبًا للوطن وأهلِه الأصلاء. 
إن لحظات الشعور بالنصر على الآخر المهزوم ملحميًا واجتماعيًا وواقعيًا، ليسَ مدعاةً لنسف السلم الأهلي وفرض شروط المنتصر على القائمين على مجتمعاتهم سياسيًا، أي فرض الواقع على الأرض، مهما كان الإنجاز ومهما كانت التضحيات. فهؤلاء ليسَ بالضرورة أن يكونوا في موقف صحيح لتمثيل شعوبهم. بل الأحرى بمَن استفاق لتوه واكتشف قدرات نصره المدعوم خارجيًا، أن يتعلّم من دروس الماضي ومن الضرر العام الحاصل بسبب إهمال الأنظمة المتعاقبة لحقوق الشعوب ومصالحها وتاريخها. فالسياسة الخاطئة تولد من بعدها سياسات أكثر تعاسة وأعظم خرابًا وأشدَّ ضررًا من سابقاتها، عندما لا يرعوي المتسلّط ولا يريد الاستفادة من دروس الشعوب والأمم.
لقد عانت المجتمعات العراقية من اهتزاز وانهيار وتشتّت في رؤيتها الوطنية وفي سلوكها اليوميّ، بسبب انعدام الثقة بين الإخوة الأعداء. وهذا هو الخوف، كلّ الخوف من مشروع المصالحة الوطنية الذي بدأت أولى تباشير فشله في الأفق بإقرار قانون الحشد الشعبي بهذه التوليفة وبمشروع التسوية غير الناضج الذي يعيد العملية السياسية وفق منظور المحاصصة اللعين. بل إن هذين الحدثين، من شأنهما الإطاحة بكلّ الجهود الرامية لرأب الصدع بين مكوّنات الشعب العراقي كافة، والمتشبث بأمل بناء دولة مدنية تراعي حقوق الجميع وتُبنى على أساس حضاري متمدّن وبمؤسسات دستورية قوية يسودها النظام والقانون والاحترام من الجميع وللجميع.
وأخيرًا، ضمن سياق التصحيح والإصلاح المتعثّر، لا بدّ من حسم ملف الخلافات بين حكومة المركز والإقليم، عبر بناء علاقات وطنية وعقلانية قائمة على مراعاة وتنفيذ حقوق كلّ طرف، من غير غالب ولا مغلوب، ولا مجاملة على حساب حقوق باقي المحافظات. فالنقاط الخلافية مثار الجدال العقيم بين الطرفين، سببُها الدستور وبنودُه غير الواضحة التي تحمل تفاسير متباينة لحساب طرف على آخر. كما تنتظر المكوّنات الأخرى من خارج المثلّث الحاكم، إنصافَها على أساسٍ التساوي الوطني الذي لا جدالَ فيه ولا مجالَ للتأويل فيه خارج النطاق الوطنيّ. وهي في انتظار إقرار ما يثبت حُسن النية، بمنحها إدارة ذاتية بعد استكمال صفحة تحرير مناطقها وإعمار بنيتها التحتية وتعويض أهلِها جرّاء عمليات النهب والسلب والحرق والتدمير الذي تعرضت له من قبل التنظيم الإرهابي، وكذا من قبل قوات التحالف جرّاء العمليات العسكرية ضدّ داعش.
إنَّ جلَّ ما تخشاه شرائح الأقليات اليوم، التأخيرُ في إعادة إعمار مناطقها وغياب البرنامج الحكومي الذي يؤمّن دفع التعويضات المستحقة جرّاء تدمير المساكن والبنية التحتية، إضافة إلى استمرار عمليات النهب والسلب والحرق حتى بعد دحر التنظيم الإرهابي منها. والسبب واضح لا يقبل الشك: ثنيُها عن العودة إلى مناطقها التاريخية، ومن ثمّ وجود نيات شاخصة بإجراء تغييرات ديمغرافية فيها، بحسب الهواجس القائمة في هذه الأيام.



239
في أحدث صحوة عراقية: عودة المرجعيات الموحدة، هل تقود الوطن إلى برّ الأمان؟
بغداد، في 10 تشرين ثاني 2016
لويس إقليمس
جميلٌ جدًا أن تنال مبادرتان "وطنيتان" بتوحيد الكلمة، صدرتا لغاية الساعة، ما تستحقّان من اهتمام شعبي وإعلامي وسياسيّ، لكونهما تبثان نوعًا من بصيص أملٍ بتسوية وطنية في نهاية النفق المظلم. ومثل بصيص الأمل هذا، بالرغم من التشبث به فكرًا عقائديًا وهاجسًا لا شعوريًا في آنٍ معًا، إلاّ أنه بالتالي، يبقى عنوانًا محفوفًا بشيء مختلطٍ من الرجاء والخيبة والحذر والريبة، أيضًا. فالمبادرات السابقة، ولا سّيما الصادرة عن الكتل السياسية المنتفعة من العملية السياسية، ما أحوجنا للتذكير بركاكتها وعدم وضوح رؤيتها وفقدانها للمصداقية الوطنية وقصر نظرها في رسم سياسة متزنة ومستقرّة لبلدٍ عانى طويلاً من ويلات كثيرة ومن حروبٍ مدمّرة للبشر والحجر، للفكر والحضارة، للثروة الوطنية والتنمية البشرية. كما أنّ العديد من تلك المبادرات المنقوصة، على العموم، لم يُكتب لها النجاح بسبب أزمة التقة القائمة بين الشركاء الفرقاء، وتجاهل معظمها إيثارَ المصالح العليا للوطن والشعب، وتشبثها بأنانية المكاسب الدينية والطائفية والمذهبية والفئوية والحزبية والشخصية الضيقة التي كانت السبب وراء تفاقم آلام العباد وتأزم أحوال البلاد وتعرّض مصالحها لأزمات متلاحقة أمنيًا وسياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وزراعيًا وعلميًا وتربويًا وفكريًا وتعليميًا واجتماعيًا وكل ما له صلة ببناء الأوطان ورفاهة الشعوب وحقها بالعيش الآمن.
ويأتي طرح مشروعي المبادرتين "الصحوتين الحديثتين"، الشيعية والمسيحية، في هذا الوقت الحرج من تاريخ البلاد المتأرجح بين الفوضى في العمل والصحوة بضرورة التغيير، بمثابة إشارة واضحة ببلوغ أزمة مصير العراق مفترقَ طرق صعبة: إمّا التكاتف والتصالح وتصحيح مسار العملية السياسية الأعوج بالقضاء على مكامن الفساد والفاسدين وطيّ صفحتهم وصفحة أحزابهم المتاجِرة (بكسر الياء) بالوطن وبالشعب المقهور، أو بقراءة الفاتحة على شيء كان يُسمّى العراق (شنعار)، بلدًا للحضارات التي دوّخت العالم وسادت المنطقة وأعطت من العلم والعلماء ومن القوانين ومن الأدب والشعر وما سواها ما انحنت له الرقابُ إجلالاً وما تزالُ تتذكره الأمم والبلدان وشعوبُ العالم بشيء كثير من الفخر والاعتزاز والإجلال.
من هنا، نحن نعتقد أنّ "مبادرة التحالف الوطني للتسوية الوطنية" -هذا إنْ كان الأخير صادقًا في أساريره- والباحثة عن تسوية وطنية لا تغفل في تطرقها لمجمل التحديات الرئيسية في البلاد، ومنها السياسية والاجتماعية والتاريخية والاقتصادية وحتى الأمنية التي تقضّ مضاجع المواطن البسيط، فهي تعطي إشارة واضحة بالشعور بخطر داهم. وعسى أن تكون ردٌّا شافعًا للباحثين الحقيقيين عن حلول للسلم الأهلي المفقود ولمشاكل الوطن والمواطن التي تفاقمت بسبب صراعات الأحزاب والكتل، جرّاء توجهها الطائفي الذي تبنته أحزاب الإسلام السياسيّ المتجلببة بالدين وأذيالِه بخاصة، وذلك بدعمٍ وتغطية  من الغازي الأمريكي منذ بداية الغزو في 2003. فهذا المنهج الشيطاني في زرع نار الفتنة الطائفية قد نجح فيه الغزاة كالعادة وبجدارة، إلاّ أنّ البلد بالنتيجة، غرق بسببه في عواصف هوجاء من نيران الطائفية والمذهبية والعرقية وفي الفساد الذي نما وطغى وتأصلّ في مفاصل الدولة ومؤسساتها. ومن ثمّ، لم يحصد المواطن البسيط، ولاسيّما من أبناء المكوّنات الأصيلة، العرقية والدينية القليلة العدد، سوى الكراهية والتهميش والإقصاء. لا بل جرى استخدامُهم واستغلالُهم بأبشع الأساليب في صفقات ومساوات بين الكتل والأحزاب عبر التآمر من خلف الكواليس مع الغزاة ومَن معهم مِن داعمي العملية السياسية العرجاء الآخرين. وهذه هي الحقيقة التي يحاول راعي العملية السياسية ومعه الساسة المعنيون، تحويرَها وإنكارها ودفعَ التهم عنهم، كالعادة.
وبالتوازي، جاء طرح مشروع مبادرة المراجع المسيحية، كخطوة استباقية للتحذير من مغبة تجاهل المكوّن المسيحي الذي لم يحظى كغيره من المكوّنات القليلة العدد الأخرى، إلاّ بجزئيات من حقوق مواطنية من الدرجات الثانوية في سلّم الحكم بالعراق، سواء بالأمس البعيد أم القريب. فحكومة التغيير الدراماتيكي الأخير، بساستها "المراهقين" من مزدوجي الجنسية ومن أصحاب المصالح الخاصة، ومن الملتحفين بجلباب الدّين وبطانته ومن المصرّين على تكرار روزناماتهم الطائفية، والمتاجرين بآلام شعوبهم وفقرهم، والمتجاهلين أوضاعَهم المأساوية بل وكيانَهم إلاّ في أوقات الانتخابات كسبًا للأصوات، لم تقوى هذه الحكومة على إحداث تغيير في منهجها الإصلاحي المتعثّر وإنصاف هذه المكوّنات الصغيرة منذ انفجر الشعبُ وثار واحتلّ منصات التظاهر وجالَ الشوارع مطالِبًا بمقاصصة الفاسدين واستبعادهم، وإيكال العملية السياسية إلى أناس تكنوقراط ومتخصصين ووطنيين مستقلّين بعد فشل الفريق الحاكم برمّته لبناء دولة مدنية متمدنة. والسبب واضح، وهو عدم وجود نية حسنة وإرادة طيبة للتفاعل مع مطالب الشعب عامة، ومع حقوق أبناء المكوّنات الصغيرة ومساواتهم في المواطنية والحقوق على أساس مبدأ المساواة والعدل والحق مع غيرهم من أبناء الوطن. كما أنّ الدستور الذي صارَ شماعة متهرّئة للكتل والأحزاب المتنفذة في التشبث به وعدم وجود رغبة في تعديل الكثير من بنوده المجحفة بحق هذه المكوّنات المقهورة والمهمَّشة، لم ينصفها لدى كتابته بسبب سطوة الكتل الكبيرة وقادة الأحزاب على مقاليد السلطة وأدوات التشريع. يُضاف إلى هذا، تركُ الغازي الأمريكي راعي العملية السياسية، الحبلَ على الغارب عندما لم يجهد النفسَ بردع فساد الساسة وسطوتهم، وعدم فرضه الرأيَ التشاركي في العملية السياسية لجميع المكوّنات من دون تمييز من خلال تقديم المنطق الإنساني والوطنيّ في كتابة بنوده، ما قد أسهم هو الآخر بتهميش هؤلاء "المقهورين". وهذا من ضمن أسباب أزمة الثقة المتنامية من طرف العقلاء والبسطاء من عموم الشعب إزاء السلوكيات المشبوهة للغازي الأمريكي والسائرين في ركابه من دول وشعوب ممّن لم يجهدوا النفس بردع أساطين الحكم ونهيهم عن الفساد والاستئثار بكلّ شيء وحثّهم للابتعاد عن آفة المحاصصة القاتلة بسبب توجهاتهم الدينية والطائفية والعرقيّة، وتركهم يتقاسمون الكعكة بين ثلاثيّة متلازمة لغاية الساعة: العرب الشيعة والعرب السنّة والأكراد، حصرًا.  لذا، لا يصحّ التركيز في رسم مبادرة التسوية الجديدة المقترحة للتحالف الوطني، على أساس خيارات سابقة أثبتت فشلَها حينما تجاهلَت أحقية مكوّنات أخرى من خارج المثلث الحاكم في الشراكة الكاملة بالوطن وسلطانه وثرواته وسياساته. وما على ذوي الشأن والدراية والسلطة إلاّ أن يصححوا الخطأ السابق، ويضمنوا الوجود التاريخي والإنساني والحضور البشريّ للمكوّنات الدينية والعرقية المختلفة عن هذا المثلث الحاكم الذي لم ينصفها فيما مضى.
وللتذكير فقط، كانت هناك قبل أكثر من عامٍ، مبادرةٌ سابقة لمراجع مسيحية معتدلة ومنفتحة للمّ وحدة الكلمة وتوحيد الخطاب المسيحي بمرجعية مسيحية سياسية مستقلّة جامعة لأحزاب متواجدة على المشهد السياسيّ ولنشطاء مدنيين مستقلّين ومثقفين وأكاديميين وأصحاب فكر. لكنّها اصطدمت بإرادات أنانية، كنسية ومدنية، وكذا من جانب أحزاب وممثليهم ممّن يعرفون فقط قولَ ما يُلقَّنون إياه من مرجعياتهم والتمسّك به بأسنانهم وبكعبِ أرجلهم خوفًا من فقدان مواقعهم ومكاسبهم وامتيازاتهم الطائفية والخاصة. وتأتي مبادرة البطريرك لويس ساكو في عينكاوا، في الأيام الخوالي، بجمع الرؤساء الروحيين لكنائس العراق وبمشاركة رؤساء الأحزاب المسيحية، للتباحث بشأن مستقبل المسيحيين، كخطوة متكررة ومؤكِّدة (بكسر الياء) لمبادرته السابقة التي استجاب لها آنذاك ذوو النوايا الطيبة، وكادت ترقى إلى مستوى تحقيق الهدف بتشكيل مرجعية مسيحية سياسية جامعة مستقلّة، تأخذ على عاتقها تسيير دفّة المكوّن المسيحي وتوحيد خطابه ومطالبه. فذات الفكرة التي سعت إلى تحقيقها لجنة هيئة الرأي سابقًا، وكاتب هذه السطور كان من بين أعضائها، ها هي تتبلور من جديد للترويج لتشكيل هذه المرجعية، تماشيًا مع مقتضيات الظرف المصيري الحالك الذي من شأنه رسم مستقبل "هوية المكوّن المسيحي" في هذا البلد، لاسيّما بعد تحرير المناطق االمغتصَبة من قبل داعش الإرهابي التي كان استولى عليها قبل أكثر من عامين في الموصل وسهل نينوى حيث التواجد الأكبر لأتباع هذا "المكوّن" المسالم. ونظرًا للأجواء المشحونة و"التكَأكُؤ" والتكالُب الباديين من جهات عديدة متنافسة تسعى للانقضاض على مناطق هذه المكوّنات، باستغلالها للظروف الأمنية وفراغ السلطة وهشاشة المواقف السياسية لدى شرائح أخرى تجهل التعامل مع حقوقها كما يجب، فقد جاءت هذه المبادرة من رئاسة الكنيسة في العراق، كي تسعى لإنقاذ ما يمكن وتضع حدودًا للصعوبات والمناكفات والسجالات بسبب تقاطع مصالح أطراف تحاول الاستئثار بالواقع الراهن. ونأمل أن تتوصل اللقاءات الأخيرة، إلى اتفاق مشترك ومقبول يسهّل التفاهم والتحاور مع شركاء الوطن الآخرين على أساس المواطنة الكاملة وغير المنقوصة وفرض وجود "المكوّن المسيحي" قبل غيرِه من التسميات، فعلاً وليسَ قولاً، فحسب.
ومع ترقب صدور اتفاق حاسم يرسم ملامح مصير هذا المكوّن الأصيل في نسيج الشعب العراقي، لينضمّ إلى مشروع مبادرة التسوية الوطنية المطروح للتحالف الوطني، يتطلّع العقلاء، مبادرةً من باقي المكوّنات الأخرى التي لم تحسمْ تشكيل مرجعياتِها بعدُ، تسهيلاً للتفاهم والتحاور وبلوغ مأرب التسوية الوطنية الشاملة والمصالحة المجتمعية الصادقة، إنْ صدقت النوايا وحسنت الأفعال لا الأقوال. فما زال المكوّنُ السنّي منشقًّا على ذاته، غيرَ جامعٍ لكلمتِه، متأرجحًا بين الردّ والصدّ، غارقًا في أحلام فقدان الحكم وعدم قبول الواقع الحاضر. فالحاضر هو الذي يبني المستقبل وليسَ الماضي القديم الذي فات وماتَ. فهذا الأخير قد أفلَ ولن يعود كما كان بصيغته السابقة. بل من الممكن عودتُه بحلّة قشيبة وهيئة عصرية مجدِّدة للفكر والروح والذهن من خلال الشراكة الكاملة، إنْ صلحت الإرادات واجتمعت الآراء حول فكرة البناء والإعمار ورأب الصدع القاتل وزوال أزمة الثقة القائمة بكلّ قوتها. وهذا ما هو مطلوب من باقي المكوّنات الأخرى التي يتشكّلُ منها نسيج المجتمع العراقي، كي يعود فاعلاً متجدّدًا قاهِرًا لكلّ العوارض القديمة التي أعاقت تقدّمَه وقطعت طريقَ تطوّره بسبب الأنانيات المقيتة وتنامي الغيرة والنفاق والرياء. علّ المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة التي تعهدت بضمان أي اتفاق وطنيّ يدعم السلم الأهلي والمصالحة، تحافظُ على وعودها، وتسعى من جهتها لتذليل الصعوبات التي تعترض ممرّات هذا الطريق الشائك.
وهذه مناسبة جديرة بدعوة أصحاب المبادرات التصالحية الحديثة، للبحث عن تسوية سياسية وطنية جامعة حقيقية وغير مرحلية، تتضمن إصلاحات جادّة تؤثر المصالح العليا للوطن والشعب على غيرها من المكاسب الطائفية والحزبية والخاصة التي تربّوا عليها وتشبثوا بها ويصرّ البعض على المضيّ فيها، بالرغم من فشلها الذريع. لقد آن الأوان أيضًا، وجدَّ الجِّدّ في هذه المرحلة المصيرية التي تقترب فيها البلاد من القضاء على أعتى تنظيم إرهابيّ أحكمَ سطوتَه على أكثر من ثلث الأراضي العراقية، للابتعاد عن البكاء على المظلوميّات الحصرية السابقة، التي أصبحت من الماضي. فمَن كان بالأمس خارج السلطة مظلومًا، قد تهيّأت له فرصة الحكم، وعليه إثبات الجدارة فيها وليسَ البكاء وزيادة وسائل اللطم والإيغال في الأدوات التي تصاحب هذه الممارسات الاستفزازية وما سواها، ممّا يزيد التخلّف والتأخر في تقدّم البلاد وتطوّرها ونمائها وكذلك في إبقائها في دائرة الفكر المتأخر عن ركب العصرنة والتمدّن. فمثل هذه الأفعال والمظاهر التي أُفرغت من محتواها العقائدي ومن قيمها الشعائرية المقدسة، لم تعد تستقيم مع ظروف البلد المصيرية، ولا تتجانس مع الحاجة لرصّ الصفوف وحشد الطاقات اللاّزمة من أجل البناء والإعمار التي تحتاجها البلاد المجروحة والغارقة في الفوضى التنفيذية لمؤسسات الدولة وغياب القانون. وهذا ما يشير إليه فراغُ المشروعات والمبادرات التقليدية المقدمة من الأحزاب والكتل الحاكمة من نفحة وطنية ثاقبة للبناء ومن غياب بُعد الرؤية لمستقبل وطن وشعب فقدا الثقة بمَن أتى بهم الغازي الأمريكي كي يحكموا بغير جدارة ولا كفاءة ولا حرص على البلاد والعباد. 
هي فرصة أيضًا، للكفّ عن النفاق ووسائله المستهجنة، والابتعاد عن المزايدات الماكرة وتزايدها، والاستحياء من ممارسات صبيانية بمسح الجلابيب وإطالة الصلوات الباطلة والتنافس في المناسبات الدينية والمذهبية التي أخذت طابعًا دعائيًا لتحقيق مكاسب ضيقة وطائفية وفئوية على حساب قدسية هذه المناسبات. لقد قالت الكثير من المرجعيات الدينية المتزنة كلمتَها وأبدت رأيها فيما يجري أمام الأنظار، بل واستهجنت بعضُها مثل هذه الممارسات والطريقة التي تحاول بها أطرافٌ سياسية انتهازية توظيفَها لصالح مصالحها الخاصة على حساب الوطن والشعب. لقد كان الأجدر بالساسة بعد السقوط ومَن يقف وراءَهم، أن يكفّوا النحيب والبكاء بسبب شمّاعة المظلومية. فالجميع كان مظلومًا، هذا إنْ لمْ يكن مثلُ هذا النفر من الباكين اللاّطمين على مدار السنة، هو نفسُه قد ظلمَ نفسَه وجارَ عليها بفعل تصرّفات بالية ومتخلفة وطائفية لا تُؤكل ولا تسمّن.
 كفى تذكيرًا بالماضي؟ ولنعش الحاضر ونفكر بالمستقبل. فإلى متى يبقى زعماءُ الشعب وحكّامُه يتغنون بالمظلومية وينتحبون، فيما الحكمُ والمال والجاه والثروات كلّها بأيديهم، وشعبُهم خالي الوفاض من خدمات أساسية ومن أمن واستقرار وراحة بال؟
هي فرصة بالتالي، للمكوّنات السائرة في ركاب المثلّث الحاكم أو خارجه، كي يقولوا كلمة حق بوجه الظالمين والفاسدين وناهبي الثروات الوطنية أمام أعين الشعب والمرجعيات، من دون أن ينال القضاءُ من واحدٍ كبير ومتنفذٍ من بين صفوفهم، بسبب ضعف موقفه وعدم استقلاليته والضغوط التي تُمارس عليه. فهل نترقب سياسة جديدة للأحزاب الحاكمة تُؤسّس لعصرنة "دولة مدنية" بإمكانها الخروج من النفق المظلم الذي وقعت فيه وغرقت بسببه في فوضى خلاّقة اكتنفها العنف والظلم والقهر والتهميش والقتل على الهوية والتزوير والتهديد والاستيلاء على عقارات الدولة وعلى منازل المواطن البسيط بشتى الطرق والوسائل؟ وهذا لن يحصل إلاّ بشراكة حقيقية وفاعلة لجميع الفعّاليات الاجتماعية ومكوّنات الشعب بغض النظر عن دينها وعرقها ومذاهبها وطوائفها ومسمّياتها الأخرى. فالمعادلةَ السياسيةَ للبلاد والسلمُ الأهليّ لم يكن ليكتبَ لها الانهيار إلى المدى الذي شهدناه بعد السقوط ولغاية اليوم، لولا ما حصل من اختلالٍ في العملية السياسية وسوء احترامٍ في العلاقةِ بينَ السلطةِ الفاسدة وأحزابها الانتهازية إزاء الشعبِ المقهور، وخاصة تلك التي انتهجت خطً الأيديولوجيا الدينية أو تجلببت بنهج طائفيّ مقيت كسبًا للأصوات وتقرّبًا من المرجعيات ذات التأثير الواضح في العملية السياسية.


240
القومية الشعوبية تهدد حقوق الإنسان والأمن في أوروبا
بغداد، في 20 أيار 2016
لويس إقليمس
دخلت أوربا بعد عام 2015، مرحلة حرجة من حياتها "الغربية" التي تطبعت عليها منذ تشكيل هيئتها تحت ظلّ مسمّى الاتحاد الأوربي في 9 ايار من عام 1951 والسنوات التكميلية اللاحقة بمؤسساتها، كقوة سياسية واقتصادية ونقدية لها وزنُها وثقلُها على صعيد الأسرة الدولية. فقد شهدت مرحلة التأسيس، محطات كثيرة من الاندفاع حينًا والتأنّي حينًا آخر، ومن التقدم والتراجع في غيرها، لغاية بلوغها ما وصلت إليه، حين توحيد وحدتها النقدية "اليورو" في عام 1999 والتي تعمل بها تسع عشرة دولة عضوًا في هذا الوقت. ونتيجة لنوع الحياة المستقرّة في معظم أراضيها، إلى جانب الرفاهة والحرية الشخصية والمعتقداتية والفكرية التي تتمسك بها عنوانًا لسياستها العلمانية -المدنية من حيث المبدأ، فقد أصبحت دولُها مناطق جذبٍ مستثارة وحلمًا  ورديًا لطلاّب الراحة والاستقرار بالنسبة لمواطني بلدان تزايدت فيها المظالم واشتدت الحروب وكثرت أعمال القتل والتهميش، ما دفع جيوشًا من اليائسين والناقمين على حكام السلطة في هذه البلدان "التعبانة"، كي يديروا ظهورهم لأوطانهم المثقلة بالمشاكل والأزمات وينشدوا أرض الحرية والديمقراطية ونظارة الأرض وتسامح البشر واللقمة النظيفة.
يعبّرُ السكرتير العام للمجلس الأوربي جاغلاند، في تقريره السنوي الصادر مؤخرًا، عن مخاوف متزايدة من تعرّض قاعدة حقوق الإنسان والديمقراطية والأمن في القارة الأوربية إلى تهديدات خطيرة قائمة على أصعدة عديدة. فدول الاتحاد الأوربي مجتمعةً، وجدت نفسَها واقعة في دوّامة جدلية حول مستقبلها ومصير اتحادها وأراضيها وبشرها على السواء، حيث تشير أحداث السنة الماضية التي مرّت على عموم أوربا، إلى تفاقم مشاكلها المتعددة، ومنها تلك الأمنية التي أخذت مديات متفاقمة ومقلقة للغاية، بعد الهجمات الإرهابية التي ضربتها في عقر دارها وفي مؤسساتها ومراكز فنونها ومواقعها التربوية والفكرية والحضارية والدينية والاقتصادية، من دون استثناء. وبالتأكيد، فإنَّ من نتائج ما أحدثته تلك الأحداث الدامية من بلبلة ورعب وخوف مبرّر وسط العامة، جعلت بعض زعامات أوربية وحكوماتها ومنظماتها تلجأ لإعادة حساباتها بسببٍ من ضغوط شعوبها الأصيلة التي انحازت لأوطانها قوميًا ووطنيًا ودينيًا بعض الشيء، ومنها ضغط الشعوبيين واليمينيين.
قصارى القول، أنّ القارة العجوز، قد دخلت غبّ تلك الأحداث في معركة من نوعٍ جديد في مقارعة أزمات ومشاكل عديدة، ومنها تلك التي أُقحمت بها، سواءً بفعل سياساتها بين الشعوب ومع الدول والحكومات أو من دون رغبتها. فقد أُضيف إلى شبح الإرهاب الذي طالها وأصبح من أكثر الهواجس لديها، كابوسُ الهجرة الشرعية وغير الشرعية الذي غزاها على شكل موجات بشرية هائلة غير قابلة السيطرة والتنظيم قبل عام وما زال قائمًا بوتيرة أخفّ. وفي مراجعة دقيقة للحدث، يبدو للعيان أنّ ذلك وقع وفق فعلٍ ممنهج من خلال تدفق طالبي اللجوء وبتحريض من جهات دولية ودول إقليمية، بالرغم من عدم خلوّ هذا الغزو البشري الهائل من إشكالات واندساس لعناصر أرادت الانسلال بهدف إلحاق تغييرات في الديمغرافيا والواقع والفكر والمعتقد، على السواء. فما أُعلن على لسان بعض مَن اقتحموا حدود الاتحاد عبر الممر الرسميّ في تركيا مثلاً، كفيلٌ بشرح ما في جعبة هؤلاء وفي كشف النوايا والرغبات والطموحات، سواءً بدراية من دول الاتحاد أم بغفلةٍ منها ومن دون أن تعي حجم الكارثة التي ستتعرّض لها لاحقًا.
من دون شكّ، هؤلاء الهاربون من جحيم بلدانهم، هم بشرٌ في نهاية المطاف، ومن حقهم اللجوء وطلب الأمان إلى الأرض التي تحترم خصوصياتهم وأمنياتهم وتؤكلُهم وتشربهم وتحنو عليهم كبشر، وليسَ مثل حثالة البشر والمهمّشين وفاقدي الحقوق، وهي الصفة التي يُعاملون بها في أوطانهم الأصلية. فهذه الحشود المهاجرة قسرًا، قد أدركت بما لا يقبل الشكّ، أنَّ البلد الذي لا يحفظ لهم كرامتَهم ويمنحهم حقوقًا آدمية وإنسانية، لم يعد لهم أرضًا صالحة ولا وطنًا يستحق الاحترام، طالما أنه غير قادر على الدفاع عنهم ومنحهم الحقوق المترتبة عليه كبشر. بل هؤلاء يكونون قد وجدوا ضالّتَهم في هذه الأرض الأخيرة التي ضمنت لهم الأمان والحرية والكرامة ولقمة العيش الرغيد. من هنا، توجب هذه لهم هذه الحقوق واجبات الضيافة الدنيا، بالتصرف وفق مبدأ احترام مَن فتح لهم الأبواب وقدّم لهم المأوى ومنحهم المأكل والملبس والحرية والكرامة التي فقدوها في بلدانهم الأمّ. لكنّ واقع الحال، يشير إلى استغلال هذا الوضع المتسامح وسياسة فتح الأبواب والحدود من جانب نفرٍ من المهاجرين المغرضين، من أجل تحقيق ما يعتقدهُ هذا النفر الضالّ من مآرب وغايات دينية وطائفية وشعوبية وقومية "نازية" بنسختها المعاصرة التي يسعى إليها أصحاب الأيديولوجيات المتشدّدة ودعاة التطرّف في الدين والمعتقد والقومية على السواء. وهذا من شأنه أن يضعف الثقة في المؤسسات الوطنية والأوروبية، إن لم تعي خطورة الموقف وتضع الاستراتيجيات الضرورية لمعالجة مواقع الخلل في سياساتها إزاء الهجرة غير النظامية في الأسلوب والاختيار والتوطين.
ربما، شرعت مؤخرًا، بعض الدول التي شملتها موجات الهجرة واكتوت بنشاطات إرهابية، شارك فيها نفرٌ من المهاجرين الذين تم استقبالُهم بغفلة ودون تمحيص، بكشف الثغرات وفي معالجةٍ، ربما لا تتفق مع المعايير الدولية التي تنشدُ المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، ومنها ما يشتمل على حرية التعبير والفكر والتنقل وحرية التجمع واحترام الخصوصيات. والهدف واضح ومبرّر، وهو الحدّ من محاولات تعكير صفو الأمن العام والحياة المسالمة لشعوب بلدانها، في محاولة للتهدئة والتطمين، مقابل صيحات الغضب والرفض من الشعوب الأصيلة إزاء موجات الهجرة الجارفة التي غزت الأرض والاقتصاد والفكر وطبيعة الحياة المنفتحة.
لكنّ راصدين للموجة ومسبباتها وحيثياتها وبسبب من المعالجات غير الحريصة وغير المطمئنة من جانب بعض دول الاتحاد في بعض الأحيان، من جهة أخرى، يرون أنّ بعضًا من هذه المعالجات غير الرصينة، إنما هي من علامات الانحلال والضعف في النظام الأوربي. وبحسب غيرهم، فهي تشير إلى قصر نظر في رؤية المشكلة وفي المعالجة، لكونها لا ترى المشكلة في بُعدها الأبعد والأوسع وفي نتائجها الكارثية لاحقًا. بل إنّ البعض يرى في القوانين الأوربية التي تتطرّق إلى هذه المعضلة، خطورة وعلاجًا غير مقبول، في حالة عدم الأخذ بكامل حيثياتها والتوقعات في نتائجها. وهي بالتالي، أي هذه المعالجات، لا ينبغي أن تخرج عن إطار الرؤية الواضحة في كيفية احترامها لخصوصيات شعوبها الأصيلة وبما لا يتناقض ولا ينعكس سلبًا على موضوعة حقوق الإنسان، الذي ينبغي التطلّع إليه والالتزام به بمقدار ٍ من الحذر الواجب، بالرغم من كلّ ما يعتري هذا الموضوع من منغّصات ومزالق ومخاطر. وهي بالتالي تتطلب معالجة مجتمعة وموحدة في الموقف والرؤية والسياسة التي تحقق المصلحة العليا لبلدان الاتحاد، كي لا يفقد هذا الأخير توازنَه وثقلَه الدولي ومصداقيتَه لدى شعوبه الأصيلة، فيخسر بالتالي دورَه الريادي في تطبيق مبادئ الحرية والديمقراطية والعلمانية، الحلم الذي ينجذبُ إليه المهاجرون، من دون تحديد المواقف والأهداف.
في المجمل، بروز هذه المشاكل وما لحقها من نتائج، قد استدعت إصدار حزمة من القوانين والتعليمات بهدف المعالجة الآنية، ولكنها لم تحلّ المشكلة تمامًا، ولن تستطيع ذلك. والسبب ببساطة، لأنّ الأحداث الدامية والرهاب المتكوّن بسببها قد شكّل أرضية خصبة لتنظيمات قومية شعوبية ويمينية ترفض ما حصل وتقف بالضدّ من تغلغل الغرباء في مجتمعات كانت حتى الأمس القريب محافظة على سلميتها وحضارتها وعاداتها وتقاليدها وعلمانيتها ونظامها المدني الذي أُريدَ ضربُه في العمق بهدف الإلغاء والقضاء عليه لأسباب متباينة. وهذا استدعى أيضًا، استحثاث النظام القضائي ليأخذ دورَه في إيجاد معالجة وسطية بين ما حصل وما يريدُه شعبٌ آمنٌ تطبَّعَ على حياة الديمقراطية المفتوحة والحرية والفنّ والجمال والرفاه واحترام الآخر.
نقول مثلاً، لا مجال للشكّ في قدرة النظام القضائي في أوربا، بالبقاء ضمن خانة الحيادية والاستقلالية، باعتبار المبدأين من الأقطاب الأساسية التي تكشف وتسلط الضوء على أشكال التدخلات السياسية غير المقبولة وأنواع الفساد الموجود وحالات عدم احترام للأعراف التقليدية، التي هي من بين العديد من الهموم ومصادر القلق التي تحيق بدول الاتحاد. ولعلّ من بين النقاط مثار الجدل، وممّا طفا على السطح في نموّ متزايد، ما يسمّى بظاهرة "القومية التشريعية" التي تحاول اجتياز المعايير المتعارف عليها دوليًا، إزاء معالجة موضوع اللاجئين والمهاجرين بصورة أكثر استحثاثًا. فهذه، من وجهة نظر البعض، تتعارض جزئيًا مع معايير المبادئ التي عُرفت بها دول وشعوب القارة، بالرغم من كون الأسباب والهواجس تمنح لها مثل هذه الإجراءات الاستثنائية بعض الشيء.
في جانبٍ آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه، تشير مراكز الرصد للحريات الصحفية والإعلامية، أن هذه الأخيرة قد تراجعت بعض الشيء في العام المنصرم في أكثر من نصف دول الاتحاد الأوربي (47 دولة)، من حيث تزايد أساليب القمع وإلحاق الأذى بالأسرة الصحفية بوسائل متنوعة. إضافة إلى حشر جهات منتفعة، سياسية واقتصادية وسلطات حاكمة، لنفسها في عمل الأوساط الإعلامية وبتدخلها بصورة مباشرة أو غير مباشرة في عملها وفي عرض ما تراه من أحداث وفق رؤياها على الأرض. ولم تخلُ مواقع التواصل الاجتماعي من بعضٍ من هذه المنغصات في المراقبة والملاحقة والمصادرة والمحاسبة!
بالتالي، عندما يحصل التأكيد على دور القضاء المستقلّ في النظر إلى هذه المسائل المقلقة، فلكون هذا القطاع هو الضامن للاستقلالية والحيادية في الحكم على ما يجري بعد اختلال التوازن في سلسلة من الممارسات اليومية التي غيّرت في واقع حال دول الاتحاد. من هنا، ترتب على المجلس الأوربي أن تتضامن دولُه وتضع حكوماتُه خططًا ثاقبة وشفافة من أجل تعزيز دور القضاء وسلطاته في الحياة اليومية لشعوبه المتنوعة دينيًا وإتنيًا ولغويًا. إذ لا بدّ من التعاون مجتمعين من أجل إزالة هواجس الخوف والرهاب والتمييز والتعصب التي احتلت مكانَها بدلاً من التماسك والتسامح والتضامن والانسجام والاندماج، نتيجة لصعوبة تطبيق هذه الأخيرة، أو لعدم إيمان القادمين الجدد بهذا السلوك في الحياة المختلف عمّا خبره المهاجرون المختلفون في الأصول والمبادئ والاستعداد للاندماج المطلوب مع المجتمعات الجديدة.
باختصار الكلام، هناك ثغراتٌ كثيرة قد خلقتها الأحداث الأخيرة منذ عام، وماتزال وتيرتُها ومعالجاتُها غير مستوفية للقدرات وغير متمكنة من احتواء جلّ المشكلات التي تحيط القارة الأوربية. وهي تستدعي سيلاً من العلاجات التضامنية والتعاون على أصعدة عديدة، من دون أن تنتهك هذه الأخيرة نظام الحياة الخاصّ الذي تطبّعت عليه شعوبُها، أو أن تخرج عن القيم الدينية والإنسانية المعروفة بها، بحجة الالتزام بمعاهدات حقوق الإنسان على حساب شعوبها الأصيلة ومصيرها ومستقبلها. وإلاّ، فإنّ تيارات اليمين المتطرف والقوميين الشعوبيين سيكون لهم كلمتُهم الفصل في مستقبل ومصير القارة.

241
دائمًا، من أجل بيئة نظيفة
بغداد، في 20 تشرين ثاني 2016
لويس إقليمس
أنهت قمّة المناخ العالمية السنويةCOP22 ، المنعقدة للفترة من 7-18 تشرين ثاني 2016، في مراكش العاصمة المغربية، أنهتْ أعمالَها بإشرافٍ من المنظمة الدولية. وقد وصفها وزير البيئة المغربي بقمّة تنفيذ قرارات قمّة باريس، من خلال التوصل لإقرار خطة عمل لتطبيق الاتفاق المذكور، والهادف لتقليل نسبة الاحتباس الحراري على الكرة الأرضية دون درجتين مئويتين، من أجل خلق بيئة نظيفة للبشر على الأرض حتى عام 2018. 
ويأتي هذا الحدث المهمّ على الصعيد الدوليّ، تتمّة ومتابعة لقمّة باريس الناجحة بكلّ المقاييس 1COP2، التي عُقدت قبل عامٍ من ذات الشهر، والتي اختتمت آنذاك في 12 كانون أول 2015، بتوقيع 175 دولة من مجموع الدول ال 195 المشاركة، على الاتفاقية التاريخية إجماعًا وإقرارًا. ونصت الاتفاقية الموقعة آنذاك، على احتواء ظاهرة الاحتباس الحراري دون معدّل 2 درجة مئوية عمّا كانت عليه قبل الثورة الصناعية، مع مواصلة تكثيف الجهود للوصول إلى تحديد وتقليل ارتفاع درجات الحرارة دون 1,5 درجة مئوية. ومع نجاح المفاوضات المكثفة بين الدول المشاركة فيها آنذاك، فقد تُرك لكل دولة وضمن حدود إمكانياتها، بذلَ جهود للعمل على التقليل من نسبة الانبعاثات الحرارية ومن مصادرها. 
في الواقع، وعلى الصعيد الدوليّ، تكون قمة باريس، قد وضعت حدّا لأشكال المراوغة والمماطلة والتردّد التي سادت القمم السابقة من غير نتيجة حاسمة وواضحة للمشاركين بسبب خلافات وتقاطعات. لذا كان دخول اتفاقية باريس للمناخ حيّز التنفيذ في 4 تشرين ثاني 2016، انتصارًا كبيرًا لأنصار البيئة وللكرة الأرضية في مواجهة التحديات المناخية التي تهدّدها بسبب التكنلوجيا الملوّثة وأدواتها ومصادرها الكاربونية التقليدية القديمة التي تنتظر التجديد والابتكار، إلى جانب الحروب المدمّرة للحجر والبشر، التي تستخدم شتى انواع الأسلحة التي من شأنها إصدار الإشعاعات وتلويث البيئة من دون حسيب ولا رقيب ولا رادع.
السلطات المغربية المعنية التي استضافت القمة الجديدة بنسختها 22، أشارت في حينها إلى أنَّ من بين أهدافها، متابعة العمل على التخفيف من آثار التغيير المناخي السالبة وتقليل الاحتباس الحراري، وأيضًا البحث عن ابتكارات جديدة تتعاطى مع ضرورات التكيف للتطورات المناخية السائدة والمتوقعة. هذا، إضافة إلى سعيها لتطوير أدوات عملية قابلة التنفيذ تمّ الاتفاق عليها في القمتين المناخيتين السابقتين: في ليما، عاصمة بيرو 0COP2 عام 2014، وفي باريس 1COP2 عام 2015.
يذكر أنّ مراكش، العاصمة المغربية، كانت قد استضافت القمّة السابعة أيضًا، في عام 2001. والمغرب يُحصى من بين الدول الأربع الأولى عالميًا في تحلّيه بصفات النقاوة البيئية إلى جانب كلّ من كوستاريكا والبوتان وأثيوبيا، من حيث التخطيط لاستخدام الطاقة المتجددة على مراحل لغاية 2030، ومنها الاستفادة من الطاقة الشمسية في مشاريع البلاد المتنامية. 
إزاء هذه الإشكالية البيئية العالمية، التي يبقى البتّ قائمًا بوضع حدودٍ لأدواتها ومصادرها، لا بدّ للقوى الكبرى المهيمنة على صناعة القرار، أن تعي حجم الدمار الذي تلحقه ماكنتُها العسكرية والصناعية ضدّ إنسان اليوم والأرض التي تضمُّه، باستخدام هذه الأدوات وغيرها من المصادر غير النظيفة، ما أرَّقّ حياتَه ووضعَ صحتَه والهواء الذي يستنشقُه والطعامَ الذي يتناولُه على المحكّ. فزادت الأمراض وتعسرّت غيرُها وظهرت أخرى لم تكن في الحسبان. وهذا ما يتطلبُ تكاتفًا وتنسيقًا دوليّين للحدّ من مثل هذه الظواهر القاتلة، كما حصل تمامًا في قمّة باريس للمناخ، التي عُدت قمّة القرارات. 
لقد ترقب العالم ومعه جميع أنصار البيئة أن تتولى قمة مراكش وضع ما تمّ الاتفاق عليه في نسختها السابقة، حيّز التنفيذ، تمامًا كما كانت تطلّعت إليه الدولة المضيفة، فرنسا، وكما طمحَ منظمو هذه النسخة الجديدة كي تكون قمّة الأفعال والتنفيذ والتطبيق للاتفاق التاريخي الموقع في 2015. وبحسب مصدر في برنامج الأمم المتحدة للتنمية، أنّ باريس التي تولّت التصميم والتخطيط، وجدت مراكش تشمّر عن ساعدها لتطبيق الاتفاق وتنفيذه بالإجماع لصالح الجميع. وهذه إشارة مهمّة لبروز نضج ٍ دوليّ بخطورة التصاعد المخيف في درجات الحرارة بصورة مطّردة، ما أصبح يهدّد الكون وما فيه من ماء ونبات وأرض وبشر. ومثل هذا التخوّف والتحذير من تفاقم خطورة المناخ العالمي، يأتي عبر الإجماع الدولي على تنفيذ اتفاق باريس الذي توسّم فيه الجميع خيرًا، بعدِّه قرارًا دوليًا صائبًا لا رجعةَ فيه، وأنّه آخِذٌ طريقَه إلى التنفيذ بعد إكمال جميع فصوله في القمة المناخية الأخيرة في مراكش. حيث من المؤمَّل الانتهاء من تفاصيل تقنين اتفاق باريس في 2018، الذي تحدّدَ فيه إكمالُ الإجراءات الوقائية للجولة الأولى من تطبيق الاتفاق المذكور الذي دخل حيّز التنفيذ بداية تشرين ثاني 2016 بترجمة الأقوال إلى أفعال واقعة. 
من هنا، تكون خارطة الطريق قد ضمنت للعامين المقبلين فترة من الاستعداد الكلّي لما يترقبه الجميع في القمة بنسختها ال 24، التي ستعُقد بعد عامين، والتي ستشهد تنفيذ الآليات المتفق عليها في قمّة باريس بكلّ تفاصيلها وإجراءاتها، عندما ينبري الجميع للضغط على اتخاذ ما يلزم من أجل تقليل نسبة الارتفاع في درجات الحرارة، كلّ حسب مقدرته وما يسمح به الظرف. وإنَّ أيَّ تقاعس في هذه الجهود، سوف يحيل مشروع الاتفاق الموقع عليه إلى كارثة بيئية تنذر بالخطر الداهم الذي قد يرفع درجات الحرارة إلى 5 درجات مئوية، كما يتوقعه خبراء البيئة، انطلاقًا من واقع حال النشاط الصناعي المتنامي للدول والشركات التي تتبارى وتتنافس صناعيًا من أجل المزيد من الأرباح والتفوّق.
إنّ هذه المعركة البيئية، تواجه اليوم تحديات كبيرة من جانب الدول النامية بسبب قلّة الأموال المخصصة لمشاريع التخفيف من الاحتباس الحراري، وبسبب عدم قدرة بعضها على تمويل هذه المشاريع الضرورية. كما أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية، قد تقف حائلاً دون تنفيذ جميع بنود الاتفاقية، في حال تواصلت هذه الأزمة وتخفيض الميزانيات المخصصة التي تحتاجُها الدول الفقيرة التي ستتأثّر بسبب تعطيل ماكينتها الصناعية للمشاريع التي تعتمد على الوسائل التي من شأنها التأثير على المناخ وأدواته، والتي تشكل مصدرًا مهمًّا في ميزانياتها. فالتمويل، من أهمّ أدوات هذه المعركة، لا بل هو عصبُها الرئيسيّ، من دون شكّ. 
وللتذكير فقط، فقد كانت قمّة كوبنهاغن المنعقدة في 2009، قد وعدت بتقديم مبلغ 100 مليار دولارًا تُصرف سنويًا لغاية 2020، من قبل الدول المتقدمة في الشمال لتشجيع الدول النامية في الجنوب، بهدف التعاطي الإيجابيّ مع تأثيرات تطبيق الاتفاقات المناخية وما قد تلحقه هذه باقتصاد الدول الفقيرة من نقص في الموارد وفي الإنتاج الصناعي البدائيّ فيها وفي تحوّلها التدريجي المنتظّر إلى مشاريع الطاقة المتجدّدة. إلاّ أنّ الأزمة العالمية التي يمرّ بها اقتصاد العالم، ولاسيّما في الدول المانحة، تثير الشكوك بإمكانية جمع مثل هذه التخصيصات. فما تزال جهود المنظمة الدولية والجهات الساندة متعثرة في جمع الأموال الّلازمة. هذا إلى جانب بروز خلافات حول ضرورة صرف الأموال الموعودة بالتساوي في مجالين يحتلان الأولوية، أي في التكيّف أولاً، مع مسألة الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري والثاني في التخفيف من تأثيراتها. وهاتان الجزئيتان ما تزالان موضوع خلاف بين الشمال والجنوب، حيث تشكو الدول النامية من انخفاض التخصيصات بشأن موضوعة التكيّف مع المشكلة، بحيث لا تتعدّى هذه ما معدلُه 16% من التمويل الإجمالي الموعود للاتفاقية.
ويبدو أن الأزمة الاقتصادية العالمية وما يمرّ به العالم ومناطق عديدة من صراعات وحروب وانخفاض الواردات بسبب تهاوي أسعار النفط العالمية منذ أكثر من عام، قد ألقت بظلالها على قمة مراكش. فقد تميزت القمّة، كما لاحظت أوساط مطّلعة، بأنّ ممثلي الدول الصناعية الكبرى المعنية بموضوع أزمة المناخ أكثر من غيرها، قد شاركوا فيها خالي الجيوب ومن غير إعلانات برّاقة وواضحة تحمل مشاريع للتمويل. وإذا كانت بعض دول الشمال تتطلّع في تقديراتها بمساهمات قادمة من جهات غير حكومية أو من شركات كبيرة أو أفراد أو منظمات، فإنّ التقديرات في هذا الجانب غير مشجعة. ذلك أنّ مثل هذا المشروع العالميّ الكبير يتطلب زجَّ ثقل دولٍ كبرى وأخرى غنية للمساهمة في تحقيقه من جميع أوجهه. فمسألة الانتقال إلى عالمٍ بمصادر طاقة متجددة بنسبة 100%، من اختصاص الدول والحكومات، نظرًا لضخامته وحاجته إلى وضعه في إطار قانون أمميّ قابل التنفيذ والتطبيق برعاية المنظمة الدولية، الساهرة والمتابعة للتطبيق والتنفيذ والإخراج.
لقد حرص العراق، بالرغم من انشغاله في وضع نهاية للإرهاب في آخر معاقله بالموصل، أن يكون حاضرًا في هذه القمّة بشخص الرئيس العراقي فؤاد معصوم، الذي شارك في أعمالها يوم الثلاثاء 15 تشرين ثاني 2016، على رأس وفد حكومي مهمّ. وكانت مناسبة لإعلان انضمام العراق إلى اتفاقية باريس حول التغييرات المناخية. في ذات السياق، يكون البلد قد حقق خطوات متقدمة في اتجاه التقليل من التلوث البيئي في جنوبه بإحياء مناطق الأهوار وزيادة الاهتمام بالرقعة المائية والأحياء فيها، بعد فوزه بتسجيل الأهوار ضمن التراث العالمي لليونسكو. إلاّ أنّ تقنين حصصه المائية وتحديدها من قبل دول الجوار، ستكون له آثارٌ سلبية على إمكانياته الوضيعة أصلاً، في إحراز تقدّم في مجال مكافحة التصحّر وتحوّل مناطق خضراء وأخرى صالحة للزراعة إلى أراضي بور بسبب النقص في المياه وغياب الخطط الجادّة للاستفادة من مياه الأمطار. وكلّ هذا ناجم عن ضعف الإمكانيات الوطنية وتضاؤل خبرة الكوادر وضعف الشعور الوطني والّلامبالاة وانتشار الفساد، إضافةً إلى انخفاض التمويل الوطني للمشاريع الإروائية والزراعية.
وإلى القمةّ المقبلة التي اعتذرت فيجي عن استضافتها في بلدها الصغير في العام المقبل لأسبابٍ لوجستية، ستكون مدينة "بون" الألمانية التي اتخذتها بديلاً لرئاستها، محطَّ الأنظار في تقييم مدى الالتزام بقرارات قمة مراكش التي اتصفت بتنفيذ ما أقرّته قمّة باريس.


242
شمائيل ننو مناضل من طراز خاص
بغداد، في 17 تشرين ثاني 2016
لويس إقليمس
عرفتُه متأخرًا بعد السقوط المأساوي في 2003، عندما زرت لأول مرّة مقرّ الحركة الديمقراطية الآشورية (زوعا)، واستقبلني ببسمته التي اعتدته فيها كلّما تلاقينا، وبشاربيه الكثّين اللذين بدا لي أول مرة أنّي أقف أمام مناضلٍ صنديد من طرازٍ خاصّ. ومنذ اللقاء الأول، توسمتُ فيه القوة والصلابة والعناد في النزال القوميّ لأمته الآشورية. وتتالت اللقاءات بعدها في مناسبات وطنية وخاصة، فيها كنتُ أعُدّ ما تقوم به زوعا، يمثّل بداية لنشوء صحوة مسيحية تركز على الهوية المسيحية قبل التأكيد على غيرها من الأولويات الثانوية الأخرى، ومنها القومية، التي أثبتت عدم فاعليتها بل وفشلَها، بالرغم من أهميتها. ذلك أنّ هوية المسيحيين المهمَّشين والمستغلّين (بفتح الفاء) طيلة العقود السالفة من حكومات العراق المتلاحقة بعد تشكيل الدولة العراقية، لم تحظى بما كان يتناسب مع قدراتهم وحضارتهم وأخلاقهم وفعّالياتهم. ومثل هذا التشبث العنيد في تقديم الفكرة القومية من جانب فصائل مسيحية جبلية (نسبة إلى شمال الوطن) على حساب هوية الكيان المسيحي الجامع للطوائف والكنائس من دون تمييز، قد ساهم لغاية الساعة في ضياع رصّ الصفوف وتوحيد الخطاب والظهور كقوّة فاعلة وليس خانعة، خاضعة، تابعة للغير، كما اعتادت.
وشمائيل ننو، رحمه الله على طيبته الكبيرة، كان ضمن سياق هذا الصنف من المناضلين الذين أولَوا الهمَّ القوميّ أولى أولوياته قبل غيره من الاهتمامات. كان حين حديثه عن الشأن القوميّ، يجعلُ محاورَه ينجذبُ لكلماته رغمًا عنه، ويندمجُ مع طروحاته النابعة من صميم كيانه المتسربل ب"المقدَّس الآشوري" الذي لا غنى عنه في مسيرة النضال، بالرغم من العثرات التي تحيق به. كنتُ أحترمُ رأيَه ورؤيتَه التي يحملُها تنظيمُه  وتنظيماتٌ شبيهة منطلقة من طموحات قومية لهذه الفئة من الجماعة التي عرفت فنّ السياسة قبل غيرها من الجماعات التي بقيت في سباتٍ بسبب الظروف المختلفة لهذه عن تلك التي خبرها أهل الجبل، كما كنّا نطلقُ على إخوتنا هؤلاء الذين عانوا عسر المعيشة وتهديد النظام السابق  وقسوة الحياة وشرّ الخيانة من الإنكليز الذين خذلوهم، شرّ خذلان أيام الحرب الكونية الأولى. وهذا ما جعلَ عودَهم صلبًا، فكان منهم أن خبروا سنوات من النضال التي طبعتهم ضمن الفكر المحصور بأمّة مفقودة يجري البحثُ عنها في كواليس الفوضى الخلاقة التي أتى بها الغازي الأمريكي في 2003. وهذا ربما، ماكنتُ أتقاطعُ فيه مع التنظيم الذي كان ينتمي إليه، ومع تنظيمات غيره لم أشأ التقرّب منها والتوغل في كواليسها المتاهية. وما أزالُ أعتقد كذلك، في هذه المرحلة الحرجة من مشروع بناء الدولة العراقية على أساس دولة عراقية مدنية بعيدة عن الكانتونات القومية والطائفية التي لم تأتي إلاّ بالخراب والدمار، حتى على صعيد المكوّن المسيحي المتشرذم بسبب أولوية التسميات لدى بعض المعاندين، التي أضاعت الحقوق والوجود والجهود والهوية على السواء.
شكّل المرحوم ننو مع خيرة زملائه المناضلين الحاليين في الحركة، ومنهم مَن سبقه إلى الأخدار الخالدة، حلقة متكاملة في عشق النضال لغاية التضحية بالمصلحة الشخصية، وربما الكنسية على حساب الهمّ القوميّ. وحتى حين اختلف مع زملاء المسيرة الزوعاوية، حافظ على طيبته ورزانة انفعالاته إزاء ما كان يعتقد به مع غيره، زوغانًا عن الخطّ الأصيل لمسيرة الحركة. فأثبتَ وفاءَه للمبادئ التي تربى عليها وحصد منها بعضًا من أمنيته. وحين شقّ عليه التلوّن الحزبيّ الجهاديّ على حساب تلك المبادئ، لم يترك المسيرة النضالية، بل أكملَها وفق منظوره الذي شاركه فيها رفاقٌ حملوا ذات الفكرة وذات الرؤية من دون لفّس ولا دوران ولا مجاملة.
والرفيق (لويا شمائيل)، كما كان يناديه رفاق الدرب، ظلّ على ابتسامته المعهودة وطيبته وصراحته في العمل، في موقعه الجديد. والدليل على ذلك، احتفاظُه بعلاقات الطيبة والذكريات الجميلة حتى مع المختلَف معهم. وبالرغم من ابتعاده عن بغداد، لم تنقطع اتصالاتُنا وسؤالاتُنا عن بعضنا. كيف لي أن أنسى اتصالَه وأنا في محنة الاحتجاز القسري في مأساة كنيسة سيدة النجاة ليلة 31 تشرين أول 2010، واللقاء للتهنئة بالسلامة، وقد عانقني عناق الأخوّة والوفاء للهدف المشترك الذي جمعنا من غير ميعاد، بالرغم من تقاطعنا في التفاصيل وفي الأولويات؟
آخر ذكريات لي معه، كانت عبر الهاتف قبل أشهر عديدات، للسؤال عن صحته ورؤيته بشأن ما يبدر على الساحة العراقية والمسيحية (القومية من وجهة نظره) بصورة خاصة. رحمه الله وألهمَ عائلته وذويه وأصدقاءَه الصبر والسلوان.

243
زرتُها بعد التحرير، واعِراقاه!
بغداد، في 15 نشرين ثاني 2016
لويس إقليمس
في الطريق المتعثّر بين منطقة الخازر الفاصلة بين أربيل عاصمة إقليم كردستان، ومفرق برطلة -الحمدانية، الذي يبعد عن الموصل مسافة لا تتجاوز 20 كيلومترًا شمالاً، لا تتلقف العين على مرأى البصر، غير الخرائب وآثار الدمار وأدوات الحرب والتحصينات التي تركها تنظيم داعش الإرهابيّ الذي أحكمَ سيطرتَه على محافظة نينوى بأكملها واستماتَ في احتلالها لأكثر من سنتين منذ اجتياَحها في حزيران 2014 بشراذم قليلة من مقاتلين لا تجمعُهم سوى صفة التنظيم المتشدّد وأيديولوجية الانتقام والفكر المنحرف  الداعي للقتل والغلّ والكراهية تجاه مَن يقف أو يخالف أفكارَه وتوجهاتِه السلفية المتشددة.
ولأنّ موطنَ أيّ عراقيّ صادق في عراقيته ووطنيته، تبقى نافذة في ضميرِه ومحفورة في كيانِه ومغروزة في فؤاده، تمامًا مثل وطنه الأكبر، العراق، لذا لمْ يكن بدٌّ من القيام بزيارة بلدتي قره قوش، بعد أيام معدودات على تحريرها على أيدي القوات العراقية الوطنية الشجاعة، بالرغم من عدم انتهاء العمليات العسكرية في بعض أركانها بعدُ، وبالتحديد يوم الجمعة المصادف 4 تشرين ثاني 2016. وبلدة قرقوش، المعروفة تاريخيًا بالتسمية الآرامية "باخديدا" (الأصل من بيث خديدي)، أو كما اعتاد عليها الأهالي بلفظها" بغديدا"، فهي تعني "بيت الشباب". أما التسمية الحديثة "قره قوش"، فقد طالتها على زمن حكم السلاطين العثمانيين، وهي تعني "الطائر الأسود"، استنادًا إلى تسمية آرامية ثانية عرفتها البلدة (بيث ديتا) التي تعني (بيت الحدأة) بحسب البعض، ويُعتقد أنّه انطلاقًا من هذه اللفظة جاءتها التسمية الحديثة على زمن العصملّية.
وهناك مَن يعتقد أنّ باخديدا هي ذاتُها مدينة "راسن" المذكورة في كتاب العهد القديم المقدس، أي التوراة، بحسب البحاثة الفرنسي أوبيرت، أو أنها قريبة من موقع آشوريّ قديم آخر يحمل نفس الاسم ويتبع البلدة إداريًا. ذكرها ياقوت الحموي في كتابه الشهير "معجم البلدان"، وقال فيها: "باخديدا قرية كبيرة كالمدينة، ومن أعمال نينوى، في شرقيّ مدينة الموصل، والغالب على أهلها النصرانية". تقع هذه البلدة المسالمة جنوب شرقيّ الموصل وعلى مبعدة 32 كيلومترًا منها تقريبًا. تحيطُها بلدتا كرمليس وبرطلة المسيحيتان وقرى شبكية وعربية كثيرة. واعتاد أهلُها العيش بسلام مع جيرانهم منذ أجيال وقرون وفي جوّ من الألفة والتفاهم والتعايش السلميّ إلاّ ما ندر. وحين احتلالها في 6 حزيران 2014، كان تعدادُها يربو على خمسين ألف نسمة. وهذا يُعدّ أكبر تجمّع مسيحيّ في العراق والشرق على الإطلاق. بل كانت قلعة السريان وقبلة جميع المسيحيين، وعليها جرت بالأمس، وتجري اليوم المراهنات والمساومات وقصص بيعها واقتطاعها مع جيرانها في البلدات المجاورة في سهل نينوى المانازَع عليه.
اليوم هي أشبه بمدينة أشباح، تبكي حظَّها العاثر وتعيد في ذاكرتها ما تعرّضت له عبر التاريخ منذ قرون خلت، من حملات وهجمات وغارات من جيرانها المحليين والإقليميين من عرب المنطقة، وأكراد شمال العراق، وأتراكٍ على عهد الدولة العثمانية سيئة الصيت، والأسيويين المغيرين الغزاة من المغول على أيام جنكيزخان وهولاكو. هجرها سكّانُها قسرًا وتشتتوا في الداخل وفي بلدان الاغتراب، أملاً بعودة سريعة وميمونة، إلى أرض الآباء والأجداد، حيث ذكريات الأمس الجميل وقهقهات قهاويها النابضة بالحركة الدؤوبة اليومية، ومراكزها الأدبية والفنية المتميّزة، وكنائسها الممتلئة بالمصلّين أيام الآحاد والمناسبات، تمامًا كما في الأيام الاعتيادية من الأسبوع. أصبحت بعد السقوط، لقمة سائغة للفرقاء السياسيين وبضاعة للمتاجرة والمساومات بين الكتل السياسية والسياسيين والمتنفذين فيها بحسب الأجندات التي يوالون لها ويتلقون منها التمويل والتلقين والمقسوم. فهي عراقية سريانية في هويتها، ولا تمتّ بصلة إلى أصلٍ فرضَه ويسعى لفرضه الأسطونُ الكرديّ بشتى الوسائل، لا لغة ولا توجهًا ولا فكرًا ولا سياسة، بل هي أقرب إلى العربية منها إلى الكردية. فاللغتان السريانية والعربية من اللغات السامية، وفيهما تداخلٌ في اللفظ والطعم وعذوبة الكلام وفي التعبير وفي مختلف الفنون. لكنّ عربَ الجوار، قد خانوا الخبز والملح وأصول الجيرة وأغاروا عليها وشاركوا في سلبها ونهبها وتدميرها حالَ اجتياحها من قبل تنظيم "داعش" الإرهابي الذي أحالَها إلى مصيرٍ مجهول، بعد تخلّي حارسها الدّعيَ وتسليمها لقمة سائغة لمَن سالَ لعابُه لها ووجدَ فيها ضالَّتَه المنشودة، انتقامًا وقهرًا ونهبًا وسلبًا وحقدًا وكراهيةً وحرقًا وتجريفًا. بل، وراح يسمّي حتى الشوارع فيها والأحياء التي تدنّست بأقدامهم بأسماء مجرميها وقيادييها الأغراب.
لستُ هنا بصدد وصف هذه البلدة العراقية الأصيلة التي تعرّضت مثل غيرها من قرى ومدن وقصبات محافظات عراقية عديدة على أيدي تنظيم داعش الإرهابي الذي عاث في الأرض فسادًا وتحطيمًا وتدميرًا وقتلاً وذبحًا وسبيًا واغتصابًا وتشريدًا وتهجيرًا لمواطنين وبشر لا ذنبَ لهم سوى اختلافُهم في الرؤية والفكر والأيديولوجية المتخلّفة التي يحملُها أتباع هذا التنظيم الدوليّ المجرم. فالجرائم التي اقترفها أفرادُه المقاتلون الذين لا تجمعُهم سوى سمات القتل والدمار والحقد والكراهية ضدّ المختلفين عنهم، ترقى إلى الإبادة الجماعية والفصل العرقيّ والدينيّ معًا، كما ورد هذا الوصف في قرار مجلس الوزراء العراقي بجلسته العاشرة في 18 تشرين ثاني 2014، وفيها عدّ ما تعرض له أتباع الأقليات من آيزيديين وشبك ومسيحيين وكاكائيين في سهل نينوى وسنجار، جرائم إبادة جماعية. 
وما يحزّ في النفس، أنّ التنظيم وأتباعَه من قرى الجوار، لم يتركوا بابًا مغلقًا في جميع المنازل والمؤسسات من دون استثناء، إلا وفتحوه بشتى أدوات التخريب والتدمير. بل زادوا من شدّة الغلّ والكراهية بقيامهم بحرق الدور ومؤسسات الدولة على تنوّعها، وتدنيس مساكن الله وتحطيم وتكسير رموزها التي تستغيث بالخالق الطيب الذي يدّعي هؤلاء الأوباش عبادتَه والتلفّظ بصفته الجلالية كلّما اقترفوا إثمًا بقتل النفس البريئة التي حرّمها: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [سورة المائدة ـ الآية 32] و(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [سورة النساء ـ الآية 93]. فالنصارى (المسيحيون) مؤمنون بالله الواحد الأحد، هذا الذي يدّعي عبادته هؤلاء وأمثالُهم. لقد ضرب هؤلاء المغالون في الدّين وتطبيقاته، أعداءُ الإنسانية، كلّ نداء إنسانيّ وإيحاء قرآنيّ يدعو للرحمة عرضَ الحائط. بل وأنكروا كلّ التعاليم السمحة التي نادى بها الدّينُ الحنيف أيامَ نشأته الأولى في مكّة، دينًا صحيحًا للإسلام المعتدل وللمسالمة والعدل والمحبة والتعايش والأخلاق، وتشبثوا في غيّهم بالناسخ منه الذي ورد في المدينة فقط، تاركين الأصل كما ورد في أيام "الوحي" المدّعى. وراحوا ينتقون ما يحلو لأفكارهم المنحرفة مستندين إلى أحاديث منقولة مشكوك في صحة نقلها وشخوصها ومواقعها وأسبابها وظروفها. وكلّ ذلك ضمن اجتهادات انتقائية لا تخلو من كراهية في عمومها، تجاه الغير المختلف عنهم. بل إنّ بعضًا منها تناقلتها شخوصٌ متأخرة، وزيد عليها ما يتفق مع ظروف الحاكم والمحكوم، ما يحيلُها إلى مادة تفتقر للرصانة والمعقولية.
 لقد كانت صدمة الزيارة للقاطع والبلدة كبيرة، بهولها وفي بشاعة الجرم ومدى الدمار والخراب الذي لاحظتُه على مرمى البصر، حين تجوالي في هذه البلدة المعروفة بأصالتها التاريخية المتجذّرة في حضارة نينوى الآشورية، وبهويتها العراقية المعاصرة، وبتراثها المتميّز وتاريخها الزاخر، شأنها شأن أية قرية أو بلدة في نينوى العريقة، تمامًا كما بتميّزها في مختلف فنون الإبداع، ثقافةً وأدبًا وشعرًا وكتابةً ومسرحًا وما سواها. ولا أكتمكم الوصف، أنّي لم أعد قادرًا للتحقق من الكثير من ملامحها التي غارت واختفت، وغيرها التي افترشتها كومُ الخرائب وأبدان السيارات المحترقة، وانتشرت فيها السواتر الترابية في الشوارع الرئيسة والفرعية وفي أحيائها المتقطعة بشتى العوارض. مناظر مأساوية بحقّ، تحكي قصة بلدة منكوبة، هي مثالٌ لكثير من أمثالها التي نالت قسطَها من الدمار على أيدي غول العصر، كارهي الحياة والإنسانية، نعمةً وحجرًا وبشرًا. 
تلكم كانت فألَ سيّء بما سألقاه من دمار ومآسٍ من نوعٍ آخر حين تفحصّي مساكن ودور وبنايات كانت بالأمس آهلة ببشرٍ مسالمين يحبون الوطن، أرضًا وشعبًا، واليوم وجدتُها ركامًا أو هياكل عارية وفارغة تعاني من آثار نيران حديثة الاحتراق، أشعلَها أعداء الإنسانية زيادةً في غلّهم وحقدهم وكراهيتهم، بعد أن سكنوها طيلة فترة اجتياحهم لها. وكلّ هذا بسبب انتماء أبناء هذه المدينة وما حواليها إلى دينٍ مختلف عن المعتقد الذي يتبنّونه ويعدّونه الأصحّ والأولى بالاتباع دون غيره. وحين تفقدي لداري، لم يساورني الشك أني سألقاه منهوبًا ومسلوبًا ومحترقًا، إلا من هيكله وبعض جنباتِه التي كُتب لها الخلاص من الحقد الأسود.   
أهكذا يقرأ السلفيون المغالون المدّعون عبادة الله الواحد الأحد، ويفهمون تعاليم الدّين الذي يدّعون تنزيلَه من السماء حكرًا وحصرًا دون غيرِه؟ حتى بيوت الله لم تسلم من فضاعة مسلّحي هذا التنظيم الإجراميّ الأسود في ضميره وقلبه، هذا إن كان لأتباعه الأوباش ومَن يواليهم ويمولهم ويساندهم من صفةٍ لضمير وقلب وبشر! لقد حوّلوا باحة أكبر كنيسة في العراق وربما في الشرق، كنيسة الطاهرة الكبرى، إلى ميدان للرمي والتدريب، فتحطمت الجدران وسقطت الأعمدة وزالت المعالم. أما داخل هذه الكنيسة، فحدّث ولا حرج. فقد تمّ حرقُها بالكامل بما فيها وتفحمت الجدران، فتعالت أدخنة السُخام الأسود بين جنباتها لغاية سقفها العالي الذي يرتفع لأكثر من خمسة عشر مترًا وسط أعمدة رخامية هائلة تم تشويهّها بكتابات وعبارات تريد القول: "لا كنائس بعد اليوم". فيما تمّ تحطيم الصلبان وتدنيس الرموز الكنسية بطريقة ملفتة، ومنها المجرسة الكبيرة، عنوان البلدة التي كانت تضاهي ساعة كنيسة الإباء الدومنيكان في منطقة الساعة بالموصل، التي سبق أن حوّلها التنظيم في وقت سابق إلى ركام وجرفها ومسحها مع الأرض، دلالة على مدى الكراهية والغلّ والحقد ضدّ النصارى/ المسيحيين، الذين بهم وبغيرهم من اليهود والصابئة، أوصى الرسول خيرًا، وبعده الخلفاء الراشدون ساروا على ذات النهج التسامحي.
 والأنكى من هذا وذاك، حين تطال يد الحقد الأسود التراثَ والثقافة والعلم. فلم يتورّعوا إذ حوّلوا وسط باحة الكنيسة الكبرى التي فيها يجري احتفال شعلة سهرة عيد الميلاد سنويًا، إلى محرقة للكتب المقدسة وكراريس الصلوات والمخطوطات الثمينة التي لا تقدّر بثمن، من سريانية وعربية. وقد تمكنتُ من نبش الركام المحترق لأعثر على بقايا كلمات نيّرة تنطبق على أمثال هؤلاء وممّا فيه القول: "بل تجاهلتَ فأطبقتَ عينيك وسددتَ أذنيكَ وأغلقتَ قلبَك لئلا تبصر بعينيك، وتسمع بأذنيك، وتفهم بقلبكَ وتتوب. واحسرتاه! لقد خسرتَ الحياة من حيث ظننتَ ربحتُها". وسوف أحافظ على بقايا هذه الوريقات المحترقة شهادة للذكرى لأجيالٍ قادمة، كي لا تُنسى آثار الجريمة.
أية إشكاليّة في الفكر والمنهج والتطبيق، هذه التي يعتقد بها هذا التنظيم المجرم وأشباهُه بكلّ القياسات، في زمن العولمة والعصرنة والحداثة والتطوّر؟ وأيّ فكرٍ منحرفٍ هذا الذي ينوي إلحاق الأذى بكلّ ما تقع عليه أعينُهم العمياء وقلوبُهم السوداء وآذانُهم الصمّاء، في سلوكياتهم الإجرامية اليومية، وبسببه يصرّون على إلغاء الآخر المختلف، ورفض لغة الحوار والتفاهم والإنصات لصوت العقل والحكمة والرويّة؟ فمن أين أتى هؤلاء الأغراب عن الإسلام وايّ معتقد يعتنقون وأية أفكار بالية يحملون؟
نحن اليوم على مفترق طرق، إمّا الحياة الشريفة ولغة الحوار والتفاهم والتعايش والرفاه وبناء دولة مدنية خالية من الأفكار الظلامية في المناهج الدراسية وفي سلوك الحياة اليومية ومن ثقافة إلغاء الآخر المختلف، أو الموت الزؤام على أيدي غول العصر وأمثالهم، من الذين فاقوا المغول في وحشيتهم وكراهيتهم وحقدهم. إنها دعوة صريحة لمراجعة مكامن الخلل وتحليل الأسباب التي أتت بأمثال هذا الوحش الكاسر ليقتل الفكر ويغسل الدماغ ويحطّم العقل ويغيّب العلم والثقافة والفنّ والحضارة بأفكار بالية وخرافات دينية لا تمتُّ للعقل والحكمة والمنطق والإنسانية بصلة. وهذا يستدعي ضرورة تبني نظام مدني يحترم القيم الدينية والإنسانية والمجتمعية المختلفة من غير أن يقحم الشأن الديني ويقرنها في السياسة.
            ولهؤلاء أوجه نصحي، وأقول لهم: أنا ما أزال أحبكم كما أوصاني معلّمي وربّي، رسول الإنسانية والمحبة منقذ البشرية، المسيح الذي شوّهتُم رموزَه وكسرتم صلبانَه وحرقتم كتبَه بكثيرٍ من الحقد الأسود. فقد أوصى: "أحبوا أعداءَكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مَن يبغضكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، "، وهذا بالرغم مما اقترفتموه من جرائم، كونكم خليقة الله الجميلة التي لوّثتموها بأفكاركم وشوّهتموها بأعمالكم ودنّستموها بأرجلكم. لا لشيء، بل لأنّي أرثي لحالكم المهلهل وأبكي لفكركم الخائب وأترجى لكم عودة إلى الرشد والعقل والمنطق والحق، تجانسًا مع تقدّم العصر وتطوّر الزمن ورجاحة الفكر. ولكنّي أوصيكم بهذا:
-   إن الإله الذي أعبده ويشاركني في عبادته أهلي وأصدقائي ومواطنو بلدي وفي العالم، والمعتدلون والناضجون والمثقفون والقارئون لدروس التاريخ وعبرِه والمؤمنون برحمة الأديان واعتدالها في العالم أجمع، لا صلةَ له بالإله الذي تدّعون عبادته، وتقتلون تحت رايته المثيرة للشفقة، وتحزّون الرؤوس حين التكبير باسمه العليّ، وتغتصبون الحرائر بحجج وأحاديث مضى على تاريخها قرونٌ من التخلف والقبلية والبداوة، وتسبون نساء غيركم بحجة تسويغ ذلك بحقوق الغزوة، كذبًا وبهتانًا كما يحلو لكم ولشيوخكم المنغمسين في الرذيلة والتفسير الأسود القاتم والتحريض والفتنة.
-   سيدي وإلهي الطيب، الرحمن الرحيم، والعليم الحكيم، يحبّ البشر، كلَّ البشر الذين خلقهم أسوياء متساوين، ذكرًا وأنثى، في العرق والدين واللون والشكل، ولا سموَّ لدينٍ أو لفردٍ على غيره إلاّ بالتقوى ومحبة الناس وفعل الخير وغوث المحتاج واحترام الجيرة والإبداع والتطوّر والإخلاص في المنزل والعمل والمكتب والدائرة ودعم الدولة ومؤسساتها في الوعي والنظافة واحترام القانون وسيادة الدستور.
-   سيدي وإلهي الحنون المارد في آنٍ معًا، لا يرضى بإذلال خليقته الجميلة التي خلقها على صورته ومثاله، كما يرفض قتل النفس التي نفح فيها الحياة كي تسبحه وتعبدَه وتمجد باسمه آناء الليل وأطراف النهار.
-   سيدي وإلهي المحبوب، الغفار الرحيم، يفرح بعودة الابن الضالّ وبتائب واحد وآثمٍ فاضحٍ من أمثالكم المغرَّر بهم، أكثر من الخراف التسعة والتسعين التي بحوزتِه وتحت جنحيه من الذين يتبعونه بالهداية الحقيقية، ويعبدونه خفيةً وظاهرًا ليلاً ونهارًا وفقًا لقوانين الكون الإلهية التي توصي باحترام النفس والفكر والرأي والعقيدة والأرض التي فرشها لهم هذا الإله العظيم ليتمتعوا بجمالها ويأكلوا من ثمارها ويطوّروا نظامَها نحو الأفضل وليس بالتراجع قرونًا متخلّفةً إلى الوراء.
-   سيدي وإلهي الجبار، يوصي بني الإنسان وأتباعَه الأوفياء، ألاّ يخافوا ممّن يقتل الجسد، بل ممّن هو قادر على قتل النفس والروح التي تأتمر بالسوء بسبب نزعات البشر البغيضة وحقد الجماعات المتزمتة والمنغلقة على الذات وعلى العقل والفكر والرؤية. ف"الجسد فانٍ، فيما الروح تبقى: "إنْ خيرًا فلها الجنّة، وإنْ شرّا فمصيرُها النار وصريرُ الأسنان".
-   سيدي وإلهي الذي أُجلُّهُ احترامًا أبويًا وخوفًا سماويًا، يوصي بتعاون جميع الأمم والشعوب على البرّ والتقوى، وعلى حفظ نواميس الأديان من دون تمييز أو استعلاء بعضها على بعض، وبالتسامح والمحبة، حتى بمحبة الأعداء كي يعود هؤلاء إلى رشدهم وإلى سواء السبيل واعتدال الشرائع وتطبيقها بحسب الظرف والزمان توافقًا مع تطور العصر.
-   سيدي وإلهي العطوف، قدوسٌ وكلّيُ القداسة، لا تأخذه سنّة نوم ولا يسأم أو يغتاظ إلاّ من الفاسدين والظالمين والطماعين والفاسقين والمفسدين في الأرض والطاعنين في العرض. فهو دائم السهر على خليقتِه ورعاياه، لا يرضى بالتجارة بالبشر على حساب سعادة الإنسان والإنسانية.
-   سيدي وإلهي العادل، مرتب في خليقته وفي تدبير شؤونها، وهو يدعو البشرية لفرز الزؤان وحرق الشوك من البيدر الذي يريدُه نظيفًا معافىً كما أراده.
-   سيدي وإلهي قد أوصانا من ضمن وصاياه للبشرية المتألّمة:" أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله للّه"، تمامًا كما أوصانا جميعًا بنشد السلام والمحبة والغفران "طوبى لفاعلي السلام، فإنهم أبناء الله يُدعون".
وهذا مسكُ الختام!



244
حياتنا الالكترونية، مرض العصر
بغداد، في 15 أيلول 2016
لويس إقليمس
رأيتُه قبالتي جالسًا متأبطًا جهازه "المحمول" أو كما يطيب للبعض تسميته ب"الجوّال" أو "الهاتف الذكيّ"، وكأنَّه حبيبةٌ أو وصيفةٌ يصعب فراقُها. سئمتُ المشهد وشقَّ عليَّ عدمُ اهتمامِه بما كنتُ وددتُ الحديثَ عنه ومناقشتَه معه، بعد أن حَرمتُ نفسي من لقاءٍ آخر عزفتُ عنه نظرًا لاعتقادي بأهميته الدنيا مقارنة بلقاء نديمي. عدتُ إلى نفسي، وقد تذكرتُ صورة شبيهة لما تلمحُهُ عيناي من مشهدٍ يتكرّرُ كلّ يومٍ تقريبًا في منزلي. فجهاز المحمول، قلّما يغيب عن أنامل أفراد العائلة عندي. حتى حفيداي يزعقان ويسعيان بحثًا عن هذه الأجهزة المتناثرة في أرجاء الدار كي يغوصا في أسرارها ويستمتعا بالنقر على أزرار لوحة المفاتيح. وبالرغم من صغر سنّهما الذي كاد يتجاوز السنة بقليل، إلاّ أنّهما يدركان تمامًا أنّ انطفاءَ الجهاز يعني التعمّد بحرمانهما من اللعب بالأزرار التي تشغّل الجهاز بقصد حملهما للعزوف عنها ونسيانها.
 وربّما المنظرُ ذاتُه، لا تغيبُ أو تختلفُ صورتُه عن غيري، في الشارع أو المنزل أو العمل أو السيارة أو المدرسة. فقد انتشر استخدامُه في كلّ مكان، حيث يمكن أن تجده لدى الكبار والصغار ومن كلا الجنسين بدون استثناء، وتلاحظ استخدامه في أي مكان وأيّ زمان. بل أصبح مدعاةً للتباهي من حيث الشكل واللون والحجم والبرمجة والمواصفات وبأشكالٍ تجارية غزت الأسواق. 
    باختصار الكلام، لم تعد استخدامات الهاتف النقّال في الزمان والمكان مشكلة، بقدر ما أضحت ظاهرة سلبية مجتمعيًا، بسبب الإدمان عليه وانشغال مستخدميه بوسائل اتصالهم المتنوعة الكثيرة التي لم تترك مجالاً للحياة الاجتماعية في الأسرة والعائلة كي تأخذ مداها. وحيث إنَّ لغة الالكترونيات والتكنلوجيا قد سطت على ذهنية الإنسان فجعلته أسيرَ الحياة الالكترونية الحديثة من حيث يدري أو لا يدري، فقد ضعفت بسببها بالتالي، آليةُ التواصل والتفاهم بين أفراد العائلة الواحدة في المنزل، حينما ينشغلُ هؤلاء كلّ بجهازه مستغرقًا ومنكبًّا على هاتفه ينبش ما فيه من برامج وتسالي ورسائل واتصالات تأخذُ بعقلِه ووقته وكلّ فكرِه وكيانه، ولا تبقي للحديث العائلي الودّي مجالاً.
بقدرِ ما لا ننكر أهمية الاكتشاف الحديث في حياة البشر المعاصرة الذي قصّر المسافات وقلّلَ الجهود ووفّر الأموال والأتعاب والتنقلات، لكنّ واقع الحال فيه مؤشرات سلبية في استخدامات هذه التقنية الحديثة للاتصالات حينما تخرج عن إطار فائدتها وتغالي في طرق استخدامها والوقت المصروف فيها وما يلحقه ذلك من نتائج غير محمودة في بعض الأحيان.
 صحيحٌ أنه أصبحَ حاجة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها. بل أصبح رفيقَ الإنسان الدائم، أينما حلّ وارتحل، ينقل الخبر ويقرّب الصورة ويقدّم المعلومة الجديدة وكلَّ ما في نفس الكائن البشريّ من مستجدّات ومتع وانغماسات. بل هناك مَن شبّه هذا الجهاز بالطير الزاجل الذي كانت مهمتُه نقل الرسائل بين الأفراد، بما فيها ما يدخل ضمن ممارسات الأمم والدول والشؤون العسكرية وتحرّكات الجيوش الغازية، وما إلى سواها من أسرار تخصّ حالات السلم والحرب. وهناك مَن يدخل إلى تفاصيل جانبية أخرى تتعلّق بطبيعة الجهاز وتفسير الرؤى والأحلام التي تثقل دماغ الإنسان ليلاً ولا تفارقُه نهارًا. فهذه لها تفاسيرها لدى البعض، وقد يُستخرجُ منها معانٍ ودلالات، أو قد تحيطُها هالات من الخوف أو الفرح أو الحيطة والحذر معًا.
وحيث إنّ فوائد الجوّال كثيرة كما أسلفنا، بل يُعدّ نعمة للإنسان حينما تقتضي الحاجة والظرف، من حيث تقريبه للمسافات وتسهيله للاتصالات وتوفيره للجهد والمال والوقت في التنقل غير الضروري، كما أسلفنا، إلاّ أنّ هناك مَن يسيء استخدامه في الكثير من المفردات، ومنها المبالغة بإطالة المكالمة، والإفراط في الاستخدام غير المبرّر، وانتهاك الخصوصيات، والخروج عن اللياقة والآداب العامة في الكثير من الأحيان. أمّا الخروج عن السياق المرسوم ضمن حدود اللياقة في الاستخدام الأمثل، فهو يدخل ضمن نوعٍ جديد من الأمراض التي أصابت المجتمعات البشرية بسبب سوء استخدام التكنلوجيا الحديثة. وما أشدّ الحرج حينما لا يتورع البعض من إبقاء هواتفهم الجوّالة مفتوحة أثناء لقاء عام أو اجتماع أو مؤتمر أو في أثناء الصلاة في الكنيسة أو الجامع أو المعبد أو المدرسة أو المركز الديني أو التعليمي. فتتجّه الأنظار الغاضبة نحو صاحب الرنّة مؤنِّبةً ومعاتبةً دلالةً على عدم الرضا بسبب التشويش على خشوعهم وقطع توجّه أفكارهم وقلوبهم إلى صاحب الأرض والسماء في لحظة شغف متميزة. حتى سوّاق سيارات التاكسي داخل المدن وخارجها، لا يتورعون باستخدام أجهزتهم، بالرغم ممّا قد يحملُه استخدامُها أثناء السوق من مخاطر ومضايقات للركاب أو للمقابل من سالكي الطرق.
ولن أتطرّق إلى قائمة الأضرار الأخرى الكثيرة والعديدة التي يمكن لمستخدمي الجوّالات إلحاقَها بأنفسهم وصحتهم أولاً، وبالغير أيضًا، سواءً برصد المكالمات أو تسجيلها أو تصوير لقطات ومحادثات خارج أصول اللياقة والآداب، لاسيّما من دون علم أصحابها. فهذه من أنواع الخيانة التي لا تقلّ شناعة وبذاءةً في الأذى والضرر. وما أتعس المشهد الذي يتكرّر في المجالس العامة حينما يسمح الشخص بتقليب أزرار هاتفه يمنة ويسرة مستعرضًا برامج وصورًا وقوائم في حضرة الجالسين، غيرَ عابئٍ بحرمة المجلس الذي يتواجد فيه ولا بنوعية الحضور وظروفهم والمناسبة التي تجمعهم. فهذا من الأمور التي تقع خارج اللياقة الأدبية وتضع المستخدِمَ المسيءَ في خانة أجواء التندّر والاستهجان والاستخفاف واللوم.
فلنرحم أنفسَنا قليلاً ولنرحم غيرَنا كثيرًا باستخدامنا الأمثل للهاتف الذكيّ الذي قدّمته لنا التكنلوجيا الحديثة على طبق من ذهب كي نستمتع به وبالفائدة التي يقدّمها للبشرية، ونتجنب ما يسيءُ إلى أنفسنا وصحتنا وما يمكن أن يزعجَ غيرَنا وأفرادَ أسرنا ومجتمعنا. فالحفاظ على نعمة الرفاهة والمتعة وكلّ ما يجلب السعادة للإنسان من هواءٍ وماءٍ وأدوات وتكنلوجيا، مسألة أدبية وأخلاقية ومجتمعية، على المستخدمِ صونَها قبل أن تنقلبَ عليه وبالاً ووصمة شيطانية وأداةً لأذى النفس والناس على السواء.
من هنا، لا ينبغي القبول باحتلال هذا الجهاز "النعمة"، صدارةَ أعمالنا وقوةَ شخصيتنا وديناميكيةَ علاقاتنا الأسرية والاجتماعية وتركيبتنا الإنسانية. فحينها سنتحول إلى عبيدٍ بطالين كسالى، وعبدة آلة خُلقت للتفاعل الإيجابي والتواصل الودّي من أجل استقصاء المعلومة حين الضرورة لخدمة الإنسان وتمجيد الله في خلقه المبدعين.


245
مشهد ومشاهد: استذكارًا لفاجعة كنيسة سيدة النجاة في ذكراها السادسة!
بغداد، في 20 تشرين أول 2016
لويس إقليمس
مع حلول الذكرى السنوية السادسة لحادثة كنيسة سيدة النجاة المفجعة التي اقترفت في 31 تشرين أول 2010 من قبل زمر الإرهاب المتطرفة والمتزمتة حدّ النخاع، وبالتعاون مع أدوات فاقدة للوطنية وللضمير الإنساني، أقفُ حائرًا متسمّرًا كيف خرجتُ سالمًا مع غيري من الناجين من تلك الكارثة.  وما زال السؤالُ لم يختمر بعدُ في أذهاني ولا يريد المغادرة، مثل غيري من عباد الله، الملتزمين بحدود العقائد وحرياتها وتعاليمها السماوية، صافيةً غير مخترَقة، والمؤمنين بحرية الرأي والفكر والإبداع من دون ضغوط ولا رتوش، والمصرّين على التمسك بسِمة الالتزام الوطني والتمنيّ بعودة بنيان البلد شامخًا وبتراصّ نسيجه الاجتماعي وبقاء فسيفساء تنوعه الاثني والديني والمذهبي فيه سالمًا ومتعايشًا.

ديمقراطية الفوضى
أتساءل اليوم في خضمّ فوضى الديمقراطية الخلاّقة التي أوجدتها التغييرات الدراماتيكية في 2003، ومن حقّ كلّ مَن يحمل هذا الصنو من الأفكار المنفتحة والمفاهيم التنويرية والمنطلقات الوطنية والإنسانية أن يوجّه ذات السؤال: إلى متى يبقى العراق رهينة بيد أعدائه والطامعين فيه، وفريسة للدخلاء والفاسدين والمفسدين، ومطيةً لكلّ مَن هبَّ ودبَّ من دون رقيب ولا سلطة رادعة، غائبًا في وجدانه الوطني، خاليًا إلاّ ما ندر من سمات الوطنيين الأحرار الذين يؤثرون المصلحة العليا فيه على ما سواها من منافع ومكاسب شخصية ودينية وطائفية وحزبية وإقليمية؟ ألا يكفي ما حصل من عبث بمقدّراته ومن تدمير في مؤسساته وسلبٍ لهويته الحضارية والوطنية والاستهانة بهيبته العربية ونزوله إلى الدركات السفلى في الإنسانية، ليقف في الدرجات الأخيرة في سلّم العطاء والتطوّر والتنمية، وأولاها في استشراء الفساد واللصوصية وهدر المال العام والاستحواذ على عقارات الدولة والسطو على حقوق الأجيال القادمة من الثروات الوطنية الطبيعية التي يتمّ سرقتها واستغلالُها بأبشع الوسائل والطرق؟ جملة طويلة، لكنّها نابعة من كيان مجروح، وقلبٍ مفطور، وصدرٍ مفجوع بما يرى ويجري ويصير.
وتهرول الأيام متراكضةً من شدّة العسر والخوف والهلع المتلازم حول المصير والمستقبل، لتعيد على الملأ ذكرى الفاجعة، بل حقيقة تلك القصة التي أعيدَ ويُعاد سيناريوهاتها ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة مع تسارع الزمن الغادر في كلّ يومٍ وفي كلّ شبرٍ من أرض السواد في الوطن المغدور. وآخرُها مشاهد الجريمة البشعة التي ضربت العمق الإنساني والنسيج "المواطنيّ المدنيّ" في الكرّادة، أقدم حيّ سكنيّ عرفته بغداد، عاصمة الرشيد الأبيّة، ومدينة الأنس النؤاسية، وحاضرة الجمال العربية التي كانت حتى الأمس القريب عصيّة على أعدائها، أبيّة في مبادئها وقاهرةً في ردود أفعالها حينما كان يُحسب لها ألف حساب وحساب، "قلعةَ للأسود"، و"منارةً للمجد والخلود"!
في هذه الأيام الرتيبة المربكة في مسيرة "شبه الدولة" العراقية، وهي تخوض معركة مصيرية لتحرير أعرق مدينة عراقية، الموصل الحدباء، من دنس حثالة المجتمع، داعش الإرهابي، تعود تلك الذكرى الأليمة لفاجعة كنيسة سيدة النجاة بحسراتها وتنهداتها وانفعالاتها. فبضربتها القاسية تلك، قوّضت تلك الحادثة من دون شكّ، عمقَ الجماعة المسيحيّة وقصمت ظهرَ أتباعها وأربكت هويتَها وأضعفت من وجودها التاريخي والجغرافي والديمغرافي، وهي التي كانت تحظى حتى عقود متأخرة من الألفية الثانية، بحقيقة كونها من المكوّنات الأصيلة والجامعة والمهمّة، عددًا وفعلاً ونوعًا، في نسيج المجتمع العراقي. عيوننا جميعًا، مواطنون أصلاء من جميع شرائح المجتمع العراقي، ترنو هذه الأيام، إلى هذه المدينة وسهلها المطعون في الظهر، حينما تمّ تسليم المدينة وسهلها، بتلك الطريقة المشبوهة والمشينة بأيادي عصابات ملوثة بالجرائم البشعة، والتي لم ولا تعرف غير لغة الدم والقتل والسبي والاغتصاب والنهج التكفيري سبيلاً لفرض أيديولوجية منحرفة لا تمتّ بصلة لأيّ دين أو مجتمع إنساني يعترف بربٍّ خالق الكون، وهو وحده الديّان العظيم، وليس بحاجة لبشرٍ ضعيف للدفاع عنه وعن قدراته العظيمة.
ليسَ هناك أدنى شكوك، من أنّ تسليم الموصل وبلداتها مثل غيرها من المناطق التي تدنست بأرجل داعش وأفكارهم المسخ، كانت ضمن سيناريو مخطَّط له ومعَدّ من قبل الأسياد، رعاة البقر، الذين نشروا الفوضى الخلاّقة في أرجاء المنطقة، ومنها العراق، من أجل تسهيل تنفيذ المخطط بإجراء تغييرات ديمغرافية بحسب الأهواء والمصالح الضيقة لراعي العملية السياسية الأول. فالأسياد قلّما يعبؤون بأحوال البشر وقناعاتهم وطموحاتهم وحقوقهم، إلاّ إنْ حصلَ ذلك ضمن إطار المصالح العليا، وتناسقَ مع الرغبات والإرادات. فهُم يقتلون القتيلَ ويمشون في جنازته، يعتذرون أو لا، ثمّ يقدّمون المعونة والحسنة بحجة العطف والتضامن والتعويض! والعتب في كلّ هذا، يقع على مَن ائتمنهم الشعب الخائب والبائس ليكونوا أمناء للمبادئ والشعارات التي رفعوها والوعود التي قطعوها قبل الانتخابات، ونسوها أو تناسوها بعد جلوسهم على الكراسي واقتسامهم الكعكة مع الفاسدين والمفسدين في الدولة وأركانها على السواء.

    سقوط ورقة التوت
     اليوم، كلّما أمعنتُ التفكير فيما جرى ويجري في أرضنا الآيلة للجدب والقفر، ومدننا الجريحة التي تنزف في كلّ يوم وكلّ ساعة، دماءً حمراء تسقي الأرض شهادةً ووفاءً، أكاد لا أصدّق أنَّ مشروع الدمقرطة الذي ارتهنت له بلادُ الحضارات وموطنُ المسلّة الحمورابيّة العريقة، كان مجرّدَ مشروع ٍ تآمريّ واستثماري وتجاريّ، ليسَ إلاّ. فقد أثبت تقرير تشيلكوت البريطانيّ، وهي إحدى الدول الأكثر تحمّسًا لغزو العراق، والأشدّ تبعية لصاحبة القطب الواحد، والحالمة دومًا بإهانة أرض "شنعار" وقطعِ أوصاله، أثبت هذا التقرير أنّ الحرب التي شنّها الغزاة الطامعون بقيادة أمريكا عدوّة الشعوب وحليفتِها المتلونة بريطانيا، وبدعم من اللوبي اليهوديّ الخفيّ، لم تكن شرعيّة. وبذلك تسقط كلّ الحجج المفبركة والأعذار المهيّأة سلفًا، ما يترتب عليه بالتالي بطلانُ قرار مجلس الأمن الذي سوّغَ الغزو والتدخل الهمجيّ للتحالف الدولي في عام 2003. فالواقعة قرائنُها باطلة، ومن ثمّ يستوجب ذلك محاسبة القوى التي اخترقت القانون الدوليّ بغزوها وتدنيسها لأرض الوطن، وبالسماح لسيول الدماء كي تجري مدرارًا، لمجرّد رغبة الأسياد بكسر شوكة أمّة عريقة ودقّ الأسفين في أوصالها وتقسيمها ضمن مشروع استعماريّ قديم-جديد، لا يستند إلاّ لمصالح قومية للمستعمر الطاغي. "فما يُبنى على باطل، يكون باطلاً ويبقى كذلك، مهما طال الزمن وتوالت الأيام والسنين". والأيام حبلى بأنباء سقوط الجبابرة مهما تجبروا وطغوا وعاثوا في الأرض فسادًا وقتلاً ونهبًا واستغلالاً.
من هنا، يدرك الكثير من المراقبين وأرباب الفكر، اليوم في الوطن والعالم أكثر من أي وقت مضى، أنَّ الغربَ الاستعماريّ الجديد بقيادة أمريكا، بكلّ ما أوتيت هذه من طغيانٍ وتبجّح وكذب ورياء ونفاق، لا يمكن أن تسلم مشاريعُه أو فعّالياتُه السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، من نفحة استغلاليّة واضحة تُؤثر المصالحَ القومية لبلدانه على أيّ شيء آخر، حتى لو حصل ذلك بالدوس على الرؤوس الثائرة وقمع الحركات التحررية وتصفية أصحابها وقطع شرايين الحياة عن الأحرار فيها.
إلاّ أنَّ مصيبة العراقيين، انقسامُهم حول فحوى الرسالة التي حملها الغازي الأمريكي منذ بدء الغزو، والتي تمثلت بالقرارات المجحفة لرئيس الإدارة المدنية المؤقت بول بريمر، الذي استحق بجدارة تلقّي حذائين من الصحفي المغمور، تمامًا مثل سيده جورج بوش الابن. فإصرارُه على حلّ الجيش السابق، وهو جيشٌ عقائديّ مدرَّب وفاعل، بدعوى انتمائِه إلى العقيدة البعثيّة الصدّامية، والذي جاءَ بحسب بريمر نفسه، باستشارة من طرفين سياسيين محلّيين يحملان أجندات طائفية (الشيعة) وإتنية (الكرد) واضحة لا لبسَ فيهما، هذا الإصرار على هذه الفعلة القذرة من الأطراف جميعًا، قد أسقط ورقة التوت وكشف عورة الغزاة ومَن تحالفَ معهم من ساسة الصدفة الذين ركبوا موجة التغيير العبثية وانتقلوا مع الغزاة على ظهور دباباتهم الزاحفة، وذلك حينما جرى فتحُ الحدود وتحوّلتْ أرضَ العراق مشاعًا وساحة لقوى وتنظيمات ومنظمات إجرامية وتدخلات سياسية مشبوهة من دول الجوار وأخرى إقليمية وأجنبية عاثت في الأرض فسادًا، كلّ وفق مصالحها وأجنداتها. وقد حصدنا ما زرعه الساسة وزعماءُ كتلهم!
وفي الحقيقة، إنَّ ما شهدته البلاد بعد فتح الحدود على مصاريعها، وغبّة حلّ المؤسسة العسكرية وهي الضامن المفروض لحماية البلاد والعباد، وكذلك ما حصل من إرباكٍ عام بعد عمليات سلب ونهب الوزارات ومؤسسات الدولة التي تمثلُ هيبتَها وفيما عُرف ب"الفرهود"، وما خلّفته هذه كلّها من حالة فلتان شوارعيّ ومناطقيّ وطائفيّ شاعت وتعززت وتواصلت لغاية يومنا هذا، إلى جانب القصور الواضح في تحديد الأهداف، سواءً من الطرف الغازي أو من الشلّة الطامحة للجاه والسلطة والمال، وغياب المشروع الوطنيّ لدى الحكّام والسياسيّين "المراهقين" ، وإيثار المصالح الطائفية والمنافع الشخصية على المصلحة العليا للوطن، والجشع الشديد للغَرف من المال العام، وسيادة الفساد في مفاصل الدولة فيما بعد، هذه بأجمعها كانت خيرَ عنوان وأطيبَ فرصة وأتعس بشيرٍ لبروز تنظيمات إرهابية قفزت على الساحة بين ليلة وضحاها لتشكّل سلسلة في طوابير انتحارية استخدمت معها كلّ وسائل الإجرام من مفخخات وأدوات وبشر وفكر متطرّف نما بفضل دعاة الشرّ والقتل والإرهاب والجهاد وبتمويل عالميّ ومحلّي وإقليمي على السواء. طرفٌ يهندس ويخطّط، وآخر يموّل ويشجّع، وغيرُه يدعم ويسوّق، فيما جهات أخرى تُغسل أدمغة السذّج من عباد الله كي ينفّذوا ما لا يرضي الله بجرمهم الفاضح، قصدًا للقاء الرسول والاستمتاع بصحبة الحوريات اللاّئي يستعدن جمالهنَّ وقدراتهنّ أفضل من السابق في كلّ مرّة يحظى الانتحاريّ المغمور بنكاحهنّ، بحسب ما يزرعه شيوخ القتل والفتنة والتحريض في صدور هؤلاء السذّج الذين يتم التغرير بهم بهذه الترّهات والتلفيقات على الدين الحنيف.

الغرب مَن أيقظ التكفيريين وشجّعَ الفكر المتطرّف
لقد ساهم الغرب بقيادة أمريكا، في ظهور الظلاميين من الجماعات المتطرفة وفي بروز تنظيمات إرهابية تحمل أيديولوجيات ديماغوجية متشددة لا تقبل بالآخر المختلف عن خطّ تفكيرها المنغلق على الذات وعلى الدّين وتفاسيره القبلية المتخلّفة في بداوتها وبداءتها وقصور فهمها لدورة الحياة المتطورة والمتجددة مع الزمن والفكر والعلم. فقد فعل الغربُ ذلك، سواءً مع سبق الإصرار أو من غير إدراكه للنتائج المترتبة على تلك الخطوة الشنيعة، باستغلاله الأرضية المهيَّأة لمثل تلك الأفكار الظلامية بوجود حاضنات عديدة وكثيرة لها في دول الشرق الأوسط ولاسيّما العربية منها والإسلامية، كي يلعب دور المحرّض باستخدام دعاة الفتنة إرضاءً لله والدّين، والأخير بريء براءة الذئب من دم يوسف البار! لقد كشفت اتهامات وردت على ألسنة شخصيات مرموقة في وزنها، تشير صراحة ووجاهة وتلميحًا إلى الدور القذر الذي لعبته الدولة الغازية، أمريكا، قائدة الشرّ في العالم، برعايتها لإخراج تنظيم الدولة الخرافية إلى الوجود. وآخرها اتهام المرشح الجمهوري دونالد ترامب، لإدارة أوباما بتأسيس هذا التنظيم وزجّه في صراعات إقليمية في المنطقة بهدف تسهيل السطو على مقدّرات بلدانها وإعادة تقسيم أوصالها وفقًا لأجنداتها ومصالحها وحبًا بثرواتها وليسَ لنشر مبادئ الإنسانية والديمقراطية كما تتبجّح.
مجمل هذه الظروف والقرارات والإجراءات، قادت البلاد والعباد إلى حافة الهاوية، وجعلت من أبناء الجماعات المتنوعة في النسيج العراقي التقليديّ المتعايش من دون استثناء، لقمةً سائغة بيد هذا الإرهاب وأدواته التي تعددت وانتشرت وتفاقمت، إلى جانب الصيت السيّء لمَن أتى بهم الغزاةُ لحكم العراق من دون خبرة ودراية واستراتيجية وهدف وطنيّ. والطامة الكبرى، كانت في تنصّل الغازي الأمريكي من تطبيق استراتيجيته في بناء السلم الأهلي وتعزيز الديمقراطية وبناء مؤسسات الدولة على أسس حديثة، بعد الاتفاق على انسحاب قواته في الاتفاقية الموقعة مع الحكومة العراقية في نهاية 2011. وقد خلق ذلك الخرق ثغرات كبيرة وكثيرة زادت من انتهاك سيادته واستقلاله السياسي ووحدة أراضيه ومياهه وأجوائه. كما تهدّد نظامُه الديمقراطي الحديث الولادة، وتفتّتت وضعفت مؤسساته وهيئاتُه بسبب تعزيز مبدأ المحاصصة وبروز النعرة الطائفية والمذهبية التي غذّاها الغزاة وزرعوها في عقول وقلوب ونفوس الساسة المراهقين الذين لم يتورعوا بالتملّق لراعي العملية السياسية الخرقاء، إن ظاهرًا أو في الباطن، تاركين مصلحة البلاد والشعب على كفّ عفريت نتيجة للفساد الذي استشرى في جميع مؤسسات الدولة، بسلطاته الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولولا هذه السياسة الخرقاء والتواطؤ الفاضح من جميع اللاعبين على المسرح العراقي، لما تمكن الإرهاب من بسط نفوذه على مناطق شاسعة من الوطن والتحكم بمقدّرات مدن وبلدات وقرى كثيرة امتدت على أكثر من ثلث أراضي البلاد بين عامي 2014-2016 على أيدي دولة الخرافة الإسلامية.

مَن ينصفُ الأٌقليات؟
لقد شكلت حادثة كنيسة سيدة النجاة الإجرامية مثل مثيلاتها التي ضربت كلّ شبرٍ من أرض العراق، حين بلغت هذه أوجَها بفعل ما اقترفته التنظيمات الظلامية لاحقًا من أعمال ترقى للإبادة الجماعية في مناطق عديدة من العراق وفي المنطقة بعد سيطرة دولة الخرافة على مناطق شاسعة من البلاد، شكّلت هذه نقطةً سوداء في جبين الإنسانية ودول الغرب، نتيجة لسياسات هذه الأخيرة العبثية الكارثية اللاّمبالية بمصالح الشعوب المقهورة والمستضعفة. والأنكى من هذا كلّه، استمرار زجّ البلاد في أتون صراعات داخلية متناقضة المصالح ومتعددة المفاسد في أوساط الكتل السياسية وأحزابها وشخوصها الذين اعتادوا تبادل التهم بالفساد والقتل والتآمر، من دون تعرّض معظمهم للحساب والقصاص والمقاضاة، بسبب تسييس القضاء وخضوعه لنظام المحاصصة الطائفي الذي يمنح نظامَ التوافق سلطةً فوق بنود الدستور وتطبيقاته. فالذين يحكمون البلاد، مازالوا خالو الوفاض من شيءٍ اسمُه "بناء الوطن"، و"سيادة القانون"، و"المساواة والعدالة، و"الأمن والخدمات" و"وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وحسب الاستحقاق الوطني وليس الانتخابي المشبوه"، تطبيقًا لدستور توافقيّ وُلد أساسًا معاقًا بعملية قيصرية. ومثل هذا المشهد السياسيّ المتأزّم ما يزال قابل الانفجار في أية لحظة، بسبب "لعبة جرّ الحبل" المتفاقمة بين الشركاء الفرقاء، أصدقاء الأمس وأعداء اليوم.
واليوم، استذكارًا للذكرى السادسة لفاجعة كنيسة سيدة النجاة، نتذكّر وبكثيرٍ من الحسرة واللوعة، شلّة الشهداء الخالدين ال 46 من المصلّين الأبرياء من الجماعة المسيحية، بينهم كاهنان شابان عرفتهم كنيسة العراق ومنطقة الكرادة بالذات، بغيرتهما الرسولية ومواقفهما الوطنية وطيبتهما وسط سكان الحيّ، بشهادة مسلمي الحيّ أنفسهم. والخطيئة الكبرى لهؤلاء المصلّين والمسالمين من عباد الله، من الشهداء الذين أضحت دماؤُهم بذارًا لأرض الوطن، والجرحى الذين نجوا بأعجوبة، أنّهم كانوا عصر ذلك الأحد المقدس، يبتهلون إلى الباري، إله الحق والمحبة والتسامح والطيبة والرحمة، كي يزيل الغمّة عن الأمةّ الجريحة، ويهدي الحكّامَ وأصحابَ الجاه والقوى المستحكمة في العملية السياسية إلى سواء السبيل والعودة للاحتكام إلى العقل ونزع بذور الطائفية التي نخرت جسد الوطن ونهشت أحشاءَه وأثخنت جراحاته. فقد توالت بعدها النكبات وتعددت المصائب وساءت الأحوال في المال والاقتصاد والخدمات والأمن، وكثرت الضغائن والأحقاد بين أبناء الأديان والطوائف، واشتدت الصراعات بين الأحزاب والكتل والعشائر بسبب تناقض المصالح وفظاعاتها. وكان فيها الشعب المغلوب على أمره دومًا الضحية الكبرى، فيما الباحثون واللاهثون وراء الجاه والمال والسلطة يقبعون في أخدار المنطقة الخضراء ويتسامرون في أروقة الفنادق الفخمة وصالاتها ومنشغلون في تهيئة ومراجعة صفقاتٍ ليسَ للوطن فيها ولأبنائِه من مصلحة.
ومذ ذاك، والجماعة المسيحية، مثل غيرها من الأقليات الاتنية والدينية المهمَّشة في الحكومات المتعاقبة، تشهد انحسارًا في الوجود وتناقصًا في العدد بسبب نزيف الهجرة القاتل ومواقف الغرب الصادمة ممّا يجري ويحصل أمام أنظار الملأ. فقد فتح هذا الموقف اللاّمبالي بما حصل ويحصل، للفئات المكوّناتية القليلة العدد في البلاد، ومنهم المسيحيون، فتحَ جراحًا عميقة في جسد البلاد المثقل بالطعنات الداخلية والخارجية والإقليمية على السواء، عندما سمح بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحقّ مواطنين آمنين جرى تهجيرُهم وطردهم من بلداتهم وقراهم وسلب ممتلكاتهم وأموالهم وحلالهم في أبشع كارثة شهدتها الإنسانية على أيدي جماعات إرهابية متطرفة وظلاميين استخدمهم الغرب وأمريكا أداةً لتحقيق أجندة إعادة خارطة البلاد والمنطقة وفق منهج مشبوه، اشتركت فيه عناصر مشاركة في العملية السياسية، تجاذبت فرضَ مصالح دينية وإثنية وطائفية فيما بينها.
وما يزال المشروع الأمريكي في طور الإنجاز والحركة والتفاعل. والخوف الذي تحتاط منه هذه الأقليات الدينية والإثنية يكمن في وقائع ما بعد تحرير مناطقها المغتصبة التي يُخشى تغييرُ ديمغرافيتها، لاسيّما بسبب فقدان الثقة بالراعي الدولي وضعف الإحساس الوطنيّ لدى صنّاع القرار وحكّام السلطة الفاسدين حتى الثمالة وصعوبة عودة المهجّرين والنازحين إلى مناطقهم من دون ضمانات دولية، وأخرى محلية، وطنية وأمنية وخدمية. فهلْ يكفّرُ الغرب باعتباره المتهم الأول بالجريمة، عن الذنب ويعيد تلك المناطق إلى أصحابها الشرعيين، ويعوّض المواطنين ما فقدوه؟ وهل ستبادر الدولة إلى اتخاذ خطوات وإجراءات وطنية خالصة لتعويض الناس بعدالة، وفي بسط الأمن والأمان وإعادة دورة الحياة إلى هذه المناطق بعد تحريرها المؤمَّل قريبًا، وتكفّر هي الأخرى عمّا اقترفه الشركاء السياسيون فيها بحق مواطنيهم حين تخلّوا عنهم وفق مساومات وصفقات تقتضي استقدام داعش الإرهابيّ لتنفيذ المخطّط الشيطاني الذي يضمن لكلّ فريقٍ حصتَه من الكعكة؟
إلى ذلك اليوم المنتظَر بالعودة الميمونة إلى الديار المسلوبة، نسأل الرحمة لشهداء كنيسة سيدة النجاة بهذه الذكرى المؤلمة، ولشهداء العراق جميعًا الذين خلّدوا أسماءَهم في سفر التاريخ. ولتكن عودة نينوى وبلداتها إلى حياض الوطن مدعاة للوحدة الوطنية، والنازحين عنها والمهجَّرين منها قسرًا دليلًا لوحدة الصفّ ونهجًا للساسة والحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى على السواء، من أجل إعادة ترتيب البيت الوطنيّ ووضع الأمور في نصابها العراقي الخالص وتطبيق الديمقراطية والعدالة والمساواة بعيدًا عن الأنانية الطائفية والتوجهات الدينية والمذهبية التمييزية بين المكوّنات. الّلهمَّ آمين.





246
غزوة المشروبات الكحولية في كواليس البرلمان الخفية
بغداد، في 25 تشرين أول 2016
لويس إقليمس
أثار القانون الغريب والمثير للجدل الذي أقرّه البرلمان مؤخرًا ضمن فقرة واردات البلديات، حول منع إنتاج وتوريد وبيع المشروبات الروحية، العديد من التساؤلات والاستفهامات حول توقيت طرحه وفرضه في هذه الظروف بالذات التي تشهد فيها البلاد آمالاً بانفراج سياسي وأمني ومجتمعيّ وربّما تصالحيّ، حين تكاتفت كلّ قوى الخير الوطنية ضدّ قوى الظلام والشرّ المتمثلة بالسرطان الخبيث "داعش"، الذي استفحل فكريًا وعسكريًا وأمنيًا واجتماعيًا لأكثر من عامين بين ظهرانينا. فقد نال هذا الحدث الذي طفا على الساحة العراقية وتفاعلت معه مختلف وسائل التواصل الاجتماعي التي جرّمت مثيريه مجدّدًا، نال القسط الوافر من النقد والتهكم والاتهام بفضح المستور وما كان أعظم، سواء في التعاطي بهذه المادة أم باحتسائها أو بمحاولة احتكارها، ومع ما يساعد على ترويجها في صالات الملاهي الليلية ال 72، التي كشف عنها أحد النواب الجريئين والصادقين والمنتقدين لمَن يرعوها ويتقاضون مقابل حمايتها المقسومَ المزعوم. ليس هذا من عندي، بل هذا ما عرضته إحدى قنوات الشعب وتناول بالتعليق والمداخلة فيه بالتفصيل نوابٌ وأكاديميون وسياسيون.   
لا يخفى على أحد، هناك قوى ظلامية من داخل قبة البرلمان حامي اللصوص والفاسدين، والذي يفترض تمثيلُه للشعب كلّ الشعب وليسَ جزءًا طائفيًا منه، هذه القوى تسير على ذات المنهج الذي سار عليه تنظيم دولة الخرافة الآيلة للسقوط والزوال إلى مزبلة التاريخ. وهذه تعتقد من جانب أحاديّ واحد، أنها بغزوتِها هذه، قد حققت بها إنجازًا كبيرًا واحتارت برفع آيات الشكر لمَن صوّتَ لصالح القانون وبرفع التهاني للمرجعيات. وهي واهمة إن اعتقدت تحقيقها مثل هذا الانجاز الطائفي الحاقد بهذا التصرّف وهذا السلوك التمييزي المخالف للدستور والرأي العام والمناقض للحريات، حيث مع الثوابت الإسلامية لا تقاطع مع الحريات والدمقراطية. هكذا يقول الدستور الأعرج.
إنّ الوطنية لا تُقاس بالانغلاق على الذات وبتهميش الغير من شركاء الوطن، مهما كانوا عددًا وحجمًا، أو بفرض ما تعتقد به الأغلبية المتسلطة على المختلفين عن أتباعها دينًا ومذهبًا وقومية وعرقًا. فأمثال هؤلاء المنافقين بفعلتهم التمييزية الفاضحة هذه، لا يقلّون بشاعة وفداحة عن "الدواعش"، الذين عاثوا في الأرض فسادًا وهجّروا المختلفين عن منهجهم وفكرهم ولاسيّما من أتباع المكوّنات غير المسلمة، كما أفصح ذلك أحد النواب المسيحيين الذي طاله تهديد مباشر من معمّم داخل قبة البرلمان. فيما اعتقد أحد النواب المخضرمين والعقلاء أنَّ مثل هذا الفعل غير الموفَّق لا يساعد على تعزيز أسس الديمقراطية وترسيخ أركان الحريات الفردية والمجتمعية وأعمال التنمية والتقدّم وفتح آفاق للاستثمار وتشجيع السياحة. فالبلد الذي يكمّم الأفواه ويخنق الحريات ويحدّ من الإبداع والتعبير لا يشجع أن يكون جديرًا بجذب رؤوس الأموال والاستثمار وتفعيل المرافق السياحية وتنويع المداخيل لصالح الشعب والتنمية. بل بعكس ذلك كلّه، مثل هذا الإصرار على تقييد حرية المواطن يساهم باستمرارِ بكسرِ اللحمة الوطنية والمجتمعية بمثل هذه الأفعالٍ الطائفية التي "ترقى إلى آفة التعسّف"، كما وصفتها شخصية آكاديمية وسياسية فاعلة.
 لكن يبدو، أنّ مَن أثار هذا الموضوع مجدّدًا، بعد محاولات يائسة سابقة وفاشلة، قد فعلها بداعي المزايدات الدينية والطائفية، وتقرّبًا من قيادات دينية وسياسية ترعى الطائفية وتسعى إلى تكريسها بمشروع إسلاميّ طائفيّ، بدلَ قيام دولة مدنية متطورة "تعطي ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه". وهذا ما تطالبُ به قواعد المجتمع المتنورة والمتطلعة إلى عراقٍ جامع لجميع الجماعات والمكوّنات والأديان والمذاهب والأعراق من دون تمييز. هكذا كان العراق ولن يقبل بغير هذا النهج بديلاً لبنائِه وتطوّره ورقيّه وسعادته وسلامه وأمنه. فوحدة الصف وسعادة المجتمع ورفاهه واحترام الآخر المختلف هي الضامن الوحيد لاستقراره وأمنه ورقّيه. 
مَن يعود إلى الوراء قليلاً، ومع بدء التغيير في الأحداث السياسية في العراق، قامت ميليشيات مشبوهة تنتمي لأحزابٍ دينية متنفذة في العملية السياسية بعدة حملات، أسموها ب "الغزوات" ضدّ مرتادي مخازن بيع الخمور وأصحابها وبشكل منهجيّ في عموم محافظات العراق، ومنها بالذات بغداد العاصمة والبصرة والموصل بصورة خاصة. بل كانت تلك الحملات مقرونة بدعم من جهات حكومية وسلطات محلية يقودها أشخاص متنفذون من الأحزاب الدينية ومدعومة بقوات من الجيش والشرطة كي تأخذ تلك "الغزوات" مفهومًا رسميًا ودينيًا ومنهجًا طائفيًا ضدّ الجماعات التي تتعامل في عمليات المتاجرة الرسمية والتقليدية بأنواع المشروبات الروحية وفق القانون والتعليمات النافذة.  وقد راح ضحية تلك الحملات المتكرّرة والمتلاحقة في فترات متعاقبة، العديد من الضحايا، من كسبة الرزق اليومي الشريف بعد أن سطت أحزاب دينية وأخرى طائفية وغيرُها ذات مصالح فئوية ضيقة على مقادير الأمور في البلاد وسط ضياع القانون، وفراغ السلطة وضعفها إن وجدت، وغياب القضاء المستقلّ، وشحة فرص العمل التي تؤمّن الخبز اليومي للمقهورين والمظلومين والمهمَّشين لمواطنين شرفاء وأصلاء من أتباع الديانات الأخرى، وأخصّ منها بالذكر الآزيديين والمسيحيين والصابئيين. وهذه الجماعات الثلاث حصرًا، أكثر من اية جماعات سواها، كانت وما تزال الأكثر تضرّرًا على جميع الأصعدة، ومنها أنَّ أتباعها قد ألصقت بهم تهم التصنيع والمتاجرة والاحتساء، دون سواهم.
ما حدث في البصرة مثلاً، ولحقها في بغداد والموصل ودهوك بصورة خاصة، مع بداية التغيير الدراماتيكي في البلد، من هجمات متكررة على باعة الخمور فيها، وجلّهم من هذه الطوائف والجماعات المسالمة، كان وصمةَ عار في جبين السياسيين الذين يقف بعضهم وراء تلك الحملة الظالمة والخسيسة. فقد تمّ الاستيلاء على كميات هائلة من المشروبات في حينها، بالسطو على المخازن وسرقتها وإعادة بيعها في السوق السوداء بأثمانٍ مضاعفة، درّت على قادة الميليشيات في هذه المحافظة حصرًا، مبالغ سال لها لُعابُهم، فتفنّنوا في كيفية السطو والسرقة والبيع واستقدام المزيد منها من مناطق أخرى لتأخذ طريقَها إلى السوق السوداء. ومّن لا يتذكر حادثة الإغارة على جمعية آشور بانيال الثقافية بالمسبح في بغداد، وما تركته من تخريب بالممتلكات وإهانة للجمعية وأدارتها التي كانت من المنابر التي يُشهد لها في مجال الثقافة والتعبير عن الرأي والرأي الآخر وفي التنوير؟ 
اليوم، يعود أصحاب الفكر الضيّق والأفق المحدود ليكرّروا ذات الخطأ بالاعتداء على خيار المواطن وحريته في العيش بالطريقة التي يرى فيها صلاحَه وراحتَه ويعبّر فيها عن تفاعله مع محيطه من دون أن يؤثر سلبًا على عامة المجتمع. في الوقت عينه، يرى الكثيرون، ومنهم برلمانيون سرًا، أن هذا القانون الذي جاء من لجنة الخدمات، غير دستوري ويتنافى مع الحقوق والحريات العامة ويتناقض مع مبادئ الديمقراطية التي ضربها المشرّع العراقي مجدّدًا عرض الحائط، إنْ مجاملةً أو مسايرةً أو إرضاءً لجهات سياسية ومراجع إسلامية وطائفية، على شكل مزايدات دينية وطائفية وولائية لهذه أو تلك. كما أنّ هذا القانون التمييزي الواضح، يتعارض أساسًا، مع الفقرة الثانية من الدستور الضامن لحقوق جميع العراقيين من دون تمييز، حيث تتضمن هذه المادة عدم جواز تشريع أي قانون يتناقض مع الحقوق والحريات الفردية ومبادئ الديمقراطية. وهذا ما حدا بأحد النواب عن المكوّن المسيحي بعزمه رفعَ طعنٍ في المحكمة الاتحادية، وأيّده العديد من النواب المتنورين والعقلاء، لردّ هذا القانون الظالم والمجحف بحقّ كلّ العراقيين، إلاّ المنافقين الذين يبحثون عن مطامع خاصة ويتفاخرون بالتقرّب من المرجعيات وقادة الأحزاب الدينية التي ترفع شعار مشروعٍ إسلاميّ طائفيّ واضح، إنْ تودّدًا أو خنوعًا أو بحثًا عن رضا وجاه فارغين. وأمثال هؤلاء الأقوياء طائفيًا، والضعفاء مجتمعيًا ووطنيًا، بهذا النهج يشبهون أنفسَهم ب"كهنة" السلاطين والمراجع، الذين اعتادوا بمختلف أنواعهم ومشاربهم، العيش في جلباب الغير وتلويث الحياة بأكاذيب ودجل ونفاق لا تقلّ مفسدةً وتعسفًا عمَا اقترفه "داعش" وأشباهُه ضدّ جماعات عراقية أصيلة، تعرّضت وماتزالُ لذات الظلم وذات التعسّف بسبب أفكار متخلّفة وعقليات متزمتة لا ترقى إلى مستوى مفهوم "الدولة المدنية" الذي يتطلّع إليه جميع العراقيين. وهذا المفهوم عينُه، قد أكده في مناسبات عديدة معظم هؤلاء النواب الذي خالفوا آراءَهم الاستعراضية الكثيرة بخصوص "الدولة المدنية" المنشودة التي ينبغي أن تُبنى عليها سياسة البلد الغارق في مفاسد وسرقات الفاسدين من السياسيين ما بعد التغيير!
 إنّ العراق لا يمكن أن يكون مشروعًا لدولة ثيوقراطية يتحكم بها دينٌ معيّن أو طائفة معينة. ف "الدّينُ يبقى في أصلِه وشريعتِه وفي مفهومِه الأوسع للّه، فيما الوطن خيمةٌ وجنينةٌ للجميع". أمّا ما كان غيرَ ذلك، فهو منافٍ لأصول الحرية والديمقراطية والإنسانية التي ارتضى بها البلد وساستُه يوم القبول بغزوه من قبل الغرب، صانع الديمقراطية ومصدّرُها على طريقته الخاصة.   
لذا، فإنّ مَن تعذّر من نواب الشعب بحجة تطبيق شريعة السماء، عليه أن يعيد قراءة ما كُتب والتفسيرات المتناقضة والكثيرة التي شابت هذا الذي كُتب ونُقل ورويَ منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا خلت، حينما كانت عادات الصحراء وتقاليد البداوة وقوانين القبيلة وشريعة وأد البنات تتحكم بالعباد وسلوكهم اليوميّ. وما هذا الإصرار المتعاظم من قبل البعض للعودة إلى الزمن الغابر في لحظة نفاق ومكر وكراهية، سوى للتعبير عن الرفض المبيّت الواضح لكلّ مختلف عنهم في الفكر والمنهج والسيرة والدين والمذهب. فقد أثبت الكثير من النواب أنهم مجرّد أدوات، قد استخدموا ليقولوا ما يُلقنون إياهُ من جانب رؤساء كتل وزعامات دينية تسعى لفرض "شريعة دين ودولة" على مواطنيهم، بالرغم من تعدد أديان البلاد وتنوع القوميّات واختلاف الثقافات والعادات والتقاليد والمناهج في الحياة. أمّا ما يقوله هؤلاء وزعاماتُهم علنًا، وما يعدون ويصرّحون به للشعب المقهور ولزعامات وممثلي هذه الجماعات في المؤتمرات واللقاءات وعلى الفضائيات عبر التسابق والتبجح باحترامهم وتقديرهم لأتباع الديانات الأخرى والإشادة بأصالتهم في الأرض، فليس ذلك إلاّ رياءً ونفاقًا وضحكًا على الذقون وتخديرًا لمَن يصدّق الأكاذيب المتكرّرة. فهم يضمرون ما لا يقولون، ويقولون ما لا يفعلون. وكلّ ذلك، طمعًا بكسب الأصوات والتأييد، وتودّدًا للغرب الذي يصدّق كلَّ ما يقولون في وسائل الإعلام المختلفة وفي اللقاءات والمفاوضات والمؤتمرات الرسمية والدولية والمنظماتية.
من هنا، فإننا نعتقد أنّ جزءًا كبيرًا من مفهوم الديمقراطية والحرية يقوم على سياسة التسامح والتصالح والرحمة التي نردّد لفظتها ملايينَ المرات في كلّ يوم. وما أحوج الشعب العراقي اليوم أكثر من ايّ وقت مضى لهذا المفهوم وهذه السمة التي كانت تطبع معظم طبقات الشعب قبل اختلال الموازين وصعود تيارات الإسلام السياسيّ إلى السطح منذ ثمانينات القرن الماضي وعبثها بمقدّرات الشعوب والأمم والدول، لاسيّما في منطقتنا الشرق أوسطية، والعراق من ضمنها، والتي استغلّت كحاضنة جاهزة لتقبّل مثل هذا الفكر التكفيريّ المتخلّف والترويج له في ضوء تصارع مذهبين غريمين، يحاول كلّ منهما إثبات أولويته وشرعنته وجبروته. ثمّ إنّ جرّ البلاد والعباد إلى معارك جانبية وصراعات طائفية ومذهبية في هذا الوقت بالذات، كما صرّح أحد عقلاء البرلمان، ليس من مصلحة الشعب والبلد الذي يخوض معركة مصيرية مع أعتى تنظيم إرهابيّ سطا على ثلث مساحة البلد قبل أكثر من عامين. وكان ذلك بفضل مثل هذه الصراعات الطائفية التي أوجدتها وحرّكتها وأيدتها حكومة طائفية لفترتين برلمانيتين، وبهما ساد الفساد وطغى الظلم ونُهبت ثروات الوطن وحصل القتل والدمار ونقص الخدمات وفرغت الخزينة وانهار الاقتصاد وهُجرت جماعات وسبيت نساء واغتصبت غيرهنّ.
ولو نظرنا إلى دول الجوار، وبعضها تنتهج نهج الشريعة الاسلامية، لعرفنا أنّ تقدّمها واستقرارَها حصلا بفضل انفتاحها وعدم تعرّضها للحريات العامة ولمنافذ الديمقراطية، ومنها حرية السلوك والمتاجرة بأنواع الخمور، وفق قوانين مرعية تحافظ على الذوق العام والنظام ولا تخلّ بحرية الآخر وخياراته. وهذا ما ساعد كي تنهض سياحيًا ويتعزز اقتصادُها بفضل مثل هذا الفكر وهذه السياسة الانفتاحية التي لا تتقاطع مع الحريات العامة ومع الديمقراطية وحرية الفرد. ومن حقنا أن نتساءل: أيهما أفضل، أن ينعم الفرد بحريته في تناول الخمر من دونه أم زجّ الشباب في أتون تعاطي المخدّرات التي كادت تغزو الشارع العراقي من إحدى دول الجوار، كما تشير إحصائيات أمنية ومخابراتية وجهات نفسانية وطبية؟ وأيهما أفضل: شاربو الخمر الذين ينتشون في دُورِهم وفي صالات ليلية مسيطَر عليها وفق القانون والضوابط الرسمية، أم الفاسدون في البرلمان ومؤسسات الدولة التي غزتها الطائفية والمحسوبية، وغذّاها أمثال هؤلاء النواب المنافقين الذين صوّتوا لصالح حظر المشروبات من دون التحسّب للأسباب والنتائج؟ دروسٌ بليغة للتعلّم، فهل من سامع أو مجيب؟
من هذا المنبر الحرّ، ندعو بدورنا، المحكمة الاتحادية كي تأخذ دورها القضائي الوطني وتردّ هذا القانون الظالم وتضع حدًّا لأمثال هذا السلوك الذي لا يريد الاعتراف بحرية الآخر، ويسعى في مناسبة وبدونها للإيغال في تهميش الآخر المختلف واستبعاده والاستخفاف بحجمه ودينه وطائفته وإنسانيته. كما ندعو أصحاب الأفكار المنغلقة في السلطات الثلاث، كي تتعظ من دروس الماضي والحاضر، وتتطلّع عوض ذلك للمستقبل، وتعيد رسمَ الأولويات الوطنية التي تجمع ولا تفرّق، وتضع في منهاجها عناوين الحرية جميعها من دون استثناء، ومنها عنوان الانفتاح والسماح للفرد بالانتشاء بما يعتقدُ أنه يوفرُ له السعادة والارتياح والراحة حين احتسائه الخمر بتعقّل ومن دون فقدانٍ للوعي والإرادة. فسواءً قبلت الأغلبية المتسلطة أو رفضت، وسواءً امتعضت الأقلية المقهورة أم رضخت للأمر الواقع، يبقى المبدأ المطروح من قبل هذه الشلّة من النواب المنغلقين، مغلوطًا يشوبه الكثير من التعسف والظلم والتخلّف والتراجع في الحريات وفي الأفكار والآراء. وليس من المعقول، أن يبقى البرلمان في وادٍ والحكومة في آخر والشعب بين هذا وذاك يجرّ أذيال الخيبة فاقدًا الأمل في الراحة والاستقرار والسلام والطمأنينة والإنسانية.
 وسيبقى عرق بعشيقة وخمرة ألقوش وقره قوش، بعد عودتها إلى حضن الوطن وعودة أهلها إلى دورهم وأملاكهم، عنوانًا آخر للحرية والديمقراطية التي حاول التنظيم الإرهابي المتشدّد وأشباهُه، حرمانَهم ومعهم كلّ العراقيين، من نشوتها ومتعتها وإيجابياتها التي تزيد كثيرًا عن سلبياتها.
 


247
قيم الشكّ واليقين في سلّة السياسة والسياسيين
بغداد، في  8 تشرين أول 2016
لويس إقليمس
ليس هناك ميزانٌ واضح أو ثابت بين ما يشكله مفهوم الشكّ، سلبًا أو إيجابًا، مقارنة مع نظيره شبه المستقرّ "اليقين". فالشكّ قد يكون سمة أخلاقيّة واجتماعية بالدرجة الأولى. وهو بذلك يدلّ على موقف عقلانيّ حرّ وواعٍ يتخذه الإنسان اتجاهَ حالة معينة. أي بمعنى أكثر سعة، وكما يرى البعض، هو نوع من الاتجاهات الفلسفية التي تتطلب التفكير والتمحيص، ومن ثمّ اتخاذ القرار المناسب وفق الظرف القائم. والشكّ في جزءٍ كبيرٍ منه مردُّه الظنون والتخيّل، التي بمجملها، قد تجعلُ الإنسان يتيه في فضاءاتها الكثيرة والكبيرة. فمنه ما هو إيجابيّ حينما يدفع الأمور باتجاه الأفضل والأحسن. وهذا من شأنه أن يقود صاحبَه للتفاعل إيجابيًا مع الأحداث والأشياء، كلّما اختمرت عنده بذرة البحث نحو الأفضل ضمن دارة الإيمان بإيجابية الإصلاح في كلّ ما حواليه.
عندما يبحث الإنسان عن حلول لمعضلة معينة قائمة يصعبُ تفكيكُ رموزها، فهذا شيءٌ جيّد وحسن، لأنّه يعملُ خيالَه وفكرَه من أجل بلوغ الأفضل. وهذه قيمة إيجابية بحدّ ذاتها. وكلّما أمعنَ الإنسان في اكتشاف أدواتٍ تسهلُ الحصول على حلول إيجابية، زادت قيمةُ الشكّ عنده إيجابًا، بسبب اكتشافه مقوّمات جديدة في البحث عن شيءٍ اسمُه الإبداع الفكريّ والدقّة في التعامل مع الأشياء. ومثل هذا الإبداع الفكري والسرحان في الخيال لن يكون بمستطاع كائنٍ مَن كان، بل هي البيئة النخبوية التي تخرجه إلى البيان بانتظار مَن يطبّق ومَن ينفّذ. وعكس ذلك، يصبح الشكّ ذا قيمة سلبية عندما يقود إلى التشاؤم والسوداوية في الحياة. حينئذٍ يصبح كلّ مشهد أو حدث أو أداة، غير نافعة وغير ذي قيمة لديه، فيسلّمُ الراية ويدلف جانبًا كالغراب الذي ينعق.
وبين الظاهرتين، الإيجابية منها والسلبية، يبرز دور التفاعل اليومي في الحياة عند الإنسان السويّ، وما يقوم به الفرد الاعتيادي من عملٍ يحرّكهُ فيه اليقينُ الثابت، نوعًا ما، في النظر إلى المسائل والأحداث. ولابدّ من اعتماد هذا اليقين الظاهر، على فكر قويم وصلد ضمن المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان. وهذا هو السلوك الآمن الذي يمكن أن يُكتب له التوفيق ويقود إلى الصالح العام الأفضل خارج دارة الشكوك التي يمكن أن تحوم حوله بغير ذلك أو حينما تغلقُ عليه المنافذ. ومن الشكّ ما يقود إلى اليقين بعد التأكد من القرائن والبراهين والإثباتات الحاضرة والمستنبطة من الخبرات والأحداث والوقائع. وهذا ما ذهب إليه كلٌّ من الفيلسوفين الفرنسي ديكارت والعربي أبو حامد الغزالي في مخرجاتهما الفلسفية حول السمتين المتلازمتين.
سأضرب ثلاثة أمثلة قريبة من واقعنا ضمن هذا السياق، في الأسطر التالية.
كما نرى ونشهد، التقويم العالميّ القائم اليوم، مليء بالثغرات الكثيرة والكبيرة من هذا النوع الذي يتراوح بين الشكّ واليقين. من أحدث الأمثلة الماثلة أمامنا على صعيد السياسة الدولية الفوضوية هذه الأيام، قائمة الشكوك المتراكمة بين القطبين الرئيسيين، أمريكا وروسيا، والتوترات المتواترة التي تنمّ عن شكوك متراكمة ومتجدّدة بين فترة وأخرى بين العملاقين اللذين يديران دفة النزاعات والصراعات في العالم، ومنها منطقتنا الشرق أوسطية المبتلاة بمصالح هاتين الدولتين الندّيتين. إذ كلّما اقترب الطرفان من إنجاز اتفاق دوليّ مهمَ، أو أصبحا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق السلم الأهلي في منطقة ساخنة والإتيان بالوفاق المنتظَر، تبرز شكوكٌ بينهما لاعتبارات عدّة تنسف كلّ مقّومات تلك المشاريع التي ينتظرها المجتمع الدولي بفارغ الصبر.
العالمُ بأسره، يدرك اليوم أنَّ الحلّ والربط، كلاًّ وليسَ جزءً بأيدي هذين اللاّعبَين الكبيرين في توجيه السياسة الدولية وتقرير مصير الشعوب. مثلاً، حديثًا بعد الاتفاق على وضع حدّ للنزاع السوريّ، الذي أغرق البلدَ بدوّامة دماءٍ نازفة من دون رحمة بفضل ما تقدّمه الدولتان من جديد الأسلحة الفتاكة ودعمٍ للأطراف التي تخدم مصالح كلّ من العملاقين، برزت شكوك بين الأخيرَين في مدى التزام أيّ من الطرفين ببنود الاتفاقات التي يتقاسم فيها الطرفان المسؤولية السياسية والأخلاقية، ومردُّها عدم الثقة الدائمة في مسارهما منذ الحرب الباردة ولغاية الساعة. وهذا ما دفع الطرف الروسي من جانبٍ واحد، لاستعراض تاريخ غريمه الأمريكي ووضعه في قفص الاتهام بنكله مثلاً، باتفاقات سابقة يعدّها الأول مهمة وخطيرة. وعلى ضوء هذا الخلاف، أقدَمَ هو الآخر، بل هدَّدَ بنسف اتفاق قديم سارٍ يلزم الطرفين بالتخلّص من كمياتٍ من البلوتونيوم الذي يدخل في مجال صناعة القنبلة النووية، وذلك كردّة فعل لأساليب التحايل التي تستخدمها الإدارة الأمريكية بدعمها أدواتِ الإرهاب المتمثلة ببعض تنظيمات ما يُسمّى بالمعارضة، وهي في الحقيقة ميليشيات تستخدمها أمريكا لتنفيذ خططها في المنطقة. فالجانبُ الروسيّ في استعراضه لشكوكه المراودة حيال عدم التزام الأمريكان بتنفيذ بنود هذا الاتفاق بكلّ حذافيره من خلال الإبقاء على شيءٍ احتياطيّ منه، يرى في هذا التحايل خرقًا للاتفاقية ولروح الانفراج الدولي وتهديدًا للسلم العالميّ. بالمقابل، فقد رفض الأمريكان مثل هذه الاتهامات ووجهوا خطاباتهم اللاّذعة والصاروخية كالعادة ضدّ غرمائهم الروس الذين بطبيعتهم، لن يقبلوا بالإذلال أمام سطوة الإدارة الأمريكية التي سعت وما تزال كي تكون أداة القطب الواحد تديرُ العالم كما تشاء بقبضة حديدية وبكلمة من اللّوبي الذي يُحرق الكون ويشعلُ النزاعات في كلّ مكان تحقيقًا لمصالحه القومية وما وراءَها. أي أنّ الشكوك هنا، ليست إيجابية، بقدر ما هي سلبية من حيث إنها لا تتعاطى مع معطيات مصالح البشرية، بقدر ما ترى أنها ترسم للقويّ مصلحة ضيقة وتتيح لهُ إدارة الملعب بحسب أهواء اللوبي الذي يمسك بمرساة السفينة الهائجة وسط المحيطات الساخنة.
على صعيدٍ آخر، ما يجري في القارة الأوربية من تنامي خطوط الريبة والشك بين أعضائها، يثير الاهتمام. فقد بدأت الشكوك بين الدول والشعوب التي تنتمي إليها تترامى وتتسع وتأخذ مديات لم تعتدْ عليها، لاسيّما بعد خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد، وموجات الهجرة الشرعية وغير الشرعية التي تفاقمت وشكلت كابوسًا للقارة المنهكة. وهذه بطبيعة الحال قد تكون نتيجة ما يحصل في العالم من سياسة الكيل بمكيالين بين الكبار، لصالح الأسياد حصرًا. والأسياد التقليديون هنا، هم البريطانيون والأمريكان، ذوو الأصول الإنكليزية حتمًا. فهُؤلاء يَعدّون ما سواهم، بيادق في لوحة الشطرنج، أو رعايا يقتادهم الراعي ذي العصا الغليظة حيث يشاء وكيفما يشاء، حتى لو كان من بين هؤلاء أسيادٌ من نوعٍ آخر ممّن يقودون القارة العجوز اليوم. فهذه الأخيرة، لم تقوى على الوقوف فوق رجليها بسهولة، بلْ لم يُسمح لها ذلك، عندما سعت لانتهاج سياسة مستقلّة خاصة بها حين تقريرِها تشكيلَ اتحادِها الخاص وبعملتها الموحدة كي تكون قوّة اقتصادية متينة منافسة لأمريكا. فالأخيرة لم تسمح لها تجاوز الحدود التي تخرج عن طاعة القطب الواحد. وبالنتيجة، اضطرّ رؤساؤُها وقادتُها للزحف زحفًا نحو البيت الأبيض لينالوا رضا العم سام واللوبي الذي يقوده، من دون سؤال أو استرحام.
وها هي أوربا اليوم، غارقة في موجات من الأزمات، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وصناعيًا وتنمويًا، وتلفُّها تحديات جديدة أثقلت كاهلَ مواطنيها الذين نالهم ما نال المناطق الساخنة التي أحرقها الأسياد من إرهاب وعنف وبطالة وتمزيق للنسيج الاجتماعيّ. لقد سرت الشكوك بين مواطنيها أيضًا، حين فقدوا الأمنَ والأمان وحين بدأت مسيرة حياتهم وأسلوبُ عيشهم يكتنفها الغموض بسبب السياسة التي يتبعها قادة الاتحاد الذي بدأت أركانُه تتخلخل وتضعف. كما لم يخفي ساستُها وقادتُها ما ساورَ بلدانَهم واتحادَهم من حصة هذه الشكوك بسبب ما خلقته موجات الهجرة الشرعية والخفية وما صاحب ذلك من اتفاقات مريبة زاحفة مع دولٍ شريكة مثل تركيا التي فرضت صوتَها وإرادتَها رغمًا عن قوة الاتحاد وبالضدّ من إرادة شعوبه التي استسمجت الاتفاق المبرم مع هذه الدولة السائرة في تصدير أيديولوجيتها المتطرفة في المنطقة كما في صفوف دول الاتحاد على السواء. ومن الغريب أن قادة الاتحاد وساسَته لا يريدون أن يدركوا أو يقرّوا باليقين وليس بالشكوك، بالنوايا الخفية السلبية وراء إصرار تركيا على تنفيذ الاتفاق وفتح أبواب أوربا على مصاريعها لمواطنيها من غير سؤال أو تحديد، كي يكملوا غزوَ بلدانها ضمن هذه الصفقة المريبة التي تقف وراءَها دواعٍ سياسية في بعض دول الاتحاد المهمة ومكاسب انتخابية في صفوف أحزابه التي تحكمُ بلدانه، ومنها ألمانيا تحديدًا.
إنّ عودة الشكّ بين دول الاتحاد الأوربي، ما هي إلاّ تعزيز لأصوات الحيطة والحذر ومَن قرعوا أجراس الخطر في وجه سياسة الاتحاد الأوربي المتزعزعة التي تنفذ روزنامة البيت الأبيض وإدارتَه، كما يبدو. فمروجّو العلمانية حدّ النخاع الذين يرفضون حتى ذكرَ الله الخالق على ألسنتهم، والانتهازيون الذين قرروا الخروج والفسحة خارج قفص الاتحاد، والمتهالكون على فتح الحدود من دون رقابة ولا تمييز، والآخرون من أصحاب المواقف المتذبذبة والضبابية والسلبية في القرارات السياسية وغيرُهم من المنتفعين ممّا يجري، هؤلاء جميعًا قد أضفوا على سلوك قارتهم أكوامًا من الشكوك حول أصالة بلدان الاتحاد والنوايا الاقتحامية ضدَّ خصوصياتها وبهدف تغيير مسارات عيشِ شعوبها التقليدية وأسلوبِها الديمقراطيّ في الحياة. وهذا بحدّ ذاته، من أكبر التحديات التي تواجهها القارة العجوز اليوم أكثر من أي وقت. ولعلّ من أولويات هذه التحديات المرافقة لهذه السلوكيات، هو الهاجس الأمني الذي أيقظ العقول وحرّك الأفكار وخلطَ الأبعاد باتجاه ضرورة تحقيق قدرٍ وافٍ من التضامن بين دول الاتحاد وشعوبه من أجل إعادة الأمور إلى نصابها والحفاظ على نظافة القارة من الأتربة الغريبة والموجات الهجومية المتعمَّدة لأراضيها المصحوبة بأيديولوجيات غريبة عن أخلاقها وعن طبيعة عيشها بهدف تغيير ديمغرافيتها وشكلها وأصولها.
نضيف على ذلك مثالَنا الثالث، وهو ما تتصف به منطقتنا الشرق أوسطية والإسلامية تحديدًا، من التصاق سمة الشكّ في صفوف بلدانها، شعوبًا وسياسة ونوايا. فالمفهوم الطائفيّ لبعض الأطراف، المصاحب لأيديولوجيات يُراد فرضُها على الغير بأية وسيلة كانت، قد فتحت الأبواب مشرعة لتنامي بذرات من الشكك الغالب واليقين المبطن بين الدول الإقليمية بالمنطقة سلبًا أو إيجابًا، بحيث كاد الصراع المناطقيّ ينحصر في كونه طائفيًا بين ندّين تعمّق عداؤُهما، وراح كلّ طرف كأنّه يدعو لدينٍ آخر بمفهومٍ مختلف، طابعُه طائفيّ وعنصريّ ومغالٍ في الانتماء والتطبيق. وهذا بطبيعة الحال، حصل بسبب تنامي الشكوك بين أقطاب السياسة في البلدين المتصارعين مذهبيًا، وضمن المعسكر الذي شكّلَه كلّ منهما في المنطقة للتأييد للمذهب الذي ذهب إليه وراح يروّجُ له ويجنّد ما استطاع من قوى وبشر ومال. 
لذا، لا عجب أن نسمع مثلاً، أصواتًا تنادي علانية بمشاريعَ ل"تشييع" دول المنطقة وما يترتب على ذلك من فرض شعائر وتقاليد وممارسات مظهرية غريبة وانتماءات مرجعية، ردّاً على اتساع رقعة البلدان المؤيدة والداعمة لنهج التنظيمات والمجاميع السلفية المتشدّدة من أمثال القاعدة وداعش وشباب الصومال والنصرة وأمثالها، من التي تحكم قبضتَها على حكومات تؤكّد التزامها بالأحاديث والسنّة النبوية أكثر من تطبيقها للشرع القرآنيّ. وهذه الشكوك بين الأطراف جميعًا، قد جلبت الوبال على شعوب المنطقة بإثارة صراعات جانبية، ظاهرُها سياسيّ وجوهرُها طائفيّ ومذهبي ومرجعيّ لا يخلو من أيديولوجيا متطرفة في أحيانٍ كثيرة.
من المعلوم، أنَّ طابع الشكّ المخفيّ والكامن بين أصحاب المذهبين في المنطقة، قد أخذ مداه الواسع في نهاية حقبة السبعينيات من القرن الماضي، عندما تخلّت أمريكا عن أقدم حليفٍ أصيلٍ لها في المنطقة، ونقصد بها النظام الشاهنشاهي. وبتلك الخطوة، تكون قد أغرقت المنطقة في بحارٍ من الشكوك والنزاعات الدينية والصراعات المذهبية التي، ربّما لن تكون لها نهاية على المدى المتوسط. فقد أدت تلك الشكوك في النوايا بين القطبين المسلمين، إيران والسعودية وأتباع كلّ منهما معًا، إلى يقين باستحالة التعايش بين مذهبين مختلفين ومتباعدين مع توالي الأيام، ويحملُ كلٌ منهما فكرًا واتجاهًا ورؤىً مختلفة وذات مصالح متباينة.
وحتى تُتاح الفرصة للقاء وتفاهم الإخوة الأعداء في أرض الله الواسعة، بعيدًا عن الشكوك السلبية، لا بدّ من تبييض الصفحات السوداء التي طبعتها هذه الشكوك، لدى الواحد ضدّ الآخر. وبإزالتها، يتوصل العالم إلى يقين قاطع يحمل معه مفاهيمَ إنسانية خالصة وأخرى دينية صافية وثالثة سياسية متزنة تضع في أعالي ميزانها البشري عظمةَ الله الخالق وجمالَ خلقه وتساويهم جميعًا أمام منبره. فلا جاحد ولا كافر ولا مؤمن ولا كاذب ولا مارق ولا شاكّ ولا موقِن، يمكن أن يتعرّض في ضوء الميزان السماوي للرفض أو التوبيخ أو إقامة الحدّ، سواء كان من ذات الدّين أو المذهب أو الفكر، أو من سواها من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى أو من حملة الأفكار الحداثوية والفلسفات المعاصرة، مهما كانت صفاتُها ومشاربُها. بل فقط، هو الخالق الديان الذي يحكم ويقضي بالعدل ويوصي خليقتَه بالحسنى والرحمة والعبادة والصدقة، وليس بالقتل والشك والذمّ والنفاق والاغتصاب والسلب والنهب والفساد. فهو لمْ يوكِل أحدًا قط ليحكمَ بدلَ مقامه، أو سمحَ له ليشكَّ بقدرته على إدارة الكون أو إدانة البشر خلقه، ليقينِه أنه يعلم ما لا يعلم البشر ويستطيع ما هو غير مستطاع لديهم.


248
وللتاريخ كلمة في شأن السريان والسريانية!
بغداد، في 13 تشرين أول 2016
لويس إقليمس
-   الجزء الثاني-

كثر العتب وزاد الغضب والشجب والاتهام بين دوائر وجهات ومراجع كثيرة في الوسط المسيحي في الآونة الأخيرة بشأن الغبن والإجحاف الذي لحقَ بمكوّن "السريان" الذي أهملته لجنة كتابة الدستور، لأسباب تمييزية دامغة، كان المتسببُ فيها في الأساس، نوابًا مسيحيين يحملُ كلّ منهم أجندةَ طائفته المتعصّبة. وقد تنادت مؤخرًا، رئاسات كنائس شقيقة ومراجع ومنظمات وجمعيات وروابط وشخصيات دينية ومدنية ونشطاء ونواب وسياسيون متعاطفون، في الداخل والخارج، وكلّها تدعم تحقيق العدل والمساواة ورفع الحيف الذي طال هذا المكوّن، بسبب زلّة اقترفتها أيادي غير أمينة في غفلة من الزمن. وقد افتضح أمرُ هذه الجهات المراوغة بعد كشف الحقائق وعرض المستور، وما خفي كان أعظم! فالجهل بحقائق الأمور وبالتاريخ، قد ساهم هو الآخر في تجاهل وتغافل وإهمال لجنة كتابة الدستور ورئاسات الأحزاب والكتل التي أقرّته، بتضمينه مكوّنات دون أخرى، بالرغم من أصالة تسمية "السريان" و"السريانية"، عبر التاريخ. وذلك كانَ نتيجة تأثيراتٍ شخصية وكتلوية وحزبية، مارسها نوابٌ مسيحيون ومَن لقّنهم تعليماته وتوجيهاته، إيغالاً في التعصّب. بالمقابل، فقد طربَ لها غيرُهم من الأحزاب العراقية وزعمائهم، تشفيًا بزيادة التشرذم والانقسام في صفوف المكوّن المسيحي.

تسميات قومية بإرادات طائفية
ما حصل مؤخرًا، قد يكون صحوة لنصارى (مسيحيّي) العراق والمنطقة جميعًا، للعودة إلى روح العقل وترجيح الحكمة بدل التعصّب والتعنّت بتسميات طائفية حديثة تعود لطوائف وكنائس وطقوس وليسَ لقوميات أو هويات متميزة لشعوب، تمامًا وانسياقًا وراء موجات الطائفية التي تعصف بالوطن الجريح. وعفا اللّه عمّا سلف وجازى مَن كان السبب. وهذه وإن كنّا نعتقد أنها صحوة متأخرة، ولكن لا بأس،      ف"المؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرتين "كما يقول المثل. إن مثل هذه التسميات الجديدة التي طفت على الساحة السياسة العراقية بعد الفوضى التي دمّرت بنيتَه ونسيجَه وعقلَه وخلقت جيوشًا من الفاسدين والجهلة ليقودوا البلاد، لم يرد ذكرُها قط كما يدّعيه أبطالُها ودعاتُها، في بطون الكتب والتاريخ والسير، إلاّ حديثًا. بل كانت تسمية "السريانية" والشعب "السرياني" والهوية "السريانية" واللغة "السريانية"، هي المرجحة والمتداولة طيلة تلك الحقب الزمنية الغابرة. لذا أصبح من حقّ "السريان" الحاليين، بل من واجبهم المقدّس، هم أيضًا، المطالبة بإدراجهم في الدستور وفي البطاقة الموحدة، بعد تهميشهم وإقصائهم عن سابق إصرار وترصّد. ونريد أن يحصل هذا، ليس بدوافع الانتماء إلى طوائفهم وكنائسهم التي تحمل ذات الاسم، بل عودة إلى التاريخ والحقائق والوقائع من حيث تسمية جميع مسيحيّي الشرق منذ تنصيرهم في بدايات القرن الأول ب"السريان" وبلغتهم "السريانية" التي تحدّث بها أسلافهُم وما زالَ البعضُ منهم يفعل ذلك في سهل نينوى وفي شمال العراق. فكلمة "سورايا"، التي تعني المسيحي، "وسوريتوثا" أو "سوريوتوثا" التي تعني المسيحية أيضًا مجازًا، هي مفردات مقتبسة ومحرَّفة عن تسمية "السريان" و"السريانية"، والتي أخذت تفسيرًا عامًا متداولاً لتعني المسيحيين، دينيًا وقوميًا في آنٍ معًا. وهذه كان ينبغي أن تكون منذ البداية، تسمية تاريخية لجميع المسيحيين المشرقيين من دون استثناء. 
إننا نرى، أنّ إصرار الأحزاب الآشورية التابعة للكنيسة النسطورية بشطريها، مردّه ادّعاءٌ تفاخريٌّ بالانتماء إلى أصالة الحضارة الآشورية، من دون دلائل تاريخية أو ماديّة واضحة، ذلك أن الشعوب القديمة تزاوجت وتصاهرت وسُبيت واغتصبت وهُجّرت وهاجرت وطُردت واختلطت وامتزجت مع غيرها من الشعوب. وكان ذلك قبل أكثر من سبعة آلاف سنة ولّت، ولم يبقى للجنس البشري في المنطقة من دماء آشورية أو أكدية أو سومرية أو بابلية أو كلدية (كلدانية) أو حتى آرامية نقية. هذه مسيرة الشعوب وحركة الأمم، لا ثباتَ لدماءٍ صافية نقية فيها. ودليلُنا على ذلك، الحركة الديموغرافية الحالية في العراق والتوزيع السكاني القائم، ومنهم الكثير من أهلنا وأبناء عشائرنا وعائلاتنا وبني جلدتنا الذين قصدوا بلدان الشتات وتشرذموا، حيث ستأتي أجيال قد تنسى ماضيها وتاريخها وأصلها وفصلها، تمامًا كما حصل هذا مع جهلة التاريخ في صفوف نوابنا ومسؤولي حكوماتنا الكارتونية الفاسدة، اللاّهثين وراء مصالح طائفية ودينية وفئوية وشخصية ضيقة، ما أوقعهم في مثل هذا الخطأ الجسيم، عمدًا أو من دون قصد.
وهنا، يطيب لي التذكير بمعلومة تاريخية، قد تفيد بمراجعة المواقف والارتكان إلى العقل والحكمة والمعرفة غير الزائفة. من المعروف، أنه بعد دخول المسيحية إلى المنطقة عبر أنطاكية منذ القرن الأول الميلادي، تسمّى الآراميون من أسلاف الحضارات القديمة المعروفة، من الذين كانوا يسكنون المنطقة، تسمّوا "سريانًا"، لتمييزهم عن شعوب "الآراميين" الذين كانوا عبدة أصنام وأوثان. وهذه التسمية أضحت رسمية منذ ذلك التاريخ ولغاية الساعة. حتى إنّ أعرق الجامعات الغربية التي تتفاخر بتعليمها للغات الشرقية القديمة، مازالت متمسكة بتعليم اللغة الآرامية وآدابها، تحت مسمّى اللغة "السريانية"، وليس "الآشورية" أو "الكلدانية". وهذا كان واقعُ الحال إبّان اعتراف النظام البائد بالحقوق الثقافية لمَن أسماهم بالناطقين باللغة "السريانية" من الآثوريين والكلدان والسريان، في نيسان 1972. وعلى ضوء ذلك القرار، تمّ تشكيل مجمع اللغة "السريانية"، بهذه التسمية وليس بتسمية أخرى.
أمّا النعرة التعصبية التي انتقلت إلى جماعات هاتين الطائفتين، أي الآشورية والكلدانية، فهي حديثة العهد ترقى في بداياتها بالنسبة للجماعات النسطورية "الآشورية"، إلى تأثير الإرساليات التبشيرية الانكليكانية وبدء علاقتهم مع بطريرك الكنيسة النسطورية آنذاك في قواجانس بجبال حكاري، حيث كان البطريرك رمزًا ورئيسًا دينيًا ومدنيًا في آنِ معًا. وكان ذلك في أواسط القرن التاسع عشر، حيث تاريخ قدوم البعثات الأنكليكانية والبروتستانتية الى الشرق عامة، للعمل بأهدافٍ مزدوجة: سياسية منها لإيجاد أرضية في مناطق المسيحيين الجبلية الفقيرة التي كانت ترزح تحت سطوة السلطات العثمانية، والأخرى مذهبية كان الغرض منها منافسة المدّ الرومانيّ الكاثوليكي الذي تسارع إليه مسيحيو المنطقة للاهتداء إلى هذا المذهب لأسباب كثيرة لا يسعنا التطرّق إليها.
فيما الكلدان من أتباع النساطرة قديمًا، من الذين تحوّلوا إلى المذهب الكاثوليكي على عهد البطريرك يوحنا سولاقا في عام 1553، بسبب اعتراضهم على نظام توريث الكرسي البطريركي لدى كنيسة المشرق النسطورية، فقد التهبت عندهم نار الغيرة السياسية والقومية حديثًا جدًا، لاسيّما بعد التطورات الأخيرة للمشهد السياسي في المنطقة، وفي العراق تحديدًا. وهُمْ لم يتسمّوا كلدانًا من قبل بابا الفاتيكان في وقتها، إلا بعد تحوّل البطريرك سولاقا مع أتباعه إلى الكثلكة، وذلك بهدف تمييزهم عن أتباع طائفتهم القديمة من الكنيسة النسطورية. وقد برز التوجّه السياسيّ لدى المحدثين من الكلدان، مع بروز أحزاب بدائية تدّعي الكلدانية قومية، محاكاة لأندادهم النساطرة "الآشوريين" الذين صار لهم باعٌ في السياسة قبل غيرهم من المسيحيين في المنطقة وفي العراق تحديدًا، لاسيّما في مطلع القرن العشرين مع وثبة الفكر الوطني وارتفاع الأصوات بالاستقلالية وبوطنٍ مستقلّ أو إدارة ذاتية في مناطق تواجد المسيحيين في شمال الوطن وفي كردستان، تحديدًا. لكنّ إرادة الأسياد غير ما تتمناه الشعوب المغلوبة. فقد اصطدمت تلك الأمنية وذلك النضال آنذاك، بصخرةِ مخطّط الأسياد البريطانيين الذين نكثوا الوعود المقطوعة "للآثوريين" وعرّضوا مصيرهم وطموحاتهم للقهر والذبح والتنكيل والطرد، بين اغتيال وتطهير وخيانة. وهذا ديدنُ الأسياد. مخططاتُهم وأجنداتُهم قبل مصلحة الشركاء وفوق حقوقهم وأمنياتهم وبالضدّ من طموحاتهم دومًا.

مصارحة ومعاتبة
على أية حال، في هذا الاستعراض، الذي ليس الغرض منه إنقاص وزنِ طرف أو جهةٍ من مدّعي التسميتين، الآشورية والكلدانية معًا، بقدر ما هو التذكير بأنّ المصلحة العليا لكلّ الأطراف المعنية بالتسمية "المسيحية" وهويتها، تقتضي رصّ الصفوف وإجماع الكلمة من أجل بلوغ خطاب سياسيّ موحّد بكوننا شعبًا واحدًا وأمةً واحدة بلغة واحدة مع تعدّد التسميات إن شاء البعض، وهذا ما يطالبُ به العقلاء منذ بروز الأزمة. وقد أكّد عليه بطريرك الكنيسة الكلدانية، رمز كنيسة العراق، بالرغم من الضغوط التي مارسها عليه أدعياء القومية الكلدانية من أبناء كنيسته، والتي اضطرّته في نهاية المطاف، لتشكيل "الرابطة الكلدانية" مؤخرًا، إرضاءً لهذه الأصوات التي تغرّد من خارج أرض الوطن وتخطّط لداخله وهي قابعة في علياء برجها العاجيّ، بعد نفورها من أرض الوطن وغضبها من سلوك حكوماته الطائفية ورفضها البقاء فيه بسبب التهميش والإقصاء والمخاطر الكثيرة المتنوعة بحقهم. فبعض هذه الأطراف بخطاب نبرتها التعصبية، قد زادت من حنق الداخل على أهل الخارج، ووسّعت الهوّة بين أبناء الكنائس المختلفة والجماعات التي تنتمي إليها. بل، تسرّب هذا الهوس واتسعت الهوّة حتى بين رؤساء الكنائس الذين انقطع حبلُ لقاءاتهم المتعارف عليه منذ فترة وانفرط عقدهم منذ حين، عندما تمّ حلّ مجلس طوائف "كنائس" العراق ولم يعد له من وجود. ويبقى من حق أية جماعة أن تسمّي نفسها ما تشاء من التسميات، شريطة عدم تجاوزها على التاريخ وحقائقه. فمن شأن مثل هذا التجاوز أن تكون له تأثيرات سلبية معاكسة على مصالح **الغير، سواء مَن كانوا مِن صلب الجماعة أو من خارجها.
لستُ هنا بدافع النقد والتذكير، بما أحدثه تشرذم الاتجاهات وتعدّد الأحزاب وتنوّع الحركات والتنظيمات والجمعيات والروابط التي انتشرت في بلدان الاغتراب وراحت تتاجر بحياة المسيحيين المشرقيين الأصلاء الذين آثروا البقاء في أرض الآباء والأجداد، أيًا كانت الأسباب والتبريرات. فليسَ من المعهود ولا من المنطق ولا من العدل، أن يصيغ كلّ طرف من هؤلاء القابعين في دول الاغتراب مقاسات لأبناء الداخل، وفق أجندتهم ورؤاهم ومنافعهم. كان من الأجدر بهم، الصلاة من أجل مَن بقي في أرض الوطن يناضل ويدافع ويتفاخر بأصالته المشرقية "السريانية" وسط الكمّ الهائل من "الدواعش" المتعددين في المنهج والمذهب والفكر والمصلحة والسلوك، من سلفيين ومتشددين وسياسيين وفاسدين وحاقدين وكارهين للحق وللبشر وللحياة.
من هذا المنبر، وانطلاقًا من حرص العقلاء، ندعوهم أن يزيدوا الدعاء والطلبات لأجل أهل الداخل، وأن يكفّوا أو يقللّوا من التدخل المتكرّر وغير المبرّر في شؤونهم، بادّعاء الحرص على مستقبل المسيحية والمسيحيين في البلاد. فليس من المعقول أن يوجد المحارب خارج ساحة القتال ومنها يوجه سلاحَه إلى مَن يعتقد أنه المذنب والمقصّر والعدوّ والمنافس له أو للمذهب أو للهوية التي يتفاخر بها. كما نؤكد دعواتنا لأمثال هؤلاء، بديمومة تقديم أوجه المساعدة، ومنها المعنوية والدعم السياسي من خلال تشكيل لوبيات سياسية ومجتمعية فاعلة، والعمل بالتدخل لدى حكومات الأسياد كي تقبل بالاستماع إلى صوت المظلوم والدفاع عنه والعمل على مساواته مع باقي أبناء الوطن في الوظيفة والمنصب والحقوق المواطنية أسوة بالغير ومن دون تمييز ولا منّة ولا فضل، إلا بفعل الكفاءة والجدارة والعلمية والولاء للوطن والأرض وليس للمرجعيات الغريبة والدول الإقليمية صاحبة المصالح القومية والطائفية والمذهبية الضيقة.
 مطلوب من أهل الخارج في الشتات وبلدان الاغتراب، ألاّ يملّوا من الدعاء كي يشرح الله قلوب الساسة والمراجع كي لا يغدروا بأهل الداخل من مواطنيهم، تحت أية ذريعة، مستفيدين من وحدة الصفّ "الشعبية" و"المجتمعية" القائمة وسط أهل الداخل الذين باستطاعتهم ترتيب بيتهم الداخلي، إذا رفع أهلُ الخارج يدَ الوصاية عنهم وتكرارَ التحدّث باسمهم في المنابر الدولية والمحلية، وكأنه لا وجود لعقلاء وحكماء ومثقفين وأكاديميين ومفكرين بين أهل الداخل.
 هذه حكايتُنا، وذلك أصل تشرذمنا وسجالاتنا وتفرقتنا. فأهلنا في الخارج، قد أصبحوا جزءًا كبيرًا من المشكلة، وليس حلاً، كما يبدو ويتضح هذا من استعراض المشهد السياسيّ، كلّما برزت أزمة وطفى على السطح جديد. وجديد هذه المرّة، هو الإصرارُ على مواصلة تهميش تسمية "السريان" في الدستور وفي البطاقة الوطنية الموحدة. ومَن يعرف قد يطال هذا الأمر تجاهلَ ذكرهم في استمارة الإحصاء السكاني، إذا شاءت الأقدار وحصل هذا المشروع المركون منذ سنوات. فهل يعي العقلاءُ حجمَ المشكلة ويعودوا إلى إيحاء العقل والمنطق والحكمة بإعادة اللحمة المسيحية "السريانية" إلى هويتهم، لتغدو التسمية السياسية الأكثر قبولاً لعموم المسيحيين المشرقيين، بعيدًا عن كلّ عناد وتعنّت وتعصّب للطائفة والمذهب والمرجعية؟
ف"السريانية"، ستظل تُشرف من علياء تاريخها، وستبقى لغتُها أساس كلّ توافق عندما تعود العقول والأذهانُ إلى رشدها ويتمنطق لاعبوها بالحكمة. فاللغة أساسًا، تنطق باسم الشعوب التي تتحدث بها، والشعوب في هويتها، تنتمي إلى اللغة التي تتحدث وتكتب وتبدع بها.


249
وللتاريخ كلمة في شأن السريان والسريانية!
بغداد، في 13 تشرين أول 2016
لويس إقليمس
-الجزء الأول-
كثر العتب وزاد الغضب والشجب والاتهام بين دوائر وجهات ومراجع كثيرة في الوسط المسيحي في الآونة الأخيرة بشأن الغبن والإجحاف الذي لحقَ بمكوّن "السريان" الذي أهملته لجنة كتابة الدستور، لأسباب تمييزية دامغة، كان المتسببُ فيها في الأساس، نوابًا مسيحيين يحملُ كلّ منهم أجندةَ طائفته المتعصّبة. وقد تنادت مؤخرًا، رئاسات كنائس شقيقة ومراجع ومنظمات وجمعيات وروابط وشخصيات دينية ومدنية ونشطاء ونواب وسياسيون متعاطفون، في الداخل والخارج، وكلّها تدعم تحقيق العدل والمساواة ورفع الحيف الذي طال هذا المكوّن، بسبب زلّة اقترفتها أيادي غير أمينة في غفلة من الزمن. وقد افتضح أمرُ هذه الجهات المراوغة بعد كشف الحقائق وعرض المستور، وما خفي كان أعظم! فالجهل بحقائق الأمور وبالتاريخ، قد ساهم هو الآخر في تجاهل وتغافل وإهمال لجنة كتابة الدستور ورئاسات الأحزاب والكتل التي أقرّته، بتضمينه مكوّنات دون أخرى، بالرغم من أصالة تسمية "السريان" و"السريانية"، عبر التاريخ. وذلك كانَ نتيجة تأثيراتٍ شخصية وكتلوية وحزبية، مارسها نوابٌ مسيحيون ومَن لقّنهم تعليماته وتوجيهاته، إيغالاً في التعصّب. بالمقابل، فقد طربَ لها غيرُهم من الأحزاب العراقية وزعمائهم، تشفيًا بزيادة التشرذم والانقسام في صفوف المكوّن المسيحي.

السريانية هوية المسيحيين المشرقيين
بعد مطالبات كثيرة في الداخل والخارج، وضغوط متعددة مارسها أصحاب الحق، آن الأوان كي تتولى الجهات الحكومية والبرلمان وأخرى ذات العلاقة، الردّ إيجابًا على ضرورة تضمين تسمية هذا المكوّن في الدستور وفي البطاقة الوطنية الموحدة، وذلك بالعودة عن الخطأ الذي اقترفته اللجنة في 2005 من دون تدقيق وتمحيص فيما تعنيه تسمية "السريان". وهذا بطبيعة الحل، لن يكون لمصلحة ضيقة تخصّ جماعات مسيحية تحمل طائفتان منها ذاتَ الاسم. بل هو تكريمٌ للحضارة العراقية ولتاريخ هذا المكوّن الشامل لجميع المسيحيين المشرقيين الأصلاء من دون استثناء. فتاريخُهم حافل بالإنجازات والكتابات والكفاءات منذ فجر المسيحية في القرن الأول، ومرورًا بالعصور المتلاحقة، حيث ما تزال رفوف المكتبات العالمية وكتبُهم ومؤلفاتُهم تُعدّ من أنفس ما قدّمته حضارةُ "السريان" وروّادُها للأمم والشعوب وللعالم وللبشرية.
وزيادة في التدقيق بالوقائع والبحث في التاريخ وفي كواليسه وثناياه، سيكتشف القارئ والباحث والسامع معًا، أنّ تسمية "السريان" واللغة "السريانية" في أساس الأمر، هي ذات الأحقية باعتبارها قومية يعود إليها جميع المسيحيين المشرقيين من كنائس متعددة المذاهب، من نسطورية جاثيليقية، وقديمة "آثورية" (آشورية)، وكلدانية كاثوليكية، وسريانية يعقوبية " أرثوكسية" وكاثوليكية، وروم ملكية/ يونانية، بحسب تبعية أتباع كلٍّ من هذه الطوائف للكنيسة التي ينتمي إليها. وهذه من الحقائق التي يجهلُها الكثيرون، ومنهم المسيحيون أنفسُهم الذين لا يهمّهم التاريخ ولا مسيرة أسلافهم الجبابرة، إلى جانب جهل السياسيين بهذا التاريخ العريق. لكنّ التاريخ لا يمكن تغييرُه بجرّة قلم، أو بكلمة من شراذم متعصّبة من هذه الطائفة أو هذا الدين أو هذه العقيدة أو تلك الأيديولوجية المنغلقة على الذات والرافضة للآخر. 
ففي الوقت الذي نجح فيه النساطرة الآثوريون (الآشوريون) والكلدان من إقناع جهات حكومية وتشريعية بتضمين تسميتيهما في الدستور وفي البطاقة الموحدة آنذاك واليوم، نتيجة لتأثيرات مرجعيات دينية وأخرى سياسية، فقد رُكنت بالمقابل، مطالباتُ أتباع "السريان"، حينها واليوم على الرفوف، لأسباب عديدة، منها ما بقي مجهولاً، ومنها ما هو محسوس، بسبب ضعف تأثيرهم في الوسط السياسيّ وخفتُ صوت مرجعياتهم الكنسية في الوسط التنفيذي والمجتمعي والمنظماتي. هذا إلى جانب عدم فاعلية مَن كانوا يُعدّون سياسيّين مبتدئين، لا يفقهون كواليس السياسة وكياستَها وبراعتَها ومنحدراتها وأبوابَها الكثيرة التي لم تتح لهم طَرقَها بعد.

التاريخ يتحدّث
لمَن يجهل التاريخ ويكتفي بالمطروح القائم والمسموع السياسيّ غير الدقيق، نجيز هذه الأسطر التي تخفى حتى على الساسة وبعض "المتثقفين" وضحلي المعرفة، ليس بالتاريخ القديم فحسب، بل حتى الحديث منه والجديد فيه. ونحن إذ نذكُر هذا ونذكّر ببعض معارفه وأصوله وحيثياته، فليسَ ذلك تجنيًا ونكلاً واستصغارًا وحسدًا وغيرةً، كما قد يتصوّر البعض، عمّا استطاعت مكونات عراقية أصيلة، ومنها إخوتنا النساطرة "الآثوريون" (الآشوريون) والكلدان من تحقيقه بشأن نجاح تضمين تسميتهم في الدستور الأعرج وفي البطاقة الموحدة. بل يأتي هذا التذكير بحقائق غافلة عن البعض، حان الوقت لكشفها وتبيانها للرأي العام وللحكومة العراقية وللبرلمان، أعلى سلطة تشريعية في البلاد. فالذين كتبوا الدستور، لم يكونوا على دراية كافية بحقيقة كون المسيحيين المشرقيين (الشرقيين) منذ تنصيرهم، شعبًا واحدًا وأمة واحدة وذات أصل "آرامي" (سرياني) واحد، وتسمّوا "سريانًا" بعد اهتدائهم من الوثنية (حيثُ كانوا شعوبًا يُسمّون ب "الآراميين" التي تعني بالآرامية القديمة عابد الوثن) إلى المسيحية في بدايات القرن الأول الميلاديّ حينما اهتدت أنطاكية السورية إلى المسيحية في ذلك الوقت قبل غيرها. حتى إنّ كلمة "السريان"، بحسب مراجع رصينة عديدة ومؤرخين ثقات وأمّهات الكتب، كانت تشيرُ إلى وضع المسيحيين وحالهم بهذه التسمية، دينًا وقومية، انطلاقًا من سوريا، بحسب التسمية اليونانية لهم.  ومَن حاولَ في لجنة كتابة الدستور، ممثلاً للمكوّن المسيحي في حينها، أو غيرُه، من إيهام سائر النواب ولجنة الرئاسة بغير "السريان" و"السريانية" تسمية للمسيحيين المشرقيين، فقد جنى قبل كلّ شيء على طائفته قبل تجنّيه على غيره من العراقيين الأصلاء من أبناء الطوائف والمذاهب المسيحية المشرقية الأخرى. وهو اليوم لا بدّ أن يخجل من فعلته الدنيئة بعد فضح سرّه وكشف المستور من الحقائق بالوثائق الدامغة. وإن لمْ يفعل ذلك ويندم على جريرته، ستظلّ تلاحقُه لعنة "السريان"، فلا بدّ أن يكون لقوم السريان من مواقف حاسمة وحازمة من الفعلة الخسيسة هذه. ولابدّ للجهات ذات العلاقة في الدولة العراقية أن تأخذ كلّ هذه المطالب بالحسبان، وتنصف هذا المكوّن أسوةً بغيره. والأيام القادمة حبلى بالوقائع والإجراءات والتحرّكات. أمّا ما حصل في حينها من اتفاق سياسيّ غير منصف يقضي بقبول تسمية جماعات مسيحية محددة كقوميات وبتسميات طوائفهم دون غيرهم، وبإمرار النواب ومّن يقف خلفهم للسريانية لغةً رسمية للمسيحيين المشرقيين جميعًا، بسبب جهلٍ أو بقصد أم لأيّ سبب آخر، فهو لم يكن سوى ذرّ للرماد ولإسكات أصوات السريان التي لم تخفت وتسكت من حينها.
فبعد تفرّد الكنيستين النسطورية الآثورية (الاشورية) والكلدانية وتسيّدهما على المشهد السياسيّ في حزيران 2003، وكان ذلك بعد السقوط مباشرة، إبّان انعقاد المؤتمر الأول للكنائس المسيحية في فندق عشتار-شيراتون، وجدَ "السريان" أنفسَهم وقد ألقى بهم المؤتمرون في زاوية النسيان. فقد قرّر رعاة المؤتمر تقرير التسمية المركبة (كلدو-آثور) التي استهجنها العقلاء من المشاركين فيه، ورأوا فيها استغفالاً واستغلالاً للوضع، حين إسقاط اسم "السريان" منها، وكأنّ اللعبة كانت مكشوفة ومتعمَّدة منذ البداية. حينها نعترف، أنه لم يكن للسريان نهجٌ سياسي واضح ولا برنامج سياسي مستقلّ ولا حزب سياسيّ معتمد أو حركة تنظيمية متمكنة أو صوت يعلو في المنابر، بسبب حداثة عهدهم بالتغييرات الدراماتيكية في الوطن، والظروف السياسية المستجّدة التي تختلف كلّيًا عن تلك التي أبعدتهم عن كلّ طموح سياسيّ استقلالي أو نزعة قومية. وحينها، ارتفعت أصوات الاعتراض من أتباع السريان الحاضرين في المؤتمر المذكور، ومنهم كاتب هذه السطور ومعه السيدان بشير الطورلي وباهر بطّي، طيبي الذكر. فما جرى في ذلك المؤتمر الذي لم يتكرّر عقد أمثالِه لاحقًا، كان تزاوجًا وتلاقحًا مشبوهًا بين طرفي نقيض، كلٌّ منهما متعصّب لطائفته ومذهبه والجهة التي يميلُ إليها أو تلقنُه القول، وما زالا كذلك.
 في لجنة صياغة الدستور غير المنصفة، أثبتت تسريبات سابقة وتصريحات لاحقة وحديثة، إصرار ممثل الكلدان على التسمية "الكلدانية". في حين حصلت مراوغة من جانب ممثل الآثوريين (الآشوريين) في خيارين: حينًا بالتأكيد على تسمية "الآشورية" كضرورة قومية، وحينًا آخر بالمزاوجة بين مصطلح توفيقي يجمع التسميتين معًا، في تسمية "كلدو-آثور" القديمة. وهذه التسمية التي حاول زعيم الحركة الديمقراطية الآشورية، صاحب النفوذ الأكبر آنذاك، إخراجَها في سيناريو سياسيّ ودبلوماسيّ ماكر بطريقة توفيقية، إن تعصّبًا، أو تودّدًا لنفر من الطائفة الكلدانية أو ترغيبًا بوحدة الصفّ بحسب الادّعاء والدعوات، إلاّ أنّها في واقعها، عمّقت التجزئة والانقسام وزادت النقمة والاتهام. ولمزيد من المعلومات، فإنّ هذه التسمية المركبة الأخيرة، قد استنسخت من كتابات الراحل المطران أدّي شير، مطران سعرت الشهيد، والمتعصّب للكلدانية حتى النخاع!
إنّ المتتبع، لتاريخ نصارى (مسيحيي) العراق، وأحوالهم ووزرائهم وملافنتهم وعلمائهم وأطبائهم وفلاسفتهم، يدرك القيمة الحقيقية لمسيحيي المشرق (الشرق) الذين لا يخفى دورُهم المتميّز في تاريخ وحضارة العراق والمنطقة على حدّ سواء. فهؤلاء المسيحيون الذين عاشوا أصحابَ مبادئ وحضارة وأخلاق وتميّز في طريقة عيشهم وسلوكهم اليومي، والذين عُرفوا بالنصارى في التاريخ الإسلامي، وعلى مدى تتابع الخلافات حتى وقتنا الحالي، ينحدرون أصلاً في غالبيتهم (إلاّ العرب منهم من منحدري الجزيرة العربية)، عن أسلافهم المشرقيين القدامى المعروفين آنذاك ب"السريان-الآراميين" حصرًا، على مدى التاريخ، وبلغتهم السريانية وبالعلماء والأطباء والملافنة والكتاب "السريان". لذا، وانطلاقًا من هذه الأهمية، كان الأجدر بمَن أولوا مسؤولية جسيمة لكتابة دستور العراق الدائم، أن يقرّوا بأهمية التسمية "السريانية"، أساسًا للهوية المسيحية، الدينية والقومية، للمسيحيين في العراق والمنطقة قاطبة، لا أن يتجهوا إلى الفروع الطائفية التي تعني وتعنى بالطقوس، ليسَ إلاّ.

دعوة للعودة عن الخطأ
ونحن اليوم كما بالأمس، إذ نعزو السبب في حصول هذا الخلل، إلى قلّة معرفة المواطن، ومنهم مَن تولّوا مسؤولية في الدولة العراقية الديمقراطية الفتية، وإلى جهلٍ وتقصيرٍ في معرفتهم بثنايا التاريخ وتقلّباته وحقائقه، ندعو الجميع وبقوّة للعودة عن الخطأ الذي اقترفه نفرٌ غير مسؤول، وطنيًا وأخلاقيًا وقوميًا ومذهبيًا. فقد أحدث مثل هذا الخطأ الجسيم في كتابة الدستور على عجالة، تمييزًا وبلبلة وتشرذمًا في صفوف المواطنين المسيحيين عامة، وزاد من الشرخ الطائفيّ التقليديّ القائم، حتى فتحِه سجالات ومناكدات في صفوفهم. فهؤلاء الجهلة بحقائق التاريخ، أيًا كانت مواردُهم ومراجعُهم، قد أوقعوا الأذى والظلم والحيف، من حيث يدرون أو لا يدرون، بقصد أو بغير تقصد، بشرائح واسعة تنتمي إلى الجماعتين المسيحيتين الأخريين المهمَّشتين، من أتباع الكنيستين السريانيتين التقليديتين، الأرثوذكسية والكاثوليكية. فقد جرى إقصاءُ أتباعهما في غفلة منهم في ذلك المؤتمر الذي لم يدم فيه الزواج التوفيقي بين الآشورية والكلدانية، إذ سرعان ما فاحت رائحة الخلافات بين الطرفين، في أيّ منهما ينبغي أن يعلو على الآخر في أصل التسمية القومية، التي ادّعى ويدّعي فيها الطرفان المتعصّبان أحقية أحدهما على الآخر. بل وراح أفرادٌ متعصبون من الجانبين في مغالاتهم، بفرض تسميته على الواقع المسيحي برمّته، والتي عدّها كلٌّ منهما شأنًا مقدّسًا لا يمكن التجاوز عليه أو استبدالُه أو المسّ به. لكنّ ما يُبنى على باطل، يبقى باطلاً. وهذا سبب العنجهية والتعصّب الفاضح لكلّ من الطرفين المتصارعين لغاية الساعة.
وقد زاد منه ثقلاً وتعصّبًا، تشكيل الرابطة الكلدانية مؤخرًا، مستفيدة من موقع رئيس كنيستها غبطة البطريرك لويس ساكو، ذي الكاريزما والكلمة المسموعة والخطاب الرعوي المنفتح على الجميع، والذي وضع نفسَه مضطرًا، بين فكّي كمّاشة المتعصبين قوميًا في الداخل والخارج، ووسط نيران اشتعلت بسبب الهوية القومية ولا يريدُ البعض انطفاءَها. وهذا حصل له مكرَهًا، بالرغم من محاولاته التوفيقية الكثيرة ودعواته المتعددة لجميع الأطراف للتوافق على "تسمية توافقية موحدة تحترم الجميع وتحافظ على حقوق جميع المسيحيين وتمثيلهم، خصوصاً في هذه الظروف الصعبة حيث بدأت تكثر أصوات الانقسام والتعنت والتشرذم"، بحسب ما أدلى به غبطتُه مؤخرًا، في لقائه مع وزيرة الإعمار والإسكان والبلديات، العراقية المسيحية "السريانية" الأصيلة، آن أوسي، يوم الأحد 9 تشرين أول 2016.
وبصدد هذا التصريح حول ارتفاع أصوات الانقسام والتعنت والتشرذم، لا بدّ من كلمة وتوضيح، أرجو قبولَه بكل رحابة صدر من الجميع. فقد سبقَ غبطتَه، جهاتٌ أخرى أقحمت نفسَها في الإدلاء برأيها وبامتعاضها من مطالبة جماعة "السريان" بحقهم في تضمين وذكر مكوّنِهم في الدستور وفي البطاقة الموحدة، أسوة بأشقائهم من الكلدان والنساطرة "الآثوريين". وفي هذا حقٌّ ينبغي على الجميع دعمَه، تمامًا كما فعلَ ذلك في مقدمتهم أصحابُ الغبطة لويس ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية نفسُه، ومار كوركيس صليوا بطريك كنيسة المشرق الآشورية، عطفًا على مطالبات سينودسي الكنيستين السريانيتين في العراق وسوريا ولبنان عبر رسائل رسمية وجهها بطاركتُها للرئاسات الثلاث بالعراق بهذا الخصوص، وتلبية لما قام به نشطاء في روابط وجمعيات ومنظمات سريانية، في الداخل والخارج، تصبّ كلّها بضرورة إنصاف مكوّن "السريان" وتضمين تسميتهم في الدستور وفي البطاقة الموحدة.
وللتذكير فقط، فقد سعت شخصيات سريانية في ذات الاتجاه منذ بروز التحزّب والتعصّب بعد السقوط الدراماتيكي مباشرة، ولكن من دون جدوى، بسبب مواقف ثابتة وإقصائية ومتعنتة من أطراف مسيحية ونواب آنذاك، بطرح كلّ من أتباع الاتجاهين، الكلداني والنسطوري "الآثوري" لما يصرُّ عليه. وللتذكير فقط، فقد طالني شخصيًا، تهديد كلاميّ من واحدٍ من أعضاء الجمعية الوطنية في عام 2004، بسبب إصراري على التسمية "السريانية" وعلى ذكر "السريان" في جميع اللقاءات التي شاركتُ فيها ضمن نشاطي في صفوف المنظمة التي كنتُ واحدًا من مؤسسيها والقياديّين فها. كما لم نغفل عن هذا الخطأ الحاصل عندما كنّا نشطاء في مجلس إدارة "المجلس القومي الكلدو-آثوري" المنبثق عن المؤتمر الخائب الأول في 2003، وتمكنا حينها من إضافة تسمية "السرياني" إليه، كخطوة متقدمة باتجاه تضمينه في الدستور لاحقًا. لكنّ إصرار النواب المسيحيين الذين كنا نستضيفهم حينذاك لهذا الغرض في مقر المجلس المنحلّ في بغداد، على الخطأ وتعصّب كل طرف لطائفته وجماعته، لم يفضي إلى نتيجة.  وحسنًا، فعل النائب الكلداني نوري بطرس عطو، وهو واحد من أعضاء لجنة صياغة دستور العراق بالجمعية الوطنية في 2005، باعترافه بالغبن الذي طالَ مكوّنَ السريان، وكان هو أحد الأسباب في حصوله بطريقة أو بأخرى. وكنتُ قد التقيتُه مراتٍ عديدة في فترة عضويته، وتناقشنا بهذا الصدد من دون نتيجة، لأنه كما اعترف لاحقًا، كان يجيد قولَ ما يُلقّنُ عليه من الجهة التي ينتمي إليها ويصرُّ عليه في وجه غريمه الآثوري.

-   يتبع الجزء الثاني-




250
نافذة على المثقف والثقافة
بغداد، في 7 أيلول 2016
لويس إقليمس
ليس للثقافة والمثقف من حدود، تمامًا كما في العلم. فالعالم مَن لا يرضى بما حصل عليه من تعليم أولّي أو لنقل أساسيّ في تربية نفسه وعقله ومختلف جوانب حياته. فهو شخصٌ غير اعتياديّ يغوص في شغفه بالنهل ممّا يتيسرُ تحت أياديه وبما يستنير عقلُه وترتاح له نفسُه من علوم وبحوث ومستجّدات. فيمضي في مشواره سابرًا غورَ بطون الكتب، محلّلًا ومقارنًا وكاشفًا ومقدِّمًا زبدة ما يصل إليه، للقارئ والمستمع والمطالع والباحث. 
صنوُه الآخر، إنْ لمْ يكن أكثرَ منه التصاقًا بالمجتمع والإنسان والنظام العام، المثقّفُ الذي لا يرضى بما حصل عليه من ثقافة عامّة، مجتمعية ودينية وأخلاقية وأدبية وحتى سياسية واقتصادية، بل يتعمّق في هذه جميعًا ويقدّم طروحاتٍ وأفكارًا ويستعرضُ آراءً للمناقشة والمقارنة والمقاربة بهدف إيجاد أرضية جيدة للحوار والنقاش والتفاهم من أجل خلق مجتمع متوازن ومتزن وقابل للتعايش بين المجموعات التي قد تختلف في الدين والمعتقد والمذهب والرأي، لكنها ينبغي أن يجمعَها حبُ الوطن واحترام الآخر وتقبّل النفس البشرية مهما كان نوع الاختلاف معها ومع منهجها الشخصي والمجتمعي والديني والفكريّ. فالمثقف دارسٌ موضوعيٌّ وباحثٌ وكاتبٌ وناشرٌ، لا يقبل المجاملة والمواربة والمسايَرة على حساب حقوق المجتمع الذي يعيشُ فيه والنظام السياسيّ والاجتماعيّ الذي يسيّرُ الحياة، بهدى الله الخالق أم برفض قوانين السماء السمحاء. وهذه من أهمّ ما يمكن أن يكون عليها المثقف المخلص لمبادئه والأمين على ما يعتقدُ به من سلوكيات صائبة تفيد المجتمع والدولة. وإلاّ ما فائدة ثقافته، إذا سايرَ اشكالَ الفسادَ وسكتَ عن الجرم والمجرمين، وتغاضى عن أخطاء المجتمع والسياسة، وامتدح فلانًا تكسبًا غيرَ مسوَّغٍ، أو قدحَ آخرَ انتقامًا وتهتّكًا من غير مبرّر. وهو يفعل هذا في أكثر الأحيان، في غياب أية حصانة أو حماية سياسية أو اجتماعية. فهناكَ مّن يستطيع تحمّلَ وزرَ فعلِه الجَسور حينَ يكشف عن مواقع الخلل أو الفساد أو يعطي رأيًا يخالفُ السائدَ في حكم السياسة والمجتمع والدّين والمعتقد. وبالعكس، هناكَ مَن لا طاقةَ له بما يلقاهُ من لومٍ وتعرِّضٍ لشتى المضارّ والتهديدات التي قد تستهدف حياتَه أو أفرادَ عائلته أو مصالحَه أو وجودَه كمواطن وكإنسان له كلّ الحق في التعبير عن نفسه وفكره ورأيه، مهما اختلف مع الآخرين الذين لا يستحبّون النقد ولا يقبلون بالإشارة لأفعالهم الشائنة أو سلوكياتهم الشاذّة وسط المجتمع.
قد يذهب تركيزي نحو ما يمكن للمثقف السياسيّ أن يحملَه من معطيات وآراء وأفكار في هذه الأيام الحرجة الصعبة والمليئة بالمعاناة والخبرات المتعددة، السلبية المؤلمة منها أكثر من الإيجابية المفرحة. فمن شأن هذا النوع من أركان الحياة، يمكن أن يكون له تأثيرُه المباشر في مجرى الحياة اليومية للمواطن. لكنَّ ذلك لا يسدّ الطريق أمام النتاجات الأدبية أيضًا التي لا تقلّ أهميةً، شعرًا ونثرًا وقصة وروايةً، للنخبة التي بإمكانها هي الأخرى معالجة مواقع الخلل في المجتمع ونظامه السياسيّ الذي يسعى جاهدًا لأسرِ هذه الفئة المثقفة في خانة قوقعة المنافع الضيقة والمصالح الطائفية والفئوية.
ممّا لاشكَّ فيه، أنَّ الكثيرين يرون في المثقف، مرآةً للمجتمع وانعكاسًا لصورته، أيًّا كان نتاجُه الفكري أو الأدبيّ أو السياسيّ أو الإعلاميّ. فلا حضارة لمجتمع أو لكيان دولة من دون ثقافة ومثقفين يعكسون صورتَه، سلبًا أو إيجابًا. فالجانب السيّء أو السالب يزولُ ولا يبقى ولا يدوم. بينما الإيجابيّ منه هو الذي يُتحدّث عنه على المنابر وفي الساحات والأزقة، حتى لو كانَ قاسيًا وفيه نبرة نقد للإصلاح والتنبيه من خطورة المضيّ في دهاليز السيّئات والمفاسد والسلبيّات. وهذا دور المثقّف الحقيقيّ الذي ينبغي أن يأخذَ دورَه في البلد والمجتمع، وسطَ أصوات الهرج والمرج وطغيان الفساد في الصفوة السياسية الحاكمة ومَن لبسوا عباءة الدّين لتحصين النفس ونيل شيءٍ من القدسية على أفعالهم التي يشوبها الكثير من الفساد، وذلك سعيًا وراء التغطية عليها وعلى ما يتصرّف به الأتباع ضمن ذات الدائرة. وبالرغم من كلّ ما يحصل وما يجري، فأصوات المثقفين عندنا، ما تزال غافية وليست على قدر المسؤولية الوطنية والاجتماعية والإنسانية والأخلاقية التي ينبغي أن تكون عليها.
قد تكون أشكال الخوف والتهديد والحيطة والحذر احيانًا، من بين ما يحاول أن يستتر به المثقّف الحريص، حفاظًا على حياته ولقمة عيشِه وأمانِ أهله وعائلته. وفي هذا قد يكون على حقّ في جانب من جزئيات الحيطة والحذر هذه، في بلد فقدَ الأمنَ والوئام والعيش السلميّ، وباتَ مرتعًا لعصاباتٍ وأنواعِ الميليشيات التي استقوت بمؤسساتها الحزبية والعشائرية ومن داعميها من متنفذين في الدولة وممّن تسربلوا بالإسلام السياسيّ لإضفاء هالة من القدسية والتحصين على سلوكياتهم الصارخة والمتناقضة مع أقوالهم ونصائحهم. فهؤلاء لم يتركوا مجالاً للمؤسسات المجتمعية الرصينة كي تحقّق الوفاق والإخاء والوئام في صفوف المجتمع المتناقض الشخصية، ولا أجازوا فسحةً للقضاء والعدل ليأخذا مجراهما بسبب حالة الفلتان الأمنيّ واستقواء الكثير من الأحزاب والتنظيمات غير القانونية وغير الشرعية وغير الدستورية على الساحة العراقية. فالفصل العشائريّ مثلاً، أصبحَ ركنًا أساسيًا في حلّ النزاعات وفي عقد صفقاتٍ لمساومات مشبوهة. والسبب في ذلك كلّه، ضعف الدولة ومؤسّساتُها وفقدان الثقة بالقضاء الخاضع للتوافق بين الكتل السياسية، ما جعلَه أسيرًا لهذه التوافقات وتحت رحمة خانة المحاصصة التي تسيّدت الموقف العدليّ وطغت مساوماتُها على الدستور والقانون.
وبالتالي يقف المثقف أمامَ خيارات ثلاث: إمّا اقتحامَ مسرح السياسة والمجتمع من أبوابه الواسعة وعرض ما لديه من رؤية وفكر وحلول وتحليل لواقع حياة الناس ومصيرهم. أو لجم الفكر والكلمة وكسر القلم خوفًا على حياته ومستقبله ولقمة عيشه مع أهله. أمّا الثالث، وهو الأخطر، مسايرة الجانب السلبيّ في حياة الناس والنظام السياسيّ ومجاملة الساسة ومَن في السلطة على حساب الحق والكلمة الرصينة والرؤية السديدة، أي ببساطة المساومة على هيبة الوطن وحقوق مواطنيه من دون تمييز.
هذه الرؤية وهذه الحال قد تسري على عموم منطقة الشرق والبلدان الإسلامية التي تفتقر إلى وسائل الديمقراطية البنّاءة الحقيقة، وترفض منح مساحة الحرية لمواطنيها، بسبب طبيعة الاستبداد وأساليب القمع والترهيب التي تتبعها أنظمة المنطقة من دون استثناء. كما أنّ الأنظمة الثيوقراطية التي ولّدتها الظروف الجيوسياسية بدعم من أيادي دول كبرى وأدواتها بهدف الإبقاء على تخلّف شعوب المنطقة ضمن دائرة المحرّم والمقدّس، ليس لها الاستعداد الحقيقي للقبول بالحوار وتقبّل الآخر المختلف، حتى لو كان من نفس الدّين والمذهب، فكم بالأحرى إذا كان خارجَ هذه الدائرة؟
مشكلة المثقف إذن اليوم، عويصة وكبيرة، لكونها مسؤولية أخلاقية أيضًا، إضافةً لكونها مسألة تخصّ مجتمع وناس ونظام ومصير ومستقبل شعوب. هناك مَن سلّمَ أمرَه للأقدار غير مكترثٍ بما قد ينتج عن أفكاره وكتاباته وطروحاته الاقتحامية الشجاعة وسط الفوضى التي يعيشها البلد والمجتمع. فالنظام السياسيّ القائم على الطائفية والمذهبية في البلد لا يتيح دومًا للمثقف الحرّ الصادق كي يعبّر عن آرائه بحرية وواقعية وبصدق المواطنة المطلوبة، بسبب من ثقافة القهر والتملّك والتخلّف عن الجاهلية المتوارثة عبر الأجيال والتي لا تقبل الحوار والرأي الآخر. فتغييبُ هذه الطبقة من المفكرين وسط المجتمع، فيه الكثير من الظلم والضرر على المجتمع ونظامه السياسيّ. فهي صمّام الأمان في حياة المجتمعات، ولا تقلّ أهمية عن الدور الذي تقوم به المؤسسات الأمنية في أيّ نظام، والتي من أولى مهماتها الحفاظ على أمن الوطن والمواطن من عبث العابثين وفساد المفسدين. ذلك لأنَّ تأمين الفكر المجتمعي التعايشي الصحيح لدى الإنسان السويّ، هو بحدّ ذاته من أكبر التحديات المعاصرة التي تواجه مجتمعاتنا التراثية الملتزمة بالميراث الديني والمعتقديّ والمواسميّ المذهبي أكثر من العصرنة والحداثة والتطوّر بسبب طبيعة هذه المجتمعات التقليدية التي تأبى الانسلاخ عن جِلد الدّين والتديّن التقليديّ الذي يقدّس العمامة ومُرتَديها وملتحف عباءة الإسلام السياسيّ والدعويّ لتحقيق منافع حزبية وشخصية وفئوية وطائفية. فهؤلاء على دومًا على حق وإنْ أخطأوا، ولا يسمحُ أتباعُهم ومقلّدوهم بتوجيه اللّوم والانتقاد إليهم لاكتسابهم درجة العصمة بحسب اعتقادهم، حتى لو اصطفّوا في خانة الفساد والخطأ والمراءاة أمام الله والناس.
لذا، ومن منطلق الإيمان بدور الثقافة والمثقف التنويري للمجتمع، لا بدّ من كسر حاجز عدم الثقة والتشكيك بقدرة هذا النوع من المثقف الوطنيّ على توجيه المجتمع وفق ما تتطلبه الحياة اليومية العادية والمتزنة للمواطن كما يراها بعين متفائلة وبرؤية إصلاحية، والمساهمة برسم مستقبله ضمن مجتمع منفتح قابل للتطوير والإبداع الفكري والاجتماعي والدينيّ الذي يقبل باختلاف الآخر عنه وباختلاف فكره وعقيدته ورؤيته للأمور. ومن دون الإيمان بقدرة المثقف على خلق بيئة سليمة مشهودٍ لها بالانفتاح الإيجابيّ على كلّ تطوّر فكريّ وعلميّ واجتماعيّ، تبقى الجهود متعثرة والدوائر المعنية تدور في فلك الإداريات والتوجيهات السياسية التي لا تخرج عن نطاق المنافع الضيقة لفئات بعيدة عن أوجه الثقافة، التي جلُّ همّها الامتيازات وتكميم الأفواه وجرّ المثقّف نحو الترّهات بدلاً من تهيئة كلّ أنوان الإبداع في وجهه ورسالته.
واليوم، إضافة للأنشطة الكثيرة التي تتعاطاها الثقافة والمثقفون في الحياة اليومية والإجرائية للمواطن بالتصدّي لكلّ السلبيات التي تعصف بالمجتمع، يبرز دورهما في كيفية محاربة آفة التخلّف الحديثة – القديمة، المتمثلة بالفكر الأصوليّ المتطرّف الذي ينخر مجتمعاتنا منذ الثمانينات من القرن الماضي، بسبب تنامي المدّ الأصوليّ نتيجة للسلبيات الكثيرة التي تركتها العولمة وما يدور في دوائرها المشبوهة، والتي ساهمت في جزءٍ منها المناهج التعليمية المتخلفة. فقد ساهمت هذه الأخيرة بمحدودية الثقافة في الفكر وغذّت الأصوليات وخلقت طبقاتٍ واسعة من حاملي الفكر المتطرّف الذين تحرّكوا بكلّ حرية في حواضن جاهزة لها، هيّأتها في معظمها دوائرُ خارجية لأهداف معروفة سلفًا. فهذه ترفض أيَّ انفتاح نحو التغيير في السلوكيات والإجراءات اليومية في الحياة. بل، إنّها المحرّض الأساس لرفض أية مبادرة لإصلاح المجتمعات بسبب حالة الانكفاء والنزعة الدينية المنعزلة والطائفية المتزمّتة التي حصرت الفكر والحركة والرؤية في سلّة متهرّئة من قيمٍ وتقاليد وأحاديث مشكوكٍ في صحّة ورودها بل في وجودها أصلاً. والفكر التدميريّ الذي تحملُه منظمات متشددة في عصر العولمة والحداثة والعصرنة وفق هذا الأساسة ، ليس من السهل القضاءُ عليه ومصادر تمويله إلاّ بتوحيد الجهود الدولية للتعريف بأضرارِه وخطورة اتساعه، باعتباره سرطانًا سريع الانتشار، لو طالَ بقاؤُه واشتدّ عزمُه وقويت أدواته صعبَ معالجتُه وتقويضُه وتحجيمُه.
من هنا، لا بدّ أن تحظى المناهج عمومًا، بثقافة تجيزُ تقييم ومراجعة وتحليل البالي منها والذي يقتل ولا يحيي، يجرح ولا يضمّد، يكسر ولا يُصلح. فالفكر الذي تزرعُه المناهج في معظم بلدان المنطقة، ومنها بلدنا العراق، فكرٌ تدميريّ لبنيان الإنسان والوطن والمجتمعات التي تتهافت أحيانًا مرغمة على قبول الموجود والمطروح بسبب تأثيرات مدارس منغلقة على الفكر ومراجع تقليدية لا تقبل بالتطوّر ومراجعة الذات من أجل إدراك الحقيقة والوقوف على الصحيح منها دون المشكوك بها. وقد ساهمت في جزءٍ كبيرٍ من هذه الثقافة التدميرية، أحزاب الإسلام السياسيّ التي استأثرت بالسلطة في عدد من دول المنطقة، باستغلالها للدّين وتأثير المراجع من أجل كسب الأتباع وإبقاء الصورة القاتمة للدّين الحنيف وحصرِه بالأسلوب المنحرف والشاذّ الذي قدّمه الإرهاب وتنظيماتُه للمجتمع. بل تحومُ شكوكٌ عملية وفعلية بمشاركة عناصر من هذه الأحزاب في جزئيات من الأعمال الإرهابية التي طالت شعوبًا ومكوّناتٍ وأشخاصًا فيها. وسوف تكشف الأيام والتاريخ الشيءَ الكثير من هذه الاتهامات التي ترد بين الفينة والفينة على لسان مشاركين في السلطة وشخصيات سياسية وأركان نافذة في الأحزاب والتنظيمات.
والمطلوب من المثقف اليوم، تواصله مع المجتمع واستمرار روح التنوير والتثوير والرفض لكلّ أشكال الاستغلال وكشف مفاصل الفساد من دون خوفٍ أو تردّد أو مجاملة. فالرسالة التي يحملُها، ليسَ أسمى وأجلَّ منها، لكونها موهبةً ورسالة سامية حباه الله بها كي يتاجر بها إيجابيًا لصالح المجتمع والوطن، لا أن يدفنَها في التراب لتخيسَ وتُنسى بلا فائدة. فالمجتمعات الحيّة، تعوّل كثيرًا على الثقافة وروّادها، لأنهم جزءٌ من صنّاع الحياة وتشكيلها في حياة هذه المجتمعات وأوطانها. فهُم وحدهم، ومَن يؤمن بقدراتهم، المعبّرون الحقيقيون عن هموم شعوبهم ومجتمعاتهم وأوطانهم.

251
سهل نينوى: قرار أمريكي يحسم المصير
بغداد، في 30 آب 2016
لويس إقليمس
تزايدت في الأيام الأخيرة، تصريحات ومطالبات ومداخلات ولقاءات حول مصير سهل نينوى ما بعد داعش، بالرغم من بعد المسافة بينه وبين عمليات التحرير المتعثرة. والجميع يدرك أنّ الصراع بشأنه، سياسيّ بحت وليس اجتماعيًا، وهو يتعلّق بمصالح أطراف تسعى لاستغلال المواقف واستدرار العواطف واستخدام ضغوط في اتجاهات عديدة، بما فيها من وعود عرقوبية غير ذات قيمة في الوقت الراهن، أو تلميحاتٍ بتهديدات معينة أو حتى تهديدات صريحة ضدّ مَن يقف متحديًا مصالح هذا الطرف أو ذاك في تحديد هيكلية محافظة نينوى وإدارة ملفها، ولاسيّما سهلها الداخل في إشكالية المناطق المتنازَع عليها، بالرغم من كونه بعيدًا كلَّ البعد عن شيء يدخلُ مناطقَه في مثل هذا النزاع غير المتكافئ. فمنطقة السهل بعمومها خليطٌ متجانسٌ، من أقوام ومكوّنات عربية وسريانية مسيحية وإيزيدية وشبكية وكاكائية وصارلية وتركمانية وشيءٍ قليلٍ من الكردية. ومَن يتبجّح بانتمائِه الكرديّ عاطفيًا بكلّيتِه من دون قرائن ملموسة، ومنها اللغة التي هي أساس الهوية لأيّ مكوّن، فهو كمَن لبسَ البرذعة وحطَّها على ظهرِه تحاشيًا لحرّ الصيف وبرد الشتاء، أو كالبقرة التي أُلبسَتْ سرجًا ووُضع على خاصرتِها تهريجًا وتلميحًا للسخرية منها بمناسبة وبدون مناسبة.
نظريًا، بل منطقيًا، ليسَ من المنصف ولا من المعقول أن تطالبَ جهاتٌ محددة منتفعة من العملية السياسية، أيًا كانت وجهاتُها ومصالحُها، من أبناء السهل وهم بعدُ في الأسر أو في مناطق النزوح الكارثية خارج بلداتهم، مطرودين من منازلِهم، ومحرومين من حلالِهم، ومسلوبين من إرادتهم، أن يقرّروا مصيرَهم ويعلنوا زواجَهم المبكر، بل زواج الغصب والإكراه، من شريكٍ لم يثبت جدّيتَه في التعامل مع مشاكلِهم ومع هوياتهم ووجودهم وحقوقهم وكيانهم ومصيرهم المعوَّم. فالصفقة المثيرة للجدل التي تمّ بموجبها تسليم مناطقهم للدواعش وأعوانهم ومَن لفَّ لفَّهم، بعد 6 آب 2014، وما سبقها من حرمانهم حتى من أسلحتهم الشخصية الخفيفة، وما رافقها من وسائل تمويه وتشويه ووعود لسادة القوم ومراجعهم الدينية "السذّج" أحيانًا، المصدّقين والمؤمنين بالكلام المعسول الذي بلغهم ويبلغهم سواءً من الجانب الكرديّ الذي كان يحكم سطوتَه على مناطقهم، أو من جانب إدارة المحافظة على السواء، أثارت في حينها تساؤلات كثيرة ومريبة. فهذه كلّها تتطلّب تحكيم العقل وسداد الرؤية وبعد النظر في التعاطي مع مصير شعب، بل شعوب السهل المبتلى بمصالح أطراف متناقضة دينيًا ومذهبيًا وإتنيًا وفئويًا ومناطقيًا ولغويًا ووجوديًا وكلّ ما له صلة بالهوية التي تطبع شعوب السهل التقليديّ.
من حقّ الأطراف المشمولة بهذا المصير والحريصين من أبناء الوطن والمتعاطفين المتزنين مع حقوق شعوب السهل جميعًا، أن يدلوا بدلوهم ويكون لهم وقفة وطنية، خارجًا عن هفوات التماهي والعاطفة والتعاطف والمجاملة التي تتغلّبُ عادةً على قرارات وآراء وأحكام أصحاب القرار ومَن بيدهم اليد الطولى لتقرير ما يتحتّم عليه الظرف القائم كواقع حال، وما يراه مواطنوهم، من دون خجل ولا مواربة ولا مجاملة. فمَن حمَّلَ أميركا، وأخصّ به بطريرك الكنسية الكلدانية لويس ساكو مؤخرًا، راعيَة العملية السياسية التي تتحكم بمجريات الأمور، "مسؤولية أخلاقية" في مساعدة الشعب العراقي وفي التعاطي مع هذا الملف الشائك الذي يتعلّق بمصير شعوبٍ أصيلة طالها الهوان والتشريد والقتل والاغتصاب والسبي والتهميش والإقصاء، يدركُ تمامًا ما معنى أن يتهجّرُ أتباعُه بين ليلة وضحاها ويصبحوا خارج منازلهم مشرَّدين يعتاشون على مساعدات إنسانية تغدقها دول ومنظمات وجهات خيرية، أو أن يكونوا مشتتين في دول الاغتراب بعد أن لفظهم بلدُهم وضحّى بهم السياسيون الفرقاء المتصارعون على المال والجاه والسلطة والأرض والمتنافسون من دون خجل لارتقاء السلّم العليا في الفساد والإفساد بالأرض، بشرًا وحجرًا وثروةً.
أما السياسيون من أتباع هذه الشعوب المهجّرة ومسلوبة الإرادة، فجلُّ ما يهمُّهم، هو الواقع السياسي الذي يضمن لهم مكانةً ويديمُ ولأحزابهم موقعًا في العملية السياسية، حتى لو حصلَ ذلك متاجرةً بحقوق شعوبهم وعلى حساب معاناتهم وفوق آلامهم. فالموقف برمّته لا يرضى بالمساومة على المصير، كما لم يعد يتحمّل المزيد من الصبر والتعلّق بقشّة أمل غير مقبولة ولا أمينة في ظلّ الأجواء المشحونة بين طرفي النزاع، حكومة بغداد المركزية وحكومة إقليم كردستان الماضية في مشروع الاستقلال الأكيد. فالأطراف جميعًا، منتفعة من الواقع المزري الذي آلَ إليه واقع حال البلد. والأطراف جميعًا تتحمّلُ وزرَ خطاياها بحق الشعب العراقي عمومًا وشعوب الأقليات الدينية والإتنية بخاصة. فقد تمّت المتاجرة بمصير هذه الأخيرة، حينما آلتْ حقلاً مفتوحًا لصفقات سياسية بين المتورطين في جريمة التهجير، عسى الأيام تكشفها للملأ وتتولى حكومة وطنية قادمة محاسبة كلّ متورّط وفاسد ومفسدٍ بحق شعب العراق وإتنياته. وهذا لن يحصل إلاّ في ظلّ سلطة قضائية مستقلّة وغير مسيّسة، لا تقبل العمل بتوافق السياسيين الفاسدين، الذين يسوّقون المحاصصة ويجعلونها فوق الدستور والقانون.
 لقد طالب الكثيرون ب"ضمانات دولية لحماية المكونات الإتنية والدينية، ومنهم المسيحيون، في سهل نينوى لضمان عودتهم إلى مناطقهم، وإبعاد مناطقهم عن الصراعات القائمة بين بغداد وأربيل". فيما آخرون، ارتأوا أن يتمّ هيكلة المحافظة والسعي لإقامة نظام إدارة ذاتية للمكوّنات المعنية، أو حتى تشكيل محافظات أخرى تقف إلى جانب محافظة الموصل بموجب المادة 125 من الدستور، وتشكيل إقليم بالمحافظة، على غرار إقليم كردستان، كما يسمح به الدستور الأعرج القائم. وهذا ما كشفته اللقاءات المكثّفة الأخيرة من جانب دبلوماسيين دوليين وأمريكان وغربيين مع قيادات دينية وسياسية وشخصيات اجتماعية، عززتها تصريحات سياسية من كلّ من حكومتي المركز والإقليم. ويُستشفّ من هذا الحراك السياسي والدبلوماسيّ وجودُ مشروعٍ قائمٍ على الرفوف تسعى الإدارة الأمريكية لحبكِه ونسجه وتهيئتِه بعد تحرير الموصل ومناطق السهل التي تعود لشعوب الأقليات المهجَّرة، موضوعِ النزاع بين أطرافٍ عديدة. وجميع هذه اللقاءات تضمنت مناقشة رؤى ووسائل وأفكار، كما تطرقت إلى الوضع العام في البلاد والصراعات القائمة وأفضل السبل لمواجهة الإرهاب وأدواته والمرحلة ما بعد داعش.
إننا نرى، أنّ الكلمة الأولى والأخيرة، ستكون لراعي العملية السياسية، أميركا، التي تديرها عن بعد وتنفذها أدواتُها بالنيابة عنها. وأميركا، وحدها عبر أدواتها هذه من دبلوماسيّيها وسياسيّين وزعماء كتل وأحزاب، هي مَن تتحكم بمقاليد الأمور في العراق والمنطقة، وفقًا لمخططاتها الجهنّمية ومشروعها القومي الكبير لإعادة هيكلية دول المنطقة وفق ساكس - بيكو جديد، والتي ابتدأتها بحجة دمقرطة بلدان الشرق الأوسط وخلاص شعوبها من نير أنظمة دكتاتورية. لقد بدأتها انطلاقًا من العراق في 2003، بحجج واهية أثبتت الوقائع فراغَها من أية نسمة مشروعة، وامتدت لغيره، ولا نعرفُ متى ستكتمل وأينَ ستصل ومن ستطال لاحقًا! فالغربُ بقيادة أمريكا، ينفذ مشاريعه برويّة ويشنّ حروبَه بعيدًا عن أراضيه كما يطيبُ له وفقًا لمصالحه، طالما يجدُ مِن سذّج الساسة والزعماء في المنطقة مَن يضمن منهم التمويل ويديم إشعال الحطب في نارٍ متأججة منذ سنوات، ليسَ لشعوب المنطقة أيةُ منفعة في تواصل أوارها. وأميركا وحدها مع أتباعها الغربيين، هي التي تقرّر مصير الشعوب والقضاء على الإرهاب من بقاء فلوله لاستخدامها وفقًا لمصالحها القومية متى اقتضت الحاجة وأينما توفرت الفرصة.
 لذا، لم يعد من المقبول، ولا من العدل بقاء هذه المناطق ضحية صراعات ونزاعات أحزاب وكتل سياسية وعشائر من جهة، وفريسةً سهلة أو لقمةً سائغة دائمة بين مطرقة الكورد حينًا وسندان العرب حينًا آخر. كما ليسَ من الإنصاف أن تتحولَ الضحية إلى جلاّد بعد أن كانت شاركتها شعوبُ المنطقة المتضررة ذاتَ المصير وذاتَ الظلم وذاتَ الظروف القاسية أيامَ النضال ضدّ الدكتاتوريات والطغيان.
من هنا، لا بدّ من تهيئة الأرضية المقبولة والكفيلة كي تتولى شعوب سهل نينوى بدون تمييز ولا تحديد، وبكلّ حريتها، إدارة شؤونها وتقرير مصيرها ومسك الأرض، بعد تهيئة الظروف المناسبة بعد تحريرها من قبضة داعش الإرهابية وإخراجها عن سطوة الميليشيات والأطراف المتاجِرة بمصيرها. وهذا الأمر، في اعتقادنا، لن تستطيع أية قوة رادعة، سوى أميركا ذاتُها، من فرضِه على الأطراف المتنازعة بكلمة منها على الطاولة السياسية. وهذا مطلب الجميع وأمنيتهم، كي تعود المنطقة إلى صيغة التعايش السلميّ سابق العهد، ويسود السلام والمحبة بدل الاحتقان والكراهية. وبذلك ينعم الوطن وأهلُه بما يستحقونه من كرامة وحقوق وعدل ومساواة في وطنهم وأرضهم ووسط مواطنيهم وجيرانهم. فأمريكا التي قلبت الموازين وذرّت الغبار وافتتنت هنا وهناك، هي صاحبة الكلمة الطولى وهي أيضًا صاحبة القرار في ترويض الثوار وتهدئة الفتن وكبح جماح الميليشيات وشبكات الفساد ومافيات السطو والسرقة والقتل، بل وأصحاب الأيديولوجيات الأصولية التي تتاجر بالناس وتستغلّهم لخدمة مصالحها القومية، كلّما رغبت في ذلك وفقًا لحاجة الظرف، مكانًا وزمانًا.
في الحصيلة، لا نعتقد أنّ ما يجري على الساحة السياسية بهذا الخصوص، من عملية استعراض للعضلات نتيجة للتشنجات القائمة بين المركز والإقليم، وما بينهما من جهات منتفعة ممّا يجري بدون مسوّغ أخلاقيّ، يخدم العملية السياسية لهذه الشعوب ويساعد في الحفاظ على مستقبل حياتها وتقرير مصيرها، بعيدًا عن كلّ هذا وذاك. فليس من المقبول ولا من الحق أن يُسلّطَ سيفٌ على رقاب شعبٍ، ويُطلبُ منه تقرير مصيرِه تحت التهديد. فهذه سياسة مَن يعيشُ في الغاب ولا يقبل بحرية الغير في التعبير عن الذات والموقف والمصير. فلا التصعيد الكلامي ولا المهاترات ولا التجاذبات السياسية غير الناضجة ولا التحدّث باطلاً باسم الشعوب المقهورة والمغلوبة يمكن أن تنصف أصحاب الحق والقرار والمستقبل. أمّا مَن يسعون للاحتكام إلى الدستور الأعرج، فهُم شلّة ضالّة لا يعنيهم مَن وكيفَ كتبه ولمصلحة مَن بالدرجة الأولى. من هنا، كان الأجدر بالسياسيين، لو كان بقي لدى بعضهم ولو النزر اليسير من الوطنية وحب الأرض والشعب والوطن، أن يلقوا تناقضاتهم السياسية جانبًا ويوقفوا العمل بالدستور القائم ويعملوا على درج تعديلاتٍ أساسية فيه، تضمن رسم المصائر وتكفل الحقوق والواجبات وحفظ ما بقي من ماء الوجه أمام الشعب المتمزّق نسيجُه بسببهم وبسبب أفعالهم الشائنة وفسادهم اللامحدود ونجاتهم من القانون بسبب مبدأ التوافق والمحاصصة الذي ضمن لهم امتيازات وحصانات.
    إنّ كلَّ مَن يتحدث عن تفاهمات مسبقة قبل التحرير حول مستقبل الموصل وبلدات السهل بعيدًا عن رؤى أهل البلدة والسهل وتطلعاتهم وانقشاع الغيوم السوداء عن غشاوة عيونهم، عليه أن يتذكر أنه يلعبُ بالنار التي قد تحرقُه قبل أن يتنعم بما يهواه ويخطّط له. فالموصل وبلدات سهل نينوى ستكون عصيّةً على الطامعين وشوكة في عيون العملاء، مهما طغا هؤلاء وقدّموا من خدمة جاهزة للغريب الطامع والمنفِّذ للإملاءات الخارجية التي لا تخدم أهلَ السهل المحترق بنيران هذا الغريب الماكرة وبأساليبه الشيطانية ووعوده العرقوبية التي لا تؤكل ولا تسمّن. فاستغلال الظروف لتحقيق مكاسب ضيقة، لا تنسجم مع المصلحة الوطنية العليا، كما تتنافى مع احترام هوية المناطق المحتلة من قبل داعش ومع رسم مستقبل شعوبها وخياراتها وإرادتها. وما يدور في الكواليس من مشاريع تقسيمية لمحافظة نينوى إلى عدة محافظات، هو في الحقيقة تحقيق لرغبة الأسياد، "الأمريكان والغرب قدمًا بفكّ ارتباط أراضٍ عراقية خالصة تاريخيًا وتقليديًا وديمغرافيًا ومنحها هدية للدولة الكردية الماضية في مشروع الاستقلال، الذي نؤيده جميعًا من حيث كونه حق مشروع لتقرير مصير شعبٍ عانى كثيرًا، ليس وحده بل وقد شاركته جماعات أخرى في ذات المصير وذات النضال، من ديانات وإتنيات لأقليات لم تُنصف على مدى التاريخ.
ألحراك الأخير للإدارة الأمريكية والنشاط الذي تقوم به المنظمة الدولية وغيرُها ومعها دول الغرب في لقاءاتها وتخرّصاتها الإعلامية وتصريحاتها السياسية في محاولة لجسّ نبض الشارع العراقي، وبصورة خاصة شارع المكوّنات في سهل نينوى ومراجعها الدينية والسياسية، كلُّها تصبّ في ذات المنحى، كي تكوّن صورة عن رؤية مستقبلية للمنطقة بعد التحرير. وأعتقد أنَّ ما أدلى به غبطة البطريرك ساكو مؤخرًا، يكفي أن يكون الجواب الأكثر شمولاً وحرصًا ومحبة لشعبه ولشعب العراق بأجمعه، بل للعملية السياسية ككلّ.
والمهمّ في هذه المرحلة الحرجة، دعم جهود الدولة العراقية موحدةً من أجل القضاء على السرطان الداعشي الخبيث قبل استفحالِه، ومن ثمّ التفكير في مرحلة لاحقة لوضع الأسس التي تدعم إعادة ترتيب البيت الداخلي لهذه البلدات عبر الحوار والدراسة الواقعية لمستجدّات الأحداث ووفق السبل التي تؤمّنها الدول الراعية لإعادة ترتيب البيت العراقي بعد زوال الأسباب والظروف الشاذة جميعًا. وبغير هذه الترتيبات المتأنّية، لن تشهد المنطقة استقرارًا وسلامًا وتعايشًا بين مختلف مكوّناتها، طالما هناك فكر مختلف ومصالح متناقضة وارتباطات مع أطراف خارجية طامعة.


252
داعش وشبيهاتُها، فكرٌ منحرف وبضاعة فاسدة!
بغداد، في 31 أب 2016
لويس إقليمس
في زمن العولمة والحداثة والنضج الفكريّ والعصرنة، يبرز السؤال المحيّر: هل من قراءة معاصرة ممكنة لمفاهيم الإسلام المتشدّد والمتصاعد بوتائر مرعبة كخلايا السرطان القاتل منذ الثمانينات؟
الجزء الثاني:
فكرٌ وسطيّ متزن يقبلُ بالآخر المختلف

تلاحقت المؤتمرات محليًا وإقليميًا ودوليًا، تلك التي كانت بقصد محاربة الإرهاب وقطع دابره وأدوات تمويله. فقد عدّه العقلاء وبالإجماع، آفة تنبغي محاربتُها، لكونها تسيءُ إلى الإسلام قبل التأثير على غيرِه بسبب البضاعة الفاسدة التي يتاجرُ بها من دون وازع، والتي ليسَ له بها من هدف آخر سوى الاقتصاص مِن كلّ مختلفٍ عما يعتقد به فكرًا ودينًا ومنهجًا. من هنا، جاء تبنّي الفكر "الوسطيّ المعتدل" البارز مؤخرًا، والداعي لسلوك منهج معاصر متزن وعقلانيّ في تفسير روحيّة الإسلام المتسامية، كما يطيب للبعض وصفه، وفي تبيان سماحة هذا الدّين كما ظهر في بداية انتشاره في ظلّ الوحي الذي حصل زمنَ الأجواء "النصرانية"، حينَ برزَ دينًا قابلاً للتعايش السلميّ مع شعوب العالم ضمن أسس وقوانين وأعراف متفق عليها. فمنطقة الجزيرة التي عرفت البداوة والجهل والعرف القبليّ، كانت بحاجة آنذاك لبروز عبقرية اجتماعية تعمل على إصلاح المجتمع المتفكّك آنذاك في تلك الأزمنة الجاهلية، من دون المساس بالتركيبة الاجتماعية والدينية القائمة، التي ظلّت متماسكة طيلة فترة الوحي في مكّة، إلى أن تغيّرت الحال بتغيّر الموازين والشخصيات والظروف في المدينة. ولسنا هنا بصدد التطرّق إلى تلك الحقبة التي شابها التنكر لوعود مقطوعة لشعوب المنطقة وأتباع دياناتها حين انقلبت الموازين.
ما يهمنا اليوم، كيفية التخلّص من آفة التنظيمات الإرهابية وأدواتها، في العراق والمنطقة والعالم. فهذه تتطلب جهودًا صادقة من العمل الجماعيّ وإنكارَ الذات باتجاه إعادة لحمة النسيج الوطنيّ المتشظّي والممزّق بسبب تقاطع المصالح بين الفرقاء السياسيين الذين ساهموا بدق الأسفين بين شعوب ومكوّنات البلاد، وفسحوا المجالَ لتنظيمات إرهابية بالتغلغل وسط المجتمع واقتراف جرائم يندى لها جبينُ الإنسانية. فقد كان المجتمع العراقي دومًا، بلدًا طيبًا وكريمًا للتعايش وأرضًا قديمة خصبة تجمع التعددية الجميلة في الأديان والمذاهب والطوائف. وبغداد دار السلام بالذات، كانت دومًا معروفةً بمدينة الاعتدال والتسامح والانفتاح، سيّما وأنّها عاصمة بلد الحضارات ومنبع الرسالات وواحة الأصالات، ومثلُها لا تقلُّ عنها باقي المدن الأخرى وبلداتُها. كما تربع العراق الحديث عمومًا، ولسنوات طويلة، ليكون قبلة العرب في انفتاحه وتقدّمه وثرواته عندما كانت غيرُه من بلدان المنطقة في سباتٍ عميق يحلم أهلوها أن يكون لهم جزءٌ ممّا فيه من نعمة ورقيّ وعلوم ومدنية وشعب متكافل متسامح. لذا لا غرابة، إنْ كانت عيون الأجنبيّ ترنو إليه لما يتسم به من غنى متميّز في التنوّع الدينيّ والمذهبيّ والعرقيّ على السواء، وفي التراث والعلم والمعرفة والآثار، إلى جانب الشعر والفنون والكلمة والثروات الكثيرة، ما أضفى عليه صفات متقدمة على غيره بالمنطقة.
ففي العراق، كما يتحدث التاريخ، كانت أول مدرسة لجميع العراقيين على عهد حمورابي، دليلاً على أهمية العلم في تعليم البشر منذ القدم. وقبل انتشار الإسلام في الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين كما في عهوده المختلفة فيما بعد، كان للسريان المسيحيين من العراقيين وغيرهم، ريادتُهم لأروع المدارس وأكثرها أهمية في البلاد والمنطقة. فعملوا على رفد الثقافة العربية وعلومها وعملوا في دواوين الخلفاء والحكام، وساهموا في تعزيز مكانة الخلافة بين الشعوب من خلال تراجمهم وتأليفاتهم ومساهماتهم في شتى الأصعدة والحقول. في حين كان لبغداد مع انتشار الدين الإسلاميّ، قصب السبق على غيره من الأمصار في تأسيس أول مدرسة للإمام أبي حنيفة بالأعظمية، فالنظامية بعدها في بداية القرن الحادي عشر، بحسب العلامة مصطفى جواد. ثمّ تلتها مثيلاتُها كالمستنصرية وأخريات كثيرات في عهود الخلافة المختلفة لاحقًا.
ونشير أيضًا للتذكير فقط، أنه في العصر الحديث، تأسست أول جامعة في بغداد في سنة 1957 ووضع الحجر الأساس لها في نهاية 1959، وتولى رئاستَها على التوالي كلٌّ من العالم العراقي المسيحي متي عقراوي والدكتور الصابئي المندائي عبدالجبار عبدالله، وكلاهما عراقيان ومن غير المسلمين. وتلك الالتفاتة في اختيار الأصلح لإدارة هذا الصرح الفتيّ آنذاك على أساس الكفاءة والجدارة، دلالة على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في تلك العهود ومن دون تمييز، حينما وقع الاختيار على هاتين الشخصيتين العراقيتين الوطنيتين العلميتين المتميزتين. وكلّ هذه المدارس والجهات والمرافق العلمية والشخوص شكّلت بدورها، منارات إشعاعٍ للأوطان والعباد من أبناء العراق ودول الجوار على السواء، بحيث كان الأشقاء العرب وسواهم يمنّون النفس بزيارة الوطن للترفيه عن النفس على أنغام وفنون ضفاف شط البصرة وأبي نؤاس، والاستجمام في ربوع شمالِه الجميل، فضلاً عن الرغبة بالاطلاع على معالمه الثقافية والتراثية والتاريخية والغَرفِ من مؤسساته التعليمية الرصينة لأصالتها وريادتها وفاعليتِها آنذاك، في أجواءٍ من التسامح والانفتاح وقبول الآخر.
أعود للفكرة الأساس في موضوعي الذي يصبّ في أهمية الفكر المنفتح والمتسامح الذي اتسمت به المؤسسات التعليمية والمرجعيات الدينية بالعراق ومعها الشارع العراقي عمومًا، واتخذته نهجًا في إشاعة روح الألفة والتعايش المجتمعيّ وفي نشر الثقافة والعلوم والفنون المتعددة في فترات متعاقبة من تاريخه بطريقة منهجية وغير متعصّبة ومن دون الإخلال بالتوازن في النقل والطرح والتقييم، إلاّ ما ندر، حينما كانت تعلو المصلحة الشخصية أو الطائفية أو الفئوية فقط على حساب ضرورات الحياد في العلم واستقلاليته وفي الدّين وأدواته والسياسة ورجالها المتلوّنين من غير المؤمنين بوحدة الوطن وترابه ونسيجه المتآلف! فقد عُرف عن العراق تقليديًا، وعن خطابه الدّيني والمجتمعيّ على السواء، احترامُه للّحمة الوطنية وإيمانُه بوحدة نسيجه الاجتماعيّ، في حدود تعدّدية أديانه وأعراقه وطوائفه ومذاهبه، التي عدّها العراقيون دومًا مصدر غنى وثراء في تنميته وتمدّنه وتقدّمه. وعندما توارت هذه السمة في السنوات الأخيرة بعد الغزو الأمريكي الماكر، بسبب تدخلات خارجية، إقليمية ودولية، انهارَ معها السلمُ الأهليّ وتمزّقَ النسيج المجتمعيّ المتلاحم وبرزت النعرات المتعصّبة وظهر التشدّد في المفهوم الدّيني الإسلاميّ بل الغلوّ لدى البعض في تقديم هذا الأخير وتطبيقه في المجتمع المتناغم تاريخيًا.
حدث هذا، بسبب فراغ الساحة من مرجعيات سياسية ودينية واجتماعية قوية وفاعلة تجمع الكلمة وتوحّد الفكر وتوجّه التشتّت الحاصل في التفسير وفي الغايات وفي الولاء للوطن، نتيجة للتقاطع في المصالح المذهبية والطائفية للفرقاء، ما أدى إلى الانهيار المفاجئ في روحية التسامح وتراجع التكافل التي جُبل عليها العراقيون بطبيعتهم. ومن هنا، كثرت الفتاوى العشوائية التي تدعو للقتل وأشكال العنف والتكفير على غرار مفسّري العهود المظلمة على أيدي مَن يُسمّون اليوم بأئمة الفتنة المعاصرين وشيوخ القتل كارهي الحياة والمنظّرين الذين انساقوا وراء الفكر الأصوليّ المتطرّف الذي يقرأ ويفسّرَ بحسب زمانٍ عفا عليه الزمن ووفق مصالح ورؤى قاصرة للحياة تختلف بالتأكيد عن الحقبة الزمنية التي عاشَها أولئك المحرّضون في عصور الجهل والظلام!
هذه هي طبيعة الشعوب. فهي تخضع بين الحين والآخر، إلى قاعدةٍ تصعد في منحنياتها إلى أوج الألفة في سماتها التعايشية حين تكون العقول مستنيرة والقلوب منفتحة والنفوس عامرة بالمحبة وحب الآخر المختلف، فيما تنزل بالواقع إلى الحضيض عندما تنغلق على ذاتها وعلى تعاليمها وتوجهاتها، منكفئةً على فكرٍ متزمّت يرفض وجود الآخر المختلف ولا يريد قبولَه لا ندًّا متكافئًا في الجدارة والأهلية، ولا مواطنًا متساويًا في الحقوق والواجبات، بحسب ما تتطلّبُها حقوق المواطنة المشار إليها في الدساتير وتؤكد عليها المواثيق والعهود الدولية. فالذين يصرّون على قراءات وتفاسير عفا عليها الزمن وصارت من الماضي في تقديمها لحلول اجتماعية في مرحلة تاريخية معينة جبلت شعوب المنطقة حينذاك بسبب ضرورات اقتضها تلك الحقبة التي ظهر فيها الإسلام في أجواء البداوة والقبلية، فإنّ هؤلاء كَمَن يضعون مسامير في نعش هذا المعتقد الذي يتحدث عنه عقلاءُ اليوم ومعتدلو الفكر المستنير والوسطيون الحكماء بشيء كببرٍ من المنطق والروية والفطنة. ولكنْ، هل مِن سامع لهم أو مَن يقبلُ بطرحهم المعاصر وسط الفوضى القائمة وأدوات التكفير المتصاعدة من فرق الغلاة والمتشدّدين الجدد الذين يكفّرون كلَّ شيء؟
لكنَّ دورة التاريخ مستمرّة في عولمتِها وفي تقصيرها للمسافات بين الشعوب والأمم، وهي تسيرُ حثيثًا بعكس تيار الانغلاق والانكفاء على الذات. ومن ثمّ، من المستحيل وقفُها في منتصف الطريق أو إعادةُ عجلتها إلى الوراء، طالما هناكَ مَن يؤمن بقدرة السماء على فعل المعجزات، وبفاعلية العلوم والفنون وتمازج الأفكار وعناصرِها التي تتطوّر وتتبدّل وتتغيّر مع حاجات الإنسان وواقعه المعاش على الأرض ووسط البشر. ف "مَن وضع يدهُ على المحراث، لا يرجع أو يتراجع إلى الوراء"! وهذه تتطلب الوفاق والتعاون والتآزر في الحياة اليومية، وليس الانعزال وراء حجابات مظهرية لا ترضى إلاّ بأسوَد اللون وراياتِه. فاللهُ خالقٌ للجميع أسوياء متساوين أحرارًا ليعيشوا متحابين متآزرين في فردوسه الواسع الذي يسعى أصحابُ الفتن لتمريغه بالأعمال المشينة وتكفير كلّ مَن يختلف عن رؤيتهم ومنهجهم المشوّش الذي يستبيح القتل والنبذ والرفض لأبسط الأمور. ولا أدري كيف يعطي البعض الحق لأنفسهم بفرض ما يعتقدون به على غيرهم من المختلفين معهم في العقيدة والفكر أو المنهج، والمتساوين أساسًا في المواطنة والإنسانية وكذا في القاعدة البشرية للحرية الشخصية التي أنعمَ بها الله على البشر من دون تمييز. فهو الوحيد "فاحصُ الكلى والقلوب"، ولم يخوّل أو يُجزْ أحدًا قط بالدفاع عنه، فهو الجبّار العظيم القهّار!
ولنا في حياة العراقيين لغاية الساعة أمثلة كثيرة لا حصر لها، تتجدّد فيها روح التعايش والألفة والمحبة التي عرفوها، سواءً بتبادلهم الزيارات لأضرحة الأئمة وأصحاب الكرامات وللمساجد والمعابد والكنائس بمناسبة أو من دونها، أو بالمشاركة الوجدانية في المناسبات الدينية والموسمية والعائلية بعضهم للبعض من دون حرج، أم بالسهر على مصالح ومحرّمات بعضهم البعض، تلك النابعة من الشعور الأخوي والوطني والإنساني وحسن الجوار معًا. وكلّ هذه الأعمال والأفعال والأنشطة، دلائل على روح الانفتاح التي طُبع عليها المجتمع العراقي منذ القدم. فلم يكن الاختلاف في الدين أو المذهب أو العرق أو الطائفة أو اللون أو اللغة عائقًا أمام السلم الأهلي والتعايش المجتمعيّ والتطوّر الحضاريّ، بل كان ذلك مدعاةً للفخر بتنوّع أزهار حديقة العراق الكبرى وثراء تراث أبنائه وعاداتهم وتقاليدهم الجميلة التي يعشقُها القاصي والداني. ومن المؤسف، أنَّ الكثير من هذه السلوكيات الإيجابية قد ضاعت أو اختفت أو اندثرت بسبب تنامي الفكر المتشدّد وتأثير تفاسير روّاده الموغلين في التطرّف على عقول العامةّ وحتى على النخب المثقفة في المجتمع، سواءً خوفًا من سطوة أصحاب هذا الفكر المنحرف وتهديداتهم، أو تظاهرًا بالسير مع المدّ الجارف أو نفاقًا، وهي سمة بارزة في مجتمعات اليوم.
إنّ ما يحصل اليوم، من خروجٍ فئاتٍ ضالّة في المجتمع العراقيّ والعربي والإسلاميّ، متأثرين بفتاوى شيوخ القتل والتكفير، هو بمثابة دعوة ملحّة لأصحاب الأفكار المستنيرة والمراجع الرشيدة والنخب الثقافية للتآزر معًا، والتعامل الشديد مع أصحاب الأفكار المريضة بجدّية أكثر من أجل إيقاف هذا المدّ التفسيري التكفيريّ في الغلوّ الدينيّ والتطرّف، من خلال الدعوة الصادقة لتطهير الأفئدة والعقول والنفوس من مثل هذا المرض القاتل، سرطان العصر، ومن دنس الاعتقاد المغالي في تكفير المختلف. كما تتطلب المرحلة الراهنة، رصد ما يُقدّم من مناهج أساسية بدءًا من رياض الأطفال ووصولاً إلى المراحل المتقدمة بالمؤسسات العلمية. في حين، لا يمكن تجاهل الدَورِ المؤثر الذي يمكن أن تؤديه دُورِ العبادة من مساجد وجوامع وكنائس ومعابد ومراكز دينية واجتماعية في نصح المجتمع وتقويمه وتوجيهه نحو الخير وأعمالِه ونحو الرحمة التي تفوق أيَّ شيء وكلَّ شيء! فالله رحومٌ غفورٌ، طويل الأناة، لا يقبل هلاك النفس البشرية التي خلقَها ونفخ فيها من روحه وقدرتِه وعظمته. كما أنَّ "الدّين نصحٌ وأخلاق"، قبل أن يكون كلمات رنانة وعبارات فضفاضة وآياتٍ جامدات قاتلاتٍ!
من هنا، فإنَّ إصلاح المجتمع لا يأتي بأشكال العنف والقتل والتكفير واستباحة حقوق الآخرين، بل بالروية والتفكير السليم والحوار العقلانيّ الهادئ والمنهج الوسطيّ الذي ينفع الناس ويرضي الله والعباد معًا. وتبقى المراكز الدينية الثقافية التقليدية المهمة في كافة الدول الإسلامية، من أمثال الأزهر والمراجع القمّية والروابط الإسلامية والجامعات والحوزات العلمية التي تعلّم الشرع وأصول الدين، وكذا المؤتمرات الإسلامية المختلفة، هي التي تُعلّق عليها آمال العالم المتحضّر الذي يتوق للسلام وللتعايش وللتكافل ولاحترام القيم الإنسانية للكائن البشري، أيًّا كان لونُه أو جنسُه أو دينُه أو مرجعُه أو مذهبُه. فمثلُ هذا التنوع غنى وثراء أينما وُجد وترعرعَ ونما. والعراقُ نموذجٌ متميّزٌ منه وله.
وأختم حديثي بما وردَ على لسان عضو البرلمان التركي محمد علي أصلان، عن حزب الشعوب الديمقراطي، على هامش المؤتمر الإسلامي المنعقد في بغداد في كانون ثاني 2016، بالقول: «إنّ بلاد الرافدين كانت منذ القدم بيئة الاعتدال التي نشأت وتعايشت في أجوائها جميعُ المذاهب الإسلامية، وأنّ العتبات المقدسة المنتشرة في أغلب مدن ومحافظات البلاد دليل آخر على التنوع الثري».
فهل لنا في العراق أولاً، وفي البلدان العربية والإسلامية اليوم، من وقفة إستدراكية إستغرابية علنية لما يحصل من أعمال عنف وتكفيرٍ مدانة بكلّ الأعراف بسبب خطاب الكراهية القائم؟ وهل لنا أيضًا، من شجاعة رجولية وإنسانية بمراجعة مدنية شاملة تعود بالعراقيين إلى ثرائهم الروحي الأصيل وتنقلهم إلى ديار الألفة والتعاضد والتكافل وفق ميزان أخلاقي، كانوا يتسابقون في سابق الأيام لتجسيده جميعًا؟ فصفاتُ القدوة الحسنة، ليس لها زمان ولا مكان، لا دين ولا طائفة، لا لغة ولا عرق، حين تتجسّد في بوتقة المصالحة العراقية والوطنية على السواء، والتي تعني من جملة ما تعنيه الألفة والتسامح ومحبة الآخر وتقويم المعوجّ والالتقاء حول ما يجمع وليس الانجراف حول ما يفرّق.
 فما يجمع أكثر ممّا يفرّق!

253
داعش وشبيهاتُها، فكرٌ منحرف وبضاعة فاسدة!
بغداد، في 31 أب 2016
لويس إقليمس
في زمن العولمة والحداثة والنضج الفكريّ والعصرنة، يبرز السؤال المحيّر: هل من قراءة معاصرة ممكنة لمفاهيم الإسلام المتشدّد والمتصاعد بوتائر مرعبة كخلايا السرطان القاتل منذ الثمانينات؟
الجزء الأول:
سرطان داعش واجب الرفض والنبذ

كتب بطريرك الكنيسة الكلدانية لويس ساكو، مقالةً في موقع البطريركية يوم السبت الموافق 27 آب 2016 بعنوان: " آن الأوان لكي يوقَف سرطان داعش وأشباهها". ولما للأفكار القيّمة والعقلانية التي أوردها، بسبب "مفاجأة العالم بما قامت وتقوم به داعش وأشباهُها من أفعال شنيعة، ومن ضرب للحريات باسم الإسلام، مثل تهجير وقتل المدنيين أو حرقهم أحياء وسبي النساء وهدم المعالم الدينية والحضارية وتشويه للعلاقات بين أبناء البلد الواحد". وها نحن نذكّرُ بتساؤله إزاء كلّ هذا: "أما آن الأوان لكي يتبادر المسلمون في العالم والغالبية منهم معتدلون ويريدون الخير، وغيرُ المسلمين من ذوي الإرادة الطيبة للخروج بموقف واضح ومحدد للتعامل بجديّة وليس بسطحية، مع موضوع التطرف والإرهاب الذي يشكل خطراً على الكل، وأن يشكلوا جبهة موحدة لمواجهة الانغلاق والتطرف والكراهية ووقف هذا السرطان الرافض للعيش المشترك والمواطنة والحداثة؟".
إننا نرى في مثل هذه الكلمات المعبّرة المليئة بالرجاء والوطنية الصادقة، ذاتَ الرغبة والأمنية المستنيرة لدى المعتدلين من رجال الدّين والمتديّنين من العامّة والمثقفين وأصحاب الأقلام الوطنية التي تضع المعيار الإنسانيّ والوطنيّ فوق أية اعتبارات فرعية، ب"إعطاء ما لله لله وما للإنسان خليقة الله الجميلة من مكانة يرضاها له هذا الإله الحقيقيّ محب البشر". هي بدون شكّ، بمثابة دعوة وطنية وإنسانية من رجل دين مسيحيّ وطنيّ عراقيّ منفتح على الأديان، دفعته الكاريزما التي يتحلّى بها، كي يوقظ الضمير الإنسانيّ لمَن غفى ضميرُه وسايرَ ترّهاتِ الزمن الغادر وضلالاته، ومَن تاه في دياميس وخرافات شيوخ الفتنة والقتل والتحريض والتخلّف التي تكفّر وترفض وتنبذ كلّ فكرٍ مخالف لا يتجانسُ مع ما تعتقد وتتشدّد به هذه الفئات الضالّة في الإيغال بالتنكر لكّل ما هو معاصر وعقلانيّ ومتزن ومعقول ومنفتح ومفيد، يخدم البشرية ويجعل العالم أكثر أمانًا واستقرارًا وسلامًا وتحابًا. فغولُ العصر، وكلّ مَن سار على شاكلة فكرهم الأصوليّ المتزمّت المتشدّد حتى النخاع، تمويلاً وتخطيطًا وتشجيعًا وخوفًا ومسايرةً ومجاملةً، يعتقدون، وبئسَ ما يعتقدون، "أنَّ الجنة تُضْمَن بقتل الأبرياء بحزام ناسف أو عربة مفخخة، أو عبوة، أو بسكين"! "هذا دمار فكري"، به يتمّ غسل أدمغة بشر أبرياء خلقهم الله ليعيشوا ويتنعموا وينموا ويكثروا وفق إرادته الطيبة ويقدسوا الحياة، لا لكي يقتلوها ويدمروها باسمه باستغلال أفكار خاطئة للترويج لمعتقدات خاطئة.
إزاء هذه الآفة، التي تفتك بالبشرية جمعاء، وتسيء إلى الإسلام والمسلمين عامة قبل أيّ شيء، وتهدّد وجودَه وكيانَه ومستقبلَه من حيث يدرون أو لا يدرون ومن دون أن يعي أصحابُ "الفكر المنحرف" فيه للنتائج المترتبة على اتّباع هذا المنهج المتشدّد الغائص في ظلمات زمن البداوة والصحراء والسيف والتخلّف واستباحة الحرمات بأشكال وحجج وتأويلات غريبة عجيبة، لا بدّ من وقفة صريحة شجاعة ورافضة لمثل هذا السلوك غير الحضاريّ الذي يقوّض إرادة الإله الخالق الحقيقي الذي خصَّ الإنسانَ والبشرية باستغلال الأرض وما فيها وما عليها من أجل رفاهتِه وراحته وتفاعلِه مع جميع البشر بذات المحبة التي أحبه بها هذا الإله. وهذا يستدعي أساسًا، إرادة صلدة صارخة ترفض مثل هذا الفكر المخالف لروحية الدّين الذي يأمر بالرحمة والتسامح والمحبة، لو عادوا به في قراءة روحية معمّقة بالأخذ بروحية النصّ القرآني ودلالاتِه، وليسَ التشبّث بتلابيب حرفيّتِه التي شابها الكثير من التلاعب والتغيير والتبديل، بحسب مؤرخين وخبراء ودارسين وباحثين في الشأن الإسلاميّ. ف"الحرف قد يقتل، فيما الروحُ يحيي ويجدّد وجه الأرض". وحسب علمنا، حتى الأحاديث وما ورد في السنّة، لم تنجُ من تدخلات ومزيدات وإضافات بهواجس طائفية وأهداف سياسية. وقد اشار إلى هذه الواقعة، الدكتور رفعت السعيد، وهو واحد من أبرز المهتمّين بالشؤون الإسلامية، في سلسلة مقالاته التي خصّ بها جريدة المدى، تحت عنوان" قراءة جديدة في تاريخ قديم". وهو يرى مثل غيره أنّه، "مع تجدد الأزمان وتغير الأعراف ونضج العقول، يجوز بالطبع للمسلم أن يعمل عقله وفق ما استجد من أعراف ومعلومات في تدقيق الأحاديث والاختيار من بينها خاصة مع تضارب الرواة بل وتضارب ما ينسب إلى الراوي الواحد في الموضوع الواحد". وبحسب الدارقطني، كما ينقل السعيد: "لم يُجمع الحديث إلا في عهد المأمون وبعد أن أصبح الحديث الصحيح في الحديث الكاذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود". وبعد أن فشت بدعة ابتداع الأحاديث واستخدام الأحاديث المصطنعة في الصراعات السياسية، كتلك الأحاديث التي وضعها معاوية كلما أراد أن يبرر فعلة من أفعاله التي لا يرضاها الإسلام. (انتهى الاقتباس).
إنّ ما يُسمع على رؤوس الأشهاد من خطب دينية تحريضية إقصائية تكفيرية بين الحين والآخر ضدّ مختلفين في الدين والرؤية، وما يُنشر من فتاوى بذات المنهجية السلبية من قبل أطراف تزيد من تعميق الانحراف لدى نفرٍ لا يرى أمامه غير الدائرة المغلقة في الفكر والفعل والتنفيذ، يُعدّ كارثة إنسانية لا يمكن أن تتساهل معها البشرية المجروحة إزاء الأعراف والقوانين والنظم الأخلاقية والإنسانية المعروفة. فالبشر جميعًا، خُلقوا ليتعايشوا ويتكاتفوا وينموا ويكثروا ويملؤوا الأرض سلامًا وبهجة ومحبة، وليس كي يحيلوها سواقي من دماءٍ ليسَ لنزيفها توقف ولا رحمة، بسبب البضاعة الفاسدة التي يروّج لها أصحاب الأفكار الأصولية المنغلقة. فاللهُ كما نعلم، خلقَ البشر متساوين وأجازَ لهم حرية العقيدة والتفكير والإيمان الذي يكفل وصولَهم إلى سواء السبيل، كلّ على طريقته ومنهجه. ومن ثمّ، ليسَ من حقّ هذا النفر المنحرف أن يحكمَ على المختلف معه، بالكفر وإنزال ما لم يجزه الله الخالق من قتل وسبي واندثار وإقصاءٍ. فهذه إنْ هي إلاّ شريعة الغاب، مثيرة للاشمئزاز، لكون هذه الفئة الضالّة تريد العودة بالبشرية قرونًا للوراء نحو زمن التخلّف وركوب الدواب وسبي الحرائر ونكاح المحارم وسيادة الأعراف العشائرية والقبلية وسنن الغاب بدلاً عن سيادة القانون وعيش أركان العصرنة التي تتطلبُها الظروف المتمدنة والمتطورة للبشر والأرض على السواء. وتتحمّل اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية ومَن في صفّها، وهي مصدر الشرّ والكراهية والبغضاء فيما يجري، تتحمّلُ هذه الهيئة نتائجَ كلّ ما يصدر من فتاوى ضدَّ كلِّ ما ليسَ مسلمًا. وإنّ المضيّ في هذه الطريق الوعرة، يسيء اليوم للإسلام والمسلمين أكثر من ذي قبل. ولعلَّ من نماذج فتاواها، تلك المرقمة 21413 التي تقضي بأن "كلَّ دينٍ غيرِ دين الإسلام فهو كفر وضلال، وكل مكان يعدّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال"، وأنَّ "شريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامة للثقلين الجن والإنس وناسخة لما قبلها".   
لقد سبق الإسلام دياناتٌ كثيرة، بعضُها بادت وأخرى تواصلت. وعندما قدمَ الإسلام كانت هناك ديانتان أساسيتان ومهمتان في المنطقة، اليهودية والمسيحية، وقد ولدتا من رحم الشرق. وبالتالي، فأتباع هاتين الديانتين، أي اليهود والمسيحيون هم أصحاب الأرض الأصلاء، ولا يمكن استثناؤُهما أو إخراجُهما بخطابٍ منحرف عن سياق الحياة الطبيعية لأهل المنطقة. فقدوم دينٍ جديد ليسَ مدعاةً لنفي وطمسِ معالم غيرِه. فهذه سننُ شريعة الغاب، التي لا يمكن أن تستوي في عصر النهضة والتطور والحداثة والتفاعل المجتمعي الذي يستمتع اليوم بنتائج تقدّم التكنلوجيا وابتكاراتها التي لا تتوقف وتنامي الفلسفات المحدّثة وتطوّر البشر وتقنياتُهم في شتى ميادين الحياة. 
واليوم، تشهد العديد من المراكز الإسلامية، والمكاتب المرتبطة بمرجعيات دينية مستنيرة مجتهدة باختلاف عائديتها، مدعومةً بأفكار وآراء عقلانية ومتزنة لشخصيات سياسية وثقافية متمدنة وفقهاء منفتحين، تشهد اليوم أكثر من ذي قبل حراكًا ثقافيًا ودينيًا ودفاعيًا وحواريًا. والهدف الأسمى من كلّ هذه التحرّكات والحوارات والنقاشات، العمل على وقف حالة الفوضى القائمة في تفسير مفاهيم الدين وتطبيق جوهرِه والحدّ من خطاب الكراهية القائم الذي أتت به تنظيمات متطرفة غريبة متشدّدة مغالية في تطبيقها لمفاهيم الشريعة الإسلامية، مستندة إلى تفاسير متأخرة أصبحت من الماضي ولم تعد تصلح في زمن التطور والتقدّم والعولمة التي اختصرت المسافات وقاربت بين الأمم والشعوب وجعلت العالم قرية صغيرة يمكن التنزه فيها متى شاء الإنسان العاقل. ولم يكن العراق خارجًا عن هذه الأنشطة، حين استضاف مؤتمرًا لبرلمانات الدول الإسلامية قبل أشهر. فالمسألة بعد قدوم داعش الإرهابي وما اقترفه من جرائم ترقى لحدّ الإبادة الجماعية ومن فظائع كبيرة وقبيحة بحق الإنسانية وضدّ شعوبٍ أصيلة آمنة، أصبحت معقدة والأمور لا تتحمّل أكثر ممّا صار، والعالم لا يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي إزاء الانفلات القائم والتمدّد الجارف. والإصلاحُ في السيرة والحكم والعلاج باتَ واجبًا شرعيًّا. كما أنَّ النصحَ جزءٌ من رسالة الدّين وواجبات رجالِه، حينما يستنير بهدى العقل والفكر والقلب والروح المتسامية بعبادة الله، وكلُّها أدواتٌ راقية وهبها الله الخالق للبشرية كي تنعم بالحياة وليس لتدميرها. فثقافة الحياة تبقى دومًا أرقى من ثقافة الموت وأجلَّ شأنًا وأكثرَ أمانًا!
- يتبع- ج2

254

رؤية مسيحية عراقية في هموم الوطن والمواطن
بغداد، في 14 آب 2016
لويس إقليمس
قبل أيّ شيء، من البديهيّ أن تظهر بين فترة وأخرى، مؤشرات وطنية متجددة صادقة ونابعة عن وجدان مجروح لشريحة مواطنية تحتفظ بكل المحبة والوفاء والإخلاص للوطن، كي تدلي بدلوها في الأحداث، أيًا كانت. بل إنّ مثل هذه التسريبات أو الآراء أو الرؤى، مهما كانت مقاصدُها وحيثياتُها وتوجهاتُها، ضرورية من أجل تفاعل نسيج الوطن بجميع انتماءاته مع ما يحصل على الأرض. فما تتعرّض له البلاد وأهلوها عمومًا منذ عقود وخصوصًا بعد دراما 2003، من مهانة وقساوة واستخفافٍ باستحقاقات فردية وجماعية بحقّ شرائح أصيلة ووفية للأرض وتاريخها وتراثها، يقتضي من الأمناء والأصلاء وضع حدود لشتى مثل هذه التجاوزات الحاصلة من دون وازع ضمير، بسبب الرؤية القاصرة لمَن قادتهم مصالحُ الغزاة كي يحكموا ويتسلطوا ويفسدوا في الأرض. وإنّي أجد أنَّ مثل هذه الملاحظات أو الرؤى التي تصدر عن عقلاء، هي أساسًا من ضمن الحقوق المواطنية للشرائح المهمّشة، وليسَ منّةً أو عطفًا أو سمّي ما شئتَ من عبارات جارحة تنخس الضمير والوجدان وتزيد الحسرة بسبب عوادي الزمن الغادر وتسلّط فئاتٍ عاثت فسادًا في أرض العراق الطاهرة وسلبت ثرواته ظلمًا وحرمتْ أجيالَه القادمة من حصصها ومن حقّها في التمتّع بثرواته الوطنية، حتى قبل رؤيتِهم النور. هكذا يقول دستور العراق: ثروات الوطن، هي ملك الشعب وليس ملك الطغمات الحاكمة، التي جعلت ثرواته الغزيرة أسيرة بأيدي مصالحها الطائفية والكتلوية والحزبية!
والمواطن المسيحي مثل غيره من العراقيين، له أصالتُه في أرض الرافدين. بل أصولُه متجذّرة عبر آلاف السنين، كما يشاء البعض وصفه، منذ عهد سومر وبابل وأكد وآشور، مرورًا بحضارات كبيرة وكثيرة، سادت ثمّ بادت. ومن حظّ العراق، أنَّ تلك الأصالة لم تندثر، طالما وجد بين ظهرانينا مَن يحرسها ويحرص على تفعيلها وتجديد فاعليتها، بالرغم من كبر المشاكل وتأثير ما جرى ويجري على أيدي أدوات وأفرادٍ أغرابٍ لا يمتّون بصلة إلى الأرض التي سارت فوقها أقدامُ الأنبياء وباركها الأولياء وعمّذها القدّيسون والأصفياء والشهداء بدمائهم الزكية حبًا بالوطن وأهلِه الطيبين. ومن المؤسف أنَّ مَن يسوس البلاد والعباد هذه الأيام خالو الوفاض من شيء اسمُه الضمير والوفاء والتسامح والرحمة والمحبة والإرادة الطيبة للمصالحة وجبر المكسور بين الإخوة الأعداء. 
كثيرًا ما يطرق أسماعَنا ويتكرّر كلامٌ معسول، بعضُه نابع من قلوبٍ عامرة بالمحبة والرغبة في الجيرة الطيبة، في الإشارة إلى سمة التجذّر والأصالة والطيبة التي يُنعت بها المسيحيون بصورة خاصة "أنتم الأصلاء في البلاد، ونحن ضيوفكم". وبالرغم من الإيمان المطلق بالعزاء والراحة والانتعاش التي تبدو على ملامح المسيحيين بفضل تباشير هذا الكلام الطيّب، فهو بالتالي، تعبير نابعٌ عن الرحمة وصفاء الأفق ونقاوة الروح حينما تسمو مثل هذه الكلمات بفعالها نحن الأجواء العليا الصافية الخالية من دنس الفكر الضيّق القذر، والرؤية المريضة في الحكم على الأشياء، بشرًا وحجرًا. ف "الكلمة الطيبة صدقة" بل و"رحمة" تُحدثُ فعلَها لدى السامع والمتلقّي وتشفي النفوس المتعبة، وتفتح أبوابًا للخير وتغلق أخرى للشرّ. ومن ثمَّ، فمفردة الرحمة، وما أدراك ما تعنيه هذه في القاموسين المسيحي والإسلامي على السواء حينما كان هذا الأخير يعيش بعدُ في أجواء المشورة النصرانية في مكّة، كريمةٌ في عطائها، أثيرةٌ في سموّها، أبيّةٌ في تطبيقها. ولأهمية هذه الفضيلة العليا، جاء إعلان بابا الفاتيكان، كي تكون سنة 2016، سنةً للرحمة وتصافي النيات وفرصة للمصالحة. ومن ثمة بالتالي، إنْ هي إلاّ دعوة ربّانية للتفكير والعيش بموجب مفاعيلها، وطنيًا ودينيًا وفكريًا واجتماعيًا، بل وحتى سياسيًا. ولما لا تكون كذلك في أجواء العراق المتلبدة، حينما تنقشع غيوم الدواعش قريبًا وتزول إلى الهاوية، وبئس المصير، لها ولكلّ مَن ساندَها وموّلَها ودعا لها وحشّدَ واقترفَ المنكرات باسمها وقتلَ ونكّلَ واختطفَ واغتصبَ وسبى وحزّ الرؤوس وهجّرَ ظلمًا وبهتانًا باسم الدّين؟
والرحمة، أولاً وآخرًا، هي الأخرى، أداة لبناء للإنسان والمجتمع والدولة على السواء من خلال روحية التفاهم العقلانيّ والحوار المتجدّد البعيد عن أية تأثيرات هرطوقية ومغالطات تطرّفية وتفسيرات متخلّفة عن الواقع والعصر في شدّة تشدّدها وبُعدها عن متطلبات الوعي والفكر والإدراك المعاصر والمتجدّد مع الزمان والمكان والرؤية. كما أنَّ مفردة الرحمة عظيمة في مدلولاتها، وهي الموازية لوصية المحبة التي أوصى بها المسيح أتباعَه والعالم كي يحفظوها ويطبقوها مثل السلسلة في أعناقهم، حتى في محبة الأعداء!
والرحمة، كما الصدقة والمحبة، سمات وفضائل متلازمة للبشر من أجل بنيان مجتمع صالحٍ متفاهم متعايشٍ تُطبق فيه كلّ معايير الإنسانية التي أرادها الله الخالق حينما خلق البشر متساوين، ذكرًا وأنثى، لينميا ويكثرا ويملآ الأرض ويأكلا مع ذراريهم من خيراتها. ومن ثمّ، فخيراتُ الأرض والأوطان، ليست ملكَ أحد ولا طابو مسجلّة بأسماء مَن يدّعون استملاكَها من دون وجه حق بشتى الوسائل والسبل.
والمؤمن الحقيقي، أيًا كان، لابدّ من وضع نصب عينيه التماهي مع هذه السمات والفضائل وغيرها مما يمكن أن يأتي من تفرّعاتها الطيبة، والتي يدعو لها الأبرار والأئمة الصالحون والطيبون من أبناء الله لدى عموم الأديان والملل والنحل. وهذه نفسُها، هي التي تقوده إلى الخلوة مع النفس والصلاة بالحوار مع الخالق، باعتبار هذه الأخيرة هي الزوادة الضرورية التي ترافقه عندما يبحث عن راحة الفكر والعقل والضمير في حضرة هذا الخالق الجبار، وعن الأمان الذي ينشدُه حينما يقصد الواحدُ بيوتَ الله، أكثر من أي مكان آخر. وهذه طبيعة الشرقيين، ونحن منهم في العراق، حيث نحنُّ إلى هذه الدور، كنائسَ ومساجدَ وجوامع وحسينيات ومعابد لمختلف الأديان والنحل، لنلقي بهمومنا وأثقالِنا وأتعابِنا عند أقدام الله الخالق، القادر على كلّ شيء، مالك الدنيا وما فيها وعليها، وفي حضرة الأنبياء والأئمة والقدّيسين، ونطلبَ الصفح والغفران من الله الطيّب خالق هذا الكون العجيب، ونسألُه الرحمة ببني البشر والسلام في الأرض التي دنّسها الإرهاب وأشكال الفساد بسبب نزوات وخطايا الحكّام الأثمة الذين يزوّرون مشيئته الأبوية ويلوون أعناق الأبرياء كثيرًا باسم الدّين والمذهب والطائفة. حتّى السياسيّون عندما تَسْودُّ الدنيا في وجوههم ويفقدون بوصلة الراحة الفكرية والنفسية المتزنة، نراهم يتراكضون نحو مصادر الدّين ومراجعه، تودّدًا وطلبًا لما يرضي أنفسَهم وقناعاتهم. فبالرغم من إيغالهم في الشرّ والفساد وهموم الدنيا الكثيرة، من سلطة زائلة وجاه باطل ومالٍ آيل، يتوقون لأن يكونوا أفضلَ. ولكنَّ النفسَ البشرية أمّارةٌ بالسوء! فمّن تربّى على الشرّ وفتاتِه وترّهاتِه، لا يمكن أن يعدلَ به الزمن. فهيهاتِ أن ينال أمثال هذه الفئات الاستغلاليّة، خاوية الضمير والأخلاق، راحةَ البال والنفس تكليلاً لفعالهم الخبيثة ومحاولاتهم الماكرة في كسب ودّ المراجع الصادقة الأمينة على الدّين والأرض والبلاد والعباد! فقد تكرّر انزعاجُ هذه المراجع ممّا جرى ويجري، بل بحّ صوتُها من النصح والإشارة والتأنيب مرارًا وتكرارًا! 
    ما سبق أعلاه، وغيرُه ممّا لا يمكن المرورُ عليه عجالةً، خيرُ إشارة على عدم إمكانية فصل المجتمع المتديّن تقليديًا، مثل حالة العراق، عن شؤون السياسة والفكر والاقتصاد. فهو مختبر حقيقيٌّ ومثاليٌّ للأديان والطوائف والملل والنحل بمجمل جماعاتِه. بل إنّ الوطن بتنوّعه الخلاّق هذا، دينيًا وإتنيًا، لهو خيرُ فأل لحياة أفضل، وأعظمُ غنى بقيمِه العليا الكثيرة التي ترتبط أواصرُها بجميع أبنائِه الطيبين. ففي هذه الأرض، التحمت عناصر التاريخ والجغرافية والدّين وترابطت معًا لتشكل فسيفساءً قلّ نظيرُها في دول ومجتمعات أخرى. وممّا زادها عنفوانًا وجمالاً وأصالة في الحضارة والتراث والتنوّع، بل وفي الفكر والرؤى التي أخذت في النضوج، هو استعداد نسيجها الاجتماعي للتآلف والعيش المشترك بعيدًا عن متاهات الساسة الجهلاء قاصري النظر، وأصحاب العقول المريضة، والمرائين من مرتادي "المساجد الديمقراطية" و"دور العبادة المزركشة" لأجل التباهي والتظاهر وممارسة طقوس مظهرية لا تغني ولا تسمّن، أو في تمرير خرزات السبح أينما حلّوا وارتحلوا بكلّ أنواعها وألوانها.
فيما تُؤشّرُ على المسيحي بالذات، سماتٌ متميزة ومتفرّدة في العيش والأداء والعمل والسلوك، أنا لا أدّعي توريدها، إنّما نستقيها جميعًا من عمق الحياة ومن خبرتها اليومية المعاشة. أسلوب المسيحي في الحياة، بل برنامجُه اليومي، يستقيه من وحي تعليمات معلّمه "المسيح"، أي في ضوء وحي الإنجيل وتعاليمه التسامحية التي تضع سمات "المحبة، والصفح، والعفو، والتواضع والعبادة الصادقة" ضمن الموجبات. كما أنّ البشارة الإنجيلية توصي بوحدة الجماعة ضمن المجتمع الواحد الذي تتواجد فيه. بمعنى أنّ الحياة، لا تقتصر على ما يؤمن ويعتقد به المسيحي ضمن كنيسته وجماعته وملّته، بل تشمل حياتَه في وسط المجتمع الشامل، أي أنها تطال الوضع السياسيّ والاقتصادي والعلمي والفكري على السواء. وقد اتضحت الصورة الأخيرة في امتحان المسيح من قبل حاسديه والمغرضين من قوم الهيرودسيين والفريسيّين عندما أفحَمَهُم بالقول" أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ" (انجيل مرقس 12:12-17). وبهذا الكلام أسكتهم ولم تنجح حيلُهم. وهذه الحادثة، تبشّر بدعوة رصينة وجادّة لاحترام الواجبات الوطنية التي تُعدّ من المقدَّسات في احترام السلطات المدنية، على ألاّ تتناقض وتتخالف مع واجبات الخضوع للّه. وهذا ما نقرأه في تعاليم إسلامية رصينة أيضًا، "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وهذا من الدلائل على ضرورة رفض الفساد ومحاسبة الفاسدين ومَن يعيثون في الأرض استخفافًا واستهتارًا بحقوق العباد. والمسيحي، شانُه شأن أصحاب الأفكار النيّرة من المعتدلين والجادّين في رصد ما يغيض الخالق ويخرج عن الصواب في هداية البشرية ورفاهة المجتمعات وفي ضمان مصالحها في إطار الحق والعدل، وفقًا لما توصي به الأديان المعروفة منذ القدم في هذه الأرض الطيبة. وهذه الآصرة المشتركة بين الشعوب والمجتمعات على أرض الرافدين الخالدين، لابدّ لها من التغيير والتجديد والتفاعل في تفاصيل أحكام أديانها وقوانينها ونظمها طبقا لما تشهده البشرية في هذا العصر من أنواع التطور في الفكر والإدراك ونوع الثقافة، وبالاستناد إلى طبيعة ما مرّت به حضاراتها وتشابكًها مع المعنويات والمستجدّات والماديات، ومع مشاكل هذه جميعًا وتعقيداتها.
أخيرًا، وليسَ آخرًا، فالأديان التي عرفتها المنطقة وبلاد الرافدين، تنجلي تجلياتُها في مسألة مهمة ذات قيمة كبرى، وهي إسعاد البشرية في العيش الكريم، كما في تفويض الحكم وفي أدوات التقنين، عبر احترام جميع المواطنين وفق معيارية المواطنية وما تمليه هذه من واجبات الولاء للوطن والأرض، بشرًا وحجرًا، حتى لو كان فيه اختلافٌ في الفكر واللون والعرق والعقيدة عن طبيعة الحاكم أو الأغلبية العامّة الحاكمة. وهنا يأتي دور العقلاء في وضع موازين وضوابط وطنية تعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه، من دون المساس بأوجه الاختلاف المقصودة بين أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد. فالمسيحية ترى في عقيدتها وفي تعاليمها لأتباعها أنها بشرى الفرح للجميع، الذين يستحقون صفة الأخوة مع بعضهم والبنوّة لله الخالق "أنتم جميعُكم إخوة" (انجيل متى 23:8)، يقول المسيح مخاطبًا الجموع والتلاميذ الذين كانوا احتشدوا لسماع كلامه. وبهذا الحديث، يكون المسيح قد شملَ الناسَ، وكلَّ العالم بهذه البشرى الطيبة، في أن يكونوا "جماعة واحدة"، كلّ حسب إيمانه وقناعته من دون استعلاءٍ أو تكبّر أو سموّ الواحد على الآخر، إلاّ بطيب الأعمال الصالحة ونقاوة القلوب وطهارة النيات. فالله هو الذي يحاسب البشر خليقته، ولمْ يخوّل قط أحدًا بذلك، لأنه ليسَ فيه قصورٌ ولا نقصٌ كي يفعلَ هذا. فهو قد أتى بتعاليمه خالية من ثنائية التناقض في المغزى والهدف، "أتيتُ لكي تكون الحياة للناس وبوفرة" (إنجيل يوحنا 10:10)، من دون الدخول في تحديدات للهدف في الحياة.
وفي ضوء هذا الكلام الواضح، يتطلّبَ من المراجع المسيحية أن يكون لها موقفُها في شؤون الحياة الكثيرة ومنها السياسية أيضًا. فما جرى منذ 2003، وما بعد التهجير في 2014 بسبب استقدام داعش وفكره الإرهابي، وما يحصل اليوم على الساحة السياسية العراقية، لم يكن ليتحمّل السكوت، انطلاقًا من كون الرعايا من مسؤولية الرؤساء والحكّام. ولا يمكن استثناء الرئاسات المسيحية من هذه المسؤولية الكبيرة. فقد تحمّلت مراجعها مسؤولية الدفاع عن كلّ أشكال المظلومية التي طالت مواطنين عراقيين، وليسَ ما ضربَ ابناءَها وأتباعَها في الأعماق، فحسب. كما أنّ تهجير أكثر من 120 ألف مواطن عراقيّ مسيحيّ من مناطق سكناهم التاريخية في سهل نينوى في 2014، لم يكن بالأمر الهيّن، حينما لم تتمكن السلطات العراقية من معالجة الحاجة والعوز والفاقة والمشاكل المترتبة على ذلك، لأسباب عديدة، لا نودّ التطرّق إلى مجملها. بل كان دور الرعاة المسيحيين ورؤساء الكنائس بمختلف طوائفهم، على قدرٍ عالٍ من المسؤولية، بالرغم ممّا شابَ بعض فقرات المساعدات والبرامج من إشكاليات وشجون ومخالفات شخصية من بعض ضعاف النفوس.
واليوم، المصيبةُ ماتزال قائمة ونزيفُ الهجرة ما يزال ساخنًا والأمل بالعودة إلى الوطن والبلدة والقرية والبيت ما يزال يشوبه الضبابية، وسط توقعات كبيرة وصريحة باحتمال نشوب صراعاتٍ ما بعد التحرير، بين الإخوة الأعداء هواة السلطة والجاه والمال، بين طرفين متصارعين على الأرض والبشر، بين حكومة المركز الضعيفة المنهكة بهواجسها ومشاكلها وفسادها، وحكومة الإقليم التي تنزع لفرض سطوتها وأجندة أحزابها بشتى السبل والطرق والمحاولات، خارجًا عن المألوف. نأمل أن تأخذ المراجع المسيحية دورها في التصدّي لأية محاولات تسعى لاستغلال المواقف، أيًا كانت الجهة صاحبة المسعى. فقد أن أوان النطق بضرورة المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية والسعي لها بكلّ الوسائل المتاحة، والتأكيد على مبدأ المساواة في المواطنية، حقوقًا وواجبات ومصيرًا، كونها الضمانة الحقيقية لبناء الأوطان وتعزيز نسيج المجتمعات وترسيخ السلم الأهلي فيما بينها، بعيدًا عن عورات الطائفية التي نخرت المجتمع العراقي بتشجيع من الغزاة قساة الرقاب، وبوتيرة لا تعرف الشبع والنهم من جانب ضعاف النفوس من سياسيّينا المراهقين والموغلين في الفساد وفي نهب المال العامّ.
 وإلى ذلك اليوم الذي تتطهّر فيه أرض العراق وتتحرّر المدن والقرى والبلدات المسلوبة من سلطة داعش الإرهابي المتطرّف، نقول: نعم لتشكيل مرجعية سياسية مسيحية وطنية عراقية مستقلّة تتولى إلى جانب الرئاسات المسيحية الروحية ومثيلاتها في الأديان الأخرى، متابعة حقوق أتباع جماعاتهم والمساهمة الفاعلة في تعزيز المصالحة الوطنية في عموم البلاد ومن دون استثناء إلاّ فيمن تلوثت أياديهم بدماء الأبرياء، وترسيخ القيم الإنسانية والوطنية التي تبني الأوطان وتُصلح الأرض وتعمّر المدن وتنمّي الثروات وتمدّ الجسور مع أبناء الوطن كافة. فلأجل الوصول إلى هدف إعادة بناء الإنسان العراقي من جديد بموجب القيم التي عهدها نسيجُه الاجتماعي، ومن أجل بناء الدولة العراقية على أساسٍ مؤسساتيّ صحيح، لابدّ من الإقرار بإقامة دولة مدنية ديمقراطية يسودها دستور مدنيّ وطنيّ غير منحاز، يحفظ حقوق الجميع في القوانين التي تسنها سلطة تشريعية رصينة غير متحزبة أو طائفية، تفكّر بعقلانية ووفق مبادئ عابرة لهوس الطائفية والحزبية والعرقية المعمول به لغاية الساعة. وهذا هو السبيل الأسلم للحفاظ على التعددية والتنوع عندما تُحفظ كرامة المواطن من أيّ دين أو طائفة أو ملّة أو عرقٍ، تحقيقًا لميثاق الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وإعلاءً للسمة الإنسانية العليا.




255
أوربا: تحديات وشكوك

بغداد، في 17 تموز 2016
لويس إقليمس


تقف القارة الأوربية اليوم أمام تحديات كبيرة، زادت من شكوكها في مواجهتها مجتمعةً، بعد أن تنوعت وتشعبت وأخذت مسارًا ممنهجًا بدقة وعناية. فالهجمة الشرسة التي تضربها في عقر دارها، في المجال الأمنيّ قبل كلّ شيء، وآخرها في نيس الفرنسية ليلة الاحتفال بالعيد الوطني لفرنسا، قد دقّت في دوائرها المتطورة نواقيس الخطر. فهي اليوم في موقف لا يُحسد عليه، بالرغم من التعاطف الدولي الذي أحاطَ بها، حتى من الدول والزعامات التي تخرّجت منها مدارس الإرهاب، تمويلاً وتدريبًا وعقيدة. فعندما يتمكن السارق من دخول بيت آمن ويعبث بممتلكات صاحب الدار ويسرق ويغتصب ويختفي ويقتل من دون رقيب ولا حسيب، فهذه قمّة الضعف وبداية الانحدار نحو الهاوية.
في تفكير الغرب المتقدّم تقنيًا وعلميا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا كما نشهد، والراسخ في الطرف الآخر على مبادئ إنسانية وأخلاقية تسامحية تربى عليها منذ قرون بفعل التربية المسيحية التقليدية، هناك نوع من اللامبالاة في الأحداث الدراماتيكية التي تحلّ على شعوبه بين فترة وأخرى. أو لنقل بعبارة أكثر دقة، هناك تقليلٌ من أهمية ما يحصل مرارًا وتكرارًا، وكذا من وطأة ما يجري بفعل الاختراقات الأمنية، بالرغم من جسامة الفعل والحصيلة والهدف وما يترتب على ذلك من هزّة إعلامية تُجنّد لها مؤسسات وتُعقد مؤتمرات واجتماعات وتتوالى لقاءات لكشف الدليل والوقوف على المستور، لنأتي بالتالي إلى تبرير الأفعال البربرية للعنف الضارب في عقر الدار، وكأنَّ شيئًا لم يكن. فالزعاماتُ ومعها دوائرُ دولهم الاستخباراتية، تنفعل وتنشط وتغضبُ حينًا، ثمّ تهدأ مع هدوء العاصفة، بل قد تتعاطف مع الجاني ومع مَن يقف وراءَه لحدّ وصفه بالمضطرب نفسيًا، كما اعتدنا سماعَه. ربما، تلكم هي من بركات الخالق الذي منح البشر نعمة النسيان والعفو عمّا سلف!
نعمت أوربا عمومًا بشيء من الاستقرار النسبي لسنوات طوال منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، حيث تعمّرت بعد دمار رهيب، وسادها الرفاه والسعادة بفعل دفع عجلتها الاقتصادية وتطورّ إنتاجها وإصدار قوانين تمتثل لدساتير تأخذ في نظرها القيم الإنسانية العليا في أقصى تجلياتها. وهذا ما أنعم عليها بالاستقرار مذ ذاك لغاية السنوات الأخيرة التي ارتفعت فيها أعمال الإرهاب بفعل الأفكار المتطرفة والغلوّ الدينيّ الذي أنتجته دول شرق أوسطية منغلقة على ذاتها، لا تحتكم إلى قيمة الإنسان، بل إلى سُننٍ ولّى زمانُها وإلى نقلٍ مشكوك في صحة ورودها. ومع بروز تنظيمات متطرفة، كان الغربُ نفسُه مسؤولاً عن إخراجها إلى مواقع العمل الحقليّ وإلى تزايدها وتنوعها بفعل سياساته الدولية غير الحكيمة في معالجة الثغرات والمشاكل. وبذلك، تكون أوربا، بسبب عدم استقلاليتها عن صاحبة القطب الواحد أميركا، قد دخلت في حالة إنذار وطوارئ يحتّم عليها اتخاذ المزيد من الحذر ووسائل الدفاع لمواجهة أدوات التطرّف والغلوّ التي توغلت في عقر دارها، بمعزلٍ عن مصالح أميركا القومية الخاصة التي جلبت وماتزال تجلب الويلات للأمم والشعوب والدول بسبب فرض جبروتها وقوانينها ورؤاها حول مصير العالم وشكل تقويمه وتركيبته.
 لقد أشرت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، بداية الانحدار في سلّم الاستقرار الغربيّ في عمومه. وحينها دخلت أوربا مثل أمريكا، في غرفة عمليات بالسهر الاضطراري على مصالحها وكياناتها وحكوماتها ومؤسساتها ومواطنيها على السواء. لكنّها لم تستطع قطّ، إحكام قبضتها على مقاليد الأمور، بالرغم من اتساع رقعة المراقبة عندها وتنوّع أدواتها في السيطرة وزيادة ملاكها الاستخباراتي. والسبب واضح لا غبارَ عليه، وهو تطوّر الأدوات التي يستخدمها العدوّ اللدود الجديد، الإرهاب الدوليّ المتنامي هو الآخر، ردًّا على سياسات غير مقبولة أو نتيجة أحقاد دفينة لما اقترفه الغرب إزاء دول سبق له استعمارها واستغلالها ونهب مواردها وسلب حرياتها وحقوقها لسنوات. فالعالم اليوم محاط بتحديات كبيرة وكثيرة، وعلى رأسها الشاغل الأمنيّ المؤرّق، إلى جانب تنامي الصراعات وانتشار الإرهاب وأدواته وتطوّر تكتيكاته ووسائله. أضف إلى ذلك، ما خلقته التدخلات العسكرية في مناطق صراع متعددة من العالم، ولاسيّما في منطقة الشرق الأوسط بحجةّ تغيير أنظمة وفرض سياسات تستجيب لمصالح الأسياد، وما أنتجته هذه السياسة من تشريد شعوب وقلع أخرى من جذورها في مناطقها التاريخية بحيث خلقت أزمات جديدة تمثلت بقواقل اللاجئين والمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، ما ساهم في خلق أزمات جانبية إنسانية واقتصادية واجتماعية وديمغرافية.
كان الغرب يعتقد، أنه باستقراره في أعقاب الحرب الكونية الأولى وتمتعه بسلام نسبيّ، سيقدّم نموذجًا للحرية والديمقراطية على طبق من ذهب لغيره من الشعوب المبتلاة بالانغلاق على الذات وبتخلّف أنظمتها الحاكمة. ولكنّ المراكب أبحرت بغير تلك الرغبة، عندما انقلب عليها روادُها المنافسون من داخل مجموعتها وسار كلّ فريق باتجاه تحقيق مصالحه القومية على حساب غيره. فتقاطع المصالح قد خلق نوعًا من الفوضى وعدم الانسجام بين المتنافسين، حتى على مستوى الغرب الأوربي الذي لمْ يفلح باتباع سياسة مستقلّة عن صاحبة القطب الواحد في رسم السياسة الدولية. وهكذا مضى كلّ فريق في توجهاته القومية والإقليمية، غير مكترث لمصالح جيرانه، ما أشعل حرارة المحاور وأثقل كاهلَ الباحثين عن مريدين وأصدقاء لصالح صفوفه.
 وضمن ذات السياسة، برزت دول عُرفت بانتهازيتها للأوضاع والأحداث، كي تخطّ لها طريقًا فريدًا على حساب جيرانها. فقد دافعت فرنسا مثلاً، عن سياسة بلدها في تطبيق مبدأ العلمانية حتى الثمالة متعرّضة لتحديات ومشاكل في خطّها المستميت من دون أن تعي حجم تلك المخاطر التي قد تواجهها نتيجة تمهلها وتساهلها والتخفيف من وطأة الدخلاء في صفوفها والتقليل من مخاطرهم ومن نتائجهم الكارثية بسبب تصرفات الكثير منهم الغريبة والعدوانية وغير قابلة الاندماجية في مجتمعات أوربية منفتحة تختلف عقلياتُها وذهنياتُها وعاداتُها وتراثُها ومنهجية حياتها المدنية اليومية. ومثلها ألمانيا وبلجيكا وهولندا واليونان والدانمارك والسويد والنرويج وكندا وأستراليا وحتى أمريكا، التي ابتليت هي الأخرى بذات النيران وحصول أعمال عنف غير مبررة على أراضيها. في حين سارت بريطانيا ضمن سياستها المعروفة عنها بالانتهازية وسط الشعوب والدول. فيما غيرُها وقفت موقف المتفرّج أو المراقب السلبيّ من دون تبيان وجهة نظرها حيال أحداث الساعة أو تجاه أسباب ونتائج ما يحصل حواليها.
هذه المواقف قد خلقت شكوكًا لدى البعض من دول الغرب الأوربي. وإني أعتقد أنّ مجرّد تكوين شك حيال وسيلة أو قرار أو نيّة معينة، يُعدّ أمرًا إيجابيًا، ويقتضي البحث في تفاصيله ونتائجه وما ينبغي اتخاذه من مواقف وإجراءات، لاسيّما حين يكون الهدف السعي لتقديم الأفضل وإيجاد حلول إيجابية تخدم المجتمعات والشعوب والأمم. فيما يبقى الشك ضمن قيمه السلبية عندما لا يجد غير التشاؤم طريقًا للحكم على الأحداث وقطع السبل أمام البحث عن حلول للمشاكل. لكنْ، يبقى العمل ضمن قناعات صلبة ترى في التفكير الاستراتيجي لمعالجة الأمور وفي اتخاذ سياسات بعيدة الرؤية وواسعة المدى في النظر إلى الأشياء والأحداث، هي الحلّ الأمثل الذي يمكن أن يقرّب المسافات بين المختلفين باتجاه خلق شكل الفرد الأوربي أي المواطن الذي يجد في شخصه كلّ مقوّمات الإنسان من حيث شعوره بالتمتع بكامل الحقوق. ومن هذه الأخيرة، الحرص على رعايته من الناحية الأمنية وتوجيهه على حبّ الأرض التي استضافته واحترام قوانينها والامتثال لكل المقوّمات التي تمّ توظيفُها لصالح أنسنتِه وراحته وكرامته بعد أن لاقى المرّ والحنظل في بلده على أيدي جلاّديه من حكّام الصدفة والطغيان ودهاقنة الفساد وسرقة المال العام. فهذه حالُ الدول الشرق أوسطية جميعًا المبتلاة بديدن دعاة الإسلام الانتهازيّ المنحرف الذي أخلاه قادتُه وأفرغه شيوخ القتل والتكفير، من نفحات الإيمان النقيّ والتسامح السماوي، ولاسيّما الذين اتخذوا صبغة الإسلام السياسيّ مأربًا وسبيلاً لبلوغ المطامع والإيغال في إفساد البلاد والعباد بشتى الطرق والوسائل.
وإذا كانت عدد من دول أوربا، قد لجأت بعد 2007 إلى بعض الإجراءات التي من شأنها، بحسب خبراء الأمن فيها، الحدّ من عمليات إرهابية وأعمال تحريضية عبر تفعيل قانون إصدار مذكرات اعتقال سابق صادر في 2002، بحق مشاغبين ومشبوهين ومطلوبين، إلاّ أنَّ مسألة متابعة مصادر التمويل لم تكن بتلك القوة والنضج والجدّية في متابعة ملف الكثير من عمليات توظيف الأموال وتبييضها بطرق غير شرعية وغير قانونية. وربما الأسباب كثيرة لا يحق لنا الولوج في أعماقها لحساسية المعلومات والمواقف والوقائع. وتأمل هذه الدول عبر برنامج مراقبة مصادر التمويل الذي تمّ التوقيع عليه مع الولايات المتحدة الأمريكية في 2010 والمعروف ببرنامج ملاحقة تمويل الإرهاب (TFTP)، الحدّ من تدفق رؤوس الأموال غير النظيفة إلى جهات مشبوهة بغاية العنف والتطهير العرقي والديني وتصفية الحسابات، والتي تدخل إلى أراضيها بحجج الاستثمار والدعم الإنساني وعبر منظمات وجمعيات تُستخدم واجهةً لمثل هذه الأعمال غير السليمة والمشبوهة.
    كما أنّه، وبالرغم من التعديلات التي أُجريت على نظام تأشيرات الشنغن في مراقبة الحدود بين دول الغرب الأوربي المنضوية تحت لوائه عبر سرعة تسويق وتسريع استلام وتسليم المعطيات فيما بينها، إلاّ أنّ واقع ا لحال يشير إلى تقاعس النظام وعدم فاعليته في الصدّ لمكامن الخلل وتأشير المشتبه بهم والسرعة في اتخاذ الإجراءات الضرورية لمعالجة الموقف. ومن أسباب عدم تطبيقه بصرامة وفاعلية، التراخي وتبريرات حماية حقوق الإنسان والديمقراطية، وما إلى ذلك من مبررات لا تنمّ عن حرص قوميّ منطقيّ ومدرك لمسيرة الأحداث وسخونتها ممّا يحصل على أراضي دول الاتحاد. واقتضى ذلك تقديم مقترح جديد بخصوصه في نهاية العام 2015. كما تضمن جدول أعمال المجموعة الأوربية حول الأمن للسنوات 2016-2020، والمقدمة في اجتماعاتها الدورية في 28 من نيسان 2015، وضع مهمة معالجة الإرهاب والأصولية والتعصّب ضمن الأولويات في استراتيجياتها، إلى جانب تشجيع وتشديد التعاون في موضوعة ما يُسمى باتفاقية "فرونتكس  Frontex-"، أي الوكالة الأوربية للإدارة والتعاون العملياتي على الحدود الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي، مع فتح الأبواب للتشاور وتبادل المعلومات والمعطيات والمستجدّات مع أطراف أخرى ذات العلاقة.
إزاء كلّ هذه التحديات، تبرز شكوك في مدى وجود إرادة حقيقية في دول الاتحاد الأوربي لتحقيق أمنها والتفاعل مع الأحداث المتسارعة بجدّية أكبر وفاعلية تضمن حدودها وحضارتَها وقيمَها الإنسانية العليا التي تقدّس حرية الفرد وتصون حقوقه وتلبي حاجاته بغض النظر عن دينه ولونه وقوميته وطائفته ورؤيته وفكره وانتمائه. وهذا يتطلب الردّ بقوّة وبسرعة عبر شتى الوسائل الإعلامية والدعائية المتيسرة إزاء تلك التي توظفها التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها داعش، بإثارة النعرة العنفية المتشدّدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت التي فاقت التصورات وأفلحت في توظيفها وترويج بضاعتها الفاسدة وفي استخدامها وكسب التأييد لها، ماديًا وبشريًا ومعنويًا. إلى جانب هذا النشاط الحيوي، لا بدّ من التأسيس لمركز أو جهة تتولى جدّيًا الترتيب للوصل إلى مستوى متقدّم من حماية شبكات المعلومات ومراقبة مستخدميها بهدف الوصول إلى مرحة نهائية في استئصال شأفة التعصّب والتطرّف من أي شكلٍ ونمطٍ كان، وتحت أيّ مسمّى.
من هنا، مطلوب من دول الاتحاد الأوربي، التعاضد والتكاتف إزاء الهجمة الشرسة التي تتعرّض لها أراضيها بهدف تخريب مكتسباتها الإنسانية أولاً وإعاقة تمدنها وتقدّمها ووضع العراقيل أمام صحوة جديدة قادمة تعطي دفقًا من التضامن مع تراثها وتاريخها الديني والحضاري معًا. فالسياسة وحدها، لا تُصلح المكسور، لاسيّما عندما يعترضها سوء الاقتصاد ومشاكلُه وما يحيط به من جوانب كثيرة. وإنّ ايّ تراجع في الصف الموحد لشعوبها، يعني فتح جرح في مقدراتها مجتمعةً. فهي كالجسم المتكامل، إن مرض عضوٌ فيه أو أُعيق، تنادت له سائر الأعضاء، وإلاّ فإنه سيجد نفسَه في طريقه إلى مقبرة الموت المحتّم، إن عاجلاً أم آجلاً.
 لذا، لا تتوارى الشكوك وتختفي، إلاّ عندما يفشل الإرهاب العالمي والعدوّ الأكبر المتربص بالمكتسبات القومية والوطنية المتأصلة لعموم الغرب الأوربي، في إحداثه ثغرات في صفوف هذا الأخير، إزاء حالة بقائه متضامنًا موحدًا وليس منفردًا. فمثل هذه التحديات والهجمات والصولات المتكررة، على قوتها وخطورتها، إلاّ أنها تصطدم بإرادة موحدة لدول الاتحاد، وهي القادرة على تحقيق الاستقرار والسلم ودفع عجلة التطوّر نحو الأمام. وهذا ما يؤشر تنادي دول الاتحاد لكفالة الأعضاء الذين تعرضوا لأزمات شديدة، سياسية واقتصادية ومالية. لكنّ إرادة الاتحاد ككل، وقفت إلى جانب هذه الدول في محنها وأزماتها، كتلك الخانقة التي تعرّضت لها اليونان، وقبلها مع البرتغال وإسبانيا وآخرين.
وفي هذه وتلك، العقل السياسي الراجح هو الذي ينبغي له أن يتحكّم في دفة الأحداث، من خلال وضع حدود صارمة لأيّ خرق أمنيّ أو مجتمعيّ أو سياسيّ غير محمود النتائج. إلى جانب، اتخاذ ما يلزم من حيطة وحذر ومن إجراءات رادعة واحترازية ضدّ أيّ منهج تكفيريّ طارئ أو منتظَر قابل التحسّس به قبل وقوعه، من شأنه المساس بحقوق وحرية الغير المختلف، دولةً ومجتمعاتٍ وأديانًا وأفرادًا.


256

إصلاح اقتصادي في ظل سيادة القانون

لويس إقليمس
بغداد، في 4 تموز 2016

كان العراق وما زال مصنعًا للكفاءات الوطنية وأصحاب العقول المستنيرة في كلّ الميادين، برفده والعالم أجمع، بخبرات يقلّ نظيرُها في بلدان المنطقة ولدى شعوبٍ أخرى فيها. ربّما في جزء من الأسباب، يعود هذا أحيانًا إلى طبيعة العراقيين الجادّة في التفاعل مع الأحداث والتناغم مع مختلف العلوم والفعاليات والظروف ومع كلّ مستجدٍّ في الحياة. فالذكاء والخبرة والغيرة والعقل والعمل وطلب العلم والجدّ في اٌلإبداع، كلّها من ضمن خصائصه، إلى جانب سلبيات لا يخلو منها بطبيعة الحال، ومنها الازدواجية في تركيبة شخصيته. من هنا كان التكالبُ على كفاءاتِ أبنائِه، سحابةَ السنين الغوابر من تاريخه الحديث، من أجل إفراغِه منها وجعلِه قريةً بائسة أو ضيعة موحشة بلا طعمٍ ولا رائحة، وفي حاجة دائمة لغيرِه. من هنا، وضمن فورة الشعب والقوى المدنية والنخبة المستنيرة المنادية بالإصلاح، وتنادي رأس الحكومة انسياقًا عفويًا وتجاوبًا مهزوزًا وراء هذه المطالبة الحثيثة، يقتضي كلّ هذا وجود أرضية صلبة لسيادة القانون الذي بدونه لامجالَ لتطبيق أية إصلاحات ومحاسبة الفاسدين ومَن أساء استخدام السلطة وهدرَ المالَ العام. وهذا بدوره لن يكون من السهل تطبيقُه في حالة بقاء القضاء العراقي خاضعًا لأطوار الساسة وموجَهًا وفقًا لمصالحهم الحزبية والفئوية والطائفية، كما هو عليه اليوم من دون رتوش.
وزارة الصناعة العراقية، تسعى اليوم جاهدة لتفعيل مؤسساتها بما ينسجم وخدمة الأهداف الاقتصادية للبلاد في ظلّ الظروف الصعبة القائمة حاليًا. ولا بأس ما حققته لغاية الساعة من إعادة تفعيل عمل شركاتها عبر دمج بعضها وإحالة البعض الآخر إلى التقاعد مجبرة. كما يُسجل لها تفعيل عمل شركات صناعة الأسلحة الخفيفة والمتوسطة انطلاقًا ممّا تبقى من مخزون وخبرات شركات التصنيع العسكري سابقًا. وهذا جهدٌ وطنيٌ مضاف إلى نشاطها في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة القائمة حاليًا.
 من جانبها، تسعى منظمات واتحادات وجمعيات تعنى بالشأن الاقتصادي، تجمعُهم أهداف مشتركة، في الأقلّ هذا ما خبرتُه وسمعتُه، تسعى لإعادة تدوير دولاب الحياة الاقتصادية المنهك للبلد من خلال مقترحات لا تخلو من المنطق والواقع والرؤية والجدوى. بل وأكثر من ذلك، اتضح أن جهودها لا تخلو من نبض وطنيّ وعمق تجاريّ ندّي ومنافس وفاعل للسوق العراقية، باعتبارها شريكًا ضروريًا في بناء الاقتصاد، ويسير جنبًا إلى جنب مع جهد الدولة الموجَّه في معظمه في الآونة الأخيرة نحو مكافحة آفة الإرهاب المتمكّن منذ سنوات والمتنامي من دون حسيب ولا رقيب ولا حدود، لغاية الساعة.
جهود هذه الفعاليات المتواترة بين فترة وأخرى، وما تطرحه في لقاءاتها الاقتصادية من نقاشات وطروحات، كلها تعبّر عن رغبة صادقة في دعم جهود الحكومة الفاشلة والعاجزة عن تحقيق الإصلاحات المرتقبة والتي طال انتظارُها وبقيت طيّ التمنيات والتصريحات الفارغة التي لا تغني ولا تسمّن. فالأفكار المطروحة في هذه اللقاءات والمقترحات والأبحاث "لا تمثل ترفًا فكريًا بل تنشد حرصًا ورغبة في الاستفادة من تجارب دول أخرى"، كما أعرب عنه أحد خبراء الاقتصاد في إحداها. فالعراق الذي حضي بالديمقراطية، بحسب الخبير الباحث، قد خسر سيادة القانون ووسائل دعمه. من هنا يكون قد فقدَ أهمَّ مرتكز في حياة المواطن الذي استفزّته تصرفات الساسة وإيغالُهم في الفساد وفشلُهم في إدارة مؤسسات الدولة التي أُفرغت من قوامها. فوقعت البلاد والعباد في متاهات السلطة وجبروت الأحزاب والكتل السياسية التي هيمنت على المشهد السياسيّ في ظلّ غياب سيادة القانون الذي من دونه لا يمكن تحقيق أية إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نهضوية وأية وثبات مرتقبة للتطور والتقدم.
في اللقاء الحواري الأخير للمجلس الاقتصادي العراقي المنعقد قبل أيام في بغداد، واستضاف فيه مسؤولين في الدولة وفي الجهاز التشريعي والمصرفي، وحضرته نخبة متميزة من سيدات ورجال الأعمال، جرى التصارح حول ضرورة تفعيل جهود القطاع الخاص الذي ما يزال يتبع بيروقراطيًا مؤسسات الدولة وتوجهاتها، بالرغم من الأخطاء الفادحة لهذه الأخيرة في طريقة إدارتها للملف الاقتصادي، ما شابها من عورات وفساد وعجز وتراجع وفشل. فيما العقل الاقتصادي الصائب يشير بضرورة إدخال صيغٍ فعّالة في العملية الاقتصادية من أجل تنشيط اقتصاد السوق وانتشال البلد من هوّة الاقتصاد الريعي الذي يعتمد عليه في معظم تفاعلاته ومدخولاته وموارده.
جميلٌ أن يرى المجتمعون بضرورة قبول الدولة شراكة القطاع الخاص لإيجاد سبل دعم متزنة وفاعلة للاقتصاد المنهك وكيفية النهوض به عبر تعدد الموارد وإعادة الحياة لمصانع الدولة المتاحة وخصخصة غيرها من الخاسرة أو تلك التي يصعب إحياؤها بسبب التركة الثقيلة واستنزافها لموارد غير مجدية. وهذا من الأمور التي تبشّر بالتفاؤل وصولاً إلى الشراكة المنصفة المبتغاة بين القطاعين على السواء. ثم إن تشخيص الخبراء الاقتصاديين لمكامن الخلل في العملية الاقتصادية وعدم وجود استراتيجية واضحة للحكومات المتعاقبة لإدارة هذا الملف المهم، يشير إلى وعي بالأزمة التي تستحكم بالأوضاع الاقتصادية منذ السقوط في 2003 وضياع مليارات الدولارات في مشاريع وهمية وإجراءات اقتصادية تفتقر إلى أبسط سبل الخطط الرصينة للحفاظ على المال العام وعلى موارد الدولة التي اختفت بطرق شيطانية، ولا إمكانية لمعرفة طريقة الصرف والتبذير والاختفاء فيها.
بطبيعة الحال، مثل هذه الندوات المهمة، تجتذب أرباب العمل وروّاد الاقتصاد الطموحين. وهذا حق للجميع. فالبلاد وقعت بأيدي ذئاب جياع وساسة صدفة ينهشون موارد الدولة من دون أن يصاحب ذلك خطوات لرفع قدرات البلاد الخدمية وبناء البنى التحتية المهلهلة أصلاً وإصلاح المؤسسات التي انهارت بفعل الجهل في إدارة موارد الدولة واقتصادها وتخلّف القادمين الجدد في استيعاب مفهوم الدولة والأركان التي تقف عليها، والاقتصاد أحد أعصابها. ومن الأسباب الكامنة وراء هذا التخلّف عديدة، لعلَّ من أهمها الروح البيروقراطية والروتين وغياب الرؤية في تحديد الاستراتيجيات الاقتصادية والإبقاء على الفساد سيّدَ الكلمة من دون معالجة أدواته بحزم، إضافة إلى التخبط في اتخاذ القرارات والإجراءات التي تصون ثروة البلاد وتحافظ على الاحتياطي النقدي ثابتًا كإشارة لقوة اقتصاد الدولة، علاوةً على عدم أهلية بعض القائمين على إدارة المؤسسات الاقتصادية والمالية لحقب متعاقبة. فالخطوات ما تزال متعثرة، وهي بحاجة إلى تفعيل وجرأة في اتخاذ قرارات صائبة وفورية لتنشيط اقتصاد البلد وتفعيل دور هذا القطاع الخاص المهمّ لما له من تأثير وفاعلية في دفع عجلة الاقتصاد نحو الأمام، لكونه من الدعائم الأساسية في بناء قاعدة اقتصادية قوية ومتينة مبنية على الشراكة الحقيقية وليس الكاذبة مع قطاع الدولة.
 إنّ الأزمة الاقتصادية الراهنة، نتيجة لاعتماد البلد في أكثر من 92% من اقتصاده الريعيّ على عائدات النفط، فيما القطاعات الأخرى ولاسيّما الزراعية منها والتصنيعية ما تزال تراوح في مكانها إنْ لم تتراجع إلى حدودها الدنيا، قد جعلت اقتصادَه ضعيفًا لا يستطيع مجاراة نفقاته الكثيرة التي اعتادَ عليها. علاوةً على ما يعانيه من فساد ٍ مستشرٍ في معظم مؤسساته الحكومية التي بقيت أسيرة تأثيرات ساسة وزعماء كتل لتنفيذ منافع ضيقة الأفق لا ترقى إلى مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقهم لتمثيل الشعب. فهذا الأخير، يشعر اليوم أكثر من ايّ وقت آخر، بأنّ مَن ائتمنهم على ثروات البلاد الغزيرة ورعاية مصالحها عوضًا عنه، قد خاب فيهم ظنُّه وخذلوه في غفلة من الزمن، ولم يعد يطيق احتمال القادم الأسود المجهول!
في مثل هذه الندوات الحوارية عادة، يتفاعلَ الحضور مع الحيثيات والانتقادات والمقترحات بكلّ أريحية وسلاسة. ولكن تبقى الردود كما الأسئلة والاستفسارات في حدود التمنيات والرغبات أكثر من إعطاء أملٍ بإصلاحات فاعلة، بالرغم من حديث الشارع والسوق عن إصلاحات متعثرة، على الصعد السياسية والاقتصاديّة والماليّة على السواء. فالحديث يطول ويتكرّر عن شراكة اقتصادية مأمولة ومرهونة بتفاعل الدولة بكلّ قطاعاتها مع القطاع الخاصّ الذي لم تُتح له الفرصة لأخذ مكانته في السياسة الاقتصادية ووضع الاستراتيجيات التي تحتاجُها البلاد للنهوض بأداء السوق على أفضل وجه. فالدولة تعاني من تحديات كبيرة في إدارة مواردها وفي صيانة سيولتها النقدية التي تتربص بها أعين الطامعين ويسيل لها لعابُ الانتهازيين الأغراب، حتى في هذه المرحلة الحرجة من الأزمة المالية الخانقة التي تعاني منها مؤسساتُ البلاد المصرفية والنقدية.
ومن المنطق مثلاً، أنّ خروج العملة الصعبة من البلاد في مثل هذه المعركة المصيرية في محاربة داعش الإرهابي والمترافقة مع كساد أسعار النفط، المورد الأساس في اقتصاد البلد، تعني أيضًا تعريض مستقبل هذا الأخير لأزمات إضافية، حيث ضربت قطاعات أخرى وتوقفت تتمة ومتابعة مشاريع متلكئة عديدة بحجة نقص السيولة أو بغيرها. بل حصل أن تخوّف البعض في بدء الأزمة حينها، من احتمالية إشهار الدولة إفلاسَها. وهذا أسوأ الحظوظ! فبحسب البعض، هناك خللٌ واضح في سياسة التعامل مع مسألة الحفاظ على العملة الصعبة. فإنّ ما يُباع من عملة صعبة مثلاً من قبل البنك المركزي أحيانًا، يفوق واردات العراق من النفط خلال نفس الفترة. وهذه مفارقة غريبة، إن لم تكن خللًا واضحًا في ميزان الاقتصاد لأيّ بلد.
لقد أثار انتباهي مقترح لأحد الحاضرين في ندوات مماثلة سابقة، حين لام الجهات المختصة المعنية بالسماح باستمرار استيراد مواد وأجهزة ومكائن ومعدّات وسيارات، تعجّ بها أسواق العراق وتتخم بها المخازن والمعارض والساحات. والعقلاء يتساءلون: لِماذا لم تأخذ الدولة بمثل هذا المقترح وتحدّ من مثل هذه الاستيرادات فترة حتى انفراج الأزمة؟ إنّ السائل يعتقد، وفي سؤاله منطق ورؤية اقتصادية معقولة، أنه بمثل هذا الإجراء الاستثنائي، وكذلك بتحديد خروج العملة الصعبة عبر مزادات البنك المركزي العراقي اليومية من خلال مراقبة دقيقة لعمليات التحويل المالي والنقدي التي لم تخلو من تحايل وعمليات غسل الأموال، سوف يحافظ البلد على بقاء العملة الصعبة وعدم خروجها، لا سيّما وأنّ مثل هذه السلع موجودة وبكميات تكفي البلد، ليسَ لسنة واحدة فحسب، بل لسنوات قادمات، بحسب خبراء وعاملين في السوق. كما أنّ المناشئ التي أغرقت بها السوق العراقية، ليست رصينة ولا تقوى على الصمود أمام نظيراتها ذات المناشيء العالمية المعروفة لفترة طويلة.
عمومًا، يمكننا استشفاف بروز إجماع على دور القطاع الخاص في العملية الاقتصادية للبلاد، وكذلك في معالجة الأزمة الخانقة في هذه المرحلة الصعبة. فهذا القطاع الواسع والمهمّ مازال خارج أروقة صياغة شراكة حقيقية مرتقبة بينه وبين العام، في مجال المال والاقتصاد والمشاريع، إلاّ ما ندر وفي حدود ضيقة لغاية الساعة. كما يتطلع روّادُه إلى إصدار قوانين واتخاذ قرارات جريئة وواقعية تنظم العلاقة بين الدولة وبينه لكونه أموالًا معطلة خارج بناء العملية الاقتصادية. وهناك مَن يقدّر أن الكمّ النقديّ المتوفر والمعطّل في خزائن البيوت، قد يتجاوز 70% من الإصدار النقدي للبنك المركزي، رغم ما في هذه الممارسة الشخصية من مساوئ ومخاطر، تعرّض الأفراد ومساكنهم لاحتمالات السرقة والسطو والتهديد وما إلى ذلك. فالمواطن بعد أن فقد ثقته بمصداقية المؤسسات النقدية والإدارية والاقتصادية، ومثلُها بالسياسيين الفاشلين الذين يمسكون بمقدّرات الدولة من دون استراتيجيات وطنية وفي ظلّ غياب الخوف والحرص على الوطن وعلى حلال المواطن، قد اضطرَّ مُكرَهًا لحجب التعامل مع المؤسسات الاقتصادية الحكومية منها والخاصّة. فاللوبيات والمافيات عند بعض العاملين في الخاص والعام، هي ذاتُها التي تسيّر عجلة الاقتصاد، وهي ذاتُها التي تتحيّن الفرص لسرقة الوطن والمواطن بشتى الوسائل والحيل وعمليات التزوير.
لذا ربما يكون أحد أبرز اللوائح أو الاستراتيجيات التنموية المنتظرة، تقديم التسهيلات اللازمة لرجال الأعمال الوطنيين والحريصين على بناء قاعدة اقتصادية وطنية، إنتاجية وصناعية وتسويقية معًا، عبر تعديلات جوهرية في قانون الاستثمار الوطني الذي لم يرقى إلى التفعيل المطلوب، بالرغم من تعديلاته المتتالية. كما لابدّ من تفعيل عمل المصارف الحكومية والأهلية التي تمتلك قدرات وافية من السيل النقدي تجيزها في دفع عملية التنمية وتنشيط الاقتصاد عبر مشاريع مشتركة أو منفردة تزيد من قدرات العمليات الخدمية والإنتاجية. فالقطاع الخاص، بيده مفاتيح التنمية التي تمكنه عبر شراكته مع العام من تحقيق الجدوى الاقتصادية بفضل المقوّمات القائمة للنهوض باقتصاد البلاد بأفضل الطرق لو تسنّت لهم مثل هذه الفرصة. وبذلك، في حالة تنشيط قطاع المصارف وتعديل قانونه وكذلك قانون الاستثمار وتعديلاته وإدخال أدوات متطورة للنظام الضريبيّ، من شأنه خلق بيئة حقيقية لتوظيف التسهيلات الحقيقية المتزنة والرصينة من أجل بناء قاعدة اقتصادية قوية للبلد وتنشيط مساهمات رجال الأعمال في تنفيذ المشاريع حينما تعجز الدولة عن تحقيق ذلك. وهذا هو الوقت المناسب لمثل هذا التوظيف. فالموارد البشرية متوفرة، وكذا الثروات والموارد الاقتصادية كفيلة بتحقيق مثل هذا الطموح.
وفي ظلّ هذه المعادلة المترنّحة، برزت أفكار قوية لتأييد تنشيط عملية الإنتاج الوطنيّ التي تبقى عمادَ أي اقتصاد قويّ. فالناتج الوطني هو الذي يحمي الاقتصاد ويحرّك عجلتَه ويحافظ على بقاء العملة الصعبة داخل البلد ويعزّزها بزيادة الإنتاج وتطويره لغاية بلوغ الاكتفاء الذاتيّ. وهذا ما ينادي به أرباب العمل عمومًا، بضرورة تشجيعه ودعمه لحين العودة إلى طبيعتِه واتخاذ موقعه في عملية البناء والتقدم، وصولاً إلى الاكتفاء الذاتيّ وتصدير الفائض منه في مرحلة لاحقة. وحين يتحقق هذا الحلم، بالرغم من عدم كونه طوباويًا بعيد َ المنال، حينذاك تنتعش قطاعات صناعية وزراعية وتحويلية وإنتاجية كثيرة تسدّ حاجة البلد، لتنتقل الدولة من كيانٍ مستورد ومستهلك إلى مرحلة تعدّد الموارد والتنوع في العملية الإنتاجية وفي توريد العملة وتعزيز الاحتياطيّ النقديّ منها. ولن يتمّ ذلك إلاّ عبر مشاركات متكاملة تضمن توظيف الموارد البشرية في تطوير العملية الإنتاجية وإضفاء طابع التصنيع الوطني فيها بامتياز.
ومن الركائز الأخرى المهمّة في تنشيط هذه العملية، ما تقدمه المصارف الوطنية والخاصة في عملية التنمية المستدامة وفي تنشيط السوق الاقتصادية، سواء من خلال القروض الميسرة لأرباب العمل، أو من خلال ضمان مصالحهم وأموالهم من عبث العابثين وطمع الطامعين من خارج الأسرة الاقتصادية والإنتاجية الحقيقية. فمصارف الدولة ونظيراتُها من القطاع الخاص، يمكن أن تؤدّي دورًا رياديًا في فتح شراكات مع أرباب العمل من خلال تسهيل عمليات الصيرفة وتحويل الأموال وضمان سهولة استغلالها في المكان والظرف المناسبين.
إننا نعتقد، أنّ المؤسسات الاقتصادية والتجارية الناشطة اليوم بامتياز، من خلال الكفاءات المتوفرة منها في الداخل والخارج من الأصيلة وغير الطارئة، يمكن أن يكون لهم باعٌ طويلٌ في إعادة انتعاش اقتصاد البلاد وتدوير عجلة العملية الصناعية والإنتاجية، إذا ما تلقت أجهزتُهم وأعضاؤُهم دعمًا وتشجيعًا وتسهيلاتٍ من الحكومة ومؤسساتها. فالقطاع الخاص يبقى أداة فعالة في خلق تنمية اقتصادية شاملة، جنبًا إلى جنب مع مؤسسات الدولة المتعثرة في المرحلة الراهنة، من خلال زج طاقات أعضائه في عملية البناء والتنمية وتنفيذ المشاريع وفتح آفاق العملية الاستثمارية على مصاريعها. فحيثُ يسود الشك بالشريك ويفقد الأمان في السوق وتغيب الثقة بالدولة، حكومةً ومؤسساتٍ ضعيفة، تختلّ العلاقة أيضًا بين أصحاب رؤوس الأموال وأرباب العمل، ما يدفعهم لغضّ الطرف عن عملية التقدم والتنمية التي يحتاجُها البلد بسبب غياب هذه العناصر والعوامل التي على أساسها يصير العمل.
 وأخيرًا، على الدولة العراقية أن تعي أنَّ هناك رغبة كبيرة واستعدادًا دائمًا من هذا القطاع، للمساهمة بقوة في إعادة الاعمار ودعم مشاريعها، وصولاً لبلوغ مرحلة متطورة من الأداء والشراكة الحقيقية بين الطرفين. ومن شأن هذه الشراكة فقط، أن تنقل البلاد من وضعها الاقتصادي المثقل إلى برّ الأمان، بإخراج الطارئين على العملية الاقتصادية والمالية والصناعية. كما أنَّ السماح للكفاءات وأصحاب الاستراتيجيات والخبرات بقيادة العملية الاقتصادية وسوق المال، سيعني الكثير ويغيّر الصورة النمطية الفاشلة التي مازالت تقود العملية الاقتصادية والمالية والنقدية طيلة السنوات المنصرمة ما بعد الغزو الأمريكي. وقد آن الأوان، أن تقبل الدولة بمشروع العمل الذي تقدمت به نخب الكفاءات الاقتصادية مؤخرًا، والهادف لتعشيق النشاط الاقتصاديّ الاستشاري لهذه النخب مع نظيراتها ممّا تبقّى منها في الحكومة. فأحد المقترحات يسعى الى مشاركة نقابات ومؤسسات مهنية ومنظمات مجتمع مدني وجهات مهتمّة في مجال المال والأعمال والاقتصاد من أجل إعطاء فريق الكفاءات هذا زخما إضافيا تنعكس صورتُه إيجابيًا على رؤية المواطن في الداخل وتعطي جهاتٍ دولية مؤشرات إيجابية للبلد. وليكن هذا جزءًا من الاصلاحات الحكومية، وبشيْ من الجدّية هذه المرّة.
فعلى عاتق أصحاب الخبرات والكفاءات، تقع اليوم مسؤولية نقل خبرة اقتصادات العالم على الواقع العراقي. فهو يمتلك من المقوّمات ومن المرونة والواقعية في العمل في الاقتصاد والتجارة والمال، ما يمكنه من مواجهة التحديات والتعقيدات والصعوبات وتقديم الحلول الناجعة بفضل هذه الخبرات. فالقطاع الخاص باختصار، يمتلك اليوم واحدًا من مفاتيح الحل للأزمة المالية والاقتصادية التي يعيشها العراق حاليا.


257
ماذا بعد تفجير الكرادة؟
لويس إقليمس
بغداد، في 5 تموز 2016

لم يكن التفجير الأهوج الذي ضرب حي الكرادة فجر الأحد 3 تموز، الأولَ من نوعه، ولكنه كان الأعنف والأسوأ من حيث الحصيلة وحجم الدمار الذي ألحقه بشريًا وماديًا ونفسيًا وربما سياسيًا. صرخة الألم كانت كبيرة ومفجعة ومؤلمة. أكثر من مائتي ضحية أبرياء سقطوا صرعى صراعات المصالح وتناقضات الرؤى وتباينات المكاسب لسياسيي الصدفة الذين هيّأت لهم أمريكا المحتلة كراسي الحكم على طبقٍ من ذهب بالتعاون مع قوى ودول وزعامات إقليمية رأت في العراق وشعبه خيرَ مختبرٍ لتصريف الأسلحة وتصفية حسابات إقليمية بينية لا ناقة للبلاد فيها ولا جمل. والأنكى من ذلك كله، توزيع الغازي الأمريكي للأدوار وفقًا لمصالح الدول المجاورة له والإقليمية في المنطقة كلّ بحسب مصالحه لتلتقي مع المصالح القومية العليا لأمريكا ومَن يسيرُ في سياقها ومن يقف خلف كلّ هذا وذاك.
هذه الفاجعة الكبيرة في نوعها وحجمها أجّجت المشاعر وأدمت العيون التي سكبت عبرات حمراء مصبوغة بالدماء، حزنًا وألمًا على الضحايا الأبرياء، ومواساةً لأهاليهم وأقربائهم وأحبائهم وأصدقائهم. كما ولّدت حالة شديدة من الإحباط لدى أهالي الحيّ المنكوب، تمامًا كما فتحت غطاء القِدر السياسيّ من جديد لتفوح منه الرائحة النتنة لصفقة أجهزة فحص المتفجرات الشهيرة "المعروفة فكاهة بأجهزة فحص الزاهي"، التي يتولى مسؤولية توريدها رئيس الوزراء السابق وبطانيتُه الفاسدة التي ظلّت من دون حساب ولا محاكمة ولا عقاب بسبب مسؤوليتها عن مئات بل آلاف الحوادث المشابهة التي لم تكتشفها هذه الأجهزة التي لا تصلح سوى للكشف عن أنواع المنظفات والعطور، ليس إلاّ.
فاجعة الكرادة، كشفت الكثير عن متناقضات بين الساسة ورجال الدولة، "هذا إن صحّ تسميتُهم بها، لأنهم لا يستحقونها فعلاً"، من الذين ظهر تقصيرُهم الواضح بغيابهم عن تقديم يد العون ومدّ المساعدة ساعة حصول الانفجار حيث الحاجة لإخماد الحرائق التي خلّفها الانفجار الآثم وحجم الدمار الذي طالَ مبانٍ ومحلاّت وأتى على الأخضر واليابس فيها. صرخات وصيحات إغاثة ولا من مجيب. فأجهزة الدفاع المدنيّ لم ترقى إلى مستوى الفاجعة ولا أفرادُها ولا الأجهزة الصحية من عربات إسعاف وبعض المشافي التي اعتذرت بحسب البعض عن استقبال حالات الضحايا من قتلى وجرحى. كما غاب المسؤولون في الميدان ولم يكلّفوا أنفسَهم واجبَ التضامن مع أهالي الضحايا أو حتى في معاينة آثار الجريمة البشعة التي أثارت الشجون والألم والحسرة في نفوس عامة الشعب. فلليوم الثالث على التوالي، نقلت قنوات متلفزة جهودًا لمتطوّعين مدنيين تركوا بيوتهم وأشغالَهم ومحلاتهم وهم ما زالوا مستمرين بالنبش في ركام الأبنية وفي السراديب بحثًا عن أشلاء وبقايا لضحايا احترقوا وقُبروا تحت الأنقاض بفعل التهامهم بنيران التفجير الأهوج من شدة هول العصف وقوة المواد المستخدمة وكميتها.
فاجعة الكرادة هي بحق نقطة تماس ساخن بين عاطفة الأهالي المشدودين تقليديًا لمنهجية المرجعيات الشيعية والمشدوهين بالموقف المخجل والهزيل من زعمائها وسياسييها وممثليها بسبب عجزهم عن مواكبة الحدث الجلل وتقديم يد العون بانتشال الضحايا وإخماد الحرائق وتسهيل استقدام وسائل الدفاع المدنيّ والمتطوعين وغيرها وكلّ ما تقتضيه مثل هذه الحوادث الكبيرة، نظرًا لجسامة الضرر وفداحة الخسائر وبيانًا للموقف. وإلاّ كيف يُعقل أن يتمّ إيقاف شاحنة كبيرة تجلب الأنظار في مكان مزدحم مثل شوارع الكرادة من دون أن تتأكد الأجهزة "غير الساهرة" على حياة الناس في ليالي رمضانية متوهجة وعاجّة بالحركة والحياة وأنوار انتظار العيد، من هوية صاحبها وتفحّص ما بداخلها درءً لأية احتمالات مترقبة ومحتملة في هذه المنطقة الاستراتيجية بالذات؟
لكن جواب الكرّاديين جاء قاطعًا رادعًا مشوبًا بانفعالٍ معذور عبروا عنه في نوع "الحفاوة" التي أظهرتها قلوبهم ونفوسهم عبر مشاعر الغضب الشديد والاستياء من الأداء الحكومي لأجهزة الدولة حينما رشقوا موكب رئيس الوزراء بالحجارة والقناني وقطع الطوب المتيسرة، ما حدا به للمغادرة فورًا وتجنيب عواقب غير محتملة. ذات الغضب وذات الاستياء، وردَ من صفوف الشعب، إنْ علنًا أو من وراء الكواليس. فالفاجعة الكبيرة لو تكن لتحصل لو كانت عيون أجهزة الدولة ساهرة وإجراءات فحص ومراقبة العجلات والأفراد يقظة. وهذه الأخيرة قد لزمت ملاحظات عديدة، منها عدم جدّية أفراد نقاط التفتيش الثابتة في المراقبة والرصد، ولهو العديدين بالسوالف غير الضرورية والمحظورة، وانشغال بعض هؤلاء باستخدام أجهزة الموبايل، وغياب الحس الاستخباراتي في التفاعل مع الأحداث ومع غليان الشارع الساخن بالشمس القاتلة، علاوة على انتفاء فائدة الأجهزة المستخدمة في رصد العجلات الذي أثبتت الأحداث فشلها، وإصرار الأجهزة الأمنية بالداخلية وقيادة العمليات على استخدامها ذرَا للرماد في العيون وضحكًا على الذقون وعدم الاهتمام باستبدالها بأجهزة فحص حديثة ورصينة. يُضاف إلى ذلك، غياب الجهد الرقابي لأجهزة الأمن في رصد الأحياء التي تحولت فيها دور وبنايات بالكامل لخزن البضائع ولمقرّات مشبوهة للأحزاب والميليشيات، ما جعلها مواقع حامية لكلّ أنواع المحظورات. فحالة الفلتان في نظام السكن والإيجار التي غضّت أمانة بغداد بشكل خاص ومجموع المحافظات العراقية في هذا الجانب، قد شكّل حلقة أخرى من التساهل في عمليات الإرهاب والاختفاء خلف هذه السلسلة من الإجراءات والممارسات التي نالت، ليسَ من جماليات الأحياء السكنية فحسب، بل أيضًا من راحة المواطن ومن أمنه ونقاوة علاقاته التي عمّقها فضُّ النسيج الاجتماعي وتمزّقُ لحمته الوطنية بفعل اللامبالاة والتغاضي والترهّل نتيجة الصراعات السياسية المتنامية التي ليسَ لها نهاية ولن يكون لها ذلك إلاّ بمعاول "القلع والشلع" التي نادى وما زال ينادي به الشعب المتظاهر كلّ يوم جمعة علنًا ووجاهةً.
إنّ الحالة الأمنية المتدهورة في العاصمة، بغداد، بخاصة تستدعي الوقوف والتأمل. فهذا إن دلّ على شيء، إنما يشير في مجمله وبكلّ بساطة، إلى كون الهاجس الأمنيّ خطير وقابل التهديد في أية لحظة. وهو يعني أيضًا، أنَّ الإرهاب الداعشي قادرٌ على الضرب في أيّ مكان وكلّ زمان بعيدًا عن أنظار الأجهزة الأمنية التي تقف عاجزة عن تحديد مكامن الخطر ومواقع الخلايا النائمة التي تستيقظ وسط عيون الغافلين اللاّهين في أمورٍ لا تمتّ بصلة للواجب الأمني والوطنيّ الملقى على كاهلها. فهي بدت منذ زمن، غير جديرة بثقة الشعب المنكوب منذ السقوط ولغاية الساعة. فلا استراتيجيات أمنية مبنية وفق السلوك الاستخباراتي ومدعومة بالقيم العسكرية العقائدية قد تحققت، ولا حس وطنيّ بدَرَ من قيادات أمنية وسياسية وحزبية للتعاطف مع أصحاب الفواجع، ولا شعورٌ مجتمعي استصرخَ ويستصرخُ لحالات التضامن والاعتداء والعنف المتزايد في كلّ مكان.
أمّا الأعذار بتعويض تنظيم "دولة الخرافة" خسائره عبر الخلايا النائمة، مجرّد أوهام واهية لتخدير العامة من الناس ولامتصاص غضب الشارع الساخن الذي يغلي على صفيح من نار. فهذا الكمّ الهائل من رجال الشرطة الاتحادية ومن أفراد الجيش وباقي الأجهزة الأمنية الوطنية المنتشرين في الشوارع والطرقات، كان الأجدر بالمسؤولين عنهم زجّهم على الحدود منذ السقوط الدراماتيكي لحمايتها ومنع تسلّل الإرهابيين عوضًا عن توزيعهم في الشوارع يتسكعون ويرصدون المارة شزرًا بغياب الحسّ العسكري وشرف المهنة، أو يوقفون عجلات المواطنين في نقاط التفتيش، وما أكثرها، رصدًا للوجوه بغاية اللهو وإعاقة السير والاستمتاع بتضييق الخناق على السالكين من خلال فتح مسار واحد في نقاط السيطرة إيغالاً بالاستهتار بوقت المواطن وتلاعبًا بنفسيته المتعبة أصلاً، بحيث يضطرّ لإمضاء ساعات من الانتظار أحيانًا من أجل الوصول إلى مقرّ عمله أو العودة إلى بيته وأهله وعائلته.
ألم يكن من الأولى، زجّ القسم الأكبر من هذه العناصر في مواقع ساخنة كانت تستدعي تعزيزات عسكرية قبل دخول الدواعش وتدنيسها للأرض والعرض؟ فلو كانت هذه العناصر مؤهلة حقًا ومستقلّة في ولائها، لأمكنها تجنّب الكثير من النوائب والهجمات التي حصلت العديد منها بالقرب من تواجدها في نقاط التفتيش، وبعضها بسيارات مفخخة رُكنت بالقرب منها أو بعبوات ناسفة انفجرت على المارة أو مستخدمي السيارات الذين لقوا حتفهم، إمّا نتيجة لتقاعس العناصر الأمنية أو تواطؤهم مع منفذي الهجمات. وهذا مؤشر خطير في سلوك الجهاز الأمني الوطني في الجيش والشرطة والمخابرات، والمفترض استقلاليتُه وولاؤُه للوطن والشعب وليس للأحزاب والطوائف والأفراد والمرجعيات.
فالصراع على المناصب والمواقع من أدناها إلى أعلاها في الأجهزة الأمنية، خضعت هي الأخرى، في معظمها لسياسة المحاصصة والتوافق بعيدًا عن الكفاءة والجدارة في السلوك والعلوم العسكرية ونظام الترقية المعمول به في الجيوش العقائدية. وهذا ممّا أضعف الحسّ الاستخباراتي وغيّب منهج العقيدة العسكرية والأمنية في السلوك اليوميّ لسائر الأجهزة، ومنه جاءت الثغرات والهفوات والأخطاء الكبيرة التي انتهزها أعداء العراق وأعداء الشعب للنيل من لحمته ومن نسيجه ومن راحته وأمنه واستقراره، نتيجة غياب هذه الاستراتيجيات البديهية.
 لقد كان الأجدر بالقيادات الأمنية والحكومة أن تكون بمستوى المسؤولية في أخذ الملف الأمني بجدّية أكبر، بعيدًا عن صراعات الفرقاء التي انعكست بالتالي على الوضع الأمنيّ، بسبب ولاء الأجهزة الأمنية لأحزاب وكتل متنافسة ومتناحرة ومتصارعة على الكراسي بسبب الرغبة المتزايدة بانتهاز فرص لنهب المال العام وفرض كل واحدة منها للأجندة التي تقتضيها مصالحُها ومصالح مَن يمولها ويرعاها. فالراعي الأكبر الأمريكي المحتل، له اجندتُه عبر أدواته الاستخباراتية والسياسية والمنظماتية وحتى الفردية. وإيران صاحبة السعادة التي حظيت بضوء أخضر من الغازي الأمريكي لتحقيق مصالحها في ولايتها الجديدة بالعراق، هي الأخرى لها أجندتُها عبر الأحزاب والميليشيات التي ملأت أرض السواد وراحت تسرح وتمرح بطولها وعرضها. والدول اٌلإقليمية والجارة، تتعكز هي الأخرى كلٌّ على أدواتها ومنفذي خططها وبرامجها التي لا تتوخى البناء والإخاء بقدر ما تزجّ هذه الأدوات في أتون نيران مستعرة، وهي دائمة السعي لتأجيجها بلا هوادة من أجل إبقاء البلاد مضطربة وفي حالة غليان وعدم استقرار سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ذلك لأنّ استقرار أرض الرافدين يعني ضرب كل المصالح الأجنبية والإقليمية الطامعة بالبلاد وبأهلها وبثرواتهم الوطنية.
لا إضافة على ما تقدّم. فالصورة كانت وما تزال واضحة لا لبسَ فيها: قصورٌ في البعد الاستخباراتي، تهاونٌ في أداء الواجب الأمني، إهمالٌ في رصد الحالات الشاذة ومراقبة المشبوهين، تمسّك أعمى بأجهزة ثبت فشلُها، غضّ الطرف عن مخالفات في مجال السكن والإيجار تستوجب الرصد والمتابعة والمحاسبة، إصرارٌ على عدم استخدام أجهزة رصد حديثة من مناشيء رصينة، السكوت عن مخالفات عناصر أمنية، غياب المحاسبة والعقوبة بسبب المحسوبية والمنسوبية والانتماء الدينيّ والطائفي والعرقيّ، عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، استبعاد العناصر الوطنية الكفوءة من مواقع المسؤولية والإتيان بعناصر ضعيفة  غير مستوفية الشروط، إفراغ مؤسسات الدولة الأمنية من قيادات علمية جديرة بصناعة الاستراتيجيات ووضع الخطط، التخبط في وضع الخطط والقفز من خطة لأخرى بشكل ارتجالي ووفق مزاج "القائد الضرورة" الميداني أو الحكوميّ، وغيرُها كثيرٌ مما لا مجال يسعُه.   
هذه وغيرُها كثيرٌ من السلبيات المؤشرة في وسائل الإعلام ومن جانب النخب الوطنية المثقفة ومن الخبراء في ميادين العمل، جديرة بأن يُعاد فيها النظر، وأن يتحلى المسؤولون الأمنيون والحكوميون بالشجاعة باعتزال العمل وترك الشأن لمَن هو أجدر، قبل أن يحظوا بما لا يرضيهم من الشعب الغاضب. فالتاريخ لا يرحم، والسيل الجارف قادم لا محالة. شعارُ الوطنيين الجديد: "مدنيون"، ولا خيار لغير التيار المدني الديمقراطي الذي ينادي بدولة مدنية من خلال فصل السياسة عن الدين. فقد أفسد الإسلامُ السياسي الدّينَ، وآن الأوان كي يتولى الأكفاء من الوطنيين المدنيين العلمانيين من النخب ومن خارج أحزاب الإسلام السياسيّ المبادرةَ الوطنية والسلطة بعد أن أثبت الأخير فشلَه وانتشر فسادُه وزكّم الأنوف وأزعج المرجعيات التي بحّ صوتُها وأغضب الشعب الذي ملّ الوعود والضحكَ على الذقون والتخديرَ بجرعات الولاء للطائفة والمراسيم الموسمية الكثيرة التي تُستغلُّ لاستعطاف البسطاء في المناسبات الدينية وتجييرها لصالح الدين والطائفة والمذهب والشخص. فقد أضحى الدّين لدى هؤلاء الانتهازيين من أحزاب الإسلام السياسيّ، لدى السنّة والشيعة على السواء، دين جماعات وأشخاص وطوائف وليسَ دينَ إيمان وتقوى ومحبة ورحمة.
رحم الله شهداء الكرادة وشهداء الوطن جميعًا ومَن وقع ويقع للدفاع عن حياضه وكرامته وهيبته، وألهم أهلهم وذويهم وأحباءَهم الصبر والسلوان. ولنا في الإله الرحمن الرحيم الحقيقي، إله المحبة والخير والرحمة وليس إله القتل والسيف والانتقام والثأر، خير الساندين وأطيب الراحمين وأفضل الحامين.

258
 
مرة أخرى، هل من حديث بعدُ عن مرجعية سياسية مسيحية مستقلة؟
بغداد، في 10 تموز 2016
لويس إقليمس

في صيف 2015، عندما أقدم غبطة البطريرك لويس ساكو لطرح مبادرته حول فكرة تشكيل مرجعية سياسية مسيحية، لم يتردّد الحريصون على مصير ما تبقى من الجماعة المسيحية بالعراق بالالتفاف حول المبادرة. تعاون الكثيرون معه، ومنهم كاتب السطور، كي تخرج المبادرة إلى حيّز الوجود. والمتابعون للمشروع، يعلمون جيدًا بفحوى اللقاءين اللذين جمعا رجال دين ونواب ومسؤولين مسيحيين بالدولة ومثقفين نخبويين وناشطين مدنيين وعلمانيين. كما دأبت اللجنة الخماسية التي تشكلت بإجماع آراء المجتمعين على مثابرتها، من أجل إكمال الشوط الملقى على عاتقها بمتابعة التطورات والأمور التنظيمية بهدف تقريب وجهات النظر وتحقيق التنسيق والانسجام في الطروحات التي سادت اللقاءين وإكمال المشوار لاحقًا. وبالرغم من خروج بعض طروحات بعض المشاركين الذين تمت إضافتُهم في اللقاء الثاني بطريقة غير مدروسة، إلاّ أنّ اللجنة الخماسية قد تابعت موضوع التنسيق مع جميع الجهات الكنسية بهدف الحفاظ على نوعٍ مقبول من الانسجام، خدمةً لهدف المبادرة.
وللحقيقة أقول، أنّ اللجنة التنظيمية، بمثابرتها التطوعية، قد أكملت ما عليها من مسؤولية ومن عمل تنظيمي بدفع الأمور إلى الأمام. فقد كانت لقاءاتُها متواصلة طيلة الفترة بين آب وكانون أول 2015، حيث التقت صاحب المبادرة لمرات عديدة وناقشت معه أفكارًا متجددة مرفقة بتوصيات وخبرات من الذي يُسمع أم يُقال. والغاية من ذلك كله، كان باتجاه دفع المبادرة إلى الأمام وتحقيق الإجماع في اتخاذ القرار الذي ترقبه المجتمع المسيحي بجميع طوائفه وكنائسه. إلاّ أنّ انشغال السادة رؤساء الكنائس وسفرهم المتكرّر في فترة الصيف وارتباط آخرين بالتزامات خارج بغداد والعراق لاحقًا، قد أعاق عمل اللجنة التنظيمية. وبسبب ذلك، لم يكن من المتيسر والسهل تحقيق لقاء ثالث، كنّا تمنيناه حاسمًا لوضع النقاط على الحروف وتحقيق وحدة الصف والخطاب السياسي عبر إقرار تشكيل نواة لمرجعية سياسية مسيحية علمانية مستقلّة، تتولى مسؤولية الدفاع عن حقوق عموم المسيحيين ومتابعة همومهم الكثيرة، وتقف سندًا لمطالبهم، من حيث تمثيلهم في المنابر السياسية الوطنية، المحلية منها والدولية، وفي المؤتمرات والندوات وأية محافل دولية ذات العلاقة. أي بمعنى آخر، أنّ هذه المرجعية المرتقبة أُريد لها أن تكون ناطقَة بحال الجماعة المسيحية وممثلةً سياسية لهم في الدولة العراقية وخارجَ اسوارِها، على السواء.
مع بدء العام الجديد 2016، عاودت اللجنة الخماسية نشاطَها، وحققت لقاءً تشاوريًا مع صاحب المبادرة الذي أبدى كلّ تفهّمٍ للنقاط التي أثارَها أعضاؤُها، ومنها المرونة المطلوبة في طرح الأفكار والابتعاد عن التشنّج ورفض مبدأ التفرّد بالقرار المسيحي ونبذ فكرة الأكثرية والأقلية التي أوقعت البلاد والعباد في العراق في أزمات متلاحقة بسبب ما تحمله هي الأخرى من مفهوم طائفيّ. وعقد الأعضاء الخمسة للجنة التنظيمية، العزم على إكمال المهمة التطوعية بروح العمل الجماعي وبفكر الفريق الواحد. وبعد سلسلة زيارات لأصحاب الشأن، رؤساء الطوائف الكنسية، أصحاب الغبطة البطاركة، مار أدي وما لويس ساكو (واتفاق لقائي مصادفةً بصورة شخصية مع غبطة البطريرك كوركيس صليوا في مطار بغداد الدولي)، وأصحاب النيافة الأساقفة، مار سيويريوس حاوا (للسريان الأرثوذكس) ومار أفرام يوسف عبا (للسريان الكاثوليك) ومار عمانويل دباغيان (للأرمن الكاثوليك) ومار آفاك أسادوريان (للأرمن الأرثوذكس) ومار شليمون وردوني (للكلدان) وجان سليمان (لللاتين)، والقمص مينا الأورشليمي (للأقباط)، تحقق لدينا قيام نية سليمة وتأكدت رغبة كاملة لجميع مَن تمّ اللقاء معهم لمتابعة مشوار المبادرة وإمكانية تحقيق الهدف من دون تردّد.
بعد هذا كلّه، وغبةَ أنجاز المطلوب، توجب على أعضاء اللجنة الخماسية المكلفة بمتابعة هذا الملف للتنسيق بين جميع المعنيين، أن يضمّوا أصواتهم إلى أصوات الشعب المسيحي الذي ينتظر اللحظات الحاسمة، للقاء التوافق والموافقة العملية والفعلية بعد التصريح بمنح الموافقة الشفهية التي تمّ الحصول عليها، موثقةً بالصورة والكلمة. من هنا، كانت خطوتُنا التالية تكمن بتوجيه دعوات لأصحاب الشأن بتحقيق لقاء مرتقب يجمع رؤساء الكنائس حصرًا، مع أعضاء اللجنة الخماسية، كخطوة أولية، من أجل إقرار إجماع بإمكانية المضي قدمًا بالمبادرة أو بالتوقف، على أن يعقب تلك الخطوة تحقيق لقاء لاحق يجمع رؤساء الكنائس والنخب من السياسيين وممثلي الأحزاب والمسؤولين والفعاليات المدنية والمثقفين، الذين سبق أن شاركوا في اللقاءين الأخيرين، ويمكن إضافة عناصر وطنية رصينة وغيورة غيرها.
في هذه المرحلة الحرجة، لا ننكر بروز خلافات في الفترة الأخيرة، في صفوف مجلس رؤساء الطوائف المسيحية الذي سمعنا بحلّه وانتهاء أعماله، ما يُؤسف عليه. لكننا نعتقد، أن الخلافات التي أُثيرت لا يمكنها أن تقف عائقًا أمام رغبة الجماعة المسيحية وأملها بتحقيق هذا الإجماع السياسي الذي هو أمل جميع المسيحيين والعلمانيين منهم بصورة خاصة، كي تبقى المؤسسة الكنسية بعيدة عن تعاطي السياسة ودهاليزها وترك الشأن المدني والسياسي للعلمانيين، مع إبقاء رعاية الكنيسة ومباركتها لمثل هذا التجمّع الضرورة. ولا شكّ أنَّ مثل هذا الإجماع يتطلّب شيئًا من الإيثار والتواضع والتنازل المجبولة بالغيرة الرسولية والمحبة المسيحية والشعور بالمسؤولية الراعوية إزاء القطيع الصغير الذي ينشد الوحدة الحقيقية، فيما رؤساؤُه يتنازعون على الزعامة، تمامًا كحال العراقيين اليوم!
 لذا، ودفعًا لإتمام مشروع المبادرة الرامي لتشكيل مرجعية مسيحية مستقلّة نابعة من القيم المسيحية المتوارثة، وانطلاقًا من الغيرة الوطنية على حقوق الجماعة المسيحية المتبقية، وعملاً بالحرص على بقاء الصف الأسقفي بالعراق موحد التوجه ومرصوصَ الجانب ورائدَ الكلمة وسط جميع الكنائس، أقترح الأخذ بما معمول به في كلّ من الجماعات المسيحية في لبنان ومصر والأردن. أي أن يبادر مجلس الأساقفة المنحلّ لإعادة هيكلتِه بطريقة أصولية وقانونية ويكتسب صفة رسمية في الدولة العراقية. وهذا يتطلب انتخاب رئيس له ونائب للرئيس وسكرتير وأمين مالي وناطق رسميّ، وما إلى ذلك بحسب المقترحات التي يرونها مقبولة وضرورية في هذه المرحلة، على أن يحصل ذلك من دون تشنّج في المواقف وإصرار على الرأي المنفرد من قبل المراجع الكنسية التي نأمل أن تبدي حرصًا أوفر على رغبة أبنائها.
لستُ أفرضُ رأيًا مغايرًا، لما هو معمول به وما هو مطلوب في ضوء الحاجة والظرف والمرحلة. فقوتنا لن تأتي بفرقتنا على معسكرين، كلّ منهما يسعى للظهور بأحقية تمثيل المجتمع المسيحي أو التقليل من شأن الآخر، في مناسبة وفي غيرها. فالمطالبات الرسمية والآنية والمجتمعية من أركان الدولة، برئاساتها الثلاث واللقاءات مع المسؤولين في الوزارات والمؤسسات، كلّما كانت بروح الفريق الواحد، الموحد، المجتمع على كلمة الإجماع، كانت أكثر قوة وأكبر وقعًا وأوسع صدى. وهناك حقيقة، تتمثل بكاريزما يمكن أن تتصف بها شخصية دينية دون غيرها. فهناك مراجع مسيحية لا تمتلك القدرة الكافية ولا الشجاعة الكاملة ولا تلك الكاريزما المطلوبة ولا القدرة على الكلام والإفصاح والتحدّث في طَرق أبواب الساسة والدول والمحافل. فهذه مسألة إمكانيات فردية لا ينبغي أن تقف حائلاً أمام مَن لا يمتلك مثل هذه القدرات وهذه الكاريزما. ولكن هذا لا يعني، تفرّد جهة دون غيرها، كما أشرنا، في مسألة تمثيل الجماعة، كلّما استجدّت ظروف وبرزت الحاجة وتطلبت الأحداث. فمبدأ المشاركة في هذه الأنشطة والحراك بجميع انواعه واشكاله مكفولٌ وحقّ لجميع ممثلي الكنائس حتى لو حصل ذلك بطريقة تمثيلية وحسب الظرف والمكان والوقت. فهذا من شأنه أن يزيد من قوة المجتمع المسيحي ويعطيه زخمًا وفورة وطاقة لتحقيق المزيد من أماني وتطلعات ومطالب أبناء الجماعة الرازحة في معظمها تحت نير القهر والدونية والتهميش. والسبب في ذلك في معظمه، يعود إلى غياب وحدة الصف وتشظّي الخطاب السياسي بسبب التشنّج في التوجهات أو تأييد بعض المرجعيات الكنسية لهذا الحزب أو ذاك وهذا الطرف أو ذاك، ما يجعلها تابعة هي الأخرى للجهة التي تقف خلف أحزاب هزيلة أخفقت في مهماتها بشكل كبير، تمامًا مثل سياسيّي البلد، من خلال عجزها برفع الغبن عن أتباعها ومؤيديها وتحقيق مطالب الشعب في تأمين لقمة العيش والخدمات الآدمية والأمن والسلم الأهلي.
إنني أترقب راجيًا من أصحاب الشأن، المرجعيات الكنسية كافة وأعضاء اللجنة التنظيمية بهيئة الرأي، أن يكملوا المشوار والمهمّة التي تعهدوا بتحقيقها خدمةً للمصلحة الوطنية العليا وفائدة أتباعهم. فهذه الأمنية بحسب اعتقادي، لن تجد طريقها للتحقيق إلاّ إذا نالت مباركتَها العلنية من المرجعيات الكنسية كافة من أصحاب الغبطة والنيافة والسيادة رؤساء الكنائس. والدليل على ذلك فشل محاولات عديدة لجهات حريصة في الشأن المسيحي الوطني. أمّا ما تلقته اللجنة التنظيمية في حينها في اللقاء الأخير مع صاحب المبادرة من إيعاز أو مباركة شفهية مقترحة للمضي قدمًا في المشروع المتعثّر، انطلاقًا من مبادرة جدبدة تصدر عن قاعدة علمانية بحتة، فهو مجرّد ذرّ الرماد في العيون وتنصّل من مسؤولية الراعي الحريص على قطيعه.
من هنا، كلام "ليكونوا واحدًا"، يقتضي توضيب البيت الأسقفي وعودة نشاطه بشكل أكثر إيجابية وبإيثار مصلحة الشعب المسيحي على مصالح طائفية ورئاسية وفردية. وفي حال تحقيق هذه الأمنية، نكون قد أعدنا القطار المسيحي إلى سكته الصحيحة التي أرادها المسيح. أمّا الخلافات مهما كانت، شخصية أم ملّية، سوف لن تنفع المكسور ولا تضمّد الجراح ولا تحلّ المشاكل.
 وفي انتظار تحرير مناطقنا من دنس الإرهاب الماحق، نتأمّل لقاءً مرتقبًا شافيًا بإذن الرب وقوته وبمشورة الروح القدس ودعاء العذراء مريم وجميع القديسين، لدراسة مرحلة ما بعد داعش. فهذه لن تكون سهلة. فالضبابية تشوب المناطق المنتهكة وسط صفقات مشبوهة حول مستقبلها ومصير أبنائها وإدارتها. فليكن الجميع على قدر المسؤولية!



259
أمريكا : سياسة تسليح الشعوب، فعلُ عسكرة وتعزيز للطائفية والتشرذم
بغداد، في 5 حزيران 2016
لويس إقليمس
أمريكا اليوم، هي سيدة العالم، شئنا أم أبينا. بإحدى يديها تدير مفاتيح إحلال السلام واستقرار الحياة وكرامة الشعوب، وبالأخرى توجّه أدواتها وقدراتها لقتل الشعوب وتمزيق الأمم وزرع الفتن والحروب. وكلّ هذا وفقًا لمصالحها القومية، أو بالأحرى لصالح اللوبي الصهيوني العالميّ الذي يتحكم باقتصاد العالم الذي منه وبه تتأثر الدول والشعوب. فمَن يملك المال، يملك العالم وله القدرة على توجيهه لصالحه.
في الربيع العربي، الذي استعجلَه الغرب ومعه أمريكا طاغية العالم، وتتطلّعوا إليه معًا بنتائج سريعة تؤتي بثمارها عليها أولاً، ومن بعدها على شعوب المتوسطي ومنها منطقتنا العربية، خاب ظنُّهم فيه وبنتائجه العكسية. فهذا الربيع الذي أرادوه بابًا لدمقرطة المنطقة وفق تصوراتهم المغلوطة، انقلبَ خريفًا هائجًا وعاصفًا قلب الموازين عليهم ودمّرَ بلدانًا وفتَّتَ نسيجَ شعوبٍ وكسرَ الجسور العامرة. وعوض أن ينجب كرامةً وبردًا وسلامًا لأهل بلدان المنطقة، تعسّرت الولادة فجاء الوليد مشوّهًا مثل أفكار الغرب الخائبة التي تميزت بالسفاهة والغباء على السواء. وهذه لم تكن بسبب حجم الوليد بل لنوعية القادم الجديد، الفأر النحيف الهزيل المريض المحمَّل بكل العاهات زيادةً في أمراضِه المناطقية. ففي كلّ بلدٍ عربيّ متوسطيّ، خطّط له الغرب بقيادة أمريكا كي تطاله يد التغيير وفق البرنامج المخطَّط له، تمزّقت فيه اللحمة الاجتماعية وانفرط عقُده ودُمر فكرُه وفسدتْ أخلاقُه وآلَ إلى شراذم وطوائف تتقاتل وتتصارع وتتذابح على الجاه والمال والسلطة. ولم أكن أعتقد أن يكون الغرب بهذه السذاجة كي لا يعي ذهنية أهل المنطقة وتصوراتهم واستعداداتهم لأيّ تغيير في المنهج والفكر وفي أساس الحياة. أليسَ ما يحصل في العراق وسوريا وليبيا وتونس واليمن لبنان وفي غيرها من دول المنطقة خير دليلٍ على هذه الخيبة؟
إذا أخذنا في الحسبان، الفترة التي استغرقها الغرب، وأمريكا بالذات، من أجل حصولها على استقرار نسبيّ في أصول الحياة، اقتصادًا وسياسة وعقدًا اجتماعيًا واستقرارًا وديمقراطية كمنهج، لرأينا أنها أخذت منها عقودًا من الزمن ونضالاً مجبولًا بالدم والتضحيات. فكيف بها تسلّم أن تفرضَ التغيير في هذه المجتمعات المنغلقة أساسًا، بين ليلة وضحاه، أو في غضون أسابيع أو أشهر أو سنين قلائل؟ أرادوها معجزة، والمعجزات في هذه الأيام قليلة وشحيحة، شحة العاشق الصادق في انتظار معشوقته التي غدر بها الزمن وطال انتظارُها من غير أمل. وفي اعتقادي مهما طالَ، فلن يأتي هذا، طالما بقيت مجتمعاتُنا في أجوائها المنغلقة دينيًا ومذهبيًا وطائفيًا وعرقيًا، وتابعًا خنوعًا للغير! فهلاّ يدرك الغرب هذه الحقيقة؟
هذه المقدمة، يمكن أن تقدّم جوابًا لقرار الكونغرس الأمريكي الأخير المعدَّل، والذي يتيح للإدارة الأمريكية تسليح فصائل من مكونات الإيزيديين والمسيحيين، وربما أخرى غيرها، بحجة مواجهة الإرهاب وأدواته والدفاع عن النفس. ولنا السؤال: إذا كانت أمريكا ومَن التحق في صفها من دول الغرب، قد أنتجوا بفعل سياساتهم الخاطئة فصائل إرهابية تنوعت وتعددت بدءًا من القاعدة، مرورًا ببوكو حرام وشباب الصومال وداعش وأخواتها، مضافًا إليها التشكيلات الميليشياوية من السنّة والشيعة على السواء، إذا كانت بقوتها وقدراتها التسليحية والمالية لم تستطع احتواءَها وقطع دابرها، فكيف بمئات من المتطوعين المسيحيين والإيزيديين أن يقاوموا هذا الأخطبوبط المتشعب الذي يفرض سطوتَه وأفكارَه المتشددة في وسط حاضن وقابل ومستعدّ لها بفعل انغلاقه الدينيّ القائم؟
لاعتبارات عديدة، لا يُعقل أن يُزجّ بمئات متحفزة من أبناء هذه المجتمعات في أتون نار غير متكافئة العدد والعدّة، مهما كانت استماتتُها وهدفُها السامي. ففي هذا شيءٌ كثير من قبيل الانتحار الطوعيّ غير المبرّر لعدم التكافؤ. فهذه الحرب الطاحنة من مهمة الدولة وأجهزتها الوطنية، من الجيش والشرطة وما يلحق بهذه من فصائل ساندة مدربة وفق السياقات العسكرية والتعبوية المتبعة.  فالحكومات المتتالية هي التي فرّطت بهذه المناطق وبشعوبها، ومن ثمّ فهي التي عليها تولّي مهمة تحريرها وعودة ساكنيها إلى دورهم وممتلكاتهم آمنين!
وحسنًا، صرّح رئيس الكنيسة الكلدانية البطريرك ساكو، بوصفه للقرار الأمريكي بغير الحكيم وغير البريء وغير المبارك. فالرجل قد انطلق من مفهوم "الوطنيّ" الحريص ومن عمق مسؤوليته الراعوية والدينية والأخلاقية، وليس السياسية، ومن منظوره واسع الأفق في قراءة التاريخ والأحداث. وفي تصوّره الناضج هذا، يكون قد قرأ الواقع وقلّبَ صفحاته قبل أن ينطق بمثل هذا التصريح الذي شكّل شكوكًا للبسطاء من أتباع مختلف الكنائس ولأصحاب الأجندات الضيقة والمنافع الشخصية وأشباه المثقفين بسبب ثقافتهم السطحية وعدم قدرتهم على استيعاب دروس التاريخ، وما أكثرها! فالدول الداعمة، ومنها أمريكا والغرب عمومًا، ليست "جمعيات خيرية"، كما صرّح غبطته. فهي بالتالي تبحث عن مصالحها في كوم المكوّنات العرقية والدينية، تمامًا كما استباحت ضمائر السياسيين وزعامات الأحزاب من أجل تنفيذ أجنداتها وفق المخطَّط المدروس.
 ونحن في هذا، لا ننكر مدى حاجة مجتمعنا المسيحي، ومثلنا سائر المجتمعات الدينية والإتنية من أبناء الأقليات المهمّشة ومهضومة الحقوق، إلى قوّات مدربة تدريبًا حسنًا ضمن تشكيلات الدولة العسكرية والدفاعية، وليس بهيئات أو تشكيلات منفصلة ومستقلّة عنها. فمثل هذا المشروع، سيزيد من تعقيد المشهد السياسي على ما هو قائم. والعقلاء يدركون جيدًا، أنّ الحلّ لن يكون سوى بتعزيز القدرات العسكرية والدفاعية الوطنية عبر إعادة تشكيل القوات المسلحة العراقية على أساس وطنيّ وعقائديّ محايد، خلافًا لما هو قائم حاليًا من واقع حالٍ بتسييس الجيش وقياداته على أسس دينية وطائفية ومذهبية وإتنية. ومن هنا تكون الدعوة الصحيحة بالانخراط في صفوف القوات المسلحة وأجهزتها الوطنية على اختلاف صنوفها، بحيث يكون هذا متاحًا للجميع.
ومن حقنا التساؤل: إذا كانت أمريكا ومعها الغرب التابع لها، قد شعروا بالذنب الذي اقترفوه بترك أتباع الأقليات في العراق وعموم الشعب العراقي بالأحرى، لقمة سائغة بيد الدواعش ومَن في حواضنهم، كي يهين هؤلاء كرامة أبنائهم ويهتكوا أعراض نسائهم ويعملوا على تهجيرهم وقلعهم من مناطقهم، فهذا الفعل الأخير لن يغفر لهم خطيئتهم المميتة هذه. ومهما فعلوا ومهما قدموا وغيروا من قوانين لصالح هذه الأقليات، فهي لن تفيَهم حقهم ولا تزيل من همومهم ولا تخفّف عن كاهلهم قيدَ أنملة. فالجرح عميق وصعبٌ دملُه، وتداويه يتطلب أجيالاً وقرونًا. فهذه الصحوة المتأخرة لأمريكا والغرب التابع لها، إن صحّت، فهي غير قادرة على إعادة ما فُقد وما كُسر وما هُتك. فالمسألة تتعدى الأقليات وحقوقهم وممتلكاتهم، عندما تصل إلى حقوق العراقيين جميعًا، الذين سلَّمتهم أمريكا ومعها الغرب، أسرى لحيتان الفساد وسارقي المال العام ومنتهكي حقوق الوطن والمواطن بإتيان أمثال هؤلاء اللصوص لحكم العراق، وفي جعبة كلّ حزب وكلّ طائفة وكلّ كتلة مشروعٌ لأسلمة المجتمع وحكمه بالطريقة التي تناسب مَن يدعم توجهاتهم من الدول المجاورة والإقليمية والخارجية. فكلّ جهة تسعى لتوجيه بوصلة الحكم نحو مموليها وسياساتهم ومصالحهم التي تنمّي مكاسبهم وتديمُها.
وبهذا، لا يمكن القبول بفكرة تسليح عناصر مسيحية، من منطلق عدم تشجيع تكاثر الميليشيات الطائفية لكل ّ جهة ولكلّ طائفة ولكلّ حزب. فهذه الأخيرة، أي الميليشيات، بتجاوزها الأهداف المخطط لها، تشكل اليوم عبئًا آخر على الدولة العراقية وتحدّ من قدراتها الوطنية. والسبب، ببساطة، لأنها تقف بالموازاة مع قدرات الدولة التي بدأت تتراجع بفعل تنامي هذه الميليشيات وسطوتها وفرض أجنداتها غير الوطنية في أغلب الظن، لكونها تنفذ أجندات دول وجهات إقليمية. لذا لا سبيل، سوى الحدّ من تكوينات هذه الجماعات المسلحة التي بدأت تغزو الشوارع والساحات وتخلق الرعب والاستفزاز والسأم لدى عامة الشعب. فكيف بنا نقبل زيادة تعقيد المشهد العراقي على ما هو عليه من منغصات ومشاكل؟
من المعروف أنَّ المسيحيين، بسببٍ من طبيعة تكوينهم الديني المتميّز وتربيتهم وأخلاقهم المشهود لها بالولاء للوطن وليس لغيرِه، مقارنة مع حال سائر المكوّنات من أبناء الشيعة والسنّة والكرد، الذين يشكلون المثلث الطائفي الحاكم والجاثم على صدور العراقيين منذ 2003، فهم يرفضون فكرة أن يكونوا حطبًا لنار وصراع وقتال غير متكافئ بين الجماعيات الإرهابية وأصحاب المثلث الحاكم. والسبب ببساطة، لأنهم لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعركة الشرسة بين الطرفين المتصارعين من أجل اجاه والمال والسلطة، بل هم من ضحاياها ومن أكبر الخاسرين. والحقائق تشير إلى أنَّ فعلَ تهجيرهم وقلعهم من مناطقهم، تمّت بصفقات بين سياسيّي المثلث الحاكم وبسببهم، وليس لذنب اقترفوه. فلأيّ سبب توافق الإدارة الأمريكية على تسليح فصائل منهم، تُضاف إلى قائمة الميليشيات القائمة وتزجّ بهم أو تشجعهم على دخول هذا النفق المظلم من الصراع؟ وهل هناك مَن سأل نفسَه، لماذا لم تشعر هذه الإدارة التي أنتجت وأخرجت الجماعات الإرهابية التي هجّرت وقتلت وهتكت واستولت على ممتلكات أبناء الأقليات، لماذا لم يصحو ضميرُها وتشعر بحاجة أتباع هذه الأقليات في وقت سابق بعد السقوط المأساوي غير المبرّر بتلك الطريقة الشنيعة، إلى مثل هذا التسليح، لاسيّما وقد تمّ تسليمُ بلداتهم ومناطقهم للكورد الذين تعهدوا برعايتها والمحافظة عليها، بحسب وعود رئاسية وتطمينات حزبية، وبعلم الراعي الأمريكي المخادع؟ بل، حتى ما كان في حوزتهم من أدوات تسليحية خفيفة قد تمّ انتزاعُه منهم قبل أيام من دخول داعش لمناطقهم قبل عامين تمامًا.
في هذا الزمن الغادر، لسنا بحاجة إلى رفع السلاح بهذه الطريقة التي ستفرّق وتمزّق وتشرذم الصف المسيحي بين مبارِكٍ مستفيدٍ ورافضٍ لاعِنٍ. وما كنّا بحاجة إلى حصول مثل هذه الفرقة بين صفوفنا، كي تضيف شرخًا آخر على ما هو قائم من انقسام وتشرذم وانفراط توافق بين الرئاسات الكنسية، ومن سكوت وصمت مطبقين أو موافقة تنافسية من جانب أحزاب كارتونية موالية لجهات لها مصالحُها في صفوف المجتمع المسيحي وفوق أراضيه لأغراض توسعية.
 ولا يخفى على أحد، أنّ مثل هذا التوجه الأجنبي يُعدّ أيضًا تدخلاً سافرًا في الشأن العراقي، كما أنه يساهم بطريقة أو بأخرى بإبقاء النهج التحاصصي الطائفيّ واﻹثني لجماعات دينية وعرقية كي تزيد من قدراتها وتطيل في بقائها صاحية وبعافية. ثمَّ إنَّ مثل هذا الفعل غير البريء، يتعارض مع ما يدعو إليه عقلاء الأمة من الوطنيين المثقفين والسياسيين والتكنوقراط من الذين يرون في عسكرة الشعب، تعزيزًا لمنهج الطائفية وأسفينًا يُدقّ في بناء الدولة المدنية المرتقبة التي يتطلّع إليها الجميع.
 ومن دون الجهود المطلوبة لتعزيز العلمانية في مثل هذه الدولة المدنية المرتقبة التي يشعر الجميع بحاجتها اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا يمكن الاحتكام إلى إعادة كتابة دستور جديد ضمن هذه المقاييس التي تتفق مع المعايير الدولية للدول المتقدمة التي تنتهج العلمانية والمدنية طريقًا معبَّدًا لها في تقدّمها. بعكس ما يدعو إليه أصحاب المشروع الإسلامي الذين يوغلون في غيّهم ويسعون لتفكيك اللحمة المجتمعية بسبب دعواتهم لتشكيل ميليشيات من أجل ضمان تنفيذ مشروعهم الطائفيّ الملتحف بالدّين أساسًا لأدلجة مصالحهم. فكيف بنا نحن المسيحيين، أن نقبل بمثل هذا المبدأ وهذه الفكرة غير الوطنية التي لا تلبي طموحات الشعب العراقي برمته، ولا تتناغم مع تضحياته على مرّ العقود المنصرمة من الاقتتال الأخوي والتي عانى الشعب فيها من براثن الدكتاتورية والحكم الشعوبي والإقطاعيّ والطائفيّ الذي يريد ساسة اليوم اتباعَه منهجًا، لولا صحوة النجباء والوطنيين في الوطن؟
نقول لأمريكا، ومَن في خطّها، إذا كنتم تريدون التكفير عن آثامكم وأخطائكم، وما أكثرها، سارعوا لزجّ قدراتكم العسكرية وخلّصونا من شرّ الجماعات الإرهابية والجماعات الدينية على السواء، بأسرع وقت ممكن كي يعود أهلونا وأحباؤُنا وعوائلُنا إلى ديارهم بدل المأساة التي عاشوها ومازالوا، سواءً في دول الاغتراب الصعبة عليهم أو في الداخل وهم يعانون من ضغوطات الكتل والأحزاب والجهات القائمة على نزوحهم. وبعد الانتهاء من هذه الكارثة، عليكم بمعالجة أوضاعهم ما بعد التهجير والنزوح والهجرة، وما يترتب على ذلك من أعادة إعمار وتعويض وخلق حالة من الاستقرار والسلم الأهلي. وهذه لن تتحقق، إلا بإعطاء أوامركم إلى حكّام السلطة المتحاصصين وغير المبالين بمصير الوطن ومستقبله ومستقبل أبنائه إلا بما يتناغم مع أطماعهم وضمان مكاسبهم، كي يرحلوا ويتركوا الحكم لمَن هم أولى به وأكثر وطنية وأشدّ حرصًا على بنائه وإعادة أمجاده، كي تعود بغداد قلعةً للأسود ومنارة للمجد والخلود.
 وضمن هذه المعالجة أيضًا، يأتي التوجيه لأدواتكم في السلطة، بإنهاء كلّ المظاهر المسلحة خارج سلطة الدولة، وفرض هيبة الأخيرة، والتسريع بإعادة كتابة دستور يؤسس لدولة مدنية علمانية بعيدًا عن المحاصصة والتأثيرات الدينية والمذهبية، عبر سنّ قوانين في ذات الاتجاه والتي من شأنها احتكام المواطن إليها في الاحتفاظ بكامل حقوقه المدنية. حينها فقط، سنعطي لكم الحلّة النهائية، بعد اعترافكم بكل ذنب وخطيئة اقترفتموها، تمامًا كما يفعل القساوسة مع المؤمن التائب عن ذنبه، كي يتصالح مع ربه ويعود صافي الذهن وقرير العين والضمير إلى ذاته وأهله وكنيسته.
من هنا، نؤكد أنّ هذه الخطوة، هي فعلاً غير بريئة وغير مباركة، مهما حصلت من قبول من فئات منتفعة، ومهما كانت نوايا اللوبي المسيحي في الداخل والخارج طيبة بالسعي لإضفاء شيء من الحق على مثل هذا المطلب، من منطلق أنّ تسليحها في سابق العهد، كان يمكن أن يخلق معادلة مقاومة للشرّ والاغتصاب والتهجير. أمّا اليوم، فالتسليح المطروح، لن يكون مقبولاً إلاّ في حدود الدولة وتشكيلاتها الرسمية في الجيش والشرطة وسائر الأجهزة، مع إعطاء نوع من الاستثناء بحيازة مناطق تواجد المسيحيين وغيرهم من الأقليات المضطهدة والمهمّشة، لأنواع من التدريب العسكري الإضافي والتجهيزات الضرورية التي لا تستطيع الدولة توفيرها في هذه الفترة الحرجة من أزمتها السياسية والاقتصادية الخانقة، وذلك من أجل مسك الأرض بعد التحرير.

