عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - صائب خليل

صفحات: [1]
1
عبّارة الموصل – أهلا بالعراق في نادي كوارث الخصخصة
صائب خليل
24  آذار 2019
البعض القى اللوم على دجلة .. والبعض الآخر اخترع قصة قطع "الكيبل"، وآخر تحدث عن "قضاء وقدر"  و "إرادة الله" وآخر القى الذنب على الإهمال وكثيرون تحدثوا عن الجشع والفساد الذي يسيطر على "بعض النفوس"..
لكنها ليست سوى قصة من قصص كوارث الخصخصة والاستثمار الخاص التي عرفها الآخرون قبلنا.
اقرب القصص اليها هو “حادث عبارة السلام” المصرية، قبل 13 عاماً، وكان القطاع الخاص قد اوغل في مصر السادات ثم مبارك. غرقت سفينة لم يعرف بالضبط سبب غرقها ولا سبب مقتل معظم ركابها غرقا – اكثر من 1300 انسان. ما نعرفه ان السفينة كانت مصنوعة لتسع 500 راكب، ثم تم توسيعها لتسع 1300.. أحد الأسباب التي طرحت انها حملت اكثر حتى من حمولتها الموسعة... هربوا الى الخارج، واستلموا التأمينات وأفلت الجميع من العقاب، الا ربان سفينة أخرى تقاعس في انقاذ الغرقى!(1)
 
المسؤولان المباشران عن الجريمة هما المستثمر في الجزيرة السياحية، والذي بدأ عمله فيها قبل بضعة سنوات، وصاحب العبارة، ولا مفر من معاقبتهما أشد العقاب، ولكن هل حقاً هما  المسؤولان الأهم؟
ينقل ماركس عن أحد النقابيين خبرته في أصحاب العمل بقوله: "رأس المال يتجنب المشاريع غير المربحة او ذات الربح الصغير، كما تكره الطبيعة الفراغ. وبوجود ربح كاف، يصبح رأس المال جريئاً. بربح 10% سيكون رأس المال مستعداً للعمل في أي مكان. 20% تثير فيه الحماس. 50% تجعل منه مغامراً. 100% تجعله مستعداً أن يدوس على كل القوانين الإنسانية. 300% ..عندها لن يكون هناك جريمة إلا وكان مستعداً لارتكابها، أو خطراً يهرب منه، حتى لو كان هناك احتمال ان يشنق بسببه!".(2)
احداث التاريخ تؤكد أن ما نقله ماركس عن النقابي، قد لا يكون مبالغة شديدة.
 
من وسّع "عبّارة السلام" لتسع 300% من الركاب، سيستطيع بيعها بأكثر من سعرها، حتى لو لم تكن أسسها امينة بما يكفي.. لأنه سيكون تحت تأثير الأرباح الإضافية التي قد تجعله "مستعداً أن يدوس على كل القوانين الإنسانية".
 
هذا لا يقتصر على شعوبنا وبلداننا طبعا. أنظروا ما يحدث عندما تكون ارباح الرأسمالي تعتمد على إطالة سجن القاصرين. (3)
ولاحظوا كيف يتسبب البحث عن زيادة الأرباح عن طريق التوفير في تكاليف الصيانة في شركة حكومية بعد خصخصتها بكارثة سقوط جسر في إيطاليا، وكيف انهم فكروا بإعادة تأميمها لعدم وجود حل آخر يضمن السلامة.(4)
وانظروا كيف تسبب تخفيض مماثل في كلفة إجراءات الأمان، في تسرب النفط في خليج المكسيك من قبل شركة "برتش بتروليوم" قبل اكثر من 8 سنوات، وما نتج عنه من كارثة بيئية هائلة.(5)
 
يقال ان الرأسمالية تطور الإنتاج والبلد من خلال التنافس، لكن التنافس ينتهي بكوارث ايضاً. انظروا كيف يتسبب التنافس الشديد بين شركات الطيران، والبحث عن اقصى ربح بأي ثمن، بخفض أجور الطيارين في أميركا إلى حد الجوع! بعضهم اضطروا أن  يبحثوا عن عمل ثان (مثل نادل في مقهى!) وآخرين يستجدون مساعدات الطعام من المؤسسات الخيرية، والبعض يبيع دمه ليأكل! أنه أمر لا يكاد يصدقه العقل، لكن هذا ما حدث ويحدث.. والنتيجة لهذه المعيشة غير الطبيعية، هي كالعادة: الكوارث!(6)
 
إذا كان ديدن الاستثمار الخاص هو التركيز على الإنتاجية العالية بأقل التكاليف دون النظر إلى العواقب على مستوى العالم، فما هو حقنا في ان نلوم صاحب العبّارة وصاحب الجزيرة؟
نعم، اعرف صديقاً رفض الأرباح وفضل الخسارة الكبيرة، حين علم انها قد تسمم الأطفال، لكن كم هي نسبة ذوي الاخلاق العالية جداً بين الناس في المجتمع؟ لماذا نلقي بالناس في تحد أخلاقي اكبر من طاقة الانسان الاعتيادي، ثم نعاقبهم ان لم يتصرفوا كقديسين؟
 
المستثمر في الجزيرة أو صاحب العبارة، حين ينقل ما يقارب 250 شخصاً في عبارة مصممة لـ 50، فأنه يرى ارباحاً اكبر بنسبة 500% مما لو التزم بالقانون! إنه يتعرض لحالة نفسية لا يكون عندها "هناك جريمة لن يكون مستعداً لارتكابها، أو خطراً يهرب منه، حتى لو كان هناك احتمال ان يشنق بسببه!". فمن هو المذنب ألأول؟ هل هو المذنب المباشر أم من يدفع به إلى الجريمة؟ أيحق لمن يدفع البلد الى نظام ينمي الجشع والفساد، ان يعاقب الناس إن لم يصمدوا في وجهها، ثم ينجو بنفسه؟
هل يجب ان يحاسب صاحب العبّارة اكثر، أم رئيس الحكومة الذي يهدد ويتوعد، وهو اشد المتحمسين لدفع البلد في اتجاه القروض والاستثمار الخاص والخصخصة ورأس المال ووصايا صندوق النقد الدولي.. وهو على علم تام بما يعني ذلك على أهل بلده؟ نعم يجب انزال العقوبة الأشد بالمجرم المباشر، لكننا سنكون منافقين ان تجاوزنا النظام المسبب للجريمة، والقائمين على ذلك النظام.
 
لقد قال احدهم: "إن كانت الظروف هي التي تصنع الإنسان.. فلنخلق ظروفاً إنسانية"!
وأقول: إن من يحول الإنسان الى وحش... هو المجرم الحقيقي الأساسي، وهو من يجب ان يحاسب ويوقف عند حده، وإلا فمرحباً بالعراق في نادي الكوارث الرأسمالية، وسنرى المزيد في القادم من الأيام.
 
(1) حادث عبارة السلام 98 - ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%A7%D8%AF%D8%AB_%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85_98
(2) ماركس: الربح والتوحش
https://www.facebook.com/PortlandISO/posts/in-capital-karl-marx-quoted-an-early-trade-union-leader-on-the-systems-mad-drive/143402925823722/
(3) خصخصة سجون الأحداث
https://youtu.be/hNoNsAiTra0?t=1775
(4) Italy’s bridge disaster: an inquest into privatization | Financial Times
 https://www.ft.com/content/874b7e4c-ac3f-11e8-94bd-cba20d67390c
(5) BP cost-cutting blamed for 'avoidable' Deepwater Horizon oil spill
 https://www.theguardian.com/environment/2011/jan/06/bp-oil-spill-deepwater-horizon
(6) الطيارين يستجدون الطعام ويبيعون دمهم
https://youtu.be/hNoNsAiTra0?t=2126
روابط اخرى
.
 كوارث الرأسمالية
 http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/59267946-12ca-46a7-affb-a62450b6087e
حتى لا ننسى | 2 فبراير - غرق عبارة «السلام 98» - YouTube
 https://www.youtube.com/watch?v=PSn0SMe26x8
في ذكرى أكبر كارثة بحرية في مصر.. لغز "العبارة السلام 98″ مجهولا، وممدوح إسماعيل حراً
 http://www.innfrad.com/News/54/61217/-
 
 
 
 
 
 

2
المثقف - شهادات ومذكرات وشخصيات
مئة عام على اغتيال روزا لكسمبورغ – فلم عن حياتها

صائب خليل

616 روزا لكسمورغقصة روزا لكسمبورغ واغتيالها تمثل قصة اغتيال الثورات الشعبية الماركسية في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث صادف قبل يومين مرور مئة عام على تلك الجريمة التي قد تكون، مع مثيلاتها، قد غيرت اتجاه التاريخ، واسلمت البشرية الى المصير الذي دفعتها اليه الرأسمالية، والذي تتزايد ملامحه الخطيرة كل يوم.

روزا لكسمبورغ  فيلسوفة واقتصادية ماركسية المانية من أصول بولندية. كان الثورة البلشفية الروسية 1917 تعتمد اعتماداً كبيراً على ثورات العمال في مختلف الدول الأوربية المتقدمة، وبشكل خاص في المانيا، لمساندتها. فقد بدت الظروف في أواخر الحرب العالمية الثانية وبعد نهايتها مهيئة تماما لتلك الثورات وكان التواصل بين الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان مستمراً للتهيئة لذلك. وكان هذا الأمل، المشجع الرئيسي لقيام الثورة الروسية، فلم يتخيل الروس أن سيكون باستطاعتهم الصمود لوحدهم، خاصة وأن ذاكرة كومونة باريس التي تم اجهاضها بشكل دموي، ترن في ذاكرتهم.

انتسبت للحزب الماركسي البروليتاري منذ حداثتها. غادرت بولندا سنة 1889 لتنضم إلى الثوريين المنفيين الروس بزعامة بليخانوف في زوريخ حيث درست العلوم ونالت شهادة الدكتوراة، ثم هاجرت إلى ألمانيا. وعندما اندلعت الثورة الروسية لعام 1905 عادت إلى وارسو لكي تشارك بها فقبض عليها وأفرج عنها في العام التالي. عادت إلى برلين حيث كتبت "تراكم رأس المال" سنة 1913 الذي يعتبر مساهمة فكرية ماركسية مهمة.

https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1913/accumulation-capital/

تزعمت مع كارل ليبكنخت الجناح الراديكالي من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني وعارضت دخول المانيا الحرب العالمية الأولى بشدة. عارضت نظرية لينين حول كون الحزب الشيوعي أداة البروليتاريا لتحقيق دكتاتورية البروليتاريا باعتباره ذلك موقف غير ديمقراطي، حيث اعتبرت الديمقراطية، الوسيلة الوحيدة لتحقيق حكم البروليتاريا.

أسست مع ليبكنخت "عصبة سبارتاكوس" عام 1916التي شكلت بعد سنتين نواة الحزب الشيوعي الألماني وكتبت برنامجه بنفسها.

في 15 كانون الثاني 1919 أي بعد شهرين من إعلان ليبكنخت للجمهورية الاشتراكية الألمانية قامت الحكومة الألمانية باغتيالها مع ليبكنخت، والقيت جثتيهما في النهر، وهكذا كتبت نهاية الثورة الماركسية في المانيا.

في الرابط التالي فلم روائي عنها، مع ترجمة إلى اللغة الإنكليزية (للأسف لم نجد واحدا مع ترجمة عربية، لكن يوجد مع ترجمة إيرانية على اليوتيوب).

https://archive.org/details/RosaLuxemburg



صائب خليل

3
فائض القيمة يطارد اقتصاد الإحتيال
صائب خليل
1 أيار 2014

(مناقشة مبسطة لمفهوم وتاريخ “فائض القيمة” ورد الفعل للباحثين الرأسماليين، بمناسبة الأول من أيار)

عندما تحرشت بالإقتصاد لأول مرة قبل بضع سنوات، كان الدافع هو الفضول المشحون بعدم الثقة العام الذي شحنه في مشكوراً البروفسور جومسكي، وبالفعل لم يخب ظني، فقد كانت علامات الإستفهام تتزايد كلما قرأت المزيد وأصررت على معرفة المعاني المحددة للعبارات وانتبهت بدقة إلى تناقضاتها، ووجدت أن هذا العلم قد أسس على الحيل والمراوغات اللفضية ربما أكثر من أي علم آخر في العصر الحديث، وأنه أشبه بالحركات البهلوانية لـ "السحرة" المحتالين مما هو إلى العلم.
إن جملة مثل : "لقد تمكنت الحكومة الجديدة من إنقاذ الإقتصاد في كينيا، إلا أن أوضاع الشعب الإقتصادية تدهورت!!" لا يمكن أن تتواجد في محفل علمي دون أن تثير الكثير من الضحك، لكن أحداً لا يضحك في نادي العصابة. ويشعر المراقب بأن هناك حيلة تحاك لخداعه حين يعلم أن “الناتج الإجمالي القومي” (GDP) الذي يستعمل كأحد أهم مقاييس الإقتصاد في البلد، قد يزداد إذا أهمل المرء صحته واضطر إلى علاجها بمبلغ كبير يدفعه للمستشفى أو إنه قد ينخفض إن جعلنا طرقنا ممتازة ووعينا الناس بالقوانين وأهمية الأنظمة المرورية بحيث تلاشت حوادث التصادم ولم يحتاجوا إلى إصلاح أو إدامة سياراتهم أو شراء أخرى جديدة لفترات طويلة من الزمن.

ففي العمليات الحسابية للإقتصاد (الرأسمالي) فأن بيع المصنع لسياراته يحتسب كناتج قومي بغض النظر عما كان السبب في ذلك البيع، ويضاف المبلغ المقدم للمستشفى كناتج قومي بينما لا يضاف شيء إذا تمتع المواطن بصحته. وبالتالي فإن كان ما سيدفعه المريض إلى المستشفى، أو لشراء سيارة جديدة، أكثر مما كان “سينتجه” في ذلك اليوم، فأن "الناتج الإجمالي القومي" سوف يزداد بالحوادث والمرض!

وفي عرف هذا الإقتصاد الغريب فأن "عمل" من يقومون بلعب القمار في البورصة (وليست البورصة إلا كازينو مقامرة بكل معاني الكلمة، وكل ما يقال عن "العلم" فيها أو دراسة احتمالاتها وقوة الشركات، الخ، ليس سوى أكاذيب لا اساس لها، بل أن كل دراسة ومعرفة حقيقية فيها تعني تدميرها وتعتبر غشاً، كأية معرفة مسبقة لأوراق القمار في أي كازينو مقامرة اعتيادي، وأنا مسؤول تماماً عن كلامي هذا، والمجال هنا لا يتسع لشرحه) من مضاربين ومراهنين يعتبر "إنتاجاً" يحصل القائمون به على رواتب عالية، بينما لا يعتبر جهد ربة البيت من الصباح وحتى المساء في تربية الأطفال ومتابعة شؤون الأسرة، "إنتاجاً" – رغم أن الأخير أهم الأعمال الإنتاجية لإدامة المجتمع، بينما لا يغير الأول في أحسن الأحوال، سوى توزيع الثروات ضمن ذلك المجمتع!

كذلك سبق أن كتبنا عن مهزلة اعتبار استخراج مادة ناضبة مثل النفط وبيعه على أنه "إنتاج للنفط". وعلى هذا الأساس فيجب أن نعتبر أخذ الجبنة من الثلاجة وبيعها واستهلاك ثمنها، "إنتاجاً للجبنة"! ولا تتردد الحكومات بأن تفخر بزيادة "إنتاج الجبنة" هذا، وأنها تسعى لتكون الأولى في ("استهلاك") الجبنة هذه، وحرمان أجيالها القادمة منها، كإنجاز إقتصادي! ويجب أن نقبل وفق هذا المنطق، بأننا كلما "أنتجنا" الجبنة، قل ما نملكه منها!

هل نحن إذن أمام "علم" أم أمام "العاب كلمات بهلوانية"؟ إن تأسيس أي علم، ليس في نهاية الأمر إلا محاولة لفهم النظام الذي يدرسه ذلك العلم، سعياً إلى زيادة سيطرتنا على العالم وإثراء حياتنا وزيادة سعادتنا. وأن من نخترعه من عبارات يفترض أن ينفعنا كتجميع مبسيط لحقائق، وخلق مقاييس نقيس بها تقدمنا، ونعرف أين وصلنا في طريقنا إلى تلك السعادة. فدراسة ميكانيكية الحركة من قبل نيوتن جعلتنا نستطيع أن نفهم ونتوقع حركة وسرعة الأجسام تحت تأثير القوة المسلطة عليها، ونسيطر بالتالي على تصرفاتها بما يخدمنا ويزيد سعادتنا. ويعطينا مفهوم "الجاذبية" فكرة عامة مختصرة تساعدنا على فهم ما يجري حولنا وكيف تسقط الأجسام على الأرض.

لكننا نرى هنا بوضوح أن "الناتج الإجمالي القومي"، أحد المقاييس الأكثر استعمالاً لمستوى إقتصاد أي بلد، لا يصلح بأي شكل لقياس صحة الإقتصاد حقاً، وزيادة رقمه لا تعني بالضرورة أن البلاد على الطريق الصحيح. كما أن "إنقاذ الإقتصاد" ، مثل معظم العبارات المبهمة في الإقتصاد بمفهومه الحديث، لا تعني أي شيء، على الأقل بالنسبة لحياة وسعادة الناس الذين يعيشون في البلاد التي تم "أُنقاذ إقتصادها"! فبماذا ينفعنا هذا "العلم" إذن وكيف ستساعدنا مفاهيمه لحياة أفضل لنا؟

لا شك أنني لا اعرف إلا جزءاً يسيراً منها وليس هناك مجال للإفاضة هنا حتى لتغطية ما أعرفه منها، لكنني وددت أن أعطي فكرة عما يجري حقاً. إنني بلا شك لم أدرس إلا جزءاً ضيئلاً جداً من البحوث الإقتصادية فكيف أسمح لنفسي أن أعطي حكماً عاماً مثل هذا؟ أولاً لأن دراسة الأفكار التي تقدم على أنها "عظيمة" و "مهمة" في الإقتصاد الرأسمالي الحديث تبين في كل مرة أن الخيط الذي يربطها هو السعي للتهرب من الحقائق التي تهدد السلطة الإقتصادية القائمة. وثانياً لأني لست الوحيد في فكرتي عن الإقتصاد الحالي بل يشاركني ذلك إقتصاديون متخصصون يمكننا أن نقرأ مقالاتهم أو نراهم يتحدثون في الفيديو وكلهم يشير إلى نفس الأمر: الإقتصاد الذي نعيش في ظله مبني على الإحتيال والكلمات الفارغة من المعنى بالنسبة للناس التي تعيش تحت تأثيره.
 
كلما قرأنا المزيد عن هذا "الإقتصاد" ، يمكننا أن نرى بوضوح أن هناك من يخدعنا فلماذا ومتى حدث ذلك؟ أما لماذا فلأن الإقتصاد يضع الكثير من الأشياء الثمينة على طاولة المراهنة، وأن مفهوم الناس عن الإقتصاد سيوحي لها في كيفية ضرورة توزيعها بينهم، ومن المفيد للبعض أن يخدع البعض الآخر لكي يتمكن من أخذ الجمل بما حمل، بينما الآخر مشغول بحل الألغاز والأحاجي التي يضعها البعض الأول ويعقدها فيدوخ بها الثاني ويتراجع عن السعي لفهمها أمام عباراتها الرادعة.
وأما متى حدث ذلك فأتصور أننا لن نجد تاريخاً لم يكن هناك خداع إقتصادي قبله، لكن إن ركزنا على الإقتصاد الحديث فسنجد علامات تاريخية مميزة في طريق هذا التحايل ووصوله إلى المستوى الحالي. ويمكن القول أن دراسات الإقتصاد الحديث كانت منذ قرونه الأولى عباراة عن محاولات لخداع الناس، وإيهامهم أن "الصالح العام" فيما يقولون وأنها دراسات "علمية"، بينما يشير لنا التاريخ أن الشركات المختلفة ونقابات المهن المختلفة والمصالح المختلفة كانت هي التي تؤجر الكاتب الإقتصادي، فتجد هذا "العالم" يكتب عن ضرورة الإنفتاح لأن الشركة التي أجرته يكون الإنفتاح في صالحها، بينما يكتب من أجرته شركة أخرى عن ضرورة الحماية لنفس السبب، ويأتي كل منهما ببراهينة وحركاته البهلوانية اللغوية بكل ما أوتي من براعة، لإثبات أن ما يدعو إليه إنما هو في الصالح العام. والحقيقة أن "الصالح العام" كان بعيداً عن ساحة المعركة، لأنه لا يمتلك المرونة لكي "يؤجر أحداً" للدفاع عنه، ولا يخصص أموالاً لرشوة هؤلاء "العلماء". بقي هذا الصالح العام غائباً تماماً عن كل ذلك التراث الإقتصادي، إلى ان جاء "متطوع" يبحث عن الحقيقة والعدالة وصالح الناس، هو كارل ماركس، ليعيد مراجعة تلك المفاهيم ويحللها ويكشف المزيف منها وينبه الغافلين على طاولة ثروات العالم كيف أنهم يستغفلون في تقسيم غنائمه.

وأهم ما يرتبط باقتصاد ماركس من المفاهيم هو مفهوم "فائض القيمة" الذي يقول ببساطة بأن كل الفرق بين قيمة السلعة المنتجة وبين مجموع تكاليفها، هي من صنع العمل وحده، وبالتالي فهي كلها حصة العامل بلا شريك، وأن رأس المال والمكائن التي يأتي بها صاحب العمل (الرأسمالي) لا تستطيع أن تنتج قيمة (تبادلية) إضافية وبالتالي لا يستحق صاحبها أي ربح، وكل ما يأخذه من ربح هو سرقة وابتزاز لحق العامل، يتباين حسب تباين الظروف وقدرة العمال على التفاوض، لكنه يبقى ابتزازاً.
دعونا نتجرأ ونلقي نظرة سريعة على الأمر كما طرحه ماركس، تاركين التفاصيل لمن يثيره الفضول للمعرفة أكثر. 

في بداية كتابه الشهير "رأس المال" يبين ماركس أن البدء يجب أن يكون بتحليل نوعية الطابوق الذي يتكون منه البناء الرأسمالي، والمسمى بـ "السلعة". وميزة "السلعة" هي أنها تصنع لكي تباع في السوق وليس لكي تستعمل من قبل صانعها. وللسلعة نوعان من القيمة: “القيمة الإستعمالية” التي نعرفها، وتحددها الفائدة التي نجنيها من أمتلاكها واستعمالنا لها، والثانية هي "القيمة التبادلية" والتي تحدد سعرها في السوق. ورغم أن هناك علاقة بين القيمتين، إلا أنهما لا تتطابقان ولا تسيران دائماً معا. فما يحدد "القيمة الإستعمالية" هو مدى فائدتها لنا، بينما يحدد سعر السلعة في السوق، أي قيمتها التبادلية، "كمية العمل اللازمة لإنتاجها"، وليس أي أمر آخر، إن افترضنا عالماً حراً من الإحتكار والضغط والتسلط، وهو ما يفترضه الإقتصاد الرأسمالي.

والفكرة بسيطة، فإذا كان صيد غزالة يأخذ من الصياد عشرة ساعات كمعدل، ويأخذ الصياد ساعة (بافتراض نفس الجهد للتبسيط) لصيد سمكة، فأن صاحب الغزالة لن يبادلها إلا بعشرة سمكات (بغض النظر عن القيمة الغذائية لكل منهما). فلو حاول صياد السمك إقناعه بالإكتفاء بخمسة سمكات، فسيقول له: يمكنني أن أصطاد عشرة سمكات بنفس الوقت الذي كلفني صيد الغزالة، فلماذا أقبل بخمسة؟ والعكس صحيح. وطبيعي أن هناك صياد سريع وآخر بطيء وهناك عامل الحظ والموسم وغيرها، لكننا نتحدث في النظرية الإقتصادية عن "المعدلات" الثابتة للأشياء وليس ظروفها الخاصة، ونتحدث عن مهارة صياد له "معدل" المهارات الخ.

ومن هنا نفهم لماذا لا تسير القيمتان "الإستعمالية" و "ألتبادلية" بخطود متوازية. فقيمة لتر من الماء "الإستعمالية" عالية جداً فعلى تلك السلعة تعتمد الحياة، بينما قيمة جلد الحيوان "الإستعمالية" المستعمل للتدفئة أو لفرش الأرض، اقل بكثير. ورغم ذلك، فإن كان هناك نهر أو نبع قريب وكان الحصول على لتر من الماء يأخذ وقتاً اقل بكثير من الحصول على الجلد، فأن صاحب الجلد لن يقبل بمبادلته بالماء ذو القيمة الإستعمالية الأعلى.

لقد تم إيضاح هذه الحقائق من قبل الإقتصاديين قبل ماركس، مثل آدم سميث وريكاردو وحتى قبلهما أيضاً.  إلا أن اي منهم لم يجرؤ على استنتاج التساؤل المنطقي الذي تطرحه تلك الحقيقة، والمتعلق بكيفية توزيع الثروة بشكل عادل إستناداً إلى تلك الحقيقة! الجميع يتفقون (بوضوح أكثر أو أقل) على أن القيمة المضافة إلتي جعلت السلعة أكثر ثمناً من موادها الأولية، هي قيمة العمل الذي وضع فيها، وبالتالي فان كل تلك القيمة الإضافية يجب أن تكون من حصة من وضع في السلعة ذلك العمل. وإذا اعتبرنا ما يدفع للعامل من أجر كجزء من الكلفة، فأن الجزء المتبقي من فرق السعر، هو "فائض القيمة" الذي يستولي عليه صاحب رأس المال، بغير حق كما يقول ماركس، دون من جاء قبله من الإقتصاديين. ولقد كتب ماركس نصاً موسعاً عن تاريخ نظريات فائض القيمة لدى مختلف الإقتصاديين ومناقشتها، قد تكون قراءته الأكثر صعوبة من بين كتاباته.(1)

لقد مضى على هذه الحقيقة اكثر من قرن ونصف، فلماذا لا يركن إليها؟ الجواب بسيط: لأنها ليست في صالح القوى المتنفذة في العالم.

 

 ولكن ما هو ليس بسيط هو: كيف ردوا عليها في اقتصادهم؟ هل وجدوا رداً يدحضها أو يهمشها أو يبرر إهمالها؟ كلما قابلت مختصاً بالإقتصاد أو طالب إقتصاد سألته عن رد الإقتصاد الحديث على مشكلة فائض القيمة فلا أجد منه جواباً. وأعود فأسأله إن كانوا قد درسوا ماركس وناقشوا أفكاره، فيأتي الجواب دائماً، إنهم درسوه بشكل عابر كموضوع تاريخي، ولا يوجد في منهج الدراسة مناقشة لأفكاره. ماذا تدرسون إذن؟ كيف يمكن للإقتصاد أن يعمل بكفاءة ويزيد الأرباح... لا نناقش كيف يجب أن توزع تلك الأرباح في النهاية! وسؤال ماركس عن فائض القيمة؟ .......لا يطرح مثل هذا السؤال في منهجنا!

إنه لا يطرح في المناهج الدراسية وتم تجاوزه تماماً لكن الأمر ليس بهذه البساطة في الدراسات الأكاديمية العليا. فهناك لا بد من إيجاد طريقة ما للرد، أو على الأقل ما يبدو على أنه رد، على ذلك التساؤل! لقد قرأت العديد من المحاولات حتى الآن، وكل ما أستطيع قوله أنها ليست سوى أحاييل صممت للتهرب من السؤال الآساسي، والتهمة الأساسية بأن أرباح البشر من العمال والناتجة عن جهدهم وحده، ماتزال تسرق منهم ويستولي عليها من لم يقدم أي شيء له دور في عملية إنتاج الربح.

حاول البعض إثبات أن "رأس المال" له دور في إنتاج الفائض، وأن من يمتلكه له حق في هذا الفائض، وبرهن ماركس أن هذا غير صحيح وأنه يعتمد فقط على حقيقة إحتكار اصحاب رأس المال للمال، وكل احتكار هو تشويه خارج النظام الرأسمالي. فلو امتلك العمال رأس المال اللازم للعمل، لما قبلوا أن يأخذوا رأس المال من الخارج ولما استطاع رأس المال هذا أن يتحرك لإنتاج شيء. ثم يطرح السؤال: من اين جاء رأس المال، وما هو في حقيقته؟ إنه ليس إلا تراكم لعمل سابق. يقول المدافعون عن الرأسمالي أنه امتلكه بجهده ومهارته، بما يسمى بـ "رأس المال الأولي" الذي بدأ الصناعة الرأسمالية. ويقدم ماركس في كتابه أدلة تأريخية على بطلان هذا الإدعاء من خلال الوثائق الإنكليزية بشكل خاص والتي تبرهن أن أثرياء الرأسمالية قد بدأوا حياتهم وجمعوا "رأس مالهم الأولي" ليس بالعمل الشاق وإنما بالإستيلاء على المال العام.

ويطرح هؤلاء محاججة هي أن صاحب المعمل يعمل ايضاً في إدارته وهذا عمل ايضاص. لكن الجميع يعلم أن صاحب المعمل قد لا يفعل ذلك ويبقى يحصل على الأرباح، وحتى إن فعل، فأن أرباحه لا تتناسب مع جهده هذا، ولو انه عين مديراً للمعمل فلن يعطيه ما يحصل عليه هو..

ويطرحون فكرة "المخاطرة برأس المال" كسبب للربح. والجواب على ذلك سهل، فالرأسمالي يأخذ أكثر بكثير من تلك المخاطرة، بدليل أنه يستطيع من خلال تأمين المخاطرة بشركة خارجية يدفع لها مبلغاً بسيطاً (هو قيمة المخاطرة) أن يعمل بلا مخاطرة!

كل هذه وغيرها من الأفكار البسيطة التفنيد، اعطيت من المستفيدين منها أهمية قصوى وحصل أصحابها على التقييم والدرجات العلمية، لأنها كانت تنفع في تبرير الإستغلال وتجاوز المشكلة الأخلاقية في توزيع الأرباح. لكن دراسة توزيع الأرباح جزء لا مفر منه في دراسة أي نظام إقتصادي، وتتعلق بكفاءة ذلك النظام. فليس مقنعاً ان تقول: هذه هي الطريقة للحصول على اعلى مردود، ثم سنوزع ذلك المردود عشوائياً، أو نضعه على الطاولة لتتقاسمه الأطراف كل حسب قوته. لا يمكنك أن تقول ذلك صراحة، لكن هذا ما يحدث في حقيقة الأمر، من خلال مجموعة من الحكايا والحيل "العلمية" المتقنة والعبقرية أحياناً. وكلما سمعت عن اقتصادي عظيم أو شهير، إبحث عن الحيلة التي إبتكرها لتجاوز هذه الحقيقة، ولن تصاب بخيبة أمل في معظم الأحيان. بل وأحياناً كثيرة ستجد أفكاراً مثيرة للدهشة في استخدام العبقرية لتبرير اللصوصية.

أنظر مثلاً إلى أحدى تلك المحاولات والمسماة بـ "كفاءة باريتو" (Pareto efficiency)(2) والتي "اخترعها" الإيطالي ولفريد باريتو الذي ولد عندما كان ماركس يكتب إقتصاده – في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أستنتج باريتو أن توزيع المردود يجب أن يتم على جميع الأطراف المشاركة في الإنتاج بحيث أنه إن كان بالإمكان إعادة التوزيع لكي يحصل أحد تلك الأطراف على المزيد من الأرباح، دون أن تتضرر بقية الأطراف، فيجب أن يعاد التوزيع على ذلك الأساس. هذه الجملة الملفوفة على بعضها تشي بما فيها. فهو لا يقول كيف يجب أن توزع الحصص أولاً، لكنه يفترض أنه قد تم التوزيع، وفقط بعد ذلك نراجع العملية ونبحث عن طريقة تزيد فائدة أي من الاطراف، دون أن تقلل من فائدة أي طرف آخر! وفكرة باريتو يمكن أن يكون لها معنى ما، رغم بساطته وسذاجته، عندما نتحدث عن فوائد مختلفة الأنواع بين الأطراف، وأن تؤخذ فائدة من أحد الأطراف لتعطى لآخر يستفيد منها أكثر من الأول، بحيث يستطيع أن يعوض الأول بكل خسارته بطريقة اخرى أو يفيده، فعندذاك يجب أن يتم إعادة التوزيع هذا. والحقيقة أننا في هذه الحالة ربما نستفيد من الفكرة هندسياً، لكننا لسنا بحاجة إلى نظرية باريتو فيما يتعلق بالإقتصاد، لأن ما يتم توزيعه هو المال، ولا تستطيع أن تأخذ مالاً من طرف وتعطيه تعويضاً كافياً دون أن تعيد له المال كله! وإن كان الأمر غير المال، فالأطراف ستكتشف الفكرة ويقوم التبادل دون الحاجة إلى نظرية خاصة. لا ينكر من يتحدث عن نظرية باريتو للتوزيع أنها لا تعني توزيعاً عادلاً، بل أن توزيعاً يعطي "الكعكة" كلها إلى طرف واحد، يمكن أن يعتبر "كفوءاً" في مقياس باريتو، إن لم تجد الأطراف الباقية طريقة لتعويض ذلك الطرف بشكل كامل عما حصل عليه، بطريقة ما لا تشير النظرية إليها، ربما بالقوة!

لماذا حدث كل هذا وكيف وصلنا إلى هذه المهزلة؟ قلنا أن الشركات كانت تدفع لإثراء الباحثين الإقتصاديين الذين يوجهون بحوثهم لمصالحها، وكانت أخلاق هؤلاء لا تجد مشكلة في ذلك، فنجد آدم سميث، منظر الرأسمالية الأول يترك طلابه في الجامعة في منتصف الفصل ليقبل ان يصبح مدرساً خصوصياً لأبن أحد الأثرياء، يتنقل معه حيثما حل وذهب. أما من أصر أن يكون جهده لصالح البشرية وعدالتها، فتقبل أن تتأخر طباعة نتاجه الكبير أحياناً إلى ما بعد وفاته، وأن يكون فريسة للفقر الشديد المذل والمتسبب بالأمراض التي قتلته في النهاية بعد أن قتلت زوجته وبعض أولاده، ولم تكن في منزله قطعة أثاث واحدة تصلح للإستعمال، رغم عبقريته الهائلة وجهده المحير في حجمه، من أجل قتل الحقيقة التي دافع عنها، وهي أن العامل هو وحده من صنع الربح وهو وحده يستحقه كاملاً، وأن فائض القيمة سرقة لا يميز أصحابها عن غيرهم إلا كونهم لصوصاً أثرياء وأصحاب سلطة. لقد حلت اللعنة بالإقتصاد الذي هرب من تلك الحقيقة فتحول إلى علم للحيل والكلمات المظللة الملتوية، وحلت اللعنة أيضاً بالبشرية التي تماهت مع اللصوص الذين سرقوا من عمالها ئفاض قيمة عملهم، فسارت في طريق اللامساواة المتزايدة الذي يسلبها اليوم كرامتها ويهدد وجودها كله.

(1) Economic Manuscripts: Theories of Surplus-Value by Karl Marx 1863
http://www.marxists.org/archive/marx/works/1863/theories-surplus-value/

(2) What is Pareto efficiency ? - Definition from WhatIs.com
http://whatis.techtarget.com/definition/Pareto-efficiency



4
إعلام الفتنة يهاجم عقولنا بشأن حنان الفتلاوي

صائب خليل
4 نيسان 2014

تتداول وسائل الإعلام هذه الأيام خبراً عن النائب حنان الفتلاوي، بأنها دعت إلى "موازنة في الموت والقتل بين السنة والشيعة". ونقل عن الفتلاوي أنها قالت في مقابلة تلفزيونية :"انني اريد ان يكون هناك توازن فعندما يستشهد  سبعة من الشيعة نريد ان يقتل مقابلهم سبعة من السنة"، كما نقرأه على صفحة "وكالة كل العراق الأخبارية".(1)
وجاءت هذه العبارة ضمن سياق الأخبار عن رفع النائب عن ائتلاف متحدون - وصال سليم دعوتين قضائيتين لدى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات والقضاء من أجل إقصاء حنان الفتلاوي عن الإنتخابات القادمة لتصريحاتها التي وصفتها بــ "الطائفية والمحرضة على القتل".(2)
ونقلت قناة الإتجاه الفضائية عن سليم قولها: "هذا التحريض مخالف لقانون مكافحة الارهاب في المادة اولا اذ جرم كل من يحرض او يشجع على الطائفية او على العنف والقتل تجاه اي مكون من مكونات الشعب العراقي". واكدت "ان تصريحات الفتلاوي تعد تهديدا للوحدة الوطنية ولايقصد منه سوى اثارة الفتنة الطائفية"(3)

ويوحي الخبر المنتشر أعلاه، بأن الدكتورة حنان تحمل السنة مسؤولية قتل الشيعة وتطالب بقتل عدد من السنة عندما يقتل نفس العدد من الشيعة! لكن من تابع سياق المقابلة يعلم ان الموضوع كان حول التوازن في القوات المسلحة، وأن الدكتورة حنان كانت ترد على ذلك التوازن (برد لم يكن موفقاً جداً) بأن من يقتل من الجيش هو من الشيعة. وإلى هنا فأن الفرق بين عبارة الفتلاوي وما نقله الإعلام عنها، يمكن أن يفسر ببعض حسن النية لدى من قدم الخبر وأهمل السياق، رغم ان حسن النية هذا مشكوك به جداً.
ولكن ما أن نراجع تلك المقابلة التلفزيونية على اليوتيوب حتى يتأكد الشك بالنوايا وينتقل إلى دائرة اليقين من تعمد تشويه الحقيقة. حيث سنكتشف وجود فرق صغير للغاية، ولكنه خطير، بين هذا الخبر والتصريح الحقيقي للدكتورة حنان الفتلاوي. لنستمع لها تقول بالضبط: "أريد توازن باللي يستشهدون. من ينقتلون سبعة شيعة أريد كبالهم ينقتلون سبعة سنة. ليش أولادنا يذبحون؟ شنو الثمن اللي يحصلون عليه؟"(4)

ولو قارنا هذه الجملة التي قالتها الفتلاوي بالجملة التي نشرها الإعلام لوجدنا أن جملة الإعلام تقول بأن الدكتورة الفتلاوي قد خصت الشيعة بـ "الإستشهاد"، بينما خصت السنة بـ "القتل"! بينما ما قالته حنان هو "أريد توزان باللي يستشهدون" – أي أنها تقصد بوضوح أن الشهادة للشيعة والسنة. ثم قالت "من ينقتلون سبعة شيعة أريد كبالهم ينقتلون سبعة سنة." أي أن عبارة "القتل" كانت أيضاً مشتركةً بين الشيعة والسنة في عبارة الدكتورة حنان. وهذا يجعل من الواضح ان الدكتورة حنان عندما قالت "أريد كبالهم ينقتلون سبعة سنة" فإنه ليس المقصود "قتل مقابل قتل"، بل أن يكون هناك من يضحي بحياته من السنة ويقتل بقدر عدد من يضحي بحياته ويقتل من الشيعة، وإلا فكيف يتحقق "التوازن باللي يستشهدون"؟ وتؤكد ذلك القصد عن "التضحية" ايضاً عبارتها عن "الثمن اللي يحصلون عليه". فإذا أخذنا الجملة كلها والسياق الذي قيلت فيه فمن الواضح ان الدكتورة حنان كانت تنظر إلى هذا القتل والإستشهاد كضريبة يفترض أن يشترك بدفعها الشيعة والسنة، لكنها ترى (ولا نتفق معها هنا، كما سنبين) بأن من يدفع هذه الضريبة هم الشيعة وحدهم، أو على الأقل بأنهم يتحملون أكثريتها بشكل غير "عادل".
هذا المعنى يختلف تماماً عن الرسالة التي يريد إيصالها، الإعلام الذي تركه الأمريكان وتركوا له مهمة استغلال أية مناسبة لإثارة الفتنة وإدامتها وتقويتها!

ومن الواضح أن هناك جهة، قد قامت بدراسة عبارة الدكتورة حنان الفتلاوي التي كانت قد قالتها قبل شهور عديدة، وقامت هذه الجهة بتشريح العبارة بمشرط الجراح الماهر لكي تحور معناها عمداً، دون أن تغير الكثير من لفظها، وبشكل لا يستطيع كل شخص أن يراه، إلا بالملاحظة الدقيقة الشكاكة والمراجعة. ولعلهم كانوا يأملون أن لا يفعل ذلك أحد، أو إن فعل ذلك البعض ولاحظ الخدعة وانتبه للفرق فأنه لن يكلف نفسه بعناء كشفه للناس. ولم يكن تقديرهم سيئاً كما يبدو، فلم يقتصر نشر الخبر على الموقع اعلاه بل الكثير جداً من مواقع الإنترنت والوسائل الإعلامية التي نشرته دون تمحيص.

"شفق نيوز" تكتب عبارة الفتلاوي المزعومة كالتالي:
"اقف احتراما لصبر الحكومة وتضحيات الجيش الذي يقولون عنه طائفي وجيش المالكي وهو جيش الشيعة ولايوجد فيه توزان، وعندما يذبح اليوم الشيعي في سبيل الانبار لايقولون فيه توازن ولكن انني اريد ان يكون هناك توازن، فعندما يستشهد سبعة من الشيعة نريد ان يقتل منهم سبعة من السنة".(5)
قارنوا هذه العبارة بعبارة حنان في أعلى المقالة.

ونجده منشوراً على مواقع رصينة مثل موقع الحزب الشيوعي العراقي، فجاءت العبارة في الخبر: "ولكن انني اريد ان يكون هناك توازن، فعندما يستشهد سبعة من الشيعة نريد ان يقتل منهم سبعة من السنة". وهي مقاربة جداً للعبارة المزيفة أعلاه (6)

وتنقل “جريدة الحقيقة” العبارة بالشكل الأكثر إثارة للفتنة فهي تؤكد "القتل بالمقابل.."، فتقول: "اقف احتراما لصبر الحكومة وتضحيات الجيش الذي يقولون عنه انه طائفي وجيش المالكي وهو جيش الشيعة ولا يوجد فيه توزان، وعندما يذبح اليوم الشيعي في سبيل الانبار لا يقولون فيه توازن، ولكن اريد ان يكون هناك توازن فعندما يستشهد سبعة من الشيعة نريد ان يقتل مقابلهم سبعة من السنة"(7)

ونلاحظ أن العبارات تدور حول صيغ متقاربة جداً تؤكد صيغة الدعوة للإنتقام والقتل، ولم تكلف أية وسيلة إعلام منها أن تراجع العبارة الأصلية الموجودة على اليوتيوب بلسان النائب الفتلاوي لتأخذها بشكل أمين من اجل قرائها ومن أجل الضمير والحقيقة. هذه الكلمات لا معنى لها في إعلامنا فانتبهوا. نلاحظ أيضاً أنه في جميع تلك الصيغ، لم تشر أية وسيلة إعلام إلى عبارة الفتلاوي: "أريد توازن باللي يستشهدون"! لم أجد تلك العبارة في أي خبر في أي موقع بلا استثناء! لماذا؟ لأن تلك العبارة تفضح الكذبة وتبين أن القصد هو توازن في جدول الشهادة وتقسيم العبئ على الطرفين.  أشارت جميع الإقتباسات في الأخبار إلى "التوازن" فقط ثم تنتقل إلى الجملة التالية، مثل ("أريد أن يكون هناك توازن، فعندما..."). بل أن بعضها ذهب أبعد من ذلك في وقاحته فأضاف كلمة "القتل" إلى “التوزان” كما فعل موقع "اسامة النجيفي رؤية لمستقبل عراقي جديد" والذي كتب "وكانت النائبة حنان الفتلاوي قد صرحت في احدى القنوات الفضائية انه "يجب وضع “توازن بالقتل بين الطائفتين” ، فحين يقتل سبعة من الشيعة فيجب قتل سبعة من الطائفة الأخرى!!!".(8)
إني أشهد أن حنان لم تقل شيئاً من هذا، وأن هذه منتهى الصلافة في الكذب الموجه للإثارة والإستفزاز. فإضافة إلى عبارة "توازن بالقتل" التي اخترعوها، نلاحظ هنا أيضاً أن كلمة السنة قد استبدلت بـ "الطائفة الأخرى". وأسوأ من ذلك أن عبارة "نريد أن يقتل مقابلهم" قد استبدلت بعبارة أكثر مباشرة في تحريضها، وهي: "يجب قتل"!!

ونقلت "القرطاس نيوز" نفس هذا العبارة عن ذلك موقع كما هي (أو أن النقل تم بالعكس) (9)

ولم ينج من خدعة التسونامي الإعلامي حتى محبي حنان الفتلاوي، مثل موقع “عراق القانون” الداعم للمالكي ودولة القانون التي تنتمي إليها الفتلاوي، الذي نقل بدون تمحيص العبارة المحورة المنسوبة للفتلاوي: "ولكن اريد ان يكون هناك توازن فعندما يستشهد سبعة من الشيعة نريد ان يقتل مقابلهم سبعة من السنة” ، ضمن خبر نشره حول الموضوع (10)

كذلك فأن النواب من زملاء حنان الفتلاوي لم ينتبهوا في سعيهم للدفاع عنها إلى ما جرى تزييفه من أقوالها بل قبلوا الأمر وكأنه حقيقة وسعوا إلى "تقليل الأضرار" بالدفاع المعتاد باتهام المقابل بالتسقيط السياسي الذي يهدف استبعاد القيادات الوطنية البارزة.  (11)
‫وحتى النائب حنان الفتلاوي نفسها قد سقطت في الفخ وصدقت كما يبدو أنها قالت ما ذكر في الإعلام فلم تدقق وتنتبه إلى التحوير في نص حديثها، واقتصر دفاعها على نفس العبارات العامة، فقالت حسب صحيفة المستقبل – "حنان الفتلاوي تؤكد ان تقديم الطعون ضدها هدفه التسقيط والاستهداف السياسي". وقالت حسب جريدة الحقيقة، ان "الطلبات بالطعن التي قدمت ضعيفة لا تستند الى وثائق، وبالتالي ان القنوات الفضائية مليئة يوميا بالنواب الذين ينتقدون الوضع السياسي وينتقدون النواب ولم يستبعد اي نائب على تصريح"(12)

تكشف لنا هذه القضية إلى أي مدى نحن مغرقون بإعلام معادي للشعب، يقوم بدراسة دقيقة ومتأنية وعلمية لينجز تزويراً خطيراً يهدف بوضوح إلى الترويج للطائفية وزيادة التوتر والشق بين السنة والشيعة. وهو فوق ذلك تزوير تم إخفاءه بين الكلمات ببراعة تامة بحيث يمر حتى على من يتم تزوير كلامه، دون أن يحس به إذا لم يراجع ما قاله كلمة كلمة! وأخطر الدلائل أن تشارك في هذا التزوير نسبة كبيرة من وسائل الإعلام (ربما جميعها؟) بعضها عن قصد وبعضها عن فوضى وقلة مسؤولية. فأي مستوى من الحذر والإنتباه يجب أن يكون عليه المواطن العراقي ليفلت من تلك الفخاخ الإعلامية، ومن كم منها سيفلت وكم سيقع ضحية؟

***

والآن وقد انتهينا من فضح هذا التزوير وفضح إعلامنا الذي هو أحد أكبر الألغام التي تركها المحتل لتفجيرنا، نعود إلى ما نختلف فيه مع النائب الفتلاوي. فرغم كل ما قلناه دفاعاً عن الحقيقة بشأن قول الدكتورة حنان، وتوضيحنا بأنه تم تزوير المعنى،  فإن ذلك القول يبقى دون الطموح الذي نرجوه، وتراجع كبير باتجاه الإستسلام للمفاهيم الطائفية التي تغرق البلد. وقد لاحظنا هذا الإتجاه يتزايد في السنوات الأخيرة لدى الدكتورة الفتلاوي كما غيرها، فتتحدث مثل غيرها من النواب عن أن "رئاسة الحكومة للشيعة" الخ.. وهو كلام غير مفيد ولا يخدم صاحبه في شيء ولا يزيد من ضمان رئاسة الحكومة للشيعة بل ربما يقللها قليلاً، لكنه يسهم في زيادة التوتر الطائفي في البلد، ويقلل الأمل بوجود الأصوات التي ترفض الإنهيار الطائفي مهما بدا يتقدم ويحقق الإنتصارات.

كذلك فأن الدكتورة حنان تعتقد كما يبدو بوهم شائع زوره ونشره نفس الإعلام الذي يزور كلامها اليوم، وهو أن الضحايا في العراق كلهم أو جلهم الساحق من الشيعة، وأن السنة في مأمن ولو نسبي. ولو اعتمدنا على ما يدور في الإعلام لصدقنا ذلك الوهم، مثلما كنا سنصدق أن السيدة الفتلاوي تريد قتل سني مقابل كل شيعي يقتل! لكن لو عدنا إلى الحقائق المثبتة بالارقام، والصادرة من الحكومة التي تشكل كتلة الفتلاوي ثقلها الأساسي، لوجدنا أن الحقيقة مختلفة تماماً.
فنجد في تقرير حكومي أعلنه الناطق الرسمي السابق للحكومة علي الدباغ عن عدد الضحايا في المدن العراقية للفترة (2004-2011) أن المدن التي دفعت أكبر نسبة من الضحايا هي المدن المختلطة، ثم تليها عدد من المدن ذات الأغلبية السنية. يقول التقرير:
"سجلت محافظة بغداد خلال الفترة (2004-2011) اعلى عدد من الشهداء بلغ 23 الفا و898 شهيدا بينما تأتي محافظة ديالى كاكبر نسبة من الشهداء مقارنة بعدد النفوس تليها الأنبار ثم نينوى ثم بغداد وسجلت محافظة المثنى أقل عدد من الشهداء بلغ 94 شهيداً".

هذا معدل الفترة، لكننا نلاحظ أن النسبة الأعلى تتغير من سنة إلى أخرى فجاء في التقرير أن "محافظة البصرة والديوانية وواسط وكربلاء وبابل ونينوى وكركوك سجلت في عام 2007 أعلى عدد للضحايا مقارنة بإجمالي ضحايا كل محافظة بينما سجلت محافظة بغداد والأنبار وديالى في عام 2006 أعلى معدل للضحايا"، مشيراً إلى أن "محافظات ذي قار وميسان سجلت النسبة الأعلى في عام 2008 بينما سجلت محافظة النجف النسبة الأعلى في عام 2004".(13)

ويذكر تقرير آخر صدر قبل بضعة أسابيع نفس الحقائق بشكل عام فيشير إلى أن "ضحايا العنف العراقيين ينتمون إلى جميع نواحي الحياة". وعن نسبة الضحايا في المدن ذكر التقرير أن بغداد كانت الأكثر دموية حيث قتل فيها 48 بالمئة من عدد الشهداء الكلي، وأن اعلى نسبة إلى عدد السكان كان في ديالى ( 9 بالألف) ثم بغداد (8 بالألف) ثم الأنبار (6 بالألف) ثم صلاح الدين (5 بالألف)، وأن هذه المحافظات الثلاث الأخيرة هي المناطق ذات المعدلات الأعلى من العنف (بالنسبة لعدد السكان) في الاعوام الاخيرة. (14)
وعن دقة ومصداقية هذه التقارير يقول المتحدث باسم وزارة حقوق الإنسان بأن الإحصائيات التي أعلنتها الحكومة  بشأن عدد ضحايا الإرهاب "دقيقة" خاصة بما يتعلق بعدد الوفيات، وتحدث عن كيفية جمع تلك المعلومات.

من أين جاء الإنطباع الخاطئ إذن؟ لو سألنا السنة لأكدوا أن انطباعهم هو أنهم هم الضحايا الأكثر! ولا يمكن أن يتفق الطرفان على هذا الموضوع. وليس ذلك غريباً، فنحن لدينا إعلامان، وكل منا يستمع إلى إعلامه وحده، وهذا الأخير يقوم بإثارة من يستمع إليه بأنه هو الضحية الوحيدة والمظلومة وان المقابل يريدون إبادتهم ..الخ. من هنا تتشكل أنطباعاتنا، فمن نصدق يا سيدتي؟ إنطباعاتنا التي تأتي من التغطيات الإعلامية وما يتحدث به زملاؤنا أمامنا، أم أرقام الإحصائيات التي قدمتها جهات تثقين بها أكثر مما أثق بها أنا، وهي تنتمي إلى طائفتك، فإن كانت تريد أن تغير في الأرقام فبالتأكيد لن تغيرها لتظلم طائفتها! فما تقوله هذه التقارير أن ضحايا الإرهاب من الجميع، وأن المحافظات تتبادل "الأسبقية" اللعينة من سنة لأخرى، ومن أرقامها لا مجال لأي افتراض بأن السنة يعطون نسبةً أقل من الشهداء مما يعطيه الشيعة. الإرهاب يطال الجميع بلا رحمة، وليس من المناسب أن نتركه لنختلف بيننا حول من يقتل الإرهاب منه أكثر، خاصة من قبل شخصية قيادية مؤثرة يثق بها الناس.

***

هذا إذن هو الإعلام الذي يحيط بنا، وهذا دوره الخطير الذي رسم له والذي يؤديه بـ "براءة" لينخر المجتمع بشكل مدروس ومتقن. وبالتاكيد ليس هذا هو المثال الأول الذي يفضحه وقد كتبت عدة مقالات عن فضائح إعلامية أخرى، كما كتب غيري. ليس كل إعلامي هو في هذا الجيش الخبيث بوعيه، لكن الكثير من الإعلاميين يعملون في تلك المؤسسات دون أن يدركوا حقيقتها وهدفها. علينا ان نواجه هذه الحقيقة وندرك بأننا تحت قصف إعلامي معادي يهدف إلى لخبطة صورة العالم لدينا فنرى الصديق عدواً والعدو صديق. وخير ما نفعله لنتجنب أن نكون ضحايا هذا الإعلام هو أن ننتبه بشكل خاص إلى تلك الأخبار التي "تناسبنا" و "تروق لنا". تلك التي تؤكد أننا الأفضل وأن الآخر هو الخطأ وهو المجرم، ونحن الملائكة. فتلك الأخبار هي التي تجد طريقها إلى عقلنا وقلبنا، مراوغة حذرنا المعتاد في فحص ما يقال. إننا يجب أن لا نعتبر من يكذب علينا بشأن جهة أخرى بأنه يستهدف الجهة الأخرى وحدها، بل هو يستهدفنا نحن الذين يوجه كذبه لإقناعنا بما هو وهم. أنه يوجه محطة  تشويش إلى راداراتنا، أفليس ذلك من اعمال العدوان والحرب، سواء كان هذا التشويش يسرنا أو يغضبنا؟ أن من أراد تشويه صورة حنان الفتلاوي لدى السنة لا يستهدف حنان الفتلاوي نفسها بقدر ما يستهدف السنة الذين يتظاهر وكأنه يدافع عنهم! لقد وضعت عنوان هذه المقالة عن عمد بهذا الشكل لأؤكد أن المستهدف هو من يُكذب عليه، أكثر مما هو الذي يُكذب بشأنه. فالمستهدف الحقيقي هنا هو السنة. فعندما يصدق السنة الكذب، فسوف يصبحون فرائس سهلة، تختلط عندهم الملامح فيهربون من الصديق ظناً أنه عدو، ويهرعون إلى العدو الذي زينوه لهم كصديق!

هل تتصورون أني أبالغ في "نظرية المؤامرة" وأنها ربما تكون مجرد أخطاء غير مقصودة لإعلام مهمل أو طائفي متحيز؟ لماذا إذن لم تخطئ أية وسيلة إعلام منها لتحور كلام الفتلاوي بشكل إيجابي ولو بالصدفة؟ لماذا كل العبارات زورت باتجاه طائفي واستفزازي؟ وإن كان إعلاماً طائفياً، فكيف وصل هذا التزوير إلى كل طيف الإعلام العراقي؟
بل أن وراء هذا ما هو أكبر من الإهمال ومن الطائفية! إنه جزء من المؤامرة الكبرى على هذا البلد وهذا الشعب. إن لم يكن هكذا فكيف سيصدق الشيعة بأن السنة يريدون إبادتهم ويصدق السنة بأن إيران تتآمر مع الشيعة للقضاء عليهم؟ كيف كان سيمكن ان يصدق العرب أن إيران هي العدو وليس إسرائيل؟ كيف سيقنعونهم أن يخافوا من دولة لم تعتد على احد لأكثر من قرنين، ويأملون بصداقة دولة لم تتوقف يوماً عن الإعتداء على كل من حولها منذ نشأتها قبل أكثر من نصف قرن؟ كيف يقنعونهم أن يقيموا العلاقات مع من يحتقرهم علناً ويبتعدون عمن تكون مصلحته ومصلحتهم في التعاون معه؟ وأهم من كل ذلك: كيف يمكن أن يسمحوا بنشوء دولة قوية حقيقية فيها شعب يحس بكرامته ويرفض أن "يعيش كالكلاب" ولا يضع نفسه وثرواته هراوات تحت تصرفهم، ويصر أن يوفر نفطه لبناء بلاده ومستقبل أجياله وليس لشراء أسلحتهم وبضاعتهم الإستهلاكية التي لا تنتهي؟ شعب يريد أن يتحكم باقتصاده ومؤسساته ولا يأبه بخرافة استقلالية بنكه المركزي عن إرادته، ولا بايديولوجياتهم المقدسة : "حرية السوق" و "الإستثمار" و "الخصخصة" وكل الأسماء الحسنى التي اخترعوها لتجميل كلمة “السرقة”. كل هذا لا يمكن منع الشعب منه إلا بتشويه الحقائق وقلبها وجعل الأبيض أسوداً وبالعكس والعدو صديقاً وبالعكس، واللص تقياً وبالعكس.. يجب أن نفهم انها معركة حياة أو موت لهم ايضاً وليس لنا فقط. فهم يعيشون على هذه الفرائس من أمثالنا، وبدون دمائنا ونفطنا لن تنهض أمبراطوريتهم، ولم تنهض أية امبراطورية في التاريخ عن طريق الصداقة واللطف. من أجل ذلك زرعوا بلادنا بالألغام قبل أن يغادروا، ومؤسسات الإعلام من أشد تلك الألغام فتكاً. علينا أن لا ننسى ذلك وأن نتذكره في كل مرة نواجه فيها تزويراً إعلامياً يفتضح، ونعتبر كل كذبة إعلامية كبرى، علامة تدق الجرس وتذكرنا بمن يقف وراءها وما يريد.