260
متى وكيف يصلح حالُ العراق؟


بغداد، في 10 أيار 2016
لويس إقليمس

في شيعة العراق:
-   إذا أرادوا تكوين شخصيتهم الوطنية المستقلّة، عليهم الابتعاد عن فعل الخنوع القائم تجاه الجارة إيران، مع احتفاظهم باحترامهم لرموزها الدينية ولدورها الإيجابي والإبقاء على مبادئ حسن الجيرة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدين من الطرفين، احترامًا للوطن وللتعددية القائمة في الأديان والشعوب والأعراق في العراق، التي يقلّ نظيرُها في بلد آخر. كما عليهم التخلّص من عقدة الشعور باستمرار مظلوميتهم، بعد أنْ أتتهم فرصة الحكم على طبق من ذهب.
-   إذا أرادوا تجاوز أخطاء الماضي ووضع حدود لسلوك الاستفزاز الشعائري القائم في المناسبات الشيعية، وما أكثرها منذ السقوط، والتي كرستها وأحيتها وخصّت لها الحكومات الشيعية الطائفية المتلاحقة مواسم وأيامًا لا حصر لها، وبأساليب جامحة وغير حضارية في أغلب الأحيان بحيث تُسَخَّرُ لها الدولة بكاملها وتُعطّلُ مؤسساتٌ منتجة وتقف الحركة وتشلّ الحياة، ويُجبر الناس على ملازمة المنازل والتخفّي والابتعاد عن المظاهر التي يرونها غير حضارية...، فما عليهم والحالة هذه إلاّ التفكير بتطوير فكرة الزيارات الدينية والمناسبات الشعائرية والحج بطريقة أكثر تحضّرًا وتمدّنًا وعصرنةً، بحيث تواصل مؤسسات الدولة أعمالَها  وتبقى الطرق والشوارع سالكة. فعبادُ الله، كلٌّ على نياته يحصل مرادَه ويرضي إلهَه وإمامَه، أيًّا كان. ويبقى التديّن من عدمه والحجّ لمَن سعى إليه والزيارة لمَن استحبّها، ممارسة فردية وعلاقة شخصية بين الخاق والمخلوق، وتفاهمًا بين العابد والمعبود. فلا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال، أن تكون الدولة جزءًا من هذه جميعًا إلاّ في تأمين الحماية الكافية لهم حصرًا. كما من غير المعقول أن تواصل الحكومات المتسلطة صرف أموال جنونية من خزينة الدولة، هي من حق جميع المواطنين وليس لطائفة معينة.
-   إذا أرادوا تصحيح ذات البين وإنهاء التجافي مع مجتمعات مختلفة عنهم دينًا ومذهبًا ومنهجًا، عليهم بالمصالحة الوطنية الحقيقية والمصافحة العراقية الصادقة التي تنهي كلّ الضغائن وتفتح الأبواب على مصاريعها بين أبناء الوطن الواحد، ليعودوا كما كانوا بالأمس يتسامرون ويتصاهرون ويقيمون الولائم والمآتم معًا من دون تفرقة ولا حدود ولا سؤال عن أصل هذا وفصل ذاك وعن دين هذا وطائفة ذاك. ومَن لا يقوى أو يقبل بها منهجًا لوحدة البلاد والتراب، وأداةً لرتق الممزّق في اللحمة المجتمعية، يمكنه المغادرة بسلام طالما بقي مصرًّا على فتق الثوب الوطني وإبقاء التميّز والاستعلاء لشريحة دون غيرها بعيدًا عن حقوق المواطنة في المساواة والعدالة والمصير.
-   إذا أرادوا الحفاظ على وحدة الصف والدار والتمسك بنظافة اليد منهاجًا للأئمّة والصالحين، عليهم بترك نوافذ الفساد جميعًا، ومنها سرقة المال العام ووضع اليد على عقارات الدولة والمواطنين الأبرياء بوسائل وطرق جهنّمية وتهديدية وترويعية أحيانًا، ونهب أموال البلاد بحجج تعويض المتضررين ومكافأة المضطهدين من أنظمة سابقة، وذلك عبر مؤسسات تمييزية موازية للدولة ومنافسة لها مثل مؤسسات الشهداء والسجناء السياسيين وغيرها من المؤسسات الطائفية والميليشياوية والجمعيات الخيرية متنوعة الأسماء والمراجع والأهداف. فهذه جميعًا وغيرُها تخريجات ونوافذ للفساد. وبإمكان الدولة ضمن مؤسساتها الرسمية القائمة من القيام برعاية المشمولين بها وتنفيذ المهام المفترضة وفقًا لقواعد وقوانين وأنظمة تثبت حقوق المتضرّر حقًا، وليس بطريقة عشوائية تمنح مكاسب وامتيازات ومناصب لمجرّد الانتماء لطائفة متنفذة دون غيرها. فكَمْ من مواطنين متضررين من النظام السابق، ضُربت طلباتُهم عرضَ الحائط لعدم انتمائهم الكتلوي والفئوي والحزبي والديني والطائفي، ولم يحصلوا حتى على مستحقاتهم بحسب أنظمة سارية، ومنهم صاحب القلم؟؟؟
-   إذا أراد قادة الشيعة في العراق، أن يساهموا في بناء دولة مدنية حضارية تحفظ حقوق جميع المكوّنات على أساس وطنيّ ووفق مبدأ الاستحقاق الوطني الفرديّ – الشخصيّ والكفاءة في المقدرات العلمية والمؤهلات المهنية، عليهم بترك عباءة الدّين الذي يتسترون به سياسةً وتسييسًا، والذي يستغلونه غطاءً لتحقيق مكاسب طائفية وفئوية وشخصية، ويضحكون به على ذقون البسطاء من الشعب الذي يريدونه صاغرًا تابعًا باكيًا لاطمًا، ليس لسنين بل لقرون، ضمانًا لطاعتهم وولائهم والخنوع الدائم لأمثالهم. ذلك لأنّ تطورَ فكرِ هذا الشعب الذي اعتاد الإنصات لخطب رنانة تثير المشاعر وتؤجج العواطف وتفتح اللواعج الدفينة، إلى جانب استرداده لرجاحة عقله حول ما يُجبرُ على سماعه في المواسم والشعائر، وكذا حكمُه بعينِ الفكر الناضج على ما يجري، كلّ هذه التطور في فكر العامّة لن يكون من صالح أيديولوجية أرباب الإسلام السياسي، بشقيه الشيعيّ والسنّي، اللذين يريدان إبقاءَه أسيرَ مواسم التطبير والمواكب بالنسبة للشيعة وفتاوى شيوخ الموت وأقوال ابن تيمية ومَن في شاكلته بالنسبة للسنّة.
-   إذا أراد شيعة العراق المساهمة في بناء دولة مؤسساتية قائمة على قيم وطنية تمتلك جيشًا عقائديًا وقوات أمنية وطنية جاهزة للدفاع عن حياض الوطن وعرضه وأهله وسمائه ومياهه، فما عليهم إلاّ التخلّي عن سياسة تشكيل الميليشيات الطائفية التي تكاثرت وتوسعت وأصبحت موازية لقوّة الدولة وقدراتها، لها ميزانياتُها التي تستنفذ اليوم جهد الدولة واقتصادَها من خلال الفساد المستشري فيها أيضًا، ونتيجة للسلوكيات القائمة على سياسة الضعيف تجاه القويّ خارجًا عن سلطة الدولة والدستور والقوانين. وفي هذا، يقدّر الشعب العراقي تضحيات الأوفياء والوطنيين الصادقين من الملبّين والمتنادين لصوت المرجعية في الدفاع عن حياض الوطن وتطهير الأرض والعرض من دنس الغرباء الأشرار، والتي لولا جهادهم الكفائي، لكانت العديد من مناطق العراق في خبر كان. وانطلاقًا من الحسّ الوطنيّ، يُؤمّل دمج هذه المجاميع في جسم التشكيلات الأمنية والعسكرية والاستخبارية الوطنية المتعددة، حفاظًا على وحدة الصفّ وتعزيزًا للروح الجهادية المطلوبة في شكل الأجهزة الأمنية جميعًا.
-   باختصار، إذا أرادوا التفاعل مع باقي المجتمعات الدينية والإتنية المختلفة عنهم، عليهم بقبول مبدأ الدولة المدنية بالحق والحقيقة، وأن يسدلوا الستار عمّا أسماه البعض من قادتهم بالمشروع الإسلامي الذي يربط مصير العراق بمصير أتباعهم في الجارة إيران، سواءً بتشيّع البلاد أو بأسلمتها على طريقتهم، غير مكترثين للتنوع الإتنيّ والدينيّ الذي يشكّل جمالَ بستان الوطن وديكورَه في الواجهة الدولية.

في الكورد
-   إذا شاءوا البقاء مع وحدة العراق وربط مصيرهم بمستقبل البلاد وأطيافه، أرضًا وشعبًا وسماءً وثروات باطنية وخارجية، عليهم إسدالُ الستار عن اسطوانتهم المشروخة بالتهديد بتقرير المصير وإعلان الاستقلال وحسم أمرهم. فإن شاءوا ذلك، فهذا حقُهم، والشعبُ والدولة سيحترمون خيارَهم المصيري تمامًا كما نالوا التأييد للحكم الذاتي في أوانه، ولكن، وفق أصول وإجراءات هادئة، وأن يحصل ذلك من دون ابتزاز أو مساومات تعجيزية على الأرض والثروات والمغانم.
-   في حالة خيارهم البقاء ضمن عراق فيدراليّ موحّد، عليهم الكفّ عن المطالبات التعجيزية والاستهلاكية التي لا تنتهي، واحترام صوت الشعب، والتماهي مع نبض الشارع المنتفض، ودعم مطالب الفقراء والمهمّشين، من خلال الإنصات لمطلب إلغاء المحاصصة الذي يصرّ عليه الشعب وأكدته الأحداث الأخيرة، بما فيها أصوات النواب المنتفضين والمعتصمين والمصرّين على تشكيل جبهة معارضة أو كتلة عابرة للمحاصصة الطائفية، وليس بالتصريح " بغداد، إلى جهنّم"، أو التلويح ب"الخطّ الأحمر" لأيّ مسعى حكومي بالتغيير!
-   بعكس ذلك، إذا شاءوا الانفصال، عليهم إثبات حسن نيتهم في التعامل مع مصير العراق بروح الوطنية وليس بالعنترية والعنجهية والتكابر، باستغلالهم لدعم الراعي الأمريكي والأوربي اللاّمحدود إلى جانبهم، من خلال استخدام سياسة ليّ ذراع الحكومة المركزية الضعيفة الغارقة في أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة، عالمين أنهم كانوا ولازالوا جزءًا في شراكة العملية السياسية في الفساد والإقطاعيات الحزبية والفئوية والعرقية منذ 2003.
-   إذا حصلوا على استقلالهم الموعود، هنّأناهم وطالبناهم بحفظ حقوق الجماعات المتآخية المختلفة في الدّين والعرق، ومنها حق الحكم الذاتيّ للمناطق التي يتواجدون فيها. فهذه الجماعات قد ناضلت إلى جانبهم طيلة عقود النضال المنصرمة. ومن حقها أن تحتفظ بقوامها الإتنيّ والدينيّ وهوياتها القومية المستقلّة من دون ضغوط وإكراه وتهديد وشراء ذمم، وكذلك التمتع بحقوق مواطنية متساوية، بعد تحوّل الحكم الذاتي في شمال الوطن إلى حكومة كردية عرقية تُحكم عشائريًا وعائليًا وتتحكم بجميع مخارج الإقليم ومداخله السياسية والاقتصادية والمجتمعية.
-   إذا شاءوا المساهمة في بناء الوطن وفي تعزيز مؤسساته الحكومية وبناء قدراته العلمية والإدارية والاجتماعية، عليهم احترام العاملين في إداراتهم الذين يتعرّضون لاستغلال قلَّ نظيرُه في التعامل، لكونهم مختلفين في الإتنية عن مواطني الإقليم من الأكراد الذين يحقّ لهم حصرًا وليس لسواهم تبوّأ مراكز وظيفية متقدمة ومواقع تعليمية. فما يقع من تمييز على مواطنين من غير الكورد، من الذين لجأوا للإقليم قبل أحداث 2003 وما بعدها بصورة خاصة، يقزّز النفس ويندى لها الجبين. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما يحصل في مؤسسات إدارية وتربوية وتعليمية من استقطاعات مرتبات وفرض ساعات إضافية لتدريسيين من دون مخصصات وتسريح البعض من دون أسباب وحرمان أمهات من إجازات أمومة وطفولة من دون مرتب واستهتار طلبة بأساتذة محترمين، والقائمة طويلة.

في المكوّنات المهمّشة
-   لغرض نيل حقوقهم، كمواطنين أصلاء في الوطن، مختلفين في الدين و/أو العرق، ومشاركين في بنائه وترميم مؤسساته المتهالكة، عليهم بلمّ شمل الكلمة ووحدة الخطاب السياسيّ والتوجّه بقوّة طاقاتهم الدينية والقومية وبقدراتهم العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال الوقوف بوجه موجات الصدّ وأدوات الرفض وإرادات التهميش والاستخفاف والتغافل المتواصلة التي طبعت عليها الحكومات المتعاقبة منذ السقوط في 2003. فالفرقة والتمزّق من مخرجات الخوف واليأس والعجز، فيما أتباع هذه المكوّنات لهم عمقٌ في التاريخ ولديهم تجذّرٌ في الأرض ولهم لغاتهم وتراثُهم وعاداتُهم الجميلة الباقية، ما يعزّز من هويتها الخاصة بها.
-   بهدف تشكيل لوبيّ وطني مستقلّ في الداخل والخارج، عليهم الكفّ عن التبعية لأحزاب وزعامات سياسية تفرض أجنداتها القومية والحزبية من خلال شراء الذمم والرشاوى التي يجري تمريرُها من خلف الكواليس طمعًا بكسب مواقف لصالح هذه الكتل والأحزاب ومن أجل تعزيز مكاسبها على حساب مصير ومستقبل هذه المجتمعات المسالمة أصلاً.
-   بهدف إعلاء صوتهم وإسماعه لأصحاب القرار وللمجتمع الدولي، عليهم بحراك سياسيّ ومجتمعي وإعلاميّ وثقافيّ مكثّف، بدلاً من الاسترخاء واليأس وقطع الرجاء. فنضال الشعوب المنكوبة لا يُستحصلُ بالركون على الأرائك ولعب الدومينو والطاولة في "القهاوي" ومراكز التسلية. فللإعلام الوطني الصادق وللمثقّف والوطني الناشط، دورُه البارز في صحوة النائمين وفي نقل الحقيقة وتنوير الجهلة بما يجري من خلف الكواليس وما يُحاك في الأروقة في فنادق خمس نجوم وفي دواخل فلل الرشاوى والاستراحات الخاصة.
-   لغرض فرض وجودهم، وهوياتهم الوطنية المتميزة بتراثهم ولغاتهم وتقاليدهم، عليهم المثابرة على تواصل حضاراتهم وإبراز انفتاحهم الدائم على الغير وبسط قدراتهم حيثما يتواجدون، من دون خنوع ولا خوف ولا مجاملة ولا تنازل عن الحقّ. فإنّ أيَّ خضوعٍ غير مبرّر، قد يعدُّه المقابل المقتدر ضعفًا قابلَ الابتزاز وليسَ تحضّرًا ومدنية وعصرنة في بلدان منغلقة على ذاتها، دينيًا وقوميًا ومذهبيًا وطائفيًا!

... وبعد، هل يمكن أن يصلح حالُ العراق بعد هذا الاستعراض بالمآسي والمشاكل والمتناقضات والتعقيدات والتخوينات وانعدام الثقة والمصداقية وحسن النية بين الإخوة المتصارعين والغرماء العنيدين، حلفاء الأمس وأعداء اليوم، ليفتحوا صفحة جديدة من الانفتاح والاحترام والبناء والإعمار والمصالحة الوطنية تحت رباط وطن واحد وخيمة وارفة الظلال تحتضن جميع المكّونات والجماعات والفعّاليات من دون تمييز ولا تهميش ولا إقصاء؟
مازال الأملُ معقودًا على عودة الوطن إلى سابق عهدِه، واحدًا موحّدًا بأهله وأرضه، عصيّا قويًا على الأعداء، رافضًا محاسِبًا كلَّ فاسدٍ ومتجبّر بغير حق، ومحتضنًا أبناءَه وكفاءاتِهم من دون تمييز ولا ظلم ولا تعسّف. فالغيمة السوداء التي ما تزال تضرب أرض الوطن، لا بدّ أن تزول ومعها سيختفي كلُّ الفاسدين والسارقين وحيتانُهم، ومعهم لصوصُ الليل والنهار، ومتهتّكو الأعراض، ومثيرو الشغب والطائفيون وأصحاب الأجندات الشخصية والفئوية المشبوهة.


261
متى وكيف يصلح حالُ العراق؟
بغداد، في 10 أيار 2016
لويس إقليمس
جميعنُا في الوطن الجريح، وغيرُنا كثيرون من مغتربيه ومحبيه يسألون هذا السؤال المرّ الصعب: متى يصلح حالُ العراق، وكيف؟؟؟
فيالق مؤلّفة من الوطنيين الغيارى، وأسرابٌ أثيلةٌ من الطافحة قلوبُهم بثقافة المحبة والخير والسلام، وقوافل أمينة ومخلصة لحضارات الآباء والأجداد من الحاملين غصنَ الزيتون بيد ومشعل العلم والثقافة باليد الأخرى، وحشود من العراقيين الطيبين البسطاء من ذوي النوايا الحسنة، ونحن منهم، تحدثوا جميعًا وقالوا كلمات وقدموا نصائح ورفعوا هتافات للوطن ولرفعة الشعب ورفاهته ورفع الحيف عنه وتضميد جراحاته التي نزفت ونتنت وتقيّحت. ولكنْ، ما مِن طبيب حكيم أمينٍ يداويها ويشخّص حقيقة مرض هذا الوطن وشعبه، بل الأمراض التي تغافل ويصرّ على تغافلها سلاطينُ الحكم المنتفعون من الفوضى الخلاّقة التي أرسوا دعائمَها بمشورة من الغازي الأمريكي وغيره. والسبب، هو إصرار مَن يحكمون الوطن بلا كفاءة وفي غياب الوازع الوطني الصادق، على تغييبِ أساطين مبرّزين في العلم والثقافة والفنّ والحكمة والأدب والسياسة والنصح من المستقلّين النجباء من أجل المشاركة في إدارة الدولة المتهالكة وإنهاضها من كبوتها.
مَن يريد قول الكلمة الحق، حتى على ذاته وبني جلدته وأهلِه ومقرّبيه حبًّا بالوطن ورحمةً بالشعب المقهور وعطفًا بالأطفال والثكالى والشيب ومفترشي الأرصفة من جيوش العاطلين ومن المتسكعين استجداءً في التقاطعات والساحات، فلا جُناحَ عليه ولا خوفٌ ولا هم يحزنون، لأنّه متحسسٌ بعمق المعضلة، ومنطلِقٌ من نبض الشارع الذي يزداد غليانًا، ومن المرجعية الرشيدة التي بحّ صوتُها، ومن صوت الشعب الذي طال انتظارُه لفعل رحمة وخدمة آدمية ولسماع كلمة عطف وراحة أمينة. فالقلم الحر المستقلّ، منطلقًا من وجدان الشعب ومقتضياته ومآسيه وويلاته، لم يعدْ يخشى جبروت الطغاة ولا سطوة المافيات ولا تهديد الميليشيات ولا زعيق الزعامات وما يصدر عن هذه ومنها من خطابات طنانة في البلاغة والفصاحة والوقاحة بالكذب على عقول البسطاء وفي استمالة جوانب المقهورين وفي استدرار عواطف الشارع وإثارة مشاعر أتباع هذا التيار وهذه الطائفة، سواءً من أجل الإبقاء على مكاسب قائمة أو لتسويف الإنصات لصوت الشعب والمماطلة بتنفيذ مطالبه المشروعة بالعيش ضمن دولة مدنية خالية من الفساد والمفسدين ومن الظلم والظالمين ومن المتسترين بجلباب الدّين ومظاهرِه والمتزلفين بالشعارات الشعائرية في المناسبات المناسكية. فمثل هذه الخطابات الرنانة أصبحت أسطوانة مشروخة، ولم تعد تنفع سوى للاستهلاك الديني والمذهبي والطائفيّ لفئة فقدت الأهلية والمصداقية، وبها يحاول أصحابُها إنقاذ مراكبهم الغارقة وكراسيهم الآيلة للسقوط في أية هبّة أو موجة عارمة، وهي قادمة من دون شك!
نحن مع الإصلاح الجذري، ومع ثورة الشعب، ومع انتفاضة الشارع الوطنية، وقلوبُنا وأفكارُنا ومشاعرُنا مع تظاهراته واعتصاماته ومطالباته الوطنية المشروعة، ومع صحوة النواب الصادقين وليس الراكبين للموجة تزييفًا وتسترًا وإكساءً لعورة الذنب.
 ونعود للقول: إلى متى يبقى الوطنُ رهنًا بأيدي أعدائه والطامعين به وغير المكترثين لمصيره ومستقبله، في الداخل والخارج؟ وحتّى مَ يظلُّ أهلوهُ بين فكّي سلطانٍ فاسدٍ وطامع أثيمٍ ودخيلٍ ربيب يستقطع لقمة الفاقة من أفواه اليتامى وحلوق المقهورين وأكتاف المتعَبين وظهورِ ثقيلي الأحمال؟ ومتى يصحو الغافلُ من سبات تبعيتِه، والشعب من طول غفوته، ليمسك الفأس والمعول بيد والمحراث والمنجل بيدٍ أخرى كي يبني ويعمّر ويعدّ الأرض ويقوّم السبل المعوجّة التي دمّرتها أيادي الشرّ والفساد والخذلان منذ نشأة الدولة العراقية، والتي زادت حدّةً بعد الغزو الأمريكي وأعوانه وتشدّقهم بحجة نقل الديمقراطية الممسوخة وتصديرها لشعوب بحاجة إلى مرحلة إعداد أخلاقية وعلمية واجتماعية زادًا، قبل الرفاهة المزعومة لهذه النظرية التي لا تتقبلُها أرضية المنطقة الدينية والإتنية بالصورة التي جُلبت إليها؟ وعودٌ متتالية ومزيفة من رعاة العملية السياسية وأدواتها المنفذة في الداخل، بتحسّن الأوضاع وبانتقالة هادئة نحو السلم والاستقرار والأمان والديمقراطية. طال انتظارها وساءت التقديرات بشأنها عندما كُشفت النوايا وبان المستور وتواصلَ هضم الحقوق وبقيت المماطلة والتسويف والضحك على ذقون الشعب البائس.
رحم الله شاعر العراق والعرب محمد مهدي الجواهري في رثائه للوحدة العربية الممزقة، وهذا ما ينطبق على واقع ومآسي الحكم في العراق أيضًا:
حتى مَ هذا الوعدُ والايعادُ           وإلام كتم الابراقُ والارعادُ 
أنا إن غصصتُ بما أحسُّ ففي فمي        ماء وبين جوانجي إيقاد 
يا نائمينَ على الأذى لا شامُكم           شامٌ ولا بغدادُكُمْ بغداد 
تلك المروج الزاهراتُ تحولت           فخلا العرينُ وصوّح المرتاد 
هُضِمت حقوقُ ذوي الحقوق، وُضيِّعت        تلك العهودُ وخاست الآساد 

تلكم بعض ما نتصارحُ به، وجزءٌ ممّا نقولُه تبيانًا للحقيقة من دون مجاملات ولا مهاترات ولا سفاهات لما صار وحصل في الفترة ما بعد السقوط الدراماتيكي في 2003. ولأركان السلطة ومَن في الحكم، ومَن يرنو ويلهث إليه اليوم وغدًا جهادًا مستميتًا وصراعًا لجني مكاسب غير مشروعة، أن يدير لسانَه سبع مرّات ويحكّم عقلَه أربعة عشر مرّة، ويقرأ التاريخ ويتعلّم بعضًا من دروسه سبعين مرّة سبعَ مرّات، لكي يتبوّأ الحكمَ ويكون أهلاً له في خدمة الوطن ورعاية الشعب. فمَن شاءَ الردُّ إيجابًا أفلَحَ وفازَ، ومَن لجمَ الرّسن وراجعَ المواقف خدمَ وفاقَ، ومَن نصحَ وانتصحَ ارتاحَ وأراحَ، ومَن لا يقوى على هذا أو ذاك، فليغادر دارَ الأخيار ومواقع الأئمّة ومزارات القديسين وبيوتات الطيبين من الآباء والأجداد في بلد العزّ والحضارات! فالحال لم يعد يتحمّل نظام المحاصصة المقيت وامتيازات تجار الحروب ومكاسب مافيات الفساد وحيتان سرقة السحت الحرام والمال العام في عزّ النهار وفي عتمات الليالي السوداء.
في العراقيين جميعًا:
-   إذا أرادوا بناء الوطن والعيش في دولة المواطنة وفق نظام حضاري ومدني، وشاءوا عودة السلام والأمن والاستقرار لهذه الأرض الطيبة ولنفوسهم وبلداتهم ومناطقهم، عليهم بالولاء له دون غيرِه، والإصرار على نبذ الفاسدين والمفسدين وإخراجهم من صفوفه وليس التستّر عليهم. فهو جريح مطعون بحرابٍ مثخنة أثقلت كاهلَه، وهو بحاجة لحكيم ناصح يداويه، وليسَ مَنْ يُنجد! كما عليهم ألاّ يقبلوا بغير الكفاءة والجدارة معيارًا للمواطنة الصالحة، والديمقراطية الصحيحة وليس الفوضوية طريقًا سالكًا للحرية الفردية والمجتمعية، وحرية الفكر والعقيدة والدّين، وحرية الملبس والسفر والارتباط وما في خوافي وبواطن وفروع هذه جميعًا من دون أدوات "الإكراه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". فالمنكر معروفٌ وهو أشدُّ قساوة وضراوة وجرمًا ممّا يطالبُ به بعض أصحاب هذا الفكر الجانح.
-   إذا أرادوا تقويم الذات وإعادة بناء الشخصية العراقية الوطنية على أسس اجتماعية متمدنة ومتحضّرة ومعاصرة، عليهم بترك الازدواجية في السلوكيات اليومية، بدءً من مدرسة البيت الأولى، فالروضة، فالابتدائية، ثمّ الثانوية حتى التحصيل العالي، والارتقاء نحو ما يتاح للجميع للنهل من أشكال العلوم والآداب والفنون، عبر مناهج معاصرة جديدة تخدم العملية التربوية حصرًا وتحشّد لمواقف وأهداف وطنية مدنية شفافة، بعيدًا عن اختلاجات الأفكار الدينية الزائغة والمتزلفة التي تمزّق وتدمّر وتفرّق وتحرّض.
-   إذا أرادوا لملمة الجراح وغلق شرايين النزيف ووأد الفتنة، عليهم بإخراج كلّ فاسد ومفسدٍ وطائفيّ في أرض العراق الطيبة من أي دين أو ملّة أو طائفة أو عرقٍ، في حالة رفض هذا العنصر التناغمَ مع الصحوة الوطنية الجارفة التي قويت هذه الأيام وباتت أقربَ إلى التحقيق من أي وقت مضى في حالة تواصلها واشتدادها والالتزام بها لحدّ الاِستِماتة.
-   إذا أرادوا الصلح وتنفيذ مشروع المصالحة الوطنية، على أسس رصينة وبنيّة صافية وإرادة صالحة، عليهم الكفّ عن إلقاء التصريحات المتشنجة وإطلاق تهم التخوين غير المسؤولة التي لا تبني ولا تقدّم جهدا، بل تزيد النار احتراقًا وتواصل صبَّ الزيت على ما هو قائم من حرائق وما نعاني من مصائب وويلات ونكبات وتخلّف.
-   إذا أرادوا طيّ صفحة الماضي وعزل الفاسدين والوصول إلى برّ الأمان بإعادة اللحمة المجتمعية للنسيج المتفكّك بفعل الأغراب عنه وبفعل ما حصل في 2003 ولغاية اليوم، عليهم بتوحيد الصفوف، ونكران الذات حبًا بالوطن ومستقبله، والتنازل لبعضهم البعض حين الضرورة، وتعزيز حوارات مجتمعية وعشائرية وثقافية وتنظيمية لتضييق الاختلافات ومواقع الفتنة التي خلقتها أطراف طائفية وانقادت لها تيارات هزيلة تفتقر للكفاءة في الحكم والإدارة والاقتصاد والتربية والتعليم والثقافة وما سواها. وهذا يتطلب أيضًا، الحثّ على قبول واحترام التعددية التي تُعدّ غنى وطنيًا للدولة والشعب والمنطقة والعالم. ومنها يتوجب العمل أيضًا، على تغيير العقلية والثقافة المجتمعية غير المستقيمة التي تستخفّ وتنظر بازدراء إلى مكوّنات دينية وإتنية قليلة العدد، بل وتعدّ كلّ ما تمتلكه هذه حلالاً يمكن الاستيلاء عليه، وكلَّ مختلف دينيًا عن دين الأغلبية هدفًا وكفرًا قابلَ الاستهداف.
-   إذا أرادوا بناء اقتصاد البلد واستنهاض قدراته الإنتاجية من جديد، عليهم بقبول العمل بنزاهة وإخلاص في دوائر الدولة التي يعملون فيها، أو في مؤسسات القطاع الخاص، الجهة الساندة للدولة والمؤازرة لتنويع الموارد وتعزيز الإنتاج والإنتاجية، وليس التكاسل واللامبالاة والاستنكاف والاستعلاء في تنفيذ المهام الموكلة لكلّ فرد في القطاعين المذكورين، كلّ حسب قدراته ومؤهلاته.
-   
في سنّة العراق:
-   إذا أرادوا العودة بقدراتهم الوطنية المعهودة، إداريًا وسياسيًا ومهنيًا، عليهم الاستقلال في الرأي وفي الفكر وفي المنهج بعيدًا عن أجندات دول الجوار والإقليمية الطامعة التي لا ترضيها وحدة الصف والكلمة والرأي، ولا تريد التصفيق لوحدة الوطن وترابه وأهله، ولا ترضيها عودة نسيجه الاجتماعي إلى عهده المعروف واقتصاد البلاد نحو الازدهار. كما ينبغي عليهم الكفّ عن أدوات التخوين ضدّ المختلفين عنهم، مع ضرورة فتح صفحات جديدة من الثقة بالنفس وبالغير، ومن المصداقية في العمل الوطنيّ الصادق مع الأغلبية الحاكمة، وليس الإبقاء على كبرياء الحكم والسلطة التي خرجت عنهم.
-   إذا شاءوا تنقية الشوائب في سلوكهم الدينيّ والمذهبيّ، عليهم التخلّي عن خطاب الكراهية في خطب رجال دينهم أيام الجمع والمناسبات، والكفّ عن التهجّم على المختلفين عنهم دينًا ومذهبًا، واتّباع سلوك السلم والتسامح التي سار عليها رسولهم أيام الدعوة الأولى، ومنع أدوات التحريض بكلّ أشكالها، ومنها فتاوى القتل التي تصدر عن شيوخ الظلام والتطرّف من المعتمدين على أحداث وأشخاص مضى عليها أكثر من 14 قرنًا خلت على أيام الجاهلية والتخلّف ووأد البنات وحياة البداوة وركوب الجمال وما رافق المرحلة الثانية المثيرة من الرسالة المحمدية في زمن ما بعد الهجرة.
-   إذا شاءوا استدراك ما تعرّضوا له أو بالأحرى ما عرّضوا له ذواتهم ومشاريعهم وقدراتهم في الابتعاد عن الحكم الرشيد منذ السقوط في 2003، عليهم بوحدة الصف والفكر والرأي ونبذ أسلوب التخوين وسوء النيّة في الآخرين والالتزام بمنهج وطني واضح غير انتهازيّ. فهُمْ أكثر دراية بشعاب الإدارة والحكم والأفضلُ في استنهاض المجتمع الدولي ودول المنطقة لصالح الوطن وأهله. وهذه حقيقة لا غبارَ عليها. ومن حقهم استعادة ذلك وفق الدستور والقانون والجدارة.
-    إذا أرادوا إعادة كسب ودّ أبناء الشعب من زاخو إلى الفاو، عليهم بنبذ خلافاتهم ومماحكاتهم البينية والعشائرية والمذهبية، والتصريح الواضح والعلنيّ برفضهم للهجمة الإرهابية الشرسة التي استباح بها تنظيم "داعش" الإرهابي المحسوب على ملّتهم لأرض العراق، ومَن على شاكلته، وهتكه لأعراض مواطنين أبرياء وتهجير الملايين الآمنين من مناطق سكناهم والاستيلاء على أموالهم وعقاراتهم ومساكنهم، وليسَ بالسكوت عمّا يقترفه من جرائم أو التستّر على خلايا نائمة ودعم مجموعات مسلحة من أجل تقويض العملية السياسية المتهالكة أصلاً.

يتبع- ج 2



262

أن تصيرَ جدًّا، ماذايعني؟

لويس إقليمس

في عالم، حيث الأزواج لم يعد لديهم من قوة الأمس، أصبحت الجدودة (كون أن يصبح الإنسان جدّا) من المعالم الهامة، في عدد من البلدان التي تضمن حياة كريمة ومحترمة للمواطن الذي أفنى عصارة عمرِه في العمل. والسبب، توفر أوقات متاحة أكثر من ذي قبل لإمضائها وسط البيت العائلي التقليدي الذي يقبل بتواصل الحياة للأجيال، وفيها يكون للأحفاد حصة الأسد.
تدور الحياة بالشكل الذي تريدُه الأقدار، أو كما يشاء البعض أن يقول وفق مخطط "سماوي"، قد هيّأ كلّ شيء للإنسان والعناصر المحيطة به. حتى الأبوّة، تدخل في منهاج هذا المخطّط، وما على الشخص المعنيّ سوى التهيّؤ لهذه المهمة الجديدة في حياتِه. وإنه من قانون الطبيعة أن يتواصل الجنس البشري عبر التوالد والتكاثر، عملاً بوصية الخالق "انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها"(تك 1: 28). هذا هو مشروع الله الأبوي لبناء حضارة جميلة للبشرية واستمرار الخلق، على صورته ومثالِه، وفق المخطّط المرسوم! فانقطاع التوالد البشري، يعني وضع حدود للتكاثر بالحياة ورفض نعمة الله في الخلق. وهذا بحدّ ذاته انتحار للشعوب والمجتمعات والأوطان، على السواء. فقد اتضح لنا ذلك بصورة خاصة في بلدان الغرب المتحضّر، مع تطور الثورة الصناعية وتقدم التقنيات التي نالت من وقت وفكر الإنسان فيها الشيء الكثير، إلى جانب راحة البال والفكر والإيغال في المتعة الجسدية، بحيث نسيت أو أجلت إلى أجل غير مسمّى عملية التكاثر في جنس أبنائِها. وقد صدق القول فيها، أنها قد شاخت بسبب تقهقر احترامها لحياة الجنس البشري والرسالة الإنسانية التي أوكلَها الخالق لكلّ امرئ يولد على الأرض.
 وبسبب هذا التراجع عن التوالد والتكاثر، واستخدام أنواع المبتكرات من وسائل منع الحمل والأنانية المفرطة في العلاقة الحميمية التي تُبعد الرجل والمرأة عن مشروع ضمان تواصل الجنس البشري وتناسلِه الطبيعي وفق المخطَّط الإلهي، فقد تراجعت نعمة الآباء في التمتع بالأحفاد بسبب عزوف الشباب في الغرب الماجن مؤخرًا، عن تحمّل المسؤوليات الأسرية والمجتمعية والوطنية المترتبة على عهود الزواج التي تأمر بها الأديان عامة. وبالنتيجة، تحولت بعض هذه الشعوب إلى حواضن تستورد البشر، أيًّا كانت أجناسُهم وخلفياتُهم، من أجل إدامة الحياة والمكننة الصناعية والمادية في بلدانها. وهذا ما أد خلها في دوّامة الحياة المتطلبة والمشاكل التي حصرَ لها، بسببٍ من عدم مراعاة الحكومات المتعاقبة للتركيبة الحياتية لشعوبها الأصيلة. فتهجّنت هذه الأخيرة وتميّعت وخرج الأمر والحكم من بين يديها، بسبب من عدم انسجام المستورَدين الجدد وصعوبة اندماجهم في المجتمعات الغربية المتقدمة، تلك الغريبة على أفكارهم ومعتقداتهم وأخلاقهم! وبفقدان التحكم في جنس المجتمعات الأصيلة والنقية للبلدان العريقة التي أثمرت في بناء أوطانها بسنوات من التعب والمثابرة والثورات المتعاقبة، تكون هذه قد سلّمت الراية خطاً لأجيالٍ فاقدة لقيمة الحياة المدنية ولرسالة الخلق والخالق معًا في احترام أصول الحياة الطبيعية للشعوب الأصيلة. ومنها، مساهمتُها من حيث تدري أو لا تدري بكسر الشعور الأبوي والعاطفي الطبيعي بين الأجيال المتعاقبة. فإنْ كانت تدري، فالمشكلة كبيرة. وإن كانت لا تدري، فالمسألة أكثر تعقيدًا، لأنها تكون قد فقدت نعمة نسمة الحياة الجديدة التي ينقلها الأجداد للآباء والأحفاد وبهم تتكون الأجيال وتُبنى الأوطان.
عمومًا، الأبوّة، نعمة من الخالق، عندما تتجدّد على رسلِها، وبها ينعم الجنس البشري بكلّ وليد جديدٍ صالح يتربى في عزّ الوالدين الصالحين لإنضاج مجتمع صالحٍ هو الآخر. وما أجمل تشبيه "المرأة الصالحة بالنصيب الصالح، تُمنحُ حظًا لمَن يتقي الرب" (سفر يشوع بن سيراخ 26:3). وبهما ومعهما معًا، تتواصل الحياة للأجيال. فهي كالكرمة المثمرة في البيت، يأكل منها المجتمع ولا يشبع، يشرب من أخلاقها ولا يرتوي، وأولادَها كشتلات الزيتون على المائدة. فكم بالأحرى، إذا أضافت سمةُ التناسل الطبيعي الذي عرفته الشعوب منذ الخليقة، والتوالدُ الأسري التقليدي،إلى مهامِ الأبوة صفةَ"الجدودة"! وهل أجمل من أن يحمل "الجَدّ والجدّة"، على ذراعيهما أحفادهما ويشاركان السهر وهزّ المهود مع الوالدين مساهمة في تربيتهم كما أمر الله خلقَه!
ولكن، هل مثل هذا الفرح الغامر يكفي لإكمال سعادة هذا "الجد" أو "الجدّة"؟ بطبيعة الحال، يكون الجواب،لا! فالمهام كبيرة لإكمال مثل هذه السعادة وبلوغها لفائدة الأسرة وأهل الدار والمجتمع والوطن على السواء. وهي أكثر من قدر السعادة الغامرة التي أحاطت البيت العائلي الكبير والمجتمع المتجدد بالضيف القادم، بدءً من الاهتمام الذي ينبغي إيلاؤُه إياه، بعد أن ملأ الوسط فرحًا وبهجةً بتشريفه.ولعلَّ من أولى الأولويات ل"لجدود"، ما يمكن أن يقدّمه له من عطف وحنوّ وتدليل. فاحتضان الحفيد وغمرُه بالحب الأبوي والعاطفي، يمنحه بلا شك فضاءً من الطمأنينة والهدوء والسكينة في الروح، ولكن ليس من دون حدود! فالمعانقة المرفقة بالحنان والقبلات الحارة تكون من دعائم خلق نمطٍ من الألفة والعلاقة بين الطفل و "جدّه" الذي يرى فيه أحبَّ وأقربَ شخصٍ يلفُّه بمشاعر تزيد من عرى العلاقة، لاسيّما حينما يلجأ الطفل للفت الاهتمام بحركاتِه البهلوانية المتنوعة، يمنة ويسرةً، أوبعد تجاوزهمرحلة الفطام ليبدأ بالتلعثم والكلام والحبووالشعور بالاهتمام. حينها، يزيد "الجدّ" من كيل كلمات المديح والإطراء تعزيزًا لشخصية الطفل الذي يبدو متلهفًا لمثل هذه الكلمات الجميلة التي يفخر بها. فهذه سوف تشعرُه بالاطمئنان لوضعه ككائن بشري دخلَ حياة البيت والمجتمع المحيط به.
هناك مَن ينادي بتدليل الطفل، وهذا أمرٌ طبيعي داخل البيت الأسري. فالطفل، بطبيعته هو الذي يشدّ الأهل إلى تحبيبه وتدليلِه، لاسيّما إذا كان ذا منظرٍ بهيّ ومتميّز في حركاتِه وضحكاتِه التي تخلب الألباب. وهنا لا بدّ من التنبيه بعدم الإكثار من إغراق الطفل بالمزيد من المحفّزات ولاسيّما المادية منها من غير الضرورية أحيانًا، كالحلويات وأنواع البسكويت، إلاّ ألّلهمّ إذا كان القصد منها أحيانًا لغرض تشجيعه على الإتيان بفعلٍ مقبولٍ ومحبوبٍ وبانٍ لشخصيتِه. ولا بأس من تقديم محفزات وهدايا رمزية في فترات متعاقبة، تسهم في بناء شخصيتِه أكثر ممّا تجرُّه إلى اللامبالاة أو في التركيز على أدوات الأطعمة والسكريات التي قد تضرُّ به أكثر، بقدر ما تنفع آنيًا. فالهدايا التي يتم اختيارُها، يحبّذ أن تكون رمزية وقائمة على ما يبني شخصية هذا الكائن الجديد الذي نزلَ ضيفًا محبوبًا على الأسرة. فمثل هذه، تبقى في ذاكرة الطفل، ومعها يدوم اعتزازُه بها وتذكّرُه إياها حتى مع الكبر. وهذه تجربة شخصية تأكدتُ منها في محيط إيجابي. وسأسعى لتكرارِها ومعاودتها وتطبيقها اليوم، بعد أن صرتُ جدًّا لمرتين، من الابن والابنة، على السواء!
ولعلَّ أجملَ ما سينتظرُه الحفيد، قصص الكبار وحكايات الأجداد والجدّات، وهي تطوف بالصغير في عالم الأحلام ودنيا أيام زمان، كيف كانت الحياة تسيرُ مع الأجيال السابقة. فالطفل سيكون كلُّه شوقًا لسماع كلّ هذا، والإنصات إليه بشغف كبير، لكونِه ربما يختلف عن زمانِه ومكانِه وظرفِه. فلكلّ جيلٍ ظرفُه وفكرُه ومدركاتُه ورؤيتُه للأمور، وفي تقييمِها. وهي التي تساعدُه في فهم ما يجري حولَه وتكوين فكرة عمّا ينتظرُه من فعلٍ إزاءَ ما يسمع من ذكريات، وما يرى من صور ناطقة تسجل حياة الماضي.
ومن المسلّمات أيضًا، أن يرافق "الجدّ" الطيب، كل خطوات الحفيد ويسعفَه في كلّ واحدة منها، كي يسير فيها بصورة حسنة وإيجابية وبنّاءة لشخصيته، بدءًا من تلعثمِه وحبوِه ثمّ مشيِه الهوينى أولى خطواتِه أمام أنظار الجميع، ليتهيّأَ بعدها لمهمّة أسمى في ارتياده مراكز التنشئة من حضانة وروضة ومدارس وكليات وما يليها في مسافة الحياة. فكم من شخصٍ تماهى مع تشجيع الجدّ والجدة وبلغَ ما صبا إليه بفعل التشجيع والترغيب من منطلق الخبرة في الحياة التي ينقلها الآباء والأجداد إلى الأجيال بهذه الطريقة البنّاءة والإيجابية! فالأبناء يبقون دائمًا بحاجة لمثل هذا التشجيع والدعم والمرافقة الحنونة المصحوبة بالغيرة والمحبة.
وفي حالة تعدّد الأحفاد في العائلة الواحدة، ينبغي اتباع المساواة في رفد جميع الأحفاد بالحنان والعطف والمحبة، من دون تمييز، كي لا يشعر هؤلاء بالتفرقة بينهم على أي أساسٍ كان، إلاّ في التحفيز المحدودللمطيع والسامع للنصح والكلام البنّاء من غيرِه. ومن سعادة الأحفاد أن يلتفوا حول الجد والجدّة، كلما حصل لقاء وجمعتهم مناسبة. ولعلَّ من الأفضل أن تحصل مثل هذا اللقاءات بعيدًا عن ضوضاء التلفزة ووسائل الترفيه الإعلامية والاتصال الحديثة التي قد تسلب الأضواء من فحوى اللقاء وفائدتِه. وهذا بحدّ ذاته سيكون ضروريًا بهدف إخراج الأطفال من دائرة الضوضاء والصخب في استخدام وسائل التكنلوجيا والترفيهية المتجددة والمغرية لحدّ الإدمان منذ الصغر.
أن تصبح جدًّا أو تصبحي جدّة، يعني التكيّف مع وضع جديد في الحياة العائلية. هذه المرحلة هي تجاوز لمرحلة سابقة تمثلت بالأبوّة لفترة سنوات، كان لها طعمُها الخاص بها، بمقتضى ظرفِها ومكانِها ومحيطِها. فمن أجل مواجهة ما حصل من تطوّر في الحياة في المحيط المنزلي والمجتمع، فيما يتعلق برعاية الأطفال- الأحفاد، لا بدّ من نظرة تكيّفية وفق هذه المقاسات الجديدة كي تخرج العناية "الجدودية" بنتائج إيجابية وفق المعايير المتطورة في التربية والتعليم. حيث لا توجد حقيقة مطلقة البتة في هاتين الأخيرتين، إلاّ في اختيار الوسيلة الأقرب لبلوغ الغاية في التربية الصحيحة المستقيمة والقويمة التي تؤهل مواطنين أصحاء مغمورين بحب القريب وأفراد المجتمع وملتحفين بحب الخيروالبشر والوطن منذ الصغر. فما يغرسه الأجداد في نفوس الصغار صعبٌ زوالُه بسهولة، بل يبقى محفورًا في الذاكرة، تمامًا كما "العلم في الصغر يبقى محفورًا وقائمًا مثل النقش على الحجر"! فالأجداد، كلّما دخلوا في عمق العمر، يبقون مكتبة ضخمة من المعلومات والقصص والحكايات والذكريات والخبرات، التي يقتاتُ منها الأحفاد الصغار. وهذه تبقى محفورة في الذاكرة ما عاشوا.

بغداد، في 24 آب 2015

263
بغداد، في 28 نيسان 2016
لويس إقليمس

كما المتوقع، فقد نال رجل الدين الشيعي الطموح والجسور، السيد مقتدى الصدر، مبتغاه بفرض أجندتِه، في الوقت والتاريخ اللذين رسمهما للرئاسات الثلاث، ومطالبته بطرح الكابينة الوزارية بأي ثمن. فجاءت جلسة الثلاثاء 26 نيسان 2016، التي وُصفت بغير مكتملة النصاب وغير الشرعية، لتنهي الحراك الاعتصاميّ الذي عوّل عليه الشعب العراقيّ ومَن بقي له من حرصٍ وطنيّ على مصلحة الأمة والوطن والشعب. فخروجُه عن أجواء الاعتصام وفضّه له بتلك الطريقة المثيرة للجدل، كانت أشبه بطلاق بين الحراك المدني الوطنيّ النظيف، وخطّه الأيديولوجيّ القريب من الحسّ الوطنيّ في ظاهرِه، ومن تجلّيات الشعب المقهور، بالملايين التي تخضع له بلا نقاشّ وتأتمر بأمره.
كانت خيبة الأمل أكبر، حينما تناغمت مطامحُ رئيس التيار الصدري مع شركاء الكعكة لإعادة تقاسمها وفق تصوّر السيّد وكتلته وتحت تأثير عصاه الغليظة التي لوّحَ بها مرارًا وتكرارًا. وقد خرجَ من حركة العصيان النيابية والشعبية على السواء، رابحًا أكبر، بالطريقة التي تمّ فيها تمرير الكابينة الوزارية المجتزأة. فلغة التهديد وأصوات الوعيد المتلاحقة، كانت طغت في الأيام السوابق لعقد الجلسة، وسط إجراءات غير مسبوقة لقوات الأمن والسلطة وانتشار واضح وغير مطمئن لميليشيات كانت تجوب الشوارع بكل تيهٍ وإثارة تجذب النظر. بل كادت الشوارع تخلو من حركتها المعتادة غداة الإعلان عن انعقاد جلسة مشتركة، حشّدَ لها الإعلام الموالي لأصحاب تمرير الصفقة الجديدة، في أوساط مَن حضروها ومَن لعبَ دور الانتهازي من النواب المعتصمين عندما غادر بعض هؤلاء قاعة الاعتصام واصطفوا مع الغرماء الشركاء تلافيًا لأيّ انشقاق أو تمزّق في صفوف التحالف الشيعيّ، الذي لا يُرضي الجارة إيران أن يخرج الحكمُ بعدَ اليوم عن رجالٍ تحت طاعتِها.
وصفها البعض انتكاسةً للديمقراطية، وعقبة كأداء جديدة في طريق مَن عشقوا ثورة الشارع من أتباع التيار المدني الديمقراطي، المرهفين في إحساسهم الوطني والمشاركين طموحاتِ الشعب ومطالبته للدولة والحكومة، برئاساتها الثلاث وسلطاتها، بإجراء تغييرات جذرية في بنية الدولة وفي العملية السياسية وإدارة شؤون البلاد والعباد وفق رؤى عابرة للمحاصصة الطائفية والفئوية. كما أنّ ما رافق تلك الجلسة من استدعاء لرجال الأمن وإدخال كلب حراسة قاعة البرلمان خلال تواجد النواب وإغلاق مداخل ومخارج القاعة بطريقة مريبة واستفزازية في جلسة رسمية، كانت مفاجأة وسابقة غريبة غير حضارية وغير مستحبّة وغير لائقة بممثلي الشعب الرافضين لفرض أيديولوجية أو نظام محاصصي مقيت رفضه الشعب والشارع ونخبة من ممثليه، بالرغم من تباين الرؤى حول النية والأجندات لكلّ طرف.
لم ينجح المعتصمون من النواب الثائرين الذين علّقوا آمالاً كبيرة على حركتهم، بالرغم من وقوع بعضهم في دوّامة الاتهامات التي طالتهم مثل غيرهم من حكّام العراق، شركاء تقاسم السلطة والجاه والمال. ومن المؤسف أن الطعنة الكبيرة في خاصرة الحراك السياسيّ الوطنيّ، قد جاءت من زعيم التيار الصدريّ ذاته، وهو الذي رفعه الشعب لرتبة الوطنيّ الشجاع والأسد الهصور في مقارعة الفساد والفاسدين وبإمكانه من إخراجهم من جحورهم بوثبة قاصمة. وكان أملُ الجميع ألاّ ينهي  الاعتصام إلاّ بتغيير جميع الرئاسات والسلطات التي فشلت في إدارة دفة البلاد طيلة 13 عامًا من حكومات "تسيير الأعمال"، كما حلا لأحد قادة التحالف الحاكم أن يصف مرةً الفترةَ ما بعد التغيير لغاية الحراك الراهن!
انتهت ثورة الشارع، ربما، بانسحاب ما جنّدَ له زعيم التيار الصدري من ماكينة إعلامية وحشود بشرية زاحفة ومركبات تصول وتجول وسط هتافات ترعيبية وترهيبية في أغلب الأحيان وزعيق موسيقى تلك المركبات. لكنّ رؤية الشعب والنخبة من مثقفيه ومعهم المصرّون على إبقاء جذوة الاعتصام فاعلة، لم يفقدوا الأمل، ولم ينهوا عنفوانَهم في التصعيد والمتابعة والملاحقة والتواصل، لأجل خلق جبهة قوية معارضة، تضع الحق في نصابه. فرؤية الشارع، غير رؤية الشركاء الغرماء، المتسترين على بعضهم البعض عندما تسخن الحديدة لحدّ الاحمرار. لكنّ التجربة، تُعدّ في كلّ المقاييس، بداية لصحوةٍ بسبب جهلٍ أو غفوة غير محسوبة النتائج، قد يستفيق من سباتها النُّوَمُ، والخانعون لإرادة الزعماء، والتابعون لمكاتب الإسلام السياسيّ بطرفيه، والمنتقمون من عروبة البلاد وتعددية أديانها ومكوّناتها الأصيلة، نتيجة للدعم الدوليّ والأمريكي الذي حظوا ومازالوا يحظون به.
كلُّ مَن تابعَ مجريات الجلسة، وسط الهرج والمرج، والطريقة التي أُديرت بها، وكأنّ الحضور كان في روضة أطفال، على حدّ وصفها من قبل أحد النواب. فيما جاء التهديد واضحًا على لسان أحد قادة التيار الصدري، حينما أدرك خروج الجلسة عن السيطرة. فنظرُه إلى ساعته، وإنذارُه للسيد رئيس البرلمان بإمكانية اختراق الجماهير الحاشدة للمنطقة الخضراء، خلال نصف ساعة، عجَّلَ من دعوة رئيس البرلمان للسيد رئيس الوزراء لتقديم ما في جعبته من مرشحي الكابينة، لأنّ الجماهير تنتظر، بحسب قوله! فكان التصويت على خمسة وزراء دون سبعة آخرين، لم يحصلوا على التزكية. وفي كلّ الأحوال، لم تكن الجلسة بمستوى الطموح، إضافة إلى ما نالَها من انتقادات لاذعة ومِن فوضى ومن مواقف اتجّاه بعض المرشحين، لم تخلُ من نفحة طائفية وعرقية وفئوية، وربما شخصية أيضًا. وفيها صحّ القول" تمخض الجبل، فأنجبَ فأرة"!
في ضوء أجواء جلسة الثلاثاء الفوضوية، أقرّ حسين الشهرستاني في لقاء لأحدى القنوات في مساء ذات اليوم، وهو قائد شيعي بارز ووزير مقال ومتهم بالفساد تمامًا مثل غيره الكثيرين، أنّ أغلب مَن حكموا العراق بعد 2003، لم يكونوا موفقين وعلى قدر تضحيات الشعب. من هنا، يمكن الحكم أنَّ الطبقة التي حكمت العراق بعد السقوط المأساوي بذرائع واهية وفي أجواء انتقامية، ليسوا ممثلين شرعيّين للشعب الذي انتخبهم كي يدافعوا عن حقوقه ويجهدوا في رفع معاناته وتنمية موارد البلاد وإسعاد العباد. والنتيجة، لا وطن حرّ ولا شعبٌ سعيد ولا خدمات ولا كهرباء ولا مساكن ولا تطوّر ولا سلع ومنتجات وطنية ولا أمن ولا استقرار، والقائمة طويلة. بل ما يجده في كلّ يوم حواليه في البيت والعمل والدائرة والشارع، مفخخات وانتحاريين ودماء تسيل، ومخلّفات ونفايات تملأُ الساحات والشوارع، ونقص كهرباء وماء ووقود، وبناء عشوائي غير مسيطر عليه، واستيلاء على مساكن وبنايات وساحات تابعة للدولة والمواطن، وبطالة وتردّي مؤسسات علمية وتربوية، ومداهمات سرقة في عزّ النهار وفي الليل، وخطف وقتل وملاحقات، ومنازعات على مناطق بين الغرماء السياسيين لتوسيع حدود جهة على حساب أخرى، وأخيرًا جرائم "داعش" الإرهابيّ، التي إنْ هي إلاّ نتيجة تراكم الفساد ورواج النيات غير الحسنة لشركاء العملية السياسية في المثلث الحاكم المتشبث بالسلطة والرافض مغادرة سياسة المحاصصة التي بُني عليها النظام الفاسد في العراق على أيدي الغازي الأمريكي، راعي العملية السياسية بالتنسيق مع اللاعب الكبير الإيراني بالمنطقة.
إنّ الخاسر الأكبر، في هذه المناورات غير السارّة وغير المجدية، وفي المماحكات والتجاذبات السياسية حول كيفية إدارة شؤون الدولة، لم تعد تنفع. فقد طفح الكيل، ولا بدّ من فورة قاصمة لا تُجامل ولا تماري ولا تتراجع عن مبادئ وطنية ثابتة وعن حقوق شعب مقهور، التفّ عليه الأعداء من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وطعنَه ومازال يطعنُه أهلُ بيته وبنو جلدته، بالسعي لاقتطاعه واجتزائه وتقسيمه بحسب أهواء الشركاء الثلاثة الرئيسيين في العملية السياسية الخاسرة والفاشلة بامتياز. فالشارع منكوب، ومصائرُ الشعب تُباعُ وتٌشترى في سوق البورصة التحاصصية منذ عقدٍ ونيّف، والجموع التي تحسبُ نفسَها ثائرة تُسيّسُ قضيتُها ايديولوجيًا حينًا، وخلف الكواليس وفي أروقة البرلمان والقصور والفنادق الفاخرة حينًا آخر. وبانتظار ساعة الفرج، وقدوم القائد المنقذ، القويّ العادل، نلقي بحملنا على قوة الله. فهو شارحُ الصدور وقاهر الطواغيت وملهمُ الطيبين ليأخذ هؤلاء دورَهم في قيادة شعوبهم نقل البلاد من دولة المحاصصة إلى دولة المواطنة. وكفى بالله شهيدًا! فلا بدّ لسماكة الظلمة أن تنقشع!

لويس إقليمس

264
الصحة الحيوانية من متطلبات التنمية وتطور الاقتصاد الوطني
لويس إقليمس
بغداد، في 3 نيسان 2016
في 30 نيسان القادم 2016، يحتفل المجتمع الدولي باليوم العالمي للبيطرة، وفيه سيتم اختيار أفضل مساهمة صحية في مجال البيطرة لعام 2105. وسيُصار إلى تكريم الجهة التي تقف وراءَ هذه المساهمة المتميزة، في احتفالية رسمية للمنظمة الدولية للصحة الحيوانية OIE، التي ستحتضنُها العاصمة الفرنسية باريس، لاحقًا، للفترة من 22-27 أيار القادم 2016، بدورتها ال 84. ومن المواضيع التي تتطرق إليها هذه الدورة، هناك موضوعان مهمان وأساسيان:
1-   إقتصاد الصحة الحيوانية: وفيها تناقش التكاليف المباشرة وغير المباشرة لتفشي الأمراض الحيوانية.
2-   مكافحة مضادات الميكروبات المقاومة كجزء من نهج مفهوم "الصحة الواحدة": وفيها يتم مراجعة الإجراءات الواجب اتخاذها واستراتيجية المنظمة العالمية للصحة الحيوانية.
الفضل بإطلاق مبادرة اليوم العالمي للبيطرة يعود إلى جهود المنظمة العالمية للبيطرة في عام 2000. ومذ ذاك، يتم الاحتفال به سنويًا في الأسبوع الأخير من شهر نيسان. وفي عام 2008، اتفقت كلٌّ من المنظمة العالمية للبيطرة (AMV) مع المنظمة العالمية للصحة الحيوانية (OIE)، في تقليد سنوي لتكريس جائزة باسم اليوم العالمي للبيطرة، بهدف تشجيع الجهات المساهمة بتطوير هذا القطاع المهمّ في حياة المجتمعات.
تعمل المنظمة الدولية للصحة الحيوانية منذ عام 1924، من أجل تحسين الصحة الحيوانية عبر شبكاتها المتعددة عالميًا في أكثر من 180 بلدًا أعضاء فيها. وهي تسعى مع غيرها من المنظمات الدولية، مثل منظمة الفاو FAO ومنظمة الصحة العالمية OMS، لتذليل الصعاب أمام التحديات التي تواجهها الثروة الحيوانية والمستهلك من البشر. وهذا النشاط العالميّ يعدّ جزءًا من إسهام هذه المنظمات في تحسين صورة العالم وفي التطور الاجتماعي والاقتصادي لشعوب العالم بأسره، بما يكفل تكوين بيئة صحية للإنسان أينما وجد. فالدعم والمساهمة التي تمنحها هذه المنظمات الدولية تدخل أيضًا ضمن التزام أعضائها بتحسين نوعية الخدمات الصحية البيطرية التي هي بمثابة حجر الزاوية لأية مبادرة صحية فاعلة واساسية بمواجهة التحديات الكبيرة.
من المعلوم أنّ دور المختصّين في مجال البيطرة وبالذات فيما له علاقة مباشرة مع الصحة الحيوانية وكيفية حماية هذه الثروة الوطنية في أيّ بلد، كبيرٌ وغاية في الأهمية. فهؤلاء إلى جانب الوقوف على حدّ معالجة التحديات الصحية المتزايدة في مجال اختصاصهم، تقع عليهم أيضًا مسؤولية تحسين ما يترتب على الجانب البشري، لتفاعل الجانبين معًا في الحياة العامة وتداخلهما. فالصحة صفقة واحدة بين الإنسان والحيوان!
تشير التحديات الصحية التي رافقت زمن العولمة الحالي إلى تعاظمها وتفرّعها، سواء البشرية منها أو الحيوانية. وبتنا لا نتفاجأ إذا كُشفت بين فترة وأخرى أمراض بشرية جديدة، ومنها المعدية والناقلة. فهذه في تزايد مستمر في كل سنة، بحيث يجري الكشف سنويًا عن بعضٍ منها، قد يصل إلى خمسة أنواع من الأمراض البشرية، أصلُ ثلاثٍ منها قادم من منشأ حيواني في الغالب، بحسب الخبراء، كما أصدرتها النشرات العالمية في هذا المجال. ومن الأمثلة في هذا الجانب، مرض "الإيبولا" الناجم عن علاقة الحيوان (فصيلة الكلب) بالإنسان. وهذا ما يستدعي حصول تطور بإيجاد وسائل متجددة للعلاج والوقاية على السواء، عبر تجدّد المعارف وتبادل الخبرات والعلاجات من خلال أدوات ودورات تدريبية مستدامة تسهم في كيفية التعامل مع المستجدّات المرضية المشتركة بين الإنسان والحيوان. وهذا يتطلب أيضًا، استخدام أحدث التقنيات المبتكرة للسيطرة على المخاطر الصحية المحتملة المتأتية من مصادر حيوانية.
فالأمراض المنقولة عن طريق الحيوانات تشكل اليوم تحديًا كبيرًا للصحة العامة في جميع أنحاء العالم، ولم تعد تقتصر على المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية الحارة المعتاد
عليها تقليديًا. كما أنّ التغيرات المناخية المتزايدة تشكل هي الأخرى مصدرًا لانتشار الأمراض المنقولة الناشئة أو المتجددة مع الأيام، وعلى تفشي الأمراض المعدية التي اصبحت معروفة، مثل فيروس غرب النيل والليشمانيا، ومرض طاعون المجترات الصغيرة وسلّ البقر والحمّى القلاعية وما سواها من الأمراض الوبائية الشائعة. من هنا، تُعدّ الأمراض المنقولة عن طريق الحيوانات مثالًا حيًا للترابط القائم بين أدوات كثيرة منها الناقل والمضيّفات والظروف المناخية والعوامل المسببة للمرض في مواجهة الإنسان لأخطارها.
من هنا، يأتي دور الطب البيطري كلاعب أساسي في إخراج مفهوم "الصحة الواحدة" المشتركة بين الحيوان والإنسان والبيئة، من خلال لعبه دورا مركزيا في الحفاظ على الصحة العامة، سواء كان ذلك بالتعرّف على أسباب الناقل أو بإيجاد العلاج الشافي الذي يحدّ من انتشار المرض ومسبباته. وهذه تتمّ من خلال إجراء مسوحات ميدانية وفحوصات فيزياوية تجرى بصورة يومية متكررة على الحيوانات ومنتجاتها، بما فيها الحيوانات السائبة غير المنتجة كالكلاب والسنّوريات وما على أشكالها. وهذا ما يجعل ضروريًا، إيجاد صيغة عمل مترابطة بين الطب البيطري وطب الصحة البشرية العامة من خلال التنسيق المشترك بين الاثنين لوضع حدود للأمراض المنقولة والجدّ في علاجها وتهيئة الأدوية والعلاجات واللقاحات الضرورية لتفادي الأمراض المنقولة والناقلة.
ونظرًا للتحديات المتزايدة في عالم الاستهلاك للمنتجات الحيوانية من قبل الإنسان، فقد جعلت منه مصنعًا متحسّسًا إزاء ما يمكن ان يتناوله في حياته اليومية. فالمضادات الحيوية المستخدمة في التربية الحيوانية مثلاً، قد تشكل حرجًا لدى المستهلك بسبب ما قد تجلبه من نتائج غير مُرضية. لذا لا بدّ من التعقل في استخدام البشر للمنتجات التي تطرحها الأسواق، إلى جانب المساهمة البشرية الفاعلة التي تضمن القضاء على أنواع الأمراض والتغلب عليها من دون حصول نتائج عرضية، وبما لا يشكل أيضًا خسارة للثروة الحيوانية. وهذا يتطلب توجيه المستهلك لامتلاك وعي صحّي بطبيعة ما يتناوله، ويما يتم تداوله في السوق التي باتت تحوي كلّ شيء.
ولضعف الوعي لدى المواطن، أسبابٌ عديدة، منها ذاتيّ وشخصيّ نتيجة لقلّة الثقافة العامة وانعدامها أحيانًا، فيما يخصّ المجال الغذائي اليومي، أو بسبب ضعف المراقبة من الجهات الصحية العاجزة بالتصدّي لضعاف النفوس والمتجاوزين على التعليمات الصحية البيطرية أو البشرية، هذا إن وُجدت هذه أصلاً. وكذلك بسبب تقصير الجهات المعنية في التوجيه التوعوي للمواطن، نتيجة لفتح بعض الدول أبواب الاستيراد من دون رقابة وطنية أحيانًا، أو بسبب عجز الجهات الصحية الرقابية بتنفيذ الإرشادات الدولية والوطنية حول الاستخدام الأمثل للمنتجات وفقدان الدراية بما هو صالح من عدمه.
في العراق، تبذل دائرة الصحة البيطرية بوزارة الزراعة، جهودًا مثمرة من أجل تفعيل القرارات واللوائح التي تصدر عن المنظمة العالمية للصحة الحيوانية، وضمن قدراتها وطاقاتها، بالرغم من محدودية هذه الأخيرة. وما مواكبتُها للتطورات البيطرية عبر مشاركاتها الدولية في المؤتمرات والأنشطة التي تتكفل بتحسين الصحة الحيوانية في البلاد، إلاّ تعبير عن وضع إمكاناتها القائمة في خدمة المواطن وفي تعزيز قدراته الإنتاجية ومتابعة كلّ ما يستجدّ في مجال الصحة البيطرية. نأمل من وراء مجمل هذه الأنشطة، أن تتعزّز صورة الاقتصاد الوطنيّ وتقديم ما هو الأفضل في مجال الصحة الحيوانية وتقديم الدعم الحكومي للبرامج والأنشطة التي تتولى عملية تطوير الثروة الحيوانية في البلد. فهذه لا تقلّ أهمية عن سائر التحديات القائمة، لأنّ دعم المنتج الحيواني الوطني ومعالجة مشاكله الصحية والبيئية، جزءٌ لا يتجزّأ من عملية الحفاظ على الثروة الوطنية ودعم اقتصاد البلاد وصولاً للاكتفاء الذاتيّ.

لويس إقليمس




265
أزمة حكومة أم خبطة وطنية؟
بغداد، في 23 نيسان 2016
لويس إقليمس
تضاربت الآراء والتوقعات حول الأزمة التي تمرّ بالوطن، وما قد يترتب على الحراك المتخبّط الأخير، من نتائج وتعقيدات بل وتمريرات من أجل الخروج من الأزمة المركبة بأيّ ثمن. فالشعب لم يعد يستوعبُ أو يتحمّل مثل كلّ مرّة، ما تنوي الكتل السياسية وزعماؤُها من تمريره عبر صفقات مشبوهة لا تخدم غير تثبيت مواقعهم ومناصبهم في الحكم والسلطة والسرقة من الكعكة المتهالكة التي يبدو أنها لم تنضب بعد، بحجة الشراكة والاستحقاق الانتخابي والحفاظ على الدستور "الأعرج". ولكن، ما يتفق عليه الجميع، هو أنّ الحراك الأخير قد هزّ عروش الرئاسات الثلاث، التي بدأت تتخوّف على مصيرها وتخشى من عواقب فقدانها لجامَ الحكم الذي بات في حكم الآيل إلى السقوط.
فالخبطة الشعبية - السياسية برمتها، قد بلغت مرحلة الغليان الحقيقي، ولم يعد يبقى للزعامات القابعة خلف أسوار المنطقة الخضراء والحكومة العاجزة من أمان أخير سوى زيادة التحشيد العسكري وإغلاق المداخل والمخارج التي تؤدي إلى المنطقة الخضراء ومؤسسات الدولة، بضمنها مباني الوزارات المهددة بالاقتحام في أية لحظة. وفيما الشعب يعلّق آمالَه على الفورة الاعتصامية لممثلي الشعب، مهما كانت نوايا المعتصمين وإن تضاربت وتداخلت وتباينت، فإنّ الأحداث قد تلد مفاجآت، لا تُحمد عقباها. فقد يُفلح القائمون عليها وقد يصيبُها الفشل، كما سابقاتُها، بتأثير الدخلاء والمتطفلين والوسطاء الذين يبحثون، هم أيضًا، حسب مقتضى مصالحهم وتوجهات أسيادهم. لكن المؤكّد أن السلطات، قد تبادر لاتخاذ المزيد من الإجراءات الأمنية الصارمة لمواجهة احتمالية انفلات زمام الاحتجاجات والاعتصامات، المعروف عنها في صفوف الشعب.

عشائر العراق:
ما يثير التساؤل في هذه المرحلة الحرجة، ركون العشائر جانبًا، وعدم تحرّكها "وطنيًا" في ظلّ الأزمة القائمة، بالرغم من التأثير الذي يمكن أن تؤديه، سواءً في التماهي والتجاوب مع ما يجري في الشارع الثائر وفي استمرارية المطالبة بما يريده الشعب والمرجعية والرأي العام، أو في تأجيج الرأي العام "سلبًا" عبر استباحة الدولة ومؤسساتها وتجييرها بالتالي لصالح الكتل السياسية المهيمنة على مقاليد السلطة منذ 2003، حفاظًا على مكاسبها العشائرية هي الأخرى بالتشارك مع الحيتان الكبيرة. فثوار ثورة العشرين في ذلك الزمن حيث للعشيرة مواقفُها الوطنية الناضجة والواضحة، قالوا كلمتهم وفعلوا فأفلحوا، فحفظ لهم التاريخ كلمتَهم ووقفتَهم وثورتَهم. ومثل تلك الوقفة الوطنية، قد حان أوانُها في هذه الأزمة المستفحلة. فهلْ من مجيب؟ 
وبما أنّ المتضررين اليوم من سوء الإدارة، ومن التقاعس الواضح في وضع حدود للفساد واستباحة المال العام وهي ثروات الشعب، ومن النقص المتزايد في الخدمات، وفي زيادة البطالة، هُم في معظم أحوالهم من أبناء العشائر، لذا كان من الأولى على زعماء العشائر ومَن يلتفُّ حولَهم، أن يشاركوا بعزم وقوّة وفاعلية في إثارة الرأي العام "إيجابًا"، وفي مساندة المعتصمين والمتظاهرين "الثوّار"، لما لهم من كلمة مسموعة واحترام وسط العامة من أتباعهم. صحيح، هناك مَن قدّمَ ولاءَه لحيتان السياسة والسلطة في وقت مضى، ومنهم مازالَ على ذات القياس سائرًا في طريق المجاملة والانتفاع الفئوي أو العشائريّ أو الشخصيّ الضيّق، إلاّ أنّ الواقع الراهن يتطلبُ أيضًا، النأي بالنفس عن كلّ ما يمكن أن يدمّر البلد ويضرّ بالعباد في ضوء عدم ارعواء حكّام السلطة الذين لم يراعوا حرمة الوطن والشعب المغلوب على أمره والزاحف لتلقّي لقمة العيش بضنك وكسافة وإهانة في الغالب.
هناك مَن يتساءل في ظلّ الظروف القاهرة هذه، أين الدور الإيجابي لعشائر العراق وأين دورُها في توجيه الرأي العام نحو إعادة لحمة نسيج المجتمع المتفكّك والعودة بهذا الأخير للفورة الوطنية المعروفة لدى هذه العشائر عندما يقتضي الأمر والواقع؟
لا ننكر أنّ دور هذه العشائر في تأليب الرأي العام ضدّ العدو المشترك "داعش" الذي استباح الأرض والعرض، كان مثار الفخر والاعتزاز، استجابةً لنداء المرجعية الرشيدة في التلبية لنداء "الجهاد الكفائي". ولولا ذلك النداء، لكان العراق في خبر كان! ومثلُها، حالتُه الراهنة تستوجب الحرص الوطني المعروف عن العشائر الأصيلة، بعيدًا عن المجاملات والمماحكات والانجرار وراء التخندق القاتل، القومي منه والديني والطائفي والمذهبي الذي لا يخدم غير الدخلاء والأغراب عن الوطن وحرامية الليل والنهار. فالرئاسات الثلاث ليست ملكًا لأحد، ولا لعشيرة ولا لدين ولا لطائفة ولا لقومية معينة بحدّ ذاتها. فمتى كانت المناصب في دولة العراق، حقوقًا عشائرية وقبلية لأطراف محددة دون غيرها؟ فإنْ سايرَت العشائرُ حيتانَ السياسة من هذا المنطلق، فهي تزيد النار تأجيجًا وتطيل من بقاء هؤلاء ومَن فيهم من الفاسدين والمفسدين في السلطة وفي نهب الثروات وسلب الحقوق واستمرار الأزمات التي لن تتوقف طالما هناك مَن يحمي ويغطّي ويتستّر.
لقد أثبتت الأيام ما أتى به التخندق الطائفي المبني على التحاصص في كلّ شيء، من أعلى موقع في الدولة حتى أدناه. وقد قال الشعب كلمتَه الناصعة في هذا الشأن، ولا تراجع عن المطالب حتى تحقيقها وإنقاذ البلاد من مفاسدِ المحاصصة والتخندق وإشكالياتِها وانتهاكاتها المتكررة والثابتة لحقوق الوطن والمواطن، بحجة الاستحقاق الانتخابي. فهذا الأخير، لم يعد له مفعولٌ بعد موجة السخط والغضب والثأر والانتقام التي اعتمرت قلوب المتظاهرين وملاين المؤيدين لهم، علنًا أو في الخفاء! وما بالُكم، لو أن ّ الإصرار على التخندق المقيت واللهاث وراء تعزيز المحاصصة، وتعنّتَ المثلث الحاكم وأطرافُه السياسية من دون تمييز، وتمسكُّهم بمكاسبهم وحصصِهم، من شأنه أن يجعل من حبل المشانق المنصوبة "رمزيًا" في ساحة التحرير، حقيقة واقعة لا تُستبعد في بلد خَبِرَ مثل هذه المناظر المقززة التي تثير الرعب وتزرع الفزع وتُدخل الخوف إلى قلوب المواطنين غير الآمنين منذ عقود على حياتهم ومصيرهم ومستقبلهم؟ هذا لمجرّد التفكير والتذكير ومراجعة الذات!
وبالتوازي، هناك عشائر أصبحت حاضنات للإرهاب والسلب والتغاضي عمّا يُقترف من جرائم ومخالفات للقانون العام وللروح الإنسانية والتكافلية التي طُبع عليها نسيج المجتمع منذ الأزل. فالعشيرة وزعماؤُها من الأصلاء المتجذّرين بروح المواطنة الصادقة والمعروفين بدفاعهم عن المظلوم والمقهور والفقير، كانت دومًا ملاذ هؤلاء عندما كانت تجعل شعار الوطن يعلو على أية راية غيره. وهذا هو المطلوب في هذه الأزمة الخانقة والفوضى الخلاّقة التي تتحكم بمصير وطن وأمة وشعب. فالعشيرة تبقى، ولأجلٍ غير مسمّى، من سمات المجتمع، بل وقاعدة أساسية في بنائه وتكوّنه وتنميته، وليس كي تعود أداة متخفية بعباءة الدين والطائفية والمذهبية التي تفرّق ولا تجمع، تمزّق ولا ترتق، تشظّي ولا توحّد.

النخب الثقافية والإعلام:
لا يخفى على أحد، مدى التهميش الذي واجهته النخب الوطنية الثقافية والعلمية، ووكلاء السلطة الرابعة من إعلاميين وصحافة حرّة مستقلّة، من الذين نالهم الشيء الكثير من أساليب الإقصاء والإبعاد وحتى التهديد. وتلكم كانت من جوهر الأسباب التي حكمت على العديد منهم بالهجرة والاضطرار لمغادرة الأهل والبيت والموقع والوطن. فإرادة الشرّ كانت أقوى من أن يرضخ الأحرار المستقلّون في الرأي والقرار لشرور الحيتان الكبيرة التي أكلت الأخضر واليابس ولم تبقي لأولاد "الخايبة" ما يقيتون به أهلَهم وأسرَهم وأنفسَهم من لقمة شريفة.
فالكلمة الحرّة النزيهة أضحت جريمة يُعاقب عليها دستور المحاصصة بأمرٍ من الحاكم سيّء الصيت "بريمر"، الذي مازال يتحكم بالعراق وساسته وأهلِه عن بُعد، وعبر الدستور الأعرج الذي صاغه أو اشارَ إلى صياغتِه بطابع الطائفية الذي يبقي البلاد في فوضى التفسير وسوء الفهم والعناد في تطبيق بنوده المحمّلة بالقنابل قابلة التفجير في أية لحظة، تمامًا كما شهدنا ذلك منذ إجازته لغاية الساعة! فقد ترك هذا السياسيّ المخادعُ، الحبلَ على الغارب للقادمين على دبابات بلادِه ومن مزدوجي الجنسية من أصحاب الشهادات المزوّرة الذين تهافتوا لتقاسم الكعكة الدسمة.
لقد تواصلت الأقلام الجريئة مع صحوة الضمير النيابية التي هزّت عروش الرئاسات الثلاث، وقال محرّرو الأعمدة ورؤساء التحرير والمحلّلون من الكتّاب والمثقفين كلمتَهم في الأحداث وفي الحراك السياسيّ الساخن. ومنهم مَن آثر السكوت والتغاضي عمّا يجري وما يصير ويُحاك، إنْ خوفًا أو تهرّبًا من المسؤولية الوطنية التي تقع على الإعلاميّ والمفكر والمثقّف الحريص على الوطن والمواطن، وما بين الاثنين من حقوق وواجبات. والتاريخ يسجّل للحالتين موقفًا!
إننا نعتقد أن المرحلة السابقة منذ السقوط الدراماتيكي، قد طُبعت بفشل الأداء في السلطات الثلاث:
-   التشريعية منها التي أخفقت بسنّ القوانين المهمّة كما كان يُنتظر منها، من خلال ربط التشريعات بمصالح الدين والطائفة والمذهب والعرق ولصالح الكتل والزعماء والأحزاب فحسب.
-   التنفيذية منها التي لم تلبي طموحات الشعب بغدٍ أفضل وخدماتٍ أرقى وأمانٍ أفضل. بل بالعكس، فقدْ فقَدَ المواطن ما كان قائمًا قبل السقوط. وما عُدّ ديمقراطيةً مصدَّرة إنّما جاء نقمة وانتقامًا من الشعب المقهور. فيما رئاسةُ الدولة تقف عاجزة عن تحييد الصراعات بين الكتل وتنفّذ أجندتَها المرسومة من كتلتها لتعزيز مكتسبات هذه الأخيرة استعدادًا ليوم الاستقلال المرتقب!
-   وأخيرًا القضائية التي تمّ تسييسُها ولم تستطع لغاية الساعة أن تخرج من عنق زجاجة الحزب الحاكم الذي شكّل دولة ومؤسسات وأجهزة موازية للدولة الرسمية. فيما الأمل المعقود بصحوتها قد تلاشى هو الآخر من حيث تقييدها وعجزها في ملاحقة الفاسدين والمفسدين وسراق الشعب في وضح النهار، بالرغم من توفر الملفات واعتراف بعض هؤلاء بالتهم الموجهة لهم!

ما حصل في أروقة مجلس النواب مؤخرًا، كان خبطة سياسية وصحوة وطنية، بالرغم من تباين النوايا وتشعّب المطالب. لكنّ ما جمعهم، كان أشبه بفورة ضدّ عقليّة استحواذ القرار من زعماء الكتل الذين استعبدوا نوابَهم وفرضوا عليهم هيمنتَهم وسطوتَهم كي لا يخرجوا عن طوعهم ويبقوا أسرى ذات الدائرة الطائفية والتحاصصية التي يسعون للإبقاء عليها بحجة التوافق والشراكة ومسمّيات أخرى لا تخلو من الأنانية والمصالح الفئوية الضيقة البعيدة كل البعد عن الحرص الوطنيّ الصحيح.   
أمام مثل هذه الانتفاضة الصحيحة، وهذه الفرصة في استعادة الروح الوطنية الضرورية من أجل بناء الوطن، كان من المفترض على أصحاب الأقلام الوطنية الجريئة من المستقلّين في الرأي ومناصري التيار الديمقراطي المدنيّ الوطني الحرّ المستقلّ، أن ينبروا أكثر من غيرهم في تأييد الاعتصام والبحث في أسبابه وإيجاد البدائل عن إشكالية الحكومة أي السلطة التنفيذية التي كانت وما تزال هي السبب في كلّ ما يعاني منه الوطن والمواطن. فالمشكلة الأساسية كانت وماتزال تكمن في حكومة المحاصصة أساسًا والتي بدت للملأ ضعيفة وهزيلة وعديمة القدرة في مواجهة التحديات و"لا" الحيتان الكبيرة المتمسكة بالشراكة التحاصصية، ولأجلها وقّعت بسرعة البرق لما أُسمي "بوثيقة الشرف"!
لكنّ جهات مراوغة ركبت الموجة، هي الأخرى، وحاولت الالتفاف حول إجراءات سحب الثقة من حكومة المحاصصة، فالتفّت حول مشكلة لم تكن في الحسبان، فأوقعت رئيس البرلمان ضحيةً وكبشَ فداء. 
إن الصدى الذي لاقته انتفاضة النواب منذ أيام، كان لها وقع كبير في صفوف الشعب، بل هي إشارة على صحوة مرتقبة ومنتظرة منذ حين من أجل وضع اللبنات الأساسية لنظام سياسيّ جديد بعيد عن المحاصصة المقيتة التي أثقلت اقتصاد البلاد، وآذت العباد، وأفقدتهم راحتهم وأمنهم وأملاكهم وأرضهم ومساكنهم، وشتّتتْ أهلَهم وأبناءَهم، وأحالتهم أغرابَ في بلدان الاغتراب وهم أصحاب الفضل على العالم وبنو حضارة ومروءة وكرم.
    فلتقلِ الأقلامُ الحرة المستقلّة كلمتَها، ولينتفض أصحابُها مع المنتفضين من أبناء الشعب بمختلف تياراته المدنية والعقائدية، ومع النواب بالرغم من اختلاف وجهات النظر حول ما فعلوه ومن عدم تبرئة بعضهم من السير في ركاب كتلهم التحاصصية الانتفاعية في فترات السنوات المنصرمة. إلاّ أن الوقت يقف معهم، كما يقف أصحاب الكلمة الحرّة المستقلّة مع المطروح من وضوح المطالب وصراحة المقاصد لإسقاط الرؤوس التي نهبت البلاد ودمرت العباد وأساءت إلى الصوت الذي أتى بها إلى الحكم.
ومادامت الإرادة قائمة والاستجابة فاعلة والتواصل مشتركًا، سعيًا وراء تصحيح مسار العملية السياسية برمتها، ومنها تعديل الدستور وإعادة كتابته على أيدي خبراء قانونيين بعيدًا عن تأثيرات الكتل ومصالح الأحزاب وأطماع الطوائف الدينية والمذهبية والعرقية، فإن هناك أملاً بالنجاة، ولن نحتاج لترهيبٍ وترويع بمشانق ورموزها في ساحات التظاهر الشريفة!
أما الأسلاك الشائكة وحشود العساكر المنتشرة، وهي ملاذ الحكومة العاجزة، التي تريد ردع الكلمة الحرّة وتسعى لوأد الانتفاضة الشريفة للتيار المدني الفاعل منذ أشهر، فلن تثني المواطن من مواصلة المطالب الوطنية بالسعي للعيش سعيدًا في وطن حرّ، ودولة مدنية، ونظامٍ ديمقراطيّ يحترم اختلاف الآخر ولا يميّزه عن غيره إلا بالكفاءة والولاء للوطن، فكرًا وأرضًا وسماءً ومياهًا!


لويس إقليمس

266
فضّ الاعتصام: مـــن يحــــلّ اللـــغز؟
بغداد، في 10 نيسان
لويس إقليمس
علّق الشعبُ ومعه مختلف فعاليات الشارع العراقي آمالاً كبيرة على دعم زعيم التيار الصدري لانتفاضة التيار المدني الصامدة بالعراق. وقد واصل الحراكُ الأخير مجتمِعًا، تظاهراته "الجُمعية" (نسبة إلى يوم الجمعة) منذ أشهر، بهمّة ومثابرة وغيرة لا تنقصها الوطنية الشجاعة ولا الإرادة الصلبة للمناضل الذي لديه مشروع فيه هدف وفكر وعطاء وبناء، والأكثر أن يكون نابعًا من شعور وطنيّ متجذّر يخشى غرق المركب بمن فيه. وقد ثبت ذلك عبر ما رُفع من شعارات تدين بالولاء للوطن، وتحثّ على تماسك اللحمة الوطنية وعلى تعشيق النسيج المجتمعي بالعراق، والتوعية بأهداف الانتفاضة التي نأمل جميعًا تتويجها بما يشبه "ثورة" وطنية نظيفة ومنهجية من أجل إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مدنية متحضّرة. أُريدت ثورة وطنية قادرة على وضع حدّ للفساد والفاسدين إن لم يكن القضاء عليها بعد استفحالها، ثورة عاقدة العزم على فضح الإدارات المتهرّئة السائدة والساطية على مختلف مؤسسات الدولة بسبب إغراقها برؤى ومفاهيم ضيقة، دينية وحزبية وكتلوية وطائفية وفئوية، تدمّر ولا تبني.
وإذا كان نفرٌ منتفع أو بعضٌ من الكتل والأحزاب المهيمنة التي سطت على السلطة بحجةِ مّما أتت به وحصدته عبر صناديق الاقتراع غير الأمينة، وبالطريقة التي يعرفها القاصي والداني، سواء بالتلاعب أو بالتهديد أو بشراء أصوات السذّج أو بالوعود العرقوبية المقطوعة سلفًا، أو نتيجة عدم خشية الجهات الرقابية واللوجستية غير النزيهة والمنظِمة للعملية الانتخابية ككلّ بسبب ولائها غير الوطني، إذا كان هؤلاء أو بعضُهم يرى في هذه الثورة الشعبية انقلابًا على استحقاقها، فليكن ذلك انقلابًا على سلطة أو حكومة قادت البلاد إلى شفا التفتّت والتآكل والتقسيم والإفلاس وسوء الإدارة وإفساد المجتمع ككلّ. فالشعب هو بالتالي مَن يُفترض به أن يقول الكلمة الفصل ب"سادته" و"قادته" و"حكّامه". فهو مصدر السلطة! إن شاءَ واحتكمَ: "حكمَ وأقامَ"، وإن أدركَ وقرّرَ: "قلعَ وشلعَ"، وإن هزلَ وتغافل وجبنَ: "خسرَ الصاية والصرماية". وهذا ما نخشاه ممّا حصل، بعد خفض قائد الاعتصام رايتَه الثورية التي هزّت عروش مَن يقيمون في "المنطقة الغبراء"، وإنهاء اعتصامه بتلك الغفلة غير المتوقعة، وانصراف مَن اتبعوه وأيدوه وناصروه، مشدوهين مصدومين وغير مصدّقين؟ فهل كان في تلك الحركة السريعة لغزٌ أو سرٌّ أو غاية تم التكتّم عليها واتفاقٌ خفيّ بين أطراف اللعبة، كي لا تُكشف اسرارٌ مدفونة لا يعلمُها إلاّ المتورطون والمنتفعون والمتسترون؟ 
في بدء الحركة الاعتصامية الشجاعة، تفاعلَت طبقات الشعب من كل الأطراف والمكوّنات والطوائف من مشارب مختلفة بل متباينة في بعضٍ منها في تصوراتها "للحدث الساعة". وزاد عشقُ "الثوار" ومقاومو الفساد والراغبون بعودة "عراقٍ نظيف اليد والأرض والفكر"، عندما شهدوا شجاعة "الهصور"، رافعًا عاليًا راية الوطن وليسَ سواه في ساحات الاعتصام، تمامًا كما كان فعلَها في تظاهرات الجمع المتتالية. فالرجل سليلُ المدافعين عن الحق والوطن والمظلوم، لا بدّ أن تسري في عروقه وطنيةُ الآباء والأسلاف، وأن يحمل جلبابُه الوقورُ المقصّ والمعولَ والرفشَ والمارَ لتشذيب عُذُوق الحديقة الوطنية التي تهصّرت وتدلّت أغصانُها المترهلة، والعمل على تغيير ترابها الذي عتق وانتفى وفسدَ، حينما حوّلها لصوص أغراب في غضون سنوات عجاف، إلى غابة اقتتال بين الأخوة، وساحة تبارٍ للفساد والنهب والسلب، وأرضًا مشاعًا لكلّ مَن هبَّ ودبَّ، بغاية اقتطاع أوصالها وتفتيت عضدها وتحجيم دورها الحضاري إقليميًا ودوليًا، حتى وإن لم يُستثنى من هذه الأفعال السلبية تيارُه المتهم هو الآخر بمثل هذه الأفعال التي تبرّأ شخصيًا من فاعليها بين فترة وأخرى، وحاسبَ مّن خرجوا عن طاعته وتوجيهاتِه.
حديقة العراق الثرية الخصبة المتنوعة الورود والأزهار، لم تعد صالحة بفعل الأغراب عنها وفي غياب الفلاّح الحريص الأصيل المتعشّق بالمحراث والمذرى. فلابدّ من قدوم أكّار ماهرٍ يعرف التعامل مع مفسدي هذه الأرض الطيبة. إلاّ أنَّ الأمل المعقود على "الهصور" القادمِ من قلب الحدث والناطقِ باسم الفقراء والمنادي بالإصلاح الجذريّ في جذوة اعتصامه، قد تطايرَ وطارت معه آمال الشعب، وفقد بريقَه سريعًا خفيفًا. فيما صفّق له في السرّ، مَن حاول الاعتكاف أو الانزواء أو حتى اللجوء إلى جحورٍ أكثر أمانًا، إن في الداخل أو في الخارج، ذلك لأنّ مشروع الإصلاح الذي نادى به ودعا فيه أمام الملأ إلى تغيير المشروع السياسيّ الجذري في العراق قد فشلَ بحسب نظرهم لمجرّد إنهاء الاعتصام من دون تحقيق النتائج المرجوّة.
شهدنا جميعًا وما زلنا نشهد تباينًا حادًا وماكرًا في أحيان كثيرة، في مواقف الكتل البرلمانية والسياسية والرئاسات الثلاث ومَن في صفوفها. أمّا ممثلو الشعب، فقد أبدى العديد منهم حين تلقّي رئاستهم للمغلّف الأبيض المغلق في الجلسة البرلمانية المخصصة بأسماء الكابينة الوزارية من لدن رئيس الوزراء، شيئًا من العنترية والعنجهية بل والفوضى غير الجديرة بهم. ففقدان المصداقية ونقص الثقة بين المؤسسة البرلمانية وسلطة الحكومة غير الموفقة لغاية الساعة، هي من ضمن الأسباب التي سارت عليها الجلسة الخاصة من حدث الساعة. فقد كشفت الطريقة التي أوصل بها رئيس الوزراء مبادرته الإصلاحية الأخيرة عن ضعف قدرته في مواجهة حيتان المحاصصة، وعن نقصٍ في الكاريزما القيادية المطلوبة من قائد قويّ قادر على إقناع المقابل مهما كانت سطوتُه وجبروتُه ومبرراتُه، وعن تردّد واضح وتخوّف مكنون في مقارعة مَن استشاط غيضًا واستنهض غضبًا خشيةً من فقدان امتيازاته التي تؤمّنها وتحفظها له شبكة التحالفات العنكبوتية المتصارعة والمتقاطعة في المثلث الحاكم. وقد رأينا، مدى الحرص في التوحّد والتكالب والاصطفاف المشبوه الذي أبدته مختلف الكتل في السلطة حين الشعور بفقدان رَسَن القيادة ومآثرها ومنافعها، من حيث الخفيّ القادم من وراء مثل هذه المغامرة، التي قد كانت ستقلب الصينية الوثيرة على الندباء الأضداد!
وفي حين يترقب الشارع نتائج الفحص والتمحيص والتحليل والتشكيك والتسقيط لما تبقى من مرشحي الكابينة الإصلاحية الذين تساقطوا الواحد تلو الآخر قبل أن تُكشف النتائج الرسمية لما تمخضت عنه اللجنة أو الجهات المشكلة لإنهاء عملها، فإنّ الحدس بفشل المبادرة كبيرٌ، وسط أجواء مشحونة عزّزتها تصريحات زعامات الكتل والأحزاب بضرورة العودة إلى مبدأ المحاصصة الذي كفله الدستور. وفعلاً هذا ما يجري التفاوض بشأنه. أي أنّ "حليمة ترجع إلى عادتها القديمة"، و"كأنّك يا أبو زيد ما غزيت"! فالكتل الحاكمة تسعى لإبقاء الشراكة التحاصصية التي تكفل لها بقاء الامتيازات ودرّ المنافع عبر البيع والشراء في المناصب والوزارات، بحسب ما تعوّد الشركاء الفرقاء الأضداد. وهذا يعيد البلد إلى المربع الأول الذي كان رسمه المحتل وعزّزه الحاكم المدني سيّء الصيت بول بريمر، حين منح الكتل والأحزاب حق الاستنفاع بثروات البلد وتقرير مصيره بحسب مصالحها الفئوية والطائفية والشخصية. وما زيارة وزير الخارجية الأمريكي كيري، الأخيرة للعراق، سوى للتذكير بوجوب الالتزام بالاتفاق المذكور والحرص المتزايد للإبقاء على ذات النهج الفاسد وغير الوطنيّ في إدارة البلاد والعباد، ما يقطع أيّة محاولة للخروج عن طاعة الأسياد وإلى أمد غير محدّد.
إزاء هذا الموقف المتشظّي للكتل البرلمانية حيال المبادرة الإصلاحية، وتعنّت بعضها برفضها جملة وتفصيلاً، وقبول غيرها لها أو جزءًا منها، شريطة أن تتمّ بالتشاور والاتفاق والتوافق مع الكتل القائمة بموجب الاستحقاق الانتخابي الذي رسمه الدستور، يقف الشعب ومثقفوه حيارى بين الصمت عن الظلم المتواصل، والسكوت عن مواصلة استغلال الفطرة العراقية بفكرها المزدوج الشخصية، وبين ثورة عارمة قادمة لا محال، تنفذ ما رفعته حشود المتظاهرين من شعار "شلع قلع" في آخر تظاهراتها الصاعقة التي هوّلت القابعين في المنطقة "الغبراء" وحرّكت عروشهم وأفاقت النائمين من أبناء الوطن والغافلين عن طمس حقوقهم وإبقائهم مجرّد أجسام باحثة عن رزق يوميّ من كفاف اليوم الذي لا يغني ولا يسمّن. فالفشل في إحداث نقلة نوعية في مسار العملية السياسية ككلّ بعد كلّ هذه الخبطة والأداء المسرحي بامتياز، والعجز بتلبية مطالب الشعب التي أحياها وفجّرها في الاعتصامات الأخيرة، ستكون له نتائج وخيمة، إلى مسارات جديدة تتوسع معها ساحة الاعتصامات وتتزايد مطالب الشعب. ولا يُستبعد بعدها حراكٌ شعبيّ مشاغب أو انتفاضة عارمة تقتحم المنطقة "الغبراء" التي لن تعود "خضراء" لا لأهل السلطة ولا للداعمين لهم أو القائمين على رعايتهم وتوجيههم، ما قد يؤثر على سير العمليات العسكرية الموجهة ضدّ عدوّ الوطن المشترك، "داعش" الإرهابي الذي قد يستغلّ الفرصة والأحداث غير محسوبة النتائج بتقويض محاربته والنيل منه. فمثل هذه الأعمال الفوضوية، لو حصلت، ستدخل ضمن مخطَّط آخر جديد يستهدف إطالة بقاء داعش ومشروعه في العراق وسوريا على التوالي.
لقد حيّت طبقات الشعب المغلوب المقهور، ومثقفوه والمهمَّشون فيه من شعوب المكوّنات الأخرى وكذا المرجعيات الدينية المعتدلة والمنظمات المدنية، ما ذهب إليه رئيس الوزراء من عزمه في المضي في برنامجه الإصلاحي الجذريّ من خلال إحداث تغيير في تشكيلة حكومته، على ألاّ تكون منحازة إلى كتل سياسية مافيوية في السلطة. وقد عبّر مرارًا، عن عزمه التوجه نحو التكنوقراط وتقريب الكفاءات لتتولى إعادة بناء مؤسسات الدولة المتهرّئة، بعيدا عن التدخلات الحزبية والولاءات الفئوية والطائفية على أن تشمل جميع هذه المكوّنات من دون استثناء. لكنّ قناعاته الإدارية الشخصية وسوء التقدير في مواجهة الآخر المختلف المعاند المصرّ على المحاصصة، بقيت محدودة القدرة وجزئية مستقطعة في إيصال رغبة الشعب وإرادة الحشود المنتفضة، كما لم يفلح في إنصاف المكوّنات الأخرى المهمّشة عمومًا، كالتركمان والمسيحيين والإيزيديين والصابئة وما سواهم، ولو جزئيًا. ففي نهاية المطاف انصاع دولتُه للأمر الواقع، وقبِلَ مرغمًا كارهًا أو عاجزًا قانعًا بالعودة إلى التقسيم المحاصصي بصيغة مناورة جديدة.
لكنّ "اللغز- الغزل" الذي تركه فضُّ الاعتصام غير المكتمل النتائج الذي تزعّمه رجل الدين الشيعي الذي طرحَ نفسَه عراقيًا وطنيًا مدافعًا عن الشعب المقهور، بقي مثارَ حيرة وشدهٍ من جميع المترقبين للحركة الاعتصامية بعد تفاقمها وبلوغها حدّ التهديد باقتحام عشّ الفساد بالمنطقة "الغبراء". فالانتفاضة الثائرة كان يكفيها دعمُها اللامحدود من الحشود الثائرة المستنكرة عناد الأحزاب الحاكمة، كي تأتي بنتائجها الثورية المرتقبة بتغيير جذريّ شامل، وليس بالضحك على الذقون وإسكات صوت الجماهير المنتفضة، إن في الصمت أو في العلن، من شمال الوطن إلى جنوبه. ويا لها من خيبة أمل بالقائد المزعوم والمنقذ المنتظر الذي لم يستطع إكمال الشوط، الذي سيظلّ لغزًا بحاجة إلى حلّ وتحليل وبحث وتقصّي. فهل نتوقع وثبة جديدة منتفضة قادمة تكسح وتكنس وتقلع ما ظلّ حكرًا على حيتان الفساد الذين يخشون أي ّ تغيير بحجة النضال والجهاد والأحقية والاستحقاق من خلال استدرار عواطف البسطاء من "المتديّنين" والسائرين في الركب ممّن يستغلّون عباءة الدين والمشروع الإسلامي "التشيعي" والمذهب لبلوغ مأرب أسلمة المجتمع من خلال تكريس المحاصصة وجعلها دستورًا، شرعًا وقانونًا؟
من المؤكد، أنّ مشروع الإصلاح باقٍ، وأنّ الشعب بالرغم من سلوكه المزدوج أحيانًا، سوف يعيد الكرّة ويثور، ولكن في هذه المرّة من دون رحمة ولا هوادة ضدّ مَن لا يُؤتمنون في صفوف ممثلي الشعب الخائب، والمحسوبين إلى جانب الفقراء والمهمّشين والمظلومين. فقد ترك انسحابُ السيد الصدر عن مواصلة المطالبة بحقوق هؤلاء الضعفاء والفقراء والمقهورين، البابَ مفتوحًا لغيره من الملتحفين بعباءة الدّين والمنتفعين عبر شعائر وشعارات إسلامية شيعية وسنّية، ومناسبات ولقاءات تحشيدية لاستدرار عواطف المشاركين في مثل هذه المناسبات، من خلال الدخول بأصوات زاعقة على الساحة، بهدف تجربة الحظّ الذي تعثّر به السيد الصدر في انتفاضته الأخيرة ولم يحقق طموح الجماهير لابتسارها بتلك النهاية غير الموفقة. فجاءت الخطابات الحماسية لبعض الزعماء الطائفيين التي أُريد منها إحياء المشاعر الشيعية الطائفية لدى مَن فتر عندهم التأييدُ اللاّمحدود الذي كانوا منحوه لقادة الأحزاب الدينية في طاعة عمياء، تيمنًا بالأئمة، وهي البريئة من أية أفعال طائفية وخطايا فساد واستغلال مشاعر البسطاء لاستدرار العواطف. فالهدف واضح من وراء دخول شخصيات دينية وزعماء أحزاب رفعت شعار الدين والطائفة والجهاد والنضال رايةً لاستحقاق الحكم والسلطة. فعن أي جهاد يتحدثون؟ ولأي نضالٍ يشيرون؟ ومتى كان التكنوقراط المستقلّ إفسادًا في الأرض؟ ومتى كان التديّن محرَّمًا؟ بل متى كان التديّن أو عدمُه بابًا وأساسًا للمواطنة والوطنية. فالعلاقة بين الإنسان وباريه تبقى علاقة شخصية، حتى مَن لا يؤمن بوجود هذا الإله الذي يُقتل ويُذبح ويُحلف باسمه باطلاً، خيارُه محترَم وسيبقى محترَمًا طالما لم يتلوّث بما تتلوث به أيادي سفّاكي الدماء وسارقي قوت الشعب وناهبي الثروات والمزوّرين والمرتشين.
إننا نعتقد أنّ هذا الأسلوب في الخطاب الطائفي الداعي للمشروع الإسلامي بالعراق بطريقة علنية، يُقصد به أسلمةُ المجتمع على درب ولاية الفقيه وضربُ التوجه الشعبي اللاّمحدود الرامي لتشكيل واستقرار دولة مدنية متحضّرة لا تنتقص من التديّن أو عدمه، وتحترم تعددية الأديان والمعتقدات والأعراق وخيار الجماعات السائرة في طريق العدل والسلام والمحبة واحترام حرية الغير وتوجهاته، طالما بقيت في حدود المواطنة والوطن. كما يرمي هذا التوجّه الإكراهيّ الجديد القديم إلى إفشال أيّة محاولة جماهيرية وطنية تستهدف إلغاءَ شراكة المحاصصة المقيتة، لكونها الضامنة الوحيدة للمكاسب السياسية والمنافع التي تدرّ على حيتان الفساد في السلطة ذهبًا وعسلاً ودولارًا وعقارًا وقصورًا ثابتة. لكنّ كلّ هذه المحاولات وغيرُها من تلك التي تُحاك في مكاتب زعماء المافيات العراقية، في الداخل والخارج، سوف لن تقف أمام التيار الجارف القادم كالتسونامي ل"يقلع ويشلع" مَن يقف في طريق الإصلاح الحقيقي الجذريّ الذي لا يجامل ولا يتغافل ولا يتراجع. فإعادة هيبة الدولة وبناء مؤسساتها، والعودة بالنسيج الاجتماعيّ المتكافل واحدًا موحدًا، وعودة الخدمات والأمن والاستقرار، وانتشال العباد من الظلم والإقصاء والتهميش والغياب عن المشاركة الحقيقية في البناء والمنفعة والرفاه والأمان، هي وحدها التي ستدفع ثوارًا عتيدين للعودة إلى الشارع بزخمٍ أشدّ وأكثر وعيًا وإصرارًا هذه المرّة. كما أن مفهوم أسلمة المجتمع، يعني إلغاء الآخر ضمن أيديولوجية الأحزاب الدينية القائمة. وهذا واضح في خطابات جميع زعماء الأحزاب الدينية الإسلامية وهم لا يخفون مثل هذه التوجهات عبر مزايدات بمناسبة وبدون مناسبة. وإلغاء الاخر، يعني إلغائي أنا الآخر أيضًا وإسدال الستار على التنوع الديني والإتني والحضاري للعراق ككلّ!
إنّ ما حصل ويحصل من خلف الكواليس من التفاف الكتل على المشروع الإصلاحيّ، ليس فيه من هدف سوى احتفاظ الكتل والأحزاب الحاكمة في السلطة منذ 2003، بوزاراتها ومكاسبها السياسية والاقتصادية والمالية وهيمنتها على فكر المجتمع الرافض لأسلمته بمثل هذه الطرق والوسائل الإكراهية. وهناك مَنْ ذهبَ مؤخرًا، في مغالطاته وتحدّياته وتهديداته لإشاعة التخوّف من مفهوم استبعاد الشيعة من الحكم، والقصد منها كسبُ مشاعر المريدين والسامعين، حين رفعوا شعار التحذير من عناصر التكنوقراط المطلوب من خارج الأحزاب المهيمنة على السلطة وعادًّين إياها إفسادًا للحقيقة والاستحقاق والنضال والجهاد. فنضالُ القابعين في الحكم وجهادُهم ليس سوى تأكيد وسعي حثيث ومستميت من أجل المال والجاه والسلطة، وليس لمساعدة المحتاج وجبر خاطر المهمّش وتقديم الخدمات للمواطن وتوفير الأمن والأمان للشعب وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب. فمَن سلّم البلاد فريسة سائغة للأجنبي، ومَن أهدى الوطن ولاية تابعة خانعة للغير، ومَن استقدم داعش وأمثالَها لتدنيس أرض الآباء والأجداد، ومَن نهبَ وسلبَ واغتنى من دون وجه حق، ومَن أفسَد وحوّل البلاد إلى كانتونات وميليشيات موازية لجهد الدولة، ومَن زوّرَ وقتلَ وهجّرَ بحجة الاستحقاق في الحكم والسلطة، ومَن أهان وهمّش واستغفلَ المكوّنات قليلة العدد وسمّاها بالجاليات أحيانًا والأقليات أحيانًا أخرى، ومَن أوصل البلاد إلى شفير الإفلاس والتخبّط، ومَن رشى وارتشى من عقود النفط وغيرها من المشاريع، ومَن حوّل الوزارات ومؤسسات الدولة ومناصبَها إلى إقطاعيات حزبية وطائفية وعرضها في المزاد، ومّن أعاد بالعملية التربوية والتعليمية عقودًا إلى الوراء، ومَن زوّر الشهادات وسهّل حصولَها، هم أنفسُهم مَن يرفضون تداول السلطة سلميًا ويعترضون على أية عملية إصلاحية ويلتفون على مطالب الشعب ويصرّون على عدم مغادرة القصور وترك المناصب كي لا تُفضح أعمالُهم ولا تجري مساءلتُهم من قبل القضاء، في حالة انتصح الأخير بعد تسييسه وأفاقَ من غفوته وعاد إلى رشده من أجل تحقيق العدالة وإنجاز المهام العدلية الموكلة إليه.
حقًا، نحن ننتظر مفاجأة أقوى قد يُقدم عليها الشارعُ الثائر المنتفض وغير الراضي لما جرى ويجري، مدعومًا بفورة وطنية جديدة لزعيم التيار الصدري أو غيره، بعد إصرار الكتل والأحزاب على عدم التغيير والعودة إلى تفاهمات المحاصصة وإبقاء حكومة الحيتان، لتعود حليمة إلى عادتها القديمة. أما الموقف الأمريكي كراعٍ للسلطة ومعه الحاكم الفعلي للبلد "الجارة إيران"، فهما لا يهمّمها الإصلاح ولا أدواتُه، بقدر ما يسعيان للحفاظ على واقع الحال الحالي وتمرير الأجندات في البلاد بأية أثمان.

لويس إقليمس


267
الفاتيكان، ودور البابا في قضايا الساعة...قراءة متأنية
بغداد، في 1 آذار، 2016
لويس إقليمس
في رحلة العودة من المكسيك، للبابا فرنسيس الأول ضمن سفريته الثانية عشرة خارج الفاتيكان منذ توليه البابوية في سنة 2013، أثار أسئلة عديدة مع جمعٍ من الصحفيين على متن الطائرة التي أقلّته قافلاً إلى كرسيّه بالفاتيكان. ونظرًا لأهمية ما ورد على لسان البابا "المصلح" من تصريحات، تُعدُّ له من قضايا الساعة وتستحق التأمّل والاطّلاع، نعيد قراءتها في ضوء الحراك الأخير، السياسي والكنسيّ والمجتمعي للحبر الروماني. راديو الفاتيكان الرسمي، نقل في 18 شباط 2016، جزءًا من اهتمامات البابا الأرجنتيني الأصل واليسوعيّ (الرهبنة اليسوعية) الثقافة، ومنها الأزمة المركبة التي تعاني منها أوربا وموضوع الاعتداءات الجنسية ضدّ الأطفال، وظاهرة الإجهاض والأرثوذكسية ودور المرأة في الكنيسة. نحاول قراءتها في ضوء الأحداث المتسارعة.

الفاتيكان والسياسة
يفصح بابا الفاتيكان، عن عدم الرغبة بالتورّط في مجال السياسة. ولكن هذا لا يمنع ان يكون للكنيسة ولرجال الدين فيها، مشاركة وآراء ومشاورات في قضايا الساعة التي تخصّ الشعوب، وخاصة المغلوبة والمقهورة منها، إذا اقتضت الحاجة. فالدّينُ نصحٌ ومحبة ورحمة، ورجالُه هم مَن يقدّمون سبل الرحمة والخدمة والمشورة. ولكننا نستشفّ من رؤى البابا فرنسيس وتعليقاته القليلة حول السياسة، أنّه لا يجاري "الفاسدين وعبيد السلطة وصانعي الأسلحة". فأمثال هؤلاء، "لا يخافون الله"!
في آخر زيارة له إلى المكسيك، حزَّ في نفسه أن يعود العهد بأوربا مثلاً، إلى ما آلت إليه من "لا أدرية" ومن ترهّل في الجانب الديني، ومن ميوعة في الجانب الخلقيّ. ويرى في عودتها إلى رشدها وإعادة تشكيلها على سابق عهدِها "مدلّلة للكنيسة وحاميتها"، عودة إلى قيمها التاريخية والحضارية والدينية المتزنة. فما تتمتع به هذه القارة العجوز، من قوّة وثقافة وتاريخ وحضارة وإرثِ لقرونٍ مزدهرة، ليس من المعقول أن تفقدَه لاعتبارات سياسية مرحلية ولأجل مصالح مؤقتة ضيقة في مسايرة سياسة الغير على الساحة الدولية. وهذا ما يحثّها لتأكيد وحدتها في كلّ يوم، وباستلهام العبر والتاريخ للمضيّ إلى أمام وإحراز المزيد من التقدّم في خدمة العالم وفي تعزيز سلوك السلام فيه وفي تطوّره وتقدّمه، من دون أن تفقدَ جذوتَها الدينية التقليدية.
وبخصوص ما تتعرّض له من موجات هجرة غير طبيعية، فهو يحثُّها على التعامل مع المشكلة بما يخلق حالة من الاتزان والتوازن حيال ما تعرّض ويتعرّضُ له العديد من طالبي اللجوء. فهؤلاء المهاجرون في أغلبهم، ضحايا حروب وظلم وجوع وتسلّط حكّام وضحايا فساد، جاؤوا يطلبون الرحمة على الطريق، بحثًا عن الرجاء. وبطريقة تعاملها الإنسانيّ مع هذه الظاهرة، يمكنها حماية مواطنيها دون الامتناع عن إبداء وعيش قيمها الإنسانية المعروفة عنها.
أمّا في مجال السياسة الدولية، فالبابا يكرّر في كل المناسبات، دعواته من أجل تشجيع الحوار وتبادل الآراء والأفكار بين الأمم والشعوب على قاعدة الإنسانية ووفق شرعة حقوق الإنسان انطلاقًا من الأسس القويمة في الأديان التوحيدية والأخرى المنفتحة، وصولاً إلى تحقيق السلام في العالم والأمان بين الشعوب والدول والمجتمعات. ففي آخر لقاء سنويّ تقليديّ للكرسيّ الرسوليّ مع ممثلي الهيئات الدبلوماسية لمناسبة العام الجديد 2016، جاءت صرختُه المدوية للتنسيق ضدّ كلّ أشكال التطرّف والأصولية والإرهاب الضاربة أطنابَها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بخاصّة. وهو لم يبخل بإثارة هذه الآفة في جميع اللقاءات الرسمية والثنائية وفي المناسبات الدينية والاجتماعية. من هنا، نسمع منه دعوات متكرّرة "لوضع حدود لانتشار الإرهاب" وعدم الترويج لأسلحة مدمّرة والكفّ عن تمويل التنظيمات الإرهابية. فصانعو السلاح والمتاجرون به يعدّهم قداستُه قتلة وقساة الرقاب، "منافقين ومشاركين" في القتل والتدمير، واصفًا إياهم بغير المسيحيين، إنْ هم ادّعوا مثل هذا الانتماء! "فهُم يقولون شيئًا ويفعلون غيرَه!"
وبصدد ما يتعرّض له العالم من موجات عنف وقتل وقهر وظلم على أيدي جلاّدي العصر وكارهي ثقافة الحياة، فهو يتطلّع للخلاص من المصير المأساوي الذي ترزح تحته شعوب كثيرة، لاسيّما في منطقة الشرق الأوسط. فقد أدان أعمال العنف في كلّ من سوريا والعراق مستصرخًا أصحاب الضمائر لوضع حدّ للمعاناة ولأعمال القتل والتهجير ووقف الحروب التي ليسَ من نتائجها سوى دمار الإنسانية وتخريب البلدان وطمس الإرث والتقاليد. "وحده الحلُّ السياسيّ" والحوار، كفيلان بضمان المصالحة المجتمعية وحماية الشعوب والجماعات من الإرهاب. وهذا ما أكّده مرارًا بصدد الدمار الذي لحق بسوريا مثلاً، خلال مباحثاته مع الرئيس الإيراني حسن روحاني في 26 كانون ثاني المنصرم 2016، داعيًا إيران لأن تلعب دورًا إيجابيًا في إحلال السلام ووقف الحرب المدمّرة في هذا البلد.
وضمن ذات التوجه، كرّر البابا خلال استقباله لرئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي، في 10 شباط 2016، دعوتَه للفرقاء السياسيين للعمل من أجل تحقيق المصالحة الوطنية ودعم السبل الكفيلة بضمان التعايش السلمي بين جميع مكوّنات الشعب العراقي والحفاظ على حقوق الجميع، مباركًا تصميم الوطن والمواطنين على دحر الإرهاب ونبذ ما يمكن أن يفرّق بين مكوّنات الشعب المتعايش تقليديًا.

الأرثوذكسية:
بخصوص اللقاء التاريخي الذي جمع قطبين كنسيين، بعد قطيعة طويلة نسبيًا، منذ الانشقاق الكبير بين مسيحيي الشرق والغرب، أي بين الكثلكة والأرثوذكسية في عام 1054، يرى البابا بضرورة العودة إلى الجذور والبحث عن مواضيع عقائدية جادّة وجديرة بين الكنيستين. وتأتي أهمية اللقاء الذي احتضنه مطار العاصمة الكوبية هافانا في 12 شباط 2016، كي يزيد من أهمية الحدث ومن عنوانه ومن رمزيتِه. وفيه دعا الطرفان في بيانهما المشترك بعد اللقاء، دول العالم لإرساء السلام وتحقيق الأمن المجتمعي للشعوب عن طريق الحوار والاحترام المتبادل وتشجيع البحث عن أفاق نموّ الحضارة البشرية.
هذا اللقاء التاريخي، الذي "جرى في كوبا، حيث تلاقى الشمال مع الجنوب"، كان مناسبة لإبراز "علامة الرجاء للعالم الجديد"، بالتعرّض للأحداث المأساوية التي تشهدها الأرض والدول والمجتمعات في ضوء التحديات الكبيرة فيها، بسبب دخول الحضارة البشريّة في مرحلة تغيُّر تاريخيّة وفي طور رحلة "تكتونية" غير معروفة النتائج. فقد نال موضوع الصراع في عدد من دول العالم، القسطَ الأوفر من المحادثات، حيث الأقليات الدينية والعرقية، والمسيحيون بصورة خاصة، يقعون ضحايا الاضطهاد غير المبرّر، ومنها في شمال أفريقيا وعدد من بلدان الشرق الأوسط. في هذه الدول، تجري عمليات تدمير كنائس وتهجير عائلات وقلع جذور لقرى ومدن بأكملها بشيءٍ ملفت من الوحشية، مصحوب بخطاب الكراهية وبتحريض مدفوعٍ بسبب الجهل وقصر النظر، بالرغم من قرون طويلة من التعايش التقليدي بين دين الأغلبية في المنطقة مع أتباع ديانات أخرى حوّلهم الدهر إلى شعوبٍ قليلة في عددها. وفي البيان المشترك، تذكيرٌ بما تلاقيه مجتمعاتُ هذه الدياناتِ القديمة الأصيلة من أعمال عنف واقتلاع من الجذور، بسبب ارتفاع أسباب العنف وانتشار الفوضى وتعاظم روح الكراهية ونزعة الإرهاب المتطرّف الذي امتدّ وانتشر واتسّع بتوفّر حواضنِه وتعاظم تمويلِه.
في مباحثات القطبين الكنسيين، نقرأ أيضًا، اهتمامًا مشتركًا في قضايا الساعة. فقد كان للعنف الدائر في منطقة الشرق الأوسط، ومنها في كلّ من العراق وسوريا بخاصّة، حصّة الأسد. فالزعيمان الروحيان دعوا إلى الحاجة لوقف العمليات القتالية وأعمال الإرهاب والتهديد والقتل والتهجير القسريّ، حيث ترك ملايين البشر من دون مأوى ولا مورد. وقد حان الأوان لإعادة إحلال السلم الأهلي بسرعة، في هذه المنطقة التي تُعدّ مهد الرسالات وتلاقي الحضارات، من خلال العمل بمسؤولية أخلاقية وبعقلانيّة حفاظًا على الخليقة من الدمار وعدم السماح بوقوع حرب عالمية جديدة، بحسب ما تذهبُ إليه الأحداث والوقائع.
كما أنّ اللقاء كان مناسبة أيضًا، لإذابة جليد القطيعة التقليدية بين العالمين الكاثوليكي والأرثوذكسي. حيث أعادَ إلى الأذهان، ما يمكن أن تقدّمه الكنيستان للسلم العالمي ومن مساعدة للدول، وحضّ أرباب السياسة وزعماء العالم من أجل تثبيت أسس السلام ووقف أعمال الكراهية بين الشعوب والحدّ من الأزمات الناجمة عن سوء فهم وتفسير وتقدير، سواءً بسبب تنافرأو لاختلاف في معتقدات الشعوب، أو بسبب الجهل وقصر النظر، أو نتيجة لارتفاع المدّ المتشدّد والأصوليّ لدى نفرٍ من أتباع ديانات العالم مدفوعين بترويجٍ من بعض شيوخها وعدد من زعاماتها، لأعمال التحريض التي لا تنسجمُ مع روح العصر ومقاييس التطوّر. ويرى بابا الفاتيكان الذي يربو عدد أتباع الكنيسة الكاثوليكية التي يرأسها أكثر من 1,2 مليار مؤمن، أنّ العالم لا يحتاج مزيدًا من التوتر والعنف. فالدعوة إلى الوحدة المسيحية التي تشكل واحدًا من هموم المسيحيين، تستوجب وقفة تأمّل ومراجعة من عاصمة الكثلكة مع العالم الأرثوذكسي بشخص بطريرك موسكو كيريل الأول، رئيس عموم الكنيسة الروسية الذي يرأسُ زهاء 150 مليون مؤمن، في بلدٍ قويّ مثل روسيا،نظرًا للدور العالميّ الذي تلعبُه هذه الأخيرة بتشجيع من قدراتها الاقتصادية والسياسية.
وقد سبق هذا الحوار الوحدوي بين الكنيستين، لقاءات مسكونية أخرى مع البطريرك برتلماوس الأول، رأس الكنيسة الأرثوذكسية بالقسطنطينية الذي جرى في القدس بتاريخ 25 أيار 2014. وحديثًا جرى لقاء مماثل، جمعَ رأس الكنيسة الكاثوليكية مع بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في أثيوبيا ماتياس الأول في القصر الرسولي بالفاتيكان، حيث تقدّر أعداد أتباعهم أكثر من 36 مليون شخص بحسب دراسة لمعهد بيو في 2011. وكما في سائر اللقاءات البابوية من هذا الطراز، فهي تحمل كالعادة، معانٍ كثيرة تصبُّ في ارتقاء جنس الكائن البشري وفي تعزيز السلم العالمي وإرساء العدل والحوار الإيجابي وتأكيد كرامة المرأة ودورها في المجتمع وقدسية العائلة والخير العميم للبشرية وحمايتها والاحترام المتبادل والبحث عن السبل الكفيلة بمعالجة الأزمات والبؤس والظلم. أي باختصار واضح، جميع اللقاءات البابوية تصبّ في البحث عن عالم آمِن يرتكز إلى احترام خيارات الكائن البشري الإنسانية، والعيش الآدميّ لكلّ مخلوق على وجه البسيطة، وتحقيق السلام والتضامن بين الشعوب المختلفة دينيًا وعرقيًا ولونًا ولغةً.
وحول مسألة الحوار مع الأديان الأخرى، فهو يراه سبيلاً للتفاهم وبابًا للتقارب وسدّا منيعًا لردع كلّ أشكال الانغلاق والانكفاء والانعزال. فالحوار وحدهُ، لغةٌ فاعلة وقادرةعلى إعطاء تعليمٍ إيجابيّ صحيح لمختلف الشرائح، بدءًا من الصغار. وهو ليس "رفاهية"، بقدر ما هو أصبح ضرورة تستوجبها حالة الأرض والإنسان والشعوب والأمم والفكر والرغبة بالارتقاء بالجنس البشري. فيما التطرّف المنغلق على الذات، يزرع الحقد والكراهية ويزيد من التعصّب الدّاعي إلى العنف وإيذاء الآخر والقتل باسم الله. وهذا لا مبرّرَ له في عالم الحضارة والعلم والتكنلوجيا المتسارعة. كما أنّ الحوار في الأديان علامة صحة، تساهم في تعزيز التسامح والسلام وتبنّي المنهج الوسطي المعتدل في التعامل البشري والإنساني. وبهذا الصدد، يتمنى البابا، اللقاء مع إمام الأزهر في ظروف قريبة. فهذه المؤسسة العلمية والدينية معًا، لما لها من سمعة وجدارة وأهمية دينية وعلمية في تقديم النصح الطيّب والفكر النيّر، ولكونها مدرسة منهجية قادرة على إعطاء تعليمٍ معتدل وخطاب وسطيّ بعيدٍ عن روح الكراهية، فهذا يمنحها دورًا رياديًا في تبنّي مثلِ هذا المنهج وهذا الخطاب وسط الأمم والشعوب وبين الدول.

العائلة والمرأة والطفل
في موضوعة الأسرة، يكرّرُ البابا فرنسيس دعوتَه لاحترام قدسية العائلة، خلية المجتمع الأساسية في بناء علاقات متوازنة وسط المجتمع، باختلاف الجماعات المتعايشة، وعلى أساس الاحترام المتبادل والتكافل والقبول بالآخر المختلف. وقد نوّه قداستُه مرارًا، إلى ضرورة ألاّ تخرج خيارات العائلة عن سياق احترام قدسية الكائن البشري وجسدِه وحياته. ومن ثمّ، فهو يجدّد رفض الكنيسة الكاثوليكية لكلّ ما يمسّ حياة الإنسان العاقل وينتقص من قيمته العليا، لكونه مجبولًا على صورة الله الخالق ومخلوقًا على مثالِه الحسن. من هنا، يأتي اعتراضُه، بصفته رأس الكنيسة الكاثوليكية، لدعوات الإجهاض المثارة بين فترة وأخرى، عادًّا ذلك خروجًا عن الأخلاق الإنسانية وجريمة بحق الكائن البشري وبحق الإنسانية جمعاء. وكأنّي به يقول، "قتل نفس بشرية بغير ذنب، جريمة لا تُغتفر". لكن هذا، لا يتعارض مع مبدأ تنظيم الأسرة حينما تقتضي الضرورات، مثلاً لتفادي الإصابة أو خوفًا من انتقال أمراض، كما في انتشار فايروس زيكا ونقص المناعةوغيره في السنوات الأخيرة أو بحسب ما تتطلبه الاستشارات الطبية المعتمدة. فالإجهاض من وجهة نظر الكنيسة، ليس مشكلة لاهوتية، بقدر ما هو مشكلة إنسانية وطبية بحتة. كما عدّ الاعتداء الجنسي ضدّ الأطفال القاصرين بالفعل الشنيع، داعيًا لردع مَن تورّط في مثل هذه الأعمال المخزية التي لا تقلّ جرمًا عن أعمال الشرّ المعروفة الأخرى. وهو يحضّ مجمع العقيدة والإيمان لتبيان فظاعة مثل هذه الأفعال غير الأخلاقية والمنافية للأخلاق المسيحية والإنسانية.
وبصدد رأي الكنيسة في المثليين، يرفض البابا إدانة أصحاب هذا التوجّه، انطلاقًا من كونِه غير مخوَّل بإصدار الإدانة بحقهم باسم الله، "إذا كان الشخص مثليّا، ولكنه مؤمن بالله وبإرادته، فمن أكون أنا حتى أصدر حكمًا مسبقًا بشأنِه؟" وهذا الكلام ينسجم مع مواقف البابا فرنسيس في التحرّر من الموروث التقليدي في تفسير النصوص، وبإبداء مزيد من الرحمة تجاه الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله الحسن. لذا أتت دعوته في وقت سابق لعدم تهميش المثليين وإيلائهم العناية، لأنهم بشر، وقد يكونون من المؤمنين والطيبين أكثر من غيرهم، من دون منحهم صفة الاعتراف بوضعهم الشاذّ مجتمعيًا ودينيًا. "فاللّهُ البار وحده فاحصُ الكلى والقلوب" (مزمور7: الآية9)، و "هو وحده يعرف خفايا القلوب" (مزمور44: الآية 21).
أمّا بخصوص المرأة، فلهذه الأخيرة حصة كبيرة في جعبة بابا الفاتيكان. فهو يمتدح دورَها الفاعل وحرصَها في حضن الكنيسة كما في شؤون الحياة الأخرى. كما يريد أن يكون لها صوتٌ حقيقي وصلاحية، كما للرجل، في الكنيسة والمجتمع على السواء.وقد سبق له أن أوضح في تعليمِه، أن الله عندما رأى في خلقِه "نقصًا في الملء والشركة"، أراد أن يكمّله بخلقِ رفيق للإنسان الأول كي تكون "عونًا له وجزءً منه وعظمًا من عظامِه ولحمًا من لحمِه"، كما يقول سفر التكوين (23:2). فالله لم يشأ أن يكون لهذه الوسيلة في الخلق، تدنّيًا أو تقليلاً من شأن المرأة المخلوقة من "ضلع الرجل"، بل كان ذلك من أجل إكمال "المبادلة" بينهما وإكمال الواحد لحاجة الآخر. فالإثنان، الرجل والمرأة، عنصران متكاملان، ضمن رباط الحب الذي يمكن أن يجمع بينهما في حالة الارتباط الذي يقوّي آصرة الحياة والعيش الأسري الودّي المشترك تحت سقف واحد. ومن ثمَّ، لا تسلّطَ لأحدهما على الآخر، كما لا مجالَ لتأويل نية الخالق بفرض "الذكورية" على المرأة، وعدّ هذه الأخيرة أداة أو خليقة من الدرجة الثانية لغرض استغلالها والمتاجرة بها، بحسب "الثقافة الإعلامية الحالية" لدى البعض، وبحسب التفسيرات المقدّمة حول دورها وقيمتها وواقعها في حياة الأمم والشعوب.
وهذا بحدّ ذاته، أحد التحديات الكبيرة التي تعاني منها مجتمعات كثيرة، لا تقدّس علاقة الارتباط الحبّية بين الاثنين، ومنها قيمة الزواج المقدّس، حيث يتعهد الطرفان بالإخلاص وببدء مسيرة حياة جديدة، فيها يكون الواحد للآخر إلى الأبد! وهذا هو سرّ الزواج المسيحي الذي يقدّس العهد بين الاثنين أمام الله والناس، شهادةً للارتباط الأزليّ المقدس، بحيث تُصانُ كرامة الخالق في خلقِه بهذا الارتباط. فالمرأة آنيةٌ مقدّسة، أراد بها الله أن تضيف جمالاً لخليقتِه بتناغمها مع الرجل في الفردوس الأرضيّ الذي وضعه تحت تصرّف اثنينهما معًا، وليسَ تحت أقدام الرجل فحسب. لذا فالمجتمع الذي يهمّش المرأة، إنما يبقى مجتمعًا عقيمًا.
وحول صداقةٍ شخصية جمعتْ البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني مع الفيلسوفة الأمريكية أنا-تيريزا تيميانيكا، أشاد البابا فرنسيس بنوعية الصداقة التي يمكن ان تجمع الرجل، أي رجل، مع صنوه ورفيقته من العنصر النسائي. فالمرأة عندما تُستشار في بعض شؤون الحياة اليومية أو المجتمعية، يمكن أن تكون للرجل بمثابة منبع كبير من الثروة، لا يُستهانُ به. من هنا، يكون عقدُ صداقة مع المرأة لا يدخل ضمن المحظور أو الخطيئة. فالرجل يحتاج إلى رفيقته في مسيرة حياته. والبابا مثل غيرِه من البشر، له قلبٌ نابضٌ ويحتاج إلى صداقة سليمة ومقدسة مع العنصر النسائي المتساوي في الخلق والحياة مع صنوه الذكر. وهذا الموقف الصائب، من شأنه تأكيد اعتزاز الكنيسة والمجتمع بالمرأة وبدورها الرائد في المجتمعات. فحضورُها يبقى أساسيًا، لأنها "لا تحمل الحياة فحسب، بل تقدّم رؤية بعيدة النظرمن أجل فهم العالم بعيون مختلفة وبقلبٍ حافلٍ بالإبداع يحمل بين طياتِه الصبر والحنان".

فكرة مستخلصة
مهما يكن من أمرٍ، يمكننا الفهم، أنَّ البابا "المصلح"، انطلاقًا من ثقافته "اليسوعية" (الرهبنة اليسوعية) ومن نشأته اللاتينية (الأرجنتين)، يسعى لطرح أفكار متقدمة وإبداء ملاحظات جريئة وتقديم مبادرات استباقية تتناغم مع الحداثة وتتكيّف مع التطورات المتسارعة في العالم. قد يختلف في هذه عن أسلافِه في طبيعة الأفكار المتقدّمة التي يعتقد البعضُمن الناس خروجَها عن المألوف في الدوائر الفاتيكانية التقليدية. ولكنها تبقى أجوبة محيّرة وعلى جانبٍ من الأهمية، تُثار في الجانب الإيماني والتعليميّ للكنيسة، لا لشيء، إنّما لأنها تتعلّق بطبيعة تحريرالإيمان المتسامي في طبيعة اعتقاد الإنسان، وبقراءة هذا التفسير بما يلائم معايير العصرنة والفكر المتطوّر وحاجة الإنسان. وهذا التوجّه عينُه، من الممكن انسحابُه على ديانات أخرى مقارنة وقريبة، بالتحرّر هي الأخرىبتقديم تفاسير واجتهادات تتلاءم مع الحداثة والتطوّر في الفكر البشري من دون افتقاد الأسس الإيمانية والمعتقداتية.


268
العراق يحترق بنيران الأغراب عنه
لويس إقليمس
بغداد، في 30 آذار 2016
بالتفاعل مع غليان الشارع العراقي، والتفاف الرأي الشعبي والوطني حول إصرار المعتصمين على مواصلة الرفض لما يحصل من تلكّؤ في الحراك السياسي للكتل الحاكمة، وتباطؤ بل تراجع رئيس الوزراء، واهتزاز موقفه إزاء مشروع الإصلاحات، هذه جميعًا قد وضعت العملية السياسية في مفترق طرق. وقد تكون ما يُسمى بالفرصة الأخيرة قد ولّت هي الأخرى، ولم يعد لها من وجود البتة مع قدوم يوم الخميس الحاسم. وممّا زاد من زخم الشارع ومن الإرادة الصلبة للمعتصمين، إنضمام رجل الدّين الشيعي الشجاع مقتدى الصدر، الذي ألهب حماسة المتظاهرين بالأمس القريب والمعتصمين منذ أيام، وجبرَ لهم خاطرَهم كقائدٍ سياسيّ ميدانيّ يُحتذى به، فيما لو التزم مبدأ الدولة والوطن والمواطنة وليسَ مؤثرًا السلطة وجاهدًا لها. يُضاف إلى ذلك، ما شهدته مواقع التواصل الاجتماعي من خبطات وتعليقات وصحوات لمن كانوا حتى الأمس القريب نيامًا يتدثّرون بما يكذب عليه وجهاء السلطة من زعماء كتل وسياسيين فاسدين ومغرضين وأحزاب. وهذه جميعًا، قد تعوّدت التلاعب بمصير أهل العراق المحترق، المنهوب، المسلوب الإرادة والثروة والفكر، في زمن اللاّفكر واللاّوعي واللاّوطنية.
وأسفاه عليكَ يا وطن، وأيادي الأغراب عنك من أهلك، تُحرقك بفعالهم الشنيعة وبتقاسمهم الكعكة وذبحهم للضحية ونهبهم لثرواتك، وهي ملكُ أولادك وأكبادك وكادحيك ومواطنيك الغيارى الذين لم يبيعوك كما فعلَ ويفعل حكام السلطة منذ قدومهم وفرضهم إرادتهم اللاوطنية عليك وعلى أهلك ومحبيك الحقيقيين. فمَن يصرّ على التمسك بالسلطة بالرغم من رفضه من الحشود المليونية، إنّما يدقّ مسمارًا في نعشك الحضاري! ومَن يرفضُ الإصلاح بحجة الاستحقاق والخزّان الانتخابي الملوث بالرذيلة والفساد والرشى، إنّما يتشارك مع الدواعش الذين جرّدوك من تآلف نسيجك ويريدون فرض لونٍ واحد على شعب متعدد الأعراق والأديان والطوائف! ومَن يسرق عقاراتك وينهب ثرواتك ويهرّب نفطاتك، إنّما يغوى الشرّ بعينِه ويتقاسم مع الشيطان بفعله ويتصاهر مع الجنّ بجرمه!
حدقاتُ عيون الثكالى وصرخاتُ النساء المحرومات وعويلُ الأطفال من المهجرين والنازحين والمطرودين من ديارهم، كلها دلائل جرمٍ مشهود يتحمّل مسؤوليتها أركانُ السلطة الحاكمة منذ السقوط الدراماتيكي في 2003، ولا أقول الدولة. فالدولة العراقية باقية وثابتة ومنبعثة قريبًا من نفق الظلام ومن سكرات الموت الذي أراده المخططون للمأساة والمنفذون للأجندة الخارجية من الأغراب على الوطن القادمين على دبابة المحتل، ومن المتسابقين للوصول إلى السلطة من غير حق، إلاّ لكونهم من أتباع أهل السلطة ومن أحزابهم ومذاهبهم. فهؤلاء منحوا أنفسهم حقّ الغرف من منابع النفط والنهب من ثروات البلاد والعمل على إفساد أفكار العباد والسير في ركاب الجياد الطائشة التي داست أرض المقدسات وصمّت الآذان كي لا تسمع ما تنصح به المرجعيات الدينية الوطنية المعتدلة ولا تعمل بما يتأمله ويطمح إليه الشارع الذي يغلي اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، بعد أن اكتوى ولحقه العسر والمشقة والمذلة.
ما يريدُه الشارع العراقي، أصبح واضحًا لا اختلاف عليه. "شلع قلع"، تمامًا كما نادى به متظاهرو الجمعة ومازالوا على ذات النهج وذات الرؤى وذات الإرادة! فالإصلاحات الترقيعية التي يصرّ عليها أصحابُ الآراء المريضة والمتشدّقون بالدين وتلابيبه والمتعصبون للقومية وثآليلها، كلهم بانت نواياهم ووضحت رغباتُهم وطفت ألاعيبُهم، وهم يخشون كنسَهم بفعل إرادة الشعب الذي يريد الحياة ويقدّسها. فالشعب الذي ضحّى وقاسى وعانى من عسرة الهضم وكآبة الليل وسحابة الظلم، لا بدّ أن ينجلي عليه الضوء ليضيء طريقَه في نهاية المعاناة بعد سهر ودأب وألم وعناد. رحم الله أبا القاسم الشابي الذي يذكرنا بما نحن عليه وما نصبو إليه:
إذا الشّعْبُ يَوْمَـــــــــاً أرَادَ الْحَيَـاةَ        فَلابُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـــــــــدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيــــْلِ أنْ يَنْجَلِــــــــــــــي        وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِــــــــــر
أُبَارِكُ  في  النَّاسِ  أَهْلَ  الطُّمُوحِ        وَمَنْ  يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ  الخَطَـــر
وأَلْعَنُ  مَنْ  لا  يُمَاشِي  الزَّمَـانَ          وَيَقْنَعُ  بِالعَيْـشِ  عَيْشِ  الحَجَر
فَوَيْلٌ لِمَــنْ  لَمْ  تَشُقْـهُ   الحَيَـاةُ           مِنْ   لَعْنَةِ   العَـدَمِ   المُنْتَصِـر
إِذَا   طَمَحَتْ   لِلْحَيَاةِ    النُّفُوسُ        فَلا  بُدَّ  أَنْ  يَسْتَجِيبَ  الْقَــــــدَرْ

تلكم إرادة الحياة. ومّن لا يصعد الجبال ولا يسعى للآمال ولا يقاوم الشرّ وأدواته، فهو كمَن عاش أسيرَ الأخير منتظرًا دودة الأرض لتنخر جسمَه، وهو أقربُ للموت من الحياة! فالشارع العراقي قد صحا إلاّ النيام من المتحذلقين والمنتفعين من أطوار المسرحية السياسية الفاسدة الجارية منذ أكثر من عقد من الزمان. فمع توالي الأيام والأشهر والسنين، والعملية السياسية تتراجع بعيدة عن حراك الشعب ومطالبه وطموحاته. فهي لم تكن يومًا نموذجًا لحكم رشيد يخشى الله في عباده، بعد زوغانها واتخاذها منحى طائفيًا واضح المعالم طيلة الدورتين السابقتين لرئاسة الوزارة، وكأنّ روادَها كانوا على موعد مع القتل والتهميش والفساد والانتقام، ولم تكن عودتُهم سوى لتحقيق رغبة كامنة أسيرة في نفوسهم.  فالحزب الحاكم لغاية الساعة، لم يلحظ منه الشعب غير الكساد والفساد والعناد في تكميم الأفواه وتحشيش الأتباع وتخمة الكروش وزيادة الحسابات وكثرة المشاريع.
اليوم أكثر من ذي قبل، اتضحت معالم المعركة السياسية بين طغمة ضالعةٍ في الجريمة، تابعةٍ لأجندات الغير وكارهةٍ لحياة آدمية ومستحقَة ومرفهة لشعب جذورُه متأصلة في الحضارة والأنفة والرفعة، ضدّ طوابير وصفوف مليونية من المنادين بالإصلاح والتغيير الجذري وليس بالضحك على الذقون عبر تغيير وجوه تتحكم بها أحزابٌ وكتل وتحرّكها أجندات ومخططات بعيدة عن مصالح الوطن والشعب. فمع كلّ التحذيرات الشعبية لأصحاب الأجندات الخارجية، والمناداة الصريحة بقلع أرباب الفتنة الطائفية واستئصال شأفة الفاسدين والمفسدين في الأرض ومحاسبتهم أمام الشعب، ما تزالُ وجوه بائسة مصرّة على التمسك بمناصبها والاحتفاظ بكراسيها، تبجحًا بالاستحقاق وبحجة المحاصصة الطائفية والعرقية والمذهبية والشراكة السياسية والتوافقية التي أثبتت هشاشتَها على توالي الأيام والسنين. حتى الخجل والعيب والخشية من الله وعباده وكتبه السماوية، قد تنحت عنهم. ومازال البعض منهم، يرفع الرؤوس تكبرًا وزهوًا بأفعالهم المشينة وتسخير مناصبهم وكراسيهم لمصالحهم الخاصة والعائلية والمذهبية والعشائرية والعرقية الضيقة. بل وحتى هذه اللحظة المصيرية الحاسمة، هناك مَن يضع خطوطًا حمراء ضدّ أي تغيير مرتقب في صفوف أتباعه ومريديه أو ما يسميه استحقاقه الانتخابي الذي لم يعد له قيمة بعد انتفاضة الشعب المقدسة. أليس بمقدور سياسيينا الفاشلين والمنتفعين أن يتعلموا شيئًا من دروس مصر الكنانة ومن انتفاضة شعبها الحكيم الذي ضرب المثل في الولاء للوطن؟
وإذا كان النظام السياسي قد تأسس على وتر طائفيّ في مرحلة غافية ووفق ظروف غير طبيعية، فقد آن الأوان لاستئصال ذلك النظام الخائب الذي فشل، ومازال يريد أن يُفشلَ معه كلّ جهد وطني نحو بناء الوطن وإعادة هيبة الدولة ومؤسساتها المدنية وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية والدفاعية. ولكون النظام السياسيّ الفاشل، قد تأسس أصلاً للمحافظة على مصالح الكتل والأحزاب وقطع كلّ طريق ممكن لمحاسبتها، ولفرض الوصاية الدينية والمذهبية والطائفية على عموم الشعب، فقد سئم الشعب هذه التمثيلية المضجرة التي أُخرجت دوليًا بشطارة ودهاء، لتتماشى مع مقاسات المنتفعين جميعًا.
لقد وضعت خيم الاعتصامات الأخيرة، المثلثَ الحاكم وزعماءَ الكتل والأحزاب ومَن يديرها ويرعاها، في مأزق حقيقي لا تُحسدُ عليه، ولا يمكن أن تخرج منه بسهولة كما تعوّدتْ في كلّ مرة. ولو كانت لدى المتلبسين بالجريمة والفساد ونهب المال العام والضالعين بخيانة الوطن والشعب على السواء، والمخيّبين لآمال ناخبيهم ومريديهم الذين منحوهم الثقة والولاء الأعمى، لو كان لهؤلاء ولو ذرة من الخجل والأنفة والإحساس لكانوا تراجعوا وأطلقوا سيقانهم للريح هربًا من دينونة قادمة وحكم قاس للشعب المنتفض ومن قضاء عادل قادم بإذنه تعالى. فالذي مضى كثيرٌ وما بقي إلاّ القليل القليل!
لقد كانت أمام رئيس الوزراء أكثر من فرصة، ولكنه لم يستغلّها، لضعفه وعدم وضوح رؤيته وغياب استراتيجية سياسية واضحة لشخصه. فقد بقي أسيرَ حزبه المنتقم من الكل حتى من الشيعة أنفسهم، وواصلَ كونَه عبدَ كتلته الطائفية التي لم تتبع البتة خطًا وطنيًا، بل ظلت تابعة لحاميتها الجارة إيران التي لم ولا تريد الخروج عن طوعها. وما أُتيح للسيد العبادي من قوة معنوية ودينية وشعبية، لم تُتح لغيره، بل ظلّ يراوح ويماطل ويجامل كسبًا للوقت، مفتقدًا شجاعة القائد الذي ينتصح لقول الحق ويعمل لمصلحة الشعب ولهيبة الدولة. حتى الحزم الإصلاحية التي نادى بها، ظلت حبرًا على ورق ولم تنفع إلاّ للاستهلاك السياسي المبتذل وللتندر عبر مواقع التواصل الاجتماعي وللكلمات التي سطّرتها أقلام وطنية شجاعة لا تخشى في الحق لومة لائمٍ! لقد نصحه العديدون بالتخلّي عن جلباب حزبه وشرنقة كتلته وفكره الطائفي، فلم ينتصح، وها هو ومَن معه في مركب واحد، في طريقهم إلى الهاوية يجرّون أذيال الخيبة والندم والحسرة. لكن الأيام تمضي ومعها القافلة تسير، إلاّ أنَّ التاريخ لا ولن يرحم!
إن القراءة الوضعية لواقع الحال لا تبشر خيرًا. فالبلاد ماضية نحو مصير حتميّ بتغييرات دراماتيكية لا تُحسب عقباها، وفي فوض، لا سمح الله، إنْ لم تتعقّل الزعامات وتتفاعل الكتل وتنتصح للحكمة وسداد الرأي وتحكيم المصلحة العليا للوطن ونبذ الكراهية والأحقاد وأساليب الإقصاء، والعودة إلى مبدأ المواطنة والرجل المناسب في المكان المناسب بديلاً عن نظام المحاصصة الطائفي والعرقي والديني ومبدأ الأكثرية والأقلية التي نخرت جميعُها جسدَ العراق الجريح ونهشته أنيابُ الأسود والذئاب والثعالب والكواسر في الداخل والخارج.
لقد بدا واضحًا، انهيار المنظومة السياسية الشيعية التي أتى بها المحتل الأمريكي كي تسوس البلاد بغياب مشروع وطنيّ في جعبتها وكذا بسبب خلوّها من نفحة المواطنة الصادقة بسبب تبعيتها. وهي اليوم تتآكل فيما بينها لحدّ الاصطدام، للسبب الرئيسيّ أعلاه، ولأسباب أخرى جانبية، منفعية وشخصية، وفئوية ضيقة حيث تقاطعت المصالح وتفاقمت المشاكل فيما بينها. ولولا تدخل الراعي الشيعي الكبير في إيران، لكانت اختفت ملامحُها السياسية من الساحة منذ أمد!
لكنّ سلطة الشعب والجماهير أقوى من كل الجبابرة والطغاة، كما قالها يومًا السيد محمد باقر الصدر، الذي لم ولن يختفي ذكرُه. فالمجتهدُ الشاب انتفض اليوم لصوتِ الشعب واعتصم راغبًا بإصلاح ما أفسده الساسة من بني جلدته وطائفته وشركاؤُهم الذين آثروا مصالحهم على مصالح الفقراء واستبدلوا خشية الله في عباده بعباءة الدين والمذهب والحزب والكتلة والعشيرة والقومية الفارغة. لقد اقترب يوم الحسم، ولن يكون بغير حقٍ وخارجَ طاعة الله وحقوق البشر المقهورين والمظلومين والمستعبدين بغير حق من قبل وجوهٍ نصّبتْ نفسَها راعية كاذبة وغير أمينة على الرعية والشعب. فقد أثبتت الأيام والوقائع وقوع أغلب ساسة البلد من دون استثناء، في حبائل الحيلة والسرقة والنهب والانتفاع الشخصي والولاء لأحزابهم وكتلهم وجماعاتهم ومذاهبهم، أكثر من حرصهم على مصالح الأمة ووحدة الأرض والشعب. فقد بددوا الخراف واغتنوا على حساب العباد وتاجروا بمصائبهم، ولم يلتزموا تدبير الرعية كما ينبغي، تمامًا كما مطلوب من الراعي الصالح الذي يتولى جمعَ الخراف ويخاف عليها ويحفظها من الذئاب الخاطفة.
وبعدُ، لن يصح بعد هذا المخاض العسير، غيرُ الصحيح. وهذا لن يكون إلاّ بمغادرة أركان السلطة من الفاشلين، فيتركوا البلاد بأيدي أمينة من كفاءات الوطن المستقلّة، وما أكثرها، يكونُ ولاؤُها حصرًا للوطن ولتنمية موارده واستغلال ثرواته لمصلحة البلاد والعباد وبناء علاقات وطنية وإقليمية ودولية متحضرة قائمة على مبدأ حقوق الإنسان ووفق دستور متمدّن، "يعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". فإقحامُ الدين والمذهب والهويات الفرعية في السياسة أيضًا مسألة فيها نظر بحسب دروس التاريخ والواقع، وفصلُها عنها تدبيرٌ وحكمةٌ وخيرٌ لعباد الله جميعًا يضمن الحقوق بتعدّد الأديان والأعراق والمذاهب!
فسلامُ عليك يا عراق الحضارة والقيم
 سلامٌ على رافديك العذبين والشمم
فأنت مزارٌ يهزّ الهمم
وستظلُ منارًا للأمم
وحصنًا ودارًا لكل النعم

لويس إقليمس

269
يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ!
لويس إقليمس
 بغداد، في 26 شباط 2016
تبادل المتندّرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، استهجانَهم وسخريتَهم لدعوة غريبة من أحد رجال الدّين، تطالب العراقيين بالكفّ عن أكل الشوكولاته (النستلة)،لأنّها من وسائل البذخ والإسراف. وبحسب الشيخ الجليل الصغير، صاحب الدعوة، أنّ من شأن مقاطعة هذه المادة الغذائية غير الضرورية أو الاستغناء عنها، يدخل ضمن سياسة التقشّف وتقليل الإنفاق التي تنوي حكومة العبادي "المحاصصية- التوافقية" تطبيقها، ضمن مفردات الإصلاح الاقتصادي الظاهرية وغير الفاعلة. فالحكومة بكافة وزاراتها ومؤسساتها، تسعى اليوملتنويع مواردها بشتى الوسائل، عبر إيجاد نوافذ وأبواب، حتى لو كانت غريبة وهزيلة أحيانًا. فهي فاقدة القدرة الحقيقية على سدّ ولو جزءٍ ضئيلٍ من العجز والإخفاق في ميزانيتها.
ورأت بعض التعليقات، لشدّة تندّرها، بإمكانية استبدال "النستلة"، بمنتجات أخرى كالبقلاوة والداطلي وزنود الست وما سواها من المتوفر في الأسواق المحلية. ولكن، غاب عن بال الشيخ الجليل، أنّ حرمان العراقيّ من هذه المادة "المترفة" بحسب ما ذهب إله، هو وغيرُه، قد لا تشكّل سوى النزر اليسير ممّا ينفقه يوميًا الفاسدون والمترعون في مؤسسات الدولة والمكاتب الخاصّة والمراكز التابعة للأحزاب والكتل السياسية وزعمائها، و.. و.. و.. والقائمة طويلة. كما أنّه، بين حظر أكل النستلة والتستّر على ما يسرقُه الفاسدون وعدم وجود متابعة جادّة لملفاتهم التي فاحت رائحتُها الكريهة هذه الأيام، مفارقة غريبة. فهي معادلة لاتستقيم، لا وطنيًا ولا اجتماعيًا ولا دينيًا، طالما بقي "العمى الوطنيّ"، دينيًا وفكريًّا واجتماعيًا وسياسيًا، قائمًا وضاربًا أطنابَهفي مكاتب الساسة الطائفيين الذين يبحثون عن أيّة فرصة مؤاتية للإيغال في الفساد وفي الكسب غير الشروع وفي استمرار سياسة التوافق والمحاصصة التي يتشبث بها جميع الزعماء، من سياسيين ورجال دين، لاسيّما المثلّث الحاكم، فيما الشعبُ بكلّ مشاربِه وجد فيها خللًا وكابوسًا وانتقاصًا من الإرادة الوطنية وإيغالاً في الفساد.
 قبل أيام من استضافة رئيس الوزراء في مجلس النواب الموقر، تسارعت الكتل وممثلوها بتكثيف اللقاءات وعقد الاجتماعات والإكثار من المشاورات، لا لشيء، إنّما لأنّ الكثيرين ممّن هم في الحكم استشاطوا غيضًا من حركة الإصلاح التي هدّد بها رئيس الوزراء بالإفصاح عنها في سفرته الأوربية الأخيرة من دون الاستئذان من الزعماء "الشركاء" في العملية السياسية. وذات الموقف تردّد في أثناء جلسة الاستضافة مطلع هذا الأسبوع، حين أكّدت الكتل وممثلو الزعامات السياسية عدم موافقتها على تفويضه بالتغيير الوزاري المرتقب ورفضهم الكلّي بالخروج عن التوافق. كما لوحظ عقد لقاءات جانبية جمعَتْ نوابًا من بعض الكتل مع قيادات في الرئاسات الثلاث، وكلّ فريق خرج بحصيلة تقضي بضرورة الإبقاء على التوازن التوافقيّ في الحكومة، أي تثبيت وضع المحاصصة.
والغريب أن السيد رئيس مجلس الوزراء، عدّ ترتيباته للإصلاح الوزاري، ب"التوافقي"، بالرغم من أنّ هذا يكرّس من الناحية العملية مبدأ "المحاصصة". وأنا، مثل غيري، لا أجد اختلافًا بين لفظتي "التوافق" و"المحاصصة".  وأرجو من سيبويه، أن ينتفض من قبره ليدلّنا جميعًا على الفرق بين المعنيين، سياسيًا واقتصاديًا وأدبيًا ودينيًا!
قد أشبّه دعوات من هذا النوع الغريب من المطالبات التي تثقل على كاهل وفكر المواطن العراقي، بكونها لا تقلّ إثمًا عن عمل المرائين الذين أشار إليهم المسيح، المصلح الاجتماعيّ المتزن محبّ البشر والبشرية.ففي انتقادِه لكتبة اليهود والفريسيين على عهدِه، الذين كانوا يحمّلون مواطنيهم البسطاء أحمالاً ثقيلة، فيما هؤلاء كانوا يعيشون في عوالمَ أخرى، تمامًا كالمرائين من سياسييّ عصرنا. فكلماتُه ما تزالُ تدوّي ويمكن أن تعيد ذات المشهد السياسيّ قبل أكثر من ألفي عام خلت. فالقول في أمثالهم:"أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ" (إنجيلمتى 23: 24)، تنطبق كثيرًا على الحالة التي يعيشُها شعبُ العراق. فالويلاتٌ العديدة التي أطلقها المسيح على الرئاسات اليهوديّة، وبها طالبَ الشعبَ بمحاربة الفاسدين من قياداته آنذاك، من الذين كانوا يركزون في تعاليمهم وأوامرهم على التمسّك بالشريعة التي كانوا يفسرونها حسب أهوائهم ومصالحهم، ومنها دفع العشور مهما كانت، كلُّها تتفق مع ما يعانيه العراقيون في المرحلة الآنية من فساد السلطة واستشراء الرشوة والكسب غير المشروع. فهؤلاء كما أولئك، يعملون وفق ذات المبدأ، حفاظًا على مصالحهم الشخصية والتراتبية، مهملين في مسؤولياتهم الرسالةَ المنوطة بهم من أجل خدمة الله والوطن وتحقيقالحق في عبادِه ونشد الرحمةفيالبشريةالمعذّبةوالدعوة إلى الإيمان الصادق، وليس التظاهر بالتديّن.
اليوم إذن، لا يختلف عن الأمس. فسياسيونا، وجدوا في ثروات الشعب مالاً سائبًا وأطلقوا لأيديهم العنان، بموجب التخويلِ الذي حصلوا عليه من راعي العملية السياسية الأمريكي بتقاسم الثروة والسلطة، وفرضوا سيادتهم الحزبية والدينية والمذهبية على غيرهم، إن إكراهًا أو كواقع حالحتى يشاء القدر النحس! فقد فرضوا على الشعب دفع "العشور" بطريقتهم الخاصة، فاستقطعوا من قوت الموظفين المساكين ومن حال المتقاعدين البؤساء، ما عجز الله وبيوتُه عن دفعها طواعيةً. فيما همْ، استرجعوا مدّخراتهم من مرتباتهم الضخمة التي تظاهروا بتقليلها وتخفيضها أمام وسائل الإعلام للاستهلاك المحلّي ومن أجل كمّ الأفواه التي طالبت، والأصوات التي بحّت من أجلها، سواءً من المرجعيات أو من جانب المتظاهرين. فالرئاسات الثلاث ومَن يدور في فلكها من موظفين كبار، مهما برّروا وأفصحوا عن تقليل تلك المرتبات في سلّم الرواتب غير المنصف، فهُم يخرجون من نافذة أخرى بمبرّرات مبتكرة لاستعادتها بآليات ووسائل يعصى فكُّ أسرارها وأبوابها على البسطاء. فالمخصّصات والإيفادات وكوميسيونات العقود المستحصلة، كلّها كفيلة بعودة الثعالب والذئاب والأسود إلى الغابة الغنّاء للصيد فيها، كيفما شاءوا ومتى شاءوا.
وفي خضمّ الأحداث المتسارعة، من حذر جهاتٍ عديدة تخشى فقدانَ امتيازاتها، وأخرى تخشى على نفسها من كشف المستور ومن إمكانية التعرّض للمساءلة والمحاسبة والمقاضاة بسبب خروقات وسرقات وغسيل أموال وكسب غير مشروع، يبقى أملُ الشعب ومعه المرجعيات الدينية الوطنية المؤمنة بتكوين دولة مدنية حديثة مهنية من تكنوقراط أصحاب خبرة، مطلبًا رئيسيًا بقيام حكومة وطنية بعيدة عن المحاصصة. والمقصود بحكومة تكنوقراط، أن يكون وزراؤُها من المستقلّين وطنيًا، من أصحاب الشهادات المسلَّحين بخبرات عملية وفنّية، من غير الموالين أو المنحازين للكتل والأحزاب العاملة في السلطة.
 والشأنُ ذاتُه ينطبق تمامًا، على اختيار رئيس الحكومة كي يكون من خارج التشكيلات الحزبية وبعيدًا عن أجواء الكتل السياسية التي فشلت في إدارة العملية السياسية منذ السقوط. فهذه، لم تأتي سوى بالوبال، ولم تنتج سوى الأزمات المتلاحقة، ولم تفلح في رأب الصدع في النسيج المجتمعي الذي تهالكَ وتراجع وانفرطَ عقدُه بسبب تقاطع المصالح بين الفرقاء الأعداء والنهج الطائفي الذي سمح بتسيّد فكر الإسلام السياسيّ على الساحة العراقية. فساستُنا رأوا البعوضة في عيون منافسيهم وفي مطالب شعبهم، ولم يروا الجَمَلَ، كلٌّ في حزبِه وطائفتِه ومذهبِه. فقبلوا على نفسهم أن يبلعوا الجمل، فيما أشاروا شزرًا إلى البعوضة، بالرغم من صغر حجمها.
وفي انتظار ما سيؤول إليه الحراك السياسي في قادم الأيام، يبقى المطلب الأساسيّ لعموم الشعب، إحداث تغيير في دفة الحكم، والإتيان بحكومة قوية صادقة في ولائها للوطن والشعب، ومُنصِتة لصوت جميع المرجعيات الدينية الرشيدة من دون تمييز، وغير مهملة لأصوات المتظاهرين، وآخرُها تظاهرة الميلونية السلمية ليوم الجمعة 26 شباط 2016. ومن شأن هذا النموذج من الحكومة الوطنيةِ المنهجي فقط، يمكن أن نشهد تطهير كلّ الأرض العراقية من دنس عصابات الإرهاب، وتحرير المدن والبلدات المغتصبة، وإعادة اللحمة الوطنية، ومحاربة الفساد وكشف الفاسدين ومحاسبتهم، واسترداد الأموال المسروقة والمهرَّبة، وإبعاد كلّ نهج طائفيّ يشكّل إعاقة لعودة الوطن إلى قوّته والشعب إلى رشدِه والساسة إلى صوت الحق والعقل والإنصاف. فالمطلوب حكومة قوية فاعلة نزيهة برئاسة وطنيّة مستقلّة مهنية الرؤية وقادرة على اتخاذ القرار، من دون الانصياع لضغوط الكتل والزعماء وبنبذ مبدأ المحاصصة وإسدال الستار عنه نهائيًا.
 



270
سينودس العائلة: "رحمة لا ذبيحة"
لويس إقليمس
يُعدّ سينودس (مجمع) العائلة الذي أنهى أعماله يوم الأحد 25 تشرين أول 2015، والذي تواصلت جلساته ونقاشاتُه لثلاثة أسابيع،فرصة لمراجعة متوازنةوجادّة في قوانين كنسية جامدة لم يتجرّأ أحد التعرّض لها رسميًا ضمن هرم الرئاسة الكنسية. في هذا السينودس المتميّز المتّسم بالجرأة في الطروحات والتطلعات، حث بابا الفاتيكان فرنسيس الأول، يوم السبت 24 من تشرين أول، المجتمعينَ للاهتمام أكثر بشؤون العائلة وإيلاء "الرحمة" الغائبة أحيانًا في مواجهة المشاكل الأسرية المتفاقمة بسبب العزل العقائديّ والأحكام القانونية الحرفية المسبقة، وذلك حين إصدار اللجنة المكلّفة للتقرير النهائي كي يكون بمستوى الطموح في معالجة هذه المشاكل. حدثٌ مهمٌّ نال قدرًا وافيًا من الاهتمام والتفكير والتمحيص، في أوساط كنسية كما في غيرها، بحيث فتحَنوافذوأبوابًا للإصلاح الداخليّ،كانتحتى الأمس مغلقة ومن ضمن المحرّمات.
كان قداستُه واضحًا في تقديم نعمة الرحمة على كلّ أشكال القهر والعزل والتحريم القائمة إزاء مَن يخرج عن بعض جزئيات قوانين العقائد وعن بعض الإجراءات التقليدية الجارية في الكنيسة الكاثوليكية، مؤكّدًا أن "هذه الأوقات، هي "أزمنة رحمة"، وحاثًا الكنيسة على اتباع خطى معلّمها في إنزال مثل هذه النعمة الرفيعة من الإنسان الضعيف وليس القصاص منه، بسبب كثرة ما يلاقيه من شظف العيش ومن مشاكل معاصرة مستجدّة تفرضها عليه ظروفه اليومية الصعبة. وهذا ما حدا به لحثّ المجتمعين كي يخرجوا بنصّ متوازن للقرارات النهائية بإلهامٍ من الروح القدس، وضمن رؤى أكثر انفتاحًا لمشاكل الأسرة وتحديات المجتمع في زمن الثورات والحروب والغزوات. تلكم هي النظرة "التقدمية" الإصلاحية التي ينبغي للكنيسة أن تواجه بها العالم المادّي بكلّ تناقضاته. فيوبيل الرحمة الذي أعلنه قداستُه للعام القادم، أراده سنة نعمة لبني البشر فيه يتجلى "وجه المسيح الذي هو رحمة الله الآب". فهو "ربٌّ رحيمٌ ورؤوفٌ، طويل الأناة، كثير الرحمة والوفاء"،(خروج 34، 6) كما أفصح لموسى. كما أنَّ سرّ الرحمة العظيم، بحسب البابا فرنسيس الأول، هو "مصدر فرح وسكينة وسلام". والبشر جميعًا بحاجة على الدوام للتأمل بهذا السرّ، والاستفادة من مفاعيله.
"واجب الكنيسة الأول، ليس بفرض التحريم وتوجيه الإدانة، بل في إعلان رحمة الله". بهذا القول المنشِّط المليء بالرجاء خاطبَ بابا الفاتيكان المجتمعين من أساقفة ومختصين في الشأن الأسري. وهذه رسالة موجهة إلى أركان الكنيسة قاطبة، رئاسات ومؤمنين كي يعوا رحمة الله الواسعة ورأفتَه لجميع بني البشر، وليس في توجيه الإدانات وفرض الأحكام القاسية على مَن يزيغ عن الأحكام العقائدية الجافية أحيانًا،بسبب ظروف خارجة عن الإرادة والسيطرة البشرية الضعيفة أحيانًا كثيرة في مواجهة الواقع. فرحمة الخالق تبقى دومًا فوق كلّ الأحكام والإدانات وأشكال الانتقام،"إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطأة إلى التوبة" (متى 13:9). وهذا ينسجم تمامًا مع تأكيد قداسته، على أن "المدافعين الحقيقيين عن العقيدة، ليسوا مَن يدافعون عن الحرف بل عن الروح، وليسَ بالأفكار المجرّدة المطلقة بل التي تنشد قيمة الإنسان". وقد سبقه البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون بدوره، بالإشادة بدور الرحمة في مرافقة المؤمنين في مسيرتهم الإيمانية، حين افتتاحه أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قبل خمسين عامًا خلت، بتأكيده: "تفضل عروسة المسيح الآن، أن تستعمل دواء الرحمة بدلاً من أن تحمل أسلحة القساوة والتزمُّت تجاه المنفصلين عنها". وتلكم كانت "رسائل ثقة إلى العالم المعاصر"، بحسب خلفه البابا الطوباوي بولس السادس.

السبت لأجل الإنسان!

من هنا، ليس مقبولاً بعد، أنْ يتذرّع الرؤساء من أصحاب القلوبٍ المنغلقة خلف تعاليم جافة وقوانين تقليدية للكنيسة، بحجج وأحكام مسبقة، بغية إصدار أحكام غير عادلة وغير متوازنة أحيانًا على حالات شاذة وصعبة تتعرّض لها أسرٌ جرحتها مصائب الدهر، وما أكثرها اليوم. فالبشر أحوج ما يكونون اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، إلى تقاسم فعل الخير والمحبة والرحمة تجاه بعضهم بعضًا. فكم بالأحرى، إذا كانت المؤسسة الكنسية هي المقصودة بفتح أبواب الرحمة والرأفة والصفح أمام التائبين، عملاً بوصية معلّمها المسيح، الذي غفرَ ذنوب الخطأة وقبِلَ متى العشار وصفح عن الزانية ولم يعاقب المجدلية وفرحَ بعودة الخروف الضالّ؟ هذه بحق نظرة إصلاحية تحتاجُها الكنيسة والمجتمع معًا بين فترة وأخرى، ليسَ من أجل كسر القوانين التي خُلقت أساسًا لتسهيل حياة بني البشر وليس لاستعبادِه وقهرِه، بقدر ما يُراد بها التكيّف مع تطوّر العالم وحاجة البشر جميعًا إلى عالمٍ أكثر استقرارًا وتفاهمًا ورفاهةً ولامركزيةً في تقرير المصير وشكل الحياة الذي يحيط به. ف"السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ" (مرقس 27:2)
وبالرغم من أن مثل هذا التوبيخ القاسي والتوجيه الإصلاحيّ الواضح في تعليم الكنيسة المعاصر الذي بدرَ من قداسة البابا، قد أغاظَ بعض الشيء دوائر رومانية وشخصيات تقليدية في هرم الكنيسة الكاثوليكية من التي تتذرّع بالدفاع عن حرفية النصّ أكثر من اهتمامها بالنفس البشرية وروح الإنسان المخلوق حرّا وحسنًا على صورة الخالق ومثالِه، إلاّ أنه قد لاقى استجابة منقطعة النظير في أوساط المتحررّين لاهوتيًا وعقائديًا، ممّن يدركون قيمة الرحمة المطلوبة في زمننا المعاصر، الصعب على الجميع في إشكالياتِه ومصائبِه التي تتفاقم يومًا بعد آخر.فالرحمة تبقى من عطايا الله العميمة والضرورية للجنس البشري كي يعي البشر جميعًا قدرَ مسؤولياتِهم في تبيان هذه النعمة وفي ممارستهم إياها في حياتهم اليومية. إنها أكثر من دعوة لبني البشر للوقوف أمام رحمة الله الواسعة وقبولها في وجدانهم، ومعرفة مدى طيبته لهم ومقابلتها بذات النعمة، لأنه يحبهم جميعًا دون تمييز. يقول المزمّر داود: "ذوقوا ما أطيب الرب" (المزمور 8:34)، و"رحمتُه إلى الأبد" (36: 1-26) لمنكسري القلوب والأسرى والمظلومين والعميان والجياع والمثقلين والنزلاء والأرامل والأيتام والمجروحين والمبتلين بشتى العاهات والأوجاع. فرحمة الله تعني محبة لبني البشر جميعًا. "الله محبة" كما يقول الإنجيلي يوحنا (1 يوحنا 4، 8. 16)
 كنيسة المسيح بحاجة، بين فترة وأخرى إلى نظراتٍ ورؤى ناضجة وجريئة كي تصل سفينتُها إلى ميناء النجاة والملكوت السماوي بأسهل الطرق وأكثرها وعيًا لحرية الكائن البشري وتماسكه على صعيد جوهر العقيدة التي يؤمن بها ويتخذها سبيلاً للخلاص المنشود وليس بالتصاقِه بحرفية التعليم، كما كان يفعل معلّمو الشريعة والفريسيون والكتبة المراؤون زمنَ المسيح. وهذا الهدف الأسمى، لن يكون ممكنًا بتعقيد الحياة وسدّ أبواب رحمة الله الواسعة أمام مّن هم بحاجة إليها، بل بتسهيل انسيابيتها بحسب حاجة العصر والظرف وطبيعة البشر. فالكنيسة هي أمٌّ للجميع، بمن فيهم الخطأة ومنكسري القلوب والمحتاجين للرعاية والعطف والحنوّ، حتى لمَن هم من خارجها. وهذا هو وجهها الحقيقي الحيّ الذي ينبغي أن تعكسه في توجهها للبشر عامة، والمؤمنين بصورة خاصة، كي تحفظ وحدتها وتصون مبادئها وفق متطلبات العصر والظرف والحاجة. فمبدأ الرحمة، مشروع إصلاحيّ لا بدّ منه ولا رجعة فيه، إذا أرادت الكنيسة أن ترعى نعاجَها وخرافَها وغنمَها، تمامًا كما أوكلَ الراعي الصالح المهمّة الصعبة لبطرس هامة الرسل.هؤلاء هم فقراءُ الله، وهُم أيضًا ضمن مشروعه الخلاصيّ الكبير الذي يحتضن الجميع وبخاصّة مَن هم بحاجة إلى رحمتِه الأبوية الإلهية، وهو يفتح ذراعيه لجميع المحتاجين والمتعبين وثقيلي الأحمال، "تعالوا إلي يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (متى 28:11).
"كنيسة مجمعية" متحررة واعية وناشطة"، أرادها آباء السينودس ال270 المجتمعون برئاسة بابا الفاتيكان في روما لثلاثة أسابيع عمل نشطة، وليسَ مجرّد "مؤسسة إدارية تقدّم لمؤمنيها شكليات مسبقة الإعداد" من القوانين والنصوص والأوامر والنواهي والتهديدات. وهذا ما حدا برئيس أساقفة فرنسا، الكاردينال آندري فانت–تروا (الثالث والعشرون)، للتعبير عن قناعته بأنّ السينودس قد حقق آمال وتطلعات كنيسة فرنسا بالذات. فقد عدّه أكثر من ثورة في اتجاه تعميق تعليم الكنيسة من حيث إيلاء الاهتمام بشؤون وشجون الأسرة والتنبّه الواعي لحاجاتها، في إشارة منه إلى التوجس من إمكانية روما تقديم حلول شاملة لأوضاع تختلف من موقع لآخر ومن بلد لآخر ومن قارة لأخرى. ويشير زميلُه المطران جان لوك برونين، رئيس مجلس العائلة ومؤتمر الأساقفة في فرنسا، إلى واحد من أكبر التحديات التي تواجهها الكنيسة اليوم، أكثر من أي وقت مضى. ويرى أنه يترتب عليها تجسيد مفعول التربية الإلهية لحدّ الاقتران بها، من أجل الوصول إلى الأشخاص وإبلاغهم بوجود تطلعات لمستقبل ممكن وتنمية أفضل.

نظرة شمولية لمشاكل الأسرة

 ومن جملة المواضيع الشائكة التي تواجهها بقوة كمثال للتحديات العصرية، مسألة زواج المطلّقين. فالمجمع لم يغلق الباب تمامًا أما هذه المشكلة، بحسب آباء السينودس، كما فعلَ مع مسألتي زواج المثليين والإجهاض مثلاً والمرفوضتين من أساسِهما، مع توخي الحيطة والحذر والتنبه لخطر الانجراف وراء المحذور عقائديًا لدى إظهار نوعٍ من المرونة في حالات الانفصال الزوجي التي تستدعي المراجعة وترجيح الرحمة الأبوية من الكنيسة. وهذا يتطلب المزيد من التعمّق والدراسة والتحليل من كافة جوانبه، الليترجية (الطقسية)، والراعوية، والتربوية والمؤسساتية. وهو يعني ايضًا، أنَّ على الكنيسة أن تواكب كلّ فردٍ من أبنائها بحسب المسببات والموجبات التي ليس من الممكن تعميمها من دون البحث عن أوجه الاختلاف بحسب الظرف الزماني والمكانيّ، من دون أي يفقد الشخص المعني علاقتَه الإيمانية والحبّية مع ربّه.
إنّ هذه النظرة الشمولية للمشكلة، لا يمكن النظر إليها بكونها تراخيًا وتساهلاً مع المبادئ العقائدية، بقدر ما تعني احتواءً لمشكلة معاصرة مستعصية تتطلب حلولاً توفيقية ورأفة ربّانية طبّقها المسيح مع الزانية،" مَن منكم بلا خطيئة، فليرمِها بحجر" (يوحنا 7:8)، وذلك بعد دراسة كلّ حالة بحالتها، والابتعاد عن تعميم الفكر الجاهز المنكفئ الذي لا يقبل إحاطة المشكلة من أساسِها. فحقيقة الإنجيل تبقى هي هي، لا تتغير ولا تتبدّل ولا تُنكر، من أنّ الزواج المسيحي، عقدٌ سرمديٌّ لا انفصامَ فيه في ضوء الثوابت العقائدية. لكنّ الحياة ايضًا تعلّمنا، أنّ الحدود الشرعية القاسية والجامدة أحيانًا كثيرة، ليست دائمًا الطريقَ الأفضل نحو لقاء الله والعيش في أروقة القداسة والخير والطيبة، بل الشعور الداخلي بالاطمئنان الذي يمنحه الله لخليقته وإحساس الإنسان نفسِه بالرأفة والرحمة والتسامح التي من لدن الله.
فبالفكر النيّر المنفتح الجديد لبابا الإصلاح، فرنسيس الأول، تكون الكنيسة قد خطت إلى الأمام، عندما رفض قداستُه في عظته ليوم السبت 24 تشرين أول، قبل ختام سينودس العائلة، فكرة تلقين الانجيل وتحميلِه "رمي الآخرين بحجارة ميتة". كما رفض أفكار "ذوي القلوب المنغلقة التي تتستر خلف تعاليم الكنيسة مستهدفة إصدار أحكام قاسية أحيانًا بشيءٍ من التعالي والضحالة في تقدير حالات صعبة ومعقدة لأسر جرحتها الظروف غصبًا عنها.
إنّ العالم في تغيّر سريع ومستمرّ. ويؤثّر في هذا كلّه، تعدّد الثقافات والحضارات والسياسات وتنوعُها، ما يتطلّب بالمقابل شعورًا وإرادة بعدم التصادم بين هذه جميعًا وبين تعليم الكنيسة المتمثل بالرحمة. وبالنتيجة سنجد أنفسَنا متفقين لاتخاذ أرجحية حلول وسطية، لاسيّما وأنّ ا"لذين خرجوا عن تعاليم الكنيسة، ما يزالون أعضاء في جسد هذه الأخيرة"، بحسب قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وسلفه بولص السادسوبندكتس السادس عشر. ولعلّ ما كان أعلنه البابا القديس يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة (الغنى بالمراحم عدد 15)، جديرٌ بالمراجعة والتطبيق في هذه الأيام العصيبة من تاريخ البشرية المعقّد والفوضوي، بإعلانه "تحيا الكنيسة حياة حقيقية عندما تعترف بالرحمة وتنشرها".ف"حيث توجد الكنيسة يجب أن تتجلى رحمة الله بوضوح"، بحسب البابا فرنسيس.
لذا، من الطبيعي صدور أو حدوث تعديلات أو إجراء مراجعة في تعليم الكنيسة بهدف الخروج من عقدة التمسك الأعمى بحرفيّة الشريعة والقوانين. وهذا ليسَ تقليلًا من احترامِ ما صدر من تعليمٍ في مجامع عامّة سابقة، بل مكمّل لها بحسب حاجة الإنسان وظروفِه. ف"العدالة الإلهية لها قيمُها العميقة"،ومن ثمّ لا يمكن إخفاؤُها، ذلك لأنّ كنيسة المسيح مؤسسة حيّة منفتحة تأخذ مداها وتعاليمَها بما يخدم الصالح العامّ لمسيرتها من دون أن يؤثّر في عقائدها الثابتة.كما أنها ليست في موقع الديّان والحاكم القاسي والظالم على أعمال البشر، بقدر ما تساعد البشر للتقرّب من رحمة الله الواسعة ونيلها حين يكونون بحاجة إليها. فالرحمة مهما اتسعت، لا ينبغيأن تتعارض مع عدالة الله! وهذا ما هو قائمٌ، وإنْ ظاهرًا، في الديانتين اليهودية (نصوص عديدة في العهد القديم)، وفي الإسلام الذي ينادي بدين الرحمة ويصف الله ب"الرحمن الرحيم"، الذي يفتح أبوابه للجميع.
ولأجل هذه السمات المشتركة، يدعو بابا الفاتيكان لخلق حوار بين هذه الأديان التوحيدية ونبذ كلّ ما من شأنه أن يفرّق بني البشر من ازدراء وانكفاء وانغلاق على الشريعة وتطبيقاتها الجامدة التي جمّدت الفكر وقسّت القلب وأبعدت الناس عن رحمة الله بعذرٍ وبدونِه.
فلنشارك معًا في يوبيل الرحمة الذي يفتتحه البابا فرنسيس في روما يوم الثلاثاء 8 كانون أول، ولننادي معه "افتحوا لي أبواب العدالة"!

بغداد، في 8 كانون أول 2015

271
معًا، ضدّ استعباد المرأة واستغلالها
لويس إقليمس
تبذل منظمات المجتمع المدني، والنسائية منها بخاصة، حملات مكثفة ومتتالة للتعريف بما تعانيه المرأة والفتيات القاصرات في محطات كثيرة من دول العالم، ومنها مجتمعاتنا الشرقية، من ظلمٍ وقساوة يطال شخصها ويضعها في خانة الاستعباد والاستغلال لطبيعتها الناعمة ولمشاعرها الطيبة واللطيفة. فهي ليست دومًا، في موقع الضعف الذي يسمح لضعاف النفوس من الرجال باستغلال طيبتها وصفاتها الأنثوية الجاذبة، لاسيّما إذا أنعمت السماء عليها بمزيج مشترك من الجمال الجسدي والعقليّ والذهنيّ على السواء. إلاّ أنّ إشعارَها بمثل هذا الضعف في مسيرة حياتها الاجتماعية، بسبب الظروف المجتمعية والضغوطات الدينية والتبعات التقليدية المتخلفة التي تحيط بها، قد تحيلُها إلى مثل هذا الكائن الضعيف الذي لا حول ولا قوّة له، لاسيّما إذا لم تستطع الإقناع بأنّها ليست، كما يحلو للبعض اتهامَها،ب"ناقصة دين وعقل". فالله خلق المرأة إنسانًا كاملاً، تمامًا كما خلق الرجل، بل زادها جمالاً وخصَّها بميزة الحمل والولادة والتربية وإسعاد رفيقها وشريكها، كيفما كانت علاقتهما الوضعية.
   الأمم المتحدة والكثير من الدول والهيئات المستقلة تولي هي الأخرى، اهتمامًا لشخص المرأة وتفضح أنواع العنف التي تطالُها. لكنّ التنديد وحده، وقد صار صفة متلازمة ومكرّرة لهذه المؤسسات، لا يكفي، إذا لمْ يتحقق تغيير منهجي وجوهريّ في العقلية التي تساهم وتسهّل لأنواع الاستغلال القسريّ لهذه الإنسانة الرائعة التي تمثّلُ أروع صورة لخلق الله في الأرض، من حيث الشكل والقيمة والجمال وتقاطيع الجسد ونبرة الصوت، وكذا بالقدرة الربانية لخلق أسرة مثالية تنعم بالراحة وتسبّح للخالق في خلقه وتفرح بخليقته، كما أنعم عليها الباري بإمكانية صنع حياة جديدة. من هنا، كان حقّها الطبيعي بالعيشفي أجواء سليمة، متساوية ومتوازنة، من المحبة والهناء والسلام والسعادة التي تنشدها كلّ امرأة من حيث طبيعتها المميزة هذه.
كيفية وضع حدود لأنواع العنف التي توجه ضدّ المرأة في العالم عامة، وفي شرقنا بخاصّة، تتطلب آليّات وبرامج وقرارات على قدر المشكلة، وهي كبيرة ومعقدة ومليئة بالأشواك، ولاسيّما من جانب مَن يعدّها وعاءً للتفريخ أو آنية للمتعة أو كرستالةً للزينة والتباهي والمتاجرة. وكلّ هذه المفردات والسلوكيات والآراء، هي التي تحطّ من قدر هذه الإنسانة الكاملة الطيبة في طبيعة خلقتِها وتركيبتها البشرية الناعمة. وإزاء هذا كلّه، لابدّ من وحدة الكلمة ورفع الأصوات عاليًا للمطالبة باحترامها ومعاملتها أسوة بأخيها ورفيقها وحبيبها وشريكها الرجل، في البيت والعمل والدائرة والمعمل والشارع والمسجد والمعبد والكنيسة، وفي كلّ مكان. فعوض استغلالها والحطّ من قدرها في سلوكيات التحرّش وإسماعها كلامًا ناشزًا يخدّش الحياء ويقلّل من قيمتها وسط المجتمع، ينبغي رفع شأنها لكونها الأم والأخت والزوجة والابنة والرفيقة والمُحِبّة والعشيقة والمعلّمة والطبيبة والمهندسة والعاملة والمربية. فهي هذه كلّها وكثيرٌ غيرُها، ممّا لا يتيسر للقلم أن يخطّه ويسطّره بحقها. فالرجل في وقت ضيقه وإزاء مشاغلِه الكثيرة عادة، لا يميل إلاّ إلى حنان شريكته لينال قسطًا من عطف صدرها الرحب وحنانها الشافي للجراح كالبلسم. بالله عليكم، أمِن طيبة وحنان ومحبة أكثر من هذا وممّا يحتاجه الرجل؟
أكيدٌ، أن ّ الممارسات الشاذّة وأنواع سلوكيات العنف التي تمارس ضدّ المرأة، تُعدّ انتهاكًا خطيرًا وصارخًا، بل إثمًا في مدرسة حقوق الإنسان وتمييزًا ضدّ جنسها اللطيف، أينما تواجدت أو سكنت أو عملت، بغض النظر عن البيئة والأرض والمجتمع الذي تعيش فيه. فالمسألة، هي مسألة احترام للجنس البشري، خليقة الله، هذا السيدّ الجبّار الذي خلق الرجل والمرأة متساويين وأسكنهما في فردوسِه الأرضي ليكملا بعضهما البعض، فينميا ويكثرا وينجبا ويسبّحا له طول حياتهما. والأديان التوحيدية جميعًا، كما غيرُها، تقرّ بهذه الخصوصية وتحترم خيار الجنسين في العلاقة والحياة والفكر على السواء. وإنّ أي اختلاف أو نقضٍ لطبيعة الخالق في خلقه، يُعدّ تمييزًا غير مقبولٍ بل مرفوضًا في عرف المجتمعات المتحضّرة. وما على غيرها من تلك المتخلّفة والسائرة في منهج التقوقع والتخلّف والانكفاء سوى التعلّم من غيرها، من التي تقدّمت وتمدّنت وتحضّرت بفضل احترامها للجنس البشري بغض النظر عن نوع وطبيعة هذا الجنس ولونه. من هنا، لا يمكن لأيّ مجتمع أن يسير في ركب التطوّر، ما لم يحترم طبيعة المرأة ورغباتها ويقف إلى جانب طموحاتها وتطلعاتها التي تتوازى مع تلك التي لزميلها ورفيقها وشريكها من دون نقصان أو استهانة أو استصغار. فهي، شاء أم أبى العذّال والمنافقون والمتسترون بعباءة التقاليد البالية والتفسيرات الدينية المنغلقة ومروّجو الحطّ من قدرها وقدرتها على الإبداع، نصفُ المجتمع الرائع الذي لا يتحصّن إلاّ بوجودها ولا يتنفس إلاّ من خلال رئتها الواسعة ولا يتطوّر إلا بمشاركتها الفاعلة والكاملة غير المنقوصة في الحياة المجتمعية.
إنّ الانتهاكات المسجلة أو المقصودة ضدّ المرأة هنا، تشمل النساء المتزوجات والأمهات العازبات والفتيات، ومنهنّ القاصرات اللاّئي تُنتهك حقوقهنّ بحرمانهنّ من عيش حياة الطفولة كاملة والاستمتاع بجمال صورها وبراءتها، من خلال تزويجهنّ قسرًا زيجات غير متكافئة وبأساليب وطرق تقشعرُّ لها الأبدان. وما أكثر الجراح التي تألمت لها الكثير من أمثال هذه الشريحة. لكنّ العرف عادة والتسويات العشائرية والتقاليد العائلية وكذا الانتهاكات بسبب الحروب التي تعدّ كلّ الإناث سبايا يحقُّ نكاحهنّ وتزويجهنَّ قسرًا من دون قيد أو شرط، تمامًا كما فعلت "داعش" وما تزال، هي هذه المصائب التي تسبّب مآسي وتفتح جراحًا لا تندمل، بل تبقى ماثلة وقائمة لكونها حصلت من خارج الإرادة وبلا رضاء ولا مشاركة وجدانية بالنفس والقلب والعقل من الطرف الثاني المغدور بع ظلمًا وقهرًا.
مثل هذه الانتهاكات المتعددة المرتكبة بحق الجنس اللطيف، تشير إلى أرقام خطيرة ومثيرة للقلق. فإذا كانت أوربا ذاتُها، وهي معقل الديمقراطية والحرية، تسجّلُ للنساء شكلاً معينًا من حالاتالعنف الجنسيّ والمنزليّ، حالةً لكلّ ثلاث منهنّ، فكيف سيكون قياسُ ذات الحالة في مناطق ما يزال الجهل فيها عاليًا مستحكمًا، ومنها أفريقيا وشرقنا العربي والإسلاميّ الذي ماتزال تحكمه الأعراف القبلية والعشائرية وتقاليد البداوة والجهل الذي زادت أعدادُه بقياسات تنذر بالخطر؟ ومثلها حالات القتل التي تمّ تقييدها بحق فتيات يافعات ونساء متزوجات لأسباب، بعضها مجهول وغيرُها معلوم، ومنها تلك التي تقترف في الغالب من قبل الشريك أو القريب، بحجة الدفاع عن الشرف وغسل العار. أمّا في المناطق التي تشهد صراعات ونزاعات داخلية أو تلك التي تعاني من أزمات إنسانية أصلاً، فحدّث ولا حرج. فهذه تُقترف بدم بارد، ولا مَن يسأل أو يبحث أو يقاضي. فهذه، كعادتها تُقيّد ضدّ مجهول. وبذلك يُطوى الملف مع أسرار الضحية!
إزاء هذه الحالات، ونتيجة لتكرارها واتساع مساحتها، وبسبب هشاشة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في عدد من المناطق التي تشهد نزاعات مدمّرة، ولاسيّما العرقية والطائفية والدينية منها، فقد التجأت أعداد كبيرة من النساء المقهورات اللواتي تعرّضن لحالات عنف منهجية غيرَ مسيطَرٍ عليها، لطلب اللجوء إلى بلدان الغرب، ومنها أوربا تحديدًا، أملاً بحياة آدمية محترمة تعطي للمرأة كرامتَها وتصون شرفَها. وتشير مصادر مقربة من منظمات نسائية تعمل في المجال الإنساني، أنّ هؤلاء النسوة والفتيات اللائي تعرّضن لحالات استغلال وعنف في بلدانهنّ، لا ينجينَ في رحلتهنّ هذه من أشكال عديدة من العنف الجنسي والجسديّ، كالاستغلال والاغتصاب والضرب والاتجار بهنّ مع قدومهنّ إلى البلدان الجديدة بهدف الاستقرار وبدء حياة جديدة بعيدة عن التهديد وأنماط الاستغلال المسجلة والمتعددة التي كنّ يحلمنَ بها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تقوم المفوضية الأوربية للدفاع عن حقوق المرأة، بجهود كبيرة من أجل الدفاع عن حقوق المرأة ومناهضة الاعتداءات وأعمال العنف المتعددة التي تتعرّض لها النساءوالفتيات، ليس في داخل حدود الاتحاد الأوربي فحسب، بل في خارجها ايضًا. فهذه الأفعال الشنيعة تعدّها جرائم بحق الإنسانية لأنها ببساطة تحطّ من قدر الإنسان العاقل المجبول على صنو جمال الخالق. وهذا ما حدا بهذه المفوضية لتعزيز أولويتها في الدفاع عن حقوق المرأة المعنَّفة وضحايا استغلالها، بإصدار الإعلان المشترك في 25 تشرين ثاني 2015، بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة. وقد كانت مناسبة لاستذكار المفوضية الأوربية للقرار الصادر من مجلس الأمن الدولي بالرقم 1325 في ذكراه الخامسة عشرة حول المرأة والسلام والأمن، ما يستدعي تكثيف الجهود الدولية من أجل إيقاف كلّ أعمال العنف ضد المرأة وتقديم مرتكبي هذه الأعمال إلى العدالة وإنصاف هذا الكائن الرقيق الضعيف في نظر بعض الرجال الذين لا يريدون الاعتراف بمساواتها معهم، متناسين أن لا فرصة للتنمية المستدامة من دون تحرير المرأة، النصف الثاني من المجتمع، من قيود الاستعباد والاستغلال والعنف الذي يطالها ظلمًا وبهتانًا من دون وجه حق ولأسباب تافهة في أغلب الحالات.
وسوف يدخل برنامج جديد للمساواة بين الجنسين في هذه الأيام من شهر كانون الثاني (2016-2020)، على أمل تكثيف الجهود الأوربية والدولية لمناهضة كلّ أشكال العنف ضدّ المرأة والفتيات القاصرات، الذي سيشكل بالتالي إحدى أولويات الاتحاد. وقد بدأت المفوضية الأوربية جهودًا دبلوماسية حثيثة في هذا الاتجاه، بما فيها جرائم استغلال الأطفال والزواج القسري للقاصرات وختان الإناث الذي من بين مضارِّه تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وحقهنّ الإنساني بجسم سليم يتمتع بكامل الحرية في العلاقات الجنسية والأسرية الحميمة. ولهذا المشروع، رصدت المفوضية الأوربية مبلغ 8 مليون يورو لمنع وقمع أعمال العنف المرتكبة ضدّ المرأة بصورة عامة في داخل دول الاتحاد الأوربي، إلى جانب مبلغ 20 مليون يورو ضد الممارسات المرتكبة خارج الاتحاد.
إنّ هذا الاهتمام بالمرأة والتعريف بحقوقها ونبذ كلّ ما يُرتكب ضدّها من جرائم وأعمال عنف واتجّار بوضعها الأنثوي الرقيق، يوحي بكون المشكلة قد أخذت أبعادًا دولية خطيرة تنذر بانهيار الفعل الإنساني وسط الفوضى العارمة والنزاعات التي تتفاقم يومًا بعد آخر من دون بروز بصيص أملِ بحلولٍ إيجابية أو بإيقاف دائرة العنف المستمرّة ضدّ هذا الكائن اللطيف. ونأمل المزيد من برامج المدافعة عن المرأة في وطننا العراق، وعدم الاستسلام أمام التيارات المتشدّدة والمناهضة لإنصاف المرأة التي ما يزال مروّجوها مصرّين على تحديد قدراتها والحطّ من قدرها ورسم مستقبل حياتها رهينةً بين جدران البيت المنزلي. ففي هذا السلوك الناقص، سمة واضحة للتخلّف واستهزاءٌ بجمال خليقة الخالق وإصرارٌ على السيّر في تيار ضدّ تقدّم الشعوب والأمم.


بغداد، في 18 كانون ثاني 2016

272
الأقليات ذات أهمية عند الحاجة فقط، فعلى مَن تبكي الذئاب والثعالب؟
لويس إقليمس
يحظى أتباع الأقليات في دول العالم المتحضّر عادة، بامتيازات إنسانية وحضارية إضافية وبدعم ماديّ ومعنويّ معًا، تشجيعًا لحفاظهم على إرثهم الثقافي والدينيّ والإتنيّ معًا. وعادة ما يمتاز أبناء هذه المكوّنات التي حالت بفعل عوادي الزمن ومشاكل الحياة السياسية والحروب والنزاعات الإتنية والدينية والطائفية إلىكيانات قليلة العدد، بعوامل مضافة لتثبيت الكيان وتبيان مكامن القدرة والجدارة والتفوّق على أبناء البلدان الأصليين، أينما سكنوا أو حلّوا أو عملوا. وهذا أمرٌ مفرَغٌ منه في ضوء الخبرة التي علمتنا إياها الحياة اليومية.
في بلدان متخلّفة نفضتْ حضارتِها منذ زمن، كالعراق كنموذجٍ في المنطقة، سواءً بفعل الكبرياء أو الجهل أو الإصرار على الانكفاء على الذات والانعزال عن المجتمعات المتحضّرة والتظاهر بالتديّن ولبس عباءة الدّين، لا تُعار أهمية لهوية الأقليات وإرثها وقيمتها وحقوقها ودورها، مهما صدح هذا الأخير أو فاقَ أو تميّزَ. وفيما البعض يتباكى، خجلاً أو تملّقًا أو تشفيًا لغرضٍ في نفس عيسو، على أصالة هذه المجتمعات المتميّزة ودورها وجدارتها في مجمل شؤون الحياة اليومية، ومنها تفتّحها وتنويرُها على قبول المتغيّرات بيسر أكثر من غيرها وباحتفاظها بولائها للوطن دون غيرها بامتياز، فإنّ هذه الفئة المنافقة لا تتورّع في وضع العوائق وتشديد الخناق عليها بحجة أو بأخرى. ومن هذه الحجج والوسائل المنغّصة والاستفزازية، العمل أو الحثّ على إصدار تشريعات وسنّ قوانين تنتقص من وجود أبناء هذه الأقليات والجماعات وحقوقهم المواطنية المتساوية في ضوء الدستور والأعراف والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، تمامًا كما يحصل اليوم في المواجهة الحاسمة وغير المنصفة في إصدار قانون البطاقة الوطنية الموحد الذي ينتقص من مواطنية هذه الجماعات المختلفة دينيًا عن دين الأغلبية، والمفروض أن تكون متساوية في ضوء المواطنة. ففي حين يرى المشرّع تميّزَ دينِ الأغلبية السكانية وعلوَّه على غيره من أتباع ديانات أخرى بالرغم من أصالة هذه الأخيرة، فإنّه بهذه القوانين المجحفة بكلّ الأعراف الدولية والإنسانية، يفرّق ويميزّ المواطنين إلى طبقات وفئات وخانات تتعارض مع مبدأ التساوي في المواطنة. فالوطن بلد كلّ الجماعات باختلاف أديانها وتنوّع أعراقها ومذاهبها ولغاتها، ويفترض أن يجمعهم جميعًاتحت ظلّ دستور عادل يساوي في الحقوق والواجبات، في الأقلّ هذا ما تنص عليه العديد من بنوده، بالرغم من قصر نظر مشرّعيه حين وضعِه.
لغاية الساعة، ما يزال الوطن يئنّ تحت رحمة الفقهاء من جهة، والساسة المتسربلين بعباءة الدين في الظاهر حينًا، وغيرهم من المدّعين بالانفتاح الكاذب المخادع من جهة أخرى. فهؤلاء جميعًا، تجمعهم صفة الرياء وميزة الفساد وحب الجاه والمال والسلطة، علاوة على حبّ إقصاء الآخر المقهور حين يفتقر هذا الأخير إلى مقوّمات الدفاع وإثبات الذات بمظاهر القوّة وقدرة الميليشيات المنتشرة عند غيرهم، والتي أصبحت المعيار القائم في التعامل اليومي السياسيّ والإداريّ مع الحقوق والهوية. فعلى مَن يبكي هؤلاء الذئاب والثعالب، ساسة منهم ومنظماتٍ دولية ودولًا غربية تتفرّجعلى النكبات وواقع الحال؟ فقد استغلّ هؤلاء جميعًا، ومن دون استثناء طبيعةَ ما يجري لأتباع الأقليات واستغلّوهم حطبًا لنارٍ ليسَ لهم فيها لا ناقة ولا جمل ولا مصلحة في الصراع القائم منذ الغزو المشين في 2003، فوقع أبناؤُهم رهينة بين القوى والأحزاب والكتل المتناحرة. وكلّ هؤلاء الساسة وأحزابهم يجمعهم هدفٌ واضح: طلب السلطة والمال والجاه، فيما الأقليات ومجتمعاتُهم بمنأى عن كلّ هذه المطامع! وهذا خللٌ يدركُه القائمون على السلطة. ولكنهم قبلوهوطبّقوه لكونِه منزَلًا أو مغضوضَ الطرف عنه من القوة الغازية التي أدخلت أنفَها في كلّ صغيرة وكبيرة وسطت على إرادة الأحرار أو مَن بقي من السياسيين المحسوبين على التيار الإنسانيّ الديمقراطيّ الوطنيّ، حين رتّبت لاستباحة أرض العراق بتبريرات واهية أثبتت الأيام والوقائع أنها كانت مجرّد أوهام وأعذار لغزو البلاد وتمزيق نسيجه الاجتماعيّ المتعايش على مرّ الدهور والعصور.
إذاً، كلُّ شيء بدا وكأنّه طعنةٌ ظالمة من الظهر في خاصرة العراق المثخنة بالجراح وأهلِه، بدءًا من التبريرات الواهية التي أباحت استباحة الأرض العراقية في 2003، ومرورًا بالفتنة الطائفية، وظاهرة الانتقام من كلّ ما كان له صلة بالنظام المقبور، وعبورًا إلى واقع ظهور التنظيمات الداعشية الإرهابية وما شكّلته من تهديد ومن محن ومآسي بتهجير الآمنين والاستيلاء على ممتلكاتهم وقلعهم من جذورهم، لحين بروز الميليشيات المسلحة واستقوائها بزعامات دينية وسياسية داخلية وإقليمية ومحاربتها لأصحاب محلات بيع المشروبات الكحولية وفرض الحجاب على المرأة، ووصولاً للمخاوف المرتقبة من مغبّة انهيار سدّ الموصل، وأخيرًا وحديثًا ظاهرة الملصقات بواجهتها الدينية التي تريد نسف ما تبقى من الحياة المدنية المتحضّرة في بلد الفنّ والحضارات وواحة الشعر والخيرات، ومّن يدري ما سواها في قادم الأيام. فكلّ هذه شواهد واقعية على تفتت عضد سبل التعايش المجتمعيّ وفقدان السلم الأهليّ وتواصل بروز ظاهرة الأصولية الدينية في مجتمع متعدّد الأديان والأعراق والمذاهب واللغات، واتخاذ هذه الأخيرة مديات متقدمة في ضوء غياب القانون وتقاعس الأمن والفوضى التي تعمّ البلاد، إضافة للأزمة الاقتصادية الخانقة واستمرار الفساد الذي نخر البلد ومؤسساته وما زال مستشريًا من دون محاسبة ولا ردع، ما ينذر بكونها دلالات ماثلة لقراءة علامات الأزمنة.
وبالرغم من المساعي الفردية هنا وهناك، والدعم والدعوات المتكررة من النخب الثقافية وتلك العائدة لمنظمات المجتمع المدني الرصينة منها حصرًا والفعالياتالمدنية التي كلّت وملّت من المماطلة والتقاعس من جانب أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية على السواء، إلاّ أنَ الوضع سائرٌ من سيّء إلى أسوأ، ولا بصيصَ أملٍ أو قليلَ رجاء فيما يرنو إليه هؤلاء جميعًا، ومعهم عامة الشعب المقهور. فأجهزة الدولة تكاد تفقد سيطرتَها وهيبتَها بسبب حالة التسيّب الحاصلة نتيجة انتشار الكثير من الميليشيات المسلحة التي بدت بديلاً عن مؤسسات الدولة التي تقف مكتوفة الأدي أو متفرّجة على ما يحصل، إلاّ على خجل بإصدار تصريحات مهزوزة فاقدة القوّة والتأثير. فالميليشيات تسرح وتمرح أمام أنظار أجهزة الدولة وهي التي تتحكم في حركة الشارع والسوق والحارة والمنطقة. أيُعقل العثور على راية لداعش في منطقة بشرق بغداد وفي شارع عمومي قبل أسابيع كما أُشيع، أو ملصقات متشدّدة تحمل شعارات استفزازية بين فترة وأخرى، بهدف فرض أجندة جهات سياسية برداء دينيّ، من دون معالجتها بشدّة من قبل الجهات الأمنية المعنية؟ فالهدف واضح ولا يحتاج إلى دليل أو تفسير. فهذه الأعمال المدانة، ترمي إلى ترويع الناس وإثارة الرعب والفزع في صفوف العامّة أو لأجل النيل من شرائح محدّدة في نسيج المجتمع العراقي، ومنهم المختلفون في الدّين أو القومية أو المذهب. فأين هيبةُ الدولة وأينَ أجهزتُها الأمنية، وما موقفُها من كلّ هذا التسيّب ومن مجمل هذه الأعمال وما موقف القضاء من هؤلاء الخارجين عن القانون؟  فما ترفعه هذه من شعارات وما تقوم به من أعمال، لا يختلف البتة عن تصرفات داعش الإجرامية وأخواتها. فالهدف واحد والشعار متناسق والفكر عينُه، فيما الأدوات متنوعة!
إنّ الأقليات الدينية والإتنية كانت وستبقى الأكثر تضرّرًا من كلّ هذه الأعمال الإرهابية التي توسع نوافذَ الكراهية وتزيد من خطابِها وسط المجتمع. فهذه الأخيرة عند إضافتها إلى تهاون الجهة التشريعية بعدم إنصاف أتباع الأقليات من المختلفين في الدّين والمذهب والإتنية عن دين وقومية الأكثرية في البلد، وعدم قدرة الجهاز القضائي والتنفيذي على صدّ المتشدّدين في صفوف التنظيمات المسلحة الخارجة عن سياق قانون الدولة، بحجة تعارض ذلك مع الشرع الإسلامي، يكون البلد قد فقد كلّ سمات الدولة المؤسساتية ومنها الجيش، والتي لم يبقي منها الغازي الأمريكي شيئًا حينما حلّها جميعًا بعنجهية وظلم واستكبار، ليترك الوطن والمواطن فريسة بأيادي فئاتٍ كلُّ همّها الطمع المتلاحق لجمع أكبر قدرٍ من المال العام والسحت الحرام على حساب سلامة أرضِه وأهلِه ومصيرِه.
إن واقع الحال يشير أيضًا، وبما لا يقبل الشك، إلى استغلال مصائب أتباع الأقليات واستثمار أوضاعهم المزرية، لاسيّما الذين هُجروا قسرًا وأصبحوا بين ليلة وضحاها بلا مأوى ولا ثروة ولا مسكن. فقد اشتدّ تنافس الفرقاء السياسيين لكسب ودّ هذه الجماعات بوسائل وأساليب خسيسة حطّت من قدرهم ومن آدميتهم، وجعلتهم صيدًا سهلاً لمطامع الكتل السياسية والأحزاب ودول الجوار والغربالمتفرّج على السواء، سواءً من خلال شقّ صفوفهم وتوزيع ولاءاتهم بين الفرقاء المتصارعين مقابل منافع شخصية لأفراد أو لرجال دين أو شخصيات ثقافية تم شراءُ ولائها، أو من خلال حثّ ما تبقّى منهم على الهجرة وبلوغ الفردوس الموعود بعد انقطاع كلّ السبل والآمال بعودتهم إلى ديارهم على المدى المنظور. فإطالة تحرير مناطقهم المغتصبة من قبل داعش أو بسبب تهديد الميليشيات المنتشرة لسائر الأحزاب، العربية السنّية منها أو الشيعية أو الكردية في المناطق المحررة، دليلٌ واضح على قصد النية بإحداث تغييرات ديمغرافية وجغرافية وتاريخية في هذه المناطق. ومَن ينكر أنّ في هذه الإجراءات مؤامرة أو ينفي ما يحصل، فهو لا يختلف عن ثعالب السياسة وذئابها، سواءً كان من أهل الداخل أو الخارج. فهؤلاء جميعًا، يستخدمون واقع الأقليات وحالَهم وطموحاتهم، ويكسبونهم أهمية عند الحاجة إليهم فقط. وهذا ما حدا مثلاً، بدول الجوار وأحزاب وكتل سياسية وحتى المنظمات الدولية وأخرى محلية للمجتمع المدني، باستغلال أوضاعهم المزرية ووهنهم السياسيّ للمتاجرة بمصائبهم والحصول على معونات ومنح بحجج تغطية المساعدات المقدَّمة إليهم، في حين أنّ واقع الحال يشير إلى أنَّ ما يصل النازحين والمهجَّرين لا يتجاوز النزر اليسير! وهذا بشهادة أصحاب العلاقة والمقرّبين من أصحاب القرار.
فالمؤامرة إذن قائمة، والهدف أكبر ممّا يتصوره قاصرو النظر والمصدّقون لأصحاب الأقوال المعسولة وكلمات الأسى والتعاطف التي تخرج من قلوبٍ صفراء لا تعرف الرحمة ولا تعترف بالخطيئة ولا تقرّ بالخجل، إلاّ على مضض!

بغداد، في 2 شباط 2016

273
الّلاجئون والاندماج، مشكلة ثقافات
لويس إقليمس

شهدت أوربا مؤخرًا، موجات متهالكة من اللاجئين، الذين تنوعت أسباب هجرهم لأوطانهم وطلبهم اللجوء إلى بلدان أخرى، تاركين وراءهم ما حصدوه من ضيمٍ ومظالم وآلام وأزمات ومآسي. وقد تناقلت وسائل الإعلام، بين مؤيّد ومتعاطفٍ مع تطلّعات وأماني اللاجئين والدول التي استقبلتهم، وبين متحفظ أو رافضٍ للطريقة التي تم بها قبول مئات الآلاف تحت ضغوط مختلفة، من دون تحسّب للنتائج. فالمسألة في الرأي الأخير، تتعلّق بقُصر نظر الهاربين من مسؤولية أوطانهم وبالتالي بالخوف من إفراغهذه الأخيرة من طاقاتهم وطاقات أجيالهم اللاحقة، إلى جانب ما يمكن أن تحمله هذه المسألة من إشكالات في بلدان الاستيطان الجديدة التي آوتهم، ومن ثم من مخاطر وأزمات على أصعدة كثيرة، غير محسوبة النتائج وطنيًا واجتماعيًا وثقافيًا وديموغراقيًا.
وسواءً كانت الأسباب الأساسية لهؤلاء المهاجرين ترقى إلى مستوى المخاطرة وتحدّي الصعاب للوصول إلى برّ الأمان والظروف الهانئة التي طالما حلموا بها والكفيلة بتوفير حياة آدمية وحرية مطلقة، بعد أن فقدوا هذه جميعًا وغيرها في بلدانهم الأصلية، فإنّ المسألة فيها نظر من أوجه مختلفة. فاختلاف الثقافات وتباين نمط الحياة، وكذا استحضار الماضي المأساوي في بلد الأصل في وسطٍ مغاير جديد تمامًا يقدّم كلّ أنواع المساعدة من حريةومأكل وملبس ومادة وضمان اجتماعي وصحّي وفرصة عمل متاحة للمتأهّل له، كلّ هذه المتغيّرات ستفرض حالَها على المهاجر الذي من المفترض، أن يتحوّل إلى إنسان آخر مختلف تمامًا عن أسلوب حياته السابقة في الفكر والتصرّف والرؤية والمستقبل والتطلعات.
 وبطبيعة الحال، ليس من السهل على الجميع، ولاسيّما القادمين من مجتمعات عربية وأفريقية وبالذات الإسلامية منها، التكيّف للظروف الجديدة وبلوغ الاندماج، حتى جزئيًا أحيانًا، مع المجتمعات الجديدة التي لها خلفيتُها المتميزة الدينية والثقافية والاجتماعية والحضارية. وكذلك سيلاقي القادم الجديد صعوبات متنوعة قدتقف حائلاً أمام التطبّعمع النمطالآخر لحياة تختلف عن ماضيهم الذي تركوه خلف الحدود، والذي أبسط ما يمكن القول فيه، أن حياتَهم السابقة كانت تجري في فوضوية وشمولية ولا تؤمّن العيش الكريم الذي يستحقه الإنسان في بلده. والأسباب كثيرة، ومنها شمولية الأنظمة، واستشراء الفساد في أوساط السياسيين، وتسلّط أحزاب دينية وطائفية وفئوية على الساحة وسطوتها على مقدّرات بلدانها وثرواتها ومناصبها، وترك عامة الشعب في بلاء وخراب ودمار وفاقة وفقر مدقع يزداد يومًا بعد آخر. أي قصارى الكلام، لم تكن كل هذه الحشود المتهافتة على حدود الدول، بالرغم من كلّ المخاطر والتحديات، أن تقوم بهذه الخطوة لو لم تكن قد فقدت الأمل وأضاعت الرجاء وحصدت الخيبة من زعمائها الفاسدين المتسلطين على رقابهم بشتى الوسائل.
تبقى مسألة الاندماج في المجتمعات الجديدة، من أكبر التحديات بعد اجتياز عتبة الحدود الشاقة بمراحلها المختلفة. وهذه لا تأتي من دون وعيٍ وإرادة بضرورة التكيّف مع مقتضيات القوانين المعمول بها في دول اللجوء وباحترام ثقافاتها وتنوّع هذه الأخيرة، مقابل توفير بلدان اللجوء للوسائل التي تكفل المشاركة الفاعلة والوجدانية وسط حياة مجتمعاتها الراقية. أي أنّ ظروف الاندماج في المجتمعات الجديدة، لا تتكامل من دون توفر عنصر التسامح والانفتاح واحترام التنوع والاختلاف عند الآخر، في الدين والمذهب واللون والجنس والعرق. وهذا ما تؤكد عليه دول الاستقبال دومًا. فمن دون هذه العناصر الأساسية في الحياة الجديدة للقادم الجديد، لا يسهل العيش ولا تُتاح الحياة الطبيعية. وهذا ما نلمسُه ونقرأُه من معوّقات ومشاكل في صعوبة اندماج لاجئين قادمين من بلدان منكفئة على ذاتها، منعزلة، متخلّفة، قد أعمتها أفكارٌ متطرّفة وغلّفتها نياتٌ شرّيرة وأطبقت عليها أحكامٌ مسبقة ونوايا مبيّتة للنيل من البلدان التي فتحت لهم أبوابَها بنوايا إنسانية حسنة. فمثل هؤلاء، لا يمكن لهم التكيّف والاندماج في مجتمعات متمدنة تمنح للإنسان قيمتَه العلياوتتيح له حياة طبيعية آدمية يستحقها، ولم يحظى بها في بلده، والسبب لأنهم عميان في البصر والبصيرة!
ولعلَّ أخطر ما تواجهه المجتمعات الجديدة من قبل هؤلاء المغالين في أفكارهم والرافضين لفكرة الاندماج في المجتمعات المتحضرة الجديدة، خروجهم على النظام العام وخرق القوانين ومحاولة فرض ثقافاتهم المتخلفة على المجتمعات التي آوتهم وسهّلت قبولهم في أوساطها، أملاً بأخذ دورهم الطبيعي في أداء واجبهم مقابل حقوقهم التي كفلتها لهم هذه القوانين والأحكام، التي افتقدوها في بلدانهم الأصلية. فمسألة احترام الآخر المختلف، في الدين وفي التوجه السياسيّ والتصرّف الاجتماعيّ، وفي القيم والتصوّرات الفكرية والتراثية والحضارية، تبقى الأساس في صون هدف الاندماج والتكيّف مع الواقع الجديد. كما على القادم الجديد أن يعي أن مجتمعات هذه البلدان لم تكن لتصمد وتتطوّر وتتقدّم ضمن سلّم الرقيّ والتنمية والتطوّر إلاّ بفضل تنوّعها الديني والاتني والشكلي واللونيّ والجنسيّ والحريات المفتوحة المتاحة للجميع من دون تمييز.
فالّلاجئ، عليه إذن، احترام البلد الذي استضافه والمجتمع الذي قبله فيه، ليكون عضوًا فاعلاً كاملّ الأهلية والاستعداد للمساهمة في بناء وطنه الثاني الذي وفّر له المأوى والمأكل والملبس وحرية الفكر والتعبير وحلم الأمن والعيش الرغيد التي طالما تاقَ وسعى للوصول إليها وقاسى من أجلها، ليعيش آمنًا مطمئنًا تحت أجنحة هذه البلدان الجميلة الآمنة المتطورة. وإلاّ لن يتحقق التماسك المجتمعي، ما لم يحصل مثل هذا التكيّف مع ظروف الحياة الجديدة التي نقلته من حالٍ إلى حال، ليسَ بتقوقعه وانعزالِه وانكفائِه على ذاته وعلى أفراد مجتمعه السابق، بل بارتفاعِه وارتقائِه إلى مستوى الناس والمجتمعات الجديدة التي انتقل إليها وأصبح يشكل فردًا من عناصرها.
من هنا يكون انفتاحُه على ثلاثة محاور أو أوجه جوهرية: ارتقاؤُه إلى مستوى الوعي الثقافي والحضاري في المجتمع الجديد، شعوره بالاستقلالية في توجهاته الجديدة التي تفرض عليه احترام خيارات الآخر المختلف عنه، وأخيرًا تحصين الذات من أية تأثيرات سلبية أو أفكار رجعية متخلّفة زُرعت في مخيلته وقد ترافقه أو يسعى للاحتفاظ بها باعتبارها من المقوّمات التقليدية الرائجة في حياته السابقة، بالرغم من إدراكه بانتفاء الحاجة إليها بقدومه والقبول بالعيش في المجتمع الجديد. فهو إذن، مدركٌ لاختلاف مجتمعه السابق عن الجديد وما يفرضه هذا الأخير من واجبات ومسببات إيجابية للتغيير. وبذلك، لا يمكن للتماسك المجتمعي أن يحصل من دون هذه التغييرات والتكيّفات وأشكال الاندماج الضرورية.
ولعلّ من أهمّ الأولويات التي ينبغي للّاجئ أن يلمّ بها أيضًا، تعرّفه على حقوقه وواجباته حالَ وطأة رجله بلد الهجرة. بل إن مجرّد تفكيره بالهجرة واللجوء خارج بلده، يفرض عليه من حينها الاقتناع بضرورة تصوّر ما ستفرضه حياتُه الجديدة هناك. وهذا من شأنه أن يقلّل من تأثير تحسّسه إزاء الوضع الجديد حين يجد نفسَه وسط مجتمع مختلف يقدّر شخصَه ويحترم آدميتَه ويضعه في مصاف إنسان متكامل يستحق الحياة، تمامًا كما أرادها له خالقُه.
وإذا كانت لغة البلاد الجديدة وفهم القوانين المجتمعية، تقف للوهلة الأولى حاجزًا ومعوّقًا في هذا الاندماج، فإنّ سياسات هذه الدول المتقدمة، قد وضعت في برامجها كيفية الأخذ بأيادي هؤلاء الّلاجئين ومساعدتهم على تجاوز هذه العقبة من خلال الوسائل التي تتيح لهم التجاوب مع هذه البرامج المتنوعة. فالغرب المتقدّم، قد أخذ في حسبانه معالجة كلّ هذه المعوّقات والمصاعب، سعيًا وراء تسهيل موضوعة الاندماج والتكيّف والتطبّع. فاللغة تبقى السبيل الأقرب والأسهل للتفاهم وتبادل الخبرات والأفكار والآراء ومن ثمّ التجاوب مع المستجدّات والتطوّرات في أجواء من التسامح والاحترام والقبول بالآخر المختلف. أمّا التقوقع والانعزال والانكفاء على الذات، فهو يعني الانتحار البطيء وعزل الذات عن المجتمع ورفض العناصر الجديدة التي من أجلها سعى الّلاجئ لتغيير منهج حياته نحو الأفضل وليس التراجع أو الإبقاء على مفردات حياته السابقة التي لم تجلب له سوى العوق النفسي والصعوبات الكثيرة التي أخذت بخناقه وأوصلته لحدّ القطيعة مع تراب أرضه وبلده ونظامه المتهرّئ الذي لم يحترم له آدميتَه، بل لفظَه من دون أسف.
 إنه التحدّي الكبير، وعلى اللاجئين القبول بالمعطيات الجديدة، من أجلتغيير منهج وأسلوب وتطلعات حياتهم في بلدهم الثاني.

بغداد، في 26 تشرين ثاني 2015

274
الإلحاد في زمن العولمة
-   الجزء الثالث والأخير-
لويس إقليمس
من هو الملحد اليوم؟
إذن، من هو المُلحد اليوم؟ روسيا الشيوعية سابقًا، أم هذا الغرب المتهرّئ والغارق في حبّ المال والمادة والملذات حتى الثمالة؟
لقد جاء تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما نشرته وكالة واشنطن بوست، قاسيًا على الغرب الذي ترك الله والدّينَ، حينما وبّخَه بوتين وغيّرَه بسبب هجره القيم المسيحية الأصيلة وانصرافه إلى ترّهات أخلاقية تدعم وتدافع عن ظواهر لا أخلاقية وخارجة عن القيم الإنسانية
.
بوتين، هذا الذي كان رئيس الـ"كي جي بي" (جهاز المخابرات) سابقًا في أكبر دولة ملحدة، كما كانت تصفها الولايات المتحدة آنذاك في ذروة الحرب الباردة بـ" الأمة الملحدة"، يقف اليوم شجاعًا لينذرَ الغرب والولايات المتحدة بخطورة فعلتها بهجر الله وتركها القيم المسيحية، محذِّرًا أنّ هذا الفعل قد يقودها إلى التدهور والدخول في الظلام والفوضى، في يومٍ من الأيام.
سبحانَ مغيّر الأحوال! فبعد عقدين ونيّفٍ من الزمان تغيّرت الأحوال، وأصبح الكرملين "الملحد" سابقًا، وحلفاؤه في الكنيسة الارثوذكسية الأصيلة اليوم، يطلقون الإنتقاد ذاته والادعاء نفسه، بعد أن  تربّعت الماركسية الملحدة على قمّة سلطة أكبر دولة شيوعية، وصلت إلى حدّ الأسطورة في فلسفتها وترويجها لأفكارها وسطوتها، ليس على شعوبها فحسب، بل تعدّته لدول غيرها، بفعل الفلسفة المادية التي طوّرها كارل ماركس ولينين ومنظّرون آخرون وسارت على نهجها الشيوعية العالمية، منذ اندلاع الثورة البلشفية في 1917، لغاية سقوط آخر ركنٍ من هيكل الإتحاد السوفيتي"الشيوعي" السابق الذي طغا واستكبر ثمّ هوى، وكان سقوطُه قاسيًا!
إنَّ الرئيس بوتين، مهما كانت حيثيّاتُه وأسبابُه ونواياه، إلاّ أنّه بهذه الكلمات قد أعاد الصورة الأخلاقية والدينية للدولة الروسية، وأظهرّها بالمدافعة القوية عن القيم التقليدية ضد الدول الغربية المفلسة أخلاقيًا بسبب تبجّح الأخيرة بمبرّرات العولمة المتحرّرة ونتائجها. فالمحافظة على القيم الإجتماعية والدينية والأخلاقية، تبقى هي السبيل الكفيل بمنع العالم من الإنزلاق للفوضى والظلام الذين أتى بهما أرباب العولمة بحجّة حرّية الفرد في الدين والتعبير.
إنّ توجّه الغرب نحو سياسة "نزع السلاح الروحي" لشعوبه، من شأنِه أن يقودها إلى الإنهيار والإفلاس في يومٍ من الأيام. وما بوادر استقطاب مهاجرين بهذه الكثرة الكمّية في الفترة الأخيرة، من دول إتسمت بثقافة روحية والتزامٍ دينيّ تقليديّ، إلاّ صفحةً من هذه الصفحات البائسة لأنها دعوةٌ صريحة لاقتلاع الدّين والروحانيّة من شعوبٍ عرفت طريقَ الله والخير والصلاح، وهي مهدّدة اليوم بالسير في ركاب المادّية والحوافز المظهرية ووسائل التشويق الدعائيّ التي يروّجُها الغرب.

إذا كان الغرب ومعه الولايات المتحدة الأمريكية، مضطرّين للقبول بعوالم مختلفة من الثقافات والحضارات، بأيّة حجة كانت أو أيّ مبرّر يسوقونه، إلاّ أنّ جلَّ هذه المبرّرات ليست مدعاة لهجر الدّين أو التهرّب من الإلتزامات الأخلاقية والدينية، كما ليست الحلّ الأوفر لسيادة بدعٍ وصراعات وهرطقات دينية خارجة عن المألوف في العرف الإنساني والأخلاقي. اليوم، في مجمل البلدان الغربية، مَنْ يسعى لكسب المال والتفنّن بالمفاسد، ليس عليه سوى الإعلان عن تأسيس بدعة دينية غريبة وخارجة عن المألوف لينال الشهرة، فتتناثر عليه الأموال كما المطر الغزير. وسوف نعلم أن مَن يقف وراء تمويله، جهاتٌ تنكر لله قدرتَه وترفض أصالة الأديان المتجذّرة والروحانية الرسولية التي عُرفت بها المسيحية بصورة أخصّ وغيرها من الأديان الموحّدة السائدة على الساحة. من المؤسف، أن تتعرّض حتى الرموز الدينية التقليدية المتعارفة، في عدد مِن دول الغرب، إلى قوانين تمنع المؤمنين من عرضها والافتخار بها حليةً تزيّنُ الرجال والنساء في الأماكن العامة كما في أوقات العمل!
إنّي أتفق مع أصحاب النظريات الحديثة التي تعتقد بضرورة تفاعل الثقافة الأوربية المسيحية التقليدية مع غيرها من الثقافات والحضارات، لحاجة البشرية إلى تلاحم وتضامن أكثر خدمةً للسلام العالميّ ورقيّه وازدهاره. وهذا بدوره سيقود إلى خيار الحوار وتبادل الخبرات والآراء التي تصبّ جميعًا في خير الإنسانية بدل إنكماش كلّ حضارة على ذاتها، ما قد يؤدّي إلى إضمحلالها بوقت أبكرَ. وممّا لا شكّ فيه، أنّ جميع الثقافات الأوربية لها حضاراتُها الخاصة بها، كما لها جذورُها الدينية في تقييمها للحياة البشرية وواقع الدنيا. من هنا يكون من المنطقي تعلّم كيفية الردّ والتفاعل مع التنوع الراهن في هذه الثقافات من أجل مواجهة ما تقابلُه من تحديات يفرضها الزمن والوضع السياسي والإقتصادي ومصالح الدول.   
فما أجملَ أن تتناغم الثقافات وتتفاعل الحضارات لخلق أنموذج عالميّ متمدّن جديد نابع من منظور الشعوب المختلفة الأخرى المتعددة المتنوعة الثقافات والحضارات، أي بمعنى مواجهة النفس من منظور الآخر المختلف.

بغداد، في تشرين أول 2015



275
الإلحاد في زمن العولمة
الجزء الثاني-
لويس إقليمس
ديانات بدائية (غير إلحادية)

لستُ هنا بصدد التعرّض لتاريخ الديانات القديمة، بقدر ما يهمّني تصفّح أهمية الدين والمعتقد في حياة الإنسان وتسليمه الذات للإله الذي يعتقد بوجوده وبقدرته على التأثير في حياته ما عاش على أديم البشرية.
لقد عرف التاريخ ديانات مهمة: قسمٌ منها ما يزال قائمًا، كالشامانية والبوذية والهندوسية والبراهمانية والتانترية وأخرى غيرها، وجلُّها لا تؤمن بوجود الله، خالقٍ للكون، ولكنها غير إلحادية، بمعنى إنكارها لوجود الله الخالق، والسبب ببساطة، لأنها لم تعرفه. والملاحَظ، أنَّ أتباع هذه الديانات التي لم تعرف إلها واحدًا مسؤولاً عن طبيعة الخليقة والكون، يتسمون مثل أتباع الديانات التوحيدية أيضًا، بثقافة روحانية عميقة، ما تزالُ مزاولة في حياتهم الممتدة منذ النشأة لغاية اليوم، على الرغم من عدم إرتقاء هذه الديانات إلى فهمٍ إيمانيّ عميق. ولكنّها تبقى ديانات كبيرة ولها أهميتُها في حياة البشرية، لأنها تتعامل مع الشأن المقدّس الذي من سماته الأساسية الوجود والإنخطاف وإمكانية القيام بالرحلات الروحية إلى جميع المناطق الكونية والقيام بأعمال خارقة ترقى إلى الأعجوبة أحيانًا. لمْ تعرف حقيقة الخالق أو بالأحرى لم تصل إلى تلك المعرفة، ولكنّها بحدّ ذاتها، تُعدّ تجربة روحية، لا تقلّ عن روحية التصوّف التي عرفتها ديانات توحيدية معاصرة، ملمّة بأسرار الحياة والخلود وما بينهما، من إرتقاء روحي ومن رحلات ممكنة بالصعود إلى السماء والطواف في الأجواء وبين الموتى، وهي دلالةٌ رمزية بمعرفة أسرار الحياة والطبيعة وبسرّ الخلود الذي يأخذ حيّزًا واسعًا في الممارسات العديدة في الحياة اليومية لأتباعها، على الرغم من غرابة بعضها.
من الملاحظ أن بعضًا من الممارسات المعتقدية، لاسيّما الروحانية منها، تشترك فيها اليوم ديانات توحيدية مهمّة، ولكن بطريقة أكثر عمقًا وتطوّرًا، من حيث سعيُها للبحث أو العودة إلى الفردوس المفقود. ولعلّ ميزة النار، هي الأكثر قربًا للتشبيه بين هذه الديانات، قديمها وحديثها، من حيث المفعول التطهيري لهذا الأخير في المفهوم التصوّفي. في ضوء هذه الديانات جميعًا، يترتب"على الراغب بدخول الفردوس أن يجتاز مثلاً، سورًا من نارٍ تحيط به، للدلالة على وجود حدّ بين الفردوس والجحيم. فـ "النار تطهّر الخطايا وتمحو الذنوب"، كما يقول القديس توما الأكويني. وهو ذات المفهوم الذي تعتقد به الشامانية والهندوسية والبوذية وأخرى غيرُها، اليوم أيضًا. فانصراف الإنسان إلى التأمل وحياة النسك والتقشّف القاسية، بهدف بلوغ قدرات خارقة والإتيان بعجائب، ظاهرةٌ أيضًا في حياة النساك والقديسين والمتصوفة في المسيحية والإسلام. وهي لا تختلف من حيث الرغبة الشديدة للمزيد في التقدّم نحو الله خالقه، أي نحو السماء التي يرنو إليها ويسعى لبلوغها، كما فعلها القديس سمعان العامودي، بنصبه عامودًا من دعامات كثيرة يتيح له التحدّث عن قرب مع ربّه. فالمبدأ، هو هو ذاتُه، على الرغم من الإختلاف في الإله المقصود عبادتُه.
كما أن المصريين القدامى و اليونانيين والرومان والإغريق كانت لهم آلهتُهم وأنصاف الآلهة ومن الأبطال والملوك وأزواجهم وأبنائهم وبناتهم. كانت لهم آلهة متعددة ومتنافرة في الحياة العامة والخاصة: آلهة للحب والجمال، للحرب والنصر، للزواج والخصوبة، للشعر والموسيقى، للحكمة والصيد، كما كانت لهم آلهة للبحر والخمر والزواج وللسفر والنار وغيرُها كثيرةٌ. وهذه كانت تتصاهر مع بعضها البعض وتتناسل محتفظة بمزاياها وسط الشعب. لم تكن شعوب هذه الأمم الوثنية حينها تعرف عبادة الإله الواحد، ذلك الإله المجهول، الذي بشّرهم به مار بولس الرسول حينما قدمَ إليهم ببشارة جديدة، بإلهٍ قديمٍ جديد!. فقد أوضحَ لهم أن ذلك الإله المجهول الذي يعبدونه عبر تعدّد آلهتهم، هو الله الحيّ الذي يبشّرهم به إياه، وهو الذي أقام المسيح من بين الأموات. وها هُم أتباعُهم الجدد يحاولون في السنين الأخيرة، النهوض ثانية بهذه الديانات وإحياء طقوس قديمة تمتُّ إلى العهد الوثنيّ الشبيه بطقوس البوذية القائمة حاليًا، من حيث تقديم الأضاحي التقليدية على مذبح وإشعال النار، تمامًا كما كان يفعل الإغريق في قديم الزمان. إنها أشبه برحلة العودة إلى الوراء، إلى الوثنية، إلى نكران وجود الله، إلى الإلحاد، في خضمّ دوّامة العولمة التي تسعى لتغيير وجه العالم وفتح قنوات لا أدرية أقربَ ما تكون إلى الإلحاد منه إلى الإيمان!

أوربا بين الإيمان والتفكّك العقائدي
تتعرّض أوربا اليوم، إلى إنهيارٍ إيمانيّ، طُبعها قرونا وسنين طويلة منذ دخول المسيحية إليها في بدايات القرن الأول الميلادي بواسطة الرسل الأوائل، ومنهم بالأخصّ الرسولان بطرس وبولس اللذان نالا الشهادة في روما، بسبب اضطهاد قياصرتها لمقدَمِ المسيحية. أمّا الإنطلاقة الكبرى، فكانت على يد الإمبراطور قسطنطين، إبن الملكة هيلانة، الذي إعتنق المسيحية بدافعٍ من والدته، فزاد من إكرام الصليب الذي عثر عليه جنودُه بإشرافٍ من والدته الملكة التي رافقتهم إلى أورشليم/ القدس في رحلة شاقة للبحث عنه. وكان إشعال النار من بعيد علامةً على نصر جيوشه. هكذا إنتشرت المسيحية إلى دول أوربية أخرى. وتأتي فرنسا في مقدّمة أهمية أوربا، حيث حافظت على الأمانة والوديعة طيلة السنوات المنصرمة، ما أهّلها أن تلقّبَ بالإبنة البكر للكنيسة الكاثوليكية.
مهما يكن من أمرٍ، كانت أوربا وما تزال في نظر الكثيرين، معقلاً للمسيحية وحاميةً لها، على الرغم من الهزّات والتغييرات التي تأثرت بها داخليًا وخارجيًا. فقد سادت الكنيسةُ شؤونَ الحياة السياسية وأصبحت هدفًا للطعن بمصداقيتها بسبب ما أحاط بها من منغصات وقضايا فساد، كان رجالُها والنبلاء والإقطاع فرسانَها، ما اقتضى الإصلاح في فتراتٍ عديدة من تاريخها في عهد ما عُرف بعصر النهضة والتغيير في بدايات القرن السادس عشر. وتطورت الأوضاع فيما بعد، حتى قدوم عصر التنوير والتحديث الذي كفلته الثورة الفرنسية وما تلاها من أحداثٍ درامية تطلّبت تغييرات في بنية الكنيسة وتوجهاتها نحو نظامٍ مؤسساتيّ أكثر نضجًا وتفاعلاً مع المجتمع والإيمان.
لقد نمت المسيحية فيها وزاد معتنقوها يومًا بعد آخر، وظلّت على هذه الحال حتى العقود الأخيرة من القرن الماضي. واليوم، بحسب إحصاءات أولية، يكاد يشكل المسيحيون فيها أكثر من 70% من مجموع سكان أوربا. ولكن هذه النسبة، مهما تعاظمت، فانها لا تعني قوّة إيمانية بما تعنيه الكلمة. ذلك أن الأوربيين قد تراجعت ذروتُهم الإيمانية وتقهقرت ممارساتُهم، لاسيّما في زمن العولمة وما أتت به الفلسفات الإلحادية المادية والديالكتيكية والّلاأدرية المتعددة التي تسيّدت عقولَ الشباب والطبقة المثقفة، فابتعدوا عن الدّين، بل إنهم كادوا ينسون أنّ لهم إلهًا وربًّا في السماء! وهذا ما حدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتوجيه توبيخ شديد اللهجة إلى الغرب المارد إيمانيًا، منتقدًا إياه وبصورةٍ أخصّ الولايات المتحدة، لاتهامهم بـ "إنتهاج طريق الإلحاد ومعاداة الدين وترك الله جانبًا"، بسبب تصرفات هوجاء لا تمتّ للأخلاق والآداب العامة بصلة، بحجة العلمنة وحرّية التعبير وما يسايرُها من مصطلحات تنتهك القيم البشرية السويّة وخليقة الله الحسنة.
لقد سادت الشيوعيةُ بلادَ ما كان يُعرف سابقًا بالاتحاد السوفيتي طيلة أكثر من سبعة عقود مضنية من القهر والكذب والاستباحة لحرية الفرد والمجتمع عبر نظامٍ شموليّ إعتبر "الدينَ افيونَ الشعوب". فقد تمكن كارل ماركس، بذكائه ودهائه من الإستفادة من الميثولوجيات الوثنية القديمة، في محاولة لضرب الميثولوجيا المسيحية و"العودة لإحياء ميثولوجيا العرق الجرماني المتسم بالوثنية التي فيها دعوة إلى الإنتحار الجماعي"، كما يقول العالم ميرسيا إلياد في كتابه عن "الأساطير والأحلام والأسرار". ما يعني أن نهاية العالم ستكون بكارثة، وبتعرّض العالم إلى فوضى لحين إنبعاث عالم جديد يعود للبشر بحياة جديدة. وهذا بحسب بعض قدماء الجرمان، يعود لعلمهم وإيمانهم بوجود دورات كونية. لكنّ هذا النظام الشموليّ، لم يستطع التواصل، فحصل ما حصل من كوارث بشرية بسببه، ثمّ ما لبث أن تفتت عضدُه بفعل الدّين الذي حاربّه وأنكرَ فعّاليتَه، وبالتحديد بسبب قوّة المسيحية وتأثيرها العجائبي وصحوتها الإيمانية، على يد البابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي كان له الدور الأكبر في إزالة ظلم الشيوعية وقهرها للشعوب. فعادت تلك الأراضي المترامية إلى حظيرة الإيمان بصحوة حقيقية، كان لها حضورُها على صعيد تغيير العالم، والتصدي للسياسة المتفردة القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن رضخَ بالالتفاف حولها والسير في ركابها من الدول الغربية، بعد أن أهملت سبيل الإيمان بالله جانبًا، وشجّعت على نسيانه وسيادة المادة على أيّ شيء اسمُه الدّين والله والصلاة.

يتبع-

276
الإلحاد في زمن العولمة
الجزء الأول-
لويس إقليمس
ليس من السهل على كائن عاقل أن ينكر وجود قوة خافية أو طاقة مستترة تقف وراء عظمة خلق هذا الكون وتسييره وإدارته، إن لمْ تكن شكلاً من قوة جبّارة تعود لكائن جبّار وحكيمٍ يجيد قيادة دفته. كما ليس من المنطق على مخلوقٍ مقهورٍ قابل الموت والفساد أن يعتقد بنكران وجود الله بالسهولة التي يبديها أصحاب نظريات الإلحاد، قديمًا وحديثًا. فالإنسان، ككائن بشري مخلوقٍ على صورة الله ومثاله، له من القدرة والعقل والإرادة أن يكون ما هو عليه من طاقة تفكيرية وعقلانية، تُغلق أمامَه بابَ الّلاأدرية التي ذهب إليها الكثيرون بعد الثورة الفلسفية في القرن التاسع عشر وما بعده، وإليها يوجّه المحدثون الّلاأدريون تركيزَهم اليوم. قد أضاع هؤلاء الطريقين. فهمْ لا يجيدون الحكم بوجود هذا الإله الذي بشّر به الرسل والأنبياء، الذي وصفه الرسول بولس بـ "الإله المجهول" عندما توجّه إلى الأمم الوثنية لتبشيرهم بالمسيحية.
يقف "الّلادينيون" في طوابير اللامبالاة التي تسود العالم الغربيّ في هذه الأيام. وعندما نبحث عن السبب،نكتشف أنّ المادة هي في الأساس السبب المباشر في مثل هذا التوجّه. فدساتير الغرب وقوانينُه تفرض ضريبة على الانتماء للدين. وبذلك، مَن لا دينَ له رسميًا، لا يخضع لهذه الضريبة. هذا إلى جانب أسبابٍ أخرى بطبيعة الحال، منها اللاّمبالاة الفردية والتهرّب مِن كلّ محدّدات الشريعة الأخلاقية التي تنهى عن المنكرات وارتكاب الأخطاء الاجتماعية والأخلاقية والدينية "الخطايا". لذا يسلك هذا النمط من الأشخاص هذه الطريق السهلة في الحياة دون الالتزام بمثل هذه المحدِّدات التي تفرضها وينصح بها الدّين المسيحي بخاصّة.
من وجهة نظر الديانات الكتابية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، يُعتبر ملحدًا كلّ مَن أنكر وجود الله خالق الكون، أرضًا وسماءً وبشرًا. فما عدا أتباع هذه الديانات الثلاث، يكون غيرُها خارجَها في عداد الملحدين أو ناكري وجود الخالق، كما في عدد من الديانات القديمة التي ما تزال قائمة. أمّا أصحاب الفلسفات الإلحادية واللاأدرية التي إنتشرت مع مطلع القرن التاسع عشر بصورة خاصة، فهؤلاء، إنطلقوا مِن مفهومٍ ماديّ ومعرفيّ بحت في إثبات عدم وجود الله أو الشكّ في وجوده. واليوم، بعد إنحسار المدّ الشيوعيّ وأفول نجمه، تكاد فلسفة الّلاأدرية، هي المستحكمة والمستقوية على الفكر الفلسفي المادّي الجديد، بعد أن إتضحت معالمُها وتطوّرت إلى تحليل فلسفيّ أكثر عمقًا بتوجهها نحو التفسير العلمي للخلق والكون والأداء. فهؤلاء، إذ يعتمدون على قصور العقل في إثبات وجود الخالق، ومن ثمَّ التشكيك بقدرة الأخير على إثبات هذا الوجود، يركزون جلَّ جهودهم وحياَتِهم على ما هو ملموس في الإثبات العلمي في المختبرات ومراكز الأبحاث التي يسوّقون منها هذه الفلسفة "الإلحادية" المخفّفة الجديدة المتطورة! فهمْ أناسٌ يتبعون تيارًا لا دينيًا في حياتهم الفكرية والاجتماعية، بحيث يعسر عليهم اليقين من وجود كائنٍ عظيمٍ خالق للسماء والأرض والعناصر، فهُم ببساطة "لاأدريون"!

عمق تاريخيٌّ للأديان
إنّ الدّين بالنسبة للإنسان، هو كالماء والهواء، يساعد البشر في إدامة حياته مستقيمةً وصالحة مادامت فيه نسمة الحياة. وقد يختلف التديّن عن جوهر الدّين، إلاّ أنّه مقتبَسٌ من ذات الجوهر وفيه صفاتٌ ومزايا تجعلُ الإنسان العاقل ملتزمًا الدّينَ أو المعتقدَ السائد أو ذاك الذي يسير في هديه.
عرفت البشرية منذ نشأتها، نوعًا من عبادة لكائنات غريبة أو ظواهر طبيعية، مرتبطة مباشرة بسلوك الإنسان وطريقة عيشه. فالإنسان القديم، عُرف عنه تهيُّبُه من ظواهر طبيعية، لحدّ لجوئه إلى الخوف منها وتقديم أضاح وقرابين دلالة لمهابتها والإقرار بقدرتها على التأثير في حياته. وهذه الحالة تتكرّر مع تطور الفكر البشري، لغاية التوصل إلى كيفية تنظيم مثل هذه الممارسات وتطويرها إلى عبادات، أقربَ ما تكون إلى ديانات بدائية. من هنا، كان ظهور أشخاص في مجتمعات على مرّ العصور، لهم بصماتُهم الدينية في توجيه عامّة الشعب. لقد كانت هذه الطبقة من الشعب تمثّل القدوة في توجيه الناس نحو شيء يمكن تسميتُه اليوم ب"الدين" أو المعتقد. وبسبب هذا الأخير وتحفيزه، والطريقة التي تمّ بها تنظيم حياة الناس، نشأت حضارات الشعوب عبر التاريخ.
يحدثنا التاريخ، أن هذه الشريحة من المتخصّصين في مجال العبادة، كانت تتميز بحكمة ورجاحة عقلٍ، في توجيه الناس نحو عبادة كائنٍ معيّن بذاته، سواءً كان ظاهرةً طبيعية أو إلهًا من نوع البشر أو أنصاف البشر أو رمزًا يمثل هذا أو ذاك. عالمُ الأديان الروماني، "ميرسيا إلياد"، رافق شعوبًا أصيلة وعاش بينها من أجل فكّ رموز ما كانت تعتقد به شعوب الأقدمين. وفي الحقيقة، إنّ ما توصل إليه، أنّ معظم المعتقدات أو الأديان التي عرفها العالم القديم، تنحصر ما بين الخرافات والأساطير في أغلبها، حيث أقترنت ممارسات تلك الشعوب بين ما هو مقدّس وعاديّ في حياتها، وحسب الأفكار السائدة آنذاك لكلّ شعب أو قبيلة. وهو يشير بذلك، إلى أحداث قامت بها آلهة أو كائنات خارقة، كان لها الأثر الكبير في حياة الشعوب، ومنها تطورت إلى ما يشبه المعتقد أو الدّين. فلا عجب، أن نجد شعوبًا تعبد وتقدّس حيوانًا كانت له أهيمتُه في حياتها، أو ظاهرة تهيّبوا منها، فجعلوها سيّدةً عليهم، ولها ينبغي تقديم واجب التبجيل والإجلال والأضاحي. ولا ريبَ أن نجد أنَّ مِن الأقدمين، مَن إعتقدوا أنّ الآلهة أو أنصاف الآلهة من البشر، هي التي خلقت العالم، ولها ينبغي السجود والإحترام، لكونها المسؤولة عن تنظيم حياة الناس وتسيير الكون المحيط بهم.
من هنا، يكون الدّين أو المعتقد عبر التاريخ، قد حصل على مرتبة مهمّة في تسيير حياة الناس، باعتباره "الحلّ النموذجي لكلّ أزمة وجودية، من خلال الإيحاء بما هو مقدّس في حياة الإنسان"، بحسب عالم الأنثروبولوجيا ميرسيا. ولكن، ما يجب القول، إن أية ديانة أخرى قبل المسيحية وخارج نطاق اليهودية، لم تمنح قيمة للتاريخ بوصفه تجليًا إلهيًا مقدّسًا مباشرًا لا يقبل الإعادة، كما لم تعرف الإيمان باعتباره وسيلةً للخلاص كما عاشه أبونا إبراهيم الذي آمنَ وعبدَ إلهًا متميّزًا عن غيرهِ، لأنّه عرفَه خالقًا، كما يقول الكتاب المقدس. وهذا ما يميّز الديانة العبرانية ومن بعدها المسيحية والإسلام، عن سابقاتها من المعتقدات والديانات من سمة الآلوهة في مسألة خلق الكون وتدبيره، بسبب إقتران هذا المعتقد، بسمة القداسة لهذا الخالق من خلال عمله الحسن المتمثل بخلق العالم.
عبر التاريخ، تنقّل البشر بين إله وآخر، حسب المصالح وتطور الحياة لديهم. لذا، لا ريبَ أن نجد شعوبًا تخلّت عنها آلهتُها بابتعادها لفترات، ثمّ لا تلبث أن تعود أدراجَها. لكنّ الملاحظ أن هذه الآلهة، على الرغم من إبتعادها عن شعوبها، إلاّ أنها كانت تحتفظ دومًا بقوتها وتأثيرها، حتى في فترات غيابها. فقد إبتعد العبرانيون مثلاً، عن الإله "يهوه"، كلما كانوا ينعمون بشيء من الرفاهة والرخاء وينحازون إلى آلهة جيرانهم مثل عشتاروت وبعل، ولا يعودن إليها إلاّ إذا صادفوا كوارث ونكبات، ليعودوا ثانية إلى طريق الصواب. وعندما تأخر موسى على جبل حوريب وهو يتلقى الوصايا، أُرغمَ أخوه هارون لعمل عجل ذهبي للسجود له كإلهٍ، بسبب إعتقادهم بغياب إلههم التقليدي وتخلّيه عنهم. لكنّ يهوه، لم يغضب أو يخاصمهم، على الرغم من عتابه الشديد لهم على فعلتهم الشنيعة، كما جاء على لسان كليم الله موسى، بل كان يستجيب لهم بعد ندمهم وطلبهم منه إنقاذهم من أيدي أعدائهم ومن دمارٍ يداهمُهم.
إن دلالة العودة إلى الكاهن الأعظم، أي إلى الإله، لا تتغيّر، هي ذاتُها عند البدائيين، تظهر في التجليات المقدسة اليومية. وهذه هي حال البشر اليوم، كلّما مرّوا في الضيقات وتعرّضوا لمصائب، يعودون للتوبة والصلاة والطلبات من الله، لعلمهم أنّه ملئٌ بالرحمة والمحبة لبني البشر، كلّ البشر!

-   يتبع-

277
محاورة إلكترونية مع غبطة البطريرك لويس ساكو
لويس إقليمس

سيدي الجليل غبطة البطريرك لويس ساكو.
 أعزّكَ القادرُ على كلّ شيء وأدامَ ذخرك، وأرشدَك وإخوتَك، نظراءَك ومعكم رؤساء أساقفة وأساقفة ومهتمّين من كنائس ومن نشطاء مدنيين ومسؤولين في الدولة ومثقفين ومتنورين وكلّ مَن يهمّه شأن المسيحية وما تبقى من المسيحيين في العراق الجريح المتألّم. عذرًا، قد أعطي الحق لنفسي، كونكم زميلاً وصديقًا وقائدًا مسيحيًا وطنيًا منفتح الجوانب والمواهب، كي نتحاور بصيغة الكتابة المفتوحة التي بها أعبّر عن مكنونات ذاتي وبها أنقل ما أعتقد وما أراه مناسبًا وملائمًا لحيثيات الكتابة والطرح، كي يطّلع عليه المهتمّون، فلا يبقى طيّ الكتمان وبين الجوانح. فالمطروح ليس سعيًا شخصيًا، بل شأنًا مسيحيًا عامًا وأمنيةً يعلّق عليها الكثيرون آمالاً بمستقبل واضح: نكون أو لا نكون. فالمسألة هي مسألة وجود وتحقيق هوية، فبقاء أو انقراض!
سيدي الجليل، مضت أيام وأسابيع، بل وأشهر على آخر لقاء، وكان الثاني الشامل، لمشروع أو مبادرة تشكيل مرجعية مسيحية تجمع الشمل وتوحد الخطاب المسيحي وتنقذ المتبقي من الموجود. تمنيناها مرجعية مسيحية سياسية بغطاء كنسيّ جامع، لها ملء الصلاحيات ومخوَّلة من جميع المراجع الكنسية، ومتحدثًا رسميًا باسمها وباسم كافة الطوائف والفعاليات المسيحية المدنية. فقد سئمنا العمل الانفرادي لكل مرجعية وكذا الحراك السياسي المنقوص لأحزاب لم ترقى إلى مستوى العزم والهمّة والتسامي، بل بقيت تراوح في حدود المصالح الشخصية والقومية والفئوية الضيقة التي أبقت الشعب المسيحي أسير أحزاب متنفذة وكتل سياسية فرضت أجندتَها علي قياداتها المسيحية. وهذا شيء مؤسف للغاية، شعر ويشعر به، حتى المواطن البسيط الذي لم يكن يهمّه الشأن السياسيّ. فتناثرُ الجهود وتبعثرها من خلال التفرّد أو بغية نيل مكاسب جزئية وفئوية محدودة وبنطاق ضيّق لم ولن يخدم الشأن المسيحي ولن يصبّ في خانة استعادة دورهم المفقود في المعادلة السياسية القائمة.
سيدي الجليل، يأتي اتفاق الآراء المجتمعة في اللقاءين السابقين التاريخيين برعايتكم، بداية صحيحة في اتجاه لمّ شعث الفعاليات المسيحية المتناثرة بغير انتظام، بسبب تعدّد الولاءات ومصادر التمويل التي تكاد تكون محصورة بجهة وحيدة في كردستان، تهيمن على الشارع والحكومة والدولة وتفرض الرأي والأجندات وتسعى للمزيد. فالمرجعية المسيحية المؤمَّلة ضمن مبادرة غبطتكم التي علا بيرقُها كأمنية بدعمٍ من نخب خيّرة لأصحاب الفكر وبناة الثقافة ومحبي الوطن  بعد تبلور فكرة المبادرة وصلاح النوايا ووجود الإرادة، نعتقد أنها الفرصة الأخيرة لتعزيز الوجود المسيحي والمطالبة بكامل الحقوق الوطنية غير المنقوصة، بفضل همتكم العالية بصورة خاصة وبفضل الكارزمية التي تفرضها شخصيتُكُم الوطنية والكنسية الجامعة، غيرَ متناسين الجهود الشخصية الضيقة لنظرائكم وإخوتكم في مجلس أساقفة العراق الذي يفتقر هو الآخر إلى عنصر رئاسيّ، كما هي عليه حال الطوائف المسيحية في لبنان برعاية مارونية قوية ومؤثرة. فمسيحيو العراق، يفتقرون إلى الحدّ الأدنى من مثل هذا الكيان الوطني الذي يرسي لفرض وجود المكوّن المسيحي المهمّ والأصيل الذي كان ينبغي أن يكون شريكًا أساسيًا في المعادلة السياسية كحال سائر الفرقاء الدينيين الذين يفرضون ما يشاؤون من قوانين على هذا المكوّن المسالم بسبب افتقاره لمرجعية موحدة تلجم أفواهَ المتجاوزين على الشعبِ المسيحي وحقوقه وتطلعاته، ومنها حقُّه في تقرير المصير كسائر المكوّنات التي تحكم وتوجّه وتتحكّم  بمقدّرات الدولة وسياستها على هوى دينها وطوائفها وتشكيلاتها.
إنّ اللجنة التنظيمية الخماسية التي تمّ اختيارُها من قبل المجتمعين، لتهيئة الأمور اللوجستية وبيانات العمل وإعداد المواضيع ذات الأهمية والأولوية بشأن الواقع المسيحي المتألّم، ما تزال تعلّق آمالاً كبيرة على مفردات المبادرة، وتأمل تحقيق لقاء قادم قريبًا جدًّا، يكون حاسمًا في تحديد المواقف والتأييد له أو الاختلاف معه. وحينها، سيكون لكلّ حادث حديث في حالة فشل هذه المبادرة، وسيصير التحرّك في غير ما يشتهيه عموم المسيحيين الداعمين لوحدة الصف والكلمة والجهود! وتلك ستكون نهاية الجهود الجامعة وخسارة الجميع من دون استثناء.
إننا إذ نقدّر عاليًا، انشغالاتكم في مؤتمرات ولقاءات خارج الوطن وفي الداخل، ونثني على الدور الفاعل لكم ولإخوتكم وكلّ مَن ساهم في التعريف بالواقع المرّ وكشف الآلام والمآسي والصعوبات التي يعاني منها بقايا أهلنا وأحبتنا في العراق الجريح، فإننا ندعوكم في هذه الأيام، وأنتم تجتعمون للصلاة التقليدية من أجل وحدة المسيحيين، أن تكونوا على قدر العزم الذي عهدكم به الشعب العراقي عامة، والمسيحيين خاصة. فالزمن الغادر يتسارع، والمشاريع الفئوية والطائفية تتسع مساحتُها والأحزاب المحسوبة على المسيحية تتلوّن بحسب المصالح ويتضح ولاؤُها الفئويّ والحزبي والعرقيّ لجهات تحاول استغلال الحاجة والفاقة والضعف في الإرادة البشرية لنفرٍ مستعدّ للتضحية بمصالح عامة من أجل منافع شخصية وفئوية ضيقة. في حين أن عموم الشعب ما زال ينتظر بفارغ الصبر إيجاد حلولٍ شافية وواقعية وحتمية للهوية المسيحية الآيلة إلى الانقراض والضمور في حال تواصل نزيف الهجرة القاتل واستمرار الظروف المأساوية على حالها، بل المتجهة نحو الهاوية يومًا بعد آخر.
سيدي الجليل، إنّ انصباب اهتمامكم على تأسيس الرابطة الكلدانية وتسريع انتشارها والتعريف بها كي تلمّ شعث الأنشطة الكلدانية وتشتتَها، كان في محلّه وموضع ترحيبٍ ليسَ من قبل المعنيين بالشأن الكلداني فحسب، بل قد نالت استحسان إخوتكم في كنيسة العراق وفي الشتات. وبالرغم من تأسيسها بتلك العجالة، وكونها جزءًا من المشكلة في كنيسة العراق وليس جلّها، إلاّ أنّ الملاحظ حصرُ معظم أنشطتكم مؤخرًا في تعزيز هويتها الطائفية باعتبارها وعاءً للأغلبية المسيحية في العراق والمنطقة، على حساب المشروع الوحدوي الكبير الذي كان يفترض إيلاؤُه الأولوية على سائر غيره، كما أُشيع في الآونة الأخيرة. وبالرغم من عدم قناعتنا، بما سمعناه وأشاعه البعض من الشخصيات الكنسية والمدنية على السواء بخصوص مسألة التفرّد في الحراك وتقريب التوجّه الطائفي على الصالح العام للشأن المسيحي، فإننا على  يقين أنّ آفاقَكم أرفع وأبعد ممّا سمعناه. بل إننا على ثقة تامة أن غبطتكم مازلتم عند وعدكم بتحقيق تشكيل هذه المرجعية السياسية الجامعة التي من شأنها وضع حدّ لتبعثر الجهود واختيار الصلح لتمثيل الشعب المسيحي حين تقتضي الظروف وتتطلب الحقوق والحاجات. ونحن مدركون أيضًا، للعقبات والعثرات التي يثيرُها البعض ويضعونها في طريق إنجاز هذه المبادرة التي دعمناها كما دعمها العديدون من النخب الكنسية الوحدوية والمدنية والعلمانية من جميع الكنائس والطوائف.
 وإذا كانت بعض المراجع الكنسية التي تلتفّ حول أحزاب "قومية مسيحية"، ومعها قيادات هذه الأحزاب واخرى غيرُها وأتباعُهم، يرون في مبارتكم سحب البساط من تحت سيطرتها وتخشى إضعاف أجندة مَن يموّلها، فهذا قد أصبح مكشوفًا للجميع، مؤكدين وقوفَنا مع مبادرتكم الجامعة المنطلقة من بغداد حصرًا. فأغلب المبادرات بل جميعُها، التي انطلقت من خارج القبّة الكنسية ومن خارج الإجماع الكنسيّ، قد فشلت وحوّلت المشهد السياسي والاجتماعي للمسيحيين إلى مآسٍ وويلات، بسبب تبعيتها وعدم استقلاليتها في قرارها. فالكنسية عندما تلقي بدلوها وتفرض ثقلَها، من شأنها صنع العجائب وكسر القيود وفتح النوافذ والأبواب المغلقة. وهذا ما نرتقبُه من تشكيل المرجعية السياسية المسيحية التي نصرُّ على رؤيتها النور، بالرغم من المعوّقات.
لقد آلمني أن نسمع كلامًا غير سديد، بخصوص تفرّدكم بزيارات المسؤولين في الدولة أو حضور المؤتمرات والحلقات النقاشية على المستوى الدولي والدينيّ، بالرغم من جزم اعتقادي بعدم تفريقكم بين طائفة وأخرى في مثل هذه الزيارات. والدليل زياراتُكم المتكررة والمتنوعة لشرائح مختلفة وشخصيات عامة وخاصة، وما تجود به يدُكم الكريمة في تقديم العون للجميع من دون تمييز،حسب علمي. على أية حال، لن أخوض جريًا في الدهاليز والأروقة المظلمة. فالكلّ عارفٍ بالأمور، مصادرُها ومراجعُها وبناتُ أفكارها. وكلّ ما أودّ القول، وهذا ما أعتقد يتفق عليه الجميع، أنه لا يمكن اختصار الوجود المسيحيّ بطائفة معينة على حساب البقية، بحجة الأغلبية والأكثرية. فهذا ديدنٌ وروايةٌ وإيغالٌ في التباعد والاستبعاد في المتبقي المنحسر من الوجود المسيحي، أيًا كان حجمُه أو لونُه الطائفي والطقسيّ، وهو لا يقود سوى إلى الهاوية وإلى المزيد من التباعد وليس إلى الوحدة المرتقبة التي يتمناها الجميع، ونلتقي للصلاة من أجلها في مثل هذه الأيام.
بالحق، أعتقد، وكما يعتقد غيري، أنّ غبطتكم، شخصية كارزمية لا غبارَ عليها، ومَعلمٌ ثقافيّ ووطنيّ وكنسيّ بارز يشهد له القاصي والداني، وأحجيّةٌ في الردّ والمدافعة والإقناع، ما ذهبَ إليه شريط الأخبار والمرئيات والسمعيات والمدوّنات والكلمات التي تسري كالذهب الزلال في قلوب ونفوس المحاورين والمستمعين والمشاهدين والمناظرين، من جميع الأديان والمذاهب والملل، بل وفي خارج حدود الوطن.
 لذا ومن هذه المنطلقات، لن أقف في صفوف المعترضين على أنشطتكم المتصلة والمتواصلة لصالح الأيادي الضارعة في بلادي، والمتلهفة لكلّ نسمة هواء عليلة صيفًا وإلى كلِّ نفحة زفيرٍ ساخنة في شتاءاتنا القارسة، وهي ما يعانيه اللاجئون هذه الأيام من دون ما يقيهم شرّها وبلاياها.
سيدي الجليل، إن موضوع الأكثرية والأقلية، أسفينٌ عميقٌ وسكّةٌ خطيرة وفتنة كبيرة لا ينبغي السماح بسماعها أو القبول بتدوالها أو الحديث عنها أصلاً، ببساطة لأنها أصل الفتنة في العراق. فما حصدناه بسببها، هو الذي جلب الوبال والويلات وأوصلنا إلى هذه الأوضاع الكارثية. فهي فتنة مدمرة ما بعدها فتنة، وخطيئة عظمى، لو كنتُ في مقام كهنوتكم، لما غفرتُها لحاملها، بالرغم من أننا في "سنة الرحمة". لأنّ الرحمة التي تدمّر النفس والقلب والبشر والمجتمع والبلد والعالم، لا يحق تسميتُها بالرحمة ولا تليقُ ممارستُها. فهي مجاملة على حساب حقوق الأبرياء والمتألمين والمسحوقين، واستصغارٌ بتطلعاتهم الطبيعية، ومماطلةٌ في إيجاد الحلول لأوضاعهم المأساوية، وتسويفٌ لحقهم في تقرير المصير وبحياة حرة كريمة في ديارهم ووسط أحبائهم، وبتمتّعهم بأموالهم وممتلكاتهم المسلوبة ظلمًا وغدرًا وإهانةً. فهل نضيف على مصاعبهم ومصائبهم وهمومهم، أثقالاً أخرى تستهزأ بكيانهم وتنزل من قدرهم البشريّ، وقد خلقهم الله أحرارًا على صورته ومثالِه؟
من هنا، أدعوك سيدي الجليل، للعمل المثابر كما عهدناك دومًا، وبالتنسيق المتواصل مع إخوتك في مجلس الأساقفة الموقر، لتنهي بذلك كلّ "حديث سفيه"، على حسب قول بولس رسول الأمم، وتكمّ الأفواه العابثة من غير دليل ولا قرين ولا رقيب. ف "كبيرُ القوم، مَن يخدمُ وليسَ مَن يُخدم". وكذا عظيمُهم مَن يسترشد ويسأل ويستشير ويجمع وينسّق ويُشرك، تحاشيًا لكلّ فهمٍ ناقص وكلامٍ ناقد وحديثٍ جارح. وأنا مقتنعٌ أنّ نظيرَيك الجليلين في أرض الوطن، ومعهم إخوتكم في الأسقفية والكهنوت، سيكونون خيرَ معين لك ومن الداعمين لحراكك الوطني الصادق، لكونك الأكثر نشاطًا والأقرب إلى إيصال الأفكار والمظالم، في ضوءالخطوات النشطة التي تفوق قدرات غيرك وطاقاتهم في هذا المجال وفي غيرِه، كما أثبتت الوقائع. ونحن نسعى في لقائنا العام المرتقب وضع هذه التمنيات حيّز الواقع وتحديد المواقف من المبادرة. كما سأحاول مع زملائي في اللجنة الخماسية لهيئة الرأي من تكثّيف  لقاءاتنا مع أصحاب الشأن لتقريب وجهات النظر وتحديد المواقف، سعيًا وراء التوصل لطبيعة هذه المرجعية في القريب العاجل.
خطواتُكم الجليلة، وتحرّكاتُكم الملحوظة، وقدراتُكم في الإقناع والتأثير، لها وزنُها وشأنها ومقدارُها في الأوساط السياسية في الداخل والخارج، وكذا في الوسط المجتمعي والدينيّ، مرجعًا أصيلاً لا ينكر وزنُه ومقدرتُه وجدارتُه وشخصُه.
هكذا عرفتُك وأعرفُك، وإليك ألقي بظلال هواجسي ممّا سمعتُ وأسمع. وليكن الردّ على قدر العزم الذي عهدناك به، لوضع النقاط على الحروف قبل صلاتكم الجماعية القادمة هذه الأيام من أجل الوحدة المسيحية التي تشهدُ تباعدًا وانحسارًا. فكلّما خطا الشعبُ خطوة نحو الرغبة بتحقيقها، تراجعت مراجعُنا الكنسية خطوتين إلى الوراء. حتى الاتفاق على توحيد الأعياد، وهذا ليس فيه سرٌّ لاهوتيّ ولا يحمل عقيدة مسيحانية أو كرستولوجية، عانى هو الآخر من تلكؤ ومماطلة وتسويف، حيث سنشهد هذا العام تباعدًا في مواعيد ذكرى آلام المسيح وصلبِه وقيامته وصعوده. وهذا ضدّ رغبته الربانية! فإذا كانت هذه هي الحال، فإنّ البتّ في هذه الرغبة الربانية والإصرار على تحقيقها، عملاً برغبة الربّ وبناءً على أمنيات الجميع، من شأنها كشف النوايا الخفية إن وجدت. ف "الرُّوحُ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله"، بحسب قول مار بولس. أمّا إذا كانت الخلافات ستبقى وتتكرّر، وإذا أصرَّ كلّ طرفٍ على فكرِه ورأيه وتمسّك بكرسيّه وأحقية طائفته وأصالة طقسِه دون غيره، فلا داعي للاجتماع "كعادة الوثنيين وسائر الناس الذين لا رجاءَ لهم".
وأختم حديثي هاتفًا مع رسول الأمم بولس: "فإِذا كانَ فيكم حَسَدٌ وخِصام، أَفَلَيسَ في ذلِكَ دَليلٌ على أَنَّكُمِ بَشَرِيُّون وأَنَّكُم تَسيرونَ سِيرةً بَشَرِيَّة؟"

لويس إقليمس
بغداد، في 14 كانون ثاني 2016


278
يونان هوزايا، رجل الهمّة والضمير
لويس إقليمس
يونان الهوزي، عرفتُه محبوبًا، ذكيًا، دمثًا، غيورًا، حريصًا، ذا منهج واضح، مثابرًا، جادًّا قدر ما تسطيعُ صحتُه، لا يخشى في الحق لومة لائم.
جمعتني مع الراحل، علاقة احترام وصداقة، بدءًا كزملاء في جامعة الموصل بين الأعوام 1976-1980. وكان ذلك بفضل الزميلين الصديقين أديب كوكا ويوارش خوشابا المغتربين منذ سنوات. كنّا نمضي أوقاتًا من الفراغ في الحديث الطويل ذي الشجون، عن أحوال العراق ومآسي شعب العراق في ظلّ الحكم الشموليّ البائد. كنّا نعلم جيدًا أنْ لا مفرَّ من تحمّل المشقات والمآسي في ظلّ نظامٍ جاثم بظلمٍ وجرمٍ على صدور العراقيين، رغمًا عنهم. ولم يتسنّى لنا آنذاك كما لغيرنا، تنفس الصعداء منذ عقود، إلى أن حانت سنة الغزو في 2003 التي توسمنا فيها عهدًا جديدًا من الحرية والديمقراطية والانفراج في كلّ المجالات التي طال حلمُ العراقيين بها. لكن تلك الأحلام سرعان ما تبدّدت وتلاشت وأبعدتها رياح الطائفية والانتقام والمصالح الذاتية والفئوية بقدوم ساسة الإسلام السياسيّ والمتأسلمين والمنتفعين من مزدوجي الجنسية. على أية حال، هذه خلاصة ما كان يجول في خاطرنا ونحن في فسحة أروقة الجامعة الدراسية.
لم يكن يونان هوزايا خياليًا في تصوراته وطموحاته، بل كان يتفق معنا في تصوّر المشهد الواقعيّ، ويزيد، بفضل أفقه الواسع البعيد الذي كان ينمّ عن طاقة متفجّرة من تلك الطموحات والتصوّرات. كان كتلة من الهمّة، يحلمُ في التحليق عاليًا وبتحقيق طموح داخليّ، كان يصعبُ عليّ سبرُه. وهذا ما صارَ إليه بعد تخرّجه من الجامعة والتحاقه بالعمل التنظيميّ كي يطبّق ما في مكنونات خوالجه ويفجّر ينابيع عديدة من الغيرة والهمّة والحرص على أبناء جلدته الذين ظلمهم التاريخ في كلّ العهود والمناطق، حتى في كردستان، حبيبته!
لقد أثبت الراحل جدارتًه في العمل الحزبي والقوميّ، حين التحاقه بصفوف الحركة الديمقراطية الآشورية التي كرّس لها جهودَه المثابرة وأثبت فيها حرصه الكبير على وحدة صفوفها واستقامة نهجها ووقوفها في مقدّمة التنظيمات السياسية الوطنية المسيحية لغاية الساعة. وإن كان قد اختلف مع قيادتها في السنين الأخيرة ونقل مدرستَه الفكرية وأسلوب عمله الثابت إلى تنظيم رصينٍ آخرَ غيرَ حركتهِ، فقد كان له أسبابُه الموضوعية حينذاك. فهو لم يفعلها وحيدًا ناشزًا، بل كان قرارًا شبه جماعيّ لروّادٍ قدامى في تنظيم الحركة القوميّ المسيحيّ الذي مازال مؤثرًا على الساحة السياسية العراقية والقومية المسيحية، بالرغمّ من أن العمل القوميّ قد خفت بريقُه ولم يعد فعّالاً، هذه الأيام. فقد فشل السواد الأعظم من تنظيمات شعبنا المسيحي المتعددة والمتكررة الصورة في استقطاب مؤيدين، لأسباب عديدة، منها سوء عمل القيادات ونقص شعبيتها وعدم وضوح رؤيتها وتكرار خطاباتها وتبعية أغلبها لأحزاب وكتل كردستانية، بحيث أضحت جهة تنفيذية لأهداف هذه المذكورة. وقد كان الراحل هوزايا مدركًا لهذه الحقيقة، انطلاقًا من استقلالية الحركة التي كان انتمى إليها بكل جوارحه، حتى وصل إلى مكتبها السياسي بجدارة وارتقى منصب نائب السكرتير العام فيها.
كان الراحل هوزايا، نهرًا يجري في عروقه حبُ العراق وحبُّ شعبه من خلال ثقافته المتعددة الجوانب. فقد كتب الشعر وسطّر مقالات سياسية واجتماعية وولج عالم الكلمة السريانية العميق عبر تجربة المشاركة في تأليف مناهج وقواميس سريانية ميسرة تساعد الأجيال الجديدة والقادمة للنهل منها في دراستهم للغة السريانية التي عشقها حتى الالتزام بالسهر ليالٍ ليلاء في التأليف والمراجعة لأمهات القواميس متعددة اللغات كي يقف على الكلمة السهلة التي تيسر للقارئ والباحث فهمُ المعنى وإجادة النص.
كانت له بصمات في الإعداد للمؤتمر القومي الأول (المؤتمر القومي الكلدو-الآشوري) الذي عقد في 22 – 24 من شهر تشرين أول 2003، أي بعد سقوط النظام السابق بفترة أشهر قلائل. وكان ذلك بفضل جهود المجلس القومي الكلدو-آشوري الذي كان قد تشكل بمباركة جماعية  من رؤساء كنائس العراق في بغداد بتاريخ 13 أيار 2003. وحينها كنتُ طلبتُ في الجلسة الأخيرة منه إتاحة الفرصة لي للحديث والمداخلة، لكوني أحد المشاركين في أعماله. وكان اعتراضي في حينها انتقادًا لتفرّد الكلدان والآشوريين في السيطرة على قرارات المؤتمر عبر ما أسموه في حينها بتحالف كلدو- آثور، إحياءً لمصطلح كان قد خرج به الشهيد المطران أدي شير، وأراد الحضورُ رسمَ المؤتمر في أدراجه، بتهميش جهات مسيحية أخرى لها ثقلُها ولاسيّما السريان، بسبب البعد التقليدي والظرفي لهؤلاء عن الخط السياسي الذي لم يعرفوه في تاريخهم بالعراق. وقد أيّدني في ذلك الانتقاد، العديدُ من الزملاء الحاضرون. لكنّ قيادة المؤتمر آنذاك، لم  تكترث لاعتراضاتنا. وقد تمّ إضافة تسمية "سرياني" إلى المجلس لاحقًا، لتصبح تسميته ب"المجلس القومي الكلداني السرياني الآشوري"، نتيجة لإصراري وتحت ضغط مطالبات زملائي الأعضاء في هيئته الإدارية أيضًا. وللمعلومات، فقد طُعن ذلك المجلس في الظهر من قبل أعضاء قدامى، حين انقلب هؤلاء عليه وعلى أهدافه وجلسوا في أحضان شبيهه ما يسمى ب"المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري". ومذ ذاك، أي في أعقاب تشكيل المجلس، نمتْ عندي فكرةُ العودة للحلم القديم بدخول الحراك السياسي المدني المستقلّ بعيدًا عن الاصطفافات التنظيمية في الأحزاب التي لم يتسنى لي استساغتُها لغاية الساعة، لتقاطع الأفكار والمنهج. فآثرتُ العمل المستقلّ ضمن هذا المجلس الذي بقيتُ له أمينًا مع عدد من المخلصين لغاية صيف 2007، بسبب برودة البعض وتخلّي آخرين وهجرة غيرهم.
أعود لعلاقتي مع الراحل يونان. كم كانت سعادتي حين حضوره محاضرة لي قدّمتُها في حينها في حزيران من عام 2003 على حدائق جمعية آشوربانيبال، وكان آنذاك على رأس وزارة الصناعة في إقليم كردستان. وأتذكر موضوعها "ثقافة الّلاعنف، عهدٌ جديد في بناء العراق الجديد"، بسبب الخوف آنذاك من تنامي أعمال العنف التي كانت تباشيرُها قد لاحت من خلال أعمال انتقامية هنا وهناك، وكأنني كنتُ أتوقع حصولها بعد حين. وقد حصلت فعلاً وبلغت أوجها بين 2005 و2008، وهي أخذت طابعًا طائفيًا بعدها ولغاية اليوم. كانت مداخلاتُه في تلك المحاضرة مشجعة، تمّ عن شخص مهموم وحريص على البيت القومي المسيحي. لقد كان في تلك الفترة، في قمة عطائه ونشاطه، يتنقل هنا وهناك ويؤدي زيارات لأصدقاء ويلتقي المحبين، وما كان أكثرهم! ومن بعدها لم يتسنى لنا اللقاء إلاّ قليلًا أو هاتفيًا، سواء في بغداد أو عنكاوا بمقتضى نشاطي في المجتمع المدني أو طبيعة عملي.
برحيله، يكون الوسط المسيحي "القومي"، والثقافي الوطني العراقي، قد فقد واحدًا من المثابرين المجدّين والوطنيين المخلصين للمبادئ والمنهج الواضح. لكنّ أعمالَه الأدبية نثرًا وشعرًا، وقلبَه الواسع وروحه المرحة ونهجه في خدمة الآخرين، تبقى خالدة في سمائه، ليدعو له الأصدقاء والمقرَّبون والمحبّون، ولاسيّما من أسرته وعائلته الأصيلة، بحياة أخرى أكثر بقاءً وأجلّ خلودًا من الفانية.
تعازيّ القلبية لأسرته ورفاق دربه وكلّ محبيه.

بغداد، في 3 كانون ثاني 2016

279
المنبر الحر / طوقُ النجاة
« في: 23:16 29/12/2015  »
طوقُ النجاة
لويس إقليمس

بين الأمل والرجاء، والخيبة والخيبة والخذلان، تتعالى صرخات المهجَّرين قسرًا والنازحين عن ديارهم وقراهم وبلداتهم وتتوالى دون توقف. ولكن، هيهات! فما من منقذ لنجدتهم والتعاطف مع مصائبهم والاستجابة لحاجاتهم الآدمية اليومية. أمّا مصيرُهم ومستقبلُهم، فما زال في طيّ المجهول يتنزه بين ضمائر وعقول قادة الدول، وتبعًا لمصالح الساسة والمتسلطين الذين يسوسون الشعوب ويتاجرون بمستقبلها ويتحكمون بمصيرها، بحسب الأهواء والمصالح.
هذا الوضع الغريب وغير الإنساني الذي يسود الواقع المعاشيّ هذه الأيام، قد حملَ معه خيبةً وخذلانًا، أصبحتا ضمن عداد الحياة اليومية للنازحين والمهجَّرين. فمَن قبل على نفسه الذلّ والهوان وشظف العيش وسخط السماء والأرض وفسادَ الحكّام، فقد آمنَ بالأمر الواقع وعاش حياتَه وفق هذا المنظور الناقص إنسانيًا والظالم دوليًا. ومّن تسنّت له الفرصة كي يقرّر تغيير مجرى حياته ويبدأ أخرى جديدة بعيدًا عن ضوضاء السابقة ومتاهاتها ومشاكلها ومعاناتِها، فقد اختار الغربة وطنًا بديلاً، إن قناعةً أو اضطرارًا، لسدّ ثغراتٍ عائلية وأخرى خاصة وغيرها بديلة عن الوطن وترابه. وفي كلتا الحالتين، لا لومَ على هذا أو ذاك في الاختيار والقرار. فالإنسان خُلق كائنًا حرًا عاقلا، ومعه غريزتُه في التقرير والاختيار، بحسب الموجبات والضرورات، إلاّ ما ندر.
إزاء الموقف الدولي الضعيف لمحنة النازحين في العراق، الذين بحسب تقديرات حكومية قد تجاوزوا الثلاثة ملايين شخصٍ، وقف هؤلاء في حيرةٍ من الوضع القاسي والمصير المجهول الذي يحيط بقضيتهم. هناك مَن فقد الأمل في العودة إلى الديار التي سُلبت والبلدات التي نُهبت واستبيحت فيها المقدسات والتراث والحضارة، وبقيت في عهدة جماعات متطرفة ضالّة تقتصّ من كلّ حامل فكرٍ يخالفُها الرأي وتُنزل في الناس قصاصات جائرة لا ترضي الله والبشر المخلوق على صورة الله ومثالِه. لكنّها مصرّة في الدفاع عن الله الخالق، القادر على كلّ شيء، وكأنّه كائن ضعيفٌ لا يقوى الدفاع عن نفسِه وعن حقّه بمحاسبة مَن تسوّلُ له نفسُه الخروج عن قوانين السماء، لأيّ سبب كان.
الواقع الدوليّ الراهن، والجدل الدائر حول مكافحة هذا الغول الكاسح الذي بات يهدّد العالم كلّه في اتساعِه والترويج لأفكارِه الهدّامة والمقوِّضةلدينِه قبل غيرِه، لا يمكن القبول بهِ وهو على هذه الشاكلة من التباطؤ والخلاف حول ضرورة التخلّص منه والقضاء عليه وعلى أذيالِه بوقت قياسيّ، وليس الانتظار برسم مخططاتووضع استراتيجيات وتشكيل نظريات لدراسة المشروع الإجرامي الذي يتولاه باستخدام كلّ وسائل القهر والاستعباد والعنف والإذلال بخليقة السماء. الأيام والوقائع اليومية والوضعية أثبتت، أنّ مثل هذه الترتيبات لم تثبت فاعليتَها، بل بعكس تلك التوقعات والمدارك، فقد ساهمت في توسيع رقعة الجماعات الإسلامية المتشددة بالاستيلاء على مواقع جديدة وحصارهالمناطق لها أهميتُها الاستراتيجية من النواحي الاقتصادية والديمغرافية والتاريخية. ولولا همّة المرجعية الدينية الرشيدة في النجف وكربلاء، لآلت الأحداثُ والوقائع، إلى ما لم يكن في الحسبان. فهذه الأخيرة،ومن خلال إعلان الجهاد الكفائي والتزام العراقيين الأوفياء بتوجيهاتِها، قد وضعت حدّا لتوسع رقعة هذه الجماعات المتوحشة، صَدّا للهجمة الشرسة التي باتت تهدّد كيان الدولة العراقية وأراضيها وتاريخها وحضارتَها وتراثَها ومكوّناتِها بأديانهم وأعراقهم المتنوعة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عامٍ على سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة واكتساحِها لمناطق واسعة شمال وغرب البلاد، واستباحتها لأعراض وممتلكات وقدرات بشرٍ آمنين والاتجار بهوياتهم ومصالحهم وبلداتهم وثروات مناطقهم، بالطريقة الغريبة التي بلغت إلينا، لا يمكن بعدُ المساومة على ضرورة الأخذ بمثل هذا التحدّي على رأس أولويات الساسة وممثلي الشعب. فهؤلاء جميعًا، يطالبُهم الشعب ومنذ بدء التظاهرات الشعبية التي أيدتها ودعمتها المرجعية الدينية الرشيدة في النجف وكربلاء ومعظم مدن العراق فيما بعد، كي يتوحدوا ويكوّنوا سدًّ منيعًا وجدارًا رادعًا مقاومًا موحَّدًا ضدّ الطموحات الواسعة التي يُضمرُها هذا التنظيم الإجرامي في البلاد وعموم المنطقة والعالم على السواء. وإنَّ أيَّ خروجٍ عن دعوة المرجعية ومطالب الشعب التي تتجدّد كلّ يوم جمعة في ساحة التحرير وساحات التظاهر في عموم محافظات العراق، يدخل في نطاق التأييد لهذه الجماعات ويساهم في الترويج للأفكار الهدّامة التي يحملُها هذا التنظيم المتطرّف الذي يأبى التفاعل مع حرية البشر وتطلعات الشعوب، إلاّ في إطاعة حاكمية الله بموجب الفكر المريض الذي تحمله هي وغيرُها في مناطق أخرى.
إنّ العالم اليوم، يقبع على صفيح ساخن، بسبب سيطرة الجماعات الإسلاموية المتطرفة على عقول البسطاء من الشباب المغرَّر بهم، من الذين فقدوا سرّ وجودهم وحياتهم بسبب تخلّي الحكومات والساسة عن الإيفاء بالتزاماتهم إزاء شعوبهم ومواطنيهم وتركهم ضحايا للإرهاب وأدواته بهدف سدّ رمق حياتهم ومتطلبات عوائلهم. ولم يجدوا سوى مثل هذه التنظيمات التي تمكنت من اصطيادهم في غفلة من الزمن وأمام أنظار مَن يتحكمون بمصير الشعوب والبلدان عملاً بمصالهم الفئوية والقومية والشخصية بالضدّ من حقوق شعوبهم وبلدانهم. فكانت ولادة هذه التنظيمات، نتيجة طبيعية لهذا الكمّ من عدم الاهتمام بالمواطن وبمصير الشعوب التي سئمت الظلم والقهر والاستغلال. فوقعت هذه ضحية لجلاّدٍ أكثر قسوةً وأمرَّ عتوًّا وأشدَّ طغيانًا.
مع توالي الصيحات واشتداد التظاهرات وتعاطف الشعب والمرجعيات من كلّ الأديان والأعراق مع مطالب المتظاهرين المشروعة بتوفير الخدمات ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، وإنقاذ العملية السياسية المتعثرة بسبب مبدأ المحاصصة التي يصرّ عليها الساسة وقادة الأحزاب، ووضع استراتيجية وطنية تخدم وتبني وترتّب البيت العراقي المتهالك، كان يتوجب على القائمين على حكم البلاد أن يعوا قدرَ المأساة والمحنة التي يعاني منها الشعب، ومنهم أتباعُهم ومَن صوّتَ لهم وقَبِلَ بهم ممثلين عنهم على رأس السلطة. فمسار الأحداث ضدّ تيار الشعوب وتطلعاتِها وبالضدّ من حقوقِها، يعني ضياع آخر فرصة لحبل النجاة الذي تقدمت به المرجعية الدينية بتأييدها لنداءات الشعب المتكررة والمتصاعدة كلَّ أسبوع وكلَّ يومٍ. وهذا دليلٌ على أحقية المطالب التي يرفعُها المتظاهرون، الذين لم يلمسوا لغاية الساعة تجاوبًا ملموسًا لتطلعاتهم في حدودها الدنيا. فمازال الجدل قائمًا والخلاف متفاقمًا بين الفرقاء السياسيين حول حزم الإصلاحات التي خرجت عن دائرة رئاسة الوزراء، الرجل الوطنيّ الضعيف العازم وغير القادر على فعل شيء إزاء الاعتراضات الواسعة ممّن ضُربت مصالحُهم وقُوّضت قدراتُهم ووُضعت حدودٌ لطموحاتهم اللامحدودة التي تجاوزت الحرص الوطني على ثروات البلاد وقوت الشعب واستحقاقات البؤساء منهم ممّن دخلوا خطّ الفقر ودونه، وقد تجاوزوا 30% من عموم تعداده.
إن مسيرة الدولة وسلوك السلطات الثلاث فيها، لا يمكن لها أن تتجاوز المحنة والأزمة المالية والاقتصادية التي وقعت فيها نتيجة تتالي الأخطاء في الحكومات السابقة، وبسبب تقييد جهود رئيس الحكومة الحالية والضغوط الكثيرة التي تُمارسُ عليه، حزبيًا وكتلويًا وطائفيًا، ما لم يتمّ اتباع استراتيجية وطنية صحيحة تعنى بكلّ مجالات الحياة من دون استثناء. ومن دون مثل هذه الاستراتيجية، فإنّ البلاد ماضية إلى الانتحار والانهيار التام، تمامًا كما وصف الوضعَ الراهن العديدُ من الخبراء والمثقفون وأصحابُ الأفكار الوطنية النيّرة المستقلّة.
فرصتُنا الوطنية في هذه المرحلة بالذات ذهبية، للتخلّص من شوائب الماضي والاستفادة من أخطاء الحكومات السابقة والتحلّي بعزيمة وطنية خالصة صرّح بها رئيس الحكومة حيدر العبادي، الذي يصارع مافيات يصعبُ قهرُها. إلاّ أنّ ما لقيه من تفويضٍ شعبيّ منقطع النظير، ومن تشجيع ودعم من مرجعيات دينية ونخب ثقافية واقتصادية وعلمية ينعش الآمال بإمكانية تحقيق نصرٍ على أصعدة عديدة. فهبّة الحشد الشعبيّ البطل ومعه وحدات وطنية صادقة للجيش، وما تحقق من انتصارات على الأرض، لاسيّما في الأيام القليلة المنصرمة، كلُّها إماراتُ بشرى وإشاراتُ إنذارٍ بالخير والنصر الناجز القريب بإذنه تعالى، وسط دعوات الأحرار من نساء ورجال وفتيانٍ وصبايا.
 ولنا بإذنه تعالى، موعد قادم مع رجاء عتيد وأملٍ جديد بأيامٍأخرى مختلفة عن مرارة الألم الذي اعتصر القلوب والنفوس، لتجاوز مرحلة اللّاإستقرار وحياة الرعب والعنف والقتل والتهجير التي طالتْ وغيّرتْ وأبعدتْ وفرّقت وخذلتْ، وقلْ ما شئتَ.

بغداد، في 20 تشرين أول 2015



280
المرجعيات الدينية، مؤسسات وطنية ومجتمعية متكاملة
لويس إقليمس
عندما تعسر الحياة وتتعقد الأمور بوجه الإنسان، يكون حينئذ لجوؤه إلى الدين والمرجعية الروحية خيرَ ملجأٍ وآخرَه لإنقاذه أو مساعدته في الخروج من المشكلة. فالدين ورجالُه تجدهم بكامل الجهوزية لمثل هذا التدخل لسدّ ثغرة ورأب صدعٍ بين الأرض والسماء وما فيهما وعليهما. فلهذا الملجأ الروحيّ فلسفةٌ خاصة في معالجة الأمور حين تتعقد.
هذا شأن الأديان، كلّ الأديان ومّن يستعين بها. والحكمة، في بقاء مرجعياتها عند حدّ الحيطة والحذر من الاستدراج نحو المحظور بتجاوز العتبة الروحية التي من مسؤوليتهم حصرًا، من دون فقدان هيبتهم وحنكتهم أو نسيان واجباتهم الأصلية في النصح والعبادة الصادقة والتقريب من الله والخير لعباد الأرض جميعاً. فجراح المؤمنين اليوم، من أيّ دين كانوا، عميقة وكثيرة، فيما العلاجات تتعثّر والنصائح تتراجع بحسب المصالح وفرص العرض والطلب في سوق السياسة والمادة الرائجة، إن لم تكن غائبة في أحلك الظروف بسبب هذه وغيرها، في أحيانٍ كثيرة.
لكنّ إصرار المرجعيات الصادقة والحريصة على نصح البشر والمسترشدة بهدى الضمير ورسالة الواجب، لا تتأثر بالأحداث والأقاويل والانتقادات والمغريات، مهما كانت، فيما لو أثبتت صدق حدسها ومصداقية فعلِها وفاعلية نصحها. ألمْ تتعقد الأمور في العراق بسبب التقاطعات السياسية وصراع المصالح الفئوية والطائفية ونتانة رائحة الفساد والمفسدين، ولم يعد لها من حلٍّ إلا عن طريق المرجعية الرشيدة التي قالت كلمتَها الفصل ووقفت إلى جانب مطالب الشعب بالتعجيل بالإصلاحات ومكافحة الفساد وفضح الفاسدين والمفسدين من أية ملّة أو طائفة أو كتلة أو فئة والمطالبة بمحاسبتهم من دون تحفظ؟
ومثالُنا الآخر، حين ضيّق مجلس النواب العراقي وداس على حقوق الأقليات الدينية غير المسلمة بتشريع قانون البطاقة الوطنية الموحد بنسخته الأولى التي جاءت مجحفة بحق أتباعهم في المادة 26 من مشروع القانون بفقرته الثانية مثيرة الجدل؟ فكان للمرجعيات المسيحية والإيزيدية والصابئة المندائيين دورٌ فاعلٌ ومؤثّر بالتنسيق مع ممثلي مكوّناتهم والمتعاطفين معهم، للطعن بالقانون والحصول على وعدٍ بإعادة مراجعته وتعديله، وبما ينسجم مع البنود التي تحكم بالمساواة بين جميع المواطنين أمام الدستور، كما تنص عليه العديد من المواد. وبذلك تنتصر إرادة النصح والتسامي الروحي وصوت الحق على أية إرادة تنوي الشرّ والظلم وتسعى لتدمير الروح والعقل والضمير وتقيّد الحرية الشخصية المقدسة للفرد والجماعة.
هكذا إذن، كلّما اشتدّت المحن وشعر المؤمنون، أفرادًا وجماعاتٍ، بخطر داهم أو استشعروا خوفًا، تكون المرجعية الروحية، ملاذَهم ومآلَهم. فعلى المستوى الوطني، لم تكفّ المرجعيات الدينية المتنفذة من إسماع صوتها بضرورة الاحتكام إلى الضمير والحكمة وتقوى الله في معالجة مشاكل البلد وتقديم الخدمات الإنسانية والآدمية للمواطن الذي يستحق الكثير ممّن منحهم من السياسيين والنواب ثقته لتمثيله وطنيًا وليس طائفيًا ودينيًا وفئويًا.
 كما لا بدّ من ذكرما قامت وتقوم به المرجعيات المسيحية، فرادًا وجمعًا، وعلى رأسها غبطة البطريرك لويس ساكو، منذ استفحال الأزمة الحكومية، من حراكٍ داخليّ وخارجي. وهذا كلُّه نابع من روح المسؤولية الوطنية التي تشعر بها كنيسة العراق موحدةً، سعيًا وراء خلق شعور وطنيّ وإنسانيّ داخل المجتمع العراقي يساهم في تنميته وتطوّره وسعادته وفق تطلعات مدنية لا تغيّب الجانب الروحي. وكذلك يأتي سعيُها من أجل بناء علاقات أخوية متينة مبنية على مبدأ المواطنة ومن أجل تعزيز روح المحبة والاحترام للآخر المختلف في الدين والمذهب والطائفة واللون والعرق، وتشجيع العيش المشترك في بيئة حضارية متآخية، كما اعتادت عليه مختلف الفئات والأديان والأعراق في موطن الرافدين الخالدين متعددة الأديان والمذاهب والأعراق. فكنيسة العراق، بوطنيتها ومصداقيتها منذ نشأتها في أواسط القرن الأول الميلادي، كانت وما تزال منبعًا للتفاهم ورفد الطاقات الوطنية الصادقة في مختلف العلوم ومجالات الحياة. وهي بالتالي، مهما قيل فيها من أقاويل ونُشر من انتقادات وحيكت من دسائس، تبقى تلك الأمٌ الرؤوم التي تسهرُ على أرواح وكيان أبنائِها ومواطني بلدها من دون استثناء، وتدافع عن مصالحهم جميعًا وتنادي بحقوقهم الوطنية، لكونهم جميعًا "آنيةمقدسة" تتجسد فيهم إرادة الخالق وصورتُه  الحسنة. وكلما سُدّت أبوابٌ بوجه أبنائها وأحاقت بهم النوائب، لجأوا إليها لاستحضار دورها والنيل من بركاتِها والاسترشاد بمفاعيلها. هم يفعلون ذلك، لإدراكهم بأنها ذلك الوطن الكبير الذي يحتضن أبناءَه ويؤمّن لهم العيش الرغيد والحياة الآمنة والخدمات اليومية، قدرَ ما تستطيع أن توفرَه من هذه كلّها وبحسب ما تستطيع بسط أياديها.
خلاصة الحديث، تبقى المرجعيات الدينية الصادقة مع نفسها ومع الله ومع عبادها، بمثابة مؤسسات عامة خاصّة، تجمع المؤمنين، وحتى من غير أتباعها أحيانًا، في عائلة كبيرة تحت قبتها الواسعة وتسعى لإيصالهم إلى ميناء السلام والمحبة في انتظار الملكوت السماوي والجنان الخالدة الموعودة للأخيار والسائرين في دروب الرب. وهي لا تفرّط بهم حين يزيغون أو يعثرون، بل ترشدهم إلى طريق الحق والحياة. فمن واجبها النصح وتقريب التقوى بالله. فالدّين نصحٌ وأخلاقٌ وحياة! ليست كالدجاجة التي تحتضن بيضَها وفراخها وترافقهم في مرعاهم حتى يتمكنوا من الاعتماد على النفسفحسب، بل وتؤازرهموترافقهم طيلة حياتهم وتقف إلى جانبهم إلى حين يكبرون وينمون بالقوة والنعمة والقامة ومحبة الغير، أمام الله والناس والمجتمع.
مشكلةُ بعض المراجع الدينية "الروحية"، تكمن في بعض القائمين عليها والمقربين منها، من الذين يريدون اتخاذها شركة للتوظيف وديوانًا للمجاملات وبابًا للاسترزاق والاستغلال العائلي والشخصيّ والطائفيّ. همومُها من هموم أبنائها، وكذا سعادتُها وتعاستُها، تطورُها وتخلّفُها. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هي بحاجة الي مَن يصدقُ معها ولا يرضى إياها سلّمًا للتسلق على أكتاف رجالِها، والانتفاع من أملاكها واستغلال صوتها وصفتها على المنابر والمبالغة في التملّق لأئمّتها ورؤسائِها واللهاث بالتعبير بالولاء. فالشعائر والممارسات الكثيرة والمتعددة مثلاً، بالرغم من جمالية لوحتها وروعة أدائها، ليس بالضرورة تفيد التقريب من الخالق ومن السماء، إذا خلت من أية نفحة روحية داخلية صادقة، وبقيت في حدود المظاهر الخدّاعة والتباهي والمغالاة! وهذا ما ينبغي أن تحثّ عليه المرجعيات في نصحها.
 من هنا، ليس مقبولاً استدراج رجالها من مهمتهم الروحية، إلى مهاترات الشارع السياسي والتجاري والمادّي، والدخول في مشاريع من أي نوعٍ كان، وإهمال الشأن الروحي والعبادة الصالحة المؤمنة. هناك من رجالِها، في مقدّم أولوياتِهم وواجباتهم، مَن كرّسَ حياتَه لخدمة الجميع من دون تمييز، رافعًا شعار الوطن وتنمية المجتمع وتهذيبَه وتطويعَه، روحيًا واجتماعيًا وفكريًا، عادّاً الشأن الروحيّ لسائر الأديان المتعايشة، علاقةً شخصيةً وتساميًا فرديًا بين الله الخالق وخليقتِه.  فالإنسان، رجلاً كان أو امرأة، الذي خلقه الله حرًّا، يبقى قيمة مطلقة في مشروع الخالق الكبير وفي نظر المجتمع المتحضّر المؤمن بالله بكلّ جوارحه، وليس المتديّن المشوّش الذي يرتدي عباءة الدّين حبًا بالجاه والمال والسلطة الفارغة.والايمانُ هبة وكرامةٌ من عند الله، بها يستطيع منازلة الشرّ ومقاتلة الأشرار والفاسدين والتصدّي للمتاجرين والمتزلّفين والمتطرفين باسم الدّين. وبعكسِه، هناك غيرُه، مَن سمح لنفسه بدخول ميدان العالم المادّي والسياسيّ الذي أراده سلّمًا يرتقي به إلى غايات شخصية ومنفعية ووجاهية زائلة.
وهذا التوجه الأخير غير مقبولٍ مثلاً، بل مرفوضٌ في سلوك رجال المرجعيات الروحية عند المسيحيين. فالكاهن الذي خرج من مغريات العالم المادية طواعية يوم قبوله بشروط رسامته كاهنًا على "رتبة ملكيصاداق" الكاهن الأكبر، يتوجبُ عليه احترامُها طالما بقي ماسحًا ومكرِّسًا نفسَه خادمًا للمذبح والمؤمنين. وإلاّ فليترك السلك الكهنوتي ويدخل العالم من أوسع أبوابه شرعًا وقانونًا ومن دون لغط. وهذا ما ينبغي العمل به في أوساط جميع الأديان التي وُجدت أساسًا للنصح وتشجيع العباد على حياة قويمة قائمة على التسامح ومحبة القريب وخدمة الديار والحضرات المقدسة وصيانة التعليم والتهذيب المعتدل واحترام الآخر المختلف عنه في الدّين والمساوي له في الإنسانية.
كنيسةالعراق، والدور الإيجابي وطنيًا
من هنا، تأخذ المرجعيات الدينية على تعدّد وتنوّع مشاربها، دورها الحقيقي بالصدّ لكلّ هجمة تستهدف هوية جماعاتِها ووجودهم بدون خوف أو تردّد. فوجودُ هذه الرئاسات وكيانُها من وجود أتباعها وبنيها من دون تمييز. صوتُها على المنابر، ينبغي أن يبقى صادقًا وعاليًا وشجاعًا في داخل مؤسساتها ووسط رعاياها وفي كلّ أنشطتها ومشاريعها وعلاقاتِها الضرورية مع جميع السلطات، من دون انكفاءٍ وانعزالٍ وجُبن أو مجاملة على حساب الحق والحقيقة والوقائع. فالمجاملات وطبيعة الخنوع والمراعاة المرائية لهذه الجهة أو تلك والتردّد، بحجة الخجل أوالخوف، لا مكانَ لها في سجلاّت هذه المراجع وفي قراراتها.
وبطبيعة الحال، حين يفرض الواقع نفسَه، لن يكون من العيب تشاركُها وتدخلُها في شؤون العالم، سياسيًا ووطنيًا ومجتمعيًا، إذا كان ذلك يدعم سلامة هذا المجتمع ورفاهَه ومصالحتَه. فلرجلِ الدين المسيحي مثلاً، مثل غيرِه من رجال الأديان الأخرى، وربما أكثر من هؤلاء بقليل، هيبتُه الخاصة وكلمتُه وتأثيرُه وسط مجتمعاتنا الشرقية، في كلّ زمان وكلّ مكان، بسبب من مصداقيته التقليدية وطنيًا ودينيًا وإيمانيًا وثقافيًا واجتماعيًا وتحضّرًاعلى السواء. وهذا ليس تجافيًا للحقيقة وانحيازًا لجانب هذا الفريق بالذات. فأمام الصدق والحق والضمير، لا مكان للرياء والمراءاة والولاءات الجانبية التي تُبعد ولا تقرّب، تفسد ولا تنصح، تقوّض ولا ترفق.
من هنا، يكون للكنيسة إذن، واجب ديني روحيّ وآخر وطنيّ إيجابي إضافيّ وسط المجتمع. ومن أساس هذا الأخير، تأتي انطلاقتُها اليوم، نحو المساهمة بدعم المصالحة الوطنية وتشجيع السلم الأهلي والترويج لسياسة الحوار وتقبّل الآخر المختلف على أساس وطني وإنسانيّ بحت وعلى أساس الشراكة المتساوية في الوطن وبالعيش المشترك والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجميع. عقدتها في شعور بعض رجالِها بالأدنى من الغير، وتفضيل الغريب وتقريبه على ابن البيت، خوفًا أو جبنًا أو احترازًا من الظرف غير السويّ. لذا، تحول هذه العقدة وتقف عثرة عندئذٍ، دون تطوّر مساعيها لإصلاح المجتمع والمطالبة الفاعلة واللازمة لتقريب تقبّلها من الآخر الذي تتهيّبُ منه دائمًا. من هنا، يكون سعيُها بفرض وجودها وتأكيد هويتها المسيحية "الوطنية" كسلاح وطنيّ فعّال، ضروريًا وإلزاميًا، وسط الصخب الفوضوي القائم، وليس بالتهيّب والجُبن والتردّد.
كنيسة العراق، بحاجة اليوم إلى تحرّك جديد قديم، لإثبات الوجود وتشكيل هيئة واسعة تنظّم العمل المسيحي الوطني على الساحة السياسية والمجتمعية، لتعمل هذه الأخيرة إلى جانب الرئاسات الكنسية المتعددة والأحزاب القائمة، التي مع كلّ الأسف لم ترقى هذه كثيرًا إلى مستوى المسؤولية والحدث الساخن، وذلك للحفاظ على ما تبقى من الوجود وتعزيز الهوية الوطنية المسيحية المتجذرة في أرض العراق والشرق منذ القرون الأولى لنشأتها. ومثل هذه التحرّكات في هذا الوقت حصرًا، تأخذ أهميتَها للحفاظ على وجودها من عبث جهات داخلية تسعى لتقويض بقائها حيةً، وأخرى تسعى لمصالح حزبية وفئوية مرصودة ومرفوضة، وغيرها خارجية تمنّي النفس بتحجيمها وإلغائها وإفناء هذا الوجود المتجذّر. وهي ذاتُ الجهات السلبية التي تريد تقويض حركة النخبة من المثقفين والعقلاء والمفكرين الملتفين حول الرئاسات القائمة. لكنّ النخب المثقفة، معزّزةً بخبراتها وإيمانها وإرادتها الوطنية قادرة على دحض المعوّقات الاتية، سواء من داخل البيت المسيحي أو من خارجه، وبالتعاون مع القوى الخيّرة من أبناء الديانات الأخرى المتعايشة التي تقدّر معنى التنوع وتدرك أهميته في بناء الأوطان وسعادة الشعوب.
بعد أحداث السنوات الأخيرة في العراق الجريح وعموم الشرق الملتزم تقليديًا والعالم المتخبّط حاليًا، والتي لم ترحم الجميع، مسيحيين ومسلمين وإيزيديين وصابئة ويهود وبهائيين وما إليهم من أديان غير معلنة أو معروفة، أصبح ولا بدّ من إيجاد قاعدة تفاهم وحوار وتعايش مشترك أكثر حبكةً والتزامًا، أخلاقيًا ومجتمعيًا وإنسانيًا. فالإرهاب المصاحب للفكر المتطرّف المستند إلى التزمّت والغلوّ والتشدّد في فهم جوهر الدّين وأهدافِه وغاياتِه، وفي تفسيره غير القويم والبعيد عن واقع المعاصرة والمدنية والحضارة، قد طغا وانتشر سرطانُه. فقد أضحى هذا المرض الخبيث، قاب قوسين أو أدنى من تقويض أساس البشرية والخليقة جمعاء، التي أمر الله الخالق عبادَه بالعيش الكريم في جنان الأرض الخصبة التي تحوّلت إلى ساحات حروب ومعارك وكراهية وحقد وقتل ووأد تحت مسمّى الدفاع عن شرع الله وعن جبروتِه، وهو بريء من هذه الادّعاءات جميعًا وليسَ بحاجة لأمثال هؤلاء التكفيريين للدفاع عنه وعن عظمتِه.
موقف موحد وهدف مشترك
اليوم، وفي ضوء المستجدّات الدولية الخطيرة والهجمات الشرسة لأصحاب الفكر المتطرّف الذين يعيثون في الأرض فسادًا، ويدمّرون خليقة الله ويريدون تحويل العالم إلى لونٍ أسود واحد وشكلٍ قاتم يهوى الظلام ويكره الحياة، لا بدّ من تحرّك مجتمعيّ شامل، من رأس الهرم دينيًا وحكوميًا ومدنيًا، وبصوت وطنيّ واحد. وهذا سيكون رأس الحربة في القضاء على مرضى هذا السرطان الخبيث الذي فشلَ الأسياد، بل عزفوا عن تشخيص خبثِه منذ بروزِه بفعلٍ من دوائرهم الاستخباراتية وبدعمٍ من المستفيدين من وراء تكوين حلقاتِه وتشعباتِه وتفرّعاته الأخطبوطية الكثيرة التي انتشرت في بلدان الخليقة كلّها من دون استثناء. أليسَ هذا واقعًا مؤلمًا ووضعًا راهنًا هزّ العالم بعد احداث باريس الأخيرة؟
أليوم، لم تعد بيانات الاستنكار وكلمات الشجب ونداءات الأسف تكفي، بقدر ما تحتاج البشرية وأصحاب الفكر المستنير والقيادات الروحية قبل غيرها من مرجعيات دينية متنوعة ومن منظمات وجمعيات ونخب مثقفة، إلى أفعال قوية وردود حاسمة وقرارات صارمة أحيانًا من أجل تجاوز المشكلة، بل الأزمة، بل الهجمة الشرسة وغير الطبيعية على هوية الأديان وطبيعتها وتراثها وكيانها. بل إنَّ الكلمات والخطابات الحماسية التي نسمعها أحيانًا إذا كانت مقرونة بالأفعال الحية فقط، هي المرجوّة عندما تحيطُنا المشاكل وتعصفُ بنا الأمواج.
وستبقى المرجعيات الدينية والروحية على اختلافها وتنوّع مشاربها، سفينة نجاة للمؤمن الصادق والزائغ عن طريق الحق والصواب على السواء. الأول، للتفاخر به وبتربيته المنزلية والمجتمعية، والثاني بنصحه وحثه على السيرة الحسنة وتصليح اعوجاجه.
بغداد، في 25 تشرين ثاني 2015

281
أقليات العراق: عزمٌ على قدر المشكلة
(الجزء 2-2)
لويس إقليمس

روسيا والعزم المسؤول

لقد جاءت الاستجابة الروسية المتأخرة بزجّ قدراتها العسكرية والتسليحية لصدّ التنظيمات المتطرفة وإنهاء شرّها التدميريّ، في محلّها. وهذه في جزءٍ منها، جاءت دعمًا لحقوق الأقليات الدينية المهمّشة والمظلومة والمقهورة، بعد فقدان الثقة بالراعي الأمريكي الزائف وتابعه الغرب الساذج. فقد شعرت الدول المنضوية تحت قبة التحالف الدولي بقيادة أميركا، بحراجة الموقف بُعيد كشف ادّعاءاتهم وما يضمرونه في قرارات ملفاتهم المشبوهة التي أرادوا بها تغيير تشكيلة خارطة منطقة الشرق الأوسط بحسب أهوائهم وأطماعهم ومصالحهم القومية التي تتلاقى في أولوياتها مع أهداف ربيبتهم الصهيونية العالمية وتتماشى مع التيارات الإلحادية واللاّأدرية السائدة في أوساطهم منذ حين.
 لقد أشعرت روسيا بعودتها القوية إلى الواجهة الدولية كقوّة عظمى، أنّ العالم لا يمكن أن تنفرد بحكمه قوّة واحدة وقطب واحد. ولابدّ من توازن للقوى يعيدُ لوجه الأرض نصاعتَه ويخلق تساميًا فوق المصالح الفئوية والقومية الضيقة، أملاً بعالم أكثر استقرارًا وأمنًا ورفاهةً وسلمًا وتعايشًا. أمّا ما يحصل اليوم من استغلالٍ للبشر ونهب ثروات شعوبٍ بالطريقة التي تُدار بها دفّة العالم، وبالذات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فهو يتناقض مع جميع الأعراف والمواثيق والأحكام التي تبنتها القوى الكبرى ولا تطبقها هي أولاً، على أرض الواقع. فما يهمّ زعماء العالم وحكوماتهم، كيفية إيجاد حلول لمشاكل بلدانهم الاقتصادية ولمصالحهم الفئوية والشخصية سعيًا وراء تكوين امبراطوريات اقتصادية هائلة، حتى لو حصل ذلك على حساب البشر وفوق جماجم الأبرياء. وإلاّ ما تفسيرُ الترسانات الحربية والتفنّن باختراع أسلحة فتاكة بين يومٍ وآخر وزجّها في حقول تجارب المنطقة التي تشبعت من آثارها التدميرية الهائلة ومن رائحة البارود الممزوج بالنوويات والكيمياويات وشتى أنواع الجراثيم التي تطلع علينا حين تشخيص الأمراض.

الكنيسة العراقية والطائفة الإيزيدية في قلب الحدث
أمام هذه المحن وتكالب الأعداء والأحقاد، جاءت  تحرّكات المرجعيات الروحية للديانات غير المسلمة من الأقليات. فجالت شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا، داخلاً وخارجًا، إيمانًا منها بخطورة الموقف الذي لا يتحملُ المزيد من الصبر والجَلَد والانتظارغيرالمجدي، من أجل إنقاذ ما تبقى من بقاياهم المتناقصة يومًا بعد آخر.لقد كانت وقفة الرئاسة الكنسية الاحتجاجية الأخيرة بالعراق، يوم الثلاثاء 10 تشرين ثاني الجاري 2015، في كنيسة مار كوركيس ببغداد، خيرَ ردّ على صفحة ظالمة ومظلمة أخرى جاءت من داخل قبة البرلمان، خذخ المرة، وهي الجهة التشريعية التي كان ينبغي لها أن تتبع معايير وطنية موحدة متوازنة في وضع القوانين التي تخدم عموم الشعب، وليس الانحياز لفئة أو فئات طائفية تلبس رداء الدّين وتريد فرض شرعِه على الغير المختلف، حتى لو تذرّعت بالأكثرية.
 لقد أسمعتْ كنيسةُ العراق، وبما تبقى من أتباعها الأصلاء، كلمتَها وهدّدت على الملأ بلجوئها إلى كلّ السبل والوسائل وبطرقها الأبواب الرسمية للدولة والحكومة والساسة والأحزاب من أجل احترام حرية الفرد والمجتمع وجعل الدّين مسألة شخصية بين الإنسان وخالقه، من دون إكراه. وهذا عينُه، ما ورد مرارًا في قرآن المسلمين "لا إكراه في الدّين". ومن المفرح مشاركة نواب من كتل وأديان أخرى وممثلين من منظمات مجتمع مدني وحقوق الإنسان في تلك التظاهرة الصارخة التي قالت" لا، كفى للظلم والتهميش، وكفى انتهاكًا لحرية الفرد والمجتمع في مجتمع متعدد الأديان والمذاهب والأعراق". كما هدّدت الرئاسة الكنسية في العراق، بمقاضاة البرلمان في المحكمة الاتحادية والمحكمة الجنائية الدولية، باعتبار ما حصل ويحصل، انتهاكٌ صارخٌ لحقوق مكوّنات أصيلة. وهو يدخل أيضًا ضمن لائحة التمييز العنصري، ولا يقلّ خطورة عن جرائم الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق أتباع هذه المكوّنات التي اقتلعت من مناطق سكناها وتواجدها الأصلية، وهي تُحارَبُ اليوم بقوانين جائرة تزيد من معاناتها وتحدّ من مواطنيتها.
وبعد كل هذه التحركات  المكثفة، حصدت الأقليات مبتغاها عندما استجابت الرئاسات الثلاث ومجلس القضاء الأعلى بالعودة عن قرارها ووضع الأمور في نصابها بتحقيق الحق وإعادة التصويت على المادة 26 من قانون البطاقة الوطنية الموحدة. فارتاحت النفوس وشعر أتباعُهم بكونهم جزءًا من نسيج الوطن وبمواطنيتهم، أملاً باستمرار مشوار  التأكيد على مبدأ الولاء للوطن ورفع الغبن والظلم الذس طال هذه المكونات قليلة العدد في مسائل وحقوق أخرى بسبب نظام المحاصصة الطائفية الذي قضى على مبدأ المساواة في جقوق المواطنة، ومازال العراقيون يعانون من نتائجها السلبية.
وفي ذات السياق، كانت الطائفة الإيزيدية هي الأخرى قد سبقت بأيام، أن استنجدت بروسيا، كنيسةً وحكومةً، من أجل مدّ يد العون لها ولأتباعها والتخفيف من وطأة المأساة التي وقعوا فيها بفعل تقاعس الجانب الأمريكي والغرب الماكر واصطفافهم إلى جانب الشرّ تنفيذًا لمخططات جهنمية تريد النيل من أقليات دينية وعرقية أصيلة، وسعيًا وراء تغييرات ديمغرافية وجغرافية تخدم مصالحهم ولا تعبأ بالمآسي التي يتعرّض لها أبناء الأقليات الدينية الآيلة إلى الانقراض بفضل السياسات الجائرة للأسياد. وجاء الردّ الروسيّ بالإيجاب، تأكيدًا لزجّ حكومتهم لطاقاتها العسكرية والاستخبارية واللوجستية في حربٍ لا هوادة فيها مع الإرهاب وصانعيه وأدواته، وفضح كلّ مَن يقف وراء تمويله وإطالة وجودِه. فحصد العالم مؤخرًا، الشيء الكثير من هذا التدخل الصادق من الجانب الروسي، بفضل معرفة الأخير بطبيعة الأحداث والحيثيات والجهات المتورطة بالصراع والمصالح الدولية.
لقد شكّل التدخل الروسيّ القويّ صفعةً موجعة للقطب الأمريكي وتحالفه فغيّر المشهد السياسي الدولي وقلب الطاولة، عندما كشفَ زيفَ ادّعاء الأخير وتواطأه، بل ودعمَه للعصابات الإرهابية، بالتسليح والحماية والتغطية وتسريب المعلومات الاستخبارية. وتأكّد هذا الموقف الشجاع والصريح، في لقاء قمّة العشرين التي استضافها منتجع أنطاليا في تركيا مؤخرًا. ونتيجة لحراجة الموقف الذي وضع التحالف الدولي في مأزق لا يُحسدُ عليه، وبجهود الطيبين وأصحاب النوايا الحسنة من رؤساء دول وحكومات ومنظمات ومنهم بابا الفاتيكيان، شرع التحاف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بتغيير استراتيجيته الحربية وزجّ آلته الجوية والاستطلاعية في تقديم المعلومات وقصف الأهداف، خوفًا من تشعبه واتساع رقعته وانتشار سرطانه وبلوغه أراضيَهم ومواطنيهم. وكان من نتائج هذ التغيير مؤخرًا، تحرير منطقة سنجار المنكوبة. فالقوّة التي قهرت دولة العراق، بخامس جيشٍ، يوم تحرير الكويت في أيامٍ قلائل عامَ 1991، ليس من المعقول أن تعصى عليها عصابات إرهابية متفككة جلُّ همّها ترويع الناس واستغلال الأعراض بحجة الدين والكسب غير المشروع والترويج لدين الإرهاب الذي ينكرُه معشر المسلمين من عباد الله الحقيقيين.
ونحن ننتظر اليوم الذي فيه تتحرّر مناطق سهل نينوى وغيرُها بالكامل، ليعود الأصلاء والأبرياء إلى ديارهم وممتلكاتهم، وتعويضهم عمّا تعرّضوا له من آلام وصعوبات ومشاكل، فينعموا بالسلام والأمان والطمأنينة، مواطنين متساوين أمام الدستور والقوانين، ومن دون تعالي دينٍ أو طائفة على سواها. وسيكون يومًا حافلاً ومفرحًا، بل عيدًا وطنيًا، يوم تتحقق شعارات المتظاهرين الصادقة بخلاص البلاد من الفساد والمحاصصة الطائفية، وبمحاكمة الفاسدين والمفسدين كي يأخذوا جزاءَهم العادل، فيعود العراق والمنطقة لبرّ الأمان وتنتعش الحياة والحضارة من جديد في أجواء من الحرية والعدالة والتآخي.

بغداد، في 16 تشرين ثاني 2015



282
أقليات العراق: عزمٌ على قدر المشكلة
الجزء 1- 2
لويس إقليمس

قدرُ العراقيين، أن يعيشوا بؤساء، ذلاً وفقرًا، فاقة ووجعًا، حسرةً وتشريدًا، تهجيرًا واغترابًا، وما يقترن بكل هذه المفردات من حظوظ ميؤوسة ومن خيبة وخذلان في ظلّ حكومات متعاقبة شمولية أو فاسدة أو فاقدة للأهلية ولإدارة المجتمع والدولة على السواء. وما زلنا نعتقد مثل غيرنا أنه تحديدًا، لا سبب لهذا القدَر النحس، سوى الفشل البشري في توجيه دفة الحكم في البلد واستبعاد الاستفادة من ثرواته وطاقاته وقدراته البشرية والطبيعية جميعًا وتوجيهها نحو ما يبني ويطوّر ويخدم، دولةً وفردًا ومجتمعًا.
في المحن العراقية، وما أكثرها، لم ينجُ مكوّن ولا طائفة ولا دين ولا مذهب من المآسي المتتالية والمتصاعدة، سابقًا وحاضرًا، وربما لاحقًا، لا سمح الله! إلاّ أن ثقل تلك المآسي، بانت أكثر قسوة وأشدّ عتوًّا وأبعدَ تأثيرًا على أتباع المكوّنات الدينية والعرقية، أي الأقليات "الأصيلة"، التي تناقصت مع مرّ الزمن بفعل الاضطهادات المعلنة والخفية، على السواء. فلمْ يلحْ في الأفق طيلة السنوات المنصرمة من توالي المآسي عليها، ما يشيرُ إلى حماية هذه المكوّنات الوطنية الأصيلة ودعمها والشدّ من عزمها والحفاظ على ما تبقى من وجودها بالنتيجة. وكلّ ما حصلت عليه، سواء في السابق أو في الزمن العاتي الراهن، مجرّد كلمات تهدئة للتخدير وجبر الخواطر وأسف ملفوف بالشماتة أحيانًا كثيرة، انطلاقًا من الالتزام بحديث " أنصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا".
 هذا الكلام الأخير، بسبب من اصطفافه الديني والطائفيّ تقليديًا وشرعًا مع أتباع ديانة الغالبية والأكثرية،هو وحده كافٍ لضرب كشحٍ عن مآسي ومشاكل وصعوبات العيش الصعب لدى الأقليات المختلفة في دينها وعرقها وانتمائها عنهذه الأكثرية الحاكمة في البلاد. فكلّما تلوح في الأفق بشارات خير للتأسيس لدولة مدنية متطورة بحداثة العصر، أوغلَ السياسيون"المتأسلمون" ومعهم السائرون مع التيار الطائفيّ المتطرف، بفرض مفاهيم دين الأغلبية والشرع في القوانين والدستور. ويعلم الجميع أنّ هذا ألأخير، بُني أساسًا على مبادئ متناقضة تحدُّ من قيم حرية الفرد والمجتمع، بسبب تصادم هذه الأخيرة وتقاطعها أيضًا مع تقييد الشرع الإسلامي الذي ينكر أية حرية تخرج عن "حاكمية الله". ومن المؤلم والمخجل في آنٍ معًا، أنّ هذه الأخيرة تحدّدها تفاسير قديمة خائبة ومتخلفة، بل ومتناقضة في أحيانٍ كثيرة بحسب تنوع مدارسها ومقاصدها. وقد عفا عليها الزمن، ولم تعد معقولة ولا مقبولة مع تطور الزمن وتوالي الاكتشافات وانتهاء عصور الجهل والظلامية وحياة البداوة والكهوف والجمال.
لقد وُجدَ الشرعُ أساسًا، لخدمة الإنسان والمجتمع، وليس العكس! تمامًا، كما قالها المسيح يومًا لمنتقديه: "لم يوجد الإنسان من أجل السبت، بل السبتُ من أجل الإنسان". (مرقس، إصحاح27:2) وكذلك القرآن، تطرّق إلى قيم الإنسان وكرامته: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً"(سورة لقمان: الآية 20). ومن ثمّ، فكلُّ القوانين والأحكام السارية، ينبغي أن تتوجه نحو خدمة مخلوقات الله الذي ينادي به الجميع ربًا وإلهًا، لا إله سواه، وليس لكبح حركاته وقمع توجهاته وتحديد حرياته، طالما أنها لا تتقاطع مع السلام ومحبة الغير وقيم العدالة والمساواة والأخوّة والعيش المشترك والرغبة ببناء علاقات حسن جوار وتعزيز مشتركات إنسانية تخدم البشر والبشرية جمعاء دون كراهية أو حقد أو إلغاء لوجود الآخر! فالسماءُ والأرض وما بينهما، كلّها من نعم الخالق الجبّار. لذا، فما أُنزلَ  على الأرض من شرائع، وما يُسنُّ فيها من قوانين وما يصدر من أحكام، بموجب هذه الكلمات النيّرة، ينبغي أن تصبّ جميعُها في خدمة الإنسان والمجتمع والدولة، وليسَ العكس، أي بتكريس هذه الأخيرة ووضعها تحت رحمة القوانين والشرائع. فما فائدة القانون والشرع، إذا أفرغت البشرية من سعادتها وسُلبت المجتمعات من كرامتها والإنسان من حريته ومن جمالِه الذي أراده الخالق مخلوقًا، على شكله وصورته ومثاله جميلاً وحسنًا!
للأسف الشديد، ما تزال بعض منابر الجمعة وغيرها في مناسبة ومن دونها، توغلُ في إبراز حقد دفين على أتباع الديانات غير المسلمة، بالتحريض على مقاتلة هؤلاء المختلفين دينًا ومذهبًا وعقيدة. فقد حصل ذلك مرة أخرى، يوم الجمعة 13 تشرين ثاني في إحدى مناطق شرق بغداد، حين أعاد خطيب الجمعة عبارة تنمّ عن الكراهية ضدّ اليهود والنصارى، بترديد عبارة "قاتلَهم الله". وهو كان يقصد "المسيحيين منهم حاليًا بطبيعة الحال"، بالرغم من أنّ المقصود بالنصارى في القرآن في زمانه، ليس المسيحيين الحاليين، بل فئة ضالّة كانت قد خرجت آنذاكَ عن المعتقد المسيحي الصحيح في أيام الدعوة الإسلامية. أسرد هذه الحادثة الجديدة مثالاً لخطاب الكراهية والتطرف الذي يتكرّر في منابر أخرى هنا وهناك، داخل وخارج أرض الوطن، والذي ينبغي التنبه له وقطع دابرِه، بسبب روح الكراهية الذي يمكن أن يخلقه وسط المجتمع، في حين، يتجه المجتمع الدولي قاطبة للترويج لثقافة التسامح ونشر منهج الاعتدال والوسطية والحوار وقبول الآخر المختلف وعدم الانسياق وراء تفاسير ضيقة وقاصرة أصبحت من الماضي.

معاناة متواصلة وعزمٌ لحماية ما تبقى من الوجود
لقد عانت الأقليات الدينية بخاصة، بل العراقٌ كلُه والمنطقة والعالم، من نتائج الخطاب الدينيّ والطائفيّ المتطرف الضيق. وها هي البشرية تحصد نتائجه الخائبة التي قوّضت السلم الأهليّ وفصلت الروح عن الحياة التي فقدت هي الأخرى قيمتَها وسرَّ وجودها على الأرض. فبعد اشتداد المحنة على أبناء الأقليات الدينية في السنوات الأخيرة، وما آلتْ إليه أوضاعُهم بتشريدهم من مناطقهم الأصلية وتهجيرهم منها قسرًا، ها هم يتعرضون اليوم إلى ضغوط داخلية أخرى من قبل ممثلي بني جلدتهم ومواطنيهم الذين يتباكون عليهم علنًا ويضمرون لهم غير هذا وذاك.فقد جاءت موضوعة إقحام الدّين وفرض شرع الأكثرية في المادة26/ الفقرة 2، من قانون البطاقة الوطنية الموحدة، تأكيدًا على تناقض الأفعال مع الأقوال. فهذه الفقرة المقحمة في هذا القانون الوطني، تتناقض كلّيًا مع مبدأ المواطنة والمساواة أمام الدستور والقانون. وهي تتناقض بالتالي مع كلّ المبادئ الإنسانية والحريات الشخصية والمجتمعية التي توصي بها الأحكام والأعراف والمواثيق الدولية التي أقرها المجتمع الدولي وصادقت عليها الدولة العراقية.
إزاء هذه الإشكالية، كان على المراجع الدينية غير المسلمة أن تنبري وتتحرك على جميع الصعد، كواجب منها في حماية أتباعها والحفاظ على ما تبقى من وجودهم المتناقص يومًا بعد آخر، ووضع حدّ للتهالك غير الوطنيّ في موضوعة المواطنة وحقوقها، والعمد بالإيغال في تعميق النظرة الدونية من جانب جهة تشريعية ضدّ أديان الأقليات وأتباعها. وهذا ما فعلته هذه المراجع، حين طرقت الأبواب الوطنية والحكومية والدينية والشخصية بهدف جلب الانتباه للتداعي الذي ستسببه المادة ال 26 (الفقرة ثانيًا)، في حالة المصادقة عليها نهائيًا من قبل الرئاسة، بعد إقرارها من قبل البرلمان "غير الموفق، بسبب طائفيته"، وغير المدرك تمامًا لمدى الضرر الذي ستلحقه هذه المادة "التمييزية العنصرية" ضدّ أتباع الأقليات المختلفة عن دين الأغلبية وضدّ أديانها بالتالي. وحسنًا، فعل رئيس مجلس النواب، ومثلُه الرئاسات الأخرى ومجلس القضاء الأعلى، حين وعدوا بفعل ما ينبغي فعلُه كواجب وطنيّ يفرض عليهم تحقيق المساواة والعدالة في أساس المواطنة. حصل هذا، في الوقت الذي لم تلملم الأقليات الدينية جراحاتها بعدُ، بعدَ السماح بتهجير أتباعهم قسرًا ونهب ممتلكاتهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم وتعريضهم لشتى أنواع التهديد والقهر والتمييز والخطف والقتل، ما دفع الكثيرين منهم للهجرة والاغتراب رغمًا عنهم!
   لقد مرّ أكثر من عامٍ على المؤامرة الدنيئة التي حيكت ضدّ هذه الأقليات في سهل نينوى بالذات، وهو الموطن الأصيل لأتباع الديانتين المسيحية والإيزدية تقليديًا، على سبيل المثال، وهما من أقدم الديانات المسالمة التي سبقت قدوم الإسلام. وما يزال المجتمع الدولي، يتفرّج على المأساة ويصرف أنواع الأسلحة المتطورة لمحاربة تنظيمات إسلامية متشددة من أمثال "داعش"، التي سمحت لها القوى الكبرى كي تنمو وتنتعش وتحتلّ أراضي ومناطق شاسعة في كلّ من سوريا والعراق، وبلدان ساخنة أخرى غيرها، في مؤامرة دنيئة اشترك في حياكتها سياسيون وأحزاب وقوى نافذة، وبدأت تتكشف خيوطها وتتعزّز شكوكُها، ولاسيّما بعد تحرير منطقة سنجار.
مختلف الأحداث المأساوية تشيرُ إلى جهة أو "دولة" تخطّط بعناية فائقة، وهذه تنسقّ مع أخرى كبرى لتقرير مصير الحاكم والدولة والمنطقة، جنبًا إلى جنب مع جهة أو جهات عديدة تتولى التمويل والدعم والتحريض. فهناك إذن، دولة تخطّط، وأخرى تقرّر وغيرُها تموّل وتصرف المليارات. وكلُّ هذه تجري أمام أنظار المجتمع الدولي وبعلم المنظمة الدولية التي تنصاع للأقوى، ولا تفعل غيرَ جبر خواطر المتألمين والمفجوعين بكلمات التهدئة والسلوان والصبر التي لا منتهى لها ولا فائدة مرجوة منها، طالما أن اللاّعبين الكبار هم أسياد العالم الذين يتحكمون بضمير الشعوب والأمم والدول والبشر.
   
يتبع – ج 2

283
مؤتمر باريس للبيئة: من أجل عالم أكثر صحة
لويس إقليمس
 عقدت الأمم المتحدة فيمدينةبونالألمانية، بتاريخ 19 - 23 تشرين أول 2015، جولة جديدة من المشاورات والمفاوضات حول التغيير المناخي والاحتباس الحراري، وذلك قبل انعقاد مؤتمر باريس للمناخ المقرَّر لهبين 30 تشرين ثاني و10 كانون أول 2015. إلاّ أن المباحثات اصطدمت كالعادة، بإعاقات دول متقاطعة المصالح حول الواجب الوطني والمسؤولية الأخلاقية المترتبة على كلّ دولة حيال هذه المعضلة الدولية التي أرّقت الجميع.
في لقاء تاريخي جمع رئيسي العملاقين الدوليين، الأميركي أوباما والصيني شي جين بينغ، في واشنطن بتاريخ 25 أيلول 2015، قدّم الأخير عرضًا سخيًا بمقدار 3,1 مليار دولار لمساعدة الدول الفقيرة في مواجهة مشكلة الانبعاثات الحرارية والتغيير المناخي. وتلك عُدت مبادرة متميزة وتغييرًا فيالموقف الصينيّ ينمّ عن الجدّية بالمشاركة في إيجاد حلولللمشاكل الدولية المشتركة. كما أنها، المرة الأولى التي تصدر مثل هذه المبادرة من دولة الصين المحسوبة قبل سنوات، على الدول الأسيوية "النامية"، من حيث إيلاء هذا الموضوع القدر الوافي من الاهتمام. فالصين قد قفزت بسرعة إلى الرقم الأول عالميًا، في مسألة انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكاربون في الجو، بحسب خبراء في البيئة، بعد انتقالها إلى بلد متقدم صناعيًا، ما أصبح يترتب عليها التزامات دولية، بموجب القانون الدولي.
على الصعيد العالمي، تسارعت العديد من الدول المعنية بانبعاث الغازات السامة نتيجة تشغيل معاملها المصنّعة الكثيرة، طبعًا باستثناء الدول المنتجة للنفط، تسارعت لنشر جهودها في مجال التقليل من فاعلية الانبعاثات الغازية في الأجواء، استعدادًا لعرضها على مؤتمر باريس المنتظَر حول التغيير المناخي والاحتباس الحراري. مجمل هذه الملاحظات أو الجهود التي شهدتها أروقة المناقشات في بون، تشير وبما لا يقبل الشك، إلى بروز شقّ واسع بين الشمال والجنوب، أي من جانب كلٍّ من الدول المصنّعة من جهة والمستوردة للطاقة والراغبة طبعًا بإدخال نماذج جديدة وبديلة من الطاقة النظيفة في استخداماتها اليومية، من جهة أخيرى.
في جولة التحضيرات قبل مؤتمر باريس، ارتفعت أصوات معارضة كثيرة ومنها أخرى مندّدة بعدم كفاية الإجراءات المتخذة من جانب الدول المصنّعة للحدّ من آثار ونتائج المشكلة التي أخذت تتزايد وتتفاقم. فقد أثارت السفيرة الجنوب أفريقية "نوزيفو مكساكاتو ديسيكو"، وهي الناطقة الرسمية باسم منظمة "جي 77 + الصين"، أثارت موجة من الاختلافات بين الشمال المتقدم والجنوب المتخلّف عن ركب التطور العالمي. يُذكر أن منظمة "جي 77 + الصين"، التي تأسست في 1964، تضمّ اليوم 134 دولةً من ضمن 195 بلدًا يشمله النظام الجديد للتفاوض حول المناخ وتأثيراته. ولم تخفي السفيرة الأفريقية مخاوفها من استمرار حالة التمييز العنصري القائمة بين الدول، في حالة رفض الكبار بالمنظمة، للتطلعات والمقترحات الصادرة عن الكتلة الأفريقية لمعالجة أسباب تردي المناخ وارتفاع ظاهرة الانبعاث الحراري.
 فبحسب وجهة النظر الأفريقية وعدد كبير من دول العالم الثالث، تكون دول الشمال هي المسؤولة تقليديًا عن هذا التردي. فيما الضحية هم دول الجنوب التي تعاني من إفرازات المصانع والمعامل والمشاريع العملاقة في إنتاج النفط والغازات التي تتحكم بها دول الشمال، في عقر دارها طمعًا في الاستزادة من تشغيل معامل جديدة لا تستخدم الطاقة النظيفة وتلقي بغازاتها وغيومها الرمادية فوق أراض البلدان الفقيرة. وهذا ما يشكل اتساعًا لخندق التفاهم بين الطرفين من أجل حلول وسطية تخدم المنتج والمستهلك معًا. لكن، ما قد يشكل قوةً لمجموعة دول الجنوب، وقوفُها صفًا واحدا متراصًا بوجه وسائل الاستغلال المتعددة التي تنتهجها الدول المتقدمة المتحكمة بزمام السياسة والاقتصاد العالميين. فالعملاقان الاقتصاديان الآسيويان الواعدان اليوم، ونعني بهما الصين والهند، اللذان اقتربا من منافسة عمالقة الاقتصاد والصناعة والإنتاج التقليديين في الغرب، سيكون لهما القول الترجيحي في قادم السنين، لابدّ.
هناك من يرجح تقاعسًا في دور الأمم المتحدة ونوعًا من المجاملة والمحاباة لدول الشمال على حساب دول الجنوب الأكثر فقرًا، والتي تسعى مجموعة الأولى لاستغلال فقرِ الثانية وحالتها الاقتصادية والسياسية الهزيلة للقفز على القرارات والالتزامات الدولية الأخلاقية تجاه الضعيف منها. فالأولى معروفة بخبرتها وحنكتها ودهائِها في قلب الأمور لصالحها في غالب الحالات، مستغلةً ثغرات عديدة في الأنظمة السياسية المتهرئة للبلدان النامية أو بالأحرى غير المتطورة صناعيًا وسياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وحضاريًا. وفي ضوء هذه الظروف التفاوضية غير المتوازنة، تبدو المفاوضات، اية مفاوضات دولية أو قارية، وكأنها تجري في أروقة منعزلة لأصحاب القرار وبعيدًا عن الجهات المعنية بالمشكلة.
إلاّ أنه وبالرغم من كلّ هذا التعسف وفقدان التوازن في تركيبة مجموعة "جي 77 + الصين"، يبقى صوت الدول الأكثر فقرًا والأقل تطورًا، مرفوعًا وعاليًابسبب الظلم والتعسف وعدم مراعاة الظروف القاهرة التي تمرّ بها بلدان العالم الثالث في الأغلب. لكنّ القرار بالموافقة على ما ورد من توصياتومقررات مؤتمرات خاصة بالبيئة والمناخ، تبقى من حرية كلّ بلد وبحسب استعداداته وإمكاناته للتفاعل مع المشكلة العالمية للبيئة التي تتزايد مخاطر تلوثها وتراجعُ الإجراءات الصحية في الكثير من البلدان، لاسيّما المتخلفة منها عن الركب الحضاري. فالمصالح السياسية قد تتقاطع، وهذه هي الحقيقة الصارخة، مع الالتزامات الفنية والإجرائية بحسب كل بلد. وهذا ما كشفته أغلب المؤتمرات التي عقدت بهذا الصدد. حيث اتضح بروز تقاطعات في رغبات سياسية معينة لرؤساء وحكومات دول مع تطلعات وخبرات وتوصيات جهات استشارية وفنية وعلمية مثّلتْ وفودَ بلدانها رغبةً منها بالمساهمة في كبح جماح التلوث المتزايد وأثاره على البشر والأرض. وهذا بحد ذاته يشكل تحديًا داخل الأوطان نفسِها، بسبب إفرازات السياسات التي تتقاطع هي الأخرى مع الأمور الفنية التي تتطلبُها إجراءات وضعية حول طبيعة عمل المؤسسات والمصانع التي تتحمل مسؤولية التراجع في المناخ والبيئة. فربما يكون لرئيس دولةٍ، حكمٌ سياسيٌ على الوضع السياسي ككل. فيما الوزير المكلّف من حكومته، ينطلق من وجهة نظر خاصة بوزارتِه دون غيرها. أمّا الخبير الفنّي ضمن وفد الخبراء التفاوضي قد يتعرّض لتحدّي أفكارِه، سواء من الوجهة السياسية أو الإدارية. وهذا بحدّ ذاته، يشكل عائقًا في اجتياز العديد من المشاكل الفنية التي بحاجة إلى قرار سياسيّ فاعل ومتزن في نهاية المطاف.
بانتهاء المفاوضات الأولية في "بون"، بين الدول المشاركة، تكون الأخيرة قد حصدت بعضًا من الخيارات والإجراءات، استعدادًا لمؤتمر باريس المقبل في 30 تشرين ثاني 2015. وبالرغم من عدم قناعة البعض لسير عملية المناقشات ودائرة التفاوض بين الوفود المشاركة، إلاّ أنّ ما تم اعتمادُه يأخذ أهميتَه من حيث دعوة الجميع لإيقاف مشكلة الاحتباس الحراري لأقل من درجتين لغاية نهاية القرن الحالي. فيما بقيت مسألة التحويلات النقدية مثار خلاف بين المتفاوضين لغاية الساعة.
بحسب معلومتنا، ظهرت مؤخرًا في العراق، جهاتٌ جادّة في وزارة البيئة سابقًا، كانت لها جهودٌ واضحة في السعي لجذب الأنظار حول ما خلّفته الحروب المتواصلة منذ عقود ولغاية الساعة، بالكشف عن المشكلات الصحية والبيئية الكبيرة، التي ما تزال تعاني منها مناطق عديدة، ومنهاالمشاكلالإشعاعية التي أشرت انتشار الأمراض وظهور حالات مرضية غريبة، وكلها تعزى إلى مخلفات الحروب.
اليوم، تتولى وزارة الصحة هذه المهمة، بعد دمج وزارة البيئة ضمنها، لتتولى مسؤولية الحفاظ على صحة المواطن والسهر على خلوّ البلاد من اية ملوّثات أو مصادر سامة، حيث اشارت تقارير عراقية سابقة أسهمت وزارة البيئة (سابقًا) في تحليل مسبباتها، إلى وجود الكثير من المواقع المشكوك في تلوثها، بسبب أطنان الخردوات من التجهيزات والمعدات التي تركتها الحروب السابقة منذ عقود. وهذه تستدعي حرصًا وطنيًا ومثابرة تتسم بروح المسؤولية من أجل تخليص البلد ممّا تبقى من كتل التلوث والآثار المدمّرة على الأرض وفي الجو وعلى البشر والماء. فالمخاطر ما تزال قائمة، وما تمّ إنجازُه لم يصل لحدّ المسؤولية الملقاة على عاتق المعنيين من مسؤولين في الدولة والسلطة التشريعية ومن منظمات ناشطة وأخرى دولية، كان لها باعٌ في جزءٍ ممّا حصل.
في دولٍ متحضرة، تُعطى للبيئة أهمية كبرى. بل إن المؤسسات البيئية، من وزارة أو دوائر رئيسية، تُعدّ هذه الأخيرة سيادية وأساسية في تشكيلات حكومات تلك الدول. وبسبب الأهمية الكبيرة التي توليها هذه الدول المتقدمة لأجل خلق بيئة نظيفة لمواطنيها، فإنّ الدراسات والتخصصات في هذا المجال تأخذ مداها الواسع، نظرًا للخدمة الضرورية التي تقدمها للمجتمع والدولة على السواء. فالبيئة النظيفة، تخلق دومًا مواطنين أصحاء قادرين على العمل والنشاط والبناء.
هذه دعوة صريحة للجهات المعنية، بشحذ الهمم وعدم التقاعس بحجة عدم وجود تخصيصات مالية. فما قدمته جهات خارجية مانحة لهذا الجانب وما تزال، كان يمكن أن يزيل معظم آثار التلوث وينقذ الأطفال والنساء، بل والعراقيين جميعًا، من مخاطر كثيرة. ولو أنّ وزارة الصحة اتبعت الأساليب الصحيحة في طمر وإحراق ما تخلفه المستشفيات من ملوّثات وسموم، لكانت ساهمت هي الأخرى في تنقية أجواء العراق وتخليص المواطن من آثار تلك الملوثات.
 وهنا أيضًا، تأتي مسؤولية المجتمع والمواطن، بالتقليل من آثار التلوث، من خلال حفظ النفايات المنزلية ومعالجة نفايات المعامل بالطريقة الفضلى التي تحافظ على البيئة ومناطق السكن والمدن. إلاّ أن قلّة وعي المواطن وقصر نظره إزاء ما تتركه النفايات من مخاطر في غياب الإعلام والتوعية ووسائل التحذير والنصح والتثقيف التي تحذّر من مغبة التمادي في رمي المخلفات كيفما كان وأينما كان، هذه لا تقلّ خطورة عمّا تسببه الأعمال الحربية من آثار مدمّرة على البشر والبيئة معًا. فمنظر رمي النفايات والقناني وعلب المشروبات من نوافذ السيارات، وقذف شتى أنواع المواد والمأكولات والقاذورات في الشوارع والأزقة والساحات العامة والمحلات، بالرغم من وجود حاويات أحيانًا بالقرب منهم، كلّها تشير إلى ظواهر مدانة في مجتمعنا، إنْ دلّت على شيء، فإنما هي دليلٌ على قلّة الوعي والتخلّف عن الركب الحضاري. فالعراقي، حتى في سفرِه وترحالِه إلى الدول المتقدمة، يقدمُ على مثل هذه الأفعال أحيانًا كثيرة، في غياب المراقبة المواطنية حينما تكون بعيدة عنه. وهذا ما لاحظتُه شخصيًا، مثل غيري، أثناء السفر. إلاّ أنّ الكثيرين، يخشون العيون الشاخصة التي تستنكرُ من دون وجل مثل هذه التصرّفات المتخلّفة في بلدانهم.
فالمسؤولية إذن تضامنية، ولابّد من وعيٍ وإرادة وشعورٍ داخليّ من مغبة التمادي في تلويث البيئة بمثل هذه الأعمال الشائنة. وحينها فقط، سنصل إلى مطاف الدول المتحضّرة، انطلاقًا من الممارسات الأدبية والأخلاقية الصغيرة. فلو أنّ كلّ مواطنٍ منّا، سعى إلى تنبيه جارِه ومواطنِه في البيت والشارع والمدرسة والعمل والساحات العامة، بنهيِه من مثل هذه الأعمال غير الحضارية، لوصلنا إلى بناء الوطن وتغيير ذهنيّة المواطن المريضة والمتخلفة وجعل الأرض والماء والهواء أكثر نظافةً وأنصع نظارة وأفضلَ جدارة.
في الأخير، نتطلع إلى مشاركة عراقية فاعلة في مؤتمر البيئة الذي سينعقد في باريس نهاية تشرين الثاني الجاري 2015. فالاستراتيجية الوطنية لحماية بيئة العراق والخطة التنفيذية التي تم إطلاقها للأعوام 2013-2017، يجب ألاّ تبقى على الرفوف مثل غيرها من المشاريع الوهمية حبرًا على ورق وكلامًا جزافًا أمام وسائل الاعلام للدعاية والإعلان وصرف الأموال من دون نتائج. فالتحديات ما تزال كبيرة، بل هي في نفاقم بسبب غياب الوعي وعدم الجدّية في تشخيص المشاكل الحقيقية التي تقف وراء هذه الكارثة المتفاقمة.
في الختام، تذكيرٌ بمؤتمر باريس القادم 2015، فإنّ فرنسا حريصة على مشاركة منظمات المجتمع المدني والجمعيات النقابية والمنظمات التابعة للأمم المتحدة، إلى جانب الدول المشاركة. وسوف يقترن ذلك بإنشاء قرية صغيرة نموذجية تُخصص للمجتمع المدني في موقع إقامة المؤتمر في ساحة المعارض في "لي بوررجيه" بالعاصمة الفرنسية. كما أنّ الهدف الأسمى لهذه التظاهرة الدولية الكبرى، سيركز على المطالبة بتحديد وتقليل آثار التلوث إلى أقصى حدودِه بالاستخدام البشري للمياه والنفايات والطاقة، وبالتقليل من انبعاث الغازات الحرارية، كي يكون العالم أكثر مثالية في بيئة صحية للجميع.

بغداد، في 3 تشرين ثاني 2015

284
مشروع قانون البطاقة الوطنية الموحدة: غبنٌ وإجحافٌ بحق المواطنة العراقية

أقرّ مجلس النواب العراقي في 27 تشرين أول 2015، مشروع قانون البطاقة الوطنية الموحدة، وسط جدالات وخلافات حول العديد من البنود المختلف عليها، إلى جانب امتعاض وغضب نواب من كتلٍ غير مسلمة.
باختصار، هناك ملاحظتان سلبيتان في مشروع القانون المذكور جديرتان بالمراجعة. أولاها تتعلّق بمشكلة اللقب الذي سيشكل تحديًا خطيرًا للمواطن الذي يمكن تعرّضه لمخاطر القتل على الهوية بسببه. وهذا ماحذّر منه العديد من نواب الشعب، نظرًا لتجربة الأعوام السابقة التي أشرت حوادث عديدة من هذا القبيل.
أما الثانية، فهي تصبُّ في خانة الانتقاص من المواطن غير المسلم، بالرغم من مساواة الدستور بين الجميع على صعيد المواطنة. حيث يرى العديد من النواب والمثقفين والعقلاء في الصيغة القانونية للمادة 26 منه، "مثارالجدل"، حيدًا وابتعادًا عن صفة الدولة المدنية التي تسعى غالبية الشعب العراقي للترويج لها واعتمادها منهاجًا من أجل بناء وطن موحد متراص الصفوف وقوي النسيج، وطن  يحتضن الجميع تحت خيمة واحدة عادلة، من دون تمييز في الدين أو المذهب أو الطائفة أو اللون أو الجنس أو العشيرة أو القبيلة وما نحو هذه جميعًا.
ممّا لاشكّ فيه، أن هذا المشروع الوطني يُعدّ إنجازًا على صعيد التحوّل من نظام ورقيّ متخلّف إلى نظام الحوكمة الالكترونية من خلال تهيئة قاعدة بيانات نظامية إلكترونية تساهم في تحسين الخدمات ودعم الخطط الحكومية في مجال الإصلاح الإداري ومنه أيضًا في تسهيل محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة وملاحقة الميليشيات السائبة. كما أنه سيحلّ الكثير من الإشكالات الورقية القديمة باعتماد سجلات إلكترونية نظامية تختزل مشكلة الأوراق الثبوتية المستخدمة حاليًا في التعريف الشخصي للمواطن. ومن محاسنه أيضًا، أنه سيقوم بربط جميع دوائر الدولة ومؤسساتها بحماية وطنية الكترونيًا. ومن ذلك، فهو مشروع عملاق قد يأخذ وقتًا طويلاً نسبيًا لتحقيقه، لكنه في النهاية سيخدم الدولة بمؤسساتها، كما يخدم المواطن الحائر بمستمسكاته الرسمية العديدة المطلوبة في كلّ معاملة أو زيارة لدائرة حكومية.
لكنّ إقحام المادة 26 فيه، قد أثارت بقوة، حفيظة نواب الأقليات الدينية غير المسلمة التي رأت فيه ظلمًا وإجحافًا وتمييزًا عنصريًّا ضدّ كلّ ما هو خارج عن الإسلام. وهذا ما يتناقض مع العديد من مواد الدستور العراقي الذي يؤكد على تساوي جميع المواطنين وحماية حقوقهم. وبحسب هذه المادة المجحفة وغير الحضارية، يضطرّ القاصرون باتباع ديانة أحد الأبوين في حالة تغيير ديانة أحدها إلى الإسلام، قبل سن البلوغ، "أنْ يتبع الاولادُ القاصرون في الدين مَن اعتنق الدينَ الاسلامي من أحد الأبوين". بعبارة أخرى، فإنّ "القاصر المولود لأبوين غير مسلمين يولد على دينهما، فإنْ أسلمَ أحدُهما بحكمِ القانون سيكونُ ملزَمًا قانونيًا أنْ يتحولَ الابناءُ القاصرون إلى الدين الجديد، ومن ثمَّ لا يحقُ له العودة في حال رغب أن يرجع على الدين الذي كان عليه".
إنّ مثل هذا النص العنصري غير المتوازن يتناقض أيضًا، مع الحرية الشخصية في اختيار الدين. فالعراق كان وما يزال دولة مدنية، حيث فشلت كل المحاولات، ومنها ما بعد أحداث 2003، بتحويله إلى دولة حكم ثيوقراطي مع قدوم الأحزاب الدينية التي أثبتت فشلها الذريع، إدارة وسياسة واقتصادًا وتعليمًا وصناعةً. ف"الدين لله والوطن للجميع".
إن هذه المادة العنصرية، إذا ما تمّ اعتمادُها بلا رجعة، سوف تلحق بمواطنين أصلاء في البلد، ظلمًا وإجحافًا وغبنًا بحقوقهم، لا لشيء سوى ذنبهُم أنهم يختلفون في الدين عن دين الأغلبية. فهُم، سوف يتحملون ظلمًا إضافيًا على ما يقاسونه اليوم من تهجير وتنكيل وخطف وقتل من جانب العصابات الإجرامية من أمثال "داعش" ومثيلاتها ومن قبل الميليشيات التي تتحرك على الأرض بكلّ حرية وتستهدف أبناء هذه المكوّنات المسالمة غير المسالمة التي لا تعرف العنف والقتل والظلم طريقًا للعيش. فالظلمُ الأول، كونُهم من أتباع أديانٍ أخرى تختلف عن دين الأغلبية التي تتحكم وتحكم سيطرَتها على جميع مقدّرات الدولة وثرواتِها ومناصبِها، مقابل تهميشِها وإقصائِها لأتباع الأديان الأخرى، ومنهم المسيحيون والصابئة المندائيون والإيزيديون، وغيرهم إذا ما تواجدوا فوق أرض العراق.
ومن المؤسف عدم تفاعل البرلمان مع نداءات رئاسة الكنيسة العراقية والرئاسة الروحية لكلّ من الطائفة الإيزيدية والصابئة المندائيين لتعديل نص هذه المادة المجحفة التي تنتقص من مواطنيتهم ومن دينهم ومعتقدهم على السواء. ف"الدين علاقة بين الانسان وربه ولااكراه فيه"، كما أشار غبطة البطريرك لويس ساكو في بيان له بهذا الخصوص. فقد سبق أن طالب ساكو مجلسَ النواب العراقي، بتعديل قانون البطاقة الوطنية الموحدة قبل صدورِه بأشهر، وذلك "تحقيقًا للعدالة والمساواة"، إلاّ أنّ هذا الإصرار بتمرير هذه المادة المجحفة "يشكل تراجعًا مؤسفًا عن مبدأ التعددية واحترام التنوع والخصوصية".
فإذا كان الشعب العراقي قد اصطفّ صفًا واحدً، ضدّ العصابات الإجرامية بسبب ما ألحقته هذه من أذى وآلام ومحن ومصائب بحق شعوبٍ مسالمة تحرص في ولائها للوطن والأرض أكثر من غيرها، فكيف بنواب الشعب وزعاماتهم السياسية أن تقبل بظلمٍ إضافيّ بحقّهم؟ فالحرية الدينية وحرية المعتقد التي تنادي بها شرعة حقوق الإنسان، وكذا الاتفاقات والمواثيق ومختلف العهود الدولية التي صادق عليها العراق، تعدّمن أساسيات الحريات والديمقراطية التي تنص عليها هذه جميعًا. هذا إضافةً إلى حماية الدستور العراقي لحقوق المواطنين العراقيين ورفض التعرّض لمحاولات فرض فكر أو دين أو معتقد إكراهًا وخارجًا عن إرادة الشخص. بل إنّ مثل هذا الفرض بالإكراه يدخل في خانة الاضطهاد لمواطنين ينتمون إلى ذات الوطن وليس لهم من ذنب سوى الاختلاف في الدين. فهل هذه رسالة إضافية صريحة أخرى تدعو العراقيين المختلفين عن دين الأغلبية بترك أرض الآباء والأجداد لسبب عنصريّ يدخل الدين في أسبابه؟


بغداد، في 4 تشرين ثاني 2015


285
بعدها توالت نكباتنا!
(في الذكرى السنوية الخامسة لحادثة كنيسة سيدة النجاة)


لويس إقليمس
-الجزء الثاني-

هذا المطر الأسود من تلك الغيمة الصفراء

تلك الغيمة الصفراء، أتت بهذا المطر الأسود الوابل من المآسي والنكبات على رؤوس العراقيين. فكانت الصراعات بين الأحزاب والكتل السياسية من أجل رؤية المزيد من عمليات الفساد والإثراء غير الشرعي، من جانب الذين اغتصبوا السلطة ونصّبوا أنفسَهم حرامية مجازين من قبل الوصيّ الأمريكي على حساب الشعب. فالفساد استشرى في كلّ مفاصل الدولة، ومنه ما حصل بغطاء دينيّ، حين استيلاء وكلاء هذه الجهات على مساحات شاسعة من أراضي ووضع اليد على عقارات الدولة والمواطنين، إن في وضح النهار أوفي الليل، وبمسمّيات مختلفة. ناهيك عن ضياع مليارات الدولارات في مشاريع وهمية وعقود فاسدة وأخرى متلكئة منذ سنوات،أوفي مرتبات ومخصصات خيالية للرئاسات الثلاث وللنواب ومسؤولي الدولة وحماياتهم الخرافية. وهذه جميعًا تُدار وتُنفذ من جهات شريكة في العملية السياسية بغير حق. إنّه وبسبب هذه الصراعات على الجاه والمال والسلطة، وعمليات السكوت عن الجرائم المختلفة التي أصبحت قياسًا لدى جهات متنفذة في السلطة،جرى إغفال، بل والمساهمة والمشاركة الضمنية والفعلية أحيانًا في اقتلاع شعوبٍ أصيلة من أبناء الأقليات الدينية والعرقية من مدنهم وبلداتهم في حزيران وآب 2014. وقد صاحبَ ذلك الاجتياح، اقتراف عمليات إجرامية وأعمال عنف وحشية بلغت حدّ الإبادة الجماعية في النهب والسلب والخطف والقتل والذبح والنحر والاغتصاب والنكاح وبيع النساء والفتيات والأطفال في سوق الرقيق المخزي.
خمسة أعوام مرّت على مجزرة كنيسة سيدة النجاة، والحال لم تصلح، والشهداء مازالوا يتساقطون في ربوع أرض الوطن المحترقة. فيما ضمائر الساسة ومَن أتى بهم أسيادًا على رقاب الشعب البائس، لم تتحرّك من وخزةٍ تطالهم في كلّ يوم وكلّ ساعة. ولهذه الأسباب جميعًا ولغيرِها، فالشرّ مازال قائمًا والقتل متواصلاً والاتجار بالرقيق سائدًا وسرقة المال العام جاريًا، مع قدوم مغول العصر قبل عامٍ، متمثلاً ب"الدواعش"الذين يطلقُ عليهم الغرب لغاية الساعة ب"الدولة الإسلامية". وإن دلَّت مثل هذه التسمية على شيء، فإنّها دليلٌ آخر على ما تتلقاه هذه الجماعات المسلحة من دعمٍ مادّي وتمويل بطرق ووسائل استخباراتية من جهات دولية وإقليمية ومن متواطئين من سياسيين في الداخل، ممَّن باعوا ضمائرَهم مثل غيرِهم من الساسة لدول الجوار وللأجنبي الطامع، على حساب أهل البلد ووحدة الأرض والوطن والحضارة.
هكذا إذن، وقع العراقيون جميعًا، أسرى الأحزاب الدينية والكتل السياسية التي تتغلّف بلباس الدين حينًا والقومية حينًا آخر. أمّا النازحون والمهجَّرون قسرًا، فقد فقدوا أيَّ أملٍ بعودة قريبة إلى ديارهم ومدنهم، لأنَّ رغبة الأسياد ببساطة، لا تتحقق بهذه العودة السريعة في هذه المرحلة، ولم تأتي الساعة بعد! لذا ليسَ أمامَهم، كما هو مخطَّط له، سوى التفكير بالهجرة وترك الوطن والتيمّن صوب المجهول في دول الاغتراب. وهؤلاء، مع الزمن سينسون شيئًا اسمُه القرية والمدينة والوطن! وهذا ما وراء القصد!
هذه هي إرادة الأسياد ومّن يتعاون معهم في تحقيق هذا المخطَّط الشيطاني الكبير، الرامي لإفراغ العراق من مسيحيّيه وأقلياتِه الإتنية والدينية الثرية بتراثِها وتاريخها وحضارتِها وأخلاقِها. فهذا كلُّه، لا يروق للأجنبي الغازي الذي كذب على العالم وسخّر ما في وسعهِ من أجل إزاحة حكم النظام السابق بتلك الطريقة البشعة والإتيان بنظام جديد متهلهل فاقد للأهلية كي يسهل التحكم به وتطويعُه بحسبأهواء الغزاة الطامعين في الإدارة الأمريكية، عدوة الشعوب المستضعفة والمقهورة.
بحسرة نسمع اليوم، مَن يجاهر بنيته نسيانَ الأرض التي زرع فيها آباؤُه وأجدادُه الخيرَ، ولم يحصد أبناؤُهم سوى العلقم والمرّ والغدر والتهميش وأشكال الدونية والنبذ الظاهر والباطن في التعامل السياسي والاجتماعي. نظرة تشاؤمية تسود أوساط المسيحيين والإيزيديين وباقي الأقليات، بسبب الاضطهاد الديني، والتمييز المذهبي، والمضايقات، والحياة الصعبة في المخيمات، وعدم الشعور بالأمان، وكذا بسبب فقدان الثقة بالحكومتين الكردية والاتحادية: الأولى، بسبب إخفاقها في حمياتهم بعد أن احتلّت مناطقهم وجعلتهم أسرى بيدِها ومارست أبشع صور الابتزاز بحقهم، فاشترت الذمم والضمائر حتى في أوساط رجال الدين وأشباه الساسة منهم؛ أما الثانية، فبسبب ضعفِها وعجزِها وانغماس سياسييها في أنواع الفساد الذي استشرى في مؤسسات الدولة ، وكذا بسبب ضعف القضاء الذي تمّ تسييسُه، وغياب جيش عقائديّ وأجهزة أمنية وطنية قادرة على حماية المواطن وممتلكاته وضمان أمنِه وحمايتِه من عبث العابثين ومن ميليشيات سائبة تتستّر بالدين وتستقوي بلباس الحكومة وبعض أجهزتها الأمنية الفاسدة. لأجل كلّ هذه الأسباب وأخرى خافية، لم يجد المواطن العراقي المهمَّش والشريف الباحث عن الأمن والأمان والحياة الحرة الكريمة والاستقرار، سوى التفكير بالهجرة وترك أرض الآباء والأجداد، مرغمًا.
نظرة تشاؤمية، ولكنها واقعية فرضتْ حالتَها وأثبتت صحة نظريتها للعديدين. فلمْ يعد هناك من أملٍ قادم في القريب الآتي، بسبب حالة الإحباط والمهانة التي جرّدت النازح والمهجَّر من كلّ آدميتِه وأخرجته في غفلة من الزمن من خانة الحياة الكريمة، بعد تشريدِ العائلات وتفرقة الأحباء وتشتّت النفوس والأفراد والعائلات في الداخل وبلدان المهاجر. فالأنسان الذي كان حتى الأمس القريب، قبل قدوم "الدواعش"، حرًّا في داره وبلدته ووطنِه، وجدَ نفسَه أمام الواقع، يستجدي ويفتح فاه للمتفرّجين والمتاجرين بمأساتِه، حتى ممّن كان يعدّهم في حساباتِه من الساهرين على حقوقه ومتابعة طلباتِه وسدّ احتياجاته. فقدانُه لدارِه وممتلكاته وتحويشة عمرِه ولعرضِه في حالات مريبة قائمة، قد أفقدته صوابَه واتزانَه البشريّ، وأصبح رهانًا بأيدي اللاعبين السياسيين والمتاجرين بحالتِه المزرية في الداخل والخارج! فما حصل من نكبة، ألم يكنْ طعنة في الظهر وخيانةً للعهد والأمان من جانب شركاء في الأرض والوطن والمصير؟
إذن، هوذا"هابيلُ" يُقتل من جديد. ولكن هذه المرة، على أيدي "قائين" المعاصر المتشح بلباس الدّين والسلطة والشرع والطائفة والمذهب. وما أدراكَ ما "قائين" المعاصر! فهو خلاصة فكر أسياد القطب الواحد، قطب الرأسمالية المادّية ومّن يواليها ويخضع لها من الغرب التابع، الذين يتولون صناعة أسلحة الشرّ القاتلة ويتحكمون في مصير الشعوب المقهورة من أجل إبقائِها على فقرِها من خلال الإيغال أكثر في نهب ثرواتِها من دون وجه حق. وما موقف البابا الثوريّ فرنسيس الأول، حول ما يجري من جرائم في العالم من قبل هذه الدول الغنية، سوى التعبير الحقيقي عن حقيقتهم ورؤيتهم الدونيّة المهينة والفوقية لقيادة العالم. فقد بدا واضحًاانتقادُه لها، من الهيكلية التي يقوم عليها النظام العالميّ الرأسماليّ الحديث. فهذا النظام القاهر والظالم الذي يتحكم بمصير الشعوب والأمم والدول، "لم يعد ينفع، ولم يعد يحتمله الفلاحون ولا العمال ولا المجتمعات ولا القرى. الأرض كلها لم تعد تحتمل"، كما صرّحَ قداستُه، داعيا الفقراء في جولته بأميركا الجنوبية في تموز 2015،إلى العثور على "بدائل خلاقة".
إنها إذن، دعوة صريحة نحو تغيير جذري للنظام الاقتصادي العالمي.وقد صدقت روسيا هي الأخرى في مواقفها الأخيرة ممّا يجري من فوضى على الساحة الدولية، وهي العائدة بتوبتها من نظام الإلحاد، حين أعلنت فشل هذا النظام الذي أرسى له الغرب المتجه نحو الإلحاد واللاأدرية بقيادة أمريكا. وهي بدعوتها لإعادة ترتيب البيت الشرقي والدولي، أكثر مصداقية وأقربَ إلى الشعوب المقهورة من خصومها الدوليين المنافقين واللاهثين وراء النفط والدولار والمتعة بأيّ ثمن! كفانا الله شرّ الأعداء جميعًا، من أية ملّة أو بقعة أو دين أو طائفة، وحمى حمائم السلام والساعين لقول كلمة الحق والفارشين الأرض بالمحبة والرفق والوئام.



بغداد، في 21 تشرين أول 2015


286
بعدها توالت نكباتنا!
(في الذكرى السنوية الخامسة لحادثة كنيسة سيدة النجاة)

لويس إقليمس
-   الجزء الأول -


تقف كلُّ الكلمات وتخرسُ الألسن ويخيّمُ السكون والوجوم كلّما قربت ذكراها وتوالت سنواتها، واحدةً أصعب من سابقاتها!
المشهد ما يزالُ أمامي، أتصّورُه مليًا، شاخصًا، قريبًا بمرارتِه من علقم الحياة الجارية. أعيشُه في الأعماق، وأحاول تقريبَه من ذاكرة تالية ومحنة مؤلمة نقشت مرارتَها وعارَها في جبين الإنسانية ودول الغرب الديمقراطيّ المنافق الذي اشعلَ المنطقة بنيران لا تُعرف نهاية إطفائِها. فتاريخ 10 حزيران و6 آب من عام2104 بعد تلك الحادثة المأساة، سيظلٌّ علامة عار في جبين الإنسانية، وستبقى آثارُه تلقي بظلالِهاالسوداء المتلبسة بعباءة الدّين، ليسَ على العراق فحسب، بل في كلّ أرض الله الواسعة، حين تذكّر المأساة المجزرةالتي شهدتها كنيسة سيدة النجاة، وما رافقَها وتلاها من أعمال قتل وعنف مستمرّة وجرائم إبادة جماعية.
يوم الأحد 31 تشرين أول من عام 2010، أتذكرُه بالتفاصيل. فأجدهُ متمّمًا لحالة البؤس وفجاعة النكبة التي ألمَّتْ بأهلي وأقربائي وأحبتي وبني جلدتي وكلّ العراقيين الذين غدرت بهم وتلاعبت بمصيرهم دولٌ وأوطانٌ على هواها. تمامًا، كما باعهم مراهقو السياسة الجدد ومَن لفَّ لفَّهم من سارقي البسمة من شفاه الأطفال الأبرياء، ومغتالي الفرحة من أفئدة النساء والثكالى المسكينات، والمتسترين على الفساد والفاسدين، والممارسين النفاقَ والمدافعينَ عن المنافقين على السواء، وكلّ المتسربلين بستار الدّين وجلبابِه، ومَن يقف وراءَ شرعنة هذه كلّها وغيرها بفتاوىالضلال والقهر والكراهية، ومعهم كلّ المتلاعبين بقوت الشعب وحصّة الفقراء وكرامة الرجال والنساء وطاقات الشبّان والفتيات ونخبة المثقفين والأولياء.
ماذا نقول؟ أنستمرُّ على قبول الذلّ والهوان والركوع للدخيل الغريب الذي في كلّ يوم، يخرج بمبتكراتٍ وأصنافٍ من القهر والاستعباد وفرض الأمر الواقع باستجلاب متهوّرين من كارهي الحياة وبهجتِها، ومن محبّي القتل والموت والدمار والسلب والنهب والاغتصاب والنكاح ما ملكت أيمانُهم باسم الدين والطائفة والمذهب؟ حاشا منّا المذلّة! فشعبُ الرافدين والنهرين الخالدين، لم يُخلق جبانًا ولا عاجزًا ولا ضعيفًا، كي يخنع ويخضع ويركع لهذا الدخيل على طباعه وثقافته وحضارتِه. فهل انتفاضتُه اليوم وتظاهرات الجمعة المتواصلة، ستدوم وتقوّض مضاجعَ الفساد والفاسدين، ويطرق الشعب المنتفض بابَ الكبرياء والشموخ ثانيةً؟ لقد طفح الكيل وآن أوانُ الجدّ والعمل، والتوحّد تحت خيمة الوطن الكبير، واتخاذ المبادرة لقول كلمة: لا... ثمّ لا... للذلّ والهوان والسكوت عن الفساد والفاسدين، فعلاً وليسَ قولاً!
أرضُ الرافدين، ضاقت بأهلِها، وشعبُ الحضارات فقد سرَّ حياته الزاهية واستبدلها بالذلّ والهوان والركوع لكلّ قادمٍ غريبٍ طامعٍ، ليسَ كرهًا بالأرض والوطن والعرض، بل نكايةً وغيرةً وطمعًا بحب أنانيّ باطل وزائل يدمّر، يهمل، يهمّش، يقتل، يهدّد، لكنه لا ولن يدوم.


هذه هي القصة
كنّا عصر الأحد 31 تشرين أول 2010، في كنيسة سيدة النجاة، نصلّي من أجل العراق وسلامة أبنائِه جميعًا ونجاتهم من كلّ مكروه، كما اعتدنا على ذلك في كلّ مناسبة وفي كلّ قداس أيام الأعياد والآحاد. وفجأةً يدويّ انفجارٌ هائلٌ يهزُّ أركان الكاتدرائية. ويبدأ اللغط وتتداعى الهواجس المختلفة وتتداخل الأفكار المريبة مخيلاتِ المصلّين الآمنين لغاية تلك اللحظة. ونحن إذ كنا نستمع لعظة الكاهن الشهيد "ثائر" وهو يعيدُ أقوال "بطرس" المعترف بحبِّه لسيده المسيح، والمقرّ بذلك ثلاثًا، ليستحق بها قيادة الرعية بكباشِها ونعاجِها وخرافِها، إذا بأصواتِ الفرقعات والصيحات تتوالى، ومعها يبدأ التشويش على جنبات الكنيسة ويُسمع لغطٌ خارجها. إنها ساعة المحنة! قد بدأت المأساة، ومعها انتشر الخوف وعمّت الرهبة وزاد الفزع، حين تراكض المصلّون حيارى من أجل إيجاد موقعٍ حسبوه آمنًا. ولكن، لا أمنَ مع مجرمي العصر ومَن يعاهدهم ويؤازرهم ويأويهم ضمنًا وفعلاً.
قطع الأب الشهيد ثائر عظتَه مرارًا، محاولاً تهدئة جمهور المصلّين الحاضرين "ما كو شيء". ولكن، في خارج أسوار الكنيسة، كانت قد بدأت ساعةُ الصفر بهجوم إرهابيّ غادِرٍ،استهدفَ هذه الكنيسة الجميلة بالذات، الواقعة وسط العاصمة، والتي لها رمزيتُهاالخاصة لدى أهل المنطقة. ويتمكن الإرهابيون وبتخطيط مدروس بعناية، من اقتحام الكنيسة بالرغم من اشتباكهم القصير المفاجئ مع حراس الكنيسة وبناية سوق الأوراق المالية المجاور، بسبب غياب دورية الشرطة المكلفة بحماية الكنيسة في هذا اليوم وفي هذه اللحظة بالذات. كلّ شيء، كان مخططًا له إذن. وكلُّ الترتيبات كانت قد اتخذت من أجل إنجاح عملية الاقتحام التي ما تزال تنتظر حلّ أهمّ ألغازِها وتحديد الجهة الفعلية التي قدّمت الإسناد والدعم اللوجستيّ والمعنويّ والماديّ وهيّأت الأرضية والمكان والتاريخ والزمان، كي تكون فعلاً عملية نوعية، بحسب هذه الجهات جميعًا. وبالرغم من حصولي على وثائق عدلية تشير إلى محاكمة المخطّطين المباشرين للعملية والحكم على أربعة منهم، ثلاثة بالإعدام والمرأة التي آوتهم وتسترت عليهم في المنطقة بالمؤبد، إلاّ أنّي اعتقد في قرارة نفسي، أنّ العدالة لم تتوصل إلى المخطّط الحقيقي الرئيسي لتلك العملية النوعيّة التي قصمت ظهر الجماعة المسيحية، وهي من المكوّنات الأصيلة في المجتمع العراقي وفي المنطقة.
خلال دقائق، سيطر الإرهابيون الأربعة المقتحمون (بعد مقتل زميلهم الخامس على سياج الكنيسة الغربي وتفجير سيارتهم)، على جنبات الكاتدرائية ووسطها ومقدّمتها، بعد أن شهدت تراكضًا عفويًا للمصلّين في كلّ اتجاه، وهم هلعون وغيرُ مصدّقين. فيما تسارعت أعدادٌ غيرُهم بصحبة الخوري "الختيار" روفائيل قطيميي وكاتب هذه السطور، للاحتماء بغرفة "السكرستيا" المجاورة على مقدمة يمين المذبح. فيما التجأ آخرون في غرفة المعمودية في مؤخرة الكنيسة. وفي هذه الأثناء كان الصراخ والعويل ورشقات السلاح الغادر تُسمع وتدويّ جنبات الكنيسة وتروّع المأسورين بيد الإرهابيين القساة. فيتساقط الكاهنان الشابان، "ثائر عبدال" و"وسيم القس بطرس"، ومعهم خمسة وأربعون شهيدًا، برصاص الغدر والكراهية والعنف الأعمى الذي يأبى الاعتراف بالآخر المختلف عنه في الدّين، بالرغم من أنَّ دينَه قد أوصاه أن "لا إكراهَ في الدّين". ولكنّ التعصّب الأعمى وروح الانكفاء والانعزالية لدى هؤلاء النفر قد أعمى عيونَهم وكفَّ بصيرتَهم كي ينظروا ولا يرون، يسمعوا ولا يعون، يوعَظوا ولا يتعلّمون!
في داخل "السكرستيا"، كان المشهد مريعًا. فمن الباب الخشبي الهشّ المدعوم بدولاب حديدي متهالك للكتب، كنّا نرى أشكال إرهابيّين إثنين، أحدهما كان يقبع أمام هذا الباب المتهالك، أي على بعد خطوات منّا، وهو يسمعُ صوتَنا ونسمعُ صوتَه، والآخر كان يتخذ الجهة الأخرى إلى غرب المذبح. ثمّ يُسمع آذانٌ لشاب يافع بلكنة عربية فصحى، وبعده يطولُ مسلسل الغدر والقتل وتصفية أجساد مصلّين أبرياء من دون رحمة ولا شفقة وسط عويل الأطفال ونواح النساء. فحتى الأطفال لم يسلموا من حقد وكراهية الإرهابيين المهاجمين، حتى وصل عدد الشهداء في نهاية المجزرة 47 شهيدًا!كما نلنا نحن الملتجئين أيضًا في الغرفة الصغيرة حصتنا من القنابل المتفجرة ورشقات متهوّرة، إحداها أنهت حياة الشاب "أيوب عدنان" الراقد إلى جنبي، الذي بالرغم من معاناته من جرح بليغ أصابه داخل الكنيسة قبل أن يحتمي بهذه الغرفة، كان يصلّي مسبحة العذراء كي ترافقه في شهادتِه نحو ربّه. كما فقدت الشابة العروسة "رغدة وهي" الحامل في أشهرها الأولى حياتَها وهي بين أحضان مَن احتمى معنا، وهي الأخرى كانت أُصيبت من جراء عيارات نارية داخل الكنيسة قبل لجوئِها إلى الغرفة عينِها. ومَن يعرفني، يدرك إصابتيأنا الآخر وقد فقدتُ جزءًا من سمعي. كما نال الخوري قطيمي هو الآخر وغيرنا قسطًا من الجروح والأذى الجسدي والمعنوي!
أربعُ ساعات من الهول والرعب والخوف، أمضاها المصلّون مستنجدين عبر الهواتف النقالة خلسةً، من أجل الإسراع بإنقاذ ما يمكن إنقاذُه. ولكنْ، مَن خطّط لهذه المجزرة ومَن أراد لها أن تأخذ طابعًا طائفيًا ودينيًا، لم يردْ بطبيعة الحال إنجاز مهمة الإنقاذ بالسرعة التي كنّا نحلمُ بها. فالفتنة لا بدّ أن تأخذ مجراها ووقتَها، زمانَها ومكانَها، جلاّدَها وضحاياها. أمّا الساسة وأوصياء البلاد من الغزاة ودول الغرب المتحالف، فوقفوا أربعَ ساعات يتزلّفون مع المتفرجين على المشهد، قبل ان يخجلوا ويبدؤوا ما اسموه اقتحامًا خجولاً بالفرقة الذهبية، التي لم ترقى إلى المستوى المعهود في التعامل مع بضعة إرهابيين، كان يمكن اقتناصَهم بما لديهم من أجهزة وخبرة وتقنية بدعم من قوات الطوارئ الغازية التي يترتب عليها مثل هذا الواجب في إنقاذ الرهائن عادة.
ثمّ تأتي ساعة الفرج، وتنتهي فصول المسرحية الدموية، وبإخراج دراماتيكي بامتياز. فيخرج مَن كُتبت لهم حياة جديدة، جريحًا أو ملوَّعًا مصدومًا وغير مصدّق لما حصل! ويأتي دورنا نحن للخروج من قفص غرفة السكرستيا، بين شهداء وجرحى ومصدومين، ومنهم الخوري قطيمي، ونفرٌ من الشمامسة والمؤمنين، الذين يستحقون شهادة المعترفين إلى جانب مَن تكلّلوا بالشهادة في ذلك اليوم الدامي!
لم اشأ أن أصدّق أنا أيضًا ما حصل، وكيف؟ ولماذا؟ ولدى إصراري أمام العسكري الذي أذنَ لنا بالخروج حين الإعلان عن انتهاء العملية، تفقدتُ أركانَ الكنيسة وجنباتها، لأرى أشلاءً متناثرة وأجسادًا طاهرة قد مزّقها رصاص الغدر والحقد والشرّ، وكتبًا ممزقة، وتناثرًا لأواني قدسية، ودماءً ساحت، وآثارًا لإطلاقات نارية طبعتْ جدرانَ الكنيسة وأبوابَها قاطبة حتى السقف، إضافة لغيمة من غبار غطّى أطراف الكنيسة وسقفَها. فهل يمكن تصوّر بشاعة مثل هذا الفعل الإجرامي البغيض الذي استنكرته دولٌ وشعوبٌ وبشرٌ، إلاّ أميركا الوصية على منافعها القومية في هذا البلد، ولم نرى منها أكثر من ردّة فعلٍ خجولة من بين كلّ دول العالم! وما لنا بالقول في هذا الموقف من تعليق!
أمّا ردّ فعل السياسيين في العراق، فلمْ يكن بأفضل من حاميتهم في المنطقة الخضراء. فتصريحاتُهم أو تعليقاتُهم وكذا زيارات المسؤولين في الدولة آنيًا ولاحقًا، لم تدخل سوى في خانة ذرّ الرماد في العيون، وللتغطية على فعلة الشركاءالحقيقيين في هذا العمل الإجراميّ المعقّد، الذي أرادوا فيما بعد، طمسَ كلّ آثارِه التاريخية المخجلة بالإيعاز بإعادة إعمار الكاتدرائية لاحقًا، ليصير مصيرُها إلى نسيان الحادثة المجزرة والتغطية على الجريمة مع توالي الأجيال ومرور الزمن. ومع الإعمار بإزالة الآثار الدموية وتناثر المقدّسات وشواهد التحطيم، طُويت صفحة المجرمين والمشتركين في الجريمة، من أهل الداخل والخارج.
تلكم كانت أكبرَ وصمة عار طبعت كيان الدولة العراقية الجديدة والمجتمع الدولي. جريمة العصر، التي خطّط لها الأسياد ليعود الزمن بالعراق والمنطقة، إلى عصور التخلّف والبداوة ووأد الإناث ومشاهِد الجلد والقتل والذبح والنحر المفزعة، ورؤيةالماجدات وهنّ أشبه بخيم سوداء متنقلة في الشوارع والطرقات، والاستمتاع بمشاهدة قوافل المهجَّرين والنازحين من بلداتهم وقراهم بعد اقتلاعهم من جذورهم الأصلية، بعد مضيّ سنوات قليلة فقط، ضمن ذات المخطَّط الكبير.
 مجزرة كنيسة سيدة النجاة، كانت عملية نوعية، أضافت فتنةً وبعدًا طائفيًا جديدًا لمعنى الإرهاب في النسيج العراقي، ولاسيّما في صفوف الحلقات الضعيفة فيه من أبناء الأقليات الدينية والعرقية المهمّشة بسبب نظام المحاصصة الطائفي الذي فرضته أمريكا الغازية وأملته في كتابة الدستور الأعرج المليء بالقنابل الموقوتة التي يتوالى انفجارُها منذ إقراره ولغاية الساعة. فالجميع يعلم أن الغاية من فرض وإملاء ذلك الدستور، كانت من أجل ترتيب البيت الكرديّ أولاً، ودعم تجبّرِه وتعزيز قدراتِه على حساب عموم الوطن ووحدة أرضِه وشعبِه، من أجل شقّ نسيج الأخيروإضعاف قدراته المالية والاقتصادية والبشرية، وتشظية مكوّناتِه الاجتماعيّة، وكتم أنفاسِه إلى حين تقسيمه إلى أشلاء ضعيفة متهالكة.