(1) وكالة كل العراق الأخبارية: نائبة تطالب القضاء بعدم رضوخه للضغوط السياسية في مسالة استبعاد الفتلاوي
http://www.alliraqnews.com/2011-04-18-02-57-37/125393-2014-04-02-07-07-53.html
"انني اريد ان يكون هناك توازن فعندما يستشهد سبعة من الشيعة نريد ان يقتل مقابلهم سبعة من السنة"
(2) نائبة تطالب القضاء بعدم رضوخه للضغوط السياسية في مسالة استبعاد الفتلاوي
http://burathanews.com/news/233341.html
(3) قناة الاتجاه الفضائية ::سليم تطالب المفوضية والقضاء باقصاء الفتلاوي من الترشيح للانتخابات
http://aletejahtv.org/index.php/permalink/10210.html
(4) حنان الفتلاوي لابد من وجود موازنة في الموت والقتل بين السنة والشيعة مو بس الموت للشيعة‎
http://www.youtube.com/watch?v=2MecNmG0I-g
(5) مفوضية الانتخابات ترد شكويين ضد النائبة حنان الفتلاوي وتبت بطلب سحب ترشيحها
http://www.shafaaq.com/sh2/index.php/news/iraq-news/74842-2014-04-01-16-55-33.html
(6) موقع الحزب الشيوعي العراقي: مفوضية الانتخابات ترد شكويين ضد النائبة حنان الفتلاوي وتبت بطلب سحب ترشيحها
http://www.iraqicp.com/index.php/sections/news/12958-2014-04-02-13-03-22
(7) جريدة الحقيقة - الفتلاوي: الطعون لن تخيفني... دولة القانون: الدعوى القضائية ضد حنان الفتلاوي سياسية هدفها التسقيط
http://www.alhakikanews.com/index.php/permalink/10807.html
(8) اسامة النجيفي رؤية لمستقبل عراقي جديد
(9) وصال سليم ترفع دعوى قضائية ضد حنان الفتلاوي | العراق - القرطاس نيوز
(10) عراق القانون: حنان الفتلاوي: الطعون لن تخيفني وانا الوحيدة تقدم ضدي 4 طعون ويردها القضاء
http://www.qanon302.net/news/2014/04/02/15667
(11) المصدر نيوز - دولة القانون : الدعوى القضائية ضد حنان الفتلاوي سياسية هدفها التسقيط
http://l-news.net/index.php/policy/44741.html
(12) جريدة الحقيقة - الفتلاوي: الطعون لن تخيفني... دولة القانون: الدعوى القضائية ضد حنان الفتلاوي سياسية هدفها التسقيط
http://www.alhakikanews.com/index.php/permalink/10807.html
(13) اكثر من 308 ألف ضحية خلال سنوات الاحتلال بحسب الحكومة العراقية
http://www.al-ansaar.net/main/pages/news.php?nid=9983
(14)ضحايا الارهاب...25 الف شهيد بين طفل وامرأة
http://center-imn.net/2/index.php/2013-09-08-08-12-42/4490-25


5
القضاء على داعش انتصار وفض الإعتصام ضرورة
صائب خليل
29 كانون الأول 2013


هذه مقالة عاجلة لتبيان موقفي العام من الأحداث الخطيرة في العراق، بالتحديد حول "عملية ثأر القائد محمد"  وأقول أن تلك العملية إن صدقت فإنها خطوة كبيرة إلى الأمام في محاربة الإرهاب الذي يتوجه إلى العراقيين جميعاً، وأن السنة يجب أن تدعمها كما يدعمها الشيعة خاصة بعد أن أثبتت داعش والقاعدة أنها عدو للعراقيين جميعاً لا تفرق بين سنة وشيعة، وهناك مؤشرات (إن صدقت – فلا أحد يعلم اين الصدق في وسائل إعلام العراق) فان العملية لا تحظى فقط بتأييد السنة من داعمي الحكومة فقط، وإنما أيضاً السنة من سكان تلك المناطق بشكل عام كما يتبين من بعض المصادر.(1)
بالنسبة للإرهاب المعسكر في صحاري الأنبار، ليس هناك أي مجال للتردد في ضربه بكل قسوة ممكنة، وتلك العملية قانونية ودستورية مئة بالمئة. أما بالنسبة لساحات الإعتصام فقد بينت رأيي سابقاً حين طالبت السنة بمغادرتها والتوقف عن التظاهرات لأنها "فسدت" (مقالة من جزئين) (2)(3)
وهل أوضح على فساد التظاهرات من أن يطوفها الملثمون ألذي يقول عنهم الشيخ عبد الملك السعدي بنفسه أنهم "قد يكونون مُندسِّين أو مدفوعين من جهة أخرى لأجل إشعال نار الحرب"؟(4). هؤلاء "الملثمين" ليسوا إلا امتداد ل "ثوار" الربيع العربي في ليبيا وسوريا بوحشيتهم التي شملت حتى شيوخ طائفتهم وطلابهم في الجوامع... فانظروا أين تدربوا." (5)

وليس صحيح في تقديري دفاع محافظ الأنبار بأن “ساحات الاعتصام لا تشكل خطرا على سلامة وامن البلاد، وان الخطر الاكبر هو من المناطق الصحراوية في الانبار التي تتمركز فيها الجماعات المسلحة ومن هناك تنطلق عملياتهم الارهابية ضد المدنيين الأبرياء"(6). فصحيح أن الخطر الأكبر هو من الصحراء، لكن ما يحدث أمام التلفزيون في ساحات الإعتصام من تأييد لإرهابيي الصحراء لا يجعل من الساحات عديمة الخطر. ومن أراد وأد الفتنة ويدعم وحدة البلاد فعليه أن يوقف الفتنة التي في ساحات الإعتصام أيضاً.
وليس صحيحاً اعتراض عضو كتلة الأحرار النيابية أمير الكناني بأن “التظاهرات حق دستوري، ولايحتاج المتظاهر ان يأخذ اذنا من الحكومة، او من اي جهة اخرى، باستثناء اشعار الجهات الامنية بمكان وموعد التظاهرة”. لأن للتظاهرات حدودها الجغرافية والزمنية. كذلك لا نرى معنى باعتراض المتحدث باسم المجلس الاعلى حميد المعلة  على “استخدام القوة في فض الاعتصامات” إن لم يستجب المعتصمون لأوامر الحكومة بالسماح لهم بتفتيش الساحة وإلقاء القبض على المشتبه فيهم.(7)
إن كانت المعركة في الصحراء الغربية لا تثير مشكلة فأن العقدة الحقيقية في ساحات الإعتصام في الرمادي، والتي نذكر بأنها خرجت عن أهدافها كما كتبت قبل فترة : "لقد حققت تظاهراتكم ايها السنة في أسابيعها الأولى، رغم أخطاءها الكبيرة، نجاحاً ملحوظا، واضطرت الحكومة إلى الإعتراف ببعض أخطائها وخطاياها التي تصل حد الجريمة أحياناً." (8)
وبالفعل انسحب الكثير من المتظاهرين من أنفسهم(9) أما الباقين فبقوا يتحدثون عن "الشجاعة" و "لن نقبل أبداً" و "لن نساوم" و"حرق بغداد" و"إسقاط الحكومة"! السبب هو أن قادة التظاهرات لا يريدون الوصول إلى نتيجة. مهمتهم المكلفين بها هي إدامة التوتر والمشكلة أطول فترة ممكنة. فلماذا لا تأتينا كل هذه "الشجاعة" ولماذا لا نستطيع أن ننظم أنفسنا كل هذا التنظيم ونديم فعالياتنا كل تلك الإدامة، إلا حين يقودنا مشبوهون بشعارات مشبوهة وأعلام مشبوه وخطابات مشبوهة وجيوش الطرق النقشبندية؟ وعن جيش "عزته وكرامته" قال علي حاتم أنه  “يتكون في غالبيته من ضباط الحرس الجمهوري وفدائيي صدام” واصفاً إياهم بأنهم «أبناؤنا». فمتى كانت هناك كرامة تأتي من فدائيي صدام؟

وكتبت: "كان يجب عليهم (السنة) مطالبة ممثليهم في مجلس النواب بتبني مشاكلهم ومظالمهم مع الحكومة، ... فمن هو الأجدر بغضبكم، تلك الحكومة أم من خان أمانتكم؟ كان يجب أيضاً أن يحرص السنة على أداء واجبهم الديمقراطي بمراقبة نوابهم ومعرفة ما يتحدثون به داخل البرلمان وما يصوتون عليه بالإيجاب والسلب، ليقرروا إن كان هذا ما كانوا ينتظرونه منهم أم لا.
لقد انطلقت تظاهرات المدن "السنية" من منطلق صحيح هو الإحتجاج على الظلم ... لكن ما هو صحيح توقف عند هذه النقاط، أما الخطأ فكثير وكبير، وابتدأ فاضحاً وانتهى مفضوحاً...فاختطفت مطالب المتظاهرين لصالح شعارات لأجندات أخرى. فهل أن "إلغاء اجتثاث البعث" هدف حقيقي للمتظاهرين أم تم حشره في وسط جمع ضائع يسير حيثما يقال له؟(10)

ونقف مع الدكتور حميد الهاشمي في رأيه بأن "الأمر قد جاء متأخرا" وهو يستغرب "هذا السبات الذي بقيت عليه القوات العسكرية، وعدم يقظتها كل تلك الفترة، رغم إجراء بعض العمليات العسكرية السابقة مثل (ثأر الشهداء) التي اقتصرت على منطقة محددة هي حوض الثرثار، وبعض مناطق الجزيرة." مشيراً إلى مقتل عدد من القادة العسكريين ويضع اللوم على تلك القوات و"كل ذلك يلام عليه السيد رئيس الوزراء باعتباره القائد العام للقوات المسلحة. نعم كان عليه نشر القطعات واقامة الدوريات الجوية والبرية باستمرار في المناطق القصية على طول الحدود البرية. والاستعانة بصورة خاصة بطيران الجيش المزود بأحدث التجهيزات، كما كان عليه الاستفادة من الاتفاقيات التي أبرمها مع الجانب الامريكي، بصورة أو اخرى، ولو بالاستفادة من خدمات الاقمار الصناعية التي يمكن ان تكشف المزيد من خبايا هذه الجماعات." ويرى في تهديد المالكي لساحات الاعتصام في الرمادي بأنها “ستفض بالقوة” في غير محله. وأنه يجب بدلاً من ذلك مطالبة القائمين على الإعتصام بتسليم المشبوهين بالإرهاب إلى السلطات، منبها إلى "إن المعركة الحالية هي معركة وحدة العراق ومستقبله وربما حتى مستقبل المنطقة ككل." (11)

لا بد من الإشارة إلى ضرورة أن تبقىي الحكومة نصب عينها ما أشار إليه الدكتور حميد بأن "المعركة الحالية هي معركة وحدة العراق ومستقبله" وليست معركة الإنتصار العسكري فقط. ولذلك فعلى الحكومة أن تلجأ إلى العنف فقط بعد استنفاذ كل الوسائل الأخرى لأية خطوة، وضرورة أن تكون العمليات بالفعل كما تصورها الحكومة. فقد وردت إتهامات من قبل العلواني وغيره بان القضية موجهة نحو الأبرياء من السنة. وصحيح أن مصداقية العلواني ليست عالية ابداً، لكن وللأسف فإن التجارب أكدت أن مصداقية القوات الأمنية التي اسستها قوات الإحتلال المعادية للشعب العراقي، مصداقية واطئة هي الأخرى ولا استبعد قيام القوات باستغلال تلك العملية لتصفية حسابات أخرى في طريقها، وتنفيذ عمليات هدفها زرع الفتنة بشكل متعمد. إن الدعوة إلى الثقة بالقوات العسكرية والأمنية من قبل بعض الساسة، دعوة في غير محلها في تقديري، وأن تلك القوات يجب أن تراقب بدقة وبمسؤولية، وقد شاهدنا تلك القوات في الماضي تطلق النار على المتظاهرين دون أن يكون هناك إطلاق نار في المقابل، وهو ما لا يفسر إلا على أنه محاولة لإثارة الفتنة بين الحكومة والسنة، ولم تتخذ الحكومة أي أجراء بشأن ذلك للأسف ولم تعتبره عملاً معادياً لها، ولا نعرف تفسيراً لذلك.

هل أن العمليات فعلية في صحراء الأنبار؟ لا احد يستطيع أن يجزم بشيء إلا من يقوم بها.
أن إثباتات الفريق محمد العسكري بأن القصف في الانبار كان حقيقياً وليس في دولة اخرى، باعتبار أن التاريخ والمكان مثبت بشكل نص في محيط الفلم، لا تعني أي شيء، وإن كان يقبل بذلك كإثبات فاستطيع أن أقدم له نفس الفلم حاوياً على نص يقول أنها حدثت في افغانستان في العام الماضي مثلاً، فهل يقبل بذلك كإثبات على كذب الفلم؟(12) إنني لا أقول هنا أن الفلم كاذب، لكن تلك البراهين لا تعني شيئاً أيضاً. ولا اخفي ان ثقتي في الحكومة ليست عالية ولا أن تكذب الحكومة حين تجد الصدق صعباً، وأن الثقة المطلقة من قبل الشعب لا تشجع أية حكومة إلا على استغلال الموقف والكذب، ولدي إثباتات عن أكاذيب سابقة في مواضيع أخرى، ربما طرحتها ضمن مراجعة تلك المواضيع في مقالات لاحقة.
لذلك لا تعني شيئاً بالنسبة لي تصريحات مكتب المالكي بأن الفيديو صحيح 100% وأن القوات الأمنية العراقية هي التي وزعته. (13)
كذلك فإننا ربما لن نعرف أبداً الحقيقة بشأن عملية اعتقال النائب أحمد العلواني، فالعراقيين سينقسمون بين من يصدق أحد الطرفين بلا تمحيص ومن يصدق الآخر بلا تمحيص، والأغلبية في تقديري قسم ثالث لا يثق بأي منهما ويطالب بالإثباتات، وأنا من القسم الثالث.
أحمد العلواني شخص لا يهمني على الإطلاق، ولا أذكر له كلمة واحدة أؤيده فيها أو موقف أدعمه فيه، لكنه نائب في البرلمان وهناك دستور يحدد شروط القبض على النائب، إن أهملناها أو اعتمدنا على الثقة بالحكومة لتنفيذها، دون تمحيص، فلنقرأ السلام على الديمقراطية في العراق. إنني أتمنى من كل من الطرفين أن يضعوا أنفسهم محل الطرف الآخر قبل أن يطالبه بالثقة بالجهة التي يثق بها هو، والإستناد إلى ادعاءاتها فقط، وأن يقرأوا الأخبار كما يتوقع أن يقرأها الجانب الآخر لعل كل طرف يتفهم موقف الآخر. كذلك يجب عدم خلط الموقف الشيعي من أحمد العلواني مع حقيقة كونه نائب في البرلمان، وعدم خلط الدفاع عن الدستور بالدفاع عن شخص أحمد العلواني. (14)(15)(16)
أخيراً أقول أن هذه العملية تثبت مرة أخرى أن الإرهاب من صناعة أمريكية وإدارة أمريكية وحماية أمريكية. وما يحدث اليوم يذكرنا بكشف الهاشمي وعلاقته بالإرهاب، والذي لم تجرؤ الحكومة على القيام به إلا بعد مغادرة القوات الأمريكية رغم علم الحكومة بالأمر لعدة سنوات. ولم يستطع المالكي القيام بالعملية العسكرية الأخيرة إلا بعد زيارته لأميركا وحصوله على بعض الخرائط وصور الأقمار الصناعية التي كانت تحتفظ بها وتمنعها عن العراق الذي يرتبط معها بعلاقة "صداقة" مثيرة للضحك والأسى، ولا نعرف ماهي التنازلات التي تم تقديمها لها لتغير رأيها وتنقلب على خندق الإرهاب الذي اسسته. أكرر أن هذا كله بافتراض لا توجد طريقة لتأكيده بأن العمليات التي تجري في الصحراء حقيقية، ومن الصعب ان نتخيل أميركا وإسرائيل تتخليان تماماً عن تلك الهراوة التي كلفتها الكثير من الوقت والمال بهذه السهولة.
كذلك يبدو أن العملية جاءت بعد كسر الحصار التسليحي الذي فرضته أميركا على العراق، والذي عبر المالكي عنه بالقول بأن أميركا تركتنا دون طائرة واحدة، وبعد عشرة سنوات من "الصداقة" وعقود التسلح!! كسر الحصار من خلال الطائرات التي حصل العراق عليها من روسيا، ويبدو أن الحكومة محرجة أمام شعبها من انكشاف علاقة العدوان تجاه العراق من الجهة التي وقعت معها معاهدات "صداقة" وتسلح، فأكد علي الموسوي، المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء نوري المالكي أن ” العراق تسلم من الولايات المتحدة الأميركية معدات وأجهزة اتصال متطورة لدعم القوات المسلحة في معركتها ضد الإرهاب”، مؤكدا أن ” الجيش العراقي استخدم في حملته بصحراء الأنبار صواريخ وصلت مؤخراً من أميركا”. (17)
لقد حرص المالكي وكل حكومته على عدم إفشاء سر موقف أميركا أمام الشعب إلى أن جاءت زيارة المالكي لأميركا، وتحملوا طعنات الإرهاب بصمت ونظرة الناس إليهم بالملامة دون أن يكشفوا الحقيقة أمام شعبهم، فإغضاب أميركا بالنسبة لهم أهم من سمعتهم أمام شعبهم وأهم من دماء هذا الشعب التي كانت تسيل بلا توقف. وحين كان المسؤولون العراقيون يكررون على ضرورة "تفعيل" الإتفاقية، ولم نكن نعلم القصد، فتبين أنهم يقصدون تسليم الأسلحة التي تم شراؤها ودفع ثمنها مباشرة وبلا آجل أو قروض، وهو أمر لا يتطلب معاهدات صداقة لتنفيذه عادة بل يكفي بائع بالحد الأدنى من الشرف. لكن هذا الشرف لم يكن موجوداً في الشريك المقابل ولا أثرت فيه المعاهدة المشبوهة، ورغم كل ذلك تقصف الحكومة اسماع الشعب بـ "صداقة" أميركا، وهي عملية خيانة إعلامية خطيرة كما بينت في المقالة السابقة، تسهم بشكل كبير في ضياع الشعب عن رؤية أصدقائه من أعدائه.

من المتوقع تماماً أن يقوم المندسون ممن دربهم الأمريكان والإسرائيليين باستغلال الوضع والقيام بممارسات من شأنها المزيد من الفتنة، كما حدث في السابق وكتبت عنه في مقالة " حقائق تتكشف وأخرى ضبابية... من أطلق النار في الفلوجة؟"(18)
فقلت: "ما شاهدناه هو لقطة لجندي وحيد أنفصل عن جماعته وراح يطلق النار بعد التهديف على المتظاهرين كما يبدو....ينبغي القول أن تصرف هذا الجندي مخالفة خطيرة لأصول التعامل مع الإضطرابات والتظاهرات، .. وكان واضحاً أن الجيش في الساحة يقف داخل مدرعاته بعيداً عن أي خطر من الحجارة، ويمكنه أن يبقى ساكناً أو يتراجع لو تطورت الأمور. فلماذا خرج هذا الجندي إذن، يطلق النار أو يتظاهر بذلك؟ ومن هو هذا الجندي؟ ولماذا لم يردعه ضباطه؟ لماذا لم يتحسب الضباط أن هذا الجندي قد يكون شخصاً مدسوساً يريد التخريب؟ أليس هذا هو المحذور الأكبر في مثل هذه الحالات؟ إنها علامة استفهام كبيرة على الجيش أن يجيب عنها."
وبينت كيف حدثت مؤامرات مشابهة تماماً في فنزويلا قام بها عملاء أميركا لإسقاط حكومة شافيز المنتخبة(19)

أخيراً نتمنى من الحكومة ومؤيدوها أن لا تطرش طبول الحرب آذانهم عن سماع الأصوات الأخرى، وأن لا تسكرهم نشوة النصر العسكري كما فعلت في "صولة الفرسان" وان يتذكروا أن المعركة أبعد من المعركة العسكرية (وأنا أتحدث هنا عن فض الإعتصام وليس عن الحرب على داعش). فصولة الفرسان التي اعترضت عليها بشدة، والتي أسست الشرخ الشيعي الشيعي الذي لم يلتئم حتى اليوم، كانت تبدو صحيحة وضرورية في وقتها، لكنها خالفت مبدأً أساسياً في السياسة عموماً وفي السياسة الداخلية خصوصاً، وهو ضرورة استنزاف كل الحلول قبل اللجوء إلى الحل العسكري، وإن لم ينفع شيء آخر، وأعطيت الحلول الأخرى الوقت الكافي وتم إيضاح ذلك للشعب، فيجب أن يكون استخدام القوة في حده الأدنى. الحل العسكري يجب أن ينظر إليه كشيطان لا مفر من اللجوء إليه أحياناً وبالحد الأدنى فقط، وليس معشوقاً لحد ذاته، كما رأينا الأمر بوضوح في صولة الفرسان. إن معركة فض الإعتصام يجب أن لا تترك إلا أقل عدد ممكن من الضحايا الأبرياء، وأقل عدد ممكن من الجروح في جسد البلاد، وأن لا يحتفل بالنصر الأخير إلا بعد تضميد تلك الجروح.

(1) اهالي الانبار يترقبون تحرك القوات الامنية لتخليصهم من الجماعات الارهابية
http://www.qanon302.net/news/2013/12/28/8175
(2)صائب خليل - تظاهراتكم قد فسدت، فعودوا لبيوتكم - الجزء الأول
https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/490406284349779
(3) صائب خليل - تظاهراتكم قد فسدت- الجزء الثاني – من فوبيا إيران إلى أحضان إسرائيل
https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/490916997632041
(4) http://iraqicp.com/2010-11-22-05-28-38/34213----qq------.html
(5) http://www.youtube.com/watch?v=9W-PhK9CbIo
(6) محافظ الانبار: لا نساوم على دماء أبناء المحافظة وساحات الاعتصام لا تشكل خطرا على سلامة وامن البلاد
http://www.qanon302.net/news/2013/12/28/8143
(7) الصدر والحكيم يرفضان قيام الجيش باقتحام ساحة اعتصام الرمادي
http://www.qanon302.net/news/2013/12/28/8135
(8) صائب خليل :هنا تدرب ملثمو تظاهرات السنة، والسعدي في خطر
http://www.bahzani.net/services/forum/showthread.php?59832-
(9) http://www.alliraqnews.com/index.php?option=com_content&view=article&id=79236
(10) صائب خليل - اختطاف مطالب السنة
https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/314127178704183?_fb_noscript=1
(11) د. حميد الهاشمي: الضربات العسكرية لعناصر القاعدة جاءت متأخرة
http://www.alteif.com/news/23412
(12) ‫الفريق محمد العسكري يثبت بأن القصف في الانبار كان للطائرات العراقية وليس في دولة اخرى‎ - YouTube
http://www.youtube.com/watch?v=5Sj7ffzUZqI#t=87
(13) مكتب المالكي: مقاطع فيديو العمليات العسكرية في الأنبار صحيحة 100%
http://www.qanon302.net/news/2013/12/28/8173
(14)العلواني يتهم الحكومة بالتطهير العرقي بعد عمليات اعتقال الارهابيين
http://www.qanon302.net/news/2013/11/11/2868
(15) القاء القبض على النائب احمد العلواني
http://www.qanon302.net/news/2013/12/28/8156
(16)مكافحة الإرهاب: العلواني قتل احد عناصرنا اثناء تنفيذنا عملية أمنية في منطقته
http://www.qanon302.net/news/2013/12/28/8180
(17) الحكومة تكشف عن استخدام معدات في عمليات الانبار وصلت مؤخرا من امريكا
http://www.qanon302.net/news/2013/12/28/8141
(18) صائب خليل - حقائق تتكشف وأخرى ضبابية... من أطلق النار في الفلوجة؟
https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/475213069202434
(19) تزييف الحقائق في إطلاق النار في التظاهرات في كاراركاس – فنزويلا..
War on democracy - The Anti Chavez Protesters & Coup Attempt
http://www.youtube.com/watch?v=P22Qk15T_18


6
صفحات أنصارية 2- مجتمع تحت التعذيب
صائب خليل
12 كانون الأول 2013


“أحاول أن أضيع بعض الوقت في التفرس بحاجيات المتجر، وأسأله بعض الأسئلة التي لا معنى لها. لم ينتبه إلى أني كنت أنتظر خروج طلاب المدرسة الإبتدائية التي تقابل المتجر في الجهة الثانية من الشارع. أذهب بتمهل، وأنا أتابع طفلي الوحيد يتوجه إلى البيت.. هو في الثاني الإبتدائي، جميلاً، ملابسه أنيقة، وهذا ما جعلني أعتقد أن الضغط خف عليهم. أريد أن أقبله، أحضنه، اشمه.. مضى اكثر من عام وأنا مبتعد عنهم،. اعرف أن البيت مراقب، وعلي أن لا أواصل الطريق اكثر.
أرتفعت الغبرة بينهم، دار الأثنان على أبني، طرحاه أرضاً. ركضت. عبرت الشارع. يرفسانه بقوة. صرخت بهم، التفتوا إلي، اصبحت فوقهم، فصرخ أبني : يابه!
- لماذا تضربانه أنه أخوكم.
أندفع ليضربهما، مسكته: - عيب إبني.
– همه ضربوني
– ميخالف إنتو أصدقاء.
رفعته لأقبله. سالت الدموع من عينيه
- لعد سويلي أخو حتى يفزعلي
– بسيطة ، صار..
تهدج صوتي ومسكت دمعة كادت تسقط.
طلبه أشد من طعنة سكين.
قبلته ،
أنزلته،
بقي ممسكاً بيدي،
... يعتقد أني سأذهب معه إلى البيت....”

******

لم يتح له هذا الرخاء، أن يذهب مع إبنه الى البيت، فليس للشيوعي المطارد "بيت" في مجتمع تم تمزيقه إلى أشلاء ينكر كل منها الآخر، كما أشرنا بتفصيل في الحلقة الأولى من المقالة (1). إن ما عاناه المجتمع من أذى الدكتاتورية التي كانت تنسق أمورها مع القوة العظمى، لا يقل بشكل من الأشكال عن الأذى الذي يصيب الفرد المقاوم تحت التعذيب. فمثلما يفصل التعذيب أطراف الضحية عن جسدها بتحطيم عظامها وتمزيق لحمها، فأن تمزيق لحمة المجتمع الأخلاقية وتحطيم إحساس أفراده بالكرامة الجمعية والتكافل الذي يربطهم ببعض ليكونوا مجتمعاً، حتى في مجتمعات الحشرات، يحطم هذا الكيان. لقد خبر اعداء المجتمعات من دكتاتوريات داخلية وامبراطوريات خارجية هذه الحقيقة وعرفوا أن تمزيق مجتمع إلى أفراد منفصلين عن بعضهم عاطفياً وأخلاقياً له ذات التأثير الذي للتعذيب على الفرد المقاوم. الفرق الوحيد أن المجتمع يئن بلا صوت، ويذبح دون أن نرى دماً يسيل من أوردته.
في كتابه "صفحات أنصارية" يلقي عدنان اللبان الضوء، ليس فقط على الأفراد المذبوحين والذي كان هو أحدهم، بل يتسع صدره رغم كل شيء، لينظر إلى الضحية الأخرى الصامتة ويتفحص جروحها العميقة ويتألم معها، رغم أنها تخلت عنهم، وسلمتهم لجلاديهم. إلا أن المجزرة واحدة للضحيتين. يرصد اللبان لمحات من آثار تلك المجزرة التي فصلت المجتمع عن أبطاله، وأصابتهما بجروح بليغة، ويراقب سعي الضحيتين إلى العودة إلى بعضهما البعض، وإشكالاتها المستعصية.

*****

“أم جبار تملك ثلاث سيارات، وسليمة تحجيلي بالسواتر الأمامية! وين راح ننطي وجهنه؟ ما أعرف!"

"لم تعد قيمنا ما يحتاجه الآخرون، وأصبح البقاء في الحياة الهم الأساس للرجال والشباب ولا مجال للتفكير حتى بالظلم او اي شيء آخر.”

“كيف سأوضح اضمحلال الشعور بالكرامة الشخصية لأغلب العراقيين، وانهيار الركائز الأخلاقية للمجتمع العراقي. سيعتبرها البعض انتقاصاً من الجماهير الشعبية.”

“وكم من الشهداء سقطوا ولم تعرف قبورهم، وكم من الشهداء الذين لا يزالون على قيد الحياة بعد أن أجبروا على توقيع التعهدات بعدم العمل في السياسة. جيش من المعوقين والمكسورين، ولم تسلم إلا القلة.”

“... وتمكن من خلق إيهام لدى الغالبية العظمى بكونه يعرف كل ما يقال ضده بعد أن أعدم الكثيرين بتهم لم يقترفوها”

“...إلا أن أخطرها كان من الشيوعيين الذين تعاونوا بإخلاص مع النظام وأرادوا التنكيل بالباقين، عسى أن يعيد لهم ذلك قناعتهم بأنفسهم بعد أن يسقط الآخرين ويصبح الجميع في الهوا سوا”

“كان كل شيء يتسرب مثل صم الرمل في كف اليد : بلا عمل، بلا بيت، بلا عائلة. حتى إبني الوحيد أشعر بأن أمه تنتزعه معهم مني. كنت أخاف أن أذهب بالتفيكر إلى نهاياته المنطقية. كنت بحاجة أن أساعد نفسي حتى ولو بالإرتكاز على الوهم”

“كان الإعتقاد يقول: مثلما نحن موضع فخر واعتزاز لكل الشيوعيين في الخارج، فلا شك أن الأمل سيكون مضاعفاً لمن هم تحت الحكة في الداخل. وبات من الصعوبة القبول بتمزق عوائلنا الذي جهد النظام في الإيغال به لإنهاء علاقاتنا الأسرية.”

“سيف التضحية هو المسلط على رقبة الجميع. لا الضعف ولا التعب، ولا التصريح بالخوف في المعارك، ولا التعبير عن الرغبة في إكمال الدراسة، ولاحتى طلب الذهاب للعلاج. كلها ستخلخل الثقة بصلابة الإنتماء والويل لمن كشف عن رغبة ذاتية أو أتهم بها.”

“الكفاح المسلح رجع الأمل بالشيوعيين وحطم النظرة الحقيرة بكون الحزب يميني والشيوعيين ما يرهمون إلا للثقافة وتسفيط الحجي . لا عمي لا. إحنه الشيوعيين وين ما يصير الحق نصير وياه.”

“لم يتعرض الحزب طيلة تاريخه الذي شيده بالصراع المرير مع أنظمة استعمارية وقومية فاشية، وحتى مع البعث عام 1963، إلى مأساة مثل مأساة عام 1979، بعد أن تمكن البعث من مد نفوذه إلى كل خلايا المجتمع، وبات حتى الهواء في داخل غرف نوم العراقيين مشبع بالمراقبة والوشاية. .
كان أكبر نجاح لفاشية نظام صدام هو إنهاء الثقة حتى بين أيناء العائلة الواحدة، وبات الجميع يبحث عن وسيلة تثبت براءته أمام أجهزة أمن النظام التي أخذت تنظر بعين الشك حتى لمن يردح أكثر للنظام.”

“وجد الحزب نفسه عند تشكيل القواعد الأنصارية عام 1979 يتمتع بنفس جديد رغم دموية الضربة اتي تلقاها. وانعكس ذلك بالدفق السريع للنهوض بالعمل الأنصاري رغم الصعوبات الخيالية في كثير من الأحيان، والتي بلغت أن لا تمتلك قاعدة أنصارية غير بندقية واحدة، ولا تمتلك من المال غير ما حمله الرفاق عند  الإلتحاق من مصروف شخصي استهلك لشراء الخبز والشاي. الغذاء الوحيد لأشهر طويلة، وسط ثلوج قاسية، وعزلة لا يتخللها غير سماع صوت راديو ترانسستر يوصلك بأخبار العالم. وبعد أشهر أمتلاأت كردستان بمئات الشباب والشابات الشيوعيين.”

“الشيوعيون هم الحزب الوحيد الذي يرفع الراية العراقية بين الأحزاب القومية الكردية، ومقاتلوه خليط من كل العراقيين.”

(بعد نهاية الحرب على أيران تفرغ النظام للمقاومة) “عشرات القرى تركت من أهلها بعد أن سيطر الرعب على الجميع، وكل شيء بقي في موضعه. حتى نيران المواقد استمرت تشتعل. كان الرعب من الكيمياوي قد غلب الجميع، وحلبجة وشيخ وسان وزيوة لا تزال طرية أمام أنظارهم.”

“في "الأوردكاه" (المخيم باللغة الفارسية) كنا نعاني مرارة الهزيمة ونحاول أن نستوعب ما جرى. فبعد إيقاف الحرب مع إيران كنا نظن أن العد التنازلي للنظام قد بدأ. إلا ان قيامه بهجوم الأنفال الكاسح قد أظهره بمظهر المنتصر، ودفعنا لمراجعة مسيرتنا التي تعمدت بالدم منذ وصول البعث إلى السلطة ولحد الآن. ومن الزاوية الأخرى فقد بدأ انهيار معسكر الدول الإشتراكية وحققت نقابة التظامن انتصارها على الحزب الشيوعي البولوني وأزاحته من السلطة وسط عاصفة إعلامية غربية أخذت تقتلع الكثير من مفاهيم الرسوخ الإشتراكي. وبعد أيام فاز هافل برئاسة جيكوسلوفاكيا.”

“كنا نحاول استيعاب ما يجري، لملمنا أنفسنا، وتشكلت منظمة حزبية منذ بداية وصولنا إلى إيران، ولم نترك وجودنا يتآكل أمام هذه الخسارات.”

“النصير حالة من الوجود لا يشبهها أي شيء آخر. التوحد مع الهدف والحرمن القاسي لأبسط متطلبات الحياة الآدمية لسنوات، خلق مواصفات جافة لا يستسيغها في كثير من الأحيان إلا الأنصار أنفسهم. ولا يزال البعض منا لا يستوعب متطلبات الحياة الإجتماعية الحالية، مما خلق الكثير من الصعوبات لهم.”

“أبو عواطف كان يتفحص الملابس الداخلية النسائية ويقارن بينها. تفاجأ بصوتي من خلفه، وكأني لزمته متلبساً: لازم ألله وفق؟
التفت: لا والله بس نتفرج!
في حياة البيشمركة لا توجد نساء، عدا الرفيقات وجميعهن متزوجات. وطيلة هذه السنوات لم يتسنى لنا التواصل مع النساء. أغلب الرفاق أخذوا يشعورن بتقدم العمر، وبعضهم تزوج بسرعات قياسية في سوريا.”

“في وقتها كان اللجوء يصور من قبل البعض على أنه ارتماء في أحضان المخابرات الغربية. وهذا ما هيب الكثير من الأدباء والفنانين والصحفيين من التصريح بنيتهم في الذهاب، رغم أن أغلبهم كانوا قد جهزوا جوازات سفرهم.”

“كانت روح التشبث بالحفاظ على تأمين مصدر الرزق والخوف من الضياع هي التي سيطرت على الأغلبية التي عاشت في المنافي وماذا سيعملون، وأصغرهم شارف الخمسين من العمر، .. وأغلبهم يعانون من إصابات وأمراض وإنهاك نفسي. رغم ذلك كانت تقديراتهم أنها ليست هزيمة بقدر ما هي خسارة معركة. وقسم كبير عادوا إلى كردستان وشاركوا في انتفاضة شقلاوة التي قادها الشهيد سعدون، وفي انتفاضة عموم كردستان التي كانت امتداداً للإنتفاضة العراقية الجبارة في آذار عام 91.”

“في بداية الأربعينات من القرن الماضي كانت الصويرة مدينة صغيرة والجميع يعرف الجميع، والعوائل متداخلة فيما بينها في الكثير من العلاقات. يقول أبو فهد: منظمة الصويرة كانت أشبه بالعائلة الواحدة. والمسؤولية التي يتحملها الرفيق ليست لعلاقة الرفقة فقط، بل تتعداها إلى دعم العلاقات الإقتصادية والإجتماعية. وكثيراً ما يذكر المرحومة خنيسة، والدة الرفيق المرحوم جبار جمعة الفيلي، كمثال لطيبة ذلك النسيج الإجتماععي المتكافل في أخطر الأمور. كانت المرحومة تحول يوم الإجتماع في بيتهم إلى وليمة نفتقد حلاوتها في بيوتنا. تزور السجون التي سجن فيها جبار مثل سجن الكوت والرمادي ونكرة السلمان، ولا تأتي باحتياجات ابنها فقط عند المقابلة، بل بما تشعره في حاجة الآخرين. تأتي محملة بكل شيء، وفي كثير من الأحيان البريد الحزبي أيضاً. كانت لا تنقطع عن البعض حتى بعد إطلاق سراح إبنها جبار. كانت لا تترك من تشعر أنه بحاجة إلى زيارتها وقد انقطع عنه أهله. لم تكن أمنا فقط، بل أم لكل من عرفها من الرفاق.”

“تحت هذه الظلال تمظهرت تكريت في ذهن اغلب العراقيين خاصة بعد أن جند الكثير من البدو الأجلاف من أطراف المدن الغربية وحثالات الريف من الأميين والمتخلفين، ومنحهم كل سلطات التحقيق والتنكيل بكل العراقيين وحتى أبناء الغربية، جعلهم على درجات وعلى رأسهم التكارتة.... وأصبحت المفردات الغربية وعلى رأسها "يولو" يتفاخر بترديدها، وهجمت قيم الريف على المدينة. وكلما أزداد الرعب والدمار، كلما ازداد الكره لتكريت ومن يسكنها، حتى بات الجميع مشتركون في الجريمة، فقط لكونهم تكارتة. وظلم المعارضون لصدام من التكارتة مرتين. الأولى للإيغال بالتنكيل بهم من قبل نظام صدام، والأخرى النظرة الحاقدة للعراقيين عليهم، ومن بين أبناء تكريت الشرفاء كان أبو الهيجا (نجاح خليل الجبوري)...ترك موسكو وذهب إلى أحد معسكات التدريب في بيروت. وبعد ثلاثة أشهر دخل بهدنان..صاحب بنية قوية ورشيقة، يحمل البي كي سي ومعها مخزنان، جريء لا يعرف التردد، وسيم وشعره أصفر، عيون ملونة وبشرة حمراء. وكثيرا ًما يلاطفه الرفاق الأنصار بأنه "مضرّب" من قبل ا لضباط الإنكليز الذين يعبرون تكريت إلى بغداد أيام الحكم الملكي."

"كان الحذر في حياة البيشمركة كبيراً في عدم كشف المدينة التي ينحدر منها النصير، إلا أن البعض من رفاق المنطقة الغربية وجدوا في الكشف عن شخصياتهم واجباً للرد على من يتهم أبناء الغربية وبالذات التكارتة من كونهم في ركاب النظام.”

“عمار معلم من الرمادي. أسمر، احول، جسم صغير ويديه أطول من الطبيعية. كان يمتلك حاسة خاصة في التصويب بمدفع الهاون وكأنه سلاح خفيف، ونادراً ما تذهب قذيفته هباء. كان معروفاً في مناطق قرداخ التي هي أماكن أنتشار الفوج الخامس عشر لقوات بيشمركة الحزب الشيوعي.... استشهد عمار عند تنفيذ عملية على موقع عسكري في دربندخان، فجرح ولم يتمكن من مواصلة السير مع المفرزة التي كان يقودها. طلب منهم أن يتركوه ويسرعوا بالإنسحاب وظل ينزف إلى أن استشهد. وعندالفجر اكتشف العسكر جثته فسحلوه إلى داخل المعسكر. وعندما عرف آمر المعسكر من أحد الجحوش الذي كان سابقاً بيشمركه أن الشهيد هو عمار، أقام احتفالاً وأخذ يطلق الرصاص في الهواء وسحلت جثته إلى الساحة المقابلة للسوق وأرسلت سيارة تحمل مكبرة صوت تدعوا أهل المدينة لمشاهدة جثة المجرم عمار. أجتمع عدد كبير من أهالي المدينة بين مصدق ومكذب وعمار قد شدت جثته إلى عمود كهرباء. وعندما تجمعت النساء تحول المشهد إلى بكاء وعويل أثار الواقفين وتحول الموقف إلى ذعر ارتسم على وجوه المسؤولين فأسرعوا بإنزاله وأخذه قبل انفجار الموقف.”

“وقعت اتفاقية (ديوانة) بين مسؤول القاطع بهاء الدين نوري وبين قوات الإتحاد الوطني (اليكتي) والتي تنص على عدم الإعتداء والتعاون بين الطرفين، قبل أيام من هجوم الإتحاد الوطني على المقر المركزي للحزب الشيوعي في بشتاشان، وحدثت معارضة قوية للإتفاقية وكادت أن تحدث مذبحة بين الشيوعيين أنفسهم، وجردت قيادة بهاء الدين نوري بعض الرفاق من أسلحتهم. الإتفاقية مكنت الإتحادالوطني من تحريك أغلب قواته في قرداغ إلى بشتاشان، ولولا ديوانه لما تمكن الإتحاد الوطني أن يضرب تلك الضربة الغادرة للشيوعيين، وبسبب ديوانه تم طرد بهاء الدين نوري من الحزب. كانت جريمة بشتاشان العربون الذي قدمه الإتحاد الوطني للتقرب من النظام الصدامي.”

“كان الحزب حذراً جداً من العمليات العسكرية العشوائية، ويشدد على العمليات النوعية. أي أن سهولة نجاح العملية ليس كافياً للقيام بها إذا لم تحقق هدفاً نوعياً. كان الحزب شديد الحذر من ان يسقط قتلى وجرحى من الجنود الذين لا ذنب لهم في وجودهم في هذه الربايا، والجنود يعرفون ذلك جيداً عن مفارز الشيوعيين. ومن خلال التجربة عرفنا أن أغلب هؤلاء الجنود هم من المغضوب عليهم من قبل النظام وبعضهم من أبناء عوائل رفاقنا قذف بهم إلى هذه الأماكن الخطرة أو إلى السواتر الأمامية لخط الجبهة مع أيران للتخلص منهم. وبعضهم أغتيل بطلقة في الرأس من الخلف، مثلما حدث مع الشهيد حسان ، الإبن الوحيد للرفيق ثابت حبيب العاني، عضو المكتب السياسي للحزب.”

“كم فرحت عندما سحبوا مواليدنا للاحتياط. فرزونا عن الآخرين وقذفوا بنا إلى السواتر الأمامية مع إيران. وقد لا تصدق أني هربت في هجوم الفكة، ودخلت الأسر لعشر سنوات. ورغم كل قساوتها، كانت أخف علي من البقاء تحت رحمة تلك الوحوش الكاسرة.”

“كان يريد أن يقنعني بحجم المعاناة التي تحملها بسبب انتمائه السابق للحزب، يريد أن يقنتعني بأن تحوله إلى شرطي أمن ونقله المعلومات عنا، مسألة طبيعية، طالما أنه كان خائفاً ومرعوباً. كان في نبرة صوته الشيء الكثير من المعاناة والمرارة التي يشعر بها الكثير من المناضلين الذين استمروا تحت إرهاب البعث. وأضاف: الحمد لله الذي سلمكم طيلة هذه الفترة وأعادكم إلينا كي ترفعوا رؤوسنا مرة أخرى.”

“لم أعد أفهم قفزاته في الحديث.. ليس هو فقط ، بل توجهات اغلب الذين رأيتهم. لا أشعر بأني أقف على أرض صلبة مثلما كانت قبل خمسة وعشرين عاماً. رغم المطاردة والخطورة الدائمة إلا أنك تعرف كيف تتوجه. اليوم أسقط النظام والأرض تميد تحت قدميك.”

“يقول صادق: في البداية جمعونا بتنظيم إسمه "الصف الوطني". فوك ما صرنه، خلونه دون أصغر بعثي. يعني بالروضة. مو بس آني، كل المشكوك بولائهم...أتصور طالب عندك يجي يحجيلك بالسياسة وشنو اللي لازم تسويه، لأن هو بعثي وأنت بالصف الوطني، وما عليك إلا أن تؤكد: "صحيح رفيق، تمام رفيق"...تتخيل المعاناة؟ لو ما تتخيلها؟ أنتو رحتوا وتركتونه، وما تعرفون اشصار بينه!
لم أطق الإتهام (رحتوا وتركتونه) : ... هل تعرف أبو نصار؟ رفيق جرح بطلق ناري في ساقه بإحدى المعارك في بهدنان، ولطول المسافة وعدم وجود الأدوية مع المفرزة أصيب بالكنكرينا. قرر الطبيب بتر ساقه، ولا يوجد غير منشار خشب، ولا يوجد بنج أيضاً ولا يوجد أمامنا غير إسقاءه بطل ويسكي.... وقفنا خارج الغرفة نسمع صوت تقطيع اللحم..صراخه يعلو تداخل صوت قص العظم مع صرخته التي هزت الجبل... بعد يومين اكتشف الطبيب أن القطع قد تلوث ويجب إجراء عملية أخرى، وأجريت بنفس الطريقة. وهذه المرة سلم من التلوث ولا يزال أبو نصار ذلك النبيل الذي يعمل كل شيء في سبيل رفاقه واصدقائه.”
******

كان هذا بعض ما جاء في كتاب "صفحات أنصارية" الذي يحكي ملحمة الأنصار الشيوعيين، وما مر على المجتمع العراقي من كوارث، إن كانت قد استهدفت الشيوعيين بشكل خاص، فإنها لم توفر الآخرين، خاصة المنتمين للأحزاب الأخرى المضادة للسلطة، وعوائلهم، ومن قصصهم نتعلم الكثير.
إذا كان الإنسان الخارج من زنزانة التعذيب بحاجة إلى التطبيب الجسدي والنفسي، فأن حاجة المجتمع الذي وقع تحت التعذيب عقوداً طويلة لا تقل عن ذلك. كتاب اللبان علامة جديدة تضاف إلى علامات كثيرة، بأن نبتة الخير والقوة موجودة في هذا المجتمع الذي نراه محطماً اليوم. بل ربما كان السبب الرئيسي الذي سلط عليه هذه الوحوش من الداخل والخارج وتعاونها على تحطيمه بكل تلك القسوة، هو ما فيه من نبتة طيبة قوية.
إنها مهمة أبنائه أن يعيدوا لهذا الإنسان كرامته أولاً، وإلى المجتمع روابطه الأخلاقية والتكافلية وأن يؤسسوا قدر ما يستطيعون نظاماً ينمي هذه وتلك، ويضع مصلحة الإنسان والمجتمع قبل أي أعتبار آخر، وليس الربح الأعلى أو حرية السوق: الدين الإقتصادي الجديد الذي يوضع في الدساتير ولا يجادل!

الإنسان كائن يحس بفرديته ويعتز بها، لكنه قبل كل شيء، كائن اجتماعي. لذا فأن كرامة الإنسان وروابطه الإجتماعية نيسج أساسي في بنيته، ولا يمكنه أن يعيش صحيحاً وسعيداً بدونهما مهما بدا العكس، بل لا نبالغ بالقول أنهما أهم للصحة والسعادة من المال والراحة وسلامة الجسم. فإن لم يكن هذا هو الحال، فكيف لنا أن نفسر مخاطرة الإنسان بحياته من أجل كرامته؟ كيف لنا أن نفسر من ينهار صحياً ويدمن الخمر وقد يموت بلا سبب واضح حين تنزع منه كرامته، كما لو أننا نزعنا منه كبده؟

******

“تذكرنا تفاصيل كردستان، ورغم شظف العيش وصعوبة حياة الأنصار، إلا أنها المرة الأولى التي امتلكنا فيها إرادتنا وفعلنا، ومارسنا فيها إنسانيتنا بمساحات لم نكن نحلم بها. كنا سعداء، والنكتة صارت صناعة أنصارية.”

(1) الحلقة الأولى:  صفحات أنصارية 1- شيوعي يحمل كرامته عبئاً
http://saieb.blogspot.be/2013/12/1.html

(إن أعجبتك المقالة فأرجو أن تدفع لي ثمنها البسيط: أن تنشرها بين معارفك)

7
صفحات أنصارية 1- شيوعي يحمل كرامته عبئاً

صائب خليل
11 كانون الأول 2013


أهلا بك ضيفاً عزيزاً عندنا، شرط أن تترك كرامتك خارجاً! هذا ما صار أصدقاء وأقرباء وأهل الشيوعي المتخفي يواجهونه به وهو يطرق الأبواب تباعاً.

يضيء الفنان المسرحي عدنان اللبان في كتابه القيم "صفحات أنصارية" مساحة خطيرة الأهمية في حياة الشيوعيين العراقيين الذين اختاروا جبال كردستان منطلقاً لخوض صراعهم مع حكومة الدكتاتور صدام الشرسة، وكيف شعر هؤلاء تجاه مجتمع تخلى تحت ضغط الدكتاتورية، ليس فقط عن أجمل أبنائه، بل وأيضاً عن أبسط القيم التي تربط نسيجه، وتمزق أشلاءاً منفردة مرعوبة خائرة يخاف كل منها من الآخر، وهو بالضبط ما تحتاجه الدكتاتورية لتثبت حكمها في المجتمع. وإن استثنينا بعض التفاصيل، فلاشك أن ما طرحه اللبان من مشاعر وأسئلة ينطبق على كل منتم لحزب ممنوع في الطيف العراقي في حقبة صدام حسين، يرفض الإذعان والتخلي عن قيمه، ولذلك فأن لهذا العمل قيمة عراقية، بل إنسانية عالية.

ولعل أشد ما يلفت نظر القارئ، إضافة إلى التهديد المستمر بالقتل والتعذيب، حالة التشرد المرة التي عاشها هؤلاء الشيوعيون وصار أصدقائهم، وحتى أهلهم ورفاقهم يهربون منهم ويدعونهم إلى التخلي عن قضيتهم. فكأن الشيوعي وكرامته أماً تحمل طفلها الذي أصابه الجذام. لا أحد يقبل باستضافتها معه خشية العدوى، ولا هي قادرة على التخلي عنه! الكرامة هي العدو الأكبر لكل من يريد أن يتحكم بمصير شعب، لذا كانت هدفاً أساسياً للدكتاتورية وللإحتلال على السواء.

كان شرطاً قاسياً حقاً على تلك "الأم" التي يطلب منها أن تنزع قلبها قبل أن يسمح لها بالدخول، فكيف ستكون صورتها أمام نفسها إن فعلت؟ وهذا ما جعل الصراع شديداً وعنيفاً ومريراً ومؤلماً بكل معاني الكلمة. في هذا الجزء (الأول) من المقالة نقتبس من كتاب الأستاذ اللبان النصوص التي تجسم تلك النقطة الدرامية في حياة الشيوعي الباحث عن ملجأ يتسع له ولكرامته في وطن يزداد ضيقاً. وفي الجزء الثاني سنقتبس بعض النصوص التي ركزت على الأثر الإجتماعي الخطير للدكتاتورية على الشعب، وأثر حياة التمرد القاسية على الأنصار الذين راهنوا بكل شيء لديهم، ومشكلة عودتهم إلى الحياة الطبيعية بعد ذلك.

إنه كتاب قيم حقاً، ليس من الناحية التاريخية والأدبية فقط حيث أبدع مؤلفه في التقاط صور الحياة وتفاصيلها االصغيرة ذات المعاني الكبيرة، ونقلها إلينا، وإنما لما يقدمه من أمثلة لعراقيين دافعوا ببسالة تكاد تعتبر خيالية اليوم، عن قيمهم بوجه اضطهاد الدكتاتورية العنيف، بل رفعوها عالية في نفوسهم فارتفعوا بها، فصمد من صمد واستسلم من استسلم، وما بينهما، ولكل إنسان طاقته. ما أحوجنا اليوم إلى تأمل تلك النفوس مُثلاً نقتدي بها ونتقرب منها ونستعين بحقائق بطولاتها ونكشف زيف من يؤكد اليوم أن ضعف الشعب وانحطاطه في جيناته ويبشر بهزيمته الأكيدة، ويدعو إلى براغماتية الإستسلام لكل دنيء، أجنبي كان أم ذيله العراقي. "صحفات أنصارية" قصة صراع الكرامة الأنسانية في العراق من أجل البقاء على قيد الحياة، ومن هنا ضرورة وجوده في كل بيت. أرجو لكم قراءة ممتعة لمقتطفات منه راجياً الإنتباه إلى أنها منفصلة عن بعضها البعض:

******

“بعد عشرة دقائق أدركت أني لا استطيع أن أطلب منه أي شيء، لكني آثرت أن أستمر معه في الحديث لأمنع حدوث فجوة ستؤلمه لو ذهبت مباشرة. بعد نصف ساعة مددت له يدي مودعاً. انفرجت أساريره. كأن هماً ثقيلاً إنزاح عنه فجأة. إحتضنني وطلب مني برجاء أن أنتقل إلى المناطق المحررة حفظاً على حياتي. إستأذنني وذهب إلى الغرفة وجاءني بقمصلة أمريكية أكد بأنها ستنفعني هناك، وأخرج من جيبه خمسة وعشرون ديناراً وأقسم أنه لايملك غيرها. لم اقبلها، لكنه أصر ودفع بها في جيبي.”

“كنت أفرح عندما أستلم البريد، لأنه سيفرض علي الذهاب إلى كردستان في اليوم الثاني... كنت بحاجة لمن يشاركني في استيعاب التدهور الحاصل والإيمان المتصدع بالقدرة على إعادة التنظيم.”

 “...وسألته: ولكني جئت من بغداد ولا أستطيع العودة في هذا الوقت الذي يغلق فيه الطريق، وانا عسكري، فهل أستطيع المبيت عندكم وأذهب غداً لإبن خالتي في جوارته؟
- لو كان في يوم آخر، أجابني، ممكن، أما اليوم...
- والحل؟ أنا عسكري لا أستطيع المبيت في الفنادق؟!
- إذهب إلى فندق "كاني" – وأشار إلى جهته – تستطيع أن تقضي ليلتك فيه، وهو مخصص للعسكريين..
"كاني" في الكردية عين الماء. الفندق يقف على بابه شخص في وضع شبه رسمي. عند اجتياز عتبة الباب تخترقك نظرات أربعة أو خمسة رجال جالسين على طاولات متفرقة. رفعت يدي بالتحية: السلام عليكم. لم يجبني حتى صاحب الفندق..
- إبن عمي آني عسكري ومحتاج أبات الليلة عدكم
 طلب مني الهوية تفحصها وتفحصني .. طلب الإجازة، دققها .. اعادهما إلي وطلب مني بلهجة آمرة
– بالفرع مديرية الإستخبارات، روح جيب موافقة منهم..”

 “تقدمت من المتجر وسلمت عليه. رأيت أثنان أفندية يجلسان في الداخل. وبدل كلمة السر، طلبت منه علبة سكائر بغداد...
إلا أن الأكثر إيلاماً وجود أحدالمسؤولين عن عمل الداخل وسوف لن يتهمني بالجبن بشكل مباشر، لكن كل تصرفاته ستقول ذلك. حاولت ان أقنع نفسي وأختلق عذراً أكثر معقولية لعدم عودتي إلى المتجر مرة أخرى، فوجدت نفسي لا استطيع أن أنزل إلى هذه الخسة. ”

“... سحبني شقيقي وأبو جلال الذي فاجأني: تعرف أنت طفرت من الطاوة؟! شلون؟ الأفندية بالمتجر كانوا أمن وينتظروك!”

“أردت أن أعرف كيف تم التحقيق معه؟ لم يشكو، ولم يبرر رغم الجرح الذي احدثه توقيع التعهد، والتقطت منه نظرة حانية وفخورة لسلامتي وسلامة الآخرين. سألته عن التعذيب، لم يجبني وأشاح بوجهه للحظات، تهرب وحاول نقل الحديث. أكدت له: إني لا أخاف من الموت، لكن التعذيب. قاطعني بشدة: كلنا نقول هذا، كلنا نخاف من التعذيب وانت لست استثناءاً. لا تجعله يسيطر على تفكيرك حتى يكون هو المشكلة الوحيدة. حط أمام عينك فقط: شنو المايعرفوه؟ اليعرفوه راح، والمايعرفوه تحافظ عليه..وهو الطريق الوحيد اللي تحافظ بيه على نفسك. الخيانة مو بالتعهد، لكن أكو ناس فرحوا بتوقيع التعهد حتى يبررون رعبهم وكشفهم لكل شيء يعرفوه.”

“أضيع قلقي في مراقبة الآخرين....جسر إبراهيم الخليل يمتد أمامي، ليس طويلا، عبور هذه السيطرة فقط، والسيطرة التركية في رأس الجسر من الجهة الأخرى وتكتب لي حياة أخرى. ”

“شمدريك ما أسقط وأصير مثل ناصر، شرطي مال أمن أفتر وره الرفاق للإيقاع بهم. الكلب حتى زوجته تحتقره وتخاف منه. لا مستحيل، الموت هواي أهون.”

“تعودنا أن لا يسألني عن أي شيء يخصني، وسؤاله ظلله الأمل بذهابي. لقد اثقلت عليه. انكشف أحد البيتين واعتقل الرفيق الذي يدير الوضعية، ومن الصعب التوجه إلى البيت الثاني، ولم يبق عندي غير بيت قصي.”

“تنفست بعمق، وشعرت بطعم الهواء لأول مرة. وجدت الإنسان الذي أتكأ عليه. الصديق الذي يشعر بمسؤولية حمايتي وإنقاذي. سنوات طويلة فقدنا الشعور بالحماية، ونسينا أنها أسمى الروابط بين أبناء المجتمع الواحد. نعم هناك الكثير من التعاطف والشفقة لدى الآخرين، ومنهم من البعثيين أيضاً، ولكن من يجرؤ على النهوض بأبسط درجات الحماية؟ مثل التحية الصادقة، أو الوقوف معك لدقيقة واحدة فقط. كان الموت بالمرصاد لكل من يخالف البعث، وكلما أشيع الخوف أكثر، ازدادت الجفوة، حتى أن البعض حقد علينا لتحملنا غير المعقول. – ما ذا ستجنون بعد كل هذا العذاب؟ وكأن المسألة ربح وخسارة، ونسى أن الكرامة قبل كل شيء.”

“إلا أن المخاوف هاجمتني بسرعة، فالوضع ملتبس، والصديق الذي تتركه أسبوعاً، بل يوماً واحداً، تجده ربما تعاون مع السلطة.”

“كررت تذكيرهم بأن العواطف الجياشة يجب أن تظهر في الفن بشكل مهذب ولا تطلق المشاعر  إلا بالقدر الذي تتطلبه فكرة المسرحية. الملابس نفسها ملابس البيشمركة عدا ملابس الممثلة التي استعارتها من عائلة أحد الرفاق تسكن بجانب المقر. في البداية أخذ المسجل يتباطأ والمصابيح اليدوية خف توهجها وسيعيق خلق الظلال التي هي جزء مهم في بعض المشاهد.”

“أستشهد فؤاد يلدا بالقرب من قرية ميزي في حملة الأنفال الفاشية بعد أن استنفذ عتاد بندقيته الكلاشنكوف واستمر يقاوم بمسدسه الشخصي، وعندما طوق بالكامل ولم تبق عنده غير طلقة واحدة أنهى بها حياته. خليل أوراها استشهد في معركة ضارية مع الجحوش.”

“في ريف كردستان يسمى كل من له علاقة بالصحة "دكتور"، من حارس المستشفى حتى طبيب الإختصاص.”

“كان الفطور ذلك اليوم دسماً، بعد أن أقنعوا الإداري علي عرب ليصرف لهم مواد الخبز المقلي بالدهن ويرش عليه بعض السكر.”

“بعد يومين، ذهب "سرجل" كـ "حرس" مع المعتقل منير لجلب الحطب من غابة صغيرة تقع على يسار المقر بنصف كيلومتر، وعاد سرجل يحمل الحطب ومنير خلفه يحمل البندقية!”

“الدكتورة إيمان إبنة الشهيد سلام عادل قدمت إلى كردستان من موسكو التي نشأت فيها ومعرفتها بالعربية ضعيفة، وكانت لا تكل من الخروج في مفارز الأنصار مع حقيبتها التي تحملها على ظهرها تطبب الرفاق والفلاحين في القرى التي يقضون فيها ليلتهم...تهرش جلدها من سلاسل سربان القمل. كانت عطشى وأضاعت قدحها، ولا تعرف كيف تغرف الماء بيديها من الساقية. إيمان سألت البيشمركة الذي يجلس بجانبها عن إسم الرفيق وأسم القدح فأجابها: جاسم أبو الخراخيش، والقدح إسمه "خرخوشة". نادته إيمان: عيني جاسم أبو الخراخيش أنطيني هاي الخرخوشة حتى أشرب ماي. جاسم لا يجيبها لأن أسمه ليس جاسم. وظل يسمى جاسم أبو الخراخيش.”

“إحدى الرفيقات تعمل على جهاز اللاسلكي، في السابعة والعشرين من العمر. كانت تعبر أحد الروافد الكبيرة لنهر الزاب مع مفرزتها القتالية وعلى ظهرها جهاز اللاسلكي. كان الماء عميقاً، وفي تشرين الثاني. بعد عبورها لم تتمكن من الحصول على بدلة أخرى، وجفت ملابسها على جسمها فتعرضت لإصابات عدة نتيجة البرد الشديد من بينها عدم تمكنها من إنجاب الأطفال.
كان لكل واحدة منهن حكاية بطولة.”

“كان وضع العمال في الحزب أشبه بـ "السادة" الذين ينحدرون من نسل الرسول الكريم وآل بيته الطاهرين عند الشيعة... كتب البعض من الطلبة والموظفين بأنهم عمال، وتبريرهم أنهم عندما تركوا أعمالهم أشتغلوا عمالاً، وبعضهم لشهر واحد فقط، وكان من بين الذين كتبوا عمالاً، أبو نبأ. سألته: أنت تقول بقال فكيف أصبحت عاملاً؟ أجابني: قابل أبو حسن بوريات أحسن مني؟”

 “وقع، لن أوقع. أربعة أشهر من التعذيب، وهم يعرفون أنك لا تمتلك أي شيء قد يؤذيهم. كانوا يريدونك فقط أن لا تكون خارج إرادتهم. من من العراقيين لم يؤمر بهذا الأمر؟ ومن من الأصدقاء والأقرباء والأهل وكل من يودك، لم يطلب منك أن توقع؟ هل الجميع على خطأ وأنت وحدك الصحيح؟
تركوني الواحد بعد الآخر، وأخذوا يتجنبون السلام عند ملاقاتي. يتركون مقاعدهم ويذهبون عندما أجلس في المقهي. صاحب المقهى أخذ يتثاقل من جلوسي. بعد أيام فاتحني بعدم رغبته بقدومي.. المقهى تفرغ بسببك. إنه صادق، أعرفه طيب القلب، ومسؤول عن عائلة. كان يفرح عندما اترك عنده صحيفة "طريق الشعب" أو "الفكر الجديد". يتبرع في جميع المناسبات. تغير الحال، وإن قدمت مرة أخرى سيطردني. أشعر بالوحدة، ليس بسبب وجودي وحيداً في الزنزانة ، بل بسبب ألأجواء التي تحيطني قبل توقيفي. الزنزانة منحتني الحماية من نظرات الآخرين، والعذاب من البقاء في البيت تلاحقني نظرات شقيقتي الصغرى، وهي أكثر إيلاماً من غرز الأبر في حدقات العيون – بعد ان انفصل عنها خطيبها، وأدركت أن لن يتقدم أحد إليها بعد الآن بسبب كوني شيوعي. حتى أمي حذرتني من البعثيين بتكرار ممل فصرخت بها في أحدى المرات: نعرف هذا جيداً! – وماذا تنتظرون؟ لم أعرف بما ذا أجيبها.”

“كان يتصيدني بعد كل استدعاء للأمن أو للمنظمة الحزبية ، وكأنه على موعد معي، ويقول: "والله بس أنت رجال. كلنه سقطونه سياسياً بس أنت بقيت". كان في رنة صوته سخرية ووعيد مرعب بالإنتقام.
كنت وحدي أواجه مصير وجودي. لا رفاق، لا أصدقاء، لا اهل، ولا اي خيط بالمجتمع. حكّمت عقلي وتركته يتخبط في ظلمات بئر عميق. أشبه بهاوية الموت، لا تعرف أي شيء بعدها.
وقعت. تركوني يومين. كنت أتمنى أن لا أخرج من التوقيف. تخلصت من حالة اللاعبور. علي أن اجهد نفسي لمواجهة العيش بدون كرامة. أصبحت واحداً من القطيع. المهم لم أخن، ولم أجبن. وما فائدة البقاء وحيداً؟ اليوم أدركت لماذا استشهد صباح وعبد الحسن وعدنان. كان صورة أمجد أكثر ما يخيفني، عندما وجدوه وقد تجمد وهو جالس في المرافق الصحية بعد أن وقع التعهد ببضعة ايام. عباس أدمن على الكحول وحول حياة عائلته الى جحيم. أستنجدت بي زوجته كي أسادعه على تجاوز المحنة. جوع عيون طفليه تعلقت بعلبة الحلويات التي حملتها لهم. لم أفهم منه إلا كلمة رددها كثيراً: "دير بالك تخسر الجوكر"! ويقصد عدم التوقيع. استمر على الشرب إلى أن وافاه الأجل، بعد أن "خسرت الجوكر" بفترة قصيرة.
تركوني يومين كي أتشرب ذل التوقيع. اطلقوا سراحي بعدها وأرسلوني مع أحقر شرطي أمن عرفته في حياتي ليوصلني إلى البيت. طلبت منهم أن أذهب وحدي، لم يقبلوا. تركوني معه لنجتاز سوية سوق المدينة الذي يقع بيتنا عند نهايته. أخذ هذا الأجرب يلقي بالتحية حتى مع الذين لا علاقة له بهم. كان تمليذا عندي في متوسطة الوحدة.
أنت تذكر، كان شرطي الأمن لا يستطيع أن يكشف عن نفسه، فسوف يحتقر من الجميع، بما فيهم أهله. هذا لم يكن بعيداً بل في زمن عبدالرحمن عارف. وبعد مجيء البعث أصبح شرطي الأمن اهم وظيفة حكومية. اهم من المعلم والمدير والضابط وأستاذ الجامعة، وأهم من الكوادر البعثية ذاتها.. أصر الأجرب بمسك يدي للجلوس وشرب الشاي في مقهى تتوسط السوق، ويجلس فيها الكثير من المعارف. دفعت يده بقوة ونظرت في عينيه.. كان الشرر يتطاير من عيني.”

“ماذا يفعل الشيوعي المتخفي بعد أن جرد الآخرون من المشاعر الوطنية، وسحب البساط من تحته، الصراع اليومي لآلاف الإحتياجات الشعبية للطبقة الفقيرة، والجميع مشغول أما بالدفاع عن حياتهم، أو بما سيحصل عليه من عطايا تشعره أنه أفضل من الآخرين، رشوة للتنازل عن إنسانيته. هذه الحالة استمرت لسنوات طوال، وأفرزت تقاليد وقيم لا تنتمي إلى الحياة الآدمية السوية بشيء.”
********

كيف يعيش من خسر كل شيء في نظاله من أجل الدفاع عن قيمه وأحلامه وكرامته، في مجتمع نزعت منه قسراً، قيمه الإجتماعية والإنسانية العليا؟ نصوص مختارة من كتاب "صفحات أنصارية" للمسرحي "عدنان اللبان"، تلقي الضوء على هذه المسألة الكبيرة في الجزء الثاني والأخير من هذه المقالة.



8
المثقف كأب حنون لشعبه في زمن الضياع

صائب خليل
7 تشرين الثاني 2013


سأحصر كلامي ضمن المثقف الإنساني الذي يرى نفسه بدرجة أو بأخرى، باحثاً ومحارباً من أجل وصول الحقيقة والقيم العليا، والتي يراها ضرورة لا مفر منها من أجل سعادة مستقرة للبشرية.
قد تبدو للبعض هذه صورة عفا عليها الزمن، لكن الإنسان كان ومازال بحاجة إلى ضوء لامع بعيد يهتدي به، كما تحتاج السفن ضوء الفنار في الليالي العاصفة. فربما ليس من الصعب عليه أن يتحرك في حياته اليومية، لكن الحفاظ على الإتجاه العام الصحيح خلال تلك التفاصيل أمر آخر.
لا ينتظر المثقف من هذه المهمة أن تكون سهلة أو جميلة، رغم أنها لا تخلو من المكافآت الكبيرة بالإحساس بالإعتزاز بالنفس والدور الشريف الذي يقوم به في مجتمعه، ولكنها بكل تفاصيلها حرب حقيقية وسوف يخرج منها المحارب مثخناً بالجراح وبالغبار على وجهه  وشعره والإحمرار في عينيه، وكما يقول نيتشة: "ليس لمحارب أن يطالب بأن يعامل بالمراعاة"!