يتبع – الجزء الثاني

287
كلمة رثاء في ذكرى الراحل القس لويس قصاب
(لمناسبة الأربعين)
لويس إقليمس
يعيش الفقراء والأغنياء ويموتون، ومثلهم الضعفاء والأقوياء، البؤساء والعظام، الفاشلون والعلماء، وهلمّ دواليكَ. وكلّ هؤلاء وغيرُهم، يولدون من أرحام نساءٍ خُلقن جميعًا بإرادة متساوية، حكيمة وهادفة، من خالق السماء والأرض والعناصر، ويودّعون العالم الفاني، كلّ على شاكلتِه وهواه وسلوكه. مثلهم، كانت ولادة فاضل توما القصاب في 6 تشرين أول 1935، ابنًا لعائلة مؤمنة تقية تخشى الله وتسعى لحبّ الغير. فأحسنَ الوالدان تربية أولادهم، ومنهم "فاضل" الذي نبغ منذ نعومة أضفاره، وقد أصبح لاحقًا علَمًا شامخًا ومعلمًا بارزًا، ليسَ في بلدته "بغديدا" وطائفته السريانية منذ رسامته كاهنًا في 1960، بل على مستوى الوطن، مارًا بمحطاتٍ، طبع في كلّ واحدة منها أثرًا. بل تركَ عطرَ زهرة ولونَ وردة وشموخَ بنيانٍ، تمامًا كما زرع في أرجاء بعضٍ منها، أشواكًا جارحة وأفاح قارورات زرنيخ أزالت الأثر الطيب في بعضها!
أرثيك في أربعينيتك أبًا وكاهنًا على ماضينا الطيب معًا، ولا أبكيك صديقًا تخلّيتَ عنه في نهاية الشوط الذي تأزم. فالدمعة العصيّة انحبست في المآقي ولم تُرد الخروج، حين شاهدتك وأنتَ توارى الثرى مهزومًا أمام الموت العاتي، بالرغم من فداحة الخسارة فيكَ. فأين أنتَ، يا مَن شغلَ الدنيا ودارت حولَه الأحاديث، خيرًا وشرًّا، مدحًا وقدحًا، حسرةً وتشفيًا، كلمةً وسكوتًا؟!!!
أرثيك، وهذا حقّكَ عليّ. فمسيرة أكثر من خمسين عامًا بيننا، بدءًا من معرفتي بك وأنا طفلٌ صغير، ثم شابٌ يافع، فتلميذٌ في المعهد الإكليريكي، ثمّ طالبٌ جامعيٌ وقائدٌ شبابيٌ لفترة واعدة من تاريخ البلدة، وصولاً لفترة خدمتي العسكرية في بغداد حين اضطرّتك الظروف للانتقال إليها مرغمًا في كنيسة سيدة النجاة، ومرافقتي لك ومساندتي إياك فيها قولاً وفعلاً، لحين عودتك لاحقًا مهزومًا مكسور الجناح إلى بلدتك!
خالك الكثيرون في بدء مشوارك، هامةً شامخةً وأنتَ وسعَها في أعمالك وخطواتك وخطاباتك ومواعظك الفلسفية وكتاباتكَ التي ارتقيتَ بها لسدّة الجهابذة، فأضعتَ شيئًا منها لاحقًا في دهاليز الأنانية والغرور والتمرّد. وكنتَ حكيمًا ضالعًا آسرًا في أوائل كهنوتك، تُجاري العمالقة في زمنك من أمثال بهنام دنحا ومنصور دديزاوإسحق موشي ويعقوب شيتو ويوسف باباوي وتوما سكريا ويوسف ككي وغيرهم بقربك وما بعدكَ، ففقدتَ بريقَك يوم تعاليتَ في دنيا الجاه والسلطة وحب المادة.  وكنتَ أميرًاً في علاقاتك مع العائلات والأخوّات والجمعيات، حثيثًا في أنشطتك، غيورًا في خدمتك، سريعًا في مناوراتك الرسولية، فخسرت منها الكثير حين اختلف هؤلاء أو بعضُهم في وجهات نظرٍ معك، وقد فرضتها ظروفٌ قاهرة متضاربة الأهداف والتوجهات. وكنتَ صديقا عصيًا ورفيقًا ودودًا إلاّ لمَن خلتَه لدودًا منافسًا في الرأي والمسيرة، وفي هذا كسرتَ أواصر الودّ والوفاء والصداقة، على غير عادة.
في أواخر لقاءاتي القليلة معك بعد أحداث 2003، ولعلَّ آخرها كان في 2013 ، والسبب في قلتها، الأحداث المؤلمة وصعوبة التنقل والخلاف المبدئي حول بلبلة الأحداث ومسبباتها وسلوكها الشائك واتخاذها مجرى مأساويًا مخيّبًا، كنتُ أراكَ بعدُ عملاقًا في عزّ شموخك وقوتك وصحتك، غير متيقّن هونَك وتنازلّ صحتك وتدحرجك بهذه السرعة مؤخرًا، ليخطفك المنون ويغيّبك، قبل اكتمال مشروعك بل مشاريعك التي لم ترق للكثيرين من قدامى أصدقائك الأوفياء، وأنا واحدُهم. كنتُ أحاول في ذلك اللقاء رأب الصدع بيننا وتقريب الأفكار ولملمة بعضٍ من جراحاتٍ فرضها واقعُ الغدر والتخاذل والفوضى الخلاّقة وأنانية المصالح الذاتية والفئوية في عموم البلاد وفي منطقتنا بالذات. وكالعادة، حسبتُك في حينها، تنقادُ إلى حنينِ سالف الأيام، فتذكّرني بما طوته الأحداث وتكشفُ لي عن مشاريعك الكثيرة في العمل والكتابة والاتصال، مختالاً بإخراج كوم أوراق محرَّرة بقلمك البارع من جرارٍ في قلاّيتك، بعضُها مطبوع، فيما أخريات كانت بانتظار الفرصة لترى النور الذي ضاقَ في حدقات عينيكَ، ولم تنجزها! ولكنك بقيتَ مصرًّا على منهاجك. فما وعدتَ به، سرعانَ ما نقضتَه في قوادم الأيام التالية!
كان قاسيًا عليّ وعلى جميع عائلتي الكبيرة، أن تضحي بصداقة دامت عقودًا، حتى حُسبنا جميعًا اتباعًا لخطّك، منذ تعارفكَ على شيخها الراحل الذي لم يبخل يومًا بدعمك ومساندتك في مشاريعك وخطواتك وتوجهاتكَ. فهنيئًا له غيابُه منذ سنوات كي لا يرى ويبصر ويسمع مواقفَ مختلفة وجارحة مِن أعزّ صديقٍ لعائلتِه الوفيّة، ولم يكن ليروقَ له ما برزَ لاحقًا من تجاف وتباعد وجفاء بل من انتقاص وتحريض أحيانًا، في منابع الوفاء بسبب الاختلاف في الرؤى وفي الأحداث. 
هكذا إذن، لم يشأ الموت رتق ما انكسر وتعديل ما اعوجّ وتصحيح ما خرجَ عن المألوف، حين لم تفعل ولم تسعى لفعل ذلك قبل أن يغتالَك في غيرِ أوانكَ. وهذه حال الإنسان، يستعجلُ أو يبطئ في قرارات نفسه، يصحو أو يغفو على خيارٍ لا يملك أحيانًا ما يواجه به مواقف، بقوة وعزيمة وإرادة ونية صادقة.
أمام نعشك، وأنتَ القوي الضعيف، الجسور الواهن، الآمر الخاضع، وقف الحاضرون حيارى في كيف يرثونك، ومَن يؤبّنُك ويقول عنك كلمة الوداع الأخيرة بحقك. هكذا إذن، لم يجرؤ أحدٌ التقدّم لهذه المهمّة المحيّرة، بسبب إشكالية العلاقة وحراجة الكلمة وما قد يصدر بسبب ذلك من شططٍ أو مغالاة أو قراءةٍ غير سديدة في السيرة والحدث والمشروع. فكانت المهمّة الشاقة لزميلٍ يافع من الجيل الأخير، وقد احتار في القول إلاّ في المدح والتزلّف والتصاغر والمداهنة، تيقنًا بالتهيّب من جبروتك المعتاد، حتى وأنتَ راقد في سكوت أبدي بالموت. وقد أنهى الأخير ما عهدوهُ عنك من هيبة وتعالٍ وسطوةٍ. وإن كان البعضُ يبرّرُ مثل هذا السلوك في مثل هذا الموقف الجلل، فلأنّ أمثال هؤلاء الذوات يجهلون التاريخ وتفاصيل بيان حقوق الرفقة ودروب الوفاء ودهاليز الأحداث في غابر الزمن، حينما عهدناك نحن الذين عشنا معًا ذلك المشوار الطويل بحلوِه ومرِّه، وأنتَ تصولُ وتجول، تأمر وتشير، تنهى وتوزّع الأدوار، تكتب وتخطّطُ، لنراكَ محاطًا في عتيّ سنيّك بقدرات شبابية تفتقر إلى الخبرة والروية والحكمة في نهاية مسيرتك المحيّرة، بسبب غياب الرفقة الطويلة للأوفياء من زملائك في سلك الكهنوت أو في الحياة العامة، أو بسبب ابتعادهم عن شخصك للاختلاف في التوجه والرؤية وقراءة الأحداث، ولأجل الابتعاد عن المحظور أيضًا.
من حقّي أن أحيّي فيك منجزات وأذكرَ نجاحات وأحصي خطوات لم يبلغها العديد ممّن عاصروك، الذين لم يبلغوا ما بلغته. تمامًا كما أعطي لنفسي الحق بذكر إخفاقاتك ومزالقك وهفواتك، وقد صرّحتُ بشيء منها إليك في بعض لقاءاتنا المباشرة، كلّما كانت تتسنى لنا الفرصة للنقاش والمذاكرة أو في الكتابة مباشرة. وقد كانت هذه تصلك جميعًا وتغيض فيك الغيرة والغضب أحيانًا.
 وأكاد لا أنسى البتة، وضعَكَ إيايَ في القائمة السوداء ككاتبٍ في موقع "بغديدا" الإلكتروني منذ 2008، فحجبتَ عنّي قرّائي، بسبب اختلاف الرؤى في طروحاتي ومناهضتي لمشروعك حول البلدة وفي شؤونٍ مصيرية أخرى أثبتت الأيام صدق حدسي وحدس الكثيرين. بل هناك مّن رأى، أنّ من أسباب تدهور صحتك ووهن قوتك وتراجع عنفوانك، يعود في جزءٍ كبيرٍ منه إلى الألم الذي اعتصر فؤادك لما آلت إليه بلدتُك وأهلُها وعدم اكتمال المشروع الذي عملتَ عليه ووقفتَ ذاتكَ وجهدَك ومّن جنّدتَهم لأجله، فانتهيتَ أنتَ ولم ترى إنجازَه المخيب.
إنْ كنتُ أعتب عليك مثل هذا الموقف غير المستقيم وغيره من مواقف عدم الوفاء، فلأنّكَ كنتَ تستحق أكثر ممّا فعلتَ وما أنجزتَ وأدّيتَ طيلة سنواتك الثمانين، وأنتَ كنتَ ماتزال شامخًا فاعلاً أبيًّا حتى تاريخ السقوط الأكبر لبلدتك بغديدا في 2014، بالشكل والطريقة التي آلمَت الجميع. كنتَ تستحقُّ أرفع الرتب والنياشين في خطوات ومشاريع ومواقف مبدئية بنّاءة لخدمة المجتمع والبلدة والوطن، قبل أن يغتالَك حبُّ التمرّد والتعالي والأنانية. ولكنّك أضعتَ تلك المنجزات في أقبية الاستصغار بالإيراركية التي لم ترتقي لهيبتك ولا لعلاقاتك أو دهائكَ. فمَنْ ارتقى من زملائك قبلكَ أو بعدكَ، لمْ يكن بأفضلَ من قدراتك وجدارتك واستحقاقك. ومّن وصلَ مرتبة أعلى، لم يكن بأحسنَ قدرًا من خطواتِك ومهاراتكَ وبصيرتك الثاقبة. ومَنْ داهنَ وحصدَ، لم يكن بأكثر من دهائك ومراوغتك ومكرك. فبعض هؤلاء من وجهة نظركَ حتى يوم رحيلك، كانوا لمّا يزالون أقزامًا حتى في مواقعهم ومراتبهم المتقدمة، إن في محيط بلدتك وطائفتك ووطنك، أو خارجها جميعًا. لكنَّ سلوك الأحداث ومجريات الأمور، كانت قد رسمت لكَ طريقًا آخر في الندّية والمعاندة والتمرّد. حتى في رتبتك الخورأسقفية الأخيرة، وهي الوحيدة التي وصلتك بالطريقة التي أُشيع عنها، لم تكن في قرارة نفسكَ مقتنعًا من توزيع مثيلاتِها بالجملة من قبل رئاستِها، وأنتَ الذي كنتَ من المعترضين على اتشاح ألوانِها في الثمانينات من القرن الماضي. هكذا كنتَ تعلنُ للملأ وتفصح عن رأيك بها لمَن حواليكَ، وأنا شاهدٌ على قولك ورأيك فيها.
في الختام، أقول لك: إنّي أحبّك حتّى لو انتقلتَ وغبتَ ولن تعود أبدًا! وسأظلّ أكنُّ لك كلَّ تقدير ومحبة واحترام حتى وأنتَ ضعيفٌ وحيدٌ بلا أنيسٍ في لحدكَ، بالرغم ممّا أظهرتَه من كراهية وحقد وعدم رضى لاختلافي معك في الرأي والكلمة والحدث، وتغاضيك عن أية مبادرة لتسوية سوء الفهم والاختلاف قبل رحيلك. فالاختلاف في الرأي لا ينبغي أن يفسد في الودّ قضية. هكذا يقولون! لأنّ الأوفياء الحقيقيين لا يضحون بصداقة متجذّرة لأجل متاع الدنيا أو اختلافٍ في الرأي والمنهج والرؤية. والحياة، مهما طالت أيامُها ومتعتُها ومغرياتُها، فهي قصيرة وزائلة ولا يبقى منها إلاّ الأحاديثُ والذكرُ!
أخيرًا وليسَ آخرًا، لا أنسى الموقف الصعب ذاك. فما آلمني وسيبقى، أنك لم تجهد النفس لتسأل عنّي وتهنّئني على سلامتي ومعي إبني الصغير، من حادثة كنيسة سيدة النجاة، وأنتَ عالمٌ أنّي كنتُ فيها من ضمن الشهداء والجرحى. وتلكم من فواصل الخصومة بيننا وما عناه ذلك من ضغينة متينة متجذّرة في أعماقك. بل والأنكى من ذلك، ما بلغني من تكذيبك لوجودي فيها، بالرغم من هولِها وبشاعتِها ومحنتها.
قولٌ أخيرٌ قبل أن يُسدل الستارُ عن ذكراك وأنت ساكتٌ في تراب الغربة خارج بلدتك. نمْ في رحيلك مرتاحًا، حتى لو لم يكتمل شريط مشاريعك! فالقدرُ أصرَّ على تغييبك قبل إنجاز بعضِها، وترابُ بلدتك لم يحتضنكَ، لأنكَ بعتَه مع أنصارِك ومَن في دائرتكم، بالثلاثين من الفضة. ولكنْ اطمئِن، فقد انهارت في غيابك عندي، كلّ أبجديات التفوق والنجاح والأحلام والمكر والتفاني والارتقاء، على التوالي. إنها الليلة التي لم أذرف فيها دموع التوجع لرحيل عزيز ولم تكتئب عندي الحياة، والسبب، لأنّ الفارس سقط بفعل أفعالِه من غيرِ تقريرٍ أو قرارٍ.
    كنتَ من العظماء، وحسبتُكَ دومًا كذلك، بالرغم من كلِّ شيء.!

لويس إقليمس
بغداد، في 10 تشرين أول 2015

288
معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل: نبعٌ وارفٌ من العطاء غابَ

ما حملني للكتابة عن معهد مار يوحنا الحبيب، الذي أدارته الرهبنة الدومنيكية بالموصل بجدارة قرابة قرنٍ من الزمن،هو تجنّي أحد زملائنا الكتاب الوقورين على الدور الريادي الذي تولاه هذا المعهد الكهنوتي المعطاء واثرِه في رفد كنيسة العراق بنخبة من الكهنة والأساقفة والبطاركة للكنائس الكلدانية والسريانية على السواء. وهي ذات الانتقادات التي كانت تشوّش على هذا المعهد في حقبة الستينات والسبعينات، وربما ما قبلها أيضًا.
 وإذ أنضمّ بروح اخوية، إلى الزملاء المنصفين من الكتاب النبيهين والمتابعين المجدّين لما نُشر مؤخرًا من مداخلات وردود هادئة أو غاضبةعلى صفحات المواقع الالكترونية الموقرة، ومنها هذا الموقع الكريم، فقد ارتأيتُ كتابة مقالة صغيرة منصفة عنه، بدل الانزلاق في ردود قد لا ينفع معها شكل الاتهام والمدافعة التي تدورحول مواضيع فيها قسطٌ من الحساسية للبعض غير الملمّ. وبهدف إعطاء شيءٍ من القيمة والحقّ اللذين تستحقهما هذه المدرسة المتخصصة في التنشئة الكهنوتية بالعراق، وددتُ أن أكتب شيئًا كردّ جميلٍ لما قدّمه لهاتين الكنيستين بخاصة، وكنيسة العراق عامة.
وكما سبق وأن قلتُ في مناسبات عديدة، وهذا ما يعرفه عنّي الزملاء الكتاب والمتابعون لما أكتب، فإنّي متجنّبٌ الردّ والتعليق في المواقع وأشكالِها، تاركًا للقارئ الكريم استيعاب المقصود في كتاباتي بحسب قناعة الأخير وإلمامِه بالموضوع المثار. ولكون ما أتيتُ للإيضاح عنه، يخصّ مؤسسة تنشئة دينية، علمية، مسكونية، تثقيفية، جامعة بكل المعاني، أنقل للقارئ الكريم شذرات من مراحل ومحطات تأسيس هذا المعهد ودوره في رفد كنيسة العراق والمنطقة والعالم بنخبة من الكهنة المثقفين دينيًا وعلميًا وأدبيًا وفلسفيًا ولاهوتيًا وأدبًا وفضيلًة. ومنهم مَن ارتقى أعلى الدرجات الكهنوتية في كنيستِه، كالبطريرك الكردينال الراحل جبرائيل تبوني للسريان الكاثوليك الذي  جلس على منصة الرئاسة الفاتيكانيةحينمشاركته في المجمع الفاتيكاني الثاني. كما نذكر الراحل غبطة البطريرك يوسف غنيمة والبطريرك الحالي لويس روفائيل الأول ساكو، الذين نهلواجميعًا، من ذات النبع الوارف، إلى جانب العشرات من الأساقفة والقساوسة الذين أثبت الكثير منهم جدارة في الأدب والفن واللغة والشعر، جنبًا إلى جنب مع سمات الفضيلة والقداسة التي تربّوا عليها.
   وبالإمكان الاطلاع على العدد الأخير من مجلة الفكر المسيحي (505-506 لشهري أيار وحزيران 2015)، الذي نشر تفاصيل أكثر،عن تاريخ ومهام وإنجازات معهد مار يوحنا الحبيب، بإدارة الآباء الدومنيكان، بالموصل (المقال بقلم الأب جان ريشارد، الدومنيكي، وترجمة المطران يوسف توما).
 ليس لكوني أحد تلامذة هذا المعهد، القدامى، أكيل المديح والإطراء للقائمين على تربية أجيال، قرابة قرنٍ من الزمان، لأنّ هذه المؤسسة الدينية الجامعة ليست بحاجة لدفاعي ولا لدفاع زملائي واصدقائي، الذين كنّا نمنّي النفس معًا، بلقاء يجمعنا في صيف 2014 ثمّ تأجل لصيف 2015، من دون أن تتحقق الأمنية. فالأشرار والسيّئون من كارهي ثقافة الحياة في هذا العصر، قد تكاثروا وازدادت شرورهم، فحرمونا من هذا اللقاء الذي كنّا بدأنا بالإعداد له لتحقيقه، لو أنّ يد الدواعش لم تغتل هذه الأمنية في غفلة من الزمن في حزيران وآب 2014!
على أية حال، لم أسمع قط، تلميذًا سابقًا ممّن لم يسعفه الدهر أن أكملَ ما بدأه في المعهد المذكور، أو كاهنًا أو مّن تدرّج واعتلى درجة أرقى، قد استاء يومًا من هذه المؤسسة التنشئويةالرائعة التي كانت تجمع أفرادًا من كلتا الطائفتين الكاثوليكيتين، السريانية والكلدانية، ليلتقوا في أروقته وصفوفه وكابيلتِه ومناسباتِه، فيشعرون أنهم أصبحوا إخوة وأبناء عائلة واحدة يجمعُهم هدفٌ واحد من حيث يدرون أو لا يدرون، ألا وهو رفدهم بعمقٍ وافرٍ من المعارف والتقوى والفضيلة والتسلّح بروحانية وثقافة دينية واجتماعية وأدبية وعلمية وفلسفية ولاهوتية معًا. قد نكون ونحن في أروقة المعهد، ننتقد إجراءات إدارية كنّا نعدّها متخلّفة أو عتيقة أحيانًا، ولكنّنا جميعًا، كنّا نجد فيه، إدارة ومبنى وفعاليات وعلومًا وثقافة وسفرات أسبوعية وشهرية واحتفالات وغيرها، من أروع ما نتذكرُه ونصبو إليه ونشتاق للعودة إليه في كلّ يوم وكلّ لحظة، ونحن نتذكر تلك الأيام الخوالي.
كنّا نسمع أحيانًا انتقادات غير مبررة من جانب نفر ساخطٍ تصدر في الأغلب، عن ذوات من الكنيسة الكلدانية ومقرّها البطريركي بالذات، آنذاك. ولو أنّ تلك الانتقادات والسخط كانت أحيانًا، تدخل ضمن باب النقمة والغيرة لما كان قد حققه معهد مار يوحنا الحبيب، مِن نجاح منقطع النظيرومن سموّ ورفعة ومحبة وشهرة وتربية، داخليًا وخارجيًا، إلاّ أنّ أمثال تلك الممارسات غير المقبولة في حينها، لم تزعزع من القيمة العليا لإدارِته الغيورة وأساتذته المجدّين والدعم الذي كان يلقاه من رئاسات وأفراد، داخليًا وخارجيًا. وهل ننسى، أنّ مَن حصلَ على أحسن الوظائف وعمل مع شركات أجنبية أو في مؤسسات الدولة المهمة في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانوا من قدامى التلاميذ تاركي المعهد المذكور؟ وهل ننسى أنّ أفضل الكتاب الذين نوّروا القلم العربي ورفدوا مجلاّت وصحف وألّفوا كتبًا ومارسوا الترجمة والنقل من الفرنسية إلى العربية وبالعكس، كانوا من خيرة تلامذة هذا المعهد؟
لذا، فإنّ الفكرة عن كون المعهد المذكور (1878-1975) أو الإرساليات الكاثوليكية عامة، مرتبطة بالاستعمار، ادّعاء غير مقبول ولا يليق بمثل هذه المدرسة المهمة في تاريخ العراق، التي مع اختفائها في أواسط السبعينات مرغمةً، شابَ كنيسةَ العراق انهيارٌ، وتراجعت قوّتُها وتأثيرُها، واعتراها الضعف وقلّة الخبرة والعلم، وافتقرت المؤسسات التي تلتها إلى شيء اسمه التنشئة الكهنوتية العميقة. وإلاّ، بماذا نصف الفوضى في كنائس اليوم، والخروج عن السلوك الرهباني والكهنوتي لنفرٍ تحزّبَ لهذه الكنيسة أو تلك الجهة أو التفّ حول هذه الشخصية أو ذاك رفيع المقام؟
   مهما يكن من أمرٍ، فمَن شاء الإساءة لمثل هذا الصرح الديني التثقيفي، مهما كانت الدوافع والأسباب لديه، فهذا له شأنُه وله حريتُه. ولكن ليسَ من المقبول ولا من اللائق التعميم وتصوير الحقائق بحسب الأهواء لتتناسب مع أغراض شخصية وفئوية وطائفية، دخل التحزّب والتعصّب الكنسيّ في خانتها،إن في الماضي أوالحاضر. تحقيق رؤية شخصية فيه قدرٌ من الحكمة، ويعني التواصل أيضًا وإبداء الرأي في شؤون الرعية وإدارتها، ما يمنح قوة وزخمًا للمتلقي والسامع الغائب والحاضر. أمّا النقد لأجل النقدوالتسقيط، وقيام نفرٍ أو طرفٍ بتلبيس هذه المدرسة ذاتالشأن العريق في جسم كنيسة العراق، فروةً لم يُحسن صانعُها ومروّجُها تشذيبَها جيدًا، فهذا يدخل ضمن باب الحقد والغيرة إزاء الجهة المقتدرة التي أثبتت طيلة مائة سنة أنها كانت الأجدر والأرقى والأفضل في التنشئة المسيحية والكنسية والكهنوتية، ناهيك عن تأثيرها الواضح وسط المجتمع المسيحي والعراقي معًا، في العديد من المجالات.


من ألبوم الماضي: محطات تاريخية
أتوق لتوجيه تحيةَ محبة ومودة وشوق لزملائي القدامى في معهد مار يوحنا الحبيب، ومَن عشتُ معهم أو سمعتُ عنهم أو تربيتُ على أيديهم. فمن انتقل إلى ديار ربّه، رحمه الله، ومَن مازالَ يعيشُ حياتَه، له منّي كلّ تحية وشوق وأمنية ودعاء. فقد أمضيتُ في هذا المعهد سبع سنوات، وكنتُ أصغرَ تلميذ فيه حين دخلتُه في عام 1967 وبقيتُ فيه لغاية غلقِه في 1973، وافتراق التلاميذ وتوجههم لخدمة العلم مكرّهين، بسبب سحب حكومة النظام السابق اعترافَها به، وبقاء التلاميذ الجدد فقط، الذين كانوا يرتادون المدارس الرسمية فيه لبضع سنوات لاحقة!
وتلك كانت بداية النكسة في العملية التثقيفية والتنشئة الكهنوتية لكنيسة العراق. وإنّه بفضل المعهد المذكور، أنا ونخبة من الأصدقاء والزملاء التلاميذ القدامى قد أُتيح لنا ارتقاء وظائف ومناصب متميزة واكتساب خبرة وملَكة في الكتابة بالسريانية والكلدانية والعربية والفرنسية على السواء. ومَن لم يسعفه الحظ في إكمال مشوار دراسته الكهنوتية، لأيّ سبب كان، فقد كوّنَ عائلة مسيحية ونقلَ إلى أفراد أسرتِه، شيئًا من تلك التنشئة المسيحية الكاثوليكية المتميزة.  أليسَ هذا بفضل ما تلقيناه من دراسة وتنشئة وعلومٍ وآدابٍ وخبراتٍ ومعارف متنوعة من هذا المعهد الغالي؟ أم نكون ناكري الفضل وبائعي الذات بسبب حالات انتماء غير موفقة وأهواء تعصّب وتعنّت ومكابرة لعنصر في الدين والقومية والطائفة، فنكون مثل مَن لا أصلَ له ولا كلمة شرف ولا غيرة؟
أكتفي بهذا القدر، وأرجو من كلّ ممَن له ذكريات طيبة عن المعهد المذكور، ألاّ يبخل في الكتابة ونشر ما في ملكتِه. كان لي مشروع للكتابة عن معهد مار يوحنا الحبيب بالتعاون مع الأب (المطران) يوسف توما الدومنيكي قبل أكثر من ثلاث سنوات، أخصّ به مجلة الفكر المسيحي. لكنه تأجّل مرارًا، بسبب انشغالات كثيرة. وقد يأتي اليوم الذي أتفرّغ إليه مشفوعًا بالصور. وأرجو أن يكون قريبًا، كي أعطي ولو جزءًا من الجميل الذي له عليّ وعلى شخصي، في الكنيسة والمجتمع وجانب الثقافة والكتابة والخبرة والمعرفة.

تأسس معهد مار يوحنا الحبيب، بحسب الأب ريشارد الدومنيكي الذي أنقل عنه هذه الشذرات، في 27 كانون ثاني 1877، يوم عيد مار يوحنا الحبيب، واستقبل أول أربعة مرشحين في 10 كانون ثاني 1878 بإدارة الأب برنارد كورماشتيك البلجيكي في بناية ملاصقة لدير الآباء الدومنيكان بمنطقة الساعة التي أخذت الاسم من الساعة الشهيرة التي بناها الدومنيكان، ثم انتقل المعهد إلى دار القصادة الرسولية بعد انتقال القصادة إلى بغداد. وتمت رسامة أول ستة كهنة في عام 1889.
في عام 1906 بلغ عدد الطلبة فيه 54 تلميذًا. ثمّ تعرّض للإغلاق خلال فترة الحرب العالمية الأولى، لغاية 1923، حينما التحق فيه 12 طالبًا فقط. وظلّ يتوسع في أعداد المرشحين له من قبل كلتا الطائفتين الكلدانية والسريانية الكاثوليكية. وبسبب هذا التطور في طلبات الالتحاق به، صار التوجّه بشراء دور جديدة مجاورة وضمّها للمبنى الرئيسي، كي تحوي عدد التلاميذ الذي قاربَ 100 تلميذ في بعض السنوات اللاحقة.
توالى على إدارة المعهد، بعد الأب كورماشتيك، الأب سبساستيان شيل، ثم الأب يوسف أومي الذي أداره طيلة 40 عامًا، بنشاطه الملحوظ وغيرته المميزة، حتى انشطاره في 1971 إلى قسمين: قسم الصغار أداره الأب ريشارد، فيما قسم الكبار أُنيط بالأب الدومنيكي كاميلو ثمّ بالأب (المطران الراحل) ميخائيل جميل.
كان المرشحون إليه يخضعون لتوصية كاهن الرعية وموافقة رئيس الكنيسة ولتقييم رئيس المعهد، بحيث كان ثلث العدد للسريان والثلثان للكلدان. وكان للمعهد قوانين خاصة صارمة، بحيث لا يصمد في نهاية المطاف سوى عدد قليل من الدارسين، قد لا يتجاوز أصابع اليد أو أقلَّ منها في بعض السنين. أما مدة الدراسة، فكانت ست سنوات لقسم الصغار، ثمّ أصبحت خمسًا، وست سنوات لقسم الكبار (سنتان لدراسة الفلسفة ومواد أخرى، وثلاث سنوات لدراسة اللاهوت مع مواد أخرى مؤازرة). وكان التلميذ الجديد يُفرض عليه تعلّم التحدث باللغة الفرنسية في الأشهر الثلاثة الأولى من دخوله المعهد، وبعدها يخضع لعقاب معيّن، لو حاول بغير ذلك. وبهذه الطريقة سهلَ تعلّم الفرنسية للجميع.
إنه وبسبب إقبال التلاميذ على هذا المعهد وتراجع أعداد تلامذة معهد شمعون الصفا الذي كانت تديره البطريركية الكلدانية، فقد لزم الأمر في عام 1970، تدخل الفاتيكان عن طريق مجمع الكنائس الشرقية للبت في أزمة بين إدارة المعهدين، كما يبدو. وقد أوصى المجمع بإكمال المشوار على أيدي الرهبنة الدومنيكية، تاركًا حرية الاختيار بين المدرستينللتلاميذ وذويهم وأساقفتهم.
من ضمن المواد التي كانت تُدرّس في معهد مار يوحنا الحبيب، العربية والفرنسية والسريانية والكلدانية إلى جانب العلوم الدينية المختلفة من فلسفة ولاهوت وكتاب مقدّس، من التي تقدّم تنشئة عالية ترقى إلى ما كان يتلقاه أمثالُهم في معاهد غربية مماثلة.
ولعلَّ من أجمل الأيام التي لا يزال التلاميذ القدامى يتذكرونها على مرّ أيام الدراسة السنوية، ذلك اليومان المخصّصان للنزهة الأسبوعية بعد الظهيرة، إلى مناطق في ضواحي الموصل، وفيها يمشون مسافة حتى يختاروا موقعًا مناسبًا للعب كرة القدم وألعابًا أخرى. كما كانت إدارة المعهد تقدّم سفرة شهرية إلى مكان بعيد في القرى المسيحية أو المناطق الآثارية أو على جانب الأنهر والمعالم التاريخية، وفيها كانت تُشكل أحيانًا ما كنّا نسمّها ب "مجاميع المجانين" التي تختار المشي فجرًا وصولاً إلى موقع السفرة المقصودة بالتوالي مع قدوم الباصات التي كانت تقلّ باقي التلاميذ مع الإدارة والآباء والمعلّمين. وحين الوصول نتناول اللفات ثمّ يأتي وقت الغداء مع المعلّبات وبرنامج السفرة الجميل.في حين، كان التلاميذ حتى الستينات يقضون أيامًا في العطلة الصيفية في أحد الأديرة التابعة لكنائس الموصل، حيث كانَ لهم مثل هذا النشاط بمثابة معسكر صيفي. وفي الصيف، كان يُطلب من التلاميذ تأدية واجبات دراسية إضافية متعددة، تدخل ضمن درجات نتائج الدراسة النهائية. ناهيك عن تقليد يخص قسم الكبار، بزيارة عوائل أو مؤسسات مثل السجون وبيوت الأيتام والأرامل وعائلات غير ممارسة لتقليدها الكنسي والديني، كجزءٍ من رسالة مسيحية يعتاد عليها حين دخولِه معترك الممارسة الكهنوتية بعد التخرّج.
في عام 1967، زار معهد مار يوحنا الحبيب، الكاردينال دي فورتسمبرغ، رئيس المجلس الحبري للكنائس الشرقية، الذي أوصى بضرورة استمرار الدومنيكان بإدارة المعهد المذكور، بالرغم من تعذّر الرهبنة الدومنيكية بقلّة كادرها. وفي عام 1973، تمّ إغلاق قسم الكبار للأسباب التي أتينا عليها قبلاً، ما استوجب على المشمولين بالخدمة العسكرية الالتحاق بها، إلاّ سواي، لحصولي على شهادة الثالث المتوسط في امتحان خارجي آنذاك، واختياري إكمال دراستي الرسمية ثمّ الجامعية.
 وفي عام 1974، وبسبب تفاقم الأمور والصعوبات العديدة التي رافقت الدراسة في المعهد، قررت الجهات المعنية في الفاتيكان، إغلاق ما كان تبقى من قسم الكبار وانتقالهم إلى المعهد الكهنوتي الكلداني في بغداد، فيما واصل قسم الصغار توارده على المدارس الرسمية، لغاية 1985 حيث انتهى كلّ شيء.
وهكذا تم إسدال الستار عن أروع حقبة قدّمَ فيها الآباء الدومنيكان من جهدهم وراحتهم وعلومهم ورسالتهم لكنيسة العراق، حيث ساهموا في تنشيط كنيسته في ميادين الدين والعلم والفضيلة على السواء. وقد كان لكنيسة العراق الشرف بارتقاء ما يربو من عشرين مطرانًا الدرجة الأسقفية، بضمنهم ثلاثة بطاركة كما أوردنا في أعلاه، وأساقفة متميزون مثل أدي شير،وفرنسيس داود، وأندراوس صنا، وأبلحد صنا، وحنا قلو، وحنا زورا، وحنا بولص، وجاك إسحق، وميخائيل الجميل، وحنا مرخو، وجرجس القس موسى،وميخائيل مقدسي، وربان القس، وبطرس هربولي، وبطرس موشي، ويوسف عبّا، ويوسف حبش، ويوسف توما، وعمانويلشليطا وغيرهم ربما لم تسعفني الذاكرة لإدراجهم، اضافة الى مئات الكهنة وآلاف الشمامسة ممّن انخرطوا في المجتمع وتسنّموا مناصب وبلغوا مراتب متميزة وأجادوا في الكتابة والترجمة والنقل وتربية أجيال.
ومن الآباء الدومنيكان الذين عاصرتُهم للفترة من 1967-1973، ممّن أقاموا في الموصل وبغداد وساهموا في التنشئة والتدريس في المعهد، وفي تنظيم الجماعة في كنيسة الساعة، وفي الإرشاد والأنشطة لدى الرهبانيات والكنائس المختلفة، أذكر الآباء: فريات، توما كوسماؤو، أمودري، خليل قوجحصارلي، فانسانت، مينو، جان فيليب (لاشيز)، يوسف أومي، جان ريشارد، كاميلو، جان ميريكو، دي بارل، وربما آخرون لا أتذكرهم.
كما لا أنسى ذكر الآباء الكهنة الذين ساهموا في التدريس في أروقة المعهد، وكانت لهم بصماتُهم في التنشئة وإعطاء مختلف العلوم والآداب، ومنهم: أبير أبونا مدرس اللغة الآرامية– السريانيةوالمؤرخ اللامع،وجبرائيل جرخي مدرّس اللغة العربية البارع، والخوري ألياس صقال مدرس الرياضيات، وميخائيل جميل (المطران)، وجرجس القس موسى (المطران)، ونعمان أوريدة، وبطرس موشي (المطران)، وغيرُهم من جنسيات مختلفة وأستاذة مدنيون تم انتدابُهم لإكمال الفراغ في المناهج.
وللمرحوم القس إسطيفان زكريا، القدح المعلّى في متابعة شؤون إدارة المعهد مخوَّلاً رسميًا لدى السلطات الحكومية. فقد استغرقت معاملة الاعتراف بالمعهد التي كان يتابعها بعناد العديد من السنوات، ولكن من دون جدوى، لحين إغلاقِه نهائيًا بسبب رفض الحكومة البعثية آنذاك الاعتراف به، عادّةً أنَّ الإرساليات التبشيرية خطرة على تنشئة الأجيال لتصادمها مع مناهج الدولة ومبادئِها القومية. هذا الإنسان "الطيار" من آل زكريا (اسطيفو)، الذي حملته والدتُه "طيارة" القره قوشية تسعة أشهر في بطنها، لتنذرَه كاهنًا متفانيًا لا منزلَ له سوى غرفتَه البسيطة في الطابق الأول من حوش معهد مار يوحنا الحبيب في قسم الصغار، لم يتوانى يومًا في نشاطه الدؤوب بمتابعة شؤون هذا المعهد. فقد كان تعوّد التنقل الدائم بين مدن العراق وقراه والعاصمة بغداد، ولا يُعرف له مستقَرّ. وهو الذي طلبَ يومًا من متحدثيه حلّ لغز إنسان اضطرَّ للبقاء في بطن "طيارة" تسعة أشهر من دون أن يُؤذن له بالهبوط منها، ولم يصدّقوا. فكان الجواب: هذا الإنسان هو اسطيفان زكريا. رحمه الله!
إذا كان الماضي قد نسينا والحاضر قد أتعبَنا، فنحن لن ننسى سنواتنا الجميلة في معهد مار يوحنا الحبيب، ما دامت فينا وفي أجيالِنا نسمةٌ ولسانٌ وإرادة وقدرات ورجاءٌ بمستقبل قد يكون مختلفًا، ولكن يمكن أن يعيد دورة الحياة إلى الطريق الصحيح، ولو بعد حين!
رحم الله مَن انتقل إلى الأخدار السماوية من رؤساء كنسيين ومدنيين، بطاركة وأساقفة وكهنة وتربويين وتلامذة، وحفظ مَن بقي منهم يطاردَ الشرّ ويسعى للخير والبناء، لمنفعة الكنيسة والوطن والمجتمع، اينما حلّ أو اغترب أو استقرّ. فحالُ الدنيا، هي هكذا. لن نعلم اليوم ولا الساعة ولا ما قد حدّده لنا القدَر أو حفظته لنا السماء.

289
العلمانية في نظام الحكم الفرنسي، نعمة أم نقمة!
-الجزء الثاني-
لويس إقليمس

فرنسا، الفتاة المدللة للكثلكة؟
في هذه الفترة بالذات، كانت تُعدُّ فرنسا "الابنة المدلّلة" للكنيسة الكاثوليكية، أو بكرَهاوحاميتَها، كما ورد في أوصاف أخرى. وأيًّا كانت الأحاديث التي أُشيعت عن تورّط ماسونيّ في إشعال الثورة الفرنسية، من خلال نخبة المستنيرين وفرسان الهيكل واليعاقبة (Jacobains)، فقد كان الكيل طفح من تدخل الكنيسة ورجالِها في شؤون الحكم وفي دعم الملك والمَلكية التي كانت بعيدة عن هموم الشعب ومشاكلهم، ما قادَ للتهيئة لدخول العلمانية على الخط، بهدف التخلّص من حكم الأمراء ورجال الكنيسة والإقطاع المؤيدين للنظام الملكيّ الفاسد.
 لكنَّ خروج الكنيسة بتلك الفورة العارمة في المشهد السياسيّ الذي أقرّه الجمهوريون بفكرة التناقض القائم بين روح الحرية وموقف الدّين، كانت له نتائجُه السلبية على صعيد المجتمع والدولة، فيما بعد. فقد تنامت في الأوساط، أفكارٌ ماسونية وفلسفات متنوعة إلحادية ولا أدرية ولا دينية ووجودية، تمّ الترويج لها على نطاق واسع من جانب كتّاب مغرضين، جلُّ همّهم، كان الثأر من الكنيسة الكاثوليكية وإبعادِها عن المشهد السياسي وإدخال إصلاحات بطريقة هوجاء وغير متزنة، أحيانًا.وما نتيجةُ ما بلغت إليه فرنسا ومواطنوها في هذه الأيام من انحسارٍ في العمل الكنسيّ والالتزام الديني بحجة العلمانية، سوى نتائجلنكثها عهودَ الولاء والانتماء لتعاليم الكنيسة الأصيلة التي اتسمت بها، وبنت عليها مبادئَها الإنسانيةفي المحبة والتسامح وقبول الآخر وكذا في الأخلاق العامة. وقد حقّت تسميتُها ب"الابنة البكر، ولكنها ليست الأكثر وفاءً "، كما قالها بابا الفاتيكان فرنسيس الأول خلال لقائِه نخبةً من شباب فرنسيين قدموا لزيارته في مطلع حزيران 2015. فالعلمانية لا تعني في كلّ الأحوال، التنازل عن العقيدة الدينية الأصلية للمؤمن وعن مبادئِها السماوية التي ساعدتوأسهمت وأضافت أبعادًا جديدة في سلسلة تنظيم حياة الإنسان ونقلِه نحو الحداثة المؤمنة وليس البعيدة عن الله وعن كلّ التزام دينيّ ورثه عن أسلافِه. فليسَ كلّ ما دمّرته الثورة الفرنسية كان فاسدًا، ولا ما ورثته الجمهوريات المتعاقبة عن رجالات الكنيسة كان متماهيًا مع النظام الملكيّ وحاشيتِه التي لم تكن تشكّل سوى 10% من الشعب الفرنسيّ الذي كان يعيشُ مسيحيتَه كما ينبغي في ظلّ رعاية الطيبين من قساوسة الشعب بطبقاتِه الدنيا من غير المتورطين مع الأنظمة الملكية والإقطاعية الفاسدة آنذاك.
هناك في الأفق، ما يدعو للملمة ما فقدته فرنسا من وراء تمرّدها الجافي على الكنيسة، بتوجيه سهام الاتهام الجارف والتعميمي على كلّ ما كان له علاقة بالكنيسة ورجالِها. فكنيسة فرنسا، أيام الملكية، وإن كان يحكمُها ويتحكم بها النبلاء والإقطاعيون من رجالِها، فهؤلاء لم يكونوا الوجه الحقيقي لها. لذا من الخطأ التعميم وصبّ جام الغضب ورفض الرسالة الناصحة والنزيهة لرجال أثبتوا حبهم وتقرّبهم من عامة الشعب، بعيشهم ظروفهم اليومية وإكمالهم فروضهم الكنسية على أفضل وجه. وهناك، مَن يشهد لهم العالم بفضيلتهم وقداستهم وكراماتهم لغاية الساعة. والتاريخ الكنسيّ يعرض للكثير من هؤلاء ممّن خدموا وكانوا أمناء في رسالتهم المسيحية والكنسية وسط العامة.
لذا، لا مناص من عودة المجتمع الفرنسي، إلى تديّنه والالتصاق بكنيستِه المجاهدة والالتزام بعقيدته المسيحية، درءً من الضياع في متاهات الفلسفات الغريبة الجديدة التي أبعدته عن هويته الأصلية، والتحوّط من أنشطة أتباع الديانات الدخيلة التي استغلّت الدساتير والقوانين المتسامحة لتحقيق أغراضٍ لم تعد خافية للجميع، بل وتُسمع بأمّ الآذان، كما يشهد لمكرِها الشارعُ في كلّ يوم وفي كلّ ساعة. ذلك أنّ ابتعاد البشر عن القيم السماوية المتأصلة التي تساعد في إقرار مفاهيم الخير والشرّ والتمييز في قيمها المجتمعية، لا يخدم مسارَ المدنية والتمدّن التي يسعى نحوها عالم ُ اليوم. من هنا، كان ظهور طبقات مجتمعية نزلت إلى الشارع، لتداوي ما أفسدته السياسة والآلة الماديّة التي عصفت بفكر هذا العالم المتلاطم الأمواج الذي لا يعير اهتمامًا لأفواج المهمّشين ومنكسري القلوب ومّن آذتهم طموحات المادّة والجاه والسلطة بأي ثمن وبأيّ قدر من الفعل. فالشعور بقسوة "العلمنة"، وجدبها في حياة زعماء العالم الماديين، كان الحافز الأكبر للتوجه نحو المنهل الديني الأصيل للغرف منه وتطعيم ما أفسدته السياسة في حياة المجتمعات، بدءًا من الفرد والأسرة والعائلة والمدينة وصولاً إلى أعماق إدارة الدولة. فما لحق بمفهوم مبدأ "العلمانية" من سوء فهمٍ أدّى إلى نزوع الإنسان إلى وسائل مدمّرة عملت على نسف عُرى القيم الإنسانية والتعايش السلميّ التي أتت بها المسيحية لغاية قيام الثورة الفرنسية، لا يمكن القبولُ به عندما تمّ تفريغُه من قيمته الكبرى في احترام الكائن البشري والقبول بحرّيته الشخصية في التعبير والفكر والاعتقاد.

مفهوم معاصر
العلمانية في المفهوم المعاصر، تعني ضمانة وجود نظام سياسيّ يعترف بحق الفرد "المواطن" بحرية الدين والفكر والعقيدة، كأساس في الحياة الاجتماعية اليومية. كما تضمن الحرية لمَن يرضى بالعيش خارج نطاق الإيمان والتديّن، على السواء. فمَن شاءَ عاشَ في إيمانِه ودينِه، ومَن لم يشأ تحمّلَ وزرَ حريتِه وخيارِه. والعلمانية في مفهومها الواسع، تعزّز في الوقت ذاتِه، مفهوم العلاقة بين الإنسان المخلوق وبين خالقِه. أي أنها ترسم العلاقة المفترضة بين البشر والله، وهي علاقة شخصية وفردية بحتة، لا يُفترض الضغط باتجاهها. بل، هذه العلاقة حريٌّ بها، أن تكون خارطةَ طريقٍ وهدايةَ عملٍ إلى قلب الإنسان بالتقرّب شخصيًا من المقدّس، ومع خالقِه ومَن يعبُدُه أو يؤدّي له الاحترام والتبجيل، وليسَ بالإكراه.
هناك أتباعُ أديان لا يسوّغون الاعتراف بمثل هذا المبدأ ولا يتقبلون هذا المفهوم الذي يعدّونه تمرّدًا على الدّينوخروجًا على حكم الله والشرع.وهؤلاء، كما يبدو باعتمادهم على منظرين توقفَ عندهم الزمن ونصبوا أنفسَهم حكامًا باسم الله وحرّفوا الدين وعطلوا الإمامة الحقيقية الرصينة، لا يرضون بغير الإكراه في تنفيذ الشرائع التي يصيغونها على مقاسهم ووفق مداركهم المتحجرة التي عفا عليها الزمن ولم تعد تصلح لمجتمعات القرن الحادي والعشرين التي تختلف كلًّيا عن حياة البداوةالتي فيها كُتبت الشرائع وسارت الأحداث والوقائع، بالرغم من ثبوت تحريف تعاليم الإسلام الأولى وتعديل الكثير منها لاحقًا كي تتلاقى مع مصالح الجهات الحاكمة بعد أكثر من قرن أو قرنين على أقل تقدير من بدء الرسالة المحمدية. وتلازمًا في الإيغال بهذا السلوك المتخلّف الذي عفا عليه الزمن منذ قرون، مازال بعض هؤلاء يعاندون بفرض حجة الإكراه بالتقوى والإيمان وفي التديّن الظاهر، حتى لو لم ينسجم ذلك مع حرية القناعة الشخصية والتعبير والإدراك. فالمهمّ، أن يُحسب الفرد ضمن العدد الكميّ لكومة القشّ التي تُجمع في البيدر. مثل هذه الأديان، تقطع الطريق أمام حرية الفرد المخلوق حرًّا مخيَّرًا، وليسَ مسيَّرًا مكرهًا، لاختيار ما يلائمُه وينسجمُ مع تطلعاته الفكرية والإنسانية وفق فهمِه لفلسفة الحياة ونهجها المتزن الذي يرض الله والبشر.
وبالرغم من كونِهذا المبدأ حقًّا مطلقًا لكلّ إنسان آتٍ إلى الأرض عبرَ إنسان مخلوق بعناية ربانية وبقوّة الخالق، إلاّ أنه لم يزل مرفوضًا،بل تحرّمُه مثل هذه الأديان ساكنة غير المتحركة، التي تحجّرت بفعل الكبت والكراهية وسوء التقدير الإنساني والمجتمعيّ، بل والدّيني أيضًا. فهؤلاء العائشون في قماقم المغارات المتوحشة، لا يُجيدون عيشَ نعمة الخالق التي نزلت عليهم يوم خلقهم الله الذي يعبدونه، وهم لا يحسنونردّ الجميل إلاّ بالحقد والكراهية والقتل والتدمير والسبي والاغتصاب والنكاح بشتى الأعذار، وقد صار الأخير غاية ومقصدًا وهدفًا وليسَ وسيلة لإدامة خليقة الله الجميلة، فحسب!
مجاميع ما يسمون أنفسَهم بالجهاديين والمتشددين دينيًا، الذين أساؤوا للدول العلمانية التي آوتهم وقدّمت لهم الأمان الذي فقدوه في بلدانهم، والطعام والمساعدات التي كست احتياجاتهم وحاجات أهلِهم وعوائلهم على السواء، قد تقولبوا وتأطّروا على أشكال من الشرع عفا عليها الزمن ولم تعد تصلح توجيهاتُها ولا تعاليمُها لمواكبة عصر شعوب الألفية الثالثة بكلّ تقنياتِها وتقدّمها وبهرجتِها وتغييراتِها في كل صنف وشكل من الحياة. ولكي أكون أكثر دقة، فشكل الدّين الإسلامي الذي يريد هؤلاء العودةَ بالبشرية وبالعالم إلى قرون الظلام والتخلّف، قد وُضعاليوم حتمًا في زاوية ضيقة، بعد الأحداث والحوادث والتطورات الأخيرة التي عصفت بدول العالم، ولاسيما تلك التي تعبد الديمقراطية في أنظمتها السياسية وتعشقُها وتحرص على تطبيق حالة العلمانية في دساتيرها وقوانينها، وتحفظ للفرد المواطن حقوقَه من دون نقص أو انتقاص. فهل كان الدينُ ناقصًا ليستعين بأمثال هؤلاء الذين غالوا فيهولم يكتفوا، بل اتجهوا لما هو أبشع بجواز قتل النفس البريئة من دون سبب أو ذنب، إلاّ لأنها مختلفة مع توجهاتهم الفكرية الجامدة التي تقيّحت وفاحت رائحتها النتنة حتى بالنسبة لأصحاب الّدين المتزنين والمعتدلين والوسطيين؟
إنَّ الدول التي آلت على نفسها، تحرير الإنسان من قيد الدين بجعلِه حالة شخصية ووضعًا فرديًا ذا خصوصية بين الله وبين خليقِته، تقدّس حرية الضمير والفكر والعقيدة. وهي تطلب من المتنورين وأصحاب العقول والثقافة، من مراجع دينية وسياسية ومنظمات وأفراد، سلالاً وليسَ سلةً واحدة من المدافعة والترويج، بالعقل والضمير والدافع الإنساني واليقين بأنّ الإنسان مخلوق حرًا في اختيار ما يراه ملائمًا في حياته، شريطة عدم تقاطع هذا الاختيار مع السياق العام لطبيعة المجتمع الذي يعيشُ فيه. فالعلمانية، تبقى بالنسبة للدول المتمدنة خيرَ ضمانٍ لحرية الفرد ونماء المجتمع وتقدّم البشرية. ومن ثمَّ، فهي التزامٌ أخلاقيّ لكلّ مَن يؤمن بهذه الحرية وبعناصر الديمقراطية التي انبثقت منها. فهل من الإنصاف مكافأة هذه الدول بالانقلاب عليها والتسفيه بمبادئِها وتدمير مجتمعاتِها، من خلال فرض أفكار وأخلاق بالإكراه على غيرهم؟
وإن كانت العلمانية وفق هذا المفهوم، تعني استقلالية السلطة المدنية أو الدولة في سياستها العامة عن تأثيرات الأديان وكواليسِها السرية وسرقتها لصوت الشعب وخيارِه في بعض الأحيان، فهي في ذات الوقت، صمّام الأمان للمجتمعات التي تقدّس حرية الفكر والتعبير والعمل والدين والمذهب واللغة، وهي ذات الأهداف التي اعتمدتها شرعة حقوق الإنسان، وفق منظور "الدين لله، والوطن للجميع".
على صعيد العالم العربي والإسلامي، فمن المؤسف،أنّ مثل هذه الأيديولوجية أو الفلسفة الإنسانية المتقدمة، لا يبدو لها مستقبلٌ فيه، نظرًا لعدم وجود تراتبية هرمية لدى مختلف المذاهب الإسلامية التي لا تقرّ بأية قوانين وضعية أو متحرّرة تخرج عن سياق ما ورد من تطبيق شرعيّ حرفيّ في كتاب المسلمين. وكلُّ ما كان حرفيًا، فهو يدمّر ويقوّض ويموت، بعكس الروحيّ الذي يحيي ويقوّي ويعزّز. يقول القديس بولس رسول الأمم، بهذا الصدد " الحرف يقتل ولكنّ الروح يحيي" (قورنثية 2، إصحاح 3:6).
 وهذا ما سارت عليه وآمنت به المسيحية في هذا البلد وفي العالم منذ قدومها، حيث عدّت التمسّك في حفظ الناموس الحرفيّ الجامد بمثابة العبودية لمثل هذا الناموس أو الشرع. في حين أنَّ مِن ثمار الروح، الإيمانَوالمحبة والبرّ وما فيها من منافع روحية للإنسان والعالم. لذا، كلّ الدساتير المكتوبة في الدول الإسلامية والعربية مقيّدة بهذا الحرفيّ القاتل. فمن بنودها الأولى، مايلزمُ عدمَ تعارض دستور وقوانين الحياة والدولة مع أحكام الإسلام وما تُسمى بالثوابت، بالرغم من تناقض مثل هذا الكلام مع تبنّي مبادئ الديمقراطية على الصعيد العام.
 فمبدأ الديمقراطية الذيينطوي على مفهوم شامل بالعدالة الاجتماعية والمساواة واحترام خيارات الآخروإتاحة ضمانات ومتطلبات للعيش المشترك، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو اللغة، يعني توفيرمجموعة من حقوق وواجبات للدولة والأديان والأفراد ضمن الوطن الواحد. وهذا لا يطيقُه أصحابُ الشرع والمتمسكون الحرفيّون بالشرع والناموس، الذين يرون فيه خروجًا عن تلك الثوابت.
اليوم، وبهدف خلق مجتمع متنوع دينيًا ومتسامحٍ مع الجميع، يتطلب من الدولة حياديتها إزاء جميع الأديان والمذاهب والفلسفات والأيديولوجيات، مهما كانت ومن دون أية امتيازات، شريطة عدم إخلالها بالصالح العام وتعرّضها للحريات العامة والخاصة، أو بغية التحكم في النظام الاجتماعي أو السياسي، في ضوء المبادئ المفترضة التي يحملها هذا الدين أو ذاك. هذا إلى جانب ضمان الدولة ومؤسساتها لحرية المعتقد والعبادة والفكر والرأي، من خلال ضمان الممارسة الحرة للشعائر الدينية، مع مراعاة عدم الإضرار بالنظام العام وبممتلكات الدولة والمواطن على السواء.
وهذا ما هو مطبَّق في واقع الحياة اليومية في النظام الفرنسي في جميع مؤسسات الجمهورية، بدءًا من المدارس،ووصولاً إلى مؤسسات الدولة، رغبةً في اكتساب صفة الاستقلالية في الرأي لدى كلّ مواطن. وهذا يستوجب من أجهزتها كافة، الحرص على إبقاء السلم الأهلي وردع كلّ جهة تحاول زعزعة النظام العام أو ممارسة ضغوط وتهديدات والقيام بممارسات عنصرية أو تلك التي تدعو إلى التفرقة والهيجان تحت ذرائع دينية أو مذهبية من شأنها نسف الأسس العلمانية التي تقوم عليها مؤسسات الدولة جميعًا، العامة والخاصة،ولاسيّما التعليمية والتربوية منها، بكل أشكالها ومراحلها. ومنها أيضًا، مبدأ المساواة في الحياة الاجتماعية، كالمساواة بين الرجل والمرأة، وجعلها قيمة عليا من أسس الجمهورية التي لا تقبل المسا أو الإساءة إليها، تحت ايّ ذريعة. فالمواطنة تبقى حبل الأمان والنجاة في إلزام الإنسان باحترام المبادئ والعقيدة التي يختارها كلّ مَن يقبل العيش تحت سقف هذه الدولة العلمانية، من دون المساس بالحريات العامة أو حرية الغير وخياراتهم، احترامًا للتعددية التي ينبغي أن تكون غنىً وليسَ عائقًا. من هنا، يكون مهمًّا، القبول بمبدأ خلق نوع من التوازن لدى مواطني الدولة بين الحقوق والواجبات. وهذا يتطلب بالتأكيد، تطورًا وانسجامًا من جميع عناصر التعددية في المجتمع من دون تعصّب أو تصلّب أوبوجود إمكانية لبروز فكرةالرفض بقبول الآخر المختلف، طالما أن ذلك لا يمسّ النظام العام.
في الختام، أعتقد أنّ الإرث الأصيل للدولة والمجتمع، بوجهيه الديني أو الاجتماعي، سيبقى منبعًا للعودة إليه حين الأزمات أو حين استغلاله من قبل القادمين الجدد، بسبب أفكارٍ ومعتقدات وشرائع لا تتوافق ومبدأ العلمانية الذي أتت به الجمهورية الفرنسية. فالانفتاح وفق هذه المبدأ، لا يعني أيضًا، محو ذاكرة إرث أصيل وزاخر لمجتمع، والتسفيه أو التضحية بقوّته وفاعليته طيلة قرون من الزمان. فهذا سيشكلُ في آخر المطاف، انتحارًامجتمعيًّا وتراثيًّا. وبالتالي فهو يعني أيضًا، انتهاء حياة وأخلاق وطبائع شعبٍ بأكملِه! فلا ينقلبُ بالتالي من نعمة إلى نقمة!

بغداد، في 10 آب 2015





290
مسيحيو العراق، بين تاريخ الأمس ومحنة اليوم!
لويس إقليمس
لم يشهد عراق ما بين النهرين منذ أعوام، بل منذ قرونٍ، ما تعرّض له في أكثر صفحاته قتامة، بين 10 حزيران و6 آب 2014 ولغاية الساعة، حين سطا ما يُسمّى بالدولة الإسلامية "داعش" على مدينةالموصل ولاحقًا على أراضي مناطق سهل نينوى، المشهودة بتمركز المسيحيين فيها منذ أواسط القرن الثالث الميلادي، أو نحو ذلك، أي قبل ما يربو على 18 قرنًا خلت. وإذا كان صراعُ المسيحيين في بلاد ما بين النهرين لم يخلُ من اضطهادات ممنهجة وقاسية أحيانًا، لاسيّما من أقوام الوثنية والمجوسية التي كانت ضاربةً أطنابَها في منطقة البداوة العربية وما جاورها في بلاد فارس التي شهدت جولاتٍ من الكرّ والفرّ في حروبٍ بين البلدان المجاورة بسبب التبعية لبيزنطة أو لبلاد فارس، إلاّ أنَّ علاقاتها مع المسلمين الفاتحين الجدد للمنطقة بالسيف، لم تعتورها أزماتٌ مستفحلة، بسبب من رؤية منطقية وضعية في تلك الحقبة حيث رأى المسيحيون في الفاتحين الجدد محرّرين أزاحوا عن كواهلهم أوزار الممالك العاتية التي كانت تستهين بمقدّساتهم وتستبيح مناطقهم وأموالهم وأعراضهم وتحاول النيل من ديانتهم والقضاء عليها.
 إلاّ أنه، وبسبب قلة وعي وعدم انفتاح بعض الخلفاء والحكام والولاة العرب المسلمين، أحيانًا كثيرة، كانت جموع المسيحيين تتعرّض في فترات متعاقبة من الحكم الإسلامي، لأعمالٍ لا تتسم بالمرونة والفطنة والحكمة والتسامح، تبعًا لتفاسير وفهم واستيعاب بعض هؤلاء، لجوهر العلاقة المرسّمة في قرآن الإسلام إزاء المسيحيين وغيرهم من مختلفي الأديان الذين كانوا في ذمّتهم وتحت حمايتهم.
فوجدت فترات قاسية وسلبية، إلى جانب أخرى مزدهرة من العلاقة بين الطرفين، وصلت لحدّ الاندماج في المجتمع والتعايش في مفردات الحياة اليومية بكل تفاصيلِها، بحيث صار عامة الناس، ولاسيّما طبقة الدواوين في دور الولاية، يسلّمون على بعضهم بالسريانية ويقولون "بارخمور" أي "بارك يا سيّد"، حين اللقاء. وهذه عبارة يستخدمها المسيحيون في طقوسهم السريانية الشرقية والغربية للتحية، على السواء!
وإذا كانت كنيسة "كوخي" في منطقة قطيسفون (المدائن الحالية) تُعدّ أقدم كنيسة تأسست في العراق في حوالي منتصف القرن الأول الميلادي، على يدي مار ماري ومار أدي، تلميذي مار توما الرسول الذي بشّر الشرق وصولاً إلى الهند ومنغوليا، فإنّ سهل نينوى والموصل وصولاً إلى شمال الوطن، كانت قد تنصرت لاحقًا من التاريخ المذكور، وربما في بدايات القرن الثالث أو الرابع بحسب البعض ووفقًا للمعطيات التاريخية التي دوّنت آنذاك، بالرغم من ظهور بوادر مسيحية في نهاية القرن الأول أو بدايات القرن الثاني الميلادي في مناطق الحيرة والكوفة وبحر النجف والأنبار، بحسب آخرين.
ومّما لا شكّ فيه، أنَّ قبائل عربية كانت قد تنصرت في شمال شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين، في الحقبة ذاتها. فمِن رُصافة إلى معّان ومِنْ دمشقَ إلى الحيرة كانت قبائل تنوخ وحمير وتغلب وغسان وبحراء سليح، وبالقرب منها شرقًا: اللخمانيّون، وفي الجنوبِ قبائلُ كلب وأياد وبكر وعِجل وشيبان، كماعندَ جيرانِهم في الشرق والجنوب بَنو طَيّ وتَميم، وفي وسطِ الجزيرة بَنو كندة، وفي الجنوب الأقصى مِنَ الجزيرة بَنو الحارث وعبد القيس وغيرُهم. ومنهم مَن سكنوا العراق بعد السيل العارم الذي ضرب سدّ مأرب باليمن المسيحية عن معظمها. فتمازجوا واختلطوا وكانت لهم ممالكُهم في الحيرة والمناذرة، حيث ساد فيهما العنصر العربي من قبائل عدنان وقحطان والعباد، واشتهر منهم ملوك وشعراء ورجال دين مسيحيون كثر ورؤساء أديرة وأميرات نلن شهرتهنّ في المنطقة، من أمثال هند الصغرى،الشاعرة الفصيحة والحسناء بنت الملك النعمان بن المنذر، التي ترهبت وبنت ديرًا بعد مقتل زوجها على يد والدها في نكاية مدبرة. كما اشتهرت هند الكبرى، بنت الملك الحارث الكندي التي لبست المسوحوبنتْ ديرًا هي الأخرى.
وتشير الكتب أنّ سكان (الحيرة)، كانوا من العراقيين الاوائل الذين اعتنقوا المسيحية النسطورية، وكان فيها كرسي أسقفي مهمّ. فقيل فيهم قومٌ من العباد، وتعني بالآرامية (العابدون أو المؤمنون)،وكانوا يتحدثون الآرامية (السريانية) التي منها اشتقّ العربُ الخطَّ العربي من الخط السرياني. ومن قصورهم السدير والخورنق. أمّا قبيلتُهم، فمِن بني لخم. ومؤخرًا، قامت بعثة آثارية عراقية في كربلاء والنجف بكشف العديد من ديارات المسيحيين في تلك الحقبة، ما تزال آثارُ بعضها ماثلة لغاية الساعة، وهي تدعو الجهات المعنية بالتراث والآثار لإبداء الاهتمام الواجب، لاسيّما وأنها تقع اليوم قريبة من مواقع وحضرات دينية مقدسة بين كربلاء والنجف والأخيضر وبابل والكوفة وما جاورها.
كما، ما تزال أشعارُ بعضهم تحكي قصصًا من الماضي التليد الزاهر بالفصاحة والتغنّي بالحبيبة وحبّ الصحراء والخمر والحبّ العذري. هذا إلى جانب الأقوام السريانية المنحدرة عن الشعوب الآرامية التي كانت تقطن بلاد سوريا وما بين النهرين، من بقايا بلاد آشوروكلدو وبابل. وحينها كانت اللغة السريانية هي اللغة الرسمية ولغة التجارة بين شعوب وممالك المنطقة بأسرها، بضمنها بلاد فارس، قبل أن تستقوي العربية بفعل الفتوحات والغزوات وأعمال القتل والتهديد بحدّ السيف أو دفع الجزية أو الإسلام. إلاّ أنها، مع كلّ هذه التطبيقات الشرعية بحق المسيحيين، سواءً كانت عادلة أم غير إنسانية ومجحفة، لكنها لم تصل إلى حدّ التهجير القسريّ والظلم والقساوة التي أتت بها تنظيمات "داعش " الإرهابية قبل عامٍ في مناطق واسعة، كانت تُعدّ عبر قرون، حصنَ المسيحيين على اختلاف طوائفهم وتكويناتهم. فما حصل في 10 حزيرانو6 آب 2014، لم تصل إليه حتى غزوات طهماسب وهولاكو وجنكيزخان. فالتاريخ يذكر، أنّ رؤساء كنائس ومسيحيين أشراف، كانت لهم امتيازات وعهود وصكوك من خلفاء وحكام وملوك وولاة تجيز لهم ممارسة شعائرهم والتبشير بدينهم والعيش والتنقل بحرية، مقيّدة أو بغيرها! وهذا ما يشيرُ إليه ازدهار الأديرة وكثرة الرهبان والكنائس والمدارس المنتشرة في أغلب مناطق العراق، حيث كانت قبلة الناس في النهل من معارفها وعلمائها ومفكريها ومكتباتها الزاخرة بأندر الكتب وأحسنها في تلقين العلوم والحكمة والتطبيب والفلسفة، وكذا في زرع بذور الفضيلة ومحبة الله والقريب في صفوف الناس.

المسيحيون أمام محنة اليوم

كانت هذه مقدمة تاريخية سريعة، للدخول في فصول حياة الشعب المسيحي المعقدة عبر تاريخ العراق، لغاية قدوم المغول الجدد في 2014، المتمثلين بتنظيمات "داعش" الإرهابية التي ضربت رقمًا قياسيًا في التعسّف والقتل والتنكيل والاغتصاب والسبي والإجحاف في التعامل مع أتباع هذه الديانة المتمدنة المتسامحة التي لم يعرف أهلوها إلحاق الأذى بالآخر، حتى بالأعداء!
كانت المسيحية وإلى سنوات قريبة جدًا، هي ثاني ديانة معترف بها في العراق، من حيث عدد السكان، ولها أربعة عشر طائفة بين كنائس رسولية أصيلة ترقى إلى عهد الرسالة الأولى للحواريين الاثني عشر وتلاميذهم من بعدهم، وأخرى دخيلة انسلّتّ في غفلة من الزمن لأسباب سياسية واقتصادية ومغرضة.إنه وبسبب الأوضاع غير المستقرّة وهول الهجمة الشرسة التي طالت مناطق تواجد المسيحيين في الموصلوسهل نينوى، فقد اضطرّوا للنزوح إلى مناطق أكثر أمنًا، ولاسيّما في كردستان المجاورة. هؤلاء، مثل غيرهم من أتباع الأقليات المضطهدة التي اجتيحت وقُلعت من مناطق تواجدها الأصلية، ولاسيّما أبناء الديانة الإيزيدية، قد اضطروا لمغادرة قراهم وبلداتهم، تاركين فيها كلّ ذكرياتهم وأملاكهم ومزارعهم ومقتنياتهم. فيما غيرُهم، لم يتحمّل وقع الفاجعة وخيبة الأمل والمستقبل القاتم، فآثرَ طلبَ الهجرة بدل الانتظار القاتل والعيش في رزالة ومهانة بمثابة الاستجداء من المنظمات أو الدول التي تترحم مرغمة على تقديم شتى أوجه المساعدة الضرورية لإدامة الحياة، ليس إلاّ. فيما، يسعى غيرُهم أيضًا، من القاطنين حتى في الأماكن الشبه آمنة، ومنها في شمال الوطن أو المدن الآمنة البعيدة عن مناطق العمليات العسكرية، للمغادرة وترك أرض الآباء والأجداد، لأسباب سياسية واقتصادية أو لغيرة، ناشدين الأمن والاستقرار. فقد ملّوا حياة الاقتتال وصفحات الحروب المدمّرة المتتالية والدماء الغزيرة التي نزفها مواطنوهُم وأهلُهم وأحباؤُهم،وتيمّنوا صوب أراضي الاغتراب رغم لوعتها، بسبب فقدان الأمن والأمان واشتداد وطأة الميليشيات وتكرار الجرائم والتهديدات على حياتهم وحياة أسرهم وابنائهم التي طالتهم في جميع أرض الوطن، من دون تمييز أو تحديد.
لقد تعرّض المسيحيون في العراق الحديث إلى مظالم عديدة، منها ما حصل مثلاً، في منطقة سمّيل بمحافظة دهوك، من مجزرة قادها ونفّذها القائد الكردي المعروف بكر صدقي في مطلع آب 1933، بموافقة الطبقة الحاكمة آنذاك. حدث ذلك، ضمن مخطَّط لضرب الروح الوطنيةالصادقة للمسيحيين الاشوريين بالمنطقة من المطالبين بحقوق قومية ووطنية، كشركاء في الوطن وليس مواطنين من الدرجة الثانية، كما اعتادت الحكومات المتعاقبة التعامل معهم. فقد كانت حركة سياسية وطنية واجتماعية، عُرفت بالحركة الآثورية، وقد أُخمدت في محلّها بكلّ شراسة ووحشية وبفاشستية ملحوظة من قبل القائد الكردّي المغمور الحاقد، لتذكّرَ تمامًا بالعهد الذي كان نقضه الانكليز لأقرانهم وقادتهم من الحركة الآشورية قبلهم في مؤتمر الصلح في باريس في عام 1919، التي عرفت بمعاهدة سايكس بيكو التي تقاسم فيها الحلفاء مغانم الحرب العالمية الأولى.
ومع ظهور الحركة الكردية في شمال العراق في خمسينيات القرن الماضي وبداية الستينيات، شهد المسيحيون موجة من الهجرة المؤلمة بعد حرق قراهم من طرفي القتال أو الاستيلاء عليها عنوة، وتيمنوا باتجاه مركز العاصمة بغداد ومدن أخرى كالموصل والبصرة، حيث ظهرت مستوطنات مسيحية جديدة في بعض مناطق هذه المدن ساهمت في إحياء النشاطات المتنوعة في الحياة اليومية. وفي ذات السياق، تعرّضت قرى أخرى محسوبة على شمال الوطن، مثل بلدة "تلكيف"، إلى سيلٍ من هجرة جماعية منظمة باتجاه الأراضي الأمريكية حيث استوطنت وشكّلت جاليتَها الخاصة بها، لها سماتُها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والكنسية على السواء. ولم يشهد العراق سوى فترة ضئيلة من الراحة والهدوء النسبي في سبعينيات القرن الماضي، لتأتي بعده سلسلة الحروب الدامية والمدمّرة التي أنهكت البلاد وقتلت العباد وقوّضت قوة الوطن وقدراته من جميع النواحي. فما كان من الطامحين بملجأ أمين وبراحة بال، سوى تحمّل وزر الهجرة والتيمّن صوب البلدان الأكثر أمانًا، ولاسيّما في أمريكا واستراليا وكندا وأوربا، بدءًا من انتهاء حرب الخليج الأولى والثانية وفترة الحصار الظالم، حتى الصفحة التالية من الغزو الأمريكي في 2003.
وفي أعقاب حرب الخليج الأولى، فقد المسيحون آلاف الشهداء الذين زجّهم النظام السابق مع الملايين من أقرانهم العراقيين من ديانات وأقوام أخرى، في أتون حرب ضروس ظالمة، لا ناقة للعراقيين فيها ولا جمل، حيث خرج العراق مثخنًا بجراح وخسائر لا عدّ لها في البشر والمال والفكر والسلوك والأخلاق. ثمّ جاءت الحرب الثانية بغزوة الجارة "الكويت"، التي أكملت صفحة الانهيار في كل ميادين الحياة وتعطلت عجلة الاقتصاد واشتدت النقمة الدولية على النظام وحكمه. فبدأت مرحلة الصمود العراقي إزاء أشرس حصار اقتصاديّ شهده المواطن العراقي مغلوبًا على أمره، لسنوات عجاف تحمّل فيها وزرًا مضافًا فوق طاقته. وهنا، بدأت الأمور تجري بعكس التيار الطبيعي الذي طبع به العراقيون في تشبثهم بالأرض وحبهم للوطن، بعد اشتداد وطأة القهر والظلم وتقييد الحريات، وبعد أن تزحزحت ثقتُهم بكلّ شيء، إلاّ من طلب ملجأ آمن يقيهم شرَّ الطغيان، فأدركوا أنَّ ما هو قادم سيكون أظلمَ. وفعلاً، صدق حدس الكثيرين وأخفق حدسي الموشَّح دومًا بالأمل وترقب الأفضل في قادم الأيام، ويا ليتني ما فعلتُ!
في عام 2003، يحقق التحالف الدولي، وبمكرٍ ليسَ له مثيل، غايتَه بقلب النظام الدكتاتوري السابق الذي كان جثم على صدور العراقيين سنينًا طويلة وأسرَ الفكر والحريات العامة والخاصة، لكنّه كان يتميز بوجود مؤسسات نظامية للدولة تسيّر الحياة وفق دستور مؤقت وقوانين تحكمها سلطة وأجهزة نافذة. لكنّ الوسيلة المستخدمة في قلب ذلك النظام، كانت خارج الأخلاق، وماكرة بدعم من المجتمع الدولي المنافق، ولاسيّما دول الغرب الديمقراطي التابع لأميركا حتى الساعة. فالنظام المذهبي والطائفي الذي أتى به المحتل ليحكم العراق، قد أضاعه وأضاعَ مستقبلَ أبنائِه وبدّد ثرواته وجعلَه فريسة لعاشقي الفساد بكل أنواعِه، حين أتى بمراهقين في السياسة ليحكموه. فأصبح العراق دولةً بلا قانون، وهو العريق في سَنّ أقدم القوانين، وأصبح بلا حماية وهو حامي البوابة الشرقية، وانقلب مريضًا رزيلاً مهانًا وهو المعروف قوة وجبروتًا ومالاً وهيبةً! كما ساهم قرارُ الحاكم المدنيّ سيّء الصيت بحلّ الجيش ومؤسسات الدولة، بانهيار المنظومة العسكرية والدفاعية، فأصبحت البلاد مضاعًا لكلّ طامع غيور، بلا غطاء جوّي ولا عسكريّ ولا حماية وطنية. كما سهّل ظهور ميليشيات لأحزاب دينية عبثت باستقرار الأمن وعاثت في الأرض والعباد فسادًا، وما تزال الحالة مستمرة، بل وأكثر حيث تضاعفت أعداد هذه الميليشيات والأحزاب الصغيرة عشرات الأضعاف، لتصل حدود المائة ونيّف، ومعروفٌ ولاؤُها وتمويلُها!
ولم يلبث أن أكملَ الغربُ الماكر، وعلى رأسه أميركا عدوّة الشعوب الغنية المسالمة، الصفحة السوداء الغادرة، بأخرى مكمّلة لسابقتها باستقدام عصابات داعش الإرهابية المتمرسة والمدرّبة بعلم أجهزتِه وبرعايتِها وبدعمها بالسلاح والمال والبشر، لتكون أداة يتحكم بها في تحريك الممالك والدول والشعوب، وقت الضرورة. والضرورة بالنسبة إليه، كانت بتغيير أنظمة المنطقة وفق منظورتخريبيّ مدمّر كبير يبدأ بالعرق. وما يزال المشروع جاريًا إلى حين بلوغ غايتِه بإجراء التغيير الجغرافي والديمغرافيّ الذي يريده كما خطّط له وفق مصالحه القومية الدنيئة ضمن سايكس بيكو جديد، تمامًا كما حصل قبل مائة عام، عبر سايكس بيكو الحلفاء! وكلّ هذا يسير وفق خطة مرسومة يشترك فيها الكواسر الجدد المدعومون من دول إقليمية، وبمباركة من دول هذا التحالف الذييتحكم اليوم بمصير الشعوب، ولا مِن صادّ أو رادٍّ لعجرفتِه ومخططاتِه الشيطانية. فقد أمّنَ لنفسِه وقوته كي ي تسيّد الساحة الدولية قطبًا أوحدّ من دون منازع!
في 10 حزيران من العام المنصرم 2014، سقطت الموصل بيد ما يُعرف بالدولة الإسلامية "داعش"، بالطريقة المريبة التي عرفها الجميع، ضمن مؤامرة تنمُّ عن اتفاق سياسيّ، وبمباركة من التحالف الدوليّ ودول إقليمية وسياسيين شركاء في الجريمة. وحينها دبّ الخوف في صفوف البشر، ولاسيما أبناء الأقليات، الحلقة الأضعف في النسيج العراقيّ المتهالك. وفي غضون سويعات، بدأ سيل النزوح، وسرعان ما اشتدّ بعد أيام،إثر إنذارٍ من عناصر الدولة الإسلامية للمسيحيين وأبناء الأديان المختلفة عن الإسلام، تمهلهم بدفع الجزية، أو ترك الديار أو اعتناق الإسلام أو مصيرهم القتل! أية محنة هذه، التي تطرد أناسًا آمنين أصلاء من ديارهم وتخرجهم من مدنهم وقراهم قسرًا!
وهكذا تخلو مدينة الموصل المعروفة تقليديًا بفسيفسائها الدينية والعرقية، من مسيحييها لأول مرة في التاريخ، وتخرس أجراسُ قبابِ كنائسها التي عانقت مآذن الحدباء عبر القرون المنصرمة، وتخلو كنائسُها من مصلّيها لأول مرّة في التاريخ. فمَن سيصلّي لكَ يا عراق!
ثمّ تتسع المساحة لتشمل قرى سهل نينوى الآمنة عبر السنين، في 6 آب 2014، بعد انسحاب قوات البيشمركة الكردية التي كانت قد احتلّت تلك المناطق منذ السقوط في 2003، وتتنازل عنها لداعش بكل سهولة، نكاية بالحكومة المركزية التي ساومتها نتيجة لضعفِها بعد حلّ الجيش وتعرّض مؤسساتها للنهب والسلب والمساومة والمحاصصة في كلّ شيء، إلا من حصة الأقليات التي هُمّشت لغاية الساعة ونُظر إليها بدونية وبمواطنية من الدرجة الثانية والثالثة. فعمّت الفوضى وتراكض الأهالي في ليلة سوداء لم يستطيعوا لملمة حاجاتهم، بسبب عدم تصديقهم لما حدث وبتلك السرعة، بالرغم من التعهدات التي كانت قطعتها حكومة الإقليم بالدفاع عن مناطق السهل وبوعدها بأنّ المصير واحد! لكنَّ"حسابات البيدر غير حصاد الحقل".

مستقبل غامض ومصير مجهول
مع تسارع الأحداث وتباطؤ العمليات العسكرية في مواقع الصراع مع تنظيم "داعش" الإرهابي الدوليّ، المسلّح دوليًا وإقليميًا ولوجستيًا، يجد الفرد المسيحي، وأنا منهم، أمام محنة لا يُحسد عليها، تمامًا مثل أخيه الإيزيدي الذي فقد الدّين والعرض والمال وصارَت حرائرُه تُباع وتُشترى في سوق النخاسة وتُغتصب فتياتُه ونساؤُه أمام انظار المجتمع الدولي المتفرّج. وكأنّ الأملَ بالعودة إلى الديار، أصبَح في خبر كان، في الأقلّ، خلال السنوات الثلاث القادمة، على أقلّ تقدير. إذ نحن اليوم، أمام معطيات معقدة لا تبشّر خيرًا بسبب رغبة الحلفاء بتغيير معاهد سايكس بيكو السابقة التي كانت قسّمت دول المنطقة إلى مغانم، من خلال رسم سياسة دولية بجغرافيا وديموغرافيا جديدتين. وما يؤكّد طول المعاناة واستمرارها لسنوات قادمة، ما يصدر من أفعال وتحرّكات مشبوهة وتصريحات وتسريبات من سياسيين ومحترفي السياسة ومحلّلين. وآخرُها ما صدر عن وزير الدفاع البريطاني "فالون"، الذي أشار بصريح العبارة، أنه "لا يمكن وضع سقف زمني للعمليات العسكرية في العراق، بسبب الإمكانات الهائلة لما يُعرف بتنظيم داعش من موارد واتصالات ودعم لوجستي". وهذا ما كان تحدث عنه السفير الأميركي بالعراق في جلسة خاصة عقب قدوم مسلّحي داعش، حيث أشار أنّ الأوضاع ستبقى على وضعها لغاية عام 2018! كما أنَّ طريقة سير العمليات العسكرية في مواقع القتال ضدّ هذا التنظيم، تؤكّد عدم رغبة التحالف الدولي والأسياد، بالقضاء عليه، وإنّما ينوي تحجيمَه وإدامة تمويلِه وإطالة بقائه واحتلالِه، لأغراض ومصالح لا يكشف عنها هؤلاء. ففي أيدي التنظيم، موارد نفطية ومعدنية وتجارة بشرية ينتفع منها الأسياد وموالوهُم وشركاؤُهم في إطالة أمد المحنة.
   وإزاء إطالة هذه المأساة واشتداد قسوتِها على النازحين والمهجّرين، لم تنجح أية جهة، مرجعية كنسية أم أحزابًا سياسية، أنْ تسمو وتجهد للتخفيف من وطأتها على أتباعهم. فالمحنة كبيرة والمحيط واسع والموارد في تناقص! فمازال جلُّ الناس الذين فرّوا بجلدهم من أمام العصابات الإرهابية المسلحة في سهل نينوى والموصل يعتمدون في حياتهم وعيشهم اليومي على ما يُقدّمُ لهم من مساعدات لسدّ الرمق بمذلّة. فيما الأمل بعودة قريبة، أصبحت في خبر كان، على المدى القريب في أقلّ تقدير.
لذا، كان لابدّ من التفكير بإيجاد مخرجٍ للمـأساة والاستعداد للمشاركة في عملية تحرير المناطق المحتلّة، كشركاء ندّيين في الأجهزة الأمنية، سواء في المركز أو في الإقليم، وعدم ترك الأمور على الغارب وبيد مَن لم يستطيعوا حمايتها من الجهتين المعنيتين. فهذه الفعلة، ينبغي أن تكون درسًا للسياسيين ممثلي الشعب المسيحي ولرجال الكنيسة الذين، في حالة استمرار نزيف الهجرة، سيصبحون يومًا بلا مؤمنين وكنائسُهم ستفرغ وقبابُها ستزول مع توالي الأيام وتتحولّ مآذن وحسينيات وما أدراك ما غيرُها.
وهذا ما حدا بجهات مسيحية، بالبحث عن تشكيل قوة مسلّحة مدرّبة، تكون قادرة على حمل السلاح والدفاع عن الأرض ومسكِها في حالة تحريرها، إن شاء الله، ولتبقى مثل هذه القوة ثابتة ضمن المؤسسة العسكرية الوطنية، ويتم تعزيزُها لاحقًا بما تحتاجُه كي تذود عن بلداتها وتحمي الشعب والأهل والعرض من أي اعتداء لاحق، بعد التحرير. هناك اليوم، عناصر مسيحية تتدرب في مناطق متعددة وتحت إشراف جهات مختلفة ومتباينة في الهدف، بعضُها تابعة لأحزاب في السلطة، وغيرُها تحت إشراف حكومة المركز، وأخرى تابعة للبيشمركة والأسايش الكردية في شمال الوطن في الإقليم. وهذه قد لا تتجاوز أعدادها تعداد لواء، بالرغم من أنّ الحاجة تشير إلى لواءين أو ثلاثة في أبسط تقدير. وهناك، عناصر مسلحة تتلقى تدريبًا خاصًا، وهي تابعة لأحزاب قومية مسيحية تسعى لخلق نوع من الاستقلال الذاتي غير الخاضع لأجندات أحزاب في السلطة أو في الإقليم. وهذا ما يحتاجُه المكوّن المسيح، إنْ أراد خلق كيان سياسيّ واجتماعيّ قويّ مستقلّ ينعم باحترام القوى السياسية وينال دعم المجتمع الدولي. ذلك لأنّ تبعية عناصر مسلحة مسيحية لحزب معين أو جهة دون أخرى، ستدخله في خانة الميليشيات السائبة التي تنتشر اليوم بكثافة ويطغى تأثيرُها على عمل المؤسسات العسكرية الرسمية الوطنية. وهذا ما نخشاه جميعًا!
وجودٌ على المحكّ
إمّا أن نكون، أو لا نكون، وتُطوى صفحة المسيحية في العراق، ولاحقًا في المنطقة!
في عام1920، أي مع تاريخ تأسيس الدولة العراقية كانت تقديرات نفوس المسيحيين تشيرُ إلى بلوغ تعدادهم بين- 3,5)  5%( من عدد سكان العراق الذين كانوا يبلغون خمسة ملايين نسمة مقارنة مع أعدادهم في القرن السابع الميلادي مثلاً، حيث كانوا يشكلون حوالي نصف سكان العراق، بحسب بعض الباحثين. فيما تشير أعدادُهم في ثمانينات القرن الماضي، إلى ما ينيف عن مليون ومائتي ألف نسمة أو نحو ذلك، بحسب التقديرات، حيث لم تكن الدولة العراقية آنذاك، تنشر بيانات تفصيلية دقيقة عن الإحصاءات التي كانت تجري لأسباب سياسية بحتة. أمّا اليوم، فقد تناقصَ العدد بحسب مراقبين ومصادر كنسية مقرّبة، إلى ما دون الثلاثمائة ألف نسمة، في ظلّ الظروف القاسية من التهجير القسري وأعمال الطرد والتهديد التي طالت المسيحيين، ليسَ في الموصلوبلدات وقرى سهل نينوى فحسب، بل في مدن غيرها، بسبب سيطرة "داعش" على مناطقهم واستيلاء مسلحيها على أموالهم وأملاكهم وخروجهم من ديارهم بثيابهم هاربين بجلدهم من أنياب الكواسر. وبحسب تقديرات كنسية موثوقة، فإنّ أعداد النازحين الذين طُردوا من مناطق تواجدهم من قبل داعش، يُقدرون بنحو 120 ألف نسمة، جلُّهم من بلدة قرقوش (حوالي 60 ألف نسمة) والبقية من الموصل ومن قرى برطلة وكرمليس وبعشيقة وبحزاني وتلكيف وتلسقف وباطنيا وباقوفا وسواها. وما تبقى من المسيحيين، يعيشون في كردستان العراق في محافظات دهوك والسليمانية وأربيل (أكبر تجمّع مسيحي في عينكاوا)، إضافة إلى مدن كبيرة مثل بغداد والبصرة والعمارة والحلة.
لقد رافق هذا الوضع الشاذّ، سلسلة من أنشطة مشبوهة بحق مواطنين آمنين تعرّضوا للتهديد والخطف. كما تعرّض الكثيرون منهم في مناطق متعددة، إلى عمليات تسليب وخطف ومساومة بهدف الاستيلاء على املاك ومحلّات وشركات ومصالح. ومنها، تعرّضُ عدد من النوادي الاجتماعية ومحلاّت بيع الخمور التي يدرها في الغالب مواطنون مسيحيون وإيزيديون، إلى سلسلة من الهجمات الممنهجة على أيدي ميليشيات دينية متنفذة تستقلّ سيارات رباعية تابعة للدولة وتعمل بغطاء حكومي، في محاولة لاستنساخ مؤسسة حفظ النظام في إيران وتطبيق شرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وقد ولّدت تلك الهجمات نقمة عارمة في صفوف المثقفين ومقرّبين متنورين في العملية السياسية، الذين رأوا فيها تقييدًا للحريات العامة وانتقاصًا من القيمة الإنسانية. كما لم يتورّع مسؤولٌ محلي متنوّر في أحد الأحزاب الدينية المقرّبة من السلطة، بالكشف عن عمليات فساد وتجاوز على أملاك العراقيين المسيحيين في بغداد، مؤكداً أن 70 في المائة من منازل المسيحيين المهاجرين خارج البلاد بعدالاحتلال، تم الاستيلاء عليها من قبل جهات متنفذة مشاركة في السلطة لم يسمّها،حيث قامت بتزوير سندات العقارات لغرض بيع تلك الدور بأسعار خيالية. وتحدّى المسؤول المذكور، أي مسؤول في الحكومة أن يظهر ويتحدث في مثل هذه الملفات التي يعتريها الفساد، مصرّحًا أن من يقوم بهذه الفعال لا يقلّ في جرمه عمّا يقترفه داعش من أعمال قتل وسلب وتهجير وسبي واغتصاب وما سواها.
إن ظاهرة الهجرة المستمرة باتجاه خارج الوطن، بدأت تقضّ مضاجع المراجع الكنسية والوطنية معًا، بسبب الآثار المدمّرة التي ستلحقها بالهوية الوطنية الجامعة، في حالة استمرار نزيفها من دون حلول وعلاجات. فالمسيحيون يشكلون الزمرّدة الزرقاء وسط الفسيفساء الجميلة المتعددة الأديان والأعراق واللغات، وواحدة من أجمل زهور حديقتها الغنّاء التقليدية، على الإطلاق، لأسباب يعرفها القاصي والداني، منها حب الوطن والولاء لأرضه وحضارتِه، وكفاءتُهم في العمل والعلم والأدب والحرفية، وكذا في الأخلاق وفي الفضيلة السمحاء ومحبة الآخر مهما اختلف عنهم في الدين أو القومية أو الفكر أو اللغة أو التوجهات. لكنّ الحياة، عندما لا تستقيم، أو حينما تتجه من سيّء إلى الأسوأ منذرة بقاتم الأيام، فهي لا تستدعي بعدُ البقاء والتضحية. فالوطن الذي لا يحترم أبناءَه، لا يستحق مَن يسعى ويعمل للتضحية في سبيلِه. وكذا الأرضُ التي ترفض مقاسمة مواطنين نجباء وطنيين في الشراكة العادلة والمتساوية بالوطن، حريٌّ بالإنسان أن ينفض حتى الغبارَ العالقَ في الخفّ الذي يدوس عليها وينهي معها صلتَه، ولو مرغمًا!
هكذا، يبدو على السياسيين الجدد، ان يصوّروا العراق من دون فسيفسائِه التاريخية التقليدية الموسومة بمختلف المكوّنات الأصيلة المتعايشة على مرّ الدهور والسنين. فهؤلاء، يفعلون وينفذون ما لا يقولون ويصرّحون به من كون المسيحيين وبقية الأقليات من الشعوب الأصيلة. وحين يحين وقتُ تقاسم الكعكة والاستحقاق الوطني، يريدونها لهم ولخلاّنهم وأتباعهم في الدين والمذهب والحزب والجماعة، دون غيرهم. هذه هي الحقيقة، ومَن يقول بغير ذلك، كاذبٌ ومنافقٌ ولاعنٌ نفسَه ومَن يستظلُّ بظلِّهِ. فلم يحاول السياسيون الجدد القادمون على الدبابات الأمريكية أو الباقون تحت حمايتها، رأبَ الصدع في الحياة السياسية للعراقيين جميعًا، وقد انسلّ العديد منهم خلسة وفي جنح الظلام للقفز على السلطة من دون استحقاق بحجة المحاصصة البغيضة التي شلّت قدرات الشعب والدولة على السواء. وبذلك تكون عناصر خارجية دخيلة على العملية السياسية والإدارة الرشيدة، لا تمت بصلة لثقافة السكان الأصليين وتكافلهم الاجتماعي وتعايشهم السلميّ عبر الأزمان والسنين، قد دخلت المعترك من الشبّاك بدعم من مؤسسات ومرجعيات سياسية ودينية متنفذة. بل لم يقدّمالعديد من هؤلاء الحكام الجدد، الطامعين بالجاه والمال والسلطة واللاهثين وراء السحت الحرام والمنغمسين حتى الأعناق في الفساد المالي والسياسي والإداري، أي نوع من الحماية والدعم والتعويض ضدّ ما تعرّض له المسيحيون وسواهم من الأقليات ومن العراقيين عمومًا،جرّاء عمليات إجرامية ممنهجة أو عن أعمال عنف وتهديد وخطف وقتل وتمثيل وتعذيب وتهجير ونزوح حصلت وما تزال. بل هناك من استغلّ الفرصة للمتاجرة بآلامهم ومآسيهم عبر سرقة ما منّت عليه الدولة والمنظمات الإنسانية ودول تحاول التخفيف عن الجرح الثخين الذي سببته عندما وافقت وشاركت في جريمة التغيير الدراماتيكي وغزو البلاد في 2003، وما بعدها وما تلاها من صفحة استقدام الدواعش، وما نالته مختلف التنظيميات المسلحة من دعم لوجستي وإمداد وغض النظر عن جرائم إبادة وأعمال عنف غير إنسانية بحق ناسٍ آمنين.
وإذ ننسى، فلا ننسى، حادثة كنيسة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010، التي راح ضحيتَها الأبرياء من مرتاديها من المصلّين لأجل العراق وإحلال السلام فيه، وكنتُ أنا شخصيًا من ضمن جرحى تلك الحادثة وما أزال أعاني من آثارِها لغاية الساعة. فقد قصمت تلك الحادثة ظهر المسيحيين عامةً، ومعها بدأت صفحة جديدة ومتسارعة من الهجرة وترك الديار لذئاب العصر الممسوحين بسواد الدين وشعاراته السوداء الرافضة لأي مختلف عنها في الفكر والقول والفعل، أمرًا بما تدّعيه بحاكمية الله على الأرض وأية حاكمية! فمتى وهل كان الله خالقُ الكون والبشر وما فيهما وبينهما بحاجة للدفاع عن حكمه العادل يوم الدّين؟؟؟ كما لا يمكن نسيان تعرّض قساوسة للخطف والقتل والتمثيل بجثثهم، إضافة لتعرّض أكثر من خمسٍ وستين كنيسة لهجمات منسقة، وبعضُها كان يجري بتنسيق من جهات وأجهزة أمنية عسكرية، بعض أجنحتها تابعة للدولة وأحزابها الحاكمة.
إزاء ذلك كلّه، ومع اشتداد وطأة الحياة بكل تفاصيلِها وقساوة أيامها الأخيرة على العراقيين، أدرك المسيحيون مثل غيرِهم من أبناء الوطن، أن الحياة في العراق قد أصبحت جحيمًا لا يُطاق، شاءوا أم أبوا، وأنَّ تسونامي النار الحمراء الآكلة قادمة، لا محال. لذا بدأ العديدون، بلملمة الجراح ما أمكن، عبر اللجوء لطَرقِ أبواب الهجرة في بلدان الاغتراب المتنوعة، عبر منظمات دولية أو جمعيات أو بمساعدة الأهل والأقارب، إضافة إلى توجّه آخرين لتقديم اللجوء الإنساني في بلدان فتحت أبوابَها لهم لانتشالهم من معاناتهم الإنسانية لحين استتباب الأمور واستقرار الأوضاع، ما شاء القدر.
إنّ الجريمة الكبرى التي اقترفها التحالف الدولي بالتعاون مع أجهزة الحكم في العراق ومع بعض السياسيين المشتركين في المؤامرة الدنيئة للصفحة الداعشية، لن ينساها التاريخ، بل ستكشفها الأيام والسنوات القادمة بكلّ تفاصيلِها. فهذه لا تقلّ في بشاعتها عن جرائم الحربين الكونيين الضروسين اللتين شهدهما القرن الماضي وراح ضحيتهما الملايين من البشر الأبرياء. وها هو التحالف الدوليّ، بتأخره في الصدّ والقضاء على وجود مختلف التنظيمات المسلحة، وعلى رأسها داعش الإرهابي، الذي تسابق وخطّط له للقدوم إلى المنطقة، ومنها في سوريا والعراق، يزيد من عتوِّه وقهرِه لأتباع الأديان القليلة العدد من أبناء الأقليات المقهورة، كي ينفّذ مشروعَه في إجراء تغيير ديمغرافيّ على مناطقهم، وتقسيم الأرض على أساسٍ مذهبي طائفي انفصاليّ، كي يستطيع التحكم بسهولة أكبر على منابع الثروات الغزيرة، التي يبدو أنَّ أصحابَ الأرض لا يستحقونها!
أخيرًا، وليسَ آخرًا، لا بدّ أن نقف حول ما يُحاك في الدهاليز من مشاريع إعادة توطين المهجّرين، وتغيير مناطقهم ديمغرافيًا، ومنهم المسيحيون، وطرح مقترحات بتوطينهم في مناطق جديدة في كردستان، تنفيذًا لمخطط التغيير الديمغرافيّ، بحسب مشروع "بايدن"، سيّء الصيت. هناك مؤتمرات ولقاءات واجتماعات على أصعدة عديدة قائمة على قدمٍ وساق، يتسارع منظموها لتبييض صفحة الجانب الكردي في التعاطي مع ملف المهجرين والنازحين، مستغلّين أوضاعهم المأساوية في الترويج لمشروع الاندماج والالتحاق بالدولة الكردية المستقلة العتيدة، لغايات وأهداف تخدم الأجندة الكردية وتوسع الهوّة مع الحكومة الفيدرالية باتجاه دعم مشروع تقسيم البلاد على اساس عرقيّ وطائفي. فيما تحاول الإدارة الكردية، وبالذات الحزب الديمقراطي الحاكم، الضغط باتجاهات عديدة، أهمها ثلاث:
- أوّلها، مجابهة الحكومة المركزية بفرض أجندتها ومشروعها، مستغلةًّ انشغالَها في محاربة داعش والنزاعات السياسية بين الفرقاء الشركاء وضعف مؤسساتها العسكرية ورخاوة اقتصادها الهش بسبب الفساد الإداري والمالي وهبوط أسعار النفط؛
- والثاني، باتجاه استقاء دعم دولي لمشروع الاستقلال المدعوم أساسًا من الغرب والذي ينتظر إشارة من الإدارة الأمريكية لتمريره، ولم يبقى سوى التوقيت؛ وهذا من ضمن مخططه، دمج أراضٍ شاسعة من المتنازع عليها ضمن حدود الإقليم؛
- أما الثالث، فتقف خلفه ماكنة دعائية من عناصر محلية حصلت لها على امتيازات خاصة، ولاسيما من مقامات دينية رفيعة وأحزاب وتنظيمات موالية وممّولة من الجانب الكردي. وهنا، لا تُستثنى مراجع دينية وكنسية خارجية رفيعة تزور الإقليم دوريًا، بحجة زيارة أبناء الجماعة والاطلاع على أحوالهم، بل التفرّج على أوضاعهم المزرية للحصول على أنواعٍ شتى من الدعم المادي والعينيّ من منظمات ودول وأفراد. فما يهمّ بعض هذه المراجع وليسَ جميعَها، ما يصل إلى أيديها من أموال، وليسَ من مشاريع لا يمكنهم الاستفادة من تنفيذها تقدّمها منظمات وحكومات داعمة، كما حصل في وقت سابق من هذا العام لدعوة من أحد البرلمانيين في هولندا، للمشاركة في مؤتمر خُصّصَ لتمويل مشروع بناء 2000 كرفان مؤثث للنازحين. لكن، لا أحد حضر المؤتمر، لكونه لا ينطوي على تسليم مبالغ المنحة والمساعدة باليد، فلا فائدة منه بالتالي!
إنَّ الشدّ والتراخي في الحبل، القائمين بين حكومة المركز من جهة، وحكومة الإقليم في كردستان الماضية في مشروعها الانفصالي، سيفجّر قنابل خطيرة في طول البلاد وعرضِها. فأطماع الإقليم واضحة في خارطته التقسيمية التي ينادي بها بحدودها المرسومة الواسعة. ومؤخرًا، صدر تصريحٌ مؤكِّدٌ لمثل هذه الأطماع من رئيس الإقليم، ينادي ويحذّر من المساس بمناطق واسعة من سهل نينوى، بالإشارة إلى عدم تسليم سنجار مثلاً، وبتحويلها إلى محافظة قادمة ودمجها ضمن أراضي الإقليم. كما صدرت تصريحات مشابهة في أوقات سابقة، بإجراء مماثل حول مصير قضاء الحمدانية وتلكيف وتلعفر. ويؤدي أدوار التهيئة لمثل عمليات الدمج هذه، عناصر مدفوعة الثمن وعملاء محليون وآخرون حصلوا على امتيازات مادية وسكنية ومنح وعطايا غزيرة لأجل دفع التأييد لمثل هذه الخطوة. وهناك رجال دين من مناصب رفيعة ومنخرطون في السياسة وفي الإعلام، ممَن سبق وقدّم الولاء على طبق من ذهب لرئاسة الإقليم، دون استشارة أتباعهم أو التحقق من نتائج مثل هذه الخطوة الارتجالية غير المدروسة، في حالة تحقيقها بهذه الصيغة المشينة. فالدستور، يقضي بالتطبيع والإحصاء ثمّ الاستفتاء لتحديد إرادة المواطنين فيها، وليس بمجرّد تأييد عاطفي.
وبعد، هل يمكن عدّ مصير المسيحيين في مهب الريح، وفق هذه المعطيات الخطيرة وهذه المواقف المتأرجحة وغير السارّة بين الأطراف المعنية جميعًا؟ سؤالٌ، لن تحلّ جزءًا من أسراره، سوى عملية تشكيل مرجعية سياسية مسيحية رشيدة مستقلّة جارية في الوقت الحاضر، تتولى على عاتقها البحث في الحيثيات ودراسة مواقع الخلل وتهيئة الأجواء لإشاعة روح المواطنة في مجتمعاتهم وما حولهم، وتوجيه عامة الناس نحو الصالح الواقعيّ المقبول لهم ولجماعاتهم بطوائفها الأربعة عشر التي تعاني نزاعات جانبية، هي الأخرى، في الزعامة والتسمية والتمثيل والتعصّب دينيًا وقوميًا! فالوطن لا يٌبنى وفق أجندات أفراد متعصبة وأحزاب هزيلة ونواب لا يمثلون شعبَهم تمثيليًا حقيقيًا، بسبب صعودهم المشبوه في الانتخابات، كما هي عليه الحال في العديد من الحالات.
سؤالٌ نتركُه للقدر وآليات تنفيذ الأجندات المختلفة لدى أصحاب المصلحة الحقيقية التي تقف وراء هذه التغييرات الدراماتيكية جميعًا.

لويس إقليمس
بغداد، في 5 آب 2015


291
العلمانية في نظام الحكم الفرنسي، نعمة أم نقمة!
الجزء الأول
لويس إقليمس

رفعت الجمهورية الفرنسية الأولى، شعار "الحرية، المساواة، الأخوّة"، منذ انطلاقتها ضدّ الحكم الملكي الفاسد، "بحسب الثوّار" في حينها!!! وتمّ تداولُه رسميًا في ظلّ الجمهورية الثالثة، حيث أصبح جزءًا من حياة الفرنسيين ومن إرثهم الوطني.
التطورات الميدانية الأخيرة، ومنها حادثة مجلة "شارلي إيبدو"، التي عصفت بهذه الدولة المتقدمة التي كانت أضافتْ في سنواتها الأخيرة سمة "العلمانية" لرصيد شعارِها، بدأت تضعها في مرمى منتقديها المكتوين من عناصر دخيلة غير منضبطة وأخرى متشدّدةغير قادرة أو بالأحرى غير راغبةبالاندماج في المجتمع الغربي الذي طالما تصفه هذه الأخيرة بالكافر وتنادي علانية بضرورة القضاء عليه واستلام السلطة منه بأي ثمن. فاستغلّ هؤلاء تساهلَ قوانين الدولة لأغراض وأهدافٍ تقويضية معادية لتوجهاتها العلمانية ولمجتمعها المنفتح على السواء. وهذا ما دعا الملايين من الفرنسيين ومؤيدي الجمهورية ونظام حكمها في الداخل والخارج، بعد أحداث 7و9 كانون ثاني 2015، كي ينزلوا للشوارع ملتحفين بشعار: «الحرية،المساواة،الأخوّة، العلمانية".
عندما أقدمت فرنسا، فيعام 1905، على فصل السلطة الدينية عن الدولة وبالتالي عن السياسة، كانت لها مبرّراتُها الآنية والوضعية. فالولايات المتحدة، هي الأخرى، أقحمت هذا المبدأ في دستورها لعام 1791، ولكنها طبقته وفق سلوك يؤمن بدور الدّين وأهميته في حياة مواطنيها. ومهما كان من أمرٍ، فالدين يبقى من الهموم الكبرى للكائن البشري الذي لا يمكنه البقاء خارج إطارين في الحياة: الطبيعاني أو ما وراء الطبيعة! فلكلّ منهما نزواتُه وفلسفاتُه وأسلوبه في جلب السعادة التي ينشدها كلّ إنسان في حياته، سواءً كانت في البحث عن أقصى درجات المتاع أو في الزهد عنها.
في كلّ الأحوال، سلوكُ أيّ مجتمع لاختياره فلسفتَه في الحياة، لا يعني البتة إقدام الدولة وأركانُها وسياسيّوها للتحلّي عن مبادئ الدّين والتديّن في نوعالنظام المدنيّالمتفق عليه في دولهم. وبمعنى أدق، مثل هذه الفلسفة في نظام الحكم في الدول الديمقراطية المتقدمة، لا ينغي أن يكون من ضمن تطبيقاتها الحياتيةإلغاء كلّ ما يمتُّ بصلة إلى الدّين والإرث المقدّس الأصيل الذي عاشتْ عليه قرونًا وتثقفتْ به أزمانًا وبنتْ عليه لاحقًا أخلاقَها ومبادئَها ونظامَها الاجتماعيّ المتميّز والمتطبّع ب "المسيحيّة"، عبر قرون من الزمن. ولا بأس أن مثل هذه الفلسفة، قد أتاحت الفرصة لأديان أخرى كي تندمج في مبادئِهامع المجتمع، من حيث المبدأ. ولكن ليس من المقبول،أن يحصل ذلك من خلال سعيهذه الأخيرة لفرض شرائعِها وعاداتِها وعقائدِها على السكان الأصليين، الذين بحجة احترام العلمانية، أصبحوا يخشون اليوم أيَّ حديثٍ أو مداخلة او انتقادٍ للفوضى التي خلقها أتباعُ الأديان الدخيلة مؤخرًا في المجتمعات التي تهافتوا عليها، بوعيٍ أو بدونِه. ومن المؤسف، أنَّ معظم هؤلاء القادمون الجدد، لم يستوعبوا هدف الجمهورية والمجتمع الجمهوري الفرنسي بنظامه العلمانيّ المتميّز في انتهاج هذا المبدأ المدنيّ الذي يمنح الحرية الكافية والوافية لكلّ مواطن وفق المبادئ العامة الأخرى. لذا جاءت إساءتُهم لهذا النظام مضاعفة ومؤلمة، عندما فتح أبوابَه مشرعةً لانتشالهم من الدول التي أساءت إلى مواطنيتهم وصادرت حرياتهم وضيّقت عليهم مجالات الحياة السعيدة التي يتمناها كلّ إنسان في وطنه. فهل مجازاةً لهذا الجميل، يكون بالانقلاب على فلسفة النظام الذي بموجبه تمّ استقبالُهم وإيواؤُهم؟ فيتحول الهدف من نعمة إلى نقمة لا تُعرف عواقبُها؟
من جانبٍ آخر، لا ضيرَ أن تفرض الأديانُ السمحة المتنورة مبادئَها وتطبيقاتِها الإنسانية في الحياة اليومية لبني البشر. فالدولة التي ليس لها سياسيون وزعماء متديّنون، تكون ناقصة ومفتقرة في فهمِها لمساراتِ الحياة وحركة الشعوب والترويج لصالح خلق مجتمع إنسانيّ يقدّر خلقتَه الجميلة على صورة الله الخالق الواحد ومثالِه. ولا أروعَ من أن يكون البشر على صورة هذا الربّ الذي تعبدُه فئاتٌ وشعوبٌ ودولٌ، أو ينكرُه نفرٌ ممّن تعاطوا الفلسفة "الهرطوقية" ودخلوا دهاليز السياسة السوداء دفعًا لمنافعهم الأنانية وتجاهلاً لتعاليمه السمحاء لبني البشر من دون تمييز! فإذا شعر المواطن حقًا، أنّه جزءٌ من مهمّ من المخطط الإلهي، وأنّه قد خُلق جميلاً على صورة ربّه، حينذاك لن يفكّر في ارتكاب المعاصي ولا القبائح بحق إخوته الآخرين في الإنسانية، المخلوقين لذات الهدف الذي خُلق هو عليه.
فرنسا بتطبيقها لمبدأ الفصل بين سلطة الكنيسة والدولة 1905، كانت تهدف إلى تحقيق مبادئ الثورة بصورة متوازنة بين الإنسان والمجتمع من خلال رؤية "علمانية" غير دينية ملزمة، تهدف بها للتأكيد على مبدأ الأخوّة والمساواة بين أفراد المجتمع جميعًا، متدينين أمْما عداهم. كما حرصت على تحقيق المبدأ الآخر في تأمين الحرية الشخصية للمواطن في اتباع الديانة التي يرتئيها، وفي حق تحقيق العدالة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بغضّ النظر عن نوع وشكل الدّين الذي ينتمي إليه الفرد، أو الفلسفة التي يعتنقها الإنسان بحسب قناعتِه الشخصية. وهذا ما تؤكد عليه جميع الصكوك الإنسانية والمواثيق الدولية التي تدعوللحرية في الفكر والتعبير والحركة والقول والفعل، على ألاّ تتجاوز تلك الحرية حدود الغير ومقتنيات الآخر وتطلعاته.
يقينًا، إنّ مبدأ العلمانية في النظام الفرنسيّ، لم يأتي من الفراغ أو "بشخبطة قلم"، كما تعوّدنا عليه في مجتمع البداوة الشرقيّ وفي أنظمة الحكم "الدينية" بالمنطقة التي نعيش فيها، والتي تتسابق في إظهار شتى أدوات النهي والأمر في العمل بحاكمية الله الخالق على الأرض. هناك اليوم، نفرٌ ضالٌّ يدّعي النطق باسمِ هذا الربّ الخالق والدفاع عنه كما لو كان غير قادر على فعل ذلك.وسبحانَه،بريء من مجمل التصرفات والأفعال الشائنة التي تشوّه صورتَه.مجمل هذه الأفعال تتناقض مع إرادة الخالق الجبّار. فقد كان من الأولى بهؤلاء القوم الضالّين، أن يساندوا عمليةَ تنظيم الحياة والمصالحة بين البشر المشوّش نتيجةً للفوضى التي خلقوها في وسط مجتمعات متحضّرة بل ومتقدمة جدّا على أمثالهم، حينما كانت لغاية الأمس القريب متعافية، متفاهمة، مسالمة، متآخية، متعايشة ومجتمعة حول نظامِها "العلمانيّ" الذي يساوي بين الجميع من دون تمييز.بل إنّ مفهوم العلمنة، قد أصبح في مثل هذه البلدان، صنوًا مدنيًا من أنواع الأديان القائمة، شأنُه شأن الفلسفات المتداولة سلميًا في مجتمعات متحضّرة.
ومن أجل فهم المقصود بمبدأ العلمانية، لا بدّ من العودة إلى الأيام الخوالي التي سبقت بروز هذا المفهوم وسط المجتمع الفرنسي تحديدًا. هناك دلالات على إثارتِه منذ القرن السادس عشر، أي كان له أصولٌ فيما قبل الثورة. فالكنيسة في تلك العصور، كما لنبلاء المجتمع وطبقة البلاط، كان لها اليد الطولي في إدارة شؤون البلاد والعباد، من خلال تزيين صورة النظام الملكي الحاكم الموغل في الفساد على حساب العوام من الشعب البائس الجائع الراضخ للضرائب. هذا إلى جانب تولّي زعامات كنسية مناصب مهمة وكبيرة في الدولة الفرنسية قبل الثورة، من أمثال الكاردينال "ريشيليي" و"مازاران" على أيام لويس الثالث عشر والرابع عشر على التوالي. ولكنّها بعد الثورة، تراجعت أهميتُها، وفقدت بريقَها، بسبب حالة الحنق والغضب المتفشية وسط العامة، مدفوعةً بتحريض قادة الثورة وخطبائِها الذي كانوا هيّجوا عامة الشعب على الأفعال المشينة وغير المقبولة لنفرٍ ممّن استغلّوا مناصبهم وكراسيَهم في تضييق الخناق على حياة الشعب، حفاظًا على منافعهم الشخصية المشبوهة. لقد اتسمت تلك الحقبة ببروز حركة فكرية تنويرية كان من أبرز دعاتِها مونتيسكيو وفولتير وروسو وديدرو. فكانت بداية حقيقية للترويج لما عرفته الإنسانية اليوم من صفحة إنسانية جديدة تدعو لحقوق الإنسان وحق المواطن في التعبير وحرية العيش.

يتبع ج 2

292
مسيحيو العراق، بين تاريخ الأمس ومحنة اليوم!
لويس إقليمس
لم يشهد عراق ما بين النهرين منذ أعوام، بل منذ قرونٍ، ما تعرّض له في أكثر صفحاته قتامة، بين 10 حزيران و6 آب 2014 ولغاية الساعة، حين سطا ما يُسمّى بالدولة الإسلامية "داعش" على مدينةالموصل ولاحقًا على أراضي مناطق سهل نينوى، المشهودة بتمركز المسيحيين فيها منذ أواسط القرن الثالث الميلادي، أو نحو ذلك، أي قبل ما يربو على 18 قرنًا خلت. وإذا كان صراعُ المسيحيين في بلاد ما بين النهرين لم يخلُ من اضطهادات ممنهجة وقاسية أحيانًا، لاسيّما من أقوام الوثنية والمجوسية التي كانت ضاربةً أطنابَها في منطقة البداوة العربية وما جاورها في بلاد فارس التي شهدت جولاتٍ من الكرّ والفرّ في حروبٍ بين البلدان المجاورة بسبب التبعية لبيزنطة أو لبلاد فارس، إلاّ أنَّ علاقاتها مع المسلمين الفاتحين الجدد للمنطقة بالسيف، لم تعتورها أزماتٌ مستفحلة، بسبب من رؤية منطقية وضعية في تلك الحقبة حيث رأى المسيحيون في الفاتحين الجدد محرّرين أزاحوا عن كواهلهم أوزار الممالك العاتية التي كانت تستهين بمقدّساتهم وتستبيح مناطقهم وأموالهم وأعراضهم وتحاول النيل من ديانتهم والقضاء عليها.
 إلاّ أنه، وبسبب قلة وعي وعدم انفتاح بعض الخلفاء والحكام والولاة العرب المسلمين، أحيانًا كثيرة، كانت جموع المسيحيين تتعرّض في فترات متعاقبة من الحكم الإسلامي، لأعمالٍ لا تتسم بالمرونة والفطنة والحكمة والتسامح، تبعًا لتفاسير وفهم واستيعاب بعض هؤلاء، لجوهر العلاقة المرسّمة في قرآن الإسلام إزاء المسيحيين وغيرهم من مختلفي الأديان الذين كانوا في ذمّتهم وتحت حمايتهم.
فوجدت فترات قاسية وسلبية، إلى جانب أخرى مزدهرة من العلاقة بين الطرفين، وصلت لحدّ الاندماج في المجتمع والتعايش في مفردات الحياة اليومية بكل تفاصيلِها، بحيث صار عامة الناس، ولاسيّما طبقة الدواوين في دور الولاية، يسلّمون على بعضهم بالسريانية ويقولون "بارخمور" أي "بارك يا سيّد"، حين اللقاء. وهذه عبارة يستخدمها المسيحيون في طقوسهم السريانية الشرقية والغربية للتحية، على السواء!
وإذا كانت كنيسة "كوخي" في منطقة قطيسفون (المدائن الحالية) تُعدّ أقدم كنيسة تأسست في العراق في حوالي منتصف القرن الأول الميلادي، على يدي مار ماري ومار أدي، تلميذي مار توما الرسول الذي بشّر الشرق وصولاً إلى الهند ومنغوليا، فإنّ سهل نينوى والموصل وصولاً إلى شمال الوطن، كانت قد تنصرت لاحقًا من التاريخ المذكور، وربما في بدايات القرن الثالث أو الرابع بحسب البعض ووفقًا للمعطيات التاريخية التي دوّنت آنذاك، بالرغم من ظهور بوادر مسيحية في نهاية القرن الأول أو بدايات القرن الثاني الميلادي في مناطق الحيرة والكوفة وبحر النجف والأنبار، بحسب آخرين.
ومّما لا شكّ فيه، أنَّ قبائل عربية كانت قد تنصرت في شمال شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين، في الحقبة ذاتها. فمِن رُصافة إلى معّان ومِنْ دمشقَ إلى الحيرة كانت قبائل تنوخ وحمير وتغلب وغسان وبحراء سليح، وبالقرب منها شرقًا: اللخمانيّون، وفي الجنوبِ قبائلُ كلب وأياد وبكر وعِجل وشيبان، كماعندَ جيرانِهم في الشرق والجنوب بَنو طَيّ وتَميم، وفي وسطِ الجزيرة بَنو كندة، وفي الجنوب الأقصى مِنَ الجزيرة بَنو الحارث وعبد القيس وغيرُهم. ومنهم مَن سكنوا العراق بعد السيل العارم الذي ضرب سدّ مأرب باليمن المسيحية عن معظمها. فتمازجوا واختلطوا وكانت لهم ممالكُهم في الحيرة والمناذرة، حيث ساد فيهما العنصر العربي من قبائل عدنان وقحطان والعباد، واشتهر منهم ملوك وشعراء ورجال دين مسيحيون كثر ورؤساء أديرة وأميرات نلن شهرتهنّ في المنطقة، من أمثال هند الصغرى،الشاعرة الفصيحة والحسناء بنت الملك النعمان بن المنذر، التي ترهبت وبنت ديرًا بعد مقتل زوجها على يد والدها في نكاية مدبرة. كما اشتهرت هند الكبرى، بنت الملك الحارث الكندي التي لبست المسوحوبنتْ ديرًا هي الأخرى.
وتشير الكتب أنّ سكان (الحيرة)، كانوا من العراقيين الاوائل الذين اعتنقوا المسيحية النسطورية، وكان فيها كرسي أسقفي مهمّ. فقيل فيهم قومٌ من العباد، وتعني بالآرامية (العابدون أو المؤمنون)،وكانوا يتحدثون الآرامية (السريانية) التي منها اشتقّ العربُ الخطَّ العربي من الخط السرياني. ومن قصورهم السدير والخورنق. أمّا قبيلتُهم، فمِن بني لخم. ومؤخرًا، قامت بعثة آثارية عراقية في كربلاء والنجف بكشف العديد من ديارات المسيحيين في تلك الحقبة، ما تزال آثارُ بعضها ماثلة لغاية الساعة، وهي تدعو الجهات المعنية بالتراث والآثار لإبداء الاهتمام الواجب، لاسيّما وأنها تقع اليوم قريبة من مواقع وحضرات دينية مقدسة بين كربلاء والنجف والأخيضر وبابل والكوفة وما جاورها.
كما، ما تزال أشعارُ بعضهم تحكي قصصًا من الماضي التليد الزاهر بالفصاحة والتغنّي بالحبيبة وحبّ الصحراء والخمر والحبّ العذري. هذا إلى جانب الأقوام السريانية المنحدرة عن الشعوب الآرامية التي كانت تقطن بلاد سوريا وما بين النهرين، من بقايا بلاد آشوروكلدو وبابل. وحينها كانت اللغة السريانية هي اللغة الرسمية ولغة التجارة بين شعوب وممالك المنطقة بأسرها، بضمنها بلاد فارس، قبل أن تستقوي العربية بفعل الفتوحات والغزوات وأعمال القتل والتهديد بحدّ السيف أو دفع الجزية أو الإسلام. إلاّ أنها، مع كلّ هذه التطبيقات الشرعية بحق المسيحيين، سواءً كانت عادلة أم غير إنسانية ومجحفة، لكنها لم تصل إلى حدّ التهجير القسريّ والظلم والقساوة التي أتت بها تنظيمات "داعش " الإرهابية قبل عامٍ في مناطق واسعة، كانت تُعدّ عبر قرون، حصنَ المسيحيين على اختلاف طوائفهم وتكويناتهم. فما حصل في 10 حزيرانو6 آب 2014، لم تصل إليه حتى غزوات طهماسب وهولاكو وجنكيزخان. فالتاريخ يذكر، أنّ رؤساء كنائس ومسيحيين أشراف، كانت لهم امتيازات وعهود وصكوك من خلفاء وحكام وملوك وولاة تجيز لهم ممارسة شعائرهم والتبشير بدينهم والعيش والتنقل بحرية، مقيّدة أو بغيرها! وهذا ما يشيرُ إليه ازدهار الأديرة وكثرة الرهبان والكنائس والمدارس المنتشرة في أغلب مناطق العراق، حيث كانت قبلة الناس في النهل من معارفها وعلمائها ومفكريها ومكتباتها الزاخرة بأندر الكتب وأحسنها في تلقين العلوم والحكمة والتطبيب والفلسفة، وكذا في زرع بذور الفضيلة ومحبة الله والقريب في صفوف الناس.

المسيحيون أمام محنة اليوم
كانت هذه مقدمة تاريخية سريعة، للدخول في فصول حياة الشعب المسيحي المعقدة عبر تاريخ العراق، لغاية قدوم المغول الجدد في 2014، المتمثلين بتنظيمات "داعش" الإرهابية التي ضربت رقمًا قياسيًا في التعسّف والقتل والتنكيل والاغتصاب والسبي والإجحاف في التعامل مع أتباع هذه الديانة المتمدنة المتسامحة التي لم يعرف أهلوها إلحاق الأذى بالآخر، حتى بالأعداء!
كانت المسيحية وإلى سنوات قريبة جدًا، هي ثاني ديانة معترف بها في العراق، من حيث عدد السكان، ولها أربعة عشر طائفة بين كنائس رسولية أصيلة ترقى إلى عهد الرسالة الأولى للحواريين الاثني عشر وتلاميذهم من بعدهم، وأخرى دخيلة انسلّتّ في غفلة من الزمن لأسباب سياسية واقتصادية ومغرضة.إنه وبسبب الأوضاع غير المستقرّة وهول الهجمة الشرسة التي طالت مناطق تواجد المسيحيين في الموصلوسهل نينوى، فقد اضطرّوا للنزوح إلى مناطق أكثر أمنًا، ولاسيّما في كردستان المجاورة. هؤلاء، مثل غيرهم من أتباع الأقليات المضطهدة التي اجتيحت وقُلعت من مناطق تواجدها الأصلية، ولاسيّما أبناء الديانة الإيزيدية، قد اضطروا لمغادرة قراهم وبلداتهم، تاركين فيها كلّ ذكرياتهم وأملاكهم ومزارعهم ومقتنياتهم. فيما غيرُهم، لم يتحمّل وقع الفاجعة وخيبة الأمل والمستقبل القاتم، فآثرَ طلبَ الهجرة بدل الانتظار القاتل والعيش في رزالة ومهانة بمثابة الاستجداء من المنظمات أو الدول التي تترحم مرغمة على تقديم شتى أوجه المساعدة الضرورية لإدامة الحياة، ليس إلاّ. فيما، يسعى غيرُهم أيضًا، من القاطنين حتى في الأماكن الشبه آمنة، ومنها في شمال الوطن أو المدن الآمنة البعيدة عن مناطق العمليات العسكرية، للمغادرة وترك أرض الآباء والأجداد، لأسباب سياسية واقتصادية أو لغيرة، ناشدين الأمن والاستقرار. فقد ملّوا حياة الاقتتال وصفحات الحروب المدمّرة المتتالية والدماء الغزيرة التي نزفها مواطنوهُم وأهلُهم وأحباؤُهم،وتيمّنوا صوب أراضي الاغتراب رغم لوعتها، بسبب فقدان الأمن والأمان واشتداد وطأة الميليشيات وتكرار الجرائم والتهديدات على حياتهم وحياة أسرهم وابنائهم التي طالتهم في جميع أرض الوطن، من دون تمييز أو تحديد.
لقد تعرّض المسيحيون في العراق الحديث إلى مظالم عديدة، منها ما حصل مثلاً، في منطقة سمّيل بمحافظة دهوك، من مجزرة قادها ونفّذها القائد الكردي المعروف بكر صدقي في مطلع آب 1933، بموافقة الطبقة الحاكمة آنذاك. حدث ذلك، ضمن مخطَّط لضرب الروح الوطنيةالصادقة للمسيحيين الاشوريين بالمنطقة من المطالبين بحقوق قومية ووطنية، كشركاء في الوطن وليس مواطنين من الدرجة الثانية، كما اعتادت الحكومات المتعاقبة التعامل معهم. فقد كانت حركة سياسية وطنية واجتماعية، عُرفت بالحركة الآثورية، وقد أُخمدت في محلّها بكلّ شراسة ووحشية وبفاشستية ملحوظة من قبل القائد الكردّي المغمور الحاقد، لتذكّرَ تمامًا بالعهد الذي كان نقضه الانكليز لأقرانهم وقادتهم من الحركة الآشورية قبلهم في مؤتمر الصلح في باريس في عام 1919، التي عرفت بمعاهدة سايكس بيكو التي تقاسم فيها الحلفاء مغانم الحرب العالمية الأولى.
ومع ظهور الحركة الكردية في شمال العراق في خمسينيات القرن الماضي وبداية الستينيات، شهد المسيحيون موجة من الهجرة المؤلمة بعد حرق قراهم من طرفي القتال أو الاستيلاء عليها عنوة، وتيمنوا باتجاه مركز العاصمة بغداد ومدن أخرى كالموصل والبصرة، حيث ظهرت مستوطنات مسيحية جديدة في بعض مناطق هذه المدن ساهمت في إحياء النشاطات المتنوعة في الحياة اليومية. وفي ذات السياق، تعرّضت قرى أخرى محسوبة على شمال الوطن، مثل بلدة "تلكيف"، إلى سيلٍ من هجرة جماعية منظمة باتجاه الأراضي الأمريكية حيث استوطنت وشكّلت جاليتَها الخاصة بها، لها سماتُها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والكنسية على السواء. ولم يشهد العراق سوى فترة ضئيلة من الراحة والهدوء النسبي في سبعينيات القرن الماضي، لتأتي بعده سلسلة الحروب الدامية والمدمّرة التي أنهكت البلاد وقتلت العباد وقوّضت قوة الوطن وقدراته من جميع النواحي. فما كان من الطامحين بملجأ أمين وبراحة بال، سوى تحمّل وزر الهجرة والتيمّن صوب البلدان الأكثر أمانًا، ولاسيّما في أمريكا واستراليا وكندا وأوربا، بدءًا من انتهاء حرب الخليج الأولى والثانية وفترة الحصار الظالم، حتى الصفحة التالية من الغزو الأمريكي في 2003.
وفي أعقاب حرب الخليج الأولى، فقد المسيحون آلاف الشهداء الذين زجّهم النظام السابق مع الملايين من أقرانهم العراقيين من ديانات وأقوام أخرى، في أتون حرب ضروس ظالمة، لا ناقة للعراقيين فيها ولا جمل، حيث خرج العراق مثخنًا بجراح وخسائر لا عدّ لها في البشر والمال والفكر والسلوك والأخلاق. ثمّ جاءت الحرب الثانية بغزوة الجارة "الكويت"، التي أكملت صفحة الانهيار في كل ميادين الحياة وتعطلت عجلة الاقتصاد واشتدت النقمة الدولية على النظام وحكمه. فبدأت مرحلة الصمود العراقي إزاء أشرس حصار اقتصاديّ شهده المواطن العراقي مغلوبًا على أمره، لسنوات عجاف تحمّل فيها وزرًا مضافًا فوق طاقته. وهنا، بدأت الأمور تجري بعكس التيار الطبيعي الذي طبع به العراقيون في تشبثهم بالأرض وحبهم للوطن، بعد اشتداد وطأة القهر والظلم وتقييد الحريات، وبعد أن تزحزحت ثقتُهم بكلّ شيء، إلاّ من طلب ملجأ آمن يقيهم شرَّ الطغيان، فأدركوا أنَّ ما هو قادم سيكون أظلمَ. وفعلاً، صدق حدس الكثيرين وأخفق حدسي الموشَّح دومًا بالأمل وترقب الأفضل في قادم الأيام، ويا ليتني ما فعلتُ!
في عام 2003، يحقق التحالف الدولي، وبمكرٍ ليسَ له مثيل، غايتَه بقلب النظام الدكتاتوري السابق الذي كان جثم على صدور العراقيين سنينًا طويلة وأسرَ الفكر والحريات العامة والخاصة، لكنّه كان يتميز بوجود مؤسسات نظامية للدولة تسيّر الحياة وفق دستور مؤقت وقوانين تحكمها سلطة وأجهزة نافذة. لكنّ الوسيلة المستخدمة في قلب ذلك النظام، كانت خارج الأخلاق، وماكرة بدعم من المجتمع الدولي المنافق، ولاسيّما دول الغرب الديمقراطي التابع لأميركا حتى الساعة. فالنظام المذهبي والطائفي الذي أتى به المحتل ليحكم العراق، قد أضاعه وأضاعَ مستقبلَ أبنائِه وبدّد ثرواته وجعلَه فريسة لعاشقي الفساد بكل أنواعِه، حين أتى بمراهقين في السياسة ليحكموه. فأصبح العراق دولةً بلا قانون، وهو العريق في سَنّ أقدم القوانين، وأصبح بلا حماية وهو حامي البوابة الشرقية، وانقلب مريضًا رزيلاً مهانًا وهو المعروف قوة وجبروتًا ومالاً وهيبةً! كما ساهم قرارُ الحاكم المدنيّ سيّء الصيت بحلّ الجيش ومؤسسات الدولة، بانهيار المنظومة العسكرية والدفاعية، فأصبحت البلاد مضاعًا لكلّ طامع غيور، بلا غطاء جوّي ولا عسكريّ ولا حماية وطنية. كما سهّل ظهور ميليشيات لأحزاب دينية عبثت باستقرار الأمن وعاثت في الأرض والعباد فسادًا، وما تزال الحالة مستمرة، بل وأكثر حيث تضاعفت أعداد هذه الميليشيات والأحزاب الصغيرة عشرات الأضعاف، لتصل حدود المائة ونيّف، ومعروفٌ ولاؤُها وتمويلُها!
ولم يلبث أن أكملَ الغربُ الماكر، وعلى رأسه أميركا عدوّة الشعوب الغنية المسالمة، الصفحة السوداء الغادرة، بأخرى مكمّلة لسابقتها باستقدام عصابات داعش الإرهابية المتمرسة والمدرّبة بعلم أجهزتِه وبرعايتِها وبدعمها بالسلاح والمال والبشر، لتكون أداة يتحكم بها في تحريك الممالك والدول والشعوب، وقت الضرورة. والضرورة بالنسبة إليه، كانت بتغيير أنظمة المنطقة وفق منظورتخريبيّ مدمّر كبير يبدأ بالعرق. وما يزال المشروع جاريًا إلى حين بلوغ غايتِه بإجراء التغيير الجغرافي والديمغرافيّ الذي يريده كما خطّط له وفق مصالحه القومية الدنيئة ضمن سايكس بيكو جديد، تمامًا كما حصل قبل مائة عام، عبر سايكس بيكو الحلفاء! وكلّ هذا يسير وفق خطة مرسومة يشترك فيها الكواسر الجدد المدعومون من دول إقليمية، وبمباركة من دول هذا التحالف الذييتحكم اليوم بمصير الشعوب، ولا مِن صادّ أو رادٍّ لعجرفتِه ومخططاتِه الشيطانية. فقد أمّنَ لنفسِه وقوته كي ي تسيّد الساحة الدولية قطبًا أوحدّ من دون منازع!
في 10 حزيران من العام المنصرم 2014، سقطت الموصل بيد ما يُعرف بالدولة الإسلامية "داعش"، بالطريقة المريبة التي عرفها الجميع، ضمن مؤامرة تنمُّ عن اتفاق سياسيّ، وبمباركة من التحالف الدوليّ ودول إقليمية وسياسيين شركاء في الجريمة. وحينها دبّ الخوف في صفوف البشر، ولاسيما أبناء الأقليات، الحلقة الأضعف في النسيج العراقيّ المتهالك. وفي غضون سويعات، بدأ سيل النزوح، وسرعان ما اشتدّ بعد أيام،إثر إنذارٍ من عناصر الدولة الإسلامية للمسيحيين وأبناء الأديان المختلفة عن الإسلام، تمهلهم بدفع الجزية، أو ترك الديار أو اعتناق الإسلام أو مصيرهم القتل! أية محنة هذه، التي تطرد أناسًا آمنين أصلاء من ديارهم وتخرجهم من مدنهم وقراهم قسرًا!
وهكذا تخلو مدينة الموصل المعروفة تقليديًا بفسيفسائها الدينية والعرقية، من مسيحييها لأول مرة في التاريخ، وتخرس أجراسُ قبابِ كنائسها التي عانقت مآذن الحدباء عبر القرون المنصرمة، وتخلو كنائسُها من مصلّيها لأول مرّة في التاريخ. فمَن سيصلّي لكَ يا عراق!
ثمّ تتسع المساحة لتشمل قرى سهل نينوى الآمنة عبر السنين، في 6 آب 2014، بعد انسحاب قوات البيشمركة الكردية التي كانت قد احتلّت تلك المناطق منذ السقوط في 2003، وتتنازل عنها لداعش بكل سهولة، نكاية بالحكومة المركزية التي ساومتها نتيجة لضعفِها بعد حلّ الجيش وتعرّض مؤسساتها للنهب والسلب والمساومة والمحاصصة في كلّ شيء، إلا من حصة الأقليات التي هُمّشت لغاية الساعة ونُظر إليها بدونية وبمواطنية من الدرجة الثانية والثالثة. فعمّت الفوضى وتراكض الأهالي في ليلة سوداء لم يستطيعوا لملمة حاجاتهم، بسبب عدم تصديقهم لما حدث وبتلك السرعة، بالرغم من التعهدات التي كانت قطعتها حكومة الإقليم بالدفاع عن مناطق السهل وبوعدها بأنّ المصير واحد! لكنَّ"حسابات البيدر غير حصاد الحقل".

مستقبل غامض ومصير مجهول
مع تسارع الأحداث وتباطؤ العمليات العسكرية في مواقع الصراع مع تنظيم "داعش" الإرهابي الدوليّ، المسلّح دوليًا وإقليميًا ولوجستيًا، يجد الفرد المسيحي، وأنا منهم، أمام محنة لا يُحسد عليها، تمامًا مثل أخيه الإيزيدي الذي فقد الدّين والعرض والمال وصارَت حرائرُه تُباع وتُشترى في سوق النخاسة وتُغتصب فتياتُه ونساؤُه أمام انظار المجتمع الدولي المتفرّج. وكأنّ الأملَ بالعودة إلى الديار، أصبَح في خبر كان، في الأقلّ، خلال السنوات الثلاث القادمة، على أقلّ تقدير. إذ نحن اليوم، أمام معطيات معقدة لا تبشّر خيرًا بسبب رغبة الحلفاء بتغيير معاهد سايكس بيكو السابقة التي كانت قسّمت دول المنطقة إلى مغانم، من خلال رسم سياسة دولية بجغرافيا وديموغرافيا جديدتين. وما يؤكّد طول المعاناة واستمرارها لسنوات قادمة، ما يصدر من أفعال وتحرّكات مشبوهة وتصريحات وتسريبات من سياسيين ومحترفي السياسة ومحلّلين. وآخرُها ما صدر عن وزير الدفاع البريطاني "فالون"، الذي أشار بصريح العبارة، أنه "لا يمكن وضع سقف زمني للعمليات العسكرية في العراق، بسبب الإمكانات الهائلة لما يُعرف بتنظيم داعش من موارد واتصالات ودعم لوجستي". وهذا ما كان تحدث عنه السفير الأميركي بالعراق في جلسة خاصة عقب قدوم مسلّحي داعش، حيث أشار أنّ الأوضاع ستبقى على وضعها لغاية عام 2018! كما أنَّ طريقة سير العمليات العسكرية في مواقع القتال ضدّ هذا التنظيم، تؤكّد عدم رغبة التحالف الدولي والأسياد، بالقضاء عليه، وإنّما ينوي تحجيمَه وإدامة تمويلِه وإطالة بقائه واحتلالِه، لأغراض ومصالح لا يكشف عنها هؤلاء. ففي أيدي التنظيم، موارد نفطية ومعدنية وتجارة بشرية ينتفع منها الأسياد وموالوهُم وشركاؤُهم في إطالة أمد المحنة.
   وإزاء إطالة هذه المأساة واشتداد قسوتِها على النازحين والمهجّرين، لم تنجح أية جهة، مرجعية كنسية أم أحزابًا سياسية، أنْ تسمو وتجهد للتخفيف من وطأتها على أتباعهم. فالمحنة كبيرة والمحيط واسع والموارد في تناقص! فمازال جلُّ الناس الذين فرّوا بجلدهم من أمام العصابات الإرهابية المسلحة في سهل نينوى والموصل يعتمدون في حياتهم وعيشهم اليومي على ما يُقدّمُ لهم من مساعدات لسدّ الرمق بمذلّة. فيما الأمل بعودة قريبة، أصبحت في خبر كان، على المدى القريب في أقلّ تقدير.
لذا، كان لابدّ من التفكير بإيجاد مخرجٍ للمـأساة والاستعداد للمشاركة في عملية تحرير المناطق المحتلّة، كشركاء ندّيين في الأجهزة الأمنية، سواء في المركز أو في الإقليم، وعدم ترك الأمور على الغارب وبيد مَن لم يستطيعوا حمايتها من الجهتين المعنيتين. فهذه الفعلة، ينبغي أن تكون درسًا للسياسيين ممثلي الشعب المسيحي ولرجال الكنيسة الذين، في حالة استمرار نزيف الهجرة، سيصبحون يومًا بلا مؤمنين وكنائسُهم ستفرغ وقبابُها ستزول مع توالي الأيام وتتحولّ مآذن وحسينيات وما أدراك ما غيرُها.
وهذا ما حدا بجهات مسيحية، بالبحث عن تشكيل قوة مسلّحة مدرّبة، تكون قادرة على حمل السلاح والدفاع عن الأرض ومسكِها في حالة تحريرها، إن شاء الله، ولتبقى مثل هذه القوة ثابتة ضمن المؤسسة العسكرية الوطنية، ويتم تعزيزُها لاحقًا بما تحتاجُه كي تذود عن بلداتها وتحمي الشعب والأهل والعرض من أي اعتداء لاحق، بعد التحرير. هناك اليوم، عناصر مسيحية تتدرب في مناطق متعددة وتحت إشراف جهات مختلفة ومتباينة في الهدف، بعضُها تابعة لأحزاب في السلطة، وغيرُها تحت إشراف حكومة المركز، وأخرى تابعة للبيشمركة والأسايش الكردية في شمال الوطن في الإقليم. وهذه قد لا تتجاوز أعدادها تعداد لواء، بالرغم من أنّ الحاجة تشير إلى لواءين أو ثلاثة في أبسط تقدير. وهناك، عناصر مسلحة تتلقى تدريبًا خاصًا، وهي تابعة لأحزاب قومية مسيحية تسعى لخلق نوع من الاستقلال الذاتي غير الخاضع لأجندات أحزاب في السلطة أو في الإقليم. وهذا ما يحتاجُه المكوّن المسيح، إنْ أراد خلق كيان سياسيّ واجتماعيّ قويّ مستقلّ ينعم باحترام القوى السياسية وينال دعم المجتمع الدولي. ذلك لأنّ تبعية عناصر مسلحة مسيحية لحزب معين أو جهة دون أخرى، ستدخله في خانة الميليشيات السائبة التي تنتشر اليوم بكثافة ويطغى تأثيرُها على عمل المؤسسات العسكرية الرسمية الوطنية. وهذا ما نخشاه جميعًا!
وجودٌ على المحكّ
إمّا أن نكون، أو لا نكون، وتُطوى صفحة المسيحية في العراق، ولاحقًا في المنطقة!
في عام1920، أي مع تاريخ تأسيس الدولة العراقية كانت تقديرات نفوس المسيحيين تشيرُ إلى بلوغ تعدادهم بين- 3,5)  5%( من عدد سكان العراق الذين كانوا يبلغون خمسة ملايين نسمة مقارنة مع أعدادهم في القرن السابع الميلادي مثلاً، حيث كانوا يشكلون حوالي نصف سكان العراق، بحسب بعض الباحثين. فيما تشير أعدادُهم في ثمانينات القرن الماضي، إلى ما ينيف عن مليون ومائتي ألف نسمة أو نحو ذلك، بحسب التقديرات، حيث لم تكن الدولة العراقية آنذاك، تنشر بيانات تفصيلية دقيقة عن الإحصاءات التي كانت تجري لأسباب سياسية بحتة. أمّا اليوم، فقد تناقصَ العدد بحسب مراقبين ومصادر كنسية مقرّبة، إلى ما دون الثلاثمائة ألف نسمة، في ظلّ الظروف القاسية من التهجير القسري وأعمال الطرد والتهديد التي طالت المسيحيين، ليسَ في الموصلوبلدات وقرى سهل نينوى فحسب، بل في مدن غيرها، بسبب سيطرة "داعش" على مناطقهم واستيلاء مسلحيها على أموالهم وأملاكهم وخروجهم من ديارهم بثيابهم هاربين بجلدهم من أنياب الكواسر. وبحسب تقديرات كنسية موثوقة، فإنّ أعداد النازحين الذين طُردوا من مناطق تواجدهم من قبل داعش، يُقدرون بنحو 120 ألف نسمة، جلُّهم من بلدة قرقوش (حوالي 60 ألف نسمة) والبقية من الموصل ومن قرى برطلة وكرمليس وبعشيقة وبحزاني وتلكيف وتلسقف وباطنيا وباقوفا وسواها. وما تبقى من المسيحيين، يعيشون في كردستان العراق في محافظات دهوك والسليمانية وأربيل (أكبر تجمّع مسيحي في عينكاوا)، إضافة إلى مدن كبيرة مثل بغداد والبصرة والعمارة والحلة.
لقد رافق هذا الوضع الشاذّ، سلسلة من أنشطة مشبوهة بحق مواطنين آمنين تعرّضوا للتهديد والخطف. كما تعرّض الكثيرون منهم في مناطق متعددة، إلى عمليات تسليب وخطف ومساومة بهدف الاستيلاء على املاك ومحلّات وشركات ومصالح. ومنها، تعرّضُ عدد من النوادي الاجتماعية ومحلاّت بيع الخمور التي يدرها في الغالب مواطنون مسيحيون وإيزيديون، إلى سلسلة من الهجمات الممنهجة على أيدي ميليشيات دينية متنفذة تستقلّ سيارات رباعية تابعة للدولة وتعمل بغطاء حكومي، في محاولة لاستنساخ مؤسسة حفظ النظام في إيران وتطبيق شرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وقد ولّدت تلك الهجمات نقمة عارمة في صفوف المثقفين ومقرّبين متنورين في العملية السياسية، الذين رأوا فيها تقييدًا للحريات العامة وانتقاصًا من القيمة الإنسانية. كما لم يتورّع مسؤولٌ محلي متنوّر في أحد الأحزاب الدينية المقرّبة من السلطة، بالكشف عن عمليات فساد وتجاوز على أملاك العراقيين المسيحيين في بغداد، مؤكداً أن 70 في المائة من منازل المسيحيين المهاجرين خارج البلاد بعدالاحتلال، تم الاستيلاء عليها من قبل جهات متنفذة مشاركة في السلطة لم يسمّها،حيث قامت بتزوير سندات العقارات لغرض بيع تلك الدور بأسعار خيالية. وتحدّى المسؤول المذكور، أي مسؤول في الحكومة أن يظهر ويتحدث في مثل هذه الملفات التي يعتريها الفساد، مصرّحًا أن من يقوم بهذه الفعال لا يقلّ في جرمه عمّا يقترفه داعش من أعمال قتل وسلب وتهجير وسبي واغتصاب وما سواها.
إن ظاهرة الهجرة المستمرة باتجاه خارج الوطن، بدأت تقضّ مضاجع المراجع الكنسية والوطنية معًا، بسبب الآثار المدمّرة التي ستلحقها بالهوية الوطنية الجامعة، في حالة استمرار نزيفها من دون حلول وعلاجات. فالمسيحيون يشكلون الزمرّدة الزرقاء وسط الفسيفساء الجميلة المتعددة الأديان والأعراق واللغات، وواحدة من أجمل زهور حديقتها الغنّاء التقليدية، على الإطلاق، لأسباب يعرفها القاصي والداني، منها حب الوطن والولاء لأرضه وحضارتِه، وكفاءتُهم في العمل والعلم والأدب والحرفية، وكذا في الأخلاق وفي الفضيلة السمحاء ومحبة الآخر مهما اختلف عنهم في الدين أو القومية أو الفكر أو اللغة أو التوجهات. لكنّ الحياة، عندما لا تستقيم، أو حينما تتجه من سيّء إلى الأسوأ منذرة بقاتم الأيام، فهي لا تستدعي بعدُ البقاء والتضحية. فالوطن الذي لا يحترم أبناءَه، لا يستحق مَن يسعى ويعمل للتضحية في سبيلِه. وكذا الأرضُ التي ترفض مقاسمة مواطنين نجباء وطنيين في الشراكة العادلة والمتساوية بالوطن، حريٌّ بالإنسان أن ينفض حتى الغبارَ العالقَ في الخفّ الذي يدوس عليها وينهي معها صلتَه، ولو مرغمًا!
هكذا، يبدو على السياسيين الجدد، ان يصوّروا العراق من دون فسيفسائِه التاريخية التقليدية الموسومة بمختلف المكوّنات الأصيلة المتعايشة على مرّ الدهور والسنين. فهؤلاء، يفعلون وينفذون ما لا يقولون ويصرّحون به من كون المسيحيين وبقية الأقليات من الشعوب الأصيلة. وحين يحين وقتُ تقاسم الكعكة والاستحقاق الوطني، يريدونها لهم ولخلاّنهم وأتباعهم في الدين والمذهب والحزب والجماعة، دون غيرهم. هذه هي الحقيقة، ومَن يقول بغير ذلك، كاذبٌ ومنافقٌ ولاعنٌ نفسَه ومَن يستظلُّ بظلِّهِ. فلم يحاول السياسيون الجدد القادمون على الدبابات الأمريكية أو الباقون تحت حمايتها، رأبَ الصدع في الحياة السياسية للعراقيين جميعًا، وقد انسلّ العديد منهم خلسة وفي جنح الظلام للقفز على السلطة من دون استحقاق بحجة المحاصصة البغيضة التي شلّت قدرات الشعب والدولة على السواء. وبذلك تكون عناصر خارجية دخيلة على العملية السياسية والإدارة الرشيدة، لا تمت بصلة لثقافة السكان الأصليين وتكافلهم الاجتماعي وتعايشهم السلميّ عبر الأزمان والسنين، قد دخلت المعترك من الشبّاك بدعم من مؤسسات ومرجعيات سياسية ودينية متنفذة. بل لم يقدّمالعديد من هؤلاء الحكام الجدد، الطامعين بالجاه والمال والسلطة واللاهثين وراء السحت الحرام والمنغمسين حتى الأعناق في الفساد المالي والسياسي والإداري، أي نوع من الحماية والدعم والتعويض ضدّ ما تعرّض له المسيحيون وسواهم من الأقليات ومن العراقيين عمومًا،جرّاء عمليات إجرامية ممنهجة أو عن أعمال عنف وتهديد وخطف وقتل وتمثيل وتعذيب وتهجير ونزوح حصلت وما تزال. بل هناك من استغلّ الفرصة للمتاجرة بآلامهم ومآسيهم عبر سرقة ما منّت عليه الدولة والمنظمات الإنسانية ودول تحاول التخفيف عن الجرح الثخين الذي سببته عندما وافقت وشاركت في جريمة التغيير الدراماتيكي وغزو البلاد في 2003، وما بعدها وما تلاها من صفحة استقدام الدواعش، وما نالته مختلف التنظيميات المسلحة من دعم لوجستي وإمداد وغض النظر عن جرائم إبادة وأعمال عنف غير إنسانية بحق ناسٍ آمنين.
وإذ ننسى، فلا ننسى، حادثة كنيسة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010، التي راح ضحيتَها الأبرياء من مرتاديها من المصلّين لأجل العراق وإحلال السلام فيه، وكنتُ أنا شخصيًا من ضمن جرحى تلك الحادثة وما أزال أعاني من آثارِها لغاية الساعة. فقد قصمت تلك الحادثة ظهر المسيحيين عامةً، ومعها بدأت صفحة جديدة ومتسارعة من الهجرة وترك الديار لذئاب العصر الممسوحين بسواد الدين وشعاراته السوداء الرافضة لأي مختلف عنها في الفكر والقول والفعل، أمرًا بما تدّعيه بحاكمية الله على الأرض وأية حاكمية! فمتى وهل كان الله خالقُ الكون والبشر وما فيهما وبينهما بحاجة للدفاع عن حكمه العادل يوم الدّين؟؟؟ كما لا يمكن نسيان تعرّض قساوسة للخطف والقتل والتمثيل بجثثهم، إضافة لتعرّض أكثر من خمسٍ وستين كنيسة لهجمات منسقة، وبعضُها كان يجري بتنسيق من جهات وأجهزة أمنية عسكرية، بعض أجنحتها تابعة للدولة وأحزابها الحاكمة.
إزاء ذلك كلّه، ومع اشتداد وطأة الحياة بكل تفاصيلِها وقساوة أيامها الأخيرة على العراقيين، أدرك المسيحيون مثل غيرِهم من أبناء الوطن، أن الحياة في العراق قد أصبحت جحيمًا لا يُطاق، شاءوا أم أبوا، وأنَّ تسونامي النار الحمراء الآكلة قادمة، لا محال. لذا بدأ العديدون، بلملمة الجراح ما أمكن، عبر اللجوء لطَرقِ أبواب الهجرة في بلدان الاغتراب المتنوعة، عبر منظمات دولية أو جمعيات أو بمساعدة الأهل والأقارب، إضافة إلى توجّه آخرين لتقديم اللجوء الإنساني في بلدان فتحت أبوابَها لهم لانتشالهم من معاناتهم الإنسانية لحين استتباب الأمور واستقرار الأوضاع، ما شاء القدر.
إنّ الجريمة الكبرى التي اقترفها التحالف الدولي بالتعاون مع أجهزة الحكم في العراق ومع بعض السياسيين المشتركين في المؤامرة الدنيئة للصفحة الداعشية، لن ينساها التاريخ، بل ستكشفها الأيام والسنوات القادمة بكلّ تفاصيلِها. فهذه لا تقلّ في بشاعتها عن جرائم الحربين الكونيين الضروسين اللتين شهدهما القرن الماضي وراح ضحيتهما الملايين من البشر الأبرياء. وها هو التحالف الدوليّ، بتأخره في الصدّ والقضاء على وجود مختلف التنظيمات المسلحة، وعلى رأسها داعش الإرهابي، الذي تسابق وخطّط له للقدوم إلى المنطقة، ومنها في سوريا والعراق، يزيد من عتوِّه وقهرِه لأتباع الأديان القليلة العدد من أبناء الأقليات المقهورة، كي ينفّذ مشروعَه في إجراء تغيير ديمغرافيّ على مناطقهم، وتقسيم الأرض على أساسٍ مذهبي طائفي انفصاليّ، كي يستطيع التحكم بسهولة أكبر على منابع الثروات الغزيرة، التي يبدو أنَّ أصحابَ الأرض لا يستحقونها!
أخيرًا، وليسَ آخرًا، لا بدّ أن نقف حول ما يُحاك في الدهاليز من مشاريع إعادة توطين المهجّرين، وتغيير مناطقهم ديمغرافيًا، ومنهم المسيحيون، وطرح مقترحات بتوطينهم في مناطق جديدة في كردستان، تنفيذًا لمخطط التغيير الديمغرافيّ، بحسب مشروع "بايدن"، سيّء الصيت. هناك مؤتمرات ولقاءات واجتماعات على أصعدة عديدة قائمة على قدمٍ وساق، يتسارع منظموها لتبييض صفحة الجانب الكردي في التعاطي مع ملف المهجرين والنازحين، مستغلّين أوضاعهم المأساوية في الترويج لمشروع الاندماج والالتحاق بالدولة الكردية المستقلة العتيدة، لغايات وأهداف تخدم الأجندة الكردية وتوسع الهوّة مع الحكومة الفيدرالية باتجاه دعم مشروع تقسيم البلاد على اساس عرقيّ وطائفي. فيما تحاول الإدارة الكردية، وبالذات الحزب الديمقراطي الحاكم، الضغط باتجاهات عديدة، أهمها ثلاث:
- أوّلها، مجابهة الحكومة المركزية بفرض أجندتها ومشروعها، مستغلةًّ انشغالَها في محاربة داعش والنزاعات السياسية بين الفرقاء الشركاء وضعف مؤسساتها العسكرية ورخاوة اقتصادها الهش بسبب الفساد الإداري والمالي وهبوط أسعار النفط؛
- والثاني، باتجاه استقاء دعم دولي لمشروع الاستقلال المدعوم أساسًا من الغرب والذي ينتظر إشارة من الإدارة الأمريكية لتمريره، ولم يبقى سوى التوقيت؛ وهذا من ضمن مخططه، دمج أراضٍ شاسعة من المتنازع عليها ضمن حدود الإقليم؛
- أما الثالث، فتقف خلفه ماكنة دعائية من عناصر محلية حصلت لها على امتيازات خاصة، ولاسيما من مقامات دينية رفيعة وأحزاب وتنظيمات موالية وممّولة من الجانب الكردي. وهنا، لا تُستثنى مراجع دينية وكنسية خارجية رفيعة تزور الإقليم دوريًا، بحجة زيارة أبناء الجماعة والاطلاع على أحوالهم، بل التفرّج على أوضاعهم المزرية للحصول على أنواعٍ شتى من الدعم المادي والعينيّ من منظمات ودول وأفراد. فما يهمّ بعض هذه المراجع وليسَ جميعَها، ما يصل إلى أيديها من أموال، وليسَ من مشاريع لا يمكنهم الاستفادة من تنفيذها تقدّمها منظمات وحكومات داعمة، كما حصل في وقت سابق من هذا العام لدعوة من أحد البرلمانيين في هولندا، للمشاركة في مؤتمر خُصّصَ لتمويل مشروع بناء 2000 كرفان مؤثث للنازحين. لكن، لا أحد حضر المؤتمر، لكونه لا ينطوي على تسليم مبالغ المنحة والمساعدة باليد، فلا فائدة منه بالتالي!
إنَّ الشدّ والتراخي في الحبل، القائمين بين حكومة المركز من جهة، وحكومة الإقليم في كردستان الماضية في مشروعها الانفصالي، سيفجّر قنابل خطيرة في طول البلاد وعرضِها. فأطماع الإقليم واضحة في خارطته التقسيمية التي ينادي بها بحدودها المرسومة الواسعة. ومؤخرًا، صدر تصريحٌ مؤكِّدٌ لمثل هذه الأطماع من رئيس الإقليم، ينادي ويحذّر من المساس بمناطق واسعة من سهل نينوى، بالإشارة إلى عدم تسليم سنجار مثلاً، وبتحويلها إلى محافظة قادمة ودمجها ضمن أراضي الإقليم. كما صدرت تصريحات مشابهة في أوقات سابقة، بإجراء مماثل حول مصير قضاء الحمدانية وتلكيف وتلعفر. ويؤدي أدوار التهيئة لمثل عمليات الدمج هذه، عناصر مدفوعة الثمن وعملاء محليون وآخرون حصلوا على امتيازات مادية وسكنية ومنح وعطايا غزيرة لأجل دفع التأييد لمثل هذه الخطوة. وهناك رجال دين من مناصب رفيعة ومنخرطون في السياسة وفي الإعلام، ممَن سبق وقدّم الولاء على طبق من ذهب لرئاسة الإقليم، دون استشارة أتباعهم أو التحقق من نتائج مثل هذه الخطوة الارتجالية غير المدروسة، في حالة تحقيقها بهذه الصيغة المشينة. فالدستور، يقضي بالتطبيع والإحصاء ثمّ الاستفتاء لتحديد إرادة المواطنين فيها، وليس بمجرّد تأييد عاطفي.
وبعد، هل يمكن عدّ مصير المسيحيين في مهب الريح، وفق هذه المعطيات الخطيرة وهذه المواقف المتأرجحة وغير السارّة بين الأطراف المعنية جميعًا؟ سؤالٌ، لن تحلّ جزءًا من أسراره، سوى عملية تشكيل مرجعية سياسية مسيحية رشيدة مستقلّة جارية في الوقت الحاضر، تتولى على عاتقها البحث في الحيثيات ودراسة مواقع الخلل وتهيئة الأجواء لإشاعة روح المواطنة في مجتمعاتهم وما حولهم، وتوجيه عامة الناس نحو الصالح الواقعيّ المقبول لهم ولجماعاتهم بطوائفها الأربعة عشر التي تعاني نزاعات جانبية، هي الأخرى، في الزعامة والتسمية والتمثيل والتعصّب دينيًا وقوميًا! فالوطن لا يٌبنى وفق أجندات أفراد متعصبة وأحزاب هزيلة ونواب لا يمثلون شعبَهم تمثيليًا حقيقيًا، بسبب صعودهم المشبوه في الانتخابات، كما هي عليه الحال في العديد من الحالات.
سؤالٌ نتركُه للقدر وآليات تنفيذ الأجندات المختلفة لدى أصحاب المصلحة الحقيقية التي تقف وراء هذه التغييرات الدراماتيكية جميعًا.

لويس إقليمس
بغداد، في 5 آب 2015


293
جرائر أمريكا، خطيئة قاتلة!
لويس إقليمس

ليسَ خافيًا على المتنورين ومختبري الحياة السياسية والضالعين في الدهاليز المخابراتية، ما تتولاه اللعبة الأمريكية من خفايا وأسرار تجاه دول العالم، تصبُّ في معظمِها ضمن سياسة الاحتواء والتحجيم والتضليل لدولٍ حينًا، والانطلاق والتوسع والتمويه حينًا آخر. هذه هي سياسة أمريكا المتلونة، المرائية والمنافقة والضالعة في كلّ صغيرة كبيرة تحصل في أيّ شبرٍ من العالم، بعد تسيّدها دائرة القطب الأوحد وإضعافها لغريمها السوفيتي السابق. فهي اليوم، تكاد تكون، بل هي اللاّعب الأكبر على الساحة الدولية، وكلُّ ما حواليها مجرّد دمى، صغيرة أم كبيرة، تحرّكها أينما تشاء وكيفما تشاء ومتما تشاء. فالغرب الأوربي، حينما قرّر الاستقلال عن السياسة الأمريكية الدولية، اقتصاديًا، واجهته بحفنة من المشاكل والمعوّقات، ما جعل سياستَه الاقتصادية المستقلّة المتمثلة بعملته الجديدة الموحدة "اليورو"، لا تستقيم مع التطلعات الأمريكية، داخليًا وخارجيًا، إنْ هي شكّلتْ قوّة اقتصادية منافسة، وهذا ما كان في ذهن قادة أوربا بدءًا. وما نتائج تدهور عملته اليوم،إنْ هيإلاّ خير دليل على جعل الغرب تابعًا لها اقتصاديًا، ومن ثمَّ سياسيًا، ذلك أنَّ السياسة تسيرُ بدون شك، في خطّ التوازي مع القدرة المالية، وليس البشرية فقط، للبلدان. كما أنّ بروز قدرة اقتصادية موحَّدة منافِسة تخرج من الغرب المتقدّم، لا تنسجمُ مع تفوّق أمريكا الاقتصاديّ وتسيّدها لعالم الاقتصاد والمال.
تاريخ أمريكا مع الشعوب المتحررة المغلوبة واضحٌ وضوحَ الشمس. فما من بلد فكّر في التحرّر من القيد الأمريكي، إلاّ ونالَ قسطًا من التأديب والشدّة، ومن ثمّ من العزلة المفروضة عليه قسرًا، وبتلويحٍ دائم بالعصا الغليظة! دولٌ من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وأوربا الشرقية أو حتى الغربية، حينما حاولت رفع رأسِها بهدف الاستقلال سياسيًا واقتصاديًا، لم تنجوا بمحاولتِها، هي الأخرى. فاستخدمت معها كلّ أشكال التهديدوالقهر والحصار والتجويع. فالغاية عندها دومًا، تبرّرُ الوسيلة! حتى لو حصل ذلك على حساب شعوب الدول المستضعفة.

خارطة الشرق الأوسط الجديد تنطلق من العراق
الهدف الأسمى في بلوغ مشروع الخارطة السياسية الجديدة للشرق الأوسط، كان لابدّ أن يمرّ بالعراق، ثمّ لينتقل باتجاه جيرانِه،
وهكذا دواليك. فقد تمّ إسقاط جبابرة الأمس المعاندين مثل لعبة الدومينو، الواحد تلو الآخر، والحبل على الجرّار، كما يُقال. ذلك لأنَّ قادة وزعماء هذه البلدان الشرق أوسطية، ساعةَ شعروا بالذلّ والهوان والتبعية الخنوعة للغرب ولأسيادهم في أمريكا، رفعوا أصبعَ الاعتراض والتذمّر، فجاء الردُّ سريعًا وقاطعًا بالردع وبضرورة إيجاد البدائل بحجج مستنبطة، حتى لو مورس في هذه الأخيرة أشكالٌ من التجنّي واستباحة لحرية الشعوب وانتقاص من سيادة بلدانها.
في العراق، وبحجة البحث عن أسلحة تدمير شامل، صالَ الخبراء وجالوا طولاً وعرضًا في أرضه المشاع لكلّ مَن هبَّ ودبَّ من أدوات المخابرات والاستخبارات وأجهزة التجسس الدولية المتخصصة والعامة، وكلّها بحثًا عن تلك الأسلحة الوهمية في عمومها، التي لم يكن لها وجودٌ حقيقيّ إلاّ في هوس الدعاية والتباهي والتماهي التي قبعتْ آسنةً في الخلايا السرطانية لمجانين العظمة. وحين لم يعثروا على الطريدة، استنبطوا ذرائع أخرى وعناصر جديدة، لا تمتّ بصلة للغاية التي سمحت لهم المنظمة الدولية أن يفعلوا ما يشاؤون في أحوال العراق. فعلوها واستباحوا الأرض والسيادة والبشر، وأقاموا وفرضوا ما أرادوا من مواقع محظورة، تمامًا كما كانوا بدأوها بفرض حظر للطيران فوق شمال العراق في عام 1991 على خط عرض 36 شمالاً حتى خط 32 جنوبًا. ثم امتد ليشمل خط عرض 33، قريبًا من بغداد في 1996. وحصل ما حصل!
بالمناسبة، فرنسا في ذلك الوقت، كانت من أشدّ البلدان سخونةً باتجاه ترؤس حركة التمرّد، اقتصاديًا، ضدّ السياسة الأمريكية الاحتوائية. وهذا ما يشيرُ إليه انسحابُها من مجموعة فرض الحظر في 1996، لاعتقادِها بزوغان القرار الجمعيّ عن الأهداف الإنسانية المرسومة له حصرًا. فقد شعرت بذنبٍ، كما يبدو، وحنّت إلى علاقات الصداقة المتميّزة مع الدولة العراقية، حكومةً وشعبًا. لكنّ أمريكيا تشبّثت في حينِها، بكون قرار مجلس الأمن يتيحُ لها التدخل ضدّ ما أسمته ب"عمليات الاضطهاد" التي تمارسها الحكومة العراقية ضد المدنيين في بعض مناطق من العراق. وبما لا يقبل الشك، كانت هناك نيةّ مبيّتة وإرادة حاسمة من دول الحظر بالأساس، لتعزيز وجود "العرق الكردي" الذي عانى أتباعُه من سياسات شوفينية إبّان الحكومات القومية المتتالية على الحكم في البلد.
من هنا، بدأ الترويج لاستقلال كردستان العراق ذاتيًا، وقد أيّده غالبيةُ الشعب العراقي، إن في السرّ أو في العلَن. وهذا حقٌّ يُكتبُ لهم في نضالِهم ضدّ القمع والظلم والتعسّف التي لحقت، ليسَ بالشعب الكردي فحسب، بل بشركائِه الآخرين في شمال الوطن، ومنهم المسيحيون والإيزيديون الذين ناضلوا جنبًا إلى جنب مع قادة "العصيان " الكردي، كما كان يُنعتُ آنذاك. وللأسف، أنَّ الشركاء في نضال الأمس تمّ تهميشهُمولم يتمّ إنصافُهم لغاية الساعة، بل ما يزالون يُنظر إليهم نظرة دونيّة، دون سائر المواطنين في كردستان شمال العراق بالرغم من مشاركتهم في النضال الوطنيّ طيلة السنوات العجاف الماضية. فانطبق على قيادتهم القول:"وانقلب الضحية جلاّدًا بمجرّد استلامه سوط الحكم"، بسبباستغلال السمة المسالمة لدى أتباع هاتين الأقليّتين، ورفض أتباعهم لأية أشكال العنف في الحياة.
 وعندما تعثّرت القيادة المشتركة بين الحزبين الرئيسيين في كلّ من أربيل والسليمانية، وساءت الأحوال بينهما وتفاقم خطر الغريم الطالبانيّ على السلطة،لم يتردّد مسعود البارزاني الذي كان تولّي القيادة بوفاة المرحوم المناضل والده، من طلب مساعدة نظام الرئيس صدام حسين في نهاية 1996، لإنقاذِه من خطورة الموقف، بعدَ وصول مقاتلي الاتحاد الطالباني على أعتاب أربيل. فكان له ما أرادَ، مع اختلاف الأهداف والنوايا. وبذلك، تم طرد القوات المهاجمة المدعومة من الجارة إيران، من قبل القوات العراقية العقائدية والمحترفة آنذاك. ثمّ ما عتمت تلك القوات أن انسحبت ثانية، بضغطٍ دوليّ.
فالعراق، بالرغم من حربه الضروس مع إيران، وغزوه الغبيغير المبرّرللكويت كان ما يزالُ لاعبًا قويًا متماسكًا، وبإمكانِه الصمود لولا رغبة الأسياد بضرورة التغيير على طريقتهم الخاصة غير الفطنة! وهذا ما أتى بالوبال والمصائب والدمار للبلاد وللشعب، لغاية الساعة. فإنْ كانت النيات تتجه صوبَ تغيير الحكم وخلق توازن في النسيج الاجتماعي والسكّاني والمذهبيّ في البلاد، كان يمكن البحث عن بدائل أخرى غير دموية وتدميرية للبنى التحتية المادية والبشرية على السواء.

أتفاق: لا لعراق قوي موحد
أسوق هذه المعطيات، للتذكير فقط، بالدور التخريبيّ للولايات المتحدة التي تأبى وترفض قيام كيانٍ قويّ موحدٍ في أية دولة من بقع العالم. فالعراق، بخروجِه منتصبًا من حربِه مع الجارة إيران، كان لديه فرصة التحوّل إلى قوة إقليمية يُحسب لها حساب في ميزان القوى بالمنطقة. ودليلُنا على ذلك، طاقاتٌ هائلة من العلماء والخبراء في شتى الميادين التي خبرتها البلاد طيلة سنوات البناء والتنمية والحرب على السواء.ولكنّ الحس الاستخباراتي الأمريكي – الصهيونيّ، افترض صعود قوّة سنّية جامحة في المنطقة الثرية بالنفط والمعادن، يمكن أن يكون لها تأثيرٌ مستقبليٌّ على مصالحِها القومية. لذا بدأت تعد العدّة للتخلّص من النظام ورأسِه، بإثارة مشكلة قضية "العرق الآري- الكردي" وحقوقه، من أجل كبح جماح التوسع المتنامي للنظام السابق في القوة العسكرية على حساب جيرانه، ومعهم إسرائيل بطبيعة الحال، التي كانت قد أخذت دورَها في تسديد ضربة قاصمة على مشروع البرنامج النووي العراقي "تموز" في 7 حزيران عام 1981، حين تدميرِه بضربة جوية ماحقة. ثمّ أكملالمفتشونالدوليون تدميرَه حين دخولهم العراق.
أمّا النية الشرّيرة الأخرى للإدارة الأمريكية، فقد بانت بإشارة من السفيرة الأمريكية بالعراق آنذاك، "غلاسبي"، التي كانت أوحت للرئيس العراقي صدام حسين بعدم ممانعة بلادها لغزو الكويت، متأثرًا بقولِها أنّ "أمريكا،ليسلهارأيبشأنصراععربي-عربي"، ما فهمه الرئيس، بحسب البعض، إشارة واضحة لإمكانية تحقيق حلمِه النرجسي والتربع على عرش العرب سيّدًا أوحد. فيما يعتقد، البعض، أنَّ غزو الكويت، كانت أيضًا ضمنالمؤامراتالتي حاكتها أمريكيا بالتنسيق مع اللوبي الصهيوني في الكونغرس، من أجل السيطرة في نهاية المطاف علىمنابعالنفطفيمنطقة الخليجالعربي. وما الذي يحصل اليوم، سوى نتائج تحصيلية للأحداث الماضية ضمن تسلسلِها الزمنيّالمعدّ وفق خطة يجري تنفيذها بكلّ دقّة، بعد توزيعِ الأدوار على اللاّعبين، كبارًا وصغارًا، ومنهم حلفاء أميركا الغربيين وتوابع إقليميين.

لماذا ليس إيران؟
أمّا لماذا، لم تطرق أمريكا ومعها الغرب التابع لها، أبواب إيران، العدوّ اللدود للسنّة العرب في المنطقة، فهذا شأنٌ آخر. فإيران، لم تنزل إلى دركات السياسة القهرية التي اتبعها غريمُها السابق بالعراق، كما لم تنقدْ أو تتشتّت في حروب جانبية غير محسوبة النتائج، بعد خروجها متهالكة وابتلاعها السمّ الزعاف بإيقاف عجلة الحرب. وتلك حكمة من قادتها. بل ربما، هذا ما كان أُمليَ عليها كي تتخذ جانب الهدوء والراحة من أجل معركة أشرس، يكون لها صولة أقوى مع المجتمع الدولي، ومع أمريكا التي مازال النظام الديني في إيران ينعتُها ب"الشيطان الأكبر"، بالرغم من تلاقي المصالح القومية للطرفين مؤخرًا حول طاولة مفاوضات النووي، التي خرجت منها إيران مظفَّرة ومنتصرة، رافعَة الرأس باتفاق متوازن، لتحصل ما لم تكن تحلمُ به. ومن ثمّ، في الاتفاقالإجماعيّ على نقاط إضافية تخصُّ مستقبل المنطقة والخارطة الجديدة لها وكذلك طريقة توسّع مسار التشيّع، من أجل خلق نوعٍ من التوازن الطائفي والإتنيّ بين السنة والشيعة، ما خلق حالة من التذمّر وعدم الرضا من جانب دول الخليج الغنية، وحتى من إسرائيل.
 اليوم، تحاول روسيا جاهدة، دخول سباق الزعامة الدولية، بإصرارِها على دعم الدول والشعوب المقهورة التي تتحكم بها الإدارة الأمريكية والغرب التابع لها، سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا، بحجة تخليصِها من أنظمتِها الدكتاتورية وحمايتِها من الاستبداد والظلم بالمناداة بتطبيق شرعة حقوق الإنسان. فقد كشفت مؤخرًا تقارير صحفية موثقة بصور ووثائق وتسجيلات صوتية ومعطيات تقنية دقيقة، عن تفجير جهاز الاستخبارات الروسيّ قنبلة من العيار الثقيل حول حقيقة تنظيم ما يُعرف بالدولة الإسلامية"، وكيفية تمويلِه وحصولِه على الدعم المادّي من مصادر متنوعة، ومنها الولايات المتحدة ودول غربية وإقليمية، وشركاء في الوطن يستلمون أصناف الدعم والمساعدات ويقومون بتحويلِها بطرق معينة لهذا التنظيم من أجل ديمومة بقائِه واستمرار عملياته واحتلالِه لأراضٍ في كلّمن العراق وسوريا. وتأتي موارد مبيعات النفط على رأس هذه الصفقات. وقد فاحت رائحة مثل هذه الصفقات في كردستان عبر وسطاء، ومعه لم تستطع هيئة النزاهة ولا لجنة النزاهة البرلمانية، أو بالأحرى لم تتجرّأ الاثنتان الخوض فيها لتورّط رؤوس كبيرة شريكة في العملية السياسية.
إنّ هذه الفضيحة الأخيرة التي كشفت عن تورّط دول وزعامات بالتعاون مع "داعش" الإرهابي الدولي، قد سبق لجهات عراقية رسمية وشبه رسمية، أن أشارت إلى شكوكِها الواقعية وإلى حقيقة وجود هذه الأشكال من التعاون المخزي مع مغول العصر، من قبل دولٍ وجهاتٍ حاقدة وذواتٍ في الداخل والخارج مشكوك في ولائِهم لوحدة الوطن. وهذا دليلٌ آخر، على ضلوع الإدارة الأمريكية بمؤامرات ضدّ الشعوب المغلوبة، من أجل إبقائِها على تخلّفها وعدم السماح لها ولشعوبِها بالتقدّم والتمتّع بما تملكه من موارد مادية وبشرية وطبيعية. بل هي تحاول، تجريد ما هو قائم لديها من كلّ هذه الطاقات، بإطالة أمد احتلال الأراضي المغتصبة التي احتلها تنظيم "داعش" الإرهابي، وإيجاد الأعذار بصعوبة محاربتِه والقضاء عليه، كسبًا للوقت وفسحِ المجال لمغادرة وهجرة أكبر عدد ممكن من البشر المهجّرين والنازحين، بعد فقدانهم كلَّ أملٍ بعودة سريعة، إن لم تكن مستحيلة بالنسبة للبعض، إلى ديارهم وأملاكهم في قراهم ومدنهم المغتصبة. وهذه فرصة مضافة، للسماح ل "داعش" ومَن والاهُم وتبعهُم، كي يعبثوا بممتلكات المناطق المغتصبة ومؤسساتها الدينية والرسمية وإجراء التغيير الديمغرافيّ فيها، بحسب رغبة الأسياد وبالتعاون مع عملاء في الداخل متواطئين مع السياسة الأمريكية المتعجرفة.
هذه حقائق يتمّ تنفيذُها على أرض الواقع. ولكن، ما في اليد حيلة! فذراع العراق قصيرٌ ولمْ يعد كما في سابق عهده، عندما كان حلمُ المواطن هو بناءُ الوطن وتعزيز ثرواتِه وبناءُ قدراتِه على أساس وطنيّ ووفق برنامج واضح المعالم يتغنّى بحبّ الوطن ولا يقبل له المذلّة! ولعلَّ من بين الأدوات الفعّالة التي عملَت عليها الإدارة الأمريكية وحلفاؤُها والمتواطئون معها، تمثلَ بتقويض قدرات الجيش العراقي وأجهزته الأمنية المتعددة، بحلّها جميعًا، مع الغزو اللعين في 2003، تمهيدًا لاستيطان عسكري عبر قواعد خطّطت وما تزال تنوي لزرعها في البلاد. وبهذه الأدوات، سيتسنى لها تسهيل تقسيم العراق على أساس طائفي ومذهبي وعرقيّ، تمامًا كما اشار إليه مشروع بايدن" التقسيمي. وهذا دليلٌ على وقوف الأخيرة وراء كلّ النكبات التي أقلقت مضاجع، ليسَ جميع مكّونات الشعب العراقي فحسب، بل وشعوب المنطقة برمّتها.
كفانا اللهُ شرّ هذه وتلك، هؤلاء وأولئك، من الطامعين والحاقدين والكارهين.


لويس إقليمس
بغداد، في 22 تموز 2015


294
فرنسا والتلويح بالعصا الغليظة!
لويس إقليمس

مع تسارع الأحداث، وكشف الخفايا والمستور في التحالفات الداخلية والإقليمية والدولية، يبقى مصير النازحين والمهجّرين العراقيين الذين تجاوزوا الثلاثة ملايين، معلّقًا بين السماء والأرض، أمانةً ورهنًا بيد السياسيين والأحزاب والمراجع، دولاً وأديانًا ومذاهب. ومع حقيقة عدم بروز بصيص أملٍ بعودة مأمولة لمَن اضطرّتهم عصابات "داعش" الإرهابية لترك ديارهم وقراهم وبلداتهم إليها، لا على المدى القريب ولا المتوسط، يتساءل هؤلاء ومعهم الطيبون وكلّ ذوي النوايا الحسنة، متى يأتي الفرج؟ ومتى تُنجزُ مهمة "الأسياد"؟ وما هذا الصمت المخزي من المجتمع الدولي الذي يدّعي الحرية والمساواة والعلمانية والديمقراطية، وهو ساكتٌ عن جرائم العصر التي يندى لها جبين الإنسانية، والتي أقلَّ ما وصفت بجرائم إبادة جماعية ضدَّ الإنسانية؟ فهل الصمت والسكوت أصبحَا مقياسًا للدول الديمقراطية المتقدمة في التعامل مع أوباش العصر والمجرمين مدمّري البشرية وتراثها وحضاراتها وكلّ ما يمتّ بصلة إلى العلم والتقدّم والرقيّ؟ إن كان ذلك حقيقةً وواقعَ حالٍ، فهي تشترك وتشارك بطريقة أو بأخرى في هذا المشروع التدميريّ الرامي للتغيير الديمغرافيّ وقلب النظام العالميّ بقوّة السلاح، أيًّا كان نوعُه، "سيفًا أم نوويًا أم تقليديًا أم متطورًا"!
أسئلة كثيرة، ادّعت الكثير من المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات، دولية وإقليمية ومحلية، معالجَتها ودراستَها. كما تعهدت دولٌ ومنظماتٌ، عُرفت بدجلِها وريائِها، بالعثور على حلول لم ترى النور، بل بقيت أسيرة الورق والدعاية الرخيصة والإعلام الكاذب الذي يضحك على عقول البسطاء ويسخّف من طلبات المأسورين المستنجدين بالإله الواحد الأحد الذي يعبدُه الجميع ويتكلون عليه، علّه يظهر لطفَه ويبرّد حرارات الصلى المتنوعة التي يموتون بها كلَّ يومٍ، انتحارًا بطيئًا.
مؤتمر فرنسا الذي كان عُقد مطلع حزيران المنصرم، كان إحدى هذه المحطات التي شدّ الرحالَ إليها رئيسُ الحكومة العراقية، ربّما مضطرًا، ليسمعَ إملاءات الأسياد الذين استغلّوا صداقة الشعبين العراقي والفرنسيّ التقليدية السابقة والفاترة حاليًا بعض الشيء، كي ينقلوا "لاءاتِهم" ويؤكدوا "نعماتِهم"، بتأطيرِها بسقف زمنيّ للتطبيق، وإلاّ كانت الندامة حليفَ هذه الحكومة "المذهبية" المدعومة من اللاّعب الإقليميّ المتفوّق بجدارة على البهرجة الغربية قاطبة! مؤتمرٌ، أبسطُ ما يمكن وصفُه بمسرحية دولية، من إخراجٍ أمريكي وتنفيذ فرنسيّ بامتياز، استطاعً فيها المخرج والمنفّذ من استدرار تعاطف وصداقة الشعبين التاريخية التقليدية كي ينقل أوامرَ وليسَ مقترحات للنقاش والبحث وتبادل الرؤى، بحسب اعتقاد العديدين!
ومع أنّ البيانات والتسريبات والتصريحات الخجولة التي صدرت عن أروقة المؤتمر المذكور حينَها وما بعده، على قاّتِها، سواء من شخصيات أو مراقبين أو رسميين، لم يكن لها وقع كبيرٌ وملموس، بسبب اللهجة المغلَّفة للجهة الراعية للمؤتمر المذكور، إلاّ أن الجانب العراقي الرسميّ تجنّب الحديث عن استيائه من الإملاءات التي تسيّدت مشهد المباحثات. فالبيان الختامي بشأن السلام والأمن في العراق، حين تطرّقه إلى "مسألة توطيد سيادة القانون، وتعزيز سياسة وحدة الصف الوطني من خلال تحقيق التمثيل العادل لجميع المكونات في المؤسسات الاتحادية، والمساواة بين جميع المواطنين وضرورة اتخاذ جميع التدابير الضرورية والفعالة لمحاربة تنظيم «داعش» والجماعات الإرهابية التي عدّها خطرا مهددا لجميع العراقيين"،  تجاهلَ الآلية الوطنية الضرورية للوصول إلى هذه القنا عة بالتركيز على مبدأ المواطنة التي يتمناها الجميع والتي فقدها الجميع أيضًا منذ غزو العراق في 2003. كما أنّه، لم يشر إلى استراتيجية محددة لما بعد "داعش". بل تطرّق إلى موضوع شائك ينادي به جميع السياسيين ولا يفهمونه أو لا يتقبلونه في أعماقهم ووفق مبادئهم، ألا وهو موضوع "المصالحة الوطنية" الذي كثر الحديث عنه وصُرفت له الملايين جزافًا. فمَن يتصالح معَ مَن، ومَن تجاوز على مَن، ومَن أخطأَ بحقّ مَن؟؟؟ أليسوا جميعًا في ذات المركب، ينهلون وينهبون ويقطون من ذات الكعكة، وفي عين الوقت يتّهمُ أحدُهم الآخر، ويسكتُ أحدُهم عن فساد الآخر، والغربُ الديمقراطيّ الماكر يتفرّجُ عليهم، ويحثُّ هذا ضدّ ذاك، ويدعمُ هذا ضدَ ذاك؟ أليست هذه هي السياسة الراهنة التي يتعاملُ بها الغرب مع جميع الملفات العراقية، وليسَ في جعبتِهم سوى استمرار الأوضاع غير المستقرّة وبقاء البلد في "فوضاه الخلاّقة" التي اشارت إليها "رايس" قبل سنوات، بلد يفتقرُ إلى كلّ شيء ولا يملكُ أيَّ شيء؟
أمّا الشركاء الدوليون الذين اشتركوا في المؤامرة الكاملة القذرة ضدّ العراق وشعبِه منذ تلفيق تهم حيازة النظام السابق لأسلحة محظورة في التسعينات من القرن الماضي، فهُم متواصلون في مكرهم وريائِهم بإظهار "دعمهم للحكومة العراقية ولتطلعات الشعب العراقي لاحترام حقوق الإنسان في إطار اتحادي يمتثل للدستور، وحقوق الأقاليم ووحدة البلاد وضرورة الاستعجال بالإصلاح السياسي وتفعيل مشاركة العرب السنّة". إلاّ أنهم من جانب آخر، يوسّعون الهوّة بين شركاء حكومتي المركز والإقليم مثلاً، من خلال تعزيز قدرات الإقليم انفرادًا وتقديم كافة أصناف الدعم السياسي واللوجستي والمعنوي والمادّي والاستشاري على حساب المركز. وفي ذات الوقت، لا يألون جهدًا في إظهار استيائهم المغلّف من الصراع الطائفي القائم بين السنّة والشيعة، ويتخذونه سبيلاً لمشروع التقسيم الجاهز في ملفاتهم الاستخبارية، حينما يأتي الأوان.

هناك، مَن يعتقد أنّ رئيس الحكومة العراقية قد عاد خائبًا من باريس، وليسَ في جعبتِه سوى تنفيذ ما سمعه وأُملي عليه، هذا إن أراد أن يحافظَ على وحدة البلاد. ومع أنّ تلك المطالب بدت مستحيلة التطبيق، في ضوء المعطيات على الأرض وفرض اللاّعب الإيراني لأجندتِه الدولية، ليسَ في العراق فحسب، بل في المنطقة الساخنة التي يسعى فيها لتوسيع نطاق التشيّع ما أمكنَه ذلك، إلاّ أن الرجل وعدَ ذلك بقلبٍ منكسر، مع كلّ يقينِه برفض غالبية تحالفِه الشيعيّ للعديد من النقاط التي وردت في البيان الختاميّ. فالمسألة أصبحت مسألة وجود وتواجد قوة منيعة واقعة اخذت ابعادًا إقليمية وطائفية ومذهبية، شاء هؤلاء أم رفضوا. فالعبادي ليسَ بتلك الشخصية الكارزمية المتألّقة التي تستطيع الإقناع، بقدر ما هو إنسانٌ وطنيٌّ ملتزمٌ أخلاقيًا ودينيًا ومذهبيًا وإنسانيًا ضمن كتلته الشيعية الملحقة بالجارة إيران، يسعى ما في وسعه لتقريب وجهات النظر التي يرفض شركاؤُه والمقرَّبون منه التعامل معه بجدّية وبإنصاف وبوطنية، بسب تقاطع المصالح بين اللاعبين الكبار الثلاثة في حكومتِه. وهو ما يزال شخصيةً توافقية وليست قيادية محنّكة، أنقذت موقفًا متأزمًا بين الفرقاء والشركاء على السواء، ولو على مضض.


الأقليات في مرمى نيران الجميع
مشروع الغزو الأمريكي الذي قسّمَ السلطة بين السنّة والشيعة والكورد، تمهيدًا لتقسيم البلاد، أهملَ ما سواها من شعوبٍ أصيلة، في الدّين والعرق واللغة وفي صناعة حضارة العراق على امتداد آلاف السنين. إنّ هذه المكوّنات الصغيرة التي لن تصحو من كبوتِها التهميشية والمستضعفة، ستظلُّ خنجرًا يدقّ خاصرة الحكومة والدولة العراقية، ما لم يتمّ التعاطي معها بروح المواطنة التي تحفظ لها حقوقَها المواطنية كاملة وليسَ بالنظر إليها بدونيّة. وهذا لن يحصل إلاّ فقط، حينما تُعدمُ المحاصصة الطائفية على خشبة الجلاّد الوطنيّ العراقي الذي يستذكر الحضارة والثقافة والتراث وروحَ التكافل الأصيل المعروف عن العراقيين. فبعد خسارة أتباعِها لمناطق تواجدهم الأصلية وفقدانهم أموالهم وثرواتهم وأراضيهم ومغادرتهم لها مكرهين بعد اجتياح تنظيم "داعش" لمناطقهم، ولاسيّما في منطقة سهل نينوى وأجزاء من ديالى، بات مصيرُهم في عرف المجهول. لقد مرَّ عامٍ على ذلك الاجتياح السافر الذي طبع الحكومتين المركزية وفي الإقليم، بعار الأبدية لتسليمهم تلك المناطق بطريقة مخزية ومهينة، فأصبحت الخيبة والخذلان نصيرَهم، من حيث حتمية التغييرات الديمغرافية التي ستطرأُ على مناطقهم. وهذا تمامًا، ما أراده وخطّطَ له راعي العملية الكبير وصاحب مشروع الشرق الأوسط الكبير!
وما يزيد تفاقم الخوف ويعزّز من هواجس أقليات العراق، عدم بيان الرؤية لديها بسبب من النوايا المبطنة للقوى الكبرى الدولية والإقليمية، وعلى رأسها راعية التحالف الدولي. فالرئيس الأمريكي وفريقه المشكوك في نواياهم تجاه مصير أتباع الأقليات في المنطقة وفي العراق بخاصة، لا يمكن ائتمان جانبهم، لأنَّ ما يهمّ هؤلاء جميعًا، مصالحُهم القومية، ومن بعدهم الطوفان! وما تصريحُه في لقاء الثمانية الكبار في بافاريا، من "عدم وجود استراتيجية متكاملة لمساعدة الحكومة العراقية على استعادة المدن من تنظيم الدولة الإسلامية"، سوى تأكيد على النوايا الخبيثة التي يكنّها الغرب المنافق، برعاية صاحبة القطب الواحد وراعية الشرّ ومثيرة الحروب من أجل الترويج لأسلحتها الفتاكة الجديدة وزيادة مبيعاتِها على حساب مصير الشعوب المستضعفة الحالمة بكسرة خبزٍ حلالٍ تتناوله في أجواء من الاستقرار والسلام والطمأنينة، بدل قعقعة الأسلحة وفرقعة المتفجرات وحياة "جاءَ الواوي، وجاءَ الحرامي".
إن هذه المواقف العدوانية التي حشّدَ لها الغرب ضدّ شعوب المنطقة منذ الثمانينات، قد ساهمت بقوة في انتشار الأصولية والتشدّد وتراجعًا في التنمية وتطوير المجتمعات، ما جعلَها عرضة لحروب وطعنات متواصلة وقاتلة ومدمّرة أثخنت خاصرة أوطانِها. فباتت هذه أرضًا مكشوفةً بلا رقيب ولا حامٍ للأرض والعرض، تفتقر إلى أبسط وسائل العيش بسلام وطمأنينة، فحرمتها، ظلمًا، من ثرواتِها ومن عيشِ حياتها وتراثِها وحريتِها وتجاربِها بسلام.
 وما يزيد الأوضاع تعقيدًا، تلك المعايير المزدوجة في التعامل مع قضايا مصيرية لشعوب المنطقة. فالجهود الخبيثة والدسائس الكثيرة قائمة على قدمٍ وساقٍ في تأجيج الصراعات وفي التحريض وتأليب جماعة على أخرى، أو في التغافل عن فعلٍ لطائفة أو جماعة على أخرى. وهذا من الأدلّة القائمة على تعامل الغرب مع الأوضاع بمعايير مختلفة تنسجمُ ومصالحَها، ووفق دورِ كلّ دولة شريكة في التحالف الدولي القائم.
لقد فقد المواطن العراقي الثقة بالجميع، بدءًا من حكّامه وممثليه، تمامًا مثل عدم تعويلِه بعدُ على  الغرب والمنظمات "ذات الطالع التجاري في مجملِها"، وعلى أمريكا بالذات. فجهد هذا التحالف قد انقلب اليوم، إلى فعلٍ استخباراتيّ بحت، فيه يحثُّ شركاؤُه الخطى لمعرفة كلّ صغيرة وكبيرة، وكلّ كلمة أو نشاط لتحرّكات العراقيين، ساسةً ومنظمات وأفرادًا، من دون أن يعي الفرد العراقيّ بهذه النوايا. إنْ بعضٌ من هذه، إلاّ صفحات سوداء في حياة الغرب المتهاون مع الظلم والإرهاب، والسائر في طريق تقسيم البلدان وتشظية الشعوب وتأليب الأديان وإفساد الحضارات.
العراقيون يتمنون من فرنسا ومن الشعب الفرنسي، في ضوء علاقة الصداقة التقليدية بين البلدين والشعبين، أن يكون فعلُها أكثر تأثيرًا وأكثرَ التصاقًا بحق هذه المكوّنات الآيلة للانقراض في إقرار مشروع جدّي، وتبنّي استراتيجية دولية قابلة للتطبيق في المؤتمر المؤمَّل انعقادُه في أيلول القادم دعمًا لأقليات العراق، بحسب ما يُشاعُ ويتم التهيئة له من تحضيرات وترتيبات ودعوات.عسى ألاّ يخيبَ أملُ العراقيين وألاّ يكون رقمًا ضمن سلسلة مؤتمرات دعائية وتجارية جارية على قدمٍ وساق، وهي لا تخرج بنتائج تبرّد أفكار وعقول وأجساد العراقيين المصطلين بحرارة صيفهم القاسي، بسبب غياب جهدٍ وطنيّ صادق لإيجاد حلولٍ شافية للنقص في الطاقة، بالرغم من صرف مليارات الدولارات في عقود وهمية أو ترقيعات لمشاريع إنتاج ونقل طاقة عفا عليها الزمن واصبحت في عرف المنتهية الصلاحية.
وإلى ما ستؤول إليه الأوضاع، يبقى المواطن الجريح مكسور الجناح، ضعيف الخاطر، محطّمَ الفؤاد، يستنجدُ بقشة عالقة في بحرٍ هاجَ وماجَ عليه من كلّ صوبٍ وأوب! فبعد المصيبة الكبيرة لأبناء الأقليات في العراق، واضطرارهم للبحث عن ملاجئ آمنة في أرض الله الواسعة التي ضاقت بحاجاتهم وتطلعاتهم وحقّهم الطبيعي في الحياة، وبعد تشريدهم وطردهم قسرًا من ديارهم واستنفاذ كلّ الجهود بإمكانية إعادتهم إلى مناطقهم، وجد هؤلاء أنفسَهم حيارى بين فعل التشبث بالوطن أو بالبحث عن جحرٍ يأوي عائلاتهم المتشردة التي تتعرّض للإهانات وللكثير من أشكال السخرية والإهانة والعوَز في الاستنجاد وطلب العيش البسيط.
فمَن سيثبت ويصبر ويجالد ويصارع، وإلى متى؟
أما للصبر من حدود وللصلاة من ردود وللظلمِ من قيود؟؟؟!!!

لويس إقليمس
بغداد، في 8 تموز 2015


295
المكوّن المسيحي والخطوة الجريئة القادمة

لويس إقليمس

انطلاقًا من مبادرة قديمة - حديثة لرأس كنيسة العرق، غبطة البطريرك لويس ساكو، وللحاجة الملحّة لتثبيت الوجود المسيحي في العراق بعد خيبات الأمل المتلاحقة لغير صالح هذا المكوّن التاريخي الأصيل، ونزولاً عند رغبة الحكماء والنخب المتنورة، ونظرًا لمقتضيات المرحلة الحرجة الراهنة، وصعوبة تلاقي أهداف وغايات الأحزاب القائمة لصالح هذا المكوّن المهدَّد بالانقراض بسبب تقاطع المصالح واختلاف الولاءات، بادر غبطته باستضافة نخبة من النشطاء والمهتمّين بالشأن المسيحي من نواب وسياسيين ومسؤولين في الدولة العراقية ومن أكاديميين ومثقفين ونشطاء مدنيّين، إلى جانب حضور عدد من رؤساء الطوائف وممثل السفارة البابوية في العراق. حقًا، إن لقاء يوم الإثنين 1 حزيران 2015 في دار البطريركية الكلدانية، كان لقاءً مسكونيًا ومسيحيًا جامعًا، أفضى إلى الشعور بخطورة الوضع والتنبّه للوضع القاتم الذي آلَ إليه مصير هذا المكوّن الأصيل بعد مأساتِه الكبرى منذ قدوم الوحش الكاسر "داعش" وخلوّ مناطقِه من أبنائه لأول مرّة في التاريخ المعاصر.
وحرصًا من غبطتِه، على سير وقائع اللقاء بصورة سلسة وبمحبة جامعة، فقد كان هيّأَ ورقة عملٍ بسيطة، ولكنها شاملة، تناقش الواقع الراهن المرّ للمسيحيين في العراق، داعيًا بشدّة إلى ضرورة وجود "مرجعية سياسية مسيحية" مستقلّة تأخذ على عاتقها، البحث في شؤون أبناء هذا المكوّن المستضعف المهمّش الذي يبكيه الجميع تعزيةً بذرف دموع التماسيح عليه وعلى ما آلَ إليه، من دون اتخاذ ما من شأنِه تعزيز وجوده ومساندة حقوقَه ودعم احتياجاتِه القائمة، وهي كثيرة. صرخة عميقة أطلقَها هذا اللقاء، للرأي العام العراقيّ والمسيحيّ بخاصة، بالكفّ عن التقاطع في المصالح وبالخروج عن دائرة الخنوع والخضوع لأجندات أطراف سياسية تكرّس فرقة هذا المكوّن وتسعى لتقطيع أوصالِه وتقويض وحدتِه، بسبب تعدّد الانتماءات والولاءات وعدم وضوح الرؤية لدى البعض من المصير القاتم الذي ينتظره، سيّما أنه لا أملَ قريبًا بالخلاص من الهوّة السحيقة التي أدخلنا فيها الكارتل الدولي بقيادة دولة الشرّ والغدر، صاحبة القطب الواحد، والغرب التابع لها بدعم وتحشيد إقليمي.
كانت غاية اللقاء، مناشدة اصطفاف الجميع حول "خطاب سياسيّ ودينيّ مسكونيّ موحّد"، حرصًا على تلاقي الخطّين معًا لصالح تثبيت الوجود المسيحيّ وتعزيز الهوية المسيحية الوطنية قبل أي مطلبٍ آخر. وهذا ما أكّدته ورقة العمل التي كان أعدّها غبطة البطريرك، كي تكون مرشدًا ودليلاً في النقاش والمداولات والملاحظات التي شاركَ في طرحها ومناقشتها الحاضرون بشيءٍ كبيرٍ من الصراحة والحرص والإيمان بوحدة الصف الذي كان سيّدَ الموقف والرجاء، وإنْ لم يخلُ من بعض الحساسيّة في الطرح والاستجابة. وكانت توصيات الحضور، بتوالي متابعة تفاصيل اللقاء والطروحات، من خلال تشكيل هيئة تنسيقية من خمسة من الذوات الحضور، تأخذ على عاتقِها متابعة توصيات هذا اللقاء التشاوريّ، والتهيئة للقاء أوسع في وقت لاحق، مع الأخذ لاحقًا بضرورة عقد لقاء مسيحي شامل بعد تبلور الأفكار وتخمّرها، وفيه يصارُ إلى تشكيل ما اقترحَه البطريرك ساكو، وأيّده معظم الحضور، بالإسراع بتشكيل هذه المرجعية السياسية المسيحية، شريطة استقلاليتها، لتعمل بالتوازي والتشاور مع الرئاسات الكنسية موحدةً في الصفّ والكلمة والخطاب، هي الأخرى.
أستطيع القول، أنه في هذا اللقاء المشترك الذي ضمَّ رجالَ دين وسياسيين وبرلمانيين ونشطاء في المجتمع المدني وأكاديميين وإعلاميّين، قد وضعنا القطار على سكّتِه الصحيحة، بالرغم من أنّ الوقت متأخر، باتفاق الجميع. فقد كانت مثل هذه الخطوة الجريئة منتَظَرة منذ أمدٍ طويل. وقد طالبتُ، كما غيري، في إحدى كتاباتي قبل أكثر من سنة ونصف، بضرورة القيام بخطوة جريئة من أجل تحصين الموقف المسيحي وترصين كلمتِه وتوحيد خطابِه ليكون مستقلًّا وبعيدًا عن أية تجاذبات سياسية تابعة لأجندات طامعة بمناطقنا والساعية لمصالح فئوية ضيقة واللاّهثة في تبعيتها لتلك الأجندات التي لا تخدمنا، بقدر ما تسعى للاستئثار بهويتنا وتتاجر بمآسينا وتخلط الأوراق من أجل عرقلة استحقاقاتِنا الوطنية والدينية والإتنية كاملة، ونيلِها بحقّ وفقًا للدستور أسوةً بالغير!
من المفرح جدًّا، أن يلتقي أغلبُ الحضور حول ضرورة تعزيز هذا الموقف الصريح، وحول اقتضاء الحالة والظرف لإعطاء الرجاء للمسيحيين من أجل تحصينِهم في مواجهة التحديات الكبيرة والمصير المجهول. وهذه لا يمكن أن تأتي في غياب وحدة الصف وتشرذم الخطاب وتشتّت الطاقات والآراء والخبرات، وضعف الإعلام المحدود. وإنْ برزتْ هناك بعض الاعتراضات أو الهواجس من جانب نفرٍ محدود من النواب أوالسياسيين، بطرح فكرة تشكيل "مرجعية سياسية مسيحية"  مستقلّة، فهي لا تعدو سوى مخاوف من استهداف دورِهم كممثلين عن مكوّنهم، بالرغم من التأكيد على أنَّ مشروع هذه المرجعية لا يسعى لسحب البساط عنهم وعن أنشطتِهم على الساحة السياسية، بل ليكون ذلك نعمةً على نعمة ويزداد الخير ببركة الرب وبدعاء وتكاتف الجميع من ذوي الإرادات الصالحة والنوايا الطيبة. وهذه من أهمّ حلقات وحدة الخطابعبر الاجتماع على كلمة واحدة قوية تجمع ولا تفرّق، تؤيّد ولا تحبط، تطالب ولا تخنع!
في رأيي، أنَّ المرجعية المستقلّة التي نحنُ بأمسّ الحاجة إلى تشكيلِها في هذا الظرف الحرج، والتي يُعوّلُ عليها أن ترسم أولاُ وقبل كلّ شيء، استراتيجية مسيحية وطنية، ينبغي أن يكون قوامُها أساسًا من النخب العلمانية المدنية الصامدة المختبرة للمأساة، مدعومةً معنويًا وماديّا واستشاريًا من عموم كنيسة العراق، ومسندةً من السياسيين على الساحة من الصادقين في غيرتِهم على مستقبل ومصير الشعب الذي يمثلونَه والذي خابَ فيهم الأمل لغاية الساعة، بسبب عدم استقلالية مواقفهم وآرائهم وضبابية أداء البعض، وحالة التخبط والاهتزاز في المواقف.وهنا، لا يمكن نسيان الدور الذي يمكن أن يلعبه اللوبيّ  المسيحي في بلدان الاغتراب من أجل تعزيز هذا الكيان الجديد عبر أنشطتِهم المستقلّة الداعمة لوحدة الهدف والمطالب المشروعة للوجود المسيحي الوطني في الأروقة الدولية وكواليس السياسة، لتشكل ضغطًا على القوى الحاكمة في البلاد وفي السلطات الثلاث، وحملِها على إلغاء أساليب التهميش والإقصاء الممارَس على نطاق واسع في كافة مؤسسات الدولة، ولاسيّما في استحقاق المناصب وفي التوظيف السائر على أساس المحاصصة البغيضة، وفي فرض تطبيق قوانين لا تنسجمُ مع مبادئ باقي الأديان المختلفة عن دين الدولة الرسميّ في البلاد .
إنّ هذه الاستراتيجية الجديدة المرتقبة، ينبغي أن تتآزر وتتفاعلَ وتنشط في الوسط السياسي والاجتماعي، محليًا وإقليميًا ودوليًا وأمميًا، مع توخي الحيطة والحذر في التعامل مع باقي المكوّنات، كي لا يجرفَها تيار أجندات الغير وتقع في ذات الإشكالية التبعية التي لا تخدم مصالح هذا المكوّن. كما لا بدّ أن تلتقي في مشتركات تجمعُها مع مثيلاتِها من المكوّنات المستضعفة الأخرى التي طالَها الغبن والظلم والتهميش، كي تكون بمستوى يؤهلُها لفرض المطالب المشتركة في المناطق التي تقطنها، وأنْ توجّه مساعيَها لصالح مكوّناتها الضعيفة التي تتلاعبُ بها تيارات الزعامات السياسية والأحزاب المتنفذة على الساحة بزخمٍ من كتلِ هذه الأخيرة العددية ومن الدعم الدولي والإقليمي الذي تحظى به دون غيرِها من مكوّنات الأقليات الدينية والإتنية التي تعاني بالمقابل من الإهمال واللامبالاة والنسيان في أحيانٍ كثيرة، وكأنّها غير قائمة في وجودها وهوياتِها.
أقول، لا ينبغي أن يستمر التهميش والتغافل لوجود الأقليات التي مازال الكثير من الساسة والزعامات والمراجع تنظرُ إليها بدونيّة واستخفاف وازدراء. فالدستور، بالرغم من إخفاقاتِه الكثيرة والثغرات التي تمثل قنابل موقوتة تستغلُّها أطرافٌ منتفعة للابتزاز والانتفاع، ينصّ على تساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. وهذا يرتبُ مساواة سياسية ووطنية كاملة مع باقي المكوّنات، على أساسٍ الولاء للوطن والكفاءة والإيمان بوحدة الأرض والرفاه المطلوب للجميع، وليس لمكوّنات القوى السياسية المحتكرة للسلطة والإدارة والمال، منذ السقوط في 2003.
نؤكد، ما تزالُ فكرة تشكيل "المرجعية السياسية المسيحية" لم تختمر بعد، وهي بحاجة إلى دراسة جادّة ووعي بالهدف المرجوّ منها. وأيًا كانت التخريجة النهائية للتشكيل،"تجمّعًا" أو "مجلسًا" أو "هيئةً"، فلابدّ أن ينطلق من مبدأ سياسيّ وطنيّ مسيحيّ مستقلّ، يأخذ على عاتقِه ما فشلَ في تحقيقه آخرون بسبب عدم استقلالية القرار أو التبعية لأحزاب نافذة أو جهات سياسية لها أجنداتُها. وذلك ما جعل عملَ هذه الفعاليات تتقاطع مع المصالح والحقوق والطموحات التي تستحقّها مختلف الجماعات المسيحية في العراق من دون استثناء، احترامًا لأصالتِها وتجذّرها وتاريخِها، والتي بدأت بالتراجع والأفول، ما قد يحيلُها إلى الانقراض، في حالة استمرار الأوضاع بالتقهقر واستمرار نزيف الهجرة.
كما نودّ التأكيد أيضًا، أن هذا المشروع في حالة تحقيقِه وبروزِه على الساحة للضرورات المشار إليها في الغاية من تشكيلِه، سوف يحرص على عدم تقاطعه مع نشاط مَن هم على الساحة السياسية والمدنية. بل سيكون نعمةً على نعمة، بعد مباركتِه المؤمَّلَة من قبل مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في عموم العراق، وبالذات من غبطة رأس كنيسة العراق، البطريرك ساكو. وستبقى رعاية الكنيسة ورؤساؤُها خيرَ إلهامٍ وأفضلَ دعمٍ لهذا التشكيل بتواصل التشاور والاستشارة، كي تتفرّغ هي لما هو أرفعَ وأسمى في إكمال رسالتِها الروحية والتبشيرية والاجتماعية في الوسط المسيحي والعراقيّ، بدلَ إقحامِها في ما لا يعنيها في خضمّ الفوضى السياسية القائمة والضغوط التي تُمارسُ عليها وضياع الحقوق الوطنية لأبنائها من دون وجه حقّ.
في الوقت الذي يسعى فيه الخيّرون والساعون لإيجاد مخرجٍ للوضع البائس الذي يئنُّ تحته المسيحيون، لاسيّما المهجّرون منهم من مختلف بلدات وقرى سهل نينوى بالذات، وما يعانيه غيرُهم في عموم أرض الوطن من تهميشٍ وإقصاءٍ وظلمٍ، بالرغم من ادّعاء السياسيين خجلاً وبهتانًا والإشادة دومًا بأصالتِهم في الوطن وجدارتِهم في الأمانة والعمل، فإنّنا نضع هذا المشروع الوليد أمام أنظار أهلِنا وأصدقائنا وأحبتنا المسيحيين من مختلف الطوائف للتلاحم مع الجهة المنظمة وإبداء الرأي. فهدفُنا هو خروج الوليد الجديد للوجود سليمًا معافىً يحمل في ضميرِه وصدرِه وسائر طيّاتِه تلك النفحة المسيحية الوطنية المستقلّة الصادقة التي تسمو على كلّ تسمية أخرى نتصارعُ عليها من دون جدوى، كي تنمو بذرتُها وتترعرع وسط أجواءٍ من المحبة والصراحة والبذل والعطاء، لأجل تثبيت وجود المسيحية في هذا البلد الجريح ورفع شأن هويتِها المتأرجحة بين مدٍّ وجزرٍ، نتيجة التعصّب من جانب البعض والتشرذم والتقاطع وغياب الخطاب الواحد من الجانب الآخر.
هذا هو الأمل الذي نعقد عليه الكثير في المرحلة القريبة القادمة. وهذا لن يُكتب له النجاح إلاّ إذا صدقت النيات وصلحت الأسارير واستقلّت الأفكار وتفاعلت الآراء وتحاورت الأطراف جميعًا لتخرج بحصيلة واحدة موحدة قائمة على التسامي فوق كلّ المصالح الفئوية والطائفية والشخصية الضيّقة. فلابدّ أن يكون لكنيسة العراق مرجعيةٌ سياسيةّ مدنية مستقلّة تعمل بالتوازي مع رعاة صالحين يشملون بمحبتِهم الكبيرة جميعَ أبناء الطوائف المسيحية في البلد، ويعملون بثقة وتفانٍ وغيرة على البيت العراقيّ المسيحيّ متعاونين ومتآزرين ومتكافلين مع سائر المراجع الدينية المختلفة القائمة في الوطن والمنطقة والعالم.
نقول، كفى للخراف تشريدًا وتبديدًا وللأبناء هجرةً وتهجيرًا وللأحزاب القائمة صراعًا وتفتيتًا. من هنا، فالدعم المعنويّ والروحيّ والمادي الذي سيخرج من رئاسة كنائس العراق لهذا التشكيل السياسي المسيحي الوطني المستقلّ، سيضعُه في المسار الصحيح المرسوم له لإحقاق الحقوق وتثبيت الوجود وفرض المطالب. كما نأمل أن تتفاعلَ معه ندّيًا، مرجعيات دينية وسياسية أخرى داخل الوطن وخارجَه، وينال رضا الزعامات السياسية والحزبية والأممية باعتباره تشكيلاً وطنيًا ومرجعًا مسيحيًا مؤهَلاً لتمثيل المكوّن المسيحي رسميًا لدى السلطات المحلية والإقليمية والدولية والأممية.
واللهُ والوطن والحق من وراء القصد!


   لويس إقليمس         
بغداد، في 3 حزيران  2015

296
ماذا تعلّم العراقيون من دروس الحياة؟
-   الجزء الثاني-

لويس إقليمس

أمريكا وداعش

اليوم في ضوء هذه الأحوال التي لا نُحسدُ عليها نتساءل: ماذا جنى العراقيون من الحكومات المتعاقبة منذ اغتيال الملكية ووزاراتِها المدنية الوطنية التكنوقراطية، غيرَ انقلابات ثأرية وصراعات قومية وبروز نزاعات طائفية ومذهبية وإتنية لا ترقى لأدنى مستلزمات الوطنية والولاء؟ وهل لنا أن نقف وقفةَ تأمّل صادقة مع مشروع الغزو الأمريكي وسعيِه الدؤوب لاحتلال العراق بوسائل عديدة: مفبركة ومقنّعة أحيانًا، وفاعلة وضاغطة في أحيانٍ أخرى؟ وهل يمكننا التصديق بصدق نواياها الظاهرية في محاربة دولة الخلافة في العراق وبلاد الشام، "داعش" وأخواتِها، في المنطقة وفي العالم والقضاء عليها؟ ألمْ تكشف الحقائق قيامَها بإنعاش مسلّحي هذا التنظيم وتزويدِه بالسلاح أو تسهيل حصولِه عليه وعلى تدفّق مقاتلين بطرق ووسائل متنوعة، ظاهرية وخافية؟ أمْ إنّ الأدلّة التي تحدّثت عنها لجنة الأمن والدفاع البرلمانية العراقية هي مفبركة وكاذبة؟ وكيف يمكن لطائرات نقل أن تُخطئ مرةً واثنتين وثلاثًا وعاشرة؟ فالفضائح كثيرة والدلائل أكثر، فيما الحساب بعيدٌ بسبب انغماس الطبقة السياسية في الفساد الماليّ والصراع الطائفي والمذهبيّ والاثني الذي دمّرَ الأرضَ والبلاد َ وآذى الفكرَ والعبادَ وحوَّل العراقَ وأهلَه إلى كانتونات ومناطق متصارعة بلا رحمة، بحيث انتقلت عدوى العداء حتى بين الإخوة وأصدقاء الأمس.
دلائل كثيرةٌ تشيرُ إلى تراخي زعيمة التحالف الدوليّ "أمريكا" في القضاء على شرور "داعش" وإنهاءِ سطوتِه الهائلة والسريعة على مناطق شاسعة في كلٍّ من سوريا والعراق، وانتشار تأثيرِ تنظيماتِه في مناطق أخرى، بل وفي عقر دار الغرب "الكافر"، كما يسمّيهم هذا التنظيم الإرهابيّ الذي فاق في قدراتِه تنظيم "القاعدة" في تنوّع الشرّ وأعمال القتل والذبح والاختطاف والاغتصاب ونكاح المحارم وسيادة سوق النخاسة، في عودةٍ متقهقرةٍ إلى عصور التخلّف والجهل وعمى الحياة بكلّ جوانبِها. وإلاّ، لماذا هذا الانتشار السريع، إعلاميًا ودعائيًا وبشريًا، بحيث طغى خلال فترة زمنية قصيرة على كلّ المسمّيات والهواجس وتسيّد الموقف والنشرات والفضائيات، ولمْ تسلم منه شعوبُ الأرض قاطبة، إنْ لمْ يكن يستقطبُ دعمًا خفيًا من جهات دولية ذات نفوذ؟
بدأَ يُدرك الكثيرون، ومنهم طبقات سياسية في المنطقة مقرّبة من الغرب "الغبي" غيرِ المستوعِب للرؤى والمفاهيم التي أتى بها هذا التنظيم الإرهابيّ التكفيريّ والمختلفة في باطنِها عن الظاهر، أنَّ هذا الغربَ عينَه ليسَ جادًّا بضرب التنظيم حتى القضاء عليه نهائيًا، تمامًا قالَها الرئيس السوري بشار الأسد في وقت سابق. بل ما تسعى إليه أمريكا، لا يعدو تحجيمَ هذا التنظيم وتحديدَ انتشارِه، وجعلَه أداةً سهلةَ الانقياد من أجل تحريكِه يمنةً ويسرةً، وتوجيهِه أينما وحيثما ومتما اقتضت الحاجة، من أجل قرصة أذن الشعوب وحكّامِها وإنذارِها بضرورة عدم الخروج عن طاعة سيدة القطب الواحد وأدواتِها في الغرب الخانع. وأنا لا أجد تفسيرًا غيرَ ذلك، حالي حالُ الكثير من المثقفين والمفكرين والمحلّلين للوضع القائم وربطِه بما سبق. فاللعبة كبيرةٌ ومتشعبة، بل تتجاوزُ تقديراتِنا وتصوّراتنا ومداركَنا. وها هي خيوطُها تتكشّف في أعمال التغييرات الديمغرافية وأشكال الهجرة والنزوح الجماعي لشعوبٍ أصيلة بأكمِلها وهي تُقتلعُ من جذورِها على أيدي كواسر العصر تحت سكوتٍ وصمتٍ دوليّ، إلاّ لتغطية ماءِ الوجه وسدّاً لضغوطٍ عالمية ومن مراجع دينية واجتماعية وسياسية لا تقبل الظلم والعنف والدمار، بكلّ أشكالها. فما يقوم به التحالف الدّوليّ على أرض الواقع، لا يُشهدُ لهُ بالجدّية والسعي الصادق للقضاء على شرور هذا التنظيم العالميّ الذي استقطبَ مقاتلين قدامى من جنسياتٍ مختلفة وجنّدَ غيرَهم من شعوب البلدان التي سيطرَ على أراضيها للانضمام إليه. وهو لمْ يكن ليفعلَ ذلك، لو لمْ يحظى بدعمٍ من قوى كبرى تؤمّنُ له المال وتيسّر حصولَه على موارد لإدامة زخمِه وإمداد أفعالِه وأنشطتِه لأمدٍ غير معروف. وهذا ما تعبّرُ عنه تصريحات وتسريبات لزعامات دولية في أميركا والغرب، من احتمالية توسّع "دولة الخلافة" بل "الخرافة" وامتدادِها لسنواتٍ قادمة، ما يعني عدم وجود النية الصادقة للقضاء عليها في واقع الحال.
يبقى الهدف من قدوم "داعش" واستيلائِه على مناطق تواجد أتباع الأقليات، لاسيّما في نينوى ومناطق السهل، وتهجيرِهم بهذه السرعة الفائقة مثار استغراب الكثيرين، ويطرحُ العديدَ من التساؤلات.فبعدَ انسحاب الجيش والشرطة تباعًا وخيانتهم للأمانة بحماية الشعب والوطن، عمدت قواتُ البيشمركة الكردية، هي الأخرى، إلى ذات الفعل المتخاذل بالرغم من الوعود التي كانت قطعتها للمراجع الدّينية العليا والوجهاء والأتباع والأدوات في المنطقة، بحمايتهم حتى النفَس الأخير. والحقيقة المرّة، أنّه قد تمّ استغلال أتباع الأقليات أبشعَ استغلالٍ من قبل كلّ هؤلاء، سواء في الحكومة الاتحادية أو من الإقليم، وجرى بيعُهم بصفقة سياسية مشبوهة وبرخص التراب، للتنظيم المسلّح الذي مارسَ لعبتَه التكفيرية بحقّهم وصادرَ أملاكَهم وأعملَ فيهم القتلَ والذبح واختطفَ نساءَهم وبناتِهم وباعَ منهنّ في سوق النخاسة وتزوّجَ ونكحَ ما حلى له وطابَ أمام أنظار المجتمع المتفرّج. فهل يُعقل أنّ أميركا والغرب بالتقنيات الحديثة وطائرات المراقبة غيرُ قادرين على رصد تحرّكات هذا التنظيم وتجمّعاتِه وإيقاف شرورِه عبر غارات جدّية ومتواصلة وقاضية؟ ألمْ يكونوا هم مَن رصدوا الزرقاوي وبن لادن وأخيرًا أبا سيّاف وغيرَهم عندما يقرّرون ذلك وتقتضي الحاجة؟
ونظرًا للنتائج المترتبة على هذه الحال، وتشتّت أبناء أقليات السهل في أرض الله الواسعة ومعاناة العديد منهم من شظف العيش ومن أبسط الخدمات الإنسانية، فقد رقَّ لهم قلبُ ذوي النيات الطيبة وأدركوا أنّ فراغَ البلاد والمنطقة منهم سيكونَ وبالاً على الأجيال اللاحقة وعارًا على الدول والبلدان التي سمحت بهذا الفعل الشنيع. فهؤلاء الأثمة المتاجرون بمصائر الأقليات ومآسي شعوبِهم، سيلعنهُم التاريخ، وفي مقدّمتهم أميركا الخاسئة وأتباعُها من دول الغرب التي أذعنت وصغرت لقرار دولة القطب الواحد. والقادم من الأيام مازالَ غامضًا، طالما لم يُفصح عنه في سياسة زعماء العالم. فما بدرَ خجلاً من دموع التماسيح، لم يأتي بثمارِه المرتقبة. وهناك الكثير من المفاجئات في انتظارِنا!

المواطنة واحترام التنوّع صمّامُ الأمان!
إنَّ إشكالية الكثير من العراقيين اليوم، تنصبُّ في سمة النفاق، التي طالتْهُم ولصقتْ بهم. وهي ذاتُها، ما تزالُ ترافقُهم، بالرغم من إدراكِهم لمساوئِها وتأثيراتِها وانسحاب ذلك على حياتِهم الفردية والمجتمعية على السواء. فالذي يجاري قوى الشرّ ويؤازر الظلم وأهلَه ويسكتُ عن مواقع الخلل ويتظاهرُ بالسلوك المتديّن وبالانتماء الدينيّ والمذهبيّ الذي ظاهرُه صادقٌ وباطنُه غيرُ ذلك، يستحقّ أنْ يُعلّقَ في رقبتِه حجرُ الرحى ويُلقى في ماء البحر طعامًا للسمك.
لقد اخذت الطائفية الدينية والسياسية والمذهبية بعدًا آخر في حياة العراقيين، بحيث أصبحت تشكلّ اشكاليةً وليسَ مشكلة فحسب، بسبب رفض تقبّل الآخر المختلف في هذه وتلك. فالذي لا يقبلُ بالمختلف معهَ دينًا ومذهبًا وعرقًا ولغةً، شريكًا مساويًا له في الحقوق والواجبات وفي السلطة والثروات، لا يمكن أنْ يكون عادلاً في قياساتِه وفي معاييرِه الخاطئة والقاصرة التي لا تخدمُ المصلحة العامة ولا تساهمُ في البناء والتنمية والتطوير والتنوير. وعندما تصل المشكلة إلى مستوى عالٍ من الإخفاق في احترام الآخر المختلف وقبولِه كما هو عليه في واقعِه، وليسَ كما يريدُه المقابل، فهذه أيضًا إشكاليّة مضافة لأبناء الوطن الواحد. وهذه الأخيرة، في حالة تعزيزِها وعدم معالجتِها ستتحول إلى أزمة قابلة التفاقم في حالة استحالة التفاهم بين الأطراف المتناقضة بسبب الاختلاف على الأسس المشار إليها في أعلاه. والأزمة بدورِها، حين تتغلغلُ في كلّ شيء وفي كلّ حركة وكلّ خطوة، فهذا يعني تحوّلَها إلى ظاهرة سلبية يصعبُ مع الزمن علاجُها، إلاّ بإرادة فولاذية في الطَّرق على الحديد الحارّ والكيّ السريع، وهو آخرُ الدواء! ولكنْ، مَن القادر على استخدام هذه اللغة الشجاعة الأخيرة في ظلّ الصراع القائم بين السياسيين الذين لم يرتقوا لمستوى الأمانة التي يعهدُها إليهم الشعب البائس المغلوب على أمرِه، في كلّ مرةٍ يتقرّبون من صناديق الاقتراع، وفي كلّ مرة يخيب أملُهم وتذهبُ أحلامُهم أدراجَ الرياح؟
إنَّ المصالحَ الطائفية والقومية والعنصرية التي تحرَكُ إرادات وتصورات وتطلعات الساسة في العراق، هي التي تقوّضٌ المشروعَ الوطنيّ الذي تدعو له النخبُ الوطنية والثقافية والتكنوقراط في الوطن. ولا يشذُّ عن هذه المطالب الوطنية، سوى الطبقة السياسية اللاّهثة وراء المال والجاه والسلطة ومَن يواليها من المنتفعين الطارئين، بشتى الوسائل الشرعية وغير الشرعية، وكأنَّ الوطنَ طريدةٌ تجمّعتْ حواليها نسورٌ كاسرة لتشذيبِها من كلِّ قطعةِ لحمٍ قائمة، تمامًا كما القصّابُ يفعلُ فعلتَه في الذبيحة. وها هي ذي البلاد خائرةَ القوى، منهكة الاقتصاد، مدينةٌ لدول وشركات ومنظمات وأفراد، بالرغم من طفوِها على بحيرات من الذهب الأسود وغيره من المعادن التي يقلّ تواجدُها في بلدان أخرى، فيما ميزانيتُها فارغة بفعل السياسات الاقتصادية الخاطئة والصرف العشوائي للأموال من دون حساب أو رقابة.
إنَّ عدمَ الحرص الصادق وتقاطع المصالح بين الفرقاء واختلاف الرؤى السياسية والأيديولوجية وفي الدّين والمذهب والقومية وعدم الاعتراف بالتنوّع الخلاّق في تشكيلة المواطنة، قد جرّد البلدَ من مقوّمات هذه الأخيرة وعدم سيادة القانون، بسبب اختفاء مؤسسات الدولة، التي هي عمادُ الأمةّ وأساسُ بناءِ الوطن وتطوّره والارتقاء به إلى مصاف العالم المتحضّر. ولا شيءَ غيرُ مبدأ الولاء للوطن والمواطنة، سبيلاً وخلاصًا لتلافي هذه الإشكالية وإنقاذ البلاد والعباد من وطأةِ القهر والظلم والفساد وغياب القانون وعدم قيام دستور وطنيّ عادل يضمنُ لكلّ مواطن حقَّه الوطنيّ ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وليسَ على أساس الولاء للحزب والانتماء للدين والمذهب والطائفة، كما هي عليه الحال في حكومات ما بعد 2003. فالحكومات المتعاقبة منذ السقوط الدراماتيكي بفعل الغازي الأمريكي وأعوانٍهِ في المنطقة، لعبت جميعُها على الوتر القوميّ والطائفي، بدرجة أو بأخرى، وبإيعازٍ من قوى الغزو الغاشمة التي يسّرت وهيّأتْ لهذا النموذج في الحكم في المنطقة، بسبب قصر نظر الطبقة السياسية مزدوجة الجنسية التي تسلّطتْ على البلاد بحماية ورعاية أمريكية. وهذه الطبقة السياسية عينُها عبر أحزابِها القومية والدينية والطائفية وغير الوطنية، ما تزالُ تتحكمُ بمصير البلاد هزيلة البنية في مؤسساتِها، وتتقاذفُ مستقبلَ العباد ولاسيّما الأقليات المهمَّشة، وتنظرُ لهذه الأخيرة بذات النظرة الدونيّة وذات الرؤية القاصرة الخالية من روح المواطنة والولاء للوطن أولاً وآخرًا.
وفي الأفق، ماتزالُ ذات الأفكار الطائفية والقومية القاصرة في الانتماء والسلوك، تتغذّى وتُهيّج وتُثار كلّما لاحَ شبحُ أملٍ جديد باستعادة الهوية الوطنية الجامعة، بدلَ الهويات الفرعية الهزيلة التي لا تخدمُ المصلحة العامة للدولة والمواطن على السواء.ولا شيءَ سوى، المواطنة والولاء للوطن مبدأً في الحياة، واحترام التنوّع القائم تاريخيًا، هي التي تثبتُ أنها صمّامُ أمانٍ لمعضلة العراقيين وإشكاليتِهم. وعندما يتخلّى ساسةُ العراق وزعماؤُه عن أنانياتِهم الجشعة فقط، ويتركون صراعاتِهم القاتمة، وينزعون للفكر الوطنيّ الجمعيّ الذي يبني ولا يدمّر، ويوحّد ولا يفرّق، ويجمع ولا يُجزِّئ، حينذاكَ سينتعش البلد وتقوى عناصرُ الأمّة، ويستعيدُ الجميعُ عافيتَهم بفضل استعادة عافية الوطن ووقوفِه جبلاً شامخًا أمامَ تحديات العصر وأعداء الحضارة والإنسانية وكارهي الحياة ومحبي ثقافة الموت ونزوة النفاق.

لويس إقليمس
بغداد، في 20 أيار 2015


297
ماذا تعلّم العراقيون من دروس الحياة؟

-   الجزء الأول-

لويس إقليمس

ما أكثر الدروس التي مرّ بها العراقيون منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة ولغاية الساعة. فالحياة خبرة، والعبرة في مّن يعتبر ويتعلّم استنباط دروسٍ وعبر في مراحلِها المتنوعة والمتعددة والمختلفة بحسب الزمان والمكان والأوضاع ونوعية البشر، وكذا بحسب ما يحيط بالأرض، ماءً وسماءً وهواءً وما في باطنها وحواليها وعليها، ندًّا أو ضدًّا.
 قد يسرح الفكرُ بعيدًا، ليُعيد إلى الأذهان حالةَ المحاربين الأشدّاء في غابر الأزمان، عندما كانت حضارة وادي الرافدين تنطق بما لمْ تكن غيرُها قادرة على فعلِه، أو في الأقلّ ليسَ مثلَها وعلى امتداد قدراتِها. فكانت حياتُها عامرة بأهلِها الذين كان لهم قصبُ السبق في منح العالم شيئًا مميزًا عن غيرهم من شعوب الأرض. لكنها تلكَ كانت فترة وانتهتْ. فالحضارات تسودُ إلى مدى، ثمّ تشيخُ فتموتُ وتبادُ كما حياةُ البشر. إلاّ أن الحياة علمتنا أنَّ الشعوبَ الحيّة تتجدّد وتتواصل وتتفاعل، ولا تنكفئُ على الماضي التليد وتظلُّ تتغنّى به نفاقًا على غير واقعِها المعاش. فخيرُ الشعوب ما تجدّدتْ ثقافاتُها وتطورتْ مواهبُها وأفلحتْ قرائحُها بالجديد من أجل خير البلدان والإنسان والبشرية، تمجيدًا للّه خالق الكون. كما أنَّ الأصيلةَ فيها، هي التي بثقافاتِها المتنورة تنيرُ العالم وتجدّدُ وجهَ الأرض بدعوة الخالق لإرسالِ روحِه إليها فتُخلقُ من جديدٍ، تمامًا كالطفل الوليد الذي يُخلقُ بريئًا ساكنًا في بطن أمِّه. الأمُّ، هذه الأرض الخصبة التي وهبَها الله خيرَ هدية لبني البشر، ليكثروا وينموا ويتعارفوا، لا أن يتقاتلوا ويتصارعوا ويتذابحوا بسبب "الأنا" القاتلة. وما ألعنَها من مفردة!
في المراحل التي مرَّ بها العراقيون، ولغاية الغزو الأميركي اللعين في 2003، ظهرَ نسيجُهم البسيط الهزيل الهشّ من دون رتوش، لدى آخرِ اختبار لهم مع قدوم الألفيّة الثالثة من حياة الشعوب. فقد اختارتهم قوةُ القطب الواحد دونَ غيرِهم لذات الأسباب والمزايا التي مارسَها الاستعمار البريطانيّ في المنطقة في سابق الأيام. فصارَ العراقُ مختبَرًا لوطء عتبةٍ جديدة مختلفة للتعامل مع الشعوب المستضعفة، "الساذجة"، بل "البائسة"، بسبب فقدان المناعة الضرورية لأبنائِه وعدم تعلّمهم من دروس الماضية القاسية بضرورة إدامة حياةٍ إنسانية متوازنة وعادلة تكفل لجميع المواطنين ما يحقُّ لهم، وما يستحقونه من أمانٍ واستقرار ومساواة وعدالة ورفاه وخير وحرية غير زائفة، كغيرِهم من الشعوب المتحضّرة. لكنّ تجربة الغزو الأمريكي لبلادهم، أضاعَتهم وأفقدَتهم قدرتَهم على التوازن وكيفية التعامل مع هذا القادم الجديد، الغريب في الفكر والمنهج والتطبيق والغاية. والسببُ الأساس في هذا الضياع، تتابعُ الأنظمة الدكتاتورية والشمولية في حكم العراق بعدَ أن كان النظامُ الملكيّ سائرًا في طريق سويّةٍ للتأسيس لدولة مدنية متحضّرة ترقى إلى شعوب وأمم العالم المتقدّم.
 أضاعونا جميعُهم، فضيّعَهم اللهُ بالتالي، ونالوا ما استحقوا من وبال الدنيا والآخرة ومن نقمة شعوبِهم بعدهم!

تناشز الشخصية وتناقضٌ في الأهداف

لم يخطئ علماءُ الاجتماع والسلوكيون المعاصرون في تحليل شخصية الفرد العراقي، بل المجتمع العراقي برمّتِه، حين ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من حصول اختلالٍ في المعادلة الثقافية والفكرية والاجتماعية والعقائدية لدى مواطنيه، ومن ازدواجية في الشخصية، في التعامل مع أسرار الحياة وشروطِها وفعّالياتِها. وهذا ما تعوّدنا ملاحظتَه في كلّ طارئٍ أو تطوّر محلّي أو إقليميّ أو دوليّ. فالأخلاقيات السلوكية تهتزّ لديه، ويفقدُ فطرةَ التكافل المجتمعي والتحابّ الإنسانيّ، وينسى تقديسَ ما خلقه الباري لمنفعة البشر وترقيتِهم وسموّهم، متجاوزًا كلَّ هذا وذاكَ إلى عتبة أخرى سوداء مليئة بالأشواك ولا تمتّ بصلة لطبع العراقيّ الأصيل، ولا للغة الإنسان السويّ. فشاهدناهُ يتغير ويتلوّنُ ما أن يغادر بيتَ الله، مسجدًا كان أم معبدًا أم محفلاً ليضعَ قواه متقمّصًا شخصية سوقيّة ومادّية ونفعية مختلفة تمامًا. مثل هذه الازدواجية في الشخصية، في البيت والمصنع والمجتمع، هي خسارةٌ إنسانية، حينَ الانحيازُ جانبًا، إلى "الأنا" البغيضة الأمّارة بالسوء والطامعة بالمال والجاه والسلطة وشهوة المحارم ومآثم الشرّ بكلّ أنواعِها. فهذا النوع من البشر، بتصرّفِه المقيت هذا، لا يقيمُ وزنًا للخطيئة التي تعوّدَ اقترافَها في وضح النهار، وكأنَّ اللهَ الخالق لا يراهُ أو يغضُّ الطرفَ عنه، لمجرّد أدائِه فروض الصلاة في أوقاتِها وأزمانِها وما يترتب على ذلك من تبجّح أمام الناس بإكمال غيرِها من الفروض الوجاهية حبًّا بالظهور أمامَ الناس. فهؤلاء، كما وصفهم كتابُ العهد الجديد، أشبهُ "بالقبور المكلّسة"، ظاهرُها ذهبٌ وفضة ومرجان، وباطنُها حقدٌ وتكفيرٌ وطغيان.
هكذا إذن، تحوّلتْ حياةُ الفرد الاجتماعية والأسرية وكذا الفردية للعراقيّ، إلى سلعةٍ على أساس تجارة الربح والخسارة وانتهاز الفرص والإغراق في الفساد، والتي بلغت مأربًا في التناقض والتناشز، حتى في مجال الدّين والعقيدة والمذهب، ما انسحبَ لسيادة الظلم والفساد في مفاصل الحياة العامة ومؤسسات الدولة، وانتشار شتّى أوجه القهر والتهميش بسبب الاختلاف في هذا أو ذاك من أوجه الحياة.
فهلِ الشعوبُ باستحضار حضارتِها، هي قادرة على تغيير المسار المعوجّ في حياتِها، تخييرًا أو تسييرًا؟
 قد يكون القاسم المشترك الذي يجمع كلّ أبناء العراق حول اسم الوطن والذي يتحدث عنه الحريصون الصادقون، يكمن في مفردة "المواطنة" التي تجمع العراقيين حول الوطن، تمامًا كما تجتمع الفراخ تحت أجنحة الدجاجة للدفء والحماية من كلّ مكروه خارجيّ
. فما زلنا نسمعُ تكرارَ هذه المفردة التي تكادُ وحدها تثلجُ الصدور وتفتحُ الأذهانَ والعقول أمام خطرٍ داهمَنا جميعًا، حين انفرطَ العقدُ الاجتماعي المتراصّ للنسيج العراقيّ التقليديّ المتآلف. وقد يكون جزءٌ من أسباب هذا التحوّل السلبيّ، بسبب نوعيّة الزعامات القادمة الجديدة بعد التغيير الدراماتيكي في 2003، وتركِهم الحبلَ على الغارب، لمجاميع باحثة عن اللصوصية والسحت الحرام، من دون حسابٍ ولا جواب. فهؤلاء لم يأتوا بمشروعٍ واضحٍ للبناء والتنمية والتغيير نحو الأفضل. كما أنهم، كما بدا، لم يقيموا وزنًا لمفردة المواطنة التي تجاهلوها ولمْ تكنْ ضمن الأوليات حين النزوع لتغيير النظام البائد. بل كلُّ همّ الحاقدين على النظام الشموليّ السابق، بمن فيهم الغربُ "الماديّ"، كان يهدف لتغيير ذلك النظام والسطو على ثروات البلاد وارتهانُها لفترة ما شاء قدَرُ الأحقاد، ليسَ إلاّ!
وبالرغم من اعترافِنا وقبولِنا بالتناشز، سمةً قاتلةً للفرد العراقيّ خاصة، والعربي المسلم عامةً، في الحياة المعاصرة، إلاّ أنها لمْ تكن بهذا السوء وهذا القَدر من العفونة التي زكمت الأنوف وطعنت الألباب وفطرت النفوس وفتحت الجروح. فما زالَت النخب الطيبة وذوو النوايا الحسنة من محبّي الوطن، يحلمون ويأملون ويحثّون على مفردة المواطنة والولاء للوطن والعودة للطيبة العراقية الفريدة المتأسِّسة في مهج وضمائرِ العراقيين جميعًا وبالانتماء لأرضهم الطيبة وحضارتِهم العريقة، وليسَ بالارتماء في أحضان الغريب القادم ودول الجوار الطامعة. فالعراق لا يمكن أن يكون تابعًا لهذه أو تلك من دول الجوار، ولا خانعًا لغيرها من دول العالم الطامعة في خيراتِه وقدراتِه وكفاءاتِه. فالوطنُ الذي مدّ على الأفقِ جناحَه، لا يمكنُ إلاّ أن يرتضي مجدَ الحضارات وشاحًا له ولأبنائِه، مهما طال الزمن وتاه الملأ وكابرَ وتكبَّرَ الأعداء!


بين تاريخ وتاريخ

كما قلنا، في بداية المقال، ألمراحلُ التي مرّ بها العراق مختلفة ومتعددة الأوجه سياسيًّا واجتماعيًّا وقوميًا وطائفيًا، نظرًا لاختلاف التنوّع الاثني والدينيّ والمذهبيّ فيه. وإنّهُ بسبب هذه الميزة الرائدة في نسيجِه الاجتماعي المتنوّع القائم منذ القدم، فقد أضحت عاملاً مضافًا لتوجيه الأنظار نحوَه والسعي لتعطيلِ مفعولِه في وسط المجتمع العراقيّ. ومثل هذا التنوّع بكلّ أشكالِه في العراق، والذي يقلّ نظيرُه في مجتمعات أخرى بالمنطقة، إلاّ في لبنان وسوريا على نطاق واسع، وهي الغارقة أيضًا هي الأخرى في أتّون حربٍ طائفية وعنفٍ مستديم، يأتي من جملة الأسباب التي دفعتْ دولاً وزعامات لتفتيت عضدِه خوفًا من تشكيلِه قوةً مضافةً بوجه الأطماع الخارجية القادمة من خلف الأسوار.
إنّهُ وبسبب هذا التنوّع الخلاّق، لا يمكن اختزالُ المجتمع العراقي ولا سيادتُه أو سياستُه بفكر واحد أو أيديولوجية معينة أو دين أو مذهب أو طائفة بعينِها. ففي العهد الملكي الأول، سعى الملك فيصل الأول إلى تشكيل "شعب مهذَّب مدرَّب متعلِّم"، بسبب التناقض القائم آنذاك بين روح البداوة والصحراء مع بدء حالة الاستقرار المدنيّ المتحضّر عند تشكيل دولة العراق الجديد، على أساسٍ وطنيّ، يكون فيه الولاء للوطن. لكنّ رياحَ الدكتاتوريات لاحقًا، كانت قد بدأت تنشرُ هباءَها الأغبر في المنطقة، فأصابت العراق بريحٍ سوداء، حتى تمَّ اغتيال الروح المدنية المتمثلة بالملكية المسالمة التي كانت تسعى للبناء والتنمية وتقوية أواصر الألفة بين طبقات المجتمع عامة من دون تمييز، حيث سيادة مبدأ المواطنة والاحترام والرفاه لجميع فئات الشعب.
في الحقبة الملكية، كان المسلم السنّي والشيعيّ على السواء، وكذا اليهوديّ والمسيحيّ والصابئيّ وما سواهم من ملل ونحل وطوائف، كانت هذه جميعًا تشكّل أساسَ بناء الدولة وأعمدتَها، وإن اختلفت عن بعضِها في الدين أو المذهب أو القومية أو الطائفة. ذلك أنَّ المواطنة كانت هي المعيار القائم، فيما الكفاءة والإخلاص في العمل كانت الفيصلَ في إدارة الدولة على أسس حضارية ووفق رؤى تنموية ومدنية تسايرُ الحدث. فاقتصادُ البلد وماليّتُه مثلاً، كانت أمانةً في عهدة اليهود والمسيحيين في غالب الأحيان، وعلى مرّ الوزارات المتعاقبة، تمامًا كما كانت عليه الحال على عهد الخلافة الراشدية ومن بعدها الأموية والعباسية، حرصًا من ساسة البلد على حسن إدارتِها وأمانتِها، وبسبب رهانِهم على عدم ضياعِها والتلاعب بها في حالة إيداعِها بين أيادي أتباعِهم من دينِهم وطائفتِهم. وهذه حقيقة تاريخية وواقعية لا غبارَ عليها!
بعدها، اختلفت الحالة مع اغتيال الملكية في البلاد. فصارَ الصراعُ على اقتصاد البلاد والسيطرة على ثرواتِه ديدنَ الطامعين في أوساط الساسة الجدد وأتباعِهم ومّن والاهُم، باختلاف الهدف والغاية والرؤية في إدارة شؤون البلاد عن سابقيهم. وما تزالُ عليه لغاية الساعة بعد الغزو الأمريكي في 2003 وقدوم الحاكم المدني "بريمر" سيّء الصيت، الذي حلّ مؤسسات الدولة العراقية وأفرغَها من محتواها وكوادرِها وكفاءاتِها، بما فيها الأجهزة الأمنية في الشرطة والجيش. فصار العراقُ في عهدِه ومن بعدِه، أرضًا مشاعًا لكلّ مَن هبَّ ودبَّ من ذوي المصالح الفئوية الضيقة والطائفية التي أسَّسَ لها، بإشارتِه على الساسة الجدد باتباع سياسة المحاصصة الطائفية والتوافق النفعيّ الذي دمّرَ البلادَ وأفسدَ العبادَ وأسّسَ لنظامٍ طائفيّ بامتياز، تسيَّدَ مشهدَه المثلّث الشيعي-السنّي-الكرديّ، دون سواهم من أتباع أبناء الأقليات الأخرى الأصيلة في المجتمع العراقي والمشهود لها بالغيرة والمواطنة والولاء والجدارة.
تلكم كانت بداية الانهيار المؤسساتي للدولة العراقية، والذي تمثلَ في جزءٍ منه باستبعاد أبناء الأقليات من مواقع في السلطة وتهميشِ دورِهم في إدارة البلاد وتقليص قبولِهم في التوظيف في أجهزة الدولة، بحيث خلت من أمثالِهم دوائرُ عديدة بسبب سياسة المحاصصة وتحويل وزارات ومؤسسات إلى إقطاعات طائفية وحزبية ودينية ومذهبية. فالمنافسة بين السعاة الجدد للسيطرة على المواقع الاقتصادية والسياسية للدولة الجديدة الفاقدة للسمة المؤسساتية لغاية اليوم بالرغم من مرور أكثر من 12 عامًا على التغيير، لمْ تحمل في صدور وضمائر الحاكمين الجدد ذلك الهاجسَ الوطنيّ الذي تعهّدوه للشعب بحمايةَ أموالِ البلد وثرواتِه ومصالحِه، بقدر ما يقوم فعلُهم الحاضر على استنباط وسائل وابتكار أبواب وإيجاد نوافذ في الموازنات السنوية المتعاقبة لهدر المال العام وسرقة قوت هذا الشعب البائس من دون سؤالٍ وحساب، ذلك لأنّ الكلَّ مثل الكلّ، في الغاية والنية والإرادة!
وهناكَ أحاديثُ عن إنفاق أكثر من ألف مليار دولار في جوانب صرف مجهولة أو في مشاريع وهمية وأخرى غير مكتملة، وتحويل مبالغِ الى حسابات خارجية بأسماء وشركات وهمية، فيما الشعب يعاني من البؤس والإرهاب ومن شظف العيش والتهجير وحجز حسابات لأفراد في مصارف أهلية تعرّضت للصوصية لا مثيلَ لها أدت إلى إفلاسِها وعدم مقدرتِها على الإيفاء بالتزاماتِها تجاهَ عملائِها. وبتنا اليوم، نخشى من قتامة قادم الأيام بسبب وجود إشارات بتحوّل العراق الى بلدِ خاوي السيولة النقدية وتفاقم المشاكل بين حكومة المركز والإقليم الذي أصبحَ يتحكّمُ بمقدّرات البلد الاقتصادية والسياسية على السواء، بدعمٍ من الغرب المنافق.
ولعلَّ من أسباب تفشّي ظاهرة سرقة المال العام وعقارات الدولة المستباحة واتساعِها وتواصل تراجع اقتصاد البلاد وقربِها من هاوية الإفلاس، بالرغم من تجاوز الواردات لأكثر من مائة مليار دولار في السنة منذ السقوط، يكمن في فشل سياسة المحاصصة التي أتى بها الحاكم المدني "بريمر". ومن نتائجِها الخروج عن مبدأ المواطنة، وعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وإقصاء ذوي الكفاءة والجدارة في الإدارة والعمل والتوظيف، لاسيّما من أبناء المكوّنات قليلة العدد المهمَّشة أصلاً منذ انتهاج هذه السياسة الفاشلة. ذلك أنَّ استبعادَ أمثالِ هذه الكفاءات والطاقات الوطنية الحريصة على المال العام يعني للطبقة الحاكمة إزالةَ العوائق أمامَها للعبث بما تهواهُ وفعلِ ما ترغبُ به من دون رقابة ولا عيون ساهرة ترصدُ الفسادَ وتراقبُ الأداءَ وتردعُ العابثين من مغبّة التلاعبِ بالمالِ العام، مال الشعب.
 ومن سوء نتائجِها أيضًا، تفتيت النسيج الاجتماعيّ وإثارة النعرات الطائفية وتواصل نزيف الهجرة الذي سيُفرغ البلاد من أهمّ ركنٍ في تنوّع هذا النسيج المتميّز والمعروف بالتعايش والتكاتف والتآخي. فالتنوّع الاثني والدينيّ والمذهبيّ للشعوب، هو الكفيل والرهان بتأمين الغنى الوطنيّ وتنوّع الأفكار واختلاف الرؤى وتبادل الخبرات لصالح التنمية الفضلى والخير العام لعموم الشعب والوطن، وليسَ التميّز بلون واحد وشكل واحد ورائحة واحدة. فالحديقة بلون الزهر الواحد مملّة ومضجرة ولا شكلَ لها، إلاّ حينما تتنوّع ورودُها وأزهارُها وتشكلُ بانوراما رائقة ورائعة تبهر كلَّ مَن يتطلعُ إليها ولا يشبعُ منها.
 هكذا كان العراقيون بالأمس ملتحفين بحبل الولاء للوطن والرجاء بكلّ يومٍ سعيد متجدّد. واليوم أمسى بلدُهم بلا طعم ولا شكلٍ ولا صورة، إلاّ من واقع العنف وسيادة الفوضى وغياب القانون وتسيّب المؤسسات وانفلات الميليشيات العاملة لصالح دولٍ إقليمية منتفعة من إبقاء الوضع الفوضويّ على حالِه بسبب غياب الحس الوطني وتسهيل استباحتِه من قبل مخابرات الدول المستفيدة من الوضع القائم، والساعية لتصفية حسابات إقليمية عبر أرض العراق واستغلالِ شعبِه البائس أدواتٍ طيّعة لهذه الأغراض الدنيئة. ومثلُهُ، ينطبق تمامًا على دولٍ وشعوبٍ أخرى في المنطقة رُسمَ لها كي تشهدَ تغييرًا في خارطتِها الجغرافية والديمغرافية، ضمن مشروع خارطة الشرق الأوسط الجديد!

يتبع-

 

298

"مرجعية سياسية مسيحية"، أمنية هل تتحقق قريبًا؟
لويس إقليمس

في 19 أيلول 2013 كتبتُ مقالاً مرسَّمًا بعنوان " في ضوء مبادرة البطريرك ساكو: معًا، نحومجلس وطني مسيحي عراقي مستقلّ"، وقد نشره موقع البطريركية الكلدانية آنذاك إلى جانب مواقع أخرى، حينما كانَ الأول بعدُ على وفاقٍ جيّدٍ مع كتاباتي، قبل أن ينقلب الموقع المذكور والمشرفون عليه، عليّ ويحجبوا كتاباتي عن قرّائي الأحباء.
وبمناسبة اللقاء التشاوري الأخير يوم الاثنين 27 نيسان 2015 في بيروت، بين بطاركة كنائس العراق: يوسف الثالث يونان للسريان الكاثوليك، وأفرام الثاني كريم للسريان الأرثوذكس ولويس ساكو للكلدان، اتفق رؤساء هذه الكنائس على سلسلة من خطوات إيجابية، ل "تدارس أوضاع أبناء شعبهم المأساوية والمقلقة في الشرق الاوسط عامةً وفي العراق وسوريا خاصةً"، بحسب الموقع البطريركي للكلدان. ومنها الاتفاق على"عقد اجتماع موسّع يشمل الفعاليات الكنسية والسياسية والفكرية، لوضع خارطة طريق تهدف الى تثبيت حضورهم والحفاظ على هويتهم للعيش بكرامة وسلام في أوطانهم، ازاء التحديات التي تهدد وجودهم التاريخي في أرض ابائهم وأجدادهم."
كلُّ هذا جيّدٌ، ففيه بارقةُ أملٍ للالتفات إلى ملاحظات النخبة من المثقفين والكتّاب والمنظّرين المسيحيين، في الداخل وفي دول الاغتراب. لكنّ الملفت للنظر، ما بدر لاحقًا من البطريرك ساكو في اللقاء الصحفي قبل مغادرتِه مطار بيروت عائدًا إلى العراق. فقد كان غبطتُه أكثرَ وضوحًا وإيجابيةً واندفاعًا نحو مقترحاتٍ سابقة لكتّاب ومثقفين ومهتمّين بالشأن المسيحي، بعد المآسي التي تسبّبَ بها تنظيم "داعش" التكفيريّ الإرهابي. تحدّث البطريرك ساكو بكلّ صراحة: "بما ان المنطقة تحترق ويبدو أنَّ الصراعات فيها ستستمرُّ طويلًا، ونحن كمكوِّن مسيحيّ في هذه المنطقة ليسَ لدينا مرجعيّة سياسية، وككنائس أيضا نحن بحاجة كي نتحد ونأخذ خطواتٍ عملية لتثبيت وجودنا والحفاظ على هويتنا وتاريخنا وأراضينا ".
وبخصوص إشارة غبطتِه لغياب "مرجعية مسيحية سياسية" تتولى الشأن المسيحيّ لدى الجهات الرسمية وغير الرسمية، يكون غبطتُه قد أصابَ الهدف ووضعَ النقاطَ على الحروف. بلْ ستكون هذه الخطوة بعد انتظارٍ طويلٍ، قد أثلجت الصدورَ وجعلت الأملَ يدبُّ في النفوس الخائرة اليائسة المنهارة، وتفاعلتْ مع مقترحات النخبة الثقافية والسياسية بالتوازي مع فعاليات جمعياتٍ ومنظماتٍ داعمةٍ للكنيسة وأبنائِها، في حال البدء بتشكيلِها قريبًا. وإنّي أرى أنَّ تحقيق هذا المطلب الملحّ ممكنٌ فقط، إن صدقت نياتُ رؤساء الكنائس وتفاعلهم الإيجابيّ مع دعوات النخبة ومن الحريصين على مستقبل الوطن والمسيحيّين فيه من الانقراض، كما تتحدث الوقائع.
بهذا الصدد أيضًا، أجدُها مناسبةً للتذكير بما كنتُ ذهبتُ إليه في ذات الشأن في مقالي المنوَّه عنه في أعلاه، وأنقلُ منه الفقرة التالية: "كنتُ متوقِعًا مثلَ هذه المبادرة الرائعة أنْ تصدرَ في أية مناسبة قريبة، على العهد الجديد لكنيسة العراق، سيّما وقد أفصح بها لي البطريرك ساكو في أول لقاءِ لي مع غبطته بعد توليه دفةَ الكنيسة الكلدانية. وقد دار الحديث في حينها حول ضرورة إحياء الدور المسيحي الإيجابي المؤثر في محيطهم، كما كان عهدُهم في سابق السنين. وكما كتب وأشاد كتّاب رصينون ومتنوّرون بهذه المبادرة حال صدورها، فإنني أضمّ صوتي إلى أصواتهم التي قيلت والتي ستُقال من أجل إنضاجها بتشكيل مجلس وطني مسيحي عراقي مستقلّ، برعاية كنسية أبوية نقية، خالية من التدخل في شؤونه السياسية والعلمانية، إلاّ فيما يقتضيه التوجيه الأمثل نحو خدمة الصالح العام للوطن والجماعة وترسيخ مفاهيم العدل والسلام والأخوّة والتعايش السلمي والحوار مع باقي المكوّنات في الوطن. وأشدّد، لكي يكون مثل هذا التشكيل المسيحيُّ العتيد مستقلاًّ وغيرَ منحاز لجهاتٍ سياسية وقومية، أن يُصار إلى تشكيله من جميع الجماعات المسيحيّة دون استثناء ويُفتح فيه بابُ الانتماء الطوعيّ بعد اختيار قاعدته التحضيرية في اجتماع أو مؤتمر يدعو إليه غبطةا لبطريرك لويس ساكو بمعية إخوته في مجلس الطوائف المسيحية الذي يمكن أن يكون للأخير بصماتٌ توجيهية إضافية مثمرة." انتهى الاقتباس.
هنا، أجدُ تطابقًا كلّيًا في التصريح الأخير للبطريرك ساكو بالجدّ وراءَ تشكيل "مرجعية مسيحية سياسية"، وما ذهبَ إليه غيري وأنا منهم أيضًا، بضرورة أن يكون للمسيحيّين "مجلسٌ مسيحيٌّ مدنيٌّ أو علمانيّ موحَّدٌ وفاعلٌ"، على أن يتولى الدفاعَ عن حقوق وإدارة شؤون المسيحيّين السياسية  والإدارية لدى السلطات وتمثيلِهم  في المحافل الدولية، فيما تنسحبُ الكنيسة للاهتمام بشؤونِها الدينية والرسولية والتبشيرية، ويبقى دورُها راعويًا وراعيًا لهذا التشكيل الذي يتطلبُه الواقع الحاليّ والآنيّ.
 وإنّي ما زلتُ عند موقفي، من أنّ "الهوية المسيحية سبيلُنا الأمثل لتحقيق حقوقنا وثباتنا في الوطن" في هذه المرحلة الحرجة من وجودِنا ومصيرِنا، وليسَ في صراعاتِنا البيزنطية على الهويّة المعلّقة أوالتسمية "القومية" التي نخرت جهودَنا وأضعفتْ مطالبَنا وأجهضتْ طموحاتِنا. فلا السياسيّون المسيحيون أو مَنْ ادّعوا حنكةَ السياسة ودخلوها كالأغراب وهمْ لا يدركون أغوارَها، ولا رجالُ الدّين بانكفائِهم على كنائسِهم التي حوّلوها إلى أعشاش "قومية" لدعم المغرّدين التابعين الخانعين بموالاتِهم لهذه الجهة السياسية أو تلك، ولا الانتهازيون مِن المنتفعين مِن تمويلاتٍ مشبوهة لأغراض ونهاياتٍ في غيرِ صالحِ المسيحية والمسيحيين، كلّ هؤلاء لمْ يستثمروا ما لدى المسيحيين من قدرات ومهارات ومعارف من أجل توطيد هذه جميعًا وتعزيزِها وبلورة طموحاتِها لتكوين هوية مستقلّة وكيان قويّ قادر على فرض الرأي والمطالب والوجود.
ومن ثمَّ، فإنّ مثل هذا التشكيل المرتقب، نأملُ أنْ يؤدّي الغرضَ المرجوَّ منه في فرضِ المطالب وتثبيت الوجود تأسيسًا على مبادئ المواطنة والعدالة والمساواة التي نأمل أنْ تنتهجَها الدولة العراقية وحكومتُها الحالية أو القادمة، وكذا في كردستان، لتكونَ معيارًا وطنيًا لدستور عادلٍ وقوانين تُسنُّ لهذا الغرض وتضمنُ حقوقَ الجميع من دون النزعة إلى إشكاليّة الأغلبية أو الأقلّية التي فرضت نظامَ المحاصصة الطائفية وخرجتْ عن السكّة القويمة للمعيار الوطنيّ. فالمطالبُ لا تُمنح مكارمَ على طبقٍ من ذهب، بلْ تُنالُ وتُغتصبُ بالجدّ والجهد وحسنِ النوايا وفرضِ الكيان والوجود على المقابل المستغلّ. "وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي، ولكنْ تُؤخذُ الدنيا غلابا".
ونحن إذ تعوّد نفرٌ منّا الخنوعَ والخضوع للغير، وكأنّنا أغراب قادمون من خارج الوطن أو جاليات حطّت الرحالَ في بلدٍ ليسَ لنا فيه من أصولٍ أو جذور، علينا تغييرُ سياستِنا بل والتأثيرُ في قادتنا الدينيين والسياسيين، إن وُجدَ فاعلون من أمثالِهم اليوم على الساحة المحلية أو الإقليمية أو الدولية! لقد تمَّ استغلالُنا بصورة بشعة وعلى نطاق واسع عبر الزمن، ليسَ بسببٍ من عدم كفاءتِنا وقلّةِ جدارتنا والخوفِ من فشلِنا، بل بسبب تشتِتنا وتشرذمِنا وافتقارِنا لخطاب سياسيّ موحَّد، وكذلك بسبب صراعاتِنا "القومية" التي لا تؤكِلُ خبزًا مثمرًا إلاّ في المخيّلات المريضة للبعض، إلى جانب طبيعتِنا المسالمة وشعورِنا بالضعف وقلّة القدر لبعضِنا ونقصِ في الشخصية المسيحية في مواجهة الآخَر المستغِلّ، وعدم مقدرتِنا على قول كلمة "لا" للظلم والظالمين وكلّ الطامعين فينا وفي مزايانا وتربيتِنا المميَّزة عن غيرِنا. لستُ أنوي التجنّي، بل هذا بشهادة الكثيرين.
ولعلَّ السبب، تمامًا كما شخّصهُ البطريرك ساكو في تصريحِه الأخير،"كما أن الأصواتَ قليلةُ التأثير، إذا كانت منعزلة، هكذا نحنُ اليوم كنائسُ صغيرة تفتقر الى الرؤية الجماعية المتجانسة والتخطيط. وعلى الصعيد السياسي نفتقرُ الى مرجعية سياسية قوية لاتخاذ خطوات عملية للخروج من التحديات الكبيرة التي تهددُ وجودَنا. فلا نزالُ ونحن في القرن الواحد والعشرين نعيشُ قيوداً صارمة وقواعدَ اجتماعية قاسية (مثال صارخ عل ذلك: قانون الأحوال الشخصية). وإزاء هذا، الهجرة تنخرُ وجودنا وتقتلعُنا من جذورنا....كلنا معنيٌّ بألا تتكرر هذه الافعال البربرية في المستقبل. ويبدو أنَّ الصراعات ستستمر، مما يدعونا بقوّة إلى أن نتحد كفريقٍ واحد للعمل من أجل تثبيت وجودنا وحماية شعبنا وحقوقناعلى أسس متينة".
ممّا يُؤسفُ له، وقد أشرتُ كما غيري، في العديد من المناسبات، أنّ أغلب اللقاءات أو المؤتمرات أو الاجتماعات التي حصلتْ لمناقشة ما يُعنى بأحوالِنا ومآسينا ومشاكلِنا وهويتِنا ومصيرِناووجودِنا، يقعُ ضمن إطار الاستعراضات والدعاية والاتّجار على حساب قضيتِنا وهويتِنا التي كثرَ المتاجرون بها، حتى في الأوساط الدينية، ناهيك عن المنخرطين في السياسة الذين يجيّرون ويسجلون كلَّ حدثٍ أو نشاطٍ أو توجّهٍ لصالح حزبِهم وطائفتِهم والجهة المموّلة لنشاطهم ومَن يدفعُ لهم أكثر!
من ثمَّ، فقد وقعنا مِن حيثُ ندري أو لا ندري، "في ذات الخطأ الذي وقع فيه البيزنطيون الذين كانوا يجادلون في جنس الملائكة، فيما أبوابُ القسطنطينية تسقط"، بحسب البطريرك ساكو. وما يُخشى منه حديثًا، هو ما يُهيَّأُ في المطبخ الكرديّ هذه الأيام، من مشروعٍ جديدٍ قديمٍ لحكومة الإقليم ورئاستِها، من تضييقٍ على الرئاسات الدينية والفعّاليات المدنية، ولاسيّما الخانعة الموالية للحزب المتسلّط في الإقليم، مِن فرضِ مشروعِ "تقرير المصير" الذي تحدّث عنه الرئيس البارزاني في حضرة رموزٍ مسيحية، دُعيت لهذا الغرض قبل أيام. فتاريخُنا المسيحي مرتبط بعموم أرض العراق، وليسَ في كردستان فحسب. فإنْ كانت حكومةُ الإقليم حريصة حقًا على ضمان حقوق المسيحيّين وعدم هجرتهم، لماذا هذا التأخير والتأجيل والدوران حول مصير المسيحيّين على أراضيه، من دون أن يحصلَ المعلنون جهارًا عن قوميتهم الكردية، على شيء من هذا الحكم الذاتيّ الذي أقرَّه دستور الإقليم منذ سنوات؟ فهل ينتظرون اندماج سهل نينوى كي يُمنحوا إياه موقعًا بديلاً لمثل هذا الحكم الذاتيّ الدعائيّ في سرّهِ وبرِّهِ؟ أمّا مَن يحلمُ مِن غيرِ منطقٍ، بدولةٍ ليسَ لها وجود إلاّ في مخيّلة الحالمين السذّج، رغمَ أنَّ الحلمَ ليسَ فيه عيبٌ ولا ملامة، فإنَّ هؤلاء يبنون أمالاً على أرضٍ وعقاراتٍ وأملاكٍ لا تعود إليهم، لا من قريبٍ ولا من بعيد، لأنّهم غرباء عن منطقة السهل. ومِنْ ثمَّ، فإنَّ أهلَها وسكّانَها وأصحابَها الحاليّين، هم مَن يقرّرون مصيرَها وليسَ الانتهازيون ومَن يتصّيدُ في سوق النفاق والمجاملة والرياء، على حساب شعبِه وبني جلدتِه وأهلِه. والتاريخُ لن يرحمَ كلَّ متاجرٍ ومنافقٍ ودجّال!
وعوضَ ذلك، علينا بهذا التشكيل المرتقب، أنْ نعملَ معًا، من أجلِ تعزيز الهوية الوطنية أولاً، من خلال تربيتِنا المسيحية الصادقة التي توارثناها وتعلّمناها من كنائسِنا ورؤسائِنا الصالحين عبر التاريخ، والاستفادة من طبيعتِنا الاجتماعية المسالمة التي جُبلنا عليها والمطبوعة بوصية المحبة التي استلمناها من الربّ يسوع في رسالتِه الخلاصية لنا. وانطلاقًا من هذه الرسالة، يمكننا التحرّك نحو بناء بيتِنا العتيد في إطار سياسةٍ جديدة قائمة على احترام كنائسِنا ورؤسائِنا الروحيين والتفاعل مع جهود الخيّرين المخلصين منهم، وهم ليسوا بقلّة هذا اليوم. ومعًا، يمكننا، بناء هذا البيت تحت رعاية الكنيسة وإشرافِها وبركتِها والعودة إليها حين اقتضاء الحاجة، مع تركِها تهتمُّ بما هو أكثر أهمية، تمامًا مثل "مريم التي اختارت النصيبَ الأفضلَ عند قدمي يسوع" بعكس مرتا أختِها. (لوقا: 10/41)
لنجد في هذه المبادرة الجديدة القديمة، بصيصَ أملٍ بعودة أهلِنا المهجَّرين إلى مدنِهم وقراهم ومساكنِهم وممتلكاتِهم. ولتكنْ من أولويات جهودِ هذا التشكيل الجديد المنتظَر، درءُ مخاطرَ مماثلة مستقبلاً وتعويضُ المتضررين من إخوتِهم والتأسيس لعلاقات طيبة مع سائر مكّونات الشعب العراقيّ، ولاسيّما المتجاورين معهم، والمكتوين هم أيضًا بشرور مبغضيهِم من كواسر العصر وضباع اللّيل ومَن والاهُم وساندَهم وهيّأَ لهم. فهناكَ إشارات ووقائع تجري من خلف كواليس السياسة في اتجاه تأخير عودة النازحين والمهجَّرين إلى ديارِهم، من أجل كسر آمالِهم وتثبيط عزائمِهم وحملِهم للتفكير بالهجرة وترك الديار وتراث الآباء والأجداد، إلى غيرِ عودة.
جميعنُا نخشى هذه المخطَّط الذي يجري الحديثُ عنه في كلّ مكان، وهو يرمي إلى إعادة رسم خارطة العراق، كجزءٍ من تغيير ديمغرافية المنطقة بأسرِها.


لويس إقليمس
بغداد، في 30 نيسان 2015


299
إضاءات على مقال، توضيحٌ ومدافعة

لويس إقليمس

يبدو أنّ بعضَ قرّائي قد أفلحوا بفهم جزءٍ مبتسرٍ من الظاهر الواضح "نقدًا  وتمنياتٍ إيجابية"، في مقالتي المعنونة "شتّان ما بين فعل رئاسة الكنيستين: القبطية (في مصر) والكلدانية ( في العراق)". فيما غيرُهم قد أخفق في استيعاب ما بين الأسطر ولم يدركوا الخاتمة التي انتهيتُ إليها هدفًا ومقصدًا وغايةً قصوى في التمنّي والأمل والرجاء، تمامًا كما الإيمان بحدث القيامة المجيد الذي ألهمني لكتابة الموضوع، واعتبرتُه موضوعَ الساعة. كما عدّ البعضُ إتياني على ذكر مفردة "فعل" الرئاستين الكنسيتين في مصر وفي العراق، واختلاف هذا "الفعل" عبر كلمة "شتّان" وكأنَّه نقدٌ للانتقاص من الكنيسة الكلدانية أو شيءٌ منه على زميلي وصديقي وتاج رأسي، غبطة البطريرك لويس ساكو، الذي لا يشكُّ أحدٌ بكارزميتِه وذكائِه وطولِ باعِه وحنكتِه وحكمتِه وأصالتِه وإرادتِه في التجدّد والتجديد وفي الوحدة والتوحيد. في حين أنَّ مَن يعرفني عن قرب، ويعرف علاقتي بغبطته ومحبتي له ووقوفي لجانبِه مؤيدًا ومساندًا ومحبًا رمزًا لكنيسة العراق وليس للكلدان فحسب، مذ كان مديرًا للدير الكهنوتي بالدورة، وأسقفًا على كركوك، ثمَّ رئيسًا للكنيسة الكلدانية وكنيسة العراق، من شأنِه أن يقرأَ بعمق، ما بين السطور كي يستوعبَ ما قُصدتُ به في الجوهر، وهو غيرُ ما فُهمَ ظاهرًا في عنوان المقالة الحادّ الجاذب، أو في بعض كلماتٍ خرجتْ كقنبلة قابلة للانفجار، ولكنّي لم أقصد تفجيرَها.
 فالغاية كانت واضحة وإنّي لمُبسِّطُها وملخِّصُها بالتالي: التمنّي بإدراك الدولة العراقية وأركانِها لأهمية الكنيسة مجتمعةً ودورِها موحدةً عبر رئاستِها المتمثلة اليوم بالرمز "البطريرك ساكو". وكذا دفع الحكومة العراقية بسلطاتِها الثلاث لتقدير الدور الذي يمكن أن تلعبَه رئاسة كنيسة العراق عبر تشكيل مجلس علماني من نخبِها الثقافية من جميع الطوائف والملل، يكون ناطقًا رسميًّا باسم المسيحيين في الوسط السياسيّ ولدى الحكومة، مدعومًا معنويًا من قبل مجلس الأساقفة أي رئاسات الكنائس جميعًا. ومن شأن هذا المجلس السياسيّ المشكَّل من النخبة الصامدة المتشبثة بأرض الوطن حصرًا، أن يمنح الكنيسة واتباعَها قوّة مضافة إلى طاقاتِها المتجددة وبدعمٍ من لوبي المغتربين الصادقين المحبين.

وزيادةً في التوضيح، ومن أجل إزالة كلّ أو أيّ لبسٍ أو سوء فهمٍ أو تأويلٍ لغير ما قصدتُ فيما كتبتُ وأتيتُ به من ملاحظات وتمنيات إيجابية بمقارنة الحدثين في الرئاستين المقصودتين، أكتبُ هذه السطور، ردّا وتأكيدًا على ما تمنيتُ حصوله في كنيسة العراق ورئاستِها. فالحدث كبيرٌ والأمنية أكبر في أن يكون لكنيسة العراق ورئاستِها مجتمعةً وموحدةً، فعلٌ قويٌّ ومؤثرٌ وإيجابيٌّ، ودورٌ رياديٌّ يتناسبُ مع مقوّماتِها وشخوصِها وتاريخِها. وهي تستحقُ أن يُحفظَ لها قدَرٌ وافٍ من الاحترام والكلمة في شؤون إدارة البلاد ومصالحِها. ولما لا، وفيها من الكفاءات والقيادات نخبٌ في كلّ مجال. ولعلَّ أبرزَها ما في صفوفِها من مواهب وأنواع الكاريزما التي يتمتع بها عددٌ من رجالاتها، من أمثال البطريرك ساكو والمطران يوسف توما والمطران آفاك آسادوريان وعلمانيون مثقفون وقساوسة عديدون أثبتوا جدارةً في الإعلام والتبشير والتعليم والخدمة، لن أتطرّق إلى ذكرهم، بعكس آخرين عدّوها وظيفةً ومكسبًا شخصيًا وراحة للبال والحال.
كما أنّي، مثل غيري في النخبة المثقفة والحريصة على دور الكنيسة، أتمنى خروجَها عن حالتِها الانكفائيّة والعزلة التي حصرت نفسَها فيها بعيدًا عن دور العلمانيين في إبداء الرأي وفي إدارة شؤونِها وتمثيلِها لدى السلطات الرسمية وفي المحافل الدولية والإقليمية والمحلية. فالكنيسة من دون شعبِها، تبقى تلك المؤسسة الجامدة والحجارة المرصوصة التي قد لا يضطرُّ المؤمن اللجوء إليها بعدُ، حينما تستبعدُه وتعدُّهُ رقمًا ضمن عدد رعاياها. وهو هذا الحرص من النخبة المثقفة الذي يحضُّ ويدفعُ العديدين منّا لإبداء الاختلاف في الرأي من أجل التقويم والتشجيع والتغيير للأفضل المرتقب. وكفاها إعلامًا مزيّفًا وكلماتٍ منمّقة من السلطات ومن دولٍ ومنظمات على السواء، وهي تشيدُ بدور كنيسة العراق وتذكر تاريخَها لأجل الدعاية والظهور بمظهر المتباكي على حالِها وأحوالِ أتباعِها، لأجل التكسّب وتحقيق منافع، ليسَ إلاّ! وعليها ألاّ ترضى بظهور بعض ساسة البلد وسواهُم، من المغالطين والساكبين دموعَ التماسيح على احتظارِ أبنائِها وفقدانهم الأرضَ والمأوى وتشتتِهم مهانين في أرض الله التي ضاقت بهم، كما ضاقت بأقرانِهم من أقليات غيرِهم. لقد كان الأجدر بهؤلاء المتباكين المدافعين عن حقوق ما يسمّونه "بالشعب الأصيل"، أن يقدّموا أفعالاً لا أقوالاً فارغة لا يمكن صرفُها إلاّ على الشاشات التجارية ومواقع التواصل التي غصّت بمشاكلِهم ومآسيهم وويلاتِهم! فالواقع يقراُ شيئًا آخر مغايرًا تمامًا لما يتحدث به كلّ هؤلاء المتاجرون بحقوق الأقليات، كما سبق وقلتُها في مقالة سابقة. المسيحيون عمومًا، مثل غيرِهم من الأقليات الأصيلة، يختبرون اليوم حالةً من التهميش الدائم والتصغير المستديم والاستبعاد  المتعمَّد حين تجدُّ الأحداث وتتقاطع المصالح بين المثلّث الحاكم الذي لا تحضرُه غيرُ "الأنا" حين تقاسم الكعكة! ومن بعدهم الطوفان!
على غرار الأب الثائر، بولص بيدارو، الذي كان فجّرَ قنبلتَه الأدبية في أواسط الثلاثينات حينما كان يتحدّث عن الصراع بل عن العلاقة بين اللغتين السريانية والعربية، يبدو أنَّ مقالتي المتواضعة الصريحة الجريئة المُحبّة الهادفة، قد أجّجَت هي الأخرى، من حيثُ لا أدري ولمْ أبغي، شيئًا من الانفعال وبعضًا من العواطف وأثارَت مشاعر وآراءً متباينة، سلبًا أمْ إيجابًا. وبالمناسبة، فقد شهدنا بين فترةٍ وأخرى، إلقاء عدد من كتّابِنا الجريئين، قنابل كثيرة في هذا الصدد، إن سلبًا أم إيجابًا، وكان تفاعلُ البعض أيضًا متباينًا إزاءَها، وبحسب النوايا والمقاصد والاستعداد.
وإنّي لمذكِّرٌ لمَن نسي، أنَّ البطريرك ساكو نفسُه، كان فيما مضى من سالف السنين مذ كانَ كاهنًا خادمًا في كنيسة أم المعونة، ومازالَ حسب اعتقادي، ذلك  الثائر على غيرِ المستقيمِ قانونًا وطقسًا وإدارةً ونزاهةً، ومنتقدًا جريئًا لا يخشى لومةَ لائمٍ ولا يبالي بحديثِ الأقزام. وقد شهدنا هذه الجرأة في إرادتِه الفولاذية حينَ تسلّمِه إدارة الدير الكهنوتيّ في بغداد وما أجراه من تغييرات في معايير الإدارة والتوجيه، وكذا حين تسنّمِه كرسيَّ البطريركية ووقوفِه بحزم ضدَّ الشذوذ في كلّ شيء، إلاّ في محبة الله والولاء للوطن وإعلاء صوت الحق وخدمة العباد في وطنِه الجريح، جميع العباد من العراقيين دون استثناء أو تمييز! لذا، فإنّي قاطعٌ الطريقَ أمامَ أيّ تأويلٍ في غيرِ محلِّه أو تفسيرٍ خاطئ ينزعُ لزرع ذات البين في العلاقة وفي التصوّر والتوجّه. فأنا سائرٌ في ذات المركب الذي أطمئنُّ لقيادتِه في عهدة البطريرك ساكو وزملائِه واصدقائِه الصدوقين الصادقين الحريصين على إرث كنيسة العراق وشعبِها الجريح. فهو الزميل والصديق والأب والمعلّم ورأس كنيسة العراق، وليسَ للكلدان فحسب! بل إنَّ جزءً من طاقتي المتجددة وجرأتي في الإدلاء والطرح، أستمدُّها منه ومن أمثالِه. فنحنُ تربيةُ ذات المدرسة الكهنوتية التي أنارتْ يومًا، بلادَ ما بين النهرين قبل أكثر من قرنين ونيّف. وما تزالُ ذات التربية قائمة وبنشاط متجدّد عبر جمعية الآباء الدومنيكان في العراق وفي المنطقة.

وبالعودة إلى ذكر القنبلة، فقد سبق لغبطتِه أن ألقى إحداها في بعض محطّاتِه الثورية الكثيرة، وكانت أقواها وأكثرها تأثيرًا وذكرى في 2001، حينما أُرغم على ترك رئاسة الدير الكهنوتي بسبب اختلافِه في الرؤية والتوجيه مع الرئاسة الكنسية الكلدانية آنذاك. فجاءَ نشرُه وتوزيعُها حينَها لمقالتِه الجريئة "كلمة لا بدَّ منها"، والتي ما أزالُ أحتفظُ بنسخة منها، كما أعتقد، في أوراقي المتناثرة الكثيرة التي تُزعجُ زوجتي في البيت! وبالمناسبة، كنتُ أنا أيضًا قد كتبتُ في 3 شباط 2003 موضوعًا بعنوان "وجهة نظر حيران في واقع حال السريان"، فيه سلّطتُ الأضواء آنذاكَ، على الحالة المزرية للطائفة التي أنتمي إليها، مشيرًا فيها إلى ضعف فعلِها وترهّلِها وتوقف الزمن في إدارتِها. لكنَّ الأب (المطران) يوسف توما، كان قد نصحني بعدم نشرِها والتريث بانتهاج خطّ النقد الجرئ آنذاك، وبقيت مسودة المقال من دون نشر، محتفظًا بها في الأرشيف. وقد يحينُ أوانُها هي الأخرى، إذا استمرّت الجماعة أو غيرُها من دون مجالس رعويّة أو استشاريّة تعطي للعلمانيين دورًا وقيمةً وأهمية في إدارة شؤون الجماعة، وليسَ أفرادًا للخدمة والطاعة العمياء عند الحاجة!
إنّ الكاتب الملتزم والإداريّ المحنَّك، يمكن أن يسافرَ بعيدًا ويغوص في الأعماق أحيانًا ويستريحَ في محطاتٍ مهمّة وعديدة لمراجعة حساباتِه السابقة وتحديد مساراتِه القادمة وانتهاج أيسر الطرق وأكثرِها فاعليةً في إيصال الفكرة ونقل الكلمة ومخاطبة العقل والضمير والبصيرة. وهذا ما تشهدُه المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي العديدة التي تنشرُ وتحلّلُ وتعرّي وتمدح، في أشكالٍ متباينة في الكتابة وفي الردّ والمداخلة. فلاختلاف في الرأي، لا يفسدُ في الودّ قضية، كما يُقال. قد نختلفُ في هذا أو ذاكَ من شؤون الإدارة والحياة، حتى في البيت الواحد. فكم بالأحرى تجاه مؤسسة كنسية تمثّلُ وجودًا حياتيًّا، وهويةً وتاريخًا وإرثاً وثقافة ومصيرًا، لاسيّما في هذه الأوقات المفصلية من تاريخِنا؟
وكما يعلم قرّائي المحبّون وزملائي الكتّاب، فإنَّ مبدأي هو عدم الردّ على المداخلات، التي تخصّني أو تخصُّ غيري، لإيماني بأنّ إيصال الفكرة وإبداء الرأي ينطلق من فكرةٍ متكاملة ومكتملة الأركان للكاتب المثابر الملتزم، وليسَ بسطورٍ مستقطعة حولَ ما يُكتب ويُنشرُ. كما أنّي أنزعُ لتحاشي أيِّ صدامٍ فكريّ أو عقائديّ أو شخصيّ من خلال هذه الردود والمداخلات على المواقع الالكترونية، بالرغم من تقديري العالي واحترامي لأصحاب الردود والمداخلات التي أقرأُها واتمعّنُ بها وأقدّرُ معلّقيها. كما أنّي لم أُنشئ لي موقعًا، كي أتفادى مثل هذه الصدامات.
وأقولُها صراحةً، أنّي كنتُ متوقعًا تلقّي وجهات نظرٍ متباينة حول الموضوع المنشور المذكور في أعلاه. فقد تلقيتُ مكالمات هاتفية وقرأتُ ردودًا مختلفة على صفحة موقع عنكاوا الذي أكنُّ له احترامًا، وليسَ مثل غيرِه من المواقع التي وضعتْ كتاباتي في القائمة السوداء، ومنها مؤخرًا حجب موقع البطريركية الكلدانية منذ أشهر لما أرسلُه لها من نتاجاتٍ للنشر، بالرغم من توجيهات غبطة البطريرك ساكو بنشر ما يستحق. وبسبب هذه جميعًا ولأجلِها، آثرتُ توضيح الغامض في المقالة الأخيرة. فالمسيحيون اليوم، كما العراقيون جميعًا، بحاجة إلى أقلامٍ ثائرة وصادقة غير مجاملة، وآراءٍ جريئة ورجالٍ ميامين لمعالجة مواقع الخلل أينما وجدوها، تمامًا كما هم بحاجة لثورةٍ حقيقية على الترهّل والكساد والتخاذل والفوضى والفلتان، كما بدأها وفعلَها ولم يُنهِها بعدُ غبطة البطريرك ساكو.
 ونحن اليوم، كما بالأمس، نقف مع غبطتِه وإخوتِه في رئاسات الكنائس الأخرى، حتى تحقيق العزم واستكمال الإرادة ونيل المنى، بأن يكون فعلُ المسيحية ورئاستِها على قدر عزيمتِها وقوّتِها واحترامِ صوتِها، تمامًا مثلما للأقباط في مصر قدرةٌ وقوّةٌ وفعلٌ مؤثِّرٌ وكبيرٌ على الساحة الوطنية. فالولاء للوطن، درسٌ ينبغي على ما تبقى من مسيحيّي العراق أنْ ينقلوهُ لعموم الشعب، وللساسة الطامعين في السلطة والمال والجاه تاركين الوطن غارقًا في مستنقع الطائفية والمحسوبية والنفعية الضيقة.
والله والوطن وإرادة الحق، من وراء القصد.
وعذرًا ممّن لمْ يستوعب القصد من المقالة التي أثارت جدلاً! مع الودّ والمحبة للجميع!

بغداد، في 15 نيسان 2015


300
شتّان ما بين  فعل رئاسة الكنيستين: القبطية (في مصر) والكلدانية ( في العراق)

لويس إقليمس

شُدهتُ وانذهلتُ نهارَ الأحد 12 نيسان 2015، وأنا في إجازتي أتابع قناة "مي سات" المصرية، وهي تنقل مراسيم استقبال بابا الأقباط وبطريرك الكرازة المرقسية، تواضروس الثاني، لأركان الحكومة المصرية، بل الدولة المصرية، متمثلة برئيس وزرائها ووزراء فيها ومسؤولين كبار وشخصيات عربية في المقرّ البابوي، لمناسبة عيد القيامة المجيد. وكأنّي بالدولة المصرية، مؤسساتٍ وشعبًا، قد انتقلت في هذا اليوم المبارك، إلى حيّ العبّاسية، في تلاحم وطنيّ واحتفالٍ مصريّ رائع ينمّ عن طبيعة هذا الشعب الجبّار، في قولِه وفعلِه وممارساتِه الأصيلة، وليسَ كما كان يحسبُ لها الإخوانيون ويضمرونَه في بواطنِهم يومَ أصعدتهم قوى الشرّ الكبرى والغرب التابع لها، إلى سدّة الحكم الزائف، ثمّ انتحبت عليهم وأقامت الدنيا ولمْ تُقعدها بحجّة الديمقراطية وصناديق الاقتراع، يومَ أفلوا ولفظَهم الشعبُ المصريّ بثوّارِه وإصلاحيّيه ورماهم كالكلاب المسعورة المرفوضة وأحالَهم للقضاء كي ينالوا ما بستحقّونه.
 يومَها، قالَ الشعب المصريّ (القبطيّ الأصل) كلمتَه الفصل في 25 يناير (كانون الثاني) 2011: لا للإخوان المخادعين، لا للغدر الوطنيّ، لا للتهميش السياسيّ، لا للتفرقة الدينية والطائفية! نعم لمصر الكنانة وللوطن والمواطنة! ومع هذه الثورة في الكلمة والإرادة، تنحّى رئيسُهم وتوارى حكمُه، أمرًا وطاعةً وسماعًا لكلمة الشعب المصريّ الحيّ، ذي الإرادة الفولاذية والوعي الوطنيّ الصادق والتطبيق الحرّ للشعور بالولاء للوطن، حينَ أثبتوا أنَّ مصر حقًا أمُّ الدنيا وأنَّ شعبَها شعبٌ حيّ ووطنيّ! حينَها لمْ يصمدْ احتجاجُ ورفضُ رئيسِهم وحكومته، بل انصاعوا لصوت الواقع وسلّموا حالَهم لحكم الشعب في سابقةٍ قلّ نظيرُها دوليًا، ولمْ نشهد لها صنوًا في كلّ البلدان العربية إطلاقًا.
 هكذا يكون الشعبُ الحيّ الحريص على مصالحِه الوطنية والمدرِك لقوّة تلاحمهِ الشعبيّ الضروريّ في إرساء مبادئ الديمقراطية والحرية والعدالة، والرغبة ببنائِه وفق المنظور الوطنيّ الذي تنادى له محبّو مصر الحقيقيون بعد طرد الغيمة السوداء الحاقدة على البلد وأهلِه. وقد اثبتوا في مناسبة عيد القيامة هذه، أنّهم ذاتُ النسيج المتلاحم وذاتُ الشعب الذي بنى الحضارة المصرية ورفد العالم بثقافة أصيلة نابعة من تلك الحضارة الكبيرة، وليسَ كالعراق الذي أتاحَ للغرباء والدخلاء لتدمير نظيرتِها الاشورية وأخواتِها في سنواتٍ قليلة.

حلو الكلام وعذبُه
ما أعذبَ وأصدقَ الكلام الذي قالَه البابا تواضروس في حضرة مهنّئيه الرسميّين والشعبيّين معًا بهذا المعنى:"الربيع يذكّرنا بحلاوة التنوّع، واللّهُ في محبته لنا كبشر خلقَ كلَّ شيء متفرّدًا...التنوع هو أساس الحياة، والأعياد المتنوعة تُظهرُ جمالَ البلد... كلّ منّا يحتاج للآخر المختلف... شمّ النسيم أو عيد الربيع هو عيد المصريين جميعًا لإبراز الفرح بالاختلاف، وهو يعني بالعربية بستان الزروع"!
لم يكن في القاعة تناكبٌ بالأكتاف ولا استخدامٌ لأخامص الرشاشات ولا إبراز المسدسات ولا شوهدت قاماتٌ بزيّ عسكريّ من أجل التبختر ولفت الآنظار، ولا مصفحاتٌ وأرتالٌ تسيرُ أمام وخلفَ المسؤولين الرسميّين، كما يحصل عندنا في العراق، بالرغم من كون الدولتين والبلدين يمرّان في ظروف سياسية تكادُ تكونُ مماثلة ويتعرضان لهجمة إرهابية داخلية وخارجية. جلسَ جميعُ المهنّئين، رسميّين وشعبيّين ومواطنين في أرجاء القاعة، كأسرة واحدة يتوسطُهم راعٍ صالحٍ غيور، وأب كبير القلب، وشيخ بسيط في  حديثِه وهو يتقبّلُ التهاني ويتحدث ويلتفت لهذا وذاك دون ترفّع أو أنَفة أو تبختر!
ما أريد قوله، تلك المفارقة في هذه الواقعة مقارنةً بمناسبة دينية مسيحية مشابهة في العراق، حملتْ غبطة بطريرك الكلدان "ساكو" مع اسقفين من طائفتِه حصرًا، لزيارة رئيس الوزراء العراقيّ قبل يومٍ من هذا المشهد المختلف تمامًا أمامَ أنظار العالم في مصر! لم أتحمّل الموقف. حاولتُ الاتصال بغبطتِه مرارًا، للتهنئة بالعيد ظاهريًا_ ولو بعد أيامٍ على انقضائِه عندنا_، والإفصاح واقعيًا عن خلجاتٍ أدبية وسياسية وعن تمنياتٍ مسيحية، إستكاملاً لأحاديث سابقة مع غبطتِه في هذا الصدد. لكنّي لم أنجح. وعاودتُ الاتصال بعد الظهر ومع سكرتيرِه الخاص، ولم أفلح، حتى رنّ جوّالي  ليتحدث إليّ مشكورًا الأب توماس ويعتذر بالأصالة عن غبطتِه بسبب انشغالِهِ. وإنّي مقدِّرٌ لغيطتِه عميمَ مسؤولياتِه وكثيرَ تنقلاتِه وتراكم مشكلاتِه. كان اللهُ في عونِه وأعوانِه!
إزاء ذلك، لم يكن منّي إلاّ الاتصال بصديقي وزميلي وأستاذي سيادة المطران يوسف توما، راعي إبرشية كركوك للكلدان، كي أخفّفَ عن جزءٍ ممّا جالَ في خاطري بمشاهدتي للنقل الحيّ لمراسيم استقبال بابا الأقباط لمهنّئيه. وبعد السلام والتهنئة بالعيد ونقلي له خبرًا عائليًا جميلاً ابتهجَ له كثيرًا، قلتُ له: سيدنا، كم كنتُ أتمنى أن يشاهد الشعبُ العراقيّ أركانَ الدولة العراقية هو الآخر في مقرِّه البطريركي، وهم يقومون بذات الالتفاتة نحو المسيحيين في العراق، لا أن أسمعَ بخبرٍ عام عن مبادرة غبطتِه، وهو على رأس الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم والعراقية تمثيلاً، وهو يؤدّي زيارة لرئيس الوزراء بصحبة اسقفين من طائفتِه حصرًا. وتساءلتُ مع نفسي: متى ستبادر الدولة العراقية، حكومةً وشعبًا، ويشهد هذا الأخير تلاحمًا حقيقيًا وصادقًا في نسيجِه، بدلَ هذه الزيارات البروتوكولية الاستجدائية والإسترضائية المقصِّرة بحق عموم المسيحيين في البلاد؟ ثمّ ماذا عن وقفة جماعية لمجلس أساقفة العراق في مثل هذه الأوقات لإثبات الوجود وإرسالِ كلمة قوية وإصدار صرخةٍ جماعية: "لا" لما يحصل من إهمال وتمهّل وتهميش مستديم لحقوق المسيحيين في العراق، إلاّ في وسائل الإعلام وللدعاية الفارغة التي لا تنفع ولا تدفع بشعبِنا للتشبّث بالأرض وبالبقاء ملحًا صالحًا، وهو الشعب الأصيل بحسب تبجّح الجميع وتصريحاتِهم المتواترة بمناسبة ومن دون مناسبة! ومتى سيقتنع رؤساء الطوائف المسيحية أنّ ما يقومون به من زيارات بروتوكولية وما يصدرُ عن قلاّياتهم من مراسيم وخطب وكلمات موسمية وما ينصبونَه من مآدب وإقامة دعوات، لم تعد تؤكلُ ثمارَها ولا تُسمَعُ ولا تُقرأُ ولا تُؤخذُ إلاّ بعين التجاهل والإهمال والّلامبالاة، بعد أنْ طفحَ الكيلُ وزادَ الزَبَدُ وتفاقمت المشكلات؟
رئاسة كنيسة العراق: جدارةٌ منقوصة
إنَّ عصبَ الاستقرار الوطني في بلادنا مفقودٌ منذ زمن، بسبب فقدان أسس الولاء للوطن وازدواجية الشخصية العراقية وفقدانِها لأركان المواطنة، وكذا بسبب الفساد الذي يتحدث عنه الجميع، ولكن لا أحدَ يستطيعُ محاسبةَ أحدٍ، لا ولا حتى القضاء ليسَ بمقدورِه القيامَ بهذا الفعل، ذلكَ لأنّ الجميع فاسدون، وكلٌّ يسكتُ عن غيرِه كي يأمنَ شرَّه أو كي يتفادى الانقلابَ عليه. تلكم هي الطريقة وهذه هي الصورة. ومن المؤسف تراخي الصوت المسيحي ورئاساتِه عن التأسيس للتجمّع السياسيّ الذي تحدثنا عنه مرارًا وتكرارًا والمتمثل بمقترح تشكيل مجلس سياسيّ مسيحي، أشبَه بما للأقباط من مؤسسة سياسية ودينية تتولّى شؤونَهم في عهدة الدولة المصرية وتدافعُ عنهم في المحافل الدولية مجتمعين وليسَ فرادى، كما هي الحال في العراق مع الأحزاب المسيحية الهزيلة غير المستقلّة في الرأي وفي الكلمة وفي القرار بسبب تبعيتِها لمموّليها.
في الواقع المرير مع قدوم داعش، أثبتت الكنيسة بجدارة، قربَها من أتباعِها في شؤون الإغاثة أكثر من الدولة نفسِها. بل كانت من أكثر الجماعات تنظيمًا واحترافيةً، بالرغم ممّا شابَها من حالات تلاعب بحسب مقرّبين، وعدم كشف ما ورد لمؤسسات فيها من مساعدات وأموال عبر طرقٍ خاصة أو عبر أفرادٍ تحدثوا باسم النازحين لدى المانحين والمتبرّعين من دولٍ ومنظمات ومؤسسات خيرية! ولكنْ نقولُ أيضًا، لم تقل الكنيسة كلمتَها مجتمعةً بعدُ في جميع المناسبات بكلّ ما تعنيه هذه الرؤية، بل كانت هناك حالات انزواء وانكفاء وتكابر من جماعة على أخرى، ظهرتْ من خلال ممارسات طرق الإغاثة المذكورة. أمّا سياسيًا، فلمْ ترقى مبادرات الرئاسة الكنسية، شخصيًا أو عبر مجلس الأساقفة، إلى المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقِها، لعدم صدورِها من موقع قوّة، ما حجبَ قدرتَها على فرض مطالب أتباعِها من شتى الطوائف. وكان يمكن أن يتحقّق أكبرُ قدرٍ من هذا الشعور بالظلم والتهميش والإهمال الواقعيّ، لو سلمت النوايا وتقوّت الإرادة لقول كلمة الحق وعدم الانجرار للمجاملات ومنها اقتناع الكثير من رجالاتِها بتبريرات ضعيفة وغير مقنعة قدّمها مسؤولون في الحكومة المركزية وحكومة الإقليم بوصف ما جرى على أرض الواقع الذي أوصلَ أتباعَهم إلى مأساتِهم الكبيرة في المناطق التي طُردوا منها.

غيابٌ مؤسف للنخبة المثقفة

كنّا نأمل أيضًا، حصول التزام أكبر من النخب الثقافية، بعد فقدان الأمل بالأحزاب المسيحية الهزيلة التي يبحث المنتسبون إليها عن مواقع ومناصب ومنافع في الدولة لهم حصرًا، واستكثار هذه على المستقلّين من هذه النخبة المثقفة المستبعدة عن المعادلة وعن القرار والإدارة. وقد حيَّرَنا سكوتُ الكثير منها، إلاّ فيما يكدّرُ مصالحَها ومَن يقف وراءَ تمويلِها والدفعِ بسخاء لمنتسبيها ومواليها. كما أنَّ االتنظيرات في معظمِها، قدمتْ وماتزالُ من بلدان الاغتراب. بل إنَّ بعض هؤلاء المنظرين انضمّوا إلى الرتل القائم مع هذه الأحزاب  للمطالبة بذات المنافع، بدلَ العمل على الترويج للروح الوطنية، والسعي لتأمين مستقبل المسيحية في البلاد بشتى الوسائل المتاحة والإعراب عن رفض الزيارات الإسترضائية والاستجدائية للأحزاب المسيحية وللزعامات الكنسية على السواء، من خلال تهافت بعض هؤلاء نحو مكاتب أصحاب القرار في الدولة والحكومة والمحافل الدولية من أجل الرثاء لأحوالِ أتباعِهم ظاهرًا والانتفاع من وراء هذا البكاء باطنًا. فالمسيحيون، إنْ رصّوا الصفوف، قادرون أينما كانوا، أن يؤمّنوا الحفاظ على مقدراتهم وكيانهم وعلى مقدّرات دولتهم، بالتوافق ووحدة الخطاب والكلمة وليسَ بشدّ الحبل وبالانفراد بمبادرات  طائفية لجماعة دون غيرِها، على مكاتب المسؤولين في الدولة العراقية وفي الإقليم. فهذا التصرّف الانفراديّ يفقدُ الرئاسات الكنسية عامةً أهميتَها، كما يُضعف من موقف رئاسة الكنيسة العراقية المتمثلة بشخص بطريرك الكلدان ذاتِه، ويفقدُه شيئًا يسيرًا من كارزميّتِه التي عرفناهُ بها، إذا أردنا فعلاً الاستمرار في رؤية تحول سياسي مرتقب في البلد، ليكون بمستوى حضاريّ ووطنيّ يسوده الأمن والعدل والمساواة والثقة والمراقبة والمحاسبة في ذات الوقت.
إننا اليوم، في أشدّ الحاجة لانضمام النخب الثقافية، والمستقلّة منها بالذات، بتوجهاتها المختلفة، كي يعمل الجميع لإيصال البلاد إلى حالة من التكافؤ بين الدولة والمجتمع، وإلى تلاحم النسيج الوطنيّ بكلّ أطيافِه وأديانِه. وللمسيحيين القدرة على تفعيل مثل هذا التكافؤ وبلوغ حالة التلاقي على المصلحة الوطنية، عبرالتوافق المشرِّف بين هذه جميعًا، وليسَ بالمجاملات وزيارات الاسترضاء التي تنمُّ عن شعورٍ بالنقص والضعف وتظهر أبناء هذا المكوّن بصورة الحمل الوديع الذي يقبل كلَّ شيء وأيَّ شيء. إنَّ هذه الحالة من الضعف في الهوية ومن قصورٍ في فرض الوجود الوطنيّ على المثلّث الحاكم في البلاد، والقبول بما يمليه أو يترفّقُ به أو يتكرّمُ به القائمون على الدولة، هي السبب في خذلاننا وتخلّفنا وتقهقرِ كيانِنا وتسرّب أتباعِنا وفي نفضِهم غبارَ الوطن العالق في خفِّهم، لكونِه لم ولن ينصفَهم، كما يبدو ما دمنا على حالِنا ومآلِنا.

دعوة متجدّدة للمبادرة
هذه دعوة جديدة، للرئاسات الكنسية عمومًا، والرئاسة الكلدانية بخاصّة، والتي تتحمّل وزرَ كنيسة العراق ومسؤولية رعايتِها، لكونِها ماتزال تبقي كرسيَّها البطريكي في بلد الأصالة، كي تعيد حساباتِها وتُفَعِّلَ ما تسلّمته من مقترحات واستشارات وما أدركته من وقائع وحقائق من المجتمع الدولي وساستِه المخادعين. وعليها أن تدركَ أنَّ قوى الشرّ التي احتلّت العراق، بما تضمرُه من شرور ومخططات لتغيير الواقع الديني والديمغرافيّ والجغرافيّ للبلاد والمنطقة، سوفَ لن تترك البلد ومواطنيه في حالِهم. وما لمْ يقف الجميع سدًّا مانعًا ومنيعًا لهذه القوى الطامعة لإفشال مخططاتِها، كما حصل مع شعب مصر الكنانة حينَ رفضَ حكمَ الإخوان المتشدّد الشبيه بالنازيّة، فإنَّ العراق ضائعٌ بين أنياب المحتلّ والساسة المراهقين ومَن معهم من المنتفعين الوقتيّين الذي قدموا لنهب ثرواتِه وسرقتِه بوسائل وطرق شتّى، تعصى على إبليس وأعوانهِ.
وإلى ذلك اليوم، ننتظرُ القادم وما سيسفرُ عنه، لنرى ما في جعبة الرئاسة الكنسية للعراق ومجلسِها الموقر. فنحن لم نصل بعد حافة الإفلاس الأخير، بالرغم من بلوغ الخيبة والإحباط مأخذًا من عموم المسيحيين في البلاد. فمازالَ أمام البطريرك "ساكو" بالذات أوراقٌ أخرى للعبِها، وفرصةٌ سانحة قريبة في هذه الصفحة القاتمة الأخيرة من حالة التشظي والاحتضار قبل الأخير، كي يفعّلَ دورَه المنشود،  في ضوء ما راهنَ عليه الكثيرون، كنيسةً وشعبًا وأصدقاء على رؤيتِه الواسعة وحنكتِه المعهودة وذكائِه المتطبّع عليه منذ تلمذتِه في معهد مار يوحنا الحبيب ومرورًا بسنوات خدمتِه كاهنًا، ثمَّ مديرًا للمعهد الكهنوتيّ، وبعدَها أسقفًا، وأخيرًا وليسَ آخرًا، رؤيَتَه الحكيمة وشجاعتَه الراجحة في معالجة حالة التمرّد في جزءٍ من طائفتِه ونجاحَه في لملمة الجراح والتركة الثقيلة بالعودة إلى القانون الكنسيّ ووضع الأمور في نصابِها بشيءٍ من الصبر والأناة والثبات على المبادئ.
وما دمنا نؤمنُ بقيامة مسيحِنا وربِّنا، فإنَّ رجاءَنا به قائمٌ وأملُنا برؤسائِنا مايزالُ معقودًا على طاقاتِهم وحسنِ نواياهم وكبر تضحياتِهم كرعاةٍ أمناء لشعبِهم. وننتظرُ اليوم الذي نعهدُ فيه هذه الرئاسة الكنسية جديرةً بالثقة وأمينةً على الرسالة برغم كلّ الشدائد والمشاكل، كي تكون بذات القدرة للرئاسة القبطية القائمة اليوم. فشتّان ما بين الرئاستين في القدرة والفعل والهمّة!


بغداد ، في 12 نيسان 2015

301
ميوقرا رابي حبيب

حزنتُ لنكستك الصحية في هذه الأيام المارانية. أتمنى أن تعود كما عهدناكَ فارسًا شجاعًا في رصد الحدث ومقاتلاً أصيلاً في قول ما تعتقدهُ صائبًا وإن اختلفتَ مع غيركَ في الرأي. لكنّي أعتقد أن الرجل العصاميّ وصاحب الفكر والرؤية يبقي في ثناياه وفي كلمتِه وفعلِه نورًا لإضاءة مَن يفتقدُ إليه في وقت الشدّة وتعاظم التهلكة. وأنتَ في متابعاتِك وكتاباتِك نقلتَ ما تؤمنُ به من مخزونِك وخبرتِك، إن سياسيًا أو قوميًا أو مسيحيًا أو حتى كلدانيًا.
أتمنى لك الشفاء العاجل وعودة سريعة لإكمال مشوار الفكر والكلمة والحدث.
أقدّرُ عاليًا تعاطف الكتاب الأصلاء والمحبين للكلمة والفكر مع أزمتك الصحية. تحياتي للجميع متمنيًا وقفةً واحدة وصرخةً عالية بوجه الظلم والتهميش ودجل المراوغين لصالح حقوق الشعب العراقي والأقليات منه بخاصة.

المحبّ
لويس إقليمس


302
المتاجرون بمآسي العراق وأقلياته
لويس إقليمس
-   الجزء الثاني-

طعناتُ في خاصرة الوطن
في صفحتها الأخيرة، تكاثرت طعناتُ الأصدقاء من دول الجوار والأصدقاء التقليديين. كما تزايدت أطماعُ الغرب بخاصة، وعلى رأسهم، زعيمة الشرّ أميركا ومَن يدورُ في فلكِها. فقد خبرنا أنواعًا منالكوارث والمآسي وفترات احتضار، وهي تُعدّ الأشرس تمامًا في تاريخ العراق والمنطقة. هذه الصفحة قد انجلت خفاياها وانكشفت فيها الكثير من أسرار وألغازٍ كانت ما تزالُ مشكوكًا فيها حتى وقتٍ قريبٍ. وقد كانت هذه محفوظة في خلايا وأمخاخ وثنايا الّلاعبين الكبار الذين تعوّدوا لوكَ مصالح ومصير الشعوب المستضعفة التي لا حولَ لها ولا قوّة ولا تعرف ثقافة حمل السلاح، حتى لو اعتُدي عليها. وتلكم الحالة، لم تعد تنفع ولا تصلح، كما يبدو في هذه الأيام المريرة حيث عوادي الدهر تضرب بأمثال هذه الشعوب البائسة من كلّ حدبٍ وصوب وتوجّه سهامَها الخبيثة يمنةً ويسرةً، دون وازع من ضميرٍ ولا خجلٍ من غياب الأخلاق الوطنية والاجتماعية والإنسانية وما تتطلبُه دواعي الجيرة والتاريخ والجغرافية بل والحضارة والإنسانية معها.
شهدنا في الصفحة الأولى، كيفَ أنَّ أتباعُ الشعوب الصغيرة يُقتلون ويُخطفون ويُشرَّدون في الداخل والخارج، وفي أخرى تُدمَّر منازلُهم وتُغتصبُ وتُباعُ فتياتُهم ونساؤُهم، وفي ثالثة تسكبُ عليهم دموع التماسيح ويُهانون بمساعدات يتهافتون عليها اضطرارًا، كمَن يستجيرُ بالرمضاء ولا حولَ له ولا قوّة بعد فقدان كلّ شيء!
بلدٌ مثل العراق، ذو الأصالة والجذور الحضارية والقيم الرجولية والثروات العديدة، بجدُ الشعبُ فيه نفسَه في زمن العولمة مطرودًا خارج المجتمع الدولي الشبه صامت على مآسيه، ومبتليًا بساسة فئويّين وحكومات طائفية تزيد من قساوة الظروف عليه. وآخرُها يجدُ نفسًه مضروبًا ومهدَّدًا بكيانٍ مسخٍ دفعَ شعبَه الآمن لافتراش الأرض القاحلة وأرصفة الشوارع واتخاذ الساحات العامة والحدائق والقاعات والكنائس والمعابد والهياكل مآوي بديلة لمساكنه الهادئة. ما أقسى هذه الحالة وما أشدَّها لمَن تعوّد حبَّ الوطن وغرسَه في طيّات قلبِه ونفسِه، وعلّمَها لأجيالٍ تناقلتها تراثًا وهدايةً ودليلًا!
لقد غيّرت العولمة القلوب الطيبة للعديد من الناس، وكسرت حبكةَ النسيج الاجتماعيّ الأسري والمجتمعيّ على السواء. ولم يعد لهذا الأخير مكانٌ في دولة المواطنة بعد اختفائه من قواميس الشعوب التقليدية، بل حتى في وسط العشيرة والأسرة الواحدة، إلاّ ما ندر! وبعد أن كانت البلاد تعيش حالة فسيفسائية متكافلة نسبيًا بفعل تعايش قوميات وأديان وإتنيات متعددة تتفاخر بوحدتها ورصانتها ومحبتها وتكاتفها التقليديّ المعروف وتصدحُ وتتفاخر بتنوّعها الثقافي والديني والتراثي، أصبحت اليوم تئنّ من جراحات مثخنة، بعد طعنها من الداخل أولاً، بدءًا بصعود أو قدوم طبقة حاكمة باعت ما للوطن والمواطن لصالح العشيرة والعائلة والزعيم والحزب والكتلة التي ينتمي إليها والدولة التي يعملُ لصالحِها. ثمّ جاءت الطعنة الخارجية التي كانت بحق صفعةً ثقيلة ألقت بظلالها على كلّ مفاصل الحياة وأثرت في أخلاق البشر، حينما جعلت شراذمَ من عصابات مسلّحة خارجية غريبة ومن ميليشيات أحزابٍ تتسيدّ المشهد السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، تصولُ وتجولُ تحت مسميات مرعبة، بلا خجل ولا وجل.
 عندما غادر، أو بالأحرى عندما أُرغم عهد الدكتاتورية القائم لغاية 2003 على المغادرة بتلك الطريقة المأساوية بسبب إشكالياتِه العديدة ضدَّ شعبِه وطموحاتِ هذا الأخير المشروعة بحياة أفضل وبحرّية أكثر، لم يكنْ يدور في خاطر أحد أن يذرف دموع الندم أو يجرّ الحسرات لاحقًا، لأنّ عهدًا بالأفضل كان موعودًا. لكنّ الأيام، توالت ودارَ الزمن وكشفت نوايا ذلك التغيير يومًا بعد آخر، لترشدَنا إلى حقيقة مفادُها، أنَّ الأمس أفضلُ دومًا من القادم من الأيام، واليومَ هو الأفضل من الغد والغدَ بالتأكيد سيكون الأفضل من الأمس واليوم. والسبب بسيط، وذلك لأنَّ المعايير والمقاييس في العراق تسيرُ عكس التيار المعمول به في دول العالم. هذه حقيقة، طالمَا أن البلد فقد أهمّ سرّ وجودِه وصمّامَ الأمان لكيانِه وفاعليّةَ قوّته، وهي الحرص على وحدة الأرض والصفّ ولازمة الولاء للوطن والمواطنية.
العقلاءُ اليوم، لا يبكون على النظام البائد، ولكنّهم يستذكرون بشيءٍ من الأنفة، رأسَ الدولة الأسبق، وقد كانَ صمّامَ أمانِ تلك الوحدة ورفعةَ الوطن الشامخ الذي لم يكن لينكسر إلاّ بسبب الحماقات المرتكبة من قبله ومَن حولَه من المنتفعين غير الحريصين، والمتورطين في حروبِ متواترة قصمت ظهرَ الوطن وأدخلتْهُ دوّامة العنف والقتل والعسكرة والخطف، وعلّمته أشكال الطائفية وصَولات الميليشيات التي لا حصرَ لها وهي تصولُ وتجول وتتفاقم وتتكاثرُ كالأميبا. فكوارث اليوم نتاجُ تلك الحماقات!

تصيّدٌ في الماء العكر
إنَّ ما نعانيه اليوم، دون شكّ، جزءٌ من إرث النظام البائد الذي إليه يعود كلُّ ما يحلُّ بهذا الشعب غير المستكين الذي لم يخلُ عقدٌ فيه من حروبٍ ودسائس وفظائع منذ تاريخ تأسيس الدولة العراقية ولغاية الساعة. ولكن، لقد كان الأجدر بمَن أمضى سنوات هجرِه وغيابه عن الوطن هاربًا من بطش ذلك النظام، أن يرعوي من النتائج المأساوية التي حلّت بالأمّة العراقية من دون تمييز للقريب والبعيد، بعد أن طال ظلمُ النظام السابق جميع الشرائح حينذاك، وليسَ ما يعتقدُه البعض استهدافَه طائفةً أو شريحةً محدَّدة. ففي هذا تجافٍ للحقيقة. حتى مَن كانت تشملُه الامتيازات لم يكن في مأمنٍ من غدر القرش الأسود وأعوانه. إثناعشرَ عامًا سوف تمضي منذ السقوط الدراماتيكيّ، والعراقيون يتأملون بتلك الوعود المقطوعة لهم مرارًا وتكرارًا بحالٍ أفضل، والتي لم ترى النور أبدًا.كما لم يشهد البلد تطورًا إيجابيًا أو خيرًا، بل كلُّ ما حصدَهُ حصدَ مآسٍ وآلامًا وجراحاتٍ تزداد ثخنًا وعمقًا وعددًا.
مقابل كلّ هذا، يطلعُ علينا بين الفينة والأخرى، مَن يتصيّدُ بالماء العكر وينزل إلى الساحة بطلاً وطنيًا وقوميًا، وجلُّ ما يجيدُه كياسة الكلام ولباقة التفنّن في مخرجات الحديث واللّف والدوران في تبرير المستباح والتستّر على الفساد
. والمؤسف، هناك مَن مازال يصدّق أمثال هؤلاء الأبطال الذين لا وجود لهم إلاّ في أفلام الكارتون وبلاد الواق واق منزوعة السلاح، ربّما. عجبي على مَن يقبل لنفسه أن يتاجر بمآسي الشعوب ويرقص على أنغام أوتار الحزن الذي تئنّ تحته شعوبٌ لم تعرف غيرَ الأصالة في الحضارة والشراكة في الوطن والمحبة في التعايش. وسواءً حسبنا أنفسَنا من أتباع حكومة المركز أو إقليم كردستان، فالحالُ سيّان. فالطرفان يستغلاّن اوضاعَ النازحين اليوم كلٌّ لصالحه. فحكومة المركز تتفاعلُ إعلاميًا مع دعوات عالمية بضرورة الدفاع عن أتباع الأقليات وحمايتهم بكونهم شعوبًا أصيلة، وأنّ العراق لا يستقيم بغير أقلياته ولاسيّما المسيحيّين منهم. فيما حكومة الإقليم تتبجّحُ أمام الملأ بكونها ملاذَ الجميع. وهي اليوم، تنتفع من حالتهم الكارثية الراهنة، وقد تورطت هي الأخرى بالاشتراك فعليًّا في وصول أبناء سهل نينوى إلى ما وصلوا إليه من فقدان ملاذاتهم الآمنة وممتلكاتهم وأعمالهم ومصالحهم، حينما غدرت بهم قوات البيشمركة المحتلة لمناطقهم ونكثوا عهدَ الدفاعِ عنهم. وقد أجادت قيادةُ الإقليم الاستفادة من الكارثة لصالِحها باستدرار عطف صاحبة الجلالة ذات القطب الواحد، أميركا، ومعها الغرب التابع لها بسياستهم المنحازة للإقليم حصرًا في كلّ الشؤون. أمّا لماذا؟ فالسؤال جوابُه عند أصحاب الشأن، وسيبقى مرهونًا خلف الكواليس لحين قدوم الفرَج ونصوح العقل وعودة الضمير إلى رؤوس تجار الشعوب.
أليس حالُ هذه الأقليات ومآلُها ضربةً قاتلة، كما قالَها البطريرك ساكو في لقائه رئيس جمهورية العراق للتهنئة بالمنصب الجديد؟
أمّا مَن تحجّج، سواءً من الحكومة المركزية أو الإقليم، بأنّ ما حصلَ كانَخارجًاعنإمكانياتحكومة المركز أوكردستان، فهذا مردودٌ عليه وغيرُ مقبول. فالدولة أوالمحتلّ، أيًا كان داخليًا أو خارجيًا، تقعُ عليه مسؤولية حماية المنطقة التي يحتلّها، وعليه الدفاعَ عنها حتّى لو كلّفَهُ ذلك خسائر. فهذا واجبُ العسكر وتلكُم عقيدة الجيوش للدفاع والذود عن المناطق التي تمسكُها أو تحتلّها. فلو لم تكن تصرّفات الطرفين التوافقية والتجاذب السياسيّ وخلافات المصالح هي السبب، لما حصَلَ كلُّ هذا الخراب والدمار، ولما آلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم من فناء واحتضار وتراجع.

الأمل قائم!ّ
يُؤخذ على الباباوية التزامَها الصمت خلالالحربالعالميةالثانية، مثلاً.فيما نشهدُ اليوم، نشاطًا ومواقفَ مشرّفة من قبل بابا الفاتيكان الذي حشّد المجتمع الدوليّ للقيام بدوره الأخلاقيّ والإنسانيّ إزاء الإبادة الجماعية التي تعرّض وما زال يتعرّضُ لها أبناء الأقليات في العراق، ولاسيّما المسيحيين منهم والإيزيديين الذين اقتُلعوا من جذورِهم في مناطق تواجدهم الأصلية. فقد ناشد البابا فرنسيس في مناسبات عديدة، المجتمع الدوليّ وحثّ الزعماء والرؤساء ورؤساء الحكومات والمسؤولين الروحيين والمدنيين لإيجاد حلول أخلاقية لملايين المهجّرين والنازحين كي يعودوا إلى ديارهم في أسرع وقت. هذه الضغوط السياسية، كان لها وقعُها الخاص والقويّ في أروقة المجتمع الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة والبلدان الكبرى، بالضغط عليها لتوفير ملاذ مؤقت وآمنٍللمهجرين عبر مساعداتإنسانية عاجلة، ماتزال متواصلة من جانبِه، بحيث شملت الجميع دون تمييز.كما استغلّ الكرسي الرسوليّقدراته الروحيةوتأثيرهعلىالمنابر الدوليةالتيتشكلُ قوةوقدرة كبيرةعلىتغيير سياسةالعالم، ملمّحًا بأمل قادم وبرجاء معقود لذوي الإيمان. فالله لا ينسى خليقتَه تُهانُ بهذه الشاكلة. إذ لا بدّ لليلِ أن ينجلي وللقيد أن ينكسر وللضمير أن يستفيق وللعقلِ أن يتّزن. وبالتالي أن يحتكم الإنسان لمنطق العدل والخير والمساواة.
قد يكونلتشكيلالتحالفالدولي الذي تعهدَ بمواجهةالإرهاب وعصابات القتل باسم الدّين، نتيجة لضغوط الفاتيكان ومعه المرجعيات الدينية المعتدلة من ديانات أخرى، بحسب بعض المراجع والتسريبات السياسية والصحفية. وهذا صحيحٌ وطبيعيٌّ، بل واجبُ الإجراء. فحينما تفشل السياسة في احترام آدمية الخليقة، يتوجب على الرئاسات الدينية أن تكون المبادرة والضاغطة لحثّ الساسة على احترام شرعة حقوق الإنسان والتذكير بواجباتهم تجاه المواطنين والمرؤوسين. عسى أن يحقّق التحالف الدولي، رغبةَ ذوي النوايا الطيبة والساعين إلى سلام البشرية وتنميتِها وسعادتِها، ويساهم عاجلاً بعودة النازحين والمهجَّرين والبائسين إلى ديارهم، كي يكونَ ذلك طعنةً في خاصرة تجّار الشعوب الذين سوف تكشفهم الأيام ويلعنهم التاريخ. فقد تمادى أمثالُ هؤلاء وتلاعبوا بمقدّرات الشعوب من أجل تحقيق مصالحهم الفئوية والشخصية الضيقة، بالرغم من الشكوك التي تحوم حول الثمن المطلوب لهذا التحالف! فالمجتمع الدوليّ، لا بدّ أن يتحمّل مسؤولياته، لا أن يقف متفرّجًا على المآسي والكوارث وأعمال القتل والترويع والإرهاب واستمرار سبي النساء وسلب آدميتهنّ وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ.
من هنا، تأتي المطالبة الملحة في المؤتمرات الأخيرة المنعقدة دوليًا وإقليميًّا وداخليًا، لتصبّ في منطق استحداث منطقة آمنة لشعوب سهل نينوى المنكوبة، تحت رعاية دولية حتى استتباب الأمن فيها والتحقّق من قدرتها على العيش بسلام وأمان في ظلّ وطنٍ واحد يحفظ أرضَه وسماءَه وماءَه من كيد الأعداء وفق القانون الذي يرسي دعائم المواطنة والمساواة والعدل. وهذه الأمنية، لن تكون قابلة التحقيق، إنْ لمْ تكن مناطقُ هذا السهل مستقلّةً تمامًا ومتحرّرةً عن مطامع الجيران المحيطين به. مثلُ هذا المنطق في الطرح ينطبقُ بطبيعة الحال، على المكّون المسيحيوالإيزيدي والتركمانيّ والشبكي وغيرِهم في مناطق الحمدانيةوسنجار وتلّعفر ذات الخصوصياتالإتنية والدينية.
 حينها فقط، ستحافظ هذه الشعوب على جذورها وتعاند من أجل البقاء في أرض الآباء والأجداد. كما سيكون هذا من داعية المساهمة في منع نزيف الهجرة المتصاعد بالرغم من سلبياته القائمة على هوية وكيان ومصير هذه الشعوب المضطهَدة. ونحنُ نعلم أن الجذور حينما تٌقتلَعُ من موقعها، يصعبُ إنباتُها كما كانت عليه في موقعها الأصليّ وأرضها الثرية وترابها الغنيّ بالمآثر والحضارة والخيرات والقِيم.

لويس إقليمس
بغداد، في 1 نيسان 2015








303
المتاجرون بمآسي العراق وأقلياته
-الجزء الأول-

لويس إقليمس

لا أحد ينكر ما يتعرّض له الشعب العراقيّ عامةً من نكوص وانتكاسات ودسائس داخلية وخارجية مستهدفةً كيانَه وحضارتَه وهويتَه ونسيجَه الاجتماعي التقليديّ المتكاتف المعروف عنه. فالمؤامرة عليه تحوّلت إلى فعلٍ دوليٍّ شاخص، وبرعاية أميركية -إسرائيليةبامتياز، وبسكوت من الغرب المتخاذل الذي انساق وراء الثنائيّ المذموم الذي يدير اللعبة بلا حياء، بأسلوب استعلائيّ خالٍ من الأخلاق.
لذا، لم يهتزّ الضميرُ الأميركي إلاّ خجلاً مصطنَعًا ولا رفتَ له جفنٌ إزاء ما حصل في العراق بخاصّة، إلاّ لغاية فيها مصلحتُه القومية العليا ومصلحة ربيبتِه في المنطقة، بالرغم من توافر الكثير من خيوط اللعبة بين أياديها.كما أنّ الغربَ الأوربيّ الذي اكتفى بالتنديد حينًا والسكوت حينًا آخر، لم يبادر حثيثًا لإيجاد حلولٍ عاجلة لمآسي الملايين من العراقيين الذين طالهم التهجير والطرد من ديارهم وقراهم ومدنهم التقليدية التاريخية، تمامًا مثلما تفرّج على مآسي السوريين واختارَ دعمَ تنظيمات مسلّحة، ظاهرُها مقاومة لدكتاتورية الأسد وباطنُها إرهابٌ دوليٌّ بامتياز ينفّذُ أجندة الأسياد بحسب الظرف. لقد صرخت الحجارة منددة بما يُقترف من جرائم بحق أناس أبرياء وشعوبٍ مسالمة، بعد أن لفَّ الصمتُ قادة الدول المتمدّنة ردحًا من الوقت حتى فاقوا على حجم الكارثة وهول المحنة، قبل أن يصلهم الطوفان. فالصمتُ مهما كان، قصرَ أو طالَ، فهو دلالةٌ على التواطؤ والاشتراك مع ما يجري بطريقة أو بأخرى.
 لقد كشفت الأيام والوقائع، أنّ هذه التنظيمات قد صُنعتْ بأيادي مخابراتِية وأدواتِ إقليمية ومحلّية، وبوحيٍ سوقيٍّ من أجهزة الغرب الأمنية بقيادة سيدة القطب الواحد، أميركا الرامية لتغيير خارطة المنطقة على حساب المكوّنات المستضعفة من الأقليات الدينية والاتنية التي تتقاذفُها أمواج الغرب الطامع وأفواجُ الإرهاب المنفذة لجزء من الدور المنوطِ بها لإكمال المؤامرة بالكيفية المرسومة لها. فالكلُّ يتاجرُ اليوم، دولٌ وسياسيّون ومنظمات دولية وإقليمية ومحلية، بمأساةَ النازحين والمهجَّرين ويستغلّون الوضعَ للحصول على مكاسب ومنافع. بل لم تتورّع جهاتٌ سياسية وحزبية ودينية في ابتزاز دولٍ ومنظمات وتسخير عطاءاتِ هذه الأخيرة لتصبَّ في صناديقِها الخاصة بحجة تقديم يد العون والغوث لملايين النازحين والمهجَّرين، داخلَ البلاد وخارجَها. إلاّ أنَّ الحقيقة الغائبة عن أذهان الجهات المانحة الرصينةغيرالتجارية، التي تجهل أسلوب عمل منظمات الغوث والمساعدة العاملة في الحقل وعلى الساحة، قد تُصابُ بالذهول إذا تلقت حقائق حول استغلال الجزء الأكبر من هذه المنح والعطايا والتبرعات في تسديد مرتبات وإيفادات وسفريات أفراد هذه المنظمات وإيجارات سكنها، والتي تدّعي عملَها على أساسٍ تطوّعيّ، مستغلّةً أحيانًا وسائلَ الإعلام الذي ينشر لأفرادها صورًا استعراضية أثناء تسليم مواد إغاثة من أجل الدعاية، ليسَ إلاّ. وهذه في الحقيقة، إنْ هي إلاّ وسيلةٌ مضافة لإهانة المحتاج والّلاهث وراء سدّ الرمق بعد أن انقطعت به السبل وفقدَ كلَّ ما له، حتى كرامتَه!

تدمير حضارة آشور، لماذا؟
ما قامَ به تنظيم داعش الإرهابيّ في سابق الأيام وما يزال، من سرقة آثار حضارة العراق الآشورية العظيمة بهدف المتاجرة بها دوليًا، وتجريف المواقع الأثرية في شمال الوطن وتدمير الشواخص واللقى والتماثيل والمزارات الدينية المختلفة، لَهُو فعلٌ جنونيٌّ أرعن، لا يمتُّ بصلة لأيّة أخلاقٍ ولا ديانةٍ ولا جماعةٍ بشرية فيها ذرّة إنسانية من عرفانٍ للإله الواحد، الذي يدّعي هؤلاء وأمثالُهم عبادتَه والتحدّث والحكم والنطق باسمه، بل والقتل تحت راية ترفعُ اسمَه. أيةُ بربرية هذه، التي يعيثُ فيها هذا التنظيم فسادًا، فيما المجتمع الدوليّ يقف عاجزًا عن صدّ هذه الهجمة الشرسة التي لم يعرف لها العالمُ مثيلًا، حتى على عهد جينكيزخان وهولاكو. ألمْ يرفض أقوامُ البرابرة أنفسُهم تسمية أفعال "داعش" بالبربرية؟ ذلك لأنَّ أسلافَهم، لم يصلوا لاقتراف حدود مثل هذه البشاعات في تاريخهم، وهم المعروف عنهم تقليديًا بالتوحش والبطش.
قد يسألُ سائل: لماذا هذا الحقد الأفّاك على حضارة آشور العظيمة بالذات من قبل هؤلاء الأوباش، سفّاحي العصر وكارهي الحياة والعطشى لسفك الدماء؟ ويأتي الجواب بسيطًا وسهلاً في التحليل والاستنتاج.إنّ أسلافَنا الآشوريين قد علّموا اليهودَ درسًا في البلاغة الإنسانية بكسر شوكتِهم وإخضاعِ دويلتِهم في الشمال (إسرائيل) للحكم الاشوري بقيادة الملك سنحاريب في 697 ق.م. وأعاد الملك البابلي نبوخذنصّر الكرّة في 586 ق.م.، ليغزو هذه المرّة مملكة الجنوب في اليهودية وينهي بذلك أيَّ وجودٍ سياسيّ جغرافيّ لليهود في المنطقة.ومذ ذاك التاريخ، والحقد اليهوديّ يستعرُ في مخيلة أجيالِه، متحيّنًا الفرص لاسترداد شيءٍ من مهابة الشعب اليهوديّ المسبيّ من أسلاف العراقيين الشجعان، والتعويض عن الإهانة التي خبرَها هذا الشعب العاقّ لإلِهه في أيام السبي المهينة. وقد وجدَ في وحشية هذا التنظيم الإرهابيّ خيرَ منفّذٍ لهذه الأجندة الحاقدة على العراق وشعبِه. فكان لهُ ما أرادَ وحلمَ به.
اليوم، بفضل الرئيس المثير للجدل " بارق أوباما حسين"، ذي الأصول الإسلامية والمتعاطف مع التشدّد، قويت شوكة الإرهاب وتشعبت، وكلُّها تصبُّ في تحقيق مشروعِها الكبير لتحقيق المصلحة القومية العليا لأميركا وحلفائها الدوليين وفي المنطقة، ولاسيّما إسرائيل المدلّلة. فقد استطاعَ أوباما خداعَ العالم ومعه الشعب الأمريكي بكاريزميتِه الخطابية، لينفردَ هو ونائبُه "بايدن" اليهوديّ المتغطرس باستكمال ما كانَ بدأَهُ الحاقد اليهوديّ على الشرق "كيسنجر"،بنيّة بلادِه تغيير خارطة الشرق الأوسط وفق رؤى ومصالح أميركا القومية. لذا، وجدَها فرصةً ذهبية حان وقتُ لعبِها باستخدام كيانٍ مسخٍ أوجدَه لإتمام صفحة أخرى من ألاعيبِه ضدّ بلدانٍ بائسةٍ تطفو على بحيرات من ذهب دون أن يعرفَ أهلوها الاستفادة منها واستغلالَها لمصلحة شعوبِهم وتطويرِ بنيتِها وتنميتِها من أجل رفاهتِهم. فالعراق الذي يُعدّ آخر برميلٍ للنفط يُستخرجُ منه، لم يعرف عبر حكوماتِه المتعاقبة قبل وبعد الاحتلال، ترفيهَ مواطنيه واستغلال هذه الثروة من أجل بناء سايكولوجيتِه المهزوزة وتقويم شخصيتِه المزدوجة عبر تاريخه الطويل وتعزيز نسيجِه الاجتماعيّ المتعاضد تقليديًا. كما أنَّ ثرواتِه الكثيرة واستعداداتِه المتنوعة لم ولنْ تكونَ، كما يبدو، دعاماتٍ تدخلُ في تعزيز أسس تنوعِهالدينيّوالاتنيّالثري.

تنظيمات إرهابية لتنفيذ المخطَّط

تمامًا، كما فعلتها أميركا ومعها الغرب الخانع في أفغانستان، بخلق المسخ "طالبان" المتشدّد، أداةً لمحاربة غريمهم السياسيّ العالميّ المتمثل بالاتحاد السوفيتي سابقًا، للحدّ من نفوذ الأخير دوليًا وفي عموم القارة الأسيوية الغنية بالثروات النفطية والغازية بخاصّة، ألحقوها فيما بعد بالتهيئة لتنظيمات إسلامية متشدّدة في مناطق صراع أخرى، ولكنْ على أسسٍ دينية وطائفيّة هذه المرّة. فبعد مؤامرة إسقاط النظام السابق في العراق في 2003، طرحت أميركا والمتحالفون معها دوليًا وإقليميًا، نسختهم الجديدة من "القاعدة"، المسخ الأخرى، والمتمثلة بتنظيم "داعش" الإرهابيّ السلفيّ المتشدّد حدَّ النخاع. وبفضلِ هذا الأخير وأدواتِه وأفكارِه الأصولية المتشدّدة التي فاقت التصوّر في القتل والنهب والتكفير والتدمير والسبي والنكاح واقتراف أقبح الموبقات، أرادوها اليوم حربًا على شعبٍ عريقٍ وحضارة خالدة وثقافةِ عربية وعراقية ناصعة تفوّقت في غابرِ الزمان على حليفِهم سليطِ اللسان والمعاند المكابِر، إسرائيل، بعد أن أذاقَهم أسلافُنا الآشوريون الجبابرة المرَّ والهوان، بسبب عجرفتِهم.وأخيرًاوليسَآخرًا، كانتولادة "بوكوحرام" و "الشبابالصوماليّ" وأمثالُهموفروعالدولةالإسلاميةفيأفريقياودولالمغربالعربي،إلىجانبفصائل "القسّام" وتنظيمات "الإخوان" الجديدةالقديمةونظرائهمومالفَّلفَّهممنكتائبوسراياوتنظيماتسنيّة وشيعيّة كثيرةعجيبةغريبة، تكفّرُ وتحاربُ بعضَها البعض.
بعد تمكّن تنظيمات "داعش" من إحكام قبضتِها في مناطق واسعة في كلّ من سوريا والعراق، وامتداد نفوذِها عالميًا، بعد إعلان العديد من التنظيمات المتشدّدة ولاءَها لدولة "الخرافة" التي شكّلَها، والتحاق مسلّحين أجانب طمعًا بالمال ونكاح الجهاد، وإجبار الأهالي للانخراط في صفوفِهم بحجة محاربة الشيعة الطامعين، بدأت صفحة جديدة للشرّ والانتقام، بسرقة آثار حضارة العراقوتجريفِمواقعِها وتدمير ما يذكّرُ بها بالفخر والاعتزاز. لقد استغلَّ الطاغوت الأمريكي واللوبي الصهيونيّ ودول الغرب السائرة في ركابها، سلوكيات طاغية العراق السابق وتحدّيَه لها لتبرير غزوِه لهذا البلد المبتلى بسياسيّيه غير الحريصين على وحدةِ ترابِه وطيبِ هوائِه وغنى ثرواتِه. فقادَ غزوَه في 2003، مجيِّشًا عليه دولاً ومنظماتٍ وكياناتٍ منتفعة من زوال النظام المقبور. ولو أنَّهُ نوى خيرًا لشعب العراق، لكانَ أمكنَه من إسقاط الطاغية ونظامِه بوسائل أخرى، تمامًا كما فعلَ ذلك مع غيرِه، من أمثالِ نوريغا وبينوشيه وغيرِهما، أو كما فعلَ ذلك في إسقاط غريمِه "الاتحاد السوفيتي" بالطريقة الذكية التي هيّأها له. إلاّ أنَّ الأهدافَ بدت أكبرَ من هذا وذاك بكثير. فعملية خلق الكيان الإسلاميّ المتطرّف "داعش" بالتعاون مع حلفاء في المنطقة، والعمل على تمدّدِه وبسطِ نفوذِه فترةً من الزمن، عملية ممنهجة وهي تسيرُ ضمن السياق المرسومِ لها لغاية تحقيق الأهداف والغاياتِ العليا للمصالح القومية الغربية في المنطقة. وهذا ما تشيرُ إليه كلُّ التسريبات والتصريحات، بنيّة الأمريكي امتداد الحرب على الإرهاب الداعشيّ لسنواتٍ. بل هناك مَن يرى، أنَّ الأمريكي والغرب عمومًا، لا ينوون القضاءَ عليه بل احتواءَه وتحجيمَه وجعلَه جنديًّا احتياطيًّا وبيدقًا جاهزًا لتنفيذ المطلوب منه متى وأينما وكيفما أُريد ذلك.

الأقليات في أتون نارٍ محترقة

صحيحٌ أنَّ الشعبَ العراقي عامةً، عانى ومازالَ يعاني من البؤس مادّيًا واقتصاديًا وخدميًا، ومن التهميش والطائفية والمحسوبية سياسيًا ووظيفيًا واستحقاقًا وطنيًا، إلاّ أنَّ حالَ الأقليات فيه، أكثرُ تدميرًا وأعمقُ تجريفًا لحقوقِها وكياناتِها وهويّاتِها الضعيفة، لعدم قدرتِها على مقارعة الظلم الذي لحقَ بها بسبب الدستور الأعرج الذي وضعَها في خانة المواطنة الثانية والثالثة والرابعة،باقتصارِ حكم البلاد على ثلاث مكوّناتٍ تتحكّمُ بمصيرِه وتسودُ ثرواتِه وتسرقُ عقاراتِه وممتلكاتِه، كلٌّ بطريقتِها ووسائِلها وألاعيبِها المكشوفة والخفية على السواء.
 ولعلَّ ما تعرضُه قنوات إخبارية كثيرة، ولاسيّما البغدادية، من مخالفات وصفقات فساد وسرقات لقوت الشعب، تقف لها شعورُ رؤوس المحبّين للوطن والحريصين على تعافيه وعودة الروح الوطنية إليه بعيدًا عن الجماعات الحاكمة والمتحكمة فيه على أساسٍ توافقيّ وتحاصصيّ لتقاسم الثروات فيما بينَها. وكأنّي بمَن قدموا من خلف الأسوار في 2003، جاؤوا فقط لاستلام حصصِهم الموعودِ بها واستلاب ثروات البلاد بطرق ووسائل شيطانية، بعدَ أنْ يسّرَ ومهَّدَ لهم ذلك الحاكمُ المدنيّ سيّء الصيت، "بريمر". فيما جعلَ هذا الأخير أبناءَ الأقليات في مرمى هذا المثّلث الحاكم،الذي استغلَّها هشيمًا دائمًا واحتياطيًا لزجّها في أتونحربٍ طائفية شرسة لا ناقةَ لهم فيها ولا جَمل. فجلُّهم من جماعات مسالمة لا تعرف حملَ السلاح لا بوجه الصديق ولا ضدَّ العدوّ على السواء. كما لا ميليشيات مسلّحة لهم للدفاعِ عن ممتلكاتِهم وأراضيهم ومنازلِهم وحرائرِهم من شرّ كيد الأعداء، داخليًا وخارجيًا.
لقد استبيحتْ مناطق هذه المكوّنات بين ليلة وضحاها، وقُلعَ أهلوها وأبناؤُها، واستؤصلوا منها عن بكرة أبيهم، بطريقة دراماتيكية مسرحية شائنة وسط أنظار العالم كلّه وبتواطؤٍ من سياسيّي البلد عبر صفقاتٍ، قد لا تُكشف حتى بعدَ حينٍ، بسبب الخيوط المتشابكة للمتشاركين في المؤامرة. ونخشى أن تصل هذه إلى طريقٍ مسدود وفق توافق "طمطمْ لي وأطمطْم لَك" و "أنتَ هص، وآني هصْ، وإلاثنان بالنصّ". فالفسادُ وأوجهُه المتعدّدة المكشوفة والمقنَّعة، قد نخرَ جسدَ الدولة وأنهكَ عملَ مؤسساتِها وأفرغَ خزينتَها، ولا أحدَ باستطاعتِه الكشف عن مواقع الصرف وأبوابِه أو الجهات التي صُرفت لها المبالغ الطائلة التي هتكت عرضَ الخزينة الاتحادية لولايتين متتاليتين. فالكلُّ مشترك بطريقة أو بأخرى باستنفاذ مليارات الدولارات من قوت الشعب بطرق ووسائل مبتكرة من السرقة والصفقات المشبوهة التي يعسرُ التحقيق فيها. إذ لا مجالَ لمثل هذا التحقيق، بسبب تشابك الخيوط والأشخاص من مختلف المكوّنات والشخصيات النافذة التي تغطّي على بعضِها البعض مضطرّة، خشيةً من انكشاف تورّطها جميعًا أمامَ الشعب والرأي العام، بالرغم من يقين الجميع بتورّط هؤلاء جميعًا في اللعبة. ومَن يتحدث أو يكشف عن تفاصيل بإثباتات وحقائق موثّقة، يكون مصيرُه خارجَ السرب، لأنَّ تغريدتَه غير مرحَّب بها في زمن السرقة والنهب واستغلال المناصب والظروف!
اليوم تشهد الأقليات العراقية الدينية منها والاتنية، الأمرّين، أهونُهما مرٌّ، وهو البقاءُ صبرًا وجلّدًا وأملاً ورجاءً في بلد الآباء والأجداد الذين ترقى جذورُ حضارتهم إلى آلاف السنين. وها هي ذي الأخيرة، هي الأخرى، تُقتلعُ وتتهاوى بفعل ضربات مطارق أعداء الحياة وكارهي المحبة والحاقدين على كلِّ ما تسمو إليه الحضارة والمدنية والحداثة. فما بقي لهذه المكوّنات المتناقصة اضطرادًا، من وجودٍ وقيامٍ وكيانٍ في هذه الأرض الخربة، إلاّ أنْ تنفُضَ عنها باقي بقايا الغبار الذي علقَ بخفّي أبنائِها الحيارى المتسائلين: أينَ المجتمع الدولي من كلّ هذه الفظاعات؟؟؟ وأخشى لو طالَ الانتظار، أنْ يخسرَ الوطن ما بقي من أفرادٍ وطنيين ومن بقايا كفاءات ومثقفين رصينين قد ينتظرون دورَهم للبحث عن ملاجئ أخرى أكثرَ أمنًا واحترامًا لآدميتِهم وأفضلَ تقديرًا لكفاءاتِهم. فالبلدُ الذي لا يحترمُ أبناءَه، لا يستحقُّ خدمتَهم وحرصَهم ودفاعَهمعن مصالحِه التي أضحت مصالحَ قوى طائفية متصارعة من أجل الجاه والمال والمنصب!
ومع تواصل الهجرة التي تشجّعُ لها جهاتٌ وتحرمُها أو تستنكرُها غيرُها، وقعَ ابنُ العراق ومعه شريكُه المفروض في الوطن ابنُ الأقليات بخاصة، في حيرةٍ من أمرِه. فضاعَ هذا وذاكَ بين هذه الدعوة أو تلك، تمامًا كمَن احتارَ تسليمَ أمرِه للقدر بسبب ضبابية الموقف واستمرار تقهقرِ الحياة في كلّ جوانبِها وتواصل عدم الاستقرار وفقدان الأمن. فإلى متى الصبر؟ وهل من أملٍ في المستقبلِ القريب؟ كلُّ الدلائل تشيرُ إلى قتامة الوضع وسوداوية المواقف وعدم الانفراج على المدى القريب والمتوسط. وهذه القراءة القاتمة، قد حفّزت وماتزال تحفّزُ أناسًا بعيدين عن مواقع الصراع للتخلّي عن الأرض وما تبقى من الأهل والممتلكات التي أصبحت في حوزة "دولة الخرافة"، بين ليلةٍ وضحاها، بفعل اتفاقٍ سرّيٍ بين ساسة البلد من المثلّث الحاكم، إرضاءً لمصالِحهم الفئوية الضيقة.
قبلَ أيامٍ، صُدمتُ بفتاتين من بغداد، ليسَ لهما علاقة بالأحداث، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، وهنّ تنويان الهجرة وطلب اللجوء في دولة غربية فتحت بابَ اللجوء للمهجَّرين من المسيحيين والإيزيديين أساسًا. وعندما عدتُ للمنزل، سرحتُ بعيدًا في فكري، وتساءلتُ: هل أنا وأهلي وعائلتي وأقربائي، بهذه السذاجة في الالتصاق بالأرض التي نفضتنا قبل أن ننفضَها بسبب خرابِها وجدبِها، والتمسّك بالدولة التي طبّقت فينا كلَّ مراسيم التهميش والإقصاء والاستبعاد، فيما إعلامُها وسياسيّوها يستخفُّون ويتقاذفون بنا مواطنين أصلاءَ حينًا، وجالياتٍ حينًا آخر، وأتباعَ الغرب الكافر في غيرِها؟ فالمُطالِبُ والراغبُ بالهجرةِ أصبحَ اليومَ قياسًا، فيما المتجلِّدون الصابرون المتشبثون بالأرض أصبحوا استثناءً! معادلةٌ قدريّةٌ صعبةُ الفهم والاستيعاب قد فرضتها الأحداثُ. وما علينا إلاّ إعادة التفكير واتخاذ القرار الجريء، بعد يأسٍ من عدم الاعتراف بمواطنيتنا وحقِنا في المشاركة في حكم البلاد وإدارتِها، اسوةً بالغير القادم من خلف الأسوار. فلا بدَّ من خطوة جريئة، وليكنْ ما يكون! وحينئذٍ، لكلِّ حادثٍ حديثٌ.

-   يتبع ...-

304
بين الدين والسياسة، فوائد ومزالق
لويس إقليمس

تُثار بين فترة وأخرى، مسألة صحّة تعاطي رجال الدّين للسياسة وانعكاس ذلك على مؤسساتهم وأتباعهم وعلى غيرهم، سواءً في حدود المجتمع والبيئة أو بتجاوزهم لتلك الحدود. فالدّين كما نفهمُه في تربيتنا البيتية والمجتمعية في الشرق، أخلاقٌ ونصحٌ وتسامي عن الرذيلة ودعوة للصلاح. فيما السياسة حياة يومية شاملة بكلّ همومها، وما عليها من تحوّطات الوقوع في مزالق الفساد والخوف بالإيغال قد يجرّ إلى اضطراب في العلاقة بين الدين والسياسة، وبمعنى آخر بين الدّين والدولة. ودليلُنا، ما يشهده العراق ومنطقتنا من احتقان طائفي وأعمال عنف وتجاوزات واعتداءات باسم الدّين التي تسعى فئاتٌ لتسخيره لمصالح فئوية وطائفية، وربما لمصالح شخصية، في الكثير من الأحيان.

عمومًا، يجدر ألاّ يتقاطع الدين مع السياسة، عندما يكون التعامل بين الاثنين في حدود المعقول وضمن آليات صائبة للتفاهم والتوافق وعدم الانجرار إلى الماورائيات غير مأمونة النتائج. فالاثنان مهمّان في حياة الفرد والمجتمع، ومن دون تفاعلهما الإيجابيّ لا تستقيم الحياة، شرط احترام كلّ منهما لمفهوم الآخر. وأي تجاوز، قد يخلق مشاكل عدّة، حينما يستمكن أحدهما من الآخر، وتجفّف المنابع السليمة لكلٍّ منهما. لذا، يكون الفصل بينهما في حكم البلاد، خيرَ قرارٍ لضمان العيش الآمن في دولة مدنية تعطي لكلّ ذي حقِّ حقّه ولا تتقاطع فيها قيمُ الدّين مع السياسة. 

قيم الدّين والسياسة في المنطقة

الحديث عن الدّين والسياسة، ذو همومٍ وشجون. قد ينفع الاستنجاد بهما معًا، في ظروف محدّدة تحتّمها الحاجة، بشرط توافقهما على مشروع مقبول ومنهجِ معلومٍ، هدفُه خدمةَ المجتمع حصرًا واجتياز مرحلة حرجة تتطلّبُ تعزيز أواصر اللحمة في صفوف المجتمع غير المتجانس، من دون انحيازٍ لفئة دون أخرى أو إساءةٍ لفاعليّة كلٍّ منهما في السياق المرسوم لكلٍّ منهما.
إنَّ المأساة الحقيقية تكمن، عندما يتمّ تسيس الدّين لصالح فئة أو طائفة أو لمنفعة ضيّقة. حينها، تعمل فئة متنفذة على كمّ الأفواه وغلق كلّ منازل الحرية الفكرية والدينية المختلفة عنها والدّوس على كرامة الوطن والمواطن بحجج واهية تدّعي استيحاءَها من لدن ما تسمّيه بالشرع الدّينيّ، والدّين منها براء! هنا يكمن الخلل وتفسد العلاقة بين الاثنين، حين تصعد على الساحة أحزابٌ دينيّة بحتة، لا تخدم بقدر ما تهدّم وتدمّر وتفسد العلائق بين أبناء الوطن والدّين الواحد. وما يزيد في الطّين بلّة، قيام هذه الأحزاب، المغلَّفة بمظاهر مدنية خاوية، بتسخير جهد الدولة وثرواتها لصالح المذهب والطائفة التي تنتمي إليها حصرًا، في حقيقة لا تخلو من عناصر تهميشية لبقية أبناء الوطن الذين يضطرّون للخضوع، للأغلبية المتنفذة.
إنَّ الغاية الأساسية من الدّين، هي لتمجيد الله ومحبة القريب، واللجوء إلى راحة الفكر وصفاء القلب، والسير في طريق الفضيلة دون المساس بحقوق الغير. فيما الخلط غير الصائب بين السياسة والدّين، سيكون وبالاً على القائمين عليها والمقصودين بها على السواء، لأنّها ستخرج عن المسار المرسوم لها والتي تتلخص بتوجيه المجتمع باتجاه منهج السلم الأهليّ، وخلق سبلٍ سليمة للتعايش بين المختلفين دينيا وعرقيا ولغويا. هذا سرُّ وجود السياسة الأخلاقية المقبولة، عندما يكمن في تلبية متطلبات الحياة اليومية للبشر إداريًا وخدميًا. بمعنى آخر، عندما توجّه هذه الجهود كلُّها من أجل خلق أرضيّة صحيحة لـ "مدينة فاضلة"، أي دولة تنعم بمؤسسات قادرة على خدمة البشر بأفضل السبل. ويمكن الاستفادة من فلسفة افلاطون في تصوير مثل هذه المدينة المرغوبة أو الدولة المثالية وتقدير حاجاتها ورسم بياناتها الناجحة لتلبية هذه المتطلبات، قدر المستطاع.
 قد تنجح عمليات امتزاج الدّين بالسياسة أحيانًا في دولٍ أو لدى شعوبٍ واعية ومتحضّرة، لفترة مرحلية. ولكنّها لا ولنْ يمكن أَنْ يُكتب لها النجاح المتواصل على طول الخطّ، لأنّ المزالق كثيرة والطموحات مفتوحة والانحيازات قائمة. فمَن يتسلّق السياسة على حساب الدّين، لا بدّ أن تظهر طموحاتُه الضيّقة ويتبيّن على حقيقته بسبب قصر نظرِه ووهن طبيعته البشرية وعدم استيعابه ماهيّةَ المفهومَين على طول الخطّ. فالدّين لا يمكن أن يكون يومًا أداة طيّعة بيد السياسة والساسة. إذ لكلّ منهما دورُه وأسبابُه ونتائجُه. "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه"! كلام خاطبَ به السيد المسيح مَن أرادَ من اليهود المرائين تجربتَه ليشوا به إلى رؤسائهم الخاضعين للقيصر الروماني. فجاءَ كلامُه سيفًا قاطعًا دقَّ خاصرتَهم، فيما استطاعَ ردّ سيفِهم إلى نحره. في هذه الواقعة، لم يمنع أن يعطي المسيحُ رأيَه في الأحداث، وأن يتدخل في كشف زيف الزعماء الدنيويّين والدينيّين معًا. فقد حمل السوط بيديه وراح يطرد الباعة والتجار من الهيكل. وهذه بحدّ ذاتها، حركةٌ لا تخلو من تدخّلٍ في شؤون الحياة العامّة، وفي جزء من السياسة وإدارة المجتمع الذي عاش في وسطه.
في المجتمعات العربية، اقترن الدّين بالسياسة وعُدّت الحياة وحُكمُ العباد دينًا ودنيا معًا. وهذا ما جعل مجتمعاتِه عرضةً للمدّ والجزر. إن الخلط بين السياسة والدّين، هو من أكثر الأسباب التي خلقتْ إشكاليات مستعصية داخل المجتمع الواحد. فعندما يُساء استخدام الدّين ووسائله ويخفقُ بوضعِه ضمن الإطار الذي وُجد من أجله، حينئذٍ يفقد سرَّ وجودِه، ويتحوّل إلى أداة سيّئة الاستخدام بصيغة حكمٍ ثيوقراطيّ، يسعى إليه بعض رجالِ دينٍ وسياسة، بحجة خوف الله وتطبيق شريعته التي تُفسّر وفق مقاسات هذه الفئات الحاكمة أو الساعية إلى الحكم على السواء.
 لقد أثبتت التجارب، أنَّ هذا الأسلوب فيه الكثير من الأشواك التي تزرع بذور شقاقٍ ونزعات للسيطرة غير المأمونة على العباد ومؤسساتهم الدينية ورجالاتها. ولنا في تخطّي الغرب (فرنسا على سبيل المثال في عام 1905) لهذا المنزلق ووضع حدّ لتدخلات الكنيسة في السياسة، خير مثالٍ على نقل المسؤولية المدنية إلى روّادها. ولكنّ هذا لم يمنع مثلاً، أن تبقى عيون الكنيسة ساهرة على تصرفات وقرارات رجال السياسة وإبداء الرأي والنصح حين الضرورة.
هناك مسافات بين الدّين والسياسة، قد تقصر وتطول. كما أنّ مسيرة الاثنين، لا تبدو خالية من منازعات، لاسيّما عندما تتقاطع المصالح وتتنافر الأفكار وتختلف الرؤى. وهذا ما يجرّ رعاة الاثنين لكشف المستور على الساحة والتصرّف إزاءَه بأدواتٍ وطرقٍ شتّى، قد تنغّص بعضُها سيرَ الحياة وتخلق إشكاليات قد لا تُحمد عقباها. لذا، حينما يُراد ضربُ الدّين ورجالِه في مرحلة ما، يجري تصويب الساسة ضدّه، بهدف الانتقاص من أهميته وفاعليّته والحدّ من تأثيراته وتدخلاته. والعكس صحيحٌ. فرجالُ الدّين وأدواتُهم، غالبًا ما يستخدمون الدينَ ومفرداته ضدّ السياسيّين لإنهاء سطوتهم على الناس أو للتشكيك بمبادئهم لإسقاطهم عن كراسيهم، ومن ثمّ السطو على الحكم. هذا ما نشهدُه منذ القدم ولغاية الساعة.

بين الإيمان والسياسة، رجالُها

إنّ انخراط بعض رجال الدّين في معمعة السياسة وفي سبر أغوار دهاليزها، قد يكون فيه شيءٌ من الضرورة في حقبٍ معيّنة وظروفٍ قاهرة تقتضيها مسيرة حياة الشعوب المقهورة. وهذا بطبيعة الحال، لا ينبغي أن يكون على حساب الإيمان ومبادئ الدّين، التي يحملُها هذا أو ذاك، من الذين تظهر لديهم بوادر وإمكانيات ذاتية، تتيح لهم التعريف والمدافعة لصالح الجماعة التي ينتمون إليها.
إن بروز اتجاهات متنافرة في الوسط الديني في بلادنا، سجّلت ملاحظات حول سلوكيات أو مبادرات لبعض رجاله في اتجاهين متقابلين، سلبًا وإيجابًا على السواء. فالموضوع إذن، عراقيّ صرف، أكثر منه خارجٌ عن الأسوار. وسوف لن نتطرّق إلى التوجهات الدينية لطوائف أخرى من التي أتى بها التغيير في العراق بعد 2003. فقد حسمت الأحزاب الدينية الإسلامية أمرَها، وتحققت من أنّ برامجَها غير قابلة للتحقيق في مجتمع متنوع الأديان والأعراق والمذاهب، وقوى وطنية وليبرالية تأبى الانسياق وراء مجاهيل الظلمات التي حاولت جهاتٌ داخلية وخارجية، إقحام العراق فيها.
    بالأمس واليوم، كانت هناك ملاحظات سُجلت على عدد من الشخصيات الدينية، سابقًا وحديثًا، تطرّقت لتدخلات هؤلاء أو ما شابهها في شؤون الدولة، هذه المؤسسة المدنية المبنيّة على أساس السياسة والحكم. ولنا في الأسقف الأرثوذكسي الراحل مكاريوس نموذجاً، وهو الذي تولّى الدفاع عن طائفته في قبرص بعد الاجتياح التركيّ المدعوم من الغرب. وهو يأتي في مقدّمة القادة المسيحيّين والوطنيّين، الذين كرّسوا حياتَهم للدفاع عن مصالح شعبهم وكنيستهم ووطنهم. وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي كانت تُوجّه لمكاريوس الذي تولّى رئاسة كنيسته في قبرص في 1950، وعمرُه 37 عامًا، إلاّ أنّه أثبتَ جدارتَه في الوقت الذي كانت كنيستُه مهدّدة، من قبل الغربيين وجيرانهم الأتراك المختلفين معهم في الديّن وطبيعة المجتمع. ونتيجة لشعوره الوطنيّ، بسبب ما كان يُحاك ضدّ بلده من مؤامرات تهدف لتقسيم الجزيرة، لعب الأسقف مكاريوس دوراً هاماً في الحركة السياسية التي كانت تدعو لضمّ قبرص إلى اليونان، الوطن الأمّ. وتمثّلت أولى أولوياته، بتنظيم استفتاء في 1950، وفيه عبّر القبارصة اليونانيون عن رغبتهم بتحقيق الوحدة مع اليونان بنسبة 96 %.
ونتيجة لذاك الإجراء الذي عدّته بريطانيا، عملاً استفزازيًا ضدّ مصالحها في الجزيرة، عملت على نفيه إلى جُزُر السيشيل في 1956. ثمّ اضطرّت لإطلاق سراحه في العام التالي. إلاّ أنّ الشعب القبرصيّ ظلّ متمسكًا به، فانتخبُه أوّلَ رئيسٍ للبلاد، بعد نيل قبرص استقلالها في 13 كانون أول 1959. لكنّ بريطانيا لم تنسَ له فعلتَه، فأعدّت له انقلابًا في حزيران 1974، ما اضطرّهُ لمغادرة البلاد، وإتاحة الفرصة للقوات التركية بغزو قبرص وإحكام قبضتها على جزئها الشمالي. إلاّ أن مكاريوس، تمكّن من العودة مجدداً إلى الجزيرة ليكون رئيساً لفترة ثانية قصيرة استمرت حتى وفاته في 1977.
 سقتُ هذا النموذج الحديث في الحياة السياسية ما بعد الحربين الكبيرتين، للإشارة إلى الأحداث المتسارعة في المنطقة التي كانت دخلت مرحلةَ التغييرات الجديدة التي أقرّتها الدول الاستعمارية الكبرى من حيث لا تدري شعوبُها.
إصلاح المؤسسات

يبدو أنّ الإصلاح ضروريٌّ بين حينٍ وآخر، بعد الترهّل والإرباك الذي قد يصيب المؤسسات الدينية، لاسيّما حينما تختلط الأوراق بين السياسة والدّين والمجتمع والمادّة. فالسياسة أحيانًا كثيرة، قد تنام وتصحو لتجد نفسَها أسيرةَ هوسِ الدكتاتورية. ومثلُها الدّين، لو سار على نمطية ممارسات شيّخَها الدهرُ، فلن تصحو منها إلاّ لتجد نفسَها في طوق الانسلاخ عن المجتمع والجماعة المتفاعلة مع الأحداث المتسارعة. وهذا ما لا يرغبُه العقلاءُ والمنفتحون، ببقاء المؤسسة الدينية، أسيرةَ الانطواء والانغلاق، كما هي حال أنصار أديانٍ في المنطقة يريدون العودة بالزمن إلى عصور الجهل والانعزالية، في ظاهرة غريبة متناقضة تتمثل باستخدامهم لأحدث التقنيات والوسائل التي يأتي بها غرماؤُهم المتطوّرون، فيما الفكر والتنوير والانفتاح يبقونها عناصرَ مكبوتة ومعتقلة في دهاليز الظلمات.
لقد تعاطى المسيح نفسُه في شؤون السياسة، كما رأينا حينما طرد الباعة من الهيكل واتّهمهم بتحويل بيت أبيه السماوي إلى مغارةِ لصوصٍ، من دون أن يميل إلى هذه الجماعة أو تلك، ومن دون أن يهادنَ أية جهة كانت. فجاء ردّه رادعًا اجتماعيًا، ضدّ كلِّ مَن يريد الإيقاع بين الدّين والمجتمع. وتلك كانت إشارة، لغرس مفهوم جديد للعلاقة بين السلطة المدنية والدّينية، حيث أدركَ العقلاءُ سريعًا صلاحية شعار: "الدّين لله والوطن للجميع"، تمامًا كما أدركَها السياسيون ورجال الدين اليهود آنذاك. لأنها حقًا، مثّلتْ رسالة واضحة ساقها المسيح لأبناء عصره وللأجيال المتلاحقة. ولنا في القديس أوغسطينوس (بين القرنين 4-5م)، خيرَ مثالٍ لشخصية كنسيّة لاهوتية تستند الكنيسة على تعاليمه، حين انتقد السلطة الرومانية، بسبب ما امتازت به من حبٍّ للذات وانعزالية عليها وتفكّك في سلوكها.
لم تعد المؤسسة الكنسية حجرًا مصفوفًا ولا مرمرًا لامعًا يتصدّر باحتُها أو حلاّنًا يغطّي جدرانَها الخارجية. هي أبعد من ذلك وأرفع من كلّ هذا وذاك بكثير. هي تلك النفحة المجرَّدة عن كلّ طمعٍ أو منفعة ضيّقة. هي حركة روح إيمانية تنبض بالأفعال قبل الأقوال وتسعى لتحقيق الملكوت على الأرض. هي انجذاب لقيم هذا الملكوت الذي وعدَ به المسيح. قوّتُها وفاعليتُها لا تأتي منفردةً بالانكفاء على الذات والانعزال عن محيطها الاجتماعيّ والسياسيّ. بل هذه كلُّها تحتّمها ضرورات العصر المتسارعة كالبرق والتسونامي. فهي إن لم تتجنّبْ مآسيَه وتتخذ التدابير اللازمة، سوف لن تصمد. وعليها أن تثبت وقوفَها على الصخرة- المسيح، كي لا تقوى أبوابُ الجحيم عليها. إنَّ صمودها وتفاعلها مع المؤسسات الوطنية والقومية، كفيلٌ بتحقيق سدّ منيعٍ للتيارات الجارفة والمخاطر المحدقة بها. وهي من دون هذا التفاعل والتنسيق والتعاون، لن تستطيع مقاومة مكايد المتربصين المتراكمة، وما اكثرَها! كما أنّ اعتمادَها على دور واضح وفاعلٍ للنخب المثقفة والواعية والحريصة على مصلحتها ومستقبل أبنائها ومصيرهم، سوف يزيد من رصيدها في أوساط المجتمع والدولة.

خاتمة

إنّه لمن الحكمة، أن يعي المؤمنُ والإنسان الاعتيادي دورَه وسطَ مجتمعه. فالسياسة والدّين، عنصران مهمّان في حياة الاثنين كما أسلفنا، ولا ينبغي الخلطُ بينهما في الحقل والموضع الذي ينبغي أن يكون أيٌّ منهما فيه. من هنا، لرجل الدّين أن ينصح رعيتَه بمنح كلٍّ من المفهومين ما يستحقّانه ومتى وكيف يستحقّان. وهذا ينطبق على رجل الدّين أيضا، حين يعي أنّ السياسة والدّين لا بدّ من تلاقيهما لخدمة المجتمع. فالمجتمع الذي يغيب عنه الإيمان وتبتعد السلوكيات الدينية المعتدلة، لن يتمكن من عيش حياة حرّة كريمة أرادها له الخالق.
من هنا، ليس المطلوب إذابة الدّين أو الإيمان الشخصيّ بالسياسة، تمامًا كما لا ينبغي استبدال قدرة الله وأحكامه بقدرات بشرية تسعى للحديث والحكم باسمه. ذلك لأنّ السياسة لا يمكن أن تنقلب دينًا للبشر أو تصبحَ عقيدةً عقيمة للدولة، خارجًا عن الأحكام الدينية وتعاليم السماء. ففي مثل هذه الحالة، "ستصبح السياسة أسطورة، إن لم تكن خرافة". ولهذه الأسباب، جاءت فكرةُ اللاهوت السياسيّ المعاصر، كي يفتح الأذهان لحقيقة الخطأ بخصخصة الدّين ووضعه معلَّقًا على شمّاعة لا فائدة منها. فبهذه الفكرة الناضجة، تصبح السياسة موضع رصدٍ ومراقبة من جانب المؤمن والمتديّن الباحث عن حياة اجتماعية سويّة تنتصر للحق والمساواة وتشجب كلَّ ما هو سيّء ومنافٍ للأخلاق ممّا يظهر في أشكال الكذب والدّهاء التي يمكن أن تشوّه السياسة والإيمان.     


لويس إقليمس
بغداد، في 10 آذار 2015


305
دروسٌ في الحياة لا يفقهُها تجارُ الشعوب

لويس إقليمس

كثيرة هي التجارب والدروس التي تمرّ على البشر والشعوب. لكنَّ مَن يعطي نفسَه فرصةَ التعلم منها والاقتناع بها، سيأخذ المفيدَ فيها من أجل حياة أفضل له ولغيره. إلاّ أن المشاكل التي مرّت بها دول الشرق الاوسط، دعت إلى إعادة قراءة وتحليل الاحداث وفقًا للتداعيات والمتغيرات السياسية والاجتماعية الجديدة التي دفعت سكان هذه المنطقة الى الهجرة تاركين خلفهم ماضيًا وإرثًا حضاريًا زاهرًا، متوجهين نحو المجهول.
ما جرى ويجري هذه الأيام في عدد من دول المنطقة، ومنها بلدنا العراق، وما شهدناه من تزمّت وعنادٍ لدى عدد من قادة وزعماء هذه الدول المطالَبين بالتنحي عن السلطة والزحزحة عن الكراسي التي يعتبرونها ملكهم وملك ذويهم، تستحقُّ وقفةً جادّة. فلقد شاء هؤلاء "المتأبّدون"، أن ينصّبوا أنفسهم "سلاطين" مدى الحياة متسلطين على شعوبهم وخيرات بلدانهم، ولم يتقبلوا فكرة "تداول السلطة سلميًا"، التي من جملة منافعها، فسحُ المجال للغير كي يقدّم عطاءَه ويعرض ما عنده من كفاءة عملية ومزايا إدارية وخبرات في الحياة قد تختلف عمّا لدى هؤلاء الزعماء المتقادمين، الذين بسببهم توقفتْ عجلةُ الإبداع لديهم، وبطلتِ الحكمةُ المطلوبة والكفاءة في التفاعل مع الأحداث وفي تصريف شؤون البلاد.
 فالدلائلُ تشير، بأن معظم هؤلاء الزعماء، بدلاً من أن يقوموا ببناء الإنسان المنهار نفسيًا واجتماعياً وأيضًا تقوية المجتمع المتصدع، قاموا باستخدام كل ما لديهم من أحكام قاسية وقمعية في قيادة شعوبهم طيلة فترة تولّيهم السلطة، وكذا في استنزاف طاقات بلدانِهم بوسائل فساد مستنبطة والثراء على حساب شعوبهم المغلوبة. ولأجل هذا، فقدوا كل مصداقية في التعامل الإنساني مع شعوبهم، ما لأفقدَهُم شرعيّتَهم. إنَّ أهمَّ أسبابِ هذه الإشكالية، هو بسبب طبيعة البيئة الاجتماعية القبلية المتشددة وأيضًا الخلفية الدينية المتعصبة والمتمثلة بقِصَر نظر هؤلاء الزعماء حول الأحداث، ورفض الإقرار بضرورة الاستجابة لمطالبِ الشعب واحتياجاته المتناغمة مع تطور الحياة ورقيّها. ناهيك عن إصابتهم بالعمى بسبب حضور دائم "للأنا" التي استفحلت في سلوكياتهم وما يلحقها، من أشكال طمع وعجرفة وحب دنيا وسلطة. ومثل هذه السلوكيات تتحولُ أحيانًا داءً يُسمّى "جنونَ العظمة". وهذا في حقيقة الحال جزءٌ من تركيبة سادت اليوم، الكثيرَ من البلدان وليس العربية فحسب. فالقادة الطغاةُ و"الطارئون" على السياسة، كلّما تقدموا في السنّ، عوضَ أن تتعمّق لديهم الخبرة والكفاءة والعطاء والحكمة، تراهُم يتشبثون في حبِّ السلطة والتسلط ويوغلون في أنواع الفساد، والأنكى من هذا يصبحون "نرجسيين" لا يحبون ولا يؤمنون ولا يعتقدون إلاّ بشخصهم وبكفاءتهم وحكمتهم فقط. والنتيجة هي أنهم لمْ يتعوّدوا على ثقافة تداول السلطة وانتقالها السلمي لمن هو أكفأ وأنشط، وكأنّ كراسي حكمهم، سُجّلت بأسمائهم، والأكثر من هذا يجيزون لأنفسهم، رغمًا عن الكلّ، بتوريث السلطة لمنْ يأتي من بعدهم من العائلة والعشيرة والمدينة! فهذه قمّة الاستخفاف بالشعوب وبإمكاناتها وحقها في حرية اختيار شخص رشيدٍ وفقَ أساليبَ حضارية تتحكمُ فيها الديمقراطية الحقيقية وليسَ الصورية، وصناديق الاقتراع.

إنتفاضة مشروعة وثورة مدعومة

لقد انتفض المواطن العربي في عدد من دول المنطقة في ثورات، هي منْ حقِّه منذُ زمن، لأنه ببساطة إنسانٌ خُلق حرّا وسيّدًا على صورة الخالق ومثاله، ذكرًا أو أنثى. فالناسُ سواسية لدى الله، وليس من حقّ أي كائنٍ بشريٍّ الانتقاصُ من أخيه وجاره ورفيقِ عمره، ذلك لأنَّهُ مخلوقٌ وفقَ مشروع إلهيٍّ يتيحُ له الحقَّ في حياة حرةٍ كريمة، ينشدُ فيها الاستقرارَ والعدلَ والمساواة والرفاهية في إطار نظام عادلٍ في الحكم والحياة.
ولمّا كانت ثورةُ الشعوب على اللاعدالة والظلم والفساد وكلّ أصناف التعسف في الحكم والحياة، هي منْ حقِ الشعوب المبتلاة بهذا الصنف من القادة والرؤساء المتسلطين، فما على الحكماءِ منَ الشعب والحريصين على احترام القانون والناس إلاّ أن يؤازروا هذه الثورات ويساندوا القائمين بها، لأنهم أصحاب حق.
 
وأمامَ السيل الجارف من المطالب المشروعة للثائرين الوطنيّين، وقفَ الشرفاءُ من بني هذه الشرائح الحكيمة الثائرة وغيرهم من الساندين لها، من شعوبٍ وأصولٍ وطبقاتٍ وفئاتٍ، وقفةَ المؤيّد والساند لحقِّ هؤلاء البشر في العيش بكرامة وأمان في بلدانهم، كي لا يبقوا أو يتحولوا ضحايا لأنواع الاستغلال السياسي والمادي والطائفي والمذهبي. لقد كانَ لتأييدِ مجمل الانتفاضات التي حصلت في عددٍ من دول الشرق الأوسط صداهُ الواسع في فتح أعينِ الناس على حقيقةِ حقوقهِم المشروعة التي ظلّت مفقودة وأسيرةَ تقاليد بالية والتزامات شرعية غير عادلة وقوانين ردعية ووضعية غير مقبولة إنسانيًا ومجتمعيًا ودوليًا. فالظلمُ، لمْ ولا يمكن أن يدوم، طالما أنَّ هناك مَنْ يسعى لتحريرِ القيد المنغلق الذي أسرته به هذه القوانين وهذه التقاليد وغيرُها مِن أصولياتٍ لمْ تعُد تنفعُ مع التطور العلمي ونماء الفكر الإنساني والتنمية المستدامة التي تسعى إليها البشرية جمعاء.

وداعًا للستار الحديدي
كانت وقفةُ العالم مشرّفةً لاسمِ الإنسانية ولاسم الحقِ والعدالة، في تأكيدِ حقِّ الناس بالعيش بحرية وكرامة، أينما كانوا ومتى أرادوا ذلك، لأنهمْ ببساطة، صنيعةُ اللهِ الخالق منذ البدء. كما أن لهذه الشعوب المظلومة، قدمُ التساوي مع باقي شعوب الأرض بالحياة والرفاهية، وبكلِّ ما مِنْ شأنِه أنْ يسهّلَ حياتَهم بلا صعوبة. لقد اختبر العالمُ الغربيّ، وخصوصًا في أوربا مثل هذه الانتفاضات، ومنها كانت ثورات كبيرة استمدّت قوَّتَها منْ عزيمة الشعوب الحريصة على قيمة الإنسان وحقّه في المساواة على أرضه ووطنه، والاحتماء من شرور القريبين والبعيدين. فما حصلَ مِن انتفاضات في أوربا في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، عندما نفضتْ شعوبُها غبارَ سنواتٍ عجافٍ مِن سطوةِ الشيوعية وأساليبِ قادةٍ طغاةٍ استخدموا كلَّ أساليب الترويع والترهيب ضدّ شعوبهم على مدى عقود طويلة. لذا، لَمْ يكنْ أمام تلك الشعوب في نهاية المطاف، وبعدَ أن بلغَ السيلُ الزبى، إلاّ أن يطردوها ويتمكّنوا منها، في أقرب فرصة أُتيحت لهم، ففعلوها بلا تردد، حين أسقطوا الستار الحديدي إلى الأبد. ما حصلَ وما زال يحصلُ اليوم، هو بالتأكيد، تشبّهٌ سليمٌ لما حصل لتلك الشعوب والبلدان التي سبقتنا في التجربة. بل هذا يؤشّر تطوّرًا صحيحًا في بناءِ العلاقات الإنسانية بالاستفادة من تجاربِ الغير. وهو أيضّا، استمرارٌ لما يمكن اعتباره صرخةَ حقٍّ بوجهِ الباطلِ وضدَّ أساليبِ القسوة والعنف غيرِ المبرّرين بينَ البشر. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ. فالشعوبُ عندما تصل حدّا من الوعي المقبول، تتمثّل بتجارب الغير لتأخذ منها ما ينفعها ويساعدُ في بناءِ مستقبلها، وتلفظُ ما تراهُ غير مقبولٍ لديها.
لقد أعجبني تصريحُ فاكلاف هافل، الرئيس التشيكي السابق، وداعية حقوق الإنسان والمدافع عن الشعوب المغلوبة وعن الديمقراطية، حين تحدّث مرّةً إلى صحيفة "سي تي كي" الجيكية، بقولِه: "هناك حدودٌ دنيا لمعايير ثقافية عامة مشتركة بين كل الشعوب في ارتكانها إلى الأخلاق الأساسية وإلى الأسسِ في تطبيق السياسات العامة للحكومات. كما أنَّ ما يحصلُ اليوم في المنطقة العربية، لا يختلف عمّا شهدته بعض دول أوربا، ولاسيّما الشرقية منها حين كسرت "طوق الستار الحديدي" والتحقت بركب الديمقراطية الذي تخلّفت عنه".
إنّ الحديثَ عن "ستار حديدي" حطّمته شعوبُ أوربا بصحوتها الإنسانية مع ختام القرن المنصرم، وضَعَ بلدانَها وقادتَها على مسارٍ إنسانيٍّ صحيح. هكذا أيضًا بدأت تسعى إليه شعوبُ منطقتِنا التي اكتوت بنيران حروب أزلية وابتلت بمسؤولين لا تهمّهم مصالحُ شعوبهم ورفاهيتُها. فقد نسي هؤلاء، أو تناسوا، أنّ ما له بداية، لا بدّ أن تكونَ له نهايةٌ في الزمن والمكان. هي صرخةُ الحق، يطلقها روّادُ الإنسانية ومدافعو حقوق الإنسان في كل مكان وبلد ومجتمع. هي صرخةٌ مدويّة أيضّا تدعو إلى التخلص من كل ظلم وفساد وتسلط. فالشعوب أفاقت واستفاقتْ على صوتِ حقٍّ بلا حدود، وانتفضَ الناسُ على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم ومكوّناتهم، ضدّ كلِّ مَن كانَ سببًا في أن تكونَ بلدانُهم متخلّفةً، ذلكَ لأنَّ الحكمَ الصحيح مبنيٌّ على الحكمة والتروي والشفافية والمصداقية. لهذا فالثورة "الحقيقية" هي التي تحققُ العدلَ وتفرضُ سلطةَ قانونٍ مدنيّ عادلٍ يسايرُ التطورَ البشري ويراعي شرعةَ وقوانين حقوق الإنسان ولا يحصرُها في زاوية تداعياتٍ شرعيةٍ ضعيفة الحجة.
 
تركة ثقيلة للحربين العالميتين
إذا كانتْ مقارعةُ الأنظمة الفاسدة في بلدان الشرق الأوسط، قد دعت إليها قيادات متنورة وحكيمة في المجتمعات، فهذهِ لا ينبغي وأدُها والتشويشُ عليها أو تحجميها أو تجاهلُها. بل هي تتطلب من كل الشرفاء دعمًا وتأييدًا وتأليبًا للرأي العام من أجل تنوير المنطقة ووضعِها في الإطار الصحيح للعلاقات الإنسانية مع شعوبٍ سبقتنا في هذه المحنة، هي الأخرى، كانت أيضًا ضحيةَ حروبٍ عالمية فتكتْ بالملايين من أبنائها في القرن الماضي. ومِن هذه الشعوب، علينا تعلّم الدروس لحياة أفضل. فقيمُ الديمقراطية الحقيقية، لابدّ أن ننتصرَ لها لتنتصرَ بنا، مهما كان الثمن. فالأوطانُ لا تُبنى إلاّ على تضحيات أبنائها وتصرّفهم الصحيح والناضج إزاء الأحداث، وبشيء لا يخلو من الرويّة والصبر والثبات والتواصل وديمومة النضال ضد التخلّف والعنف والظلم واللاعدالة والطائفية في مناطقِنا، وفي الحثِّ على بناء قيمٍ إنسانية صحيحة. إنَّ الأحداثَ التي عصفتْ بأوربا نهايةَ القرن الماضي وانتقلتْ عدواها، إلى المشرق، هي نتيجةُ تراكماتِ الحرب العالمية الثانية وما قبلها، وما خلّفتهُ هذه وتلك منْ تركةٍ ثقيلة. وما يزالُ العالمُ كلّه يعاني مِنْ تراكماتها وآثارها المدمّرتين حتى يومنا. ولا يُستبعدُ أن تقومَ أحداثٌ مصيريّة تشهدها المنطقة برمّتها، ومعها ربّما العالم كلّه، بسبب قراءتنا لأحداث وتطوّرات لاحقة بسبب ما يجري اليوم في المنطقة، وفي بلدنا بالذات، بعد التدخل السافر للقطب الواحد وأتباعِه دول الغرب في الشأن العراقيّ واستقدامِهم لأدوات التطرّف لتدمير إرث العراق وإنسانِه وتفتيت نسيجِه ونهب ثرواتِه بأساليب وطرقٍ شتّى. فالمخطَّطُ المرسومُ الذي طُبخ على نارٍ هادئة لسنواتٍ، يجري تنفيذُهُ هذه الأيام، غصبًا عنّا جميعًا، وتشتركُ فيه دولٌ وزعاماتٌ وسياسيون في الخارج والداخل، من حيثُ يدرون أو لا يدرون. فما كُتبَ وقُرّرَ، لا بدّ أن يتمّ.   
والسؤال هو، ما هي الخطوة القادمة وفي أي اتجاه نسيرُ وتسيرُ المنطقة؟ وهل ما يحصلُ آتٍ بنذير شؤمٍ أو بكارثة وراء هذه الأحداث كلّها، أمْ سيلجأ الجميع إلى العقل والحوار واستخلاص العبر والعودة إلى رشدِ الولاء للوطن، وليسَ لغيرِهِ؟

الحذر واجب

إذن، ما تشهدُه المنطقة اليوم، مِن أحداثِ عنفٍ، أدتْ إلى اختلال توازنٍ متوقعٍ من حيث خروج القطار عن سكته التي جاء من أجلها. وهنا ينبغي مراقبةُ الأمور والأحداث بعناية. فلا تخرجُ الانتفاضات والاعتراضات والمطالباتُ عن غاياتها المشروعة؛ بل ينبغي أنْ يسودَ القانونُ ويتمتعَ المواطنُ بحريته في العيش كما تحتمُه إنسانيتُه وفقَ أعرافٍ دولية وديمقراطية متمدّنة ينبغي أن يكفلَها دستورُ عادلٌ حرٌّ ومتحضّرٌ لا يقصي ولا يهمّشُ أحدًا.   
 لذا، فهذا الخوف مشروع، في إمكانية تسلّل عناصرَ تحملُ أفكارًا متطرفة ومتشدّدة أصولية متسيّدة على الساحة العربية عامة في هذه الأيام الصعبة، فتعملُ على فرض إرادتِها وقوانينِها وطرقِها وشرائعِها بأساليب ملتوية عديدة، على الجماهير المغلوبةِ على أمرها، التي قد تتراجع في غفلة منها، وفي ضوء التخويف الديني والترهيب الشرعي والإفتاء الجارف، لتسلبَ منها هذه الصحوة وتسرقَ ثورتها، فتضيعُ الجهود سدًى، وكما يقول المثل: "كأنك يا زيد ما غزيت". وهذا ما نخشاهُ في ضوء الأحداث المأساوية المتسارعة على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية على السواء.

حصة العراق

لم يكن بلدُنا يومًا، خارجَ حساباتِ هذه الخارطة أو خارج هذه التراكمات. فقد تآكلَ عراقنا ومعه قيمُه المجتمعية والوطنية بفعلِ فاعلٍ، فضاعَ فيه الشعب بين فساد واستبداد الحكام السابقين واللاحقين ووسط نواياهم القومية والطائفية والذاتية والمذهبية وبين نوايا الغازي الجديد. لكنَّ عيبَ شعبنا أنه متقلّب المزاج، بشخصيتين مزدوجتين، على حسب الباحث الجليل الراحل، علي الوردي. فهو، سريعُ الغضب والحنين، كثيرُ الفوران والتسامح مجاملةً، في آنٍ واحد. وتلكم، معادلة غير سهلة العلاج، ما لمْ تسلم النوايا ويُزالُ عنه كشحُ الجهلِ وأصنافِ الممارسات المتخلّفة والعشائرية البالية التي لا تتوافق مع أهداف المشروع الوطني الحقيقي الذي ينبغي أن يسعى الجميع إلى بنائِه التنمويّ الصادق، بعد الذي حصل.
إنني أعتقدُ، أنه لا بدّ أنْ تشملَ صحوةُ الشعب في العراق أيضًا، شيئّا كثيرًا من الحكمة والرويّة والشجاعة في آنٍ معًا من جميع الأطراف، من أجل الحدّ من مثل هذه الممارسات غير الديمقراطية، وغيرها كثيرةٌ، من التي لا تقدّمُ المجتمعَ، بقدر ما تعملُ على تباطئه وتخلّفه عن الركب الحضاري الذي يستلزمُ تحقيقَ أفكارٍ جديدة متنورة تبني المجتمع والإنسان. كما تتطلبُ الحالة، البحثَ عن وسائلَ آنيّة، أكثرَ رصانةً وجدّية في التعامل مع هذه المطالبات المشروعة والبدء فورًا بتطبيقها بجدّ ومحاسبةِ الجهات المتلكئة والفاسدة وسارقةِ قوتِ الشعب.

وقفة إجلال لصوت الحق
خلاصةُ الكلام، نقولُ للشعوب المناضلة من أجل استعادة حقوقها في العيش الرغيد الكريم، أننا نكنّ لها كلَّ احترام وتقدير، وهي تستحقُ الثناءَ وتلقّي الدعم من كل حرٍّ شريف. فطريقُ النجاة من كلِّ ظلم وتعسُّف واضطهادٍ، ليسَ سهلاً، بل هي طريق محفوفة بالمخاطر، ولكنها سبيلٌ لابدّ منه من أجل تحقيق الذات ونيل الحريّة والديمقراطية الصحيحة وغير المغشوشة، التي يتظاهر بالمنّ بها، قادةٌ متاجرون بشعوبهم. إنَّ هؤلاء لا يفقهونَ معنى الحياة الإنسانية الحرة ولا سبل العيش تحت كنف الحرية الغريزية التي وُلد عليها جميعُ البشر. لذا، فإنّ تقاعسَهم واردٌ، في السعي للارتقاء بشعوبهم وأوطانهم على حساب المصالح الذاتية الضيقة. أمّا سبيلُ الديمقراطية الصحيح، فهو الضمانةُ الوحيدةُ لاستقرار البلدان وتطورِ شعوبِها وتنميتِها المستدامة بما يخدمُ الإنسان، وهو الغايةُ في هذا النضال. وعلى مَنْ يتشبثُ بسلطةٍ نالَها في غفلة من الزمن أو حتى بحقٍ مكفولٍ ظاهريًّا، عليه أن يتذكر، أنها "لو دامتْ لغيرِه، ما آلتْ إليه". فالذي صنعَ من هذا الشخص مسؤولاً أو حاكمًا أو زعيمًا أو رئيسَ دولة أو خليفةً، قادرٌ أنْ يخلقَ غيرَه أحسنَ وأفضلَ منه.
 وهكذا الحياةُ، تعطي دروسًا، كي يعتبرَ بها البشرُ ويتمعَّنوا في معانيها وينقلوا تجاربهم لغيرهم، لا أن يتعالوا على شعوبهم ويستخفوا بعقولهم ويستخدمونهم أدواتٍ مسخَّرة لمآربهم وحاجاتهم ونزواتهم. فتجّارُ الشعوبِ، لا ولنْ يتمكنوا من تعلّم دروس الحياة الكثيرة بهذه الأفكار الهدّامة.

لويس إقليمس
بغداد، في 28 شباط 2015



306
تحديات الهوية المسيحية:
 بين النشوة في الآشورية والنزعة إلى الكلدانية والعثرة في السريانية
لويس إقليمس
-الجزء الثاني-
خلافاتٌ تساهم في دوّامة مأساة الشعب المسيحيّ
في مأساة الشعب العراقي، المبتلى اليوم كغيرِه بالتنظيم التكفيري الداعشيّ، وبسبب بطء تقويم فساد الإدارة وعدم تخلّي الساسة عن مصالحِهم الفئوية الضيقة وطموحاتِهم الحزبية الخاصة، ونظرًا للنتائج السلبية للمحاصصة الطائفية المنبوذة، لم تخلو صفوفُ المكوّن المسيحيّ من جهاتٍ ادّعت الحرصَ والتفاني والتضحية والخدمة من أجلِه ولصالحِه. وكلَّ يومٍ، يخرجُ البعض من الكتاب أو أصحاب المداخلات الركيكة بتسريبات وتصريحات وكتابات، موقعة بأسماء معروفة أو مستعارة، تصبُّ بعضها في خانة التعصّب والانكفائية وغيرُها مجاملة على حساب الوطن الواحد من دون حسابٍ دقيقٍ لنتائج مثل هذه السلوكيات الناشزة. وهذه تتراوح بين النشوة والنزعة والعثرة في تحديد سقف الهوية المسيحية لهذه الجماعة او تلك، على حساب تثبيتِ حقوق أتباعِها وأصالتِهم وبقائِهم ضمن كنف الوطن الأمّ، متناسين وجودَ غيرهم من أتباع كنائس أخرى يتمّ التغافل عنها وتجاهلُها، إنْ عمدًا أو تغافلاً أو جهلاً. والغريب أنّ مَن يحشرُ نفسَه حتى العمق في مثل هذه السجالات العميقة والسقيمة أحيانًا، همْ في الأغلب من الإخوة الذين هجروا الوطن والأهل والقرية والأصدقاء إلى بلدان المجاهيل الواسعة. لكنَّ الحنين يقودُهم دومًا للوطن ولحكايات الأمس وحفلات القرية (الشيرا) ونواقيس الكنائس وما إليها من ذكريات تبكي لها القلوب وترتخي لها النفوس لأنها أصبحت من الماضي، ولن تعود! وعلى هؤلاء الإخوة، أن يتيقنوا أنَّ ترتيبات الحياة خارج أرض الوطن، ليست كالتي عاشها ويعيشُها الباقون في كنف أمّ حنون وراعٍ غيور وعينٍ ساهرة، بالرغم من تخبطات الساسة وضئالة حرصهم على الوطن والمواطن.
مرةً أخرى، ففي الشأن المسيحيّ، الدينيّ منه و"القوميّ" حصرًا، تتبنّى جهات حزبية "مسيحية" وأقلامٌ "قوميّة"، خطًّا مطّردًا للتذكير بالأمّة "الآشورية" والحضارة "الآشورية" الساقطة عن الزمن والمكان منذ آلاف السنين. وهذا النفر المعاند يصرُّ إلحاحًا ويلحُّ إصرارًا على انتماء جميع المسيحيين إلى الجذر الآشوريّ، بالرغم من إثبات الباحثين من انحدار عموم أبناء المنطقة من جميع أسلاف الحضارات البائدة، ومنها أيضًا انحدارُ بعضِهم من أصولٍ عربية ومن قبائل عريقة مثل تغلب وكندة وطيّ وما سواها، كما كان يرى مثلث الرحمة مار إغناطيوس زكا عيواص، بطريرك السريان الأرثوذكس في العراق والعالم، وغيرُه ممّن عاصروه وشاركوه ذات الرأي، وبعضٌ منهم مازالوا على قيد الحياة. وبالرغم، من عدم اتفاقي تمامًا من التعميم الذي كان صدرَ عن البطريرك زكّا عيواص وعن غيرِه بهذا الشأن، بسبب مغالطةٍ بشأن نَسَب جميع المسيحيين في العراق وسوريا ولبنان وما في جوارها إلى الأصل العربي في لحظةٍ طارئة، كما نشرته جريدة النهار اللبنانية في 12 حزيران 2005 عندما قال: "فنحن شعب عربي واحد، دمُ العروبة يجري في عروقنا، فلنوطّد الوحدة الوطنية في الوطن العربي كله، لنرفع راية العروبة عالياً". فمثل هذا التصريح وبهذا الجزم، لم يكن موفقًا واحتاج إلى تفنيد ومرا جعة بسبب ظرف الحدث الذي خرج فيه مثل هذا الكلام الخطير آنذاك. وكانت الفرصة أنْ استعاد البطريرك الراحل زكّا، ذاكرةَ التاريخ وتنبّه لتلك المغالطة في رأي لاحق في مؤتمر التراث السرياني التاسع، الذي أقيم في مكتبة الأسد بدمشق من 13-15نيسان 2004، برعاية الرهبنة المارونية اللبنانية، وبحضور نخبة من الباحثين والمهتمين بالتراث والثقافة السريانية، من مختلف أنحاء العالم، عندما همّ بالقول:"نحن السريان نفتخر بأننا أحفاد أولئك الذين وهبوا العالم الأبجدية وشقوا الطريق إلى الحضارات والعلوم". وبتأكيدِه أيضًا ضمن البيان الصادر بخصوص شؤون الناطقين بالسريانية في العراق في 1973: "إن الناطقين بالسريانية الآشوريين، من آثوريين وكلدان وسريان يمثلون القومية التي انحدرت من الآشوريين القدامى وذلك من نواحي الأصل واللغة والتاريخ والتراث الحضاري."
مثل هذين التصريحين الأخيرين الموفَّقين بعض الشيء والموضوعيّين من قائدٍ دينيّ وتاريخي وباحث مثابر لهُ وزنُه على الساحة الدينية والثقافية وفي محفل ثقافيّ وفكريّ، بالرغم من خلطِه المسمّيات إن تجميلاً أو مجاملةً، إلاّ أنّه كان كافيًا لتأكيد الهوية الحقيقية "السريانية" لجميع المسيحيين في المنطقة، وليسَ للآثوريين وحدهم الذين يدّعون الانتسابَ للآشورية هويةً حديثةً فحسب. فإلى جانب هذ الكيانات الثلاث، هناك غيرُهم ممّن يعتقدون بحقّهم أن يكونوا جزءًا من المنظومة المسيحية الوطنية ومن المكوّن المسيحي الوطنيّ، والتي لا يختلف عليها المثقفون الواعون والباحثون الثقات وأصحاب النظرة الرفيعة في قراءة التاريخ.
بالضدّ، هناك مِن الكتاب المسيحيين، مَن يتردّد ويتذبذب في تحديد هذه الهوية أو تلك، كما هو الحال مع واحدٍ من الكتاب الآثوريين المرموقين سليمان يوسف السوري، إذ يقول في إحدى مقالاتِه: "فقد توالت على السريان (الآشوريين)، منذ سقوط آخر كيانهم السياسي 612 ق.م في بلاد ما بين النهرين، حكومات و شعوب وجيوش عديدة لها لغاتها وثقافتها المختلفة، غزت بلاد السريان (الآشوريين) واستعمرتها لقرون طويلة، وهذا يفسر حالة التنوع الثقافي واللغوي والديني التي نجدها اليوم لدى (السريان)، حيث توجد مجموعات سريانية/كلدانية/آشورية، تتحدث العربية وأخرى تتحدث التركية ومجموعات تتحدث الفارسية وأخرى تتحدث الكردية، وهكذا بحسب توزعها الديمغرافي، مع احتفاظ أغلبية الآشوريين (سريان/كلدان) بلغتهم القومية الأم الواحدة وهي (السريانية)، كما هناك الكثير من السريان (الآشوريين) اعتنقوا الاسلام، إبان (الحكم الاسلامي) للمنطقة ذابوا وانصهروا كلياً في الشعوب والقوميات الإسلامية". مثل هذا الكلام غير الدقيق والقافز من مسمّى لآخر، سواءً بعفوية أو بعدم إلمام أو بعدم تركيز، لا يساهمُ في تحديد الرؤية ومعرفة حقائق التاريخ والجغرافيا.
فيما آخرون من أترابِه، يوغلون في نسب أصل جميع المسيحيين إلى الآشورية، وهم يقصدون أتباع الكنيسة المشرقية القديمة أي المعروفين بالآثوريين حصرًا، ويحاولون فرضَها على غيرِهم وإيهامِ محدّثيهِم من الغرب وأبناء بلدان الاغتراب بخاصّة، بأنّ كلَّ شأنٍ مسيحيٍّ قائمٍ حاليًا، يعودُ في أصلِه إلى الآشورية وإلى الآشوريين القدامى، وهم مَن يتولون تمثيلَها اليوم. ففي أية مناسبة، هُؤلاء يبرزون ويثيرون أمام المحافل الدولية ما يُسمّى بالقضية الآشورية، مختزلين الهوية المسيحية والوجود المسيحي بلفظة الآشورية التي يريددون فرضَها هويةً قومية على غيرِهم من أتباع المسيحية. ومثلُ هذا الكلامٌ المثير للجدلٍ لا يستقيمٍ مع حرية الرأي والتعبير والفحص والتدقيق. فهناك مَن لا يشكّلُ فرعًا أو جزءًا من هذا التعميم غير الدقيق. فكلُّ طرفٍ يميل بطبعِه، في استشهادِه بحقائق وأدلّة تثبت رأيَه وتوجّهَهُ وأجندتَه.
وعودة سريعة لمراجعة ما أوردَه العديد من جهابذة السريان بشأن اللغة والتسمية، يمكن تصفّحُ ما أوردَه عبديشوع الصوباوي مثلاً، في مقدّمة مؤلّفه المشهور "فردوس عدن"، بشأن ذكر اللغة السريانية. ومثلُه ما جاءَ في قاموس المطران توما أودو الذي يشير في عنوانِه إلى اللغة السريانية هو الآخر، وكذلك كتاب إقليمس يوسف داود في كتابه " اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية "، وآخرون يشيرون إلى ذات التسمية في توصيف لغة مسيحيي الشرق، وليسَ اللغة ألآشورية أو الكلدانية التي يحاول البعض لصقَها من غير استنادٍ إلى أصول انتساب الشعوب تاريخيًا وحضاريًا إلى لغة النطق والحديث والكتابة والشعر. وإنّه لَمِنَ النتيجة المقنعة أن يتسمّى الشعب المسيحي المشرقيّ "سريانًا" أيضًا. حتى المحدَّثون منّا، لولا النعرة الطائفية والتعصّب العقائديّ، لاختاروا الهوية "السريانية" وما في معناها "سورايي" مقترَحًا وسطيًا، تلافيًا لدوام الانقسام في الكلمة وفقدان سرّ الخطاب الموحّد في المطالب والعيش والمواطنية.
لا نريد أن تصل الحالة إلى طريق مسدود من فقدان الأمل والرجاء، كي لا نتجاوز عتبةَ فقدان الإيمان أيضًا، بسبب سجالات عقيمة ونقاشات غير مجدية، ماتزالُ جارية ومثارة بين الفينة والفينة، في مَن هو الأحقّ أو الأصل أو الأصحّ ؟؟؟ فبفقدان كلّ هذه، حينئذٍ لا الهوية القومية تنجع، ولا التسمية الفلانية تشفع، ولا الترنيمة الحزبية لهذه الجهة تنفع. فهذه جميعًا، لن تكون بعدُ في مأمن، ولا المسيحية سيبقى لها من أصولٍ وحضورٍ مشرقيّ تُطربُ وتطوّر وتخمِّر. فالملحُ ماضٍ للفساد بفعل التقادم وفقدان الغيرة والّلهاث وراء فتات الأسياد. كما أنَّ الخميرة ستفقدُ مفعولَها وتأثيرَها، هذا إنْ لمْ تكن قد فقدته هي الأخرى فعلاً، بسبب تراكم الأخطاء وتناحر تيارات التبعية والولاء الفارغة لهذه أو تلك من الجهات القاهرة.
كما أنّ تسليم الأمر للغير المقتدر، كواقع حالٍ مفروضٍ، بدل البحث عن مخرَج وطنيّ أمينٍ مستقلّ لحالة الضعف والفوضى والاختلاف في التصوّر والرؤية والحكمة في التصرّف، سينقلبُ وباءً على الجميع، كما هي حالُنا اليوم. لذا، لا خيارَ لدينا سوى بوحدة الصفّ واتفاق الرأي حول أولوية "الهوية المسيحية" في الفترة القائمة من أجل فرض المطالب أمام الحكومة المركزية كما فعلَ غيرُنا ونالوا مبتغاهُم.

ألنشوة في الآشورية والنزعة إلى الكلدانية من المعوّقات
كلُّ الشعوب لها ماضٍ وحاضر وسيكون لها مستقبل، قد يختلف عن الحاضر والماضي بالتأكيد. فقهرُ الزمن ومتاعبُه وأسرارُه، لا أحدَ يعلمها غيبًا ولا نبوءةً. فما من شعبٍ صافٍ خالصٍ في أصلِه وفي جذورِه ورواسبِه، لأنّ دائرة الزمن لا تترك حجرًا على حجر، ولا بيتًا على بيتٍ، ولا حضارةً على حضارة ولا ثقافةً على ثقافة من دون تغيير وتفعيلٍ وتحويلٍ. 
أليوم، المنتشون من دعاة الآشورية، لو ركنوا إلى العقل والحكمة والرويّة، ومعهم متعصّبو الكلدانية بسبب السجالات المتواصلة فيما بينهم، وخاصة في هذه الأوقات الحرجة من تاريخ شعبٍ مسيحي مهدَّدٍ بكاملِ هويتِه ووجودِهِ في أكثر مناطق العراق كثافةً وتواجدًا كنسيًا، وأخصّ في هذا مدينة الموصل وسهلِها المثخَن بالأوجاع، لأيقنوا أنَّ بذور الحقد بين الطرفين والمشاحنات القائمة على قدمٍ وساق ٍعبر وسائل التواصل الاجتماعيّ والردود المحمومة على المواقع الالكترونية، لمْ تعدْ تُؤكِلُ خبزًا أمام التيار الجارف الذي يستهدف اليومَ مصيرَ وحياة بني شعبِهم والهوية "القومية" التي يتعصّبون لها، ومعها الدينية معًا. فأين الحرصُ في كلّ هذا وذاك؟ وأينَ الثقافة في هذا وذاك؟ وأينَ المحبة المسيحية في تخوين الآخر والانتقاص من وجودِه ومحاولة محوِه وطمس كيانِهِ بدون وجه حق؟ وهل نحن في وضعٍ يعينُنا على تحمّل أعباء وأثقالٍ ومتاعب إضافية لما نحنُ عليه اليوم؟ فالطرفان يتجادلان من دون إيلاء اهتمام لكيانٍ كنسيّ شرقيّ ثالث له وجودُه، وأعني به "السريان"، الذين يشاركونهم طقوسًا سريانية مشتركة في الكثير منها، ولغةً واحدة بلهجة غربية هي اللغة السريانية. أليسَ في هذه المفردة من التغييب القسريّ والتغافل المتعمَّد انتقاصًا من الآخر المتشارك في الدّين والطقوس والمصير والظروف؟
إنّ بعض هذه الدعوات المتعصّبة المفتقرة إلى الكياسة وضبط النفس وإلى الحقيقة التاريخية والوضعية في الكثير منها، تأتي في أغلبِها من القابعين في ديار العمّ سام وبلدان المجاهل المتعددة، كما أوردنا. فهؤلاء لا شغلَ شاغلٍ لهم، سوى التغنّي بماضي الأمس وتذكر سهرات القرى وصلوات الكنائس ومجرسات النواقيس الأثرية الجميلة، هذا إن كانت بقيت صامدة إلى اليوم، والمقاهي القديمة وروّادها وما كان يعتمرُها من قيلٍ وقالٍ ونوادر، ومعها زيارات الأهل وتجمّعاتهم في مناسبة ودون مناسبة. وهذا حقٌّ للجميع أن يستذكرَ ويتذكّر ويجدّ في الحنين إلى ماضيه الذي، للأسف، لن يعود ولن يتكرّرَ لغيرِه. لكنَّ الأهمّ في هذا وذاك، تضافرُ الجهود لخلق كيانٍ مسيحيٍّ قويّ مستقلّ الرأي والفكر، ناضج وقادرٍ وجديرٍ بالتحدّي للمصاعب الوجودية التي تهدّد بقاءَه وديمومتَه واستمرارَ تمسّك مَن آثرَ البقاء في أرض الوطن وعدمَ تركِ أرضِه وتراثِه وكنيستِه وبني جلدتِه! هذا هو التحدّي الأكبر وليسَ الإملاء من فوق أبراجٍ عاجية والتنظير في القومية التي لم تعد بضاعة رائجة!!!
ونحن نرى أنْ لا باس بالإقرار بانحدار نفرٍ من المسيحيين في العراق وجزءٍ من المنطقة من جذورٍ آشورية أو غيرها "قوميًا"، دون أن تعني اللفظة ما يريد أتباعُ كنيسة المشرق الآثورية نسبَها وإلصاقَها بهم حصرًا كمكوّن قوميّ حصريّ وفرضَها على غيرِهم، من الكلدان والسريان على وجه التحديد لا الحصر، بعد يقظتِهم السياسية المبكرة قبلَ غيرِهم للأسباب التي نعرفُها. فالشرفُ للجميع أن تكون جذورُنا عريقة وعميقة في قدم التاريخ في السومرية والأكدية والبابلية والكلدانية (الكلدية) والآشورية والآرامية والسريانية وما في اصطفافِها. فمَن لا جذورَ له، لا حضارةَ له، ومِن ثمَّ لا تاريخًا ولا عمقًا فكريًا له، شريطةَ ألاّ يشطحَ أصحابُ هذا الرأي نحو مزالق التعصّب والتخوين ورفض الرأي المقابل وخيارَه المحترَم، أيًا كان. 
فمن منّا مثلاً، يرفض اليوم في ظلّ هذه الظروف القاهرة، إقامة إقليمٍ أو محافظة باسم إقليم أو محافظة آشور برعاية دولية وحرصٍ وطنيٍّ صادق، ترتبط بالحكومة المركزية. فمثل هذا التشكيل، لو تحقّق على أساسٍ جغرافيّ، وليسَ دينيّ فحسب، لجمعَ أبناءَ سهل نينوى المغتصَب حاليًا، والمتنازَع عليه بين حكومتي المركز والإقليم طمعًا بطيبِة ساكني أهلِه وكفاءة أبنائِهم وحرصهم وولائِهم للوطن والحكّام العادلين دون سواهم. مِن هنا، يكون الحرصُ على وحدة الوطن وإكمال سيادتِه ليحتضن الجميع دون تمييز وخارجَ مزالق المحاصصة الطائفية. وهذا يتطلبُ من أبناء المكوّن المسيحي بالتالي، رصَّ الصفوف وجمعَ خطاب المختلفين حول شكل وتسمية كيانهم الموحد واتخاذ الأقرب فيها، حضارةً وتاريخًا وهويةً، بحيث تجمعُ الجميعَ من دون تحسّس واستئثار واستصغار.   
         وإنّي أرى من وجهة نظري أيضًا، أنّ الهوية "السريانية"، التي عُرف بها مسيحيو الشرق دوليًا كتسمية شاملة، هي الأخرى، الأقرب من هذه أو تلك، من حيث وجود عنصرين هامين: أولُهما انتساب المسيحيين إلى اللغة "السريانية" التي تقرّ وتقبل بها جميعُ الأطراف المعنية لغةً لمسيحيّي كنيسة المشرق ودويلات المنطقة لفترات طويلة نسبيًا. والثاني لكون تسمية "السريان" جاءت بالترافق مع تحوّل الشعوب الآرامية الوثنية القديمة إلى المسيحية، واقتران الهوية المسيحية مذ ذاك ب"السريان" ومنها اشتقاق "سورايي" الذي تعارفنا عليه حين الدلالة على ديانتنا ولغتنا معًا لغاية الساعة. إضافةً إلى عناصر أخرى حديثة، ومنها سياسية وتنظيمية وتاريخية، أصبحت مألوفة بسبب ورودها في مؤلفات جهابذة العلم وتداولِها في أروقة دول الخلافة الإسلامية المتعاقبة بعد قدوم الدّين الجديد واشتهار السريان فيها بجهودِهم المتميّزة في الدواوين والمؤسسات، بسبب علومهم وتراجمهم ومؤلفاتِهم ونقلِهم إياها من كتبِ شعوبٍ أخرى في سائر مجالات الحياة آنذاك دون استثناء! فكلّ الإشارات التاريخية مذ ذاك تورد اسمَ السريان وجهود السريان والمترجمين السريان والأطباء السريان وما إلى ذلك في شؤون الدّين والدولة.
لذا، فالتخبّط في طرح الحقائق والتسميات، اقلُّ ما يمكن القول فيه، أنّه ضعيف السنَد في شأن "الهوية القومية" خارجًا عن التسمية السريانية المألوفة لغةً، والتي بسببها وبسبب السجالات بشأنها، قد أضعفت من فاعلية "الهوية المسيحية" طيلة السنوات المنصرمة، وزادت من مأساة المسيحيين في المنطقة بسبب عدم إجماعِهم على كلمة واحدة وخطابٍ واحد. ففي الوقت الذي يتحدّث فيه كثيرون مثلاً، بكون "السريانية" لغةَ مسيحييّ الشرق، يغالطُ آخرون بكون الآشورية أو الكلدانية تسمية قومية لهذا الشعب، في سجالٍ محمومٍ بين الغريمين القوميّين، مستبعدَين الطرف الثالث من المعادلة، أي السريان الذين لا علاقةَ لطقوسِهم الكنسية السريانية بهذه التسمية والتي بسببها يحصل التحسُّس الذي لا مبرّرَ له البتّة لدى البعض. 
نحن نعلم، أنَّ الشعوبَ تُسمّى نسبةً إلى اللغة التي تتحدّثُ وتكتبُ بها شعوبُها، كما أوردنا في فقرة سابقة. وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان. فلماذا التحسّس من لفظة السريان ووضع العثرات أمام تسمية المسيحيين بالسريان مثلاً، طالما أنّ الجميع يعتدّ ويعترف باللغة ذاتِها التي مازال البعض يتحدثون ويمارسون طقوسَهم بها، شرقيةً اللهجة كانت أم غربية؟ وإنّي لأُعجبُ بسعة النشوة التي تعتمرُ اليومَ قلوبَ ونفوسَ الآثوريين حينَ المناداة بالتسمية الآشورية مثلاً، فيما الكلدان مصرّون من جانبهم إلى النزعة للكلدانية التي لا أساسَ لها لغةً وهويةً في التاريخ بحسب الثقات، إنما وردت التسمية من باب التمييز عن شقّهم الأول من الكنيسة النسطورية الأولى مذ زمن التحوّل إلى الكثلكة.
وفي هذا الشقّ، من حقّ أتباع كنائس السريان أن يطرحوا مثل هذا السؤال أيضًا. وهنا تُسعفني الذاكرة، لتعود بي إلى سنة 2005، حينما قصد وفدٌ من المجلس القومي الكلداني- الاشوري- السرياني، الذي كان بعدُ فاعلاً آنذاك لكونِه الممثل الشرعيّ للطوائف المسيحية الثلاث باتفاق أتباع كنائسِه، وكنتُ أنا ضمنَه، للسلام على المطران الكلدانيّ سرهد جمّو، مثير الجدل. فقد شُدهنا جميعًا برفضِه سماعَ أيّة إشارة إلى ما أسماه حرفيًا: "س ر ي ا ن"، وأنّه لا يوافق بغير الكلدانية تسميةً قومية لمسيحيي العراق، وقد يقبل مرغمًا بالتسمية المركبة المطروحة آنذاك "كلدو- آثور". هذا الكلام، إن تذكرَّهُ زملائي السابقون، إنْ دلَّ على شيء، إنّما يدلُّ على روح المكابرة وإلغاء الآخر والاستصغار من جماعات لهم علماؤُهم وجهابذتُهم ومثقفوهم المساهمون في مسيرة كنيسة العراق والشرق، حالُهم حالُ غيرهم من أتباع الكنيستين المشرقيتين "النسطوريتين" أصلاً، قبل انشقاق الكنيسة الكلدانية وانتمائِها إلى الكثلكة على عهد بطريركها يوحنا سولاقا في 1553، كما يعلم الجميع.
يمكن أن نخلص إلى القول، باستمرار بقاء الإشكاليّة في "الهوية القومية" للمسيحيين بسبب هواجس وتداعيات سابقة بين المختلفين على طبيعتِها، إلى ما شاء القدر، ولن تكون لها حلولٌ سحرية، في ظلّ شذوذ نفرٍ من المغالطين وإثارتهم المتواصلة لخلافات ساذجة وناشئة عن جهلٍ بالتاريخ والجغرافية، وإيغالاً من بعضِهم في العناد أيّا هو الأصل والأجدر بحمل تسمية الجماعة. والأجدر أن يحتفظ كلٌ بشكلِه القائم وصوتِه وصورتِه أمامَ الكاميرا، خفيةً كانت أم ظاهرة، لحينِ ترتيب البيت الوطنيّ العراقيّ، وعودة المستلَب من المناطق إلى الوطن الأمّ برعاية حكومة المركز عندما تعودُ هذه إلى رشدِها وقوّتِها واحتضانِها لجميع مواطنيها ومعاملتِهم بالتساوي في الحقوق والواجبات دون تمييز. وهذا لن يكون له موضعٌ إلاّ عندما ينكرُ الساسة ذواتِهم، ومنهم مروّجو القومية ضيّقو الأفق ومدّعو السياسة من المكوّن المسيحي أيضًا، من الذين لم يتفقوا ولن يتفقوا بسبب تضارب المصالح والانتماء والتبعية والولاء. وفي هذه المفردة، لا تخلي الأحزاب المسيحية ولا رعاة الكنائس أيضًا، مسؤوليتَها عمّا يحصل. هؤلاء جميعًا، تقع على عواتقهم مسؤولية مصير شعبٍ بأكملِه وتاريخه وتراثِه ووجودِه عبر الزمن. فعندما يصلحُ الوطن ويتعافى فقط، لن يعود المسيحيون أيضًا بحاجة إلى المتلازمة المتعصّبة.

لا لفرض الآراء
إنّ أصول اللعبة لا تكون بهذه الطريقة، أي بفرض رأيٍ وإسقاطِه على الغير المعترض. أليسَ من حقّ أهالي بلدات سهل نينوى، وجلُّهم من السريان والكلدان، الاعتراض مثلاً على نوع الدعوات الاستفزازية، بأسلوب استيطانٍ سكنيّ "آثوريّ" حديث بعد أحداث 2003، في مثل هذه المناطق التي لم يكن لأتباع كنيسة المشرق فيها موطئ قدم كنسيّ مهمّ، إلاّ ما ندر. فمواطن الإخوة الآثوريين (من أتباع كنائس مشرقية قديمة) هي الجبال، وهناكَ ينبغي لهم المطالبة بحكمٍ ذاتيّ وبدولةٍ تاريخية ذات سيادة، وليسَ في مواطن سكن غيرِهم. فبحجة الدفاع عن السهل وأهلِه، تهافتوا مع غيرِهم إلى قراهُ وبلداتِه من أجل فرضِ واقعٍ جديد من حيث يدري أو لا يدري المنتفعون والانتهازيون من أبناء السهل الذين فتحوا أبوابَهم بعفوية تامة ومحبة للجميع وبحسن نية، فيما الغرض الأبعد كان تنفيذَ أجندات غريبة لتغيير واقع القرى والقصبات المتسمة بسمات تاريخية وطقسية معروفة بثقافتِها العربية حصرًا لقرونٍ عديدة.
لقد ابتلي الشعبُ المسيحيّ في سلوك حياتِه، سواءً بسبب النظام السياسيّ القائم الضاحك على ذقوننا وذقون رؤساء طوائفِنا الذين لم يعد لهم لا حولَ ولا قوّة بعد فقدان أهمِّ سرَّ قوتِهم في شعبهم المهجَّر، التائه داخليًا أو اللّاجئ في أرض الله الواسعة، أو بسبب أحزابِه الهزيلة، وفي معظمِها تابعة خانعة لا استقلاليةَ لديها ولا تلبّي تطلّعاتِه.  أنا لستُ آشوريًا، رغم تحمّلي اتهامات بذلك. ولن أقبل أن أُسمّى آشوريًا في ظلّ المفهوم الذي تحملُه هذه التسمية المفروضة حاليًا، من أجندة قومية متعصّبة يريد نفرٌ من السياسيين الآثوريين من أتباع كنيسة المشرق فرضَها بأيّ ثمن. لستُ أنكر تاريخية الحضارة الآشورية التي يمكن أن تصلح في الانتماء لكلّ عراقيّ، ليس للمسيحي فحسب، بل لغيرهم أيضًا. فالعراق كان ومازال وطنَ جميع هؤلاء بدون منّة من أحد. فهل يقبل الكلدان فرض مثل هذه التسمية على كنيستهم وكيانِهم؟ لا أعتقد ذلك. وإذا قبل بها نفرٌ من الانتفاعيين والانتهازيين، فلأجل مزاوجة مصالحهم الآنية، لكنها ستنقلبُ وبالًا على الأجيال القادمة. فلتحتفظ كلُّ جماعة بتسميتها ولا هم يحزنون.
كما لم يعد مقبولاً استغلال المنابر الدولية للترويج للآشورية وحدها، فحسب، كما حصل في الدعوة الأخيرة لأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي لوزير الخارجية جون كيري بدعم جهود الحكومة العراقية لإنشاء محافظة في سهل نينوى تضم الآشوريين والأقليات المسيحية الأخرى التي تقطن المنطقة، بحسب ما ورد في التصريح للمشروع المذكور. مثل هذا التصريح، غيرُ مقبولٍ وفيه انتقاصٌ من مسميات مسيحية أصيلة أخرى، "آرامية – سريانية" كانت أو غيرُها. فليسَ مقبولاً اختزال المسيحيين بالآشوريين وبالتسمية الآشورية، لمصلحة طرفٍ دون غيرِه في غفلة من الزمن غير الناضج، كما حصلَ ذلك مثلاً في الدستور العراقي الأعرج.
أجدادنا ظلوا محافظين على تسميتهم بالآراميين. وهنالك نصوص سريانية من القرن الثالث عشر تثبت حفاظهم على اسمِهم الآرامي هذا، بحسب البعض من الباحثين! كما أبقى الكثيرون على ترادف التسميتين "السريانية والآرامية" معًا حتى قرون ميلادية متأخرة. من هنا، لا أجد مبرّرًا من الإخوة الكلدان أو الآثوريين من كنيسة المشرق بالتهرب من هويتهم الآرامية -السريانية! فالادّعاء بالحرص والعمل والحفاظ على هوية الأجداد العظام دون غيرِهم، ليسَ في محلِّه، كما لم يعدْ مقبولاً. فالتاريخُ هو الشاهد المقبول على صحة الادّعاء.
بين هذه وتلك، تبقى الهوية المسيحية، هي الأقرب للتفاعل مع الحدث والأكثر قبولاً في هذا الظرف الحرج، بغض النظر عن التسميات "القومية " المثارة وغير المتفق عليها، والنابعة من اختلاف في الطقوس والمعتقد لهذه الطائفة أو تلك. فالدّينُ يجمع، فيما المذاهب والتسميات تفرّق، لا بل تدمّر.


لويس إقليمس
بغداد، في 12 شباط 2015


307
تحديات الهوية المسيحية:
 بين النشوة في الآشورية والنزعة إلى الكلدانية والعثرة في السريانية
لويس إقليمس
-الجزءالأول-
بدءًا، لا أجد حرجًا في كتابات العديد من الكتّاب والمثقفين وأصحاب المداخلات والتعليقات التي تتصدّر مواقع التواصل الاجتماعي على تنوّعها، بالرغم من خروج بعضها عن سلوك أخلاقيات الكتابة والردود غير المستساغة أحيانًا. فحرّية التعبير والرأي مقدّسة، طالما ارتضى الواحدُ منّا بمبدأ التفاعل مع الكتابة وإبداء الرأي وعرض ما لديه في جعبتِه.
 أنا بطبعي، حريصٌ على متابعة ما يستجدّ على الساحة السياسية الوطنية من كتابات وتعليقات، وما يخصّ الهوية المسيحية و"القومية" فيها بالذات، كما يطيبُ لجهاتٍ التشبّث بدور هذه الأخيرة، بالرغم من الخلافات القائمة حولَها والتي لا يخفي فيها دعاتُها فرض الإرادة والرأي في أغلب الأحيان، ولاسيّما في المحافل والمؤتمرات. وأجزم القول، أنَّ مجملَ التعليقات والمداخلات لا تعنيني كثيرًا، لأنّها في أغلبِها سطحية، بل رغوة طافية لا تستندُ إلى عمق فكريّ واتّزان في إبداء الرأي وفي النقاش المتحضّر. فهذه تعبّر عن آراء حامليها، وليس بالضرورة عاكسة لآراء وأفكار الجهات التي ينتمون إليها.
لذا، أرتئي ألاّ أدخل في تعرجاتها الخطرة التي قد ينزلقُ إليها أصحابُ المبادئ، إنْ تيهًا أو إسفافًا. كما أدعو ألاّ ينجرّ إليها الكاتب الرصين، صاحبُ الفكر البنّاء الذي يبحث عن الحلّ وليسَ تأجيجَ المشكلة، لخروج بعضها عن إطارِ أدب الكتابة والرصانة في النقل والرأي. وهنا يكون عدم التعليق والمداخلة على ما يُطرح، فيه حكمةٌ وروية، إلاّ من خلال المشاركة في إطار مقالات ومواضيع دسمة وجادّة وهادفة تستوفي شروط البحث والدراسة، والتي أجدُها أكثر رصانة وثقلاً من حيث الكتابة الأدبية وفنونِها وتعمّقها في معالجة الحدث والمشكلة، وما أكثرَهذه عندنا. فما عندي من خزين فكريّ متنوّع وطروحات وآراء في مواقف ومجالات متنوعة، أراهُ يلبّي ما أريد تقديمَه للقرّاء عندما أدلو بدلوي في شؤون الساعة، وطنيًا ومسيحيًا وكنسيًا واجتماعيًا وسياسيًا وما يُسمّى "قوميًا" أيضًا، بالرغم من إيماني الضعيف بفاعليّة العنصر الأخير وتعرّضه للقرصنة والاستغلال من قبل طارئين على شأنِه وعلى شؤون السياسة بالسواء! كما أنّي أحترم الرأي الآخر، متفقًا معي أو مختلفًا، طالما أنّ الهدف والغاية يكمنان في إيجاد لغة تفاهم مشتركة وخلق حوار إيجابيّ يخدمان مصلحة الوطن والمواطن أولاً، والشأن المسيحيّ بخاصّة، فيما يخصّ هذا المكوّن الهشّ المقبل على عتبة الانقراض بسبب تناقصِه وتشرذمِه وعدم تماسكِه وتعصّب نفرٍ من روّادِه واضطراد ترك أبنائِه وطنَ الآباء والأجداد تحت أية ذريعة كانت.

شيءٌ من التاريخ
بحسب معلوماتي البسيطة التي استقيتُها من كتب التاريخ، تكون الدولة الآشورية قد سقطت في العام 612 ق. م. على أيدي قبائل بابلية وميدية، بتدميرنينوى،عاصمتِها القوية، تلك المدينة الآشورية العظيمة التي بنت حضارة ماتزالُ آثارُها ماثلةً لغاية الساعة، والتي ينوي داعش تدميرَها مثلَ غيرِها من الرموز الحضارية والدينية في المدينة وما حواليها. وبذا، كان ختامُ تلك الإمبراطورية العظيمة التي حكمت المنطقة إلى جانب مثيلتِها وحليفتِها المصرية، واللتين كانتا تتنازعان سيادة العالم آنذاك. هنا ينتهي عهدُ الآشوريين كسلالة حاكمة في الكتب التاريخية، بفعل الانتشار الكبير لأقوامٍ آرامية (أجداد السريان) من المنطقة واستقرارِهم في بلاد آشور، بحسب ما تصفه وثائق وألواح طينية تصف شيئًا من العلاقات القائمة آنذاك بين الآراميين والآشوريين في السنوات الاخيرة من حكم الملك تغلاتفلاسرالاول (1115-1076). ومن هنا جاء دورُ الآراميين من بعدهم وتأثيرُهم في مسرى الأحداث بعد أن أصبحوا يشكلون الغالبية من السكان في الدولة الاشورية لأسبابٍ عديدة، منها المجاميع الكبيرة التي كان يستقدمُها ملوكُ الآشوريين في غزواتِهم ضدَّ دويلات الآراميين في المناطق المجاورة في عمليات سبي وأسر، حيث لمْ يكن بوسع قادة تلك الدويلات أن يشكلوا دولة عظمى، بل ظلّتْ تشكيلات صغيرة أومقاطعات متناثرة تدور في فلك بلاد آشور، كما يوردُه ألبير أبونا في مقالةٍ  له (الآراميون والآرامية) المنشورة في مجـلة صـدى النهريــن – في العدد التاسع/ حزيران 2009. كما طغت لغتُهم أي"الآرامية"، لتصبح لغة العامة والدولة معًا، ما يعني ترسيخَهم لثقافة وحضارة اختصّوا بها في أوساط الدولة الآشورية المتهالكة آنذاك.
 هذا شأن الحضارات والشعوب. حضاراتٌ سادت ثمّ بادت، لتليها أخرى أكثر قوّة ومنَعَة وشكيمة في الحكم والسياسة وتدبير الحياة اليومية. ولكنّ هذا لا يعني البتة، زوال شعوب تلك السلالات والحضارات. فهذه تندمج مع غيرها من الشعوب الجديدة القادمة وتنصهرُ فيها. وهذا ما يُجمعُ عليه الباحثون والدارسون والعقلاء، أن لا وجود لعرقٍ بشريٍّ صافٍ وخالصٍ من دون مصاهرة وتزاوج وامتزاج مع الغير، بسبب الغزوات الكثيرة التي ضربت المنطقة عبر التاريخ البشري وما تلاها من سبيٍ وتهجيرٍ وخطف وقتلٍ ومصاهرةٍ، وكذلك بسبب ضرورات الحياة ومقتضياتِها بعد التطوّر المستمرّ والنموّ السكّاني الحاصل عبر الزمن. ومَن يقول بغير ذلك، فهو مغالِطٌ بوجه الحقيقة، إنسانيًا وعلميًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًّا.
هذه المقدّمة، ليس المقصود بها التقليل من شأن عظمة دولة آشور، أو ردعُ رغبةِ بعض الأدعياء من التماهي والتفاخر بتلك العظمة والانتساب إليها حصرًا دون غيرِهم. فالتاريخ مزيجٌ متكاملٌ ومتواصلٌ من الحياة والاختلاط والامتزاج والمصاهرة والتزاوج بسبب الحروب والهجرات المتكرّرة والكوارث والتنقل وما سواها كما أوردنا، والتي اشتدّت مع تطوّر الزمان والاحتكام إلى المكان. من هنا، لا يمكن أن يكون الشعبُ الآشوري المعروف عبر التاريخ الذي سقطت مملكتُه العظيمة قد انتهى وانقرضَ تمامًا، كما يتصوّرُ البعض، وإلاّ لما كنّا نشهدُ سجالات وجدالات ونقاشات من أيِّ نوعٍ كانت بعد هذه القرون الطويلة على زوال تلك الإمبراطورية. وبالمفترَض، مثل غيرِه من الشعوب التي شاختْ وضعفتْ وتقهقرتْ لأسبابِها الداخلية، تراجعت شعوب آشور وامتزجت مع غيرها من الشعوب وخرجت بحللٍ كثيرة وشعوبٍ متعددة مختلطة مع تطوّر الزمن. وبما لا يقبلُ الشكّ، هناك بقايا للشعب الآشوريّ قد اندمجوا مع غيرِهم من الشعوب الغازية لمناطقِهم أو تلك المجاورة لهم بالنسبة لمَن اضطرَّ لترك الديار، تمامًا كما يحصل اليوم لشعوبٍ مماثلة، ومنها شعبنا المسيحي الذي ضاقَ به الوطن على وسعِه واضطرّ لطلب الأمان في بلدان الاغتراب والمجاهيل. 
هكذا أيضًا، كان مصير الشعب الآشوريّ الذي سقطت ممالكُه الواحدة تلك الأخرى بفعل قيام حضارات أقوى منه. والحالُ هذه، يكون من حقّ جميع البشر الذين ينتمون إلى هذه البقعة من الأرض ويعيشون عليها، أن ينسبوا أنفسَهم إلى حضارة آشور أو غيرِها، وأن يتفاخروا بأسلافهم الجبابرة، كلّ على هواه وعلى وسع مدارِكه ورغباتِه. ومن ثمَّ لا يمكن لهذه الحقيقة، أو بالأحرى لبقايا هذه الحقيقة، أن تكونَ حكرًا على جماعةٍ دون غيرِها. فلماذا كلُّ هذه المكابرة وهذا العناد وهذا الموقف غير المتزن في ادّعاء بعض "الآثوريين" (من أتباع كنيسة المشرق بشقّيها) بكونِهم ورثة تلك الحضارات منسّبين أصلَهم إليها حصرًا، وفارضين هذا المفهوم على غيرِهم من إخوتِهم المسيحيين الآخرين المختلفين في بعض تفاصيل العقيدة اللاهوتية والرئاسة الكنسية؟ فهذه التسمية التي ألصقوها بهم ذاتيًا، أو بالأحرى، التي أقحموا بها أنفسَهم في غفلةٍ من الزمن، حديثة العهد من حيث المطالبة بها سياسيًا، ليست حكرًا على أتباع الكنيسة المشرقية القديمة بحدّ ذاتِها، بدليل أنّ الكلدان المنشقّين عنها رافضون لهذا الفعل المقحم. ثمّ ماذا سيزيد الهوية القومية أو حتى المسيحية من حقوقٍ وامتيازات إذا قلّ وجودُهم وتناقصوا وانحسروا وتشتتوا في أصقاعِ الأرض الواسعة؟ أليسَ للمواطن الذي ينتمي إلى بلاد وادي الرافدين وما بين النهرين من غير المسيحيين "الآثوريين"، حقٌ أن يدّعيَ هو الآخر نَسَبَه وانتماءَه إلى هذه أو تلك من الأقوام والحضارات وسلالات الأبطال الشجعان من القادة والملوك والحكّام والجنود والبشر؟ هذا إذا أدركنا، أنْ ليس في التفاخر بالسلف الأول من عظام القوم أيُّ تحسّسٍ من الانتساب إلى تلك الحضارات الراقية والقوية، إن حصلَ ذلك من دون عنادٍ وتكابر وتحامل وتجافي واستصغار للغير الذي لا يقتنع بالحجج والأماني والتمنيات! فلكلٍّ رأيُه وحرّيتُه في التعبير والإيمان والقناعة. وفي الحقيقة، إنَّ التاريخ لا يعود إلى الوراء، كما لا تنفعُ بطولات السلف ولا أصلُ الشعوب وفصلُها مهما كان، إزاء واقع اليوم وحركة الدهر السريعة المتغيّرة كالتسونامي. وهنا يكفي تذكر قول الشاعر زين الدين عمرالورد:
لاتقل: أصلي وفصلي أبداً       إنما أصلُ الفتى ما قد حصل
بالمقابل، فللكلدان أيضًا "صولةٌ وصورةٌ"إزاء غرمائِهم من "الآثوريين" وغيرِهم، في مسألة الانتماء لحضارة الكلدانيين الغابرة. وكلا العنصران في الصورة والصولة، يقتضيان شيئًا من الفطنة والتروّي والتقدير للأمور أحيانًا  كثيرة. فالطرفان يتربصُّ أحدُهما بالآخر، لكلّ شاردة وواردة، ويتقارعان أيٌّ أحقُّ وأقدمُ بهذه التسمية أو تلك. بل إنّ كلَّ طرفٍ، أصبح يتحسّسُ من أيّة كلمة تخرج عن هذا أو ذاك، بالرغم من الحالة المأساوية التي وصلَ إليها الشعب المسيحيّ عامةً في عقرِ دارهم، في نينوى المسلوبة والمظلومة والجريحة عبر التاريخ.
 هناك من الباحثين والدارسين والمؤرخين والمتتبعين لمسيرة الشعوب والحضارات، ما يعتقدون أنّ الكلدان أو الكلديين، ينتسبون إلى شعوبٍ ترقى إلى الآراميّين أيضًا. وبالتالي فهم شعوبٌ سريانية لاحقة أيضًا، بعد اعتناق الآراميين للمسيحية من أجل تمييزهم عمّن بقي منهم على عبادة الأوثان والأصنام ومن أمثالِهم من "الكلديّين" ممّن اشتهروا بالتنجيم والعرافة والسحر على السواء، بالرغم من وجود اعتراضات في هذا المسند البحثيّ من البعض. كما أنّه، لا توجد علاقة بين مَن ينسبون اليوم أنفسَهم للكلدان مع تسمية الدولة الكلدانية التي أسسها زعيم قبيلة "كلدة" أو "كلدو" الآرامية "نابو بلاصر" وابنه "نبوخذ نصر"، أو بينها وبين تسمية أور الكلدانيين التي وردت في العهد القديم، ومنها خرج أبو الأنبياء إبراهيم، حيث يشيرُ العهدُ القديم إلى أصلِهم بتسمية "كسديم" أو "كشديم"، التي تحولت إلى "كلدو" بفعل تغيّر لغة الشعوب والتاريخ، كما نقرأ في كتيّبات التاريخ. واللفظتان تعنيان الرجال الأشداء أو الجبابرة أو المُنتصِرين. فيما نُوّهَ إليهم في بلاد اليونان وما جوارَها بالكلديّين أو الكلدان، وبالسريان أحيانًا أيضًا. وشاء البابا يوليوس الثالث إلحاق هذه التسمية التاريخية بالطائفة المتحولة من النسطورية (كنيسة المشرق القديمة) إلى الكثلكة في عهد البطريرك الجديد المنتخَب آنذاك، شمعون الثامن يوحنان سولاقا، بطريركًا على الكلدان في تموز 1553، لتفرقتهم عن أتباع كنيسة المشرق "النسطورية" التي انفصلوا عنها في حينِها.
 أنا هنا، لستُ بصدد البحث عن تاريخ هؤلاء أو أولئك. فالنقاشات التي تُثارُ بين فترة وأخرى في هذا الصدد بهدف فرض آراء طرفٍ على آخر بغية الاستئثار بمنافع دنيوية ومادية أو مناصب هنا او هناك على الحساب العددّي لهذه الجماعة أو تلك في النظام السياسيّ المتهرّئ في البلاد أصلاً، لن تُجدي نفعًا.   ويكفي أن أشير إلى رأي المطران صليبا شمعون، المتمعّن في التاريخ القديم الذي يرى أنّ أصلَ الكلدان من نفس منبع الآراميين، حيث يقول في كتابه "الممالك الآرامية ص 136": "أمّا كونُ قبيلة كلدو هي آرامية، فأمرٌ يكاد يُجمع عليه الباحثون، لاسيما التوراة التي تشير إلى آراميتها".وهذا ما أرمي إليه في محاجتي. وهذا ما يؤكّدُه أيضًا شيخ المؤرخين الآراميين، "ألبير أبونا" بكون أصل الجماعات المسيحية الشرقية من الشعوب الآرامية، والتي تسمّت فيما بعد بالسريان بعد تنصّر الكثير من شعوبهم بحسب البعض، ومنها اتخذوا طقوسًا من ذات اللغة ولكن بلهجاتٍ مختلفة، شرقية وغربية وبخطوط عديدة أيضًا، فيما المنبع واحد!!!
من هنا تكون الآرامية منتشرة حتى على العهد الآشوري. فالنصف الغربي من الإمبراطورية الاشورية، كان في الأصل آراميا. كما أنّ المراسلات الرسمية بين إمبراطوريات ذلك العصر كانت بالآرامية أيضًا. ومنها أنّ أركانَ الدولة الكلدانية القديمة كانوا يتحدثون الآرامية القديمة آنذاك. ومنهم أيضًا المسبيّون اليهود على عهد نبوخذ نصر. هؤلاء حينما عادوا إلى أورشليم بعد السبي، كانوا يتكلمون اللغة الآرامية وليس سواها. وهذه اللغة ارتبطت لاحقًا، باللغة السريانية نسبة للتسمية الجديدة للآراميين المتحوّلين إلى المسيحية لتمييزهم عن أصلهم الوثنيّ. والتسمية الأخيرة ماتزال ماثلة ومتداولة في أوساط المثقفين والباحثين والمستشرقين، حين الإشارة إليها بتسمية لغة آرامية أو سريانية. حتى على عهد النظام السابق في العراق، لم يصدر قانون الاعتراف بالناطقين باللغة "السريانية" عبثًا. لذا، أرى أن الزوغان عن هذه التسمية وعدم النزوع إليها أو القبول بها من قبل الفريقين، أي بتسمية بقايا الشعب المسيحي ب"السريان"، نسبةً إلى اللغة المتداولة، ليسَ مقبولاً ولا منطقيًا. ومن ثمّ فإنَّ تحسّس البعض من اتخاذِها تسمية قومية من أجل تسهيل الأمور والحدّ من النزاعات والجدالات والمشاحنات، ليس فيه ولا قيراطٌ واحد من الحكمة والروية والاستعداد للقبول بها حلاًّ وسطًا بسبب سهولة مقبوليتِها واعتمادِها عالميًا، انتسابًا لتسمية اللغة التي نعتمدُها. فالشعوب تُسمى نسبةً للغة التي تتحدّث بها.
فإذا كنّا فعلاً جسدًا واحدًا وشعبًا واحدًا وحضارةً واحدة، كما يصرّح به الكثيرون،  فلابدّ أن نكون برأيٍ واحد قبل أن نخسر هذه وتلك. وهذا لن يكون إلاّ بالتخلّي عن دعوات "الأشوَرة" و"الكلدنة" القائمة منذ السقوط الدراماتيكي في 2003 ولغاية الساعة، حتى بعد احتلالِ مناطقنا التاريخية في سهل نينوى من قبل الدواعش وأتباعِهم ومواليهم في المنطقة.

جدالات حامية لا تخلو من تعصّب
في ضوء تسارع الأحداث غير المبشرة بخير وإزاء المستقبل الغامض الذي يكتنف وجود بقايا الجماعة المسيحية بأصالتِها التي يعبّر عنها اليومَ ساسةُ البلاد وقادتُها في كلّ مناسبة، ولا يتورعون الإفصاحَ بها أمام مَن يهمُّهم أمرُها مِن رؤسائِها في الداخل ومحبيها والمشفقين عليها في الخارج، كان لابدّ من وقفة جريئة لتبيان الأولويات إزاء ما يجري. فالسجالات الداخلية القائمة بين الأطراف المسيحية النشطة المختلفة، سواءً في الكتابات أو في مواقع التواصل الاجتماعي في الشأن الكنسيّ والقوميّ هذه الأيام، لا تخدم مصلحة هذا المكوّن وإدامة حياتِه وتثبيت هويتِه واستمرار وجودِه، طالما بقي التشرذم قائمًا وناصيةُ التحكّم بالمصير بيد الغير الغريب الذي يتحرّك ويوجّه وفق مصالِحه القومية على الأرض، ولا يهمّه مستقبلُهم ولا بقاؤُهم على المدى البعيد، إلاّ في الدعاية والإعلام من أجل كسب المزيد من التأييد والأموال والحشد لصالحِه.
 هذه هي الفرصة القائمة لإثبات التسامي فوق المصالح الذاتية والطائفية الضيّقة وإثبات الاستقلالية في الرأي وفي المطالب وفق ميزان المواطنة الذي يقرّه الدستور. والأخير خيرُ شافعٍ للجميع، إن عُقد العزمُ وشاءت الإرادات واتفق المختلفون على وحدة المطالب وتوحيد الخطاب للوقوف بوجه مَن يعرقلُ ويحجب ويعترض في أسفل دهاليز السياسة. فالأولوية اليوم بالنسبة للمسيحيين كأقلّية مهدَّدة بالانقراض، هي من دون شكّ "للهوية المسيحية" التي تصارع من أجل البقاء في أرض الأنبياء والرسل والقديسين والديارات والكنائس، قبل التشبث بأية مصلحة أخرى، ومنها مسألة التسميات القومية التي طفت مؤخرًا ثانيةً على الأرض، مع انطلاقة مبادرة الكنيسة الكلدانية بتأسيس الرابطة الكلدانية تحت ضغط أتباع الكنيسة والظروف الحرجة، الداخلية منها والإدارية والتنظيمية التي تمرُّ بها اليوم من دون حسد!
وهذه فرصة لتذكير رئيس كنيسة العراق، بشخص البطريرك الكلداني لويس ساكو، الذي بيدِه تحريك ملف تشكيل "مجلس سياسيّ مسيحيّ" يتولى الدفاع والمطالبة بحقوق أبناء هذا المكوّن وتثبيت وجودِه الوطني أولاً، كمكوّن أصيل فعلاً وتطبيقًا، ووضع سكّة المواطنة للجميع على الطريق الصحيح، حيث لن يصحّ إلاّ الصحيح إذا عقدنا العزم لوضع حدٍّ للسجالات والإخفاقات المتكررة والجهود الضائعة سدىً بين الأحزاب المسيحية المتهالكة والجهات المتصارعة بسبب التسمية منذ السقوط في 2003. فرعاية الكنيسة ستبقى الضامن الأول للوجود المسيحي في البلاد، كما أثبتت ذلك في الأزمة الأخيرة المستفحلة، باستنهاضِها للهمم وتسخير قدراتِها لتقديم العون السخيّ لجميع النازحين والمحتاجين العراقيين دون تمييز. فالكنيسة وحدها، هي التي جمعت أبناءَها وما سواهُهم من العراقيين، من كلّ الطوائف والملل تحت كنفِها تمامًا كما تجمع الدجاجة فراخَها تحت جناحيها. هي كانت وماتزالُ الأمَّ الحنون للجميع. والحقلُ الواسعُ كفيلٌ بمشاهدة هذه التجربة.
من هنا، نأمل أن تجمع الرابطة الكلدانية المرتقبة كلمةَ أبناء هذه الجماعة كي تصبَّ هي الأخرى ضمن تطلّعات كنيسة العراق لتشكيل "المجلس السياسيّ" المنتظَر، الجامع جميعَ المسيحيّين بطوائفهم المتعددة، وبغضّ النظر عن الاختلاف في الرؤى في الشأن القوميّ الذي سيظلُّ قائمًا بوجود جهاتٍ انكفائية متعصّبة لا تقبل بحقّ الغير في اختيار ما يراهُ موائمًا لهوية ملّتِه وكنيستِه وتاريخِه وتراثِه. فالمسيحية في العراق والمنطقة، لا يمكن اختزالُها حصرًا، بالكنائس الكلدانية والآثورية والسريانية، وإهمال ما سواها من القائم على الأرض من ابناء الكنائس الأخرى.

هشاشة في الفكر والرؤية

بسبب ما يجري محليًا ووطنيًا وإقليميًا ودوليًا، تطلعُ علينا بين فترة وأخرى وفي هذه الأيام بالذات، أفكارٌ جديدة "قديمة"، يستحدثُها شخوصُها ويستعرضُها كتّابُها تحت مسميات عديدة، فاتحين النارَ في جزئياتٍ منها على مَن يُعدّون خصومًا تقليديّين في مسيرة هذه الأحداث. على أرض الواقع، وبعد فترة من احتلال المناطق المسيحية في سهل نينوى، التي كانت وديعةً بعهدة سلطة الإقليم، نشطَ مؤخرًا نفرٌ ممّن كانوا سببًا في إعاقة استقلالية هذه المناطق بسبب تبعيتِهم لأحزاب متنفذة في الإقليم من دون وجه حقّ. وكأنّي بهؤلاء، يسعون مجدَّدًا لاستباق حجوزاتِهم لاحتلال مواقع في جنّة المحافظة الجديدة التي شاع الحديث عنها في سهل نينوى والتي استولتْ على عقول وكيانات وأفكار هذه الشخوص الحالمة، تمامًا مثل سياسيّينا سواء في المركز أو في الإقليم. فبعد انخراط نفرٍ من أبناء هذا المكوّن إلى جانب مكوّنات أخرى، في معسكرات للتدريب تهدف لطرد الدواعش والتخليص من شرورِهم، شرع ممثلو أحزاب مسيحية هزيلة معروفة الولاء والتبعية لأحزاب كردستان في أغلبِها ومعها أطراف أخرى ذات تبعية معروفة، بالتهافت والجري السريع نحو هذه المعسكرات بشيْ من النشوة والمكابرة وبشكلٍ يوهمُ به هؤلاء التابعون مجتمعاتِهم بضلوعِهم ومسؤوليتِهم ومساهمتهم وإشرافِهم على تشكيل مثل هذه القوّة التي ستحققُ لهم إنجازَ مشروع هذه المحافظة الموعودة. فيما الوقائع أثبتت أنّ نفرًا منهم يتحمّلُ جزءًا من مسؤولية ضياعِها أصلاً وتسليمها للقوى الظلامية بين ليلةٍ وضحاها، بسبب الاستمرار في الوهم بقدرة سلطة الإقليم على حمايتِها والدفاع عنها بالدم، حسب رواية رؤساء كنائس هذه المناطق بموجب وعود تلقّوها حصرًا وتوكيدًا. فكلُّنا نعلم، أنَّ تسليم مناطق السهل، تمامًا مثل الموصل وغيرها من البلدات والقرى التابعة لها، قد تمّ بالاشتراك مع أدوات رسمية حكومية وعسكرية من المركز والإقليم ضمن صفقة سياسية.
في الواقع، في بعضِ التصريحات والتسريبات الصادرة من جهاتٍ مختلفة، نشمُّ طيبَ أملٍ وغيثَ رجاء من الواعين في الفكر والتحليل ومن الصادقين في معالجة ما حصل من تهجيرٍ قسريٍّ بسبب تخلّي الإقليم عن المناطق التي كانت تحت سيطرتهم منذ السقوط في 2003. وهؤلاء قليلون مقارنةً بحشود منتفعة من المشكلة. إلاّ أنَّ جهودَ هؤلاء الحريصين على البيت العراقي أولاً والشأن المسيحي ثانيًا، تعكسُ الروحَ الإيجابية المتفائلة عند مروّجيها. ونحن ندعمُها ونشجّعُ أمثالَها ونشدُّ من أزرِها، بعكس أخرى غيرِها محبطة ومثبّطة للعزائم بسبب الريح الصفراء التي بداخلِها، لأنها تنفثُ سمومًا قاتلة لا أملَ منها وفيها ولها وبها البتة. هذه النماذج الأخيرة المنتفعة والتابعة في سلوكِها اليومي للغير والمعطِّلة لإثبات الذات، كانوا وسيبقون خدّاماً خانعين وتابعين أذلاّء للغريب القادم من خارج بلداتِهم التاريخية ومجتمعاتِهم الكنسية، لأنّهم ببساطة يفتقرون إلى الرؤية السديدة وبعد النظر، والأكثر من هذا وذاك، إلى الاستقلالية في الرأي وفي القرار بسبب محدودية ثقافتهم التي لا تعدو كونها رغوة طافية على سطح بركانٍ متفجّرٍ في أيّ وقت.  وفي هذه الأخيرة، يبدو أنّ أمثالَ هذه الطبقة الفضفاضة الطافية، لم يتعلّموا الدروس والعبر من الماضي، البعيد والقريب والقائم الحاليّ على السواء، بالرغم من المصائب والشدائد والتجارب السلبية القاسية التي مرَّ بها أقرباؤُهم وأهلُهم وعائلاتُهم عبر الزمن والمكان، آنفًا واليوم.
من حقّ الإنسان الحريص في نينوى بالذات، أن يتساءل اليوم عن سبب هذا التهافت الجديد من ذات الأدوات التي أثبتت إخفاقَها وعدم أمانتِها، بعد كلّ المستجدّات، منذ احتلال مناطق واسعة فيها وطرد السكان الآمنين من بلداتهم وخسران أملاكهم ومساكنهم وأراضيهم، وجلُّهم من أبناء الأقليات المستضعفة التي لا قوات مدربة لها ولا ميليشيات. أينَ كان هؤلاء مِن أمر تدريب أبناء مناطقهم ومكوّناتِهم المهمّشة طيلة الفترة المنصرمة منذ اشتداد وطأة الأحداث عليهم؟ ولماذا وقفوا مع المعترضين والرافضين لتشكيل قواتٍ محلية مدرَّبة تدريبًا وطنيا ضمن الجهد الدفاعيّ الوطنيّ كي تساهم في الدفاع عنها وقتَ الشدّة؟ ألا تعكس اعتراضاتُهم بالأمس على تشكيل مثل تلك القوات آنذاكَ ومنذ المطالبة بها في عام 2007، قصرَ نظر القائمين على مصالح تلك المناطق وهم يقدّمون الولاء الواجب للغير؟ واليوم، بعد السماح بتشكيل هذه القوات، أليسَ من المخجل أن ترتبطَ هذه المناطق ثانية بما كانت تُسمّى ب"الحراسات" وراعيها "المجلس الشعبيّ القطاريّ"، التي يشرف عليها أحد الأحزاب الكردستانية، وهو المتّهم ببيعها والتخلّي عنها بعد الانسحاب المخجل منها عقب أوامر مستلمة من قوى الشرّ في أمريكا؟؟؟
 إنه لَمِن المعيب أن يعود المنتفعون وذاتُ الأدوات السابقة المنفذة للأجندة الكردية إلى ذات الحالة بحلّة جديدة ويستعيدوا ذات الدور المقرف. كما ليسَ من المقبول من الرئاسات الدينية لجميع المكوّنات، ولاسيّما المسيحية منها، وهي الأكثر فاعلية وحركة، أن تسمحَ بمثل هذه الترتيبات بحجة التبعية المالية الخاصة للحراسات القديمة المرتبطة بهيئة شؤون المسيحيين، لميزانية الإقليم خارجَ سيطرة الحكومة المركزية، وغدقِ الأولى للأموال على هذه الأدوات وتحرّكاتِها وأنشطتِها خارج الإطار الوطنيّ لحكومة المركز
. والآن نحن نعتقد، أنّه بعد خضوع هذه القوة الجديدة لموافقة الحكومة الاتحادية وربطِها بجهود الحشد الوطني، ما يعني اعتمادها ضمن قوات الدفاع الوطنية، لم يعدْ بعدُ من مبرّر أن ترتبط كما في سابق عهدِها بما يُسمّى ب"المجلس الشعبيّ" التابع للديمقراطيّ الكردستانيّ لحمًا وشحمًا، فيما يخصّ مناطق المسيحيين. فقد آن الأوان لسلك طريق أكثر أمنًا وضمانًا بالتمسك بالثوابت الوطنية بدل الامساك بجلباب الإقليم الذي فُقدت به الثقة ولم يعد ضامنًا وكفيلاً لمصالح الأقليات عمومًا، بعد المذلّة التي اختبروها على أياديه وأيادي أدواتِه من أمثال أتباع "المجلس الشعبي القطاريّ" الذي أوهمَ الناسَ بالحرص الكاذب بقدومِه كالذئب بلباس الحملان! ومثلُه تقف مجموعة الأحزاب المنفّذة لأجندتِه المشكوك في حرصِها على الشأن المسيحيّ. حتى "زوعا" وهي أكثر الأحزاب المسيحية استقلالية لمْ تستطع إظهارَ حسن النوايا وتفسيرَ ما حصل والخروج من عموم الحدث ببراءة!
في اعتقادي، لو تنبه العراقيون جيدًا، للحال الذي وصلوا إليه بعد احداث 2003، لأيقنوا أنّ كلَّ شرٍّ أصابهم، كان بفعل قوى الشرّ المتمثلة بسيدة القطب الواحد أميركا،صاحبة الذراع الأكبر بتصفية الشعوب المستضعفة، ولاسيّما الصغيرة منها، وإذلالها خدمةً لمصالحها القومية الأنانية. فلا شيءَ اليوم، يتحرّك أو يسير، يرتفع أو ينزل من دون علمِها والاستئذان منها. واستنادُنا في ذلك، ما شهده العراقيون من تفرقة وتشظية وانقسامات، ليس بين شركاء الوطن الواحد فحسب، بل في داخل الكيانات والمذاهب والأعراق، بسبب سرطان الطائفية والمذهبية الذي زرعته هذه القوة العظمى الغاشمة بلا حياء ولا أخلاقية في التعامل مع أبناء الوطن الواحد بتنوّعهم الخلاّق، إلاّ بما يخدمُ مصالحَها القومية وعملاءَها وأدواتِها في المنطقة. لقد كان الأجدر بالأدوات المسيحية المنتفعة التابعة والمنفذة لأجندة الإقليم بسبب ضيق أفقها في الرؤية والفكر في المناطق المنتزعة المحتلة حاليًا، أن تتآزرَ مع أصحاب النيات الحسنة الوطنية الصادقة والمثقفين وأصحاب الخبرة والرؤية البعيدة، من أجل إيقاف المدّ التقسيميّ للبلاد، الذي لم نحصد من ورائِه غيرَ الخذلان والمآسي والويلات، وليسَ الاصطفاف في طابور التأييد الأعمى لأجندة الإقليم. وهذه هي النتيجة، بعد السماح بدوس أرض العراق من قبل عصابات التنظيمات التكفيرية الداعشية التي زرعتها قوى الاستكبار العالمي بالتشارك مع زعماء وسياسيين في الداخل، تمامًا كما زرعت بذور الفتنة عبرَ تنظيمات طالبان والقاعدة وبوكو حرام، وما سبقها ويليها في مناطق أخرى من أجل بسط نفوذها بوسائل التقسيم الفاعلة.
إن المسؤولية التاريخية تحتّمُ تحكيم الضمير والاسترشاد برؤية بعيدة النظر تضع الميزان الوطني قبل أية مصلحة أخرى. فالوطن هو الباقي، وما سواه زَبَدٌ طافٍ وفرقعاتٌ خاوية، سرعان ما تتلاشى حينما يتحكمُ العقل بأصول اللعبة ويعود كفّ الميزان لصالح الوطن الواحد الذي لا يقبل القسمة، مهما حاول ضعافُ النفوس النيلَ من قدراتِه وتثبيط عزم أبنائِه عبر ولاءات مدفوعة الثمن، مشكوكٍ فيها وغير محمودة. فهذه تصبُّ دومًا في خانة الغريب الطامع وأجنداتِه التخريبية محدودة الرؤية.

- يتبع -

308
حوار الأديان جسرٌ أمينٌ للعيش المشترك
-الحزء الثاني-
لويس إقليمس

احترام ثقافة الآخر المختلف فضيلة

إنّ القيمة الثقافية والحضارية للشعوب، لا يمكنها أن تحقّق ذاتها إلاّ من خلال الاعتراف بثقافة الآخر وقبول خياراته كما هي، وليس كما يريدها المقابل وفق معاييره ومقاساته وموازينه، دينية كانت أم مذهبية أم عقائدية. ويبقى التعايش ذلك الخيار الإيجابيّ الذي لا رجعة عنه والذي يصون حق الآخر في الفكر المستقلّ والإيمان الحرّ بما يعتقد، وليس كما يريده له غيرُه. إذ لابدّ أن يكون مثل هذا الخيار في العيش المشترك، قائمًا على الندّية والتساوي والشراكة في الوطن والأرض والمصالح في التعامل الإنسانيّ وليس خنوعًا او خضوعًا للآخربحسب ما يفرضهُ طرفٌ على آخر. حينها يصير الحوار متاحًا وأكثر استعدادًا للقبول بالرأي والرأي الآخر بأسلوب حضاريّ بنّاء وفاعل من أجل بناء مجتمع متكافل ومنسجم.
لقد خلق الله البشر والشعوب لكي ينموا ويكثروا ويتعايشوا ويتصاهروا في الأرض التي وهبها لآدم وحواء منذ بدء الخليقة. وهذا لن يكون ممكنًا إلاّ في حدود مبادئ العيش المشترك الملتزم بمبادئ المحبة والسلام والانفتاح واحترام حسن الجيرة، وليس بالاعتداء والتكفير والانغلاق على الذات. فالدّين أو الجماعة التي تنغلق على نفسها، تموت وتتوارى وتنتفي الحاجة إلى وجودها، ذلك لأنّ وجودَها أو عدمَه سيّانِ. بل الأجدى ألاّ يكون لها مثل هذا الوجود لأنّه يعطّل الأرض ويُتعب الزارع والحاصد معًا.
إنّ ما يمكن أن يساهم حقًا، في تعزيز التعايش السلميّ بين شعوب المنطقة والعالم، أن يتمّ التعامل بين البشر بمساواة وعدل بعيدًا عن إرهاصات الاختلافات في الدّين والعقيدة والمذهب. ف"الدين لله والوطن للجميع". وهذه المقولة ستبقى مفتاح السرّ في تعزيز التعايش السلميّ وتعميق الحوار المبنيّ على احترام خيارات الآخر، ليسَ داخل الوطن الواحد فحسب، بل لدى جميع شعوب العالم. فلكلِّ إنسان حقٌّ في اختيارِ وممارسة دينِه ومعتقدِه وبما يعتقدُه ملائمًا لحاجاته وتطلّعاتِه وحرّيتِه الشخصية دون غصبٍ أو إكراهٍ أو تهديد. ف"لا إكراهَ في الدّين"! وانطلاقًا من هذا المفهوم القرآنيّ، يصير التسامح بشأن الأمور المختلف عنها عقائديًّا، أمرًا ميسِّرًا للحياة من خلال قبول هذه التعددية العقائدية لكلّ فردٍ بعيدًا عن التعصّب والتشدّد. فالذاكرة التاريخية تنقل لنا شيئًا من المواثيق والمعاهدات التي عقدها الإسلام مع أتباع الديانات التقليدية السابقة له، اليهودية والمسيحية (النصرانية   في زمن رسول الإسلام محمّد) منذ عهد رسول الإسلام ومرورًا بالخلفاء الراشدين والأمويين والعبّاسيين. كما لا يوجد نصٌّ قرآنيٌّ ينبذ نبيًّا من الأنبياء السابقين للدّين الجديد. من هنا ينبغي على المسلم قبل المسيحي أن يفهم أنّ الحضارة الإسلامية منفتحة منذ نشأة الإسلام، على الأديان والثقافات الأخرى التي سبقتها، حيث تأثرت هذه ببعضها البعض وتمازجت مصالحُها المشتركة أحيانًا من أجل خير الأمّة والبلاد في أحداثٍ من التاريخ والعيش المشترك.وهكذا إذا فُقد التعايش السلميّ، فُقد السلمُ الأهليّ!

التنوّع بكلّ أشكالِه غنى وليس عقبةً

يشهد التاريخ أنّ جذور المسيحية قائمة وعريقة في المنطقة حيث كان منطلَقُ ديانة المحبة هذه من هنا، من الشرق، من فلسطين وأنطاكيا حتى بلغت جزيرة العرب وآسيا الصغرى وصولاً إلى الصين شرقًا، كما كسحتْ بلادَ الغال والامبراطورية الرومانية بوقت يسيرٍ فيما بعد. هذه حقيقة تاريخية، لا ينبغي التغافل عنها. بالمقابل، فإنّ الجهل بدين الإسلام وجوهرِه، من شأنه أن يخلق نوعًا من الخوف والتردّد في قبول الآخر المنتمي لهذا الدّين. من هنا يكون اكتشاف الوجه الإيجابيّ الآخر في المختلف عنّا في الدّين، مفتاحًا جيّدًا وأداةً لقبول هذا الاختلاف واللقاء في حوارات مجدية تُسقط الحواجز النفسية المتخذة أحيانًا بأفكارٍ وقوالب مسبقة ليس لها اساسٌ في جوهر الدّين.
هناك وسائل متعدّدة للحوار، يمكن أن تسفر عن تفاهمات جادّة في تنشيط روحيّة هذا الحوار المبنيّ قبل كلّ شيء على قبول فكر الآخر المختلف. فالتعدّدية الدّينية القائمة اليوم تقتضي العيش المشترك بين المختلفين دينيًّا من أجل المضيّ في مسيرة الحياة اليومية الغائصة في مشاكل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية تتطلب تضافر جهود الجميع لرفع الغبن عن الإنسان البسيط وإنصاف المحرومين والمهمّشين والفقراء والمظلومين. ومهما كانت هوّة الاختلافات، فللعقلاء في أوساط هذه الأديان وخبرائها ولاهوتيّيها مِنَ القدرة والمسؤولية ما يتيحُ لهم تفعيلَ التقارب رغم الاختلافات في التفاصيل والوسائل والآليات.
لمْ يعدْ من المقبول أن تتصارع الأمم والشعوب بسبب الاختلافات في طبيعة كينونتها الدينية أو المذهبية أو العقائدية. فالاختلاف في هذه وغيرها، إنّما يُعدُّ من مزايا الخير والبركة والغنى في الثقافة والحضارة والتراث، ليس للشعب الواحد والبلد الواحد والمنطقة الواحدة فحسب، بل لكلّ العالم. والسبب لأنّ الله الخالقَ أرادُه كذلك لمجدِ اسمِه وتعظيم جبروتِه في خلق العالم بشرًا وعناصرَ. وهذا الاختلاف عينُه كفيلٌ بأنْ يساهم بارتقاء هذا العالم المتنوّع نحو درجات الرقيّ والتنمية والتسامي فوق كلّ الخلافات والاختلافات والصراعات التي لا فائدة منها، بقدر ما تأتي من بلايا ومآسي وانتكاسات على جميع الأصعدة. فالدّين ينبغي أن يكون ذلك الدرب السليم الناصِح الذي يقود البشرَ نحو شيءٍ أسمى يليقُ بفعلِ الخالق الجبّار الذي "خلق البشر، ذكرًا وأنثى، حسَنَينِ على صورته ومثاله". فهلْ أجمل مِنْ أن يكونَ الإنسانُ، على صورة الخالق الذي يدّعي الجميع عبادتَه وتبجيلَه وتكبيرَه كلَّ يوم وكلَّ ساعة آناء الليل وأطراف النهار؟؟؟أمام هذه الصورة الجميلة، ألا يليقُ أن يحضرَ الدّينُ كي يكونَ حلاّ وليس طرَفًا في مشكلة بين البشر الذين تحوّلعالمُهم الذي يعيشون فيه إلى قرية صغيرة تجمعُ المختلفين على طاولة واحدة في غضون ساعات وليس أيّامٍ؟
لكلّ دين رسالتُه دون أن ينتقص من غيره أو يحوّل دينَ الآخر إلى أداة للخلاف والسخرية والإساءةوالعدوانية والانتقام. وبالرغم من حساسية الاختلاف في طبيعة الأديان في عصرنا القائم، إلاّ أنّ هذا الموضوع كان وما زال يتفاعل ولم يخلُ يومًا من مشاكل وإفرازات عدائية بين المختلفين، بل حفلت حياة المؤمنين من جميع الأديان بجراح مثخنة نتيجة الانغلاق والتعصّب الأعمى ورفض الآخر. "فالآخر، إن لم يكن أخاً لكَ في الدّين، فهو نظيرُك في الخلق"، كما يقول الإمام علي.
إنّ البشر لا يمكن أن يرتقوا في سلّم الرقيّ والإنسانية إن لاذوا داخل قوقعة الانعزالية والانغلاق على الذات. فما مِن ثقافة مجتمعية ولا مِن تطوّر فكري وعقلانيّ وإنسانيّ، ولا مِن تنمية اجتماعية وعلمية في غياب الاحتكاك الحضاري والدّيني المتشابك والساعي لتطوير المجتمعات والأمم والشعوب. أليسَ هذا ما تشهدُه البلاد والمنطقة من بعض إفرازات هذا الفكر المتخلّف المنغلق هذه الأيام؟ وحدَها أساليبُ الانشقاق والعنصرية والضغينة والتطرّف الأعمى هي الخاسر الأكبر في المعادلة الإنسانية التي لا يمكن أن تنجو بنفسها في ظلّ هذه الآفات المستحكمة والمتعشّشة في أحضان جماعات تكفيرية لا تقبل بوجود الآخر المختلف وتنظرُ إليه شزرًا بنظرةٍ دونيّة و"ذمّية" غير مقبولة لغاية اليوم. فجميعُ البشر متساوون أمام عدالة الله، خالق البشروديّان الجميع يوم القيامة. وما داموا كذلك، فمَن ذا الذي أوحى أو خوّل أو أمرَ فئات ضالّة وغير مرتكزة على كلامِ الله في الكتب المقدّسة كي تحكم باسم الخالق هذا وتُصدرَ الأوامر بالنهي والقطع والنفي والتكفير؟ ومادام الله قد خلق البشر جميعًا على ذات القاعدة وأعطى لهم شكل إنسانٍ عاقلٍ موحّد، فهو لم يخلقهم درجاتٍ ومراتبَ في الحقوق والواجبات والمواطنية، بل إنّما "خيرُ الناس مَن عاش حياتَه برضى الله ورضا الناس"، وهو خيرُ الماكرين!
لو تمعنّا في رسالة المسيح التبشيرية، لرأينا أنهاتلخصتْبرسالة محبة وسلام ومصالحة لجميع البشر، كما كانت تمجيدًا لهذا الخالق الجبّار الرحمن الرحيم: "المجدُ لله في العلا وفي الأرض السلام، والمسرّة الصالحة لبني البشر". فهلْ أصدق وأروع من هذه البشرى التي زفّها الملائكة يوم ولادته العجائبية التي يقبلُها الإسلام والمسيحية على السواء؟ ألمْ يردْ في القرآن آياتٌ تشيرُ إلى الرحمة والمودّة والتسامح، بفضل أخلاق وعادات جماعات "النصارى" الحميدة والمسالمة من الذين تعايشوا مع المجاميع الأولى للدّين الإسلامي آنذاك؟ ألم يقلْ رسول الإسلام للمختلفين معه: "لكم دينُكم ولي ديني"؟ فلماذا تُهمل إذن، مثل هذه الإعلانات الصريحة التي أوردها القرآن على لسان رسول الإسلام نفسه؟ أليسَ فيها نقضًا واضحًا لميثاقٍ وخرقًا لاتفاقٍ بين الديانة الجديدة وسابقاتِها؟؟؟

الصراعات لا تحلّ المشاكل
إنّ الصراعات والخلافات والتجاذبات بسبب الاختلافات لم تأتي يومًا بحلولٍ منطقية ولا سلميّة ولا حضارية ولا ثقافية بين المختلفين. بل وحدَهُ الاستعدادُ للقاء الآخر المختلف والنية والرغبة والإرادة الصادقة بنبذ كلّ اشكال العنف والتعنّت الأعمى وتحاشي فرض الإرادات والأصوليّات والنظرة الدونيّة لهذا الآخر المختلف، هي الكفيلة بخلق مجتمعات متفتحة، متحضّرة، متطوّرة قائمة على احترام هذا الآخر، مهما كانت درجة الاختلاف التي لا ينبغي أن تصل مرحلة الخلاف بسببه. أمّا "الأصوليات" المتفجّرة مؤخرًا، فهي لا تعدو كونها أيديولوجيات متعصّبة تجهلُ أصولَ الدّين وتصرُّ على اقتضاب عبارات وآياتٍ مستقطعة هنا وهناك دونَ أن تضعها في السياق العامّ الذي وردت فيه. فهناك الكثير من الآيات القرآنيّة التي تتحدث إيجابيًا وباعتزاز وبمودّة عن أهل الكتاب، يهودًا أو "نصارى" (مسيحيين). لذا لا ينبغي السماح بتشويه قيم العيش المشترك بين أتباع الديانتين بصورة خاصة، بل على العقلاء والمعتدلين أن يرسّخوا هذه القيمويعملوا على تفعيلها مِن أجل خير الإنسان والوطن والإنسانية. فطوبى لمَن يسعى لتقريب وجهات النظر بين المختلفين وسعيدٌ مَن يدعو للتكافل الاجتماعي والبناء الحضاري واحترام المقابل، فإنّ أجرَه عظيمٌ عند ربّ السماوات وهو من الصالحين!
ما أجمل أن يتواصل البشر جميعًا في لقاءات ثنائية وثلاثية ورباعية ومجتمعية في كلّ مناسبة وموسمٍ. وما أجمل أن يلتقي المختلفون لتدارس حالاتهم وأوضاعهم وأحوال مجتمعاتهم معًا، من أجل البناء وتعزيز العمل المجتمعي المشترك بين أتباع الأديان المختلفة، جماعاتٍ وأممًا وشعوبًا ودولاً! إنّ الخطابات الرنّانة لا تكفي إذا لم تصاحبها أفعالٌ جادّة على أرض الواقع تشحذ الهمم من أجل تغيير الصورة القاتمة التي تطبّع عليها البعض من المنغلقين على الذات وعلى الفكر والعقيدة وصمّوا الاذان عن سماع رأي المختلف عنهم. فليس هناك أمّة أوجدَها الخالق أفضلَ مِن أمّة غيرِها، وليس هناك شعبٌ أنزلَه الله في أرض الشقاء أفضلَ من آخرَ غيره، وليسَ هناكَ بشرٌ تكرّمَ اللهُ بولادتِه أفضل من غيرِه إلاّ بحسن السيرة ونقاء الضمير وصفاء النية وطيبة القلب وممارسة المساواة والعدل وحبِّ الله وإخوته البشر المخلوقين جميعًا "على صورة الله ومثاله".

ألتنشئة المنزلية أفضل خبز للإنسان

إنّ مثل هذه المبادئ، ينبغي أنْ تُغرس في عقول وضمائر الصغار منذ الولادة، في التنشئة المنزلية أولاً ثمّ في المؤسسات التعليمية بدءًا من الحضانة ورياض الأطفالوالمدارس بكلّ مراحلها وصولاً إلى الحرم الجامعي. من هنا، تكون هناك حاجة ملحة لمراجعة المناهج الدراسية هذه جميعًا كي تسير في اتجاه تحرير الإنسان من عقدة الاختلاف وجعلهذا المفهوم محفّزًا وأداة لاحترام خيارات الآخر المختلف ومجالَ ثراءٍ لثقافة الحوار التي تعزّز مِن الاعتماد على عناصر توعوية وتثقيفية وتنشئوية متواصلة. إن التربية المنزلية بحسب الخبرة، تكون هي الأداة الراجحة لتأمين الانتقالة السليمة من وضع الانعزال والانغلاق في الدّين وعلى الذات القاصرة نحو آفاق رحبة ومساحات واسعة من الألفة والمحبة والتفاهم وقبول الآخر على ما هو عليه وليس وفق ما يريدُهالآخر المختلف أن يكون. فإذا أردنا أن ننصف بني البشر وكذا الآخر المختلف عنّا، لابدّ من التعرّف أولاً على خياراته وليس الحكم عليه منذ الوهلة الأولى بسبب اختلافه عنّا. هذه ليست وسيلة متحضّرة للحوار ولعيش الروحيّة الدينية التي تأمرُ بها الكتب السماوية. فهذه الأخيرة، لا يمكنها أن تأتي في جوهرها بما يثير الصراع والخلاف مع الغير المختلف أو أن تخرج عن السياقات الإنسانية للديانة التي ينتمي إليها هذا أو ذاك من البشر. فكلا الديانتين، المسيحية والإسلام، تأمران بتمجيد الله وتكبيرِه وتعظيمِه وتحثّان أتباعهما على فعل الخير ونكران الشرّ. وما أكثر الجسور الممتدّة والمستشعَرة للحوار بين أتباعهما!

خلاصة
لا بدّ من توسيع مظلة الحوار بين الأديان المختلفة، ومنها بصورة خاصة بين المسيحية والإسلام، اللتين تعانيان من تداعيات متنامية في قاعدة اللغة المشتركة بسبب غياب مرجعية إسلامية موحدة تقدّم مفهومًا رساليًا منفتحًا نحو الآخر وتصون ما شاب الدينَ الإسلاميّ من تأثيرات بسبب الاختلاف والخلاف في التفسير والتأويل بين المذاهب المتعدّدة
. وهنا لابدّ من قبول الطرف المحاور بالاختلاف القائم مع المقابل، من دون نكران وجوده والقيم التي يؤمن بها. أمّا الإطار الأصلح لديمومة العيش المشترك بين المختلفين دينيًّا، فإنّه يكمن باحترام الآخر المختلف والقبول به كما هو على دينه وعقيدته من دون ضغوطٍ أو انتقاص أو ازدراءٍ. فكلُّ إنسان قد أتاه خالقُه حرّيةَ ما يعتقد به دون نكران حقِّ غيره. وهذا الاختلاف عينُه، هو من صنع الخالق الذي يأمر خليقتَه بسلوك طريق الخير وينهاها عن الشرّ، وهو الأجدر بالحكم على خليقتِه دونَ غيرِه. كما أنَّهُ قادرٌ على الدفاعِ عن نفسِه ولمْ يُجزْ لأحدٍ أن يكون محاميًا عن عظيمِ جلالتِه. وهناك حقيقة أخيرة، وهي أنّالحوارَ لا يكون بالتنازل عن شيءٍ من الدّين والإيمان إرضاءً للآخر، بل بالإنصات لهذا الآخر والقبول به كما هو على دينِه في جوٍّ من الاحترام المتبادل والألفة والتسامح. فما يجمع البشرية أكثر بكثير ممّا يفرّقها.

لويس إقليمس
بغداد، في 21 كانون ثاني 2015


309
حوار الأديان جسرٌ أمينٌ للعيش المشترك
-الحزء الأول-

لويس إقليمس
 لعلَّ أولى نقلة نوعيّة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية للحوار، كانت مع انبثاق "المجلس البابوي للحوار مع الأديان" في19 أيار 1964، بمبادرة من البابا الراحل بولس السادس الذي كان له الأثر الكبير في التأسيس للحوار، ليس مع غير الكاثوليك فحسب، بل مع غير المسيحيين أيضًا، ولاسيّما المسلمين. ذلك المشوار الطويل الذي كان بدأه سلفه البابا "الطيّب"، طيّبُ الذكر يوحنا الثالث والعشرون كأحد المحاور الرئيسية في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965). وقد نُعت بولس السادس ب "بابا الحوار والمصالحة" بسبب انفتاحِه الجادّ على كنائس غير كاثوليكية وعلى غير المسيحيين، وإصدارِه الوثيقة المشهورة "في علاقات الكنيسة مع الديانات غير المسيحية، التي تطرّقت إلى حرّية الإنسان و "حقّ الشخص البشري بالحرّية الدينية".
ومن يومها، تناول العديد من النشطاء والمثقفون والمنفتحون، مِن مرجعيات دينية وشخصيات سياسية ومدنية وعلمانية على السواء، موضوع الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات. كما شهدت أروقة الأمم المتحدة ودهاليز الدول والمنظمات لقاءات متعددة الأطراف لممثلي أديان ومذاهب على مراحل مختلفة مذ ذاك اليوم ولغاية الساعة. وجميعُها كانت تصبّ ضمن مساعي خلق حوارٍ بنّاء بين المختلفين في الدّين والثقافات لتقديم شهادات حيّة عن روحيّة الأديان التي تنتمي إليها جماعاتُهم المؤمنة والسعي لفتح آفاق جديدة منفتحة فيما بينهم من خلال تبادل الخبرات وعرض تلك الشهادات بروحيّة تقديم الحقيقة للآخر، وبلغة إيمانية بحتة وليس بفرض الرأي والدّين بروح متعصّبة ومنغلقة.
وفي العراق، تمّ في 15 آذار 2013، الإعلان عن تأسيس المجلس العراقي للحوار بين الأديان بمبادرة من مؤسسة الخوئيّ والآباء الدومنيكان. والمجلس المذكور، بمثابة نواة للحوار بين الأديان ومدّ الجسور بين الثقافات الثرية التي يحتضنُها هذا البلد الجريح المبتلى بنيران الطائفية والتطرّف والتشدّد الغريبة والدخيلة على أبنائِه ومجتمعاتِه المتآخية منذ قدم الدهر. نأمل أن تُنعش هذه المبادرة الآمالَ بإعادة لحمة المحبة والتسامح والتكاتف بين جميع مكوّنات الشعب العراقيّ بمختلف أديانٍه ومذاهبِه وأعراقِه، بعد أنْ تمزّقتْ بفعل التدخلات الخارجية في الشأن الوطنيّ وسطَ غيابٍ ملحوظ مأسوفٍ له للحسّ الوطنيّ لساسة البلد الذين هرولوا وراء مصالح حزبية وفئوية وشخصية ضيقة وآثروها على المصلحة العليا.

الحوار المسيحي-الإسلامي ضرورة حياتية
هنا يأتي موضوع الحوار المسيحي-الإسلامي على رأس هذه جميعًا، نظرًا لخصوصيته وللقواسم المشتركة القائمة بين الديانتين، إلى جانب الأثر الذي تركه المسيحيون في كلّ المجالات في جسد منطقة الشرق قبل وبعد ظهور الإسلام، وكانوا فيها خيرَ خميرة وأفضلَ ملحٍ طيّبَ المنطقة وأهلَها بعطرِ المحبة والإيمان الصادق والعشرة الإنسانية وما زالوا كذلك.
لقد تناول جميع باباوات الفاتيكان أهمية الحوار بين الأديان على خلفية المسكوني الفاتيكاني الثاني ونتائجه ومسبّباته. فقد حدّد البابا بولس السادس في حينِها، نظرة الكنيسة إلى الإسلام من زاوية الاحترام لإيمانهم بالإله الواحد، خالق السماء والأرض، الذي يعبدونه ويسلّمون إليه أمرَهم، تمامًا كما سلّم إبراهيم أبو المؤمنين أمرَه إلى خالقه. كما دعا في وقتِها إلى الاتحاد بين أتباع الديانتين والعمل على المصالحة والسلام، تمامًا كما تأمرُ الد يانتان في الإنجيل والقرآن.
وجاء سلفُه البابا القديس يوحنا بولس الثاني ليكمل المشوار بإعادة تسمية المجلس الحبريّ وصياغتِه وفق أسس متجّددة في 28 حزيران 1988. فهو رأى في الحوار المسيحي-الإسلامي جزءًا من رسالة الكنيسة التي يستند إليها شهودُ المسيح في رسالتهم للعالم.
فيما يذهب البابا المتقاعد بندكتس السادس عشر إلى اعتبار الحوار بين الأديان والثقافات "ضرورةحياتية"، وهو يعدّ المسلمين إخوة للمسيحيين ويحثّ على التحاور معهم من أجل خلق رؤية مشتركة. ففي 26 أيلول 2006، قال البابا بندكتس في لقاءٍ خاص أمام دبلوماسيين مسلمين في الرباط: "في عالم تطبعُه النسبية وغالبا ما يلغي سموَّ كونيّةِ العقل، فإننا بحاجة ملحة لحوار   حقيقيٍّ بين الديانات والثقافات، حوارٍ يمكّنُنا سويًّا من تجاوزِ جميع الصعوبات بروحٍ منَ التفاهم المثمر". وأكد البابا في حينها، مواصلتَه الجهود التي قام بها سلفُه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، معربًا عن أمله في "مواصلة علاقات الثقة التي ربطت بين المسلمين والمسيحيين منذ سنوات، بل وتطويرِها بروحٍ من الحوار الصادق القائم على الاحترام وعلى التعارف المتبادَل، حوارٍ يركز على القيم الدينية المشتركة، ويرمي بأمانة إلى احترام الاختلافات".
أمّا قداسة البابا فرنسيس الأول، بابا روما المالك سعيدًا، فقد دعا في 14 تشرين أول 2013، خلال لقائه المشاركينَ في الجمعية العامة للمجلس الحبري لتعزيز التبشير الجديد في الفاتيكان، الى الالتزام بالسعي للقاء الآخرين ومحاورةِ أتباعِ الأديان الأخرى منْ دونِ خوفٍ أو تردّد، موضحا "أنَّ التبشيرَ الجديد حركةٌ متجددة نحو أولئك الذين فقدوا إيمانَهم، والمعنى العميق للحياة". كما أشارَ قداستُه، إلى أنَّ "كلَّ مسيحيٍّ مدعوٌ للتواصل مع الآخرين، وإقامة الحوار مع أولئك الذين لايفكرون مثلنا، والذين يؤمنون بعقيدة مختلفة، أو الذين ليس لديهم إيمانٌ مطلقا". وأضاف: "علينا لقاءَ الكلّ، لأنَّنا جميعًا نشتركُ في حقيقة كوننا خُلقنا على صورة الله ومثاله". وخلصَ قداستُه الى القول: "بإمكاننا أن نخرجَ للقاء الجميع دونَ خوفٍ ودونَ التخلي عن أصولِنا"، مضيفًا: "آمل حقا أنْ تستمر علاقات الثقة، التي نمت بين المسيحيين والمسلمين، منذ سنوات طويلة، لا بل أن تنمو بروحِ الحوار الصادق والاحترام المتبادل، على أساسِ المعرفة المتبادلة والحقيقية، التي تقرُّ بفرحٍ بالقيم الدينية المشتركة بيننا والتي تحترمُ بصدق الاختلافات". وفي لقائهِ يوم 8 كانون ثاني 2014، مع وفد مِن جمعية سانت أجيديو الإيطالية، شدّدَ البابا فرنسيس على أنَّ"الحوار لابدَّ أن يكون في جميع الاوقات وليس في الازمات او الحروب" مذكِّرًا أنَّ"العالمَ سوف لا يرى السلام إلّا بالمحبة واحترام الرأي الاخر والحوار الديني والعلمي البناء".
وفي رسالة وجهها الى مسيحيي الشرق الاوسط في 23 كانون أول 2014، دعاهُم فيها الى الحوار مع الأديان الاخرى على الرغم من الصعوبات مؤكدًا أنّه " لاسبيل آخرَ من أجل تسوية المشاكل". وهذه الرسالة التي نشرت في حينِها بسبع لغات بينها العربية، ركّزتْ على قول البابا برغوليو (فرنسيس) من أنَّ "الحوار ما بينَ الأديان يكتسبُ أهميةً أكبر، بقدرِ ما تزدادُ الأوضاعُ صعوبةً. وليس من سبيل آخر، لكون الحوار المرتكز إلى مواقف الانفتاح في الحقيقة والمحبة، يشكّلُ أيضًا أفضلَ ترياقٍ لتجربةِ الأصولية الدينيّة التي تُهدّد مؤمني كلّ الديانات. والحوارُ هو في الآن معًا خدمةٌ للعدالة وشرطٌ أساسيٌّ للسلام المنشود". وكان البابا فرنسيس قد تحدّثَ بذات الرؤية، خلال مؤتمر صحفيٍّ جمعَهُ بالرئيس التركي "أردوغان" في القصر الرئاسي في انقرة في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، بدعوتِه لتركيا المسلمة الى"حوار بين الاديان" أمامَ التعصب الذي يعصفُ بالمنطقة، وكي تكون "جسرا طبيعيا بين قارتين وبين تجليّات ثقافية مختلفة"، موضحا أنَّ "مساهمةً مهمة يمكنُ أن تصدر عن الحوار الديني والثقافي بطريقة من شأنها منعَ كلِّ أشكالِ الأصوليّة والإرهاب".

الحوار يعني قبول الآخر المختلف
إنَّ أيَّ حوار لا يقوم على مبدأ قبول الآخر واحترام خصوصياتِه وخياراتِه يبقى في خانة حديث الطرشان، لأنّ أساس الحوار هو الإنصات للآخر، لهذا الغير المختلف، ربّما في الفكر والدين والعقيدة واللون والعرق واللغة، وما إلى ذلك. كما أنّ الحوار يُبنى على شيء اسمُه التفاهم كي يكون مثمرًا وقابلاً للتطبيق في الحياة اليومية. فهو دومًا، جسرٌ للتواصل وصمّامُ أمانٍ للمختلفين في كلّ هذه وتلك من الأمور والشؤون الخاصة والعامّة. وإنّه من دون وجود قاعدة بيّنة لهذا التفاهم حول الاختلافات الفكرية والعقائدية، لن يكون من الممكن مدُّ مثل هذه الجسور للتواصل المستمرّ كي يأتي بثمارِهِ. فالاختلاف في وجهات النظر أمرٌ مقبول مِن دون أن يؤدّي ذلك إلى تحوّله إلى خلافات وجدالات وصراعات عقيمة، لا تخدم أيّا من الأطراف المختلفة، أيّا كان نوع الاختلاف هذا. بل المنطق والعقل يوصيان بمدّ مثل هذه الجسور في الحياة العصرية المعقدة بتفاصيلها، حيث يسهم الحوار بشكل فاعل في اكتشاف الآخر والتعرّف إلى وجهات نظره، ربّما المختلفة عن محاوِرِهِ المتربّص أحيانًا. كما أنّه مفتاحُ الأمان لأسس الحياة المعقدة، في عالمٍ تسوده الأنانية والعولمة الاستكبارية والمفاهيم الاستعلائية والتهميش والإقصاء والنظرة الدونية للآخر. فهو إذن، مِن وجهة نظر المجتمعات المتعايشة سلميًّا، ذلك الطريق السليم للاطمئنان على سيادة الاحترام بين الثقافات المختلفة، حضاريًا ودينيًا وعقائديًا، ومنها سيادة العلاقات الصحيحة والمقبولة في أوساط المجتمع بكلّ اختلافاتها ومبرّراتها وهواجسها.
إنّ القرآن يتطرّق بصورة خاصة إلى أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية (النصرانية) التي سبقت انتشار الإسلام، بمودّة وحسن معاملة ووعدٍ بالخلاص بسبب كونهم أهلَ الكتاب " ولا تجادلوا أهلَ الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن" (العنكبوت 29:46)، في إشارة إلى خصائص إيمانية مشتركة بإله واحد. وقد وردت آياتٌ عديدة في هذا السياق، ولاسيّما في الحقبة "المدنية" لنزول الوحي التي اتسمت بتوجيه خطابٍ مباشرٍ لأتباع الديانتين السابقتين للإسلام: " إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئيّين مَن آمنَ باللّه واليوم الآخر وعملَ صالحًا فلهُم أجرُهم عندَ ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزنون" (البقرة 2:62).
من هذا المنطلق وبعيدًا عمّا ذهب إليه الدّينُ الجديد آنذاك بعد استقوائه وضمّه قبائل وعشائر إليه بوسائل متعدّدة، ترغيبية وترهيبية، وفي ضوء ما يشهدُه العالم اليوم من صحوة سلبية أصولية متطرفة، رأت الكنيسة، أنَّ الحوارَ هو أفضلُ خيارٍ لتقريب وجهات النظر ومحاولة فهم الآخر بهدف السّير في طريق آمنٍ تشترك فيه الديانتان مع غيرِهما في عبادة نفس الإله وتؤمن بذات الخلاص الموعود، وإنْ اختلفت الصورة والشكل والوسيلة! والتاريخ يحدّثُنا عن حوارات جادّة بين أتباع الطرفين من منظور احترام كلِّ طرفٍ لعقيدة الآخر، تمامًا كما حصل في غابر الأزمان من حوارات مثمرة، ومنها تلك المحاورة المشهودة بين الخليفة المهدي والجاثاليق المشرقي طيمثاوس في القرن الثامن الميلادي، والتي جرت في جوٍّ من المودّة والمحبة والتفاهم والانفتاح من غير مجاملات ولا مداهنات ومن دون أن يفرض طرفٌ نفسَه وفكرَه وعقيدتَه على الطرف الآخر. فقد كانت بحق، تقليدًا حضاريًا جديرًا بالتكرار وفعلاً ثقافيًا رفيعًا في مستواهُ وكذا في السؤال وفي تلقّي الرّدود المقنعة. كما يذكر التاريخ حوارات مهمّة أخرى على عهد رسول الإسلام والخلافة الراشدية والأموية والعباسيّة، حيث كان الاعتماد على العلماء من المسيحيين (النصارى) في دواوينِهم وطبابتِهم وأمانتِهم لبيت المال وتراجمِهم ونقلِهم لعلوم شعوبٍ وأممٍ متقدّمة آنذاك، طلبًا للعلم والثقافة.
  لعلَّ من سمات الجانبِ المتحاوِر، الاتّسامُ بالحكمة والنية الحسنة والعلمِ الوفير في بسط الأمور وتفهّمِها بحسب معايير لا تفتقر إلى الفطنة والبصيرة ومبدأ القبول بالرأي الآخر، حتى لو اختلف الجانبان فكرًا ورؤيةً وعقيدةً. وهكذا، يبقى الحوارُ أفضلَ السبل لتحاشي التوترات وحقن الدماء ووأد العنف المتزايد بسبب سوء فهمٍ في تفسير الكتب السماوية وقصورٍ في تمييز الحلال عن الحرام والمعروف عن المنكر، بحسب الاجتهادات والأهواء. كما لا ينبغي أن تتحول الاختلافات الّلاهوتية والعقائدية والأخلاقية إلى شكل نزاعات، مادامَ الفرق في مقياس الله ورؤيته هو الإيمانُ والأعمال وحسنُ السيرة وليس الهويّة الدينية.
لكنّ المرحلة المظلمة حصلت مع فترة الحروب الصليبية التي كانت نتائجُها كارثية على مسيحيّي المنطقة بسبب تركها آثارًا سلبية في عقلية الإسلام الأصوليّ المتشدّد الذي جابه "الجهاد الغربيّ" غيرَ المبرّر بجهادٍ متزمّتٍ أوسع وأشدّ ومدمّر، بالرغم من وقوف المسيحيّين بمختلف فرقهم ومذاهبهم إلى جانب إخوتهم العرب في الدفاع عن أوطانهم وأراضيهم من الغازي الغريب. فماتزال تلك الفترة تشكّلُ وصمةً سوداء لدى الكثيرين من حيث نسبُ كلّ ما يتعلّق بمسيحيّي الشرق اليوم إلى الغرب "الكافر" وتبعيتهم له، رغم أنّ مثل هذه الأفكار ليست سوى هراء ولا تعكس الحقيقة. وقد آن الأوان، إنْ لم يفت، أنْ يكفّ حاملو مثل هذه الأفكار المتزمّتة عن هذه الترّهات ويعودوا إلى رشدهم وجوهر عقيدتهم الإسلامية واليقين بوجود آياتٍ خلافيّة ناقضة وناسخة لبعضها قد وردت في حينها بهدف معالجة قضايا آنيّة، وهي اليوم غير ممكنة التطبيق ولا تصلح في عصرالعولمة والعلم وعجلة التقدّم الجارفة. فما صَلُحَ وجازَ وكانَ مقبولاً بالأمس وقبل أربعة عشر قرنًا، لم يعدْ مقبولاً في عصر الحداثة والتقدّم ونحنُ في الألفية الثالثة!!!

أهمية التعايش السلمي بين الشعوب والأمم
إنّ أيَّ حوار اليومَ، كما سبق الإشارة إليه، ينبغي أن يجري بقلب رحبٍ وبنيّة صافية وإرادة صالحة، بعيدًاعن التعصّب، أيّا كان شكلُه أو نوعُه أو غرضُه، إذا أُريدَ له خلقُ أجواءٍ طيّبة للتعايش السلميّ وتنمية المجتمع على أسسٍ رصينة عادلة ومعتدلة في آنٍ معًا. هنا، لابدّ للطرفين المتحاورين أن يخرجا أولاً عن خانة الأحكام المسبقة الواحد ضدّ الآخر وأن يعتمدا نظرةً منفتحة في أسلوب فهم الآخر ونواياه، من دون مجاملة أو رياء على حساب عقيدة أيّ من الطرفين. فالهدف هو فهم الآخر ومحاولة القبول به كما هو في اختلاف عقيدته ورؤيته الّلاهوتية والعقائدية والمذهبية، وليس بالجدال العقيم المتعصّب الذي يسعى لفرض الرأي والاستعلاء والاستكبار بالأفضلية على الآخر المختلف. حينه يمكن للطرفين أن يعمّقا المعرفة ببعضهما البعض ويختبرا عقيدة بعضهما البعض بالرغم من اختلافها. فمعرفة الآخر المختلف تبقى أفضل رهانٍ لفهم الآخر والقبول به كما هو، بدل الانغلاق والانكفاء على الذات والتعصّب التي لا تجلب جميعُها غيرَ اليأس والبؤس والعنف والخلاف الذي يمكن أنْ يولّد بدوره صراعات ونزاعات مدمّرة، كما يحصل اليوم.
وهذا هو دور النشطاء والمعتدلين والمتفتّحين والمثقفين اليوم، والذين عليهم تقع مسؤولية خلق هكذا حوارات متحضّرة ناضجة تضعُ الأسسَ الحضارية للنقاش المثمر بهدف خلق مجتمعات متعايشة سلميًا، بالرغم من تعقيدات الحياة المعاصرة وتجاذباتها وحيثياتها. فالسلمُ الأهلي، أصبحَ اليومَ، قابَ قوسين أو أدنى من تعرّضه لتمزّق اجتماعيّ قاسٍ، قد يخلُّ بنظام العيش المشترك ويطيح بكلّ آمال المجتمعات الساعية للتعاون والتكاتف وتلك الطامحة لبناء جسور من الألفة والتسامح والمحبة بين أتباع الديانات والمذاهب والمعتقدات والثقافات المختلفة التي يُفترض أن يجمعها حبُّ الله والإنسانية وتنمية مواردها البشرية وتطوير قواعدها الاجتماعية لتتلاقى وتنسجمَ مع تطور الحياة المتواصل، بدل خلق صراعات كارثية. فما يجمعُ الأطراف كافة أكثرُ ممّا يفرّق!
لقد نبَّهَ المرجعُ الدّينيّ العراقيّ علي السيستاني بدورِهِ، إلى "عدم اعتبار الحوارِ حالةً وقتية أو حينما تحدثُ مشاكل، بل أرادَ للحوار أن يصيرَ جزءًا مهمًّا في الحياة الانسانية الحقيقية، ولايوجد مشكلة للقاء الانسان مع الاخر بما أنَّه تربطنا دياناتُ السماء. والإسلامُ والمسيحية هما من ديانات السماء". كما أكَّدَ لوفد منظمة سلام الإيطالية في 9 كانون ثاني 2014 في النجف، على "ضرورة الحوار والتواصل السليم والاحترام بين الأديان الذي من شأنِه أن يعزّز أطرَ الثقة بينهم ويصل إلى قلوب الناس بما يعزّز مفهوم السلام". وهذا الحديث ينمُّ عن حكمة نطق بها شيخٌ له رؤية إنسانية شاملة تبحث عن الاحترام المتبادل بين أتباع الديانات وعلى التعاون والتعاضد والتعايش الذي تكفلُه عقائد الديانات على اختلافِها.
إنّي أعتقد أنَّ من بين السبل الكفيلة بتعزيز التعايش بين المجتمعات، يكون بالسعي الجادّ من الجميع لتضافر الجهود العالمية بخلق قاعدة واسعة تكفل قبول الآخر المختلف وتضع مبادئ أساسية في التلقين والتعليم والخطاب الموجّه كي تكون هذه جميعًا بمستوى الطموح الإنساني الذي توصي به الديانات السماوية وتعزّزه مختلف الصكوك والقوانين والتشريعات الدولية التي توصي جميعًا خيرًا بالإنسان والإنسانية. إنّ الجهود التي تُبذل في هذا المجال كثيرة وكبيرة، ولكنّها تبقى في حدود التمنيات الطوباوية. فالمبادرات العديدة الصادرة من مراجع دينية بخاصّة -لكونِ الأخيرة هي عقدة القضية-، وكذا من نشطاء ومنظمات دولية مهتمة، جميعُها تسعى لخلق عالمٍ منفتح يقبل بخيارات الآخر وحرّيتهِ في عيش معتقدِه ودينِه بحسب خيارِه الفرديّ من دون تأثير خارجيّ أو ضغوطٍ جانبية أو تهديدات، مهما كان نوعُها أو مصدرُها. وهذا يتطلب جملةً من ترتيبات تعاون وتنسيق بين جهاتٍ مختلفة يمكن أن تضطلعَ بدورٍ رياديّ وحاسم في تعميق مفهوم السلم الأهلي الصادق والعيش المشترك المتكافل بين مختلف الشرائح القائمة المتحاورة. فاحترامُ خيارِ الآخر والإيمانُ بفاعلية التنوعهي السبيل الأمثللمواجهةالتطرف والأيديولوجيات المريضة التي ظهرت تباعًا.
هناك جانبٌ آخر شديد الأهمية. فالخطابُ الدينيّ، في المعابد والجوامع والكنائس ينبغي أن يهدفَ، هو الآخر، لبناء الأوطان ولوحدة الصفّ التي من شأنِها تأمين مناخٍ يقدّس ثقافة الحياة ويبشّر بعظمة المحبة والرجاء والتسامح التي على ضوئِها أوجدَنا الخالقُ محبُّ البشر. فقد أودَعَنا فردوسَه الأرضيّ وثرواتِه الكثيرة، كي نقدّسَ نعمتَه فيها ونبجّلَ اسمَهُ القدوس عليها ونكبّرَه آناءَ الليل وأطراف النهار بسببها، وليس من أجل ممارسة العنف والقتل واحتقار الغير وتهميش الآخر والانتقاص من قيمتِه البشرية ومن دينِه ومعتقدِه وخياراتِه. فالدّين، أيًّا كان مصدرُه، لا ينبغي أن يتحوّل إلى أيديولوجية سياسية تقتلُ وتسبي وتكفّرُ وتهجّر وتهدّد باسمِه، لاسيّما ونحنُ في الألفية الثالثة، عصر التنمية والتقدّم والتطوّر. فهل الدهرُ يعودُ بنا إلى الوراء، إلى زمن التخلّف وركوب الجمال وعبادة الأصنام وغزوات القبائل ووأد البنات ورجم الزناة وما إليها؟ فاليوم، أصبحنا ندرك أنّه ليسَ من حقّ أيٍّ كانَ من خلائق الله الكثيرة على وجه البسيطة، أن يعمدَ إلى فرض دينٍ معيّن أو شريعةٍ ما على غيرِه من الكائنات. فكلٌّ يعبدُ على طريقتِه ووفقَ خياراتِه التي منحه إياها الخالق في عيشِها وتقويمِها وتأييدِها ونشرِها، شريطة عدم التجاوز على غيرِه من الكائنات أو بفرضِ ما لا يتوافقُ مع هذه الخيارات المقدسة.
هناكَ مسألةٌ أخرى، ينبغي التقيّد بها احترامًا لقدسية الخليقة وطبيعة الأديان القائمة التي تدعو جميعًا إلى الألفة والمحبة والتسامح. فكلّ ديانة تدّعي هذه السمة السمحة في تعاليمِها. فأينَ المشكلة إذن؟ إن كانت في قراءة النصوص، كما وردت في أساسِها وفي زمنِها وفي مكانِها، في غابر الأزمان، فهذه لم تعد تنفع في عصر العولمة والتقدّم وتطور الشعوب وأساليب حيالتِها الوضعية القائمة. بل الضرورة تقتضي فكرًا مستنيرًا متطورًا في التفسير والتأويل والبسط والنشر والخطاب يتناسب مع تطوّر الزمن والتكنلوجيا وآلتِها الجديدة دائمة التطور والتجديد والتغيير. وهذا واجب القائمين على المنابر وفي وضع المناهج الدراسية العامة والخاصة في مختلف المراحل، مع آلية جديدة متطورة لوضع حدود للمناهج الخاصة التي تدعو للتكفير والتشدّد والتطرّف في جزئياتِها وفي نقلِها غيرِ الموفق للنصوص الدينية، لاسيّما المتناقضة فيما بينها وفي التفاسير التي لم تعد تنسجمُ اليومَ مع تطوّرِ الحياة وتنوّر الفكر وتقدّم العلوم والرغبة بالتحرّر المعتدل الذي يحترم حياة البشر، مهما كان دينُه أو عرقُه أو جنسُه أو لونُه أو خيارُه الشخصيّ.
في كلمتِه التي أُلقيت بالإنابة عنه في المؤتمر العراقي لإدارة التنوع، الذي أقامهُ المركز الوطني للتقريب الديني، بمناسبة اليوم العالمي للأديانللأيام 19 و20 كانون ثاني 2015، في فندق فلسطين ميريديان، ذكّرَ البطريك الكلداني ورئيس كنيسة العراق روفائيل الأول ساكو المؤتمرين بالقول: "التهديد الأكبر ليس إرهاب داعش، وإنما منظرو الفكر التكفيري ودعاتُه ومروّجوه وكذلك بعض القوى المتنافسة على السلطة التي توظفّ الدين". وهذه تأتي ضمن دعواتِه المتواترة للسياسيّين والعقلاء والمعتدلين والزعماء الروحيين والدينيين، وعبر مبادراتِه الفكرية المتجدّدة بضرورة تجاوز الشحن الطائفي والابتعاد عن لغة التكفير واعتماد مشروع مشترك لتفكيك هذه الأيدولوجية التكفيرية وأيةٍ أخرى تحمل ذات الفكر المريض. فالأيديولوجيات المريضة، دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية، ولاسيّما المتعصّبة والمتشدّدة والأنانية منها، لا تخلق أجواءً طيبةً للتسامح والتعايش المشترك الآمن. كما أنها تفتقر إلى روحية المحبة والسلام ولا تساهم في زرع الأمان والاستقرار في صفوف الشعوب وبين الأمم والدول.
-يتبع-




310
رسالة من صحفية فرنسية:
 إلى "محمد موسوي" رئيس المجلس الإسلامي في فرنسا
لويس إقليمس
(الرسالة مترجمة عن الفرنسية)
ملاحظة: ترددتُ كثيرًا في نشر هذه الرسالة، لعدم رغبتي بإثارة مثل هذا الموضوع الاستفزازي للبعض، بعضَ الشيء، بعد جريمة "شارلي إيبدو"، الموجّهة ضدّ حرية التعبير، بالرغم من عدم تبريرها. إلاّ أنَّ ما عاينتُه فيها من مفردات وأسئلة موضوعية ومحاججة تعزّز من حرّية التعبير في  بلدٍ يقدّس العلمانية لحدّ الجنون، دفعني لنشره للرأي العام والمثقفين والمتنوّرين ومحّبّي الحرية والديمقراطية والحالمين بوطئ أرض الجمال والعطور، بلد الحرية والمساواة والتآخي.
المترجم

... هذه ترجمة لنصّ الرسالة التي نشرتها صحفية فرنسية والموجَّهة إلى رئيس المجلس الإسلامي في فرنسا، السيد محمد الموسوي:

(( السيد موسوي،
صدر العدد الجديد من "شارلي إيبدو" والمتضمن رسمًا ل"محمد"، متيحًا من جديد، فرصةً لردود أفعالٍ مؤسفة من قبل أفرادٍ يُنظرُ إليهم بغير المستنيرين، ما يترتب على السيد "رئيس المجلس الإسلامي لمسلمي فرنسا"، الإرشادَ والتوجيه.
 في العدد الصادر من جريدة "لي موند" يوم الأربعاء، أكّدتُم عدم وجود صلة بين الانتخابات في تونس وليبيا والإساءة الكاريكاتيرية. وهذه تذكر بطريقة أو بأخرى، ما تمثّلُه الشريعة أو في الأقلّ الجزء الأكثر دراماتيكية منها للمواطن الفرنسي، ومنها في الأساس، ما يجري على أراضيه.
إنّي أعدُّكَ شخصًا ذكيَا ومثقفًا. من هنا، كان عليكَ أن تدركَ أنّ الكاريكاتير في فرنسا، فنٌّ تقليديٌّ قديم جدا، بالإضافة لكونِه فنًّا شعبيًّا، ولا يستثني أحدًا، ولاسيّما كلّ ما يتعلّق بمواضيع الساعة. ثمّ أنّ إحياء الشريعة في بلدٍ عرفَ العلمانية منذ أمدٍ بعيدٍ يبقى موضوعًا خطيرًا ومثيرًا للقلق بما فيه الكفاية كي لا ينتكس القانون.
الشريعة هي نظام قديم قائم منذ أربعة عشر قرنًا خلتْ، اتسمتْ بمجملِها بالشناعة، وحب الجنس، والتخلّف، والتمييز والمعاداة للديمقراطية.
لذا فإنَّ رفض مثل هذا النظام عبر الرسم الكاريكاتيري، هو وسيلةٌ للتعبير عن كلّ هذه الدناءة.
إنّ إدانة الشريعة، يا سيدي، هو عملٌ من أجل السلامة العامة الضرورية لصيانة الديمقراطية التي تتمتعون بها، وأنتم تعيشون على التراب الفرنسيّ في أجواء الحرية الكاملة.
وإنّي أسألُك: هل أنتَم تتمتعون بذات الحرية في المغرب؟
أنا أشك كثيرًا في هذا، وإلا كيف نفسّرُهذا العدد الكبير من المغاربة الذين يتخلّونَ عن بلدهم المغرب للعيش في فرنسا؟
إنها من دون أدنى شك، عائدة في أسبابِها إلى الأجواء الطيبة والحرية الموجودة هنا.
إن الشريعة التي يدعو إليها القرآن، والتي أضحت جزءًا متمّمًا للإسلام (القرآن هو أساس الإسلام، فيما الأيديولوجية الإسلامية ليست سوى التعبيرٍ الأكثر عنفًا فيه)، بدأت تثير القلق، ولاسيّما من جانب عددٍ كبيرٍ من الذين أجازوا هذا الفعل الشنيع المضادّ للديمقراطية من المقيمين على أراضينا، وآخرين من "أهل الذمة" المنتخَبين كما تسمّيهم عقيدتُكم وهم ينادون بحقّ هؤلاء المروّجين للشريعة بالتقدّم للترشح للانتخابات مع العواقب الرهيبة التي في تصوّرهِم.
أنتُم تصرّحون بأنَّ"مجرَّدَ عمل صورة كاريكاتيرية للنبي، هو في حد ذاته أمرٌ غير مقبول وجارح، بالنسبة للمسلمين".
عملٌ جارحٌ، ربّما نعم، ولكنْ غيرَ مقبول، كيف؟
ما هو غير مقبول، هو حظر الطلاق،"بما في ذلك في فرنسا."
ما هو غير مقبول، هو السماح بتعدد الزوجات،"بما في ذلك في فرنسا."
ما هو غير مقبول، هو اعتبار أنَّ المرأة هي أقل شأنا من الرجل،"بما في ذلك في فرنسا."
ما هو غير مقبول، هو حبس النساء بأكفانٍ من السواد، "بما في ذلك في فرنسا".
ما هو غير مقبول، هو منع المرأة من الزواج من رجل تختارُه، وإجبارُها على الزواج من رجل تختارُهُ لها عائلتها، "بما في ذلك في فرنسا."
ما هو غير مقبول، هو وجود "المجلس الأوروبي للبحوث والفتوى الذي يُصدرُ فتاوى تدعو لتطبيقها في فرنسا".

في فرنسا، لا يوجد قانون يعاقِبُ على التكفيرأو الإساءة، كما أظهرَتهُ الحالة الأخيرة من إحراق القرآن، وشهدت الإفراجَ عن الفاعل.
لذلك في فرنسا، يا سيد موسوي، إن رغبَ أحدٌ بحرق القرآن، فهو مسموحٌ لهُ. كما يسري هذا تمامًاعلى رسّام الكاريكاتير والساخر من النبي، الذي تتبعهُ أنتَ. كما أنَّ التظاهرات المتعددة المعادية لصدور هذا العدد من مجلّة "تشارلي إبدو"، لم تتوقف على المنتديات والمواقع، وفي بعضِها إساءة كبيرة للفرنسيين، والبعض الآخر يطالبُ بصوتٍ عالٍ برسوم كاريكاتيرية لمذبحة اليهود في الأربعينات"، وهو ما يبدو بعيدا جدا عن تمنياتكم بحصول "خلاف في مدى احترام القوانين واندماج الأشخاص في المجتمع".
كان الأجدر بكم، تذكيرَ أتباعِكم في الدّين، لو كانوا تحلّوا بشيءٍ من فضل المعروف والمحبة إزاء مَن استقبلَهُم من المواطنين، بأنَّ عيد الأضحى الذي سيحتفلون بهِ في غضون أيام قليلة، هو تكريم متميّزٌ لإبراهيم، وهو يهودي!
في رأيي، على البعض أن يتجاهل مثل هذا التفصيل، نظرا للمستوى الفكري الواطئ في تعليقاتهم.
في المقابلة التي أُجريتْ معكم، أثارتني عبارة على وجه الخصوص: "في ذات الوقت،عليهم القبول والفهم أنَّ الإشارة إلى المقدَّس في مجتمعاتنا، ليس ذاتُهُ للجميع."
وأريد أن أعرف عن أيّ مجتمع تتحدثون؟
هل هو المجتمع المسلم؟
هل هو المجتمع الفرنسي؟
أم هل هو المجتمع المغربي؟

إذا كان المقصود، هو المجتمع المغربي، فلأنّكم لا تشعرون بالمواطنة الفرنسية.
وإذا كان المقصود هو المجتمع المسلم، فلأّنكم لا تشعرون بالديمقراطية.
أمّا إذا كان المقصود هو المجتمع الفرنسي، فإنّي أودُّ التذكير بأن ليسَ ثمّةَ علاقة مع المقدس، طالما أنّهُ منفصلٌ عن الدّين منذ إقرار القانون الشهير في 1905، ما يجعلكُم بوضوح، غيرَ قادرين على الاندماج  على الرغم من حصولكُم حديثًا على الجنسية.
من ناحية أخرى، وكما ظهر في الوثيقة التي تشير إلى المسالخ المختلفة المستخدمَة للعيد، أنتُم توضحون تماما الصعوبة التي تعتمدونها باعتباركم مواطنين فرنسيين  بالتمام والكمال، طالما توجهون نذوراتكم " إلى المسلمين في فرنسا"، وليس إلى المسلمين الفرنسيّين؟
لذا، فإنّي أدعوك،  أنتَ وأتباعَك "في فرنسا"، للاستفسار عن دوركم في مجتمعنا الفرنسي ومدى قدرتكم على الالتزام بقيمنا العلمانية والديمقراطية، وإمكانيّتكم أيضًا على ممارسة السخرية الذاتية؛ بسببِ حصر ذاتكم بالعمامة.
إنني أتطلع إلى تقريركم حول ما تُلحقهُ الإسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام) من الأعمال التي أشرتُم إليها، ولن أتوانى من جانبي من تجميع ونقل ما يحصل من  أعمال بسبب الفرنكوفوبيا (الخوف من الفرنكوفون).
إلى جانب هذا، وأنا في بحثي (عبثًا) عن عنوانكم، وقع بصري على الفور على مقالة على موقع المجلس الإسلامي في فرنسا، وهو يسيءُ بصورة خاصّة، إلى المواطنين الفرنسيين.
لقد صدمت كثيرًا، بالإشارات التي تتطرّقُ فيها إلى رهاب الأجانب في هذه المقالة، وهي تتعلّق بشيءٍ يخصُّ فرنسا التي تصفها ب"الجمهورية المريضة والشيطانية" و"الحامية الطيبة لسلطة غامضة"، والتي "تجد متعتَها في المشهد المأساوي لطرفٍ غيرِ مرغوبٍ فيه في تركيبتِها السكانِية"، والتطرّق إليها ب "فرنسا، ضحية العجرفة والكبرياء".
باعتباركم، ممثلاً للمسلمين في فرنسا، وتقديرًا للبلد الذي رحَّبَ بكم وقبلَكُم مواطنين، كان يُفترضُ بكم عدم تحقيرِه وتمريغ سمعتِه من قبل مجتمعِكم في الوحل. ففي حال عدم وجود قانون يجرّمُ التكفير، فإنّ قانون التشهير والقذف قائمٌ على قدمٍ وساق.
ولذلك، فإنني أطالبكم بكلّ جدّية، القيام بتصحيح هذه المقالة الجارحة، بهدف عدم خلق المزيد من التوترات.
وتفضلوا، يا سيد موسوي، بقبول تحياتي العلمانية الخالصة.))

كارولين ألاماشير
صحفية فرنسية

- إنتهى-


311
فرنسا الحرّية والجمال لا تخاف!

لويس إقليمس
لم تهدأ بعدُ فورةُ الصدمة من حادثة الإرهاب على صحيفة "شارلي إيبدو" والمتجر اليهوديّ يوم الأربعاء 7 كانون ثاني الجاري. فقد، أيقظت هذه الجريمة الرأيَ العام الفرنسي والأوربي والدولي على السواء من شيءٍ مخيفٍ يجري من تحتهم، من حيث يعلمون أو يغفلون. فالكلُّ مجمعٌ هذه المرّة، على ضرورة اتخاذ التدابير الحاسمة والفورية لمعالجة وضع الإرهاب المتطرّف المتنامى يومًا بعد آخر باسمِ الدّين والدّينُ منه غيرُ مدرِك لمسالكِه!
في "شارلي إيبدو"، دقّتْ نواقيسُ الخطر من جديد، مقابلَ ضخامة الجريمة وهي تُرتكبُ في بلدٍ ديمقراطيّ يقدّسُ العلمانية، ومنفتحٍ على كلّ الأديان والمذاهب والأعراق والألوان. الحدثُ الجلل، أبانَ وبما لا يقبلُ الشكّ، ضرورةَ مقابلةِ شرِّ أوكار إرهاب المتطرّفين بحملةٍ شاملة وكاسحة لدكّ أوكارِهم  والقضاء على خلاياهُم النائمة في دول فتحت أبوابَها من منطلق الحرّية والإنسانية وحقوق الإنسان. هذه الخلايا النائمة، وما أكثرَها في بلدان الحرّية ومنها فرنسا بالذات، قد استفادت من مساحة التسامح والانفتاح لتنفث سمومَها الكامنة في أية مناسبة متيسرة بوجه هذه الدول الديمقراطية التي كما يبدو، لمْ ولنْ تتعلّمَ الدروسَ البليغة التي سجّلتها هذه الخلايا وعناصرُها المتشدّدة في سابقات غيرِها والمتمثلة  بأعمالٍ إرهابية واضحة. والعاقل يتساءل دومًا: متى ستتعلّمُ الدول الديمقراطية المتحرّرة الغربية أن تردَّ بالحسم الجازم أمثالَ حاملي الأفكار المتطرّفة الذين يهدّدون كلَّ يومٍ أركانَ دولها باجتياحها إسلاميًا، بالسرّ والعلَن، وسط تفرّج زعماء الغرب وأحزابِهم المتخاذلة والخانعة لطموحات التشدّد والتطرّف الذي يسري من تحتهم كالأنهار، ويهدّدُ بطوفانٍ لا تُحمدُ عقباه؟
الصدمة التي ولّدها إرهابيّو الأربعاء 7 كانون ثاني 2015 وسط المجتمعات الغربية المتسامحة، ما تزال ماثلة، بسبب الخوف المتزايد من العيش وسط خلايا إرهابية محتملة من شأنِها أن تستيقظ لأية مناسبة وتدكّ مواقع ومكاتب ومؤسسات، دينية وعلمانية وحكومية، عامة وخاصة على السواء. والحادثة الأخيرة قد تركت الباب مفتوحًا لخوف الجار من جارِه، والزميل من زميلِه، والجماعة من غيرِها المختلفةِ في الدّين والمذهب والعرق والهوية والجنس. أمِن خوفٍ وإرهابٍ أكثر من هذا؟ أليست هذه هي عينُ "الفوبيا" التي حذَّرَ منها الكثيرُ من العقلاء، بعد أن انتشرت في العقود الأخيرة وأصبَح روّادُها يسرحون ويمرحون، ولا خوفٌ أو إجراءٌ جدّيٌّ على تحرّكاتِهم وتخرّصاتِهم وتهديداتِهم العلنية والسرّية على السواء؟
لغاية اليوم، لمْ يلحظ العالمُ، مِنْ جدّية كافية في مكافحة آفة الإرهاب التي خلقَها الغربُ نفسُه، وها هو يكتوي بنيرانِها المستعرة، ويعضُّ أصابعَ يديهِ ورجليهِ متحسِّرًا على فعلتِه الشنيعة وخطيئتِه العظمى. والقادم أعظم! فماعدا النزر اليسير من فبركات الضربات الدولية القائمة حاليًا في هذا المجال في مساء العراق وسوريا، ودعوات بعض زعماء الدول والأحزاب التي تبحث عن دولارٍ إضافيٍّ يدخل جيبَها بحجة تعزيز الاقتصاد الذي لن يتعافى أبدًا، لم نجدْ فعلاً حاسمًا لطرد "داعش" وإنهاء شرورِه بالسرعة التي يتطلبُها الموقف المعبشيّ المزري لملايين النازحين في كلا البلدين. فالتحالف الدوليّ الذي اضطرَّ خجلاً وتحت ضغوط ذوي الإرادة الصالحة، لمقارعة الإرهاب في هذبن البلدين مؤخرًا، لا ينوي القضاء على أحد أكبر رموز هذا الإرهاب دوليًا، بسبب عدم جدّيتِه في الفعل وحسم الأمر لصالح هؤلاء المهجَّرين من ديارهم والمسلوبة ممتلكاتُهم والمطرودين من قراهُم وبلداتِهم ظلمًا. وتصريحاتُ قادة التحالف واضحة وضوحَ الشمس، وهي لا تعكس تلك الإرادة الصادقة بالقضاء عليه نهائيًا. ألمْ ينتقد رئيس الوزراء العراقي في زيارتِه الأخيرة لمصر، ضعفَ الضربات وعدمَ الجدّية في عمل هذا التحالف وعدم قناعتِه بنتائجِه لغاية الساعة؟ وإزاءَ هذا وذاك، تنادى العقلاء والحكماء للتضامن والدعوة لتغيير السياسات غير الحكيمة لعدد من دول الغرب، بما فيها فرنسا، وحثّ زعاماتِها من أجل التفكير جدّيًا برفض احتواء وإيواء ومجاملة المنحرفين والمشبوهين والمغضوبِ عليهم في دولِهم بسبب المواقف المريبة لتحرّكاتِهم وأفكارِهم العدوانية المتطرّفة. فقد دعا اليمينُ وزعماء سابقون، بتحوّطات أكبر في                  قبول طلبات اللجوء وعدم التغاضي عن الهجرة غير الشرعية التي يستخدمها أمثالُ هؤلاء المريبون بطريقة أوقعت هذه الدول الديمقراطية في شراك هؤلاء"الفاعلين والقاصدين عكسَ ما يضمرون"!!!
أمام هذه المحطة الجديدة من الإرهاب في دولة تعشقُ الحرية والجمال والانفتاح، انتفضَ الحكيمُ والجاهلُ، العاقلُ والمجنونُ، الواقعيُّ والخياليُّ، العلمانيّ والدّينيّ، الراقصة والسياسيّ، الكبير والصغير ومن كلا الجنسين ومن أديان وقوميات وهويات مختلفة، لتحتضنَهُم تظاهرةُ باريسَ المليونية يوم الأحد 11 كانون ثاني الجاري، لتقولَ بصوتٍ واحد: لا للإرهاب، ومن ثمَّ إدانةَ كلّ فكرٍ ناتجٍ من أيديولوجية إرهابية تتخذ من الدّين مصدرًا ومرجعًا وإلهامًا.
اليوم، يقف الإسلام في قفص الاتهام، بسببٍ من ارتكابِ معظمِ الأعمال الإرهابية باسمِه وتحت رايتِه و"للانتقام من نبيهَ"، كما سمعنا وعاينّا وشاهدنا على الشاشات. وهذا التصريح من هؤلاء الشواذ في صفوفِ رعاياه، مستنكَرٌ ومرفوضٌ جملةً وتفصيلاً من العقلاء وعبادِ اللّه الأصفياء ومن أوليائِه الميامين ومراجعِه الحكيمة التي ادانته وتدينُ أمثالَه. فالمسلمون ليسوا جميعُهم إرهابيين! لكنّ الإرهابَ، وإن كانَ لا دينَ له، إلاّ أنّ غالبية الأعمال المرتكبة في العالم باسم الدّين، قادمة من أتباعِ الإسلام، وأصبحت تزكّمُ أنوفَ العقلاء فيه إلى درجة الخجل والتبرئة ممّا يقترفُهُ هؤلاء الشواذ من المتطرّفين. والحقُّ يُقال، أنّ الكلمة تواجَهُ بالكلمة، والإبداع بالإبداع، والحجّة بالحجّة، وما على الرسول إلاّ البلاغ! أمّا الإرهاب والقتل والفساد والاغتصابُ والسبي والتدمير وكلّ أنواع الشرّ والفتنة، فهي سلاح الجبناء وشواذ العقول والعاجزين عن مواجهة العالم وتحدّياتِه بما أنعمَ عليهم الخالق من طاقة وقدرات بشرية وإنسانية.
إنّ الإرهابَ، وبسبب من استفحال سرطانِه الخبيث وانتشار أيديولوجيتِه المنحرفة كالنار في الهشيم، قد عصيَ على سياسات العالم وزعاماتِه. فبعد أن خلقتْهُ هذه وزرعتْهُ وروتْه بسيلِ الدولارات وثروات النفط الجارية كالأنهار، لم تعدْ تستطيع إيقافَ مدِّه ومنعَ انتشارِه، تمامًا كالسرطان الخبيث المستفحل. ومتى ما قُضي على هذا الخبيث بدواء شافٍ وناجع، حينئذٍ يمكن أن يُقال، سيُقضى على آفة الإرهاب أيضًا!
في تظاهرة الأحد في باريس، عاصمة الحرّية والجمال والديمقراطية والعلمانية، الجميعُ بلا استثناء، ندّدَ واستنكرَ وتظاهر، كلٌّ وفق رؤياهُ ومصالحِه وتوجّهاتِه تحت شعار " لا للخوف، نعم لوحدة الصفّ". أكثر من خمسين من قادة وزعماء العالم المتحضّر شاركوا فيها، ومنهم رمزان متناحران تاريخيًّا يُعدّان أساسَ الكثير من مشاكل المنطقة بل ومن أساس مشاكل الإرهاب الذي ضربَ أطنابَه في عموم بلدان العالم: إسرائيل وفلسطين! أمنْ تعبيرٍ تضامنيّ أكبر ممّا شهدتهُ هذه المدينة الحالمة والساكنة في بحار العطور والجمال والحب، ومعها مدنٌ أخرى حيال جريمة الأربعاء، مستنكرةً ورافضةً للفكر الأيديولوجي السلفيّ المتطرّف الذي لا يقبلُ الآخرَ المختلف وينوي تسييرَ العالم وفق رؤاهُ في العودة إلى أربعة عشر قرنًا خلتْ كانت شاهدة على التناقض الواضح في التأويل والتطبيق والدعوة!؟
 لقد أثبتت فرنسا بهذه الحشود الدولية المتظاهرة لساعات، أنّها بوّابة الديمقراطية وقبلتَها وحافظتَها والساهرة دومًا على صيانتِها بالرغم من الكمّ الهائل من محطات الإرهاب الذي يطالُها بين فترة وأخرى. لكنّها أثبتت بقاءَها محطَّ أنظار وتطلّعات الباحثين عن الجمال والحرية والديمقراطية! ومع ذلك، تبقى الحيطة والحذر درسَين للعمل بموجبهما والإصغاء للعقلاء الذين اكتووا بنار هذه الآفة التي تنتشرُ كالأميبا وسط الشباب العاطل واليائس من حكومات فاسدة ولصوصٍ وتجّار حروبٍ عالميّين ضربوا كلَّ الأعراف والمبادئ والحقوق. لقد خبرتُ أعمالَ الإرهاب شخصيًّا ثلاثًا وعرفتُ قساوتَه مثل غيري وتيقنتُ أنَّه من عمل تجّار الحروب والشعوب!
في التظاهرة  الباريسية التي تُعدّ الأوسع والأشمل، هناك الكثيرون ممَّن رفعوا شعار: "أنا شارلي إيبدو"، و "لا للإرهاب". ونحن معهم نقفُ ونصرخ: "كلُّنا شارلي إيبدو" و " كلاّ كلاّ للإرهاب". ولكن، مع فارق أنّنا في العراق وسوريا ولبنان ومصر حصرًا نعي جيّدًا، معنى هذه العبارة التي شوّهت اسمَ الإسلام الذي باسمِه ولأجلِه نُقتلُ ونُضطهَدُ ونتعذَّبُ كلّ يومٍ ومنذ سنواتٍ كثيرة من دون رحمة ولا شفقة، لا من منفّذي العمليات الإرهابية ولا مِن مموّليهِ وصانعيهِ على السواء! لقد أثبتت فرنسا أنّها بعدُ قوية بوحدة صفوفِ الشعوب التي تحتضنُها، وهي قادرة على لفظ الأشرار وتمييز الغثّ من السمين، وحماية نظامِها الديمقراطيّ، هذا إنْ فعلتْ ذلك من دون مجاملة ولا مهادنة ولا مماطلة. فرموز الديمقراطية لديها قد جُرحت هذه المرّة بشدّة، ولا بدّ من وضع الأمور في نصابِها الصحيح. فحرّية التعبير، ستبقى مصانة، ولكنّها لا تجيزُ الإساءة للمعتقدات، كما يقول البابا فرنسيس الأول.
فرنسا صُدمتْ يوم الأربعاء الدامي، ومعها كلُّ الحالمين بها وكلّ محبّيها حينَ طالَ الإرهابُ هذه المرة ايضًا، رمزًا من رموزِها الديمقراطية في حرّية الرأي والنشر والتعبير. كيفَ لا، وهي رمز الجمال وبلد الديمقراطية ومآل الحرية المنشودة التي يحلمُ بها الإنسان البسيط، المسالمُ والمغرَّرُ به بالإرهاب على السواء. صدمة كبيرة لكلّ عاشقٍ للإنسانية ولكلّ امرئٍ يشعر بذرّة من هذه الإنسانية التي باركَها الخالق وأعطاها للبشرية نعمةً كي تعكس صورتَه الحسنة والجميلة في خلقِه من أجل تمجيدِ اسمِه وليس من أجل قتلِها وتشويهِها ووأدِ رسالتِها المقدسة وتشويه اسم اللّه على الأرض.
بهذه الحادثة الأليمة السافرة، أفاقتْ دولُ الغرب الديمقراطيّ وأيقنتْ شعوبُها أنَّ العالم في الجانب الآخر، يعاني كلّ يوم وكلَّ ساعة "شارلي إيبدو" جديدة، مع اختلاف الوسائل والمبرّرات والأهداف. وبالرغم من امتعاضِ البعض من الخطّ الإعلاميّ الساخر الذي تسير عليه " شارلي إيبدو"، إلاّ أنّ المبرّرات بالإرهاب لا ترقى لحدّ اقترافِ جريمة بهذا الحجم، وقد أرادَ بها متطرّفون متخلّفون اغتيالَ الكلمة الحرّة "المقدّسة" التي تؤمنُ بها دولة فرنسا والغربُ عمومًا. فالصحيفة المتهمة بالإساءة، ومثلُها غيرُها، توجّه سخريتَها للجميع وتطالُ كلّ الأديان والأحزاب والشخصيات. ولكنْ لم نسمعْ أنَّ نفرًا ممّن كانوا هدفَها من غير الإسلام، قد ناصبوها العداء لفظًا أوفعلاً وانهالوا عليها ضربًا أو رصاصا، ووجّهوا لها تهديدًا أو اغتيالاً، إلاّ من حثالة قومٍ ركبوا موجةَ التخلّف وأهانوا همْ أنفسُهم دينَهم قبلَ غيرِهم، بتشويهِ نظرتِه للبشر وتسامحِه وقبولِه التعايشَ على أساسٍ إنسانيّ متمدِّن ينسجمُ مع الحياة المعاصرة ولا يتقاطعُ مع أحكام الحقوق العامة والخاصة التي رسمها العالم المتحضِّر وفق شرعة حقوق الإنسان في كلّ زمانٍ وكلِّ مكانٍ، ولكلّ زمانٍ وكلِّ مكان. لقد أثبت الإرهابيون أنّهم في مكانٍ لا يليقُ بهم ولا يستحقونَه، بسببٍ من عدم إيمانِهم بمبدأ العلمانية التي يؤمنُ بها هذا البلد ودولُ الغرب عمومًا. ومَن كانَ لا يقوى الانسجامَ في مثل هذه الأجواء الدميقراطية المتحرّرة في هذه البلدان، لما التكالبُ من جانبِه على دوائر الهجرة والسعي لبلوغ أراضيها بكل السبل والوسائل؟
   عمومًا، إذا كانت هذه الأعمال الإرهابية تُقترَفُ باسم الدّين ودفاعًا عن اللّه، فالدّينُ منهم براء، والّلهُ يعتذر بقبول هذا المنكر ويخجل من هذا السلوك الذي يشوّهُ اسمَه حين اقتراف الأعمال الإرهابية باسمِه. ألعلَّ الخالقَ بحاجة لمعولِ وسيفِ وبندقيةِ وسلاح حثالى البشر من متطرفين وموغلين في التخلّف والرافضين لثقافة الحياة والعصرنة والتطوّر والتقدّم والعلاقة السليمة بين أتباع جميع الأديان كي يدافعوا عنه؟ إن كان سبحانَه بهذا الضعف، فلماذا نعبدُه، وأينَ قدرتُه وأناتُه وحكمُه العادل، إذن؟ جميعُ أديانِنا علّمتنا أنّه هو الواحدُ الأحد، الواحدُ الصمَد، القادر على كلّ شيء، الضابطُ الكلَّ، ربُّ الأديان والشعوب، وفاحصُ الكلى والقلوب والديّانُ الأعظم في موقف الدينونة. وهو من ثمَّ ليسَ بحاجة لمتخلّفي العصر كي يدافعوا عنه ويحموا قدرتَه على فعل المعجزات ووضع الكواكب والأشياء في مسارها. فلا دينَ أرفعَ من غيرِه، ولا قومَ أسمى من غيرِه، ولا أمّةَ أفضل من غيرِها إلاّ بما تقدّمُه هذه من خدمة للإنسانية ومن علومٍ وثقافةٍ وأعمالِ خيرٍ ورحمة للبشر والبشرية. والّلهُ فوق هذا وذاك، لا يرضى بالدم والعنف والقتل  والدمار والذبح والسبي والاغتصاب والطرد والتهجير والنكاح بفتوى أو بنزوة، بل "يريدُ رحمة لاذبيحة". فكيفَ بهؤلاء الإرهابيّين يعتقدون بأنّ مَنْ خلَقَهُم أحرارًا حسَني الصورة على صورتِه ومثالِه، يطالبُهم بالانتقامِ لهُ من المختلفين عنهم في الدّين والمذهب والعرق واللغة وما إلى ذلك، وهو خالقُ الجميع وواهبُ الجميع وراحمُ الجميع؟؟؟ أليسَ بالرحمن الرحيم، مالكِ يومِ الدين، إياهُ نعبدُ وإيّاهُ نستعين؟؟؟ فكيفَ يريدُ الشواذ من البشر تحويلَه إلى قاتلٍ ومجرمٍ ومفجِّرٍ برفع راية القتل السوداء في أعمالِهم والمناداة باسمِه حينَ حزّ الرقاب والاغتصاب والسرقة والتفجير وسط أناسٍ أبرياء وتدمير وجودِهم وإنهاء حياتِهم التي وهبها إياهم خالقُهم المحبّ وأتاحَ لهم الأرضَ والسماءَ وما فيهما من خيراتٍ لخدمة الإنسان وراحتِه؟ أليسَ هذا من سخرية الأقدار ومن سقامة الفكر ودناءة النفس والجسد معًا وتخلّف العقل الذي ينشدُ الموتَ جريًا ويرفض الحياةَ قهرًا ولا يقبلُ الحداثة رضىً وشكرًا، بالرغم من استخدام هؤلاء لأرقى أساليب العصرنة في الحياة اليومية، في تناقض فاضح!
وأخيرًا، تعاطفُنا مع الضحايا يأتي من قبيل احترام الرأي والرأي الآخر والقبول به كما هو وليسَ وفق مقاساتِ البعض من كارهي الحياة وراجمي الديمقراطية ورافضي الحرية والجمال. وستبقى فرنسا، ومعها دول الغرب المتحضّر ساريةَ علمِ جميع الأحرار في العالم، وناشدي الديمقراطية والمتطلّعين لحياة أفضل تحت خيمة الحرّية والمساواة والأخوّة.

لويس إقليمس
بغداد، في 13 كانون ثاني 2015



312
فصلٌ جديدٌ مع لعبة تحرير المتنازَع عليها

لويس إقليمس
كان الحدسُ في محلّهِ حين أشرنا مثل غيرِنا، أنّ تداعيات قضية سقوط الموصل وبلداتِها بيد "داعش"، كانت مؤامرة سياسية من داخل الوطن، أي من أحزاب تتبع مكوّناتٍ كبيرة ومن شركاء في العملية السياسية. وبموجب المتوفر حاليًّا من المعلومات والحقائق والبيانات، فقدحصلت المصيبة بموجب اتفاق سياسيّ، كما أورد ذلك رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بعظمة لسانه. وقد أشار إلى جزءٍ كبيرٍ من خطوطِها، قائد عمليات نينوى الفريق مهدي الغرّاوي، مؤخرًا وهو في حالٍ يُرثى لها خلال دفاعِه على شاشة قناة البغدادية في ثلاث حلقات متتالية.
 وبما أنّ القضية لمْ تزل تداعياتُ تحقيقاتِها هذه تُبحث في أروقة مجلس النواب وسط احتدام جدالات، وربّما سيتلقفُها الادّعاء العام إن كان حريصًا على انتهاج الاستقلالية في عملِه، فهي قد لا تفضي بنتيجة مقنعة حتى مع الإجراءات الإصلاحية التي اتخذها رئيس الوزراء بتنحية قادة وإجراء تغييرات وتنقّلات أمنية واسعة. فالمتورطون فيها عديدون، ومنهم من العيار الثقيل، واللعبة تنكشف خيوطُها يومًا بعد آخر. فما بعدَ التحرير رهنٌ بما قبلَ التحرير وعبدٌ لاتفاقاتٍ بين "الإخوة الأعداء". لذا، من الصعوبة بمكانٍ أن يتمّ كشف المستور كلِّه وراء دهاليز السياسة الداهية واتفاقات الساسة والكتل، حالُها حال باقي القضايا التي طوتها الرفوفُ وامتلأتْ بها الخِزانات. فما خفي كان أعظم!
وسط الكمّ الهائل من المشاكل السياسية المتوارثة عن الحكومة الطائفية السابقة، ومنها المعلَّقة لغاية الساعة مع إقليم كردستان المفاوض العنيد والفارِض أجندتَه على العملية السياسية بقوّة فاعلة مدعومًا من الغرب ومن الذئب الأمريكي راعي العملية السياسية، وتلك الاقتصادية الناجمة عن تهاوي أسعار النفط دراماتيكيًّا، بالإضافة إلى معضلة النازحين والمهجَّرين التي لم تستقطب سوى النزر اليسير من اهتمام الدولة، وكذا صعوبة القضاء الحاسم على مواقع الفساد المستشري بلا هوادة في مؤسسات الدولة، ناهيك عن استمرار اهتزازواقع الأجهزة الأمنية بأصنافِها، كلّ هذه الأمور وغيرُها تفرضُ حساباتٍ صعبة الانقياد، بالرغم من المكاسب التي حققتها الدبلوماسية العراقية في ظلّ العهد الراهن. فالانتصارات المتلاحقة التي حققتها الأجهزة الأمنية المشاركة في محاربة تنظيم "داعش" الإرهابيّ، وإنْ كانت جديرة بالملاحظة، إلاّ أنّها لا تشفي بعدُ، غليلَ المواطن العراقيّ الذي قاسى آلامَ التهجير والسلب وانتهاك الحرمات والاغتصاب والعبث بالممتلكات والعقارات والمقتنيات الخاصة والعامة. فيما لا يزال السياسيون في المثلَّث الحاكم، لم يكلّوا من اللهاث وراءَ آفة المحاصصة الطائفية التي استنكرها الجميع قولاً ودعايةً وتشبثوا بها فعلاً وتطبيقًا وتنفيذًا. وآخرُها، صدورُ مرسومٍ جمهوريٍّ بتعيين نائبين لرئيس ديوان الرئاسة، شيعيّ وكرديّ، بالرغم من إمكانية الاستغناء عن هذه الصفات والدرجات تقنينًا للنفقات. وماذا لو كانَ بادر الرئيسُ معصوم بحَنَكتِه، واختارَ شخصية من مكوّنات الأقليات المهضومة الحقوق والمهمَّشة على طول الخط، والتي يتباكون عليها جميعًا في وسائل الإعلام وفي الاجتماعات التي لها بداية وليس لها نهاية أو في اللقاءات والزيارات المكّوكية لدول العالم متبجّحين بإيلائِهم اهتمامًا بحقوق الأقليات والسهر على تشجيعِهم التشبّثَ بالأرض والوطن. فيما كلّ الدلائِل تشيرُ إلى تهميشِهم واستكثار منصبٍ سياديٍّ يتيمٍ لهم والتقتير عليهم بمناصب أخرى عامة أو وظائف اعتيادية. فأينُ الحرصُ الوطنيّ في هكذا إجراء؟ وكيف يتسنى للمواطن المكوي بنارِ الطائفية التمزيقية والمحاصصة البغيضة التي لا تترك فرصةً للكفاءات الوطنية كي تُبدع وتجيد وتنمي؟ ما هكذا تُبنى الأوطان يا ساسةَ العراق! ضعوا كلمةَ الحق والإنصاف في صدورِكُم ولو مرّة! وإن كان اللهُ يمهل، فهو لا يهملُ ولا ينسى عبدَه ليبقى مفجوعًا طيلةَ عمرِه!
وفي ضوء ما حصل ويحصل، يكون الدستور المثقَل بالتناقضات، هو السبب الرئيسي لكلّ الإشكاليات التي أوجدت مثل هذه التناقضات والمشاحنات بسبب ابتعادِه عن السمة الوطنية التي تبني وطنًا على أساس دستوريّ شامل وليسَ ناقصًا وطائفيًا ودينيًا ومذهبيًا وعرقيًا. وهذا ما يتطلّب تغييره ليتسامى فوق هذه الإشكاليات جميعًا.

مفترَق طرق
نحنُ اليوم أمام مفترَق طرقٍ خطيرٍ من موضوع وحدة تراب الوطن، بعد أن اشتدّت حبالُ الجرّ السياسيّ والطائفيّ في محاولة لتعزيز مفهوم الّلامركزية التي نحلمُ بها جميعًا ونراها خيرَ معالجةٍ للتذبذب في مصير الحياة السياسية في البلد، ولكن ليسَ على حساب وحدةِ أرضِه وترابِه ومياهِه. فالمحاولات الجارية في أيامِنا، يُشمّ منها رائحة بدء الانفصال الفعليّ من جانب المكوّن الكرديّ على أساسٍ قوميّ وعرقي، ومن جانب المكوّنين الشيعيّ والسنّي على أساسٍ طائفيّ ومذهبيّ. والخياران أشدُّ إمضاءً من السيف البتّار
. ولو تمهّل الشركاء السياسيون المهيمِنون على مقدّرات البلاد والمستنفذون لثرواتِها الوطنية بوسائل وأشكال واتجاهات مبتكرة في كلّ مرّة، كي يعطوا فرصة لنهضة بلدِهم الجريح بعد القضاء على عصابات "داعش"، لتيقنوا أنّ الغرب بقيادة أمريكا ومَن وراءَها من الكارتل الاقتصاديّ والإعلاميّ المهيمِن عالميًا، لا تهمُّهُم مصلحة الوطن ووحدتَه وتطوّرَه. بل، وليس من اهتماماتهِم البتّة نهوضُه وتعافيه من كبوةٍ، كان لهم فيها أداءٌ وضلعٌ كبيرٌ في إيجادِها وتأجيجِها وإدامة زخمِها وتواصلِها ما شاءَ القدَر. فهُم يريدون العراق سوقًا استهلاكية دائمة وملاذًا للخارجين عن القانون ومؤسساتٍ تعجُّ وتسبحُ في فوضى خلاّقة كي يسهلَ تحريكُها والمناورة بها والسيطرة عليها متما شاء الأسياد.
 لستُ أجني، كي لا أُحمَّلَ ما لا طاقةَ لي به، بل أقولُ واستعرضُ ما أراه مثلَ غيري على أرضِ الواقع، وفي ضوء العمليات التحريرية القائمة حاليًا والاستعدادات الجارية لتحرير مناطق الأقليات المتنازَع عليها والتي خضعت لصفقات سياسية واضحة لا تقبل الشكّ.
 فالجانب الكرديّ، أجادَ إدارة ملفّ إشكاليّات الإقليم مع المركز، بدفعٍ من استشاراتٍ وتوصياتٍ خارجية، إلى جانب الدعم الّلامحدود الذي تلقّاهُ ومازالَ، استعدادًا لإعلان دولتِه القومية المزمعة حين الحصول على معظَمِ مبتغاه. وقد تحقّقَ الكثيرُ ممَا حلمَ به وأرادَه لغاية الساعة، وهو يستعدّ لإكمال الصفحة الأخيرة بإعادة المناطق المسلوبة من عصابات "داعش"، استعدادًا لضمِّها إلى دولتِه العتيدة بعد حصولِه على الضوء الأخضر داخليًا ودوليًا. فالغربُ عمومًا يتعاملُ اليومَ مع الإقليم كجهةٍ ذات سيادة، ولهُ فيها وجودٌ دبلوماسيّ وقنصليّ مستقلّ عن بغداد. كما أنّ الإقليم لا يعود إلى حكومة المركز في اتخاذ قراراتٍ مصيرية وأمنيّة وسياسيّة، إلاّ في حدود الإعلام التنسيقيّ للاستهلاك المحليّ فقط.وهو يديرُ مواردَه المائية والنفطية ومؤسساتِه الإدارية بصورة مستقلّة عن المركز.وما سلوكُ الجانب الكرديّ وتعاطيه مع مسألة سقوط الموصل وتخلّيهِ عن المناطق المتنازَع عليها،التي كانت في عهدتِه من جانبٍ واحد، بين ليلةٍ وضحاها لمصلحة عصابات إرهابيّة، سوى علاماتٍ من تطبيقَه لأجندة محكمَة التخطيط والتنفيذ. وها هو اليوم، وعقبَ الانتصارات الأخيرة في قاطع "سنجار" بدعم سَوقيّ وجوّيٍّ من دول التحالف، يُعلنُ صراحةً بلسان قيادتِهعن أحقيّة مَنْ يحرّر المناطق المتنازَع عليهاوبضمّها لأراضيه، وفقًا للدستور. فهل يا تُرى، أنّ التخلّي عن مناطق عراقية من دون مقاومة لصالحِ عصاباتٍ إرهابية قادمة بأيديولوجية تكفيرية عبر الحدود ليسَ لها وطن ولا أرض، مذكورٌ نصّا في هذا الدستور الذي يُفسَّرُ بحسب مرام البعض؟ وهل إنّ تحرير هذه المناطق ومصيرَها منصوصٌ عليه دستوريًّا أيضًا قبل حصولِ النكبة؟وهل إنّ إعادة توطين المهجَّرين من مناطق سكناهم الأصلية في مواقع أخرى من الإقليم مذكورٌ أيضًا في الدستور الأعرج المليء بالقنابل الموقوتة منذ كتابتِه وإخراجِه والموافقة عليه بطريقة غريبة لا تخلو من مؤامرة، هي الأخرى؟ أليسَ في هذا إصرارًا ورائحة لإحداث تغييرات ديمغرافية فيما تُسمّى بالمناطق المتنازَع عليها؟ أسئلة كثيرة لن نجدَ لها ردودًا، لأنها جميعًا خارج السياقات الموضوعية والمواطنية التي افتقدها الوطن والمواطن معًا، والأخير هو الضحية.
هذا بالتأكيد، ما حرّضَ أوساطًا من السنّة لاستغلال احتجاجاتٍ واعتصاماتقامت في مناطق غربية حصرًا في أوقاتٍ سابقة،نتيجة للتهميش الذي طالَ هذا المكوّن في الحكومات السابقة، ما دعاها كي يحذو حذو خطوات الإقليم الناجحة والمطالبة بإقليمٍ سنّي على أساسٍ طائفيّ. ومثلُهُ أيضًا خطا الشيعة في محافظات الجنوب ذاتَ التوجّه وما يزالون يجدّدون ذات الطلب في هذه الأيام. وهذا من حقّهم كما ينص الدستور على ذلك. والحالُ، وإنْ يكن التصوّر بتشكيل دولة اتحادية من أقاليم لأغراضٍ لامركزية في الحكم وفي إدارة شؤونِها، ما يخفّفُ من وطأة المركز ومن جهدِه ومشاكلِه البيروقراطية.
هناك اعتقادٌ سائدٌ، أنّ ما يحصل اليوم لن يعزّز الوحدة الوطنية ولن يحفظَ وحدةَ البلاد، بسبب كون النَّفَس طائفيًّا والرائحة مذهبيّة والهدف تفتيتيًّا واستقلاليًا في المستقبل. وهكذا، "كأنكّ يا أبو زيد ما غزيت"، كما يقول المثل. فلا نكون قد حقّقنا الديمقراطية الصحيحة بعد إسقاط النظام الدكتاتوري، ولا حصلنا على الحرّية المسؤولةفي ضوء العملية السياسية المريضة المتأرجحة، ولا حقّقنا التنمية المأمولة من الثروات المستخرجة، ولا ساهمنا في إغاثة المناطق المنكوبة والمتخلّفة، ولا قدّمنا ما يستحقُّه المواطن البسيط من أمن واستقرار وخدمات بلدية وحياة كريمة. فالفساد اخترق كافة مؤسسات الدولة والّلصوص تضاعفوا واستفحلوا ومعهُم تزايدت أعداد الميليشيات وأعمالُها غير المشروعة. وكلُّ ذلك على حساب الشعب الأعزل. أمّا ميزانيةُ الدولة الضخمة طيلة السنوات المنصرمة، فحدِّث ولا حرَج! فهذه تُدار بأيادي غير نظيفة وتُنفق في بنودٍ وأبوابٍ مترهلة استهلاكية لصوصية واضحة، ولا أحد يُفلح في إيقاف هذا المدّ الجارف، بالرغم من تعالي الأصوات الصادقة التي تُكمّ بكلّ الوسائل والحجج والبراهين الواهية. كما أنّ الدولة تقف عاجزة عن إيجاد حلولٍ لأهمّ مطالب المواطن، والتي تقتصر على تقديم خدمات آدمية تحفظ أمنَه واستقرارَه وتُؤمِّن رزقَه وحسنِ تعليمِه وتثقيفِه وتربيته على أسسٍ مدنية ومتحضّرة. وما يُؤسفُ له، فإنْ حصلَ وتحقَّقَ مثلُ هذه المشروع التمزيقيّ والتقطيعيّ الطائفيّ والعرقيّ لأوصال الوطن بحسب توجهات بعض الجهات، فإنّه سيكون كارثيًّا. وإن سمحتْ حكومةُ المركز وتغاضت عن وحدة أراضي البلاد وفرّطتْ بها لصالحِ أية جهةٍ انفصالية، فمردُّهُ سيكون إلى ضعفها وضعف الدولة عمومًا ونظامِها السياسيّ وغيابِ قرارِها المرهون بصاحب القوّة والتأثير والدعم على الساحة السياسية.

الأقليات، الضحية الأكبر في كلّ المعادلة

لم تحظى أقليات العراق يومًا، بما يترتبُ لها من حقوق مواطنية، شأنُها شأن سائر أبناء المكوّنات. بل كانت مشاريعَ صفقاتٍ منذ بدء تأسيس الدولة العراقية. فقد استغلَّها المحتلّ البريطانيّ حينَها، أبشعَ استغلال وزجّها في أتون حربٍ لا ناقةَ لها فيها ولا جمل. وما نالتهُ الأقلية المسيحية من ظلمٍ وتخلٍّ عن وعودٍ بإدارة ذاتية في مناطق تواجدِها التاريخية، خيرُ دليلٍ على استمرار تهميشِها وعدّها مواطنة من الدرجة الثانية. وهذا يطال، بطبيعة الحال، الأقليات الدينية الأخرى كالصابئة المندائية والإيزيدية، والإتنية كالشبك والكاكائية والصارليّة والقوقاز وذوي البشرة السوداء والغجر وما سواهمُ إن وُجدوا. فيما عدا التركمان،الذين تمكنوا بدعم إقليميّ من الجارة تركيا ومن شركائِهم في كردستان العراق، مِن تثبيت هويتِهم الإتنية والدفع بصياغة قانون خاصّ لهم يحفظ حقوقَهم وينظّم شؤونَهم.
ومن المؤسف، في العقود السابقة من حكم العراق، لمْ يظهر قادة وزعماء عفيفون ومخلصون ووطنيّون تبنّوا حقوق هذه المكوّنات، بالرغم من أصالةِ بعضِها المتجذّرة والمشهودِ لها بالعفّة المالية والحرص الوطنيّ والرغبة بتنمية البلاد ونهضتِها ورفعتِها إلى مصاف الدول المتقدّمة. ولكنّ محاولاتِها الحثيثة والصادقة، تصطدمُ دومًا بإرادة معاكسة، تريدُ العودة بالبلاد والعباد إلى عصور التخلّف والفلَتان والفوضى التي تُنتجُها أفعال هذه الطبقة غير الحريصة على تنمية الوطن. ويعود للراحل عبدالكريم قاسم، بالرغم من أخطائِه السياسية، وقفتُه الوطنية في هذا المجال والكلمة الحسم، حين اعتراض نفرٍ من مجلس الجامعة ورئيس مجلس السيادة على اختيار العالم الصابئيّ المندائيّ عبدالجبار عبدالله، لخلافة العالم المسيحي الدكتور متي عقراويّ، الأستاذ في علم التربية، على رئاسة جامعة بغداد بعد إحالة الأخير على التقاعد بعدَ قيام ثورة 14 تموز في 1958، وذلك بعد رئاستِه لها منذ تأسيسِها في 1956.فقد نُقل عن الزعيم ما معناهُ " حاجة البلاد إلى عالم لقيادة صرح علميّ، وإلى إمام لإمامة الصلاة في جامع"، وقولُه أيضًا:"الثورة جاءت لإنصاف الناس، لا تفرق بين مذهب ومذهب، ودين وأخر، بل جاءتْ لوضع كل إنسانٍ عراقي مهما اختلف دينُه وقوميتُه وشكلُه في المحلّ المناسب، وإنَّ الثورة ستزيلُ من أمامها كلَّ مَنْ يقف في طريقها لتحقيق هذه الغاية".
وبعد هذا الكلام الواضح وهذا الموقف المشرّف من زعيمٍ وطنيّ نزيهٍ،أمِنْ قولٍ آخر ظهرَ ليصدحَ بالحقّ ويقف إلى جانب موضوعة "الرجل المناسب في المكان المناسب"؟ أمِن مقارنةٍ بين ما جرى في 1958 وما يجري اليوم من تعيينات وفق المحاصصة التي يتسيّدُها المثلّث الشيعي- السنّي- الكرديّ، مخالِفًا للدستور الذي يدّعي المساواة بين جميع المواطنين؟

 أليسَ من سخرية القدَر ونحن في الألفية الثالثة من التطوّر في التقنية والمدنيّة والوسيلة والأداء، أن يذهب فكرُ البعض بعدم جواز تنصيب غير المسلم في منصب سياديّ أو وزارة أو دائرة أو مؤسسة عامة أو خاصّة، وفقًا لشرعٍ سُنَّ قبل أكثر من أربعة عشرَ قرنٍ خلت في ظروفٍ لها مبرّراتُه، يمكن أن تكون نافعة بالأمس وغير مجدية في هذا العصر؟
إنّ استمرار النظرة الدونيّة لأبناء المكوّنات القليلة العدد "الأقليات"، تأتي من واقع عدم الاستنارة وعدم الإيمان بعصر التطوّر الجديد في كلّ يومٍ وكلّ ساعة، وبحقّ الجميع في التساوي بالحقوق والواجبات بسبب "الأنا" الطائفية والفئوية القاتلة.أمّا النفر من الضّالين ومن المغرَّر بهم بضرورة العودة إلى عصور ما قبل التطوّر، عليه إعادة قراءة الأزمنة والتاريخ بروح معاصرة وإنسانية قبلَ أن تفوتَه فرصة الاستمتاع بجمال الصورة التي خلقَها لهُ اللهُ المبدع، وليس بتسخيفِها وتحقيرِها وإهانتِها. فالرجل والمرأة، خلقهما اللهُ ذكرًا وأنثى إنسانَين متساويين، ليحيا وينميا ويكثرا ويبدعا في فردوسِه الكبير، تمامًا كما أذنَ لشعوبٍ ودولٍ كي تتصاهر وتتداخل وتتبادل المنافع والمصالح معًا وفقَ قواعد دولية وأسس إنسانية واجتماعية واقتصادية مقبولة. ومن الغريب أنّ مَنْ يتبنّى مثل هذا الفكر المتخلّف، يقف اليوم من بينالمستخدمين الحريصين لوسائل التطوّر التي أتت بها التقنية الحديثة، كالطائرة والمركبات والمكائن الثقيلة المدنية منها والعسكرية وأجهزة الاتصال المتطورة ووسائل الإنتاج المتعددة للاستخدام اليوميّ والأطعمة وما سواها من مغريات.
هكذا إذن، تتكرّر مأساة أبناء هذه المكوّنات، ويُتاجرُ بها بحسب أهواء القويّ على الساحة. ومَن لا قوّةَ تحميه، ولا سلاحَ يدرأُ عنه اعتداءات غيرِه ويصدُّ همجيّتَهم وتجاوزَهم على استقلاليّةِ قراره، فهو صيدٌ سهلٌ للجميع وصفقةٌ تُمرَّرُ بين الأقوياء.وسوف تتواصلُ هذه المأساة، ولن تتوقفَ حتى قدومٍ زعيمٍ وطنيّ قويّ وعادل يرسم ملامحَ وطنية ومواطنيّة جديدة للوطن وأهلِه، وليعيدَ بناءَ الأمّة العراقية من جديد بالاحتكام إلى دستور عادل وقوانين موضوعية تمارس العدل والمساواة والحق للجميع دون تمييز. ومن المؤسف أن ينساق بعض المثقفين من أبناء هذه الأقليات وعدد من الانتهازيين والمنتفعين وبعض المراجع الدينية على اختلاف ألوانِها وأطيافِها، مناديةً بتوطين النازحين وبتخييرِهم بين العودة إلى ديارِهم وقراهم ومناطقهِم الأصلية، وبين البقاء "غرباء أذلاّء صاغرين"، من خلال المطالبة ببناء وحدات سكنية لهم في المناطق التي نزحوا إليها، سواءً في كردستان أو في مناطق أخرى في عموم الوطن. فهذا الأمر، إِنْ حصلَ، فهو تأييدٌ ضمنيٌّ بالرغبة في الموافقة على الجهات التي ترمي لإحداث تغيير ديمغرافيّ حقيقيّ يساهمُ في قلع شعوبٍ وجماعاتٍ من جذورِها، بل هي مشاركةٌ في مؤامرة تشترك فيها أطرافٌ منتفعة كثيرة "أمريكية-غربية- إقليمية–عراقية" لتعزيز الطائفية والفئوية في العراق والمنطقة.
وإلى ذلك اليوم المأمول بتحرير المسبيّ أرضًا وبشرًا وثروةً، وقدوم الزعيم العادل القويّ، وعساهُ قريبًا، نتطلّعُ لعامٍ جديد يقلبُ المعايير الظالمة وغيرَ المقبولة ويزيلُ الغبنَ عن المظلومين والمهمَّشين ويعيدُ البسمة إلى وجوه الأطفال والكبار والفرحة للشيوخ والثكالى ويشفعُ لعودة السبايا والمقهورين والمغتربين والمهجَّرين والمأسورين والمحبوسين إلى ديارهم وقراهم وأوطانِهم. آمين يارب!

لويس إقليمس
بغداد، في 30 كانون أول 2014



313
زمنُ الميلاد ما قبل التحرير!
لويس إقليمس
بدتْ أولى ملامحِ تحريرِ مناطق غربِ الموصل وجزءٍ من سهل نينوى تظهر في الأفق، في صولات الشجعان من الفرقة الخاصة وقوات البيشمركة مدعومةً بطلعات مكثفة ماحقة وقاسية لقوّات التحالف. وبطبيعة الحال، في قراءتنا للحدث اليوميّ الراهن، لا نتوقّع تحريرًا قريبًا جدًّا لمدينة الموصل وسهل نينوى الشرقيّ، مثل ما حصل ويحصل اليوم في معالجة مناطق سنجار وتلعفر وزمّار وسنوني والكسك وغيرِها أخرى غربَ المدينة. فالوضع في مدينة الموصل أكثر تعقيدًا.كما أنّ تحرير بلدات سهل نينوى، سيكون تحصيلَ حاصلٍ للنتائج المترتبة على أرض الموصل وعمقِها بعد معالجة الثغرات الكثيرة التي تحيط بها وبنسيجِها "المتداعش"، إنْ مُكرَهًا صاغرًا أو راضيًا مرضيًّا.
عيونُنا جميعًا اليوم، ونحنُ على أبواب ذكرى ولادة سيّد الكائنات ومخلِّص الكون ومحبّ البشر ورسول المحبة والسلام، ترحلُ وترنو إلى بلداتنا الجريحة، الأسيرة بأيادي ضباع الدهر السوداء، وهي تشكو ظلمَ الزمن وقهر الذئاب المتعطشة للدماء والّلاهثة وراء ثقافة الموت والدم والقتل والسبي والاغتصاب والنكاح بأيّ فريةٍ أو فتوى أو وسيلة، طمعًا بدخول الجنّة الوهمية التي ليسَ لها وجودٌ إلاّ في المخيّلة الضعيفة والمريضة لقساة الرقاب، مجرمي العصر.حتى رسول الإسلام ذاتُه والأئمّة والأولياء الصالحون، في اعتقادي،سوف لنيقبلوا توفيرَ مفاتيحالجنّة لهؤلاء المخدوعين بدخول الجنّة الوهميّة التي يسعون إليهاوالتي تجري من تحتِها الأنهارُ الغزيرة والمليئة بأنواع الخمور والمسكرات والمجهَّزَة بحور العين والحسناوات المستعدّات للنكاح متى تحترق أجسادُ هؤلاء المرضى في نار جهنّم، بسبب جرائمهم ضدّ الإنسانية واعتداءاتِهم الوحشية التي بلغت مستوى الإبادة الجماعية بحقّ مكوّناتٍ مسالمة بأكملِها. فقد قسا الدهرُ والأهلُ على هذه الأخيرة معًا، وهي التي تفتقرُ أيضًالأبسط الحقوقالمواطنية، من تلك التي يتمتّعُ بها مواطنوهُم منَ أبناء المكوّنات الأخرى المهيمنة على الساحة السياسية وعلى مقدّرات الدولة وثرواتِها وكلّ مفاتيحِها.
ليةَ الميلاد، هذا العام، ستقف مريم أمامَ طفلِها الحزين نائمًا في مذود المغارة الحقير تمامًا مثل الأطفال المشرَّدين الذين لن يُدفئَهم سوى شهيق "الحمار والثور اللَّذين عرفا ربَّهما وإسرائيل لمْ تعرفْهُ" (إشعيا3:1). ستقف مريم أمامَ مذودِ المغارة والدمعة تسقطُ من مآقيها لتسألَ مولودَ المغارة الفقير، كيفَ تسنّى لهُ، وهو القادر أن يسوس البشر جميعًا وأن يطلبَ من أبيه السماويّ أن "ينزلَ نارًا وكبريتًا"(تك 19: 24) (لوقا 54:9)على مجرمي العصر لتفنيَهُم، وأن "يخلق من الحجارةِ أبناءً بررة لإبراهيم" (متى 3:9) عوض مَن شوَّهَ خليقة الّله الجميلة وأساء لصورتِه الحسنة.
سنرى العذراء تبكي أمامَ المذود البسيط وترثي عدمَ احتفال أبناء الّله في أرضِ العراق والمناطق المسيحية التقليدية المتجذّرة في أصولِها العراقية، بهذه المناسبة العظيمة، حيث اختفت أنشودةُ الملائكة "المجدُ للّه في العلى وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة الصالحة" (لوقا 2: 14). وسوف يخجلُ الإخوة المسلمون للّه في الحقّ والحقيقة وعبّادُه الصالحون، مِن بشاعة فعلةِ الأشرار الشنيعة وما اقترفوه بحقّ المكوّن المسيحي المسالم وغيرِه، وما فعلوهُ بحقِّ بلداتِهم ومساكنِهم ومقتنياتِهم من جرائم ومن أعمالِ سلبٍ ونهبٍ وبطشٍ وتهجيرٍ، ولن يجرؤوا تقديم التهاني والفرح في هذه المناسبة، كما اعتادوا. فنحنُ وهُم نسيجٌ واحدٌ ومصيرٌ واحد ووطنٌ واحد، ننشدُ وحدتَه معًا، ونتمنّى رفعتَه وتنميتَه ورخاءَهُ وسلامَه واستقرارَهُ وخروجَه من النفق المظلم الذي حَصَرَنا فيه أعداءُ الإنسانية وصنوُهُم من الباحثين عن مصالحِهم الفئوية والدينية والطائفية والإثنية والحزبية الضيقة والساعون معهم إلى الجاه الزائِل والثروة المغرية والسلطة الخدّاعة بأيّ ثمنٍ، حتى لو كان ذلك يشوّهُ صورةَ الإنسانية وخالقِها الذي أراد البشرَ متحابّين لبعضهِم بعضًا وعاكسين صورتَه الحسنة في سلوكياتِهم.
سوف تبكي العذراء أمامَ طفلِها، مآسي شعبِ العراق المتألِّم في الموصل وبغديدا وكرمليس وبرطلة وباطنايا وتلكيف وباقوفا وتلّسقف وبعشيقة وبحزاني. كما ستتألّم لما حلَّ بنظرائِهم المسالمين من إخوتِهم الإيزيدية وجيرانِهم الشبك وأترابِهم من التركمان والكاكائيّين والعرب المستَهدَفين في هذه الحملة الشرسة، من الذين هُجروا بغير حقّ وطُردوا من ديارِهم وسُلبوا ممتلكاتِهم ظلمًا وقهرًا واعتداءً. فالعقيدة التي تستبيحُ القتل والاعتداء بدون وجهِ حقّ، لا تستحقُّ أن ترقى لمستوى الأديان والمعتقدات المتّزنة التي تعترف بحقوق البشر، كلّ البشر، حتى المختلفين في الدّين والمذهب واللغة والّلون والإثنية، كما تنصّ على ذلك شرعة حقوق الإنسان وتوصي به كلُّ الأديان الصحيحة التي تحترم إرادة الخالق والإنسان معًا.
سوف تقف العذراء، مشدوهةً وهي ترثي الحالَ المزرية لمَنْ حواليها من أطفالٍ مشرَّدين ونساءٍ ثكالى وأزواجٍ هائمين بلا عمل ولا رزق،وتشكو أوضاع مئات الآلاف من طلبةٍ بلا مدارس ولا تعليم، وناسٍ بلا مأوى أو سقف آدميٍّ يقيهم قساوةَ البرد القارس وشقاءَ الحياة الصعبة واستغلالَ أهلِ العقارات من أترابِهم ومِن بني دينِهم الذين ضاعفوا إيجاراتِ مساكنِهم وشققِهم وفرضوا شروطًا تعجيزية على المؤجِّرين، ولاسيّما في عينكاوا المسيحية.هؤلاء وغيرُهم من المتاجرين بأحوالِ النازحين والمهجَّرين وبظروفِهم المأساوية، سوف يحاسبُهم طفلُ المغارة بالقول: " كُنْتُغَرِيبًافَلَمْتَأْوُونِي،عُرْيَانًافَلَمْتَكْسُونِي،مَرِيضًاوَمَحْبُوسًافَلَمْتَزُورُونِي (متى 25:43). وسوف يذكّرُهم بهذِه كلِّها حينما تدور الدوائر. فحالُ العالم هي كذلك "يومٌ لكَ ويومٌ عليكَ". وليسَ في هذا من تشفٍّ، بل للتذكير بأنَّ الحياةَ تجارب، والتجربة في زمن المصائب من أفضل الدروس وأكثرِها نفعًا وأشدِّها اقتداءً وأروعِها امتثالاً للحسنى وعملِ الصلاح والخير.
وهكذا، مَن سيقف في حضرةِ مغارة الوليد هذه الأيام، سيبكي هو الآخر قساوةَ العالم وظلمَ أركانِه وسعيَ الزعماء والرؤساء والقوّاد والتجّار للاغتناء ظلمًا على حسابِ غيرِهم والإيغال في قهرِهم واستغلالِهم لمصالحِهم الخاصّة والمتاجرة بقضيتِهم، حتى لو حصلَ ذلك على حساب المعايير الإنسانية. والبشرية مِن هؤلاء براء!
سنقفُ بالتأكيد، أمام المغارة، أيًّا كان شكلُها، لنجدَ الطفلَوأمَّهُ مريم، بوجهَينِ حزينَين يبكيانِ لأجلِ مَن تشرّدوا وتهجّروا وتغرّبوا وعانوا من قهرِ الأيام واستغلال البشر والساسة والبلدان والمنظمات لأوضاعِهم. وسوف نتمتمُ متململين ومتسائلين سرًّا أم علنًا: متى سيكون الفرَج، ياطفلَ المغارة، وأنتَ الإلهُ القادر على كلِّ شيء، ومَن بيدِه هذا المفتاح؟ وسوف نكرّرُ ذات السؤال ونحثُّ ذات الطلب هذه الأيام وما بعدَها حتى قدوم يوم التحرير والخلاص. فهو القائل "إسألواتعطوا،أطلبواتجدوا،إقرعوايفتحلكم،لأنَّكلَّمَنيسأليأخذ،ومَنْيطلبُيجدُ،ومَنيقرعُيُفتحُله" (متى 7:7-8). فالغضبُ الساطعُ آتٍ لا محالة. إنّما للصبرِ حدود!
في الختام سلامٌ وأملٌ. فالحمامةُ التي أرسلتُها رسولاً أمينًا إلى مواقع الزلزالِ والطوفان، لمْ تعدْ بعدُ، عسى بقاؤُهابشارةً بقربِ الفرَج المنتظَر! فيا شاعرَ برطلّة، أسألُكَ بجاه مولود المذود، ما خبرُ حمامتِك أنتَ؟

لويس إقليمس

بغداد، في 23 كانون أول 2014

314
خيبة وخذلان في حضرة بابا الفاتيكان
لويس إقليمس
بدءًا، أعترف أنّي اضطررتُ لإجراء تعديلاتٍ على المقال الأصليّ، للتخفيف من حدّة ردّة الفعل التي انعكست على المقابلة التاريخية الميمونة لآباء سينودس الكنسية السريانية الأنطاكية الكاثوليكية لبابا الفاتيكان بصحبة مؤمنين علمانيّين،والتي جرت في الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم الجمعة المصادف 12 كانون أول الجاري 2014، ضمن تقليد درجت عليه هذه الكنيسة كلّ خمس سنوات.
ولتبيان جزءٍ يسيرٍ من ردّة الفعل تلك، فقد بدا على الجمع المؤمن المشارك في تلك المقابلة، انقلابُ لهفتِه وشوقِه للتبرّك بمصافحة يدقداسة بابا الفاتيكان،إلى رسالة تساؤل وعتب واحتجاج مبطن، بسبب الخيبة والخذلان من عدم إتاحة تلك الفرصةلزوّارِه القادمين من مختلف بلدان العالم حيث يتواجد أتباع الكنيسة السريانية الأنطاكية الكاثوليكية. حصل ذلك في غفلة من الحضور ووسط حيرة الجميع من الذين كانوا ينتظرون تلك اللحظات الفريدة والسعيدة، والتي من أجلِها تجشموا عناء السفر وتحمّلوا نفقات الإقامة وما رافق ذلك من صعويات ومعوّقات. وكان لمجموعة صغيرة متلهفة قادمة منالعراق،ومن إبرشية بغداد بالذات، حظٌ بائسٌ من هذا الخذلان غير المقبول وغير المبرَّر، لسبب وجيهٍ، وهو قدومُها للتعبير عن الشجاعة التي كان قداستُه قد وصف بها المسيحيين العراقيين في وقت سابق. كنّا على عدد أصابع اليد ومعنا هدايانا التي تمثل حضارة العراق، التي تؤكّدُ تشبّث المسيحيين بأرض الآباء والأجداد وبتراب الوطن وتراثِه وأهلِه وكنيستِه، بالرغم من تراكم المصائب والصعوبات عليهم من كلّ الجهات. لن أدخل في تفاصيل التبريرات المقدّمة من جهاتٍ عديدة. بل كلّ ما أنوي توضيحَه أن المقابلة لم تكنْ على قدر أهمية الحضور ورمزية الهدفالذي توسّم المشاركون فيها نيلَ شرفِ المصافحة.
تعالت الهلاهل والزغاريد، وأغلبُها صدحتْ بها حناجرُ سيدات عراقيات قادمات برفقة عوائلِهنَّ أو أزواجِهنَّ من العراق ودول الشتات لتترافق مع دويّ التصفيق الحارّ، لحظة إشراقة قداستِه بابتسامتِه العريضةفي إحدى قاعات حاضرة الفاتيكان الفارهة المزركشة بصور وتحف ولوحات نادرة.  وبعد تبادل الخطابات الرسمية بين البطريك يوسف يونان وقداسة البابا باللغة الإيطالية، من دون ترجمة المضمون طبعًا للشعب المستمع الحائر، بدأ فصلٌ آخر من حديث الطرشان باقتصار مصافحة قداستِه من قبل أعضاء السينودس السرياني من رؤساء الأساقفة والأساقفة والخوارنة، ثمّ الكهنة المرافقين لوفود بلدانهم وعدد من الأطفال حصرًا. فيما تمّ إغفال لهفة وأمنية بقية الحضور الذين تجاوز عددُهم المائتين. وقد ذُهلَ المشاركونممّا حصل من فوضى داخل القاعة بسبب سوء التنظيم. ولعلَّ ذلك حصلبسبب عدم تنبيه الجهات المنظمِة لطريقة سير أصول المقابلة، في سهرة الليلة السابقة التي جرى فيها الاجتماع في كنيسة الوكالة السريانية للمشاركة في قدّاس أقيم لمناسبة انعقاد سينودس الكنيسة السريانية الأنطاكية الكاثوليكية.واستشعارًا لأيّ طارئٍ محتمَل، فقد أُحيط غبطة البطريرك وأساقفة العراق والكاهن المنسق مع الفاتيكان علمًاأثاء حفل الكوكتيل المقام في تلك السهرة، بحرصِ المجموعة العراقية على تقديم هدايا تذكارية بهذه المناسبة الميمونة، إثباتًا للشجاعة التي يتحلّى بها مسيحيّو العراق، تمامًا كما وصفهم قداسةُ البابا.
 تلكم كانت رغبتُنا، وذلكم كان هدفُنا من المقابلة، وكذا كان هدف سائرِ الحضور وأمنيتُهم التي أتوا لأجلِها، ولم يتحقّق أيٌّ منها! كما لمْ يحصلْ أيٌّمن الجمع الحاضر من الذين لم يتسنى لهم مصافحة قداستِه، حتى على تذكارٍ من دوائر حاضرة الفاتيكان. وإنّي لأعجبُ من سير تلك الزيارة وذلك اللقاء بهذه الطريقة السريعةوالغريبة. ومن حقنا أن نتساءل، كيف تسنّى لمنظّمي المقابلة إهمالُ هيجانِ الجمع المتلهّف ومغادرة قداستِه للقاعة بتلك السرعة غير المتوقعة!؟!
إنّ النصف ساعة اليتيمة التي أمضاها قداسة الحبر الأعظم وسط جمعٍ من أبناء هذه الطائفة المتهالكة، سواءً في لبنان أو سوريا أو العراق بخاصّة، لم تكن كافية لشفاء غليلِها وإشباعِ لهفتِها، نظرًاللمعاناةوالمشاكل والمآسي والهموم التي تعاني منها هذه البلدان الجريحة الثلاثة على السواء. أمّا نحن القادمين من العراق،فقد شعرنا حقًّا، أنّ في الأمر تجاوزًا على تمنياتِنا وحرصِنا واستحقاقِنا في تأكيد أصالة مسيحيتِنا أمام الحبر الأعظم، في هذه الفرصة النادرة السعيدة. كنّا ننوي تأكيد تلك الأصالة المسيحية المتجذّرة أمام قداستِه، وهو خيرُ العارفين بجذورِها الأولى في أواسط القرن الأول الميلاديّ. تلك الأصالة التي نفخر بها ونجالدُ ونعاندُ بإبقاء جذوتِها في قلوبِنا وفي نفوسِنا وفي كتاباتِنا وردودِنا تجاهَ مَن يستغربُ إصرارَنا على البقاء في هذا الوطن الجريح بالرغم من تكالب الأعداء، داخليًا وخارجيًا، وحتى مِن ذواتٍ في الوسط الكنسيّ، من الذين تورَّطوا مع غيرِهم، من حيث يدرون أو لا يدرون، بحجم مشروع المخطَّط الذي نُسجت خيوطُهضدَّ أهلِهم وعلى بلداتِهم ببيعِ هوية مناطق سكناهم العراقية الأصيلة والتلاعب بمصيرِها بتسليمِهاب"ثلاثين من الفضة" وعلى طبقٍ من ذهب لدولة كردستان العتيدة. وقد باشرت ملامحُ هذا المخطَّط بالظهور هذه الأيام، بعد البدء بعمليات تحرير المناطق المتنازَع عليها،والتي جرى التخلّي عنهاوتسليمُها ل"داعش" قبل أشهر، ضمن صفقة سياسية بدأت إشاراتُها وصورُها هي الأخرى تتكشّف شيئًا فشيئًا، بعد تعرية رموزِها وقادتِها ومَن يقفُ وراءَهم. وها هي اليوم الفرصة قد سنحتْ، لتصريح البعضِ في الإقليم، بأحقية مَن يقومُ بالتحرير الحصولُ على هذه المناطق وضمِّها لكردستان، ضمن ذات المخطَّط الذي نسجتْهُ الاستخبارات الغربية وزعماؤُها وتؤيّدُه اليومَ دولُها ضمنَ إطار التحالف الدوليّ لمحاربة "داعش".
مهما كانَ من أمرٍ، فلنْ اقولَ أنّ في تلك المقابلة، شعورًا بالاستصغار تجاه الحاضرين. ولكنّي أودّ التوضيح أنّنا أيضًا، لسنا أبناء الأرملة، ولا أولادَ الأمة، كي نُحرَمَ من بركة أعظم رجالِ العالم وأكثرِهم تأثيرًا ووضوحًا، حين هزَّ صوتُه الهادر حكوماتٍ وعروشَ دولٍ بأسرِها حينما انبرى بمطالبتِها بإدانة صريحة للأعمال الإجرامية والّلاإنسانية التي قامت وماتزالُ تقومُ بها تنظيمات "داعش" الإرهابية وأمثالُها في كلّ بقاع العالم، أمام مرأى ومسمع الزعماء والقادة والرؤساء. ونحنُ مُسَلِّمون أنّهُ لولا قداستُه وتحرّكاتُه الكثيرة، لما شهدَ العالم هذه الحملة الدوليّة لتجريم هذه العصابات ومحاربتِها بكلّ الوسائل. وهو المصرِّح أيضًا، بجواز استخدام القوّة ضدّ كلّ التنظيمات التي تعتدي على البشر الآمنين وتغتصب وتسبي وتخرق وتستغلّ الإنسانَ الأعزَل من دون وجهِ حقّ. كما نؤكّد، أنّنا سنبقى نعاجًا وخرافًا شجاعة وحرّة لكنائسِنا المشرقية الأصيلة، في القولِ والفعلِ والأداء والنظرة إلى الحياة وتجاربِها، من دون الانزلاق أو فقدان الإرادة وحرّية التعبير وإبداء الرأي إزاءالخلَل أو الخطأ هنا أو هناك. فالشجاعة تقضي أحيانًا كثيرة، إجراءً وقائيًّا وتعبيرًا واضحًا وردّا صريحًا قد لا ينسجمُ مع المعروض القائم، ولكنّهُ مطلوبٌ في كلّ زمان ومكان!
بغداد، في 22 كانون أول 2014

315
زلزال العراق والموقف الدوليّ

لويس إقليمس

أصابَ العراق زلزالٌ شديدُ القوة والقساوة بعد اجتياح مسلّحي الدولة الإسلامية، "داعش"، لمدينة الموصل الحدباء في 6 حزيران 2014 وسقوطها من دون مقاومة في أكثر أحداث الساعة غرابة ووسط ذهول وحيرة وتساؤل عموم الشعب العراقي والعالم. وقد توالى سقوط القرى والبلدات والمدن الأخرى التابعة لمحافظة نينوى في وقت لاحق من شهر آب 2014، ولاسيّما تلك التي كانت أمانةً في أعناق إقليم كردستان، الذي سبق واحتلّها في محاولة لضمّها لأراضيه باعتبار كونها من الأراضي المتنازع عليها، وله عليها حقُ القيمومة والتملّك من طرف واحد. عدّ الكثيرون تضحية الإقليم بهذه المناطق، تخاذلًا لقوات البيشمركة الكردية وقيادتها المناورة الانتهازية بسبب عدم صمودها والتزامها الدفاع عن تلك المناطق، بالرغم من الوعود العديدة التي قطعوها على أنفسهم لممثلي المكونات الاتي تشكلها، لاسيّما وأنّ ساكني هذه المناطق جلُّهُم من مكوّنات أقلّية من أديان وإتنيات مختلفة، من المسيحيين والإيزيديين والكاكائيين والتركمان والشبك وغيرهم، من الذين لا يملكون وسائل ولا ميليشيات للدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم وأراضيهم.
 هناك مَن يعتقد أن قيادة الإقليم قد فرّطت بهذه الأقليات فاضطرّت لبيعها لقوّة عاتية مقابل ضمانات فئوية وتبادل مصالح سياسيّة رخيصة، تمامًا كما فعلتها من قبل، الحكومة الاتحادية حينما ضحّت بها هي الأخرى لمصلحة الكورد في صفقة بين القوى السياسية والكتل المتصارعة منذ السقوط الدراماتيكي في 2003. وهذا ما استشفَّ مؤخرًا من تصريح رئيس الوزراء السابق، الذي مارسَ نظريتَه الطائفية وتهميشَه للمحافظات السنيّة عمدًا ومع سبق الإصرار. وأيًا كانت الأعذار لهذا الموقف غير الرصين والانتهازيّ، فقد سقطت هذه كلُّها على صخرة الاندفاع غير الاعتياديّ لإرسالٍ قواتٍ متمرّسة كردية من الإقليم للدفاع عن مدينة كوباني – عين العرب الكردية في سوريا والعمل على  تحريرها من أيدي داعش، بالرغم من كونها أراضي خارج حدود العراق الاتحادي وخارج أراضي الإقليم على السواء. والسبب واضح وضوح الشمس. فالعرق الكرديّ تنادى لمثيلِه، فيما قاطنو المناطق المتنازَع عليها، مواطنون من الدرجة الثانية لدى قيادة الإقليم. وإن كان من تفسيرٍ آخر، فلنسمعْه ياسادتي الكرام!
مَن يتابع عن كثب حجم المؤامرة التي تُنفّذ في المنطقة، وفي العراق بصورة أخصّ، وفق أجندة محكمة التخطيط والتطبيق والتنفيذ عبر أدوار موزّعة بعناية فائقة، سوف يلحظ عدم استثناء أيّ من الأطراف الطامعة والمتنازعة على مقدّرات هذا البلد المبتلى ببعض الساسة الحاليّين البعيدين كلَّ البعد لغاية الساعة، عن أيّ إحساس وطنيّ ومواطنيّ بما آلَ إليه حالُ الكثير من المواطنين ومنهم أبناء الأقليات على وجه الخصوص. فالأطراف الثلاثة المتصارعة والمتمثلة بالمثلث السنّي- الشيعي- الكرديّ، شريكةٌ فيها بطريقة أو بأخرى. وإلاّ كيف يكون تسليمُ الموصل وبلداتِها، وهي ثاني أكبر مدينة عراقية عريقة بأصالتِها وحضارتِها وبشرِها المتميّز، في ساعاتٍ، وباتفاقٍ سياسيٍّ، كما صرّح رئيس الوزراء السابق المتهم الأول في هذه الكارثة، باعتبارِه القائد العام للقوات المسلحة ومنه تصدرُ جميعُ الأوامر والتعليمات؟
الكلُّ أصبحت له قناعة وافية، في أنّ الأطراف الثلاثة المهيمنة والمتنافسة على السلطة في العراق، تحاول كلٌّ منها السطوَ على ما أمكنها من مغانم وامتيازات وحصص تعتقد أنها مِن حقّها. في هذه الحال، أين موقعُ حقوق باقي المواطنين الذين لا حولَ لهم ولا قوّة، وليس في حوزتِهم من ميليشيات أو أموال أو وسائل، غير الصبر الذي نفذَ والأمل الذي طار والرجاء الذي انطفأَ، بحيث يكون بمقدورِهم وضعُ حدودٍ دنيا للتجاوز على حقوقهم وطبيعةِ آدميّتِهم؟ حتى في مرحلة تشكيل الحكومة الجديدة، لم تخفي الأطراف السياسية الثلاثة أطماعّها، وراح كلٌّ مكوِّنٍ منها يرفع سقفَ شروطِه ومطالبه المذهبية والقومية والسياسية، في صراعٍ واضحٍ على السلطة وبحثٍ مستميتٍ عن الجاه والمال والمغانم وفرض الوصاية الاستعلائية على غيره. فالمحاصصة كانت حاضرة وبقوّة في تشكيل حكومة العبادي، بالرغم من محاولاتِ الأخير العنيدة والصادقة ظاهريًا، بالحدّ منها والخروج بتشكيلة أقرب إلى التكنوقراط والشخصيات المشهودة بالكفاءة والحسّ الوطنيّ. ومع ذلك، فما تزالُ الفرصة، ربّما مؤاتية، لإخراج البلاد من النفق المظلم الذي ركنت إليه بسبب الأخطاء القاتلة والمتكرّرة لرأس الحكومة السابقة لولايتين متتاليتين. فالتحوّل الحاصل في الموقف الدوليّ حول محاربة تنظيم "داعش" الإرهابيّ، وكذا النقلة الوطنية والشعبية في أخذ المبادرة الهجومية بتحرير مناطق كان هذا التنظيم قد سيطرَ عليها في وقت سابق، قد تكون الخطوة في الاتجاه الصحيح نحو إعادة خلق قاعدة وطنية تلمُّ شمل الفرقاء والمتخاصمين وتعيد اللحمة الوطنية للنسيج العراقيّ المتفتّت والفاقد الثقة ببعضِه البعض.
مَن يتابع مجمل الأزمات التي عصفت بالعملية السياسية منذ ثماني سنوات تحديدًا، يلحظ بما لا يقبلُ الشك مدى تمسّك الأطراف المتسلّطة جميعًا الواقعة بمستنقع "الأنا"، بتلك المحاصصة البغيضة التي أوصلت البلاد إلى هذا النفق المظلم وإلى هذه النتائج المخيّبة للآمال التي فيها تحوّلت البلاد إلى كانتونات ومحميات قومية ومذهبية، لتعلن عن تقسيمٍ وتفتيت وتشظية أراضي العراق وترابه الواحد، وعن فصلٍ مذهبيّ وقوميّ لسكّانه على حساب وحدة الوطن وتماسكه، وذلك في خطوة لمحو حضارته وقلع شعوبٍ ومكوّنات من تاريخه ومن حياته. ومن الغريب، بل من المعيب أنّ أغلبية هذه الأطراف، تندّد وتتشدّق وتشدّد وتطالب بالتخلّي عن سياسة المحاصصة هذه، ولكنّهم في حقيقة الأمر والواقع، هُمْ مَن يسعون إليها والتمسّكِ بها بأرجلهم وفكرِهم وفي لهاثِهم تجاهّها بكلِّ جوارحِهم وقوّتِهم. غرابةٌ ما بعدها غرابة في الموقف وفي الفكر وفي الضمير!

كلٌّ يبكي على ليلاه!

جاءَ فقدان سيطرة الحكومة المركزية على مناطق واسعة اعتبرتْ مناطق متنازّع عليها، منذ السقوط الدراماتيكي في 2003 لصالح المكوّن الكرديّ المتعنّت والمدعوم دوليًا لغاية الساعة، ليؤشّر خللًا كبيرًا في المعادلة الوطنية وفي صيانة وحدة البلاد. فقد كان له أكبر الأثر لاحقًا، في تواصل تفتيته على أسس مذهبية وإتنية وفق مصالح الأطراف المشاركة في العملية السياسية العرجاء. إنّه وبسبب النهج الطائفيّ البغيض للولايتين المتتاليتين للحكومة السابقة وإصرار الأخيرة على استبعاد النهج الوطنيّ في منهاجها وسياسة التهميش والإقصاء الواضحة، فقد فتحت الباب أمام أطراف مشاركة، وليست شريكة، كي تنتفض وتعترض وتنسحب من العملية السياسية أحيانًا، بسبب شعورها بالتهميش والتسلّط والإقصاء في اتخاذ القرار الوطنيّ، بحسب الاتفاق بينها لتقاسم السلطة وفق منهاج وطنيّ شفّاف، لا يستبعد أحدًا، حتى الأقليات من أبناء الشعب.
لكنّ ما حصل، أن الجانب الشيعيّ قد تسيّد الموقف وفرض أجندتَه وسخّرَ الدولة ومؤسساتها لصالح مكوّنه، منطلقًا مِن رؤية ضيقة الأفق، بأنّ الدور اليوم لهم، وأنَّ اليومَ يومُهم للانتقام ممّا كانَ ومازالَ يعتقد بتسيّد غرمائهم السنّة طيلة السنوات المنصرمة، متناسين أنّ الشعب العراقيّ برمّته كان مُغيَّبًا ومستبعَدًا ومضطَهَدًا،وليس هم وحدهم.
فيما ركبَ السنّة فكرَتهم العنادية ولم يحكموا العقل والحكمة في كيفية استثمار قدراتهم من خلال المشاركة الفعليّة في الحكومات المتعاقبة التي ترأسها الجانب الشيعيّ. كما أنّهم لم يستطيعوا تحويل تهميشهم السياسيّ أحيانًا، واستثماره ما أمكنَ في الأروقة السياسية المختلفة مثل الأكراد، ومنها العربية والدولية والصديقة، لكسب الودّ والتحشيد لصالح تهميشهم، إلاّ مؤخرًا. وما عدم مشاركتهم في كتابة الدستور الأعرج، سوى القشّة التي قصمت ظهرَ مطالبهم وحقوقهم التي ذهبت أدراجَ الرياح، حين كتابتِه لصالح غرمائهم الشيعة والانتهازيين من أصدقائهم من المكوّن الكرديّ، بعد تضمينه مطبّات عديدة وقنابل موقوتة انفجرت وما تزال نتائجُ انفجارِها المفجع تتجسّد في حياة المواطن. فقد أذنبوا، ليس بحق مكوّنهم  السنّي فحسب، بل بحق المكوّنات قليلة العدد، أي الأقليات التي نالت قسطًا وافرًا من ذلك التهميش والاستبعاد والخيبة والخذلان لغاية الساعة، هي الأخرى.
كما أنّ الجانب الكردي، من طرفه، لم يدّخر جهدًا بانتهاز الفرص والمناسبات لتجيير ما استطاعَ لصالح قوميته الكردية واستدرار عطفِ دول العالم لاقتناص المساعدات الوافدة وتعزيز مقدّرات الإقليم التسليحية والمادية ووضع اليد على الثروات الطبيعية المستخرجة من أراضيه لصالحه، خلافًا للدستور الذي يحتّم أن تكون الثروات الطبيعية من حقّ المركز في الاستخراج والإنتاج والتوزيع والتسويق. لقد نجح الأكراد في عنادِهم مدعومين باستشارات دولية في كسب ودّ الغرب المتحيّز دومًا ولغاية الساعة لجانبهم، تمهيدًا لتشكيل دولتِهم المستقبلية الجامعة التي ستتضمن بالتأكيد مغانم من كلّ من سوريا وإيران وتركيا على التوالي، بحيث سيُخلقُ كيانٌ طائفيٌّ وعرقيٌّ جديد في المنطقة إلى جانب دويلات طائفيةٍ سنّية وأخرى شيعيّة، لتنضمّ هذه جميعًا إلى ذات شكل الكيان الصهيونيّ العنصريّ الذي خطَّطَ له وهو يتطلّع اليوم الذي فيه هذه جميعًا، تُبصرُ النورَ وقد تحقق مشروع الشرق الأوسط بحلّتِه الجديدة كي يسهل على الغرب وأعوانِه السيطرة على منابع الثروات االهائلة في المنطقة. كلُّ هذا تمّ التخطيط لهُ منذ سنوات وهو يجري سرّيًا بالاتفاق مع عدوّة الشعوب المستضعفة أميركا وأعوانِها الغرب التابع الذي استساغَ اللعبة وهضمَها وصفّقَ لها بكلِّ جوارحِهِ.
مجمل هذه الأحداث، وغيرُها كثيرٌ، قد ساهمت في الزلزال الذي أوصلَ البلاد إلى ما هي عليه اليوم، من مآسٍ وتهجير ونزوح جماعيّ من مناطقها الأصلية الساخنة، ومن مناطق أخرى غيرها من التي تزداد سخونة بسبب استمرار سيطرة ما تُسمّى "دولة الخلافة الإسلامية"، داعش، على مناطق شاسعة من البلاد وتهديدها العاصمة بغداد أحيانًا، بل وكردستان التي كانت تعتقد أنّها ستكون آمنة، ما شاء القدر. وما جرى من عمليات تهجير قسريّ ونزوح جماعيّ بسبب أعمال بربرية أعمل فيها التتار الجدد السيفَ بعد رفعهم راية "لا إله إلاّ الّله"، وما ارتكبوه من جرائم إنسانية ومن أعمال قتل وسلب ونهب وسبي نساء من مناطق تواجد أبناء الأقلية الإيزيدية في سنجار وزمّار وتلعفر وشنكال وما حولها، وكذلك في سهل نينوى في مناطق قضاء الحمدانية في بلدات قرةقوش وبرطلة وكرمليس وبعشيقة وبحزاني وتلكيف وباقوفا وباطنايا وتلّسقف وأخرى غيرُها، كلّها نتائج للصراع السياسيّ على السلطة بين أطراف المثلّث المتسيّد على الساحة العراقية لغاية الساعة. وما لم يخرج العراق تمامًا من الحلقة الطائفية المفرغة ونهج المحاصصة الطائفية في حكم البلاد والعباد، فلنْ تقومَ له قائمة بعد الآن. فأيامُنا ووجودُنا وهويتُنا العراقية الوطنية على المحكّ، ولا خيارَ لنا جميعًا سوى التكاتف معًا لقلع الآفة الكبرى المتمثلة بعصابات "داعش" واجتثاث سرطانِها من أصلِه كي ينعَم الوطنُ والعبادُ والمنطقة والعالم بسلام واستقرارٍ مقبولَين.
إنّ الأحداث المأساوية الأخيرة بعد سيطرة داعش على ما يقرب من ثلث أراضي العراق، قد تركت أكثر من مليونين من السكاّن الآمنين، وجلُّهم من أبناء الأقليات التركمانية والمسيحية والإيزيدية والشبك، ناهيك عن مجاميع من مناطق عربية ساخنة، تُركوا في مهبّ الريح، بعد أن هاجمتهم الذئاب والضباع وأصبحوا بين ليلة وضحاها بلا مأوى ولا مال ولا أمل . لقد اضطرّ هؤلاء جميعًا، لترك مناطقهم وبلداتهم وأملاكهم ومساكنهم للعصابات المسلّحة القادمة من خارج الأسوار، والتي تتشدّق وتزعم بعملها بحاكمية الله وتطبيق الشرع الذي يقرُّ اغتصاب النساء واعتبارهم سبايا وجواري، وكذلك قتلَ الناسَ ونحرَهم بدماءٍ باردة، وتهديد غيرِهم بترك دينهم المختلف أو الموت حدًّا أو دفعَ الجزية، وكأننا نعيش في زمن التخلّف والجهل والظلمات.
 لقد تبدّدت وتبعثرت وتشرذمت شعوبُ هذه المكوّنات المقهورة في أرض الله الواسعة التي ضاقت بهم، بسبب الحاجة ونقص الغذاء والدواء والمأوى اللاّئق والأمراض المتفشية. فما زال العديدُ منهم يفترش الخيم في الساحات العامة أو في هياكل الأبنية وقاعات الكنائس التي فتحت أبوابَها مشرعة أو مكرَهة. ومَن وجد خيمة تقيهِ حرّ الصيف الّلافح وبردَ الشتاء القارس، أوغرفةً في فندق أو مأوى يدفع ثمنًا باهضًا لإيجارها، فهذا محظوظٌ. ولكن، مع تأخر الجهات المعنية في معالجة قضية السكن المهمّة وقد أطلَّ الشتاء بكلِّ عتوِّهِ وزمهريرِه وأمطارِه، اصطدمَ النازحون والمهجَّرون بالواقع المرير، وهم اليوم أمام معطيات جديدة ومريرة حيث استؤنفت الدراسة في عموم البلاد ولاسيّما في أراضي الإقليم الذي آوى أغلبية هؤلاء النازحين الذين فاقت طاقتَه بهم. فماذا يا تُرى أصبحَ مصيرُهم؟ حتى مشروع "الكرفانات" المقترَح لم يكتمل بعد، والناجز منه ما زال خارجَ المواصفات الآدمية. فإلى متى المعاناة؟ وحتى متى الكربُ والضيقُ وشظفُ العيش؟ وكمْ ستستمرُّ الإهانات؟
ولا ننسى، مَن ضاق بهم الوطن، فآثرَ تركَه للذئاب المستعرة والضباعِ السوداء الكارهة للحياة. فمَن تركَ الوطن، فقد فعلَها مكرَهًا ونافضًا الغبار الذي علَق في أرجله طيلة السنوات المضنية من حياته فيه وبين حناياه. هؤلاء تركوه جريحًا، ليسَ تمامًا كما سبق وفعلَها غيرُهم قبلهم. بل فعلوها بعد أن ضاقَ بهم الوطن وفشلت الدولة بمعالجة أوضاعِهم بالسرعة المرتجاة. تركوه جريحًا بين أنياب عصابات خارجية أوغلت بالفتك به، بسبب صراعاتِ ساسةٍ غير حريصين على مستقبله وغير أمينين للحفاظ على النعمة والوديعة التي أولوها إيّاها يوم انتخبهم الشعب ولم يفوا الوعد. إنْ هؤلاء، إلاّ تجاٌر بشعوبهم، لم يستوعبوا دروس الحياة! فالدائرة تدور طالما أن الحياة قصيرة ولا مناصَ من الإفلات من المصير المحتوم المرسوم للبشر، مهما طغا واستأسد وفسد. وكلُّ ما ردَّدُه المهاجرون السابقون وما يردِّدُهُ النازحون والمهجَّرون قسرًا اليوم، وغيرُهم كثيرون من فاقدي الأمل والرجاء، أنَّ الوطنَ الذي لا يقدّمُ الكرامة اللاّئقة والخبزَ الأمين والعملّ المشرِّف اعتمادًا على الكفاءة والجدارة والأحقيّة،  فمثل هذا الوطن، بحسب هؤلاء، لا يستحقُّ خدمة المواطن الطيّبِ النيّة وحرصَه ومحبتَه وتضحيتَه وسفكَ دمائِه من أجلِه ومن أجلِ الفاسدين فيه ممَّن يعيثون في الأرض فسادًا. ومن ثمّ فإنّ هؤلاء القادمين الجدد والغرباء عنه، لا يستحقون التنعّم بخيراتِه، لأنهم ببساطة غير جديرين بها وليست من حقِّهم.
أمّا موضوع الهجرة، موضوع الساعة، فما أشدّه ألمًا لو حصل وفرغت البلاد من مكوّنات أصيلة كانت فيه بمثابة ورود مختلفة الأشكال والألوان والعطور، تزيّن حديقة العراق الوارفة آنفًا. لقد خرجت هذه الظاهرة عن السيطرة، بعد الاسترخاء الواضح لزعماء الدول المشاركة في التحالف الدوليّ وعدم كفاية الضربات الجوية التي يشّنها هذا التحالفُ  مكرَهًا، ونيّة هؤلاء الزعماء المغرِضة بتأجيل تحرير المناطق المحتلة من قبل عصابات "داعش" الإرهابية. وهذا ما يشيرُ بشيءٍ من الأسى، إلى كون هذا التأخير يصبُّ في صالح المخطَّط المرسوم دوليًّا لدفع النازحين والمهجَّرين إلى قطع الأمل والرجاء بالعودة إلى ديارهم وقراهم واستعادة أملاكهم على المدى القريب. فكلّ الدلائل تشير إلى هذا الاتجاه، وهذا ما أكّدَه قائد التحالف الدوليّ وأركانُه وسائرُ الزعماء المتورطين في المشروع، من كونِ حملة التحرير قد تستغرق عامين إلى ثلاثة بحسب تقديراتهم، بالرغم من اعتقادِنا أنّ المسألة لا تستحقُّ الإطالة لأكثر من 3-6 أشهرٍ، فيما لو عُقدت النيات الحسنة وعزمَ أهلُ النخوة ومحبّو الإنسانية والوطن للخلاصَ من عدوٍّ عاتٍ كادَ يهدّدُ الأمنَ والسلمَ الدوليّين أيضًا.
أخيرًا، نحن واثقون جميعًا، أنّ الهجرة ليست الحلَّ الأمثل والأصلح والأفضل. قد تكون ملاذًا مؤقتًا للبعض، ولكنها بطبيعة الحال لن تشكل خلاصًا للمشكلة. وما أجلَّها من معضلة حين يصطدمُ المهاجرُ بواقعٍ جديد مختلفٍ تمامًا عمّا عاشَهُ وشهدَه! ولكنْ، من حيثُ لا مناصَ من التخلّص من وبالِ التهجير وأوضاعِه المأساوية لمَن يبقى بلا مأوى ولا مورد ولا كرامة، فهو كمَن يعيشُ خارجَ الزمن بلا وطن يأويه ولا أرضٍ تحويهِ. فالهجرةُ هنا تبقى أمرًا مباحًا وقرارًا شخصيًّا يتخذُهُ الواحدُ فردًا أوجماعةً.
إنّ الهجرة الجماعية، إنْ حصلت، ستكون وبالاً على الوطن والمنطقة. كما أنّها ستعني انتصارًا للقوى الطاغية والعصابات المتاجرة بدماء الشعوب وأرواحهم على المستوى التاريخي والثقافي والحضاري والإنسانيّ والاجتماعيّ والتراثيّ. وما يُثارُ عن فكرة "لا مستقبل للأقليات في العراق"، ليس مقبولاً البتة. فلا يمكن اقتلاع شعوبٍ من جذورها بهذه السهولة. فذلك من سخرية الأقدار لو حصل. بل سيذكرها التاريخ في سجلّ جرائم الدول الكبرى التي تدير مثل هذه المزادات والصفقات في عصر العولمة الجارف، عصراللّاحضارات والفوضى الخلاّقة وغياب الأخلاق والآداب.

لويس إقليمس

بغداد، في 24 تشرين ثاني 2014

316
بين الدّين والإيمان، "داعش" خارجًا
لويس إقليمس
في تاريخ علم الأديان، نتتبّع حركتها ونشأتَها ونبوغَها وانتشارَها بمقارنة "زمانيتها" أي تاريخ قيامها وتقويمها وبلوغها إلى ما آلت إليه ضمن حقبة زمنية وظرف معيّن. ولقد تعلّمنا أيضًا، أنَّ الظاهرة الدينية هي ظاهرة حقيقية، تمامًا مثلُها مثل ظاهرة الأنبياء والأولياء والمرسَلين، بحسب زمن الظهور والمحيط الذي نشأوا عليه وفيه. من هنا، فهي تشكل حقائق لها تاريخيتُها وواقعيتُها، غيرُ ممكنة الإنكار والنفي. هناكَ أديانٌ قائمة لغاية اليوم، منذ قدم التاريخ وظهور البشر على الأرض، كان لها وقعُ حضاريٌّ وتأثيرٌ بشريٌّ، ما يعني قيامَ تلك الأديان بتأثيرٍ في حضارة الشعوب التي قامت وسطَها وأسّستْ لتلك الديانة التي أصبحت جزءًا من الحياة اليومية لشعوبها وحافزًا لنوعيّة معينة من الحياة، رسمت لها حضارة تطبّعت بأسسها وكانت عاملًا لانتشارها وممارستها.
   منذ النشأة، كان للأديان تأثيرٌ مباشِر وغير مباشِر على حياة الناس وطريقة عيشهم وملازمتهم لحاجاتهم البشرية والمادية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، باعتبار أنَّ الدين ومفرداتِه، إنّما يرسم سياسة حياة الناس ويوجّهها نحو الوجهة الصحيحة والأمينة التي تحفظ للإنسان سلامَه الداخلي وترسم علاقتَه مع الخالق أو الإله الذي يتبعُه. وهذا في اعتقادي، كان ولايزال قائمًا لغاية الساعة متمثِّلاً بتأثير أركان الدّين ومرجعياتِه في حياة البشر ونصحهم بتوجيهها الوجهة الصحيحة والنافعة وسط هيجان الحياة القائم.فالدّين نصحٌ وأخلاقٌ ومحبةٌ وإيمانٌ ورجاءٌ بما نؤمن به وما نبتغيه في الحياة الدنيا وما نختزنُه منها للآخرة.
 يحدّثنا التاريخ قيام "أنبياء" أو رجالٍ صالحين تمكنوا من تأسيس منظومة بشرية متلازمة لتعاليمهم، ولم ينتهي تأثيرُهم مع غيابهم أو موتهم، بعد أن خلقوا لهم أتباعًا، بغضّ النظر عن الطريقة التي أتوا بها ونشروا عقيدتَهم وسط الناس. بعضٌ من هؤلاء كانوا من الأولياء الصالحين حين نقلوا رسالة من السماء لبني البشر تعينُهم على الحياة كما ينبغي ووفق المشيئة والهدف اللذين خُلقوالأجلهما. فيما أفرزتْ دياناتٌ أخرى عدمَ ارتقائها للهدف الذي وُجدت من أجله حين عطّلت مشيئة الخالق في محبة الجنس البشري بعضهم لبعضٍ، بحيث خرجت عن السياق الذي تأسستْ عليه بانكفائها على ذاتها وتعتيم تعاليمها من دون محاولة للتطوّر مع الزمن. فأصبح مؤسسُها لا يعدو كونَه مصلحًا اجتماعيًا لفترة طارئة من الزمن، لم تعد تنفع في ظلّ التطورات المعاصرة والعولمة والحداثة وكلّ أشكال التطور عبر الزمن. بالمقابل، نقرأ العديد من الأديان قد تلاشت بمجرّد موت صاحبِها أو اختفائِه عن الوجود. لكنّ مجمل هذه الأديان تبقى جميعًا ظواهرَ لها شأنُها وتأثيرُها، ولو بعد حين. فالزمن يدور بعجلة، قد تعود به إلى تلك الأوّليات، ولو بعد حين، حتى لو طال هذا الأخير!

الفكران الإلحاديّ والمتشدّد: ردّ فعل للشرود عن الصحيح!!!
يهمُّنا في هذه المرحلة أن نتحرّى قيمةَ الأديان في عالم اليوم، وما يمكن أن نستخلصّه من القائم منها حاليًا، والتي نختبرُها ونعيها ونمارسُ شعائرَها ونتّبعُ أنبياءَها ومؤسّسيها، كلٌّ منّا على طريقتِه ووفق معتقدِه، ولاسيّما الموحِّدة منها. فالإيمان بالله في منطقتنا حصرًا، يشكل موقفًا مشتركًا لشعوب المنطقة. أمّا في الغرب المارد، فهناكَ مَن شكّكَ بوجود الله وقدرتِه على إدارة الكون اللغز لغاية اليوم. وقد يكون حصل شيءٌ من هذا الطارئ، في حدود المنطقة التي نعيش فيها أيضًا، بسببٍ من تأثّرِ البعض بسفسطات وفلسفات الغير، سواءً القائمة أوالمستوردة منها. إلاّ أنَّ أصحاب هذا الفريق بفكرِه الإلحاديّ المطروح هنا وهناك، لم يتمكّن بجهودِه وحججه من إثبات نظرية أو حقيقة عدم وجود الّله.فيما أثبت الفريق المؤمن الآخر "الموحِّد"، أنّ هذا الكون الكبير لابدّ أن تكون هناك قوّة خلاّقة وجبّارة تديرُه وتوجّهه مع ترك الخيار في الاختيار للإنسان نفسِه. وهكذا أصبح اللهُ والإيمانُ به وبتعاليمِه، متلازمةً للديانات الموحِّدة، مع فارقٍ طبعًا، في كيفية فهم عظمة الخالق والعمل وفق وصاياه وفي كيفية ترويض الأتباع والمؤمنين، بل وطريقة فهم وتأويل ما أتت به الكتب التي تتحدّث عنه وتنقل هذه التعاليم.
قد تكون انطلاقةُ الفكرة "غير المؤمنة" بوجود الّله، أتتْ من منطلق تركِ الّله لخليقتِه مخيَّرةً وليسَ مسيَّرةً، حيث يستغلّ الإنسان طاقتَه ويوجّه إرادتَه نحو مايؤمنُ أو لايؤمنُ به وما يراه مناسبًا في تسيير دفّة شؤونِه الروحيّة والمادّية بكلّ الحرّية التي أولاهُ إياها الخالق. فالعلاقة هنا، تبقى في حدود الشخصيّة بين الله الخالق والإنسان، خليقتِه الضعيفة! وهذا ما ننادي به اليوم، بكونِ الدّينِ وكلِّ ما يمسّ الشعور الإيمانيّ باللّه، أي تكريس العلاقة بين الله وخليقتِه، مسألةً شخصيّة بحتة يعبّرُ عنها سلوكُ البشر وفق ما يراها ملائمة له في حياتِه ومسايِرةً لرغباتِه وشعورِه، جامحًا كانَ هذا الأخير أمْ متعقّلاً متروّيًا.
 ربّما يكونُ التفكيرُ بعدم وجودِ "إلهٍ"، يعود إلى بدايات الخلق أو ما بعدها. وربّما يكون مثل هذا التفكير حديثًا، لاسيّما في العصور الوسطى، قد نشأَ في فترة سطوةِ المؤسّسة الكنسية على مقاليد الحياة في أصقاعَ معينة بحيثُ وصلَ تأثيرُها إلينا في الشرق. وهذا ما يشرحُه سببُ ردّ فعلِ أصحابِ الفكر الإلحاديّ، على ما شهدته أوربا من أنواعٍ الظلم الاجتماعي الذي مارسته سلطة الكنيسة في الغرب مثلاً، فيحقبةٍمظلمةمنمسيرتِها على أتباعِها. فقد يكون حصلذلك من خلال شبهاتٍ مسّتْ حياةَ بعضِ رئاساتِها في فترةِ الانحطاطِ الأخلاقيّ والماديّ والمجتمعيّ حينَ تحالفتْ مع جماعاتِ الإقطاع وسخّرتْ جهودَ البسطاء من الفلاحين لخدمتِها منْ دونِ وازعٍ. وهذا ما يشرحُ أيضًا، نوعيةَ الغضبِ الجارف الذي وُجّهَ آنذاك، نحو مؤسساتٍ كنسية ورجالِها على السواء. إذْ، سرعانَ ما تراجعتْ عددٌ مِن تلك المؤسسات عن أشكال تلك التصرّفات الهوجاء، فعادتْ إلى رشدِها وانتهجتِ السلوكَ الصحيح الذي أوصى به ربُها، نخبةَ التلاميذ والحواريّين حينَ أرسلَهم للتبشير باسمه القدّوس "إذهبوا وتلمذوا جميعَ الامم وعمّدوهُم باسم الاب والابن والروح القدس وعلّموهُم أنْ يحفظوا جميعَ ما أوصيتُكُم به ..وها انا معكم كلَّ الأيّام إلى انقضاءِ الدهر" (إنجيل متى 18:28-20). فاللّه لا يترك أبناءَه فريسةً للشرّ والأشرار، إذ طالما تبقى نتفٌ مِن الغيرةِ والرحمة والإيمانِ في قلوبِ البشر. وهذه هي التي تثمرُ وتنمو بعدَ اهتداءٍ مرتقب. فإنَّ " قَلْبَ الإِنْسَانِ يُفَكِّرُ فِي طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ يَهْدِي خَطْوَتَهُ" (سفر الأمثال 16:9). من هنا نرى قوّةَ الإيمان واتباعَ مشيئةِ الخالقِ قد تعزّزت بفعل الرجوع إلى الصواب وفي ممارسة ما يتطلّبُه مثلُ هذا الإيمان في حياةِ الإنسانِ السويّ والعاقل الذي ينشدُ عبادةَ ربّه بصدقٍ مِن دونِ مواربةٍ ولا تعقيدٍ ولا تشدّد ولا تطرُّفٍ ولا زوغانٍ عن الطريق الصحيح والصراطِ المستقيم الذي لا يستقيمُ أبدًا مِن غيرِ إرادةِ الخالق ووصيّتِهِ المتمثلة ب "المحبة"، محبةِ جميعِ البشر بعضهِم لبعضٍ والقبوُل بهم كما هُم على طبيعتهم وكما خُلقوا.
مِن هنا، يكونُ الخروج عن هذه الطريق السويّة، بمثابة انتحارٍ بشريّ بسبب سلوكٍ عدائيّ مفرَط غيرِ مقبولٍ، حين يفرضُ مثلُ هذا السلوكِ عليه تكفيرَ الآخَر وردَّه وعدمَ الاعترافِ به، بالرغمِ مِن سواسيّة الخلق وعدالةِ الخالق في توزيع خليقتِه كما شاءَ هو، ووفقَ إرادتِه وقدرتِه وغاياتِهِ. ثمّ إنَّ اللّهَ الخالق، لمْ يخوّلْ أحدًا على الأرض، للحكمِ على خليقتِه وإنزالِ القصاصِ ظلمًا وعدوانًا بعقيدةِ تستبيحُ كلَّ فعالِ الشرّ وممارسةَ العنف، خارجًا عمّا تحكمُ به الشرائعُ السماويّة الصحيحة المتسامحة والقوانينُ الوضعية التي تساوي بين البشر ولا تفرّق. فهذه الأخيرة، لا يمكن أن تخضعَ نزولاً عندَ رغباتَ وشهواتَ ونزواتَ مَنْ تسوِّلُ له نفسُه الحكمَ على خليقة اللهِ بطريقةٍ بدائية لا ترقى إلى القيم الشرعية الصحيحة والمنطقِ والقانونِ الإنسانيّ الذي يجبُ أنْ يتحدّدَ وفقَ مبادئِ العدالةِ الاجتماعية والمساواة واحترام الحرّيات الشخصية في العمل والتفكيرِ والتصرّفِ ومِن دونِ المساسِ بحرّية الغيرِ وإلحاقِ الشرّ به.
أمّا ما يبرّرُ أفعالَ العنفِ القائمة هذه الأيام، والمشتدّةِ مِنْ دونِ هوادة، فبعضٌ منه تحصيلُ حاصلٍ لأنواعِ الظلمِ الذي مورسَ مِن أنظمةٍ وسلاطينَ وزعاماتٍ قستْ قلوبُها واهترأتْ عقولُها وضمائرُها بانغماسِها في ملاذِ الدنيا وأباطيلِها تاركةً الشعوبَ المقهورة والمستضعفة في وادٍ سحيقٍ يفتقرُ إلى أبسطِ أنواعِ الحياة الآدميّة. فما بالُكَ أنْ يعيشَ أكثر من ثلثي العالم في حياةٍ بسيطة من الفقر والفاقة، فيما لا يتعدّى كبارُ الأثرياء المتخَمين المتحكّمين بثروات العالم 1%، إن لمْ يُعدّوا بضعة عشراتٍ منَ الآلاف أو ربّما أقلَّ من ذلك. فأينَ العدلُ في البشر، الذي أوصى به الخالقُ والذي لا تكفُّ المراجعُ المعتدلة والعقلاءُ وأصحابُ الإرادات الصالحة يوصونَ بهِ الأتباعَ وكلَّ البشر لينتهجوا الطريق السويّ في الحياة والذي يُرضي اللَّه وأولياءَه ورسلَه الصالحين. ومهما يكنْ مِن أمرِ هذه الطبقات الحاكمة الضالّة، فهذا ليسَ منَ المبرّرات المكتسبة الشرعيّة كي يخرجوا عنْ جادةِ الصوابِ وينحلوا طريقَ الإلحادِ أو التشدّد في الحياةِ وفي الفكرِ والمنهج. فالديانةُ التي تقبلُ عقيدتُها استباحةَ التكفير والشرّ والتقتيل والسبي والاغتصاب والتنكيل ظلمًا وعدوانًا ودونَ وجهِ حقّ، فإنّها لا تسمو أن توضعَ في مصافِ الأديانِ التي تنشدُ عبادةَ اللهِ، الرحمنِ الرحيم، الذي يحبُّ بني البشر، كلَّ البشر دونَ تمييزٍ أو تفرقةٍ.

الكنيسة منبع الفلسفات
سقتُ مثالَ الكنيسة كمؤسسةٍ دينية بشرية عانتْ مِن ضعفٍ بشريٍّ في فترة معيّنة، وليسَ المقصودُ به الدّيانةَ المسيحّية ومعتقداتِها الإلهيّة الثابتة. فالأخيرة، كانت وماتزالُ الأكثرَ تأثيرًا في حياةِ الشعوب تاريخيًّا، والأعلى مصداقيّةً إيمانيًّا، والأقربَ إلى علاقةٍ روحيّة وأخلاقيّة وتعايشيّةٍ وسلميّةٍ وواقعيّةٍ والأشدَّ تعلُّقًا بالوطنِ والأرضِ من غيرها مِن الأديانِ القائمة. قد تكونُ هذه الرؤية لدى البعضِ نسبيةً بعضَ الشيء. إلاّ أنَّ تلك المرحلة مِن الضعف أيضًا، والذي عانت منهُ مؤسساتُها، كانتْ بحقّ بداياتِ نشوءِ نظامٍ محايدٍ بل ومستقلٍّ أحيانًا عنْ كلّ ما يشيرُ بصلةٍ إلى الدّين ورئاساتِه، بحيثُ قادت الغربَ إلى ما يشبه التحدّي في الفكرِ والرؤية بسبب رياحِ العلميّة والعصرنة التي اجتاحتها وفتحت نوافذ لفلسفات جديدة إلحادية ولا أدرية ومادّية ولا أباليّة واستدلالية لنظريات حتميّة ولاحتميّة وفردانيّة وما شابهَها.
مجمل هذه الفلسفاتِ الجديدة مثارِ الشكِّ واليقين، التي نبعتْ في الغرب بصورة أخصّ، وارتبطتْ بالمسيحيّة أو بالأحرى بمراكزَ لزعاماتِ الكنائس في صياغتِها وقولبتها، حاولتْ ما استطاعتْ إبعادَ الكائن البشري عن إيمانِه بخالقِ الكون، ذلك الإيمانِ التقليديّ الذي تعلّمَه وتلقَّنَه الإنسانُ في صغرِه، وعندما كبرَ تزعزعتْ صورتُه بهوبدينِه وبخالقِه على السواء. وهذه كانت مشكلةُ العصر المتأثِّر بقوانينِ العلوم الجديدة بعدَ الثورة الصناعية وتوالي الثوراتِ في الغرب على الأنظمة المَلَكية القائمة آنذاك، بحيث أصبحَ لا مكانَ للّه في حياة الكثيرين، وهو الذي خلقَ الكونَ وارتاحَ في اليوم السابع، تاركًا مصيرَه بيد القدر وأصحابِ العلمِ والنظريات والفلسفات والأفكار الجديدة التي انتشرت فيها انتشارَ الهشيمِ في النّار.
إذا كانتِ المؤسساتُ الدّينية عمومًا، قد تحدّتْ فكرةَ الإلحادِ التي لمْ تستطعْ تقديمَ بياناتٍ وإثباتات مقنعةً للرأي العام ولأتباعِها ومواليها، فهذا دليلٌ على خسارةِ هذه الأخيرة، الرهانَ بعدمِ وجود اللّه. "قال الجاهلُ في قلبِه ليس إله" (مزمور14: 1 وأيضاً مزمور 53: 1)، كما ورد في مزامير الكتاب المقدّس. والجاهلُ هنا، ليس هذا الملحدُ الذي أنكرَ وينكرُ وجودَ الله الخالق في حياةِ البشرِ والكونِ مِن موقع الغباء والجهل. لأنَّ "الملحدَ ليسَ بالضرورة أنْ يكونَ غبيًّا وجاهلاً وناقصًا للذكاء، بل بالعكس هناك منهم مَن يقيس عقلُه ذكاءً لا يُعدّ بقناطير مؤلَّفة". لكنَّ جهلَه يتلخّصُ بعدم إيمانِه بهذا الإله، مسيِّر الكونِ ومديرِه بقوّتِه وجبروتِه. والمسألةُ هنا، بحسب العقلاءِ والحكماء، أخلاقيّة بحتة تَلصقُ الإنسانَ غيرَ السويّ والشاردَ، عندما ينكرُ هذا الوجودَ ويتصرّفُ رافضًا الإيمانَ بالله، خالقِ هذا الكون الذي يدعو البشر، جميعَ البشر للالتزام بالأخلاق والمحبة والسلامِ مع بعضِهم البعض. وهذا ما يفسّرُ فراغَ الغربِ ممّا نسمّيه بالأخلاق وتصرَّفَهم على سجيّتهم بطريقة مختلفةٍ أخلاقيًّا ومجتمعيًّا، لا تقبل بها غيرُهم مْن مجتمعاتٍ وشعوبٍ مؤمنة أخرى. إذْ هناكَ شرائحُ وافية ترغبُ العيشَ على هواها مْن غيرِ التزامٍ أخلاقيّ وتعدُّهُ شأنًا خاصًّا ليس للمجتمع أنْ يحاسبَها على ما تفعلُه.

الإسلامُ هاجسٌ دائمٌ للسلطة والسطوة
بالمقابل، كانَ هاجسُ حيازةِ السلطة وحظوةِ السطوة والطمعِ في توسيع الممالكِ واقتناءِ المالِ والجاهِ والعظمة مِنْ أولويّات الإسلام بعدَ سنواتٍ مِن انتشارِه في الجزيرة العربية، متأثِّرًا بثقافة البداوة والقبيلة والعشيرة التي كانت سائدة آنذاكَ، ما كانَ يحفّزُ أتباعَ الإسلام وسلاطينَهم لممارسةِ أعمالِ العنف والعدوانِ لبلوغِ تلكَ الغايات
. ولمْ يستطعِ الإسلامُ التخلّصَ مِن بقايا تلكَ الاثار جميعًا لغاية الساعة، ما جعلَ سمة العنف والقتل والغزو مرتبطًةً بالعقيدة الإسلامية، بالرغمِ مِن إنكارِ المعتدلين وحكماءِ الدّين ومراجعِهم المتنوّرة هذهِ التشخيصات المشوِّهة التي لا يعتقدونَ بصحّتها ومقبوليتِها وإمكانيّة تطبيقِها في الألفيةّ الثالثة.
على الصعيدِ ذاتِه، يكونُ الإسلامُ قدْ غيرَّ مسارَ العقيدةِ "المحمّدية" وابتعدَ عمّا وردَ في القرآن أو بالأحرى ما أرادَه القرآن لأتباعِه في تلك الحقبةِ مِن التاريخ وما تسرّبَ عن السنّة النبوية ليكونَ مكمِّلاً للقرآن آنذاك وللأجيال فيما بعد. فكانَ اعتمادُ المسلمين في فترة مظلمةٍ على أفكارٍ إلغائيّة وسلفيّة متشدّدة حدّدَها ورسمَها منظِّرونَ مِن أمثالِ "إبن تيميّة" الذي اقترنَ ظهورُه معَ ظهورِ فتنٍ، إبّان انحطاطِ الدولة العباسية في نهاية القرنِ السابعَ وبدايةِ القرنِ الثامنَ الهجريّ. وكذا ما نقلَهُ "صحيحٌ ومسلمٌ" وغيرُهما من رواياتٍ قيلتْ عنِ السلفِ ونُقلتْ إلى الخَلَف بعدَ مرورِ قرونٍ، ما يجعلُها غيرَ موثوقةٍ ومحكمَةٍ تمامًا عن الأصلِ في نقلها عنْ أولئك السَّلَف أو مِن أيامِ نبيِّ الإسلامِ ومِنْ بعدِه مَن كانَ مِنَ الصحابةِ الأوائل حتى بلوغِها إلى ما وصلَ إليه "محمد عبد الوهاب" بالسعودية ومنظّرو الإخوان وآخرون غيرُهم من بعدِهِ. هذه وغيرُها، كانت هي البداية للسقوط في فخاخ التعصّب والتشدّد والتكفير وما تبعَها مِن إجازةِ أعمالِ القتل والسبي والغزو والاغتصاب والنهبِ والسرقة بحجةِ كونِ ما يُستولى عليه إبّانَ الغزواتِ حلالاً محلَّلاً باسمِ الدّين والشّرعِ. هكذا كانت العربُ تفعلُ لتعيشَ! واليومَ، كلّ مَنْ يختلفُ عن نهجِ التنظيماتِ السلفيّة المتشدّدة بالفكرِ والفعلِ أصبحَ مشروعًا للغزوة ويجوزُ التصرّفُ به باعتبارِه مشركًا ومرتدّا وواقعًا عليه الحدّ.
ما نشهدُه اليوم حقًّا، يعودُ بنا إلى فترات مظلمة من حقب الخلافة الإسلامية التي ابتعدتْ عن سلوكِ الدّين القويم وسيَّسَته لصالحِ أشخاصٍ ومجاميعَ وفئاتٍ حاكمة. هناكَ مَنْ يرى أنَّ مثلَ هذه التنظيمات الضالّة لا تمتّ بصلة للإسلام والمسلمين. ولنا أنْ نتساءل، إذا كانتْ كذلك، فلماذا هذا الانقسام في الردّ وتسويةِ ما شذَّ وخرجَ عن القاعدة، أي عن أصولِ القرآن والسنّة النبويّة؟ وإنْ كانَ هذا هو رأيُ العديد من المعتدلين والمدركين لقيمة الإسلام المتسامح، فأين موقعُ تنظيماتٍ إسلامية مسلّحة إرهابيّة، سنّية أم شيعية، عاملة في الساحة الإسلامية والمنطقة هذه الأيام، من أمثال حماس وطالبان وبوكو حرام والقاعدة وأنصار بيت المقدس وداعش وجبهة النصرة والشباب الصومالية وكتائب القسّام وجند الشام وحزب الله والتشكيلات الإخوانية المتعدّدة وخراسان وكتائب وميليشيات حديثة عديدة تعمل باسم الدّين؟ وماأدرانا ما في الكواليس غيرُها! هل هذه جميعًا تنطلقُ مِنْ مبادئَ إسلاميةٍ تسامحيّة لدينٍ حنيفٍ وتحتفظ برؤية دينية وإيمانية يدعمُها الشرع الصحيح والعقل والمنطق في عصر العلم والتكنلوجيا، ونحن اليوم في القرن الحادي والعشرين؟ أمْ إنَّ الشرعَ والدينَ يقضيان العودةَ بالإنسانِ والبشرية إلى عصرِ البداوة والظلمات والاقتتال الدّيني والمذهبيّ والطائفيّ، لمجردِ الرغبة بالسعي للجاه والمال والسلطة التي يعتمدها بعض فقهاء الدين الإسلاميّ في أدبياتِهم وقواعدهم وأصولِهم التي هي مثارَ الشكّ والريبة؟ هذه مجرّد تساؤلات تقتضي الإجابة عليها من أصحابِ الشأن.

"داعش" وحشٌ كاسرٌ بلباسٍ دينيّ زائف
يُعزى خروجُ فئاتِ مجتمعية عنْ جادة قوانينِ المؤسساتِ الدينية القويمة في غفلةٍ مِن الزمن، أيًّا كانتْ هويتُها، إلى ضعفِ المسؤولية الأخلاقية والإيمانية المؤتَمَنين عليها وإلى انحطاطٍ بالسبلِ الصحيحة في الإيمان القويم بالّله وبالنظام الذي خلقَه وأتاحَه للبشرِ كي يعيشوا وينموا ويكثروا ويتحابّوا في أرضه الواسعة، وكذلك إلى خللٍ في التركيبة البشرية لمَن يديرون هذه المؤسسات. فمعَ تنامي البشر وتكاثرِهم العشوائيّ وحشرِهم مِنْ أجلِ لقمةِ العيش، والنزعة البشرية لدى البعض للتفرّد بخيرات الأرض وإدارتِها، كلُّ على هواه ووفقَ مصالحِه، نزعتْ فئاتٌ أمّارةٌ بالسوءِ للخروجِ عن قانونِ السماء واتجّهتْ لضربِ قاعدةَ عدالةِ الله في المجتمع. تنظيماتٌ كثيرة وقعتْ في فخّ التطرّف واتجهتْ للتنظير لأفكارِها وأيديولوجيتها والترويج لكسبِ التأييد لها مِنْ أجلِ تحقيق مصالحِها على حساب الدّين والمذهب الذي اتخذته غطاءً ولباسًا لتحقيق مآربها.
هناك مّن يرى أنَّ أجهزةً استخباراتيّةً عالميّة هي التي تتولّى خلقَ تنظيمات متطرّفة أمثالَ "داعش" ومثيلاتها، هنا وهناك، لمقاصدَ إقليمية أو دولية، ومِنْ ثمَّ تتولّى معالجتَها بعد استنفاذِ مقاصدِها. ومن الملاحظ أنَّ هذا التوجّه قد اشتدّ في عصرِنا مع انتهاء الحرب الباردة بغيةَ تصنيعِ أعداءَ جددًا لخلافة ما قام به الفكر الشيوعيّ قرابةَ سبعة عقود ونيّف. والهدفُ هو بلا شكّ، استمرارُ صراعِ الحضارات والأديان وتشغيلُ الماكنةِ التصنيعية الحربية وتطويرُ منتجاتها وتسويقُها في مناطقَ تمّ اختيارُها بعنايٍة لتبقى ساخنةً بسببِ توفر الاستعداد لديها.وهذه التياراتُ المتطرّفة جميعًا، تتخذُ ذاتَ النهج العنفيّ في بلوغِ غاياتها، مستخدمةً غطاءَ الدّين والتديّن في وسائلها. ولعلَّ اشتدادَ هذا النهج في السنوات الأخيرة المنصرمة منذُ تولّي القطب الواحد زمامَ أمورِ العالم وتسيّدِه الساحةَ السياسيةَ والاقتصادية، قد أوقعَ العالم في فخاخِ الحيرة مِنْ أمرِ دينِهم. فهلْ كانَ السلفُ الصالحُ ليقبلَ ما يقترفُه الخلَفُ الشاردُ مِن أعمالٍ وشذوذٍ وتحريفٍ وتسييس للدّين وتأويِلاته على حسابِ سلامِ الجماعة والبشرية؟ فيما غايةُ الدّين، أيِّ دينٍ، محدَّدَة لا اجتهادَ فيها، ألا وهي عبادةُ الله، حيث لا يمكنُ القبولُ باتخاذِ القوةِ والقتل والعنفِ سبيلًا لتطبيقِ بنودِ الدّين والشريعة، لأنّ اللَّهَ إنّما خلقَ جميعَ البشر متساوين، "خلقهما ذكرًا وأنثى" ليعيشا ويكثرا وينميا معًا. فالأرضُ تكفي لجميعِ وتتسعُ لعبادِ الخالق على اختلاف تلاوينهم ومكوّناتهم وأعراقِهم ولغاتهم، وليستْ محدَّدةً لدينٍ دونَ آخرَ.
"داعش" مثالاً لهذا الشذوذ، كانتْ ولادتُها لظروفٍ ولها أسبابُها في الظهور بما ظهرتْ عليه مِن تشدّد وتطرّف في الفكرِ والإيديولوجية والتطبيق الذي نالَ حظًّا وافرًا لغاية الساعة، لاسيّما وسطَ الشباب المهزوز العاطلِ الغاضبِ على الأنظمة الدكتاتورية السلطوية في مناطق ساخنة في الشرق وأفريقيا الجائعة. وليس غريبًا أنْ يستولي مثلُ هذا التنظيم على ألباب وأفكارِ هؤلاءِ الشباب العاطلين واليائسين من قسوة الحياة وظلمِها، ومن كلا الجنسين بحججٍ وتبريراتٍ وأشكالٍ عديدة، مِن ضمنها تهافت فتياتٍ مراهقاتٍ ونساءَ يائساتٍ وبائساتٍ لتطبيق ما يُسمّى بجهادِ النكاح الذي شاعَ وانتشرَ وسطَ المقاتلين، فيما استهجنتْه المراجعُ الرشيدة وعقلاءُ الدّين وحكماؤُهم والمتعلّمون من عبادِ اللّه. وكلُّ هذا يجري بلباسٍ دينيّ وغطاءٍ إسلامويّ مستهجَن. وما لم يتمَّ القضاءُ على هذا الفكر المتطرّف المتنامي بسببِ المكاسب الكبيرة الجديدة التي تحتَ حيازتِه والدعمِ الماليّ المتلقَّى مِن أساطينِ الشرّ والحاقدين على الإنسانية، فإنّ مصيرَ العالم سيكونُ الفناءُ، لا محالَ. بل ستتوسعُ ساحةُ المعركة لتشملَ بلدانًا وقاراتٍ جديدة، و"هناك سيكون البكاء وصريرُ الأسنان".
كلُّ الآراء، تتجهُ نحو تحوّلِ "داعش" إلى سرطانٍ خبيثٍ، يتطلّبُ صدًّا دوليًّا قويًّا وحاسمًا إلى جانب استخدام القوّة المضادّة ضدَّ ماكنتها الإعلامية الضخمة الناشطة بجذب الموالين والأنصار وأصحاب الفكر العقائديّ المهزوز، كي تفقد أيديولوجيتُها البريقَ الإعلاميّ القائم ولتنهارَ في الآخِر. لقد تمكّنَ هذا التنظيم مِن كسبِ التأييد الواسع لانتشارهِ فقط، بسبب الأنظمة السلطويّة وممارساتِ الحكومات الطائفية السابقة المتتالية في العراق، وبالذات ولاية المالكي التي امتدّت لحقبتين كارثيتين اتسمتا بتكرار المآسي والأزمات المتلاحقة مَع الشركاءِ السياسيّين الذي استبُعدوا، ولاسيّما المكوّن السنّي بالذات. فقد استفادَ التنظيم مِنْ حالةِ الفوضى والنقمة وعدم الرضى التي سادتْ مناطقَ تواجدِ هذا المكوّن ومكوّناتٍ أخرى، ليزرَع بذورَ الشكّ في أيّ تحسّنٍ وعودةٍ لتماسكِ نسيجِ الشعبِ بجميعِ مكوّناتِه. وقد راهنَ على هذا النهجِ منذُ البداية وحصلَ على ما أرادَ مِنْ مكتسباتٍ بسببِ الضعفِ المتواصلِ في رأبِ الصدع بين الشركاء أو المشاركين. واليومَ، لنْ يكونَ هناك حلٌّ بغير تمكّن السنّة مِن استعادة دورِهم الوطنيّ الحقيقيّ في الساحة السياسية في كلّ من سوريا والعراق كي ينسجمَ مع الجوّ العام العربيّ.

تقليدُ السَّلَف
إنّ "داعش"، ترتدي الزيَّ الإسلاميّ في تقليدِها للسلفِ باتشاحِها السواد وحملِ ذاتِ الرايات السود في ما تسمّيه بالغزواتِ التي تتولاّها ضدَّ كلّ مَنْ لا يناصرُها أو يواليها في نهجها العقيم وفكرِها التكفيري للمختلفين معها.
وإذ تأخذ مسارَها ومقوّماتها مِنَ الصحابة وطريقةِ تسييرهم وتأويلِهم لقواعدِ الحكم الإسلاميّ الخاضعة في أغلب بنودها وتطبيقاتها لمقوّمات عشائرية وقبليّة في الأزمنة الغابرة تلك، فهي تريدُ للبشرية والمجتمعات جميعًا أنْ تعودَ إلى عقليّة الحياة البدائية البدويّة التي كانتْ سائدةً قبل أكثرَ مِن خمسةَ عشرَ قرنًا خلتْ، أي قبلَ العصرنة واكتشاف العلوم وأدواتِها ونتاجاتِها إلى حيثُ ما نحنُ عليه اليوم. تلكمْ كانت الحالُ أيامَ الحروبِ بل الغزوات المتكرّرة والمكائد والدسائس التي كانت تُحاك منذ عهد الخلافة الإسلامية الراشدية مرورًا بالأمويين والعبّاسيين والسلاجقة والقرامطة والمماليك وغيرهم، ووصولاً للعثمانيين ولغاية يومنا هذا، والتي تؤكّد على صفةِ الصراع السياسيّ مِنْ أجلِ الحكم بلباسِ الدّين. فالمظاهرُ التي عليها أتباعُ هذا التنظيم وغيره مِن التنظيماتِ المسلّحة التي تتخذُ الترهيب والرعب سبيلاً لفرضِ نوعيّة الحكمِ على الغير، هي هي ذاتُها ما كانَ قائمًا وسائدًا أيامَ الحروبِ الطواحن بين المتنافسين والساعين للسلطة. فكلُّ خليفةٍ كانَ يسعى لتثبيتِ أحقيتِه الشرعية بالسلطة وإقصاءِ غيرِه المتنافسِ معَه باستخدامِ السيف وأدواتِ التكفير والاتهام بالردّة لكلّ مَنْ يعترضُ أو يخالف الرأي. ومِنَ المؤسفِ أنْ يتحوّلَ الدّينُ الإسلاميّ إلى أداةٍ سياسية للقتل وتطبيقِ المفاهيم البدوية القبلية في تحقيق الغلبة على الغير، ومِنْ ثمَّ ممارسةُ ما نستهجنُه من عملياتِ قتل وغزو واغتصاب واستعباد ونكاح نساء وسبيهنّ وبيعهنّ في سوق النخاسة باعتبارهنَّ سبايا وشيئًا مِن مغانم الغزو، وكأننا نعيشُ حياة البداوة القبلية السائدة ما قبل قدومِ الإسلام.
ألسّلفيّة، كما نفهمُها هي السّير على منهج قدامى الصّحابة الذين نهلوا مِن طيبةِ سيرة نبيّ الإسلام ومِن سنّتِه وأتباعِه الصالحين المتمسّكين بهداية القرآن مِنْ دونِ ما شابَهُ مِن تعديلٍ وتناقضٍ في آياتٍ منقولة بعدَ إعادةِ جمعِها وتوحيدِها على يد الخليفة عثمان بن عفّان. واتّباعُ هذا النهج بعيدًا عن العصبيّات والشيعِ والطوائف هو الكفيلُ بفهمِ ما ينقلُه القرآن للناس ولأتباعِه مِنْ أجلِ صيانة وحدةِ الأمّة الإسلامية وتعايُشِها بسلامِ مع غيرها مِنَ الأمم والشعوب. فيما الابتعادُ عنْ هذه الطريق السليمة والزوغانُ عنْ جوهرِ الإسلام وروحِه، يعرّضُ هذه الأمّة للتمزّق والتفكّك والانهيار معَ تواتر الزمن وتطوّرِ الحياة، لا محالة. وهذا ما هو قائمٌ أمامَ الأنظار في هذه الأزمان.
إنَّ الإسلامَ بحسبِ البعض، يعيشُ حالةَ احتضارٍ في العديد مِنْ جوانبِه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية على يد فئاتٍ ضالّة شوّهتِ الدّينَ وقوّضتْ أسَسه وعرّضت أتباعَه المعتدلين العقلاءَ والراشدين بهداية الخالق، إلى حالة من اليأسِ والاستهجانِ لما يجري وما آل إليه مِن تشويهِ لأصوله وتعاليمه بسببِ فتاوى التّكفير وأدواتِ الرعب والترهيبوالإرهاب الجارية التي اتخذتْ سفكَ الدماء لغةً والتكفيرَ بيانًا والقتلَ والسلبَ والسبيَ والنكاحَ منهجًا. إنّ مثل هذا الأسلوب في فرض منهجٍ متعصّب منحرفٍ على الغير، لنْ ولا يمكنُ أنْ ينفعَ في عصرِ التطور والتقدّم والعولمة التي فتحتْ أبوابَ الدول والأمم والشعوب مشرَعةً وحوّلت العالمَ إلى قريةٍ صغيرةٍ يمكنُ بلوغِ حدودِها وأركانِها في غضونِ ساعاتٍ قلائل.  إنْ هذه التصرّفاتُ، سوى إيغالٍ في حبِّ ثقافةِ الموتِ بسوادِها القاتم الواحد، وكرهِ ثقافةِ الحياة بألوانها العديدة الزاهية. وإذا كانتْ هذه كلُّها قد أتى بها ما يُسمّى بالربيع العربيّ، فهذا الأخيرُ لمْ يكنْ في سرّهِ سوى خريفٍ زمهريرٍ قاتلٍ على العرب والمسلمين أولاً قبلَ غيرِهم، بعد أنْ شقَّ صفوفَهم وجعلَهم مثارَ اشمئزازٍ بسبب ما يجري على أيدي خوارجِ العصرِ، الذين أساؤوا إلى الإسلام والمسلمين والعالم أجمع.
مَنْ أراد تسويقَ الدّين بغيةَ ترجمةِ أفكارِه الشّاذة المتطرّفة في عالمِ اليوم المختلف كلّيًا عمّا كانَ عليه العالمُ قبل أكثرَ مِن أربعة عشر قرنٍ خلتْ، إنّما يسيء إلى الإسلام في جوهرِه ولا ينتقي سوى إيحاءات الشرّ الواردة في آياتٍ قيلت أو نزلت في مناسبات معيّنة وفي ظرفٍ معيّن ولأسبابٍ "زمكانية"، ولا يمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوالِ تعميمُها واتخاذُها نهجًا في عالمِنا القائم وتاريخِنا المعاصر. فما كانَ سائدًا ومقبولاً في ذلك التاريخ، لن ولا يمكنُ القبولُ به أو تطبيقُه في عصرِنا الحالي. ونحنُ نعلمُ ونقرأ أنّ مِنْ شيمِ السلفِ الصالح والمراجعِ الراشدة، التسامحُ والتعاونُ والتكافلُ والعيشُ بحسبِ الزمانِ والمكان والظرفِ والحالة، واستبعادِ نهجِ التطرفِ الأعمى الذي لم يكنْ قائمًا حتى في زمن النبّوة وعصرِ الصحابة وعهودِ الخلافة، إلاّ ما ندر وفي حالات شاذّة ومحدّدة، منها بخاصّة اتجاه اليهود الذين كانوا يناصبون النبيَّ محمدًا وأتباعَه العداء. ومع ذلك، فقد ورد: (فمَن شاءَ فليؤمنْ ومَنْ شاءَ فليكفرْ)، وكذلك: (لكُمْ دينُكم ولي ديني). وهذا دليلٌ على سمة التسامح القائمة التي لا تجد اليوم تطبيقًا في قاموس المتطرّفين والمتشدّدين الذين يجيدون التأويل والتفسير كيفما شاءوا ومتما شاءوا.
والسؤال المطروح، هل سنجدُ في القريبِ العاجل انفراجًا إسلاميّا في الفكر والنهج يستبعدُ أمثالَ هؤلاء الخوارج مِن السلفيّين الجدد المُغالين في الدّين وأصولِه؟ أعتقدُ أنّ الأملَ قادمٌ، بعد التحاق عدد من الدول العربيّة، ولاسيّما المكتوية منها بالإرهاب وأدواتِه، بالتحالفِ الدوليّ لمكافحة هذا السرطان الخبيث واستعداد الحكومة العراقية الجديدة وتعاونِها مع المجتمع الدولي والحرص الوطنيّ في القضاء عليه وتجفيف منابعه وأصولِه، كي يرتاح العراق وأهلُه والمنطقة والعالم مِنْ شرّهم. فالتغييرُ قادمٌ بإذن الله وبعِزم الشرفاء ومحبيّ الله والأوطان ومناصري الإنسانية.

لويس إقليمس

بغداد، في 20 تشرين أول 2014


317
حادثة سيدة النجاة، جرحٌ عميقٌ لا يُنسى!
لمناسبة الذكرى الرابعة لمجزرة كنيسة سيدة النجاة، في 31 تشرين أول 2010
كلّما قربَ تاريخ تلك الحادثة المأساة، اشتدّ عندي البكاء على وطني الجريح، وأهلِه الطيبين بأصالتهم، والمظلومين بفعل الزمن الغادر الذي غيّبَ تلكَ الطيبة العراقية في أجزاءَ عديدة من مفاصلِها. فالمجزرة الرهيبة التي اقترفها نفرٌ ضالٌّ مغرَّرٌ بهم، أيًّا كانت انتماءاتُهم الدينية أو المذهبية أو العرقية، ستبقى حدّاً فاصلاً في مصير مكوّنٍ أصيلٍ مسالمٍ وفاعلٍ من نسيجِ الشعب العراقي وفي المنطقة، بفضل ما قدّمَه هذا المكوّن من تنمية وفكرٍ وبناءٍ في بناء الدولة العراقية ودول المنطقة عمومًا. ولا أخفي سرًّا، أن تلك الحادثة الأليمة، زادتني وتزيدني تعلّقًا بوطني وأرضي وأهلي وأصدقائي وأحبتي وكنيستي التي كنتُ أحد مشاريع الاستشهاد فيها مع ابني الصغير ومعنا مؤمنون آخرون، شاءت الأقدار أن تكتب لنا حياة جديدة في ذلك اليوم المؤلم، الأحد 31 تشرين أول 2010.
إنّه، وبسبب نظرتي وبقائي وإصراري على هذا الموقف، فإنّ البعض يلوموني. بل هناك مَن يصفني بصفاتٍ تحزُّ في نفسي، ومنها الرؤية القاصرة وقلّة العقل في العيش في بلدٍ تكادُ الأحداث تتحدث عن لسانِ أنّ ناسَه أو شرائحَ منه بدأت تضيق ذرعًا ببقائهم ووجودهم في أرض "سنعار"، بلد الحضارة والإيمان والتعايش سابقًا! وإنّي شخصيًّا في قرارة نفسي، لا أستطيع فهمَ طبيعة إصراري هذا بالتشبث في أرضِ الوطن. أحادثُ نفسي أحيانًا بالقول: ما هذا الهراء؟ أهو غشاءٌ مبطَّنٌ تكتحل به عيناي كِبَرًا وتيمّنًا وشموخًا وتهيُّبًا؟ أم هو الأمل والرجاء والتيقّنُ الباطن بإمكانية استعادة العراق لعافيتِه بعد أزمة أخلاق وسمومِ طائفيةٍ ومذهبيةٍ صدّرها أعداءُ العراق من أجل تفتيت نسيجِه الاجتماعي والاستمرار بنهب ثرواتِه بطرقٍ ووسائل مستنبطة شتّى بسبب قصر نظر الساسة الجدد والتشبّث كلٌّ بمصالحه الفئوية والشخصية والمذهبية والعرقية الضيقة؟ ولما لا هذا اليقينُ، والعراق، بلدُ الأصالة والحضارة والمساجد والمعابد والأديرة والكنائس العامرة بفعل وجود أجدادِنا من شعوب "السريان" بكافة طوائفهم وطقوسهم ومشاربهم الذين نقلوا للعالم شتّى أنواع العلوم والمعارف والثقافات عن شعوبٍ وحضاراتٍ أخرى، قبل قدوم الإسلام، وبعدَه أيضًا على عهود الدولة الإسلامية لغاية قدوم مدمّري الحضارات والثقافات بفعل تفكيرهم التكفيريّ العقيم والمتخلّف الذي لا يقبلُ وجودَ الآخر ولا يؤمنُ به خليقةً متساوية في الكرامة والحياة.
إنّه هذا اليقين منّي إذن، أنّ أرضَ العراق واسعة وطيبة وكثيرةُ الخيرات والنعم والبركات. أوَليسَتْ بلدَ إبراهيم الخليل، أبي المؤمنين، الذي نُديمُ جميعًا ذكراهُ ونفخرُ بعبادته للّه الواحد الأحد، الرحمن الرحيم، مالكِ يومِ الدّين، وما على الأرض من بشرٍ وحجرٍ وماءٍ وهواء عليل؟! وهل مِن منكرٍ أنّ أرض "سنعار" (العراق) لمْ تكنْ جنّةَ أحلام الكثيرين؟ ألمْ يزلْ مَن شاءَ وغادرَ أرضَه، يحنُّ إليه ويتغنّى به ويبكيهِ في الغربة، كَمَنْ فقدَ أكثرَ من عزيزٍ عليه؟ فمَن يفقدُ الوطن، كمَن فقدَ إحدى حواسِّه، فيدورُ ويجولُ ويصولُ كالأعمى، فلا يجدُ ذلك الوطن، مهما غاصَ في رفاهِ الاغتراب ورغدِ المهاجر وسعادة الأشياء! ألمْ يزل المغتربون يتغنّون ويبكون على هذه الكلمات:
"اللي مضيع ذهب بسوق الذهب يلقاه
                   واللي مضيعحبيب تمرّ سنة وينساه
                            بس الّلي مضيع وطن وين الوطن يلقاه"

اليوم، يؤلمني كثيرًا، أن تنتقل عدوى الهجرة إلى أصدقائي وأقاربي وأهلِ بيتي. فهلْ مِن ظلمٍ أكثر مِن أن تغيّبَ الأحداثُ المأساوية الأخيرة أحباءَ وأصدقاءَ وأقرباءَ لنا وسطَ تفرّج العالم والقوى العظمى التي سمحت بمثل هذه الأحداث، بل وقد خلقتْها وأوجدتْها لتحقيق مصالِحِها القومية على حساب الشعوب المقهورة، ثمّ عادتْ لتعالجّها وفق مصالحِها. والأنكى مِن ذلك، تصرّفُ اللاّعبين الكبار في السياسة العراقية، كلٌّ حسب مصالحِه هو الآخر. فالأكرادُ يسعون بلْ يعملون على "تكريدِ" المسيحيين وغيرِهم من الأقليات في سهل نينوى، بأيِّ ثمنٍ وبأيّة وسيلة كانت على حساب الحفاظ على طبيعة سماتنا المسيحية المتميّزة حتى لو حصل ذلك بشراء الذمم وإسكات الأصوات والكذب المتواتر. فيما الشيعة يخدّرونَنا بالكلام المعسول والحديث المدافع الذي لا يأتي بنتيجة فاعلة باتجاه تثبيت وجودِنا وتعزيز كيانِنا، طالما أنّ ميليشيات من أتباعِهم تصرُّ على محاربة أتباعِ المسيحيين في أرزاقهِم ومراكز تثقيفهم وترفيهِهم التي تعدّه هذه ضمن المنكرات وواجبةِ الإلغاء. أمّا السنّة، فهُم مرتاحون كما يبدو، لما يجري من أعمالِ عنفٍ وعملياتٍ تستهدفُ هذا المكوّن المسالم، فيما يشدّدُ أترابُهم الخناق عليهم جانبيًا من أجل حملِهم على تركِ قراهم ومساكنِهم ومناطقِ تواجدِهم بدعمٍ وتحفيزٍ خارجيّ. فمَنْ يتولى اليوم، التهجيرَ وأعمالَ السرقة والسلب والنهب في المناطق التي غادرها المسيحيون في سهل نينوى، همْ أبناء السنّة من المناطق المجاورة الذين غدروا بجيرانهم و "لم يغزّر الخبزُ والملحُ فيهم"، كما يقول المثل الشعبي.

مشروع استشهاد
في ذلك المساء من يوم الأحد الحزين، المصادف 31 تشرين أول 2010، كنتُ برفقة ابني الصغير نهمُّ بالذهاب إلى قدّاس الأحد المعتاد بعد تردّد، بسبب انشغالنا جميعًا، بتوضيب البيت استعدادًا للشتاء القادم على الأبواب. وبذلك، تعذّر على باقي العائلة القدوم معنا. كما أنّ تردّدي كان بسبب التزامي بالتواجد المبكر في دار السفارة الفرنسية استعدادًا لحفل استقبال كبير يُقام على شرف ضيوف دورة جديدة لمعرض بغداد الدولي بوجود وزيرة فرنسية وكبار المسؤولين في الدولة وأرباب الأعمال والشركات والضيوف. على أية حالٍ، هكذا كان قدَري! فقد غيّبني عن الحدث، أولئك الأشرارُ الذين اقتحموا كنيستي، سيدة النجاة، في الساعة الخامسة والثلث بالتمام والكمال. وكان ذلك خلال قراءة نصّ من الإنجيل على لسان القس الشهيد "ثائر"، طيّب الذكر، وكنتُ أنا أدير القدّاس، كعادتي.
في تلك الأثناء، كان جميعُ مَن في الكنيسة، مشاريعَ استشهاد في أية لحظة، بيد الإرهابيين الخمسة ومَن يؤازرهم. مرّت الدقائق الأولى الحرجة طويلة وكأنّها فيلمٌ هنديٌّ أو ما شابهَ ذلك. فقُتل مَن قُتل واحتمى مَن استطاعَ السبيلَ لذلك. وكنتُ أنا مِنْ بينِ أكثرَ مِنْ خمسينَ مصلّيًا احتمينا في الغرفة المجاورة "السكرستيّا"، بالرغم مِن هشاشة الباب الذي كان يفصلُنا عن أحدِ الإرهابيّين القابعين أمامَها. وإنّي لغاية اليوم، لا أفهمُ السرَّ الذي لمْ يدعْ ذلك الإرهابيّ مِنْ فتح النارِ علينا أو حتى منْ اقتحامِ تلك الغرفة البسيطة التي لمْ تكنْ عصيّةً عليه، بالرغم منْ أننا نلنا قدَرًا وافيًا من القنابل والرصاص. إنّها أيضًا يدُ القدَر، أو إنْ شئتَ أيضًا إرادةُ القدير، الذي أومنُ بتدابيرِه ومخطّطاتِه مِن دون نقاش!
سارَ الوقتُ بطيئًا. وحسبتُ الأربعَ ساعاتٍ التي أمضيناها بهولِها ورهبتِها، سواءً في حضنِ تلك الغرفة الصغيرة أو في صحنِ الكنيسة وجنباتِها لمَنْ بقي متشبثًا بحبل النجاة، وسطَ قرقعةِ الأسلحة وأصواتِ التفجيرات المتواصلة، مرّتْ وكأنَّها أيامًا بلياليها وحلكتِها وسَوداويّتها ونزفها المستمرَ، وسطَ بكاءِ وعويلِ وندامةِ ومختلفِ أنواعِ الأفكارِ المختلجة التي اتسمَ بها الحضورُ ذلك اليوم.
أحيانًا أقولُ، كنتُ محظوظًا لأنْ أشاركَ في آخر ذبيحةٍ أقامَها الشهيد "القس ثائر"، بشبابه اليافع وعفويّتِه المعتادة واندفاعِه لخدمة خورنتِه وأبناء منطقتِه والسائلين حاجةً من أبناء الكرّادة وما جاورَها. فقد كانَ رحمَه اللّه، محبوبًا ومعروفًا بتعاطفِه واستعدادِه لتقديم أوجه المساعدة دون تفرقةٍ بين مسيحيّ ومسلمٍ طيلةَ السنواتِ التي أمضاها في خورنة سيدة النجاة. كما أنّه كانَ مترفعًّا وعزيزَ النفسِ، لا يقبلُ ما يسيءُ إلى خدمتِه الكهنوتية ونزاهته المشهودة التي لم تكنْ تقبلُ النزعةَ المستشرية بشراءِ الذممِ والصمتِ التي كانتْ طاغية في بعضٍ من مسالك الحياة. ومثلُه، كان القس "وسيم"، بسيطًا ومحبًا للشباب، غيرَ حاسبٍ شخصَه سوى واحدٍ منهم. كانَ، مثلَ زميله "ثائر"، يحنو على الطفل في دروسِ التعليم المسيحي ويساعد هذا وذاك من أهل المنطقة. وهذه شهادةٌ شخصية للأب ثائر لا تُنسى، فقد كانَ يساعدُ السائلين حاجةً مِن جيبه الخاص أحيانًا، حينما كانت تضيقُ دارُ مطرانية السريان بالمالِ والمساعدات! لقد نالا الشهادة، وحُسب لهم ذلك بِرًّا، ودُعيا إلى وليمة الحمل السماويّ، بالطوبى التي وعدَ بها ربُّهم الفَعَلة النشطين بمتاجرتِهم بالوزنات التي نالوها يومَ تكريسِهم ذاتَهم لخدمةِ الكنيسة والشعب.
هكذا، نحنُ أيضًا، مَنْ كنّا شهودَ تلك الحادثة ووسطَ نيرانِها المحتدمة، كانَ يمكنُ أنْ نكونَ أيضًا مشاريعَ استشهاد مثل الكاهنين الغيورين والخمسةٌ والأربعين شهيدًا، الذين روتْ دماؤُهم أرضيةَ كنيسةِ سيدة النجاة. وبذلك أثبتوا أنّهم بذارُ الحياة ليكونوا قدوةً لغيرِهم وأداةً للشجاعة والعطاء وشعلةً للإيمان من أجل سيدهم المسيح، الذي سبق وأنْ أوصاهمْ "ألاّ يخافوا مِنَ الذي يقتلُ الجسدَ، بلْ مِنَ الذي يستطيعُ أنْ يقتلَ الروحَ والجسدَ معًا". فالروحُ باقيةُ، وأمّا الجسدُ، فهو زائلٌ، يذهبُ بسرعة الهباء! شهداءُ سيدة النجاة، ماتزالُ أسماؤُهم مثلَ ذكراهم، ماثلة في عقولِ وتفكير كلّ مَن يتذكّرُ تلك المأساة المؤلمة. وقد خلّدت الكنيسة أسماءَهم محفورةً على جنباتِ نوافذها كي تذكّر دومًا بهول المجزرة والنعمة التي حظيتْ بها هذه الكنيسة المتميّزة وسط العاصمة بغداد، والتي يؤمُّها إخوةٌ من المسلمين أيضًا، للصلاة والتبرّك والطلب من "مريمانة" أي مريم العذراء، سيدة النجاة، حاجاتِهم. وما أكثرَ مَن نالوا مرامَهم بحسب الشهادات والحقائق.
وبعد هذه الحادثة المؤلمة، ألا يجدرُ أن تُتوَّجَ هذه الكنيسة آيةً وتبقى محجَّا لكلّ العراقيّين، وليسَ للمسيحيّين وللسريان فحسب؟
كم كنتُ أتمنّى مثلَ غيري، أن تبقى آثارُ تلك الجريمة الشنيعة شاهدًا على قباحة تلك الفعلة الخسيسة، لتدينَ الأجيالُ من بعدنا، مَنْ قامَ بالتخطيط والتنفيذ لها، وكذا مَن عملَ على تسهيل المهمّة، ومِن ثمّ مَن مازالَ يخفي سرَّ السكوتِ عن مقترفيها الحقيقيّين والدافعين لمحوِ آثارِها والتغطية على الفاعل الحقيقيّ.

قصمُ الظهر، هلْ بدأَ بها!
حينَ أصبحَ العراقُ بعدَ احتلالِه في 2003، ساحةً مكشوفةً لكلِّ أعمالِ العنفِ التي أتى بها المحتلُّ الأمريكي وسواهُ منْ دول الجوار والإقليمي، اختلطتْ معهُ كلُّ الأوراق السياسية وسادت الفوضى، لاسيّما بعد استفحال آفة الطائفيّة التي أوصى بها وقدمَ مِن أجلها الطاغوت الأمريكي بتبريرِه الزائف لتحرير العراق. حينَها، فقدَ النسيجُ العراقيّ المعتادُ تماسكَه وأصبحَ الكلُّ عدوًّا للكلّ، بعد تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَّأ ونيل اللاّعيين الكبار المتمثل بالمثل السنّي-الشيعي-الكردي، كلٌّ مرامَه وحصّتَه من الكعكة. فالملياراتُ التي صُرفت ونُهبتْ مِن حيث لا يدري الشعب والدولة منذُ الاحتلال ولغاية اليوم، خيرُ دليلٍ على حالة الفلَتان والفوضى التي أرادَها المحتلّ الأمريكي وأعوانُه في الداخل والخارج كي تحصلَ من أجل تسهيل مهمة الفساد والسرقة عبر صفقاتٍ وأسماء وهمية في الإنفاق.
من هنا، لمْ تكن الحالةُ الأمنية بمعزلٍ عن كلّ هذا وذاك. فقدْ فُقِدَ الأمن والأمان، وغابَ الاطمئنان مِن عيون وعقول وخطواتِ المواطن بجميع مكوّناتِه وطوائِفِه وأديانِه. فقد هوجمتْ أو فُجّرتْ كنائس وجوامع ومعابد ومساجد ومراكز دينية واجتماعية وثقافية. والمسلسلُ لمْ ينتهي بعدُ، طالما توجدُ هناكَ ميليشيات وتنظيمات مسلّحة تعمل خارج المنظومة الأمنية للدولة. فهذه ما تزال تصولُ وتجولُ، وبسيارات تعود للدولة بعناوين أمنيّة حكوميّة أو تابعة لكتلٍ مشارِكةٍ في العملية السياسية بحجةِ الحفاظ على أخلاقياتِ الشعب، والشعبُ منهم بريء، وغيرُ راضٍ على ما تقترفُه هذه التشكيلات غير المنضبطة.
على أية حالٍ، لمْ يكن المكوّنُ المسيحيّ خارجًا عن هذه اللعبة، بلْ كانَ مثلَ غيرِه مستهدَفًا وعلى فوّهة المدفع. ولكونِه ممثِلاً لأقليّة حضاريةٍ وثقافية وتراثية وأخلاقيّة مختلفة عن الأغلبية، فقد بانَ الضررُ عليه أكثرَ مِن غيرِه، حالُه حالُ الإخوة من الطائفة الإيزيدية الذين نالوا قسطَهم منْ هذه الفوضى، ولاسيّما في الفترة الأخيرة. إلاّ أنَّ حادثةَ سيدة النجاة، كانتْ الأكثرَ هولاً ورهبةً مِنْ حيثُ الآثار التي خرجتْ بها الجماعةُ المسيحية في العراق. فقد قصمتْ تلكَ المجزرةُ ظهرَ الوجود المسيحيّ في هذا البلد المتعايشِ طيلة الحقب والأجيال والقرون المنصرمة، حينما طُردَ أبناءُ هذا المكوّن منْ مساكنهم واستولي على ممتلكاتِهم وأموالِهم واحتُسبتْ غنائمَ بحسب الايديولوجية التي يحملُها فراعينُ الإسلام المتشدّد بفعل تطبيقهم لمفهوم الشرع، والتي تستبيح قتلَ الأبرياءِ وسبيَ النساء وتهجيرَ العبادِ والاعتداء على كلِّ مختلفٍ عنهم ظلمًا وعدوانًا.
لقد سبق أنْ حصلتْ أعمالُ عنفٍ وتهجيرٍ واعتداءٍ وسلبٍ ونهبٍ في حقبٍ غابرة. ولكنّ هذه الحادثة كانت الأكثرَ عنفًا وتجريدًا للمسيحيّين مِنْ مواطنيّتهم وحقوقهم في المساواة والعدل، مِنْ حيثُ إنّ المخطّطين والفاعلين والمنفذين والحكّام، التقوا هذه المرّة، على هدفٍ مصيريٍّ واحدٍ، ينوي التهجير وقطعَ صلة الجذور لمكوّن أثبتَ ولاءَه للأرض والوطن أكثرَ مِن غيرِه. وهذا بشهادة الغريب قبل القريب! فالجلاّدُ والحاكمُ يبدوان واحدًا في هذه المرّة، ولا مجالَ للتملّص منْ هذا الهدف، مهما قيلَ ويُقالُ وأُذيعَ ويُذاعُ ويُصرّحُ به في المؤتمرات والإعلام. فالنية على التهجير تبدو معقودةً ولا رجعةَ فيها، تمامًا كما حصلَ مع اليهود. فلا مجالَ لدينٍ آخر غير الإسلام في المنطقة. هذا ما قيلَ وما نسمعُه وما يُخطّطُ له في الكواليس وعلى الملأّ. وإلاّ لما اقترفَ أمثالُ هؤلاء تلك الجريمة البشعة في واحدٍ من بيوتِ اللّهِ الذي يعبدونَه وينادون باسمِه خمسًا يوميًا، فيما كانَ المؤمنون، أبناءُ إبراهيمَ الموحِّد يصلّون مِن أجل العراق ومِن أجل استعادة عافيتِهِ. فهلْ مِن منطق آخرَ غيرَ ما نلمسُه؟ ف "مَن لهُ أذنانِ سامعتان، فليسمعْ"!
إنّ الجرحَ في العراق يزدادُ ثخنُه، والنزيفُ مستمرٌّ، ولاسيّما بعد احتلال الموصلَ الحدباءَ، وسقوطِ بلداتِ سهلِ نينوى، المسيحية منها أو التابعة لأقلياتٍ غيرها، بفعل تقاعسِ مَنْ كانَ يُحكمُ سيطرَتَهُ عليها منذ الاحتلال في 2003، وقد باعَها برخص التراب في أقلَّ من ساعتين! إنَّ ما فعلتُه "داعش" مؤخرًا باحتلالِها الموصل في 10 حزيران 2014، تجاوزَ حدودَ طغيانِ المغولِ على أيدي جنكيز خان وبعدَه حفيدُه هولاكو في 1258، ثمَّ تيمور لنك، حينما خيّروا المسيحيّين بين اعتناق الإسلام، أو الجزية أو الموت بالسيف أو المغادرة حفاةً. لقد كانَ صعبًا على مَن تجذّروا في الأرض وبنوا حضارةً وأسّسوا لثقافة متمدّنة وعُدّوا أصلاءَ في الأرض والوطن أن يتركوا كلَّ هذا وذاكَ بفعلِ قدومِ عصاباتٍ لا وطنَ لها، بلْ لمجرّد حملِها عقيدةًعقيمةً "مرفوضة" في الدّين الحنيف، تستبيحُ كلَّ ما هو مختلِفٌ عنْ عقيدتِها ودينِها وأخلاقِها. فالجريمةُ الشنعاء التي اقترفتها هذه الفئة الضالّة التي يتبرّأُ منها الإسلام المعتدل والقارئ الصحيح لكتاب القرآن بروح العصر، إنْ هي إلاّ ضدّ الإنسانية جمعاء. حتى إنّ مسألة إكراهِ الناس على هجر مساكنِهم وبلداتِهم وترك أموالِهم وممتلكاتهم لمجرّد الاختلاف في الدّين أو المذهب أو العرق، أمرٌ محرَّمٌ شرعًا!
إنّ ما تفعلُه هذه العصابات الإجرامية، قد استنكرهُ العديد من المراجع والشخصيات والمثقفين والواعين. فهذا الفعلُ الشنيعُ، لا ولنْ يقفَ في حدودِ المختلفين في الدّين مع "داعش" فحسب، بل "يستهدف العراق، كلَّ العراق، بجميع قومياته وأديانِه ومذاهبه، ولا يقفُ خطرُها وإجرامُها عندَ ديانةٍ أو طائفة أو قوميةٍ معينة. فلا يتوهمُ البعضُ أنهُ سيكونُ بمنأى مِن اعتداءاتها وتجاوزاتها"، تمامًا، كما قالَها الكربلائيّ، ممثل المرجعية الشيعية في خطبتِه ليوم الجمعة في 8 آب 2014.
... مذ ذاكَ، وتصريحاتُ الاستهجان والإدانة والتبرُّؤُ والخجلُ من فعالِ هذه العصابات الإجرامية ومثيلاتِها، فاقت الأسماعَ. لا لشيء، إنّما لأنّها تعكسُ حالة الإخفاق في عيشِ الإسلام بصفحتِه المتسامحة والمسالمة، لو عاد أمثالُ هؤلاء لقراءة النصوص بحكمةٍ ورويّةٍ ووفق تاريخها وصياغتِها وسياقِها الزمنيّ. فلا أعتقد أحدًا يقبلُ أنْ تكونَ عقيدتُه وديانتُه تتصفُ بالعنف وتخلو منَ الطيبة والتسامح والمحبة، محبة اللّه والآخر، الأخ في الإنسانية. يقول الإمام عليّ: "الإنسان إنْ لم يكنْ أخوك في الدينِ فهو أخوك في الخلقة". وهذا الشعار وحدَه كافٍ بضرورة العيش بين الناس كي يحيوا بأمانٍ واستقرارٍ واحترامٍ لبعضِهِم البعض بالرغم منْ كلّ الاختلافات التي أوجدّها الخالق لمصلحة البشر ومن أجل التنوّع الخلاّق لمدحِ اسمِه بلغاتٍ وطقوسٍ وآياتٍ متنوعة ومختلفة، بعيدًا عن أصولِ العنصرية والدعواتِ الطائفية التي تفرّق ولا تجمعُ الناسَ على كلمة الوحدة والتضامن والألفة وفق مبدأ "الدّين للّه والوطن للجميع".
رحِمَ الّلهُ شهداءَ كنيسةِ سيدة وجميَع شهداءِ العراقِ الأبرار، آملين تحوّلَ دمائهم الزكيّة لتكونَ بذارًا لحياةٍ أفضلَ لذويهم وبني جلداتهم ووطنهم الجريح. وعسى الوطنُ الجريحُ يستعيدُ عافيتَه ويعودُ له الأمنُ والأمانُ لتستقرَّ النفوسُ وترفلَ بحياةٍ أفضلَ تستحقُّها ويستحقُّها العراق، بلدُ الحضارات والأمجاد والإيمان!


لويس إقليمس
بغداد، في 28 تشرين أول 2014





318
عاهة الطائفية والطريق المظلم

لويس إقليمس

الشعوب التي تقتاتُ على فتات التقسيم والتجزئة والانكفاء، هي شعوبٌ هزيلة البنية وبعيدة عن صياغة مشروع مفيدٍ للوطن والمواطن. والطائفية التي أثبتت أنها عاهة شعوب منطقتنا العربية والإقليمية خيرُ برهانٍ على هزالة تركيبتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى شخصيتنا البشرية. قُدِّرَ لنا أن نولد من رحم تشكيلاتٍ فئوية وطائفية منذ أجيالٍ، ومازلنا نسير في ذات الطريق الوعر التي لم ولنْ تشهد التعبيد إلى ما شاء هذا القدَر! ومَن يرى غيرَ ذلك، فهو مخدوعٌ بشعاراتٍ طوباويّة وأسيرٌ لأفكارٍ تفاؤليّة تُحمّلُنا أكثرَ من قدرتنا.
عاهة الطائفة طريقٌ مظلمٌ وسرطانٌ خبيثٌ، يخشى العقلاء والمتديّنون المعتدلون السيرَ فيه نهارًا. فكم بالأحرى لو جرّبوا السير فيه ليلاً؟ أجيالُنا قبل الثمانينات لم يكن يدُرْ في خلدِها أبدًا، قدوم اليوم الذي تنتهي فيه الهدنة بين الذئب والحمل، والسهل والجبل لتأتي الطائفية وتأخذ الجمل بما حمل وتفرغَ الوطن ممّا سعى وأمل.
حين تخلّى الأمريكان عن حليفهم الدوليّ شاه إيران، الذي كانوا نصّبوه آنذاكَ شرطيًّا مجاهدًا في المنطقة وإتيانهم بنظام دينيٍّ متزمّت، فإنّهم يكونون قد قلبوا موازين القوى وأثاروا حفيظة حلفائهم في الخليج حين بدأ هؤلاء يشمّون رائحة الانقسام والتجزئة الآتية، لا محالَ، بسبب ما حملَه ذاك الانقلاب من تغييرات جيوبوليتيكية وديمغرافية وسياسية ومجتمعية واقتصادية بنهج طائفيّ واضح. ولم تنفع معها جميع أنواع التطمين والتهدئة ومختلَف الوعود المقطوعة هنا وهناك مع قدامى الحلفاء المحليّين الذين بدأت ثقتُهم تهتزّ بالراعي الدوليّ الرئيسيّ الذي تمكّن بدهاء متميّز من تحصين سياسته دوليًّامن خلال وضع استراتيجية للخلاص من أقوى قطبٍ منافسٍ دوليّ ناصبه العداء منذ الثورة البلشفية لغاية سقوط الأخير الدراماتيكيّ وانتهاء جبروت الاشتراكية، مخدّرة الشعوب والأمم لأجيالٍ وعقودٍ.
من حينها، وبذور الطائفية المزروعة تنمو وتُسقى فتكبرُ جنبًا إلى جنب مع تنامي المدّ الأصوليّ، كواجهة متوازية وندّية مع هذه العاهة. وهذا ما أدّى إلى وأد كلّ توجّه وطنيّ وإلى تحييد الفكر القوميّ الذي بدأ بالتراجع لصالح نموّ جيناتٍ جديدة قرّرتها القوى العظمى ضمن مشروع عالميّ للعولمة الذي اجتاحَ الدول والمؤسسات والشعوب، حتى باتت كلُّ الطرق التي لا تؤدّي إلى هذا النظام الجديد مغلقةً ولا يمكن فتحُها إلاّ به. ومن المؤسف أن ينساق المثقف العربيّ خوفًا أم خجلاً أم مسايرةً للموضة مع هذا السلوك الضيّق، مخدوعًا أم مدفوعًا بإشارات أولياء الدّين والمذهب في مواقع ومؤسسات مهمة.
ما احوجَنا اليوم للتذكير بحالِنا في سبعينيات القرن العشرين وما قبلها، حين كان الحمل يتهادى في سيرِه وسط الذئاب متشحًا ما شاءَ وراكبًا عبابَ البحر ومستغلاّ البلاجات والسواحل والنوادي والحانات ما طابَ له دون أن تجرؤ الأجهزة الرسميةوالأمنية التعرّضَ له ولحرّيتِه المكفولة من الخالق لخليقتِه. فكلُّ ما خلقه الله حسنٌ ولصالح خليقتِه ومن أجل نموّها وتكاثرها وتقدّمها وسعادتها. هذا كان ومازال يقينُ البشر محبّي الحياة وكارهي ثقافة الموت وسفك الدماء وحزّ الرؤوس والتلذّذ بالقتل والتعذيب والتهديد. ومن المؤسف، أنّ يدَ الاستكبار والغلوّ والغيرة وحبّ الانتقام والسيادة على حساب الآخرتكاتفت جميعها لترجيح كفّة التعصب والقهر، أيّ كان نوعُه ولونُه ومواصفاتُه، ما أنزلَ العالمَ إلى الهاوية غارقًا في مستنقع هذا التعصّب الأعمى، المتمثل حصرًا بالتوجهات الطائفية والمذهبية التي اجتاحت الفكر والقلم والقرطاس، كما المادّة والسياسة والمجتمع. ولعلَّ أردأَ اشكالِ هذا الأخير وأقسى صورِه،بكونِه نابعًا من أديانٍ تدّعي هويتَها نازلةً من لدن الخالق، سماويةً وتوحيدية. لقد أخذت هذه الأخيرة مسمّيات ومظاهردينية عدة عبر تنظيمات تدّعي القربَ من الله وباسم الدّين. وإنّ العاقل يتساءل، كيف للّه أن يأمرَ بقتل خليقتِه التي صنعَها وجبلَها على صورتِه ومثالِه، جميلةً كجمالِه وحسنةً كحُسنِه؟ هذه المسمّيات جميعُها، تشترك في صفة العداء لخليقة اللّه الذي تعبده الجماعات الإرهابية أيضًا ومعها مختلف التنظيمات المسلّحة المتشدّدة من أديان ومذاهب مختلفة، كلٌّ على طريقتها الخاصة، وإن كانت تنكر مثل هذه الخاصيّة الترهيبية والمخادعة.
هناك مَن يرى بعدم عقد مشابهة بين مجمل هذه التنظيمات المنطلقة من موقف طائفيّ وفكرة مذهبيّة بحتة، بحجة اختلاف برامجها ونواياها وأهدافها. لكنّنا نعتقد بتقاربها جميعًا من حيث المبدأ والهدف. فأعمالُ القتل وفعالُ الشرّ وأنشطة الترهيب والخطف الشائعة هذه الأيام ومناظر الدماء المسفوكة والرؤوس المحزوزة، كلُّها أدلّة دامغة وشواهد فاضحة على رفض الإنسانية لهذه جميعًا. كما لا يُعقلُ أن ينزل اللهُ، وهو الخالقُ الرحمن الرحيم، إلى منزلة القتل والحقدوالرذيلة بهذه الصورة المكروهة. حاشا له ذلك، من هذه الأدوات الشائنة عدوّة الإنسانية وناقصة الحبّ البشريّ ورافضة العيش السليم والهناء في أرض الله الواسعة. إنّه عصرالأزمةالإنسانية والأخلاقيّة والاجتماعيّة، ليس إلاّ!

كيف السبيل للخروج من الأزمة عراقيًّا؟
أبدأ المقترح بكلمة "لماذا". وهذه ينبغي أن تُوجَّهُ إلى أساطين العالم المتحضّر وأصحاب الزعامات الثريّة المتحكّمين بمصير شعوبهم وفق مقاييسهم ومصالحهم المتناقضة مع رغبات وتمنيات هذه الشعوب المغلوبة. فالمالُ والجاه والسلطة، هي التي غدت سيدة المواقف، حتى لو حصل ذلك بالضدّ من إرادة الشعوب والنخب والمعتدلين في البلدان التي يحكمها هؤلاء. فمن حقنا القول: لماذا لا تضعون الّله وضمائرَكم ودينَكم الحنيف فوق كلّ شيء وكلّ قرارٍ وكلّ نشاطٍ يصدرُ عنكم وعن مواليكم في الحكم؟ ولماذا لا تعبؤون أنّ عشبَ اليوم آيلٌ لليبس اليوم،وغدّا يُقطع وينتهي مفعولُه ويُلقى في النار ليحترق، تمامًا كما الحكم الذي بين أيدكم اليوم وغدًا يُغتصبُ منكم آيلاً لغيركم؟ ولماذا لا تكسبون رضا الّله والناس في حياتكم، كي تعيشوا آمنين وفي سعادة بعد مماتكم بعيدًا عن الوعود بحور العين والليالي الملاح في جنّات وهميّة تجري من تحتها أنهارٌ لا وجودَ لها سوى في مخيّلة الضعفاء والمخدوعين والشّاذّين؟ أسئلة كثيرة وجديرة بأنْ تُثار، والقصدُ منها بالخلاصةً، المحافظة على النظام الإنسانيّ الذي هيّأهٌ خالق السماء والأرض، الطيّب لخلائقه التي خلقها بصيغة ذكرٍ وأنثى متساويين ومتحابّين لمجد اسمه القدّوس ولخدمة البشر والبشرية.
عراقيًّا، كنّا نأملُ أن تختلف التشكيلة الحكومية الجديدة عن سابقاتها بخروجها عن سياق نظام المحاصصة الذي انتقدَهُ ورفضَه الجميع بمن فيهم زعماء الكتل والأحزاب والتيارات السياسية المختلفة والمراجع الدينية والنخب على تنوّع مشاربها. ولكنّ الرياح هبّت بما لا تشتهي السفنُ والسفّان المنقذ! وهذا إيذانٌ باحتمال تعرّض النظام السياسيّ من جديد إلى نكسة أولى، بدت آثارُها واضحة على ما تبقى من حقائب وزارية مختلَف عليها، ولاسيّما الأمنية منها. وهذا يعني أن تمنيات الشعب العراقيّ لم تتحقّق، بعد انتظار طويل وسقيم، طالما أنّ عاهة المحاصصة الطائفية لم تُعالَج، إنْ لم نقل أنّها تعزّزت أكثر من السابق. وهذا ما تشير إليه محاولات التشبّث العنيدة والمعاندة من جانب نّواب الشعب بالحصول على مناصب وجاهيّة فيها يسيل اللعابُ بدلاً من بقائهم تحت قبّة البرلمان، المكان الذي انتُخبوا له ليؤدّوا دورَهم فيه ممثلين لناخبيهم. إنّه وبالرّغم من الوعود والتصريحات الكثيرة بابتعاد خطّ رئيس الحكومة الجديد عن النهج الطائفي، إلاّ أنّه لن يستطيع الهروب من تأثيراتها والضغوط التي ستتراكم عليه لمعالجة ملفّات شائكة، تدخل الطائفية والمصالح الفئوية طرَفًا مهمًّا فيها. والأيام القليلة المقبلة ستشهد ما نراه قائمًا وممكنًا.
إننا نعتقدأنّ القرارات الأخيرة التي طالت قيادات عسكرية متقدّمة أثبتت فشلَها طيلة ثمانٍ سنواتٍ من القهر والظلم وفشل الأداء وضبابية الرؤية العسكرية الخائبة والخالية من أية استراتيجية وتخطيط، والتي نالت قسطًا من انتقادات العراقيين، أحزابًا وشعبًا ومرجعيات، قد أثلجت صدور الجميع. وهناك مَن يعتقد أنها ناقصة، وهو على حقّ، إذ ليس من المعقول السماح بهروب بعضها والتغطية على أخرى وإبراء غيرها للخلاص من معاقبة المقصِّر فيها بحق أبناء الوطن وبحق الضحايا من أفراد الجيش الذين تُركوا لأيامٍ وأسابيع يُعانون من شظف العيش والرهبة والرعب من زمر "داعش" ومواليهم، والتي ضيّقت عليهم الخناق طيلة جهادهم في سبيل الوطن والأرض، فيما هؤلاء القادة ولّوا الإدبار هاربين من الجحيم بحجج واهية أو من دونها. فانهيارُ الجيش وقطعاتٍ منه إزاء الرعب الذي أحاطَ بهم من تنظيمات "داعش" في مناطق عديدة منذ سقوط الموصل وتوالي سقوط مدن وبلدات وقرى عديدة، دليلٌ واضحٌ على الفراغ والفشل الذي كان يحيط المؤسسة العسكرية التي تدّعي تلقّي أوامرَها من مكتب القائد العامّ، وهو المطلوب الأوّل للتحقيق والمساءلة ومَن حواليه في مكتب القيادة العامة، دون تمييز أو غطاء على أيّ مقصٍّر بحق الشعب والوطن والأرض.
لعلَّ من أولويّات الأداء الحكوميّ أيضًا، نفضُ كلّ ما يتعلّق بكونِه خارجًا عن الهوية العراقية والانتماء للوطن ولأرضه ولحضارتِه بعد اجترار هذه الأخيرة من قبل حيتان الكانتونات والكتل الطائفية التي وضعت مصالحَها قبل كلّ شيء ولم تهبْ للشعب ولأرضِه أيَّ شيء غيرَ التراجع إلى الخلف والهرولة نحو التجزئة المجتمعية وتمزيق النسيج المتكاتف تقليديًا. فالهوية التي تفقد كينونَتها الوطنية وتلهث وراء مصالح دينية ومذهبية وفئوية ضيّقة حصرًا، تتهاوى ويطويها النسيانُ حينَ انكفائها واحتمائها تحت مسميّات هذه الأخيرة. وعلى الجميع أن يدرك أن صلة الإنسان بالإنسان تكمن من خلال الهوية الوطنية والأرض التي تأويه، فيما الدّينُ والمذهبُ والطائفةُ التي يؤمن وينتمي إليها أمورٌ شخصية بين الإنسان وخالقِه. وهذا الأخير هو الذي يحاسبُه على وزناتِه وأعمالِه وسيرتِه. وبذلك، يدخل كلُّ مَن يتخذ الطائفية والمذهبية والعرقية في سلوكِه، ضمن خانة أعداء الشعب والأرض، حتى لو تمَّ ذلك تحت مسمّى الشراكة الوطنية وتوافق السلّة الوطنية المجتمعة الواحدة، لأنّ الأخيرة كلُّها مسميّات تمزيقية وتجزيئيّة وتفكيكيّة للوطن، بل تخلقُ من تكويناتها نَفَسًا عنصريًّاقاتلاً. وهذا الشيءُ عينُه، قد خلَقَ، بلْ وسَّعَ ثغراتٍ كبيرة بين أبناء الوطن الواحد والدّين الواحد، ونشرَ نزاعاتٍ عديدة وفتحَ الأبواب لثاراتٍ وصراعاتٍ دينية وطائفية ومذهبية وعرقيّة بين الدول والأديان والمذاهب المختلفة في الوطن الواحد، كما في عموم دول المنطقة. وهذا كلُّه بسبب الجهل بالدّين والمذهب أولاً، والتنكّر للتاريخ ومسيرة الشعوب ثانيًا، وعبادة الجهل بهذا الدّين والركض خلف الفتاوى والتفاسير الانتقامية الترهيبية المغرضة ثالثًا، وليس أخيرًا.
قد يكون التحرّر من الجهل في العبادة وأصول الدّين من أولى الأولويات بإعادة قراءة تاريخ الأمم والشعوب والأديان إلى نصابها والالتزام بما تمليه ضوابط الهوية الوطنية من احترام للآخر المختلف دينًا ومذهبًا وعرقًا ولونًا ولغةً. وهذا هو عينُ العقل وقمّة الحكمة في معالجة الرتق الكبير والواسع الذي نخر أسسَ الهوية العراقية وتشعّب فيها سرطان التوجّه الطائفيّ الذي مزّق البلاد وأرهبَ العباد، وأعادَ البلاد إلى زمن الهزائم والانحرافات والانتكاسات بتكفير الآخر المختلف دينًا ومذهبًا وعرقًا.
هنالك مأزقٌ آخر يحيق بالهوية الوطنية، وهو يتمثّل بشيوع الأراضي العراقية وفتح الحدود والأجواء أمام دولٍ عديدة لتحقيق مصالح إقليمية ودولية بفعل الظروف الأمنية السيّئة التي يمرُّ بها البلد وبسبب غياب أو ضعف الغطاء الجوّي الوطنيّ العراقيّ وهشاشة أجهزته الأمنية. فقد شاءت هذه الدول أن يكون لها نصيبٌ استخباريّ واضحٌ فيما يجري، سواء بتسيير طائرات استطلاع مجهولة الهوية أو طائرات لرصد ما يجري على الساحة المفتوحة الواسعة أو عبر أدواتٍ مخابراتية تصول وتجول تحت مسمّيات متعددة، منها ميليشياوية وأخرى ضمن هيئات دبلوماسيّة أو تحت أشكال ووسائل إعلامية مغرضة. وأمام هذه الاختراقات، ليس أمام الجانب العراقيّ سوى غضّ الطرف وترك المسألة للجهات ذات المنفعة المعنيّة بهذا للأمر، تلافيًا لإشكاليات غير متوقعة. فقد بات البلد ساحة مكشوفة بلا أسرار يحتفظ بها لمصلحته ولشأنِه. وقد يبقى هذا الأمر سرًّا ما طالَ الزمن، إلاّ إنْ تجرّأ أحدُ الشركاء في العملية السياسية بالكشف عن بعض تفاصيله التي بحوزتِه، في حالة الخلاف مع الحكومة أو الجهة المعنيّة بسبب تقاطع المصالح. فالفاعلون في العراق، أمسوا معروفين في مصالحهم. كما أنّ الدول التي تسعى أن يكون لها موطئ قدم في أحداث العراق معروفة أيضًا. فإلى جانب المحتلّ الأمريكي، هناك إيران وتركيا ودول الخليج التي تحارب في العراق، كلٌّ لأجل مصالحها. ويأتي الكشف عن أسلحة مصنّعة في هذه الدول خير دليلٍ لما يراه العديد من المراقبين. كما لا نستبعد غطاءً إسرائيليًا سرّيًا لمراقبة المشهد عن بعد أو عبر طائرات مسيَّرة. فهذه الأمور، أصبحت معتادة في ظلّ غياب القيادة والسيطرة الوطنية العقائدية المحترفة وضعف الأركان والاتصالات بين قطعات الجيش المختلفة التي كادت تعمل من دون خطط استراتيجية عسكرية معروفة أيام الحرب والسلم، وكذلك بسبب غياب منظومة دفاعية تعتمدفي إمكانياتها على وسائل مقاومة متطورة للدفاع عن المجال الجوّي في حالة اختراقه من جهاتٍ خارجية.
أخيرًا، نرى أنّ همّة الحكومة ينبغي أن تتعزَّزَ في هذه الفترة الأولى من تشكيلها بعد اكتمال نصابها في أقرب وقت متاح، كي لا تطول فيقع البلد في أزمة جديدة أبطالُها مَن يدّعون الوطنية والدفاع عن مصالح الوطن والمواطن، فيما الواقع يشير إلى غير ذلك. كما ننتظر من رئيس الوزراء الجديد، اتخاذ قرارات شجاعة ومصيرية وقاطعة بوضع النقاط على الحروف وعدم ترك الغير يتمادون في اللعب بمصير الشعب والوطن. فلا بدّ من محاسبة المفسدين والفاسدين ومَن سرقَ قوتَ الشعب وفرَّطَ بأموال الدولة طيلة السنوات العشر العجاف ونيّف منذ تشكيل أول حكومة مؤقتة. فما صُرف على مشاريع وهمية وتجهيزات عسكرية وورش تدريبية كاذبة ومكارم وإنعامات شخصية، كثيرٌ وكثيرٌ ويوقف عقل العقلاء وضميرَ الحكماء وغيرةَ أبسط الفهماء. إذ لا بدّ من محاسبة كلّ هؤلاء أمام القضاء بعد تنقية الأخير من عناصره المسيّسة كي يبقى جهةً مستقلّة في الرأي والحكم العادل ولا ينجرَّ إلى مصالح السياسة والسياسيّين. فهو المعوَّلُ عليه في بناء دولة العدل والمساواة والحريّة.
كلمة أخيرة أخرى للحكومة الجديدة وسفّانها، قد تُزعج البعض من الأصدقاء وأصحاب الشأن، وهي تتعلّق بعادة الحكومة طيلة السنوات المنصرمة منذ السقوط في 2003، بقيامها بتسخير طاقات الدولة في مناسبات الزيارات الشيعيّة حصرًاوالتي ينبغي التخفيف من مظاهر الاحتفال بها وإيجاد وسائل أكثر حضاريةً ولا تثير مشاعر الغير. إننا نعتقد أن أداء شعائر الزيارات حقٌّ مكفولٌ لأيّ دينٍ أو مذهبٍ أو طائفةٍ، وما أكثرها بسبب تعدّد الأديان والمذاهب والطوائف في البلاد. فإلى جانب كونه من الحقوق الوطنية لأيّ مواطن، يبقى شأنًا شخصيًّا بين الخالق وخليقتِه. ومن هنا، ليس من المنطق أن تتعطّل دوائر دولةٍ ومؤسساتُها بأكملِها من أجل تأمين تحقيق مثل هذه الزيارات والشعائر على حساب مصلحة الوطن والمواطن. والمنطق والعقل يشيران بضرورة إيجاد صيغٍ تكفل تأمين مثل هذه الشعائر مع استمرارية الأداء الحكومي ومؤسساتها وعمل أسواقها ومعاملها وفتح شوارعها وساحاتها للعامّة. فعسكرة الشارع والساحات والحدائق العامة وكذا إغلاق الشوارع ومناطق بأكملها أمام نشاط المواطن في هذه المناسبات الكثيرة، كلُّها إشارات استفزازٍ للغير وسلبٌ لحق المواطن وحرّيتِه بحياة طبيعية. فالعبادة للخالق والتكريم للأئمّة تبقى شيئًا شخصيًّا، ولا ينبغي بأيّ حالٍ من الأحوال أن تؤثرّ في الحياة اليومية للمواطن. كما أنّ إغلاق مؤسسات الدولة وتعطيلَها لأيام عديدة، وما أكثر مثل هذه المناسبات في عراق اليوم، تُعدُّ خسارة وطنية للإنتاج وتوقّف مشاريع التنمية والتطوير. فما أحوجَنا اليوم في مرحلة البناء، إلى وقت إضافيّ للعمل وليسَ للبطالة والانقطاع.كما أنّنا لاحظنا أن الإيغال والمبالغة في مثل هذه الشعائر من شأنِه أن يؤثّر على مشاعر الغير ويخلق شيئًا من الاستفزاز والغيرة والحقد والشعور بالتمييز لجهة حاكمة على حساب مشاعر مكوّنات أخرى ترى في المبالغة بهذه الشعائر، تجاوزًا لحرّية الغير وحقّهم بتواصل حياتهم في الشارع والسوق ودوائر الدولة. إنّها مجرَّدُ شذراتٍ من رؤية وطنية ومواطنيّة، عسى أن تصل إلى سفّان الحكومة العراقية الجديد والمعنيّين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء ومجلس الوزراء الموقر ومَن يعنيه الأمر.

لويس إقليمس

بغداد، في 26 أيلول 2014



319
هواجس مصيرية وأسئلة مشروعة

لويس إقليمس

لا يخفى على أحد، قهر الزمن الحاليّ وما يشكّلُه من هواجس يومية مصيرية، بعد تنامي طبقة خارجة عن الركب الإنسانيّ والطبع البشريّ، تريد العودة بالخليقة وطبيعتها إلى عقلية القرون الجاهلية والتخلّف والبداوة. ومن غير الممكن أن تسود مثل هذه العقليات وتتحكّم بمصير دولٍ وشعوبٍ لها من الطاقة والإمكانية على الصعيد البشريّ والماديّ والفكري ما يتيح لها أفضل الخيارات بالتنعّم بالحياة التي حباها الله لبني البشر، خليقته الضعيفة، التي هي بمثابة "عشب اليوم الذي يجفّ وغدًا يُحرق في النار".
إنّ الإنسان السويّ، المؤمن بوعود السماء وخالق الكون الذي أمرَ أبوينا الأولَين، آدم وحوّاء، كي ينميا ويكثرا ويعيشا في فردَوسِه الفسيح، رجلاً وامرأة، ليكملا ويسعدا بعضهما البعض، أراد لهما ولنسلهما كلَّ خيرٍ وسعادة. وإلاّ لَما أتاح لهما العيشَ في فسيح ذلك الفردوس ونهاهُما عن عمل الشرّ واقتراف الفحشاء وعصيانِه. ولمّا كانت النفسُ أمّارةً بالسوء، فقد زاغَ الإثنان وحادا عن جادّة الطريق السليم الذي رسمه لهما اللهُ الخالق. وبذلك، فقدا الحرّية والمنَعة التي حباهما هذا الإله الطيّب محبّ البشر، فعاقبهما جزاءَ فعلتهما وعصيانهما بطردهما من الفردوس. لكنّه لم يحنق عليهما بسبب تلك المعصية، بل وعدهما بالرحمة والصفح إن هما تابا وعادا إلى رشدهما ليكفّرا عن الذنب الكبير الذي فعلاهُ. من هنا فرضَ عليهما التعبَ والشقاء والبحث عن لقمة العيش والفيء كي يحتميا من شدّة الحرّ وأعارَهما ورقَ التوت ليسترا بها عورتهما بعد أنْ جرّدهما من ثوب الحرّية والنعيم الذي رفلا به.
إنّ قصّة أبوينا الأولَين، ينبغي أن تكون درسًا بليغًا للبشر، كلّ البشر، في طاعة الخالق وعدم المعصية والزوغان والتيه في مجاهل متخلّفة غير آمنة، لا تخدم البشر والبشرية. فما يجري في عالم اليوم المتحضّر، نكوصٌ إلى الوراء وعارٌ بحقّ الإنسانية جمعاء، بعد طفو فئة ضالّة لا ترقى إلى الإنسانية بشيء، وهي تحزّ الرقاب جهرًا وتتنعّم بسفك الدماء علنًا وتستهين بخليقة الّله بطرق بشعة لا يتقبلُها أيُّ إنسانٍ سويّ. فهذه الشلّة الضالة المتشدّدة التي تتبرّاُ منها الأديان كافّة، قد حوّلت أرضَ الله الطيبة إلى مجازروإبادات جماعية يندى لها جبينُ الإنسانية ولا يقبلُ بها إلاّ الضالّون أمثالَهم والمخدوعون بوعود حور العين والجنان الوارفة التي تجري من تحتها الأنهار.
كلُّ الأرض تقف هذا اليوم ومعها البشرية لتقول كلمة "لا" لما تقترفُه عصابات "داعش" الإرهابية التي تلقنتْ دينَها الخاصّ وصاغَته على مرامها ووفق مقاساتها، فشوّهتْه، لحدّ أصبح المنتمون إليه يشعرون بالخزي والخجل ممّا يُشاع ويُقترفُ ويُشاهدُ ويُسمَعُ. أليس هذا الموقف، خيرَ تحدٍّ لهذا التنظيم الضالّ وردّا لرفض أفكارِه وأيديولوجيته الخائبة والخاطئة التي لا يعترف بها سوى الشواذّ وناقصو الفكر والضمير والرأي؟ أترك الجواب للقارئ الكريم لفرز الصحيح من الخاطئ في التعاطي مع ما جاء به أصحاب هذه التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من الإسلام دينًا وتجزُّ الرقابَ البريئة باسم "الله أكبر" وترفع راية "لا إلهَ إلاّ الّله" في أنشطتها التخريبية والترهيبية.

تحدّيات قائمة ومخاطر شاهدة
مؤخرًا، تصاعدت وتيرة عقد مؤتمرات دولية تبحث في كيفية الردّ على الخطر الداهم لتوسّع أنشطة تنظيم الدولة الإسلامية في كلّ من العراق وسوريا، وعدّ هذا الخطر ليس على مصير ومستقبل البلدين المبتلَين به فحسب، بل أيضًا هو يشكّل خطرًا على المنطقة والعالم. فقد صحا الغربُ لخطورة فعّاليات هذا التنظيم وطريقة جذبِه لمقاتلين دوليّين من أكثر من 80 دولة بحسب البعض، علاوةً على تحديد أجهزة المخابرات الأمريكية لأكثر من خمسين دولةً ممولة أو تمويلٍ قادمٍ من أفرادٍ على أراضيها. وهذا كلّه كان إنذارًا بخطورة الموقف ومن تنامي قدراتِه المالية والفكرية والسَّوقية واللوجستيّة بفعل أجهزة الدعاية الضخمة التي يروّج بها لأنشطته. والتنظيم ليسَ سوى حركة إرهابية لا ينتمي لبلد وليس له حدودٌ ولا أرضٌ ولا كيانٌ، بل يريد خلق كيانٍ عالميّ لنفسه ومنه يتخذ مسارًا لتوسّعه وطموحاته العالمية. وهذا ما أرعبَ الغربَ ودولة القطب الواحد أميركا، حين بدأ هذا التنظيم الأخطبوطيّ يزحف مهدّدًا مصالح الغرب الغافي الذي صحا على خطورة الموقف متأخرًا، كعادتِه. وهذا ما يُؤسفُ له. إذ لم ينصت منذ البدء للدعوات وطلبات النجدة من البشر والشعوب التي وقعت ضحيةَ هذا التنظيم والتي تشرّد ت وفقدتْ مالَها ومنازلَها ومناطقَ سكناها بسبب أدوات القهر والترهيب والترعيب التي مارسهَا مسلحّوه ببربرية واضحة بحق أبناء المناطق التي احتلّوها أينما حلّوا.
إنّ التحدّيات التي يواجهها عالمُ اليوم بسبب أعمال هذا التنظيم المسلّح الذي يُعدّ أغنى تنظيم إرهابيّ لغاية الساعة، كبيرة وعديدة. وما لم يتعاون المجتمع الدوليّ وتتضافر جهود الدول والمنظمات وأصحاب الأرض للحدّ من نشاطه ودحرِه في أقرب وقت ممكن، فإنّه سيستمكنُ ويتقوّى ويستفحلُ لينتشر بعد ذلك كالسرطان الخبيث الذي لا يتوقف تدفُّقُه، ولن تفيدَهبعدُ جرعاتُ الدواء المسكّن المتمثلة اليوم بضربات جوّية محدَّدة غير قادرة على لوي ذراعِه الطويلة، لاسيّما وأن رأس الحكومة العراقية قد وجّهَ خطأً بعدم استهداف المقرّات والمواقع المدنية التي يحتمي بها مسلّحو التنظيم باتخاذها ملاذًا آمنًا. وهناك مّن يرى في هذا القرار المحرج، تشجيعًا باطنيًّا لتنظيمات مسلّحة أخرى لاستغلال هذه الثغرة في ارتكاب جرائم أعمل عنف تطالُ أناسًا أبرياء.

القضاء على الفكر الإرهابيّ خطوة استباقية
إنّ المنظومة الفكرية التي أتى بها تنظيم "داعش" الإرهابيّ، على خلفيّة تراجع تنظيم "القاعدة" مؤخرًا في المنطقة بصورة خاصّة، قد مكّنته من بسط نفوذ هائلٍ دوليًّا، بفعل ماكنته الدعائية الهائلة والفكر السلفيّ المتشدّد الذي سار عليه وكسبَ به ودّ طبقات كثيرة وحركات عديدة نبعتْ بسبب خلفيّات متخلّفة لطبقات فقيرة من المجتمع تعاني من التهميش والبطالة وشظف العيش.وقد ساعده على انتشار فكره المشوَّه هذا، اتساعُ نقمة الجماعات السنّية في مناطق تواجدها بالمحافظات الشمالية والغربية من البلاد بسبب تراكم أخطاء الوزارة السابقة وانغماسها في تهميش المكوّن السنّي والسعي لإبعاد رموزه وقياديّيه من الواجهة السياسية والشراكة الصحيحة في الوطن. ولا أسهلَ من كسب ودّ البشر، حينما تنقطعُ بهم سبلُ الحياة الكريمة، فيناموا ليجدوا أنفسَهم أسرى بين أيدي مَن يعدُ أو يدّعي إنقاذهم من براثن الحياة المزرية التي يوجدون فيها.
كما أنَّ الفكر الإرهابيّ الذي يتخذه أمثالُ هذا التنظيم في أيديولوجيته وفي تحرّكاته، حالفَهُ الانتشار السريعُ، لاسيّما بين صفوف طبقة الشباب الضائع والتائه في مسارات العولمة القائمة وما أتى به هذا النظام العالميّ الجديد، عندما وجدَ نفسَه عاطلاً بلا عملٍ ولا رزقٍ ولا مأوىً ومرميًّا على قارعة الطريق يلعنُ الزمنَ الغادر ومَن حوّلَه إلى متسوّل وفاقدٍ للأمل بحياة آدمية لائقة. فالجريُ وراء الشرّ أهونُ وأسهلُ من فعل الخير ومن الصلاة والتوبة في نظر هذه الشرائح التائهة الضائعة التي لم تعد تستمعُ لغيرها ولا ترعوي من المآسي تاركةً النصح والهداية في سبيل الخير خارجًا عن أهدافها في الحياة. ف"الممنوع دومًا مرغوبٌ فيه"، وإنْ كان يسيرُ بعيدًا عن ركب الخير والإنسانية وعن الرحمة للنفس ولغيرها.
لعلَّ أولى الخطوات التي تمكّن من القضاء على هذا الفكر الإرهابيّ الآثم، تبدأ من البيت بالتنشئة المنزلية الأولية المعتدلة والإنسانية التي تضع محراثَ الطفل على السكّة الصحيحة، ليقوم منتصبَ القامة في الفكر والخلُق والسيرة الحسنة. ثمّ يأتي دور المؤسسات التعليمية التي تأخذ على عاتقها ترسيخ المبادئ التي خلقتها الأسرة الصغيرة في عقلية وذهن الطفل ليقوم حسنًا في السيرة والأخلاق ونافعًا لأهلِه وبلده وللعالم أجمع. إلى جانب هاتين الجهتين، يأتي دور المؤسسات والمراجع الدينية التي تعزّز وتعدّل وتقوّي ما سبق للطفل أن تلقّاه في صغرِه وفي شبابه ليدخل غمار الحياة الشريفة من أوسع الأبواب وليس من بابٍ ضيّق لا يسعُ سوى نظراتٍ قاصرة ورؤى ناقصة في الحياة. كما لا ننسى دور منظمات دولية وإنسانية ومنظمات أخرى في المجتمع تُعنى بتطوير وتفعيل الروح الإنسانية وتدعو للتعاضد والتكافل المجتمعيّ.
 بهذه الوسائل فقط، يمكن تحصين الشباب وعموم البشر من مخاطر التطرّف ومزالق التشدّد المتنامية بسبب فكرٍ قاصرٍ ورؤية ضبابية للحياة وما فيها. ولا ننسى أن الإرهاب، لو قيل عنه "أْن لا دينَ له"، إلاّ أنّه في أساسِه فكرٌ منحطّ لا يرتقي إلى أبسط قيود الغيرة والأخلاق والضمير. من هنا، نلحظ أنّ غالبيةَ المغرَّرِ بهم من المنتمين لأمثال هذا التنظيم، قد حُرموا من تنشئة منزلية صحيحة لأسبابٍ عديدة، منها بصورة أخصّ، ضعف الآصرة الأسرية بين الأهل وفقدان التناغم بين الزوجين وترك تربية الأولاد للشارع وما يأتي به هذا الشارع من أخلاق واطئة ومشاكل اجتماعية لا حصرَ لها.

استراتيجية متأخرة قد تكون حاسمة

إعلان التحالف الدولي في مؤتمر باريس المنعقد يوم الاثنين 15 أيلول الجاري عن استراتيجية فاعلة لحسم موضوع وجود "داعش"، هو خطوة أولى لدحر الإرهاب وتجفيف منابعه وقطعاليد التي تموله ومَن يؤازرُه ويقف معه عدوًّا للإنسانية. وتأتي موافقة أكثر من أربعين دولة للمشاركة في هذا التحالف ردًّا قاطعًا على نبذ هذا التنظيم وصدّ فكره المريض واستئصال شأفته بعد طغيانه بوسائله الترهيبية وأعماله البربريّة الشنيعة بحق أناسٍ آمنين لمجرّد الاختلاف معهم في الفكر والدّين والرؤية للعالَم القائم ونظامِهالعولميّ. وهذا العدد من الدول المستجيبة، بمقدوره في حالة تكاتفه مع دول الجوار لكلٍّ من سوريا والعراق، أن يلحق الهزيمة بهذا التنظيم الذي يستغلّ الإسلام في أعماله الترهيبية ولأهدافٍ إرهابية ومنافع ذاتيّة تعود به لعصر غزوات البداوة الغابر ولحقبة التخلّف القائمة قبل أكثر من أربعة عشر قرنٍ خلت، أيامَ الجاهلية والسيف والجمل والتيه في الصحراء.
إن مجموع هذا المجهود الدوليّ، بعيدًا عن النوايا الحقيقية للمشاركين والفاعلين فيه، يتطلّب بالمقابل تغييرًا في موقف الدولة العراقية ونظام الحكم فيها، بسبب الصبغة الطائفية التي اتسم بها نظامُه السياسيّ منذ السقوط في 2003، بدعمٍ من الجارة إيران، التي رأت فيه ولايةً إيرانية من دون شكّ وألعوبةً بذراعها السياسيّ في المنطقة. إلاّ أنّ حسابات البندر غير حسابات الحقل! فالواقع الصحيح والعادل، يتطلّبُ خطوة مقدامة على الطريق الصحيح بالانفتاح على محيطه الإقليمي والعودة للحضن العربيّ بكلّ ثقلِه. كما أنّ بعدَه غير الطبيعيّ عن محيطه الأصليّ قد باعدَ بينَه وبينَ شركائِه، ما اضطرّه بالقبول بتدخّل دوليّ بعد تضييق الخناق عليه من "داعش"، صنيعة الاستخبارات الأمريكية نفسها.
قصارى القول، أن تجفيف منابع الإرهاب وحواضنِه، في حالة انطلاقِه من أراضٍ عراقية، كما نتأمّل اليوم، وبعيدًا عن النيّات التي تقف وراء هذا المجهود الدوليّ، لن يكون متاحًا إلاّ في انتفاضة جديدة وجادّة من جانب الحكومة الجديدة التي عليها تغيير استراتيجية الحكومة السابقة الخائبة المتبعة طيلة السنوات الثمان من عهد المالكي. فالعراق انطلاقًا من أراضيه وعلى أراضيه، يخوض اليوم حربًا كونيّة يدفعُ ثمنها بالنيابة عن المنطقة والعالم كلّه، بعد تركيز سمة الإرهاب على نظام الحكم الطائفي فيهوالاعتقاد بإمكانية تحديد أهدافه على أرض العراق تحديدًا، انطلاقًا من سوريا التي هيّأ نظامُها الدكتاتوري لنشأة هذا التنظيم وصعود نجمه. وهذا قدَرُهُ! فالعراقُ يدركُ تمامًا، ازدواجية عمل دول التحالف الجديد في معالجة الكارثة التي أوقعَت الأبرياء ضحيةًللتنظيم المسلَّح ذي الطاقة والقدرات التي تفوق قدرات دولة مثله. إن هذه الازدواجية في التعاطي مع مشكلة العراق القائمة منذ سقوط الموصل في 10 حزيران 2014، يدركُها القاصي والداني. فالدول العظمى ومعها المنظمة الدولية، لم تحرّك ساكنًا حين توالي سقوط المدن العراقية الواحدة تلو الأخرى وتشريد الآلاف من سكان المناطق التي تقطنُها أقليات عرقية ودينية، إلاّ بعد تهديد مصالحها في كردستان. وهذا خيرُ دليلٍ على هذه الازدواجية في التعاطي مع الملف العراقيّ الشائك والخاضع لتجاذبات وخلافات سياسية حادّة بين الفرقاء ومّن يقف وراءهم. فالهدف واضحٌ وليس فيه لبسٌ. لم يكن وراءه خطةٌ ولا استراتيجية قريبة المدى تساهم بعودة النازحين والمشرَّدين إلى ديارهم، بقدر ما كان يرمي بالدرجة الأولى، للحفاظ على مصالح عددٍ من الدول التي شعرتْ بقرب التهديد على أيدي تنظيم "داعش" في العراق والمنطقة.
هنا تكمن الخطوة الّلاحقة للحكومة العراقية الجديدة، بتشكيل أو إعادة هيكلة الجيش العراقيّ القاصر القائم حاليًّا، من حيث العقيدة العسكرية والشؤون السوقية واللوجستيّة والتجهيز والاستراتيجية بحيث يكون بعيدًا عن اية تأثيرات طائفية ومذهبية وعرقيّة. وهذا ليس بالسهل بطبيعة الحال. لكنّ الإرادة الوطنية ينبغي أن تنتصر في النهاية، بإعادة النظر في كلّ ما سلفَ من اجتهادات وسلوكيات وقرارات أبعدت الجيش العراقي العقائديّ التقليديّ عن مهامّه الوطنية وطبيعته العربية. ومن ضمن هذه الاستراتيجيات، التفكير الجدّي بقيام تشكيلات من حرس وطنيّ في كلّ منطقة أو محافظة لها القدرة على الدفاع عن حدودها ضمن تشكيلات الجيش الوطنيّ الاتحاديّ. وحينما تحصل هذه البرامج وتحظى بموافقة الشركاء السياسيّين، يكون البلد قد وضعَ أقدامَه على السكّة الصحيحة التي تنشلُه من واقعه المزري وترتقي به ثانيةً إلى مصافي الدول المتحضّرة بعودة السيادة الوطنية إليه وتعافيه من اقتصاده المثقل جرّاء تفشّي الفساد والمفسدين وإعادة تأهيل وبناء بناه التحتيّة المتهالكة.
ضمن هنا، يأتي قبول العراق للتدخل الدولي الأخير، خطةً مقبولةً وضروريّةً لصدّ الهجمة "الداعشيّة" الشرسة ومَن يقف وراءَها، بالرغم من اعتراض جهاتٍ شيعيّة معروفة بولائها للجارة إيران التي تخشىعلى تهديد مصالحِها فيه. وما التحالف الدوليّ الجديد، سوى فرصة قابلة للاستفادة منها وتطوير توجّهها نحو إعادة بناء البلد من جديد وفق قياسات وطنية، ووصولاً لنهج طريق الدولة المدنية المتحضّرة الديمقراطية. وهذه الفرصة الجديدة قد لا تُعوَّض، ليكفّر المحتلّ الأمريكي ومعه الغرب الغافي، عن ذنوبهم تجاه شعب العراق الجريحوحقِّه في العيش الآمن وكذا تجاه حضارتِه ورموزِه التراثية والدينية التي تُستَباح كلَّ يوم، وتكاد تتراجع وتتقهقرُ مع تواتر الأيام وإطالة الضائقة وسطوة التنظيم المسلّح وحواضنِه ومؤازريه.
هناك مَن ما زالَ يعتقد بأنّ الاستعجال بخروجالغزاة الأمريكان بالطريقة غير الذكية التي انتهجتها الحكومة السابقة، قد أخلّ بمصالح العراق، لا سيّما فيما يترتب على المحتلّ من واجبات الاحتلال والدفاع والصيانة وإعادة الإعمار وحماية الحدود. وهذا ما لم يفي به المحتلّ الأمريكي طيلة غزوه للبلد حتى طردِه مخذولاً مهانًا. ومَن كان يراقب البرامج التدريبية المخصّصة للجيش العراقيّ الجديد، يساورُه الأسى للأموال الطائلة التي صُرفت على أفرادِه ولعدم الجديّة في تنفيذ تلك البرامج التي استغلّها العديدون لواجهة سياحيّة وكسب منافع ومكافآت جرّاءَها ومن ورائها.
وهكذا، حينما أدرك الجميع الخطر الداهم وما كسبه تنظيم "داعش" من تمويل وما حقّقهُ من مكاسب ومآرب مالية وبشريّة ضخمة، تنادوا لتشكيل اتحاد دوليّ ضدّه وللقضاء على منابعه ومروّجي فكرهِ، إن أمكن. وهذا ليسَ بالسهل، كما نعلم. فبالرغم من إعراب 28 دولة من حلف الناتو عن دعمها لإنهاء وجود تنظيم "داعش" الإرهابي، إلاّ أنَّ ما في حوزة هذا التنظيم من مالٍ وسلاحٍ وحقولٍ نفطية وماكنة إعلامية هائلة وتأييد في صفوف الناقمين على حكومات وأنظمة عديدة بالمنطقة، إضافةً إلى ما غنمَه مؤخرًا من أسلحة الجيش العراقي المتخاذل في الموصل ومناطق أخرى ومن البيشمركة أيضًا، كثيرٌ ولا يمكن تصوُّرُه في ساحة المعركة وأساليبها التي تتدرَّبَ عليها. لذا، فمسألة تجفيف الحواضن ووقف إمدادات التمويل الإضافية التي يحصل عليها ومعالجة مشاكل الأرض الخصبة التي نما فيها وعليها، ستكون كفيلة بقلع منابعه والحدّ من نشاطِه لحين القضاء عليه نهائيًّا بعد حين. ويمكن اعتبار هذه الاستراتيجية الدولية برنامجَ عملٍ للقضاء على الإرهاب ذاته، وليس على تنظيم "داعش" فحسب.
ولكن، يبقى السؤال: هل في تقديرنا لما في حسابات التحالف الدوليّ من نوايا وأهداف يتطابقُ مع سيادة بلدنا على أراضيه موحَّدةً واستعادة النسيج المجتمعيّ لطبيعتِه المتآخية وعودة المهجَّرين والنازحين إلى مناطق سكناهُم الأصلية بأسرع وقتٍ متاح؟

لويس إقليمس
بغداد، في 20 أيلول 2014



320
سهل نينوى ومشروع المحمية الدولية
لويس إقليمس

لعلّ عجزَ الدولة الفيدرالية في حماية مناطق الأقليات عمومًا، هذا العجز القائم حاليّا بل منذ السقوط الكبير في 2003، وتوالي الانهيارات الأمنية وتواصل التجاذبات بين الفرقاء، أصدقاء الأمس وأعداء اليوم، المتصارعين مذ ذاك، على تقاسم كعكة العراق،إلى جانب حقيقة فرض الجانب الكرديّ أحقيّته عليها من طرف واحد، هي السبب مجتمعةً في ضياع حقوق وتشرّد عوائل وفقدان منازل وأملاك وخسران مقتنيات وعقارات وتعرّض أعراض نساء وفتيات وأطفال للسبي والاغتصاب وبيعهنّ في سوق النخاسة من قبل أزلام دولة الخلافة الإسلامية بعد استباحتها مناطقهم وتوسعها نحو العمق العراقي بقوّة. هذه الجملة الطويلة، سقتُها كي أدخل في تفاصيل أعمق حول الدعوات القائمة حاليًا لتحقيق رغبة بل أمنية أصحاب الشأن بالمنطقة، والتي هي تحصيل حاصلٍ للنتائج الكارثية المساقة في أعلاه.
منطقة سهل نينوى بالذات، لها تضاريسُها الخاصة، البشرية منها والدينية والمذهبية والجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية. فهي عراقٌ مصغَّر أكثر من غيرها، وبدرجة تقترب منحال كركوك وكردستان، إن شاء البعض. إلاّ أنّ ما يمّيزها عن غيرها في هذه كلّها، أنّها منطقة احتكاك بين مكوّنين متصارعين أزليًّا، بين العرب بثقافتهم العربية ونزعتهم الاستعلائية على غيرهم والكرد بثقافتهم الكردية وطموحاتهم غير المتوازنة، وما يشكله هذا وذاكَ من اختلاف في الرؤية وفي النظر إلى المستقبل لدى القوميّتين والشعبين المتنازعَين.
إنَّ ما يثير الجدل في نيّة الجانب الكردي المدفونة، أن غالبية مناطق السهل، بعيدة عن ثقافتهم، وهذا واقع حالٍ يُراد تغييره بوسائل متعددة وعبر أدواتٍ منتفعة بالمنطقة. وهذه الرؤية والتحليل حقيقة واقعة عندما ننظر إلى المتحدّثين والمثقفين والكتاب والأدباء والباحثين من أهل السهل، فإنّ غالبية هؤلاء يدينون بثقافة عربية بحتة ولا يجيدون الكردية ولاسيّما المسيحيين منهم، لا من قريبٍ ولا من بعيد، إلاّ القلّة من الإيزيديين والشبك الذين يشيرونبتحدّثهم بلغتهم الخاصة، لكنّ الظروف القاهرة جعلتهم تحت مطرقة الأكراد. وهذا دليلٌ قاطعٌ على سقوط الحجةّ عند مَن يطالب بضمّ السهل ومناطقه المتحدثةوالمتشربة بالثقافة العربية إلى الإقليم.
 أمّا التبريرات المساقة بكون الإقليم وقيادتِه وأهلِه أقربَ إلى مواطني السهل في الرؤية والعشرة والحماية والاهتمام، فقد سقطت هي الأخرى، حينما ضحّت بهم قوات البيشمركة وقياداتُهمبعد أن انسحبت منهزمة خلال ساعات من دون سابق إنذار أمام تهديدات عصابات "داعش". وقد ترتَّبَ على هذا الانسحاب المفاجيءإرباكٌ وخذلانٌ واستياءٌللمؤسسات الدينية وزعاماتها التي كانت تقف في غالبيتها إلى صفّ المتعاطفين من مواطنيهم مع الكردومع ما كانت تسوّقُه دكاكينُ الأحزاب التابعة للأقليات بالمنطقة من وعود وما أظهره أبطالُها الهاربون قبل الرعايا، ممّن يعدّون أنفسَهم في التشكيل الأمامي لأدوات القيادة الكردية ومن العناصر المحلّية المجنَّدة. إنْ هذه، إلاّ علاماتُ عدمِ الانسجام والتخبّط في الرؤية من قبل نفرٍ مخدوعٍ من أبناء السهل ومَن يقف وراءَ استمالاتهم وتحريضاتهم ووعودهم غير الصادقة لأبناء جلداتهم، بدليل ذوبان هذه الأدواتفي سويعات كما الملح في الماء، وشرودهم عن المشهد المأساوي إلى حيث عرين الأسد الذي آواهم معزّزين مكرَّمين دون غيرهم من بسطاء الناس الذين لم يجدوا مأوىيقيهم ولا ماءً يشفي غليلَهم ولا مصرفًا يسدُّ حاجاتهم الإنسانية لغاية الساعة.
على أية حالٍ، هذه حالُ الشعوب المبتلاة بقادة أو بالأحرى بمدّعي قادة ممّن اعتادوا التنافس بالمناكب في أولى الصفوف في المناسبات والدعوات والاستقبالات الرسمية والدينية والاجتماعية والظهور على الفضائيات تبجّحًا واستخفافًا بمن يتحدثون عن آلامهم وهم بعيدون عنهم قلبًا وروحًا.إنَّ جلَّ هؤلاء الذين نبذتهُم شعوبُهم بعد سقوط الموصل في 10 حزيران 2104، وما تلا ذلك من انهيارات وكوارث ونكبات،يُعدّون من خارج صفوف الصفوة المثقفة أو مَن ليسوا من حاملي الشهادات والخبرة أو المشهود لهم بالحكمة والرويّة والاتزان والحرص الوطنيّ قبل الفئويّ والشخصيّ. هؤلاء جمعتْهمحولًهازعاماتٌاستبدادية واستحواذية محليّة تتسمبعقلية انتفاعية ذاتيّةذات عقدة نرجسية ممسوسة بجنون العظمة تدّعي الحرص على تمثيل شعوبها،ولكنها بتصرفاتها غير الحكيمة تكون قد جلبت عليها النقمة وغضب الأرض والسماء معًا. لذا كان اختيارُ هذه الزعامات المحليّةالمنتفعة لأدوات هزيلة منتفعة مثلها وتتسم بصفات عاجزةوغير مؤهلة للقيادة لتكونَ أدواتٍ للتكسّب والتطبيل لأولياء النعم والاستعداد الدائم لفعل أيّ شيء لضمان الكسب الضيّق. وكلُّ هذا وذاك،من باب الحرص الكاذب على مصلحة ناسهم ومناطقهم، بعد استبعاد مَن في جعبتهم ثقافةٌ وحرصٌ وغيرةٌ وعلمٌ ورؤية وطنية شاملة.فهذا الصنف الأخيريصفه المنتفعون من أولياء النعم في المنطقة، بالسائرين عكس التيار. وهم يقصدون به تيارَ الخضوع والخنوع وتقديمَ الولاء الدائم للغريب القادم من خارج الأسوار.
 وباختصار، فإنّ جلَّ المجاميع التي تدّعي قيادة شعوبها في منطقة سهل نينوى بالإجماع، لا تمثّل إلى حدّ كبير هذه الشعوب والقرى والقصبات التي اكتوت بأكاذيب الأدعياء والخانعين والمتاجرين بهم وبمستقبلهم وبمصيرهم إلى المجهول! والسبب ببساطة، كونُهم غير حياديّين وغير مستقلّين في الرأي والقرار وتابعين لأولياء النعم من الأسياد ومَن يدفع لهم على حساب الفقراء والمحتاجين والبسطاء من عامة الشعب. فالحالة تشمل المسيحيين والشبك والإيزيديين بالمنطقة على السواء.

إخفاق وشكوكٌ في ضامن الحماية لمناطق الأقليات
بعد سقوط الموصل في 10 حزيران وتوالي انهيار أقضيتها ونواحيها وقراها وبلداتها بيد مسلّحي دولة الخلافة الإسلامية "داعش"، سقطت معها ورقة التوت عمّن كان يدّعي الدفاع عن مجمل المناطق المسمّاة ب "المتنازَع عليها"، والضامن لحمايتها، بعد أن دامَ احتلالُها من الجانب الكرديّ منذ 2003. فمَن كان يمسكُ أراضي منطقة السهل طيلة هذه السنين العجاف بويلاتها ومشاكلها ومنغّصاتها،لم يستطيعوا الدفاع عنها حين اقتضاء الضرورة، بل تمّ تسليمُها بكلّ سهولة من دون مقاومة تُذكر وفي ظروف يشوبُها الكثير من اللغز واللغط والصفقات التي لا تقبل الشكّ، ومن دون إبلاغ الأهالي وإنذارهم باتخاذ ما يلزم من تحوّطات عديدة نظرًا لضخامة الفاجعة وهول مآسيها.
هذه حقيقة لا يمكن تجافيها أو تغافُلُها. فقد باعنا الأكراد بلمح البصر، تمامًا كما تخلّت عنّا الحكومة المركزية وأهملت الجانب الأمنيّ والخدميّ بحجج واهية وضمن صفقة مع حكومة الإقليم منذ السقوط في 2003. إلاّ أنّ هذه الكارثة أدّت إلى اقتلاع شعوبٍ كاملة من مناطق تواجدهم الأصلية وفقدان مالهم وحلالِهم وممتلكاتهم في ساعات وترك مساكنهم والهيام بوجوههم في المجهولواضطرارهم للنزوح قسرًا إلى مناطق غريبة بالآلاف، في ظلّ غياب الرعاية من حُماتِهم التقليديين الذين كانوا تعهّدوهم بالدفاع عنهم. هذه الواقعة الفاجعة، لا بدّقد غيَّرَت المعادلة إلى واقع جديد سيؤدّي بالتأكيد إلى قرارٍ شجاعٍ يضع النقاط على الحروف، حتى لو تمّ تحرير هذه المناطق بوتائر زمنية، كما المأمول.فالمؤمنُ لا يلدغُ من جحرِ مرتين. فكم بالأحرى إذا تجاوز الثلاث مرّات؟
اليوم، ترتفع أصواتٌ للبحث عن حلولٍ لمأساة آلاف البشر المشرَّدين من أبناء الأقليات في منطقة السهل الجريح، هؤلاء الذين طالَهم التهجير والطرد حينَ خُيّروا بين الإسلام أو الجزية أو حدّ السيف أو ترك كلّ شيء وعدّ أموالهم وممتلكاتهم من أملاك الدولة الإسلامية بموجب قانون الغزوات الجاهلية. ومن ضمن هذه الحلول، مطالبة الهيئة الدولية ومعها الدول ذات القرار والقدرة والتأثير بإنشاء منطقة آمنة تكون بمثابة محميّة لهذه الشعوب المستضعفة والمضطهَدة طيلة حياتِها بسبب غياب ثقافة احترام الآخر ورفض القبول بالمختلف دينيًا وإتنيًا ومذهبيًا وما سواه.
حقًا، إذا كانت حكومة المركز ليست لها القدرة لتأمين حياة سكّان السهل وفرض الأمن والاستقرار وتقديم أفضل الخدمات التي يستحقونها، وكذا الفشل الذريع والخذلان الذي سبّبه انسحاب القوات الكردية بالإقليم، فالأمنية بطلب حماية دولية، تبقى هي الشكل الأوفر والأصلح لأقليات هذا السهل. وهذا حقٌّ مشروع في ضوء المستجدّات والأحداث الصاعقة التي عصفت بالبلاد وأوصلت العباد إلى شرٍّ وكارثة ما بعدها شرّ ولا كارثة، حين تعلّق الأمر بحياة بشر آمنين، وبمصيرٍ شعوبٍ تحوّلت إلى هباء، وبمستقبلٍ غامضٍ لا يبشّر بالخير القادم، مهما كان! فالدول التي هبّت للنجدة وتقديم المساعدة بأشكالها بعد خروجها من صمتها المطبَق خجلاً، لم يكن تحرُّكها ممكنًا لو لم تشعر بتهديدٍ لمصالحها على أرض الإقليم، تمامًا كما قالها رئيس بلاد الشرّ "أوباما حسين". فحينها فقط تحرّكَ الركب الأمميّ وتنادى لصدّ الهجمة الشرسة للتنظيمات الإرهابية التي كادت تصبح على أبواب مصالحها. كما أن الخجل الخفيف الذي ضربَ ضمائرَها وحرّكَ عقولَ بعض زعمائها لم يكنْ ليحصل لو لمِ توجَّه لها انتقادات وتُجابَه بضغوطٍ من جهات حقوقية وإنسانية ودينية، ولاسيّما تصريح بابا الفاتيكان الذي أجاز مقاومة ومعالجة مكامن الشرّ بالطريقة التي تراها الهيئة الدولية مناسبة لدحر الإرهاب ووأدهٍ من أجل سرعة عودة النازحين والمهجّرين إلى بيوتهم وقراهم لممارسة أعمالهم وشعائرهم وواجباتهم تجاه ربّهم ووطنهم وأهلهم وشعوبهم.

ضماناتٌ دولية رصينة
إن موضوع الحماية الدولية التي طفت على السطح كحلّ أفضل لأهل السهل، ينبغي أن يُعالج بعناية فائقة ،كيلا يكون نسخة تابعة وخاضعة لجهة تتربّص بجغرافية المنطقة من أجل توسيع مداها وحدودها على حساب مآسي غيرهم
. فالعرب وضمن أجندتهم بالحلم بتشكيل إقليمهم الخاص على أنقاض المحافظة المتهالكة، وكذا الكرد الطامعون منذ حينٍ بضمّ المنطقة إلى دولتهم المزمعة القادمة لامحال، يتصارع    ون اليوم وعلى قدمٍ وساق للاحتفاظ بمناطق السهل، ليسَ حبًّا بهم وبإنسانيتهم وحفظًا لحقوقهم وهوياتهم، بل إنّما للمقوّمات البشرية والإنسانية والدينية المتسامحة والهوية الوطنية الرصينة والاستعداد للتطور العلمي والتراثي والفنّي والاقتصادي والاجتماعيّ وغيرها من الصفات التي يتمتعون بها دون غيرهم. والحق يقال ، لقدكان الأجدر بمَن سعى لحكم العراق بعد زوال حكم الاستبداد في 2003، أن يترفعوا عن أجنداتهم الدينية والمذهبية والطائفية والتركيز عوضَ ذلك على الهوية الوطنية التي وحدها هي الجامع الفعليّ لأبناء الوطن تحت خيمة المواطنية والإعمار والبناء والتطوّر والتنمية المستدامة. لكنّ جلَّ هؤلاء القادمين على ظهور دبابات المحتلّ الأمريكي أوالمدعومين من دول إقليمية ومجاورة حتى الساعة، لم يكونوا يحملون في جعبهم الخاوية غيرَ عنصرِ الانتفاع من الظروف وضمن نطاق الدّين والمذهب والطائفة التي ينتمون إليها.  ومن هنا، كان تكتُّلُهم واحتماؤُهم ضمن نطاق الكتل التي التفّوا حولَها تحقيقًا لمصالحهم الفئوية والشخصية الضيّقة. وهذه هي الكارثة التي قصمت ظهر الوطن، ولا يبدو في الحكومة القادمة بصيصُ أملٍ بالخروج من قوقعة هذه الشرنقة سالمين ونافضين غبار الطائفية ومحاصصتها البغيضة التي يتكلّم عنها الكثيرون ولكنّهم متمسكون بها حتّى العظم. التشكيلة الوزارية الجديدة التي على الأبواب، لا تخلُ من نَفَسٍ  طائفيٍّ وشرهٍ لحبّ الكراسي والسلطة وماوراء هذه الكراسي من مغانم وامتيازات وفوائد! وسنلمسُ ذلك خلال السويعات القادمة. فهي لن تكون مختلفة كثيرًا عمّا سبقها، كما لن يكون في أياديها أزرارٌ سحرية لانتشال البلد من وهدته.
أمام هذه الحقائق المؤلمة، لن يكون سهلُ نينوى آمنًا بغير حماية دولية بالكاملعلى غرار قوة سلام دولية وبضمانات عهدية أكيدة ولأجلٍ غير مسمّى حتى قدوم ذاك اليوم الذي فيه تتحرّر الذهنّية العراقية من كلّ مخلّفات الماضي الدينية والطائفية والقومية والفئوية الضيقة، وصولاً لبناء دولة مدنية متحضّرة يصونُها دستورٌ وطنيٌّ لا يفرّق بين مواطن وآخر وتحصّنُها قوانينُ داعمة للدستور وتعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. كما المطلوب أن تجمع النسيجَ الاجتماعيّ،ذهنيّةٌمواطنيّة تعرفُ كيفيةَ العيش المشترك وتقدّر أهمية السلم الأهليّ والتكافل والتعايش ضمن النسيج المجتمعيّ العراقيّ الأصيل الذي عهدناه.
وبالمقابل، يجب التفكير بتكوين قواتٍ مناطقية من جميع مكّونات السهل، متمرّسة ومدرّبة تدريبًا جيدًا، تكونُحاملةً لعقيدة عسكرية وطنية خالصة، يكون ارتباطُها بالجيش الوطنيّ الاتحاديّ حصرًا، ولا تخضعُ لأية كانتونات أو تكتّلات متصارعة ومتجاذبة في الساحة بأيّ شكلٍ من الأشكال. وهذه دعوة ملحة لشباب السهل، كي ينخرطوا في هذا التشكيل ويبدؤوا مشوار التفكير بالتعاون مع الجهات المعنيّة في كيفية حماية مناطقهم مستقبلاً على أساسٍ وطنيّيلحين انصهار كافة التشكيلات القائمة حاليًا مع الجديدة منها في جيش وطنيٍّ محترفٍ لا يدين بالولاء لغير الوطن وشعبهِ وحدوده ومستقبلِه. وحينَها يمكن الاستغناء عن الحماية الدولية عندما يزول شبح الخطر وتكون الذهنيّة القبائلية والعشائرية والمذهبية والطائفية قد زالت وإلى غير رجعة. وهذا أمل الجميع، كي يعود العراق سيّدًا في موقعِه وآمنًا بحدودِه وقويًا بجيشه ومتطورًا بعلمائه ومتفتحًا برجالِه ونسائِه على السواء. فمَن يقع على عاتقه مسكُ الأرض بعد هذه التجربة المرّة، يجب أن تكون قوات نظامية تدعمُها قواتٌ محلية من أبناء جماعات الأقليات أنفسهم، في كلّ القرى والقصبات والبلدات التي يتواجدون فيها، وعدم القبول بتولية غيرهم عليهم بعد الآن.

لا للبدائل المطروحة عن الأرض الأصلية
يُشاع هنا وهناك، عن مشروعٍ لبناء مجمّعاتٍ سكنية بديلة لمساكن المهجَّرين والنازحين من منطقة السهل في جزءٍ من كردستان. إن هذا المشروع المشبوه، يساهم من حيث لا يدري المواطن النازح المغلوب على أمرَه، بطريقة أو بأخرى، بقلعِه واستئصالِه من جذوره التاريخية والحضارية والدينية بعيدًا عن أرض آبائه وأجدادِه. ومّن يحاولُ تجميل صورة هذا المشروع، فهو كمَن يسعى معّ المخطّطين له باقتراف خطأ جسيمٍ آخر لا يُغتفّر، بحجة تقديم سكن آمنٍ لهؤلاء الذين طُردوا بفعل فاعلٍ من بيوتهم وقراهم وخسروا تحويشة العمر وأتعاب وشقاء وضنى عمرِ آبائهم وأجداهم، ليأتي الغريب المتربّص ليقطنَ بدلَهم فيها. وبذلك، تُطوى صفحة هذه الشعوب المستباحة، وتزول آثارُهم مع الزمن ومع توالي الأيام والسنين. فمَن يتعوّد السكنى في المجمَّعات المقترَحة في إقليم كردستان، سوف يطيبُ له الاستقرار فيها ولن يفكّر بعدُ في الانتقال منها والعودة إلى ديارِه، خوفًا من إعادة الكرّة بالمأساة التي اختبرها بسبب قدوم تنظيمات "داعش" والخوف من الوقوع في فخاخ مثيلاتها لاحقًا.
إنّي أعتقد، أنّ تشجيعَ مثل هذا المقترَح، ليس من صالح أهل الحق والأرض، لأنّه سيُساهم بشكلٍ أو بآخر على إجراء تغيير ديمغرافيّ في مناطق السهل، وهذا ما يريدُه أعداء الأقلياتالمسيحيةوالإيزيديةوالشبكية خصوصًا، وما يسعى إليه مضطهدوهُم لاجتثاثهممن المنطقة. أمّأ مَن يرى أنّ هذا المشروع، سوف يحدّ من نزيف الهجرة، فهو واهمٌ أيضًا، لأنّ الناس كادتتفقدُ ثقتَها بكلّ مَن كانَ يقف حائلاً بين التخيير بالهجرة أو البقاء صامدًا ماسكًا الأرضَ برغبته وكاملِ رضاه. دعوتي للجهات الدينية والكنسية التي تساند هذا المشروع، عدم الانجرار وراء الوعود التي تُقطع والصورة الجميلة التي تُصوَّر مزدانة بالحياة والرفاهية والترف. فالإنسانُ العقلانيّ الحرّ لا يرضى بغير أرضِ آبائه وأجداده مستقرًّا في حياته ومماته حيث ترتاح عظامُه بالقرب منهم وتحنّ لهم، ليرقد قريرَ العين.
من هنا، فلا شيءَ غير تحرير الأراضي المستباحة يبقى المطلب الأوحد للنازحين من قراهم وبلداتهم والمطرودين من ديارهم. وإننا ندركُ تمامًا، كمْ من الذمم والنفوسستُباع وتُشترى في أروقة الكنائس والمساجد والمعابد في منطقة السهل. كما ندرك تمامًا، حجم التخرّصات الكثيرة والسفاهات المتنوعة التي ستشكّلها أحزابٌ وكتلٌ وتنظيماتٌ وعشائر لوضع العراقيل أمام تحقيق حرّية مناطق السهل وبلداته بعيدًا عن تجاذبات الزعامات والحكومات المتنفذة من جميع الجهات ذات المصلحة بالإبقاء على تبعية المنطقة، كلّ تحت مطرقتها، بسببتعدّدالأديان والإتنيات والمذاهب واختلاف توجهاتها الفكرية والعقائدية والعشائرية وتباين ولائها لأولياء النعم والجهات المنتفعة منها محلّيًا وإقليميًا ودوليًّا.
إنّي أعتقد بإمكانية التفاهم بين الجماعات المختلفة في مناطق السهل، بسببٍ من كون غالبيتِها ذاتَ توجهاتٍ سلمية في نهج حياتها ولا تنزع لأعمال العنف والكراهية والتمييزفي مفردات عقيدتها وإيمانها وتوجهاتها. أمّا تلكَ التي يُشكُّ بنزعتها إلى شيءٍ من النهج الطائفيّ بسببٍ من دعمها إقليميًا ودينيًا وطائفيًا، فيمكن معالجتُه في حينها بالطرق السلمية والحوار كي لا تتقاطع مفرداتُها ومعتقداتُها وشعائرُها وأشكالُ تراثها وتنوّع لغاتها وسائر خصوصياتها مع غيرها في المناطق التي تعيشُ فيها متضامنة ومتكافلة تاريخيًا.
إنَّ القوانين والمعاهدات الدولية تجيز للمجتمع الدوليّ اتخاذ قرارٍ لصالح جماعة أو شعوبٍ مضطهَدة من أجل حمياتها من شرّ أعمال العنف والتمييز التي تستهدفُ كيانَها وهويتَها ووجودَها كشعوبٍ أصيلة. ثمّ إنالدستور العراقيّ يجيزُ تشكيل إدارات ذاتية الحكم، في حالة كون هذا المطمح ذا منفعة للمنطقة وأهلِها بشروطٍ ووقائع لا تتناقض مع الثوابت الوطنية التي لا نرغب التجاوز عليها من أجل رأب الصدع بين مكوّنات النسيج الاجتماعي الذي مزّقته السياسة الطائفية بدعمٍ من قوى خارجية لا يطيبُ لها استقرار العراق وأهلَه والاستفادة من ثرواتِه الغزيرة لصالحهم وليسَ لغيرهم.