الأجمل والأشرف

من الأسهل و“الأجمل” كثيراً أن نختار بدلاً من تلك الحرب، ما تتيح لنا ثقافتنا من فرص، حتى ضمن الكتابة نفسها، فنكتب عن ما ينفعنا نفسياً ومادياً وثقافياً ويتيح تجميع المنافع والتقدير الإجتماعي، وليس إلى معركة الحقيقة الحاضرة، حيث الأحداث العادية والصراعات المشتبكة والتشهيرات التي لا يرتجى منها سوى الأذى على المستوى الشخصي. أن لوحة ارسمها لن تكلفني أكثر من الوقت اللازم لكتابة مقالة سياسية معقدة محشوة بالمصادر، وأحصل من تلك اللوحة، حتى أثناء عملي بها، على شحنة من الإرتياح والسعادة بدلا من التوتر وحرق الأعصاب في الكتابة عن حقائق مؤلمة. ربما تمكنت من بيع اللوحة لكن محاولة بيع مقالة شريفة أمر عسير. وأهم من كل ذلك أن أحداً لن يشتمني ولا سلطة تراقبني وتتوجس تحركاتي بسبب لوحة أرسمها. لكن إن اختار جميع المثقفين والفنانين والشعراء طريق "الأجمل"، فإن أحداً في هذه الحالة لن يرشد هذا الشعب إلى الطريق ليتخذ موقفه وقراره الآني الذي يحتاجه لفهم الأحداث ومواجهتها عاجلا وبلا تأخير.
يقول شريعتي : "عندما يحترق بيتك فأن من يدعوك للصلاة خائن، وأي عمل غير إطفاء الحريق خيانة". وأجد في هذا القول مرشداً جميلاً فيما يجب التركيز عليه من جانب مثقف قرر أن يقف مع ضميره.
الشعوب يخلقها بشكلها الثقافي النهائي- وكذلك خياراتها إن كان لها أن تختار - مجموعة مثقفيها، إضافة إلى العوامل المادية الأساسية. فالمثقف وإن لم يكن الخالق المادي للشعب فهو الراعي له والموجه لطريقه، تماماً كما هو الأب بالنسبة للطفل. ليس في ذلك إهانة للشعب، فأهم ما يميز الشخص الكامل عن الطفل هو معرفة الأول بالحياة أكثر من الثاني، وهذا ينطبق بالتعريف على المثقف المميز بمعرفته النسبية الأكبر عن الباقين من الشعب. أن "الأجمل" للمثقف ان يذهب حيث يمكنه أن يزدهر ويحصد النجاح، لكن الأشرف أن يذهب إلى حيث يمكنه أن يأتي طفله بما يحتاجه.

الأب يقسو أحيانا لكن لا يهين

 الأب يحنو على الطفل ويرعاه ويحرص على وصوله إلى مستقبله. إنه يعلمه ويساعده ويرشده إلى الطريق، لكنه يقسو أحياناً قسوة المحب الذي لا يسمح لتلك القسوة أن تصل حد الإهانة وخفض الروح المعنوية للطفل، وإضعافه وجعله عرضة للسقوط بيد المتربصين خلال مسيرة حياته. أن الأب الواعي المتمالك لأعصابه لا يسمح حتى لطفل صعب المراس أن يدفعه إلى تلك الحالة. لقد وضعته الحياة مسؤولاً عن هذا الإنسان ومصيره، وهو يقبل بتلك المسؤولية. لكن الآباء كثيراً ما ينسون ذلك في خضم الحياة، وكذلك يفعل المثقفون تجاه شعبهم.
ورغم أن المثقف لا يجب أن يقسوا على شعبه، فإنه لا يجب أن يكون رحيماً مع أعدائه أو مع الفاسدين من افراد ذلك الشعب. أنا اؤمن أن من واجب المثقف أن لا يلتزم بقواعد “التأدب” في الكتابة حينما يخدم ذلك التأدب تزييف الحقيقة. فحين نشرح لصوصية مسؤول كبير، يفترض أن نقول أنه لص وليس "مخطئ" أو "فاشل" أو امثالها من الكلمات المخففة للجرم، والتي تمنح حصراً للمسؤولين والأثرياء من اللصوص. هذا التمييز ليس جزءاً من ثقافة إنسانية حقيقية، بل هو مبدأ لا أخلاقي ومرفوض، لكنه صار معتاداً.

تجنب السخرية

من هنا نستنتج أن على المثقف التوقف عن المشاركة في السخرية من الشعب في كل الأحوال، سواء كانت سخرية محقة أو غير محقة. فعندما يكون وضع الطفل بحال يدعو الآخرين للضحك منه، فإن الواجب يدعو أبيه للبكاء بدلاً من ذلك! إن الأب السليم يدرك أنه هو الملام الأول على حال طفله. الملام هو المثقف!
يتلهى الكثير من المثقفين بتبادل السخرية بالإنترنت من شعوبهم، دون أن يدركوا أثرها السام على النفسية الإجتماعية، خاصة إن كانت تلك السخرية في محلها، وتستند إلى حقيقة. لو كان طفلك كسيحاً فلن تقهقه أمامه من طريقة مشيه الأعرج، أليس كذلك؟ فلماذا نقهقه بأعلى صوتنا ونتمتع بالضحك من تخلف شعبنا الكسيح بدلاً من أن نبكي عليه؟ السخرية لا تدفع إلى الإصلاح كما يوهم أنفسهم المتمتعون بالضحك ، إنها لا تدفع خاصة إن كثرت، إلا إلى اليأس. وهناك جهات متفرغة لكتابة السخرية من الشعب كما تبين مراقبتنا، وكما كتبنا أكثر من مرة. أذكر واحدة منها انتشرت بشكل كبير عن فتاة جاهلة إسمها "جعاز" وجدت نفسها في مطار بريطاني تحمل جواز سفر دبلوماسي ولا تعرف الإنكليزية ولا حتى عربيتها مفهومة، ثم يأتي الشرطي الإنكليزي شديد الأدب .. الخ. وادعى ناشروا هذه التفاهة أن مجلة بريطانية (لم تذكر) قد نشرت "الخبر"، ومن الواضح جداً من التفاصيل أنه "خبر" ملفق تماماً وأن اية مجلة لم تنشره، وأنه تم تأليفه قصداً لإهانة الشعب العراقي بأقصى صورة ممكنة.
علينا أن نتذكر أن هناك صناعة سينما كاملة تقوم على السخرية من العرب في أميركا، وقد بين الباحث جاك شاهين أنه من بين أكثر من فلم بحثها، أشارت إلى العرب بشكل أو بآخر، فان بضعة أفلام لا تزيد عن اصابع اليد الواحدة، قدمتهم بشكل محايد أو إيجابي! وقال أيضاً أن إهانة العرب تحقن في الأفلام حقناً حتى عندما لا يكون لموضوع الفلم علاقة بالعرب. تماماً كما حقن رجال الدعاية الأفلام بالتدخين وماركات السيارات لحساب الشركات المعنية. إنهم لا يدفعون مئات الملايين من الدولارات ورما المليارات بلا سبب. ونحن نقدم لهم الخدمة المجانية بنشرها مقابل أن نضحك قليلاً، وكان أجدر بنا أن نبكي، فهذا الكسيح الذي يضحك منه الآخرون، هو طفلنا!

لوم الشعب والفكرة الخاطئة: "إصلاح أنفسنا أولاً"

يجب أيضاً التوقف عن لوم الشعب إلا بما هو محدود ومدروس ويتوقع منه نتائج إيجابية. إن تحميل الشعب مسؤوليته تختلف عن تقريعه وإلقاء اللوم عليه أو ما يسمى عادة بإلقاء اللوم "على الذات"، وتستخدم عادة من قبل من يسعون في حقيقتهم إلى ردع اللوم عن الإحتلال وجرائمه ومؤامرات الدول الخارجية، إضافة إلى عدد كبير من الذين اقتنعوا بالفكرة الخاطئة وصاروا ينشرونها، ويدعون إلى أن "نصلح ذاتنا قبل أن نتهم الآخرين".
قد يكون "المرض فينا" والجرح جرحنا كما يقولون، لكن هذا لا يمنع، حتى ونحن مرضى أن نوقف اليد الخارجية التي تصب الملح على الجروح فتزيد مرضنا وألمنا. إن تأجيل الإلتفات إلى تلك اليد "حتى نشفى من أمراضنا" منطق أعوج يهدف إلى حماية تلك اليد وإعطاءها الفرصة الكاملة لاستكمال مشروعها المدمر، بحجة ضرورة أن "نبدأ بأنفسنا أولاً" أو أن نصلح اخلاقنا أولاً. لكن الأخلاق نتاج الوضع الإجتماعي وظروف الحياة أيضاً، وليست نتاج الثقافة والوعي وحدهما. لا يوجد مريض يقبل أن تستمر يد بضربه على رأسه بحجة أنه مريض، وأن معاناته الأساسية في نفسه وليس بسبب اليد! أن أي من دعاة "أن نصلح ذاتنا أولاً" لن يفعل ذلك إن كان هو الضحية بل يبادر إلى ردع من يزيده عناءاً. الصحيح هو العمل على كل الجبهات والتركيز على الأسرع تأثيراً منها، وهو بلا شك استئصال العوامل الخارجية المساعدة على المرض، ثم الإلتفات إلى الطرق الطويلة المدى، كتحسين المستوى الأخلاقي والتعامل الإجتماعي واحترام القانون وتعود الديمقراطية وحرية الآخر..الخ.

المريض يمكن أن يشفى

نعم نحن أمام شعب مريض ومجتمع مريض بشكل خطير، لكن الفكرة الأساسية التي يجب ان نفهمها ونتذكرها أن "المريض يمكن أن يشفى" و "المريض من حقه أن يدافع عن نفسه" حتى وهو في مرضه، وإلا لحكم على كل مريض بالموت وكل شعب متأخر بالإنقراض وكل وطن محتل بالتحطم. كل الشعوب التي نراها اليوم صحيحة ومعافاة، كانت يوماً ما مريضة، وربما بشكل ميؤوس منه، فلا يوجد شعب كان طوال تاريخه قوياً ومنتصراً. السؤال هو كيف تمكن المريض من القيام، وما هي الخطوات في الإتجاه الصحيح، والتي لا يعجز المريض عن القيام بها؟ هذه هي مهمة المثقف وما ينتظره منه شعبه المريض، فهو يحتاج الرعاية أكثر من السليم.

هيلين كيلر

 لقد استمعت قبل فترة وجيزة إلى كتابين مقروءين لـ هيلين كيلر وهي تنقل لنا عالمها الغريب. وما أثار دهشتي البالغة، ليس فقط إنجاز ذلك الإنسان الذي فقد السمع والبصر وهو طفل صغير، وإنما من وقف معه وتمكن وفي القرن التاسع عشر، من تحويل هذا المعوق الميؤوس منه، إلى أديبة ومفكرة وموحية إنسانية هي هيلين كيلر. هل هناك أدعى لليأس من طفل لم يفقد بصره فقط، بل فقد معه سمعه أيضاً، وباتت أصابعه قناته الوحيدة حقاً للإتصال بالبشر؟ كيف يمكن حتى أن نتخيل أن نصل إلى هذا الإنسان في زنزانته المغلقة الشديدة الظلام، وألمغرقة في الصمت، لنوصل إليه ليس فقط صورة الحياة، بل ونتاج الإنسانية الأدبي والفلسفي والعلمي، إلى درجة ينجح فيها في النهاية في أن يقول كلمته ويدلو بدلوه! كيف نقارن أنفسنا ويأسنا، مع من وقف مع هذا الإنسان وقام بذلك الإنجاز الهائل؟ هكذا فعل والدي هيلين كيلر لها، وهي المعوقة حد اليأس، فكيف إذا كان طفلنا غير مصاب بأي عوق جسمي، وأنه قد أثبت يوماً أنه لا يقل قدرة على بناء الحضارات مثل أعظم الشعوب في العالم؟

صورة الأب ترشدنا

أن صورة الأب (أو الأم) والطفل ترشدنا إلى الكثير في كيف يجب التعامل مع شعبنا. وأهم شيء فيها أن الأب يرى نفسه في خدمة الطفل وليس الأب المنتفخ الذي يجب على الطفل تقديسه ويطالبه بالقيام بخدمته، كما يفعل المثقف العربي والعراقي غالباً. والنقطة الثانية أن الأب يحمل نفسه مسؤولية أي خلل يقع فيه الطفل، حتى لو كان الأخير معوقاً ومريضاً، لا ان يتسلى مع الآخرين بالسخرية من عوقه. فإن من واجب الأب أن يسعى قدر ما يستطيع لكي يواصل طفله الحياة باقل معاناة ممكنة، وأن يشتري له بأمواله التي هي أموال الطفل في النهاية، كل ما يساعده على أن يعيش حياةً مناسبة فيها من السعادة والقيمة الإنسانية أكبر قدر ممكن. لقد عاني هذا الشعب الويلات المتتالية، وفي كل مرة كان اعداءه يحصدون السنابل العالية من أبنائه المخلصين والواعين، فلا عجب أن ترك بيدره هزيلا "كعصف مأكول". إن أمامه معركة صعبة للبقاء على قيد الحياة وأياماً حالكة وتتكاثر المؤامرات عليه من كل جانب، وتنهال عليه الضربات من حيث لا يدري. دعونا لا نتركه يشعر باليتم أيضاً!

9
أبرئ نفسي من عار الصمت على سيدة النجاة

صائب خليل
4 تشرين الثاني 2013


"اليوم الذكرى الثالثة للهجوم على كنيسة النجاة" ، هكذا يقرأ العنوان. تحدث الخبر عن عشرة إرهابيين يرتدون ملابس خاصة بالشركات الامنية، وجميعهم عرب، قتل أثنان منهم وفجر ثلاثة انفسهم واعتقل الباقون بعد أن قتلوا 52 شخصاً وجرحوا 73 .

"وكان للحادثة اثر كبير في نفوس المسلمين والمسيحيين" يحدثنا الخبر، ويخبرنا عن "جيران مسلمين يتعاطفون مع المسيحيين"، وتحدث عن ضرورة "حماية الأقليات" وعن "النسيج الإجتماعي" وقال أن المجموعة "اتخذت رهائن وطالبت بالإفراج عن معتقلين من تنظيم القاعدة" وأن  هذا حدث لأول مرة في العراق، وبضعة كلمات عن "التكفيريين".

قائد الفرقة الذهبية للعمليات الخاصة اللواء فاضل جميل البرواري قال: "لبينا النداء! واقتحمنا انا ورفاقي كنيسة سيدة النجاة لتخليص أهلنا! واشقائنا المسيحيين الطيبين المسالمين، من المنفلتين الدمويين الجبناء! والذين فجروا أجسادهم العفنة بعد ان تمت إصابتهم من جنودنا”. وقال "يومها حملنا أرواحنا على كفنا لإنقاذ المسيحين نحن اخوتهم المسلمين نفتديهم بروحنا وأهلهم هم أهلنا ودمهم هو دمنا وعرضهم هو عرضنا". قال برواري أيضاً أنه مازال يذكر "صدى أصوات الذين فقدوا أحبائهم". وتحدث أيضاً عن شباب أرادوا "المخاطرة بحياتهم ومساعدة قوات الجيش لإنقاذ إخوتهم المسيحيين" وتساءل "هل هناك شيء أجمل من ان يكون الإنسان مخلصا للأرض التي أنجبته والناس الذين نشأ بينهم"

كل هذا كذب!

فـ "المنفلتين الدمويين الجبناء" فجروا "أجسادهم العفنة" براحتهم وراء الستائر (يا للعجب!)، بعد إكمال مهمتهم التي منحتموهم الساعات الطويلة لإكمالها، قبل أن "تلبوا النداء" لتخليص "اهلكم وأشقائكم المسيحيين الطيبين المسالمين"! هكذا قال الناجون من المذبحة، فهل نصدقك ونكذب الضحايا؟

كل هذا كذب وتلفيق صلف، فما يمر اليوم هو ثلاث سنين من الصمت المخزي الجبان عن حقائق الإرهاب التي كان ثمنها الدماء الزكية لمصلي كنيسة سيدة النجاة. الحقائق التي صعبت على النفوس الهزيلة، فتم طمرها في التراب مع أجساد الضحايا!
ما يمر اليوم هو ذكرى جوقة علامات الإستفهام التي لم تر النور، فظلت تحلق حول الكنيسة الضحية، تطارد الذين قتلوها بصمتهم وجبنهم وانعدام كرامتهم...كأنها ملائكة أو اشباح.... أو أرواح الضحايا!

"لماذا لم يتم الإقتحام إلا بعد ساعات طويلة من بدء دوي القنابل.....؟"
"لماذا كانت الطائرات الأمريكية تحلق فوق الكنيسة.....؟"
"لماذا فجر الإرهابيون أنفسهم وراء الستائر، بعيداً عن الضحايا، كما قال الشهود، إن كان هؤلاء تكفيريون يكرهون المسيحييين حقاً ويريدون قتل أكبر عدد منهم؟ هل يعقل أن يفجر إنتحاري نفسه بعيدا عن ضحيته....؟"
"هل رأى أي من الناجين انتحارياً يفجر نفسه...؟"
"لماذا كذب فراس الحمداني، ومن قال له ان يكتب قصته الكاذبة، بأن الضحايا ذبحت بالسيوف....؟"
"ما الذي يهدف من وجه الحمداني إلى قصة السيوف المزيفة تلك...؟"
"لماذا لم توجه الحكومة والأمن، أي سؤال للحمداني عن قصته الداعمة لتركيز الإرهاب الإسلامي....؟"
"لماذا الإرهابيون كلهم عرب إن كان الحقد منتشراً ضد المسيحيين لدى العراقيين المسلمين؟"
"لماذا يرتدي القتلة ملابس الشركات الأمنية...؟"
"لماذا لم تحقق القوات الأمنية في هويات من كانت تصادفهم عند تفريغ الكنيسة في عتمة الظلام والغبار كما شاهد الناس العملية مصورة؟ وما أدراها أن الإرهابيين لم يخرجوا مع الضحايا....؟"
"كيف يمكن ان يلقي الإرهابيون بالقنابل اليدوية لساعات على ضحايا تنبطح على أرض غرفة صغيرة، ويخرج منهم الكثير من الأحياء...؟"
"كيف يمكن لمن قيل أنه يطلب إطلاق رهائن، أن يبدأ فوراً بإطلاق النار على رؤوس ضحاياه.....؟ "
"إن لم يكن طلب الرهائن حقيقي، فلماذا لم يقتل الإرهابيون ضحياهم بنصف دقيقة ويهربوا قبل أن تصل الشرطة....؟"
"لماذا لم يحقق أحد في العراق فيما كشفته ثورة مصر من وثائق عن علاقة أمن مبارك الذي اعادت أميركا وإسرائيل هيكلته، بجرائم كنائس الأقباط في مصر وعلاقته أيضاً بجرائم العراق"
"لماذا لا يثير أي من هذه الأسئلة فضول أي صحفي أو سياسي عراقي، ولو بتساؤل عابر في مقالة أو مقابلة أو تقرير؟"
.....

برواري يعيد قتل الضحايا بتزوير التاريخ والكذب في مشاعره، فما يمر اليوم هو ذكرى تواطؤ الفرقة “الذهبية” مع الإرهاب الذي ضرب الكنيسة، وكان مدربوها من الأمريكان يقودونهم من طائرات الهيليكوبتر في الجو ويأمرونهم أن يتركوا "القاعدة" تكمل عملها، فيذعنون!
ما حدث لأول مرة في العالم وليس العراق فقط، أن تبقى القوات الأمنية تحاصر الرهائن ومختطفيهم لساعات طويلة منذ منتصف الليل وحتى اقترب الفجر، وهي تسمع دوي القنابل والرصاص وصراخ الرهائن في الداخل، وتمتنع عن الحركة، بحجة أن ليس لديهم خطة للإقتحام! في كل العالم، في كل الأفلام الوثائقية والروائية والإخبارية، نرى الشرطة تقتحم المكان بأسرع ما يمكن عند صوت أول رصاصة تعلن بدء المذبحة، لعلها تنقذ من تنقذ من الضحايا، إلا فرقتنا "الذهبية" المشبوهة، فإنها تمنح الإرهابيين الفرصة كاملة لإتمام عملهم!

كانوا بحاجة إلى مسرحية دموية طويلة لتكون مؤثرة وصادمة مثل 11 سبتمبر!... تعلموا كيف يدفعون الناس لترك ديارها من تجربتهم المعروفة لتهجير اليهود من العراق وطوروها كثيراً خلال أكثر من نصف قرن، دون أن تتغير أخلاقيتها الدنيئة. وإن كانوا حينها مستعدين لقتل البعض من ابناء دينهم، فهم مستعدون لقتل عدد أكبر بكثير من "الأغيار".

الشباب الذين عرضوا المخاطرة بحياتهم يا برواري، إنما فعلوا ذلك غضباً واشمئزازاً منك ومن فرقتك التي كانوا يرونها تستمع إلى القنابل والصراخ وتبقى تدور حول الكنيسة وتتظاهر بالإتصال والإنشغال لساعات طويلة.. حتى جاءت التعليمات من الجو، وفجأة، إذا بـ "الذهبية" تمتلك خطة كاملة للإقتحام وتقتحم!

لا تكذب علينا وعلى التاريخ، فلم تحمل روحك البائسة على كفك الملطخة بالدم يا فاضل جميل البرواري، وسيعرف العراقيون يوماً لحساب من كنت تعمل أنت وفرقتك النتنة! فما زال الناس واهالي الضحايا يذكرون الحادثة كما حدثت بكل تفاصيلها وليس كما ترويها مسرحيتك "الإنسانية" الكاذبة. ويوماً ما سيزول هذا الخوف والجبن المسيطر على البلاد وعلى العالم من الإرهابي الأكبر، وسيقول الشعب كلمته بشأنك وشأن أمثالك من الذين تدربوا على يد الناتو، للإرهاب وليس لمحاربة الإرهاب.

في هذه المناسبة، قال البطريرك ساكو ان”هناك مخططًا للشرق الأوسط الجديد لتقسيمه إلي ديانات وكانتونات طائفية وعرقية”. إنتبه يا ساكو لئلا تقتلك "القاعدة" التي قتلت الشهيد فرج رحو بعد أن قال مثل ما قلت، وقال أنه لن يغادر، وأهم من ذلك انه قال بلا مواربة: "أن الأمريكان هم وراء الإرهاب"! ولذلك قتلته "القاعدة"!

 النائب عماد يوخنا، اتهم السفارة الامريكية في العراق بالعمل على  افراغ البلاد من المسيحيين بتقديمها التسهيلات والاغراءات ومنحهم تأشيرات الفيزا الى امريكا، مبينا ان “استمرار سفر العوائل المسيحية بهذه الطريقة ينذر بخطر كبير ، وهو افراغ العراق من مكون مهم وهي حالة مرفوضة وظاهرة سلبية غير مقبولة”. هل احتج رئيس حكومتنا لدى سفارة "أصدقائه" على هذا الخطر الكبير الذي يهدد المسيحيين في العراق، أم أنه علاقات صداقته تأتي قبل وجود المسيحيين في أولويتها؟ هل تحدث "وزيرنا" زيباري مع رئيسه الحقيقي في السفارة عن تلك النقطة؟ هل تمزحون؟ أقسم بشرفي أنه يتآمر معه!

وقال يوخنا أن تفجيرات الإرهاب تستهدف جميع العراقيين، ودعا إلى “طي صفحة الماضي" و الى "مصالحة الحقيقية".

لم يصل النائب الشجاع إلى اتهام أميركا بالإرهاب مباشرة، لكن "القاعدة" قد لا تتسامح حتى مع هذا الكلام الخطير عن السفارة، فانتبه يا عماد! فقد تلحقك "القاعدة" بالشهيد رحو والشهيد دي ميلو والشهيد مبدر الدليمي، وأمثالهم كثر..من هؤلاء تختار "القاعدة" ضحاياها، ولهذا يصمت الجميع عن تفاصيل الجرائم، وعن حقيقة "القاعدة" وما أدراك ما "القاعدة"!

لا حاجة بنا يا أخي عماد إلى "المصالحة" فنحن لم نتخاصم يوماً. إنك لا تصدق بالتأكيد ان مجرمي كنيسة سيدة النجاة من منفذين ومخططين هم منا أو لهم اية علاقة بديننا أو مفاهيمنا أو أخلاقنا؟ إنهم ليسوا حتى من متطرفينا فتاريخنا المشترك الذي لم يخل من المتطرفين لم يكشف يوماً نماذج مماثلة ابداً ولا قريبة منها، فمن اين جاء هؤلاء القتلة، ومن أين تلقوا تعليماتهم؟ تلك الفضائع لا تجد مثيلاتها إلا في جرائم الكونترا في أميركا الوسطى في ثمانينات ريكان الرهيبة التي كانت السي آي أي تدعمها بنقود الفضائح لأنها رغم التعتيم والكذب من مواليها، كانت شديدة الإفتضاح بجرائمها المروعة مما جعل دعمها العلني مستحيل سياسياً. إن القتلة هم نفس القتلة الذين تجدهم في العراق ونفسهم في سوريا، وأساليبهم نسخة طبق الأصل عن تلك، ومدربوهم هم نفس الذين دربوا الكونترا في نيكاراغوا، وجاءوا للعراق في طلائع المجرمين الذين أرسلتهم أميركا لتمزيقه : نيكروبونتي وستيل وفريق عملهما الذي تدرب على الإجرام في أميركا الجنوبية والوسطى! جرائمهم هناك لها "بصمات القاعدة" كما يقولون الآن. و"الكونترا لم تكن سلفية، اليس كذلك؟" كما لاحظ احد قرائي في تعليق له على مقالة لي.

وأية "صفحة في الماضي" تريد أن نطويها يأ اخي النائب؟ فلم تختلج مشاعر عراقي مسلم يوما بأي إحساس تمييزي ضد المسيحيين، ولا يذكرونهم إلا بالخير. المعتوهين الذين قتلوا باعة الخمر كانوا سيقتلون المسلم أيضاً لو فعل ذلك، وليس هناك أية عقوبة قتل لمثل هذا في الإسلام، فمن أين أتى هؤلاء بتعاليمهم؟ ولماذا لم يظهر قبل الإحتلال أي معتوه من هؤلاء في العقود الماضية التي لم يخل فيها العراق من الخمر والملاهي؟

لايقلقنا تاريخنا الماضي، ولا نقاء مشاعرنا الحاضرة، لكن الذي يبعث الخجل والخوف هو الحاضر. هو تلك الأسئلة التي تطارد الملايين من ضمائرنا متوسلة، فلا يستجيب لها ....سوى شخص واحد!...  نعم أقولها بلا تواضع زائف:أنا فقط! وحدي من أعار تلك الأسئلة مداد قلمه نفساً يردع عنها الإختناق في قبرها الإعلامي الرهيب. بالتأكيد لست فرحاً بذلك الحال، بل يلفني الألم والأسف وشعور بالوحدة القاتلة والقلق الشديد على مصير عالم استهلك آخر رصاصة من ذخيرته الأخلاقية.

أكاد أيأس من صحوة هذا العالم على المصير الذي يسير إليه، وأريد هنا فقط أن أبرئ ذمتي يا "آدم" من دماءك، ودماء كل طفل جاء إلى الدنيا فوجد آباؤه يرتعدون أمام الوحش ويهتفون بـ "صداقته" وهم يقدمون أطفالهم له أضحيات ليرضى عنهم. جئتَ يا آدم ورفاقك هذه الدنيا، فوجدتم أن ما أعددناه لكم لم يكن يصلح لحياة كريمة، بل كان مسلخاً وماخوراً للبغاء والكذب، فغادرتم سريعاً غير آسفين. حسن فعلتم، فما حال الأحياء من أهلكم في هذه الدنيا بأفضل منكم في قبوركم. ها أنا أبرئ نفسي من دمائكم الطاهرة، دماء كل الأطفال والأبرياء من الكبار الذين سقطوا ويسقطون في كل مكان في العراق وسوريا وكل العالم. إبرئ نفسي من ضجيج الكذب المدوي ومن خزي الهرب من الأسئلة. أبرئ نفسي من تزوير تقارير الجريمة، ومن عار الصمت الذي يلف هذا المكان...ومن مصير الصامتين في كل زمان!



10
حكومتنا تجوع شعبها وتضاعف دعمها للأردن

صائب خليل
30 تشرين الثاني 2012

نشرت اليونسكو قبل أيام بياناً بمناسبة يوم الطفل العالمي تدعو فيه إلى ضرورة "إتخاذ إجراءات عاجلة من أجل أطفال العراق الأكثر حرمانا." وبينت أن هناك "طفل واحد من كل ثلاثة أطفال في العراق – أي حوالي 5.3 مليون طفل -  محروم من العديد من حقوقهم الأساسية" في الصحة و التعليم والمياه والصرف الصحي وغيرها.(1)
وفي مكان آخر، تفاجأ كتلة المواطن في مجلس النواب بعدم درج التخصيص المالي لمنحة الطلبة الإبتدائية في موازنة 2013 رغم التصويت ومصادقة رئاسة الجمهورية عليها، والتي تهدف لتقليل التسرب من المدارس.(2)
وطبيعي فأن حكومتنا ليس لديها المبالغ اللازمة لـ "الإجراءات العاجلة" الضرورية التي يطالب بها اليونسكو لأطفال العراق، فهذه الأمور يترك تنفيذها لعقود الدفع الآجل، إن أقرت! ولا كذلك لما يخصصه القانون للطلبة الفقراء، لكن حكومتنا تملك دائماً قدرة جاهزة، ليس فقط لإقامة مؤتمرات القمة بملياري دولار، والمؤتمرات الأخرى التي لا نعرف كلفها، وأنما أن تدفع بسخاء غير مفهوم، لدعم حكومات دول أخرى أكثر ثراءاً منها، وبشكل مستمر، ومتزايد!

كانت حكومتنا تدفع كل شهر للأردن بشكل دعم نفطي، والله يعلم لماذا، حوالي 6 مليون دولار، أي حوالي 70 مليون دولار في العام. ثم زادت كرمها مرة ونصف في غفلة من الزمن، إلى 15 الف برميل بدلاً من 10، فصادر "الدعم أكثر من 100 مليون دولار في العام. ويبدو أن هذا الكرم غير مفهوم، كان قليلاً، فقرر العراق، على لسان سفيره في الأردن، مضاعفة الكمية مرتين وثلث لتصل إلى 35 الف برميل في اليوم، يعني سيكون الدعم أكثر من 230 مليون دولار في العام!
وهذا أيضاً لا يكفي كما يبدو لعرض كرمنا، فاقترح المالكي ووافق مجلس الوزراء على "منح الشعب الاردني 100 ألف برميل نفط (مجاناً!) لمساعدته في اجتياز الحالة الصعبة التي يمر بها".(3)

وكلمة "شعب" هنا أضيفت للتظليل المتعمد للشعب العراقي. فالدعم منذ بدأ، كان موجهاً للحكومة، لكي تبقى وتدعم ميزانيتها ولصوصها على السواء، ولم يحس الشعب الأردني بأي فرق، لأن الحكومة الأردنية لم تزد دعم الأسعار، وهي الآن بصدد رفع كل الدعم عن الوقود. وتساوي قيمة هذه المنحة الأخيرة ما يزيد على العشرة ملايين دولار مرة واحدة، وقدم الإتحاد الأوروبي الذي تربطه بالأردن اتفاقيات شراكة تفضيلية 25 مليون يورو(4) أما مصر فاوقفت تصدير الغاز للأردن لحاجتها إليه ، وقال وزير البترول المصري "أن الدولتين تفهمتا هذا الأمر"!(5)
يبدو أن أحداً لم يحاول أن يشرح "الأمر" في العراق للأردن، لعلهم "يتفهمون" أيضاً.

لقد كتبنا العديد من المقالات على مدى السنوات الماضية ، وبينا أن "المساعدة" العراقية لحكومة الأردن بالنفط، قضية مشبوهة وغير طبيعية وأنها "جزية" إجبارية وليست مساعدة. وبينا في مقالة قبل هذه أن حصة المواطن الأردني من الدخل القومي أكبر من حصة العراقي الذي "تتبرع" حكومته له، وبنيته التحتية أفضل بما لا يقاس ومدارسه وجامعاته افضل بما لا يقاس ايضاً، وأن هذا "التبرع" لا يفسره إلا تخاذل لضغوط أو فساد. وكان أملنا أن نثير في الحكومة بقية إحساس، أو بالشعب بقية احتجاج يغير الحال المائل، لكننا كنا مخطئين في آمالنا. وبدلاً من إلغاء تلك الإتفاقية المخجلة، قامت حكومة المالكي بسلسلة من زيادات لنسبة الدعم للبرميل الواحد ولعدد البراميل بلغت ثلاث مرات ونصف. فقال السفير العراقي في عمان جواد هادي عباس في مؤتمر صحفي أن "العراق سيرفع حجم إمداداته النفطية للأردن بأسعار تفضيلية لتصل الى 35 ألف برميل يوميا بدلا من 10 آلاف برميل"!(6)

نتذكر عندما تحدث رئيس الوزراء وقال أنه ينقصنا 6 إلاف مدرسة! وأن الحاجة الى المدارس تزداد بسرعة أكبر من بنائها وأن الحكومة غير قادرة على دفع تكاليفها!
ونتذكر قبلها حين قال علي الدباغ أن كثرة الأيتام والأرامل في العراق فوق طاقة الدولة على دعمهم، وحث الهيئات الدولية أن تقوم بالمهمة!
ونتذكر مشروع تغذية الطفل، بكوب حليب وتفاحة، والذي قال وزير التربية أنه ألغاه لعدم إمكان توفير المخصصات اللازمة له...!
ونتذكر أخيراً رئيس الوزراء المتألم لأن شركاءه منعوه من أن "يبني المساكن للفقراء ويعطيها لهم مجاناً"! ونتذكر السنيد، الذي وصلت به "الغيرة" أن هدد بالإستقالة إن لم يتم التوقيع على مشروع "البنية التحتية" الذي يخدم الفقراء. ومشروع الفقراء لم يكن سوى صفحة واحدة كتبت في نصف ساعة، وكان بالتنفيذ بالآجل، اي بالقروض. فنقود النفط محجوزة لبنايات مساكن النواب والمؤتمرات الدولية وطائرات الـ "إف 16" التي تدفع أجورها بلا تأخير، وللسرقات، واخيراً هي محجوزة لدعم ثابت لحكومة الأردن، كما أن هناك دائماً إحتياطي نقدي جاهز كما يبدو لـ "صولات" الكرم المفاجئة التي يقترحها المالكي والتي تتفق عليها كل الكتل التي لم تتفق يوماً على شيء!

أما لماذا تقوم الحكومة العراقية بدعم الحكومة الأردنية فيفسرها سفيرنا في الأردن كما يلي:
"العراق منذ سنوات وهو يمد الأردن بالنفط بأسعار تفضيلية وسيستمر في ذلك لأن العلاقة الطيبة بين الشعبين الشقيقين تسمو فوق كل اعتبارات".
"أن الأردن كان وما يزال له مواقف مشرفة مع العراق وشعبه وخاصة أبناءه المتواجدين على الأراضي الأردنية وتزويده بالنفط هو شيء قليل مقارنة بما يقدمه الأردن والعلاقات بين البلدين‎".
"العراق وشعبه يقدمون للمزارع الأردني الشكر الموصول لما يزوده به من إنتاج زراعي ذي جودة عالية".
"المزارع الأردني يعاني الكثير بسبب الأوضاع في سورية وقد عملنا بجد من أجل تفعيل إجراءات الترانزيت لتسهيل مرور الشاحنات والبرادات الأردنية الى الدول المجاورة"

لنتذكر معاً تلك "المواقف المشرفة"...

1- حين طلب العراق من الأردن شطب بعض الديون المستحقة، أسوة بالمجتمع الدولي"، رفضت الأردن أي شطب.
2- إبتز الأردن العراق في تعويضات الكويت، رغم أنه كان شريكا في الجريمة، وبلغت حصة الاردن من برنامج التعويضات البيئية 160 مليون دولار وهي الاعلى مقارنة بدول المنطقة التي حكم لها بالحصول على التعويضات! ويمكنكم تخيل كيف يمكن أن يحدث "التدمير البيئي" للأردن نتيجة احتلال الكويت، وكيف يحصل على اعلى تعويض!
3- ضيقت الأردن على رجال الأعمال العراقيين بحجج أمنية واضطرتهم للمغادرة خارج الأردن، حسب ما قال السفير العراقي السابق في عمان، سعد الحياني.
4- يتذكر العراقيون المعاملة في الحدود وفي المطار قصصاً مؤلمة لم تقتصر على المواطنين العاديين واللاجئين، بل تم حتى احتجاز برلمانيين في مطار الأردن.
5- شرحت صحيفة واشنطن بوست كيف تقوم شرطة الحدود الاردنية برد مئات المركبات العراقية يومياً على أعقابها من نقطة حدود الكرمة ، ومن دون تقديم أية إيضاحات وشملت تلك المعاملة ممثلي منظمات المجتمع المدني وحتى دبلوماسيي السفارة العراقية.
6- على خلفية الممارسات الاستفزازية والطائفية من قبل الجانب الاردني، دعا مجلس محافظة ميسان الى منع سفر أعضاء المجلس ومسؤولي المحافظة الى الاردن.
7- ألغى الأردن جوائز المسرح لفوز العراق بها.
8- حين تم اعدام صدام قام مجلس النواب الأردني بقراءة سورة الفاتحة وتأبين له في افتتاح إحدى جلسات البرلمان.
9- أقامت عوائل انتحاريين إردنيين قتلوا عراقيين بتكريمهم، مثل الانتحاري الذي فجر نفسه بين المواطنين في مدينة الحلة و اوقع 118 قتيلا  هو أردني (رائد منصور البنا) ، وأقامت عائلته حفلاً تلقت فيه التهاني ضمن أعراس عديدة قد أقيمت من قبل في مدينتي السلط والزرقاء.
10- حين احتجت الحكومة العراقية على هذا التصرف، غضبت الحكومة الأردنية لما اعتبرته إهانة لهم.
11- رفض الأردن الحديث عن اية اموال مهربة من قبل اعضاء النظام السابق والتي قدرت بمليارات عديدة من مصادر مختلفة.
12- وقفت الحكومة الأردنية  بتصلب شديد تجاه الأموال العراقية المجمدة، وهو ما لم تفعله أية حكومة أخرى.
13- يستغل الأردن وضعه التجاري المتميز لترويج البضاعة الإسرائيلية في العراق تحت غطاء أردني وعمولات تحصل عليها المملكة، فاحتلت صادرات المملكة الى العراق المرتبة الاولى عربيا خلال عام 2009 حصل الأردن من خلالها على ما يتجاوز 700 مليون دولار.
14- يطالب الأردن بأكثر من مليار دولار مثلت في التقدير الأردني الفروقات بين ما كان يصل الأردن من نفط عراقي وما يصدره الأردن من سلع وبضائع للعراق خلال السنوات الماضية. علماً أن النفط كان يعطى نصفه مجاناً، ونصفه الآخر مقابل بضائع وخدمات، ولأكثر من عقد من السنوات العجاف بين الحربين، والتي انعشت الإقتصاد الأردني وتركت العراق خراباً! ويطالبون العراق اليوم بديون عنها!
15- قام الاردن باحتظان بنات صدام والعديد من الشخصيات الصدامية، وتكريمهم وصار مصدر المؤامرات الأول على العراق،
16- احتضن كل لص عراقي استطاع أن يضرب ضربته من جياع هذا الشعب ويهرب إليه، ويقال أن لديه الآن مليون عراقي من اللصوص المليونيرية الآن!
17- الضغط على رجال الأعمال العراقيين من قبل المخابرات الأردنية وإجبارهم للعمل معهم.
18- مركز أنطلاق المؤامرات التي تحوكها القائمة العراقية على العراق ومركز اجتماعاتها وامتدادها الجغرافي ومقر خميس خنجر وأياد علاوي الرئيسي.
19- تحتفل الأردن سنوياً بإحياء ذكرى إعدام صدام حسين بفعاليات تمتد لأسبوع وتتباهى بأنها الأكبر في الدول العربية.(7)
20 - ... (كل من زار الأردن من الشيعة العراقيين لديه قصة تمييز ومعاملة سيئة، اترك هذا المكان لها...).

لندع إذن أكاذيب السفير جواد هادي عباس الدبلوماسية ونسأل عن السبب الحقيقي في الدعم.
التبرير السياسي الوحيد الذي اعرفه هو أن الحكومة العراقية تخشى من سقوط الحكومة الأردنية ووصول الإخوان المسلمين والقاعدة إلى الحكم في الأردن، ولنناقش مدى مصداقية هذه الفرضية وسلامة دور العراق فيها.

أولاً، إن كان هناك احتمال وصول "متطرفين" إسلاميين إلى السلطة في الأردن، فالأجدر بإسرائيل وأميركا أن تدعم حكومته العميلة لهما كما فعلت مع حكومة البحرين. فبالنسبة للعراق لا يختلف الأمر بالدرجة التي بالنسبة إليهما.  
ومن الأجدر ايضاً أن تقوم حكومة الاردن بدعم نفسها وتعمل على عدم كل ما من شأنه حمايتها من السقوط بيد الأخوان والسلفيين، وهي تفعل العكس تماماً، بدعمها لمؤامراتهم للوصول إلى الحكم في سورياً! فسقوط سوريا يناقض مصالح الأردن الإقتصادية، بدليل الحالة التي هو فيها الآن، ويتسبب بمشكلة سياسية كبيرة للحكومة. فلماذا إذن تقوم حكومة الأردن بتحطيم نفسها من أجل دعم المشاريع الأمريكية الإسرائيلية في سوريا، ويكون العراق مسؤولاً عن دفع تكاليفها؟ وما معنى استمرار حكومة الأردن في هذا الطريق؟ معناه أن اميركا وإسرائيل أعطتها ضمانات كافية أنه في حالة سقوط الأسد فأنها لن تتأثر بالأمر! إذن حكومة الملك لا تواجه الخطر، ولا معنى لدعم العراق لها بأموال شعبه!
أما إن أرادت أميركا وإسرائيل خداع حكومة الأردن وفضلتا حكومة إخوان، قادرة على تجييش المجانين بالطائفية لضرب إيران، كما تفعل حكومة مرسي، ففي هذه الحالة، ليس هناك أية فرصة للحكومة الأردنية في النجاة، فهي قد اسلمت كل مقالديها لأميركا وإسرائيل! وبالتالي لا معنى للدعم العراقي لها. وفي كل الأحوال، اليس من الأجدر بالعراق إن كان قلقاً من جوار إخواني أو متطرف، ان يدعم حكومة الأسد بكل قوة لمنع هؤلاء من سوريا، والذين يسمون كتائبهم باسم صدام، وأعلنوا بصراحة أن دور حكومة المالكي سيأتي بعد سوريا؟ هل أعطت اميركا ضمانات مشابهة للمالكي؟ ممكن جداً!

إذن لا تفسر قصة منع الأخوان دعم العراق للأردن، ولا يبقى لتفسيره سوى الضغط الأمريكي أو الإسرائيلي، وهو ذات الضغط الذي وضع على صدام حسين حين كان الشعب العراقي يتضور جوعاً في التسعينات، وقبله من اجل أن يبقى في الحكم!

إذا كان هذا هو موقف الحكومة، فأين إذن الأحزاب "الوطنية" و الديمقراطية ، وما هو موقفهم من هذا القرار؟ أين البرلمان؟ هل وافق أصلا على هذه الإتفاقية؟ بل هل سأله أحد؟ وإن كان قد وافق على 10000 برميل فهل يحق للحكومة مدها إلى 15 ثم إلى 35 الف، بدون موافقته؟ لكن هل لأحد في البرلمان "خبزة" في هذا ليهتم به؟

أين الأحزاب الإسلامية "المؤمنة"، التي تقر بسرقة أموال الشعب وتحويلها للآخرين بوقاحة متزايدة وبلا خجل؟
لقد اقترحها المالكي وقبل بها مجلس الوزراء فكيف جرى التصويت؟ هل وافق الجميع أم كان هناك أصوات شريفة أحتجت على هدر أموال الشعب؟
هل يقبل الدين الإسلامي بهذا الظلم وهذا السلب للقمة الفقير؟ إن لم يقبل فكيف يكون القرار دستورياً، والدستور نص بعدم شرعية أي قرار يتنافى مع الدين الإسلامي؟ أم أن الدين الإسلامي لم يحرم سوى شرب الخمور والسافرات؟

وأين الشيعة الذين احتجوا على تهميشهم ونهب ثرواتهم من قبل البعث "السني" كما يقول البعض، وهم يرون ثروتهم وأموال فقراء البصرة وميسان والحلة تقدم على طبق من فضة إلى سنة الأردن، الذين طالما أساءوا معاملتهم؟ لماذا يسكتون على حكومتهم وهي تميز عليهم السنة الأردنيين الذين يسألون المسافر في الحدود إن كان شيعياً أم سنياً ليتعاملوا معه بتمييز.

بل أين القوميين المتعصبين الكرد ليعترضوا على تبذير العرب لثروة هي ثروتهم أيضاً؟
لقد رفض محمود عثمان تخصيص مليوني دولار لإقامة مؤتمر دولي للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية، باعتبار أن "الاقربون أولى بالمعروف" وأن "العراقيون يموتون من الفقر والعوز" ويضيف "لانمانع ان نساعد الناس ولكن قبلها علينا ان نساعد اهلنا وشعبنا العراقي المحروم"! ويقول بحق "لا تخدمنا سياسة الركض وراء الفلسطينيين واليمنيين والسودانيين والسوريين "لكنه يعبر الأردن، ذي الحكومة العميلة لإسرائيل، ببراعة بهلوان مدرب! (8) فيبدو أن عملاء إسرائيل من العرب هم "أقرب الأقربون"! هذا الرجل محسوب على بقايا اليسار!

هل في حكومة الأردن صفة تبرر "تفضيلنا" لها ودعمها دون بقية العرب مثلاً، سوى أنها أقرب الحكومات العربية إلى إسرائيل؟ أن دعم حكومة الأردن ليس سوى دعم غير مباشر وإجباري لعملاء إسرائيل، إجبر عليه صدام بعد خسارته الحرب، ويجبر عليه المالكي ايضاً، من "أصدقائه" الذين وقع معهم معاهدة "إستراتيجية"، يبدو أن جزءاً منها تجويع شعبه ليطعم الشبعانين من الأردنيين. هذه هي خطة "أصدقاء المالكي" لـ "إعمار" العراق!

 وأين الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً بشعارات "العراق أولاً" ؟ ألم نقل أن أصحابها يعنون دائماً: إسرائيل أولاً؟ ألم تبدأ هذه الحملة المشبوهة من عميل إسرائيل مثال الآلوسي؟ أين صوتهم من هذا الذي يجعل العراق آخراً؟

إنه أمر خطير، لكن لا تتوهموا أن الأمر سيقف عند هذا الحد. إستمعوا إلى بقية ما قاله السفير:
أن "تشييد خط التابلاين الى ميناء العقبة هو مصلحة للبلدين الشقيقين، حيث سيتمكن العراق من تصدير نفطه الى الأسواق الخارجية وتزويد الأردن بكميات إضافية تصل الى 125 ألف برميل يوميا‎".
وكأن هذا السفير المنافق يقول أن العراق محاصر الآن ينتظر "التابلاين" الأردني ليتمكن من تصدير نفطه إلى الأسواق الخارجية! الحكومة تجاهر بكل صلافة بأنها تهدف إلى إيصال النفط المدعوم للأردن إلى 125 الف برميل في اليوم! إنها تخطط لدعم سيقارب المليار دولار في العام إلى الحكومة العميلة لإسرائيل!
أمريكا ببساطة تحمّل العراق المنهك، بعض أحمال مؤامراتها المكلفة التي لا تنتهي في العالم، تحمله بعض دعم عملائها. فهي تدفع للأردن مساعدات إقتصادية بقيمة 360 مليون دولار في العام، ويدفع العراق الآن بحدود 100 مليون (بفرض أن الأردن دفع فعلاً ثمن النفط المخفض) ، وستصبح بعد الرفع إلى 35 الف، بحدود 230 مليون في العام! وطبيعي إن لم ندفعها نحن فستضطر أميركا لدفعها كلها، اي أننا في الحقيقة ندفع هذه الجزية لأميركا! وعندما ترتفع الكمية إلى 125 الف ستكون الجزية مليار دولار في العام!

لقد سلخت في الماضي جلد عادل عبد المهدي لأنه تراجع عن اعتراض دستوري كان مصراً عليه رغم توسلات الآخرين، لمجرد أن قال له ديك تشيني ذلك. كتبت عنه مقالة "متى يرفض عادل عبد المهدي ومتى يقبل؟" فضحت فيها عدم احترام النفس، والإستقتال من أجل الطموح إلى السلطة الذي يكشفه هذا العمل، واعتبرته رجلاً خطراً على العراق، يمكن أن يفعل أي شيء يطلب منه من أجل السلطة، واشرت لذلك مراراً في مقالات تالية. لكني أكتشف اليوم اني ظلمت الرجل بكل هذا التركيز. فالفرق بينه وبين الآخرين ليس أخلاقياً، وإنما فقط أن قلة حذره كشفته. فما يحدث اليوم لا يختلف قيد شعرة عن تصرف عادل عبد المهدي!
ما الذي يمكن أن يجعل الحكومة المتباكية من الفقر، تقبل بدعم نفطي، ثم بزيادة دعمها مرة تلو مرة، لينتفع من يشتمها صباح مساء ويتهمها بالعمالة ويمارس ضد مذهبها التمييز؟ زيارة "سعادة السفير" و "إقتراحه" مساعدة "جارتكم الأردن" التي تحتاج إلى (المزيد من) الوقود! من في هذه الشلة المتدافعة لنيل رضا "سعادة السفير" سوف يقول له "لا"؟ أنني أعتذر لك يا عبد المهدي، ليس لأن عملك كان شريفاً، وإنما لأن التركيز صار عليك وحدك بدون وجه حق!

وماذا عن بقية حكومات العملاء العرب؟ لماذا كرمنا للأردن فقط؟ فالمال السائب يجمع الذباب. بالفعل جاء السنيورة وحاول ثم قال حينها "العراق مستعد لتزويدنا بالنفط باسعار تفضيلية!" وأنه "لمس وجود استعداد حقيقي" من رئيس الوزراء العراقي لاعطاء لبنان معاملة تفضيلة في اسعار النفط! (9) ولم لا، فما دام الشعب صامتاً، فأن كرم حكومتنا لا يجب أن يستثني عميلاً لإسرائيل! لكننا كتبنا حينها، وربما أسهمت كتابتنا وجهود أخرى في إلغاء هذا "الإستعداد الحقيقي" القبيح، وعودة أحد أوسخ عملاء إسرائيل في تاريخ لبنان، إلى بلده خائباً. كذلك أحبطت تحركات مصرية مماثلة لاحقاً، حيث كان العراق يعرض "النفط المخفض مقابل السفراء"، والذي كتبنا عنه بسخرية.

لقد ثار المصريون على خط الغاز، الذي صار رمزاً لإذلالهم، وقطعوه عن إسرائيل، وها قد قطعوه قبل ايام عن الأردن، التي "تفهمت" الوضع المصري، لكنها لا "تتفهم" الوضع العراقي، وهل من غرابة مادام أهله لا يفهمونه؟ لقد فجر أبطال مصر خط مذلتهم، وإنني أتطلع إلى اليوم الذي يتحطم فيه مشروع التابلاين هذا وكل مشروع لمص دماء البلد وتوجيهها إلى إسرائيل وعملائها، وأن يفتضح أمام التاريخ كل من يسهم في هذا التدمير المنهجي للبلاد وتوريطها في وحل الخندق الإسرائيلي. لقد قالوا قديماً أن وقاحة الحكومة تتناسب مع تساهل الشعب، وهذا دليل آخر على حكمة القول!

عندما قالت "الشرق الأوسط" أن العراق بصدد تقديم دعم الى سوريا، نفت الحكومة العراقية الخبر بسرعة البرق! فسوريا من المغضوب عليهم، وخارج خندق إسرائيل، ومساعدتها "تغضب الرب"! وقال حسن السنيد "لايمكن للحكومة الإقدام على خطوة مماثلة في حين يسعى العراق للحصول على مساعدات مالية من دول العالم لبناء بنيته الإقتصادية من جديد". مؤكداً أن "الحكومة العراقية لا يمكن أن تقدم مساعدات للأنظمة القمعية في العالم بضمنها النظام السوري"! فهل توقف العراق عن السعي للإقتراض؟ هل أن الحكومة الأردنية، حكومة ديمقراطية من وجهة نظر الحكومة العراقية؟ ألم يصبح الأردن أحد دول مجلس التعاون الخليجي؟ فلماذا لا يتكفلون بحكومته وهي أقرب لهم وهم أكثر أموالا بما لا يقاس من العراق وشعوبهم مترفة وشعب العراق معدم؟ إنني أتوقع لحسن السنيد أن يرتفع نجمه في السنين القادمة!

حقيقة الأمر أن ما يطالب به الشعب الأردني أولاً ، تغيير سياسي وعدم التبعية للسياسة الغربية وصندوق النقد الدولي(10) فهل يريد المالكي أن يدفع ثمن تثبيت تبعية الأردن للسياسة الغربية؟ ويرى الأردنيون أن الغرب يراهن على النظام لحماية اسرائيل،(11) فهل هذا من مهمة العراق؟ وتضرب النقابات وتريد الحكومة الأردنية رفع أسعار المحروقات (12) ، فإذا رفعت الحكومة الدعم عن المحروقات، فكيف سيصل للشعب؟
هل هناك حلول أخرى مطروحة تستطيع حكومة الأردن أن تحل بها مشكلتها غير سلب أموال العراقين المعدمين؟ إيران عرضت على الأردن مقايضة النفط الذي تحتاجه الأردن مقابل "منتجات محلية" و "خدمات السياحة الدينية"(13)
العرض الإيراني "لاقى أصداء واسعة لدى الأوساط السياسية والإعلامية، في وقت تتعالى فيه الأصوات التي تطالب الحكومة الأردنية بالتوجه صوب ايران للحصول على المساعدات الاقتصادية والدعم السياسي في مواجهة أخطار مشروع الوطن البديل والكونفدرالية." وهذا موقف جميل ومنطقي، تحل به الأردن مشكلتها وتتخلص إيران من بعض الحصار عنها. لكن لماذا يقبلون وقد عرض المالكي عرضه السخي، وكأنه مكلف بتخريب العرض الإيراني؟ إنه أمر محير حقاً!

لكن دعونا نسأل أولاً، ما الذي سبب الازمة المفاجئة للأردن؟ وهل حقاً أنها بحاجة عاجلة للمساعدة؟
عن سبب الأزمة يخبرنا سفيرنا وهو هنا صادق عن علاقة الأزمة بـ "الأوضاع في سورية"... وإن عدلنا عبارة السفير لنرى الحقيقة، فهي بسبب "مشاركة حكومة الأردن في المؤامرة على سوريا". فقد كانت هذه الحكومة تعلم نتائج ذلك عليها، وقد أجلت دخولها المؤامرة وأعفيت منها طويلاً، لكن الأوامر صدرت، فنفذ الملك! السؤال هنا فيما إذا كانت مثل هذه الحكومة تستحق المساعدة، وفيما إذا كان مشرفاً مساعدة حكومة عميلة للإستمرار في المشاركة في المؤامرة على سوريا؟

السؤال الثاني: هل حقاً أن حكومة الاردن والشعب الأردني في ازمة مالية شديدة فعلاً وبحاجة للمساعدة؟ وهل الحكومة بحاجة للدعم المالي أم تغيير السياسة الإقتصادية من أجل توزيع أكثر عدلاً وأقل استهلاكاً؟
يقول جورج حدادين، أن الأردن يستهلك ثلاثة اضعاف ما يصدّر، وأن هدف هذه السياسة هو اسقاط الاردن وتحويل مجتمعه الى مجتمع مستهلك، وأن المشكلة عميقة ولن تحل حتى بخفض الأسعار!!(14) إذن فكل ما يتم اقتطاعه من العراقي، يذهب عبثاً في حلول ترقيعية مؤقتة! إذن لا سبب الأزمة مشرف يدعو للمساعدة، ولا تلك المساعدة مفيدة في تجاوز الأزمة!

لنسأل سؤالاً ثالثاً هو الأهم: ما هو الفقير بالمقياس الأردني؟ فالفقر شيء نسبي، فمن يعتبر في بعض البلدن الثرية فقيراً، قد يعتبر في الفقيرة غنياً، فهل أن "فقر" الشعب الاردني مقارنة بالشعب العراقي فقير؟ نقرأ في الخبر التالي أن الحكومة الأردنية "ستعوض الأسر التي لا يتجاوز دخلها السنوي 14 الف دولار بمبلغ 592 دولارا سنويا." (15)

أي ان العائلة التي يستلم معيلها 1170 دولار في الشهر، هي التي تريد الحكومة الأردنية رفع راتبها إلى حوالي 1760 دولار في الشهر! أي أن حكومة المالكي تسحب من حق هذا الطفل العراقي الذي يعيش على الأزبال بدلاً من أن يكون في المدرسة، لكي تستطيع الحكومة الأردنية ان ترفع الدخل الشهري للعائلة الأردنية "الفقيرة" من 1170 إلى 1760 !! هذا بفرض أن ما ستحصل عليه من العراق سيذهب فعلاً إلى هؤلاء "الفقراء"!
هؤلاء ليسوا فقراء بل هم ميسوري الحال بالقياس العراقي!

 

الفرد الفقير الأردني الذي اثار حمية المالكي لمساعدته يحصل على 8 دولار في اليوم، أما الفقير العراقي فلا يحصل على نصف دولار في اليوم الواحد! ورغم ذلك يسحب المالكي من فقير العراق "لدعم" "الشعب" الأردني!
لنذكر المالكي ببعض الأخبار... فالأبراج العاجية تضعف الذاكرة:

"آلاف يعيشون في مقالب قمامة ببغداد" ‎ - YouTube (16)

"إلغاء البطاقة التموينية في العراق بتوصية من صندوق النقد الدولي" (17)

"600 ألف أسرة تعيلها أرامل، نسبة كبيرة منهن عاطلات من العمل، وهي النسبة الأعلى بين الدول العربية." (18)

وكيف يعيلوها وهن عاطلات عن العمل؟... بسيطة....

"في العراق.. أمهات يبعن بناتهن لامتهان البغاء" (19)

"بنات العراق ومحنة الدعارة في سورية" (20)

"العمل النيابية: عصابات منظمة تدير عمل الأطفال المشردين في شوارع العراق" (21)

أين تذهب حصة هؤلاء من نفط بلادهم؟ الحكومة بحاجة إليها لدعم حكومات أخرى، وأيضا لكل نفخة فارغة تشعرهم بالأهمية وتزيل عنهم بعض الإحساس العميق بالدونية:
"العراق يعلن استعداده لاستضافة مؤتمر لرؤساء اركان الجيوش العربية في بغداد نهاية كانون الثاني المقبل" (22)

أعزائي المواطنين، سياسيكم لا يحسون بكم ولا يهمهم ألمكم ومستقبلكم أبداً، إنهم ببساطة لا يعتبرونكم بشراً!

الجو السائد في الحكومة والمعارضة هو الكذب والكلاوات وأن الأخلاق بين اعضائها قد وصلت حداً خطيراً لأستسهالهم خداع الشعب بتمثيليات من مثل مسرحيات المحتال حسن السنيد وغيره من المتباكين على فقراء العراق. وهذا يعني بدوره أن حتى هذه الأرقام الخطيرة المعلنة قد لا تمثل كل الحقيقة، فأرقام "الدعم" تتكشف كل يوم عن حجم أكبر جديد، وقد يكون الواقع والأرقام أسوأ بكثير، خاصة وأن الحكومة لم تقدم حتى الآن الحسابات النهائية لميزانياتها، فلا نعرف أين ذهبت ملياراتها لتلجأ إلى الإستدانة عندما تتذكر أن تبني شيئاً للناس.

ما لم توضح الحكومة وتكشف كل شيء أمام الناس وتبتعد عن الأكاذيب الإعلامية التي اعتاد عليها اعضاءها، فهي لا تستحق أية ثقة، ولاتؤتمن أبداً لإستدانة الـ 42 مليار التي تريدها بحجة "البنية التحتية" فكل هذه الإستدانة لن تكون للشعب بل فقط لتوريط العراق بديون صعبة جديدة، وأنها ستذهب كما ذهب غيرها من مليارات سابقة، إلى حيث لا يعلم إلا الله. إن من سيصوت على قانون البنية التحتية في مثل هذه الظروف وبعد كل ما كشف من حقائق، خائن للشعب وأجياله القادمة! لقد وصل الإستهتار بالشعب وآلامه وفقره ومستقبله، ان لم يعد يكتفي لصوص السياسة بنهبه لأنفسهم، بل يقومون بالتبرع بما يتبقى منه للغير! وليس هذا الإستهتار إلا بسبب تساهل الناس عن حقوقها وإلهائها بطائفيتها وقوميتها، وعدم التعامل بمبدأية واخلاقية واضحة ترفض الكذب والسرقة مهما كانت قومية صاحبها ومذهبه.

من الطبيعي أن تتحول الحكومة اللينة أمام الضغوط والإغراءات والإبتزاز، إلى حكومة عميلة بشكل رسمي مع الوقت والضغط، وتقذف بالبلد في أية ورطة في المستقبل استجابة لخطط اسيادها، كأن تثير حرباً أو صراعاً لحسابه ضد إيران، أو بتطبيع صداقة مع إسرائيل. ومن الواضح أن العمل جار بالفعل في توريط العراق تدريجياً نحو هذا الهدف، فالغالبية الساحقة من علاقاته الدولية القوية، ومن "يدعم" أكثر من العرب، هم في الخندق الإسرائيلي، كما أن حكومته تستجيب بخذلان لحرمانه من أية علاقة خارج هذا الخندق وتخريبها، ويمكننا تصور النتيجة بعد بضعة سنين من هذا "التقدم".

هذا حال حكومتنا، ولكن من الجانب الآخر لدينا حكومة كردستان الإبتزازية المليئة باللصوص والجشعين من اثرياء السياسة. والقائمة العراقية ليست سوى مجموعة مقززة، بين متآمر وذليل وعميل وأبله وكذاب، وتمثل أقصى الإنحطاط الذي وصلت إليه السياسة في العراق. ولم يبق فيها إلا ندرة بالحد الأدنى من الشرف، لا ندري لماذا بقيت. إنها القائمة المنتقاة للحكم من قبل الإحتلال، والإحتلال لا ينتقي إلا أشد من يجد سفالة لحكم بلدان احتلاله.
أما اليسار العراقي، فلا تسمع له صوتاً إلا حين تهاجم الحكومة مقراته أو تعتدي على النوادي أو تغضب إقطاعيي كردستان أو تزعج ممثلي السياسة النقدية الرأسمالية العالمية في البلاد!
وهذا كله لا يعني أن البديل القادم أفضل، فالمؤشرات تؤكد أن من يستعد لأخذ مكان القديم الفاسد، جهات ليبرالية جشعة تضع قبل الله والإنسان:"حرية السوق"! ذلك القاط والرباط الأنيق، مصاص الدماء والمنظم الذكي لمصادر الشرور المستدامة. له وحشية جلادي التعذيب، ويعمل بأقل ضجيج ممكن! إنه الجشع اللاأخلاقي المتعلم.
من ينتخب الشعب إذن؟ ليبحث كل عن شخص يثق به وفق ما قال وعمل وصوت في البرلمان، وليدع كل الوعود والكلام الفارغ ولباقة الحديث. ليبحث من الموجودين عمن كان واضحاً أكثر من غيره، وليراهن عليه. وليطالب البرلمان بقوة أن يزيل هذا الغموض المشين ويوفر قوائم بمن صوت على أي قرار، وليعتبر كل مطالب بسرية التصويت ، لص!

مازال قرار الـ 35 الف برميل لم ينفذ، بل أن وزارة النفط العراقية ليست على علم به حسبما وصلني، وتقديري أن الحكومة تحاول جس النبض أولاً، ورؤية رد فعل الشعب على القرار، فليريها الشعب رأيه في القرار، وليجبرها على التراجع وأن تحسب له حساباً كما حدث في قرارات سابقة أقل أهمية بكثير، فما قيمة السيارات المدرعة أمام هذا؟ ليعمل على منع خط التابلاين وأي تطوير للعلاقة مع الأردن ويراقب الخطط، فهناك مشاريع مناطق تجارة حرة هي مناطق حرة مع إسرائيل، وهناك مشاريع مصافي نفط (من العجيب أن لا تنشأ هذه المصافي في العراق نفسه!) وغيرها، كلها مخططة من أجل أن تقول الحكومة لكم غداً: أنظروا، لا نستطيع إلا التطبيع مع إسرائيل، فكل مصالحنا معها! مازال هناك مجال لإحباط هذه المؤامرة وهذا النزيف من المال لإسرائيل وعملائها. فليبرئ نفسه منها كل من لم يعلم بها أو لم يفهم حقائقها، من داخل الحكومة أو خارجها، ولكل أن يتخذ الموقف الذي يراه مناسباً، ويتحمل مسؤوليته.

(1) http://www.sautalomal.org/index.php/2012-05-17-15-34-42/11287--53-.htm
(2)http://www.almadapress.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=1954
(3) http://arabic.arabianbusiness.com/business/energy/2012/nov/27/277816/#.ULU2w4dLOSB
(4) http://arabic.arabianbusiness.com/society/politics-economics/2012/oct/12/261242/
(5) http://arabic.arabianbusiness.com/business/energy/2012/oct/17/261526
(6) http://www.faceiraq.com/inews.php?id=1133037
(7)  http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11082  
(8) http://qanon302.net/vb/showthread.php?p=85798#post85798
(9) http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/middle_east_news/newsid_7572000/7572715.stm
(10) http://www.alalam.ir/news/1393764
(11) http://www.alalam.ir/news/1400454  
(12) http://www.sautalomal.org/index.php/2010-04-10-11-40-48/11237-2012-11-18-21-20-19.html
(13) http://www.al-akhbar.com/node/172291
(14) http://www.alalam.ir/news/1393124
(15) http://arabic.arabianbusiness.com/business/energy/2012/nov/27/277816/#.ULU2w4dLOSB
(16) http://www.youtube.com/watch?v=xPNj5AIfC-k&feature=player_embedded
(17)  http://www.azzaman.com/?p=17365
(18) http://www.iraqicp.com/2010-11-22-05-28-38/27023-600----.html
(19) http://arabic.cnn.com/2009/entertainment/3/8/unspeakable.crime/index.html
(20) http://www.cham-post.com/news/1456.html
(21) http://www.alestiqama.com/news.php?cat=siasy&id=5043
(22) http://www.alforatnews.com/index.php?option=com_content&view=article&id=24400


11
أزمة البنك المركزي – إلى اين يقودنا الجمود العقائدي الليبرالي؟
صائب خليل
10 تشرين الثاني 2012

ارتبطت عبارة "الجمود العقائدي" في أذهان الناس بالإشتراكيين والشيوعيين، مقابل الليبراليين الذين يكال لهم في العادة الكثير من المديح على "التفتح" و "البراغماتية" و "الحداثة"، فهل هذا المديح في مكانه؟ يبدو أن هذا السؤال لم يطرح للمناقشة!
يتميز القائمون على الحكم في العراق وكذلك الغالبية في برلمانه، باعتناقهم بحماس فوق المعتاد، للرأسمالية والليبرالية الجديدة القائمة على حرية السوق، مبدأً أيديولوجياً. ولا يخفي قادة الحكومة وأحزابها التزامهم بحرية السوق كعقيدة دينية إقتصادية غير قابلة للمناقشة، رغم ادعائهم بالإيمان بـ "اقتصادنا" الذي ينتقد الإشتراكية والرأسمالية معاً، (1)
أما (حكومة وبرلمان) كردستان فتبدو كمعبد لتقديس حرية السوق، لا يكاد يسمع فيه أي صوت "ملحد"، رغم مشاركة الحزب "الشيوعي"(؟) الكردستاني في الحكم. ورغم أن رئيس العراق الكردي، عضو في "الإشتراكية الدولية"، فهو لم يستعمل عضويته فيها إلا لكيل المديح لجورج بوش ومصافحة القادة الإسرائيليين، ولا يقيس التقدم الإقتصادي في مدينة ما، إلا بعدد المليونيرية فيها، كما ينبه صديقنا الصحفي أمين يونس (2)

عندما تسمع الساسة العراقيون يتحدثون عن الإقتصاد، فكأنك تستمع إلى أعضاء الحزب الجمهوري الأمريكي، حيث تعد كلمة "إشتراكي" أو "إجتماعي" مسبة، و "حرية السوق" هدفاً سامياً، سياسياً وأخلاقياً، قبل أن يكون إقتصادي. كمثال على ذلك هذا عضو اللجنة الاقتصادية النائب سلمان الموسوي، منزعج من "القوانين الاقتصادية " العراقية لأنها "لا تخدم الاقتصاد الجديد، اقتصاد السوق". والموسوي هنا يرفع "إقتصاد السوق" إلى مرتبة الهدف الذي يجب "خدمته"، وليس الوسيلة إلى رفاه المجتمع، وهو يشكو أنه ما يزال هناك جهات تتمسك بالنظام "الاشتراكي الشمولي القديم" ولا تريد "التقدم" والعمل بنظام السوق. (3) ووصف أحد الكتاب في صحيفة "المؤتمر" الإتهامات الأخيرة التي وجهت إلى البنك المركزي، بأنها تستند إلى "فكر اشتراكي بالي" يضع الحدود والتعليمات على بيع الدولار، "بينما اساس عمل السوق الحر في العملة هو ان يبيع البنك المركزي الدولار بسعر السوق". (4)

أقدم هؤلاء كنماذج لإتجاه عام لشخوص لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة إقتصادية، لا الرأسمالية التي يقدسونها، ولا الإشتراكية التي يأنفون منها، ولا يعرفون عنها سوى أنها كانت من شعارات البعث، وأن ستالين كان يمثلها. هذا الكسل الذهني، او التبعية السلبية المستسلمة، دفعت هؤلاء إلى إعتناق الإنفتاح المنفلت بلا حدود، دون النظر إلى ما قد ينتج عنه من مخاطر وصفها خالد الخفاجي في مقالة "مكافحة الفقر ومعالجات التباين الطبقي"  (5) فكتب "الاقتصاد الحر يقوم على مبدأ عدم تدخل الدولة في الأسواق, وان هذا المبدأ يترك أعدادا هائلة من أفراد المجتمع تقع تحت طائلة نظام اقتصادي مفترس, يزداد فيه الغني غنى والفقير فقرا".

وقد كان من الضروري حتى لمن يؤمن بالإنفتاح وحرية السوق، أن يقوم أولاً بدراسة الأساليب المختلفة التي اتبعتها دول مختلفة لتطبيقه، بدلاً من الإنفتاح المنفلت، الذي تروج له الولايات المتحدة، وبالرغم من أننا ما نزال نعيش تداعيات الأزمة الكبيرة التي سببها هذا النظام على إقتصادات العالم، وبالرغم من ان أحداً لم يعد يتحدث عن هذا النظام إلا وأكد على الحاجة إلى تعديله بشكل اساسي. بل أن الدول التي تجهد في فرضه على الآخرين، تتهرب منه كلما وجدت لها فرصة لذلك، فتدعم الولايات المتحدة وأوروبا محاصيلها الزراعية وتدعم القطاع التكنولوجي وغيرها بطرق مختلفة، ومنعت أميركا دبي من شراء خدمات الموانئ الكبيرة، و منعت الصين من شراء شركات الاتصالات، لأنها "تضر بالأمن القومي" حسب تقديرها.
لقد كان هناك بدائل أنجح لهذا الإنفتاح، مثل الصيغة الصينية التي حققت نجاحات عظيمة تحت توجيه وقيادة الحكومة الصينية. وكذلك تجارب الرأسماليين المعتدلين في دول أوروبا الغربية، والتجارب الحديثة في أميركا الوسطى والجنوبية وما تحققه من نجاحات. ولقد أشار الأستاذ فؤاد الأمير في مقدمة كتابه "الموازنة المائية في العراق وأزمة المياه في العالم" إلى فشل التجربة النيولبرالية بالأخص دول العالم الثالث التي حاولت تطبيقها بدءا بشيلي, ثم النمور الاسيوية ودول اميركا اللاتينية مثل المكسيك والارجنتين والبرازيل و فنزويلا، و لم ينقذ هذه الدول الا مجيء حكومات اليسار، حاملة المفاهيم الاشتراكية.

يلجأ دعاة حرية السوق إلى المقارنة بين التقدم الذي أنجزته الدول الغربية التي التزمت بدرجة ما، بحرية السوق، والفشل وانهيار النظام الذي منيت به الدول التي اتجهت إلى الإقتصاد المخطط (الإشتراكي)، وتقديمها كبرهان على صحة مبدأ حرية السوق، وأن من يريد "التقدم" كما يقول الموسوي، فعليه أن يعتنق حرية السوق.
ويبين جومسكي خطأ ذلك الزعم في مناسبات عديدة، كما يشرح الإقتصادي فردريك ليست نفس الأمر، فيقول أن الدول المتقدمة تلجأ من خلال فرضها لـ "حرية السوق" إلى ما يلجأ إليه من يصعد إلى القمة ويحاول منع المتأخرين من منافسته بـ "ركل السلّم" الذي أوصله إلى تلك القمة، لكي يمنع الآخرين من الوصول إليها. ويقدم البروفسور ها جون جانك من جامعة كامبرج في كتابه "ركل السلّم"، الذي استوحى إسمه من مقولة ليست، تاريخ تطور البلدان المتقدمة، ليبين أن كل منها قد اعتمد على الحمائية العالية حين كان يحتاج إلى بناء صناعته واقتصاده، وسوف نعود مستقبلاً إلى هذا الكتاب القيم لترجمة بعض ما جاء فيه.

والحقيقة البسيطة هي أن "حرية السوق"، حتى إن نفذت بأمانة وبلا سرقات (على استحالة ذلك)، تترك البلد كله بشكل عام أكثر فقراً، ما لم يكن من أقوى البلدان في ساحة الصراع "الحر" المفتوحة.
فـ "حرية السوق" تعني أساساً إزالة للعوائق الكمركية والقانونية التي وضعتها الدول يوماً، أمام استيراد السلع الأجنبية، لتقديم بعض الحماية لسلعها الوطنية. وبالتالي فأن "حرية السوق" تخدم من الناحية الإقتصادية من يصدر سلعاً. فالدول المتقاربة القوة والشكل الإقتصادي، قد تتفق على أن يزيل كل طرف عوائقه أمام سلع الطرف الآخر، فتدخل سلع الأول سوق الثاني بسهولة لتنافس السلع الوطنية، مقابل أن تدخل سلع الثاني سوق الأول. ولاشك أن السلع الوطنية تخسر بعض سوقها في بلادها في كل من البلدين، لكن مقابل ذلك، تكسب سوقاً أخرى في البلد الآخر يعوضها عن خسارتها في سوقها وقد يزيد. ولكن ماذا لو لم يكن البلدان متقاربان في قوتهما وطبيعتهما الإقتصادية؟ سيستفيد أحدهما من تلك الإتفاقيات بأكثر مما يستفيد الآخر، ويخسر الآخر أكثر مما يخسر الأول من سوق. وبالتالي يخرج الأضعف بميزان تجاري مختل بالضرورة. ولذلك من الطبيعي أن يقاوم الثاني، حكومةً وصناعيين وتجاراً، في القطاعين العام والخاص، إجراءات "حرية السوق" لأنها ليست في صالحهم. ومن الطبيعي أيضاً أن يلجأ الطرف الأقوى إلى الضغوط بكل أنواعها، لإجبار الآخر على فتح أسواقه بالرغم من أن ذلك في غير صالحه. الطرف الأضعف في المعادلة يرفض "حرية السوق" ليس كمبدأ بالضرورة، بل ببساطة لأنها ليست في صالحه. ولو تبدل ميزان القوى، لوجدت الثاني يعتنق حرية السوق ويحاول فرضها على الأول الذي سيحاول مقاومتها قدر استطاعته. فـ "حرية السوق" تعتبر "تقدماً" عندما يكون اقتصادك وإنتاجك متفوقاً لأنك تستفيد منها. وتعتبر تراجعاً وخسارة في حالة العكس، بكل بساطة!

وقد لا يتردد الأقوى في استعمال حتى التهديدات العسكرية لفرض أفضليته. وكلما كان الفارق أكبر بين قوتي الإقتصادين ونوعهما، كانت خسائر سياسة "حرية السوق" اكبر للطرف الأضعف، أو الطرف الذي لا يعتمد تصدير البضائع اساساً لإقتصاده، وكان الإبتزاز الضروري لإجباره على إتباع تلك السياسة، أكبر وأشد عنفاً وسرية. فذهبت بريطانيا في القرن التاسع عشر إلى إجتياح عسكري للصين وتغيير حكومتها حين رفضت تلك فتح اسواقها للأفيون الذي يتاجر به الإنكليز، والذي كان يسبب لها كارثة إجتماعية وخيمة. أسقطت الحكومة ووضعت بريطانيا مكانها أخرى تقبل بذلك الإبتزاز!
ولو لاحظنا ما يجري في العالم اليوم لما رأينا الصورة مختلفة كثيراً عن هذا إلا ربما بالدرجة أو ببعض الرتوش. فلدينا في الخليج العربي حكومات تجهد في ضخ ثروتها النفطية بأكثر مما تحتاج بكثير، أما لحرب إقتصادية لصالح أميركا، أو لتحويلها إلى أسلحة لا مبرر لها إلا استخدامها للعدوان على من تسول له نفسه الخروج عن طاعة أميركا في المنطقة.
إن وضع حكومات عميلة تلتزم بمصلحة البلد الذي فرضها، بدلاً من مصلحة بلدها وشعبها، هي الطريقة الأكثر شيوعاً وفعالية لفتح الأسواق للدول الكبرى، ولذا تجد أن تلك الدول تبحث عن "الحثالات" في البلد الأضعف، (بينوشيت في شيلي، الشاه في إيران، نورييغا في بنما، سوهارتو في اندونيسيا، سوموزا في نيكاراغوا، صدام ثم علاوي في العراق، وغيرهم كثير)، لتضعهم على رأس الحكم، أو إبدال الحكومة بهم إن أمكن. أما الحكومات التي تصمد وتصر على العمل على مصلحة شعبها باستقلال عن إرادة القوي، فتتعرض إلى الإبتزازات والمقاطعة والتخريب، لكي تصبح كلفة استقلالها أكبر من كلفة فتح اسواقها، وعندها قد تقبل رغماً عنها بالإجراءات التي تؤذيها إقتصادياً.

إذن، لا يفترض بأية دولة نامية على وجه الخصوص أن تقبل بميكانيكية "حرية السوق" لأنها تقف بالضد من مصالحها بشكل تام ومباشر، وهي مصممة من قبل الدول المتقدمة لـ "ركل السلّم" الذي صعدت به هذه الدول، لمنع الآخرين من الصعود ومنافستها. ولا يفسر هذا الحماس لليبرالية الجديدة في الدول النامية إلا "الجمود العقائدي" المتصلب الذي يمنع أصحابه من رؤية الحقائق الواضحة التي تبين أن اليبرالية و "حرية السوق" لا تصلح لأية دولة نامية تهدف إلى بناء اقتصادها لأن ثرواتها سوف تسيل بطبيعة ميكانيكة السوق إلى خارجها، ولن يتاح لصناعتها وزراعتها أية فرصة للمنافسة والنمو بعد أن تفقد أسواقها الداخلية دون أن تكون قادرة على الوصول إلى الأسواق الخارجية، ولهذا السبب بالذات تسعى الدول الكبرى لفرض هذا النمط بالقوة والإبتزاز على الآخرين، كما فعلت حين اشترطته على العراق مقابل السماح بتخفيف ديونه التي كانت قد قدمتها لعميلها الدكتاتور السابق لضرب الشعب وتدمير البلاد.
ولا يبرر اعتناق بعض الساسة والإقتصاديين لهذا النمط علناً، رغم خطورته القصوى الواضحة على مستقبل البلاد إلا جهل شديد أو جمود عقائدي صلب يمنعهم من رؤية تلك الحقائق، إن افترضنا حسن النية. لكن أحداً في الإعلام لا يتحدث إلا عن الجمود العقائدي للشيوعيين واليساريين، ويربط الليبراليون وحرية السوق بـ "التفتح" و "الحداثة" اعتباطاً وبدون دليل. فنحن نغرق في إعلام هو جزء من المؤامرة على بلداننا، إعلام مهمته أن يدفع بالناس ليس فقط بالقبول بلا تفكير بأنظمة إقتصادية قد لا تصلح لبلادهم بلا تعديل، بل وبأنظمة إقتصادية تتناقض تماماً في طبيعتها مع عوامل اقتصادهم، حتى ضمن قوانين الإقتصاد الرأسمالي، وتصيبها بالخسارة الإقتصادية، إضافة إلى أضرارها الإجتماعية العامة الأخرى من تعظيم الفوارق الطبقية ونشر الفساد كبير الحجم والتبعية الإقتصادية وتسهيل امتصاص المحتوى النقدي وعدم الإستقرار والتعرض الشديد للأزمات المالية القادمة، ونتائجها الكارثية، وصولاً إلى إبقاء البلاد في حالة التخلف الشديد رغم الوفرة العظيمة لثرواتها، ولحين نضوب تلك الثروات وفوات الفرصة.

(1) http://www.youtube.com/watch?v=NwePWGKg9FI
 (2) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=67513
 (3) http://www.ipairaq.com/index.php?name=inner&t=economy&id=62268
 (4) http://www.almutmar.com/index.php?id=201215992
 (5) http://www.alestiqama.com/news.php?cat=ara&id=817


12
أزمة المركزي - هل قوة الدينار في صالحنا؟

صائب خليل
4 تشرين الثاني 2012

أوضحنا في الحلقة السابقة أننا لا نهتم بفحص أمانة سنان الشبيبي، ونرجو أن يترك ذلك للقضاء، بلا هجوم أو دفاع عن الشخص وأخلاقه، وتوجيه النقد أو التقييم لسياسته فقط. ما يهمنا أكثر هو نقد وتقييم النظام العام والقوانين التي يسير عليها البنك المركزي ضمن النظام الذي تركه بريمر ليكون وصياً على أموال العراق. فالنظام أهم من القائم على تنفيذه، والخطأ فيه يكلف أكثر، وحله أصعب وتأثيره أطول. ويقلقنا إن كانت الوصية (النظام المالي)على شاكلة الموصي (بريمر)، كما هو الحال في العادة، لأننا سنحصل على نظام لتهريب "واختفاء" المليارات، وهي أهم ظواهر فترة بريمر عدا ولادة وانتعاش الإرهاب، والألغام الكثيرة التي وضعت لإبقاء العراق مشلولاً ومحطماً، ومازالت تتكشف تدريجياً يوماً بعد يوم.
ومشكلة الشبيبي والبنك المركزي تتمثل بإتهامات برلمانية وحكومية للشبيبي وموظفين آخرين في قضايا مالية تتعلق بفساد مزادات العملة وغسل الأموال وغيرها. وقد هب الكثير للدفاع عن الشبيبي ومهاجمة المالكي (وكل من دعى إلى التحقيق في الموضوع!) مركزين على السمعة الجيدة لعائلة الشبيبي وعلى حقيقة الخلاف السابق بينه وبين المالكي، حين رفض الأول طلب الثاني بتسليف الحكومة 5 مليارات دولار في الماضي، وامتدحوا بحماس موقف الشبيبي الذي استطاع الحفاظ على الدينار "قوياً" برفضه لإقراض أو تدخل الحكومة.

مبدأ التغطية الكاملة للعملة

لقد لفت نظرنا أثناء المناقشة، العديد من الملاحظات التي تستحق الوقوف عندها ومنها أن البنك المركزي يعتمد "التغطية الكاملة" للعملة العراقية من أجل "إبقاءها قوية" و لكي "تحتفظ بثقة السوق"، كما يقول المدافعون عنها، بل أن البنك يعتمد تغطية هي أكبر بكثير من مجموع العملة، بنوعيها المطبوعة والمطروحة في السوق. فيتجاوز الاحتياطي الحالي لتغطية العملة المرتين للعملة العراقية المتداولة، وقد يصل الى مرتين للعملة العراقية الكلية المطبوعة من قبل البنك المركزي، (هناك بحدود 5 تريليون دينار لم يتم انزالها الى السوق وهي مخزونة لدى البنك المركزي).

ولا ندري إن كان هذا خياراً شخصياً للدكتور سنان أم أنه ضمن قانون بريمر الإجباري على سنان والعراق. والسبب في تساؤلي هذا هو أن هذا الإجراء بحد ذاته، قد يكون خطأ فادحاً ومكلفاً وليس إنجازاً يحسب للدكتور سنان، كما يقول المدافعون عن سياسته.

لقد اكتشف المصرفيون منذ عدة قرون وقبل آدم سميث، أن لا ضرورة للتغطية الكاملة للمبالغ المودعة في البنك (والعملة نوع من الإيداع حيث أنها تمثل صكاً بقيمة كمية من الذهب أو ما يعادله)، وأن التغطية الكاملة تبذير لأموال يمكن استخدامها بشكل مربح للبنك. وبالتالي فأن هذا الإجراء، الذي اعتبره المدافعون عن سنان الشبيبي أحد أكبر فضائله، ليس بالضرورة كذلك لأنه يضع الأموال العراقية تحت أخطار وتكاليف الرأسمالية بشكل كامل، دون أن يسمح له أن يستفيد من أدواتها.

ويمكن شرح هذه النقطة بلمحة بسيطة عن الموضوع، وهي ليست عسيرة على الفهم رغم تداعياتها المدهشة وغير المتوقعة. فالنظام المصرفي الرأسمالي، ومنذ القدم، يعمل بالشكل التالي مبدئيا، لكي يثرى من اموال الآخرين، كما وصفه أحد كبار الناقدين:
لنفترض أنك وضعت مبلغاً في حسابك الجاري في المصرف، وهو ما يعني أن المصرف ملزم بتسليمك النقود (أو تحويلها لمن تشاء) في أي وقت. وفي هذه الحالة من المعتاد أن لا يدفع المصرف لك ارباحاً عنها، أو يدفع نسبة قليلة للغاية.
ولأنك قد تطلب نقودك في أي وقت، والبنك ملزم بتقديمها لك بلا تأخير،  فهو قادر على الإستفادة من تلك النقود لأنه لا يستطيع التصرف بها. وبهذا يحتفظ البنك بالنقود كلها، أي يقوم بـ "تغطية" كاملة لها. هذا ما تقوله النظرية بشكلها الحسابي البسيط.

لكن المصرفيين سرعان ما اكتشفوا أن هذا "الصحيح النظري" لا يحدث في الحياة العملية. فما يحدث عادة أنك قد تطلب جزء من المبلغ في اي وقت، ثم تستعمله وتعيد مبلغاً آخر، وهكذا تتداور المبالغ في البنك. ومن النادر أن يطلب المودع، المبلغ كله مرة واحدة. أي أن البنك يكتشف أنه يستطيع التصرف بجزء من المبلغ دون أن يؤثر عليك ودون أن تكتشف أنت ذلك. فإذا كان البنك قد قدّر من خلال تجربته على سبيل المثال، أنك لا تسحب أكثر من نصف المبلغ المودع في أي وقت، فسوف يستنتج أنه يمتلك حرية التصرف بالنصف الآخر، دون التأثير على إلتزامه معك. ولنقل أنه يترك إحتياطاً، فيحتفظ في خزائنه بـ 60% من المبلغ (في مثل هذه الحالة نقول أن البنك يمتلك تغطية مقدارها 60%) ويتصرف بالـ 40% الباقية، أي يستطيع أن يقوم بتقديمها كقرض بفائدة إلى جهات أخرى مثلاً.، وهكذا يحصل البنك على أرباح من أموالك نفسها حتى حين لا يكون لديه أموال خاصة به.

والآن، إذا كان هذا الأمر صحيحاً في تعامل البنك مع شخص واحد او جهة واحدة مودعة، فهو صحيح أكثر بكثير عندما يتعامل مع الكثير من المودعين. حيث يصبح إحتمال سحب كل هؤلاء المودعين أموالهم في نفس الوقت، أمر غير محتمل إلا في حالة فضيحة مقلقة في ذلك البنك. أما في الحالة الإعتيادية التي تعمل المصارف على أساسها، فإن كمية السحب تمثل نسبة قليلة من المبلغ، وبالتالي يمكن زيادة نسبة المبلغ الذي يستطيع البنك أن يتصرف به من أموال المودعين.
وإذا قام البنك بالإتفاق مع غيره  من البنوك على أن يدعموا بعضهم البعض عند الحاجة، فأن تلك البنوك تستطيع التصرف بنسبة أكبر من المال المودع دون أن تخشى الإحراج، لأن احتمال أن يسحب كل المودعين في جميع تلك البنوك نسبة كبيرة من أموالهم في نفس الوقت، هو احتمال ضعيف جداً، ولا يحدث إلا في حالة حدوث إنهيار إقتصادي يسبب رعباً لدى المودعين يجعلهم يفضلون الإحتفاظ بأموالهم في منازلهم، فيسارعون إلى سحبها من البنوك.
الأمر لا يقف عند هذا الحد. فهذا المبلغ "المسحوب"، لا يسحب عادة بالفعل، بل يبقى في البنك نفسه (أو غيره) باسم شخص آخر، وبالتالي يمكن الإستفادة من نسبة مماثلة منه مرة ثانية كقرض بأرباح. وإن حسبنا النظام المصرفي كمجموع، نجد أن المال يكاد يكون ثابتاً بكليته داخل النظام المصرفي، وأن (من يقوم بإدارة) النظام يحصل على أرباح مستمرة من عدة طبقات من المقترضين، حيث يكون قد أقرض نفس المال عدة مرات، وهذا ممكن مادام المقترض سوف يترك معظم المال فعلياً داخل النظام المصرفي لمعظم الوقت!

في حالة البنك الذي يحتفظ بغطاء كامل لودائعه، فأنه يتخلى عن الإستفادة من هذه الميكانيكية لتنمية رأسماله، ونفس الشيء ينطبق على من يقوم بتغطية كاملة للعملة كما يفعل البنك المركزي العراقي حالياً. وبما أنه ليس هناك أي مبرر للتنازل عن تلك الأرباح المتضاعفة، فأن المرء يشم رائحة احتمال احتيال في الأمر.
صحيح أن البنك المركزي له خصوصيته في هذا الأمر وليس لديه الحرية لتحديد سياسته وفق الأرباح وحدها، لكن القاعدة تبقى صحيحة بشكل كبير.
لقد كانت المصارف الحكومية يوما، تغطي عملاتها بشكل كامل، إن استطاعت، لتبقيها "قوية". لكن هذا النموذج لم يعد سائداً. وبدلاً من ذلك تسعى الحكومات اليوم إلى تخفيض عملاتها والضغط على المنافسين لإبقاء عملاتهم "قوية"، كما سنأتي على ذلك.
يقول البنك، ويؤكد المدافعون عن سياسته أن البنك المركزي العراقي يفعل ذلك من أجل كسب ثقة كاملة بقوة العملة. وهذا صحيح نظرياً، ولكن هل تستحق تلك "الثقة" الكلفة الكبيرة التي يتحملها العراق من أجلها؟ كلفة تجميد مبالغ هائلة والتخلي عن أرباحها؟

إن ما نراه لدى الدول الأخرى لا يشير إلى مثل ذلك الحماس للعملة "القوية". ورغم أن لكل دولة خصوصيتها، إلا أن على رجال المال والإقتصاد أن يبرهنوا أن العراق يختلف عن تلك الدول، وأن ذلك الإختلاف يبرر هذا "الدعم الكامل".
لننظر كيف يتصرف الآخرون:
حرب مالية عالمية من أجل خفض العملات وإجبار الآخرين على رفع عملاتهم

في نوفمبر 2010، تفشل الولايات المتحدة في الوصول إلى اتفاق داخل دول الـ "جي 20" (الدول العظمى العشرون) لمطالبة الصين برفع عملتها اليوان بسرعة أكبر، وفي نفس الوقت تستمر الولايات المتحدة في تخفيض الدولار بشكل متعمد من خلال طبع مئات المليارات من العملة متجاهلة إحتجاجات المانيا واليابان والصين والبرازيل وتايلاند وجنوب أفريقيا، حيث يقدم هذا الخفض أفضلية تجارية بالنسبة لها. (1)

وأشار محللون إلى التدهور السريع باتجاه "الحرب المالية" خلال فترة انعقاد مؤتمر صندوق النقد الدولي في تشرين الأول 2010 ، وتلعب الولايات المتحدة دور "موقد الحرب" بامتياز، حيث تشجع بشكل متعمد طرح الدولار للبيع في أسواق النقد الدولية بغرض رفع قيمة تبادل عملات منافسيها وخفض الدولار بما يرفع سعر صادراتهم ويخفض سعر صادراتها إلى أسواقهم. وتضغط الولايات المتحدة على الصين لزيادة سرعة رفع قيمة عملتها، متهمة الصين بالتباطؤ والتأثير السلبي على الإقتصاد العالمي. وحذرت الصين من ان سرعة اكبر في رفع عملتها سوف يؤثر سلباً على صادراتها بتداعيات سلبية على استقرارها الإجتماعي. (2)
ومن جهة أخرى تسود المنافسين مخاوف كبيرة بسبب طبع البنك الفدرالي الأمريكي لكميات كبيرة من النقود مما يؤدي إلى تخفيض قيمة الدولار مما يسيء إلى قدرة الدول الأخرى على المنافسة (3)

واتهم وزير المالية البرازيلي جيدو مانتيكا  الولايات المتحدة باللجوء إلى "الحمائية" وهو ما يهدد بنتائج وخيمة على بقية العالم. وقال أن الهدف الحقيقي لتلك الإجراءات هو لخفض قيمة الدولار وزيادة الصادرات الأمريكية. وأشار مانتيكا إلى قرار بنك اليابان للتدخل في أسواق المال وضخ ما يعادل 128 مليار دولار من عملته الين، مقلداً ما تقوم به الولايات المتحدة، والذي يهدف إلى خفض قيمة العملة، كعلامة على التوتر الدولي المالي، وقال أنها "حرب عملات".
ومن نتائج تخفيض الدولار على الصين إضافة إلى التأثير على صادراتها، تقليل قيمة الـ 1200 مليار دولار التي تحتفظ بها بكين.
وقال ريتشارد فيشر، العضو غير المصوت في لجنة السوق المفتوح الفدرالية: "لا أحد لديه أية خبرة لقيادة الإقتصاد إلى مرفأ الأمان من المكان الذي وجدنا أنفسنا فيه(4)

ويكتب أحد المحللين: أن الولايات المتحدة تتبع سياسة إنفرادية في تأمين مصالحها على حساب الآخرين بإغراق السوق بالدولارات وخفض قيمة عملتها، والعمل بنفس الوقت على منع الآخرين من القيام بنفس الإجراءات، رغم احتجاجاتهم. وهذا ما عبر عنه قول وزير الخزانة الامريكي جون كونالي عام 1971 عندما قال بتهكم: "إنها عملتنا وتلك مشكلتهم".
ويرى سورجيت بهالا، الإقتصادي الهندي ومؤلف كتاب "خفض العملة طريقاً إلى الرفاه" ان تخفيض اليوان كان السبب الرئيسي للصعود الإقتصادي السريع للصين، وأيضاً الأزمة الإقتصادية الآسيوية عام 1997 وا الإزمة الإقتصادية العالمية عام 2008. (5)

إذن فدول العالم الرأسمالي لا تسعى إلى "تقوية" عملاتها ورفع قيمتها بل العكس، إلى الخفض، وهي تتوقع من ذلك أرباحاً بشكل أفضليات تجارية وأخرى مباشرة. ولو أن في قوة العملة فائدة لسعت الدول إلى تقوية عملاتها، وليس خفضها ومطالبة منافسيها بتقوية عملاتهم. فعندما تخفض دولة ما قيمة عملتها فأنها تكسب بشكل مباشر قيمة كل التخفيض مضروباً في كمية العملات التي تمتلكها الدول الأخرى. لكل هذه الأسباب نجد أن الدول تتجه إلى التخفيض وليس إلى تقوية عملاتها، فلماذا يفخر العراق بأنه يحتفظ بعملته "قوية"؟

صحيح أن الثقة بالعملة لها قيمتها أيضاً، لكن لكل شيء ثمنه، وعندما يتجاوز ثمنه قيمة فائدته يصبح سلبياً. فلو كلفت مقاولاً أن يبني لك بيتاً، ثم طلب منك خمسة أضعاف قيمة المنزل المعتاد في السوق فسوف تستغرب وترفض. ولو قال لك أنه منزل مبني ليتحمل زلازلين في نفس الوقت، لقلت له أن  احتمال أن يضرب المدينة زلزالان في نفس الوقت، إحتمال قليل جداً، وأنك لا تحتاج لمثل هذه الضمانة المكلفة، رغم أنها صحيحة نظرياً. وبنفس الطريقة يمكن أن نقول بأن التغطية الكاملة مرفوضة لأنها تعطي ضمانات مكلفة لإحتمالات ضئيلة الحدوث. ويجب أن نذكر هنا أن "الزلازل" المقصودة في المثال لا تعني الهزات المالية التي حدثت وستحدث بلا شك في المستقبل جراء سيطرة البنوك ورأس المال على ثروات العالم في نظام رأسمالي وحشي كما حدث عام 2008. فعن هذا لا تحمي قوة العملة، وارتباطها بالدولار ثروة البلاد، بل العكس أقرب إلى الواقع كما أثبتت التجارب، فقد دفعت الإقتصادات الأكثر اندماجاً في السوق المالية العالمية الثمن الأكبر في تلك الهزة.

إذن القضية ليست بهذه البساطة، وقوة العملة ليست نعمة بالضرورة، وإن كانت كذلك فقد لا تستحق ثمنها، ومن الممكن جدا أن نكون من الخاسرين حين نقوي عملتنا، حتى أن إحدى محطات الإعلام البريطانية أطلقت حملة جدل تمتد لسنة كاملة بعنوان: "لنخفض القيمة وإلا..." تحاول فيها الإجابة عن السؤال: "من هم الرابحون ومن هم الخاسرون حين يكون الباوند قوياً، وهل تستفيد انكلترا من قوته؟"(6)

نؤكد هنا أن العراق ليس أميركا ولا الصين، وقد لا ينطبق عليه ما ينطبق عليهما، فهذه الدول تصدر البضاعة المتنافسة في الأسعار وهذا لا ينطبق على العراق وبالتالي قد لا يستفيد العراق مما يستفيد منه هؤلاء بالضرورة.
لكن العراق يستطيع، إن كان حراً فيما يريد، أن يصدّر نفطه أو جزءاً منه، بعملته، وبالتالي فسوف ينطبق عليه ما ينطبق على باقي المصدرين، وأهم من ذلك أنه لن يكون بحاجة إلى الإحتفاظ بالإحتياطي المالي لدعم عملته، حيث يكون نفطه هو الخزين "المالي" الذي يضمن قوة العملة النسبية. فما يريده المتعاملون معه، أن يتأكدوا أنهم إن قبلوا عملتهم مقابل بضاعتهم، فأن تلك العملة ستكون قادرة على شراء بضاعة بقيمة مقابلة، وهذا ما يلعبه "الإحتياطي" النقدي أو إحتياطي الذهب في الحالة المعتادة. ولكن في حالة دولة غنية بثروة هامة غير كاسدة، فأن تلك الثروة تمثل ذلك الإحتياطي بتقديمها الضمان المطلوب لمن يحتفظ بعملات هذا البلد.
والحقيقة أن فكرة بيع النفط أو جزء منه بعملة البلد ليست غريبة أبداً. فيروي الأستاذ موسى فرج أن وزير الإقتصاد العراقي المعروف في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم قد فعل ذلك بنجاح وتمكن بفضله من رفع قيمة الدينار المنهار ليبلغ 3,33 دولار.(7)
ولكن نقول ثانية: هل نريد عملة قوية؟ ليس بالضرورة، وبالتأكيد ليس بأي ثمن. الطبيعي هو أن يحسب العراق القيمة التي تعطيه أكبر مردود ممكن في مجمل سياسته الإقتصادية والمالية، وأن حساب تلك القيمة، والطريقة المثلى للوصول إليها، من واجب الإقتصاديين ورجال المال والسياسة العراقيين.

ما الذي نفعله الآن؟ نبيع النفط بالدولار، فإذا خفضت اميركا الدولار فان إيرادات العراق من النفط تنخفض بنفس نسبة التخفيض الأمريكي له! وكثرما تكون للإدارات الأمريكية أسباب سياسية عدوانية لتخفيض قيمة مردودات النفط، لتحطيم اقتصادات بعض الدول المناوئة لها، كما فعلت مع الإتحاد السوفيتي السابق ومع عراق صدام حسين وكذلك مع فنزويلا شافيز، وتفعل اليوم مع إيران. وفي كل مثل هذه الحالات سيتعين على العراق أن يدفع بعض ثمن هذه السياسة العدوانية، مع غيره من البلدان المصدرة للنفط.
ومن ناحية أخرى فأن معظم الإحتياطي العراقي يتمثل بالعملات الأجنبية وليس بالذهب، ومعظم الإحتياطي من العملات هو بالدولار الأمريكي، واي خفض للدولار سيتسبب في خفض قيمة ذلك الإحتياطي بنفس النسبة ايضاً!
أي أن الحكومات العراقية، وبسبب سياستها المالية الحالية، ستكون تحت رحمة الحكومات الأمريكية والبنك الفدرالي الأمريكي من مختلف الجهات، وسيدفع العراق، وبشكل أكبر من غيره من البلدان، ثمن ترليونات الدولارات الأمريكية التي تطبع بشكل متتابع ويتوقع أن يستمر ذلك في المستقبل مرات عديدة في ظروف المديونية الأمريكية الهائلة والمتزايدة، وكلفة السياسة العدوانية العسكرية الأمريكية على العالم، ولسيطرة رجال المال والقطاع الخاص على النظام النقدي الأمريكي، وإمكانهم تحقيق أرباح لا حدود لها من خلال تلك المناورات في قيمة الدولار، أو ما يسمى بـ "حرب العملات" التي يديرونها ضد العالم. إنها سرقة منظمة من قبل أميركا لثروات وجهود البشر في كل مكان في العالم، والعراق يضع نفسه بهذه السياسة بالتأكيد في مقدمتها. ولو أحتججنا على تلك السرقة بخفض الدولار لقالوا لنا كما قالوا للعالم: "إنها عملتنا وتلك مشكلتكم"!.

يبقى القرار فيما إذا كانت قوة العملة وتغطيتها الكبيرة في صالح العراق أم لا، وإلى اي مدى، بحاجة إلى دراسة معمقة ومبررات واضحة لانتهاج السياسة النقدية العراقية المختارة ومتى تصبح نسبة التغطية أكثر كلفة من فائدتها. لكن من شبه المستحيل أن يكون التطرف الأقصى المتمثل بـ "التغطية الكاملة" ، الذي يمثل أقصى كلفة، (دع عنك التغطية المضاعفة الغريبة التي ينتهجها المصرف المركزي!) هو الخيار الأفضل، وبالتالي فأن الكثير من الأموال العراقية تذهب هدراً لشراء "بيوت تقاوم زلزالين في نفس الوقت" في "منطقة الفيضانات" وخارج نطاق الزلازل.

فإذا تبين من تلك الدراسة أن العراق خسر بالفعل من جراء تلك الإجراءات، وهو ما يبدو أمراً مؤكداً هنا، فأن هذا سبب إضافي للتحقيق مع الشبيبي وبقية مسؤولي البنك المركزي، فليس هناك في هذا الأمر المعروف إحتمال "خطأ"، والمرجح أن تكون مثل هذه "الأخطاء" في مثل هذه الأمور، "أخطاء" متعمدة، أما بسبب الفساد أو التآمر على البلد.
أما إن كان قانون البنك يلزم موظفيه بانتهاج تلك السياسة الخاسرة فيتوجب تغييره فوراً مهما أرسلت اميركا من "مستشارين للأمن القومي" (كما فعلت فعلاً)، وأما بالنسبة للشبيبي وموظفيه فقد كان عليهم أن يحذروا الحكومة من ذلك القانون ويقترحوا تغييره على البرلمان والحكومة، وعلى امتناعهم عن ذلك يجب أن يحاسبوا أيضاً!

(1) http://www.wsws.org/articles/2010/nov2010/econ-n13.shtml
 (2) http://www.wsws.org/articles/2010/oct2010/econ-o18.shtml
 (3) http://www.wsws.org/articles/2012/sep2012/usfe-s24.shtml
 (4) http://www.wsws.org/articles/2012/sep2012/usfe-s24.shtml
 (5) http://www.informationclearinghouse.info/article32653.htm
 (6) http://www.opendemocracy.net/ourkingdom/oliver-huitson/devalue-or-else-new-ourkingdom-debate-on-british-currency
(7) http://69.162.102.83/inews.php?id=1051792

13
نفطكم لنا ولعملائنا، وإن أردتم شيئاً فاقترضوا

صائب خليل

24 تشرين الأول 2012

أعلن العراق صفقة أسلحة جديدة بمليارات جديدة مع أميركا! العراق الذي لم يستلم طائرة واحدة بعد ليعرف إن كانت تناسبه، وإن كانت العقود جاءت بما كان يأمله، يريد المزيد والمزيد من الـ (F-16)!

وهنا لا مفر من أن نقارن مندهشين بين سلاسة وسهولة انسياب المليارات من الخزينة عندما يتعلق الأمر بشراء الأسلحة الأمريكية، أو "مساعدات" للأردن، أو الفساد، أو ابتزاز لكردستان، والعسر والصراع السياسي والتشنج والفشل عندما يتعلق الأمر بتخصيص ملياري دولار فقط لبناء مدارس العراق كله.

ما الذي حصل عليه طلاب العراق وفقراءه من كل هذه الضجة؟ ورقة سمّيت بمشروع "قانون البنى التحتية"، كتبت على ما يبدو خلال نصف ساعة، وبقيت تناقش لمدة اربع سنوات ولم تطور ولم تقر.
وما الذي حصلت عليه شركات الأسلحة الأمريكية؟ مليارات تتدفق تلو المليارات دون أي تأخير أو اعتراض.
وإذا كان البعض المخاصم للحكومة قد فتح فمه حول شراء الأسلحة لخوفه أن تستعمل ضده، فأن الإبتزاز الثاني، "مساعدة" الأردن النفطية مازالت تنعم بالصمت التام! فهي التابو الذي لا يستطيع أي سياسي في الحكومة أو البرلمان أن يقترب منه أو يقول عنه شيئاً! وماذا يقولون؟ فكل ما يمكن أن يقال هو : إننا مجبرون على تنفيذ البرنامج الأمريكي! ومثل هذا القول لا يطعنهم فقط، وإنما يثير تساؤلات كثيرة أخرى عن البرنامج الأمريكي وعلاقتهم بهذا البرنامج. هذا الصمت المخزي لا يشمل الحكومة فقط، بل كل أطراف المعارضة وكل من له علاقة بالسياسة العراقية بلا استثناء.

قبل ايام وكنت أفكر بأي تبرير ممكن لفضيحة الأردن، والإنسانية الزائفة فيه. أفليس من المنطق البسيط أن تؤسس بنيتك التحتية أولاً لتصل إلى مثل ما لدى جارك أو أعلى قبل أن يصحو ضميرك عليه؟ أن تبني مدارسك ليحصل أطفالك على مثل ما يحصل عليه أطفاله من تعليم أو أفضل قليلاً قبل أن تحن عليهم؟ وتعتني بصحة مواطنك ومعدل عمره ونسبة وفيات أطفاله ومؤسساته الثقافية وغيرها، قبل أن تمد اليه يد الكرم؟
لنفترض أن "راتبنا" أعلى من "راتب" الأردني، وأن فقرنا سيزول بفضل فرق الموارد، فهل يعقل أن يبدأ المرء الفقير ببناء بيت جاره المرتب والنظيف قبل أن يستخدم "راتبه" الأعلى هذا لبناء بيته المحطم ويبلط أرضيته الوسخة ويؤسس لمرافقه الصحية أولاً؟
بل ألا يفهم حتى المختلين، انه إن كنت مدين لجارك هذا بمال، أن تدفع هذا الدين أولاً قبل أن تتبجح بمساعدته؟

ثراء المواطن، يعتمد على بضعة عوامل إقتصادية، إن تناسينا عدالة التوزيع. أهمها ما يسمى بـ "الناتج القومي الكلي" للرأس الواحد، والبنية التحتية والبيئية للبلد الذي يعيش فيه. وبما أن العراقي يعيش واحدة من أسوأ البنى التحتية والبيئية في ا لعالم، فلم يبق سوى أن نكون أثرى في العامل الأول لنبرر هذه الكرم الطائي، فلنبحث هذا العامل.
هناك طريقتان لحساب دخل الفرد من الناتج القومي، الأولى تعتمد على تقدير القوة الشرائية للفرد، والثانية تسمى "الدخل الإسمي"، (للتفاصيل أنظر الروابط). وتختلف التقديرات لهذا الدخل بعض الشيء حسب المؤسسة التي تحتسبها وطريقتها في ذلك.
في المجموعة الأولى نجد حسب "البنك الدولي" أن تسلسل العراق هو 124 ، بينما تسلسل الأردن 103، أي أن الأردن أعلى. وفي جدول "صندوق النقد الدولي" تسلسل العراق 127 وتسلسل الأردن 110.(1)
أما في مجموعة "الدخل الإسمي" فنجد تسلسل الأردن في البنك الدولي 100 والعراق أدنى 117. وفي تقديرات "صندوق النقد الدولي" تسلسل الأردن 97، والعراق 112، وجداول السي آي أي الأردن 101 والعراق 112. وفي نشرة الأمم المتحدة الأردن 100، بينما العراق أدنى كثيراً عند 157. .(2)
أي أن حصة العراقي أدنى من الأردني في كل طرق الحساب وفي كل الجداول! يعني أن حتى دخل صاحب البيت المهدم، أقل من دخل جاره صاحب البيت المرتب، وأنه مدين له، ورغم ذلك يقدم له جزء من راتبه كـ "مساعدة"! ومن يقوم بذلك؟ حكومته التي أنتخبها لتمثل مصالحه!

ليس التبذير بـ "مساعدة" من هم أكثر رفاهاً، حالة وحيدة. أنظروا مثلاً هذا الخبر: العراق يعتزم استثمار نحو 1.6 مليار دولار في الطاقة النظيفة لاضافة 400 ميجاوات خلال ثلاث سنوات! .(3)
ونقرأ رداً كافياً شافياً لأحد المعلقين: هناك محطات هنديه والمانيه تنتج اكثر من 1000 ميگا واط بربع هذا المبلغ وبنصف السقف الزمني المذكور. وبعدين العراق هسه بيا حال حتى يدور طاقه نظيفه دخليه يكتفي من الكهرباء وبعدين خلي يسون الطاقه النظيفه.
يجيب معلق آخر مدافعاً بأن وراء المشروع "بعداً ستراتيجياً"! فأي بعد ستراتيجي وأنت في ازمة كهرباء خانقة ولا تملك لبنيتك التحتية سوى أن تستدين؟ هل يمكن أن يكون هناك شيء أكثر استراتيجية من أن توفر المدارس لطلاب الإبتدائية لمنع تشردهم؟ إنها ليست "إستراتيجية" بل سرقة أخرى واستهبال آخر للشعب، لجعله يدفع من أمواله تكاليف بحوث في مواضيع من المستبعد أن يستفيد منها هو، بل الجهات التي تبحث عن بدائل للنفط وتسعى بذلك إلى تخفيض سعره! إن كان هناك من ليس له مصلحة مباشرة في تلك البحوث فهو البلدان المصدرة للنفط، ولا يعتبر مثل هذا التخصيص تبذيراً بقدر ما هو في العراق!

وعن مقالة لي علق صديق قائلاً: لقد أقر البرلمان قبل اسبوع إحتساب تقاعد مدير عام لجميع أعضاء مجالس المحافظات الذين يخدمون ستة أشهر!
وعلق آخر على مقالة لي: .(4) بالامس افتتحوا نصب الشهداء في قضاء الجبايش بكلفة 23 ملياااااااااااااار دينار و يحتوي على 98 قبرا رمزيا و مهبط طائرات هليوكوبتر. اهل الجبايش يشترون ماء الشرب من التانكرات ولا تتوفر مدرسة, المدرسة سيدي الفاضل ستخرج مثقفا يحاسبهم على فسادهم و القبور ستصنع اجيالا مربوطة الى شبابيكها بانتظار الفرج يمكن توجيهها بخطبة واحدة الى اي صندوق اقتراع تريده فأيهما أكثر جدوى المدرسة أم القبر؟
ومن حسابات مقالتي السابقة عن كلفة المدرسة البالغة ثلث مليار دينار، يمكننا أن نحسب أن المحتالين سرقوا من الأطفال ستين مدرسة ليبنوا هذا النصب!
صديق آخر كتب لي: المصيبة أنهم هدموا المدارس الموجودة على أساس إصلاحها، وتركوها مهدمة، وجاء الشتاء وموعد الدراسة والطلاب بلا مكان يدرسون فيه!

هذه أمثلة عن الحال. فكارثة العراق ليست فقط في عقود السلاح والفساد، وإنما تمتلك مواصفات مخطط متكامل لتدمير البلاد ومنع بناءها. لقد حرص الأمريكان على تحطيم البنية التحتية للعراق منذ حرب الكويت، ثم ترك دكتاتورها يسلخ شعبها، وأخيراً أعيد تدمير ما تم بناؤه أثناء الإحتلال، ونهبت ووضع لها دستور مليئ بالألغام واختاروا لصوصاً مرتشين لأول حكومة وهربت المليارات وفرض عليها العودة إلى دفع الجزية للأردن وأسس فيها الإرهاب من خلال نيكروبونتي ألمشهور بما أسسه من إرهاب مماثل في أميركا الوسطى والجنوبية وغيره. وحين غادروا، أبقواها تحت الفصل السابع ليتمكنوا من العودة إليها في أي وقت، ولكي تزيد كلفة اقتراضها من اي مكان بين 35% إلى 45% ، ثم وضعها تحت شروط مؤسستي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كشرط لحذف معظم الديون الهائلة التي كان يمكن أن تحذف بكل سهولة بعدم الإعتراف بها كديون فاسدة، كما فعلت أمريكا نفسها في كوبا عندما احتلها عام 1820 ، لكن ما أريد لكوبا حينها غير ما يراد الآن للعراق.

لنسأل أيضاً: ما الصفة المشتركة للجهات التي يتجه ابتزاز العراق إليها؟ دعوني أقول صراحة: علاقتها بإسرائيل! فالأردن هي الدولة الأقرب إلى إسرائيل بين الدول العربية، وهي الوحيدة التي تحظى بعقود النفط المدعومة. قبل أيام تم توقيع اتفاقية منطقة تجارية حرة مع الأردن (تم تمريرها دون مناقشة في البرلمان)، التي ترتبط باتفاقية تجارة حرة مع إسرائيل، وأخرى تعطي مدخلاً للسوق الغربية لإنتاجها المشترك مع إسرائيل، مما يجعلها تحرص أن تدخل إسرائيل في كل منتج أردني، فهل هناك فرق عن أن نكون قد وقعنا اتفاقية تجارة حرة مع إسرائيل؟
والجهة العراقية التي تحظى بأفضلية خاصة إلى حد الإبتزاز هي كردستان، الجزء الأقرب في العراق إلى إسرائيل. إبتزاز يجعل حصة الفرد الكردي من الخزينة والبرلمان تعادل حصة عربي ونصف!
ومن أوروبا يتعامل العراق بشكل خاص مع جيكيا، ممثلة إسرائيل بلا منازع في الإتحاد الأوروبي!
وممثلة الإتحاد الأوروبي في العراق جيكية أيضاً، وهي رئيسة لجنة الصداقة الأسرائيلية الأوروبية.
ومن هو الأمريكي الأكثر تردداً على العراق؟ جو بايدن، الذي يفاخر بمناسبة وبلا مناسبة بأنه "صهيوني".
ولنسأل أخيراً: أي فنان عراقي تم تخليد حياته في مسلسلة تلفزيونية؟ الفنان العراقي اليهودي صالح الكويتي الذي هاجر إلى إسرائيل وتوفى فيها! هل هذه كلها صدف؟

ما يراد اليوم للعراق هو منعه من أن يحيا من جهة، وربطه بإسرائيل بكل الطرق من جهة أخرى. يراد أن يضمن ان لا يستخدم العراق نفطه لصالح شعبه. فما يبقى من الخزينة بعد عقود السلاح يجب أن يذهب للصوص البلاد من سراق مباشرين تتكفل أميركا بتهريبهم إن إمسكوا، و "مستثمرين" تسعى أميركا وكردستان والخلايا النائمة في البرلمان مثل لجنة النفط والطاقة ولجنة الإستثمار وفي الحكومة إلى تحطيم مرافق البلاد ثم عرضها للبيع لهم. ولعل ما تم الكشف عنه حول شبهات فساد خطيرة ونصوص مقلقة في قانون المصرف المركزي العراقي هو جزء خطير آخر في هذا المسلسل الذي يحاصر العراق. ما يحدث في العراق ليس فساداً فقط، بل مخطط متكامل لإبقائه مدمراً، رغم نفطه. فما يجري فعلياً من توزيع الموارد الفعلي على الأولويات، والمقارنة بين مشاريع تحظى بالدفع السريع والمساعدات المشبوهة والإبتزاز من جهة، وتلك التي تترك لقروض الآجل من الجهة الأخرى، لا يفهم منها سوى إنهم يقولون لنا: نفطكم لنا ولعملائنا وإذا أردتم شيئاً فعليكم أن تقترضوه!

(1) http://en.wikipedia.org/wiki/List_of_countries_by_GDP_%28PPP%29_per_capita
(2) http://en.wikipedia.org/wiki/List_of_countries_by_GDP_%28nominal%29_per_capita
(3) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=19806
(4) http://www.facebook.com/saiebkhalil

14

كم مدرسة تكلف الـ (F-16)؟

صائب خليل
16 تشرين الأول 2012

تدور في العراق معركتان إعلاميتان شديدتا السخونة، الأولى حول قانون البنى التحتية، والذي يركز المدافعون عنه على أهميته القصوى لبناء العراق، والثانية حول جولة التسلح التي قام بها المالكي في روسيا وجيكيا، والتي أثارت الأسئلة حول عقود التسلح العراقي من أميركا.
ولا يختلف المؤيدون والمشككون في الموضوعين، رغم الملاحظات الخطيرة على كل منهما، على أن العراق بحاجة إلى كل من التسلح والبنى التحتية. ومن هذه الملاحظات أن مشروع قانون البنى التحتية لا يمثل حتى ما يمكن تسميته تخطيطاً أولياً لبناء البنى التحتية، ولم يبذل فيه أي جهد أو دراسة تستحق الذكر. إضافة إلى ذلك فقد ترك هذا المشروع لكي يتم بالدفع الآجل، فيبدو أن لا مكان له في أولويات الإقتصاد العراقي، رغم تأكيد الجميع على أهميته القصوى.
أما التسلح فهو يثير قلق كل من كردستان لاحتمال اصطدام عسكري مستقبلي مع الحكومة بشأن مساحات واسعة من الأراضي التي تراها جزءاً منها (والتي تتوسع مع الوقت حسب المكتشفات النفطية)، إضافة إلى قلق عراقي عام من أن تتوجه الحكومة إلى أن تحول العراق بضغط أمريكي إلى دويلة خليجية تحول كل نفطها إلى أسلحة لا معنى لها وتترك البلد في تخلف كبير، وكاتب هذه السطور يشارك هذا القلق بشكل كبير. وهو هنا يتفق مع ما يتهم به بعض الساسة الكرد الحكومة، بالتوجه إلى العسكرة وترك التنمية الأساسية، وإن كانوا بالتأكيد يفعلون لأسباب مختلفة، فلا يهم هؤلاء شيء إلا بيع العراق في مزادادت الخصخصة.

المبالغ الأساسية المصروفة على التسلح تتجه اغلبها نحو شراء طائرات الـ (F-16)الأمريكية، ولكن من جهة أخرى يجري التركيز على أهمية مشروع البنى التحتية وأن أخطر ما فيه هو بناء المدارس التي تعاني من شحة كبيرة، ويتزايد النقص فيها كما يبدو، وتهدد بنتائج خطيرة على مستقبل البلاد.
ويقول الوزير الأديب أننا بحاجة إلى 6000 مدرسة وأن تلك الحاجة ستنمو بمقدار 600 مدرسة في العام. وهذا يعني بان هناك جهدا مالياً كبيراً يجب أن يوضع في خدمة المؤسسة التربوية لبناء هذا العدد الهائل من المدارس"، مبينا أن "الحكومة لا يمكنها على الإطلاق أن تقوم بمثل هذه المهمة لأنها عاجزة".(1)
ولحل هذه المشكلة يقدم الوزير إقتراحاً يثير الإبتسام من جهة والشجن من جهة أخرى والريبة من جهة ثالثة فيقول مشاركاً مجاميع دعوات الخصخصة والإستثمار : "ولذلك لا بد من تهيئة البيئة الملائمة لكل من يستطيع بناء مدرسة أو تأسيس مدرسة أهلية".

بما أن الحكومة "عاجزة" كما يقول الأديب، ويبدو أنها تبني أقل حتى من النمو في النقص، فأن عدد المدارس المطلوبة مرشح للزيادة. وإذا افترضنا أن كل مدرسة تستوعب 500 طالب، فأن عدد المشردين المرشحين للفقر والجريمة والإرهاب في العراق سوف يزداد بالألاف أو ربما بعشرات الألاف كل عام، حسب درجة "العجز" لدى الحكومة.

ويمكننا أن نرى حجم المأساة أيضاً بين سطور أخبار أخرى. فقد دعت لجنة التربية في مجلس النواب وزارة التربية الى توفير "الكرفانات" لحل ازمة نقص المدارس قبل الموسم الدراسي الحالي الذي بدأ بالفعل، مطالبة رئيس الوزراء بتخصيص مبالغ من ميزانية الطوارئ لتجهيز الكرفانات. و قال عضو اللجنة رياض الساعدي في مؤتمر صحفي في مبنى البرلمان: "إن وزارة التربية تواجه مع بداية العام الدراسي الحالي مشكلة كبيرة بسبب قلة الأبنية المدرسية وازدياد عدد الطلاب".(2)

لسوء حظه العاثر، ولد هذا الطفل العراقي في "العراق الجديد"، ووصل إلى سن الدراسة أثناء احتدام المعركة الشديدة الأنانية بين الكتل السياسية، حيث ليس هناك من مقياس لشيء سوى تأثيره على فرص الكتل في الحكم، وحيث ليس له صوت ورأي في ذلك، ولا من يمثله. وفي الحقيقة لم يعد للعراقي من يمثله بشكل موثوق به في الحكومة أو البرلمان، وتوجب عليه مراجعة كل ما يطرح وتسليط الأسئلة عليه من أجل معرفة الحقيقة فيما يدعي هؤلاء وهؤلاء. فهل الحكومة حريصة حقاً على توفير بنية تحتية للبلاد؟ إذن لماذا لم تقدم مشروعاً جيد الإعداد؟ ولماذا لم تحرج خصومها الذين يقولون بأنهم لا يستطيعون التوقيع على صك شبه أبيض بلا تفاصيل بمبلغ 40 مليار دولار من الديون للحكومة لتتصرف بها؟
هل الحكومة "عاجزة" حقاً؟ أين الأموال التي لم تتمكن المحافظات والوزارات من صرفها، ولماذا لا تغطي الحكومة بها هذا "العجز" أو بعضه على الأقل؟ لماذا لا يبدو أي أثر لهذا "العجز" حينما تذهب لشراء الأسلحة، وخاصة الطائرات المقاتلة الأمريكية الأكثر كلفة في العالم، أو حين تتبرع فوراً باستظافة المؤتمرات المكلفة في ظروفها الأمنية الخاصة؟ هل هذا "العجز" مصطنع أم حقيقي؟

لنأخذ قضية المدارس، وهي القضية الأكثر سهولة للحساب وللتنفيذ أيضاً. ولنبدأ بالسؤال: كم تكلف المدرسة على وجه التقريب؟ طرحت هذا السؤال على أصدقاء في العراق على اطلاع على تفاصيل هذه الأمور، وطلبت حساب كلفة الأرض وتغايرها مع الموقع الخ.. فجاءني الجواب كما يلي:

بالنسبة لاراضي المدارس لا يوجد ارخص واغلى لان المدارس تبنى على اراضي الدولة وهي موجودة بالتخطيط الاساسي لكل منطقة سكنية وبالقرى أيضاً ارضي للمدراس وكثيرا ما يتبرع أهل القرية بارض اذا الدولة تكفلت ببناء مدرسة عليها، كما أنه غالباً ما يتم التوجه لبناء صفوف في المدارس المكتظة إذا كانت مساحتها تتحمل الإضافة.
أما عن تكلفة البناء بالنسبة لمدرسة إبتدائية فتحسب بالشكل التالي والتقديرات لمهندس عراقي في بغداد يتعامل مع المقاولات، أستشرته قبل ايام.:
يكلف المتر المربع من البناء في العراق اليوم 400 الف دينار عراقي،
مساحة الصف القياسي 40 متر مربع ( 5×8) وقد يكون اقل ( 30 او 25) اذا كانت المدرسة صغيرة
تحتوي المدرسة بحدود ستة صفوف مع غرف للإدارة والخدمات، في المدارس الصغيرة في الريف، إلى 12  صف للطلاب  + 6 غرف للادارة والمدرسين وغيرها في المدن + ما يعادل 2 صف للحمامات، لمدرسة كبيرة (قياسية)
أي أن العدد الكلي التقريبي هو 20 صف وبحساب أن مساحة الصف (الكبير) اربعين متر مربع تكلف المدرسة 320  مليون دينار – أي بحدود 280 الف دولار بحسابات  التحويل الحالية.
اما عدد الطلاب فالصف يحتوي عادة من 30 الى 40 طالب أي أن المدرسة تحتوي بحدود 300 الى 400 طالب. وتوجد مدارس تكتض بالطلاب في بعض المناطق ففي مدينة الثورة قد يصل العدد إلى 700 طالب – لنقل إذن 500 طالب كمعدل. أما الأثاث فلا تزيد كلفته عن 20 الف دولار، أي أن بناء المدرسة القياسية بكل تجهيزاتها، لا يكلف الدولة أكثر من 300 الف دولار.

ولو عدنا إلى سؤالنا في عنوان المقال، وعلمنا أن الـ (F-16) تكلف بحدود الـ 30 مليون دولار لحسبنا بسهولة أن الطائرة الواحدة تكلفنا 100 مدرسة! وعندما نحسب كلفة تدريب الطيارين ورواتبهم والعاملين على تجهيز وصيانة الطائرة وعمر محركاتها ومطاراتها وأمنها ووقودها وأسلحتها على مدى حياتها ، فقد لا نبالغ إن قلنا أنها ستكون ضعف هذا المبلغ في أقل تقدير. أي أن الطائرة الواحدة تكلفنا 200 مدرسة!
من حق المواطن، بل من واجبه، أن يقارن المصروفات المختلفة، وأن يسأل الحكومة: أيهما أهم للبلاد، طائرة مقاتلة واحدة أم 200 مدرسة؟ ونستنتج أيضاً أن كلفة ثلاث طائرات ـ (F-16) تكفي لتغطية التوسع اللازم في إنشاء المدارس في العراق كله، بما في ذلك كردستان! (600 مدرسة). وهذه الأرقام تعني أيضاً أن حل مشكلة المدارس الـ 6000 المستعصية في العراق، ينتهي إن تخلينا عن 30 طائرة (F-16)!
لكن الحكومة أختارت الطائرات كأولوية أهم من المدارس. ونحن لا نشكك بأهمية الطائرات في ما خلفه الأمريكان من اوضاع، لكن من حقنا أن نتساءل لماذا لم تحصل المدارس ولو على نسبة من التخصيصات، ولماذا يتحرك رئيس الوزراء بحرية كبيرة وهو يشتري الطائرات الحربية من هنا وهناك دون أن تمر كلمة "قرض" أو "دفع بالآجل" بباله أو يوقفه اعتراض كتلة سياسية، ولا يظهر العجز التام والدفع بالآجل إلا حين يأتي الحديث عن المدارس؟ أن نقص 6000 مدرسة يعني أن 3 ملايين طالب يحرمون مقاعد الدراسة كل عام، فبأي حق نسرق حق 3 ملايين طالب في التعليم، لنشتري بها 30 طائرة (F-16)؟ لو أجلناها عاماُ واحداُ لحللنا مشكلة المدارس، فما هو احتمال استعمال هذه الطائرات خلال عام واحد مقابل هذه التضحية الجسيمة للبلاد كلها؟ وحتى لو اتخذنا موقفاً سلبياً من التعليم، وركزنا فقط على الأمن، فأيهما أخطر على أمن العراق، نقص بـ 30 طائرة (F-16) أم 3 ملايين إنسان يتركون لمصيرهم في التشرد والأمية والفقر أو الإرهاب؟

دعونا نجري مقارنة ثانية: ما كلفة بناء 6000 مدرسة بالدولارات؟ لو ضربنا الأرقام أعلاه، لتبين لنا أنها تكلف ملياري دولار فقط، أي بقدر الكلفة التقديرية لمؤتمر القمة العربي بالضبط! لقد فضلت حكومتنا أن تستضيف بضعة من العملاء العرب، قدموا قراراً باهتاً فارغ من أي معنى، على إنهاء مشكلة نقص المدارس في العراق! لقد فضلت استضافة هؤلاء على حل مشكلة تعليم 3 ملايين طفل عراقي، وتركتهم لمستقبل مجهول! لم يكن هناك أي "عجز" حين سحبت الحكومة مبلغ 550 مليون دولار لصرفيات القمة المباشرة، وحين أعلنت منع تجول وتعطيل الدوائر في بغداد ووضعت القوات المسلحة في حالة إنذار قصوى من أجل الظهور بمظهر "النفخة" و "اللاعب الدولي" وغيرها من العبارات المعبرة عن الشعور بالنقص، لتبرير هذا التبذير لدولة تقول أنها لا تجد ما تصرفه لمدارس أطفالها ولبنيتها التحتية المحطمة غير ما تستدينه!