خيبةٌ من الأحزاب
لقد خاب ظنُّ العراقيين بالقائم من الأحزاب الهزيلة على الساحة العراقية التي تغلّفت بجلابيب غير وطنية، ومنها أحزاب المكوّنات الصغيرة، المسيحية منها والإيزيديةوالصابئية والشبكية والتركمانية وغيرها، بسبب من تبعيتها لأحزاب كبيرة ذات نفوذ استقطابيّ. فالمثلّث السنّي- الشيعيّ -الكرديّ ما زالَ محتكرًا للسلطة وغير عابئٍ بحقوق الأقليات الأصيلة ووجودها ضمن المنظومة الوطنية التي لا يعترف بها هذا المثلّث الذي بتصرّفاتِه وأنانيّتِه مزّقَ نسيجَ الوطن وجزّأ أرضَه وسماءه وماءه بحسب هواه ومصالح مكوّناته المتصارعة الثلاث على الجاه والمال والسلطة.وهذا ما دفَع أحزابًا محسوبة على جماعات الأقليات كي تكون صوتًا خانعًا لأحزاب هذا المثلّث وتدافعُ عن برامجها الاستعلائية التي لا تخدم الوطنولا أبناء الأقليات ولا تلبّي طموحاتهم.
إنّه وبسبب ضبابية الرؤية واختلاط الأوراق، برزت مؤخرًا، أصواتٌ ناشزة تنادي بفصل عنصريّ بين أبناء منطقة سهل نينوى بحجة استحالة العيش المشترك بين مواطني هذه الأقليات. إنّ هذه النظرة القاصرة، هي بحدّ ذاتها ما يريدُه الأعداء وما تسعى إليه قوى الشرّ بتجزئة البلاد وفق منظور دينيّ وطائفيّ ومذهبيّ.لذا نرى شيئًا من الاستهجان وعدم وضوح الرؤية لدى نفرٍ مغالٍ ممّن تسوّلُ له نفسُه المطالبة بكيان طائفيّ أو قوميّ منفصلٍ عن غيرِه في السهل، متعذّرًا باستحالة عيش المسيحيّ مع الإيزيدي أو الشبكي أو التركماني أو العربيّ أو الكرديّ أو الكاكائيّ أو الصابئيّ وهكذا مع سائر المكوّنات التي تشكلُها حديقة العراق الكبيرة التي تسعُ الجميع وترحبُ بكلّ وطنيّ يحمل في فكرِه وعقلِه وروحِه منهج المواطنة والاعتدال والتكافل والتعايش المشترك. وهذا الأخير، هو ما ينبغي السعيُلبنائه من جديد ضمن أسس الدولة المدنية التي نسعى جميعًا ونطمح لتشكيلها بعد مرورنا بمآسي العنف والقتل والتهجير. كما أنّ افتقار سياسيّينا وحتى بعضٍ من مرجعيّاتنا الدينية إلى روح المواطنة الصادقة ورفضهم للنزعة الطائفية والمذهبية المتعششة في كياناتهم ونبذهم علنًاللعنف القائم، هي من بين الأسباب التي تحول دون حصول المواطن على استحقاقاته الوطنية كاملة.
نأمل أن تعيد الحكومة الجديدة التي تُشكل خلال الساعات القليلة القادمة، النظر في حسابات العراق القائمة ويكون لها الشجاعة الكافية لرفض كلّ التوجهات الطائفية اللّاوطنية وتعيد صياغة برنامجها الوطنيّ مع المستجدّات على الساحة، كي لا تسنح لأعداء العراق فرصةً للنيل من أرضه وشعبِه ومكتسباتِه بالسير نحو دولة مدنية متحضّرة ديمقراطية. فالعراق ٍ باقٍ، أمّا حكّامُه والمتلاعبون بمصيره، فسيُحاسبُهم التاريخ ويلفضُهم الشعب عندما يعود إلى رشده الوطنيّ.

لويس إقليمس
 في 8 أيلول 2014




321
رسالة عاجلة إلى الرؤساء الروحيين والدينيّين المسيحيّين في العراق والشرق
"التساؤل مشروع والتساهل ممنوع"

لويس إقليمس

ألسادة الأجلاّء، أيّدَ الربُّ مسعاكم وسدّدَ خطاكُم وأفرجَ عن ضناكُم

كلّما تقرّبَ الراعي الصالح من رعيّته، والتصقَ بحياتهم اليومية الروحية والمدنية، وشاركهم أفراخَهم وأحزانَهم، همومَهم ومآسيَهم، وخفّفَ من وطأة آلامهم ومصائبهم، وساهمَ بحلّ جزئيّاتٍ من تلك الهموم والمشاكل والكوارث، كانت يدُ الربّ عليه وعلى رعيّته. وإنْ غادرَها وتركها فريسة للمجهول وللذئاب الخاطفة تنهشَ بأجسامها المقدّسة، فهو كمَن ائتمنَه ربُّه على وديعة وخان الأمانة ودفنَ الوزنات ولم يتاجر بها.
 أسوق هذا الكلام، ليس للنقد، لأجل النقد فحسب، ولا لأنقلَ مآسي شعوبٍ مضطهّدة تفترش الأرض ولا تحظى بحياة آدمية منذ ما ألمَّ بها من طردٍ وتهجيرٍ ونزوحٍ قسريّ من بلداتها وبيوتها بعد سيطرة عصابات دولة ما يُسمّى بالخلافة الإسلامية على مناطق تواجد أبناء الأقليات الدينية والإتنية المختلفة بسبب آيديولوجية هذه الجماعات المتطرّفة التي تعيث اليوم في أرض الله فسادًا، ما طالَ لها ذلك. فأنتم أدرى بمآسي هذه الشعوب التي تفقدتّموها واطّلعتم على أحوالها الكارثية بأمّ أعينكم وعاينتم جوانب من مآسيها وطلباتها وأمنياتها، حتى المتقاطعة مع ما تضمرونه في حناياكم وطيّات أساريركم التي نتفهّم جزءًا كبيرًا منها.
السادة الأجلاّء،
 لم تعد رعاياكم، هي هي كما كانت بالأمس. فالعولمة قد أيقظت عقولاً وفتحت عيونًا وهيّجت شجونًا، فتفاعلَ معها الناس على اختلاف أجناسهم وطباعهم وأفكارهم. قد يكون من بين الرعايا، مَن ما زالَ غافلاً ويعيش سباتَ الإيمان التقليديّ التعبّدي والتقويّ الذي يلجمُ أيَّ تجربة لمخالفة الرأي المتعارَف عليه في دينِه وإيمانه وسلوك حياتِه التقليدية، إيمانًا منه بحكمة الخالق في جعلِه يراهن على أولياء دينِه وانطلاقًا من أنَّ أيَّ خروجٍ عن سور الطاعة لهم هو من قبيل الخروج عن الدينِ والإيمانِ، ومِن ثمَّ يكون في عداد العاقّين والخارجين عن طوع هذا الدّين وهذا الإيمان وما سواها. فيما تظهر طبقة ثانية ترفض مثل هذا السلوك الذي لم يعد صالحًا مع تطوّر الزمن وأدواته ومفاعيلِه بكلّ هموم العالم وشجونه. هُمْ نخبة، لم تعد تسمح بصمّ الآذان وكمّ الأفواه وترضى بالقائم الموجود في تسيير العباد كالخراف المطيعة التي تُساق للذبح، أو التي تخشى أن تنبس ببنت شفة حتّى لو كان الدرب الذي يسلكُه راعيها وساديها طريقًا فيه مطبّات وإرهاصات ومنغّصات ما شاء عالمُ اليوم. هذه النخبة من الرعايا المثقفة بدأت بالنضوج الذي لم يكتمل بعد، وهي قادرة إن هي عقدت العزمَ واستقلّت في الرأي وسلوك المسيرة الواعية على تمييز المفيد من الضارّ والجيّد من غيرِه. ما يعوزُها فقط، توجيهات أبوية حانية وتشجيعاتٌ أخوية صادقة كي تسلك الطريق الصحيح وتختار المفيد في حياتها التي تعيشها مرّة واحدة، ولا تعرف إنْ هي ستستعيد شيئًا من حياتها الأرضية حينما تنفصل الروح عن الجسد الذي يندثر هو الآخر، ويزول ولا تبقى له قائمة ولا أثر، ليعود ترابًا ليسَ فيه شأنٌ ولا هيكلٌ ولا ذكرٌ.
سادتي الأجلاّء،
لستُ بصدد النقل لكم أنَّ واقع حال اليوم، مختلف عمّا كان عليه منقبل فحسب، وبالذات قبل تعرّض أهلنا وأحبائنا وأبناء جلداتنا لمصير الطرد والتشريد والعيش المذلّ في أرضٍ غريبة وبين نفرٍ من ناسٍ زادوا في إذلالهم وأمعنوا في احتقارهم وتفرّجوا على مهانتهم وحالهم ومآلهم، وهم لا يستحقون كل هذا وذاك. لم يعدْ أبناء رعاياكم قطعانًا لا تعي ولا تفهم ولا تبصر ما يجري خلف الكواليس من مؤامرات ودسائس وعقد صفقات ومساومات تزيد من تهميشهم وتبعدهم عن نيل ما يستحقونه من حقوق متساوية وعادلة، شأنُهم في ذلك شأن سائر العباد في الأرض التي منحوها فكرَهم وجهدَهم وعلمَهم، فكانوا فيها سادةً وليسَ عبيدًا، لأنّهم ناقلو حضارة وبناة بلدان ومدن ومانحو علومٍ لغيرهم من الشعوب والأمم. فهُمْ باختصار أصلاءُ ويستحقون ما تعنيه الأصالة في حياة الإنسانية وما تحويه بطون المواثيق والمعاهدات الدولية لصالحهم قبل غيرهم. أمّا أنْ يجري بيعُهم وشراؤُهم بمثل ما حصل منذ ظهور عصابات دولة الخلافة، سواءً من جانب العرب أو الكرد المتلاعبين بمصيرهم، كلٌّ على طريقته الخاصة، فهذا هراء، بل خيانةٌ للثقة وكسرٌ للمصداقية، ما لا يمكن القبول به.
 كما لا يمكن القبول بسكوتكم أو مواربتكم أو تقليلكم من شأن حقيقة الفاعلين الحقيقيّين الذين يقفون وراء منفّذي هذا المخطَّط الشيطانيّ الكبير، ولا عن أوجه التبريرات التي قدّمتها الجهات التي تاجرت بمصيرهم وأنهتْ مستقبلهم ونقلتهم إلى العدم بهذه الطريقة المهينة والمتخاذلة والقذرة التي لا يستطيع تقبّلها حتى ذو العقل السطحيّ وغير المتمعّن بما يدور حواليه. أن يُقتلع الإنسانُ من أرضه وتُنزع عنه دارُه وتُنتهك حرماتُه، فهذا يعني نهايةُ حياته وخسارة شقاء عمرِه وقلعه من جذورِه، التي إن التحق بغير جذور أرضه قد لا يثمرُ ذات الثمر الذي كان له في بلده!
إسمحوا لي القول، أنّ تصديقَكم للتبريرات التي سيقت من قيادات بالمنطقة حول تسليم بلدات سهل نينوى إلى عصابات بربرية متطرّفة لم تنطلي على أصحاب الفكر المتنوّر والمثقفين والواعين من أبناء المنطقة. فاللبيب من الإشارة يفهم! إنْ ذلك سوى الضحك على ذقون البسطاء من المؤمنين وسطحيّي الفكر ممّن لا يعرفون قراءة التاريخ والجغرافيا وسلوك السياسة المخادعة. بالمقابل، فإنَّ طريقة تفسيركم لما جرى إلى رعاياكم، اعتمادًا على ما سمعتموه من قيادات عليا في الإقليم ومن قيادات دكاكين الأحزاب المسيحية بالذات والديانات الأخرى وما سواها، ومحاولة إقناع أتباعكم بمثل تلك التبريرات السطحية التي لا ترقى للحقيقة والتي قُدّمت لكم أثناء زيارتكم التفقدّية التاريخية في وقت سابق من آب الجاري للنازحين، ومعايشتكم لهموم ومآسي آلاف البشر الذين يعيشون في ظروف مأساوية غير آدميّة، هذه كلّها قد هزّت ذوي الضمائر الحيّة وأيقظت الشعور بالخذلان والخديعة وخيبة الأمل والإخفاق في معاينة ما حصل وما نُسج من خلف الكواليس من مؤامرات وما حيك من دسائس من أجل الوصول إلى هذه الحالة وهذا الوضع الذي فقد بسببه المواطنُ بيتَه ومالَه وحلالَه وجزءً من شعورِه بالانتماء المواطنيّ والوطنيّ بهذه الطريقة القذرة. فقد تحوّلَ بسبب هذه الخديعة الواضحة إلى متشرّد ينشد المأوى فلا يجدُه، والمأكلَ ليلقاهُ بذلّة، والماءَ ليغتسل أو يشربَ بتقنينٍ، والدواء فلا مَن يعالجُه. حتى النساء هناكَ مِنْ ولدنَ في ساحات عامة وحدائق. يا للعار!أمّا الدفنُ لمَن سُلبتْ منه الحياة، فقد صارَ فريسةً للحيوانات البرّية أو ضحية جاهزة لطيور السماء تنهش في لحمه، وهو المخلوق مقدّسًا على صورة الله ومثاله! أيةُ معادلة هذه التي تنتقص من قداسة الإنسان، خليقة الله وأداته التمجيدية الناطقة! بعد كلّ هذا، هل تصدّقون ما سيق من تبريرات وما تزالون تقفون إلى جانب الباطل ضدّ الحق الذي يُفترض بكم الدفاع عنه أكثر من غيركم؟
إنّي أدعوكم إلى سداد الحكمة وقول كلمة الحق بوجه كلّ مخادع وكلّ متاجر بحقوق وعقول وممتلكات أبناء الأقليات، التي استُخدمتْ أكثر من غيرها في سوق السياسة العراقية الداخلية والدبلوماسية الإقليمية والدولية وحتى من قبل المنظمات الدولية. فقد طفح الكيلُ وبلغ السيلُ الزبى، كما قالها غيري من قبلُ. آن أوان العمل والفعل الناجز لتحقيق أماني ورغبات المؤمنين في ما يرتأونه ونرتأيه مناسبًا للمرحلة الآنيّة، بفضل المكانة البارزة التي يتمتع بها غالبيتُكم في المحافل الاوربية والدولية والدور الذي يمكن أن تلعبوه من دون مجاملة أحد عندما يكون هدفُكم الاسراع بإنهاء معاناة آلاف الأسر النازحة التي أضحت بلا مأوى، سيّما وأنَّ الشتاء على الأبواب، وما أدراكم ما الشتاء في شمال العراق!
من هنا أدعوكم للعمل الفوريّ بالآتي من المقترحات في أدناه، كي تثبتوا حقًّا رعايتكم لخرافكم وأبنائكم، بعيدًا عن الانحياز لجهات قد تكون زادت من إكرامكم والإنعام عليكم بهدف القبول بأجندتها الخاصة على حساب شعبكم المسيحيّ المضطَهَد مع جموع الشعوب الأخرى المهمّشة من الأقليات الدينية والعرقية التي ما تزال عرضةً للعرض والطلب في سوق السياسة العراقية، بالرغم من إدراك الجميع أن المحاصصة الطائفية هي الشرّ الأكبر في البلاد، وأن المواطنة وحدها ولا شيءَ سواها، هي المعوّل عليه في بناء الوطن والمواطن. ولو تذكرنا التاريخ الذي لم ينصفْ شعبَنا المسيحي على سبيل المثال، والوعود التي قطعها الإنكليز لتحقيق الحكم الذاتيّ للآشوريّين بعد الحرب العالمية الأولى وما لحق ذلك من نكوص بالعلاقة ومن مذابح بحقهم على أيدي القائد الكرديّ بكر صدقي في 1936، لاكتشفنا من دون شكّ أنّ التاريخ يعيد نفسَه، وأنّ البطولة تُمنح دومًا للجلاّد.
في السطور القادمة، شيءٌ من أماني ومطالب الناس، توضع أمانةً في رقابكم، وأنتم تتولّون الملف وتجوبون دول العالم وتلتقون المنظمات وزعماء الدول وتعرضون حجم المأساة، ومنها لقاءاتكم في دولة الشرّ أميركا، كما هو مرتقَب. حبّذا لو كشفتم عن السرّ الذي عرفتموه أو تعرفونه والجهة التي تسبّبت بهذه المأساة، أملاً بوضع النقاط على الحروف وإزالة دواعي الفاعل والمنفّذ معًا، حتى لو كانَ هذا مرغَمًا على فعل الخيانة، داخلية كانت أم خارجية، ما أدّى بالنتيجة إلى ىسيطرة الإرهابيين من دولة الخلافة الإسلامية على الأراضي الطاهرة لبلداتنا وتدنيس بيوتنا وتشريد أهلنا من مدنهم ومجمعاتهم وقراهم ودفعهم إلى المجهول والإقامة في الساحات والحدائق العامة والقاعات التي تكدّسوا فيها، إلى جانب قتل الآلاف منهم والاستيلاء على ممتلكاتهم والتبرير بجواز استحلال أعراضهم وسبي نسائهم وبيعهنّ في سوق النخاسة في عودة إلى  الزمن الغابر، زمن الجاهلية والتخلّف.
 وإنّي أتساءل: أهو عصر صراع الآلهة يعود بنا إلى ما قبل التاريخ، لنجد مَن عرفناه خالقَ الكون الواحد ملطخًا أياديه بالدماء ومتجسّدًا بالرايات السود للقتل والدمار والموت؟ إلهُنا الذي نعرفُه، هو إله الحق والمحبة والحياة، إله الرحمة والتسامح والرجاء بصفحة بيضاء ناصعة وطاهرة ويحب كلّ الألوان الزاهية ما عدا حاملات السواد، دلائل القتل والموت والدمار وأدواتُها الشرّيرة. فمِن أينَ جيء بهذا الإله الغريب على كوننا وشعوبنا وبلداننا وحضاراتنا؟

خلاصة المطالب:
سادتي الأجلاّء،
بين أياديكم الكريمة، أضع جملةً مقترحات ممّا جادت به قرائحُ أبنائكم ومثقفيهم ومفكّريهم، تنفع في عرض الكارثة التي ألمّت بشعبنا المسيحي ومعنا سائر الشعوب المضطَهَدة من الأقليات الدينية والإتنية في العراق الجريح، من أجل مطالبة الجهات التي ستقصدونها في لقاءاتكم المرتقبة القريبة مع أصحاب القرار من الدول العظمى وتلك المعنية مباشرة بالمأساة.
1-   مطالبة القوى العظمى ومعها المجتمع الدوليّ عبر المنظمة الدولية، بإصدار قرار تنفيذيّ يلزم الأطراف المعنية بتشكيل تحالف لمحاربة العصابات المتشدّدة والمنظمات الإرهابية المتطرّفة، ليس في العراق فحسب، بل في كلّ دول العالم، حيث تتواجد خلاياها وحواضنُها، وحملُ هذه الجهات على طرد عصابات ما يٌسمّى بدولة الخلافة الإسلامية في كلّ من سوريا والعراق والسماح بعودة سريعة للمهجَّرين والمشرَّدين والنازحين إلى منازلهم وقراهم ومناطقهم التاريخية. إنَّ إطالة هذه المأساة، يعني تكريس الوضع القائم والاعتراف بكيان مسخٍ شاء أن يشكّل دولةً من شيءٍ ليس من حقِّه ولا من ملكِه. وهذا بحدّ ذاته اغتصابٌ لحقوق الغير الذي ترفضُه شرعة حقوق الإنسان التي أصدرتها القوى العظمى واعترفت بها سائر الدول.
2-   العمل بإلحاح لدى حكومتي المركز والإقليم لبدء عملية عسكرية فورية بدعم دوليّ لطرد عصابات دولة الخلافة الإسلامية التي سيطرت على مناطق تواجد أبناء الأقليات الأصيلة المستضعفة، لأنّهما وحدهما تتحمّلان وصول الأوضاع إلى هذه الكارثة الإنسانية الناجمة عن الاختلاف في الرؤى السياسية والمنهجية الدينية والإتنية والمذهبية. إنّ هذه الكارثة قد حصلت نتيجة الانسحاب المخيّب للقوات الكردية التي كانت قد احتلّت مناطق الأقليات في سهل نينوى منذ 2003، بالرغم منَ وعودٍ كاذبة ومخادعة قطعتها مرارًا للمسؤولين الروحيين والدّينيين في وقت سابق للانسحاب المشبوه.
3-   تعويض الأهالي عمّا فقدوه من خسائر معنوية ونفسية وماديّة من خزينة الدولة وإدراج ذلك في موازنة الدولة وتنظيمه بقانون وعدم تسويف المسألة والضحك على الذقون.
4-   محاسبة كلّ مَن ساهم وآزرَ ودعمَ هذه العصابات بشدّة ودون هوادة، حتى لو طالت شخصيات حزبية ودينية ومذهبية وسياسية مشاركة في الحكومة أو مموّليها من الخارج.
5-   مطالبة الزعامات والمرجعيات الإسلامية بإصدار فتاوى تحريم قتل الآخر المختلف في الدّين أو المذهب او القومية والتنبيه بأنّ ما تقوم به هذه العصابات خارجٌ عن أخلاقيات الدّين، حتى لو رفعت راية "الله أكبر" و "لا إله إلاّ الله". أليسَ يُقال" وإلهُنا وإلهُكم واحد"؟ فمِن أينَ جيء بهذا الإله الغريب المتشح بالسواد الكئيب؟
6-   مطالبة الهيئة الدولية ومجلس الأمن والحكومات ذات الثقل بالسياسة الدولية، بإنشاء منطقة حماية دولية لأبناء الأقليات والإشراف عليها من قبل قوات الحماية الدولية من أصحاب القبّعات الزرق لمسك الأرض لفترة لحين استقرار الوضع والاطمئنان لزوال الخطر الداهم المهدّد لها من قبل مَن تُسوّلُ له نفسُه الانتقاص من حقوق هذه الأقليات والعبث بأمنهم وسلامتهم وسلامة أملاكهم ومقتنياتهم. كلّ هذا يكون بضمانة دولية.
7-   منح مناطق تواجد الأقليات حكمًا ذاتيًّا أو إدارة محلية بعيدًا عن خيمة أحزاب الإقليم وتدخلات المركز، بها تدير شؤونَها في إطار توافق مناطقّي بين المكوّنات المتعايشة، كلّ في موقعها الجغرافيّ وليس وفق أسسٍ أو اشتراطات دينية أو مذهبية أو طائفية. وبهذا تكون قد ضمنتْ نوعًا من الحكم الذاتيّ والحكم الّلامركزي الذي تحتاجُه البلاد لتخليصها من حكم المركز الجانح إلى دكتاتورية جديدة ومركزية قاهرة أثقلتْ كاهل الدولة والمواطن على السواء.
8-   تشكيل مجلس سياسيّ لكلّ مكوّن من مكوّنات الأقليات، يأخذ على عاتقه متابعة شؤون أبناء الأقلية التي ينتمي إليها باشتراط كون أعضائه من المستقلّين والبعيدين عن الاحتراب الحزبيّ ومِن خارج الدكاكين الحزبية القائمة الموالية لأجندات أحزاب متنفذة ذات مصالح فئوية وإقطاعيّة ضيّقة. وهذا ممكن للمسيحيّين خاصة، بعد التقارب الكنسي المشهود الحاصل مؤخرًا والقاضي بالسعي لضمان مصلحة المسيحيين وتثبيت وجودهم وعودة المهجّرين منهم إلى قراهم التاريخية وعودة ممتلكاتهم المسلوبة إليهم كاملة وغير منقوصة.وقد سبق أن تمّ طرح الموضوع من قبل رئاسة المرجعية المسيحية في العراق وتناوله الكتّاب والمثقفون بشيء من الثقة والأمل والرجاء بإنقاذ ما يمكن إنقاذُه ممّا سيتبقّى من رصيدنا المسيحيّ في أرض الوطن.

سادتي الأجلاّء،
هذه الرسالة أمانة في أعناقكم، فكونوا على قدر المسؤولة التي ائتمنكم الشعب عليها، واقتحموا المحافل الدولية مستخدمين مواقعكم الدينية والروحية، ليس للتفاخر أمام وسائل الإعلام والفضائيات وصفحات الجرائد والمجلاّت، أو للطوفان في المطارات للنزهة وتغيير الهواء، بل للبحث عن أسرع السبل وأنجع الوسائل للضغط على أصحاب القرار للتعجيل بعودة النازحين قبل حلول الشتاء ودرء ما يعنيه ذلك على عموم النازحين، وعليكم أيضًا كرؤساء روحيين ودينيين.
تقبلوا كل احتراماتي

لويس إقليمس
بغداد، في 1 أيلول 2014

322

لويس إقليمس

بموجب الأعراف الدولية، ينبغي أن تنعمَ الأقليات بنوعين من الحقوق: حق وطنيّ يفرضه مفهوم المواطنة والثاني لكونها أقلية ينبغي الحفاظ على كيانها وهويتها من أجل بقائها وتجديد تراثها والتعريف بأصالتها. لكن الأقليات في العراق مهمّشة ومستبعّدة منالمشاركة في المناصب العليا في الدولة، أي في أن تكون شريكًا أساسيًا وندّيًا له حق المنافسة وإبداء الرأي والأخذ بهذا الرأي. كما أنها كانت وماتزال مستهدَفة من جهاتٍ كثيرة، دون أن تتمكّن الحكومات المتعاقبة، سواء قبل الاحتلال الأمريكي في 2003 أو ما بعده. ومن المؤسف أن الغازي الأمريكي، لم يضطلع بواجباته الاحتلالية، كما تفرضه الأعراف والقوانين الدولية، طيلة بقائه متفرّجًا على الحالة المزرية للشعب العراقي، وهو ينهب ثروات البلاد ويفتّت النسيج الاجتماعي بذات الأسلوب الذي مارسه الاستعمار البريطاني في مبدأ " فرّقْ تسدْ"، حينما اتخذ من الطائفية سلاحًا لتقسيم العراق وتشظيته بهدف إفقاده لسرّ قوته بوحدة الشعب والأرض والمواطنة.هناك مَن يطيب له أن يديم تسمية الشعوب الأصيلة في البلد بالأقليات وأحيانًا باستخدام تسمية الجاليات، بسبب الجهل في المصطلحات وما تعنيه كلمة الأقليات، التي لا ينبغي أن تقلّ في مشروعها وأهدافها وحقوقها عن سائر مكوّنات الشعب، بغض النظر عن العدد والإتنية والعرق والدين والمذهب. إنّ هذه التسمية ما يزالُ يُنظرُ إليها بشيء من المهانة والاستصغار، وكأن أتباعَها نفرٌ جانبيٌ أو ثانويٌّ تنقصه مبرّرات الوجود والحق والشراكة في الوطن والأرض والسلطة والثروة، حالها حال سائر أبناء الشعب الذي يتألّف منه عموم الوطن. ومن المؤسف، أنّ الحالة الديمقراطية لم تتضح صورتُها بعد عقد من التغيير الدراميّ، حيث ماتزال هذه المكوّنات الأصيلة من الشعب العراقي، تُعرض في مزاد السياسة والسياسيّين الذين لا يتورّعون باستخدام أتباع هذه "الأقليات"، في مساومات شائنة وفي صفقاتٍ وللاستهلاك السياسيّ داخليًا وخارجيًا. وهذا كلُّه إنْ يكنْ، إلاّ لتجميل الصورة أمام وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية والمحلية، وحسب الحاجة والظرف، أحيانًا لأغراض انتخابية وفي غيرها لصدّ مطالبات بالحقّ بشراكة حقيقية وغير رمزية، وفي أخرى لكسب التأييد للأحزاب السياسية والكتل الكبيرة المتنفذة. 

تمثيل الأقلياتضمن الأعراف الدولية، هناك أطر قانونية وأنظمة وآليات دستورية تضعها بعض الدول لضمان حضور وتمثيل وتواجد المكوّنات القليلة العدد، سواء من السكّان الأصليين أو شعوب "الأقليات". وهذا حق مكفول بموجب هذه الأعراف. كما يتوافق هذا العرف مع قوانين ومواد دستورية تضعها أو تشير إليها دول تنأى بنفسها إقامة أو تواجد ثغرات في أنظمة حكمها، سيّما تلك التي تسعى أن ترتقي إلى مصاف الدول المتحضّرة والمتقدّمة. من هنا، تسعى بعض الأنظمة السياسية إلى منح الأقليات في دولها شيئًا من الامتياز لتعزيز تواجدها وعدم فقدان هذا الحضور الذي من شأن غيابه أو ابتعاده أو انقراضه، أن تكون له آثارٌ سلبية، ما قد يفقده عنصرًا مهمًا في نسيجه الاجتماعيّ العامّ الذي يعتريه الهزال والتأرجح وربّما التفكّك والانهيار.من هنا، يسعى العقلاء ضمن الأنظمة السياسية الديمقراطية، أو تلك التي تنوي السير في طريق الديمقراطية، أن تتغنّى بهذه "الأقليات" وبدورها الوطنيّ والحضاريَ والتراثيّ والثقافيّ والعلميّ من أجل تطوير البلد. ولعلّ مشاريع أشكال الحكم الذاتيّ أو الحكم اللاّمركزي الذي يُثار بين الفينة والفينة وفي ظروف متهالكة أحيانًا، يأتي ضمن هذا السياق في الاعتراف بأهمية هذه الشعوب الأصلية التي قد تسمو هويتُها وقدراتُها الفعلية، الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية والعلمية وما إلى ذلك، إلى جانب استعدادها وتفوّقها على غيرها في هذه وفي غيرها، تأتي متوافقة مع استحقاق هذه "الأقليات" والشعوب لتنعم بإدارة ذاتها، ولو شكليًّا. وما الكوتا التي تخصّصُ لهذه الشعوب أحيانًا، إلاّ اعترافٌ بدورها وحقّها في شراكة حقيقية مع غيرها من الشعوب والأقوام والإتنيات والأديان والمذاهب.ولكن، هناك مزالق عديدة تحاول جهاتٌ كثيرة تفريغ استحقاقات الأقليات من حقوقها. وبموجب الخبرة المتيسرة طيلة السنوات المنصرمة، يأتي تهالك هذا الحق وانتفاء الحاجة إليه، عندما يجري تسييسُه أيضًا لصالح أحزاب وكتل كبيرة متنفذة، هي أشبه بحيتان ضخمة تحاول ابتلاع السمك الصغير المسكين، الذي ما أن يحاول تثبيت أسس كيانه، حتى ينبري "الضخام" للالتفاف عليه وخنقه في مهده. وهذا كلُّه بطبيعة الحال، بسبب الجهل بأسس الديمقراطية وبسبب غياب ثقافة الحرية والاعتراف بالآخر والقبول به شريكًا ندّيًا متساويًا بكامل الحقوق والواجبات، وليس مجرّد عدد صغير أو متاعٍ مهملٍ فاقد الأهمية والوجود والكينونة والقدرة الذاتية.هنا يأتي دور الدول التي تدّعي الديمقراطية وتنادي بحقوق الإنسان كي تقول كلمتَها وتفرضَ رأيها وتعزّز حقوق هذه الشعوب بكلّ الوسائل والسبل والإجراءات المتاحة، عندما تضمّ صوتَها وجهودها إلى تلك التي تسعى إليها منظماتٌ دولية رصينة غير ربحية وغير منحازة. وفي كلّ هذا وذاك، لن تكون هذه الأخيرة قادرة للتحرّك من غير جهود حثيثة ومطالباتٍ متواصلة لأبناء الشعوب الأقلية والأصيلة. وهذه الأخيرة، إن لم تتحرّك بوعي ورويّة وحذر وحكمة وإرادة صلبة مستقلّة، لن يكون بمقدور شعوبها أن تنال مُناها واستحقاقَها وتحقق لأبنائها أحلامَهم بشراكة وطنية و"مواطنية" كاملة وغير منقوصة. وهيهاتِ أن يقع ممثلوها في مصيدة الأحزاب والكتل الكبيرة، الطائفية منها والقومية والدينية. حينذاك، ستفسدُ العجينة كلّها وسيفشل مشروع الحقوق الوطنية والديمقراطية الذي اختمر في مخيّلات أصحاب الفكر والثقافة والناشطين الحقيقيين في صفوف المجتمع المدنيّ من المخيَّرين وغير المسيّرين كي يكونوا تبعيّة خانعة وخاضعة للأكبر والأقوى والأصلف!
عقبات وتحديات:من دون شكّ، قد تبدر هنا وهناك عقبات عديدة، وما أكثرها في عراق اليوم، من شأنها الوقوف حائلاً دون تحقيق الغرض الأسمى بتكوين نسيج اجتماعيّ متآلف يتمتع بكامل الشراكة الوطنية والمواطنية على السواء.فالتطرّف، أيًا كان نوعُه أو منبعُه، هو التحدّي الأكبر أمام كلّ الجهود الخيّرة لتحقيق المساواة والعدالة على أسس وطنية صريحة ومتساوية تخدم الجميع وليس فئة معينة. وما يشهدُ الوطن والمنطقة عمومًا، مِن تنامي المدّ الأصوليّ والتطرّف الطائفيّ المقيت لا يبشّر بخير، إذا لم يتم وضع حدود له وتجفيف منابعه وملاحقة عناصره في الداخل والخارج، لأنه لم يجلب للمواطن والوطن سوى الدمار والألم والخراب. لقد دمّر التطرّف والتشدّد الروحَ السمحاء ورغبة التعايش الأخوي بين أبناء الوطن الواحد الذي كان يتمتع به مجملُ النسيج الاجتماعي العراقي، دون تمييز مناطقيّ أو مذهبيّ أو دينيّ أو عرقيّ. فالعراق، من شمالِه إلى جنوبِه، كان حلالاً متاحًا لوطأة قدمِ الجميع دون خوف أو تردّد أو معوّقات، لأنّه كان وطنًا وبيتًا وخيمةً لجميع العراقيين دون الدخول في التفاصيل التي فرّقتهم اليوم بعد التغيير.هناك الفساد المستشري في كلّ مؤسسات الدولة وفي عناصرها وسلطاتها الثلاث دون استثناء. لقد سرى هذا المرض الخبيث كالسرطان في جسم الوطن، وهو اليوم يتطلب وقفة وطنية عارمة وتكاتفًا مجتمعيًا موحدًا لصدّ الهجمة المدمّرة للأخلاقيات العامة والخاصة من أجل إعادة هيبة القضاء وسيادة العدل في توزيع الثروات ونيل كلّ مواطن حقَّه منها بدلاً من سرقتها بأشكالٍ وطرق ملتوية. ما يُؤسف له أنّ بعضًا ممَّن أقامتهُم الدولة وأوكلتْ إليهم أمرَ القضاء على العناصر الفاسدة فيه وملاحقة مروّجيه، هم العقبة الكأداء للخلاص والحدّ منه. وهذا أمرٌ معيبٌ، لا يقبلُه المنطق والعقل السليم.أمّا المحاصصة الطائفية التي أتى بها الساسة الجدد بعد 2003 بدعمٍ من الغازي الأمريكي وبتحريضٍ ورعاية من دول الجوار وأخرى إقليمية، فلا بدّ أن ينتهي مشوارُها المضلِّل لتحلّ بدلَها ثقافة الشراكة الوطنية العادلة التي تضع الرجل المناسب في المكان المناسب، اعتمادًا على الكفاءة والوطنية والاستعداد للخدمة العامة وتسخير الجهود لتنمية الوطن وتطوير المواطن والأخذ بطموحاته في حياة حرّة كريمة. إنّ هذه النقطة، تحتاج لجهود كلّ الطيبين والخيّرين من محبّي الوطن الذين يضعون نصبَ أعينهم المصلحة العامة قبل المصالح الخاصة الضيقة، الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية وغيرها. وهي ذاتُها التي تقف حجرعثرة أمام نيل جميع الشعوب والقوميات في العراق كاملَ حقوقها حين يتمّ تهميشُها بسبب أعدادها المتناقصة، ما يحرمُها من الوصول إلى هذه الحقوق المنقوصة.تَواصلُ أعمال العنف بسبب غياب المفاهيم الوطنية والمعايير اللازمة لبناء دولة المؤسسات الموحدة، هو الآخر يقف حائلاً أمام استحقاقات مواطنيّة لكلّ الشرائح. ومن المؤسف لجوء السياسيّين ومعهم مَن يدّعي تمثيل قوميّته ومذهبه إلى خارج الحدود في أخذ الأوامر حول كيفية معالجة مواضيع ومشاكل وطنية تحتاج إلى رصّ الصفوف الداخلية وليس إلى زيادة الهوّة بين أطياف الشعب الواحد. إن الجميع يدرك ويعي أن مايحصل مِن أعمال عنف طائفية، هوفتنة يُراد بها إبقاء النسيج الاجتماعي مفكّكًا إلى ماشاء القدَر، وهذا ما تعترف به الكتل السياسية نفسُها. مِن هنا، ففي حسابات اليوم، أصبح الكلّ ضدّ الكلّ. وهذه مأساة شعب بكامله، في غياب المفهوم الوطني والحوار الحضاري والشراكة المبنية على مصلحة الدولة العليا قبل المصلحة الدينية والمذهبية والعرقية الضيقة!  وهنا يجدر الذكر، أنّه إذا كان العنف قد ضرب الجميع دون استثناء، إلاّأنّه كان أشدّ وقعًا على "الأقليات" بسبب صراع القوى الرئيسة على المال والجاه والسلطة وترك هذه المكوّنات المقهورة أسيرةَ مصالح الكتل الكبيرة الطامعة.

الحوار خير السبل لتحقيق الطموحات المشروعةإن مشاكل البشر المتنوعة والمتشعبة والمتنامية، لا يمكن حلُّها اليوم إلاّ بالإنصات للآخر واحترام رأيه والقبول به كيفما هو وليس كما يرغب البعض أن يفصّله على مقاسه ووفق أجندته ونظرته القاصرة التي لا تؤمن بوجود الآخر. هذا المفهوم الإقصائيّ، لم يعد له مكانٌ في عالم متحضّر انتقل من سبات الظلمات الضيقة والأفكار غير الناضجة إلى عالمٍ جديد كسته العولمة بحلّة جديدة عندما فتحت الأبواب مشرعةً أمام الجميع للعمل والإبداع والتطوير والتنمية، كلّ حسب إبداعاته، بالرغم ما للعولمة من سلبياتٍ على روحية الإنسان وفكرِه وتشعبات طموحاته التي تزيغ أحيانًا عن المعقول. فصاحب الفكر الهزيل وفاقد الإبداع والرؤية الناضجة لم يعد له مكانٌ في عالم العولمة الجديد والتكنلوجيا المتسارعة التطوّر.من هنا تأتي أهمية الحوار المتواصل بين الفرقاء والمختلفين وبين الأسوياء والمتفاهمين على السواء. فالحوار حالةٌ إيجابية وقوّة فاعلة في نقل العالم من حالة كسادٍ إلى حالة نشاطٍ في كل ميادين الحياة.إنالحوار ثقافة متطورة لها القدرة على إنقاذ العالم المتهالك من حاله السيّء إلى حالة إيجابية، يكون فيها الإنسان في أعلى مراحل الاحترام التي يستحقّها، وذلك لسببٍ بسيط، لكونه مخلوقًا آدميًّا، خلقه الله جميلاً على صورته ومثاله. لذا، فهو يستحق حياة سعيدة وصالحة وهانئة، تمامًا كما سبق أن خُلق قبلنا أبوانا الأولان آدم وحوّاء ووضعهما الخالق في الفردوس ليعيشا ويكثرا وينميا ويمجّدا الله سبحانه وتعالى عبر الخلائق المتنوعة والمختلفة التي هي غنى وليسَ فقرًا وخلافًا ومشكلةً.اليوم منطقة الشرق الأوسط تغلي على طبق ساخن، والعراق جزءٌ مهمّ في حسابات دول المنطقة والعالم. والسياسيون بحسب ولاءاتهم، هم الذين يعكسون صورة هذا الغليان غير المبرّر. فهُمْ، إنأرادوا وعقدوا النيات الطيبة، قادرون على إخماد الفتن وتوحيد الصفوف ضدّ التطرّف والتخريب والعنف والفساد والهجمة الشرسة للتنظيمات المسلحة الدخيلة. فالّله لم يضع لهم عقولاً للتخريب والتدمير، بل للبناء وصنع الخير والتفاهم مع بعضهم البعض، كلٌّ في مجتمعه وفي بلده ومع غيرهم من الأمم والشعوب.يمكن أن نعيد إلى الأذهان، أنه على صعيد الحوار، بادرت في وقت سابق، بعض المرجعيات الدينية المسلمة والمسيحية وأديان غيرُها متعايشة في العراق، للتنادي وعقد العزم على تشجيع الحوار ووضعِ حدّ لحالة العنف المستشري الذي ضرب أطنابَه في عموم أوساط الشعب العراقي. ونأمل من اللجنة المنبثقة عن هذا الحوار أن تقوم بدورها الوطني والإرشاديّ وتُنعش اتصالاتها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البلاد، كي تأتي بثمارها وسط الأمواج العاتية التي اكتسحت الأرض والماء والهواء والثروات، والأنكى من ذلك، الفكر والذهنية والرؤية المجتمعية المتعايشة التي تراجعت بعد السقوط. كما أننا نأمل، أن نزيح معًا، طاغوت التهجير القسريّ وعمليات النزوح الواسعة القائمة حاليًّا  بسبب الاختلاف في الدين والمذهب والعرق والطائفة، وأن يعود العراقيون كما كان نسيجُهم متعايشًا ومتآلفا ومتناسقًا وموحدًا لمواجهة كلِّ طامعٍ شرّير، بعد إنهاء وجود التنظيمات المسلحة القادمة من خارج الوطن، وطردها من المناطق التي سيطرت عليها ضمن مناطق تواجد الأقليات الأصيلة التي تم احتلالُها ظلمًا وقهرًا. هذا إلى جانب، وضع حدّ للهجرة المتنامية والمتواصلة، ولاسيّما من جانب أبناء المكوّنات القليلة العدد، أي الأقليات التي تشعر بالغبن والتهميش والإساءة إليها من جانب المتنفذين في الكتل السياسية الكبيرة المتمثلة بالمثلث "السنّي- الشيعيّ- الكرديّ"، المتصارع على الجاه والمال والسلطة. فالأقليات هي الأكثر تضرّرًا من هذه الأحداث السلبية المتلاحقة. والدليل على ذلك، ما حصل في المحافظات الساخنة، لاسيّما في نينوى، التي تحتضن مكوّنات أصيلة من هذه الأقليات المضطَهَدة التي تعرّضت لأشرس ضربة بطردها من دورها ومناطقها وبلداتها من قبل عناصر دولة الخلافة الإسلامية. ففقدت بذلك مساكنَها وحلالَها وأملاكَها وكلَّ مقتنياتها، ما جعلّها في خانة التشرّد لأمدٍ غير معروف. وإذا خلا الوطن منها، سيمنى حينئذٍ، بحالة إحباطٍ اجتماعيّ، ولن يكون له سوى لونٍ باهتٍ يعسر النظر إليه ولا يطيب رؤياه، لأنه سيكون حينذاك بلون واحد متعب وشاحب. وبالعكس، لو تحققالعدلوالمساواةللجميع، فإنّه سيكون للعراق نقلة مشجعة للبناء والتنمية والتطوير وإعادة إبراز دوره الحضاريّ.وبخصوص الهجرة المستمرّة، فقد قرعت بعض الأطياف الوطنية الأصيلة أجراس الخطر والإنذار بالنكبة، منذ فترة. وهذا وحده كافٍ لاتخاذ الساسة والمراجع الدينية بمختلف أديانها ومذاهبها، خطوات حاسمة لوقف نزيف الهجرة والعمل على عودة النازحين والمغتربين إلى أرض الوطن بعد استتباب الأمن والطمأنينة فيه، حينما تتبع الدولة منهاجًا وطنيًا واضح المعالم في قيادتها وسياستها، وبوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بالاعتماد على كفاءته وقدراته في خدمة الوطن والمواطن. كما يترتب على الدول الغربية التي تشجّع تفريغ العراق والمنطقة من بعض مكوّناتها الأصيلة، ولاسيّما المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين والنخب من المثقفين والمهنيّين من سائر الأطياف الأخرى، سواء من الأغلبية القومية أو الأٌقلية، على السواء، أن تكفّ عن هذه الألاعيب، إذ لايمكن القبول بهذه السياسة الخرقاء التي تسعى لإفراغ البلاد من مواطنيها وكفاءاتها. وهنا، يترتب على المجتمع الدولي عوض ذلك، أن يقوم بما يملي عليه الواجب الآنيّ بتخليص البلاد من العصابات الإسلامية المسلحة التي اجتاحت مناطق واسعة وفرضت قوانينها الخاصة الغريبة عن روحيّة وذهنيّة أطياف النسيج الاجتماعيّ التقليديّ المتعارَف إلى جانب ممارسته ضغوطًاعلى السياسيين كي ينصفوا الأقليات ويدخلوهم في العملية السياسية بشراكة شريفة كمواطنين متساوين مع أعضاء المكوّنات الكبيرةالحاكمة وأن يحدّوا من عمليات العنف المستمرّة التي تستهدفهم.هنا أيضًا، يأتي دور منظمات المجتمع المدني التي ينبغي أن تلعب دورها، بالعمل جاهدة لزرع بذورالمحبة والتآلف والتعايش بين أطياف الشعب المختلفة دون تمييز. جميلٌ أن تتضامنَ فئات من الشعب العراقي مع آلام ومآسي مئات آلاف النازحين من عموم محافظة نينوى ومحافظات أخرى ضربتها أيادي الحمقى من المتشددين الأغراب وعصاباتهم التي لا تعرف غير ثقافة الموت والقتل والذبح والعنف والسبي والاغتصاب والبحث عن أنواع متع النكاح سبيلاً للحياة. والمؤلم أن ينضمّ إلى هذه العصابات مواطنون كانوا بالأمس جيرانًا وإخوة وزملاء وأصدقاء لهؤلاء النازحين. والأنكى من ذلك كلّه، أن يشارك نفرٌ من هؤلاء الرعاع في نهب وسلب وتحطيم واغتصاب منازل وأملاك ومقتنيات مواطنيهم بعد عِشرة عمر وتعايش سنين ومقاسمة الخبز والماء والدم معًا. وَيا لها من خيانة عظمى ومن دناوة أخلاق وحقارة آداب، بعدَ أن ظهر هؤلاء بهذه الأعمال الدنيئة عل حقيقة مجتمعهم وأخلاقيات عوائلهم وضحالة شخصيتهم. وللتذكيرأيضًا، أنّ خطرالميليشيات الطائفية المتزايدة في البلاد باطّراد، قد تشكّل هي الأخرى عائقًا أمام سعي الدولة الجادّ لبسط سيطرتها على حالة الفوضى القائمة. ولا شيءَ غير مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية المتعددة المتسمة بالعقيدة العسكرية الصحيحة، بإمكانها فرض الأمن والاستقرار وحماية المواطن من كلّ مكروه أو عدوّ أو مخرّب أو سارق أو عابث بأمنه وسلامته. نأمل أن تكون الحكومة القادمة قادرة علىتغيير الاستراتيجية المتبعة منذ ثمان سنوات والتي أثبتت فشلَها بامتياز في رسم الخطط واتخاذ الإجراءات الصحيحة الكفيلة بتحقيق الأمن والأمان في كلّ أرجاء البلاد، بما فيها المناطق الساخنة.
أمل ورجاء!نحن  اليوم، بحاجة لإحداث تغييرفي الفكر والرؤية والإنسانية والبعد الوطني الذي يحفظ وحدةالدولة العراقية لتكون دولة مدنية متقدمة ترفل بالحرية والديمقراطية والمساواة والإخاء وتصون كرامة وحقوق الجميع دون تمييز ضدّ أحد. وهذا ليس قائمًا معا لفوضى السياسية الحالية والتوجه الطائفي المرفوض وفقدان الأمن والخدمات ونقص فرص العمل رغم خيرات البلد الكثيرة.دعوتي ومناشدتي للدول المتورطة في إبقاء أوضاع العراق غير مستقرّة ومرتبكة، أقول: إذا كانوا مؤمنين وجادّين بتطبيق شرعة حقوق الإنسان، عليهمأن يكفّوا التدخلَ في شؤوننا الداخلية، ويساعدوا بحلّ مشاكلنا من خلال تشجيع سبل الحوار المتحضّر بدلَ تحريض طرف على آخر، وكذلك من دون تقوية طرف على آخر. وليكنْ معلومًا، أنّ العراقي رغم اتّصافه بطبيعته الإشكالية وتعقيده للأمور من جهة، وبازدواجية شخصيته من جهة أخرى، إلاّ أن روح الرحمة والكرم والضيافة والغيرة والألفة الوطنية لم تغادره إلى غير رجعة. أمّا الخطوة الأولى والآنيّة المنتظَرَة اليوم قبل الغد، تكمن بالتحام الرؤية الدولية باتجاه اتخاذ القرار الفوريّ بطرد العناصر المسلحة لدولة ما يُسمّى بالخلافة الإسلامية، باعتبارها كيانًا غريبًا مسخًا قاتلاً توسعيًا لن يكون لها حدود، إذا ما سرَتْ في طغيانها وتوسعها. كما أنّها إحدى الأدوات الحديثة المستخدمة للتشويه ليس الدّينَ فحسب بل الإنسانية وحقوق البشر أيضًا بوسائلها الدنيئة التي يندى لها جبين الإنسانية. فالتنظيم المسلّح الذي قهرَ ثلاث فرقٍ للجيش العراقي لدى استيلائه على الموصل، وبعدَها تقهقرُ قوات البيشمركة الكردية من أمامِه في غضون ساعات، قد تحوّل في غفلة من الزمن من تنظيم بلا وطن ولا حدود ولا هوية وطنية إلى كيانٍ مسخٍ يتحدّى الدول ويفرض سيطرته على أراضٍ ومدن ومؤسسات دولة مثل العراق وسوريا، ويتحكم بموارد هائلة مادية وطبيعية وإنتاجية. أليسَ كلُّ هذه الوقائع والحقائق إثباتات دامغة لنية التنظيم بالتوسع على حساب غير هذين البلدين والوصول بأفكاره وطموحاته ونواياه إلى دول العالم المتفرّجة التي لم تحسب حسابَها لهذه الورطة الكبرى؟ إنّي أعتقد أن الرغبة التي أبدتها دول حلف الناتو مؤخرًا، عن استعدادها لمساعدة العراق عسكريًا بالقضاء على تنظيم "داعش"، إذا ما تمّ ذلك وصدقت في نياتها ضمن إطار الشراكة بين الطرفين، ستضع حدًّا بالتأكيد، للشهوة الجامحة لهذا التنظيم باجتياح مناطق أخرى بذات الوسائل والأدوات مستخدمًا ما لديه من وسائل ترويعية وإعلامية وتسخير فتاوى تحريضية لصالح دولة الخلافة المعلنة. هذه الفتاوى، ينبغي أن تقابلَها فتاوى واضحة وصارمة وقاطعة من المرجعيات الدينية المعتدلة في العراق والمنطقة كي تحدّ من انتشار الفساد والمفسدين في الدّين وتدعو ذوي الإرادات الصالحة من المسلمين الحقيقيين لكشف زيف المتاجرين بهذا الدّين ورفض كلّ انواع التطرّف ورفض الآخر المختلف وتوعية الناس بمساواتهم أمام الخالق إلاّ في العمل والنيات والإيمان والصلاح.إن الانتخابات البرلمانية للدورة 2014، رغم ماشابها من خروقات واضحة وعمليات تزوير، ومايدور اليوم من حراك سياسيّ بغية تشكيل حكومة جديدة، بالرغم من اعتقاد البعض بكونها تبديلًا لوجوه ليس إلاّ، كفيلة بأن تجمعَ الفرقاء المتخاصمين لما فيه المصلحة العليا للوطن والمواطن. ونحن مثل غيرنا، نأمل أن يكون فكّ العقدة برفض التداول السلميّ للسلطة، مفتاحًا متجدّدًا لأمل ورجاء كلّ عراقيّ ينشدُ طيَّا للصفحات المظلمة والانحرافات السابقة وبدءَ مرحلة جديدة من الوحدة والبناء واحترام الآخرالمختلف وعدم تهميش أي كيان أو مكوّن أو مجتمع أو شعب يعيش على الأرض العراقية الغنية بثرواتها وببشرها وبعقول أبنائها ومراجعهم وحضاراتهم الموغلة في القدم، تلك التي علّمت الإنسانية وكانت لها نبراسًا ومنارًا يُهتدى به. وبالرغم من صعوبة خلوّ البلد،من تحشيد سياسيّ طائفي هنا وهناك، إلاّ أننا نأمل إزالة هذه العقبات من خلال النوايا الحسنة بتغيير العقلية السياسية الطائفية إلى أخرى وطنية قادرةعلى لمّ الجراح ورصّ الصفوف من أجل البناء والتطوير وردم الهوة بين المتصارعين، ورتق التمزّق الكبير وسط المجتمع. وهذا لن يتمّ إلاّمن خلال تعزيز المصالحة الوطنية واتخاذ الاعتدال والمعقولية في السياسة الداخلية والخارجية، وفي توجيه الأديان لخير البشروعبرالإيمان والنصح وصولاً إلى تعزيز بناء المجتمع المدنيّ الذي يمنح الأجيال الحالية والقادمة دورًا أساسيًا في بناء السلام والاستقرار.أملي أن يتحقق حلمُ كلّ عراقي ووطنيّ أصيل،بعودة الوطن أرضًا وشعبًا، كيانًا موحدًا متحضّرًا ورافلاً بالخير والعزّ والأمان والهناء للجميع، عبر الصبر والمثابرة والعناد والعودة إلى الحوار والتعايش والسلم الأهليمن خلال سيادة القانون
وتطبيق العدالة والمساواة للجميع. 
لويس إقليمسبغداد، في 31 آب 2014

323
أمريكا بلا حياء: صمتٌ متعمَّد وتصريحات مغلَّفة وفعلٌ خجول
لويس إقليمس

ألصمتُ عن فضح المعصية وكذا التمهّل بإدانة الجريمة والتنديد بها وإبراز تأثيرها السلبيّ المدمّر على البشر، تُعدّ تواطؤًا ومشاركة ضمنية بفعلها وتشجيعًا لفاعليها. وهذا ما حصل ومازال يحصل من جانب أمريكا والسائرين في ركابها. فقد أثبتت هذه القوّة الجبّارة قاسية الرقبة وفاقدة الحضارة وشرهة المطامع، أنّها حقًّا عدوّة الشعوب المستضعفة وسالبة حرية أبنائها وخياراتهم، هؤلاء الذين انخدعوا بوعودها الحامية للحرية المزيّفة والديمقراطية الّلاأخلاقية التي تصدّرها لبلدانهم ذات الحضارات العريقة. ولكنّ هذه الشعوب المغلوبة على أمرها،وبسببٍ من واقع حالهاالفكريّ والدينيّ والمذهبيّ محدودِ الأفق وقاصر الرؤية، تبدو ما تزال في غالبيتها متعطّشة للبحث عن حرّية مفقودة وباحثةً عن رؤية ليبرالية ومدنية تتوافق وتنسجمُ مع تطوّر البشرية وتقدّمِها إلى جانبحلمها وأمنيتها بهامشٍ من الاستقرار الذي يستحقُّه مواطنوها. كلُّ هذا وغيرُه من الرغبة في التغيير، يأتي كنتيجة حتميّة للمآسي التي تعاني منها المجتمعات المبتليةبسبب الغزو التتاري والبربريّ المعاصر المتمثل بالتنظيمات المسلّحة المتشدّدة التي تتشدّق بالدين الإسلاميّ، والإسلام المعتدل بريء منها، إن هو تفاعلَ مع العصرنة وتطوّر مع الكون وتقدّم مع العلوم لصالح البشرية دون تمييز!
 أمّا الوعود التي لهث وراءَها المغتربون والمهاجرون إليها من كلّ بلدان العالم، فقد انكسرت هذه على صخرة فقدان السمات الوطنية والدينية والتراثية لهؤلاء، في ضوء ما يبدر اليوم من هذا القطب الواحد المتجبّر على المسكونة وساكنيها وساستها وعلى اقتصادها وعلى ثروات البلدان المستضعفة الغائصة في وحلِ التخلّف والجهل والطغيان. فقد آثرت الأغلبية المهاجرة التي ابتلعت الطعم وقصدت بلد العام سام، الصمتَ وعدمَ الحديث عن واقعها الحالي الذي آمنتْ وقبلتْ به صاغرة، بعد تركهم الأوطان خلفهم وبيع ممتلكاتهموالتضحيةبتحويشة العمر مقابل راحة البال والترف الحالم في بلدٍ غادرَهُ الحياءُ وأنكرَ قادتُه الأخلاقَ والآدابَ. لكنّ هؤلاء المهاجرين في ذات الوقت، لا يخفون مخاوفَهم من الواقع الجديد بعد تغيّر أحوالهم وانقلابها من حيث يدرون أو لا يدرون. كما أنّ العديدين، يجرّون اليوم الحسرات على فقدانهم للوطن الأمّ وهم مازالوا يحنّون بعفوية إلى أسلوب حياتهم السابق حينتذكّر أصدقاء الأمس و"درابين" المدن والقرىومجرساتالكنائس ورفعالأذان من الجوامع والحسينيات وجلسات الطربوالترفيه أيّام زمان وأماكنها وأبطالَها. فقد أيقنوا أنّ الجهة الرئيسية التي خلقت الأوضاع الجديدة في بلدانهم ومناطقهم والعالم، هي ذات الجهة التي تأويهم اليوم. وهذا ما يضطرّهم للسكوت عن الأفعال الشنيعة التي تقوم بها الإدارة الأمريكية إلاّ على خجل، ولا سيّما بعد حقبة الثمانينات وبصورة أكثر بعد أحداث 2003 واحتلال العراق بحجج واهية، حيث كان يمكن لهذه الإدارة معالجة الأزمة بتنحية القيادة الظالمة السابقة بوسائل بديلة، تجيدهاوتتقنها جيدًا دون غيرها في التعاطي في مثل هذه الأزماتعبر استخباراتُ ال "سي آي أي" والقيادة المركزية، تمامًا كما حصل في بلدان عاتية مثيلة للعراق.
إنّ مواقفالصمت والترقّب والتجاهلالّلاأخلاقية التي أبدتها الإدارة الأمريكية والسائرون في ركبها من دول الغربإزاء ما تعرّض له العراق وعدد من مدنه منذ بدء الأزمة التي طالتْ، ولاسيّما في أحداث الموصل المأساوية، وحدها كافية لإدانتها ووصفها بالوحش الكاسر الذي لا يختلف عمّا يقترفُهُ "الدواعش" البرابرة بحق المسيحيين بالموصلومقترباتهاوسائر الأقليات الأخرى بالمنطقة التي تعاني من ذات المصير المحتوم الذي لا يقلّ وصفًا عن الإبادة الجماعية المرفوضة إنسانيًا ومجتمعيًا ودينيًا. ومن يراقب الأحداث في العالم بعد تولّي "أوباما حسين" الرئاسة الأمريكية،وهو المناصر والموقظ للتشدّدمن مكامنه، يمكن أن يقف على حقيقة المخطّط الشيطانيّ الذي ينفذّه بتأنٍّ ومنهجية بالرغم من صيحات واحتجاجات العالم، فيما الشعبُ الأمريكيّ الغارق في مفاسد العولمة راضخٌ لهذا المخطَّط، إنْ لم يكن لا أباليًّا من الدرجة الأولى أو مشاركًا ضمنًا. بل حتى المغتربون من العراق ودول المنطقة الّلاجئون إلى أمريكا، لم تبدرُ منهم تحرّكاتٌ فاعلة وإدانات ثورية وانتقادات واضحة للمخطّط الاستراتيجي المنهجيّ لهذه الإدارة والعمل على فضحه وإيقاف ما تبقى المقصودِ به طيّ صفحة الهوية المسيحية في سوريا والعراق ولبنان بخاصّة، واقتلاع شعوبٍ مختلفة في الديّن والمذهب من عموم المنطقة. إنّها لمعادلةصعبة في كيفية العيش على أرضٍ غريبة والقبول بمخطّط يستهدف هوية ما تبقى مِن أبناء وأهل وأقارب اللاجئين والمغتربين. فهمٍ بين فكّي كمّاشة: هل يسكتون صاغرين للمخطّط ويقبلون بالسياسة الجديدة هويةً لسلامتهم وتمتّعهم بالنعيم الجديد بديلاً عن المخاوف الترهيبية التي قاسوها والأيام البائسة التي عاشوها في ظلّ أكثر من خمسة عقود من الثورات الهمجية والحروب التي لم تأتي سوى بالمآسي والويلات والّلاإستقرار والقتل والتدمير والسلب والاغتصاب، أم يعبّرون عن رفضهم لهذه السياسة الخرقاء ويسعون جاهدين لتوجيه البلاد وسياستها إلى السكةّ الصحيحة؟ ربّما اللوبيّ الذي تمكنوا من تشكيلِه، هو بالفعل غيرُ قادرٍ لتخطّي العتبة المسموح بها. وهنا الطامة الكبرى!

بين الحقّ والظالم جولة
إنّ أعمال العنفَ والقتل والتدمير والإبادة التي اتخذتها العصابات المسلحة المتشدّدة المرتزقة العالميةمنهجًا، والتي سمحت بها أمريكا، عدوّة الشعوب المستضعفة، وأوجدت لها قيادة وتنظيمًا وتمويلاً، تُعدّ وصمة عار في جبين الإنسانية والمنظمة الدولية التي لم تقرّر بعد أوانَ التخلّص من الحماقات التي ارتكبتْ وما تزال متواصلةً أمام أنظار المجتمع الدولي. ربّما تكون الإدارةالأمريكيةهي ذاتُها التي خلقتْ هذا التشكيل المسخ في المنهج والأسلوب والتعامل، تمامًا كما فعلت بصنويهالسابقين المتمثلين ب"طالبان أفغان" و"القاعدة"، بهدف معاداة روسيا ومحاربتها وكبح جماح ثورتها الحمراء على مساحات شاسعة من دول العالم ومنها أوربا الشرقية في حينها.
أليوم، يُهجَّر أبناء الأقليات الدينية والإتنية من مناطق تواجدهم التاريخية في أرض الرافدين لأسباب دينيّة عنصريّة بحتة. وهذا كلُّه يجري ضمن مخطَّطٍ ممنهج أصبح القاصي والداني يتحدّث به ويشجبُه.فالإيزيديون يُهجّرون ويُقتلون ويجوَّعون وتُغتصبُ فتياتُهم وتسبى نساؤُهم ويُبعن في سوق النخاسة بسبب دناوة وحقارة مَن يتولّى ويحمل ذلك الفكر المتشدّد الذي يعود لأكثر من خمسة عشر قرنًا خلتْ من التخلّف والجهل. والمسيحيون يُطردون من ديارهم وقراهم وبلداتهم بالرغم من تاريخيتهموجغرافيتهم وحضارتهم المتأصلة، فيما تُحرقكنائسهمويُجبرون علىتركأرض الوطن ونسيان ذكرياتهم وقطع صلة الرحم بكلّ ماضيهم ويُخيّرون بين ترك الدّين أو الجزية أو حدّ السيف. أمّا أمريكا، فقد وقفتْ أيامًا وأسابيعَ وأشهرًا، تتفرّج وتترقّب كي ترسو على قرار، تمامًا كما سبقت وفعلت إزاء أحداث مماثلة في مناطق أخرى. فقد سبق لها أن دعمتالحكومة الإخوانية،وهي من ذوات فصيلة "داعش" و"القاعدة" و"جبهة النصرة" وما تحت ظلالها جميعًا. وهذه بمجملها يُعتقد ارتباطُها إلىحدّالعظم بطريقة أو بأخرى، بأدوات الإدارة الأمريكية المختلفة. إلاّ أنّ طبيعة الشعب المصريّ الفرعونية، قد أفشلت المخطَّط،ما حملَ هذه الإدارة للعودة لأكل مخلفات "روثها"، بعد أن ثار الشعبُ المصريّ في 25 يناير وقال كلمته الوطنية الفصل "لا للمخطّط الأمريكي-الصهيونيّ" بتقسيم البلاد وتقتيل العباد، ما خيّبَ ظنَّ الظالمين! وقد كشفت عن هذه المعلومات الخطيرة، لولب الخارجية السابقة في الإدارة الأمريكية، هيلاري كلنتون في مذكراتها.
إنّ أمريكا المكابرة ومعها الغربُ الخانع لإرادتها، لا تدرك حجم الجريمة والمخطّط الذي ترتكبُه عبر التنظيمات المتشدّدة المسلحة التي سمحت لها بالعمل وتطوير أدوات القتال وفنون أدوات الإبادة الجماعية التي تركبُها في بلدان عديدة في المنطقة والعالم. فدولة الخلافة الإسلامية المعلنة أخيرًا في العراق والشام، تحمل نوايا عدوانية للعالم كلّه ومنها أمريكا والغرب، وكلِّ مختلف مع منهج هذه التنظيمات السلفيّة المجرمة. فهي قائمة على أساسٍ دينيّ متزمّتٍ حرفيٍّ بحت، وليس للقوميّة والحضارة والأخلاق موقعٌ في قاموسها ومنهجها. إنّما منطلقُها الأساس يكمن في تكفير كلِّ مَن لا يبايعُ الخلافة، وما سوى هذه يبقى حقًا تفرضُه قوانين الغزوات القبلية أيام الجاهلية من قتلٍ وتدميرٍ وسبيٍ واغتصابٍ وما ملكتْ أيمانُهم.
حقًّا، إنْ كانت أمريكا ومعها الغرب تعدُّ الدّينَ حرّية شخصية مقدّسة لا تريد المساسَ به أو التعرّض له بحجة الديمقراطية والحريّة الشخصية التي تتذرّع بها بموجب شرعة حقوق الإنسان، إلاّ أنها بالمقابل عليها أن تدرك أن مثل هذه التنظيميات، تستغلّ هذه الثغرة وهذا التسامح من أجل تدمير العالم وشطب كلِّ مختلف عنها وزائغٍ عن فكرها المتخلّف العفن، بحسب آيديولوجيتها القاصرة. فقد تدور الدوائر ويلحقُها ما لحق بنا وبأوطاننا وأهلنا ذات يوم، وهو ليس ببعيد!والغريب أنّها لمْ تتعظ من أحداث أيلول 2001 وما أحدثته من رعب ودمار وكسر شوكة أكبر وأقوى دولة في العالم. بل عادت وأتت بإدارةٍذات خلفيةّإسلامية متساهلة مع التشدّد ومتواطئة مع أركانه، مكرّرة ذات الخطأ مرتين. وهذا إنّ دلّ على شيء، فإنّما هو دليلٌ قاطع على مشاركة هذه الإدارة بما يجري وفق مخطّط منهجيّ لرسم خارطة جديدة، عرفنا بداياتها، لكنّنا لا نتكهّن بنتائجها، بسبب غموض المواقف وضعف التحرّكات لوأد تجاوز عمل هذه التنظيمات وعبورها المحيطات وتجوالها بكلّ حرية بعد فتح الحدود على مصاريعها.
لعمري، متى تفقه الإدارة الأمريكية المشهود لها بالتقدّم والتطوّر والحريّة والديمقراطية وهي صاحبة فكرة العولمة المدمّرة للشعوب والأمم، أنها بغبائها بدعم أشكال الإرهاب وأدواته وبمكابرتهاوادّعائها المبطَن بمحاربته على طريقتها الهوجاء وغير السليمة، هي تسير في طريق وعرة وغير سالكة، من شأنها أن تجعل الدوائر تدور عليها وعلى حلفائها ومواليها؟ وهل بإمكانها أن تدرك أنّ حضارتَها وكيانَها قد تأسسا على أخلاقيات وأفكار اليهود والمسيحيين اساسًا، وليس غيرهم؟ حتى إنّها قد أنكرت في حينها ما للسكان الأصليين من حقوق ونوازع وطموحات إنسانية وقومية.ولكنّها ضحّت بهذه جميعًا وتركت الأخلاقيات المسيحية بخاصة لتسمح للاّأدريين والملحدين وقطاع الطرق والسرّاق وعبدة الأوثان الجديدة ومناصري الجنس والمثليّين وأصحاب الأفكار المقفلة أن تسرح وتمرح على مسرح الأحداث دون وازع، فقط من أجل تحقيق طموحاتها ومصالحها القومية، ومِن بعدها الطوفان.
إنّالسياسةالخارجيةللإدارةا"لأوبامية" التي تتعمّد عدم التعرّض جدّيًا وحدّيًا لجرائم الإبادة الجماعية بحق المسيحيينوأقليات أخرى في العراق وسوريا ولبنان ومصر بالأخص، تشير إلى خللٍ اتجّاهَ هؤلاء جميعًا في المنطقة بصورة لا تقبل الشكّ، لاسيّما المكوّن المسيحيّ بالذات،الذي ينزعُبطبيعته إلى السلام والتعايش بحسب وصية المحبة التي ينتهجها ولا يؤمنُ باستخدام السلاح وسيلةً للعيش وكسب الحقوق المواطنية بحسب القانون والأعراف. لكنّهذا الأخير في الوقت ذاته، بحاجة اليوم إلى قائدّ لا يدّخرُ جهدًا بالتفكير الجدّي بالبحث عن موطئ قدمٍ سياسيّ في أرضٍ تحمي مصالحَه وكيانَه وتديمُ بقاءَه وتصون هويتَه، ولكن ليس كما يحلو للبعض بإعادة أمجاد دولة آيلةعفا عليها الزمن، بل بمنهج الشراكة السياسية المواطنية مع سائر المكوّنات وبعيدًا عن حجّة الأكثرية والأقلية.
إنّ أبناء المكوّن المسيحي، ومثلهم أقليات أخرى مقهورة و"مكفوخة" في أرض الوطن، ينتظرون اليوم نهوض قائد على غرار "ناتانياهو" و" بيريز" و"شامير" و"غولدامائير" وغيرهم من الذين أوقفوا حياتَهم لحماية الشعب اليهودي وتحقيق طموحاته، المشروعة وغير المشروعة، وصون أراضي الكيان المسخ الذي حصلوا عليه بدعم من المستعمر. وإنّي لا أجد ضيرًا، استثنائيًا، أن يظهرَ قائدٌ من صفوف رجال الكنيسة حتمًا، كما فعلَها مكاريوس، في حالأقفرتْ صفوفُ العلمانيين وتعذّرَ بروز الرأس المدبّر المسنَد على صعيد الكنيسة والشعب في آنٍ معًا، بحيث يتحرّى الاستقلالية في التوجّه والتحرّك ولا يكون أداة بأيدي أحزاب أو كتلٍ صاحبة مصالح فئوية ضيّقة، كما نحن عليه اليوم.وإنّي أعتقد، أن الزخم والتأييد الدوليّين التي تلقاها الأقليات المهمّشة والمقهورة في العراق في هذا الوقت بالذات، جديرة أن تشحذ الهمم وتنجبَ رجالاً صناديدَ يستلهمون من حرص والأقدمين ونخوتهم وتضحياتهم، ما يساعد على إكمال مشوار أولئك الجهابذة الأبطال الذي دافعوا وعاندوا وصابروا لحين نيل مبتغاهم، كما حصل في قضية بلدة "بغديدا"/ قرةقوش المعروفة التي بلغت آنذاك دوائر "الأستانة" في الدولة العثمانية.
يأتي صراخ رأس الكنيسة الجامعة الأخير، بابا الفاتيكان فرنسيس الأول،مدويًّاحينماخرج عن صمته وتوجّه إلى الضمير العالمي والمنظمة الدولية بالذات، حامية السلام والحرية والحقوق،فأتاح لها اتخاذ ما يلزم من دول العالم لوضع حدٍّ لمأساة شعوبٍ كانت بالأمس آمنة وهي اليوم مطرودة خارج أسوار مناطقها وفي العراء بعد سلب مساكنها وتدنيس كنائسها ومعابدها وسلب ممتلكاتها وسبي نسائها واغتصاب أعراضها علنًا أمام صمت المجتمع الدوليّ المتباطئ في اتخاذ ما يلزم. فلم تعد الإدانات وأصوات الاستنكار تنفع، إنّما العمل الفعليّ الحقيقيّ للحفاظ على ما تبقّى من الهويّة الدينية والإتنية للجماعة المسيحية وسائر المكوّنات الأخرى الشريكة في الوطن والمصير،وحفظ تراث الآباء والأجداد تحت خيمة وطن موحّد متعايش يحترم المواطنية وتعلو في سمائه سمات العدالة والمساواة والتآخي إلى جانب الحرّية الشخصية والفكرية والمعتقد والدّين له ولغيرهِ من المكوّنات المسالمة الأخرى. إنّ على الرؤساء الروحيّين قبل غيرهم، توبيخ القوى الكبرى وتعنيف قادة الغرب على تخلّيهم عن الأساس الدّينيّ والأخلاقيات المسيحية التي غيّبوها بغباء، في غفلة من الزمن. ولعلَّ خيرَ مَن قام بمثل هذه المهمة حديثًا، كان قداسة البابا الأسبق، القدّيس يوحنا بولس الثاني الذي عنّفَ الغربَ لتخلّيه عن مبادئ الدّين، ولاسيّما فرنسا التي عدّها في حينها "إبنة الكنيسة المدلّلة".
فهل سنشهد قريبًا جدّا، صحوة جديدة للعودة بالأخلاقيات الأصيلة إلى الدول التي تساهلت مع ما جاءت به العولمة من دمارٍ في الفكر والرؤية والأخلاق على حساب إنسانية المجتمع البشري والهدف الأسمى من خلق الله للبشر ليكونوا إخوة ينمون ويكثرون ويعيشون في مناخٍ آمنٍ من التآخي والتعايش السلميّ لمجد الله خالقهم على صورته ومثالِه؟؟؟

لويس إقليمس
بغداد، في 26 آب 2014

324
ألقذى الأبرش لا يُرى!
لويس إقليمس
أمام ضخامة الحدث، ومأساة شعوب العراق، وخطورة نتائجه الآنيّة والّلاحقة، تقف جميع الجهود عاجزة عن توفير وسائل العيش الّلازم والأمان المفقود والكرامة الضائعة لمَن تقطّعت بهم السبل ولم يتوصلوا لإيجاد مأوى يقيهم حرّ الصيف الّلافح ومخاطر الليل الجانح وسخرية القدَر المتفرِّج على أحوالهم الكارثية والسلطات العاجزة عن صدّ الهجمة الشرسة. وهؤلاء يعيشون اليوم بؤسًا ما بعدَه بؤسٌ ومذلّة ومهانة لا يستحقّونها، كما لا تستحقُّها أيةُ خليقة لله. فكم بالأحرى، إذا طالت أناسًا مسالمين من أبناء الأقليات في مدينة نينوى العظيمة، كانوا حتى الأمس القريب قابعين في منازلهم آمنين ومتأملين انفراجَ الأزمة السياسية ومتكّلين على الجهة التي تعهّدت بحمايتهم ورعايتهم والدفاع عنهم: "إمّا العيش أو الموت معًا"، كما تعهّدها فخامة رئيس الإقليم. ولكنّ هذه الوعود مثل غيرها، تبخّرت واختفت تمامًا بالتضحية بآلاف مؤلّفة من أبناء الأقليات التي طالَها التهجير والقتل والسبي والخطف والاغتصاب والنهب والسلب والطرد بل والدفن أحياء، كما حصل مع المكوّنين المسيحي في سهل نينوى بقصباته وبلداته والإيزيدي في مأساة سنجار وشنكال وكوجو وغيرها. هذه الكارثة وهذا الموقف المفاجئ كانا وسيظلّان لغزًا محيّرًا كما سبقته مفاجأة تسليم الموصل في غضون ساعتين، وبانتظار انكشاف أسرار تقف خلفها صفقات مشبوهة كثيرة ومتشعبة.
عندما هبّت الرئاسات الروحية، مسيحيّة ومسلمة (ولاسيّما الشيعية منها)، لإغاثة المنكوبين وتقديم العون وحثّ الناس لاستقبال النازحين وتسهيل إيوائهم وبلسمة شيء من جراحهم الكثيرة، بعد أن فقدوا بيوتَهم ومالَهم وحلالَهم وكلَّ أملِهم المتبقي في زوايا جعبهم الصغيرة، فإنها تكون قد أدّت شيئًا من مسؤوليتها الروحيّة والإنسانية والاجتماعية والإيمانية، سيّما وأنّ المعاناة اشتدّت وهي في تعاظم متواتر. كلُّ هذا يجري، وسط جهد دوليّ هزيلٍ وخجولٍ لا يرقى لغاية الساعة، للمسؤولية الملقاة على عواهن الرؤساء والساسة والمسؤولين من أجل إنقاذ العائلات التي تعيش البؤسَ عينَه والمذلّةَ عينَها والفاقةَ عينَها. وهل أوضح وأنقح وأفصح ممّا تنقلُه شاشات القنوات الفضائية ال"سي إن إن" و"عشتار" والشرقية" وال"بي بي سي" وال"آر تي" وغيرها من التي تعرض مناظر بائسة وشواهدَ محزنة تدمي القلوب وتبكي الحجر لشواهد من نازحين مشرَّدين يعيشون الفاقة ذاتَها وهم يفترشون العراء من غير أن تصلُهم يدُ العون والرحمة إلاّ على مضض. وحتى هذه الالتفاتة يستغلُّها المتاجرون للدعاية لمَن يقف وراء هذه التي تُسمّى مساعدات!
وما زاد الطّين بلّة، ضعف استيعاب الغرب والدول المانحة حقيقة المأساة وعدم إدراكها اختيار الجهات الحريصة والنزيهة التي بإمكانها تنظيم المساعدات القادمة لمَن يحتاجها. وفي بلدٍ مثل العراق، الذي ابتلي بمآسي وأزمات عددية لا حصرَ لها، أصبحنا ندرك تمامًا أن المساعدات التي تُقدّم لجهات رسمية وللسلطات، وما يصل منها إلى المحتاجين الحقيقيّين، لا يعدو إلاّ الجزء القليل بل لا يتجاوز ربّما الثلث، والباقي يذهب إلى جيوب القائمين على العملية. فالغرب بتركيزه على حكومة كردستان حصرًا، سواء في تبرير دفاعه عنه عبر الضربات العسكرية غير الفاعلة لغاية الساعة والمنفّذة حول أربيل وحدود الإقليم حصرًا، أو في تقديمه المساعدات الطارئة السخية، فهو في هذه وتلك لا يأخذ غير مصالح الأكراد القومية في استراتيجيته وسياسته الانتقائية.
إنّ غيابَ الجهد الحكوميّ المنظَّم، سواءً من الحكومة الفيدرالية او الإقليم، ينسجم مع الفوضى التي تعمّ الوسط السياسيّ العام. وهذا لا يمكن التعويل عليه، إلاّ بالتنسيق مع الجهات التي تمثّل أبناء المكوّنات الذين تعرّضوا للتهجير القسريّ والنزوح الجماعيّ مكرَهين. وهؤلاء همُ الأَولى بطلب الاستشارة لمدّ يد العون الحقيقية كي تطال الجميع دون تمييز وبذل الجهد الكافي للوصول إلى جميع المحتاجين عبر منهجية وبرنامج عملٍ بعيدٍ عن الروتين والحلقات الاستعلائية المفرغة. فيما تقف معظم الكنائس ورجالُها، إلاّ ما ندر، في مقدمة الجهات الساندة التي أعلنت حالة الطوارئ وفتحت الأبواب مشرعة للجميع دون تمييز في خطوة للتخفيف ما استطاعت عن كاهل النازحين المتألمين والعطشى والجائعين الذين فقدوا كلَّ ما يملكون إلاّ لفحات الشمس الحارقة والهواء الساخن والعراء المجّانيّ وكلَّ آدميةٍ كانوا يكابرون بها وهمْ آمنون في قراهم ومنازلهم قبل الغزوة الهمجيةّ باسم الدّين وتحت راية "لا إلهَ إلاّ الله"!
وهنا أسوق ملاحظة مهمّة للتنبيه والدراسة. إنّ ما يؤسف له، أنّ مجمل هذه الجهود اليومية الحيوية الصادرة من قبل جهات عديدة مساهمة في التخفيف عن مآسي النازحين، يقابلُها إعاقة ومماطلة وإشكاليّة من جانب بعض الجهات التي تريد حصر جميع المساعدات الواردة، الرسمية منها والقادمة من منظمات دولية ودول وهيئات، حصرًا تحت مسؤوليتها. وهذا أمرٌ غير مقبول بتاتًا. فهذا يعيدُنا إلى الفكر الإلغائي الممقوت ثانية. قد يكون ذلك مقبولاً في حالة رغبة منظمات إنسانية تكليف جهة معينة بالذات دون غيرها بالقيام بتوزيع معونات معينة حسب معرفتها. ولكن ليس من حقّها ولا غيرها التدخل في برنامج حكوميّ تتولى دائرة رسمية مشهودة بنشاطها بتنفيذه، لا سيّما إذا كان متعلّقًا بمشكلة السكن المعزَّز بمعونات غذائية ومنزلية يومية عبر لجان ومراكز مستقلّة تؤدي هذا الدور التطوّعي برحابة صدر واستعداد للخدمة.
إنّ ما يقوم به ديوان أوقاف المسيحيين والإيزيديين والصابئة مثلاً، من جهود مباركة في هذا الخصوص وما لاقاهُ برنامجُه الطموح من ارتياح وسط العوائل النازحة لغاية الساعة، ينمّ عن شعور هذه المؤسسة بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقها وهي تمدّ يد العون المباشرة للمحتاجين وليس عبر حلقات روتينية تكرّس الفكر الدكتاتوري الذي عفا عليه الزمن، ولنا منه تجارب كثيرة فاشلة. وعلى مَن يسير في هذا الطريق غير السالك أن يتذكر المآسي التي أودت بالبلاد إلى ما هي عليه اليوم بسبب حصر الصلاحيات بيد حكومة المركز وتهميش وإقصاء الإدارات المحلية عن أخذ دورها الوطنيّ في أوساط المجتمع. فكلّ مَن يستطيع تقديم يد العون من جانبه، يباركُه الله وعلينا أن نقوّي عزمَه ونبارك له جهودَه، وليس أن نضع العراقيل أمام نشاطه أو نردَعه لكونه يقدّمُ أفضلَ ما لديه لأناس بائسين هم بحاجة إلى الحنوّ والمساعدة والوقوف إلى جانبهم والتخفيف عن آلامهم، وليسَ بالتلذّذ بمهانتهم والشعور بكون ما يُقدّمُ لهم بمثابة صدقة.
هذا حق هؤلاء الذين انقطعت بهم السبل ووصلوا إلى هذه الحالة الكارثية بعد فقدان بيوتهم ومالهم وحلالهم، ولم يعد لهم ما يملكون غير هذا الحق الذي يصلُهم على مضض، سواءً من الدولة أو المنظمات. ونحن على يقينٍ أنْ ليسَ كلّ ما يأتي من مساعدات ومنح تصل بالضرورة جميعُها إلى ذوي الحاجة حصرًا. ومن خلال متابعتي اليومية عن بعد أو قرب للآلام والمآسي التي تعرّض لها النازحون عمومًا من جميع مناطق سهل نينوى ومن جميع الطوائف والأديان والقوميات، تلقيت ملاحظات مؤلمة بهذا الخصوص، ولم أبادر بالكتابة في هذه الإشكالية، إلاّ بعد التأكّد من المصادر والاتصال بأصحاب الشأن للوقوف على الحقيقة.
من هنا أدعو الجهات المعنية دون تسميتها، لمراجعة ما بدر من جانبٍ منها والعدول عن الرغبة والقرار بحصر المعونات بها دون غيرها، وإلاّ فإنّ برنامج المعونات والمساعدات سيتحوّل إلى مؤسسة دكتاتورية نفعية وربحية. وهذا ما يُخشى. لقد سبق وكتبتُ في مقالة سابقة وصريحة، أنّ شعبنا يرفض المذلّة ولا نقبل به أن يعيش في خيم ما شاء أمثالُ هؤلاء. وطالما هناك خيارات قائمة بتأجير قاعات ومراكز ومواقع في أندية ترفيهية قائمة وهياكل أبنية في مناطق عديدة وتأهيلها للسكن الآدميّ، من خلال تأمين دفع تكاليف إيجارها من جهة حكومية، فلماذا تضع جهاتٌ معنية عراقيلَ أمامَ تنفيذ هذه الفكرة مدفوعة الأجر، لاسيّما وأنّ مثل هذه الجهات قد تقدّمت لتكون واجهة رئيسية لتلقي المساعدات والإعانات؟
 إن مثل هذا المشروع الإنسانيّ الذي اقترحه ديوان أوقاف المسيحيين والإيزيديين والصابئة، من شأنه حلّ الكثير من الصعوبات والمشاكل التي يواجهها النازحون اليوم وغداً، لاسيّما وأنّ المدارس على الأبواب. ومع بدء الدوام في كردستان، سيضطرّ النازحون لتركها قسرًا والبقاء في العراء بانتظار قدوم الشتاء الصعب. إنّها مجرّد رؤية للمراجعة وكسب الوقت وخيارٌ مقبول للتخفيف من وطأة الزمن الغادر.

بين "داعش" والسامريّ الطيّب، خذلانُ شعوبٍ
يتبارى عددٌ من الكتّاب بتحليل الأوضاع وتوجيه انتقادات، كلّ على شاكلته ووفق ولاءاته وتوجهاته والرؤية التي كوّناه حول الأحداث، ما قبلها وعلى حقيقتها وما بعدها. وكلّ قلمٍ يكتب ما يرتئيه، ولا منعَ أو تحريمَ لما يكتب. والقارئ اللبيب، هو الذي يمحص ما يُكتب ويغربلُ في فكرِه وعقلِه وقلبِه معًا. ولكن، ليس الوقت للتباهي والمكابرة والتشاحن والتشفّي أمام مأساة شعوبٍ ومكّونات بأكملها. فكلّ مَن يستطيع فعلَ شيء لإغاثة المحتاج وكسر خاطر اليائس وشفاء بلسم الجريح، سيكافئُه الله اضعافَ عملِه، تمامًا كما فعلَها السامريّ على قارعة الطريق عندما اهتمّ بالضحيةِ المجهولة التي اعترضها اللصوص الذين أوسعوه ضربًا وسرقوا جعبتَه وتركوه جريحًا يئنّ من الألم والفاقة. تلكم هي حالُ النازحين الجدد اليوم الذين طردتهم عصابات "داعش" الإرهابية المتشدّدة، عندما اضطرّتهم لترك منازلهم وحلالهم ومغادرة قراهم وبلداتهم مكسوري الخاطر يلفّهم البؤس والحزن وخيبة الأمل من كلّ شيء، حتى من عناية السماء! فهلْ من بؤسٍ وخذلان ويأسٍ أكثرَ ممّا يجري اليوم؟
على الصعيد المسيحيّ حصرًا، ووسط هذه المنغّصات والمآسي، ما يزال أدوات ما يُسمّى بتجمّع التنظيمات المسيحية ودكاكينُها الخائبة، و"المجلس القطاري" بالذات، يتكابرون على الغير ويرفعون أعلامَ الغيرة والحرص والمصداقية على غيرهم من التنظيمات والجمعيات والأحزاب والجهات الكنسية التي حشّدتها الرئاسات الروحية لأداء واجبها الإنسانيّ والروحي إزاء الرعايا والأغراب معًا، دون تمييز. فهل فكَّرَ نفرٌ من هؤلاء المتبجّحين الخائبين بإخراج "القذى الأبرش" من عيونهم قبل أن يطلبوا تنظيفَها من عيون غرمائهم التقليديّين؟ وليكن كلامي أكثرَ وضوحًا. إذا ما قيس ما يقدّمه جهد "المجلس القطاريّ" مع جهد الكنيسة الّلافت وفعّالياتها الحيوية وأنشطتها وكلّ تحرّكاتها عبر متطوّعيها على جميع الصعد، فالمجلس المذكور لن يقف إلاّ في آخر الطابور، لأنّ غالبية أدواتِه في ما يُسمّى بلجان "شؤون المسيحيين" تنتهج الدعاية وتسخّر الإعلام في تحرّكاتها، وهي إن تلقاها في خضمّ هذه الأزمة، فهي قابعة في القصور والفلل والمنازل التي حُجزت لهم ولعوائلهم في المواقع المخصّصة لهم من قبل الأسياد والرعاة الكبار لمشروعهم الخائب. ولو أنّ ربعَ ما صرفه "المجلس القطاري" على الدعايات الانتخابية لمجالس المحافظات والبرلمان في دورتيهما الأخيرتين، لكانّ آوى به العديدين من أبناء شعبنا التائهين في العراء من الذين لم يجدوا سقفًا يأويهم وأطفالَهم ونساءَهم وأمّهاتهم وبناتَهم، وحتى ممّن غُرّرَ بهم في ما يُسمّى بالحراسات الشكلية، من الذين لم يتلقوا لغاية الساعة "إكرامياتهم" المستحقّة منذ ثلاثة أشهر، لقاء تسخيرِهم وعوائلِهم للتحشيد لمرشحي هذا المجلس في تلك الانتخابات وما قبلها. فهلْ مَن ينكرُ هذه الحقيقة؟
 لقد كان الأولى بمّن يتهجّم على النائب الفلانيّ والمسؤول الفلانيّ، سواءً في الدولة الفيدرالية أو في حدود الإقليم، أن يسخّر جهودَه ومّن يواليه ويساندُه، من أجل بلسمة جراح مَن قسى عليهم الدهر وجعلَهم يفترشون العراء سكنًا والرصيف منزلاً والحدائق سقَفًا مفتوحًا للفرجة، ناهيك عن تكدّس غيرهم في قاعات كنائس ومدارس وأبنية مهجورة، وهؤلاء من المحظوظين، فيما أدواتُ هذا المجلس ومنتمو الدكاكين التي تحت إبطه في الصف القياديّ الأول يسكنون القصور والفلل الفارهة والبيوت المؤثثة. وإنّي لمتأكّد، أنّه لولا عون الكنيسة ورجالها والمتطوّعون من الراهبات والشباب الواعي، لكانت الحال أسوأ ممّا هي عليه الآن. لقد سقطت ورقة التوت وتبيّن الحرصُ من الكذب، والمكابرة من الخدمة، والادّعاء من الحقيقة.
إنّ مأساةً بحجم هذه الهجمة الشرسة الأخيرة، كانت لتتطلّبَ ردودَ أفعالٍ قوية وشديدة على قدَر شدّتها وعنفها، وليسَ مجرّدَ حركة تعدُّها بعض الجهات الموالية للسلطات هنا وهناك ملفتة لتدرُّ عطف شعبٍ ابتلي بكذب مَن يدّعونَ أنهم ساستَه وممثليه وقادتَه. إن هذه المأساة قد كشفت زيف ادّعاءات الكثيرين الذين ادّعوا تمثيل الشعب عامة، وخاصةّ أبناء المكوّنات المقهورة من المسيحيّين والإيزديين والشبك والكاكائيين في سهل نينوى المنكوب، والذين كانوا لغاية الأمس القريب يتبجحون بالوعود الكردية ويعدّونها حامية حمى مناطقهم دون غيرها. ولكنّ كلّ تلك الوعود، ذهبت هباءً ومعها مكابرتُهم مع تسليم الكورد لمناطق هذه الأقليات دون مقاومة، بل بمجرّد اتفاق بينهم وبين قيادات داعش، تمامًا كما كان يحصل في الحروب القديمة، عندما يقبل العدوّ ويطلب تسليم مفتاح مدينة أو قرية دون مقاومة. وهذا ما حصل فعلاً عندما انسحبت قوات البيشمركة والجهات الساندة لها والتي كانت تمسك الأرض منذ 2003 وكانت تعهدت بحمايتها أمام الملأ، إلاّ أنّها ضحت بها أمام مصالحها القومية الضيقة ولم تُرد أن تفرّط بقواتها التي احتفظت بها لحماية شعبها الكردي حصرًا. ويظهر ذلك جليًا من المساعدات التي طلبتها حكومة الإقليم للإقليم حصرًا عندما استدرّت عطف أمريكا والغرب بحجّة حماية الإقليم والنازحين فيه. لقد غيّر مثل هذا الموقف المتخاذل رؤية الكثيرين وبدأوا بإعادة تقييم حساباتهم وتغيير مواقفهم بعد التضحية بهم وببلداتهم وقراهم التي استُحلّت منذ 2003 بحجة كونها مناطق متنازَع عليها، فيما الغالبية منها لا علاقة له بجغرافية الإقليم ولا بتاريخه ولا بثقافته.
 أمّا حركة معالي وزير النقل في كردستان، فهي إنْ دخلت في رواق الدعاية والإعلام المبطّن لكسب الودّ ونيل رشقات إضافية من التصفيق والتطبيل بحجة الحرص وإبداء الاستياء الظاهريّ من عجز حكومة الإقليم في يدّ العون الحقيقية للمنكوبين وإغاثة النازحين دون تمييز حيث وُجدوا، فهي غير مقبولة، بعد سقوط ورقة التوت. إنّ مثل هذه الحركة لن تقدّم ولن تؤخر في شيء. فالوزير المستقيل المحترم في الإقليم يبدو بدون صلاحيات، تمامًا مثل غيره من المسؤولين ممثلي الأقليات الدينية غير المسلمة في الحكومة الاتحادية أو في الإقليم، من الذين وُلّوا مناصب لذرّ الرماد في العيون ولغرض الدعاية الديمقراطية في الحكومات الطائفية المتلاحقة.
فهلْ سألَ الوزير المستقيل وغيرُه من المسؤولين، لماذا، كانت حكومة الإقليم ترفض دائمًا، تشكيل قوات نظامية من أهالي مناطق الأقليات يكونون أساسًا مرتبطين بالجيش والشرطة الاتحادية لكي تتولّى حماية مناطقهم بأنفسهم؟ وهل سأل هؤلاء عن الإجراء الذي كانت اتخذته قوات البيشمركة والزريفاني مؤخرًا، بتفتيش المنازل ومنع امتلاك المواطنين في المناطق المستباحة لقِطَعِ السلاح الشخصية للدفاع عن البلدة والمنازل، فيما لو حصل اقتحامٌ مفاجئ؟ وهذا ما حصل فعلاً. فلو تُرك الأهلون بدون ضغوطٍ من جانب القوات الكردية التي ادّعت حماية المناطق تلك، لكانوا دافعوا عن بلداتهم وربّما استجمعوا قواهم وإرادتَهم من أسلافهم الشجعان وكانوا صدّوا الهجمة أو تفاوضوا.
إنّه لمن العار أن يذهب كتّابٌ يدّعون القلم القوميّ الحرّ، للتصفيق والتهليل لقرار معالي الوزير المحترم الذي يدخل في إطار الحرص الدعائيّ الفارغ والتعاطف الظاهريّ بعد انكشاف "المجلس القطاريّ" على حقيقته مثل غيرِه من التنظيمات الي تُسمّى با"لقومية" وعدم فاعليّته في فرض أجندة مسيحية واضحة إلاّ فيما يخصّ المصالح العليا لأولياء النعم في الحزبين الكرديّين اللذين يتسيّدان الساحة في الإقليم. وللتذكير فقط، كنتُ في لقاء خاصٍ لي مع راعي "المجلس القطاري" في بدايات تأسيسه في عام 2008، قد تلقيتُ تطمينًا منه بتطبيق حكمٍ ذاتيّ في القرى المسيحية القائمة في كردستان، حسبما ينصّ عليه دستور الإقليم. ولكنّ المشروع بقي في خبر كان بسبب رفضه من حكومة الإقليم أو تسويفه من أجل كسب الوقت والمزيد من المكاسب على حساب حقوق الأقليات، عندما حوّلَ المجلس أنظارَه صوبَ سهل نينوى، وبالذات نحو قرةقوش والبلدات المجاورة لها لتكون نواةً للمشروع حيث يتواجد أكبر تجمّع مسيحيّ فاعل الحضور. ومنذ ذاك الحين، والمؤامرات تُحاك ل"تكريد" هذه المناطق وغيرها على خط تلكيف – ألقوش، للاستحواذ عليها وضمّها للإقليم. وللإقليم في هذه المناطق وكلاء ومأجورون ومنتفعون ودجالون في صفوف بعضٍ ممّا يُسمّى بأحزاب شعبنا القومية ودكاكينها، يقومون بالترويج والتبرير لهذا المشروع الاحتلاليّ الواسع. ومن المؤسف أنّ بعضًا من هؤلاء، من الطبقة المثقفة ومن رجال دين يتقاضون مرتبات وإكراميات وينعمون بامتيازات وهدايا يسيل لها اللعاب، مكّنتهم من تغيير واقع حياتهم المعيشية مقابل تطبيلهم وتزميرهم وتأييدهم للمشروع الاحتلاليّ. أمّا اليوم، بعد النكث بالوعود وترك هذه المناطق فريسة بيد العصابات الإرهابية وتضحية الكورد بها والتخلّي عنها بهذا الخذلان لصالح فكرهم القوميّ ومصالحهم الإقليمية، ماذا يا ترى يكون ردُّهم؟ وهل من رأس يرتفع ليقول عكس الحقيقة؟ وما هو التبرير بهروب القوات التي كانت تمسك الأرض والمفاجأة بنكوصها بتحمل المسؤولية بحماية هذه المناطق وحالة الفزع والهروب من الساحة تاركين آلاف المنازل مباحة للعصابات واللصوص والسارقين الذين يصولون ويجولون ويقتحمون المحلات والمنازل وينهبون المتاجر؟  أمِن خذلان أقوى وأفصح وأوضح ممّا جرى؟
عتبي على أصحاب الاقلام الزائفة التي تزمّر وتطبّل وترقص على معاناة الشعوب وهي ما تزالُ مصرّة، كما يبدو، على حكمة "المجلس القطاري" ومبادئه وأدبياتِه دون غيرِه، بالرغم من الحالة المزرية للنازحين من أطفال ونساء وشيوخ ممّن ما يزالون لغاية اليوم بلا مأوى ولا سقف يحميهم حرّ هذا الصيف الّلافح، وهم يفترشون الحدائق والأرصفة يحكّون جلدَهم المتسخ الذي لم تمسّه قطراتٌ من الماء منذ أيام! فالمجلس المذكور، مثل باقي الدكاكين الأخرى، لم يحصلوا جميعًا غيرَ خيبة الأمل والخذلان من جانب مّن حرّرَ لهم صكوكَ الوعود المجاّنية الواحدة تلو الأخرى، سواءً من الحكومة المركزية أمْ من جانب الإقليم، وهي أساسًا غير قابلة للصرف سوى على شاشات الدعاية مثل غيرها! فالحقيقة أنّ هؤلاء جميعًا " في الهوى سوى"، كما يقولون!

نداءات استغاثة صارخة
يزور كردستان هذه الأيام، شخصيات سياسية ودينية وأممية، وإنّ جلَّ همّها منح تأييدها للإقليم حصرًا، غيرَ عابئة بحكومة المركز الذي يعيش أشبَهَ بحالة طوارئ، بالرغم من فكّ عقدة رئيس الحكومة المنتهية ولايتُه أخيرًا، وتنحّيه عنها بعد أن كانَ ركبَ العناد "الدعوويّ" بالتشبّث بالسلطة، بالضدّ من تحذيرات المرجعية الدينية والتأييد الجارف للخطوة الجديدة بتكليف شخصية أخرى لرئاسة الحكومة. وذلك التشبّث، وما بدرَ من المحكمة الاتحادية التي لا تؤدّي واجبَها الوطنيّ باستقلالية، عندما أجّلت النظر بدستورية الإجراء الرئاسي بتكليف مرشح بديل، إنّما أعطى دليلًا وافيًا لإفساح المجال للرئيس المنتهية ولايتُه كي يصفّي الملفات العالقة التي تفوح منها رائحة فساد ويؤمّنَ على نفسِه ومَن معه بطمس    وسط الصمت الدوليّ المبكي والمخيّب للآمال بالرغم من مرور أيامٍ على الكارثة الإنسانية، جاء نداء البابا فرنسيس الأول، بابا الفاتيكان، مدوّيًا وفاعلاً حينما استصرخً الضمير الإنسانيّ وطالب دولَ ورؤساءَ العالم والهيئة الدولية ومنظماتها لإيجاد حلّ جذريّ لمعاناة المهجّرين والعمل على إعادتهم لمنازلهم وبلداتهم وقراهم ومناطقهم بالعمل على تحرير المناطق المحتلّة وطرد العصابات التكفيرية خارج البلاد والقضاء على الشرّ القادم منها بفعل فكرها النتن والمتخلّف، وتجريم كلّ مَن يموّلها ويحتضنُها.
بعد هذا النداء الصارخ ونداءات وتدخلات كنائس عديدة في دول العالم التي استصرخت الضمير الإنساني، تسابق رؤساء الدبلوماسيات الأجنبية في الداخل والخارج، للإعراب عن تضامنهم مع الفئات المقهورة وآلاف النازحين الذين تشرّدوا بفعل الأعمال الإجرامية للتنظيمات المسلحة وحواضنها. وقد عدّ البعض ما جرى، بكونِه زلزالًا يسترعي انتباه العالم أجمع لنجدة آلاف المنكوبين، ونداء يستصرخ الأخلاق والضمير العالمي لوضع حدّ سريعٍ للنكبة الكبرى. فما يحصل اليوم، يدخل خانة الإبادة الجماعية لمكوّنات أصيلة لها تاريخُها العميق وإرثها الثقافي المتميّز وديانتُها المسالمة والبنّاءة!
ولكن، من المؤسف أن تصبّ جميع هذه المساعدات العينية منها والمادية وكذا النداءات ضمن نطاق إقليم كردستان في معظمها. حتى الضربات الجوية والتدخلات الدولية العسكرية والعروض التسليحية، كلُّها تتركّزُ اليوم في مصلحة إقليم كردستان وعلى حدودهِ.
ما يؤلمُ كثيرًا، عدم صدور إدانات للأعمال الإرهابية وجرائم التهجير الجارية، كما لم نلحظ جهودًا واضحة من جانب أطرافٍ سنّية مشاركة في العملية السياسية لها روابط ووشائج مع جماعات مسيحية وأقليات غيرها في المناطق التي تتواجد فيها. وهذا دليلٌ على مساندتها ومشاركتها أو موافقتها على ما يحصل في الباطن. وإنْ لمْ يعملوا الحكمة والروية فيما يحصل، فإنّ هذه الأعمال ستنقلبُ عليهم وسوف يطالُهم شرُّها، عاجلاً أو آجلاً. وعليهم أن يراجعوا حساباتهم جيدًا، لانَّ الخطر يستهدف الجميع ويطال الكلّ دون استثناء حينما يستفحل ويستحكم.
وخلاصة القول، أنّ المشكلة عميقة وجذرية وكبيرة. فمَن يخسر المنزل الذي يأويه ويُطرد من بلدته وأرضه بمثل هذه الوسيلة المزرية وبفعلٍ قادمٍ غريبٍ وكيانٍ مسخٍ لا يؤمن بالضمير والأخلاق ويتخذ الدين أداةً لبلوغ المقاصد والغايات، فإنّه كمنْ يفقد ذاتَه وتُنزَعُ عنه أحشاؤُه وأعضاؤُه قسرًا. والإنسان السّويّ، إن فقد هذه كلّها الواحدة تلو الأخرى، فلنْ يبقى لديه من شيء اسمُه الوطن في قلبِه وضميرِه وفكرِه. ومن ثمّ فكلّ ما بدرَ من تمسك بالوطن وتشبّثٍ بالأرض، فإنّه لن ينفع بعد أنْ يلفظه الوطن ولا يستطيع تأمين الحماية الّلازمة التي بها وعلى ضوئها ينبغي له العيش بسلام وأمان وطمأنينة. فإذا فقدت هذه كلّها عند الإنسان، فحينئذٍ تسقط كلّ مبرّرات البقاء في وطنٍ لا يستحقّ أن يخدمَه المواطن الشريف الغيور.
العراقيون اليوم، أمام امتحان عسير، والأقليات منهم بصورة أدقّ. في التشكيلة الحكومية القادمة، إذا لم يستقم مسار العملية السياسية ويُصار إلى اعتماد "دولة المواطنة" مقياسًا للعيش المشترك، التي وحدها كفيلة عبر التآلف والتكاتف والمصالحة الوطنية، بصدّ الهجمة الشرسة للتنظيمات الإجرامية الدخيلة على الوطن ودحرها وتحرير البلاد من براثنها، فإنّ خيارات صعبة ستُفتحُ للمستهدَفين من شعوب المكوّنات المستضعفة. ولن يكون من مناصٍ أو خيارات غيرُها. فلا أحدَ يبقى منتظرًا مَن يُصعدُه من الهاوية، ولا أحدَ يظلُّ يعيشُ مصيره في الرعب وفي المجهول. فليكن الجميع على قدر جسامة المسؤولية بالتخلّي عن المصالح الطائفية والفئوية والشخصية الضيّقة من أجل المصلحة العليا للوطن والترويح عن المواطن المعذّب منذ عقود. جهدٌ منكم وجهدٌ منّا، وسيصل البلد إلى ميناء الأمان بعناية السماء ويعيش المواطن في سلام وأمان وكرامة.

لويس إقليمس

بغداد، في 18 آب 2014

325
شعبنُا يرفض المذلّة: لن نقبلَ الشوارع ولا الخيام مآوي بديلة لمساكننا!
لويس إقليمس

تغّنينا ونتغنّى كثيرًا بالوطن، كما تغنّى ويتغنّى به أبناء جلدتنا في بلدان الاغتراب وهو يسوقون الحنين إلى صغائر الأمور وأطراف الذكريات، جميلةً كانت أم من ذوات الهموم. وما أكثر الهموم هذه الأيام! لكنّ المغنّي تنقطع حبالُه الصوتية ويتوقف لديه الغناء، يوم يلفظُه هذا الوطن بأيّ شكلٍ، بالرغم من غلاء وحلاوة الأخير في طيات قلبه المكسور. ولكنّ هذه الحلاوة، إذا ما انقلبت ويلاتٍ عليه وزرعت في نفسه آلامًا وحصدتْ من ثناياه مآسٍ، كما يحصل اليوم، فلن يعود من مخرجٍ ولا ملاذٍ آمنٍ فيه بعدُ. وهل من مآسٍ أقوى وكوارث أقسى وجرائم أقبح ممّا يعانيه عموم الشعب، والأقليات الدينية والإتنية فيه على وجه الخصوص، هذه الأيام؟
إذا كانت النائبة الإيزيدية فيان دخيل، قد أثارت حسّاسّية وزعل بعض من زملائها النواب تحت قبة البرلمان، وهي تقول كلمة الحق، حيث القتل والذبح والتهجير وما شاكلها من جرائم تحصل تحت "راية ألله أكبر"، فإنها بالمقابل، قد أبكت ملايين المشاهدين ورقّت لها دموع الثكالى وترجرجت بها دمعات الشرفاء، رجالاً ونساءً، وأنا واحدُه، إذ كلُّنا نتعاطفُ مع دموعها التي تحكي مأساة شعبٍ بائس. ولقد بلغني ذات الصوت المبكي والمحزن من زميلها، النائب السابق وصديقي من "شنكال"، وأنا أتواصل للاطمئنان عليه طيلة أيام هذه المعاناة. فقد جاء صوتُه المبحوح كالصاعقة أيضًا، وهو يبكي ويتحسّر ويتأفّف للخذلان الذي صعقه هو الآخر، عندما تخلّت قوات البيشمركة عن مناطقهم في ساعة سوداء، فوقعوا ضحايا بين أنياب العصابات القاتلة، التي قتلت وهدّدت وذبحت، كما اغتصبت نساءَهم واقتادت فتياتهم وحرائرَهم ليُبعن في سوق نخاسة بدعوى بدعة "نكاح الجهاد". لقد أبكاني هذا الرجل الأمين لشعبه والوفيّ لجماعته وهو الذي أضنى ذاتَه وهو يدافع عن مكوّنه تحت خيمة "البارتيّ الكردستانيّ"، وإن يكنْ! كنتُ أنصتُ له على الهاتف وهو يستغيث بقشة نملة شاكيًا الحال المرير لأبناء منطقته وما آل إليه الآلاف منهم وهم يصارعون الموت من القيظ الّلافح وانعدام الماء والطعام في طيّات جبل سنجار ومغائره ووديانه تحت رحمة السماء وضربات المسلّحين قساة الرقاب وتهديداتهم الّلاإنسانية.
وللحق، تألمتُ كثيرًا أيضًا، وأنا أتابع أحوال صديقي "التركمانيّ صبري" في تلعفر منذ اجتياح مسلّحي داعش لمدينتهم بعد انهيار الموصل وتخاذل فرقها العسكرية والأمنية الثلاث التي انهزمت مكسورة مهانة مِن أمام عدة مئات من عصابات تحمل الأعلامَ السود مدجَّجةً بإعلامِ الترهيب والوعيد والتهديد سلاحًا فتّاكًا، تمكنت بواسطته القضاء على جحافل عراقية جرّارة، يُحسبُ لها حساب في المنظور العسكري والسّوقيّ والتعبويّ.
وها هو صديقيّ الآخر "الشبكي سعد"، وهو يروي مشاركة عناصر من أبناء جلدته في الأعمال الوحشية التي ترتكبها "داعش" في قراهم المجاورة للموصل والقرارات التي تصدرها المحكمة الشرعية التي أنشأها هذا التنظيم في قريته للانتقام مِن كلّ مَن لا يبايع الخليفة المستحدث.
أيَّ عصر يعيشه العالم الإسلاميّ اليوم؟ هل هو عصر التقهقر والانهيار الخلقيّ والدينيّ والاجتماعيّ بأيدي أدعياء دينٍ جديد، استوحوه مِن جبال أفغانستان وثنايا الشيشان ودهايز باكستان وكهوف تركستان مرورًا بأودية إيران وتعرّجات كردستان وتبريكًا من فيافي جزيرة العرب "الّلاعرب"، البعيدين عن عروبة حاتم الطائي والأعشى وقسّ بن ساعدة وأبي نؤاس والمتنبيّ وأبي تمّام وبني العباد وتميم وتغلب وما سواهم؟ ما للعراقيين اليوم، وقد غابَ عنهم الحسّ الوطنيّ وأغشاهم التقاتل الإتنيّ واستقوى بهم القياس المذهبيّ واستعَرَ عندهم الهوس الطائفيّ بعد أن أصبحَ همَّهم الأوحد، ولا شيءَ آخرَ سواه؟ أيُعقل أن ينهزم جيشٌ دولة أمام شرذمة لا تتجاوز بضعة آلافٍ ويستسلم بكلّ ما يملكُه من عدّة وعتاد، خفيف ومتوسط وثقيل، في غضون بضعة ساعات، لمجرّد السماع بقدوم طلائع "داعش" على أبواب مدينة عظيمة مثل نينوى؟
ويأتي السؤال ملحاحًا: هل سنواصل الغناء والتغنّي بالوطن بعد كلّ هذا الذي عشناه وذقناه وشهدناهُ؟ أمْ سنسلكُ الطريق الأسهل ونلتحق بمَن سبقَنا مهاجرين إلى بلدان الاغتراب التي خطّطت ونفّذت جريمة تفريغ بلدنا من كلّ ما هو مختلف عن رؤية الأسياد وبرامجهم؟ إنها لمعدلةٌ صعبة حين اتخاذ القرار. ولكنْ، إنْ كان لا مفرَّ منه، فليكنْ. فالإنسانُ وُلدَ حرًّا كي يقرّر ما ينفع حياَته وما يستوي به مستقبلُه ويرتاح له مصيرُه. فالظروف هي التي تحكمُ وتتحكّمً أحيانًا بصمير ومستقبل الإنسان، بالرغم من بقاء الوطن وذكرياته في حدقات الأعين وطيّات القلوب وثنايا النفوس الحانية.
   
سخرية القدر!
عندما استبيحت مناطق الأقليات التي تمسكّت بها حكومة الإقليم بأسنانها وأدواتها وسطوتها منذ 2003، وتقهقرت عنها بين ليلةٍ وضحاها، صدقَ البسطاء ما أُشيع عن كون ذلك التحرّك مجرّد تكتيك حربيّ، سرعان ما تستعيد قوات البيشمركة المبادرة وتطرد الدواعش ومَن يلفُّ لفَّهم. كما سبق هذه الحركة، مفاوضات ونقاشات ولقاءات بين ممثلي شعب هذه المناطق وقيادات كردية، وعلى رأسها فخامة رئيس الإقليم الذي صرّحَ مرارًا وتكرارًا، "نعيشُ أو نموتُ معًا"، فيما وعدَ النازحين من الموصل بزيارتهم بُعَيد أيامٍ على مغادرتهم مدينتهم منكوسي الرأس وبائسين! وأسفي على الوعود الكثيرة التي استقاها ممثلو هذه المناطق، من مسيسحيين وإيزيديين وشبك وكاكائيّين وصابئة وآخرين، من لدن قيادة الإقليم، التي لم تبرّ بما وعدت، بل تخلّت عن ساكنيها ومناطقهم، وهي التي ادّعت ملكيتَها منذ السقوط حينما عدّتها مناطق متنازَع عليها وضمن أراضيها بغير وجه حقّ. وهي بتلك الفرية التي اُقحمت في بنود الدستور الأعرج، كانت حقًا قنابل موقوتة، وقد آن وقت انفجارها حينما انكشفت حقائق كثيرة وصفقات ومساومات كانت تجري من خلف الكواليس بحق هذه المناطق وساكنيها. وبذلك تكون حكومة الإقليم بسيطرتها على تلك المناطق منذ السقوط، قد حرمتهم من حماية الدولة الفدراليّة التي تنازلت عنها هي الأخرى مرحليًا لصالح الإقليم. والسبب واضح يعود في مجمله إلى ضعف الحكومة المركزية وعدم اهتمامها بتلك المناطق، لا لشيء إلاّ لكون أبناء هذه المناطق من مسمّيات أخرى وفصائل مختلفة، وهي بالتالي بعيدة عن اهتمامات نهجها عبر مسيرتها التي استمرّت ثماني سنوات عجاف بلياليها ونهاراتها المؤلمة المليئة بالأزمات المتلاحقة والمشاكل المفتعَلة المائلة جميعًا لخلق دولة طائفية وليس دولة المواطنة.
عندما سخر إقليم كردستان من أشكال التصرّف التخاذليّ الذي ظهرَ عليه الجيش الاتحاديّ، أعطيناهم الحق، ظنًّا منّا أنّ ما ستحقّقُه قوات البيشمركة "المحترفة"، سيكسر شوكة المهاجمين عندما يتخّذ المبادرة ويتولّى الدفاعَ عن أراضي الوطن جميعها، لكونِه جزءًا منها وما يصيبُ عموم أراضي الوطن يصيبُه هو أيضًا. دارت الأيام وتوالت اللّيالي سوداوية قاتمة والتنظيم المسلّح يتقدّم بخطى واثقة "يمشي ملَكًا" ويتسع ويتوسع على حساب الحكومتين الفيدرالية والإقليم، حتى بات يهدّد الأخير هذه الأيام. ويتساءل الناس: أينَ وعود رئيس الأقليم التي تبخرت أسرَع من الغيوم الخفيفة، على ثقلِها وقتامتِها وسوداويتها؟ أيُعقل أن يتراجع جيش البيشمركة والزريفاني وتشكيلات أمنية وعسكرية مساندة غيرُها بهذه السرعة وتترك مواقعَها التي احتلّتها منذ 2003 والتي من أجلها عاندت وأصرّت وتكابرت طيلة هذه السنين العجاف؟
في حينها، تابعت وسائل التواصل الاجتماعيّ والأوساط الشعبية وعود فخامة رئيس الإقليم وعدّتها وثيقة شرف يمكن الاعتماد عليها، لكونها صادرة من أعلى قمّة في هرم السلطة بالإقليم. ولكن سرعان ما تهاوت معاني هذه الكلمات وفقدت مصداقيَتها عندما خذلتها قوات البيشمركة المتواجدة على حدود جميع المناطق المتنازَع عليها التي تسكنها أقليات إيزيدية ومسيحية وشبكية على وجه الخصوص، بدءًا من أقضية الحمدانية وتلكيف والشيخان وسنجار ومناطق ربيعة وزمّار ووانة وسنوني والسدّ وبادوش حتى فيشخابور على الحدود السورية. بل إنّ الزيارة التي وعد فخامة رئيس الإقليم لأهالي الموصل النازحين بعد لقائه إياهم، لم تُنجز أو تتحقّق. وعوضًا عن ذلك، خسر الإقليم ما احتفظ به من أراضٍ وبلداتٍ طيلة تلك السنوات العجاف، وأصبح قابَ قوسين أو أدنى من سقوط محافظاته الثلاث بفعل الضربات الموجعة والتقدّم الجارف لمسلّحي داعش سريعي الحركة والبطش. ولولا الالتفاتة الدولية لحلفاء كردستان وتحرّكهم في الوقت الضائع المتاح، لكانت أجزاء من أراضي الإقليم قد سقطت بأيدي هؤلاء البرابرة، بعد وصولهم منطقة الخازر واحتلالهم مخمور وبلدات غيرها الواحدة تلو الأخرى. لكنّ الوضع ما زالَ حرجًا. فنحن نقرأ الأحداث أحيانًا من حركة الشركات الأجنبية العاملة والسلك الدبلوماسيّ المعتمَد وحركة المطارات عمومًا. وهذه كلُّها لا تنبئ بخير قريبٍ، في الأقلّ في القريب العاجل.
إن الوضع المنهار لقوات البيشمركة بعد الجيش الفيدرالي، لهو دليلٌ قاطع على توجّه الوطن نحو شفير الهاوية، إن لم يكن قد فقد سرَّ قوته المعنوية بعدُ. وها هو اليوم، يقف على عتبة مفترق طرق: إمّا أن تقوم له قائمة من جديد إن أُنعمَ بحكومة ذات توجهات وطنية نزيهة وصادقة بعيدة عن كلّ أشكال الطائفية والتخندق الفئويّ الضيّق، أو يسقط ويتهاوى كلُّ شيء فيه بانتظار مصير محتومٍ لا ولم يستحقّه إلاّ بفعل الأغراب عنه من الذين نزعوا لباس الوطنية واتشحوا ببردعة طائفية ومذهبية وشخصية، عوض وشاح الوطنية والمواطنة.
لقد فقد قادة الإقليم مصداقيتَهم أيضًا، كما القادة السياسيون في البلد. فلا الوعود التي قطعوها أوفوا بها، ولا تمكنوا من صدّ هجمات التتار الجدد ولا حرصوا على حسن إيواء النازحين الذين مازالوا يفترشون الأرض وينتشرون في الساحات والشوارع تائهين وهائمين على وجوههم وسط استجابة محصورة وضيّقة بتقديم وجبات خفيفة ومواد غير ذات قيمة تُحسب عليهم وليمةً كبرى ومنّةً فضلى. إنّ ما يعانيه مواطنونا من رعاية دنيا ونظرة ازراء بتواجدهم في مدن وبلدات كردستان، ومنها مدينة عنكاوا المسيحية بالذات، لهو عارٌ على جبين المسؤولين والأدوات القائمين في هيئات شؤون الأقليات من المتبجّحين على رعاية المشرّدين والنازحين من بلدات معروفة بكرمها وأنفتها وتراثها مثل قرقوش وكرمليس وبرطلة وتلكيف وبعشيقة وبحزاني وتلكيف وباطنايا وتللسقف وباقوفا وأخرى غيرُها. وكذا الحال ينطبق على القرى والقصبات العائدة لمكوّنات من غير المسيحيين.
 إنّ العجز بإيجاد مأوى لائق لهذه العوائل المشرّدة وترك العديد منها في العراء تحت لفحة حرارة الصيف القاسية، لهو علامةٌ على لا مبالاة القيادات القائمة أو تهاون أدواتهم ومَن يُفترض بهم من القيادات الدعية الذين كانوا اوّلَ مَن أسكنوا عوائلَهم في فللٍ وقصور ومآوي آمنة، في حين تركوا المتعَبين ومَن لا معارف لهم يفترشون الشوارع وفي العراء أو محشورين داخل باحات الكنائس والمدارس والساحات المكشوفة. إن المشاهد التي تنشرها وتعرضها قنواتٌ فضائة مهمة، مثل قناة عشتار، لهي دليلٌ ساطع على مدى الإهمال الذي يلاقيه النازحون. وهذا ما لا يليق بشعبٍ ذي حضارة ولا نقبله نحن المسيحيين الأباة، ولاسيّما في قرقوش التي سبق أن فتحت أبوابَها زمنَ حرب الشمال في الخمسينات والستينات وحتى أخيرًا بعد الأحداث في 2003 ولغاية سقوطها في 6 آب الجاري. شعبُنا وأهلُنا لا يستحقون مثل هذه المعاناة البائسة، ولا نقبل أن يعيشوا في بلا كرامة ولا خدمات في خيم أو في العراء، ولا مِن مبالٍ!
لقد سجّلَ العديد من النازحين الذين قصدوا بلدة عنكاوا "المسيحية" ملاحظات مؤسفة وتصرّفات محزنة بل مخجلة لا تليق بالمسيحيين، من الذين استغلوا حاجة الناس إلى مأوى، فطلبوا إيجارات خيالية وآخرون رفعوا الإيجارات السابقة دون وجه حق. أقولها وبكلّ أسف، لم يعد حتى في أوساطنا مَن يهتمّ للأخلاق التي تربينا علينا وعلّمنا إياها الإنجيل. أنقل لكم حادثتين من هذا القبيل.
في الحادثة الأولى حين قصفِ قرقوش بالهاونات ومغادرة الأهالي باتجاه عنكاوا، اتجّهت عائلة أحد الشباب الذي كان لتوّه قد أجّرَ شقّةً مفروشة بألف دولار شهريًا. ولكن ما أن رأت صاحبة الشقة (وهي طبيبة ولها إقامة كندية) مجموعة النازحين والفارّين من نيران الظالمين يدخلون الشقّة، اعترضت وامتعضت بحجة أنّ الداخلين "أناسٌ شعبيّون"، ومن ثمَّ لا يليق بمقامها أن ترى أمثالَهم في مُلكها، وهي أساسًا طبيبة نازحة من الموصل آوتها عنكاوا واشترت ملكًا فيها.
والحادثة الثانية، فيها رفعت صاحبة ملكٍ إيجارَ شقّة صغيرة بغرفة واحدة وحمّام وهول صغير من 500 دولار إلى 750 دولارًا لأسرة مكوّنة من شابين متزوّجين حديثًا.
وهناك أمثلةٌ غيرُها سمعنا ونسمع بها. ولكنّي اقتصرتُ في روايتي على ما شهدتُه شخصيًّا أمام ناظريَّ. وليسمع مَن له أذنان سامعتان. ومَن يأبى، فليذهب إلى الجحيم، فهو بفعلتِه شريكٌ في التشريد والجريمة ولا يسمع قول الربّ الواضح: "طوبى للرحماء، فإنّهم يُرحمون". ولنتذكّر فقط ما قام به السامريّ الطيّب، حين داوى جراحَ اليهوديّ وطلبَ من صاحب النزل أن يأويه ويقدّم له الطعام والشفاء على نفقتِه. إنها مجرّد مقارنة بما يحصل اليوم، واللبيب من الإشارة يفهم!
في ذات الوقت، تجدر الإشارة بشيء من الامتنان والتقدير لما تقوم جهات كنسية وخدمية وشباببة من متطوعين في هذه البلدة من أجل إزاحة جزءٍ من هموم النازحين وبلسمة جراحهم وآلامهم. فشعبُنا لا يستحق مثل هذه المهانة التي يلقاها من طرف بعض المستغلّين والمتاجرين بهمومهم ومآسيهم.

أمل ورجاء جديدان
ما نحنُ عليه اليوم، حقيقة واقعة. ألم ومأساة لجماعات يُراد اجتثاثُها من جذورها وقلعها من أصولِها وعن بكرة أبيها ضمن مخطَّط شيطانيّ تقوده وترعاه دول شرسة وسافرة برعاية أمريكية - صهيونية - إسلامية. وما تتناقلُه بعض وسائل التواصل الاجتماعيّ والأخبار التي تترشّح هنا وهناك من تأمين اتصالات مع خليفة المسلمين الدعيّ، أبو بكر البغدادي، ولقاءاته في أوقات سابقة مع شخوصٍ بالإدارة الأمريكية وعناصر من الموساد وشخصيات إخوانية وأخرى متشدّدة داخلة على ذات الخط، كلّها دلائل على تنفيذ مخطَّط إفراغ العراق والشرق الأوسط من المسيحيّين. كما أنّ رفض الإدارة الأمريكية، و"أوباما حسين" بالذات، بالتدخل السريع لمقارعة "داعش" ووقف توسّعها، والتريث ومراقبة الأوضاع لما ستؤول إليه في العراق، هي الأخرى من سمات هذا المخطّط الشيطاني الدوليّ. وإذا حصل تنديد واستنكار علنًا هنا وهناك، فقد حصل على خجل ولرفع العتب بسبب ضغوطات المجتمع الدولي والدول التي ما تزال فيها ذرّة من الأخلاق، في شعبها وليس في حكوماتها غير المبالية.
أمّا النواب في العراق، فيا بئس مواقف العديدين منهم! فقد وقف بعضٌ من هؤلاء وقفة المتفرّج بسبب وقوعهم تحت سطوة الحكومة السابقة يخشون فقدانَهم شيئًا من امتيازاتهم أو من الوعود التي قطعتْ لهم في حال عدم انصياعهم لتجديد الولاء. وبذلك لا يختلف وصفُهم عن صفة الشعب البائس الذي لا يؤمن إلاّ بجلاّدِه الذي لا بديلَ عنه، لسببٍ بسيط، وهو كونُه الخائب والخاسر الأكبر في كلّ هذا وذاك! فالنائب الذي لا يحفظ الوديعة التي ائتمنهُ الناخب فيها على حاله وماله وعرضه ومستقبلِه ووطنيّته، لا يستحقّ أن يمثّل الشعب، طالما أنه يرفض مقارعة الشرّ والفساد ومحاسبة غير المؤمنين بشيء اسمُه الوطن والمواطن!
لقد راقب عموم الشعب العراقيّ يوم الاثنين 11 آب الجاري، تلك اللحظات الحاسمة التي بها تمكّنت البلاد من الخروج من عنق الزجاجة بفعل عملية قيصرية شديدة القسوة والألم، تمخّض عنها الإعلان عن اتفاق كان لابدّ منه، وهو الذي رجته المرجعية الدينية الرشيدة وعموم الشعب دون استثناء إلاّ من المنعَمين عليهم من الانتهازيّين الذين افترشوا أرضَ العراق فسادًا طيلة ولايتين قاسيتين أودتا بحياة الأبرياء ونقلتا البلاد إلى أسوأ مرحلة كارثية مليئة بالأزمات المتعاقبة. إن تكليف شخصية بديلة لرئاسة حكومة البلاد، من شأنه أن ينزع فتيل الأزمة ويهدّئ الأوضاع ويقود الحكماء من السياسّيين لكسر طوق وضع الاقتتال الذي آلت إليه البلاد والعباد معًا. أمّا ما يحاول افتعالَه رأس الحكومة المنتهية ولايتُه وأتباعُه من المنعَمين عليهم والفاسدين في صفوفهم، من منغصّات وقلب الحقائق والتهديد بفتح نار جهنّم على المعترضين، فلن تكون سوى زوبعة في فنجان، كما قالها البعض، بعد فقدان الحكومة السابقة لأبسط أنواع الشرعيّة واشتداد غضب الله والمرجعية والناس عليهم وعلى أدائهم طيلة ثمانٍ سنواتٍ من المكر والفساد والكذب والخداع والاستغلال على حساب الوطن والمواطِن والمواطَنة بكلّ أوجهها واستحقاقاتها.
هنيئًا للمرجعيات الدينية العراقية الصادقة والجريئة التي استطاعت ان تقول "لا" و"كفى"، للظلم والقهر والخداع والتقسيم والتخاذل. إنّه أوان المطالبة بمرحلة جديدة وعهد جديد ورؤية جديدة فيه تقوم قائمة المواطنة الحقيقية التي تعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه على عهد حكومة عادلة تسود بالعدل والمساواة وتعزّز أواصر المحبة والتآخي والسلام وتنزع إلى الاستقرار والترويح عن المظلومين وتأوي المشرّدين وتداوي جراح النازحين وتعيد لهم ما فقدوه من أمنٍ ومالٍ وعقارٍ على السواء.
إن أملاً جديدًا ورجاءً عتيدًا يحدونا جميعًا، فيها تنتقل البلاد إلى حالها المستقرّ الآمن، لتعود خيمةً وارفة الظلال لكلّ أبنائها وبناتها، بجميع مكوّناتهم وعلى اختلاف تلاوينهم الدينية والمذهبية والاجتماعية. فما أصابَنا من ألام وأحزان ومآسي، كثيرٌ يستدعي صحوة الضمير الإنساني والمنظمة الدولية التي تحرّكت على خجل لمداواة نزيف الهجرة والنزوح وما يُقترف من جرائم إبادة جماعية بحقّ مكوّنات أصيلة لها جذورُها وحضارتُها وإيمانُها وبصماتُها في بنيان الوطن وصيانة الأرض والدفاع عن حدود البلاد واستقرارها. ولنْ يُقبلَ بعد اليوم، السكوتُ عن مثل هذه الجرائم التي تُرتكب بحق الإنسانية جمعاء من عصابات متشدّدة تريد العودة بالبشر إلى قرون التخلّف والظلام. وعلى الدول التي ترعى هذه التنظيمات أو تلك التي تسكتُ عنها أو تموّلها، أن تدرك أنّ الدوائر ستدور عليها، لا محالة، إنْ هي لم تدرك الكارثة منذ الساعة وتحلّل أفعال وتوجهات هذه العصابات التي شوّهت الدين وجعلته أسيرًا بيد شلّةٍ لا تعرف أساس هذا الدّين من أساسه. لعمري، كيف يقبل أصحاب هذا الدّين الأصلاء أن يتلقّوا أدبياته وتفاسيره وشروحاته على أيدي شلّة ضالّة قادمة من بلدان "الجوج والماجوج" التي شوّهت اساسيات هذا الدّين الذي قام في جزيرة العرب أصلاً؟
في الأخير، لا يمكن القبول بما آلت إليه أحوالُ شعبنا عمومًا، من شعورٍ بالمذلّة والنسيان والتسويف في قضيته واقعًا بين فكّي تسوية حسابات داخلية وأخرى خارجية وغيرُها قائمة على موازنات دولية منتفعة. فاللاعبون فيه كثيرون وهم في تزايد مستمرّ.
مشكلة العراق والعراقيّين، أصبحت أكثر تعقيدًا. قد تبدأ عقدتُها بحلّ بالتغيير القائم الذي نأمل أن يكون سريعًا وفاعلاً. فلا شيء غير المواطنة واحترام الآخر المختلف وتقييم الفرد على أساس الولاء للأرض والوطن يمكن أن يكون العلاج لحالنا. وهذا وحده كفيلٌ بوحدة البلاد والأرض وليس بتقسيمها وبتشريد الأبرياء والتفرّج على معاناتهم.
هذا أملُنا وذلك رجاؤُنا. وكان اللهُ في عون المتضايقين والمتألمين ليعودوا قريبًا جدًّا إلى مساكنهم وينالوا تعويضًا عادلاً عن حلالهم المفقود وأمانهم الموعود.

لويس إقليمس
بغداد، في 12 آب 2014

326
في زمن داعش: نعمة النفط نقمة، فما العبرة؟
لويس إقليمس

بعد انكشاف أسرارٍ وظهور حقائق وخفايا في دهاليز السياسة ونوايا أباليس، الباحثين عن مصالح فئوية وقوميّة وشخصية، اتضّح بما لا يقبل الشكّ أن أحد الأهداف غير المعلنة رسميًّا هو الوقوف على منابع النفط الغنية والثروات الطبيعة في دول منطقة الشرق الأوسط والسيطرة على إنتاجها وتسويقها بأيّ ثمن. ودليلُنا في ذلك، ما يحصل إزاء مناطق ومواقع نفطية قائمة في كلّ من سوريا والعراق حيث تنشط تنظيمات دولية إرهابية سيطرت على مواقع منها، وبالتالي ليس لها من همّ سوى الحصول على ثروات هذه الحقول خارج بلدانها. وهذا ما تعنيه هذه الفوضى الخلاّقة التي خلقها الاستعمار الأمريكي الحديث بعد تسيّده على العالم قطبًا قويًا ومتسلّطًا على سياسات الدول، حتى التي كانت بالأمس القريب، تعدّ سياساتها مستقلّة عن الطغيان الأمريكي - الصهيونيّ الفاعل.
ولا عجبَ أن تكون المنظمة الدولية بدورها، وبسياساتُها متطابقة، بل متعاونةً مع المطامح القومية السافرة لهذه الدول ذات السطوة القائمة على عالم اليوم وتخشى الخروج عن نطاق توجهاتها، حفاظًا على مصالحها وامتيازاتها هي الأخرى. وقد وجدت الإدارة الأمريكية، ولاسيّما بعد تولّي "باراك أوباما حسين" السلطة بسبب كاريزماتيتَه الخطابية التي أقنع بها الشعبَ الأمريكي الّلاأبالي إلاّ بغروره وملذاته وتكابره وترفه المتخَم، وجدتْ في دول الشرق الأوسط، وأخرى ذات التوجهات الإسلامية تحديدًا في المرحلة الأخيرة، خيرَ مطيعٍ ومنفّذٍ لسياستها الهوجاء بتسهيل نوالِها من ثروات البلدان المقهورة ما أمكن عبر سياساتٍ خرقاء وانتقامية ضدّ كلّ مختلفٍ في الدّين والطائفة والنهج والرؤية. وها هي لولب الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون، تكشف مؤخرًا، عن أقبح مؤامرة للإدارة الأمريكية -الإسرائيلية- الإسلامية الجهادية، وكيف كان مقرّرًا اعتراف الحكومة الإخوانية المطرودة في مصر وأخرى غيرُها،  الاعتراف بدولة داعش في 2013، لكنّ إرادة الشعب المصري كانت الأقوى بوأدها.
كلّ الدلائل إذاً، تشير إلى صيدٍ كبير وقائمٍ، كان لابدّ أن تقتنصه هذه الإدارة المكابرة لتحوّل المنطقة إلى ثكنة عسكرية تتزيّن، ليس بالسلام والفرح والآمال الكبيرة بحياة إنسانية تستحقّها وهي المجبولة حسنةً على صورة الله ومثاله، بل بأكوام السلاح الفتّاك المتنوع الأشكال والأهداف. وهذا ما دعا قادة هذه الدول المتهالكة إلى اقتناء كلّ جديد منه، طالما أنّ آبار النفط مستمرّة في تدفّق وزيادة هذه النعمة التي تحوّلت إلى نقمة، بسبب الإصرار على استقطاعها عن أفواه مواطني هذه البلدان المعدَمين والمحرومين منها والمكابدين بسببها. ويا ليتها تنفذُ وتختفي كي يعي المسؤولون عن معاناة الناس خطأَهم وانحرافَهم عن المبادئ والأخلاق التي خُلقتْ هذه النعمة على أراضيهم لما هو صالح وخير مواطنيهم وليس لتجويعهم وتشتيتهم والنكاية بهم بسببها.
لقد تحوّلت نعمة الموارد الطبيعية، ولاسيّما النفطية منها مؤخرًا، في عدد من بلدان الشرق الخائب والمتعثّر في تغيير الفكر وفهم الدّين والأخلاق وفي طريقة العيش الآمنْ، تحوّلت إلى نقمة حقيقية على قاطنيها ومواطنيها. إنّ تبديد هذه النعمة، ليس لها من معنى، سوى سيرِ مَنْ يسيء استخدامَها في طريق الشيطان والشرّ الأثيم الذي لا تقبلُه أيّة ديانة أو مجتمع معتدل وسويّ في فكره الدّينيّ والحضاريَ والاجتماعيَ والأخلاقيّ، إلاّ ألّلهم مَن ليس لهم حضارة البتة ومَن لا يؤمنون لا بالأخلاق ولا بالحياة الكريمة المشروعة التي أرادها الخالق لخليقته الضعيفة.
إن انجرار عصابات مسلّحة مؤخرًا، إلى التجارة بالنفط ومشتقاته، إنتاجًا وتسويقًا، يُعدّ مؤشرًا غاية في الخطورة. فهو من جملة ما يريد قولَه وما يعنيه أنّ هذه النعمة، إذا ما استولت عليها هذه العصابات وتاجرت بها عبر سماسرة معدومي الأخلاق وخالي الوفاض من أية أخلاقٍ أو نوايا وطنية أو مشاعر إنسانية، سوف تتحوّل تمامًا إلى كارثة تحرقُ الأخضرَ واليابسَ معًا وتُنذرُ بشؤم محتومٍ سيكون وبالاً على كلّ مَن يتعاطى الاتجار به وحرمان أهلِه وأصحابه من نعمتِه وبالحق بالتنعّم بخيراته.
بالتوازي، فقد أضحت المادّة والكسب غير الشريف والتعامل بالسحت الحرام وسرقة الناس وسلب البيوت الآمنة والسطو على المحلاّت واختطاف البشر لغرض الحصول على الأموال، ديدنَ الكثير من العصابات التي كثرت وتعدّدت، في عموم البلاد بأشكالٍ وطرق متنوعة. منذ السقوط في 2003 ولغاية اليوم، هناك عصابات مسلّحة تجول وتصول بأسماء وهمية، وأخرى بأقنعة ذات واجهات حكومية وهويات أحزاب نافذة، في معظمها دينية. فيما تقف الدولة عاجزة عن تبرير مثل هذه الأعمال غير المقبولة ووضع اليد على الفاعلين، ذلك أنّ منهجَها وهدفَها وغايتَها تتطابق مع وضع الحكم القائم ومنهجه ومَن يسودُه ويقودُه.
إنَّ ما يحصل في مواقع ومناطق تزخر حقولُها بنعمة النفط في أيامنا هذه، خير الدلائل على النية المبيّتة لمثل هذه العصابات الدولية التي تعمل من دون شكّ تحت غطاءات دولية معينة حامية لها أو تدّخر الصمت لحينٍ وأجلٍ. إن منهج عصابات الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ومَن على شاكلتِها من تنظيمات دولية مسلّحة متشدّدة بالسيطرة على منابع النفط، تعني وجود كارتلٍ عالميّ ينوي الاستحواذ على هذه النعمة ومواردها لأغراضٍ مشبوهة تُستخدم في تمويل أعمال عنف وقتل وتهجير وترعيب وترهيب أناسٍ آمنين. ولكن عندما تحدث مثل هذه الأعمال الإرهابية وسط صمت المجتمع الدوليّ وعدم اكتراث الدول والحكام لجسامتها وفظاعتها ولا أخلاقياتها، فهذا نذيرُ شؤمٍ بتفريغ البعد البشري للإنسان عمومًا من إنسانيته وبراءته. وهذا الصمتُ عينُه إثباتٌ قاطعٌ على التواطؤ والمشاركة في مثل هذه الفظائع، بأية مسمّيات كانت، دينية أو عرقية او طائفية أو باسم الحرية والديمقراطية التي جلبتها العولمة وبالاً على الأرض وساكنيها، بسبب عدم الاستفادة من خيرها والاكتفاء بما تأتى به من شرّ وغدرٍ وقتل وبطش وتهجير بمسميات عديدة. كما أنّ الرابح الأكبر في هذه جميعًا، هو الاستكبار العالمي وربيبته إسرائيل التي تسعى لإنشاء دولتها الكبرى من النيل إلى الفرات، كما نقرأ في الأدبيات.

داعش، تنظيمٌ مسخٌ مدعومٌ دوليًا
إنّ وجود تنظيم داعش الإرهابيّ، الأعتى والأغنى والأرعن، في كلٍّ من سوريا والعراق، وعبر حواضن سرّية له في عموم المنطقة، قد يحوّله إلى كيان مسخ فيها، تمامًا كما حصل بخلق الكيان الصهيوني في بؤرة المنطقة من قبل الاستعمار البريطاني وأعوانه. فهذا التنظيم، بمثل هذه القوة وهذه السطوة وهذا التأثير، كان لا يمكنه المقاومة والصمود لو لمْ يكن مدعومًا ويسير بحسب خطط سديدة ومرسومة من قبل الأسياد. إن زرع هذا الكيان بهذه السرعة في المنطقة، لا يختلف أيضًا برأيي، عمّا عانته أوربا والعالم من تأثيرات النازية التي سلبت العالم حريّتَه ونزعتَه الأخلاقية وطبيعتَه البشرية المسالمة، فتحوّلت أوربا بموجبها إلى كيانات صاغرة وخانعة وخارجة عن أصول الأخلاق المسيحية السمحاء، وهي ما تزال تعاني ذاتَ التأثير بتخلّيها عن المعتقدات المسيحية والإيمانية الصادقة التي كانت مترافقةً لها في سياساتها ومناهجها وتطلّعاتها على السواء. وهكذا المنطقة، ستتحولّ إلى بؤرة إرهابية للقتل والتدمير والفساد تحت راية "ألله أكبر" التي يرفعها البرابرة الجدد.
اليوم، فيما ينشغل السياسيون والانتهازيون في الحكومة الفاسدة، بل في الدولة الغارقة في الفساد والمصالح الفئوية والمحاصصة الطائفية المقيتة المرفوضة من الجميع إلاّ من القادة والأحزاب والطوائف، نلمس تقدّمًا للتنظيمات الإرهابية على الأرض بتحقيقها مكاسب متتالية، غير مبالية للرفض المحلّي والدولي، لكونها تسير وفق مخطّط واستراتيجية منهجية وليس من فراغ، بل بدعم وتنسيق دوليّ كبير، لا نفهم سرَّهَ ولا أمَدَه.  بينما الحكومة العراقية، لم يخرج من مكاتبها غير ضمانات وتأكيدات وتطمينات لشيءٍ اسمُه الطائفية والكتلة الأكبر، وبجدارة، ومن ثمّ المماطلة في الإبقاء على هذا الدّاء. فيما ما زال رئيس الوزراء المنتهية ولايتَه يصرّ على ولاية ثالثة ويتشبّثُ بالكرسيّ، بالرغم من اعتراض شعبيّ ساحق وتوجيهات المرجعية الشيعية الصريحة، ووسط اجتياح تنظيمات داعش للقصبات والبلدات وسقوطها الواحدة تلو الأخرى. فقد أوصلَ البلادَ إلى شفير الهاوية وعزّز الميليشيات وسمح بالفساد وسكتَ عنه وفتّتَ البلاد وشظّى نسيج الشعب الواحد وفسّر بنود الدستور والكتلة الأكبر كما يحلو له. أينَ كان هو والمحكمة الاتحادية التي يهيمن على قرارها، حينما فاز غريمُه في العراقية بأكثر المقاعد عددًا في 2010؟ ولكنه بالتآمر مع قوى منتفعة أخرى، ابتكروا لعبة الكتلة الأكبر على طريقته وشكل حلفائه؟ لماذا لا يقبل بكتلة المواطن الشيعية أن تكون اليوم هي الأكبر بحسب التفسير السابق للمحكمة الاتحادية الّلا-مستقلّة، طالما أنّه جزءٌ منها وقد دافع عن هذا الرأي الذي كان استخرجَه منها قسرًا آنذاك؟
أقول، مادام القائمون على سياسة البلاد أغرابًا لا يحملون في جعبهم سوى حبّ الكراسي وتكديس الأموال وتقديم مزيد من الضمانات بالسيطرة على مقدّرات الدولة ووزاراتها ومؤسساتها، بحيث أضحت هذه الأخيرة تُباع وتُشترى في سوق نخاسة الساسة العراقيين الحاليّين دون خجل ولا وجل، لا من ربِّ العالمين ولا من دعوات الثكالى والمحرومين والمعدَمين وأصحاب الحق من جميع المكوّنات العراقية الأصيلة، فإنّ البلدَ لن يشهدَ راحةً ولن يعود خيمةً لجميع المتعّبين والثقيلي الأحمال الذين وصفهم المسيح ذاتُه في رسالتِه بعد اطّلاعه على خراب العقل البشري وظلم الحكّام وقهرهم. فابنُ البلد الأصيل في الشعب والأرض والتراث والحضارة، لم يعدْ له اليوم أكثر من السابق، مقامُ في إدارة البلاد ومواردها والتي سادتها الفوضى بفضل تقاعس هؤلاء الساسة المراهقين ودجلهم ومواربتهم وانسياقهم وراء مصالحهم الشخصية والفئوية وفق مخطّطات دولية وإقليمية مغرضة.
 إننا نعتقد، أنه ما دامت المحاصصة قائمة على قدمٍ وساق، وما دام التشبّث بالمناصب والمواقع حاضرًا بالرغم من تحذيرات المرجعيات الدينية، ولاسيما الشيعية منها بضرورة التغيير، فلن يحصل المواطن العراقي سوى خيبة أمل وتراجع في الحقوق جميعها وفي الوضع المأساويّ والحرمان. فالحكومة القائمة ومَن يشاركُها، ستظلُّ مهتمّةً بما ينفعُ مصلحة مواليها وما يدخل إلى جيبوِهم المترعة ويعزّزُ من رصيدهم الفئوي والشخصيّ والطائفيّ على السواء. فيما ستواصل "داعش" ومَن على شاكلتِها ومَن يواليها ويبايعُها، اجتياح المدن والبلدات، والاستيلاء على حقول النفط والغاز وضمان بيعِه بأبخس الأثمان عبر سماسرة، جلُّهم ممّن في الحكم أو مشاركون فيه بطريقة أو بأخرى عبر أدوات محميّة. وبذلك تكون هذه النعمة قد تحولت إلى نقمة بفعل إرادة الشرّ المتزايدة لدى نفرٍ من الأنانيّين والمفتقدين للحس الوطنيّ وغير العابئين بمصلحة الشعب العليا قبل مصالحهم. وإن لم يستدرك الساسة بسرعة مجمل هذه التهديدات بالغة الخطورة القائمة ويستعجلون تشكيل حكومة شراكة ووحدة وطنية عراقية خالصة تبتعد عن الأخطاء القاتلة والأزمات المتتالية التي جلبت الويلات طيلة ولايتين بالتحديد، فإنّ البلاد آيلةٌ لمزيد من الانهيار وللفناء وللتجزئة والتفتيت وفقدان الهويّة العراقية الأصيلة.
لويس إقليمس
بغداد، في 4 آب 2014

327
راجعين إليكِ يا موصل!
لقاء الشبيبة الكاثوليكية في بغداد من أجل الموصل : لقاء صلاة وتأمّل وتبادل خبرات 
(31 تموز – 2 آب 2014)
نظمت الشبيبة الكاثوليكية في بغداد لقاءً ثلاثيَّ الأيام، تضمّن برنامجًا حافلاً بالصلاة والتأمل وتبادل خبرات عايشَها مسيحيون وسط آلام ومآسي وعنف متواصل وتهجير واضطهاد مبرمَج ضدّ مسيحيين ومكوّنات أقلية وشعب كامل. هذه المآسي متواصلة منذ غزو العراق في 2003، ومتطوّرة في المنهج الجديد وما آلت إليه مؤخرًا بعد السماح الدوليّ السافر لمجاميع إرهابية مسلّحة متشدّدة باستباحة أرض الأنبياء ومراقد الأولياء وكنائس وأديرة وجوامع ومعابد، وآخرُها تهجير مسيحيّي الموصل. كلُّ هذا وذاك، عائدٌ في أسبابه، إلى  الفوضى الخلاّقة التي أتى بها الغازي الأمريكي ومعه قساة الرقاب من دول مجاورة وإقليمية، والتي اأشعلت منذ البداية، صراعًا طائفيًّا مقيتًا عشقهُ سياسيّو العراق بعد الغزو وتشبثوا به وما زالوا حتى وقوع خرابه، بموجب الأجندة المرسومة.
في اليوم الثاني للقاء، قدّم عددٌ من الحضور شهادتَهم الشخصية، وكان لي الشرف أن أكون أوّلَ المتحدّثين. ولاعتقادي بأهمية ما طرحتُه من خبرة شخصية، فقد ارتأيتُ نشرَه من أجل تعميم الفائدة. وهذا هو النص الكامل للخلاصة التي تقدّمتُ بها في هذا اللقاء الشبابي المتميّز، علمًا أن اليوم الثالث والأخير، شهدَ قداسًا أقامه غبطة البطريرك لويس ساكو بحضور جمع غفير من المؤمنين.

نص الخبرة الشخصية
-   الإنسان وليدُ يومِه... ولكنّه لا يمكنُه نسيان ماضيه وماضي المجتمع الذي يعيش فيه... إلاّ أن الاعتماد على الماضي وحده والتشبث به بدون منطق الحياة لا ينفع، لأنه يجعل الشخص يراوح في مكانه ويحدّ من تنويره وتطلّعاته المشروعة.
-   الخبرة الإيمانية التي نقدّمها، إن لمْ تمتزج بخبرة حياة يومية، ستكون ناقصة وغير فاعلة.
-   كلنا نستطيع أن نصلّي في بيوتنا ونشهد لإيماننا، ولكن من دون امتزاج هذا كلّه بتقديم فكر مستنير وشهادة حياة ناطقة بما يحدث حوالينا وحول معالجات لمشاكلنا وصعوباتنا والهدف من اضطهادنا علنًا وبالسرّ، فإن ذلك يبقى في حدود تخدير المؤمنين والعجز عن تقديم معالجات جذرية ومفيدة وفاعلة.
-   اليوم تتزايد الضغوط على المسيحيين في العراق وفي المنطقة بحسب أجندة منهجية يتمّ تطبيقُها من قبل دول عظمى وأخرى متعاونة وراعية، معتمدةً على عملاء وأدوات يمهدون السبيل سواءً بالسكوت والتغاضي عمّا يجري أو بتقديم الدعم اللوجستيّ عبر حواضن مشبوهة، بعضٌ منها مشاركٌ في سياسة البلد وقيادته.
-   هذا المخطّط، بات معلومًا، والجميع يتحدّث عنه علنًا، لأنّ الصورة اتضحت والعوامل عُرفت والدوافع كُشفت. الدول الاستعمارية الجديدة منها والقديمة ومَن يرتمي تحت أجنحتها، وبصورة أوضح، أقصد أميركا وبريطانيا ودول غربية محسوبة ظلمًا على المسيحية وعبر أدوات إقليمية في تركيا وقطر والسعودية ودول خليجية أخرى، تدعم المشروع الأمريكي – البريطاني - الإسرائيلي المشبوه الذي يرمي لتفريغ الشرق الأوسط من المسيحية.
-   لكنّ المسيحية ليست وليدة اليوم ولم تأتي من فبركات وترّهات خالية القيمة الاجتماعية والأخلاقية والإيمانية.
-   كنيسة المسيح مبنية على صخرة إيمانية قوية وقويمة، قادرة على التعامل مع مثل هذه الأقدار ومع الاضطهادات " سيضطهدكم العالم وستُسلّمون إلى المجامع والمحافل ويُعتدى عليكم، ومَن يصبر فذاك يخلص"، هذا ما حذّرَنا منه المسيح.
-   بولس الرسول، اضطهد المسيح والمسيحيين، وبأعجوبة ربّانية، تحول من شاول قاسي القلب ومضطهد إلى بولس، رسول الأمم ومبشّر، فدى نفسه عن ربّه الذي هداه. وإليه يعود الفضل الأكبر في بواكير التبشير. وهو أيضًا اضطُهد وعُذّب وصُلب من أجل المسيح وكنيسته. لذا فإنّ مفهوم الاضطهاد قائم في المسيحية منذ نشأتها قبل أكثر من ألفي عام.
-   شعارُ المسيحية هو المحبة. لكنّه لا يعني أبدًا التخاذل وطأطأة الرأس لكلّ مَن هبَّ ودبّ ويريد تقويض مبادئها واستغلال طيبة المنتمين إليها.
-   سادت المسيحية بطرق سلميّة وليس بالسيف، بل بقوّة الروح الذي دفع الرسل وتلاميذهم للبشارة في بلدان العالم وشعوبها حيث بلغت البشارة أقاصي المسكونة، بفعل الروح القدس الذي كان معها يرافق بنيها وبناتها... هل سيتخلّى عنّا اليوم؟ هذه مخاوف وأسئلة تُطرح من قبلنا جميعًا، لأنّنا ضعافٌ في الإيمان. "مَن كان له إيمانٌ بقدر حبّة الخردل، لاستطاع نقل الجبال من مكانها".
-   الكنيسة، أمُ رؤومٌ كالوطن الذي يبسط جناحيه لأبنائه. هي مؤسسة تجمعُ أبناءَها تحت كنفها ولا تفرّطُ بهم... وإن فعلَ ذلك بعضُ قادتها في غفوة من الزمن وفي حالة ضعفٍ، فذلك ليس مقياسًا، لأنّ الأصحّاء والمؤمنين الصادقين يجتمعون مع عريس الكنيسة، ليسَ بتقرّبهم من جسد الرب ودمه، بل في حياتهم اليومية التفصيلية، ذلك أنّ المسيحي يعيش شهادة حياة مسيحية تتخذ من المحبة واحترام الآخر المختلف سلوكًا يوميًا من غير رتوش. هذه أحلاقُنا التي نختلف ونتميّز بها عن دين الغير.
-   أمّا ما حدثَ بالأمس ويحدث لنا اليوم، فدعونا نبحث معًا في الأسباب والحيثيات لنصل إلى درس بل إلى دروس مفيدة لليوم وللغد.

كنيسة سيدة النجاة شهيدة وشاهدة
-   الجريمة الكبرى التي قصمت ظهر المسيحية كانت في حادثة كنيسة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010. هذه المأساة زعزعت ثقة المؤمنين بانعدام فرض العيش وسط مجتمع بدأ يتحول لمجتمع يتسم بثقافة الموت والعنف اليوميّ لأسباب طائفية، ليس لنا فيها ناقة ولا جمل.
-   حادثة سيدة النجاة تمثل لنا شهادة قديمة حديثة، قرأنا وشهدنا فصولاً منها منذ نشأة المسيحية في الاضطهاد والقتل والتهجير.
-   صليبُنا ثقيل، على عسر المأساة، وقد ازداد ثقلُها بعد الحادثة المشؤومة، ليصل في أحداث الموصل وما حواليها أشدَّ ما عاناه المسيحيون في العراق، ربّما يوازيه ما عانوه في سوريا الشقيقة.
-   في تلك الحادثة فقدنا أعزّاءَ لنا، 45 شهيدًا بينهم كاهنان شابّان، كما كنتُ أنا وغيري شهودًا بل مشاريع شهادة فيها حين كنّا تحت رحمة عصابة متطرّفة حاقدة.
-   لا أنسى مشهد ذلك الشاب زميلكم في الشبيبة، أيوب، المضرَّج بدمائه في غرفة السكرستيّا وهو يصلّي سبحة الوردية حتى نهايتها ويرسم إشارة الصليب بعد نهاية كلّ سرّ للوردية، حينما انقطعت أنفاسُه ونال الشهادة. كنتُ حريصًا أنا وابني اليافع سقيَه بالماء المتيسّر حتى نفاذه بسبب انكسار الإناء المبرّد. هذا إيمانُنا وهذه شهادتُنا نحن المسيحيين، لا نقبل غير المسيحية دينًا، وغير يسوع ربًّا.
-   منذ التغيير المأساوي في 2003، تعرّضت أكثر من 60 كنيسة ودير ومؤسسة ومؤمنين إلى أعمال عنف وتفجير وخطف وقتل. لكنّ في كلّ تلك الجرائم، صمد المسيحيون وبقيت الكنائس مفتوحة للصلاة والعبادة، بالرغم من هجرانها من البعض لأسباب لا نريد الدخول في تفاصيلها.
-   لكنّ سقوط الموصل، مدينة نينوى العظيمة بهذه الطريقة وما تبعها من تهجير قسريّ بسبب الاختلاف في الدّين، فهذا أمرٌ جديد في بلادنا. لأول مرّة في تاريخ الموصل تخلو الكنائس وتفرغ الأديرة من المسيحيين. حتى التتار والمغول، لم يفعلوا ما فعلته العصابات المتشدّدة.

واقعٌ ما بعده مهادنة
-   بدءًا أقول، كفانا مجاملات وطأطأة رؤوس للغريب والمستغلّ والمتاجر بحقوقنا وبهويتنا وبشعارنا في المحبة. كفانا تصديق مَن لا يصدُقُ معنا ويريد اجتثاثنا.
-   بعد سقوط الموصل والاعتداءات السافرة على عدد من بلداتنا، سمعنا واطّلعنا على نداءات خجولة وبيانات استنكار وإدانة... هذه جميعًا ليست كافية وهي بالتالي غير مجزية إزاء تهديدٍ قائمٍ بفقدان الهوية. وتعلمون ما المقصود بالهوية أي تغييب الكيان وقتل الروح والجسد معًا، وبالتالي تفريغ كنائس وبلدات وقرى من مواطنين أصلاء متجذّرين في الأرض منذ البشارة الأولى على أيدي مار توما الرسول وتلميذيه أدّي وماري. وكنيسة كوخي في قطيسفون شاهدة على أصالة المسيحية في العراق.
-   حتى قرار بعض الدول، ولا سيّما الأوربية منها، المتعاطفة خجلاً مع مأساتنا، حين أبدت استعدادها لتسهيل هجرة مسيحيّي الموصل وتوطينهم على أراضيها، لا يبدو لنا حلاًّ فاعلاً ومجديًا. قد يكون حلاً مؤقتًا، إلاّ أنه يفتح أبواب الشكوك بتواطؤها ومشاركتها بطريقة أو بأخرى بمخطَّط تفريغ العراق والشرق من المسيحية والمسيحيين.
-   الحلّ يكمن بقطع مصادر العنف والتشدّد والعنف القادم من الخارج والتي تشترك بها دول عظمى وإقليمية. بهذا تتعزّز المسيحية عندما يحترم المختلفُ معنا خيارَنا بالإيمان المسيحي ويقبلُنا كما نحن في إطار دولة المواطنة والعدل والحرّية الفكرية والدينية والاجتماعية.
-   تاريخُنا المسيحي في العراق يقارب الألفي عام، وربّما تاريخُ هويتنا السريانية – الآرامية أبعد من ذلك بكثير، يعود لحضارات سادت في نينوى وكالح وخورسباد وراسن والحضر وما سواها.
-    نحن اليوم بحاجة إلى أفعال واقعية لصيانة هذه الهوية الأصيلة، بحاجة إلى رجال كاريزماتيين شجعان ومتنوّرين على قدر وافٍ من المسؤولية وعلى قدر ضخامة الجريمة التي تُرتكبُ بحقنا. نريد قادة كنسيّين واعين ومتفهّمين للمشكلة وأبعادِها، بل أقول للأزمة الراهنة ونتائجها، رجالاً بحق يقولون "لا" لمَن يتجرّأ ويرتكب أو يحاول مجدّدًا ارتكاب حماقات تريد قلعَنا من أصولِنا وقرانا وتفريغ كنائسنا.
-   نريد اليوم رعاةً حريصين فاعلين على الرعايا، يرعون الخراف والكباش معًا بهمة ولا يغادرونها أو يتركونها فريسة للذئاب الخاطفة، وما أكثرها حين تجتمع علينا!
-    نريد أفعالاً تحدُّ من معاناة المؤمنين وتساهم في تجّذرهم وتقف إلى جانب معاناتهم وإيجاد الحلول الفورية والبعيدة الأمد لمستقبلهم، وليس بتشجيع تهجيرهم وحملهم لترك الوطن وخيانة الوديعة التي أؤتمنوا عليها.
-   لا نقبل أن تتحول كنائسًنا في يومٍ من الأيام إلى متاحف أو قاعات تنفخ هباءً بلا رائحة ولا طعم.
-    الكنيسة ليست حجارة مرصوصة. هي أنا وأنتَ وأنتِ، معاً نعيش إيماننا بالمسيح بقوة الروح وتكاتف المؤمنين جميعًا وعون الرؤساء الروحيّين الذي قبلوا الأمانة وتعهّدوا بالسهر والحنوّ على الرعية والوقوف إلى جانبها للحماية من مكايد الشياطين، وما أكثرهم اليوم!
-   إذا فقدَ المسيحيون وجودَهم وضاعت هويتُهم وسط هذه الإرهاصات الأخيرة، فذلك يعني إنذارًا بالشؤم والاحتضار، وحاشا لكنيسة المسيح أن تحتضر، لأنّها سليمة ومتجدّدة "أرسلْ روحَك فيخلقوا، وتجدّد وجه الأرض".
-   نحن اليوم، أمام أزمة وجود، وهذا يتطلّب رفع الأصوات... صرخة بل صرخات استغاثة.. وما أكثر الصرخات التي رُفعت في هذا الجانب، ولكّن الترهّل في المطالب وعدم الإلحاح بإيجاد مخارج للأزمة والجريمة هي من الأسباب التي جعلت الأعداء يتمادون في غيّهم والدول العظمى تستغلُ طيبةَ المسيحية والمسيحيين ومهادنة رؤسائهم من أجل إعادة جولات الاعتداء بين الفترة والأخرى دون خجل وحياء، ومنها دول تتبجّح بحماية المسيحيين حصرًا وسائر الأقليات.
-   علينا إيجاد أبواب ونوافذ ندخل منها وإليها من أجل الضغط الفعليّ على المجتمع الدوليّ ليجد لنا حلاًّ، كما فعل ذلك مع أزمات كوسوفو وصربيا وتيمور الشرقية وكردستان. ومن حقّنا الدفاع عن أنفسنا مثل غيرنا، إذا غاب الغطاء الوطنيّ وانعدم الاستقرار والأمن والسلم الأهليّ، وليس من المعقول ترك هذه المهمّة للغريب. فهذا مهما كان الحرص الذي يعلنُ عنه والتشدّق بالتعاطف، فإنّه بالتالي سوف لن يراعي في ذلك إلاّ مصالحَه وسيتركُنا وقت الشدّة فريسة للغير وللوحش الكاسر.

مجلس مسيحّي موحّد مستقلّ وشجاع، خيارُنا للمرحلة
-   هل يستكثرون علينا تمتّعنا بحماية دولية ضمن وحدة إدارية أو حكمٍ ذاتيّ كما هي كردستان اليوم؟ ولكن من دون تدخلٍ من الأغراب المرتبطين بأجندات محلية من جيراننا بالمنطقة.
-   توحيد خطابنا السياسيّ في سهل نينوى لساكنيه فقط، ورفض أيّ تدخلات إدارية وسياسية من الإقليم أو غيره، سيزيد فرص حصولنا على هذه الحماية وهذا الاستقلال الجزئيّ، فقط عندما ننتهجُه ضمن وحدة الوطن وليس وفق أجندات التجزئة والتقسيم والتفتيت المطروحة.
-   هذا العمل الجبّار بحاجة لإبراز دور المسيحيين في الولاء للوطن، وهم أكثر من غيرهم أشدّ تعلّقًا بالأرض والماء والهواء، وبشهادة الجميع.
-    هناك قادة وزعماء وناشطون دوليون مؤمنون بقضايا مواطنيهم، تمكنوا من طرق أبواب المنظمة الدولية والحكومات بشجاعة يُحسدون عليها، واستصرخوا الضمير الإنساني وحصلوا على مبتغاهم. هل لنا أن نشهد قريبًا مثل هذه الاستغاثة والصرخة المدوّية؟
-   لماذا سقطت الموصل؟ لماذا استبيحت نينوى يونان؟ هل من أجل تأديب ساكنيها ثانية؟ إن كان كذلك، فلنجلس بالمسوح والرماد ونطلب من ربّ العباد أن يغفرَ لنا ويعيننا على الخروج من فم الحوت الطاغي، هذا الحيوان الكاسر الجديد المتمثل بعصابات داعش السلفية والجهادية الجديدة التي كادت تغزو العالم، فيما الدول العظمى تتفرّج على المأساة التي جلبتها أياديها الينا.
-   الرياء الذي يبرز هنا وهناك بحجة حماية المسيحيين، هو الذي يعمّق مبتغى التمتّع بهذه الحقوق.
-   حتّى إعلامُنا ليس موفقًا في طرح المشكلة والأزمة، بل إنه لا يرتقي إلى مستوى الجريمة المنهجية بحق الشعب المسيحي. وهو لم يثبت تحرَّره من عقدة الولاء لأولياء النعم وكيل المديح والإطراء والإشادة بشخوص هذا أو ذاك من المدّعين بالدفاع عن حقوقنا التي تراجعت من سيّء إلى أسوأ. نأسفُ أن يستغلّنا بعض هؤلاء الأدعياء بوسائل وطرق مشوّهة لا تمتُّ لأخلاقنا المسيحية والإيمانية.
-   لماذا تهمل بعض وسائل الإعلام وعدد من المواقع الالكترونية التابعة للمكوّن المسيحي بالذات، المستقلّين من ذوي الأفكار المستنيرة والمتفتّحة والصادقة التي تنشد البناء والتنمية وتستطيع المساهمة في رسم مستقبل واعد ومستقرّ للمسيحيين؟ فولاءُ هؤلاء المتنوّرين الشجعان، ليس إلاّ للوطن وللمكوّن المسيحيّ وليس لغيرهما.
-   أقول، حتى كردستان التي آوت وتأوي المسيحيين مشكورة، ليست بعيدة عن تفاقم الأزمة وعن مخطّط التهجير والتقسيم لأسباب قومية وتوسيعية بحتة، وإلاّ لكانت واجهت العصابات قبل دخولها الموصل.
-   بالمحصّلة، آن الأوان للإسراع بتشكيل مجلس مسيحيّ سياسيّ موحّد في خطابه وكلمته وقراراته التي لا ينبغي أن تحيد عن الرؤية الشاملة للكنيسة، دون أنّ يحاول البعض جرّ الرؤساء الروحيّين إلى لعبة المصالح السياسية التنظيمية والمادية. علينا إبقاءُ دورهم مرجعيًا محترَمًا في إطار الاستشارات التي تراعي المصلحة العليا لعموم مسيحيّي العراق وشعبه على أساس المواطنة والكفاءة وبعيدًا عن سفاهات المحاصصة التي تتعمّق يومًا بعد آخر، بالرغم من انتقادها من الجميع على السواء.
-   أليوم إمّا أن نكون أو لا نكون. وعلى هذا الأساس ينبغي أن نعمل جميعًا. فالبركة فيكم أيها الشباب الواعي. تمسكوا بالحيادية في تقدير الأشياء والنظر إلى الأحداث التي ينبغي أن تقرأوها بروية وبهداية الروح، وبالإيمان الممزوج بالرجاء والأمل.
-   تيقنوا ونحنُ معكم، أنه بالإيمان وعيش رسالة الإنجيل، كما يجب، استطاعت المسيحية قهرَ العالم.
-   أمّا الواقع الجغرافيّ والديمغرافيّ الراهن، فلن يغلبَ حقائق التاريخ أو يتمكّن منها.
-   المسيحيون لهم تاريخ ولهم جغرافيا... هم قلبُ الشرق وأساسُه وبناتُه وهم الأصلاءُ فيه. فإذا فقد الشرق هذا القلب سوف يتوقف نبضُه ويضمحلّ مع الزمن.
-   لنا أملٌ ولنا رجاء. كلاهما لم يموتا، حتى لو شكّك البعض في ذلك. واليوم نؤكد سويّةً اعتمادنا عليهما معًا.
-   الحمدُ لله أننا ما زلنا نحتفظ بشيءٍ من سمات هذا الإيمان وهذا الرجاء وهذا الأمل، وهي كفيلة بإنقاذنا وانتشالنا من المأساة والمصير الذي يحيطُ بنا ويهدّدً هويتَنا ووجودَنا.
-   دعاؤُنا من الرب يسوع أن ينجينا من محنتنا بجاه والدته التي حفظت الموصل من تدمير موجات الجوج والماجوج قبل قرونٍ خلت، ولكنها لم تتدخل هذه المرّة. لماذا؟ إسألوها، إذا شئتُم.
-   أخيرًا، لنردّد معًا: راجعين إليكِ ياموصل.. راجعين إليكِ ياموصل.. راجعين إليكِ ياموصل..


لويس إقليمس
 بغداد، في 1 آب 2014

328
بغديدا - قرقوش في قلب الحدث
لويس إقليمس

بعد سقوط الموصل في 10 حزيران المنصرم، دخلتْ قرقوش/ بغديدا هي الأخرى، بتاريخ الأربعاء 25 حزيران 2014 في مأساة كبيرة لا تُحسدُ عليها، أعادتها إلى حقبة هجمات التتار والمغول والعصمليّة (العثمانيين)، الذين كانوا يدمّرون ما تقع عليه أياديهم القذرة وإراداتُهم الجامحة وأحقادُهم الكريهة ضدّ كلِّ ما يصادفونه من بشر ومادة وحجر. فهي اليوم بين نارين، تمامًا كما توقعناه ورآه غيرُنا في وقت سابق، بعد أنْ أُقحمتْ في صراعٍ كرديّ-عربيّ، لا ناقة لأهلها فيه ولا جمل. الواقع الجديد إذن وبسببٍ من ضعف الحكومة المركزية وخوار عزيمة الجيش الوطنيَ، جعلَها تقبع حائرة بين مطرقة تنظيمات مسلحة مجهولة الهوية والأصل تناغمت في غيّها مع أبناء عشائر عربية على محيطها من ناقمين وقساة رقابٍ وحاقدي حالٍ وضيّقي فكرٍ، وبين سندان الكرد الطامعين في موقعها وأهلِها. ومن حق أبناء بغديدا، أن يخشوا تكرار ذات السيناريوهات التاريخية السوداء السابقة وذات المآسي والجرائم التي اقترفتْ في غفلة من التاريخ، على أيدي برابرة جدد من "داعش" ومِن تنظيمات مسلّحة همجية ترتمي بين جناحيها. فبعد إسقاط هذه التنظيمات الترويعية والترهيبية مدينة نينوى العظيمة في ساعات، يُخشى منهم أن يعيثوا في أرض بغديدا ومقترباتها وغيرها فسادًا وقتلاً وبطشًا وتدميرًا وفرضًا لأحكامٍ لا تنسجم مع طبيعة أهلها في التعدّدية الدينية والإتنية واللغوية والقومية.
قد يقول قائل، إذا كانت محافظة نينوى بكلّ قواتها المتكونة من ثلاث فرق من الأجهزة الأمنية والعسكرية المختلفة، لم تستطع الصدّ والردّ والمقاومة لأسبابٍ ما تزالُ غير واضحة ويعتمرُها اللغز والأسرار التي تعشعش في كواليس إدارتها السابقة وملفات الحكومة الفيدرالية ونوايا قوات البيشمركة التي تحيط بها انطلاقًا من مبدأ مناطق عديدة متنازَع عليها، فكيف بأهاليها وبنيها من الذين يمسكون بأهداب ما تُسمّى بحراسات بغديدا الهزيلة، أن يقاوموا ويصمدوا بوجه هذا العدوّ العاتي؟ والجواب آتٍ كالسؤال، حيث الإثنان يتلاحمان وينسجمان حينًا، وقد ينسف أحدهما الآخر في ذات الوقت، نظرًا لاختلاف الرؤى وتباين النوايا لدى مَن يمسكون الأرضَ أو مَن يبغون بها شرًّا أو هدفًا طيَّ الكتمان.

خلوّ المنطقة مِن قواتٍ نظامية
بدءًا نقول، إنّ مَن أعاق دخول قوّة للجيش الوطنيّ منذ السقوط في 2003، تكون مرتبطة بالحكومة المركزية أو حتّى تشكيلَ فوجٍ مختصّ من أهالي المنطقة مدرَّب تدريبًا وطنيًا وعقائديًا لحماية المنطقة، يتحمّل هو نفسُه المسؤولية الكاملة برفض ذلك المقترح والقرار الصادر من الجهات ذات الصلة. وهي ذات الجهة المغرضة التي أوكلَت نفسَها مهمّة حماية سهل نينوى، متمثلةً ب"المجلس الشعبيّ" الذي خرجَ للمجتمع المسيحيّ كمدّعٍ أوحد وجامعٍ وحامي حمى المسيحيين، باتكائه على حكومة إقليم كردستان المموِلة لأنشطته من أجل تنفيذ أجندة قيادة هذا الأخير، الطامع بأراضي سهل نينوى علنًا، وبالذات مناطق تواجد المسيحيين. لقد اجتهد المجلس المذكور وبتوجيهٍ مباشرٍ من جهاتٍ معينة بحكومة الإقليم أو بغيرها، بقطع أوصال السهل عن الحكومة المحليّة والمركزية على السواء، سواءً بالترغيب أو بالترهيب أو بإطلاق الوعود وتحرير الصكوك ومنح الامتيازات وشراء الذمم، التي لم ينجُ مِن مخالبِها حتى بعضُ رجال الدّين والكنيسة، سواءً بالتورّط بأجندتِها مباشرة أو بالسكوت عمّا يجري أو بالتغطية على عامليها والناشطين فيها أو بمباركتها في أحيانٍ أخرى في لقاءات تشاورية مريبة تجري في دهاليز القصور والفلل الفارهة.
لقد أثبتت المحنة الأخيرة، أنّ أفراد الحراسات التي تبنّاها "المجلس الشعبيّ" تمويلاً وتوجيهًا وما يزال، ترشّحت عن كونِها مجرَّد أدوات أو واجهة أو ديكورٍ يتمّ استغلالُه وقت الحاجة وعند الضرورة لتأليب المنتسبين إليها أو توجيههم نحو هدفٍ مقصودٍ يتمثل بضمان دعمهم وكسب أصواتِهم وأصوات عائلاتهم وأقربائهم في صناديق الاقتراع التي تضفي لهم الشرعيّة بالعمل في مناطقَ ليسَ لأسياد هذا المجلس الحقّ بدخولها والتحكم بها ومصادرة رأي أبنائها في كلّ شاردة وواردة. إنّي لأعجبُ، كيف يحتملُ رجالُ بغديدا وسيداتُها وعشائرُهم، مثل هذا الذلّ بالخضوع دومًا للغريب القادم من خارج الأسوار ومِنْ غير أهلِهم وأبناء منطقتهم. ولكن، يبدو أنّ الأمر سيّان. إذ عند اللّاأُبالي والباحث عن لقمة العيش كيفما كانت ومِن أينما تأتي، لا فرقَ فيهما. وهذه مأساةٌ كبرى! فمتى يستفيق الأحرار من هذا السبات الذي يُعدُّ فيه كلُّ غريبٍ أفضلَ مِن ابن القرية وابن المنطقة وابنِ البلد؟؟؟ وهل حقًا أنّ مغنّيَ الحيّ لا يُطرب؟ ألمْ يقمْ بيننا بعدُ سادةُ قومٍ لهم كلمتُهم الفصلُ ولهم الشجاعة لقول كلمة "لا" لكلّ مَن هبَّ ودبَّ واخترق أسوار البلدة ليفرضَ كلمتَه وأوامرَ أسيادِه على أهلِها وبنيها وبناتِها ويضع حدّأ للمتخاذلين وبائعي أراضيها وإرادة أبنائها لكلّ قادمٍ غريب؟
قد يكون كلامي قاسيًا بعض الشيء. ولكنّي تألمتُ كثيرًا وسكبتْ عيوني دموعًا، شاهدها مَن يشاركني العمل في المكتب الذي أعملُ فيه، حينما اطّلعتُ على حجم مأساة النزوح يوم الأربعاء الأسود ذاك وما بعده. والأنكى من ذلك، حينما سمعتُ بتسريح ما تُسمّى بحراسات بغديدا الذين انهزموا متخاذلين مرعوبين مع بدء أصوات قرقعة النيران والإشاعات الأولية التي رافقتها، ما حدا بأفرادِها لترك السلاح والفوز بأوّل فرصة لمغادرة البلدة التي خلت في ظرف ساعاتٍ من معظم ساكنيها في اليوم الأول للأحداث وأكملتها في اليوم الثاني، لحين هدوء العاصفة في اليوم الثالث، مقتفين أثر مَنْ يدّعون أنفسَهم أسيادَ البلدة وزعماءَها وممثليها، إداريًا وحزبيًا ونيابيًا ودينيًا، إلاّ مِن قلّة قليلة.



مواقف وحقائق
معادنُ الرجال تخرجُها فعالُهم على الأرض، وقت الشدّة والحسم والأزمات!
ما يدعو للفخر والاعتزاز، بقاءُ الراعي قريبًا من رعيّته حينما تحيطُها ذئابٌ خاطفة تريد النيل من فلذات الأكباد، أبناء الرعيّة. فشجاعةُ المؤمن تأتي من شجاعة الراعي. لقد أثبت المطران بطرس موشي ومَن صمدَ معه من كهنة الرعية، هذه الحقيقة، حينما حرصوا على البقاء ثابتين على ما تبقى من الغنم الشارد الذي توجه في غالبيته من حيث لا يدري، نحو المجهول. ولقد كانَ لحرص المطران الشديد، بإدارة مفاوضات عسيرة بين الأطراف المتنازعة، الأثر البالغ في التخفيف عن المعاناة الكبيرة، بالرغم من عدم إفلاحه بالتالي بوأد الهجمة الشرسة التي كانت تهدّد البلدة وما حواليها بعواقب لا تُحمدُ عقباها، فيما لو لم تُصدّ بهجمة مقابلة من قوات البيشمركة التي تمسك الأرض منذ 2003. وبذلك، يكون من واجبها حماية المنطقة التي تحتلُّها منذ تلك الحقبة، بموجب الأعراف التي تحتّمها أشكالُ احتلال المناطق خارج الحدود. فيما تهاونت ذواتٌ تدّعي القيادة وأخرى في مواقع المسؤولية بهروبها من ساحة المعركة، إن صحّ التعبير، ولمْ تعدْ للبلدة إلاّ حبَا بالظهور والتبجّح مع قدوم رأس الكنيسة السريانية الأنطاكية الكاثوليكية البطريرك يوسف يونان الذي زار البلدة في وقفة تضامنية مع أهلها الذين يمثلون قلعة السريان في العالم. وهذه مواقف تُسجل للرجال على أشكالهم! وقد قالها لهم مؤنِّبًا، المعاون البطريركي في كلمته التضامنية: "موقعكم بين صفوف الشعب والناس وليس في الصفوف الأولى".
إنّي هنا، لست بصدد التعرّض لهذا الموضوع الشائك. ولكن للتوضيح ولقطع أشكال التدخّل بشأن مستقبل منطقة سهل نينوى، وبالذات قضاء الحمدانية ومركز بغديدا/ قرقوش التي أنتمي إليها، هناك حقيقة ينبغي أن يعرفها مَن يريد إبداء الرأي أو تقديم مقترح أو إقحام جهاتٍ لا تنتمي إلى السهل في رسم مستقبلها. إنّ منطقة سهل نينوى بالكامل، مزيجٌ من مكوّنات متعدّدة: مسيحييون بطقوس وملل مختلفة، وإيزيديون وشبك سنةّ وشيعة، وعرب سنةّ وشيعة، وصارليّة وكاكائيون وتركمان وعدد من الأكراد على تخوم محافظة نينوى وما سواهم. هذا السهل محتلٌّ عسكريًا وأمنيًّا من قبل حكومة كردستان منذ السقوط في 2003، مع بقائه مرتبطًا إداريًا بالحكومة المحلية. وقد بقي مهمَّشًا من الحكومة المحلية والمركزية لغاية فترة السنتين الأخيرتين، حينما شملُته مشاريع بدائية لأوّل مرة، ومنها، مشروع مياه الصرف الصحّي "الفاشل" بامتياز، في عدد من بلداته. أمّا مشروع معالجة المياه القائم منذ سنوات في "السلاّمية"، فقد شابَهُ العديد من المعوّقات في السابق، وهو اليوم معطّلٌ عن العمل بسبب العمليات العسكرية القائمة والوضع الحرج الراهن بسبب انقطاع الكهرباء والوقود عنه تمامًا، ما جعل المنطقة بأسرها محرومة من هاتين النعمتين بالتمام والكمال. وما يقوم به أبناؤُها البررة لتفادي الكارثة الكبيرة، ليس سوى إيفاء دينٍ لها عليهم، بغضّ النظر عن الجهات المساهمة والمتعهدة التي تقف وراء مشروعٍ بديلٍ لتجهيز الماء الصافي لأهاليها. فالجميع هنا، رزحوا تحت نير كارثة، كان لابدّ من تجاوزها، من دون أنْ يُجيَّرَ هذا العمل لصالح جهة أو جهاتٍ لأغراض الدعاية والتبجّح والتعالي.

مصير السهل
ألجميعُ يعلم اليوم، أن مصير مناطق سهل نينوى على المحكّ في هذه الفترة الحرجة من تاريخ العراق. إذ حينما تهدأ الأوضاع الساخنة القائمة، بعون الله ودعاء المؤمنين ودعاة السلام والمحبة، وعودة كلّ ما هُدّم إلى نصابه، سيكون لأهالي المنطقة وقفة تاريخية حاسمة، لا تقبل الجدال، عندما يقرّرون مصيرَهم بإبقاء ارتباطهم بحكومة المركز أو التفكير بالانضمام إلى حكومة الإقليم، دون ضغوط أو إكراهٍ. ففي حالة استمرار تردّي الأوضاع وتواصل إهمال المنطقة من جانب الحكومة المركزية والمحلية على السواء، سيكون من المنطقيّ أن يُصار إلى تفكير جدّيٍّ بتقرير المصير، الذي لنْ يكون سهلاً. فالضغوط الكبيرة من الجانب الكرديّ عبر أدواتِه في المنطقة، والعُقَد المادّية التي يتحكمون بها، وضحالة الشخصيات القيادية لدى أبناء المنطقة، وتبعيّة العديدين ممّن يدّعون القيادة وعمل السياسة ونفرٍ من رجال الدّين المغرضين أصحاب المصالح الذاتيّة، كلّ هذه وعوامل أخرى جانبية من أحزاب ومنظمات ورجال كنيسة سيجعلون المهمّة عسيرة لدى تقرير الأفضل والأنسب والأحسن لأبناء المنطقة.
أمّا سياسة الأمر الواقع التي تتحدّث عنها جهات محلية أو من الإقليم ومعها وأمامَها أبواقٌ مستفيدة من هذا الوضع، فهي ليست ولن تكون في صالح الجميع. ليس بهذه الطرق تُبنى البلدان، ولا بهذه الديمقراطيات الزائفة تُعالج المشاكل. وليس سوى بالحوار والاتفاق والجلوس على مائدة المفاوضات والتفاهم، تأتي الحلول المبتغاة والمقبولة من الجميع. وأنا سأكون أوّل مَن يطالب بالانضمام إلى كردستان، في حالة تواني الدولة الفيدرالية الاتحادية والمحليّة وتقاعسهما عن تلبية مطالب المنطقة وتطوير السهل وتنمية موارده وازدهاره، ليس بالقوّة والسبل الملتوية، بل بالقناعة والدراسة والتحليل للمستجدّات ووجود رؤية صائبة لآفاق المستقبل وضمان مصير المنطقة من عبث العابثين. وفي كلّ الأحوال، لنْ يكون هناك استغلالٌ للحال، سواءً بهذا أو ذاك، من قبل جهاتٍ مغتربة وغريبة قادمة من خارج أسوار أهل المنطقة، كما يجري حاليًا. ولو حصل الانضمامُ أو عكسُه، فكلُّ ما ترشّح من الفوضى بعد 2003 واجتياح وتكالب الغرباء، سيوقَفُ عند حدّه، ولن يقبل أهلُ المنطقة أَن يُساقوا خانعين من دون إرادة وموقف ورأي مستقلّ! ولكن، هذا لن يكون مقبولاً إلاّ حين عودة الأمور إلى نصابها وبسط الدولة الفدرالية سيطرتَها على كامل أرض الوطن، بإذن الله، في ظلّ حكومة رشيدة، عادلة، واعية، غير طائفية وغير حاقدة على مكوّنات مختلفة معها في الرؤية والمنهج والمذهب، عندما تتخذ من المواطنة والولاء للوطن هدايةً ومنهجًا وهدفًا.
 لقد كانت للمسيحيين تجربة سابقة عبر التاريخ مع المكوّن الكردي حيالَ اعتداءات متكرّرة على قرى وأراضي ومناطق وأديرة وكنائس في شمال العراق (كردستان حاليًا) لمْ تُحسم لغاية الساعة. وماتزال القيادة الكردية اليوم تماطلُ أيضًا بإعادة المئات من تلك القرى وآلاف الدونمات التي تمّت السيطرة عليها بطرق ملتوية، كما حصل مثلاً لعينكاوا بالاستيلاء على عقاراتها والترويج لاستثمارات فيها بهدف التغيير الديمغرافيّ. كما أنّ ما ادّعاه الموالون للكرد وما يزالون في أدبياتهم وتصريحاتهم مِن تفهّم القيادة الكردية لموضوع حقّ المسيحيين بالحكم الذاتيّ في البلدات والقرى التي يتواجدون فيها في كردستان بالذات، لم يتحرّك قيدَ أنملة رغم المناداة به والتطبيل له من قبل ما يُسمّى ب"تجمّع القوى المسيحية" الذي يقوده "المجلس الشعبيّ". بل هناك أصواتٌ طفت على السطح في هذه الأيام، صادرة من أبواق موالية قابعة في دول الاغتراب، تبشّر المسيحيين بقرب تحقيق هذه الأمنية في منطقة سهل نينوى، وكأنّهم أوصياء على مناطق هذا السهل. ولماذا لا يحوّلون هذا الحرص بالحكم الذاتيّ إلى واقع وحقيقة في القرى المسيحية التي يعجّ بها كردستان؟ فهذه أقرب إلى تحقيق ذلك الحلم الورديّ، سيّما وأنّ هؤلاء المدّعين يتبجّحون بامتلاكهم باعًا طويلة في دهاليز الإقليم وبقربهم من قياداته المتنفّذة. مَن يا ترى خوّلّ هؤلاء التحدّث باسم سكنة مناطق هذا السهل وأهله الأصلاء فيه؟ إنْ أمثالُ هؤلاء إلاّ شرذمة من الخائبين القابعين في دول العمّ سام الذي خرّب الوطن وفتّتَ نسيجَه وأوصله إلى حالته التي يُرثى لها اليوم، وهو على شفير حربٍ أهلية طائفية بسبب مشاريع هذا المحتلّ الجبّار القاسي الذي لا يعرف غيرَ لغة مصالحه القومية والدولار فحسب. فما يجري من تدمير لرموز مدينة الموصل وتراثها وكنائسها وجوامعها ومراقدها، أمام أعين وأنظار المجتمع الدولي المتفرّج والصامت، خيرُ دليلٍ على عدم مبالاة الغازي الأمريكي، ليس لمستقبل المسيحيّين فحسب بل لعموم الشعب العراقيّ.
في ضوء ذات السياق، لن يكون في صالح هذا السهل سوى الالتجاء إلى المجتمع الدوليّ لجعله منطقة آمنةً، تمامًا كما تصرّف وتجاوبَ مع طموحات الشعب الكرديّ إبّان محنتِه التي وقفَ غالبيةُ الشعب العراقيّ إلى جانبهم، ومنهم نحن المسيحيين. إن الوضع الرّاهن يتطلّبُ من الإخوة الأكراد وقياداتهم أن يقفوا إلى صفّ مطالب السهل المشروعة بالأمن والسلام والتنمية والحماية، وليس بممارسة الإكراه والتهديد عبر الأدوات المستخدمة لترويع الناس وإرغامهم للقبول بما لا يرغبون به، لتعارض النية مع واقع الحال وحقائق الجغرافيا والتاريخ. فالمنطقة تاريخيًا آشورية (ليس القصد مَن يدّعي الآشورية المسيحية)، واليوم تدين بثقافة عربية في ضوء نوعية العشائر والقرى العربية والمسيحية والشبكية التي تحيط بها، ولا علاقة لها مع الطابع الكرديّ أو ثقافته، لا من قريبٍ ولا مِن بعيد! كما أنّ لغة المسيحيين فيها سريانية وعربية، كما هي حال الشبك جيرانهم ونفرٍ من التركمان والإيزيدية وأقلّيات أخرى، من الذين لديهم لغاتُهم الخاصة بهم إلى جانب العربية. من هنا، نعتقد أن تقرير مصير السهل لا يمكن أن يأتي عبر التمنيات والقرارات المستعجلة في ضوء الفوضى الخلاّقة التي أوجدَها المحتلّ الأمريكي وأدواتُه في العراق ومنطقة الشرق الأوسط عمومًا، بهدف تجزئة البلد ورسم خارطة جديدة تُسهّل عليه سرقة ثرواته واستعباد العباد بأساليب جديدة وطرق عديدة.
باختصار، ما يلزمُنا في المرحلة الراهنة، أن نتخذ من بلدتنا بغديدا ـ قرقوش، التي تتوجّه الكثير من الأنظارَ نحوَها، أن يكون لها الأولوية في همومنا وأفكارنا ومشاريعنا ووساطاتنا وأنشطتنا مع الدوائر المعنيّة والمنظمات الدولية، وأن يتقدّم ذلك على كل انتماء أو موالاة أو مصلحة ضيّقة وشخصيّة. وليس مقبولاً بعدُ، أن يحدّدَ الأغرابُ مصيرَها ويتحدثوا باسمها وكيف يجب أن تكون أو أن تؤول. فنحن أدرى بمستقبلنا ونحن فقط مَن يقرّر ما يناسب الوضع الراهن مع السابق واللاّحق. وفي قوادم الأيام، كما سبق وقلتُ في مقالة سابقة (السقوط الكبير)، سيعود كلّ شيء لحاله: الطيرُ لعشِّه والحيوانُ لجحره والإنسانُ لأرضِه والغريبُ بدعوات الحفاظ على مسمّى القوميّة سيُطردُ ليعود خائبًا بما أتى به أو جاء من أجله لتنفيذ مشاريع تمزيقية وتفتيتية وتجزيئية لأسيادِه ودافعي أرزاقِه. أمّا أهلُ المنطقة، فسيحتفظون دومًا بعلاقة طيبة مع إخوتهم الأكراد، تمامًا كما هي مع العرب وغيرهم. بل سيعزّزون هذه العلاقة مع الشعب الكرديّ، بعد استتباب الأوضاع وعودة السلام والأمان، سواء بالانضمام إلى كردستان أو بعدمه. كما لن ينسوا مواقف قياداتهم الإيجابية، حتى لو خابَ ظنُّ هذه القيادة، بسبب عدم التجانس والتقاطع في مواقف وأهداف ونوايا وإرادات. والغد لناظره قريب!

لويس إقليمس
10 تموز 2014


329
إشكاليّة البكاء على الأطلال

لويس إقليمس

قائمة الإنسان في الزمان والمكان، تُحسب بمدى تفاعله ونشاطه وسط المجتمع الذي يعيش فيه وينتمي إليه وليس بما كان عليه آباؤه وأجدادُه القدامى، أيامَ زمان. إذ لا يُعقل لإنسان عاقل وهو في زمن العولمة المتسارع الحركة أن يجلس مثنيَّ الركبتين في الأزقة والشوارع أو أن يتسامر، في وقته أو في غيره، في النوادي والمقاهي، كمَن لا شغلَ لديه ولا عملَ، سوى الإتيان بحكايات أيام زمان والتغنّي بأمجادِ الأسلافِ، وكأنها ديدنُه في الحياة. فالأمم المتحضّرة لا تبكي على الأطلال، والإنسان السويّ مَن يتعامل مع الزمان والمكان بإرادة حرّة متطورة وطاقة متجدّدة، لا تقبل العودة إلى الماضي، إلاّ للاستفادة من دروسه والاتعاظ من الكبوات والهفواتِ، وما أكثرَها لو جُمعت! فهو يأخذ من الماضي ولا يعود إليه للعيش في ذات الزمان والمكان، إلاّ لاكتساب الخبرة منه وأخذ العبرة من عظمته والإنجازات المتحققة منه آنذاك لأجل العبور بها نحو الأفضل، وليس إلى الأسوأ.
ذاتُ المنطق ينطبق إذن، على المفاهيم الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسيّة وما إليها من مشاغل الحياة الكثيرة وهمومِها وسط الهرج والمرج الذي يطغى على عالم اليوم. فيا بئس هذا العالم وروّادِه عندما يفقد هؤلاء طعمَ الحياة الطبيعية ويُخلّون بالنظام الذي جبلَه لهم الله الخالق، كي يسعدوا في الفردوس الموعود الذي لم يحترموا قدسيّتَه ولا خالقَه، فأضاعوا المشيتين معًا وخسروا الدنيا والآخرة.
مَن استغلَّ ويستغلُّ الدّين لشهوة عابرة أو لرغبةٍ دنيئة أو مصلحةٍ ضيّقة، فإنّما يحكم على نفسه بالخروج على قانون الله وطاعتِه. فالله لم يخلق البشرية إلاّ لتنعم بالأرض التي وضعها تحت تصرّف أبنائها حينَ أقامَهم أولياء وأربابًا على ما فيها لمدح اسمه القدّوس وللعيش إخوةً على اختلاف المشارب والتكوينات والأشكال والألوان. فالعلاقة بين الله والبشر، أمرٌ شخصيٌّ. وطالما أنّ المخلوق لا يخرج عن معصية الخالق، فهو حرٌّ في تصرّفه، شريطةَ ألاّ يزيغ عن طريق الصلاح ويخلط الأوراق ويؤذي غيرَه من البشر. إذا كنتَ تريد أن تكون متديّنًا تعبدُ الربّ الذي تهواه، فأنتَ حرّ، ولا إكراهَ لغيرِك عليكَ، كما لا إكراهَ منك على غيرِك، ما دمتَ لا تتجاوزَ حدود غيرِك وتسلبُه حرّيَته وتعيقُ خياراتِه. وبذلك يبقى الدّينُ والصلاة والتعبّدُ لله، أيّ إله، من شأن خيارات البشر، ومن ثمَّ لا يمكنُ فرضُه عليه وعلى سواهُ.
تصرّفات نفرٍ من المتشدّدين الذين ابتلي بهم العالم في زمن العولمة الجديد، واكتوت بهم البشرية جمعاء، قد أساءت إلى دين هؤلاء المعاندين الذين يفرضون شكلَ العبادة على أتباعهم في الدّين وعلى مَن هُمْ خارجَه على السواء، بموجب مقاساتهم ومفاهيمهم وأمراضهم. فهم أثبتوا أّنهم لا يمتّون إلى الحضارة بصلة، بل يعودون في تركيبتهم إلى عصور الظلام والهمجية.  وبالرغم مِن أنّ الله خلقَ الإنسان حرًّا ودعاه للصلاح وفعل الخير، إلاّ أنّ هذا النفر الضالّ الذي طفا على السطح بفعل فاعل وبتحريض مَن نشزوا عن المألوف وما أتى به الدّينُ الإسلاميّ الحنيف، فهو لا يقبل أيَّ تصوّر آخر خارجَ ما يعتقدُه في السلف الآفِل منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا خلت، فيها كانت الإبل والماشية سيدّة الصحراء وحادية الطرقات والأزقة وعابرةً الأرض، وقد كانت هذه هي الأخرى بلا حدود. والعجيب في أمر هؤلاء أنّهم مِن أوائل مَن يستخدمون أكثر الأجهزة والأدوات تطوّرًا ويفتكون بالناس الآمنين بأكثر الأسلحة فتكًا، بالرغم مِن أنها من صنع مَن يُتّهمون بأدوات الكفر والخارجين عن دين السلف. إذا كان هؤلاء مِن دعاة السلف الصالح إلى هذا الحدّ، لماذا لا يستخدمون إذن أسلحةَ وأدوات الأمس وبيوتَ الشَعر، تمامًا كما كانوا بالأمس شاردين في صحاري الحياة الآيلة، بدل الاستيلاء على أفخم القصور والسطو على أعلى البنايات ووضع اليد على المصارف ومحطات النفط والتصفية وسائر المشاريع المتقدمة التي تخدم المجتمعات الراقية؟ أليسَ في هذا تناقضٌ واضح ما بين السبب والنتيجة، وبين التبرير والهدف، وبين القول والفعل؟

الوطنُ للجميع

عراق اليوم، ليس ملكًا لأحد، كما لم يكنْ مسجلاً "طابو" لأحد. فهو بلد السلف الصالح كما هو بلد الخلف الحاضر، بجميع التلاوين والأديان والقوميات. هو عراق الكرد والعرب والتركمان، سنّةً وشيعةً، كما هو عراق الإيزيديين والمسيحيين من سريان وأرمن وآشوريين وكلدان وسواهم، وهو بلدُ الصابئة والكاكائيين واليهود والشبك والغجر والفيليّين وسواهم أيضًا. لذا، ليس مِن حقِّ أيّ مكوّنٍ أن يدّعي امتلاكَه بما فيه من بشر ومادة وثروات لصالح مكوّنه ودينه ومذهبه وعشيرته وعائلته. فالأفضل في عيون الوطن والشعب، مَن يحرص على وحدة ترابه ونسيجه ومَن يجهد لأجل تطويره وإنقاذه مِن مأساته التي طالت وحالت دون تقدّمه وتمتّع أبنائه بخيراتِه الوفيرة التي لم يحظى بها أبدًا، بل كانت حلالاً لغيره وحرامًا عليه. ف"الفتى مَن قال ها أنذا وليس الفتى مَن قالَ كانَ أبي"، كما يقول الشاعر. الوجوه تزول وتندثر وتُنسى، ولا يبقى منها سوى ذكريات وتاريخٍ يُسطّرُ لهم نجاحَهم وفشلَهم، صلاحَهم وخبثَهم، وطنيّتَهم وطائفيّتَهم، أمانتَهم وخيانتَهم، تضحيتَهم واستغلالَهم لغيرهم ولوطنهم ولظروفه. لكنَّ الوطن باقٍ، كما أنّ جبالَه وسهولَه وروابيه وماءه وهواءه وسماءَه جميعُها باقية تشهدُ على عظمة تاريخِه وتراثِه وناسِه، ليس من أجل البكاء على أطلالِها وضرب الكفّ بالكفّ، بل لاستلهام العبر والدروس والسعي للأفضل بالخروج من الأزمة التي حصرتْهُ فيها جهاتٌ دولية وإقليمية عديدة بالتعاون أو بالتهاون مع نفرٍ ضالٍ من أهِلهِ الذي ارتضوا بيعَه ب"ثلاثين من الفضة" ثمنًا للخيانة. قد تخسر حبيبًا وتسبدلُه بآخر في وقت لاحق، أو تفقد حليةً أو شيئًا ثمينًا ثمَّ تجدهُ بعد حين، لكنْ مَنْ يفقد وطنَه وأرضَه و أهلَهُ وأصدقاءه، فهذه غير قابلة الاسترجاع، لأنَّ بدائلَها غير أصيلة وإنّما مصطنعة.
حضارةُ العراق الموغلة في قِدم التاريلخ جميلةٌ، وهي قد تشهد لبطولات السلف في أوانها وظروفها، كما تشهد لهم في ذات الوقت، بإخفاقات عديدة ومؤلمة أيضًا. فما نعاينُهُ اليوم قد يعيدُنا إلى جزئيات ذات التاريخ. وهذه وتلك قد تتشابه في بعضٍ منها، لأنّ التاريخ يعيد نفسَه أحيانًا. إلاّ أنّ الاستمرار بالبكاء عليه قد يعني الانجرار إلى مآسٍ وويلات قابلة العودة والتجدّد في الوقت والزمان أيضًا. وهذا ما نحصدُه مِن خلف ابتلائِنا بمثل هذه العقليات المتخلّفة الموسومة بالفشل والتراجع لذات السبب الذي يشكّل المأزق الذي وقعنا فيه اليوم. فالجماعات التي ترفض التجدّد والتطوّر والتمدّن، هي ذاتُها التي أودت بحياة شعوبِها وقادت أممَها إلى التراجع في اصطفافها عالميًا، لأنها رفضت الانسجام مع التطوّر والتفاعل مع الحياة المتجدّدة والقبول باختلاف الآخر وبحقه في الوجود في الزمان والمكان.
فهلْ مِن مستجيبٍ لمراجعة الحياة واختيار الأنسب والأفضل لمصلحة البيت والمجتمع والوطن؟

لويس إقليمس
بغداد، في 9 تموز 2014


330
تبًّا للمتعصّبين دينيًّا وقوميًّا
لويس إقليمس
يُخطئ مَن يعتقد أنّ الإيغال في التمسّك بأهداب الماضي قد يأتي بنتيجة إيجابية. بل ربّما، العكس صحيحٌ أيضًا، إذا لم يحسن الإنسان كيفية الاستفادة من عِبَر التاريخ ولواعجه وشجونِه. فقد أثبتت الحياة، أنّ مثل هذا التزمّت وهذا التشدّد على حساب تدفّق الحياة على نوافذها المفتوحة الكثيرة ستكون وبالاً على سالكيها. رأينا بأمّ أعيننا ما آل إليه الوضع حيث التشدّد الدّينيّ يلقي بظلالِه في منطقة أو دولة أو بلدةٍ بحدّ ذاتها، وكيف تختلف الأوضاع في هذه مقارنة مع غيرها خارج هذا الإطار الضيّق.
في هذا الظرف بالذات، فإنّ كلَّ مَن يتحدّث أو ينساق للحديث عن أشكال التشدّد الدّينيّ كما القوميّ والإتنيّ والدعوة أو التأييد له، فهو مغالٍ إلى حدّ التطرّف والكفر بنعمة الحرّية، حرّية الحياة وهبة الفكر والعقل، التي أنعم اللهُ بها على بني البشر أجمعين. إنّ عبادة الله لا تُبنى بآيات التكفير وصياحات التكبير اثناء قتل الأبرياء ولا بأسواط الجلد ولا بأدوات التشدّد التي يتّبعها أصحابُ الفكر الضالّ، من أيّة ملّة أو طائفة. كما أنّ الأوطان لا تُبنى بعقليات المضلِّلين والتكفيريّين والمتعصّبين بالدّين والقوميّة.
في أوساط الشعب المسيحيّ أيضًا، ما زال البعض يرتكن إلى شيء من الماضي، ربّما كان له ماوجود في ظرف "زمكانيّ" معيّن، إلاّ أنّه ليس بالضرورة أن يكون الأصلح والأصحّ والحقيقيّ، في ذلك الزمان وذلك المكان. هناك مَن ينادي ويستقتل لاستدعاء زمن الدولة الآشوريّة، وكأنّ الاشوريةَ كانت ملكًا للمسيحيّين حصرًا قبل ستة آلاف أو سبعة آلاف سنة خلتْ دون غيرهم، في حين أنّ المسيحية لا يزيد عمرُها عن ألفي سنة ونيّفٍ. ثمّ، مَن ذا الذي يستطيع تحديد الأصل النظيف والطاهر لأسلاف الدولة الاشوريّة الآيلة المعنيّة. ألا يمكن القول، بل الجزم، مِن باب التاريخ المفتوح أن كلّ العراقيّين ومَن يجاورهم في الأرض والجغرافيا، هم أسلاف الآشورية كما هم أسلاف السومرية والأكدية والبابلية والآرامية وربّما غيرها ايضًا؟ قد يكفينا أيضًا، استدعاؤُنا للماضي ولأمجاد الدويلات المسيحية المشتّتة هنا وهناك التي لم تستطع الصمود بوجه الغزاة والطامعين فترة طويلة، كما لم تستطع تشكيل دولة موحدة قوية تحمي أتباع الدّين الجديد، منذ تحوّل شعوبٍ آرامية في المنطقة إلى النصرانية (المسيحية) مع بدء انتشار هذا الدّين في القرن الأول الميلاديّ. فقد بقيت الشعوب الآراميّة هذه والتي عُرفت بالسريان بعد تنصّرها، حبيسة مناطقها ولم تتمكّن من التطوّر والتوسّع، كما كانت الحال مع مملكتي المناذرة والغساسنة ور بما أخرياتٍ غيرهما، ولا نعرف أسباب ذلك بالتحديد.
إنّ صدور دعوات هنا وهناك بتشكيل دولة آشوريّة في منطقة سهل نينوى التي تدين بثقافة عربية منذ حقب زمنية طويلة، محض خرافة وانتحار سياسيّ ودينيّ و"قوميّ" معًا. والسبب واضح، لكونها في غالبيتها دعواتٌ قادمة من أناسٍ قد اتخذوا من المهاجر وبلدان الشتات منبرًا وملجأً يقتاتون منها، وليس لهم مِن شغل شاغلٍ سوى ركوب موجة البكاء على الأطلال واستدعاء ما يُسمّى بأمجاد الأمس التي لا تستقيم إلاّ في أفكار وعقول الحالمين في مرابع الغرب اللاّأدريّ والملحد واللاأباليّ، رغمَ أنّ الحلمَ واردٌ ومشروعٌ وقائمٌ عندما يكون في إنائه الصحيح! إلاّ أنّ المعادلات، ليست في محلّها ولا في قوائمها المضبوطة تاريخيًا ولا جغرافيًا ولا ديمغرافيًا. بل إنّ وقائع التاريخ والجغرافيا تتغيّر مع تتطوّر الزمن، ولا أحد يستطيع أن يوقف عجلتَهما، وتلكم طبيعة الحياة. فكلُّ شيء يبقى مرهونًا بالنسبيّة، ولا شيء ثابت أو مفروض، وإنّما الإيغال في التشدّد والتعصّب دلالةٌ على عدم وضوح الرؤية ووجود قصر نظر لطبيعة الحياة القائمة وللمستقبل. كما أنَّ مثل هذه الدعوات، إنّما تُثارُ أحيانًا لأغراض طائفية ضيّقة تريد ضربَ البنية الوطنية وإضعافَها وتسهيل السطو عليها بموجب أجندات مصدَّرة.

زمن القوميات ولّى
إنّ مَن يبحث اليوم عن أدواتٍ أو أصولٍ للقومية، عليه أن يدركَ أن زمنَ القوميّات لم يعدْ قائمًا، بعد أن دخلت مرحلة الاحتضار منذ فترة سقوط الدول والحكومات التي كانت تتعكّز عليها. وقد اكتوت الشعوب المقهورة في منطقتنا بالذات بسببها وما تزال عندما أوغل دعاتُها في التشدّد والتعصّب لها وبإدانة وتكفير وتخوين كلّ ما سواها. حاضرُ اليوم هو الناطق باسم الشعوب الحيّة وليس الدويلات المنقرضة أو القوميّات التي سادت ثمَّ بادت في غفلة من الزمن، وهي اليوم غير قابلة الإحياء، لأنّ زمانَها قد ولّى إلى غير رجعة، وبذلك انتهت مرحلتُها منذ سقوطها، سواءً بسبب عجزها أو لعدم صلاحيتها لتكون الأكسير الفعّال لشعوبٍ حيّة متحضّرة أقامت لها عناوين جديدة للحياة والحضارة القائمة والمتجدّدة بالرغم مِن إرادتنا.
إنَّ أية عملية بناء جديدة للأوطان والشعوب الناهضة، لا بدّ أن يتخلّله إجراء صعب وفاعل بتكوين ذات جديدة وليس بالعودة للماضي. فللماضي همومُه ولا يمكن له أن يكون خارطة طريق لمسار جديد متحضّر للشعوب إلاّ بقدر ما يستفيد من دروسٍ إيجابية من ذلك الماضي، ولا يعود لتكرار هفواتٍ وأخطاءَ، أضحت من الزمن الفائت. إنّ الزمن يتغيّر، يتقدم، يتطور، يتفاعل، لكنّه لا يرجع للماضي أبدًا.
مَن يختار شيئًا أو ينشد مصيرًا، إنما يريده قانونًا لنفسه ومستقبله. فلا أحد يرسم خارطة مستقبلٍ لسواهُ. اليوم، كلّ مَن يتحدّث عن القومية يقع ضمن خانة الطائفية. والطائفيّة أضحت سمة الفاسدين والمفلسين والمتلاعبين بمصائر الشعوب المغلوبة والمقهورة التي أصبحت تُباعُ وتُشترى في مزادات المساومات المحلية والإقليمية والدولية. وإنّ مَن يقبل على نفسه التحدّث بمفهوم القومية بالمعنى التجزيئيّ والانقساميّ، إنّما ينشد تقسيم المقسَّم أصلاً وتجزئة المجزَّأ في الأمّة. ألم نتعظ ممّا فعلَه الفعل الطائفيّ في المنطقة وفي العراق بالتحديد؟ أم ننتظر الكارثة اللاحقة التي قد تهلكُنا ونحن أحياء فاغرين أفواهَنا للسماء القاسية التي أمطرت علينا في لحظات خائبة من الزمن، تفاهاتٍ وسخافاتٍ مثل داعش ومَن يلوذُ تحت كنفها الإرهابيّ، وكادت توصل شعوبَ الأرض الهادئة إلى شفير حربٍ كونيّة قادمة، لا سمح الّله!
إنّ تشظية المجتمع بهذه الطريقة الطائفية وبحجة الحفاظ على الحقوق المذهبية والقومية، يعني تفكّك نسيجه وانهيار قيمه وقرب زوال مصيره. بذات المفهوم الخاطئ والنهج الطائفيّ المؤسف، يسير عراقُنا في هذه الأيام. هناك مَن اتفق ووافق وساندَ تفتيتَه وتقسيمَه على أساسٍ دينيّ وطائفيّ وقوميّ. وتلك كانت مصيبتُنا، عندما صدّق القائمون على الدّين والحكم معًا ما تناقلَه المغرضون والشامتون بالوطن وحضارته وأهلِه، وما زرعهُ هؤلاء وسط الناس من شكوكٍ بالتخوين والتخويف والتحذير بين أبناء الوطن الواحد المختلفين في الدّين والقومية والمذهب، رغمَ تعايشهم المشترك سحابةَ دهور، لحين تغلغل الفكر الشيطانيّ الغريب بفعل الغازي الأمريكي وأدواته.
أنا لستُ بالضدّ من تنوّع الأفكار والتشكيلات الحزبية والروابط المجتمعية والتنظيمات بكلّ اتجاهاتِها، عندما تكون لصالح الوطن والإنسان والشعب. إنّ هذه الأنشطة، تدلّ على حيوية الشعب وارتقائها لمستوى تطوّر العصر الذي آلتْ إليه. إلاّ أنَّ الخوف المحيق ببعض هذه، عندما تخرج عن إطارها الصحّي وتنزع إلى الانعزالية والانكفائية على الذات وتعدّ ما سواها خارجًا عن المشروع، إلاّ هي! لذا فالمتعصّبون قوميّا من أبناء شعبنا المسيحيّ أيضًا، لن يحصدوا غيرَ خيبة الأمل التي سيحصدُها في يومٍ من الأيام القوادم، وعساها قريبة جدّا، مجاميعُ المتشدّدين دينيًا من الذين يعيثون في الأرض فسادًا وتخشاهُم الجيوش الجرّارة وغيرُها من التي تفرّ كالفئران المذعورة من مجرّد السماع باسمها.
إنّ التشدّد سمة المفلسين، بسببٍ من أنّ أمثالهم يخشون السير في الطريق السالكة التي تتطلّع للإصلاح والبناء والتجدّد وللحياة الطبيعية التي رسمها اللهُ للإنسان منذ الخليقة. وإنّني لأعتبُ على نفرٍ من أبناء شعبنا، ممّن لا يزال يحاجُّ بدون دليلٍ أو إثباتٍ تاريخيّ، ما يسعى لإقناع غيرِه بفكرهٍ ورأيِه في مسألة قوميّتهم ولغتهم مثلاً. ففي الوقت الذي يعترف فيه العلماء والباحثون والمستشرقون ب"سريانية" أو "آراميّة" اللغة التي يتحدث بها شعبُنا المسيحي، نرى نفرًا متعصّبًا ممّن يثير تسمياتٍ أخرى، لا لشيْ إلاّ لأجل النشاز عن الركب والخروج عن اتفاق الكتب والأبحاث والأسفار. وهذا جزءٌ من ضعفنا، عندما يتحزّبُ نفرٌ لهذا الحزب أو ذاك الشخص أو تلك الطائفة بحسب المصالح وما تنالُه اليد والجيوب من فوائد ضيقة. إنّه لمن المؤسف أن ينساق المثقفون، أو المدّعون بالثقافة إلى مثل هذه الترّهات التي لا تغني ولا تفيد، بل تساهم في تعميق الانقسام وزيادة الحقد والكراهية. فما نقرأُه في أدوات التواصل الاجتماعيّ في كتابات أو ردود أحيانًا لدى مناقشة مثل هذه المواضيع الحسّاسة، وما يردُ فيها من تجاذبات وتنابس وتخوين بين أبناء الشعب الواحد، لا يسرُّ ولا ينمُّ عن شعورٍ بالمسؤولية أو رغبة جادّة بتقويم العمل الجمعيّ الذي ينشد وحدة الخطاب والكلمة والتقارب بين الإخوة.

في مركب واحد
هنا وفي هذا الوضع القائم، ما علينا سوى التذكير، أنّنا جميعًا في مركب قلق ومقلق واحد معًا، تتجاذبُه قوى شحن طائفيّ داخلية وخارجية. ولكوننا أبناء شعبٍ واحد هو الشعب المسيحيّ، وأبناء لغة واحدة هي اللغة السريانية/ الآرامية، وبناة حضارة عريقة هي الحضارة السريانية، وأصحاب تراث ثر وورثة ونقلة هذا التراث السريانيّ إلى المنطقة والعالم، فهذا يحتّمُ علينا وحدة الكلمة ورصّ الصفوف بدلَ تفتيتها وتعرية بعضنا البعض من دون منطق ولا إثبات، واحترام الخصوصية الثقافية للمحيط الذي تعيش فيه شرائح مهمّة مِن شعبنا في سهل نينوى. وعلى العقلاء، كبح جماح الأصوات الناشزة الصارخة التي تثير حفيظة المعتدلين وتسعى لدقّ الأسفين بين الإخوة وشقّ الصفوف من خلال نداءات تدعو لأفضلية جماعة على أخرى أو لأحقية هذه على غيرها باستخدام أدوات الدّين أحيانًا وإقحام الرئاسات الكنسية في أحيانٍ أخرى بأمورٍ هي من اهتمام العلمانيّين أصلاً.
أقول: كفانا بكاءً على الماضي، الذي لم ولنْ نحصد منه سوى خيبة الأمل والتخلّف والتراجع، بسبب انصباب الفكر والطاقات والجهود عليه وليس على الحاضر المرير والمستقبل الغامض. وإذا كان لنا، كما لغيرنا من الشعوب والأمم ماضٍ أثيل وحضارة عريقة أرست العلمَ والثقافة والعلوم وسط مجتمعات وأمم، فما علينا في ضوء هذه الحقيقة، إلاّ أن نسخّر هذا الماضي الجميل ونوجّهه من أجل الحاضر والمستقبل، لكونِه لم يكن يومًا امتيازاً لأحد أو لجهة دون سواها. فهذا واجبُنا في الانتقال من أيّ تعصّب إلى حقل العمل والبحث عن مرفأ أو مرافئ تبقي ما تبقّى من وجودنا وهويتنا وكياننا السريانيّ المسيحي في المنطقة، بمعناه الواسع وليس الحصريّ بطائفة معينة وعلى ضوء الحقيقة القائمة وليس الحالمة.
لذا، فلندع رجال الكنيسة يهتمّون بما عليهم من رسالة دينية واجتماعية وسياسية وسط المؤمنين ولمصلحة كنائسهم التي يتوالى فراغُها من صفوف المؤمنين، ليس بسبب الأحداث الساخنة فحسب، بل بسبب ابتعاد نفرٍ منهم عن روح هذه الرسالة التي أوكلت إليهم، وكذا بسبب فكر البعض الآخر المتوجّه صوب بلدان المهجر بحجة الخدمة فيها، والسبب تلك الرغبة الجامحة لترك الوطن وهمومِه وراءهم. كما لا نودّ ممّن آثروا البقاء وصمدوا من أجل خدمة الرعايا، أن يعملوا على الانكفاء على الذات وفي حدود كنائسهم والابتعاد عمّا يحصل في البلد وللعباد، لأنّ ذلك تهرُّبٌ من مسؤولية جسيمة يفرضُها الوضع الحرج الراهن. اذا لا بأس أن يكون هناك اهتمامٌ وتوجيه في شؤون السياسة، لأنّ "الخميرة القليلة تخمّر العجينة كلَّها". لستُ أقصد هنا، ما يبدرُ في أحيانٍ كثيرة من مجاملات غير مقصودة من نفرٍ من رجال دينٍ ممّن يسعون للعيش في جلباب غيرهم أو يتملّقون الساسة وأصحاب القرار ويقرعون أبواب الوجهاء والأغنياء، ليس للدفاع عن أبناء الرعايا وحقوقهم، بل في أغلب الأحيان يكون ذلك طمعًا بالوجاهة ونيل المآرب والمكارم وحبّ الظهور أمام الفضائيات ووسائل الإعلام. هذا الصنف من رجال الدّين، ليس ما يفيدنا ويشفي غليلَنا. إنّما المرغوب به، رجالٌ ذوات كاريزما وطنية ودينية ومجتمعية معًا قادرون على قول الحق وإشهار الاعتراض بوجه الظالمين دون خوفٍ أو خجلٍ أو مجاملة، تمامًا بموجب الوكالة التي مُنحوا إياها يوم وضع اليد والوديعة التي أتمنوا عليها كرعاة أمينين لغنمهم، يبعدون عنها الذئاب الخاطفة والعيون المتربصة.
 أمّا السياسيين المسيحيّين بكافة مشاربهم، فلا بدّ أن يسموا فوق المصالح الحزبية الضيّقة والشخصية المقيتة والتبعيّة الضالّة، لأنّهم واجهة الشعب السياسية وقدوتُها والمدافعون العنيدون عن مصالح هذا الشعب ومستقبل وجوده وضمان بقاء أبنائه حين حصول هؤلاء جميعًا على حقوقهم المدنية والسياسية غير المنقوصة وتمتّعهم بها كسائر مواطني باقي المكوّنات. وهذا الحرص من رجال السياسة أيضًا، يحتّم عليهم الأخذ بنصيحة رجال الكنيسة على اختلاف جماعاتها، وكذا الاستئناس بآراء العلمانيّين المستقلّين منهم في تنويرهم وإبداء ملاحظاتهم على ما يجري. فالكنيسة ما تزالُ تمسكُ بيدها مفاتيح كثيرة باعتبارها مؤسسة لها قوّتُها وحضورُها وفاعليّتُها وكلمتُها لدى السلطات والمؤمنين على السواء.
هنا، لابدّ من التنويه بضرورة عدم القبول بتجاوز نفرٍ متعصّبٍ من أبناء المهجر على حرية الجماعات الباقية والصامدة في البلد وفرض الرأي عليهم أو اتخاذ قرار باسمهم في دوائر خارجية، لأنّ هؤلاء بخروجهم وهجرتهم، كيفما كانت أو حصلت ولأيّ سبب كان، قد اختاروا قطع الحبل السرّي مع الأهل والأصدقاء والبلدة والكنيسة في داخل البلاد. لذا لن يُقبل أن يكون دورُهم تجاه أهل الداخل سوى في حدود التشاور وإبداء الرأي والنصح وحثّ مصادر القرار في الخارج لإيلاء اهتمام أكبر بأهل الداخل وحمل الجهات الرسمية لإنصافهم وفق مبدأ المواطنة العادلة. وبغير ذلك، يُعدّ ما تجاوزَ هذه الحدود تدخلاً في شؤون الجماعة الأمّ وخرقًا لحريّة مَن آثر البقاء والصمود لغاية الساعة. إنّ هذا الرأي ليسَ مدعاةً للنفور والاحتجاج من قبل مَن ما زالَ الحنين يساورهم لأرض الوطن، بقدر ما هو حكمة أو طلب أو نزعةٍ للتروّي فيما يُقالُ ويُكتب ويُنشر في مواقع التواصل الاجتماعيّ وفي الفضائيات ووسائل الإعلام. فنحنُ اليوم أحوج ما نكون للوقوف بوجه الهجمة الشرسة التي تستهدف باقي هويتنا وكياننا ووجودِنا. ولا مجال للمجاملة والمساومة على حساب الحقوق والهوية والوجود، مقابل حفنة من المغانم والامتيازات الخاصة التي ترد لمستفيدين من هنا وهناك على حساب قول كلمة الحقّ والموقف العنيد باستقلالية الهوية والكيان والرأي.


لويس إقليمس
بغداد، في 8 تموز 2014

331
السقوط الكبير والامتحان العسير
لويس إقليمس
بغداد، في 22 حزيران 2014

الأيام والأسابيع القادمة ستكون حبلى بالكثير من المفاجآت والفواجع الحاصلة مع سقوط مدينة الموصل. وهي كفيلة أيضًا، بفضح ما حصل من تواطؤ من جهاتٍ عديدة في الداخل ارتضت لنفسها الاشتراك في مؤامرة كبرى مع عناصر في الخارج، ضربت الهوية الوطنية عرض الحائط وساهمت بتفتيت الوحدة المجتمعية ومالت لصالح اتفاقات فئوية لغاية تقسم العراق، تمامًا كما كان مخطَّطًا له. أبطالُ هذه المؤامرة، منهم شركاء طامحون بمشروع توسّعي لا يعرف الحدود، وآخرون ناقمون على النهج الطائفيّ للحكومة الفاشلة لولايتين كاملتين، وتريد إتمامَها بثالثة بالضدّ من اعتراض قطاعات واسعة من الشعب ونخبة المثقفين وتنظيمات وأحزاب ومكوّنات انضمّت إلى قافلة الناقمين على الوضع المتردّي بخطورة. فالحكومة العراقية طيلة السنين الثمان المنصرمة، لم تثبت ولاءَها المطلَق للوطن وللمشروع الوطنيّ إلاّ بالكلام فقط. في حين أنّ الأعمال وكلَّ التصرّفات والتوجّهات مالت لصالح تأسيس المشروع الطائفيّ فكرًا وعملاً وتطبيقًا، من خلال استفزاز المكوّن السنّي وعدم حسم المشاكل المشتركة المعلّقة مع الحليف الكرديّ الطموح منذ عام 2006 ولغاية الساعة. 
لكنّ المخيف في التوجهات العتيدة، يكمن ببروز هيمنة إيرانية وشيكة على القرار السياسيّ العراقي، وهذا ما يمكن قراءتُه في رسائل الزجل والمجاملات بين الراعيّ الرئيسيّ "أمريكا" لشؤون العراق الذي قد يقدم على صفقة وشيكة مع غريمِه الشرقيّ بالمنطقة "إيران"، ضمن صفقة ثنائية وربّما ثلاثية ورباعيّة للخروج بتوليفة جديدة للحلّ في المنطقة الساخنة منذ 2003. فمع قدوم الرئيس الإصلاحيّ الجديد على رأس السلطة في إيران، أبدى استعداد بلاده للتفاوض والتعاون مع مَن كان يوصف بالأمس ب"الشيطان الأكبر"، خدمةً لمصلحة بلاده وتثبيتًا لموقع التشيّع في المنطقة واستمرار استدرار عطف المجتمع الدوليّ لصالح المكوّن. إنّ التحرّكات القائمة حاليًا، بين اللاعبَين الدوليّيَن الرئيسيّيَن المذكورَين ومعهما مَن يطمح أن تكون له بصماتٌ خبيثة من دول الجوار مثل "تركيا" و"السعودية" وراعية الإرهاب "قطر"، كلّها تشير إلى تواطؤ هؤلاء بما آلت إليه أوضاع العراق الخطرة إلى التهلكة والانتحار والانقسام. وسيكون لنا وقفة تذكيرية بتكرار ذات السيناريو الذي مُرّر على لبنان وسوريا بزرع أدوات إضافية للتشيّع، ولكنْ في مظهرها العسكريّ والتسليحيّ والعنفيّ هذه المرّة. فلا نستبعدَنّ وجود قواتٍ إيرانيّة بأشكالٍ وفصائل متنوعة، بحجة الدفاع عن المقدّسات والطائفة والمصالح، كما سمعنا وعاينّا. فلا ريبَ أنّ البلاد تمرُّ في امتحانٍ عسير قد يكون الأخير المنبِئ بسقوطها الكبير. فالأمم والدول والحضارات لا تبقى ولا تدوم. وهذه عجلة التاريخ.

الطاغوت الأمريكي ودجلُهُ

منذ سيادة سياسة القطب الواحد والطاغوت الأمريكي يتحكم بمصائر الشعوب على طريقته ووفقًا لمصالحه القومية دون أن يعير عنايةً منطقية وإنسانية للمشاكل ولأنواع البؤس والدمار والتخلّف التي يخلّفُها أينما قصدَ أو عرّجَ، بسبب سياساته الهمجية والأنانية وغير الأخلاقية. ولم يعد لهذا الطاغوت من همّ أو شغل شاغل غّير تأليب شعوبٍ وأممٍ كانت بالأمس مستقرّة، سالمة ومتعايشة، لحين حوّلَ برعونته السياسية، نسيجَها الاجتماعيّ المتماسك إلى أشلاء وقطّع أوصال بلدانها إلى شظايا وتقسيمات طائفية وعرقية وإتنية ومذهبية، بحيث أفرغها من أية هويّة وطنية.
مصيبتُنا، في الشرق أنّنا نصدّق كلّ شيء قادمٍ من الخارج ومن الأجنبيّ الطامع، ولا نعير اهتمامًا للجهود والمشاريع والتوجهات الوطنية الخالصة التي تخرج صافية ونزيهة من نخبٍ وطنيّة صادقة وغير مغرضة أو تابعة أو خانعة لكلّ غريبٍ أو دخيلٍ على ثقافاتنا وحضاراتنا وتقاليدنا.
في العراق، الذي بات اليوم ساحة حربٍ بالوكالة عن دولٍ إقليمية طائفية ومذهبية متصارعة لحدّ العظم، لم يعدْ في الأفق القريب مِن أملٍ يُرتجى للنهوض من كبواته المتلاحقة، بعد أن زادت طعنات الغدر والخيانة في جسده المنهك بفعل توالي الحروب والصراعات الدينية والمذهبية والطائفية المقيتة التي أتت على ثقافته وحضارته وسلبت منه آمالَه بغدٍ متمدّن مشرق كما سلبت له ثرواته الغزيرة التي حُرم منها طيلة عمرِه منذ نشأته في العصر الحديث. فلم يمرّ عقدٌ في تاريخه الحديث إلاّ وشهدَ انقلابًا أو خاض معركًةً أو حربًا، سواء بالنيابة عن غيره أو الأصالة عن مستقبلِه.
 ما هذا الفأل النحس الذي ينخر بك يا عراق، يا بلد الأنس والثقافة والحضارة، يا آيةَ شهرزاد وشهريار، يا موطن الشعر والشعراء والأدباء، يا حاضنَ أبي نؤاس والرصافيّ والجواهريّ وما سواهم، يا مربعَ الأئمّة والقدّيسين والأصفياء الخالدين، يا بلدَ الخالدَين دجلة والفرات وما بينهما، يا سارق النوم من عشّاق شارع الرشيد وقهاوى العزّاوي والزهاويّ والشابندر وأم كلثوم، يا مربض المقام والتخت والطرب الأصيل على صوت الناي والعود والسنطور والقانون. ألا تكفيك الجراح المثخنة القادمة من كلّ صوبٍ وأوبٍ من الحاقدين من خارج الأسوار لتُطَعنَ من أهلك وأبناء رحمكِ في الداخل أيضًا، في سابقة لم تشهدْ لها مثيلاً؟
مَن يقرأ في الخطاب الرسميّ لحكومة واشنطن، يدرك تمامًا أنَ إدارة هذا الطاغوت ماضيةٌ في تنفيذ مخطَّط الشرق الأوسط الجديد. فكلّ الدلائل تشير إلى عقد الّلاعبين الأساسيّين الكبار النيةَ لإعادة تشكيله وفق مصالحهم وتوجّهاتهم وبما ينزع عن العراق قوّتَه وينتقص من دوره العربيّ والدوليّ ويحيلُه أشلاء متقطّعة تنهشها أنياب ذئابٍ داخلية وخارجية حدّتْ أسنانَها على سوء أداء الحكومة القائمة منذ ثمان سنوات. فبموجب اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة بين العراق والولايات المتحدة، كان يترتب على هذه الأخيرة أن تتدخلَ فورًا لوقف التردّي في الأوضاع وما آلت إليه بسبب الهجمة الشرسة التي تعرّض لها من مجاميع مسلّحة غريبة على جسده وثقافته ونهجه وسياسته. كما أنّ الاتفاقات التسليحية لم تُفعَّل، بل كانت هناك نيّة مبيّتة لتعطيلها وعرقلتها بتسويفها مرارًا وتكرارًا. والعتبُ بطبيعة الحال يقع على كاهل الحكومة الهزيلة التي كان يمكن لها أن تتسلّح من دولٍ وجهاتٍ غير أمريكا الدجّالة، طالما أنّها تدفع وتستقطع أثمانَها من ثروات الشعب الذي لم يعرفْ طيلةَ حياتِه أن يستفيد منها، لا مِن قريبِ ولا مِن بعيد. فكلُّ نظام أو حكومة حكمت البلاد منذ تأسيسها ولغاية الساعة، يجيّر قادتُها هذه الثروات لأحزابها ودينها ومذهبِها وطائفتها وقوميّتها، فيما الشعبُ محرومٌ ولا يصيبُه غير الفتات والقهر والجوع والحرمان. 
لذا، لا عجبَ أن تتصرّف الإدارة الأمريكية على هذه الشاكلة، لأنّها تعلم أن القيادات السياسية في العراق غير مهتمّة بمصالح شعبها بالدرجة الأولى، وهي لا أبالية بمصالح الوطن ومصيره ومستقبلِه. فكلُّ جهة تأتي لتغرف من هذا المعين الغزير لفترة ثمّ تليها الثانية وهكذا دواليك. فمتى كانت ثروات البلاد للعباد كي يهنأ بها الشعب ويعيش حياة آدميّة طبيعية كباقي الشعوب! لذا جاء قرارُهم بترك العراق غارقًا في أوحال الكراهية وفقدان الثقة بين الفرقاء، تاركين أبواب البلد مفتوحة وسائبة لكل من هبَّ ودبَّ. فكانت النتيجة هذه الفوضى الخلاّقة بعد سقوط الموصل الغادر، وهي ثاني أكبر مدينة في العراق، لها تاريُخا ونضالُها وسمعتُها عسكريًا وأمنيًا وسكّانيًا.
إنّ أميركا بانتظارِها وترقّبها لما ستؤول إليه الأوضاع المأساوية، تعيد تكرار ذات الأخطاء عندما تحتلّ بلدًا، وتربطُه بشروط واتفاقيات يصعبُ التنصّل منها. وهذا تخاذلٌ ونكوثُ عهدٍ، إذ بموجب هذه، يترتّب عليها دوليًا حماية هذه الأوطان وشعوبها عندما تتعرّض للغدر وللهجمات وأية أعمال عنف خارجيّة تهدّد كيانَها وتفتّت نسيجَها وتعرّضها للانهيار والسقوط في الهاوية.

قبل التغيير سببٌ وتبريرٌ وما بعده عتبٌ وتدميرٌ
عاش العراق سنينًا عجافًا، ولم ينعم بفترات راحة واستقرارٍ نسبيّة، إلاّ فترات محدودة وقليلاتٍ. وما كاد يخرج من مشكلة أو أزمة إلاّ ودخل أو أدخلَه أهلُ الكفر والنفاق والدجل والشقاق، في أخرى أعمق وأكبر وأتعس منها، بحيث وصلَت رقبتُه حدَّ الاختناق. وعندما، صحا الفكر الوطنيّ ونما الشعور بضرورة الخلاص من زمن الأزمات والشموليات والدكتاتوريات، تنفس الصعداء بتباشير التغيير القادم. إلاّ أن ذلك التغيير، جاء أعسرَ وأعرجَ وناقصًا، حينما تكفّل به طاغوتٌ دجّالٌ ظالمٌ للشعوب المقهورة وناهبٌ لثرواتها وسالبٌ لإراداتها، بإتيانهِ بتبريرات منقوصة وكاذبة وغير رصينة، مستهدفًا شعبًا بأكمله ودولةً قائمة كان يحسب لها الجميعُ ألفَ حساب. فقد واصلَ الاحتلال سياستَه الخرقاء عبر أدواته الإقليمية والداخلية بزرعَ سموم الطائفية في صفوفه وشقِ النسيجِ المتآلِف فيها وإشعال فتيلِ حرب طائفية مذهبية، لها أوّل ولا يبدو لها آخر. وهو ما زال يؤجّجها بوسائل وطرقٍ شتّى، كانت آخرُها بالسماح ب"دعشنة" البلد وابتلائه بنهج هذه التنظيمات الأصولية المتطرّفة التي توغلت بصور متعددة وبأشكال وتنظيمات غريبة على المجتمع وثقافته وحضارته، وهو بلد التعدّدية والخير الوفير والقلم والقرطاس والسيف!
عندما صحا الشعب على أوتار تغيير مرتقبٍ، هبّ مبتهجًا ليزيل عنه آهات الدهر الغادر والسنين المريرة عن حقبة دكتاتورية بغيضة، أسرتْه وجعلتْه حبيسَ المخدَع والمدينة والوطن، من دون أن يتمكن من رفع رأسه ليشاهد نجوم السماء وطيورَها وهواءَها على علاّتها وطبيعتِها. فالمصيبة جلبتها أميركا بدجلها ومَن يقف من خلفها في التنظير والتخطيط، ومن أمامِها في التنفيذ واتخاذ الّلازم. ولعلَّ أولى الخطايا الكبيرة التي اقترفتها إدارة الشيطان الأكبر بشخص الرئيس غريب الأطوار بوش، قرارَه تغيير النظام في العراق بتلك الطريقة الشنيعة والجائرة. فبدلَ أن يحسمَ أمرَه ويساعد الشعب العراقيّ المبتلَى والغارق حتى الثمالة في أطيان الدكتاتورية والحزب القائد والزعيم الأوحد، جاءَ تدخُلُه الواهي وغير المنسجم مع الذرائع المعروضة للعالم، والتي أثبتت الأيام عدم صحتها وخواء صدقها.
ثمّ كانت خطيئة اليهوديّ المحنَّك الحاكم المدنيّ "بريمر" سيّء الصيت، أكبرَ عندما حلّ الجيش العقائديّ وفكّك مؤسسات دولة بأكملها وجعلّ مصيرَها ومستقبلَها وحياتَها في مهبّ الريح تتقاذفُها شهوات سياسيّين مراهقين على الساحة، ممَّن لمْ يكن يدُرْ في خلدهم يومًا أن يسبحوا على أنهار ثرواتِ بلدٍ بأكملِه وليوزّعوها يمينًا وشمالاً في صفقات مشبوهة تقاسموها بين مكوّناتهم وأحزابهم وطوائفهم، كلٌّ بحسب ما تتسعُ به أيديهم وطاقاتُهم.
في ظلّ هذه الأوضاع المأساوية، هناك مَن يرقص على آلام العراقيّين ويتفرّج على المآسي التي أصابتْهُم، مقابل أطرافٍ قد تستخدم ما جرى لفرض الأمر الواقع على الأرض، وأخرى قد تستغلّ الثغرات الأمنية وإخلاء مواقع عسكرية لصالحها من خلال زجّ ميليشيات بمسلَّحين عقائديّين ينتمون لطوائف أو جهات مذهبية كي تصيرَ بديلاً للمؤسسة العسكرية الوطنية. لقد جاءت دعوة المرجعية الدينية الموقرة واضحة وصائبة عندما استبعدت وحذّرت من مغبة استغلالها من قبل جهات لتأجيج الصراع الطائفيّ، بل شدّدت على عدم بروز أية مظاهر عسكرية خارج الإطار القانونيّ للدولة والجيش الوطنيّ. والخوف، كلّ الخوف، استغلال هذه الفتوى الكفائية لتجييرها لصالح الطائفة الشيعية حصرًا، وإفراغها من دعوتها الوطنية وهدفها الساميّ بالدفاع عن حياض الوطن وهو يتعرَّض لأبشع هجمة خارجية وداخلية مغرضة تريد هبوطَه إلى الهاوية. وهذا بحدّ ذاته، بداية السقوط في المطبّ الكبير الذي أرادَ له الأعداء كي يفتّ من نسيج الشعب العراقيّ ويخلق حربًا طائفيةً لا تُعرف نتائجُها، وقد تمتدّ لتشمل المنطقة بأسرها وتلحق دمارًا شاملاً يشعل الأخضرَ واليابسَ.

أسبابُ الوهن والسقوط
ممّا لا شكّ فيه، أنّ ما آلَ إليه الوضع الحاليّ بنقل جزءٍ كبيرٍ من ساحة المعركة الشرسة من أعماق سوريا وأطرافها إلى العراق، يُعدُّ مؤشرًا خطيرًا على عقد بعض الجهات النيّة لتدمير مدن العراق، تمامًا كما حصل في سوريا. ونحن ندعو أصحاب العقل والحميّة وأربابَ الحكمة والشهامة ومَن بقي في جعبتِه شيءٌ من سجايا حبّ الوطن والشعب أن يضع جانبًا سلاح الطائفية البغيض الذي كان السبب في هذا الانهيار المجتمعيّ منذ عهد التغيير الدراماتيكيّ. إنّه لَمِنَ الخطأ اعتقاد البعض، أنّ يصير حكمُ العراق على أساسٍ دينيّ أو طائفيّ، ذلك لأنّ الدولة ليستْ، كما لا لا ينبغي أن تكون ملكًا لأحد أو لدينٍ أو طائفةٍ أو حزبٍ أو قوميةٍ أو مكوِّنٍ. إن العراق هو للكلّ، ومن ثمَّ فإنَّ ثرواتِه وأرضَه وحضارَتَه ينبغي أن تكون للجميع بالعدل والتساوي، ولا امتيازَ لأحد إلاّ بما تجود طاقتُه ويبانُ حبُهُ وتعلُّقُه بالأرض وولائِه له، وليسَ لغيرِه.
لقد أثبتت التحرّكات الجارية، وقوع العراق ضحيّةَ مشروع استراتيجيّ كبير، لاعبوه الكبار أصحابُ مصالح كبرى اتفقوا على تقسيم البلاد وتشظيتها وفق نهج طائفيّ تتقاسمُه أطرافٌ شيعيّة بعهدة التشيّع الإيرانيّ وأخرى تتولاّها دولٌ خليجيّة راعية للإرهاب منذ نشأتِه في أراضيها. وما تنظيمُ داعش الإرهابيّ الذي تتبجّحُ أطرافٌ بثوريّته، غير تحصيلِ حاصلٍ للأطراف المشتركة بمؤامرة كبيرة، ليس لإسقاط الحكومة الحالية المنتهية ولايتُها فحسب، وإنّما هناك أهدافٌ أكبر وراء هذه المشاريع التقسيميّة. وإلاّ كيفَ يُفسرُّ تخاذلُ أكثرَ من ثلاث فرق عسكرية بكامل تجهيزاتها ومنتسبيها ومعها أفواجٌ للطوارئ وأخرى ساندة في مدينة مثل الموصل، وكلُّها تهاوت في غضون ساعات؟ فهل ستكشفً الأيامُ القوادم شكلَ وطبيعة هذا التخاذل وهذه المؤامرة التي حيكت خلف الكواليس؟ أنا لا أشكّ البتّة، علمَ الجهات الاستخبارية الأمريكية بنسجها وتغاضيها الطرَف، إن لم أقل مشاركتَها ببعض خيوطِها، داخليًا وخارجيًا، قبل وقوعها بأيامٍ. صحيحٌ، أنّ شركاءَ في الحكومة، كانت لهم بصماتٌ واضحة في إضعاف المؤسسة العسكرية، بل إزالة العقيدة العسكرية من العراق، كي لا تثير أيةَ مخاوف محتملة ضدّ جهات داخلية أو مكوّنات، بسبب استخدام الأنظمة السابقة لهذا الجيش في حماقات عديدة في السابق. ولكن الأيام أثبتت، خطأ هذه الفرضية وخبث هذه النظرية، ذلك لأن الجيش سورٌ للوطن ورايتُه وشرفٌ للشعب وحمايةٌ لأرضه متى فكّر الأعداء باغتصابه واستباحته، كما حصل منذ التغيير في 2003، عندما استبيحت أرضُ العراق وصارتْ مداسًا لكلّ مَن هبَّ ودبَّ.
إنّ مأساة سقوط الموصل، وبعدها تكريت ومدن وبلدات أخرى وقبلها الأنبار والفلوجة، كلُّها دلائل على توفر أسبابٍ لمثل هذا السقوط الكبير. فالحكومة الحالية تتحمّل الوزر الأكبر في الذي أصابَ البلاد والعباد من نكسات بسبب الأزمات الكثيرة المتعاقبة التي خلقتها أو اختلقتها على حساب الاستقرار وأمن وسلامة الوطن والمواطن. وكلُّ هذا بسبب عوامل عديدة من الغبن والتهميش والإقصاء لمكوّنات وشرائح وطنية أصابَتها خيبة الأمل من تكرار ذات المشاكل في ولايتين متتاليتين لحكومة أزمات متعاقبة لمدة ثماني سنوات، لم تستقم فيها الأمور، بل ساءت وتفاقمت وتعاظمت إلى الأسوأ. كما أنَّ انعدام الثقة بين الشركاء الأفرقاء وانهيار أساس الشراكة الوطنية المعتمدة، كلُّها ساهمت في وصول الأوضاع المأساوية إلى هذه الحال بانهيار هذا البنيان، بسبب النهج الطائفيّ الذي سلكته الحكومة القائمة طيلة فترة حكمها، حينما أرست لهذه الطائفية بالقول والفعل والإكراه والاستفزاز في أحيانٍ كثيرة.

نداء وأمل
إنّ توزيع اللومِ اليومَ، لن ينفع في هذا الظرف الحرج. فالكلّ المشارك في العملية السياسيّة العرجاء، مقصّر لأنّ الجميع من دون استثناء، آثروا مصالحَ دينهم وطائفتهم وقوميّتهم ومذهبهم ومصلحة فئتهم الضيّقة والشخصية على المصلحة العليا للوطن، وتركوه يئنّ تحت مشاكل وأزمات وأمراض سياسية واجتماعية واقتصادية قاتلة قادته إلى ما وصل إليه اليوم. إنّ الوطن والعرض والشعب أهمّ من وجود أيّ شخص. فالوطن باقٍ والأرض قائمة، لكنّ الأشخاص يزولون ويُستبدلون لمصلحة الشعب والوطن ولاستقرار الأرض وحفظ العرض. إنَّ العراق اليوم، أمام امتحان عسيرٍ ولحظةٍ تاريخية تحدّد مصيرَه، فإذا انساق للتقسيم، فتلك ستكون نهاية وحدة أراضيه وقوتها بتعدّد مكوّناته، التي هي غنى وثروة قلّما تتواجد في بلد غيره.
كما أنَّ التقسيم لن يشكّل حلاً، كما تريد ذلك دوائرُ استعمارية وأخرى طامعة قادمة بلباس الحملان ووضع الحلول الوسطية، ذلك لأنّ مكوّناته وأراضيه، جغرافيًا وديمغرافيًا، متداخلة مع بعضها. فعلى أية شاكلة يصوّرون هذا التقسيم ويقترحون هذا الإجراء؟ كما أنّ الحلَّ العسكريَّ لن يقود إلى تسوية سياسيّة أو يهدّئ الحال، ذلك أنّ المكوّنات الأساسيّة الثلاث المختلفة تستطيع أن تجيّش ما يسعهُا وتزجّ بهم في أتّون نيران قائمة، ينتظرُ أعداءُ البلد مَن يؤجّجُها. لذا، فالحلّ الأمين الوحيد، هو رصُّ الصفوف ضدّ هذه الهجمة الإرهابية الشرسة، ووضع النقاط على الحروف، بتقديم تنازلات مشتركة من جميع الأطراف من أجل الحدّ مِن أطماع بعض الشركاء في الداخل وردّ كيد الغادرين في الخارج إلى نحره.
فيا شيعة العراق، اتّعظوا وكفّوا عن استفزاز إخوتكم السنّة في الإسلام وباقي مكوّنات الشعب، بعدم استغلال مؤسسات الدولة وتجييرها وتسخيرها لصالح طائفتكم ومناسباتكم وشعائركم، لأنّ تعطيل دولةٍ بأكملها في هذه وفي غيرها، يجرح شعورَ غيرِكم ويزرع بذور حقد وكراهيّة لديهم ويشعرُهم بالتهميش والدّونيّة والإقصاء، لخروج هذه المظاهر عن حدود المعقول!
ويا سنّة العراق، تعقّلوا وأعملوا الحكمة ورجاحة الفكر، وتعاملوا مع الوضع الجديد على أساسٍ وطنيّ وابحثوا عن وسائل أكثر قبولاً وسلميةً للتعبير عن هضم حقوقكم وإقصائكم. فالخطأ الأول والأكبر، كان حينَ تخلّيتم عن حقوقكم في أول انتخابات دستورية ولدى كتابة الدستور الأعرج الذي تجنون نتائجَه السلبيّة ومعكم باقي المكوّنات مهضومة الحقوق لغاية الساعة!
ويا أكراد العراق، تحلّوا بمزيدٍ من اللحمة الوطنيّة ولا تستغلّوا الأوضاع المتهالكة للوطن وتساهموا بوضع مصيره ومستقبلِه على المحكّ، لئلاّ يشمتَ به أعداؤُه، فهو لا يستحقّ منكم ومن سائر الشركاء هذا النكوص وهذه الوقفة الانتهازيّة.
انّ الحلّ اليوم، بين أيدي المنتخَبين الجدد، الممثلين للشعب سواءً باستحقاق أو بغيرِه، كي يتساموا فوق المصالح ضيقة الأفق ويرسّخوا مفهوم المواطنة والوطنية سريعًا والعمل معًا كشركاء حقيقيّين على تشكيل حكومة وحدة وطنية تحظى بقبول جميع المكوّنات وتتدارك أخطاء الماضي وتتجاوز الخلافات وتنسى الذي قاد البلادَ والعبادَ إلى شفير حربٍ أهليّة. وهذا يتطلّبُ من جميع الساسة والفرقاء أن ينصتوا إلى صوت العقل القادم من المراجع المعتدلة، السنّية منها والشيعية والمسيحية والإيزيدية والصابئية على السواء، ويعملوا الحكمة والمشورة ويتحلّوا بكلّ آيات الصبر والروح الوطنية الصادقة.
إنّ هذا المبتغى لن يتحقّق إلاّ بالتخلّص من مفهوم التخوبن والشكّ والإقصاء وإسدال الستار عن شعار حكومة المحاصصة الطائفية واستبدالها بحكومة وطنية ديمقراطية قائمة على أسس دولة مدنية ترفع شعارات التآخي والمساواة والعدل والتعايش، دولة مدنية فيها يتساوى كلُّ العراقيين في ظلّ القانون وبرعاية دستورٍ تُعادُ مراجعتُه وكتابتُه ليضمن كلَّ المفاهيم الوطنية والأخلاقية التي تُحترَمُ فيها الحريات الشخصية والفكرية وتؤمن بالتعددية الدينية والاثنية للمجتمع العراقي كافة.  وعندما تتحقق كلُّ هذه، سيقف الشعبُ مع الحكومة الجديدة المرتقبة وقد تعلّمَ درسًا قاسيًا في الوطنية وفي كيفية التعايش السلميّ بين جميع المكوّنات، حين العودة بالبلاد إلى نكهة الروح العراقية الأصيلة الطيّبة بتعدّد أطيافها وتنوّع شرائحها  ومكوّناتها، تلك العَبِقة بطيبة أزهارها وورودها المتنوعة في حديقة العراق الكبرى.

لويس إقليمس
بغداد، في 22 حزيران 2014


332
الحب والعقل في زمن العولمة: هل يجتمعان؟

   هل يمكن للحب والعقل أن يجتمعا في عصر العولمة؟ سؤالٌ بحاجة إلى مزيد من التمحيص والتحليل والدراسة والخبرة أيضًا،  مِن أصحاب الشأن من الذين اختاروا عيش الحياة الزوجية بكلّ قيمها ومفاهيمها ومفاعيلها على السواء.
   هذه رؤية عامة وشخصية أطرحها للبحث ولمزيد من الرأي والتعقيب، لا سيّما ونحن نعيش  في أجواءٍ مشحونة بمشاكل وصعوبات في الحياة اليومية التي تتفاقم تعقيداتُها يومًا بعد آخر، وفيها تتزايد مشاكل الأسر إلى حدّ الانفراط في عقدها مشتكيةً من أدنى مشكلة تواجهُ الأزواج، بحيث تكاد تقضي على العشّ الأسري.

شراكة آدم وحوّاء!
   لقد خلق اللهُ حوّاء مِن ضلع آدم، وفي هذا تعبيرٌ مجازيّ أكثرَ منهُ تعبيرٌ حرفيّ في كيفية خلق البشر. يقول سفر التكوين :"خلق اللهُ الإنسان على صورته، على صورة الله خلقَه، ذكرًا وأنثى خلقهم" (تكوين 1 :27). أي أنّ الله خلق الرجلَ والمرأة ليكونا معًا، كائنين جميلين على صورته ومثاله ولكي يعكسا تلك الصورة الجميلة في حياتهما من خلال دورهما المشترك كزوجين وأبوين متحابّين يسعيان لإنماء ذريّتهما بالعلاقة الحبّية والودّية التي تجمعها. ويشير سفر الخليقة، أنّ الله خلق المرأة إلى جانب الرجل "عونًا بإزائه" (تكوين 2:18)، كي يحبّها الرجل وليتفاهما على العيش المشترك في إطار القانون الذي وضعه الخالق. ولمّا كانت عملية الخلق هذه تحملُ في طياتها معانٍ كثيرة للرؤية الإلهية في كينونة البشرية واستغلالها للأرض وما فيها من أشكالٍ وألوانٍ في الحياة، في الماء والسماء والهواء، وفي المادّة التي تكوّنت منها ووضعتْها القدرة الإلهية في خدمة الزوجين الأولَين، لذا كانَ على هذين الأخيرين أنْ يُحسنا التصرّف تجاه الخالق الذي أراد لهما السعادة. يشير البابا يوحنا بولس الثاني بهذا الصدد إلى شراكة الرجل والمرأة في اتحادٍ يجمعُ الإثنين من خلال "الزواج المقدّس الذي أنشأه الله في إطار خلقه للرجل والمرأة، وكأنّه شرطٌ لا غنىً عنه، لنقل الحياة إلى الأجيال البشرية القادمة، علمًا أنّ الطبيعة قد ربطت الزواج والحبّ الزوجي بنقل هذه الحياة" (رسالة البابا في كرامة المرأة لمناسبة السنة المريمية 1988). فالحبُّ هنا، وكما نفهمُه في المسيحية، مرادفٌ لعملية الاقتران بين الرجل والمرأة بموجب وصية الخالق الذي وفّرَ لهما أجواءَ السعادة كي يعيشا معًا ويصيرا "جسدًا واحدًا" وينجبا البنين والبنات "أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها"( تكوين1: 28). من هنا نعي أنّ كلاً من الرجل والمرأة مدعوّان منذ البدء، ليس فقط للعيش الواحد بجانب الآخر فحسب، بل أيضًا للعيش كلٌّ منهما للآخر بفاعلية الحبّ الذي ينبغي أْن يجمعهما، وإلاّ فلا معنى لحياتهما المشتركة إذا خلتْ من عنصر الحبّ الذي يعزّز مسيرة هذه الحياة وينعشها بفيتامين المودّة والرحمة والاحترام.                                                                                                                                                                                                            نظرًا لخطيئة آدم وتجاوزه على وصية اللّه الخالق وانزلاقه وراء تجربة رفيقته حوّاء التي وهبَها إيّاه الله لتؤنسَه وكي يعيشا معًا في الفردوس لمدحِ اسمِه القدوس والتمجيد بقدرته الفائقة الإدراك، لذا كان لابدّ له أنْ يُعاقَبَ هو وشريكته حوّاء التي أغوتها الحية، على فعلتهما وعدم إطاعتهما أوامرَ الله. وهكذا بدأت متاعب الحياة عند آدم وحواء معًا ومشتركًا، وانتقلت عبرَ الأجيال المتعاقبة لغاية يومنا هذا. وعلى ضوء تلك الخطيئة نشأتْ علاقةُ الشركة ومشاكلُها بين الرجل والمرأة وتجلّت من خلالها في الوقت عينِه، وحدةُ الاثنين وكرامتُهما الشخصية، كما يقول البابا يوحنا بولس الثاني في ذات الرسالة، رغم أنَّ الله قد جعلَ الرجل متسلِّطًا على المرأة بسبب إغوائها للرجل الأول، بحسب الكتاب المقدّس "إلى بعلكِ تنقادُ أشواقُك وهو يسودُ عليك" (تكوين3: 16). وبالرغم من كون هذا القرار الإلهي فيه شيءٌ من الصرامة والقسوة الإلهية، إذ فيه نفهم وجودَ شيءٍ من التصدّعٍ في اتحاد الزوجين الأولين مع شيءٍ من الانحيازٌ للرجل على حساب المرأة التي يطالبُها الخالقُ أنْ تطيعَ بعلَها، إلاّ أنّه لا يشكّل إرباكًا في إرادة الخلق وهدفها ولا إخلالًا بمبدأ المساواة في الخلق بحسب المخطَّط الإلهي، إذ كلاهُما خُلقا جميلين على صورة الله ومثالِه، "ورأى اللهُ أن ذلك حسنٌ".(تكوين : ). وهذا، ما أتى به المسيحُ بتأكيده على وحدة الزوجين وعلى قدسيّة الاقتران بينهما، ذلكَ الزواج الذي رفعهُ إلى أسمى الدرجات بقولِه: "من أجل ذلك يتركُ الرجل أباه وأمَّه ويلصق بامرأته... فليسا هما إثنين، ولكن جسدٌ واحد" (مرقس 10:7). ويفسّرُ البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته المذكورة، هذا الإجراءَ الإلهيّ القاسيّ، بكونه إشارةً إلى "العلاقة المتبادلة بين الرجل والمرأة كزوجين، وإلى الشهوة الناشئة في نطاق الحبّ الزوجي، بحيث إنَّ هبةَ الذات المجّانية مِنْ قبل المرأة تنتظرُ بالمقابل أنْ تكتمل بهبةٍ مماثلةٍ من قبل الزوج، ولا يستطيع الزوجان، ولاسيّما المرأة، أنْ يتواجدا في وحدة الاثنين الحقيقية التي تقتضيها الكرامة الشخصية إلاّ استنادًا إلى هذا المبدأ". وفق هذا المفهوم الواسع، تُحفظ كرامة الزوجين وتبلغ كمالَها دون أن ينتقص أحدهما من دور الآخر، ودون أن يستغلّ الزوجُ ضعفَ المرأة من أجل استمتاعه وفرض سيطرته، لأنّ كليهما مشتركان بالخطيئة الأولى التي اقترفها أبوانا الأولان وكلاهما مخلوقان بأمرٍ وغايةٍ ربّانية.
   إنّ نزعة السيطرة كائنة في وجدان البشر دون تمييز. وهي ذات النزعة التي تُفسدُ وتحاولُ الإخلال بالنظام الأخلاقي البشري. ولكن هذا الإجراء الإلهي تجاه صورة المرأة وشخصّيتها، ليس البتّة، مدعاةً لها كي تنتفض وتسعى إلى انتحال صفة الذكورة على حساب ميزاتها الأنثوية التي حباها الله إياها ثروةً عظيمةً ومميزةً تتجانسُ وتتفاعلُ بها مع صفات الذكر كي يعكسا معًا صورة الله الجميلة في خلقه. فالفكرةُ بجمعهما معًا قائمةٌ في مخطَّط الله، وعلى ضوئها نما وتكاثر الجنس البشري. فكلّ الحضارات والأمم والشعوب، وفق ذات المنظور، عاشت وتناسلت وتفاعلت مع ظروف الحياة، كلّ في عصرها وفي إطار الزمن الربّاني الذي خُلقت فيه كي تؤدّي الرسالة المرجوّة منها. حضاراتٌ وأقوامٌ وشعوبٌ ودولٌ سادت ثمّ بادت، وهي ما تزال تسير وتعيش في ذات السياق، محصورةً بين حقيقة خلقها ووسائل عيشها، وما بينهما من قيمٍ وأدواتٍ يسيرة أو عسيرةٍ في العيش والأداء، ومتأرجحة بين كلمتي الحبّ والعقل. فهل يمكن لهاتين الأخيرتين أنْ تجتمعا وتثمرا وفق مخطّطِ الخالق للإنسان منذ البدء؟ لنرى ذلك معًا.
الحبُّ وثمارُه في حياة الزوجين
   يقول العقلاء: "إنَّ مَن يحبّ، يحبُّ إلى الأبد". فالحبُّ فضيلةٌ أغدقها اللهُ على الإنسان الأول آدم، حين رآه وحيدًا، فأشفق عليه بأن صنعَ له شريكًة تؤنسُه وتُسعدُه في الفردوس الكبير الذي كان أنزلهُ فيه. وهكذا كانت حوّاء شريكةً لآدم، فعاشا حياةً هانئة مليئة بالحب والرحمة والمودّة والصداقة، إلى أن أفسدت الحيّة حوّاء واقنعتها بالتجاوز على وصية الخالق بوحيٍ من محاولة إغوائها وكشف غرورها كي تتمكّن من بلوغ مرتبة الخالق. فأدّى ذلك التجاوز على وصيّة اللّه، إلى ارتكاب المعصية وبدء هموم المخلوقات منذ تلك اللحظة. تلكم، هي القصة التي تعلّمناها من الكتاب المقدّس، وما نزال نعتقدُ بها، والسبب ببساطة، لأنّها تدخل في مخطّط الّله الخلاصي، الذي لابدّ منه كي يأتي ابنُه المخلّص لينقذ البشرية من تلك الفعلة الشنيعة التي ارتكبها أبوانا الأوّلان في الفردوس في بدء الخليقة، والتي اعتدنا على تسميتها بالخطيئة الأصلية. من هنا، تكون أولى بذرات الحبّ الإلهي المتمثلة برحمة الخالق على أبوينا الأولَين قد كُسرتْ وأُسيء استخدامُها وجوبهتْ بفعل المعصية التي تعني أيضًا، رفضًا ضمنيًا للحب الالهي الأبوي الذي أظهرهُ الخالق للبشرية التي ما تزالُ تعاندُ وتكابرُ وتتصارُع ضدّ كلّ رموز هذا الحبّ، والمتمثّلة بالحروب والنزاعات وأعمال العنف والكره والبغض المتكرّرة التي تغيض الخالق العظيم.
   لقد كان الأجدر أن يلقى الحبُّ الإلهي لبني البشر تجاوبًا متبادلاً كي يتسنّى له أن يرتفع إلى سموّ الخالق، لا أن يغوص في أطيان الحقد والكره والغضب والحزن. فالحبُّ، إنّما يعني حلاوةٌ في الشعور بالعاطفة تجاه مَنْ تحبّ وتنجذب له لأنّه يحلو لكَ بسببٍ من جمالِ صورتِه وكياسة أدبه وصفاء نفسِه ورجاحةِ عقلِه وطيبةِ قلبِه وجاذبية جسده. وفي هذه دلالةٌ على ضيق المسافة وعمق التفاعل بين جميع الفضائل الجميلة التي أرادها اللهُ الخالق أن تتحلّى بها خليقتُه منذ الأزل، إنطلاقًا من هذا الحُبّ الكبير. والحبّ الصادقُ يظهرُ من خلال المشاعر التي يبديها الشخص تجاه مَن يحبُّه، ليس من خلال العاطفة أو القلب لوحدهما، بل بتوجيه من العقل المتزن الذي يدير دفّةَ الكائن البشري والتي مِن المفترَض توجيهُها نحو الوجهة الصحيحة وفق قناعة متزنة، تخلق لدى المحبّين الراحة والطمأنينة. وهذا الحبُّ عينُه، لن يكون ممكنًا بين طرفي المعادلة الزوجية حصرًا، إلاّ من خلال وسائل وأدوات معيشية مشتركة ومقبولة بين الطرفين، يكون من ضمن أسسِها الحبُّ المبنيّ على التفاهم والصدق والنضج والاحترام المتبادل والإحساس بوجود الآخر في حياة الطرفين، وليس بالخوف من الشريك الآخر أوبفرض وصاية عليه، إذا أراد الإنسان أن تبقى روحُ المحبّ تعيشُ في كيان ووجدان مَن يُحبّ، فلا تغادرهُ إلاّ في حالة انتهاء حياة أحد الطرفين. يقول آرسطو: " لا أحدّ يحبُّ الإنسانَ الذي يخافُهُ".

الذات تسليم ومسؤولية
إنّ القوامة أو محاولة السيطرة، أيّا كان الطرف الذي يبتغيها أو يحاول فرضَها قسرًا، فإنّها لا تعني خضوعًا واستسلامًا ورضوخًا لطرف على آخر، بقدر ما ينبغي أن تكون نابعة من إيمانٍ بمَن اتئمنَ شريكَه بسببٍ من صدقٍ في العلاقة الزوجية الصحيحة المبنية على الوفاء والشجاعة والإخلاص وحرمة الكرامة. وفي غير ذلك، لا يمكن لأحد الطرفين، أن يسلّم حريَتَه وأمرَ حياته للطرف الآخر، إلاّ في حالة تأكّده من استعداد المقابل لتحمّل تلك المسؤولية، وهي جسيمة إذا ما قيست من منظار هامش الحرية التي يُفترَض أنْ يكون عليها الشريكُ المقابل. فبالنسبة للرجل الذي ينظر إلى شريكته من خلال هذا المنظور، يتحمّل مسؤولية زوجية إضافية، علاوة على مسؤوليته الأخلاقية والمعنوية إزاء شريكته التي منحتهُ ذاتَها وفوّضت أمرَ حياتِها بسببٍ مِن إيمانها المذكور المبني على مبادلتها مشاعرَ الحبّ الصادق لزوجها انطلاقًا من إيمانها بفعل أنوثتها وما تعنيه هذه الأخيرة من إشاعة أجواء السعادة في حياة زوجها وأسرتها.
    إنّ هذا التسليم الذاتي مِن جانب المرأة للرجل، ينمُّ عن فعلٍ عقائديّ بالرضى المتبادَل بين الزوجين عندما يكون مبنيّا على أسس راسخة. وهو بهذه الصورة يشكل منعطفًا في حياة الاثنين، عندما يبدآن حياتهما بالشكل الصحيح. حينئذٍ، يكون لمثل هذا التسليم للآخر، متعةٌ وسعادة تتجلّى من خلالها روعةُ الحياة الزوجية بحلوها ومرّها، بصعوباتها وأطايبها، وكي تدور في دائرة الإخلاص والثقة والأمان والانتماء كلٍّ منهما للآخر، دون انفصالٍ أو انعزالٍ أو قهرٍ أو تسلّطٍ أو أنانية، ومن دون أن يسلبَ الواحدُ منهما حرّيةَ الشريك الآخر وحقّه بالتمتّع بآرائه وفكرِه في الحياة العامة والخاصة. وهكذا، تبقى مسألة تسليم الذات بالنسبة للمرأة، محلَّ قدسية وتسامٍ من جانب الزوج المحبّ الصادق في مشاعره والواثق مِن ميزان حبّه، والذي عليه أن يشكر اللهَ على هذه الهدية التي أنعمَ بها عليه. يقول يشوع بن سيراخ في الكتاب المقدّس: "المرأة الفاضلة تُسعدُ زوجَها فيقضي حياتَه بالسّلام، والمرأة الصالحة، نصيبٌ وافرٌ يعطيها الربّ لِمَن يخافُه" (يشوع بن سيراخ 26:2-3). ففي ضوء هذه الهدية التي أنعمَ اللهُ بها على الرجل وموقف تسليم المرأة ذاتَها بهدف إسعاد زوجها، يستطيع الرجل الصادق أن يشعر برجولته التي ستكون بالتالي محلَّ تقدير من جانب زوجته التي تصدقُه في حبّها ومودّتها وتحرصُ على إسعادِه، لو توفرتْ لديها حقًا هاتان الصفتان وما تعنيانه. كما سيوفّرُ هذا الموقف للمرأة بالتالي، أداةً وفرصةً للشعور بأهمية أنوثتها من قبل الرجل الذي منحتْه ثقتَها وسلّمت نفسَها وجسدَها له تمامًا، مطمئنّةً وليست صاغرة أو منهزمة أو مقهورة. تلكُم، هي السعادة الحقيقية، في أنْ يعي كلُّ شريكٍ بأهمية دوره ودور شريكه في العلاقة الزوجية التي تهدف لبناء بيتٍ سعيدٍ وتكوين أسرة متعافية.

الكنيسة وكرامة الزواج   

نقرأ في الوثيقة الصادرة عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في رسالته إلى المرأة تأكيدًا على دور المرأة وأهميتها في الحياة البشرية، إذ تقول :"إن الوقت قد أوشك، بل حان كي تؤدي المرأة رسالتَها كاملةً. فقد أصبح لها نفوذٌ وإشعاعٌ وسلطةٌ لمْ ترقَ في يومٍ من الأيام إلى المستوى الذي بلغتهُ اليوم. لذلك نرى، في هذا الزمن الذي عرفتْ فيه البشرية تحوّلات عميقة، أنّ النساء المتأثرات بروح الإنجيل يستطعنَ الاضطلاع بدور كبير في مساعدة البشرية على وقف تدهورِها". (راجع رسالة المجمع إلى النساء، 8 كانون أول 1965: كتاب أعمال الكرسي الرسولي 58 لسنة 1966، ص 13-14). لقد أولى المسيح للمرأة، طيلةَ رسالته التبشيريّة، شخصيّتَها المتميّزة وشدّد على كرامتها وحقِّها المتساوي مع الرجل. فالقصص  والأحداث التي ترويها لنا الأناجيل المقدسة عن رأي المخلّص الإلهي بقوّة المرأة ودورها في الحياة وبصفتها إنسانًا كامل المسؤولية، كثيرةٌ وعديدة. فقد عدّها مدعوّة، كما الرجل، إلى رسالةٍ نابعةٍ من قلب الله الخالق، قابلةَ التحقيق في منظور البعد الإنساني الذي على ضوئِه منحَها الكرامة التي تستحقُّها، كما فعل مع المرأة الزانية والأرملة ومريم ومرتا أختي لعازر وأمّ الطّيب والسامرية التي كشف عن أفعالِها دون أن ينتقص من كرامتها وشخصيتها. ولعلَّ موقف المسيح الواضح من حكمه الإنساني على العلاقة بين الرجل والمرأة، ينمُّ عن رؤيته الثاقبة وأخذه للأمور من مسار واقعها التاريخي الملموس المثقل بإرث الخطيئة التي يشترك فيها الإثنان دون تفرقة.
   ومن ذات المنظور، يكون الله الخالق قد جعل الواحد منهما في عهدة الآخر. بل إنّ حبهما الزوجيّ، الواحد للآخر، سوف يُقاسُ من معيار عطاء كلٍّ منهما لشريكه وبصيانة الكرامة والمودّة وتعزيز الوفاء بينهما، ما يعني أيضًا مساواتهما أمام الله ليس في الخلق فحسب، بل بالفعل والسلوك والهدف. وهذا نابعٌ أيضًا من شراكتهما في سرّ قدرتهما على الخلق مع الله عندما يتبادلان هبة ذاتهما الواحد للآخر من خلال اتحادهما الزوجي بالجسد والذي يثمر عن ولادة كائن جديد يَفرحُ به الشريكان والأهلُ والأقارب ويستقبلُه العالم برحبة كبيرة. فالأمومةُ مِن المرأة، كما البنوّة من الرجل، سلوكان متكاملان لا يتجزّآن، وكلاهما نابعان من سموّ الحبّ المعقود بين الإثنين بمثابة عهدٍ سرمديّ مقدّس لا انفصامَ فيه ولا انفصال. وهذا ما يوصي به المسيح حينما يطالبُ الزوجين بحبّ بعضِهما بعضًا كي يعكسا محبة خالقهما للبشرية. إنّ كلام مار بولس الرسول واضحٌ لا نقضَ فيه: " أيها الرجال أحبوا نساءَكم، كما أحبّ المسيح الكنيسة وبذل نفسَه دونها ليجعلّها كنيسة مجيدة لا عيبَ فيها ولا غضنَ ولا شيءَ يشبهُ ذلك... أيتها النساء، إخضعنَ لأزواجكنَّ كما للربّ لأنّ الرجلَ هو رأس المرأة، كما أنّ المسيح هو رأس الكنيسة" ( أفسس 5: 22-23). أي أنّ المسيح يطالبُ الزوجين معًا بتبنّي نمطٍ مبنيٍّ على كلّ مقوّمات الحياة الزوجية الصادقة وعلى بذل الذات واحدهما للآخر، تمامًا كما المسيحُ أحبّ الكنيسة. وهذا رفعةٌ للعلاقة الزوجية وسموٌّ لقدسيّة سرّ الزواج المبنيّ على استعداد الطرفين للتعبير عن مبادلتهما الحبّ والخضوع معًا لبعضهما البعض كأحرارٍ وليس كعبيد. أليسَ هذا بحدِّ ذاتِه، يُعدُّ بُعدًا عميقًا في قداسة الحبّ الزوجيّ عندما شبّهه الرسول بارتباط المسيح بعروسه الكنيسة؟ من هذا التوجيه الربّاني، يأخذ الحبُّ الزوجي البشريّ مداه الواسع الشبيهُ بحبّ المسيح العريس، للكنيسة عروسِه. فالعريسُ عادةً هو مَن يحبُّ، والعروسُ هي المحبوبة التي تتلقى هذا الحبّ، وهي مدعوّة كي تحبّ هي أيضًا بدورها وتشارك الحبّ عينَه، دون أن ينتقص ذلك مِن كرامتها وشخصيّتها. ف"كرامةُ المرأة تُقاس بمقياس الحبّ الذي هو في الأساس، مقياسُ عدالةٍ وبرّ"، كما يقول القديس أوغسطينوس.

العقل ودورُه في حياة الزوجين
   يبقى العقل دومًا، محورَ جميع المدركات والقابليات والأفعال التي تساعد الإنسان في تكوين تفكيره وإدراكه وإسعاف ذاكرتَه للقيام بما هو مطلوبٌ منه في مسيرة حياته بوعيٍ وإدراكٍ كاملين. لقد تطرّق العديد من الفلاسفة الكبار إلى مسألة العقل، وعالجوا وظائفَه وحركاته وخرجوا بنظريات عن أهميته في حياة الجنس البشري، كأفلاطون وآرسطو لدى الإغريق والمحدّثين منهم مِن أمثال كانت وديكارت وفرويد، وغالبيتُهم يرون بأن العديد من الجوانب العقلية والعاطفية ترتبط ببعضها البعض، ومن ثمّ لا يمكن فصل بعضها عن الأخرى، لأنها تشكل حزمةً موحدةً في سياق التهذيب الروحي والمادي في حياة الكائن البشري.
   ولكن، هل للعقل فرصةٌ كي يقرّرَ أن يحبّ أو يصدرَ إيعازًا بالحبّ؟
   قد يعتبر البعضُ، وهو محقّ، أنّ العقلَ زينة الرجل الراجح ودفّة المرأة المتعلّمة، حين الاحتكام إلى صغائر الأمور وكبائرها في الحياة الزوجية التي تتقاذفُها المشاعر وتتجاذبُها المصاعب في لجّة بحار الحياة البشرية دون هوادة. فما مِن حياة هادئة على مسار الخط، وما مِن أخرى ماردةٍ على الخطّ عينِه. فمِن خلال العقل، يحاول الإنسان أن يرسم ملامح حياته ويُنضج خططَا يعتقدُها صائبة وقابلة النجاح والتحقيق. ومَن لا يعمل على ذلك، بل ويتركُ الحبلَ على الغارب، فهو بمثابة حيوانٍ سائبٍ كسائر البهائم التي تعيش في الغابة، لا همَّ لها ولا هدف، سوى الأكل والنوم والجري وراء الغريزة الفطرية. وحيثُ يتسّمُ العقل بالاتزان والرجاحة في كلّ شيء، يضحي دليلاً هاديًا لخطوات الإنسان. وهنا في موضوعنا، هذا ما يتبنّاه الزوجان لتسيير دفّة حياتهما الزوجية.  فالحبُّ الخالي من سمة العقل، يكون ناقصًا، بسبب افتقاده إلى أحكامٍ واقعية تعينُه على تقبّل الآخر على حقيقته، وليس على ما يظهرُ عليه من صفاتٍ وملامح. لذا، لا بدّ من ترصين الثاني أي العقل، كي يستقرّ الأول أي الحبّ، ويأخذ مداهُ في ترسيخ علائق الحياة الزوجية الصحيحة المبنية على الألفة والرحمة والمودّة والتفاهم والتضحية، والتي تعزُّزُها في الوقت ذاتهِ وتنعشُها أوقاتُ العلاقة الحميميّة المتزنة بين الشريكين.
   هناك، أمورٌ بديهية، لابدّ من توفرها، حين الاحتكام إلى مسألة ترجيح العقل في مفهوم العلاقة الزوجية واختيار الشريك. ولعلّ أهمَّها يكمن في التوافق النظري والأخلاقي والمعنوي والمجتمعيّ الذي يشمل المستوى الثقافي والأسري والاجتماعي والعمري أيضًا، وهي سماتٌ تكفلُ نوعًا مقبولاً ومنطقيًا من التكافؤ والتقارب بين الشريكين. أمّا التجاوز على هذه المعايير، فقد يخلق هوّةً، ولو بعد حينٍ، بين المحبّين بسبب غياب الاحتكام إلى العقل في مسألةٍ مصيرية. فالزواج، إذْ أراد به الخالق تكوينَ سعادة بين كائنين جميلين قرّرا الاجتماع والاتحادَ معًا، لا يمكن أن يتحوّل إلى صيغة ميكانيكية لإشباع الغريزة الجنسية أو للإنجاب وتكثير النسل للأمم والشعوب، فحسب. بل يبقى محتفظًا بتلك القداسة التي كرّسها الخالق لبني البشر "لينموا ويكثروا ويملؤوا الأرض"، كما جاء في سفر التكوين. ثمّ جاء المسيح ليزيد من قدسيّته، بجعله رباطًا مقدّسًا ثنائيًا أبديًا لا ينفصم إلاّ بموت أحد الشريكين "فيكونان كلاهما جسدًا واحدً، فليسا هما اثنين ولكنْ جسدٌ واحد" (متى 19:6). فهل أقوى وأسمى من هذا القول الذي رسّخ مفاعيل الزواج المبني على القبول والتراضي بين رجلٍ وامرأة بعد قرارهما الارتباط برباط المحبة الذي يرسّخُه العقل؟
   إنّ العودة إلى العقل في اختيار الشريك وفي إدامة الحياة الزوجية بعد وقوع الزواج، ينبغي أن تولى أهمية كبرى، لأنه السبيل الأوفر حظًا في تركين تلك العلاقة وتعزيز مفعولها. فالحياة لا تخلو من صراعات واختلافات عديدة، وهذه طبيعيةٌ في حياة الزوجين وفي داخل الأسر، وإلاّ لَتحوَّلَ العالم إلى كيانٍ كسيحٍ مقعَدٍ غير مؤهَّلٍ لمواجهة الأقدار والمصائب، أيًّا كان مصدرُها وأيًّا كانت وُجهتُها. فاللّه خلق الإنسانَ ومعه خلقَ فيه عقلاً يهديهِ إلى السبيل الصحيح ليدبّرُ شؤونَ حياته اليومية. وتلك نعمةٌ كبيرة أنعمَ بها الله على الإنسان لتحقيق هذا الهدف وكي يميّزه عن الحيوان وأشكال المادة وباقي الأجناس من الخلائق غير العاقلة. ألا يصدقُ القولُ: إنَّ العاقل يميّز بين الخير والشرّ وبين الصالح والسيّء وبين الحقّ والباطل؟ فكم بالأحرى، إذا استخدمه الزوجان ليكون هاديًا ومنيرًا لدربهما ومفتاحًا لسعادتهما التي تكتملُ براحة البال وتعزيز الثقة بينهما مع مرور الأيام. كما أنه السبيلُ الأوفر حظًّا لتنمية آصرة الزواج بين الشريكين وديمومة الدفء والمودّة بينهما. وقد يكون هو ذاتُه، منبعًا صالحًا لإحياء مكامن العواطف والمشاعر والأحاسيس المختلفة في مسيرة حياة الزوجين حينما يوجّهُها في اتجاهِها الصحيح الذي يرضي خالقَه ومحبوبه ومحيطَه في آنٍ معًا. لذا، فاستخدامَ العقل الراجح، يعني ايضًا، توجيه دفّة الحياة في وجهتها الصحيحة بوعيٍ وإدراكٍ كاملين بالاشتراك مع مزايا وعناصر أخرى لا تقلُّ في أهميتها من أجل إعطاء الحياة بعدَها الإنساني المعقول.

بالحبّ والعقل معًا، تُبنى شراكة الحياة

   لستُ ممّن يعتقد بأنّ بدايةَ الحُبّ نهايةٌ للعقل. سابقًا، قالها آرسطو: "قوة العقل هي روح الحياة". فمَن يمتلك قدرًا من التفكير والاتزان الذهني، فهو في ضوء هذه الفلسفة، قادرٌ على تداول الأفكار وتقبّلها أو عدمها، لأنّه ينطلق من منطق العلم والمعرفة وليس الجهل، وشتّان ما بين الاثنين! وقدرتُه هذه، تمكّنه مِن حسن الاختيار والمناورة والبحث عن شريكٍ مناسبٍ يؤمّن له السعادة وهي تخلق لديه أيضًا، القناعة بإمكانية التفاهم ومبادلة الحبّ على أساس الاحترام المتبادل والفائدة المشتركة في مشروع بناء البيت الأسري على أسس قوية ومتينة.
    إنّ رابطة الزواج لا يمكن بناؤها على عنصر الحبّ وحدَه أو المشاعر التي يصدرها القلب الذي ينجذبُ لجمال الطرف الآخر أو لبعضٍ من صفاته. فعنصر العقل، يبقى مهمّاً في أية بادرة من هذا النوع، وهو ينمُّ عن مقدرة جمالية في النظر إلى الأشياء وإلى الغير على السواء، إنطلاقًا مِن مكنونٍ إبداعيّ، كما يراه أفلاطون أيضًا. فالعقل أيضًا، ينبغي أن يكون حاضرًا منذ انطلاقة الشرارة الأولى أو من النظرة الأولى التي يتيه بها الهائم بحبّ شريكه. وبصورة أعمق، لو أراد أحد الطرفين أن يغوص في معرفة الطرف المقابل، لا بدّ له مِن معرفة نفسه أولاً، كما يرى سقراط، ومن ثمَّ الغوص في أعماق طبيعته وجوهر كيانه ليحدّد تمامًا ما يراه مناسبًا في ضوئها، ويسلك بموجبها كي يحقق السعادة بالتالي. ويضيف الفيلسوف سقراط في هذا الصدد:" لاريب ان بعض الناس ينغمس في السعادة مصادفة، وأولئك هم سعداء الحظ، غير أن الحصول عليها باستخدام الذكاء و الإرادة هو عين الحكمة". فالسعادة هنا، هي مقدار ما يمنحه الحبيب مِن حبّ ومودّة وعاطفة لشريكه باتزان عقليّ وانسجامٍ مشوّقٍ وفق القوانين الإنسانية التي منحتها السماء والطبيعة منذ بدء الخليقة بأبوينا الأولّين آدم وحوّاء. وما دام الإنسان، ليس له مِن غاية في الحياة، سوى تحقيق السعادة وعيش حياة الطمأنينة والسلام في البيت وفي المجتمع الذي يتواجدُ فيه، لذا عليه البحث عنها بكلٍّ من قلبه وعقله على السّواء. وهذا ما حدا بالفيلسوف الإغريقي سقراط أن يعلن بوضوح فلسفتَه في الحب بكلمات ومعانٍ خالدة بالقول: "الحبُّ من بوابة العقل وحده يفقد إثارته، والحبُّ من زاوية القلب وحده يفقد اتزانه، والحبُّ عن طريق اتفاق العقل والقلب معا يعني البقاء والخلود. مَن يحبُّ بعقله فقط، لا يتمتع بسحر الحبّ وجمالِه، ومَن يحبُّ بقلبه فقط، لا يأتي من حبه إلّا الألم والندم.  لكنْ، مَنْ تتّحدُ نبضاتُ قلبه مع ذبذبات عقله في اتجاه واحد في زمن واحد لشخص واحد، فهو بذلك يحقق قمّة الإنسانية وشفافية العاطفة واكتمال الحب وجمالية الرضى والاكتفاء وتطابقَ الصورة الخفية الساكنة في منطقة اللّاشعور مع الصورة الظاهرة لشخصِ مَنْ يحبُّ، فلا يجدُ أيَّ اختلافٍ يُذكر بين الخيال والحقيقة والعاطفة والمنطق والقلب والعقل .في الحبّ، نبحثُ عن نصفنا الآخر المكمِّل لذواتنا وإنسانيتنا بملامح ذاتية وصفات معينة وخصائص غامضة وغائمة وحالمة، قد نجده مبكرا في بدايات المراهقة فيبقى هو الحب الأول والأخير مهما أحببنا أو عرفنا أو شاركنا سواه وقد نعثر عليه متأخرًا في مرحلة النضج فنفرح ونحزن معًا، لأنّ الأوراق تغيرت والظروف تبدلتْ، فلمْ نعُدْ مهيَّأينَ لاستقباله ولا لاحتضانه . فننظر إليه من بعيد كالقمر نترقبُ إطلالتَه وزيارتَه ليضيء الغرفة المظلمة، غرفةَ القلب ، وقد يمضي العمرُ كلُّه ونحنُ لا نزال في رحلة البحث عن نصفنا الآخر المفقود الذي لم نلتقي به أبدا".
    على الصعيد ذاته، يرى بعض خبراء علم النفس وعلم الاجتماع معًا، أن السنوات الأولى من اقتران الأزواج، ربّما تكون من أصعب الفترات، إذ إنّها ترسم ملامح مسيرة الحياة المشتركة بين الزوجين وتحدّد نجاح تلك العلاقة مِن فشلها. الكاتب "يوسف أسعد"، في كتابه الموسوم "الشخصية المحبوبة"، يُرجع السبب إلى كون تلك العلاقة هي حصيلة تفاهم بين عقلين وانسجام بين قلبين إلى جانب الجاذبية الجنسية بين الأزواج التي لا تقلّ أهمية في تحديد مصير العلاقة المشتركة. أي بمعنى أدقّ، يكون الحبّ الصادق والاحترام المتبادل والتفاهم الروحي والجسدي معًا، من الأدوات المهمة في الاستقرار النفسي والتوازن في أية حياة زوجية، وعليها تُبنى حياة الزوجين، سعادتُها وشقاؤُها. فهذه جزءٌ مهمٌّ من الأركان الأساسية الأخرى التي تقوّي حياة الزوجين وتدعم مسيرة  حياتهما. من هنا، يشكّل العقل ركنًا مهمًا أوَّلَ في حياة الزوجين. إذ لا بدّ من تفاهمٍ بين عقلين مختلفين قرّرا الاجتماع والاشتراك في مشروع جديد يجمعهما معًا، وصولاً إلى انسجام مقبول ومع افتراض وجود اختلافٍ في وجهات النظر أو البيئة التي نشأ فيها كلٌّ من الزوجين وما يرافق هذه البيئة من عناصر مختلفة مِنْ بشر ومادة وروحيّة ومِن استعداد لتقبّل وجهات نظر ورغبات وتطلعات مختلفة. فيما الركن الثاني، يتمثل بالحبّ ومقداره في عملية تعزيز الركن الأول. فعندما تلتئم القلوب على بعضها وتنسجم المشاعر والأحاسيس وتتفاعل في خضمّ أحداث الحياة بحلوها ومرّها، يُفهم مِن ذلك نجاحُ العلاقة الزوجية، وفشلُها بعكس ذلك. إذن انسجام القلوب كفيلٌ بتعزيز روح الحياة المشتركة بين الأزواج ودافعٌ إضافيّ من أجل نجاح العلاقة الزوجية. غير أنّ هذا الانسجام لا يمكن أن يأتي مفاجئًا أو من فراغٍ أو لمجرّد الاقتران. فهو قد يأخذ مدى من الأيام بل سنينًا، حتى يحصد نتائج إيجابية بحيث يخلق من الشريكين معادلةً متلازمة لا يمكن التفريقُ والابتعاد بينهما إلى حدّ بلوغ درجة الهيام والكلف والوله اللاشعوري أحيانًا، ما ينعش حياتهما معًا. فيما لا تقلّ الجاذبية الجنسية والتكامل الجسماني بين الشريكين أهمية في تحقيق الانسجام بي العقلين والقلبين. وهذا ممّا يمكن عدُّه، ركنًا آخر من أركان الزواج الناجح. وهذه إذا اجتمعت معًا، حينذاك يمكن الحكم على علاقة زوجية بالنجاح والتوفيق لإكمال المسيرة المشتركة.
   من دون شكّ، هناك إذن، معادلةٌ بين القلب الذي هو منبعُ الحبّ وبين العقل الذي يوجّه تصرّفات الأوّل ويتحكّم بها مِن منطلَق "الأنا العليا" التي تردعُ "الهو" المسؤولة عن كلّ التصرفات الحسيّة وتضع حدّاً لرغبات "الأنا" العديدة. وفي ضوءِ هذه الخصال، تتحدّدُ معالمُ الشخصية البشرية والإنسانية للمخلوق. فالقلبُ والعقل ركنان اساسيّان من أركان حياة الكائن البشري، وبغيرهما لا تستقيم الحياة. فلو قُدّر لهما إبقاء الصراع بينهما، لما تمكنا من العيش السويّ في جوٍّ من الشراكة في كلّ شيء، والتي تعني من جملة ما تعنيه الابتعاد عن كلّ ما يغيض الخالق والإنسانية على حدِّ سواء. فهُما إذن، مكمّلان لبعضهما البعض، وهكذا يجب أن يكونا دومًا.

من مشاكل العلاقات الزوجية

   رابطة الزواج تعني التزامًا أخلاقيًّا قبل كلّ شيء، ببدء حياة جديدة بين إنسانين اتفقا العيش معًا في اتحادٍ، كما يشير إلى ذلك العقد الذي يجري بين الشريكين. والعلاقة الزوجية، هي أجمل ما في الحياة، إذا كانت مبنية على التفاهم والمحبة والدفء والعاطفة المتزنة والثقة المتبادلة، وليست سجنًا كبيرًا كما يشيع بعض ضعاف النفوس الذين لم يحكّموا العقل والقلب في اختيار الشريك المناسب. ولكنْ، قد تتعرّض الحياة الزوجية بين فترة وأخرى إلى فتراتٍ من الركود والفتور وبعض المشاكل اليومية نتيجة لمنغصّات طارئة أو بسببٍ من مشاعر سلبية ناجمة عن أنانية أحد الشريكين أو كليهما معًا، والتي قد تفسد تلك العلاقة الجميلة بينهما. وهذه، إن لمْ تُعالج اسبابُها فورًا بالمصارحة والتنازل لبعضهما البعض، فإنّها قد تستفحل فيصعبُ مِن بعدها معالجة الضرر والشرخ الناجم عن تعكير صفوها، بسبب تجاوزها عتبة الثقة التي تتزعزع بين الطرفين. والمشاكل الزوجية في عمومها، تأتي من عدم الانسجام الفسيولوجي والديني والمذهبي والعرقي والنفسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والنظرة إلى الحياة من وجهة نظر سياسية في بعض الأحيان. وتشير أغلب تقارير الباحثين، إلى عزو أسباب المشاكل في العلاقات الزوجية إلى الإخفاق في التوافق الجنسيّ أولاً، ثمّ تأتي باقي الأسباب الجانبية الأخرى التي لا تقلّ في تأثيرها على سلوك الأزواج. هناك مشاكلُ شائعة الأسباب بين الأزواج. فإنْ كانَ الزواج مبنيًا على صخرتي العقل والحبّ، فإنّه ليس من السهولة تعرُّضُهُ للانهيار، ذلك لأنّ أساسَ بنيانِهِ أقوى ممّا قد يتعرّض له الزوجان من مشاكل عارضة، يمكن حلُّها بالتفاهم والتنازل الواحدُ للآخر رغبةً بإدامة جانب المودّة والرحمة والحبّ الصادق الذي يمكن أن يجمع بين المحبَّين. وبعكسه، لو افتقر إلى أساسٍ صحيح في بنيانه، لانهار، وكان انهيارُه كبيرًا ومدمّرًا للرباط الذي يجمع الطرفين بغير هديٍ وبعيدًا عن اتزانٍ في العقل ورويّةٍ في القلب. وإنّ مثل هذا الزواج المفكَّك أصلاً، لنْ يستطيعَ مقاومة عتوَّ الحياة وقسوتَها إذا ما هاجمته عوائد الدهر وتمكّنت من اختراق أسرارِه بسرعة.
   ولعلَّ من المشاكل التي تواجه حياة الزوجين، والتي يمكن التطرّق إليها بشيءٍ من العجالة، من أجل التذكير ليس إلاّ، والحثّ على تجاوزها وتجنّبها، نذكر:
-   محاولة الزوج فرضَ سطوته وقوامته على المرأة في المجتمعات الذكورية خاصةً، دون مراعاةٍ لشعورها وتطلّعاتها وحقّها في التعبير والحركة وإبداء الرأي، كإنسانة مساوية له في الخلق وليس كعبدة أو كشخصٍ ثانويّ أو كمجرّد تحفة جميلة استملكّها الرجل لتكون تحت تصرّفه متى وأينما وكيفما شاء.
-    وفي ذات السياق، يمكن للاختلاف في الرأي حول تصرّف الأهل وذوي أو أقارب الزوجين وتدخّلهم أحيانًا في شؤونهما، أن يكون له دورٌ كبيرٌ في إثارة المشاكل بين الطرفين وفي تفاقمها، حيث لا يمكن حلّها أحيانًا إلاّ بالابتعاد عن عائلتيهما والعيش في سكنٍ لائقٍ مستقلّ.
-   الجانب المالي، قد يكون حاسمًا في إثارة المشاكل بين الزوجين. هناك من الأزواج من يعاني من شرهٍ ومتعةٍ لا حدود لها بالتسوّق وارتياد المولات والبحث عن الموضة وآخر الصيحات الإلكترونية المنتشرة هذه الأيام، ولاسيّما مِن قبل الزوجة، ما يثير سخط الزوج عليها، عندما لا تساعدُ أوضاعُهم المادية الضعيفة لسدّ الحاجة اليومية والمصاريف المتراكمة بسبب عسر المعيشة. فالمرأة المتطلّبة، تكون صعبةَ المراس، ما قد يحمل الزوج المسكين للبحث بطرق ملتوية وغير مشروعة أحيانًا، عن موارد إضافية من أجل ترضية زوجته التي قد تهدّدُه بأشكالٍ وألوانٍ من التحريم والمنع والعقوبات التي تتفنّنُ بإخراجها. كما أنّ إدمان الرجل على التفريط بماله في حالة إدمانه على ارتياد أماكن التسلية والمتعة والقمار، من شأنه أنْ يدمّر العلاقة الزوجية.
-   الاختلاف في الرؤية الثقافية والدينية والاجتماعية، من شأنه أن يشكّلَ عائقًا في استمرار الرباط الزوجي، لعدم تناغم الطرفين وبسبب فقدان الانسجام بينهما، بحيث يصل التفاهمُ عليها إلى طريقٍ مسدود.
-   موضوع الإنجاب وتوقيتُه ووسائل تربية الأبناء، هو الآخر، قد يختلف عليه الزوجان ليشكّل وسيلة إضافيةً لطلب الانفصال والابتعاد عن بعضهما البعض.
-   الوضع النفسي والهيأة العامة لأحد الطرفين وكذلك عدم التوافق أو النفور الذي يمكن أن يشكّله أحد الأزواج لشريكه، ولاسيّما الذين لم يتسنّى لهم التعارف مع بعضهما عن قرب قبل الاقتران. والخوف هنا، عندما يصعب مشاركة الطرفين سرير العش الزوجي، ما يعني فقدان أهمّ حلقة في رابطة الزواج وهي الانجذاب الجسديّ الذي يجمع الشريكين ويشدّهما لبعضهما البعض.
   هذه وغيرُها وكثيرٌ من الأسرار الزوجية المستعصية، كفيلةٌ بفتق الرابطة الزوجية بين الشريكين في حالة افتقارها لاستخدام العقل والحكمة في رأب الصدع في العلاقات. فهي تحدّياتٌ جديرة بالاهتمام والمعالجة مع بدء ظهورها.
تحديات ووقائع

   إنّ الزواج عامةً، تكفلُه الشرائع الدينية والإنسانية والوضعيّة. لقد لوحظ في السنين الأخيرة بخاصة، ميلٌ لكفّة انهيار العديد من الزيجات، والأسباب كثيرة، كما رأينا في السطور أعلاه. هناكٌ أديانٌ أجاز فيها الشرعُ الطلاقَ بين الزوجين بكلّ سهولة، بسبب تباين الرؤى حول الرباط الذي يجمع الرجل والمرأة، وكذلك بسبب نظرة الدّين إلى الغاية من فعل الزواج نفسه. ففي المجتمعات الذكورية، العربية منها والإسلامية بصورة خاصة، تختلف نظرة الرجل إلى المرأة التي يعتبرها أحيانًا سلعةً أو تحفةً كباقي السلع والتحف التي يرغب باقتنائها وشرائها بماله، حيث تكون له قوامةٌ كاملةٌ عليها وعلى تحركاتها وسلوكياتها، دون إيلاء اعتبار لإنسانيتها وحريتها وكرامتها ككائن بشري جميلٍ مساوٍ للذكر ومخلوقٍ على صورة الله ومثالِه، كما أراده الخالق.
    إنّه، ومع كلّ الجهود التي تبذلها جهاتٌ توعوية ومنظمات إنسانية ونسائية محلية وإقليمية ودولية من أجل تغيير نظرة المجتمع إلى وضع المرأة في هذه المجتمعات النامية المتخلّفة في نظرتها إلى المرأة بصورة خاصّة، إلاّ أنها مازالت تصطدم بمعوّقات، في غالبيتِها تقف وراءها مراجعُ دينية تخشى مِن ضياع سطوتها وسيطرتها على المجتمعات التي تطالب بتغيير نظرة المجتمع إلى حقوق المرأة، واعتبارها كائنًا إنسانيًا يستحق التقدير والكرامة في مسألة الزواج وتكوين الأسرة وفي حرية التعبير وإبداء الرأي والقيادة.
    فيما يأخذ في المسيحية مدى ارتباطيًا مصيريًا غير قابل التفكّك والانفصال. فقد رفعته الكنيسة إلى رتبة مرتفعة الشأن وعدّته سرًّا من أسرارها المقدّسة، لا يمكنُ انفصالُه أو إبطالُه إلاّ في حالات استثنائية يجيزها الشرع المسيحي، بعد تقديم وثائق وبيّنات دامغة قابلة للطعن في المحاكم الكنسية في حالة الشكّ بصحتها. لذا فهو يسدّ الطريق تمامًا، أمام مَن يحاول تعطيله والاستخفاف بمفعوله وقانونيّته. بالزواج المسيحي، يصبح الزوجان واحدًا، ف"ليسا هما اثنين ولكنْ جسدٌ واحد". من هنا نفهم شدّة الآصرة التي تجمع الشريكين في هذا السرّ المقدّس غير قابل الانفصام إلاّ بالموت، ف"ما جمعهُ الله، لا يفرّقُهُ إنسان" (متى 19:6). ومِن ثمَّ لا مجالَ للطلاق والانفصال، بل كلُّ ما هو مسموح به، لا يتعدّى السماحَ بالافتراق بين الزوجين في حالة استعصاء المشاكل بينهما ووصولها لطريق مسدود. وهذا، ليس طلاقًا، بل افتراقًا، لا تجيز الكنيسة بموجبه لأيّ طرفٍ منهما بالزواج من جديد. أمّا الخروج عليه، فيعني خروجًا على قانون الكنيسة وعن صفوفها أيضًا. فليسَ مقبولاً، أن يلهث المتزوجون نحو طلب الطلاق، لأتفه الأسباب وأبسطِها، أو لمجرّد الاختلاف في الرأي أو بسبب هفوة يمكن أن يتعرّض لها الزوجان في أية لحظة أو موقف أو ظرف طارئ بشأن ما، ذلك لأنّ الحياة الزوجية بطولها وعرضها، مليئة بالكثير من الإخفاقات والنجاحات، والصعوبات والسعادات، وعلى الطرفين أن ينسجما ويتوافقا بالقضاء على الغضب والأنانية وحبّ الذات باستبدالها بالمصارحة والتضحية ومشاعر الحب وبالصبر والإرادة القوية وإيجاد البدائل التي من شأنها إنعاش الحياة الزوجية بشيء جديد في كلّ أزمة تستجدّ.

خلاصة

   يُفترض بالعلاقة الزوجية أن تكون تكامليّة مشتركة وليس ندّية وضدّية بمعنى التصارع والتنافس لِمَن تكون السيادة والسطوة والقوامة. فإذا اجتمعت مجمل هذه الأركان والصفات، انتعشت حياة الزوجين، ولن يكون بالإمكان استغناء أحدهما عن الآخر طيلة مشوارهما المشترك الذي سيتصفُ بالحبّ والمودّة والرحمة والتفاهم والتعاون والاحترام وإدارة البيت وتقرير وجهته بأفضل ما يمكن. فهذه جميعًا سلوكيات إيجابية وثمار لمفهوم صادق للحياة الزوجية بحلوها ومرّها. وفي حالة فقدان هذه العناصر مجتمعة أو منفردة، فإنّ الحياة تصبح جحيمًا أزليًا لا يُطاق ومن دونها لا يستقيم الزواج. وهنيئًا لمَن يستطيع الحفاظ على عنصر الصداقة مع الشريك بعد تحقيق مرحلة الزواج. وإذا كان الحب عمومًا، لا يخضع الى القياسات والحسابات التي يضعها العقل، إلّا أنّه لابدّ للقلب، مصدر الحبّ التقليديّ، أن يستشير العقل في مسألة اختيار الشريك وفي كيفية الانسجام معه، كما العكس صحيحٌ، كي يتوّجَ الاختيار بسيلٍ من السعادة التي يتمنّاها الجميع، ويمكن للحبّ حينئذٍ، أن يأتي لاحقًا، وليس العكس، لأنّ العلاقة التي  تخلو من الحب لا تدوم وتظلّ مهدّدةً بالانهيار.

لويس إقليمس
بغداد، في 20 أيار / 2014

333
الأخ أمير المالح المحترم
 
تلقيتُ بألم بالغ نبأ رحيل شقيقكم د. سعدي.
إنّي وإن لم أتشرّف بمعرفته، إلاّ أن كتاباته ستظلّ خالدة في طيات الأدب والشعر والرواية وهي تحكي إبداعاته الممزوجة بالحرص والبراعة في خطّ الكلمة الحرّة وإبداء الرأي المعتدل ونشر الثقافة السريانية- الآرامية سحابةَ أعوام، كان فيها الفارس الأصيل الذي لم يعرف الكلل ولا الملل ولا أتعبتْه همومُ الوطن والأمّة.
تعازيّ القلبية لك ولذويه وعائلته ولبلدة عينكاوا. وعساه بين الأبرار والصدّيقين في الخدر السماويّ الذي لا تنتهي مشاربُه ولا تنقضي سعاداتُه ولا تهدأ تمجيداتُ الملائكة والصالحين فيه.
 
لويس إقليمس
(ناشط مدنيّ)
ملحق تجاري
السفارة الفرنسية
بغداد- العراق



334
الأخ أمير المالح المحترم
 
تلقيتُ بألم بالغ نبأ رحيل شقيقكم د. سعدي.
إنّي وإن لم أتشرّف بمعرفته، إلاّ أن كتاباته ستظلّ خالدة في طيات الأدب والشعر والرواية وهي تحكي إبداعاته الممزوجة بالحرص والبراعة في خطّ الكلمة الحرّة وإبداء الرأي المعتدل ونشر الثقافة السريانية- الآرامية سحابةَ أعوام، كان فيها الفارس الأصيل الذي لم يعرف الكلل ولا الملل.
تعازيّ القلبية لك ولذويه وعائلته ولبلدة عينكاوا. وعساه بين الأبرار والصدّيقين في الخدر السماويّ الذي لا تنتهي مشاربُه ولا تنقضي سعاداتُه ولا تهدأ تمجيداتُ الملائكة والصالحين فيه.
 
لويس إقليمس
(ناشط مدنيّ)
ملحق تجاري
السفارة الفرنسية
بغداد- العراق

335
عذرًا سيدي البطريرك:
 الكنيسة العراقية كلّها منكوبة، كما الشعبُ!
لويس إقليمس

قرعُ أجراس الخطر هنا وهناك، بين فترة وأخرى، سواء من جانب الرئاسات المسيحية أو مِن أوساط المكوّن ذاته، أصبحَ لازمةً غير مجدية. فالتيار الجارف، وليكنِ اليومَ شكلاً من أشكال تسونامي طائفيّ أو عرقيّ أو دينيّ، حينما يحين وقتُه، لا أحد يمكنه أن يردّه أو يدحره. قد تنفع معه بعض أشكال التهدئة أو التخفيف عن معاناة. ولكنّه ماضٍ في طريقه المرسوم له متى شاءت قدرات القوى الظاهرة المعروفة أو تلك المخفية المجهولة الهوية.
هكذا أصبح حالُ العالم في زمن العولمة التي اجتاحت المادة والفكر والعلم، والشجر والماء والهواء، كما أثرت في حركة البلدان والعباد برسم التوقعات وتعديل الفلسفات وتأويل السياسات. ونحن في العراق، لسنا شذوذًا عن هذا وذاك. ولكنّي لن أتحدّث إلاّ عن حالة المكوّن المسيحيّ الذي وصل إلى حالة مزرية، واقعًا في مأساته المضاعفة بين نفرٍ قابعٍ في بلاد الغربة يُصدرُ ويصدّرُ تعليماته وتوجيهاته وأفكارَه المسمومة، ضاحكًا على عقول البسطاء. فهو حينًا، يحرّضهم على ترك أرض الوطن من أجل أمان أفضل ومستقبلٍ أوفر، وفي أخرى مرائيًا يدعوهم للبقاء في أرض الآباء والأجداد في تناقض صريح مع الذات ومع الغير. والثانية بين مُدَّعٍ في الداخل بالاعتصام بحبل الرجاء والأمل، دون أن يقدّم ما هو ملموس للصمود والبقاء. ولكنْ "حتّى متى، وإلى متى يبقى البعيرُ على التلّ" شاخصًا عينيه المنهكتين نحو سراب الصحراء التي كانت بالأمس أرضًا خصبةً ولودة، واليوم أجدبتْ بعد أن أقحطتها السياسات الجوفاء المتتالية والأحقاد التاريخية المتكرّرة منذ عقودٍ، بل منذ قرون؟؟؟
متى دُقّت أجراس الخطر!
كثيرة هي أجراس الخطر التي دُقّت على مرّ القرون والعقود والأعوام. حديثًا وبعد السقوط مباشرة في 2003، أجراسُ الخطر دقّت منذ أن سلّم مّن ادّعى تمثيل المسيحيين (أيًّا كان شخصُه أو موقعُه) أمرَه للغريب الطامع وتقاعسَ عن أداء واجبه الكنسي والوطنيّ، فأصبح بذلك ذيلًا تابعًا لهذه الجهات، يأتمرُ بأمرها ولا يزيغ عن توجيهاتها، لأنّها اشترتْهُ ومعه أتباعَه رغم أنف المعترضين. فمتى سيكون قرارُنا مستقلًّا وإرادتُنا ثابتةً راسخة وتصوّراتُنا صائبة وغير مهزوزة بفعل التأثيرات الجانبية، التي في أغلبها هي معيبة وغير مجدية؟ وإذا كان البعض من هؤلاء، ومنهم مَن كانوا ومازالوا في مواقع كنسية مهمة ومؤثرة أوفي أحزاب هزيلة صوريّة، قد عشقوا التبعية والخنوع وتفضيل الغريب على أهل الدار، أليس في هذا الأمر الجلَل من "نكبة" حقيقية على تاريخ مسيحيتنا وحضارتنا وثقافتنا، وخطرًا على وجودنا وهويتنا وكياننا؟ فكيف لهؤلاء الأتباع الصاغرين أن يدفعوا ويوقفوا شرَّ الهجرة ويجاهدوا في تجذير المتردّدين في البقاء في أرضهم ووطنهم، وهم ينفذون أجندات أسيادهم في الداخل والخارج؟  لقد قرعنا جرس مثل هذه المخاطر منذ زمن، ولكن، لا مِن مجيب أو مستجيب!
جرس الإنذار، دُق أيضًا منذ حين، عندما بدأت جهاتٍ متنفذة بفرض كيانات طارئة بمسمّيات غريبة على إرادة شعبنا منذ السقوط في 2003. لقد كان لظهور المجلس الشعبي الطارئ مثلاً، وبتسميته القطارية فيما بعد، بداية الانحطاط عبر تحجيم القرار السياسيّ المسيحي المستقلّ. بل كان إنذارًا بالبدء بتقسيم شعبنا بحسب الولاءات لهذا الكيان أو ذاك، وحسب التمويل والدفع المسبق والوعود، وما أكثرها!
 قلناها في حينها، كما قالها غيرُنا: لا تلقوا جواهرّكم قدّام...(الغرباء)"، فإنّ لنا مع الطارئين والمتبجحّين عبر الزمن تجربة مريرة! حينها، بدأ هذا الكيان مجلسًا شعبيًا طرحَ ذاتَه "فارسًا كبيرًا" في خدمة القرى المتضرّرة وفي معاونة الناس الذين عانوا الأمرّين جرّاء الاستحواذ على أراضيهم وقراهم في شمال الوطن الغالي. وكان له ذلك، بعد أن أزاح من أمامِه تنظيمًا وليدًا موحدّا أقرّته الرئاسات الكنسية والأحزاب والمثقفون مباشرة بعد السقوط في 2003، حين تشكيل المجلس القومي الكلدو-آشوري سابقًا، والذي اتخذ تسمية أكثر شمولية حين إضافة مكوّن "السرياني" عليه، بعد اعتراضنا المضني لمرّات، وملاحظاتنا على محاولة جهات معينة السطوَ عليه بالضدّ من الإرادة العامة بهدف جعله تنظيمًا تابعًا. لكنّ الأخير تهاوى بسبب الدسائس التي حيكت ضدّ وجودِه وبالضدّ من استمرار نشاطه، كما كان مرسومًا له تمامًا. والغريب أن التحق في صفوف المجلس الشعبي القطاري الجديد هذا، أغلبُ الأعضاء النشطين في المجلس القومي السابق، في سابقة مدسوسة ومخطَّط لها بعناية!
واليوم، تتكرّر ذات المأساة، بظهور كيانات جديدة من صنيعة ذات الجهات المتنفذة أو غيرها. فالجهة التي أتت بالمجلس الشعبي القطاري مثلاً، لاحظت مقدارَ الاعتراض الكبير على تنظيم هذا المجلس المذكور وكذا على تصرّفات بعض أفراده، ما يجعله في الأيام القادمة في حكم الآيل إلى الزوال، عاجلاً أم آجلاً. من هنا يأتي اعتراضُ المجلس المذكور الأخير على نتائج الانتخابات البرلمانية بسبب مزاحمة الكيان الجديد " شلاما" لموقعه، رغم أنّ الكيانين من صنيعة ذات الجهة! هكذا هي لعبة الكبار، يصنعون من لا شيء شيئًا، ثمّ ما يعتموا ينهون ما بدأوه بحسب المصالح والظروف والأوقات. مثلاً، كيان "شلاما" الجديد، من حقه أن يدخل حلبة السباق، طالما أنّ الديمقراطية والحرية تتيح للجميع ذلك، وعليه اليوم إثبات هويته الصريحة كي يتمكّن من إزاحة المجلس الشعبي القطاري، الذي انتهت صلاحيتُه وانطفأت شعلتُه السياسية، كما يبدو، بعد أن أدّى دورَه بكلّ إخلاص وتفانٍ وخنوع، وقد آن الأوان لاستبداله بجديدٍ آخر بدماءٍ جديدة لتمرير متطلبات جديدة تحتّمُها المرحلة القادمة! أمّا الكيانات الجديدة (شلاما، وبلاد النهرين، وأبناء النهرين المنشق عن زوعا (الرافدين) النضالي، وسورايي، وأور، والوركاء، وبابليون، وربّما أخرى غيرُها) والتي وصفها البعض بالطارئة وجنى عليها أيضًا، فهذا الاتهام غير مقبولٍ. فهذه أيضًا حالُها حال المجلس الشعبي القطاري، كان لها كلّ الحق في دخول حلبة المنافسة. ومن ثمّ ليس المهمّ مَن يمثلها، بل الأهمّ مَن ستمثل هذه الكيانات وكيف، وهل سيكون قرارُها مستقلاًّ بعيدًا عن تأثيرات مَن أتى بها إلى الساحة السياسية المضطربة؟ وباختصار، هل ستتمتّع باستقلالية قرارها في إظهار قدرتِها على المناورة والاصطفاف إلى جانب حقوق جميع المسيحيين، أم ستكون تابعًا آخر ليضاف إلى سابقاتها واختصار دورها على احتلال منصب هنا وهناك؟
هنا القول الفصل. أليس في هذا التشظّي الجديد "نكبة" حقيقية تستحق قرع أجراس الخطر وليس جرسًا واحدًا؟ فهذه جميعًا، نادت وتبجّحت في برامجها عن دفاعها ضدّ التجاوزات على أراضينا وممتلكاتنا مثلاً، ولا أدري كيف ستفعل ذلك.
هل الكنيسة الكلدانية وحدها منكوبة!؟!
جميلٌ أن يُعاد قرعُ أجراس الخطر بين فترة وأخرى. والأجمل اليوم، أن يصدر ذلك مِن رمزٍ دينيّ ووطنيّ شجاع، نعدُّه رأسًا للمسيحية كلّها وليس لطائفته "الكلدانية" التي يراها لوحدها "منكوبة". ولكن، ألمْ يكن الأجمل أن يكون قرعُ هذه الأجراس تعميمًا لحالة التهرئة والتشظّي والانقسام التي أوصلت البلد إلى حافة حربٍ أهلية، لا ناقة للمسيحيين فيها ولا جمل؟ وبالتالي، ألمْ يكن الأجمل أن يُشار إلى مأساة الشعب المسيحي كلّه، المنقسم على ذاته بين "كلدانيّ" متعصّب، منغلق ومنكفئ على طائفته و "آشوريّ" متزمّت يبكي على أطلال حضارة سادت ثمّ بادت ولم يعدْ لها مِن فرصة وجود إلاّ في وجدان وأخيلة هذا النفر المضلِّل والمضلَّل معًا؟
وفي الطرف الآخر يقف نفرٌ من "السريان"، بعد أن نما لبعضهم ريشٌ وتَفَرْعَنَ بفعل منشطات مادية قادمة من أطرافٍ مغرضة، طامعة بأرضهم وطيبة أهلهم وتفتّحهم، حيثُ معرفة هذه الأطراف المتنفّذة باستعداد نفرٍ ضعيفٍ وجبانٍ من أوساط أبناء المنطقة لبيع أرض آبائهم وأجدادهم برخص التراب، تمامًا كما باع يهوذا معلّمَه المسيح بثلاثين من الفضة! في حين لم يستطع العتاة "البكّات" أي "الجليليون" بكلّ ما أوتوا من سطوة وجبروت من صدّ إرادة الأصلاء في باخديدا /قرقوش مثلاً، بالعناد بالمطالبة بحقهم في أرضهم واستعادة صكّ بلدتهم، حين قصد الأبطالُ منهم "الأستانة" العثمانية متحمّلين جمَّ المخاطر ومتجشّمين عوادي الزمن الغادر. ولولا أولئك الجبابرة من الرجال الرجال، لما كان بقي لهذه البلدة السريانية العريقة مِن أثرٍ مسيحيّ، بعد أن أصبحتْ اليوم بفضلهم فقط، مركزًا يُحسب له حسابٌ على الصعيد الوطنيّ والمسيحيّ معًا! فهل سيأتي ذلك اليوم المشؤوم الذي يضحّي فيه أحفاد أولئك الجبابرة ببلدتهم ويبيعوها للغريب الطامع بحفنة من الورق الأخضر لسدّ نفقات مشاريعهم الخاصة الضيقة التي تتعاظم وغنائمهم الشخصية والعائلية دون وازع أو ضمير؟ إنّني من جانبي أعيد قرع جرس الخطر على بلدتي أيضًا!
 وعلى ذات الصعيد أيضًا، هل يمكن لغبطته، نسيان أصالة الشعب الأرمنيّ المناضل الذي ذاق الأمرّين على مذابح العثمانيين في الهلوكوست التاريخي الشهير؟ أليس له الحقّ أن يقرع هو الآخر أجراس خطر فقدان هويته ووجوده؟
كلّنا إذن "في الهوى سوى" وفي النكبات إخوة متضامنون وفي الأفراح متنادون!
هذه وأخرى، كنتُ أتمنّى أن يحسبها غبطة رأس كنيسة العراق حسبًة واحدة دون تفرقة في العناصر المكوّنة للمكوّن المسيحي ككلّ حين قرعَ نواقيس الخطر على طائفته دون غيرها. قد يقول قائل، باقي الملل والطوائف لهم رئاساتُهم التي يُفترض بها الدفاع والتحدّث عن مرؤوسيهم وكنائسهم. نعم، لا شكّ في ذلك. وقد يقول غيرُه إنّ الملّة الكلدانية هي الأكبر. وهذا أيضًا صحيح، ولكنّنا في العراق لا يمكن أن نحسبها حسبة الكبير والصغير والأكثرية والأقلية والمتصدّرة والمتأخرة. إذّ المعوَّل في كلّ هذه وتلك، على غبطته، لما عرفناه فيه من شجاعة وطول باع وبُعد نظر وانتماء للوطن وأصالة وتجذّر ووحدة كلمة إزاء الغير المعروف والمجهول على السواء، في توحيد الصفوف وليس في الفصل والتقسيم والتمييز!
أرجو ألاّ أكون قاسيًا في هذا السرد وهذا التعبير، بقدر ما يحزّ في نفسي هذا التشظّي وهذه المباعدة وهذا الحقد وهذه المشاحنات بين أطراف مسيحية عبر الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي وما يصدر من كتابات وانتقادات لا تخلو من تجريح ونشر غسيل شخصيّ وترسيخ لمفهوم طائفيّ متعصّب، وكأنّي بفرسانها في صراعٍ أزليّ كما في ساحة قتال "ديكة" مستميتة لنْ يهدأ لها بالٌ إلاّ إنْ سالت دماءٌ وكُسرت جرارٌ وهُدّمت أركانٌ لا يُعرف ما لا تحمدُ عقباها!
إنّي أرى أن يكفّ أو على الأقلّ، أنْ يهدّئ مَن اختار المهجر من جميع الملل والطوائف أولاً، مِن تدخلاتهم في شؤون أهل الداخل، ومِن كلّ ما مِن شأنه فيه حضّ وتلفيق وتحريض وكذا من تهويلٍ وتزويق وتنميقٍ للحياة في دول الاغتراب، مقابلَ مَن اختار البقاء أمينًا لأرضه وبلدته ووطنه وصادقًا مع نفسه وأهله وأبناء جلدته. هذه كلُّها من جانب هؤلاء المحرضّين المغتربين، هي من دواعي التشجيع على استمرار نزيف الهجرة وإفراغ البلاد من مسيحيّيها. وأقول كفى للأقلام المأجورة وهي ترفع وتكبس دون وازع من ضميرٍ بسبب فقدانٍ التوازن الشخصي وإيثار مفهوم الأفضل والأجدر والأكبر على الساحة والأَوْلى بالامتيازات على غيرها. فالتناقض لدى هؤلاء واضح. ففي الوقت الذي يمقت فيه الجميع نزعة الطائفية ومفهوم المحاصصة الفاشل الذي أدخل البلاد والعباد في نفق مظلم لكونه مشروعًا مفروضًا من الأسياد الأمريكان المحتلّين، يبرز من بين ظهرانينا من أبناء المكوّن المسيحي ذاته مَن يُرسي ويدعو لتخصيص حصص لهذه الطائفة أو تلك ولمنح منصبٍ للعنصر الفلاني أو ذاك من هذه الملّة وليس لغيرها. إنّ هذه النماذج من أبناء شعبنا المسيحي تنقصهم الرؤية الوطنية والمواطنية على السواء. فكيف بهؤلاء وبهذه الأساليب غير الديمقراطية سينتصرون لوحدة البلاد وسيادة القانون على الجميع ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب من دون فرض أجندات ومساومات مسبقة الفبركة في مطابخ مظلمة من أطرافٍ لا يسرّها الكفّ عن ترسيخ نظام المحاصصة البغيض واستمرار استشراء الفساد وشراء الذمم وما شابهها من منغّصات لا تخلو من مساوئ؟ أليست هذه جميعًا من أدوات تشجيع الهجرة التي يساهم بها نفرٌ من أبناء شعبنا في الخارج بوسائل وطرق شتّى، وفي ذات الوقت يبكون ويتباكون على أرض الآباء والأجداد ويحثون الغير للبقاء في الوطن ثابتين في الإيمان والرجاء وعلى مواعيد عرقوب؟
إنّ بعض هذه الأقلام المأجورة وغير الحريصة على الهوية المسيحية، هي التي تساعد وتساهم في إدامة نكبة أهل الداخل. فالكلدان ليسوا وحدهم منكوبين، بل العرق كلُّه منكوب والمسيحيون جميعُهم منكوبون! لذا فإنَّ لغة الفصل العنصري والتمييز في الحقوق قد ولّت إلى غير رجعة، ولن نقبل بها البتّة حتى لو كان على رأس البعض ريشة! ولتكن البداية مع ممارسة الديمقراطية في الوسط المسيحي قبل غيره من المكوّنات الوطنية الأخرى بالتصدّي لأهل الفتنة المذهبية والطائفية عبر مشاحناتهم المخجلة في مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت. وعلى الأصلاء والمثقفين ألاّ ينساقوا لمثل هذه المهاترات والمشاحنات التي تفقد الكاتب والناقد مصداقيتَه وتعاطفَه مع الحق وصاحب الحق.
خطر الهجرة، نكبة!
شئنا أم أبينا، فالهجرة أضحت ظاهرة عالمية. والظاهرة قد تكون إيجابية أو سلبية. أمّا في العراق كما في منطقة الشرق، فهي سلبيةً بكلّ مفاهيمها، بل مأساةً حقيقة لأنّها اقتلعت جزءًا كبيرًا من الزرع الطيب الأصيل من جذوره. فبدون ثقافة مسيحية ومن دون خيوط لحضارة مسيحية بارزة عبر الزمن، لن يكون هناك عراقٌ أصيل ولا شرقٌ أثيل، بل أرض جدباء وصحراء حارقة تفقد رطوبة الحياة وجدواها.
نحن جميعًا، نعي اليوم خطر الهجرة الذي أضحى مادة إعلامية دسمة للبعض ولقمة يستسيغها مَن يريد الضحك على ترّهات الزمان التي أتى بها أعداء الشعوب المستضعفة بطرق استعمارية جديدة من خلال غزو الفكر والبشر والأرض وما عليها لوضعها تحت تصرّف جبابرة العولمة. لقد حوّل الاستعمار الجديد أرضنا وأوطانَنا وبشرَنا إلى أدوات خانعة تؤدّي وظيفتَها في الحدود التي تُرسمُ لها لا غير. لذا لا عجبَ أن يعشعش التصحّر في أوساطنا نحن أيضًا أتباع المكوّن المسيحي، بحيث أفقدَنا هويتنا الدينية و"القومية" والوطنية على السواء. أليست المشاحنات التي تعوّدنا عليها بين قرّاء ومتصفحي المواقع الالكترونية والتواصل الاجتماعي جزءًا من هذا التصحّر عبر مهاترات وتعقيبات وسجالات عقيمة في أحيانٍ كثيرة، لا تثري ولا تنفع بقدر ما تفسد الذوق العام وتسيء إلى سمعة هذا وذاك عبر نشر الغسيل القذر وفضح سجلاّت وتواريخ أشخاص بسبب الاختلاف في مواضيع هامشية لا تخدم شعبَنا ومنها ما يتعلّق بموضوع التسمية والأغلبية والأفضلية والأصالة؟
إنّ الهجرة موضوع عام وخطير على صعيد العالم كلّه، وليس في بلدنا فحسب. مَن هاجرَ وفرَّطَ بأرضه وأهله وأصدقائه وبلده، كان الله معه وكلّ التمنيات له ولغيره بالتوفيق. فقد اختار طريقَه بموجب أسبابه وحيثياته وقناعاته. ولا أحد يستطيع سلبَه هذه القناعة وهذه الحرّية. ولكن بالمقابل، ليس من حقه غرسُ مفاهيم عدائية وتحريض قناعات وخلق فتن لمَن بقي متشبثًا بأرضه، ومتعلّقا بوطنه الذي لم يبعْه برخص التراب، وظلَّ قنوعًا بحاله، وقابلاً بواقعه رغم مرارته أحيانًا. فهذه القلّة القليلة التي سيُكتبُ لها البقاء صامدة، سيكون الله في عونها أبدًا وستصبرُ وتجاهدُ لنشر خميرتها الصغيرة في عجينة العراق الواعدة ونثر ملحها الصالح وسط الكمّ الهائج من الأمواج التي مهما تقاذفتْنا، لن تقدر علينا لأنّ أساسَنا مبنيٌّ على الصخر، مثل صخرة الكنيسة العراقية الأولى التي ما تزال شواهدُها باقية لغاية اليوم ولم تندثر، رغم عوادي الزمن وتقلّبات الدهر وحماقات الأعداء، وما أكثرهم بالأمس واليوم!
إنّ ما يسعى إليه الغرب اللامبالي بمصلحة شعوب غيره من البلدان، أن يستقطب دماء جديدة نشطة جاهزة لخدمة شعوبه العاقرة بعد أن دبّ العجز والعقم في صفوفها. هذه هي الحقيقة من وراء هاجس الهجرة الذي أخذ يثير اليأس والحيرة في أوساط شعبنا المسيحي المتحمّس لحياة أفضل، ومستقبل واعد لأولادهم. وهذه كذبة وتبريرٌ ساقها العديدون من دون أن تنطلي على الكثيرين الصامدين. فقد طاب للكثيرين ممّن باعوا الأرض وضحّوا بالوطن أن يعيشوا على فتات الغرب من دافعي الضرائب الذين ضاقوا ذرعًا بحكوماتهم وسياساتها الاستعمارية الجديدة في استقطاب عمالة جاهزة لفعل أيّ شيء بعد أن أُغلقت بوجه القادمين الجدد (أي المهاجرين) الوظائف المحترمة واضطرّوا للعمل في أسوأ الظروف وحُرموا من حياة اجتماعية طبيعية بحسب التقاليد الشرقية التي اعتادوا عليها في بلدانهم. وقد حصل هذا للكثيرين دون وعيٍ منهم، أو ربّما غشّوا بوعود وامتيازات و"بهرجات" الغرب الفارغة التي لا تتجاوز حدود المادة واللذة وما سواهما.
كان دور المسيحيين في العراق دومًا كبيرًا وفاعلاً على مدى الأزمان والدهور. فهُم تلك البذرة التي أنبتت المحبة والرجاء والأمل في عيون وحدقات المنكوبين والطالبين عونَ السماء بسبب أصالتهم الروحية والوطنية و"القومية". ولو لم يكونوا كذلك، لما بقيت آثارُهم لغاية الساعة ولما رأينا لهم مَن آثرَ البقاء صامدًا رغم الأحداث والتحوّلات وتعدّد النكبات. لقد كانوا وسيبقون ذلك الجسر الذي ينقل حضارتًهم المتمدّنة ومبادئهم المتميّزة لغيرهم عبر الزمن من خلال تمسّكهم بأرضهم وشهادتهم للمسيح وكنيسته إيمانًا منهم بدور المسيحية في إشاعة روح المحبة والسلام والوفاق أينما حلّت وارتحلتْ. لكنّ ما يؤسفُ له في فترات وحقبٍ معينة وفي غفلة من الزمن، أن تكون رؤية رئاسات كنيسة العراق، في هذا الصدد غير واضحة ومتذبذبة طيلة العقود المنصرمة منذ تفاقم الهجرة في تسعينيات القرن الماضي ولغاية وقت قريبٍ. والسبب واضح، وهو ضعفُ هذه الرئاسات في مواجهة التحديات والتأقلم مع المستجدّات والدفاع عن حقوق أتباعهم إلى جانب حالة الترهّل والّلامبالاة لدى البعض وترك الحبل على الغارب لكلّ مَن هبّ ودبّ من الدخلاء سواءً في سلك الكهنوت أو في العمل السياسيّ ليحشر أنفَه في قرارات الملل والطوائف التي ينتمي إليها هذا الدعي أو ذاك العنصر الغريب على جسم الكنيسة أو من المحسوبين عليها. وقد فرزت كنيسة العراق العديد من هؤلاء الأدعياء ولغاية الساعة، من الذين قفزوا على حقوق الغير ومنهم من رجال دينٍ ركبوا موجة الهجرة قبل المؤمنين بحجة رعاية كنائسَ في دول الاغتراب. بل إنّ نفرًا منهم كي ينال مبتغاه، هدّد وتوعّد وخالفَ واحتدّ وتوسّط وعصا، لحين أزوف ساعة الحساب التي بدأت في الكنيسة الكلدانية مع الرئاسة الجديدة قبل أكثر من عام.  ونأمل أن تلحقها بقية الكنائس في وضع حدود لحالة الترهّل والعصيان وفرض الأمر الواقع في عدد من المواقع الكنسية.
إنّ صرخة غبطته بكون كنيسته الكلدانية "كنيسة منكوبة"، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة بسبب تواصل فعلِ الهجرة وتأثيراتها على الوجود المسيحي في البلاد وفي المنطقة. لكنّ الواقع شيءٌ والتمنيات شيءٌ آخر! فالعراق مقبلٌ على استحقاقات، أقلّ ما يُقالُ عنها أنها بعد الانتخابات سترسو على قاعدة جديدة في الرؤية الوطنية باستقطاب شيءٍ من تيارات ليبرالية وعلمانية ومدنية قادمة لا محال، لتشكل منعطفًا في مسيرة هذا البلد الجريح. وكلُّنا نعلم أنّ من الأسباب الرئيسية لهذه الهجرة المتزايدة الموقف المخزي للاحتلال الأمريكي للبلد وسياساته الخاطئة التي أدّت إلى اضمحلال الدولة ومؤسساتها وفقدان الأمن والخدمات تمامًا، ما اضطرّ الكثيرين لنشد الأمان في بلاد الله الواسعة. وهذا هو التشتّت الذي لا يختلف عن تشتّت البشر في بابل حين بلبلهم الله من حيث لا يدرون، لحين تغيُّر المفاهيم وموازين القوى والسياسات وزوال الأسباب، التي نأمل قربَها ووشكها على الحدوث، كي يشهد البلد هجرة معاكسة تعيد لأهل الوطن الأصليين نصاعتَهم وأصالتَهم وهيبتَهم وتأثيرَهم وحقوقَهم وامتيازاتهم التي يستحقونها.
إنّ التغيير الذي حصل في العراق، لم يأتي بالجيدّ، بل بالأردأ من سابقهِ. وهذا كان كارثة على أهل العراق وعلى ترابه الذي تصحّر هو الآخر وعلى مائه الذي سرقه الأعداء الكثيرون، مثلما سرق القادمون الجدد نفطَه وثرواته وباعوه بأجرٍ بخس لهذا وذاك من دول الجوار وبلدان الغرب الطامعة.
لما التعالي من جانب الكلدان؟
من المؤسف أنّ نفرًا من الكلدان "الأقحاح"، الذين تطيب لهم هذه التسمية، أن يروا في غيرهم عناصرَ دونَهم في الحقوق والامتيازات والتمثيل، وقد أخذت تسميتهم "الكلدانية" وأسلوب التعالي والتشبث والانفراد بها دون غيرها، مأخذًا في تأكيد هذه الأحقية غير المبرّرة على غيرهم. بل مّما زاد في العتوّ والغلوّ والانكفاء أن تشهد الساحة السياسية مؤخرًا بروز تنظيمات بهذه التسمية لا تمتّ لحقوق الكلدان كمسيحيين بصلة، سواء في الداخل أو الخارج. وهناكَ مَن أقامَ الدنيا ولم يقعدْها في ضوء الفشل المتكرّر الذي صاحبَ ممثلي هذه الطائفة في دورات برلمانية سابقة لم يحصدوا منها شيئًا، بالرغم من الترتيبات المسبقة والمؤتمرات المتوالية التي تحققت في الداخل والخارج. لكن، ما يؤسف له أن تدخل كلّ هذه الجهود في نطاق صراعٍ طائفيّ مع الجناح "الآشوري"، الغريم اللدود سياسيًّا وقوميًّا قبل كلّ شيء.
إنّي أعتقد أنّ مثل هذا النوع من الاتجاه المتزمّت، لن يكون في صالح الجميع. وكما أشرتُ في العديد من كتاباتي وفوق هذه السطور، من الأجدى أن يكفّ المتنازعون المختلفون عن التقاذف والخصام والتخوين والتشكيك. فالاختلاف مهما امتدّ وطال، لا ينبغي أن يتحوّل إلى صراعٍ "قوميّ" أو عقائديّ أو كنسيّ مصحوبٍ بشتائم وتجريح بين الإخوة، رغم أنّني لا أعير أهمية للجانب "القوميّ"، بسبب كونه سرطان الثقافات الذي ينخر الشعوب. ولا شيء غير المواطنية هي الكفيلة بتهدئة الخواطر وجمعِ أبناء الوطن الواحد حول دولة مدنية تحتضن الجميع، كما الدجاجةُ تحتضن تحت جناحيها الكبيرين فراخَها دون تمييز أو إقصاء لأيٍّ منها.
إنّ الخطأ، كلّ الخطأ، أن تتحول حقوق المسيحيين إلى حقوق طوائف وكيانات، كما هي الحال بين المتخاصمين السياسيين اللدودين في الحكومة الحالية التي تتعامل بداعي الكيانات. وهذا دور المؤسسة الكنسية الكلدانية في رصد هذه التوجهات الخاطئة وتوجيه أبنائها للاتّسام بروحية مسيحية قبل أية متاهة أخرى من شأنها إثارة نعرات وخلق صدامات متعددة الأشكال. كما عليها التخفيف في إبراز الدعوات التي تصدر من هنا وهناك ولاسيّما من عناصر مقيمة في المهجر، ليس لها مِن همّ سوى تحريك النار من تحت الرماد بين فترة وأخرى. إنّ أية روحية انفصالية أو انقسامية، ستطيح بحقوق الجميع، بل بالهوية المسيحية ذاتها، وحينه لن تكون لنا كلمة موحدة جامعة للحقوق والمطالب بسبب تشتّت جمعنا وكلمتنا. اليوم، لا يمكن لجهة واحدة أن تنكفئ على ذاتَها وتعدّ نفسَها الأجدر والأفضل والأَوْلى، إلاّ من خلال أداء أفرادها وتبيان فعالِها وفاعليّة هذا الأداء وسط المجتمع الواحد.
إنّ امتداد تأثير العولمة قد هزّ بلدانًا وشعوبًا كثيرة، والعراق لمْ ولن يكون استثناءً. وإذا كان شيءٌ ممّا يخافُه البعض، فهو ليس في العولمة فحسب، بل في النيات والإرادات والمصالح التي تنحني أحيانًا كثيرة، للجبابرة الذين يدفعون أكثر ويشترون بالمال الحرام ذممَ أبناء شعبنا هنا وهناك، ومِن بينهم رجال كنائس خاروا وضعفوا أمام مثل تلك المغريات. لقد كان وعدُ رأس الكنيسة الكلدانية الكاريزما، البطريرك الجليل ساكو، بتنقية البيدر "الكلداني" من الزؤان، على رأس الأولويات في ولايته والتي تناقلها الكثيرون بتفاؤل كبير. وهذا بحدّ ذاته، جزءٌ من مشروع تنقية المؤسسة الكنسية في العراق من العناصر والشوائب التي أعاقت مسيرة المسيحية في بلدنا. ونحن ما زلنا نعوّل عليه في إحداث نقلة نوعية، ليس في صفوف الكنيسة الكلدانية التي يرأسهُا فحسب، وكنيسة العراق على غرارها، بل أيضًا قدرتُه على اختراق حاجز التناحر بين الساسة، أصدقاء الأمس وأعداء اليوم. فهو قادرٌ على لعب دور الوسيط المُصالِح لهذه الأطراف المتناحرة وجمعِهم على مائدة المحبة كي ينسوا خلافاتهم ويشدّوا العزم والبناء لصالح الوطن والمواطن. هذا خيارُنا وهذا أملُنا وهذه رؤيتُنا لمستقبلٍ زاهرٍ، بإذنه تعالى وبجهود الطيّبين من ذوي النوايا الصالحة.

لويس إقليمس
بغداد، في 5 أيار 2014

336
"تنصيب المؤسسات ومأسَسَة المناصب"

مصطلَحٌ جديدٌ، رأيتُه عنوانًا جميلاً ولائقًا لمقالتي، وقد استقيتُه من مادة دسمة كتبها الدكتور عامر حسن فيّاض، أحد أعمدة السياسة، في رسالة جريئة إلى عشّاق حكم العراق في 23 نيسان الجاري في جريدة الصباح. لقد أبدى الرجل رأيه الجريء فيما يجري على الساحة السياسية، من خلال تحليلٍ دقيق لمجريات الأمور مبيّنًا مقدارَ الاستحقاقات المطلوبة، عبر رسالة أرادَها أن تكون عراقيّة "قحّ"، غير مستوردة من دول إقليمية أو قادمة من بلدان ذات سطوة. قد يكون أزاح بصراحته شيئًا من غمّ بعض الناس، لكنّه بالتأكيد سيشكّلُ مثل هذا الكلام القاسيّ وبالاً عليه لكونِه لا يخلو من أشواكٍ.
هذا ما أستسيغُه عندما أكتب أنا أيضًا. ليس المهمّ أن يرضي قلمي الناسَ أو فئةً منهم، بل الأهمّ أنَ ما أكتبُه يرضي ضميري وينقل مبادئي دون تشويه أو مجاملة. فقول الكلمة التي أعتقدُ أنّها صائبة، تزيدني فخرًا، بل تزيد من التزامي القلمَ الرصين والرأيَ الجريء ومواجهة المحتمَل مِن الذمّ وعدم الرضا أحيانًا مِن قبل نفرٍ ينقصُه مثل هذا الحرص وهذه السمة بحبّ الوطن والتمسّك بالمواطنة.

حُكمُ البلد والعباد مسؤولية
إنّ مَن يحكم أو يسعى لحكم البلد، لا يمكن أن ينطلق من فراغٍ. فحكمُ البلاد ليس تشريفًا ولا امتيازًا بلا شروط أو قيود أو  من دون جدارة. إنّما يتطلّب توفرَ شروطٍ مواطنية متكاملة واستعدادًا لتحمّل المسؤولية وآفاقًا واسعة ورؤية سياسية واقتصادية واجتماعية مدروسة، أي برنامجًا انتخابيًا وافيًا ومقنعًا. العديدون يتطلعون إلى أخذ موطئ قدم في الحكومة المقبلة. وهذا واضحٌ مع اشتداد وطيس المعركة الانتخابية، ومعها اشتدت الوعود والأكاذيب على الناس الأبرياء الذين يصدّقون كلّ كلمة وكلَّ قولٍ وكلّ دعايةٍ مِن دون أن يفقهوا شيئًا ممّا يجري من حولهم ومِن تحتهم.
إنّي إذ أضمُّ صوتي إلى أصوات الناخبين المثقفين ومعهم الراغبين والدّاعين إلى التغيير في قاعدة التصويت وفي كيفية اختيار الرجل المناسب، أقول أنا أيضًا: كفى للمنافقين وسارقي قوت الشعب والمتلاعبين بعواطف البسطاء. فقد آنَ أوانُ التغيير نحو الأفضل وليس نحو الأسوأ. وكفانا حكومات أزمات متعاقبة، ولننتقل إلى المرحلة الجديدة الجديرة بالتقدير، مرحلة الكفاءات والتكنوقراط والمثقفين ورافضي المحاصصة والأساليب الرخيصة في كسب عطف الناخب واستدرار عواطفه بهدايا ومغريات ومواعيد عرقوبية خائبة.
إنّي أعتقد أنْ، لا أحدَ غير هذه الفئة وهذه النخبة قد تنقذ البلاد والعباد من حفرة الأزمات العميقة التي حلّت بالبلد وأوصلته إلى اقتتال بعد تمزيق نسيجه الاجتماعي وطرحه إلى هاوية التقسيم وقذفه في عباب بحر هائجٍ ومائج لا يُعرف أوانُ هدوئه وسكونه.
إنّ الكلَّ يتحمل اليوم مسؤولية ما آل إليه حالُ العراق والكلّ في المؤسسات السيادية الثلاث موغلٌ في دائرة الكذب والفساد مهما تعذّر أو انسحب أو تنصّل أو تأسف. فالساكتٌ عن الحق ايضًا، لا تقلُّ مسؤوليتُه عن السارق والفاسد والكاذب!  لذا، لا بدّ أن يتخذ الرجل المناسب موقعَه في المكان المناسب في مناصب الدولة التي لا يمكن أن تكون حكرًا على مثلّث نصّبه المحتلّ الأمريكي ليلعب بمقدّرات البلاد وبمصيرها بالطريقة التي نراها ومن جانب أشباه قيادات سياسية ماتزال في فترة مراهقة غير ناضجة.
هذه دعوة للناخب المواطنيّ، محبّ الوطن والشعب، أن يحرص للابتعاد عن تكرار ذات الوجوه بغية تجاوز الأزمة في أسرع وقت وعدم تكرار المأساة في الانتظار للتوافق على الرئاسات الثلاث وتشكيل الكابينة الوزارية القادمة في أسرع وقت متاح. إنّ حسم موضوع الرئاسات الثلاث بعد الإعلان عن النتائج النهائية بسرعة، سيكون عنصرَ هدوءٍ وأمانٍ للجميع. ولا يمكن بعد اليوم، القبول بخروج عباقرة السياسة الجدد بتفاسير ومصطلحات جديدة للتوعية والتثقيف وتأويل ما يتحدث به الناس وما تُصدرُه المرجعيات الموقرة بهذا الخصوص. فمتى تصالحَ الساسة مع الناس! ومتى عرفوا قدرَهم وتلمّسوا حاجاتِهم وتعرّفوا على مشاكلِهم، إلاّ في فترة الانتخابات! إتقوا الله بالفقراء وعامة الناس، واهتمّوا بحاجاتهم ومصالحهم واحتياجاتهم كلّ يوم، وليس في فترة الانتخابات بدغدغة مشاعرهم الدينية والمذهبية والعرقّية والطائفية!

دولة مؤسسات وليس دولة تشريف
السلوكُ الانتخابيّ سلوكٌ أخلاقي قبل كلّ شيء، وهو شعور بمسؤولية عليا ومشرِّفة بالوطن والمواطن على السواء، لأنه يخصُّ أمرَ البلاد والعباد ومصالحَهم وصيرورةَ البلد في النجاح والإخفاق حينما يصل الناخب قبّة البرلمان. فلا يمكن بلوغ هذه الأخلاقيات إذا لمْ يتسم المرشح والناخب بمستوى مقبولٍ من الوعي بمسؤولية المواطنة بعيدًا عن ممارسة أيةِ ضغوط أو التسبّبَ بتأثير على حريّة هذا الناخب أو ذاك وعلى قناعاتِه. إذ من رحِمِ هذه المؤسسة التشريعية، سيخرج حكّامُ البلاد ومنها ستصدر القوانين واللوائح والتعليمات بعد صعود النواب قبّةَ البرلمان. وهؤلاء، إن لم يكونوا على قدرٍ وافٍ من المسؤولية ومن النزاهة وحبّ الوطن والالتزام بالتعهّدات التي قطعوها للناخب، حينئذٍ لن يكون بالإمكان التأسيس لدولة مؤسسات وإخراجِ مناصبِها أيضًا بهوية مؤسساتية وليس فردانية أو تشريفية أو تجميلية، بحيث لا يمكنها تحقيق شيءٍ من المشروع الانتخابيّ الذي نادت به ووعدت بتطبيقه في فترة الدعاية الانتخابية. فحكم البلد يقتضي من جملة ما يقتضيه، العمل وفق نظام مؤسساتيّ يحفظ هيبة الوطن وحقوق المواطن على السواء. فهو مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون منصبًا للتبجّح والكسب غير المشروع والتلاعب بمقدّرات البلد والضحك على عقول البساط من الناس الأبرياء.
ممّا لاشكَّ فيه، أنَّ السلوك الانتخابي الشريف يضمن حقوق الجميع، الناخب والمرشح، والدولة ومؤسساتها معًا. وإنّي أعتقد، أنّه طالما لا يوجد قانون نافذ للأحزاب يعطي لكل ذي حق حقه، ستسمر لعبة الشد والضغط على إرادة المواطن، ومعها تستمرُّ أيضًا ذات الاسطوانة المشروخة بالدوران الفاشل على ذاتها وعلى فاعليها ومفعوليها بسبب غياب هذا القانون. 
إنّ المضحك المبكي، أن نرى المئات من الأحزاب غير النظامية، ومنها الهزيلة "الكارتونية"، قد سادت الساحة السياسية بلا رقيب ولا طبيب. وقد يكون العراق أول بلد بهذا الحجم من كميّة أحزاب، أغلبُها غيرُ رصينة دخلت اللعبة من باب نشد الجاه والمال والسلطة، وليس من بين همومها معالجةُ حالة البلد المزرية والاهتمام بحقوق الناس وراحتهم وخدمتهم، كما يستحقّون.
من المؤسف أنّ مَن يصعد إلى قبة البرلمان، ينسى في ثاني يوم له وهو تحت هذه القبة، مصالحَ الناس وهمومَ الوطن... هكذا كانت حال العديدين في الدورات السابقة. فهل سيعيدُ ذاتُ الأشخاص مواقعَهم ولن يغيّروا من مواقفهم إذا ما صعدوا ثانيةً وثالثةً بفعل فاعلٍ أو بسبب جهل الناخب؟

دعايات طوباويةّ وعزوفٌ غير مبرَّر
إنّ غياب دولة المؤسسات، وسطوة الأحزاب الكبيرة على حصصها من مناصب الدولة قد فسح المجال للطارئين أن يدخلوا سباق الانتخابات التي تحوّلت إلى موضة عراقية مربحة، بسبب الولاء لهذا الحزب أو ذاك المسؤول. هناك مرشحون تجاوزوا في دعاياتهم الانتخابية حدود اللياقة والديمقراطية، بسبب الجهل أو عدم الوعي بالمنصب الذي يحلمون بالصعود إليه عبرَهُ... شعارات العديد من هذا النفر طوباوية وغير رصينة، بل غريبة في الطرح واللغة المستخدمة. فالدعاية الانتخابية جزء من العملية الديمقراطية، وهي لها فلسفتُها وأصولُها وحدودُها، غير متقاطعة مع المصداقية في تنفيذ ما وعد به المرشَّح ناخبيه في حدود إمكانياتِه التي أقرَّ بها.
في استطلاع إجماليّ، للشارع الانتخابيّ، يمكننا أن نستشفّ عزوف العديدين عن المشاركة في العملية الانتخابية، منطلقين مِن حقيقة أنَّ مَنْ تمّ انتخابُهم في الدورتين السابقتين، قد زادوا من هموم الشعب المجروح، بدل إسعافِه وتحسين ظروفهٍ وإسعاده. وبالرغم أنّ قرار العزوف هذا، ليس الحل الأمثل للمشكلة، إذْ لا بدّ من التعبير عن الرأي في صندوق الانتخاب وقول كلمة "لا" العجائبية، لناكلي الحق والمتجاوزين على حقوق الوطن والمواطن وسارقي قوت الشعب ومهرّبي ثروات البلد والمتقاعسين في إيصال صوت الناخب الذي أوكلهم مسؤولية تمثيله في هذه المؤسسة.
 فالدولة الديمقراطية الحديثة، ليست مزادًا ولا مكتبًا لتنصيب الأشخاص والاستحواذ على المواقع مِن قبل أُجَراءَ مدفوعين أو مِن أتباعَ للغير مِن خارج أسوار البلد ومِن غير أهلِه ومن خارج رحِمِه الشريف! كما أنّها لا ينبغي أنَ تقعَ أو تكون تحت رحمة كتلٍ أو أحزابَ، عبر شخصنة هذه المناصب، لهذا أو ذاك من الذوات من ذوي القربى ومن الدخلاء على الوطن والمواطنة ومن مزدوجي الجنسية الذين طلّقوا الوطن بالثلاث وتركوه يُنهش من وحوشٍ كاسرة ومن الذين لا همّ لهم سوى انتظار المرتبات الضخمة في نهاية كلّ شهر، والتمتع بامتيازات السفر والمآدب والتشريفات التي تزيد من تخمة هذا النوع من نوّاب الشعب الخائبين والفاشلين مقابل زيادة في فقر العامّة وتراجع في الخدمات والأمن وطمأنينة النفس.
 هذا دور المواطن الحريص في التقدّم لصندوق الاقتراع وقول كلمة الفصل في هذه الدورة المهمّة من تاريخ العراق بهدف بناء دولة مدنية معاصرة تنسجم مع تطلعات شعبٍ عريقٍ يستحقّ أفضل من هذه الحال التي صار إليها ظلمًا. ولعلّ السبب، يكمن بفقدان الدولة هيبتَها وضعف أداء أجهزتها الأمنية ودخول الطارئين إليها من دون توفر أدنى متطلبات الجنديّة الأصيلة وما تقتضيه هذه من استراتيجية أمنية وعسكرية ودفاعية متطورة مع التقنيات المستجدّة التي تخلّف عنها البلد، بسبب فعل الاحتلال وأسره باتفاقية استراتيجية أمنيّة مذلّة، لم يفي المحتلّ الأمريكي بتعهّداته تجاهه.

مّن الأحقّ بتولّي منصب تشكيل الحكومة؟
هناك ملاحظة مهمّة، هي بمثابة أمل ورجاء وطلب في آنٍ معًا يقع على عاتق الجهة التي تتولى العملية الانتخابية، التي يُفترض أن تكون مستقلّة، رغمّ أن هذه المفوضية لمْ تستطع إثباتَ استقلاليتَها تمامًا! فمِن بين مَن تمّ استبعادُهم من الترشيح، هناك مَن تمّ استبعادُه لأسبابٍ سياسية وأخرى كيدية وغيرُها طائفية. وهذا السلوك غير المقبول من جانب المفوضية، يشير تمامًا إلى تسييس مهامّها. هناك على سبيل المثال، مَن كان يرتدي "الزيتوني" أيام زمان، ممّن سُمح له بالترشّح بسبب دعم كتل كبيرة له، في حين تمّ استبعادُ زميلٍ له لغياب مثل هذا الدعم. وهناك أصواتٌ ارتفعت بكشف الزيف والفساد ولاقت رواجًا في أوساط العامة من الشعب، وبسبب تجاذبات سياسية، تمّ استبعادُها من سباق الانتخابات!
على أية حالٍ، ما بعد العدّ وفرز الأصوات، وبموجب الأصول الديمقراطية، يُفترض بالكيان الذي حصد أعلى الأصوات، أن يتولّى مسؤولية تشكيل الحكومة القادمة وليس الائتلاف أو الكتلة التي تجمع أو تشكّل أكبر تحالف نيابيّ، كما ارتأت المحكمة الاتحاديّة. هذه ليست ديمقراطية حقيقية. الأصول الانتخابية تقتضي تكليف الكيان الفائز الذي حصل أعلى الأصوات بتشكيل الحكومة، وفي حالة إخفاق الفائز الأول هذا، بتشكيل تحالف أو ائتلاف كبير، يُصار إلى الكتلة الثانية بعده. وهكذا دواليكَ. هذه هي ديمقراطيات العالم.
إنّ العملية الانتخابية هي من إفراز صوت الشعب ومن صناعته.  لذا لا بدّ أن يكونَ عنصر التفويض من صناعة الشعب أيضًا وفقًا لقدرة البرنامج الانتخابي وسمعة المرشّح في الوسط الاجتماعيّ ومقدّراته العلمية والسياسية، إلى جانب جدارة المسؤول الأول في الكتلة التي ينتمي إليها، والتي لا بدّ أن يلتزم مرشحوها بالبرنامج الانتخابي المرفوع. وحالما تنتهي فترة التفويض، تنتهي مهمّة النائب بتمثيل ناخبيه.

وعودٌ كثيرة
الوعود الانتخابية كثيرة وكبيرة ومنها ما يتجاوز صلاحية المرشح وقدرتَه وطاقتَه واستعدادَه وواقعَه. ولنا أن نقيّم، كمْ هي الوعود التي يقطعها المرشحون في فترة الانتخابات وما النسبة التي تتحقق منها فعلاً وواقعًا!؟؟؟
فهل يُصلح بعضُ المرشحين الجددْ، حقًا ما أفسده الأخرون في دوراتٍ سابقة؟
وهل ستبقى أصوات البعض أصواتًا لا تُهادن ومواقف لا تُساوَم؟
وهل يبقي غيرُهم على ما تعهّدَ به وما عاهده على نفسه، أن يكون خادمَ الشعب؟
وكيف سينقل البعض الثروةَ من الحكومة إلى الشعب؟
وكيف تستحق هذه المدينة أو تلك أكثر من غيرها؟
ولماذا يصرُّ البعض على العزف على أوتار الطائفية في تحقيق أمل الناخبين؟
وهل ستصرُّ بعض الأصوات على بقائها صوتًا صادحًا لفضح الفاسدين ومحاسبة المفسدين؟
وهل سيحقق آخرون حقًا، دعمًا ورواتب تقاعدية لَمنْ ليس لهم وظائف في الدولة؟
وعودٌ كثيرة ونوايا مبطنة، وكلّ هذه في حسابات الغد. والغدُ قد يكون حلمًا، إنّما الحاضر قد يكون أحلى مِن مرّ الغدِ الذي لا نعرفهُ وليس في جعبة الغير تقديرُه.
 فسفينتُنا ما تزالُ رابضة ومرابطة في عباب بحرٍ هائجٍ مائجٍ، تنتظرُ مَن ينتشلُها ويقود دفّتَها إلى الميناء الهادئ، ميناء المواطنة والمحبة والسلام!

لويس إقليمس
بغداد، في 25 نيسان 2014

337
سباق الانتخابات النيابية:
 جدارة واجتهاد واستحقاق

دورتان انتخابيتان لمجلس النواب العراقي (البرلمان) تجاوزهما العراق والعراقيون، في ظلّ سياسة مقيتة لتوافقات مصلحية ومساومات بين مكوّنات لم تثبت جميعُها حسنَ نيتها بالانتماء الحقيقي للوطن وتسخير طاقاتها لخدمة المواطن. إنّها لتجربة كافية كي يزيح الناخب العراقي الغمائم السوداء والرمادية التي خيّمت على مفاصل الحياة من دون تحقيق الأدنى ممّا يستحقّه ابنُ الحضارات والثقافات والأديان المتعدّدة. وفي الدورتين معًا، توضّح المشهد الهزيل للخارطة السياسية التي قيّدت البلد بمفاهيم أحزاب "متجلببة" بالفكر الديني والمذهبيّ والقوميّ والإثني دون تحقيق ما كان يرجوه ويتمناه المواطن المغلوب على أمره. وها هي ذي ذات الأحزاب تخرج للواجهة ثالثةً، وهذه المرّة، بقوّة القاهر المغتصب لإرادة الناخب وفكره ومن دون خشية ربّها، آسرةً إياه بتبريرات ووعود وأكاذيب، قد تنطلي بالتأكيد على الناخب الضعيف الإرادة الذي يصدّق كلّ شيء ويحلمُ بكلّ شيء ولكنّه لا يعرفُ أيَّ شيء عن حقيقة هذه أو تلك، إلاّ ما يُعرض أمامَه آنيّا.
لكنّ هذه الألاعيب لا ولن تستطيع اختراق إرادة المواطن الذي أثبت انتماءَه للوطن وكرّس طموحاته للتطوير والتنمية والازدهار. فهل يُلدغُ المؤمن من جحره ثلاث مرّات؟ إن كان قد فعلها في أولاها، فالعتبُ على الجاني الذي لمْ يفي بوعوده لظروف قد تكون مقبولة حينها. وفي الثانية، إن كان استسلمَ للواقع وعذّرَ موكّلَه، فالعتبُ واقعٌ عليه لأنه لم يتعلّم الدرس. أمّا أن يكرّرها ثالثة، فذلك قمّة الجهل وبيانُ التخلّف وضحالةُ الفكر والموقف.
لقد هيمن الفكر الطائفي والإثني والقوميّ بين المتسيّدين على المشهد السياسيّ طيلة السنين العجاف الثمان. بل، وتفاقم العنفُ متجاوزًا حدود المعقول حين استهدف جماعاتٍ ومكوّناتٍ لا ناقة لها في السلطة ولا جمل، إلاّ ما تحملُه من بذرات مواطنة طيّبة وعيشٍ مشترَك رأى فيه "المثلّث الحاكم"، خيرَ بردعةٍ يركبُها لتمرير العديد من المخطّطات والقفز على الدستور الأعرج الناقص الذي قدّمه الغازي المحتلّ في حينها كي يكون قنابل موقوتة تنفجر متى شاء وأينما شاء ومثلما شاء. فلا يمكن أن يحصل شيءٌ مِن غير أمرٍ أو إشارةٍ من الوصيّ الأمريكي القاهر وبالتشاور مع الجار الشرقيّ، راعي مصالح العراق، إلى أجل غيرِ مسمّى.
أمّا ما يميّز صورة المرشحين لهذه الدورة العجيبة الغريبة، فهي تعكّز الائتلافات القديمة على المقرّبين من الأهل والأقارب والأصدقاء، رغم كون العديد منهم من خارج السرب السياسيّ والاجتماعي ومن غير المعروفين أساسًا في كلا الجانبين. والهدف واضح وضوح الشمس، مِن أجل سدّ الثغرات الحاصلة بسبب الانشقاقات الكثيرة في صفوف هذ الائتلافات والكتل السابقة ومن أجل كسب المزيد من الدعم من العشيرة والعائلة التي تربط هؤلاء برؤساء القوائم والكتل.
ديمقراطية وحريّة من دون غطاء مواطنيّ
رداء الحريّة والديمقراطية الرثّ الذي قدّمه الغازي الأمريكي، لم يستطع العراقيون، أو بالأحرى لم يرتقي السياسيون الذين حكموا منذ السقوط الدرامي في 2003، أن يرتقوا ويخيطوا ويعدّلوا الجوانب "المثلومة" أو المجعّدة فيه. وببساطة، يعود السبب في هذا، لأنّ هذه الحرية وتلك الديمقراطية الزائفة، جاءت من خارج الحدود منقوصة وغير منسجمة مع الواقع. وكلّ شيء مستورَد وغير نابعٍ مِن إرادة أهل الدار الأصلاء والأمينين على سلامة البلاد والعباد، لا يمكن بطبيعة الحال أن يصير دواءً وعلاجًا شافيًا للقلب المتعَب بالخبرات الحزينة والمنهَك بالصفقات المشبوهة التي مُرّرت على حساب المواطن البسيط بل والساذج أحيانًا. كما أنّه بسبب طيبة قلب العراقيين وبساطة فطرتهم بالتصديق بالوعود الكاذبة، تكرّرت حالة الخذلان عندهم مثنى وثلاثًا ورباعًا. وهنا الطامة الكبرى! فالعراقي موصوفٌ بازدواجية شخصيته وطيبة سريرته حتى السذاجة أحيانًا، كما أشار إليه عالم الاجتماع "علي الوردي" في وصفه للشخصية العراقية، وقد أُنّب على ذلك بسبب هذا الوصف الواقعيّ. ولكنها الحقيقة، رغم أن هذه الحقيقة مرةً!
  ما أكثر ما يُقترف اليوم، من جرائم وأعمال عنف وتمرير مفارقات ومشاريع وهمية فاسدة ومفسدة للبشرية، باسم الحرية والديمقراطية! مَن ذا الذي لا يسعى إلى فضاءات الحرية والديمقراطية كي تكون جسرًا رابطًا بين الجماعات المختلفة والمتعدّدة في أديانها وأعراقها وقوميّاتها وألوانها ولغاتها؟ وهلْ أجمل وأحلى مِن سلام النفس وطمأنينة الفكر في ظلّ حرّية حقيقية وديمقراطية غير مزيّفة! 
إن التمترس الدينيّ والطائفيّ والتخندق القوميّ والإثنيّ المنغلقة جميعُها على الذات، هي العدوّ الأكبر لممارسة مفهوم الحرية وتطبيق الديمقراطية اللتين يمكن أن تساهما جدّيًا بترسيخ مفهوم المواطنية حيث الضمانة الأكيدة لنيل المواطن لحقوقِه مكتملةً غير منقوصة من دون الإخلال بواجب حق الوطن على الفرد في صيانة هذه الحقوق. وهذا ما يتطلّب تغييرًا في الرؤى وفي تقييم الأحداث على ضوء ما شهده العالم من تطوّر ومعاصرة وتقدّم. إذ لا يمكن العودة إلى الوراء والجزم بالعيش في نمط قديم من الحياة عفا عليها الزمن، لأنّ الحياة تتطوّر إلى أمام وليس إلى الوراء! وهذا التطوّر عينُه، قادمٌ بسبب الفضاءات الواسعة من الحرية والديمقراطية التي توفرت للعالم، وأصبحت في ميسور أيّ كائن على وجه الخليقة.
لقد أضحى المفهومان، من ضرورات العصر، حتى الأحزاب الدينية والائتلافات التي كانت تصمّ الآذان أو تخشى التطرق إليهما، راجعت ذاتَها وتيقنت من وجوب حضورهما في المجتمع. لذا كان توجُهها في الدورة الأخيرة نحو الانفتاح على عناصر متحرّرة ومستقلّة كي تكون لها سندًا في تنفيذ برامجها بلغة الانفتاح والقبول بالمختلف عنها. وهذا عينُ الصواب، بل هو جزءٌ من الحوار والمصالحة الوطنية المطلوبة بين أبناء الوطن الواحد، الشركاء في السرّاء والضرّاء.
لمحة عن القوائم المشاركة في السباق الانتخابيّ
لولا فضاء الحرية والديمقراطية المتاحَين للجميع، لما تسنّى لهذه الأعداد الكبيرة وغير المتجانسة من المرشحين لدخول معركة الانتخابات في هذه الدورة التي تشهد دخول أشخاصٍ دخلاء ومجهولي الشخصية مجتمعيًا وسياسيًا واقتصاديًا إلى جانب النخب المعروفة بدهائها وحنكتها وتميّز بعض منها بحسٍّ وطنيّ صادق لإنقاذ الوطن من الحالة التي وصلَ إليها. لكنّ المؤسف له، أن يسيلَ لعابُ نفرٍ من المرشحين السابقين بتكرار ترشحّهم، بالرغم مِن فشلهم وعدم الإيفاء بوعودهم لمَنْ وكّلهم لتمثيلهم في الدورات السابقة. بل إنّ بعضًا مِن هؤلاء الأدعياء، لا يتورّع في التبجّح بتحقيقه مآثر كبيرة لشعبه ومجتمعه وجماعته، وأنّه يعيد ترشَّحَهُ من أجل مصلحة شعبِه لإكمال منجزاته "العظيمة" في الدورة القادمة. ناهيك عن الوعود التي يقطعُها البعض للناخبين، وهم أدرى أنها مجرّد ضحك على ذقون الناخب البسيط الذي سيقع بالتأكيد أسيرًا لهذه الفخاخ والمصائد لأسباب عديدة، منها العشائرية وغيرُها الآتية بسبب ضغوط أحزابٍ وكتلٍ متنفّذة، وبعضٌ منها يدخل الدّين ورجالُه في اللعبة الانتخابية القذرة ضاربين عرض الحائط الحرّية الحقيقية المتاحة للمرشّح والناخب معًا!
عمومًا، كما نقرأ المشهد، هناك رغبة عامة بالتغيير، وتوجّه واضح باختيار وجوه جديدة من ذوي الخبرة والاختصاص سياسيًا واقتصاديًا، ومن النخب التكنوقراط ومِن أصحاب الكفاءات العلمية ممن يمتلكون المؤهلات والاستعداد لخدمة البلد وانتشاله من براثن الدخلاء والطائفيّين والمنتفعين فئويًا وعرقيًا ومذهبيًا. كما أنّ استطلاعات الشارع العراقي وهمسات النخب المثقفة ومجاميع الطلبة، تعطي التيارات الليبرالية والوطنية والديمقراطية المدنية والنخب المستقلّة والعلمانيين ممّن ينشدون تأسيس دولة مدنية حديثة مؤسساتية تعيد للوطن حضارتَه ومكانتَه وثقافتَه واحترامَه في مصافي الدول عالميًا. وباعتقادي، سيكون هذا الخيارُ المنتظَر، هو المعوَّل عليه في صناديق الاقتراع يوم 30 من نيسان.
أرجو ألاّ يخيب ظنُّ هذه الجماهير التي سئمت الوعود الكاذبة لبعض النواب الذين تتحكّمُ بهم نزعات ومصالح الكتل التي ينتمون إليها ويأتمرون بأمر رؤسائها، وبذلك تُسلبُ إرادة البعض منهم، بسبب هذا الالتزام المقيِّد للحرية الذي بسببه تعطّل سنُّ العديد من القوانين المهمة التي تخصّ حياة المواطن، والتي بسببها أيضًا، كادت الحياة العامة نفسُها تتعطّل وتتوقف عجلة اقتصاد البلد وتتلكّأ المشاريع التي ينفّذ أغلبَها مقاولون فاسدون وغير مهنيّين بدعمٍ وإسنادٍ من كتل متنفّذة ومسؤولين بالدولة أعماهم الفساد والكسب غير المشروع. وبالرغم، من أنه ليس من السهل التكهنُ بما ستؤول إليه صناديق الاقتراع، إلاّ أنّ الواجبَ الوطنيّ يناشد الناخبَ العراقي كي يقول كلمة الفصل ويختار الأصلح والأكفأ والأجدر بتمثيلِه، كي لا يدع مجالاً للصوص وسرّاق الشعب والمال العام والفاسدين إداريًا وسياسيًا واقتصاديًا ومدنيًا أن ينفذوا ثانية إلى هذه المؤسسة التشريعية التي تُعنى بصياغة الدستور والقوانين واللوائح التي تخصّ حياة الوطن والمواطن ومستقبلهما ومصيرَهما معًا. 
إنّنا نأمل أن تضع المفوّضية "المستقلّة" للانتخابات نصبَ أعينها، خوف الله في رقاب مسؤوليها وأدواتها وعدم تسييس عملها، بل المباشرة بعمليات العدّ والفرز مباشرة وعدم تأخير إصدار النتائج لأكثر من يومين أو ثلاثة كحدّ أقصى، لتجنّب التلاعب بالنتائج، كما حصل في الدورتين السابقتين وأمام الملأ.
للأسباب السابقة، نقول إنه من العسير رسمُ صورة للخارطة السياسية لفترة الأربع سنوات القادمة، بسبب احتدام المنافسة واشتداد الصراع ومحاولات "التسقيط" غير الديمقراطية بين الكتل، لاسيّما الكبيرة التقليدية منها، والتي هي السبب في مآسي العراق وشعبه دون غيرها، بسبب تقاطع مصالحها وعدم الاهتمام بالمصلحة العليا للبلد والشعب. فكلّ الاحتمالات قائمة وكل المفاجآت واردة، والحديث عن تحالفات محتملة سابقٌ لأوانه، بالرغم من ورود أو نشر أو الاطّلاع على نتفٍ منها هنا وهناك. فكلّ هذا وذاك منوطٌ بمصالح وتسويات ومساومات وتحالفات عجيبة غريبة، قد تفاجئُنا في الوقت الإضافي لهذه اللعبة! لكنّ ما هو مؤكّد هو أنّ الرغبة في التغيير قائمة وقادمة كما تأمل شرائح كبرى من الشعب.
مَن الأجدر بتمثيل الشعب؟
إنّ البلد لا يمكن أن يُختزَل اليوم بشخص واحد أو حزبِ واحد أو مجموعة واحدة، سياسيًا أو دينيًا أو إثنيًا أو عرقيًا وما شاكلَ ذلك. فالمواطنة الحقيقة هي نوعٌ من الشراكة يتشاركُ فيها الجميع، كلٌّ حسب قدراته واستعداده لخدمة البلد والشعب وتيسّر الرغبة الصادقة للعمل ضمن فريق تقوده الكتلة الأجدر التي تأتي بها صناديق الاقتراع النزيهة من أصوات الناخبين الأحرار في اختيار الشخص المناسب. لكنّها دعوة ملحّة للناخب، لمراجعة ملفات وأداء النواب السابقين وتقييم نشاطهم كي لا يعيدوا ذات الخطأ في عدم اختيار الأفضل والأكفأ والأجدر والحريص غير المفرّط بمصالحهم ومصالح بلدهم وبثرواته.
 لذا كان التغيير مطلوبًا وبقوّة مِن أجل إحداث نقلة نوعية في نظام الحكم الذي نخره الفساد وأتعبته الوعود والجدالات والصراعات الطائفية والمذهبية وأضعفته المحاصصة التي قيّدت حركة الدولة ونشاطَها. كما آن الأوان لأن تتشكّل معارضة قويّة وفاعلة في هذه المؤسسة التشريعية، وتثبت فاعليتَها في مراقبة أداء الحكومة والعمل على إسقاطَها في حالة الإخلال ببرنامجها الوطني. وقد قرأتُ هذه التلميحات في عيون الكثير من المواطنين الذين لم يخفوا الرغبة الصادقة والخالية من أشكال الرياء المبطّن والمجاملات القاتلة غير المبرّرة في اختيار الأصلح والأكف لتمثيلهم.
إنّ تكرار ذات التحالفات وذات الوجوه بات أمرًاً مستهجَنًا وغير مقبول، بل مرفوضًا من قبل الغالبية في صفوف أبناء الوطن. لذا ينبغي وقفة شجاعة لقول كلمة "لا" العجائبية للتحالفات السابقة لأنها فشلت في بناء الإنسان العراقي وحطّمت نسيجه الاجتماعي ودمّرت بنيته التحتية التي كانت لمّا تزل صالحة وأفضل مِن التي أتت بها الحكومة الحالية في دورتيها النيابيتين على التوالي!
إنه ولأجل مدّ جسور الألفة وإعادة اللحمة إلى هذا النسيج المتفتّت بسبب تقاطع مصالح "المتسيّدين" على الحكم، لا بدّ من طيّ صفحة الماضي البغيض، ومعها لا تنفع كلّ التوسلات ولا الوعود العرقوبية ولا التبريرات بمسمّيات لا تُقنع ولا تثري. فالحكم الأفضل لن يكون إلاّ بيد التكنوقراط والمستقلّين غير النفعيين والمهنيّين الصالحين وأتباع التيارات الديمقراطية والوطنية والمدنية التي تنادي بدولة مدنية متحضّرة منفتحة وغير منغلقة على الدين والمذهب والقومية والإثنية والفئوية القاتلة جميعُها. فهي جميعًا، تبقى المرشّح الأوفر حظًّا والأكثر جدارة في تسيير دفة البلاد، بعد أن يئس الشعب من وعود الأحزاب والكتل والائتلافات الدينية والطائفية والقوميّة والفئوية والعشائرية التي أثقلت كاهل الدولة والمواطن معًا. ولنا في 30 من نيسان عودٌ على كلّ الاحتمالات.
الاجتهاد مطلوبٌ في نائب الشعب
ليس خافيًا غيابُ مفهوم الواجب المترتب على عضوية النائب في البرلمان لدى فرز الغثّ من السمين، في نوعية المرشحين لسباق الانتخابات النيابية،. هناك خبط وخلطٌ لدى بعض المرشحين وعدم تمييز في مهامّ النائب عن مهامّ أيّ مسؤولٍ آخر في الدولة. لذا ليس غريبًا أن يخلط المرشح الجاهل وغير الفطن بواجب النائب مع وظيفة أيّ مسؤول حكوميّ. وهذا يتطلّب من المرشّح القدير أن يلمّ بواجبه المستقبلي، وقبل ذلك أن يجتهد في فهم المطلوب منه تمامًا وتنفيذ ما يعِدُ به ناخبيه فيما لو حقق الفوز الانتخابيّ. فهو مسؤول بمؤسسة تشريعية تُعنى بسنّ قوانين ومراجعتها، وليس في جهاز تنفيذيّ.
إنّ أحد أسباب الجهل بواجب النائب حين صعودِه إلى قبّة البرلمان، يكمن في افتقاره المسبق إلى الاجتهاد بمعرفة واجبه قبل وبعد الفوز بالانتخابات. لذا يأتي سَوقُه للوعود والتصريحات في فترة الدعاية، غير مكتملة الأسس والجوانب الملمّة بمهمّاته. فهو لا قِبَلَ له بمسؤوليات الجهاز التنفيذيّ وليس من حقّه التدخّل فيه، إلاّ من خلال قبّة البرلمان كجهاز رقابيّ على الأداء الحكوميّ من هذا الموقع حصرًا. إذ هنا يكمن اجتهادُه في متابعة أداء هذا الجهاز وتقويمه بطرق ديمقراطية تخلو من التشهير والتخوين والاتهام، ذلك لأنّ مؤسستَه التشريعية التي يرفع بواسطتها صوتَه الرافض للأداء الضعيف للجهاز التنفيذي والمخالفات التي تقترفها الحكومة، هي التي تسبغُ عليه مثل هذا الواجب الوطنيّ الشريف. وهذا هو الحرص المطلوب من النائب في قبة البرلمان، أن يشخّص حالات الضعف والمخالفات والتراخي في تنفيذ الحكومة لبرنامج عملها الذي قدّمته للناخب عبر الكتلة الفائزة والتي على ضوئه تمّ انتخابُ أعضائها.
إن المودّة والمجاملة في اختيار نواب الشعب، ليست الصيغة العملية الفضلى في الحرص على مصلحة الوطن والمواطن. فالنائب الجاهل لمهامّه النيابية وغير المكترث لبرنامج عملِ أهمّ مؤسسة تصيغ دستور الدولة وتضع قوانينها لا يستحقّ هذا الشرف الرفيع، لعدم اجتهاده في فهم هذه المهام ومتابعة أداء الحكومة التي تخضع لمراقبة الجهاز التشريعي الموكَل من الشعب في هذا الأمر العالي القدر. فالأداء النشط والمتواصل هو مفتاح نجاح النائب الحريص، وهو وحده كفيلٌ بتمتّعه بسمعة سياسية بين موكليه وناخبيه ومحبّيه، وليس العكس. لذا عليه أن يبدي بكل ما أوتي مِن قدرة مهاراتِه في إقناع المقابل بصحة تشخيصه للخلل المشار هنا وهناك واقتراح العلاج الناجح لمعالجة الإخفاقات في تنفيذ البرامج والمشاريع، ليس بهدف التشهير والتسقيط، بل بروحيّة النائب الحريص على مصالح الشعب والوطن بمفاهيم ديمقراطية مقبولة ومحترَمة. حينئذٍ، لا أحد يمكن أن يشكّك في وطنيّته ومصداقية تشخيصه لمكامن الخلل والضعف والترهّل.                                             
لِمَن الاستحقاق؟
ليس من السهل الولوج في هذا البند الصعب. فالاستحقاق مسألة تقرّرها سلسلة متعددة من الأمور الخاصة والعامّة. وتأتي الرغبة والإرادة الصادقة والاستعداد بتقديم خدمة للمجتمع والوطن قبل أيّ استحضارٍ آخر للوصول إلى هذا الهدف، بعيدًا عن أية أهدافٍ وأغراضٍ فئوية وشخصية ضيّقة. هناك شخصيات مستقلّة ليبرالية ومدنية وعلمانية من التكنوقراط المفضَّل، تتمتع بمهارات وكفاءات علمية واقتصادية واجتماعية قد انخرطت ودخلت ضمن قوائم تقليدية كبيرة تهيمن على الساحة السياسية. وهذه الكفاءات يمكن أن يكون لها دورُها الفاعل والمتميّز في إحداث تغيير بميزان القوى بعد أن تأكدت صحة مطلوبيّتها وأهميتها وأفضليتِها في صفوف الشعب. لذا ارتأت بعض الكتل الكبيرة الخائبة من نتائج عملها في الدورتين السابقتين إلى كسب تأييد هذه النخب وضمّها إليها والاهتمام بها لما لها من وزن وقبول لدى عامة الشعب. ولكنّ الخطأ الأكبر أن تقع هذه الكفاءات من التكنوقراط والمستقلّة منها بخاصّة، تحت ضغط زعامات الكتل الكبيرة بتسييرها وفق أجنداتها المذهبية والفئوية الضيقة. حينئذٍ، تفقد مصداقيتَها ويضعف أداؤها وتقع رهينة هذه الكتل، و "كأنّك يا أبو زيد ما غزيت"، كما يقول المثل!
إن الناخب النبيه، كما المرشح الواعي من صفوف هذه النخب، يرى اليوم في الهوية الوطنية وفي مصلحة الوطن والمواطن، أولى أولوياته. ف"الوطن والمواطن" أولاً، أحلى شعارٍ رفعه بعض المرشحين!  وهذا يتطلّبُ تفهمًا مشترَكًا بين العنصرين الأساسيّين في العملية الانتخابية. وعلى المرشح أن يجتهد لإقناع الناخب بجدّية رغبته وحسن نواياه لخدمة الأخير وصيانة حقوقه وتأمين مطالبه المشروعة وليس الوصول إلى قبّة البرلمان على حسابه بأيّ ثمنٍ فحسب، والتمتع بالامتيازات التي أضحت هاجسًا وهدفًا وطموحًا للبعض غير الناضج.
لقد تباينت أساليب الدعاية ومحاولات كسب صوت الناخب بوسائل متنوعة، رغم أن القسم الكبير منها لا يرتقي إلى مستوى المرشّح الساعي لخدمة المواطن وانتهاج المواطنة. وربّما يأتي العراق، ضمن البلدان الأكثر استهلاكًا للدعاية الانتخابية، كما يتوضح ذلك من الملصقات مختلفة الأحجام والألوان والأساليب، إلى جانب التقنيات الأخرى المرئية منها والمقروءة والسمعية. بل هناك مرشحون فاقت دعايتهم تلك التقليدية المتعارفة، مِن خلال استخدام شاشات عملاقة ناطقة، أشخاصًا وأحزابًا وكتلاً، إلى جانب الاستفادة من تسهيلات شبكات الاتصال الجوّال والتواصل الاجتماعي عبر الرسائل متعدّدة الوسائل والأغراض. وهذا خيرُ دليلٍ على عدم تكافؤ الفرض بين القوائم الانتخابية، ما كان له الأثر في ضعف إيصال صوت الأشخاص المستقلّين غير المموّلين وعلى برامجهم الانتخابية إلى الناخب. إن هذه المسألة ذات أهمية كبيرة، وكان يتوجّب على المفوضية العليا "المستقلّة" للانتخابات أن تضع ضوابط لمسألة الدعاية كي تنصف الجميع ولا تظلمَ أحدًا.
مهما، يكن مِن أمرٍ، فالدعاية الانتخابية التي يصنعها الناخب، أفرادًا مستقلين وكتلاً وائتلافات، لا ينبغي أن تُقاس باستحقاق صانعِها ومنتجيها وأصحابِها، لهذا المقعد أو ذاك. فالذي يهمّ، هو مقدار ما يستطيع أن يقنع به الناخب بصدق نواياه ومدى استقلالية قراره وتواصل نشاطه حتى لو انضوى تحت مظلّة كتلة كبيرة أو ائتلاف معيّن.
الكوتا
الكوتا، وما أدراكَ ما الكوتا!
من حيث المبدأ، تم إقرار الكوتا لعدد من المكونات قليلة العدد، أي الأقليات، على أساس ديني وإثني. لكنها دخلت في صراع مستميتٍ لقوى كبرى مهيمنة على الساحة السياسية.
 لستُ أقف بالضدّ من تخصيص مقاعد للمكونات التي كادت تفقد أهميتَها، حين ظهرت ضعيفة الإرادة وأسيرة توجّهاتِ "مثلّث "القوى السياسية التي تسعى كلٌّ منها للتلاعب بمصير هذه "الأقليات" وفي رسم مستقبل مناطقها، شاءت هذه المغلوبة على أمرها أمْ أبتْ. لكنّ الظرف الراهن، يقتضي استمرارها، بالرغم من قلة مقاعدها لبعض المكوّنات والتي لا تتناسبُ مع أعدادها الحقيقية. والملاحظ والجاري حاليًا على الساحة السياسية، محاولة الكتل الكبيرة الاستحواذ على هذه المقاعد اليتيمة بوسائل عديدة مبتكرة، لا تقلّ في فسادها وجبروتها وسطوتها، ما يفقدُها الهدف الذي مُنحت على أساسه. إنّ التقاطع في مصالح "المثلّث" السياسيّ القائم، كاد يقضي على أهمية تواجد ممثلي "الأقليات" في المؤسسة التشريعية، بسبب محاولات الاستحواذ على إرادة ممثلي هذه المكوّنات الوطنية وتجييرها كلٌّ لمصلحته الفئوية الضيقة. وهذا ليس بخفيّ على القاصي والداني.
بودّي التطرّق إلى أهمّ كوتا تخصّ المكوّن المسيحي لما فيها من إرهاصات ومنغصات ومطامع يحاول البعض تفريغها من أهميتها. والغرض بطبيعة الحال، ليس سوى تحجيم المساحة التي يُفترَض أن يعمل فيها ممثلون مستقلّون يمثلون فعلاً هذا المكوّن، وليس العمل تحت مظلّة أحزاب أو كتل كبيرة لها أجنداتُها وغاياتُها المبطّنة.
لا يمكن إنكار، الجهود التي بذلتها أحزابٌ وحركات للمكوّن المسيحي والتي انخرطت في النضال ضدّ الكابوس الذي كان جاثمًا على صدور العراقيين جميعًا، والمسيحيين بصورة خاصة، لما لهذا المكوّن من دورٍ إيجابيّ مشهود، داخليًا وخارجيًا. ومهما يكن من أمرِ العديد من القيادات التي ناضلت وقاتلت وطالبت بحقوق المسيحيين قبل وبعد السقوط في 2003، حتى وإن كان البعض منها قد انشقّ عن الأصل وشكّل تنظيمًا جديدًا في الفترة الأخيرة، إلاّ أنّ هؤلاء جميعًا يبقون مناضلين أبرار تشهد لهم الساحة باعتزاز كبير. كما نذكر باعتزاز وفخرٍ رفاقَهم الذين نالوا الشهادة ومهّدوا الطريق لفسحة اليوم وما ينعم به رفاقُهم اليوم.
لكنّ المؤسف حقًا، بروز كيانات جديدة غير مستقلّة بعد 2003، كادت تكون مرتبطة كلّيًا بأحزاب وكتل كبيرة في الدولة الفيدرالية أو في كردستان والتي تتولّى توجيهها وفق أجنداتها، ما جعلها تابعة خاضعة منقادة. لقد فقدت بعض هذه التشكيلات مصداقيتَها بعد حينٍ، بسبب الوسائل والأساليب الترغيبية والترهيبية والتزييفية التي اتّبعتها في أسلوب تعاملها مع الحدث بعد السقوط، في أوساط أبناء القرى والقصبات التي يسيطر عليها مموّلُها الأساس قسرًا منذ 2003. وإنّ قسمًا من هذه الكيانات تعمل اليوم علنًا وبالسرّ، على تنفيذ أجندة الأحزاب الكردية التي تسعى للهيمنة على القرار المستقلّ لأبناء هذه المناطق، لاسيّما في سهل نينوى، بدعمٍ من أدواتٍ وأشخاصٍ محليّين، ومنهم رجال دين وممثلو أحزاب صغيرة، سُخّروا لتنفيذ مخطَّطات مقابل أثمان.
لقد أصبح الكذب المتكرّر، واحدًا من الأساليب التي يلجأ إليها المجلس الشعبيّ مثلاً، والقوى التي تأتمرُ به بسبب التمويل اللاّمحدود الذي تحظى به هذه الأحزاب الصغيرة التي تعمل كواجهة لإمارة كردستان القادمة. وهذا الأمرُ لم يعد خافيًا على أحد. بل إن الحقد الدفين والمستعصي ضدّ القيادات التاريخية للحركة الديمقراطية "الآشورية" النضالية، قد أعمى عيون البعض وأغشاها كي تغمض العين عن المنجزات التي حققتها هذه الحركة. ويبدو أنه لم يعد أمامَ منظّري هذا المجلس، وغالبيتُهم من الأتباع القابعين في بلدان الشتات أو الأُجَراء المنتفعين من قدامى المنتمين لحزب السلطة الحاكم في بغداد وغيره من الأحزاب التاريخية العاملة الأخرى على الساحة، غيرُ توجيه الانتقادات وكيلُ التهم وإمرار الشتائم غير المقبولة على القيادة التاريخية المناضلة، رغم أنّ بعضًا من الملاحظات والانتقادات الموجهة لهذه القيادة، صحيحٌ، وقد سجّلناه عليها في مراحل سابقة ومتأخرة. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ. فمَن يعمل يمكن أن يُخطئ أو يصيب! أمّا مَن يجلس كسولاً "على تلّ السلامة"، كما يُقالُ، فليس للغير ما يوجهونَه له من هذه وتلك.
هناك أفرادٌ مغرضون ليس لهم سوى التربّص بأخطاء الغير، بمراقبتهم لكلّ صغيرة وكبيرة لهذا أو ذاك من هذا التنظيم الأصيل. وإنّي متأمِّلٌ من التنظيم الجديد، المولود من رحم هذه الحركة، أن تكون له ذات الروحية وذات السمة النضالية في العمل الدؤوب لمصلحة العراق، أولاً والمكوّن المسيحي ثانيًا. وإنْ كنتُ قد وضعتُ كلمة "الآشورية" بين معقَّفَتَين في إشارتي لتنظيم الحركة التاريخي، فلأنّي أبديتُ وما أزالُ، امتعاضي من الاستمرار على نهج القيادة التاريخية الحالي في عدم اتخاذها، ما يُمكن أن يُخرجها من مستنقع تكرار ذات الأخطاء وعدم الاستفادة ممّا يوجّه إليها من انتقادات بنّاءة ترمي لتحسين صورتها. ولكنّها تبقى الأكثر فعّالية بين سائر التنظيمات الأخرى التي أتمنّى لها جميعًا، هي الأخرى، التوفيق في مساعيها، إنْ كان الهدف من إنشائها طبعًا، خدمة الشعب العراقي عامة والمسيحي بخاصّة.
 إنّ الحركات النضالية، كالحركة الديمقراطية "الآشورية"، لا يمكن أن يخمد أوارُها وتنتفي الحاجة إليها، وإن كَبَتْ حينًا أو رافقها شيءٌ من الترهّل أو التراجع لأيّ سببٍ، وستبقى قائمة وفاعلة مهما حيكت ضدّها من دسائس. وكلّ المطلوب منها أن تستفيد من الأخطاء وتراجع ذاتَها لتعيد مجد نضالها وتسمو فوق الخلافات وتحل الاختلافات مع غيرها على الساحة بروحٍ وطنية ومسيحيّة، طالما أنّ الكوتا المخصصة لها مرحليًا هي على أساسٍ دينيّ!
إنّي أعيد إلى الأذهان، أنّ أسلوب التخوين والتجريح والاتهام القائم اليوم بين الكتل المتصارعة والمتنافسة على هذه الكوتا، لا ولن ينفع، مع إعطاء الحق لمن يسعى فقط لكشف الحقائق وتوعية الشعب بسعي بعض هذه الأحزاب والتنظيمات ومجالس "الألوان"، عفوًا الأعيان الشكلية، للكذب على الناس والتأثير بقرارها بوسائل رخيصة تستغلّ حاجتَهم الماديّة. وكلّ المطلوب هو الاستقلالية في الرأي وعدم غشّ عقل الناخب والشعب بأكاذيب ودسائس يطلع بها متعهدو المجلس "القطاري" بمناسبة ومن غيرها. فقد انقشعت الغيمة وطلع الفجر الصافي. فما من مكتومٍ إلاّ ويُعلم وما من مجهولٍ إلاّ ويُعرف. وسيصدقُ حدسُنا، بعد أن ينقطع سيلُ التمويل وتُغلق صنابير الأموال عن فروع هذه القنوات العديدة الزائفة العائدة لبعض الأحزاب الهزيلة التي سعت وما تزال في مشوارها، لقطع المياه عن الأنهار الأصيلة وتحويل مجاريها لصالحها من دون وجه حقّ.

لويس إقليمس
بغداد، في 17 نيسان 2014

338
الدجل الأمريكي وحقوق المسيحيين في العراق والمنطقة

   رهان المسيحيين المستضعفين في العراق والمنطقة تجاه ما يبدر من قبل الإدارة الأمريكية والغرب السائر في ركابها، بين الفينة والأخرى، بإبدائها حرصًا خجولاً أحيانًا، على مصلحة المسيحيين في العراق والشرق الأوسط، ما هي إلاّ اضغاثُ أحلامٍ، سرعان ما تبدّدها غيوم المصالح القومية العليا لهذه وتلك. فالدولار هو الذي يتحكّم بهذه المصالح وليس حقوق الشعب المستضعف الذي يتعكّز عل مثل هذه الوعود الكاذبة. وإن فعلت الإدارة ألأمريكية ذلك أو دول الغرب أحيانًا، فذلك يأتي بسبب هبوب عاصفة خفيفة هنا وهناك، للمطالبة بحقوق المسيحيين لأجل أصالتهم التي لا تُنكر في المنطقة وحقّهم بأرض الآباء والأجداد.
أمّا مثل هذه التحرّكات المتباعدة والقاصرة في معظمها، فليست إلاّ لتغطية الوجه القبيح لهذه الإدارة أمام الرأي العام أو لسدّ غطاء الريح النتنة الذي يفتحه بعض الناشطين دوليًا أو إقليميًا أو محليًا. ولعلّ آخرَها، كان نزولاً عند ضغوط بابا الفاتيكان "الفقير لله"، فرنسيس الأول الذي وبّخها على تراخيها ومساومتها على مسيحيّي العراق والشرق. أمّا بعض الأصوات المسيحية "القومية" منها والوطنية، والمدّعية أنها تتحدث باسم المسيحيين وتحرص على نيل حقوقهم كاملة، فهي في مجملها تتوزع بين فئوية وطائفية ودينية، إلاّ تلك التي تحمل صبغة المواطنية الحقيقية المستقلّة الرأي والانتماء، وما أقلّها هذه الأيام!. وللأسف أقول، إنّ الصفة الطاغية لغالبية هذه الأصوات، تتميز بتقاطعِها مع بعضها البعض بسبب تباين الولاء والموالاة لهذا الطرف أو ذاك.

وعودٌ عرقوبية وآمالٌ هوائية
في الحقيقة، إنّ مثل هذه المبادرات، سواء الفردية منها أو الحزبية أو "الوطنية" الصادرة عن ممثلي المكوّن المسيحي، لا تعدو كونها فقّاعات للاستهلاك المحلّي ولتحقيق مآرب ضيقة في نفس يعقوب، لدى بعض هؤلاء من المغشوشين بالوعود "العرقوبية" التي يمنحها الأمريكان ومَن يسير في نهجهم الحرباوي! وقد تمثلت هذه الحقيقة الدامغة بشكل مأساويّ في سباق الانتخابات الحالية لنيل مقاعد الكوتا اليتيمة الخمسة التي أذنَ بها العمّ سام لإدراجها في الدستور وقانون الانتخابات بعد كشف زيف حرصه. إنّ الصراع لنيل مقعد في المؤسسة التشريعية العراقية القادمة، لهو على أشدّه في هذه الدورة. وقد تبيّنَ الخيط الأسود من الخيط الأبيض وانكشفت حقيقة المصالح الطائفية والفئوية لدى البعض ممّن دخلوا هذا السباق، حتى لو لم يكونوا على قدر المسؤولية والكفاءة والجدارة وإدارة السياسة في هذه الفترة العصيبة من الحقبة السوداء التي يمرّ بها البلد. بل هناك، مَن حلا له المقعد لما حظي فيه من مكاسب ومغانم وامتيازات لم يكن يحلمُ بها. وآخَرُ مَن سال لعابُه لمثل هذه الامتيازات التي حرّمتها القوى الوطنية الشريفة والمرجعيات الدينية المتعدّدة. في حين دخل أغرابٌ ومجهولو الهويّة في هذا السباق الماراثونيّ، علّ المفوضيّة "الّلامستقلّة" للانتخابات تُخطيء في العدّ والفرز أو بالإسم، فيحظى هذا النفر بما حلمَ به في نهارٍ ساطع الشمس! وما أدراكَ ما الأحلام في زمنٍ تهاوت فيه القيم والمبادئ وغاب الضمير وانقطع حبل المودّة واشتدّ عاملُ الخنوع للأقوى على الساحة!
هناك في أوساط شعبنا المسيحي، مَن يصفّق ويرقص على أنغام مبادرات مستوردة عفا عليها الزمن ولا تقبع إلاّ في مخيّلة السذّج الذين يعتقدون بإمكانية تحقيقهم حلمَ امبراطوريةٍ بادتْ ولا يمكن أن تقوم لها قائمة ثانيةً، لأنّ التاريخ يتغيّر والزمن يُسرع ولا يتراجع. وثمّةَ نفرٌ آخر يسعى لطموحات خائبة سعى أو يحلم بإطلاقِ مثيلاتها في مثل هذه الأيام، مع إقبال العراقيين على استحقاق انتخابيّ بهدف ضمان تواجد وموطئ قدم في هذه المؤسسة التشريعية التي تحوّلت إلى منبر لتقاطع المصالح وتبادل التهم ومسرحًا للمزايدات والمناكفات والسجالات العقيمة التي لا تغني ولا تخدم المواطن البسيط الذي لا يحلم سوى بالأمان وكسرة الخبز الحلال والسكن اللائق الذي يقيه برد الشتاء وقيظ الصيف الكافر والسكن الدافئ له ولأهله وأبناء بيته.
أحلام وردية تتجدّد وتنتعش بفعل فاعل، في كلّ مناسبة تستجدّ فيها أزماتٌ داخلية أو تتقاطع فيها مصالح بين الإخوة الحالمين بكيانٍ خاصٍ بهم، جعلَه البعض مسبَقًا مِن أملاكِ إمبراطوريتهم البائدة، ولاسيّما من لدن عابري الحدود والمضحّين بالأرض والأصل والوطن من المقيمين في أبراج عاجية في بلاد الشتات والمقتاتين على فتات المعونات هنا وهناك في أرض الله الواسعة. فالحكم الذاتي الموعود في إقليم كردستان، لم يتحقّق شيء منه لغاية اليوم. كنّا نتمنّى مِن الناشطين والفاعلين والمطالبين بهذا الحقّ أن يسعوا إليه اساسًا، قبل تجاوز صلاحيتهم على حقوق مناطق غيرهم في سهل نينوى والقفز على استقلالية قرار أبناء هذا السهل والتدخل في شؤونهم المناطقية ومحاولة السطو على قرارهم ومصيرهم في أرضهم وقراهم. فممّا لاشكّ فيه، أنّ جغرافية سكن أبناء المكّون المسيحي في كردستان، تساعد لتحقيق طموح الحكم الذاتي الموعود في منطقتهم، إذا أخذنا بنظر الاعتبار رؤية القيادة الكردية التي تدّعي في كلّ مناسبة تأييدَها لتحقيق المساواة بين أبناء الشعب الكردي الواحد ومنهم بخاصّة، المكوّن المسيحي، الذي تشير إليه هذه القيادة في مناسباتها الوطنية والرسمية، بالشعب " المسيحي الكردي". هذا في الأقلّ، ما نسمعه ونتلقاه من بيانات بهذا الصدد سواءً من القيادات الكردية أو من المسيحيين ذواتهم الذين يؤكدون قوميتَهم الكردية دون إحراج أو خجل! أمّا القفز على جغرافية سهل نينوى مِن قبلِ مَن سمحوا لأنفسهم باختراقه بفعل حواضن هزيلة محليّة، ولاسيّما من المستفيدين مادّيًا، فهذه سابقةٌ خطرة قد تؤدّي لانهيار النسيج النوعيّ المتكاتف في بلدات وقصبات السهل وتنخرُ جسدَه بفعل تآكلِه من الداخل مِن حيثُ لا يدري ولا يعي لنتائج تغيير طبيعة مجتمعه، بأية أعذارٍ كانت.

لا تنغشّوا بالقادم االغريب
إطّلعنا وشاهدنا بأمّ أعيننا، ما يقوم به أُجَراءُ بمختلف الوظائف والمسؤوليات، من رجالات دين كبار وصغار، ومن أتباع أحزاب هزيلة ومن موالي منظمات مدفوعة الثمن من أجل بلوغ مآرب يخفى على عميان البصر وفاقدي البعد المستقبلي، معرفةَ الغاية من تسخير كلّ هذه الجهود لتحقيق حلم مجهول رسَمَهُ الأغرابُ لمنطقة سهل نينوى بالتعاون والتشاور والخنوع لقوى متنفذّة. فالمحافظة الخاصّة الموعودة للمسيحيين في هذا السهل، بحسب الوعد الذي قطعه المحتلّ الأمريكي ل"مام جلال" بشأنها أو الإيعاز بها للحكومة بإخراجها بطريقة بهلوانية، والتي يخفي حقيقتَها مَنْ يدّعون قيادة الشعب المسيحي في الإعلام وأمام ممثلي مكّونات المنطقة (راجع تصريح برِّتْ ماكورك، مُساعد وزير الخارجية الأمريكية المسؤول عن العراق وإيران، في 5 شباط 2014 ضمن جلسة استماع للكونغرس الأمريكي)، لن تخدمَ أبناء المنطقة، في الأقلّ في هذه الفترة غير المستقرّة. وإن يكن هذا الإجراء وغيرُه ممكنًا في قادم الأيام، إلاّ أنه لا يلبّي الطموح إن حصلَ بالطريقة والغاية المقصودة في هذه الأيام الحوالك. فكلُّ ما يُبنى على باطل يبقى باطلاً، وكلُّ ما يُغتصب قسرًا يبقى ظلمًا وتعسّفًا.
إنّي، لأُعجَبُ من أبواقٍ وأدوات تحرّكها أيادي خفية تشيد بهذا أو ذاك مِن الذوات الذين نكنّ لهم كلّ الاحترام، حين يتحدثون ويعملون ويتحرّكون فقط بمسؤولية وطنية جامعة لا تقبل التشرذم والانقسام والتفتيت والتجزئة، بل في إطار وحدة البلاد وصيانة قدسية الأرض والاستقلالية في القرار والطموح. وما لا يخفى على اللبيب المتابع، أنّ هذه الأيادي الخفية، ماتزال تلعب صفة البيادق بيد المحتلّ الأمريكي وأتباعه الغرب وأعوانُهم في البلد، والذي لم يرفع بعدُ يدَه عن إرادة العراق ومصيرِه. فالاتفاقية الأمنية طويلة الأمد سوف تقيّدُه لسنواتٍ عجاف وتسلبُ منه الإرادة والحرّية والاستقلالية في القرار، إلاّ إذا شاءت الأقدارُ وقدمَ "صدّامٌ جبّارٌ مواطنيٌّ مستقلُّ يحكم الجميع بالعدل والمساواة"، كي يزيح هذا "الماموث" الجاثم على صدور العراقيين ويلقّنه درسًا في الأخلاق والضمير واحترام الغير.
 إنّ الأحلام الوردية والطموحات المنطقية المعقولة لا تُبنى على حساب حقوق الغير وفي مناطق هذا الغير التاريخية وفي رسم مصير مستقبل أبناء جماعته. فهذا ليس مِن شأنهم، إنّما يمكن أن يوصف ببساطة تدخلاً بشؤون أهل الدار في هذا السهل. إنّ التكالب الحاصل حاليًا ومنذ السقوط الدرامي في 2003، على مناطق سهل نينوى بالذات، ليس سوى تدخلٍ سافر وتعدٍّ واضح وغير مقبول من جماعات، وأفرادٍ ومنظمات وأحزاب، قدمت من خارج المنطقة وتريدُ رسمَ مستقبلها باستقطاعها أوصالاً ومقاطعات، أيّا كان الهدف. فهذا المشروع يدخل بالتأكيد ضمن ذات الهدف الأكبر الذي رسمته السياسة الأمريكية ودوائرُها وأجراؤُها بالمنطقة لتفتيت النسيج العراقي وإكمال مشروع "بايدن" بتقسيم العراق على أسس دينية وطائفية ومذهبية، بل وضمن الدين الواحد والمذهب الواحد والطائفة الواحدة.
لذا، اقول، إنّ أهل الدار أدرى بمصيرهم ومستقبل تاريخهم، وليسوا بحاجة إلى تدخلٍ مِن غريبٍ، أياً كان دينُه أو طائفتُه أو قوميّتُه، لكي يعلنَ حلمَه باستعادة إمبراطورية بائدة يدّعي الانتماء إليها هوَسًا، أو غيرُه ممّن يسعى لاستقطاع أجزاء من نينوى العظيمة تاريخيًا، بحجّة خلق منطقة آمنة، لن تكون سوى بمثابة محميّة تحيطها "ذئابٌ خاطفة من خارج المحلّة"! إنّ على أمثال هؤلاء أن يضعوا خوفَ الله في رقابهم ويراجعوا أنفسَهم ويتحلّوا بشيء اسمُه حبّ الوطن ووحدتُه وازدهارُ شعبه ووحدته وتنميته، وليس العمل مع الشيطان لتقسيمه وتشرذمه وتفتيته.
لقد بدأت خيوط اللعبة القذرة تنكشف، والتي تمّ لها تجييشُ أناس لا يمتلكون عمقًا وطنيًا ولا مواطنيًّا ولا بعدًا اجتماعيًا ولا مصداقة دينية، بعد أن وقعوا في حبائل مغريات مادّية ادّعوا ويدّعون دومًا أنّ واهبيها ومانحيها أناسٌ طيبون جدّا ولم يتطرّقوا قطّ إلى شروط أو غايات مبتغاة من وراء هذه الهبات السخية والعطايا الجزيلة التي أٌجزلت وما تزال على نفرٍ يسيل له اللعابُ. وهذا ديدنُهم منذ نشأتهم. فمَنْ لا يولي أهمية لكرامة آدميّته ورصانة أدائه المجتمعي ونزاهة فعالِه، يمكن أن يفعل أكثر من هذا الشيء ويجازف بكلّ هذه وتلك، بسبب ضعفه البشريّ، ولما لهذه المغريات من تأثير فعّال. أمّا المصلحة العليا للوطن والبلدة والدين، فهي عندهم "مِنْ بعدي الطوفان"!

أمريكا والغرب، قمّة الدجل والفتن والبدع
إنّ أحقيّة الشعوب في تقرير مصيرها، حقٌّ مكفولٌ فقط، حينما يعرف كلُّ ذي حقٍّ حقَّه ولا يخرج عن مسار المصلحة العامة للوطن قبل كلّ شيء، لأنّ ما بعدَ هذه المصلحة، كلُّ شيءٍ يهون ويركع رغم أنف المعترضين الخائبين الذين يغنّون خارج إطار السرب المواطنيّ، ولكنّهم لا يُطربون! ومهما يكن، فإنّ توظيف الفرص، لا يمكن أن يحصل خارج أسس هذا السياق المواطنيّ. ومّن يدّعي غير ذلك، ليس من الوطن والمواطنة بشيء. بل ليس سوى طفوٍ عابرٍ وغمامة آيلة للاختفاء مثل "مزنة الصيف" العابرة، كما هي حال السياسيّين الجدد القادمين من خلف الحدود بحراسة حراب المحتلّ الأمريكي الذي عبث بمصير العراق وأهله وفتّت اللحمة الوطنية وجزّأَ المجزَّأ منه أصلاً، من أجل بلوغ غايته في احتلال البلد والسيطرة على منابع ثرواته والقضاء على ما كان فيه من علمٍ وأدبٍ وفنّ وبقايا حضارة.
 بهذا السلوك العدائيّ لشعب الرافدين والحقد الدفين الذي كنّه الغازي الأمريكي ومّن وراءَه مِن قوى عالمية خفية، لحضارة العراق وما كان أحرزَهُ هذا الأخير من تقدّم على طريق التطوّر دون سائر دول المنطقة، قد قرّر المحتلّون الجدد ومع سبق الإصرار على إعادته قرونًا إلى فترات الجهل والتخلّف الحضاري، من خلال نزع كلّ أداة مدنية وآدميّة وإنسانية وعلمية حقّقتها الأجيال السابقة بدماء أبنائها وبعصارة عقولهم ورهافة وطنيّتهم التي اتسموا بها قرونًا وسنينًا طويلة.
رُبّ سائلٍ، أين كان "العمّ سام"، حينما اضطُهد أبناءُ المكوّن المسيحي مثل غيرِه من المكوّنات قليلة العدد "الأقليات"، وتمّت معاملتُهم بعد السقوط مباشرة ك"أهل الذمّة"، وما يزالون كذلك في نظر البعض، في مناطق عدّة. ألمْ يتمّ تهميشُهم حين استنباط الحاكم المدنيّ، "بريمر" سيّء الصيت، نظامَ المحاصصة مستبعدًا كفاءَاتهم ومواطنيّتَهم وولاءَهم الذي يعرفه القاصي والداني؟ وإلاّ، لماذا هذا السيل الجارف من طالبي الهجرة من أبناء شعبنا وغيرهم، والتي لم ولن تنتهي، مادام الفكر اللّوبي الصهيونيّ الذي يتحكّم بمقاليد الاقتصاد الأمريكي والعالم، يحشرُ أنفَه في كلّ دهاليز السياسة ويتدخل في صغيرها وكبيرها ويُبقي ويديمُ فكرةَ تجزئة البلد بصيغه وأساليبه الاستعمارية الحديثة بدعمٍ مباشرٍ من أدواته وأُجَرائه؟ لماذا لم يقرّر فرضَ الأمن منذ قدومه واحتلاله البلاد، بل ترك دوائر الدولة تُنهب وتُسلب أمام ناظريه، وأبناءَ الوطن يُقتلون بدماء باردة؟ وحينما، كان يُطلب من جنوده المرتزقة فعلَ شيء حيال تلك الجرائم والمآسي، كان ردُّهم واضحًا: هذا ليس من شأننا وليس مِن واجبنا!
لقد تمادى المحتلّ الأمريكي كثيرًا بضربِ عرض الحائط، كلّ الواجبات المترتبة على الجهة الغازية التي تقرُّها المعاهدات والأعراف الدولية التي تُلزمُ الجهة الغازية بضمان أمن واستقرار وحيا ة المواطن في البلد الذي تحتلُّه. هذا ما نعرفُهُ ونقرأه وتوضحّه مثل تلك المعاهدات، إزاء الشعوب المقهورة والمهمّشة والمستضعفة، ومنهم المسيحيين الذين استهدفت كنائسُهم وتعرّض رؤساؤُهم وابناؤُهم للذبح والقتل والتشريد أكثر من غيرهم، بسبب طبعهم المسالم وعدم امتلاكهم ميليشيات وكرههم لاستخدام السلاح.

يقظةٌ زائفة للإدارة ألأمريكية
إنّ اليقظة التي صحا عليها الكونغرس قبل أشهر مطالبًا على ضوئها بسنّ قوانين للمحافظة على مسيحيّي العراق وحمايتهم، قد جاءت متأخرة وغير فاعلة، طالما المصالحُ العليا للقطب الواحد لا ترى في هذا الاتجاه ما يقوّي هيمنتَها ويفرض سطوتَها على البلد الذي يتواجد فيه أبناء هذا المكوّن. لذا، فإنّ ادّعاء الأمريكيين بكونهم "اللاعب المُحايد"، لا يمكن أن ينطلي على اللبيب المتابع. فالذي انتهجه الرئيس الحالي "أوباما حسين" واضح، لا يقبل الخطأ والصواب ومتطابق مع مشروع نائبه "بايدن" بتقسيم العراق على أساسٍ دينيّ ومذهبي وطائفيّ. فقد هادنَ التشدّدَ، إن لم يكنْ قد دعمَه عبر مجلس الأمن القوميّ واستخباراته التي يتحكّم بها نائبُه القويّ "بايدن"، راعي تكوين "شرق أوسط جديد" بكلّ حيثيّات وغايات هذا المشروع "الكيسنجري اليهوديّ" الذي كان بدأه وزير خارجية أمريكا مطلع الثمانيات.
 من هنا، فقد بقي هذا القانون الذي صاغهُ الكونغرس في حينها، غافلاً تمامًا عمّا يجري على أرض الواقع في العراق خاصة وفي دول الشرق الأوسط عمومًا بعلمٍ ودراية، بل بتوافق ومساومات أمريكية وغربية مع بعض دول المنطقة الإقليمية التي فرضت قوّتَها وإرادتَها رغم أنف الغرب. كلّ هذه الاتفاقات والمناورات تجري مع دولٍ نما فيها التشدّد ولاسيّما دول الخليج وتركيا التي تراهن جميعُها، على كبح جماح إيران الشيعيّة التي تناصبها العداء، وتقف كالطود العنيد الشامخ بفرض ما تريدُه وما ترتئيه وما تشتهيه في تسيير شؤون دولٍ سطتْ هي على إرادتها وما تزال تخطّط لسياساتها، بل وتقودُها وتدعمُها من خلف الكواليس، وبالاتفاق مع العم "ىسام" نفسه والغرب الخاضع له.
أسفي على مَن مازال يراهنُ في صفوف أبناء شعبنا المسيحي والعراقي عامةً، على دورٍ إيجابيّ يعتقدُ أنّ الإدارة الأمريكية ومعها الغرب الّلامبالي يعتمدونه ويلعبونه لأجل مصلحة هذا المكوّن أو المكوّنات الأخرى الموعودة خيرًا من العملية السياسية برمّتها. إنّ الإدارة الأمريكية والغرب معها، يتاجرون بالقضية المسيحية كما يتاجرون بالمصير الشامل لأبناء العراق والمنطقة ككلّ. أمّا ما يصدرُ بين الفينة والأخرى في أروقة السياسة والإدارة من لقاءات واجتماعات وتنسيقات وجلسات استماع ليست سوى وسائل وترتيبات لوضع استراتيجية محدّثة لنهب ثروات العراق وتغيير السياسات وتوجيهها نحو أرباح أكبر ومصالح أوسع وبطرق مستجدّة وحديثة. فادّعاء محاربة القاعدة وسائر التنظيمات الإرهابية قد خرج عن المألوف ولم يعدْ خفيًّا. فالذي أوجدَها ودعمَها ومازالَ، هو نفسُه الذي يدّعي محاربتَها بعد أن استقوت وخرجت عن طاعة راعيها، مِن إدارةٍ وجهاتٍ استخبارية وأمنية ودفاعية وداخلية، وما أدراك ما غيرُها مِن الداخلين في اللعبة الدولية القذرة!
أترك الحكمَ للقارئ اللبيب كي يستشفّ من الأحداث المأساوية في العراق والسائرة نحو الهاوية بسبب الصراعات الطائفية المستحكمة في كلّ مفاصل الدولة الهزيلة التي نخرها الفساد حتى العظم وأغرقتها المصالح الفئوية الضيقة في دوّامة عنف متواصل لا نعلمُ مداه. فلا نتوقع خيرًا من أية جهودٍ من خارج الحدود، لأنّ الحلّ الصحيح الشافي لن يكون إلاّ داخليًا وبالمصالحة الوطنية وتغليب المواطنية على أيّة أجندة مستوردة.

لويس إقليمس
بغداد، في 10 نيسان، 2014



339
المنبر الحر / غيرة بيتك أكلتني!
« في: 00:17 02/04/2014  »
غيرة بيتك أكلتني!

مِن أعماق القلب أحيّي غيرةَ الشبيبة المسيحية في قرقوش، البلدة العراقية الأصيلة التي لن تذوي جذوتهُا ولن تنطفئ شمعتُها بإذن الله وبدعاء الخيّرين الطيّبين وبهمم السعاة النزيهين، غير الانتهازيين وغير الصاغرين للغريب القادم من خلف الأسوار ومن خارج نسيجها الأصيل.
بهذه الوثبة الشجاعة بالتظاهر، ضدّ ما يلحق بهذه البلدة المسالمة والمتميّزة، وكذا على مثيلاتها القريبة منها، من مظالم ومثالب وإخفاقات إدارية متتالية وعجز في رفع الغبن وفشل في فرض الرأي المستقلّ الصائب، أثبت الشباب قدرتًهم في التعبير عن طموحاتهم وحقوقهم. هذه كلُّها وغيرُها قد حفّزت غيرة منظمي تظاهرة الأحد الماضي 30 آذار 2014، بدءًا بالترتيب لها قبل أكثر من ثلاثة أشهر، وبالتحديد في نهاية كانون أول 2013، حين تقديمي مقترحات تسهّل وتستعجل مثل هذه المبادرة الشجاعة لتكون سابقة في تغيير مسار المطالبة المشروعة بحقوق مواطنية كاملة، بما في ذلك خدمات البنية التحتية وتنمية المنطقة ووضع حدّ للمجاملات للغريب الطارق ضيفًا ثقيلاً: قادِمًا حَمَلاً وديعًا بوسائل وتبريرات حربائية، وباقيًا فيها ذئبًا كاسرًا ينخر نسيجَها ويفتّت أهلَها وينهبُ أراضيها.
تلكم، رسالة واضحة للإدارة الحكومية الضعيفة فيها ومجالسها المترهلة من حكومية وشعبية قاصرة في فرض المطالب إلاّ على خجل وبأصوات بائسة لا تسمعُها حتى الجرذان المتسكّعة هنا وهناك من الذوات الذين خنعوا فأفسدوا وخضعوا فأخفقوا ورحّبوا ففشلوا.
وعودٌ كثيرة سوّقها مسؤولون محليّون ومَنْ همْ في مواقع تمثيل الشعب ومَن يدّعون أعيانًا أعوانًا لأهالي البلدة. لكنَّ أيًّا مِن هذا أو ذاك الوعد لم يفلح منذ حينٍ.
أحيّي مَنْ نقَلَ تكرارًا، المعاناة إلى مكاتب الجهات المسؤولة في بغداد منذ فترة ليست بالقصيرة. وقد صادفتْ آخرَها مِن قِبَل النائب خالص إيشوع، الذي كنتُ أعلمتُه قبل يوم واحد فقط من لقائه بمعالي وزير البلديات والأشغال العامة المحترم، بثالث رسالة أطلقتُها شخصيًا إلى معاليه، نظرًا للعلاقة الطيبة التي تربطني مع المكاتب والمديريات المتعددة ذات العلاقة بهذه الوزارة. كنتُ قد وضعتُ في حينه بالصورة، العديد من مسؤولي الدولة والأمانة العامة لمجلس الوزراء والبرلمان والحكومة المحلية بالموصل إضافة إلى ممثلي أهلنا ومعالي وزير البيئة عبر البريد الالكتروني، كي تكون لهم حافزًا للضغط على الجهات ذات العلاقة لإنهاء معاناة الأهالي وطلبة المدارس ومرتادي الكنائس والمتبضّعين من الأسواق. وأرجو ألاّ يكونوا قد ضاقوا ذرعًا بما كتبتُه، لاسيّما وأنّ معالي وزير البلديات قد أحال رسالتي الثالثة الأخيرة إلى الجهة ذات العلاقة لإجراء تحقيق وتقديم مذكرة بالوضع البائس للبلدة، تمامًا كما وصفتُه لمعاليه وللذوات المعنيّين بالوزارة. وقد أُحِطّتُ علمًا في اليوم التالي، بجهد النائب "إيشوع" لدى الوزارة المذكورة، تأكيدًا على مضمون رسالتي.
إنّي، حين أكتب هذه الحقيقة كما هي فحسب، ليس المقصود بها نشر دعاية إعلامية، إذ لا أزالُ وسأبقى استقلاليَّ القرار والانتماء والفكر والتشخيص والطرح والحركة حين تقتضي الظروف. في هذه الرسائل الثلاث التي تخصّ مشروع المجاري المتلكّئ، نقلتُ فيها معاناة البلدة كما كنتُ أشاهدُه في كلّ مرّة أزور بها بلدتي وأغوص في أطيان شوارعها وأتعثّر في حفرها وخنادقها بسبب سوء عمل الجهة المقاولة، غيرِ الهندسي تمامًا، وكذا بسبب تراكم النفايات والأنقاض في كلّ أركان البلدة بسبب عجز الدائرة البلدية المتعذّرة بقلّة الكادر والآليات. وهدفي من هذا الطرح، يأتي في نطاق ما ورد من كلامٍ غير مقبول وتبرير غير حكيم من جانب رئيس الدائرة الحكومية المتمثلة بالسيد القائممقام الذي طُبع عهدُه بالعجز في تطوير البلدة وتوفير ما تحتاجُه من وقود وفرض هيبة دائرته ومعالجة الإخفاقات الخدمية الدائمة، بالرغم من قلّة الكادر البلدي والعجز في أعداد الآليات، كما تتذرّع دائرة بلدية القضاء!
على أية حال، كنتُ أتمنى على السيد القائممقام، أن يستنفر هو شخصيًا كادرَه الحكومي في دائرته ودائرة البلدية للقيام بأدنى ما ينبغي عملُه يوميًا عبر جولات يومية في الأزقة والشوارع غير السالكة للعربات والمركبات، وليس الجلوس خلف المكاتب، أو الطلب من الشباب الثائر "أن يقود مظاهرة للعمل والتنظيف لمدينتهم التي هي بحاجة إلى جهودهم واندفاعهم لحملة طوعية وإظهار حرسهم لمدينتهم بهذا الأسلوب والاتجاه وبالإمكانيات البسيطة لدى البلدية وكذلك القيام بمساعدة المقاول بالعمل لديه بغية سرعة الانجاز وزيادة فرق العمل لأنه بحاجة إلى عمال وفنيين ولقاء أجور."
أقول، كيف لمسؤولٍ أول على رأس قضاء، أن يطالب هؤلاء الشباب أن يعملوا لدى المقاول ويقوموا بمساعدته من أجل زيادة فرق عمل؟ هل سأل المقاول نفسًه، كيف أصبح مقاولاً وهو لا يجيد صناعة مشروع المجاري الذي اُحيل إليه؟ وكيف أُحيلت المقاولة إليه وهو غير قادر على إيجاد عمال مهرة ومهندسين لإنجاز المقاولة؟
 ثمّ على ذقون مَن تضحكون، بالقول بإنجاز "مراحل متقدمة وإن شاء الله سوف ينتهي العمل في نهاية صيف هذه السنة حسب التعهد الذي قطعه المقاول على عاتقه بالعمل". لقد سئمنا هذه الوعود التي سمعها أهالي البلدة وأنا سمعتُها شخصيًا من المقاول نفسه خلال أكثر من ثلاث زيارات قمتُ بها إلى مقرّ الشركة خلال السنتين المنصرمتين. أنا، مع الودّ والاحترام الذي أكنّه لمقاول شركة العمران، إلاّ أنّي ألومه لعدم كفاءته وعجزه الإيفاء بالعديد من تعهّداته التي قطعها للكثيرين مِن حكوميين ومدنيين وأصدقاء. أمام الحق، لا يمكن للباطل أن يقف ويثبت!
حبّذا لو يطلعُنا المسؤولون في المحافظة أو القضاء على الأمور التي لا نعرفُها، كما يقول السيد القائممقام. لكنّنا نعلم بحسب ما وصل إلينا، أنّ المجاملات والاسترخاء ووسائل التخدير والمماطلة، ولا نزيد أكثر، هي من بين الأسباب التي لا يعرفها الجميع والتي ساهمت في تلكّؤه بتنفيذ المشروع حسب ما كان مقرَّرًا له!
ثمّ ما فائدة "العديد من الاجتماعات مع المقاول والمراسلات التي أرسلت من قبلي إلى المحافظة وتم إرسال لجان المتابعة من المحافظة"، بحسب تصريح السيد القائممقام، إنْ هذه جميعًا لم تحقّق إنجاز المشروع ضمن الفترة المحدّدة ولم تنهي معاناة الأهالي الذين أولوكَ أنتَ وغيرَك مسؤوليةَ الحرص على مصالحهم؟ وهل الحرص المطلوب والمسؤولية الإدارية والأخلاقية تكون بعذر المقاول بالتلكّؤ بالمشروع ورمي أسباب الإخفاقات على "المواطن والشؤون الإدارية والوزارية والعملية وما يواجهه من أمور كثيرة"؟ ما هذا الهراء؟
هذه الأعذار جميعُها وغيرُها ليست مقبولة. عليكم شحذ الهمم وممارسة الضغط على الشركة المقاولة، عبر جميع الوسائل المتاحة كي يزيد من زخم العمل بزيادة الآليات والعمال، ليس بهدف الانتهاء من العمل بطريقة كارثية، مربكة وغير فنّية، بل بزيادة فرق العمل الماهرة وبإشراف مباشر من المقاول نفسه والجهات الساندة في البلدية وفريق المهندسين المختصين، كي يكون الإنجاز على قدر المعاناة والانتظار المرير.
مرّةً أخرى، أوجّه تحياتي إلى جميع الجهود الساندة لتحقيق هذا المشروع، بدءًا من إحالته، ومرورًا بمَن جاهدَ ليكون هذا المشروع في خدمة البلدة التي تستحقّ أكثر من ذلك. وأسوق أسفي لمداخلتي بصدد ما واجهتْه التظاهرة الشبابية التي تنمّ عن حرص وغيرة حقيقية على البلدة وساكنيها، بعيدًا عن هموم دوائر الدولة وترهّلاتها وعجزها وعدم أهليّة بعض مسؤوليها. أرجو ألاّ يكون نفرٌ قد استغلّها لتحقيق دعاية انتخابية لنفسه أو تجمّعه أو حزبه أو فئته. فإرادة الشباب أقوى مِن كلّ هذه المغانم الشخصية الضيقة.
لكم تحياتي ومودّتي يا شبيبة قرقوش الغيارى. فأنتمْ أهلٌ لها حين يجدّ الجدّ ويحضر الحرص والضمير والفأس! وعتبي كبيرٌ على مَن وقفَ جانبَ المتفرّج ممازحًا أو منتظرًا أو لا مباليًا بما آلت إليه حالُ بلدتِه. لقد كان الأجدرُ بهؤلاء جميعًا أن ينضمّوا إلى مسيرة الغيرة الشبابية المستقلّة تلقائيًا وعفويًا دعمًا لنشاط الشبيبة المستقلّ. فهلْ غيرةُ البيت أصبحت اليوم في نظر البعض تقتضي قراراتٍ واستراتيجيات مِن جهات نصّبت ذاتَها أمينًا عامًاعلى مصير البلدة كي تقرّر أسلوبَ التخلّص من الأوضاع المزرية التي آلت إليها منذ أكثر من عامين؟ ومتى كان الحرصُ على الأرض والمصلحة العامة أسيرَ مزاجاتِ مَنْ نصّبَ نفسه ناطقًا باسم البلدة وحاميًا لها بعناصر مسيّرة وإدارة خانعة تُلزم أتباعَها بالمشاركة في احتفالات كانت تعدُّها بالأمس محرّمةً واليوم تجيّش لها وسائط نقل لتسهيل المشاركة بها خارج البلدة؟ فهلْ أوضحُ وأبلغُ من هذا التناقض في الموقف والرأي والتخاذل؟

لويس إقليمس
بغداد، في 1 نيسان 2014

340
ألمرأة صرخة استغاثة بوجه الظلم والتخلّف
"لمناسبة الاحتفال بعيد المرأة"
استهلال:
   أوضاع المجتمع العراقي اليوم، لا تُسرُّ، وهي تكاد لا تختلف عن الأوضاع التي تمرّ بها دول المنطقة منذ عقود، بعد انحسار الفكر التقدّمي المنفتح على الآخر الذي كان قد خلق مجتمعات متنوّرة نوعًا ما، كانت قد واكبت شيئًا من أدوات التطوّر بكلّ أشكالها، بدءًا من التربية المنزلية، ثمّ المدرسة، فالفنون، فالمؤسسات التعليمية العالية من معاهد وجامعات، مرورّا بأنشطة منظمات المجتمع المدني والأحزاب التي كانت تتخذ في أيديولوجياتها مساراتٍ معتدلة تأخذ في الحسبان الولاء للمواطنية ومصلحة الفرد والمجتمع معًا.
   يمكن عدّ هذه الظاهرة في أيامنا هذه، بمثابة أزمة مستفحلة تنخر جسد مجتمعاتنا التي ابتليت بذواتٍ أعماهُم الانغلاقُ على الذات وعلى الدّين والمذهب والطائفة والقومية التي لم يعدْ لها مكانٌ في الساحة الواسعة للعولمة التي يُفترض بها أنْ ألغت الحدود وقرّبت المسافات وفعّلت المجتمعات المتقدمة نحو تطوّرات غزت العالم بقوتها وفاعلية اختراقها للمجتمعات المفتوحة التي ترغب بالتقدم والتطور وخدمة النفع العام. هذه الأزمة، تشكل اليوم جرحًا عميقًا في خاصرة العديد من المجتمعات التي حدّتها الأفكار المتخلّفة المرتبطة بتسييس الدين لصالح فئة، ولا همّ لها سوى فرض أجنداتها وأفكارها وفق مقاساتها التي تتطابق مع المعايير التي تريدها هي، وليس تلك التي هي عليها بفطرتها وطبيعة تكوينها ونشأتها ووفق الخيارات والحرّيات الطبيعية المكتسبة.
   إن هذه الأزمة التي يتفق عليها اليوم، العديد من الاختصاصين بدراسة ظواهر الشعوب والأمم والدول في العالم، تكاد لا تخلو من مفاهيم اجتماعية واقتصادية ودينية وثقافية وحضارية في مجمل تقديمها واستعراضها وفعّاليتها. فهي تمثل الخيط الحرج والنقطة الحاسمة التي تحدّد مصائر الشعوب والأمم وتحفظ لها طاقاتها وتمحورُ مصيرَها بالقبول بالتطور ومفاعيلهما، أو بالتراجع إلى الوراء مع ما يمكن أن يحمله هذا التراجع من تخلّف وتقوقع مليء بأنواع المآسي والفقر والتخلّف والموت للشعوب بدلَ ارتقاء سلّم التطور والقبول بالحياة التي يجلبُها الانفتاح والتقدّم. مثل هذا التقوقع والانكفاء على الذات، سيكون انتحارًا لسالك هذا الدرب المليء بالألغام والمطبات على جميع الأصعدة.
   والتخلّف الذي نقصده قد يصل جميع مفاصل الحياة، المنزل الأسري والمدرسة والشارع وموقع العمل والسفر. كما قد ينسحب ليس على قرية أو مدينة أو عاصمة، بل قد يضرب دولة بكاملها ومنطقة بمجملها. وهذا، ما نحن عليه اليوم في بلدنا العراق، حيث تستفحل هذه الآفة في عموم مجتمعاتنا، دون بروز ما يشبه الضوء في آخر النفق الطويل المظلم. فهل هذا ما يستحقه شعب الحضارات والإنجازات والبطولات والخيرات؟
   نحاول في هذا البحث، التطرّق إلى هذا المنعطف الخطير وتحليل أسبابه والخروج بنتائج قد تنفع لدرء خطره فيما لو بقي دون معالجات جدّية، سواء من الدولة وساستها، أو من المراجع الدينية التي تقع عليها مسؤولية التوعية المعتدلة أو من الأصول الثقافية والعلمية التي تُعدّ راعية الثقافة وعليها تقع مسؤولية التثقيف والتعليم بالتعاون مع الأسرة والمنظمات التي تُعنى بتطوير المجتمعات. وسنخصّص الجزء الكبير من البحث عن تخلّف المرأة في مجتمعنا العراقي والشرق- أوسطي عمومًا
ميادين التخلّف، كيف ولماذا؟
    تعرّض المجتمع العربي ومنه العراقي، عبر تاريخه إلى مراحل متداخلة ومتصارعة من التقدم والتراجع تبعًا للظروف التي عاشها منذ قيامه. فهو بعد الحضارات العامرة الأولى التي بناها وسادت العالم قرونًا، تعرّض مثل غيره للإبادة والتراجع في تاريخه. وهذا أمرٌ طبيعيٌ بسبب محدودية المساحة التي سبح فيها وكذلك بسبب أسرِه في دهاليز الفكر البالي الذي يصرُّ البعض في هذه الأيام بالذات لإعادته إلى أيام القهر الظلامي الأوّل قبل أكثر من أربعة عشر قرنٍ وما قبله، حيث ساد فيها عملُ السيف والترهيب والتحايل على بسطاء الناس، ممّن عانوا آلامًا وأزمةً وعجزًا أمام قوى الطبيعة والسلطان الذي تحكّم بها وبهم على السواء.
   جميع المحلّلين لظاهرة التخلّف، يرون في أسبابها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والدينية والسياسية، أنها قد ألقت بثقلها على مرِّ العصور والسنين على الناس دون تمييز. وكان من ضحاياها، الرجل والمرأة، الشاب والفتاة، الطفل والشيخ، اي أنها لم تستثنٍ أحدًا البتة. وما زاد الطين بلّةً، أن أدواتها ومرتكبيها قد توارثوا هذا النهج المتخلّف باستمرار وعزّزوا بطريقة أو بأخرى، ترسيخَ الظروف المؤدية إلى هذا التخلّف بأنواعه وبوسائل قهرية وتسلّطية وترهيبية متنوعة. فالإنسان بطبيعته، يميل إلى الاقتداء بمن يراه أو يدفعُه للتوجه في سياقٍ معيّن وفي فترة معينة من حياته ومسيرته وسطَ المجتمع الذي يعيش فيه. وهو بذلك، قد يكون وليدَ البنية والبيئة التي يعيش فيها مع ما في هذه من أنماط الحياة المتنوعة في خيرها وشرّها. ولكن، أنْ يستفحلَ مثل هذا التخلّف ويصبح قوة فاعلة ومؤثرة في نمط حياته اليومية المعيشية، فهذا أمرٌ فيه الكثير من المنزلقات الخطيرة، سواءً على الصعيد الشخصيّ أو العام. كما ساهمت الازدواجية في شخصية الإنسان العراقي والعربي عامةً من فئة المغالين والمغالطين وغير المعتدلين بتعميق الهوّة بين الجلاّد وضحيّته وبين المتربعين على السلطة وعامة الناس.
   ولعلّ مِن أصعب مراحل الانغلاق على الذات والغير، أن يجد الفردُ المحاصَرُ في شباك التخلّف، نفسَه في وضعية مأزقية حرجة، قد لا يجد منها مفرًّا لطرد أدوات القهر الذي وقع فيه أو الذي حاصرَه مِن حيثً لا يدري، لا سيّما في مواجهة القائمين على السلطة، دينيةً كانت أم سياسية أم دنيوية. وهنا يقع الطرفان، الفاعل والمفعول به في فخّ التخلّف والمغالاة على السواء، نتيجة هذا التسلّط  الخالي مِن أية معايير اجتماعية منفتحة على ما يجري من حوله والافتقار لأية رؤية واعية بحقوق الإنسان، رجلاً أو امرأةً ككائنٍ بشريّ محترم، رغم مشاهدته واطّلاعه على الآليات والوسائل والأدوات المتفتحة التي تعيشُها أممٌ ودولٌ وشعوبٌ متنورة اجتازت عتبة الانغلاق بكلّ أشكاله، الفكري والديني والعرقي والمذهبي والاجتماعي.
   وإذا كان التخلّفُ لدى النظر إليه من مواقع متباينة وجوانب متعددة، نرى أنه لم يترك مجالاً حيويًا في حياة الإنسان، إلاّ وتوغل فيه وبدأ ينخر جسدَه بلا هوادة ودون تمييز أو مراعاة لأية ظروف أو شروط تمليها الحياة المعاصرة، فقد طال من حيث فاعليتِه ونشاطه، جوانب عديدة ومتنوعة في حياة البشرية. لقد مسَّ جانبَ الأسرة والشارع وميادين العمل والمؤسسات التربوية والتعليمية ودهاليز الدولة، بحيث لم يترك جانبًا لم يدخلهُ أو يؤثر فيه. وأكثر من ذلك، عندما أوغلَ في غيّه، بضرب كيان البشر ونخاعه الإنساني، حيث طال الإنسانَ وعقله وفكرًه وديانته ومذهبَه وأساسَ تفكيره وحرّيته، وكيانَه ككلّ.
   إنحسارٌ علميّ وثقافيّ وخدميّ
لقد مسَّ التخلّف إذن، حياة العراقيين بكلّ جوانبها وبسببه تراجعت مؤسساتٌ بكاملها وتعطّلت مهنٌ وتوقفت معاملٌ ومصانعُ وشلّت حياة المجتمع الذي انتقل من عتبة حضاريّة مزدهرة ومتميّزة بعض الشيء في بجانبٍ من مراحلها عن غيره من المجتمعات في المنطقة، إلى شبح الخواء في أركان الحياة العامة في غضون عقودٍ قليلة. وهو اليوم سائرٌ من سيّء إلى الأسوأ، لاسيّما بتراجعه في أهمّ مرافق الحياة التي تُعدّ سارية ثقافة البد، تلك التي تُعنى بالتربية والثقافة والتوعية والتعليم والفنون بكلّ أنواعها. فما أصابَ المؤسسات التعليمية،  كبيرٌ وكثيرٌ، فحدّثْ عنه ولا حرّج. فلمْ تعد المادة العلمية التي يتلقاها الطالب تفي بما يحتاجهُ من علمٍ ومعرفة أو تنمّي عنده قدراته العقلية والخيالية، بسبب تراجع سائر المؤسسات التعليمية، بعدّ أن كان العراقُ يُحسب من ضمن البلدان الأكثر علميةً وتطوّرًا في مجال التعليم والتربية، حتى بات البلد يعاني من تهدّمٍ واندثار لمؤسسات تعليمية ونقص حادٍ فيها، بالرغم من الميزانية الكبيرة التي تدّعي الدولة تخصيصها لهذا الجانب. فهل يُعقل في بلدٍ يسبح على محيطٍ من نفط ويمتلك ثروات معدنية وطبيعية زاخرة، أن تجد فيه اليوم مدارس من طين وقصبٍ وأخرى تضربها الرياح يمينًا وشمالاً لخلوّها من شبابيك  أو أبواب أو وسائل تكييف، تقي الأطفال برد الشتاء وعصف الرياح ولفحة الشمس القاتلة صيفًا؟ ناهيك، عن مختلف أنواع الفنون التي تراجعت بشكل كبير وتكاد تفرغُ منها، بسبب ما تلقاه من معارضة ومحاربة مِن أصحاب العقول المنغلقة التي ترى فيها، تأليفًا وإنتاجًا وأداءً ونشرًا، نوعًا من الكفر والحرام المخالف للشريعة. فالبلدُ الذي يخلو من فنون بمختلف أشكالها وألوانها، يفقد رونقَه وجمال أهلٍه، تمامًا مثلما يفقد روّادَه ومعجبيه وحظوظَه في حياة مترفة ومستقرّة ومزدهرة. ولكن هذا ما حصل في العراق. لقد خلا البلدُ تمامًا، من مسارح ومن دور للسينما مثلاً، إلاّ من واحدٍ وحيدٍ، بعد أن كان رائدًا في المنطقة وراعيًا للعديد من بلدانها، رغم أن هذه المظاهر والصروح الثقافية وغيرُها هي من علامات التقدم والوعي الحضاري وعلوّ الثقافة لدى الشعوب المتفتحة المؤمنة بتطوّر الحياة نحو الأفضل.
   لا ننسى ما آلت إليه البنى التحتية والخدمات العامة بمجملها من تراجع في القدرة والطاقة بالنوعية والكمية في آنٍ معًا، إلى جانب مغادرة أصحاب العقول والكفاءات ليس دوائر الدولة فحسب، بل والبلد أيضًا، بهدف البحث عن الأمان بعد ان انقطعت بهم السبل وتعرّضوا للتهديد والقتل وكلّ أنواع المضايقات. فلم تعد دوائر الدولة تحوي مهنيين ومحترفين في أعمالهم، بعد أن كسحتهم أدوات الغازين الجدد للمهن والوظائف التي تتطلب الشيء الكبير من المهنية والكفاءة والضمير الحي الذي غاب عن الحكومات المتعاقبة منذ السقوط في 2003. وهناك ملاحظة مهمة، وهي أن يصل الانسان المقهور في المجتمع المتخلف للإحساس بالغربة في بلده، عندما يصل إلى شعورٍ بأنه لا يملك شيئًا، حتى المرافق العامة والخدمات والأبنية يحسّ أنها ملكٌ للفئة الحاكمة في السلطة وليس للشعب، أو أن تكون بمثابة تسهيلات حياتية لعموم الناس. وبذلك تتوسّع الهوة بينه وبين السلطة التي تترفّع عن تقديم أفضل الخدمات التي تعدُّها مقدَّمةً كمنّة أو فضلٍ عليه، وليس كواجب يستحقه.
المرأة ضحية المجتمع المتخلّف:
   الملفان السرياني الكبير يعقوب السروجي، في إحدى أروع مقالاته عن المرأة والرجل، يشير بحرارة، إلى إيمانه القويّ بالمساواة بينَ الرجلِ والمرأة ويطالبُ الإثنين بالمشاركةِ في حلوِ الحياة ومرّها، لأنَّ المرأةَ في عُرفِه هي نصفُ الرّجُل، بحسب تعاليمِ المسيح، ولا تنقصُها الحكمةُ البتّة.
   من هنا، لا يمكننا فصل قضية المرأة وما تعانيه من ظلمٍ وتخلّف في مجتمعاتنا العربية عامة، والعراقية بخاصة، عن ما تتعرّض له بلدان المنطقة من أزمة حضارية واجتماعية ودينية وطائفية، بسبب سيادة ذكورية المجتمع العربي والإسلاميّ. كما أن للتخلّف الحضاري أسبابَه ونتائجَه ومفاعيلُه، هكذا يمكن أن تنعكس كلُّ هذه على شخصية المرأة وقدرتها على مواجهة هذه الأزمة وتحمّل تبعاتها، رغم ثقلِها الجائر على طاقتها، وهي الإنسان الأكثر قهرًا في المجتمع ولكن الأجمل خلقًا!
   يقول الدكتور مصطفى حجازي، أكاديمي ومفكر لبنانيّ:" إنّ مسألة التخلف هو بنية تتصف بالقمع والقهر، بالتسلط والرضوخ، أي بحرمان الإنسان من إنسانيته".1 وهذا ما يجري حاليًا من جرمٍ بشريٍّ بحق النساء في عموم المجتمعات العربية و"الإسلامية" بخاصّة، والتي  تنكرُ لها شخصيتَها وآدميّتَها وكفاءتَها، بل وتخنق حريّتَها وتدعها سلعة تُباعُ وتُشترى في سوق النخاسة لأجل جسدِها فحسب، وكأنَّ خالقَها لم يضع فيها بصماته الإلهية تمامًا كما صنع ما للرجل من حياة وحركة وحرية في الرأي والعمل والتفكير وما إلى ذلك. لقد أفقدها المجتمع الظالم وبعض قياداته المستجدّة المتخلّفة، سواءً الدينية منها أو السياسية أو العشائرية، جماليتَها بعد استفحال دارة الشهوات والسطوة عليها واستغلالها بحجج الحلال والحرام والستر. وهناك مَن يصرّ على بقائها في خانة التخلّف والجهل وينكر عليها حقَّها في التعليم والإدارة والقيادة وتبوّء المناصب والتدرّج العلمي والتحرّر الفكري والاجتماعيّ والإنسانيّ وما إلى ذلك بمسميات تبريرية واهية يفرضها الشرع والتقاليد، بحسب البعض. فالمجتمع الذي يخلو من نساء بارزات في العلم والثقافة والعمل والإبداع بكلّ صوره وأشكاله، هو مجتمع عقيمٌ غير قادرٍ على التواصل الإنسانيّ بسبب روح الظلامية الذي يسودُه. والأسوأ، أن تُقرّ بعض الدول في المنطقة، دساتير وقوانين تفرضُها فئاتٌ رجعيةُ الفكر والرؤية من أجل الحدّ من قيمة المرأة وقدرتها البشرية على تحقيق إنجازات لا تقلّ عن نشاط وطاقة الرجل، والسبب ببساطة لكونها نصفَه الثاني المخلوق على صورة الله ومثاله، لخدمة المجتمع ولتمجيد قدرته تعالى فيها.
   نقرأ للإمام محمد باقر الصدر وهو يتطرّق لنظرية المثل الأعلى في القيادة المجتمعية حيث يرى "أن الأمة تتحرك بمقدار ما يملك مثلُها الأعلى مِن طاقة للدفع، فإذا كانَ مثلها الأعلى هابطاً فإنَّ الأمة تعيش همومَها اليوميّة التافهة وتراوحُ في مكانها. أمّا إذا كان ذلك المثلُ الأعلى كبيراً فإنه يدفع الأمةَ إلى أهداف كبرى. والدّينُ الحقّ يدفعُ بالمسيرة الإنسانية لأنْ تتجه نحو الله سبحانه. والإنسان في حركته نحو الله يسير على طريقٍ غير متناه، ومجالُ التطور والإبداع والنمو متواصل دائماً دون توقف".2
    إنّ هذا الكلام الأخير، لهو من دواعي القول الذي يشير إلى بروز ظواهر كثيرة للتخلّف  في مجتمعاتنا، تؤكّد وجود هدرٍ بقيمة الإنسان وتجلياته من جانب الإدارات والقيادات التي تدير دفة المجتمع والدولة، بحيث تحرمه من الارتقاء إلى درجات التطوّر بكلّ أشكاله. والسبب بكل بساطة، لكونه مجتمعًا ذكوريًا، وأسيرَ عادات وتقاليد وأعراف مجتمعية وعشائرية ودينية بالية عفى عليها الزمن ولم تعدْ نافعة لا للبشرية ولا للمجتمعات التي تنشد الحرية واعتدال أساليب الحياة وسط مجتمعاتٍ تتطلّع للتعايش الاجتماعي والسلم الأهلي. فالإنسان الذى تفقدُ إنسانيتُه قيمتَها وقدسيّتَها والاحترامَ الذي يستحقه، كيف له أن ينطلق سليمًا في عالمٍ يقتصُّ من نصفِه ويحيلُه إلى سلعةٍ تُستملكُ متى شاء وتُهدرُ متى شاء وتُرمى متى شاء؟
    مِن هنا، يبقى مثلُ المجتمع المتخلف، ذلكَ العالَم الذي يفقد كرامتَه الإنسانية بمختلف صورها وأشكالهِا وثناياها، بحيث يضطرّ للتحوّل فيه إلى أداة لا قيمة لها، إنْ لم تكن نافية الحاجة. كما أنّ  التشريعات الوضعية التي تتخذ من الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًا، قد وضعت مصيرَها بيد الرجل الذي تداعبُه فتاوى وتوجيهات بعضٍ مِن مرجعيات منغلقة موغلة في السلفية والتشدّد لصالح الذكر. فهو الآمرُ الناهي في المنزل، وهو الذي يحقّ له الاختيار والزواج والتطليق والطلب لبيت الطاعة. كما تتيح له الشريعة كلّ أنواع المتع مع المرأة بدواعٍ مثيرة وطرقٍ مستنبطة لا تخلو من الظلم والتعسّف والقهر. وبذلك تثبتُ قهريةُ المرأة، من هذا المنظور الذي يحرمُها حق الرفض والاختيار والتنقل وحرية التعبير عن رأيها في مصائر عائلية وزوجية. فهي إنْ اعترضتْ، طالتها كلمةُ التطليق بالثلاثة، وبذلك تكون مضطرّة للرضوخ لأمر الرجل وغرائزه وميوله ورغباته، شاءت أم أبت، بغية الابتعاد عن شيءٍ اسمُه العنوسة او الطلاق الذي يُعدّ عارًا في الأعراف الاجتماعية، لا تتقبلُه العائلات الأصيلة.
   لقد صبَّ المجتمعُ الذكوري، جامَ غضبه على ألطف كائنٍ خلقه الله، أي المرأة، التي هي انعكاسٌ لجمال الله في خلقه. فقد طالها التخلّف بكلّ أشكاله وحوصرتْ إرادتُها وأُسرتْ رغبتُها وضُيّق عليها الخناق في مجتمعاتنا، بسبب رؤية متخلّفة حسبتها ناقصةَ دين وعقل وكلَّ شيء فيها عورة! فكيف لمثل هذا المجتمع الذي يسوقُه تفكيرُه إلى هذا الإسفاف من التخلّف والظلاميّة أن يتقوّم وينهض ويرتقي، ونصفُ مجتمعِه يكادُ يكون مغيَّبًا بمجملِه، وهي التي تأتي بالحياة إلى هذه الدنيا مِن وعائِها المقدّس؟
   في عددٍ من المجتمعات العربية، ما يزال الحظر ساريًا على مشاركة المرأة في أعمالٍ تُعدّ ضمن ملكيّة الرجل ودارته، من منطلق فرض السطوة الذكورية على مثل هذه المجتمعات، ومنها قيادة السيارات كما في السعودية التي تحظر أيضًا كلّ أشكال الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة وفي المؤسسات الحكومية والخاصة وتلاحق كلّ مَن يخالف هذه القوانين الجائرة عبر فرق متشدّدة من عناصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عديمة الرحمة والشفقة. كما أنها حُرمت من التنقل والسفر بغير محرَم، تحاشيًا للفتنة، كما يدّعي غلاة الشريعة.
   وفي السودان أيضًا، اطّلعنا على ممارسات غير إنسانية يندى لها جبين الإنسانية حين حكمتْ أمثال هذه الفرق المتشدّدة أو ما تُسمّى بالمحاكم الشرعية، على فتاة ارتدت بنطال الجينز، وكيف تمّ جلدُها في الشارع وأمام المارّة. وما أكثر مثل هذه الممارسات التي تحطّ مِن قدر هذا المخلوق الجميل في غير هذه من الدول الإسلامية والعربية.
   وقد أُشيع في مواقع الكترونية، صدور  فتوى جديدة بتحريم المرأة من دراسة الهندسة بسبب ما يرد في هذه الأخيرة من مصطلحات تدعو لارتكاب الفاحشة، مثل متساوي الساقين والزاوية المنفرجة ومنحني ومنحنية ونقطة التلامس، بحسب بعض الدعاة!
    هذه النماذج، أسوقُها على سبيل فتح الباب على مصراعيه حول ما يجري على المرأة من ظلمٍ وقهرٍ في المنطقة عمومًا، ومنها ما يطالُ العراق أيضًا في بعضٍ منها.
المرأة العراقية، هل تستحقّ هذه النظرة الدونيّة؟
   من المؤسف بروز أصواتٍ ناشزة ومرتفعة في السنوات الأخيرة بالعراق، مؤيدة لهذا التوجه المتخلّف، من منطلق دينيّ بحت. لذا لم يكنْ غريبًا، الاستماعُ إلى مثل هذه الأصوات المتخلّفة، في هذا البلد الذي كان يُعدّ مِن الدول العلمانية والمدنية المتحرّرة، حتى العقدين الأخيرين من القرن المنصرم. فقد صُدم المجتمع العراقي والمجتمع النسائي بخاصّة، قبل أيامٍ طويلة خلت، بالوزيرة المكلّفة شؤون المرأة وهي تؤيد صحة تطبيق الشرع على المرأة كما كانت عليه  قبل أربعة عشر قرنًا خلتْ، رغم افتراض كونها أمينة على صيانة حقوق المرأة العراقية وكرامتها أكثر من غيرها. وقد تيّقن الجميع أنّ تلك التصريحات غير المقبولة تأتي في قافلة الأصوات المنادية بتحجيم المرأة وهدر حقوقها وتقزيم دورها في مجتمعها، إلى حدّ جعلَها البعض أداة للتفريخ في المنزل ولخدمة الرجل ليس إلاّ، أو مزهريةً يمتّع بها نظرَه وتقوم على تلبية غرائزه الجنسية، إن لم تكن مستودَعًا لتفريغ شحناته العدائية عليها بعد عودته للمنزل منهكَا من آثار العمل أو العبث.
   إن الغضب الذي أُثير على تلك التصريحات بسبب ما حملتهُ من أفكار مقلقة بحق المرأة العراقية في أوساط المجتمع العراقي قاطبة والنسائي بخاصّة في حينها، قد عاد من جديد ولكن بشكلٍ آخر. هذه المرة، مع مقترح وزارة العدل الداعية للعمل بمشروع قانون الأحوال الشرعية الجعفري، الذي بحسب آراء نسائية عديدة، "سيعيد المرأة العراقية إلى الوراء، أو إلى عصر الجواري والإماء". إنّ مثل هذا القانون يسمح، كما يبدو، باستخدام العنف ضدّ الزوجة بهدف تقويمها، وما عليها إلاّ إطاعُة بعلها طاعةً عمياء. في حين، تسعى منظماتٌ نسائية عديدة للمطالبة بفتح آفاقٍ إنسانية واسعة أمام المرأة لتخليصها من النظرة الدونيّة والوصاية عليها، لكونها مخلوق كاملٌ ومتكاملٌ كالرجل. وحين تعرف حقّ قدرها ومكانتَها الطبيعية في المجتمع، فإنّ ذلك سيكون دليلاً بل أداةً لثني الرجل عن إسقاط عقدِه على هذا المخلوق.
   ولعلّ من جملة المظاهر المتخلّفة في مجتمعنا في هذه السنوات الأخيرة، بروز توجّهاتٍ في عدد من المؤسسات التعليمية في الدولة العراقية بعد التغيير الدراماتيكي في 2003، من أجل فصل الذكور عن الإناث ابتداءً من رياض الأطفال حتى التعليم الجامعي، من منطلق أنّ أيَّ اختلاط بين الجنسين فيه فتنة ومدعاةً للإثارة والشهوة ويجرُّ إلى فساد الأخلاق. ونحن نتساءل، ما هذا الهراء في مثل هذه الأفكار الهدّامة التي تؤخر ولا تقدّم، وتدمّر ولا تبني، وتوسّع الهوةّ ولا تغلق أبواب الفساد الحقيقي، كما يدّعي أصحاب هذه الفرية؟ أليس في حمل هؤلاء لمثل هذه الأفكار المتخلفة، تأكيدٌ على إصابتهم بأمراضٍ مجتمعية تنخر المجتمع والدين والمذهب الذي هُمْ عليه، وهُمْ بهذه الممارسات والدعوات يسعون لنقل حقيقة شخصيّتهم ودينهم ومذاهبهم وإسقاطِها على غيرهم، غصبًا عن المجتمع؟ بل إنّي أعتقد، كما يعتقد غيري أنّ هذا السلوك، ليس سوى عملية ممنهجة لتحويل مجتمعاتٍ مدنية منفتحة إلى أخرى منغلقة على ذاتها لا تقبل التطوّر والارتقاء، لأنّها ترى في هذه الأخيرة فضحًا لسلوكها المتخلّف وتعريةً لفسادها المستفحل، وإيغالاً في تحقير الجنس الآخر والسطوة عليه واستلاب حقه في الاختيار وقول كلمة "لا" إزاء انتهاك حقها المشروع. لذلك، فدعاةُ هذا المنهج المنغلق مِن المتشدّدين، يوغلون في المطالبة بأسر المرأة في صندوق المنزل وحصرها في أداة المتعة لخدمته كعبدةٍ تسهرُ على مطالبه ونزواتِه ورغباته وحده، بغضّ النظر عن حقها الإنسانيّ المشروع الذي تضمنه كلّ القوانين والصكوك والمعاهدات الدولية وشرعة حقوق الإنسان.
المرأة بلا حماية قانونية:
   من جهة أخرى، ما تزال المرأة تعاني من نقص حقيقي في الحماية من العديد من الانتهاكات بحقها. فهي ما تزال تتعرّض لأعمال عنف وواجبات قسرية تنال من كرامتها البشرية في العديد من الميادين، سواءً في المنزل أو العمل أو الوظيفة او على مقاعد الدراسة دون تمييز. ويبدو واضحًا أن الدستور العراقي لم يحمي المرأة بما فيه الكفاية. فقد وردت بنودُه فضفاضةً وغير مكتملة النتائج والأهداف بما يجعلُه ملبيًا لما تدعو له الصكوك والقوانين والتشريعات الدولية وكذا المعاهدات التي صيغت من أجل حماية حقوق المرأة ودعم مطالبها.
    ولعلّ أهمّ حقٍّ سلبته إياها التشريعات المقتبسة من الشرع الإسلامي، هو حرية الاختيار إلى جانب رضوخَها لأعراف تحكمُها بها العشيرة والقبيلة. فهي ما تزالُ ترضخ مثلاً، للزواج الإجباري الذي يلاحقُها مِن ابن العمّ، مهما كان عمرُه أو وضعُه. وهي إن رفضتْ، فمنْ حق ابن العمّ أن "ينهيها" بما يسمّى عرفيًا بظاهرة "النهوة" التي تحرم عليها الزواج إلاّ بكلمة مِن ابن العمّ هذا. وقد لا يلفظُها أبدًا. وبذلك، ستبقى المقهورة بدون زواج طيلة عمرها، مسلّمة أمرَها لله ولابن العمّ الظالم هذا. فلا قانون يحمي المرأة من مثل هذه الحالات والأعراف الشائنة التي ما زال يتمسك بها بعض الناس بسبب الفشل، ربّما في الاندماج بالمجتمعات المتحضّرة والحياة المدنية التي لا يتأقلمون معها، بل يصرّون على بقائهم أسرى تلك الأعراف والتقاليد التي عاشتها البشرية في عصور الظلام والتخلّف، والدولة ليس لها حكمٌ عليهم بسبب غياب القانون في مؤسساتها وضعف تطبيقه، هذا إن وُجد بعضٌ منها. كما أنّ الشخص الذي يتجرّأ لخطبة الفتاة "المنهى" أي التي نهاها ابنُ عمّها، لا يحقّ لأهلِه المطالبة بفدية أو ما يُسمّى ب"الديّة" في حالة تعرّضه للأذى أو القتل، لأنّ العشيرة التي ينتمي إليها ابنُ العم الناهي، غير ملزَمة بدفع التعويض إلاّ مِن باب الإرضاء لأهل القتيل والعشيرة، لأنّ دمَه مهدور منذ "نهوة" الفتاة المسكينة.
   كما يشيع زواج التبادل المصلحي بين العوائل والعشائر، بمنحها هديةً وإكراميًة لضيفٍ أو لأحد أبناء العشيرة دون أخذ رأيها، أو إنها تُعطى بالتبادل بما يُسمّى بزواج "الكصة بكصّة". وفي ذلك، تعسّفٌ للطرفين، وبخاصّة للفتاة التي تُجبرُ على زواج غير متكافئٍ في أغلب الحالات. بل إنّ كثيرًا من الأشخاص لم يُتح لهم التعرّف على زوجاتهم إلاّ في ليلة الزفاف. ناهيك عن زواج القاصرات، حيث تُحرم الفتاة القاصر من متعة عيش مرحلة طفولتها بسبب إجبارها للزواج من شخصٍ قد يكبرها كثيرًا وليس بينهما من مشتركات دنيا لقضاء حياتهما معًا.
   فيما استنبط بعض الشيوخ والدعاة وسائل جديدة لتسهيل حصول الرجل على متعته بوسائل عديدة، يشيعون بشرعيّتها. لكنها جميعًا، تحطّ من قدر المرأة وكرامتها، وتجعلُها سلعة رخيصة أمام رغبات الرجال، ومنها زواج المتعة حتى لو كان ذلك لساعة، والزواج العرفي وزواج المسيار وما ملكت ايمانُهم، الذي من شأنه فتح الباب على مصاريعه للزواج من أربع نساء شرعيًا، وغيرهنّ خارجه، وجميعُها ليست مكتملة الأركان، حتى لو قيل عكس ذلك. وآخرُ تقليعة تلك الفتوى التي تأمر وتحثُّ على نكاح الجهاد. وهذه كلُّها مفاسدُ وإباحةٌ غير أخلاقية، توغلُ في إلحاق الظلمِ بالمرأة وتحطُّ من قدرها ومن كرامتها، وتحرّمُ عليها حرّيةَ الاختيار والتعبير عن رأيها الإنساني ككائن بشري من لحمٍ ودمٍ.
   يشير رجل الدين الشيخ محمد النصراوي، أحد أئمة المساجد في مدينة الشعب، "أن الدين الاسلامي قد نهى عن مثل هذه السلوكيات، لأنها خارج حدود الشرع الذي لم يقرّ بها، لكون الزواج لا يمكن أن يكون بالإكراه، بل بالرضى وموافقة الطرفين. ويضيف، إنّما هذه عادات أوجدتها العشائر وهي تقاليد بالية تعود لأيام الجاهلية. ومن المؤسف أنّ أغلب الزيجات في المناطق العشائرية تتمّ بهذه الطريقة تحت تهديد الأهل وخوف الفتاة. ومِن هذا المنطلق، لا بدّ من تشريع قوانين مدنية صرفة تنهى وتمنع مثل هذه التصرفات والسلوكيات، وكي تحدّ من استفحال مثل هذه الحالات التي تتكرّر بسبب غياب القانون وارتفاع صوت العشيرة والقبيلة على صوت الدولة والقانون"3. وقد نرى في كلام هذا الشيخ الجليل، شيئًا من الاحترام لخيار المرأة، إلاّ أنّ واقع الحال هو عكس ذلك تمامًا، عندما تعلو كلمة الأب والعائلة والعشيرة والقبيلة على كلّ الآراء والخيارات. حينئذٍ، تذهب كلّ هذه التمنيات والإيحاءات أدراج الرياح، وما على الفتاة المسكينة والمغلوبة إلاّ الرضوخ للفعل تحت سطوة القوة الجبارة التي تتحكم بها دون رغبتها.
    ناهيك عن المشاكل التي يفتعلُها أصحاب هذه الأفكار المتخلّفة في حالة رفض الفتاة الاقتران الاضطراري بهذه الأساليب القسرية الجائرة وغير الحضارية الشائعة في عدد من التقاليد العشائرية التي ما تزال جارية في مناطق عديدة من البلاد. فالتهديدات باستخدام أعمالِ عنف، بل والقتل أيضًا، شائعةٌ هي الأخرى، وبدم بارد جدًا. كما هي عليه الحال فيما يُسمّى بحالات غسل العار التي تذهب المرأة ضحية غيرها، حتى وإن لم تكن قد اقترفت ذنبًا أو فعلتْ ما يدّعيه أهلُها وعشيرتُها، حين يعدّونها عارًا وجب قتلُها بسببه. وهذه الآفة الأخيرة، قد ازداد رصيدُها في الآونة الأخيرة ولاسيّما في مجتمعات منغلقة لا تقرُّ ولو بحرّية جزئية للفتاة في مجتمعها. وتشير تقارير حقوق الإنسان، إلى انتشارها في المجتمع الكردي في شمال العراق، ولاسيّما في السليمانية وفي أوساط المجتمع الإيزيدي أيضًا، حيث تبيّن أن المسار الأفضل لغسل العار هو قتل الضحية، أي المرأة التي ارتكبت الفعل الجنسي، حتى لو كان برضاها ورضا شريكها.
إن الحديث عن العنف ضدّ المرأة، له بداية وليست له نهاية. فالعنف الذي يطال المرأة ذو أشكالٍ وأنواعٍ متعددة. فهو عنفٌ نفسيٌّ وجسديٌّ ومعنويٌّ وأخلاقيٌّ واجتماعيّ، في الأسرة وفي الشارع وفي العمل وفي الدائرة وفي السفر، مع ما يلحق ذلك من إذلالٍ وتشويه للسمعة وأفعال اغتصاب وتحرّش واستلاب قهريّ للفكر والرأي والرغبة والإرادة. وما أكثر النساء اللواتي اضطررنَ للعمل بالتسوّل أو بأعمال دونيّة لا تليق بهنّ، فقط من أجل توفير لقمة العيش للأسرة والأبناء.
إسقاطاتٌ واستلابات:
    ألمرأة، إناء مقدَّسٌ مخلوقٍ من الله، تمامًا كما هو الرجل، كما سبق أن قلنا. وهي تستحق كلَّ الاحترام وأن تتمتّع بكل الحقوق، داخل وخارج المنزل وفي كلّ مرافق الحياة دون تمييز. لذا، ومن هذا المنطلّق، كان لابدّ من تغيير في العقلية الاجتماعية والذهنية الدينية التي لا ترقى مثلاً، إلى اختلاط بين الجنسين، والتي ترى فيه فتنة وانتهاكًا لكرامة هذا الكائن الضعيف بحجة حمايتها من نظرات الرجل الزائغة وسطوته عليها، رغم أنها أشبه بزهرة متفتحة في حديقة كبيرة تجمع زهورًا وأورادًا، مِن حق جميع الخلق أن يمتّعوا النظر البريء فيها. إلاّ أنّ الحاصل، أنّ مثل هؤلاء الدعاة المرائين، هم أنفسُهم مِن ذوات الأفكار الشرّيرة والنظرات الزائغة، التي تُلهب فيهم شهواتٍ حيوانية لا رادعَ عندهم عليها بسبب المرض الذي يستفحل وسط مجتمعاتهم المريضة أصلاً. كما أنّ هؤلاء أنفسَهم، يشكّلون فى مرحلة ما، إحدى العقبات الأساسية لانتشال المجتمعات المتخلفة من براثن الجهل، بل يقفون عقبةً أمام أيّ جهدٍ للتغيير بسبب ما تعرض له العنصر النسائي من استلاب لإنسانيتهنّ وحقوقهنّ في المجتمع. فالمرأة، هي التي يقع عليها عادة الظلمُ الأكبر ويفرض على كيانها القسطُ الأوفر من الاستلاب، من خلال ما تتعرض له من تسلط وما يفرض عليها من رضوخ وتبعية وإنكار لوجودها وإنسانيتها وحقها في التعبير عن رأيها وخياراتها.
   ولعلَّ من الأمور التي اعتدنا عليها في مجتمعاتنا، القيام بإسقاط كلّ أنواع الفشل أو العجز في تحقيق الذات والنجاح في المشاريع وفي الحياة، على المرأة "الحائط المنخفض" لدى المجتمع الذكوري. وهناك مَن يجعلُها بل ويحدّدُها كمعبر وجسرٍ لمختلف النزعات التي تحوم حول بعض الرجال، فيقومون بإسقاطها على غيرهم، ولاسيّما على المرأة في المنزل التي عليها تحمّل مثل هذه التبعات صاغرةً، إنْ لمْ تجد ما يعينُها على الإفلات من غضب السيّد الآمر والناهي في المنزل.
   بهذا الصدد، يقول مصطفى حجازي في نفس المصدر السابق" إنّ الرجل، يتهرب في أحيانٍ كثيرة من مأزقه بصبّ جامِ غضبه على المرأة من خلال تحميلها كلَّ مظاهر النقص والمهانة التي يشكو منها في علاقته مع الغير، ولذلك يُفرض على المرأة أكثر الوضعيات غبنًا في المجتمع المتخلف، لكونها تصبح محطَّ كل إسقاطات الرجل السلبية والإيجابية على حد سواء. وهي تُدفع نتيجة لذلك الى أقصى حالات التخلف، ولكنها من هوّة تخلفها وقهرها ترسّخ تخلّفَ البنية الاجتماعية".4
   وهناك ظاهرةٌ أخرى، لا تقلّ انتقاصًا من حق المرأة، إذ تعدّها بعض المجتمعات الذكورية ضمن خانة ملكيّة الرجل، الذي يتملّكُها كلّيًا، وهي بذلك قد حُرمت امتلاك نفسها وجسدها وكيانها، اي أنها حُرمت من فرصة أن تكون شخصًا استقلالياً يحظى ولو بجزءٍ من إرادته الحرة في القرار وفي الحياة، أي شخصًا حرّا  قائمًا بذاته، كما صنعَهُ الخالق. والخوف، أنْ تصدّق المرأة أنّ هذا التملّك من جانب الرجل هو قانون للطبيعة أو شيءٌ يفرضه الدّين أو المذهب أو المجتمع بسبب التهديدات التي تلقاها أو الإشاعات الدينية والعرفية التي تحشوها في عقلها المتقبّل لمثل هذه الأفكار. والأنكى من ذلك، في حالة كونها غير واعية لحقيقة حقوقها، أن تقوم بنقل مثل هذه الأفكار المتخلّفة خطأً، في نفوس أطفالها ومَن حواليها بشيءٍ من الخرافة والانفعالية المفرطة والرضوخ للأمر الواقع والحثّ على القبول به لكونه نازلٌ من عند الخالق ويأمر به الشرع.
   إن مثل هذا التخلّف والنقص في الوعي، كلُّه يوقع المرأة في وضعية حرجة وفي حالة تناقض مذهل بين اختزال كيانها إلى مجرد جسد جنسيّ، وما يمكن أن يفرضه القمع المفرط الذى يُفرض على هذا الجسد وعلى إمكاناته التعبيرية. ويزداد الموقف حدة والتناقض عنفًا نظرا لموقف الرجل الذي يبقى الآمر والناهي والمتحكِّم في الوضع. فهو، من جهة ينجذب نحو الجسد الذى يضجّ بالحياة والجاذبية، لكنه لا يتحمل مسؤولية نتائجها في أحيانٍ كثيرة، إذ تقع المسؤولية على المرأة، بل ويقع الجرم كله عليها، وعليها أن تتحمّل نتائج ذلك الفعل.
   كما أنّ المرأة، قد تكون ضحية عدد من أنواع الاستلاب، إلى جانب ما ذكرناه في الفقرة السابقة. فهناك أنواعٌ من الاستلاب التي تجعل المرأة كائنًا ضعيفًا معرَّضًا للميول والتأثيرات العديدة التي تنتهك كرامتَها وتقلّل من قيمتها الآدمية. فالاستلاب العقائديّ، في رأي العديدين، هو الأكثر إيذاءً للمرأة والأكثر خطرًا على شخصيتها وكيانها. هنا يمكن أن تقع المرأة في فخّ الأساطير والاختزالات التي يحيطها بها الرجل المسيطر عليها والذي تملّكَها، فتتقبل مكانتَها خانعةً وترضى بوضعية القهر الذى تعانى منه، كجزء من طبيعتها، اي بعبارة أخرى، يترتبُ عليها أن ترضى بما آلتْ إليه وأن تتكيَّف بوجودها بحسب ذلك. وهذا التغيير في حياتها، يُعدُّ خروجًا على طبيعة الأمور وعلى اعتبارات الكرامة والشرف عندها. لذلك فهو أخطر بكثير من أنواع الاستلاب الجنسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره، بحسب البعض من الاختصاصيّين الاجتماعيّين.
   باختصار، نرى أنّه من المؤسف هنا، أن تتحول المرأة إلى مجرد جسد خاوي من الآدمية الحقيقية وحاوي لكلّ العقد والمشاكل والتصورات والمخاوف والرغبات والإحباطات المكبوتة التي تسيطرُ عليها. وفى كل الأحوال، فهي محرومةٌ، إن شاءت أمْ أبتْ، من الاعتراف بوجودها ككائن قائم بذاته، لاسيّما حين تُستخدم كوسيلة للتعويض عن النقص الذي تلقاه من جانب الرجل المقهور اجتماعيا.
دور منظمات المجتمع المدني:
   لقد ساهمت منظمات المجتمع المدني في العراق بدورها، برفض المنهج المعادي لتطلّعات المرأة العصرية وفضح مساوئه والمطالبة بإنصاف النساء في الدستور الذي ظلمهنَّ حقوقهنّ وكرّس عملَهنّ في معظمه لصالح الرجل القوّام عليها. فهذا تمامًا، ما أوحتْ لهم مشاربُهم الدينية ومناهجُهم المذهبية ومصالحُهم الضيقة التي لن تنجح، طالما تقف وراء مثل هذا المشروع إرادةٌ نسائية قوية تتشبثُ بحقها وصيانة كرامتها وحقها بالمشاركة في كلّ أشكال الحياة العامة، أسوةً بالرجل، نصفها الآخر ورفيق حياتها مهما تجبّرت إرادة الظلم والتخلّف بحقها.
   في تقرير مشترك صدر في 2010، لمجموعة حقوق الأقليات الدولية ومقرُّها لندن، ومجلس الأقليات العراقية بالعراق، تمّ تسليط الضوء على ما تعانيه النساء عامة ونساء الأقليات بصورة خاصة من مستويات عالية من العنف المستند على الجنس، بضمنه العنف الجنسي والتهديد وأعمال الترهيب، وما يلحقها من اغتصاب بدون اللجوء إلى العدالة المفقودة في هذا البلد منذ حين. مثل هذه الأعمال، تهدّد كيان المجتمع وتحدّ من حرية حركة المرأة فيه. وقد اشار التقرير المستقلّ إلى أنّ 69% من المشاركين في استبيان أقيم لهذا الغرض، يعتقدون بوجود تحديدات على حرية حركة النساء في عموم العراق5. وهذا من شأنه ايضًا أن يقلّل من فرص حصول المرأة على الخدمات التي تحتاجُها، الصحية والمنزلية والتعليمية وفي العمل أيضًا، إن كانت تعمل. ويؤكد هذه البيانات، مجاميع كثيرة من منظمات عاملة في مجال حقوق الإنسان، التي تشير إلى ظاهرة الخوف المستشري من مغبة خروج المرأة خارج المنزل، ولاسيّما المتحرّرة منها والتي تؤمن باستقلاليتها ككائن قائم بذاته.
   هناك معضلة أخرى، كشفتها تقارير عدد من منظمات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان العاملة في العراق، وهي كثرة الأرامل نتيجة حروب متعاقبة وأعمال قتل واغتيالات حصلت بعد 2003.  وهناك العديد من الأسر التي تتولى رعايتَها نساء في غياب رجل البيت، لأسبابٍ عديدة، تدخل ظاهرة الطلاق المتزايد من ضمن أسبابها، ولاسيّما في السنوات الأخيرة التي تفككت فيها أسرٌ كثيرة. وهذا بحدّ ذاته يجعل المرأة فريسة سهلة للابتزاز من أجل تأمين لقمة عيشها وملجأً للسكن. وقد دعت منظمات مجتمع مدني عديدة، السلطات الحكومية لتأمين حياة مقبولة للأرامل والمطلّقات والعوانس بهدف تحديد تعرّضهنّ لحالات الابتزاز وصون كرامتهنّ وعدم الانزلاق وراء ظاهرة البغاء والدعارة التي تنامت، ولو في الخفاء، ومنها اللجوء والقبول بالزواج العرفي أو زواج المتعة التي كثرت ودخلت المجتمع العراقي مع نهاية القرن المنصرم وتعزّزت بعد أحداث السقوط في 2003. وتشير عدد من التقارير، أن العديد من النساء يوافقن على هذا النوع من الزواج بدافع الحاجة المادية والفاقة المتزايدة لمجابهة الحياة المعيشية الصعبة، رغم أنّ هذه الزيجات غير الشرعية لا تعطي ضمانات أو حماية مجتمعية. وهذا مناقض لمعاهدة "سيداو" الدولية، التي تنص على حماية النساء اللواتي يواجهن تمييزًا في الزواج وفي العلاقات العائلية.6
خلاصة:
      ما يمكن قولُه، أنه رغم انتشار التعليم وبلوغه درجات متقدمة في الدراسة لدى شرائح عديدة، إلاّ أنّ الخرافة والتقليد والعرف العشائري مازالت تعشش في أعماق نفسية الإنسان العراقي كجزءٍ من المجتمع العربي والإسلاميّ عمومًا. وهذه الممارسات ماتزالُ تؤثر على ممارسته ونظرته للأمور المصيرية ولاسيّما تجاه المرأة، التي تبدو مغلوبة الإرادة في مجتمع ذكوريّ واضح. وهذا دليلٌ على أنّ التعليم ظلَّ في الكثير من الأحوال قشرة خارجية تنهار عند الأزمات. فالإنسان العراقي، كما يصفه د. علي الوردي، مزدوج الشخصية، وهي ذات الازدواجية القائمة لدى الإنسان المتخلّف الذي يعاني من انفصام أو انشطار في شخصيته، ما ينعكس على تصرفاته تجاه المجتمع ولاسيّما تجاه نصفه الآخر الذي ينتقص من حقوقه وكيانه ويسلبُ استقلاليتَه الفطرية التي غيّبَها المجتمع بسبب الشرع والفتاوى التي تؤيّد تسيّدَ الذكورية في الدين الإسلامي الذي يحكم المنطقة ويريد التحكّم بالعالم أجمع.
   من هنا، لا يمكن للمجتمعات أن تتقدّم وتتطوّر بسيادة مثل هذه الأفكار المتخلّفة التي ترفض القبول باستقلالية الجنس الآخر الذي يشكل نصف المجتمع. كما لا يُمْكِنُ للمجتمعات أن تتطوّر وتتقدّمَ، إلاّ بتغيير عقلية الرجل كي تتسايرَ مع تطوّر الأحداث والمجتمعات ومع التفتّح نحو الآخر، حتى لو اختلفَ معه في الفكر والدّين واللون والعرق. وهذا الأخير، اي الرجل، لا يمكنه هو الآخر أن يتحرر ويتطوّر إلا بتحرر المرأة التي هي نصفه الآخر. وباختصار، لا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلاّ بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غُبنًا، وهي المرأة المقهورة دومًا في المجتمعات المتخلّفة ومنها الإسلامية عامة وليس على وجه الحصر. ف"الارتقاء إمّا ان يكون جماعيًا عاماً، أو هو مجرد مظاهر وأوهام"، بحسب المفكر مصطفى حجازي.7 ف"لا تطوير مجتمعيّ، دون تغيير وضعية المرأة، ولا تغيير لوضعيتها دون تمزيق حجبُ الاستلاب العقائدي الذي يمنع عنها رؤية ذاتها، ورؤية العالم على حقيقته". 
   ومن المؤسف في مجتمعاتنا، أنّ المرأة التي تنبغ تُسحب منها صفة الأنوثة، بسبب شيوع أنّ التفوق والنبوغ صفةٌ للرجل حصرًا. فإذا ما أثبتت امرأةٌ ما نبوغَها بما لا يدع مجالًا للشك، حتى لو اعترف المجتمع بنبوغها، فإنّه يسحب منها شخصيتها كامرأة ويضمّها إلى جنس الرجال.
   نضالُ المرأة شاقٌّ وطويلٌ، ومن حقّها البحث عن هويتها وتكوين شخصيتها وتمتّعها بكافة حقوقها. إلى ذلك اليوم الذي سيتحقق حلمُها، يقف معها أصحاب الفكر المتحرّر ويدعمون خياراتها كي تجد مكانتَها التي تليق بها والتي بموجبها خلقَها الله نصفَ المجتمع لتعكس وجهَهُ الحسن.
المراجع:
1-   التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور/ د. مصطفى حجازي/ المركز الثقافي العربي 2013
2-   محمد باقر الصدر: مقدمات للتفسير الموضوعي للقرآن، ط 1، بيروت 1400هـ ، ص 129 – 152.
3-   "ألنهوة، ظاهرة تبحث عن تشريع قانوني رادع"- مقالة نشرتها جريدة الصباح/ الثلاثاء12 تشرين ثاني 2013
4-   التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور/ د. مصطفى حجازي/ المركز الثقافي العربي 2013
5-   تقرير مشترك/ المجموعة الدولية لحقوق الأقليات ومجلس الأقليات العراقية/ ممتاز لالاني/ 2010
6-   بيانات لمعاهدة سيداو، آذار 2010
7-   التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور/ د. مصطفى حجازي/ المركز الثقافي العربي 2013



لويس إقليمس
بغداد، في 6 آذار 2014
بحث أكاديمي/ أكاديمية بغداد للعلوم الإنسانية- بغداد

341

هل يفلح رفض الشعب
ما افسدهُ النواب في قانون التقاعد الموحّد؟

   يوم السبت الماضي 15 شباط، تظاهرَ الآلاف من العراقيين في قضية عامة تخصّ خيانة الثقة التي أولاها الناخبون للنواب، والتي تكلّلت دورتُهم المقاربة للانتهاء، بإصدار قانون التقاعد الموحد الذي طال انتظارُه. إحدى عشرة محافظة تنتفض بحدّة ضدّ امتيازات أُقرّتْ للرئاسات الثلاث، مرّرتها كتل نيابية وسياسية عبر إقرار امتيازات خيالية للرئاسات الثلاث، بتعديل المادتين 37 و38 من القانون المذكور، بالتوافق وبطريقة مخادعة وبأسلوبٍ مسرحيّ لا يخلو من الضحك والبكاء معًا، في غفلةٍ من الشعب الصابر البائس. وإنّي أتفق مع النائب الذي قامت الدنيا ولم تقعد ضدّه، عندما وصف الشعب العراقي بالبائس في أحد الأيام. فالأخير، أي الشعب الذي وصفه العالم الاجتماعي الكبير "الدكتور علي الوردي"، بتميزه بازدواجية الشخصية، وبالرغم من الوقائع والحقائق التي تنجلي أمامَه قبل كلّ دورة انتخابية، إلاّ أنّه ما زال يقع في ذات الهفوة وذات الخطأ القاتل عندما يعيد انتخاب نفس الوجوه التي لم تجلب له سوى التخلّف والبؤس والفقر وتردّي الأوضاع المعيشية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والخدمية، بل والتراجع في كلّ مرافق الحياة. فالحكومة منذ تشكيلتها الثانية وما قبلها، ما تزال تدخل وتخرج في دوّامةٍ مِن أزمات متلاحقة. فماذا حصد هذا الشعب من دورتين انتخابيتين متتاليتين، غير خيبة الأمل والتراجع ومزيدًا من الضياع وهدر المال العام والاستخفاف بإرادتِه؟
   لعلَّ المبرّرات التي ساقها بعض النواب والمسؤولين في الدولة وتفنّنوا بشرعنتها حينما أدخلوها في خانة "الخدمة الجهادية "وباستحقاقهم إيّاها وفق الدستور والقانون الذي صاغوه على مرامهم ووفق قياساتهم ومعاييرهم، وليس وفق ما تمليه عليه ضمائرُهم وحسُّهم الوطني غير النابض بالحياة، كما يبدو. لقد حملت بعض اليافطات المرفوعة في تلك التظاهرات، شعاراتٍ قاسية تجمع بين "مسلّحي داعش الذين يقتلون" و"النواب الذين يسرقون". إنها لمقاربَة ومقارنة مذلّة في توصيف العلاقة بين الاثنين. فالانتفاضة قد نالت من هيبة هذه المؤسسة التشريعية ومن قدسيتِها، مِن حيث اتهامها بخيانة الأمانة وسرقة ثروات البلاد بطرق ووسائل مخادعة. وحيث إنّ القانون الذي أخذ طريقَه للمصادقة عليه من قبل الرئاسة، رأى فيه الكثيرون من المنتفضين الشجعان التفافًا على إرادة الشعب، لذا طالبوا النواب بردّ ما سرقوه وبإلغاء هذه الامتيازات غير الدستورية وغير المشروعة. كما سبق وذهبت إلى ذلك المحكمة الاتحادية والمرجعية الدينية الرشيدة التي ضربت مثلاً في الإباء والحكمة والإنصاف. ولمزيد من التندّر ومن وفاء الشعب لممثليهم في البرلمان والرئاسات الثلاث، فقد نسّق المتظاهرون ونظموا حملة جمع تبرّعات لأصحاب الرواتب الإسطورية في الرئاسات الثلاث، علَّها لا تكفيهم، كما سبق أن أعلنت إحدى الشخصيات النسوية في أحد مجالس المحافظات، مِن أنّ مرتّبها الشهري لا يكفي وهو ينفذ مع منتصف الشهر! ولمزيد من السخرية، اختصرتْ إحدى الشعارات ميزات نائب الشعب بثلاث: "إذا تحدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا عاهدَ خان"!
   إنّي أعتقد، أنّ هذا القانون، إنْ تمّ إقرارُه من قبل رئاسة الجمهورية، وهذا ما أتوقعه مثل غيري، من شأنه أن يكون القشّة التي ستقصم ظهر البعير، وتعِدُ بتحوّلاتٍ غير مسبوقة. أمّا بداياتُها، فقد تمثّلت – إنْ صدقتْ- بصحةّ قرار السيد مقتدى الصدر باعتزال الحياة السياسية، ليقول كلمة "لا" لما يجري من إجحاف واستهتار بحقّ مقدّرات الشعب ومطالبه المشروعة وتنديده بشلّة الفساد والمتاجرين بمصالحه وحقوقِه. في حين رأت قياداتٌ سياسية أنَّ اعتزال السيد الصدر الحياةَ السياسية كارثةٌ، وهي ناجمة بسبب العملية السياسية البائسة وتردّي الأوضاع الأمنية. كما أنّها تصبُّ في مصلحة الحكومة الحالية التي تسيطر على مقاليد السلطة بأسنانها. إنَّ اتفاق السلطات الثلاث للالتفاف على قرار المحكمة الاتحادية الرافض للامتيازات التقاعدية الخاصة والمتجاهل لرأي المرجعية الدينية الرشيدة والضارب إرادةَ الشعب الذي انتفض زائرًا كالأسد، تأكَّدَ افتقادُ هذه السلطات للحسّ الوطني الذي يُفتَرض توفرُه لدى نواب الشعب خاصةً، حين اختارهم لتولّي مهمّة تمثيلِه والحرص على مصالحه الوطنية العليا قبل أية مصلحة ضيقة وخاصة. وإنْ حصل ذلك وتمّ تمريرُه رغم أنف الجميع، فهذه سابقة خطيرة، ولن يكون أمام المثقفين ومنظمات المجتمع المدني والتكنوقراط وكلّ وطنيّ شريف، سوى تحشيد طبقات الشعب كافة، بمن فيهم شريحة المتقاعدين والمقهورين الذين يتقاضون فتات الرعاية الاجتماعية والموظفين الصغار كي يهبّوا بوجه أدوات الفساد ويعلنوا اعتصامَهم المفتوح بوقفة احتجاجية، كما فعلها الشعبُ المصريّ الأبيّ وعرفَ انتزاعَ حقّه رغم الهجمة الشرسة التي كانت التفّت عليه من القوى الانتهازية بدعم من الموساد والطغيان الأمريكي، عدوّ الشعوب المستضعفة!
   بعيدًا، عن كلّ أشكال الرفض التي توالت ضدّ تمرير المادتين الخلافيتين، كان الأجدر برئاسة البرلمان ورؤساء الكتل والنواب على السواء، أن يصغوا لرأي اللجان البرلمانية التي حذّرت من ارتفاع عجز حقيقيّ بموازنة هذه السنة بنسبة 35% التي تُقدّر ب 174 ترليون، بحسب أحد النواب باللجنة الاقتصادية. وبالتأكيد، سيزداد العجز سنويًا مع إقرار قانون امتيازات الرئاسات الثلاث التي ستثقل كاهل الاقتصاد الوطني، إلى جانب ما ستحصل عليه المحافظات المنتجة والمكرّرة للنفط والغاز في إطار قانون البترودولار. هذا، إذا ما أُضيفت إليها ما يُسمّى باستحقاقات السجناء السياسيين وعددٍ من المؤسسات التابعة للأحزاب المتسلّطة التي تنهب كلٌّ مِن جانبها جزءًا مهمّاً من ميزانية الدولة السنوية بحجة الغبن الذي لحقها في الزمن الماضي. إنّ هذه المؤشرات جميعًا تنذر بشؤمٍ وبتدهور اقتصاد البلاد وسقوطه في الهاوية، لاسيّما إذا علمنا أن السقف الانتاجي للنفط الوطني، من الصعوبة بلوغُه الكميةَ التي يتوقعها أصحاب القرار حينما وضعوا موازنة وهمية وفق تصوّر إنتاجيّ خياليّ عسير التحقيق، وفي حالة أصرّت حكومة كردستان عدم وضع مسألة تصدير نفطها تحت سيطرة الدولة الفدرالية. وهذا العجز في الموازنة لهذا العام، سيكون قياسًا لعجزٍ متكرّرٍ سنويًا، ما يضطرّ الدولة للتقليل من المبالغ التي يحتاجُها البلد للاستثمار والتنمية ومشاريع الخدمات، ولاسيّما ما يتعلّق بالبنى التحتية التي تراجعت بسبب التقادم وكذلك بسبب أداة التخريب التي طالتْها من الإرهاب ومن العبث البلدي الذي غايتُه إعلان تنفيذ مشاريع ناقصة وإحالة عقود على شركات وهمية وغير رصينة غايتُها الاستئثار بالمال العام.
   بإقرار القانون على وضعه الحالي، ستكون الحالة قد وصلتْ إلى قطيعة بين الشعب وممثليه. فقد بدا الغضب وأدوات الاستهجان المتنوعة التي أظهرتْها وسائل الإعلام التي غطّت تلك التظاهرات، من خلال السخرية الشعبية التي أظهرتها شعارات وكتابات لاذعة نالت من جميع النواب ومَن لفَّ لفَّهُم من المناصب الخاصة بالرئاسات الثلاث. بهذه الوقفة الغاضبة، إن تواصلت كما فعلها الشعبُ المصريّ المغامر، يكون المسؤولون المعنيون بتمرير القانون بصيغته الحالية قد وُضعوا على المحك بعد كسر حاجز الثقة بينهم وبين طبقات الشعب التي وجّهت صفعةً للنواب أولاً، من الذين خانوا الثقة وأعادوا لدغهم للأحرار في غفلةٍ منهم.
   لقد كان الأجدر بالقانون المذكور أن ينصبَّ على إنصاف شرائح متهالكة  "تعبانة" من الشعب ممّن أهدروا سنيّ عمرهم في خدمة الدولة، لا أنْ يكرّس مصلحة فئة قليلة سعت لتثبيت مصالحها الخاصة قبل كلّ شيء بإعطائها الحق بتشريع قوانين تتيح لها الاحتفاظ بمنافع إسطورية للرئاسات الثلاث المتسلّطة على الشعب المغلوب على أمره من حكّامه المراهقين دون رقيب.
   ولكي تكتمل المسرحية، ويؤدّي كلّ فريقٍ دورَه، بدءًا مِن اللجنة التي  اجازت لنفسها تشريع المادتين في هذا القانون، إلى توافق الكتل السياسية لتمريره، وقراءته في مجلس النواب القراءة الأولى ثمّ الثانية، والتصويت عليه، خرج إلينا نوّابٌ تنصّلوا مِن الموافقة عليه. وساد الهرج والمرَج، حين تسارعتْ كتلٌ سياسية ونوابٌ بتبادل الاتهامات والتلاسن  والتخوين على الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. وهم كما يبدو، مطمئنّون برغم هذا وذاك، أن القانون ستصادق عليه الرئاسة بحجة أن ممثلي الشعب هم الذين صوتوا لصالح تمريره، ومن ثمّ، فهو في عهدة الشرعنة. والأيام القوادم، ستكون حبلى بما لا نتوقعُه من أحداثٍ مع اقتراب موعد الانتخابات. فهل سيُلدغُ الحرّ من جحره للمرة الثالثة؟


لويس إقليمس
بغداد، في 16 شباط 2014

342
المسيحيون في أجندة محافظة سهل نينوى

   توالت ردود أفعال متباينة حول الموافقة المبدئيّة لمجلس الوزراء باستحداث محافظة لسهل نينوى، اسوةً بمناطقَ أخرى، حيثُ كنتُ قد تطرّقتُ إلى هذا الموضوع في مقالة سابقة، وأكملُه بهذه المقالة بوجهة نظر حول وضعية المسيحيين في خضمّ هذا التشكيل الجديد. هناكَ مَن صفّقَ لمثل هذا القرار المتسرّع، وهناكَ مَن يُطالب بالتأنّي لحين توافر الشروط والظروف الملائمة لتحقيق هذا المطلب المشروع ضمن المعايير والسياقات الدستورية، بحيث يحفظ وحدة الأرض العراقية ويصون هيبتَها ويعزّز من هامش الحرية والديمقراطية فيها، لا أن يعرّضها للتهلكة والتشظية والتفكيك.
   ولكون سهل نينوى، ذا خصوصية تكوينية بسببٍ من فسيفسائه الديني والعرقي والمذهبي، شأنُه شأن كركوك التي تعاني انقسامًا وتناحرًا صعبَ التفاهم بين المكوّنات التي تسكنُها والتي تصطدمُ دومًا بالرغبة الملحّة من جانب الكورد بضمّها إلى دولتهم المزمعة. لذا نتوقع صراعًا مماثلاً مع مقترَح تبنّي مشروع استقطاع هذا السهل من محافظة نينوى، والذي يدين عمومًا "بثقافة عربية" مع خصوصيات ثقافية ودينية لكلّ مكوّن فيه، إضافة إلى القرب الجغرافي لبعض قصباتِه من مركز المحافظة، وتباين الآراء بشأن رغبة الجانب الكوردي أيضًا بضمّه إلى دولتهم العتيدة بدعمٍ من المرتزقة المستفيدين من مثل هذا المشروع في المنطقة ومن الأُجَراء مدفوعي الثمن.
   في مقالة سابقة، قلتُ إنّ من حقِّ أية منطقة تستشعرُ خطرَ إهمالِها وتهميشها خدميًا وسياسيًا واقتصاديًا، أن تطالبَ بإنصافِها ومعاملتِها على قدم المساواة والعدل مع غيرها. ونحنُ في سهل نينوى، عانينا الأمرّين من إهمالٍ حكومة المركز ومِن نظرة استعلائية مِن جانب حكومة نينوى المحلية ، سواءً أيامَ النظام البائد أو بعد الاحتلال الأمريكي في 2003. وبسببٍ من ذلك، صدرتْ مطالبات كثيرة من جهات ومرجعياتٍ عديدة، دينية وسياسية وحزبية ومن منظمات مجتمع مدني ومثقفين مستقلّين، وكلُّها كانت تصبّ باتجاه إنصاف مناطقنا المسيحية من خلال المطالبة بشيءٍ من حكمٍ  ذاتيّ يرفعُ من شأنِها ويمنحُها ما تستحقُّه من رعاية واهتمام وتنفيذ مشاريع استثمارية وخدمية، هي أهلٌ لها، بسبب أصالتها وتجذّرها في الأرض وكذلك بسبب كفاءة أبنائها وولائهم الدائم للوطن. وهذا ما لا يستطيع كائنٌ مَنْ كانَ أن ينكر مثل هذه الحقائق بحقِّها.
جغرافية غير متناسقة   
   لكن هذه الرغبة الملحة من جانب البعض من المتسرّعين للرقص على أوتار ما يحلمون به من مناصب ومكاسب فيما بين المتنافسين التقليديين للحصول بل لتثبيت على موطئ قدم في مناطق لا تمتّ لهم بصلة من حيث الجغرافية والديمغرافيا المتعارفة مناطقيًا، وإذا ما أُضيف إلى هؤلاء ما استجدَّ من  كيانات سياسية مسيحية مستحدثة مؤخرًا طابت لها العملية السياسية وسال لها اللعاب، هذه الرغبة قد تصطدم بمعوّقات وصعاب ليست في بالهم. فإنّه لكون المنطقة المرادُ استقطاعُها من جغرافية محافظة نينوى متباعدة فيما بينها و تقع على خطّ طوليّ غير متناسق في مناطقيّته الجغرافية، فهذا قد لا ينسجم بل يتعارضُ مع التشكيل الجديد. ولكون هذه المنطقة أيضًا مسكونةً من مكّونات مختلفةٍ عرقيًا ودينيًا ومذهبيًا، فإنّها تتطلّبُ مزيدًا من الرويّة والاستكانة والتفكير والهدوء لغاية انجلاء الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها البلد أمنيًا وسياسيًا. والسبب في ذلك، أنّ البلاد مقبلةٌ على استحقاقٍ انتخابيّ، ربّما سيكون مصيريًّا، نأملُ من خلالِه تغييرًا في القيادة السياسية والعسكرية والأمنية، والتي فشلت الحكومة الحالية بتأمينها لولايتين متتاليتين بسببٍ من ضعف تشكيلتها المحاصصية بالأساس، ونهجها الذي طبعتهُ سياسةُ الطائفية والفساد والتغطية على الفاسدين والمفسدين وكذا في التعيينات وتولية المناصب في الدولة وعدم إنصاف المستحقّين. ونحن لا ننكر أنّ من ضمن الأسباب التي تقف وراء فشل الحكومة الحالية، إضافةً إلى ما سبق، تقف التوافقات السياسية غير المجدية والشراكة الحكومية الفاشلة والمحاصصة المقيتة التي شلّت دور مؤسسات الدولة وأبعدتها عن الاحترافية ومحاسبة المقصّرين  ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
   إنّه وبالرغم من اعتراف الجميع، ساسةً ومثقفين ومراجعَ متعدّدة بفشل هذه السياسة، والمطالبة بحكومة أغلبية تقابلُها معارضة فاعلة وقوية لمراقبة الأداء الحكومي، إلاّ أنّ السياسيّين راوحوا في مقاعدهم وسط شلل شبه كامل للبرلمان الذي فشل هو الآخر بالقيام بخطوة استباقية لتعديل الدستور الأعرج و صياغة قوانين مدنية متوازنة مؤهلة لحلّ الإشكاليات الرئيسة القائمة التي ظلّت معطّلة لغاية اليوم، والتي بسببها استقوت أطرافٌ فاعلة في العملية السياسة على حكومة المركز وفرضتْ هذه أجندتَها على السياسة العامة للدولة بسببٍ من ضعف الحكومة الفيدرالية.
تباين الرؤى حسب المصالح   
   بالعودة إلى مشروع محافظة سهل نينوى المقترَح، لم يكن المكوّن المسيحي بمنأى عن الإرباك الذي أصابَه وشقّ صفوفَه، أكثر ممّا كان عليه في سابق الأيام. فراحَ كلُّ فصيلٍ سياسيّ و حزبيّ يدّعي عائديّة هذا المقترح لكتلته وحزبه وتبنّيَه المطالبة بهذا الوضع أو مبادرتَه القيام بالإجراءات الأصولية لتنفيذ هذا المطلَب. كما توالت الاتهامات وتصاعدت أساليب التخوين بين الفصائل المسيحية المتكاثرة ك"الأميبا "، بين كلّ دورتين انتخابيّتين لتزيد من فرقتهم وتباين ولائهم لهذه الجهة أو تلك بحسب المصالح والأجندات والوعود. والحقيقة في بادئ الأمر، أنّ الجميع كان يهدف بحراكه السياسيّ والمجتمعيّ أنْ تحقّق المناطق التي تتواجد فيها تجمّعات مسيحيّة غايتَها بإدارة مناطقها ذاتيًا وبعيدًا عن التهميش والإهمال والنظرة الدونيّة السائدة تجاهَهم من الحكومة المحلية، كما هي الحال في البلدان المتحضّرة. فالتحديات كانت وستبقى كبيرة، وكذا الانتهاكات بحقّها، بشرًا وأرضًا وتراثًا ودينًا. فما شهدتْهُ وتشهدُه اليوم من انتهاكات ديمغرافية، قد وضعَ مصيرَها على المحكّ وحرّك غيرةَ العقلاء لإيجاد مخرجاتٍ معقولة تصون مناطقَها وهويتها الدينية والقومية والتراثية والثقافية، على السواء.
   إلاّ أنّه من ضمن التحديات التي تواجهُها، كونُ مناطق تواجد المسيحيين تقعُ وسط مكوّنات متعايشة معها منذ مئات السنين، وليست بمعزلٍ عن غيرها من الشعوب والأقوام والأديان. وهنا لابدّ من أسسٍ للتفاهم المشترك مع هذه المكوّنات دون فرض أجندة جاهزة تنغّصُ عليها هذه الفرحة. فالفصائلُ المسيحية، بأحزابها القائمة المتناحرة والمتنافرة طبقًا للأجندات التي يمثلها كلٌ منها، لا تستحقُّ قيادة مثل هذه المحافظة الخيالية، بسبب فقدان غالبيتها للمصداقية التوافقية من جانب الشعب المسيحيّ في هذه المنطقة وفي هذه الفترة بالذات. كما أنّ غالبيتَها، إن لم تكنْ جميعُها، لا تتحلّى بصفة الاستقلالية في الرأي وفي العمق الوطني وبرؤية صافية لمستقبل الشعب الذي تدّعي تمثيلَه، من حيث تبعيّتِها لأجندات أحزاب وكتل نافذة تريد الاستحواذ على هذا الاستحقاق بأيّ ثمن، رغمَ أن هذا الاستحقاق مكفولٌ للجميع من أجل إعادة بناء جميع مناطق الوطن على أساسٍ جغرافيّ وإداريّ وطنيّ ليصل إلى مصاف الدول المتحضّرة ويعيدَ أمجادَه بفضل ثرواته الهائلة من مادة ومعادن وحضارة ومن بشرٍ قادرٍ على البناء متى شحذ الهممَ واستفاق من غفوة الزمن الغادر.
   من هنا، ليس من المعقول، أن تختلف الفصائلُ المسيحية، حول أحقيّة تولّي أمر هذه المحافظة منذ الآن، لأنّ ولادتَها - إن حصلتْ- ستكون عسيرةً، من دون شكّ. وكما يقول المثل " خلّي نشوف الصبيّ، حتّى نصلّي على النبيّ". لذا في رأيي، أنّ ما يجري على صفحات التواصل الاجتماعي، وربّما حتى في وسائل الإعلام ومن انتشار دعايات ويافطات "تحمل ريحًا انتخابية" تقوم بها تشكيلات مسيحية منذ الآن، ليس صحّيًا ولا ينبئُ خيرًا، خاصةً عندما يتعلّقُ الأمر بمسألة مصير شعب وأمّة عانت من غدر وأطماع الجوار. كما أننا اليوم نخشى أن يقع مصيرُنا  فريسةً لكتل سياسية وجهاتٍ نافذة من خارج المنطقة تريد تجييرَ حقوق هذا الشعب، كلٌّ لمصالحِها بسبب هذا المشروع المقترح، سواءً من جانب إقليم كردستان الطامع بموقعها عبر ضخّ أموالٍ لأُجَرائِه مدفوعي الثمن مقدَّمًا أو من العرب والمكوّنات الأخرى من المتربّصين بهم وبمناطقهم الحيوية، مستغلّين طيبتَهُم وطبعَهم المتسامح وأخلاقَهم العالية وتفتَّحَهم وكفاءتهم وولاءَهم الذي لا يُعلى عليه. وممّا لا يخفى على اللبيب، أنّ الطامعين في مواقع ومناصب محافظة هذا السهل من خارج أهل المنطقة منذ أمدٍ، قد ازدادوا وتكاثروا وتفاعلوا وتقاطروا وتهالكوا وتهامسوا وتعاقدوا منذ الإعلان عن المقترَح، كي يكون لهم لقمة طيبةٌ في الوليمة، إن حصلتْ!

أحلامٌ وردية بفكّ العقدة   
   إذا كان اقتراح إنشاء وحدة إدارية جديدة على مستوى محافظة في سهل نينوى، قد حظي بدعم معيّن من قبل ممثلي شعبنا في البرلمان أو في مواقع أخرى وزارية أو مجالس محافظات ومنظمات مجتمع مدني ومستقلّين ومثقفين ورجال دين على تنوّع مشاربهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، فلعلَّهم- بحسب قراءتهم- يجدون فيه مفتاحًا لوقف نزيف الهجرة المتواصل، الذي سيستمرُّ بحسب رأينا، بالرغم من كلِّ هذا وذاك، شئنا أم أبينا، بمقتضى الظروف والتوقعات والأجندات. هناكّ مَن يحلم، رغم أنّ الحالمَ لا لومةَ عليه، بأن المشكلة قد حُلَّتْ والعقدة قد فُكِّكَتْ وصارت مناطقُنا من جنان فردوس لندن وباريس وجنيف وأوسلو ولوس أنجليس، ناسين أو متناسين أن استحداث مثل هذه الوحدة سيخضع لاختبارات عسيرة وستُمارس عليها ضغوطٌ من كلّ صوبٍ وأوبٍ من باقي المكوّنات، سواء  من أهل المنطقة أو القادمين الأغراب، في مسألة اقتناص مناصب هنا وهناك أولاً كما قلنا، وفي اختيار موقع السكن الذي يرتئيه القادمون الجدد  بفضل الطابع الوظيفي والحق الشخصيّ في السكن في البقعة التي يرتئيها هذا القادم  الجديد في أيٍّ من البلدات أو القرى المسيحية، دون أنْ يجدَ ما يمنعُه من ذلك.
    نعم، قد تتمتع مناطقنا المسيحية في ظلّ هذه الوحدة الإدارية الجديدة، بميزانيتها الخاصة بها وبنوافذها الإدارية والأمنية والاقتصادية. ولكنَّ الخوف، كلُّ الخوف، أن تنزلقَ في متاهات الانغلاق على نفسها أيضًا، وبفقدان طابعها الديني والتراثي بسبب هذا التطوّر الإداريّ، إلى جانب التحسُّس من كلّ شاردةٍ وواردةٍ قادمة من خارجها، بحجة الحفاظ على هويتها والخوف من فقدان خصوصياتها المشار إليها. فالموافقة على التشكيل الجديد، تقترن باستحداثها على أساسٍ جغرافيّ وليس دينيّ أو عرقيّ أو مذهبيّ، كما شاء البعض أن يتصوّروا ذلك واهمين. إنَّ هذا التوجّه الهزيل، إنْ شاءَ  وحصل، فإنّه سيقضي على روح التعايش السلميّ ويقطع حبل المواطنة الذي يجمع بين الإخوة المختلفين ولا يفرّق بينهم. وبمعنىً أدقّ، سيوسّع الخلافَ أكثر ممّا يضيّقُه من خلال تكريس روح التجزئة والتمييز والتفكيك والتقسيم داخل المجتمع.
أبواق الشتات طوباوية
   ما يُؤلم، أن نسمع أبواقًا خارجية في الشتات، سواءً من أهلنا وأحبتِنا المغتربين أو من أقلامِ مكوّناتٍ أخرى تعيش الحلم السرمديّ وهي قابعة في أبراجها العاجية في الغربة، محاولةً الإيهامَ بأنّ محافظة سهل نينوى العتيدة، إنّما ستكون "بروحيّة مسيحية". بل ذهب البعض بأنها "اعترافٌ بقضية المسيحيين المشرقيين المضطهّدين وبكونها بداية العلاج لمشاكلهم". مساكينٌ هؤلاء، كم أرثي لسذاجة تفكيرهم وتوهّمهم  لما اخترعوهُ ونسجوا منه في خيالهم منذ اليوم، قصصاً وبنوا عليه آمالاً وردية لا تعدو نتفًا من فكرٍ طوباويٍّ ضحلٍ لا يمتّ لواقع الحال بصلة. فالمسألة أكثر عمقًا من ذلك. هناك روزنامةٌ دولية تشارك بها كلُّ الدول، حتى المتبجحّة المتباكية  منها على مصير مسيحيّي الشرق وأحوالهم التي لا تُسرّ البتة، منذ قرون وليس منذ سنين وأشهر وأيام. إنَّ ما جرى ويجري، هو مؤامرةٌ دولية، يتحدّث عنها الجميع، وهذا ليس من عندي أو مِن بناتِ أفكاري فحسب. هناك، في المنطقة وبتحريض خارجيّ، مَن لا يسرُّه تعميمُ ثقافةٍ تساوي بين الجميع وتعدلُ بين المختلفين في الدين والمذهب والعرق واللون واللغة. فالمسألة، سواءً في العراق أو في المنطقة عمومًا، هي مسألة صراع ثقافات وتنافر حضارات ورفض الاعتراف بالحقوق العادلة التي تقرّها كلّ الشرائع والأعراف، بالعودة إلى مفهوم خلق الله للجميع متساوين و"جميلين على صورتِه ومثالِه". هناكَ مَن يرفض الإقرار بهذا الجمال المخلوق وبهذا المفهوم الدولي العادل، بدعوى التعالي والسموّ والارتفاع على غيره من الشعوب والأديان. إذن، المسألة ليست ولن تتوقف باستحداث هذه المحافظة الخيالية!
   هنا، تكمن المشكلة في مصيبة المسيحيين وغيرهم من الأديان والمذاهب، المختلفة عن دين الأغلبية في الشرق، إذ أصبحوا عملةً غيرَ مرغوبٍ بها في نظر التيار المتشدّد الذي خلقَهُ وأنماهُ اللوبيّ المسيّر عبر الكارتل الأمريكي- الصهيونيّ العالميّ، ولاسيّما تجاه المسيحية، كما أسلفتُ في مقالةٍ سابقة. فالمسيحيّون عمومًا، سواءً في العراق أو في منطقة الشرق، واقعون اليوم، بين فكّي كمّاشة ولاسيّما باتهامهم  بالولاء للغرب. في حين أن الغرب الذي يُتّهمُون بانتمائهم وتبعيّتهم له زورًا وبهتانًا، قد طلّقَ المسيحيةَ منذ تبنّيه خطَّ ما يُسمّى بالعلمنة الذي لا يعدو كونَه جانبًا من الإلحاد المبطّن والمغلَّف بأعذار شرعة حقوق الإنسان المدنية وما يلحقُها من ممارسات، قد آذت المسيحية والمسيحيين في الشرق عامّة.
لا تخفْ أيها القطيعُ الصغيرُ   
   حين ترك المسيحيون بلداتهم وتشتّتوا في بلدان الغربة، أيًّا كانت أسبابُهم للجوء إلى مثل هذا القرار المصيري، لم يكترثوا، بل بالأحرى لم يحسبوا ما ستؤول إليه أحوالُ مناطقهم التقليدية وجذورهم التاريخية والجغرافية. بل فرّطوا بهذه جميعًا ولم يفكروا إلاّ بأنانية، براحتهم ومصلحتهم. وها همْ اليوم يتباكون من خلف أسوار الوطن على هذا التراث وهذا التاريخ، بل ويُملون على أهل الداخل أحيانًا أفكارَهم وآراءَهم، يشدّهم في ذلك، الحنينُ إلى بيوتهم القديمة وقراهم وبلداتهم وكنائسهم التي تركوا فيها جميعًا ذكرياتٍ، كانت لهم بمثابة كنزٍ لحياتهم. قد تكون دغدَغَتْهُم فكرةُ استحداث محافظة في منطقة تطبّعت بتراث ووجودٍ مسيحيّ منذ دخول المسيحية في بداية القرن الأول الميلادي. وبهذا يعتقدون أنها ستكون ملاذًا آمنًا لمَن بقي من أهلهم وذويهم صامدًا ويزاول حياتَه الطبيعية. ولكنْ، هل فكّروا أنّهم بتغرّبهم عن الوطن، بغضّ النظر عن مشروعيته وتبريرات كلّ واحد منهم، قد قطعوا الحبل السرّي بينهم وبين وطنهم وأهلهم؟ أمّا الاتصالات الهاتفية والتقنيات الالكترونية التي قرّبت المسافات بين الأمم والشعوب، فهذه ليست كافية وكفيلة بسدّ الفراغ والثغرات التي تركها أهلُنا وأحبّاؤُنا وأصدقاؤنا في عموم الوطن. فالوطن والالتصاق بأرض الوطن ليس بالحنين إليه وبالتمنيات والحسرات، بل بالعيش فيه وبمقاومة الظلم وبالصبر والإصرار على استرجاع حقوق تاريخية ووطنية بالنضال وتكرار المطالبة مرارًا حتى نيلها كاملةً. ف "مَنْ جدَّ وجَدَ" يقول المثل. و"اطلبوا تجدوا، واقرعوا يُفتَحُ لكم" يقول الإنجيل المقدس.
    ممّا لا شكَّ فيه، أنّ مَن ترك الوطن واختارَ الغربةَ والتشرّد – أو سمّها هجرة أو لجوءً أو ما شئتَ-، قد ساهم بتقليص الوجود المسيحي في بلد الجذور الاشورية والبابلية والكلدانيّة والآرامية والسريانية، بحيث طاب للبعض من المكوّنات الأخرى أن ينتقص من أهميتنا العددية، بحيث أصبحنا قطيعًا صغيرًا مقهورًا يستجدي التأييد والدعم في الداخل والخارج. ولو فكّر المهاجرون المسيحيون بعمق، لأدركوا أنَّهم بهذه المساهمة وبهذه الطريقة في التقليل من الشأن المسيحي بالعراق الذي كان حتى السبعينات من القرن الماضي يبلغ ما يعادل 5-7% وربما أكثر من مجموع سكان لعراق، قد نفّذوا من حيث لا يدرون أجندة ً خارجية تمّ التخطيط لها بعناية منذ أجيالٍ وسنين. وها نحن اليوم، نجني نتائج هذه الأجندات الدولية والإقليمية التي مزّقت النسيج التعايشيّ التقليدي بالمنطقة التي تغلي على صفيحٍ ساخن، والمستهدَف الأول فيها هم المسيحيون. ولكننا لنْ نخاف نحن الصابرين المرابطين في الوطن، حتىّ لو كنّا "قطيعًا صغيرًا"، فقد شاء اللهُ أن يعطينا الملكوت بصمودنا وصبرنا وتجذّرنا وانتمائنا لكنائسنا وأمانتنا لشعبنا. ويبقى الهروب من الشدائد والمظالم، سلاحَ الضعفاء الذين لم يصبروا ويصابروا، بل تهاونوا بالمطالبة بحقوقهم العادلة والمتساوية وتنازلوا عنها ليستسهلوا العيشَ أغرابًا في بلدان الشتات على فتاتِ ذاتِ الأجنبيّ الذي حرّض على تهجيرنا وقتلنا وترك أوطاننا. إنها لمعادلةٌ غريبة، ليس من الصعب فكُّ رموزها.   
مشوارُ الصحوة، علامة جيدة
   كلُّنا نأملُ أن يتمتّع جميع المواطنين على أرض الوطن وفي الشتات بروحية وطنية عالية ومتزنة تجيد قراءة الأحداث في سياقها الواقعي وتخدم مسار العملية السياسية وتعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطن. فالاعترافُ بالتنوع والتعدد في بلد الحضارات ومهد الديانات ليسَ منّةً من أحد، بقدر ما هو حقٌّ مواطنيٌّ تفرضه المواطنة ومبادئ الانتماء. ومن ثمَّ، فإنّ مجرّدَ وضع سهل نينوى في أجندة الحكومة باعتبارها منطقة مغبونة تستحقّ مزيدًا من الرعاية والاهتمام، ليس انتصارًا كما يتصوّرُه البعض فحسب، بقدر ما هو اعتراف بإثمٍ اقترفته حكومات متعاقبة بحق هذا الشعب المكافح عالي الهمّة وجدير الثقة بالانتساب لأرض العراق وهوائه ومائه وبشرِه.
   من حقنا أن نعتبَ على سياسيّينا وبالأخصّ على نواب الشعب الذي ائتمنهم الأخير ليصونوا وحدتَه، أرضًا وشعبًا، ويعزّزوا فيه روح المواطنة والغيرة على مصالحه العليا قبل المصالح الفئوية والحزبية والعرقية الضيقة. لذا، نعدّ تحرّك الحكومة الأخير، علامةً على صحوة جديدة أخرى في مسار تصحيح العملية السياسية، إنشاء الله، بالرغم من الفترة القصيرة التي بقيت لها في الحكم. وعلى أية حالٍ، نأمل أن يكون هذا المشوار صحوةً من غفوةٍ وعلامة رجاءٍ لبداية جيدة قادمة، ما بعد النتائج التي ستفرزُها الانتخابات العتيدة. هناك مَن يعلّقُ عليها أملًا جديدًا لوقف نزيف الهجرة المستمرّ وإنصاف كافة المكوّنات في منطقة السهل دون تمييز، إذا عرفنا أن ندير شؤونَنا ذاتيًا ولا مركزيًّا بأيدينا وبالتوافق مع سائر المكوّنات المتواجدة بين ظهرانينا، حتى بلا تحقيق حلم كيان المحافظة الذي يرقص له الكثيرون دون وعيِ وإدراكٍ ودراية بما ستؤول إليه المنطقة، فيما لو تحقّق. وأعتقد، أنّه لمجرّدَ تولّد نوعٍ من الإحساس من جانب الدولة، حكومةً وساسة، بالتقصير إزاء استحقاقات جميع المكونات، في السهل أو في غيره من المناطق، وفتح الباب لمنحها مزيدًا من هامش الحرية لإدارة مناطقها بأسلوب الحكم الذاتيّ أو باستحداث وحداتٍ إدارية جديدة، فإنّه بحدّ ذاته يشكّل تحدّيًا كبيرًا لسائر مؤسساتنا ومرجعياتنا، الحزبية منها والسياسية والدينية والثقافية والمجتمعية. فالخوفُ، كلُّ الخوف، أن ينساق البعض لمشاريع التقسيم والتجزئة والتفتيت من خلال التفريط بوحدة البلد، أرضًا وشعبًا وفسيفساءَ جميلة على أساسٍ عرقيّ أو طائفي أو دينيّ، لأنَّ غيابَ أحد أطراف هذا الفسيفساء الجميل أو عزلتَه يعني اقتلاع عضوٍ أساسيٍّ من جسم الوطن، ما يعرّض الأخير للمرض والزوال مع تقادم الزمن.
وحدة الوطن خطٌّ أحمر   
   إنّ الحرصَ على هاجس وحدة البلاد، لا يعني كما يبدو للبعض، ممانعةً لتحقيق الحلم المشروع "بحكمٍ ذاتيٍّ لا مركزيّ" لكلّ منطقة وبلدة وقصبةٍ عراقية ضمن عراقٍ موحَّدٍ، دون اللجوء إلى تجزئته بهذه الوسائل الرخيصة. فالعراقُ إنّ أردناهُ قويًا عزيزًا متضامنًا، لا يمكن أن يتفتّتَ ويتجزَّأَ ويتفكّك ويُقسَّمَ بحسب رغبة هذا النفر أو ذاك من الخانعين للأسياد في الداخل أومن خارج الحدود، لأنّه على هذه الشاكلة، سيأتي اليوم الذي نصحو فيه على دويلات عديدة داخل دولة لا هيبةَ لها، تتقاذفُها الأحقاد والكراهية والضغائن بسبب غياب الروح الوطنية والتسامح الأهلي والرؤية الجماعية في الحكم والعيش الكريم. أليسَ هذا واقعَ ما نراه ونعيشُه بمطالبة مدن وبلدات عديدة بالانفصال عن محافظات والدعوات المتهالكة لإقامة أقاليم؟
    لذا، مفتاحُنا الأساس يكمنُ برفض نهج الطائفية والابتعاد عن المذهبية وطرد الاستعلائية والكفّ عن الاستغلالية والتهميش ووضع حبّ الوطن والسلم الأهلي وخدمة الشعب، وإنصاف الجميع بالعدل والمساواة والحقوق، في أولى الأولويّات. وبغير هذه، لن ننهض ولن نتقدّم ولن نتصالحَ ولن نتحاورَ، طالما لا نمارسُ حبَّ الله والوطن والشعب ونصون وحدة الأرض والماء والسماء!

لويس إقليمس
بغداد، في 4 شباط 2014



343
مهزلة المحافظات الجديدة، إنْ تحقّقتْ؟

   تردّدتُ في الكتابة بهذا الموضوع، لحساسيته. ولكنّي توكلتُ على الله، كي أدلو بدلوي في مسألة تتعرّضُ فيها وحدة البلاد إلى شرخ كبير، قد يضعُ هيبتَها على المحكّ. فمصيبة العراق كبيرة، وهي قديمة قِدَمَ الأزل. لكنّ مصيبةَ بعضٍ من مكوّناته اليوم أعظم، فهي تتفاقم كلّما مرّت الأيام وتوالت السنين وتتالت الأجيال. ولعلَّ القادمَ المنتظَر، سيكون أكثر قتامةً. ألّلهمَّ، إني أكره التشاؤم! وقلْ: "تفاءلوا بالخيرِ تجدوه"! آمين. لكنّ قراءةَ الأحداث تبدو غيرَ ذلك.
   قبل أيام، أطلّت علينا الحكومة العراقية الهزيلة، بكلّ قواها، وهي تتدافع بالمناكب والكلمات الطنّانة والأحلام الوردية، لتخرج بما جادت قريحتُها الطائفية بتمثيلية جديدة، بها تعمّق الهوّة بين أصدقاء الأمس وأعداء اليوم، ولتأسرَ الشعبَ المسكين البائس وتوثقَ إرادتَه مرّةً أخرى، فيما البلدُ يخوض امتحانًا عسيرًا مع فصائل إرهابية وعلى شفا انتخابات برلمانية مصيرية. تُرى، ما الحيثيات، وما الأسباب، وما الأهداف من كلّ هذا وذاك، في هذه الفترة بالذات؟
   ألعقلاءُ، يرون أن التوقيت متسرّعٌ وغير موفَّق، لأنّه، كما يبدو لهم وللكثيرين، قائمٌ على أهدافٍ لا تخلو من ريحٍ طائفية ومذهبية مقيتة، اكتوى بها الشعبُ عامةً. وهذه، كما رأينا، لم تعُدْ تجدي نفعًا. لقد أُرغمَ العراقيون للتخلّي عن الحسّ الوطني بعد السقوط الدراماتيكي في 2003، بتوجيهٍ من المحتلّ الأمريكي الذي لم يزِغْ عن تعهِّدهِ بتولّي مسؤولية تفتيت العراق وتقسيمه على أسس طائفية من أجل إضعافِه، كمنطلَقٍ للتصيُّدِ العكر في دول الجوار والمنطقة عمومًا. وهذه ليست معلومة جديدة، والدليلُ على ذلك ما ارتُئي أن يكون ربيعًا عربيًا قتلَ الأخضر واليابس باستقدام جماعات تكفيرية وسلفية لتصفية ما بقي من حضارات الأمس ومن ثقافات متمدّنة تختلف عن دين الأغلبية. ومَن عاصرَ السياسة الكيسنجرية -  اليهودية الأمريكية في بداية الثمانينات من القرن الماضي، يعي هذه الحقيقة، كما يؤكّدها الساسة والمثقفون ومتتبّعو الأحداث دون إجراء رتوشٍ عليها أو ظلمِ عناصرها.
   العراق العصريّ المتمدّن، لا يُبنى بكثرة الوحدات الإدارية المستحدثة، ولا بعدد المسؤولين الفاسدين الذين تولّى العديدُ منهم وما زالوا يتولَّونَ مناصبَ هامّة في مفاصل الدولة ليست من استحقاقهم، بعد أن كانت الغالبية العظمى مِن هؤلاء، أفرادًا متسكعّين على قارعات الشوارع في دول الشتات. هذا باستثناء أصحاب الكفاءات الذين لمٍ يُنصفْهُم النظام البائد واضطُرّوا مرغَمين لمغادرة البلد بسبب أساليب التضييق عليهم بلا هوادة. فالحكومة التي تبجّحت على لسان رئيسها قبل أيام مطلاًّ من على شاشات الفضائيات بفرحته - والحمدُ لله- بنيل كلّ عراقيٍّ حقوقَه، قد فقدتْ مصداقيتَها منذ أمدٍ، لأنّ صاحبَ المقال هذا نفسُه لم تنصفْهُ هذه الحكومة، بالرغم من استحقاقه الإنصافَ أكثرَ من القادمين عبر الحدود ومِن بلدان الشتات، من أمثال مزوّري الشهادات الذين استوزروا وتسلّموا مناصب حساسة ومهمة في الدولة العراقية بعد السقوط في 2003، في حين هو وغيره من الصابرين، آثروا الإصرارَ بالتجذّر في الأرض والوطن وبين الأهل والأصدقاء. على أية حالٍ، هكذا جرت الأمور، ولنْ تكون أفضلَ حالاً ممّا كان!
لا للفكر الطائفي:   
إنّ مسألةَ الوقوف مع أو بالضدّ من مقرَّرات أو مقترحات مجلس الوزراء باستحداث محافظات جديدة، ليس له من قيمة وطنية في هذه الفترة الحساسة، بسبب التحدّيات التي يتعرّض لها البلد، أرضًا وشعبًا، إذا لمْ يكن الهدفُ منه إصلاحُ ما كسرتْهُ التوجّهات الطائفية طيلة السنوات المنصرمة منذ سقوط النظام الدكتاتوري الملتزِم - آنذاك نوعًا ما- جانبَ الوطنية والعلمانية، في سلوك الدولة العام وفي الحراك السياسيّ بالمنطقة.
   كلُّ الشعبِ العراقي، من صغيرِه إلى كبيرِه، يتمنى اليوم الذي يُطبّق فيه وعليه دستورٌ مدنيّ وطنيٌّ يبسطُ أجنحتَهُ العادلة بالتساوي على كلِّ مكوّناته، من منطلَق وطنيٍّ بحت، وليس مصبوغًا بكحلة دينية أو عرقية أو طائفية أو مذهبية أو عشائرية وما إلى ذلك من تسمياتٍ تمييزية عنصرية قطعتْ صلة الرحم بين المواطن وأرضهِ، وبين أهلِه وشعبِه وبين مكوّنِهِ وسائر المكوّنات التي صارت تتحسّسُ من ذكر غيرها في الشارع وفي المجالس والدوائر والاجتماعات، وأينما تواجدتْ.
   من حيث المبدأ، يرى الجميع أنّ مثل هذه المطالبة، سواءً من جانب الشعب أو المناطق أو المكوّنات، كما العملُ من جانب الحكومة بالنظر في التشكيلات الإدارية الحالية وبإمكانيّة مراجعتها، لهوَ أمرٌ جديرٌ بالاهتمام، إذا كان ذلك مكتفيَ الشروط، دستوريًا وقانونيًا وجغرافيًا وطوبوغرافيًا. هذا إذا اعتبرنا الحاجة الفعلية لاستحداث مثل هذه التشكيلات بموجب الضرورة التي تقتضيها الظروف الصعبة والآنيّة لعلاج ذات البين أو لسدّ الثغرات في الإخفاقات الإدارية والخدمية والأمنية التي لم تعُدْ تُطاق. ولكن ليس بالضرورة أن يحصل ذلك بتغييرات ديمغرافية أساسُها حسٌّ طائفيٌّ به يجري تقسيم المقسوم وتجزئة المجزّأ أصلاً. فالدول المتقدّمة، تخطّت هذه المرحلة الصعبة، واقتنعتْ بضرورة إدارة كلّ وحدةٍ أو منطقةٍ شؤونها الوظيفية والخدمية والإدارية بنفسها، بأسلوب اللامركزيّة الديمقراطي، الذي يصون حقّ تلك الإدارة في اختيار الأنسب لتنميتِها وتطويرها، دون أن تسبب شرخًا في النسيج الوطني وعلى وحدة البلاد. وهذا الأسلوب الناجح في هذه الدول المتطوّرة، يمكنُ أن يُتخذَ نموذجًا يُحتذى به في بلدٍ متعدّد الأطياف والمكوّنات والأديان والمذاهب واللغات، مثل العراق. بل إنّ مثل هذا الفسيفساء، من الأصلحِ له أن يتبنّى ساستُه سياسةَ اللامركزية في حكم البلاد، كي  يُتاحَ لكلّ منطقة أن تسلك السبيل الأصلَح لتطويرها وتنميتها والذي يتناغمُ مع طبيعة المكوّنات التي تقطنُه بحيث تنسجمُ مع تراثها وثقافتها وطريقة عيشها وبها تحفظ وحدة البلاد وتنمي الحسّ الوطنيّ دون تشظية المجتمع.
   إذن، أين المشكلة في هذا الشأن؟
   بدءًا، وكما ورد في مقدمّة المقال، لم يكن طرحُ مثل هذا المشروع الكبير موفَّقًا في هذه الفترة الحرجة، لاسيّما وأنّ الحكومة العراقية برئاستها الحالية، على أبواب الأفول، بإذن الله، بسبب تراكم المشكلات والإخفاقات التي كان لها أولٌ وليس لها آخِرٌ، من دون أن يلمسَ المواطن تقدّمًا. فالحكومة الحالية مثلاً، قد فشلت في مكافحة الفساد المستشري في كلّ ركنٍ من أركان الدولة التي تتحمّل هي الجزء الأكبر من هذه المسؤولية وذلك بغضّ الطرفِ عن روّاده ولصوصه. كما أخفقت في الجانب الأمني الذي أثبتت استراتيجيات العسكر والشرطة فشلَها وقصورَها بل وتقاعسَها في أحيانٍ كثيرة. والأمرُ ذاتُه ينطبق على الجانب الخدمي الذي فقدَ قاعدتَه الأساس من المحترفين والمهنيّين بسبب مزاحمتهم من قبل القادمين الجدد الذين استوطنوا معظم دوائر الدولة وهم فاقدو الخبرة العملية والرؤية الخدمية والعلمية في التخطيط والتنفيذ والمتابعة. والحكومة الحالية ايضًا، وُصفت أكثر من مرّة بحكومة أزمات، لازمتها في مسيرتها، ومهما حاولت بتقديم حلول ترقيعيه لتهدئة النفوس وجبر الخواطر، فهي لن تستطيعَ رأب الصدع، لأنّ الشرخَ كبيرٌ بعدَ أن وصلَ حدّ العظم وقطعَ الأرزاق!
   والحالُ هذه، لم يبقى من هدفٍ، سوى طرح مثل هذا المشروع لأسبابٍ انتخابية بحتة، أو لتلطيف الأجواء ومجاملة أطرافٍ تحرّجت الحكومة الحالية إزاء ما تعرّضت له مكوناتُ مناطقهم من مآسٍ وويلات ومصائب لم يشفعْ معها غيرُ فتح هذه النافذة للتخلّص من ضغوطٍ قديمة أو قادمة أخرى. ولو كان الوقتُ مناسبًا، لَما لقي مثل هذا المشروع ردودًا متباينة صبَّتْ معظمُها جامَ غضبها على الحكومة وتوقيتها بسبب انتقائها الطائفيّ، كما أفرغَتها من فرحةٍ طالَما سعى إليها أبناءُ تلك المناطق، ولاسيّما البسطاء منهم وأصحابُ الرأي المتذبذب والفكر السطحيّ الذي لا يفقهُ ما ستؤول إليه مناطقُهُم، جغرافيًا وديمغرافيًا وتاريخيًا بموجب الأجندات الموضوعة لكلّ منطقة، فيما لو تحققت مثل هذه الطروحات.
   ألعلَّ الخاسرَ الأكبر في مثل هذا المشروع وفي هذه الفترة بالذات، هو العراق، بسبب تفتيت أرضه وتقويض وحدتِه وتجزئة شعبِه وتمزيق نسيجه بهذه المشاريع الطائفية المستحدثّة! إذ سرعانَ ما انتفضت مناطقُ أخرى مطالبةً بمثل هذه الاستحداثات غير الموفقة في هذه الفترة العصيبة، والعراقُ يخوض امتحانًا عسيرًا في محاربة آفة الإرهاب التي استفحلتْ بالمنطقة الغربية على مرأى ومسمَع وبعلمٍ ودراية من الحكومة المركزية والساسة الغافلين أو المتقاعسين في الشراكة الوطنية طيلة أكثر من سنة. وبإحالة ملفّ تلعفر إلى مجلس النواب للمصادقة على تحويله إلى محافظة بعد نموذج حلبجة، وبصدور الموافقة المبدئية على استحداث محافظات طوزخرماتو والفلوجة وسهل نينوى، يكون الساسة قد أوغلوا بإشعال نار الفتنة الطائفية، فيما المواطنُ وحدهُ فقط هو الذي يتحمّلُ أوزارَها الكارثية. هم يدّعون محاربة الطائفية، ولكنّهم، همْ أنفسُهُم مّنْ يُصلي نارَها ويحرّك هشيمَها بلا هوادة، بحيث لم يركنْ بالُ العراق وأهلِهِ منذُ دنّسُه الغازي الأمريكي وفعلَ به قباحتَه وأنزلَ عليهِ شرورَه ولمْ يشأ البتة كفكفة دموع الثكالى والمرضعات ووقفَ نزيف الدمّ الذي بدأه منذ أيام النظام البائد بتشجيع دخولِه حروبًا كارثية حتى احتلالِه في 2003 نتيجة حماقاتِه المتكرّرة.
نكتة المرحلة   
   والحالُ هذه، وبشيءٍ من الفكاهة والتندّر، يرى البعض أن العراق وساسةّ العراق، قد يلتزمون في النهاية، الدستور الأمريكي نموذجًا في رسم مستقبلِه ليصل بعدد محافظاته عددَ الولايات الأمريكية أو قد يتجاوزها، إذا ما أُضيفت إلى المطالبات الرسمية الخمس الحالية، طلباتٌ شعبية أخرى حرّض عليها سكانُ عدد من المناطق مثل مدينة الصدر والأعظمية والكاظمية وربما لاحقًا، الكرادة والزعفرانية والشعب والمنصور بغية الانفصال عن مركز العاصمة مثلاً، ومدن وقصبات غيرُها مثل خانقين وسنجار والرفاعي والشطرة والمسيّب والعزيزية وسوق الشيوخ. ومَن يعلم، فقد تلحقها مناطق مرشحة أخرى لأسبابٍ عرقية وطائفية ودينية أيضًا، مثل راوة وعانة وكلك ياسين والكوفة ومنارة شبك وعلي ره ش الشبكية وربيعة الشمّرية والصقلاوية وأبو غريب وزاخو وسنونو وقلعة سكر ومخمور والشرقاط والحويجة وبرطلة والشيخان وباعذرا وراوندوز والدير والزبير وربّما غيرُها ممّن قد تدغدغهم فكرة الغيرة ذاتُها. وفعلاً، فقد هدّدَ سكان عددٍ من هذه المدن برفع مثل هذه المطالب إلى السلطات العليا. كما صدرت تهديدات من مسؤولي عدد من المحافظات بتحويلها إلى أقاليم في حالة إقرار استقطاع مناطق منها وتحويلها إلى محافظات جديدة، بوعيٍ أو من دونه. ومهما كانت الدوافع لهذه الأخيرة، فإنّها تصبُّ في خانة رفض إحداث تغييرات ديمغرافية بهذه الصيغة الطائفية، لكونِها عاملاً في إضعاف صلة المواطنة وخطوةً نحو تجزئة وتفكيك البلد إلى دويلات هزيلة داخل دولة، هذا إن كان سيبقى لدولة العراق من هيبة، فيما لو نُفّذت هذه جميعًا. وهذا ما يريده الأسياد في هذه الحقبة العصيبة من تاريخ العراق المتهرّئ. ألمْ يقوّضوا دولة يوغسلافيا المتحدة بعد إدخالِها في صراعات دينية وطائفية وعرقيّة وحوّلوها إلى دويلات هزيلة وضعيفة كي يسهلَ التحكّم بها وتوجيهها بحسب رغبة الأسياد؟ فهلّا نتعلّمُ الدرس؟ أمْ رغبةُ الأسياد أمرٌ غيرُ قابل النقاش؟ فلو كان شعبُنا العراقيّ أبيًّا مثلَ شقيقه المصري، لقالَ بصوتٍ واحد:" لا" لهذه المهزلة!
    قد يكون ذلك مضحكًا فعلاً، ولكنْ فيه من النكتة ايضًا ما يبكي، إذا سار الأمر على هذا المنوال دون الالتفات إلى الأسباب الحقيقية للفوضى والإرباك الشعبي والأمني والسياسي التي رافقت هذه المطالبات والمقترحات. ولنتحدّث بصراحة أكثر، هل شقّت هذه المقترحات طريقَها في دواوين ومكاتب مجلس النواب الذي ائتمنَه الشعب على مصالحِه قبل أن يتخذ مجلسُ الوزراء قرارَه؟ وهل تمّ التداول بصددها بين الناس وعقلائها ووقفوا معهم على فرز السالب لدى تحقيقها عن الإيجابيّ بحصولها، كي تكون هذه المطالبات ناضجة قدرَ المستطاع؟ أمّا أنْ يتخذه الأخير ويحيلَه إلى نواب الشعب، فهذا قصورٌ من ممثلي هذا الشعب، ودليلٌ على التقاعس في حقوق مَن انتخبهم لمتابعة أوضاع مناطقهم وتطويرها ودراسة احتياجاتها والبحث عن أسباب تخلّفها، بعد إيصالهم إلى قبة البرلمان. كما ينمّ عن شمّ رائحة مساومات واتفاقات وتمريراتٍ من خلف كواليس السياسة بين الخصوم الذين لمْ يكتفوا بعدُ مِن نهب قوت الشعب البائس وتحويل ثرواتِه في حسابات أجنبية عبر صفقاتٍ وعقودٍ ومقاولاتٍ لا تخلو من الوهمية والفساد، وإلاّ لكان البلد قد وجد طريقَه إلى الحداثة والتطوّر وإلى الأمن والأمان وحسن الأداء في مؤسساته الهزيلة المتعبة وفي نوعية الخدمات التي يقدّمها وفي مشاريع التنمية الفاقدة لاستراتيجياتها. ودليلُنا إلى ذلك، التخبّط وعدم اتفاق الساسة على مفردات رصد الميزانية العامة لغاية اليوم بالرغم من ضخامتها، وذلك بسبب أبوابِها الغامضة أحيانًا ووسائل صرفها الموجهة في غالبيتها للجانب التشغيلي وليس الاستثماري الذي يبني ويعمّر ويخدم ويُصلح، وكأنّي بهم وحوشًا كاسرة وهي تنقضُّ على فريستها. ولو سعى الساسة والحكومة الحالية إلى منح مزيدٍ من اللامركزية في إدارة شؤون هذه المحافظات والمناطق، لما اضطرّت هذه إلى التمرّد والعصيان والمعارضة.
   إنّ عهد الدكتاتوريات قد ولّى إلى غير رجعة، وجديرٌ بالجميع احتواء الأزمة برؤية وطنية ووضع المصلحة العليا للوطن ووحدته قبل كلّ مصلحة ضيّقة قد يستخدمُها البعض لدعاية انتخابية رخيصة أو لكبح جماح المعارضة التي لم تعدْ تطيق الصبر والاصطبار والانتظار المرير بفرجٍ ربّانيّ عجائبيّ. فقد طفح الكيلُ وبلغَ السيلُ الزبى!
   في الأخير، لنتساءل: لصالحِ مَنْ، كلُّ هذه التحرّكات غير الحكيمة وهذا الحراك التشظوي الذي يبدو في غير أوانِه؟
-   للمقال صلة-
لويس إقليمس
بغداد، في 28 كانون ثاني 2014

344
منتدى حقوق الأقليات
يعقد دورته السادسة
 في قصر الأمم المتحدة في جنيف للفترة من 26-27 تشرين ثاني 2013
حول حرية الدين والمعتقد: ضمان حرية الأقليات الدينية

*****************
عقد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، دورتَه السادسة بقصر الأمم المتحدة في جنيف للأيام 26 و27 تشرين ثاني 2013، وقد خُصّص موضوعُ هذه الدورة، للحديث عن شؤون الأقليات، والتأكيد على موضوع حرية الدين والمعقد بشكل خاص، وكيفية العمل على ضمان حرية الأقليات الدينية وسط تحديات كثيرة تتقاطع مع شرعة حقوق الإنسان والصكوك والمواثيق والمعاهدات الدولية التي تدافع عن حقوق البشر ولاسيّما المقهورة منها وتلك المعرَّضة للتهميش والاقصاء والاضطهاد والقتل والتشريد وكلّ أنواع العنف والمظالم.
احتضنت القاعة الرئاسية XX، ممثلين رسميّين عن دول وهيئات دولية ومنظمات مجتمع مدني وخبراء في حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، تجاوز عددهم الخمسمائة شخصية، مثلوا أغلبية الدول الأعضاء في المنتدى. وقد لوحظ تقاطع في الأفكار وفي نقل صورة ما يجري، حيث دافعت بعض الأنظمة والدول ، حتى الكبيرة منها، عن سياسة بلدانها واعترضت على عدد من المداخلات التي اعتبرتها بعيدة عن الحقيقة والواقع.
أدار الجلسات السيدة هيدينا سيديريجي، رئيسة منتدى حقوق الإنسان. وشارك في الحديث في هيئة الرئاسة، كلٌ من السفيرة إيروثيشام أدم، نائب رئيس مجلس حقوق الإنسان؛ والسيدة جين كونورز، المندوب السامي لحقوق الإنسان؛ والسيدة ريتا أسحق، الخبير المسقلّ في مجلس حقوق الإنسان؛ والسيدة هيدينا سيديريجي، رئيسة منتدى حقوق الإنسان؛ والسيد آداما دينغ، الخبير الخاص بالأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والسيد رالستون ديفينبوغ، مساعد الأمين العام للشؤون الدولية وحقوق الإنسان.
توزّع البرنامج في ست حلقات أو مواضيع رئيسية، خُصّص القسم الأول، للإفتتاحية وكلمات هيئة الرئاسة ومجلس حقوق الإنسان. والقسم الثاني، عن الإطار القانوني والمفاهيم الأساسي، والثالث عن حماية وجود ومنع العنف ضدّ الأقليات الدينية، والرابع تناول موضوع الارتقاء وحماية هوية الأقليات الدينية، والخامس تطرّق إلى كيفية الارتقاء بالحوار الديني البنّاء والتشاور وتبادل الرأي، وأخيراً، اختتم بملاحظات ملخصة من قبل رئيس المنتدى والخبير المستقل.
تطرّقت هيئة الرئاسة في خطاباتها وملاحظاتها الافتتاحية، إلى المعايير الدولية والمبادئ ذات الصلة بحقوق الأقليات الدينية والإشارات إليها في المواثيق والمعاهدات الدولية المشرّعة والموقعة من أعضاء المنتدى الدولي لحقوق الإنسان. كما تناول المتحدثون مفهوم حقوق الأقليات وكيفية تطبيقه لضمان حماية الأقليات ومعالجة مكامن التمييز وملاحظة التقصير في الأداء والذي يولّد صراعات طائفية ودينية وإتنية، ونقلها عبر تقارير إلى الجهات الدولية المعنية، لغرض مفاتحة الدول والأنظمة التي تغضّ الطرف أو تنتهك مثل هذه الحقوق.
تخلّل كلّ بند رئيسي، خطابات لعدد محدود من ممثلي منظمات مجتمع مدني عاملة في مجال حقوق الأقليات في عدد من الدول، تمّ اختيارُهم من هيئة الرئاسة بعناية لضمان المشاركة في نقل خبراتهم ضمن المنظمات التي يعملون لها في موضوع المنتدى لهذا العام. وقد أُعطي لكلّ واحدٍ منهم سبع دقائق للحديث كحدّ أقصى. كما تخلّلت المناقشات مداخلات جانبية من لدن ممثلي دول وممثليات بالأمم المتحدة وممثلي منظمات وجمعيات مدنية عاملة في مجال حقوق الإنسان والأقليات. وقد تشرّف السيد لويس إقليمس أن يكون خاتمة المتحدثين الرئيسيين في اليوم الثاني والأخير من المنتدى، وقد كان موضوعُه: "الأقليات في العراق، ضحايا الصراع الديني والطائفي والإتني". وقد اختير من هيئة الرئاسة لنقل خبرته بالعمل في منظمات المجتمع المدني وفي مجال حقوق الأقليات بالذات في العراق والحديث عن التحديات التي تواجهها في موضوعة حرية الدين والمعتقد.
كما كانت حصّة العراق في المشاركة واضحة، من خلال العديد من المداخلات التي تفضّل بها ممثلون عن منظمات عاملة في مجال حقوق الإنسان، منها مركز نينوى للدراسات والتطوير بمداخلة للشابة رنا، ومجلس الأقليات العراقية بشخص رئيسه حنين القدو، ومنظمة حمورابي لحقوق الإنسان بشخص نائب رئيس المنظمة لويس مرقوز وآخرين.
إختتمت الدورة السادسة في اليوم الثاني والأخير، بملاحظات لرئيسة المنتدى والخبيرة المستقلّة، وسوف تُرفع توصيات عديدة من خلال إثراء هيئة الرئاسة بها من قبل المتحدّثين ورفعهم إياها، لتلخيصها واختيار الأصلح منها، ومن ثمّ رفعها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة والمنظمات المعنية لحثّ المجتمع الدولي بضرورة الالتزام بالمعايير والمواثيق والصكوك والمعاهدات الدولية التي تضمن حق المواطن وحريتًه في اختيار وممارسة الدين والمعتقد الذي يراه ملائمَا له، وليس فرضَه بالإكراه أو اضطهادَه بسبب  الاختلاف في الدّين والمذهب واللغة والإتنية واللون وما إلى ذلك.
متابعة
لويس إقليمس
جنيف، في 27 تشرين ثاني 2013

نص الكلمة:

منتدى جنيف السادس حول حقوق الأقليات
 (26-27 تشرين ثاني 2013)
مكتب المندوب السامي لحقوق الإنسان/ قصر الأمم- جنيف/ سويسرا
"حرية الدين أو المعتقد: ضمان حقوق الأقليات الدينية "

 السيدة رئيسة الجلسة المحترمة
السيدات والسادة الحضور الكرام، ايها الأصدقاء،

موضوع الخطاب:
"الأقليات في العراق، ضحية الصراعات الدينية والطائفية والعرقية"
*************
-   اسمحوا لي أن أنقل لكم صرخة العراق والعراقيين جميعًا، الذين يعانون من شيء اسمُه غياب ثقافة الحوار منذ 2003.
-   اليوم منطقة الشرق الأوسط تغلي على طبق ساخن، والعراق جزءٌ مهمّ في حسابات دول المنطقة والعالم.
-   بموجب الأعراف الدولية، ينبغي أن تنعمَ الأقليات بنوعين من الحقوق: حق وطنيّ يفرضه مفهوم المواطنة والثاني لكونها أقلية ينبغي الحفاظ على بقائها وتراثها وأصالتها. لكن الأقليات في العراق مهمّشة ومستبعّدة من المشاركة في المناصب العليا في الدولة،  وهي مستهدَفة من جهاتٍ كثيرة. بل يُنظرُ إليها بشيء من المهانة والاستصغار بسبب هذه التسمية. وهي تُستخدمُ فقط للاستهلاك السياسي والمساومات، إلاّ أمام وسائل الإعلام، لأغراض انتخابية و لتجميل صورة الأحزاب السياسية.
-    الجميع يدرك ويعي أن ما يحصل مِن أعمال عنف طائفية، هو فتنة يُراد بها إبقاء النسيج الاجتماعي مفكّكًا إلى ما شاء القدَر، وهذا ما تعترف به الكتل السياسية نفسُها. مِن هنا، ففي حسابات اليوم، أصبح الكلّ ضدّ الكلّ. وهذه مأساة شعب بكامله، في غياب المفهوم الوطني  والحوار الحضاري والشراكة المبنية على مصلحة الدولة العليا قبل المصلحة الدينية والمذهبية والعرقية الضيقة!
-    إذا كان العنف قد ضرب الجميع دون استثناء، إلاّ أنّه كان أشدّ وقعًا على "الأقليات" بسبب صراع القوى الرئيسة على المال والجاه والسلطة.
-   على صعيد الحوار، فإنّ المرجعيات الدينية المسلمة والمسيحية وسائر الأديان المتعايشة، على قدر حكمتها وحرصها على تشجيع الحوار ووضعِ حدّ للهجرة والتهجير القسريّ الذي يطال الأقليات بصورة خاصّة، وتنادي دومًا بتحقيق العدل والمساواة للجميع، إلاّ أنها في الواقع، لا تلقى آذانًا صاغية من الدولة وساستها.
-   أليوم، لا يمكن القبول بسياسة الغرب بتشجيع هجرة العراقيين بالطريقة الحالية من أجل إفراغ البلاد من مواطنيها وكفاءاتها. عوض ذلك، على المجتمع الدولي أن يمارس ضغوطًا على السياسيين كي ينصفوا الأقليات ويدخلوهم في العملية السياسية بشراكة شريفة كمواطنين متساوين مع أعضاء المكوّنات الكبيرة الحاكمة وأن يحدّوا من عمليات العنف المستمرّة التي تستهدفهم.
-   منظمات المجتمع المدني بدورها، تعمل جاهدة لزرع بذور المحبة والتآلف. أحيّي تضامنَ فئات كثيرة من الشعب العراقي مع مأساة وضحايا كنيسة سيدة النجاة التي وقعت في 31 تشرين أول 2010، والتي أنا واحدٌ من شهودها وضحاياها، وقد قتلَ فيها الإرهابيون المتشدّدون 45 مصلّيًا مسيحيًا أثناء صلاة القداس، بينهم كاهنان شابان. وما زال هذا التقليد التضامني جاريًا للسنة الثالثة على التوالي. وهذه بادرة طيبة ومشجِّعة. كما أحيّي تضامن طلبة إحدى الكليات مع زميلتهم المسيحية التي فقدت آنذاك أحد أفراد عائلتها بوقفة حداد في كليّتها قبل أداء الامتحان، وقد جرى ذلك بتعاطف من جانب عمادة الكلية، ما يدلّ على أن التضامن المجتمعي مازال قائمًا في صفوف الشعب. وبالمثل، يتضامن أتباعُ باقي المكوّنات الدينية والإتنية ويتعاطفون مع إخوتهم في الإسلام في مناسباتهم وشعائرهم على السواء. فالمشكلة ليست في الشعب بل في الساسة.
-   نحن بحاجة لإحداث تغيير في الفكر والرؤية والإنسانية والبعد الوطني الذي يحفظ وحدة الدولة العراقية لتكون دولة مدنية متقدمة ترفل بالحرية والديمقراطية وتصون كرامة وحقوق الجميع دون تمييز ضدّ أحد. وهذا ليس قائمًا مع الفوضى السياسية الحالية والتوجه الطائفي المرفوض وفقدان الأمن والخدمات ونقص فرص العمل رغم خيرات البلد الكثيرة.
-   إنّ الظلمَ مازال أيضًا، يتحكّم بحرية المرأة  في العمل والطالبة في المؤسسات التعليمية التي تفرضُ عليها ممارسات حياتية ضيّقة مثل وضع الحجاب، كما تضايقُها في ارتيادها الأماكن العامة أو في السفر. كما لا يزالُ غيرُ المسلم يُحاربُ في رزقه وفي مهنتِه، سواءً في الدولة أو في القطاع الخاصّ. وأفضل دليلٍ على ذلك، الهجمات التي تعرّضت لها نوادٍ اجتماعية وثقافية ومحلات بيع المشروبات الروحية التي يديرُها غيرُ المسلمين من الأقليات، والتي أُغلقتْ معظمُها من قبل ميليشيات تابعة لكتل سياسية متنفذة في الحكومة.
-   كما أن قانون الأحوال الشخصية قد ظلم أتباع الأقليات وفرضَ عليهم شريعة الأغلبية وحرمَهم من حرية المعتقد واختيار الدين الذي يقتنعون به، ولاسيّما في حالة تغيير ديانة أحد الأبوين من غير المسلمين.
-   دعوتي ومناشدتي للدول المتورطة في إبقاء أوضاع العراق غير مستقرّة ومرتبكة، أقول: إذا كانوا مؤمنين وجادّين بتطبيق شرعة حقوق الإنسان، عليهم أن يكفّوا التدخلَ في شؤوننا الداخلية، ويساعدوا بحلّ مشاكلنا من خلال تشجيع سبل الحوار المتحضّر بدلَ تحريض طرف على آخر، وكذلك من دون تقوية طرف على آخر. وليكنْ معلومًا، أنّ العراقي رغم اتّصافه بطبيعته الإشكالية وتعقيده للأمور من جهة، وبازدواجية شخصيته من جهة أخرى، إلاّ أن روح الرحمة والكرم والضيافة والغيرة والألفة الوطنية لم تغادره إلى غير رجعة.
-   وأخيرًا، مثلما صدح صوت مارتن لوثر كينغ في يومٍ ما بالقول، "لي حلمٌ". وقد تسنى لهذا الحلم أن يتحقق بالصبر والمثابرة والعناد، أقول أنا أيضًا: "لي أملٌ، ولي رجاءٌ"، باستعادة بلدي عافيتَه والعودة إلى الحوار والتعايش والسلم الأهلي من خلال سيادة القانون. بهذه الكلمات الإيجابية والتفاؤلية أنهي مداخلتي. قد لا تتحقق أمنيتي فورًا أو حتى بعد حين، لكنّي لي الثقة بالقويّ الذي يقوّينا جميعًا، أن يتحقّق ولو جزءٌ منها بعد فضّ هذا المنتدى أعمالَه.
-   على صعيد المقترحات، فإنّ أهمّ مقترح يكمن بالدعوة لإجراء مراجعة عامة في الدستور العراقي وتعديلِه لينسجم مع الرغبة ببناء دولة مدنية متحضرة قائمة على اساس مساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، و حث الجميع على تحريم الدم العراقي، والقبول بالآخر المختلفِ في الدين والمذهب والإتنية.
أشكر لكم حُسنَ الاستماع وتقبلوا فائق احترامي وتقديري.

                                   
لويس إقليمس
مجلس الأقليات العراقية (منظمة مجتمع مدني)/ نائب الرئيس
جنيف، في 26- 27 تشرين ثاني 2013











345
مجلس الأقليات العراقية
 عقد  دورة (ورشة) عن حرية الدين والاعتقاد والآليات الدولية لحقوق الأقليات

عقد مجلس الأقليات العراقية IMC بالتعاون مع المجموعة الدولية لحقوق الأقليات MRG، وبدعم من الحكومة الهولندية، دورة عن حرية الدين والاعتقاد والآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان، للفترة من 17 – 22 تشرين أول 2013، على قاعة فندق المرجان بلازا  في مدينة أربيل (كردستان). وضِمن آلية جديدة للمشاركة تولته خلية مختصة بالمجموعة الدولية لحقوق الأقليات، تم اختيار 27 مرشحًا، بعضهم واضب في دورة عبر الإنترنت (أون لاين) لمدة ثلاثة أشهر، بحيث تم مراعاة مشاركة واسعة جمعت في آنٍ معًا متدربين من مختلف الأديان والمذاهب والمكوّنات العرقية والقومية واللغوية، وغالبيتُهم ينتسبون إلى منظمات وجمعيات ناشطة في المجتمع المدني العراقي.
أدار الدورة، كلٌ من السيد كريس شابمان، ممثل المجموعة الدولية لحقوق الأقليات، والسيد لويس إقليمس من مجلس الأقليات العراقية، مدير المشروع في العراق.
 تطرّق السيد كريس شابمان، في تقدمته إلى عنوان الندوة، وهو كيفية الترويج لحرية الدين والمعتقد والأساليب الممكن اتباعها للدفاع عن حقوق الإنسان ومنها حقوق الأقليات. كما أشار إلى العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية العديدة التي تضمن حرية المعتقد والدين. وذكّر بالتعاون الجيّد القائم مع شريكه العراقي، مجلس الأقليات العراقية منذ عام 2006، من خلال تنفيذ الأخير للعديد من المشاريع التي تخص العراقيين من جميع المكوّنات، وعلى سبيل الاختصاص، ما يتعلّق بحقوق الأقليات.
 فيما اشار السيد لويس إقليمس في كلمته الافتتاحية إلى التحديات الكثيرة التي تهدّد الكيان الوطني العراقي وتحاول تفتيت نسيجه الاجتماعي بسبب الصراع الديني والمذهبي الذي تسعى بعض الجهات لاستخدامه بجرّ العراق إلى فتنة طائفية، ومنها تصاعد العنف  ضدّ جماعات الأقليات، ولاسيّما في سهل نينوى وبغداد وكركوك وديالى والبصرة. كما حذّر من محاولة تجاهل النظرة الإنسانية والوطنية ومن أسلوب التهميش والإقصاء الجاري في بعض مفاصل الدولة العراقية، مشيرًا إلى ضرورة الالتزام بالرؤية الوطنية الصادقة الكفيلة وحدها بجمع أبناء الوطن الواحد حول حبّ العراق ككيان وطني موحد يفتخر بجميع أبنائه المنتمين إلى حديقة واسعة جميلة اسمُها حديقة العراق الكبرى، باختلاف أعراقه وأديانه ومذاهبه وطوائفه.
شارك في إلقاء المحاضرات، كلّ من السيد كريس شابمان والمحامية ليلى العودات من المجموعة الدولية لحقوق الأقليات MRG ، إلى جانب السيدة ليندا إنكفال وجميلة صالح من    اليونامي UNAMI، والسيدة سماح سرمد علي من معهد صحافة الحرب والسلام، والسيد كارل هندريكس من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة.
تشرّفت الدورة بزيارات ممثلين من الأمم المتحدة، وعلى رأسهم السيدة جيتراليخا ماسي، مسؤولة مكتب حقوق الإنسان في إقليم كردستان.
تناولت المحاضرات جملة من المواضبع التي تعنى بالتعريف بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات وكيفية الدفاع عن هذه الحقوق بالآليات والوسائل السلمية المتاحة. وتم التشديد على مسألة التثقيف بالمواثيق والعهود والقرارات والقوانين الدولية التي تؤسس لبناء مجتمع إنساني واسع يدعو لحماية كافة المواطنين المنتمين إلى أديان وأعراق مختلفة دون تمييز. كما تمّ التأكيد على أن الدين أو المعتقد إيمانٌ بل مسألة شخصية، وليس من حق الإنسان، أيّ إنسان، أن يفرضها على الآخر أو أن يُصار إلى قولبة الغير وفق المقاسات والمعايير التي يحاول فريقٌ ما فرضَها على آخر غيره، من خلال استبعاد الخيار الشخصي الذي هو حق مكفول في الشرائع والقوانين المجتمعية وفي النظرة الإنسانية. كما خُصّص لموضوع الإعلام، مساحة واسعة لأهميته ودوره في نشر ثقافة التسامح والتثقيف الوطني والإنساني.                                                                                                                         
ومن الجميل في الجلسات التي تخللتها الدورة، أن تتضمن تشكيل فرق متناسقة من منتمين إلى مكوّنات دينية وعرقية متنوعة ومن مناطق مختلفة من شمال العراق إلى جنوبه، وفيها تم دراسة حالات معينة ونماذج محدّدة من مشاكل وانتهاكات تعرّض ويتعرّض لها أبناءُ هذه المكوّنات، وتقديم المقترحات لتسهيل حلّها بالوسائل التي يمكن معالجتها قانونيًا، دون تدخل خارجي أو تعقيد عرقي أو طائفي.
اختتمت الدورة في يومها الرابع بتقييم عام، حيث عبر ممثلو المجموعة الدولية عن ارتياحهم العام وامتنانهم لإدارتها وإعجابهم بالمشاركة الفاعلة والاندفاع الطوعي للعمل في مجال المجتمع المدني من جانب عموم المشاركين.
وبهذه المناسبة يشكر مجلس الأقليات العراقية الحكومة الهولندية لرعايتها لهذا المشروع وتقديمها الدعم المادي المعنوي عبر شركائنا في المجموعة الدولية لحقوق الأقليات لإكمال هذه الدورة وفق الأهداف المرسومة لها. كما يقيّم الجهود المبذولة من جهات أخرى من أجل إنجاح هذه الورشة، سواء من النخبة المختارة من المشاركين أو بالحضور المتميّز والفاعل لمختلف مممثليات الأمم المتحدة العاملة في كردستان، التي أعربت عن إبداء تعاونها مع مختلف منظمات المجتمع المدني دون تمييز واستعدادها للاستماع إلى استقساراتهم وتساؤلاتهم والعمل على تسهيل ونقل طلباتهم وملاحظاتهم إلى الجهات المختصة في الوطن أو في أروقة المنظمة الدولية عبر ممثلياتها ومكاتبها في عموم العراق.

لويس إقليمس
مجلس الأقليات العراقية









346
في الذكرى السنوية الثالثة لمأساة كنيسة سيدة النجاة : أملٌ ورجاء!

 31 تشرين أول 2013
في حياة الإنسان محطات، ولكلّ محطة وزرُها وتحدّياتُها، رغدُها ومسرّاتُها. هذه الأخيرة، اي  الرغد والمسرّات، فهي تبقى عادة طيّ الكتمان، ذلك لأنّ التصريح بها على الملأ قد يشوبه شيءٌ من الغيرة والحسد لصاحبه. وببساطة، لأن هذه الأخيرة ملكية شخصية، ومن ثمّ ليس من حق الآخرين الولوج إلى أسرارها.اوأمّا الأولى، فبسبب ما تحمله من طيّات الألم والثبات والعناد والمثابرة وكلّ اشكال التحمّل الذي تقوى أو لا تقوى عليه الذات البشرية، فهي في أغلب الأحيان لا يمكن أن تبقى مطوية النسيان أو ملكًا للشخص الذي تعرّض لها.
حادثة كنيسة سيدة النجاة، كانت بحق مجزرة رهيبة ووصمة عار كبرى بحق الإنسانية وكلّ مَن يتشدّق بحرية الرأي والمعتقد والدين وحقوق الإنسان، مِن دول ومنظمات ومؤسسات خاصة وعامة. وقد لا يتصوّر مأساتَها وواقعَ حدوثها إلاّ مَن شهد حقًا هولَها ورهبتَها وتفاصيل أحداثها التي طالت زهاء أربع ساعات من الخامسة والثلث عصر الأحد 31 تشرين أول ولغاية الساعة التاسعة والثلث تقريبًا من مساء نفس اليوم. حينها، انتهت بمقتل أو تفجير الانتحاريين الأربعة الذين كانوا اقتحموا في وضح النهار صحن الكنيسة بعد ارتكاب جريمتهم الكبرى بحق مصلّين آمنين، ومن بينهم كاهنان شابان وأكثر من أربعين مؤمنًا.
شريط الحدث المأساوي يراودني دومًا، ولا يريد مغادرة ذاكرتي. كلّما أُسأل، وما أكثر ما أُسأل: هل تتذكر ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم؟ يكون جوابي: وهل تنسى الأمّ ولادتَها القيصرية بعد طول معاناة وساعات آلامٍ كادت تؤدّي بحياتها في أية لحظة؟ هكذا كنّا نحن الذين اتخذنا من غرفة الخدمات "السكرستيّا"، ملجأً لنا، حسبناه آمنًا ولو لحين، لكنّه في حقيقة الأمر كان أشبه ببناءٍ من قشّ رقيق يمكن لصاحب الأمر أي الانتحاري الجالس أمامنا وعلى بعد خطواتٍ منّا، أن يفجّره برمّانة أو يقتحمه ويسقطُ علينا وابل رصاصه الملعون. وقد فعلها حين أقدم على إلقاء قنبلة أو رمّانة على مقربة من الشاب اليافع "أيوّب" المضرّج بالدماء والذي كان يرقد إلى جواري يصلّي مسبحتَه، فأسكتتْ تلك القنبلة روحَه إلى البد وأصابت أجزاء من جسمي وأعاقت طبلة أذني اليسرى، وما تزال شظية صغيرة تسكن وجنتي اليسرى، كما أصابت غيري.
كنّا نعدّ الدقائق بل الثواني وهي تسير ببطء خلناها ساعات بل سنواتٍ من كابوس ظالم جثم على صدورنا وأرعبَ أفئدتنا، هذا إذا كان قد بقي لنا قلوبٌ تنبض وصدورٌ تشهق وألسنة تلهث. هكذا دارت تلك المجزرة! أربع ساعات من إرهاب قسريّ فرضه أصحاب القلوب القاسية على مصلّين، جلُّ ذنبهم أنهم يختلفون في الدين والمعتقد عن مجموعة إرهابية سلفيّة متحجّرة الفكر وجافية القلب تريد ترتيب العالم وفق مقاساتها ومعاييرها المتخلفة والمتزلّفة. أيّ دين هذا الذي يأمر بقتل نفس آمنة من دون ذنب! وأية أمة هذه التي تسمح لأتباعها بخرق كلّ الأعراف الإنسانية وتنصّب نفسها حاكمًا باسم الله! وأيُ نظام هذا الذي يتساهل مع الجريمة ومرتكبيها ويفسح المجال للإرهاب كي يقتل ويعيث في الأرض فسادًا!
تلك الحادثة، كانت لي كما لغيري من الذين قضوا شهداء أو نجوا بأعجوبة من هول مأساتها، شهادة حيّة ناطقة يمكننا الافتخار بوسام الشهادة أو الاعتراف الذي نلناه. وليس من الجميل ومن الأخلاق أن تُستغلّ  من ذواتٍ تاجروا بها بل نصّبوا أنفسهم شهداء للحقيقة ونالوا كيلَ المدائح من دون وجه حق!
دروسُ حادثة كنيسة سيدة النجاة ونتائجُها كثيرة وعميقة، ليس على الصعيد الكنسي والجماعة السريانية فحسب، بل أيضًا على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي. ولعلّ من أولى تلك الدروس التي تعلّمناها، أن المسيحي يبقى دومًا مشروعًا للشهادة بدينه وربّه ولأجل كنيسته وجماعته. رُبَّ سائلْ متشكّكٍ بقدر الحادثة وترتيباتها الربّانية، فهذا شأنُه. لكنّ التاريخ والشواهد الكنسية منذ بدايات نشأة الكنيسة، يعلّماننا أن أتباع الديانة الجديدة كانوا مشاريع للشهادة والاعتراف بالمسيح، عانوا من ضيقات وعذابات واضطهادات وتهجير وقتل، بل ذاقوا أمرّ العذابات وتلقوا أشرس أدوات الاضطهاد من صَلبٍ وتنكيلٍ ورجمٍ وما إلى ذلك. والمسيح ذاتُه قالها صراحة: "سوف يضطهدونكم ويقتلونكم ويقدمونكم للمجامع والمحاكم باسمي.... ومن يثبت فذاك يخلص...لا تخافوا من الذي يقتل الجسد ولا يستطيع قتل الروح...".
ومن دروسها الأخرى، أنّها علّمتنا الثبات والثقة وفتحت باب الرجاء لمن أراد تقوية إيمانه وتعزيز رجائه بمخلّصه والتشبّث بكنيسته وربط مصيره بها وبأرضه وبوطنه الجريح. فبعد الآلام والصلب، يأتي فرح القيامة وانبعاث الأمل من الموت، ذلك لأنّ حياتنا مرحلة ومحطة فانية يمكن توقّع كلّ شيء فيها من طيب إلى سيّء، ومن سارّ لمرير، ومن إيجابيّ لسلبيّ. تلكم هي الحياة، مزيج من هذا وذاك!
والدرس الآخر، أن تلك الحادثة قد رفعت من شعور ضمير الدولة بما ألحقته هذه المصيبة، ليس في أوساط مرتادي هذه الكنيسة، بل أيضًا في ضمائر العراقيين الشرفاء من جميع الأديان والمذاهب والملل، إلاّ القلّة القليلة الفاسدة، حيث تناخى الجنوب والشمال والشرق والغرب لنصرة أبناء هذه الكنيسة والتعاطف معهم وبهم مع أتباع كنيسة العراق الكبير. ويكفي أن هذه الحادثة المؤلمة، يتذكرها العراقيون جميعًا، عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وتتناقلها وسائل الاتصال الاجتماعي من دون حرج. بل إنّ هذ الكنيسة قد أصبحت محجًّا ومزارًا لمَن لهم رجاء وغيرة وأمل بقدرة الله وثبات الشهداء والمعترفين.
أمّا نتائجُها السلبية، وبسببٍ من عدم وضوح الرؤية أمام المؤمن المسيحي وعدم نضوج الرسالة لدى الكثيرين، فقد كانت الحادثة علامة لنزع ثوب الرجاء والابتعاد عن رسالة المسيحي التي تطالبُه بالبقاء خميرة صالحة في العجينة الكبيرة، مستبدلاً إياها بالبحث عن نوافذ أكثر أمنًا وترفًا وتخليًا عن واجب ديني وأخلاقي ومعنوي. وهكذا كانت الهجرة، أيسر سبيل للتخلّي عن واجب الرسالة، ما أصاب المكوّن المسيحي بعجزٍ وفقرٍ ونقصٍ في العدد والعدّة، في الفكر والكفاءة، في التأثر والتأثير بالمحيط الذي انتقاه ضمانًا لعيشه واستقراره. ورغم أنّ هذا الخيار محترمٌ ولا اعتراض عليه، لأنه يبقى شأنًا شخصيًا، إلاّ أن الوقائع والتاريخ والمواقف يصيغها الرجال الأمناء والرعاة الهمامون والأبناء البارّون من خلال المثابرة والثبات والعناد والصبر والتجذّر المرهونة بالأمل والرجاء بفرح القيامة النافضة لغبار المتاعب اليومية التي تعتري سياسة الدول وتختلج فيها الإرادات الشرّيرة لجماعات التطرّف والتزلّف والاستكبار.
قولٌ أخيرٌ أسوقه لمن يسرّه سماع ما في جعبتي من أمل وتفاؤل ورجاء: شهادتي في تلك الحادثة المريرة، ستبقي لي سلاحًا أحمله أينما قصدتُ أو تحدثتُ. وكلّما حُملتُ أو أردتُ الحديث عنها، فتفاصيلُ أحداثها باقية محفورةٌ في فكري وشجني ووجداني. هي ألهمتني كيف يكون التجذّر والالتحام بالأرض، أرض الآباء والأجداد. عجبي، هل بهذه السهولة يُضحّى بالوطن والأرض وبإرث أوليائنا وربابنتنا ورؤسائنا، والأهم بمن حمل شعلة الرسالة المسيحية الأولى؟ أترك لكم الخيار في الردّ والتقرير والعودة إلى حديث جوهرة كنيسة العراق، البطريك لويس ساكو، في رسالته الأخيرة إلى الذين اختاروا الاغتراب، ودعوته لهم للعودة إلى أرض الوطن والمشاركة في بناء الحاضر والمستقبل، بدل الضياع في المجاهيل والبقاء أقليات وجاليات غريبة خاوية من مقومات الجماعة بعد جيلين أو ثلاثة.
الرحمة لشهدائنا الأبرار وتحية للمعترفين الذين خبروا أحداث المجزرة والعون والهداية للذين تأثروا بأحداثها وانقلبت أحوالُهم، إنْ غيرةً و حسدًا أو خوفًا وتكابرًا.

لويس إقليمس
بغداد، في 30 تشرين أول 2013


347
مجلس الأقليات العراقية يلتقي ممثل مكتب الارتباط بالسفارة الهولندية

على هامش الدورة التي أقامها مجلس الأقليات العراقية في أربيل عن "حرية المعتقد والدين وكيفية حماية حقوق الإنسان"، للفترة من 19-22 تشرين أول 2013،  التقى السيد كريس شابمان من المجموعة الدولية لحقوق الأقليات، يرافقه السيد لويس إقليمس نائب رئيس مجلس الأقليات العراقية، بالسيد جيروين كيلديرهويس، رئيس مكتب ارتباط السفارة الهولندية في أربيل. دار اللقاء حول مشاكل أبناء المكوّنات الدينية والعرقية قليلة العددد "الأقليات"، التي ما تزال تتعرّض لضغوط كبيرة وأعمال عنف متلاحقة للنيل من كيانها وهويتها ومن أجل حملها على ترك مواقع تواجدها الأصلية ونسيان تاريخها وتراثها وقطعها عن أصولها. كما جرى التطرّق إلى المشروع الذي ينفذه الشريكان عن حرية المعتقد والدين وكيفية استخدام الإعلام لحماية حقوق الإنسان من حيث البعد القانوني والإنساني.

لويس إقليمس
نائب رئيس مجلس الأقليات العراقية


348
التسلّط، ظاهرة جديدة أم آفة استغلالية!

لأسباب عديدة ومتغيّرة، تفاقمت ظاهرة التحكّم الظالم بالآخرين، من دون وازع أو سبب، إلاّ من حيث العطش بفرض إرادة التسلّط وهوس جنوني بالتحكم برغبات الغير وامتلاك رقابهم  بطرق ملتوية لا تخلو من عنف وقهر وقسرية. فهل أصبحت حرية الآخر أمرًا مباحًا في أزمنة الزمن الغادر الذي استشرى فيه الفساد والغيرة والحسد والتكفير والتخوين، وأخذ مساحته الفسيحة الواسعة وسط مجتمعات متعايشة لم تألف مثل هذه الظاهرة الآفة معًا؟
لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، وما على العقلاء والمعتدلين والمثقفين سوى قليلٍ من الجرأة الوطنية والشجاعة الدينية المتسامحة لوأد الفتنة والحدّ من امتدادها، قبل أن يستفحل الداء، هذا إنْ لم يكن قد استفحل أصلاً. فما تشهده مدن العراق عامة وبغداد خاصة، لا يفرح ولا ينبئ بخير، حتى بلغ الإثم عاصمة العراق الصيفية، أربيل، الهادئة والعامرة بأهلها وقيادتها الحريصة على إبقاء شمال العراق (كردستان) هادئًا، بعيدًا عن التجاذبات السياسية التي تطحن باقي مناطقه بسبب صراعٍ طائفيٍ مرير نخر الدين والدنيا والعباد دون هوادة.
وسط الكمّ الهائل من التفجيرات الأخيرة التي ضربت مدن العراق، من شماله إلى جنوبه، بطرق وأساليب مبتكرة: من سيارات مفخخة، وعبوات ناسفة واغتيالات بكواتم، إلى جانب عمليات التهجير القسري والتهديد بغيرها، ماتزال الأجهزة الأمنية عاجزة وغير فاعلة في صدّ أو في الأقلّ بالحدّ من أمثال هذه العمليات. بل بالعكس منه، قد اشتدّت وتزايدت وتنوعت، بل منها ما يقع أمام أنظار دورياتها وأفرادها الذين يملؤون شوارع بغداد وباقي المدن كديكورات للأذى وإعاقة مسالك الطرق أمام السيارات والمارة وما يشكلونه من تأخير وإزعاج، بحجة الحرص على أمن المواطن. وكلّ ذلك، ليس سوى أوجه من إرادة التسلّط وحبّ التحكّم بالآخرين من دون وجه حق.
 أيّ حرصٍ هذا الذي تتبجّح به الحكومة وأجهزتُها الأمنية حيال أمن الوطن والمواطن بالضحك على الذقون بأجهزة السونار الفاشلة التي ما تزال لم تُعالَج رغم أن الدولة التي باعتها قد أدانت الشركة المصنّعة وحكمت على البائع!
وأيّ حرصٍ هذا، ونحن نرى عدم فاعلية أفراد نقاط السيطرة الذين لا همّ لهم سوى قضاء فترة واجبهم بالضحك والقهقهات وسرقة النظر من على وجوه الجنس الناعم، لاسيّما إن كانت تقود هي المركبة!
واي حرصٍ هذا، وتبريرُهم بغلق مسارب السير إلاّ من مسرب واحد زيادةً في إذلال سالكي الشوارع والطرق الخارجية، لاسيّما بين بغداد وكردستانّ!
 وأيّ حرصٍ هذا، أمام عدم الجدّية في حلّ أهمّ عقبة لكل الإشكالات الأمنية، التي سببُها الأساسي عدم تحقيق مصالحة صادقة وحقيقية بين شركاء العملية السياسية برمّتها!
وأيّ حرصٍ هذا الذي أفقد الشراكة الوطنية مقوّماتها وأحالَها إلى تسلّط فئوي غير مقنع!
إن المواطن لم يعدْ يقتنع بعدُ، بمثل هذه التبريرات الهزيلة وغير المقنعة التي تقدّمها "كونسورتيومات" الحكومة بأجهزتها المتعددة، لأنها ببساطة، لم تعد رائجة وفاحت نتانتُها لهزالتها ونفاذ جدواها الإعلاني.
مجمل هذه التبريرات إذن، تدخل في نطاق ظاهرة جديدة "قديمة" تسعى لفرض السطوة والسلطة على الغير رغم أنف المعترضين، ضاربين سيادة الشعب ومصلحته وطموحاته عرض الحائط. فالأجهزة الأمنية الفاشلة في فرض الأمن وصدّ موجاته العديدة المتكررة يوميًا، لا تقلّ في أذاها ما يسعى إليه جاهداً، مَن ينصّب نفسه حاكمًا بأمر الله وقاضيًا باسمه ووكيلاً وظلاًّ له على الدين والدنيا والعباد. فأيًّ دينٍ هذا الذي يقبل بتسلّط أفكار متشدّدة ومتطرّفة حدّ العظم، تدّعي وحدها صلاحية التفسير الصحيح وعلميّته ومشروعيّته، وما عداها ليس له سوى الطاعة والخضوع دون نقاش أو اعتراض أو مجانبة!
لقد تمادى الوقت كثيرًا في فضح مثل هذه السلوكيات غير المقبولة، وآن الحينُ لتراصف جميع القوى الخيّرة وفرز المغرضة منها والمجانِبة للحق والرافضة للخير ولوسائل التسامي بالدين المتسامح. فالكلمة الصادقة وقول الحق مطلوبان من قلم كلّ من يدّعي الثقافة والمدنية والديمقراطية والحرية، من دون مجاملة أو هوادة أو رياء.
 عسى الله يسمعُنا ويجنّبُنا الأسوأ. فالقادم أظلم، كما يبدو.

لويس إقليمس
بغداد، في 1 تشرين أول 2013

349
في ضوء مبادرة البطريرك ساكو:
معًا، نحو "مجلس وطني مسيحي عراقي مستقلّ"

كنتُ متوقعًا مثل هذه المبادرة الرائعة أن تصدر في أية مناسبة قريبة، على العهد الجديد لكنيسة العراق، سيّما وقد أفصح بها لي البطريرك ساكو في أول لقاء لي مع غبطته بعد توليه دفة الكنيسة الكلدانية. وقد دار الحديث في حينها حول ضرورة إحياء الدور المسيحي الإيجابي المؤثر في محيطهم، كما كان عهدُهم في سابق السنين. وكما كتب وأشاد كتّاب رصينون ومتنوّرون بهذه المبادرة حال صدورها، فإنني أضمّ صوتي إلى أصواتهم التي قيلت والتي ستُقال من أجل إنضاجها بتشكيل "مجلس وطني مسيحي عراقي مستقل"، برعاية  كنسية أبوية نقية،  خالية من التدخل في شؤونه السياسية والعلمانية، إلاّ فيم يقتضيه التوجيه الأمثل نحو خدمة الصالح العام للوطن والجماعة وترسيخ مفاهيم العدل والسلام والأخوّة والتعايش السلمي والحوار مع باقي المكوّنات في الوطن. وأشدّد، كي يكون مثل هذا التشكيل المسيحي العتيد مستقلاًّ وغير منحاز لجهات سياسية وقومية، أن يُصار إلى تشكيله من جميع الجماعات المسيحية دون استثناء ويفتح فيه باب الانتماء الطوعي بعد اختيار قاعدته التحضيرية في اجتماع أو مؤتمر يدعو إليه غبطة البطرير لويس ساكو بمعية إخوته في مجلس الطوائف المسيحية الذي يمكن أن يكون للأخير بصماتٌ توجيهية إضافية مثمرة.
الهوية المسيحية سبيلُنا الأمثل لتحقيق حقوقنا وثباتنا في الوطن
قرأنا وسمعنا العديد من الأفكار والطروحات والمشاركات والمقترحات حول كيفية الحفاظ على كياننا المسيحي نقيًا وفاعلاً في بلد الآباء والأجداد، بلد الحضارات والبطولات، العراق الجريح حتى النزف. وأنا أيضًا، كنتُ قد كتبتُ في الشأن المسيحي وما يمكن أن تشكله الهوية المسيحية من أهمية وقوة في مسار الحياة الوطنية والكنسية لعموم المكوّن المسيحي، من دون استثناء، بحيث تحفظ وتحافظ كلّ  جماعة (طائفة أو ملّة) على خصوصيّاتها الفكرية والطقسية ضمن المسار الخاص لكلّ منها. فالهدف الأسمى ينبغي أن تكون من أولوياته، كيفية الحفاظ على هذا الوجود المسيحي قويًا وفاعلاً وإيجابيًا، وليس هزيلاً تابعًا. وهذا في اعتقادي، ممكنٌ ومُتاحٌ، بوجود النية والإرادة والقوة الدافعة لتحقيقه. وكما يقول المثل الدارج "منك حركة، ومنّي بركة". فالحركة موجودة وقائمة بفضل العناية الربانية التي أهدت فعلة نشطين في كرم الرب، وهمْ عازمون على عقد النية لتحقيق مثل هذا الهدف بعد ترسّخ التحديات الكثيرة واستحالة إزالتها بالاعتماد على بعض القوى السياسية "اللّاوطنية"، من مكوّنات وأحزاب فئوية وطائفية، تمسك بزمام الحكم في البلاد بـأسنانها وترفض التنازل والتراجع لغيرها بعد ثبوت فشلها في تأمين الحياة الآمنة والعيش الكريم لشعب قضى عمره في التهلكة والغمّ والبؤس. وأنا لا أستثني، فشل أحزابنا المسيحية أيضًأ،  في المطالبة بتوفير الحدّ الأدنى من حياة وطنية حرّة، كريمة، آمنة، وفاعلة وسط الخضمّ الهائل من المعوّقات والتدخلات والمماحكات والسجالات، والأنكى من ذلك، في غياب صوت وطنيّ مسيحي قويّ موحّد، مستقلّ في آرائه وتوجهاته وأفكاره ولا يكون تابعًا ذليلاً وخاضعًا خنوعًا لفئات وأحزاب ومكوّنات ترى فينا نحن المسيحيين، خير أداة لتحقيق مآربها وتوجهاتها ومخططاتها التي لم تعدْ تنطلي على العقلاء والفهماء والحكماء والمثقفين المدركين لمجريات الأحداث، من "ساسها إلى رأسها".
المسيحي قوّة إيجابية في مسار الأحداث
أعود للقوة الإيجابية الفاعلة التي يمكن للمكوّن المسيحي أن يفعّلها ويستفيد من رعاة مختلف الكنائس، وعلى رأسهم غبطة البطريرك لويس ساكو، الذي عوّدنا، كما كان ومازال عهدُنا فيه، على إطلاق المبادرات التي يمكن أن تلد رهانًا جديدًا على الساحة السياسية الوطنية والمسيحية معًا. وأنا قد وضعتُ شخصي وقلمي وفكري تحت تصرّف غبطته ورئاسة طائفتي، من أجل تحقيق الهدف الأسمى، حلم المسيحيين، الذي يمكن أن يكون حلمَ جميع العراقيين بالتالي، وهو "تحقيق الحرية الحقيقية والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات والعيش الكريم الذي يليق بشعب أصيل ومتألّم". وهذا، كما قلتُ في كتاباتي السابقة، غير ممكن التحقيق إلاّ في حالة التأسيس لدولة مدنية متحضّرة تأخذ من الديمقراطية الوطنية الصادقة سبيلاً للعيش المشترك وتحقيق السلم الأهلي وليس للمتاجرة بها. فالديمقراطية الخائبة التي أراد المحتلّ الأمريكي ومعه الغرب الفاسد المغرض، أن ينقلوها ويفرضوها على الشعب العراقي، أثبتت خيبتها لآمال جميع العراقيين، لأنها لا ترتكز على أسس حضارية وطنية عراقية خالصة. فالحضارة التي يملكُها شعبُنا والأصالة في تاريخه العريق والتي تغيب في تلك المجتمعات، يمكن تجديدها بفعل انبعاث حركة بل حركات تجديدية على صعيد الوطن الأم، وليس على اساس فئوي وطائفي ضيّق الآفاق أو مشاريع مصدّرة، كما أرادته معظم حكومات الغرب الملحدة ومعها الطاغوت الأمريكي الفاسد والمفسد.
لقد عوّدنا البطريرك ساكو ضمن نهجه الوحدوي وسعيه الدائب للحوار والنقاش من أجل إيجاد قاعدة قوية وراسخة للعيش المشترك بين جميع الأديان والطوائف والأعراق. وهو مصمّم على وضع شعاره البطريركي "أصالة، تجدّد، وحدة" حيّز التطبيق في كلّ خطوة يخطوها، حتى لو كانت بمثابة "حبوة طفلٍ" في بدإها، لكنها بخطوات واعدة ومؤثرة وفاعلة ومتزنة ومتواصلة، لا مهادنة ولا تهاون ولا توانٍ فيها. ف"من ثمارهم ستعرفونهم".
السياسة في مفهوم الكنيسة
لم تعد السياسة طوطمًا أو ماموثًا يُخشى منه، بل غدت زادًا وقوتًا في حياة البشر. ولكنها كالسيف البتّار، إنّ لمْ تتروّض وتوجّه لصالح البشر وحقوقهم المشروعة وكرامتهم الإنسانية ونصرةٍ لشعوبهم من أجل حياة حرّة كريمة، لتراجع فهمُها وارتدّت حبلاً خانقًا وسيفًا قاطعًا لكلّ طرحٍ لمشروع وفكرٍ إيجابيٍّ. لذا، من حقّ الكنيسة أن تشجّع المؤمنين العلمانيين لدخول معترك السياسة، طالما كانت الأخيرة مسؤولة عن تحديد مسارات الناس والشعوب وتقرير مصيرها عبر آليات الحكم وتداول السلطة، أيًا كانت وسائلُها وآلياتُها. لكن الكنيسة، تنأى بنفسها دخول رجالها في دهاليز السياسة المظلمة، لما فيها من كواليس شائكة ودهاء ومكر، لا يعرفها إلاّ مَن خاض غمارَها وخبرَ سجالاتها وتأصّل من جرّاء تلوّنها وتنكّرها. والجانب المسيحي، أحوج ما يكون اليوم إلى أناسٍ عقلاء وحكماء ومتنوّرين ليخوضوا هذا المعترك، ليس بهدف تحقيق أغراضٍ ومصالح فئوية ضيّقة على حساب الشعب، بل من أجل قول كلمة الحق وتثبيته، سعيًا وراء خلق مجتمع وطني متعايش، متكامل و قادر على ترويض الساسة المغرضين ووضعهم في حدودهم ودفعهم على مغادرة المواقع التي نالوها دون وجه حق، إلاّ من أجل مصالحهم الطائفية والشخصية الضيقة.
مشكلتُنا نحن المسيحيين، أننا نحبّ أن نكون أتباعًا خانعين وخاضعين لغيرنا. ف"الغريب دومًا على العين والرأس"، فيما النبي يبقى مستبعَدًا وغير مقبولٍ ومرغوبٍ في بلده وفي موطنه وبين أهله وأبناء جلدته! فمغنيّ الحيّ لا يُطرب! قد يكون ذلك من طبعنا المتسامح وتميّزنا عن غيرنا من أتباع الأديان الأخرى بغياب جانب السطوة وعامل السيطرة لدينا وفي تصرّفاتنا. ولكنّها الحياة! ومِن ثمّ ليس من الممكن القبول بعرض الخدّ الآخر للمقابل المعتدي في حياتنا اليومية، في الأقلّ عمليًا وفعليًا ، أو التنازل عن حق مكفولٍ في الدستور والتشريعات الإنسانية التي يقرّها المجتمع  الدولي. فالهدف من المثل الذي ضربه المسيح في الإنجيل، لم يكن المقصود به ما يصرّ الغير المسيحي الاعتقاد به وتطبيقه على رأس المسيحي، كلّما فكّر في النيل منه وفي ترويضه وترويعه وإخضاعه له ليبقى ذليلاً مدى الحياة. يخطئ مَن يعتقد باتخاذ هذه العبارة ذريعةً لديمومة الخضوع للغير!. وبالتالي، لا يمكن القبول بتبعية جهات من مجتمعاتنا المسيحية لغيرها مِن الكتل والأحزاب والكيانات، حتى لو كانت هذه الأخيرة فاعلة ومؤثرة على الساحة السياسية اليوم. في هذه، نحن نفقد استقلالية هويتنا الوطنية المسيحية أولاً، ومعها تضعف قوتنا الإيجابية التي نتمتع بها فطريًا ومسيحيًا، بسبب سعي بعض هذه الأطراف المسيحية الخانعة لتحقيق أجندات هذا الغير المستغلّ لتسامحنا وضميرنا الحيّ وطيبتنا الاجتماعية. وهذا ما يساهم في فقدان جزء كبير من استحقاقاتنا الوطنية والمسيحية، كما يحصل اليوم في عدد من بلداتنا المسيحية، سواءً في سهل نينوى المرهونة بأيادي غير أمينة، أو في قرى وبلدات كردستان المستغلّة والمغتصَبَة منذ سنوات لغاية الساعة.
إن السياسة، ليست شيئًا سيّئًا، طالما أنّ تعاطيها سيكون من مصلحة الدين والكنيسة والمؤمنين والجماعة. فهي، من شأنها رسم الملامح الواضحة والدقيقة في حياة المواطنين، أينما ومهما كانوا. وهي أيضًا مطلبٌ منطقي وضروريّ من أجل ترصيع حياة الجماعة بأشكالٍ وألوانٍ مقبولة وقائمة بمفردات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية وما إلى ذلك. وفي اعتقادي، من شأن هذا التزاوج في الأدوار وفي الحقوق المشروعة بطَرق جميع الميادين والأبواب المفتوحة، من شأنه أن يعزّز الدور المسيحي في التأثير على مجريات الأمور في الساحة الوطنية، وليس بمعزلٍ عنها والانكفاء والانعزال في زوايا قاتمة ضيقة. فالانفتاح إلى تشكيلات وأحزاب وقوائم أخرى، بات أمرًا مطلوبًا أيضًا هذا اليوم، وبه ومعه يمكن إثبات وجودنا وتحقيق الأفضل، ليس من حيث نتائج الانتخابات التي تجري في البلد، بل على صعيد التفاعل مع مكوّنات المجتمع الفاعلة والمؤثرة الأخرى على الساحة.  ومِن ثمّ، لا أرى غرابة أن ينتمي المسيحي إلى قائمة أو أحزاب غير مسيحية، حتى لو كانت ذات بعد ديني مختلف. بل بالعكس، هذه ستكون وسيلة لتفاعل أكبر وتناغم أوسع وتكاتف أروع من أجل خلق الأجواء المناسبة للتأسيس لمجتمع متحضّر و متكاتف ومتعايش، كما "الخمير في العجين"، فهي لا يمكنها التفاعل إلاّ وسط العجين وليس إنْ بقيت منعزلة ووحيدة ومنكفئة على ذاتها. ولا أكتمكم سرًا، أنّي تلقيت ومنذ سنوات ولغاية الساعة، العديد من الدعوات للانتماء إلى تشكيلات لا تمتّ للمكوّن المسيحي بصلة، ولكنّي اعتذرتُ بسبب إيماني أن العمل المستقلّ يفتح لي شخصيًا آفاقًا أوسع لحركة أكبر من أجل مصلحة الوطن أولاً والمكوّن المسيحي عمومًا، وليس طائفتي فحسب. وكلّكم تعلمون السبب وراء مثل هذه الدعوات لضمّ أفرادٍ متنوّرين من المكوّن المسيحي في مثل هذه التشكيلات وفي القوائم الانتخابية، بل حتى في مكاتب التوظيف، العامة منها والخاصة. فأينما يتواجد المسيحي، تكون هناك النعمة والفرحة والبسمة والفأل الحسن! وهذا ينطبق حتى على مستوى السكن.
خطابُنا المسيحي، كيف نصيغه؟ ولمَن نوجّهه؟
الجميع مقتنع بسماحة الخطاب المسيحي وهدوئه وتأنّيه واحترامه للآخر في أغلبه، ذلك لأنّ ثقافتنا هي ثقافة حياة واحترام وقبول للآخر وليست ثقافة موت وقتل وترويع! ومِن ثمّ، فإنّ حقوقنا واحدة وكذلك أهدافُنا، ولا يمكن أن تشوبَها شكوكٌ أو مكابرة أو مزايدة، طبعًا مع حق احتفاظ كلّ جماعة بطريقة تفكيرها وطقوسها وخصوصياتها وبرامجها الكنسية والوطنية، ومن دون أن تتقاطع مع السقف المشترك لهذه الأهداف والحقوق. كما أنّ ايّ مساس بحق هذه الخصوصيات لن يكون مقبولاً البتة، لأنّ ذلك ينتقص من تراصف قوتها ومن فاعليتها. ففكرة إبقاء السيادة لجهة معينة ومحاولة فرضها على الأخريات، مهما صغرت أو كبرت، ليست مقبولة أيضًا، ذلك لآنّ أي تهميش أو إقصاء أو استبعاد أو انحيازٍ، يُعدّ استئثارًا واحتكارًا بواقع يُفرض بالقوة، وهو ما ليس مقبولاً أيضًا. فما ينفع في بلدة أو مجتمع أو محيط ما، قد لا يساير توقعات وآمال وتطلّعات غيرها، بسبب الاختلاف في الذهنيات وطبيعة تلك المجتمعات ومحيطها الذي تدور أو تعيش فيه. وهنا، لا بدّ من التذكير بضرورة سحب البساط من أرجل اصحاب المشاريع من التابعين بغير حكمة ودراية للغير المغرض والطامع، بسبب افتقارهم القرار المستقلّ في الرأي والفكر والتوجه. فمثل هؤلاء يشكلون اليوم، عقبة حقيقية كأداء أمام تحقيق أهدافنا وترسيخ حقوقنا الوطنية كاملة، وغير منقوصة. فنحن أيضًا نستحق جزءًا طيبًا ومقنعًا من الكعكة الوطنية، وليس الفتات الذي يُلقى به علينا منّةً وجزافًا وتفضّلاً. وهنا كلمة الحق بحقّ أمثال هذه الأطراف الخانعة تبقى واجبةَ القول، رغم حراجة المواقف وضربها لمصالح مادية أو لامتيازاتٍ شخصية هزيلة ونفعية لنفرٍ من المستفيدين من هذا الواقع المزري.
عمومًا، سيكون من المفيد بمكان، أن تتسامى جميع القوى فوق مصالحها الضيقة وخلافاتها الذاتية لصالح النفع العام، الوطني والمسيحي معًا. ولقد آن الأوان بعد فترة التجربة التي مرّت بها أحزاب وقوى مسيحية، أن تتعلّم النافع من الدروس، سواء تلك التي فرزتها المرحلة السابقة لسقوط النظام السابق أوفترة العشر سنوات من بعدها. من هنا أعتقد برجاحة الفكرة "المبادرة" الي أطلقها البطريرك ساكو في رسالته المختصرة الموجهة إلى كلّ القوى السياسية والاجتماعية العاملة في العراق، في الداخل وفي المهجر، في 16 ايلول الجاري، وفيها يدعو إلى تشكيل "مجلس أو تجمّع سياسيّ مسيحي وطني عراقي صرف، وليس فئوي" ومغرض الأهداف بحيث تكرّس التبعية والخنوع والظهور بمظهر الضعيف أمام الغير. فالمسيحيون، لا تنقصهم الخبرة ولا الثقافة ولا الكفاءة ولا الإيمان ولا الوطنية، والأكثر منذ لك كلّه، تميّزهم بضمير حيّ في الغالب. ومن الممكن البدء بهذه الحملة الوطنية، كلّ جماعة في كنائسها أولاً، وكلّ جمعية أو كيان حزبيّ من مواقعه باتجاه تشكيل مثل هذا التجمّع الوطني الجديد ليكون الذراع القوي الإيجابي المؤثر في الساحة السياسية، بفكر وتوجه مستقلّين، لا غبار عليهما. إن هذا التشكيل المفترح الجديد، من شأنه لمّ شمل االفكر المسيحي وتوحيد خطابه المستقلّ، وليس كما هي الحال فيما نشهده ونعيشه ونختبره اليوم أمام أعيننا، من تشرذم طاقاتنا وتشويه حقوقنا وضياع أهدافنا في خضمّ المصالح المتقاطعة بين الأحزاب الهزيلة المتواجدة على الساحة الوطنية السياسية. حتى إنّ الرصينة من هذه الأخيرة والمشهود لها بالنضال القومي مثل "زوعا"، قد شابها الضعف وضربها المكر والحسد بعد اختلاط الذاتي بالموضوعي، والشخصي بالقومي، ما أدّى إلى حزازات بين رفاق نضال الأمس ومتصارعي اليوم. فهي اليوم في موقف لا حتُسد عليه!
إن انتهاج الكتل السياسية الحاكمة، ومنها بخاصة المثلث السنّي – الشيعي الكردي، سياسة الإملاء والمكابرة والتهميش والإقصاء والاستهانة والاستحواذ على الكعكة لوحدهم وتركهم الفتات الهزيل للغير، من شأنه أن يوحّد خطابنا المسيحي، لنبدأ مرحلة جديدة، طالما أن رأس الكنيسة في العراق، وبمباركة من إخوته رؤساء الكنائس المسيحية مقتنع بإمكانية تحقيق مثل هذا الهدف، لتيسّر الإمكانيات وتوفر الدعم المطلوب من الشعب وكنائسه. وهذه دعوة للمتنوّرين من ابناء شعبنا المسيحي للتفكير الجدّي بهذه الأمنية، فقد يلهمنا الله ما فيه خير شعبنا وتحقيق الطموح ونيل الحقوق كاملة، ومِن ثمّ وقف نزيف الهجرة الذي نخر جسد كنائسنا والتي لا نتمنى تركها فارغة تصفر الهواء في المناسبات والاحتفالات. فإيمانُنا التقليدي وكنائسنُا الشامخة بصلبانها ومسيحيتُنا المشهودة منذ القرن الأول الميلادي، كلّها أمانة في أعناقنا ولا ينبغي التفريط بها، مهما اشتدّت الحالة وكثرت الشدائد. فالهروب من الشدّة سلاح المفلس وغير المؤمن بالقدَر والرسالة التي ائتمنها من ربنا. ألم يقلْ مار بولس" مَن يفصلني عن محبة المسيح؟ أضررٌ أم ضيقٌ أم شدّة...لا شيء البتة". هنا الصمود أولى ومطلوبٌ حتى النهاية. عسى أن تردّ هذه الأمنية شيئًا ممّا فُقد!
رجال الكنيسة ولعبة السياسة
عمومًا، أنا لستُ بمؤيّدٍ لفكرة ممارسة رجال الكنيسة للعبة السياسة الماكرة. كما لا أبتغيها لرجال أيّ دين، لأنّ" ما لقيصر يبقى لقيصر وما للّه للّه"، وكفانا شرٌ الظالمين!. فليس من مصلحة أي دين أن تتداخل فيه السياسة بالدين، وإلاّ فسدَ الإثنان معًا. فقد يقوم هذا على ذاك وتتقاطع المصالح وتتنافر الأهداف وتشتدّ وسائلُها، فنفقدُ بسببها الدّينَ والدنيا معًا! لقد وُجد الدين لنصح الملأ بالتقرب من الله وعمل الخير وتوجيه الخارجين عن السراط المستقيم والإيمان وقول كلمة الحق من دون انحياز أو مجاملة أو مخاتلة. وبإمكان الكنيسة عبر رجالاتها الحكماء والمثقفين المسلّحين بدرع الإيمان والصلاة والمحبة، أن يقوموا بتقريب المسافات بين الناس المختلفين وإبداء وجهات نظر معقولة حول سير الأحداث وإرشاد المؤمنين وقادتهم المدنيين إلى صوت الحكمة في التعامل مع ملفات شائكة تخصّ الوطن والمواطن، كما تخص الكنيسة ومؤمنيها، من دون الإخلال بالأنظمة والقوانين الكنسية. فليس من المقبول تكرار مآسي الكنيسة إبّان القرون الوسطى وما جلبته من انتكاسات إيمانية وسلبيات على صعيد الدين والمجتمع على السواء. وهي أسمى مِن أن تتدخل في الشأن السياسي الذي هو شأنٌ دنيوي. فالأخير متروكُ دورُه للعلماني كي يحكّم عقله ويفرزن النافع لدينه ووطنه وأبناء بلدته، وفق السياقات المقبولة والظروف المحيطة بكل طرف. كما لا يمكن القبول بمبدأ المتاجرة بالدين. هناك اليوم من يستغلّ الدين لتحقيق أهداف غير نزيهة. لننظر ما تصنعه الميليشيات والأحزاب المتستّرة بجلباب الدين. أين أوصلت البشرية؟ أليس إلى الهاوية، وبئس المصير؟  نعم، نحن بحاجة إلى رجالٍ ونساء وساسة وعلماء وتجار ومعلمين وطلبة متديّنين، وليس إلى تجار بالدّين وأدواته!
إنّ الاحترام واجب الضرورة للدين ولرجاله، إذا صانوا الأمانة الرسولية التي أوكلت إليهم  يوم قبولهم الرسامة الكهنوتية و تكريسهم حياتهم للكنيسة والمجتمع. ومن يخرج عن هذه الجادة، لا يستحق مثل هذا الاحترام، بل تلحقه لعنة الله والمسيح والكنيسة والشعب المؤمن. وهناك امثلة كثيرة. بل إنّ الكنيسة تحتاج اليوم، لمراجعة نفسها وحركة وكلائها وأنشطة كهنتها للتأكد من صحة سيرهم ضمن النهج الذي قبلوا باتباعه، وليس الانخراط في السياسة وجني الأرباح من مال السحت الحرام والامتيازات التي تغمرُهم بها مغازلةُ بعضهم ومجاملتُهم ودفاعُهم ودعمُهم المنحاز وغير المقبول لهذا الطرف أو ذاك، دون وجه حق. وهذا ما يدعونا لعدم جرّ الكنيسة، بسبب تصرفات بعضٍ من رجالاتها، إلى خلافات إضافية لتعميق الهوّة بين الكنائس وجماعات المؤمنين عبر كياناتهم وأحزابهم وتجمّعاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. بل يمكن لهؤلاء جميعًا، أن يعملوا بنسقات متفق عليها، كلّ من موقعه، ولكن في خطّ موازٍ بحيث لا تكون هناك خطوطٌ متقاطعة. فالكنسية تبقى معنويًا هي السند السامي الأساسي والقوي لأيّ تحرّك أو نشاط وطني، سياسي، اجتماعي، قومي، وقلْ ماشئتَ.
هزالة أحزابِنا على الساحة السياسية
كم أتمنى مثل غيري، إنْ تسامى السياسي الذي أتعبته الأيام ولم تعدْ لديه القدرة على تقديم الجيد والأفضل لشعبه، بفسح المجال لغيره! فالاعتراف بنضوب القدرة على التواصل الحثيث مع مستجدّات الأمور، من شيم العقلاء والحكماء، بعد أنّ يرقصوا رقصتهم ويؤدّوا دورهم ويتركوا الشعب والتاريخ يقرّران حكمهما على نتائج أفعالهم ومنجزاتهم. وهذا ليس فشلاً، بقدر ما يعني الحاجة إلى القبول بالتجديد والتغيير تسايرًا مع مستجدّات الحياة ومتطلّباتها. فعالمُ اليوم، يحبّ التغيير كثيرًا، ولا يمكن البقاء في العيش على وتيرة واحدة. إنّ السياسيّ المحبّ لشعبه، ينبغي له قبول كلّ الخيارات كي تبقى مفتوحة أمامه. فلو دامت لغيره، ما آلتْ إليه. فهناك دائمًا، حدود للخدمة وطاقات لتقديمها في أفضل الظروف. وحين تنعدم أو تختفي هذه الظروف، يتعيّن التفكير بالتغيير الضروري والتجديد بأية وسيلة متاحة.
لم يكن بودّي التطرّق إلى طبيعة عمل أحزابنا المسيحية (القومية، كي لا يزعل البعض)، لكنّ ما يطفو اليوم على الساحة السياسية لا يُنبئ بفألٍ حسن. لذا كانت دعوتي المترافقة مع مبادرة البطريرك ساكو التي سبق أن ناقشتُها مع غبطته في لقائي الأول معه بعد تسنّمه السدة البطريركية، بضرورة التأكيد على الهوية المسيحية الوطنية قبل كلّ شيء، في أدبيات أحزابنا المسيحية. فهذه وحدها كفيلة برصّ الصفوف ونيل الدعم الكامل من رئاسات كنائسنا، لأنها محور وجودنا في البلد وفي الشرق. وخير درسٍ لنا، ما تشهده المنطقة عمومًا، ومنها في العراق، من اعتداءاتٍ واستهدافاتٍ باسم الدين، ولا من سببٍ آخر غير الاختلاف في الدين.
إن العمل النضالي التاريخي للحركة الديمقراطية الاشورية "زوعا" مثلاً،غنيٌّ عن التعريف. فقد شقّت نضالها في أحلك الظروف وقاومت ودافعت عن حقوق مهضومة لشعبها الذي كانت تدافع عنه في مناطق تواجده حينذاك، لاسيّما في شمال الوطن (كردستان اليوم). وهي اليوم تمرّ بمخاضٍ عسير، نأمل أن تخرج منه منتصرة ومعافاةً أكثر من السابق، بفضل العقلاء فيها واصدقائها ومحبّيها وبتنازل جميع الأطراف، الملتزمين بها تنظيميًا والخارجين عنها إداريًا. فليس من المعقول، التضحية بكلّ ذلك الكمّ الهائل من وسائل النضال وقوافل الشهداء والفكر القومي الذي سارت عليه في الدفاع عن أهدافها. وليس غيرُها لغاية الساعة، يجرؤ الحديث عن تنظيم سياسيّ قوميّ يلقى التأييد في صفوف الشعب المسيحي والأوساط السياسية الوطنية مثلَها. هذا فقط، إذا أقدمت بصدق على خطوات إصلاحية داخلية وتنظيمية ضرورية تتطلبها المرحلة الراهنة كي تخرجها من شرنقة التقوقع الآشوري الأحادي الفكر والتوجه. وما عليها إلاّ أن تستفيد من فرصة الظروف الراهنة لإحداث هذه التغييرات، إن أرادت حقًا مواصلة النضال بنهج سياسي وفكري ومسيحي جديد. فما هو قائمٌ مِن غيرها من أحزاب وتنظيمات، لا يعدو كونه طفوًا تابعًا لأجندات مرحلية تتبع أطرافًا معروفة ولن تتوفّق في بلوغ مآربها. فما يٌبنى على أموال السحت الحرام لا يمكنه أن يدوم ويثبت! وكما قلتُ في أعلاه، فالتجدّد والتغيير مطلوبان.
من هنا أضمّ صوتي لمبادرة البطريرك ساكو، للتفكير جدّيًا بكيان سياسيّ مسيحي وطنيّ صرف شامل، يؤكّد على الهوية المسيحية الوطنية في أدبياته قبل ايّ شيء، ويكون مؤازرًا ل"زوعا" في هذه المرحلة الحرجة، من حيث فكرة الدفاع عن حقوق المسيحيين اينما كانوا، دون أن يتقاطع الإثنان. فهذا الكيان الجديد، إنْ يُكتبُ له النجاح، سيكون جديرًا بتثبيت الحقوق المهضومة واستعادة المبادرة الإيجابية المؤثرة للحضور المسيحي في وسط الأزمة الوطنية المتعثّرة الراهنة. 

لويس إقليمس                 
بغداد، في 18 أيلول 2013




350
لماذا أكتب، وكيف، وماذا، ولمَن؟

فن الكتابة بمجمله، فيه شؤون وشجونٌ. فهو، إلى جانب ضرورة توفر القدرة على إيصال الفكرة بأسلوب سلس وواضح خالٍ من اللف والدوران، يتطلب أيضًا الكثير من الدقة والحذر والإحاطة بمجمل الموضوع الذي يتم طرحُه أو عرضُه على القارئ. وعلى الكاتب، ألاّ يبخل باستخدام العبارات القوية وشدّ ذهن قارئه حول جوهر الفكرة منذ بداية السرد، كي لا يتيه في الكماليات والمجمِّلات. فالدخول في الموضوع أصرفُ من الدوران حوله وعدم إيصال المطلوب إلى القارئ المتربّص.
من طبيعتي ألاّ أردّ على ما يرد من تعليقات على كتاباتي. فالمهمّ عندي أن أعبّر عن أفكاري وأعلن عن تصوّراتي بوضوح ودون صعوبة كي تصل إلى ذهن القارئ، ولا يهمّني كيفية تقبّله إياها، سلبًا أم إيجابًا، فهو حرٌّ في قناعاته.
ولكن، استدعاني لهذا التوضيح، ما تلقيتُه من تعليقات مغرضة وقاصرة النظر ومصلحية، بعيدة عن واقع حالٍ قائمٍ، حول آخر مقالة لي عن بلدة "برطلة المعروضة للبيع بالمزاد" منذ فترة، وهي الحائرة اليوم بأهلها ومصيرها، وما يُقال بشأنها من كلامٍ بين طامعٍ بموقعها ومحرّض عليه، في موضوعة التغيير الديمغرافي. وأنا طرحتُ وجهة نظري في ما يحصل وما قيل ويُقال والضجة المفتعلة حول ذات الموضوع. وأرى أن كلّ هذه الضجة تدخل في نطاق الاستهلاك المحلّي لتحقيق غايات باتت معروفة للقاصي والداني ولكلّ متتبّع لما يجري في عموم مناطق سهل نينوى، من تدخّلات مفضوحة لمؤسسات ومنظمات وأشخاص في الداخل وفي بلدان الاغتراب، دخلوا جميعًا على الخط، وهم أصلاً غرباء ودخلاء عن تلك المناطق. ولكوني إنسانًا وطنيًا في أعماقي وأصالتي وناشطًا مستقلاّ في تحرّكاتي وآرائي، لا يهمّني ما يتهمني به زملاء كتّاب قاصرو النظر أو قرّاء تخلو انتقاداتُهم من عمق في التصوّر وقراءة الأحداث، رغم اعتزازي بنخبة أصيلة منهم ممّن يتسم برؤية فاعلة وثاقبة البصر . فأنا ما أزال مقتنعًا، أن ثقافتنا في سهل نينوى، ومنها في بلداتنا المسيحية في باخديدا/ قرقوش وبرطلة وكرمليس وبعشيقة هي عربية، وهي تختلف عن مثيلاتها القريبة أكثر من أجواء كردستان اليوم. وهُؤلاء الزملاء،  إذا أرادوا لهم شيئًا غير ما نفكر به نحن في مناطقنا التاريخية، فهذا أمرٌ يخصّهم بالتحديد. ولكن لن يكون مقبولاً تدخّلُ أي دخيل أو مغترب على مناطقنا هذه لأية علّة أو غاية. وعلى العقلاء والحكماء وأصحاب الشيم من الأصلاء في هذه المناطق، ألاّ ينساقوا لما يُخطّط له عبر مؤسسات ومنظمات وأحزاب تمّ تسخيرُها جميعًا لتحقيق غايات وأجندات واضحة. وكون ثقافتي عربية، فهذا لا ينتقص من قيمة اعتباري وتشرّفي بمكوّني السرياني، طقسًا وقوميةً ولغةً، إن حسن للبعض فهمُ ذلك. وهذا قصرُ الكلام!

أكتب بالعربية دون تحفّظ
من طبيعتي أنّي أحبّ الكتابة، رغم ما في هذا الفنّ من هموم ومنغصات. وكتابتي كسائر الزملاء الكتاب هي بالعربية، وهي اللغة التي تطبّعنا عليها أغلبُنا ثقافةً ومَلَكَةً وتفاهمًا في مجتمعنا العراقي عامة، وذلك منذ وعيِنا للدنيا وتعلُّمِنا لها ولقواعدها ولبديع أسرارها في المدارس والمعاهد والكليات، كما في تصفحِنا اليومي لكلّ ما تقع عليه عيونُنا. إذن، نحن متطبعون بثقافة عربية، وهذه حقيقة، لا تجافي ولا مساومة فيها. ألسنا نتفاهم ونتحاور ونعلّق في هذا الموقع بالعربية؟ أم أنا مخطئ؟ نحن اليوم، كما بالأمس وسنبقى غدًا وبعد غد، نكتب ونتحدث ونتفاهم بالعربية، شئنا أم أبى غيرُنا. ولا مغالطة في ذلك ولا تجنّي في طمس الحقائق والجغرافية والتاريخ التي ليست قائمة إلاّ في مخيّلة الحالمين والمنغلقين القابعين في مرابع العم سام وأبناء عمومته من الغرب الملحد الذي اجتذب أبناء الرافدين لإفراغه منهم، من حيث لا يدرون، بحيث اصبحوا منابر للتحريض والتخوين باتهامهم الغير "بالمساومة والخضوع والخنوع غير المبرّر والافتراء والتجنّي"، رغم عدم وجود أية صلة لبعض مغتربينا بالبلدات التي يدافعون عنها عن بعد، سوى الحلم الخيال الذي لا يسكن إلاّ في مخيلاتهم المريضة!

أين التجنّي في قول الحقيقة؟
 إنّي حقًا، لا أستطيع فهم بعض كتّابنا باتهامي ظلمًا، بوقوفي بالضدّ ممّن يحاول هو التجنّي على مصير ومستقبل بلداتنا في سهل نينوى، وهم ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل! أنا ككاتب مستقلّ، أرى الحقيقة وفق تصورّ أمين يلامس واقع الحال اليومي. ثمّ، ما دخلُ المنظمة العراقية (مجتمع مدني) التي أنتمي إليها بما يحصل في بلدات سهل نينوى، أو ببساطة ما دخلُها بالثقافة العربية التي أحملها أنا وغيري من الكتاب، حتى الناقد منهم لتوجهاتي وآرائي؟ فمَن يا تُرى، يستطيع الجزم اليوم، باحتفاظ عرقه أو القومية التي يدّعيها بصفائها، حتى العظم دون مزاوجة واختلاط حتّى ندّعي غير ذلك؟ ولماذا هذا الخلط بالأوراق، بينم ما هو عام وخاص؟
 أنا أنتقد تصرفات وأجندات "المجلس الشعبي القطاري" غير المقبولة. هذا رأيي الشخصي. قد أكون محقًا أو قاسيًا بعض الشيء، بسبب حركة الاستحواذ التي لعبها هذا التنظيم الذي انقلب حزبًا سياسيًا بين ليلة وضحاها، ينافس أحزابًا ذات ماضٍ نضاليّ مشهود وينكّد على بعضها ويحاول تفتيتها وجرّها إلى انقسامات وانشقاقات من  تحت الكواليس، وذلك بفعل الأموال التي يدرّها على أتباعه ومرتزقته الذين استأسدوا بفضل الدعم الأمني غير الشرعي الذي يغطّي أعمالهم ونشاطهم. هاكم مثالاً على ذلك: لقد استطاع وبدهاءٍ ما، أن يجرّ إلى صفوفه أغلب الأعضاء الأصلاء الذين شكّلوا أول خلية تنظيمية قومية شاملة بعد السقوط مباشرة في 2003، والمتمثلة بالمجلس الكلدو- آشوري السرياني القومي الذي ظلّ فاعلاً لغاية 2007 . حتى إن السكرتير العام المختار لهذا الأخير، قد اضطرّ للإفصاح سرًّا لزملائه، عمّا لاقاه من ضغوطٍ وإرهاصات من نفرٍ من النواة المشرفة على "المجلس الشعبي القطاري" في وقتها، بهدف حمله على ترك هذا التنظيم القومي والابتعاد عنه، ما اضطرّه لتركه مرغمًا غير مخيَّر. فالحقيقة كما الشمس لا يمكن أنْ يحجبها غربال. ومَن يريد التأكّد، فليسأل صاحب الشأن!

لغات أخرى، ليست في خانة التعبير
هناك بالمقابل، فئة من ابناء شعبنا في شمال الوطن، ممّن تجيد اللغة الكردية، وهي اللغة الرسمية في إقليم كردستان اليوم. فهل هذه الفئة تكتب وتنشر وتعبّر بصورة واسعة عن أفكارها وآرائها بالكردية؟ ومع ذلك، لا ننكر أن هناك قلّة قليلة من ابناء شعبنا المسيحي، من السريان والكلدان والآثوريين والأرمن ومن أبناء طوائف غيرها، ممّن يستطيع الكتابة او القراءة أو التحدّث بالكردية داخل وخارج حدود الإقليم، ولكن ليس للنشر بل ضمن نطاق ضيّق جدًا. وذات الشيء ينطبق على اللغة الآرامية/ السريانية الفصحى (وليس السورث) التي تجيدها فئة محدودة من المسيحيين، دون أن تستخدمها في المرافق العامة وميادين النشر على نطاق واسع، إلاّ ما ندر. وهذه حقيقة إضافية لا نستطيع تغييرها. المهمّ، لكلٍّ حقُّه في التعبير باللغة التي يجيد استخدامها للتعبير والإقناع، بغضّ النظر عمّا إذا كانت ثقافتُه عربية أم كردية أم آرامية/ سريانية أم غيرها. أنا ثقافتي عربية، كما هي حال الكثير من كتابنا المحترمين، الذين لا ينكرون مثل هذه الحقيقة. ومن ثمّ ليس من حقّ أحد أن يتحذلق وينكر عليّ هذه السمة أو أن يفرض عليّ وعلى غيري ما يراه بغير هذه الثقافة وخارجها، تكابرًا واستغفالاً وإمعانًا في نكران الواقع. وهذا ليس في حدّ ذاته انسلاخًا أو نكرانًا لتوجهاتي الوطنية المسيحية "السريانية" (أو بالأحرى، لنقلْ القومية منها، دعمًا لحقوقنا كشعبٍ أصيل). هذه هي حرية التعبير والفكر والتقديم والقبول فالانتماء!

لماذا التجنّي على فكر الكاتب الحرّ؟
لكلّ كاتبٍ متتبعون ومتابعون ممّن يقرأون له. وبين هؤلاء مَن يطيب له التعبير الموضوعي عمّا يقوله الكاتب، وآخرون يسعون لإيجاد ثغرات في الأفكار التي يعرب عنها هذا الكاتب أو ذاك، لأجل النقد والتسقيط والاستخفاف والتسفيف، ليس إلاّ. فيما غيرُهم، لا تهمّهم، لا الأفكار ولا الحقائق ولا كشف المستور، بسبب انغلاقهم واصطفافهم للفئة التي يعملون لها ويشيدون بها وبمنجزاتٍ يعتقدون أن هذه الأخيرة تستحق على ضوئها، كلّ مواقع الإشادة والتبجيل إلى حدّ العبادة. وفي هذا تجنٍّ على الكاتب والفكر الذي يحملُه والراي الذي يريد إيصالَه لقرّائه.
أنا أرى أن ما يقوم به "المجلس الشعبي القطاري"، هو تجنٍّ بحدّ ذاته على هوية بلداتنا المسيحية ذات الثقافة العربية في شرق سهل نينوى. وهذا حقٌّ لي في التعبير بما أراه على أرض الواقع والجغرافية والتاريخ. فالمنطقة عمومًا، لا تدين باللغة الكردية ولا بثقافتها، فكيف للغرباء عنها أن يملوا على أبنائها ما يحاول هذا المجلس تنفيذه على حساب أهلها وجيرانها، مقابل الثمن الذي قبضه عملاؤه لتحقيق الطموح المنشود؟ أليس في هذا تجنٍّ ومساومة وصفقة تجري من خلف الكواليس؟
ببساطة الأمور، إنّ ما قد ينفع في قرى أبناء شعبنا المسيحي في شمال العراق أي كردستان الحالية، ليس بالضرورة أن يتناسب مع توقعات وتوجهات وطموحات أبناء السهل، أو في الأقلّ بلدة باخديدا وما جاورها، التي لا يدين أبناؤها بأية سمة كردية. فأين التجنّي في هذه الحقيقة؟ وبوسعي التوضيح أكثر، إن التحالف السياسي المفترض بحسب تبريرات البعض، بين تنظيماتنا المسيحية شيء - هذا إن كانت فقط مستقلة القرار والرؤية-،  والانتماء القسري لفئة شيء آخر. قد يكون ذلك صحيحًا في قرى شمال العراق، التي اغتصبت ودُكّت ونُهبت واستوليت أراضيها منذ الأحداث الدرامية في منتصف القرن الماضي وقبلها، ولكن ليس بالضرورة أن ينطبق ذلك على بلداتنا السريانية، وبخاصة باخديدا/ قرقوش التي تتعرّض اليوم هي الأخرى، لغزو مسيحي- مسيحي ممنهج، تنفيذًا لروزنامة محدّدة زُجّت بها طاقات وصُرفت وتُصرف أموال لتحقيق هدف طموح، بسبب موقعها وخصب العمل فيها وطيبة أهلها وترحيبها بكلّ قادمٍ غريب.

حق النقد مكفولٌ دون تجنّي
 هناك مَن يقرأ بروية، وينتقد ويعلّق. وهذا حقٌّ كفلته له قوانين النشر في الصحف ووسائل الإعلام ومواقع إلكترونية، ضمن شروط أدبية وأخلاقية لا تتجاوز الحدود الأدبية والأخلاقية المسموح بها، كما يفعل اليوم موقع عنكاوا، الذي يحظى بتقدير واحترام واسعين من شرائح واسعة من أبناء شعبنا، كونه أصبح النافذة التي منها يتنفس الكتاب شيئًا من حرية التعبير والترويح الفكري والإبداعي عبر هذا الحزام الناقل للحقيقة والواقع، بحلوها ومرّها! وفي هذا الصدد، أنا شخصيًا أعتز كثيرًا بهذا الموقع لعدم إحجامه بردّ ما أكتبه، حتى لو اختلفتُ فيه مع توجّهات إدارته أحيانًا، حسب اعتقادي. ولكن هذا لا يُفسد في الودّ قضية بيننا، كما حصل لي مع مواقع بلدتي "بخديدا" التي وضعتني في القائمة السوداء، ولا أدري لماذا وما السبب وراء الضجة المفتعلة ضدّ ما أكتبه وأنشره من واقع حال وحقائق تكشف المستور ممّا يُحاك ضدّ أبناء منطقة سهل نينوى بالذات، أو ما يجري من اتفاقات خلف الكواليس بين أحزاب كارتونية ومؤسسات مسيحية وَجدت في بلدات هذا السهل، الأرضيةَ الخصبة للاسترزاق وتنفيذ طموحات كردستان الكبرى بغير وجه حق.

عشق للغة العربية وثقافتها
أنا تعوّدتُ الكتابة كثيرًا باللغة العربية التي أعشقها، كما أسلفتُ. فمنذ الابتدائية، بدأت هذه اللغة، تدخل في شرايين جسمي كالماء الزلال، حيث تتلمذتُ على يد معلّمي الجليل جرجيس حبش، أدام الله في عمره والذي كان شجّعني كثيرًا لأكون قدوة الصفّ طيلة سنوات الابتدائية، وله يعود الفضل الأول لغرسها في عروقي. كما كان للأب المرحوم جبرائيل جرخي، طيّب الله ثراه، دورٌ أساسيٌّ في صقل هذه اللغة وإبداعي فيها وتقدّمي على زملائي في معهد مار يوحنا الحبيب للدومنيكان بالموصل، طيلة السنوات  السبع التي أمضيتُها فيه. وكنتُ دومًا أنال درجة كاملة في هذه المادة، حتى إنه شكاني مرةً لدى المرحوم الأب المربي يوسف أومي، رئيس الدير آنذاك، بسبب اعتراضي على تنقيصه ربع درجة من النتيجة النهائية للمادة التي كانت من 20 درجة. وقال لي في وقتها: الدرجة الكاملة هي لله وليس للبشر! كما لا أنسى جهود الشاعر الموصلّي معد الجبوري في صقل موهبتي الأدبية أيام دراستي في ثانوية قرقوش. القصد من وراء كلّ هذه الشذرات هو للقول بأنّ ثقافتنا في المنطقة، شئنا أم أبينا، هي ثقافة عربية في واقعها، ولا داعي للمراوغة وخداع الناس بالكلام العاطفي الذي يدغدغ المشاعر الجارفة لمن يطيب له التمسك حدّ الانغلاق لما يسمّيه ب "القومية"، انتسابًا للغة الطائفة التي ينتمي إليها، سريانية كانت أم كلدانية أم آثورية أو أرمنية أو غيرها.
 قد أكتب أحيانًا ايضًا باللغة الفرنسية أو الإنكليزية أو السريانية، ولكن قليلاً جدّا، إلاّ فيما يخص مناسبات أو لضرورات اجتماعية واحتفالية وسياسية ضيقة تستدعيها الظروف. فهذه ليس لها قرّاءٌ كثيرون وسط مجتمعنا المسيحي بخاصة. فالكاتب يكتب لعامة الناس وليس لشريحة ضيقة فقط. ولكن، عندما يغيب قلمي، أُعاتَبُ عليه، فأعود ثانية متى تيسّر لي الوقت، لقول حقيقة ما أومن به دون رتوش أو مغالطة أو مجاملة. فالخطوط تخرج من قلمي صادقة كما الكلمة من فمي، لا مجاملة لأحد أو لحدث أو لجهة، لكوني إنسانًا مستقلًا في رأيي وفكري وتوجهاتي، ومن ثمّ لا أحد يملي عليّ ما أكتبه أو أتحدث به. فأنا أجد في الكتابة فرصة لنقل الحقيقة وتوضيح الأحداث وكشف الوقائع، إضافة إلى تبادل الآراء والأفكار وأيضًا ترويحًا عن هموم، بسبب ضغط العمل المكتبي اليومي وصعوبات الحياة الكثيرة.

عدم الردّ هو شعاري
ومن مبادئي، كما أسلفتُ في أعلاه، عدم الرغبة في الردّ المباشر على التعليقات التي تصدر من زملاء كتّاب، حتى لو تعرّضوا لي بالنقد والتسقيط والتخوين والاتهام. فآراؤُهم ورؤاهُم مقبولة وهم أحرار، أيًا كانت سمتُها. فالكلمة تصدر من قلمي صادقة بلا صعوبة، لاسيّما فيما أومن به وأراه في أرض الواقع. إلاّ أنّ ما يحزنني في الردود التي ترد فيما تنشره مواقع التواصل الاجتماعي، أن يُصار إلى خلط الأوراق بحيث يختلط العام بالخاص، والفكر الشخصي المستقل للكاتب بالانتماء إلى حزب أو منظمة مجتمع مدني أو أي نشاط آخر. أنا عندما أكتب، وبتوقيع شخصي وليس باسم المنظمة التي أعمل بها، أتطيّر غضبًا من ناقد لا يعرف التمييز بين ما هو بتوقيع شخصيّ مستقلّ، وبينما يعود بآثاره لمنظمة أو جهة لم أصرّح بها البتة ولو في سطرٍ واحد ممّا أكتب. لذا ليس من المعقول أن أُحمّل وزر غيري، مَن أعمل معه في هذه الأنشطة التي قد أتفق وقد أختلف معه. منظمة مجلس الأقليات العراقية التي أنا واحدٌ من مؤسسيها وبُناتها ومديمي تواجدها، هي منظمة مجتمع مدني تضمّ المكوّنات قليلة العدد "الأقليات". ومن الطبيعي أن يجهد كلّ مكوّن في الدفاع عن حقوقه، ولكن ليس على حساب المكوّن الآخر. والاختلاف أو الاتفاق في الطروحات مع الزملاء في المنظمة ليس بحدّ ذاته، تنازلاً أو مساومة أو خضوعًا كما طاب للبعض أن يسمّيه. بل إن مثل هذا الاتهام مرفوضٌ جملة وتفصيلاً. فموقفي من حقوق شعبنا المسيحي في مناطقه التاريخية واضحٌ برفض أي تغيير ديمغرافي، ليس من مكوّنات الجوار فحسب، بل من نفس المكوّن المسيحي أيضًا. وهذا الموقف قد يجلب عليّ نقمة الكثيرين، ولكنه موقف واضح وصريح، لا تنازل عنه. فليطمئنْ مَن يحاول الاصطياد بالماء العكر، أن كاتب هذه السطور، لا تتغيّر مبادئُه ولا تتزعزع طموحاتُه ولا تتراخى متابعاتُه.
لا اختزال في المصير
ومن ثمّ، فإنّ اية محاولة لاختزال مواطني سهل نينوى وبلداته المسيحية التاريخية من قبل راعي التشكيلة "القطارية" تبقى مرفوضة وغير مقبولة، لعدم شرعيتها وعدم استقلاليتها وعدم إنصافها! ف"أهل مكة أدرى بشعابها". ولسنا بحاجة لمَن يدلُّنا على ما ينبغي لنا فعلُه بمصير بلداتنا من أجل تأهيلها وبنائها وصيانة تاريخها وديمغرافيتها وبما يتلاءم مع المعايير الوطنية والضرورات الحضارية وما يستجدّ من أحداث وتطورات. واللبيب من الإشارة يفهم!


لويس إقليمس
بغداد، في 5 أيلول 2013


351
برطلة للبيع بالمزاد !

ما انفكّ "المجلس الشعبي القطاري" سائرًا ضمن المخطَّط المرسوم له في عرض بلداتنا المسيحية في سهل نينوى للبيع بالمزاد العلني والسرّي معًا، ومن تحت الكواليس. واليوم يطلع علينا بفرية جديدة اسماها " منظمة أصدقاء برطلة"، لتُضاف إلى عشرات المنظمات والهيئات والمؤسسات والجمعيات والمجالس التي شُكّلت لإحكام السيطرة على منافذ ومخارج بلداتنا المسيحية وتقويض اي مشروع وطني توحيدي للتعايش السلمي والأهلي بين مكوّنات المنطقة متعدّدة الأديان والإثنيات والطوائف و"الجماعات". فبعد سعيه الحميم والمتواصل لبيع بعشيقة وقرقوش وكرمليس وأخرى غيرها، وقبضِ عملائِه في هذه البلدات أثمان تلك الصفقات مقدَّمًا، عبر ما يُسمّى بهيئة شؤون المسيحيين المشبوهة في نواياها، جاء الدور على برطلة التي لم تكن السيطرة التامة قد أُحكمت بعدُ عليها، بعد أن وُجد المبرّر لهذا النشاط في فرية التغيير الديمغرافي، حديث الساعة، الذي صار شمّاعةً لكل متهافت وخنوع وتابع ذليل يبدي استعداده لتطبيق تعليمات "المجلس الشعبي القطاري". فهل خلت برطلة من رجالها الغيورين، كي تستعين بالأغراب وأبناء الاغتراب للدفاع عنها والمطالبة بحقٍ مشروع لها كفله الدستور أصلاً، وأكدته لجنة دعم المسيحيين بشخص السيد وزير البيئة الذي لم يألُ جهدًا في حث الجهات المعنية على احترام خصوصيات بلداتنا؟
فرية التغيير الديمغرافي
 هل حقًا، إنّ ما يُقال بتعرّض بلداتنا المسيحية لهجمات متكالبة للتغيير الديمغرافي، تستدعي الحرص المفبرَك لهذه التنظيمات في إبقاء خصوصيات هذه المناطق مسيحيةً، سريانية أم كلدانية أم آشورية؟ وهل يستحق الموضوع إنشاء منظمة "استرزاقية" أخرى دفاعًا عن أراضٍ و عقارات و ما شابهها من أملاكٍ، سبق وأن بيعَ القسم الكبير منها برغبة وإرادة أهل الشأن لجيرانهم ولمَن دفع لهم أكثر؟ أم يُقصد بهذه الحركة، دفعُ أهل المنطقة نحو مشروع أوسع بالقبول بحتمية الانضمام إلى إقليم كردستان، بادّعاء الأخير حماية المناطق المسيحية في حال القبول بالمشروع الذي تعهّد بتنفيذه "المجلس الشعبي القطاري" بالإنابة، عبر أدواته المرتزقة بالمنطقة ومن خلال تنوع وسائل الترويع والتهديد والترغيب المستخدمة لإكمال هذا المشروع؟
 أترك هذا السؤال للقارئ المتتبع لتحرّكات هذا المجلس مكشوف الأهداف الذي لم تكفِه أدواتُه الداخلية، بل سعى ويسعى لتجنيد مَن ارتضى لنفسه العيش مغتربًا مرتزقًا، غير مكرَهٍ، بلْ زاحفًا وخانعًا كي يبقى بلا وطن وبلا أرض، في بلدان الاغتراب والوحشة بعد أن ساهم هو وأمثالُه في إضعاف الدور المسيحي في البلد.
إنّ مَن يتباكون اليوم على حقوق ومصالح مَن آثر البقاء صامدًا وحافظًا وديعة الآباء والأجداد في أرض العراق الطيبة، لو تذكروا فقط قيامَهم بيعِهم الأرضَ والوطن وقرارَهم بترك الأهل والأصدقاء والكنيسة و"الدربونة" القديمة والزقاق والبيت الذي احتواهم والأيادي التي خدمتهم، لسكتوا وما تجرّأوا البحث في مثل هذا الموضوع الذي لم يعدْ يعنيهم لا من قريبٍ ولا من بعيد، إلاّ أللّهمّ إذا عادوا إلى رشدهم وندموا على فعلتهم وقصدوا العودة إلى الأرض التي حملتْهم والكنيسة التي أرضعتهم لبنَ التعليم المسيحي، والأهل والأصدقاء الذين تسامروا وعاشوا وتشاركوا معهم مرَّ الحياة وحلوَها. إنّ ظاهرة البكاء على الحقوق الوطنية المسلوبة لم تعد رائجة، ومثلُها الادّعاء بمنع التغيير الديمغرافي لم تعد صالحة، بعد أن كشفت الأيام والأحداث نوايا الجهات التي تدفع للتحشيد والتنبيه لخطورة الموضوع من عين قاصرة واحدة لا تحمل رؤية بعيدة النظر. وإنّي شخصيًا، لم أسمع مسيحيًا أُجبر على بيع منزله الخاص أو أرضه أو أيّ مِن عقاراته في هذه البقعة بالذات بدون رضاه، مقابل الثمن الذي طالبَ به وطاب له. فالمسألة هي في البيع لمَن يدفع أكثر، وهذا حقٌ مشروع للفرد.
سرّ ضعف المسيحية في العراق
إنّي لمذكّرٌ بموّال المطرب الذي أجهل اسمه، ومعه كلّ مَن يطيب له استغلال مشاعر أبناء الاغتراب من أجل إبكائهم واستدرار عطفهم وحنينهم ودموعهم، في السهرات والحفلات التي يجتمعون فيها في قاعات السهر الوحيدة التي تجمعهم معًا مراتٍ، قد لا تُعدّ بعدد اصابع اليد الواحدة، وربما هي الوحيدة التي تجمعهم سنويًا، عندما يقول: " إلّلي مضيّع محبّ يمكن سنة وينساه، وإلّي مضيّع ذهب بسوق الذهب يلقاه، والّي مضيّع الوطن وين الوطن يلقاه، ألله يا ها الوطن، شنو مسوّي بي الله، نيرانه مثل الجمر تلسع وأقول ش اه ". أقول لبعض هؤلاء المرتزقة المرائين (بالطبع لا أقصد الجميع ولاسيّما مَن تعرّض لمضايقات حقيقية وهم قلّة): "كفاكم بكاءً على حقوقِ أهلكم وأصدقائكم وأبناء جلدتكم وكلّ مَن تركتموهم يعانون بسبب نقص تعدادهم وطنيًا، بحيث كثرت الخناجر التي تتحيّن الفرص للانقضاض عليهم حتى مِن أقرب الناس لهم تقليديًا، بل وحتى من المتباكين على ضياع حقوقهم من الذين تتعكّزون اليوم أنتم عليهم. وكفاكم تدخلاً في شؤوننا الداخلية ودقّ الأسفين مع إخوتنا في الوطن من أية ملّة أو دين أو مذهب".
 أليس الوطن للجميع والدين لله؟ ولماذا لا تسعون في الدول التي بيدها كلّ مفاتيح الحلّ والربط بالعراق والتي تقتاتون من فتاتها وتخدمون أجنداتها، كي تعملوا على دفعها باتجاه تفعيل سمة التعايش السلمي وتعزيز مبدأ المواطنة وحضّ السياسيين للقبول بشراكة وطنية حقيقية تُبنى على قاعدة الولاء للوطن والكفاءة والجدارة وتساوي بين الجميع دون تمييز وتكابُر بسبب مبدأ الأكثرية والأغلبية والأقلية التعس، وبذلك تفلحون في إيقاف نزيف الهجرة الذي تعملون من حيث لا تدرون، وبطرق عديدة من أجله لإفراغ الوطن من أهله وذلك بتشجيع مَن بقي منهم فيه للهجرة؟ بل وما يُؤسف له، حضُّ التاركين للوطن ومَن باعوه برخص التراب، غيرَهم من الأهل والأقارب والأصدقاء من الباقين الصابرين فيه، على الهجرة واقتراف الخطأ "الأناني" الذي ساروا عليه بتهرّبهم من مسؤوليتهم في الشهادة لمسيحيتهم وزرع بذور المحبة والبقاء خميرةً وسط جمع العراقيين الذين تعايشوا في السرّاء والضرّاء. فهل كلُّ الذين باعوا الأرض والسكن وغادروا الوطن بما فيه، كانوا من المغضوب عليهم ومن المهدَّدين بأيّ شكلٍ من أشكال التهديد والعنف والتهجير؟ أقول: لا وألف لا...
 وإنّي أتساءل: مَن الذي جعلنا أقليّة، كي تتجرّا نائبة إيزيدية كردية وزميلُها في البرلمان لتدّعي أحقية طائفتها "الواحدة الوحيدة" بمنصب رئيس ديوان أوقاف المسيحيين والإيزيدية والصابئة، في حين يشكل المسيحيون ما مجموعُه 14 طائفة  أو "جماعة"، ولكلّ واحدة منها مؤسساتُها المستقلة وإدارتُها الخاصة بها، وليس واحدة كما الإيزيدية والصابئة؟؟؟ أليس كلّ مّن ضحّى بالوطن وأهله وأرضه وقصدَ المتعة وراحة البال وتخلّى عن دوره الوطني والمسيحي معًا، قد ساهم هو الآخر، في إضعاف الدور المسيحي التاريخي في البلد وفي اهتزاز خطابه الديني والاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي معًا، بعد أن كانت المسيحية تُعدّ الديانة الثانية فيه؟ فإذا كنتم غير قادرين على تنفيذ هذا المطلب الأخير، فإنّ أهل الداخل يرون في تدخلكم في شؤونهم، وسيلةً من وسائل التخدير الموضعي الذي سرعان ما يعود إليهم الجرح المفتوح ليشتدّ عندهم الألم أقوى وأشدّ ويعانوا من ذات المشكلة، التي ستبقى من غير حلّ، في غياب الوعي الوطني والديني الصحيحين.
كفى تخديرًا
كفانا تناولُنا جرعات مخدّرة مِن أمثال هذه الحركة المكشوفة الأهداف من جانب "المجلس الشعبي القطاري"، والتي تُضاف إلى سابقاتها في تمزيق اللحمة الوطنية بمنطقة سهل نينوى، وتأزيم الأوضاع بين مسيحيّيها وسائر المكوّنات المتجاورة والمتعايشة منذ سنين، إلاّ حينما بدأت أدوات هذا المجلس بتنفيذ الأجندة المرسومة له والمدفوعة الثمن لدفع أهل السهل بأفضلية القبول بالانضمام إلى الإقليم.
فالتغيير الديمغرافي المزعوم، هو تحويل الأنظار عن مشكلة أعظم تتمثل بما يجري من مخططات سرّية وصفقات من تحت الكواليس لإلحاق هذه البلدات بالإقليم بأيّ ثمن، من خلال استخدام أدوات وأبواقٍ ترغيبية وتشويقية حينًا، وتهويلية وترويعية في غيرها بهدف شرعنة استقطاعها عن محافظة نينوى وعن الوطن الأم في ظلّ الأوضاع الأمنية المتهالكة والهشة بعد الغزو الأمريكي القذر، وكذلك بسبب ضعف الحكومة المحلية التي أخفقت هي الأخرى، في الحفاظ على عروبة أهل الموصل واستقلالية قرار سائر المكوّنات الدينية والاتنية التقليدية المتواجدة في سهل نينوى خصوصًا. وبذلك يتحقق المخطّط الأمريكي – الأوربي، بإفراغ العراق ومنطقة الشرق الأوسط من المسيحيين في ضوء التسهيلات التي تبديها هذه الدول لاحتضانهم، أو بدفعهم للانتقال إلى المنطقة الشمالية التي شكّلوها آمنة، خدمة لمشروع إسرائيلي قديم كان قد بدأه هنري كيسنجر، وزير خارجية أمريكا الأسبق في بداية السبعينات.
إن الرغبة العامة للعراقيين بدرء خطر الانغلاق والتقوقع، ينبغي ألاّ تفارقنا نحن المسيحيين بالذات، لاسيّما وأننا من أوائل المناهضين لمثل هذا الانغلاق الموازي لترسيخ مبدأ الطائفية المقيت في البلد. وإذا كان مفهوم التغيير الديمغرافي في بلدات سهل نينوى، يُقصد به جيرانُنا من جماعة الشبك بخاصة أو الإيزيدية، فعلى من يتباكى على مثل هذا التغيير أن يقرّ بأنّ بيع بلداتنا المسيحية، ذات الثقافة العربية منذ نشأتها، والسعي لانضمامها إلى كردستان بهذه السبل المشبوهة بحسب مخطَّط "المجلس الشعبي القطاري"، هو بحدّ ذاته تغييرٌ ديمغرافيٌ وعليهم رفضُه بشدة، وليس الإذعان لما يُحاك من صفقات في دهاليز الإقليم والحكومة المحلية في نينوى، وربما بمباركة عناصر في الحكومة الاتحادية. كما أنّ عليهم أن يأخذوا في الحسبان، أنّ عددّا من أهالي برطلة الكرام، يأخذون قسطًا من المسؤولية في ضياع أراضيهم وأملاكهم ببيعها لمن يدفع أكثر! ولا ننسى حالات المصاهرة والصداقة والشراكة بين المكوّنين المتصارعين اليوم، إذا عدنا إلى بعض الحيثيات!
إنني أعتقد، أن "المجلس الشعبي القطاري" بهذه الخطوة، يكون قد أمعن في توسيع الهوّة بين الجارين الصديقين "المتخاصمين"، وفي تضييق اللحمة الاجتماعية بين أبناء المكوّنين، ومن ثمّ يساهم في فضّ الشراكة الوطنية التي يتمناها الجميع. لقد قامت اللجنة المكلّفة بحلّ هذه الإشكاليات بعملها على أحسن ما يُرام قبل أكثر من سنة، واستحصلت موافقة الجهات الحكومية المختصة والحكومة الفدرالية على معالجة هذه المسألة بروية وعبر وسائل قانونية ودستورية، وذلك بتوصياتها بضرورة استحداث وحدات إدارية وبلدية جديدة وتوسيع الخدمات للقرى والبلدات المهمّشة عبر الحكومات المتعاقبة على التوالي، ونحن في انتظار تطبيق توصياتها. ومن ثمّ، ليس من المعقول، صبّ الزيت على النار، من خلال التصريحات النارية التي تصدر هنا وهناك مِن أصوات ناشزة في المنطقة من المرتزقين أو من خارج المنطقة أو بلدان الاغتراب من الذين يهمّهم أمر البلدات المسيحية فقط، لاستغلالها لخدمة أجنداتهم الخاصة أو أجندات مَن يجيدون الخنوع لهم دون خجل. وعلى الجميع أن يدرك تمامًا، أن الصراع القائم بين حكومة المركز وحكومة الإقليم، لا يمكن أن يكون على حساب بلداتنا المسيحية ولا على حساب استحقاقاتنا الوطنية. ومِن ثمّ، لا يمكن القبول بمشاريع خانعة وخاضعة لمَن هو اليوم الأقوى على الساحة وتشويه صورة بلداتنا وضياع استحقاقاتنا المسيحية والقومية معًا بهذه المخططات.
إنّي أستغرب من التبجّح بالهدف الذي يرفعه المؤتمر المرتقب لأصدقاء برطلة، من خلال ما تمّ التصريح به بالعمل على "ترسيخ أسس التعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي عامة وفي سهل نينوى بشكل خاص". في حين أن ما يجري في الكواليس يدفع باتجاه التصادم الفعلي بين مكوّنات سهل نينوى، ولاسيّما المتعايشين في بلدة برطلة! فأين هم من مطلب ترسيخ مثل هذا التعايش؟.
لذا، ومن منطلق الحرص على بقاء سيادة أهل برطلة على بلدتهم وتسيير شؤونهم، عليهم توخي الحذر مِن هذا التحرّك الجديد. فهو إعلانٌ مجّاني لبيع برطلة بالمزاد العلني، وتخييرها بين تبعية المركز أو الإقليم. وإذا كان أهلُها لا يستطيعون الدفاع عن حقوقهم وصيانة ما تبقى من أراضيهم والامتناع عن بيعها للغريب بأثمان يتطلّع إليها طموح كلّ مواطن فيها، فعبثًا يحاول غيرُهم صدّ الهجمة، إلاّ في إعلان بيعها بطريقة التهويل والترويع والتخويف والتحذير التي يتبعها "المجلس الشعبي القطاري" وأتباعُه في المنطقة. لقد كان لهم في الحكومة المحلية بعد التغيير مباشرة، مَن تسلّم مسؤولية هامة في إدارة المحافظة. ورغم ذلك، تواصلَ التغييرُ على عهده، بعد ان كان بدأه النظام السابق قبل تلك الفترة أيضًا، إلاّ أنه لم يحرّك ساكنًا حينذاك، أو بالأحرى لم يجد قدرة لمجابهة إرادة أقوى من محاولاته- إن وُجدت أصلاً- في الحكومة المحلية الأولى بعد التغيير في 2003، بسبب غياب المكوّن العربي الذي اقترف آنذاك خطيئة شنيعة بحق أهل الموصل والمحافظة، نتيجة عناده ومكابرته الفارغة غير محسوبة النتائج.
الحلّ بين أيديكم
يبقى الحل الأخير، بأيدي أهل برطلة الكرام بعدم التفريط بما تبقى لهذه البلدة العريقة من عناصر الوجود المادّي فيها والحدّ من نزيف هجرة أبنائها كي لا يتخلخل ميزان القوى البشرية فيها. أمّا البكاء على الأطلال والحنين إلى الذكريات، فيبقى من وسائل الضعف وهدر الأوقات وضياع الفرص. والمستفيد الوحيد من هذا التباكي هم المرتزقة المدفوعون لتنفيذ مثل هذه المشاريع الخائبة من خلال الضحك على ذقون البسطاء والاتجّار بمصائر الناس ودغدغة المشاعر المكتوية بنيران الطائفية والفساد والتهميش.
لويس إقليمس
بغداد، في 25 آب 2013


352
لوحةٌ للوطن أم للطائفة؟


كلّما تتالت الأيام وتقادمت الأحداث، تضيق أوطانُنا العربية والإسلامية ذرعًا بمدى بشاعة العنصر الطائفي، والسلفي منه بخاصة، وقد استبدّ وتفاقم واستأثر، فأصبح خنجرًا بخاصرة الوطن والمواطن. وإنه لمن المؤسف أن تتجذّرَ هذه الظاهرة "العاهة"، في أوساط مجتمعات كانت حتى الأمس القريب يُنظرُ إليها على أنها معتدلة وحامية لقيم إنسانية وحضارية لدى تقييم الجماعات المقيمة فيها. وبالرغم مِن شذوذ بعض المظاهر وخروجها عن المألوف في مناسبات أو أحداثٍ، إلاّ أنّ الخطّ العام، كان يضعها في مصاف الدول المحتمية بجلباب هامش الحرية والمساواة، ولو على خجل!

 وطنٌ واحد!
كمْ كان جميلاً، أن يتنقّل أو يعيش العراقي، معلّمًا أو طالبًا أو طبيبًا أو مهندسًا أو عسكريًا أو تاجرًا، بل أيُ مواطن عادي بأية مدينة أو قرية حيث يدعوه رزقه وحياتُه المهنية والعملية دون منغصات الملاحقة على الهوية ومن دون الشعور بهمّ يُثقلُ كاهلَه بسبب دينه أو طائفته. ألمْ يقضي العديد منّا أيام الجندية "الخدمة العسكرية"، الإلزامية منها أو المهنية في مواقع بعيدة عن مسقط الرأس ، لم تكن لتخطرَ عل باله، ومِن دون الشعور بالضيق من باقي الأفراد في الثكنة أو الموقع أو المقرّ؟ وكم مِن برامج وفعاليات طلابية وشبابية لتبادل الخبرات وتنشيط الأدوار وتفعيل الصداقة والزمالة شهدناها ونحن طلبة! وفي كلّ هذه وتلك، لمْ يكن يدور بخلد المشاركين السؤالَ عن أصل وفصل الزميل المشارك الآخر. وإنّي شخصيًا، لمْ أكن لأسأل مثل ذلك السؤال في حينها، بسبب الروح الرياضية التي كانت سائدة بيننا والشعور الوطني الذي كنّا نوليه لمثل تلك الصداقات والزمالات مِن دون إحراج أو تعفّف أو تهيّب. فقد كان ذلك ليكون سؤالاً غريبًا عجيبًا، فيما لو حصل!. فكيف انقلبت الآية، واستبدلت الصداقة والزمالة بالعداوة والشعور الوطني بالطائفي المقيت والروح الرياضية بالروح العدائية؟

ولكن، لكلّ مشكلة حلولٌ، مهما طال الزمن وتجذّر الوهن وتعسّر الأمل. وطالما كانت كلّ هذه الآفات مِن صنع البشر، فهم بالتالي قادرون، لا محالة، على قهر الصعاب وإعادة المنجل إلى الحقل والمذراة إلى البيدر والإنسان إلى جادة الوطن والوطنية.

 ولطالما كان العراقيون، بناةَ حضارات وأسيادَ ثقافاتٍ، أليس بمقدورهم اليوم قلب صفحة العداء والغدر والطائفية ونسيان الماضي ليلتفوا ثانية حول وطن واحد يجمعُهم كما الدجاجةُ تجمع فراخَها تحت جناحيها الكبيرين فيحتموا بها، وكما الخيمة التي بظلالها يفئ الجميع دون تمييز أو تفرقة أو محاباة؟ ذلكم هو التحدّي الأكبر لعاهة الطائفية، وتلكم هي أحجية الإنسان العراقي المبادر لكّل جديد والمقتحم لكلّ بابٍ عجيبٍ وغريبٍ. ولنعتبر باب الطائفية الذي انتهجه العراق بعرابة أميركية والذي افتتح به مشروعه الخائب في 2003، قد صدئ وتهالكت مادتُه، أيةً كانت أصولُها ومراجعُها وانتماؤُها. فالعراق يبقى وطنًا واحدًا، خيمةً وارفةَ الظلال للجميع وليست مرتعًا للطائفية التي تنهش في جسمه وأدوات المحسوبية والمنسوبية والفساد التي سادت مؤخرًا في الحياة اليومية للمواطن الذي يستحق أفضل ممّا يحصل له.
أمل ورجاء
في رسالة التهنئة لمناسبة حلول عيد الفطر لهذا العام 2013، إختصر "البطريرك ساكو" الحلّ الأمثل الذي به يمكن خروج العراقيين من النفق المظلم الذي حشرهم فيه الغازي الأمريكي ومعه القوى الشرّيرة التي تهتف للطائفية والتفرقة وتوغل في العدائية والتهتّك، ضامّا صوتًه إلى صوت البابا فرنسيس الأول: "أن يكون المسيحيون والمسلمون دعاةً حقيقيين للاحترام المتبادل والصداقة والابتعاد عن الإساءة والاستخفاف، وأن يربوا أولادهم على هذه القاعدة" وأضاف: "التفجيرات المؤلمة الأخيرة التي أودت بحياة الأبرياء،يجب ألاّ تزيل عنّا الأمل والرجاء، فنستسلم للفتنة وللإحباط، بل بالعكس علينا أن نتّحد ونعود إلى جذزرنا البشرية الواحدة، الوطنية والدينية للخروج من هذه المحنة، فيعود إلينا السلام وتفيض فينا الحياة والفرح".

لويس إقليمس
بغداد، في 6 آب 2013




353
الحقيقة، هل تنتحر؟
-الجزء الثالث والأخير-

... نماذج من الحياة- يتبع
نموذج كنسي ديني

رسالة بطريرك الكنيسة الكلدانية الأخيرة، مار لويس ساكو، والموجهة إلى من يهمه الأمر، جاءت واضحة ولا تحتاج إلى تفسير وتعليق. فهي تكشف حالة متقدمة من الانفلات في العمل الرسولي والراعوي. كما أنها تكشف حقيقة التمادي المستشرية، ليس في قلب هذه الكنيسة فحسب، بل في معظم الكنائس المشرقية الباقية الأخرى، سواء ما هو قائمٌ منها في الداخل أم في بلدان الاغتراب. فقد "طفح الكيل" ولم يعد تصرّف بعض رجال الدين مقبولاً ولا لائقًا. الكاهن خادم الرب كما أنه خادم الشعب. "ما جئتُ لأُخدَمَ بل لأَخدُمَ"، قالها المسيح وطبقها في رسالته الخلاصية وسط الشعب. من هنا، لا يمكن أن تبقى الأوضاع المترهّلة والمسترخية عل هذه الحال. "لا حصانة لأحد، والكهنوت لا يمنح حصانة الية. حصانتهم هي اخلاقهم، وخدمتهم وتضحياتهم وشفافيتهم". قالها البطريرك ساكو بكلّ جرأة وبصراحة.
 فمَن زاغ عن الطريق، عليه مراجعة الذات والعودة إلى الينابيع كي ينهل من غدران الحياة الروحية الصحيحة بتعاليمها، والأمينة في تفاعلها، والرصينة في تطبيقها على الشعب والمجتمع. وهذا هو الوقت الصالح لإصلاح المكسور وإعادة الضائع والاقتداء بسيرة وتعاليم قدوتهم الأول، المسيح وخليفته الأول بطرس، بشخص البابا المتواضع فرنسيس الأول، الذي ضرب المثل منذ اعتلائه السدّة البطرسية خادمًا وليس حبرًا متعاليًا مستغِلًّا لموقعه على رأس كهنوت الكنيسة الجامعة. إذ ليس من المعقول، استغلال الكاهن أو الأسقف، أيا كانت مرتبتُه، موقعَه للإيغال بالاستخفاف بالمؤمنين، وعدّ أنفسهم "فوق الكلّ ومعاملتهم لهم بخشونة وبكلمات جارحة ومشينة وبعنجهية". أين هؤلاء مِن كلام ووصايا رسول المحبة والسلام الذي تعهدوا أن يسيروا على خطاه حينما كانوا في فترة التلمذة والتهيئة لاقتبال مسؤولية الرسالة خدامًا للشعب؟ هذا هو المحكّ، وذلكم هو القرار الجريء الصائب: "على الجميع  الالتزام التام والمطلق بالرسالة الانجيلية التي من أجلها تكرسوا. سوف نتخذ اجراءات صارمة بحق من  يسيء  الى الكهنوت والكنيسة.  ليبق من يلتزم  وليذهب من لا يريد".
ومثلُهم، فقد كثرت شكايات المؤمنين من تصرفات بعض الكهنة الذين تركوا أو كادوا يتركون الواجبات الروحية والاجتماعية الملقاة على عاتقهم في الصلاة اليومية والبحث عن القداسة في حياتهم ونصح المؤمنين للتقرّب من ربّهم أكثر والعيش في سلام روحي مع النفس ومع الله. لم يعودوا ذلك "الحمل الوديع، ومتواضع القلب"، الذي كان تحدّث عنه المسيح كي يجتمع حوله المتعبون وثقيلو الأحمال.

إقطاعيات أم كنائس!
حدثني، أحد الأصدقاء يقول: ما هذه الأحوال؟ هل نحن نعيش عصر الإقطايات في كنائسنا؟ هناك قساوسة قد نصّبوا أنفسهم أباطرة في خورناتهم، وهم يرفضون مغادرَتها عندما يُطلب منهم ذلك من أجل ممارسة نظام المناقلة بين كهنة الخورنات في الإبرشيات. بل أصبحت بعض الكنائس تُدعى باسم خوارنتها، وكأنّها ملكٌ حلالٌ قُيّدت لهم منذ تعيينهم فيها لخدمة المؤمنين. أيُعقل ذلك؟
 إن نظام المناقلة هذا، لا بدّ أن يُطبق في جميع الكنائس دون استثناء، إن أردنا حقًا إصلاح المكسور ورأب الصدع بين الكنيسة والخوارنة من جهة مع المؤمنين وحاجاتهم وتطلعاتهم الروحية. وبغيرها، سنقيم دكتاتوريات سياسية- كنسية لا تختلف عن الدكتاتوريات السياسية المدنية القائمة في  عدد من الدول المتخلفة، ومنها في منطقتنا العربية التي لم تعرف بعدُ ربيعًا نقيًا ينتشلها من شتاءات القرون المظلمة.
أتذكر في بداية السبعينات، حينما نشبت أزمة بين كهنة خورنة قرقوش- بخديدا، كان للشبيبة المسيحية دورٌ جريء في تشخيص الخلل، وكان لي فيها دورٌ مهمٌّ مع زملاء آخرين، حينما أشرنا إلى مثلث الرحمات المطران عمانويل بنّي، ان يقوم بالمناقلة بين كهنة الإبرشية بين فترة وأخرى. في وقتها، لم تكن الفكرة قد اختمرت بعدُ لدى سيادته، رغم إرادته الطيبة في وأد الفتنة، وذلك بسبب صعوبة تطبيقها لظروف رآها غير مناسبة. لكنها، تحققت بعد سنوات قليلات وأثبتت صحة تشخيص موقع الخلل. وما زالت ذات الفكرة تُطبق في هذه الإبرشية، بل إنها أثمرت، مع استثناءات تقتضي بعدُ، خطوة جريئة لوضع الأمور في نصابها بعيدًا عن تأثيرات جانبية خارج إرادة الإبرشية.
وهذا ما يتطلّبه واقع باقي الكنائس المشرقية بتعدّد طقوسها. وحسنًا اتخذ سينهودس الكنيسة الكلدانية الأخير وبطريركها المجدِّد، قرارًا بمناقلة كهنة كنائسهم في الداخل التي يسودها الترهل وضعف الغيرة الرسولية. لكنها ستكون خطوة ناقصة، إنْ لمْ تشمل إمبراطوريات إقطاعية في بلدان الاغتراب التي يتبجح بعضٌ من أساطنتها أنّ بيدهم القوة الفاعلة في قلب الموازين عند اقتضاء الحاجة.

هروب إلى الأكثر جاذبية
حقًا، لقد ساهم بعض الكهنة في ابتعاد عدد من المؤمنين من كنائسهم للبحث عن ملجأ آخر أكثر انسجامًا مع تطلعاتهم وأصفى إصغاءً وتلبية لعطشهم الروحي. وهذا أمرٌ مؤسف، يتباكى عليه الجميع اليوم وينتقدونه دون دراية وافية للسبب الحقيقي لحصوله واتخاذ المطلوب لوضع حدّ لتواصله المستمرّ. إنّ ما تتعرّض له كنائسنا المشرقية من صدع في هيكليتها، تتحمّل الرئاسات الكنسية جميعًا جزءًا كبيرًا من المسؤولية بحصوله. لأنّ مثل هذه الإهمالات قد فسحت المجال لكنائس دخيلة كي تتغلغل في أوساط المؤمنين وتصطاد مَنْ فقد ذلك الأمل وذلك الرجاء وذلك الإيمان لدى كنيسته الأصيلة ليؤمّ صوب هذه الدخيلة التي انجذب لها أكثر، لما تقدّمه هذه من مغريات في حركاتها وتطلعاتها وانشطتها، مستغلّة في الكثير من الأحيان، ضعف إيمان البعض وهشاشة حالتهم المادية وشظف العيش المادي من أجل كسبهم باتجاهها. وتلك مأساة تستوجب التوقف على عتبتها والتأمل في عواقب نتائجها غير السارة. انظروا، إلى بعض كنائسنا الأصيلة، فهي تكاد تكون شبه خاوية ايام الآحاد، وحتى في المناسبات، إلاّ من مؤمنين أتقياء تقليديين، فيما تعجّ الكنائس الدخيلة الجيددة بخيرة الشباب المتلهّف. إلى ماذا؟ لا أدري! كما يبدو، علينا، أنا وأنتم معًا، ان نستبصر الوضع ونستفهم الواقع كي نتيقن ممّا يحصل على أرض الواقع، ولكي نخرج بنتيجة تفيد كنائسنا المشرقية الأصيلة، وتعيد لكاهن الرعية دور الراعي الصالح الذي يبحث عن الخراف الضالة: يترك التسعة والتسعين ويبحث عن الواحد الضالّ منها، ليعيده إلى حظيرته الأصلية.
لقد قالها البابا فرنسيس الأول بصراحة، في خطابه الموجه إلى الشباب المتعطّش لسماع كلمة الراعي الصالح، خلال مشاركته قبل أيام في الأيام العالمية للشبيبة 2013، التي عُقدت في ريو دي جانيرو بالبرازيل: " الشباب يفقدون إيمانهم بالكنيسة، وحتى بالله، بسبب وجود كهنة سيّئين لا يلتزمون بالإنجيل". ألا يكشف مثل هذا الكلام الجريء والواضح عن حقيقة ماثلة يعيشها أبناء مختلف الكنائس في وطننا، نحن أيضًا؟ أليس في مثل هذه المصارحة وهذا النداء ما ينبئ عن بروز "صوت صارخٍ في البرّية لإعداد طريق الرب وتقويم سبله"، كما يقول الإنجيل؟


مهمة الكاهن ليست في السياسة أو التجارة
في الواجهة أيضًا، هناك كهنةٌ أوغلوا في عنادهم بدخول مجال السياسة اللعين والاسترزاق من فتات الأسياد بوسائل وسبل متنوعة. فمنهم، مَن أهمل تعاليم الإنجيل، ومنهم مَن ضرب عرض الحائط توجيهات رئاسته، ومنهم مَن لم يتورّع في استغلال درجته الكهنوتية في أمورٍ تجارية وصفقات مادية لا تليق به وبسمعته ككاهن، "سائحٍ على دروب الربّ". بل منهم، مَن أُحيل على التقاعد بسبب مشاكساته وتدخله في ما لا يعنيه ككاهن، وهو الذي من أسمى أهدافه خدمة الشعب المؤمن، وليس الضحك على عقول البسطاء من المؤمنين، لاسيّما الذين ينظرون لغاية الساعة على كون الكاهن شخصًا مقدّسًا نازلاً من السماء ولا يمكن المساس باسمه أو سمعته أو الحديث عن نزواته وخروجه عن خط الكهنوت. وإلاّ كيف يُفسّر تدخّل كاهنٍ متقاعد في إحدى الإبرشيات المهمة بالموصل في شؤون الرعية، وهو يمتلك اليوم سلطة تفوق سلطة رئيسه الأسقف، والأخير لا يستطيع وضع حدودٍ لتصرفاته الشاذة وغير المقبولة، بل التي تثير الشكوك. ألم يقل المسيح في مثل هذل النموذج " خيرٌ لمَن يشكّك أحد هؤلاء الصغار، أنْ يوضع في عنقه حجرُ الرحى ويُلقى به في البحر"؟ أمْ ماذا يعني هذا الكلام، ولِمَن قيلَ؟ ومثله، هناك كهنة قد جيّروا كنائسهم لمصلحتهم، وهم من الصنف الذي لا يتقبلون فكرة المناقلة أو حتى قدوم زملاء غيرهم للمشاركة في خدمة المؤمنين، لأنّ ذلك في نظرهم، سينغّص لهم نظام حياتهم ويكشف الخلل في أنشطتهم غير المستحبة التي لا تليق بمسؤولياتهم الروحية.
حقًا، إنّ الكلام الجريء والصريح الصادر من البابا فرنسيس قبل أيام حول سلوكيات غير مقبولة من بعض الكهنة الذين أصبحوا حجر عثرة أمام الشبيبة والرعايا إجمالاً، احتاج من رأس الكنيسة الجامعة، شيئًا كثيرًا من الشجاعة. وهي ذات الشجاعة التي طالب بها قداستُه الشباب للتحلّي بها، وعدم الاقتداء ببلاطس البنطي الذي غسل يديه من دم المسيح البريء الذي لم يجدْ له جناية ليحاكمه عليها؟ تلكم هي الوديعة التي ائتمنها المسيح لرسله من بعده وهؤلاء لخدام المسيح من بعدهم. فمن خان الأمانة وفرّط بالوديعة، يستحق دينونة اعظم، لأنّ "مَن أُودع وزنات كثيرات، مُطالب  أن يؤدّي حسابًا عسيرًا أمام القاضي والديان" في هذه الدنيا وفي الآخرة. مَن له أذنان سامعتان، فليسمعْ!

أخيرًا، ألحقيقة لا تعرف المخاتلة
هذه إذن، هي أدوات الحقيقة وتلكم لعبتُها. ومهما جازف البعض أو تجبّر أو استأسَد بالغير الطامع، لابدّ أن تنقشع شمسُ الحقيقة وتسطع أنوارُها لتزيل الوهمَ والطمع والكذب وحب الجاه والمال والسلطة ونزعة القتل والتدمير والرذيلة لديه بدون سبب، ومنها لتُحرّر البشر مِن إثم التكفير والتنكيل والتهميش غير المبرّر، بل لمجرّد الاختلاف بالرأي أو الدين أو المذهب.
 وهناك مَن يعزو كلّ هذه السلوكيات إلى سلطة من الله قد أُنزلت عليه. وما علاقة الله الخالق الطيّب والراحم بالبشر بكلّ هذه المماحكات والتأويلات والاجتهادات والمتاهات؟ أليس سبحانه مَن أعطى البشرَ عقلًا وصحةً وطعامًا وملبسًا وقدرة للتكاثر والنماء والمتعة ضمن حدودٍ انضباطيةٍ يفرضُها كلُّ مجتمع وفق معايير الحياة المقبولة في حدود نطاقه وبما تقبلُه طبيعة حقيقة هذا الخالق؟ أمْ إنّ الفوضى والعربدة وحبّ الظهور والاستعباد والاستغلال واللعب بمصالح الغير هي مِن شيمِ كلّ فاسق وطمّاعٍ وشرهٍ ومتسلّط؟
قالوا: "إن دعتكَ قدرتُكَ على ظلم الناس، فتذكّرْ قدرةَ اللهِ عليكَ".
وأنا أقول: مَن راهنَ على استغلال فاقة الناس وحاجتهم ليصل إلى مبتغاه، فهو خائبٌ وفاشلٌ مهما حشّد مِن رعاع البشر للتصفيق والتمجيد له! فالحقيقة لا يمكنُها أن تنتحر طالما تُسمع اصواتٌ جريئة لقرع ناقوس الخطر وكشف ما يُحاك في الدهاليز من سلوكيات غير مستقيمة. فالمستقيمُ المتذبذب في حياته، والخائف من العواقب، وكذا مَن يخشى الصعاب ويتردّد في كشف الحقيقة والفساد ومنابعه، لا يجرؤ أن يسير عكس التيار الجارف المليء كذبًا ورياءً ومخاتلةً، بسبب هشاشة مبادئه وضعف إيمانه بضرورة استقامة الأمور بالعدل والمساواة والحق، رغم يقينه بضرورة كشف المتلبسين بتلك السلوكيات غير المقبولة والإفصاح عن ألاعيبهم الفاسدة.
"لا تخافوا"، قالها لنا المسيح، وهي دعوةٌ تتجدّد معنا كلَّ يوم. فالسيرُ عكس التيار من صفات الشجعان، كما أشار مؤخرًا قداسة الحبر الأعظم المالك سعيدًا، فرنسيس الأول، عندما يتعلّق الأمر بكشف الحقائق من أجل الإصلاح والمنفعة العامة، دون الإخلال بالسلوك العام للغير والمجتمع. ونحن نعلمُ أيضًا أنّ "ما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم"، إن عاجلاً أم آجلاً.
 فلنكنْ شجعانًا ولنسرْ إلى أمام في كشف الحقيقة أينما كانت وكيفما آلت. ولئن رأى البعض أني أسير عكس التيار، فهذا شرفٌ كبيرٌ لي بطرح ما أومن به دون خوف أو تردّد، وليس كمَن يغطّي على الشرّ ويسكت عن الحق ويترك القدر مستورًا!
لويس إقليمس
بغداد، في 30 تموز 2013


354
الحقيقة، هل تنتحر- الجزء الثاني

نماذج من الحياة
الدنيا حبلى بنماذج كثيرة مِن البشر الذين شذّوا عن القاعدة ونصّبوا أنفسهم أمراء على الرعايا، لاسيّما المهمّشين ومن ذوي الفاقة المعيشية المتهالكة. فحكمُ الشعب بأدوات الدّين أو السياسة أو الاقتصاد ليس لعبة أو قَدَرًا بيد حفنة من المحتالين والمدّعين وثعالب السياسة الماكرة أو مَن يدّعي الوصاية الاجتماعية والدينية و"حاكمية الله" على الرعية دون سواه. أليومَ، يبدو لي أنّ محاولة ظهور البعض بثياب غيرهم من الأقوياء على الساحة لأجل تحقيق رغبات هذا الغير وفرضها بطرق ملتوية لا ينقصها المكر والاحتيال والإيغال في الفساد، أيّ نوع كان، سوف تجابهُهم الحقيقة وتكشف نواياهم، إن عاجلاً أو آجلاً. فما يُكسب في الليل سبيًا وهراءً وتملّقًا، يزيحُه النهارُ بضوئه ليكشف الصفقات المشبوهة والنبرات المعتوهة والفذلكات المشروخة. فمعيارُ الإنسان المستقيم وسلوك المواطن السويّ واحدٌ وواضحٌ كضوء الشمس، ولا يقبل الجدال: "أحبب لغيرِك ما تحبه لنفسك". وأيضًا، "لا تكونوا كالفريسيين والمرائيين، يغسلون أعلى الصحفة، وباطنُهم دودٌ وفسادٌ... فهم كالقبور المكلّسة".
نموذج اجتماعي ديني
عجيبٌ أمرُ هذا النفر الشاذّ من البشر، لا يعرف لحدود شراهته رادع،  ولا لفساده مانع ولا لطمعه لاذع. فهو كالحوت يريد ابتلاع المزيد من السمك الصغير المسكين الذي يعتمد على المتيسر من الطعام في كفاف يومه. أو هم كالصقر الكاسر الرافض لأية منافسة من غيره بقصد المشاركة في التهام الفرائس الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة سوى الإذعان لهيجان وصولة الصقور الكاسرة المتلاعبة بأرزاق المستضعفين وذوي الفاقة. وما أكثرَ هؤلاء اليوم، بفعل السحت الحرام الذي جمعوه أو كسبوه ظلمًا وبغير حق بسبب تبعيتهم للغير واستقوائهم بهم والاسترزاق من فتات ما يُحسن به إليهم! وجاءت الأيام ومرّت الأحداث، حتى انكشفت الحقيقة ونضح الإناءُ بما فيه، فتكسّرت على صخرتها كلُّ نوايا الشرّ والذلّ والتبجّح والكذب والخنوع لهذا الغير. ولعلَّ مِن أفعال هذا النفر المتبجّح التابع للغير والمستقوي به، أنهم يسوّلون لأنفسهم التحدث باسم الكنيسة ورئاساتها وباسم الشعب المسكين، كي يضفوا عل أفعالهم هالة من قدسية العمل باسم الدّين، والكنيسة والشعب منهم براء!
وها هم اليوم يتحدثون عن دفاعهم عن حقوق "أبناء شعبنا" وعن فرية "التغيير الديمغرافي"، وكلا الموضوعين أصبحا من ملامح الفترة الآنيّة ومن المواضيع الخطيرة، بل مواضيع الساعة، رغمّ أنها اصبحت تجارة مستهلكة رخيصة العبارات ومتقادمة الملامح وعتيقة الطروحات. فهي لم تعد رائجة ولا مرغوبة، ولا نعلم كيف سيجدون لها الحلّ السحري، وهم ليس بأيديهم ما يستطيعون إقناعَ حتى البسطاء من هذا الشعب المسكين الذي أصبح هو الآخر تجارة بخسة بيد اصحاب الدكاكين ومن ورائهم تجار الجملة الذي يوزعون الفتات على هؤلاء الأتباع المساكين من التجار الصغار. فما مِن هدية أو مكرمةٍ أو جعالةٍ تُعطى جزافًا، "لّله بالّله"، ومِن دون مقابل! ونحن وأنتم نعلم جيدًا، أنه متى انقطع تدفّق الفتات الذي يسترزق منه هؤلاء الأتباع المساكين الضاحكين على ذقون البسطاء من الشعب، حينها سوف تنتهي تماجيدهُم وهتافاتُهم لأسيادهم وتُطوى هذه الصفحة النتنة التي أخذت مساحة واسعة بحق الشعب المسيحي منذ السقوط في 2003 ولغاية الساعة، والتي من أجلها يتم ابتكار الجديد في المشاريع البائسة، وآخرُها "منظمة أصدقاء برطلة".
وبعدُ! أليست هذه هي الحقيقة يا أصحاب الادّعاء بقول الحق؟ وإلاّ كيف تكون الحقيقة؟ وما هي حقيقة فعالكم واستماتتكم بمثل هذه المشاريع الهزيلة بلا هوادة؟ بربّكم، أفتوا بما عندكم، يرحمكم الله كي يرحمنا من بعدكم!

نموذج سياسي ديني
نوايا الإخوان المسلمين في مصر، انكشفت عاجلاً وبانوا على حقيقتهم بفعل الإرادة الصلبة لشعب مصر الكنانة وصمودهم ومقاومتهم للإرادة الشرّيرة والمغرضة لمشروعهم السياسي الديني العنصري المنغلق الذي يكفّر كلّ مختلف عنهم. وبالفعل أثبتت الأيام أنّ هذا الشعب، وأقصد الأصلاء فيه مِن سلالة الفراعنة العظام، شعبٌ جبّارٌ في إرادته، قويٌّ بعزيمته، مثابرٌ في مطالبه، حكيمٌ في إدارته للأزمات. في المنطقة، هناك مَن وصل إلى الحكم ضمن قطار ما سٌمّي ب"الربيع العربي"، والذي مع الأيام ثبت أنه كان مجرّد فقّاعات انتفخت مع هطول أوّل زخّات التحوّل الديمقراطي المشوّه. وسرعان ما انفجر كبرياؤُها وتلاشت آثارُها، وليجرفها بالتالي تيارُ التمدّن والتحضّر والعلمنة بفعل الحقيقة الظاهرة، ويدقّ آخر مسمار في نعشها النتن. فالتجربة المصرية التي انتفض فيها الشعب وفرض إرادته الحرّة على حكم الإخوان الإسلامي المتشدّد خيرُ نموذج على فشل هذا النمط في إدارة دفة الحكم لشعوب المنطقة لخلوّ مشروعهم من برنامج مستقبليّ للتنمية والتطوير والتقدّم أولاً، وكذا بسبب افتقادهم إلى أفق مستقبلي واستراتيجية بعيدة الأمد لبناء الإنسان المصري و"العربي" التائه في متاهات الدّين الذي شوّهوا صورتَه بالتديّن المظهري الفارغ، إلاّ مِن كونه بؤرة للمفاسد وحبك الدسائس وتخوين الآخر في مسعى لفرض "حاكمية الله" على طريقتهم الخاصة وانتزاع أي أملٍ للشعب بمعرفة مصيره وتدبير شؤونه بالحكمة والجمال والحرية التي أنعمها الله على البشر، كلّ البشر.
أليس في تجربة مصر وعزل رئيسها الفاشل درسٌ جديرٌ بالتعلم منه مجانًا، لنا أولاً نحن شعبُ العراق ولشعوب المنطقة بمجملها؟ لقد أرادوا أخونة الدولة بفرض وصاية إسلامية على شعب عريقٍ يعرف قدرَ نفسه ومدى المساحة التي ينطلق بها لبناء قدراته وتطوير آفاقه من هنا، جاء رفض الشعب لهم ولنواياهم المشينة بعد أن منحهم فرصة استثنائية للسير في طريق الإصلاح وبناء دولة دستورية حديثة. إلاّ أنهم أضاعوها ولن يفيقوا من كبوتهم وانتكاستهم التاريخية التي كشفتهم على حقيقتهم بزيفهم وتعاملهم مَع مَن كان في نظرهم من الكفّار، وأعني بهم الأمريكان. فقد قبلوا التعامل مع "الشيطان الأكبر" بأيّ ثمن، لقاء توليهم السلطة، حتى لو كان على حساب الشعب المصري ومصالحه وتاريخه وحضارته. وهذا ما حدا بالكثيرين من العقلاء، ومن الإسلاميين أو المحسوبين على هذا التيار السلفي والإخواني المتشدّد، لأن ينتقدوا الخطأ الذي وقع به الإخوان في مصر، بإيغالهم بإحكام الخناق على صوت الشعب الرافض العودة للعصور المظلمة بفرض دولة الإسلام السياسي الذي أثبت فشله الذريع في الحكم.
 وحسنًا، صدرت تصريحات مبكرة من ساسة عراقيين يعترفون فيها بفشل المشروع السياسي الديني في العراق لعدم ملائمته للعصرنة والظروف التي تختلف في حيثياتها ووضعياتها وتقويماتها عن مرحلة العصور الوسيطة وما قبلها من زمن الظلمات والجهل والتخلّف. لكنّ الطريق مازالت طويلة وغير مفروشة بالورود. فبقايا الظلاميين ومتلازمي الجهل والتخلّف، ما يزالون يسرحون ويمرحون على الساحة وبعلم أجهزة الدولة وتحت عيون المسؤولين، من سياسيين وحزبيين ومراجع ممّن يغضّون الطرف غالبًا، حفاظًا على منافعهم الشخصية والحزبية، أو من أجل الاحتفاظ بالعصا من وسطها، ادّخارًا للوقت واستعدادًا لكلّ الاحتمالات. وفي هذا وذاك، ملامةٌ كبيرة وخيانةٌ للشعب والوطن واليمين المقسوم غليظًا.
-   يتبع

لويس إقليمس

355
الحقيقة، هل تنتحر؟ ج 1

وأنا أتصفح ما يُكتب في زاوية "كلمات بلغة القلوب" على موقع بخديدا/ قرقوش، ليوم 27 حزيران 2013، توقفتُ قليلاً عند الكلمات التالية:
"قد يحتال الانسان على الحقيقة ولكنه أبدًا لن يقوى على تغييرها، والزمن مهما طالت فترة الاحتيال لابد ان يكشف الحقيقة والانسان كائن قادر على معرفة الحقيقة، فلا مبرر للعناد".
أقرأ ما بين السطور وأصحو على صوتٍ يُسمّى بالحقيقة. والحقيقة والحق كلمتان بمعنى واحد متناغم لا لبسَ فيه. سابقًا وقبل أكثر من ألفي عام، سأل بيلاطسُ يسوعَ: وما هو الحق؟ استفسارًا منه عن حديث يسوع عن الحق والحقيقة حينما وقف أمامه ليحاكمه عن إثمٍ ادّعاه اليهود بحقه ولم يرتكبه بقوله أنه ابنُ الله!فهل قال المسيح الحقيقة، كلّ الحقيقة في حضرة الحاكم الروماني؟ وإن كان فعلها دون خوف من حكمٍ صارمٍ كانَ متيقنًت منه، فهل هذا لنا نموذجٌ لقول الحقيقة كيفما كانت ومهما كانت النتائج؟ أسئلة عديدة يترقب السائل الإجابة عنها . وبغض النظر عن الأجوبة المتنوعة والمختلفة التي يتوقعها الإنسان حول كنه الحقيقة وكيفية البوح بها وكشفها، أيًا كان الطرف المعني بها، الشاكي أو المشتكي، نتساءل نحن أيضًا: ما هي الحقيقة عند الإنسان؟ وكيف يفهمُها؟ وماذا تعني له في حياته وفي علاقته مع غيره؟ وها من نماذج للاقتداء والاهتداء والاستنارة؟ هذا ما نتحاول التعرف إليه والتطرق له في هذه الأسطر القليلة وبالتتابع.
مَن الكاذب ومَن الصادق؟
في حياتنا اليومية، الكلّ يدّعي أنّ الحقيقة معه: ألصادق والكاذب والمتلوّنُ من البشر. جميعُ هؤلاء يتحدثون عن احتفاظهم في جعبهم بالحق والحقيقة، وما سواهم مدَّعون أو مغالون أو كاذبون. وتلكم هي مشكلة الناس. فمنهم مَن يشهد للحق دون مواربة، ومنهم مَن يغضّ النظر بمكالبة، وفريقٌ آخر ينفر مِن الحق والحقيقة بعنادٍ ومجازفة وآخرون يبتعدون عنها تفاديًا لأيّ تورط غير محمودِ العواقب. لذا، تبقى الحقيقة المسكينة أسيرة الكلمة الشجاعة والموقف الجريء حين قدوم مَن يستطيع النطق بها بلا خوفٍ وتردّد. لكنّ الحقيقة، لا يمكن إخفاؤها بغربال، كما الشمس! فهي تخترق بأشعتها أثير كوكبنا محرقةً رمالَ الصحارى ومسخنةً مياه البحار والمحيطات والأنهار ومعتديةً على الصلع من البشر في قيظ الحرّ وفي عزّ النهار ليبقى مَن غادره الشعرُ بسبب تقادم الأيام يعاني مِن حرقتها ولذعها.
 هكذا هي الحقيقة، لا يمكن لنورها أن يتلاشى، ولا لألقِها أن يختفي، ولا لصوتها أن يخفت ولا لشعاعها أن يهادن. هي كالضوء الساطع في عزّ الظلام لكشف المستور والمخفي، وكالعاصفة في بحر هائج تُغرق مَن يتبجّح أو يحيد عنها، وكالنار في عنفوان الشدّة تمحّص معادن البشر وتفصل الجيّد مِن الرديء وتفضح المدّعي لها عن حاملها الحقيقي بتواضع ودون صخب أو مَرَج.
أيمكن للنور أن يتلاشى أمامّ مَن يغضّ النظر عن حقيقة ماثلة أو مَن يعيث فسادًا بمصالح البشر، وطنًا ومدينةً وأهلاً وأحبةً؟ سؤالٌ يُترك لمَن يعنيه أمرُ المواربة للحقيقة والكارهِ لها والناكرِ لوجودها لكونها تكشف زيف أمثال هؤلاء عندما تُكشف الأوراق !
مختصّون بالتجارة بالشعوب
إنّ كلَّ مَن يدّعي لنفسه رجاحة العقل وفصاحة اللسان وبيانَ الرأي دون سواه، فهو يثبت عكس ادّعائه، لا لشيء، إنّما لكونِ كلِّ ادّعاءٍ باطلًا ما لم يأخذ في الحسبان غيرَه الذي يشاركه الحياة اليومية وحدودَ حريته التي يتقاسمُها مع هذا الغير وفق معايير لا تخرج عن رصانة الحقيقة. فالحياةُ، مِن هنا تكون عقد مشاركة بين البشر وليست متاجرة لبعضٍ على حساب سواهم بانتهاز سذاجة البعض وتعاطف غيرهم العفوي مع مراكز وقوى المدّعين بحمل هذه الحقيقة دون سواهم وتعاليهم على الغير بعلّة أو بدونها. أمّا أنْ يتمّ التلاعب بعقول البشر، ولاسيّما السذج ومِن أهل الحاجات والفاقة بأساليب انتهازية واستغفالية واستخفافية بعقول هؤلاء، فهذا ليس مِن شيم أهل الحق والحقيقة، بل تلكم هي من سمات مَن يضحكون على الذقون دون خجل. وهؤلاء أشبه بمَن قال عنهم المسيح ب"المرائين الذين يزيّنون أعلى الصحفة، وباطنُهم شرٌّ وبلاءٌ وغيرةٌ وحسدٌ" وما سواها مِن صفات الكبرياء والطمع وحبّ المال والجاه والسلطة.
-   يتبع
لويس إقليمس
بغداد، في 23 تموز 2013


356
الكنيسة والهوية المسيحية

تطلع علينا بين الفينة والأخرى أصواتٌ تنتقد الكنيسة ورجالَها، أو نقرأ في مواقع ومنشورات آراءً تتفاوت في تأييدها أو امتعاضها من سلوكيات أو ممارسات تصدر هنا وهناك، سواءً مِن ذواتٍ كرّسوا أنفسهم لأداء رسالة راعوية أو مِن أشخاص يدّعون قربهم من الكنيسة ودوائرها ونيلِ دعم منها. وفي كلّ هذا وذاك، نتطلّع جميعًا أن تبقى هذه المؤسسة رصينة، متعافية، قوية وصامدة بوجه الأمواج العاتية والتيارات الشديدة الانحدار كي تثبت أنها مبنية على صخرة الإيمان القويم، الصخرة البطرسية كما أرادها المسيح مؤسِسُها، حينما خاطب بطرس هامة الرسل: "أنتَ الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها".

الكنيسة مؤسسة
مفهوم الكنيسة، هي أنها مؤسسة دينية تحرص على تقريب البشر من الله عبر طقوس للصلاة و إرشاد المؤمنين إلى طريق الهداية والمحبة والملكوت، إضافةً إلى تلبية حاجاتهم الروحية الأخرى من تقبّل أسرار وتكافل في الحياة وتطبيق كلام المسيح، مؤسس هذه الكنيسة على الأرض. وبعبارة أخرى، هي الكفيل أو بالأحرى هي الموجّه للمؤمنين نحو طريق السماء، المنزل الآخر للإنسان بعد انقضاء مأموريته معدودة الأيام والسنوات على الفانية، أرض الشقاء!
والكنيسة ليست مجرّد بناء من حجر وطابوق واسمنت وزخارف وديكورات ورسوم وصور مجرَّدة لا تنطق. فالتاريخ يُحدّثنا عن بيع أبنية كنسية وعقارات وممتلكات عائدة لها من أجل تأمين حياة مؤمنين أو تفادي كوارث إنسانية ومجاعات, فالحجر يمكن تعويضُه، أمّا البشر والروح فلا. من هنا تكون هذه المؤسسة المهمة، حياةً وأداةَ انسجام للمؤمن مع ما يرضي خالقه ووطنه وأسرته وقريبه. أي، هي الطرف المساعد لمؤمنيها لعيش حياة منسجمة في المكان والزمان، وفي الوطن وحيثما يتواجدون مع غيرهم، المختلفين أو المؤتلفين في الدين أو المذهب أو القومية أو الوطنية، وما سواها من أدوات تشابه أو اختلاف.
والكنيسة ليست فردًا معينًا بشخص الكاهن أو الأسقف أو رئيسها الأعلى، مهما كانت مرتبتُه ودرجتُه. بلْ هي أنا وأنتَ وأنتِ ونحن جميعًا الذين نتقرّب من مذبح الرب وننهل الراحة والطمأنينة عند أقدام يسوع ومريم وسائر القديسين والشهداء، حين نطلبُ عونهم وشفاعتهم في المحن والنكبات والمصائب، أو حين نطلب راحة الفكر والنفْس والجسد على السواء، وحين نختلي بأنفسنا لأخذ النَفَس وفحص الضمير ومراجعة حياة. ومن ضمن واجباتها، وهي كثيرة، حثّ المؤمنين للتعايش والعيش الوطني المشترك واحترام نظام الدولة مع الإبقاء على حسن الجوار مع كافة المجتمعات دون تمييز. وهي المسؤولة أيضًا عن توعية شاملة، ليس لرعاياها فحسب، بل كلّما تسنّت الفرصة وحضرت المناسبة، نحو مجمل أفراد المجتمعات الأخرى التي تتقاسم مع المسيحيين حلو الحياة اليومية ومرّها. وبهذه السمة، تثبت الكنيسة للمجتمع ككلّ، رعايتَها الأبوية ومساهمتها الوطنية في بناء مجتمع متكافلٍ متآخٍ ومنسجم يجتمع على أهداف وطنية وأسسٍ إنسانية متفق عليها بالإجماع بين سائر الأديان والمكوّنات. ألمْ يستخدم "غبطة البطريرك ساكو" هذه السمة الإيجابية القوية النابعة عن روحية المسيحية في مبادرة وطنية لجمع الساسة الفرقاء، وقد أثمرت وحثت غيره لتكرار التجربة حين تلتها مبادرات لاحقة حلحلت الوضع المتأزّم آنذاك؟
إذن، كلُّ هذا ليس فقط جزءًا من الرسالة والشهادة التي تتوجب على كلّ مسيحي أن يقوم أو يدلي بها، بل فيها واجبٌ على جميع الرعاة المؤتمنين على رعاياهم، أن يساهموا من جانبهم بشيء من التوعية الشاملة بخصائل المسيحية وفعّاليتها وسط مجتمعاتهم وأوطانهم وبلداتهم ومواقعهم. وتبقى عملية التثقيف المتلازمة هذه، للشهادة المسيحية اليومية، والمتمثلة بالكنائس والرئاسات المختلفة، من الضرورات التي يستوجب توجيهها نحو هدف ترسيخ هويتها المنفتحة على الغير بكل جوانبها الدينية والقومية والاجتماعية والتاريخية والتراثية. وهنا، لا يمكن الإنكار أن الفعل تجاه الوجود المسيحي وهويته وكيانه قويٌّ ويتطلّب الكثير من التحدّي وردّ الفعل، وليس الخنوع والقبول بالأمر الواقع. فمن يسكتْ عن حقّ وهو يُغتصب، شيطانٌ أخرس ولا يستحق أن يكون في مواقع المسؤولية عن الرعية، أية كانت هويتُها.

عمل الكنيسة والرعاة
لكون الكنيسة، لا يمكنها أن ترقى إلى مهمّتها السامية ورسالتها الخلاصيّة إلاّ من خلال سموّها هي ورجالها على أية مصالح مغرضة أو شخصية أو ضيقة الأفق أو أعمال غير سويّة أو شائنة لا سمح الله. لذا ينبغي لها تفعيل مهامّها الكثيرة والعديدة، كي تتمكن بالتالي مِن جمع أبنائها جميعًا حول هذه الرسالة، تمامًا "كما تجمع الدجاجة فراخَها تحت جناحيها"، فيشعروا بالدفء الأبوي والحنان الأمومي والأمان الاجتماعي كلّما شعروا بفقدانه. وهذا من أبسط مهام الرعاة في رعاياهم. فالراعي الحقيقي، هو مَن يسرح بخرافه في مرابع خصبة لأجل تغذيتها بطعامٍ صالح ومِن حقلٍ طيّبٍ فيه تتلقى أسمى تنشئة وتتلمذ بواسطتها للمسيح الذي دعاهم ليكونوا أبناء الله، روحًا وجسدًا وإيمانًا وحبًا ورجاءً. ومن هنا كما يقول غبطة البطريرك ساكو في رسالته الرعوية الأخيرة عن الرعية صورة الراعي: "الراعي هو الأب لأبناء رعيته وهو المسؤول عنهم، يعيش في سبيلهم ويوظف كل إمكانيته من أجل بنيانهم ونموهم وسعادتهم وخيرهم". من هنا يكون الكاهن هو الحارس الأمين الموكَّل على حياة أبناء الرعية، ليس الروحية فحسب، بل الاجتماعية والتربوية والتثقيفية، والعائلية ايضًا.
وعليه فالكهنوت بمعنى آخر، ليس مجرّد وظيفة يمتهنها إنسانٌ ما لمجرّد الرغبة بارتقاء هذه الدرجة أو التسلّل إليها بغير دراية ومن دون أهليةٍ وتأهيل أو على سبيل الموضة والوجاهة. بل إنه أرفع من ذلك بكثير. فهو منزلة ملوكية في السماء والأرض، على "رتبة الكاهن الأكبر ملكيصاداق" الرفيعة التي تحدث بها الكتاب المقدس. وهو أيضًا "رسالة وحياة تأخذ كل مشاعر الكاهن، قلبه ووقته وحياته"، كما أشار البطريرك ساكو في الرسالة المذكورة أعلاه. وكي تكون رسالتُه مثمرة ويكون صادقًا في رسالته مع نفسه ومع الله ومع الرعية، لا بدّ أن يدخل إلى عمق الحياة اليومية لأبناء رعيته. أي بمعنى آخر، أن يكون تواجده وسطهم، بمثابة "قوة إيجابية" في متابعة شؤونهم الروحية والزمنية على السواء. وإذا ما استطاع نقل بشرى الفرح والرجاء والمحبة والإيمان والسكينة الروحية إلى نفوسهم، يكون قد أثبت جدارتَه الكهنوتية وقدوتَه للمسيح في محبة البشر، كلّ البشر، ومنهم أبناء رعيته على وجه الخصوص. فالذي أتعبته عوادي الزمن الغادر، وقهرته الظروف الصعبة، وقاده الخوف واليأس وفقدان الأمان، لاسيّما في ظروفٍ كظروف بلدنا،  يكفيه كلمةٌ طيبة من راعيه يدعوه فيها للارتياح أمام أقدام الصليب وعند أيقونة العذراء الحنون، فيسمع صوتًا يناديه " تعالوا إليّ يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، فإن حملي خفيف ونيري طيّب". أمام مثل هذا الوعد الصادق والصريح مِن رسول المحبة والسلام وفادي البشر، فهل يتردّد مَن فقد الثقة بكلّ شيء بالإنصات لصوت الراعي الصالح؟


المسيحية هوية شاملة

لا يمكن القبول أن تُحشر الهوية المسيحية بالطائفية أو بطوائف. فهي أسمى من ذلك بكثير. هي رسالة وشهادة، وهي عملٌ جماعيٌّ مثمر و"خميرة" مؤثرة وإيجابية وسط المجتمع، على اختلاف نشأته وتلاوينه وثقافته. ومن ثمّ، فإنّ القول بالطوائف حين وصف المسيحية وكنائسها المتعددة الطقوس والواحدة بالإيمان، إنّما يعني حشرها في عنق زجاجة يصعبُ معها الخروج منها. بل إن هذا الوصف تقزيمٌ لدورها الرسولي الشامل ويُرادُ به حصرها بمفهوم طائفيٍّ ضيّق لا تختلف فيه عن سائر المكوّنات التي تدّعي الأحقية والأغلبية والأكثرية والأولوية على غيرها في كلّ شيء. وبمعنى آخر، هذا المفهوم يُدخلها في صراعٍ طائفي يتمّ بسببه عزل المسيحيين في جانبٍ أكثر منه سياسيّ، ولا ينسجم مع الرسالة التي تحملها المسيحية وكنيسة المسيح الجامعة والواحدة. فالروح فيها واحدٌ والراس واحدٌ والهدف واضحٌ، مهما اختلفت في المرجعية أو وسيلة الصلاة وأداء الرسالة. وحين تصبح الديانة، أية ديانة، محصورة بمفهوم طائفي، فذلك يعني انغلاقُها على ذاتها وحصر رسالتها وشهادتها ووقوعها في حبائل الخصام والاختلاف والخلاف مع غيرها. وهذا ليس من صميم المسيحية، التي أنشأها المسيح شاملة على صخرة إيمانية صلدة تجمع البشر جميعًا حول كنيسة واحدة شاملة منفتحة. وأمنية الجميع أن تعود واحدة تحت راية راعٍ واحد "كونوا واحدًا، كما أني أنا والآب واحد".
ومن هنا لابدّ أن تشكل المسيحية، أيًا كانت هويتُها الطقسية وتابعيتُها المرجعية، وحدةً متكاملةً بين مؤمنيها وتتعامل مع جميع مكوّنات المجتمع. أمّا التقسيم الذي رسمته لها روزنامات الجهات المغرضة، ومنها الغربية والصهيونية والأمريكية خلف الكواليس، فهدفُها واضح لا يقبل اللبس. وهذا الأخير يتمثل بدق الأسفين بين الكنائس المختلفة وجعلها تنساق إلى صراعٍ بين الطوائف المتعايشة مستهدفةً فسخٍ الآصرة التي تجمع هذه الكنائس وجرّها إلى فتنة شبيهة بالتي هي قائمة في هذه الأيام، ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة التي تغلي بسبب الفتنة الطائفية التي خلقتها هذه الدول بمساعدة بعض الأنظمة التي تنفذ تلك الأجندات المشبوهة. ولعلّ مِن أكثر الأهداف تنفيذًا والنتائج المنظورة وممّا أتى بثماره منذ تقرير الدول الكبرى صانعة القرارات الدولية تغيير الخارطة السياسية للمنطقة، يتمثل بموجات الهجرة المتتالية والمستمرّة التي طالت المسيحيين وسائر المكوّنات قليلة العدد "الأقليات" لإفراغ الشرق العربي منهم وفق برنامج منهجي مخطَّط له برويةٍ وحكمةٍ في مطابخ الغرب الذي لا يهمّه سوى الدولار وأرباحُه قبل كلّ شيء!

لويس إقليمس
18 تموز 2013

357
رهان التحدّي في انتخابات مجلس محافظة نينوى

لم يكن بودّي العودة للكتابة في هذا الموضوع، لأنه أصبح من الماضي بالرغم من عدم مشروعيته الإجمالية، لما شابَهُ من تجاوزات وخروقات وانتهاكات وتدخلات غير حميدة على مستويات عالية، حزبية ومدنية وأطراف محسوبة على الكنيسة. إلاّ أن ما اضطرّني إلى ذلك، محاولات خائبة من عناصر هزيلة في باخديدا ومناطق مسيحية غيرها ومن أتباع "المجلس الشعبي القطاري" من المرتزقين الذين يحاولون تجميل صورتهم أمام الغير، من خلال الطعن أو التشهير أو التقليل من شأن كلّ ذات لا يدين أو يؤيد أو يتبع توجهات هذا التنظيم المدعوم من قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني التي نأمل تفهمها لواقع المنطقة وترجيح الرويّة والعقل وانفتاحًا أكثر نحو جميع الشرائح الوطنية فيها. ولو أن الأخير، لِما يُعرف عن قياداته المحنكة من حكمة ورويّة وتعقّل ودراسة بأحوال وآراء العقلاء من أهل المنطقة، حاول الإلمام بحقيقة بعض عناصر هذا التنظيم الذي يدعمه بقوة، وكذا بطبيعة المنطقة وتطلعاتها وحيثيات موطنها وثقافتها، لما كان وقع في مطبَات وعثرات لن تخدمه على المدى المتوسط والبعيد. أمّا أن تصل بعضٌ من النفسيات الضعيفة الرؤية والهزيلة الفكر والمرتزقة الحال مِن أبناء هذه المنطقة إلى حدّ اللؤم والوشاية بمن ينتقد ويعترض على نهج تنظيمهم الخائب ويفضح أساليبهم القسرية غير الديمقراطية، فهذا يبرهن ديدنَ مَن يرعاها مِن الداخل، ومَن يعدّون أنفسهم قادة لا يُجارون، بسبب إحاطة أنفسهم وشخصياتهم المتصدعة بمثل هذه العناصر الهزيلة. فإلى مزبلة التاريخ، أمثالُ هؤلاء!

حجم الماكنة الدعائية وأساليبُها
 لا يخفى على أحد، حجم الماكنة الدعائية الانتخابية التي استخمدها تجمّع التنظيمات المسيحية بأدواتها المتعددة على مستويات عالية والأساليب المستخدمة في تسقيط المرشحين الآخرين أو التشهير بهم أو بث الدعايات المضادة لشخوصهم والطعن بهوياتهم الوطنية. فقد سخّر "المجلس الشعبي القطاري"، لتلك الماكنة الدعائية، وحشّد لها وزراء ونواب ومسؤولين إلى جانب أدوات استفزازية لا ترقى إلى مستوى المواطنة المسؤولة والشعور بحجم المسؤولية المترتبة على فعلتهم غير الحكيمة. وبمعنى آخر، مثّل مرشح "المجلس الشعبي القطاري"، أكثر من منازلة دولة بكلّ جبروتها وأدواتها لتحشيد الصوت المسيحي لصالحه حصرًا دون غيره. ومع ذلك، وقفت شريحة المثقفين والحكماء والمكتوين بوعود هوائية "سرابية"، إلى جانب مرشح أكاديمي مستقل من" التجمع الوطني المسيحي الموحد"، رغم الإمكانيات المحدودة لهذا الوليد الجديد النازل على الساحة منذ أشهر قلائل. إنّ كلَّ مَنْ صوّت لمرشح هذا التجمع الوطني المستقلّ الجديد، كان على وعيٍ تام بمنح صوته له استنادًا إلى ما شهده فيه من وطنية خالصة واستقلالية في التعبير وتفانٍ من أجل خدمة مجتمعه ووطنه وأهله. وقد حسبت لهؤلاء هذه المواقف، شارةً من الفخر والاعتزاز والاحترام، بعكس مَن خنعَ وخضع للتهديدات وارتضى الذلّ والمهانة. والناس بكلّ الأحوال معادن مختلفة، ويُحسب لكلّ جانب موقف!
عمومًا، ما يمكن قولُه، أن المرشحين الآخرين مِن غير قائمة "المجلس الشعبي القطاري"، سواءً كانوا أو لم يكونوا على علمٍ كاملٍ، بما أعدّ ضدّ طموحهم وتنافسهم، مِن إمكانيات مادية وإعلامية وبشرية، فهم كانوا أشبه بمن يقارعون جدارًا إسمنتيًا ضخمًا يعسر اختراقه أو ماموثًا يصعبُ زحزحتُه. ومع الإمكانيات المحدودة للتجمع المسيحي الموحد الجديد، فقد تمكّن من اختراق قلاع "المجلس الشعبي القطاري" المتعددة وإحداث حالةً من الإرباك والتخبط في صفوف أنصاره بل وفي قيادة تكتّل التنظيمات المسيحية المؤتلفة والمدعومة من الطرف الكردي نفسها، بسبب شعور الناس برغبة حثيثة برؤية تغيير في تمثيلهم وكذا بسبب فقدان الثقة بالتنظيمات الهزيلة المنضوية تحت راية هذا التكتل، والتي لم يرقى أداؤُها إلى المسؤولية في تمثيل المسيحيين قاطبة. وإزاء ذلك الهاجس المقلق، جرى تحشيد تلك الماكنة الانتخابية الضخمة، من أجل ترجيح كفة مرشح "المجلس الشعبي القطاري" بالتسلسل الأول دون غيره بالأسلوب والصيغة التي فُرضت، مع ما رافق العملية الانتخابية عمومًا، من ثغرات وتجاوزات وخروقات، ومن أموال صُرفت من مصادر معروفة ومن ضغوطات وعمليات رشوة وتضليل للناخبين وترغيب ووعود "براقشية"، لم تكن خافية حتى على مسؤولي المفوضية المستقلة للانتخابات.

تهنئة للفائز عن الكوتا المسيحية اليتيمة، وعتب مشروع

بدءًا، لا بدّ من القول أن الاجحاف الذي لحق بمحافظتي نينوى والأنبار بتأجيل العملية الانتخابية عن الموعد المقرّر لحصولها مع باقي المحافظات، لم يكن له مِن مبرّر. بل بالعكس، ترتبت عليه نتائج سلبية، منها على سبيل المثال لا الحصر، ضعف الإقبال الجماهيري على صناديق الاقتراع، ولاسيّما في نينوى الذي لم يتعدّى 38%، بحسب مصدر بالمفوضية المستقلة العليا للانتخابات، وكذا التأثير على سيرها من جهاتٍ تسيّدت الوضع في سهل نينوى دون منازع، بسبب حالة الإرباك والتهديد والإحباط التي طالت المرشحين والناخبين على السواء، ناهيك عن هشاشة الوضع الأمني المهزوز منذ فترة ليست بالقصيرة.
وهنا واتباعًا للبروتوكول، لا يسعني إلاّ تهنئة الفائز عن مرشح "المجلس الشعبي القطاري" الديمقراطي الكردستاني، بالرغم من الطريقة غير الديمقراطية المعروفة التي أهّلته للتفوّق على منافسيه، سواءً على مرشحين من قوائم متعددة أو على مرشح "زوعا"، هذا التنظيم المسيحي القومي العريق الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من فقدان شعبيته في عموم سهل نينوى وغيره من المناطق منذ انضمامه غير المجدي إلى تكتّل التنظيمات المسيحية بزعامة "المجلس الشعبي االقطاري"، بعد أن كان إلى وقت قريبٍ ذا باعٍ طويلٍ على الساحة السياسية بتاريخه النضالي المشهود له. وإنّي أتمنى للفائز بالمقعد اليتيم، ممثل "التنظيم القطاري" الذي غزا مناطق تواجد المسيحيين بوسائل غير محمودة ورخيصة، أن يكون عند حسن ظنّ ناخبيه الذين زُجَّ معظمهم لانتخابه مرغمين تحت سطوة التهديد والتخويف والترغيب من أطرافٍ متنفذة في المنطقة، لأسبابٍ وحالات وظروف معروفة.
 لقد أفردنا في مقالة سابقة، شيئًا ممّا جرى قبل العملية الانتخابات من سلوكيات غير مقبولة وتصرفات مستهجنة من أطراف مشاركة في العملية الانتخابية ومنها جهات كردستانية تتولى مسؤولية ما في المنطقة. وإذ نوجّه نقدنا وامتعاضنا للطريقة التي سارت فيها العملية الانتخابية، بدءًا بالدعاية ومرورًا باليوم الانتخابي وعملية الفرز والعدّ وما بعد إعلان الفوز، فإننا نقول أنّ من حقّ شهود العيان أن يقولوا كلمتَهم، حتى لو كانت مرّة إزاء هذا الغير. إننا نعتقد أن إقحام الديمقراطي الكردستاني نفسه بالاشتراك بوسائله وأدواته ببث الدعاية الانتخابية حصرًا للمرشح الفائز عن "المجلس الشعبي القطاري"، سواءً بعلمٍ أو دون علمٍ منه، فذلك يعني كون الأخير مرشحًا رسميًا عن الحزب الديمقراطي الكردستاني ذاته. وكفى ضحكًا على الذقون والتلاعب بعقليات البسطاء والسذّج من أبناء شعبنا المسيحي، ولاسيّما المتورطين أو الواقعين تحت سطوة هذا التنظيم وأنصاره من الذين يتقاضون أجورهم الزهيدة من صندوق الحسنات وهم لا يعلمون أنّ مَن يطيل ويمنع تحوّلهم إلى عناصر سلكية في أجهزة الأمن الفيدرالية، هي هذه الجهة عينُها كي تبقيهم أذلاّء تحت رحمتها وتتحكم بأصواتهم وتوجهاتهم ومصيرهم.
وإنّي أكرّر ما قلتُه، إنه لمن المعيب حقًا، الإشارة في الندوات التي عقدها ممثل الديمقراطي الكردستاني في عدد من القصبات المسيحية، إلى أطراف عديدة ادّعى تأييدها لمرشحها الوحيد، ولاسيّما الكنسية منها، رغم أن هذه الأخيرة كانت قد صرّحت قبل أيام بحياديتَها التامة ووقوفها على مسافة واحدة من جميع المرشحين. فهل إنّ ادّعاءَ المسؤول الكردي المذكور بكون مرشح "المجلس الشعبي القطاري"، قد نال تأييد الكنيسة وأطرافًا أخرى تابعة له من التي ذكرها في تلك الندوات، كان من دواعي قطع دابر أي تأييد لمرشحين غيره؟
 إنّ مراجعة واعية لمثل ذلك التصرّف غير المسؤول، سوف تُظهر الخطأ السياسيّ الكبير الذي وقع فيه هذا الحزب العريق الذي أقحم نفسه في مثل هذا التنافس غير العادل. لقد كان الأجدر بممثلياته في المنطقة، أن تقف على مسافة ديمقراطية واحدة من جميع المرشحين، لأنّ هؤلاء أيضًا وطنيون ويكنّون كلّ الاحترام والتقدير، ليس للشعب الكردي الصديق فحسب، بل للقيادة الكردية عامة وتاريخها النضالي في المنطقة. لقد كان عليها عوضًا عن ذلك، أن تراقب الأوضاع عن كثب وتنتظر نتائج صناديق الاقتراع لتجري بحرية وبالوسائل الديمقراطية، لكي تعرف حقيقة حجم الأطراف التي تدعمها وتموّلها، والتي لم يلمس منها الشعب المسيحي فائدة، سوى الادّعاء والإيغال بالخنوع للغير وللقادم الغريب من خارج المنطقة. حينئذٍ، وبعد تحليل الواقع والمؤثرات وسبر تطلعات أهل المنطقة وتوجهاتهم، كان يمكن للقيادة الكردية المتواجدة في المنطقة، أن تنطلق من تلك البيّنات والمعطيات إلى كسب ودّ فئاتٍ أخرى إلى جانبها، بدلَ الانحياز التام لمرشح تكتّل التنظيمات التي أصبح هدفُها الواضح تناول الكعكة لوحدها دون مشاركة من غيرها المختلف عنها في الرؤية والقيادة والرأي.
كما أنّ السلبية الأخرى التي تُحسب على الديمقراطي الكردستاني و"المجلس الشعبي القطاري"، تكمن في ما رافق حملتهم الانتخابية، من تهديد وترويع للناخبين في حالة عدم التصويت لمرشحهم، سواءً في الندوات التي عقدت بالإنابة أو باستدعاء أفرادٍ أو الوعد بمكافآت ومكاسب متنوعة أو بالرشى بكارتات الاتصال أثناء العملية الانتخابية وما حصل خلف كواليس مكاتب العدّ والفرز.

نقدٌ من أجل البناء
من هنا، يكون نقدُنا للأسلوب العسكري الذي انتهجه تكتّل التنظيمات المسيحية، مدعومًا من "المجلس الشعبي القطاري" وبتمويل  وتدخل مباشر من الجانب الكردي في انتخابات مجلس محافظة نينوى الأخيرة، في محلّه وليس فيه شائبة، إلاّ لمن أراد البقاء في خنوعه الذليل مسيرة حياته. وأنا لا أعتقد أن القيادة الكردية التي تسعى لتعزيز طريق الديمقراطية في بناء الإقليم إستعدادًا لتشكيل دولتها المستقلة، تخشى الانتقاد وتخافه، لأن النقد البناء أساسٌ راسخٌ وضروريٌّ لتقدم الشعوب والبلدان، ومن دونه لن يكون من السهل تصحيح الأخطاء وتقويمها. ومِن ثمّ، فالنقد ليس عداءً أو تهكمًا  أو نيلاً من قدرات الغير الذي يمكن أن يخطئ أو يصيب، لأنه بشر، والبشر معرّض للخطأ والصواب والكبوة والنهوض. واتمنى ألاّ ينتهي الأكراد إلى قرارٍ  بالعثور على أفضل الحلول بعد أن يستنفدوا او يجربوا جميعها ولاسيّما السيئة  منها.  ولعلَّ ما يجري في منطقة سهل نينوى مِن إحداها.

الكوتا العقيمة لمْ تعد مجدية
كانت الأقليات الدينية والإثنية قد استبشرت خيرًا بتحقيق حصة "الكوتا" التي تضمن لها تمثيلاً وضيعًا معينًا، سواء في مجلس النواب أو في مجالس المحافظات والأقضية والنواحي. لكنّ الحيتان الكبيرة، كما يبدو، لم تشبع مِن المكتسبات التي حصلت عليها من خلال القوانين ووضعية اللوائح الانتخابية، بل صوّبت أنظارها الطامعة نحو "كوتا" الأقليات. وقد تمكنت فعلاً من سرقتها بوسائلها الملتوية، عبر تنظيمات تنتمي إليها وتموّلها مركزيًا، بل مأجورة لمصالحها في مواقع تواجد الأقليات. وقد اشتكى الشبك والإيزيديون والمسيحيون من مثل هذه الوسائل الملتوية التي استخدمت للنيل من حصتهم. وبذلك، تكون فائدة "الكوتا" هذه منتفية الغاية وفاقدة الفائدة. وهنا يأتي عمل المنظمات غير الحكومية، لفضح هذه الأساليب غير الديمقراطية في الاستيلاء على مكاسب الأقليات التي أقرّها الدستور.
إن هدف الانتخابات هو منح الصوت للشخص الكفء والجدير بأن يحمل أماني وتطلعات منطقته وأتباعه إلى الجهات التنفيذية والتشريعية بهدف التعريف بحالة الإحباط والتهميش ونقص الخدمات التي تعاني منها منطقته وأهلُه والتخفيف عن كاهلهم. ولكن، مع حالة الإحباط والبطالة والجوع والفقر في أوساط الشعب عامة، تنتعش أدوات الفساد والمتاجرة بالأصوات التي تُشترى وتُباع في مزاد صناديق الاقتراع، قبل التصويت وبعده، وحتى في مراحل الفرز والعدّ والتدقيق. وتشتدّ حالة الإحباط والخوف من عمليات التزوير عند المرشحين المستقلين الذين لا مصادر تمويل لديهم، لاسيّما في أوساط العاملين في منظمات مجتمع مدني. لكنّ هؤلاء، لا حول ولا قوّة لهم، ولا سلطة رقابية لهم على صناديق الاقتراع. كما أنهم يفتقدون لوسائل الدعاية الوافية، بسبب فقدان مصادر تمويلها، إلاّ مَن سلّموا مصيرَهم بيد أحزاب كبيرة متنفذة لتحقيق أجنداتها، حتى لو أضرَّ ذلك بمصالح الناخبين والمتاجرة بمعاناتهم وآلامهم وطموحاتهم المشروعة. والسبب الرئيس، يكمن في الجهل بالعملية الديمقراطية في أوساط مجتمعنا وفقدان هذا الأخير للثقافة الانتخابية المتحررة المستقلة الجريئة. فقد لوحظت في العملية الانتخابية الأخيرة، وجود منظمات مسيّسة، تُعدّ فروعًا أو ممثلة لأحزاب كبيرة تعمل على خدمتها بالنيابة عنها. وهذه بطبيعة الحال، لن تكون بفعلتها غير الديمقراطية، حريصة على مصالح ومعاناة الناس الذين صوّتوا لمرشحيها.
وقصارى الكلام، تكون كوتا الأقليات أصبحت عقيمة وفي حكم المطالبة بزوالها ونقضها، لانتفاء أهميتها والهدف الذي أُقرّت من أجله.

لويس إقليمس
بغداد، في  30 حزيران 2013


358
مرةً أخرى، مع الطائفية: مسبباتها وآثارها!   
   
   لا أحد ينكر مقت المجتمعات المتحضرة ومثقفو الشعوب لكلّ ذي صلة بآفة الطائفية أو ما هو ناجم عنها أو منادٍ بها. والمعنى المعروف عن الطائفية، انسياق الشخص وراء تعصّبٍ لكل ملّة أو دينٍ أو جماعةٍ أو إثنيةٍ، دون الأخذ بنظر الاعتبار والاحترام لما حوله من بشر مختلفين عنه بها، أو مشاركين له بها في الأرض والوطن والثروة، هويةً ومصيرًا. إلاّ أن الأحداث المتسارعة قد عجنت هذه الظاهرة المقيتة مع مفاهيم وأفكار وفلسفات، كان الدين والسياسة على السواء من عناصرها الأساسية والسبب في تفرقة الشعوب والأوطان وفي انقسام الأخيرة وتمزّقها. وما يخيف أكثر، نزوع الساسة إلى هذا الفكر الهدّام في تنفيذ مآربهم للوصول إلى المثلث المرموق والطموح اللامحدود: في الجاه والمال والسلطة، مهما كانت النتائج، رغم عدم الاعتراض المبدئي على حق الفرد في تبيان أصول طائفته وتاريخها وقدرتها على استيعاب الحاجات والمتطلبات دون الإضرار بغيرها. فالدعوة للتأييد شيء، وفرضها شيء آخر، ففي الأخيرة إقصاء وتهميش واستبعادٌ ونكران للوجود والحق في هذا الوجود. فهل تحول الصراع بين الأديان إلى صراع للطائفية والمذهبية أيضًا؟

   أمثلة من التاريخ
   شهد العالم، مآسٍ كثيرة، كانت الطائفية سببها الرئيسي، ومنها ما عانته أوربا في العصور الوسطى، إبّان النهضة الدينية على يد "المصلحين" البروتستانت ضدّ كلّ شيء اسمُه الكنيسة الكاثوليكية. كما عانت منطقتنا الشرقية في فترة معينة من أبعاد الطائفية وتأثيراتها بين الكاثوليك والأرثوذكس والآثوريين (النساطرة سابقًا)، وما لحقها من تجاوزات أدبية ومن تبادل مخجل للحرمات وغيرها من التصرفات غير المقبولة أحيانًا كثيرة. وهناك أمثلة أخرى، كانت الطائفية وقودها المستعر في حروب دامية، كما حصل في إيرلندة وفي لبنان في سنوات ليست ببعيدة. وفي السنوات الأخيرة أيضًا، لا ننسى ما حصل في السودان ومازال يحصل في مصر. وحادثة القتل الطائفي الأخيرة فيها والتنكيل بالجثث، عارٌ على الإنسانية وكلّ مَن يدّعي عبادة الله، وهو يقتل باسمه! وما نشهده اليوم في العراق بعد التغيير في 2003، ليس إلاّ صراعًا ذا نهج طائفي بامتياز. ولكن، قد نسأل: لماذا؟ و ما هي الدوافع لهذا المدّ الطائفي في العراق؟ وهذا ما يهمنا أكثر.
   لقد عرف الغرب  كيف يستفيد من أخطائه ويستفيق من غفوته حين استخدم العقل والعلم والروية في معالجة هذه الآفة من خلال انتهاج نظام العلمنة الضامن لحقوق الجميع والبعيد عن أية منغصات جانبية في الدين والإثنية. وبهذه الخطوة، كسب الرهان، فاتحد وتطور وبنى، إلاّ الدول التي كانت ما تزال تستلهم أفكار المدّ الشيوعي في بنيتها القومية المتراكمة وسياساتها الطائفية الملغومة، مثل يوغسلافيا السابقة. فهذه الأخيرة، حين طالها التحديث، لم تحتمل التطور. لذا تشظّت وانقسمت بسبب الفوضى العارمة التي ضربتها والكمّ المتراكم من الترسبات القومية والطائفية التي كانت نخرت أسسها وفرّقت شعوبها المختلفة. أمّا الشرق العربي والإسلامي، فقد لبسته هذه الآفة من رأسه حتى أخمص قدمه، وغرق في بحورٍ آسنة يصعب الخروج منها بريئًا نقيًا، طالما لا يمتلك قادتُه وسادتُه وشعوبُه على السواء، الشجاعة الكافية للخروج من خازوق النعرة القومية سياسيًا والطائفية دينيًا، وهذا ما ينبئ بمراحل قادمة من التجزئة المتوقعة في حالة عدم التوصل إلى حلول توفيقية لمصلحة الوطن والمنطقة وشعوبها. فالمنطقة تمر اليوم، بذات الظروف وكأنّ  التاريخ يعيد نفسه! فهل نبني أم ننهار وننقسم فنتوارى؟ إنه امتحان عسير، لن نتمكن من الخروج منه معافين، إلاّ بواسطة الإرادة الشجاعة والنية الصافية والضمير الحيّ والكلمة الصادقة والقلم الرصين وبتلاحم المتنورين من أهل العلم والثقافة والوعي، ومَن هم مِن خارج قوقعة الطائفية والسياسة، من الذين اتخذوا من الدين غطاء كاذبًا لتمرير أجندات خارجية أو داخلية دخيلة لا تخدم سوى مصالح ضيقة وخاصة.
   إنّي لأعجبُ من ضعف تناول هذه الأزمة المشتدّة والمستعرة، التي تكاد استفحلت وأصبحت آفة يصعبُ اقتلاعها وعلاجها على المدى القريب والمتوسط. فقد كان الأجدر، بأصحاب العلوم الاجتماعية والنفسية والفلسفية وحتى الدينية منها، تناولها في بحوث وتحليلات  ودراسات أعمق، وتقديم حلول لها إلى أصحاب القرار وذوي الشأن وحتى على مستوى المؤسسات التعليمية والمنظمات. فهذه بمجملها، لو اتسعت مجالات تعاطيها على المستوى الوطني العام، من شأنها أن تكون دليلاً وعاملاً مساعدّا في تغيير الأوضاع والتعريف بكوارثها الكثيرة والكبيرة على جميع الصعد وعلى مستقبل ومصير أبناء الوطن الواحد. كما قد تكون وسيلة ضغطٍ أكبر على أصحاب الشأن من المتورطين والداعمين والمثيرين لها على السواء، حين يتم فضحهم  وحملهم على القبول بأبسط الحلول المقدمة والحريصة على وحدة البلاد وتماسك العباد. فالطابع العام القائم فعليًا، هو أن الجميع يخاف، ولا يعلم من ماذا، ربما من كلّ شيء! كما أن الكل متوجس من الكل، بسبب فقدان الثقة وضعف النسيج في المجتمع الذي أرهقته الفتاوى والأحقاد وممّن يريد العودة للسلف التليد بفرض إرادات بالية لا تتناغم مع حتمية الحياة المعاصرة المختلفة عن روحية الماضي وجلابيبه الهرمة. ومن المؤسف له أن يصبح الفرد عدوا لجاره يخاف منه، بلْ يجب الخوف منه، لأن الطمع قد أغرى عباد اليوم وأهواهم بحيث أصبحت لغة الاستحواذ على ملكية الغير وحلاله وحقوقه سبيلاً للحياة اليومية الجديدة، باختصار موضة العصر المريب.
من هنا نلحظ ببساطة، كيف تغيرت ديمغرافية بعض المناطق والمدن، ومازالت الطريق سالكة في ذات الاتجاه. ولعلّ الانفجار السكاني المتنامي، كانت له آثاره الواضحة، لكونه توسّعٌ عشوائيٌّ غير مدروس، بل هو قائم على أعراف دينية بحتة ودعوات غير راشدة إلى التكاثر الكمّي "الرملي"، دون الأخذ بالحسبان محدودية وسائل التنمية وقصور البرامج الضرورية لاحتواء هؤلاء البشر وضآلة فرص الخدمات التي يستحقها المواطن في كلّ مكان أو مدينة أو قرية. وبحسب توقعات إحصائية لعلماء الاجتماع وباحثين، أن العراق ينمو بنسبة 2% سنويا، ما يعني بلوغ سكان العراق  50مليون نسمة تقريبًا في عام 2030. ولو نظرنا إلى مستوى المتوفر من برامج التنمية ومنها البنى التحتية الموضوعة وكذا الخدمات الأساسية وسلّة الغذاء المطلوبة لهذا الكمّ من البشر، نقول أن التوقعات لا تبشّر بخير، طالما بقيت ظاهرة الفساد مستشرية واللامبالاة قائمة إلى جانب ظاهرة هروب النخب من العقول والعلماء والمفكرين والمهندسين والمتنورين المتمدنين وسائر القوى البنّاءة التي آثرت خيار الهجرة سبيلاً لحياة أكثر أمنًا واستقرارًا وكرامةً، لأنها ببساطة لم تعد تحتمل الصبر إلى ما لا نهاية. والسبب في كلّ هذا وذاك، سيادة العنف الطائفي في كلّ مكان بدل وسيلة التعايش والتكافل التي عرفناها عبر السنين، وكذا بسبب غياب القانون وعدم تحرير دستور وطني خالص وغير مغرض. وهذان وحدهما كفيلان بضمان حقوق المواطن وتحقيق المساواة والعدالة والاستقرار في المجتمع العراقي الذي تشظّى وانقسم وفقد أهميته الحضارية والعلمية والسياسية والاجتماعية بين دون العالم، في غفلة من الزمن، كان الدخلاء الدوليون وأعوانهم في الداخل، هم السبب في إضعافه ونقله إلى حالته المزرية.

   الأنظمة السابقة والاحتلال وتداعياتُه
   يجزم الكثيرون، أن الحكومات المتعاقبة على حكم العراق، هي السبب وراء كل هذا الكم من المشاكل الطائفية ومن الفوضى السياسية، بسبب غياب الوعي الوطني المتحضر من القيادات الدينية والسياسية على السواء وفشل اندماج الفكر التحرري مع ماهية الهوية الوطنية وكيفية صيانتها من الشوائب الجانبية، سواءً في حدود المنطقة أو من الدول المتجاورة، ناهيك عن الأطماع الدولية ونية الغزاة الجدد في ترسيخ السلوك الأصلح في نظرهم  والأسهل لهم، من خلال الدفع بمبدأ الانقسام والتفريق، أي طريقة الانكليز (فرّق تسد). فكلّما كانت العصي مجتمعة، تعسّر على الغريب والعدو كسرها، في حين لو تراخت وضعفت وتفرّقتْ، سهلَ ليُّها واختراقها والسيطرة عليها. هكذا، تعلّمنا ونحن صغارًا عن مبدأ صيانة القوّة في الوحدة والاتحاد، وبعكسه السقوط والضعف في التفرقة.
   اليوم، مشروع "بايدن" الماكر، أو بالأحرى، مشروع الغازي الأمريكي، المتبجّح بنقل ديمقراطيته الهشّة على أرض الرافدين، يأتي في هذا السياق وضمن ذات المبدأ، وهو يسير وفق أجندته. كما يتبعه سياسيونا، سواء بعلمٍ منهم، وهذه كارثة تنسف الوطن والمواطن معًا، أو بجهلٍ منهم لأهدافه الخفية والخطيرة عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع، وهنا الطامة الكبرى! بدأ الأمريكان مشوارهم التقسيمي والطائفي الخطير، على عهد الحاكم المدني "بريمر" الذي استعجل السياسيين العراقيين بكتابة الدستور وتمريره بتلك الطريقة (الديمقراطية؟) السمجة التي صفق لها الشعب المغلوب على أمره من حيث لا يدري ما في ذلك الدستور الذي فُرض فرضًا. ويا لهول ما فيه من قنابل موقوتة! لقد صاغه المشرّع الأمريكي، ومرّره للمشرّع العراقي من أجل شرعنته وإعطائه حكمًا دستوريًا، بعد أن نجح وبامتياز، في إقناع السنّة بالخروج تبجّحًا، عن الاجماع الوطني، ضامنًا بغيابهم عدمَ معارضتهم المتوقعة والرافضة لبنوده غير الوطنية والقابلة لتقسيم البلاد والعباد دون حياء وخجل.
    حقًا، إن العراقيين، كما أظهروا بالأمس واليوم، لهم قصب السبق والانبهار والبداهة على غيرهم من شعوب العالم في كلّ شيء، إلاّ في حبهم لبعضهم البعض وفي توفير واستخدام طاقاتهم وثوراتهم وثرواتهم  لصالحهم  دون غيرهم. فالمال العراقي العام، أثبتت الأيام أنه ليس لهم ولشعوبهم ولتطور بناهم التحتية والعيش أسيادًا مرفهين بكامل الخدمات الآدمية على أرض الحضارات التي يفتخرون بها. من هنا يكونون قد فقدوا أسمى قيمهم المتمثلة بالهوية الوطنية التي عرفها عنهم التاريخ، ما دفع الغازي المحتلّ، لإثارة البدائل المخطَّط لها بعناية، من خلال التقوقع على اعتبارات جانبية لم يألفها الشعب من قبل والمتمثلة بإثارة عامل الطائفية والمذهبية والعرقية الضيقة التي لا تجمع، بقدر ما تفرّق. وبين هذه وتلك، ضاعت حقوقٌ لطوائفَ ومكوّنات قليلة العدد، ما اضطرّها للاحتماء بقوى أخرى اعتقدت أنها ستوفر لها الحماية وتضمن لها حقوقها. ولكنْ، هيهات أن يتنازل من جلس على الكرسي ومن بيده المال والجاه والسلطة، ولو بجزءٍ من الكعكة الكبيرة لغيره. فاليوم يومه، ولسان حاله يقول، كما تغنّى من قبلنا بالقول (هذا اليوم الجنّا نريده). هي بالأحرى، حرب حيتانٍ كبيرة تبلع  الأسماك الأصغر و"ماموثاتٌ" تجترُّ الأخضر واليابس، فلا تبقي ولا تذر!
   من هنا، يكون الغزو الأمريكي- الدولي، غير المقنع في تبريراته  في 2003، ، قد أخرج الجيفة المكبوتة في الفكر والعقيدة والأحلام والطموحات لدى شرائح عديدة في المجتمع العراقي، سواء القومية أو الطائفية أو المذهبية منها، أو تلك التي سادتها مغالاة في الممارسات الدينية بعد عطش السنين المدفونة والملآى بالحسرات والتمنيات الممتزجة بالحقد والكراهية للحاكم المطلق وأعوانه الذي غالى هو الآخر، في كبح جماح العراقيين آنذاك، دون تمييز. لكن المحتلّ ، لم يختلف بفعلته هذه، عن المستعمر الإنكليزي في طريقة تعامله مع مجتمع متنوع الأعراق والأديان والمذاهب، من حيث ترسيخ الانقسام وزرع بذور الانفصال والخيفة والهاجس المتلازم عن الآخر المختلف. وهو لم يسمح البتة، أن يتسامى المختلفون على اختلافاتهم، بل عمل على دقّ الأسفين بين الجميع، في تأليب بعضهم على بعض أو دعم فريق دون آخر في الخفية، أو في إطالة أو تأجيل أو إفشال أي بصيص للمصالحة تبدو في الأفق. اليوم، الكل خائف، والكل متوجّس، والكل متربص للغير... فكيف سيُعاد بناء المجتمع من جديد إذا لم يُصلح ذاتُ البين وتصفى النوايا؟ اليوم، لا هوية واضحة، ولا ضوء منير يهدي السائرين في الظلام، ومِن ثمّ لا أمل لدى الكثيرين على المدى القريب والمتوسط! وهذا أحد الأسباب الرئيسية التي تشدّ المهاجرين لترك البلد وتجعلهم يعزفون عن التمسك بالأرض والبقاء في الوطن. وإلى متى هذه الحال؟

بين السياسة والدين، طلاق بالثلاثة
   من الصعب، الجمعُ بين السياسة والدين، لاسيّما إذا كانت الطائفية من بذورهما، بسبب اتساع الهوّة بين المفهومين في ضوء هذه الآفة الخطرة. لقد قالها المسيح للذين أرادوا تجربته وجرّه إلى السياسة في ذلك الزمان حول ولائه للقيصر: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه". بهذه الكلمات يضع المسيح سيفًاً بين الدين والسياسة، بسبب الميل في كلّ الأحوال، إلى شيء خفي يقف وراءهما، وهو يتمثل اليوم بسيف الطائفية الدينية والإثنية في منطقتنا. لقد علّمتنا الأحداث، أنه حين تضيق الدنيا بأهل الدين، فإنهم يتجهون صوب السياسة لإفسادها باستغلالهم إياها طائفيًا. وبعكسه، حينما يضيق الساسة، فإنهم يتخذون من الدين والتديّن المزيّف ومن الطائفية التي تغذّي هذا الدين سبيلاً للوصول إلى مآربهم الضيقة بغية فرض أجنداتهم، بالوسائل المبتكرة. وقد قيل: إذا أردتً إفساد السياسة أي الحكومة، فوجّه عليها رجال الدين بكل ما أوتوا من زيفٍ وبهتانٍ. وإن أردتَ تحجيم الدّين ورجاله، فوجّه عليهم نيران الساسة بكل مكرهم ودهائهم!
    حين العودة، إلى مفهوم الطائفية في الدين الاسلامي، نرى أنها كانت قائمة و "لكنّها بالمعنى الديني، كانت محصورة في جوانبها المعرفية والفقهية" فحسب، كما يرى الفقيه الشيخ طه جابر العلواني في مقالة له عن الطائفية (جريدة القبس/ 17 أبريل 2013). إلاّ إنّه بدخول السياسة على الخط، وعلى مرّ الأيام وبتفاعلها مع المستجدّات المحلية والإقليمية واستغلالها لأغراض سياسية ضيقة، أفسدت معناها. وهذه الذرائع أيّا كانت، بتبنّيها الوسائل التي عرفناها، ليست سوى وسائل توظيف لأجندات خارجية إقليمية أو مصالح فئوية خاصة لا تؤمن بمبدأ قبول الآخر المختلف، من أيّ طرف كان. المهمّ لدى من يصعد إلى السلطة، أن يثبت أركان حكمه بما يتلاءم مع فكره ويتناسب مع فئته وطائفته وحزبه دون غيرها. ومن يكون على هذه الشاكلة في التثبت بالكرسي، لا يمكن أن يؤمن بالديمقراطية ومفاعيلها، ببساطة لأنه لا يعرف معناها، بل ينساها تمامًا وينزعها عن بنات أفكاره.
   هل يمكن أن ننكر، أن جميع  الشعوب ومنها في العراق، كانت على مرّ الأزمان متعايشة منذ فجر التاريخ باختلاف القوميات والأديان والإثنيات، لغاية الفترات الأخيرة من عصر الإسلام؟ لكنّ دخول الساسة على الخط، أفسد اللون والطعم وخرجت عن مداها التعايشي السلمي، ليصعد بها التعصّب والتشدّد أدراجَ الحياة العليا ويبقى هو اللون السائد طائفيًا. فهل يسأل مؤيدو هذا التيار، إذا عادوا ولو للحظات إلى رشدهم: ما طعم الحياة حين تتلوّن بلون واحد، أيّا كان؟ أعتقد أن عيونهم، سوف لن تستمتع بعدُ، بما بين ظهرانيهم وحولهم وأمامهم من اختلاف الألوان بكلّ زهوها وتنوعها وجمالها. فلن يروا غير الغبار الصحراوي الكثيف المتزايد يومًا بعد يوم، والذي يعمي الأبصار ويكمّ الأفواه ويحتبس المرأة ضمن اسوار البيت والفرد في حدود الجامع والحسينية بأزياء بيضاء وسوداء لا غيرها، لأن باقي الألوان ستكون دخلت ضمن خانة التحريم والحلال والحرام. وباختصار، لا أسهل من استخدام التخوين والتكفير عندما تفرغ جعبة الطائفيّ الانتهازي وتجدب قريحته ويبقى العقل والفكر معًا معطّلين عن التفكير والتطوير والتغيير نحو الأفضل: نحو التعددية واحترام الاختلاف في الراي واستمرار التعايش السلمي رغم كلّ ذلك، واتخاذ هذا السلوك منهجًا من أجل البناء والإصلاح، وليس من أجل الطعن والتدمير والاقتتال.
من هنا القول، أن السياسة لا يمكنها التفاعل والعيش بسلام مع الفكر الطائفي المبني على تفسير خاطئٍ للدين وأصوله وفق المعايير العصرية المطلوبة.

حياة الناس معطلة
   اليوم، وبسبب انشغال القيادات السياسية والدينية بهاجس الطائفية المتعاظم، لا أحد يتحدث عن المستقبل، وكأن الحياة قد توقفت واقتصرت على الواقع اليومي وعلى الزمن الذي يعيشه الإنسان في صومعة التقوقع الطائفي المتذبذب والكاره لكلّ انفتاح وقبولٍ للغير. أمّا المتباكين على الماضي، فبسبب فراغ جعبتهم من العلم والمعارف، والأنكى من ذلك، من محبة الغير وحب البناء والتطوّر مع العصر، ليس أمامهم اليوم، غير ما يجود غَرفُهم واستذكارُهم من الماضي الزاخر التليد المنتهي الصلاحية، رغم أن هذا الماضي ليس من شأنهم وليس لهم فيه من شرف البناء والجهد والإعمار. لقد دخل الصراع الطائفي حتى في الخدمات الآدمية وفي مناهج الدراسة وفي التعليم وأصوله، بل وفي أسس التركيبة التي تشكل دعاماته. ما سمعناه في أوقاتٍ سابقة، من ممارسات وقرارات غريبة في بعض المؤسسات العلمية والتعليمية ومنها الجامعية، يقزّز النفس وتقشعرّ له الأبدان حقًا. فهل نحن نسير عكسَ تطور الزمن؟ هل يُعقل أن نرجع بالتعليم وأساليبه إلى المراحل الأولى من نشأته بفصل الجنسين عن بعضهما وتشكيل مؤسسات علمية مستقلة للذكور وغيرها للإناث؟ في أي زمن نحن نعيش؟ أيُعقل أن نسمي كلّ تماس بين الجنسين حرام وضدّ الشرع ووووو، درءً للفتنة؟ أية فتنة هذه أن تدخل معايير طائفية معينة يُراد فرضها على مجتمع متعدد الألوان والأعراق والأديان؟ ماذا في حالة عدم تيسر العدد الوافي من تلك الهيئات؟ إن العلوم لم تتقدّم إلاّ باستبعاد مثل هذه الأفكار المتخلفة واستنكارها بشدّة ورفضها التام والحاسم. فالعيب ليس في الاختلاط، بل في النظرة غير البريئة التي نشأت من الخلفية البيتية والدينية والطائفية في المجتمعات المتخلفة، ومنها التراجع في النظرة الحديثة والمتطورة للأحداث في منطقتنا عمومًا، منذ فترة نهاية القرن العشرين ولغاية الساعة. أما في العملية التربوية الأساسية، فحدّث ولا حرج. فما تزال هناك آلاف المدارس غير مستوجبة المعايير التربوية في هيئات بنيتها المادية والعلمية على السواء، لأسبابٍ عديدة، منها دخول المحاصصة الطائفية وما شابها من عمليات فساد أيضًا على الخط. فقد سمعنا وشاهدنا حوارات ونقاشات واتهامات بصدد مدارس غير منجزة أو صفقات عقود لبنائها وفيها رائحة من الفساد. ومن نتائجها، تملّص متورطين من مسؤولياتهم في بناء مدارس حديثة بدل مدارس الطين والصفيح والقصب التي لا تليق ببلد يطفو شعبُه على بحيرات من نفط، لكنه محرومٌ منها. كما نسمع عن ميزانيات خيالية لتنفيذ مثل هذه المشاريع، إلاّ أنه في أرض الواقع، لا شيء محسوس. فالأصوات ما تزال عالية صارخة والأيادي ضارعة تطلب الإنصاف والاستهداء بالله والاسترشاد بالضمير وقطر دابر السبب الطائفي، ولكن ما من مجيب!
   من هنا وأمام هذا المظهر المريع من النتائج التي أفرزتها الطائفية في الوطن، علينا أن نتعلم كيفية التخلّص من مخالبها، باستخدام فكر متنور ووسائل حضارية تلتف حول شيء أساس، إسمُه الوطن، كي يكون هذا الأخير خيمة وارفة وواقية للجميع من برد الشتاء العاتي وقيظ الصيف القاسي. ومعه، يمكننا أيضًا، أن نرسم هوية الوطن كما بريشة فنان مبدع، فنان عراقي أصيل من أمثال أولئك الذين نقشوا أفضل الرسوم وصاغوا أجمل الحلي لنساء العراق منذ سلالات فجر التاريخ حيث تشهد لها المتاحف وكتب التاريخ. وكذا على غرار أولئك الذين نحتوا تحف الثيران المجنحة أو خططوا وبنوا الجنائن المعلقة والزقورات وأبدعوا برسم بوابة بابل وعشتار  وغيرها كثيرٌ.
   
هجرة العقول وخسارة الوطن
   هناك من يعتقد، أن توغل الفكر الاسلامي السياسي في الحياة اليومية هو الذي أفسد قاعدة التعايش المشترك بين المواطنين، بحيث صار التضادّ وتهميش الآخر وعدم القبول بالمختلف هو البديل لحاملي هذا الفكر القاصر، بدل خيار الحوار ولغة الفكر التنويري والعلم والثقافة المتحررة. وبسبب هذا المدّ الجارف في هذا الاتجاه، فقد العراق جزءًا كبيرًا من القدرات المادية والعلمية والثقافية والمدنية لمواطنيه الذين هجروه قسرًا وظلمًا، بسبب تنغيص عيشهم، ما دفعهم لتفضيل الهجرة وبلدان الاغتراب بديلاً للاستقرار وراحة البال. وهذا بحدّ ذاته، خسارة كبيرة للعراق الذي يكون بغياب هذه النخبة الوطنية والإثنية المتنوعة، قد فقد الجزء الأهم من مقوماته البشرية، ما ساهم ويساهم في تردّي قدراته المستقبلية أيضًا في مواجهة التحديات القائمة. وهكذا تكون الهجرة قد تركت جملة من التغيرات السلبية المؤلمة في بيئتنا الحضارية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
   إنّه وبالرغم من ناقوس الخطر الذي أنبأَ به ونبّه له السياسيون العقلاء وعلماء الاجتماع والمتنورون من محبي الحرية والداعمين للتغيير الديمقراطي الصحيح في أوصال البلاد، والمحذّرين من هول التداعيات الكارثية لهذه الهجرة الواسعة لشرائح معينة، ولاسيّما المسيحية منها ومن سواها من الأقليات الأخرى وحتى من ألوان الطيف العراقي السائد، إلاّ أن ساسة البلد لم يجهدوا النفس بقطع دابر تلك الأسباب أو الحدّ منها، عبر إيجاد ما يقنع المهاجر بالعدول عن قراره. ومن المؤسف له أن الكلّ يعلم أن هذه النخب كانت وما يزال من بقي منها صابرًا،  تشكل حلقة الوصل بين الحضارة المحلية والحضارات العالمية الأخرى بسبب ما تمتلكه من علاقات ومقومات متنوعة المهام والقدرات والكفاءات. ويشهد الجميع، بمقوّمات المجتمعات المسيحية قاطبة، من حيث إحاطتهم وإلمامهم وتفاعلهم مع مختلف الثقافات دون عناء، ما يشكل فيهم خير عامل للتحاور والتعايش والاستقرار المجتمعي والتناغم رغم الاختلاف القائم في العديد من الشؤون العامة الأخرى.