ما تكلفه 6000 مدرسة هو أقل بكثير أيضاً من الإبتزاز السنوي الذي تمارسه كردستان على الحكومة والذي يبلغ 3 مليارات دولار تدفعه الأخيرة من أجل تمشية بقاءها المشلول، وهو قيمة الـ 4.7 % من الخزانة الزائدة على نسبة السكان فتدفع 17% بدلاً من  12.3%، ولنهمل حالياً بقية الإبتزازات من كمارك الحدود وتهريب النفط والـ 10% الزائدة في مستحقات الشركات النفطية، والتي تحتاج الحكومة إلى قوة عسكرية لفرضها كما هو واضح، والتي لو حسبت كلها لأمكن للعراق إنهاء أزمة التعليم الحادة فيه خلال نصف عام! لكن الحكومة تعطي الأولوية لإرضاء لصوصية وجشع قادة كردستان غير المحدود، لأن غضبهم قد يهدد تشكيلة الحكومة.

ولا ننسى أيضاً، الإبتزاز الآخر المذل الذي فرضته أميركا على الحكومة كما يبدو، بدعم البترول للأردن. ما مقدار هذا الدعم؟ لم تعد هناك طريقة لمعرفة ذلك، فحكومتنا تكذب لتداري الفضيحة، وتكشف الحقيقة تدريجياً في هذا الأمر لكي تخفف الصدمة. فبدأت بالإعلان عن عشرة دولارات للبرميل الواحد، ثم ارتفعت تدريجيا ً حتى وصلت في آخر زيادة إلى 18 دولار (تخيلوا حكومة بدولة بوضع العراق تصوت بالموافقة على "زيادة" دعم الأردن!)، ولا يستبعد أن تكون أكثر، أو ربما أنكتشف أن كمية النفط تقدم مجانية تماماً، فحسب ما وصلني أن الأردن لم يسدد حتى المبالغ المدعومة. وما كمية النفط المصدر للأردن؟ إن وثقنا بالحكومة في هذا الموضوع المشبوه، فأن هناك 10 الاف برميل تصدر يومياً، الى الأردن. أي 180 الف دولار تذهب يومياً إلى الأردن (عدا مبالغ أخرى بحجة إقامة المؤتمرات وغيرها). أي أننا نتبرع بنصف مدرسة للأردن كل يوم أو أن العراق الذي يشح بالمدارس على أطفاله، "يتبرمك" بـ 200 مدرسة من مدارسهم كل عام إلى الأردن الذي ليس لديه مثل هذه الشحة ولا ما يقاربها إطلاقاً! وهناك حديث مستمر عن زيادة كمية النفط المدعومة إلى الضعف وكذلك بناء أنابيب نفط إلى الأردن، ليسهل الإبتزاز والسرقة وليتطورا إلى مستويات أعلى بكثير. وفي كل ذلك مؤشرات إلى أن الكثير من هذا النفط يذهب إلى إسرائيل. والحقيقة أن الأردن صار امتداد لإسرائيل، ولا أعرف مبرراً لدعم الأردن من قبل العراق، والأول أغنى وأكثر استقراراً من الثاني وله ديون عليه، سوى ذلك! ونكرر هنا أننا لم نعد نعلم حجم الدعم النفطي الحقيقي للأردن (أم إسرائيل؟).
ومن ناحية أخرى، معلوم أن الطائرات الأمريكية أغلى من مثيلاتها بشكل كبير، فما سر التزام العراق المكبل بالديون والمحطم البنية التحتية والبشرية بأن يشتري أغلى الطائرات الحربية في العالم؟

قد يحاجج شخص بأن كلفة المدرسة أكبر مما حسبتها. ولكن من ناحية أخرى فإنها يتفرض أن تكون أقل كثيراً. فلقد حسبنا الكلفة كما لو كانت مقاولة بناء بيت مفرد، كما يقبلها المقاول العراقي، ومن المؤكد أن الكلفة تنخفض كثيراً حين نقوم بتخطيط مشروع لبناء ألاف المدارس، حيث سيكون التصميم واحداً، أو بضعة تصاميم، وكذلك فأن العدد الكبير، (إضافة إلى العدد الهائل المطلوب من الوحدات السكنية ) يمكن من تأسيس صناعة إنشاءات عراقية كبيرة تخفض الكلفة كثيراً وتسرع العمل من خلال البناء الجاهز المصمم خصيصاً لأجزاء تلك الأبنية والمعرفة المسبقة لزمن الإنجاز وحاجته إلى المكائن والمعدات والعمال بالضبط، كما أنها تقوم بتشغيل عدد لا يستهان به من الأيدي العاملة. إضافة إلى ذلك يفترض أن تنخفض كلفة "الرحلات" بشكل كبير جداً.

من كل هذا نرى أنه رغم كل التباكي القوانين المعلقة، تبقى حكومتنا تعطي الأولوية ليس لبناء المدارس والبنية التحتية والملايين من الأرامل واليتامى والمدقعي الفقر والمناطق المنكوبة التي لا تجد حتى ماءاً صالحاً للشرب، لصالح مشاريع من قبل مساندة عملاء إسرائيل في الأردن، وإرضاء جشع لصوص كردستان وشراء المزيد من الـ (F-16) و الترحيب "الكريم" بكل قط عربي سمن بسرقة شعبه ويسير في خدمة الأجندة الإسرائيلية لتدمير المنطقة! على الشعب إن أراد حقه بثروته أن يفتح عينيه وذهنه وأن يحفظ الأرقام ويقارن ليس فقط كم تكلفه الـ (F-16) من مدارس، وإنما أن نحسب لأي تبذير، كم فقير يطعم وكم مستشفى كان يمكن أن يبني وكم يد عاملة يشغل وكم شارعاً يبلط، فبهذه الأرقام فقط يعي الناس أين تذهب ثرواتها. علينا أن نضع الحكومة أمام مسؤولياتها بالمقارنات، فإن كانت تعمل لصالح الشعب ومستقبل اجياله وتهتم بتعليمها وتقدمها كما تقول، فلماذا طائراتنا الحربية من أغلى الأنواع ومدارس أطفالنا من الطين والكرفانات؟

 (1) http://www.alsumarianews.com/ar/iraq-society-news/-5-33228.html
(2) http://www.iraqicp.com/madarat/24823-2012-10-07-20-30-20.htm

15
إختراع برلماني عراقي لزيادة ثروة الأمم

صائب خليل
10 تشرين الأول 2012

"انشاء مجمع سكني للنواب يوفر للحكومة نحو 12 مليار دينار سنويا"!(1) شلون؟ فركت عيني غير مصدق، وأنا أقرأ عنوان الخبر مرة ثانية! أكملت: "من خلال تخصيص مئة مليار دينار لإنشاء مجمع سكني للنواب"!! عجيب! أنا أعرف أن المنشآت السكنية تكلف أموالاً لإنشائها وتكلف مبالغ سنوية إضافية كبيرة لصيانتها، فكيف ينتج هذا 12 مليار دينار سنوياً للحكومة؟ لا ليست نكتة، عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار عبد العباس الشياع يشرح لنا الفكرة الإقتصادية العظيمة والتي جعلت من بناء "مجمع سكني من كتلتين سكنيتين وثالثة ترفيهية" بمساحة 140 الف م2 في مطار المثنى، مشروعاً إنتاجياً من الدرجة الأولى! يشرح لنا النائب الشياع تلك الأعجوبة:
"بدلا من ان تدفع الدولة 3 ملايين دينار شهريا كبدل اجار لكل نائب، سيتم تهيئة مجمع يبقى ملكا للدولة، ويتم اخلاء المبنى واسكان نواب جدد في كل دورة انتخابية"، مؤكدا ان في ذلك "جدوى اقتصادية".!!
ولإقناعنا أكثر، اضاف:"أن برلمانات العالم تضم امكانات تمكن النائب من الوصول الى جمهوره"!!
إذن كل ما في القضية أن النائب المسكين يريد "الوصول إلى جمهوره" ولا يستطيع بسبب عدم لياقة سكنه! صحيح إن بعض الظن إثم! تصورناهم يريدوها لحياتهم الخاصة بينما الجماعة واحدهم حاير كيف يوفر المليارات للحكومة، و"يصل إلى جمهوره"! والدليل على رغبتهم الشديدة لـ "الوصول إلى الجمهور"، حماسهم الشديد للتصويت السري، واتفاقات الكتل، وعدم نشر قوائم تصويت النواب على القوانين، بحيث أنه لشدة حرص النائب على "الوصول إلى جمهوره" لا أحد في العراق يعلم حتى اليوم، ماذا صوت أي نائب على أي قانون! من الآن فصاعداً أكيد سيخصص كل نائب غرفة خطاره في مسكنه الجديد اللائق، لـ "الوصول إلى جمهوره".

وللتحذير من سوء الظن الذي قد يقع فيه بعض "ذوي النفوس الضعيفة" من أمثالنا، يقول عبد العباس أن رفاقه النواب يأملون من الشعب أن يفهم دوافعهم (بصراحة نحن لم نفهمها، ونعتذر بشدة)، وأن " لا يتحول الحديث عن المشروع الى سخط شعبي من قبل المواطنين، الذين يعانون ازمة سكن" حسب قوله، مؤكداً أن المجمع سيكون ملكا للدولة.
يعني بالضبط مثلما بقيت "للدولة" الفنادق التي صرف عليها نصف مليار دولار في القمة العربية، أي للشعب، كما قال رئيس الحكومة، وحالياً الشعب يتمتع يومياً بمسابح تلك الفنادق وقاعاتها الرياضية!

ولكي لا توغل الغيرة والحسد في نفوس الناس من نوابهم المضحين، يقول الشياع "اود ان اطلع الجمهور على ان مجلس النواب والحكومة، لا يقفون مكتوفي الايدي ازاء ازمة السكن" مو بالحيف!  "فهم يولون جهدا كبيرا لتشريع القوانين ذات الصلة" (ولو تشوف شلون العرك يزخ منهم من "الجهد الكبير"!)

ويبدو أن هذه الفكرة، كالعديد من غيرها من الأفكار "الإقتصادية الإستثمارية" النيرة، جاءت من كردستان، فقد اكد النائب عن لجنة الاقتصاد والاستثمار محما خليل، ان لجنته "اقترحت الفكرة ليكون على غرار برلمان اقليم كردستان، الذي انشأ مجمعا سكنيا لاعضائه الذين يقومون بتسليم المجمع فور انتهاء الدورة التشريعية، ولذلك نحن طالبنا بهذا الاستحقاق لان من حق النائب ان يكون في مجمع سكني يليق به".
فالمساكين النواب في كردستان والعراق كانوا يعيشون في صرائف وأكواخ صفيح "لا تليق بهم" قبل ان يطالبوا "بالإستحقاق"(!) ويقروا بأنفسهم "استحقاقهم" لهذا المجمع الذي يوفر الأموال للخزينة والسكن "اللائق" للنواب.
هذا المشروع غير الإعتيادي كله أرباح من كل الجهات، ولشرح الأعجوبة قال خليل، ان "هذا المجمع سيكون بديلا عن المصارف التي تكلف الحكومة الكثير، لان الحكومة تدفع اكثر من 3 ملايين شهريا لكل نائب كبدل اجار". وبين أن بدل الاجار لجميع النواب خلال الدورة التشريعية الواحدة يكلف الحكومة نحو 47 مليار دينار. واعتبر خليل المشروع "خطوة اقتصادية وامنية جيدة تليق بسمعة ومكانة النائب باعتباره ممثلا للشعب".
والله هي سمعة النائب كممثل للشعب، ما شاء الله! ويقولون البرلمان مو زين ويه الحكومة! تراهم دايخين شلون يشيلون الكلفة عنها بأي طريقة!

فوق كل هذا، أقر هذا النائب (المسكين) وهو يسكب العبرات، بـ "وجود قصور ازاء المواطن نتيجة عدم ولادة مشاريع عملاقة على الساحة لاستيعاب ازمة السكن المتنامية"، وقال ان "مشروع المليون وحدة سكنية لم يسر بخطوات واثقة نتيجة الخلافات السياسية والاشكالات الامنية، فضلا عن المعوقات التي تقف امام المستثمر الاقليمي والاجنبي"!
النائب خليل حزين كثير على المستثمر الإقليمي والأجنبي، لكثرة المعوقات اللي تمنعه أن ينجز المشاريع "العملاقة" اللي خططوها الجماعة، وطبعاً بدون "المستثمر" ماكو شي يصير بالعراق! حتى أن هواية سياسيين وبرلمانيين صاروا مستثمرين، مو من أجل الفلوس، لا ابد، من اجل أن يخدمون البلد!

وحزن النائب خليل لا يقتصر على المستثمرين المساكين، بل يشمل الشعب العراقي كله، فيقول وقلبه يتفطر: "نحن غير راضين عن انفسنا امام الشعب العراقي"...."ولكن نحاول ان نتغلب على هذه الازمات"، أما كيف يتغلب، فيريد خليل مجموعة قوانين اختتمها بـ "قانون الإستثمار المعدل" وكذلك
قانون التعرفة الكمركية" ليش؟ ليس لأنه يدخل فلوس لخزينة العراق، وإنما لأنه "يسهم في إدخال العراق الى منظمة التجارة العالمية".! وطبعاً كاكه خليل كعضو في لجنة "الإستثمار"، وليس بعيد أنه هو مستثمر أيضاً، يعلم أفضل من غيره أن منظمة التجارة العالمية تمطر ذهباً على شعوب دول أعضائها، خاصة الدول المتخلفة في الصناعة والتجارة، وهاهو شعب الأردن مثلا، يتظاهر انزعاجاً من كثرة الأرباح والأموال التي غرق بها بعد انظمامهم إليها. وخليل لا يريد أن يبقى الشعب العراقي بعيداً عن ذلك الخير العميم!

هذه الأفكار "الإستثمارية" العظيمة عن "التوفير" عن طريق "الشراء"، جعلتني أتأمل سعيداً ومتفائلاً كم لدينا "شرفاء" حريصين على البلد وثرواته في البرلمان في لجان مثل "لجنة الإستثمار" و "لجنة النفط والطاقة"، "المغلقتين" على تعبير البعث – بالشرفاء. هذا عدا "الشرفاء" الموزعين هنا وهناك! 

وأنا في نشوتي تلك، تذكرت مرة كنت في سوبرماركت مع أبني وكان عمره سبع سنوات تقريباً، فقال لي: "بابا...شوف هذا الإعلان .. تكدر "توفر" 200 يورو إذا تشتري تلفزيون جديد كبير...مسويله تنزيلات"، فقلت له "آه معك حق! فكرة ممتازة! ليش تلفزيون بس؟ شوف هذي الثلاجة بيها "توفير" 50 يورو، و...المكنسة الكهربائية هناك.. يمكن إذا اشترينا كل الأشياء اللي بيها تنزيلات بالمحل نصير مليونيريه"! فهم "انليل" إبتسامتي، وابتسم بدوره بخبث، واشتركنا في دايلوك كوميدي، وتحدثنا عن "الأذكياء" الذين سيوفرون ، وايضاً عن الفقراء "المبذرين" الذين "لا يوفرون" لأنهم لا يشترون شيئاً، فيتركون فرص "الإثراء" تفوتهم. ثم قال غامزاً: "بابا...يمكن هم صاروا فقراء لأنهم ما يشترون"! وهكذا اكتشفنا ليس فقط سبب الفقر في العالم بل أيضاً الطريق إلى حله!

أوقفت قراءة الخبر ورحت أفكر بحالات أخرى لـ "توفير المال للحكومة" بوحي هذه الطريقة المبتكرة. فكرت: يقول مبتكراها، الشياع وخليل أن كمية التوفير جاءت من الفرق بين كلفة ما تدفعه الدولة للبرلمانيين وكلفة بناء مساكن لهم. وبما أن كلفة بناء مساكن "لائقة" ثابتة نسبياً، فالمنطق الإقتصادي "السليم" يقول، لو أن الدولة كانت تدفع لهم بدلات إيجارات أكبر، لكانت "وفرت" أكثر، وربما أضعاف المبلغ بهذه الطريقة! لكن للأسف ضاعت الفرصة بسبب بخل الدولة التي لم تكن تدفع للبرلماني المسكين سوى 3 ملايين دينار في الشهر عن السكن، ولذا لم يكن لديه "سكن لائق" ولم يكن يستطيع "الوصول إلى جمهوره"، كما يقول عبد العباس الشياع (من أي كتلة هذا "الحباب"؟).
فكرت: لماذا لا تدفع الحكومة للنواب مثلاً أجور سفرة أو سفرتين سياحية كل عام، ولتكن إلى أغلى منطقة في العالم، وبطيران الدرجة الأولى،.... وبعد كم سنة نشتري لهم طائرة خاصة ومنتجعات سياحية "تليق بهم" و "تبقى للدولة بعدهم" ونوفر للخزينة مئات الملايين من الدولارات من أجور الطائرات والفنادق كل عام! وبما أن عدد النواب ينمو مع نمو السكان في هذا البرلمان الفريد من نوعه في العالم، فأن أرباح الحكومة ستزداد وتكبر مع السنين! ولماذا النواب فقط؟ ليأتي معهم الوزراء ونواب الوزراء والمدراء العامين وكبار ضباط الجيش...فكلما كان العدد أكبر كان التوفير للخزانة أكثر!

فتحت الحاسبة فقرأت خبراً على الإنترنت يقول أن مقرر مجلس النواب محمد الخالدي نفى تخصيص مبلغ مليونين و250 الف دينار شهريا لاعضاء مجلس النواب كمخصصات مكتبية!(2) فتألمت للفرصة الضائعة! لماذا ينفيها؟ بل يجب أن يدفع لهم مخصصات مكتبية و.. مخصصات أثاث وأجهزة تبريد ... وتدفئة... ورياضة... ومساج ..، ثم نشتري نبني لهم مراكز رياضة ومساج "تليق بعضو مجلس النواب" وتساعده على "الوصول إلى ناخبيه" و "تبقى للدولة" فتثري الخزينة والدولة، فليس من المعقول أن يصرف النائب من راتبه على هذه القضايا! هل تعطيه الدولة الراتب ليصرفه؟
لكن هذه الفرص ضاعت، والسبب؟  يقول الخالدي: "لانه لا يوجود مسوغ قانوني لتخصيص هذه المبالغ"! أي "مسوغات قانونية"؟ وأي بطيخ؟ لازم الخالدي ما سمع باختراع لجنة الإستثمار وما عرف أن المخصصات للنواب والوزراء تزيد الخزينة ولا تنقصها، ولذا لا تحتاج اي "مسوغات"! ليش هو أكو "مسوغ" قانوني لتخصيص مبالغ بدلات الإيجار؟

قلت لنفسي: يبدو أنك اكتشفت يا صائب مورداً جديداً لوطنك وشعبك، يعوض عن الديون ومشاريع الآجل، ويخفف عن كاهل الإعتماد الريعي على النفط ويؤمن مورداً جديداً للبلاد يقيها العوز عند انهيار أسعار النفط! أكتب مقالة في الموضوع فوراً، ولاشك أن الحكومة ستستجيب لها فوراً (كعادتها) ونصبح "في عداد الدول المتقدمة" و "ننافس السعودية" في الغـ.. اقصد في "الثراء" و "نستعيد مكانتنا العربية" و "يكون لنا ثقل في السوق العالمية" و "نصبح لاعباً دولياً"- "كوول" ان يصبح المرء "لاعباً دولياً" اليس كذلك؟

إذن إلى الكتابة قبل ان يسبقك أحد إليها! فهذا "إختراع" يجب أن ينشر لدى كل الأمم، ويمكن به للبشرية أن تنهي الجوع والفقر والمرض. ربما ستكون مقالة تمثل منعطفاً في علم الإقتصاد مثل كتاب "ثروة الأمم" وتصبح مشهوراً مثل آدم سميث. سأسميها تيمناً:"إختراع عراقي لزيادة ثروة الأمم".
ولأنني اعتدت أن أضيف إلى مقالاتي بعض "الملح" من خلال معلومات عن أهم الكلمات المتعلقة بموضوعي وتاريخها ("الإيتمولوجي")، فإني بدأت بالبحث في كوكل عن معاني وأصول كلمات احتاجها في المقال مثل "سرسرية" و "سيبندية" و "هتلية" و "شلايتيه" و"مستثمرين"، لكني لم أجد شيئاً... هل من أحد يرشدني إلى أصل هذه الكلمات لأكتب موضوعي؟

 
(1) http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=48537
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=23098


16
قانون البنى التحتية 2- كم نستطيع الإستدانة وما هي البدائل؟

صائب خليل
5 تشرين الأول 2012

في ندوة حول الموضوع، أيد الدكتور كمال البصري مشروع قانون البنية التحتية، وأهميته القصوى، ودعا إلى قبوله، ولكن بشرط أن يتم تجاوز الإشكالات الكبيرة في شكله الحالي، فقال أن "مسودة القانون تمثل النمط السائد في الدوائر الحكومية وهو يفتقد للجانب الفني"، كما ذكر أن "بناء البنى التحتية في العراق الجديد يجب الا يكون عشوائيا بمعنى عدم ارتباط مشاريع الاعمار بخطة متكاملة" (مثلا تشييد ميناء الفاو الكبير دون مراعاة للمشاريع التكميلية المتعلقة بالطرق والسكك الحديدية او تشييد منطقة سكنية دون الالتفات الى المشاريع الخدمية المتصلة بها ... الخ)، وتساءل البصري: هل ان مسودة القانون قد كتبت وفق خطة محددة؟
وحذر من "أن الوزارات الحالية منهكة تماما وعاجزة عن تنفيذ المشاريع الاستثمارية للموازنات الاتحادية اذ لم تتجاوز نسب التنفيذ المالي للوزارات هذا العام 51 بالمئة ناهيك عن التنفيذ الحقيقي كما ونوعا."، مؤكدا ان تبعات هذا القانون بحق ستكون عبئا ثقيلا اضافيا على الوزارات او الجهات الفنية المكلفة بادارة متطلبات هذا القانون.
وتحدث البصري عن "غياب المفاوض الذي يجيد لغة التفاوض الفنية والاقتصادية" وأن "مشكلة الاعمار في العراق لاتتوقف على توفر التخصيصات المالية، بل على ادارة المال والمشاريع." وعن ضرورة "اعطاء اولوية توزيع المشاريع حسب الجدوى الاقتصادية للمشاريع قبل اعتماد التوزيع حسب النسب السكانية (مثلا الموانئ والمطارات ومعامل الحديد والصلب ومستشفى تخصصي عالي المستوى)." (1)
ويؤيد جميع الإقتصاديون هذه النقطة فيرى الأستاذ كامل العضاض أنه "لا يمكن أن تُقام البنى التحتية بكفاءة بمعزل عن معرفة وتحديد حجوم الإستثمار والتوسعات المتوقعة في جميع مفاصل الإقتصاد العراقي، فلو رغبنا مثلا في بناء طرق أتو ستراد واسعة لابد من تصورات لحجم الحمولات وكثافتها ومن اين الى أين، اي لابد من تحديد المواقع الجغرافية للمنشئات الصناعية وحجوم مخرجاتها وتوسعاتها المستقبلية وغيرذلك من معلومات تكاملية . وكل ذلك لتأتي الإستثمارات متوافقة مع حاجات النمو الإقتصادي المتوقعة بحصافة خلال العقدين القادمين مثلا". وهذا التوجه ينسجم مع بيانات سابقة للأستاذ العضاض حول ضرورة تخطيط الثروة النفطية من أجل تعظيم البناء الشامل للإقتصاد وليس تعظيم موارد النفط.

ويرى الوزير السابق السيد رائد فهمي أنه :"لا توجد ضمانات حقيقية في أن التعاقدات المقترحة بموجب هذا القانون ستخلو من أسباب التعويق التي رافقت التعاقدات الكبرى الأخرى للدولة"، وأن "اللجوء إلى الدفع بالآجل هو طريقة لمعالجة العجز في التمويل، وسيكون اللجوء إليه مفهوماً ومقبولاً إذا ما كانت جميع العناصر اللازمة الأخرى للاستثمار والتنمية مستنفذ استخدامها وتوظيفها بكفاءة، والحال ليس كذلك".(2)

رغم أنتقاداته، يرى البصري كمعظم الدارسين الجديين للموضوع، أن القانون تضمن العديد من الاسباب الموجبة لاقراره، بل يذهب إلى أن اقراره في الوقت الحاضر بات ضرورة متناهية الأهمية ويجب ان يتم وضع سقف زمني لايتجاوز هذا العام لاقراره، اذ ان عدم اقراره يشكل كلفة انسانية واقتصادية لايستهان بها وعيبا كبيرا في العملية السياسية.  واشار إلى تقرير لوزارة التخطيط يؤكد ان االموازنة لا تستطيع الايفاء باكثر من 43 بالمئة من هذه النفقات وعلى ان يتم توفير المتبقي 57 بالمئة من خلال القروض والاستثمار.

إذن يريد البصري تغيير المشروع تغييراً أساسياً، وعندها فهو يقر بضرورة القبول بالإستدانة، لكن كم يمكننا أن نستدين؟ ماهي كلفة ذلك وما هي مخاطره؟
في دراسة مهمة له بعنوان " جدلية البنية التحتية في العراق :التمويل والضمانات "، راجع د. مظهر محمد صالح هذا السؤال وبين العلاقة بين "ثروة الأمم" وعلاقتها بقدرتها على تحمل الديون وأرباحها. وبدأ بالتنبيه إلى أن "البنية التحتية المادية" من شبكات طرق وكهرباء وإتصالات وغيرها هي جزء من هذه الثروة وكذلك "رأس المال الإجتماعي" من مؤسسات صحية وتعليمية وقانونية وغيرها، وأيضاً ما تمتلكه من صناعة وزراعة، إضافة إلى الثروة الطبيعية التي ربما تزيد في العراق عن 12 ترليون دولار من النفط وغيره، وقارنها بأنها تزيد مرتين عما تمتلكه أستراليا، أما الولايات المتحدة فتقدر ثروتها بـ 118 ترليون دولار. وأوضح د. مظهر أن العراق الغني بالعنصر الأخير، يفتقر بشكل شديد إلى بقية العناصر، وأن حصة الفرد من البنى المادية الحالية لا تزيد عن خمس تلك التي كانت له عشية اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، حين قدرت تلك البنية بـ 35 مليار دولار، وأن النقص الحالي في البنية يقدر بـ 250 مليار دولار.

ويرى د. مظهر أن وضع العراق الذي يدفع به إلى "الدفع الآجل"، يتطلب التعرف على مقياس "طاقة تحمل الدين العام" والتي تعتمد في كل بلد على "الناتج المحلي الاجمالي"، وأن هذا المقياس يمكنه أن يساعدنا على استشفاف قدرة البلد على "ادامة الدين"، اي "تحمل الدين ومواجهة التزاماته دون ان يؤثر على صحة او سلامة النمو الاقتصادي في البـلاد"
او الحاجة الى اعادة جدولة الدين او تراكمه بما يعيق النمو الاقتصادي .

ويبين الدكتور مظهر المقياس المعتمد لدى المؤسسات المالية الدولية والمسمى (DSA) والذي يبين السقوف القصوى لذلك الدين، لضمان اقتصاد مولّد للنمو والفائض الاقتصادي، بأنه يجب أن لا يزيد عن 60% من الناتج المحلي الاجمالي، ولا عن 150% من صادرات البلاد ولا عن 250%   من ايرادات البلاد من العملة الاجنبية ، وأن لا يتعدى نمو الدين السنوي 3% من الناتج المحلي الاجمالي .
وفي حسابات هذه الأرقام على الإقتصاد العراقي والديون الباقية في ذمته، يصل الدكتور مظهر إلى أن تلك الديون تمثل 35% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي يتبقى لدى العراق قدرة لإستدانة 25% (60% - 35% = 25%) من ناتجه المحلي الإجمالي البالغ عام 2012 ، 140 مليار دولار، اي 35 مليار دولار، وبذلك فأن مبلغ الـ 37 مليار المطلوب للبنى التحتية يتجاوز الحد الممكن، ولكن بدرجة طفيفة.

وبين الدكتور مظهر أن وضعية العراق تضيق من فرصه في الحصول على تمويل بكلفة معقولة، بسبب استمرار فرض الفصل السابع عليه (والفضل يعود طبعاً لـ "أصدقاءنا" الأمريكان ومن صدقهم ووقع الإتفاقية معهم دون شروط محددة، وكذلك ذيولهم المتمثلة بأياد علاوي وهوشيار زيباري كما بينت في مقالات سابقة، والتراخي العام في الحكومة العراقية). ويفرض الفصل السابع وتداعياته إضافة تقدر حسب الدكتور مظهر بـ " ( 35 - 45)% من كلفة تنفيذ المقاولة الاجنبية في الظروف العادية" .
ويقترح الدكتور مظهر أخيراً كحل بديل "انشاء صندوق سيادي غاطس"، يصرف منه على مشاريع البنى التحتية، ويمول دورياً من الموازنة الاتحادية ويعوض باستمرار عند السحب منه.

لقد وضعت دراسة الدكتور مظهر المسالة بشكل أرقام تبين كم يمكن للعراق أن يستدين دون ان يدخل منطقة الخطر، وأوضحت الأرقام أنه سيقف على الحافة الخطرة من تلك المقاييس، حتى بحساب إمكاناته النفطية الكبيرة.

ويجب هنا أن نتذكر ونحن نطبق هذه الأرقام بضعة حقائق خطيرة الأهمية. الأولى هي أن المبلغ 37 مليار ليس سوى مبلغ تقديري، وأنه تمت زيادته في إحدى التعديلات على القانون إلى 40 مليار، كما بينت في الحلقة الأولى من المقالة، وبالتالي فإننا دخلنا منطقة الخطر بشكل واضح. كذلك من المعلوم في مثل هذه المشاريع طويلة الأمد أنها تكلف دائماً أكثر من المبالغ المخصصة لها، وأحياناً بشكل كبير، وهذا يدخلنا أكثر في منطقة الخطر.
وإذا أخذنا في الحساب ما يسمى "كلفة العراق" المتمثلة بـ ( 35 - 45)% المذكورة والناتجة عن بقاؤنا تحت الفصل السابع فأن هذا يعني أننا سنكون في "الدرك الأسفل" من منطقة الخطر!

وإذا حسبنا ظروف العراق الخاصة الأخرى من مستوى سيطرة الفساد، وتشضي الوحدة الوطنية والسياسية غير الطبيعي وانتشار الطائفية الخطر، ومستوى الشفافية المتدني بشكل غير اعتيادي، والإرهاب الذي يخترق أجهزة أمن الدولة إلى حدود كبيرة غير معلومة (علينا أن لا ننسى أننا الدولة التي اشترت قطع حديد فارغة على أنها أجهزة كشف متفجرات، وأنها لا تزال تستعملها بعد فضيحتها بسنوات!) ، ويتحكم في اقتصادها بنك (جي بي موركان) يفرض عليها مع من تتعامل ومع من تمتنع حتى لو كانت كلفة ذلك مضاعفة أسعار ما تشتري، والجهل الشديد لمسؤولي الحكومة في التخطيط والإقتصاد متمثلاً بغياب أي تخطيط مستقبلي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بتقديمهم مثل هذه الورقة على أنها مشروع إستراتيجي، رغم أنه لا يشمل على اية حسابات من أي نوع، وكذلك المعارضة التي همها ومهمتها في الحياة إفشال أي مشروع، والتي تهتم بسلامة إرهابيي خلق أكثر من الوطن، والبرلمان الذي تعشعش فيه أمثال لجنة النفط والطاقة واعضاؤها الذين يعملون لخصخة البلاد للشركات الأجنبية والمحلية بحماس يزيد بأضعاف حماسهم لبلادهم، ولدينا أيضاً إقليم يمثل نوابه الكثر، مصالح الشركات والحكومات الأمريكية والإسرائيلية، ولا يتورع عن أي ابتزاز لبلاد وشعب لا يشعر بأي انتماء لهما، ولا يتردد في أية سرقة لمواردهما المشتركة من كمارك ونفط وتهريبه حتى عندما لا يكون في تلك السرقة فائدة للإقليم كما بين الأستاذ حمزة الجواهري، ولا يمتلك ساسته أية مشاعر تجاه البلد إلا اللهم العداء الصريح، ويحضى بدعم أميركا وتركيا في كل طموحاته غير المشروعة، التي وصلت إلى الإستيلاء بالقوة على أراضي وثروات المحافظات المجاورة له وفرض ذلك كأمر واقع، كما فعل في النسبة التي يفرضها على الحكومة والتي لا تمثل نسبة سكانه أبداً، وباعترافه، وما أنتج كل ذلك من خلل مدمر على بنية البلاد الإجتماعية... إذا حسبنا كل ذلك، فسنكون موقنين بأننا نسقط في فخ إقتصادي كبير إن لجأنا إلى الإستدانة والدفع بالآجل بهذا الحجم، بل حتى بنصفه!

وإن كنا حقاً نهدف إلى خدمة البلد والشعب وليس إلى مشاريع "عملاقة" للتباهي، فعلينا أن نأخذ بنظر الإعتبار البدائل الأقل لمعاناً ولكن ربما الأكثر فعالية في استعمال الأموال، مثل إقتراح الأستاذ فاضل عباس مهدي بإنشاء صندوق للبنية التحتية، ولكن يركز على "الحفاظ على ما بناه أبناء العراق بعهودهم المختلفة وتطوير البنى التحتية الموجودة فعلا قبل بناء منشآت جديدة من الصفر فذلك أرخص وأجدى اقتصاديا". إنها وجهة نظر يجب أن تعطى ما تستحق من أهمية.

لماذا تريد الحكومة الدخول في مشاريع عملاقة، وهي لم تتبين بعد أن لديها الأدوات القادرة على إدارة حتى المشاريع الصغيرة والبسيطة، ولماذا تريد التورط في مشاريع مكلفة مع شركات كبرى في "غياب المفاوض الذي يجيد لغة التفاوض الفنية والاقتصادية"، حسب تعبير الدكتور البصري؟ ألا يدعو نواب كثيرون إلى خصخصة الكهرباء بحجة أن الحكومة ميؤوس منها؟ فحتى حين تعطي الأمر كله لشركة أجنبية كأية حكومة متخلفة تريد النتيجة فقط، فعليك أن تعرف كيف تدير العقود مع تلك الشركات وإلا أكلتك أكلاً. والحديث عن أن الشركات الكبرى لا تغش، كلام فارغ بل مشبوه! فالغش الأكبر هو في الشركات الكبرى والفضائح الكبرى كانت دائماً في الشركات الكبرى كما يشير تاريخ إنرون وهاليبرتون والمصارف الكبرى التي تسببت في الأزمة العالمية المالية من خلال تعاملات مشبوهة بالعقار وما تلاها، وغيرها كثير.
قبل يومين قرأت هذا الخبر عن "المشاريع المتلكئة في محافظة بابل" كمثال مخيف لطرق عمل الحكومة وما تمتلكه من أدوات، ويمكنكم أن تقرأوه وتحكموا بأنفسكم، إن كانت حكومتنا مستعدة لمشاريع إنشائية كبيرة بفوائد كبيرة.(3)

كذلك، لكي تستدين الحكومة بشكل سليم، ونأمن تصرفها بالدين بشكل سليم، يفترض بالحكومة أن تتصرف كحكومة "فقيرة" تحتاج إلى الدَين. فهل في التبذير في رواتب المسؤولين مثلاً، وصرفياتهم في سفراتهم، ما يوحي بحكومة مضطرة للإستدانة للصرف على بنيتها التحتية و "مساعدة الفقراء"؟ وكيف يمكننا أن نفهم تبرع حكومة لا تجد دولاراً واحداً لتبدأ به بناء بنيتها المحطمة سوى بالإستدانة، وتقوم "بمساعدة" دولة أخرى من خلال تخفيض النفط المصدر لها، وتلك الدولة لديها بنية تحتية أفضل منها بمئات المرات؟ الحكومة التزمت صمت القبور عن هذا الأمر، رغم صراخنا وصراخ الناس وتبياننا للفضائح المتعلقة بهذا الموضوع، ورغم حاجة الحكومة وتباكيها على الفقراء ومساكنهم، فهل نستطيع أن نأتمن مثل هذه الحكومة على الدخول بعمق في عالم الديون الدولية الخطر؟
هناك أيضاً موضوع "التعرفة الجمركية" والذي تتهرب الحكومة منه لتخوفها من ارتفاع أسعار المواد الإستهلاكية. والحقيقة أن هذا الرأي، إن لم يكن وراءه تجار لصوص، فهو في غاية الغرابة. فمن جهة تريد الحكومة أن تبني البلاد بالديون، ومن الجهة الأخرى تريد أن تتصرف كإمارة نفطية خليجية فتطلق الإستهلاك بكل حرية ولا تريد إزعاج المستهلك بأية ضريبة. وإن كان الحرص على الفقراء والسلع الأساسية، فيمكن إعفاء تلك السلع من الضريبة، وإبقائها على الباقي الكمالي الذي يستهلكه الأغنياء أكثر، كما تفعل حتى الدول الأكثر ثراء وأقل إشكالات من العراق.

ويشرح عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار النائب محما خليل: ان"التعرفة الجمركية لها أهمية كبيرة وتأجيل العمل بها له تأثيرات سلبية على اقتصاد الدولة، لأن له مردوداً جيداً، فإيرادات الجباية تقدر بمليار وسبعمائة مليون دولار". وقال أن"الحكومة تطالب بتطبيق القانون المذكور بعد سنتين،وهذا يعني بعد انتهاء الدورة البرلمانية الحالية".(4)

إذن هناك تبذير شديد وتبرعات لا مبرر لها من جهة، والإتجاه إلى ديون كبيرة من الجهة الأخرى! ألا يبدو أن الأمر مدبر من جهة ما، وأنه فخ إقتصادي للحكومة والبلاد، لإخضاعها لإرادة البنك الدولي وشركات النفط في نهاية الأمر، أكثر مما هي الآن؟ من الذي وضع هذا "الفخ الإقتصادي"؟ هناك مؤشر غريب يثير الريبة، وهو ما أشرت إليه في الجزء الأول من المقالة، من كون المشروع مقدراً بالدولارات وليس بالعملة الوطنية كما يفترض في مثل هذه المشاريع، وهو ما يوحي بأن مصدر هذا المشروع من "مستشارين" أجانب، يفترض انهم أمريكان، وهذا ليس غريباً، فجميع المؤشرات تقول أن من أهم أهداف الإدارة الأميركية وضع العراق تحت سلطة البنك الدولي ومؤسساتها المالية وإجباره على الخصخصة وحرية السوق وبيع ثرواته رخيصاً لشركاتها، كما حدث في كل مكان في ا لعالم تتواجد لها فيه سلطة كافية. هذا ليس سوى تخمين فقط، وسواء كان صحيحاً أو خطأ فأنه لا ينفي ما تقوله الأرقام والحقائق أعلاه من خطر الدخول في مثل هذه الإستدانة، خاصة في مشاريع البنية التحتية التي لا يتوقع أن تأتي بمردود سريع بسبب طبيعتها.

ما البديل إذن؟ الحقيقة أن البديل متوفر وجاهز ويضع نفسه أمام الحكومة، فلا تنظر إليه ولا تخبرنا عن السبب، رغم أن العديد من السياسيين والباحثين يصرخ به، حتى بفرض أنها مبتزة من قوة كبرى ولا تستطيع أستعادة أموالها لا من الأردن ولا من كردستان، فإنها تستطيع كما افترض استخدام بقايا تخصيصات السنوات الماضية التي اعيدت إليها! أن تستخدمها لتبدأ العمل حتى إن لم تبلغ تلك المبالغ رقم الـ 37 مليار أو الـ 40 مليار المطلوبة. فعلى كل حال نحن لا ندخل هنا في مشروع متكامل لا يمكن تجزئته، فحتى المشاريع لا تزال غير محددة ولا توجد هناك أية خطة حتى الآن باعتراف الجميع. الحكومة طلبت من الجهات تقديم اقتراحاتها للمشاريع، لكن أليس هذا العالم مقلوباً؟ هل تحاول معرفة ما تحتاجه من مشاريع بعد أن تحدد المبلغ اللازم لها أم العكس؟
كذلك لا أفهم لماذا لا ابدأ العمل بما أمتلك من مال؟ ما هو السر؟ لماذا الخيار البديل المكلف والخطر وحده هو ما تقدمه الحكومة؟ هل هناك رغبة بالإستدانة؟ إنها أحجية أخرى من أحاجي العراق الكثيرة....

لقد أشرت بشكل عابر في الحلقة الأولى من هذه المقالة (5) إلى خطورة الدَين ووعدت بمحاولة كتابة مقالة خاصة لذلك لأهمية الموضوع وإنارة السؤال الذي سيتكرر بلا شك في الفترة القادمة كثيراً عنه. وذكرت أن على العراق أن لا ينسى أن اقتصاده الريعي معرض للهزات الإقتصادية عند حدوث هبوط في سعر النفط، وأن عليه أن يبقى خطوطاً لتراجع سليم عند الحاجة. والحقيقة أن هذا الهبوط في الأسعار يمكن ايضاً التسبب به عن عمد عند الحاجة إلى تحقيق هدف سياسي، وهو ما فعلته أميركا من خلال دفع السعودية إلى ضخ كميات من النفط أكبر من حاجة السوق، للضغط على أسعاره وتحطيم الإتحاد السوفيتي، ثم كررت ذلك لدفع صدام إلى احتلال الكويت، وهو الأمر الذي ادى في نهاية الأمر إلى إنهيار عربي شامل، ولا شك أنها تريد ذلك الآن في مواجهتها لكل من إيران وروسيا في نفس الوقت، ويمكن أن تتسبب في مثل هذا الهبوط لإجبار العراق على بيع ثرواته بطريقة "القاتل الإقتصادي" التي أشرنا إليها في الحلقة السابقة.

وهنا أريد أن الفت الإنتباه أيضاً إلى نقطة مقلوبة المنطق جاءت في محاضرة الدكتور البصري حول هذا الأمر حين شجع على تنفيذ القانون وعاجلاً باعتبار انه "في حالة عدم اقرار القانون سوف يكون من المتعذر القيام بالمشاريع الحيوية المطلوبة على المدى القريب،  كما من المتوقع ان تنخفض اسعار النفط في الاعوام القليلة المقبلة ولغاية 2016 بسبب العرض الفائض (كما تشير الى ذلك الدوائر النفطية العالمية ذات الاختصاص)."(1) إنتهى الإقتباس من البصري.
فإذا كان المتوقع أن تنخفض أسعار النفط بسبب العرض الفائض، فيجب أن يحسب حساب هذا الإنخفاض وأن يعدل ما يتاح للعراق أن يستدينه على هذا الأساس، وأن لا يفترض أن الحكومات القادمة التي سنثقلها بدين إضافي، ستكون قادرة أن تدير ذلك الدَين إضافة إلى إلتزاماتها، وبدون التضحية بثروات العراق، في الوقت الذي ستعاني فيه من انخفاض في الدخل القومي! صحيح أننا يجب أن نستعجل استغلال الفرص، لكن بالمتوفر لدينا وهو ليس قليل، وليس بإثقال حكومة قادمة نعلم مسبقاً أنها ستعاني من أنخفاض الواردات!

في النهاية نقول، نحن نقف مع الخبيرين في ضرورة مشاريع البنية التحتية وعلى وجه السرعة، إنما نقف معهم ايضاً في ضرورة أن يبذل الكثير من الجهد التخطيطي أولاً، وأن يقدم مشروع حقيقي وليس ورقة يدعمها بقوة البعض وهي لا تحتوي أي شيء محدد، ويتظاهر مطالباً بها من لم يقرأها ولم يقرأ شيئاً عنها.
فإن تم تجاوز الإشكالات هذه، وهذا لا يتم بين ليلة وضحاها، فنحن نقف مع المشروع بكل قوة، وإن لم يكن فإنني لا اجد فيه سوى مادة دعائية إنتخابية، يمكن عبور الإنتخابات القريبة بها بسلام، لكنها لن تكشف لاحقاً إلا عن كارثة إقتصادية جديدة وطريقة لتجاوز الحكومة لصلاحيات البرلمان في توزيع أموال البلاد، وستذهب هذه الأموال هباءاً كما ذهب من سبقها. إذن يجب على الحكومة أن تؤدي واجبها بالبدء بوقف نزيف أموال البلاد للخارج ولكردستان وإضافتها إلى المبالغ المتبقية من ميزانيات السنوات السابقة والتي تقدر بأكثر من 20 مليار دولار، واستخدامها جميعاً لتنفيذ هذا المشروع، وإلا فإن الإصرار على العشوائية وطريقة التنفيذ غير الصحيحة يعني أن الحكومة غير جادة في تحقيق أهدافه، وأن وعدم تقديم أي تبرير لهذا الإصرار يثير الشبهات، ويجب في هذه الحالة أن يرفض المشروع!

(هذه هي الحلقة الثانية والأخيرة في الموضوع، ونأمل بكتابة مقالة مستقلة عن تاريخ وخطورة الإستدانة. الحلقة الأولى من المقالة كانت بعنوان "قانون البنى التحتية (1) الصراع السياسي وخلل القانون" وتجدونها على الرابط أدناه (5) )

(1) http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=35753
(2) http://www.iraqicp.com/2010-11-21-18-04-44/23911-2012-09-17-18-43-49.html
(3) http://www.iraqicp.com/madarat/24476-2012-09-30-08-00-45.html
(4) http://www.iraqicp.com/2010-11-21-17-49-26/24514-2012-09-30-19-54-47.html
(5) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=67667:---1-------&catid=34

17
قانون البنى التحتية 1- الصراع السياسي وخلل القانون
صائب خليل
3 تشرين الأول 2012

برفع البرلمان جلسة التصويت على قانون البنى التحتية إلى التاسع من الشهر الحالي (1)، هدأ قليلاً النقاش المستعر والمكهرب سياسياً، حول هذا الموضوع، ولعل هذا يعطي الفرصة لمراجعته بشكل عقلاني بعض الشيء. فلقد كان هذا الجدل حتى الآن في تقديري تعبير عن الكارثة التي يعيشها العراق, ورغم أن هناك من أغنى الموضوع بالنقاش العلمي الموضوعي بدرجة أو بأخرى، فأن المعنيين سياسياً بالأمر بشكل مباشر، أي الكتل السياسية التي يؤثر القرار على عدد أصوات ناخبيها، انقسموا بشكل شديد بين "رافضة" لكل شيء، و "موافجين" على كل شيء، ولم يكن هناك أي دليل على أن جهة ما منهم تهتم حقاً بكتابة وإقرار مشروع ناجح أو تأثيره على البلد، إلا بقدر ما يعنيه بالنسبة لها في صراعها القادم على السلطة. المعارضون كانوا يريدون الفشل للمالكي بتحقيق أي نجاح، بل أي أثر لنجاح، فنجاحهم القادم يعتمد على فشل المالكي وهم يأملون برفع شعار "أن المالكي لم يفعل شيئاً" لمعركة الإنتخابات القادمة.
وهذا بالضبط ما يدركه ويخشاه المالكي وفريقه. ويشرح ذلك احسان الشمري بالقول: "هناك هدفين من وراء اقرار هذا القانون، الاول هو تحقيق منجز حكومي، والثاني يتمثل بوضع الكتل السياسية في زاوية الحرج السياسي". و أن "القانون يرتبط بانتخابات قادمة، ومارثون الانتخابات التشريعية قد بدأ مبكرا"، معربا عن اعتقاده بأن "حسابات البقاء في الساحة السياسية هي من تدفع هذه الكتل إلى رفض مثل هكذا قوانين، باعتباره يمثل رصيدا لكتل سياسية أخرى". (2)

ويكفينا تماماً للبرهنة على صحة ذلك التحليل التصريح الصريح للنائب محمود عثمان بأن "تمرير قانون البنى التحتية سيقوي سلطة المالكي"، وأن الكتل تتخوف من الجانب السياسي للقانون وليس الاقتصادي، وأنهم لهذا السبب "لن يمرروه"، وهو ما حدث! (3)
وأهم مظاهر "سياسية المشروع" من الجانبين، هو ذلك التطرف الشديد في تأييد المشروع أو رفضه. فالمعارضين يريدون إقناعنا بأنه الطريق الى الفساد، ودون أن يشرحوا لنا لماذا، ومؤيدوه يقولون العكس وبطريقة أكثر تطرفاً، ففي حديثه في البرلمان(*) والذي خصه للإعداد الإعلامي لذلك القانون شرح المالكي سبب اطمئنانه إلى مناعة مشروع قانون البنى التحتية من الفساد بالقول: " نحن لدينا اتفاق مع شركات يابانية وكورية وصينية وهذه الشركات وافقت مبدئيا على العمل في العراق وفق النظام الدفع بالاجل بالتالي سيكون هذا القانون بعيدا عن الفساد الاداري”. واوضح ان “هذا القانون سوف يحكم الشركات الرصينة وتلتزم وفق شروط معينة بالتالي ستغلق الباب امام الفساد الاداري”
إن المرء ليحار فيما يعلق على هذا الكلام! لو كان التعاقد مع "شركات يابانية وكورية وصينية" وصفحتين غامضتين من رؤوس الأقلام "تغلق الباب أمام الفساد" لما عشنا لنرى فساداً في العالم!

 لم يجد مؤيدوا المشروع مبرراً لحماسهم الشديد، ولم يقدموا أي رد يستحق الوقوف عنده على اعتراضاتهم فلجأوا إلى أتهام معارضيهم بدفق من أقسى التهم "الرادعة عن الإعتراض"، فوصف ياسين مجيد من دولة القانون من يعارض قانون البنى التحتية بأنه "لا يريد الخير للعراق أبداً"، وقال المالكي أن تلك المعارضة ترفضه لأن "هذا المشروع يقطع الطريق امام مصالحهم وشركاتهم وفسادهم ". (4)
كذلك شارك بتأييد المشروع بحماس من كان يأمل بتحقيق مكاسب أخرى. فوصل الأمر بالنائبة ناهدة الدايني من العراقية في تأييد مشروع القانون إلى القول البعيد عن الواقعية، بأنه "سيحول العراق من بلد مستهلك الى بلد منتج"! (5) والدايني كانت تأمل كما يبدو بتمرير القانون مع حزمة تشمل قانون العفو العام وربما قانون النفط، (6) وهما قانونان يهمان خندق الشركات الأمريكية- الإرهاب – العراقية – كردستان، وبالصيغة البرلمانية سيئة الصيت في "حزم القوانين"، وهي ممارسة قبيحة تمارسها الكتل السياسية لتقاسم المصالح بعيداً عن مصلحة البلاد بلا خجل. وبغض النظر عن هذه الطريقة السيئة، فالقانونان المطلوب تمشيتهما قانونان سيئان أيضاً ومضادان للعراق، وهنا أسجل للسيد المالكي صمود حكومته ضدهما، وخاصة رفضه القاطع لقانون العفو العام حين أكد أنه سيتخلى عن قانون البنى التحتية إن كان مشروطاً بالعفو العام.(7)
ليس ذلك غريباً فأن موافقة المالكي على القانون سيكون انتحاراً سياسياً بين جماهيره. فقانون العفو العام قانون مشبوه يدعمه البعض عن حسن نية، ربما بأمل الإفراج عن محكوم مظلوم، وهناك الكثير بلا شك، لكن معظم من يدعم القانون من الكتل لا يهمه الأبرياء، بل يأمل بإيجاد منفذ للمنفذين لعمليات الإرهاب للنجاة. فرغم إقراري، ولدي ما يثبت من خلال تجربة كتابية خضتها بنفسي، أن القضاء العراقي بعيد عن الشرف والكلام الفارغ في امتداحه من قبل الحكومة، فأن قانون العفو العام سيفلت مجموعة كبيرة من أدوات الإرهاب ليعاد استغلالها للمزيد من الإرهاب من قبل الخندق الأمريكي الإسرائيلي وملحقاته، وهم من أؤمن أنه وراء الإرهاب. وفي اعتقادي أن هذا هو الهدف منه، ومن هنا تأتي قوة دعمه. ولكن لحسن الحظ فقد فشل المشروع وتم سحبه بفضل إصرار معارضة دولة القانون.(8) والغريب أن التحالف الكردستاني أبدى اسفه عليه، فما هي الحجة لذلك، وسراح من كان الكردستاني يريد أن يطلق؟ على اية حال فأن الحماس الحقيقي للكردستاني سوف يظهر عندما يأتي دور قانون النفط الأكثر سوءاً، ولكن لنعد الآن إلى قانون البنى التحتية، موضوع المقالة، ولننظر ما هو حقاً؟

لقد كان موقفي الأولي من المشروع، وقبل قراءة تفاصيله، هو الحذر العام والتحفظ فوضع العراق وحكومته التي تبدو مسيرة إلى حد غير معروف، لا يشجع على المغامرات. ورغم ذلك فقد كان لدي تردد في الرفض للمشروع لأننا طالما شكونا من نقص مشاريع العراق الخاصة بالبنية التحتية، وليقيني أن من اعترض عليه فعل ذلك لإفشال المالكي، وأيضاً لاعتقادي أن معظم الأموال العراقية ضائعة في كل الأحول ، سواء كانت في الفساد أو البطالة المقنعة أو الصفقات غير المجدية، فإن خرج منها 10% في مشروع مفيد فنكون قد انقذنا هذه العشرة بالمئة. إنها حالة مؤسفة ومخجلة، لكنها الواقع.

لقد تجنبت حتى الآن الكتابة في هذا الموضوع، بل أجلت قراءة مشروع القانون المطروح طويلاً، لتصوري أنه يحتاج لوقت طويل وجهد لمتابعة تفاصيله، خاصة بعد مروره بعدد من اللجان خلال السنوات الثلاث الماضية من عمره الطويل، فإذا بي أجد صفحتين كتبتا على عجل، وهما أقرب إلى "رسالة كتبت ولم تراجع" مما هي إلى مشروع قانون اقتصادي!
نجد في النت نسخ عديدة للقانون ولننظر إلى نصه كما نشر على صفحة حزب الدعوة، (9) ويبدو أنها النسخة الأكثر حداثة، والتي عدلت فيها بعض المواد، فمثلاً تغير المبلغ المخصص له من 37 مليار دولار إلى 40 مليار دولار.. ولننظر بعض نصوصها.

نلاحظ أولاً باستغراب أن المبالغ قدرت بالدولار، وليس بالدينار العراقي، وهو أمر لا تقوم به دولة تحترم عملتها، إلا تلك التي تعاني من انهيار تضخمي أو اضطراب في قيمة العملة يصعب معه استعمالها في التخطيط بعيد المدى.

ونلاحظ أيضاً أن المادة -2- تذكر أن التنفيذ يجب أن يكون بـ "الدفع الآجل"، علماً أنها طريقة تنفيذية مالية، يفضل تجنبها قدر الإمكان، واللجوء إليها عند الحاجة القصوى فقط.
والشيء بالشيء يذكر، نذكر أن وزير الكهرباء السابق قد دفع إلى الإستقالة إثر اضطراره إلى قبول شركات غير رصينة لتنفيذ مشاريع أضطره إليها الدفع الآجل، الذي لم تتقدم إليه أية "شركة رصينة"، ومع ذلك يصر مؤيدوا هذا القانون أنه سينفذ من قبل شركات رصينة فقط!

و تعطي المادة -4- للمقاولين العراقيين والأجانب على حد السواء، إمتيازات وإعفاءات ضريبية شاملة، تشمل حتى العاملين في تلك المشاريع! وكذلك "الإعفاء من تطبيق الضوابط والقيود الخاصة بإجازات العمل واستخدام الأجانب" عدا إلزامها بتقديم المعلومات...
وفي هذه المادة تبذير شديد بأموال الضرائب. ويبدو للمراقب للمسار العراقي وكثرة الحديث عن الإعفاءات الضريبية وغيرها، وكأن ذلك النظام الضريبي نظام سلبي وضع لعرقلة المشاريع، وأنه إن أراد المرء أن ينجز عملاً فيجب التخلص منه ومن الإلزامات والقيود الخاصة بإجازات العمل بالإستثناءات، رغم أن مواد ذلك النظام قد نتجت بلا شك عن دراسة وخبرة دولية طويلتين ولا يصح حذفهما "بجرة قلم" كما كان صدام حسين يفعل.

ولا أفهم كيف تجزل الحكومة الوعود للشعب بعشرات ومئات الآلاف من "فرص العمل" حين تعفي الشركة من "الضوابط والقيود الخاصة بإجازات العمل واستخدام الأجانب" والتي تنص عادة على وجوب استخدام اهل البلد مادام اختصاصهم متوفراً، على سبيل المثال. خاصة وأن أجور العمل العراقية ليست منافسة إن قيست بالدول الفقيرة المكتضة بالسكان؟
وكيف يحل التناقض بين هذه النقطة والمادة 8 غير الدقيقة الصياغة والتي "تلتزم الشركات المنفذة للمشاريع بتشغيل الأيدي العاملة العراقية في المشاريع المشمولة بأحكام هذا القانون بأعلى نسبة ممكنة وحسب طبيعة كل مشروع". ولا ندري لماذا تكون هذه المادة جزء من المشروع وليس قاعدة عامة في تشغيل الأجانب، كما هو في كل بلد في العالم.

نلاحظ أن الأرقام في مشروع القانون كلها مدورة إلى المليارات، وليس بينها رقم حتى بمئات الملايين، مما يدل على أنها تقديرات عامة عشوائية لا تستند إلى مشاريع محددة ولا تمثل تلك المبالغ مجموعاً لكلفتها. والدليل الآخر على ذلك أن المادة -7- تقول "تتولى الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة تقديم مقترحاتها بشأن المشاريع المطلوب تنفيذها بموجب هذا القانون" والذي يعني أن تلك المشاريع لم تقدم، أو لم يكتمل تقديمها. السؤال هنا: كيف عرفنا أن المشاريع (جميعها) عاجلة، بحيث تستحق تنفيذها هذه الإجراءات من إعفاءات ضريبية وقانونية والدفع الآجل وما تحمله كل تلك المعاملة الخاصة من كلفة، ونحن لم نعرف بعد حتى ما هي هذه المشاريع؟

فإن كانت المشاريع "مستقبلية" وغير معروفة في الوقت الحاضر، فهل المقصود هو قانون لمشاريع محددة للبنية التحتية، أم تأسيس لصندوق للبنية التحتية، يغطي حاجة تلك المشاريع المستقبلية حسب الحاجة إليها؟ وأي صندوق هذا الذي يخصص مسبقاً بأن يدفع بالآجل؟

كذلك تثبت المادة السابعة، بنص صريح، النسبة الإبتزازية لكردستان والمتمثلة بـ 17%، وليست نسبة سكان كردستان البالغة حسب تقدير برلمان كردستان نفسه 12.6%، (والتي يتهرب حتى من ذكرها ساسة العراق حكومة ومعارضة وبرلماناً) علماً أن نسبة المشاريع لكردستان باعتبارها الجزء الأكثر تطوراً بشكل كبير في البنية التحتية، يفترض أن تكون أقل من نسبتها السكانية عملاً بمبدأ رفع المناطق المحتاجة والأكثر تخلفاً، لتلحق بالمناطق الأكثر تطوراً. ورغم كل ذلك التملق الإتحادي لحكومة كردستان فقد رفضت الأخيرة الموافقة على القانون!  - لا أكتم سعادة التشفي بذلك، فمن يذل نفسه لا يستحق العطف!

وفي نص لمشروع القانون نشر على صفحة "عراق القانون" (10)جاء في المادة -6- "تسدد الحكومة العراقية قيمة المشروع المتعاقد عليه بالدفع الآجل بعد مضي مدة لا تقل عن (5) خمس سنوات من تاريخ اكمال تنفيذ المشروع او اية مدة يتفق عليها على ان لا تقل عن (5) خمس سنوات من تاريخ اكمال تنفيذه." وهنا إضافة إلى الضعف اللغوي (كرر المعنى مرتين في جملة واحدة!)، فإن المادة إن صحت، فهي "تفرض" على الحكومة أن لا يتم السداد إلا بعد خمس سنوات أو أكثر، وهو ما يعني أن يفرض على الحكومة دفع أرباح الديون لخمس سنوات حتى لو كان لديها المال اللازم لدفع المبالغ! - ألا يشبه هذا تآمراً مع المصارف للحصول على أرباح إضافية؟ وإلا لماذا تحدد الحكومة نفسها في طريقة الدفع بما قد يكون أكثر كلفة؟

من حقنا أن نتساءل: ما الذي يقدمه القانون للحكومات القادمة لو أنه أقر؟ إنه ليس جهداً تخطيطاً، فليس هناك مشاريع، ولا يوزع حصصاً لأموال خزينة على جهات صرف، فليس هناك أموال حقيقية ولا مشاريع؟ إنه فقط يتيح لهذه الحكومة وحكومات تالية، أن تصرف مبالغ تصل إلى أربعين مليار دولار، على حساب خزائن الحكومات التي تليها، وبخارج رقابة البرلمان الدستورية، مفترضة بدون مبرر كاف، أن الحكومات القادمة ستكون ثرية وليس لديها أية إشكالات مالية، وأنها لن تستطيع فقط أن تدفع التزاماتها كالحكومة الحالية وإنما إلتزامات الديون الإضافية والتزامات خططها التنموية وفوق ذلك يشترط عليها شروطاً في الدفع قد لا تكون مناسبة لها!

كذلك يشعر المتابع أن هناك استخفافاً غير طبيعي بالدين وأرباحه وما قد يتسبب به من كلفة كبيرة، مادية وكذلك في استقلالية القرار الوطني. فبينما كان الحديث قبل الآن عن ضرورة إنهاء الديون التي "تكبل" البلاد، صار الدين في الحرب الإعلامية حول المشروع، مسألة طبيعية! ونلاحظ هنا أن رئيس الوزراء كان قد أبدى في أكثر من مناسبة، أستخفافاً مقلقاً بموضوع الإستدانة. ففي لقائه السابق مع الجالية العراقية في الولايات المتحدة تحدث عن سهولة إقتراض 70 مليار دولار إضافية من اجل قطاع النفط (هناك أكثر من 70 مليار أخرى حالياً في جولات العقود السابقة، مما يجعل المجموع يقارب 150 مليار دولار)، قائلاً أن بلداً نفطياً مثل العراق يجب أن لا يقلق من مثل هذه الديون!
ويكرر المالكي اليوم هذا المنطق المقلق فيقول "ان كل دول العالم، وخاصة التي تمتلك احتياطيات نفطية، تركز على هكذا مشاريع كبيرة لبناء بلادها لخدمة جميع ابنائها وعلينا ان نفرق بين ديون النظام السابق من جراء سياسته الطائشة وحروبه وبين ديون تنموية نهايتها زيادة الناتج القومي". (11)

صحيح أن هناك فرق في "هدف الديون"، لكنها تبقى ديوناً يتوجب دفعها ودفع أرباحها، ولعلها في هذه النقطة أسوأ من ديون النظام السابق الفاسدة التي كان بالإمكان الحديث عن إعفاء العراق منها، وهو ما لن يكون ممكناً مع هذه الديون. كذلك فأن أحداً لم يكلف نفسه ويحسب تلك "الزيادة في الناتج القومي" المتوقعة من المشروع، وهي في كل الأحوال ذات طبيعة بطيئة شأنها شأن عموم مشاريع البنية التحتية.

ولا توحي مواقف السادة في القيادة في العراق بأنهم قد أطلعوا على هذه المخاطر، ولا بأنهم قد سمعوا بالتكتيك الأمريكي الحديث والمسمى "القاتل الإقتصادي" الذي يغرق البلاد ذات الثروات بالديون ثم يبتزها لبيع ثرواتها، ويمكن لمن يشاء تكوين فكرة عنه مشاهدة هذا الفلم الوثائقي المترجم: "‫ولادة القاتل الاقتصادي‬" على اليوتيوب  (12)
ويمكننا أن نرى أن العراق هو الضحية المثالية للقتلة الإقتصاديين الذين ترسلهم أميركا، وأن كل ما تصرفته مع العراق يوحي بأنها تحضره لتلك اللحظة. ونرجو أن تتاح فرصة كتابة مقالة متفرغة لتاريخ الإبتزاز بواسطة الديون منذ العصور الإقطاعية القديمة في العالم، وصولاً إلى تكنولوجيا القاتل الإقتصادي التي ابتكرتها أميركا في منتصف القرن الماضي.

علينا كذلك أن لا نعتمد على التفاؤل وننسى أن الإقتصاد العراقي الريعي، شديد التعرض للخطر حين ينخفض سعر النفط. وليس صحيحاً أن هذا من الماضي، فقد انهارت اسعار النفط عام 2009 لتسجل صادرات العراق انخفاضاً مقداره 32% عن عام 2008، ومن 61.1 مليار دولار الى 41.67 مليار دولار! كذلك فأن مجرد دخول العراق السوق النفطية بقوة ورفع تصديره بلا تحسب، كما يبدو أنه المخطط، يهدد بحد ذاته بحدوث انهيار في أسعار النفط، وحدوث رد فعل سلبي لا حل له، على الإقتصاد العراقي، لأن المزيد من رفع التصدير، سيؤدي فقط إلى المزيد من انهيار الأسعار وتراجع المردود.

وحتى لو لم يسقط العراق في الفخ، وحالفه الحظ في ثبات أو صعود أسعار النفط، وتمكن من سداد ديونه، فهناك السؤال الكبير الذي طرحه الكثير من المعترضين على القانون، وهو: إن كانت الحكومة حتى الآن قد عجزت عن تحقيق إنجاز للميزانية يتجاوز الـ 50%، فلماذا تستدين وتدفع الأرباح المكلفة؟ المنطق الرأسمالي نفسه ، دع عنك الإشتراكي الذي يفتخر المالكي بـ "القضاء عليه"، يقول أن الدولة التي لا تتمكن من استخدام مواردها، يفترض بها أن تصدرها، لا أن تستورد (تستدين) المزيد منها!
وهذا ما ذهب إليه ايضاً عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي والوزير السابق رائد فهمي ، حين أكد ضرورة الاهتمام بالبنى التحتية، ودعم وتشجيع أي خطوة وإجراء وقانون يهدف إلى بنائها وتطويرها، لكنه نبه أن "التعاقد بالآجل، باعتباره شكلاً من أشكال الدين بغض النظر عن طرق تسديده سواء بالنفط أو غيره، يعني زيادة مديونية الدولة".
وتساءل عن "مدى ضرورة اللجوء إلى الاستدانة في الوقت الذي لا تكاد تصل نسب انجاز الموازنة الاستثمارية نصف المبالغ المخصصة لها مع وجود فوائض لإيرادات النفط يمكن الاستفادة منها في التمويل نتيجة لارتفاع سعر بيع البرميل بما يقارب العشرين دولاراً على السعر المعتمد في الموازنة. (13)
ولا نستغرب قلق النائب عن كتلة الاحرار اقبال الغرابي من نقص القانون وإرهاقه للموازنة العراقية  (14) ولا أعتراض خالد العلواني عن العراقية بأن "العراق ليس بحاجة الى هذا القانون لان المبالغ التي بقيت من السنوات الماضية من الممكن ان تستخدم بديلا للاقتراض الخارجي". (15) ولا قول رئيسة لجنة الخدمات البرلمانية فيان دخيل بأن الوزارات والمحافضات لا تصرف الموازنة السنوية المخصصة لها، فيمكن استخدامها. وقولها أخيراً انه "لا يمكن أن نعطي صك للحكومة بـ37 مليار دولار مقابل قانون بورقتين ورؤوس نقاط بسيطة وبدون تفاصيل"، وهو وصف لم يكن ظالماً للقانون كما تم تقديمه.

نستطيع أن نفهم غضب المالكي وأتلافه لحرمانهم من تسجيل نقطة انتخابية كبيرة لصالحهم ولكن لا يمكن أيضاً مسح هذه الإعتراضات الجوهرية ببساطة على اساس أن القانون "يهدد فساد المعترضين عليه"، كما يفعل عدي العوادي في لجنة الطاقة المشبوهة ضد معارضي بيع الكهرباء للشركات.

من كل ما سبق، ومن تصريح النائب عثمان بشكل خاص، نستطيع القول بثقة أن الكتل السياسية المعارضة كانت ستحاول أن ترفض القانون حتى لو كان متكاملاً، وقد تنجح، فما يهمها هو إفشال المالكي. من جهة أخرى من حق الحكومة أن تقوم بأعمال تخدم الشعب وتفخر بها وأن تستفيد منها في انتخاباتها المقبلة، فهذه هي الطريقة الأمينة والسليمة لكسب الإنتخابات. لكن حين تطلب الحكومة من الآخرين الموافقة على المخاطرة بمشاريع كبيرة، عليها أولاً أن تثبت أنها أهل لمثل تلك المشاريع: أولاً أن تقدم مشروعاً مدروساً بشكل مقنع، وليس مستعجلاً لأهداف انتخابية، وأن تبرر أرقامه بشكل دقيق، وليس ورقة مليئة بالثغرات وعلامات الإستفهام وتبدو وكأنها كتبت على عجل في جلسة واحدة، وأن تبين ثانياً أنها بذلت كل ما تستطيع، وستبذل المزيد، من أجل أن ينفذ المشروع بلا استدانة وأرباح مكلفة. وبدلاً من الجهود السياسية الهائلة في الأروقة الخلفية ورشوة كردستان بأموال المحافظات الأخرى وتنظيم التظاهرات المؤيدة للقانون لجماهير لا تعلم شيئاً عنه، أن تبذل بعض هذا الجهد في دراسة وكتابة قانون متكامل قدر الإمكان ومقنع يصعب رفضه دون إحراج كبير للكتل الرافضة.

في الحلقة الثانية سنختتم هذا الموضوع بمراجعة أهم الدراسات التي وضعت حول القانون ونحاول استنتاج الشكل المناسب الذي يفترض أن يقدم على اساسه.

(1) http://iraq4allnews.dk/ShowNews.php?id=41772
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22751
(3) http://www.alsumarianews.com/ar/iraq-politics-news/-1-48846.html
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22631
(*) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22146
(5) http://www.alestiqama.com/news.php?cat=siasy&id=4616
(6) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22661
(7) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22631
(8)  http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22796
(9)  http://www.al-daawa.org/main/index.php?option=com_content&view=article&id=2098:2012-09-24-06-52-24&catid=20:fiqer&Itemid=26
(10) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22838
(11)  http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22631
(12) http://www.youtube.com/watch?v=Y8TDch24DAo
(13) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=67342:2012-09-26-12-27-14&catid=36:2009-05-21-01-46-14&Itemid=54
(14) http://www.ipairaq.com/index.php?name=inner&t=economy&id=60396
(15) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=67342:2012-09-26-12-27-14&catid=36:2009-05-21-01-46-14&Itemid=54


18

النظرية .. فكرة لا فائدة عملية لها؟

صائب خليل

 28 آب 2012

ارتبطت كلمة "نظرية" بصورة سلبية لدى عامة الناس والمثقفين، لكثرة تداول جمل تشير إليها بإصبع الإنتقاد أو الاتهام، ولعل أشهرها: "هذا شيء نظري، لا ينطبق على الواقع" أو "لا يمكن تطبيقه"، وبالتالي ارتبطت كلمة "نظرية" بشيء خيالي يمكن استعماله للحديث أو الكتابة أو اللهو والبطر الثقافي، وليس له أية قيمة في الحياة العملية، بل ربما نظر إليه على أنه عبارة "مخادعة" تبعد الناس عن الواقع، بما توحي به من عالم خرافي جميل متكامل يسير وفق المعادلات الرياضية ومفاهيم المنطق.
ما أبعد ذلك عن الواقع، وما أظلمه! فأهم ما أنتج جهد الإنسان من علوم لم تتمخض سوى عن "نظريات"، ولم تكن إنجازاته العملية إلا نتيجة مباشرة لتطبيق سليم لتلك النظريات! النظريات في الفيزياء أسست كل ما أنجز فيه، مثل علم الميكانيك الذي أسسته "نظريات" نيوتن وغاليليو بشكل رئيسي، وعلمتنا كيف نتوقع الحركة والسرعة والتعجيل من خلال معرفة الكتلة والقوة المسلطة عليها، وباسكال الذي علمنا كيف نحسب حمولة السفينة قبل أن نقرر بناءها، وعلمتنا النظريات كيف نحسب كمية الطاقة التي نحتاجها لإنجاز شغل معين، وعلمتنا "نظرية" البابليين القدماء لحساب أبعاد المثلث القائم الزاوية، والتي سجلها فيثاغورس باسمه، والتي أمكن بفضلها وبفضل نظريات أخرى، بناء منشآت لم تكن ممكنة قبلها.
لكن النظريات لا تقتصر على العلوم الكلاسيكية بل دخلت علوم الاقتصاد والحياة وعلم النفس والمجتمع وغيرها، ووضعت "نظريات" حيثما واجه الإنسان مشكلة عويصة يعجز عن حلها بفطرته وحدها.
من أين إذن أتت التهمة التي توجه إلى "النظرية" في كل مكان، ومن أين اتى الانطباع السلبي حين نصف رأي ما بأنه "نظرية" ولا ينطبق على الواقع؟ وكيف أمكن لبعض النظريات أن "تنطبق على الواقع" ويستفيد العلماء منها بثقة، وأخرى تصيبنا بخيبة أمل وتعطي نتائج مختلفة عن ما تحسب النظرية؟
قبل أن نصل إلى جواب لهذا السؤال الكبير، علينا أن نسأل: ما هي "النظرية" وماذا ننتظر منها؟

في حياتنا، نحتاج كثيراً إلى اتخاذ قرارات، ولكي نتخذ قراراً صحيحاً، فإننا نحتاج إلى أن نعرف أموراً معينة نحسب من خلالها نتيجة ذلك القرار. نريد أن نعرف، وقبل التورط به، إن كان سيكون في صالحنا أم لا. لكن حساب كل التفاصيل وتدوين كل التجارب ثم مراجعتها لإستنتاج القرار لكل حالة جديدة، أمر مرهق وغير واقعي، فكيف نتصرف؟

أدرك الإنسان، أنه لكي يستطيع توقع نتائج نشاط ما، فعليه أن يحسب كل ما يؤثر على تلك النتيجة. لكن هذه العوامل من الكثرة والتشعب، ما يجعله عاجزاً عن حسابها، وضمن الوقت المعقول لاتخاذ قرار. لو رأى إنسان يحمل مشعل نار ذئباً فر منه، لأستنتج: هذا الذئب (بالذات) يخاف مني (بالذات) حين أحمل هذا المشعل(بالذات)! ولو أكتشف آخر أن ضبعاً لم يقترب منه حين كان يجلس بقرب نار، لاستنتج: "هذا الضبع يخاف أن يقترب مني حين أجلس قرب هذه النار"! سيفكر الأول: كلما جاء هذا الذئب، سأحمل هذا المشعل، والثاني سيقول: إذا جاء هذا الضبع ثانية فعلي أن أجلس قرب هذه النار! لقد عرف الأول كيف يتخلص من هذا الذئب بالذات والثاني كيف يأمن هذا الضبع بالذات، لكن ماذا عن الذئاب الأخرى والضباع الأخرى؟ هل يجب أن ننتظر صدف أخرى لنعرف كيف نتعامل معها؟ صدفة لكل حيوان مع كل إنسان وفي كل حالة؟ من الواضح أن سيكون علينا أن ننتظر أن يسعفنا الحظ بتجارب هائلة العدد! وحتى لو كان ذلك ممكن حدوث فأن تجميع مثل هذه التجارب وإبقاءها بالذاكرة أمر مستحيل.

لحسن حظه، إكتشف أن "كل الذئاب" كانت تخاف منه إن كان يحمل ذلك المشعل! أي أنه أكتشف أن هناك صفة "مشتركة" لكل الذئاب، وهي أنها تخاف من ذلك المشعل! يا له من مشعل عظيم! إنه لن يحتاج في المرة القادمة أن ينتبه إن كان الذئب الذي أمامه هو نفسه السابق، فـ "القاعدة" تنطبق على جميع الذئاب، وهذا أسهل واسرع بكثير. ثم تبين له فيما بعد أن الذئاب لا تخاف فقط من نار هذا المشعل، وإنما من أية نار! أي إكتشف أن هناك صفة "مشتركة" بين كل نار، وهي أنها تخيف الذئاب، وهذا يسهل الأمور عليه ثانية!

هكذا لاحظ الإنسان (وكذلك الحيوان إلى حد أقل) أن هناك أموراً مشتركة بين التجارب المختلفة. وأدرك أنه إن تمكن من حساب تأثير تلك الأشياء المشتركة مرة واحدة وحفظه، فسوف يحصل على حسابات مجانية جاهزة لكل حالة مشابهة في النقاط المشتركة، وفي هذا توفير عظيم في الجهد والوقت! فلا يبقى عليه حين يصادف حالة جديدة، إلا أن يلاحظ ويحسب الأشياء الخاصة (غير المشتركة) بتلك الحالة، ليصل إلى النتيجة النهائية.
لقد "عمم" الإستنتاج على الحالات التي من نفس النوع، فأصبحت لديه "نظرية" تسهل حساباته. ثم عمم ثانية وجرب وتأكد أن فتوسعت "النظرية" وزاد عدد الحالات التي تقدم خدماتها فيها! ثم عمم ثانية حين أكتشف الآخرون أن هذا ينطبق عليهم أيضاً، وأن جميع الذئاب تخاف من جميع النيران عندما يحملها أي شخص! وبعد تجارب، قرر أن تعميماً إضافياً ممكناً، وهو أن "جميع الحيوانات المفترسة تخاف من النار". هكذا تولدت "نظرية" عامة ثمينة لهذا الإنسان البدائي، ربما لولاها لما استطاع البقاء على قيد الحياة في الغابة.
 
ثم ربما أعجبته الفكرة فحاول أن يعمم أكثر، ففكر: "ربما جميع الأشياء الشريرة تخاف من النار!" لكنه حين جربها أمام أعدائه من القبيلة الأخرى، وجدها لا تعمل. وهكذا اكتشف "حدود عمل نظريته". وهكذا تتولد النظرية وتصقل لتأخذ شكلها الأخير، وهي تقدم لنا خدماتها في كل مرحلة، وحتى بدون أن يعي الإنسان إن كان يتصرف وفق نظرية أم لا.
ولا تقتصر النظريات على الإنسان، فالحيوانات تكتشف قواعدها وتعميماتها الضرورية ايضاً، فهي مثلاً تخشى الإنسان من خلال تعميمها لتجارب مرة عن هذا "الحيوان الغريب" الذي يبدو ضعيفاً، لكنه يستطيع أن يقتل من بعيد جداً!

نصنع النظرية، ثم تصنع هي سلوكنا:

إذن، بعد أن فهمنا الأهمية العظيمة للنظرية والمساعدة التي تقدمها والتي لا غنى لنا عنها للبقاء على قيد الحياة، فلا شك أننا سنستشير "النظرية" في أي شيء نقرره، حتى إن لم نكن نعي أننا نستشير نظرية، أو حتى دون أن ندري أن لنا نظرية في ذلك الموضوع. وهكذا فالنظريات التي نؤمن بها في الحياة، تقرر تصرفنا وتجاربنا إلى حد بعيد.

يخصص ريتشارد وولف الصفحات الأولى من كتاب يقارن بين النظريات الاقتصادية، للحديث عن النظريات بشكل عام، فيقول "أن النظريات التي نؤمن بها تحدد حياتنا إلى حد بعيد. فالشخص الذي يؤمن بنظرية بأن "الحب" مرادف للجنس، سوف يعيش تجربة حياتية تختلف تماماً، عن ذلك الذي يؤمن بوجود علاقة بينهما، لكنهما مختلفان. والحكومة التي تنطلق من نظرية تقول بأن الإنجيل أو ألقرآن هو المصدر الأوحد للقانون، ستتصرف بشكل مختلف عن تلك التي تعتقد بأن الدين والسياسة يجب أن ينفصلا عن بعضهما البعض. النظرية التي تحدد ما هو "جميل" وما هو "قبيح" لدى شعب ما، ستؤثر في طريقة تصميمه لمدنه وأبنيته وكيف يقص أبناءه شعرهم، وما يلبسون وكيف يتصرفون، وهكذا.
وحتى التجارب العلمية تختلف حسب النظريات التي تقودها، والتي تحاول التجربة برهنة صحتها أو خطأها. فلا تستطيع أن تقوم بتجربة علمية بهدف معرفة ما هي المؤثرات بشكل عام على الضغط الجوي مثلاً، دون أن يكون لديك نظرية عن المؤثرات المحتلمة على الضغط، وإلا كانت التجارب هائلة العدد. لذلك فأن "نظريتنا" تقودنا لتحديد تلك التجارب ضمن الممكن، فنجرب لنعرف إن كان الضغط يتأثر بالإرتفاع والحرارة، ولن نجرب مثلاً لنعرف إن كان يتأثر بالضوضاء، مثلاً.
القرارات الاقتصادية التي يتخذها بلد ما، تعتمد على النظرية التي يراها ذلك البلد، او المتنفذين فيه، أنها الأنسب للبلد، (أو للمتنفذين). هل يقررون الاستثمار في الصناعة أكثر أم الزراعة أم البيئة أم تربية الإنسان؟ هل يركز ا لبلد على ما يعطي مردوداً سريعاً ثم يستعمله للتعليم، أم العكس؟ ما هي أسباب الفقر؟ هل هو الكسل الفطري لدى البعض من الناس أم النظام الاقتصادي الذي يدفع بالبعض إلى الفقر والبعض الآخر إلى الغنى؟ هل أن اخلاق الناس تحدد موقعهم الاجتماعي والاقتصادي، أم العكس؟ هل تسهم الخصخصة في انتعاش البلد واستفادة سكانه أم تزيد الفساد ورشاوي السياسيين وتتهرب من الضرائب؟

إضافة إلى تلك الأسئلة العامة، فأن "النظرية" التي يحملها الفرد في كل دولة أو مؤسسة تجيب عن الأسئلة الخاصة بأمور تلك الدولة أو المؤسسة. فمثلاً في العراق، يتخذ المواطن موقفاً من خلال نظريته، يحدد إجاباته على الأسئلة التالية: هل يجب أن نعمل من أجل فدرالية تعطينا استقلالنا النسبي عن الحكومة المركزية لحل مشاكلنا، أم أن نصر على حل المشاكل ضمن العراق ككل؟ هل تصح الخصخصة لإصلاح حال الكهرباء، أم أنه مجرد محاولة إضافية لسرقة أخرى؟ هل يجب منع رئيس الوزراء من ولاية ثالثة خوفاً من تثبيت حكم الفرد، أم نؤيده لأنه أفضل من يستطيع أن يعبر بالبلد أزمته الحالية الخطيرة؟ هل أسست أميركا الإرهاب في العراق أم تساعد على حمايتنا منه؟ هل نحتاج إلى حماية الناتو أم أنه خطر على استقلال العراق؟ هل نحتاج إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للمشورة ودعم المشاريع الاقتصادية أم أنهما مؤسستان خلقتا للإيقاع بالبلدان وابتزاز ثرواتها؟  وهكذا.. "نظرياتنا" عن العالم تقرر لنا أجوبتنا عن كل ذلك!

النظريات ليست ثابتة، إلا أن تغييرها يتم عادة ببطء وبعد الكثير من الأدلة والمعلومات الإضافية المتجمعة، وعندها تتشكل نظرية أفضل منها فـ "تنفي الأولى" وتحل محلها، لتأتي فيما بعد نظرية أخرى أفضل فـ"تنفي" النظرية الثانية وهكذا، وهو ما يسمى بمبدأ "نفي النفي" حسب تعبير ديالكتيك هيجل.

إذن فالنظرية" ليست ذلك الشيء الوهمي الفلسفي الذي لا يفيدنا في "الواقع" و"لا ينطبق عليه"، بل أمر اساسي لا غنى لـ "الواقع" عنه، ولا يستطيع الإنسان البقاء بدون "نظرية"، فتبقى النظرية تحدد سلوك الإنسان وقراراته، ولا يتركها مهما تقادمت ورأى نقصها، حتى تأتي نظرية أخرى تحل محلها.


19

الحكومة والملفات والبرلمان والتصويت السري ونهاية هذا الطريق
صائب خليل
2 آب 2012


تلجأ الحكومة العراقية إلى مراوغة غير منطقية، لكنها مفيدة جداً لإخفاء مسؤوليتها عن الجرائم التي تجري بين الحين والآخر بحق الشعب العراقي وآخرها قانون حوسمة الكهرباء الوطنية، وقبلها فضيحة السيارات المدرعة وقبلها ضعف الأداء في تشريع القوانين وقضايا كثيرة أخرى، وتلقي بها على عاتق البرلمان وحده، لكن الحقيقة التي لا مفر منها أن الحكومة وهذا "البرلمان" (إن صح التعبير) مشتركان في جميع الجرائم!

فالفصل بين مسؤولية البرلمان والحكومة عن القرارات غير دقيق. ولو كان نظامنا رئاسياً، لكنا فهمنا هذا الفصل، وفهمنا أن يكون قرار ما، مسؤولية أحدهما دون الآخر. ففي النظام الرئاسي، كما هو النظام الأمريكي والفرنسي مثلاً، يكون التصويت للحكومة (الرئيس) منفصلاً عن التصويت للبرلمان، وكثرما كسب الديمقراطيون في اميركا الإنتخابات الرئاسية ثم خسروا الكونغرس، أو العكس، فيصبح هناك ما يسمى بالعداء بين البرلمان والحكومة ويقوم الأول بعرقلة أعمال الثانية، وعندها نفهم أن يقوم كل من الحكومة والبرلمان بإلقاء اللوم في الكوارث التي تصيب البلاد على الآخر.

أما في نظام الحكم البرلماني، فالإنتخابات واحدة، والحكومة تنبثق من الفائزين في الإنتخابات البرلمانية، وبالتالي فإن تبادل كرة اللوم بين البرلمان والحكومة قضية غير واردة وغير صحيحة ومشبوهة. بل أن الكتلة الحكومية يجب أن تحصل على أغلبية برلمانية لكي يمكنها أن تحكم، وبالتالي فأن الحكومة تتحكم إلى حد بعيد في قرارات البرلمان. وحين يتهم البرلمان الحكومة فأن "المعارضة" البرلمانية هي التي تتهم الحكومة ومكونها البرلماني معاً، وحين تنزعج الحكومة، فمن الجزء المعارض في البرلمان فقط وليس من "البرلمان" بشكل عام. فالرقابة البرلمانية على الحكومة لا تعني إصدار قرارات مضادة لها في نظام الحكم البرلماني، ولا تعني عرقلة إصدار القوانين التي تريدها الحكومة، لأن الحكومة اعتيادياً تمتلك أكثر من نصف البرلمان، بل تقتصر الرقابة على إثارة المواضيع وفضح الأخطاء والخطايا الحكومية وعرضها على الشعب وإحراج نواب الحكومة وكتلتها في البرلمان بأمل الضغط عليهم ودفعهم إلى التراجع عما تعتبره المعارضة خطاً، بالتهيدي بخسارتهم لشعبيتهم.

والحكومة لا تتناقض ولا ينقض بعض أعضاءها التصويت البرلماني للبعض الآخر، فهم يتفقون قبل طرح القانون على الإستفتاء البرلماني، وما لا ينجحون في الإتفاق عليه بالحد الأدنى، (كما يحدث كثيراً في حكومة المحاصصة) لا يطرح أساساً للبرلمان، وبالتالي لا يمكن إلقاء اللوم عليه بعدم إقراره، ويمثل هذا الخلاف والشلل ضعفاً في تركيبة الحكومة هي وحدها، وخاصة رئيس الحكومة، المسؤول عنه. فإن حدث مثل هذا الخلاف في أمور أساسية وجب على الحكومة أن تستقيل وتعيد تشكيل نفسها ربما من خلال انتخابات مبكرة، إن كانت حريصة على برنامجها الإنتخابي وعلى رؤيتها لمستقبل الوطن وعلى سمعتها أمام ناخبيها. أما الحكومة التي تحرص على الإستمرار رغم إفشال برنامجها فلا يعني ذلك إلا أن ما تحرص عليه هو المناصب التي حصلت عليها والرواتب التي تتقاضاها، وأن برنامجها لم يكن سوى خدعة للناخبين من أجل إيصالها إلى الكرسي فقط.

ماذا عن حكومة المحاصصة التي يعمل كل طرف فيها ضد الآخر؟ في البدء يجب التأكيد أن جميع أطراف حكومة المحاصصة – الحكومة التي تتفق على توزيع الحصص وليس على برنامج عمل – يتحملون عار المشاركة في مثل تلك الحكومة. ومع ذلك وحتى لو أفترضنا أن بعض المخلصين اضطروا سياسياً لتشكيل مثل تلك الحكومة لنقص في مقاعدهم (وحتى هذا التبرير لا ينطبق على الإئتلاف الوطني) فأن ذلك لا يمنح الحكومة فرصة إلقاء تبعات الفشل على البرلمان. عندما يقول المالكي أن الحكومة قدمت القانون الفلاني، وأن البرلمان هو الملام لأنه لم يصادق عليه، فأنه لا يكون دقيقاً، وقد يكون متعمداً الغموض. فيمكن لرئيس الحكومة أن يقول "أن حكومته قدمت مشروع القانون، لكن المعارضة أفشلته"، أو "تلك الجهة أفشلته"، ولكن ليس "البرلمان" بشكل عام أفشله!

الغموض في هذه الحالة، يتيح لرئيس الحكومة أن يفشل القانون من خلال مساهمة أعضاء كتلته البرلمانية، ثم يلقي اللوم على البرلمان كله. فالغموض يعفي رئيس الحكومة أن يقول بوضوح أن أصوات كتلته الحكومية قد كانت كلها، أو كلها تقريباً، في جانب القانون، وأن الكتلة الأخرى الفلانية المحددة، صوتت بالضد منه. فمثلاً عن تخصيصات الميزانية لبناء المساكن الشعبية والبنية التحتية، ألقت الحكومة اللوم على "مجهولين" في البرلمان أفشلوا التخصيص للفقراء، وقدم السنيد مسرحية مفادها أنه سيقدم استقالته في حالة عدم إقرار ذلك التخصيص.(1)
لكننا لم نعلم حتى الآن من الذي صوت مع القانون ومن الذي صوت ضده. ولو كان السنيد حريصاً فعلاً على حالة الفقراء لكان يكفيه أن يكشف من صوت ضدهم ولا حاجة لإستقالته (التي لم ينفذها طبعاً، بعد أنتهاء المسرحية). لكن يبدو أن كشف التصويت "من أكبر الكبائر" بين الأخوة الأعداء المتوافقين على "خدمة" الشعب!

هل يريد المالكي الخير، لكنه لا يجد الدعم اللازم حتى من كتلته؟ الغموض لا يتيح لنا أن نحكم بالقطع، لكن المؤشرات تبين عكس ذلك. فالأحداث تبرهن أن المالكي قادر على حشد الدعم عندما يريد. فمثلاً لم يعجز المالكي عن توفير المال لإقامة مؤتمر القمة العربي أو مؤتمر 5+1 رغم معارضة معارضيه له، ولا عن شراء الطائرات الحربية الأمريكية. ووجد المالكي دعماً كاملاً و "مغلقاً" لكل نواب كتلته في الإحتجاج والغضب على محاولة "استجوابه" في البرلمان، وهي عملية دستورية بسيطة (ما لم يكن يخشى منها تداعي كشف ملفات خطيرة)، ولا نستطيع أن نفهم كيف يمكن لمن يقف مع المالكي في الدفاع عنه ضد استجوابه، أن لا يقف معه في برامجه الشعبية! فمن المنطقي أن قدرة الرئيس على إقناع النواب بمساندة المشاريع الشعبية أسهل بكثير من دعوتهم لحجب محاولة استجوابه. فلماذا تستسلم الحكومة إذن بسهولة في تلك المشاريع، وتنجح في خوض معركة شرسة ضد استجواب رئيس الوزراء؟ فالمفروض أن الإستجواب سلاح ذو حدين، وان الذي لم يفعل الخطأ، سوف يرحب به كطريقة دعائية لشخصه. لذا لا نستطيع أن نفسر ذلك التناقض، إلا إن كان كل فرد في الحكومة يخشى أن ذلك الإستجواب سوف يفضحه هو أيضاً!

الحكومة تلقي اللوم على البرلمان، لكن لماذا لا يحتج البرلمان على اتهامات الحكومة له؟ ببساطة لأن البرلمان ليس كياناً موحداً ليحتج! ليس هناك من يشعر بأن اصبع الإتهام موجه إليه، مهما وجهت الى البرلمان التهم. فالبرلمان مكون من خصوم، من كتل وجهات لا يهم أي منها أن يوجه اللوم إلى البرلمان. البرلمان ساحة صراع وليس جهة متصارعة، ولا يمكن تحميل ساحة صراع، نتيجة معركة.

وهاهو الشعب يبتلع الطعم و يغضب على "البرلمان"، لكنه لا ولن يعرف ما يجب أن يفعله بغضبه هذا! حين يغضب الشعب على كتلة معينة أو على الحكومة، يكون لهذا الغضب معنى، كأن يمتنع عن انتخاب من غضب عليه، لكن ما الذي على الشعب أن يفعله حين يغضب على "البرلمان"؟ وهكذا يمكن للجميع، وخاصة الحكومة والصحافة، خداع الشعب بإلقاء اللوم والرزايا والجرائم على شبح له إسم وليس له كيان أو مسؤولية محددة يتحملها أحد، هو البرلمان، وتكون سعيدة بذلك!

ولكي تنجح هذه الحيلة كان من الضروري أن يظهر البرلمان على غير ما يفترض منه كساحة صراع، بل يجب أن يبدو للناس ككتلة صماء واحدة، تصدر القرارات وتتحمل مسؤوليتها. ومن أجل تحقيق ذلك توجب إخفاء طبيعة كيان البرلمان وصراعاته الداخلية التي تعبر عن محتواه ومعناه والغرض منه، وإبقاء جلده الخارجي واسمه فقط تحت النظر.  ولأجل إنجاز ذلك سعى المستفيدون إلى محاولة فرض "التصويت السري" منذ عدة سنوات، وقد كتبت عنها كثيراً في ذلك الوقت وانتهت المحاولة حينها بالفشل بامتياز. لكني فوجئت قبل فترة بأن "التصويت السري" قد أقر، وأن العمل به كان قائماً لفترة طويلة، ولم يفضح الأمر سوى اختلاف اللصوص. فهم يريدون التصويت السري المشبوه عندما يصوتون على مصالح الشعب (مقابل مصالحهم ومصالح أميركا عادة)، لكنهم ينزعجون منه عندما يتم التصويت على تقاسم المكاسب، ولا يثق أحد منهم بالآخر في تلك الحالة، وهم يعلمون ان التصويت السري طريقة لتمرير الأكاذيب، ولذلك لا يكون مرغوباً عندما يحتاجون إلى أن يثقوا ببعضهم البعض في تنفيذ ما اتفق عليه، كما بينت في مقالة سابقة بعنوان النواب يعودون للتصويت السري - جهلة جهلة أم سفلة سفلة؟(2)

"التصويت السري" يتيح إمرار كل الفضائح بصمت، سواء خصخصة الكهرباء أو قانون النفط أو السيارات المدرعة أو توزيع أراضي للنواب، ويسمح في نفس الوقت لجميع اللصوص بتلبس لبوس الشرفاء المحتجين على نفس القانون الذي صوتوا عليه، دون أن يمكن للناس أن تعرف من منهم الكذاب ومن منهم الصادق. ولكن عندما يكون الأمر: "مرر لي هذا القانون وسأمرر لك ذاك" فإنهم يبحثون هنا عن طريقة موثوقة للتصويت، تتيح لهم معرفة حقيقة التزام رفاقهم بوعودهم. من الطبيعي ان اللصوص أكثر وعياً من الشعب، وأن الأخير لم يهتم بشفافية عملية الدفاع عن مصالحه والتأكد من التزام نوابه بوعودهم له، وهذا هو الوضع حالياً، ولا ندري إلى متى سيستمر.

إن فضيحة حوسمة الكهرباء الأخيرة (3)  بإصدار قانون مشبوه بـ "إلزام الحكومة بخصخصتها" (وهي بالضبط صيغة أمريكية معروفة في جميع الدول التي تتعرض لضغطها، وتقوم بتنفيذها الجهات المحسوبة عليها عادة، حتى في اوروبا) ليست سوى إحدى ثمار التعتيم وسرية التصويت والتستر المتبادل بين الساسة العراقيين، وتحويل البرلمان إلى مزبلة للفضائح بدلاً من أن يكون ساحة صراع الأفكار االسياسية وكشف الحقائق والمواقف ليتمكن الشعب من اتخاذ مواقفه على أساس من معرفته بمن صوت ولمن.

بصدد الكهرباء نطالع اليوم خبراً ربما يثير أول الأمر بعض الأمل يقول: "نواب التحالف الوطني يطالبون بالغاء قانون خصخصة الكهرباء"(4) لكننا حين نقرأ التفاصيل نجد أن اعتراض هؤلاء النواب كان على جزئية في القانون وليس عليه بشكل عام. فقلة اهتمام الناس وسهولة تمرير الجريمة دفعت بالمدافعين عن القانون إلى الإستهتار إلى الحد الذي جعله قانوناً منفلتاً في لصوصيته حتى عن ضوابط قانون الإستثمار العام، وبشكل حتى غير دستوري، مما دعا هؤلاء النواب لتسجيل موقف اعتراض، ربما لتبرئة بعض الذمة لا أكثر. ولكن الخبر يشير إلى أن القانون تم تمريره بطرق مشبوهة لم نعرف ماهيتها حتى الآن.

ما هي صيغة القانون الذي تم إقراره بشأن خصخصة الكهرباء؟ إني لم أجدها في موقع البرلمان بعد، بل أن البرلمانيين احتجوا لأنها قدمت لهم من قبل عصابة لجنة الطاقة في نفس يوم التصويت (وهذه أيضاً من حيال الإدارات الأمريكية المعروفة في مواجهة الكونكرس والصحافة وتمرير القرارات المشبوهة، خاصة الإتفاقات الإقتصادية الدولية مثل نافتا) فكيف يتمكن الشعب من أن يراها وأن يناقشها بـ "شفافية" كما يتشدق مداحوا الديمقراطية في العراق؟ كيف اتفق الجميع على "انجاز" القانون بدون كشفه للشعب؟ كيف تم تمريره بهذه السرعة؟ لماذا احتج نواب على "تأخيره" حين تأجل لمرة واحدة رغم ان تأجيل القوانين في العراق سمة عامة في البرلمان؟ لماذا تجري مناقشة القوانين عادة بمناقشات الصيغة الأولى والثانية وربما الثالثة، بينما يصوت على قانون الجشع الإستثماري في غفلة سريعة من الزمن؟ لماذا لم يقم المعترضون عليه بكشفه وفضحه وطرح المناقشات التي جرت في البرلمان ليفهم الشعب من هم الذين معه ومن هم أعداءه المتخفين بشكل "خلايا نائمة" في كياناته السياسية؟ كيف تقبل الحكومة وممثليها في البرلمان بصيغة "تلزمها" بالخصخصة إن لم يكن هناك في القضية سر؟ أنا كمواطن، أعتبر من صوت للقانون أما لص أو أبله لا يدري على أية كارثة صوت، ويهمني أن أعرف من الذي صوت ضده لأدعمه وأنتخبه، فلماذا لا أستطيع أن أعرف من يقف مثل موقفي لأعطيه صوتي مستقبلاً؟ ما هو موقف رئيس الحكومة شخصياً من هذا القانون؟ لماذا لم نسمعه حتى الآن؟

ألا تبرهن كل تلك العجلة والتعتيم وكل هذا الحماس لحل هذه المشكلة بهذه الطريقة، بأن أصحاب المشروع كانوا يهدفون إلى تبرير القانون نفسه وليس إلى حل مشكلة الكهرباء؟ بل ألا يشير هذا إلى أن من كان وراء القانون من لجنة النفط والطاقة البرلمانية برئاسة عدنان الجنابي، صاحب السوابق السيئة في قوانين النفط، والأتروشي بمواقفه الكردستانية الشركاتية، وبقية شلة اللجنة، ربما كانوا جزءاً من المؤامرة التي اصرت أن تفشل الكهرباء الوطنية من أجل أن تقدمها للإستثمار لقمة سائغة، كحل وحيد ممكن، رغم أنه لا توجد دولة واحدة في العالم فشلت يوماً في تقديم الكهرباء لبلادها، ومنذ ان اخترعت الكهرباء؟

حينما يؤيد الوزير عفتان قانوناً يلزمه بالخصخصة إلزاماً، والتخلي عن صلاحياته الحكومية للمحافظات وهو يعلم أن الوزارة أكثر كفاءة منها في الموضوع بكثير، كما يستنتج من إجاباته على احتجاجات المحافظات على حصصها وعلى تجاوزاتها، بل حين يذهب إلى أبعد من ذلك ويدعو إلى تسليم الأمر للإستثمار بعد تجهيز المحطات بشكل كامل، ألا يبدو كشخص مرعوب، أخذ العبرة مما جرى للوزير الذي سبقه حين وقف بوجه لصوص الإستثمار، فكان نصيبه الإبعاد عن الوزارة ومحاولات تشويه السمعة إعلامياً قبل ثبوت أي شيء عليه، ورغم عدم ثبوت أي شيء عليه؟ هل هناك مكان آخر غير العراق يجرؤ فيه مسؤول أن يقول مثل ما قاله الوزير عن تسليم الإستثمار المحطات بعد إكمالها من كل شيء، وكررته إحدى النائبات في البرلمان بلا خجل؟ لماذا لم يحلل التقرير البرلماني أسباب فشل الكهرباء ويدعو لمحاسبة المقصرين، وإنما يقفز بدلاً من ذلك مباشرة إلى الحل، الذي هو دائماً "الإستثمار"؟ لماذا لم يخطر ببال هؤلاء حل آخر؟ ولماذا هم واثقون هكذا من أن الإستثمار سيحل المشكلة بشكل أفضل؟ لماذا طالب البرلمانيون وزارتي الداخلية والمالية في تقريرهم ومشروع قانونهم وبحزم، بتوفير كل الدعم لإنجاح الإستثمار، ولم يطالبوهما بتوفيره لوزارة الكهرباء التي بقيت بين عقود الآجل والعجز عن استيفاء قوائم الكهرباء من المستهلكين؟ وكان الإستثمار ونجاح الإستثمار هو الهدف الأسمى الذي انتخب الوزير والبرلماني من أجله؟ إننا لن نعرف الإجابة عن هذه الأسئلة أبداً، فنحن الشعب الذي قبل "التصويت السري" في برلمانه!

ربما يساعدنا في فهم هذه الألغاز، ما جرى في معركة "الملفات" والتهديد بها. يمكنك أن تختلف معي وأن تتعارك معي، لكن دون أن نكشف "ملفاتنا" للشعب! علينا في نهاية الأمر أن "نسوي" الخلاف ونتفق على صيغة ما دون إدخال الشعب في الموضوع. فقد تختلف مصالح اللصوص ويخسر أحدهم ما يربحه الآخر ويصطرعون من أجل فرق المكاسب، لكن الشعب يبقى "ألعدو" الأكبر الذي يهدد عموم اللصوص بخسارة جميع تلك المكاسب مرة واحدة، بل قد يعاقب اللصوص عقاباً صارماً. لهذا كله فالملفات لم تكشف ولن تكشف، فمهما كانت الخسائر والأرباح بين اللصوص، فستبقى أدنى بكثير من خسارتهم إن سقطوا بيد الشعب، وإن ضاقت بهم السبل، فلديهم دائماً "التصويت السري" لتمرير أي حل لها مهما كان قبيحاً، ثم التنصل من القرار وإلقاء اللوم على الكيان الوهمي الذي لا يتحمل أحد مسؤوليته: البرلمان!
هكذا فقدنا الكهرباء، وسنفقد النفط، والقرارات السيادية، والأراضي المتنازع عليها، ونقرأ الفاتحة على العراق.

قد يبدو هذا تشاؤماً متطرفاً، لكن من يربط مسيرة قرارات البرلمان ومشاريع الحكومة والتصويت السري ومعركة الملفات وطريقة تمرير خصخصة الكهرباء وتحديات كردستان وابتلاع الحكومة لإهاناتها والشركات النفطية ووقاحتها والردود الحكومية الهزيلة عليها وعلى أخطار المثلث التركي الكردي والشركات، واستمرارها بمجاملة أميركا رغم علمها بأنها تقف وعلى مدى جميع الملفات في الخندق المعادي لموقف الشعب العراقي، وأنها وراء كل الشرور والأخطار التي تحدق بالعراق، يرى بوضوح أننا سائرون على هذا الطريق!

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13418
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=17862
(3) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=20047   
(4)  http://www.alrafedain.net/index.php?show=news&action=article&id=77484


20
الأديب والكاتب السياسي: 3 - حوار مع مثقف لا يتدخل في السياسة...

صائب خليل
22 حزيران 2012

- استاذ، أنت كمثقف تهتم بلا شك بما يجري في بلادك، ونود أن نعرف رأيك المحدد في بعض القضايا الخطيرة إن سمحت.
= بكل سرور تفضلوا...
- لنبدأ بثروتنا القومية الأساسية: ماهو موقفك من قانون النفط وصراع المختلفين بشأنه؟
= قانون النفط؟ طبعاً كل شيء يجب أن يكون له قانون..
- هل برأيك أن "عقود الخدمة" أفضل أم عقود "مشاركة الإنتاج"؟
= أنا أتصور "المشاركة" ربما تكون أفضل من بعض النواحي...لكن ربما يأتي غيري ويقول غير ذلك..فـ "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحـ...."
- هل نعطي النفط المخفض السعر لحكومة الأردن في رأيك؟
= هل طلبوا ذلك؟
- لننتقل إلى تساؤلات آخرى على الساحة: هل نعتبر أميركا خطر علينا، أم صديق؟
= هذا يعتمد على تعريفك لـ "الصديق" و "الخطر"...
- هل نقف مع حكومة سوريا أم مع الثوار؟
= سمعت أن كليهما سيء.. ما شأننا بهم؟
- تقول الحكومة أن سقوط سوريا سيؤثر على العراق، كيف، برأيك؟
= أكيد سيؤثر بشكل ما.. كل شيء يؤثر على كل شيء بطريقة ما. يجب أن نفهم أن العالم صار قرية صغيرة مترابطة بشكل وثيق وأنه لا يمكنك أن ....
- وما رأيك بما يجري في مصر الآن؟
= بصراحة لا يهمني ....أنا أؤمن بمبدأ "العراق أولاً!"
- وعن الإقتصاد، وهو كما تعلم خطير الأهمية، دعني أسألك أولاً: ما رأيك بالعولمة؟
= سمعت حديثاً عنها، لكني في الحقيقة لا أستطيع أن أعطي تقييماً دقيقاً لها...فلست ملماً بكل تفاصيلها..
- وما رأيك بحرية السوق؟ هل تناسب بلادنا؟
= بشكل عام هي شيء جيد...لكن رب سائل يسأل: ما هو "الجيد" ؟
- ما رأيك بالليبرالية، هل هي الأنسب للبلد؟
= الليبرالية حركة عريقة، لكن يجب أن لا تكون مؤدلجة فعهد الإيديولوجيات أنقضى
- والإشتراكية؟
= الإشتراكية أصبحت قديمة...على الإشتراكيين أن يتطوروا...الشيء الحديث هو الرأسمالية
- وما رأيك بمشروع إلغاء الأصفار من العملة؟
= إنه مشروع كبير وسوف يؤثر على الإقتصاد الوطني، ولكن سلباً من بعض النواحي وإيجاباً من النواحي الأخرى
- أية نواحي سيؤثر سلباً وأيها إيجاباً؟
= لاتستطيع أن تقول أيهم هكذا وأيهم هكذا، لأن العوامل متداخلة بشكل معقد وبنيوي ومن التعسف فصل هذا عن ذاك..
- والخصخصة؟ ما رأيك بها؟
= الخصخصة لها جانبان كالعملة، لكنها بشكل عام فكرة جيدة، خاصة إذا درست دراسة متأنية ونفذت بشكل جيد
- هل تتصور أنها تخدم البلد؟
= كل شيء يخدم البلد إذا نفذ بعلمية وأمانة.
- وماذا لديك لتقول لنا عن اعتداء الجيران على مياه نهرينا ببناء السدود؟
= إنها جريمة حقاً إن فعلوا ذلك!
- وكيف ترى أن علينا أن نتعامل مع الإرهاب؟
= أنا أؤيد القضاء على الإرهاب!
- هل تعتقد أن أجهزة كشف المتفجرات سليمة أم مجرد خدعة؟
=...سمعت في التلفزيون شخص يقول أنها تخطئ بحشوة الأسنان....
- الشفافية كما لا يخفى عنك قضية اساسية للديمقراطية فبدون معرفة الناس بما يجري حولهم لا يمكنهم أن يمارسوا سلطتهم وخياراتهم بشكل سليم: ما رأيك باستعمال النواب للتصويت السري في البرلمان؟
= هل يفعلون؟
- وما رأيك بتوزيع المقاعد التعويضية في البرلمان؟
= التعويض مطلوب...على أن يكون ذلك بعدالة وليس بمحسوبية ومنسوبية.
- تمر البلاد بمفصل خطير من الصراع السياسي: ما هو سبب الصراع الأساسي بين المركز والإقليم في رأيك؟
= مصالح...كلها مصالح..
- هل يسير المالكي إلى الدكتاتورية برأيك، كما يتهمه خصومه؟
= بالتأكيد...جميع الحكومات تسير إلى الدكتاتورية...
- يعني هل تؤيد سحب الثقة عنه؟
= إن كان ذلك يخدم البلد، فلم لا؟
- وهل يخدم ذلك البلد في رأيك؟
= هذا يعتمد على الظروف ومواقف الأطراف المتصارعة.
- وما رأيك بمجلس السيادات، هل هو دستوري؟
= ربما.. الأمر يعتمد على تفسيرك للدستور...والدستور كما تعلم "حمال أوجه".
- بأي شيء ترى المركز محق، وبأي شيء كردستان على حق؟
= طبيعي كل جهة ترى نفسها هي المحقة!
- وأنت ما ترى؟
= كلاهما مخطئان!
- كيف؟
= لأنهما يجب أن يعملا لصالح البلد وليس للمصالح الشخصية
- أية مصالح شخصية بالضبط؟
= مثلما قلت لك، صدقني كلها مصالح شخصية!
- وكيف نحل هذا الصراع؟
= بالحوار طبعاً...أنا أؤمن بالحوار..الحوار الحضاري ونبذ الخلافات وعقلية المحاصصة وإقصاء الآخر..يجب أن نترك ثقافة الخطوط الحمر، وأن نعمل على...
- من ترى منهما على خطأ وتريده أن يقدم بعض التنازلات في هذا الحوار الحضاري؟
= كلاهما!
- يعني تقترح أن يتنازل المركز ويقبل أن يوقع الإقليم عقود النفط بدون علمه؟
= إذا كانت هناك ثقة فليس هناك مشكلة..
- والمركز يقول أن صلاحيات "مجلس السيادات" الذي يطلبه علاوي يخالف الدستور، فهل يمكن التنازل عن الدستور؟
= لو صفت النيات وتآلفت القلوب لما كان هناك حاجة حتى إلى الدستور..
- وعلاوي، هل تريد أن يتنازل ويشارك الحكم المالكي، وهو يراه دكتاتوراً؟
= أنظر...القضايا نسبية وليس أسود وأبيض.. هذا يعتمد على تعريفك لـ "الدكتاتور".. وهذا التعريف يعتمد على الزمكان. فمن قد يعتبر اليوم في فرنسا دكتاتوراً قد لا يعتبر غدا في كوالالامبور دكتاتوراً. لكل بلد خصوصيته وعلينا أن نتحدث دائماً إنطلاقاً من تلك الخصوصية، لا ان نقلد الآخرين بشكل ببغائي.
***



21
 

سفينتنا الوحيدة..إلى أين نبحر بها؟


حسم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مشكلة كبيرة بإيقاف الاستملاكات التابعة للوقفين السني والشيعي في أنحاء البلاد، ودعا الوقفين للجوء إلى المحكمة الاتحادية في حال الخلاف، وأن تبقى المساجد والمقابر بإدارتها الحالية.(1) وكذلك دعت جميع الأطراف إلى تجاوز الفتنة.
وهكذا، ربما نستطيع القول أن "سفينة" العراق "الواحدة" كما وصفها المالكي في مناسبة قريبة أخرى، والتي نعيش عليها كلنا، شيعة وسنة ومسيحيين وغيرهم، قد نجت من ضربة أخرى كادت تطيح بها.
ولا يسعنا هنا إلا أن نتساءل مرة ثانية: لماذا لا يتم التحرك، إلا حين تصاب تلك "السفينة" بضربة وتوشك على الغرق؟ أولاً، ألم يكن بالإمكان توقع تلك الضربات وتجنبها؟ وثانياً، ألا يفترض أن تستغل الأوقات الأكثر هدوءاً لتقوية دفتها قبل أن تفاجئها العواصف، حيث يكون العمل صعباً وحرجاً؟ والسؤالان يختصران بسؤال واحد: متى يأخذ العراق المبادرة ويفوت الفرصة على أعدائه قبل أن يتيح لهم الفرصة لضربه؟

لقد كتبنا كثيراً عن ضرورة المبادرات لتقوية الأواصر السنية الشيعية في البلاد، وقدمنا مقترحات عديدة لمثل تلك المبادرات منذ سنين وقدم غيرنا ايضاً، لكن المبادرات الوحيدة كانت ما يقدمه الشهداء من دمهم وحياتهم، اما الباقي فهو انتظار سلبي لتلقي الضربات وتحملها والدعوة إلى "عدم الإنجرار للفتنة".

لا اتصور أن السيد المالكي بفريق مستشاريه، لم يكن على اطلاع على ما يجري من قضايا الإستيلاء على الأوقاف، ولا أتصور انه كان صعباًعليه أن يتخيل ما قد تحدثه هذه التحركات في هذه الأوقات الحرجة، فلماذا انتظر أن تزهق ارواح 26 عراقي ليتحرك لوقفها؟
لماذا حدثت الأزمة أصلاً؟ لا أستطيع الحكم من هو صاحب الحق في هذه القضية، لكني أتساءل هل كان هذا "الحق" حرجاً إلى هذه الدرجة لتتم إثارته بهذا التوقيت؟ وهل كانت القضية مصيرية لا تقبل التأجيل، وتقف على رأس سلم أولويات أهداف العراق، ليتم تنفيذها بسرعة وبطريقة الصولات الإستفزازية، ثم ليقول رئيس الوقف الشيعي أنه ماض في تنفيذ النقل مهما تكن النتائج؟ ولماذا لم يجد رئيس الوقف السني الوقت لكي يلجأ إلى المحكمة ويحاول حل الموضوع قبل أن يدلي بتصريحاته الإعلامية؟ لماذا قدم كل منهما الحجة لمن قالا أنه "يريد الفتنة"، ليقوم بتلك الفتنة؟
هل يهم زائر تلك الأضرحة حقاً، من الذي يقيم عليها؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه صراعاً على المال من قبل أنانيين لا يهمهم سوى جمعه لأنفسهم "مهما تكن النتائج" وليذهب العراق إلى الجحيم؟ فأي نوع من البشر يضع نفسه على مسؤولية الوقفين إذن؟ من هذه الحادثة عرفنا أي نوع هم.

 لقد كتبنا يوماً أن الإرهاب لا يتم، إلا باستكمال جانبه الإعلامي، حين يهيئ الظروف لكي يتم تفسير جريمته الإرهابية بالطريقة التي تخدم أجندته، فلماذا قدمتما الفرصة للإرهاب بتهيئة الجو الطائفي اللازم لتفسير ضربته الإرهابية على أساس طائفي، فسارع لإستغلالها؟ إن كانت "خلافات إدارية" كما قال الطرفان، فهل عجز الوقفان ووزارة العدل عن حل الخلافات الإدارية إلا من خلال دماء القتلى والجرحى؟

سفينتنا تترنح، ليس فقط بفعل الأخطاء المتكررة المشجعة للطائفية، وإنما ايضاً تلك المشجعة للإرهاب وكذلك الفساد المستشري والإقتصاد غير المخطط والفقر والجهل والتلوث، ولا شيء من هذه الأمور الأساسية يبشر بحل قريب، فكم ضربة جديدة ستتحمل هذه السفينة قبل أن تتحطم تحت ضربات هذه الآفات والفرص التي تقدم لها؟

من يريد أن يواجه عدواً أو مرضاً بشكل جدي، فهو يبدأ ببذل الجهد للتعرف عليه وعلى مواصفاته ونقاط قوته وضعفه، ليضع بعد ذلك استراتيجية محاربته، فما الذي فعلته المؤسسات المختلفة، حكومية وحزبية وثقافية وغيرها، من أجل التعرف على هذه الجرثومة؟
هل يعرف أحد في العراق كيف تتحرك الطائفية؟ هل استحدثت مؤسسة لمراقبة صعودها وهبوطها بين ابناء الشعب العراقي؟ هل هناك إحصاءات حول نسبة من يعتبر نفسه أو غيره طائفياً في كل منطقة في العراق؟ وما هي أهم أسباب الطائفية؟ ما هو مفهوم الطائفية لدى المواطن، وهل مازال مرفوضاً أم أن نسبة تقبله تزداد، أو أنها تقل؟ هل أن الشعور بالطائفية، له أسباب موضوعية، أم أن أغلبه بسبب إعلام خاطئ وكاذب؟ هل نعرف نوع التصريحات والتصرفات التي تثير الطائفية أكثر من غيرها لدى العراقيين؟ هل تتسبب تصرفات الجهة المقابلة بمشاعر الطائفية اكثر أم تشجيع الطائفة التي ينتمي إليها الشخص؟ ما هي الردود المناسبة التي تقلل تلك الطائفية لدى الناس؟

ألا تستحق هذه الأسئلة بعض الجهد والمال لمعرفة أجوبتها؟ كيف نبني المبادرات إن لم نكن نعرف شكل عدونا الذي نحاربه ومواصفاته وما هي طرقه لإختراق جسد المجتمع، وما الذي يكاثره وما الذي يؤذيه؟ وإن لم تكن هناك مبادرات للقضاء على آفاتنا فكيف سننتصر؟ لا يوجد ملاكم مهما كان صلباً، يمكن أن يصمد إلى الأبد وهو يتلقى اللكمات دون ان يردها، ومن يفعل ذلك لا يفيده صموده إلا إطالة زمن انتظار هزيمته القادمة لا محالة!

ربما يتصور المرء أن الطائفية مشكلة عسيرة، وأن الجهل الشعبي هو وراء تلك المشاعر وأن الحكومة ومؤسساتها والمؤسسات الدينية غير قادرة على إقناعه بخطئها، لكن الذي أثار دهشتي أن ردود فعل الناس، (1) وقد تابعتها على احد المواقع الشيعية، فوجدت أن الأغلبية الساحقة من التعليقات كانت شديدة التعقل وأقرب إلى أستنكار إثارة تلك المشكلة بهذه الطريقة وهذا الوقت:

كتبت إحدى المعلقات: "انا ارى انه من الاجدى والانفع والاصوب ان يدمج الوقفين السني والشيعي في دائرة واحدة يطلق عليها دائرة الاوقاف الدينية فذلك اقرب للتقوى وهو ارفع للحرج من هذا لي وهذا لكم وهو اكثر لحمة للمسلمين وهو اول لبنه على طريق نبذ الطائفية وعدم تعميقها ووحدة الصف"

وكتب آخر: " اقترح ان لا تأخذنا العزة بالإثم ونقر بإن تقسيم الأوقاف الى سنية وشيعية كان خطأ جسيما والصحيح هو إعادة توحيدها فورا ,, فهل من مستجيب"
 
وكتب آخر: "ان كنا نطمح على جعل عراقنا الجديد خالي من الطائفية وفيه يسود العدل والاخاء والحرية للجميع , نرجوا القيام فورا في اخماد الفتنة ودمج الوقفين معا وتوحيدهما من اجل ان نستحق رحمة الله تعالى ورضوانه ."

وآخر: " إذا كانت مزارات ومراقد وما شابه ذلك فلماذا هذه الضجة؟ عند هؤلاء او أولئك فالامر سيان والناس تزور مقاماتها مقدساتها حسب اعتقاداتها ولا تراجع في ذلك هذا الوقف ام ذاك.
هل في الامر إثارة فتنة؟ وهل يستدعي الامر ان تدخل قوة عسكرية لتعمل على تغيير ملكية العقاران. كيف كانت تدار سابقا؟ من خلق من الحبة قبة وأشاعها في الاعلام الذي يبحث بين القش على ابرة ليثير فتناً ما وراءها إلاّ الفرقة!"

وآخر: "أقترح أجراء أستفتاء حول هذا الموضوع اي دمج الوقفين .. وكبداية اقترح انشاء لجنه مشتركه للأفتاء وتكون معنيه بأصدار الفتاوي الشرعيه ( العامه ) كتحديد هلال أول الشهر مثلآ وحسب المعايير الشرعيه المتفق عليها على ان تضم اللجنه ممثليين عن كل المرجعيات ومن كل الأتجاهات وبمباركة العلماء الأفاضل ولا أظنهم يعترضون على مثل هذا العمل الذي يراد به توحيد كلمة المسلمين وتكون قراراتها ملزمه للجميع  وبذلك نتخلص من المهازل ( مع الأعتذار لأستعمال هذه الكلمه ) التي تحصل كل سنه "(2)

هذه التعليقات تشير إلى أن الناس أكثر تعقلاً من قادة المؤسسات المذهبية في هذه البلاد، ولو ترك الأمر لهم لما وجدوا مشكلة في ترك الأوقاف حيث هي لحين يمكن التفاهم عليها بروية، فلماذا لم يستطع قادة المذاهب ما يستطيعه أتباعهم، ولماذا لم يكن لديهم من الحكمة ما لدى عامة الناس؟ هل يفترض أن يعلم الناس قادتهم الحرص على البلاد ونبذ الخطاب المثير للفتنة، أم يفترض أن يتعلموا منهم؟

في المانيا، حين أرادوا تطبيق قانون إلزامية ربط حزام الأمان في السيارة لأول مرة، وجدت الحكومة أن الناس قد تخالف القانون ليس تعمداً، بل لأنها ببساطة قد تنسى. لذلك أعلنوا القانون واعطوا شعبهم مهلة 6 أشهر لكي يعتاد الناس على استعماله، وقامت الحكومة خلالها بحملة إعلامية كبيرة من اجله. خلال هذه المدة كانت الشرطة تنبه المخالف دون أن تفرض أية عقوبة.
سيقول قائل: لكننا لسنا في المانيا، وشعبنا ليس الشعب الألماني، وهذا صحيح. لكن هل يكمن الخطأ حقاً في ان شعبنا لا يشبه الشعب الألماني أم أن حكومتنا ومؤسساتنا لا تعامله كما تعامل الحكومة الألمانية والمؤسسات الألمانية، الشعب الألماني؟ لماذا لا تبادر الحكومة والمؤسسات إلى الإلتزام بالأسس الحضارية لعملها وفي معاملتها للناس، لننظر إن كان الشعب سيبقى جاهلاً ورافضاً للنظام وعنيفاً؟ نعلم أن أفراد الحكومة هم من الشعب وبالتالي لا نطالبهم بما فوق اللازم وان تكون الحكومة بهذه الرقة والحرص على مشاعر شعبها في كل القضايا الصغيرة، لكن على الأقل أنا أطالبها بالحرص عليه في القضايا الكبيرة والحرجة والخطرة.

يمكن لأي شخص أن يتوقع أن مثل هذا القانون الجديد الذي يقول الوقف الشيعي أنه يعطيه الحق في الإستيلاء على أوقاف مسجلة باسم الوقف السني، سوف يثير ردود فعل كبيرة، وأنها يمكن أن تستغل لتنفيذ عمليات إرهابية وإثارة فتنة، فإذا كان لا بد منه، فلماذا لم تقم الحكومة بحملة توعية حول هذا القانون ومدى ضرورته وصحته، ليس لستة أشهر كما في المانيا، وليس بكلفة مئات الملايين من الماركات، ولكن لستة أيام فقط، ولتقتصر الحملة على بعض المقابلات التلفزيونية مثلاً. أي شرح وتوضيح سوف يهدئ النفوس ويطمئن المخاوف والقلق ويسكت الاصوات المغرضة ويقطع فتيل الإنفجار المحتمل.
الغريب أن الحكومة تدرك وتتمكن من التصرف بحضارية عندما يتعلق الأمر بالأجانب، لكنها على ما يبدو لا تهتم بمشاعر شعبها بقدر اهتمامها بموقفها من الأجانب. مثلاً، لقد كان طرد منظمة مجاهدي خلق حق للحكومة العراقية منذ اليوم الأول، فقد بادرت خلق إلى مهاجمة الحكومة بكل صلافة متهمة 30 الف من منتسبيها بالعمالة لإيران، هذا إضافة إلى مواقفها الإجرامية السابقة والشكوك التي تدور حول استمرارها بها لحساب الإحتلال. ورغم ذلك تأنت الحكومة وتعاملت بهدوء وروية واستمرت في جهودها، ليس شهوراً، بل سنيناً، قبل حتى أن تفرض أول دخول لها إلى "أشرف"، لكي لا تثير عليها الرأي العالمي الذي لن يتفهم أي تدخل سريع وعنيف للحكومة، خاصة إن لم تبرهن أنها حاولت كل الطرق السلمية أولاً لإخراج المنظمة.

وعندما جاء وقت محاسبة صدام حسين على جرائمه، وقفت الحكومة موقفاً "حضاريا" أمام العالم وحاكمته محاكمة علنية لم تشهد المنطقة مثلها، مهما قيل عن سلبياتها الفعلية، لتبرهن للعالم أنها دولة القانون. لكن هذا المقياس القانوني إختفى تماماً حين أرادت الحكومة محاسبة المتهمين الذين لا يهتم الرأي العام العالمي بهم، مثل الأفراد العاديين من السنة والشيعة وكل منهما لديه أمثلة لا حصر لها على ذلك. وحتى حين كان لدى هؤلاء ممثلون أقوياء في البرلمان وفي الحكومة، فإن القضاء "الجديد" تجاهل صرخاتهم، ولا أزال أذكر أصوات الصدريين المرتفعة عن حرق بيوتهم واغتيال أفرادهم وتجاهل الأجهزة الحكومية تنفيذ حتى قرارات القضاء بالإفراج عن منتسبيهم أو القاء القبض على من أساء لهم.

وعندما كتبت صحيفة أجنبية تتهم رئيس الحكومة بدعم حكومة سوريا، سارع السيد المالكي بالرد عليها وتوضيح موقفه، لكنه تجاهل، ومايزال يتجاهل تماماً، الأسئلة التي يطرحها شعبه وناخبوه حول المساعدة المشبوهة الغريبة إلى حكومة الأردن، التي كانت مواقفها دائماً الإساءة والأذى للشعب العراقي على مدى تاريخ علاقتها معه!