حلمٌ وخيال
   قالتها بحسرة والدمعة تنزل من مآقيها وهي تغادر أرض الوطن: كنتُ أحلم أن أتزوج وأنجب صبيانًا وصبايا، وان يكون لي بيتٌ يلمُّ أسرتي في أرض آبائي وأجدادي. لكنّ القدرً خطفَ منّي حبيبي ورفيق عمري قبل أن أروي غليلي وأحقق حلمي، حينما أردتُه الصراعات الطائفية بهدية انتحارية من "مجاهدٍ" غريبٍ مجرم استلهم فعلته الإجرامية من فتاوى دعاة الطائفية. لم يعد هذا الحلمُ ملكًا لي، بعد أن تخلّينا عن بعضنا، وكأنّ ذلك الحلم الذي كان في خاطرة كلّ وطنيّ عراقي، كان ضربًا من الخيال. لقد تشرّدتُ وأطفالي ولم يكتمل حلمي ببيتي الخاص الذي وظّبتُ له مع زوجي ورصدنا له جهدًا ومالاً وهمّاً. لم يعد لي مكانٌ في هذا الوطن الذي يرفض أبناءه. بل لم يعد الوطنُ لي بيتًا يأويني وأطفالي ويحصّنني ويصون كرامتي وحريتي ويحترم حقوقي ويعترف بمساواتي ويحقق العدل متى انتهكت الحرمات وخرقت القوانين. أيُعقل أن يتحول وطني إلى غابة من الوحوش الكاسرة التي لا تؤمن بالقانون، وهو أول بلد صكّ القوانين وعرف مسلّة حمورابي التي ما تزال ماثلة يتداولها ويسترشد بها حماة القانون؟
   أسئلة محرجةٌ، أثارتها هذه المرأة الشابة، ولم أجد لها جوابًا مهدّئًا. فكلّ الأجوبة والردود تسقط أمام مأساة من هذا النوع، ولا يبدو ينفع معها أية مقترحات او تطمينات، طالما أن الأمر يتعلّق بمصير حياة ومستقبل أفراد فقدوا كلَّ أملٍ بقدرة الدولة ومؤسساتها وساستها على تأمين وسائل العيش الكريم والأمان المرجو من كلّ فرد لم يعد يرى توفر هذه الوسائل في العراق الغارق في مستنقع الطائفية الآسن. متى الخلاص منها؟

لويس إقليمس
بغداد، في 28 حزيران 2013


359
بلداتُنا المسيحية في سهل نينوى الشرقي بين مطرقة الدخلاء وسندان الأصلاء

      تتفاقم الأزمة في منطقة سهل نينوى الشرقي وفي البلدالت المسيحية خاصة، بين تيارات متناقضة الأهداف والوسائل، بعد أن تدافعت نحوه كيانات طامعة عديدة من خارج محيطه الطوبوغرافي الطبيعي، في سعيٍ حثيثٍ للنيل مِن أصالة نسيجه المجتمعي الذي حافظ القدماء الأصلاء فيه على أمانته وصانوا احترامهم له طيلة السنوات المنصرمة. ومع حلول الاستحقاق الانتخابي لمجلس محافظة نينوى الأخير، احتدم الصراع الفكري والسياسي بين قوى داخلية تؤمن باستقلالية مناطقها وبقدرة أبنائها على إدارة شؤونهم بأنفسهم دون تدخّل من قوى خارجية دخيلة تدعمها ذيولٌ محلية مدفوعة الأجر. والعتب في ذلك يقع أولاً على نفرٍ من أهل المنطقة ممّنْ كانوا ومازالوا يدّعون حرصهم الظاهري على مصالح البلدات المسيحية بتسليمهم مفتاحها وقَدَرِها للقوى الكردية التي نصّبت نفسها وصيًّا على مناطق الأقليات دون تفويض، بهدف السيطرة عليها قسرًا. وكلُّ ذلك يحصل في ضوء ضعف الحكومة المركزية العاجزة منذ أكثر من عشر سنوات بوضع حدّ للعديد من التجاوزات والخروقات التي تمسّ الحياة الوطنية  اليومية لأهالي المنطقة. وما ظاهرة بروز قوى جديدة فكريًا وسياسيًا في المنطقة في الآونة الأخيرة، سوى مؤشرٍ على رفض ما يُخطّط له من دسائس ومشاريع لا تخدم المصلحة الوطنية العامة للمنطقة والتي يسعى الأصلاء فيها لبناء شخصية استقلالية محايدة في الصراع العربي- الكردي، بانتهاج سياسة العيش الوطني المشترك مع الجيران المختلفين عنّا إثنيًا ودينيًا والمتفقين معنا حول حقنا في استقلالية مناطقنا.
الأصلاء معدنُهم لا يتغيّر
ذات مرة، وأنا في طريقي بين بغداد المتألمة وأربيل المتبخترة ب"عصرها الذهبي"، قرأتُ يافطة تقول:" لا شرف لِمن يتاجر بالوطن وأهلِه". وتبادر إلى ذهني، ما يقوم به بعض أصحاب النفوس الضعيفة من المنتفعين مِن ظروف البلد الفوضوية بتغليب مصالح ذاتية ضيقة لا تخدم البلد عامةً ومناطقهم خاصةً، بقدر ما توسّع هوّة المسافة بين شريحة تؤمن بنضوج فكري وعقلاني واتزان في المواقف، وبين إصرار شريحة مستفيدة تابعة وغير مستقلة في الرأي والفكر وقراءة الأحداث. والسبب في هذه الإشكالية، يعود للضعف والجهل بقراءة التاريخ ووصف الأحداث، وكذا لسيادة الفراغ في عقول البعض الآخر ممّن ارتأوا سلوك نهج  التوابع الخاضعين للقادم الغريب دومًا. وهي سمة خاطئة قائمة عندنا ومترسخة في دمائنا، بكون الغريب الدخيل أكثر كرامة وأينع فكرًا وأحقّ قدرًا. فقد اعتدنا الخضوع لكلّ قادم غريبٍ، متناسين بل متجاهلين ما فينا من قوى وجدارة وكفاءة بإمكانية قيادة أنفسنا بأنفسنا. فالنبيُّ دومًا، ليس مقبولاً وسط أهله وبني جلدته، رغم توفر الرؤية البعيدة المدى في قراءته للماضي وقدرته على رسم المستقبل بالاعتماد على الحاضر.
أصحابُ المبادئ، لا يمكن شراء ذممهم مقابل تسليم مفتاح بيتهم وبلدتهم ووطنهم، والسبب بسيط، لأنهم أصلاء ولا تهزّهم الرياح العاتية مهما طغت واشتدّت سرعتُها بسبب تسارع الأحداث الفوضوية. ومَن يقبل بعرض مبادئه للبيع في سوق البازار الرخيص، يتوهم أنه قادر أن يصل إلى مبتغاه وأن يحافظ عليه ويبقيه مُلكًا حلالاً. فما بُني على باطل، يبقى باطلاً، حتى لو ملكّ الدنيا وأوراقها الزائلة ومناصبَها الفانية. وكذا كلُ من ضحّى بصداقة عميقة لكسب رهانٍ ماديّ خاسرٍ، فمصيرُه الإفلاسُ عاجلاً أم آجلاً . أمّا مَن ينكر جميلاً وينسى معروفًا تعلّق بعنُقه، فإن التاريخ سينكرُه ويجعلُه مع المفسدين في الأرض والآخرة.
الاستقواء بالغريب سمة الضعفاء!
عجيبٌ أمرُ نفرٍ مِن أبناء شعبنا المسيحي، فهُم لا يستطيعون إلاّ على أبناء جلدتهم، ولا يقوون إلاّ على بعضهم البعض في القذف والقدح والتشهير، باستقوائهم بالغير، الغرباء على محيط أهلهم وبلداتهم، عارضين جواهرَهم قدّام هذا الغير، بأثمان بخسة. وهم بذلك، لو كانوا على دراية بنتائج فعلتهم، فتلك مصيبة، وإن كانوا يجهلون خطورة هذه الفعلة، فتلكم هي  الطامة الكبرى. ومن حقنا السؤال: لِمَا الاستقواء بالغير الغريب هذا؟ وما الدّاعي لطرح جواهرنا للغير، طالما فينا مشاعل من الحكمة والرشد والعلم والدراية بشعابِ أهلِنا ومستقبل أولادنا وبناتنا؟ ولماذا لا نبني جسورًا منيعة مع هذا الغير، عوض عرض بضاعتنا الثمينة أمامه في سوق البازار الرخيص؟ وبذلك تُحفظ لنا كرامتًنا وهيبتنا ومكانتنا في الوطن الواحد، منطلقين من موقع "قوّة إيجابية" لتفعلَ فعلَها وسط المجتمع العراقي مِن شماله إلى جنوبه، كما أشار إلى هذه النقطة رأس الكنيسة العراقية، غبطة البطريرك لويس ساكو، ذات مرّة. ولعلَّ ما قام به غبطتُه من مبادرات أخيرة لجمع القادة العراقيين حول طاولة واحدة، لهو الدليل القاطع على امتلاك المسيحيين مثل هذه "القوة الإيجابية" في التفاعل مع المجتمعات المختلفة في البلاد.
ورُبَّ سائلٍ يقول، هل يمكن أن تستمرّ المجتمعات المسيحية في سهل نينوى ذليلة، خانعة، خاضعةً للغريب القادم من خارج أسوار بلداتها، وكأنّها خالية وخاوية مِن رجالٍ ينحدرون مِن ظهورِ رجالٍ صائني الأمانة قولاً وفعلاً وعزيمةً، بالرغم من فسحة العمل المتاحة في غابر الأزمان؟ هذه الأسئلة كلُها وغيرُها، تبادرت إلى ذهني، حين تمعنتُ في ما حصل في الدورة الأخيرة لانتخاب مجلس محافظة نينوى. فقد رايتُ نفرًا ممّن دفعهم الاستقواء بالغير، يتراكضون كالزنابير المدسوسة لعضّ كلّ مَن يختلف مع هذا الغير الغريب ونفثِ ما استطاعوا مِن سمومٍ تشهيرية وتسقيطية وترويعية بقصد الإساءة والتسقيط، ولسان حالهم يقول: " أبويا ما يقدر إلاّ على أمّي"! وإن كانوا قد حصلوا على ما خططوا له وأرادوه بهذه الوسائل البائسة وغير الديمقراطية وبالترغيب والتهديد والوعد الخائب والوعيد المتسلّط، فهذا ليس مِن شيم الرجال الأصلاء، فهؤلاء الأتباع قد أصبحوا هم أيضًا دخلاء على بني جلدتهم مع مَن يقف وراءهم قائدًا للأوركسترا الانتفاعية الرزيلة.
إسفافٌ في المواقف
إنّ مثل هذا الإسفاف في التبعية للغير الغريب، كان يُفترض به أن أصبح مِن الماضي، بعد زوال أعذاره بزوال الأنظمة الشمولية السابقة. ومِن ثمَّ، ليس من الصحيح، تكرار ذات المواقف وذات الأساليب في حكم مجتمعات يُفترض أن تكون قد دخلتها أفكارٌ متحرّرة بفعل العولمة والتمدّن والنهج الديمقراطي الذي ارتضاه عموم الشعب العراقي بعد السقوط الدراماتيكي في 2003. صحيحٌ، أنّ طبيعة مجتمعاتنا المسيحية المسالمة، تحترم هذا الغير الغريب فطريًا، إيمانًا منها بتثبيت وشائج المحبة والمودة مع غيرها من المجتمعات المختلفة عنها. ولكن، ليس إلى الدرجة التي تخسر معها حريتها وجدارتَها وحقوقها الكاملة وغير المنقوصة من خلال الاكتفاء بما يُغدق عليها مِن فُتات الحسنات الرزيلات مِن أطرافٍ لها غاياتٌ ونوايا مبطنة. أمّا أَنْ ينساقَ إلى حضيض هذا السلوك، شيوخٌ بثيابٍ دينية، ممّن حدّتهم سنوات العمر بالعبر والدروس، دون أن يرعووا أو يغيّروا قيدَ أنملة ممّا بدأوا به خطآً، فتلكم هي المصيبة الكبرى! فما أبشعَ هذا الصنو من الرجال، من أية ملّة أو طائفة أو دين، من الذين يتخاذلون ويضعفون أمام أحكام ومغريات الجاه والمال والسلطة. أمّا في الجاه فهذا مرتعُهم، وأمّا في المال فهذا ديدَنُهم، وامّا في السلطة فبسبب سحب البساط من تحتهم، ما دفعهم، للتمرّد والتمادي على رئاساتهم واستخفافهم بها وبرجالها وبتنصيب شخصهم قائدًا لأوركسترا مرحلية فاقدة الأهمية وهزيلة الفكر والمنطق والأفق. فكيف بهذا الصنو وأتباعه أن يقودوا مجتمعًا أصيلاً وُلد من رحم رجالٍ أشدّاء ذوي منعة وشكيمة ورويّة وليس مِن فراغ؟
إنّ مشكلتُنا مع الجار المختلف عنّا، نحنُ مَن اصطنعَها. أقصد، أنّ مَن اصطنَعها، هُم أناسٌ مِن أتباع مناطقنا وأدياننا من أبناء أهلنا، حين أوهمَ بعضُ هؤلاءِ، الناسَ بوجود هجمة شرسة بتغيير ديمغرافي على خصوصية المناطق المذكورة. وحينها استغلّوا هذه الاسطوانة المشروخة للدقّ على وترها الحساس، موغلين ما استطاعوا في الطعن بمنطق وحقيقة العيش المشترك بين جميع أبناء المنطقة، وهو منطق لا يقبل التشكيك والاستبدال باعتماده على أساس العيش المشترك في  الوطن الواحد الموحد بكلّ قومياته وأديانه. ومَن يرى غير ذلك، فالتاريخ سيذكّرُه بما أتينا عليه ورأيناه صائبًا. أمّا مَن يسيرُ عكس التيار الوطني الصادق وينحازُ لطرفٍ طامعٍ دون دراية لنتائج فعلتِه، فهو يدمّر مجتمَعَه ولا يريد له الخير بسبب تفضيل مصلحته الضيقة التي يرتزقُ منها على مصلحة عموم أهله وبلدته ووطنه الكبير.
مودّة ومحبة وصداقة للشعب الكردي
إنه لمن المؤسف، أن ينتهج البعض مِن أبناء المنطقة في سهل نينوى الشرقي ومنهم إخوة لنا في الدين والوطن، سلوكًا شاذًا للإيقاع بين المجتمعات المختلفة لهذه الرقعة الجغرافية المسالمة، مع القيادة الكردية. فنحن جميعًا، نكنّ لهذه القيادة التاريخية ولشعبها بخاصة، كلّ الاحترام والمودة والتشجيع للنجاح الكبير الذي حققته بتعاون وتنسيق مع مختلف شرائح سكنة الإقليم، ومنهم بعضٌ مِن ابناء شعبنا المسيحي ومن المكوّنات والأديان الأخرى في الإقليم التي وقفت متراصة مع هذه القيادة. بالمقابل، كان ينبغي على هذه القيادة أن تقف على مسافة واحدة ممّن أبقوا على محبتهم لها ولشعبها وتمنّوا لها ولهذا الشعب كلّ خير وازدهار، بعد مرارة الأيام وقسوة السنوات التي خبرها الشعب الكردي وعاشها في غابر السنين العجاف، لا أنْ يفرّطوا بهذه الصداقة بتفضيلهم فريقًا على غيره. فهذا الفريق الأخير، وأقصد "المجلس الشعبي القطاري"، المدعوم حتى نخاع العظم في هذا الوقت بالذات،  ليس أكثر وطنية ولا أقرب حبًا وصداقة للشعب الكردي وقيادته مِمّن يختلف معه في الفكر والوسائل والأدوات التي نعتقد أنها تتقاطع مع النهج الديمقراطي الواضح مع التسمية التي يحملها الحزب الديمقراطي الكردستاني الداعم والراعي لها. وهذا السلوك الأخير الصادر من بعض رموز هذا الحزب العريق في منطقة سهل نينوى وفي قضاء الحمدانية بالذات، لا يليق بسمعته، بقدر ما يفرّط في العلاقة بين الأطراف المختلفة.
 قد أكون جريئًا وصريحًا أكثر من غيري. ولكن، هذا ما أعتقده جازمًا، بحكم علاقاتي المتميزة مع الكثير من الأصدقاء الكرد، من مدنيين عاديين ومن مسؤولين في الأحزاب والدولة الفيدرالية وفي الإقليم على السواء. أرجو أن تصل هذه الرسالة إلى أعلى قيادة كردية، لغرض تدارك مواقف قادمة غير مستحبة، من شأنها دقّ الأسفين بين الأطراف المتناقضة الوسائل والأهداف  بين سكنة المنطقة والقيادة الكردية. وإنّي لَمِن المتسائلين: لماذا كلّ هذا التمادي من نفرٍ مِن سكنة المنطقة من المنتفعين والمرتزقين عبر قنواتٍ جانبية يدعمها فصيلٌ كردي معيّن بالمال والقوة وأيضًا بالوعد والوعيد. لقد أساءت بعض العناصر التابعة ل"المجلس الشعبي القطاري" الذي يرعاه الحزب الديمقراطي الكردستاني، في سلوكياتها وتصرفاتها، قبل العملية الانتخابية وأثناءها وبعدها. وإنّ من شأن هذه السلوكيات غير المقبولة المتمثلة بالتشهير بمرشحي قوائم تختلف معهم وتمزيق صورهم وخرق القواعد الديمقراطية لهذه العملية الحضارية، شقّ صفوف المجتمع وتأجيج صراعات بين المجتمعات المختلفة وليس المسيحية منها فحسب. وهذا ليس من صالح هذا الفصيل الحزبي العريق بتاريخه. فكيف للإقليم أن ينال رضا أهل المنطقة، وعناصرُه التابعة له تتصرّف وفق سلوكيات التهديد والوعيد والتخويف؟ أهذه هي الديمقراطية التي نؤمن بها جميعًا، أم نعيش نقيضها وتُفرض سلوكيات لا تليق بكيانٍ تاريخيٍّ ثوريٍ؟
وإنّي أكرّر، لن يحصد مَن يريد الإيقاع بين أهل المنطقة مع القيادة الكردية سوى خيبة الأمل والندم. فهذه الأخيرة نكنُّ لها جميعًا كلّ الاحترام والتقدير، بل ونهنّئها ثانية وثالثة وعاشرة على حكمتها في التعامل مع الأحداث، إلاّ في نقطة واحدة تتمثل بسياستها وتفكيرها بضمّ بلداتنا التقليدية ب"ثقافتها العربية" إلى الإقليم. وتلكم هي نقطة اختلافنا، وهي بالتالي نقطة الخلاف أيضًا. وهذه في نظرنا، تصبُّ في نطاق ما هو منبوذ ومرفوض من الجميع، باعتباره هو الآخر نوعًا من التغيير الديمغرافي في حدّ ذاته. نحن نعلم جيدًا، أن الطرف الكردي مدفوعٌ إلى تحقيق هذه الفكرة بأجندة حكومية وبدعمٍ وتخطيطٍ داخليّ وخارجيّ. وكنّا نأملُ، لو ركنَ الإخوة في الإقليم، إلى صوت العقل والحكمة، بدل الانسياق وراء أصواتٍ ناشزة من أبناء المنطقة من الداعمين المشجعين لهذا المشروع والمنتفعين من هذه العملية والسائرين بهذه اللعبة غير مأمونة النتائج. لقد كان الأجدر بهؤلاء المروّجين مِن أهل الداخل والخارج، تقوية عرى الصداقة والمودة والعلاقة التي تربط الشعب الكردي مع شرائح كثيرة، ليس من مسيحيين فحسب، بل ومن القوميات والأديان الأخرى. فهلْ يا تُرى، نسمع قريبًا نداءً أو تصريحًا واضحًا بهذا الصدد ووضع حدودٍ لإسكات الأصوات الناشزة التي انساقت وراء الرأي المروَّج السائد وسط مجتمعات هذه القوميات والأديان؟
لقد قالت الكنيسة ورؤساؤُها كلمتها الواضحة، من أنها لن تتدخل في الشأن السياسي، وأن ذلك متروكٌ للعلمانيين من المثقفين فيهم وأصحاب الرأي السديد، ومن المتنورين الراغبين بتقوية عرى المحبة والألفة والصداقة، ليس فقط مع الشعب الكردي فحسب، بل مع جميع المكوّنات في الوطن الواحد.
إنّ الانصياع الأعمى، لما يُسمّى أحيانًا بضرورات الأمر الواقع، لَهُوَ نوعٌ مِن الضعف وركاكة الفكر وضحالة الأفق. ففي موضوع سيطرة الطرف الكردي على عموم مناطق الأقليات بعد السقوط بسبب عجز الدولة الفيدرالية آنذاك، كان يمكن أن يكون أنصار الرأي المؤيد لتوجهات بيع بلداتنا لهذا الطرف، أكثر إيجابيةً، مِن خلال تعزيز العلائق مع حكومة هذا الطرف تتابعًا وإلحاقًا بما يجمعُنا تاريخيًا مع الشعب الكردي المسالم مِن مودة وصداقة وتبادل منفعة. وكان ذلك ليحصل مِن دون أن نخسر شيئًا من هيبتِنا وشأننا المستقلّ، بدل الاكتفاء بما يُغدق على شريحة ضيقة مِن مكاسب رزيلة تُدفعُ ثمنًا لتلك الصفقة التي يقودها قائد أوركسترا "هيئة شؤون المسيحيين" دون وعيٍ بالنتائج اللاحقة. وما أكثر المناسبات التي يصرّح بها هذا القائد، محبّ المال والجاه والسلطة، بالرغم مِن تحذيره من رئاسة الكنيسة مرارًا، من مغبة التحدث باسم مسيحيي المنطقة والكنيسة، منذ إحالته قسرًا على التقاعد. ونحن نعتقد، أنّ مَن اشترك في مهمة التمادي هذه، عناصرُ كثيرة تمثلت بالتهاون حينًا وبالصمت في أحيانٍ أخرى، سواءً مِن جهاتٍ مؤثرة، دينية أو مدنية ومنها أيضًا مَن في الحكومة المحلية، من الذين خافوا على منافعهم المتأتية مِن الإقليم مباشرة. ومن المؤسف حقًا، أن اكتفت هذه الأطراف بالإعراب عن امتعاضٍ مخجلٍ ومستترٍ في الكثير من الأحيان حيال ذلك. وهذه هي مشكلتُنا، في عدم التصريح بما نعانيه وما نحن عليه مِن أمراضٍ مجتمعية عاجزة عن قول كلمة الحق حيث ينبغي أن تُقال. وفي الآخر، أعتقد أنه لن يصحّ إلاّ الصحيح!

لويس إقليمس
بغداد، في 25 حزيران 2013



360
لعبة التبعية للأحزاب المسيحية لم تعدْ تنطلي...

مرة أخرى، يفصح الإناءُ بما فيه وتنكشف لعبة التبعية وعدم المصداقية، رغم تشدّق القيادات الهزيلة لما يُسمى ب"المجلس الشعبي" بالاستقلالية في اتخاذ القرار والرأي والفكر والحركة. إن مبادرة مسؤول عن حزب عريق بكردستان بمثل هذه  اللعبة وما صرّح به وأشار إليه في ندوة  كرمليس بدعم مرشح دون غيره من هذا الاخير يمثل الاعتدال وفق رأيه، ليس في محلّه. فالمرشحون الآخرون يكنّون كلّ الحب والمودة والاحترام للقيادة الكردية وتاريخها النضالي على الصعيد الوطني. لذا لم يكن من الحكمة، التصرّف على هذه الطريقة، وانتهاج نبرة التهديد والوعيد، بل وإهانة الحضور الذي ارتضى لنفسه أن يسمع مثل هذا الكلام غير المقبول، ذلك لأنّ جميع سكنة المنطقة مواطنون وطنيون وسعاة لتطوير مناطقهم وانتهاج أفضل السبل للتعايش مع الجيران، ومع أبناء كردستان بالذات أكثر من غيرهم.
        وفي الخبر المنقول على صفحات هذا الموقع، اقشعرّ بدني لتوريط هذا المسؤول ممثلاً لحزبه العريق، مسؤولي الكنيسة بهذه اللعبة، وقد أعلنت الكنيسة على لسان  النائب الأسقفي للسريان الكاثوليك الخور اسقف شربيل عيسو أن ليس للكنيسة مرشحاً رسمياً وأن جميع المرشحين أبناؤُها وانها تقف على مسافة واحدة من الجميع. فاين هي الحقيقة، وما هذا التناقض؟كما اني اخذت عهدا من المسؤول عن هيئة شؤون المسيحيين بوقوفهم على مسافة واحدة من جميع المرشحين وعدم تدخلهم او الترويج او الدعاية لشخص دون اخر من مرشحي ابناء البلدة. "وان وعد الحر دين" كما يقال .
 في زياراتي واتصالاتي الاخيرة، سمعتُ وأخذتُ العهد من مواقع عديدة في الكنيسة السريانية والكلدانية، بأن كنائسهم ورعاتهم لا يدعمون مرشحًا معينًا، تاركين  للناخبين اختيار المرشح الأفضل والأجدر والأكفأ حسب قناعاتهم. وإني أتساءل، مَن هو هذا المسؤول الكنسي الذي أفتى بأن مرشح ما يُسمى ب"المجلس الشعبي" يمثل الكنيسة، بحسب ما ورد في حديث السيد المسؤول ممثل الديمقراطي الكردستاني في ندوة عقدها حزبُه مؤخرا في كرمليس؟. وكيف يسمح رئيس حزب لجهة خارجية دون حضوره بالحديث باسمه؟ أليس من المخجل أيضًا، قيام منظمة نسائية بتوزيع مواد تموينية ومساعدات عينية في مثل هذه الندوة رشوة من أجل حث الحضور لمنح أصواتهم لمرشح معيّن دون غيره، في سابقة خطيرة تنمّ عن إرادة قسرية تخويفية لجمع من أهالي المنطقة؟ أليس مثل هذا السلوك يعد تصرفاً رخيصاً لشراء الاصوات؟ كما أنه ليس من المقبول، توجيه التعنيف المباشر لمرشحين آخرين لجهات لا تسير في خط "المجلس الشعبي الكردستاني الديمقراطي"؟ أليس في هذه النقاط جميعًا، ما يثبت ويؤكد تبعية الأحزاب المسيحية الهزيلة في مناطق تواجد شعبنا واضطرارها لتبنّي سياسة هذا الخط الذي لا يتناغم مع الديمقراطية التي يتشدّق بها الجميع، بمن فيهم مَن يدّعي استقلاليته من أتباع الأحزاب المسيحية؟ إن التهديدات المبطنة التي وجّهها ممثل الديمقراطي الكردستاني ليست في محلّها، كما أنها ليست مقبولة. أنا شخصيًا، سأنقل هذه التصرفات إلى الجهات ذات العلاقة، ليس لكوني أرى فيها خروجًا عن السياق العام لآداب ومبادئ الديمقراطية، بل لكوني أكنّ كلّ التقدير والمحبة والاحترام للقيادات الكردية ورموزها الذين أرتبط مع العديدين منهم بعلاقات مودة وصداقة. ولكنّ هذه الممارسات، قد خرجت عن سياقها وحدودها، وهذا ليس مقبولاً. وأنا أذكّر المسؤول الكردي وأؤكّد له خطأ زعمه. ففي حالة فوز مرشح آخر غير مرشح المجلس الشعبي الذي اكن له الاحترام، وهذا متوقع جدًا، فإنّ الفائز لن يقلّ حرصًا بتعزيز أواصر العلاقة مع حكومة الإقليم، مع احتفاظه بعلاقات متميزة مع حكومة المركز، وليس كما يرى أنّ ممثل هذا المجلس هو الوحيد الأوحد الذي "يمثل خط الاعتدال وليس خط الاحزاب العنصرية على حد وصفه، وضرورة أن يكون ممثل كوتا المسيحيين في مجلس المحافظة على علاقة جيدة بحكومة الإقليم والمركز على حد سواء لكي لا تفقد المنطقة المكتسبات الأمنية والسياسية التي تحظى بها". لم أرى، كما لم يبدر من أيّ مرشح آخر، حتى من جهة المرشح الثاني في الائتلاف المسيحي الذي يضمّه، أنّه فكّر أو أعلن أو صرّح بغير هذا الرأي وهذا الفكر. فكيف تسنى لهذا المسؤول، التشكيك بقدرات ونوايا مرشحين آخرين مشهودٍ لهم بالاستقامة والعمل الدؤوب في أحزاب أو منظمات مجتمع مدني أو دوائر تحفظ لهم قدَرًا وافيًا من الوفاء والاحترام والتقدير؟.
       وليسمح لي المسؤول المحترم، أنّي في الوقت الذي أحترم فيه رأيه، إلاّ أنّه لم يوفَّق في الطعن بمجهودات مرشحين آخرين مستقلين ليست لديهم أيّة ارتباطات باحزاب كردية. وكان الأجدر ترك الناخب يعبّر عن قناعاته الفكرية بكلّ حرية، لا أن يُغصب على فعلٍ، مِن شأنه أن يثير حساسيات ويؤثر على مكتسبات القيادة الكردية ذاتها، بتشويه توجهات الإقليم الديمقراطية، وهو الذي يمثل حزبًا يحمل التسمية الديمقراطية. فماذل يا تُرى تعني الديمقراطية لدى أتباع هذه الأحزاب؟ سؤالٌ أتركه للناخب الحرّ المستقلّ كي يجيب عليه في صندوق الاقتراع يوم الخميس 20-6-2013.

لويس إقليمس
بغداد، في 17 حزيران 2013

361
الاستحقاق الانتخابي المسيحي لعضوية مجلس محافظة نينوى، بين الجذب والتسقيط

تستعر حمّى الدعاية الانتخابية هذه الأيام، للفوز بالمقعد اليتيم لعضوية مجلس محافظة نينوى المخصص للمسيحيين، بين أطرافٍ مسيحية عديدة. وتسعى كلٌ من هذه الأطراف بما أوتيت من جبروت الدعاية وأدوات التسقيط والتشهير أحيانًا، حتى بين المتحالفين من حيث المبدأ، في الائتلاف الهزيل ضمن عفريت ما يُسمّى ب"تكتّل تنظيمات شعبنا الكلداني السرياني الآشوري "، لنيل هذا المنصب. وكان يمكن الاتفاق على آلية أكثر عقلانية تزيد من فرص الفوز بأكثر من مقعد، لو ارتكن أصحاب القرار في هذا التكتّل، وتمّ التنسيق مع شرائح أخرى تطمح للوصول إلى هذا المنصب من خلال الترشيح على الكوتا من جهة، وتوجيه الناخبين عبر اصواتهم الفائضة الباقية نحو أكثر من مرشح، لدخول حلبة المنافسة ضمن قوائم وطنية أخرى. ولكن رغبة أصحاب القرار في هذا التكتّل، بحسب معلوماتنا، رفضوا الفكرة وأصرّوا على توجيه جموع الناخبين نحو مرشحَيهم بتسقيط غيرهم ممّن يختلف معهم ولا ينضوي تحت ائتلافهم، رغم عدم وضوح التجانس بين طرفي الرهان فيه. والأغرب في الوضع العام، أنه مع قرب مناسبة الحدث، اشتدّت معه الدعاية الانتخابية لكلّ طرف في هذا التكتّل على انفراد، والتي كان يُفترض بها أن تكون مركزية، بحسب الاتفاق. والدليل واضح، لكون هذا التكتّل "الشعبي القطاري"، قد وُلد أساسًا، ميتًا منذ قيامه، بسبب التجاذبات وتقاطع أجندات الأطراف المتحالفة فيه. فعلاقة "زواج المسيار" بين ما يُسمّى ب"المجلس الشعبي" وتنظيم "زوعا" ذي الباع الطويل في النضال على الساحة العراقية عبر ما يُعرفُ عن لبنته الأولى من قياداته الأساسية، قد شابَهُ الكثير من الأزمات. وهو اليوم في طريقه إلى الطلاق، عاجلاً أم آجلاً، لأنّ ما يُبنى على مصالح ضيقة وأجندات متقاطعة، بعيدة عن طموحات مصلحة جميع المسيحيين دون استثناء أو تهميش أو استخفاف أو استهانة  بقدرات الغير، مصيرُه الانفراط والفشل، لا ريب.
أهدافٌ خائبة للمجلس الشعبي
 لقد أثبتت الأيام، أنّ تحركات ما يسمّى "بالمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري" بتسميته "القطارية" المستنبطة مرحليًا، ليست سوى ذرّ الرماد في العيون، لأنّ هدفُه الأول وقبل كلّ شيء، تخدير الشعب المسيحي، ولاسيّما السذّج منهم والمحتاجين، وجرّهم لتحقيق أجندة تتطابق ومصلحة الجهة التي يسعون لخدمتها وتقديم ولاء الطاعة والعرفان والانحياز المطلق لها ولاستراتيجيتها في المنطقة، رغم عدم منطق ما يذهبون إليه، على الأقلّ، في الجزء العربيِّ الثقافة من منطقة سهل نينوى، وبخاصة قضاء الحمدانية، ومركزه باخديدا/ قرقوش، التي يراهن الكثيرون على أهميتها واستراتيجيتها، ليس من حيث الكثافة السكانية فحسب، بل وأيضًا بسبب ما فيها من كفاءات علمية وقدرات اقتصادية وثقافية وتراثية على السواء، وباختصار بسبب أرضيتها الخصبة للعمل السياسي  والمجتمعي على السواء. أمّا الوسائل والآليات المستخدمة للجذب والإقناع والتسقيط على السواء، فهي عديدة، لاسيّما المادية منها والدعائية المفبركة والتشهير بكلّ صوتٍ يبرز مخالِفًا لوجهات نظر هذا التنظيم، الذي جرى تغطيتُه لاحقًا، بما يُسمّى ب"التكتل أو الائتلاف"، كي يظهر بهيبة القائد الحريص والصوت الأوحد لمصالح الشعب المسيحي. ومن ذا لا يعرف الظروف التي أحاطت باختطاف ما يُسمّى ب"المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري"، لمبادرة أول تحالف مسيحي حصل الاتفاق عليه بعد السقوط المأساوي في 2003، وأتى حينذاك بثمرة "المجلس القومي الكلدو- الآشوري"، والذي أصبح بعد التعديل "المجلس القومي الكلداني السرياني الآشوري"، بسبب غبنٍ آنذاك أصاب المكون السرياني بالذات عند التأسيس، حين جرى غمط التسمية السريانية منه وإسقاطُها لاحقًا حتى من الدستور، في غفلةٍ من خلوّ الساحة السياسية المسيحية من أصواتٍ سريانية مؤثرة، رغم اعتراضي أنا شخصيًا على قرار ذلك المؤتمر مع نفرٍ من الزملاء على التسمية الناقصة. وهذا الاعتراض مسجّل في الأرشيف.
إن الإمكانات التي تُسخّر من أجل هيمنة هذا التنظيم على مقدّرات المناطق المسيحية ورجالات الكنائس المختلفة كبيرة وخيالية، بهدف التأثير في القرار وكسب التأييد والثقة لأهدافه وأنشطته، من خلال إغداق الأموال على الكنائس والمنظمات والأفراد وشراء الذمم، داخل الوطن وفي المهاجر. فالإمكانيات المادية التي بيده كبيرة وهائلة، وقد سُخرت جميع الوسائل للوصول إلى الهدف المنشود. وهذه حقيقة يدركها القاصي والداني، رغم مرارتها. ففي الوقت الذي يُسمعُنا فيه الذين يتولون تحقيق هذا الهدف بالنيابة عن الجهات "المحسنة" و"الممولة"، أن هذه الجهات تفعل ذلك دون مقابل ودون طلبات محددة، نقول لهم أن ما شهدناه وما سمعناه يختلف عمّا تتحدثون به، ولسانُ الحال يقول بالتالي: ولماذا لا نستفيد نحن أيضًا، عملاً بالمبدأ الخائب القائل: "فيد واستفيد". ولكن، "ما هكذا تورد الإبل". فالكرامة والفكر واستقلالية القرار، شؤونٌ مصيرية لا يُساومُ عليها، كما العرض والشرف والأصول.

أصواتٌ ناشزة تدعم من حيث لا تدري
على أية حالٍ، ما دعاني إلى الكتابة بهذا الصدد، وتقليب المواجع غير المستحبّة عندي، هو بروز بعض أصواتٍ ناشزة تابعة "لائتلاف تجمع التنظيمات المسيحية" المدارة حاليًا، من قبل "المجلس الشعبي" وأدواته في المنطقة. فهناك عناصر من هذا التكتّل، تدّعي بيدها العصا السحرية لحلّ مشاكلنا من خلال المناداة بتمثيلها لعموم المسيحيين عبر تنظيماتها الحزبية الهزيلة التي لا تعدو كونها تابعًا لأجندة كردستانية لها مصالحُها المرحلية الطامعة بدمج قصبات وقرى مسيحية مع اٌلإقليم، رغم كونها تقليديًا وجغرافيًا وتاريخيًا وتعايشيًا تدين بثقافة عربية واضحة. فهذه المناطق، إنْ تاريخيًا أو جغرافيًا أو ثقافيًا، لم تكن يومًا جزءًا من كردستان التي نحبّها ونكنّ لشعبها الطيّب كلّ احترام ومودة وتقدير وحب، ونهنّئها على اختيارها طريق البناء الصحيح لمنطقتها وتطوير بناها التحتية بأفضل الخدمات ووسائل الإعمار، ما منحَ قيادتها كل الاحترام والتقدير. ولكنّي، أعتقد أنه كان من الأجدر، عدم إقحام مناطقنا المسيحية بهذه المشكلة المستعصية التي أثقلت كاهلنا وأعاقت التنمية فيها بسبب عدم حسم ما سُمّي بالمناطق المختلَف عليها وفق المادة 140 سيّئة المنطق والتطبيق.
 قد تكون الحكومة الكردستانية محقة بالمطالبة بمساحة معينة من مناطق واقعة أصلاً ضمن جزءٍ من الرقعة الجغرافية بمحافظة نينوى التي تحسن التحدث بالكردية، من التي كانت قريبة من مواقع الحدث أثناء الحركات الثورية الكردية في سابق الأزمان، لكونها الأقرب إليها وإلى ثقافتها. ولكن هذا لا ينطبق بالتأكيد، على منطقة سهل نينوى الشرقي وأعني به قضاء الحمدانية وما حوله من قرى وقصبات عربية وشبكية ومسيحية وإيزيدية، وصولاً إلى الحدّ المائي الطبيعي الفاصل المعروف بالخازر أي منطقة الكلك. أمّا أن يتولى نفرٌ من أبناء هذه المناطق مدفوعي الثمن والأجور، وبالنيابة عن الجهة الممولة لهذا المشروع غير الموفق، فهذا لا أعتقد أنه يصبّ في مصلحة جميع الأطراف، بقدر ما يُفسد العلاقة بين الطرفين ويضعف من كفاءة وقدرات أبناء المنطقة ومن أحقيتهم في تقرير المصير وفي تكوين الذات والاعتماد على هذه القدرات بدل البقاء أتباعًا تابعين لغيرهم من غير سكنة المنطقة والمصرّين على غزوها بأي ثمن وبالسيادة عليها بالتعاون مع موالين من الداخل، من غير الحريصين وغير الواعين لفعلتهم السيئة. فهذا بحدّ ذاته، نوعٌ من التغيير الديمغرافي. في حين أن أحد أهداف تكتّل التنظيمات المسيحية المعلن، هو مقارعة أيّ تغيير ديمغرافي والحدّ منه. فهل نكيلُ بمكيالين؟ وكيف لنا بمثل هذا التناقض في الفكر والعمل السياسي المعلَن؟
 من الملاحظ أيضًا، أن هناك جهات مسيحية فاعلة من غير سكنة هذه المناطق المتطبعة بثقافة عربية تقليديًا، تلجاُ إلى أساليب قسرية وأخرى تهديدية وتخويفية وتحذيرية باختراقها أسوار مركز باخديدا/ قرقوش والقصبات ما حولها، والتي أصبحت تشكل ثقلاً مهمًا في المعادلة السياسية للرهان القادم على الدور المسيحي، ليس في المنطقة فحسب بل وكذا على الصعيد الوطني. بل إنّ نفرًا من المتصيّدين بالماء العكر ومن المدفوعين والمأجورين، لم ينقطعوا من التحذير التهويليّ لسكان المنطقة، بضياع الحقوق في حالة بقاء المسيحيين فيها تحت حكم المناطق العربية، وبعبارة أدق، إن بقيت تحت سيادة الحكومة الفيدرالية للدولة العراقية. وهذا غير مقبول. فالشعب هو الحَكَم، أولاً وآخرًا، ولن يصحّ إلاّ الصحيح. وسهل نينوى، لا يمكن أن يكون فريسة سهلة ولا منطقة صراعٍ لإرادات خارجة عن أجوائه وظروفه وطريقة عيش أبنائه، لاسيّما وأنّه بغالبيته من لون سرياني يختلف في طبيعته عن اللّونين الآخرين المتواجدين بصورة أساسية في مناطق حكومة الإقليم حصرًا. فالمحيط هنا عربيّ الثقافة، ولا يحتاج إلى تبصير أو تعريف أو تحريف. وبذلك، كلّ التحرّكات القائمة حاليًا، سواء عبر "تكتّل التنظيمات المسيحية" أو "الهيئة التي تُعنى بشؤون المسيحيين"، وعبر أدواتهما من الحراسات المستخدمة درعًا لهذه الهيئة، هي مرحلة مؤقتة وسوف تنتهي وتزول مع زوال أعذارها عاجلاً أو آجلاً. ولو ارتكن إلى العقل والروية، هؤلاء المستخدَمون دروعًا وأدوات في حراسات هذه المناطق، وأدركوا أنّ مَن أعاق ويعيق تحويلهم إلى عناصر حكومية ضمن ملاك الأجهزة الأمنية للدولة، هي هذه الجهات التي تستخدمهم، لأدركوا أنهم هم الخاسرون مِن هذه الصفقة التي يتقاضون بموجبها رزقًا فتاتًا لقاء الإبقاء على ولائهم الحالي.
رجاء إلى الكتاب الرصينين
كنتُ رجوتُ في مناسبات عديدة، الكتّاب الرصينين في المهجر، البقاء على الحياد فيما يخصّ مصير أهلهم من الباقين الصابرين في وطنهم وأرضهم، وعدم إقحامهم في مثل هذه المواضيع، ومنها ما تشهده محافظة نينوى هذه الأيام، من حدث انتخابات مجلس المحافظة، ومسألة تمثيل المسيحيين فيها. فما ليس مقبولاً من كتابنا الأعزاء، التأييد الغيبي من بعضهم لمرشح دون آخر، بسبب عدم امتلاكهم تصورًا كافيًا عن طبيعة وموقف وخلفية المرشحين جميعًا. فهؤلاء المرشحون، هم كلّهم أبناؤنا وإخوتُنا، ونحن ندعم جميعهم، ونتمنى الفوز للجميع في عملية ديمقراطية لا يشوبُها تلاعب ولا تدخل من جهة على حساب جهة أخرى، ومنها المؤسسة الكنسية التي من الحكمة بقاؤُها خارج اللعبة، رغم الضغوط عليها. واسمحوا لي القول، أنّ مثل هذا التدخل غير الحكيم من أية جهة كانت، في نظري، هو نوعٌ من الدعاية الرخيصة غيرالمقبولة لصالح مرشح دون آخر. في حين الأجدر تشجيعُ الناخبين لاختيار الأصلح والأفضل والأكفأ، علميًا وثقافيًا واجتماعيًا، وليس من منظور انتمائه إلى شكل أو لونٍ مغرضٍ وطارئ على المنطقة لمْ يقدّم شيئًا للشعب المسيحي بقدر ما أخذ واستفاد وحصل من مزايا على حساب قضيته وحقوقه منذ انبثاقه.
هناك كتّاب قد ركبوا الموجة وينشرون تأييدهم الساذج والأعمى لكلّ شيء يصدر عن "ائتلاف التجمع القطاري الشعبي" ، ولا أعرف ما المغزى من مثل هذا التأييد الخالي من أي تبصير أو حكمة في التفاعل مع الحدث في الداخل.
اليوم، يوجد على الساحة، من يعتمد على إمكانياته وقدراته الذاتية الوضيعة. والناشطون الوطنيون منهم في المجتمع  لا يتقاضون أجورًا أو أموالاً، كما تُغدق هذه على أطراف تنفّذ أجندة مَن يصرف مثل هذه الأموال الطائلة على أنشطة جهات معروفة. أنا هنا، لستُ بصدد الدفاع عن أهداف وأنشطة "التجمع الوطني المسيحي" الجديد الذي نزل على الساحة السياسية بقوة. وهو خلاصة نخبٍ مثقفة من كافة الطوائف المسيحية. فهذا التجمع الجديد، واضحٌ في تحركاته وأهدافه، وليست له أجندة خارجية، بقدر ما يهدف إلى إنعاش المناطق المسيحية وتهيئة الساحة لكفاءاته كي تأخذ دورها الطبيعي في قيادة نفسها ومناطقها بعيدًا عن تد خلات قادمة وغريبة من خارج المنطقة. فهُمْ أدرى بحاجات أهلهم وإخوانهم وجيرانهم.
 كما أنّي هنا لستُ بصدد عمل دعاية انتخابية مجانية لمرشحَي هذا التجمّع المسيحي الجديد، رغم جدارة التسلسل الأول في قائمته التي تحمل الرقم 529، مقارنة بباقي المرشحين من قوائم أخرى، ومنها قائمة ائتلاف التجمع القطاري بالرقم 524، والتي أكنّ الاحترام لمرشحَيها ولسائر المرشحين الآخرين النازلين في قوائم وطنية غيرها. وقد قلتُها مرارًا، أنّ من ارتأى ترك أرض الآباء والأجداد، واختار المهجر وطنًا بديلاً له، يكون قطع الحبل السرّي مع أرضه ومَن بقي من أهله وذويه. ومِن ثمّ ليس من المعقول تدخّلُه في مصير مَن بقي صامدًا في أرض الوطن، متحمّلاً المشقات وقهر الأيام وأشكال المصاعب. فما بقي للمغترب في جعبته، لم يعدّ سوى بصيص ذكريات وفُتات أهلٍ لم يعودوا يشكلون أولوية، فقد باتوا بالنسبة له من الماضي. وليكن في معلوم الجميع، أن طبيعة مناطق المسيحيين في الموصل (باخديدا/ قرقوش، وبرطلة وكرمليس وبعشيقة) تختلف كثيرًا عن قرى وقصبات تلكيف وتلسقف وباطنايا وباقوفا وألقوش والشرفية وعين سفني. واللبيب من الإشارة يفهم.
باخديدا/ قرقوش، ليست للبيع
كلّنا نعرف قصة قرقوش، وكيف استحصلها أهلُنا وأجدادنا من الجليليين (البجاوات) بفرمان عثماني، بعد أن ضحّوا بالغالي والنفيس من أجلها، وقاسوا مسافة السفر الشاق آنذاك، منها وإلى عاصمة العثمانيين لاستصدار فرمان لكسب قضيتها. فهل يجدر بعقلائها وبنيها أن يقبلوا ببيعها ثانية إلى جهة للتحكم بها كيفما تشاء الأقدار بسلب إرادة أبنائها؟
كلنا نعلم ايضًا، أنّ ما يجري اليوم، على الساحة السياسية، صنوٌ من المساومات والصفقات. ومَن يعلم، قد تكون هذه المنطقة من حصة إقليم كردستان في ضوء تلك الصفقات. وإن حصل ذلك، فالاستفتاء هو الفيصل، ولن يكون هناك حينئذٍ، من اعتراض على قرار الشعب، فهو مصدر القوة وصاحب القرار الأخير بمستقبله ومصيره. ولكن، في كلّ الأحوال، مَن يسعى لبيع بلدته في ظلّ الظروف المتأزمة الحالية، أيًا كان موقعُه أو شأنُه أو مرجعُه، لن يسلم من عقاب التاريخ ومِن حساب الزمن. قرقوش، ليست للبيع، ولَن تكون كذلك، ما دام فيها قدراتٌ وكفاءات تحمل راية الوطن والمواطنة والحكمة بكفّ، والعِلم والفكر والإيمان باليد الأخرى. وأهلُها سيكون لهم شأنٌ في قادم الأيام، ولن يبقوا تابعين راضخين لغيرهم. ففيهم ما يكفي ويفي ويزيد!
لويس إقليمس
بغداد، في 16 حزيران 2013


362
من ثمارهم تعرفونهم: البطريرك ساكو والحدث المرتقب

مَن يؤمن بما له من قدرات قابلة لصنع العجائب وزرع الأمل وبذور المحبة، لا بدّ أن يقتحم الصعاب ويصارع الأهوال ويقهر الأمواج. ومَن يخنع ويتعذّر ويتباطأ في دخول معترك الحياة، رغم شدّتها وقسوتها وجبروتها، لن يُسجل في سجلّ عظماء الأمم والشعوب التي تبقي ذكراه على مرّ الأزمان والدهور. هناك رجالٌ ونساءٌ بارزون، يروي لنا التاريخ قصصهم ومآثرهم وصولاتهم، وهمْ لنا قدوة ونماذج، لا لشيء، بل لأنهم وضعوا معنى لحياتهم عبر ما رسموه من أهداف قابلة التحقيق وممكنة التطبيق، فيما لو امتزجت بخميرة المحبة والغيرة الرسولية حين يقتحمون مبدأ:  "غيرة بيتك أكلتني".
وغبطة البطريرك لويس ساكو، قد بدأ المشوار صعبًا لبلوغ ما أئتُمن عليه حين قَبِلَ أن يؤدي رسالته الكهنوتية متشبعًا من العلوم والمعارف والتقوى التي تعلّمها في معهد مار يوحنا الحبيب الإكليريكي بالموصل. قد يصفه البعض، رجل الساعة ، صاحب الكاريزما التي لا تعرف التوقف والتعب، وهذا بادٍ من سجله الرسولي منذ اقتباله الرسامة الكهنوتية وعمله في حقل الخدمة بالموصل، ومن ثمّ في بغداد حين إشرافه على إدارة المعهد الكهنوتي بالدورة، وآخرها حين رئاسته لأسقفية كركوك. والمتابع لنشاطه الرسولي والمجتمعي مذاك، لا ينكرُ له هذه الميزة الرسولية المتفانية، جالبةَ الثمر في العديد من  المحطات التي زاول فيها خدمته وتفانى في عمله.
مِن ثماره المتعاقبة، عقد السينودس الكلداني
ممّا لا شكّ فيه، أن أنظار الكنيسة الكلدانية بجميع مؤمنيها في الداخل والشتات، إلى جانب مسيحيّي العراق أجمعين، كانت ترنو إلى إمكانية عقد سينودس للطائفة، يكون حاسمًا بنتائجه وخطواته للعديد من نقاط الإشكاليات التي تعرّضت إليها كبرى الطوائف المسيحية  في العراق، بما عُرفت عبر تاريخها الحافل، من إنجابها لرجالٍ ونساء جهابذة في ميادين كثيرة، دينية وطقسية وعلمية وثقافية واقتصادية واجتماعية، وممّن تمكنوا من اعتلاء مناصب متقدمة في الحياة اليومية، سواء في الماضي أو الحاضر. لقد عُقد السينودس باجتماع كافة رؤساء أركانه من الأساقفة الأجلاّء (إلاّ من واحد "لغزٍ")، من الذين لبّوا دعوة الراعي الجديد. ومنهم مّن تجشّم عناء السفر، وهذا جزءٌ من واجبه الراعوي والهمّة الرسولية التي تتطلّبها مسؤوليتُه عن رعيّته وطائفته، وليس في ذلك مِن منّةٍ من أحد على آخر. ويأتي حدثُ السينودس هذا، بعد سلسلة من القرارات والتوجيهات البطريركية الجريئة والضرورية، التي طالت شؤونًا إدارية  ومالية وراعوية متلكّئة ومتعثرة وسائبة في بعضٍ منها، حيث كان لابدّ من وضع حدودٍ لسلسلة من المخالفات التي كان يُغضّ عنها الطرف أو كانت تجري في الكواليس دون علمٍ ومعرفة برئاسة الطائفة. إنها توجهّات على الطريق الصحيح، سحبت البساط من البعض، وصارت نذيرًا لسلوكيات وتصرفات آخرين، تمادوا وركبوا موجة التسيّب، ضاربين عرض الحائط عصا الطاعة الكهنوتية والاستقواء بأفكار مهجرية خلعت عنها صفة الأصالة والتشبث بالأرض والوطن، ولم يعدْ من همٍّ لها سوى التبختر بأرجحية الرأي وإصدار الإيعازات والتوصيات على الفتات الذي بقي لهم منه داخل الوطن.
جديرٌ ذكرُه، أنّ الإجراءات الأولية التي اتخذها البطريرك ساكو، كان لها صدى إيجابيٌ واسع، ليس على الصعيد الكلداني فحسب، بل كانت بمثابة مهمازٍ لطوائف غيرها كي تنتهج ذات السبيل لمعرفة ما لها وما عليها. أمّا من انتقد تلك الإجراءات أو بعضًا منها، فما عليه إلاّ العودة إلى الخلفيات المحزنة التي كادت تنخر جسم هذه الطائفة على صُعدٍ كثيرة، ومنها في الحياة الروحية للكهنة وتنشئتهم وفق سياقات رائدة تمليها عليهم تعقيدات الحياة المعاصرة، وحالة الانفلات التي كادت تصبح كارثية في بعضٍ من فقراتها.
إنّ أولى الإشارات الصادرة عن نتائج السينودس الكلداني الأخير، تشير إلى وضع قطار الكلدان على السكة الصحيحة. فبالرغم من التوصيات المحدودة والعامة في أغلبها، التي نُشرت من قبل سكرتارية البطريركية في بيانٍ رسميّ، إلاّ أن القارئ يستشف منها رائحة التجدّد والأصالة والوحدة، وهو الشعارُ الذي رفعه البطريرك ساكو لسدّته، من حيث عقدُه العزم على التغيير والتقدّم إلى أمام ضمن ضوابط كنسية جامعة تراعي ظروف الرعية في الداخل والشتات معًا، لتسير متناغمة مع ظروف الوطن الجريح. وتأتي في مقدمة هذه الإصلاحات، "إعادة هيكلية تنظيم البطريركية والأبرشيات والرهبانيات والمؤسسات الكنسية باحترام القوانين الكنسية" من خلال الدعوة للالتفاف حول رئاسة الطائفة صفًا واحدًا وتعزيزًا لدورها التاريخي والكنسي. كما أنّ إيلاء هذا الحدث "السينهادوسي" للحركة المسكونية دورًا كبيرًا، جاء من منطلق الرغبة الصادقة والحثيثة بالوحدة المسيحية، من خلال الحوار المسكوني الذي يُعدّ البطريرك ساكو من دعاته الأقوياء، وهو الذي أعلن مرارًا وتكرارًا خلال زياراته وتصريحاته استعداده للتنازل عن المنصب خدمةً للوحدة المسيحية وتحقيقًا لرغبة المسيح كي "يكونوا واحدًا". ولم ينس السينودس، الظروف الداخلية التي يعيشها المؤمنون جنبًا إلى جنب مع إخوة لهم في الوطن من مسلمين وإيزيدية وصابئة وبهائية وأديان أخرى وبمختلف المذاهب والأطياف. حسنًا فعل، في التأكيد على نهج الحوار، داعيًا "المسيحيين كي يصيروا جسوراً بين كلّ الجماعات، لوضع أسس حوار صادق لتقوية العيش المشترك ورفع صوت الحق تجاه المتغيّرات والأحداث والتطورات". وكما يطمح الجميع، في أن تأتي هذه الخطوات بثمار نحو استقرار البلد وتنعّمه بسلام عادلٍ وشاملٍ كي يعود المغتربون قسرًا، إلى وطن الآباء والأجداد بدل الضياع في متاهات المهجر الذي سيطوي عظامهم- بعد عمرٍ طويلٍ- في تحت تراب أرضٍ غريبة، لا أصالة فيها ولا روح، إلاّ من ترف الحياة والعجز عن تحمّل الصعاب التي أوصانا بتحمّلها ربُنا، رغم مرارتها.
 ولعلّ فقرة الهوية الكلدانية، تكاد تكون أهمّ مادة، كانت شرائح كثيرة من أبناء هذه الطائفة تترقب الصيغة التي ستخرج بها التوصية. وكما كان متوقعًا، فقد خرجت هذه الفقرة متزنة ومتوافقة مع الرسالة التي تحملها الكنيسة دون أن تتداخل أو تتقاطع مع الشأن القومي السياسي الذي حاول البعض زجّ الكنيسة لتكون طرفًا فيه. وتلكم هي الحكمة. فالهوية القومية والشأن السياسي، ليس للكنيسة أن تدخل فيه طرفًا، بل يبقى من شأن العلمانيين، والكنيسة تشجع وتعضد أي جهد مدني لأبنائها، يسعى إلى إحقاق الحقوق والدفاع عن كرامة المواطنة وتثبيت المطالب دستوريًا وقانونيًا. أمّا البعض الآخر، الذي رأى هذه الفقرة فضفاضة ومخيبة لآماله، لكونها لم تسدّ رمقهم التعصّبي بتغليب الهوية الكلدانية تحدّيًا للغير على الساحة العراقية وتعاليًا عليهم، فإنّها تكون قد وضعت كلاًّ في محلّه، ووزّعت الأدوار بحكمة وكفاية كي يكون " ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه"، وهذا مسك الختام.
خطواتٌ على الطريق القويم
في كلّ يوم، يطلعنا غبطة البطريرك على خطواتٍ جادة وثابتة تبشر بعقده العزم على تنفيذ ما وعد وما بدأ به. كنتُ في زيارة قصيرة إلى بلدتي قرقوش/ باخديا قبل أيام. وفي إحدى زياراتي لأحد الآباء الكهنة من الأصدقاء القدامى، لم يعجبه كما يبدو، ما يقوم به البطريرك ساكو، من تفعيل لأنشطة وحياة كنيسته وشحذ همم أساقفة وكهنة طائفته، عادًّا إياها نوعًا من الفرقعة الزائفة والبهرجة من أجل الشهرة، ليس إلاّ. ما كان عليّ إلاّ احترام رأيه، رغم قصوره وعدم إيماني بما ذهب إليه في الوصف والانتقاد ووقوفي بالضدّ من الاتهامات والاستخفاف بهمّة "الشيخ الشاب" الذي يتطلّع إليه الكثيرون منقذًا للسفينة المسيحية في العراق من الغرق، أكثر ممّا هي عليه اليوم. لكنّ الأيام، والأفكار والأفعال تتحدث، عمّا يبادر إليه هذا الإنسان الوطني المسيحي، كراعٍ للمسيحية والمسيحيين كافة في العراق وفي المنطقة وحتى على النطاق الدولي. فقد أثبت أنه قائدٌ كنسي من طراز الآباء الأولين في اصالته  عبر غيرته، ومن المعاصرين المرموقين في نهج تجدّده، والمدافعين الأشداء عن الكنيسة الجامعة بدعواته للوحدة في مناسبة وبدون مناسبة. وهذا يذكّرني بزيارتي له بعد ايام من تنصيبه، حين فتح لي قلبه الواسع وعبّر عن خطوات فاعلة في قادمة الأيام. وهذا ما حصل. فقد تحقق العديد من تلك التي تمنّاها وسردها بعفوية تامة في ذلك اللقاء (أنظر مقالتي: لقاء المحبة والغيرة الرسولية في 16 آذار 2013 المنشور في الموقع).
"الكنيسة مدعوة لتكون قوة تعبير إيجابي"، قالها البطريرك ساكو، في إحدى المناسبات. وهو اليوم يطبق فحوى هذه العبارة القوية المعاني في منهاجه الرسولي بالتعاون مع إخوته رؤساء الطوائف المسيحية الشقيقة. لقد استطاع جمعَ القادة العراقيين المختلفين، في مناسبتين، يوم تنصيبه والثانية في ختام سينودس الطائفة الكلدانية الأخير قبل ايام مضت. وهذا بحدّ ذاته، علامةٌ مضيئة على قوّة الكنيسة وفاعليتها في المجتمع العراقي من خلال الكاريزما المتميزة والسمعة الطيبة التي يتمتع بها البطريرك ساكو. وبذلك أثبت أنه ليس فقط قائدّا كنسيًا جادّا وفاعلاً فحسب، بل وفاعلاً للسلام وجامعًا للفرقاء السياسيين المختلفين حول طاولة الحوار الضروري لبناء أواصر الصداقة والمحبة والتعايش بين الأديان والمذاهب والقوميات. فاستحق بحق "طوبى فعلة السلام". لقد وعد، فوفى، في العديد ممّا صرّح أو عبّر أو تمنى. ولنا معه مشاوير كثيرة لحين رؤيتنا ما سيتحقق بصلاتنا جميعًا ودعوات ذوي الإرادة الصالحة واصحاب النوايا الصادقة من السياسيين والقادة والرؤساء والزعماء من جميع الأديان والطوائف والملل.


لويس إقليمس
بغدلاد، في 12 حزيران 2013


363
دروس في الحياة لا يفقهها تجار الشعوب

كثيرة هي التجارب والدروس التي تمرّ على بني البشر أو تلك التي تعيشها الشعوب. لكن العبرة فيمن يعطي لنفسه الفرصة للتعلم منها والاقتناع بأخذ المفيد فيها من أجل حياة أفضل، له ولغيره من الخلق. إلاّ أن مصيبة العرب خاصة ودول منطقة الشرق عامة، قد ابتليت ببشر تتحجر عقولهم وتنغلق بصائرهم لكل ما هو منطقي وآدميٌّ لدى غيرهم من الأمم والشعوب المتحضرة، لسبب أو دونه.
أحوال العرب اليوم
 ما يجري اليوم، في عدد من دول المنطقة وما شهدناه منذ اجتياح السيادة العراقية في 2003، من تزمّت وعنادٍ لدى عدد من قادة وزعماء هذه الدول المطالَبين بالتنحي عن السلطة والزحزحة عن الكراسي التي قيّدوها تأبيدًا، لهم ولذوي قرباهم وحاشيتهم، هو عين التخلّف والاستبداد والاستهانة بإرادة شعوبهم المغلوبة على أمرها. لقد شاء هؤلاء "المتأبّدون"، أن ينصّبوا أنفسهم سلاطين مدى الحياة ومتسلطين على رقاب شعوبهم، غيرَ مقرّين بثقافة متحضرة لتداول السلطة سلميًا، التي من جملة منافعها، فسح المجال للغير كي يقدموا عطاءَهم ويعرضوا ما عندهم من كفاءات عملية ومزايا إدارية ومن خبرات في الحياة قد تختلف عمّا لدى هؤلاء الزعماء المتقادمون الذين توقفت بهم عجلة الإبداع وبطلت عندهم الحكمة المطلوبة والكفاءة في التفاعل مع الأحداث وفي تصريف شؤون البلاد والعباد.
تشير الدلائل، أن معظم هؤلاء الزعماء، إن لم يكونوا جميعًا، قد استخدموا ما لديهم من أحكام قمعية وسلطة مطلقة في قيادة شعوبهم  طيلة فترة تولّيهم السلطة، ومازالوا على هذه الحال، رغم أنهم قد فقدوا كل مصداقية في التعامل السويّ والإنساني مع شعوبهم، ما أفقدهم بالتالي شرعيتهم. وفي اعتقادي أن أحد أهم أسباب هذه الإشكالية، هو الخلفية الدينية والقبلية وربما التربوية والاجتماعية والعلمية أيضًا، تلك التي نشؤوا فيها وعليها، والمتمثلة بقِصَر نظرهم حول الأحداث و رفض الإقرار بضرورة الاستجابة لمطالب الشعب واحتياجاته المتناغمة مع تطور الحياة ورقيّها. ناهيك عن العمى، المصابون به بسبب الحضور الدائم ل "الأنا الذاتية" التي استفحلت في سلوكياتهم وما يلحق تلك، من أشكال الطمع والعجرفة وحب الدنيا والسلطة والجاه والمال، ممزوجة أحيانًا بداء "جنون العظمة" المقيت وهوى السلف في إطاعة السلطان، حتى لو تجبّر وفسقَ وشطح عن الحق. وهذا في حقيقة الحال كما يبدو، جزءٌ من تركيبة الفكر العربي والشرقي التي لم تستطع شعوب المنطقة تجاوزها، بالرغم من تغيّر الأحوال وتطوّر الحياة وما فيها. فهذه الفئة، كلّما تقدم أصحابُها في العمر، تقادموا في الخبرة واستنفذوا الكفاءة والعطاء والحكمة معًا، وتشبثوا أكثر في حب السلطة والجاه والمال وأنواع الفساد والموبقات، والأنكى من ذلك في الولوج في دياميس الدكتاتورية التعسفية التي لا تؤمن ولا تعتقد إلاّ بكفاءتهم وحكمتهم وحدهم فحسب. وأمثالُ هؤلاء لا يقرّون البتة، بثقافة تداول السلطة وانتقالها السلمي، وكأنّ كراسي حكمهم، قد سُجّلت بأسمائهم إلى أبد الآبدين، كراسيَ تمليك في الشهر العقاري، بل وأكثر من ذلك، أن بعضهم يجيز لنفسه توريثها لأبنائه من بعده! إنها قمّة الاستخفاف بالشعوب وبإمكاناتها وفي حقها في حكمٍ رشيدٍ ووفق أساليب حضارية تتحكم فيها صناديق الاقتراع ورضا الله والشعب.
إنتفاضة مشروعة وثورة مدعومة
لقد انتفض المواطن العربي في ثورة، هي من حقه منذ زمن، لأنه ببساطة إنسانٌ خلقه الله كائنًا حرّا جميلاً، سيّدًا وغير ناقص، على صورته ومثاله، سواءً كان ذكرًا أم أنثى. فالخلق سواسية لدى الله، خالقِ الكون والبرايا والبشر منذ الأزل وإلى يومنا هذا. كما أنه، ليس من حقّ أي كائنٍ بشريٍّ الانتقاص من أخيه وجاره ورفيق عمره، لأنه ببساطة، مخلوقٌ على شاكلته وفق مشروع الخلق الإلهي الذي يتيح له  الحق المشروع في حياة حرةٍ كريمة، ينشد فيها الاستقرار والعدل والمساواة والرفاهية في إطار نظام عادلٍ في الحكم والحياة.
ولمّا كانت ثورة الشعوب على الظلم والطغيان والفساد وكلّ أصناف التعسف في الحكم والحياة، هي من حق هذه الشعوب المبتلاة بهذا الصنف من القادة والرؤساء المتسلطين، فما على المتنوّرين والمتحضّرين من الآدميين الحريصين على احترام خلق الله، إلاّ أن يؤازروا هذه الثورات ويساندوا القائمين بها وعليها، لأنهم أصحاب حق. ومن لا يفعل ذلك بما أوتي به، فهو على باطل، مهما ادّعى من أسباب الشرع والشريعة والقوانين التي يفتعلها ويستنبطها ويفتي بها لسند موقفه المغالط.
أمام السيل الجارف من المطالب المشروعة للثائرين على الرؤوس الدكتاتورية، وقفَ الشرفاءُ من بني جنس هذه الشرائح المتنوّرة الثائرة وغيرهم من الساندين لها، من شعوبٍ وأصولٍ وطبقاتٍ وفئاتٍ متغايرة، وقفة المؤيّد والساند لحق هؤلاء البشر في العيش بكرامة وأمان في بقعة وضعتهم الأقدار في كنفها، ليكونوا ضحايا تقليديين لأنواع عديدة من الاستغلال السياسي والمادي والطائفي والمذهبي. لقد كان لتأييد مجمل الانتفاضات التي حصلت في عدد من الدول العربية - والبقية ستلحقها بإذن الله-، صداهُ الواسع في فتح أعين الناس على حقيقة حقوقهم المشروعة التي ظلّت أسيرة تقاليد بالية والتزامات شرعية غير عادلة وقوانين ردعية ووضعية غير مقبولة إنسانيًا ومجتمعيًا ودوليًا. لكن الظلم، عمره لم ولن يدوم، طالما هناك من يبحث عن التنوير ويسعى لتحرير القيد المنغلق الذي أسرته به هذه القوانين وهذه التقاليد وغيرها من الأصوليات التي لم تعد تنفع مع التطور البشري ونماء الفكر الإنساني والتنمية المستدامة التي تسعى إليها البشرية المتحضرّة جمعاء.
وداعًا للستار الحديدي
لقد كانت وقفة العالم مشرّفة لاسمه تعالى ولاسم الحق والعدالة، في تأكيده على حق خليقة الله بالعيش بحرية وكرامة، أينما كانت ومتى أرادت ذلك، دون منّة من أحد، لأنها ببساطة، صنيعة الخالق الجبار، الشديدِ بأسُه على المستكبرين. كما لهذه الشعوب المظلومة، قِدمُ التساوي مع باقي الخلق، في الأرض والحياة والرفاهة، وفي كل ما من شأنه أن يسهّل الحياة وسبلَ عيشها دون صعوبة. لقد خبر العالم الغربي مثل هذه الانتفاضة، بل مثل هذه الثورات العارمة التي استمدّت قوتها من عزيمة الشعب الحريص على أرضه وعرضه ووطنه وأهله وجاره، من شرور القريبين والبعيدين. من هنا كان تذكير بعض العقلاء بما حصل مع انتفاضة حقبة الثمانينات في أوربا، حين نفضت شعوبُها غبارَ سنوات عجاف من سطوة الشيوعية البغيضة ومن أساليبِ قادتِها الطغاة الذين استخدموا كل أساليب الترويع والتخويف والترهيب ضدّ شعوبهم سحابةَ سنين. لذا لم يكن أمام تلك الشعوب في نهاية المطاف، وبعد أن بلغ السيلُ الزبى، إلاّ أن يلفظوا  هذه الحشرات الضارة ويعملوا على طردها والتمكّن منها، في أقرب فرصة أُتيحت لهم، ففعلوها دون تردد، حين أسقطوا الستار الحديدي إلى الأبد. ما حصل ومازال يحصل اليوم وغدًا، هو بالتأكيد، تشبّهٌ سليمٌ لما حصل لتلك الشعوبٍ التي سبقتنا في هذه التجربة المباركة، بل إنه يؤشّر إلى تطوّرٍ صحيح في العلاقات الإنسانية في الاستفادة من تجارب الغير. وهو أيضّا، استمرارٌ لما يمكن اعتباره صرخةً حق بوجه الباطل وضدّ أساليب القسوة والعنف والجور غير المبرّر الجاري بين البشر. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ للغاية. فالشعوبُ عندما تصل حدّا من الوعي المقبول، تتمثّل بتجارب الغير لتأخذ منها ما ينفعها وتلفظ ما تراه غير مقبولٍ لديها.
لقد أعجبني تصريح فاسلاف هافل، الرئيس التشيكي السابق، وداعية حقوق الإنسان  والمدافع عن الشعوب المغلوبة وعن الديمقراطية، حين تحدّثه مرّةً إلى صحيفة "سي تي كي" الجيكية، أن (هناك حدودّا دنيا لمعايير ثقافية عامة مشتركة بين كل الشعوب في ارتكانها إلى الأخلاق الأساسية وإلى الأسس في تطبيق السياسات  العامة للحكومات. كما أن ما يحصل اليوم في المنطقة العربية، لا يختلف عمّا شهدته بعض دول أوربا، ولاسيّما الشرقية منها حين كسرت "طوق الستار الحديدي" والتحقت بركب الديمقراطية الذي تخلّفت عنه). إن هذا الحديث عن "االستار  الحديدي" الذي حطّمته شعوب أوربا بصحوتها الإنسانية مع السنوات الختامية للقرن المنصرم، قد وضعت بلدانها وقادتها على المسار الإنساني والبشري الصحيح. وفي اعتقادي أنّ ذات الشيء، بدأت تسعى إليه شعوب منطقتنا التي اكتوت بنيران حروب أزلية وابتليت بسلاطين وزعماء وملوك لاتهمّهم مصالحُ شعوبهم ورفاهيتُها، بقدر ما تسعى وتعمل على ترسيخ التسلط وتثبيت سبل مبتكرة للقمع، من أجل البقاء في الحكم ما طاب لها وما تيسّر. لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أنّ ما له بداية، لابدّ أن يكون له نهاية في زمن ما وفي مكانٍ ما.
إنها صرخةُ حق، أطلقها روّاد الإنسانية ومدافعو حقوق الإنسان في كل مكان وفي كل بلد وفي كل مجتمع في هذه المنطقة المبتلاة. هي صرخة مدويّة أيضّا تدعو للتخلص من الزعماء، من ناشري الظلم والفساد والتسلّط، الذين استخفوا بشعوبهم غير مبالين بقدرات هذه الشعوب متى فاقت. هي صرخة حق بلا حدود، فيها انتفض الناس على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم ومكوّناتهم، ضدّ من سرقهم وتآمر وكذب عليهم، وضدّ من حكمهم طيلة هذه السنوات العجاف بعصا من حديد. وهي لن تخمد حتى تحقيق المآرب العادلة وفرض سلطة قانون مدنيّ عادلٍ يساير التطور البشري ويراعي شرعة وقوانين حقوق الإنسان ولا يحصرها في زاوية تداعياتٍ شرعيةٍ ضعيفة الحجة يحشرها أمثال هؤلاء المغالين بمبدأ جواز "تولّي السلطان على الشعوب كما شاء"، حتى لو  ترتب على ذلك جبالاً من الظلم والقهر والفساد بسبب اتباع هذا المبدأ الناشز.
إنه لمجرّد رؤية انتفاضة هنا وإضراب هناك ، أو اعتصام في مكان غيره، فهذا دليلٌ على وجود ظلمٍ، من أيّ نوع كان. فلو لم يشعر هؤلاء المضربون أو المعترضون أو المعتصمون بشيء من الذلّ والإهمال والتهميش، لما كانوا انتفضوا أصلاً. ومَنْ يشعر بما فيه كفاية من اطمئنان ورفاهة واستقرار، في حياته ولأهل بيته وعشيرته وبلدته ووطنه عمومًا، ليس بحاجة للشحن والإثارة وتعليمه كيف يعترض ومتى ولماذا. فما اعتراضُ بعض النخب المتنورة في العالم العربي ومعه عراق اليوم، سوى دليلٍ على وجود مسارات وإجراءت وتصرّفات غير مقبولة في أجهزة الحكم، تكاد تقضّ مضاجع المواطن، أيًا دان دينُه أو لونُه أو مذهبُه. لذا، واستنادًا لأصول احترام حقوق الغير، حتى لو اختلفوا في الدين أو المذهب أو الطائفة أو اللون أو الإثنية، فهو يستلزم تعلّم درسٍ في الحكمة والآداب والأخلاق في احترام الغير. فالدنيا دوّارة، وما نحن عليه اليوم، قد ينقلب بين لحظة وغيرها. فهل يرتكز الحاكم إلى مبدأ الحمة في حكمه كي يتحاشى ما قد يلقاه بوم غد؟
تركة ثقيلة للحربين العالميتين
إذا كانت مقارعةُ رؤوس الأنظمة الفاسدة في بلاد الشرق عامة، وفي بلاد العرب بالذات، قد دعت إليها قيادات متنورة في المجتمعات، فإنّه لا ينبغي وأدُها والتشويش عليها أو تحجميها أو تجاهلها. بل هي  تتطلب من كل الشرفاء دعمًا وتأييدًا وتأليبًا للرأي العام من أجل تنوير المنطقة ووضعها في الإطار الصحيح للعلاقات الإنسانية مع شعوبٍ سبقتنا في هذه المحنة، وكانت هي الأخرى ضحية حروب عالمية فتكت بالملايين من أبنائها في القرن الماضي. ومن هذه الشعوب، علينا تعلّم الدروس الضرورية من أجل حياة أفضل، أكثر عدلاً وسلامًا ورفاهةً. فقيمُ الديمقراطية الحقيقية، لابدّ  أن تنتصر وننتصر لها، مهما كان الثمن، لأن الأوطان لا تُبنى إلاّ على تضحيات أبنائها وتصرّفهم الصحيح والناضج إزاء الأحداث، وبشيء لا يخلو من الرويّة والصبر والثبات والتواصل وديمومة النضال ضد كل أشكال التخلّف والعنف والظلم والقهر والفساد المستشري في مفاصل حكومات المنطقة قاطبة، مهما كان وأينما كان وأيًّا كان المقصود بها. وفي اعتقادي، أن مجمل هذه الأحداث التي عصفت بأوربا نهاية القرن الماضي وانتقلت عدواها، إلى شعوب عربية في المشرق العربي ومغربه، هي نتيجة تراكمات الحرب العالمية الثانية والتي ما قبلها، وما خلّفتاهُ من تركة ثقيلة آنذاك. وما تزال المنطقة والعالم كلّه يعاني من تراكماتهما وآثارهما المدمّرتين حتى يومنا هذا.
 وهناك من لا يستبعد، أحداثًا دراماتيكيّة ومصيريّة قد تشهدها المنطقة برمّتها، إن لم تكن قد دخلت في معتركها منذ زمن، ومعها ربّما العالم كلّه، بسبب قراءتنا لأحداث وتطوّرات لاحقة. وهذا أمرٌ مفروغٌ منه، حسب وجهة نظرنا. لذا يكون سؤالنا، ما إذا كنّا سنشهد خطوة قادمة في ذات الاتجاه، يمكن أن تأتي بنذير شؤمٍ محتملٍ أو بكارثة قادمة وراء مجمل هذه الأحداث المصيرية والدموية في بعضها. فهل ستكون حربًا كونيةً ثالثةً لا بدَّ منها؟ أبعدها عنّا الله!
الحذر واجب
مع كون ما تشهده المنطقة من انتفاضات ومظاهرات واحتجاجات، هي حالة صحية في مسار الشعوب وتاريخها، إلاّ أنها، قد لا تخلو من متغيّرات غير متوازنة وغير متوقعة من حيث خروجها عن المسار الصحيح الذي جاءت من أجله. وهنا كان ينبغي مراقبة الأمور والأحداث بكل عناية، كي لا تخرج هذه الانتفاضات والتظاهرات والاعتصامات عن أهدافها وغاياتها المشروعة في محاسبة الفاسدين والمفسدين وفي محاكمة الطغاة والظالمين وسالبي حقوق الشعوب، وفي المطالبة بحقوق متساوية، وفق القوانين المرعية والدساتير، كي يعود الحق إلى نصابه ويتمتع المواطن بحريته ويعيش كما تحتمه عليه إنسانيته على وفق الأعراف الدولية والديمقراطية التي ينبغي أن تكفلها دساتير البلدان المتحرّرة والمتحضّرة. وهذا الخوف مشروع، في إمكانية تسلّل عناصر تحمل أفكارًا أكثر تطرفًا وتشدّدًا لتعمل على إسقاط ما تحمله من تخلّفٍ بأفكار أصولية متسيّدة على الساحة العربية عامة في هذه الأيام الصعبة، وتعمل على فرضها بأساليب ملتوية عديدة، على الجماهير المنتفضة المكسورة الخاطر، التي قد تتراجع في غفلة منها، وفي ضوء التخويف  الديني والترهيب الشرعي والإفتاء الجارف، لتسلب منها هذه الصحوة وتسرق هذه الثورة، فتضيع جهودها سدًى، وكما يقول المثل " كأنك يا زيد ما غزيت".
إنّ الخوف، كلَّ الخوف، إذا اندسّت عناصر غريبة على التركيبة الوطنية لأيّ بلدٍ وتسلّلت متذرّعةً بأية حجج أو تبريرات خارجة عن أخلاقيات وطبيعة الحياة المواطنية التقليدية لتلك الشعوب. فمثل هذه التدخلات، ستكون قاتلة، لأنّ البلد يبقى ساحة مفتوحة لكلّ من هبَّ ودبَّ ودون وعيٍ، من أجل تحقيق غايات وأهدافٍ ليست ذات صلة بإصلاح الوطن والمواطن أو بتطوير البلاد وتحسين وضع أهلها وشعبها. وهذا الخوف، هو ما حصل، في ثورات الشباب في عدد من الدول العربية مؤخرًا، حين تدخلت عناصر دخيلة وحاولت أن تسرق ثورتًهم، إن لمْ تكن فعلاً قد سرقتها وجيّرتها لنفسها وجلست على الحكم، رغمًاعن أنف القائمين الأصلاء على تلك الثورات. أما ما يحدث اليوم في سوريا الجريحة، فهو انتحارٌ أخلاقي وأدبيٌ وإنسانيٌّ بامتياز، بعد أن أضحت ساحة مفتوحة للمغالين والدخلاء، اصحاب النفوس الضعيفة والسيافين وأكلة لحوم البشر والفاسدين والمفسدين في الأرض. ومن المؤسف حقًا، أن تنتصر شعوبٌ متحضرة مثل أمريكا وعدد من الدول الأوربية التي تتشدّق بحقوق الإنسان وحرّية الإنسان، لأمثال هؤلاء القتلة وتدعمهم بالمال والسلاح، من أجل المزيد من إراقة الدماء البريئة، وإطالة حرب تدمير البلدـ عوض أن ترتكن إلى حلولٍ أكثر حكمة واتزانًا من شأنها وضع حدّ للمأساة بكلّ معانيها.
حصة العراق
لم يكن بلدنا يومًا، خارج هذه الخارطة أو خارج هذه التراكمات. لقد تآكلَ عراقنا ومعه قيمُه المجتمعية والوطنية بفعل فاعل، فضاع فيه الشعب بين فساد واستبداد الحكام السابقين واللاحقين ووسط نواياهم القومية والطائفية والذاتية والمذهبية وبين نوايا الغازي الجديد، الذي استقدمته حماقات النظام السابق ليحطّ رحاله فيه، بعد أن كان الأخير قد رسم وخطّط له بكل عناية للنيل من نسيج شعب عريق الحضارة وغزير الثروة. لكن عيبَ شعبنا أنه متقلّب المزاج، وسريع الغضب والحنين في آنٍ واحد معًا. وتلكم، معادلة غير سهلة العلاج، ما لم تسلم النوايا ويُزال عن كشح الجهل وأصناف الممارسات المتخلّفة التي لا تتوافق مع أهداف المشروع الوطني الحقيقي الذي ينبغي أن يسعى الجميع لبنائه بعد الذي حصل. فهل من الحكمة مثلاً، تعطيل دولة بكاملها، لأيام عديدة بحجة اللحاق بممارسات هي في الأصل أن تكون ضمن علاقة محصورة بين الخالق والمخلوق؟ وهل من المقبول أن تسيء قوات الأمن التصرف، وأمام مرأى أجهزة الدولة ومسؤوليها، حين تنهال على متظاهرين مسالمين وتهاجم تجمّعاتهم، فيما جلُّ مطالباتهم توفير الخدمات الأساسية والمطالبة بمحاكمات عادلة لبشرٍ زُجّوا في دهاليز السجون دون دراية السبب وراء مثل هذا التصرّف، أوطلبُ لقمة عيش شريفة، أوتوفيرُ فرص عمل لحشود مؤلفةٍ من العاطلين الباحثين عن عمل يوفر لقمة العيش لأسرهم؟ أين هذه الممارسات من الديمقراطية التي تتبجح بها أجهزة الدولة، أمام وسائل الإعلام وأمام العالم الذي اكتشف زيفها وبطلانها؟ واين كفاءة الأجهزة الأمنية التي تدّعي الحرفيّة والخبرة في الاستمكان والانقضاض على الهدف قبل تحرّكه؟
إننا نعتقد، أنه لابدّ أن تشمل صحوة الشعب في العراق أيضًا، شيئّا كثيرًا من الحكمة والرويّة والشجاعة في آنٍ معًا من جانب الطرفين، من أجل الحدّ من مثل هذه الممارسات غير الديمقراطية، وغيرها كثيرةٌ، من التي لا تقدّم المجتمع، بقدر ما تعمل على تباطؤه وتخلّفه عن الركب الحضاري الذي يستلزم تحقيق أفكار جديدة متنورة. كما تتطلب الحالة، البحث عن وسائل آنيّة، أكثرَ رصانة وجدّية في التعامل مع هذه المطالبات المشروعة من أجل البدء الفوري بتطبيقها بكل جدّ وإتقان وعدم التسويف بها وفي محاسبة الجهات المتلكئة والفاسدة والسارقة لقوت الشعب، دون مواربة أو إبطاء أو مجاملة على حساب راحة المواطن واستقراره وأمنه وصيانة كرامته وحرمته.
لقد عبّر الشعب العراقي في مناسبات عديدة، ومثل غيره من الشعوب الرازحة تحت نير الفقر والتسلّط والفساد، عن عمق تفاعله مع الحدث في المنطقة، رغم أنه قد سبق هذه الشعوب في ذلك ، في بداية حقبة التسعينات من القرن الماضي. وهو إن لم يكن قد أفلح آنذاك، فبسبب عدم نضوج التجربة وافتقاره إلى قيادات متنوّرة تشعر بحق الشعوب المقهورة وبقدرتها على التغيير إن عقدت النيات وعزمت عليها. لقد كانت خيبة الأمل كبيرة من لدن الجهات الحكومية الرسمية بتصدّيها للمتظاهرين وبالطريقة التي لمسناها وشاهدناها على شاشات الفضائيات التي تنقل أحدث "جمع الغضب" العديدة من مواقع مختلفة في معظم محافظات العراق ومدنه، ناهيك عن خيبة الأمل في تغاضي الإعلام الرسمي آنذاك، وتجاهله لدقائق الأحداث وتواصلها في نقل جميع أحداثها للملأ، إلاّ من مقاطع مقتضبة لا تمثل حقيقة الأحداث برمتها وطبيعتها ومسيرتها. وهذا ما لوحظ حتى في وسائل الإعلام الأميركية التي تتجاهل الأحداث أحيانًا، تكاد تكون بصورة شبه كاملة، حين لم تزعج نفسها في نقل ما يحدث في مدن اشتعلت فيها مطالبات الناس واحتجاجاتهم وثوراتهم على مكامن الفساد والدجل والكذب، إلاّ ما ندر وبما يُخجل. فهذه الأخيرة، كما يبدو، لا ترضى لنفسها أن يكون مصيرُ مشروعها الديمقراطي  الهشّ المزعوم في العراق، هو الفشل. لذا ارتأت تجاهل مطالب الشعب وتغافلت عن نقلها بقصد وعن سابق إصرار.
ونؤكد أنّ موقف الحكومة المتردّد أحيانًا، من هذه الاحتجاجات، قد بدا هو الآخر، متأرجحًا بين التجاهل والخوف معّا ممّا قد يحصل. فالدولة عندنا تعلم حقّا، عندما ينتفض الشعب العراقي، ما يمكنه أن يفعل، ولنا في ذلك تجارب ثورات عديدة في القرن المنصرم. كما أنها كانت قد استبقت الأحداث، فاتخذت أساليب التخويف والتخوين والتحذير بحجّة تسلّل عناصر بعثية وإرهابية  لتنفيذ أجندات معينة. وهي حشّدت لذلك حتى المرجعيات الدينية، كي تساهم هي الأخرى، في حمل الناس على عدم الخروج والمشاركة في تلك المظاهرات. لكن الأحداث، وما رُفع من مطالب وفي الملصقات وحتى في نوعية المتظاهرين، أثبتت زيف تلك الادّعاءات ووهنها ودجلها. فالحشود التي نزلت إلى الشوارع وطافت بملصقاتها، لم يكن همّها في الأول، إسقاط الحكومة والثورة عليها، بل انحصرت مطالبها في رفض مبدأ الطائفية المقيتة المعتمدة في الحكم، وفي محاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين والمرتشين الذين تتستّر عليهم الحكومة وفي إزاحة المسؤولين غير الأكفّاء في مختلف المرافق الخدمية وفي توفير الكهرباء وتأمين مواد البطاقة التموينية التي تعطلت بسبب فساد وزارة التجارة وغيرها من الخدمات والطلبات الأساسية لشعب يعيش أكثر من نصفه تحت عتبة الفقر، رغم أنه يطفو فوق بحيرة من ذهب. كما أن موقف الحكومة السلبي من وسائل الإعلام المتنوعة، قد أثبت فشله في التعامل الديمقراطي مع الحدث. ومجمل تلك الممارسات، قد أكدت زيف الديمقراطية التي تتبجح بها، حين إغلاقها جسورًا رئيسية وشوارع وأحياء كاملة، بوجه المتظاهرين وانهيال الأجهزة الأمنية بالضرب على حشود المتظاهرين أحيانًا، ومنهم الإعلاميين الذين ينقلون أحداث الانتفاضة الشعبية المشروعة. لقد قالها الجميع، أن حق التظاهر السلمي مكفول للجميع في الدستور. لكن هذا الحق قم تم اغتصابه والعبث به، من قبل جهاتٍ تولّت مراقبة الحدث بيد من حديد. وتلك صورة أخرى عن حقيقة الحكومة غير الديمقراطية التي تحكم العراق، وهي لا تختلف في حكمها هذا عن تصرفات النظام السابق في اتّباع ذات الأساليب الدكتاتورية في التعامل مع مطالب الشعب وفي الاستجابة لها.
وقفة إجلال لصوت الحق
خلاصة الكلام، نقول للشعوب المناضلة من أجل استعادة حقوقها في العيش الرغيد الكريم، أننا نكنّ لها كل الاحترام والتقدير، وهي تستحق الثناء وتلقّي الدعم من كل حرٍّ شريف. إن طريق النجاة من كل ظلم وتعسف واضطهاد، ليس سهلاً، بل هي طريق محفوفة بالمخاطر والأشواك والعوسج. ولكنها سبيلٌ لابدّ منه من أجل تحقيق الذات ونيل الحريّة والعيش في أجواء الديمقراطية الصحيحة وغير المغشوشة، التي يتظاهر بالمنّ بها، قادةٌ متاجرون بشعوبهم. إن هؤلاء لا يفقهون معنى الحياة الإنسانية الحرة ولا سبل العيش تحت كنف الحرية الغريزية التي وُلد عليها جميع البشر. لذا، فإنّ تقاعسهم واردٌ، في السعي للارتقاء بشعوبهم وأوطانهم على حساب المصالح الذاتية الضيقة.
 أمّا سبيل الديمقراطية الصحيح والجلوس على طاولات الحوار الدائم، فهو الضمانة الوحيدة لاستقرار البلدان وتطور شعوبها وتنميتها المستدامة بما يخدم الإنسان، وهو الغاية في هذا النضال. وعلى من يتشيث بسلطة نالها في غفلة من الزمن أو حتى بحق مكفول، عليه أن يتذكر، أنها "لو دامت لغيره، ما كانت آلت إليه". فالذي خلقَ من هذا الشخص مسؤولاً أو حاكمًا أو زعيمًا أو رئيسَ دولة أو خليفةً، قادرٌ أن يخلق غيره أحسنَ وأفضلَ منه.
وهكذا الحياة، تعطي دروسًا، كي يعتبرها عشاقها ويتمعنوا في معانيها وينقلوا تجاربهم لغيرهم، لا أن يتعالوا على شعوبهم ويستخفوا بعقولهم ويستخدمونهم أدواتٍ مسخَّرة لمآربهم وحاجاتهم ونزواتهم. فتجّارُ الشعوب، لا ولن يتمكنوا من تعلّم دروس الحياة الكثيرة.

لويس إقليمس
بغداد، في 28 أيار 2013





364
دروسٌ في الحياة لا يفقهها تجار الشعوب،
 الجزء 2

إنتفاضة مشروعة وثورة مدعومة
لقد انتفض المواطن العربي في ثورة، هي من حقه منذ زمن، لأنه ببساطة إنسانٌ خلقه الله كائنًا حرّا جميلاً، سيّدًا وغير ناقص، على صورته ومثاله، سواءً كان ذكرًا أم أنثى. فالخلق سواسية لدى الله، خالقِ الكون والبرايا والبشر منذ الأزل وإلى يومنا هذا. كما أنه، ليس من حقّ أي كائنٍ بشريٍّ الانتقاص من أخيه وجاره ورفيق عمره، لأنه ببساطة، مخلوقٌ على شاكلته وفق مشروع الخلق الإلهي الذي يتيح له  الحق المشروع في حياة حرةٍ كريمة، ينشد فيها الاستقرار والعدل والمساواة والرفاهية في إطار نظام عادلٍ في الحكم والحياة.
ولمّا كانت ثورة الشعوب على الظلم والطغيان والفساد وكلّ أصناف التعسف في الحكم والحياة، هي من حق هذه الشعوب المبتلاة بهذا الصنف من القادة والرؤساء المتسلطين، فما على المتنوّرين والمتحضّرين من الآدميين الحريصين على احترام خلق الله، إلاّ أن يؤازروا هذه الثورات ويساندوا القائمين بها وعليها، لأنهم أصحاب حق. ومن لا يفعل ذلك بما أوتي به، فهو على باطل، مهما ادّعى من أسباب الشرع والشريعة والقوانين التي يفتعلها ويستنبطها ويفتي بها لسند موقفه المغالط.
أمام السيل الجارف من المطالب المشروعة للثائرين على الرؤوس الدكتاتورية، وقفَ الشرفاءُ من بني جنس هذه الشرائح المتنوّرة الثائرة وغيرهم من الساندين لها، من شعوبٍ وأصولٍ وطبقاتٍ وفئاتٍ متغايرة، وقفة المؤيّد والساند لحق هؤلاء البشر في العيش بكرامة وأمان في بقعة وضعتهم الأقدار في كنفها، ليكونوا ضحايا تقليديين لأنواع عديدة من الاستغلال السياسي والمادي والطائفي والمذهبي. لقد كان لتأييد مجمل الانتفاضات التي حصلت في عدد من الدول العربية - والبقية ستلحقها بإذن الله-، صداهُ الواسع في فتح أعين الناس على حقيقة حقوقهم المشروعة التي ظلّت أسيرة تقاليد بالية والتزامات شرعية غير عادلة وقوانين ردعية ووضعية غير مقبولة إنسانيًا ومجتمعيًا ودوليًا. لكن الظلم، عمره لم ولن يدوم، طالما هناك من يبحث عن التنوير ويسعى لتحرير القيد المنغلق الذي أسرته به هذه القوانين وهذه التقاليد وغيرها من الأصوليات التي لم تعد تنفع مع التطور البشري ونماء الفكر الإنساني والتنمية المستدامة التي تسعى إليها البشرية المتحضرّة جمعاء.
وداعًا للستار الحديدي
لقد كانت وقفة العالم مشرّفة لاسمه تعالى ولاسم الحق والعدالة، في تأكيده على حق خليقة الله بالعيش بحرية وكرامة، أينما كانت ومتى أرادت ذلك، دون منّة من أحد، لأنها ببساطة، صنيعة الخالق الجبار، الشديدِ بأسُه على المستكبرين. كما لهذه الشعوب المظلومة، قِدمُ التساوي مع باقي الخلق، في الأرض والحياة والرفاهة، وفي كل ما من شأنه أن يسهّل الحياة وسبلَ عيشها دون صعوبة. لقد خبر العالم الغربي مثل هذه الانتفاضة، بل مثل هذه الثورات العارمة التي استمدّت قوتها من عزيمة الشعب الحريص على أرضه وعرضه ووطنه وأهله وجاره، من شرور القريبين والبعيدين. من هنا كان تذكير بعض العقلاء بما حصل مع انتفاضة حقبة الثمانينات في أوربا، حين نفضت شعوبُها غبارَ سنوات عجاف من سطوة الشيوعية البغيضة ومن أساليبِ قادتِها الطغاة الذين استخدموا كل أساليب الترويع والتخويف والترهيب ضدّ شعوبهم سحابةَ سنين. لذا لم يكن أمام تلك الشعوب في نهاية المطاف، وبعد أن بلغ السيلُ الزبى، إلاّ أن يلفظوا  هذه الحشرات الضارة ويعملوا على طردها والتمكّن منها، في أقرب فرصة أُتيحت لهم، ففعلوها دون تردد، حين أسقطوا الستار الحديدي إلى الأبد. ما حصل ومازال يحصل اليوم وغدًا، هو بالتأكيد، تشبّهٌ سليمٌ لما حصل لتلك الشعوبٍ التي سبقتنا في هذه التجربة المباركة، بل إنه يؤشّر إلى تطوّرٍ صحيح في العلاقات الإنسانية في الاستفادة من تجارب الغير. وهو أيضّا، استمرارٌ لما يمكن اعتباره صرخةً حق بوجه الباطل وضدّ أساليب القسوة والعنف والجور غير المبرّر الجاري بين البشر. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ للغاية. فالشعوبُ عندما تصل حدّا من الوعي المقبول، تتمثّل بتجارب الغير لتأخذ منها ما ينفعها وتلفظ ما تراه غير مقبولٍ لديها.
لقد أعجبني تصريح فاسلاف هافل، الرئيس التشيكي السابق، وداعية حقوق الإنسان  والمدافع عن الشعوب المغلوبة وعن الديمقراطية، حين تحدّثه مرّةً إلى صحيفة "سي تي كي" الجيكية، أن (هناك حدودّا دنيا لمعايير ثقافية عامة مشتركة بين كل الشعوب في ارتكانها إلى الأخلاق الأساسية وإلى الأسس في تطبيق السياسات  العامة للحكومات. كما أن ما يحصل اليوم في المنطقة العربية، لا يختلف عمّا شهدته بعض دول أوربا، ولاسيّما الشرقية منها حين كسرت "طوق الستار الحديدي" والتحقت بركب الديمقراطية الذي تخلّفت عنه). إن هذا الحديث عن "االستار  الحديدي" الذي حطّمته شعوب أوربا بصحوتها الإنسانية مع السنوات الختامية للقرن المنصرم، قد وضعت بلدانها وقادتها على المسار الإنساني والبشري الصحيح. وفي اعتقادي أنّ ذات الشيء، بدأت تسعى إليه شعوب منطقتنا التي اكتوت بنيران حروب أزلية وابتليت بسلاطين وزعماء وملوك لاتهمّهم مصالحُ شعوبهم ورفاهيتُها، بقدر ما تسعى وتعمل على ترسيخ التسلط وتثبيت سبل مبتكرة للقمع، من أجل البقاء في الحكم ما طاب لها وما تيسّر. لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أنّ ما له بداية، لابدّ أن يكون له نهاية في زمن ما وفي مكانٍ ما.
إنها صرخةُ حق، أطلقها روّاد الإنسانية ومدافعو حقوق الإنسان في كل مكان وفي كل بلد وفي كل مجتمع في هذه المنطقة المبتلاة. هي صرخة مدويّة أيضّا تدعو للتخلص من الزعماء، من ناشري الظلم والفساد والتسلّط، الذين استخفوا بشعوبهم غير مبالين بقدرات هذه الشعوب متى فاقت. هي صرخة حق بلا حدود، فيها انتفض الناس على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم ومكوّناتهم، ضدّ من سرقهم وتآمر وكذب عليهم، وضدّ من حكمهم طيلة هذه السنوات العجاف بعصا من حديد. وهي لن تخمد حتى تحقيق المآرب العادلة وفرض سلطة قانون مدنيّ عادلٍ يساير التطور البشري ويراعي شرعة وقوانين حقوق الإنسان ولا يحصرها في زاوية تداعياتٍ شرعيةٍ ضعيفة الحجة يحشرها أمثال هؤلاء المغالين بمبدأ جواز "تولّي السلطان على الشعوب كما شاء"، حتى لو  ترتب على ذلك جبالاً من الظلم والقهر والفساد بسبب اتباع هذا المبدأ الناشز.
إنه لمجرّد رؤية انتفاضة هنا وإضراب هناك ، أو اعتصام في مكان غيره، فهذا دليلٌ على وجود ظلمٍ، من أيّ نوع كان. فلو لم يشعر هؤلاء المضربون أو المعترضون أو المعتصمون بشيء من الذلّ والإهمال والتهميش، لما كانوا انتفضوا أصلاً. ومَنْ يشعر بما فيه كفاية من اطمئنان ورفاهة واستقرار، في حياته ولأهل بيته وعشيرته وبلدته ووطنه عمومًا، ليس بحاجة للشحن والإثارة وتعليمه كيف يعترض ومتى ولماذا. فما اعتراضُ بعض النخب المتنورة في العالم العربي ومعه عراق اليوم، سوى دليلٍ على وجود مسارات وإجراءت وتصرّفات غير مقبولة في أجهزة الحكم، تكاد تقضّ مضاجع المواطن، أيًا دان دينُه أو لونُه أو مذهبُه. لذا، واستنادًا لأصول احترام حقوق الغير، حتى لو اختلفوا في الدين أو المذهب أو الطائفة أو اللون أو الإثنية، فهو يستلزم تعلّم درسٍ في الحكمة والآداب والأخلاق في احترام الغير. فالدنيا دوّارة، وما نحن عليه اليوم، قد ينقلب بين لحظة وغيرها. فهل يرتكز الحاكم إلى مبدأ الحمة في حكمه كي يتحاشى ما قد يلقاه بوم غد؟
-   يتبع

لويس إقليمس
بغداد، في 25 أيار 2013


365
دروس في الحياة لا يفقهها تجار الشعوب

كثيرة هي التجارب والدروس التي تمرّ على بني البشر أو تلك التي تعيشها الشعوب. لكن العبرة فيمن يعطي لنفسه الفرصة للتعلم منها والاقتناع بأخذ المفيد فيها من أجل حياة أفضل، له ولغيره من الخلق. إلاّ أن مصيبة العرب خاصة ودول منطقة الشرق عامة، قد ابتليت ببشر تتحجر عقولهم وتنغلق بصائرهم لكل ما هو منطقي وآدميٌّ لدى غيرهم من الأمم والشعوب المتحضرة، لسبب أو دونه.
أحوال العرب اليوم
 ما يجري اليوم، في عدد من دول المنطقة وما شهدناه منذ اجتياح السيادة العراقية في 2003، من تزمّت وعنادٍ لدى عدد من قادة وزعماء هذه الدول المطالَبين بالتنحي عن السلطة والزحزحة عن الكراسي التي قيّدوها تأبيدًا، لهم ولذوي قرباهم وحاشيتهم، هو عين التخلّف والاستبداد والاستهانة بإرادة شعوبهم المغلوبة على أمرها. لقد شاء هؤلاء "المتأبّدون"، أن ينصّبوا أنفسهم سلاطين مدى الحياة ومتسلطين على رقاب شعوبهم، غيرَ مقرّين بثقافة متحضرة لتداول السلطة سلميًا، التي من جملة منافعها، فسح المجال للغير كي يقدموا عطاءَهم ويعرضوا ما عندهم من كفاءات عملية ومزايا إدارية ومن خبرات في الحياة قد تختلف عمّا لدى هؤلاء الزعماء المتقادمون الذين توقفت بهم عجلة الإبداع وبطلت عندهم الحكمة المطلوبة والكفاءة في التفاعل مع الأحداث وفي تصريف شؤون البلاد والعباد.
تشير الدلائل، أن معظم هؤلاء الزعماء، إن لم يكونوا جميعًا، قد استخدموا ما لديهم من أحكام قمعية وسلطة مطلقة في قيادة شعوبهم  طيلة فترة تولّيهم السلطة، ومازالوا على هذه الحال، رغم أنهم قد فقدوا كل مصداقية في التعامل السويّ والإنساني مع شعوبهم، ما أفقدهم بالتالي شرعيتهم. وفي اعتقادي أن أحد أهم أسباب هذه الإشكالية، هو الخلفية الدينية والقبلية وربما التربوية والاجتماعية والعلمية أيضًا، تلك التي نشؤوا فيها وعليها، والمتمثلة بقِصَر نظرهم حول الأحداث و رفض الإقرار بضرورة الاستجابة لمطالب الشعب واحتياجاته المتناغمة مع تطور الحياة ورقيّها. ناهيك عن العمى، المصابون به بسبب الحضور الدائم ل "الأنا الذاتية" التي استفحلت في سلوكياتهم وما يلحق تلك، من أشكال الطمع والعجرفة وحب الدنيا والسلطة والجاه والمال، ممزوجة أحيانًا بداء "جنون العظمة" المقيت وهوى السلف في إطاعة السلطان، حتى لو تجبّر وفسقَ وشطح عن الحق. وهذا في حقيقة الحال كما يبدو، جزءٌ من تركيبة الفكر العربي والشرقي التي لم تستطع شعوب المنطقة تجاوزها، بالرغم من تغيّر الأحوال وتطوّر الحياة وما فيها. فهذه الفئة، كلّما تقدم أصحابُها في العمر، تقادموا في الخبرة واستنفذوا الكفاءة والعطاء والحكمة معًا، وتشبثوا أكثر في حب السلطة والجاه والمال وأنواع الفساد والموبقات، والأنكى من ذلك في الولوج في دياميس الدكتاتورية التعسفية التي لا تؤمن ولا تعتقد إلاّ بكفاءتهم وحكمتهم وحدهم فحسب. وأمثالُ هؤلاء لا يقرّون البتة، بثقافة تداول السلطة وانتقالها السلمي، وكأنّ كراسي حكمهم، قد سُجّلت بأسمائهم إلى أبد الآبدين، كراسيَ تمليك في الشهر العقاري، بل وأكثر من ذلك، أن بعضهم يجيز لنفسه توريثها لأبنائه من بعده! إنها قمّة الاستخفاف بالشعوب وبإمكاناتها وفي حقها في حكمٍ رشيدٍ ووفق أساليب حضارية تتحكم فيها صناديق الاقتراع ورضا الله والشعب.
-   1 يتبع
لويس إقليمس
بغداد، في 13 أيار 2013

366
حجّ للبطريرك لويس ساكو إلى كنيسة سيدة النجاة

شوقٌ أبوي كريمٌ طالما تمناه غبطتُه، وهو بعد أسقفًا على رئاسة إبرشية كركوك التي عمّرها بسواعده وثبّتها بحنكته المعهودة و عزّزها ببراعته من خلال الحوار والتآخي والتعايش. جاء اليوم الذي برّ غبطته بوعده، وهو بطريركًا على رأس الكنيسة الكلدانية وكنيسة العراق، حين استأذن من أسقفها برغبته بحجّ أبوي إلى كنيسة سيدة النجاة، سيدة الشهداء، ليتبرّك بشهدائها الذين سُفكت دماؤهم الزكية عصر الأحد 31 تشرين أول 2010.
ومن أجل إعطاء هذه المشاركة التاريخية، لأول بطريرك كلداني في إقامة قداس بالطقس الكلداني المعاصر، رتّب له مطران الإبرشية السريانية ببغداد، زميلُه السابق في المعهد الكهنوتي بالموصل، ومعه كهنة الإبرشية، ما يليق بهذه المناسبة السارّة التي أثلجت صدور المؤمنين الذين اكتظت بهم كنيسة سيدة النجاة عصر الأحد الثاني بعد القيامة 14 نيسان 2013. خرج الموكب البطريركي من دار المطرانية ب"التشمت" السرياني (تو بشلوم روعيو شاريرو ومذبرونو حاكيمو...) إلى باحة الكنيسة، حيث الحشد المؤمن كان في انتظار طلّته البهية مبتسمًا ومحييًا..
شارك في قداس غبطته، سيادة المطران مار أفرام يوسف عبا، رئيس أساقفة إبرشة بغداد للسريان الكاثوليك، وبحضور سيادة المطران المتقاعد متي متوكا وعدد من الكهنة المرافقين لغبطته. بعد التحية الأخوية الحارة من مطران الإبرشية، بدأ غبطته القداس بالطقس الكلداني المعاصر، بلغة عربية غالبة، تناغم معها الشعب وتابع القداس بهدوء وخشوع. وفي عظة غبطته، عبّر عن سروره الغامر لإتاحة هذه الفرصة للتعبير عن بالغ تقديره واحترامه لمن سفكت دماؤهم في هذه الكنيسة، مؤكدًا على المكانة البارزة للشهداء في كنائسنا المشرقية، وقد أكتسبت كنيسة سيدة هذه الصفة بين كنائس العراق، حين أضحت دماؤهم بذارًا لحياة جديدة. وفي معرض كلامه، أكّد غبطتُه على سمة الإيمان التي ينبغي أن ترافق المسيحي في حياته بصدق وعمق كي لا تؤول إلى فراغ وعدم، لأنها ببساطة مدغومة بعلامة الفصح. وفي الختام، ذكّر بضروررة خروج المسيحيين من هاجس الخوف واستعادة السير نحو السلام والتقدم والتطور مع الحياة اليومية بكل ما فيها من صعوبة وقساوة، بدل الانكفاء على ذاتها، لأنها مدعوة كي تحوّل واقعها ووجعها إلى نور القيامة والحياة والتجدد وبالتزام كامل الوفاء، بحسب غبطته.
بعد الانتهاء من القداس، صافح غبطته جميع الحاضرين فردًا فردًا وشدّ من عزمهم. ثم التقطت بالمناسبة صور تذكارية. كما شارك غبطتُه وعدد من الحضور، بمأدبة عشاء عامرة أقامها راعي الإبرشية وكهنُتها على شرف غبطته في دار المطرانية، تبودلت أثناءها الكثير من المواضيع التي تهمّ واقع كنيسة العراق وما يُطرح من أفكار في وسائل الإعلام المختلفة والتقاطعات فيها. وفي الختام، وُدّع غبطتُه كما استـقبل بحفاوة وتكريم.
هذه الزيارة التي نتمنى أن تشمل كنائس مشرقية أخرى، ليس في بغداد وحدها، بل في مناطق ومدن غيرها، فيها الكثير من الرمزية والقوة والمحبة. إنها ببساطة، سمة الكبار المتسامين على الصغائر من القشور التي لا تنفع، بل تقف حجر عثرة أمام تفاهم المجتمعات،  ومنها المجتمعات الكنسية. فالكنيسة هي الأخرى، مؤسسة تحتاج إلى دماء جديدة لتجديد طاقاتها وإحياء طقوسها وجعلها في متناول الشعب المؤمن، دون إسدال ستار النسيان عن التراث الليتورجي طبعًأ، الذي يبقى ذخرًا وكنزًا لا يمكن نسيانُه.

لويس إقليمس
 بغداد، في 14 نيسان 2013



367
المنبر الحر / جسور للتضامن
« في: 20:03 08/04/2013  »
جسور  للتضامن

يُعَد جسر "زهاوزهو" (Zhaozhou) أو أنجي (ِAnji) في الصين المنجَز في عام 605م، أقدم جسر بناه الإنسان باستعمال تقنية القوس المقبّب وهو الأقدم في العالم الذي ما يزال قائمًا، ويقع في ناحية زهاو (Zhao)، مقاطعة هيبي (Hebei). بعد ذلك أقيمت في العالم جسورٌ كثيرة تبعًا لاختلاف الزمان والتاريخ والهدف. منها الكثير الذي لا يزال ماثلا يستخدمه البشر يوميًا، وقد أبدعت قرائح المهندسين بما يدهش من ابداعات علمية وهندسية. وفي عام 2011 افتتحت الصين أطول جسر في العالم تجاوز 41 كم، فوق خليج جياوزهو (Jiaozhou). وبين كل من هذين الجسرين الكثير من الرمزية المقتبسة من تاريخ البشر ومن تفاصيل حياة الإنسان، الذي عليه أن يعبر إلى الآخرين بالتفاهم والألفة والثقافة. فشأن الجسر كاللغة والعلوم التي قامت مذ خلق البشر.
بفضل جهد العبور هذا تحقق للإنسانية أن تصبح واحة وارفة تحتوي اختصاصات وتشعبات تراكمت مع ازدياد البشر وتنوّع اتجاهاتهم وتقاليدهم وظروف حياتهم. بحيث صرنا في عالمنا نحتاج كل يوم إلى جسورٍ جديدة طارِئة ومختلفة، لتعبر بنا إلى تحقيق الهدف من وجودنا المتنوّع، وتمكننا من قراءة مفاعيلها وتطبيقاتها في الحياة. مثل هذه الجسور، تحدّث عنها الأنبياء والرسل والعظماء من الذين كان همُّهم الأكبر تحقيق المصالحة بين البشر وخالقهم، وبين البشر بعضهم ببعض. فقبل أيام، وفي خبر إذاعي سمعتُ عن وفاة الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا، قرر خلفه الأسود نيلسون منديلا، ضحية ذلك الرجل الذي سجنه 26 عامًا، أن يزور أرملته ويحتسي القهوة معها لينقل إليها أنه غفر من أعماق قلبه. لقد بنى هذا الرجل جسرًا بفنجان قهوة.
لقد كان للرسول بولس الفضل الأكبر في فتح المسيحية على العالم، وإلا لبقيت هذه الديانة بدعة يهودية محصورة في نطاق فلسطين، فبولس فهم بحدس عميق أن سيّده يسوع أراد العبور، فسمع بولس نداء المكدونيين: "إعْبرْ إلينا وساعدنا" (أع 16/9)، مما جعله يبني هذه الديانة الفتية على أسس قبول الجميع، فتحدّث بإسهاب وشدّة عن شيء اسمُه المحبة. وراح يمعن في تفصيل وصيّة المسيح، التي لخّصها في نشيده (1 قور 13/1-10)، وطبّقها في رسالته، وبرهن أن اهتداءه كان عبورًا قَلَبَهُ من مبغضٍ وحاقدٍ وعدوٍّ، إلى أعظم رسول يصرخ: "لست أنا الحي، بل المسيح حيّ فيّ". فاحتار كيف يقدّم ذلك بلغة فلسفية تفهمها الشعوب آنذاك، وصية واحدة تجمعهم وتكاد المسيحية تنفردُ بمفاعيلها، تقليدًا وتطبيقًا وتبشيرًا. فجاء كلامُه شديد اللهجة وواضحًا في تفاصيله: "لو نطقتُ بلغات الناس والملائكة، ولم تكن فيّ المحبة، فإنما أنا نحاسٌ يطنّ أو صنجٌ يرنّ...".
يقول أرنولد توينبي Toynbee (1889 - 1975) ، فيلسوف مقارنة الحضارات الكثيرة التي قامت في العالم: "إن أعظمها ليس من بنى صروحا وأهرامات، بل من عبر إلى الآخرين"، وقصد بذلك أن حضارة السريان، كانت سباقة في تبني الترجمة عبر التاريخ، فلعبت دور الجسر بين الشعوب فكانت الأعظم، إذ إن حضارة مصر بالرغم من عراقتها لم تستطع أن تبني جسرًا واحدًا فوق النيل. في حين بنى الرومان الجسور وفتحوا الأبواب للعبور إلى الشعوب التي كانت بينهم، وهذا ما حلم به أيضًا الاسكندر الكبير حين أراد الجمع بين الشرق والغرب، فطلب من قادته أن يصاهروا الفرس فتقوم حضارة واحدة عالمية. لعلها كانت العولمة الأولى. 
من غريب ما يحدث في عالمنا اليوم بالرغم من تحقق العولمة وسهولة الاتصال بين الشعوب، أن نرى لدى الكثيرين من أبناء شعبنا في الوطن وفي الشتات تجربة الانكفاء والمحاصصة التي تغلغلت في كل مكان حتى في الكنائس، فنسينا أنا أبناء بناة جسور التضامن بين البشر، وكنا نبراسًا يهتدي به الآخرون، بحيث كانت لغتنا الآرامية سائدة من بلاط الفرثيين شرقًا وحتى مصر غربًا مرورا بالشرق الواسع، بل وصلت إلى بلاد فارس والهند والصين وأصبحت لغة مقدسة للعديد من الشعوب، فكانت لغة كلام وحبّ وليست صنما، بل خميرةً لترميم عجينة الشعوب والأمم أينما حلّت أو تواجدت. إن أحد أصدقائي الذي زار أمريكا مؤخرًا قرأ لافتة أمام إحدى الكنائس كتب عليها: "أكبر جسر في العالم كان بين الأرض والسماء بناه يسوع بثلاثة مسامير فقط!".

368
لقاء المحبة والغيرة الرسولية




   عصر يوم السبت 16 آذار 2013، جمعني مع غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، لقاء ودّي، استذكرتُ فيه الأيام الخوالي الجميلة التي أمضيناها معًا في أروقة معهد مار يوحنا الحبيب ودهاليزه وكابيلّتيه وما رافق ذلك من واقع ومواقع الحياة اليومية، وقد كنتُ من حصة فرقته في السنة الأولى من دخولي المعهد المذكور في عام 1967 في الاكليريكية الصغرى.
   آثرتُ أن يكون في اللقاء نفحةٌ من الخصوصية ومساحة أوفر لتبادل الرأي ومجالٌ أكبر للإنصات إلى توجيهات شيخٍ "شاب" قويّ العزيمة، مصمّم الإرادة، نضر الروحية ومتسامي الروح. في بداية اللقاء، بادرني بتمنياته لي أن أبقى شبابًا على ما لاحظه فيّ من احتفاظ معظم شعرات رأسي بسوادها، فيما شعرُه قد غزاه الشيب الوقور وأثقلته الحكمة والاتزان والمحبة والرغبة في تقديم شيء مميّز، في عصر تمرّ فيه الكنيسة  جمعاء، وفي العراق والمنطقة بخاصة، بمرحلة حرجة من التجدّد والخبرة والتغيير، أحبّ البعض أن يسمّيها ب"الربيع المسيحي" لكنيسة المسيح. ومَن عرفه عن قرب، لا بدّ أن يشعر بخيوط المحبة والغيرة الرسولية التي تنبع من دواخله، وكأنها شعلة ملتهبةٌ لا تريد إلاّ اتقادًا، وقد آن أوانها لتأتي بالثمر المرتقب.
   هنّأتُ غبطته وأثنيتُ على انتخابه من قبل السينودس الكلداني الذي اختاره لميزة الشجاعة التي عُرف بها مذ كان كاهنًا ومديرًا للاكليريكية في بغداد، ثمّ أسقفًا غيورًا أجاد الحوار مع أتباع الديانات الأخرى، بل لنقلْ كان رائدًا لها ومازال وبسببها ذاع صيتُه وصار نجمًا كنسيًا عالميًا مرموقًا يرغب الجميع بالتقرّب منه والتحاور معه واللقاء به.
    بادر  غبطته وتطرّق في الحديث عمّا أكتبه في الشأن المسيحي وأثنى على تأكيدي في المرحلة الراهنة، على أهمية الهوية المسيحية التي تجمع أبناء شعبنا بعيدًا عن التزمت أو التعصّب المذهبي أو القومي الذي ذهب إليه بعض سياسيينا ومثقفينا من مختلف الطوائف والملل، لكونه لا يخدم الهدف ولا يجدي نفعًا بقدر ما يضرّ ويحدّ من طموحاتنا الوطنية وتطلعاتنا المسيحية ويفتُّ من عضدنا وقدراتنا التي بسببه تشظى وتشرذم. شكرتُه على تشجيعه لي للمضي في ذات السياق ما أستطيع. كما جرى التطرق إلى مبادرة حوار الأديان قيد الإعداد، من جهاتٍ حريصة على إدامة روح التسامح والتآلف والوحدة الوطنية  مع أتباع الديانات الأخرى التي نأمل أن ترى النور قريبًا وتأخذ مداها الوطني قبل كلّ شيء، بمباركة منه ومعه  رؤساء الكنائس والطوائف الشقيقة الأخرى. ثمّ تناول الحديثُ، بذرةَ الرجاء التي يعقدها الكثيرون على تولّي غبطته زمام السدة الرئاسية للكنيسة  الكلدانية وكنيسة العراق وأهمية أن تأخذ الكنيسة دورها الريادي الجامع لكلمة المكوّن المسيحي بتوحيد جهودها وبالتناغم والتآلف والتحاور بين جميع الطوائف للخروج بثمرة أولى للوحدة المسحية المرتجاة وهي توحيد الأعياد ابتداءً من السنة القادمة. ولتكن هذه المبادرة،  البذرة الأولى للمّ شمل اللحمة المسيحية في كنيسة واحدة يملكها المسيح وحده، لا التيجان والصولجانات البالية التي تزول. وإن تحققت هذه المبادرة، ستكون حتمًا علامة لانتصار زمن العقل والحكمة والانفتاح بدل الانغلاق والتعصب على أمرٍ غير عقائدي.
   كما عبّر غبطته عن قراره جمع إخوته رؤساء الطوائف المسيحية في لقاء أخوي مسيحي قريبٍ جدًا،  لتثبيت موقف كلمة الوحدة معًا، والانطلاق بمطالب موحدة في لقاء يجمعهم مع المسؤولين في الدولة العراقية، في سعيٍ لتثبيت إخوتهم وأبناء رعاياهم في التشبث بأرض الآباء والأجداد وفي الشهادة لمسيحيتهم التي ارتوت من أجلها  أرض العراق بدماء الشهداء وصارت بذارًا لحياة أفضل وليس سببًا للهروب والهجرة غير المبرّرة في أحيانٍ كثيرة. وهنا شكوتُ لغبطته نقص الوعي من بعض رجال الكنيسة و الكتاب على المواقع  الالكترونية من الذين يواصلون تثبيط عزائم المسيحيين  بالبكاء على مآسٍ وأحداثٍ شربنا علقمها وتجرّعنا مرارتها، تمامًا كما سار المسيح في درب الصليب والآلام، ولكنه في النهاية كان لنا جميعًا الرجاء بقيامته منتصرًا على الموت والظالمين. وهذا ما ينبغي التنبيه له والتأكيد عليه في اللقاءات على الفضائيات وفيما يُكتب في المواقع الالكترونية ووسائل الإعلام المتنوعة عن الوضع القائم في كنيسة العراق وفي المنطقة عمومًا، في أنّ لنا رجاء بالقيامة بعد طول هذه المآسي، لأنّ كنيسة المسيح مبنية على صخرة بطرسية يرعاها مسيحُها ومؤسسها ولا يمكن أن يدعها تسقط وتتآكل وتتلاشى "ها أنا معكم كلّ الأيام حتى انقضاء الدهر".
   وفي السرد ذاته، بشّرني بأنه عاقدٌ العزم على ترميم البيت الكلداني الداخلي وتجديده وإنعاش روحية أساقفته وكهنته ورهبانيته ضمن برنامج طموح بدأ مشواره بقرارات جريئة وصحيحة بعد الترهل والفلتان الذي أصاب الإدارة والمالية. وما أثلج صدري نيتُه بائتمان المعهد الاكليريكي المتمثل بكلية بابل للفلسفة واللاهوت إلى إحدى الرهبانيات المشهود لها بالمعرفة والتقوى والكفاءة الإدارية والكنسية على السواء كي تأخذ على عاتقها تهيئة خداّم ورعين ورعاة أكفاء مسلّحين برباط المحبة وروح الخدمة الكنسية الحقيقية بعيدًا عن بهرجة المناصب أو الرغبة بتأسيس إقطاعيات في بلدان المهجر وهجر كنائس الملّة بعدما كانت تنتعش بفائض تُحسد عليه. كما أعرب عن نيته طرق أبواب الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية المختلفة من أجل حشد الجهود المعنوية لدعم كنيسة العراق بشتى الوسائل وإيقاف مدّ الهجرة غير المقبول عبر مشاريع تُكرّس لهذه الجهود من توفير مسكن وتأمين فرصة عمل إضافة إلى ما يحتاجه كلّ مواطن من وسائل الأمان والخدمات الآدمية، ما يساعد بالتأكيد على تثبيت المتشبثين بالأرض وتشجيع المغتربين من العودة إلى أرض الوطن.
   أليس في هذه النقاط برنامج عملٍ متكامل للكنيسة والدولة العراقية على السواء، كما اعترف بذلك رئيس الحكومة العراقية في حفل التنصيب بتاريخ 6 آذار 2013؟ إنها الفرصة الذهبية لكنيسة العراق كي تنتعش من جديد وتفرض وجودها المسيحي على الساحة السياسية والمجتمعية على السواء في ضوء الكاريزما الذي يتمتع بها غبطة البطريرك ساكو، والعلاقة الطيبة التي تجمعه مع منتمي ديانات وزعماء قيادات شعبية ودينية وحزبية ومسيحية، وهو جديرٌ وكفءٌ لها، إذا سانده إخوته رؤساء الطوائف ونحن معه بما أوتينا من غيرة ومحبة واستعداد للخدمة والتنازل. فهلْ، سينزل إخوته من الأساقفة من جميع الملل، عن عروشهم ويتصالحوا مع الله والشعب ومع بعضهم البعض ويخدموا الرعية كما خدم المسيح في حياته وغسل أرجل تلاميذه وقدّم نفسه قربانًا عن الشعب؟ حينئذٍ تكون رعية واحدة وراعٍ واحد يقود كنيسة العراق والشرق إلى برّ الأمان وتحقيق المطالب المشروعة، من خلال التفاف بطاركة الشرق وأساقفتهم جميعًا حول بعضهم، وتحرّكهم يدًا واحدة وهدفًا موحدّا على طريق بناء الوطن عبر الرجاء والقيامة والنصر.


لويس إقليمس
بغداد، في 17 آذار 2013

369
عندما يصير الشعور القومي بديلاً للهوية المسيحية!

   مِن الخطأ الفادح أن يؤْثرَ الفرد المسيحي ما يسمّيه "بالقومية" على شيء أسمى وأكبر، وُلد ويعيش من أجله في شهادة حياته المطبوعِ عليها. مهما كانت الأسباب وتعدّدت الحجج، تبقى "الهوية المسيحية" هي التي تطبع حياة الفرد المسيحي المؤمن بربه والتابع لكنيسته، أيًا كان أصلُها أو شكلُها أو تابعيتُها. والكنيسة هي الأخرى، أيًا كانت مرجعيتُها، هي أمّ لجميع أبنائها وستبقى كذلك بلا منازع، علامةً مميزة لمؤمنيها وأتباعها. تُرى، ما هو الجواب الأول الذي يمكن أن نتلقاه حين مبادرتنا للسؤال التقليدي المتبادر إلى الذهن لأول وهلة عن هوية شخص لا نعلمُ عنه شيئًا، لاسيّما في منطقتنا بصورة أخصّ؟ بالتأكيد، سيتركزُ هاجسُنا الأول حول هويته الدينية كي تطمئنّ القلوب، كما يُقال، ومن ثمّ يمكننا الاسترسال للسؤال عن قوميته وملّته وعشيرته وباقي توجهاته الاجتماعية. إذن، يبقى الدين هو الهاجس الأول لنا، والذي يجمعنا معًا نحن المسيحيين، لاسيّما في مثل هذه الظروف العصيبة التي اشتدّ فيها الصراع الديني بين الشعوب وتنامى التيار المتشدّد غير المعترف بالاختلاف سبيلاً للعيش.
   إنّي أتحيّر من عدد من كتابنا ومثقفينا وهم يخوضون رهانًا خاسرًا وغير رصين في تمجيد التوجه القومي لطائفة دون أخرى، وبإصرارهم على فعلهم هذا بمناسبة ودون مناسبة، من دون تقديم الدليل العلمي لذلك، وكأنها أضحت الشغل الشاغل لهم أو هي كما البلسم السحري لوجودهم وكيانهم في تحقيق وجودهم ونيل حقوقهم ومطالبهم. إنهم بهذا الفعل غير الحكيم، يتنكرون لأهمية "الهوية المسيحية" التي هي الأساس في رسم ملامح وجودهم وحياتهم وقيمتهم في المجتمع.
   أنا لا أنكر على أيّ كان، تفاخره بمكوّنه أو طائفته أو كنيسته، فهذا أمرٌ مفرَغٌ منه، وهو حقٌ طبيعيٌ لا لومَ عليه. ولكنّ مسيرة الأحداث وطبيعة شكلها وتعقّد إشكالاتها، تشير إلينا بضرورة إيلاء هويتنا المسيحية الاهتمام الأول كي تكون في مقدّمة الأشياء والخيارات جميعًا بسبب الظرف الراهن والهجمة الشرسة التي يتعرّ ض لها المكوّن المسيحي أكثر من غيره. هذا هو المنطق، في الأقلّ في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها المنطقة وعراقنا بصورة أدقّ. الهوية المسيحية، هي وحدها يمكن أن تجمعنا وتُؤالف بيننا وتوحّدنا وتجعل منّا، ومن طوائفنا وكنائسنا جميعها، سدّا منيعًا وشهادة جامعة للرأي والفكر في المطالبة بحقوق وطنية مستحقة مكتملة وغير منقوصة. إني أتساءل فقط: ماذا حصد سياسيونا ومَن ينفذون اليوم أجندات لأحزاب متنفذة في عموم العراق أومَن تشرذمت أوصالُ ملّته وكنيسته وجماعته بين تأثير أهل الاغتراب وفكر أهل الداخل؟ وماذا انتفع أهلُنا من تشظّي ولاءاتهم وتنوع تسمياتهم القومية المفتعلة منذ بدء الرهان الخاسر على هذه أو تلك؟ حتى في هذه- وقد كانت واضحة أمام الجميع  منذ البداية باقترانها باسم اللغة السريانية التي نتحدث ونعترف بها جميعًا ومعنا العالم كلّه-، لم يشأ المتعصبون الاعتراف بها سبيلاً لوحدتنا، وقد كانت أسهل وأرفق من الماء الزلال. هل كنّا بحاجة إلى خلق عقبة كأداء جديدة بشتى المسمّيات التي اخترعها الأغراب لمكوّننا المسيحي كي نجعل الغير للبدء بالتشكيك بوجودنا بسببها؟
   إن الشعور القومي، شعورٌ جميلٌ وضروريٌ ومهمٌّ في حياة الشعوب التي عرفت الديمقراطية  وعاشت الحرية وقاست وجودها بين غيرها وفق المعايير الواقعية من جهة العودة للأصالة دون التشبّث بها ديدنًا ووصمةً تدمغ حاملَها. بيدَ أنَّ هذا الشعور لا يُفترضُ به أن يكون من الأولويات بالنسبة لنا نحن المسيحيين  في هذه المرحلة الحرجة من حياة شعبنا التي يوجد فيها مصيرُنا على المحك. وإذا كان لنا أن نقرّ بمثل هذا الشعور، فبداياتُه وأساسُه يعود الفضل فيه إلى التيار "الآثوري" الشجاع الذي ناضل وجاهد وأحيا الروح القومية هذه عبر أنشطته المختلفة منذ الوعود المقطوعة للشعب "الآثوري" آنذاك بداية القرن العشرين. ولعلّ من بين الوسائل التي انتهجها هذا التيار، تمثلت بتشكيله خلايا مقاومة ومن ثمّ أحزابًا اتخذت من التوجه القومي "الآثوري" واجهة للمطالبة بحقوقه المشروعة، في الوقت الذي لم يكن يتيسّر فيه لباقي الطوائف مثل هذا التوجه الذي كان غائبًا عن ذاكرة المنتمين إليها مثل السريان والكلدان وغيرهم. كما تميّز "الآثوريون" بهذه التسمية وأجادوا باستخدام مختلف وسائل الإعلام المتاحة في الداخل والخارج، إضافةً إلى نشاطهم الاجتماعي الملموس ولاسيّما في مجال إحياء تراثهم عبر الملبس ووسائل الترفيه المتواصلة كالنوادي الاجتماعية وكذلك عبر فنونهم الأخرى ولاسيّما في مجال الغناء الثري الذي يكشف الشيء الكثير من هذا التمسك لديهم والوعي المتواصل. والحق يُقال، كان غيرُهم في سبات طيلة السنوات الكثيرة الماضية، حيث لم يكن في حسابات هؤلاء الاستيقاظ على مثل هذا الشعور حتى السنين الأخيرة من حقبة القرن الماضي، وبصورة أوسع منذ التغيير الدراماتيكي في 2003. فالفضل في إيقاظ هذا الشعور يعود بالأساس إذن للعنصر "الآثوري"، الذي عُرف بهذه التسمية بالتحديد، ولولاهم لما دخل الكلدان والسريان والأرمن المعترك الجديد في السياسة والإعلام وتشكيل الأحزاب. هذه مجرّد حقائق، والمنصف ينبغي أن يتعامل مع الحقائق، وليس بتشويهها.
   إني هنا، لستُ بصدد تأييد ما يذهب إليه المجتمع "الآشوري" بتسميته الجديدة على الساحة السياسية، في تسبيقه للجانب القومي على الجانب الديني. فلكلّ مكوّن حريتُه في اختيار ما يراه ملائمًا. لكنّي أرى في هذه المرحلة بالذات، أن المشترك الأكثر تقريبًا لنا يكمن في هويتنا المسيحية. إذ بهذه التسمية الموحدة يعرفنا الغير،  وما عدا ذلك فهو يفرّق ولا يجمع ويضرّ ولا ينفع، كما نلمس واقعيًا. لذا كان من الحكمة على الجميع، أن يركزوا على عنصر الهوية المسيحية أكثر من غيره، لأننا حين نضمن وجودنا الديني نكون أيضًا قد ضمنّنا وجود وحقوق طوائفنا ومكوّناتنا على اختلاف تسمياتها. كما أنّي مؤمنٌ أن عصر القوميات قد انتهى في البلدان المتحضرة، مثل أوربا وأمريكا التي نبذتها وتركتها وراءها لأنها لم تجلب لشعوبها غير الدمار والخراب والتخلف بتعلّقها بأفكار نازية وشعوبية وتعصبية مثل النازية الألمانية التي جلبت ويلات حربين كونيتين، ومنها تعلّمت أوربا درسًا في كيفية التخلص من كلّ فكر قومي ضيّق. لكنّي في ذات الوقت أختلف وأنتقد العالم الغربيّ الذي كاد يسدل الستار على ديانته الأصلية ليتلاقى مع تيارات مادية ورأسمالية بسبب العولمة التي جلبت عليه رياح التطرّف وأشكال الديانات المتعصبة التي لا تقبل شريكًا لها، وكلّ ذلك بحجة الالتزام بمعاهدات ومواثيق حقوق الإنسان والحرية، وكأنّي بهم يسيرون في زورق منقوبٍ والمياه تجري من أسفله حتى يأتي اليوم الذي يغرق مركبهم ليغرقوا معه هم أيضًا، لأنهم أهملوا الجانب المسيحي في حياتهم التي كانت قد طبعتها من قبل.
   نحن اليوم على عتبة جديدة بعد تسنّم رأس الكنيسة الكلدانية الجديد البطريرك لويس ساكو زمام أمور أكبر طائفة مسيحية وطنية، بل لنقل رئاسة كنيسة العراق، بشيء من الفخر والاعتزاز. وفي بلدٍ أصيلٍ مثل العراق، كُتب له فقدان الاستقرار والأمان منذ سنين طوال، يكاد اليوم يغرق هو الآخر بمن فيه بسبب دعوات التشظّي والانقسام والتناحر الطائفي الذي يعود بالأساس إلى الاختلاف في عنصر الدين. والمسيحيون ليسوا استثناءً من هذا التوجه، بسبب الاختلاف في طوائفهم وطقوسهم. إذ هناك دعواتٌ ضيقة تريد دقّ الأسفين بين مختلف مكونات الشعب المسيحي بحجج كثيرة ووسائل متعددة، بعضٌ منها من داخل صفوفه من المتعصبين بلا دليل علمي أومن المدفوعين من لوبيات مهجرية تعمل من بلدان الاغتراب، وهؤلاء كان يُفترض بهم عدم التدخل في مصير من اختار البقاء والثبات في أرض الآباء والأجداد، في الوقت الذي باعه هؤلاء برخص التراب وآثروا راحة البال وعدم مواجهة  الهجمة التي تعرّض لها جميع العراقيين دون استثناء، بمن فيهم المسيحيون على وجه الخصوص.
    إنّي أفهم من التوجهات الوطنية لغبطته، أنه من خلال أبواب الحوار المشرعة والمشروعة يمكننا تثبيت حقوقنا وفرض مصيرنا وتأكيد بقائنا على الأرض كشعب أصيل يعترف له الجميع بهذه الميزة بمن فيه الشركاء من أركان الدولة العراقية الذين أكدوا على مثل هذا التوجه يوم التنصيب، كما سمعنا ذات التأكيدات في غير هذه المناسبة أيضًا مرات ومرّات. أليس في هذه التأكيدات من البطريرك الجديد ومن شركاء في العملية السياسية من أمل ومن رجاء بفتح آفاقٍ جديدة ومطمئنة للمسيحيين بإمكانية العيش مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات كغيرهم، إنٍ هم تمسكوا بدينهم وأرضهم ووطنيتهم وتميّزهم، كما عهدهم الجميع من قبل؟ إني أعتقد أن هذه رسالة واضحة وكافية للجميع للكف عن المهاترات الكلامية وتوجيه دعوات ضيقة الأفق تدعو إلى التجزئة والانقسام والتشظّي تماماً كما يفعل الشركاء الحاليون في العملية السياسية. وليكن الجميع على قدر المسؤولية الوطنية أولاً والمسيحية ثانيًا والقومية (الطائفية) في التالي. فما يجمع هو الأصلح، ومن يريد أن يفرّق فلا خير فيه مهما كانت منزلتُه وشهادتُه وتبريراتُه.

لويس إقليمس
بغداد، في 11 آذار 2013


370
بطريرك الكنيسة الكلدانية والتحديات القادمة

   حينما سُئلتُ من جهاتٍ رصينة، يوم استقالة رئيس الكنيسة الكلدانية الموقر السابق، عن الأسباب وراء ذلك، وكذا عن التوقعات المأمولة حول البطريرك الجديد وعن خلفيته وطبيعة المهمة المطلوبة منه في ضوء التخبط القائم، حينئذٍ  لم أخفي تصوراتي المتواضعة في حصرها بثلاثٍ:
- وجود التيار التقليدي المتزمت المدعوم من اللوبي الكلداني "الأمريكي" الساعي لتكريس الكلدانية قوميًا ودينيًا وسياسيًا  إلى جانب محاولة نقل الكرسي البطريركي من العراق إلى أراضي العم سام.
- اللوبي الليبرالي المتفتح، المفعم بالروحية التي استقاها من منابع كهنوتية رفيعة والساعي إلى التجدد والانفتاح داخليًا وعالميًا، وإلى فتح صفحة جديدة وجريئة في حياة الكنسية الكلدانية بعيدًا عن شعارات القومية والأصولية التي يعتبرها هذا التيار من الأمور المعيقة للتقدم والسلام والتجدد.
- تيار الكنيسة الكلدانية "الكردية" أي تلك التي تقع في حدود إقليم كردستان، والتي كان لها رأي مثير آخر تمثل جزءٌ منه بمقاطعة أساقفتها لسينودس الكنيسة الكلدانية في فترة ما إلى جانب عدم إخفاء النية في إمكانية الانفصال في أية مرحلة لاحقة.
   تلكم كانت تصوراتي. وفي حينها رجحتُ كفة التيار الثاني، لدرايتي بجدارته لقيادة المرحلة القادمة واستعداده لخوض معركة جريئة في مجابهة التحديات الكثيرة، الداخلية الكنسية منها والخارجية المتأثرة بقيادات كنائس المهاجر التي أضحت شبه إقطاعيات صعبة المراس تسعى للاستقلال الذاتي في ضوء المعطيات التي تكرّست لها وتحاول التشبث بها. أما تيار الكنيسة الكلدانية "الكردية"، فلن يكون صعبًا التعاملُ معه في حالة التوفيق بصعود نجم مطران "كركوك"، الشخصية الوطنية الطموح والواقعي غير المنحاز، والمحاور المسكوني رفيع المستوى الذي غدا مرجعًا لجميع مكوّنات مدينة الذهب الأسود ذات النار الأزلية طيلة فترة رئاسته لإيبارشيتها لعقدٍ من الزمن. فقد أضاءت شعلتُه مكامن الظلام حيثما اتجه وفاقت سمعتُه حدود مدينته حيثما دُعي وشارك في مؤتمرات وندوات محلية ودولية، جعلت منه محاورًا متمرّسًا ثاقب البصر والبصيرة في الشؤون الكنسية والوطنية في تركيزه على الشراكة الوطنية المتساوية في الوطن والأرض والخيرات من خلال توطيد العمل المشترك المبنية على قيم السلام والحرية والديمقراطية التي تبناها الشعب العراقي طريقًا جديدًا لحياته في المرحلة الجديدة. ولعلّ أفضل ما أسمعه للمحاور الآخر، من أية ملّة أو مكوّن أو تكتّل كان، تمثل في تأكيد ما ردّدناه في مقالات سابقة :"الدين لله والوطن للجميع"، تلك المقولة التي لا يختلف عليها إثنان، إلاّ من يغفل وجود الآخر ولا يؤمن بالقبول به لاختلافه معه إنسانيًا. 
رئيس جدير لكنيسة العراق
    وهكذا جاء الإعلان البشرى بالفرحة الكبيرة يوم 31 كانون ثاني 2013، بانتخاب المطران مار لويس روفائيل ساكو، على رأس الكنيسة الكلدانية، رغم أن المخاض كان عسيرًا، ولا نكتم ُتوقعاتنا بحصول تدخل مباشر من جانب رأس الكنيسة الكاثوليكية والدوائر الفاتيكانية فيه، لترجيح الكفة لصالح غبطة البطريرك الجديد. وأيًا كانت التأثيرات والتجاذبات والمفارقات، إلاّ أنّ الجميع متفقون على جدارة غبطته وسعة اطلاعه وحسن تدبيره وطيبة قلبه وقدرته على المحاورة وكسب الودّ والإقناع بالحجة والدراية والعلم والمعرفة والمنطق، والأكثر من هذا وذاك، بحبه للوطن وعزمه على تحقيق مبدأ العيش المشترك لجميع المسيحيين في بلادهم وأرضهم من دون تمييز وفي خدمة كنيسة العراق وليس الكنيسة الكلدانية فحسب. وهنا علينا جميعًا، أن نعينه على تحقيق هذا الهدف، كلّ من موقعه من أجل عودة لحمتنا المسيحية وترسيخ وحدتنا، ليس بتكريس أسبوع للصلاة المظهرية سنويًا فحسب، بل في لمّ الكلمة وتوحيد الخطاب الاجتماعي والكنسي وحتى السياسي من أجل الوصول إلى حقوقنا كاملة متساوية وغير منقوصة. وإنّي مؤمنٌ بقدرة غبطة البطريرك الجديد على تحقيق هذه المطالب في القريب العاجل، كي يكون ذلك إشارة أمن واطمئنان لمن ترك الوطن للتفكير بالعودة إلى أرض آبائه وأجداده عوض التيه في المهاجر حيث سينقطع الحبل السرّي لامحالة بينه وبين وطنه، شاء أم أبى، مع قدوم الأجيال القادمة.
محطات مع البطريرك ساكو
   لقد عشتُ مع غبطة البطريرك لويس ساكو، ست سنوات خلال دراستنا في معهد مار يوحنا الحبيب بالموصل، وكنتُ في أول سنة لي فيه ضمن فرقته ب"السمنير" اي المعهد المذكور، حيث كنتُ آنذاك أصغر التلاميذ سنًا. عرفتُه ذكيًا حاذق الذهن ومقنعًا في كلامه، طيب المعشر مع الجميع، هادئًا يحسب خطواته برويّة وتعقل. كما كان محطّ رضى الإدارة الدومنيكية فيه دون أن يغفل أحيانًا عن الإفصاح بضرورة التجدد منذ ذلك الحين. والتقينا ثانية بعد سنوات طويلة حين كان يدير كنيسة أم المعونة، كما ربطته مع أهلي في قرقوش علاقة صداقة ومعرفة، ما يزالون يشيدون بشخصيته حتى قبل اعتلائه السدّة البطريركية. وحرصتُ على حضور رسامته الأسقفية رغم بُعد المسافة والوضع الحرج في مدينة الموصل آنذاك، تقديرًا لاستحقاقه ووفاءٌ لذكريات الزمالة معه.
   وبعد تغييرات الأحداث وتسنّمه رئاسة إيبارشية كركوك التي عمّرها بسواعده وحكمته وكفاءته، كنّا على اتصال متقطع عبر البريد الإلكتروني والهاتف كلّما تسنّت الفرصة وفيها نتبادل الأفكار والآراء حول أوضاع كنيستنا وشعبنا المسيحي. ولعلّ آخرها كان، قبل اشهر حين كتبتُ مقالتي الجريئة " بين الآشوري والكلداني ضاع السرياني". وفي هذه المقالة أكّدتُ على ضرورة السموّ فوق الاختلافات التعصبية القومية التي يحاول البعض اختلاقها وترسيخها في صفوف شعبنا المسيحي وتغييب الغير ونكران حقهم في التسمية، مع تأكيدي على إمكانية تفادي مثل هذه الإشكاليات في اختصار مسمياتنا بحلاوة التسمية ب "المسيحيين" في هذه المرحلة فحسب، لكون هذه الأخيرة هي التي تجمعنا ويمكن أن توحدنا. وفي حينها، أيّد غبطتُه ما ذهبتُ إليه واتفقنا على توحيد الجهود والعمل في الدعوة والكتابة في ذات الاتجاه، وما زلنا. وإنّي لأشعر بسعادة بالغة وأنا أقرأُ اليوم أولى تصريحات غبطته في هذا الصدد وتأكيده على ذات المبادئ التي آمنّا بها ومعنا الكثير من أبناء شعبنا المسيحي، ومنهم بخاصة، المثقفين المتفتحين من ذوي الإرادة الحسنة من الذين يراهنون على كلّ ما يجمع ولا يفرّق ويسعون إلى تحقيق إرادة وطنية صادقة قائمة على العدل والمساواة والحرية لجميع العراقيين دون تمييز. وإنّ تأكيد غبطته على الابتعاد عن كلّ ما يدعو للانقسام ويشجع على التشظية، لهو الدليل على نيته الجادة بفتح صفحة جديدة من آفاق للوحدة مع جميع الكنائس المشرقية الأصيلة بجميع طوائفها ومللها، لأن تلك التسميات كانت وماتزال وليدة الاستعمار الذي راهن في الكثير من تصرفاته وسياساته على تعميق جذور الانقسام تلك وإطالة مداها ما استطاع. وقد آن الأوان لوضع حدّ لتلك التدخلات الخارجية والجانبية التي انساق وراءها بعمىٌ واضح، نفرٌ من أبناء شعبنا وأوغلوا في تعميق الهوّة باستفحال أزمة التسميات القومية التي لا مخرج لها وقد أخذت في السنوات الأخيرة أبعادًا سياسية وقومية متزمتة لا جدوى من السير على خطاها.
أكبر التحديات: أصالة، تجدد، وحدة
      لعلّ الشعار الذي اختصره غبطة البطريرك ساكو، عقب انتخابه على رأس الكنيسة الكلدانية بثلاث طموحات جميلات:" أصالة، تجدّد، وحدة"، تظهر السقف الأوسع والأبعد في مهمته الجديدة التي لن تخلو من مجابهات وتحديات وأزمات، نأمل أن يعينه الربّ على قيادة دفة هذه الكنيسة المشرقية العريقة بحكمة وروية وبتعاون من الجميع، أملاً في تطويق المشاكل العديدة التي عانتها.
-   على الصعيد الداخلي، يواجه البطريرك الجديد تحديات صعبة وكبيرة تتمثل في لمّ لحمة الكنيسة الكلدانية التي كادت تتصدّع حين أخذت تتحدّاها تيارات استقلالية تكاد تحمل روح الانفصال عن كرسيّ بابل الكلداني أو تسعى لنقله، بحجج كثيرة ومنها تناقص أعداد أبناء الطائفة في بلدهم الأصل وتزايد تجمعاتهم في بلاد الانتشار البعيدة التي بدأت تستقطب أعدادًا متزايدة من المهاجرين وبتشجيع من "لوبيات" المهجر الكنسية التي تشترك مع غيرها من المغرضين في إفراغ العراق من مكوّناته المسيحية باختلاف الطوائف والملل.
-   سيبقى موضوع الهجرة من أكثر المسائل تعقيدًا وشدّا في اختلاف الآراء والحلول تجاهه والمتسبّب من التحديات الأمنية التي تكاد تكون المصدر الرئيس لتفاقمها وكذلك بسبب التجاذبات السياسية بين الفرقاء الذين استجابوا للمقترحات الأميركية أو تأثروا بمصالح دول الجوار التي وسّعت الهوة بينهم حين قبولهم التوافق وفق مبدأ المحاصصة البغيض الذي حرم قدرات أبناء شعبنا من تأدية دورهم وتولّي ما يستحقونه سواسية استنادًا للجدارة والولاء للوطن.
-   وعلى الصعيد الطقسي، حسنًا فعل المجدّون من أساقفة الكلدان، عقب الاتفاق على أفضل الخيارات في بطريركهم الجديد، في الاتفاق على عقد السينودس  الكلداني في مرحلة مبكرة لوضع النقاط على الحروف وتحقيق ما مطلوب منه في العودة إلى الأصالة الطقسية الغنية بلغتها وروحانيتها وتعابيرها وألحانها المتوارثة التي لا ينبغي التضحية بها تحت أيّ مسمّى أو سبب أو تبرير.
-   وعلى الصعيد السياسيّ، حيث لا يمكن اليوم إبعاد رئاساتنا الكنسية عمّا يجري من مواجهات حتمية وعمليات تهميش وإبعاد وتهاون وهدر لحقوقنا الوطنية أسوة بباقي مكونات الشعب العراقي، تبدو الفرصة متاحة لغبطته لعمل شيء متميّز وجريء في فرض الإرادة المسيحية على المجتمع السياسي القائم، لما لغبطته من حكمة وبراعة في الحوار والمطالبة والإقناع لحث السياسيين على تلبية مطالبات المسيحيين بإنصاف وبإيثار الولائية للوطن وتحقيق العدالة والمساواة في وضع الشخص المناسب في المكان المناسب دونة محسوبية أو منسوبية.
-   على الصعيد المسيحي (حيث لا أفضّل تسمية "القومي"، في الأقلّ في هذه المرحلة الحرجة)، أمام غبطته فرصٌ لتوحيد الخطاب المسيحي بالتعاون والتشاور مع قيادات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالعملية السياسية ورؤساء الكنائس الأخرى وديوان الأوقاف. وما رجاؤه الابتدائي من الكتّاب والمثقفين بالابتعاد عن كتابة مقالات قومية أو كنسية متعصّبة تفتقر إلى العلمية والمنهجية، إلاّ بداية الطريق لمشوار صعب يتطلبُ جهودًا حثيثة لرأب الصدع الحالي وتقريب وجهات النظر المختلفة من أجل الحفاظ على الهوية المسيحية قبل أيّ شيء دون أن ننكر هوية كلّ طائفة من طوائفنا أو الطعن بها. فهذا وحده هو السبيل الأفضل والأرقى لتحقيق المطالب مجتمعةً عندما نكون يدًا واحدة بمطالب موحدة غير منقسمة، فما ينالُه المسيحي من هذه الطائفة لابدّ أن يعمّ خيرُه على شقيقه من طائفة أخرى. وإذا نجح غبطته في إقناع غيره بهذه المبادئ، حينئذٍ يكون المسيحيون قد خطوا مرحلة جيدة نحو الأمام لتحقيق طموحاتهم ونيل حقوقهم  يدًا واحدةّ. أما المسائل "القومية" التي فرّقتنا ومزّقت صفوفنا، فلتبقى مؤجلة دون تعطيل حقوقنا في الظرف الراهن، ولنترك أمرها للاختصاصيين كي يبحثوا في رصانتها العلمية وتاريخها لاكتشاف الأصلح فيها ولها.
-   وعلى صعيد الوحدة المسيحية والتقارب مع الكنائس الشقيقة، يواجه غبطته إعمال الحكمة في التعامل مع مشاكل لوجستية وإدارية ولاهوتية والعمل على إيجاد حلول تكون مقبولة من قبل الجميع في إعادة الثقة بين سائر الأطراف التي سادها جوٌّ من أزمة مستفحلة ومن توتّر في العلاقات بسبب اتهامات متبادلة بين بعض الأطراف فيها. وهذا يتطلب الابتعاد عن كلّ تشنّج في العلاقة أو انغلاق أو تخندق سعيًا وراء رسالة واحدة وكنيسة واحدة.
-   إكمال الدور الذي اضطلع به غبطتُه وبدأ مشواره معه في بناء جسور الحوار مع باقي الأديان في فترة رئاسته إيبارشية كركوك، ما أكسبه سمعة وطنية ودولية توحي بقدرته على تضييق الهوّة بين أتباع الديانات والمذاهب المختلفة من خلال السعي المشترك لمزيد من التقارب والحوار في ذات الاتجاه.
-   في اعتقادي هناك تحدٍ من نوع آخر، يكمن في مدى بقائه على الحياد بين حكومة المركز وإقليم كردستان ذي التأثير على أركانٍ هامة في الكنيسة الكلدانية. وتبقى مسألة مواجهة التجاذب في المصالح والمشاكل العالقة لغاية الساعة بين الطرفين، من أكثر المسائل السياسية تعقيدًا أمام غبطته. أتمنى أن يكون له دورٌ إيجابي وغير متحيّز لطرف دون آخر، لأنّ مثل هذا الانحياز لا يخدم تطلعات شعبنا المسيحي، سواء كانوا كلدانًا أم سريانًا أو آشوريين أم لاتينًا أو أرمنًا أم من ملل أخرى. وما دعوتُه للسياسيين لحقن الدماء والكف عن الدمار والمطالبة بشروط افضل لحفظ الكرامة الإنسانية للإنسان العراقي، إلاّ مشاركةً واستعدادًا ورغبةً من غبطته بالاستعداد للتوفيق بين المتخاصمين السياسيين، أبناء الوطن الواحد، وهذا سيكون فخرًا لنا جميعًا، عراقيين ومسيحيين بخاصة، فيما لو تحقّق ولو جزءٌ من هذه المساعي.
تمنيات
   أخيرًا، تهاني القلبية لغبطة البطريرك الجديد متمنيًا له كل توفيق وسؤدد في كل خطوة يخطوها نحو بناء وترميم ما أصاب كنيسة العراق، كنيسة المسيح بعمومها. ولتكن السماء معه، ومنّا نحن أبناء العراق بكلّ مكوّناتنا، له صلواتنا وأدعيتنا بالتوفيق في رسالته الشاقة التي تجمعنا كلُّنا حول جهوده المثابرة في تحقيق ما فشل فيه آخرون وفي تثبيت حقوقنا جميعًا دون تمييز.
لويس إقليمس
بغداد، في 11 شباط 2013

371
عهدٌ سرمديٌّ فرنسيٌّ- ألمانيّ للصداقة والتعاون

   مهما طالت الحروب وامتدت الخلافات بين الفرقاء، لا بدّ أن يأتي اليوم الذي يصحو فيه العقلاء إلى الخطأ في السياسات والاستراتيجيات لساسة بلدانهم. فالحروبُ كرٌّ وفرٌّ ولا تأتي بغير الدمار، والعاقل من يقرّرُ وضع حدّ لها خدمة للشعوب والبلدان، مشاركةً منه في بناء عالمٍ متحضّرٍ قائمٍ على القانون واحترام خيارات الآخر والقبول بالاختلاف معه، طالما أنه قابعُ في بيته ولا تمتدُّ يدُه لغيرِه.
   هكذا حديثًا، كان الوضعُ بين العدوّين التاريخيين اللدودين، فرنسا وألمانيا، اللتين صحا عقلاؤهما على حقيقة مؤلمة وَصَمَتْ البلدين بصبغة حروب متتالية للحقبة بين 1870- 1954، والتي لم تأتي بغير الدمار والحقد والخراب. هذه الأيام، يحتفل البلدان الصديقان المتحالفان بالذكرى الخمسين لذلك العرس السرمدي الذي أنهى في 22 كانون ثاني 1963، حقبة تلك الحروب الأهلية بين شعوبهما، بفضل العقل الراجح لقادتهما، كلّ من الجنرال "ديغول" الفرنسي و"كونراد أديناور" الألماني، بتوقيعهما في باريس، على معاهدة الصداقة والتعاون السرمدية بين بلديهما اللتين أنهكتهما تلك الفترة المظلمة من تاريخهما وزرعت أحقادها بين شعوبهما وشلّت القارة الأوربية بأسرها. إنّ ما أثار المشاعر لدى مواطني البلدين الجارين هذه الأيام، أسفُهم على الدماء البريئة التي سالت دون مبرّر ثمنًا لطيش القادة والساسة في تلك الحقبة الزمنية، حتى حطّت الحرب العالمية بكلّ مآسيها أوزارها وانقشعت الغيوم المتلبدة وغارَ الطغاة إلى حتفهم ليلعنهم التاريخ ويضعهم في زاوية مزابله، وما أكثرها!
   قد يسألُ سائل: هل كانت مآسي أوربا وخروجها منهكةً من أشرس حربٍ عالميةٍ عرفها التاريخ، هي السبب الحقيقي وراء التبدّل التاريخي في قاعدة الزمن والسياسة؟ وهل كان للعقل البشري دورٌ في ذلك التغيير الجذري بالصحوة الجديدة؟ أم إن إرادة العناية الربانية كانت الأقوى في فتح عيون البشر والعقلاء منهم للبحث في وسائل اتصالٍ أجدى مِن عمل الاقتتال والعنف الذي ضرب أطنابه طيلة تلك الفترة المظلمة من تاريخ هذه القارة؟ فقد تتالت الصحوات فيها بعد ذلك العرس السرمدي، حيث تلاه سقوط جدار برلين في 1989 وتوحيد ألمانيا في 1990، متبوعًا برخاءٍ عمّ البلدين والقارة الأوربية بأكملها لغاية الساعة، وهي تشهد تغييرات في اتجاه التوحيد على تنوّع مجالاته.
ديغول، رمز الحرية والبناء!   
   عندما سقط الرايخ الثالث بزعامة هتلر، لم تعد ألمانيا قادرة على فرض قوتها التي تجبّر بها ذلك المجنون قاسي الرقبة. فقد رضخت حينذاك للإرادة الدولية بتجريدها من كلّ تسليح وقوة عسكرية، أي أنها قد أُفقدت شجاعتها وجبروتها الذي كانت عليه أيام الهتلرية الطاغية. وقد وجدت نفسها ذات يوم، تستيقظ على أشبه ما يكون حلمًا سرياليًّا في حياة مواطنيها. إنه حلم العصر! عندما انبرى قادة البلدين المتهالكين لفتح صفحة جديدة من تاريخ العلاقات بين ألمانيا الخاسرة وفرنسا المنهكة. وجاءت كلمات "ديغول" بمثابة قرار الحسم في علاقات بلاده مع الجارة العدوّة ألمانيا عندما قال كلماته الشهيرة أمام وزرائه قبل تركه للسلطة:" ايها السادة، لا تنسوا ابدًا، أنْ لا بديلَ لفرنسا سوى بعقدها عهد صداقة مع ألمانيا". ومذ ذاك أصبح مصطلح الثنائي (كبل-Couple )، هو الرائج الاستخدام في وصف العلاقة بين الدولتين  الكبريين اللتين تُعدّان اليوم، الذراع الاقتصادي للاتحاد الأوربي عالميًا. وبالرغم من احتمال بروز اختلاف في الرأي أحيانًا، إلا أنّ المركبة الأوربية تُجرُّ اليوم بحصانين قويّين، متعاضدين ومتماسكين في رباطٍ أشبهَ بالزواج الذي لا طلاق فيه. كما أنّ البدائل الديمقراطية بين البلدين تجد طريقها إلى تفاهمات اساسية في السياسة رغمًا عن الاختلاف في الجهات أو التيارات أو المحاور الحاكمة في أيّ من البلدين، سعيًا وراء خلق تفاهمات متزنة على صعيد الأزمات أو الحلول التي من شأنها تعزيز الدور الأوربي دوليًا.
ثباتٌ وعزمٌ رغم التحديات   
   اليوم، وفي ضوء التغييرات السياسية التي أتت بالرئيس الاشتراكي لفرنسا، يتواصل الحوار دون انقطاع، ولكنْ، من دون ارتجال في المواقف المصيرية، وذلك بالرغم من الطريق المحفوف بالصعوبات التي تفرضها السياسة الدولية المعقدة. فالمستشارة ميركل، "تعلكُ" المواقف مرارًا وتحسبُها بعقل راجح دون أن تتحدّى، وذلك قبل أن تفصح عن قرارِ مصيري تتخذه في المواقف الحساسة، ولاسيّما الاقتصادية منها، التي تشكل اليوم حلقة مهمة في أزمة أوربية خانقة تقضّ مضاجعها بسبب الكساد الضارب أطنابه عددّا من الدول الحليفة، ولاسيّما المعروفة منها مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال وأخرى غيرها. وبالرغم من أنّ الأزمة الاقتصادية كادت تكون عالمية، إلاّ أنّ استمرارها بهذه الحالة قد تضطرّ أوربا لأن تتخذ قرارات حاسمة في وقت من الأوقات، بسبب إمكانية زعزعة كيانها الاتحادي، الذي يشكلّ ركنًا أساسيًا في الاقتصاد العالمي ومحورًا مهمّا في السياسة الدولية. لذا، جاء نداء الزعيمين في كلا البلدين في آخر زيارة للرئيس الفرنسي هولاند إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في ايلول 2012، لتأكيد السير على خطى صانعي السلام في أوربا وبناتها المؤسسين، في السعي الحثيث لبناء بلدان هذه القارة وتعزيز تضامنها المشترك. فقد أدرك الجميع أن توأمة الروح الذي ابتدأ في 1963، وكذا نصيب أوربا من الأحلام الوردية، لا يمكن الركون إليهما إلاّ من خلال وحدة هاتين الدولتين  التوأمين، فرنسا وألمانيا، سعيًا نحو أوربا أكثر قوة وصلابة وفعلاً، ما يعني مزيدًا من المنعة لدورها على أصعدة كثيرة. وبذلك تكون اللبنات الأولى التي وضعها مؤسسوها، قد أتت بثمارها الكثيرة رغم الصعاب والمشاكل  المتفاقمة. إلاّ أن هذه القارة، ستبقى عصيّة قائمة مادام الفكر المنفتحُ عاملٌ في عقول مواطنيها دون أن يتركوا ميراثهم في الديمقراطية والإنسانية واحترام حقوق الآخر والقبول بالمختلف عندهم، سائبًا للدخلاء عنهم من أصحاب العقول المريضة الذين يحاولون غزوهم منذ أمد. كما يتحتّمُ على قادة دول أوربا، أن يعوا حجم الخراب والدمار والتفكّك الذي سيعانونه فيما لو جرى اختراق بلدانهم من جانب دخلاء على بيئتهم الاجتماعية الليبرالية وطبيعة نظمهم السياسية المدنية. كما عليهم عدم التساهل مع أمثال هؤلاء الدخلاء، بحجة تطبيق معاهدات حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية. فهذه المبادئ والحقوق لا تنسجم مع مْن يحمل الفكر التكفيري والحقد الديني وكذا مع مَن يرفض الطبيعة المسالمة المتسامحة مع كافة الأديان والقوميات والإثنيات والمعتقدات والتيارات، أيّا كانت. فقدْ بانَ في الأفق، ما يؤكّد هذه المخاوف في أوساط العديد من المجتمعات الأوربية التي فطنتْ متأخرة لهذه الحالة التي تكاد استفحلت، وما في اليد حيلة بعد أن جرت المياه من أسفلهم في غفلة من الزمن. فهل يتمكن عقلاءُ جددُ بوضع متراسٍ لصدّ مثل هذه الغزوات المستميتة التي لا تخلو من وصمة عدائية هدّامة تسعى لتقويض مثل تلك المجتمعات الآمنة؟

لويس إقليمس
بغداد، في 22 كانون ثاني 2013

372
المطران ميخائيل جميل، سيرة وذكريات





   معلمٌ بارزٌ من أعلام السريان يرحل وهو في عزّ نشاطه، وشخصية بحجم المطران ميخائيل جميل تودّعُ قرقوشَ – بخديدا مصنعَ الرجال وقوتَ الثقافة السريانية وترياقَها، وأسقفٌ طافتْ سمعتُه أرضَ الله الواسعة متجاوزةً حدود الوطن إلى الديار العليا والمحافل الدولية والدواوين الفاتيكانية يرقد صامتًا، بائسًا، صاغرًا لقساوة المنون الذي لا يرحم أحدًا. هذه هي الحياة الدنيا... ولادةٌ ونموٌّ وتعليمٌ وتدرّجٌ ورقصة وهولٌ وسفرٌ وإنتاجٌ فنهايةٌ محتومة! ما أقساها من حياة وما أرهبكَ يا موت! ولو لم يكن في جعبة الإنسان شيءٌ من الإيمان بالقيامة، فهل كانت تستحق كلّ هذا العناء؟؟؟
   هكذا إذن، عادَ إبنُ بغديدا البار إلى أحضان بلدته، ليس فارسًا راكبًا على فرسٍ أصيلٍ كما اعتاد في زياراته السابقة منذ مغادرتها، ولكن هذه المرة محمولاً، مخذولاً لا حراكَ فيه ليرقد بين حناياها، بعدَ أن أسكته الموت القاسي قبلَ أوانه.
   لقد كبا الفارس المقدام عن صهوة جواده وهو لمّا يزل كتلة ساخنة من الحركة الفاعلة والنشاط الدؤوب والإنتاج الفكري الغزير، وهو في حياته، لم يكنْ يعرف الملل حتى ساعاته الأخيرة، ولا عرَف التوقف عن العَدْوِ والتسابق مع الزمن منذ سيامته الكهنوتية في حزيران 1964 وتسنّمه المسؤوليات الشاقة والعديدة أينما كان وحيثما كان، في المكان والزمان واختلاف الظروف والميادين والأصقاع.
   كان فارسًا من نوع خاص يعرف كيف يدوس الأرض بحدوته، ونجارًا ماهرًا يختارُ أين يدقّ مسمارًا في جدارٍ مشجّع، وأكّارًا شغولاً يبذر ثمارًا في أرضٍ صالحة، ويسقي زرعًا في مواقع كثيرة أينعت عن حاصل طيبٍ.
   ذو جدارة بارعة ونيةٍ عامرة بالمحبة وانفتاح للفضاءات الكثيرة التي نجح في تسلّقها بحكمة وعنادٍ وطموح بارز. واسع الاطلاع، عنيدٌ في كبريائه ومغمورٌ في اعتداده، رغم همومه وانشغاله بأهوال بلدته ووطنه وطائفته وبلبنان وأبناء المهجر الذين تولّى مسؤولية رعايتهم وزيارتهم في كلّ فرصة سانحة، كالحمام الذي يحنّ لعشّه وفراخه.
   أديبٌ مصقعٌ مقنعٌ في كلامه، سلسبيلٌ في سرده مداعبٌ في روايته، بشوشٌ لا تنقطع ابتسامته وعبوسٌ حين يشغله همٌ أقفل عليه الحلّ . فوضويٌ بعفوية في قهقهاته التي تنساب لتصل جنبات الفضاء الذي يسكنه بأكمله. ذو قلم سيالٍ لا يعرف التوقف تأليفًا وترجمة. خفيف الظل، سريع في بديهته، مطربٌ في عشرته، كريمٌ في عمله ورفقته، سليمٌ في علاقاته، متفتح الذهن والروية، متحرّر في قراراته وحركاته، أنيسٌ في أي مجلس يحلُّ فيه، ولا يخفي نوعًا من الجدّية حينما يقتضي الظرف ليقول لك: كفى، فقد طفح الكيل! شغوفٌ بالعراق، البلد الذي أولاه شيئأ كثيرًا من اهتمامه. كيف لا، وقد توشح منصب أسقفية تكريت شرفًا في 1986، لتأكيد هويته وعراقيته استذكارًا لدور تكريت، عقرِ دار السريان في غابر الزمان! ومن شدّة حسرته لما يجري فيه وله، كان يعبّر عن اسفه لما آلَ إليه حالُه ويتخوّف من تجزئته وإفراغه من سكانه الأصليين في ظلّ العولمة والمخطط  الجهنّمي المرسوم للشرق الأوسط الجديد.
   كان المطران جميل فوق ذلك كلّه، لطيفًا في معشره، محبًا للناس، كل الناس، حريصًا على تحلية المكان الذي يحل فيه وتجميله بدعاباته البسيطة المعقدة في آنٍ معًا، وهي خليطٌ من مداخلات وتغريداتٍ لا تنقصها النكتة والقهقهة العريضة أحيانًا لتبديد الهموم وتبسيط سبل العيش، رغم جِدّه في العمل وأصوله. يعرفه المقربون في جلساته، سارحًا بذكريات الأمس التليد وحكايات الجدّات والقدامى أيام زمان وبذكريات الصبا وقساوة أيامها وحلو طعم الأكلات التقليدية لبلدته من البرغل والحبية والكبة وأشباهها. هذه كلُّها وغيرها في غربته الرومانية، لم ينسى طعمها والشوق لها متى حلّ لديه ضيوفٌ من أهلها وقساوستها وتلاميذها الدارسين في الأروقة الفاتيكانية الذين خصّهم برعاية مميّزة.
   ذو صوت رخيم تطربُ له الآذان وتشنفُ الأسماع، حين ينبري في التنغيم والولوج إلى عالم الموسيقى، لاسيّما منها ما يثير المشاعر ويأخذ الألباب كالمقام والجالغي وشيء من روائع الغناء العربي كفيروز وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب. ما أطربه حين كان يغني أغنيته المحبّبة " يا جارة الوادي" مفتونًا شغوفًا بلواعجها وترنيماتها وسلّمها وكأنها تطلع من عمق جوارحه المكبوتة وهو مأخوذٌ بها لغاية العشق من شدّة تفاعله مع النغم.
   صوته وهو في قلاّيته أو في أروقة مقره في روما، كان يجلجل وهو يضفي على مَن برفقته أو بالقرب منه، أجواءً من المحبة واللطف والكياسة إلى جانب سحنة من الحنين والحزن والعودة لسالف الأيام. وفي موقعه الكنسي الرفيع وبرغم هيبة البناية التي يسكنها، كانت قلايتُه أشبه بغرفة ناسك متعبّدٍ لعمله ومخطوطاته التي لم تُنجزْ بعدُ، وما أكثرها، وهو في بلاد الغربة، وما أدراكَ ما الغربة!
    كان جميلًا بسمرته، يحب الجمال والوجهَ الحسن بتقاطيعه ولاسيّما شكلَ الأنف... وكم كان يتغنى ويفخر بأنفه الشبيه بالكشتبان، وهو يعدّه من محاسن الجمال لدى البشر. أتذكر بعضًا من مثل هذا الوصف له ونحن في صالة الدرس في معهد ما يوحنا الحبيب في مرحة سمنير الصغار في نهاية الستينات. وحينَ أعودُ لتلك الأيام الخوالي، أتذكر عنها الكثير الذي لا يمكن نسيانُه. ومنها ما تعلّمتُه على أيدي معلّميّ وأساتذتي في معهد مار يوحنا الحبيب منذ 1967 لغاية 1973. وقد كان القس ميخائيل جميل آنذاك واحدً من هؤلاء الذين لا يمكن طمسُ تأثيرهم في مسيرة من عاصروهم. إنّي أكنُّ له العرفان بتعلّمي على يديه الكثيرَ من مبادئ اللغة العربية، قواعدِها وأدبِها، ومن الألحان الكنسية الطقسية  التي فيها كان مرجعًا وكنزًا نادرًا للعديدين، مع زميله وأستاذنا جميعًا المرحوم القس جبرائل جرخي، صاحب الحنجرة الذهبية وفطحل اللغة العربية للعديد من الأجيال الذين احتضنهم معهد مار يوحنا الحبيب بالموصل. وهنا أعيد للتذكير، أن القس ميخائيل، كان قد سجّل ألحان "بيث كازو" الطقسية على كاسيتات خلال فترة عمله في "السمنير" وخدمته في إبرشية الموصل، ولا نعلم مصيرها وبيدِ مَن صارتْ، فهي كنزٌ ما زلتُ أبحث عنه منذ زمنٍ!
   أتذكر أيضًا، ونحن تلاميذ في معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي، كيف كان يحكي لنا ما يجري في زياراته للسجون في الموصل، وحكايات السجناء والمفارقات التي فيها أحيانًا، رغم صعوبة المهمة الموكلة إليه. فقد كان تولّى تلك المسؤولية الشاقة إلى جانب مهماته التدريسية في المعهد المذكور وخدمته في رعية مار توما وبعدها في كنيسة القلعة، لغاية مغادرته أرض الوطن إلى فرنسا للدراسة في 1974.
    وكم زادني بهجة حين تكرّم وأرسل لي نسخة من "البيث كازو" بعد استعارة أحد الأصدقاء نسختي الأصلية والادّعاء بفقدانها. فقد كنتُ طلبتُها من القس ميخائيل حين توليه مهمة سكرتارية البطريركية في 1977. كما كانت بيننا خلال تلك الفترة، عدة مراسلات بعضُها بالسريانية - ما زلتُ أحتفظ بها-، في متابعةٍ لموقفي وقراري بعد إغلاق معهد مار يوحنا الحبيب في عام 1973 وتشتت التلاميذ، إلاّ سواي، حيث كنتُ قد حصلتُ في تلك السنة على إذن مسبق من إدارة المعهد ومن المثلث الرحمة مطراني "مار عمانويل بني" لنيل شهادة الثالث المتوسط في امتحان خارجي بالموصل ونجحتُ آنذاك بتفوق إلى جانب تفوقي في دروسي بالمعهد. وقد زارني القس ميخائيل جميل خصيصًا آنذاك، ذات عصر أحدِ الأيام في هذا الخصوص في البيت العائلي في قرقوش في صيف 1973، باعتباره مديرًا لقسم الكبار في المعهد المذكور منذ عام 1971. وعندما استنفذ أي أملٍ بقبولي عرضَه بالتحاقي بالدراسة الكهنوتية خارج العراق، شكرتُ له اهتمامه أمام عائلتي واعتذرتُ منه في حينها، حيث كانت لي طموحاتي بتكملة دراستي الجامعية والعليا قبل أن أقرر مستقبل حياتي. ولكن حصل ما حصل بعدها حين تعقدت الأحداث وتفاعلت الأمور!
   كنتُ قد تنبأتُ له مستقبلاً مغمورًا بالمسؤوليات في كنيستنا السريانية الكاثوليكية، وهذا ما حصل حين اختياره أسقفًا وسيامته في 1986. وتوالت مسؤولياتُه، حتى كاد أن يكون قاب قوسين أو أدنى من تولّي رئاسة الطائفة حين شغور الكرسي البطريركي في 2009. وفي هذا الصدد، لا أنسى ما كرّره لي في مرات عديدة خلال زيارتين لي إلى روما في نهاية 2010 وبداية 2011، أنه كان الأجدر بتسلّم المنصب البطريركي لطائفته. وقد ردّدها لي مرارًا وآخرُها في مطعم إيطاليّ حين دعوتُه لعشاء برفقة أحد القساوسة الدارسين في روما  بقوله: "ديدي ياوا" أي كانت لي.
   تلكم كانت آخر ذكرياتي الطيبة مع سيادته، حين قصدتُه قبل عامين من اليوم تمامًا ولمرتين متتاليتين في فترة علاجي في أحد مستشفيات روما بعد إصابتي في حادثة سيدة النجاة، وبمساعدة القاصد الرسولي في بغداد ، حيث استضافني في مقرّه الروماني. وقد لاحتْ لنا في تلك الأيام عدة فرص للقاء والحديث والخروج معًا والمشي في أزقة الحي الإيطالي الذي يسكنه في بيازا كامبو ماريزيو الشعبي ذي الأزقة الضيقة، مرورا بالمطاعم الكثيرة فيه، حيث كان يتحاشى احيانًا أصحابَها، لكثرتهم، وهم يصرّون على دخوله مطاعمَهم الفاخرة. فقد صار علامةً بائنة لأصحاب المطاعم في حيّه. كان يعرفه الجميع، بل صار جزءًا من مشهد حياتهم، إذا انقطع عن زيارتهم أو طال غيابُه، ساورهم قلقٌ وريب. وفي المطعم، كان لا يتردّد في البوح لي بالكثير من المشاريع والهموم التي ترواده، ليس بخصوص بلدته وطائفته فحسب، بل بما يخص كل تراب الوطن الذي خصه بشيء من محبته وإخلاصه وتفانيه وكذا للبنان الذي نقش فيه الكثير من سبل العطاء والمعرفة. لقد كان له بحرٌ واسعٌ من المعارف والأصدقاء والأحباء، ازدادت حين توليه مهامه معتمدًا بطريركيًا لبطريركية السريان الكاثوليك لدى الفاتيكان في 1997 وزائرًا رسوليًا في أوربا في 2002.
   لا أنسى وقفته وأنا في روما، مع مَن استضافهم لفترة طويلة من شباب بلدته من الطلبة المصابين في حادثة سيارات جامعة الموصل الذين عزّز فيهم روح البنوّة فتعلّقوا بشخصه وكان يشعرُ بعيشه وسط أهله وعائلته وبني جلدته. فقد كان لهم الأب والأخ والصديق والكاهن، يؤازرهم ويشجعهم ويحنو عليهم ويسهل عليهم إجراءاتهم.
   رافقتُه وأنا في روما، للمشاركة في أربعينية شهداء كنيسة سيدة النجاة في دار السفارة العراقية في العاصمة الإيطالية، وشعرتُ به مهمومًا ومصعوقًا بتلك الحادثة الإرهابية، لاسيّما مع تزامنِ وجودِ مجموعةٍ من جرحى الحادث وهم يعالَجون في أحد المستشفيات الفاتيكانية.
   شخصية فذة بهذا القدر من العلم والكفاءة والغيرة والجدّية والإنتاج والنشاط والنظام في الحياة، إلى جانب محبته وشدّة تعلّقه بمسقط رأسه ووطنه وطائفته وروحه المسكونية وسعة علاقاته الطيبة مع شرائح عديدة ومتنوعة من البشر، تستحق الاحترام- وأيَّ احترام-، على المستوى المحلي والوطن والعالم، كما على المستوى الكنسي والمسكوني. في سنواته الأخيرة، كان شعلة متقدة من الحرارة والحركة والنشاط والسفر الدائب والدائم في ذهابه وإيابه.
   لقد استحق أن يودعه هذا السيل الجارف من البشر المتحرّق الأنفس أسفًا لفقدانه، غبَّ تغييبه باكرًا وهو بعد في أوج عنفوانه ونشاطه.
   نم قرير العين، يا ابنَ بغديدا البار، يا فارسًا جالَ وصالَ وفعلَ. وإن كنتَ لم تستطع توديع كنيستك وبلدتك ووطنك ومحبيك وأهلك واصدقاءك كما كنتَ تحلم، ها هم اليوم يودّعونك بما تستحقه من إكرامٍ للذكرى. وفي عُلاكَ السماوي، سوف تعلم أنْ ليست قرقوش وحدها تودّعك، بل انضم إليها كلُّ محبيك من كلّ أصقاع الأرض ومن بشرٍ متعدد الجنسيات والأتراب والأجناس. فقد أديتَ الرسالة وصنتَ الوديعة وحفظتَ الأمانة بالصلاح والتدبير والحكمة، كما تكلّم بها شعارُكَ.
   تعازيّ القلبية لرئاسة طائفتنا السريانية الكاثوليكية الموقرة وللسينودس الأسقفي السرياني ولذوي الفقيد الكبير ولأصدقائه ومحبيه وأهل بلدته وطائفته وكنيسة العراق جميعًا. وعزاؤُنا نيلُه إكليلَ الغار السماوي المحفوظ للأبرار والصدّيقين والفعلة الصالحين: "نعمّا يا عبداً صالحًا، أدخلْ إلى فرح سيدك"، فالوزنات التي أودِعَها المثلث الرحمة، قد ربحت غيرها، ومقدارُها عند ربّ السماوات وحده!

المحبّ
لويس إقليمس
من تلامذة وأصدقاء الفقيد










373
مراهقون في السياسة يقودون أمّة العراق!

    قبيل أن يفكر الغازي الأمريكي باحتلال العراق، كان قد وضع في حسبانه الآلية المثلى لكيفية تغيير النظام الدكتاتوري البائد. بطبيعة الحال، لا أحد ينكر ما اقترفه ذلك النظام من موبقات ومآثم ومكايد بحق شعبه وأهله المغلوبين على أمرهم، نتيجة لأساليب البطش والفتك والتصفيات التي استخدمها هو وأزلامه من خلال التمسك بالسلطة وهدر الطاقات والاستخفاف بأبناء البلد وعلمائه ومفكريه وروّاده ودعاته من الوطنيين والمحبين لبلدهم وشعبهم ومذاهبهم وطوائفهم، إلاّ المارقين والخارجين عن هذه المبادئ، وهؤلاء كانوا قلّة. فكانت "الديمقراطية"، هي البضاعة الجديدة التي عرضَتها الإدارة الأمريكية  على المعارضة العراقية آنذاك، رغم الاختلاف في توجّهات ممثلي هذه الأخيرة، وأهدافهم وتطلعاتهم مذ ذاك ولغاية الساعة، وكذا في الطريقة التي تمكّنهم من استلام الحكم لاحقًا، من جهة عنيدة حين إسقاطها، حيث لم يتسنى لكلّ من حاولَ زحزحتها أن ينال من النظام السابق الذي كان قد عسكر المجتمع وجيّره لصالح فئة تمادت واستخفت وتجبّرت، ناسيةً أو متناسيةً أن حبلَ الاستكبار قصير وأنّ لصبرِ السماء حدودًا.
    إنّه، ومن أجل تحقيق ذلك الهدف، كان لابدّ لهذا الغازي المتجبّر من التعامل مع ما كان قائمًا على أرض الواقع واستغلاله لصالحه بالتنسيق والتعاون مع مَن وجدهم أهلاً وأكثر استعدادًا لتسهيل تلك المهمة العسيرة. وهكذا كانت التبريرات التي ساقها في الجانب الإنساني أولاً في مسألة ضرورة إنهاء حقبةٍ سوداء تُعدُّ من أكثر دكتاتوريات المنطقة عنادًا وقساوةً، كإجراءٍ لابدّ منه مع الشروع آنذاك بواجهة التحشيد الإعلامي الضروري لتمرير ذلك العذر الدولي، بحيث يكون ذلك النظام حين إزاحته، مثالاً لغيره من الدكتاتوريات المعشعشة في دهاليز السياسة التقليدية بالمنطقة العربية برمّتها. وكان له ما أراد وما خطّط له مع ماكري السياسة الدولية والمتولّين على اقتصاديات العالم وآلته الحربية والإعلامية معًا. فقد تلاحقت بعد سنوات من تلك التجربة، سلسلة التغييرات في أنظمة حكمٍ مثيلة أخرى في ثورات ما يُسمّى ب"الربيع العربي"، التي اتّسمت باستقدام أنظمة متشدّدة في عدد من دول المنطقة، رأى فيها راعي التغيير الأمريكي أفضلَ استعداد لديها لتنفيذ مخططه في تجزئة المجزّأ في الصف العربي وتقسيم المقسَّم فيه وإشعال نار الفتنة الطائفية في كلّ صوب وحدب من أطرافه، كي يبقى المشروعُ العامُ بعيدُ المدى، قائمًا إلى ما شاءت قدرةُ قادر. وإلى جانب مبرّر رزح الشعب العراقي تحت نير الدكتاتورية الصدامية المتناقضة مع الديمقراطية المبتغاة والمنشودة بقوّة آنذاك- كما حلا للبعض وصفها للغازي الأمريكي وأعوانه في حينها- بحثَ هذا الأخير عن مبررات أخرى أكثر تأثيرًا وأشدّ وطأة لجذب الرأي العام الدولي من خلال تحشيد دهاقنة السياسة واللوبيات المنتفعة والمنظمات الدولية والإنسانية من أجل إيجاد ذرائع مبرّرة أخرى للتدخل المباشر عبر آلته العسكرية التي حشّد لها في حينها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً من عسكر ومن ماكنة حربية بجديد تقنياتها الطيارة والصاروخية التي استخدمها لأول مرة في ما يُسمّى بمعركة تحرير العراق. فكانت، كذبةُ الأسلحة الكيمياوية والبايولوجية المحظورة دوليًا، مبرّرًا إضافيًا ومحفِّزًا آخرَ  لتحقيق وتنفيذ التدخل العسكري وفرضه بالوسائل التي ارتأتها مناسبةً في حينها. وقد أتقنَ أعوانُ الأمريكان وعملاؤهم، إجادة لعبة الإقناع تلك، والتي حيكت خيوطُها التفصيلية مشاركةً في دهاليز البنتاغون والبيت الأبيض والدوائر الدولية المتعاونة معها والرامية لرسم سياسة ما بعد التغيير الدراماتيكي. وكلّ ذلك جرى في صفقة متكاملة ولكن غير متكافئة مع المعارضة العراقية آنذاك التي كانت تسعى في حينها لقلب نظام الحكم بأية طريقة كانت، ليس إلاّ، حتى لو تطلّب ذلك بيعَ الوطن ورهنَ ثرواته وأسرَ سياسته وتقويض أركانه والتضحية بحضارته ومبادئه وتاريخه. فكان لها ولهم ما أرادوا حين سقط الصنم ودُحرجَ، وكان سقوطُه بدايةَ الانحدار الوطني وغيابَ الغيرة عليه ومناسبة لنشأة دكتاتوريات من نوع جديد، ومن أهمّها وأكثرها شططًا وضررًا، نمط الدكتاتوريةُ الطائفية التي نهشت جسم العراق الذي تكالبت عليه خناجرُ القادمين مِن خلف الأسوار ومِن المغرضين والطامعين والانتهازيين المطبوعين بأجندات متنوعة داخلية وخارجية. وهكذا غرقَ الوطنُ وأهلُه في ظلامية ذلك التخندق المذهبي والفئوي والقومي الذي رافقته موبقاتٌ قديمة واستنُبطتْ له أخرى جديدة تمثلت بالفساد المستشري في كل مفاصل الدولة وفي المحاصصة التوافقية التي شلّت العملية السياسية في رسم السياسات وسنّ القوانين وفي التزوير وتسييس القضاء وتجيير مؤسسات الدولة المتهالكة أصلاً وتسخيرِ ما هو قائمٌ من الإمكانيات المالية والإدارية والاقتصادية فيها لصالح فئة وطائفة، عدّها الكثيرون استفزازًا طائفيًّا ليس له من مبرّر. فمؤسسات الدولة، أينما كانت وكيفما كانت هي ملكٌ للشعب العراقي قاطبة وليست لفئة أو دين أو مكّون دون غيره، حتى لو عُدَّ فيه هذا الأخير أغلبية وأكثرية. وما نشهده مذ ذاك، من تسخير لإمكانيات الدولة العراقية في مواسم الشعائر الدينية حصرًا، لمكوّن واحدٍ بذاته مثلاً، وما يرافقه ذلك من هدرٍ لأموالٍ وطنية وخسارة للوقت وتعطيل لأعمال الغير ولمؤسسات الدولة لأيام وقطعٍ للطرق والشوارع، هو التمييزُ عينُه بل هو الاستفزاز عينُه لمشاعر الغير. وإنّه من الأجدر بالقائمين على تسخير كلّ هذه الطاقات، تشجيعُ أتباعهم في البحث عن بدائل وخيارات معاصرة ومتحضّرة تأتي بالنفع العام على البلد والشعب، كأن ينبري الشعراء والمثقفون والفنانون ورجال الدين، كلّ ضمن مجاله، في النصح والتعبير عن قدسية المناسبة بطريقة متمدنة وفي المناداة بحب الوطن ونظافته وصيانة ممتلكاته ومقاسمة الفقير والمحتاج حاجاتِه وعيادة المرضى والتبرّع بالدم للمستشفيات وقيام حملات شعبية تقليدية لتنظيف المناطق والمدن وتخضير الأراضي الجرداء وما إلى ذلك من أعمال الخير والصلاح التي تنمّي النخوة العراقية وتتسم بالشعور بمسؤولية المواطنة والتقيّد بأسس الدين والمراجع الحكيمة بدلاً من المظاهر التي خرجت عن روحية المناسبة المحتفى بها.
   وهكذا ضاع العراق بمثل هذه الأعمال والممارسات وغيرها، وضاعت معه بضاعةُ "الديمقراطية" المزيّفة التي استوردها بل بالأحرى التي قرّر الغازي الأمريكي تصديرَها إليه، رغمًا عنه! والسبب، باعتراف العديد من الساسة الجدد يعود لمراهقتهم السياسية والنقص القائم في خبراتهم الإدارية، والأنكى من ذلك كله، بسبب غياب الشعور الوطني الحقيقي لديهم وتجيير الحكم والدستور وسنّ القوانين، كلٌّ لصالح مكوّنه وطائفته ومذهبه والموالين له. ولمّا كانَ العقدُ شريعةَ المتعاقدين، فإنّ كل المحاولات الجادة لإيجاد تغيير في الوضع القائم، لم ولن تنفع لأنها تصطدم بمصالح الراعي الأمريكي للاحتلال أولاً ومصالح الساعين للسلطة والجاه والمال ثانيًا. فالبعضُ يريدها دينًا ودنيا، وغيرُه يريدُ البلدَ تابعًا مطيعًا لهذا أو ذاك من دول الجوار أو لأجندة دولية مفروضة. والحقيقة الصارخة والماثلة للجميع، أن راعي التغيير في العراق لا ولن يطيب له عودةُ وحدةِ الصف الوطني وتوحيدُ خطاب الأمة العراقية العريقة بحضارتها وتاريخها والغنية بثرواتها منذ الأزل والمستغلَّة دومًا لغير أهلها وناسها، وكأنّها حرامٌ عليهم. فقدْ تمّ صياغة الدستور الجديد لعام 2005، ليكون مليئًا بالقنابل الموقوتة التي رأيناها تنفجر في أوقات معينة ولاسيّما حين تتناقض مسمياتُها وتتضاربُ مع مصالح الساسة المتنفذين، الذين لم يتعدّوا بعد مرحلة المراهقة السياسية الموصوفة لهم صدقًا. وما التشبث القائم بالحكم، رغم دعوات التغيير المتزايدة مؤخرًا وما يجري من اعتصامات وتظاهرات واستياءات بسبب استمرار عدم استتباب الأوضاع الأمنية وسوء الخدمات وتكرار الأزمات السياسية بين الشركاء الفرقاء، سوى تأكيدٍ على التصميم لإتمام الصفقة كاملةً غير منقوصة بين الراعي الأمريكي والحكومة التوافقية القائمة على اساسٍ طائفيٍّ أصلاً، برعاية وتشجيع وتأييدٍ وموافقةٍ أمريكية صارخة. وهذا ما سعت وتسعى إليه الإدارة الأمريكية، ونحن نراها تتفرّج على ما يجري دون أن تقول كلمتها لصالح الشعب المغلوب على أمره الذي ابتُليَ بساسته القادمين معظمُهم على ظهر دباباتها ومازالوا تحت حمايتها من أجل استكمال تنفيذ مصالحها وبرنامجها التقسيمي للعراق إلى أوصال طائفية. وهذه المواقف الأمريكية المخزية والمرفوضة من الشرفاء والمثقفين والعقلاء من العراقيين وغيرُها من الطبخات التي تجري في دهاليزها الاستخباراتية، ليست سوى خطوة مضافة لخلق مشروع شرق- أوسطي جديد يخدم تلك المصالح ويُبقي جذوة الفتنة قائمة بين فئات الشعب العراقي الذي لم يرعوِ بعدُ ولم يتعظْ رغم ما تعرّض ويتعرّض له من مآسٍ وانتكاسات وهدر أموال من القائمين اليوم على حكمه في مشاريع وهمية ومجدبة في الكثير من الأحيان، أفقدته ثقته بهم جميعًا. فالبنى التحتية تراجعت من سيّء إلى الأسوأ، والخدمات البلدية لم ترتقي إلى أدنى مستوى مطلوب رغم الميزانيات المفتوحة للدوائر البلدية والوزارات الخدمية المعنية. كما لم تنجح الحكومة الحالية بولايتيها الإثنتين، مِن تحسين الطاقة الكهربائية وتوفير المنتجات النفطية بأنواعها لعموم مناطق العراق، ناهيك عن نكثها الالتزام بالوسائل والتعهدات التي تضمن حقوق الأفراد والمناطق والمجتمعات الدينية والإثنية المختلفة عن تلك العائدة للأغلبية الحاكمة، إلى جانب ضعف الإدارة في عموم مؤسسات الدولة وافتقادها لوسائل وإمكانيات حديثة وافتقارها لكوادر مهنية مدرّبة، إمّا بسبب مغادرة الصفوة منهم لتلك الدوائر أو بسبب اجتثاثهم أو استبعادهم لأسباب طائفية وفئوية ودينية وإثنية وفقًا للدستور الأعرج أو التزامًا بنظام المحاصصة التوافقية المعمول به. والخاسر الأكبر هو الدولة العراقية وشعبها الذي ظلّ راكعًا خانعًا ضعيفَ الإرادة وغيرَ مدركٍ لمصيره ومستقبلِ أجياله. فكلّما تسنى له أن يقول كلمتَه في صناديق الاقتراع، تدخلُ المرجعيات الدينية والمصالح المذهبية والإثنية والأجندات الخارحية على الخط فتضيّع عليه تلك الفرصة، ويعيد ذات الخطأ وذات الهفوة وذات الغباء في كلّ دورة انتخابية. والأدهى من ذلك، أن الذي ينتقد مبدأ المحاصصة الطائفية ويرفضها ويطالبُ باستئصالها، هو من يتمسّك بها قبل غيره بأسنانه حين يجري الحديث عن تقاسم السلطة والمشاركة في العملية السياسية.
   في الختام أقول، متى يتعلّم العراقيون فنّ الديمقراطية في الحكم وقيام دورٍ إيجابيٍّ لمعارضة حقيقية وفق مبدأ تداول السلطة السلمي؟ ومتى يتعلّم الساسة  والمسؤولون في الدولة التنحي عن الحكم والمناصب حين الفشل في إدارة مؤسسات بلدهم ومناطقهم والعجز عن تقديم الخدمات الآدمية الضرورية المطلوبة، بحسّ وطني وتسامٍ إنسانيّ نظيف والتخلّي عن فرض "آفة الدولارٍ" في جيوبهم في كلّ خطوة مطلوبة لبناء أسس دولة العراق المتهالكة؟ أما زال البعضُ يريدها قندهارًا ثانية؟ أم صومالاً بسواد الأعمال والفساد والعنف المتواصل؟

لويس إقليمس
بغداد، في 9 كانون ثاني 2013

374
لمناسبة إعادة إعمار و افتتاح كنيسة سيدة النجاة في 14 كانون أول 2012:
سلامٌ لكم يا شهداء كنيسة سيدة النجاة الأبرار الخالدين في الذاكرة أبدًا،
أصحاب النيافة والغبطة والسيادة الأجلاء،
ضيوف الكاتدرائية من رجالات الدولة والبرلمان والمنظمات والهيئات الدبلوماسية المحترمون،
حشود المؤمنين والحضور الأكارم،
((( كنّا هنا ! )))
عصر يوم الأحد 31 تشرين الأول 2010، وفي الخامسة والثلث منه بالتمام والكمال، كان ما بربو على مائتي مصلٍّ في ذات المكان الذي نحن فيه الآن، على موعد مع مشهدٍ مروِّعٍ، وبامتياز للشهادة والاستشهاد، تمثّلَ في اعنف هجمة إرهابية عرفتها كنيسة العراق، كمّا ونوعًا ونهجًا وفكرًا وأيديولوجيةً. كان قدَرًا منحوسًا، فيه تكشّفت كل بشاعات الحقد الإرهابي والفكر المتطرّف والنظرة المنغلقة على القتل ورفض الآخر المختلف. حصل ذلك عندما تجاوز منفذو الجريمة على قدسية أكثر الأديان سماحة ومحبة وأنبلها حبًا للإنسان والأوطان وأقربها إعلاءً لصورة الخالق الجميلة في مخلوقه، وأكثر ناسها أصالةً في الأرض وسعيًا للسلام والمحبة والعدل. تلك المجزرة بهولها ورعبها ورهبتها، قد لا تختلف في قساوة الدماء المراقة في عموم تراب الوطن الجريح، إلاّ أنها وفق القياسات المجتمعية والأحداث السياسية بتقلباتها وإعادة ترتيباتها، هي الأقسى على مسيحيّي العراق، لأن ما أُريد بها، كان قصمَ ظهورهم وهم أحياء، بل كانت علامة بائنة للتحريض على الهجرة ومواصلة دفعهم لمغادرة وطن الآباء والأجداد قسرًا، وطن الحضارات من سومر وبابل وأكد وآشور... حضارتهم ترقى إلى سبعة آلاف عامٍ، أراد نفرٌ ضالٌ، مدفوع ومموّلٌ من "إمبراطوريات" منغلقة وأشباه دول مجهرية صاخبة عبرَ أعوانٍ لم يعرفوا غير الكراهية طريقًا للعيش، استكمالَ مشروع الغزو الدرامي البغيض بتحجيم هذا المكوّن المسالم أصلاً، والعمل على تعميق بذور الحقد وزرع الفتن وتفتيت النسيج المجتمعي العراقي المتآلف منذ القِدم.
خلاصة الحكاية المرّة لتلك المجزرة الرهيبة، تجدونها في وصفي لشهادتي الحية في الذكرى السنوية الأولى للمأساة، والتي قد تنفع مادة دسمة لصنّاع السينما والدراما، لأنها ببساطة، حكايةُ حدث مأساوي حقيقي، ولا من مثيلٍ لها ولا في الخيال. تلك شهادةٌ حية ناطقة من دون رتوش، لهول الساعات العصيبة الأربع بكل بشاعاتها، أمضاها شهودُ للحقيقة في صحن الكنيسة أو في غرفة "السكرستيا"، من قاصدي بيت الله للصلاة من أجل الوطن وإحلال السلام والأمان فيه والطلب من الباري تنوير وإرشاد ساسة البلاد وقادتها إلى ما فيه خيرُ الوطن ووضعُ مصلحته فوق كلّ منفعة ضيقة، بعيدًا عن حسابات المحاصصة الطائفية التي شلّت قدرات هذا البلد الكثير الخيرات، والقليل الخدمات والجائع للأمن والأمان والعيش الكريم.
لن ينسى التاريخ تلك الصولة الإرهابية الشرسة التي حصدت أرواح 47 نفسًا طاهرة، بمن فيها، كاهنان شابان نذرا نفسيهما طوعًا لخدمة بيت الله وعباده، كما عُرفا بعفتهما وسموّهما في خدمة الرعية وفي حبّ الوطن. أحبّهما المسلم قبل المسيحي الذي كان يقصدهما لطلب مشورة أو نيل مساعدة، ولم يبخلا يومًا في تقديمها من جيبهما الخاص أحيانًا، عندما كان يضيق بهما مخزن المطرانية. فأيةَ كلمات أسوقها لكم أيها الشهداء الخالدون في الذاكرة، وقد كنتُ واحدًا منكم قبل استشهادكم، نصلّي معًا، كي تزول الغمّة عن هذه الأمّة التي اغتالتها الأقدار لتعيش في ظلام القهر والفوضى والعنف الذي عمّقته خلافات الشركاء الفرقاء، يومًا بعد آخر.
لن أطيل في السرد، ففي جعبتي الكثير. ولكنّي أود استخلاص العبر والدروس والتذكير بما هو مقبول ومحسوس والمطالبة بما هو ممكن وملموس.  لقد كان الأمل معقودًا، أن تهزّ هذه الحادثة الجلَل، ضمائر كلّ من يدّعي عبادة الله الواحد الأحد في كلّ شبرٍ من أرض الوطن وخارجهِ. سوف لن أتحدث عن أشكال الإهمال واللامبالاة التي حصدتها الحادثة من الإدارة الأمريكية، راعية التغيير الدراماتيكي في العراق، التي تكاد تلك الجريمة النكراء لم تعمل عملها، بل لم تُشر إليها في حينها، رغم أنها هزّت حتى الضمائر الميتة للإنسانية، والسبب ببساطة، لأنها صاحبة فكرة تقسيم العراق وتفتيتِ نسيجه المجتمعي وإفراغه من المكوّنات الصغيرة المستضعفة وصهرِها، وعلى رأسها المكوّن المسيحي من خلال تشجيع أتباعِه على مغادرة أرض الآباء والأجداد بالتعاون مع دول  تقدّمت بعروضٍ لاستضافتهم وإعادة توطينهم، عوض البحث عن وسائل فعّالة تؤمّن حالهم وتحفظ انتماءَهم. إنه لَمِن المؤسف، أنّ هناك من انساق لهذا التيار الجارف من أبناء جلدتنا وأصدقائنا وأهلنا، راكبين موجة الغيرة والحسد أحيانًا بالبحث عن الترف الضائع في بلدان المجهول، مع إبقاء شيء مخجلٍ من الحنين لترابه. بالمقابل، لم يرتقي اهتمام الحكومة العراقية إلى مستوى المسؤولية في متابعة شؤون الشهداء والجرحى، إلاّ على خجل. كما لم تفلح في معالجة الخلل الأمني المتواصل لغاية الساعة، ولا في إيجاد حلولٍ جذرية للأجواء المتلبدة في مناطق تواجد أبناء شعبنا المسيحي، ولاسيّما في سهل نينوى الساخن، بسبب ازدواجية الحكم فيها وغياب سلطة الدولة وفقدان هيبتها، ما ساهم في فقدان بصيص أمل في التشبث بالأرض ومن ثمّ بعدم التفكير بمغادرة الوطن. لقد وعدت الدولة رئاسةً وحكومةً، ولم تفي بوعودها كاملةً. كما وعد الكثير من السياسيّين ورؤساء الكتل وسوّقوا تصريحاتهم الرنّانة على الفضائيات وفي الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية، بل أقحموا أنفسهم بتلك الوعود عندما صرّحوا بأن المسيحيين أصلاءُ في أرض العراق وأنهم يسبقون غيرهم في أحقية هذا الوطن. إلاّ أن الوقائع أثبتت تمسّك هؤلاء القادة والسياسيون بالتأليب على حقوق هذا الشعب المسالم بحجج كثيرة، ومنها ما يُسمّى بسياسة الموازنة والاستحقاق الانتخابي وسلوك الأغلبية.
خلاصة الحديث، رغم صراحته وقساوته، أخاطب به أركان الدولة من هذا المكان المقدس، الذي تضرّج بدماء الجرحى والشهداء الأبرار الذين تطرزت أسماؤهم على جنبات هذه الكنيسة، أن يكون فعلُكم على قدر أهمية وجود هذا المكوّن الأصيل، هذا إذا كنتم حقًّا تقدّرون هذا الوجود وتأثيره على المجتمع. كما أناشدكم باسم مسيحيّي العراق، أن تعِدوا وأنتم تحت قبة سيدة النجاة، مريم العذراء التي نكرمها جميعًا، والتي حفظت باقي المصلّين من القتل والبطش البربري الذي رافق تلك العملية الإرهابية البشعة، بأن تفوا الوعد المقطوع بحمايتهم والدأب على ترسيخ بقائهم وإنصافهم بكلّ وسيلة تحافظ على وجودهم وتبقي على جذورهم راسخة وتطمئِنُ بقاءهم في أرض الآباء والأجداد عبر تمثيلهم في كلّ مفاصل الدولة وهيئاتها، بعيدًا عن سياسة المحاصصة الطائفية التي شلّت العملية السياسية وأسرت أدوات الديمقراطية لصالح الأقوى على الساحة على حساب المكوّنات القليلة العدد "الأقليات"، وأن تساعدوا على منع أي تغيير ديمغرافيّ في مناطق تواجد المسيحيين بأية حجةٍ كانت، لأنّ ذلك واحدٌ من الأسباب التي ساهمت وتساهم في تهجيرهم وفي انحسار وجودهم الريادي في المجتمع.
مسيحيًّا أقول: لقاؤنا المتجدّد هذا اليوم، هو وقفة ضمير لكلّ مسيحيي العراق، لعيش معموديتنا وإيماننا وشهادتنا والتزامنا بكنيستنا وديننا السمح، لا بالكلام فقط إنما بالعمل والحق، دون أن ندع تقليعة العبثية الموجهة علينا تقذفنا بأهوالها نحو المجهول، أو بشيء من الاستهانة والتهاون بقدراتنا. لن نستمرّ في الانحناء للظلم والاضطهاد والتهميش. وإذا كان المسيح قد تنبّأ لنا بتعرّضنا للضيق والاضطهاد من أمم وشعوب العالم، فهذا ليس ولن يكون مدعاة لاستمرار القبول بهذه المظالم أو بالرضوخ للمتجبّرين قهرًا وظلمًا. فحضارةُ العراق، بقديمها وحديثها وُلدت من رحم المسيحية. ومن يريد التأكد من ذلك، فليلتجئ إلى كتب التاريخ وما يقوله علماء الآثار في بابل والنجف وكربلاء والحيرة وبغداد ونينوى وتكريت وغيرها.
كنا دومًا حملة سلام ومحبة ووفاق، لا نعرف حمل السلاح، "لأنّ من يأخذ بالسيف، فبالسيف يهلك". هكذا قالها المسيح. وآخر سلوانا، قولي مع القديس بولس:" من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أضررٌ أم ضيقٌ أم شدة أم اضطهاد أم خطر أم سيف؟". إذ بهذا الايمان سقط كهنتنا واخوتنا شهداءَ في هذه الكنيسة، لتصبح اجسادهم الطاهرة بذارًا لحياة أفضل، وقرابين حب تمتزج بها دماؤهم الزكية مع دم المسيح وأصفياء الله الصالحين والقديسين، لتطهّر أرض العراق من كل يد اثيمة تريد النيل من كرامته وحريته وتقدّمه وعافيته، رغم الصعاب الكبيرة التي تواجهه. ولنتذكر قول المسيح: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد". وقوله: "لا تخف ايها القطيع الصغير"، "أنا معكم حتى انقضاء الدهر".
مهما حصل، يبقى العراق وطننا، لنا فيه مثلَ ما لغيرنا، نذودُ عنه ونحميه ولن نغادره. ومَن غادره لتعدّد الأسباب، يوجب على السياسيين أن يفكروا، كيف وما عليهم فعلُه لإعادتهم إلى حضن الوطن الأم، بدل التسكع في بلدان المهجر المجهول، لأن أرض العراق تسع الجميع ومن حق الجميع تمتُعهم بكل ما فيها من خيرات وثروات وآمال. كما أنّ من كان على سكة الهجرة، عليه أن يفكر ألف مرة، قبل أن يترك أرض الحضارات والأجداد والأحباء. فالوضع الناشز، غير المستقرّ القائم لن يدوم طويلاً، والفوضى الأمنية ستجد طريقها للنظام والقانون، كما أنّ حبل الإرهاب، مهما طال وتجبّر لن يدوم، بجاه سيدتنا مريم العذراء، سيدة النجاة، وسيدة الشهداء.
أدام الله كلّ وطنيّ عزيز، عفيف، كريم، وحاملٍ شعلة السلام والمصالحة والمحبة. وأخيرًا، أردد مع المسيح ومعكم: "طوبى لفاعلي السلام، فإنهم أبناء الله يُدعون".
لويس إقليمس
ناشط مدني
رئيس شمامسة كنيسة سيدة النجاة

375
أفضل الخيارات حيال "الربيع العربي"!

   اللجوء إلى المنطق والعقل والواقع، سمة الحكماء والعقلاء والفقهاء بين الناس، أيًّا كانت انتماءاتُهم الدينية أو المذهبية أو الإثنية. كذا حالُ الدنيا، يومٌ لكَ ويومٌ عليكَ، ولكن كما قالها حكيمُ زمانه: "إذا دعتكَ قدرتُك على ظلم الناس، فتذكّر قدرة الله عليك". لو أن من أسعفته الأقدار أو جيء به إلى السلطة بأية وسيلة كانت، تمسك بجوهر هذه المقولة الرائعة، لما عاش فقيرٌ أو وُجد مضطَهّدٌ أو مهمّشٌ في أية بقعة من أرض الله الواسعة. وسوف نقتصر حديثنا على  المنطقة العربية ومنها العراق بصورة خاصة، في ضوء الأحداث الدراماتيكية التي تتالت على المنطقة وقلبت الموازين واختلت فيها المعايير على أشكالها وأنواعها. فما يُسمّى "بالربيع العربي"، رغم المآسي وأشكال الخراب والدمار التي أتى بها في البلدان التي شهدت هذه التحولات المأساوية، لم يستطع أن يأتي بما كان أفضل فيما سبقه من أنظمة، رغم فساد هذه وشموليتها وقهرها لشعوبها. بل ما كان محسوبًا عليها من مآثر أو آثار للديمقراطية التي تسعى إليها كل شعوب الأرض الحرّة المتحررة، قد أضاعها القادمون الجدد بما أتوا به من فسادٍ عارم وتآكل لباقي روح الوطنية والمواطنة والولائية التي كانت قائمة قبل قدومهم وحلولهم ضيوفًا ثقلاء على الطيبين من المواطنين الأصلاء الأباة أصحاب الضمائر والذمم التي لا تُقهَر رغم عوادي الزمن الغادر.
ألمدّ الأصولي وإشكاليتُه   
   قدوم التيارات السياسية الدينية، كان نتيجة الأخطاء الكبيرة التي اقترفتها الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة سحابة سنين طويلة اتسمتْ بالظلم والقهر والترويع والتأليه لشخوص نصبوا أنفسهم ولاة غليظي الرقاب على هامات ومصائر المستضعفين، من خلقِ الله، خالق البشر جميعًا على صورته الجميلة. وما تزال أنظمة بذات المواصفات تترعرع في أرض الله في منطقتنا المغضوبِ عليها منذ الدهور. أهي ثرواتُها الكبيرة مصدرٌ لنقمة إلهية ينفذها أشباه ُ بشرٍ رعاعٌ في المنطقة، مدفوعون بلوبي خارجي يريد تقويضها وتركيعها وتقليص مفعولها في البورصة الإنسانية العالمية لاحقًا؟ قد تذهب تحاليلُ بعض المفكرين في هذا الاتجاه حيث الاعتقاد بكون الربيع العربي مرحلةً نحو دحر العناصر الدينية وقياداتها ومرجعياتها المتزمتة وغير المتزنة، بل الرافضة لكلّ أنواع التمدن والتحضّر والحرية التي أفرزتها مبادئ الديمقراطية في البلدان الواعية التي مرّت بمثل هذه المراحل في حقبٍ من تاريخ بلدانها، ليس الآن ولكن بعد حين. إنه لمن المؤسف حقًا، أن مثل هذه الدروس التي استخلصتها البلدان المتقدمة وطبّقتها في صياغة مستقبل شعوبها وفي ترميم وإصلاح وتطوير طاقاتها، لم تتمثل بها الطبقة الحاكمة التقليدية منها والحديثة العهد في منطقتنا العربية، بل زادت في غيّها وتفنّنت في وسائل الإبقاء على سياساتها المتعجرفة والشمولية وفي قهر شعوبها. وكأنّ التاريخ يعيدُ نفسَه. فبالأمس القريب، عندما كانت الدولة الإسلامية تشهد أيام ازدهارٍ وتطوّر نوعيّ وحصانة قوية، كانت تتسم حياةُ شعوبها بشيء من الرفاهة والانفتاح والتسامح والنظام، ولو على خجل لا يمكن مقارنتُه مع غيرها من بلدان الغرب. وبعكس ذلك، عندما كانت تتعرّض لانحطاطٍ أو لنكساتٍ دينية أو سياسية، كان الساسة يعبّرون عن ذلك بآلات من القمع والانكفاء على الذات وأشكالٍ من التزمّت والتكفير للغير، ما كان يجعل من الحياة تحت رقابهم صعبةً ومشكلةً. وهذا ما يحدث اليوم تماماً، فنحن نعيش دورةً من الانحطاط والانكفاء والتراجع.
   أين الخيار الأفضل؟
اليوم نكاد نشهد ذات السيناريو الذي  يروَّج في منطقتنا حيث سيادة العنف واهتزاز الفكر وتراجع الحريات واللهاث وراء المحاصصة الدينية والمذهبية والاثنية إلى جانب الافتقاد إلى الحكمة والروية في تسيير شؤون البلدان والعباد على السواء. هي فترة انحطاط لن تخلو من متاعب ومنغصات واحتقانات. ولعلّه إزاء هذا المدّ المذهبي والأصولي المستحلّ لعدد من دول المنطقة، والتكفيريّ في جزئياته لكل البشر من غير السائرين في مسالكه وفي فكره، ليس أمام الشعوب المستضعفة، ومنها الأقليات الدينية والإثنية، غير أن تحتكم إلى العقل والروية في التعامل مع مثل هذا المدّ الجارف وغير الواعي لأصول الدين والسياسة والمجتمع على السواء. ولو أنّ قادتَه وأركانَه ومحفّزيه ركنوا إلى حكمة إعطاء "ما لله لله وما لقيصر لقيصر" ووضعوا مقولة "الدين لله والوطن للجميع" أمام ناظريهم، لاستطاعوا إرضاء الله الخالق الذي يدّعون التحدّث باسمه وتطبيق شرائعه. ومن ذا لا يريد تطبيق شرعِ الله الخالق الذي حبانا وخلقنا على صورته ومثاله، لنكشف له عن جمال البشر في طبيعته وجمال الطبيعة بوجود البشر عليها. وربّ سائلٍ: "أَ بالقتل والترويع والتهديد تُطبّقُ شريعةُ الله؟ أليس هو الرحمنَ الرحيم العادل الجبار الذي لا يرضى بظلمِ الناس لغيرهم؟ ألم يعاقبْ رئيسَ الملائكة الذي طغى وطرده من الفردوس لدسائسه وأحالَه شيطانًا مرفوضًا وملفوظّا وملعونًا من الناس جميعًا لآخر الخليقة؟ إزاء هذا كلّه، لابدّ من إيجاد وسيلة للتعايش مع هذا المدّ غير السويّ الرامي لجرف كلّ ما لا يتناغم معه. فالمواجهة المسلحة، لم ولن تكون الخيار الأفضل، لأنّها بفضل خبرة الشعوب لم تستطع أبدًا تقديم الحلول المقبولة السلمية والسليمة معًا. في المقابل، لابدّ من سلوك الحوار وطريق التعايش السلمي وإيجاد السبل لاهتداء التيار المتشدّد إلى طريق السلام واحترام الغير، حتى لو اختلف معه في الفكر والدين والمذهب. لأنه، مهما كانت سمة التشدّد ومهما امتدّت في جذورها وأصولها وآلياتها، لابدّ من البحث عن مخارج آمنة للتعايش وجعل مراجعها وقادتها تقتنع بهذه الضرورة. فعالمُ اليوم لم يعدْ كما كانت عليه الحال قبل 1400 عامٍ خلتْ. كما لا يمكن أن يعيش البشر في القرن الحادي والعشرين عصر المغاور والكهوف والدواب. والدليلُ على ذلك، ما يستخدمه أدعياءُ العودة للسلف من أدوات عصرية في حياتهم اليومية. فلا يُعقل قبولُ أدوات الرفاهة المعاصرة والمتجددة يومًا بعد آخر ورفضُ ما تحتّمه هذه الاختراعات والآلات من حسن تصرّف وتعايش وتعاون وتساهل وتشارك واحترام وقبول للآخر بهدف ضمان نتائج مثل هذا التقدم في الحياة وتسيير الحضارة وفي تأمين المستقبل للمجتمعات. أمّا الردّ والصدّ والمواجهة بالسلاح وبالتهديد والترويع، فلن تنفع. هل استطاعت الحروب التي شنّها صدام على جيرانه أن تثنيهم عن أفكارهم العنصرية والمذهبية والقبلية الضيقة؟ وهل إطالة النزاع بين العرب والكرد في العراق منذ اندلاع ثورة الثائر الراحل بارزاني قد خدمت العراق والعراقيين؟ ألسنا نتحمّل شيئًا من وزر تلك الأيام البائسة اليائسة لغاية اليوم؟ كذا الحال مع بلدان "الربيع العربي" التي آلت إلى خريف وقيظ موحش. فالصراع في سوريا، هو الآخر تكملة لسيناريو الحرب على العراق، وقد أفلت الرَسَنُ (الهفسار) من سيطرة السلطان الأمريكي المحرِّض فيها، كما في غيرها من البلدان التي شهدت تغييرات سياسية، بعد سرقة ثورات شعوب هذه البلدان من ثائريها الأصليين وسيطرة التيارات السلفية والإخوانية عليها، وما أتت به هذه من مفاهيم رافضة لأية أفكارٍ نابعة من شيء يُدعى ديمقراطية أو حرية، إلاّ الديمقراطية التي يؤمنون بها وبها تُلجمُ الأفواه وتُكبّل الأفكار التحررية وتُمحى الاتجاهات المختلفة عنها دينًا ومذهبً وفكرًا. ولعلَّ ما نلحظه اليوم عبر وسائل الإعلام، تذمّر رعاة التغيير في الربيع العربي، وعلى رأسهم الراعي الأمريكي الذي بدأ يخشى من انفلات العقال من يد ما يسمّيها بالمعارضة التي اندسّت فيها عناصر القاعدة والإخوان وطالبو السحت الحرام والسلطة. وهذا ما أدّى إلى تخلخل استراتيجية إسقاط السلطة بالعنف والقوة اللتين دمّرتا البلد ونزل فيها الطرفان خرابًا ودمارًا لا يرحمان في القرى  والمدن الرئيسة وفي تشتيت وتهجير الناس، فيما استغلّت عصابات متشددة وحاقدة هذه الظروف لتُنزل ضربات ضدّ أبناء الأقليات ومنهم المسحيين بصورة خاصة، الذين فرغت مدنهم وأحياؤهم عن بكرة أبيها. أهكذا تُفرض الديمقراطية؟
رقصةٌ وتنتهي النمرة!
 ولكن، هي رقصة، تؤديها الغانية الجديدة، ثمّ تشيخ وتهرم وتنسحب من على المسرح كما الأسد الخاسرُ في جولة صيد ماكرةَ!
لويس إقليمس
بغداد، في 21 تشرين ثاني 2012

376
في الذكرى السنوية  الثانية لمجزرة كنيسة سيدة النجاة (31 تشرين أول 2010)
"كي لا ننسى .. :كنّا هناك"
   تعود إلينا هذه الأيام، الذكرى السنوية الثانية لمجزرة كنيسة سيدة النجاة الأليمة في 31 تشرين أول 2010، وسط ترقب مشوبٍ بالأمل والشكّ في آنٍ معًا: الأمل يكمن في رسالة الإرشاد الرسولي الذي خصّ به قداسة البابا المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، كي يثبتوا في جذورهم المسيحية ويتقوّوا بإيمانهم ضدّ حملات الترهيب والتهديد والتهميش المتواصلة ضدّهم وضدّ طموحاتهم الوطنية بحياة إنسانية طبيعية متساوية ومتوازنة قائمة على احترام الخيارات الشخصية في الدين والمعتقد والتوجّهات الاجتماعية وفي وسائل التعبير. أمّا الشكّ، فهو كامن في ما نراه ونعايشه ونلاحظه على أرض الواقع، من التمادي في إهمال استحقاقات المكوّن المسيحي بخاصة، ومعه المكوّنات قليلة العدد الأخرى (الأقليات)، في كلّ مسالك الحياة العامة التي ينبغي أن يتمتع بها نسيج الشعب العراقي ككلّ، اعتمادًا على مبدأ المواطنة التي تعني من جملة ما تعنيه، مساواة المواطنين جميعًا دون تمييزٍ  مكوّنٍ عن آخر من المكوّنات الأخرى، لاسيّما المصرّة منها على الاستحواذ على كلّ شيء بحجة ما يُسمّى باستحقاق الأغلبية والأكثرية العددية دينيًا وإثنيًا وطائفيًا، ما أثبت تسبّبها بالخلل والفوضى والفشل في تقديم الخدمات الآدمية الطبيعية وفي عدم الاستقرار السياسي والأمني، الذي يستمرّ فيه البلد غارقًا في بحرٍ من المشاكل السياسية التي ليس للشعب فيها حيلة، كما ليس له فيها لا ناقة ولا جمل.
   بكلمات قليلة، لكنّها معتصرة ومفعمة بالألم والذكريات القاسية، كلّما تذكرتُ المأساة، بسبب هول المجزرة التي عايشها من كان يصلّي في هذه الكنيسة عصر الأحد 31 تشرين أول 2012، طيلة أربع ساعات بكمالها وتمامها، وأنا واحدُهم... أريد أن أقول: كنّا هناك بين أرجاء هذه الكنيسة الأجمل بين كنائس بغداد، نصلّي من أجل العراق، كلّ العراق، بكلّ مسيحيّيه ومسلميه وسائر المكوّنات الأخرى  كي تعيش بسلام وأمان وشرفٍ، كما كانت عليه حتى 2003.
    قبل عام من اليوم، رويتُ على مواقع الكترونية وفي مجلة الفكر المسيحي، شهادتي حول ما جرى في هذه المجزرة من داخل غرفة السكرستيا التي تحصّنَ بها معي أكثر من خمسين مصلٍّ، بينهم الخوري "روفائيل قطيمي" الذي نالَه قسطٌ من نيشان تلك الحادثة، التي بقي طيلة الهجوم فيها واقفًا واجمًا صلدًا على رجليه حتى الربع ساعة الأخيرة من انتهائها، حيث تهاوى حينها مصابًا. أين وكيف؟ لا أدري ولا هو يعرف.
   أتذكر، كيف بدأ القداس الذي كان يقيمُه القس "ثائر" ويخدمه الشمامسة والجوق معًا، أني أثناء فترة الموعظة بعد تلاوة الإنجيل، تندّرت مع زميلي الشماس "وديع"، بسبب مرور الكاهن الشهيد مرارًا وتكرارًا على كلام يسوع ل"بطرس" هامة الرسل: "من تقول الناس عنّي أنا هو".. ولم يمرّ على بدء تلك العظة "الأخيرة" للكاهن المحتفل أكثر من خمس دقائق، حين أزفت الساعة الخامسة والثلث، حيث طرقَ سماعنا أولى طلقات الإنذار بالهجوم وما تلاه من انفجارات وهجوم عنيف على الكنيسة في غياب القوة المكلّفة بحمايتها التي غابت وتلاشت وغارت إلى مجهول  مساء ذلك اليوم، إلاّ من حرس الكنيسة غير المؤهلين للأمور القتالية، كما لم يفلح تدخلُ الحرس الخاص لمؤسسة سوق الأوراق المالية المجاورة، الذين تمكنوا من إصابة أحد الإرهابيين الخمسة المقتحمين والذي فجّر نفسه، على ما يبدو، على سور الكنيسة الأيسر...أتذكر آخر كلمات القس "ثائر" من على المذبح، حين توقف عن عظته وقال: "ماكو شيء". وحاول عبثًا الاستمرار بالموعظة، بسبب تزايد قوة الهجمة الشرسة التي هزّت أركان الكنيسة ومَن فيها وألقت الفوضى والرعب في صفوف المصلّين... أتذكر كيف نزعتُ قميص الشمّاسية ودفعتُه لابني "رابي" ليرتّبه كي أستطيع الخروج لأتفحّص بنفسي ما يجري في الخارج. ولكن هول الهجمة منعتني حين رؤيتي ما يجري في مؤخرة الكنيسة ومن ثمَّ استحالة خروجي بعد أن تمكّن الإرهابيون الأربعة من دخولها من الباب الخلفيّ وبدأهم بتقتيل المصلّين، وقد سقط في مقدّمتهم الأخَوان "وسام" و"سلام"، اللذين لحقت بهما والدتُهما من شدّة حزنها على فلذتي كبدها... أتذكر العويلَ والصراخ داخل غرفة السكرستيّا التي دخلناها فآوتنا وبقينا فيها "رهائن محتجَزين طوعًا ورغمًا عنّا" للإرهابيين، وقد اختلط ذلك مع الفوضى التي عمّت آنذاك داخل الكنيسة وروّعت نفوس المصلّين... أتذكر كيف بدأ أحد الإرهابيين بعد ربع ساعة من اقتحامهم للكنيسة، وهو شاب في مقتبل العمر، يؤذن داخل الكنيسة وسماعنا إطلاقاتٍ نارية وانفجارات بعد الانتهاء من الأذان، عندما بدأوا بمسرحية مأساوية لقتل المصلّين بحسب رواية من بقي حيًّا في داخل الكنيسة، حيث لمْ يسلم منهم حتى الطفل الرضيع الذي أسكتَه رصاص الإجرام ولا اعتراض الطفل البريء "آدم"  على فعلتهم الشنيعة! ... أتذكر كيف فارقتِ الحياة تلك الشابة العروس الشهيدة "رغدة" بين أحضاننا وسط العويل والبكاء والصراخ بعد ان كانت تمكنت من الزحف إلى هذه الغرفة الصغيرة وهي مضرّجة بالدماء لإصابتها البليغة في أمكنة عدّة من جسدها الطاهر وقد كانت جالسة حين إصابتها، على المصاطب الأمامية للجناح الأيمن من الكنيسة... أتذكر كيف كان يصلّي الشهيد "أيوب" أبياتَ الوردية ويرسم إشارة الصليب في نهاية كلّ بيت يصلّيه وهو يتألم صابرًا ساكتًا، إلاّ من أنين الجرح البليغ الذي كان أُصيب به وهو مرتمٍ مثلنا على أرضية الغرفة وبجواري، وأنا أتأمّلُه وأفكرّ ما عسى يكون خبرُ إصابته أو عدمُ نجاته لدى ذويه وعائلته وأصدقائه... أتذكر أني لم أتوانى في حينها بإرواء عطشه، بسقيِه ما استطعتُ من ماء متيسّر من ثلاجة الماء التي كانت على ميمنتي، لحين تدميرها بثالث قنبلة أطلقها الإرهابيون علينا من حيث لا ندري، وبسببها صمتَ الشاب "أيوب"، وكان صمتُهُ أبديًا ... أتذكر كيف كنتُ أشجعهُ وأحلّيه بالصبر، فالفرَج قادم... لكنّه فارق الحياة قبل أن يأتي ذلك الفَرَج الذي تأخر بفعل فاعل. كيف، ولماذا؟ لا أعرف!
    أتذكر أولى المكالمات الهاتفية الواردة من الصديق "أبو مريم" من "أربيل"، الذي كان يتصل لسؤالٍ خاص بعد دقائق معدودات من حصول الحادث دون معرفته به بعد، حينها أطلعتُه عمّا يحصلُ لنا طالبًا منه التصرّف والإبلاغ عن الهجمة بالوسائل المتاحة... أتذكر الاتصال الذي أجريتُه لاحقًا وبعد دقائق معدودات من الحادثة مع العقيد (العميد فيما بعد) "سعد" من قيادة عمليات بغداد، وكان أول اتصال تتلقاه هذه القيادة، وربما الحكومة أيضًا، عن العملية الإرهابية، وقد بقي العسكريُّ المذكور على اتصال متواصلٍ معي لمرات عديدة لمتابعة الحدث أول بأول ولإعطائهم الإحداثيات والتهيئة قبل اقتحام الكنيسة من قبل "الفرقة الذهبية" التي لم تصلح في حينها لتُسمّى حتى ب"الفخارية"، بسبب الإرباك والتأخير والانتظار المرّ الذي قاساه مَن كُتب له أن يبقى حيًا بأعجوبة من السماء! أتذكر المكالمات العديدة التي وردتني من أصدقاء ومسؤولين وكهنة ومقرّبين للاستفسار عن وضعنا بعد أن سمعوا ذلك عبر الفضائيات التي نقلت الحادث أوّلَ بأوّل... أتذكر كيف منعتُ نفرًا من المحاصَرين معي داخل غرفة السكرستيّا التي لم تكن محصّنة، من محاولة فتح بابها الخلفي، خيفة أن يجذب مثل هذا الفعلُ الطائش أحدَ الإرهابيين القابع على خطواتٍ منّا وأن يحصل ما يحصل.. أمّا الإجراء الوحيد الذي قمنا به، فقد كان دعمُنا لبابِ السكرستيّا المتهرّئ بدولاب كتبٍ حديدي خفيف كان إلى الجوار، تحسبًا متاحًا لاقتحام ممكنٍ، ولم يكن ذلك  مستبعدًا في أية لحظة فيما لو حاول هذا الإرهابيُّ القابع أمامه اقتحامَ السكرستيّا  وتفجير حزامِه الناسف علينا... أتذكر كيف استطاع ابني "رابي" من خرم الباب المذكور، أن يراقب تحرّكَ إثنينِ من الإرهابيّين الأربعة، أحدهما الجالس أمام باب السكرستيّا  والثاني على الجهة المقابلة لنا، وهما غير ملثّمين، وقد حفر تفجيرهما الانتحاري فيما بعد، أثرًا واضحًا في موقع قبوعهما... أتذكر الشعور الأبوي  الذي راودني حينما طلبَ منّي إبني هذا، عدم الصمت ومخاطبتَه بين الحين والآخر للاطمئنان عليّ، لاسيّما بعد أن أعلمتُه بإصابتي في وجهي والصنين الذي طرّشَ أذني اليسرى. كان يقول لي: " بابا كلّمني حتى لو ما بيك شيء"... أتذكر الحرج الذي أُصبتُ به حين سكتَ جهاز النقال عندي، واضطررتُ لاستخدام البديل الثاني لاستكمال الاتصالات. حينها ظنّ مَن كانوا على اتصالٍ دائمٍ معي في خلية العمليات التي شكّلها النائب "يونادم كنّا" مع فريق مساعديه في مقر الحركة الديمقراطية الآشورية، أنه قد يكون حصل لي مكروه بسبب ذلك الانقطاع المفاجئ... أتذكر أنّي لم أستطع الردّ على نداءات عديدة من عديدين ومنهم نفرٌ من أسرتي في بغداد التي كانت انشغلتْ ذلك اليوم بأمور منزلية طارئة ولم ترافقني إلى الكنيسة كعادتها... وكذلك النداءات التي لم أستطع الردّ على الكثير منها وقد تتالت عليّ من أصدقاء ومن عائلتي وأهلي وأقربائي من "قرقوش" ومن مناطق أخرى وحتى من الخارج ممّن سمعوا بالحادث عبر وسائل الإعلام التي نقلت أجواء الحادث الذي طال زهاءَ أربع ساعات بهولها وترهيبها وقسوتها وعنفها وحقدها وإحراجاتها...
أتذكر كيف، أُطفئت الأضواء خلال النصف ساعة الأخيرة من العملية، حيث ساد الصمتُ والوجوم. حينها قلتُ لابني الفتي: قد اقتربت الساعة، وقد تكون النجاة حليفنا أو...؟ فتلكُم، كانت لنا إشارات للاقتحام ولحصول شيء ما. كما تأكّد الفعلُ من الضابط في قيادة عمليات بغداد بالهاتف. ساعتَها، تزلزلت أركانُ الكنيسة، ودوت انفجارات فاقتْ أصواتُها ما باستطاعة الآذان تحمّلها...كما غطّت الأتربة والغبار المتصاعد والشرارات النارية أرجاءَ الكنيسة قاطبة وكذا سقفَها بسبب هول الانفجارات المتلاحقة، والعصف الشديد للأسلحة المستخدمة والأحزمة الناسفة التي تفجّرت بالإرهابيين وفتّتت أجسادهم التي اختلطت دماؤهم بدماء شهدائنا الخمسة والأربعين، بمن فيهم الكاهنان الشهيدان الشابان، "ثائر عبدال" و"وسيم القس بطرس"... ثمّ هدأت فورة العاصفة ليصلنا بعدها صوتٌ ينادي: "قولوا يا ألله... قولوا يا ألله! نحن قوات طوارئ". وهكذا، تبيّن الفرج من ضوء مصباح يدوي كان يحمله أحد العسكر المقتحمين طالبًا منّا الخروج، فقد انتهت العملية. ولكنْ كيف انتهت.. فقد كانت هناك مذبحة حقيقية، حصدت أرواحًا بريئة، جلُّ ذنبهم أنهم كانوا يصلّون ويتضرعون إلى الباري كي يسود السلام ربوعَ الوطن ويتعزّز التلاحمُ الوطني الذي انهار بعد 2003 وكي يهتدي الساسة بالمثول إلى الحكمة والروية والعدل في إدارة البلد المتهرّئ والغائص في حفرة الفساد والطائفية وسرقة أموال الشعب وحقوقهم وقتل الأبرياء وتصفية الحسابات. تلكم تمامًا، كانت توصية الكاهن الشهيد "ثائر" بعد قراءة الإنجيل حيث اعتاد الطلب في كل يوم أحد من المؤمنين الصلاة لأجل هذه النية...
    كنتُ الثاني الذي غادر غرفة السكرستيا غيرَ مصدّق حالَنا. فقد حرستنا العذراء مريم، سيدة النجاة التي ارتدتْ ايضًا ثوب سيدة الشهداء والمعترفين في تلك الكنيسة التي يتباهى الناس باسمها، مسيحيين ومسلمين على السواء... وقد أصررتُ بعد خروجي سالمًا على إلقاء نظرة على أركان الكنيسة، رغم اعتراض أحد العسكر... فرأيتُ ما رأيتُ، غير مصدّقٍ الحالَ الذي آلت إليه كنيستي، فقد كانت، ما تزال بعدُ، تفترشها بعض الجثث وقطعُ اللحم المتشظّي والمتناثر هنا وهناك بين أركانها والفوضى التي كانت فيها المصاطب والمذبح واللوازم  الطقسية وحتى بيت القربان الذي دنّسه الإرهابيون بفعلهم الشنيع ذاك.. وفي فناء الكنيسة وحولها، كان جمعٌ من ذوي المصلّين وأصدقائهم واجمين بين انتظار مريب وأمل بلقاء أحبتهم أو مرارةٍ لمرافقة جثامينهم المحترقة أو الممزقة أو إسعاف المصابين منهم. لم استطع حينها البقاء أكثر من ذلك بسبب القشعريرة التي شعرتُ بها جرّاء إصابتي أنا أيضًا، وبسبب ملابسي المبللة التي اختلط فيها الماء المسكوب بسبب كسر ثلاجة الماء، بالدماءِ التي سالتْ ممّن كان مصابًا وزحفَ باتجاه السكرستيا أملاً في النجاة. حينها كان نفرٌ من دائرتي في انتظارٍ لنقلي لتلقي العلاج في مستشفى القديس رافائيل للراهبات بالكرادة، ومنها إلى داري حيث كانت أسرتي والجيران وبعض الأصدقاء في انتظار أخبارنا وعودتنا سالمين طيلة فترة العملية، والحمد لله!
رحم الله شهداء كنيستنا الخالدين في الذاكرة. وسيبقى الكاهنان الشهيدان، مثالاً للراعي الصالح بحفاظهما على الوديعة وشهادتهما في كنيستهما وبين رعيتهما. لمْ يهونا أو يضعفا أمام حقد الارهابيين ولا خارت قواهما أو تخاذلا. كما يشهد لهما من عرفهما عن قرب، أنهما لم يضعفا أمام المغريات في فترة خدمتهما، وكانت عديدة أمامهما. كما كان موقفهما، ولاسيّما  القس "ثائر"، من القضايا الوطنية مشرّفًا ومن مستقبل المسيحيين واضحًا بتفضيل الانتماء إلى الوطن موحدًا والالتصاق بجذوره والأمل برؤيته معافًا وبعودة اللحمة الوطنية لأبنائه. فقد أحبّه المسلمُ قبل المسيحي لتعاطفه مع المحتاجين، وكلُّ من كان يطرقُ بابَ كنيسته، لم يكن يُرجعُه خائبًا. كما كان القس "وسيم" أيضًا، مع زميله الشهيد السعيد، أصدقاءَ للشباب وحواضنَ للأطفال المرتادين لدروس التعليم المسيحي كلّ يوم جمعة بهمّة معهودة ومتابعة همام، إلى جانب الصوت الرخيم الذي اتسم به القس "وسيم"، وقد كنتُ أستأنس معه وأجاريه في اللحن حين يقيم الذبيحة الإلهية، لإجادته الألحان والطقس السرياني. وهنا لا يسعني إلاّ القول أيضًا، أننا فقدنا حضور الخوري "الختيار" روفائيل قطيمي الذي غادر رعيته لاستكمال العلاج وآثر البقاء في بلد الاغتراب الذي اختاره، متمنين له موفور الصحة والتوفيق.
كلمة أخيرة، أسوقها لأبناء كنيستنا خاصة والمسيحيين عامة: سوف تعود كنيسة سيدة النجاة عروسًا للكنائس بعد أيام، بعد إعادة تأهيلها وتقديسها لتفتح أبوابها للمصلّين من جديد. وبفضل مرتاديها وقاصديها ومحبيها، سوف تتزيّن وتلبس حلة جديدة تزخر جنباتُها بأسماء شهدائها الخالدين كي تبقى ذكراهم ذخرًا وعلامةً للشهادة التي بها رَووا بيت الله بدمائهم الزكية لتكون بذارًا للحياة. كما سيتابعُ زملاء الكاهنين الشهيدين، المشوار الذي كانا قطعاه بذات الهمّة والحرص والرعاية مع الراعي الجديد للأبرشية.
أخيرًا، كتب إليّ أحد الأصدقاء المسلمين في رسالة ردٍّ على الشهادة التي كتبتُها قبل عامٍ، يقول لي فيها (أنقلها حرفيًا):
((( " ان جريمة كنيسة سيدة النجاة اختصرت  بمضامينها وبشاعتها كل الجرائم التي ارتكبت بحق ابناء بلاد النهرين  الاصلاء منذ اكثر من 1400 عام عندما قدم الغزاة الاوائل من الجنوب وعبثوا بالعراق قتلا وتدميرا باسم الله وادخلوا مفاهيم الكراهية والقسوة ونشروا الهمجية والبدائية بكل اشكالهاالى يومنا هذا.
قرات بامعان سرد المجزرة التي وقعت في كنيسة  سيدة النجاة على يد مجموعة متوحشة تلوثت عقولهم بعقيدة الشر.
ان المجزرة التي وقعت في الكنيسة يجب ان تكون حاضرة في قلب ووجدان كل من يؤمن بالحياة والسلم والمحبة  مع ضرورة  الحفاظ على التذكير بها وكشف وفضح عقائد الكراهية ووضع النقاط على الحروف وبجراة على الاسباب والافكار التي حولت هؤلاء وهم في ريعان الشباب الى متوحشين قتله للحياة بما في ذلك الفكر المسموم الجاثم في عقولهم وعقول غيرهم و الذي يتناقض مع السجية البشرية . ليس اله من يدعو الى الكراهية  وليس دين من يبرر القتل.
 
اتمنى لك التوفيق في مواصلة عرض هذه الماساة الانسانية في فلم او على الاقل فلم وثائقي هادف وباكثر من لغة."
 
مع فائق تقديري واعتزازي
 
اخوك
علي الشريف
)))
 


لويس إقليمس
بغداد، في 29 تشرين أول 2012


377

بيان لمجلس الأقليات العراقية
حول تمثيل الاقليات في المفوضيات والهيئات المستقلة.

    في ضوء الغبن الجديد الذي لحق بالمكونات العراقية قليلة العدد (الأقليات)، بتهميشها وإقصاء تمثيلها في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بسبب الآلية التي اتبعتها رئاسة مجلس النواب، يدعم مجلس الأقليات العراقية كل الجهود المبذولة لإعادة النظر بالقرار المجحف الذي صادرَ حقوق هذه الشرائح الأصيلة في المجتمع العراقي.
إننا في مجلس الأقليات العراقية، نضمّ أصواتنا إلى أصوات ممثلي هذه المكونات قليلة العدد (الأقليات) في البرلمان وخارجه، من المطالبين بضرورة تمثيلهم في جميع الهيئات والمفوضيات ومنها مجلس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ومفوضية حقوق الانسان.
لذا، ومن منطلق العدالة والركون إلى الحق، ندعو الحكومة العراقية والكتل السياسية ومجلس النواب ومعهم المنظمات الدولية من خلال "اليونامي" وممثل الأمين العام للأمم المتحدة، لترسيخ مبدأ المشاركة الوطنية لجميع المكونات في كل فصول العملية السياسية ومنها وجود تمثيل لهذه المكونات في المفوضيات المذكورة. ندعو الله القدير أن يلهم الساسة والدولة وحكومتها من اجل ترسيخ مبدأ المشاركة الوطنية لجميع المكونات كي يشعر الجميع انهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات .
ومن الله التوفيق.
مجلس الأقليات العراقية.
بغداد، في 4 تشرين أول 2012



378
ديمقراطيتنا في الشرق، كيف تعمل؟

كما تعلّمُنا أمهات القواميس والكتب، أن كلمة الديمقراطية مأخوذة من أصلها اليوناني، وهي مشتقة من كلمتين: عامة الشعب Demos = والحكم = Kratia، مكوِّنةً الكلمة المعروفة Democratia التي تعني "حكم الشعب لنفسه".(موقع ويكبيديا)
تطبيقات متغايرة:
تتغير تطبيقات مبادئ الديمقراطية من منطقة لأخرى ومن بلدٍ لآخر، ومن تنظيم لآخر، بحسب التوجهات والآراء والتفاسير والنظريات التي كثرت رغم بساطة الفهم التعبيري والتطبيقي لهذا المفهوم. فالتأويلات التي تعاقبت وتكاثرت وتناقضت حول هذا المفهوم، كادت تُخرجها من خانتها الأصلية في الحفاظ على سلوكيات المجتمعات المتحررة وفي حماية الشعوب التي تتعامل بها وتعشقها في حياتها اليومية، السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية. فكلُّ شيء في الحياة يخضع لهذا المصطلح الذي به يتغنى كلٌ على هواه في تطبيقه وفي فهمه، بعد أن أصبح محورَ الحياة بلا منازع، سواء في تطبيقاتها الصحيحة أم في التباري المشوّه والزائغ عن حقيقة فهمها الصحيح. وبالرغم من أن هذا المفهوم في الحكم المتحضّر والمعاصر قد منح متبنّيه فضاءات واسعة في تطبيقاته المتعددة، ومنها سلوك حكم الأكثرية في ضوء النتائج الانتخابية التي تؤهله للحكم، إلاّ أنه لا يعني بأية حالٍ من الأحوال، التفرّد بالسلطة بمعنى إنشاء دكتاتورية الحزب الفائز أو المذهب الحائز على أصوات الأكثرية. في حين هناك دول متحضرة قد انتهجت سلوك ما يُسمى ب"الديمقراطية الليبرالية" التي تؤّمِّن بها حماية حقوق كافة المواطنين المشمولين والساكنين على أراضيها دون تمييز وعلى أساس الشراكة، بمن فيهم المكوّنات القليلة العدد أي الأقليات، والجاليات المتكونة فيها جرّاء عمليات الهجرة المتكررة، أو بسبب مواقف إنسانية جعلت من المهاجرين الغرباء أو من طالبي اللجوء الإنساني إليها جماعاتٍ لها ثقلُها على الأرض الجديدة، من حيث تمتُعها بكافة الحقوق والواجبات المتكافئة. ولكن برأيي المتواضع، مهما وصل تطبيق هذا المفهوم من رفعة وسموّ، فهو لن يصل أبدًا، ما عناه مستنبطُه الأول في فكره الأساس.
لن أدخل في تفاصيل هذا المفهوم البسيط والمعقّد في آنٍ معًا، لأنه ليس من اختصاصي. لكن، ما جعلني أخوض فيه، تلك التناقضات في التأويلات التي تصل إلينا من خلال اللقاءات على الفضائيات أو ما نقرأه ونتصفحه على المواقع الالكترونية التي حفلت بتفاسير عجيبة غريبة عن هذا المفهوم ومعانيه وعن طريقة تطبيقه وفقًا لتأويلات تختلط فيها أحيانًا السلوكيات الفردية والمناهج الدينية والمذهبية والمناطقية والإثنية وحتى العشائرية والقبلية بحسب مجتمعاتها وتكويناتها المتباينة. وخير التطبيقات المقبولة لهذا المفهوم في يومنا هذا، عندما يحتمل هذا المبدأ ويقبل شكلاً من التوازن بكلّ أشكاله في الحياة اليومية للجهة الحاكمة، حين لا يتم استبعاد الخاسر وموالوه من صميم الحياة السياسية. ذلك لأن العملية السياسية سلسلة متواصلة من مسارات لا تنقطع أو تتوقف، إلاّ من حيث تغيير السياسة في منهج الحكم وفي أدواته وكيفية تنفيذ صفحات برامج الجهة الفائزة. والمنطق الذي يقوم عليه مفهوم الديمقراطية أيضًا، لا يعطي الحق للفائز بالأكثرية، أن يلغي الآخر الذي لم يسعفه الحظ، بالفوز أو ببساطة أن ينهي فصولَ حياة منافسه السياسية. بالمقابل، عندما يفوز طرفٌ على غيره في انتخابات "ديمقراطية" حتى لو حامت حولها شبهات التزوير، فهذا ليس مدعاة لخصومة أو حصول نزاع يثير الفتنة ويشعل قتالاً بين الطرفين المتنافسين، الفائز والخاسر معًا والموالين لكليهما، طالما أن مبدأ الديمقراطية باقٍ ومتفق عيله من قبل الجميع دون تخوين الآخر أو إلغائه. كما على الطرف الخاسر أن يحاول قبول الخسارة بروح رياضية وأن يسعى لشحذ همم فريقه بمراقبة أداء حكم الفائز والاستعداد لخلافته في الدورات القادمة، بالاستفادة من مواقع فشل الجهة الحاكمة هذه أو قصور أدائها مع تقادم الحكم، أو إذا لم تتوفق في تسيير شؤون البلد بمهنية وقدرة واعية على قيادة دفته بحنكة وحكمة ودراية وافية. فالفرصة قادمة للخاسر أيضًا، لا محالَ، إذا التزمت كافة الأطراف بهذا النهج وتم ترصينه وترسيخه في ثقافة المجتمع. بمعنى آخر، أن التنافس السياسي  بين الأحزاب والكتل، لا يفترض بها أن تتحول إلى صراعات ثنائية واتهامات متبادلة. وكي لا ننسى، أن الانتخابات ليست دومًا محكًّا أكيدًا لتسمية هذا البلد أو ذاك بالبلد الديمقراطي، وذلك بسبب تنصل الفائز في أحيانٍ كثيرة من التزاماته الأخلاقية وحبه التربع على عرش الحكم ما طاب وحلا له حين وصوله إلى السلطة. وهذا ديدنُ السياسيين في الشرق العربي بخاصة، وهذا أيضًا ما تخشاه شعوب المنطقة ومعها نحن أيضًا في العراق، من خطورة انزلاق السياسيين وراء مثل هذا النهج غير الحضاري. وجزءٌ من مشاكل السياسيين في العراق اليوم، يقوم أساسًا على الخوف من انتهاج هذا السلوك.
لماذا رفضُ مبدأ الديمقراطية؟
في بلدان متخلفة في مجتمعاتها عن الركب العالمي المتحضّر، كمنطقة الشرق الأوسط عامة  ومنها في العراق، لا يمكن لمثل هذه البلدان أن تطبق مفهوم الديمقراطية بشكلها الصحيح. والسبب يكمن في طبيعة التكوّن الاجتماعي و التسلط الديني و شيوع العرف العشائري والقبلي، وكذا بسبب الخشية من تطبيق أيّ شيءٍ من جزئيات هذا المفهوم وما قد يترتب على ذلك من مخاطر ومهالك من جانب جهاتٍ متنفذة غير واعية أومن مرجعيات دينية لا تقرّ بقبول شيء اسمه" الديمقراطية" في حياة مجتمعاتها، بحجج واهية منها كونها تجلب المفاسد والفوضى والانفلات، متناسين محاسنها ومفاعيلها في تطوير المجتمعات واستقرارها بسبب من ترسيخها للاستقرار السياسي والاقتصادي وما تفرضه من رقابة على أداء مؤسسات الدولة من الطرف الآخر أي المعارضة. لكن، بحسب بعض الشيوخ والسادة من رجال الدين المسلمين، لا يمكن للإسلام والديمقراطية أن يلتقيا، بل هما يسيران في خطٍ متوازٍ لا مجال للقائهما البتة. وقد قالها على الملأ، صراحة وبكل جرأة متنورون ومثقفون ورجالات دين ودولة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر كلّ من السيدين المتنورَين أياد جمال الدين وأحمد القبانجي وغيرهما كثيرون. وتُعدّ المواقف المتشددة والرافضة لهذا المبدأ من أساسه، ظاهرة قائمة لا يمكن تجاهلُها، رغم خطورتها على الفرد والمجتمع. فقد طغى ذات الفكر الرافض لهذا المفهوم، حتى على صعيد المؤسسة التشريعية التي تقف اليوم عاجزة عن الردّ أمام المطالبة بتطبيقات شذراتٍ من مبادئ الديمقراطية الوليدة التي صدّرها الغازي الأمريكي ومعه المتحالفون معه من الدول الأوربية. بل إن لغز الخلاف بين المشرّعين يبدأ من البنود الأولى في دستور البلاد الجديد المقرّ في 2005، حيث يجعل من الدين الإسلامي، المصدر الأساس والرئيس له. وهذا وحده كافٍ للحكم على ديمقراطيتنا بالقصور والفشل في أساسها، لأن هذه البنود تضع حدّا لكلِّ ما قد يتناقض أو يتعارض مع أحكام الشريعة، من وجهة نظر دينية صرفة. فما نراه في حياتنا اليومية لا يعدو كونه قشورًا للدعاية، ليس إلاّ. إذن، أين الديمقراطية التي نتبجّح بها من خلال تصفيقنا للمحتلّ الذي نقلنا من حكم دكتاتوري للحزب الواحد والقائد الأوحد، إلى حكم يئنّ تحته الشعب المغلوبُ على أمره تحت حكم ديني إسلاموي واضح؟ فهل نترقب تصحيحًا في سياق هذا المفهوم لينشلنا من نير سلطة تحتكم بأمر المرجعيات في السير قُدُمًا نحو أسلمة المجتمع؟ لكي نعلم، أن مثل هذا النظام،  في جزئياتٍ كبيرة منه سائدًا في العصور الوسطى في أوربا، لغاية أن انتفض الشعب على حكامه المؤتمرين بأمر المراجع الكنسية المتسلطة آنذاك، حتى تمّ التخلص من كلِّ آثاره بثورات ديمقراطية شعبية، هي الأقرب اليوم إلى مضمون المفهوم الصحيح لها في الدول التي تنتمي لهذه القارة. وهذا ما سمح لهذه البلدان أن تتنور وتتمدّن وترتقي بأنظمتها إلى سلّم التطور والتحضّر والتنمية في كل مفاصل حياتها. وما سيل الهجرة المتنامي نحو بلاد الغرب، وإلى أوربا بالذات، إلاّ الدليل القاطع على الإيمان بتطبيق هذه القارة لمفاهيم الديمقراطية الأقرب "وليس الأكمل"، إلى المبادئ الأساسية الأولى التي تشكلت على أسسها، والتي يحلمُ بها كلُّ طالبي الهجرة والساعين إلى الاستقرار وإلى حياة أفضل في دول المهجر.
هل الديمقراطية تعني ما نريد؟
ما نلاحظه، في مؤسساتنا الحكومية والتشريعية، لا يعدو كونه تخبطًا في مفاهيم الديمقراطية التي يتبارى فيها السياسيون بالتصريح بها والتأكيد على تطبيقها في الحياة السياسية والاجتماعية بخاصة. لكنهم، نسوا أو تناسوا ما تقوم به دوائر ومؤسسات وجهات غير منضبطة في صدّ ومحاربة كلّ ما يقترب من ممارساتٍ قريبة من مفهوم الديمقراطية التي حلم بها الشعب العراقي دون أن ينعم بمفاعيلها ونتائجها كاملةً غير منقوصة منذ التغييرات الدراماتيكية في البلد في 2003. وبطبيعة الحال، هذه العناصر ليست تتحرك من ذاتها لتنفيذ مثل هذه الملاحقات غير الحضارية، بل هي تتحرك وفق أوامر وتعليمات من جهات حكومية عليا، أو من أطراف حزبية ودينية متنفذة قد تركتها السلطات تتحرك وفق أجنداتها دون أن تصدّها أو تنهاها للأفعال التي تقوم بها. والدلائل على ذلك كثيرة، تمثلت مؤخرًا بغزواتٍ متتالية ومتزامنة ومنهجية، على مواقع وأماكن اجتماعية وثقافية تتعاطى أدواتٍ تعترف بها الدولة ضمنًا في الدستور الذي صاغه ممثلو الشعب، ومنهم مَن هُم اليومَ في قيادة الدولة. كما أن الدولة العراقية الجديدة، في غيابِ دوائر مؤسساتية رصينة مهنية وفاعلة، لم تستطع احتواء الساعين لإفشال نهج الديمقراطية المصدَّر للبلد، أو في الأقلّ تحجيمهم وتأنيب من يبالغ ويكابر في ردع أدوات الديمقراطية وروّادها من المثقفين وأصحاب الرأي والفنّ والعلم. ولعلّ السبب في كلّ هذا وذاك، غياب مبدأ الفصل الحقيقي بين السلطات السياسية والدين. وهذا وحده كافٍ لنسف أية فكرة أو محاولة لتطبيق مبدأ الديمقراطية على وجه حسن ومقبول أو حتى في المناداة بهذا المفهوم المتحضّر. من هنا، لا يمكننا القول أن الديمقراطية في بلدنا، وفي الشرق عامة، تعني ما نريد ونطمح له. فالإحباط  في سلطة الدولة إذًا، قادمٌ أساسًا من إقحام المفهوم الديني في السياسة، حيث تسعى أطرافٌ مدعومة لتحقيق مبدأ سلطة "الدين والدولة" معًا، في حكم البلاد، تجاوزًا على حقوق الغير من المكونات المختلفة عن دين الأكثرية، التي من حقها وفق شرعة مبادئ حقوق الإنسان التي وقّع عليها عدد من الدول العربية وبضمنها العراق، أن تنعم بكامل الحقوق المواطنية الإنسانية التي تتمتع بها الأكثرية دون تمييز في الدين أو المذهب أو العرق أو القومية أو الفكر أو الانتماء أو اي شيء آخر، وعلى أساس الشراكة في الوطن والانتماء الصادق له وليس لغيره، أرضًا وسماءً وماءً وفكرًا ومحبةً وحرصًا وكفاءة ً ومهنيةً. لكن من المؤسف حقًا، أن تلاقي المكوّنات قليلة العدد (الأقليات) المختلفة عن دين الأكثرية في العراق، إحجامًا  وصدًّا من كتل سياسية تدّعي اصطفافها وتعاطفها مع حقوق هذه الشرائح إعلاميًا، في حين تتعامل مع مطالبها وطموحاتها بشيء من الغرابة والرفض والتصغير حين يتعلق الأمر بمناصب ومشاركة في هيئات وطنية وتأسيسية مثل المفوضية العليا لحقوق الإنسان وتوأمتها المفوضية العليا "المستقلة" للانتخابات وغيرها. إذ كنتُ قد وضعتُ الأخيرة بين معقفتين، لأنها يجدر بها أن تكون مستقلة من اسمها، ولكنْ حتى هذه سُيّست وجُيّرت لصالح الكتل والمكوّنات الكبيرة. وبذلك، تم إهمالُ هذه المكوّنات "الأقليات"، وتهميشها وإقصاؤها بتعمّد ومع سبق الإصرار كلّما استجدّ جديد في العملية السياسية العرجاء. وهذا منافٍ تمامًا، للأسس الديمقراطية التي يجري الحديث عنها في الأوساط الحكومية والسياسية المتنفذة في الدولة. بل، إنّ هذا ما يُلزم هذه الشرائح الصغيرة أن تستنجد بضمائر المنظمات الدولية وتأثيراتها على الساحة العراقية، ومنها "اليونامي" المشرفة على عملية تشكيلها، بعد رفض السلطات الحكومية الاستجابة لمطالبها بأن تكون ممثَلةً في مثل هذه الهيئات جميعًا. وإني أتساءل، إذا كان السياسيون "يدّعون" دعمَهم وحرصَهم بضرورة وجود تمثيلٍ حقيقي ومقبول لأبناء الأقليات في مؤسسات الدولة وهيئاتها كونهم أصلاء في نسيج هذه الأمة، ضمانًا لتأكيد أهمية وجودهم في هذا البلد ودرءً لعدم انجرارهم وراء سيل الهجرة الجارف إلى دول الاغتراب والمجهول، فما الذي أقحمهم برفض المطالب المشروعة بضرورة تمثيلهم في هذه المؤسسات الأساسية في بنية الدولة، وقد أقرّتها المحكمة الاتحادية من جانبها في وقت سابق؟
سؤالٌ يبقى قائمًا للإجابة عليه وتبرير المواقف.

لويس إقليمس
ناشط مدني
بغداد، في 3 تشرين أول 2012
 

379
بين الآشوري والكلداني، ضاع السرياني!

كنتُ قد قرّرتُ عدم الكتابة أو الردّ على كلّ ما يُكتبُ عن شيء اسمُه التسمية القومية لما يٌسمّى بشعبنا الواحد، باعتبارها أزمة مستفحلة بين أقطاب ترفض غيرَها على الساحة أو أقلّ ما يمكن أن يُقال، أنها تستصغر غيرها ولا تستسيغ أن يكون لغيرها شأنٌ في كعكة المحاصصة التي شملتنا بعدواها نحن أيضًا. ولِما لا؟ ألسنا جزءًا من نسيج هذا الشعب الذي تحكمه إقطاعيات المحاصصة في كلّ شيء؟
 ولكن، عبثًا يحاول بعض كتابنا المسيحيين، ممّن أُصيبوا بزكام الادّعاء المطلق لأحقيتهم بتسمية قومية معينة يحبسونها لهم في الذهن ويريدون فرضها على غيرهم، والعمل على إثارة هذا الموضوع المحيّر بين الفينة والأخرى، رغم أن عصر القوميات قد انتهى في البلدان المتحضرة.
وعجبًا، على بعض كتابنا، ممّن ركبوا موجة هذا الادعاء، في مناسبة وبدون مناسبة، في محاولة بعضهم التهجم أحيانًا على كلّ من لا يعترف لهم بهذه التسمية "الإشكالية" القائمة بين مختلف الطوائف المسيحية.
وعتبًا، على مثقفينا من الانجرار وراء هذا الصراع غير المجدي بين المتخاصمين على لا شيء، سوى آثارِ شيء من الحنين لأثيرٍ انتمائيٍّ لشيء اسمُه القومية تثيره هذه الطائفة أو تلك، تاركين أمر المستقبل المسيحي"كمكوّن دينيّ أصيل في نسيج الشعب العراقي قبل كلّ شيء، في مهبّ الريح"، رغم كونه أهمّ من أيّ تمسّك ب"الديدن القومي". فخبرة السنوات العشر المنصرمة من الوضع الجديد الذي خلقه التغيير الدراماتيكي في العراق، علّمتنا أن التشبث بهذه القشّة، لم يعد فاعلاً ومؤثرًا، بعد تزايد الضغوط على المكونات الإثنية والدينية الأصيلة التي أحالها الزمن العاثر إلى طوائف قليلة العدد ومستضعفة، في محاولة لتحجيمها وصهرها، بما فيها المكوّن المسيحي. (وما الغزوة الأخيرة على النوادي الثقافية والاجتماعية، والمسيحية المقصودة منها بخاصة، خير دليل على استهداف بقاء المسيحية والمسيحيين في العراق.)
إنه صراعٌ محتدم تحت الرماد، يثور بين فترة وأخرى، أو بالأحرى يثيره مشاكسون من طرفي المعادلة المتخاصمين، سواءً من الطائفة الكلدانية أو الآشورية، وفي أواره يضيع في كلّ مرّة، إسمُ "السريان". فبعد أن حرَمَ الدستور الجديد، مكوّنَ السريان من تثبيت تسميتهم إلى جانب الكلدان والآشوريين، لعدم وجود ممثل لهم في البرلمان آنذاك، في نسخته الأولى، وبالرغم من اعتراضنا ومطالبتنا بإنصافنا في حينها، إلاّ أن كلام بيلاطس كان الاٌقوى " ما كتبتُه، فقد كتبتُه"، رغم أن تسمية "السريان"، كمكوّن قوميّ، كان سيجمع جميع المسيحيين المشرقيين على اختلاف طوائفهم، استناداً للغة "السريانية" التي يفتخر الجميع بالتحدث بها. فالشعوب كما نعلم، تُسمّى على تسمية اللغة التي يتحدثون بها، كما العرب للعربية، والفرس للفارسية والأتراك للتركية والفرنسيين للفرنسية والألمان للألمانية وهكذا. ومن هنا، لم نسمع بلغة تسمى الآشورية أو الكلدانية، بل بطوائف تنتمي إلى كنائس آشورية وكلدانية وسريانية، تتحدث اللغة السريانية المشتقة من الآرامية التي تحدث بها السيد المسيح في بلاد اليهودية والسامرة. وهي ذات اللغة التي كانت قائمة في أطراف الجزيرة العربية وبلاد الشام وشنعار (العراق) وبلاد فارس التي اتخذها ملوكها لغة رسمية في التعاملات البروتوكولية لفترة طويلة ومناطق أخرى... إلاّ أن التحسس من هذه التسمية لدى نفرٍ متعصّب ركبته موجة إثارة النعرات والمشاكل بين الطوائف، قد حالت دون تحقيق هذا الأمل. وأنا أعتقد جازمًا، لو أن هذه التسمية كانت قد أُقرّت في حينها، في هذا الدستور "الأعرج"، لكانت حلّت تلك الإشكالية من وقتها، ولكنّا بوحدتنا، فرضنا وجودنا المسيحي "السرياني المشرقي"  على أصحاب القرار وقطعنا الطريق أمام المتصيّدين بالماء العكر والمتعصبين، بإثارة هذه المشكلة "الأزمة" من قبل من يدّعون أنهم شعبٌ واحد، ولكن، عندما تُتاح  لهم فسحةٌ فائضةٌ من الرياح العكرة، تظهر منهم رؤوسٌ طافية من جديد، لتلعن هذا وتكذّب ذاك وتعتب على آخر.
قرأتُ مؤخرً، ما كتبه بعض "مثقفينا" من رواد المواقع الالكترونية، وبالذات موقع "عنكاوة"، عن فكرة إقامة "مؤتمر قوميّ" لأبناء شعبنا المسيحي، وعن كيفية تشكيل الهيئة التحضيرية وتوجيه الدعوات ونوعية المدعوّين والجهة المتكفلة بالمصاريف وتهيئة قرارات وتوصيات مسبقة ولمن ينبغي الإطراء والمديح وما إلى ذلك. وفي معظم هذه المداخلات والكتابات، لم ألحظ إشارة إلى مكوّن السريان، أؤكد "مكوّن السريان"، بعد أن غيّبه هذا البعض في نقاشاتهم وسجالاتهم وخصاماتهم الميتافيزيقية العقيمة. ولعدم ورود ردّ من أبناء هذا المكوّن لغاية الساعة، أرى لزامًا عليّ أن أدلو بدلوي، رغم أنه قد لا يعجب البعض. ولكنه قولٌ لا بدَّ منه.
أقول، إن الاحتفاظ بالاستقلالية أو الانفصال عن أيّ تجمّع، أمرٌ مكفولٌ وقائمٌ، لا يمكن إنكارُه، مهما كانت الظروف والوسائل والآليات لأنه ببساطة حق تكفله ديمقراطية آخر الأزمنة. وإنّي أرى أن من يسعى إلى ذلك، لا يمكنه بعد كلّ هذا وذاك، أن يتحدث عن شيء اسمُه الحوار، لأنه يكون قد حسم أمره بالانحياز إلى التكوين الجديد "المستحدث" الذي يدعو له منذ انطلاقة الأحداث بعد أول مؤتمر قومي حققه أبناء شعبنا في عام 2004. وهؤلاء الذين حسموا أمرهم من "المكوّن الكلداني"، استندوا في جزءٍ من ذلك الادّعاء، إلى مبدأ الأكثرية التي يشكلها أبناء هذه الطائفة بالتحديد وإلى انتماءات تاريخية غير مقنعة، مقارنة بالمقابل، مع إصرار الجانب "الآشوري "على اعتماد "الآشورية" في التسمية القومية لهم وفرضها على عموم المسيحيين، ضمن أجندة خيالية بعيدة الرؤية ترنو لإعادة إحياء أمجاد "بلاد آشور" ومجدها، (رغم أنّي أرى أن لا أحد نقيٌّ اليومَ، في أصله وقوميته ودينه وعشيرته)!. إذن، ما هو الجديد في توقعات هذه الشريحة من الانفصاليين الذين يمنّون النفس بالمشاركة في مؤتمر "قومي" مقترح للطوائف المسيحية في الأشهر القليلة القادمة؟ هل هو للتملّق والتقرّب من مصادر قرار معروفة، لها باعٌ في توزيع امتيازاتٍ في حكومة الإقليم بالتحديد؟ أم لذرّ الرماد في العيون، والتباري في الادّعاء بوحدة الشعب المسيحي بكل طوائفه، رغم أن مثل هذه التحرّكات وغيرها، خيرُ دليلٍ على تفتيت وحدة هذا الشعب؟
الجميع يعترف بمهزلة "التسمية القطارية" التي اعتُمدت من جهة متنفذة سياسيًا وماديًا، لتلافي خصامات وخلافات قائمة ولتحقيق أجندة مرحلية. لكنها ليست "مطهّرة" ولن تكون "مقدسة "محظورٌ المساس بها. فمتى ما أنجز عرّابُها المهمةَ، تداعت واستبدلت بشيء حديث يلائم المرحلة اللاحقة. وإني أتفق مع الأخ كاتب المقال الداعي  "ما يُسمّى بتجمع التنظيمات السياسية لشعبنا بشأن عقد مؤتمر قومي خلال الأشهر القادمة، من أن هذه المناسبة ستكون فرصة ذهبية للتصافي والحوار آخذين بنظر الاعتبار مصلحة شعبنا من الكلدان والسريان والآشوريين" (اقتباس). لكني أختلف معه في النيات، إذ إنه هو ومن وافقه في الرأي والطرح المتداول على الفضائيات والمواقع الالكترونية، قد حسموا أمرهم، كما أسلفتُ، بدعم من اللوبي الأمريكي، صاحب فكرة الادّعاء المطلق بالأحقية بالتسمية "الكلدانية"، والمحرّض الدائم لهذا التوجه. فما النفع من وراء هذا الطرح الجديد، وقد حكمتم على هذا المؤتمر مسبقًا بسيناريو الفشل والتواطؤ والاصطفاف الإعلامي المدبّر ووووو. ثم يعود الأخ صاحب المقال، ليقترح "فتح باب الحوار مرة أخرى وكذا فتح باب التحدث والتعبير عن الرأي بكل حرية لكل الأطراف، مشيرًا إلى منح وقت كافٍ لمن يعتبرون أنفسهم آشوريين، مع منح نفس المساحة من الحرية للتحدث لمن يفتخر بقوميته الكلدانية". هنا ينتهي الاقتباس، لأتساءل: أين دور السريان في هذه الأبواب من التحدث والتعبير بحرية؟ أم إن صاحب المقال، قد شملته عدوى تهميش الغير واستباحة حقهم بهدف صهرهم في التسميتين المتصارعتين على الهواء الطلق بعد أن سبق تواطؤ الطرفين  المتخاصمين على إسقاط السريان من تسمية المكوّن المسيحي في دستور 2005 ولم يحاولوا ترميم تلك الغلطة لغاية الساعة. ويذهب كاتب المقال في "تشريحه"؛ حينما يقدّم مقترحاته مرة أخرى بكيفية "عقد المؤتمر وتوجيه الدعوات ورفع العلمين الكلداني والآشوري" حصرًا، دون السريان، وكأنه لا وجود لهم أمام عينيه. ما هكذا تُساق الإبلُ، يا خصمَ الآشورية والآشوريين ومتجاهلَ أمر السريان عمدًا ومع سبق الإصرار.
إن من يتهم خصمه بالعنصرية الإقصائية، نجده أمام ذات الفكر الإقصائي، في إسقاطه تسمية "السريان"، التي يتحسس منها نفرٌ من الطائفتين، كما قالها صراحة أحد رعاة هذا الفكر الإقصائي، القابع في أميركا وعرّاب دعاة القومية الكلدانية "المستحدثة" قبل مرحلة كتابة الدستور آنذاك بقوله: أنا لا أريد أن أسمع بشيء إسمُهُ (س ر ي ا ن ). ولنا شهودٌ في ذلك، حينما كنّا نمثل "المجلس الكلدو- الآشوري السرياني القومي"، رحمه الله (انتهى دوره في صيف 2007)!. وكلُّنا نعلم اللعبة التي خُطِطَ لها لتشكيل ما يُسمّى ب"المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري" فيما بعد، والذي بُني أساسًا على أنقاض الأول، والدور الذي لعبه منشقون مغرضون عن الأول من كلتا الطائفتين من أجل إلغائه وإفشاله لتنفيذ أجندة سياسية معروفة للجميع.
إنّي، في الوقت الذي أعتذر فيه عن بعض الشدّة في هذه المداخلة، ولو مرغمًا، في "غياب فكر دفاعيٍّ سرياني حريص" في هذه اللعبة غير المستساغة، أدعو الجميع للتراجع عن كلّ تشدّد وتمسّك بالرأي وترك موضوعة "التسمية" التي لم ولن تنفع، جانبًا، بقدر ما ستعمل على زيادة الطين بلّة في فرض الانقسام والتشرذم والتخوين. وليسمّي كلّ متحذلق ما شاء في شكل وأصل قوميته التي يختارها. ولكن، ليكن شعارُنا للمرحلة القادمة مسيحيًا بنّاءً، موحدًا، مخلصًا ومساهمًا في كيفية رصّ صفوف الشعب المسيحي، بكل طوائفه، والتمسك السياسيّ به كمكوّن "دينيّ" مؤثر وأصيل، على الأقلّ في المرحلة الراهنة. وهذا وحده كفيل بلمّ اللحمة وفرض الحقوق "الدينية والقومية" معًا، باعتبار المسيحية ثاني ديانة معترف بها في دساتير الدولة كلها. ولنعزّز مثل هذا الاعتراف في الدستور الحديث مع محاولة إجراء التعديلات الممكنة على عدد من بنوده، وهي كثيرة لو صدقت النيات، بجهود نوابنا في البرلمان وأصدقائنا في اللجان البرلمانية وفي الدولة، وبالتعاون الدائم مع منظمات المجتمع المدني وأحزابنا القومية ومؤسساتنا الكنسية عبر مجالسها الأسقفية الموقرة.
لويس إقليمس
بغداد، في 09 أيلول 2012



380
بخديدا البهاء والشموخ: دمتِ ذخرًا وعشت فخرًا وترعرعتِ دهرًا


هي هي "بخديدا "(قرقوش)، علت في سماء العزّ منذ انتصابها وازدهت ببهاء كنائسها وإيمان أبنائها ذخرًا برائحة المسك والطيب والكرم الأوفر، وزادها فخرًا، أصالةُ العديد من رجالاتها منذ نشأتها، ممّن صانوا كبرياءها وتراثها وتقاليدها، فظلّوا سادتها وقدوة لأبنائها لأنهم ببساطة ظلوا كالطود الصلد الباسق، لم يرضخوا ولم يخنعوا ولم تخر قواهم أمام مغريات الدهر أو مصائب الزمن ونكباته.
"بخديدا" بعمرها، لم تركن ولم تركع ولم تستسلم إلاّ لإرادة خالقها وحامية سمائها وأرضها شفيعتها العذراء مريم الطاهرة التي تزدهي باسمها كبرى كنائسها، رغم محاولات كثيرة لتركيعها واستباحتها. قد تكون ضعفت في أوقات صعبة أمام تحديات فاقت قدرتها، لكنها ظلّت منتصبة القامة، راسخة في إيمانها، أمينة في رسالتها، ناضجة بأفكارها، رائقة بمثقفيها، شامخة بكبريائها، فاخرة بشبابها وبناتها، عامرة بكنائسها ورجالاتها ورهبانها وراهباتها، "تُنتج منهم وتصدّر" ما لم تستطع أية بلدة أخرى، ليس في الوطن والمنطقة فحسب، بل ربما في العالم منذ نشأتها ولغاية الساعة. كيف لا، وبها ولها وفيها الكثير ممّا كان يعشقه الطيرُ والقطى والحمام وذاك اللقلق الأمين الذي كان يصطفي فيها كل عام، إلى جانب أشكال أخرى من طيور السماء التي اختفت مأسوفًا على زياراتها الموسمية منذ نشأة هذه البلدة العريقة. وبالمناسبة، إنّي لأشعر بالأسى، كلّما تذكرتُ ذلك "اللقلق الأمينِ" الذي كان يحطّ صيفًا، على المجرسة القديمة لأقدم كنيسة في البلدة ويقيم عشه على قمتها ليغادرها بعد فترة حضانة محسوبة،  ومعه أجيالٌ جديدة من صنوه بعد أن يكون قد تبارك بخيرات وبركات المصلين المتواترة على أصوات الناقوس الضخم آنذاك. لقد غادرها ذلك "اللقلق الأمين" إلى غير رجعة، مرغمًا في بداية السبعينات من القرن الماضي، بسبب اتخاذ قرارٍ آنذاك بتهديم ذلك الشاهد الباسق بحجة الحداثة في التشييد والعمارة. وما زال في ذكرياتي شيءٌ من ذلك كلما ولجتُ الحوش الخارجي الأيمن من كنيسة الطاهرة الكبرى، حيث ما لا أنساه مرّة وأنا أجرّب دق الناقوس عصرًا، بعد استئذان ساعور الكنيسة- رحمه الله آنذاك- عندما رفعني الحبل الغليظ مسافةً إلى أعلى، فزادني المنظرُ رعبُا، وأنا أتطلّع كيف تتحرك تلك العتلة لتقرع الناقوس وتسمع صوته الذي كان يطال القرية كلها وينبهها لوقت الصلاة أو لمناسبة ما وبحسب نوع الدقات التي كان يقصدها القارع!
على أية حالٍ، هذه حال الأيام، لا شيء يدوم ولا أحد يتأبّد، وحده الخالق هو الباقي. أما نحن وغيرنا، فلنا بلتأكيد، موعد مع من سبقنا إلى الديار الأخرى متى آن الأوان.
"بخديدا" كانت وستبقى نموذج البلدات المسيحية الشاهدة بإيمانها، وتراثها، وتقاليدها، وكرمها، ومطبخها العامر، وجزيل غلاّتها، وحبّها، واحترامها لكلّ قاصديها، أيًّا كانوا ومن أينما جاءوا. كما أنها ستبقى قبلة السريان دون منازع، ومنارة تشع حبًا وحيوية وتجدّدًا لمن يريد الارتواء من مناهلها العذبة والاستفادة من واقعها التقليدي والديني والاجتماعي بكل حيويته، وما أكثرها!
"بخديدا"، هي أمّ الكنائس والأخويات والأديرة، منها الطاهرة القديمة والطاهرة الكبرى ومار يوحنا الديلمي ومار كوركيس ومارت شموني ومار يعقوب ومار سركيس وباكوس ومارزينا ودير مار ناقورتايا ومار قرياقوس دون نسيان دير مار بهنام التابع لها جغرافيًا، علاوة على ما أُضيف وسيُضاف إليها من كنائس جديدة، بعونه الله راعيها، وبحماية السيدة العذراء، شفيعتها.
"بخديدا"،هي اليوم، الحلقة الجميلة المنتخبة في لقاءات رجالات الكنائس وأنشطة شبيبتها الحيوية العديدة المتنامية. وهي الضيعة الهادئة لمن يبحث عن واحة وفرصة للراحة والأمان ونفض غبار تعب العمر وشقاء الأيام في الغربة والهرب من منغصات أعمال الإرهاب والتكفير والتهجير الممنهج. وهي الحاضنة لكل ثقافة وفن وعلم وإبداعٍ بمختلف أشكالها وألوانها وتوجهاتها. كما أنها الترعة التي تستقي من كلّ جديد وحديث دون إماطة اللثام عن قديمها الجميل الذي يبقى زهيا ملهمًا لكلّ هذا وذاك، رغم اختلاط الأمور في أحدث سنواتها بالخوف من توشيحها ما لا يليق بها بل ويشّذها ويبعدها عن صيانة ديمغرافيتها وجغرافيتها وتاريخها ضمن الوطن الأمّ. ولنا في ذلك موعد!
"بخديدا" اليوم بأروع حلّتها، عروسٌ عامرةٌ بالفرح والإيمان، وأيضًا بالرجاء بصحوة جديدة تحيي فيها غيرة من صانوها في عهود السواد والظلام والقهر والغدر، وهي ليست مستثنى من هجمة بل من هجماتٍ شرسة قادمة قد تقصف هامتها بغفلة من المتلاعبين الجدد بمصيرها والمزايدين على مستقبلها لأجل مغريات تافهة لن تدوم، إذا لم يحسنوا التصرف ويعملوا الحكمة في اتخاذ ما ينبغي، فيما لو استجدّت أحداث، وهي غير بعيدة في الأفق!
"بخديدا"، هذه الأيام، طغت عليها سعادة الإنعامات البطريركية الجزيلة بالجملة، أدام الله مبتكرها وأعزّه للأصلح والأولى منها، وبما يعزّز مكانتها واستقلاليتها ووحدتها مع باقي نسيج الوطن الأم. فهنيئًا للقساوسة الذين تطرّزت حللهم  بألوان قرمزية  وحمراء زاهية، يعلوها لمزيدٍ من الأبهة صليبٌ، هو في واقعه ومفهومه ليس علامة تبختر أو تيه، بقدر ما يعني زيادة حملٍ ثقيلٍ آخر من الوفاء والمحبة والإنصاف والبذل والعطاء والتواضع والخدمة المجانية، على كاهلِ من يحمله، فهل من معتبر!
"بخديدا" هذه الأيام تفخر بلا اغترار، بزيادة كنائسها بوضع حجر الأساس لكنيسة جديدة تحمل اسم مار يوسف، تحتاجها البلدة كي تضيف دليلًا آخر على أصالتها في الإيمان و برسالتها المسيحية والسريانية بخاصة، ليس في المنطقة فحسب، بل على صعيد البلاد والشرق أيضًا. لقد أصبحت قبلة الباحثين والمتشوّقين لتراثٍ مسيحي سريانيٍّ ولبقايا إيمان ووجودٍ مسيحي زاخرٍ ومتجدّد بسببٍ من موقعها وثقل وزنها وتعاظمِ أعداد مؤمنيها وممّن يقصدها لمزيد من الأمن والأمان وراحة النفس والبال.
و"بخديدا"، سبق وأن احتفلت في سنوات عجاف بمشاريع عملاقة على صعيد البلاد والمنطقة، وهي اليوم تحتفل بافتتاح قاعة جميلة جديدة للمناسبات، يعود فيها الفضل لهمّة عالية لواحد من رجالاتها القديرين من الذين كنا دائمًا نصبو منهم بقاءهم أنقياء اليد والجلباب والغيرة دون مسايرة أو معايرة أو مغايرة يُشمّ منها رائحة غير مقبولة على صعيد وحدة الهدف والوطن ومصلحة عموم المكوّن المسيحي.  نأمل دومًا، أن تبقى هذه البلدة العريقة، أحد المراكز الوطنية المسيحية المهمة التي يُحتذى بها وقبلة  ومأوى لكلِّ محبيها وعاشقيها وليس الطامعين بها. إني أعتقد، أن مثل هذه الهمّة العالية مطلوبة ومرحبٌ بها هذه الأيام أكثر من غيرها، من أجل الحدّ من أيّة تجاوزات أو أطماعٍ - على اختلاف مصادرها وأشكالها وتوجهاتها- على حقوق أبناء المنطقة عامة، والبلدات المسيحية فيها بخاصة. هذه الهمّة المشكورة، التي يُشار إليها بالبنان، من الأجدر بحاملها أن تبقيه رصين النفس والفكر والهدف، جامعًا لا مفرِّقًا، موحِّدًا لا مجزِّئًا، حاميًا لا مفرِّطًا، محبًا غير حاقد، عطوفًا غير غاضب، متواضعًا لا متجبرًا ملوّحًا بالنصر ولو مظلومًا،  متفتحًا غير منغلق، مسايرًا ومحاورًا مع الكلّ ولأجل الكلّ ولمصلحة الكلّ، حتى مع من قد يختلف معه في الفكر والرأي والتوجه. فالإختلاف، مهما حصل ودام لا يفسد في الودّ قضية، ولا ينبغي تحوّله إلى خلاف وشقاق وعناد، قد يعمي البصر والبصيرة! وليعلم هذا وذاك، أن هناك أيضًا، من يعمل في الخفاء لمصلحة هذه البلدة الطيبة، دون واجهة أو تحفيزٍ مادّي أو إعلام مأجور، إلاّ من غيرة شخصية تطوّعية، يسعى فيها وبها إلى تحسين صورة البلدة وأهلها الطيبين وجعلها في عداد الحاضرات المهمّات والجميلات على الأصعدة كافة، ودون مقابل.
وفي الختام، أقول عندما يشعر الفرد بغيرة البيت تأكلهُ، حينئذٍ ينطلق وفي مخيلته بناء ذلك البيت على أسس متينة وصخرة قوية ووفق طرازٍ مقبول من الساكنين والمتفرجين والجيران على السواء، لا على رمل الأحلام الفارغة والوعود الوردية التي لا يُجتنى منها غير الجلبة والهيصة والفرقعة الفارغة التي لا تدوم. وبلدة "بخديدا"، بسبب هذا وذاك، هي اليوم في مفترق طرق بسبب تجاذبات سياسية طامعة في موقعها وفي أهلها ومستقبلها. ولئن كنتُ من الداعين بشدّة إلى الاحتفاظ بتراثنا "الباخديدي" الثري وتقاليدنا الرائعة في بساطة الحياة وتعقّدها على السواء، وإلى أرّخة أزقتنا القديمة وما تبقى من بيوتاتها المتهالكة، وإلى الالتزام الأخلاقي بلهجتنا السريانية التي قهرتها العربية بقوة تداخلها وبسبب من ضعف التزام المتحدثين بمفرداتها السريانية الأصيلة وعلى رأسهم رجال الكنيسة، إلاّ أني أخشى ضياع كل هذه الآمال والأحلام والتمنيات في غفلة من الزمن وفي لحظة قد تتصادم فيها الحضارات والإثنيات والقوميات والأديان والمذاهب داخل الوطن، لتتيه في دهاليز السياسة والسياسيين الطامعين من جميع المكونات والملل والإثنيات، من الذين لا همّ لهم سوى تسخير مآثر هذه البلدة وطاقاتها ونقاط قوتها وطيبة أهلها وأصالتهم، وتجيير ذلك كلٌ لحسابه ولمصلحته ومنفعة كيانه. والغد لناظره قريب!

لويس إقليمس
ناشط مدني
بغداد، في 20 آب 2012

381
هل من صحوة مسيحية جديدة في العراق؟

قد يسأل سائل: لماذا هذا الإصرار من قبل الحكام الجدد في العراق، الذين نصّبهم الغازي الأمريكي بالتنسيق مع البلدان الأوربية "العجوز"، المحسوبة ظلمًا على المسيحية، لماذا إصرارهم المعتاد على تجاهل وتهميش  الحقوق المواطنية الكاملة غير المنقوصة للمكوّن المسيحي بجميع طقوسه وطوائفه ومشايخه ومعهم سائر الأقليات الأخرى؟ أو بالأحرى، لماذا هذا التهميش المنهجي المتعمّد  لهم ماضٍ قدمًا ودون هوادة، غير مبالٍ بالأصوات الشعبية والوطنية الصارخة التي تطالب بإنهاء مرحلة المحاصصة المقيتة التي بسببها، صارت المكونات القليلة العدد، أي الأقليات، ضحية وفريسة لأطماع القوميات والكتل الكبيرة التي لم تكن تحلم ولو بجزء يسيرٍ ممّا نالته من مكاسب طائفية وعرقية ومذهبية بدعمٍ وتشجيع من الغازي الأمريكي البغيض. كلَّ يوم نسمع ونطّلع ونشاهد مسرحيات إعلامية وخطب رنّانة من كل الفئات والأحزاب ومن مختلف أشكال الرجال وأشباههم، ومن النساء السافرات والمعمّمات على السواء، من الذين ألقت بهم الأقدار الطائشة في الحكم، وهم ينددون علنًا، بمبدأ المحاصصة الطائفية ويلعنون مخططيها ومشجعيها والقائمين عليها، ولكنهم في الواقع، هم من أشدّ المطالبين بتثبيتها في كلّ مناسبة يشعرون فيها باهتزاز مصالحهم في حالة تركها وإلغائها، بسبب من توجّسهم من فقدان ما قد تدرّ عليهم، مذهبًا وطائفةً وكتلةً وعشيرةً ومصلحةً شخصيةً، من أرباح ومنافع، عندما يحسبونها بهذه الطريقة وبشيء غريبٍ من الدقة المتناهية.
محاصصة في كلّ شيء، حتى العظم
 أليس معيبًا، أن تنزل الأطماع الطائفية والمذهبية أخيرًا، حتى على عملية اختيار طيارين لمقاتلات F 16، التي تنوي الحكومة تجهيز قوتنا الجوية بها، وهي التي تهالكت بسبب الإهمال في الجانب التسليحي والدفاعي للبلد وبسبب التجاذبات العقيمة فيما بينها؟ ألا ينبغي أن يعتمد مثل هذا البرنامج الوطني العسكري، معايير عديدة في اللياقة والذكاء والدهاء والكفاءة والعلمية؟ أما الحدث الآخر الذي لا يقلّ في تمريره المستهجن وبشيء من التجاهل والتهاون، فقد كان في عملية اختيار أعضاء المفوضية العليا للانتخابات وبإمكانية الذهاب إلى زيادة عدد أعضائها، كي تشمل ممثلين عن مكوّنات وكتل مستبعدة عن هذا الجهاز المفترض أن يكون أعضاؤه من الفنيين والمختصين وليس ممثلي كيانات وكتل متنفذة بفعل المحاصصة. لذا كان التلكؤ في تلبية هذا الطلب المشروع وحصل التأجيل في النظر بالمقترح، بسبب خلافات سياسية لكتل تريد الاستئثار بها والاستحواذ على نوافذها، كلّ لصالحها. لقد أظهر المثلّث المتنفذ في الحكم في هذه النافذة، معدنه الحقيقي حين رفضه زيادة أعضاء المفوضية ليشمل فئات ومكوّنات مهمّشة لا يريدون لها أن تتنفس من هواء الوطن، رغم أصالتها في الوطنية والحضارة وكفاءتها في العمل والعلم والمعرفة. فراحوا يخنقونها في رؤياها ويشددون من قبضتهم على تحرّكاتها ومطالبها الوطنية، بغية بقاء هذه المكوّنات الصغيرة "الأقليات"، تحت رحمتها وأسيرة حاجاتها، كي لا تفضح فعالهم المشبوهة وتصرفاتهم غير المشروعة، رغم إقرار الدستور، على ما فيه من مثالب وعيوب، بحقوق جميع المواطنين على السواء. وقد تزامن هذان الحدثان، مع فعل آخر لممثلي الشعب في مجلس النواب العراقي حين أصرّ مجلس النواب على تقويض الديمقراطية الفتية في البلاد بخرق الدستور، من خلال التعديل المجحف لقانون انتخاب مجالس المحافظات والأقضية والنواحي، الذي كرّس إصراره السابق بأحقية الكتل الكبيرة الأقوى في الحصول على المقاعد الشاغرة إن وجدت. وهذا انتهاك فاضح لحق الناخبين في اختيار ممثليهم، كما أنه سرقة مكشوفة لصوت الناخب الذي يتجشم عناء السفر والتنقل متكبدًا المخاطر من أجل تعزيز خطوات الديمقراطية المتعثرة بسبب تدخلات الكتل الكبيرة.
كلّ شيء لمصلحة الكيانات الكبيرة
كلّ شيء اليوم، وفي ظلّ مفردات الكتل الحاكمة، ينبغي أن يوجه وينطلق من مصلحة هذه الكتل وهذه الكيانات التي تصرُّ على الاستحواذ على كلّ شيء، وهي لا شيء مفيدٌ لديها لتعطيه لما تبقى من شعب العراق الذليل. فإذا كان سياسيونا قد ارتأوا النزول إلى هذا الدرك السفلي من التعامل بالوطن والمواطنة، فليُقرأ السلام على "سنعار" (عراق) الحضارة والريادة والعظمة، هذا إن بقي فيه يسيرٌ من تلك القيم التي مازلنا متشبثين بها ونعلّل النفس بالبقاء من أجلها في هذا البد الذي يأبى الوطنيون الأصلاء ومحبّوه الحقيقيون مغادرته وتركه فريسة بيد ذئاب مفترسة تريد أن تأكل الأخضر واليابس وألاّ تبقي من أرضه ونفطه ومياهه وهوائه ما قد يجد فيه سكانه الأصليون من مأوى وملاذ آمن ومن خيرات وفيرة يتم نهبها في عزّ النهار. إذا كان السياسيون الجدد يرومون حقًا، تطوير النظام الديمقراطي الذي صدّره الغازي الأمريكي للعراق، فما عليهم إلاّ ممارسة هذه اللعبة بنزاهة وبروح رياضية وبإباء وطني واضح لا لبس فيه، كي ينعم البلد وأهله بفوائدها ومفاعيلها والغايات التي تطلبت تغيير النظام الشمولي الدكتاتوري السابق، بحسب ادعائهم، وإلاّ كانت تلك لعبة قذرة، سيدينهم الخالق عليها ويحاسب كلّ من فرّط بسلام العراق وخيراته وحقوق أهله ومسيرتهم الحضارية عبر السنين الغوابر رغم آلامها ومنغصاتها.
دوائر الدولة إقطاعيات محرّمة
عندما تعالت أصوات النواب الشرفاء الذين نطقوا باسم ناخبيهم واعترضوا على التدخل السافر من قبل عدد من العناصر المتنفذة في الحكومة وفي الجهاز التشريعي على مسألة اختيار طياري المقتلات F16، ربما قامت عليهم القيامة حينذاك واتهموا بموالاة "النظام البعثي البائد"، أو بالعنصرية والتمييز لجهة دون أخرى. وربما ذهب البعض لإلصاق تهمة عربية وإسلامية معتادة، بإمكانية ارتباط هؤلاء المعترضين،  بالصهيونية العالمية والموساد التي تكون – حسب الرؤية المريضة الدائمة للبعض في المنطقة- على علاقة بهؤلاء الطيارين المختارين وبالقادة الذين اختاروهم ليكونوا صقورًا ونسورًا شجعانًا وحقيقيين لبلدهم الذي تنهشه أطماع من يحكمه بلا حكمة ولا دراية ولا خطة ولا عدل. فلا القضاء عادل ومستقل، ولا العسكر محترف وجاهز، ولا الشرطة كفء ومتأهبة، ولا دوائر الدولة تنمّ عن مؤسسات وطنية تعمل بضمير حي، ولا القادة والكتل السياسية التي تدّعي الشرعية في الحكم قادرة على توفير مقومات الأمن والأمان وأبسط الخدمات، بعد تدمير ما كان قائمًا أصلاً، بحجج واهية لا ترقى إلى أبسط أصول القناعة لدى المواطن العراقي الذي تنبه ووعى للفساد والصفقات المشبوهة التي يتمّ تمريرها في دوائر الدولة المختلفة ووزاراتها، لصالح مكوّنات وأطياف طائفية درّت عليهم مليارات الدولارات التي تكدست بها مصارف عالمية. هذا، بحسب وكالة أمريكية ومعلومات سرّبتها سفارتهم في بغداد، عندما تحدثت عن حسابات مصرفية ضخمة تتزايد باضطراد لمسؤولين عراقيين في الحكم. ألم تستعر نيرانُ الكتل السياسية حين تشكيل الحكومة الأخيرة ليبحث كلّ فريق عن ضالته عبر وزارة أو هيئة أو دائرة كي يقتنص منها ما يمكنه طيلة نفاذية ولاية الحكومة؟ وكأن  وزارات الدولة ومؤسساتها، أصبحت قطاعات مستقطعة للفريق الذي يتولاها، فينهش منها ما استطاع من "كوميسيونات" وحصص بنسب مئوية من كل عقد محال فيها. وبطبيعة الحال، هذه العقود قلّما تخرج عن نطاق المعارف والمقربين من الكتل والأحزاب التي تتولى تلك الوزارات.

تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ
وتأتي الخطوة الأخيرة بالإنعام على المكوّن التركماني لينضمّ إلى صفوف القوميتين الكبيرتين، بكل امتيازاتها  وحقوقها في الدستور والقوانين الوضعية والمستحدثة، ليزيد من شكوك الأقليات، ولاسيّما المكوّن المسيحي، بالوعي إلى ما يمكن أن يكون وراء هذه الخطوة من مؤامرة وصفقات ضدّ هذا المكوّن من جانب المثلّث  الحاكم، وقد تكشفه الأيام القادمة. إن مثل هذه الخطوة الخطيرة، إنما القصد منها تقسيم المكونات الأخرى المعرّضة للخطر، أي "الأقليات"، ومحاولة إضعاف قوتها وطاقاتها الوطنية والإثنية، من خلال تشظيتها لتصبّ في خانة تقسيم المقسم أصلاً وتفتيت ما تكتنزه هذه من طاقات، لترضى في النهاية بالطاعة والولاء لأحد الأطراف الذي سينصّب نفسه وليًا ووصيًا عليها بمباركة من القوى الخارجية، وعلى رأسها الغازي الأمريكي وتابعوه من الحكومات الأوربية المتتالية على الحكم، من الذين فقد سياسيوها كلّ أدوات الدّين وحتى الأخلاق الإنسانية واستبدلوها بكلّ ما هو مادّي وترفيهي من ترّهات المادة والجنس والميوعة والإباحية  المستحكمة في بلدانهم. إن هذا الإجراء الجديد، رغم إيماننا المطلق بقوة المكوّن التركماني وأحقيته في استعادة دوره الوطني والإثني كقوة بشرية مهمة في مسيرة الديمقراطية في العراق، ولاسيّما في مواقع تواجده التاريخية، ومنها كركوك وتوابعها بصورة خاصة، من شأنه بالمقابل، أن يشقّ مطالب باقي المكونات التي شاءت الأقدار أن تتناقص بفعل الأحداث المأساوية التي شهدتها الساحة العراقية ولاسيّما المكوّن المسيحي الذي تعرّض أكثر من غيره لتطهير ديني بفعل فاعل وبخطة منهجية لا يستبعد اشتراك أطراف خارجية بها ويتم تنفيذها بأياد عراقية. ولعلّ المكوّن المسيحي بهذه الخطوة، سيكون بالتأكيد، أحد هذه الأطراف التي سيطالها غبنٌ جديد قديمٌ، لم تعره أهميته، سائرُ الحكومات المتعاقبة على الدولة العراقية، لا في عهد الدكتاتوريات السابقة ولا بعد سقوط هذه.
ديوان أوقاف المسيحيين، آخر تلك الخروقات
وآخر ما سمعناه وشهدناه ضمن ذات السياق، أي في تقويض أهمية المكوّن المسيحي في البلاد، جاء في مؤسسة ديوان أوقاف المسيحيين والديانات الأخرى، عندما استبدلت تسميتها وتحددت أهميتها ورئاستها بمساواة الطوائف المسيحية مع الطائفتين الإيزيدية والصابئة المندائية اللتين تفتقران إلى ما تتمتع به الأولى من أوقاف ومن مؤسسات دينية وثقافية واجتماعية وتراثية وآثارية ومن معاهد وأتباع ورجال دين ومن اتصالات عالمية ومن علاقات واسعة مع العالم. وهذا ما يتطلب وقفة واحدة لردّ مشروع القانون الجديد المقرّ مؤخرًا، إلى الجهات ذات العلاقة لإعادة النظر فيه واستعادة المكوّن المسيحي مكانته وأهميته في هذه المؤسسة التي ساوى فيها المشرّع بين مجاميع كثيرة من الطوائف المسيحية مع طائفتين تفتقران إلى مؤسسات وأوقاف منتظمة تاريخيًا وتنظيميًا. وحسنًا، فعل رؤساء الطوائف المسيحية حين انبروا للاعتراض عليه بهذه السرعة معبرين عن استيائهم من القانون الجديد وبمطالبة الجهات الرسمية والتنفيذية بالاستجابة لما من شأنه أن ينصف طوائفهم وشعبهم من الإجحاف الذي ألحقه بهم هذا القانون. وإنّي أرى، أنه آن الأوان لصحوة جديدة منظمة ومنهجية من جانب رؤساء الطوائف دون استثناء، يدعمهم في هذه الجهود، عمومو الشعب المسيحي ومعهم شمل النواب المسيحيين المفترض تبيان استيائهم من مثل هذه الخطوة من جانب السلطة التشريعية غير الواعية لما يمكن أن يترتب على هذا القانون في حالة إقراره من سلبيات حين تعيين شخصية لا تنتمي إلى إحدى الطوائف المسيحية على رأس هذه المؤسسة المهمة، حيث من الممكن حينئذٍ التحكم بمقدرات أوقاف المسيحيين  . وإني أرى أن الأمور لن تستقيم  إلاّ بثلاث لا رابع سواها:
-   إعادة العمل بنظام وزارة وطنية للأوقاف والشؤون الدينية على أسس جديدة وعادلة، يكون لجميع المكوّنات الدينية فيها ممثلاً بدرجة خاصة، يعنى بأوقاف طائفته.
-   أو، العودة إلى نظام ديوان أوقاف المسيحيين والديانات الأخرى وإجراء التعديلات الضرورية على بعض البنود التي يمكن أن يكون فيها ثغرة.
-   أو، تخصيص ديوان وقفي للمكوّنات الدينية الثلاث، أي أن يكون لكلّ من المسيحيين بجميع طوائفهم وكذلك الآيزيديين والصابئة المندائيين، دائرة ديوان مستقلة بأوقاف الطائفة.
 وبغير ذلك، لن يكون الأمر مقبولاً من جانب عموم الطوائف المسيحية. وحينها، وفي حالة عدم الاستجابة لمثل هذا الحق وإلغاء الغبن الذي لحق بالمكوّن المسيحي بسبب تشريع هذا القانون والمصادقة عليه دون رضى الطرف المسيحي، سيضطرّ الشعب المسيحي ومعه رؤساؤه الروحيون، للقيام بما من شأنه رفع هذا الإجحاف بالطرق التي يرتأون تفعيلها واستخدامها حتى تحقيق العدالة وإعادته إلى البرلمان والحكومة للمراجعة.
كفانا خنوعًا وسجالات عقيمة
مقابل كل هذا الكمّ الهائل من أعمال التهميش والإقصاء والاستهزاء بمقدّرات أبناء الأقليات الأصيلة، ولاسيّما المسيحيين بكافة أطيافهم وطقوسهم، من الذين ضعفت قواهم وخارت طاقاتهم في مقاومة الكثير من الشرور والنوائب والجرائم والمؤامرات التي طالتهم وحيكت ضدّهم، منذ عهود الأنظمة البائدة لغاية الساعة، والتي أخذت منذ الغزو الأمريكي في 2003، طورًا جديدًا من العنف الطائفي والحقد الديني... أمام هذه كلهّا، أليس الأجدر أن يتطور موقفنا وننتهج استراتيجية جديدة مضادّة من الهجوم بالمطالب المشروعة بدل اللهاث وراء فتات من يدّعي حمايتنا ويتبجّح بالدفاع عن حقوقنا، كذبًا وبهتانًا، فيما هو يتنصل عن مطالبنا عندما يتعلق الأمر بحقوقنا المشروعة ومصالح مناطقنا. ألم يتعهد الأكراد، كما فعل أهل السنة والشيعة مرارًا، قادة ورجال دين وسياسيين، بدعم مناطق المسيحيين وإيجاد حلول ناجعة لمشاكل مناطقهم ومنع أي تغيير ديمغرافي فيها، دعمًا للبقية الباقية منهم من أجل تثبيتهم في مناطقهم وعدم مغادرة أرض الوطن، لكونهم أصلاء فيه بحسب هذه الادّعاءات والإعلانات المجانية؟ ولكن، عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرارات، برلمانية أو تنفيذية في مجالس المحافظات والأقضية والنواحي، قد يرون فيها تهديدًا لتعزيز قبضتهم على هذا المكوّن وفقدان سيطرتهم علي أتباعه، نراهم يصوّتون ضدّ مصالح شعبنا ويصطفون مع الطرف المقابل. ألم يحصل ذلك في العديد من القرارات التي اتخذتها الجهات الحكومية والتشريعية؟ يؤسفني أن أقول، هناك من المسيحيين، دون استثناء طرف منهم، مَن ركبَ موجة التابع الدائم للغريب عنه وتفضيله على أبناء شعبه. وهذه ناقصة فينا، لا تنمّ إلاّ عن ميلٍ دائمٍ بالشعور بالنقص والضعف وعدم القدرة على فرض الرأي والمطالبة بالحقوق والإصرار عليها مهما كانت النتائج. أنظروا، كيف حصل المكوّن التركماني على مطالبه بإصراره وعناده وعلاقاته وتسريباته وضغوطاته المحلية والإقليمية التي نال من ورائها ما صبا إليه وارتوى به. أمّا نحن، فكلٌّ منا يغنّي على ليلاه، فيما يصرّ بعضنا ويعاند على تقسيم هذا الشعب الواحد، تارة بالمطالبة باعتباره شعبًا مستقلاًّ، وتارة بكونه يشكل الأغلبية بين المسيحيين، وبهذا يستحق أن يكون القومية الثالثة، ولا أدري من أين أتى هذا البعض بمثل هذه الفرية وهذه الكذبة التي لم تعد تنطلي على أحد، حتى البسطاء من أبناء شعبنا بل حتى الغرباء عنه. إني هنا، لستُ بصدد انتقاد مثل هذه المطالبات غير المنطقية، بل الجافية والمؤذية أحيانًا، بقدر ما أبغي التعبير عن أملي بانتهاج سياسة جديدة واستراتيجية مسيحية شاملة تكون المصلحة العليا فيها للبلاد أولاً وقبل كلّ شيء، ثمّ مصلحة عموم شعبنا موحدًا، ديناً ولغة وكيانًا. إنه، وبغير ذلك، لن نكون قادرين على مواجهة الكمّ الهائل من الأكاذيب والدسائس التي تُحاك ضدّنا في العلن والخفاء، من خلال التمويه بالتودّد لنا والإيحاء بالدفاع عن حقوقنا ومنحنا ما نستحقه منها ممّا تفرضه مواطنتنا الصادقة وحبُّنا لأرضنا وديننا بمختلف مذاهبنا. فهل من مؤتمرٍ صادق ونزيه يعالج هذه الإرهاصات؟
لا للرضوخ للآراء المهجرية
إنّي إذ أصطفّ مع من دعا ويدعو إلى إعادة بناء الشخصية المسيحية المعنوية والوضعية، بكل طوائفها وتياراتها، وتوجيهها وطنيًا ودينيًا معًا وفق أسس جديدة تزيل آثار الظلم والاضطهاد الذي أتى به الغزو الأمريكي وحلفاؤه، أجدّد الدعوة للإخوة الانفصاليين الواقعين تحت تأثير تيارات "مهاجرية" لا همّ لدعاتها ومحرّضيها، سوى شقّ الصف المسيحي، الديني منه والقومي، ممّا قد يكون فأل شرّ على من آثر البقاء في الوطن ومواصلة مشواره متآلفًا متعايشًا مع جيرانه وأصدقائه وأهله وأقاربه. إنّ مثل هذه التدخلات الخارجية، إذا صيغت وسُوّقت بنيّة مشبوهة وغاية منقوصة وإرادة مهزوزة، قد تنعكس آثارها سلبًا على كياننا ككلّ. هناك العديد من الخطوات التي قد تلزمنا، مثقفين ورجال دين وسياسيين ومنظمات مدنية وعامة الشعب، كي نحققها من أجل وضع اليد على المحراث وعلى أرضٍ قوية، صلدة المطالب، وواضحة التفاهمات وأمينة في التحالفات الرصينة الصادقة بيننا أولاً ومع شركائنا بالتالي. وهذا، مما سيعزّز من قوتنا وطاقاتنا وقدراتنا في التفاوض والمناورة والمواجهة، إن اضطررنا لذلك، أحيانًا. ذلكم هو بيت القصيد، عندما نكسر كتلة ثلج الاستسلام والاستضعاف والتمسكن والخنوع والانحناء التي تلفّنا في حياتنا أمام الغريب، وقد اعتدنا عليها بفعل الفطرة والعادة والطبع.
أملٌ بهجرة معاكسة
إنني أعذر أحيانًا، بعضًا من نوابنا، ممثلي شعبنا في البرلمان، الذين أكنّ لهم جميعًا، كلّ احترام، من صعوبةٍ في فرض رأيهم وسط هرج ومرج مجلس النواب أحيانًا أو بسبب عدم قدرتهم على مناطحة اللاعبين الكبار، أصحاب الباع العريض في اختزال الكتل والمكوّنات الصغيرة التي يعدّونها تابعًا صغيرًا لا يرقى لأخذ رأيه في أحيانٍ كثيرة. ولكني أعتب على أحزاب وتنظيمات شعبنا من تناكبٍ وتنافس غير مقبول في تصدّر التصريحات والبيانات والمقالات التي تفتقر أحيانًا إلى وفرة الدقة فيها وجدّية المطلب، علاوة على الإيغال في المكابرة والأولوية والمفاضلة، وهي عناوين مقيتة بدأ يكرهها الجميع ويلفظها عموم الشعب، حتى البسطاء منهم. أقول، كفانا مثل هذه المغامرات القزمية التي لا ولن تنفع، بقدر ما ستزيد من تشظّي اللحمة المسيحية المتبقية على ضعفها، وتفتّ من عزم من بقي من أبناء شعبنا وتفقدهم صواب البقاء في أرض الآباء والأجداد، ليلقوا مصير من راهن على الغرب فردوسًا سرمديًا. وسوف تأتي الأيام، ولن تكون ببعيدة، لنشهد - إن حبانا الله ذلك- عودة ميمونة معاكسة لمن اغترّ أو غُرّرَ به للتضحية بإرثه وأرضه وأهله وأحبائه من أجل ترفٍ أساسُهُ الحسد والغيرة والتباهي بالعيش في أرض الغال والعم سام ومجاهل المحيطات والبحار وحتى الصحارى.
لويس إقليمس
بغداد، في 8 آب 2012


382
لمناسبة عيد رأس السنة المندائية الذي يصادف العيد الكبير للأخوة الصابئة المندائيين في العراق والعالم، يتقدم مجلس الأقليات العراقية بأّحر التهاني  وأجمل التبريكات لجميع أبناء المكوّن الصابئي ولرئاستهم الجليلة، داعين من الباري جلّ شأنه، أن يعيده على أبناء هذا المكوّن وعلى جميع العراقيين الأصلاء، وهم رافلون بالأمان والاستقرار وحريصون لإكمال دورهم الريادي في بناء الوطن والأمة العراقية.
 
مجلس الأقليات العراقية
لويس إقليمس
نائب رئيس المجلس

383
هواجس الأقليات في العراق والمنطقة، إلى متى؟

     لم تحظى مشكلة المكوّنات قليلة العدد "الأقليات"، في العديد من دول المنطقة باهتمام مذكور بسبب الظلم المجحف للحكومات المتعاقبة عليها ومحاولات تذويبها قسرًا وكذلك بسبب غياب الوعي الوطني والجهل بالحقوق، إلاّ فيما كانت توجه به لإكمال ما مطلوب منها من واجبات وطنية ملزِمة، حتى لو كانت هذ الأخيرة أحيانًا، بالضدّ من إرادتها ورغبتها. وجاء الغزو الأميركي الكاسح للعراق، وهو أهم موطن لأقليات عاشت تقليديًا، تاريخًا مشتركًا مع بعضها البعض دون هواجس أو مشاكل كبيرة، إلاّ ما ندر. هذا الغزو الأممي الظالم، قلب موازين المعادلة في عراق متعدد الأعراق والأديان والأقوام والطوائف، بحيث أفسد  بنية المجتمع العراقي المجتمعية ونقله إلى خانة الطائفية المقيتة التي اتخذت من شعارات دينية جديدة لم يألفها من قبل، بسبب غرابة بعضها وأسلوب تحريض بعضها الآخر ضدّ فرقاء آخرين متشاركين معهم في تاريخِ وطنٍ موغلٍ في القدم. ونحن نحمد الله، لأن ما حدث في العراق، لو حصل في بلد آخر لا يمتلك مثل تاريخ العراق الحضاري، لانهار منذ بدء الأحداث وتتدحرج نحو الهاوية وتجزّأ دون شك رغم بروز محاولات من هذا القبيل. لكن إرادة العراقيين من الوطنيين والغيارى من شعب العراق، سوف لن يدعوا مثل هذه الفرص أن تجد طريقها في المشروع الانفصالي المطروح، نتيجة الخلل القائم في إدارة البلاد والخلاف حول من يجب أن تكون في أيديه مفاتيح الحلّ والربط داخليًا وإقليميُا. وإذا كان الأحرار الوطنيون من أبناء العراق، والسياسيون المخلصون منهم بخاصة، يعوّلون في النهاية، على تغليب المصلحة الوطنية العليا واختيارهم وحدة العراق ورفاهته وسمعته التاريخية والحضارية، فإن السبب في ذلك، يعود لقدرة أبنائه على البناء السريع لما أصابه من عطب وتراجع ودمار، وكذا على فاعليتهم في مواجهة الصعاب مهما اشتدّت وتفاقمت الأحداث، برغم الهوّة الأخيرة التي سادت مجتمعنا في فترات عصيبة كانت الأكثر قساوة على عموم الشعب. فما زال في عراقنا نزرٌ وافٍ من روح الأجداد ومِن حكمتهم التي عُرفوا بها، في بناء حضارات الشرق التي سادت العالم القديم، ولم تبِد حينها، إلاّ بسبب تقاعس نفرٍ من رجالاتها وخروجهم عن قافلة نظام بناة الأوطان التي كانت تتطلب من جملة ما تتطلبه بعد كلّ نجاح تحقق لهم، روحَ المثابرة والتواصل والمجالدة والرصانة في حفظ ما تمّ إنجازه بروح المواطنة المطلوبة والتشاركية والتجاوب سحابة تلك المراحل والأزمنة.
أما ما حصل فيما بعد في المنطقة، مغبّة تجربة العراق في 2003، مع ما يسمّى بالربيع العربي (رغم تحفظ الكثيرين ومنهم أنا شخصيًا، على هذه التسمية غير الدقيقة)، فلم يكن في الحسبان، عندما استقدم المحرّك الأممي الرئيسي الظالم، الذي قاد ورعى مجمل التغييرات في المنطقة بشيء من الغرابة والعنجهية والازدراء واللامبالاة للفيف شعوب المنطقة، أقول، عندما استقدم واجهاتٍ جديدة له تحمل بصمات التطرف والتشدد إلى جانب عكسها نزعات عدائية وشوفينية واستعلائية  ضدّ مكونات أصيلة في مجتمعاتها (أي الأقليات). وعمومًا، فقد تصرّف الراعي الأكبر للتغييرات الدراماتيكية سواءً في العراق عام 2003، أو من بعده فيما يسمّى بالربيع العربي المنوه عنه، بشيء من اللامبالاة والتغاضي القائم من الحكومات التي استقدمها وغضّ الطرف عن فعالها، إن لم يكن قد نصرها ضدّ الأقليات الدينية والعرقية الأصيلة في نسيج شعوب المنطقة. والدليل على ذلك، عدم إنصافها فيما أتى به أو روّج له أو ساهم في وضعه من دساتير وقوانين وضعت مصالح دينية طائفية وكتل سياسية كبيرة متناحرة على المال والجاه والسلطة في المقام الأول والأخير، فيما أهمل باقي المكوّنات الصغيرة نسبيًا وجعلها لقمة سائغة في أيدي من أتى بهم إلى حكم بلدانهم بالطريقة المعروفة التي وصلوا أو سيصلون بها.
 وإذا كانت بعض البلدان التي تشهد اليوم حراكً سياسيًا ساخنًا، ضمن منظور تغيير أنظمة حكم حكمت شموليًا على أساس طائفي أو عرقي، قد كشفت عن حصول تداعيات خطيرة في خضمّ موجة "الربيع العربي" لغاية الساعة، فإن من حق الأقليات التي تعيش فيها، أن تقلق وتتحفظ على القادم الجديد، غير المعروف سياسته، تمامًا كما كانت قبلها تتحفظ على أنظمة الحكم القديمة الشمولية المتهالكة. والخوف هنا أكبر، لأن القادم الجديد جاء بفورة عارمة من السفاهة والبلطجة المرافقة أحيانًا لفتاوى غريبة وعجيبة، أصدرها الحاكم "القادم الجديد"، فارضًا نفسه وقيمه ودينه ومذهبه وأيديولوجيته على مجتمعات طالما نشدت شيئًا من رياح الحرية والديمقراطية والتغيير التي طال انتظارها لها، حين أقدمت على القيام بثوراتها الشبابية واضحة الأهداف والرؤى. لكن الذي حصل ويحصل، أن تلك الثورات قد تم استلابها وسرقتها من فاعليها وثوارها الحقيقيين من الذين قدموا تضحيات كبيرة على مذابح الحرية والكرامة والشرف الوطني. وقد ذهب البعض لوصف من يريد الاستئثار بثمار هذه الثورات بمجموعة "شياطين طائفية" يمكن لها أن تهدّد البلاد والعباد على السواء. والخوف الأكبر، أن تكون الأقليات الضعيفة في نهاية المطاف، حطبًا لنيران صراعات الأقوياء المتحاربين بلا هوادة ولا وازع من ضمير. ولعلّ الفكرة التي غرسها وسوّقها المحتلّ الأميركي حين دعوته للسياسيين العراقيين الجدد مثلاً،، لكتابة الدستور بعد أحداث 2003 بنَفَسٍ طائفي مليء بالألغام الموقوتة القابلة للتفجير في أية لحظة، لهي خيرُ مثالٍ لمخططاته بدقّ أسفين بين مختلف الشعوب والمكوّنات في البلد الواحد، إذ هي  ترتكز في صياغتها على ذات الأسس التي سوّقها وما يزال نحو البلدان التي شملها التغيير "الربيعي" لحدّ اليوم من خلال القرع على الوتر الطائفي الهدّام الذي جزّأ مجتمعات الوطن الواحد وأحلّ الوازع الطائفي بدل الوطني. فما شهده العراق بسبب هذا التوجه الجديد من مذابح واقتتال الإخوة الأعداء الشركاء لغاية الساعة، خير دليلٍ على النتائج المدمّرة التي أرجعت البلاد ونهجه إلى عهود التخلّف والظلام بسبب اختلال توازن نسيجه الاجتماعي بطريقة مؤسفة تحكّم بها أناس يريدون العودة ببلدانهم وشعوبهم إلى عصور الظلام والتخلف والقهر المجتمعي الذكوري، حيث لا مكانة للمرأة فيه، رغم كونها الزهرة التي تتفتح بها حدائق الشعوب والأمم وتتعطّر بها أجواء أيّ مجتمع تحلّ فيه ضيفة أو تدخل عليه عاملة أو تؤدي فيه وظيفة.
أما الحلول المطروحة اليوم، للتخلّص من أدران النعرة الطائفية المنتشرة كالسرطان القاتل في الجسد العراقي بخاصة والعربي عامة، فهي تكمن في الاعتراف بانتهاج مبدأ المواطنة بدل الطائفية في مؤسسات الدولة الناقصة البناء لغاية الساعة، وفي الاعتراف بسيادة القانون الذي ينبغي أن يسري على الجميع دون استثناء، وفي القبول بمبدأ ثقافة قبول الرأي والرأي الآخر، وعدم سلب حقوق المواطنة والحريات الشخصية وحرية التعبير وحرية الدين والتديّن، وفي الاعتراف الواضح والرصين بمبدأ التعددية السياسية، وفي نقل السلطة السلمي، وفي تحقيق برامج التنمية المستدامة، إذا ما أريد فعلاً، نجاح أية عملية سياسية يُراد بها بناء البلد وتطويره وتقدمه. ففي العراق، تلكم هي التحديات الكبرى التي تنتظر الساسة ويترقبها المواطن من ممثلي الشعب ومن الحكومة التي انبثقت منه، ولم تستطع الإيفاء بتعهداتها في خلق مجتمع عراقي مرفّهٍ متجانس، ودولة مدنية اتحادية حديثة ترتكز على التعددية والديمقراطية وأساسها العدل والمساواة، كما هو مطلوب. وبغير ذلك، لن تستقيم مسيرة العراق، ولا بلدان المنطقة، إن لم تعمل حكوماتها على تغيير سياساتها المبنية على زيف العنصر الديني الذي يحنّ لحكم ثيوقراطي لم يعد له صالحٌ ولا مبرّر ولا قبول في عصر العلم والتقدم والتكنلوجيا المتطورة. فالدين يبقى لله والوطن للجميع، كما نعلم. ثمّ إنّ الأمم الجادّة والسعيدة تتقدم ولا ترجع للوراء، إن اتسم رعاتُها وحكّامها بشيء يسيرٍ من النزاهة والتسامي عن المصالح الضيقة ومحبة الناس وتلبية حاجاتهم اليومية الآدمية. فمن وضع يده على المحراث، لا ينبغي له التراجع والتقهقر للوراء بتغليبه المنافع الشخصية أو الطائفية أو العرقية الضيقة، بل هو مدعوٌّ للتقدم نحو الأمام، بنشر الأمن والأمان والاستقرار وخدمة كلّ الشعب وليس جزأه، وفي خلق فرص للسلام مع الله الخالق ومع النفس ومع المواطن، مع الشعب الذي ولاّه ليدير شؤون البلد بما يرضي الله والضمير. وبذلك تستطيع الشعوب جميعًا من العيش حياة الكرامة التي أرادها لها الخالق حين خلقها، أي حياةً تليق بخالقها. قيل ويُقالُ دائمًا: "سعادة أية دولة وتطوّرها تكمن في رؤية شعوبها ومجتمعاتها، ولاسيّما الأقليات فيها سعيدة، مرفهة ومطمئنّة وتنعم بالأمن والخدمات"، حينما يرفل جميع المواطنين بكامل الحقوق المواطنية دون تمييز في العرق أو الدين أو المذهب أو القومية أو اللون وما إلى ذلك.
إن الهواجس أعلاه، التي تشكل رأس الحربة في مسيرة أي بلد ديمقراطي، ستكون بمثابة صحوة مواطنية عامة، فيما لو تحققت آمالها في البلدان التي شهدت ما يسمى "بالربيع العربي" والتي سبقهم فيها العراق منذ ما يقرب من عقد ونيّفٍ من الزمان. وهي ذاتها التي تنتظرها شعوب المنطقة في صحوتها التي ينبغي أن ترتكز على رهافة حس وطني صادق وعلى إنصاف اجتماعي قائم على مبدأ سيادة الحق والعدل. فالعدلُ، يبقى أساس الملك، في بناء مجتمع متكامل تسوده المحبة والحرية والتسامح في إطار نظام ديمقراطي ينتصر كليًا، بتفاصيل هذا العدل عينه، لمبدأ الحقوق والواجبات في أي مجتمع متحضّر.  إن خوف الأقليات، لاسيّما الدينية منها والعرقية، يكمن اليوم في كونها تقع في مرمى صراع تيار الإسلام السياسي السنّي – الشيعي المتنامي يومًا بعد آخر، بسبب أفكاره الإقصائية المعلنة على الملأ، ما أحدث توترات إقليمية زادت من وطأة تلك الهواجس أضعافًا. وكذا بسبب الخوف المتنامي من وقوعها بين ناري هاتين الحجرتين الطاحنتين اللتين لا ترحمان من يختلف عنهما في النظام والأيديولوجية والدين على السواء. فصعود التيارات الإسلامية إلى حكم بعض دول المنطقة، يعني ضياع تلك البلدان في عالم المجهول والنزول بها إلى دركات التخلّف التي شهدتها عصور القرون الوسطى حيث سطوة الثيوقراط التي لا ترحم ولا تعترف بشيء اسمُه تطور الحياة. كما أن الحرية والديمقراطية مفهومان غائبان في قواميس هذه التيارات المغالية في سلفيتها أو في تشيّعها على السواء. والأمل الوحيد الذي تنتظره أقليات المنطقة الساخنة هو في ضمان اللجوء إلى دولة مدنية تُحترم فيها سيادة القانون، كما أسلفنا، وهو الوحيد الذي يؤمّن حقوقًا مدنية واجبة التطبيق للجميع ودون استثناء من خلال  الارتكاز على مبدأ المواطنة داخل الدولة الواحدة التي عليها الاعتراف بحقوق الجميع وأن تتمسك بالحريات العامة في سياساتها وأن تعي أهمية التعددية والجمالية التي تشكلها الأقليات وسط سائر المكوّنات. ولن يحصل ذلك إلاّ في ضوء هذه الصحوة العربية السليمة المرتقبة التي تؤسّس لدولة الحداثة والعصرنة وتؤمن بحرية الشعوب والأفراد وتدع وراءها ما شاب أفكار أفرادها من تراجع في القيم الديمقراطية وفي الحريات العامة وفي الحق في إبداء الرأي، مهما اختلف المقابل عنه في الفكر وفي الدين وفي المذهب وفي الأيديولوجية.
 وهكذا، يكون العراق قد بدأ الصحوة الحقيقية عندما أدرك وانتبه لفشل مشروع الدولة الدينية التي أرادها وصفقت لها بعض الجهات المغرضة والمغالية. وتلكم هي الخطوة الأولى في بناء دولة مدنية حديثة مرفهة قائمة على أسس المواطنة، لا غيرها. وفي انتظار الخطوة المهمة والحاسمة القادمة، عندما يعود السياسيون إلى رشدهم ليضعوا حدّا لتجاذباتهم السياسية المنتفعة ويؤثروا  مصلحة الوطن والمواطن الذي انتخبهم وأوصلهم إلى الحكم، لكنه خُذل بسبب لهاث غالبية من وصل إلى الحكم وراء منافع شخصية وطائفية وعرقية. كما أن انغماس الكثيرين من هؤلاء في أعمال فساد مالي وإداري وعدم قدرة الدولة والحكومة عل صدّ هذه الممارسات والمخالفات، قد ساهم بشكل كبير في نخر جميع مؤسسات الدولة، ما جعلها عاجزة عن تلبية حاجة المواطن الذي مازال يئنّ ويشكو ويطالب بحقه في حياة كريمة مرفهة في بلد يسبح على محيط من الذهب الأسود وغيرها من المعادن الثمينة.
عسى الأيام القادمة، تشهد هذه الصحوة المرتجاة!

لويس إقليمس
بغداد، في 1 حزيران 2012

384
المنبر الحر / هكذا تنقرض الشعوب
« في: 00:19 18/05/2012  »
هكذا تنقرض الشعوب

يقول المثل العربي: "جنت على نفسها براقش". وفي الحديث الدارج نقول "من تحت إيدو" أي ما معناه  بسبب تصرف غير مقبول لشخص ما.
ما دعاني لكتابة هذه الأسطر القليلة، هو ما تشهده الساحة "القومية؟" ذات التسمية القطارية "الكلدانية-السريانية-الآشورية"، هذه الأيام، من سجالات واتهامات بين أطراف عديدة بسبب جعجع الأبراج الأربعة المقرّر إنشاؤها في بلدة عينكاوة العريقة، وبسبب التصريحات والتأويلات والمواقف المتباينة لما يسمى بتجمع التنظيميات القومية، حول هذا المشروع المشبوه. فقد نسي أو تناسى البعض، أن هذا المشروع قد أخذ طريقه المشروع والقانوني لدى سلطات الإقليم في عمليات البيع والشراء المتعارف عليها في السوق في هذه البلدة ووفق الأصول المتبعة بلديًا، وأن كل الجهات قد أخذت نصيبها من عميلة البيع والشراء والوساطة. وأن الوقت قد استنفذ تمامًا وأن "الفأس وقع بالرأس"، وابتلع أهالي هذه البلدة الطيبة الطعم الذي لقموا به بتطويرها وعصرنتها. وهذه كانت النتيجة.
عينكاوة الجميلة، هذه المدينة كانت عندي وما تزال وستبقى من البلدات العزيزات، كما هي الحال على قلوب كل العراقيين الأصلاء والمسيحيين منهم بصورة خاصة، سواء من كانوا في بلدان الاغتراب أو من الرابضين الصابرين المجالدين في الداخل، من الذين لم يؤثروا ترف الحياة المرفهة التي سعى إليها الكثيرون بكل الوسائل لبلوغ بلدان المهاجر التي يختالون فيها وبها على من بقي صامدًا في أرض الآباء والأجداد . هذه البلدة الجميلة تركها بعض أهلها، فيما آخرون باعوها برخص التراب للغرباء بحجة التطوير والعصرنة كما فعلت الحكومات فعلها حين استيلائها على آلاف الدونمات لغرض إقامة مطار مدينة أربيل على أراضيها العذراء. فبعضٌ من العتب إذن، يقع على من باعها بطريقته الخاصة وبعض منه يقع أيضًا على من غادرها بغير رجعة ليستقر في بلدان الاغتراب، غير نادم على تضحيته بملكه وداره وأرضه. على أية حالٍ، لكل امرئ ظروفه وأسبابه وغاياته، لن أدخل في تفاصيلها وثناياها كي لا أجرح فلانًا وعلاّنًا، ممّن  راهن بكل ما لديه كي يخسر أهله وأرضه وتراثه ليروح "يتسكع"، عذرًا لينشد أرض الأحلام وما ستدره عليه وعلى أجياله من مغانم وامتيازات ومفاخر لها بداية وليس لها نهاية!. عينكاوة، مثلها مثل ألقوش وقرقوش وبرطلة وكرمليس وتلكيف وتلسقف وباقوفا وباطنيايا وغيرها من البلدات والقرى المسيحية المتميزة بتراثها وعاداتها، ستبقى شوكة في عيون الغرباء والمدسوسين، يرنون إليها ويحلمون بتدنيسها وغزوها إن أمكنهم ذلك، من أجل محو تاريخها المسيحي الناصع، والذي يذكرنا اليوم نمامًا، بما آلت إليه ممالك المناذرة وقصورها وحواضرها الشهيرة في الحيرة والكوفة والنجف، أيام النعمان بن المنذر، آخر ملوكها، حيث يتم هذه الأيام، اكتشاف آثار الكنائس والأديرة التي زينت أرض العراق سحابة قرون من حكم المسيحية في أجزاء كبيرة من العراق والمنطقة حتى قدوم الغزو الإسلامي الذي كسح ما كان قدامه ولم يرحم أحدًا.
هؤلاء الذين يتباكون اليوم على ما يسمّى بإرهاصات التغيير الديمغرافي وأسبابه ونتائجه، ألم يدر في خلدهم كيف آلت الأمور إلى هذه النتائج ولماذا؟ أم إنهم تعودوا على إلقاء الكلام جزافًا، و"حيّا الله كيفما يسقط فليسقط"، كما يقول الحديث الدارج! طبيعي جدًا أن تتغير الحياة وتتطور والشعوب وتنقلب المناطق في عالمٍ سريع التقلبات والتقليعات والطموحات. ولكن الذي يصمد ويصابر ويجالد برغم كل هذه الصواعق والتبدلات والإرهاصات، هو الرابح، إن هو حافظ على أصالته والتزم داره وأهله وبلدته ولم يهجرها برغم كل ما يحيق به، حتى لو كان ممّا قد نغّص حياته وأحاقت بها الأخطار التي لم تنقطع ولن تتوقف عبر التاريخ. تلكم هي شريعة الحياة وقوانينها، حتى لو كانت ظالمة وفاقدة الشرعية والإنسانية. لقد أصبح البقاء في أرض الآباء والأجداد استثناءً هذه الأيام، فيما أصبحت الهجرة قاعدة للعديدين ممّن ركبتهم موجة الأحلام الوردية التي يتصورون قدرتها على نقلهم إلى هوس الجنان الخالدة في بلدان الاغتراب. ألم يسأل العديد ممن بلغ أقاصي بلدان الاغتراب، كيف يقضي حياته، إمّا منزويًا بين جدران مسكنه إن كان عاطلاً يستجدي ما تتعطف به حكومات ذلك البلد الذي استقبله ليستغله وفق سياسة حكامه، أو وسط فورة العمل التي لا ترفق به ولا ترحم حاله بحيث لا تسمح له حتى بلقاء أحبائه وفلذات أكباده إلاّ فيما ندر وفي مناسبات متباعدة استثنائية.
خلاصة الكلام، أن العديد من الذين يبكون أو يتباكون اليوم، على الهموم القديمة الجديدة التي تُتهم بها جهات كثيرة، مقصدُها إحداث تغييرات ديمغرافية في بنية المناطق المسيحية، بصورة خاصة، كانوا هم جزءًا من هذه الأسباب بقصد أو بغير قصد، ومعهم من غادر الأرض وترك الديار واستقرّ في بلاد الغال وآثر بهرجة بلاد العم سام وعمومته على أرضه وأهله ووطنه. قالوا ويقولون، أن ضيق الحياة بكل أسبابها خلال ما مرّ به الوطن منذ ثمانينات القرن الماضي ولاسيّما بعد أحداث الغزو الأميركي الظالم، قد فكّ عقال الكثير من المجتمعات العراقية، أفرادًا وعائلات، كي تقرر مصيرها وتبيع ممتلكاتها بأي ثمن ولأيّ كان، وتغادر مناطقها لتبدأ حياة جديدة في بلدان المجهول، حيث وصل أناسٌ أقصى قرى بعض البلدان التي نأى مواطنوها الأصليون قصدها، بسبب بعدها أو قساوة أجوائها. وأنا أقول، كفانا تحجّجًا ولومًا لبعضنا البعض واتهامًا لجهات مجهولة ذات أجندات وسياسات مشبوهة تريد النيل من بنيتنا ومجتمعاتنا. وبدل ذلك، فلنجالد ونتحصن ونثبت في أرض الإيمان والأجداد، بقدر تجّذرنا التاريخي الأسطوري الذي نتبجح به دومًا، دون أن نحرص عليه في تفاصيل حياتنا اليومية، أو دون أن ندعمه بأفعال وخطوات، هي الأجدر بالالتفاف حولها وترصينها بالثبات في هذه الأرض و"عدم إلقاء جواهرنا قدام الخنازير لئلاّ ترجع فتدوسها بأرجلها وتعود فنمزقنا"، كما يقول متى الإنجيلي. هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نوجهه لبعضنا البعض ومنه نتخذ العبر والدروس والحكم، في ضوء ما جرى ويجري في بيع الأملاك والمساكن والأراضي للغرباء من خارج مناطقنا وعقيدتنا وديننا من أجل حفنة من الأوراق المالية التي أخذت كل هواجسنا وملكت إيماننا بلا هوادة.


لويس إقليمس
بغداد، في 17 أيار 2012

385
نص كلمة رئيس مجلس الاقليات العراقية في مؤتمر التيار الصدري ببغداد

عنكاوا كوم - خاص

ينشر موقع "عنكاوا كوم" نص كلمة نائب رئيس مجلس الأقليات العراقية لويس اقليمس في مؤتمر التيار الصدري الذي أقامته الهيئة الثقافية لمكتب الشهيد الصدر بالتعاون مع مجلس الأقليات العراقية، السبت الموافق 31 كانون أول 2011 للمكونات العراقية. عقد المؤتمر تحت شعار "الوحدة غايتنا، السلام هدفنا، البناء عملُنا".





مؤتمر الوحدة والبناء والسلام
مؤتمر للتيار الصدري بالتعاون مع مجلس الأقليات العراقية
31 كانون أول 2011
#####
"المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي التاس المسرة الصالحة"
بهذه الكلمات السماوية، سبّح الملائكة، معلنين الفرح للبشرية يولادة المخلّص الرب، يسوع المسيح، له المجد، الذي يكنّ له جميع البشر على أرض الشقاء، باختلاف أديانهم ومذاهبهم، كل احترام وتبجيل لرسالته السماوية المتلخصة بأهمّ ثلاث خصالٍ إنسانية، هي التواضع والمحبة والسلام.
يحتفل العالم المسيحي ومعه كل البشرية، وأنتم معنا في العراق الجريح، بهذه المناسبة التي أتت بالبشرى الطيبة لجميع بني البشر. مناسبة سرمدية، تضع عالم اليوم والعراق بصورة خاصة في دائرة الضوء، وهو يعيش أزمة جديدة، يريد لها البعض أن تقوّض العملية السياسية القائمة وهي في أصعب  أوقاتها وأكثرها حراجة على الوطن والشعب على السواء. ونقولها نحن المسسيحيين بكل اسف، ماذا ارتكبناه من أخطاء أو جرم، لا سمح الله، كي نعتاد الحرمان من الاحتفال بمثل هذه المناسبة السعيدة التي لم تأت للعالم إلاّ بببشرى السلام والمحبة والرفق: ألم يقل الشاعر الكبير أحمد شوقي:
ولد الرفق يوم مولـــد عيســـى          والمروءات والهدى والحياءُ
وازدهى الكون بالوليد وضاءت      بسناه من الثرى  الأرجــــــــاءُ
ما أحلى أن نتشارك معًا في كل مناسباتنا الدينية السعيدة، إسلامية كانت أم مسيحية أم صابئية أم آيزيدية أوغيرها من المناسبات التقليدية التي يتمتع بها مجتمعنا العراقي على تعددية ألوانه وأطيافه الزاهية، كي نعيد للعراق الجريح عافيته بعد نزف  الأبرياء فيه وأنين جرحاه وشكوى الفقراء والمستضعفين من قساوة الحياة وشظف العيش والفقر، والأهم من ذلك كله، من الفوضى العارمة في حياتهم اليومية بسبب حالة عدم الاستقرار والاختراقات الأمنية المتفاقمة التي تطلّ علينا كلّما حصل توتّر سياسي بين الفئات الحاكمة. ونحن نعلم جميعًا، أن كلّ هذا، مردّه الصراع الطائفي والمذهبي بالدرجة الأولى، بين قادة الكتل السياسية والدينية الذين أثبتوا للشعب، وللأسف الشديد، عدم أمانتهم في قيادة البلاد، الذي ائتمنهم العراقيون فيها على صيانة أرضهم وعرضهم وأملاكهم وحياتهم. لقد كان ردّ فعل العديد من المرجعيات الدينية، الإسلامية منها والمسيحية والصابئية والآيزيدية وأخرى غيرها، شديدًا، واضحًا، متسمًا بالاستياء ممّا يجري على الساحة العراقية من تقاطع في المصالح الفئوية والطائفية الضيقة، على حساب المصلحة العليا للبلاد. نعم، لقد مرّ العراق بأزمات كثيرة، وتجاوزها رغم صعوباتها، وهو قادر اليوم أيضًا، إذا عقد العزم، أن يثبت صحة اعتقادنا، بقدرة القيادات السياسية على تجاوز هذه الجولة الجديدة من الأزمة  التي تضرب الوطن هذه الأيام، إذا ما تنازلت القيادات المتصارعة والمتضاربة في مصالحها، ووضعت نصب أعينها مصلحة الشعب المغلوب على أمره حين ركونها إلى  العقلانية وإلى الحوار الوطني الهادئ، ليكون الوطن ومصلحته سيد الموقف، بعيدًا عن كلّ أنواع التطرف في المطالبات والتعصب في المناقشات والتحيّز في الاستحقاقات المزعومة لكل كتلة.
رسالة السيد المسيح، الذي ضرب بها المثل الصالح في التواضع والمحبة، هي التي بشرت بالسلام المرتقب لبني البشر، وهي حافز لعراقنا الجريح كي يولد من جديد ويحيا أجواء المحبة والوحدة والطمأنينة في ظل الظروف الجديدة التي ستنقله إلى حظيرة دولة مستقلة ذات سيادة كاملة غير منقوصة. ممّا لاشكّ فيه أن جلاء القوات الأجنبية من الأراضي العراقية، له مغزى سام ومعنى أثيل، ما تدعو الحاجة، جميع المخلصين له من الوطنيين الشرفاء، كي يتشاركوا هذه المسؤولية بتعزيز وحدته الوطنية والمساهمة في بنائه وإعلاء صرحه بالتغاضي عن كل مصلحة أنانية وفئوية ضيقة.
إن إقدام أيّ مقتدر سياسي في الحكم القائم على تقديم تنازل، ولو يسير، ليس ضعفًا أو خنوعًا أو عجزًا، إذا ما كان سيصبّ في مصلحة الوطن والشعب على السواء. بل إن مثل هذا السلوك المتسامي في الرفعة والخلق، سوف يعلي من شأنه ويزيد من رصيده، ليس وسط أهله وأصدقائه ومريديه فحسب، سينال رضا الشعب وحب أبنائه وتعاطفهم مع سلوكه الوطني الكبير. عندما أراد المسيح أن يولد في مغارة بيت لحم، وهو العظيم الشأن لدى الله خالق الكون، لم يحسب ذلك ضعفًا أو حقارة أو مهانة، بل كان ذلك الفعل علامة عظمة وقدرة ورفعة، بحيث جاءه ملوكٌ من بلاد الشرق ليسجدوا له ويقدموا له هداياهم. ماذا لو اقتدى قادتنا السياسيون، بهذه الخصال العظيمة الشأن ويتنازلوا عن شيء أسمُه الأنانية وحب الذات والعجرفة، ويتحلّوا عوضها بالتسامي ومحبة الغير والتواضع، وهي صفات غبر بعيدة عن الأصلاء من الوطنيين العراقيين الذين عرفهم التاريخ والحضارة. هذه الصفات الآدمية العليا يمكن أن تشكل اليوم، قاعدة لبناء وطن موحد، قوي، مسالم، متسامح، زاخر بالشيم العربية والعراقية الأصيلة التي تتالت وتوارثها العراقيون الشرفاء منذ أجيال وقرون. ماذا جرى، كي تتمزّق لحمتنا الوطنية ويتشظى شعبنا وينفرط عقد نسيجنا الاجتماعي، بسبب شغف البعض المفرط بالمال والجاه والسلطة؟ وفي كل هذا وذاك، يكون الشعب المسكين والمستضعفون فيه هم الضحية الأكبر، ولاسيّما أبناء  الأقليات الذين يشكلون فيه  الحلقة الأكثر ضعفًا في المجتمع والأكثر تضررًا في المعادلة السياسية القائمة، بسبب التهميش والإقصاء والاستبعاد الذي يعانون منه بسبب نظام المحاصصة الذي أرساه المحتل وطبقته الأغلبية الحاكمة ولا تريد التنازل عنه رغم إثبات عدم جدواه وقصوره وتحيّزه.
أزمة اليوم، تستدعي التفكير بهدوء وروية وفي أجواء وطنية ترسي لبناء الدولة التي لم تكتمل بعد بسبب صراعات الفرقاء، أصدقاء الأمس وأعداء اليوم. الوطن لايبنى بالحساسيات المفرطة، دينية كانت أم طائفية أو إثنية أو مذهبية. هذه كلّها لا تصلح في معايير السياسة الوطنية الصادقة، ومن يصرّ عليها ليس بالوطن والمواطنة بشئ، وسوف يمقته الشعب ويحاسبه التاريخ.
أيها الإخوة والأخوات،
الديمقراطية التي انتهجها العراق بعد ولادته الجديدة في 2003، تعني الكثير. ومن جملة ما تعنيه، الحرية والكرامة الإنسانية للفرد والمجنمع، ولكل الجماعات التي يحتضنها، دينية كانت أم إثنية، صغيرة كانت أم كبيرة، إقلية كانت أم أغلبية. كلهم مواطنون، وكلهم لهم الحق المتساوي في تبوّء مواقع السلطة وفي العمل وفي التوظيف وفي السفر والتنقل وفي الثروات وفي الحرية التي لها حدودها عندما تبدأ حرية المقابل. الديمقراطية، تعني أيضًا، طيّ صفحة الماضي، حيث مبدأ الحزب الواحد والقائد الأوحد. وهذا بحدّ ذاته درسٌ لنا جميعًا. فالحياة الجديدة في العراق الجديد، لا تقبل بعدُ باللون الواحد والدين الواجد والمذهب الواجد والطائفة الواحدة أو الكتلة الواحدة. القادر على قيادة الدولة، إذا أثبت وطنيته وكفاءته ونزاهته وأمانته للوديعة المؤتمن عليها في قيادة الوطن والأمة، سيكون له من جميع طبقات الشعب، كل احترام وتقدير، وسيباركه الله ويسدّد خطاه لأنه نقل وطنًا مثقلاً بالجراح وأهله المتعبين من حالة الشقاء إلى برّ الأمن والأمان. وهذا ما يمتناه الشعب العراقي، حالة مستقرة من الأمن والطمأنينة وخدمات آدمية مقبولة تليق بتاريخه وحضارته وتتناسب مع تضحياته وكثرة خيراته التي لم يتح له التمتع الحقيقي بها لغاية اليوم، منذ اكتشافها واستغلالها.
أما المرأة في العراق، فهي الأخرى لها همومها الكثيرة في المنزل أم في العمل أم في الحياة العامة. إن نظرة المجتمع إلى المرأة، ينبغي أن تتغير لتتناسب مع مكانتها وقدراتها الوطنية والمجتمعية. فهي لم تعد آنية للتفريخ والمتعة أو سلعة للعرض والاستعراض، بقدر ما لها من مساواة في كل مناحي الحياة، كما للرجل، وفق ما حباهما الله عندما خلقهما على صورنه ومثاله. المرأة خُلقت إلى جانب الرجل آدمية متساوية معه ومكمّلة له ومعاضدة له في الحياة، وليس  بحصرها في المنزل وشلّ قدراتها وطاقاتها التي يمكن أن تخدم فيها المجتمع بكل جدارة وأن تثبت فعاليتها في الحياة العامة ومنها السياسية والعلمية والإدارية والاقتصادية والقضائية على السواء.
إننا نعتقد أن الشعب العراقي، قد استعاد جزءًا كبيرًا من وعيه السياسي والاجتماعي، وهو قادرٌ في حساباته في دورة الانتخابات القادمة، في مجالس المحافظات والأقضية، وبعدها في الانتخابات البرلمانية، إنشاء الله، على فرز الغث من السمين، والحكم على الأحزاب والكتل والأفراد التي تلاعبت بمصيره ولم تحقق له غير الغمّ والهمّ واستمرار عدم الاستقرار وتواصل أعمال الخطف والقتل والتهجير وغيرها من أعمال العنف التي لم تتوقف. إننا ندعو لرص الصفوف، لتفويت الفرصة على أعداء العراق، وهم كثيرون، سواء في الداخل أو في الخارج، ممّن لا يريدون له الاستقرار وراحة البال والانتعاش في جميع مجالات الحياة، السياسية منها والاقتصادية والعلمية والاجتماعية. إن نبذ العنف من أساسه وعلى جميع الأصعدة، واجب وطني وإنساني على كل من يدّعي المواطنة ويعترف بمبدأ قبول الآخر ويتطلع لوحدة التراب العراقي وبنائه وسلامته من كلّ أعدائه المحيطين به.
إننا نعتقد أيضًا، أن ما يشهده الوطن هذه الأيام، يقع بدون شك ضمن خانة الصراعات الطائفية والسياسية التي أنهكت الدولة الديمقراطية المزعومة، التي يلقي المسؤولون فيها السبب في نظام الشراكة التوافقية غير المجدية، ونحن معهم في هذا المسعى. لقد فشل السياسيون في هذا النوع من الشراكة، فليجرّبوا غيره، وليبحثوا في الدستور القاصر ما يمكن أن ينشلهم من هذه الأزمة الأخيرة، علّها تكون بردًا وبلسمًا على الجميع. كلنا على دراية بما خلّفه الدستور الذي كُتب على عجالة، من مشاكل وإرهاصات وثغرات كانت السبب الحقيقي وراء العديد من المشاكل والإخفاقات التي حصلت منذ سقوط النظام السابق ولغاية اليوم. فقرات عديدة في الدستور الحالي وأبواب غير موفقة فيه، لم تهيّء الفرصة الصحيحة لبناء دولة المؤسسات وترصين القائم منها وتغيير غير الصالح فيها، بسبب كتابته بطريقة أريد لها خدمة فئات محددة، مهيمنة على المشهد السياسي بدعم من المحتلّ الذي جاء بحزمة أوامر وقرارات مسبقة تهدف لتمزيق اللحمة الوطنية والمجتمعية في العراق.
اليوم، وفي ضوء ما نعيشه من أحداث ساخنة ومن حوادث مفجعة، تقض مضاجع الشعب عامة، ونحن الأقليات بخاصة، يتحتم على الجميع التحلّي ولو بيسير من الحرص الوطني الصادق من أجل استعادة الوطن عافيته وعودته إلى حظيرة الأمن والأمان والسلام، حيث المحبة المجمتعية تشع وتزدهر فيه روح التسامح والتآلف والتعايش، كما كنّا بالأمس. فيما مضى، لم يكن الجار يهمّه أن يعلم الهوية الدينية أو الإثنية أو المذهبية لجاره، لأنهم يتشاركون معًا حياة إنسانية حُبية تعاضدية، تغنيهم عن السؤال عن هذه الخصوصيات الفردية، التي ليست الأساس في حياة الفرد والمجتمع الموحد والمتماسك على السواء. لننظر إلى المجتمعات المختلفة الأديان والإثنيات التي تعيش في دول متحضرة، فقد تجاوزا هذه الفقرات غير المجدية التي تثير الحساسيات وصارت من الماضي. كفانا النظر إلى الماضي، فالماضي أيضًا له همومه. لنغرف منه فقط، ما يمكن أن يخدم تطور البلاد ويبنيها ويضعها في مصاف الدول المتقدمة، معيدين أمجاد تلك الحضارات بحزمة من الأعمال التنويرية والتثقيفية والتوعوية التي تواكب العصرنة. فمن ينظر إلى الماضي على أساس اللحاق به على علاّته، لن يحصد غير الخيبة والتخلّف والتحجّر في الفكر والفعل. ولنحتكم إلى الحاضر المعاش، لنرسي منه وبه، دعائم مستقبل زاهر، متطور بمجمتعه وبأهله وبقادته في ظلّ هذه الخبرة الحضارية الطويلة.
 لقد كرّس الدستور العراقي حكم البلاد ووضعها بين أيدي مثلث سياسي- إثني متحيّز، وهذا الثلاثي قد نصّب نفسه وصيًا على باقي المكوّنات قليلة العدد، أي الأقليات، رغم أصالتها في الوطن وكفاءتها التي قد تفوق كفاءة بعض القائمين على الحكم. إن أبناء هذه المكونات قليلة العدد، أي الأقليات، لا يسمعون اليوم غير تصريحات رنانة تدّعي تمتع جميع المواطنين بالحقوق التي كفلها الدستور، إلاّ أن الواقع المعاش يقول بغير ذلك. فالانتماء لحزب دبني أو سياسي أو لكتلة، ما وكذا القربى والمحسوبية، في يومنا هذا، أصبح هو المفتاح للحصول على جاه وإنعامٍ ولا شئء غيرتلك الشروط ينفع، كالكفاءة والعلم وحسن السلوك والسيرة. وهذا يعني تكرار أخطاء النظام الدكتاتوري السابق وعدم الاتعاظ من دروس الماضي الجريح.
إن ما اضعف مؤسسات الدولة العراقية بعد 2003، هو السلوك الخاطئ للقوى الدينية والأحزاب السياسية التي تدخلت في كلّ شيء لصالحها، ولم تبقي لغيرها شيئًا، لكونها ادّعت أحقيتها المطلقة بالسلطة والجاه والمال بسبب ادّعائها المظلومية أيام النظام السابق لوحدها، والحال أن جميع الشعب كان يعاني الظلم عينه إلاّ فئة قليلة. فكم وكم ممّن وصلوا إلى مواقع وظيفية متقدمة، كانوا من المزوّرين للوصول إلى مبتغاهم وبدعم من القائمين على السلطة، ولم يتم لغاية الساعة، محاسبة هؤلاء بسبب تدخلات الأحزاب والجهات الدينية المتنفذة لصالح المزوّرين والفاسدين، في حين ظلّ الكثيرون ومنهم أبناء الأقليات خارج هذه الاستحقاقات الوظيفية، لعدم وجود من يلبي نداءاتها ويسمع تشكياتها المتواصلة من التحيّز الحاصل ضدّها في وسائل المشاركة الطبيعية في الجياة العامة، ومنها في العملية السياسية. ونحن نعتقد، أن هذه الممارسات لا تقلّ في ضررها على الوطن والمجتمع عن الأعمال الإرهابية التي طالت وتطال كافة فئات الشعب ومنهم الأقليات، والتي يتم تنفيذها في الغالب باسم الله تعالى، جاعلين من الله جلّ شأنه، راعيًا للإرهاب والإرهابيين.
لنكن، كلٌّ من موقعه، داعية سلام وبناء ومحبة، ننشد وحدة العراق وازدهاره وسموّه فوق كلّ أشكال  التمييز والذلّ والقهر والظلم والفساد. التخريب عملٌ سهلٌ، تنزع له النفس الأمّارة بالسوء دومًا، لكن البناء صعبٌ يستدعي رصّ الصفوف وشيئًا من الالتزام الخلقي والمجتمعي تجاه الغير، أيًّا كان نوعه أو عرقه أو دينه أو جنسه أو لونه أو مذهبه أولغته. إن المجتمع الواعي بمثقفيه وعقلائه وعلمائه، له القدرة بالتأكيد، على معالجة مواقع الخلل ومكامن الضرر وكل ثغرة تنشأ عن الحكم غير الرشيد. فمن يقبل النصيحة، يجازيه الله خيرًا، ومن ينصح بالخير والمودة وحسن الفعال، يجازيه أضعافًا، ومن ينكر هذه وتلك، مصيره البكاء وصريف الأسنان، ولا مكان له في جنات الخلد حين يفتح الكتاب ويُقرأ الحساب.
تمنياتي لجميع العراقيين، بالخير والسؤدد ودوام التقدم في ظلّ عراق فدرالي، موحد، زاهر، قوي، مستقرّ ينعم بالسلام والمحبة وبالأمل والرجاء الذي لا يخيب.

لويس إقليمس
نائب رئيس مجلس الأقليات العراقية
بغداد، في 31.12.2011



386
ندوة مدافعة حول مستقبل الأقليات في العراق
"مشاركة  الأقليات في الحياة العامة، ترسيخ لمبادئ الديمقراطية وحقوق المواطنة"
بغداد، في 16 كانون أول 2011

هذه االندوة الحوارية، تأتي لمناسبة صدور التقرير السنوي لعام 2010 ، للمجموعة الدولية لحقوق الأقليات، ومقرّها في لندن، بالتعاون مع مجلس الأقليات العراقية، وكذلك لمناسبة الأحداث المأساوية الأخيرة التي ضربت كردستان العراق الذي كان للأمس القريب، أحد الملاذات الآمنة للذين ضاق بهم العراق، على سعته، والذين فروا من حقد الإرهابيين ووجدوا فيه شيئًا من الأمن والاستقرار، بحسب وعود القيادات الكردية وحرصها على تأكيد ذلك في مناسبة وبدون مناسبة.

منذ سقوط النظام السابق، والأقليات موضع تهميش وإهمال وإقصاء من مواقع القرار، بل واحيانًا من تمييز واضح في مجالات عديدة في الحياة العامة وفي السياسة، علاوة على ما عانته وما تزال تعانيه من أعمال عنف وتهديد وتهجير تمنعهم وتحول دون وصولهم إلى أشكال الحياة اليومية الطبيعية في الوطن.

        لاحظنا في مجلس الأقليات العراقية، كما رصدتم جميعًا ومعنا كل الوطنيين والناشطين، ومن خلال برامجنا المتواصلة في رصد حقوق أبناء الأقليات لغاية الساعة، أن أبناء هذه الأقليات يكادون أن يصلوا إلى قطع حبل الرجاء بمستقبلهم في هذا البلد، كثير الخيرات وقليل الاستقرار، والذي كان يتمتع نسبيًا، وإلى حقبة السنين الغوابر القليلة الماضية، بقدر وافٍ من الاستقرار ومن التعايش السلمي بين أبناء جميع المكّونات القومية منها والدينية على تنوعها واختلافها على السواء. فماذا جرى؟ هل إن الاحتلال الدولي بقيادة أميركا، كان هو السبب وراء كل هذه المصائب؟ وهل هو حقًا بصدد تنفيذ استراتيجيته الجديدة القديمة، من أجل تغيير خارطة الشرق الأوسط، والعراق جزءٌ من هذا المخطط؟ هل يقصد بالتغييرات الدراماتيكية التي تولاّها منذ عام 2003، تفتيت النسيج الاجتماعي الوطني وطمس معالم الحضارة العراقية التي بناها العراقيون من كافة الملل والطوائف والقوميات والأديان والشعوب، ورووها بدمائهم سخية من أجل إعلاء شأن الوطن والأمة؟ ماذا ننتظر اليوم، وإلى ماذا ننظر؟ هل نؤمن بالواقع المرير ونسدل الستار عن إمكانية استعادة العراق لعافيته لسنوات طويلة قادمة من مستقبل قاتم، مجهول الهوية؟ ما هو مستقبل شعوب الأقليات التي أحالها الزمن إلى حلقات ضعيفة في المجتمع؟ هذا ما نريد التحاور بشأنه ورصد الخطوات الممكنة لمناصرة أبناء الأقليات والمدافعة عن حقوقهم وهويتهم وخصوصياتهم وتقاليدهم وإرثهم في أجواء من التعايش والتآلف الأهلي المرتجى.
     
     نحن اليوم، وبالرغم من التحسن الطفيف في الوضع الأمني عمومًا، نجد أنفسنا أمام واقع مرير ومستقبل مجهول، حيال موضوع مشاركة العراقيين من أبناء الأقليات في شؤون الحياة العامة التي يجدون أنفسهم في أحيانٍ كثيرة خارج حسابات الكتل السياسية المهيمنة على الحكم، بفعل حقيقة تقاسم الأخيرة للسلطة. تقول المجموعة الدولية لحقوق الأقليات، شريك مجلس الأقليات العراقية، في تقريرها لعام 2010 الصادر قبل أيام بالإنكليزية، وفي جزء من تقريرها لعام 2011 المخصص للشأن الأمني، بوجود حاجة لتغييرات قانونية وسياسية للحد من التمييز الحاصل بسبب دوافع سياسية وعرقية. وبحسب ما ورد في التقرير، لوحظ وجود تمييز بحرمان أبناء الأقليات في تبوّء المناصب السياسية العليا والوظائف الهامة أو في الحصول على العمل المناسب في دوائر الدولة وفي الوصول للرعاية الصحية المناسبة والتعليم وفي الممارسة الآمنة للثقافة والفنون وفي مجال تنمية الموارد البشرية والخدمات البلدية ودعم طاقات الشباب والمرأة. إذ يرى العديد من أتباع الأقليات في العراق، ،طبقًا لنتائج الاستبيان، أنهم يجدون أنفسهم في معزل عن باقي المجتمع في مجالات عديدة في الحياة العامة، ما تدعو الحاجة إلى مزيد من الحوار والتسامح والمصالحة ووضع قوانين شاملة الإطار، بالاعتماد على دستور مدنيّ يحترم كلَّ العراقيين بكل خصوصياتهم، ومنها العمل على إلغاء كل ما يحتويه هذا الدستور من أنواع التمييز والفوارق في رسم السياسات الوطنية الحقيقية المحتكرة حاليًا من قبل المثلث (الشيعي- السني- الكردي) المهيمن على كل مفاصل الدولة، بسبب تطبيق نظام التوافق المستند على المحاصصة الطائفية التي لم تترك شيئًا لباقي المكونات القليلة العدد، وهي الأصيلة في الوطن.
وفقا للتقرير أيضًا، يظل الحق في العبادة وفي التعبير عن حرية الدين والمعتقد، مشوبا بالكثير من التساؤلات بسبب ثقافة التطرف الإلغائية الجديدة التي غزت المنطقة، ومنها العراق أيضًا. هذه الثقافة الغريبة التي دخلت مجمعنا مع الغزو الأميركي في 2003، لا تقبل أن تقرّ بقبول الآخر المختلف عنها في الدين أوفي العرق أوفي المذهب، بالرغم من تعبير الحكومات المتعاقبة عن احترامها لكل الأديان والأطياف. إلاّ أن الواقع يصطدم بصعوبات وممارسات يومية تصرّ على إهمال حقوق الأقليات الأساسية، واستمرار استبعادها من مواقع القرار في مجمل الحياة اليومية، بعلم وبمرأى من القيادات السياسية الحاكمة. من ضمن النسب التي حصلنا عليها، تقول المجموعة الدولية، بأن47 في المائة فقط، من المستجيبين للاستبيان، شعروا بالأمان لدى زيارة أماكن العبادة، أي للصلاة والزيارة. ناهيك أن النساء من مجتمعات الأقليات خاصة، يخشين السير أو الخروج من المنزل سافرات أو ارتداء الرموز الدينية والتقليدية علنا، خوفًا من كشف انتمائهن إلى دين أو قومية معينة، وذلك في إجراء إحترازي من أجل حماية أنفسهن من الاستهداف أو من التحرش في الشارع أو على طول الطريق المؤدي إلى مواضع العبادة، ولاسيّما في نقاط التفتيش القائمة، وما أكثرها.

 الأسباب التي تم رصدها مجتمعة، في استبياناتنا للأعوام 2009، 2010 و2011 معًا، تكمن في التحيز العرقي أو السياسي أو التعصب الديني الحاصل من قبل جهات عديدة ومنها الكتل السياسية المهيمنة على سياسة العراق وثرواته، وكذلك بسبب الدستور الذي كُتب على عجالة كي يتوافق حصرّا مع مصالح الكتل المهيمنة التي كانت ادّعت وقوع الظلم عليها وحدها فقط أيام النظام البائد، دون غيرها. ولكن، كيف يمكن لمن كان يشتكي، وقوعه ضحية ذلك النظام، بسبب من الظلم والتهميش والقهر والإقصاء ووسائل الدكتاتورية ومن التمييز في الحياة العامة، أن يمارس نفس السياسات الإقصائية  وأكثر منها، حين وصوله إلى السلطة؟ فهل يمكن أن يتحول الضحية إلى جلاّد بين ليلة وضحاها؟

    اليوم، الخوف لدى المسيحيين والصابئة المندائيين والآيزيديين والبهائيين وغيرها من المكوّنات العرقية التي تختلف في ديانتها عن دين الأغلبية، لايزال على أشدّه، لاسيّما من قبل التكفيريين وأصحاب الأفكار الضيقة المنغلقة، الذين يفتون بإبادة كلّ ما يختلف عنهم وبإلغائه، لكونه ليس منهم وباعتباره كافرًا وليس إلهيًا، واضعين أنفسهم مقام الله في الحكم، وهو الديان الوحيد على أفعال البشر. إن هذه الظاهرة الخطيرة، تستدعي اليوم، فعلاً وطنيًا تثقيفيًا جماعيًا جدّيًا في إعادة صياغة ثقافة المجتمع عامة، بدءًا بالمناهج المدرسية ومن خلال توجيهات حثيثة للحكومة إلى دوائرها ومؤسساتها من أجل نشر روح التسامح والتعايش ورفض التمييز على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو الهوية أو اللغة، وإدراج تعريفات عن جميع مكوّنات الشعب العراقي، الدينية منها والعرقية، في الكتب المدرسية كافة ولجميع المراحل، واستبدال دروس الدين في المدارس بمناهج تثقيفية عامة. 

منذ الهجوم البربري على كنيسة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010، والهجمة شرسة على المسيحيين بالدرجة الأولى، حيث لم ينقطع بسببها، تيار الهجرة القائم في صفوفهم لغاية الساعة. فقد تناقصوا إلى ما يقرب من ثلث حجمهم قبل الأحداث في 2003. فكم وكم من عائلات غادرت مساكنها وبلداتها أو أُجبرت بالأحرى، على الهجرة إلى مواقع أكثر أمانًا، في الداخل، ناهيك عمّن غادروا وبلا رجعة إلى بلدان الاغتراب الكئيبة، طلبًا للأمن والأمان وراحة البال التي أفقدهم إياها المحتلّ بقدومه ومن بعده الحكومات المتعاقبة. مازال العراقيون عمومًا، والحلقات الضعيفة من أبناء الأقليات خصوصًا، تتطلع لرؤية بصيص النور في النفق المظلم الذي أدخلوا فيه. فما يطلبه المواطن البسيط، لا يكاد يتعدى ثلاثة أمور أساسية: حالة مقبولة من الأمن والاستقرار، وخدمات بلدية آدمية، وتطبيق عادل ومساواة في شؤون الحياة اليومية العامة. حتى إن كردستان العراق لم تسلم هي الأخرى، فقد وصلتها عدوى ما يسمى بالربيع العربي، وهي الآمنة طيلة السنوات المنصرمة من مثل هذا الأفعال الإرهابية التي ضربت مكوّنين أساسيين من الأقليات في أحداث الجمعة المريرة في 2 كانون اول الجاري. وفي اعتقادي، كما وصفه أيضًا بطريريك الموارنة بشارة الراعي الذي زار العراق مؤخرًا، أنها رياحٌ تبشر بكلّ الأسف، بشتاء عربي في المنطقة، ويا هولها علينا إذا طرقت أبوابنا مجددًا، خاصة على أبناء الأقليات.

هناك عراقيون عانوا من اغتصاب لملكياتهم، كما أشار التقرير، وهناك مَن مازالوا بدون بطاقات الهوية الشخصية أو وثائق رسمية تثبت عراقيتهم، ولم تتمكن الجهات المعنية من إيجاد حلول سريعة لهذه المشكلة بسبب عدم كفاءة الهيئات المشكلة لهذا الغرض أو بسبب مماطلتها أو بسبب تدخلات جانبية غير مبررة. ونذكر منهم الشبك والتركمان والمسيحيين من الكلدان والسريان والآشوريين والأكراد الفيلية، الذين من حقهم أن تكون لهم هويتهم القومية والدينية الخاصة بهم وأن تعود لهم أملاكهم التي اغتصبت ظلمًا، وهي ماتزال بين أيدي جهات تحكم البلاد حاليًا. يشير التقريران  لعامي 2009 و2010، إلى تعرّض عدد من الأقليات، ومنهم الإخوة الآيزيديين والصابئة المندائيين، طيلة السنوات المنصرمة إلى أعمال عنف وعمليات إرهابية طالت مدنهم وقراهم ومصالحهم ومواقع تواجدهم، كما حوربوا في أعمالهم وأرزاقهم، لاسيّما الآيزيديين الذين يشتركون مع المسيحيين في محاربة أرزاقهم في تجارة الكحول التي نسبت إلى ديانتهم غبنًا وظلمًا. ونحن نقول، أن الذي يشرب الخمرة، سيّدٌ لنفسه، وليس من حق الآخر مصادرة هذا الحق طالما أنه لا يشكل أذى لغيره. بل إن هذا الحق للفرد والمجتمع، يكفله الدستور والمواثيق الدولية التي وقع عليها العراق، والله وحده هو الديان وليس خليقتُه الضعيفة. أما الإخوة الشبك في سهل نينوى، فقد كانت لهم حصتهم من أعمال العنف التي طالت قراهم وأبناءهم واستهدفت قادتهم وأعمالهم، لا لسبب، بل لاعتزازهم بهويتهم الشبكية وتقاليدهم المتوارثة التي تشكل جزءًا من تنوع حديقة العراق. ولم يكن التركمان بعيدين عن التيار الجارف الذي استهدف وجودهم في عقر دارهم وفي مناطق وجودهم التاريخية. فما زال أبناؤهم من العلماء والأطباء ورجال الأعمال والقادة يتعرضون للتصفية والقتل بهدف إسكات أصواتهم، علاوة على نكران تاريخهم وأحقيتهم في مدينتهم التي تقاسموا فيها مع باقي المكونات من العرب والأكراد والمسيحيين والكاكائيين والشركس، حلو الحياة ومرّها، طيلة السنين الغوابر في مدينة كركوك وتوابعها، التي كانت دومًا أشبه بفسيفساء العراق. كما ما يزال البهائيون والكاكائيون، غير معترف بهم، دينًا أو قوميةً، إلى جانب جماعتي السود و الغجر المهملتين والمهددتين بوجودهما وتقاليدهما لأسباب اجتماعية.

ومن جملة ما يشير إليه تقرير 2010 أيضًا، الصعوبات التي يعانيها المواطنون عامة وأبناء الأقليات خاصة، في المناطق الريفية، من نقص في المراكز الطبية والرعاية الصحية  للأمومة والمرأة والطفل، حيث يمكن أن تبعد هذه المراكز أو المستشفيات، أحيانًا 100 كيلومترا عن مناطق السكن، يضاف إليها الوقت المستغرق بسبب نقاط التفتيش العديدة التي يجب التفاوض فيها لغاية الوصول إلى الجهة الطبية المقصودة. ويشير التقرير أيضًا، إلى نقص في الكهرباء وفي المياه الصالحة للشرب، حيث يعاني واحد من كلّ أربعة عراقيين، من عدم الحصول على المياه الصالحة للشرب. ناهيك عن مشكلة الانتماء إلى الأحزاب أو للكتل السياسية أو الدينية القائمة وما يمكن أن يفرضه ذلك من تراجع أو مزايا في الحياة العامة، بفعل الانتماء إليها من عدمه، والذي يعدّ اليوم مثار قلق في حياة المواطن.
   
بخصوص التعليم، تبقى المسافة والتكاليف والخوف من الاستهداف بالإرهاب، هي من بين الحواجز التي تمنع عددًا من أبناء الأقليات من التردد إلى المدارس والمعاهد والجامعات، فلا يمكن أن ننسى الهجمات البربرية التي طالت طلبة من أهالي قرقوش بمركز قضاء الحمدانية في نينوى في أيار 2010، وهم يقصدون المؤسسات التعليمية في مدينة الموصل، وما ألحقه ذلك من أذى وخوف وترهيب، وهذا خير مثالٍ . ويبرز التقرير أيضا صعوبات إضافية تواجه نساء الأقليات بسبب جنسهن، ومنها ترددهنّ وخوفهنّ في الخروج من المنزل لتفادي أنواع التحرش الجسدي أو اللفظي، أو بسبب العنف الجنسي الموجه ضدّهنّ، سواء في المنزل أم في مكان العمل أو من داخل مجتمعهنّ. ناهيك عن أعمال الخطف والقتل والدفع للانتحار أو بسبب الضغوط عليهنّ بتقاليد الزواج القسري وعادة ختان الإناث المنافية لحقوق الإنسان، ولاسيّما في المجتمع الآيزيدي في شمال العراق. وفي سهل نينوى، لاسيّما في غالبية المناطق المتنازع عليها، حيث تعيش العديد من الأقليات، يشكو الأهالي من ضعف في الخدمات العامة وفي التنمية وتنفيذ المشاريع، بسبب صراعات القوى العربية- الكردية على مصير هذه المناطق، حيث ما تزال هذه المشكلة مثار مساومات وجدالات وسجالات ومراهنات بين الكتل السياسية لإيجاد تسوية بصددها في إطار صفقات سياسية، يستخدمها كل طرف لحساب مصلحته الفئوية، وذلك  كورقة للحصول على مكاسب، وكل ذلك على حساب مصالح وحقوق مجتمعات ومناطق الأقليات.
   
   نحن نعتقد مع شركائنا في المجموعة الدولية لحقوق الأقليات، أن المشاركة الفعالة والحقيقية لجميع المواطنين دون تمييز، ومنهم أبناء الأقليات، في الحياة العامة، من شأنه  أن يعزز من إمكانية التعايش السلمي وفي خلق مجتمع متسامح مدني مزدهر بين المكونات الدينية والعرقية المختلفة في العراق. وهذا يستدعي بالضرورة، اشتراك الجهد الحكومي مع الجهات الفاعلة الدولية منها والمحلية والحكومات والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، من أجل حماية الأقليات ودعمها وضمان حقوقها المواطنية المتساوية والكاملة، سواء كان ذلك في شكل مبادرات حفظ السلام، أو استثمار الأموال، أو في التخطيط الإنساني أو في تنفيذ البرامج والمشاريع التنموية والتدريبية في مناطق تواجدها المحرومة منها. كما نعتقد بضرورة فتح حوارات بين الدولة وممثلي الأقليات وأصحاب الشأن، من أجل تبادل الأفكار ومناقشة الأوضاع الآيلة للخطر أكثر فأكثر، في محاولة لوضع خارطة للممارسات والتطورات و الاتجاهات من أجل إيجاد حلول قابلة للحياة ولتغيير مسار الوضع السياسي المهتزّ القائم حاليًا، والتي أثبتت الأيام، قصوره وعدم فاعليته وتجاوزه على مجتمعات الأقليات من قبل بعض الكتل السياسية المهيمنة، ما يشكّل علامة بارزة ملحّة وآنية في إعادة الدولة والحكومة النظر بالمعادلة السياسية القائمة في رسم مستقبلها، وفي اختيار الأفضل لمصير هذه الأقليات من أجل بقائها في الوطن، لأن خسارتها وفراغ العراق منها يعني فقدانه لغنى التعددية الجميلة التي يتميز بها منذ القدم.

مع تمنياتنا بحقبة جديدة من العمل الوطني المثمر بين الفرقاء السياسيين، نتمنى ممّن وقفوا في صف المعارضة أو في الاعتراض القائم على برنامج الحكومة الحالية من قبل بعض الشركاء السياسيين، أن يعيدوا النظر في حساباتهم الوطنية، بإيثار المصلحة العليا للوطن على المصالح السياسية والفئوية الضيقة، لاسيّما بعد زوال أحد أهم المبررات التي كانت تقف حجر عثرة أمام الإجماع الوطني على بناء دولة القانون والمؤسسات، حيث أوفت الحكومة بوعدها بجلاء القوات الأجنبية من جميع الأراضي العراقية.

أشكر لكم حسن الإصغاء وأدعوكم لحوار وطني صادق وداعم لحقوق الأقليات، مستند إلى مبادئ العدالة والمساواة، لبناء عراق حضاري مزدهر قوي، ينتعش بأريج المحبة والسلام والتآخي.