فلماذا أسئلة الأجانب وحدها محل اهتمامكم السريع يا سيادة الرئيس؟ وهل كانت محاكمة صدام حسين العلنية مؤشراً على عراق قانون جديد، أم استعراض أمام الإعلام العالمي؟ هل كان الإهتمام بها، إهتماماً بالعراق وتأسيساً لحضارة جديدة، أم خضوعاً لضغط دولي، ما إن يختفي هذا الضغط، حتى يعود العراق إلى ما عرفه العراقيون من ظلم؟ ولماذا الصبر الطويل والجهد الكبير على عصابة (خلق)، من مجرمين ملطخة ايديهم بدم العراقيين، وموضوعة في قوائم الإرهاب، وهي قضية خطيرة لا تقبل التأجيل، وليس هناك أي جهد أو وقت لضمان أن يفهم العراقيون القرار الحكومي الإداري المتعلق بهم على حقيقته، فلا تستثار الضغائن ولا تعطى الفرص للفتنة والإرهاب؟

ألا تستحق سفينتنا الوحيدة كما تقول أيها السيد المالكي عناية أكبر منك، من جهد ومال، كعنايتك مثلاً بالمؤتمرات الدولية؟ أليس من السليم أن يقود المرء سفينته لتعبر العاصفة بسلام أولاً، قبل أن يتحدث عن "قيادة العرب" و "مكانة العراق الدولية"؟ ما الذي يستفيده القائد إن "كسب ثقة العالم وخسر ثقة شعبه"؟
أرسلت هذه المقالة قبل نشرها لصديق في العراق ، فقال أننا لا نشعر بأن السفينة تسير، إلا اللهم من خلال "دوار البحر" الذي نجد أنفسنا فيه بشكل مستمر! ولكي أكون واضحاً، أؤكد لك أن هذا الصديق من طائفتك نفسها بل ومن الذين اصطدمت معهم يوماً حين كان يدافع عنك بما اعتبرته أنا تطرفاً وتحيزاً!

لقد وقف الشعب معك في هذه المؤامرة - الدولية - لإسقاطك، ولولا ذلك لما صمدت، فما يرعب خصومك ويوقفهم عند حدهم، ليس خطاباتك ولا قوتك العسكرية ولا مكانتك الدولية، فهذه كلها يمكن أن تطير بنقرة أصبع واحد، كما طارت من كانت أقوى منها من قبل، وإنما يتراجعون خشية ردة فعل الشعب المؤيد لك، فقف معه بصدق كما يقف معك، وأثبت له أنه مركز اهتمامك، بأفعال مبرهنة، وليس بحركات وأقوال إعلامية قد تنطلي على البعض المؤمن بك - بعض الوقت، لكن ليس الجميع وليس إلى الأبد...

سوف نصدق أهتمامك بالشعب فقط عندما نسمع أنك قررت أن لا يبدأ العمل بمبنى مجلس الوزراء الجديد الفخم أو مجمعات المولات الباذخة، قبل أن تنتهي آخر مدرسة طينية في البلاد...
وسنشعر أن لدينا رئيس حكومة منتخبة من الشعب وللشعب، عندما تعتذر للأشقاء والأصدقاء عن استضافة مؤتمر، لأنك خصصت أمواله لمؤسسة لدراسة ومحاربة الطائفية والإرهاب التي تفتك ببلادك...
وعندما ترفض تخصيص الأموال لوزارة الدفاع لإستعمال "النانو تكنولوجي" حتى يتم محو الأمية في البلاد.

ونؤمن بالديمقراطية عندما يتمكن العراقيون أن يختاروا ما يشاؤون من الأسماء لأولادهم دون خشية عليهم....
وعندما تهتم الحكومة بمشاعر الناس ورأيهم، فلا تقدم على أية خطوة قبل بذل الجهد الممكن لشرحها للناس ومناقشتها، فتعطيهم الإحساس بأن هذا وطنهم، وبأنهم هم من يحكم ويقرر، وأن تنفذ القرارات بأفضل طريقة حضارية ممكنة، خاصة في القضايا الحساسة المثيرة للفتنة...

وسوف نثق بشفافيتك عندما نراك تضرب الفساد والإرهاب دائماً وفي كل وقت، وليس فقط في الوقت الذي يناسبك شخصياً....
وعندما تواجه حكومتك الفضائح الكبيرة بصدق، وتتوقف عن الإعتماد على نسيان الناس لها بعد حين...
وعندما تخبرنا بوضوح ماهي مصالحنا المشتركة مع حلف الناتو أوالبنك الدولي...وما هي الإتفاقات معه ولماذا لا بد منها لنا....

وسنشعر أننا نفهم ما يدور حولنا عندما لا تستبدل أسماء الإتفاقيات، إرضاءاً للأجانب، بأسماء تهدف إلى إبعاد الناس عن محتواها الحقيقي، أو مراوغة حق البرلمان في الإطلاع والتصويت عليها....
وعندما يوقف العراق مساعداته النفطية لأية دولة، لحين يحصل التلميذ العراقي على وجبة طعام يومية بسيطة، تقيه ألم الجوع وسوء التغذية....

ونتأكد أن الأشراف في حكومتك وكتلتك هم الأكثرية، عندما تخلو المحافظات من الأزبال، ولا تعود بغداد تتسابق على جائزة أكثر مدن العالم تلوثاً...
وعندما يفشل "الخبثاء" من منعها من تخصيص المال لمساكن الفقراء، مثلما يفشلون في منعها من تخصيصه للمؤتمرات "الناجحة"، وليس بمسرحيات التهديد بالإستقالة من البرلمان...

سنطمئن إلى زوال الدكتاتورية عندما لا تلجأ الحكومة إلى "صولات العسكر" المدوية التي تترك الشوارع والأذهان ملوثة بالدماء والحنق، إلا بعد إعطاء كل الفرصة لصولات القانون التي تنجز عملها بهمس وحزم، ولا تترك في الذاكرة إلا الإحترام والإعتراف والتقدير...

وسوف نطمئن على مستقبل اجيالنا وبلادنا عندما تحدد كمية النفط المستخرجة، ليس لأن الحكومة تريد أن "تنافس السعودية" أو أن "نلعب دوراً مؤثراً في الوضع الدولي" أو أن "نقدم بديلاً لأوروبا عن نفط روسيا" أو أن "يصبح العراق مجهز الطاقة للعالم"، كما هي شعارات اليوم، وإنما يحدده فقط ، وبكل تواضع، ما يحتاجه العراق في خطته التنموية من أموال وما يستطيع التصرف به، لا أقل ولا أكثر.....

عندما نشعر أن ربان السفينة مهتم بصلابتها أكثر من أهتمامه كيف تبدو ويبدو للآخرين...
عندها فقط نطمئن على أن سفينتنا الوحيدة، بأيد أمينة، وأن العراق لن يغرق.

(1) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=17512
(2) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=15815



22
بيئتنا بين حرية الكاوبوي ومسؤولية رجل الفضاء

صائب خليل
5 حزيران 2012

جاءني هذا الصباح مقال الصحفي الرائع أمين يونس، بعنوان "يوم البيئة : من أجلِ حفنةٍ من الدولارات"، ليذكرني بهذا "العيد" المنسي. و"أمين" لا ينسى محبوبته، رغم كل الغليان السياسي في البلاد.
إستعارة "أمين" الذكية لعنوان فلم الكاوبوي المشهور، تشير إلى التدمير الحاصل للبيئة في كردستان وعموم العراق "من أجل حفنة من الدولارات"، تستحصلها الحكومة فتستورد السيارات بلا حدود بنتائجها الملوثة. عنوان المقالة الذي يرن في ذاكرتنا يدفعنا لمراجعة أبعد من ذلك. نتساءل: ما هو الأثر الذي يلعبه النظام الإقتصادي الذي يتبعه بلد ما، على البيئة فيه؟ وما هو أثر النظام الإقتصادي العالمي على البيئة في العالم؟ النظام الإقتصادي الأكثر انتشاراً في العالم اليوم، هو النظام الليبرالي، نظام حرية السوق، حتى أنه يحق لنا أن نطلق عليه "النظام الإقتصادي العالمي"، فما هو أثره وأثر مبادئ حرية السوق على البيئة؟

لن ندخل في تفاصيل إقتصادية وأيديولوجية ، بل سنشير فقط إلى أن المبدأ الأساسي فيه هو إتاحة الفرصة  للشركات للربح الأقصى، ومن نتائج ذلك بالنسبة للشركات إتباع مبدأ "الإستحواذ على المردود، وإلقاء التكاليف على الآخرين" قدر الإمكان، وهو مبدأ رأسمالي معروف تتخصص الشركات في التفنن في تطبيقه "كما يتخصص سمك القرش في القتل، على حد تعبير أحد الكتاب الإقتصاديين الرأسماليين. ومن ضمن أهم هؤلاء "الآخرين" من حمالي التكاليف : البيئة !
فكلفة إنتاج سلعة ما، تتضمن كلفة إزالة ما تسببه من تلوث للبيئة، لكن الشركات كثرما تنجح في التملص من دفع تلك الكلفة لتحسب ضمن أرباحها، وتترك ملوثاتها تتجمع في البيئة.
هذه هي العلاقة المحورية بين البيئة والنظام الإقتصادي الليبرالي، ومن خلالها يمكننا أن نتوقع نتائج ذلك النظام على البيئة، ويمكننا أن نلاحظ أن مدى إساءة البلد إلى البيئة العالمية تعتمد بشكل عام على مدى تطور ليبرالية الإقتصاد فيه، ولكن مدى تطور الوعي في البلد ومكانة القانون فيه، لها أثر أيضاً بالطبع.

لقد نجح الناس في معظم البلدان بوضع القوانين اللازمة للحد من التلوث وإلزام الشركات بتنظيف ما تلوثه من البيئة. وتحارب الشركات هذا الإتجاه بشكل علني وخلف الكواليس، وتنجح في الضغط على الحكومات لإزالة تلك القوانين أو تجاهلها. وعلى قدر تطور الوعي البيئي في البلاد، وعلى قدر قوة "اليسار" فيها تواجه هذه الشركات صعوبات في التملص من تلك القوانين. ولأن وضع قوانين الصناعة الخاصة بالبيئة يسمى "regulation"، فقد سميت عملية "إلغاء قوانين البيئة" بـ "Deregulation" أو "تحرير الإقتصاد من الضوابط"، وهي عملية علنية تمارس في وضح النهار وليس خلف الكواليس كما يتوقع لمثل هذه المساعي التي تكون نتيجتها الحتمية، تدمير البيئة. بل أصبحت هذه العبارة جزءاً أساسياً من مبادئ "حرية السوق"، وعلامة من علامات قياس رضا البنك الدولي عن مسيرة إقتصاد البلد نحو الخصخصة وبناء "بيئة الإستثمار".

وتستعمل الشركات في حربها ضد قوانين حماية البيئة في أي بلد، سلاحين أساسيين: أولاً الضغط المباشر على الحكومات، من خلال اللوبي أو الرشاوي وغيرها، وثانياً التهديد بنقل أعمال الشركات إلى دولة أخرى "متحررة" من قوانين حماية البيئة. فالفساد هنا جزء من بيئة الإستثمار، فكلما كان الفساد مسيطراً سهلت الرشاوي وسهل التخلص من القوانين.

الدول المتخلفة عموماً، متخلفة في الوعي ونظام القوانين وأيضاً في حماية البيئة، ولذلك فهي لا تمتلك أساساً الكثير من تلك القوانين "المزعجة" للشركات. وتعتبر هذه النقطة من أهم نقاط تشجيع الإستثمار في البلاد. فكلما سمحت للإستثمار بأن يلوث بحرية أكبر، كان أكثر سعادة في بلادك. فـ "بيئة الإستثمار" المناسبة تتعارض في هذه النقطة بأشد الصور مع "بيئة الإنسان"، بل مع "بيئة الحياة" كلها، وعلى كل بلد أن يختار أن يجعل من بيئته "بيئة للإنسان" أم "بيئة للإستثمار"، وإلى أي مدى، وأين يضع نقطة "التوازن" بينهما. ويقرر ذلك إلى حد بعيد، مقدار الـ "Deregulation" الذي يسمح به البلد، من أجل تشجيع الإستثمار فيه. أن البلد الذي لا يفرض على شركات صناعة السيارات استعمال فلتر إضافي لتنقية العادم مثلاً، أو دفع تكاليف التخلص من النفايات، سيوفر الكلفة عن الشركات ويشجعها على القدوم إليه...ولكن ليس بلا ثمن على البيئة!

عنوان مقالة الأستاذ أمين لها تداعيات أخرى عندي. فهو يذكرني بكتاب "عندما تحكم الشركات العالم" لـ ديفيد كورتن، وهو إقتصادي رأسمالي متحمس للرأسمالية، لكنه يرى مسارها الخطر المبتعد عن مبادئ رأسمالية آدم سميث، وخصوصاً في مبدأ "دفع ثمن التلوث". فالكاتب يشير إلى مثال "الكاوبوي ورائد الفضاء". فالكاوبوي يعيش منفرداً في مساحة شاسعة من الأرض، ولذا يمكنه ان يتصرف بكل حرية فيصيد ما يصيد ويحرق الأغصان للتدفئة في البراري، ويشرب ويبصق ويترك بقايا طعامه دون أن يسبب أي تلوث محسوس لبيئته "المفتوحة".
في الجهة المعاكسة، هناك رجل الفضاء المحصور في كبسولة صغيرة، وموارد محدودة جداً، وعليه أن يحسب حساباً لنتيجة كل عمل يقوم به على "بيئته" الصغيرة تلك، وإلا كانت نهايته قريبة.
ما يحدث هو أن عالمنا، وبفضل التكنولوجيا، تقلص من العالم الفسيح "المفتوح" لرجل الكاوبوي ، واتجه نحو عالم الكبسولة "المغلق"، لكننا ما نزال نتعامل معه وكأنه مازال مفتوحاً وشاسعاً. ولذلك فعلينا أنتظار كارثة رجل الكاوبوي حين يوضع في كبسولة فضائية، فيستمر في ما اعتاد عليه من حرية في التصرف.

لنأخذ مثالاً واقعياً. نيجيريا كانت من أجمل بلدان أفريقيا، لكنها كانت متخلفة في كل شيء، ومن ضمن ذلك طبعاً الوعي البيئي للناس. وحين اكتشف النفط، وجدت شركاته الكبرى في نيجيريا "جنة إستثمارية"، فلا قوانين عمال ولا قوانين بيئة، وبعد سنوات تحولت البلاد إلى مزبلة قذرة لمخلفات النفط السامة في أرضها وسمائها وأنهارها. وتحتاج نيجيريا اليوم إلى ثلاثين عاماً من العمل ومليارات الدولارات، من أجل تنظيف بيئتها. وأغلب الظن أن هذه الثلاثين عاماً ستدوم إلى الأبد، وأن أحداً لن يدفع تلك المليارات. وهكذا لم يحصل الشعب النيجيري من نفطه، سوى على التلوث! (1)

 

احتلت بغداد للأسف المرتبة الرابعة لأشد المدن تلوثاً في العالم في العام الماضي(2) متفوقة في تلوثها عن "لاغوس" في نيجيريا. ونذكر هنا بشكل عابر التلوثات "الخاصة" التي "أنعمت" بها فترة الحصار على العراق، ويتحملها النظام السابق و"المجتمع الدولي"، والذي اختتمها بنعمته الجديدة، اليورانيوم المنضب، الذي لا نعرف مدى ما سيكون أذاه على أجيال هذا البلد.(3)

وبعيداً عن العراق، فأن التلوث يغلف الأرض تدريجياً. ولقد سمعنا بالتسربات النفطية الضخمة في المساحات المائية في أميركا وفي كل مكان. وتنتشر في المحيط الأطلسي مساحة هائلة من الأزبال الطافية (فيديو) (4) من البلاستك وغيره، تقدر بحجم مساحة ولاية تكساس وهي مستمرة في الإتساع.

هديتنا للبيئة

من حق المرء أن يتساءل: وما الذي يستطيعه هو لإنقاذ "البيئة" أو لمساعدتها على الصمود على الأقل لعل الإنسانية تكسب الوقت اللازم لتعي الخطر وتنقذ نفسها من الإختناق في كبسولتها قبل فوات الأوان؟
نحن بحاجة إلى الوعي بالخطر أولاً، للضغط على الحكومات لمراعاة "بيئة الحياة" قبل مراعاتهم لـ "بيئة الإستثمار" – "من أجل حفنة دولارات"! اليسار وأحزاب الخضر بشكل خاص، في أوروبا تنشر ذلك الوعي، لكن صديقي "أمين" لم يتمكن من تأسيس حزب للخضر في كردستان، بسبب قلة الوعي نفسه في البلاد، فهي قصة البيضة والدجاجة. لكن تنمية الوعي تدريجياً ستحطم هذه الدائرة المغلقة.

وهنا نجد مجموعة من الشباب تحاول محاولة جميلة تستحق الثناء، من خلال تكوين تجمع من أجل "خسارة السباق" (نحو جائزة الأوسخ) بالنسبة لبغداد.(5)

لكن دعوني أيضاً أقدم لكم مقترحاً عملياً يمكن لكل منا أن ينفذه شخصياً، لنفسه وعائلته وربما ينشره بين معارفه، وربما يعلم به الكثير منكم ويفيد بتوفير الغاز أو النفط المستعمل في الطهي.

عندما نضع الطعام على النار، ترتفع درجة حرارته تدريجياً، وتقوم الحرارة بعملية الطهو. وكلما كانت الحرارة أعلى إزدادت سرعة الطهو. لكن حرارة الماء لا تستمر بالإرتفاع بلا حدود، فهي كما نعلم تتوقف عند الغليان (عند درجة 100 مئوية). وهو المبدأ الذي تصنع قدور الضغط على أساسه، فهي تمنع الغليان بزيادة الضغط، فيستمر ارتفاع درجة الحرارة أكثر ويطبخ الطعام اسرع. لكن عندما لا نستعمل قدر الضغط، فأن الطاقة بعد الغليان تضيع في تبخير المياه فقط دون أن ترفع الحرارة أو تسهم بالطهي!

 لذلك يتوجب خفض كمية الغاز إلى الحد الأدنى، فور بدء الغليان، وربما أن نحول القدر إلى فتحة الطباخ الأصغر أيضاً. فالكمية الصغيرة من الغاز، كافية لإدامة درجة الحرارة القصوى في الطعام المغطى، وبالتالي طهيه بنفس السرعة، أكرر – نفس السرعة -  وبكمية أقل كثيراً من الغاز، فنوفر ما يهدر منه لتبخير المياه، ونوفر المال ونقدم هدية متواضعة للبيئة في عيدها.

قبل ان أكتب هذه السطور استشرت من هم أعلم مني بالطبخ، إن كانوا يفعلون ذلك وبشكل ثابت، فحصلت على أجوبة غامضة بعض الشيء، وأفكار غير دقيقة، حتى من خريجي الكليات العلمية، فهم يعرفون ويعترفون علمياً بأن ارتفاع الحرارة يتوقف عند درجة الغليان، لكن يبدو أن هذه الحقيقة واستنتاجاتها غير واضحة بالنسبة للغالبية، فهم يتصورون أن الطبخ قد يكون أسرع في الغليان الأقوى، وهذه فكرة خاطئة تماماً!

لذا أتمنى أن نتذكر هذه الفكرة في المرة القادمة التي نطهو فيها الطعام، أو إبلاغها لمن يتولى الطهي في البيت، وتوصيلها لأكبر عدد ممكن من الأقارب والمعارف، شفوياً وبالإيميل، لفائدة جيوبنا وبيئتنا العزيزة. وللبيئة سر غريب، هو أن ثروتك لا تنقص حينما تقدم لها هدية، بل تزداد!


(1) http://www.afripol.org/afripol/item/428-shell-biggest-oil-spill-in-nigeria.html
(2) http://www.tiptoptens.com/2011/04/12/top-10-most-polluted-cities-in-the-world
(3)  http://iraq-nadhef.blogspot.be
(4) Great Pacific Garbage Patch
http://www.youtube.com/watch?v=8heSH6k7Bbo
(5) http://www.facebook.com/volunteers11


23



الاقتصاد الريعي المركزي
ومــأزق
انفـــلات الســوق :

      رؤية في المشهد الاقتصادي العراقي الراهن





                        د. مظهر محمد صالح
                            مايس / 2012





القسم الاول :    ثروة العراق المالية :
بين نمط الاستهلاك الراهن والتصدع في
الحواضن الاقتصادية الاقليمية

            
   يتعايش الاقتصاد العراقي بين مفارقتين اقتصاديتين هما نتاج الاقتصاد السياسي للحرب والحصار على مدى اكثر من ثلاثة عقود . فالاولى : وهي ولادة نمط تجاري استهلاكي يلبي متطلبات اقتصاد الحرب او الحصار او كليهما عبر خلق سلسلة وسطاء تجاريين اقليميين آلت الى امتصاص فوائض مالية  مهمة في تحصيل  سلع وخدمات يوفرها المنشأ الوسيط في الغالب ، مما جعل ثمة تجذر تجاري ومصالح مشتركة وروابط قوية تقود السوق العراقية نحو اسواق الاقليم . والمفارقة الاخرى : وهي المفارقة اللصيقة بعوائد النفط وارتباطها بسلوك الموازنة العامة التي تحولت من نمط استهلاكي حربي يختلط فيه الدم بالخبز عبر العقود الماضية الى نمط استهلاكي جديد يختلط فيه الخبز مع تدهور الكفاية الاقتصادية ومصادرة التنمية الحقيقية للبلاد في اتجاهات غامضة ارتهن فيها الاقتصاد العراقي في نهاياته في التجارة الاستهلاكية والتطورات الاقليمية كما يحصل في الوقت الحاضر وهو ارث لـم تستطع البلاد مغادرته في معادلة الاقتصاد السياسي للحرب والحصار .
   ولـم يخلو نموذج التوزيع العادل الذي مالت اليه السياسة المالية في العراق التي تمثل مرتكز الحياة الاقتصادية ومحاور توجهاتها ولاسيما منذ العام 2003 عندما احتضنت في اجمالياتها واخلاقياتها قرابة نصف قوة العمل العراقية ولكن في وظائف طغى عليها الطابع الخدمي شبه المنتج الذي مولته ايرادات النفط عالية القيمة لكي تتحول في الغالب الى مدفوعات اجرية ومساعدات واعانات تحت شتى العناوين ضعيفة الانتاجية واطئة المردود لم تبتعد عن نزعاتها الاستهلاكية التي اشتدت لتعويض حرمان الماضي وبنيت على قيم ومنتجات استهلاكية جديدة في محاكاة عالية لمنتجات اسواق العولمة والتي انسجمت في الوقت نفسه واعادة بناء الطبقة الوسطى (الوظيفية) وبناء طرازات استهلاكية وانماط معيشة تحاكي النزعات  الاستهلاكية المستحدثة او المحدثة وبشكل لم يسبق له نظير في التاريخ الاستهلاكي للعراق .
   فسياسة الباب المفتوح على مصراعيها وضعف الضوابط والقياسات للسيطرة على هذه السياسة طوال اكثر من ثمان سنوات كانت المنفذ الاسرع لتلبية طراز الحياة الاستهلاكي الجديد ومستوى المعيشة الناشئ الذي غادر ظاهرة فضيلة الادخار والتوجه نحو الصرف والاسراف الاستهلاكي ، واذا كانت هناك فضيلة فتوجهت نحو الادخار في الخارج والاستثمار الريعي ذات الصفات التجارية او العقارية في سلسلة استنزاف لم تنته تحت ذريعة الحرية الاقتصادية وسياسة الباب المفتوح .



   لقد اتاحت العولمة الاقتصادية تجاه العراق في نهاياتها واتصالاتها بالاقتصاد الوطني توافر سلع كثيفة التدفق سريعة الاستهلاك مشكوكة الجودة لابد لها ان تمر من بوابة المنشأ التجاري الاقليمي الوسيط  وفي حدود تبتدأ من نهايات شواطئ الخليج وحتى غرب الاناضول ولاتخرج عن هذه الحاضنة التجارية الوسيطة .
   ولدت سلسلة التجارة الوسيطة داخل الاقليم المحيط بالعراق كظاهرة طبيعية لاقتصاد الحرب والحصار صاحبها وسط تجاري يتعايش على الاقتصاد العراقي ويرتبط بطبقة تجارية محلية تتفاعل مع الطبقة الوسيطة الاقليمية وظيفتها الاساسية تدوير الاموال الوطنية لتمويل التجارة او استثمارها وتوظيفها من خلال المسالك التجارية وسلسلة الوساطة التجارية الاقليمية وقت ماتشاء واينما تشاء بحيث اصبح المال العراقي وفوائض البلاد المالية التي هي بحوزة السوق المحلية مرتهنة بالوسطاء التجاريين الاقليميين والسياسات التجارية الاقليمية .
   ولم تكن السياسة النقدية للعراق ، التي هي اليوم امام امتحان مصاحب للموديل الاقتصادي العراقي الاستهلاكي الاستنزافي في منآى عن تلك المصادر التجارية الاقليمية وسياساتها التي وجدت في تدخل السلطة النقدية وفلسفتها للحفاظ على الاستقرار الكلي والاستقرار النقدي خصوصاً بعيدة عن الثوابت التي ولدتها مفارقات السياستين التجارية والمالية ذات النمط الاستهلاكي ( الذي ارتبط بطراز معيشة عبرت عنه سلوكيات الطبقة الوسطى العراقية التي تمثل اليوم اكثر من 60% من التكوين الاسري للبلاد ) بعيدة عن الثوابت التي ولدتها الاتجاهات التوزيعية الاستهلاكية للموازنة العامة ، حيث استحالت المالية العامة سياسة تدخل البنك المركزي في سوق النقد لفرض الاستقرار لتصب في خدمة طراز الحياة ومستوى المعيشة شديد العولمة منجذب الى الخارج تاركة وراءها فكر تنموي فاتر لايرغب احد في قراءته ومدفون في دفاتر ومذكرات الوسط الاقتصادي الاكاديمي والرسمي دون فعل يُذكر أو يرقد في رفوف سوق البطالة العالية التي تبحث عن فرصة عمل لتلتحق بموديل محاكاة النمط الاستهلاكي للطبقة الوسطى ليس الا .
   فعندما امسى تدخل السلطة النقدية في سوق النقد المحلية للسيطرة على مناسيب السيولة الفائضة التي ولدها الانفاق الهائل للموازنة العامة ( كقوة طلب اضافية لاتتناسب مع مقادير الانتاج الوطني وانعدام سياسة التنمية والاهتمام في خلق الطبقة الوسطى وبناء طرازات معيشة شديدة الاستهلاك ) عبر حركة وقوة ميزان المدفوعات النفطي ( البوابة الناشطة في استكمال حلقة الاقتصاد الاستهلاكي ) فقد انتهت سياسات تدخل البنك المركزي في سوق النقد لسحب السيولة الفائضة او ( تعقيمها ) لتأخذ حصة من احتياطيات البنك المركزي بالعملة الاجنبية لتمول السلوك الاستهلاكي المرتبط بالسلسلة التجارية الاقليمية بشكل اساس ، اذ ظلت التحويلات المالية للتجارة الخارجية للقطاع الخاص التي تمثل الحلقة النهائية لسياسة تدخل البنك المركزي في سوق النقد والتصدي لمناسيب السيولة من خلال بيع العملة الاجنبية تشهد تحويلاتها تركزاً في مصارف او بنوك الدول الاقليمية ، اذ تستحوذ دولة واحدة مجاورة للعراق نسبة 80% من تلك التحويلات لوحدها بعد ان امسى الوسط التجاري العراقي وشركاته توابع للوسط التجاري الاقليمي وهيمنته في توزيع تلك الفوائض المغذية لتجارة الاستيرادات الاستهلاكية او الاستحواذ  على الفوائض المرافقة او الادخار الخارجي الذي أُدغم تحت غطاء هذه المسالك التجارية شديدة الاستقطاب في الاقتصاد الاقليمي والتي افرزت بنيتها انحرافات العقود الثلاث الماضية .
   فسياسة تدخل البنك المركزي في سوق النقد لفرض الاستقرار في سعر صرف الدينار العراقي اصبحت مرتبطة بشدة التركز التجاري الخارجي للقطاع التجاري الخاص وفي نطاق التوليد التجاري الاقليمي حتى وان كانت المناشئ التجارية للبضائع الموردة من اطراف العالم ونهاياته .
   وبهذا ، فان التجارة الاقليمية باتت المصدر المولد للقيمة المضافة وتحويل الفوائض من السوق الوطنية الى السوق الاقليمية ترافقها جالية تجارية عراقية مقيمة واسعة تتعايش مع تلك المسالك التجارية الاقليمية وادوات فاعلة وفعالة في تحويل الفوائض والاحتياطيات التي تتعاظم مع مستوى احتياجات اسواق تلك  البلدان اليها عبر منفذ سياسة الباب المفتوح والحرية الاقتصادية للعراق المتجهة الى الخارج والمنكفئة نحو الداخل لتغادر التنمية لتوليد القيمة المضافة حيث تستوطن خارج الحدود .
   فالمرتكزات التجارية الاقليمية وهيمنتها على الموديل الاقتصادي الاستهلاكي الراهن في العراق هي القوة المركزية التي تنفرد في تحريك فوائض البلاد وتجفيفها او تسييرها وفق احتياجات الاوضاع الاقتصادية الاقليمية لتنسحب حركة هذا الموديل لتساير المجريات الاقتصادية ومتطلباتها على حساب اوضاع السوق المحلية واستقرارها ونمائها لأن الغاية الرئيسة هي توليد الربح وتعظيم القيمة المضافة والفائض الاقتصادي عبر الحدود ، اذ يعد النموذج في اعلاه من النماذج المستنزفة لمستقبل البلاد الاقتصادي .
   اخذت فوائض البلاد المالية تتحرك بانسجام وتوافق شديدين مع الاوضاع الاقليمية والتصرفات التجارية لدول الجوار او الاقليم على نحو اوسع . ولايخفى ان هناك اربع اقتصادات مهمة اقليمية تتشكل عليها ثلثي الحركة التجارية للقطاع الخاص كما عبرنا عن ذلك سالفاً وتعد في الوقت نفسه المرتكزات المهمة في السيطرة التجارية وتوزيع وتقاسم فوائض الاقتصاد العراقي الى حد ما بينها وفق درجة علاقاتها مع العالم الخارجي ومجريات الاوضاع الاقتصادية لبلدانها . اذ يلحظ ان نشاط السوق الوطنية واتجاهاتها اخذت تتحرك مع تحرك تلك الاقتصادات سلباً وايجاباً ويؤشر ذلك شدة الطلب على العملة الاجنبية او تحريك الطلب الاستهلاكي وانماطه بالداخل بارادة الاسواق الاقليمية او الخارجية .
   وبهذا ، فان تداخلا تجارياً مهماً بين الوسط التجاري الوطني والوسط التجاري الاقليمي لايمكن تفكيكه حالاً في اطار معادلة شديدة التداخل وقوية التعقيد . فالاخفاقات الاقتصادية والتضرر الحاصل في اقتصاديات دول الجوار سواء بازماتها الاقتصادية الداخلية كما حدث في دولة الامارات العربية والركود الحاصل فيها ( دبي والامارات الصغيرة الاخرى على وجه التحديد ) ومايتعرض اليه الاقتصاد التركي من انكماش عال يتمثل ببطالة عالية وتدهور في قيمة العملة التركية ، فضلا عن التدهور الصارخ في الاقتصادين السوري والايراني الشريكان القويان للعراق بسبب العقوبات المالية والاقتصادية والسياسية الدولية عليهما والتي باتت واضحة للقاصي والداني والتي القت بضلالها على حركة التجارة الوطنية مع تلك البلدان والتقلبات الشديدة في سبل تمويلها والتي انعكست بشدة على المركز العراقي المالي الممول لتجارة القطاع الخاص واعني مزاد العملة الاجنبية للبنك المركزي العراقي . 

   فاحتياجات تلك الاقتصادات ( اقتصادات الازمة ) , والتي تمسك بتجارة العراق الخارجية ذات الطبيعة الاقليمية , الى مصادر العملة الاجنبية ( او الدولار تحديداً الذي يغطي حاليا 83% من التعاملات التجارية في العالم ) فاقت في مكنوناتها واتجاهاتها مجرد تمويل تجارة العراق الاستهلاكية ، بل اخذت تتطلع الى تحصيل وامتصاص عن طريق الاقتراض او جذب التحويلات او الادخارات نحو الخارج بصورة قوية تتناسب وشدة الاضطرابات الاقتصادية الحاصلة في تلك الاقتصادات على اختلاف طبيعتها عبر تسخير واستخدام المسالك التجارية التقليدية الاقليمية التي لها القدرة والمرونة في اقتطاع قدر عالي من الفوائض المتاحة في السوق العراقية بالعملة الاجنبية .
   لما تقدم ، فان بلادنا امام امتحان عسير راهن لم يسبق له مثيل في مجاورته اقتصاديات الاقليم المحاصرة او المتدهورة اقتصادياً والذي صُمم موديله الاقتصادي على حركة الاقتصادات الاقليمية في ظل الحرية الاقتصادية والانفتاح المحدود نحو الخارج عبر سياسات الباب المفتوح التي وفرها تخفيف الفصل السابع على العراق والتي اصبحت نافذة غير مكتملة لحرية الانفتاح وتسمح بتصدير ازمات المنطقة الى الاقتصاد العراقي وتعريض فائضه المالي الى النهب او تجفيف مصادر تراكم الاحتياطي الاجنبي السائل للعراق عبر ظاهرتين هما :
الاولى :   تكريس التجارة الاقليمية بانحرافات سعرية وكمية غير محدودة الاتجاهات وخلق فرص ربح تدفع باستيرادات تفوق حاجة السوق المحلية ، مما يعني ثمة امكانية على تدوير السلع بين العراق ومناطق الاقليم وتدوير الفائض المالي العراقي عبر هذه الحركة الاقليمية وتحويل التاجر العراقي الى لاعب تجاري ومالي وسيط شريطة تأدية دوره في تحصيل العملة الاجنبية من مزاد البنك المركزي العراقي بأي ثمن وتحت اي ذريعة بما فيها هدر الاستقرار الاقتصادي للعراق وتجفيف موارده المالية .
والاخرى: خلق مصالح غير تجارية عبر الممرات التجارية الاقليمية الحرة مع العراق جاذبة في دول الاقليم وتأسيس مصالح مالية من خلال تدوير الفائض النقدي الاجنبي للعراق وتحويله من سيولة محلية الى سيولة اجنبية ليجري توظيفها في دول الاقليم حسب درجة استقرارها او ظروفها الاستثنائية الجاذبة ، ولاسيما النشاطات العقارية او الاندماج مع الشركات الوسيطة الاقليمية المتاجرة مع العراق .
   لاتخرج جميع الظواهر في اعلاه عن التشكيل التجاري الاستهلاكي للعراق وآلياته المرتبط بطراز المعيشة ونمط الحياة الذي اسسته الموازنة المالية للبلاد عبر فلسفة توزيعية شديدة الرفاهية عالية في مثلها ضعيفة جدا في مستقبلها ونتائجها والتي تؤدي وظيفتين كما ذكرنا سالفاً تصبان في تعزيز النمط الاستهلاكي الفائق في العراق الذي يصاحبه تعظيم امتصاص الفائض الذي تولده الموازنة العامة على موازنة الاسرة العراقية وسحب القدرات الادخارية الوطنية ، فضلاً عن ادغام الادخارات المحلية في مسالك التجارة الخارجية وفي نشاط تجاري شبه وهمي او مغالى في اسعاره لتوظيفه في دول الاقليم .



   وهكذا، لم تبنى الظواهر في اعلاه بعيداً عن الظروف الموضوعية المحلية التي تحيط باقتصاد بلادنا والتي على رأسها توافر اقتصاد مالي قوي ومتين ضعيف الارتباط في النشاط الانمائي قوي الارتباط بالنشاط التجاري الاستهلاكي . وعلى هذا الاساس ، غذت هذه العلاقة حواضن النشاط التجاري الضاغط من القوى الاقتصادية الاقليمية وسحب القطاع المالي الوطني العراقي نحو خدمة الظروف الجديدة واحتياجات التمويل لتلك الاقتصادات وبنسب متفاوتة .
   ان السوق الوطني العراقي التي تبحث عن فرص الربح والاطمئنان امست منجذبة في مغريات خارج حاضنتها الوطنية بسبب الموديل الاستهلاكي الطارد للفائض لتبحث في الحواضن التقليدية الاقليمية بحوافز جديدة جسدتها ظاهرة التكالب على الاستيراد الاستهلاكي باسعار وكميات لايقوى الاقتصاد العراقي على استيعابها ولكن تستطيع استيعاب الفائض المالي للعراق وتحويله في حواضنه الاقليمية الاكثر جذباً . وهو الامر الذي اشره المركز المالي للعراق المتمثل بهجومات العملة currency attacks  التي تعرض اليها مزاد الدولار للبنك المركزي العراقي منذ الربع الاخير من العام الماضي وحتى الوقت الحاضر ، مما يفسر الانعكاسات التجارية الراهنة التي مازالت تعمل بالضد من تطور الاقتصاد العراقي والتطلع الى التنمية فيه باتجاهين :
أ -   ترسيخ الاستهلاك ونمطه في العراق وتفكيك منظومة النشاط الاقتصادي الوطني وفضيلة التنمية إزاء فضيلة الاستهلاك وتحويل البلاد الى مجرد شركة صرافة !!!
ب -   تحويل الفائض الاقتصادي الكامن او الادخار لاعادة رسمه خارج النشاط الاقتصادي للبلاد عبر بوابات التجارة الحرة بما يوفر آليات سريعة لتجفيف مصادر العملة الاجنبية والاستحواذ عليها دون السماح لها في تعظيم القيمة المضافة داخل العراق وعدها وسائل سهلة التوظيف والانتقال الى السوق الاقليمية . فالدولار يمتلك الحرية القوية بالتأكيد على الحركة والجاذبية العالية لينقلب بموجبــه الدينار الوطني محدود الحركة وتحويله من حقوق محلية الى حقوق اجنبية عالية الحركــة .
ختاماً .. هذه حقيقة اقتصادنا ومكنونات الحرية الاقتصادية في بلاد تتعايش على ريوع النفط هاجسها الاستهلاك العالي محلياً والادخار والاستثمار خارجياً . ماهو السبيـــــــــل ؟
   






القسم الثاني :    المعادلة الضائعة في الاقتصاد العراقي :
من يحسم التناقض بين اقتصاد الدولة وهيمنة السوق الحر ؟

   لم يكن لظاهرة التدهور في معدلات سعر صرف الدينار العراقي في الاشهر الاخيرة بعد انتهاء ربيع الاستقرار الذي عاشته البلاد على مدى السنوات الماضية امراً منقطعاً عن مسبباته وطبيعة ومنهجية النظام الاقتصادي في العراق . فالتركيبة الراهنة التي لاتخفى على القاصي والداني من ان هذا الاقتصاد الشديد الريعية يعمل على محورين متناقضين اولهما : اقتصاد دولة يهيمن على 80% من الناتج المحلي الاجمالي او توليد الدخل الوطني ناهيك عن مسؤوليته المباشرة في توريد 99% من التدفقات الداخلة الى البلاد من النقد الاجنبي  التي يرتبط الاصدار النقدي للبنك المركزي العراقي والنقد الاساس ارتباطا مباشراً بحركة تلك التدفقات . والنقيض الاخر : وهو اقتصاد السوق الذي يمتلك الجزئية الاقتصادية والفعالية الاكبر في الادارة غير المباشرة لنتائج اقتصاد الدولة التي تعكسها الموازنة العامة عبر نفقاتها الهائلة التي تشكل نسبة 60% من اجمالي الانفاق الكلي ، وان السوق باتت منفردة في التدفقات الخارجة من البلاد للنقد الاجنبي وتستحوذ على حقوق رئيسة ومهمة من القوة الشرائية بالدينار العراقي وتمتلك الرغبة في الحصول على العملة الاجنبية من تراكمات البنك المركزي من احتياطياته بالنقد الاجنبي التي هي غطاء لتلك الحقوق .

   ففي معادلة هيمنة السوق الحر واطلاق حرية التحويل الخارجي واستخدام سياسة الباب المفتوح في التجارة الخارجية للقطاع الخاص مع غياب رؤية مهمة لاستراتيجية التطور والتنمية والنهوض بالواقع الاقتصادي ، فقد تحول الاقتصاد الى ثنائية شديدة من الريعية في توريد العملة الاجنبية الى التجارة الخارجية وتمويل تجارة الاستيراد ذات الطابع الاستهلاكي البحت وفسح المجال عن فرص الربح والاستثمار الامثل في الاقتصادات الخارجية وجعل العراق حاضنة للاستهلاك وتجميع الثروات وتصديرها الى حواضن اقتصادية خارج البلاد .

   كان البنك المركزي العراقي يعمل في هذه المعادلة الضائعة ويمارس سياسة مسك العصا من الوسط  لتحقيق التوازن بين تناقضين الاول : اقتصاد الدولة ومسايرته لهذا الاقتصاد الريعي الكبير والاخر : مجاراة السوق الحر ، وهي سوق باهتة تخدم النشاط التسويقي الداخلي وحركة الاموال نحو الخارج بغض النظر عن النتائج المرجوة في بناء انموذج اقتصادي يولد حركة تدفقات داخلة وخارجة بالعملة الاجنبية بمنآى عن هذه الثنائية او الاستقطاب الشديد بين اقتصادين مختلفين ( الدولة والسوق ) وبين تدفقين ( تدفقات بالعملة الاجنبية داخلة يوفرها اقتصاد الدولة و تدفقات خارجة من تلك العملة يستميل عليها القطاع الخاص باتجاه واحد خارج الحدود دون النظر الى الخلف ) .


هل السياسة النقدية للبنك المركزي قادرة على تغيير بوصلة التناقض ؟
   
مارس البنك المركزي العراقي كما نوهنا سياسة تدخل في سوق الصرف لم يتسع المجال للدخول في آلياتها النقدية لبلوغ مستوى مستقر في سعر صرف الدينار العراقي في محاولة كانت ناجحة في اختبار ادواته للتصدي للتوقعات التضخمية منطلقاً من مفهوم ان السياسات النقدية العصرية هي السياسات التي تحسم  فن ادارة التوقعات . وعلى هذا الاساس تنعمت السوق الوطنية باسعار صرف مستقرة واستقرار في المستوى العام للاسعار وهبوط التضخم الى المرتبة العشرية الواحدة بعد ان بلغت معدلاته مراحل عالية، فضلا عن ارتفاع احتياطيات البنك المركزي من النقد الاجنبي الى المرتبتين العشريتين من حيث القيمة الدولارية وهي الاعلى في تاريخ البلاد . ولكن لم يستطع البنك المركزي من حسم التناقض بين اقتصاد السوق وتطلعاته وفردانيته باتجاه الربح إزاء تطلع اقتصاد الدولة وفردانيتها في البحث عن الربح الاجتماعي وهي تفتقر للرؤية الاقتصادية لحركة النظام الاقتصادي في العراق . فهكذا معادلة معقدة وضائعة جعلت الاقتصاد الوطني والبحث عن حلول له بمثابة سفينة اقتصادية بلا ربان ، فتدهور سعر صرف الدينار العراقي هو ليس نتاج ضعف في القطاع المالي للدولة ( المالية العامة والبنك المركزي ) ولكن هو نتاج لمن يحسم الصراع ويمسك بدفة الربان وبأي اتجاه في مياه الاقتصاد العراقي المندفعة نحو مصباتها خارج الحدود ؟؟؟

ان التوجه نحو الحرية الاقتصادية طوال المدة الماضية ومبادلة الحقوق الممسوكة بالدينار وتعويضها بالعملة الاجنبية وتحقيق الاستقرار لكون الدينار العراقي مغطى تماما بالعملة الاجنبية وعلى وفق الآلية الريعية التي ولد فيها اقتصاد الدولة الدينار العراقي وارتباط ذلك بفوائض ارتبطت بثلاث موازنات هي : فائض في ميزان المدفوعات تهيمن عليه الدولة بعوائد النفط  وعوائد الموازنة العامة التي ترتب انفاق بالدينار العراقي لمصلحة السوق وتولد في الوقت نفسه احتياطيات او غطاء  بالعملة الاجنبية عن الاصدار النقدي الناجم عنها وتصب في الميزانية العمومية  للبنك المركزي. وبهذا فأن التزامات متقابلة بالدينار العراقي تعد قيدا  يفرضه السوق على تلك الموازنة العمومية للبنك المركزي جراء تحقق الانفاق في الموازنة العامة على ادوات السياسة النقدية واهدافها التشغيلية ،كقوة طلب يولدها السوق ينبغي مكافئتها بعرض كلي تفتقر اليه قاعدة الانتاج ، مما فرض عبئا مستمرا على السياسة النقدية للبنك المركزي للتدخل اليومي وبيع الدولار للحفاظ على استقرار القيمتين الداخلية والخارجية للدينار ( ونقصد بالخارجية هنا سعر صرف الدينار العراقي) .

   ان مفترق الطرق بات بحاجة ماسة الى قوة قرار يوضح الخطوط العامة للاقتصاد العراقي اما ان يؤمن ايماناً كاملاً ان الانتقال الى الحرية الاقتصادية وسياسة الباب المفتوح وتحمل الاستنزاف الحاصل في عوائد النفط وتدفق الموارد الاجنبية العابرة للحدود لضمان رفاهية الفرد واطمئنانه واستقراره (طالما ان منهج التنمية واستقرار مناخاتها حالة متعثرة في العراق والسير بالسفينة امسى مع التيار وحتى يأذن الله امراً لتتغير حالة السوق الوطنية والسلوك الفردي  عن طريق خلق تدفقات داخلة من الاستثمارات والاموال مقابل التدفقات الخارجة). وهذا امر تقرره القيادة السياسية للبلاد ولايقرره البنك المركزي في نظام اقتصادي لم تكتمل معالمه واتجاهته وآيديولوجياته طالما الحديث يدور عن تحويل مبلغ 180 مليار دولار بين الاعوام 2003 ومطلع 2012 وهي حقوق لحاملي الدينار ولدها اقتصاد الدولة بالدرجة الاساس بعد انفاقه مبلغ 450 مليار دولار عبر الموازنات العامة للمدة نفسها  وانتفع منها الازدهار الاقتصادي الاستهلاكي الهش والادخار الخارجي ولم ينتفع منه اقتصاد التنمية لغياب منهج التنمية ومناخاتها الجاذبة في بلد يتعايش على موارد النفط ،مستهلكوها هم في الداخل ومدخروها يتطلعون بها نحو الخارج ؟

سياسات انصاف الحلول هل تستعيد التوازن في سوق الصرف ؟
   
   تعيش البلاد حالياً بنظام معدلات لسعر صرف الدينار العراقي الى الدولار يسمى بنظام السعرين Dual  وهو أمـر ابتدأ مع شدة الصراع والتناقض بين مفهوم اقتصاد الدولة والدفاع عن آليات ومبادئ اقتصاد السوق الحر خالي من اية ضوابط في حركة الاموال .

ومالم تحسم الرؤية الاقتصادية لهذا التناقض اليوم قبل الغد ، وتطلق آليات السوق الحر كما ترغبها القوى الاقتصادية الناشئة بعد العام 2003 ، فان نتائج الاستقرار الاقتصادي ستستمر مبهمة وستجعل البلاد تتعايش على اضطراب اسواق صرف موازية رمادية او سوداء الى امـدٍ غير معلوم في نتائجه وربما ستكون وخيمة في استقرار الاسعار ومستوى المعيشة وتشكل هواجس يومية مؤلمة في الحياة الاقتصادية للاسر العراقية وعموم النشاط الاقتصادي .

   وعليه ، فان الدروس والعبر تقتضي صياغة المعادلة الاقتصادية بعد فقدان واحدة من  ثوابتها وهو  اما الايمان باقتصاد الدولة التدخلية وتحمل مركزياتها بمختلف درجات الشد فيها  او الايمان بالحرية الاقتصادية وفق الآليات التي تعايش عليها العراق في العقد الاخير بغض النظر عن نتائجها الكارثية وانعدام رؤاها في احداث تنمية حقيقية تذكر من اجل تأسيس مستقبل لاقتصاد السوق الوطنية واندماجها باسواق العالم الحقيقية الاستثمارية و الماليـة وغيرها لقاء استقرار وازدهار في حياة بعض شرائح الناس وتحمل تضحية عالية من استنزاف في احتياطيات التنمية المعطلة واستمرار اشكال من البطالة كما نشهدها حاليا او الدخول في عقد جديد لاقتصاد الدولة يبنى على تدخل واسع صوب احداث تنمية كبرى تكون القيادة الاقتصادية لمؤسسة الدولة لبناء اقتصاد حداثة واستخدام واسع النطاق وبنية تحتية واعدة شريطة تحمل معدلات من التضخم والحرمان من لوازم استهلاكية وترفيهية مهمة ناجمة عن اغلاق الباب التجاري المفتوح لتمثل جميعها تضحية من نوع آخر في طراز الحياة ينبغي على المجتمع تحملها !   

-   انتهى  -
            


24
طائرات بلا ضمير 2- إغتيال الإنسان والسيادة

صائب خليل
5 حزيران 2012

قلنا في الحلقة الأولى من هذه المقالة والتي كانت بعنوان "طائرات بلا ضمير 1- تحترف التجسس"(1)
 أن الميزة الأساسية للطائرة المسيرة هي أنها بدون طيار، وبالتالي فهي جهاز الإغتيالات الأقل كلفة من الناحية البشرية والمادية وتأثيرها على الضمير الفردي والإجتماعي، وبالتالي توفر مرونة كبيرة لإصدار القرارات السياسية الإجرامية التي طالما تردد الساسة في إصدارها خشية تداعياتها حتى على مجتمعهم وقوانينه ونظمه.
ويعتبر أول استخدام عملي لها في حرب فيتنام، لكنه لم يكن بالسعة التي صارت لها اليوم، باعتبارها "الأداة الرخيصة والآمنة والدقيقة، للقضاء على الأعداء"، كما أشارت «نيويورك تايمز» نقلاً عن مسؤولين أمريكيين، موضحة أنها "أصبحت استراتيجية مستقبلية ورئيسية في حرب إدارة أوباما على الجماعات المسلحة (2) وقد أصبحت اسرائيل في مقدمة دول العالم المنتجة لهذه الطائرات (3) وتتمتع شركاتها بامتيازات خاصة في الولايات المتحدة، واستخدمتها بشكل كبير في غزو لبنان عام 1982 (4) وفي عمليات اغتيال في دول عربية أخرى (5) وتقديم معلومات المسح الجوي من الطائرات المسيرة التي تحوم في جنوب تركيا إلى حزب البي كي كي، حسب تركيا. (6)

ووظفت هذه الطائرات بشكل خاص في قمع الفلسطينيين واغتيال قادتهم، حيث يبين صالح النعامي أنه "بعد حوالي ست سنوات على اندلاع انتفاضة الأقصى، فقد أصبحت طائرات الاستطلاع بدون طيار هي العمود الفقاري في آلة الحرب التي تستخدمها دولة الاحتلال في تنفيذ جرائمها ضد الفلسطينيين. فبعد أن كان دور هذه الطائرات ينحصر في جمع المعلومات الاستخبارية حول نشطاء المقاومة وتحركاتهم في المنطقة، ومراقبة خطوط التماس بين اسرائيل والتجمعات السكانية الفلسطينية في قطاع غزة، والحدود مع مصر، فقد أصبحت هذه الطائرة هي الوسيلة شبه الوحيدة في تنفيذ عمليات الاغتيال ضد نشطاء المقاومة الفلسطينية."  لما لها من ميزات بعد أن كان الإعتماد بشكل أساسي على المروحيات. (7)

وفي أميركا، وتأكيدا لما نشرته نيويورك تايمز من الأهمية المتزايدة للطائرات المسيرة في الحرب الأمريكية "على الإرهاب"، لكن المؤشرات تبعث على الشك في هذه التسمية وهذا الهدف.

قبل عام كتب فريد برانفمان: أن "الإستراتيجية القومية لمحاربة الإرهاب" التي جاء بها أوباما، تعمل في ستة بلدان مسلمة هي الباكستان وأفغانسيتان والعراق واليمن والصومال وليبيا، وتحولت إلى مختبر لتجارب الإغتيالات بواسطة الطائرات بلا طيار. وقال أن الرئيس الجديد للمخابرات المركزية الأمريكية ديفيد بترايوس قرر مضاعفة الإعتماد على تلك الطائرات وتسليح كل من القوة الجوية الأمريكية والسي آي أي بها بشكل مضاعف. وأن القوة الجوية الأميركية تدرب في الوقت الحاضر "طيارين" ارضيين لقيادة هذه الطائرات بالريموت كونترول أكثر مما تدرب طياري الطائرات المقاتلة. (8)

إلا أن النتائج اضطرت أوباما أن يعترف بأن حرب الطائرات المسيرة في الصومال "تخلق الإرهاب".(9) وليس ذلك غريباً ولا يقتصر على الصومال بالطبع، فلطالما اشتكت الحكومة الأفغانية من نتائج عمليات الإغتيال لتلك الطائرات وإسقاطها الكثير من الأبرياء ، كما حدث أثناء عدد من إحتفالات الأعراس وأطفال يجمعون الحطب(10) وغيرها.

إغتيالات في اليمن

تشجع السهولة وقلة التكاليف كما يبدو، الحكومة الأمريكية لإستعمال تلك الطائرات بشكل أكثر كثافة، وهاهي الولايات المتحدة ترفع حرب الطائرات المسيرة في اليمن(11) وتقتل أعداداً كبيرة من الضحايا والجيش الأمريكي يرفض التعليق(12)
ويسقط المزيد من المدنيين في الغارات، خاصة بعد إسقاط حكومة صالح وتسلم "عبد ربه منصور" الذي وضع نفسه تحت أمرة السفارة الأمريكية و "المستشارين" الذين أعيدوا إلى البلاد بعد سحبهم إثر الإضطرابات الأخيرة. ويقول مسؤولون يمنيون حسب موقع "الإشتراكيين العالميين" أن عمل الطائرات يكرر سيناريو السي آي أي في باكستان، حيث تطلق قذيفة على تجمع للناس في المنطقة المشبوهة، وعند تجمع الآخرين تطلق قذيفة ثانية، فتوقع ضحايا كثيرين. ويتحدث الصليب الأحمر الدولي عن القلق من الضربات الجوية على مناطق مدنية.
ويقول تقرير للموقع المذكور أن تصاعد العمليات في اليمن تسارع فزاد عدد تلك الضربات (خلال شهر نيسان الماضي) عن مجموع العمليات في البلاد خلال السنوات التسع الماضية كلها. وقد استغلت إدارة أوباما حالة الفوضى في البلاد لتنفذ المزيد من الضربات مما أثار قلق المسؤولين اليمنيين من إثارتها للتمرد، حسب رويترز. ويذكر اليمنيون شهر كانون الأول 2009 الدموي حينما قتل صاروخ كروز أمريكي 44 مدنياً بينهم 22 طفلاً و 12 أمرأة ، خمسة منهن في حالة حمل، في قرية المجالة. (13)

ويخشى تقرير من "لوس أنجلس بوست" بأنه مع غموض الأشياء، فهناك إحتمال توجيه الضربات نحو السياسيين المنافسين للحكومة اليمنية والساعين لإسقاطها وليس من يهدد القوات الأمريكية، كما تدعي. فالحكومة تطلق على خصومها عبارة "مرتبطين بالقاعدة" وبالتالي يمكن أن يتم تعرضهم لضربات الطائرات المسيرة، إعتماداً على كلمة الحكومة. (14)

في باكستان

في باكستان بلغ حماس الجيش الأمريكي والسي آي أي لإستعمال الطائرات المسيرة للإغتيالات والقصف حداً اثار صراعاً عنيفا بين اميركا والباكستان، وعاملت الاولى الثانية وكأنها دولة محتلة وليس "شريكاً" في محاربة الإرهاب يقوم باستضافتها. (15)
وكانت العمليات تتم بلا أية إشارة للحكومة الباكستانية التي لا تثق بها أميركا. فأنكرت الحكومة الباكستانية علمها بضربات الطائرات المسيرة التي قتلت 15 مدنيا في وزيرستان(16) ولتخفيف وقع الجرائم كان الضحايا المدنيون يتحولون بفعل ساحر إلى مقاتلين(17) والحكومة الباكستانية تدين الضربات وتعتبرها غير قانونية وذات نتائج معكوسة، كما في أماكن أخرى عديدة(18)

وتقول الخارجية الباكستانية أن ضربات الطائرات المسيرة تنتهك سيادتها ولها تأثير معاكس على الإرهاب(19)

وحين قامت القوات الأمريكية بغارة على موقع حدودي قتل فيها 24 جنديا باكستانياً، طالب البرلمان الباكستاني بوقف ضربات الطائرات المسيرة وعرض إقامة علاقات جديدة إن وافقت أميركا على إنهاء الضربات المسيرة والإعتذار لضحاياها(20) ودعم الرئيس الباكستاني مطالبة البرلمان و يقول أن أميركا يجب أن توقف الضربات المسيرة(21) وأثبتت المحاكم البريطانية قتل المدنيين في حرب الطائرات المسيرة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الباكستان(22) فيجيب أوباما الباكستانيين بالقول "لسنا مستعدين لوقف ضربات الطائرات بدون طيار" (23)

ومن اجل إنقاذ "حق" وكالة المخابرات الأمريكية في القتل بواسطة الطائرات بدون طيار، في باكستان، من موجة الإحتجاجات الرسمية والشعبية، تقدم الولايات المتحدة عرضاً لتقليل العمليات وإعطاء السلطات إنذاراً مبكراً قبل قيامها بها، وترفض الحكومة الباكستانية العروض الأمريكية(24) ويجري الحديث حول محاولة نقل السيطرة على الطائرات المسيرة من السي آي إي إلى الجيش من أجل "شفافية أكبر"، لكن منظمات حقوق الإنسان في باكستان تعتبر النقاش غير ذي معنى وتقول أن المهم هو ان يتوقف إلقاء القنابل على رؤوس الناس(25)
وتستمر الولايات المتحدة بعمليات الإغتيال رغم كل الإحتجاجات الباكستانية(26)
ولا يختلف الحال في أفغانستان، ويدهش الشعب الأفغاني بتوقيع أتفاقية تسمح باستمرار عمليات الطائرات المسيرة في بلاده إلى ما بعد عام  2014 (27)

من كل ذلك يبدو أن أوباما "تبنى علنا" من الناحية العملية، وبشكل لا تراجع عنه لسياسة "القتل من الطائرات المسيرة"(28)
ويتوقع ارتفاع تخصيصات الطائرات المسيرة خلال العقد القادم من 5,9 بليون إلى 11,2 بليون دولار وتكوين شركات جديدة عملاقة  تسترزق من ذلك السلاح(29)
وقد يدهش المرء أن يجد أحد الكتاب نفسه مضطراً ليشرح كيف أن الإغتيال بواسطة الطائرات المسيرة "غير قانوني"، وكأن قانونية القتل بلا محكمة أمر قابل للنقاش، مقدماً خمسة أسباب لذلك من ناحية الدستور الأمريكي والقانون الدولي وحقوق الإنسان والقانون العسكري الأمريكي(30) لكن العجب من ذلك يزول في بلاد تجند حكومتها خبراء القانون والإعلام لتبرير ذلك الإغتيال، مؤكداً أن "الضربات بالطائرات المسيرة قانونية وأخلاقية وحكيمة"،(31) ويؤكد  مساعدوا الرئيس فيها أن دستور البلاد يسمح بالضربات في اي مكان في العالم. وأنه ليس هناك في القانون الدولي ما يمنعها. (32)

وهكذا تستمر إدارة أوباما بإعطاء موافقاتها على "طلبات القتل" كما تصفها الصحافة الأمريكية اليسارية، مثل طلب بترايوس (رئيس السي آي أي) بصلاحية قتل الاشخاص غير محددي الهوية في حرب الطائرات المسيرة في اليمن، أسوة بما تقوم به في باكستان. (33)
ومثلما يعامل الناشطون ضد كارثة اليورانيوم المنضب كأعداء للنظام الأمريكي، يتم القاء القبض على المحتجين على استعمال الطائرات المسيرة قبل وصولهم إلى مراكز تجمعهم(34) وتتم محاربة المحققين في قضايا الضربات الجوية ومحامي ضحاياها(35) وعرقلة حركة الناشطين الأجانب الفاضحين لجرائمها(36) ليستمر اغتيال البشر والسيادة.



(1) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=17237
(2) http://www.alchourouk.com/Ar/print.php?code=512306
(3) http://www.iba.org.il/arabil/arabic.aspx?classto=InnerKlali&page=242&type=5&entity=738515&topic=0
(4) http://warincontext.org/2012/05/15/israel%E2%80%99s-drone-dominance/
(5) http://www.watan.com/news/focus/2012-05-23/9472
(6) http://news.antiwar.com/2012/01/17/turkish-officials-israeli-drone-surveillance-data-given-to-pkk/
(7) http://www.alnajafnews.net/najafnews/news.php?action=fullnews&id=6152
(8) http://www.infowars.com/obamas-secret-wars-how-our-shady-counter-terrorism-policies-are-more-dangerous-than-terrorism/
(9) http://www.antiwar.com/blog/2011/12/28/obama-admits-drone-war-in-somalia-creates-terrorism/
(10) http://www.wsws.org/articles/2012/mar2012/afgh-m12.shtml
(11) http://www.wsws.org/articles/2012/apr2012/yeme-a27.shtml
(12) http://news.antiwar.com/2012/03/12/yemen-us-drone-strikes-killed-at-least-64/
(13) http://www.wsws.org/articles/2012/may2012/yeme-m17.shtml
(14) Ihttp://news.antiwar.com/2012/04/02/in-escalating-drone-war-us-targets-yemen-rulers-rivals/
(15) http://news.antiwar.com/2012/05/24/us-pakistan-tensions-rise-as-drone-strikes-pound-tribal-areas/
(16) http://www.onlinenews.com.pk/details.php?id=190220
(17) http://www.fpif.org/blog/drone_strikes_magically_transform_dead_civilians_into_assassinated_militants
(18) http://news.antiwar.com/2012/01/31/pakistan-condemns-drone-strikes-as-unlawful/
(19) http://news.antiwar.com/2012/01/12/pakistan-condemns-resumption-of-drone-war/
(20) http://news.antiwar.com/2012/03/20/pakistan-parliament-demands-us-end-drone-strikes/
(21) Pakistani http://news.antiwar.com/2012/03/25/zardari-us-must-halt-drone-strikes/
(22) http://www.informationclearinghouse.info/article31185.htm
(23) http://news.antiwar.com/2012/03/29/obama-told-pakistan-us-not-ready-to-stop-drone-strikes
(24)  http://warincontext.org/2012/03/27/pakistan-rejects-u-s-offer-on-drone-strikes/
(25) http://dissenter.firedoglake.com/2012/05/03/it-doesnt-matter-if-cia-or-military-control-us-drone-program/
(26) http://news.antiwar.com/2012/02/22/no-deal-us-restarted-pakistan-drone-strikes-despite-objections/
(27) http://news.antiwar.com/2012/05/02/us-afghan-pact-will-allow-drone-war-in-pakistan-to-continue/
(28) http://wsws.org/articles/2012/feb2012/pers-f02.shtml
(29) http://www.greenleft.org.au/node/50318
(30) http://www.informationclearinghouse.info/article31330.htm
(31) http://news.antiwar.com/2012/04/30/white-house-drone-strikes-legal-and-ethical/
(32) http://www.reuters.com/article/2012/04/30/us-obama-drones-idUSBRE83T0TN20120430
(33) http://news.antiwar.com/2012/04/26/obama-approves-cia-request-to-kill-unidentified-individuals-in-yemen-drone-war/
(34) http://www.alternet.org/rss/breaking_news/907729/drone_protesters__preemptively_arrested_before_reaching_hancock_air_force_base/(35) http://warincontext.org/2012/04/13/how-the-u-s-is-silencing-critics-of-drone-warfare/
(36) http://warincontext.org/2012/05/19/drone-filmmaker-denied-visa/
 (37)  الطائرات بدون طيار في بعض الدول العربية +ايران +اسرائيل
http://www.traidnt.net/vb/traidnt1647410/

25
طائرات بلا ضمير 1-  تحترف التجسس

صائب خليل
1 حزيران 2012

 

ليس من المضمون أن يكون هناك "ضمير" في الطائرات المقاتلة حين يقودها طيار، فحين سألوا قائد الطائرة التي ألقت القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما عما شعر به وهو يفعل ذلك، اجاب باستخفاف: "شعرت بهزة خفيفة في الطائرة"! ومعظم الفريق الذي عمل على إنتاج وإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناكازاكي، لم يشعروا بأي شعور بالذنب، ومازال الأحياء منهم يحتفلون سنوياً بالمناسبة.
لقد قالوا عن الطيارين الذين كانوا يحرقون فيتنام بالنابالم، إنهم ما كانوا يستطيعون أن يفعلوا ذلك لو أنهم رأوا بأعينهم ما تفعله طائراتهم بالبشر تحتهم. فالطائرة البعيدة في الجو، تبعد الضمير الذي فيها عن المناظر البشعة والصراخ، فلا يبقى الكثير مما يوقظ الضمير. ومع تطور التكنولوجيا، تطورت حماية الضمير من الإزعاج، فصارت المراقبة من على شاشة الرادار، والصواريخ توجه تلقائياً لذلك فأن الطيار يحس أن مشاركته محدودة جداً ولا تستدعي القلق على ألم الضمير.