لويس إقليمس
نائب رئيس مجلس الأقليات العراقية/ مدير مشروع منع الصراعات في العراق
بغداد، في 16 كانون أول 201


 MRG، المجموعة  الدولية لحقوق الأقليات، منظمة رائدة تعمل على ضمان حقوق الأقليات العرقية والدينية واللغوية والسكان الأصليين في جميع أنحاء العالم. وهي نعمل مع حوالي 150 منظمة شريكة في حوالي 40 بلدّا. حاليا تعمل على برنامج لمدة ثلاث سنوات بتمويل من الاتحاد الأوربي ووكالة المساعدات الأيرلندية، على تعزيز الحريات الأساسية وحماية الأقليات المعرضة للخطر في كل من العراق والصومال. ويمكن الاطلاع على مزيد من المعلومات حول برنامج عمل المجموعة على صفحتها الآلكترونية: http://www.minorityrights.org/11009/programmes/iraq-and-somalia-programme.html


387
مجلس الأقليات العراقية يستنكر حملة الاعتداءات ضدّ مصالح أبناء الأقليات في كردستان

يستنكر مجلس الأقليات العراقية الهجمة الجديدة من الاعتداءات التكفيرية التخريبية التي طالت مصالح أبناء المكونين المسيحي والإيزيدي ومصالح عامة في عدد من مدن وقصبات إقليم كردستان العراق، الذي كان حتى الأمس القريب، حصنًا للأمن والأمان والتعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي الذين وجدوا فيه خير ملجأ للسكنى والعيش الأمين.
إن هذه الاعتداءات ليست بمعزل عمّا تعرّض له عمومًا، أبناء الوطن الجريح، ومنهم بصورة خاصة شرائح المكوّنات القليلة العدد أي الأقليات التي واجهت منذ أحداث التغيير الدراماتيكية في 2003، سيلاً جارفًا من أعمال العنف والخطف والقتل والتهجير والتخريب في الممتلكات العامة والخاصة. إن موقف حكومة كردستان من مجمل هذه الأحداث، ينبغي أن يكون واضحا وسريعًا في اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من تكرار مثل هذه الأحداث المأساوية التي تستهدف الاستقرار والسلام والاستقرار الذي يشهده الإقليم، بعد معاناة هو الآخر من فترة حرجة قاد فيها نضاله من أجل نيل مطامحه وحقوقه القومية التي لم يبخل بها الشرفاء الأحرار من شعب العراق آنذاك، في مساندة مطالب الشعب الكردي في نيل حريته واستقلاله. كما نثمن عاليًا، الاستجابة السريعة من لدن فخامة رئيس الإقليم السيد مسعود البارزاني، ودولة رئيس وزراء الإقليم الدكتور برهم صالح، لتنديدهم بهذه الأعمال والإيعاز إلى أجهزة الأمن في الإقليم لاتخاذ إجراءات رادعة بحق مرتكبي هذه الجرائم ومثيريها ومحّرضيها وفتح تحقيق فوري جادّ لمعرفة الجهات التي تقف وراءها.
إن هذه الهجمة الجديدة، ضدّ مصالح أبناء الأقليات، هي وصمة عار في جبين كلّ من يتبجح بالدين والشريعة أسلوبًا لفرض حياة معينة على شعوب مسالمة تنشد التعايش والاستقرار والأمان. إن المجاميع التخريبية والترهيبية التي افتعلت هذه الأحداث، واتخذت طابعا دينيًا إلغائيًا للآخر، إنما تسعى إلى فتنة جديدة ليست بعيدة عمّا تشهده دول الجوار ممّا يسمّى بالربيع العربي، كي تخلط الأوراق وتحقق غاياتها المشبوهة في النيل من التعددية الفكرية والإثنية والدينية التي يتمتع بها الإقليم منذ استقراره، والتي نأمل أن تتصدى لها حكومة الإقليم بكل قوة وأن تكشف عن الجهات التي تقف وراءها لينالوا جزاءهم العادل. كما يترتب على حكومة الإقليم أن تراجع سياستها التربوية في تبنّي نهج تربوي مدني وحضاري محايد، يزرع بذور التسامح والتعايش السلمي بين المواطنين وإلغاء وتعديل كل ما يشير إلى سيادة رموز دينية معينة على غيرها، "فالدّين لله، أما الوطن فيبقى للجميع خير ملجأ".
مجلس الأقليات العراقية
في 6 كانون أول 2011





388
المنبر الحر / حالُنا وآمالُنا
« في: 23:42 30/08/2011  »
حالُنا وآمالُنا

كنتُ قد تعمّدتُ التوقف عن الكتابة لغاية انقشاع الأحداث وما ستؤول إليه صيحات وادّعاءات عديدة، بتحقيق ما يُسمّى بمطلب استحداث محافظة "مسيحية"، بكل ما يعنيه مَن يُطالب بمثل هذا المطلب قاصر الأفق، لكونه يتنافى مع رؤية وطنية شاملة يسعى لترسيخها المثقفون والعقلاء بجهودهم الحثيثة في بلدٍ فقدَ فيه الكثيرون معاني الإحساس الوطني الصادق. إلاّ أنّ حادثة بغديدا الأخيرة من الاعتداء السافر على أبناء شعبنا، وما سبقها من حوادث مشابهة ومن منغصات محلّية متتالية، قد جعلتني أخرج من هذا الاعتصام. فهي تعيد إلى الأذهان، مدى حاجة المنطقة السريعة، إلى حسم وحزم وتقرير للمصير كي تعيدَ الكثيرين إلى رشدهم فيما ذهبوا إليه من تسيّب وإهمال وتسليم أمرٍ إلى الغريب الطامع من بعيد، دون تفكيرٍ معمّق مبني على أسس واعتبارات راسخة مبنية على الصخر وليس على طين. هكذا يجب أن تُبنى الأوطان والبلدان، على الصخر كيلا تأتي السيول الجارفة فتأخذها بمن فيها بلا هوادة.
بكل، تأكيد، هناك الكثير من الثغرات التي نلمسها في العديد من مؤسسات الدولة المنهكة والضعيفة، منذ عام 2003. هناك من ركب الموج وهو بعيدٌ عنه، بل لم يكن في حساباته يومًا أن يلقى ما لقيه من منافع وامتيازات في حكم ما بعد النظامٍ الشموليّ الذي أساء إلى الوطن وأبنائه بكل ما تعنيه الكلمة. هناك من تبوّأ مراكز مهمة في الدولة العراقية الجديدة، وهو لم يكن يحلم يومًا، أن تستقرّ عيونُه على رزمة من الرزم الخضر التي بدأت تتناثر عليه من حيثُ لا يدري، كالمطر الهطال  في عزّ الشتاء. وهناك من أحزاب وقوى، استقوت بفضل الغازي المحتل واستهترت بالمعاني الوطنية وآلت على نفسها الانتقام من كلّ بادرة تنطق باسم الوطن، مؤثرة بذلك تغليب المسار الطائفي على الوطني، طالما ضمنت بقاء المحتلّ، حامي حماها وضامنًا مصالحها العرقية والقومية على السواء. وهي بذلك تضمن لنفسها رسوخًا وتواجدًا في مناطق حكمها، كمحافظات أو أقاليم، وكذلك في ما يسمّى بالحكومة الفدرالية على السواء. من ناحية أخرى، نجد أنّ الفساد المستشري في جميع أركان الدولة، ما زال ينخر في جسم الوطن. أمّا الحكومة وقادتها، فهم لا يستطيعون فعل شيء حاسم، رغم النداءات والمطالبات والاستعراضات الدعائية بمحاربة الفساد والفاسدين، ذلك لأن الدولة لا تستطيع محاكمة نفسها. فالفعلة هم من حكّام جسم الدولة ذاتها. ومثل هذه المعالجة تحتاج اجتثاث جهات كثيرة تدعم وتدافع وتضع العراقيل أمام ملاحقة الفاسدين وكلّ مَن يعطّل عجلة الحكومة ويعيق تقديم الخدمات الضرورية والأمن على السواء. هذه الجهات ما تزال عقبةً أمام مشاريع التقدم والتنمية التي يحتاجها الوطن. فهل لنا من دكتاتور عادل يحكم بالعدل والحق ويقاضي الفاسد والمفسدين والمدافعين عنهم على السواء؟ ذلك عزاؤنا!
نعود إلى الاعتداء الأخير الذي استباح النظام الأمني لقصبة بغديدا (قرقوش) وشبابها، وقد أصبحت هذه البلدة، شوكة في عيون الكثيرين وبقعةً تكالبت عليها قوى عديدة، من الصديقة والغريبة وحتى من التي لا تربطها بها لا من قريب ولا من بعيد، بأية عرى عشائرية أو صلات عرقية أو حتى مشتركات سكّانية. والسبب الأساس في كلّ هذا وذاك، تقاعسُ الإدارة المحلية في محافظة نينوى عن أخذ دورها في صيانة حقوق أهل المنطقة منذ بداية الأحداث في 2003، بتركها المنطقة غارقة في ولاءات ومضاربات مصيرية لا تخدم المصالح الحقيقية فيها. وهكذا تكون قد عملت هي الأخرى وساهمت في تفتيت وحدتها وإضعاف إمكاناتها التي تؤهلها لتكون قائدةً لمجتمع متطور ومتميّز في المنطقة بأسرها. يُضاف إلى ذلك لامبالاة الحكومة المركزية ممّا حدث ويحدث لغاية الساعة، بسبب مساومات واتفاقات بين حكومة المركز وقيادة إقليم كردستان حول مصير المنطقة ككلّ. فهناك ما يؤشر مثل هذه الاتفاقات التي يجري طبخها في كواليس السياسة في كلّ من بغداد وكردستان، دون الأخذ بنظر الاعتبار مصالح أهل المنطقة، رغم الضغوط الوفيرة المحلية منها والإقليمية والدولية، التي نادت بصيانة حقوق سائر المكوّنات في المنطقة، وليس المسيحيين منهم فقط. لو كانت الحكومة المركزية قد فرضت سيطرتها الأمنية الكاملة على هذه المناطق، المفترى عليها بالمناطق المتنازع عليها، لما آلت هذه إلى مثل هذه الحالة الأمنية والسياسية والاقتصادية والخدمية والصحية المزرية. ولو أن قيادات في السلطة العراقية، منذ تأزّم الأوضاع الأمنية عامة بعد 2006، قد وافقت على مطالب أهل المنطقة بتجنيد أفرادٍ من أبنائها للعمل على حماية مناطقهم بأنفسهم وفي ترسيخ الأمن وحفظ النظام، لما آلت حالُها إلى ما عانته طيلة الفترة السابقة ولغاية اليوم. فلو تحقّق هذا المطلب الملحّ في حينها، لكانت الدولة في هذه الحالة، قد وضعت حدّا للميليشيات التي تدّعي حماية هذه المناطق، وهي غير مرحّب بها أصلاً وغير مؤهلة أساسًا، لمثل هذه المهمّة المهنيّة التي تتطلب عناصر مدرّبة في أجهزة الجيش والشرطة، وليس أفرادًا يتقاضون مرتبات هي بمثابة حسناتٍ يتفضل عليهم بها نفرٌ يؤدّي واجبًا مُملى عليه تنفيذُهُ. وهذه تُضاف إلى الثغرات العديدة التي لم تستطع الدولة تقديم حلٍّ شافٍ لها لغاية الساعة.
في اعتقادي، أنّ هذا الحادث الأخير، يأتي ضمن سلسلة فقدان الثقة بمن يستمرُّ في التصيّد، منذ بدء الأحداث، بالماء العكر، ومن يقف متفرّجًا على ما يجري من اعتداءات وإهانات لأبناء المنطقة، ومن لا يبدي أية ردّة فعل عنيفة وصارمة تجاه ذلك. هناك من يدّعي "المشيخة" أو "القيادة" على رأس مناطق مسيحية، ويعوّل على هذه المفخرة لتحقيق منافع ذاتية أو أسرية أو حزبية محدودة، غير عابئٍ باحتياجات الأهالي، إلاّ في الإدّعاءات الدعائية بعمل شيء من أجل تحقيق مطالب الشعب المسكين، وهم من ذلك خواء. لا نسمع أو نقرأُ عنهم سوى مانشيتات طويلة عريضة تقول: زار السيد الفلاني فلانًا... والتقى السيد النائب الفلاني المسؤولَ كذا... وزار السيد الفلاني هذه الدولة وقام بجولات في ... إلخ. وفي الواقع، ما تزال هناك أسئلة كثيرة غير هذه وتلك، ومطالب عديدة أخرى بعيدة عن المنال. شبابُنا يتطلعون اليوم، إلى إيجاد عملٍ يعيلون به أسرهم، وخريجونا يلهثون وراء وظيفة يأملون بها خدمة وطنهم ومناطقهم، علّهم يفلحون في تقليل شدّة العنف والتوتّر القائم في مناطق تواجدهم. كما أن الخدمات الأساسية ما تزال في معظمها بدائية ولا تلبي أدنى مستويات الآدمية المطلوبة. فكيف بأبناء شعب عريق يعمل بوصية "المحبة" ويقف على رأس الحربة في عكس إيمانه بعقيدته وبقوميته وبجذوره المتجبّرة في الأرض العراقية، أرض بابل وآشور وسومر وأكد، أرض الحضارات. فهل من يعيد تلك الأمجاد؟
عمومًا، نحن اليوم كشعب مسيحي من جميع الملل والطوائف، نعاني أكثر، بسبب غياب رؤية واضحة ووطنية على المستوى العام والخاص. هذه الرؤية، ستكون ناقصة في حالة استمرار العمل بأـسلوب الاستضعاف والإهمال والتهميش والإقصاء وتغييب حضور جميع المكونات في المنطقة ومنها المسيحيين أصحاب القدح المعلّى في حب الوطن والعيش المسالم. كما ستبقى هذه الرؤية ناقصة أيضًا، طالما تزمتت مكوّنات متنفذة، يدعمها المحتل، في ترسيخ نظام المحاصصة الطائفية البغيض، وهي ليست راغبة كما يبدو، في التخلّي عنه بسبب المكاسب التي ورثتها والتي لم تكن تحلم يومًا، ولو بعُشرها، لو اتسمت حكومات ما بعد 2003، بروح وطنية وفي إنصاف الجميع بالعدل والحق والمساواة.
إن تشكيل تجمّع توحيدي لتنظيمات شعبنا، لهو خطوة جبارة طالما نادينا بها وسعينا لها في المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي "المجمّد"، الذي كان ثمرة أتعاب وجهود شرائح مخلصة أرادت تجميع وحدة الصف المسيحي وتوحيد خطابه السياسي منذ أيام السقوط حتى تاريخ تجميده في 2007. ونذكّر أن التجمّع الأول الذي أسّسَ له رؤساءُ الطوائف المسيحية في العراق بالاستعانة بقوى لأحزاب مسيحية (كلدانية- سريانية- آشورية) في أعقاب سقوط النظام السابق، قد عمد منذ تأسيسه، على لمّ شمل قوانا القومية بكل فخرٍ واعتزاز. ولكن يد الغدر قد اغتالته بأيادي خفية مدعومة من جهات طامعة، جلّ همّها كان في التخطيط والعمل على تأييد انسلاخ قرى وقصبات مهمّة في سهل نينوى وضمّها إلى كردستان بشتى الوسائل المغرية، سواءً الترغيبية منها أوالترهيبيىة. وهكذا تشكّلَ على أنقاضه، ما يُسمّى اليوم بالمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري، ذي الأهداف المعروفة! ولكن، يبقى الحذر واجبًا! قلناها في مناسبات عديدة ونقولها اليوم: "إحذروا ألّا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلاّ تعود إليكم فتدوسكم بأرجلها"، هذه وصية المسيح، ومنها نأخذ الحكمة والعبرة. أقولها وكفى. فاللبيب من الإشارة يفهم. لا يغرّنّكم ما تسمعوه من حلو الكلام وما يُقدم من عسل ممزوج بمرارة السموم الدفينة المتمثلة بنوايا مشبوهة وبالهبات والعطايا الجزيلة التي تخجل لها النفوس الوطنية الأبيّة، في حين تحدّق فيها عيونٌ جائعةٌ غيرُها، وهي غيرَ مصدّقة لما تلقاه من هبات وعطايا آنيّة لا تخلو من تنازلات مطلوبة في مقابل ذلك. فدروس الماضي كفيلة بالتذكير.
لستُ أعترض على ميثاق عمل مسيحي موحد يخدم الجميع ويعيدُ البسمة إلى شفاه الجرحى والمعوزين ويساهم في الحد من الهجرة القاتلة وفي تشجيع من غادر الوطن للعودة إلى بيت الأهل والأحباب وإلى تراب القرية وذكرياتها الجميلة ليلتقي من جديد ببني جنسه وبأحبابه وأقاربه. فالغربة قاتلة، مهما كانت مغرياتها. أسألوا من تعوّد السفر وأضنتهُ الغربة حتى لأيام معدودات، كيف يحنّ إلى أهله وذويه وأبناء عشيرته وإلى وطنه الجريح. أسألوا من فارقكم من الأبناء والأهل والأصدقاء، وستسمعون الشوق والحنين واللهفة إلى جدران البيت القديم وإلى "العوجة" الفلانيّة، أو إلى رؤية مجرسة الكنيسة العالقة وناقوسها المذكِّر بالعبادة والصلاة، أو كيف كان الاتّكاء على عمود الكنيسة المرمري الذي يذكّر بالرجال الرجال الأقوياء الذين بنوا تلك الصروح حاملين على أكتافهم ثقل حاويات الجبس والتراب والصمّان والحلاّن وسط آثار الشمس المحرقة وبرد الشتاء ومطره الزاخر. بلداتنا وقرانا مهدّدة في كلّ حينٍ من جهات كثيرة، منها التي تدّعي الصداقة ومنها الغريبة الطامعة. قلوبُنا جريحة ونفوسُنا مكسورة وأبناؤنا يُهدّدون ويُقتلون. فهل نتركهم ضحايا مكسورة الخاطر لا حول ولا قوة لهم مدى الدهر والزمان؟ ألسامريّ، كما يقول الإنجيل، عندما وجد في طريقه غريبًا جريحًا ملقى مضرجاً بدمائه بعد أن سلبه اللصوص وأشبعوه ضربًا، لم يشأ تركه فريسة، بل نزل من دابته وداواه وآواه وصرف عليه من حلال جيبه مع توصية وجاهةٍ لصاحب النزل بزيادة الاهتمام بالجريح المسكين وهو يصارع آهات الموت. هكذا الوطن وأبناؤه الجرحى، ومنهم المسيحيين الذين وقعوا ضحايا بين أقوام طامعة، سافرة، قاهرة، جائعة للقتل والتنكيل والتهجير والإقصاء والإهمال والنهب والسلب من المال الحلال والحرام. كلٌّ في سريرته ينوي استلاب جزءٍ من قرانا التاريخية، ومنهم من استلبها وقهرها واستباحها ولم يفي بوعده بإعادة الحق إلى أصحابه. أين عشرات بل مئات القرى المسيحية التي كان يزخر بها شمالُنا الحبيب؟ مَن غادرها مكرهًا، يتذكر ماذا كانت وما آلت إليه، إن لم تكن قد مُحيت آثارها المحفورة في قلوبهم فعلاً. فهل نجح المدّعون بصيانة حقوق شعبنا وتمثيلهم شكلاً، في إعادة ما استلب من أراض وأملاك طيلة السنين الغابرة منذ أحداث الشمال؟ ماذا حصدنا من تأييدٍ أعمى لكل خطوات ودعوات مَن يسعى للانسلاخ من أرض عراقية، ثقافةُ أبنائها عربية حتى العظم، وهو اليوم يؤيّد ضمّها لإقليم آخر دون وازع من ضمير أو شيء اسمُه العقل والتعقّل؟ فليكن الميثاق المتفق عليه، أداة حقيقية لتوحيد قوى شعبنا وليس لتفريقها وزجّها في متاهات السجالات السياسية التي لا نفع فيها، بل إنها تبقي أحوالَنا وآمالنا في حدود التابع الذليل الذي يستجدي سادتَه في كلّ صغيرة وكبيرة. وسنظلُّ كذلك إن أصرّ البعض البقاء تابعًا ولم يُقدِم على خطواتٍ جسورة يتخطّى فيها عتبة الكيانات السياسيّة المهمِلة وغيرِ الراغبة في الاعتراف بحقوق الشعوب الأصيلة التي أحالها الدهر قهرًا إلى مكوّنات قليلة العدد (أقليات).
لذا فإنّي أعتقد أنّ الارتكاز إلى حلول واقعية، هو الحلُّ الأمثل لبلوغنا مآربنا وتحقيق طلباتنا المشروعة بتكوين "إدارة لامركزية"، ولتكن "محافظة" وطنية على أساس إداري وجغرافي وليس على أساس ديني، كما يسعى إلى تحقيقها الكثير من المغرضين، من الغرباء عن هذه المنطقة ومن غير أهلها من الحالمين بتوسيع مواقع منافعهم على حساب أهل السهل. نحن نقرأ الوجوه ونحلل التصريحات ونستقي معلومات مفيدة حول تحركات مَن لهم خفايا ونوايا في أنفسهم، ومنهم مَن هُم ضمن تشكيلات التجمع القومي الجديد. لكننا لا نعوّل الكثير على هذه الجهود المشوبة بنوايا مضمرة، التي لا نقبل بها سياسةً ملتوية في كسب الحقوق وتأييد الناس لمشروع غير وطني وغير معقول في التحقيق والتنفيذ، إن صحّت توقعاتُنا، لاسيّما وأننا اليوم أحوج ما نكون فيه إلى توحيد الجهود من أجل رسم خارطة وطنية شاملة لتعزيز المواطنة والتخلص من آثار الطائفية البغيضة التي تحاول عدد من الكتل السياسية ذي النوايا الشيطانية، أن تتمسك بها حتى بأسنانها، بغية الاستمرار في النخر في عظام البلاد المتعبة والنهش في جسد العراق الضعيف، كالنسور الجائعة المنقضّة على جسم مريض تكالبت عليه قوى الشر والغدر والطغيان قبل وبعد الأحداث المأساوية في 2003.
لئن كان هذا قدرَنا، فنحن ادّعينا دومًا أننا أبناءُ آشور وبابل وسلالة سنحاريب وحمورابي. أليس بمقدورنا استعادة ولو جزء من أمجاد هؤلاء الذين ندّعي انتماءنا إليهم؟ أم إنّ إتّباع الغريب في هدي مسيرتنا هو الطريق الأسلم والأسهل للسائرين على درب الماشين مع الموجة الصفراء؟
مشكلتنا تبقى إذن، قائمة في عدم الاعتراف بقدرتنا على عمل شيء نافع وشجاع وجسور من شأنه إعادة حقوقنا المسلوبة. والسبب يكمن في تعوّدنا التبعية للغريب وفي تمجيد القادم من أرض غير أرضنا حتى الثمالة بل وفي تنصيبه سيدًا علينا، وهو ليس بأفضل منّا في أية حالٍ من الأحوال. وكلُّ ذلك ليس سوى من أجل إشباع رغبات بائسة وتلقّي منافع شخصية، قد تخدم أفرادًا قلّة أو شريحة فقيرة في المجتمع، لكن ذلك ليس المهم. فمصلحتنا العليا تكمن في ترسيخ كرامتنا وفي دعم شخصيات أبناء شعبنا من الحريصين فعلاً على مستقبله ومصيره وتطوره واسترجاع حقوقه مهما كانت وأينما كانت. ونحن نعوّل في ذلك أكثر، على الشخصيات الوطنية الصريحة ولاسيّما، المستقلة منها والبعيدة عن صراعات وتأثيرات القوى السياسية المتنفذة التي تغري نفرًا معينًا بالمال والعطايا السخية والهبات الكثيرة بمناسبة وبغير مناسبة. هذه التصرّفات كلها، إن كانت لها بداية، فستكون لها نهاية بكل تأكيد. فمن يستلم المال بغير حق ويستمتع بكرامات لا يستحقها، لا يقلّ تصرّفه هذا فسادا عمّن يسرق قوت الشعب ويقتل ويعربد في الليل والنهار. ومن يعيث في الأرض فسادًا، يجازيه الله في النار، وبئسَ المصير، حتى لو كان أمام الشعب من ذوي المتشحين بالجلباب الأسود شتاءا والأبيض صيفًا أو من ذوي العمائم والقلنسوات الملونة والجميلة. فاللعنة تحلّ على الأسود كما على الأبيض وغيره من الألوان، إذا ما فسدَ ملحُ أصحابها، ولم يعودوا ينفعون بشيء.
لويس إقليمس
بغداد، في 29 آب 2011

389
أدب / قصيدة للمطران يوسف عبّا
« في: 11:38 24/05/2011  »


قصيدة للمطران يوسف عبّا


الشماس لويس اقليمس





390
السيدات والسادة الحضور الكرام،
أرحب بكم وأشكر وزارة حقوق الإنسان، الجهة المنظمة التي أتاحت الفرصة لهذا اللقاء الوطني، الذي نتمنى تكراره وتفعيله بصورة متواصلة  لأنه أحد الأبواب التي من خلالها تتهيّأ الفرصة لأبناء الوطن للجلوس والحوار والمداولة من أجل فهم خصوصيات بعضنا بعضًا، والتأكيد على أحقية جميع العراقيين في هذا الوطن، على أساس التساوي في الحقوق والواجبات. كما أنها الفرصة المؤاتية، من أجل تدارس كيفية تقاسم المصير والتناخي لبعضنا البعض في تقليد وطني جميل، يكشف عن مدى اهتمام من أولاهم الشعب ثقتَه، كي يعبروا عن تقديرهم لهذه الثقة ويصونوا الأمانة، ليس بالقول والخطابات الرنانة فحسب، بل بالفعل والعمل الجاد من أجل صيانة حقوق هذا الشعب.
إننا، في مجلس الأقليات العراقية، نقدر جيدًا هذا اللقاء وسوف لن نألو جهدًا في التعاون مع أية جهة، حكومية كانت أم من مجتمع مدني يعنى بحقوق المواطنة ويدعو لنصرة المواطن، من أي مكوّن كان، ضمن رقعة الوطن الواحد على أساس مبدأ العدالة والمساواة والتآخي.
كان العراق ومازال، مهد الحضارات وبلد الخير والثروات والتسامح والتعايش السلمي منذ نشأته الأولى. أما ما نمرّ به اليوم من تفتّتٍ في لحمة جسده الجريح، فهو ليس من شيم العراقيين الأصلاء، ولا من أخلاق أبنائه النجباء، الوطنيّين الحقيقيّين الذين شربوا من مياه نهريه الخالدين، وشمّوا رائحة هوائه المعطرة بوطأة أقدام أنبيائه وقديسيه وأوليائه الأبرار، الذين مازلنا نتخذهم قدوتنا ومسارنا في حياتنا اليومية ونتذكر أقوالهم وكلماتهم الداعية كلها إلى الخير والمحبة والتسامح والبناء. إنها لبركةٌ لهذه البلاد، أن تكون قد تشرّبت من قدسية وعظمة هؤلاء الرجال العظام الذين بنوا فيه صرح الحضارة منذ عصور ما قبل التاريخ، مرورًا بحضارات بابل وسومر وأكد وآشور. فمن لا يتذكر القائد حمورابي ومسلّته الشهيرة التي أعطت العالم بواكير القوانين. ومن لا يتذكر سنحاريب الملك الآشوري العظيم والثور المجنح وأسرحدّون ونبوخذنصّر وزقورة أور وشارع الموكب في بابل وعقرقوف وكالح وخورساباد وغيرها كثيرٌ. فأينما حللت ووطأت رجلاكَ، تجد شيئًا في أرض العراق من إرث  العالم الحضاري.
وإن نسيتُ، فلا أنسى دور العلم والعلماء والساسة العظام، في تسيير كفة الحضارة والدولة العراقية عبر تاريخها الطويل المجيد. فقد كان للمسيحيين مثل غيرهم من أصلاء الشعب منذ انتشار المسيحية في القرن الأول الميلادي، دورُهم البارز في نهضة العراق وفي الدفاع عن مصالحه الوطنية من أية أطماع جانبية قادمة من خلف الأسوار. فمن ذا لا يتذكر ملك الحيرة العراقي، النعمان بن المنذر وشجاعة ابنته هند، وهما يذودان عن الأرض والعرض المهدّدين آنذاك عبر حدوده الشرقية. لقد كان الملك عراقيًا مسيحيًا وكذا أسرتُه وأهلُ عشيرته، كانوا عراقيين باللحم والدم والوطنية. وهل ننسى بمن تغنى بهم الشعراء في قصائدهم بسعة الكرم وإدارة شؤون القبيلة من أمثال حاتم الطائي وقس بن ساعدة وغيرهم ممّن قرأنا عنهم في مناهجنا الدراسية، رغم أنّ الكثيرين منّا لا يعرفون حقيقة كون هؤلاء كانوا من العراقيين المسيحيين قبل ظهور الدعوة الإسلامية وطمسها لمعالمِهم. عتبُنا على واضعي المناهج في الدولة العراقية، لتغافلهم عن هذه الحقائق بقصد أو دون قصد، والتي من شأنها، لو طُرحت بوعي وطنيّ ومنهجيٍّ صحيح، أن تعزّز من التسامح الوطني وتُرسي لثقافة الغير التي نفتقر لها اليوم في مجتمعنا المغلق والمتمترس خلف أفكار عفا عليها الزمن، مثل غيره من المجتمعات العربية الهزيلة، التي تخشى الانفتاح والتغيير والتحديث.
وهل لنا أن نتذكر باختصار، قوّة الدولة العباسية بفضل ما وصلته من تقدم في مجالات عدة في نقل العلوم والترجمة والطب والفلسفة، وكل ذلك كان بفضل العلماء والمترجمين والأطباء المسيحيين من أمثال حُنين بن أسحق طبيب هارون الرشيد وربعِه من صنفه، الذين نقلوا هذه المعارف عن اليونان، التي كانت آنذاك على رأس ناصية العالم المتقدّم. ولم ينقطع عطاء المسيحيين لبلدانهم أينما كانوا. فقد أثبتوا جدارة ووفاء وإخلاصًا حيثما حلّوا وارتحلوا. وكانوا كذلك على العهد، حتى اليوم، وأنا الواقف وسطكم أفتخر مثلهم، بعراقيّتي وحضارتي ومواطنيّتي وسط أهلي وأصدقائي وأنتم جميعًا منهم .
نعم، إنها اليوم، لفرصة سانحة، كي نعيد إلى الأذهان دور الرواد المسيحيين في بناء حضارة العراق الجديد وصروحه العلمية منذ نشأة الدولة العراقية في القرن الماضي. وللتذكير فقط، فإنّ أول مربٍّ فاضل، أسس أوّل جامعة عراقية كان الدكتور متي عقراوي، وهو مواطنٌ مسيحيٌّ من مكوّن السريان، وتلاه من بين مواطني الأقليات الذي تولى رئاستها من بعده الدكتور عبدالجبار عبدالله، وهو أيضًا عراقيٌّ من علماء طائفة الصابئة المندائيين. والإثنان كانا عراقيين أصيلين، ولم يبدر ببال من ولّاهم هذه المسؤولية الكبيرة، أنهما ينتميان إلى هذا الدين أو هذه القومية أو هذا المكوّن أو هذه الطائفة أو هذا المذهب. إنّ هذه التوليفة الطائفية الأخيرة المقيتة التي وردتنا منذ قدوم المحتلّ، ومانزال نعاني منها في تشكيل حكومات ما بعد التغيير في 2003، ليست من شيم العراقيين الأصلاء ولا من بنات أفكار أبناء العراق الوطنيين الأحرار، بل وصلتنا طارئة من خلف الأسوار وعبر وسائل هؤلاء الغزاة الطامعين وأدواتِهم، من الذين أرهبتهم شدةُ العراقيين ونصرتُهم وتعايشُهم التقليدي المتعارف عليه عبر قرون من الزمن، واقفين سدّا منيعًا ضد كل الأطماع.
إنّ ما يؤسف له، أن تتمكن الأيادي القذرة من المتورطين في الشأن العراقي الراهن، من دق الأسفين بين إخوة عاشوا في السراء والضراء متقاسمين أرضَ وهواءَ ومياهَ بلدٍ عريق، إسمُه العراق. إن ما تفعله هذه الأيادي القذرة في محاولة منها لتفتيت لحمة النسيج العراقي المتآلف منذ قرون ودهور، سوف لن تستطيع نيلَ مبتغاها، بإذنه تعالى، لأننا عازمون على دحر هذه الوسائل بما لدينا من إيمان ورجاء وطاقة بمواطنينا، حين يعودون إلى تقليب صفحات الماضي الزاخر بكل أصناف الرياحين والورود التي كانت وما تزال تفترش أرضَ العراق وتزيّنها كحديقة غنّاء بعطورها وأشكالها المختلفة المتآلفة من سائر المكوّنات باختلاف أديانها وأعراقها ومذاهبها وأطيافها. فكيف، إذا سمحنا باقتلاع إحدى هذه الأزهار النضرة من حديقة هذا الوطن الغالي؟ وهل هناك من يقبلُ أن يدوسَ لصٌّ حديقةَ دارِه ويتمرّغَ بها ويبدأ بقلعِ أزهارِها أمام مرآه ومسمعِه؟
هذا هو العراق، وهؤلاء نحن العراقيين الأصلاء. نحبُ بلدَنا، نحبُ شعبنا، نحبُ جارَنا، نحبُ أرضَنا ومياهَنا وهواءَنا، ونذودُ عن حياضِه إذا سوّلت نفسٌ لأي دخيلٍ أن يفتَّ من عضدِنا ويوقعَ فيما بيننا. حينئذ، سنقف له بالمرصاد ونتكاتف لطرده من وسطِ صفوفنا، لأنه ببساطة، حشرةٌ ضارة، قلعُها ضرورةٌ عراقيةٌ ووطنيةٌ وإنسانية.
أيها السيدات والسادة،
إن مطالبَنا نحن العراقيين من أبناء الأقليات، ومنهم نحن المسيحيين كغيرنا من مواطني أبناء شعبنا، عادلةٌٌ وبسيطةٌ، لم تتغير. فهي صادرة من رحم أبناء الأمة العراقية. وإذا كانت مجزرة كنيسة سيدة النجاة مساء 31 تشرين أول المنصرم، قد صعّدت من وتيرة هذه المطالب، فلأن هذه الجريمة النكراء، قد سفّهها وشجبها واستنكرها العراقيُّ المسلمُ والصابئيُّ والإيزيديُّ في العراق، قبل المسيحي. كما تنادى المسلمون ودعاة الخير والرحمة والإنسانية من سائر أرض العراق، بل من كلِّ بقاع العالم وتعالت أصواتُهم معلنةً، أنّ هذه الفعالَ السمجة ليست من أخلاق الإسلام ولا أي دينٍ متسامح آخر. كما أنها ليست من شيمة العراقيين ولا تعكس تسامحَهم المعروف مع أبناء وطنهم وجيرانهم وأصدقائهم.
من أجل ذلك كله، فإننا اليوم نرفع هذه المطالب أمام الحكومة التي تتشكل في هذه الأيام، كي تأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
1-   السعي مع الأيام، لإخراج البلاد من مفهوم مبدأ المحاصصة الطائفية المقيت المبني على أساس دينيّ وعرقيّ وطائفي ومذهبي، ففيه من المضار ما هو أكثر من المنافع، بل إنه يؤسس لبناء دولة طائفية على أساسٍ قوميّ ودينيّ، وبها ستكون مقيدة الحركة والتصرف.
2-   إحترام حقوق المكوّنات العراقية جميعًا، بما فيها المكوّنات الدينية المختلفة والقوميات والأعراق المتعدّدة، وفق اللوائح الوطنية والدستورية ولائحة حقوق الإنسان الدولية، دون تمييز في الدين أو اللون أو العرق أو المذهب أو الطائفة.
3-   إشراك جميع المكوّنات العراقية في العملية السياسية، إنطلاقًا من مبدأ الشراكة الوطنية الذي أقرّته الكتل السياسية الرئيسة المتناحرة على المال والجاه والسلطة، والكف عن تهميش أو إقصاء أو استبعاد أي مكوّن له أتباعه يعيشون على أرض الوطن، بحجة الاستحقاقات الانتخابية والقومية وغيرها من الأعذار غير الحضارية وغير المقبولة التي من شأنها تقويض أساس بناء دولة عراقية حديثة وفق منهج ديمقراطي متحضّر.
4-   تقديم الخدمات اللازمة لأبناء جميع المكوّنات، ولاسيّما تلك القليلة العدد أي أبناء الأقليات، من خلال تخصيص مشاريع لهم ضمن الخطط والبرامج التنموية في الأقاليم والمحافظات والمناطق التي يقيمون فيها. وهذا سيساعد على التشبث بمناطقهم ورفض الهجرة القسرية بسبب غياب هذه وتلك، كما سيساعد على الاستقرار وامتصاص شيء من البطالة فيها.
5-   إشراك أبناء الأقليات في المناصب السيادية والوزارية والإدارية والفنية والعلمية والأمنية، وفي جميع مرافق الحياة ضمن كل وزارة أو دائرة، واعتماد مبدأ الكفاءة والإخلاص والمواطنة في التعيين وفي تولّي المسؤوليات، وليس هذا بمنّة من أحد، لأنه جزءٌ من حقوقهم الوطنية.
6-   التعجيل في إشراك أبناء الأقليات في درء خطر الهجمات المحتملة والمتكررة على مناطق تواجدهم، ومنها دور العبادة من الكنائس والمعابد والجوامع والحسينيات والمزارات والأديرة التي يرتادها أبناء هذه المكوّنات في المناسبات والأعياد وأيام الصلوات والمناسبات التقليدية، من خلال إشراك متطوّعين منهم في التشكيلات الأمنية المتعددة في أجهزة الأمن والجيش والشرطة والمخابرات والاستخبارات وأية تشكيلات مشابهة. وتكون هذه مرتبطة حصرًا بالحكومة المركزية و العمل على إخراج جميع المجاميع المسلحة غير النظامية من هذه المناطق. وهذا موضوعٌ سبق طرحُه، لكنه ظلّ حبرًا على ورق بسبب التجاذبات والسجالات والمساومات السياسية غير المجدية بين كتلٍ، كلٌ منها له أجندتُه الخاصة في مناطق تواجد أبناء الأقليات.
7-   ألسعي لحمل الأجهزة التربوية على معالجة الخلل القائم في المناهج الدراسية المنحازة التي تمايز في نقلها الحقائق التاريخية والحضارية من خلال التركيز على ما يخدم دينًا أو مذهبًا أو قومية أو  جهةً دون غيرها، على أساس التمييز والتفرقة والتعالي، واستبدال ذلك بمناهج حديثة تعتمد المعايير الديمقراطية الحديثة المتفق عليها من أجل صيانة الوطن وأبنائه ومن أجل تخفيف التوتر القائم من دون إقحام ما يمكن أن يجرحَ الآخر وينتقص من وجوده وهويته وشخصه.
8-   الكشف عن الجهات التي تقف وراء جرائم تهجير وقتل على الهوية وتهديد مواطنين آمنين من أبناء الأقليات، والمسيحيين منهم بصورة خاصة، حتى لو كان ذلك يكشف عن رؤوس كبيرة مشاركة في العملية السياسية. وقد أمهلنا الحكومة العراقية وقتًا كي تكشف فيه الحقائق للشعب. وحينها، لو فعلت الأجهزة الأمنية في الحكومة القادمة، وقيّدت الفاعل ضدّ مجهول، سوف نضطرّ حينئذٍ لطلب مساعدة دولية من خلال المطالبة بتشكيل محكمة دولية تتولى هذه المهمة.
9-   السعي الجادّ لإنهاء ملف المادة 140 المنتهية صلاحية نفاذها بموجب الدستور، والتي تُعدّ إحدى الموادّ التي زرعت الاضطرابَ والرعب والترهيب في أوساط أبناء الأقليات في عدد من محافظات العراق، ولاسيّما في محافظة نينوى التي نال فيها أبناءُ الأقليات، ومنهم المسيحيون بصورة خاصة، القسطَ الأوفر من هذه المشاكل. إننا نعتقد أن هذه المادة المقحمة في الدستور لإرضاء حكومة الإقليم، قد زادت من الانقسام في الولاء كما في تضارب المصالح، جرّاء المشاريع والمحفّزات المالية والهدايا العينية والوعود التي ساهمت في زرعها حكومة الإقليم عبر أدواتها المسخّرة والمنتفعة من الوضع غير الطبيعي هناك، مستغلّةً حاجة الأهالي واهتزاز بعض الزعامات الدينية اللاهثة نحو المال والتباهي الفارغ، ممّا ساهم في خلق جزء كبيرٍ من هذه المشاكل من حيث عدم الاستقرار وزيادة التوتر بسبب إيثار هذه العناصر المجنَّدة مصالحَها الشخصية والعشائرية الضيقة على مصلحة عموم أبناء المنطقة.
10-   في الوقت الذي نشكر فيه تعاطف بعض الدول الأوربية وشعورها بثقل معاناة أبناء الشعب العراقي كافة، والأقليات منهم بصورة خاصة، فإننا نذكّرهم، بأن اهتمامهم المنصبّ على تشجيع أبناء هذه المكوّنات للهجرة إليها، يدخل ضمن سياسة تفريغ هذا البلد من مكوّنات أصيلة. وهذا يعني خسارة الوطن والمنطقة لكفاءات وطنية ومدنية وعلمية ومن إرث حضاري، ستكون آثارُه وخيمة. في الوقت ذاته، فإنّنا نثمّن عاليًا مبادرة الرئيس جلال الطالباني واستعداد حكومة الإقليم وعلى رأسها الرئيس مسعود البارزاني، على استضافة أبناء الأقليات وتقديم العون الممكن للعائلات المهجّرة. ولكننا، لن نرضى التخلّي عن أماكن تواجدنا الأصلية أو أن تكون أراضي حكومة الإقليم بديلاً لمناطقنا التقليدية، التي يمكن العمل بجدّ، لمنحها وضعًا إداريًا لامركزيًا مرتبطًا بحكومة المركز، من أجل إدارتها محليًا وفق ما ورد في الدستور العراقي في مادته 125.
أخيراً، وليس آخرًا، أحييكم وأحيّي استعداد كل وطنيّ شريف في عراق اليوم، يضع كفّه في كفّ أخيه، ويتناخى له إذا داهمه القدرُ المشؤوم، كي يصبر ويصابر معه ويؤازره كمن يفعل ذلك لذاته ولأهل بيته وأبناء عشيرته. فالوطن يبقى بيتَنا الكبير، فيه نترعرع مع أبنائنا وبناتنا وإخوتنا وأخواتنا ومع كلّ أبناء جلدتنا، وبه نتقاسم الحلو والمرّ وسائر المصائب، لا سمح الله إن وقعت، كما نتشارك في ثرواته، وما أكثرها لو استُغلّت وقُطعت أيادي اللصوص والمفسدين، لأشبعت الأفواه الفاغرة وأمّنت الغذاء والاستقرار والسلام والطمأنينة للجميع!

أشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وجلُّ بركاته علينا جميعًا.
لويس إقليمس
نائب رئيس مجلس الأقليات العراقية
شخصيّة عراقية مستقلّة/ عن المكوّن المسيحي

391
وقت للنضج وليس للتسفيه

   ممّا لا شكّ فيه أن المساحة الفائتة من مدّة احتلال العراق من جانب القوى الغازية بقيادة أمريكا، عدوّة الشعوب المستقرّة، قد أتاحت الفرصة، ولو، أقول ولو، لشرائح عديدة من أبناء شعبنا من أجل فهم وهضم ما حدث وما يحدث اليوم. إن هذه الفرصة ذاتها، قد تمعّن فيها الكثير من أبناء العراق، وفي ضوئها فقط، قد حسموا أو كادوا يحسمون أمرهم في شرعية الاحتلال وهدفه وفي النية المقصودة لما بعد الاحتلال. إن الأمور الصعبة التي عانينا منها، نحن المكوّنات قليلة العدد، أي الأقليات، كثيرة ولا تُعدّ، لاسيّما أن المحتل، وعبر أدواته من الساسة الجدد الذين بغير حكمة وفي غياب دراية بمصلحة الوطن و أهله الشرفاء الأبرياء، لم يألُ جهداً منذ قدومه، في تمزيق النسيج الأهلي المتعايش تقليديًا، وذلك لسبب بسيط، لكون هذا الشأن خارج أهدافه. فالمحتل، لم يكن يهمّه البتة، حالات الصراع والاقتتال والاشتباك التي حدثت وما تزال على أشدّها وسط مناطق الأقليات، وذلك بحجة أن هذا الشأن عراقي ولا دخل لهم فيه.
إن ذات الشئ ينطبق على كلّ مكوّن من المكوّنات التي كانت تشكل فيما مضى، فسيفساء شعب وبلد اسمُه العراق، بلدِ ما يُعرف بالحضارة والعلم والشعر والثروات، موطن أبي نؤاس والرشيد وحنين بن اسحق ونازك الملائكة وناظم الغزالي وما أكثر الأعلام في كل ميدان.
إنني أُعجب من ذوات كثيرين آثروا البعد عن أرض الوطن لأسباب في غالبيتها واهية ودون حجة كبيرة، إلاّ من ذريعة الحسد والبطر والبحث عن فردوس عدن في بلاد الاغتراب. ومع ذلك، فهم يحشرون أنفسهم في خانة الأسياد الذين لا يتركون فرصة أو مناسبة، إلاّ وأصدروا نصائحهم، بل وأحيانًا أوامرهم لمن بقي في الداخل متعفّفًا، أمينًا، واقعيًا في عيشه وحياته ، والأحرى، في كرامته وعزّة نفسه. ما لهؤلاء، والتدخل في شأن من صمد وآثر البقاء في الوطن ولم يشأ أن يغادر إلى أراضي الغربان الذين لا همّ لهم سوى مصالحهم. إن ما يسعى إليه هؤلاء، من حشد المجتمع الدولي ضدّ ما يعتري أبناء وطنهم من تهميش وتهجير وتغييب وغيرها من أساليب العنف غير المبرّر، هو الأولى بهم بعد انسلاخهم عن الوطن. وهذه حقيقة واضحة، أن كلّ من غادر أرض الآباء والأجداد، لم ولن يفكّر بعد بالعودة إليها، إلاّ ما ندر. أمّا ألأبناء والأحفاد، فلن يكون لهم عودة البتة، لأنهم فقدوا كلّ مبررات التشبث بالوطن وأهله لأسباب تختلف من شخص لآخر. هنا بيت القصيد، ليس من حق من غادر أن يتدخل في مصير من بقي صامدّا، وليس له أن يتخذ قرارات عن بعدٍ حول هذا المصير، لأن أهل مكة أدرى بشعابها، كما لا يمكن لمن قطع الحبل السري مع الوطن وآثر العيش على فتات الأسياد، أن يكون أكثر حرصًا ودراية بما يحتاجه أهل الداخل. نحن نحتاج لهؤلاء جميعًا في رفدنا بقوّة سياسية واجتماعية من خلال تكوين لوبيات سياسية، ولاسيّما ضمن منظمات المجتمع المدني التي يمكن أن يكون لها تأثيرها الفعال في الضغط على أصحاب القرار بالطرق المتاحة لديهم أكثر من أبناء الداخل. ولكن، أن يتدخل المغتربون في كل صغيرة وكبيرة، وفي رسم سياسات أهل الداخل، من أي مكوّن كانوا، فذلك غير مقبول. هؤلاء قد أصبحت لهم حياتهم الخاصة بعد تطبعهم في بلد الاغتراب. وأهل العراق الصامدين، لهم مسوّغاتهم وحيثياتهم وأسبابهم وأوضاعُهم، في كل منطقة من مناطق تواجدهم. إن ما يُؤسف له، أن أمثال هؤلاء المغتربين قد ساهموا في تأجيج صراعات داخل مكوّناتهم، كلّ بحسب مصالحه أو مصالح حزبه ومذهبه والأجندة التي يحملها من البلد الذي استقرّ فيه. وإنّي أتساءل، ما بال هؤلاء، ينتصبون في كل شاردة وواردة من أجل إثارة انشقاقات وتعميق جراحات بين المسيحيين في كل مناسبة؟ إلى متى سيستمر الكذب والنفاق والضحك على ذقون البسطاء والأبرياء بخصوص الانتماء القومي لهذه الطائفة أو تلك؟ ألم يتفقوا جميعًا، ولو على خجل، في لقاءاتهم الكنسية والمدنية والحزبية أن المسيحيين من سائر التسميات هم شعبٌ واحد باختلاف التسميات؟ ما بال البعض يغوص في كل مناسبة متجبرًا ومتحديًا ومتعصبًا لهذه القومية أو تلك، سواءً من الكلدان أم الآشوريين؟ أصحيحٌ أن أمور المسيحيين لن تستقيم إلاّ إذا عادت الآشورية أو فُرضت الكلدانية تسميةً قوميةً لأبناء مختلف الطوائف المسيحية؟ ما بالُ كل هؤلاء الذين يختزلون السريان على شقّيهم دون خجل في كل مناسبة وفي كل جلسة وفي كل مطالبة؟ أليست كلمات مثل تاريخ الأدب السرياني، واتحاد الكتاب والأدباء السريان، والأطباء السريان واللغة السريانية والمكتبات السريانية وما في بطونها من مؤلفات الملافنة السريان والمخطوطات السريانية، هي الأكثر رواجًا في المحافل الدولية وفي المكتبات الآثارية وفي الجامعات العالمية؟ هل تعصّبَ السريان يومًا لاختزال وجود إخوتهم من الكلدان أو الآثوريين؟ أسئلة كثيرة وتساؤلات في محلّها، بحاجة إلى تمحيص وإعادة نظر، كما هي بحاجة إلى زحزحة من يستعلي على غيره ويتشبث بتسميةٍ، أكل الدهر عليها وشرب وأصبحت من صفحات الحضارة والتاريخ. كما أنها لن تقدّم أو تؤخر في مصلحتنا الوطنية أولاً والمسيحية والمذهبية ثانيًا. ولو كان أمثال هؤلاء المتعصبين قد رجحوا عقولهم وضمائرهم، لكانت تسمية السريان قد حلّت كل الإشكاليات التي أتى بها هؤلاء وأنتجوها من أجل شقّ الصفوف وزرع الفوضى والتفرقة في صفوف عامة المسيحيين.
    لقد ولّى عصر القوميات في أوربا مثلاً منذ زمن. وبفضل التخلص من هذا التعصب قد تقدمت وتطورت وألقت بوزر هذا العائق خلفها. أما نحن، فما زال المستعمر بأساليبه  الجديدة حريصًا على إبقائنا أسرى هذا التثبث غير المبرّر. وذات الشيء ينطبق على جميع مكوّنات الشعب العراقي بإبقائها تتخبط بقوميتها وإثنيتها، وما تفرزه هذه من مشاكل وما تفرضه من متاعب ومشاحنات وسجالات، بحيث تجعل أبناء المكوّن الواحد يلوكون بعلكة القومية، حتى استنفاذ طعمها. إن العالم بأسره، يعلم أن مسيحيي العراق شعبٌ أصيل، له تاريخه وحضارته وحضوره منذ اقتران هذا البلد بالمسيحية في القرن الأول الميلادي. ألا يكفي لنا فخرّا، مسيحيتُنا وعيشُنا الحياة الإنجيلية كمسيحيين صادقين في تصرفاتنا وفي عملنا أينما كانوا وكنّا؟ ما أحلى أن نسمع: أنظروا هذا مسيحي قد تفوق في عمله وهذه مسيحية قد تفوقت في دراستها، وهذا طبيبٌ أو مهندس أو عاملٌ مسيحي يمتاز بعلمه وفهمه وطيبة تعامله!!
كلمة أخيرة، أقولها لزميلي ليون برخو الذي زاملتُه أيام الدراسة في جامعة الموصل، ولكن في كلية أخرى، وأحتفظ له بصورة أخوية وأكن له احترامًا كبيرًا، أن شبح الانفصاليين في العراق عمومًا قد استفحل بعد الغزو الأمريكي، وقد شجّعهم على ذلك، طابورٌ مسيحي من أمثال هؤلاء الذين ليس في جعبتهم سوى الإملاء و التذكير والإرشاد من مواقعهم في بلدان الاغتراب أو من يموّلهم من هذا الطابور لنقل هذه الإرشادات. ولا أعتقد أن الإيغال في المغالاة بالانتماء القومي من مصلحتنا المسيحية، لأنها طريق وعرة وسالكة بالأشواك، وما أكثرها من التي تطلع علينا بين الفينة والفينة. وهذا ما قطع السبيل أمام طرق التواصل لإيجاد مخارج مشتركة ومقبولة لتوحيد الخطاب السياسي ومنه توحيد التسمية التي وقفت وماتزال تقف عثرةً أمام أية بادرة لتواصل حقيقي وصادق للمكوّنات المسيحية التي لا ينبغي اختزال أيّ منها. وهذا أيضًا ما يحدث اليوم، كما حدث بالأمس، أثناء كتابة الدستور، حيث يتحمّل كلّ من كان السبب في التثبيت المجحف لتسمية المكوّن المسيحي آنذاك بالطريقة التي ارتآها لنفسه ولمصلحة حزبه أو جماعته، رغم التحذير من تلك الخطوة غير الرصينة آنذاك خلال انعقاد المؤتمر المسيحي الأول بعد سقوط النظام السابق مباشرة. ونحن اليوم، نحصد ما زرعه هؤلاء بالأمس، وما عزّزه وغالى فيه غيرهم لاحقًا بعد تشابك المصالح وتعدّد الولاءات. ولعلّ أبسط هذه السفاهات، محاولة قفز البعض على تسمية اللغة السريانية، أي الآرامية، بالكلدانية أو الآشورية. لربما كان ذلك، بسبب جهل البعض لحقائق التاريخ والتراث، ولكن لدى آخرين يكون السبب هو هذا التعصّب الأعمى.
لم أكتب في مثل هذه المواضيع منذ أمد، ولكني بعد قراءتي لمقالة الزميل برخو في موقع عنكاوة قبل أيام، آثرتُ توضيح حقائق نعيشها مع بعضنا، نتناقش فيها، ولكننا بعيدون كل البعد عن تطبيقها. هذه دعوة ملحة لترك مثل هذه المواضيع التي لا فائدة من إثارتها من قبل فئةٍ، شغلُها الشاغل، خلط الأوراق وإبراز الأحقية التاريخية والجغرافية والدينية وحتى الحضارية، لفئة دون غيرها، من خلف الأسوار رغم قطعها الحبل السرّي في بلدها، كما أسلفتُ، إلاّ من ذكرياتٍ ونفرٍ من الأهل والأصدقاء هنا وهناك.
تحية تقدير لكل من يساهم في بناء علاقة طيبة في سبيل توحيد مكوّنات شعبنا المسيحي على أساس الاحترام وقبول الآخر، من خلال العودة إلى العقل الراجح والنضج في التفكير وليس في التقليل من شأن الغير وفي فرض رأيه وأجندته على ما سواه.
لويس إقليمس
بغداد، في 10 آب 2010


394
كلمة منظمة الأٌقليات  العراقية في مؤتمر منظمة  حمورابي لحقوق الإنسان حول الوجود المسيحي في العراق و عودة اللاجئين

تحية المحبة والسلام والتآلف علينا جميعًا،

           باسم منظمة الأقليات العراقية (مجلس الأقليات العراقية سابقا)، نحييكم ونحيّي مؤتمركم  متمنين لكم النجاح في أعماله من أجل تحقيق الأهداف المبتغاة لمنظمتكم  في نقل الحقيقة وتوضيح ما يمكن أن يكون عاملاً مساعداً في العودة الميمونة لملايين العراقيين الذين اضطرّتهم ظروف متنوعة ومتشعبة لترك أرض الوطن والتيه في مشارق الدنيا ومغاربها بحثا عن شئ ثمين افتقدوه، اسمه الأمان والحرية والكرامة الإنسانية.
إن السنوات العجاف التي مرّت على أبناء العراق منذ سقوط النظام الملكي ولغاية تاريخ اجتياح المحتل الأميركي لأرضنا وتدنيسه لطبيعة العلاقة التعايشية الطيبة بين أطراف النسيج العراقي قاطبة، قد عملت عملها السلبي في عدم طمأنة المواطن على مستقبله ووضعت قدرَه على المحك. بل إن السلوكيات السلطوية للأنظمة المتلاحقة  لغاية الساعة، لم تسعى قيد أنملة لسدّ هذا العوز الملحاح في رؤية الوطن بأيدي أمينة توفر لشعبه الأمان والسلام و تيسّر لأبنائه ما يحتاجونه من الخدمات اليومية الإنسانية ولو في أدنى درجاتها.
إن الأقليات العراقية، التي ارتأت أن تنضوي تحت لواء منظمة الأقليات العراقية منذ عام 2005 لدى تأسيسها رسمياً، ما تزال تشكو وتستغيث وما من مجيب أو منصف أو حتى مهدّئ للخواطر ، للمساعدة في طمأنة من فقدوا الأمان والثقة بالنظام الجديد في العراق. أقولها وبكلّ صراحة، لقد خسر النظام الجديد، الكثير من روّاده  ومريديه بسبب ضياع المؤتَمنين على العرض والمال  العام والحرية والإنسانية من المتسلطين حالياً، في متاهات السلطة والفساد وحصاد المنافع الفئوية الضيقة، تاركين سحابة أبناء العراق ضحايا للعنف المستشري والتمييز والتهميش المتعمّد في سلوكٍ إقصائيٍّ مقيت لكل من لا ينتمي إلى هذا الحزب المتسلط  أو ذاك، أو هذه الكتلة المتنفذة أو تلك. ما هكذا تُساق الإبل أيها السادة، ورفقاً بالمستضعفين من أبناء الرافدين وبالأخص تلك الحلقات الضعيفة من أبناء الأقليات عامة والمسيحيين جزء مهمٌّ  منهم.
إن منظمة الأقليات العراقية ما تزال تنظر بعين القلق والريبة إلى الكثير من الممارسات غير النظامية وغير الإنسانية وغير الديمقراطية التي يتعرض لها أبناء الأقليات. والأدلة على ما نذهب إليه كثيرة وهي تتجسّد يومياً في تلك  الأعمال الإرهابية التي ما تزال تستهدف أبناءها ومؤسساتهم في طول البلاد وعرضها. ناهيك عن المضايقات اليومية والحياتية في الترهيب حيناً والترغيب أحياناً أخرى من أجل فرض أجندة معينة على فئة من الأقليات في مناطق تواجدها الأصلية ، بهدف طمس هويتها أو إضعاف شكيمتها في الدفاع عن حقوقها وفي العيش بحرية وفق مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية التي تفرضها سلوكية المواطنة الحقيقية.
إن موضوع عودة اللاجئين في الخارج هو الأعزّ على قلوب البعيدين قبل القريبين، ونحن نقرّ أنه الأصعب في ظلّ حالة اللاإستقرار واللّاسلم واللّاأمان التي ما تزال قائمة في عراقنا الجريح لأسباب عديدة ومنها على وجه الخصوص، نظام المحاصصة البغيض والتوافق الوطني الفاشل الذي كرّس وقدّس كلّ شيء لمثلث سلطوي معطّل للقرارات والقوانين، بحيث لا السلطة التشريعية تعرف واجباتها ولا القضائية تسير في موازاة العدالة الاجتماعية ولا التنفيذية تستطيع أن تؤدي أعمالها كما يجب وتطبق برنامجها كي يتبصّر الشعب العراقي في مصداقيتها ويقيّم أعمالها ويحكم على فعالها.
إن جموع اللاجئين والمهجَّرين والمهاجرين التي غادرت غالبيتُها مضطرّة أرض الآباء والأجداد، لن تفكر في العودة إلى أحضان الوطن إلاّ بعد الاطمئنان دستورياً وقانونياً على تحقيق مبدأ المواطنة بصورته الصحيحة بالاعتماد على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أطياف الشعب العراقي دون تمييز، وليس وفق نظام المحاصصة الطائفي والإثني والمذهبي المعمول به حاليًا. لقد اعترف الجميع تقريباً، بمن فيهم قياديون في الكتل السياسية الحاكمة ومنها الدينية على وجه الخصوص، بفشل نظام المحاصصة الذي فرضه الغازي المحتل وصفّقت له الكتل السياسية الكبيرة من أجل تحقيق مآربها في دبمومة السلطة والمال والجاه في أيديها إلى ما  تشاء.
إن رسالتنا، نحن أبناء الأقليات هي رسالة ودٍّ ومحبية وتعايش. هي رسالة وطنية نابعة من رحم أرض الرافدين الخالدين اللذين اقتربا من الجفاف بسبب الإهمال والتطاحن الطائفي وفقدان الاتزان السياسي المرتبط بأصول الحياة الديمقراطية العصرية التي قبل بها العراقيون بعد سقوط النظام السابق. هي رسالة وحدة للتراب العراقي الكامل وليس باتجاه الانفصال وتقسيم المقسوم وتجزئة المجزّأ، وفق أجندات خارجية وداخلية مشبوهة لا تمت للأخلاق العراقية الأصيلة.
كلّ ما نريده ويريده الشعب العراقي هو التمتع بحياة إنسانية، متمدّنة، وطبيعية تكفل له قوته اليومي وأمنه وسلامته. ولا ننسى أن البلد الرغيد والشعب السعيد هو من تمتعت المكوّنات القليلة العدد أي الأقليات بكامل حقوقها الوطنية التي يكفلها لها الدستور والقوانين الوضعية. وفي بعض البلدان تحظى الأقليات بحقين، حقٌ كامل في المواطنة الاعتيادية وحقٌ إضافي حكوميٌ تقدّمه الجهات الحاكمة لكسب ثقة هذه الشرائح.
إننا إزاء عتبة جديدة من الحراك السياسيّ الذي يمكن أن يغيّر صورة الواقع العراقي فيما لو التزمت الكتل المتقدمة للانتخابات التشريعية المقبلة بروح المواطنة الصادقة بعيداً عن التأثيرات الدينية والمذهبية والفئوية الضيقة. وهذا ما لمسناه إعلامياً فقط  في البرامج السياسية للكتل التقليدية التي آثرت تحسين صورتها بالانقلاب على الصبغة الدينية والإثنية لأحزابها وتغييرها باتجاه الوطنية. إلاّ أنها في الواقع، ما تزال تتحدث وتتعامل عملياً وفق ذات المنطق القديم. إننا نعتقد أن هذه التخريجات الشكلية وغير الصادقة، سوف لن تُخرج البلاد من مشاكله الكثيرة ولن تنقذ الوطن وأبناءه من مخلّفات الجهل بالسياسة الوطنية التي نريدها مبنيةعلى إقامة مشروع الدولة المؤسساتية الحديثة الحريصة، مشروع دولة القانون بكل ما يعنيه هذا المصطلح، وليس دولة كيانات وكانتونات متصارعة من أجل مصالح مذهبية وفئوية وحزبية ضيقة لاتخدم المصلحة العليا للوطن.
 إن ما يجري خلف الكواليس من مساومات ومزايدات على حساب المصلحة العليا للوطن، لا يمكن أن يساهم في قرب التخلّص من وزر هذه الأفكار والسياسات غير المجدية التي تؤخر في عودة الأمان والسلام والطمأنينة للمواطن في الداخل كما في الخارج. وإلاّ كيف نترقب عودة المهاجر والمهجَّر من دون أن يتلمّس بوادر تحقيق مصالحة وطنية وبناء ما دمّره الإرهاب بالتعاون مع عملاء مشاركين في السلطة دون تحديد الجهات.
لقد شعر أبناء الأقليات ممّن اختاروا بلدان المهجر أماناً لحياتهم و صوناً لكرامتهم، شعروا أنهم كانوا دوماً في حقل التهميش والإقصاء والإبعاد من الحياة السياسية العراقية بعد السقوط ، وذلك بسبب سياسات المحاصصة التي نزلت حتى الوظائف الدنيا بحيث خلت العديد من الدوائر المهمة من كفاءات مهنية ووطنية بعد إحلال المتقاعسين وغير المؤهلين مكانهم. إننا نريد أن يبقى العراق لوحة فنية متكاملة الصور والألوان الزاهية من خلال تعزيز مبدأ المواطنة وتحقيق نظام العدل والمساواة والكفاءة في الحياة اليومية المعتادة كي يشعر الجميع أنهم أبناء هذا الوطن، ولا خير أو ميزة لأحد على حساب الآخر إلاّ في الكفاءة والولاء للوطن وأرضه وأهله. هذه هي الشراكة الحقيقية التي نتوخاها في الحياة السياسية في البلد، وحينها فقط سيفكر المهجَّرون أن لهم مكانة في بلدهم الذي تركوه صاغرين مضطرّين.
 فلنعزّز إذن، من هذا النسق الوطني المأمول، من أجل إعادة خلق شعبٍ جديد في سلوكه الاجتماعي والسياسي والمهني والثقافي بعد أن اغتالته يد الغدر الجاهلية وقتلت فيه روحه التعايشية المتأصلة في نسيجه منذ قدم التاريخ، فما طالنا دخيلٌ علينا تماماً وليس من أخلاقنا وأصالتنا العراقية.  ولابدّ من أن تنقشع الغيوم السوداء ويظهر الحق، فيعود الأهل والأحبة إلى أرض الآباء والأجداد، وهم أعزّاء مكرّمين في بلدهم وليس غرباء مشتّتين.

لويس إقليمس
منظمة الأقليات العراقية
بغداد، في 11 كانون أول 2009





395
كي لا نقع في خطيئة!!!

في خضمّ الحراك السياسيّ غير المتكافئ على جميع الأصعدة وفي ظلّ غياب أبسط  وسائل الأمان التي تضمن حقوق الناخب العراقي، المغلوب على أمره في الكثير من السياقات والسلوكيات والتلميحات غير الديمقراطية، يتهالك أبناء الأقليات، والمسيحيون منهم بخاصة، كي يضمنوا لهم نصيباً في المؤسسة التشريعية المتعبة حتى الإجهاد الميؤوس. ولكن هيهات لهم أن يحققوا آمالهم وطموحاتهم وسط هذا الكمّ الهائل من الضغوط  المتفاقمة والتدخلات الوقحة والوصايات المتعالية المرتبطة بأجندات لا تخدم مصلحتنا العليا إلاّ في انتزاع حقنا في التعبير وفي إبقائنا أسرى تابعين لغيرنا، وليس أحراراً وأصحاب كلمة مستقلة ورؤية ثاقبة حول مجريات الأوضاع على الساحة السياسية والوطنية.

كلّ الدلائل تشير إلى انحلال الرؤية وغياب الرأي الحرّ عندما يتعلّق الأمر باتخاذ موقف موحد من قضايانا المصيرية. فكلٌّ يبكي على ليلاه، تاركاً الحبل على الغارب ومن بعده الطوفان! إن الأمور لا تُحسب على هذه الشاكلة، كما لا ينبغي أن تُقاس وفق معايير ضيقة تضرًُّ بأمننا وتعرّض سلامة أبنائنا وبناتنا على المديات القريبة والبعيدة على السواء. الانتخابات القادمة، وعلى طريقة سابقاتها منذ الغزو السافر لبلادنا في 2003، لن تكون أحسن حالاً طالما بقي المثلث الطائفي (السنّي الشيعي الكردي) المدعوم من الغازي المتسلط على رقابنا، حاكما مطبقاً على مقاليد السلطة بكل نوازعها وخفاياها وإرهاصاتها ووفق حسابات كلّ طرف. فيما المواطن البسيط، لا همَّ له سوى الأمل في البحث عن فرصة تضمن له أمنه وخدماتٍ تيسّر له حياته اليومية وسط حيّه وبلدته ووطنه. أي باختصار، كلُّ ما يهمّه الاستئناس بمركز نزيهٍ لشرطة وطنية و الاعتماد على دائرة بلدية تعمل بضميرٍ حيّ وغيرة عراقية.

المواطنة والمساواة، صنوان لا يمكن افتراقهما في دولة تحترم القانون وتقرّ حقوق الإنسان وفق العهود والمواثيق الدولية الصريحة، التي تحسبها وفق معيارٍ متساوٍ وليس بمكاييل متأرجحة وفق الأهواء والأغراض. فالمفترَض أن يُعامل جميع المواطنين وفق ذات المعيار، متساوين في الحقوق والواجبات كما  ينص عليها الدستور الحاليّ، رغم الكثير من المآخذ عليه بسبب محاباته لفئات طائفية وعرقية على حساب باقي المكوّنات الصغيرة التي رُفع الغطاء عنها وتُركت فريسة سهلة المنال في التهميش والإقصاء والإبعاد على كافة الأصعدة دون استحياء. بل وما زاد الطين بلّة، بقاءُ أعين اللاعبين الكبار جوعانة دائمة الثغر المفتوح لابتلاع حتى الفتات الذي تركته لهذه الأقليات صاغرة، مضطرةً أمام  ضغوط إقليمية ودولية أبقت هي الأخرى وعلى استحياء منها طبعاً، شيئاً من الحنان والعطف المخجلين حين لاحظت اشتداد الوطأة على هذه المكوّنات المستضعفة. وكلّ ذلك بسبب سلوكيات الغازي المحتل الذي يقف وراء قراراته السلبية والمجحفة، الحاكمُ المدني الأمريكي بريمر سيئُ الصيت، الذي أرسى دعائم المحاصصة الطائفية المقيتة وحوّل البلاد إلى كانتونات ودويلات داخل دولة، بحيث أفقدتها هيبتها لتقع فريسة تحت أنياب حيتان كبيرة لا ترحم.

لقد آمنّا بالديمقراطية العتيدة، رغم قصورها وإفراغها من محتواها الإنساني والوطني عندنا. لذا علينا قبولها كما هي، ليس وفق نزعات الكتل السياسية الكبيرة، كما يريدها ويخطط لها اللاعبون الكبار، ولكن وفق السياقات الإنسانية والأخلاقية والوطنية، هذا إذا كان الساسة الجدد يؤمنون حقاً بمفاعيلها ورجاحتها وضرورة تبنيها أصلاً. ليست العظمة في أن تحكم وحسب. بل العظمة، كل العظمة أن تحكم بالعدل وتسوس الناس سواسية وفق معيار وطني عادل تأمر به كل الشرائع والأديان السماوية، في أن يُحكم بالعدل والمساواة دون مواربة أو تحيّز أو تجبّر لامرئ على حساب غيره. الديمقراطية الحقيقية هي أن يعرف كلُّ ذي حق حقه، وأن يُحاسَب كلّ مواطن على سلوكه وتصرّفه، وأن يُكافأَ كلُّ شخص على فعاله وكفاءته ونزاهته وإخلاصه في العمل في موقع عمله. الديمقراطية الحقيقية في بلد متعدّد الديانات والأعراق والمذاهب والقوميات، تكمن في تحقيق المساواة والعدل بين أبناء الوطن الواحد وفي تحقيق  سعادة المرؤوس ولاسيّما المكوّنات  قليلة العدد نسبياً أي الأقليات، التي تُعد سعادتهاّ معياراً لرفاهية أي بلد ومقياساً لأمنه وسلمه الاجتماعي. ومن هنا، يُحكم على البلاد من خلال سعادة العباد، ولاسيّما المستضعفين منهم. فهل ندري أن العديد من الدساتير العالمية وقوانين الكثير من الدول، تمنح هذه الأقليات حقاً إضافياً؟ حقٌ في العيش مواطنين متساوين أمام القانون بموجب دستور الدولة، وحق إضافيٌ لصفتها الأقلية. وبذلك فأبناء هذه الأقليات تضمن لها رفاهية إضافية، ما يجعلها أمينة في مساكنها ومواقع تواجدها وحريصة على حتمية الاندماج في المجتمع الذي تتواجد فيه.

هناك من يحاول تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَّأ أصلا في المعادلة السياسية العراقية الصعبة. وهذه الأخيرة، على حرجها وهشاشتها وهزالها الوضعيّ القائم، لن تستقيم ببقاء الطغيان الطائفي والنَّفَس العرقي والمذهبي قائمين على المنابر الرسمية، التشريعية منها والقضائية والتنفيذية. هناك صراعٌ واضح على السلطة في المنافسة التشريعية القادمة، ولا غبار على ذلك. فأصدقاء الأمس المتحالفون، باتوا اليوم في خانة الأعداء المتنافسين، رغم عدم الإفصاح عن هذا الواقع. نحن لا نعترض على المنافسة الشريفة، لو كانت خالية من العدائية. كما أن الغيرة مقبولة ومشروعة إذا بقيت في حدود المنافسة الشريفة وضمن الحدود الأدبية والأخلاقية في سياق الديمقراطيات الحديثة.

إن أبناء شعبنا يتعرّضون اليوم لاستغلال العوز المادّي لدى فئات من أبنائه بسبب الضائقة المالية التي ترتبت عليهم من جراء البطالة المنتشرة في عموم البلد.  لكن، أن تُمارس ضغوط جانبية باستغلال هذا الضعف لدى هذه الشرائح المتعبة وبهذه الطريقة الوقحة، وعدّ كلّ من لا يمشي مع القافلة في عداد الأعداء، فهذا أمرٌ مكروه ومرفوضٌ. ففي حمّى الترشيحات لمجلس النواب القادم، بدأت ترشح نتفٌ من نوايا المستفيدين والقيّمين على صرف الرواتب الاستجدائية على عدد من أبناء شعبنا ممّن يخدمون في مهمات حماية مناطق تواجدهم أو ما على شاكلتها، بحيث بلغت إلى أذهانهم، ممارسةُ أشكالٍ متعددة من التلميح والتهديد بقطع الأرزاق، وربما قطع الأعناق لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، في حالة عدم تأييد هذا المرشح أو ذاك ممّن عيّنهم ما يُسمّى بالمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري لتمثيل المسيحيين ضمن الكوتا المخجلة المخصصة لهم في مناطق تواجدهم. وهذا أمرٌ غير مقبول! ومن المؤسف حقاً أن ترد مثل هذه الإشارة من عناصر قيادية أو محسوبة على المؤسسة الكنسية أو من خلال المتعاونين والمتواطئين معها، وهي التي يُفترض بها أن تراقب الأوضاع، لو شاءت، عن كثب دون تدخل منها لصالح هذا المرشح أو ذاك. فالكل أبناؤنا دون تمييز، وهذا هو المعيار الأفضل والمعوَّل عليه، لو شاء رجالُها ورئاستُها الحفاظ على الصفوف مرصوصة. ومن هنا، لم يكن في الحسبان أن تتورط المؤسسة الكنسية لا من قريب ولا من بعيد، في هذه الأحجية التي فرضتها الأموال الكثيرة التي أُغدقت من جهة كريمة طيبة المعشر لأجل المساعدة والعضد كما قيل لنا في وقتها، من  أنه لا تترتب أية التزامات أخلاقية أو وضعية أو قانونية حيالها. وكنّا قد حذّرنا في وقتها، من نتائجها الوخيمة اللاحقة في أن إغداقها بهذه الطريقة لن يكون جزافًا ودون مقابل. ولكن، كان الردّ يأتينا دومًا، أنّهم أي الكنيسة، في حلٍّ من أية التزامات تجاه هذه العطايا السخية. وها نحن هذه الأيام، نجني ثمارها المرّة والعسيرة في شقّ الصف المسيحي في البلدة الواحدة والقرية الواحدة والعشيرة الواحدة!

إنني أتساءل: هل يجد الشعب العراقي مصلحته في إجراء الإنتخابات التشريعية القادمة بالطريقة التي أُريد لها أن تكون وأن تُدار؟ بالطبع سيرد السؤال سلبياً، لأن الواقع مريرٌ ومبكٍ حتى الخجل. هل هذا هو استحقاق هذا الشعب المغضوب عليه من السماء التي بقيت لا تريد أن تبكي مطراً محتبساً، ومن الأرض التي تكالبت عليها الأيادي من كل حدب وصوب كي تذيق العراقيين أشدّ مرارات العصر وأعتاها ظلماً وقساوة؟ على مرّ التاريخ كان هذا قدرُهُ و هذا ديدنُه وشأنهُ ومآلُه. فمتى يصحو من غفوة طالت وأزمة فاقت وهفوة كسرت ظهره حتى العظم؟

 أليس من حق المسيحيين أن يكون لهم شأنٌ ورأي ولمسةٌ في الحراك السياسي القادم؟ وكفى تهميشاً وإقصاءً وضحكاً على الذقون. وكفى تسوّلاً واستجداءً ممّن يُعدّون كذباً، أسياداً أرفع منزلةٌ وأدهى حنكةٌ وأجدر بقول كلمة الحق والفصل في الأمور ورسم أصول المصير! ماذا ينقصنا من رأي وفكر وعلمٍ وكفاءة وإخلاص ووطنية؟ نحن، برأي الغريب قبل القريب، من حملوا راية الوطن وضحوا واستبسلوا ودافعوا أكثر من غيرهم، دون غش أو تحايل. نحن أكثر من يستحق العيش في هذا الوطن معزّزين ومكرَّمين لأننا الأصل في جذورنا القومية والوطنية ولسنا الصورة المزيّفة التي لا تقرّ  بحب الوطن والولاء له وبأهله وأرضه ومياهه وسمائه. لكن العتاب علينا، قبل غيرنا في تركنا أرضَ الآباء والأجداد، أرض النور والحضارات تتآكل أمام ناظرينا متخبطةً ومتمرّغةً بسلوكياتِ من لا يتورّع في قلع كلّ ما يشير إلى العلم والحضارة والمحبة والتعايش التاريخي المتآخي بين العراقيين على مرّ العصور والدهور.

إن خطيئةَ من يعمد، بأية وسيلة كانت، لبيع أرضه ومسكنه أو إلى تقديم بلدته هديةً للغريب مقابل حفنة من الدنانير و الدولارات، ليس منّا ولسنا معه فيما يقوم به من خطيئة عظيمة، سوف لن تغفرها له الأجيال كلّما تذكرت هذا التغيير الديموغرافي الذي لا نقرّه ولا نرضى به، لا من قريب ولا من بعيد. فأدعياء الانفصال لا ولن  تدوم لهم قائمة. كما لم ولن  يرضخ لتوجهاتهم ولمن يوجه ناصيتهم، الأَشرافُ من أبناء شعبنا من ذوي الغيرة والشهامة، أبناءُ وأحفادُ من حملوا الراية ودافعوا عن الأرض والعقار والكنيسة بمالهم وجهدهم وحياتهم ونادوا بأعلى الأصوات: "هذه الجرية ما ننطيها، إيشوع ومريم ساكن بيها"!

نصيحتي لمن فيه بعدُ شئٌ من الغيرة على الأرض والعرض، أن يفكّر ملياً قبل حكم الأجيال عليه وقبل نقمة الوطن على نكوصه،أن يتروّى ويستخدم العقل والحكمة والمنطق الراجح  قبل فوات الأوان ووقوع الفأس على الرأس. وبعدها لا ندمٌ على حماقة يفيد ولا بكاءٌ على فعلةٍ ينفع ولا  صفحٌ عن ذنب يشفع. وفي هذه المرحلة الحرجة بالذات، لا ينفعنا غير قدرِنا، في أن نضع أيدينا بأيدي بعضنا لدعم أيّ شخص متميّز مستقلّ، حريص على المصلحة الوطنية الداعية لبناء مؤسسات الدولة العصرية أولاً، ومصلحتنا المسيحية وما تتطلبه هذه وتلك، من تعايش سلميّ مع جيران العمر على كافة خلفياتهم الإثنية والدينية والمذهبية. هذه رسالتي الأخوية والشخصية لكلّ مواطن حريص على ترجيح مصلحة الوطن الأم والمنطقة والبلدة التي أنحدر منها، بلدة بخديدا /قرقوش الغالية، التي لا أبخل من موقعي البعيد عنها جسمياًً، أن أخدمها وأصون مصالحها وأسعى لتطويرها وأتحدث دوماً عن تاريخ نضالها وتميّزها دون غيرها. لقد أضحت اليوم رقماً يُحسب له حساب، لكونها الثقل الأكبر في المعادلة المسيحية على صعيد الوطن. وهذا ما يدعو الطامعين وبعض المغرضين للتصيّد بالماء العكر مستغلّين العوز الاقتصادي لدى شرائح من أبنائها لإيقاعهم في فخِّ أجندات لا تخدم مصلحتنا العليا، الوطنية منها والقومية والدينية. وهذه دعوة صريحة، كي لا نقع في شرك هذه التجربة، التي لا نريدها أن توصل بالبعض من أصدقائنا و أحبائنا وأهالينا إلى خطيئة كبيرة غير قابلة للغفران. فلنكن جميعاً مع كل من يدافع ويبنى ويدعو لتحقيق المشروع الوطني الصادق. واللّه هو الموفق!

لويس إقليمس
بغداد، في 30 تشرين ثان 2009


396
بيان من منظمة الأقليات العراقية
حول أربعاء بغداد الدامي
تدين منظمة الأأقليات العراقية هول الهجمات العنيفة التي ضربت بغداد في يوم الأربعاء الدامي 19 أب الجاري وراح ضحيتها، كالعادة بشرٌ أبرياء  بسبب صراع مستميت على السلطة بين مختلف الكتل والكيانات السياسية  التي تحتفظ كلٌ منها بأجندتها الإقليمية الخاصة. إن هذه الجرائم التي أراد فاعلوها إثبات التحدّي الواضح لما تدّعيه الأجهزة الأمنية دوماً من سيطرتها على الأوضاع في البلد بعد انسحاب المحتلّ، إنّما جاءت لتؤكد عدم فاعلية الأجهزة المستخدمة في الكشف عن أدوات الجرم المستخدمة من جهة وبسبب اختراقها من قبل عناصر تؤمّن الوسائل  وتسهّل تمريرها عبر مواقع هذه الأجهزة، ناهيك عن الترهل البارز في أداء هذه الأجهزة.
إن الحكومة العراقية مطالبة بالكشف عن الواقفين وراء هذه التفجيرات التي ازدادت وتيرتها في كل أنحاء العراق. فبالأمس طالت مناطق عديدة من تواجد المكوّنات الصغيرة أي الأقليات واليوم تطال بغداد العاصمة، ممّا يستدعي إعادة النظر في الخطط الأمنية القائمة التي أثبتت عجزها وقصورها.
إن الشعب العراقي ينادي بأعلى صوته: أوقفوا حمامات الدم أيها المتاجرون بدماء العراقيين وكفى ما أصابنا من ويلات ومآسٍ فيما مضى. أما آن الأوان كي توضع نهاية  لما يجري؟ أكشفوا عن الفاعلين والعابثين بمقدّرات هذا الشعب المسكين الذي لا حول ولا قوة له. وكفى تغطية لجرائم هؤلاء، أياً كانت قوتهم وسطوتهم وتمويله.
رحم الله الشهداء الأبرار والشفاء العاجل للجرحى والمصابين.

منظمة الأقليات العراقية
مكتب العلاقات والإعلام

397
منظمة الأقليات العراقية
إدانة
مرة أخرى، يعيد كارهو السلام والتعايش الوطني ما اقترفوه ضدّ المكوّن المسيحي المسالم والأصيل في النسيج العراقي، الذي ما يزال ينظر إليه البعض بعيون حولاء متجاهلين أو متناسين أصالته وأهميته في تلطيف الأجواء الوطنية وزرع غرسات السلام حيث العداوات والروح الوطنية الصادقة حيث النزعة الطائفية.
إن أحداث الأحد 12 و الاثنين 13 تموز 2009، إن دلّت على شيء فإنّما تشير إلى قصور واضح في أداء الأجهزة الأمنية العراقية وعدم جدّية الحكومة العراقية في مواجهة المقصّرين وفاعلي الإثم من خلال تسجيل مثل هذه الاعتداءات ضدّ مجهول أو تركها بدون ملاحقة واضحة للمتسببين بها. فلم نسمع لحدّ اليوم ما اتخذته الأجهزة الأمنية المكلفة بحماية دور العبادة والمسيحيين بالذات، من إجراءات رادعة أو متابعات للملفات القديمة التي طالت جميع الأقليات بخاصة والشعب العراقي عامة. فهذه الاعتداءات، كما غيرها من الجرائم المقترفة بحق الأقليات الأخرى، تُطوى وتوضع على الرفوف.
إن منظمة الأقليات العراقية، إذ تدين بشدّة هذه الموجة الجديدة التي طالت عدة كنائس في بغداد والموصل، لا يسعها إلاّ أن تطالب الحكومة العراقية بالاضطلاع بمسؤولياتها في حماية المكوّنات قليلة العدد أي الأقليات التي تتخذها بعض القوى الكبيرة المتناحرة وقوداً محترقاً من أجل تصفية حساباتها مع بعضها في مناطق تواجدها، وذلك  طمعاً في مناطقها وأصواتها. ونحن لا نرضى أن تُستغلّ طيبة قلب أي مكوّن من أجل تنمية مصالح مشبوهة لصالح كتل سياسية طامعة، لا همَّ لها سوى تحقيق مكاسب عرقية وفئوية ضيقة.  إننا نؤكد مرةً أخرى أن الأقليات جميعاً هي مع المشروع الوطني ومع كلّ ما يجمع ولا يفرّق ويؤازر ولا يختلف  ويحب عراقاً موحداً ولا يرضى بتقسيمه.
إننا إذ ندين كلّ ما يطال الأقليات العراقية من أذى و من غبن واضح في غمط حقوقها ومن تلاعب في مقدّراتها على هوى الكتل السياسية المتنفذة الكبيرة، فإننا نحمّل الحكومة العراقية هذه المسؤولية مطالبين بالكشف عن الفعلة جهاراً وليس بمعالجة الموقف خلف الكواليس كما اعتادت.
 عاش العراق موحداً وعاش أهلُه أسرةً جامعةً في جو من الألفة والمحبة وحب الوطن وفي الإيمان بقدرته على مواجهة كل الصعاب وعلى دحر العدوان وكل الطامعين فيه.


منظمة الأقليات العراقية
مكتب العلاقات والإعلام 
بغداد، في 15 تموز 2009

398
لنجعل من السريان مكوّناً مستقلاً

 بعد استنفاذ السبل والوساطات والتدخلات  من أجل توحيد الخطاب" القومي" المسيحي الذي اعتقدناه شافياً لجراحات مثخنة، وبعد الفشل المتواصل في هذا المسعى، أجد أنه من الأجدر البحث في أفكار جديدة تخرجنا من الصمت المطبق الذي نحن فيه. وقد تحمل أفكارٌ جديدة أو في الأقلّ في بعض جزئياتها علاجاً للركود والترهل واللاّمبالاة أو منهج التعصّب الذي صار جزءاً من سياسة بعض الأحزاب والمهتمّين بهذا الشأن الذي نقف جميعاً سبباً وشاهداً على تعثّره وضياع حقوقنا حزمةً واحدةً في المراوحة على الشاكلة التي عليها نحن اليوم. قد يكون كلُّ طرف حاول تعزيز موقفه هنا وهناك على حساب الطرف الآخر على قدر ما استطاع بسبب الظروف المهيَّأة له دون غيره. إلآّ أنّ هذا العمل قد أضرّ بالتأكيد بالمصلحة العليا لشعبنا عندما استغلّ البعض من هؤلاء خلوص النيّة لدى السريان عموماً واستعداهم الفطري لاستقبال القادم الغريب والترحيب به أكثر من مواطنيهم. فأمثالُ هذا الصنو لا هو منتمٍ حقاً إلى المكوِّن الواحد الجامع لمسمّياتنا القومية المختلفة ولا هو مجاهرٍ صريحٍ بما يدور في خلده من تنفيذ أجندة مرسومة تسعى سرّاً إلى توسيع الشرخ الذي يتعمّق ويُسوّفُ الأمور بلا مبرّر.
من حقِّ كلّ واحدٍ منّا أن يتساءل. إذا كانت الأعوام الستة المنصرمة لم تأت بثمارٍ مرجوّة من أجل لمّ الشمل المسيحي، الديني و"القومي" معاً، أليس من حقنا البحث عن مخارج أخرى قد تفي بالغرض من أجل اتخاذها معبراً، ولَو مرحلياً، نحو أمنية التوحيد؟ في المعادلة الحالية غير المتوازنة، يُعدُّ غياب التواجد السرياني كمكوِّن مكمّل في مراكز القرار، سواءً في الحكومة أو البرلمان، أمراً غير مقبولٍ على الإطلاق. ولستُ هنا في صدد التطرق إلى "الحتوتة" التي تعوّدنا عليها طيلة الفترة المنصرمة، عندما تنكّر الدستور العراقي لذكرهذا المكوّن، إرضاءً غيَر متكافئ لطلباتِ جهاتٍ نافذة اعتقدت خطأً تكرَّمَها على هذا المكوِّن بامتياز حملهِ اللغةَ السريانية تسميةً وثقافةً وليس باعتباره مكوّناً كما الكلدان والآشوريين. إذا كانت هذه الحيلة قد انطلت مع بداية تطوّر الأحداث للأسباب التي عرفناها، إلا أنّهاّ لم تعُد مقبولةً بعد الآن ولم يعُد لها أن تصمد وتكتمل حبكتُها من قبل طرفي المعادلة الآخرَين اللذين حظي كلٌّ منهما بما ابتغاه من اعترافٍ به كمكوّنٍ رسميٍّ في الدستور الناقص الذي صاغ أطرافَ نسيجِ الشعب العراقي حسب النفوذ الذي مثّله كلُّ طرفٍ  إّبان تلك الأيام الصعبة. لقد كان ذلك إجحافاً واضحاً بحق هذا المكوّن المهم الذي يكبر الآثوريين مثلاً عدداً وعدّةً، وتلك حقيقة لا غبارَ عليها. وقد حذّرنا كثيراً من هذه الخطوة غير الرزينة وغير الصائبة. ولكن لم يكن في اليد حيلةٌ في حينها. لقد كانت تلك الحكاية المحبوكة بحمل السريان شرف الثقافة واللغة السريانية، كما أسلفنا، والتي روّجت لها بعض الأطراف وما تزال، كفيلةً بتبنّي السياسيين العراقيين ولجنة كتابة الدستور قراراً بالاعتراف بالتسميتين الكلدانية والآشورية (منفصلاً بالواو) كمكوّنين قائمين ومنفصلين رسميّاً مع اعتبار السريانية لغةً وثقافة لهما وبذلك تم استبعاد السريان كمكوّن مستقلَ مكمّلٍ لهما.
على أية حالٍ، فما حصل قد حصل! أليوم نحنُ أمام حقيقة لا مجالَ للتغاضي عنها، وهي أن المكوّنين التوأمين من الكلدان والآشوريين قد حظوا بمبتغاهم ولن يهمّهم بعد ما وقع من حيفٍ على أخوتهم من مكوّن السريان. وهذا ما نستشفّهُ من خلال استقلاليتهما في اللقاءات والمؤتمرات الندّية والزيارات المكّوكية لكلا الطرفين المتنازعين على الريادة والسيادة، والتي كثرت في الآونة الأخيرة إلى محافل دولية أو حتى في مناطق تواجد السريان في سهل نينوى بالذات بغية استمالتهم. وإذا كان أحد الأطراف ينادي اليوم مجاملةً بحقوق ما يسمّينه بالكلدان السريان الآشوريين مجتمعةً، فإنّ حقيقة ما يضمرونه في الباطن هو التمادي في استمرارية تبعية السريان لهذا الطرف أو ذاك، يدعمهم في هذا المسعى من يحاول من ضعاف النفوس من المنتفعين من داخل هذا المكوّن عينه من أجل سلخه عن واقعه بطرق ووسائل عديدة مرصودة وغير حريصة على مستقبله وتاريخه وجدارته.
إني أعتقد أن المرحلة القادمة وفي ضوء ما نراهُ متاحاً، قد تكون كفيلة بإصلاح الخطأ الفادح الذي وقعنا فيه جميعاً عندما اختلفنا وتفرّقنا وتعصّبنا بلا مبرّر، رغم أن الحلّ كان أقرب من الحاجب إلى العين باعتبار السريانية سليلةَ الآرامية التي تجمعنا، كونُ لغتها لغتَنا وثقافتُها ثقافتَنا جميعاً دون خلاف أو اختلاف. فما كان الضير إذن، لو اتفقنا على تسميتنا "سريانا" دون تحسّس غير مبرّر، وهي تسميةٌ عالميةٌ يعترف لها وبها العلماء وأصحابُ الرأي والفكر والتاريخ. ألم يُشر المؤلفون العمالقة من أمثال بعقوب أوجين منّا وغيره إلى التسمية التي تعوّدنا عليها ونحن طلاّب علمٍ، عندما كان يشير إلى التسمية المعروفة بالسريان بالغربيين والشرقيين لدى التطرق إلى تسمية المسيحيين في المنطقة؟
وإني أتساءل مرة أخرى، إذا كانت اللغة العربية لسانَ حال العرب وقوميتهم وكذا الكردية لسانَ حال الأكراد وقوميتهم وكذا التركمانية والأرمنية، فما الضير أن تكون السريانية لسانَ حال المسيحيين وقوميتهم من كلا الطقسين الشرقي والغربي. أليس هذا منطق العقلاء؟ أم للعقل عند بعض هؤلاء وزنٌ آخر وقراءةٌ أخرى مخالفة للمنطق والعقل؟  لقد كان  الأجدر بالانتهازيين من المتزمّتين والمتعصّبين "القوميين" المزيّفين أن يضعوا نصب أعينهم المصلحة العليا لشعبنا المسيحي في اتخاذ هذه التسمية العالمية حلاّ شافياً لكلّ الإشكالات التي خلقها هؤلاء الطارئون المدعومون من اللوبي المهجري والقبلي المحلّي الذي يخطّطُ من على المنابر المهجرية وفي الكواليس معاً وهو متألّقٌ وحالمٌ في سماء يوتوبيا القوميّات الجديدة الخائبة.
 إنها دعوة ملحة لأصحاب الشأن ومن يهمّهم الأمر أن يسعوا لتضمين مكوّن السريان أيضاً في التعديلات الدستورية المرتقبة. فهناك متسعٌ من الوقت لتحقيق ذلك قبل فوات الأوان لاسيّما وأن لجنة تعديل الدستور لم تختتم تعديلاتها بعد. ونقول للمتخوّفين من هذه الدعوة، أن ذلك حقٌ مشروع لأبناء هذا المكوّن بعد أن ضمنَ المكوّنان الآخران حقوقهما الدستورية وحظيا بمآربهما. وعلى هذا الأساس المعقول ووفق المبدأ الجديد  تنفتح ساحة العمل لثلاثتهما معاً دون تمييز وفي انتظار لقائهم لاحقاً بصوت واحد بعد نزع ثوب التعصّب البالي والتحسّس المفرط  لدى البعض من سماع كلمة إسمُها "السريان".
إن المرحلة القادمة قد تكون حاسمة في ضوء الأحداث الأخيرة التي غيّرت مسالكَها انتخاباتُ مجالس المحافظات وما أفرزتهُ هذه من مخاوف وأحداس وتطلّعات معاً. فهل ستضعنا الانتخابات البرلمانية المزمعة على خط بداية خارطةٍ جديدة تحمل معها المفاجأات؟
 وليكن ما يكون، فإننا ندعو أصحاب الحق ومعهم كلُّ المثقفين والمتابعين للشأن المسيحي والمطالبين لهم بحقوق كاملة في التركيبة الوطنية العراقية أن يحرصوا للعمل فريقاً واحداً رغم تعدّد التسميات والمكوّنات حتى لو أصبحوا ثلاثاً بواو فاصلة، فذلك لن يضرَّ. فسوف يأتي اليوم الذي نجتمع فيه معاً تحت عنوان واحد، إن لم يكن ذلك على أرض الآباء والأجداد التي ضاقت بنا، فليكن ذلك في اليوم الآخر. وإذا لم تستطع أرض الله الواسعة التي نعرفها اليوم أن تلمّنا معاً، رغم تحوّلها قريةً صغيرة بسبب آخر تكنلوجيا وسائل الإتصال، فإن السماء المجهولة كفيلة بأن تجمع من يسعى إليها أو يُدعى لها، شئنا أم أبينا. فلا المهاترات تنفعنا ولا المراوغات تفيدنا ولا الاتهامات تساعدنا ولا التبعية لهذا أو ذاك تحلّ مشاكلنا. بل وحدها خدمةُ مناطقنا وتأمين حياة أهلنا وعوائلنا والترفيه عن أبنائنا وإخوتنا  ورفعُ شأنهم عالياً في المنابر المحلية و الوطنية والإقليمية والدولية، هي الكفيلة بتحقيق طموحاتنا وتعويض ما فاتنا من حقوق وما تعرّضنا له من انتهاكات وما صادَفنا من مآسي ومجازر وتهجير وتقتيل عبر التاريخ.
إنها دعوةٌ ملحّة للمهتمّين بمكوّن السريان بصورة خاصة من داخله وخارجه، كي يبذلوا قصارى المساعي من أجل حمل الجهات المعنية في الحكومة العراقية و لجنة تعديل الدستور في البرلمان العراقي كي يطالبوا بإضافة مكوّن السريان في التعديلات المرتقبة إلى جانب الكلدان والآشوريين لكي لا يُغبنُ حقّهم في برامج الخدمات المحلية في سهل نينوى وفي سائر مناطق تواجدهم بسبب تهميشهم وتبعيتهم لهذا المسمّى أو ذاك. كما أنصح الجميع كيلا ينصاعوا لكلمات التسويف والإرضاء التي اعتادوا عليها من جانب بعض الجهات والأحزاب القومية المتواجدة على الساحة، والتي لن يهمّها لو أنّ هذه الرغبة لن تتحقق أبداً. فمن نجا من الغرق وحصل على مرامه لن يهمّه جارُه الذي مازال عالقاً ينتظر الإنصاف لكونه أحقَّ منه. وعلينا منذ الساعة أن نتهيّأ للانتخابات البرلمانية القادمة حزمةً واحدة بالتوافق مع بعضنا، غيرَ منقسمين أو تابعين لهذا أو ذاك من الأطراف. بل أن نشارك أنداداً ومتحالفين مع لاعبين كبار على الساحة الوطنية وضمن المشروع الوطني الذي يرسي لبناء عراق موحد ديمقراطي، فيه تُصان حقوقُ الجميع ومنها حقوقُ السريان. وكفى تفضيلُنا للغريب على أبناء جلدتنا، معتبرين القادمين من خارج مناطقنا أفضل من مواطنينا وأكثر جدارة، والحقيقة هي العكس. فقد أصبحت مناطق تواجد السريان ولاسيّما بغديدا (قرةقوش) مركز تنويرٍ واستقطابٍ للجميع دون استثناء بسبب كثافتها السكانية المسيحية والكفاءات الكثيرة والمتنوعة لأبنائها النجباء في كل المجالات والحقول، والأهمّ من ذلك كلّه في مواطنيّتهم وولائهم للأرض والوطن والدين. و لاعجب أن تتكالب عليها أطرافٌ سياسية وعرقيةٌ عديدة وتتنافس عليها جهاتٌ مسيحيةٌ شقيقة بهدف استمالة أبنائها إلى جانب طروحاتها وكسب ودّها لأغراض دعائية وانتخابية معروفة.
 فمن يضمن "بغديدا" اليوم، يستطيع حقاً أن يلعب مع الكبار ويباري في حجمه وزخمه وفاعليته. لقد كانت بغديدا (قرةقوش) قلعة السريان ومجدهم وستبقى عنفوان مسيحيّي العراق والشرق بلا منازع.

مع تحياتي

لويس إقليمس
بغداد، في 6 أيار 2009

399
مسيحيو العراق في محنة


عاش المسيحيون  العراقيون في الأيام الخوالي ومازالوا في شدّة كبيرة، أقلُّ ما يُقالُ عنها أنها فاقت كلّ التصوّرات وكسحت كلَّ الحسابات، مع تنوّع أجندات المتورطين فيها من قريب أو بعيد و ذلك بسبب تشابك مصالح الجهات المستفيدة من الهجمة المشبوهة التي تُحاك ضدّهم . إن مثل هذه المحنة الكبيرة التي شابهت سابقاتٍ غيرها، قد ألفها المسيحيون منذ تاريخ وجودهم على أرض هذا البلد. ولكنها اليوم، يصعبُ التصديق أن تكون على روزنامة أبناء الولاية لوحدهم، أو في الأقلّ لا نعتقد أن تندرج خصيصاً ضمن هذه  الروزنامة أو أن تكون أساساً من  بنات أفكارهم لوحدهم ولا من صنع أيديهم في التخطيط والتنفيذ معاً، مهما كان السجال حول طبيعة الشارع الموصلّي تجاه المسيحيين خاصة والأقليات الدينية الأخرى عامة. أما أن تأتي هذه السابقة الخطيرة في تاريخ العراق الطويل في هذه الآونة بالذات، فذاك أمرٌ فيه نظر، لاسيّما بعد تفاقم الظروف واشتداد النزاع بين الكتل الفئوية المتصارعة على السلطة والجاه والمال التي لم تكن تحلم يوماً بورود مثل هذه الفرصة كي تنفذ كلٌّ منها روزنامة الجهة التي تدعمها وتوجهها وفق مصالحها المحلية والإقليمية.
مهما كان ومهما حصل، فإنّ سوابق التاريخ تذكّرنا بتكافل أبناء الموصل الطيبين منهم  وبتعايشهم السلمي منذ مئات السنين، بل حتى من قبل قدوم الإسلام، ولا شائبة في ذلك. فهم أصحاب الأرض الأصليين وبناة حضارة ما بين النهرين التي تمتد إلى سبعة آلاف سنة منذ عهد أسلافهم الآشوريين والبابليين والسومريين والأكديين والآراميين. ولم يُسمع أن تعكّر صفو العلاقات في فترة ما إلى هذا الحدَ القاسي كما في أيامنا العصيبة هذه إلاّ فيما ندر.
 قد تكون هذه المأساة التي تزامنت مع محاولة بعض الفئات الحاكمة إطلاق رصاصة الرفض لمبدأ الديمقراطية ضدّ المكوّنات الدينية والقومية قليلة العدد، يُقصدُ منها جسَُّ نبض هذه الأقليات  ومعها نبض الشارع العراقي والإقليمي والدولي معاً، من أجل الوقوف على العتبة التي تيسّرُ لها هذه المهمة كي تُحكم هيمنتها الشوفينية إلى ما تستطيعُه. وبذلك تكون قد استخدمت ما تيسر لها من وسائل الصدّ والردع والتهديد ضدّ هذه الأقليات الأصيلة لمنعها من المطالبة  بضمان حقوقها الدستورية كاملة شأنها شأن غيرها من المكوّنات الكبيرة التي تنهشُ اليوم جسدَ هذا البلد بلا هوادة.
صحيحٌ أن الأعمال الإرهابية قد طالت جميع العراقيين بلا استثناء، ولكنها كانت مريرة وقاسية على المسيحيين والصابئة والإيزيديين منهم بصورة خاصة، لا لشيء، إنما لكونهم الحلقة الأضعف في المعادلة السياسية عندما أُلقي بهم ليكونوا كبشَ فداءٍ  في هشيم صراعات طائفية وعرقية وفئوية، و هم لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ألم تغيّبهم الكتل السياسية وقرّرت تهميشهم عن سبق إصرار وترصّد حتى من أبسط حقوق المواطنة في التوظيف في مؤسسات سيادية  وفي غيرها من مواقع الدولة المهمة وحتى البسيطة فيها بفعل سياسة المحاصصة المقيتة؟ فيما حاولت غيرُها إذابتهم باتباع شتى الوسائل المتاحة، بقصد دمجهم في ما تُسمّى بمكوّنات أكبر لها اليوم ثقلها على الساحة السياسية بدعمٍ من الغازي الأميركي، وكلّ ذلك على مرأى ومسمع من هذا الأخير. بل إن بعضاً من هذه الكتل الفئوية الكبيرة التي تشبّثت بسياسة المحاصصة الطائفية المقيتة التي رسّخها الحاكم المدني بريمر المشكوك في أمره في كل مفاصل الحياة العراقية، راحت تدّعي وتتبجّح في ضوء ما تراءى لها نوعٌ من النصر بفعل الامتياز الذي حظيت به من جانب المحتلّ، والذي يخوّلها بحسب أجندتهم تنفيذ مآربها العرقية والمذهبية الضيقة بحجة تعرضها هي أيضاً لتمييز عرقيّ ومذهبيّ  في عهودٍ سابقة. ما هكذا تُساق الإبل!.
إضطهادٌ مضمَر وتهجيرٌ منهجيٌّ منظَّم   
 حينما نستعرض تاريخ المسيحية القومي والديني معاً وبمختلف كنائسها وطوائفها في العراق، لا بدّ أن نقف على مراحل مهمة منه و نستذكر ما حلّ بهم منذ قدوم االدين الجديد قبل أكثر من 1400 عام حين جعل النصارى  أي المسيحيين أهلَ ذمّة وما لحق بهم بسبب ذلك من موجباتٍ شرعية مجحفة بحقهم. لا أريد الدخول في التفاصيل التاريخية والشرعية، لأنه ليس شأني. ولكن بودّي الوقوف على حقيقةٍ لا يمكن التغافل عنها في ظلّ الصخب السياسيّ القائم، ليس محلياً فقط بل على الصعيدالإقليمي والدولي أيضاً.
ما لا يقبل الشك أن الحضارة المسيحية بوضعها القومي والديني كانت دوماً عرضةً لاضطهاداتٍ خارجية وداخلية استهدفت وجودها. فقد صارعت الهجمات الجنكيزخانية والمغولية الشرسة وما لحقها من ويلات دامية على أيدي الامبراطورية العثمانية عندما أفرغ سفّاحو القرن الجهلة ما تيسّر لهم من حنق وتعصّب وكره على بيوتٍ مسيحية آمنة طالتهم بهجمات منظمة شرسة تجاوزت ما فعله هولاكو وجنكيزخان في الأهالي. وفي حقبة مابين الحربين الكونيتين، لم يسلم المسيحيون وأملاكُهم من أعمال القتل والتدمير والتهحير والتنكيل التي فاقت ربما مثيلاتها ضدّ أيّ مكوّنٍ آخر. فجاءت مذابح سمّيل في بداية الثلاثينات من القرن الماضي وما لحقها في حقبة الستينات مكمّلة لتلك الأحداث المأساوية حين تم تدمير وإبادة قرى مسيحية عن بكرة أبيها وتهجير أو قتل ساكنيها. فكانت بحق وصمة عارٍ بحق مرتكبيها في دولة العراق الفتية آنذاك، بل خيرَ مثالٍ على عمليات التصفية العرقية والدينية المضمَرَة ضدّالمسيحيين في المنطقة، رغم ادّعاء البعض بعدم صحة ما جرى في العهود السابقة.
إن ما يجري اليوم، منذ سقوط النظام السابق في 2003 بحقِّ هذا المكوّن الأصيل وغيره من المكوّنات الأصيلة الأخرى قليلة العدد، لا يخرج عن هذه الإرادة الشريرة في الرغبة في استئصالها جميعاً كي لا يصبح  لها قضية رأي عام. لقد شكّل المسيحيون حتى وقت قريب من سقوط بغداد ما يربو على 7- 5 %  من عموم السكان، بحسب بعض التقديرات أنذاك. أي أن أعدادهم كانت أكثر من مليون شخص عندما بدأت هجرتهم إلى دول الجوار بسبب سياسات النظام السابق الاستفزازية ضدّهم لأسبابٍ عديدة نعرفها جميعاً. ثمّ ما لبث أن استمرّ نزيف الهجرة بعد السقوط حيث سجّلت إحدى الإحصائيات الرسمية لشؤون اللاجئين في 2005 مغادرة ما يربو على 700 ألف عراقي إلى سوريا بين عامي 2003 – 2005 ، حيث شكّل المسيحيون ما يقرب من 36 % منهم، أي ما يعادل 300 ألف مسيحي في هذه الفترة القصيرة. وقس على ذلك أعداد المغادرين فيما بعد مع تواصل التهديدات الصريحة من قبل جماعات متطرفة وميليشيات مجهولة الهوية ضدّ أبناء شعبنا المسيحي في عموم محافظات العراق،  حيث تواصل نزيفُ الهجرة هذه المرة، نحو الخارج والداخل، بدءاً من البصرة وبغداد والموصل وكركوك بصورة خاصة عندما كشّرت قوى التعصب القومي والتشدّد الديني الأصولي عن أنيابها لتنال ممّا تبقّى لهذا االبلد من ثقافة رسّخها المسيحيون فيه منذ أجيالٍ وقرون عبر حضارات وثقافاتٍ سادت العالم كلّه لآلاف السنين ولم يتبقى منها سوى هذا النزر اليسير منهم والذي لا يتجاوز النصف مليون.
 لقد أصبح للمسيحيين حديثاً، هم أيضاً قضية بعد أحداث 2003، بسبب صراعٍ سنّي - شيعيّ – كرديّ  محتدمٍ على السلطة والجاه والمال، كلٌّ وفق أجندته ومنهجه. ومن الواضح أيضاً أنه تم استغلال هذا الصراع من أجل تحقيق مكاسب سياسية على حساب المواطنة والوطن والشعب. فصار التهديد  بالقتل منهجاً وطلبُ الجزية سلوكاً شرعياً مباحاً و التخيير بالتحوّل إلى الإسلام قسراً أو ترك المنازل غنائم أو حتى الإيحاء بوجوب المطالبة بمحميةٍ آمنة تابعة لإقليم كردستان حصراً، من جملة الوسائل المنهجية المتبعة في تصفية المسيحيين وتهجيرهم من مناطق تواجدهم ضماناً لسلامتهم، تماماً كما حصل قبل قرنٍ من الزمان على أيدي العثمانيين وعملائهم في العراق ودول الجوار. لذا، فلا عجب أن تشارك دورياتٌ عائدةٌ للسلطات المحلية أو ميليشياتٌ منظمة وحتى عصاباتٌ ضالة، ترتبط بكتل سياسية مشاركة في السلطة المركزية منتشرة في مدن رئيسية مثل البصرة  والموصل وكركوك وبغداد في ترعيب هذه الشريحة الأصيلة المسالمة ودفعها للهجرة إلى بلاد الاغتراب قسراً بعد أن سُدّت بوجهها أو ضعفت عواملُ الأمان والاستقرار في ديارها أو خاب أملُها في تحقيق طموحاتها بسيادة القانون ورؤية مؤسساتٍ ديمقراطية تسيّرُ دفة البلاد والعباد دون تمييز.
-لقد اتضح للعالم أجمع أن هذا المكوّن الديني والقوميّ الأصيل في نسيج الشعب العراقي هو اليوم من أكثر الأقليات حساسيةً وأقلّها حصانةً، شأنها في ذلك شأن المكوّنين الشقيقين من الإيزيدية والصابئة المندائيين الذين لا يمتلكون غير سلاح المواطنة والتسامح والعيش التكافلي في حياتهم اليومية. ومع ذلك لم يبادر المحتل الأمريكي إلى فعل شيء حيال هذه المأساة بحجة استحالة التدخل في شأنٍ دينيٍّ بحت، رغم ما شكّله ذلك من تهديد لحياة مواطنين آمنين يُفترَض بالدولة والمحتلّ أن يؤديا واجب الدفاع عن حياتهم كما تفرضه القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان. حتى إن أية إشارة لم ترد في تقرير هاملتون- بيكر حول خطورة الصراعات العرقية والطائفية والمذهبية وانسحاب ذلك على مكوّناتٍ مسالمة في نسيج الشعب العراقي.
هناك حقيقة أخرى لا يمكن التغافل عنها حين نتحدث عن عمليات التهجير المنظم ضد المسيحيين قبل أحداث 2003. فمن العبث أن نبرّئ ساحة النظام السابق من أسلوب متفرّد في اضطهاد المسيحيين واستغلال وضعهم القومي والديني وحالتهم المتفرّدة لصالح تنفيذ أهدافه المعلنة وغير المعلنة أنذاك. ففي الوقت الذي ارتزقت بعض شرائح الشعب العراقي حديثي النعمة من مكاسب وفوائد محدودة في ظلّ ذلك النظام، نرى غيرهم، وهم الغالبية الساحقة، قد تضرّر كثيراً بسبب تلك الممارسات غير الحكيمة، ومنهم المسيحيون أيضاً و معظم مؤسساتهم الدينية والثقافية والاجتماعية. فقرارات تأميم مدارسهم ووضع كنائسهم ورجالاتها ومؤسساتها تحت تصرّف النظام بوسائل عديدة ومنهجية، تُعدُّ في حدّ ذاتها حرباً غير معلنةٍ ضدّ وجودهم من حيث تقييد حرّية عملهم وتحديد أنشطتهم وتقليص ممارساتهم وطقوسهم الكنسية إلى أبعد الحدود بحجج كثيرة. ومن هذه القيود يمكن أن يُضاف إخضاع قساوستهم للخدمة العسكرية الإلزامية دون احترام للمهام الدينية الملقاة على عاتقهم وحاجة كنائسهم لخدماتهم. ولا ننسى مثيل هذا من قرارتٍ مشكوك في إصدارها ومنها بالذات ما يتعلّق بقانون الأحوال الشخصية الجائر في بعض بنوده وإلزامية تدريس مادة القرآن في المدارس ومحاربة بعضهم في أرزاقهم بغلق محلات بيع الخمور والمطاعم والبارات، لاسيّما بعد إطلاق ما سمّي بالحملة الإيمانية في عام 1991 وما رافقها من إجراءاتٍ تهوّرية وتطاول واضح على أبناء الديانات غير المسلمة عموماً.
 ولكن ما جرى ويجري منذ أحداث نيسان 2003 قد تعدّى تلك الجرائم من حيث بروز تياراتٍ عرقية وقومية ضيقة الآفاق وأخرى إسلامية سياسيّة مذهبية أو ذات توجهات سلفية متشددة تسابقت في مزايداتها بأجنداتٍ دينية أو إقليمية رأت في الصراع القائم خيرَ فرصة لتنفيذ مخططاتها بتصفية المكوّن المسيحي بصورة خاصة.
كما لا يمكن فصل كلّ هذا وذاك عن أجندة المحتل الأمريكي الذي لا تهمّه مصلحة أية جهة أو طائفة لأيٍّ من مكوّنات النسيج العراقي المتماسك تقليدياً في تاريخه و الذي بدأ بعد تصاعد نفوذه بشتى الوسائل منذ اللحظة الأولى لوطأة قدمه أرض العراق. والغرض من ذلك كله، كان تفتيت مكوّنات النسيج العراقي بالعزف على أوتار فئوية حينأ ودينية في أخرى وعرقية أحياناً ومذهبية في غيرها، ولا نعلم ما هي برامُجه التقسيمية اللاحقة لدق الأسفين في أرض العراق الطاهرة والمنطقة عموماً. وما المشروع المطروح حول خارطة شرق أوسط جديد إلاّ غيثٌ من فيض استراتيجة هذا المحتلّ للمنطقة.
من يقف وراء هذه المحنة؟
بعد كلّ الذي بدا لنا حملةً منظمةً لتهجير قسري واضطهاد منهجيّ دينيّ وعرقيّ معاًّ لعموم أبناء شعبنا المسيحي بمختلف طوائفه وملله وكنائسه من الكلدان والسريان والأرمن والآثوريين وغيرهم، يتبادر إلى ذهننا وقوعُه ضمن ذات السلسلة التصفوية في اقتلاع مكوّناتٍ أخرى صغيرة تتعايش في هذا البلد وهذه المنطقة منذ آلاف السنين. ومن حقنا أن ننظر إلى الموضوع بمهنية ونحلله بشفافية لنخرج بمعلومات وافية و أفكارٍ واضحة حول الجهات الفاعلة المحتمَل تورطُها في الأحداث الأخيرة تخطيطاً وتنفيذاً. مبدئياً لا نقبل بالتجنّي مسبقاً على أية جهة حتى لو أُشيع عن تورطها هي أو غيرُها في هذه العملية التي طالت عموم أحياء مدينة الموصل الحدباء. هذا في الأقل بحسب ما تلقيناه وسمعناه وحصلنا عليه عبر وسائلنا من شهادات العديد من العوائل النازحة إلى القرى والقصبات القريبة على الساحل الأيسر من المدينة ومنها قرقوش وألقوش وتلسقف وباطنايا وبعشيقة وبحزاني وبرطلة وكرمليس ودير ما متي ودير ما بهنام  وزاخو و حتى في بغداد وسوريا وغيرها.
شهود عيان تحدثوا عن سيارات مملوكة لجهات تعمل مع الحكومة العراقية كانت  تجول في عدد من الأحياء المسيحية ومراتب بزيٍّ عسكريٍّ مألوف ساهموا في إشاعة الرهبة والخوف في نفوس العوائل المسيحية فيها وغيرها كانت تجوب الشوارع طالبةً من المسيحيين في بعض الأحياء عبر مكبّرات الصوت بضرورة مغادرة منازلهم وإلاّ تعرّضوا للقتل. فيما تم رصد سيارات "همر" عسكرية بالتحديد وهي تتفرّج على منازل تُهدم أمام عيون أعدادها دون فعل أي شيء. وبالرغم من صحة مثل هذه الأوصاف أو عدمها، فإننا نتساءل، من يملك مثل هذه الآليات ويتجرّأ القيام بمثل هذه الأفعال وفي وضح النهار. هل إن القاعدة، وهي دوماً المتهم الأول، تملك مثل هذه ال"همرات" الرهيبة؟ وإذا افترضنا جدلاً امتلاك القاعدة أو أعوانها المحليّين المخترقين لأجهزة الدولة لمثل هذه الآليات، فكيف تأذن لها الحكومة المحلية تنفيذ مثل هذه الأعمال التي تتعارض مع واجبها الأساسي في حماية جميع المواطنين بغض النظر عن الدين أو العرق أو القومية أو المذهب أو الطائفة وما إلى ذلك. هل يمكن اتهام الحكومة المحلية، أو لنقل بتعبيرٍ آخر، هل يمكن لجهات معينة في الحكومة المحلية أن يكون لها دورٌ فيما جرى؟ أسئلة بحاجة إلى ردود شافية وواضحة. وهذا ما نرجو أن تكشفه التحقيقات الجارية حالياً بأمرٍ من رئيس الوزراء بعد تصاعد بيانات الإدانة ونداءات الاستغاثة، في الداخل والخارج مطالبةً كلُّها بواجب الدولة والحكومة العراقية والمحتلّ بحماية جميع المواطنين وإنقاذ المكوّن المسيحي صاحب الأرض والثقافة والحضارة والكفاءة الذي تكررت مظالم الدولة عليه مع تعاقب الحكومات والأنظمة.
بالعودة إلى الأيادي المشبوهة بتورطها في هذه الجريمة المنظمة، نطرح تساؤلات عديدة ومنها، حول الدور السلبي الذي لعبه أولاً بعضٌ من رجال الدين المسيحيين وعناصر من المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري في المنطقة من خلال تبليغ عوائل مسيحية أو الإيحاء لهم بوشك تنظيم حملة تصفية ضدّ المسيحيين في مدينة الموصل حتى قبل بدء الأحداث في 28 أيلول الماضي. فهل كان لبعض هؤلاء علم الغيب بما سيجري من أجل استباق الأحداث؟ كما أننا نستغرب هذه المرّة، مدى الاهتمام المتزايد والمغرض أحياناً لبعض وسائل الإعلام في تهويل الأحداث وتأجيج وسائل الترهيب والترعيب المتبعة في هذه الحملة القاسية وما شكّله ذلك من استفزازٍ واضح في الإخراج والإنتاج، ليس تماماً كما صاحبَ ما حدثَ في مناطق سابقة مثل البصرة وبغداد بالذات في مناطق الدورة والميكانيك والآثوريين وغيرها.
من وجهة نظري، أن الأحداث مترابطة ولا يمكن فصلها عن مشروع قائمٍ لاستحداث كياناتٍ جديدةٍ على الأرض بموجب سيناريو الشرق الأوسط الجديد الذي تدعو إليه بلاد العم سام منذ سنوات. وليس مستبعَداً ضمن ذات الأجندة خلق نوعٍ من الموازنة العرقية والدينية في المنطقة من خلال هذا المشروع الواسع متعدّد المراحل، كما ينص على ذلك دستور العراق الجديد الذي يتيح تشكيل إدارات أو كياناتٍ محليةٍ تضمن الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية لمختلف المكوّنات القائمة ومنها الكلدان السريان الآشوريين والتركمان إلى جانب العرب والأكراد، كلٌ في مناطق تواجده. ومن الممكن جدّاً أن يكون لأيادٍ عراقية مسؤوليةٌ في تنفيذ جزءٍ من هذا المخطط المشبوه عبر رموز سياسية وعرقية ودينية متشعبة. هذا أقلُّ ما يمكن قولُه لحدّ الساعة، رغم تخوّفنا من عدم الكشف المبكر والشفاف للفاعل الحقيقي لهذه الأحداث خوفاً من كشف المستور وفتق المرقوع. وإن الغد لناظره قريب.
تحليلٌ وفرضياتٌ
سمعنا وقرأنا الكثير حول هذه المحنة ودوافعها، وطلعت علينا وجهات نظر متنوعة وآراء مختلفة باختلاف محلليها بحكم تبعية تحليلهم للأحداث ونقلهم للأخبار وترويجهم للإشاعات. ونحن قد نتفق مع بعضٍ منها في حياديتها وقد نختلف مع أخرى حاولت الظهور بموقف الدفاع عن جهاتٍ مشتبَهٍ بضلوعها لحدّ الساعة، في ما يجري ومنها ما يُعدُّ جزءًا من الحكومة المحلية. لذا، فإننا في الوقت الذي لا نبرّيء فيه أحداً، كما لا نوجّهُ أصابع الاتهام على جهةً معينة، سنطرح تحليلنا المحايد لهذه الأحداث الأخيرة لاسيّما بعد أن أخذت مساراً أكثر إثارة، ممّا يستوجب توضيحه في النقاط التالية، تاركين للقاريء الحليم أن يستشف من طياته ما يساعدُه على فهم ما حصل ضمن الأجندة المرسومة.
1-                          هناك على أرض الواقع وبموجب الحقائق المتيسرة، أجندة خارجية يتحدث عنها الكثيرون منذ فترة في الداخل والخارج. هذه الأجندة بحسب تحليلات المراقبين جميعاً، تسير وفق مخطَّطٍ مدروس الشكل والأوجه والأيدي وهي تسعى بالمختصر المفيد، لاختصار القائم حالياً من المكوّنات قليلة العدد أي الأقليات الدينية والقومية، بسبب ما يمكن أن تشكّله هذه من معوّقات أمام مكوّن ما أو مكوّنات أخرى تتسيّدُ الساحة السياسية بلا منازع وتتشبّث بالاستئثار بالسلطة من خلال مساومات سياسية فيما بينها. ولعلّ التوجّه في سلوك هذا السبيل غير الحضاري وغير الديمقراطي مؤخراً قد استُنفِرَ وحُرِّكَ لاسيّما بعد أن شهدت منطقة سهل نينوى بالذات، ظهوراً علنياً للمكوّن المسيحي القومي والديني، مطالباً بحقوق مماثلة في حكمٍ ذاتيّ أو إدارة لامركزية يكفلها الدستور الجديد أصلاً بتوافق الكتل المشاركة في العملية السياسية جميعها وبمباركة المحتلّ. وقد بدت هذه المطالبة كما يبدو لبعض من هذه الكتل النافذة، نوعاً من التحدّي لهيمنتها وتهديداً لسطوتها. لذا جاء تحرّّكها عبر بيادقها المطيعين في المنطقة لتحقيق مخططها في الطّرق على الحديد وهو حارّ. وهذا ما تبرره الأحداث الواقعية، حيث جاء ذلك متزامناً مع قرار انتهاك حقوق الأقليات الدينية والقومية في مجلس النواب العراقي عندما أقرّ ممثلو هذه الكتل ذاتها، إلغاء المادة 50 من قانون انتخاب مجالس المحافظات تحت ذرائع واهية، برغم دموع التماسيح التي سُكبت خجلاً على حقوق هذه الأقليات. وما زال الموضوع قيد التسويف والنقاش بفعل فاعل من أجل تذويب محتواه رغم تأكيدات المجتمع الدولي على تبنّي مقترح الأمم المتحدة الواضح لتفعيل المادة 50 بشكل لا يقبل الشك. كما جاءت تخوّفاتُنا في محلّها حينما أقرّ البرلمان بتصويت 106 نائباً من مجموع 150 نائباً حضروا الجلسة المخصصة لإقرار الكوتا الهزيلة المقترحة. وبذلك تتوضح الصورة وحجم المؤامرة التي حاكتها كتلة 22 تموز بأعذارٍ وهمية من أجل تمرير مقترحها الجائر بتخصيص مقعد يتيمٍ للمسيحيين في محافظات مثل بغداد ونينوى حيث لا ينسجم ذلك مع حجمهم الطبيعي فيهما. وفي ذلك إهانةٌ مشينة بحقهم وتنصّلٌ من مسؤوليات البرلمان والحكومة حيال الوعود التي قُطعت لهم ولجهاتٍ دولية من أجل إنصافهم.
2- ملاحظة ظهور  تيار إصلاحيّ في أجندات لمكوّنات مجاورة لمنطقة سهل نينوى، وبالتحديد أجندة كردية يقودها تيار إصلاحي متمدّن يسعى لاستقطاب كفاءات واثقة الخطى تكمن في صفوف هذه الأقليات ولاسيّما المسيحية منها بالتحديد. والغرض منها واضح وهو الحصول على ثقافات محدثة من أجل تطعيم المجتمع الكردي المحافظ بعض الشيء، والذي ما يزال متأثراً بسبب سياسات الاستعباد الاقطاعية القائمة لحدّ الساعة في المجتمع العشائري الكردي بخاصة. هذه الرغبة الملحة إن كانت قادمة من داخل المجتمع الكردي نفسه أو مصدَّرة إليه من الخارج، دفعت جهات سياسية فيه لتسخير وجوه مسيحية مختارة من أجل تيسير هذه العملية في تهيئة الرأي العام المسيحي في مناطق تواجدهم في سهل نينوى بالذات للتصديق بوجود مخطط لتفريغ العراق ومدينة الموصل بالذات من المسيحيين ودفع الأهالي للإيمان بقبول فكرة الانضمام إلى كردستان كأفضل حصن آمن لهم فيها. وبهذا القدر من التهديد الموجَّه للمسيحيين مباشرة أو بصورة غير مباشرة ومن خلال سلوكٍ إستفزازي معيّن أو عن طريق تهويل ما جرى إعلامياً، يعتقد منفّذو هذه الخطة نجاح مخططهم في تهجير أكبر قدرٍ من العائلات المسيحية من داخل مدينة الموصل إلى القرى والقصبات الأكثر أمناً وحملهم للقبول بفكرة المحمية الهشّة الآمنة بعد إلحاقها بكردستان لاحقاً بموجب سيناريو مدروس.                                     
3-                           الزعم بضلوع أذناب القاعدة وأعوانها من الميليشيات والعصابات المستفيدة من عملية الفوضى القائمة حالياً واردٌ أيضاً بسبب غياب القانون والفلتان الأمني. وهذه قد تكون وجدت أرضيةً معدّة لتنفيذ مثل هذه الحملة الشعواء بالتعاون مع نفرٍ من أركان النظام السابق ومن المتشددين والمتطرفين أصلاً من أهالي المدينة وغيرهم من المستفيدين من هذا المشروع، حتى لو اختلفت النوايا وتعددت الأغراض. وبذلك لا يمكن نكران أو نفي علاقة القاعدة ومناصريها بهذه الأحداث، ومنهم من يشاركُ اليوم بصفة أحزاب أو ضمن كتلٍ سياسيةٍ في العملية السياسية، سيّما وأن مدينة الموصل تُعدّ أحد معاقلها منذ تغيير الأحداث في 2003، رغم اتهامات مباشرة موجَّهةٍ من بعض هذه الأخيرة  لقوات البيشمركة بالضلوع في هذه الأحداث في مجمل بيانتها.
4-                             احتمال ضلوع تنظيمات أخرى جديدة على الساحة واردٌ هو الآخر كما حصل في البيان الصادر عمّا يسمّى بجبهة الدفاع عن حقوق المسلمين في الموصل أو كتائب أنصار الإسلام مؤخراً. وهذا الاحتمال قائم أيضاً من خلال تعاون ممكن لهذه الأخيرة مع أذناب القاعدة أيضاً ومن تبقى من أركان النظام السابق الذين لم يحصدوا سوى الخذلان والقهقرى في النيل من النظام الجديد، فأرادوا التعبير عن هذا النصر المزعوم بشن حرب التهجير ضدَ هذا المكّون المسالم تحت مسمّياتٍ جديدة ولأسباب غير مبنية على حقائق. وقد تكون استغلّت بعض هذه التنظيمات المتطرفة لمسألة مطالبة شعبنا المسيحي بحقه في إدارة لا مركزية أو ما يُسمّى بالحكم الذاتي ذريعةً لتنفيذ برنامجها المشبوه بقصد الحفاظ على الحدود الإدارية للمدينة وتحوّطاً من تجزئة أراضيها، رغم تأكيدات القادة المسيحيين ورجال الكنائس المختلفة وتفنيدهم لمثل هذه الترّهات والمزاعم وتأكيد حرصهم على مبدأ التعايش السلمي والتاريخي لمختلف الطوائف والمكوّنات في ظلّ حكومة فيدرالية موحدة قوية المركز.
5-                     5مع شدة وطأة المأساة على أحوال العوائل المسيحية التي تركت منازلها وكلََّ ما تملك قسراً، لاحظنا صدور تقارير وتصريحات رسمية، أمنية وحكومية متناقضة بصدد مأساة هذه العائلات وأعدادها والدوافع من هجرها المدينة. ومهما يكن العدد، إلاّ أنه لا يُعدُّ مسوّغاً للاستهانة بما جرى. فالدستور من شأنه صيانة حقوق جميع المواطنين على حدٍّ سواء، كما أن مسألة حماية الشعب هو من مسؤولية الدولة و الحكومة المحلية وقواتها الأمنية التي وقفت متفرّجاً في ملعبٍ يشهد قتل وتهجير مواطنين آمنين في دورهم. وهذا احتمالٌ آخر على تورّط جهات أمنية أو حكومية مرتبطة بأجندات سياسية في تشكيلة الدولة العراقية الحديثة وفي الحكومة المحلية بالموصل. وإلاّ، لما هذا الصمت المطبق لأيام وأسابيع وأشهر مريرة مرّت على هذه المحافظة دون أن تتدخل أجهزة الدولة المركزية بصورة فاعلة وجدّية في وضع حدٍّ للتجاوزات العديدة التي ارتكبت فيها على تنوّعها و ردع الجهات المتورطة فيها. وهناك أحاديث علنية عن صفقات سياسية داخل الحكومة كانت تهدف إلى إبعاد أجهزة الدولة قدر المستطاع، في شؤون هذه المحافظة ممّا تسبب في عدم تمكين هذه الأخيرة من بسط نفوذها وسيطرتها الأمنية عليها لغاية الساعة.
6-                          أما الاحتمال الآخر الذي ينظر إليه محللون من وجهة نظر عامة، فهو يتعلّق بسياسة عامة معروفة لدى المحتلّ "فرّق تسُد". ونحن لا نستبعدُ تورّط المحتل الأمريكي هو الآخر، في زرع الفتنة والانشقاق في صفوف الشعب العراقي المتراص في ماضيه الوطني وتعايشه السلمي على مدى قرونٍ من الزمن. ألم يكن في أجندة المرشح الديمقراطي لنائب الرئيس الأمريكي القادم، تقسيم العراق إلى ثلاث ولايات؟ لذا فإن تسخير المحتلّ أو في الأقل تهيئة الأجواء لجهاتٍ مستعدة لتنفيذ مثل هذا المخطط العدواني ضدّ وحدة الصف الوطني العراقي، يمكن أن تدخل أيضاً ضمن خارطة الطريق المرسومة مستقبلاً  لشرق أوسط جديد، ومنها هذا التقسيم المعَدّ للعراق. وهذا ما يؤيّد وجود قوى داخلية مرتبطة بالخارج حرّضت على عمليات التهجير من خلال زرع الرعب واستخدام وسائل التهديد والترغيب حيناً من أجل تحقيق هذا الهدف. ولا دخان بلا نار!
آراء لها ثقل
في معرض لقاءاته العديدة، أشار المطران لويس ساكو، أسقف الكلدان في كركوك أن الانتهاكات الخطيرة بحق المسيحيين مؤخراً، تمثل في حقيقتها تهديداً للوحدة الوطنية التي نسعى جميعاً لبنائها. كما نوّه أيضاً إلى جهاتٍ مستفيدة تسعى لجرّ مكوّنات سهل نينوى ومنهم المسيحيين، إلى مشاريع لا نرغبُ فيها ولا تفيدنا . فالمسيحيون في واقع حالهم، لا علاقة لهم بالسياسات التي تتعامل مع مستقبل البلاد وهم لا يبغون غير السلام والعيش الكريم والتعاون مع جميع المكوّنات على أساس المواطنة والكفاءة. والخوف، كلّ الخوف أن تدخل هذه الهجمة الشرسة الأخيرة ضمن الفوضى العارمة التي يمرّ بها البلد والمنطقة عموماً وفق مخططات إقليمية وداخلية تريد تصفية المتبقي من بعض المكوّنات قليلة العدد ومنها المكوّن القومي المسيحي، لتصبّ في مصلحة جهة معينة تسعى لاستغلال الفرصة.
موقف الكنيسة الرسمي كان واضحاً في بيان أصدره رؤساء الطوائف المسيحية بصدد دوافع وآثار هذه الحملة المنظمة ضدّ رعاياهم في مدينة الموصل بالذات. هناك رفض قاطع لاحتواء المسيحيين في محميّة هزيلة تابعة لإقليم كردستان، كما يحاول نفرٌ من المغرّرِ بهم تصوير الأمر بهذه البساطة دون إمعانٍ في النتائج على واقع حال التواجد المسيحي التاريخي في كلِّ أرجاء أرض العراق من شماله إلى جنوبه كالخميرة في العجين. إن الإشارة الواردة إلى محاولة البعض حصر المسيحيين في ما أسماه البيان بالقفص، لهو الدليل القاطع على هشاشة مشروع ما يُسمّى بالمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري الذي يسعى بما أُتيح له من وسائل للضغط على أصحاب الأرض في سهل نينوى والقائمين على أحوال بعض الكنائس برموزهم الدينية والثقافية والوجاهية، لإقناعهم بتبنّي هذا المشروع الذي لن يخدم الوجود القومي المسيحي التاريخي على أرض آبائهم وأجدادهم في منطقة ما بين النهرين.
 ونرى في تنويه رئيس الوزراء نوري المالكي، خلال استقباله وفداً ضمّ عدداً من  رؤساء الطوائف المسيحية بمعية رئيس ديوان أوقاف المسيحيين حكايةً أخرى تؤكّد ما ذهبنا إليه. لقد كان كلامُه واضحاً عن وجود جهات سياسية تقف وراء استهداف المسيحيين من أجل تحقيق مكاسب سياسية، عادّاً ما حصل جزءاً من مخطَّطٍ سياسيّ مشبوه، وداعياً المسيحيين إلى الحذر من محاولة البعض استغلالهم. ولم يخفي المسؤول العراقي خلال لقائه السفير الفرنسي في العراق أيضاً، نية هذه الأطراف في تحقيق ابتزاز سياسيّ للوصول إلى هذا الغرض متوعّداً بالاقتصاص من فاعليها. كما كان تصريح الناطق الرسميّ باسم الحكومة العراقية واضحاً حين الإشارة إلى وجود مؤامرة ضدّ المسيحيين.  فيما يعزّز حديث رئيس البرلمان العراقي خلال لقائه الرسمي مع رئيس منظمة التضامن المسيحي ما ذهب إليه المسؤولان الحكوميان من كون ما حصل في الموصل كان عملية سياسية مقصودة.
 مدير العمليات في وزارة الداخلية العراقية، كان قد استبعد هو الآخر، أن يكون للقاعدة ضلعٌ في هذه الأحداث. أما إشارتُهُ إلى فرضية استغلال الهالة الإعلامية التي أوليت للأحداث في تهويل رقم العوائل النازحة، فقد كان بقصد إثارة المسيحيين في المدينة وترعيبهم من قبل الجهات المتورطة في العملية، والغرض منها بكل بساطة تحقيق مكاسب سياسية معينة وحمل هذه العوائل  لطلب الحماية البديلة من جهات لم يسمّها.
 المتحدّث باسم الفاتيكان فريديريكو لومباردي أشار في تصريحه الصحفي إلى تعرّض المسيحيين في الموصل إلى ما أسماه بحملة تهديدات منظّمة لدفعهم لتركها بعد أن كانت هذه المدينة حقلاً للتعايش السلمي بين الأديان والطوائف مستفهماً حول جدّية الحكومة في حماية هذا المكوّن التاريخي الديني والقومي.
أمّا أمين عام الجامعة العربية، فقد أعرب عن قلقه وتضامنه مع أبناء الطائفة المسيحية وتقديره لما تمثله من رموز  تعكس قسماً مهماً من تاريخ الحضارات العراقية.
 من جهته، عضوٌ في مجلس محافظة نينوى، أشار إلى أن استهداف المسيحيين في الموصل لم يكن لسبب دينيّ بقدر ما تبيّن أنه لأسباب سياسية وانتخابية في ضوء ما قد تحملُه الانتخابات القادمة لمجلس هذه المحافظة من مفاجأات قد تقلب موازين القوى فيها، ما من شأنه أن يثير قلق بعض الأطراف المتسيّدة على الساحة المحلية. ولم يأت قولُهُ هذا جزافاً، بل بناءً على معطياتٍ متوفرة على أرض الواقع كما عاشها شخصياً.
إذن كثيرٌ من الدلائل تشير إلى أن وراء الأكمة قوة أكبر من مجرّد مجموعات مسلحة صغيرة تقوم بمثل هذه الأعمال الإرهابية ولاسيّما الأخيرة منها التي تبرّأت منها بعض هذه المجاميع المسلحة في بياناتها، ومنها هيئة علماء المسلمين وعدد من تنظيمات المقاومة المعروفة. ومهما كان صدقُ هذه الأخيرة من عدمه، فقد دعت المسيحيين جميعاً إلى التمسك بحقهم وعدم إبداء الضعف في مواقفهم المعنوية والوطنية أمام مثل هذه المحاولات البائسة التي تسعى لإثارة الفوضى وإرباك الأوضاع لصالح بعض الأحزاب والكتل السايسية المرتبطة بالمحتلّ وأجندته. وهذا شعورٌ بحدِّ ذاته يدعو إلى وحدة الصف وضرورة التعايش السلمي بين جميع أبناء الوطن.
ما الحل؟
أمام هذه التحديات الخطيرة وهذه الموجة الظالمة ضدّ واحد من المكوّنات الأصيلة في نسيج الشعب العراقي المعروف بتسامحه وطبيعة حياته السلمية المبنية على محبة الوطن والآخر، ينبغي على عموم مكوّنات هذه المدينة الخالدة أن يفوّتوا الفرصة على الجهات المتورطة في هذه الجريمة النكراء، مهما كان مصدرها ومهما كانت طبيعة منفذيها ومموّليها والدافعين إلى تحقيقها. وعلى الحكومة العراقية وقواتها الأمنية بما فيها القوات المحلية تقع مسؤولية الحفاظ على أمن وحياة وممتلكات هذه الشريحة المهمة في نسيج الشعب العراقي، تماماً كما تحافظ فيه على حياة غيرها من المكوّنات الأخرى.
 إن استهداف المكوّن المسيحي القومي والديني معاً، يأتي دون شكّ، ضمن أجندة الصراعات الحامية بين الكتل السياسية الرئيسية التي تبحث عن مكاسب جديدة لتُضافَ إلى ما حقّقته كلٌّ منها منذ سقوط النظام السابق. وكلّ ما نستطيع قولَه أن الكرد و العرب  والمسيحيين من الكلدان والآثوريين والسريان والأرمن والشبك والإيزيديين والتركمان وغيرهم من باقي المكوّنات المتعايشة تاريخياً في هذه المحافظة، قد عاشوا معاً بسلام وتحابب وتفاهم مشترك منذ قرون ولم يجري تصعيد النعرات الطائفية أو الدينية أو العرقية أو المذهبية إلى الحدّ الذي وصلت إليه هذه المرة باللجوء إلى التهديد والقتل والتهجير. كما أنني أعتقد أن النزعة إلى الحكم الذاتي أو الإدارة اللامركزية، إن وُجدت هذه على بساطتها، والتي تتبنّاها جهات مدعومة بأجندات محليّة، ما يزال ينقصها النضوج السياسي ولا ترقى بعد إلى درجة الوعي المطلوب من الديمقراطية. ففي الديمقراطية دوماًً، ما يبرّرُ التخوّف من سياسات  مشبوهة من كلّ الذين يستغلّونها لأسباب بعيدة عن الصالح العام للمكوّن القومي أو الديني أو حتى على حساب الوطن. من هنا يكون التلاحم الوطني وتشجيع فكرة الالتزام بحقوق المواطنة كاملةً في دستور معدَّل هو الحلُّ الأمثل لكلّ هذه الإشكاليات. فالمسيحيون بطبيعة مكوّنهم الديني والقومي معاً، ليسوا طالبي سلطة أو جاه أو مال، بل حاملي شعار المحبة الذي أوصاهم به المسيح، محبة الوطن والجار والبشر مهما كان دينُه أو لونُه أو مذهبُه أو عرقُه من أجل بناء "حضارة المحبة"، بحسب البابا بندكتس السادس عشر. هذا الموقف التلاحمي المطلوب من جميع أبناء المدينة، كما ظهر جلياً في أصوات العشائر التي تناخت لوحدة الصف واستنكرت ما جرى علناً، لهو كفيلٌ بتفويت الفرصة على من يسعى لاستغلال هذه الظروف من أجل تحقيق مكاسب سياسية غير مشروعة أو ترك الحبل على الغارب للقاعدة وأتباعها والحاقدين التقليديين في المدينة أو الدفع في سبيل إحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة بالترويج لإلحاق ما يُسمّى بسهل نينوى بإقليم كردستان وتشجيع الأهالي على قبول هذه الفكرة من خلال الترغيب حيناً والترهيب حيناً آخر. وقد تم التنويه والتحذير من هذا المخطط منذ فترة طويلة وفي مناسبات عديدة، إلاّ أنّ جهاتٍ في مجالس محليّة ومجالس أعيان ومسؤولي كنائس ورجال دين ومثقفين مغرورين وعناصر من مكوّنات أخرى ما يزالون غير واعين للمخطَّط المشبوه الذي يُحاك لمناطق تواجدهم من خلف الكواليس دون دراية منهم. على هؤلاء تقع مسؤولية تاريخية، شرّها أكثر بكثير من المنافع الوقتية التي تُمنَحُ لهم طُعماً سائغاً. وهي ذاتها وأمثالُها تلك التي تقف اليوم سبباً وراء خطر انجرار المنطقة إلى هذا المخطّط المشبوه الذي تُتُّهم فيه دوماً  الجماعات الإرهابية وأعوان النظام السابق باعتبارهم أسهل شمّاعة لما يحدث عل الساحة.
 من هنا، نعيد التذكير بأن الجهد المطلوب لردع مثل هذه الأعمال ومنع تكرارها تبقى من مسؤولية الدولة والمحتل الغائبَين طيلة تلك الفترة في هذه المنطقة بالذات دون غيرها، وذلك من خلال فرض القانون والكشف عن الجهات التي تقف وراء هذه الجرائم والمخططات وتسمية الجهات المتورطة بمسمّياتها دون خجل أو مواربة أو مجاملة، إلاّ ألّلهمّ إن كان ذلك يصبُّ أساساً في مخططٍ تشترك فيه الدولة والحكومة بنظامها الحالي القائم مع حلفائها من الكتل السياسية الأخرى. ولو تمّ هذا الجهد الردعيّ بروحيّة المواطنة وبجدّية الأجهزة الأمنية المكلَّفة بالكشف عن الحقيقة، فإنها ستزيد من ثقة الشعب وستعزّز من الوحدة الوطنية. وحينها فقط، ستشعر سائر المكوّنات ومنها الأقليات بخاصة، أنها عنصرٌ أساسيٌّ في بناء العراق الشامخ، لها ما لغيرها من المكوّنات الأخرى من حقوق وواجبات على أساس المواطنة والكفاءة والأهلية في كلّ شيء. وهذا ما يستدعي إعادة النظر في شكل الحكم القائم حالياً وفق أسلوب المحاصصة المقيت الذي يسمح بمثل هذه التجاوزات ويستبعد الكفاءات وأصحاب الشهادات من تولّي ما يستحقونه من مواقع في الدولة ويسمح للمتطفلين والهامشيين بالتحكم في مصائر المواطنين بدعم من الكتل السياسية المتصارعة. أملنا أن يوضع حدٌّ لمثل هذه التجاوزات ويعود العراقيون مواطنين متساوين ومتعايشين على أساس المحبة والإيمان بالوحدة الوطنية. ولا ننسى أن مقياس السعادة  لدى أيّ شعب يُحسبُ من شكل التعايش السلمي القائم بين أفراده ومن خلال طبيعة الاستقرار الامني الناتج عن احترام الغالبية الحاكمة أو المكوّن الراجح في الحكم لسائر للمكوّنات الأقلّ منها عدداً.
لويس إقليمس
بغداد، في 16 تشرين ثاني 2008


400
نداء وخيبة أمل!

يرى مجلس الأقليات العراقية في القرار المجحف لمجلس النواب العراقي الأخير بتقليص عدد مقاعد الكوتا المقترحة من جانب ممثلية الأمم المتحدة للأقليات في انتخابات مجالس المحافظات، ترسيخاً آخر للنظرة الدونية لهذه المكوّنات الأصيلة واستصغاراً لدورها الطبيعي في أماكن تواجدها وموقفاً مشيناً بحق وطنيتها وكفاءتها واستحقاقها النوعي والعددي.
إننا إذ نضمّ أصواتنا إلى جانب المواقف المشرّفة للنواب ممثلي هذه الأقليات في البرلمان، لا يسعنا إلاّ الوقوف إلى جانبهم في المطالبة بنقض هذا القرار الظالم الذي لا ينطوي على احترام لحجم التمثيل الصحيح المقترح لهذه المكوّنات. إننا إذ ننظر بعين الريبة حول الدوافع السياسية التي حملت البعض للتصويت ضدّ المقترحات المعدَّلة للقانون المذكور، لا يسعنا إلاّ أن نؤكد صحة ما يُرتكب بحقهم من أجل إسكات صوتهم وإذابة حقوقهم المواطنية الكاملة عبر تعذّر  مشاركتهم الحقيقية في العملية السياسية عموماً وفي مجالس المحافظات بخاصة  بسبب سيطرة  قوى فئوية فيها تسعى بكل وسائلها لإقصاء وتهميش هذه الأقليات في كل خطواتها. إن الهواجس الواهية وغير مكتفية الأركان التي تحاول بعض القوى داخل البرلمان ومنها قوى 22 تموز الاستناد إليها في رفضها الأخير لمقترحات الأمم المتحدة المعدّلة لصالح هذه الأقليات لا تعدو كونها عذراً آخر من أجل الاستئثار بالسلطة  وثقافة مرفوضة  للإقصاء والتهميش والتغييب عن سابق إصرار عبر لعبة سياسية مكشوفة وصفقات متبادلة رغم تباكي بعضها علناً على ما يجري.
إن مجلس الأقليات العراقية إذ يعدُّ هذا القرار الأخير بمثابة خيبة أملٍ أخرى في إمكانية وضع الديمقراطية في مسارها الصحيح حيث إن هذه الأخيرة تعني في ما تعنيه احترام الآخر والقبول به وإتاحة الفرصة المناسبة لمشاركته في العملية السياسية الجارية برمّتها. كما أنه يدعو كافة الأطراف المعنية إلى تعلّم الدرس من نتيجة انتخاب مهاجر قادم من بلد أفريقي فقير لرئاسة أكبر قطب عالمي يسود العالم، أميركا، و إلى اتخاذ انتخابه خير نموذج  لتطبيق الديمقراطية الحقيقية. فكيف يسهلُ على ساسة العراق الجدد استبعاد  أصحاب الدار الأصلاء وهم من أشدّ الحريصين على وحدة التراب والماء والهواء، واستصغار السكان الأصليين لبلاد ما بين النهرين وهم بناة أكبر الحضارات في العالم وأروعها؟
إننا ندعو الأطراف المعنية مرة أخرى لتصفية نياتها حيال طروحات واستحقاقات جميع الأقليات دون حساسية وبعيداً عن أية تشنجات فئوية أو قومية أو دينية ضيقة خدمةً للوطن وترسيخاً لمبادئ الوحدة الوطنية ومن أجل ازدهار جميع مكوّناته والعودة الآمنة إلى سبل التآخي والتعايش السلمي والتكافل الاجتماعي.

مجلس الأقليات العراقية
مكتب العلاقات والإعلام
بغداد، في 5 تشرين ثاني 2008

401
صرخة استغاثة لحماية المسيحيين


يناشد مجلس الأقليات العراقية الحكومة العراقية والرئاسات الثلاث وقوات الجيش والشرطة الوطنية ومعهم قوات التحالف باتخاذ إجراءات عاجلة واستثنائية من أجل حماية المسيحيين أصحاب الأرض الأصليين في مدينة الموصل الحدباء. كما نناشد إخوتنا الموصلّيين الشرفاء ومثقفيها والعشائر والعائلات المسالمة فيها من أجل المساهمة في حقن دماء إخوتهم المسيحيين، جيرانهم وأبناء بلدتهم التي تقاسموا فيها معاً الحلو والمرّ وتسامروا وتحابوا في أجواء من المحبة وصفاء النيات والقلوب. إن ما يجري في هذه المدينة العريقة لا ولن يخدم أحداً سوى الأيادي القذرة الخارجية التي تريد العبث بمقدّرات أبنائها من كافة القوميات والأديان والطوائف و لاسيّما المكوّنات القومية والدينية قليلة العدد منها، وذلك في محاولة لتصفية ما تبقى منها على أرض الآباء والأجداد منذ قديم الأزمان.
إن هذا المخطط المشبوه الذي ظهر واضحاً للعيان في إقرار الكتل، التي كانت تدّعي حماية الأقليات والمسيحيين منهم على وجه الخصوص، إلغاء المادة 50 من قانون انتخاب مجالس المحافظات التي يُفترض فيها مشاركةً حقيقية وفاعلة في العملية السياسية وفي المصالحة الوطنية، لا يحتاج إلى براهين وأدلّة بقدر ما  يكون دقّ ناقوس الخطر. كما أن هذا الحادث بتداعياته وملابساته هو بمثابة نداء عاجل لاستصراخ ما تبقى من ذوي الضمائر الوطنية لفعل ما يمكنهم من أجل وضع حدّ لهذه المأساة التي طالت جميع الأقليات في المنطقة من المسيحيين عامة والشبك والأيزيديين والتركمان وعلى مراحل، حيث سبقها جرائم مماثلة بحق أقليات أخرى في مناطق عديدة من الوطن ومنهم الكورد الفيليين والصابئة إضافة للمكوّنات المذكورة أعلاه.
إننا ندعو أبناء الأقليات لاتخاذ الحيطة والحذر من مغبة استدراجهم للدخول في مشاريع فئوية ضيقة لا نريدها ولا نباركها، لأنها لا تخدم سوى اللاهثين وراء اقتناص المنافع الوقتية التي لا ولن تنفع، حين تأذن الساعة ويُقتلع كلُّ ما ومَن يشير من قريب أو بعيد أو يطالب بحقوق مكوّنه. ولنا في ذلك صولات  وجولات ومواعيد عرقوبية وخيبات أمل لا حدّ لها ولا حصر.
إننا نطالب الحكومة العراقية ورئاسة الجمهورية التي تعهدت لقداسة البابا بندكتس السادس عشر في لقاءات قدسية أن تفي بوعودها بحماية العراقيين جميعاً ومنهم على وجه الخصوص المسيحيّين الذين هم يعطّرون حديقة العراق الوارفة بأزهارها الجميلة. فلا تدعوا أحداً يدنّس هذه الحديقة الجميلة ويقطف ورودها الزاهرة. فكلُّنا معاً نكوّن العراق ونبنيه ونرفع راياته الشماء رغم أنف الأعداء والمنتفعين التشظويين الذين يسعون لتجزئته واستقطاع مناطق من هنا وهناك لغايات في نفس عيسو. ولن يكون النصر إلاّ لحماة وحدته وبناة مؤسساته وتطوير قدراته وترسيخ سبل المحبة والتسامح والتكافل  بين أبنائه.
معاً ستنتصر إرادة الحق ويعود أبناء العراق إلى أرض آبائهم وأجدادهم وسيندحر الغرباء ويتراجع المنتفعون بفعل الظروف الاستثنائية، وتعود مدينة الموصل إلى ربيعها النظر بكافة فسيفساء نسيجها المتألق، ومنهم المسيحيون الذين تتوجب لهم حقوقٌ كبيرة وكثيرة بشهادة الجميع.  إنه السميع المجيب.
مجلس الأقليات العراقية
بغداد، في 10 تشرين لأول 2008

402
مجلس الأقليات العراقية
بغداد- العراق

بيـــــان
       يشجب مجلس الأقليات العراقية بمكوّناته السبعة الأساسية الأصيلة في النسيج العراقي المتآخي، الغبنَ الكبير والمتعمّد بحجب مقاعد الكوتا المطلوبة "مرحلياً"، بموجب المادة 50 من قانون انتخاب مجالس المحافظات. إننا نعتقد بأن هذا القانون قد تم تمريره تحت ضغوط سياسية يٌراد بها غصبُ بعض الكتل الفئوية النافذة حقوقَ هذه الأقليات في تمثيل أبنائها بصورة حقيقية. وفي الوقت الذي نستهجن فيه أيضاً، ما أمكنَ تسميتُه بتحقيق النصر عند بعض الفئات المتبخترة بحذف هذه الفقرة في هذا القانون مثير للجدل، فإننا ندعو كافة المعنيين والجهات الساندة لحقوق الأقليات، بضمنها ممثلية الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي، وفرنسا بالذات التي ترأس دورته الحالية وكذلك الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، للتفاعل ضد هذا الظلم الفاضح والضغط على اللاعبين النافذين في العملية السياسية، ومنهم أميركا التي نستهجن مباركتَها لهذا القنون دون مراعاة لشعور أبناء الأقليات وحقهم في تمثيل جماعاتهم وفق منظور المشاركة الوطنية الكاملة في بناء الوطن وحرية المواطن.
إن العملية السياسية العرجاء الجارية حالياً بغياب الممثلين الحقيقيين للقوميات والأديان قليلة العدد نسبياً، من شأنها خرق كافة الأعراف الوطنية الصائبة وفتح شرخ جديد آخر يقيم لدكتاتورية من نوع جديد في عراقٍ، ادّعى الجميعُ الخلاصَ فيه من دكتاتورية الحزب الواحد والحزب القائد. إن ما يجري اليوم على يد اللاعبين النافذين في الكتل المهيمنة على مال وحلال وسياسة البلاد والعباد، لا يمكن السكوت عنه، طالبين من مجلس النواب الموقر إعادة النظر فيه بشئ من العقلانية مع تواجد النيات المخلصة بضمان مشاركة حقيقية في العملية السياسية  القائمة قيدَ النموّ والتطور والاختبار. كما ندعو مجلس الرئاسة الموقر لوقفة وطنية مشرّفة بنقض هذا القانون وإعادة الحق لطالبيه وسط نداءات وطنية كثيرة.
ونحن نقول ونؤكد مراراً وتكراراً، أن المرحلة الراهنة بحساسية الوضع القائم، تقتضي إنصاف هذه المكوّنات ريثما تستتب الأوضاع وتتضح معالم الديمقراطية الحقيقية عندما يدرك جميعُ المواطنين أهميتَها وضرورتَها في بناء وطنهم الجريح. وعند ذاك، لن ينفعَ بناءَ هذا الوطن غيرُ المشروعِ الوطني المتكامل الذي فيه يمارسُ كلُ مواطن عراقي حريتَه في اختيار ممثليه، ليس على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية أو فئوية وتحت ضغوط واضحة، بل على أساس المواقف الوطنية المشرّفة والكفاءة العلمية والأهلية السياسية والإدارية والمهنية فحسب.
عراقُنا الموحدُ الواحد، لن يبنيه غيرُ أهله وأبنائه المخلصين وليس المنتفعون المرحليون الجادّون في تجزئته وإضعافه بشتى الوسائل، ومنها إبعادُ وإقصاءُ المكوّنات الدينية والقومية قليلة العدد نسبياً، من حقها في المشاركة الفاعلة في العملية السياسية وفي تركيبة المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

مجلس الأقليات العراقية
بغداد، في 1 تشرين أول 2008

403
المسيحيون في العراق: واقع الحال والمستقبل

     إن من يتحرّى فيما آلت إليه أوضاع المكوّنات الصغيرة عموماً، الدينية منها والإتنية (التي اصطلحنا على تسميتها بالأقليات اضطراراً بسبب تهميشها وتغييبها ومصادرة حقوقها في الحكومات الطائفية المتعاقبة منذ التغييرات الدراماتيكية الأخيرة)، فإنه بلا شكّ، سوف يتبادرُ إلى ذهنه وجود مخطط غيرِ مسبوق يرمي إلى إفراغ العراق خاصة والمنطقة عامةً من وجود هذه الأقليات من خلال محاولة دمجها أو تذويبها في قوميات أكبر، نافذة على الساحة. وللمسيحيين، كما يبدو حصةٌ وبامتياز، في هذا المخطط الذي كانت قد بدأت بوادرُه بالظهور في السنوات الأخيرة، محلياً وإقليمياً ودولياً. وفي الحقيقة، فإنّ ما يجري في العراق اليوم، ليس بمعزلٍ عمّا يتكرّرُ في فلسطين و لبنان بالذات، بوسائل وطرق وأيادي متعددة. و قد تُعزى ذاتُ الأسباب إلى شرائح أخرى تعاني محلياً، من ذات النهج التصفوي كالإيزيدية والصابئة المندائيين والشبك وغيرهم من الذين لم يسلموا من أعمال العنف المنهجي في مناطق تواجدهم الأصلية، ما جعل بعضَهم عرضةً للانقراض و غيرَهم هدفاً لتحقيق هذا المخطّط الخطير  من خلال زرع الانشقاقات في أوساطهم. والنتيجة كانت تعرُّضهم إلى حالة بائسة من التشرذم والانقسام الداخلي بحسب الولاءات وتأثيرات الجهات الضاغطة والمتعددة.
 من هنا، ومع توالي الأحداث المؤلمة أحياناً والكارثية في الكثير منها، ومع اشتداد وطأة الضغوط على هذه المكوّنات القليلة العدد نسبياً، والأصيلة منها بخاصة في النسيج العراقي ومنهم المسيحيين بالذات، كان لابدّ من مراجعة وافية ووقفة تبصّر حول ما يجري على الساحة السياسية. وهذا ما لمسناه قولاً وكلمةً في الأقلّ، لدى العديد من أبناء شعبنا الغيارى بكافة شرائحه، من صحوة إزاء مجريات الأحداث ومن تأكيد وحرص على ضرورة ديمومة الوجود المسيحي ومعالجة نقاط الخلل فيه. كما رُصدت بين الفينة والأخرى، دعوات عقلانية تدعو للعمل على تنقية الأجواء بين المختلفين والانصراف، بدل المهاترات الفارغة التي لا نفع منها، إلى توحيد الصف من أجل تنمية آفاق مناطقنا المهملة و إفاضة الاهتمام بمصالح شعبنا العليا وترميم المهلهلِ فيها بعد سحابة السنين العجاف التي نالت منه مآسي الأحداث بشدة، ولاسيّما طيلة السنوات الخمس المنصرمة بعد التغيير. وإني أعتقد جازماً، أنه من أجل تحقيق هذا المطلب، لابدّ من تنازلات من جميع الأطراف من خلال فتح حوارات متصلة مع الأحداث حول الوسائل التي من شأنها المساعدة في توحيد الخطاب السياسي "والقومي" للمسيحيين عامة بكافة تسمياتهم "القومية" والكنسية وعدم حصر ذلك في مسمّى "قوميّ" ثلاثيّ ضيّق لم يقوَ على الصمود بسبب هشاشة تركيبته الغريبة منذ انطلاقته. ولعلّ مبادرةً جديدة وصادقة لعقد مؤتمر مسيحي جامع  لكافة المسمّيات من أجل تصحيح الثغرات التي شابت المؤتمر القومي الأول في 2003، من شأنها حلّ العديد من الإشكالات وترميم سوء الفهم في التوجهات والمطالب، سيّما لو اقترن ذلك برسم استراتيجية جديدة لهذا المكوّن الأصيل بعد ثبوت فشل معظم التنظيمات في جمع أبناء شعبنا على كلمة واحدة وفي تسمية موحدة تؤهله لفرض مطالبه حزمةً قويةً و غير مشتتة.
 وكلّنا أملٌ أن تتناغم   هذه الاستراتيجية الجديدة المرتقبة، مع التوجه العام للأفكار والأمنيات المواطنية المتصاعدة في عموم البلاد والمطالِبة في معظمها بالعودة إلى المشروع الوطني الجامع لعموم أبناء الشعب في دولة مؤسسات ديمقراطية مدنية، بغض النظر عن القومية أو الدين أو المذهب. وبدون هذا التوجه الوطني الصحيح،  لن تجني المكوّنات الأصيلة قليلة العدد على المدى القريب أو البعيد، ثماراً تُذكر و على جميع الأصعدة، بسبب إصرار الحيتان الكبيرة على بقائها هامشيةً وخارج المطبخ السياسي الذي يسيطرُ عليه مثلث متصارع على السلطة والجاه والمال. وطالما بقيت بنودٌ في الدستور تنص و تشير صراحةً إلى مبدأ الفرز الفئوي والتعالي الطائفي و التأكيد المذهبي التي تجسّدها المحاصصة الحكومية والسياسية القائمة حالياً والتي يصرُّ عليها هذا المثلث المتسلّط غير العابئٍ بالمصلحة العليا للوطن، فإن هذه الأقليات "القومية" والدينية، ومنها نحن المسيحيين بكافة تسمياتنا، سوف نواصل جهودنا معاً، محلياً وإقليمياً ودولياً، من أجل رصد هذه الانتهاكات و الاستمرار في المطالبة بكافة حقوقنا الوطنية، كاملةً غير منقوصة، أسوة بمن يدّعي السيادة الحصرية دون غيره.
 ونحن نعتقد أن تياراً وطنيًاّ حرًاّ واضح المعالم  قد بدأ بالظهور في أوساط العامة من أبناء شعبنا ليأتي متناغماً مع التوجه العلمانيّ العام والدعوات المتزايدة التي بدأت بالظهور علناً في تصريحات بعض الكتل السياسية القائمة على الساحة، لاسيّما بعد خيبة أمل الشارع العراقي عامة، من مشاريع الكتل النافذة التي تحاول الاستمرار في نهجها بتسييس الدين و تكريس الأفكار القومية و الفئوية والطائفية والمذهبية الضيقة التي يرفضها مجتمع متعدد الأعراق والأديان والمذاهب. فالدين لله والوطن يبقى  للجميع.

المسيحيون: واقع أليم ومصير مجهول!
      لقد كان للمسيحيين عموماً كما أسلفنا أعلاه، بكافة تسمياتهم وانتماءاتهم القومية والكنسية، حصةٌ وافية من مجمل أعمال العنف التي طالت عموم الشعب العراقي، وذلك لاعتبارات عديدة أهمُّها:
-   النظرة الدونيّة المشفوعة بالغيرة السلبية لدى جهات فئوية متخلفة عن الركب الحضاري إزاء  تميّز هذا المكوِّن الأصيل عن غيره في مزايا عديدة منها، حب الوطن وأرضه وإيثارُهم مصلحته العليا على ما سواها بسبب إيمانهم بمبدأ الولاء له قبل كل شيء، ومن ثمَّ عدم مقدرة بعض هذه الفئات من مجاراة هذا المكوّن المتمدّن عصرياً في سلوكه الاجتماعي والثقافي وكذلك في نبذ أتباعه المسالمين لكل أشكال العنف والمماحكات.
-   رفض الكثير من المسيحيين الانصياع أو المساومة على حساب المبادئ والمصالح العامة لدينهم أو"قوميتهم" مهما كان نوعها، ما جعلهم هدفاً للانتقام أو التصفية في حالة نشوب خلاف في الرؤى والتوجهات المصيرية.
-    عدم استساغة بعضُ ضعافِ النفوس كفاءةََ الكوادر المسيحية ونجاحَها في أي ميدان عملٍ تدخلُه أو أية  مسؤولية تُناطُ  بهم بسبب إخلاصهم المعروف في العمل والحرص على إنجازه، ما عرّضهم للتهديد أحياناً أو إرغامهم على تفادي قبول بعض الوظائف خوفاً من المجهول أو ترك العمل لهذه الأسباب أو غيرها.
-   و الأهم من ذلك كلِّه بسبب اختلافهم في الدين مع غالبية الشعب العراقي لاسيّما بعد أن أصبح العراق مؤخراً، مرتعاً وساحةً مفتوحة لنشر ثقافة العنف والقهر الديني  وتصديرهما، بل والتباهي في المزايدات على الدين وأصوله. ومن الجدير ذكره،  أن شرائح كثيرة مثقفة ومعتدلة في عموم الشعب العراقي تدين مثل هذه الأعمال غير الحضارية وغير الإنسانية وتستهجنها ولا تقبل بها لكونها خارجة عن قواعد الدين الحنيف و عن السلوك العام الذي تفرضه المواطنة الصالحة التي تؤمن بكفاءة الفرد ميزاناً في سلّم الترقية والتقييم  في مجتمع متآلف ومتعدّد الأعراق والأديان والثقافات.

صحيحٌ أن المسيحيين يقعون ضمن المكوّنات المستضعفة قليلة الحيلة. أي بمعنى آخر، هم يشكلون اليوم، الحلقة الأكثر ضعفاً في المعادلة السياسية في هذا البلد الغارق في ظلام العنف الطائفي والفئوي المقيت، بسبب عدم امتلاكهم أياً من مظاهر القوة والحماية الذاتية التي يتمتع بها غيرُهم من المكوّنات الأخرى، لاسيّما المتسلطة منها والمتمثلة بمعظمها بالجماعات المسلحة والميليشيات التي ما تزال بقاياها تسرح وتمرح في الشارع العراقي  رغم الحملات المتواصلة لقمعها ومحاولة استئصالها، ذلك لأن معظمها وبكل بساطة، تأتمر في الكثير من الأحيان، بأوامر من في السلطة التي تنتمي إليها طائفياً أو مذهبياً أو حزبياً أو تتبعها لغير هذه الأسباب أو تلك. إنّ المسيحيين عموماً، شعب مسالمٌ ومتمدّنٌ و متميّزٌ في كلّ شيء، في وطنيتهم ووفائهم وحيويتهم وثقافتهم وتراثهم وعاداتهم وأسلوب حياتهم العصري. ومع ذلك، فقد تعرّضوا في السنوات الأخيرة أكثر من غيرهم، إلى هجماتٍ شرسة ومحاولاتٍ يائسة للنيل من وجودهم التاريخي الأصيل لاسيّما، في مناطق تواجدهم. ولعلَّ تنامي روح التشدّد والغلوّ التكفيري التي سادت العديد من المناطق الساخنة في المنطقة والعالم ومنها العراق طبعاً، قد ساهمت بطريقة أو بأخرى، في تحفيز عدد من المتصيّدين في الماء العكر، لتنفيذ أجندات مصدَّرة بحق أبناء شعبنا من خلال عدَّهم لقمةً سائغة لتنفيذ مآربهم غير الحضارية والقفز على الأحداث سعياً وراء تحجيمهم أو حتى إنهاء وجودهم بكل ما أوتيت لهؤلاء من وسائل سلطوية ومعنوية وقسرية بحيث أصابتهم حدَّ العظم. وقد تكون تلك الموجة التي طالت  المسيحيين بخاصة خلال الأشهر الأخيرة، جاءت ضمن مطبخٍ سياسيّ  رُتّبت لهُ روزنامتُه هو الآخر، والتي كان يتحرّك منفذوها المنتمون إلى مافيا الرعب والقهر والترهيب  والترغيب، بموجب سيناريو مرسومِ، لاسيّما بعد اشتداد  وتيرة التهجير طيلة السنوات الخمس المنصرمة، من مناطق محددة ورئيسية مثل البصرة جنوباً وبغداد وسطاً والموصل شمالاً. كما لوحظت محاولات مقصودة ترمي إلى زعزعة تواجدِ أبناء شعبنا المسيحي في القرى والقصبات التي عاشوا فيها وعلى أرضها إرثاً محرّراً بالدم عن سالف الأجداد منذ أكثر من سبعة آلاف سنةٍ في بلاد آشور ونينوى وكالح وبابل.
 ولنا هنا حق التساؤل، أهذه يا تُرى أيضاً، تقع ضمن طبخة الخريطة الجديدة التي تسعى قوى القهر والظلام رسمَها من أجل تغيير ديمغرافية المنطقة؟ تُرى، ما هو الموقف الدولي من هذه المشاريع عموماً؟ و ما موقف الساسة الجدد في الداخل حيال هذه الانتهاكات الخطيرة لحقوق شعوبٍ أصيلة في النسيج الاجتماعي التي لم تعرف يوماً التقصير في واجباتها وانتمائها الوطني والإنساني؟ وما هي الكلمة التي تقولها القيادات السياسية المسيحية، لاسيّما "القومية" منها، التي توزعت في اتجاهاتها  وولاءاتها الحزبية  وتنظيماتها الانكفائيةِ الآراء، والتي لا ترقى العديد منها إلى ثقافة سياسية منهجية أو إيديولوجية واضحة، ومع ذلك فهي تصرُّ على تسميتها أحزاباً؟ وما رأي الرئاسات الكنسية التي تربعت كلٌّ منها في برجها العاجي وراحت تتخبط بعضُها وتخلط الأوراق وتميلُ كما تميلُ الرياح يمنةً ويسرةً  حسب الجهات المموّلة، فتراوحت قناعاتُها هي الأخرى،  بين متفرّج ومتوثبٍ ومنتهزٍ للفرص دون أن تساهم جدّياً بوسائلها المتعارفة من أجل تقريب وجهات النظر أو أن تسعى ولو حيادياً في المساعدة للمّ ما يمكنها ذلك، بعد تشظية جهود أبناء طوائفها بفعل غياب الروح الوحدوية التي أرادهم بها المسيح قطيعاً واحداً براعٍ واحد؟
من هنا، فإنَّ الفاجعة الكبيرة الأخيرة التي حلّت قبل أشهر، على مكوِّننا المسيحي، باختطاف المثلث الرحمة المطران بولص فرج رحو ، أحد الرموز المسالمة ومن الدعاة الوطنيين لبناء وحدة العراق وتضامنه والرافض لكل أشكال الفصل والتمييز والترهيب والمساومة، وقتلِه بطريقة لا إنسانية من قبل جماعة مسلحة مجهولة، ليس بعيداً عن مرأى أجهزة الأمن والدولة والأحزاب النافذة في مدينة الموصل الحدباء - الغارقة لحدّ اليوم في سواد القهر والقتل والإرهاب- تأتي ضمن ذات المخطط لتعطيل دور المسيحيين وحملهم قسراً على الاستنجاد بمن يدّعي توفير الحماية اللازمة لهم واحتواءَهم في مناطقَ أكثر أمناً. لقد سبق هذه الجريمة النكراء،عملياتُ خطفٍ مماثلة  لرئيس طائفة مسيحية أخرى في ذات المدينة وقتلٍ لكاهنين بريئين واغتيال كاهن آخر من أمام داره في وسط بغداد، إلى جانب استشهاد عددٍ غير قليل  من أبناء عموم الطوائف المسيحية واختطاف غيرهم وفديتهم بمبالغ مالية كبيرة، جزيةًً مفروضةًً حقداً وبهتاناً.
إن هذه الأحداث المأساوية الأخيرة قد أفرزت جملةً من الحقائق والإخفاقات في أحداث ما بعد تغييرات 9 نيسان 2003، ممّا يستدعي مراجعةً وافية من أهلنا في الداخل، مؤسساتٍ كنسية وأحزاباً وجمعياتٍ وتنظيماتٍ، وتضامناً دولياً من أجل وضع حدٍّ لمثل هذه الانتهاكات الصريحة. والأهم من ذلك كلّه، الضغط على أركان الحكومة العراقية رئاسةً وبرلماناً من أجل حمل الكتل السياسية المتصارعة على السلطة على تغيير خطابها تجاه الأقليات الدينية والعرقية حصراً، ومنهم المسيحيين بصورة خاصة كي ينعموا مثل غيرهم بحقهم الوطني الكامل في  المشاركة في القرار السياسي وفي المناصب والوظائف المختلفة دون تمييز، ليس منّةً من أحد بل لأن الشرع و الدستور وكل الأعراف تكفلُ لهم مثل هذا الحق المشروع المغَيَّب قسراً، رغم ما في هذا الدستور من قصور بسبب التوجّه الفئوى والطائفي الذي كُتب به. ويبقى المسيحيون بشهادة الكثيرين،  زينة المجتمع العراقي والمنطقة عموماً في حلّهم وترحالهم و قدوتهم وأخلاقهم وجيرتهم الطيبة وفي تفاعلهم وتناغمهم مع كل الشرائح المتآلفة تاريخياً منذ عصور.   

الحكم الذاتي، مشروع غامض بآفاق ضيقة
كثر الكلام مؤخراً عن مشروع للحكم الذاتي، كما صفق له الكثيرون دون أن يعوا طبيعته تماماً والمقصود به أو معرفة  مصدر إطلاقه ومن ثمّ الجهات التي تحاولُ مؤخراً تسييسَه ضمن السياق العام لمجريات الأحداث إلى جانب غيره من المشاريع المطروحة بأجنداتها المختلفة المصادر والتمويل. لقد تجاهل دعاةُ هذا المشروع أو تناسوا علاقة الجيرة والتداخل الديمغرافي بين مختلف المكوّنات العرقية المتعايشة منذ مئات السنين بل منذ آلاف السنين لاسيّما في منطقة ما يُسمّى بسهل نينوى التاريخية. كما أن شكل هذا الحكم الذاتي المطروح حالياً " للترغيب" أو ب"الترهيب"، لا يبدو منطقيا من الناحية العملية واللوجستية. فهل سيُصار إلى استقطاع مواقع تواجد المسيحيين المتناثرة هنا وهناك والمتداخلة مع مواقع المكوّنات الشقيقة الأخرى  وإلحاقها بهذا التشكيل فحسب؟ ذلك لأن المنطق يقول بغير ذلك. فالقرى والقصبات المسيحية في هذا السهل بين دجلة والزاب، متداخلة مع مثيلاتها من القرى الأيزيدية والشبكية والتركمانية والكردية والعربية على السواء. إلاّ اللّهم إذا كانت الفكرة تقضي تماماً بضمّ سهل نينوى بأجمعه إلى إقليم كردستان العراق ضمن صفقة سياسية معينة. وهنا أيضاً كيف سيكون شكل هذا الحكم الذاتي المزعوم داخل إدارة الإقليم المذكور؟ وهل إنّ دستور كردستان كفيلٌ بتأمين مصالح واستقلالية هذا الشكل الإداري المفترَض؟ أسئلة كثيرة بحاجة إلى أجوبة وافية ومقنعة لأنها تعني مستقبل شعبٍ وأمةٍ تعايشت مع جيرانٍ كُثُرٍ متنوعين دينياً وعرقياً وتاريخياً وجغرافياً وحضارياً واجتماعياً منذ آلاف السنين.
إنَّنا نعتقد أنَّ ما يُحاك اليوم، للمسيحيّين عامة بكافة تسمياتهم وطوائفهم، للإيقاع بهم في ورطة كبيرة بمحاولة حصرهم في مناطق تواجدهم التاريخية ضمن محميّة مبهمة الشكل والفحوى (كما يطالب البعض شططاً) لتكون لهم قبراً أبدياً، تأتي ضمن ذات النهج وذات السعي في وضعهم بين مطرقة العرب من جهة وسندان الكورد من الجهة الأخرى أو تخييرهم بالهجرة ومغادرة الوطن الغالي إلى ديار الغربة المريرة  حفاظاً على سلامتهم، كما يُشاع. وهذا لم يعد خافياً على كل رقيبٍ عاقل ومّطلعٍ قريبٍ للأحداث. إننا نعتقد أيضاً، ونرجو أن نكون مخطئين، أن المشروع المذكور الذي ينادي به اليوم، نفرٌ من أبناء شعبنا بذرائع عديدة ويُحشّدون له بوسائل كثيرة، ترغيبيةً كانت أم ترهيبية،، ليس بحلٍّ فريدٍ للمشكلة. كما أن هذا المشروع غير الناضج لا ولن يقدّم حلولاً سحرية لمآسي أبناء شعبنا المستهدفين في كلّ شيء، في دينهم وتسمياتهم التشظوية وثقافتهم وحقوقهم وعاداتهم ووطنيتهم وولائهم ومصداقيتهم، وبمعنى آخر في سرِّ وجودهم وكيانهم على أرض آبائهم وأجدادهم. كما لا يمكن أن يكون هذا المطلب البتة، بديلاً لبناء مشروع وطنيٍّ صحيحٍ ومقبولٍ من الجميع، يستندُ إلى مبدأ المواطنة الصالحة والكفاءة في العمل والولاء المطلق للوطن أولاً وقبل كل شيء. لذا، يبقى التشبثُ بسيادة القانون من خلال دستور وطني، متزن و جامع يحفظ حقوق الجميع وفق مبدأ المساواة والعدالة بين جميع الأطياف، بغض النظر عن الدين أو العرق أو المذهب أو اللغة أو الثقافة أو الفكر، هو السبيلُ الأمثل لبناء عراق ديمقراطي متحضّر بمؤسساتٍ دستوريةٍ مدنية ووطنية لا طائفية أو فئوية أو مذهبية، كما هي عليه الحال.
 لقد عاش المسيحيون سحابة السنين الغوابر في كل أرض الرافدين وجالوا في كل شبر من ترابه وبنوا حضارته طوبةً على طوبةٍ مع غيرهم من المكوّنات الأخرى في أجواءٍ من الأخوّة والألفة والمحبة والتسامح دون امتعاض أو قهر أو غلوّ يُذكر إلاّ ما ندر. فكيف بالساسة الجدد ورجال الفكر والدين، قبولاً لمثل هذا المخطط المشبوه بصيغته الحالية والذي بسببه، سيتشظى ويتفتّت ما تبقى من لحمة نسيج هذا البلد الذي كان يوماً مهداً لحضارات أمدّت البشرية كلّها بالعلم والدين والفنون والقانون؟
من هنا يبقى تصوّرُنا لهذا المشروع "القومي" الساخن منسجماً مع توجّهٍ وطنيّ حرّ عتيد يتم الإعداد له بعناية ليأتي منسجماً مع تطلعات جميع المكوّنات المتآخية والمتواجدة في هذه الرقعة الجغرافية منذ القدم. كما إن نوع هذا الحكم الذاتي، أو بالأحرى هذه الإدارة اللامركزية التي  ينبغي السعي إلى تحقيقها في مناطق تواجدنا ليس الهدف منها الانسلاخ عن المركز، بقدر ما تعني مساعدة الحكومة المركزية في تفهّم حاجات ومشاكل أبناء شعبنا الذين هم أدرى بشعاب مناطقهم وحاجاتهم اليومية والمدنية التي كادت تغيبُ عنها يد الإعمار والخدمات بسبب النظرة الدونية والعنصرية إليها أو بسبب الروح البيروقراطية للإدارات المحلية التي تنتقص أساساً من طبيعة المكوّن القومي والديني لبعض الأطياف من الأقليات. كما أن مسألة ربط هذه الإدارة اللامركزية أو هذا النظام من الحكم الذاتي بحكومة مركزية قوية، من شأنه أن يعطي أبعاده الديمقراطية والوطنية على المدى المتوسط والبعيد. أمّا النظرة قصيرة الأمد، وهذا ما يتحفّزَ ويتشجّع له العديدون عفوياً في هذه الظروف القائمة، فمن شأنها خلق فجوة بين أبناء شعبنا المنتشر في عموم الوطن مع عموم جيراننا من مختلف الطوائف والكيانات.
  لقد سرّني حقاً، ما تلقيتُهُ وسمعتُهُ شخصياً مؤخراً من قيادات وطنية ومسيحية نافذة في سهل نينوى وفي إقليم كردستان بالذات بشخص الأستاذ الفاضل سركيس آغاجان في صدد هذا المشروع المصيري المطروح بشدة، من دعوات مبشّرة للحفاظ على كياننا المسيحي من التشرذم، وعلى ضرورة بقاء ارتباطه بالحكومة المركزية وليس بأية جهة أخرى، ضماناً لنجاح إدارته المرتقبة وحفاظاً على استقلالية قراره وصيانة مكتسباته من أية تأثيرات جانبية، سياسيةٍ كانت أم كنسية أم محلية. وهذا الكلام الواضح المنقول مباشرةً عن لسان واحد من أهمّ رموز شعبنا المسيحي في كردستان، لو ثبتت مصداقيتُهُ، فإنهُ يثلج الصدور ويستحق الثناء والتمحور حولًهُ ودعمَهُ. وبإضافة هذه الرؤية السديدة إلى تأكيدات وتصريحات زعامات وشخصيات وطنية ومسيحية وكنسية واعية أخرى تلتقي على ذات المبدأ وذات الهدف ( ربما مع اختلاف الوسائل فحسب)، يمكن الحصول بالتالي على صيغة مقبولة لهذه الإدارة المرتقبة بعد دراستها معاً من جميع الجوانب. وهذه أيضاً تبقى قابلة للنقاش والمراجعة الوافية والحوار المتأنّي، من جميع المهتمين على اختلاف تسمياتهم وتشكيلاتهم الدينية و "القومية" من أجل سدّ الطريق أمام المزايدين والمتاجرين بمصيرهم.
 إننا نعتقد، أنّ من شأن هذه الإدارة اللامركزية وبهذا الطرح الواضح والصريح، أن تعزّز فرص نجاح هذا المطلب المشروع  وتنعش المنطقة وتفتح آفاقاً واسعة للتعاون بين أبناء هذه الإدارة وبين السلطات المحلية في الإقليم أو المحافظة التي تنتمي إليها. وكذلك فإنها سترسم خريطة الطريق للتعاون المثمر والبناء مع الأقاليم أو المناطق المجاورة لها ومنها إقليم كردستان الذي تربطنا مع أهله وقياداته صفحاتٌ مشتركة من المودة والتآلف والنضال والمصالح المتعددة على أصعدة كثيرة، على أن يجري ذلك في أجواءٍ سليمة من التعايش الوطني والاحترام المتبادل والرغبة الصادقة في القبول بحق تقرير المصير وتحديد الهوية الإتنية والدينية التي يعتقد الفرد الانتماء إليها دون ضغوط .

بين الدين والسياسة
في ظلّ الصراع القائم على السلطة والثروة والخلط الواضح بين الموجبات الدينية والسياسية على السواء، تشكل الجماعات المسلحة ومنها الميليشيات النافذة في عموم البلاد، أسفيناً وعائقاً لكلِّ بوادر السلام و الاستقرار والأمان والتعايش المدني والسلمي. وهذا يعود إلى ما تسبُّبُهُ هذه من معاناة مروِّعة للشعب العراقي عموماً، وبخاصة ضدّ أتباع الحلقات الضعيفة في نسيجه الاجتماعي المتهالك. وهنا تتحمّلُ الحكومة العراقية ومعها المحتلُّ كاملَ المسؤولية في عجزها إيقاف أو الحدّ من حمّامات الدم المتواصلة و في قطعِ شأفة الإرهاب المتقهقر بعض الشيء، و من ثمَّ إنهاء المظاهر العسكرية المختلفة تماماً ومنها الجماعات المسلحة والميليشيات التي كانت وماتزال تشكلُ جزءاً من الظاهرة وحلقة أساسية في المشكلة الأمنية العراقية لارتباطاتها بالكتل السياسية المتصارعة، كلٍّ حسب القوى الإقليمية التي تساندها وتدعمها ماليا ومذهبياً.
 لقد وقعت الأقليات المسالمة ضحية هذه الصراعات الفئوية والحزبية والمذهبية الضيقة بسبب طبيعة تكوينها الديني والآتني والوطني المسالم، وبخاصة المسيحيين على اختلاف تسمياتهم وتشكيلاتهم. ولئن كان لهذه الأعمال الإرهابية المدانة مسبِّباتُها ودوافعُها ومبرّراتُها، لاسيّما الدينية منها والإتنية والسياسية، فقد كان الأجدر بالقائمين على السلطة، السياسية منها والمرجعية على السواء، أن تتصدّى فعلياً وليس بالأقوال فقط، لثقافة الإرهاب المصَدَّرة التي تكالبت على البلاد، وأن تعترفَ قبل غيرها بخطأ التمادي في فكرة "عقدة الغرب" (الكافر) التي انسحبت غدراً على مسيحيّي الشرق خاصة والغرب عامة، اعتباطاً وطوعاً، ما جعلهم ضحيةً لجماعاتٍ إرهابية وأصولية تريد العودة بالزمن إلى عصور الجاهلية والتخلف والمغائر المظلمة.
 إنَّ ما ينبغي أن يعرفه الجميع في هذا السياق، أنَّ الدِّينَ إذا أُسيءَ فهمُه أو تفسيرُهُ  أو استخدامُهُ، فهو يُفسدُ السياسة والعكسُ صحيحٌ أيضاً. والإثنان، إذا تداخلا سلباً أو تدخّلَ أحدُهما في شؤون الآخر، فإنهما لن يجلبا على البلاد والعباد سوى الدمار والخراب والإرهاب. فالدين والسياسة خطان متوازيان لا يلتقيان في غياب المعايير الديمقراطية وفي وجود تشدّد أصولي يرفض كلّ شيء  ويكفرّ الجميع على هوى تفسيرات غير مستمكنة من الدين وأصوله! لقد أثبتت الأيام فشل الأحزاب الدينية في الترويج لتسييس الدين وفي تحويل الدولة العراقية إلى دولة ثيوقراطية أو إمارة دينية. وقد بدا ذلك واضحاً من خلال ردّات أفعال الشارع العراقي والقائمين اليوم على السلطة أنفسهم بسبب عدم موائمة البرامج والأفكار المطروحة لمثل بلدنا متعدّد الأعراق والأديان والثقافات. وهذا ما يدعونا للمطالبة، بفصل الدين عن الدولة وانتهاج سياسة علمانية وعقلانية متزنة  بسبب هذا التنوع العرقي والديني القائم منذ الأزل، وإلى تشكيل حكومة ليبرالية متمدنة ومنصفة لجميع المكوّنات الإثنية منها والدينية على السواء دون تمييز، لتكون بعيدة عن منهج تسييس الدين والتحاصص الطائفي، وذلك توافقاً مع رياح الديمقراطية التي أتت بها الأحداث الجديدة بعد عهدٍ بالٍ من الدكتاتورية التي كان يتمنى الجميع أفولَها يوماً، ومنهم من هم على رأس السلطة الآن. فكيف بهؤلاء العودة إلى ذات الأفعال وذات السياسات المدانة من قبلهم آنفاً عندما كانوا يومها في المعارضة وخارج السلطة؟ وأين هم من تلك المبادئ الجياشة والوعود التي قطعوها من أجل تفعيل مبدأ الديمقراطية وسيادة القانون على الجميع دون تمييز؟ سؤالٌ مشروعٌ يطرحُهُ الشارع العراقي على نطاق واسع اليوم. 

دور أكبر للوجود المسيحي في المشروع الوطنيّ للمصالحة
إنّ ما نؤمنُ به ونسعى إليه مع كلّ ذوي النوايا الحسنة ومع كلّ الشرفاء العراقيين الذين تهمُّهم المصلحة العليا للعراق هو العمل على بناء مشروع  وطني متكامل يؤسّسُ لعراق ديمقراطيّ مزدهر بمؤسساتٍ دستورية وطنية ترفضُ كلَّ أشكال الإرهاب والتخندق الطائفي والتقسيم الفئوي للسلطات التي أتى بها المحتلّ من خلال آليات مجلس الحكم المنحلّ الذي دقّ أسفينَه بريمر، سيّئ الصيت وإدارتُه الغبية حيناً والمتغابية أحياناً، وأسّسَ من خلاله للمحاصصة الطائفية وعمّق بذلك، هوّةَ الفتنة بين مكوّنات الشعب عامةً لأغراضٍ في نفس يعقوب!!!
وهنا لا يختلفُ إثنان على وطنيّة المسيحيين وإخلاصهم في خدمة وطنهم وتفانيهم من أجل بنائه وإشاعة روح المحبة والسلم الأهلي بين مكوّناته من خلال أفعالهم السمحة وأخلاقهم العالية وخدماتهم المتميزة في كلّ شيء وكل مرفق. لذا فإن أُريدَ لمشروع المصالحة الوطنية القائم حالياً، أن يتحقق بأعلى مستوياته ويُثمرَ زهراً ووروداً وبلسماً لحديقة كبرى اسمُها العراق الديمقراطيّ الجديد، فلا بدَّ حينذاك أن يتمّ من خلال احترام الآخر، ومنهم المسيحيين، والنظر إليهم مواطنين يتمتعون بكامل حقوقهم الوطنية والفكرية والدينية والثقافية دون تمييز، ليس بالقول فقط بل بالفعل والممارسة، حتى لو اختلفوا مع غيرهم في الرأي والتصوّر. ومن هنا فإنّ استبعادَ أيّ مكوّن مهما صغُرَ أو اختلف في الرؤية من شأنه أن يوقف عجلة هذه المصالحة وينسف المشروع بكامله ويوصل البلاد والعبادَ إلى شرٍّ لا تُحمدُ عقباهُ، لا سمح الله!
إننا نعتقد، أن زخم الدولة العراقية العتيدة ينبغي أن يصبّ ضمن هذا الأفق البعيد لبناء عراق ديمقراطي موحّد قويّ المركز وليس في السماح بتفتيته إلى  كيانات طائفية ومذهبية هزيلة يسعى دعاتها إلى تحقيق مكاسب ذاتية وفئوية ضيقة لن تدوم على المدى البعيد. لذا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف النبيل والمطلب الجماهيري المتزايد، لابدّ للحكومة العراقية والساسة القائمين على قيادة البلد ومعهم أعضاء البرلمان أن يعوا حجم الكارثة التي ستفضي ببلاد ما بين النهرين إلى هاوية الجهل والتخلّف فيما لو غاب العنصر المسيحي أو ضعف وجودُه، وكذا الحال مع باقي الأتنيات الصغيرة المتبقية، ذلك لآن اختفاءها يعني قطف زهراتٍ جميلة من حديقة غنّاءَ، إسمُها العراق. ولقد سمعنا الكثير من مثل هذه الشهادات الإيجابية الصادقة من مواطنين وأصدقاء وجيران عبّروا عن أسفهم لهجرة إخوانهم المسيحيين الذين سبق وأن تعايشوا سوياًً وتربوا معاً في أجواء من الألفة والمحبة سنوات العمر، وهم يشعرون اليوم بالأسى لأعمال الإرهاب والهجرة والتهجير التي طالت الشعب العراقي عامة، والمسيحيين بخاصة وسائر الأقليات الأخرى  من خلال استهداف رموزهم ووجودهم وممتلكاتهم.
إن هذه المكوّنات القليلة العدد، أي الأقليات الدينية منها والقومية، ما كانت لتطالبَ بحقوقها وترفع أصواتَها بوجه الغبن وأشكال التغييب والإقصاء والتهميش التي طالتها، لو روعيت في حقوقِها الوطنية، واندمجت في العملية السياسية الفعلية على قدم المساواة الوطنية مع غيرها ومن خلال ممثليها الحقيقيين وليس من خلال أفرادٍ وشخصياتٍ يعملون لصالح تذويبها في كتل أخرى تتنكّرُ لوجودهم وتصرُّ على عدم الاعتراف بهم أصلاً. وهذه دعوة للكتل السياسية المعنية والجهات الدينية المعتدلة ومعهم نخبة المثقفين كي يعيدوا النظر في حساباتهم ويرسخوا لثقافة الوطن والانتماء إليه قبل كل شيء ومعه ومنه لسيادة القانون وتطبيق الدستور بعد إعادة صياغته وطنياً بسبب كتابته في ظروفٍ قهرية وغير سويّة.
إنّ إعادة بناء ما انكسر طيلة السنوات المريرة المنصرمة وما تلاها سحابةَ السنواتِ الخمس الصعبة المنقضية، لا يمكن ترميمُه وإصلاحُه من دون هذه الوثبة الجديدة المتشبعة بالروح الوطنية الصادقة وليس بالاستمرار في ترسيخ سمة الطائفية والمذهبية وفي تمسّك المثلث السياسي المتسلط بأسلوب المراهنة على تعزيز حصص كتله الثلاث في المناصب السيادية والمواقع الرسمية والحكومية من قمّتها إلى دونها  في توزيع الوظائف، ما ساهم في خلوّ مؤسسات الدولة ودوائرها من كوادر كفء على إدارة تلك المرافق. ما هكذا تُساق الإبل،ُ يا ناس؟ 
 تلكم هي حالنا منذ سنين وهذا هو خطابنا الوطني، ولا نقبل أن نكون بعدُ، حطباً لصراعات محلية أو إقليمية لا ناقة لنا فيها ولا جمل كما لا دورَ لنا في هذه الحال. وكفانا مظالم، سواءً وقع فيها اللومُ على جهاتٍ خارجية أم داخلية ينطلقُ فاعلوها ومنفذوها وفق أجنداتٍ لا تخدم الوطن وأهلَهُ، كما لا ترغب غيرُها في الإبقاء على وجودٍ مسيحيّ  فيه أو إعطائهم الدور الذي يستحقونُه وطنياً ودستورياً .
أللهمّ رُدَّ هذا البلد آمناً واهدِ رعاتَه وساستَه وأهِّل شعبَه لحياة حافلة بالخير والمحبة والبركة والسلام للجميع.


لويس إقليمس
في 1 تموز 2008


404
الديمقراطية بين الترويج والقناعة

       الديمقراطية، هذه الكلمة البراقة والفضفاضة، كم جلبت من منافع وفوائد لشعوب عرفت قيمتها وقدّرت لها ممارستها السليمة، لكن بالمقابل جلبت – عند إساءة فهمها - ويلات ومآس على شعوب كثيرة، أقلّ ما يمكن القول عنها إنها ابتُليت باقتحامها لمعاقل العرف القبلي والعشائري والديني الراكدة التي درجت على إثبات نفسها بالسلطنة والقهر والنهي تاركة وراءها كل محاولة إقناع وتخاطب. لكنّ الرياح الجديدة التي هبّت بفعل ما يسميه البعض منهم "البدعة" الجديدة،  جاءت لتزيد من وطأة التحدّيات التي تواجهها أصلاً شعوب هذه البلدان الرازحة تحت الظلم والطغيان، ظلم يدّعونه من السماء ويسوده قوم من دون آخرين، ومعه طغيان قوى خارجية طامعة في خيرات وسذاجة هذه الشعوب التي أبقيت على الهامش مغمضة العيون.

 
قد لا نختلف أن الديمقراطية الحقيقية هي النخاع الشافي والساند لقوام الدول والشعوب حينما تحفظ وتصون حقوق الأفراد والمجتمعات والدول. بل هي في نظر الكثيرين ذلك النسغ الذي يؤمّنُ لقوام البشرية حقوقََها ويعزّز من ديمومتها ويشفع لها حين مرضها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فيتعكّز عليها من يدرك فاعليتَها ويفهم مساراتها ويطبّق ممارساتها في الحياة اليومية دون مغالاة أو شطط أو حيدٍ من مبادئها لاسيّما حين تتعدّد تفسيراتها لدى بعض مدّعيها أو ناشريها أو المطالبين بها. ومصطلح الديمقراطية مكوّن من كلمتين يونانيّتين (ديموس) وتعني الشعب، و (كراتوس) أي السلطة. ومعناها أن الشعب يتولى الحكم بنفسه، أي أنه هو مصدر السلطات. ولتسهيل هذه العملية، جرى تمثيلُُه بأشخاص يتمُّ انتخابهم بطريقة الاقتراع لتولّي الحكم لفترة زمنية تحددها الأحكام والقوانين المرعية في البلد أو المنطقة وهؤلاء يكونون خاضعين لمراقبة الشعب في أدائهم. أي أن الحكومة التي يشكلها هؤلاء المنتخَبون بموجب النظام الديمقراطي تكون مسؤولة أمام ممثلي الشعب ولهم الحق في إقصائها في حالة عدم إيفائها بالالتزامات الملقاة على عاتقها وخيانتها لثقة الشعب فيها. ولعلَّ أهمَّ بند في توفر قسط وافر من الديمقراطية، وجود الأرضية الصحيحة لتقبلها والتفاعل مع أسبابها ونتائجها على حدٍّ سواء من أجل أن تعطي ثمارها الصحيحة. ومن ذلك نستطيع أن نقدّر أن حسن سير الديمقراطية في بلدٍ ما أو مجتمعٍ عندما يتصلُ ذلك باحترام الحريات الأساسية ومنها حرية الفكر والعقيدة والدين والثقافة والتعليم والرأي والتنقل من التي خُلق من أجلها الكائن البشري حراً ليعيش حياةً كريمةً بموجب الأعراف والشرائع والقوانين الدولية والإنسانية. وهناك عددٌ من أنواع الديمقراطيات المعتمدة في أنظمة الحكم المختلفة في العالم تبَعاً للظروف التي تعيش فيها شعوبها ووفقا لفهمها وتنشئتها و خضوعهاً لتفسيرات متباينة غالباً ما تمتزج فيها الرؤية ا الفكرية والعقائدية والثقافية والمجتمعية وحتى المذهبية والعشائرية.

أدلجة الديمقراطية في الفكر الغربي
كل الأنظار تتجه اليوم نحو الغرب المتمدّن، جنّة عدن لدى الكثيرين! هذا هو الرأي السائد لدى أوساط المثقفين والعديد من المتعلمين في كون الغرب بلداً للديمقراطية والحرية الحقيقية وهو بهاتين الميزتين يكفل للفرد والمجتمع حياة حرةً كريمة تليق بالكائن البشري. هذا ما نعتقدهُ جميعا، ولا خلاف عليه. لكن ما يغيب عن فكر العديدين أيضاً أن هذه الديمقراطية قد حادت هي الأخرى عن مسارها فأفرغت من محتواها الحقيقي بحسب أهواء وتيارات كيانات أرادت تطويعها لأغراضها ووفق حاجاتها. وبذلك تكون قد فقدت هويتها في أن تكون السند النافع والنسغ الناجع لشعوب وأمم آمنت بفاعليتها في هذه البلدان المتحضرة وتطلّعت لها غيرها حسداً وتمنّتها لو زارت أوطانها ومجتمعاتها. هكذا إذن، خضعت وتخضع هذه الديمقراطية لعمليات قيصرية وإجهاضات بعد تغليفها بأيديولوجيات مُقَنّعة حتى لو كانت على تناقض مع واقع حال شعوبها أو مناطقيتها.
والسؤال اليوم، كيف يمكن تفقّّد نوعية هذه الميزة في عالم المتناقضات الصارخة وتمييز الغث من السمين في أشكال هذه الديمقراطيات؟ أنظروا ماذا جلبت أميركا من ديمقراطيتها المصدَّرة إلى شعوب العالم النامي الغافي على صهيل الخيل ونقيق الضفادع ومواء الخرفان. ومثلها ما يصدّره الغرب الأوربي عموماً إلى آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية المغلوبة على أمرها. كأني بها تنفّذُ روزنامة مدروسة الجوانب لتُفرض على مثل هذه الشعوب التي تستسيغ كلَّ جديد قادم من الغرب كأنه بلسمٌ شافٍ وشهدٌ ما غيرُه نسغٌ لحياتها وتطورها ونمائها. وإذا كانت هذه الديمقراطية قد انتقلت في نظر الغرب من طور كونها قضيةً قومية "بمفهوم الأمة" لتصبح معياراً عالمياً، فإنها تكون قد خرجت من فعل كونها هدفاً رضائياً حتى في أوساط الغرب نفسه، بسبب ما أحاطها من سذاجة ورياء في أحيان كثيرة حين انجرارها إلى غير أهدافها المرسومة. قد تكون ماهيّة الديمقراطية المطبقة في الغرب  عموماً تلتقي من حيث الجوهر على أسس ومعايير دولية تصلح أن تسري في غيرها من البلدان لاسيّما ما يتعلّق بإيفائها بالالتزامات التي يفرضها القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان التي تستوجب تطبيقات مماثلة، لكنها من حيث الشكل قد تختلف وتختلف معها التطبيقات والتفسيرات في تفاصيل الدبلوماسية المتبعة و في الأدوات ومنها اللجوء إلى القوة حين اقتضاء الأمر وفي الشؤون الدولية المختلفة أيضاً بحسب المصالح والأغراض وما يلفُّ هذه من نوايا حتى لو طالت مسألة حقوق الإنسان.
في ضوء هذه الأفكار المتحالفة حيناً والمتناقضة في غيرها بين الغرب الأوربي بخاصة والأميركي الضاغط بضرورة " دمقرطة " العالم بالعودة إلى استخدام "عصا الطاعة" التي لا بدّ منها في نظر الأخيرة، يكون العالم النامي قد صغَرَ لها كلٌّ وفق سياقات الزمان والمكان دون أن يكون له خيار تجاوزها. وإذا كانت قلاع الحرية التي بنتها أوربا والغربُ عموماً، كما تبدو للعيان، هي التي تجذبُ اليوم أفواجاً غير معرَّفةٍ من المهاجرين، سراً أو طلباً للجوء فيها، فإن هؤلاء سيجدون نفسَهم ذات صباحٍ واقعين في وهم الأحلام وسوء التقدير لقرارهم تركَ الأوطان بتأثير الدعاية ووسائل النشر والدور الكبير الذي تتركه آثار المسلسلات والأفلام ومختلف وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة التي تصدّرها لهم دون رحمة. لكن الطامة الكبرى في "معظم" وليس "كلّ" هؤلاء القادمين الجدد، عشاق الديمقراطية الغربية، من دول العالم النامي ولاسيّما الآسيوية منها أنهم لا يستطيعون الخروج من شرنقتهم الشرقية، بل يبقون أسراها في كلّ شيء إلاّ في التباهي وتمنّي النفس بإقناع المقابل أنهم وجدوا ضالَّتَهم المتمثلة أصلاً بعددٍ من المظاهر الخارجية في الحياة اليومية.فمطالب الحياة التعجيزية التي يكبّلهم فيها منذ وطأته أقدامهم تجعلهم عبيداً عليهم دفع فواتيرهم الطويلة وغير المنتهية بسبب عجز معظمهم من العيش كرامتهم الإنسانية كما ينبغي إلى جانب فقدهم تواصلهم مع حياةٍ اجتماعية طبيعية وسط عوائلهم بسبب لهاثهم وراء رزق هزيل في غالب الأحيان. هذا هو الطابع العام للأوهام التي تقدمها بلدان الديمقراطية للقادمين الجدد بحسب أيديولوجية ساستها التي تقتضي التضحية بأمور كثيرة لأجل لقمة العيش والتمتع بالانبهارات التي يقدمها يومياً.

الديمقراطية في السياسة الدولية
منذ أن أصبح العالم قريةً صغيرة بفعل العولمة وتسيّد سياسة القطب الواحد على مغالق الحياة ومنافذها، تحددت معها معاني الديمقراطية. فقد انصبّت جهود الإدارة الأميركية على عهد الرئيس الحالي جورج بوش الابن على ما أسماه ب" أجندة الحرية" و "الترويج للديمقراطية" وأكسبها إنصاتاً عالمياً لدى الكثيرين، دولاً وشعوباً وأفراداً. إن هذا البرنامج الذي جاء ليؤكّد سمة التزامن بين ما يراه البعض من قطيعة وتواصل في آنٍ معاً بين سياسات الأمس واليوم يعيدنا إلى الحيثيات التي انبثقت منها هذه الضرورة في مراجعة الأحداث التي شهدها القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من أيام الحرب الباردة بين قطبين متناقضين في كل شيء وإلى سقوط آخر عهد الدكتاتوريات الغربية التي طبعت حقبة السبعينيات ومنه بروز موجة ثالثة من أنواع الديمقراطية (بحسب الكاتب صامويل هانتنغتون – من جامعة أوكلاهوما) وما تلاها من سقوط الشيوعية واندثار الكتلة السوفيتية في نهاية القرن المنصرم. تلك كانت و مات زال الفكرة السائدة في تطويع العالم وإقناعه أو إقحامه في مشروع "الدمقرطة" العتيد ومن ثمّ في عدم التعامل مع من يرفض مثل هذا التوجه من حيث المبدأ في الأقلّ.
بالتأكيد، لم تعد مسألة الديمقراطية مثار شكٍّ في الغرب الذي تبناها سبيلاً لبناء الحريات ورفاهية الشعوب، أفراداً ومجتمعاتٍ، وتنمية الاقتصاديات وتطوير وسائل الحياة المختلفة. بل إنه رأى فيها ما لم تستطع بقية الشعوب النامية تحديده لأولوياتٍ تتلاقى مع المصالح العليا لأممهم ومناطقهم. وهذا ما يفسّره رهان السلام والاستقرار والتوازن المجتمعي لدى الشعوب التي سلكت درب الديمقراطية وأصبحت بمأمن من الحروب والفتن داخل بلدانها وأعادت ترتيب بيتها الداخلي باستخدام الحكمة والعقل والفكر الناضج. ولعلَّ أفضل مثالٍ على ذلك  أوربا التي ودّعت حالة الصراع المميت الذي كانت تعيش فيه واستبدلته باتحاد فعليٍّ بعدما اتصفت بسمة القتل والعنف لسنوات وقرون طوال أنهكت قواها لحين حطّت الحرب العالمية الثانية أوزارها. ومن ثمّ انتقلت وفق سياسة دولية للتبشير بالمبادئ الديمقراطية في غيرها من بلدان العالم التي ما تزال ترزح تحت وطأة الظلم والتخلف والتعسف من قادة وسلاطين رافضين أيَّ فكر جديد خوفاًً على كراسيهم وامتيازاتهم، دينية كانت أم مدنية أم قبليية،من يقظة شعوبهم المغلوبة التي اعتادت دفع هذه
من جهة أخرى، يبدو للبعض أن الترويج لهدف الديمقراطية يقضي باستخدامها وسيلةً في الصراع ضدّ ما نسميه اليوم بالإرهاب. فمن حيث الشكل والفعل يبدوان أمرين متناقضين كلياً وهما فعلياً لا يلتقيان لا في المضمون ولا في الشكل. فحيث الإرهاب لا يمكن أن تنمو الحرية أو تعيش الديمقراطية ذلك أن منظّريه متشبّثون بأجندة مرسومة السبل والوسائل ومعلومة الأسباب والأهداف، وأقلُّ ما يُقال عنها أنها لا ترضى لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ بأية مظاهرَ تعكّر عليها صفو سطوتها وتحكّّمها في عقول وضمائر تابعيها. ومن يجرؤ على فعل تحدّيها وكسر هذا الطوق يكون عرضة للتصفية والمماحكة وإيقاع الحدّ عليه في أسوأ الظروف. تلكم كانت استراتيجية الحكومات الشمولية والأنظمة الشيوعية في عهود فرض سلطاتها وما تزال أنظمة كثيرة في الدول النامية لاسيّما الثيوقراطية منهاً، تسير وفق ذات النهج. كما شهد العالم بزوغ فاشية جديدة تمثلت بما يسمّه البعض ب "الإسلام الفاشيّ" مؤخراً و الذي يُعتقدُ  حلولُه محلّ الأنظمة الشمولية السابقة ليطفح كيلُهُ ويسبح ضدّ التيار الإنساني بل ضدّ التيار المعتدل للإسلام نفسه الذي يسعى لتحكيم العقل والتناغم في تفسيراته مع العصرنة  بالرجوع ببساطة إلى الكتب السماوية والغرف من منابعها السمحاوية والرحمانية. ولعلَّ من الوسائل المتاحة على إرساء ومضاتٍ من الديمقراطية تكمن في القبول بالآخر والاعتراف برأي الشعوب من خلال ممارسات اجتماعية متحضرة أهمها مسألة تداول السلطة من خلال ظاهرة الانتخابات الحرّة التي تُعَدُّ سمة الشعوب المتمدّنة. ولكن ينبغي الإدراك أيضاً أن الفعل الانتخابي أي السماح بإجراء انتخابات عامة ليس بالضرورة أداة وعلامة على سبر قواعد الديمقراطية التي تبقى بعيدة كلَّ البعد عن المفهوم الحقيقي لها إذا شابتها لعبة الأيادي القذرة. فديمقراطية إسميّة  تحت هذا العنوان إنما هي نوع من الضحك على الذقون، والبقاءُ على حكومات وأنظمة شمولية فيها قسطٌٌ من الحرية لأفضلُ من فرض ديمقراطياتٍ همايونية وغير حرّة.

تصدير الديمقراطية
ممّا لا شكَّ فيه أن أحداث  أيلول 2001، و بهولِ ما صنعته،ُ كانت الحافز الأكبر للعديد من دول العالم وأوّلها الإدارة الأمريكية، للعمل على تسارع عملية "دمقرطة" الأنظمة التي لا تقبلُ بغيرها شريكاً آدمياً في الحياة والحكم وهي ما تزال أيضاً ترفض التعامل مع شعوبها وفق منظور الحريات الذي تقرّه المعاهدات والمواثيق الدولية في سعيها لضمان حرية الفرد والمجتمعات بغضّ النظر عن الدين أو اللغة أو العرق أو المذهب أو الجنس وما شاكلها، إيماناً بأن الجميع سواسية في القانون وأمام القضاء وفي الحريات العامة والخاصة. من الجدير ذكره، أن خطوات أخرى كانت قد سبقتها على ذات المنوال في حقب مختلفة من حكم الحزبين التقليديين فيها منذ نشأتها. ولكنها أيقنت وفق منظورها القومي في هذه المأساة أن النقص أو غياب الديمقراطية في العالم بات يشكل حقاًّ مصدراً حقيقيا للتهديد العالمي ومن ثمَّ، فقد آن الأوان للترويج لها وفرضها أو إحلالها بشتى الوسائل والأدوات المتاحة. ومثلها كان لأوربا قسط وافرٌ من هذا الرصيد مع تطور الأحداث فيها والتغييرات التي حملها اتحادها فيما بعد ولكن بوسائل أكثر قرباً و توافقاً مع المعايير الدولية واقترانها مع تطوير المؤسسات المتعددة في هذا الاتجاه لاسيّما ما يتعلق منها في مجال العدالة الاجتماعية والخدمات العامة والتوجه نحو اللاّمركزية بموجب معاهدة كوبنهاغن الموقعة عام 1993. حيث يعتقد الاتحاد الأوربي، دولاً وشعوباً، أن من مصلحته هو الآخر أن تستوعب الديمقراطية أنظمةً أخرى تفتقرُ إليها. ولعلَّ هذا ما يميّزها عن أميركا في اقتران فعلها بما تؤمنه في مسألة احترام حقوق الإنسان وليس في نشر الديمقراطية على عواهنها. وهذه الأخيرة تستخدم من الوسائل المتاحة ما يجعلها حريصة على تحقيق هدفها من خلال الحوار ومراقبة الانتخابات ورصد الانتهاكات ودعم المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان والنقابات والجمعيات.  وقد تختلف الأساليب أيضاً من دولة أوربية إلى أخرى في تحقيق هذه الغاية ولكن يبقى الهدف واضحاً لا لبسَ فيه. ففرنسا ترى مثلاً، أنها تحبّذ التعامل مع الأنظمة غير الديمقراطية كلاً على حدة، أي حالة بحالة من خلال التأكيد على تنمية الجانب الاقتصادي والاجتماعي وعدم فرض نظام موحد حرصاً منها للحفاظ على مصالحها أولاً واعتقاداً أيضاً بحماية أصدقائها التقليديين كلاً حسب ظروفه. وهذا ما يميزها وأوربا معها عن أميركا في اتخاذ لغة الحوار  وتجربة الوسائل المتعددة وإطالة الصبر على المارقين عن الديمقراطية التي ترتئيها وعدم اللجوء إلى استخدام القوة إلاّ في الحالات التي لا مندوحة من طول الأناة معها كما هي الحال المتأزمة حيال الملف النووي الإيراني بسبب تعنّت هذا الأخير في حين رضخ الكوريون الشماليون إلى صوت العقل بعد استنزاف كافة حيلهم. أب أن أوربا عموماً لا تؤمنُ باستخدام القوة  في تصدير الديمقراطية كما هي الحال مع أميركا ولها في ذلك من أسباب ما يحملها لعدم تقبّل هذا المبدأ. فهي ترى في ذلك التوجه خطورة عند جهل أو تجاهل الجهة المصدّرة لهذا المفهوم لطبيعة الوضع الداخلي للنظام المقصود تغييرُهُ ضمن المحيط الإقليمي والدولي الذي يراهن عليه كما حصل للتدخل الأمريكي في الفيلبين وأميركا اللاتينية وفيتنام وأخيراً العراق ومن يدري بعد. وهنا يمكن ملاحظة الفارق في التحرك في هذا المجال بين كلٍّ من أميركا وأوربا. ففي حين تختلف التحركات الأميركية  بانطلاقها من القاعدة أي من الأسفل بطريقة لامركزية وعبر مؤسسات المجتمع المدني وفق أدواتها المتاحة و ثقافةٍ سياسيةٍ خاصة بها تساعدها في تكوين استراتيجيتها القاعدية، تسعى أوربا تماماً بعكسها منطلقةً من فوق أي باستخدام الوسائل المؤسساتية في الدولة المقصودة. وهذا ما يفسر اختلاف الرؤية حول سقوط الاتحاد السوفيتي السابق مثلاً. ففي حين ترى الولايات المتحدة الأميركية في مساهمة المجتمع المدني ومعه السوق في رصد أخطاء القيادة آنذاك وتحرّكها بوسائلها الخاصة في تآكل النظام الشمولي، يعتقد الأوربيون عكس ذلك في أن ما آل إليه النظام السابق مردُّهُ الدور الذي لعبه قادة تلك الدول ومختلف المبادرات التي أسهمت بطريقة أو بأخرى في انهياره. وما كان سقوط جدار برلين وفق هذه الأخيرة والذي يُعدُّ سقوطاً قاسياً للجدار الحديدي في العالم، سوى بداية حقبة جديدة تعاقبت عليها تجارب ومحاولات لمساعدة الدول التي لم تكن تعترف بالديمقراطية للانخراط في هذه العملية من خلال مؤسسات سياسية واقتصادية مستقرة بعض الشيء. وهذا ما يشير بوضوح إلى الرؤية التي تغذيها التجربة الأوربية باهتمامها المباشر بسلطة الدولة ومؤسساتها العامة. إن هذه النموذجية المختلفة في التعاطي مع هذا الشأن الحساس جدّا في كلتا الفكرتين المختلفتين قد وجدها البعض تتلاقى في غاياتها وتتكامل من حيث المضمون مع الاعتراف باختلاف الوسائل طبعاً. إلاّ أن ما يثير الشكّ في التدخل الأميركي في الشرق الأوسط والمنطقة الآسيوية عموما وفي نواياه المضمَرَة قد توضحََّ مع احتلال العراق بخاصة بحجة التخلص من بلد يحكمه نظام دكتاتوري حسب مفهومهم، كما نفى عن الغازي المحتلّ هدفَهُ المعلَن. واليوم يشهد العالم نوعاً من التقارب في وجهات النظر حيال هذه النموذجية فيما يخصُّ الوضع الراهن في العراق.

حََوٌََلُ فكريٌ في قارة آسيا إزاء الديمقراطية
يبدو للعيان أن أوربا تسعى أكثر من غيرها إلى خلق آلية من التعاون بين مختلف مؤسساتها و منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان تجاه بلدان العالم المختلفة التي تفتقر حقاً إلى الديمقراطية في أنظمة حكمها ولاسيّما الأسيوية منها أي عموم الشرق الآسيوي بالاعتماد على استراتيجية واضحة واستخدام أدوات فاعلة لاسيّما التمويلية منها بدل العصا الغليظة التي تعتمدها أميركا من أجل تحقيق الهدف. إلاّ أن عدداً كبيراً من البلدان الأسيوية التي طالها نوعٌ من التدخل الخارجي للسبب المعلَن أعلاه  تحتاج إلى وقفة تأمّلية ونظرة ثاقبة في أصول تكوّنها وفي طبيعة أنظمتها وشكل اعتقاداتها. فهي في الوقت الذي تفتقدُ فيه إلى بُعد في الرؤية وإلى غيابٍ في الفكر وإلى حالاتٍ مرصودةٍ من التخلف والجهل والفقر المدقع في صفوف شعوب الكثير منها، تكادُ بل بقيت في معظمها أسيرةَ تجاذبات كثيرة داخل مجتمعاتها المتنوعة إثنياً وعرقياً ودينياً ومذهبياً وعشائرياً وأيديولوجياً بل وحتى داخل الطائفة الواحدة والحزب الواحد. كما أنها لم تستطع التخلص من عُقَدِها، وما أكثرها، ومنها بخاصة عقدة "الغرب المسيحي"، التي جاءت على شاكلة العقدة المنهجية العربية والإسلامية من إسرائيل، والتي باتت ترى في الدول الغربية ومنها بطبيعة الحال أميركا، الشيطان الأكبر والطوطم الذي ينبغي اقتلاعُه ومحاربتُه بشتى الوسائل. إن دلَّ هذا على شيء، فإنّما يشيرُ إلى قصر نظر وجهل أو تجاهل للحقائق. فالغرب اليوم، يعتمدُ في تقويم أنظمته الحاكمة قدراً وافياً من الوعي والاحترام إزاء جميع الشعوب ومختلف المجتمعات التي تعيشُ وتتعايشُ على أراضيه بحكم عمل هذه الأنظمة بنظامٍ صارمٍ للعلمنة والعولمة في آنٍ معاً. وهذان الخطان المتوازيان لا يمكن تخطيهما في مجمل هذه الأنظمة الغربية، في أوربا أو أميركا، و المتهمة كَشَحاً بمعاداة السامية أحياناً وبرفض غير أعراقها على أراضيها. ولو كانت تلكم هي الحقيقة لَمَا تراكض، بجنون نحو القلاع الديمقراطية التي بنتها، الملايينُ من أبناء الشعوب المغلوبة على أمرها والرازحة تحت نير أنظمة سلطوية لا تعترف بالحريات، فردية كانت أم مجتمعية، ولا تعير أذناً للنداءات الدولية الصارخة المطالبة بحق الكائن البشري و بحق مجتمعات بأكملها قد طالتها مختلف الانتهاكات في حياتها اليومية ومنها بطبيعة الحال شعوب آسيا بلا استثناء.
أليومَ، آسيا بكافة مجتمعاتها الشرقية وبالميكانيكية التي تعتمدها في سياساتها تكادُ تغلي على سعير حروبٍ متنوعة ومتعددة، منها الداخلية ومنها الإقليمية. فهذه فلسطين تكتوي بنزاعات داخلية دموية يومية بين فصيلين متناحرين لا يعرفان كيفية العيش المشترك وتقاسمَ الشراكة السياسية في أجواء ديمقراطية معينة أُتيحت لشعبها الجريح الذي يبقى ضحية الجهل بمصالحه وأسيرَ عقدةٍ مستفحلة كان هو السبب في ضياع أرضه ووطنه في غفلة من الدهر. وهذه شبه القارة الهندية التي أوصلت قادة البلدين الجارين، الهند والباكستان إلى حافة حربٍ نووية. لكن أصول اللعبة قد انتقلت في غيرها من البلدان لتحطّ الرحال في مجتمعاتٍ متنافسة داخل الدولة الواحدة، بل داخل المجتمع الواحد عينه في أحيانٍ أخرى، كما تشير إليها حالات الاقتتال الداخلي المرصود بسبب التعصّب القبلي أو القومي أو الديني أو الطائفي أو المذهبي أو الأيديولوجي في كلٍّ من فيتنام وإندونيسيا والفيلبين ومتخذةً مساراتٍ واتجاهاتٍ أكثر خطورة وأشدَّ تعقيداً لاسيّما في كلٍّ من  العراق وباكستان وأفغانستان. وقد تختلف الحالة في الهند والصين اللتين تشكلان مع الجارة باكستان ما يقرب من نصف ساكني الكرة الأرضية، بل يُخشى أن يكون الخطر القادم منها أكبرَ لما تحملُه من قوة بشرية واقتصادية مهولة بدأ العالم يتنبه لها مؤخراً بشئٍ من الريبة والخوف. فالصين قد اجتاحت في اقتصادها كل التوقعات بغزوها الأسواق العالمية بلا منازع ومنها الأوربية والأمريكية لاستعدادها البشري بتلبية كل الاحتياجات مهما كانت صغيرة أم كبيرة، بسيطةً أم معقدة، علميةً أم مادية، عسكريةً أم مدنية وبالأسعار التي يرتئيها الزبون. وهذا دليلٌ واضحٌ لتصاعد الاستهلاك المادي لدى هذا البلد المترامي الأطراف. وفي الهند، هذا البلد الذي يَعُدُّ أكثر من ألفي عِرق وطائفة لم يخلُ هو الآخر من أعمال عنف وانتهاكات واعتداءات بين هذه الطوائف نفسها رغم انتهاجه سياسة أقرب ما تكون إلى العلمنة الغربية وقربه من المبادئ الديمقراطية التي تؤمن بها الدولة كنظام للحكم. ولعلَّ ما يجذب الأنظار مؤخراً، تحوّلَ الهندوس الذين يشكلون الغالبية العظمى في حربهم من أجل البنجاب  مع باكستان إلى توجيه عنفهم الشرس تجاه المسيحيين مؤخراً بحسب وسائل الإعلام، وفي ذلك خطرٌ لابدَّ للناقوس أن يدقَّ إزاء ما يحصل. ربما تكون ذات الرؤية وذات النظرية في معاداة المسيحية بسبب الموقف الناقد من السياسات الغربية ورفض رؤياها المتمثل بإحلال عالم جديد وفي تفكيرها بإعادة هيكليته وفق أسس الديمقراطية المُعصرَنة التي تسعى إلى تصديرها وإقناع هذه الدول بضرورة تبنيها لمصلحة شعوبها وأنظمتها المتهالكة في بعضها. لكنها أي الهند أو غيرها من الدول والأنظمة الناقمة تكون قد وقعت في وهم مطبق إذا ما حاولت التفكير أو الأخذ باقتران سياسة الغرب بالمسيحية لأن الأخيرة دينٌ عالمي لم يكن للغرب فيه فضلٌ في انتشاره بادئ ذي بدءٍ لأنَّ أصوله خرجت من الشرق الآسيوي وما تزالُ فيه رغم حملات العنف الظالمة التي طالتهُ وما تزال بشراستها في محاولة لإخلاء المنطقة من جذوره. كما أن الغربَ لا يعيرُ للدين أهميةً في مجمل سياساته بعد فصل الدين عن السياسة وانتهاج مبدأ العلمنة في حياة شعوبه.
 وإزاء ذلك، يبدو واضحاً أن هذه الشعوب الآسيوية عموماً، وبسبب غياب الفكر  لدى فئات كثيرة لديها و ضيق أفق مدارك غيرها قد آثرت سبيل العنف بديلاً والعيشَ على هامش المجتمعات المتحضرة نابذةً نفسها بنفسها لعدم قدرتها على مواجهة الذات الأنا أولاً والواقع المتمدّن حولها. وهي أيضاً بقصر نظرتها إلى واقع الأحداث الكبيرة والدرامية وخلطها بين الحقيقة والوهم لم تعد تعرف ما تريد كما لا حيلة لها بتوضيح كيف تريد أن يكون ما تعرفه. وهذا ما يفسُّر استشراء مسلسل العنف الطائفي والعرقي في أوساطها وما من قوة تقهرُهُ أو تضع لهُ حدّاً. و لعلَّ آخر هذا المسلسل ما حصل في باكستان مع انقضاء العام 2007، حيث قضت "بنازير بوتو" بطلةً شجاعةً وسط همجية من لم يعرفوا حقَّ قدرِها وقيمتَها الإنسانية في سعيها لانتشال بلدها وشعبها من براثن التخلف والجهل والقهر الديني الناقص والطاغي والمتمثل بالرعاع المزروع في أرض البنغال بلا رحمة. فقد كانت كوالدها واعيةً لواقع حال شعبها المكبوت تحت ظلال الفقر والتخلّف والجهل والتشدّد الذي لا يثمرُ سوى العنف والارتداد بالأمة والبشرية جمعاء إلى الوراء. لذا  جاءت هذه الجريمة لتعيد إلى الأذهان ذات النظرة التي قضت في أواسط السبعينيات على والدها "ذو الفقار علي بوتو" من قبل طغمة عسكرية متزلفة بالدين. هو ذات المسلسل إذن، والذي تكرّر في جريمة اغتيال المهاتما غاندي ومن بعده رئيسة وزراء الهند الراحلة "أنديرا غاندي" ومن بعدها ولدها " راجيف" من جهات متعصّبة لا تعرف ما تريد وكيف تريد. وهذا ما يفسّرُ بكل وضوح ارتهانَ شعوب القارة الآسيوية في ميزة الحوَلِ المجتمعي أسيراً لعقدة مستديمة إسمُها الغرب. وتشير كلُّ الدلائل إلى استمرار هذا العنف مع وجود حالة التطرف والتشدّد التي يزداد سعيرها مع الإيغال في الجهل والتخلّف ورفض عالمٍ متمدّن يطوّرهُ العلم ويكفلُه التقدم الحضاري بكل تفاصيله تقنياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وفكرياً. وبغير ذلك لن يستقيم الشرق مادام غارقاً في ردّة الماضي وعقدة الحاضر ورفض كلّ شيء جميلٍ وجديدٍ.

الخاتمة:
ممّا سبق يدرك المرءُ أن لا شيءَ غير المحبة والتآخي والثقة بين الشعوب والأمم تستطيع أن تخلق عالماً متوازناً ومتزناً معاً. كما أنه لا سبيلَ لحياة مستقرٍّةٍٍّ وآمنةٍٍ و مرفَّهَةٍ إلاّ بقبول الآخر والاعتراف به شريكاً في الحياة التي هي ملكُُ الله الخالق وحدهُ.وأنّ أية محاولة للتعدّي على الكائن البشري في أيِّ ظرفٍ أو لأيِّ سببٍ هو رفضٌ لعمل الخالق وتجاوزٌ للقوانين السماوية والوضعية وانتهاكٌ للحقوق العامة والإنسانية وتعارضٌ مع مبادئ الفكرة الديمقراطية. لذا على الدول المتقدمة أن تؤدي واجب المساعدة والأخذ بيد غيرها من الدول النامية والمتخلفة على ركب سلّّمِ التقدم الحضاري والإنساني من خلال مساعدة شعوبها في التخلص من براثن الفقر والجهل والتخلّف في كلّ أشكاله ووسائله وأدواته وحثّ قادة هذه الدول بقبول الاعتراف بمبدأ المساواة والحريات العامة بدءاً من الفردية منها وفق صيغٍ مقبولة من الديمقراطية الملائمة لشعوبهم ودولهم وفي عدم فرضها بالقوة تحت أية ذرائع. ومن هنا يأتي التمييزُ ما بين يطرحُهُ العالم المتحضّر من ديمقراطية واضحة المعالم والأسس وما بين الأوهام التي تصدّرُها بعض الدول لمثل هذه الشعوب الغارقة في عنفٍ متصلٍ بغياب الفكر حيناً وبالجهل والتخلف وقصر النظر إلى الأحداث والواقع المعاش في حين آخر. وهذا ما يجعل دول العالم الثالث ومنها ربّما الشرق الآسيوي بخاصة ألاّ يتقبلَ أية أفكارٍ جديدة ومتحضرة يراها غريبةً على واقع حياة شعوبه خوفاً من كشف المستور وضياع الزعامة السلطوية من تحت أيديهم بفعل الأفكار الجديدة التي يأتي بها مفهوم الديمقراطية التي إن مورست بموجب قواعد احترام الآخر والاعتراف به إنساناً مخلوقاً على صورة الله ومثاله لما تعثرت تلك السلطات في استمرار حكمها. ويبقى الرهان قائما ومختلفاًً في كيفية تطبيق الديمقراطية ومعايشتها يومياً من بلدٍ لآخر ومن شعبٍ لآخر ومن مجتمعٍ لآخر.


لويس إقليمس




405
منظمة الأقليات العراقية
استنكار
تستنكر منظمة الأقليات العراقية الاعتداءات ألاثمة التي طالت عددا من الكنائس في كل من بغداد والموصل وتعتبر أن هذه الجريمة موجهة لجميع العراقيين والأقليات الدينية والعرقية بصورة خاصة. وهي تدعو جميع مكونات الشعب العراقي للعمل يدا بيد مع الحكومة العراقية وقواها الأمنية بمختلف أشكالها لوضع نهاية قريبة لكل هذه الانتهاكات من اجل مصلحة الوطن العامة و الالتفات لبناء مؤسساته وإعادة أعمار ما دمر منها ومن بنيته التحتية من خلال مصالحة وطنية حقيقية و مشاركة جميعها في الحوار الدائر على صعيد المجتمع الدولي.                                         

 
منظمة الأقليات العراقية
مكتب العلاقات والإعلام 

406
مستقبل أجيالنا، إلى أين؟


لويس إقليمس


دخل العراق في نفق مظلم إذ أبعدَ عن أطفاله وشبابه وشيبه كل حلمٍ جميلٍ بمستقبلٍ واعدٍ، وحياة حرةٍ كريمةٍ. كان يُفترض أن يأتي بها القادم المتمدِّن على أزيز الدبابات "المحرِّرة". لطالما سعى الكثيرون من اجل تحقيق هذا الحلم، وسهروا الليالي من أجلِه. مع ذلك لم يكتمل هذا وأصبح بعيدَ المنال. لكن "الديمقراطية الموعودة" لم نكن نعلم أن حضورها سيكون غريباً إلى هذه الدرجة عن أبناء الرافدين المعروفين بتكيُّفِهم مع كلِّ حدثٍ جديد وكلِّ تطوّرٍ.

 
يعيش العراقيون، منذ أكثر من 4 سنوات، في مستنقع حربٍ، يسمّيه البعض بالطاغوت العالمي، الذي يبدو أنه استنفد كل محاولاته وحيله الدبلوماسية والسياسية بعد مغامراته العسكرية غير المثمرة، ممّا فضح جهله وتعنّته غير المبرّر في الإيغال في مشروعه الفاشل في العراق. وأسباب فشله كثيرة من حيث التوقيت والتخطيط والتنفيذ والتمويل والاستشارة الفاشلة في الداخل والخارج، والأنكى من ذلك لجوء المحرّر "الغازي" إلى تفتيت لَـُحمة أبناء شعبٍ كان قد وصل إلى نسبة من التكافل والتآخي والتوازن وقَدرٍ من الحياة الاجتماعية المقبولة. فجاءت النتيجةُ هرجًا وقهرًا وبطشًا، قتلا وتهجيرًا، خطفًا ونهبًا، حُزنًا ويأسًا عمّ البلاد وطال العباد وشمل الصغار والكبار بدون هوادة أو خشية من الله والضمير والدّين. لقد عُرٍض العراق للبيع علنًاً. وتجمّع حول جثّته الغنية بالثروات، كل أشكال الناس، من الداخل والخارج وأحاطته شركات غريبة أو وهمية تعمل بواجهات أمنية وثقافية واجتماعية ومدنية متعددة. فراحت مؤسسات تتبارى في نهش جسده، ولم يسلم من ذلك حتى بعض أبنائه ومواطنيه، فكانت لهم حصّة في السلب والنهب، كل على طريقته! وكاد يصبح بواراً إلاّ من ثرواته التي يتصارع عليها كثيرون ومن بينهم "المحرر الغازي". هكذا بدأ أبناء العراق يسبحون في بحر من الحقد والموت، تتعالى فيه صيحاتُ الثكالى والمرضعات والمرضى. والأنكى هو تكالب السلطويّين الجدد على مال وحلال أصحاب الأرض موطناً ومواطنةً.
تجارب الآخرين
إن تسارع الأحداث العالمية، واشتداد وطأة التوترات الدولية في كل بقاع العالم، زاد من التحدّيات التي تواجه الإنسانية جمعاء، وتضع الضمير الإنساني على المحكّ. فتصوّر لنا وجود عالمٍ متكافلٍ وآمنٍ، تجسُّدُهُ قيمٌ إنسانية، من شأنِهِ أن يكون العصا التي تتعكّزُ عليها الدول والمؤسسات، فيعكس، هذا العالم الجديد، حاجة البشر إلى حياةٍ حرّةٍ وآمنٍة تضمن مصالح الوطن والمواطن، وتعزز سبل السلام والألفة والحوار. فمن هنا تكون ممارسة الديمقراطية في بلادنا مقبولةً إذا ما قورنت بالتي توازنت بفضلها شعوب متمدّنة، وبُنيت على أسسها أممُ متحضِّرة ويتوق إليها شعوبٌ ودولٌ نامية، غاياتها عيشِ كريمٍ.
لقد واجه العالم العولمة بعنف بعد انحسار النظام العالمي السابق ذي القطبين، ممّا سبّب اختلال الموازنات التقليدية، وأعاد إلى الأذهان ضرورة التفكير بتشكيلِ برامج على جميع الصُعُد. فبعد سقوط الشيوعيّة دخل العالم مأزقًَاً آخر ببروز قطبٍ أحاديٍّ تمثّل بقوةٍ طغت واستبدّت في عالم المتناقضات بين المصالح القومية والوطنية والإقليمية. فاقتضت الحاجة إلى ظهور أقطاب أخرى من شأنها تأمين استقرار البلدان وتوازنها، بعدما عانت من تأثير ونتائج القطبية الثنائية، إقليمية كانت أو عالمية. إنّ قيام أقطاب جديدة يمكن أن يضع حدّاً للفوضى التي تعمّ العالم في مرحلة حرجة ولاسيّما في الشرق الأوسط.

الأنموذج الأوربي ودوره

إن بروز أوربا كأنموذج يتمثل باتحاد دول بدأت بخطواتٍ محسوبةَ، يُرجى منهُ فكّ الخناق المفروض على الشعوب "النامية" وبلدان العالم الثالث. فتشير الحقائق العملية إلى حاجة هذه الأخيرة إلى فهمٍ أعمق وأوسع للتطورات التي صاحبت عالم اليوم، بدلَ الغوص في ترّهات المظاهر أو الرجعية. إذ لا بدَّ من حوارٍ مفتوح وصريحٍ بين الثقافات والحضارات والأديان. لقد كان البابا الراحل يوحنا بولس الثاني صائبا حينما دعا، في مدينة أسيزي الإيطالية (1986) إلى حوار بين ممثلي مختلف الأديان والثقافات، فحدث ذلك في أجواء جديدة ومتحضِّرة، قامت على المبادئ الإنسانية أولاً، واستقت كلَّ ما هو جميلٍ وصالحٍ من تراثها الديني وحضارتها لفائدة البشر وتعزيز التعايش السلمي بين الشعوب.
فقد كان ذلك البابا، القادم من بولونيا وراء الستار الحديدي، يعرف ما هي مظاهر الظلم وغياب المساواة بين الشعوب والأمم، ولاسيّما الفقيرة منها بسبب تسلّط سلاطينها دون وازعٍ من ضمير أو دينٍ أو إنسانية. فبقي العالمُ في مرحلة نقاهة، لكنه التفت إلى محاولة تطويع النظام الليبرالي لمصلحة الشعوب المغلوبة والرازحة تحت نير ديكتاتورياتٍ متعددة الأطوار والمناهج والغايات. وبفضل وسائلِ الاتصال الحديثة، أضحى العالم "قريةً صغيرةً"، يُرى من خلال شاشة التلفاز والحاسوب! لكن في ذلك أيضًا مغامرة في طريق محفوفة بالأخطار، فرضت على الشعوب اختيارًا بين مستقبلٍ يصعب التنبّؤ به، ورغبةً جامحة في الانكفاء.

دورٌ أكبر لصانعي المحبة و السلام

في خضمِّ هذا البحر المتلاطم، برزت الحاجة إلى صنّاع سلام وناشري محبة لوقف المدِّ الكاسح للانتهاكات التي ضربت البشرية في عمق أسارير صورة الله وجمالِه المرسومة فيها. وما أجملَ عبارة المسيح: "طوبى لفاعلي السلام، فإنهم أبناءُ الله يُدعَون"، فهي التي رفعت البشريةَ إلى مقامِ سامٍ، وفاعليها إلى أحباب الله الخالق محب الجمال، والرحمن يريد رحمة، والغفور يصفح عن التائبين. لأجل تحقيق هذه الرغبة-الوصية، لا بدَّ من موازنة بين المصالح الذاتيّة وبين بعدها الموضوعيّ، فتكون الخطى واثقة وحثيثة نحو تفعيل الرهان المأمول على مصالح الوطن والدولة. ونظرًاً إلى دخول عالمنا حقبة جديدة، كان لا بدَّ من استحداث ديناميكية تعمل في المجالات الاجتماعية والسياسية، لتخفيف الصراع بين الحضارات والثقافات.
إن سبب الصراع أيديولوجي ضيّق إمتدّ إلى الفكر والدين بل إلى المذهب ليتقوقع. فأخذ العراق قسطُه من هذا الصراع، بعد التغييرات المأساوية التي شهدها منذ نيسان 2003. ويُعزى جزء كبير من واقع هذا الصراع الدّامي وحيثيّاته إلى جهل كبير بأمور الدّين وتفاسيره. فكان الأجدر أن يعي الجميع أن أشّد المحرّمات هو ما يمزّق النسيج العراقي بلا مبرّر، أي خدمة مصالح فئوية ومذهبية ضيقة. ولا نريد هنا أن تتكرّر المآسي والأخطاء عينها، فتكلفنا أضعاف ما فقدناه حتى الآن. حتى أصبحت منطقة الشرق الأوسط مركزاً لزلازلَ لا حصرَ لها وأزماتٍ متفاقمة، استعصت على العالم الذي اكتشف مساوئ القطب الواحد.
لذا أصبح لأوربا دور أكبر لتوضيح الصورة وفهم المستجدّات في المنطقة. فهي كثيرًا ما حذّرت المحافل الدولية من منطق "الكيلِ بمكيالين"، وعارضت – وإن على خجل أحيانًا كثيرة - إنتهاكات حقوق الإنسان. فكان لفرنسا مثلا، مواقفُ صريحةً قبلَ شنّ الحرب على العراق، فشككت بعواقبها على وحدة نسيجه الاجتماعي واستقرار المنطقة، فأصبحَ كلُّ بلدٍ يتخوّفُ على مستقبلِهِ، ويقلق على أمنه واستقلاله الوطني، فوفّر ذلك أرضيّةً خصبةً للإرهاب. من هنا كان على الغازي "المحرِّر" (!) أن يعي خطورةَ المسألة منذ الوهلة الأولى لفشله، فينسحبَ من العراق، تاركاً شركاءَ الأمسِ وفُرقاءَ اليوم يحلّّون عقدتَهم مع من بقي في البلد بعدما تحمل المرَّ والمشقات. لقد خسر "المحرِّر" ثقة الشعب العراقي، الذي كان ينتظرُ منه أن يكون فاَعل سلام وصانع ألفة بين شرائح العراق كافة.

خاتمة

لقد سبقتنا شعوبٌ وأممٌ عانت الويلات في تاريخها، لكنها لم تنزلق إلى هذا التطاحن الداخلي الطويل، والتفنّن في القتل والسلب والخطف، بل أصغت أخيرًا إلى صوت العدل واحتكمت إلى العقل. تلكُم هي أوربا مع خطة مارشال التي أنهضت ألمانيا، وآلت إلى المصالحة بين عدوين لدودين فرنسا وألمانيا، فتجاوزت تاريخ حروبها وخلافاتها الإقليمية. وهكذا تبدّدت هواجس الماضي وفـُتحت صفحة من التعاون والتضامن والتطوّر المشترك، أمَّنَ لها بلوغَ وحدةٍ قارّيةٍ تمثلت بالإتحاد الأوربي، فأصبح بعد نصف قرن ذا شأن يُحسبُ له حسابٌ حقيقي في المعادلة الدولية. بل أصبح ملاذاً ومعقلاً للسلام والديمقراطية في العالم. ذلك أنه وضع كلّ أسباب التوتر والخلاف جانبًاً، من أجل مصلحة شعوبه وتطوّرها وتنميتها وتعزيز بنيتها التحتية. إن توترات العالم لم ولن تنتهي بمجرّد توقف الحروب أو زوالِ الدكتاتورية، فالإنسانُ منقسم على نفسه بين ما يريد أن يكون، وبين ما يسعى إلى امتلاكه، طبيعته مبنيّة على هذا الشد بين الإثنين وهذا الذي يظهر في الغالب كتناقض، يسبب الخلاف والعنف، وينتهي بالحروب. مع هذا لا ينبغي أن يسيطر عليه اليأس بل أن يتطلّع دوماً إلى الأمام، فأنظمة اليوم لن تدوم، والغدُ لناظرِهِ قريب! هذا ما دعا إليه الأنبياء في أحلك ساعات البشرية.

تنويه: المقال نشرته مجلة الفكر المسيحي في عددها الأخير لشهري ت2 وك1 2007

لويس إقليمس


407
بيان من منظمة الأقليات العراقية

تستنكر منظمة الأقليات العراقية الجريمة النكراء التي طالت مواطنين أبرياء من أبناء الأقلية القومية والدينية الإيزيدية في قضاء سنجار والتي راح ضحيتها المئات.
إن هذا الاعتداء الآثم الذي يُضاف إلى سلسلة الجرائم التي تُقترف بحق القوميات الدينية والاتنية الأصيلة القليلة العدد التي كانت لحد الأمس القريب مثالاً للتعايش الأخوي مع غيرها من أبناء القوميات والديانات التي تشكل النسيج العراقي المتحضّر ، لن يكون بإمكانه تعطيل سبل الحياة الإنسانية التي اتصف بها عموم أبناء هذا الشعب الجريح. وإن التاريخ لن يغفر لكلّ من كان السبب في تأجيج الصراع الطائفي والديني والمذهبي والذي يتعمّق يوماً بعد آخر في ضوء الترتيبات الجديدة للبيت العراقي الذي أراد له الغرباء والدخلاء أن يبقى غاطساً في مستنقع  الصراعات متعددة الأشكال والأهداف والأجندات التي لا يهمها مصلحة أبناء الرافدين الأصلاء بقدر ما تحرص على إذكاء النزعات الطائفية المقيتة وإبقاء أوارها متأججاً قدر ما تستطيع للحصول على المزيد من المصالح وتحقيق أرباح تعتقد أنها من حقها لوحدها.
أن منظمة الأقليات العراقية التي حذرت مثل غيرها من القوى الوطنية التي تؤمن بالتآخي والتعايش السلمي بين جميع أطياف الشعب لعراقي، من خطورة مباركة وإبقاء نظام طائفي يسعى لإرساء نار الحقد والضغينة بين أبناء الشعب الواحد  يتراءى لها أن التحالفات الجديدة لن تساعد سوى في تعميق نهج الإقصاء والتجاهل والإنكار الذي أتت به الأغلبية الحاكمة والتي أثبتت الوقائع عدم نجاعها في إخراج البلاد من الأزمات العديدة التي أحدثت شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي الواحد. وهي ترى أيضاً أن الاتفاق الجديد ليس سوى وسيلة مبتكرة وجديدة لتمرير مشاريع قوانين جديدة تخدم مصالح اللاعبين الكبار فقط، فيما لا نسمع حتى في أجندات المحتلّ وتصريحاته وتسريباته الإعلامية وتحركاته السياسية سوى التركيز على ما أسمي بتحالف المعتدلين الذين تقاسموا منذ بدء الأحداث المأساوية الثروات وتركة الوطن الغنية تحقيقاً لمصالح كتلهم وأحزابهم كلٌّ وفق أجندته الخاصة والجهة المرتبط بها إقليمياً ودولياً. لذا فإننا نحذّر من أنّ سياسة الإقصاء والتهميش والاحتواء والتجاهل التي تُمارس بحق شريحة واسعة من مكوّنات الشعب العراقي ولاسيّما الأقليات القومية والدينية منها تلك التي استبعدت من العملية السياسية بقصد وسابق إصرار لن تساعد في تحقيق المصالحة الوطنية المأمولة بسبب النهج الطائفي الواضح وإصرار الإدارة الأميركية على سياستها في توسيع الانقسام بين الفرقاء صغاراً كانوا أم كباراً من وجهة نظرها القاصرة.
إن منظمة الأقليات العراقية إذ تحمّل المحتلّ والحكومة العراقية على السواء هول المأساة التي تعرّض لها الشعب الإيزيدي المسالم والأصيل لا يسعها سوى التأكيد على حرصها بضرورة عدم التمادي في تحقيق المصالحة الوطنية على أسس صحيحة وغير مبتورة الأطراف من خلال مشروع وطني صالح لجميع المكوّنات الصغيرة والكبيرة دون تمييز أو تهميش أو تقصير. إننا نؤمن أن جميع العراقيين متساوون في الحقوق والواجبات وأمام القانون دون تمييز في العرق أو الدين أو القومية أو اللغة مع توفر قدر كامل من حق الحرية في التعبير والدين والعبادة وفقاً لشرعة حقوق الإنسان المعترف بها دولياً وإنسانياً. كما نهيب بالمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني والحكومات المعنية لصحوة في الضمير الإنساني من خلال العمل على تقويض العنصر الطائفي الذي يضرب البلاد والعباد الأبرياء لاسيّما المستضعفين منهم وبالأخص الذين يشكلون الحلقة الأضعف في المعادلة السياسية العراقية لعدم امتلاكهم ما يمكن أن يدافعوا به ضدّ مثل هذه الهجمات الظالمة التي طالتهم وماتزال.
إننا ندعو أخيراً بالراحة للأبرياء الذين سقطوا صرعى الصراعات الطائفية والدينية دون وجه حق إلاّ بسبب الحقد والضغينة والعداء لكل صوت ينادي بالحق و يؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع. كما نعزّي عوائل الشهداء وأهلهم وذويهم ورئاسة طائفتهم داعين من الله سيد كل الكائنات ومآل كل الأديان والقوميات أن يرسي السلم والأمان ويهدي الساسة وأصحاب السلطان لاتباع طريق الحق والعدل والمساواة وترسيخ سبل التآخي والتعايش بين أبناء الشعب الواحد.
والله من وراء القصد

منظمة الأقليات العراقية
مكتب العلاقات والإعلام
 بغداد، في 16 آب 2007                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           

408
بيان من منظمة الأقليات العراقية

تنظر منظمة الأقليات العراقية بعين القلق والخوف إلى تردّي الأوضاع المتصاعد  في الشارع العراقي.  وهي تذكّر بما خلّفته و تخلّفه هذه الظاهرة المتنامية من مآسي وويلات وانعكاسات على أبناء الشعب العراقي عامة وبخاصة أبناء المكوّنات القومية والدينية القليلة العدد التي أصبحت الحلقة الأضعف واللقمة الأسهل لشتى عمليات التطهير الديني والعرقي والعقائدي من قبل جماعات وفئات مختلفة المصالح والتوجهات والتي بدورها تنساق هي الأخرى وراء مرجعيات متباينة الأهداف والمبادئ.
إن هذه  الحملة الشعواء التي تُشنّ في هذه الأيام السوداء على الرموز المسيحية وأبناء طوائفها في عموم العراق الجريح من تهجير قسري وتهديد بالقتل ودعوة إرهابية لأسلمتهم ومطالبتهم بدفع الجزية مقابل أمنهم، تذكّرنا بما تعرّض ومازال يتعرّض له أخوتهم من المكوّنات الأخرى من الشبك والإيزيدية والتركمان في مناطق الموصل وكركوك بخاصة أو الصابئة المندائيين في وسط وجنوب العراق أو الكورد الفيليون في مناطق تواجدهم الأصلية.
إننا ندين بشدة الجريمة النكراء التي طالت يوم الأحد المنصرم 3 حزيران 2007 كوكبة بريئة من إخوتنا المسيحيين من" الكلدان السريان الآشوريين "  متمثلة بالأب الغيور رغيد كنّي ومعه ثلاثة من شمامسة كنيسته في حي النور بمدينة الموصل الحدباء وكذلك حادثة الخطف الجديدة يوم أمس الأربعاء 6 حزيران التي تعرّض لها كاهن آخر ومعه عدد من شباب الكنيسة أيضاً في منطقة الصليخ في بغداد. وكان قد سبقها قبل أشهر جريمة أخرى طالت  الأب إسكندر الذي اختُطف وتم التمثيل بجثمانه الطاهر في مدينة الموصل أيضاً.
وبهذا نحمّل الحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية العاجزة مسؤولية هذا التردّي الحاصل في الجانب الأمني. كما نأخذ على الجانب المحتلّ وقواته وقفة المتفرّج المتشفّي لما يتعرّض له أهلنا وأخوتنا  من جميع الطوائف والمكوّنات التي تشكّل النسيج العراقي المتآخي وهو لا يفعل شيئاً.
إن منظمة الأقليات العراقية إذ تدين كل أشكال الإرهاب والقتل والخطف والتهديد التي تطال الجميع دون استثناء بسبب غياب الوعي الوطني الصادق، تدعو المجتمع العراقي للعودة السريعة للتآلف والتعايش الإيجابي كما كان نسيجه بالأمس القريب بعيداً عن كل أشكال التمييز في العرق والدين والقومية والمعتقد واللغة. وهي تذكّر أن هذه الأقليات التي يُنظرُ إليها اليوم شزراً وبشئ من التغاضي والتجاهل والتهميش بسبب حجمها العددي القليل، كانت بالأمس القريب و البعيد أغلبية بل سيدةً وهي ما تزال تعيش أصالتها الحضارية المتجذّرة  في عمق التاريخ منذ زمن بابل وسومر وأكد وآشور. إننا مطالبون بالوقوف حزمة واحدة إزاء العدوّ المشترك الذي يهاب وحدتنا ويقلق من معافاتنا ويسعى لتجزئتنا كي يحقق مخططاته الشريرة عبر هذه الأعمال الإرهابية التي يندى لها جبين الإنسانية.
إننا ندعو المجتمع الدولي  وكل ذوي النوايا الحسنة محلياً وإقليمياً ودولياً لإخراج وطننا من المأزق الذي وضعه فيه الغزاة ومعهم الفئة التي ترجّحت كفتها للعبث بمقدّرات هذا البلد الغني ونطالب بحماية دولية لأبناء الأقليات التي تشكل جزءاً حيوياً وفاعلاً في النسيج العراقي في الكفاءة والإخلاص والولاء للوطن دون غيره. كما ندعو من أغواهم الشرّ من أبناء العراق الكبير للعبث وإلحاق الأذى بإخوتهم أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم ويكفّوا هذه الأفعال التي لا تخدم غير الغريب قبل القريب. والله سميع مجيب.

منظمة الإقليات العراقية
بغداد، في 7 حزيران 2007

409
منظمة الأقليات العراقية

م/ هيكلية المنظمة

أولاً:
 عقدت الهيئة العامة لمنظمة الأقليات العراقية اجتماعاً بتاريخ 25 أيار 2007 في مقرّها في شارع فاسطين في بغداد. خُصّص هذا الاجتماع لانتخاب الإدارة الجديدة للمنظمة  بعد إقرارها للنظام الداخلي الذي استغرق فترة غير قصيرة للمراجعة و التعديل في بعض بنوده في ضوء التطورات والآليات الجديدة التي كان شهدها مجلس الأقليات العراقية (وهي التسمية الأصلية التي طالبتنا بغييرها الدائرة المختصة بتسجيل المنظمات غير الحكومية). وقد تمّ اتباع آلية شفافة فريدة في العملية الانتخابية لانتخاب 21 عضواً لمجلس الإدارة الجديد كي يشمل:
-   نخبة من المؤسّسين (7 أعضاء أي بعدد المكوّنات التي تشكّل المنظمة)
-   نخبة من مرشحي الكيانات (7 أعضاء بعدد المكوّنات بترشيح مفتوح لكل مكوِّن)
-   نخبة من المستقلين دون تمييز في المكوِّنات (3 أعضاء)
-   نخبة من النساء الفاعلات دون تمييز في المكوِّنات (4 أعضاء)

جرت عملية الاقتراع السرّي  تحت إشراف لجنة شُكّلت لهذا الغرض وقد فاز في عضوية مجلس الإدارة الجديد كلٌّ من الذوات التالية أسماؤهم:
* من المؤسسين:
1-   د. حُنَين القدّو (الشبك)
2-   نزار ياسر الحيدر (الصابئة المندائيين)
3-   لويس إقليمس ( الكلدان السريان الآشوريين)
4-   محمد أدهم (التركمان)
5-   عبدالرزاق حسين محمد (الكورد الفيليين)
6-   باروير هاكوبيان (الأرمن)
7-   بيداء سالم النجار (ألأيزيدية)

* من مرشحي المكوِّنات:
1-   بوغوص بطرس (الأرمن)
2-   حسين درويش خوديدة (ألأيزيدية)
3-   فيحاء زين العابدين البياتي (التركمان)
4-   هيثم سليمان متي ( الكلدان السريان الآشوريين)
5-   عامر ثامر (الكورد الفيليين)
6-   ستار جبار (الصابئة المندائيين)
7-   محمد حسن بك (الشبك)

* من المستقلين:
1-   جنان صليوا يوخنا ( الكلدان السريان الآشوريين)
2-   لقمان سعيد (الشبك)
3-   محمد إبراهيم علي (الشبك)

* من العنصر النسوي:
1-   وداد رجب رحيم (الكورد الفيليين)
2-   سميرة رمضان رحيم (الكورد الفيليين)
3-   وسن بدر وارتان ( الكلدان السريان الآشوريين)
4-   دينا النقيب (التركمان)

ثانياً:
استكمالاً لانتخاب هيئة رئاسية متمثلة بالرئيس ونائبيه وعضوين آخرين للسكرتارية العامة بموجب النظام الداخلي الجديد، فقد تم بالإجماع إعادة انتخاب الدكتور حُنَين القدّو رئيساً للمنظمة وذلك للجهود الحثيثة التي بذلها و مازال من أجل تطوير عمل المنظمة.
 كما تم انتخاب كلّ من السيدين ثامر عامر ونزار ياسر الحيدر نائبين للرئيس من أصل ثلاثة أعضاء ترشحوا لهذين المنصبين من بين أعضاء مجلس الإدارة الجديد.
 فيما فاز كلٌٌّّ من السيدين هيثم سليمان متي و لويس إقليمس بعضوية هيئة السكرتارية للمقعدين الآخرين بعد ترشّح أربعة أعضاء من مجلس الإدارة لهذين المقعدين.
 وبذلك تكون هيئة السكرتارية العامة قد تشكّلت من كلّ من السادة:
1-   الدكتور حُنَين القدّو ، رئيساً
2-   2- السيد عامر ثامر، نائباً للرئيس
3-   السيد نزار ياسر الحيدر، نائباً للرئيس
4-   لويس إقليمس، عضواً
5-   هيثم سايمان متي، عضواً

ثالثاً:
وفي احتماعٍ لاحق عقده مجلس الإدارة الجديد بتاريخ 1 حزيران 2007، جرى توزيع المسؤوليات على المكاتب الأربع للمنظمة بالتوافق وكالتالي:
1-   السيد نزار  ياسر الحيدر، مسؤولاً على مكتب الإدارية والقانونية والمالية
2-   السيد عامر ثامر، مسؤولاً عن مكتب حقوق الإنسان
3-   السيد هيثم سليمان متي، مسؤولاً عن مكتب المشاريع
4-   السيد لويس إقليمس، مسؤولاً عن مكتب العلاقات والإعلام

فيما تم الاتفاق على تشكيلات اللجان المنبثقة عن المكاتب وكما يلي:

1-   مكتب الإدارية والقانونية والمالية:
أ‌-   اللجنة القانونية: السيد محمد حسن بك
ب‌-   اللجنة الإدارية: السيد بوغوص بطرس
ت‌-   اللجنة المالية: السيد محمد أدهم
2-   مكتب حقوق الإنسان:
أ‌-   لجنة رصد الإنتهاكات: السيدة فيحاء زين العابدين البياتي
ب‌-   لجنة المرأة: السيدة سميرة رمضان رحيم
ت‌-   لجنة المدافعة: الآنسة دينا شرف الدين النقيب
3-   مكتب المشاريع:
أ‌-   اللجنة التنفيذية: السيد عبدالرزاق حسين محمد
ب‌-   لجنة الدراسات والتقييم: السيد ستار جبار رحمن
ت‌-   اللجنة الثقافية: الأنسة جنان صليوا يوخنا
4-   مكتب العلاقات والإعلام:
أ‌-   لجنة العلاقات الخارجية: السيد حسين درويش خوديدة
ب‌-   لجنة العلاقات الداخلية: السيدة وداد رجب رحيم
ت‌-   اللجنة الإعلامية: السيد محمد إبراهيم علي

ملاحظة: يُنتظر استكمال أعضاء هذه اللجان من الأعضاء الباقين في مجلس الإدارة أو من المؤسسين الذين لم يحالفهم الحظ في الفوز في هذه الدورة أو من المتطوّعين من أعضاء الهيئة العامة، علماً أن هذه الدورة الانتخابية نافذة لمدة عامين قابلة للتجديد.

رابعاً:
تم اعتماد عدد من السادة المؤسسين للمنظمة ومن الناشطين في مجال المدافعة عن حقوق الأقليات والمعنيين بشؤونها من المتواجدين خارج البلاد ليكونوا ممثلي مكاتبنا في هذه الدول، وسوف يتم لاحقاً استكمال هذه المسؤوليات، وهم كالتالي:
1-   السيد بشار حربي السبتي، ممثلاً لمكتبنا في الأردن
2-   السيدة بيداء سالم النجار، ممثلة لمكتبنا في سوريا
3-   السيد خالد ياسر الحيدر، ممثلاً لمكتبنا في كندا

خامساً:
سيتم تشكيل هيئة استشارية للمنظمة من عدد من السادة المؤازرين لحقوق الأقليات من الشخصيات العامة المسؤولة في الدولة والبرلمان و من المثقفين إلى جانب الزملاء المؤسسين الذين لم يحالفهم الحظ في الفوز في الدورة الانتخابية الحالية أو من الذين اضطرتهم الظروف لمغادرة أرض الوطن.

هذا وقد أقرّت الانتخابات وصدر أمر إداريّ بمشروعيتها.


منظمة الأقليات العراقية / مكتب العلاقات والاعلام
بغداد ، في 5 أيار2007

410
إيضاح حول عقد المؤتمر الشعبي للكلداني السرياني الاشوري
في اربيل

بهدف دعم كافة الجهود الجارية لقوى شعبنا الكلداني السرياني الآشوري الواحد والرامية لخلق الأرضية المتينة والصحية لترسيخ ما تم إنجازه وإكمال ما فشلت في تحقيقه، ارتأى المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي المشاركة في المؤتمر الشعبي الكلداني السرياني الاشوري الذي سيعقد في عاصمة كردستان العراق, "أربيل" للفترة من 12-13 من آذار الجاري رغم التحفظ المطروح حول الجهات المنظمة والمّمولة لهذا النشاط المهمّ.
إننا في المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي، كنا دوما من المبادرين إلى لمّ شمل إرادة شعبنا الواحد بتسمياته المتعددة والداعين دوماً إلى توحيد المنابر المشتتة سعياً وراء تسهيل آليّة الحصول على كامل حقوقنا الوطنية أولاً وتثبيت حقوقنا القومية المتميّزة الثقافية منها والدينية والاجتماعية والاقتصادية على السواء. لقد سعينا إلى ذلك في مناسبات عديدة واستطعنا فعلاً جمع الأطراف المعنية بشؤون وشجون          وحقوق شعبنا على مدى حلقات متعاقبة قبل نحو عامين. كما دعونا إلى رصّ الصفوف والاتفاق على عقد مؤتمر ثان اكثر شمولية تشارك فيه كل الفصائل والتيارات والمنابر القومية المتعددة والمنتشرة في الداخل والمهجر آملين تحقيق هذه الرغبة الملحة في أقرب فرصة متاحة. إننا على يقين بأن ما يجمعنا كثير وما يفرقنا لا يقع سوى في آليّة العمل أو التنفيذ أو التحرّك. ونحن نعتقد أن ذلك ممكنٌ فقط إذا خلصت النيات وتسامى دعاة الحقوق فوق كلّ الاختلافات والانتماءات و الولاءات، السياسية منها والدينية والطائفية على السواء.
لقد كان مجلسنا المحايد، وهو الذي ولد مباشرةً بعد أحداث نيسان 2003، من رحم شعبنا بمباركة رؤساء طوائفنا المسيحية الموقرين ومؤازرة أحزابنا الفتية المناضلة ودعم مثقفينا من المستقلين ومن العاملين في جمعيات ومنظمات مدنية يهمّها المصلحة العليا لشعبنا الواحد, لقد كان هذا المجلس من المؤازرين دوما لمثل هذه اللقاءات والحوارات بغية التوصل إلى الصبغة المشتركة لتجميع قوى وطاقات شعبنا المبعثرة ورصّ صفوفه من أجل تحقيق أوسع المكاسب ونيله كافة الحقوق المشروعة لمكوّنه التاريخي الأصيل أسوة بباقي مكونات الشعب العراقي.
إنه وانطلاقاً من المبادئ أعلاه ومن حرصنا على توحيد الخطاب القومي الصحيح والمقبول لشعبنا الكلداني السرياني الآشوري وبهدف توضيح وجهة نظرنا على المؤتمرين الأعزاء، كان لبدّ لنا من تسجيل الملاحظات التالية:
إن أية مطالبة بتوحيد الخطاب القومي والسياسي لشعبنا لابدّ أن ينطلق من كوننا شعباً واحداً ليس بالكلام فقط بل بالفعل والعمل والممارسة اليومية بدل الإيغال في التعصّب الأعمى الذي لا نفع منه والاستمرار في المناورات المراوحة التي بدت مكشوفة من جميع فصائلنا ولكافة أبناء شعبنا. وهذا يتطلب قسطاً من التضحية ورحابة الصدر والاستعداد لقبول الآخر والاستماع إلى صوت العقل والعودة إلى عمق التاريخ وأهمية الحضارة التي ما نزال نفخر بها والمتجسدة في ثقافتنا ولغتنا وتراثنا وكفاءاتنا وطبيعة علاقاتنا المتميزة عن غيرنا من باقي مكوّنات الشعب العراقي.
ندعم بكل قوّة وبنيّة خالصة كل الجهود الرامية لتحقيق مكسب وطني مستقلّ بإنشاء إدارة لامركزية أو نظام متميّز لحكم ذاتيّ يتمتع بكافة الحقوق التي يضمنها الدستور العراقي الجديد في مناطق تواجد أبناء شعبنا في سهل نينوى الآشوريّ "الآراميّ – السريانيّ" في الحضارة والثقافة والتاريخ والذي لا نريده أن يقع فريسة بين مطرقة وسندان الأطراف المتربصة بنا. إننا نأمل تواصل التعايش السلميّ والأخوي مع جميع المكوّنات الجارة الأخرى بما يعزّز الحسّ الوطني والعدالة والمساواة لدى الجميع وللجميع.
السعي إلى لمّ الصفوف ودمج الجهود المبعثرة بسبب تشتت المنابر الناطقة باسم شعبنا المتناثر في الداخل وفي المهاجر من خلال إيجاد صيغ أوسع للتعاون والتشاور وتبادل الآراء مع رئاساتنا الكنسية التي نكنّ لها كل الاحترام. إننا نؤيد تواصل المشاورات بين هذه الرئاسات الكنسية مع كلّ ذوي النيات الخالصة من فصائل شعبنا الحزبية منها والمدنية والمستقلّة وبما يضمن استقلالية القرار القوميّ لشعبنا الواحد بعيداً عن التأثيرات السياسية الجانبية والمغريات المادية والمعنوية و"الإملاءات المهجرية" التي أحدثت شرخاً في وحدة شعبنا وعمّقت في وسطه الفرقة والتجزئة بدل توحيده ونشله من الضياع.
الالتزام بالحق الشرعي الذي خوّله شعبنا ممثليه في البرلمان العراقي ليكونوا ناطقين أمناء باسمه وليس باسم الكتلة أو الطائفة أو الحزب أو المذهب الذي ينتمون إليه، وتلك أمانة في أعناقهم. أمّا نحن، أحزاباً ومنظمات مدنية ومثقفين مستقلين، فليس لنا سوى شرف التحاور والنقاش والتوعية والمؤازرة وبذل الجهود الممكنة لتمكين ممثلينا من مطالبة أصحاب القرار برفع كل أشكال الغبن والحيف والتهميش التي طالت شعبنا من خلال التعريف بهمومنا وطرح معاناتنا ومشاكلنا والمطالبة بتثبيت وترسيخ حقوقنا في المواطنة الكاملة أسوةً بباقي مكوّنات الشعب العراقي. كما نعتقد دوماً أن صناديق الاقتراع وحدها،هي الكفيلة دوماً بتسمية من هو الأجدر لتحمّل مسؤولية تمثيل شعبنا في المنابر الوطنية والدولية بعد التشاور مع الفصائل والمنابر والمؤسسات المعنية بشؤون شعبنا.
سعينا الحثيث للعمل على عقد مؤتمر قوميّ شامل ثانٍ لمراجعة مقررات المؤتمر الأول الذي عُقد في ظروف مستعجلة مثيرة للجدل و غير متكاملة و من أجل الخروج بمقررات تتناسب والتحديات المستجدّة على الساحة السياسية والقومية معاً. كما نرجو من هذا المؤتمر العمل على حلّ إشكالية التسمية القائمة برويّة ودون تعصّب أو إصرار على المواقف المتشنجة وتفضيل التسمية المتعارفة دولياً وحضارياً وتاريخياً من قبل معظم الفصائل والمنابر والمؤسسات.

مع تمنياتنا للمؤتمر الشعبي الكلداني السرياني الآشوري بالتوفيق في أعماله لما فيه مصلحة شعبنا العليا التي تحفظ له وحدته وحقوقه وحضارته وتاريخه وثقافته وحياته الكريمة في عراق موحد، مزدهر وآمن.
المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي
هيئة السكرتارية العامة

411
حضرات السادة الكرام

 

يسرنا إعلامكم بتحقيق لقاء لعدد من ممثلي الأقليات في مجلس الأقليات العراقية مع Corey Levine مديرة قسم حقوق الإنسان في برنامج المجتمع المدني العراقي ICSP  يوم الأحد الموافق 25 شباط الجاري 2007 في مقر دائرة البرنامج بحضولر السيد أسامة خليل ابراهيم مدير العلاقات والبرامج.

تناول اللقاء استعراض عام لمسيرة المجلس قدمها السيد نزار الحيدر نائب رئيس مجلس الأقليات العراقية، تلتها أحاديث لممثلي الأقليات تطرق فيها المتحدثون إلى بعض من معاناة المكونات التي ينتمون إليها وهم كل من السادة:

1- محمد حسن بك من الشبك

2- ستار جبار من الصابئة المندائيين

3- لويس إقليمس من الكلدان السريان الآشوريين

4- طالب نوروز من الكورد الفيليين

5- حسين درويش من الإيزيدية

6- محمد أدهم من التركمان

 وقد تغيب عن اللثاء ممثل الأرمن.

 

من جانبها استعرضت  السيدة "كوري" طبيعة عمل منظمتها والمشاريع التي تتولى تحقيقها في العراق. كما أشارت إلى الغاية من هذا اللقاء وهو تحقيق هدفين:

أولهما معرفة الوضع حول الأقليات العراقية و الثاني بيان اهتمام المنظمة بالأقليات العراقية ونظرتها إلى موضوع الفيدرالية الواردة في الدستور. وأكدت حرص المنظمة على التعاون مع مجلس الأقليات الذي له أصبح يتمتع بسمعة طيبة في أوساط المنظمات الدولية.

بعدها استعرض السيد هيثم سليمان مجالات التعاون المحتملة مع هذه المنظمة وإيصال صوت الأقليات لجميع المهتمين بمصيرها وحقوقها.

وتم الاتفاق على تواصل اللقاءات وتبادل الآراء حول مجالات العمل المشترك من أجل مصلحة كافة الأقليات التي تشير كافة الدلائل إلى تغييبها وتهميشها وإقصائها في العملية السياسية واقصار مصدر القرار بيد المجموعات المهينة الثلاث على الساحة السياسية العراقية وهي الكتلة الشيعية والنحالف الكردستاني والكتلة السنية.

 

مع أجمل التحيات

 

لويس إقليمس

مسؤول العلاقات الخارجية[/b][/font][/size]

412
رأي حول مشروع مسوّدة دستور إقليم كردستان العراق
[/color]
           
يسرّني جداً أن أحيّي بإعجابٍ كبيرٍ تفاعلَ العديد من الفصائل القومية والسياسية والدينية والشعبية من أبناء شعبنا الكلداني السرياني الآشوري الواحد مع هذا الحدث المصيري الذي نعدّه انطلاقةّ جديدة لتُضاف إلى أواصر الصداقة والتعايش التي جمعتنا دوماً  مع إخوتنا الكورد في شمال العراق ، كردستان العراق حاليّاً. وهي مناسبة سعيدة لتحفيز طاقات المثقفين والسياسيين ووضعها في خدمة شعبنا الواحد  من أجل تحقيق كامل أهدافه وطموحاته وضمان مستقبل أبنائه وأجياله تواصلاً مع عمق جذور حضارته وأمجاده وقيمه التاريخية القومية منها والدينية على السواء.
إن المطالبة بضمان كامل حقوقنا القومية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والدينية والحفاظ على إرثنا وتاريخنا ومجمل مقوّماتنا القومية في مشروع هذا الدستور العتيد تبقى أمانة في أعناق من يَعدّون أنفسَهم ممثلين عن هذا الشعب المتميّزأوسعاةً فاعلين في المجتمع المتآخي منذ حقب الزمن البعيد. لذا ومن منطلق هذا الحرص المشروع على مصالحنا  الوطنية والقومية والدينية المتلازمة، فإنني أرى لزاماً على كل شرائح أبناء شعبنا مجتمعين أن يعوا ما يمكن أن  يتعرّضوا له في أية لحظة غافلة من محاولات فاضحة أو مستترة تهدف إلى تهميش وجودهم القومي وصهرهم في بوتقة تتنكر لهذا الوجود التاريخي والقومي القائم وتسعى إلى حصرهم في إطار الوجود الديني فحسب ممّا لا يمكن التغاضي عنه. كما أن صلة التعايش التاريخي السلمي والودّي والوطني في بلدٍ لم يكن ليستطيع نكران  تاريخ هذا الشعب وحضارته وبطولاته و تراثه القومي والديني عبر الزمن والأجيال المتلاحقة ناهيك عن مساهماته الإيجابية في بناء بلد الرافدين وتقويمه وتعزيز وجوده، لَهي خيرُ دافعٍ على ترسيخ سبل هذا التعايش ودفعه إلى الأمام.
إن هذه الحقيقة التاريخية والواقع اليومي المعاش عبر الزمن وفي هذه المرحلة الحرجة بالذات تتطلب منّا الكثير من الحيطة والحذر وشيئاً كثيراً من الحصافة والحكمة في التعامل مع الشأن القومي المتأرجح لشعبنا "الكلداني السرياني الآشوري " الواحد بتسمياته الثلاث مجتمعةً وليس بتقاطعها وذلك في أية مناسبة يرد ذكر هذا الشعب، ولو أننا كنّا نأمل التعامل مع ملف التسمية الموحدة ( الذي صيّرناهُ معقّداً رغماً عنه ) بقدرٍ ولو  يسير من الحكمة وبشيء كثير من المحبة المسيحية وصدق في التعامل و رحابة الصدر واحترام الآخر. لقد سعى " المجلس الكلدو الآشوري السرياني القومي " المحايد الطرف، الذي يشرّفني العمل ضمن صفوفه، منذ تأسيسه وعبر مراحل عمله القومي المتعثر في أحيان كثيرة، أقول لقد سعى هذا المجلس ومعه أصحابُ النوايا الحسنة في باقي تشكيلاتنا القومية والدينية والثقافية إلى لمّ اللحمة من خلال جمع أطراف الخلاف حول مشكلة التسمية المعقدة وفي الدعوة لإيجاد خطاب قومي وسياسيّ موحّد, ولكنه كان يجابَه دوماً بالصدّ ويُتّهم بالولاء لجهة دون أخرى وفي ذلك تجنٍّ خاطئ ومزمن وغير مقبول. إننا كنا وما زلنا على دراية بما كانت وما زالت تتعرض له بعضُ القيادات الدينية و الحزبية الفتيّة وعدد من الهيئات الثقافية التي لم تضع نصبَ أعينها كاملَ حلّها لمشكلة شعبنا بل اكتفت بجزئياتٍ منها لا نعدّها سوى " جرعاتٍ أكسيريّة " سرعانَ ما تنفذُ وينتهي مفعولُها ليعودَ مصير شعبنا أسوأ من سابقه، وهكذا دواليك.
لقد آن الأوان كي تُعاد الكرّة في لمّ شعثِنا تفاعلاً مع الحدث المستجدّ الذي سيؤسس إلى مصير و مستقبل هذا الشعب مكسورِ الجناح، بتسمياته المقبولة الثلاث ( بدون واوات العطف) التي أجمعَت عليها الغالبية العظمى من أبناء شعبنا القومية منها والكنسية و معهما الطبقة المثقفة،  كتسميةٍ آنيّة مؤقتة تجاوزاً لضيق الوقت و درءاً لخطر التقسيم و التشرذم الذي تترقبه لنا أطراف لا تحلو لها وحدتُنا أو غيرُها ممّن تخشى اجتماعَنا تحت خيمةِ قوميةٍ واحدة وشعب واحد لتحقيق أغراض في " نفس عيسو".
ومن هذا المنطلق أودّ أن أدلو بدلوي لتوضيح رؤيتي المتواضعة وتصوّراتي، مشاركةً منّي في عملية مناقشة دستور إقليم كردستان العراق المطروح حالياً للمناقشة قبل إقراره.
إن نظرتي إلى مسوّدة مشروع دستور إقليم كردستان تنطلق من هدف قومي مركزيّ بالغ الأهمية لاسيّما في ظروف الوضع الراهن الذي لا يمكن التكهن بما ستؤول إليه الأحداث على المستوى القريب والبعيد على السواء. لقد جمع شعبَنا الكلداني السرياني الآشوري مصيرٌ مشترك مع مختلف قطاعات الشعب و من  مختلف القوميات والإثنيات والأديان والمذاهب والطوائف على مرّ العصور والأجيال. وقد كان لنا صولات وجولات ومساهمات وأنشطة حاضرة وهامّة في حقبات متعددة من الزمن الغابر ولحدّ يومنا هذا . كما كان لتواجد أبناء شعبنا في السهول والجبال والصحارى وفي المدن والقرى والقصبات مبرّرُه ليكون جزءاً من صناعة القرار وتقرير المصير في بلد متعدد الأعراق والقوميات والأديان والمذاهب وهو حق مكفول في العرف الوطني والقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان. وهذا الحق يتعاظم عندما تتفاعل سبل التعايش المشترك في منطقة جغرافية بحدّ ذاتها دون غيرها مثل إقليم كردستان العراق الذي نتفق جميعاً على بقائه جزءاً لا يتجزّأ من العراق الموحّد بكافة أطيافه وتلاوينه القومية والإثنية والدينية والمذهبية والطائفية مهما كبرت أو صغرت عدداً، طالما أن حق المواطنة يكفل للجميع المساواة ضمن القانون.
 إن خبرة السنوات الطويلة لشرائح كبيرة من أبناء شعبنا من (الكلدان .السريان .الآشوريين) الذين سكنوا كردستان العراق تشير بوضوح إلى المصير المشترك الذي جمعهم مع إخوتهم الكورد عبر النضال المشترك والطويل لتلك السنوات بحلوها ومرّها. وهذا خير دليل على إمكانية تواصل سبل التعايش المشترك على مرّ العصور والأزمان في إطارٍ مقبولٍ من العلاقة الصحيحة المتنامية والمبنية على أسس الاحترام المتبادل وتبادل الرأي وقبول الآخر والاعتراف به شريكاً كامل الأهلية في الحقوق والواجبات والمواطنية رغم تباين الأهداف والآراء والتصورات. وهذه نعدّها أساساً للثبات في هذا التعايش وفي ديمومته وتقوية أواصره طالما أنه يحفظ لجميع سكان المنطقة دون استثناء حقوقها المدنية والسياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها في إطار الحريات الفردية والجماعية التي يكفلها أو تلك التي سيكفلها الدستور المقترح.
إنه وانطلاقاً من هذا المبدأ أعلاه لا يتحرّج شعبنا "الكلداني السرياني الآشوري" الواحد من التعاطي مع هذا الموضوع الشائك بكل هدوء ورويّة وإيجابية طالما سيكون لهذا المصير المشترك انعكاسات إيجابية على حياة سكان المنطقة برمّتها ضمن خصوصية الإقليم المعروفة. بل إننا نعتقد أن تأكيد التواصل والتواجد في هذا الإقليم على أساس المعادلة أعلاه  من شأنه أن يعزّز من سبل الحوار والتفاهم وصولاً إلى تحقيق التطوّر الحضاري المنشود فيه بخاصة وفي الوطن عامة وذلك بالهمّة المعهودة والمعروفة لأبناء شعبنا ومواطنيّتهم الصادقة وولائهم المطلق للوطن أولاً ومعه ومنه لأية جهة تحفظ حقوقهم وتصون حرياتهم وأرضهم وثقافتهم وتقاليدهم كاملةً دون انتقاص أو استخفاف أو تحايل أو تسوبف.
إنه ومع ثقتنا الكاملة بالجهود المبذولة من قبل الجميع لإنضاج المقترحات المقدمة حول مسوّدة مشروع دستور كردستان المطروح للنقاش، فإنّني أرى كما خَبِرَهُ غيري أيضاً بضرورة تشكيل هيئة مشتركة لجمع مجمل هذه المقترحات الصادرة عن هيئاتنا المتعددة بمختلف اتجاهاتها القومية والدينية والثقافية ومناقشتها بروح قومية شفافة ومفيدة للصالح العام لتُرفع موحَّدةً إلى الجهات المشرّعة في الإقليم. ولأجل تحقيق هذا الهدف أقترح التواصل في عقد اللقاءات المشتركة الجارية حالياً لاستكمال استمزاج الآراء  وبلورة المقبول والمفيد منها والخروج بمطالب مشتركة تحفظ حقوق شعبنا كاملةً وتُؤمّنُ مستقبلَ أجياله، ليس ملاطفةً لطرف أو مجاملةً لآخر بل من أجل كشف الحقائق وتثبيت الحقوق وتعزيز روح التعايش المشترك الذي كان دوماً سمةً يوميةً بارزة في حياة سكان ما بين النهرين عامة. إن ما لفت انتباهي هو غياب تواصل التعاون المثمر الذي كان قائماً في فترات سابقة والذي ربّما تعود بعضٌ من  برودتِه في هذه المرحلة بالذات إلى معاناة الجميع من الظروف الأمنية الاستثنائية التي تشهدها البلاد عامة، رغم أن تحقيق مثل هذا الاجتماع ليس مستحيلاً.
من الملاحظات التي تجمّعت لديّ حول ما ورد من مقترحات وملاحظات صادرة لحدّ اليوم  بشأن مسودة مشروع دستور إقليم كردستان أرى التالي:

أولاً: أشيدُ بما تضمنه الباب الثاني الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ومفاهيم المساواة والحريات وضمان حقوق المرأة وغيرها من الحقوق الأساسية كالتعليم والعمل والصحة ومبدأ فصل السلطات وتطبيق المعايير والمواثيق الدولية التي تصون حقوق الإنسان وتساهم في تطوير الإنسان والبلاد للنهوض بها نحو ركب الدول المتحضرة.

ثانياً: تأييد ما ورد في الديباجة من معاناة مستديمة وشاقة لعموم الشعوب القاطنة في المنطقة الكردية وليس للشعب الكردي فحسب. وإني أرى ضرورة تضمين الديباجة لمبدأ التعددية القومية والدينية لعموم الشعوب المتواجدة والمتآخية في إقليم كردستان ومنها الإشارة إلى شعبنا الكلداني السرياني الآشوري(بتسمياته الثلاث) بعمقه التاريخي والحضاري والثقافي و إلى ما عانى منه هو الآخر من مآسي ومظالم عبر تاريخ المنطقة بخصوصياتها المتناغمة جنباً إلى جنب مع أخوته من العرب و الكورد والإيزيدية والشبك والتركمان وغيرهم على السواء.

ثالثاً: إن ما ورد في المادة السادسة (أولاً) من مسألة تقسيم شعبنا إلى الكلدان والآشوريين وسقوط مكوّنِهم و مكمِّلِهم الثالث أي "السريان" من المعادلة القومية نعدُّهُ تغييباً قسرياً لهذا المكوِّن الأخير ولا يمكن القبول به. كما ونذكِّر بأن أصواتاً تعالت وتنادت منذ مدّة طويلة ولغاية هذا اليوم بعد صدور دستور العراق بنسخته الأولى مثيرة الجدل وهي تطالب بكوننا " شعباً واحداً " بتسميته الموحدة الشاملة للمكوّنات الثلاث، أي (الكلدان.السريان,الآشوريين) مقترنةً ومجتمعةً و غيرَ قابلةٍ للإنفصام والتجزئة وهو مطلبٌ حصل الإجماعُ عليه شعبياً و كنائسياً وصدرت بصدده بيانات وتصريحات تؤكد إقراره وترفض تجزئتنا إلى قوميات و شعوب مختلفة. ونحن إذ نأمل أن يُؤخذ هذا المطلب بالحسبان في الدستور المقترح لإقليم كردستان العراق ليكون بيّنةً على الفهم المشترك لمصالح هذا الشعب، فإننا نعتقد أنه سيكون فاتحةً طيبةً لفهمٍ وطني أوسع تأخذ بموجبه لجنة تعديل الدستور العراقي هي الأخرى في أعمالها المرتقبة.
 
رابعاً: أقترح إجراء تعديلٍ على المادة التي تتطرق في الباب الأول ( المبادئ الأساسية) والتي أرى أن تنص على " يضمن هذا الدستور الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية والإجتماعية والتراثية للقوميات المختلفة من التركمان والكلدو آشوريين السريان (الكلدان.السريان.الآشوريين) و الشبك والإيزيدية وغيرها من المكوّنات المتواجدة في المنطقة بحيث يُضمن لهم حق تأسيس إدارات محلية لامركزية في المناطق ذات الخصوصية اللغوية والدينية والاجتماعية والثقافية والتاريخية وفق السياقات الدستورية" لاحقاً.
خامساً: أقترح تعديل المادة 65 من مسوّدة الدستور والتي تتطرق إلى ضرورة الإشارة الواضحة إلى حرية الفرد في ممارسة وفي اختيار الدين والمعتقد الذي يؤمن به دون إكراه انطلاقاً من شعار " ألدّين لله والوطن للجميع".

سادساًً: إن موضوع الخارطة الجديدة لإقليم كردستان التي تتطرق إلى نية إخوتنا الكورد بضمّ قضاءي الحمدانية (قرة قوش) وتلكيف وغيرهما ومعهما قصبة بعشيقة تتطلب استفتاءً شعبياً أولاً وقبل كل شيء. وليس من حق أية جهة فرض أجندة خاصة على هذه المناطق التي تتمتع بخصوصيات قومية ودينية واجتماعية ولغوية مختلفة نظراً لتعدّد مكوّناتها الإثنية والدينية والعقائدية وهي تشكل ما نسمّيه اليوم بسهل نينوى الذي يستحق هو الآخر نوعاً "لامركزياً من الحكم الذاتي" مطروحٍ للنقاش وتبادل الآراء والحوارات.  ومن هنا، فإنّ ما يهمّنا عموماً هو التمتّع بكافة حقوقنا القومية والدينية والوطنية  كاملةً دون انتقاص أو تغييب أو تجاهل سواءً توافقت الآراء وأجمع عليه استفتاءُ شعوبِ المنطقة لاحقاً أم لم يحصل وفقاً للدستور الذي يكفل مثل هذا الحق بموجب المادتين 125 و140.

سابعاً: فيما يتعلق بالمادة12، أعتقد أنه من المنطقي جداً أن يتضمن علم إقليم كردستان رموزاً لجميع شعوب الإقليم ومنها ما يرمز إلى  تاريخ شعبنا الكلداني السرياني الآشوري الزاخر وكذلك نشيده الوطني مع ضرورة الاحتفال والالتزام بالأعياد القومية والدينية للشعوب المتآخية في عموم الإقليم ممّا سيتيح للجميع إنضاج فكرة الشراكة وتعزيز الانتماء والمواطنيّة والتآخي.

ثامناً: أقترح إجراء تعديلات على بعض البنود الواردة في الباب الثالث و الرابع و في الفصول المتعلقة بسلطات الأقاليم التشريعية منها والتنفيذية والقضائية و كذا في الإدارات المحلية والمجالس البلدية بحيث تضمن هذه المواد تمثيلاًً عادلاً لكافة شرائح المجتمع المتعايشة في الإقليم من خلال انتخابات خاصة بهذه الشرائح تُنظّمُ بقانون.

تاسعاً: إعادة النظر في البنود الخاصة بالعملية التعليمية ومنها جعل التعليم إلزامياً لما بعد المرحلة المتوسطة في الأقلّ ضماناً للتواصل التوعويّ والتثقيف الضروري لشعوب المنطقة بغيةإلحاقها بالركب الحضاري للدول  المتقدمة.

ومن الله التوفيق.

لويس إقليمس

 عضو هيئة السكرتارية العامة/  المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي
بغداد، في 19 تشرين لأول
2006[/b][/font][/size]

413
مؤتمر الأقليات العرقية و الدينية  في العراق
( عمان من 27  لغاية 29 تموز 2006)

 برعاية  من المعهد الأمريكي للسلام و المجموعة الدولية لحقوق الإنسان، عُقد في عمّان   مؤتمر الأقليات العرقية و الدينية  في العرق للفترة من 27 لغاية 29 تموز 2006 والذي كان مقرراً عقده في بيروت إلاّ أن الأحداث المأساوية التي يشهدها هذا البلد قد اضطر القائمين على تنظيمه لنقله إلى عمان حيث احتضنه فندق ماريوت.
واصل المؤتمرون أعمال اجتماعاتهم في أجواء عبقة بأمنيات الوحدة الوطنية يؤطرها مبدأ الولاء للوطن و نبذ كل أشكال الاستقطاب الطائفي وأسلوب المحاصصة الجارية في دوائر الحكومات المتلاحقة بعد أحداث 2003.
شارك في المؤتمر مدعوّون من شخصيات وطنية وبرلمانية ووزراء سابقون وممثلون عن الأقليات المتمثلة في مجلس الأقليات العراقية الحالي و من منظمات تُعنى بحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية ومنظمات دولية إنسانية أخرى عاملة في العراق منها UNAMI الداعمة لحقوق الأقليات.
أدار المؤتمر بجدارة كل من السادة " مارك لاتيمر " رئيس المجموعة الدولية لحقوق الإنسان والدكتور سرمد الدين الصراف رئيس المعهد الدولي لدعم سيادة القانون. تناول المؤتمر جملة من المواضيع التي تساعد على فهم ما تضمنه الدستور العراقي الجديد وكيفية صياغة القوانين إضافة إلى توفر الفرص المناسبة لمراجعة بنود هذا الدستور وما تضمنه من فقرات ذات صلة بمصير الأقليات العرقية والقومية والدينية في العراق. ومن جملة المواضيع التي تطرق إليها تفصيلياً ما يلي:
- أليوم الأول 27 تموز 2006:
1-   وضع الأقليات في العراق: التطورات منذ آب 2005(د. حنين القدو، رئيس مجلس الأقليات)
2-   أولويات القضايا التي تثير اهتمام كل مجموعة من الأقليات ( كلمات ومقترحات تقدّم بها موفدو الأقليات بتكليف من مجلس الأقليات)، تلاها نقاش مفتوح.
3-   اهتمامات وتوقعات الأقليات العراقية بخصوص عملية مراجعة الدستور
4-   المقارنة الدستورية ( جون باكر)
- أليوم الثاني 28 تموز 2006:
1-   التمثيل السياسي
2-   الهوية، الاعتراف وحقوق الأقليات
3-   الحكم في المناطق ذات التمركز العالي للأقليات
4-   التهجير السكاني (باسكال وردة، وزيرة الهجرة والمهجرين سابقاً)
- اليوم الأخير 29 تموز 2006:
1-   دور المجتمع الدولي وفلسفة المجتمع المدني
2-   الخطوات التالية: الصياغة والتعديلات النهائية للخطط والمقترحات
3-   إكمال الصياغة والتعديلات النهائية للخطط والمقترحات.


... وقد توقف المجتمعون حول صياغة التوصيات النهائية والمقترحات التي من المؤمَّل رفعها إلى الجهات المعنية في الحكومة العراقية ومجلس النواب ورئاسة الجمهورية والجهات الساندة المحلية منها والإقليمية والدولية و من منظمات غير حكومية و دوائر الأمم المتحدة وحقوق الإنسان العاملة في العراق.
من بين المشاركين في المؤتمر من أعضاء مجلس النواب نذكر:
1-   السيدة صفية السهيل (من القائمة العراقية): ناشطة في مجال حقوق الإنسان
2-   د. حنين محمود القدو ( من قائمة الائتلاف العراقي الموحد): رئيس مجلس الأقليات العراقية (عن الشبك)
3-   حسن طعمة كزار (من قائمة الائتلاف العراقي الموحد / التيار الصدري): داعم لحقوق الأقليات في العراق
4-   عامر ثامر علي (من قائمة ائتلاف العراقي الموحد / عن الكورد الفيليين)
5-   يونادم كنــــا ( قائمة الرافدين): مستشار في مجلس الأقليات ( عن الكلدان.السريان. الآشوريين)
6-   أمين فرحان جيجو (عن الإيزيديين)

كما كان لمشاركة السيدة باسكال وردة، وزيرة الهجرة والمهجرين سابقاً دور فاعل في إغناء المؤتمر بوجهات نظر وحقائق وآراء مهمّة حول الوضع السابق و الراهن لعموم الأقليات ولاسيّما في سهل نينوى حيث يقطن مزيج متآلف من هذه الجماعات.
فيما كانت مداخلات بقية السيدات و السادة أعضاء مجلس النواب جديرة بالتقييم والتقدير لما لمسناه من لدنهم من غيرة وتفان واستعداد لدعم الأقليات العراقية  والجماعات العرقية والدينية أينما تواجدت ودون حدود لإيمانها المطلق بحقها في العيش والتمتع بكامل حقوقها التي يكفلها الدستور الجديد والقوانين التي ستنبثق عنه لاحقاً وبما لا تتقاطع مع طموحات هذه الشرائح الأصيلة والمهمة التي تزيّن قلادة العراق كما كانت عليه بالأمس واليوم. بل إن قسماً منهم حذّر وشدّد من مغبة الوقوع في شرك المشرّعين ومفسّري بنود الدستور أو الذين يقرأون ما بين السطور للمزيد من الإيغال في غبن حقوق هذه الأقليات و الاستمرار في تغييبها وتهميشها وعدم الاعتراف بها أصلاً، بل والأنكى من ذلك فرض الوصاية عليها من أجل طمس هويتها القومية والدينية واللغوية وإلغاء دورها الوطني.

تجدون مرفقاً ورقة العمل الكاملة المقدَّمة عن الكلدان. السريان. الآشوريين وكذلك خلاصة بالمقترحات المرفوعة حول مراجعة الدستور.

لويس إقليمس
مسؤول العلاقات الخارجية
مجلس الأقليات العراقية


"ألكلدان والسريان والآشوريون"
تاريخ و حقوق
( ورقة العمل المقدّمة إلى مؤتمر الأقليات العرقية والدينية في العراق المنعقد في عمّان
 للفترة من 27- 29 تموز 2006)
نبذة تاريخية:
إن حقيقة التاريخ لا يمكن أن تحجبها سفاهات الدكاكين الصغيرة التي لا يلائمها السير في النسق الطبيعي للحباة  و لا عربدات أصحاب الأصوات الشاذة التي لا يروق لها الغناء في السرب أو بالأحرى تلك التي لا تجيد الغناء ضمن الجوق المعهود. وهذه الحقيقة التاريخية ستظل ماثلة مذكِّرةً بحضاراتٍ، قسمٌ منها سادت ثمَّ بادت وغيرها تمكنت من إكمال مسيرة تاريخها الزاهر محافِظة على تراثها ولغتها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها وأطباعها  ومطبخها وأزيائها وحتى في شكلها وهيئتها، وباختصار كل مقوّمات الحياة الطبيعية التي حباها الخالق في حياة البشر الطبيعية.
تلكم هي حقيقة الشعب الكلداني السرياني الآشوري بتسمياته الثلاث التي تعود بجذورها إلى  هذا التاريخ الزاخر الضارب في عمق الحضارة الآشورية والبابلية والكلدانية والسومرية والأكدية والآرامية التي تربعت على عرش الكون ردحاً طويلاً من الزمن و كانت لها بصماتها في بناء الأرض وترويض الإنسان وفتح سبل الحياة الآدمية لإنسان اليوم. نحن
شعب وريث لكبريات هذه الحضارات التي يرجع تاريخها المكتوب الى حوالي 4750 سنة قبل الميلاد و موطنُــــــنا الأصلي بلادُ ما بين النهرين المسمّى بالارامية - السريانية ( أثـرا  د بــيـث نهـريـــن ) .
لغتـنا الأمّ اليوم هي السريانية و قاعدتها العريضة و الأصيلة هي الآرامية التي كان ما يزال   يتحدث بها حتى السنوات الأخيرة اكثر من مليون مواطن في العراق و ربما اكثر من هذا العدد في دول الجوار مثل إيران و سوريا و تركيا و لبنان. حتى إن العديد من بلدان المهجر قد وصلها سيلٌ غزيرٌ من تيار هذا الشعب الذي نقل إلى هذه البلدان شيئاً كثيراً من عناصر قوميته. من تراث ولغة وعادات وأخلاق طبعت بصماتها في تاريخ الشعوب التي انتقلت إليها. إن اللغة التي يتحدث بها الشعب الكلداني السرياني الآشوري هي ذاتها اللغة الآرامية  سليلة السومرية والبابلية والأكدية والآشورية، تلك التي سادت السواد الأعظم من منطقتنا واتُخذتها لغةً رسمية في عهود الامبراطوريات القديمة ومنها بلاد فارس وعموم الشرق. وهي ذاتها اللغة التي تحدّث بها السيد المسيح ومنها أتت السريانية التي عرفتها وما تزال تتداولها اليوم  كبرى المؤسسات الثقافية والجامعات العالمية والمعاهد المتخصصة في العالم. ولئن بقيت هذه اللغة  محصورة بعض الشيء في نطاق الطقوس الكنسية لغاية العقد الاخير من القرن الماضي، فإن يد الحداثة والحرص والغيرة قد أخذت بيد أصحاب الشأن لتُعلي رايتها من جديد وتعيد إليها رايتها و أمجادها وما تحتفظ به بطون الكتب التي بها نُشرت العلوم ومختلف فنون الأدب عبر التاريخ الزاخر لهذا الشعب.

ظروف اليوم:
يعيش أيناء شعبنا من الكلدان والسريان والآشوريين في مواطنهم الأصلية ( العراق، سوريا، تركيا، ايران، لبنان ) في ظل ظروف سياسية و اجتماعية و ثقافية و اقتصادية متباينة إلا أن وضعهم العام يأخذ أبعادا و مسارات تتفاوت نسبيا من بلد إلى آخر. لكنها تتمحور جميعا حول العراق البلد الأمّ ،  الذي هو بحق مركزَ ثقلهم التاريخي و الحضاري و الثقافي و السكاني... يبلغ تعداد الجماعات الثلاث اكثر من 1.5 مليون مواطن، لم يبق منهم في العراق سوى نصف هذا العدد حسب التقييمات الراهنة نتيجة الضغوط والممارسات الإرهابية التي طالتهم و بسبب محاربتهم في أرزاقهم ومصالحهم لمختلف الأسباب، لاسيّما الدينية منها والقومية والإتنية والاجتماعية، كما هي حال غيرهم من المكونات الصغيرة الأخرى التي تريد أيادي خفية تصفيتها وإفراغ البلد منها بأي ثمن، حسداً أو غيرةً جزاءاً على كفاءتها وحرصها الوطني الواضح وحبّها للوطن وأرضه وسمائه وهوائه وتعلّقها بها جميعاً دون مواربة أو مغالاة أو مزايدة. أمّا في سوريا، فتشير التوقعات إلى وجود ما يزيد عن نصف مليون من مختلف أبناء الجماعة من السكان الأصليين أو نتيجة الهجرة التي ضربت أطنابها بسبب الظروف الأمنية الاستثنائية التي يشهدها العراق الجريح. و في إيران و تركيا قد يصل تعدادهم الى 75 الف نسمة.  أمّا في بلاد المهجر، فحدّث ولا حرج، حيث  يتوزع أبناء شعبنا من الكلدان و السريان والآشوريين  في مختلف الأصقاع بحيث يبلغ تعدادهم في الولايات المتحدة الامريكية لوحدها أكثر من 300 ألف نسمة، و في نيوزيلاندا و استراليا بحدود 50 الفا ، فيما تحتضن أوروبا و أمريكا الجنوبية ما يزيد عن 300 الف  نسمة ، و مثل هذا العدد في دول أخرى متناثرة من العالم.
يتركز تواجد شعبنا الكلداني السرياني الآشوري في العراق و بشكل كبير في بغداد حيث كانت دار السلام هذه تحتضن ما يربو على  نصف مليون نسمة لوحدها قبل الأحداث المأساوية الأخيرة وتردّي الأوضاع الأمنية. و في الموصل يتركز أبناء شعبنا بشكل متجانس في الاقضية و النواحي و القرى والقصبات الواقعة في سهل نينــــــــوى لاسيّما في باخـــديــــدا ( قرة قــوش ) التي تعيش كثافة سكانية تصل إلى ثلاثين ألف نسمة لوحدها وتُعدّ مركز السريان في العراق والعالم إلى جانب قصبات كل من برطلة و كرمليس  و بعشيقة و تلكيف و الشيخان و تللسقف و القوش و باطنايا و الشيخان وباقوفة والشرفية و غيرها. كما تضمّ  محافظة دهوك و توابعها مناطقَ مثل: صبنا ، و مانكيش  و زاخو و برواري بالا و سمّيل و سهل سليفاني وشرانش، وفيشخابور وأرادن وسناط وعشرات القرى الأخرى.  فيما يتركزون في محافظة اربيل و توابعها في قصبات عنكاوة و شقلاوة و ديانا وحرير، إلى جانب قرى أخرى في مناطق السليمانية و كركوك و توابعهما. و ما تزال مدينة البصرة جنوب العراق تحتضن شتاتاً من العوائل المسيحية من مختلف الطوائف والجماعات رغم الحصار المفروض عليهم والضيم الذي يرافقهم كل يوم بسبب محاربتهم لمختلف الأسباب ممّا كان وما يزال يقتضي تدخلاً من قبل الجهات الحكومية و الهيئات الدولية لمنع المدّ الغريب الجارف في هذه المنطقة العريقة التي كانت وما تزالُ تُعدّ ثغرَ العراق الباسم و وقبلته نحو الخليج.

تعايش وصراع و انتهاكات:
من الجدير ذكره، أن شعبنا الكلداني السرياني الآشوري  كان وما يزال يتقاسم الأرض و المصير في أكثرية مدن و نواحي المنطقة الشمالية مع سائر المكوّنات والأقليات التي تقطن المنطقة من العرب و الايزيديين و الأكراد والشبك  والتركمان  وأقليات أخرى. و لم يبخل هذا الشعب  بدماء أبنائه  في الدفاع عن حقوقه في الدين والأرض و المنطقة عند  تعرضها إلى ظروف عصيبة و اعتداءات كثيرة عبر التاريخ، وكان لهم فيها شهداء وأبطال...
وكما نعلم، فقد بدأ الكلدان والسريان والآشوريون في مطلع القرن الماضي بالمطالبة بحقوقهم القومية الإنسانية المشروعة في العراق، و التي كانت تتمحور بالاعتراف الدستوري بهويتهم الثقافية و الدينية ووجودهم القومي ضمن إطار الوحدة و السيادة الوطنية للوطن الواحد و احترام خصوصيتهم القومية  التي تميّزهم عن بقية القوميات الأخرى في العراق بعد أن كانوا يُعامَلون  كمواطنين من الدرجة الرابعة أو ما دونها. وقد أن الأوان كي يُنظَرَ إليهم مواطنين أصلّيين لهم ما لغيرهم من حقوق و عليهم ما على غيرهم من واجبات. إن المحاولات المتواصلة التي كانت تستهدف إنكار هويتهم القومية من قبل جميع النخب التي تعاقبت على حكم العراق، قد رافقتها في معظم الأحيان أنواع شتى من  ممارسات القمع و الاضطهاد و القتل و الذبح ضد كل توجّهاتهم المشروعة. و خير مثال على ذلك مذبحة (سمّيل) عام 1933 و التي راح ضحيتها اكثر من ثلاثة آلاف  منهم  لمجرد مطالبتهم بحقوقهم الإنسانية المشروعة في وطنهم الأم العراق و كذلك مذبحة قرية صوريا عام1969   وغيرها من الحوادث التي غُمطت واُخفيت شواهدها.
 ولكن الملاحظ، أن جميع السلطات المتعاقبة على العراق حتى يومنا هذا، لم تكلّف نفسها الاعتراف بحقوق هذا الشعب المتميّز على مدى تاريخ العراق المتأرجح بسبب حالات عدم الاستقرار التي ظلت وما تزال تلازم مسيرته الديمقراطية المتعثرة بسبب ضعف الوعي الإنساني بحقوق المواطنة الكاملة للإنسان، كل إنسان. بل و الأنكى من ذلك، أن بعض هذه السلطات واصلت ممارسة سياسات شوفينية و عنصرية ضد المسيحيين من الكلدان والسريان والآشوريين، فيما ازدادت وتائر هذه السياسات في عهد النظام الدكتاتوري البائد رغم تبجّحه بغير ذلك إعلامياً ومظهرياً. إلاّ أنه في الحقيقة كان يحاول تدمير البنية المسيحية لهذا الشعب ويتصدّى لكل محاولة تطالب بالمزيد من الحقوق المشروعة التي تدعم وجوده القومي  وترسخ  سبل بقائه عبر أنشطة قومية أو دينية أو عن طريق الكنائس التي كانت تسعى لبث الروح القومية و تنشيط الروحية الدينية لأبناء الجماعة في مختلف المناسبات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قام النظام السابق بتدمير عشرات الكنائس و الاديرة التي يعود تاريخها الى القرون الاولى للمسيحية في شمال العراق قبل و خلال و بعد عمليات الأنفال سيئة الصيت عام 1988 ، الى جانب تدمير اكثر من 200 قرية و قتل و تهجير سكانها من الكلدان والسريان والآشوريين و إسكانهم قسرياً  في مجمعات مع ما رافق ذلك من عمليات إعدام و اغتيال رجال الدين المسيحيين والمؤمنين و التدخل في شؤون الكنائس وإجبارهم على إنكار هويتهم القومية محواً لوجودهم أو في الاستحواذ على أملاكهم وأراضيهم وتوزيعها قسراً على غير ساكنيها من القادمين من غير مناطقهم في محاولة لتغيير ديموغرافية المناطق والقرى المسيحية الكلدانية والسريانية والآشورية بشتى الوسائل رغماً عنهم.  ولعلَّ آخرها ما سمعناه مؤخراً عن استيلاء النظام السابق على مساحة 50 دونماً من الأراضي الزراعية المجاورة التي يمتلكها دير مار بهنام الشهيد القريب من الموصل بموجب القرار 116  الذي أصدره ونفّذه النظام السلبق عام 2000وتم توزيعها قطعاً سكنية على أناس لا يمتون بصلة إلى هذا الدير الآثاري العريق مشوّهاً بذلك منظر هذا المعلم الحضاري الكبير..  لقد آن الأوان أن يعي الجميع ضرورة وقف شرعنة سلب الأراضي ضمن رقعة تواجد أبناء شعبنا من قبل بعض الجهات الرسمية بحجة المصلحة الوطنية العامة. كما نطالب برفع التجاوزات التي طالت قرى وأراضي في وقت سابق ولم يتم التحرك لحلّها بالرغم من المطالبات العديدة ولاسيّما في إقليم كردستان وبعض قرى سهل نينوى ووقف عمليات البناء على هذه الأراضي المستملكة ظلماً وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين وتعويض الحاصلين عليها بأراض غيرهاٍ ضمن الرقعة الجغرافية للمستحقين حصراً وذلك حفاظاً على خصوصية المناطق المسيحية وعدم تغيير طبيعتها الديمغرافية ذات الخصوصيات العديدة.
إن صراعنا حول الأرض قد أخذ وسوف يأخذ أبعاداً مديدة وخطيرة كما يبدولنا واقع الحال، حيث المحاولات المشبوهة لفئات كردية أو عربية في المنطقة  تدّعي الوصاية على أبناء هذا الشعب. إن هذه الجهات ومع كل تقديرنا لها ولتاريخها النضالي واحترامنا لقياداتها ومحبتنا لها شعباً وأحزاباً وحكومةً، تحاول بشتى الطرق شراء ذمم بعض ضعاف النفوس من متنفذين كنسيين في المنطقة ومن حولهم نفرٌ من أتباعهم من المستفيدين الفعليين من عمليات التمويل واسعة النطاق التي طالت كنائس وأحزاباً كارتونية صغيرة يتم استخدامها ورقة حيث الحاجة تقتضيها وفقاً لحسابات آنيّة وظرفية. ولعلّ الهدف المبتغى من وراء مثل هذه التصرفات هو خلق حالة من الاختراق الداخلي في صفوف الجماعات التي ينتمي إليها هذا الشعب الذي تجمعه خصوصية دينية واحدة وهوية قومية واحدة ومصير ديني وقومي واحد لا مجال لتمزيقه واستغلاله وإضعافه إلاّ بهذه الوسائل الرخيصة التي لايمكن لأيّ كلداني أو سرياني أو آشوريّ عاقل ومثقف وواع القبول بها، لأنها تنتقص من كيانه ومن وجوده ومن مستقبله الديني والقومي على السواء. ولذلك، ينبغي على السائرين وراء هذه المزالق الخطرة أن يعوا خطورة ما هم ذاهبون إليه وسائرون فيه، ذلك لأن أية محاولة لخلق طبقات متداخلة ومتصارعة ومتنافرة داخل المجتمع المسيحي والقومي لأبنائه يعني انفراط عقدهم وبداية النهاية لخصوصيتهم الدينية والقومية وتورطهم في الانضمام والاندماج في قوميات وشعوب لا ولن يمكنها تحقيق حقوقهم و تثبيت مطالبهم وتبنّي خصوصياتهم، وواقع الحال خير شاهد على ذلك.

صراع داخلي ومواقف متأرجحة:
كلنا نعلم، أن المعادلة البشرية قد تغيرت  مع تقارب الزمن وتغييراته منذ حدثِ ما بعد الميلاد حيث دخل العالم حقبة جديدة من الاضطرابات والتقلبات لا سيّما الدينية منها والطائفية والعرقية والمذهبية حيث بدأ السيف يفعل فعلته في التخويف والتهديد والترهيب، وكان للشعب الكلداني السرياني الآشوري القسط الوفير من هذه التغييرات حيث فقد الكثير من أبناء جماعاته لهذه الأسباب مجتمعةً أو تلك منفردةٌ وما نزال نعاني من ذات الإرهاصات والمخاوف والمخاطر التي لازمتنا ولم تزل حتى الساعة.
لكن هذا الشعب لمّا تزل حقوقه مهضومة مثل سائر الأقليات الدينية والإتنية في عهد العراق الجديد الذي راودتنا أحلامٌ وردية كثيرة مع بزوغ فجره بعد الأحداث الدراماتيكة التي شهدها في  نيسان 2003. ناهيك عن حالة حزينة  ومقرفة معاً من التشتت والصراع الداخلي التي سادت البيت الكلداني السرياني الآشوري الواحد بفعل أيادٍ خفية لم ترُق لها حالة الصحوة والوحدة والغيرة والهمّة القومية التي أبدتها شرائح كبيرة من النخب المثقفة والواعية التي أقسمت على استعادة هذا الشعب المتميّز بكل المواصفات الدينية والقومية والأخلاقية واللغوية والتراثية والاجتماعية مكانته بين سائر الشعوب والمكوّنات في بلاد ما بين النهرين وسواها.
الحقيقة التاريخية التي لا شكّ فيها والتي يقرّها الجميع هي أن الشعب "الكلداني السرياني الآشوري" ينتمي إلى أمّة واحدة لأنه بالفعل والواقع شعبٌ واحد بالرغم من تعدد التسميات التي أُطلقت عليه من سريان  و كلدان  و آثوريين أو اشوريين  و كلدواشوريين و اخيرا الكلدواشوريين السريان، تلك التسمية المركبة والمربكة في آنٍ معاً و التي كان قد خرج بها المؤتمر القومي الأول في تشرين أول عام 2003 أي بعد سقوط النظام السابق بسبب غياب البُعد القومي الناضج آنذاك. ولعلّ ذلك كان أيضاً نتيجة لعدم وضوح الرؤية وغياب التوعية القومية الصحيحة والأكثر منه بسبب الافتقار إلى القيادة الحكيمة الناضجة دينياً وقومياً وطائفياً وما نزال نعاني من ذات نقاط الضعف هذه حتى يومنا هذا. ولن يكون بالإمكان حلّ هذه العقدة إلاّ بالحوار المفتوح والجادّ بين مختلف الفصائل القومية من أجل التوافق على مبدأ وحدة شعبنا والتصدّي معاً لمحاولات التدخل الجارية من عناصر خارج البيت القومي التي تضرّ بمصالح شعبنا الواحد وتقضّ بيته وتقف حجر عثرة له أمام تحقيق حقوقه القومية.
إننا إذ نعدّ كل هذه التسميات  مقبولة وصحيحة لتمثل شعبنا الواحد أياً كانت قيادتُه أو انتماؤه الطائفي، فإننا لا نبغي من وراء ذلك سوى التأكيد على عراقة هذا الشعب بتميزه من حيث عمق التاريخ النهريني وحضارته وتراثه ولغته وتقاليده وعاداته، تلك التي تشكل المقوّمات الأساسية لأيّ قوم حيّ أو شعب مستقلّ.  ولا نحسب تعدد مثل هذه التسميات الآنفة الذكر سوى إثراءٍ  لمسيرة هذا الشعب العريق وقد تولدت نتيجة ظروف و متغيرات و تفاعلات للوضع السياسي و الاجتماعي و الفلسفي  عبر مسيرة تاريخه الطويل.
 إن عظمة الشعوب لا تُقاس أو يُحكم عليها من أسمائها أوأشكالها أو ألوانها، بل بطاقاتها المبدعة وعمق نظرتها للحالة الإنسانية وإيمانها المطلق بحياة الشعوب وحريتها واحترامها لغيرها واعترافها للجميع بالحق في حباةٍ حرةٍ كريمةٍ وكذلك بمدى تفاعلها وتعايشها الإنساني مع غيرها ضمن أجواء الديمقراطية الحقيقية ووفقاً لمبادئ حقوق الإنسان العالمية والنظام الإلهي الذي يعدُّ كل إنسان حراً مادام الله خلقه على صورته ومثاله. لذلك ومن هذا المنطلق، فإنــنا نرى أن عقبة التزمّت بتسمية محددة سوف لن يحلّ المشكلة بين الجماعات الثلاث ويكفينا القول أننا جميعاً " سوراي" بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ قومية ودينية في آنٍ معاً. أليس هذا ما يجمعنا؟ فلماذا التشبث إذن بما يمكن أن يفرّقنا؟
أننا إذ نولي أهمية لوحدة شعبنا رغم ما يُحاك ضدّه من مؤامرات في السرّ والخفاء وشراء الذمم بشتى الطرق والوسائل وباستخدام الدعامة الدينية وزعاماتها في أحيان أخرى من أجل تمييع هذا الشعب وتفتيت وحدته، فإنــنا نحذّر من مغبة هذه الأفعال ونقول لفاعليها ومؤيديها ومروّجيها والمستفيدين منها أن مصير الشعب الكلداني السرياني الآشوري لن يحققه سواه ولن يرسمه سوى مثقفيه والواعين من أبنائه والحريصين الحقيقيين على وحدته وليس أولئك الانتهازيين من الأوضاع الاستثنائية الحالية التي تيسّر لهم تنفيذ مخططات ترسمها لهم جهات دخيلة على البيت السرياني المسيحي وفق أجنداتها الخاصة. إن الخطورة تكمن في أن ما يُحاك في الدهاليز المظلمة أثبتت أن الفئات التي تسعى وراء هذا السلوك  لا تريد لهذا الشعب العريق البقاء موحداً، عنيداً، قوياً, آمناً, فاعلاً، متمكناً، بل القصد منه  تفتيت قدراته وتمزيق طاقاته كي يسهل عليها اختراقه والسيطرة عليه والتمكن من تحجيمه لغاية في نفس عيسو.

حقوق دستورية كاملة:
ان شعبنا  الكلداني السرياني الآشوري يحدوه الأمل اليوم في ظل توفر اجواء الديمقراطية و حقوق الإنسان التي تنادي بها القيادات الجديدة بالتعايش بشكل طبيعي مع جميع شرائح و فئات و طوائف و قوميات الشعب العراقي بالرغم من الاختلاف الديني و القومي والعرقي، وبالتفاعل بشكل إيجابي للتأسيس لعراق ديمقراطي تعدّدي متطور و مزدهر يحكمه دستور متوازن ومتفتّح وعلماني يُحترم فيه القانون و تسوده المساواة و العدالة و تُضمن فيه حقوق جميع مكوناته دون تمييز في العرق أو الدين أو القومية أو اللغة.  ولعلّ من بين المشاكل التي تقضّ مضاجع أبناء شعبنا في ظل الظروف الأمنية المتردية تلك التي بدأت تستنفذ الكثير من العوائل بسبب نزيف الهجرة المتزايدة التي يحزّ في نفوسنا ما تعنيه هذه الهجرة من إفراغ البلد من مكوِّن مهمّ على الصعيد الديني والقومي وهو الذي يشهد له أبناء الوطن بالولاء المطلق للمشروع الوطني المتوازن وبالكفاءة والإخلاص وحسن النية وحب الوطن والناس والأرض. وإذا ما فرغت البلاد والمنطقة من هذا المكّون القومي المسيحي، فمصيرها سوف يؤول إلى البربرية وتعميق مفاهيم التخلّف فيها.
إننا اليوم نطمح بدور وطني أصيل و مصيري في بناء العراق من خلال تحقيق مطامحنا المشروعة السياسية منها والإدارية والاجتماعية والثقافية بالتعاون والاستشارة مع المكوّنات الأخرى المتعايشة و المتواجدة لاسيّما في سهل نينوى الذي يحدونا الأمل أن يشهد تحقيق نوع من الإدارة الذاتية المشروعة بالتوافق والاتفاق. إننا نعتقد أن البديل الديمقراطي الصحيح الضامن لحقوق جميع المكوّنات العراقية هو الطريق الصحيح لبناء وطن ديمقراطي حرّ وأمن ومستقر فيه يتفاعل ويتآخى الجميع ويتقاسمون مصيراً مشتركاً. وهذا لن يترسخ سوى في تصحيح المسار الديمقراطي المتعثّر نتيجة للإستقطاب الطائفي القائم والبعد المحاصصي الذي انتهجه القادة الجدد لأسباب لا تغفل على أحد وبسبب التجاذبات والتدخلات الإقليمية والدولية المحبِطة في الشأن الداخلي ممّا كان له الأثر الكبير في حصول خلل في مبدأ تكافؤ الفرص وإغفال الكفاءة و النزاهة وسبل تحقيق العدالة والمساواة للجميع بدلاًً عن أسلوب الاستعلاء والتعصب الطائفي والمذهبي الذي يشهده البلد وترسخه أحداث كل يوم.
إن المشرّع الذي سنّ دستور العراق الجديد قد أغفل الكثير من حقوق المكوّنات الصغيرة التي تجاهلتها الكتل الكبيرة المتحكمة في مصير البلاد. وهذا أسوأ ما كان متوقعاً من المتعطّشين للحكم والحالمين سرّاً بامتيازات على حساب غيرهم بغير حق لأسباب غير منطقية وحسابات غير دقيقة، لاسيّما وأن جميع أبناء الشعب العراقي بغالبية طبقاته وتشكيلاته الدينية والإتنية والقومية كانوا على خط التوازي في تلقي المظالم والتسفيه بمصالحهم والنيل من حقوقهم واضطهاد توجهاتهم على تنوعها واختلاف أهدافها.
لذا ومن منطلق الحرص الوافي على تأمين وصيانة حقوق جميع المكوّنات، كان الأجدر بمشرّع الدستور الجديد أن يصوغ مفرداته كي تتلاءم مع القوانين المدنية العالمية المعمول بها في الدول التي تأوي شعوباً وأقواماً متنوعة القوميات والأديان والمذاهب. إننا نحن المسيحيين لا يمكن أن تلتقي قوانيننا الكنسية مع ما ورد في العديد من بنود هذا الدستور الذي لا يرضى بتعارض أية قوانين مع الشريعة الاسلامية ولاسيّما ما يتعلّق منها  بقوانين  الإرث والأحوال الشخصية وما يخص المرأة بخاصة لاختلاف نظرتنا الإنسانية مع أعمال و قوانين هذه الشريعة التي تعدُّ المسيحيين رعايا وليس مواطنين أسوياء، فيما تنظر إلى كل شيء في المرأة على أنه عورة.
كما ارتكب المشرّع غلطة أخرى بإصراره على شق وحدة الصف لهذا المكوّن المتميّز عندما أورد ذكر المكوّن الآشوري والكلداني فيما أسقط ذكر السريان من حساباته بسبب غياب ممثلٍ عن الأخير في دهاليز البرلمان وأشباه المؤسسات السياسية لدى صدور الدستور مثارِ التساؤلات الكثيرة والعثرات العديدة. إننا اليوم كما بالأمس، نطالب بتعديل الفقرة التي تطرقت إلى المكوّنات ونضم صوتنا إلى المكوّنات التي تجاهلها المشرّع بإضافة مكوّن السريان إلى الكلدان والآشوريين واعتبار هذه الثلاثة شعباً واحداً لقومية واحدة تعتمد الهوية الواحدة وتمتلك ذات الخصوصية الواحدة في حقوقها المواطنية.

مطالبنا السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية:
لقد كفل الدستور الجديد من الناحية المبدئية صيانة الحقوق الأساسية لجميع مكوّنات الشعب العراقي  السياسية منها والاجتماعية والثقافية والدينية. إلاّ أنّ واقع الحال لم يرتقي بعد إلى مستوى الأداء الدستوري الذي يكفل التطبيق الديمقراطي لهذه الحقوق بسبب غياب الوعي السياسي و الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً. لذا طالت الكثير من هذه الإرهاصات والمعوّقات شعبنا الكلداني السرياني الآشوري ومنها استبعاد مواطنيه من تولّي المناصب السيادية والأمنية والحساسة المختلفة بسبب قصر النظرة الدينية تجاهه و بحجة تعارض ذلك مع أركان الشريعة الإسلامية التي لا تسمح بتولّي غير المسلم على المسلم، ممّا يُعدُّ تعارضاً مع مبادئ الدستور وشرعة حقوق الإنسان. كما لم تتحقق العدالة في قوانين المفوضية المستقلة "اللاّمستقلة" للإنتخابات بسبب هيمنة موظفين تابعين لكتل متنفذة فيها على منافذ ومغالق هذه القوانين وأدواتها ووسائلها.
أما على الصعيد الاجتماعي، فقد جرت مطاردات لأبناء هذا المكوّن في أسلوب العيش وكسب الأرزاق معاً وذلك من خلال محاربة مواطنينا الذين ارتضوا العيش من خلال كسب أرزاقهم ممّا تجود به مزاولتهم لمهنٍ تفرضها صناعة السياحة عموماً مثل بيع المشروبات الروحية وعملية توفيرها وبيعها في الأسواق. هذا إلى جانب الضغوط التي مارستها وما تزال تمارسها بعض الجهات المتشددة والغريبة على مجتمعنا في فرض الحجاب على بناتنا ونسائنا من خلال التهديد بوسائل عدّة والحدّ من أية ظواهر إحتفالية اعتادت عليها العوائل المسيجية عموماً في مناسباتها الدينية والقومية والتي كان يشاركها فيها وجدانياً مواطنيهم من سائر القوميات والأديان دون حرج.
أما على الصعيد الثقافي، فقد شهدت السنوات الاخيرة بعد انتهاء الدكتاتورية توسعاً في سبل وفرص التعليم باللغة الأم أي السريانية ولاسيّما في سهل نينوى ودهوك وأربيل وبغداد وكركوك حيث تتواجد كبرى الجماعات من أبناء شعبنا الواحد. إننا نطمح ونسعى حثيثاً بممارسة و تفعيل حق التعليم في المدارس والمؤسسات الرسمية باللغة الأم أي السريانية لجميع أبناء شعبنا أينما تواجدوا و نأمل تواصُل  ذلك في المراحل المتقدمة أيضاً إلى جانب إنشاء المؤسسات الثقافية والأكاديمية التي تدعم هذا المسعى وفتح أقسام للغة السريانية في المعاهد والجامعات العراقية الوطنية باعتبارها ركناً أساسياً في عملية ممارسة شعبنا جانباً من حقوقه الوطنية المشروعة. ولكننا مازلنا نعاني من العديد من المفردات الثقافية التي ما تزال تحويها بطون الكتب التعليمية والمنهجية في غالبية المؤسسات الثقافية على اختلاف مستوياتها. ونظراً لمبدأ المساواة الذي أقره الدستور، يتحتّم على واضعي هذه المناهج تحاشي الدخول في تفاصيل الخلافات الدينية والمذهبية واقتصار تلك المناهج على الجانب العلمي والأكاديمي والتراثي دون الولوج في الأمور الدينية تلافياً لأية إحراجات أو مضايقات للأطراف الأخرى. ولن يتم ذلك إلاّ بانتهاج سياسة تعليمية حيادية تخلو من روح العنصرية والطائفية والمذهبية وتؤمن بتعدد الثقافات واحترام الديانات والمذاهب. وعلى صعيد آخر، ماتزال المكوّنات الصغيرة ومنها أبناء شعبنا الكلداني السرياني الآشوري، يعانون من تمييز وتحيّز في توفير الفرص المتكافئة في التقديم للدراسات العليا بسبب هيمنة الكتل السياسية الكبيرة على هذه المؤسسات وتحكّمها في إدارتها مثل هيمنتها على وزارات بأكملها واعتبارها ملكاً حصرياً بالطابو لها دون غيرها.
أما على الصعيد الديني، فقد تعرّض المسيحيون في بعض المدن والبلدات إلى مضايقات كثيرة ولاسيّما في مؤسسات الدولة عامة بسبب انتمائهم المسيحي. ناهيك عن ورود تهديدات مكتوبة وشفهية لعوائل مسيحية تنعتهم بالصليبيين وطالبة إياها بمغادرة منازلها وإلاّ أصابها ما لا تُحمَدُ عقباه. وهذا يدفعنا للمطالبة بإعادة النظر في إجراء التعديلات اللازمة على بعض بنود الدستور التي لا تشير صراحة إلى الحرية الدينية في المجتمع العراقي المتكافل والمتعايش منذ آلاف السنين. إننا نعتقد أن الظروف الجديدة وأجواء الديمقراطية التي حلم الشعب العراقي بعيشها، كانت كفيلة لإدامة تلك العلاقة المتآلفة بين مختلف الأطياف بدل إثارة النعرات الطائفية فيها وانتهاج أسوب المحاصصة البغيض الذي عزّز ورسّخ الطائفية ونقل البلاد والعباد إلى أزمنة الجهل والقرون الوسطى . إن حرية المعتقد والفكر والوجدان تُعدُّ من السمات الأساسية لأي بلد متمدّن ومتحضر وسائرٍ في ركب الدول المتقدمة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.

وأخيراً، يبقى تحقيق المشروع الوطني هدفنا وهدف كل الوطنيين الشرفاء الذين يهمهم استقرار العراق وبقاؤه واحداً موحداً تطمئنّ فيه نفوس جميع شرائحه ليبقى جنة غنّاءَ تحوي كل الزهور والورود ممثلة لشعب فسيفسائي جميل المنظر، بعيد الأفق، زاخر الألوان، قوي الشكيمة، سعيد الحياة والأفضل شعباً حراً كريماً.
و من الله التوفيق.


عن/  الكلدان. السريان. الآشوريين

لويس إقليمس
مسؤول العلاقات الخارجية
مجلس الأقليات العراقية

414
مجلس الأقليات العراقية
المؤتمر الثاني ( 13 أيار 2006)
الحقوق الثقافية والاجتماعية للأقليات والمكوّنات القومية والدينية


المقدمة:
إن سعادة أي مجتمع متحضر ومن خلاله سعادة  أية دولة تُقاس عموماً بمدى سعادة مواطنيها دون استثناء ولا سيّما المكوّنات الصغيرة، القومية منها والدينية. وهذا دليل على خصوبة أرض الديمقراطية فيها وفق ما تضمنها المواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان.
لقد أثبتت الحقائق أن جميع المكوّنات والأطياف كانت وستبقى متشبثة  بشراكة الوطن الواحد مع الحقّ باحتفاظ كلٍّ منها بأصالتها وهويتها القومية والدينية. وكما سبق أن ذاق شعبنا بجميع تلاوينه المرَّ كذلك مِن حقِه أن ينالَ ما يستحقُه من الحلو أيضاً. فالعبرةُ تبقى بالولاءِ المطلق لهذا الوطن موحَّداً و الإخلاصِِ له ولمصلحتِه العليا دائماً وأبداً وليس لغير ذلك. ويبقى الدستور والقوانين خير  نصير لكل مظلوم شعَرَ بظلمِ الأيام و قساوتها.
لقد تواصل التركمان والأرمن والكلدو آشوريون- السريان مع إخوتهم الصابئة المندائيين والشبك والإيزييية والكورد الفيليين وسواهُم من الذين شاءت الأقدار أن تتضاءل مكوّناتُهم عددياً ليتعايشوا مع إخوتهم من العرب والأكراد على مدى القرون المنصرمة شعباً واحداً لم يعرف التمييز أو التمايز، يجمعهم في ذلك إيمانٌ وطيدٌ بوحدةِ التراب وحبِ الوطن. فهذه حضارة بابل وسومر وأكد وآشور تحكي لنا شواهدُها كيف تعايشت مع غيرها من الحضارات التي سادت المنطقة في العصور المنصرمة وما يزال أسلافها يكملون مسيرة البناء حجراً على حجر أملاً في بناء عراق مزدهر يتآزر ويتكاتف جميع أبنائه الغيارى. ولئن تظاهرتِ الأنظمةُ السابقة وتبجّحت بتوفير أجواء الحرية والديمقراطية للمكوّنات الصغيرة ضمن الشركة الواحدة للشعب الواحد، فذلك لم يكن أبداً من الحقيقة بشيء، لأنها كانت دعواتٍ زائفة هدفُها احتواءُ وتحجيمُ تلك المكوّنات وقطعُ الطريق أمام أيةِ محاولة أو دعوة للمطالبة بحقوق المواطنة الكاملة الثقافية منها  والاجتماعية والسياسية والدينية  كما تتطلبها وتشير إليها الحقوق المدنية.

أولاً: الدستور وديباجته:
من المعلوم أن الدولة هي الوطن الشامل لجميع أبنائها المقيمين في إطار أراضيها مع حق جميع المكوّنات بالاحتفاظ بهوياتها الإثنية والدينية ضمن معيار مشترك للمساواة وعدم التمييز التي تكفلها المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
لقد كفلَ الدستور العراقي الجديد صيانةَ الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية للجميع بما في ذلك الأقليات والمكوّنات الدينية والقومية الصغيرة دون تمييز وذلك كجزء من حقوق المواطنة الكاملة لأبناء الشعب جميعاً. ولكننا نعتقد أن المشرّع العراقي الذي كان على عجالةٍ من أمره، لم يراعي بما فيه الكفاية حقوقَ هذه الأقليات من خلال تركيزه فقط على فئات معينة حاولت الاستئثار بحصة الأسد في الحصول على الامتيازات، لاعتقادِ هذه الأخيرة جزافاً بكونها الوحيدة التي طالَها الظلم والقهر والتهجير والتهديد. لذا جاءت الديباجة التي أطّرت الدستور مثلاً غير متكافئة بل غير منصفة لحضارة وثقافة وتاريخ زاخر لمكوّنات أصيلة من أبناء البلد.
إن صيانة حقوق الأقليات القومية  والدينية التي ما زال يُنظرُ إليها في بلادنا في أحيانٍ كثيرة بشيء من الاستخفاف بحقوقها وموقعها اللاّئق، يُعدّ جزءاً أساسياً في بناء مجتمع مزدهر متكافل  لا يشعر فيه أي مواطن مهما صغر حجمه أو خف وزنه أو اختلف دينُه أو عرقُه بأيةِ فوارقَ تفصلُه عمّن يدّعي ذاتَه أَََّولى من غيره  بسبب حجمه الكتلي أو وزنه السياسي.

ثانياً: معوّقات وإرهاصات
تتطلع جميع المكوّنات الصغيرة حالُها حال سائر المكوّنات إلى أخذ مكانتَها وموقعَها اللائقين في العملية السياسية كشريك سياسي أصيل يتمتع بحق المواطنة الكاملة غير المنقوصة أسوة بالجميع وليس وفق حسابات بيروقراطية تنظر إليهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو حتى الخامسة في أحيان كثيرة. وهذا يتطلب إزالة كل أشكال المعوّقات أمامها  ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أ‌-   تعرّض المكوّنات الصغيرة لأشكال عدّة من الاضطهاد المدروس والمنظَّم في أحيان كثيرة عبرَ محاربةِ توجهاتِها القومية التحررية أو في الحدّ من ممارسة طقوسها الدينية والاجتماعية والتراثية الكاملة.
ب‌-    تعرّض قرى كثيرة لِطَيفٍ من المكوّنات الصغيرة في الماضي القريب عن بكرة أبيها في شمال وطننا الحبيب ومناطق أخرى ساخنة إلى عمليات تدمير لأسباب واهية، إلى جانب عشرات المعابد والكنائس والأديرة والمراكز والمساكن التي هُدّمت أو دُمّرت مع ما لحق ذلك من عمليات تهجير قسري طالت بخاصةٍ الأبرياءَ من  الشبك والكلدو آشوريين السريان والتركمان والكورد الفيليين لأسباب إثنية أو الإيزيدية  بسبب الاختلاف في الدين على مرّ العصور إلى جانب التخرّصات والمضايقات التي عانى وما يزال يعاني منها الصابئة المندائيون في مناطق تواجدهم التقليدية وغيرهم من  شرائح أخرى احتضنها العراق منذ قرون كالأرمن واليهود والجرجر والصارلية والكاكائية وسواهم.
ج- عدم إنصاف أبناء الأقليات من غبن سياسي واجتماعي لحق بهم وما زال  في أسلوب  اختيار الأشخاص لوظائف عامة ومهمّة، سيادية كانت أم خدمية، اعتماداً على الهوية  لأسباب ذاتية أو طائفية أم لما يُسمّى بالاستحقاقات الانتخابية
د- الخوف من عودة و ترسيخ سياسة الحزب القائد التي طواها العراقيون  حيث لا نعتقد أن الثقافة الجديدة التي نسعى كلنا لتحقيقها في المجتمع الجديد ستسمح ثانية بعودة أو بتطبيق مبدأ الطائفة المتسيّدة أو المذهب السائد أو الدّينُ الغالب أو القومية الأساسية
ه- تعرّض أبناء بعض الأقليات إلى انتهاكات في مناطق تواجدها أو ضمن الإطار العام للبلاد ولا سيّما ما يتعلّق منها بحرّية ممارسة العادات الاجتماعية وأسلوب العيش وفق ما تحتِّمُه عاداتها وتقاليدها من مشرب وملبس وما تتطلبه كل هذه وغيرها من مظاهر الاحتفال التي ترافقها، والتي تحكم عليها بعض الفئات أنها منافية ومتعارضة مع أركان الشريعة والتقاليد خلافاً لمبدأ حرية الفرد والمجتمع التي نعتقد أنها تشكل حجر الزاوية في بناء الفكر الديمقراطي الجديد المتفتح والمتمدّن .
و-غياب حرية الفكر والوجدان وحيادية التعليم في مؤسسات الدولة العامة وفرض تلقينات دينية ومذهبية وطائفية تهزّ مشاعر الأقليات وتتعارض مع أفكار أبنائها  وتوجّهاتهم في  المناهج العامة القائمة.  ومن هنا فإنّ غير المسلم مثلاً ليس مضطرّاً لحفظ ما يُفرض عليه في مناهج اللغة العربية من تلقين لا يمكنه تقبُّلُه كي يجتاز امتحاناً عاماً، تماماً مثلما لا يستسيغ أتباع مذهب معيّن للدينٍ الواحد عينه تلقيناً يُغايرُ مذهبه.
ز- عدم إيلاء عملية نقل التراث والعادات والتقاليد باللغة الأم من الأجداد والآباء إلى الأبناء والأحفاد أهميتها المطلوبة وهو حقٌ آخرُ لا يمكنُ تجاهلُه. وهنا لا يسعنا إلاّ أن نُذكّر وبمزيد من الإلحاح ما تعرضت وما تزال تتعرض له اللغات الأصيلة لهذه المكوّنات مثل الشبكية و السريانية سليلة الآرامية التي كانت بالأمس القريب لغة السواد الأعظم من أبناء الرافدين ومعها اللغة الأم  للصابئة المندائيين التي يتهدّدها اليوم  خطر الانقراض وقد أدخلتها اليونسكو ضمن قائمة اللغات الآيلة للانقراض فعلاً ممّا يتطلب عناية أوفر لحمايتها وإنقاذها من خطر الزوال.
ح- الخوف من التباطؤ في تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية في كل مفاصل الحياة على الجميع دون استثناء واقتصار الامتيازات الاقتصادية والربحية على الفئات المتمكنة سياسياً و سلطوياً وعسكرياً دون غيرها.
ط-  عدم وجود بوادر لتحقيق مبدأ حرية الفكر والمعتقد بكل تفاصيله و اقتصار ذلك على كلمات وألفاظ فضفاضة عائمة ومبهمة بالإلتفاف على أهم بند في شرعة حقوق الإنسان.
ي-   استمرار معاناة المهجَّرين قسرياً وعدم إنصافهم بعودتهم إلى مواطن سكناهم لحدّ الساعة ممَّن ينوون ذلك وعدم تعويض من يستحقون ذلك وهم كُثر.
ض-  ضعف العناية بالمهاجرين ممّن اضطروا لترك البلاد لأسباب اقتصادية أو أمنية  أو اجتماعية ممّا يستدعي اهتماماً وتدخلاً على الصعيد الدولي والإقليمي و حتى المحلّي.
ك- تعرّض أبناء بعض الأقليات ومنهم المسيحيون بخاصة إلى تهديدات وصلت حدّ القتل والمطاردة العمياء واستمرار محاربتهم لغاية الساعة بسبب ممارسة الأعمال التي اعتادوا عليها في كسب أرزاقهم  ولاسيّما مزاولي تجارة المشروبات الروحية وإدارة المواقع السياحية.

خامساً: حلول وتوصيات:
أدناه ما نراهُ يصبُّ ضمن الحلول المعقودِ عليها في تحقيق المشروع الوطني الشامل:
•   دعم المشاريع  الثقافية والإعلامية واللغوية والتراثية لأبناء الأقليات الأصيلة منها بخاصة، مادياً ومعنوياً وتسهيل وسائل الإتصال المتاحة من تبادل خبرات وزيارات داخل وخارج القطر وتسهيل إيصال صوتها عبر مختلف وسائل الإعلام.
•   مساعدة الأقليات في إنشاء مؤسساتهم التعليمية بكافة مراحلها وفق ضوابط وطنية عامة من أجل تطوير تاريخها وفلسفتها وثقافتها وفنونها وأنماط عيشها، وتشجيعها على تنفيذ مشاريعها الإنمائية الخاصة بها تلبية لاحتياحاتها الحقيقية المشروعة.
•   العمل الجاد على انتهاج سياسة تعليمية حيادية تخلو من روح العنصرية والطائفية والمذهبية وتؤمن بتعدد الثقافات قوامُها احترام التعدّد الثقافي والإثني والديني لكل مكوّن.
•   معالجة البرامج التربوية في جميع مؤسسات الدولة وإعادة كتابتها وفق منظور وطني شامل بعيد عن التمحور الطائفي والمذهبي والإثني والديني.
•   دعم مشروع إنشاء المدارس الخاصة وتجهيزها بما يكفل ويساعد على ممارسة رسالتها التربوية والثقافية والاجتماعية والعلمية في المجتمع وإعادة المدارس الخاصة التي قامت الأنظمة السابقة بتأميمها والاستيلاء عليها ظلماً وقسراً لأسباب شوفينية ودينية.
•   حق الأقليات في إنشاء مراكز ومؤسسات إدارة ذاتية لامركزية تتيح لهم ممارسة طقوسهم وعاداتهم وتراثهم وثقافاتهم  بكل حرية بعيداً عن كل أشكال التهديد والمراقبة .
•   سنّ قانون يمنع استخدام الدين أو رموزه في الترغيب أو التهديد أو التحريض أو الدعوة إلى الكراهية العنصرية أو الدينية وكل ما من شأنه خلق الفتنة بين أبناء الشعب الواحد.
•   العمل المتواصل على برنامج ثابت للتوعية الوطنية بمخاطر الشدّ الديني والإتني ممّا يتطلب دعماً متواصلاً من المجتمع الدولي لدعم منظمات المجتمع المدني التس لتحمّل مسؤولياتها في  أوساط المجتمع كافة.
•   إشراك الأقليات في جميع الفعاليات واللقاءات المجلية والإقليمية والدولية التي تتطرق إلى حوار الثقافات والأديان كجزءٍ من حقها في الأصالة والتاريخ والحضارة بدلاً من تغييب دورها وتهميشها.
•   ألتأكيد على حضور القيم المشتركة والمتبادلة بين مختلف المكوّنات من أجل خلق مجتمع متكافئ يؤمن بمستقبل السلام من خلال الحوار والتفاهم وليس من خلال إكراه نوعٍ معيّن من الثقافات تُفرضُ قسراً.
•   ضرورة التوعية باحترام الخصوصية الثقافية للجميع دون تمييز والعمل المخلص باتجاه زرع الروابط الاجتماعية والثقافية الصحيحة بين سائر الأطياف وتعزيز روح الصداقة لمنع تصدّع أواصر المجتمع.
•   ألتأكيد على الحريات الدينية وتطبيق هذا المبدأ دستورياً وفي القوانين التي يسنّها نوا ب الشعب من خلال اعتماد قيم العقلانية والنضوج الفكري والاجتماعي والحضاري التي تتبناها الأسرة الدولية بموجب شرعة حقوق الإنسان.
•   إنصاف المرأة ومساواتها بالرجل في كل مرافق الحياة وفي التشريعات والقوانين التي تخص حياتها الاجتماعية والثقافية والمدنية بما في ذلك حقها في حرية التنقل والسفر دون قيد أوشرط أو وصيّ وكذلك حقُّها في تولّي المناصب المؤهلة لها دون تمييز أو انتقاص أو استخفاف بقدراتها.
•   العمل على عودة الحياة الطبيعية إلى القرى والقصبات التي تعرّض فيها المواطنون إلى عمليات تهجير قسري وتعويضهم عن الممتلكات التي فقدوها وإعادة إعمار مناطقهم  وتهيئة كافة مستلزمات الحياة الإنسانية والاجتماعية فيها.
•   تقديم الحماية الضرورية لأبناء الأقليات أينما تواجدوا من خلال قانون يُشرَّعُ لهذا الغرض باعتبارهم دائماً الحلقة الأضعف في المعادلة الوطنية ولاسيّما من يختلفون في الدين الرسمي للدولة من الذين لا يملكون ميليشيات لحمايتهم من أشكال التهديد التي يتعرضون لها ممّا يُعدُّ انتهاكاً للحقوق الأساسية.
•   بث روح التسامح والمحبة والاحترام بين المواطنين والابتعاد عن كل ما يثير النعرات الطائفية والفئوية ومحاسبة المقصّرين وعدم التسامح مع مثيري الفتن مهما كانت مراكزهم أو انتماءاتهم أو ولاءاتهم.
•   التواصل مع أبناء الأقليات المنتشرين في المهاجر ضمن مشروع وطني شامل يتولى مساعدة كل من اضطرّتهُ الظروف القاسية مغادرة البلاد لأي سبب كان و تقديم كل أشكال العون والمساعدة لعودتهم متى تهيّأت الظروف الملائمة لذلك.


رابعاًً: الخلاصة -  آمال على الطريق الصحيح
 إنّ ما تحقق على الصعيد الوطني  لم يرقَ بعد إلى مستوى الطموح مع إبداء التقدير العالي للجهود التي تُبذل من قبل الهيئات الدولية المتعددة ومنظمات المجتمع المدني وبعض الدول التي تدعم المشروع الوطني الذي يشترك فيه مجلسنا مع غيره من المكوّنات والكتل السياسية والشخصيات الليبرالية والعلمانية والتكنوقراط . لكننا، وبالرغم من قتامة الوضع الحالي، نعتقد أن الآمال معقودة على جميع ذوي الإرادة الصالحة لإخراج البلاد من النفق المظلم الذي حصرهُ فيه مَن لا يريد له الخلاص والسلام والاستقرار. وبذلك ستظل حديقة العراق غنّاءَ بأورادٍ جميلة وأزهارٍ متعددة الألوان والأشكال يزهو بها شعب العراق موحَداً واحداً  بنسيج فسيفسائي غير قابل الانفصال والتمزّق، تجمعه روح المواطنة والولاء المطلق للوطن ولأهله.
إننا في مجلس الأقليات العراقية الفتيّ، إذ لا نحسب أنفسنا الممثلين الوحيدين لسائر أبناء الأقليات العراقية القومية منها والدينية، إلاّ أننا قد أجمعنا على سَبــر طريق الحوار والتفاهم والتنسيق مع باقي مكوّنات الشعب والكتل والمنظمات وصولاً  نحو تحقيق أهدافنا الوطنية بالمشاركة في خلق مجتمع ديمقراطي متعدّد موحَّد من خلال محافظة كل مكوّن على هويته القومية و الدينية الخاصة بهِِ. إنّنا نتطلع إلى تغيير حقيقي في العقليات السائدة في مجتمعنا تواصلاً مع المستجدات و بضرورة أن تؤمن جميع القوى وتسلّم بواقع التعدّد الثقافي والاجتماعي الذي يُعدُّ عاملَ تقدّم للفرد والمجتمع.
ويبقى مشروعُنا الوطني قائماً في السعي من أجل خلق الوعي الوطني الحرّ من أجل بناء عراق ديمقراطي فيدرالي متعدّد مزدهر يرفل أبناؤه جميعاً بالعزّ والفخر للانتماء إلى بلد الحضارات والرسالات والأنبياء والأئمة الصالحين بعيداً عن فتنة المحاصصة والتمحور الطائفي.  هذه دعوة لاستبدال كل هذه المعوّقات التي تقف حجر عثرة أمام التقدّم الصادق لبلادنا بحضارة المحبة و بثقافة السلام وروح الشفافية و احترام الآخر و نبذ أسلوب التهميش والإقصاء والكراهية التي لا خيرَ من ورائها. وليبق هدفنا: العراق أولاً والولاء المطلق له أولاً ورفاهية شعبه أولاً وآخراً. فالعراق لا يمكنُ أن يكونَ لغيرِ أهلِه من العراقيين أبداً.





لويس إقليمس
مسؤول العلاقات الخارجية
مجلس الأقليات العراقية
13 أيار 2006

415
الإخوة الأعزاء ممثلي مجلس الأقليات المحترمين
 
عقد مجلس الأقليات العراقية مؤتمره الثاني صباح السبت الموافق 27 أيار 2006 على إحدى قاعات فندق الرشيد في المنطقة الخضراء. 
عُقد المؤتمر برعاية ودعم الأمم المتحدة وممثليتها  في العراق UNAMI.
رعى المؤتمر السيد أشرف قاضي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الذي ألقى كلمة الأمين العام الأمم المتحدة مؤكداً دعمه الثابت والمتواصل لمجلسنا وقد ورد ذلك في فقرات عديدة من كلمته  ممّا كان له الوقع الكبير في نفوس جميع الأقليات والمكوّنات القليلة العدد الممثلة فيه من التركمان والشبك والكلدو آشوريين السريان (الكلدان. السريان. الآشوريون) والأرمن والصابئة المندائيين والكورد الفيليين والإيزيدية.
كما حضر امؤتمر الدكتور محمود المشهداني رئيس مجلس النواب العراقي الجديد الذي كان لكلمته الأثر الكبير في نفوس المشاركين ممثلي الأقليات والحضور على السواء حيث أشار إلى أنه ما يزال يرى نفسه ضمن خانة الأقليات. وأضاف أن ما تحمله هذه المكوّنات القليلة العدد من كفاءة وحب للوطن ومشاركة فاعلة في العملية السياسية يُعدُّ فخراً للبلد. ووعد بدعم المجلس وممثليه في كل مفاصل مؤسسات الدولة،، في مجلس النواب والحكومة العراقية ورئاسة الجمهورية.
كما حضر المؤتمر أيضاً السفير الاسترلي و ممثلون عن سغارات كل من فنلندة وأميركا وبريطانيا والدانمارك وإيران ووزراء سابقون وأعضاء مجلس النواب الحالي والسابقون منهم بختيار محمد أمين وزير حقوق الإنسان الأسبق والسيدة صفية السهيل عضو مجلس النواب والسيدة باسكال وردة وزيرة الهجرة والمهجرين السابقة والسيدة سهيلة عبد جعفر وزير المرأة سابقاً ومستشار رئيس الجمهورية للإيزيدية السابق والحالي و غيرهم كثيرون من منظمات إنسانية ومجتمع مدني مثل NDI.
كما قدم عدد من الزملاء 4 أوراق عمل افتتحها الدكتور حنين القدو رئيس المجلس بورقته المعنونة : حقوق الأقليات ثم أعقبه السيد نزار الحيدر نائب رئيس المجلس بورقة عمل عن الحقوق السايبة لللأقليات. تلاه السيد لويس إقليمس بورق عمل عن الحقوق الثقافية والاجتماعية والتعليمية للأقليات وأنهتها الآنسة المحامية بيداء سالم النجار بورقتها عن الحقوق الدستورية.
جرت مناقشات عامة لأوراق العمل مع الحضور.
تُليت برقيات تأييد وتشجيع من قبل منظمات وهيئات وأشخاص وممثلي المجلس غيابياً ومنهم فروعنا المقترحة في فرنسا وألمانيا وكندا وسهل نينوى بالنيابة عنكم.
أختتم المؤتمر بقراءة توصيات سبق الاتفاق عليها و قد قرأها على الحضور السيد يونادم كنـــــا مستشار المجلس ورئيس الحركة الديمقراطية الآشورية وأشاد الجميع بمطالبها العقلانية.
 
هذا وسنوافيكم لاحقاً بتفاصيل أكثر عبر ابريد الالكتروني
 
مع تقديري وسلامي للجميع
ملاحظة: يمكنكم البدء بتشكيل الفروع في البلدان التي تتواجدون فيها بحيث يتكون الفرع من ممثلي الأقليات المذكورة في أعلاه ضماناً لمشاركة أوسع.
 
لويس إقليمس
مسؤول العر\لاقات الخارجية
مجلس الأقليات العراقية
بغداد في 28 أيار 2006

416
سيادة المطران مار باسيليوس جرجس يستقبل وفد من زوعا و المجلس الكلدوآشوري السرياني


التقى سيادة المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى رئيس أساقفة الموصل وتوابعها للسريان الكاثوليك بصحبة
الأب الفاضل  لويس قصاب رئيس كهمة قرةقوش / بخديدا وبحضور عبدالله النوفلي رئيس ديوان الوقف المسيحي، بنخبة من مثقفي شعبنا ضمّت شخصيات قومية من المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي والحركة الديمقراطية الآشورية في دار مطرانية السريان الكاثوليك في بغداد مساء الجمعة الموافق  9 / 12/2005.
ودار اللقاء الذي ساده جو مفعم بالود والتفاهم والحوار البناء و الصريح والمفتوح على مدى ساعتين متواصلتين حول شؤون وهموم البيت الكلداني السرياني الآشوري بتلاوينه الثلاثة.
واستمع ممثلو شعبنا الكلداني السرياني الآشوري الواحد بحرص واهتمام إلى تحليل دقيق لواقع البيت المسيحي في العراق عامة وسهل نبنوى بصورة خاصة والذي تناوله سيادة المطران جرجس بشئ من التفصيل الصادق بحنكته المعهودة وخبرته الطويلة وإيمانه المطلق بكوننا شعباً واحداً لا يمكن تجزئته مع احتفاظ كل مكوّن بخصوصيته. كما كانت لتوجيهاته السديدة والقيّمة أثرها الواضح على مسامع الحاضرين جميعاً لدقتها وصدق تحليلها وتعليلها إلى جانب الملاحظات التي أبداها القس لويس قصاب والتي عبر فيها عن أمله هو الآخر بضرورة  تسوية بعض الأمور والثغرات الطارئة التي حصلت نتيجةً لبعض الاختراقات التي طالت سهل نينوى بالذات.
هذا وقد ضمّ وفد الحركة الديمقراطية الآشورية كلاً من شمائيل ننــــو عضو قيادة الحركة ووليـــم وردا المسؤول الإعلامي فيها ، فيما ضمّ وفد المجلس الكلدو  آشوري السرياني القومي كلاً من لويــــس إقليـــمس وجورج زوما وفلاح زرا ومي يونان ونائل الريس.
هذا وقد رتب لهذا اللقاء الحواري المهم المفتوح والصريح جداً لويـــس إقليمــس  عضو سكرتارية المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي حرصاً منه على ضرورة قيام تفاعل أوسع في مجال العمل القومي الكلداني السرياني الآشوري المشترك وإيماناً بالمجلس الذي ينتمي إليه بضرورة تواصل مثل هذه اللقاءات الصريحة والبناءة و التي من شأنها خلق جانب من الثقة المتبادلة بين جميع الأطراف وحل ما يطرأ من إشكالات في ساحة العمل القومي المشترك خدمة لعموم أبناء شعبنا الواحد.
 
لويس إقليــــس[/b]

417
رفقاً بالأبرياء يا أصحاب السعادة!



لويس فرنسيس إقليمس*
نعيش اليوم عصر الحريات والديمقراطية رغم عدم معرفتنا الحقيقية لأهميتها وطريقة تفاعلنا مع مضامينها والإستفادة من مفاعيلها في مجمل حياتنا اليومية الصاخبة، وهذا أمر مشروع ومفرغ منه كما أعتقد ويؤيدني الكثير فيما ذهبتُ اليه.
كل إنسان من حقه ان يدلو بدلوه ويغرف ما يشاء من معلومات ومنافع ويتفاعل مع ما يجري حواليه بطريقته التي يراها صالحة وفاعلة في نقل ما يريد وفهم ما يشاء. وكل ذلك ينبغي ان يتم ضمن أصول اللعبة التي لا يحق فيها للاعب ان يتخطى حدود المسموح به قانونا وأدبا وأخلاقا. ذلك لأن أخلاقيات أية لعبة تفرض فروضا عامة للآداب في حدود التفاهم المشترك وضمن مبادئ احترام الغير وقبول الآخر مهما اختلف معه. أليست هذه أصول الديمقراطية التي نصبو اليها ونتمنى تحقيقها في مجتمعنا الجديد؟.
الكلمة الشريفة تبقى والرأي المعقول يثبت حتى النهاية وما هو مائل الى الزوال بالتالي لن يكون سوى نصيب تلك الوسائل غير المقبولة من كذب وطعن وتشهير وتعطيل للقدرات والإمكانيات والكفاءات. هذا ما عرفته البشرية طوال مسيرتها عبر التاريخ. ومن يطلق الكلام جزافا دون تمحيص ووعي وعمق تفكير وتحليل لما بعد التعليق هو الخاسر في النهاية وذلك لقصر نظرته وبطء فهمه لأرض الواقع وعدم تمعنه في استيعاب إفرازات هذا الواقع والمستجدات وما حواليها من بشر وأفكار وآراء ومبادئ ومشاريع وتوقعات و..و.. و.. الى غير ذلك من وقائع الحياة.هؤلاء الذين يحشرون أنفسهم في مثل هذه الخانة الضيقة يحكمون على أنفسهم بل قد حكموا منذ الساعة على أنفسهم بالإفلاس. ويا أسفنا جميعا على أمثال هؤلاء الأعزاء، لأنهم كانوا أجدر بالتفاعل المفيد مع غيرهم بل بالأحرى مع إخوانهم وبني قومهم وأصدقائهم المحبين من أجل مصلحة شعبهم الذي يتباكون عليه وعلى مصالحه عبثا كتباكي التماسيح بدموع خائبة.
أني أعتقد أن من يسمح لنفسه بان ينتقص خبثا أو غيرة أو حسدا من زميل أو صديق أو حزب منافس أو تجمع "مناوئ" حسب تفسيره القاصر، فهذا دليل قاطع على فقدانه الثقة بالنفس. ذلك لأنه يرى فيما يرى ان من يتصوره منافسا له لا بد من محاربته بشتى الوسائل ومن ثم مسحه من الخارطة كي لا يتفوق عليه ويسبقه فيما هم ماضون اليه معا، وتلك هي أدنى درجات الخيبة والإحباط التي تنخر بنية الإنسانية بسبب إرتباط هذا الصنف من البشر الضعيف بجهات لا يحلو لها تفوق غيرها عليها في المساحة التي يعملون فيها جميعا. الكل يصرّح بأنه يعمل من أجل الشعب ومصالح الشعب وبناء البلد وتطوير تلك القصبة أو تلك البلدة وتحقيق الأحلام، ولكن التطبيق يبقى غائبا لتعثر مثل هذه المشاريع بعراقيل تفرضها موالاة مشبوهة وارتباطات مثلومة لمثل هؤلاء وغيرها من التوجهات التي تكتنفها شوائب المصالح الفئوية الضيقة التي لا تتعدى عتبات المقرات والمراكز والمقاهي. هذا ما نسميه بالتصيد في الماء العكر، أليست هذه واحدة من مجمل تلك الآفات البشرية التي تخرق مجتمعاتنا التي لا بد من إصلاحها وتوعيتها بالحقيقة المغلفة لأمثال هؤلاء الصيادين غير الحكماء؟.
أن إغتيال الحقيقة من خلف الكواليس وبين أروقة مظلمة ظلما وبهتانا نعدّه خطيئة كبرى لا تُغتفر. فعندما يسعى البعض للتشكيك بمبادئ المجلس الكلدوآشوري السرياني القومي وهو الذي تأسس أصلا من رحم مختلف كنائس العراق بادئ إنطلاقته في أيار 2003، وبأهدافه الوطنية والقومية الصريحة كما أعلنها نظامه الداخلي، فهذا مثار العجب والعتب والإستغراب في آن معا. لم يكن المجلس غريما لأحد ولا منافسا لغيره ولا كائدا المكايد كما فعل ويفعل البعض ممن طرح ويطرح نفسه وحزبه وتجمعه بديلا لغيره ولا سائد على الساحة إلا لفئته. كنا وما زلنا نقول ونؤكد قولا وفعلا أن المجلس سيبقى منبرا حياديا مفتوحا وأمينا للجميع ومع الجميع ومن أجل الجميع. ولئن حاول العديدون تغييب المجلس وطمس أنشطته والتشويش عليه فهؤلاء هم الخاسرون لأنهم لم يتمكنوا فعلا من رفع الغشاوة كاملا عن عيونهم المغمضة بفعل فاعل. لم يزغ المجلس- رغم المشاكل المادية التي واجهته- عن أداء رسالته القومية والوطنية الشريفة. فقد كان دوما داعيا مجهولا وفاعلا حثيثا من أجل الوحدة والكلمة الواحدة والخطاب الموحد في جميع المناسبات حتى في تلك التي لم يُدع اليها عمدا سعيا وراء تجاهله وتغييبه قسرا وهو السبّاق في العديد من المبادرات الوحدوية المشهودة على الساحة القومية الكلدوآشورية السريانية والتي حاولت بعض الجهات سحب البساط من تحته في مبادرات عديدة، وقبلنا بذلك حبا ورفقا بلمّ الكلمة. ولسنا هنا بصدد نبش مثل تلك التصرفات لأن مثل هذه الممارسات غير المقبولة رياضيا لا تجمع بقدر ما تفرّق ولا توحد بقدر ما تدمر ولا تسعى الى خدمة شعبنا بقدر ما تزرع فيه بذور الحقد والتفرقة والكراهية، وهي فعال لا نرضى بها جميعا.
أننا نعلن للجميع ان إئتلافنا مع الحركة الديمقراطية الآشورية في الإنتخابات التشريعية القادمة قد جاء بمبادرات فردية في بادئ الأمر من خلال إتصال الحركة بعدد من أعضاء المجلس على انفراد بعد استغرابها تغيبه عن المشاركة في هذه التظاهرة المهمة وتلمّس قيادتها أهمية تواجد المجلس على الساحة القومية واستشعارها بخسارة غيابه في مثل هذا المنبر الحساس "لأسباب فنية" كما يبدو والله أعلم. لقد تم تغييب المجلس الكلدوآشوري السرياني القومي- "في محاولة مقصودة أو غير مقصودة"- في المشاركة في الإجتماعات التي سبقت عملية الإعداد للترشيحات من قبل بعض الأحزاب لغرض إعداد قائمة موحدة لمرشحي ممثلي شعبنا في المجلس النيابي القادم. وكنا من ناحيتنا قد تركنا مسألة المشاركة جانبا تجنبا لأية إنفعالات أو ردود أفعال أو تجاذبات هامشية حتى تمت الموافقة على مثل هذه المشاركة هاتفيا بين عدد من أعضاء المجلس وليس جميعهم بسبب قصر الوقت ومساحة المناورة والتفاوض. نعم، أقولها بصريح العبارة، كان المجلس وبجميع أعضاء السكرتارية العامة يتمنى توظيف مشاركته في الإجتماعات التي عقدتها الأحزاب الكلدوآشورية السريانية بمبادرة من مجلس مطارنة نينوى الداعي الى توحيد الصفوف في قائمة واحدة في رص الصفوف كعادته والخروج باتفاق توفيقي يخدم مطالب شعبنا ويعزز من حقوقه الدستورية في مراجعة البنود التي كان تحفظ عليها والتي لم تصب في مصلحته.
وإزاء هذه التحديات وغيرها، فأن المجلس الكلدوآشوري السرياني القومي يحتفظ رغم كل شيء بعلاقات طيبة مع العديد من الأحزاب والتجمعات والجمعيات في الداخل والخارج مبديا الإستعداد الكامل للتعاون في كل ما يصب في مصلحة شعبنا الذي من أجله نتحدى الصعاب ومشاكل الكلام وتفاهات الترهات التي تقال عنه هنا وهناك لتثبيط عزيمته. ولكنه باقٍ يشمخ ويتفاعل مع الجميع ومن أجل الجميع. وما افتتاحه لفرع له في مدينة بخديدا- قره قوش يوم 4 تشرين الثاني 2005 أي قبل أيام قلائل فقط، سوى دليل على مثابرته وعزمه على تحقيق أمنيته ليظلّ خيمة للجميع كما طرحنا ذلك من قبل وهو الهدف ذاته من تأسيسه على يد النخبة الفاعلة من علمانيي مختلف الكنائس وبمباركة كريمة من عدد لا بأس به من رؤساء الطوائف والكنائس في بغداد كما أسلفنا. كما نعلن للجميع أن فروعنا التي تعمل حاليا في المهاجر تساهم هي الاخرى في تقوية أواصر العلاقة القومية الطيبة بين مختلف مكونات شعبنا وبإمكان الجميع الإطلاع على أنشطتهم الجديرة بالإهتمام في هذا المجال عبر وسائل الإتصال المتاحة.
أننا لم ولن نكون تابعا لأحد كما لن نرضى أحدا وصيا علينا، فبرنامجنا واضح ومعقول وأهدافنا منطقية وواقعية قد جرى ترويضها لتلبي طموحات شعبنا في مختلف مساحاته المناطقية. ولئن كنا نتفق مع الحركة الديمقراطية الآشورية أو غيرها في بعض من برامجنا وأهدافنا وحتى في مبادئنا، فهذا أمر طبيعي لأننا أبناء شعب واحد بكافة مسمياته التي تعني لنا صحتها جميعها ونقرّها كلها لأنها لسان حال شعبنا فعلا وتطبيقا. ولئن كان للبعض شيء من الحساب أو العتاب مع الحركة الديمقراطية الآشورية، فهذا شأنهم وليس المجلس وصيا على الحركة كما لا تحمل هي الاخرى أية وصاية علينا. نحن أيضا نختلف مع بعض توجهات الحركة كما نختلف في اخرى مع غيرها من التنظيمات الوطنية أو القومية أو الدينية المتواجدة على الساحة العراقية المفتوحة حاليا للجميع دون تمييز أو إمتياز لأحد دون غيره، وهذا أمر طبيعي لا غرابة فيه، ولكني أعتقد ان ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرّقنا ويعرقل مسيرتنا ويزعزع ايماننا. المطلوب قبل إرسال الكلام والعتاب والإنتقاد على عواهنه ان يُصار الى تحكيم الضمير وتيسير المنطق وتفعيل الحرص على المصلحة العامة وايثارها على الخاصة منها. أن الأجواء الديمقراطية التي نعيشها اليوم لا تقبل بالتشهير الباطل ولا بالكذب الساخر ولا بالنفاق الساذج. هذه كلها ستنقلب يوما على أصحابها لتعلمهم درسا جميلا في الديمقراطية ومحبة الآخر التي أوصى بها الرب للجميع ومن أجل الجميع. نحن في زمن يطالب الجميع كي يبحث فيه الإنسان عن أقرب الوسائل وأسهل البدائل وأفصح الطرق نحو محبة الغير واحترام الرأي والرأي الآخر والتعايش معا بأسلوب حضاري متمدن مع احتفاظ كل مكوّن لخصوصياته القومية والمذهبية والدينية. "أحببْ لغيرك ما تحب لنفسك"، لعلها من أجمل المقولات التي تؤكد وصية المحبة المسيحية التي أتى بها الرب يسوع. ولتكن الكفاءة وصدق العزم والحرص الصحيح على مصالح الأمة والشعب نصب عيني الجميع وبها وفيها ومن خلالها سنحقق جميعا أهدافنا من دون تكذيب أو تجريح أو نفاق أو تشهير وما الى ذلك من صفات غير حميدة يلجأ اليها البعض في أيامنا هذه للإنتقاص والنيل من أخوة لهم في المسيح والقومية والتاريخ والحضارة. فالصدق والايثار والمحبة تلكم هي صفات المتبارين الأصلاء الذين يفرحون لنجاح منافسهم ويشدون من أزره ويحمّلونه مسؤولية أكبر في تحقيق ما لم يتمكنوا هم من تحقيقه. وهنا لا يمكننا نسيان حضارات الشعوب وتاريخها ونضالها. هي ذات الحالة تتجدد وتتصور وتعود ولكن من خلال وجوه مختلفة وطاقات متعددة وأشكال متباينة كلها تصب في خانة المصلحة العليا للشعب والأمة.
أن مساحة العمل واسعة وتحتضن الجميع ولا وصاية فيها من أحد على غيره. وبالمناسبة، كنا نحن في المجلس الكلدوآشوري السرياني القومي قد طلبنا فيما مضى خلال زياراتنا لعدد من الأحزاب القومية "الكلدانية السريانية الآشورية" ان تشاركنا بمن ترتأيه من أعضائنا في تشكيلة فروع المجلس وبالذات في فرع بخديدا- قره قوش، ولكننا لم نتلقَ الرد رغم معاودتنا الطلب قبل تشكيله بأيام. لقد كان دافعنا من خلال هذه الدعوة تقريب وجهات النظر والتأكيد على أن سياسة المجلس ورؤيته للأحداث مستقلة لا تخضع لوصاية أحد كما اعتاد البعض ان ينشروا هذه الفرية غير اللطيفة والكذبة غير الجميلة التي لا تليق بهؤلاء الأصدقاء والزملاء والتلاميذ الذين أكنّ لهم شخصيا كل احترام ومحبة وتقدير. أرجو ان يعيد هؤلاء النظر في تصرفاتهم غير المقبولة هذه وتصريحاتهم غير المنصفة وحكمهم المسبق غير المدروس خدمة للصالح العام وايمانا بمبدأ احترام الرأي والرأي الآخر. ولا أريد ان يُقال ان انطبق عليهم مثل المسيح الذي وصفهم بـ "علماء الشريعة الذين يغلقون أبواب الملكوت في وجوه الناس.. فلا هم يدخلونها ولا يتركون الداخلين يدخلون".
* عضو سكرتارية المجلس الكلدوآشوري السرياني القومي.[/b]

418
السيد جلال الطالباني رئيس الجمهورية المحترم
دولة الرئيس الدكتور إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء المحترم
الدكتور حاجم الحسني رئيس الجمعية الوطنية المحترم
الدكتور همام حمودي رئيس اللجنة الدستورية المحترم
السيد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة المحترم
السادة أعضاء لجنة كتابة الدستور المحترمون



بيان من المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي


         يهديكم  المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي تحياته ويرجو الخير والرفاه والسلام والأمن لجميع العراقيين تحت خيمة عراق موحد واحد ديمقراطي تعددي فدرالي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات كل ضمن قوميته أو دينه أو طائفته أو مذهبه في ضوء تحقيق العدالة والمساواة للجميع.
إن مجلسنا الذي تشكل بمباركة جماعية  من رؤساء كنائس العراق في بغداد  في 13 أيار 2003 أي بعد أيام من  التغييرات السياسية الجوهرية التي شهدتها البلاد، هو هيئة شعبية حيادية تُعنى بشؤون المسيحيين من الكلدان والسريان والآشوريين. وهو إذ يؤمن إيماناً مطلقاً بوحدة شعبنا بتسمياته المتعددة ( الكلداني السرياني الآشوري ) كان يتمنى أن تتوحد هذه التسمية. ولكن إصرار بعض الأطراف التي تشكل الأغلبية (الكلدان) مصرّون على الاستقلال بما يسمونها بالقومية الكلدانية التي جاءت بسبب ضغوط من أطراف تعيش خارج الأسوار لها تأثيرها المادي بالدرجة الأولى على أطراف مستفيدة داخل الوطن. وبهذا فهي تسعى كما يبدو إلى اقتطاع  ما يمكن من كعكة العراق حالها حال ما يجري على الساحة السياسية العراقية ككل. وهذا في نظرنا داء يُراد به تمزيق وحدة هذا الشعب الرافض لمثل هذه التوجهات إذ إنه  يصب في مصلحة فئات معدودة مستفيدة من هذا الوضع  وأخرى متعاونة مع هذا التوجه  ومن يقف وراءها بدعم مادي مكشوف.
لقد خلت مسودة الدستور من ذكر مكوّن ( الســــــــريــــــان ) وهذا أمر مخالف للمساواة بين الجماعات المسيحية التي يتشكل منها شعبنا الواحد ( الكلدان. السريان. الآشوريون). إن سجلات الإحصاءات التقريبية  المقربة من كنائسنا المتعددة تشير إلى أن تعداد هذه المكوّنات المتواجدة داخل القطر فقط ما عدا الجاليات العديدة في المهاجر هي كالتالي:
ألكلدان : بين 450 ألف  – 500  ألف نسمة
ألسريان: في حدود 200 ألف نسمة ( الكاثوليك والأرثوذكس معاً)
الآثوريون ( النساطرة): في حدود 50 ألف نسمة
إن مجلسنا يؤكد العمق التاريخي لهذه المكونات من أبناء شعبنا الواحد سليل الحضارات الأكدية والسومرية والبابلية والآشورية التي سادت المنطقة وماتزال آثارها باقية إلى يومنا هذا. لقد تطورت تلك الحضارات وعُرفت في أزمان لاحقة بالأقوام الآرامية التي كانت تتحدث اللغة الآرامية التي سادت المنطقة كلها وبضمنها بلاد فارس التي اتخذتها لغة رسمية في فترات طويلة من تاريخها. ومع بزوغ فجر المسيحية تنصّـــــــر قسم كبير من تلك الشعوب الآرامية وأصبحوا يُعرفون بالســـــريان (نسبة  إلى سوريا المتأتية هي الآخرى من كلمة Assyria)
أساساً وذلك تمييزاً لهؤلاء عن الآراميين الذين ظلوا على ديانتهم الوثنية. وهكذا تواصلت تسمية المسيحيين في المنطقة باسم السريان على مرّ السنين التالية من مختلف عهود الخلافات الإسلامية المتلاحقة حيث حفظت لنا بطون الكتب أخبارهم من أطباء ومترجمين ونقلة من اليونانية إلى السريانية و العربية وبالعكس ولم يكن العالم يسمع في حينها إلاّ تسمية السريان والتاريخ يشهد لذلك.
إن إصرار الطائفة الكلدانية بمرجعيتها الدينية المحترمة على الاستقلال بما تسميه بالقومية الكلدانية (المستحدثة أساساً على خلفية تعود للقرن الثامن عشر لتمييزهم عن النساطرة بعد اتباعهم المذهب الكاثوليكي)  ليس مقبولاً من جميع أبناء شعبنا الواحد الذي ينشد الوحدة على شتى الأصعدة وهم بذلك يريدون فرض مبدأ الأغلبية للاستحواذ على منافع بحجة الاستحقاقات الأغلبية قاصدين بذلك صهر أخوانهم من السريان والآشوريين وإذابتهم في طائفتهم لكونهم الأغلبية كما يجري تماماً لدى جهات وكتل سياسية تحاول وتسعى لتغييب وتهميش غيرها من المكوّنات التي تُعدّ أقليات.
إن مجلسنا يناشدكم أن يُراعي الدستور هذه المقترحات من أجل رفع الغبن عن السريان ويرى أنه في حالة إقرار الكلدانية والآشورية قومية فهو يطالب الجمعية الموقرة أن تشير إلى السريان كقومية مكمّلة لهما لأنــــــنا شعب واحد ولا يمكن الفصل بيننا جميعا. ولعل السبب في استحواذ هذه الفكرة هو بسبب عدم وجود ممثل للسريان في الجمعية الوطنية وفي لجنة كتابة الدستور بسبب حرمان المنطقة التي يتواجد فيها السريان من المشاركة في الانتخابات في سهل نينوى وأنتم تعلمون الظروف.
وهكذا نقترح أن تصادقوا على أن تكون تسميتنا إحدى هذه التسميات أدناه و كما يلي:
1-   الكلدان. السريان. الآشوريون
2-   الكلدو آشوريون السريان
3-   الكلدان والسريان والآشوريون

شاكرين لطفكم وحسن إصغائكم في تصحيح ما ورد في مسوّدة الدستور حول تغييب السريان من الخارطة القومية والسياسية.




المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي
بغداد في 24 أب 2005

صفحات: [1]