لكن بزوال "الألم" تزول "المتعة" أيضاً، لمن يتمتع بالقتل. في فلم عن بطولات القوة الجوية الإسرائيلية يشكو أحد الطيارين من ان القتال الجوي لم يعد له أية "لذة" تذكر. كل ما عليك تضغط الزر في الوقت المناسب، والباقي ينفذ ذاتياً، فالقتال يدور على بعد خمسين كيلومتراً، وأنت لا ترى حتى هدفك.

إذن لا يضمن وجود طيار في الطائرة، وجود ضمير فيها، لكن من المؤكد أن لن يكون فيها ضمير إن لم يكن فيها طيار. وسلاح بلا ضمير يعيقه عن إداء المهمات مهما كانت بشاعتها، سلاح ذو فعالية متميزة بلا شك.

 "الطائرات بلا طيار" السلاح الأمريكي الإسرائيلي الأحدث للإغتيالات الدولية والتجسس، تخلص من مشكلة الضمير، فقائده يجلس أمام حاسبة في قاعدة جوية، ويلعب بالرموت كونترول، فيقتل "الأعداء" ويسجل النقاط ويتمتع بها كما يفعل الأطفال، ولن يحس حتى بـ "هزة خفيفة" حين يلقي بقنابله، إلا إذا فكر مصمموا النظام بإضافة هزة إصطناعيه لكرسيه عند إلقاء القنابل أو انفجار الصواريخ لزيادة المتعة باللعبة.
يكتب إيد كيان محذراً من هذا "القتل بواسطة الجوي ستيك" (1)
وكتب توم أنكلبرت مقالة بعنوان "كيف اصبحت حرب الطائرات المسيرة طريقة أمريكية في الحياة؟" (2) يقول فيها:
"فاجأتنا أول عملية اغتيال(3)  امريكية بواسطة هذه الطائرات في بداية العقد الأخير من القرن الماضي،....ومن لا تدهشه هذه التكنولوجيا المستقبلية التي كلها مكاسب....فهي تخلص المهاجم من كل مآسي الحرب وكلفها الإجتماعية من قتلى وجرحى و توتر (4) وتلف عصبي وذهني (5) ونفسي ونزوع نحو الإجرام (6) والإعتداءات الجنسية وعمليات الإنتحار(7)
ثم يشير الكاتب إلى أن نتائج حرب الفيتنام ومآسيها على المقاتلين في أميركا، هي التي دفعت الناس إلى الإحتجاج وإلى إيقاف تلك الحرب، وأوقف نكسون بعدها فوراً دعوة الإحتياط.
في كتابه (The New American Militarism) (العسكرية الأمريكية الجديدة) (8)  يشير اندرو باسيفج إلى أن جعل الجيش يعتمد على خدمة الإحتياط يجعل أي رئيس في المستقبل مضطراً لحساب قراره بدقة لحساسيته السياسية والإقتصادية قبل ان يستدعي الإحتياط للقتال. ثم يبشر الكاتب بوصول "الشركة المقاتلة" والحرب التي "تدار عن بعد" بواسطة الريموت كونترول، وبالتالي تخلص الرؤساء من وجع الرأس الذي تسببه الحروب السابقة، وما قد يحدثه ذلك من تأثير على مستقبل البشرية.
 
الطائرات بدون طيار، وتسمى أيضاً الطائرات المسيرة عن بعد، أو "الطائرات المسيرة" إختصاراً، دخلت على خط العلاقات العراقية الأمريكية مؤخراً، وهذا ما دفعني لكتابة هذه المقالة بجزئين خصصت كل جزء منها لإحدى المهمتين الأساسيتين اللتان يجيدهما هذا السلاح الفتاك، وهما "الإغتيالات"، والتي خصصت لها الجزء الثاني، و "التجسس" الذي يبدو أنه المقصود بالدرجة الأولى من استعماله الجديد في العراق، ولذا سنعطيه الجزء الأول هذا من المقالة رغم أن تلك الطائرات استعملت لكلتا المهمتين في العراق من قبل القوات الأمريكية سابقاً.

تناقلت وسائل الإعلام خبراً يفيد بعزم الولايات المتحدة حماية سفارتها في بغداد، بواسطة الطائرات المسيرة، وأن ذلك "جوبه باستياء عراقي شديد" حسب نيويورك تايمز. (9) وليس ذلك غريباً، فليس من السيادة لبلد ما أن يسمح بطائرات أجنبية تحوم في سمائه وتتلتقط الصور لمن تشاء ومتى ما تشاء وإينما تشاء وترسلها لمن تشاء، بحجة "حماية السفارة".
وحاول اوباما طمأنة العراقيين ان تلك الطائرات ستستخدم في العراق "بشكل محدود جدا"، ولحماية السفارة، والمراقبة فقط وليس للإغتيالات كما يفعلون في بلدان أخرى! وأنها لن تكون مسلحة. (10) لكن الرفض العراقي لتلك الطائرات بقي قوياً حتى إن كانت غير مسلحة وأنها كما يبدو تعويض عن مناطيد أمريكية مزودة بمجسات كانت ترتفع فوق كثير من المدن العراقية لمراقبتها. قال العراقيون أنها سماءنا وليست سماء أميركا. وأن الطائرات "اهانة للسيادة العراقية". (11)
وبعد صمت إعلامي قصير عن الموضوع، يعلن فجأة عن "موافقة" الولايات المتحدة "على بيع العراق عددا من الطائرات بلا طيار، لاستعمالها في مهام حماية المنصات النفطية في الجنوب" (!)

والحقيقة أن الإحساس بالقلق من هذه الطائرات "غير المسلحة"، لم يقتصر على العراقيين بل، ويا للغرابة يشاركهم في هذا الشعب الأمريكي نفسه، أو على الأقل من يعي معنى تلك الطائرات بيد الحكومات الأمريكية وشهوتها للتجسس على المواطنين الأمريكان قبل غيرهم. فصار هؤلاء المثقفون وعدد من السياسيين يحذرون من أثرها السلبي على الحريات المدنية إن سمح للحكومة بمراقبة الناس كما تسعى. (12)

وأكتشف الناشطون انه في الوقت الذي يتزايد فيه القلق الشعبي الأمريكي من الطائرات، فأن الكونغرس الذي يناقش إصدار قانون يسمح للمؤسسات الأمنية والشرطة باستعمال الطائرات لمراقبة الناس، يبدو أكثر حماساً لنشر طائرات المراقبة المسيرة من حماسه لأدائ واجباته الرقابية(13) وتم الكشف عن وثائق تبين أن الشرطة الأمريكية ومؤسسات أخرى متحمسة لهذه الطائرات وأنها طلبت السماح باستعمالها بأعداد كبيرة جداً. (14)

وفي هذا الجو المتحفز قال القاضي أندرو نابوليتانو قبل أسبوعين كلاماً عبر فيه عن مشاعر الناس، قال: "من يسقط أول طائرة مسيرة تقترب من اطفاله يصبح بطلاً قوميا أمريكيا"!
ويتوقع أن يصل عدد الطائرات المستعملة لذلك الغرض قريباً إلى 30 الف طائرة صغيرة. ومنذ الآن (17 أيار 2012) تمتلك جهات أمنية عدد من تلك الطائرات بانتظار أن يمرر الكونغرس القانون الخاص بالسماح باستعمالها للمراقبة.
وقال القاضي نابوليتانو: أن "نفس ا لكونغرس الذي سمح بقصف الليبيين سوف يسمح للقوة الجوية بالتجسس على حدائقنا الخلفية، وسوف يتجاهل الناس ذلك ويديرون رؤوسهم إلى ناحية أخرى"!
وأشار القاضي إلى ان التعديلات الدستورية الثالث والرابع والخامس والتاسع، تعطي الحق للمواطن بأن "يترك لشأنه" وهاهي الحكومة فجأة تناقض تلك المواد الدستورية. وهكذا فأن الحريات المدنية محل رهان، واي أمريكي يرفع سلاحه لمهاجمة تلك الطائرات فهو يفعل خيراً. (15)

إذن يشترك الشعبان العراقي والأمريكي في القلق بشأن الإتفاقات التي تبرمها حكومتيهما، وتتفق وجهتي نظرهما، تماماً كما اتفقا على ضرورة سحب القوات الأمريكية من العراق.

تم تبرير أتفاقية شراء العراق للطائرات الأمريكية المسيرة بأنها ضرورية لمراقبة وحماية المنصات النفطية العائمة في الخليج العربي. وأرفق الخبر بأنها "خطوة تهدف الى جعل العراق بديلا عن ايران في تجهيز الغرب بالطاقة" مرفقا بعبارة لمستشار رئيس الوزراء علي الموسوي، بأن "العراق لا يعنيه ما اذا كانت هذه الخطوة تثير قلق إيران أم لا، لأن هذه "مصلحتنا"، وإن "العراق ينبغي أن تكون لديه القدرة على حماية نفسه من أي عدوان خارجي". جاء هذا في صحيفة (يو أس أي توداي)، مشيرة إلى أن هذه الطائرات سوف تتيح للجيش العراقي القدرة على مراقبة متواصلة لمنصات النفط العراقية داخل المياه الإقليمية العراقية في الخليج، الذي تخرج منه أكبر نسبة من نفط العالم، وتهدّد إيران بغلقه بين الحين والآخر! وأنها (صفقة الطائرات) جاءت للحفاظ على "روابط عميقة" مع العراق بعد رحيل قواتها وأنها "تساعد على تسهيل تلك العلاقة الاستراتيجية".

يلاحظ أولاً صيغة الخبر التي تحاول التركيز على أن العلاقة بين العراق وإيران علاقة "خطر" و "منافسه"، مما يوحي بأن صفقة الطائرات موجهة في حقيقة الأمر ضد إيران. وهناك التصريح اللامسؤول والغريب لمستشار رئيس الوزراء بأن "قلق إيران لا يعنيه" (إن كان النقل دقيقاً)، وهذا تفكير سيء. فعندما يكون قلق الآخرين لا يعنيك، فإنك تعطيهم الحق أن لا يعنيهم قلقك. والقضية ليست قضية داخلية فقط، فلماذا السيادة تتضخم بمواجهة الجيران حين يقلقون على حدودهم، وتخمد خانعة مع أميركا البعيدة حين تدخل في قلب القرار السياسي العراقي؟
فهذه الطائرات سوف تقوم بالتصوير المستمر للمنطقة، وإرسال الصور إلى الأرض، وبالتالي فأن هذه الصور ستكون متوفرة بشكل مباشر لدى القوات الأمريكية، ومع كل التهديدات بالحرب فأن القوات الأمريكية بالنسبة لإيران أخطر بكثير من إسرائيل بالنسبة للعرب. فماذا لو قرر نظام الحكم في إيران تسيير طائرات تجسس إسرائيلية على الحدود العراقية وقال ان "قلق العراق لا يعنينا"؟ أما كانت ستقوم القائمة على "الفرس" الحاقدين على العراق؟

وإذا كانت هذه الطائرات الضرورية لحماية المنصات النفطية ستطير عند الحدود الإيرانية، فالسؤال المنطقي يطرح نفسه: لماذا لا يتم شراء تلك الطائرات من إيران نفسها وهي تمتلك تلك التكنولوجيا؟ فما تصوره تلك الطائرات هي أراض ومياه إقليمية عراقية وإيرانية في نهاية الأمر؟ أو على الأقل شراء طائرات من دولة محايدة لها علاقات مقبولة من الطرفين مثل روسيا أو الصين؟ أو ربما من الأفضل تسيير منظومة طائرات مراقبة مشتركة على تلك المنصات وربما الحدود بين البلدين؟ فميزة ذلك أنه في حالة حدوث خلاف حول اختراق للمياه الإقليمية مثلاً من أي طرف، فيمكن الرجوع للتحكيم إلى الصور والأفلام التي يقدمها النظام المشترك.

لكن دعونا نذهب أبعد ونناقش حقيقة ضرورة تلك الطائرات للهدف المعلن منها، وهو حماية المنصات العائمة. فالطائرات تكون مناسبة عندما يتعلق الأمر بمساحات شاسعة غير مأهولة. وهذه المنصات نقاط ثابتة في الخليج يصل إليها النفط عبر أنابيب تمتد تحت الماء، لتقوم بتحميل السفن بالنفط المصدر. وكونها "نقاط ثابتة" وليست مساحة شاسعة أو مسافات طويلة يلغي نهائياً فائدة مراقبتها بواسطة الطائرات أو أي نظام متحرك من اي نوع كان! فيمكننا أن نفهم فائدة الطائرات في مراقبة ألاف من الكيلومترات من أنابيب النفط أوالغاز، والإبلاغ الفوري عن اية عمليات تخريب أو سرقة تجري عليها، لتهرع الشرطة للقبض على اللصوص، لكن ما حاجة نقاط محددة ثابتة إلى تلك الطائرات؟ ألا يمكن الإستعاضة عنها بكامرات ترسل الإشارات بشكل مستمر مثل كاميرات "الويب" الرخيصة في الإنترنت، والتي تنتشر في المدن المختلفة في العالم؟ بل لا نحتاج حتى إلى هذه الكامرات. فالمنصات نقاط مأهولة بشكل مستمر بالموظفين وحماية الشرطة، وهؤلاء قادرين وبشكل أفضل، على إبلاغ فوري عن أي "إعتداء" وتتيح للعراق طريقة انسب لـ "حماية نفسه من أي عدوان خارجي" كما تفضل السيد مستشار السيد المالكي.

إذن فليست تلك الطائرات ضرورية ولا مناسبة لمراقبة المنصات، ولا أستبعد أن ما ستقوم به بتوجيه من المنظومة الأمنية العراقية التي أنشأها الإحتلال، هو مراقبة المنطقة لحسابه، سواء فوق المدن أو في الخليج. أي بنفس مهمة الطائرات التي أرادت أميركا الإستمرار في استعمالها بحجة حماية سفارتها، والتي رفضها العراقيون دفاعاً عن سيادتهم على سمائهم، فوجدت أميركا الحل ببيعها للحكومة لكي يدفع العراق ثمن جهاز التجسس الأمريكي عليه وعلى جيرانه. إنها تكرار حرفي لقصة طائرات الأواكس السعودية القديمة بالضبط!

بقي أن نقول أن صناعة السلاح الأمريكي بشكل عام تتركز في الجانب اليميني الشديد الولاء لإسرائيل، وبالذات في صناعة الطائرات المسيرة، فحسب أحد التقارير (16) فأن الشركة الأجنبية الوحيدة التي يسمح لها بتحليق طائراتها المسيرة فوق الأراضي الأمريكية هي شركة إسرائيلية، ويتحدث عن التأثير الإسرائيلي في صناعة الطائرات المسيرة الأمريكية ومستقبلها.
وليس الجانب الأمريكي بأفضل من إسرائيل على كل حال، وهو يمتزج بها حتى يستحيل تمييز الأول عن الثاني، خاصة عندما يتعلق الأمر بالسلاح والأمن.

إن تسليم مثل هذا النوع من المراقبة المستمرة إلى جهة أجنبية، وهي جهة أجنبية غير اعتيادية، بل مشهورة بتدبير الإنقلابات، وللعراق حصة كبيرة منها، أمر في غاية الخطورة. وهذه الطائرات ليست سوى إمتداد للذراع التجسسية وربما الضرب أيضاً، لقاعدة الأمن العسكرية ومركز العمليات والتجسس التي تسمى "سفارة" في بغداد، لمراقبة البلاد والشعب ودعم أية حكومة موالية لهم والمساعدة على قلب نظام الحكم لصالحهم في حالة الحاجة إلى ذلك.

التجسس بحد ذاته أمر خطير للغاية، ولكن فوق ذلك فلا تحتاج هذه الطائرات التي تطير بلا ضمير، سوى إلى تحميلها بالصواريخ في اية لحظة لتتحول إلى أخطر أجهزة الإغتيال بيد من تصل إليها يده من عملاء أية جهة كانت، وهي الطريقة المفضلة التي تستعملها أميركا بكثافة في كل مكان تتواجد فيه، وسيكون هذا موضوع الحلقة الثانية.

(1) http://truth-out.org/news/item/9161-drone-warfare-killing-our-civil-liberties-with-a-joystick
(2) http://original.antiwar.com/engelhardt/2012/02/23/how-drone-war-became-the-american-way-of-life
(3) http://www.tomdispatch.com/post/175056/tom_engelhardt_terminator_planet
(4) http://www.msnbc.msn.com/id/36197461/ns/health-mental_health/t/revolving-door-wars-tied-severe-ptsd/
(5) http://www.nature.com/news/2011/110921/full/477390a.html
(6) http://www.slate.com/articles/news_and_politics/explainer/2009/11/is_there_a_lot_of_crime_on_military_bases.html
(7) http://abcnews.go.com/US/rising-suicides-stump-military-leaders/story?id=14578134#.T0Jw-8zByUc
(8) http://www.amazon.com/dp/0195311981/antiwarbookstore
(9) http://www.al-akhbar.com/node/33980
(10) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=11144
(11) http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=42442
(12) http://original.antiwar.com/andrew-p-napolitano/2012/05/16/is-there-a-drone-in-your-backyard/
(13) http://www.alternet.org/rights/154966/_drone_summit_killing_and_spying_by_remote_control
(14) FOIA Docs: US Cities Plan Spy Drone Fleets
(15) http://www.informationclearinghouse.info/article31353.htm
(16) http://warincontext.org/2012/05/15/israel%E2%80%99s-drone-dominance


26
غيوم مقلقة فوق بغداد – 2- العوامل الداخلية للدكتاتورية

صائب خليل
21 ايار 2012

استنتجنا في الحلقة الأولى من هذه المقالة(1) ، ومن خلال التصريحات التي جاءت في مقابلة رئيس الحكومة نوري المالكي مع قناة العراقية في 9 أيار الجاري(2)، أن الوضع في العراق ينبئ بخطر محتمل على الديمقراطية من جانبي الصراع، وضرورة المحافظة على حرية المناقشة، ورفض الإستقطاب والتأييد غير المشروط، دون التنازل عن المواقف. ففي الساحة الهادئة التي تتيح للجميع الحديث، وتجبر الجميع على الدفاع علناً عن مواقفهم، تجد الديمقراطية فرصتها الأكبر للإنتصار.
هذا لمن يسعى للديمقراطية، فماذا عن من يسعى للدكتاتورية؟

يحتاج رئيس الحكومة الديمقراطية إن طمح للدكتاتورية، أن يؤمن عدداً من النقاط، أولها السيطرة على جهاز الأمن والجيش بشكل مباشر وكبير. ومن ملاحظة الخطوط العامة، نجد هذا الإتجاه موجود لدى المالكي بالفعل. ورغم أنه طرح أسباباً لذلك، فأن مثل هذا الوضع يتيح له، سواء أتى بقصد أو غير قصد، تحقيق الشرط الأول لإقامة الحكم الدكتاتوري ويترك له أن يقرر بنفسه أن يستفيد منه أو لا يفعل.

الإنتقال من الديمقراطية أو المشاركة إلى الدكتاتورية يمر بمرحلة أنتقالية غير واضحة المعالم وحرجة. ولكي يصمد الدكتاتور على رأس السلطة في تلك الفترة، عليه أن يؤمن، إضافة إلى سلطته على القوات المسلحة، تأييداً جماهيرياً كافياً لإعطاء حزبه الأصوات اللازمة، وأن يؤمن بطريقة ما، انتخابه من داخل قيادة حزبه سواء عن طريق الضغط والتخويف والرشوة، أو عن طريق إقناع الحزب أنه هو شخصياً من يجلب للحزب اصوات الناخبين، وأنه بالتالي "قائد ضرورة" للحزب إن أراد الحزب أن يحكم.

وقد لا يتورع الرئيس في الإستفادة من سلطته على الأمن لـ "تشذيب" الأصوات المعارضة داخل كتلته أو إئتلافه أو حزبه، إن كانت محدودة، كما أن مجرد الخوف من تلك السلطة يكفل له سكوت أغلب أصوات المعارضة داخل الحزب بلا عنف. وللخوف اشكال مختلفة. الخوف من القائد، أو الخوف على وحدة الحزب أو الخوف على مكانة الشخص المعارض بين رفاقه أو وظيفته أو غيرها، وكلها أسباب تؤدي إلى نتيجة واحدة رغم اختلافها، وهي أن الرأي المعارض في داخل الحزب لا يشعر بالحرية للإفصاح عن نفسه، وبالتالي يهيء الجو لنشأة دكتاتورية داخلية وتطورها. وهنا تلعب ظاهرة "حلزون الصمت" النفسية المعروفة التي كتبت عنها قبل سنين(3) دورها في تثبيت صمت المجموعة، حيث يتصور كل فرد من المجموعة التي يخيم عليها الصمت، أنه الوحيد المعترض، فيفضل السكوت، ويشجع بذلك الآخرين على السكوت أيضاً، وهكذا تكبر دائرة الصمت كالحلزون.

في الغالب يبدأ الصمت بأن ينتظر المعارضون "وقتاً أفضل" لإبداء اعتراضهم، مثلاً أن يعبر الحزب أو الحكومة أو الدولة "الأزمة"، لكن الدكتاتور المحتمل، يعرف ذلك جيداً وسوف يحرص أن هذا "الوقت الأفضل" لا يأتي أبداً، وأن "الأزمة" ستمتد وقتاً يكفيه لتأمين سلطته وفوات فرصة مجابهته. "الأزمة" هي الرباط اللاصق الذي يستطيع أن يبقى تلاحم الحزب أو المجموعة رغم الإختلاف، والمانع الذي يستطيع لجم الأفواه وتأجيل الإعتراض، حتى يتم بناء ما يكفي من "الخوف" لأستلام تلك المهمة بشكل ثابت.

لنعد بعد هذا النقاش العمومي، إلى الحالة العراقية، ونسأل: هل أن للمالكي من الصفاة ما قد يدفعه إلى الدكتاتورية؟ هل هناك مؤشرات سابقة في تصرفاته لذلك؟ هنا مسألة تقدير ورأي، وفي تصوري، نعم هناك مؤشرات مقلقة لذلك. ورغم أن "المؤشرات" ليست دليلاً حاسماً فهي جرس إنذار مبكر مهم.

- صولة الفرسان:  أذكر أن المالكي كان في أقصى حالات فرحه وفخره حين قاد "صولة الفرسان" شخصياً، رغم أنه ليس رجلاً عسكرياً، وبقي يردد بفخر أنه "اتخذ القرار وحده" (وهو أمر غير قابل للتصديق في بلاد محتلة بجيوش أجنبية تسيطر تماماً على الوضع اللوجستي والمعلوماتي والأمني، وقد تصطدم وحدات منها بتحركات العسكر الآخر ما لم تفهمه وتنسق معه، وبالتالي فهو غير معقول وغير سليم لو كان فعلاً قد فعل ذلك). ورغم أن الكثير من مؤيدي المالكي يعدون صولة الفرسان من إنجازاته، والكثير من الآخرين يعتبرها دليل على لا طائفيته، فأن الصولة نفسها وأسلوبها والفخر به، تدل على ميل قوي لتفضيل الحلول العسكرية العنيفة، واعتبارها فرصة لعرض القوة. ولنلاحظ أن المالكي لم يحاول أبداً حل المشكلة أولاً عن طريق قانوني، والمفروض أن تعطى مثل هذه الأمور وقتا وجهداً كبيرين لإيجاد حل قانوني سلمي اولاً، وتجنب الحلول العسكرية وكوارثها قدر الإمكان (وتفسيري الشخصي هو أن الأمريكان لم يكن يناسبهم ذلك)، وهو ما دفع ثمنه لاحقاً بعد الإنتخابات الأخيرة من إشكالات مع التيار الصدري، ماتزال آثارها مستمرة حتى الآن.

- اعتقال رسام: اعتقلت السلطات يوماً رسام الكاريكاتير سلمان عبد (5) لأنه رسم المالكي في كاريكاتير بسيط لم يكن فيه أية إهانة له، وهي من حركات الدكتاتوريات. ورغم أن الحادثة بسيطة، إلا أنها مؤشر خطير. الظريف ان مجلة نيوزويك الأمريكية نشرت نفس فكرة الكاريكاتير(6) عند انسحاب الجيش الأمريكي، ولم يشر أحد إلى ان المالكي قد انزعج منها.

- الإتفاقات الأمريكية: واتخذ قراراه دون استشارة رفاقه، بتوقيع الاسطر الأولى من الإتفاقية الأمريكية وأسماها "مذكرة تفاهم" وهي من مراوغات الإدارات الأمريكية المعروفة،  يبعد بها الساسة الأمريكان برلمانهم عن صلاحياته من خلال تسميات غير صحيحة.

- حالة الطوارئ: مدد إعلان حالة الطوارئ بدون موافقة البرلمان في حكومته الأولى، وهي مخالفة دستورية كما اعترض التيار الصدري حينها. ونذكر أن تمديد حالة الطوارئ أمر خطير استعمل كثيراً لتثبيت حكم دكتاتوري في بلدان عديدة، ولذا يناط القرار بموافقة البرلمان.

- إخفاء معلومات جرمية: إخفائه معلومات جرمية خطيرة عن أعضاء في حكومته حتى اللحظة التي يقرر فيها إبرازها. وقد برر له ذلك بعض رفاقه في حالة الهاشمي، بأن الأمريكان كانوا يمنعونه من ملاحقة الإرهاب (والفساد) وأنه فعل ذلك بمجرد خروجهم، لكن ذلك لا يبرر توقيت إثارة الموضوع في حالة النائب الجنابي، الذي كان من الواضح أن المالكي استغل معلوماته لصالحه الشخصي المباشر للتخلص من هجوم النائب عليه في البرلمان واتهاماته له، وفي اللحظة المناسبة له وليس للوطن، كما يقول في حالة الهاشمي. وهو اليوم يستمر بإخفاء المزيد من المعلومات باعترافه ، رغم أن الأمريكان قد رحلوا.

- الدكتاتور العادل: تكاثرت في الإعلام مؤشرات مقلقة لا يمكننا أن نعلم مدى علاقة المالكي بها. مقالات عن "الدكتاتور العادل" والهجوم الشديد على البرلمان بشكل عام، رغم أن البرلمان ليس خليطاً متجانساً ونادراً ما تصح مهاجمته ككل. وكذلك التأكيد على مساوئ الدستور والدعوات لإلغائه، الخ. والحقيقة أن النقطة الأخيرة يشترك فيها جميع الأطراف مثلما يشتركون في العودة للتأكيد على أهمية احترامه، ولكن من قبل المقابل.

- الدعاية الشخصية المباشرة: في مقابلته مع قناة العراقية قال المالكي هذه العبارات معيداً الفضل كله لنفسه شخصياً:
"أطلب مبلغ مليارين دولار أبني بيوت للفقراء توزع مجاناً، يعترضون عليها في البرلمان وحينما يصوتون ضدها يصفقون.. "
"من الذي دفع الثمن؟ دفعه المواطن البريء الفقير اللي ما عنده وحدة سكن وآني دا أسويله 140 الف وحدة سكن واوزعها مجاناً..."
"لولا أني ماسك الأمور لكان العراق فرط"
"لعلي الوحيد الذي ادافع عن شيء أسمه العراق ، ودستور العراق والآخر يتعامل معه على خلفيات ... "
"أنا الآن ألأكثر تحملاً لهذه المسؤولية .. مشكلتي أني أقوم بهذا الدور"
"أولى خطاياي وخطيآاتي شلون عدمت صدام حسين هي الجريمة التي لا تغتفر  والتي لا تزال تغلي في كل الدول وفي الداخل شلون آني ألاحق الذين يريدون العودة بالعراق الى الإنقلابات ، شلون ضربت الميليشيات والطائفية .."

- إهمال رأي ومصالح الشعب: نذكر ان المليارين التي قال الرئيس أنه طلبها "للفقراء"، قد خصصها بالدفع بالآجل دون غيرها، رغم مرارة تجربته مع الآجل التي دفعته لإقالة وزير الكهرباء السابق، مما يعني أنه أخذ بنظر الإعتبار أنها لن تنفذ أصلاً، ورغم الحركات الإعلامية للسنيد بالتهديد بالإستقالة. هذا وعلماً أن هذين المليارين هما كلفة مؤتمر القمة حسب بعض التقديرات، والتي علق عليها المالكي خطأً بأن القمة كلفت اقل من نصف مليار، وانها "ستبقى للشعب"، علماً أن الكلفة المباشرة المسحوبة لها كانت 550 مليون، وبحساب كلفة الرواتب المعطلة والحياة المعطلة بمنع التجول يكون المليارين تقديراً معقولاً إن لم يكن متحفظاً. أما كونها "ستبقى للشعب" فلا شك أن الذي "يبقى للشعب" أكثر، هو بناء مساكنه ومدارس أبنائه الطينية وليس المزيد من البذخ على فنادق الدرجة الأولى.
نلاحظ أن الذين استطاعوا "منع رئيس الوزراء من خدمة الفقراء" كما يقول، لم يستطيعوا منعه من إقامة مؤتمر القمة، ولن يتمكنوا من منعه من أستضافة مؤتمر 5+1 رغم أنه كما تؤكد المصادر الحكومية وكذلك وسائل الإعلام أن شركاء المالكي سعوا ويسعون جهدهم لمنعها! (7)

- الشفافية: ليست الشفافية من ميزات السيد المالكي بالتأكيد. وهو في شروحه يتجنب من الحقائق أكثر مما يطرح، وهذا أمر مقلق. لقد قال المالكي في مقابلته: "نريد الإجتماع الوطني يعلن ليراه المواطنون" وأنا لا أقف معه في ذلك فقط بل أطالبه بالوفاء به، لكني من خلال متابعتي للمالكي وخياراته، متأكد أنه سوف يتراجع عنه حين تحين الساعة، وسوف يعتمد على نسيان الناس له، ولن يقدم أي شرح عن سبب التراجع.

- مدى الإلتزام بالقانون: ليس صحيحاً أن رئيس الحكومة ملتزم بالقانون، فإضافة إلى الأمور المعروفة مثل إخفاء المعلومات الجرمية التي يعترف بها ويتيحها لنفسه، والكثير من الأمور الأخرى، فأن لدي بضعة مواضيع تابعتها شخصياً لا تدل على ان العراقيين يعيشون في بلد تحترم فيه الحكومة القانون كما تدعي وكما يوحي إسمها.
أذكر من تلك على سبيل المثال الواضح، أن تحقيقاً لم يجر مع الرئيس السابق للمحكمة الجنائية العليا رغم أني قدمت وثائق (8) تثبت أنه أرتكب عملاً غير مسؤول ورغم خطورة موقعه، باستعمال سلطاته القضائية بشكل غير معقول لملاحقة حتى الذين يختلف معهم في قضايا عائلية، ولا يتورع أن يتهمهم بتهم "الإبادة الجماعية" الخطيرة التي تختص بها محكمته! وكان شاهد على الوثيقة أحد البرلمانيين، وقدمتها إلى كل الجهات المسؤولة بما فيها رئاسة مجلس الوزراء وأجابوني باستلامها، كما كان قد قدمها صاحب الشكوى، ودون أن يحدث أي شيء.
إن لم تحصل قضية بهذه الوضوح والفضائحية، ورغم إعلانها على الناس، على المحاسبة القانونية فأي احترام يمكن ادعاؤه للقانون؟ إني لا اشك أن الكثيرين قد استفادوا من وجود شخص سهل الإرتشاء في هذا الموقع الخطير، ولا أستبعد ابداً أن يكون المالكي واحداً منهم بعدما حدث، خاصة أن رئيس المحكمة هذا قد عين بتوصية من المالكي نفسه!

هذه وغيرها كثير، وربما يعرف كل عراقي قصصاً أخرى ودلائل اخرى غير مريحة. ولو أتت كل واحدة من هذه النقاط بشكل منفرد لربما أمكن تجاوزها، لكن المقلق أنها كثيرة، ورغم ذلك يكثر الحديث عن الإلتزام بالقانون.

أما ناحية السيطرة على الحزب، فمن الصعب في هذه اللحظة تقدير إلى اي مدى يسيطر المالكي على حزب الدعوة. لكن هناك مؤشرات مقلقة أيضاً نستنتجها من بضعة ظواهر، لعل أهمها ردود الفعل الحزبية على موضوع ولايته الثالثة، فهذه قضية خلافية بامتياز ولوجهتي النظر حججها المتقاربة القوة، فعندما لا نجد صوتاً واحداً داخل تنظيم سياسي يتبنى وجهة النظر الأخرى المعقولة، فإننا نشعر بالقلق، لأن مثل هذا الرأي لابد أن يكون موجوداً، وأن شيئاً ما يمنعه من الإعلان عن نفسه.
كذلك لم نسمع صوتاً يحتج على إعادة العلاقة مع صالح المطلك، وكأن الموضوع إن قال المالكي عن شخص أنه سيء، ينهال جميع الرفاق عليه باللعنات ويصبح شيطاناً يستحق حتى من يتعامل معه اللعنة، وما ان يرضى عنه الرئيس حتى تخنس الأصوات كلها فوراً. إنها أيضاً ظاهرة لا تدعو للإطمئنان.

في الخندق المقابل يقف خليط غير متجانس يقوده مسعود البرزاني واياد علاوي، وهما بلا شك آخر من يمكنه أن يتكلم بالديمقراطية والدكتاتورية دون أن يثير الإبتسام. فالأول قابع هو وعائلته على السلطة منذ عقود، ولم يؤسس ميزانية لـ "بلاده" إلا بعد خمسة عشر عاماً من صرفها كما يهوى، مع شريكه الآخر، وله قصص ليست مشرفة حتى مع صدام حسين في ضرب شعبه عندما احتاجت مصلحته ذلك، وقام بتحويل مصيف سره رش، إلى قرية مغلقة له يسميها الكرد "العوجة" تشبها بعوجة صدام حسين!
أما الدكتور اياد علاوي، وحتى إن تغاضينا عن ماضيه غير المشرف، فيكفي ان نقول أن أحداً لم يستطع اليوم أن يؤلف معه أي تكتل سياسي لم يتحطم بعد حين، والسبب المطروح دائماً، إن لم يكن تبعية الرجل لأجندات أجنبية، فهو "دكتاتوريته" في اتخاذ القرارات، ومع ذلك فلا احد ينافسه في الحديث عن أهمية الديمقراطية والمشاركة في القرارات! إن كنا قد تحدثنا هنا طويلاً عن نواقص المالكي ومصادر قلقنا منه، فقد سبق أن كتبت مقالات كثيرة وطويلة عن فساد الجانب المقابل وأكاذيبه، ولا يستحق هنا أن نعيدها.

لقد أستعمل خصوم المالكي بعض المواضيع لتبيان اتجاهه إلى الدكتاتورية مثل موضوع الهيئات المستقلة والنفط والمشاكل الحدودية والمطارات وتحركات البيشمركة وسلطتهم العليا على الجيش الإتحادي ليس في كردستان فقط، بل حتى في المناطق التي قرروا أنها "متنازع عليها". هذه كلها وغيرها نحن لا نريد أن يتم التنازل عنها أو التراجع بشأنها أية خطوة، فهي ليست فقط مسألة منطقية ومبدئية، وإنما تشكل إحساساً بالمهانة في الشارع العراقي العربي، وإن تم تغطيتها تحت البساط فستظل تستعر في النفوس وترفع الكراهية بين "شعوب" هذا الوطن. من السخف إتهام الحكومة او المالكي بالدكتاتورية لطرحه وإصراره على مثل هذه المواقف، فلا يوجد بلد ديمقراطي في العالم يقبل به الرئيس الإتحادي بمثل هذا الخلل في بلاده.

إن طرح هذه النقاط واتهام المالكي والشهرستاني على أساسها بالدكتاتورية ليس سوى إحتيال، فموقف المالكي فيها موقف الغالبية الساحقة من الشعب العربي (وأقليات أخرى) الذي يمثل الجزء الأكبر من سكان العراق، فكيف يكون مؤشر دكتاتورية؟

أن من يثير هذه المواضيع ليس قلقاً على "الديمقراطية"، وإنما أجندته الخاصة، بل وأحياناً الأجندة الأمريكية المكلف بالدفاع عنها! فمثلاً موضوع "الهيئات المستقلة" في حقيقته جزء من البرنامج الأمريكي للسيطرة على سياسة العراق وأمواله، من قبل الشركات الأمريكية، وبنفس الطرق التي سيطرت بها على مقدرات الشعب الأمريكي، بإبعادها عن سلطة الشعب، لا أكثر ولا أقل. فلا يهم أحداً أن تكون هذه الجهات "مستقلة" إلا من يريد التسلل إلى سلطتها بعد تحريرها من المسؤولية من أية جهة ذات سلطة شعبية مثل الحكومة المنتخبة أو البرلمان. فمن مهازل الرأسمالية الأمريكية شديدة التطرف حقاً أن يكون البنك المركزي "مستقلاً"! كيف يكون مستقلاً؟ ما هي أهدافه؟ من يحددها؟ كيف يسمح لمؤسسة أن تتحكم بمصير ثروات الشعب دون أن يكون للشعب أي رأي فيما يقرره؟ إنهم يريدون تكرار الفضيحة المالية الأمريكية بتسليم الشركات البنك الإتحادي الأمريكي في مؤامرة تمت في الظلام مستغلة غياب بعض نواب الكونغرس في إجازة في عام 1913، لتمرير تلك المهزلة التي يدفع ثمنها الشعب الأمريكي اليوم بفقدانه كل سيطرة أو تأثير على أهم مؤسسة مالية تتحكم ببلاده، والآن يريدون تمريرها في العراق. لذا فرفض استقلال هذه الهيئات، ليس له علاقة بالدكتاتورية، بل هي صميم الديمقراطية، إن عرّفنا الديمقراطية بأنها سلطة الشعب على بلاده ومقدراتها.

ولقد أشار المالكي إلى أن المحكمة العليا قررت أن تلك الهيئات تقسم إلى هيئات تنفيذية وهيئات تشريعية وحكمت بتقسيم تبعيتها بين الحكومة والبرلمان، ومن حق الحكومة الديمقراطية بالذات، بل من واجبها، أن يتم تنفيذ قرار المحكمة العليا، وهو قرار منطقي يعطي السلطة التنفيذية مالها والتشريعية مالها، ويسهم بذلك في فصل سلطتيهما عن بعضهما البعض، وإلا فكيف سيمكننا غداً من محاسبة الحكومة إن أدت سياستها المالية إلى كوراث، خاصة مع كل أزمة مالية قادمة تقودها البنوك، وهي قادمة بلا أي شك؟

هذه الإتهامات الضعيفة والخطاب غير المقنع وانخفاض المصداقية، لم تتسبب فقط في فشل خصوم المالكي في الوصول إلى الشعب، بل أوصلت الشعب إلى الشك بنواياهم وأوصلتهم إلى حد اليأس كما يبدو واضحاً من الإنشقاقات المتكررة والتصريحات التي تبرز بين الحين والآخر صريحة وآخرها عند كتابة هذا المقال تصريح النائب عن العراقية طلال حسين الزوبعي(9) "أن المعارضين لنوري المالكي لا يملكون القوة والقدرة على تحسين الوضع السياسي" و "لا نتفاجى من فشل اجتماعاتهم."

لكننا يجب أن لا نعتبر أن سوء خصوم المالكي مهما كانت درجته، مبرر لقبول المؤشرات المقلقة بالمقابل، والتي تشي بأن المالكي قد يكون سائراً في طريق خاطئ وخطر، إن لم يكن نحو الدكتاتورية فنحو التفرد في القرار، كتعبير عن دكتاتورية مخففة. فإن كان الأمل للعراق يبدو في جانب حكومة المالكي، فيجب الحرص ليس فقط أن تكون هذه الحكومة أفضل من خصومها المغرقين في السوء، وإنما أن تكون هي بذاتها ديمقراطية قدر الإمكان وحضارية قدر الإمكان، فلا يكفي أن يكون القائد أفضل من الهابطين مثل صدام حسين او أياد علاوي ورفاقهما، ليوصل البلد إلى بر الأمان في هذا الوضع الصعب.

قبل الختام أشير لنقطة أخيرة وردت في أحد التعليقات المهمة حول الحديث عن تجميد الدستور في الحلقة الماضية، وأن ذلك قد يكون خياراً مقبولاً للمالكي ضد من لا يلتزم به، فأجبت:
علينا اولاً ان نتساءل: هل ان ألمشكلة في هذه القضية في الدستور؟ يعني هل يرى المالكي حلاً، والدستور يمنعه منه؟ لاحظ أن المالكي لم يشكُ من ذلك، وإنما كان يشكو أنه لا يتمكن من ممارسة صلاحياته التي يقرها له الدستور، وبالتالي فما يعرقله على ما يبدو هو قوة خارجية ما (أميركا فيما أفترض، والتي تصر على "حكومة الشراكة" المدمرة، كما فعلت في دول عديدة أخرى؟) تمنعه من استخدام كل الأدوات الدستورية المتاحة له. فمثلاً الدستور يتيح للمالكي أن يعلن حكومة أغلبية لكنه لسبب لا افهمه ابداً ، يمتنع عن ذلك باختياره أو يرى ما يمنعه. هذا الشيء الذي يمنعه، مهما كان، لن يزول بإزالة الدستور، وبالمقابل فخسارة رئيس الحكومة لموقفه باعتباره حاكماً شرعياً حامياً للدستور، ستبعد الكثير من المؤيدين له وتجعل موقفه أضعف كثيراً وبلا مقابل، وبذا تتيح لخصومه فرصاً جديدة للهجوم عليه.

أخيراً أقول أن هناك فرق اساسي بين المالكي وخصومه، وإن كنا نخشى ان يتحول المالكي إلى دكتاتور، ونراقب المؤشرات بقلق وندعوا لمساعدته على عدم الإنزلاق بالنقد والمفاتحة الصريحة، فأن الخصوم دكتاتوريين بامتياز ولا يرجى صلاحهم من هذا المرض وإن كان أذاهم محدوداً حتى الآن فذلك لمحدودية قدراتهم فقط. التاريخ يكرر نفسه، وهاهو المالكي يحتاج إلى "الدعم الناقد المسؤول" كما كتبت يوماً وتحت ضغط نفس المشاكل: "هل سيحصل المالكي على الدعم المسؤول من مؤيديه في مهمته الصعبة؟" (10)

الحلقة القادمة ستكون حول العوامل الخارجية المشجعة لظهور الدكتاتورية بالنسبة للحالة العراقية.

(1) الحلقة الأولى من هذه المقالة http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=16570
(2)  مقابلة السيد المالكي مع قناة العراقية – 9 أيار:
 http://www.youtube.com/watch?v=nqWI8p00oFY
(3) حلزون الصمت – صائب خليل
 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=28969
(4)  http://alhurrya.com/?p=6451
(5) الكاريكاتير إبتسامة لحمها مر لمن يحاول افتراسها – صائب خليل
http://www.yanabeealiraq.com/articles/saib-khalil190409.htm
(6) http://up12.up-images.com/up/viewimages/5c504da614.gif
(7) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=16699
(8) هل يصدر رئيس المحكمة الجنائية العراقية العليا أوامر القبض لحل مشاكله العائلية؟ - صائب خليل
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=54604
(9) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=16692
(10) هل سيحصل المالكي على الدعم المسؤول من مؤيديه في مهمته الصعبة؟- صائب خليل
http://www.sautalomal.org/index.php/2012-05-17-15-33-02/1895-2010-11-29-22-37-27.html


27
غيوم مقلقة فوق بغداد – الجزء الأول

صائب خليل
17 ايار 2012

رغم الكثير من التوضيحات الهامة التي جاءت في مقابلة رئيس الحكومة السيد نوري المالكي مع قناة العراقية في 9 أيار الجاري، وما جاء فيها من حقائق هامة لا تنكر،(1) فأن فيها ايضاً الكثير مما يبدو دعاية سياسية مباشرة وتقسيم العالم إلى أسود وأبيض، للخير التام (في جانب المالكي) والشر الكامل (في جانب خصومه) – وهو ما يفعله خصومه أيضاً. ولكن عدا كل تلك التفاصيل، كان في المقابلة ما يثير القلق حول مستقبل الديمقراطية في العراق، خاصة إن تم ربطه بما يجري في العراق اليوم والتهم المتبادلة بالسعي لتقويض الديمقراطية.

لقد سمعت المالكي في المقابلة يتحدث بصراحة لأول مرة بعبارة "تجميد الدستور"! وهذا يفترض أن يثير الفزع لدى أي شخص يعلم ما قد يعنيه ذلك. جاء الحديث بعد أن خير رئيس الحكومة شركاءه بين اجتماع وطني أو انتخابات مبكرة، ثم جاء الخيار الثالث: "..أو، لا سامح الله... هذا قد يفرض نفسه لأنه لايمكن أن نستمر إلى مالانهاية بلا دستور تعالوا نتفق نجمد الدستور(!!)، حطوه على جانب لهذه المرحلة،   جمدوه لأنه لا يمكن ان يبقى دستور طرف ملتزم به وطرف متمرد عليه...وهذي مو صحيحه هذي كارثة على البلد ولكنهم هم يقودون البلد إلى هذه الكارثة..!! "

المخيف في الموضوع أن رئيس الحكومة العراقية بدا كمن لا يدرك معنى كلامه، حتى أن مدير المقابلة أثار انتباهه بالقول: "من يسمعنا يقول أن رئيس الوزراء يطالب إلى تجميد الدستور يجب أن توضح الصورة الآن".. وعلى أثرها حاول المالكي التوضيح:
"لالا... أريد المواطن أن يفهم أن سلوك الجماعة ينتهي  إلى نهاية تجميد الدستور لأن ما يمكن أن يبقى طرف ملتزم وطرف غير ملتزم ...العملية ماتمشي لو الإلتزام من قبل الكل لو يتفقون نجمده ....أنا لست مع تجميد الدستور .. فوضى بالبلد يصير إنهيار كامل يصير في البلد  أنا ضد هذه الفكرة، لكن أيضا ضد فكرة أنك تلتزم والآخر يتمرد.."
ثم أشار إلى أن شركاؤه ، ولنقل "خصومه" واجهوه بسبب لرفضهم الإلتزام بالدستور ، بأنه "منظومة غير متكاملة لا نستطيع الإلتزام به" ليتساءل: "اليس هذا تجميد للدستور؟"

ما يبدو أن رئيس الوزراء لم يدركه ، هو أن "الدستور" ليس اتفاقاً بين شريكين (في عملية سياسية أو غيرها) لكي يصبح لاغياً أو "مجمداً" متى ما رفض أحد الشريكين الإلتزام به. ليس الموضوع موضوع "زعل" على أحد اخل باتفاق ما، وليس هو موضوع "مقابلة بالمثل": إن ترفض التعامل بالدستور فسأرفض التعامل به ايضاً! حين يتولى رئيس الحكومة السلطة فإنه يقسم على أن يحمي نظامها الديمقراطي ويلتزم بالدستور، وليس في القسم أعفاء من ذلك الإلتزام أن لم يلتزم به الآخرون! الدستور ليس "عقد" بين المالكي والكردستاني والعراقية، يتيح لأي منهم إلغاءه عندما يرى أن الآخرين لا يلتزمون به. وليس صحيحاً أنه "لا يمكن ان يبقى دستور طرف ملتزم به وطرف متمرد عليه"، فالدستور قانون (أعلى قانون) والخارج على القانون مجرم، ومن واجب السلطة أن تقوده مخفوراً إلى المحاكمة، لا أن تكرر فعلته وبأكبر منها فتلغي القانون نفسه!
الدستور يفترض أنه قانون لحماية الشعب والوطن، وبالتالي فتجميد الدستور إعتداء خطير على الشعب، فهل يصح أن يهدد أحد بأن يعتدي على شعبه إن اعتدى عليه شركاؤه الآخرون؟
لا يكفي رئيس الحكومة القول " أنا لست مع تجميد الدستور" كمن يقول "أنا لست مع السطو المسلح" أو "أنا لست مع إغتصاب النساء"!

الدستور يفترض أن يكون سلاح الحاكم الديمقراطي الأساسي، ولا توجد حالة يساعد التخلي عن هذا السلاح على حل مشاكل البلاد. وبالمقابل فأن حكومة لها أهداف غير ديمقراطية وغير شعبية، ستجد في الدستور معرقلاً لها وقد تجد نفسها راغبة أو مضطرة للتخلص منه. التجميد عملياً إلغاء للدستور، فالتجميد إلى متى؟ ومن يضمن ان أحداً سيأتي ليذيب الجليد عنه فيما بعد؟ ألم يكن لإعلان حالة الطوارئ، و "الدستور المؤقت" عمر مديد في كل بلد دخل في دهاليزهما، ولم يخرج منها إلا بقوة ثورة ثانية؟

لكن هل يفكر المالكي فعلاً بتجميد – الغاء – الدستور كخيار لحل الأزمة؟ أم أن كلامه كان نوع من "زلة لسان"، خاصة وأنه كرر كثيراً في المقابلة إحترام الدستور وأهمية الدستور،فأي من هذين النقيضين سنصدق؟

الجواب يعتمد على موقفك من الرجل نفسه. فهو سهل لدى جماعتين تمثلان الطيف العراقي الأكبر بامتياز. الجماعة الأولى هي التي تثق بالمالكي تماماً، وهذه سترى "بسهولة" أن هذا الكلام عن خطر الدكتاتورية، كلام فارغ، وأن أعداء الرجل يثيرون هذه الإشاعات عنه، ويتربصون به زلات اللسان، خاصة في هذا الظرف الذي يخوض فيه جانب المالكي صراعاً شديداً مع تكتل من قوى فاسدة وأخرى مجرمة وأخرى وراء الستار، ذات إمكانات ومصالح مالية ضخمة جداً، وهذا كلام صحيح إلى حد بعيد.

الجهة الأخرى التي لن تجد صعوبة في الجواب على هذا السؤال هي الجهة المعادية للمالكي. وليس من الضروري أن يكون كل فرد في هذه الجهة ذو مصلحة في سقوط المالكي، وإنما كل شخص صدق ما قاله هؤلاء أو كوّن مخاوفه الخاصة من دكتاتورية المالكي المحتملة وجمع العديد من المؤشرات عليها، او أكتفى بما يقال عنها أو وثق بخصوم المالكي بلا مراجعة، كما يثق أيضاً المتحمسين للمالكي، به. هذه الجهة يتخوف معظم أفرادها من احتمال دكتاتورية قادمة، ولديهم ما يبرر مخاوفهم.

الجواب سهل لدى هاتين المجموعتين، لكنه سيكون صعباً جداً للمجموعة التي لا تصدق كل ما يقول المالكي ولا تصدق كل ما يقوله خصومه، وتبقى تراقب المؤشرات والأدلة بانتباه وقلق.
ومرد الصعوبة هو أنه من جهة أولى، فأن من يفكر بالدكتاتورية سوف يسعى إلى إخفاء ما يفكر به بكل الطرق، بل سيسعى إلى التمويه بأن طريقه بالعكس، وأن الدكتاتورية في الجانب الآخر. ويمكننا أن نرى أن طرفي الصراع في العراق الآن – إن صح اعتبارهما طرفان فقط - يتبادلان الإتهامات بالدكتاتورية.
ومن جهة ثانية، فمن السهل أن يساء فهم شخص وأقواله وافعاله وأتهامه ظلماً بالسعي للدكتاتورية. وقد تفسر أخطاؤه أو زلاته بأكبر من معناها الحقيقي وسوف يسعى خصومه إلى تثبيت ما تثيره هذه الأقوال والأفعال من شكوك، على أنها حقائق منتهية، وادلة قاطعة على الخطر.

من المهم التنبيه إلى أن الحكم ظلماً على رئيس بأنه دكتاتور، لا يقل خطراً عن الحكم على دكتاتور بأنه ديمقراطي وتسهيل وصوله للسلطة. لأن الرئيس الديمقراطي والمسؤول الديمقراطي شيء ثمين ليس من السهولة استبداله بآخر إلا في ظروف مستقرة. وفي العادة فأن الدكتاتورية تأتي من خلال إسقاط رئيس ديمقراطي (كما أسقطت أميركا الندي شيلي، وحاولت مع شافيز فنزويلا) مثلما تأتي من دعم دكتاتور وتسليمه السلطة، دون إدراك (مثلما حدث لهتلر المانيا وموسوليني إيطاليا).

كلما ازداد الإستقطاب في البلد، تقلصت المجموعة الثالثة الشكاكة، وامتصتها المجموعتان المستقطبتان: مع أو ضد. وكلما ازداد الإستقطاب تدهور النقاش والجدال إلى تراشق شعارات واتهامات بلا أدلة وعبارات رأي وأكاذيب لا تخشى الإفتضاح، ويتوقف الجدل الحقيقي والإقناع عن الحركة. الرئيس لا يحتاج لإقناع مؤيديه، فهم مقتنعون، وأكثرهم يريد بقاءه حتى لو صدقت الإتهامات ضده.  وهو لن يحاول إقناع خصومه، فهم يرفضون حتى النظر إلى ما قد يقدمه من أدلة. وأكثرهم يريد إزاحته سواء صدقت التهم عليه أو لم تصدق. ويفقد الشعب أهتمامه بالحقيقة ويتعصب لجانب أو آخر "ظالماً أو مظلوماً".

أي من الطرفين يخدمه هذا الإستقطاب أكثر من الآخر؟ الرئيس الديمقراطي أم الدكتاتور القادم؟ هناك عوامل مختلفة في الظروف المختلفة تجعل الجواب عن هذا السؤال بدقة أمر مستحيل. لكن بشكل عام فأن الإستقطاب ، بما يحمله من تعطيل للمناقشة والمحاججه، يخدم من يكون له أهداف مرفوضة من قبل الناس ويصعب إقناعهم بها، إذن هو الدكتاتور (القادم). إنه لا يأمل أن يكسب المزيد من الناس لرأيه، لذا يطمح فقط إلى المحافظة على دعم الجماعة المتعصبة له على الأقل، وهذا أسهل كلما ازداد الإستقطاب والجو تعصباً وقلقاً. 

ما الذي ينطبق على الوضع في العراق؟ قد يبدو للقارئ أننا قطعنا شوطا كبيراً، وأننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من الإجابة عن هذا السؤال. للأسف ليس هذا صحيحاً، والطريق مازال ملغماً بالأخطاء والمزالق والفخاخ. فهناك مصالح كبيرة في الميزان.
يمكننا أن نبدأ بحثنا عن الدليل على النوايا الدكتاتورية: من في الفريقين يبدو متحمساً لزيادة الإستقطاب؟ ولا يصعب علينا من ناحية أن نبرهن أن المالكي يفعل ذلك بالفعل، فهو الذي يقود العملية كلها وهو الذي قرر متى تتم المجابهة ومتى تتوقف ومتى تزداد ومتى تخفض. ورغم أن عدد من رفاقه ارجع التوقيت إلى التخلص من التأثير الأمريكي بعد الإنسحاب، والذي قالوا انه كان يمنع المالكي من مجابهة الإرهاب والفساد، وهي أسباب معقولة، لكنها لا تفسر أيضاُ تجميعها في ضربة واحدة، وقبل أن يشعر المالكي باستقرار حكومته وسيطرته، فلماذا كلها الآن؟ لماذا صار المالكي فجأة حدياً لا يقبل أية تنازلات في الدستور وغيره، وقد كان قبل الكثير منها خلال السنوات الماضية؟

بالمقابل فأن الكتلتين التين تقودان الجهة الأخرى – التحالف الكردستاني والقائمة العراقية - غارقتان لأذنيهما في الإستقطاب على طول الخط، وإضافة إلى ذلك تعتمدان الأكاذيب بسخاء ولهما تاريخ من الممارسة الدكتاتورية بل واللصوصية المعروفة منها والتي ما تزال تتكتشف كل يوم، وليس بينهم من يمكن أن تثق به حتى في الحد الأدنى من الصدق، إلا شخصيات متناثرة لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، ولا يمكنها بالتالي أن تؤثر كثيراً لا في الخطاب الإعلامي، ولا في القرار السياسي لتلك الكتلتين.

ربما يجد أحد أن التحالف الكردستاني لا يمكن أن يدعم دكتاتوراً عربياً (من العراقية مثلاً) بعد كل معاناته من الدكتاتوريات العربية السابقة، ويستنتج من هذا المنطق المعقول مؤشراً إلى أن خطر الدكتاتورية لابد أن يكون في الخندق المقابل لكردستان. ولكن مقابل هذا "المعقول" فإننا نرى أن التحالف الكردستاني يحتفظ بعلاقات متينة مع أقرب الناس إلى تلك الدكتاتورية التي جرحته في الماضي القريب، من العرب والكرد، ويمنحها سلطات أمنية وسياسية، دون أن يبدو عليه أي قلق أو عقدة خوف منها، وفي نفس الوقت يدعي خشية كبيرة من احتمال دكتاتورية من كانوا رفاقاً له في مقارعة الدكتاتورية ولم يسبق لهم ان اضطهدوه، فهل أن هذه المخاوف حقيقية ام أنها ليست سوى حجة لإستخدامها في الصراع، وأن المهم لديه هو تمشية اتفاقات سياسييه المشبوهة مع الشركات النفطية الكبرى؟ في كل الأحوال لا يمكننا الإعتماد على موقف التحالف ا لكردستاني لاستشفاف مكان الدكتاتورية المهددة.

هذه في تقديري الخطوط العامة للوضع العراقي الحرج في هذه اللحظة، وسنأتي في مقالة قادمة على بعض التفاصيل ونحاول أن نضع أجزاءها لتكوين صورة نأمل أن تعكس الواقع، ولا تعتمد كثيراً على رأي مسبق بالجهات المختلفة (حتى حين يكون لدينا فعلاً رأي مسبق عنها). لكن مهما فعلنا فستواجهنا صعوبات وسنبقى في ظلام نسبي كبير، فكل ما يمكن أن نفكر به من وسائل لكشف الحقيقة، فأن من يهمه إخفاؤها يعرف كيف يفعل ذلك.
لذلك فالمطلوب أولاً من السياسي الديمقراطي أن يبحث عن طريقة لطمأنة الناس إلى اتجاهه وأن يسعى لتجنب الإستقطاب (وليس الصراع) ومنعه وإلى أقصى شفافية وصدق. وثانياً بالنسبة للمواطن، فعليه أن يكون منفتح الذهن لكل الحقائق ودلالاتها، وأن لا يسهم في استقطاب الجو، ولا يرضى أن يكون مشجعاً سلبياً للجهة التي يدعمها دون مطالبتها بالصدق والأدلة ومحاججتها بها. عليه أن يثق بقدرة الحق إن كان في جانب جماعته، وأن لا يخشى عليهم أن يهزموا، إذا تعرضوا للمساءلة والإستيضاح والشك، بدلاً من الدعم الأعمى. فالحق يفترض أن لا يحتاج إلى الدعم الأعمى ولا يطلبه.

(1) http://www.youtube.com/watch?v=nqWI8p00oFY


28



الصراع من أجل 8 ساعات

صائب خليل
1 ايار 2012

قال ماركس أن "الرأسمالي يسعى على الدوام إلى تقليل الأجور إلى الحد الأدنى الممكن، وإطالة يوم العمل لأقصى ما يمكن، بينما يحاول المشتغل بشكل مستمر أن يضغط بالإتجاه المعاكس".(1)
فحسب التحليل الماركسي، فأن يوم العمل ينقسم إلى قسمين، القسم الأول ينتج فيه المشتغل بالأجر، قيمة أجوره الضرورية لمعيشته، وفي القسم الثاني يعمل من أجل صاحب العمل، لإنتاج ما أسماه ريكاردو بـ "فائض القيمة" دون أن يرجع أصله إلى عمل العامل، وهو ما فعله ماركس بعد ذلك.

ومن هنا تنبع أهمية إطالة يوم العمل بالنسبة لصاحب العمل. فلو كانت ساعات العمل اللازمة لإنتاج ضروريات حياة العامل ثمان ساعات، وكان طول يوم العمل 10 ساعات، فأن هاتين الساعتين الزائدتين هما ما يأخذه صاحب المال (بغير حق وفق ماركس) من أرباح. فعندما يتم زيادة ساعات العمل ساعتين إضافيتين إلى 12 ساعة، فأن ما يحصل عليه صاحب العمل يكون عمل أربعة ساعات بدل ساعتين، أي ضعف ما كان يحصل عليه قبل التمديد!

ولا يقتصر "رأس المال" على تحليل السلعة وفائض القيمة، وما فيها من حسابات معقدة، وإنما يحتوي فصولاً تاريخية قيمة يمكن لأي كان قراءتها، تروي حقائق مذهلة عن الصراع حول طول يوم العمل وظروف العمل وكيف أن الرأسمالية استغلت العاملين بشكل كان يدمر صحتهم وفي ظروف لا يتوفر فيها حتى الحد الأدنى من كمية الهواء اللازمة للتنفس الصحي في المعمل، وكان الأطفال يشغلون فترات قد تصل إلى إلى 16 ساعة في اليوم ليخرجوا بعد سنوات وقد تخلفوا في التعليم والأخلاق والمهارات، بسبب السعي لأقصى الأرباح، الذي هو مبدأ الرأسمالية الاساسي. ويبين ماركس من خلال إحصاءات توفرت له أن المستوى الصحي للكثير من المناطق في العالم تدهور بتقدم الرأسمالية بدلاً من أن يتحسن وأن معدل العمر تراجع بشكل خاص لمن يشتغلون في ا لصناعة.
ويشرح ماركس أيضاً كيف أن هذا النظام يحطم الإحساس حتى في أكثر العلاقات الإنسانية حميمية. فيذكر مستنداً إلى الوثائق، أنه في الوقت الذي كانت الحكومة البريطانية تسعى لكي تضع حدوداً لعدد ساعات يوم العمل للأطفال بعد الكوارث التي لحقت بهم والضجة التي أثيرت حول ذلك، فأن من يحتج على ذلك بشكل أشد، لم يكن أصحاب العمل، بل آباء هؤلاء الأطفال، لأن تلك القوانين كانت تقلل من أجور الأطفال التي تسلم إلى آبائهم في النهاية! أي أن أخلاق الرأسمالية لم تتلف إحساس صاحب العمل بالأطفال الذين يعملون لديه فقط، وإنما أتلفت إحساس أباءهم بهم أيضاً!
لايمكن للمرء أن يحس بعمق المشكلة الرأسمالية ما لم يقرأ تاريخها، فالرأسمالية التي وصلت إلينا ليست رأسمالية خالصة، وإنما خليط من أساس رأسمالي وتأثيرات إشتراكية، وأن الأخيرة لم تكن تبرعاً من الرأسماليين للشعب أو لشعورهم بالمسؤولية، بل لأنهم أضطروا إليها تحت ضغط العمال والتنظيمات اليسارية في ذلك البلد. ويذكر جومسكي أن شكل نظام اي بلد ونسبة إختلاطه من الرأسمالية والإشتراكية تعتمد على تاريخ ذلك الصراع ، وأن العمال من خلال نظالهم من أجل حقوقهم في ظروف عمل افضل فأنهم كانوا يفيدون الآخرين أيضا، مثل حقوق النساء والديمقراطية والتأمين الصحي والتعليم ورعاية البيئة. وعلى قدر نجاح هؤلاء، نرى البلد أكثر لطفاً بأبنائه وشعبه، وعلى قدر فشلهم نرى البلد يوجه أمواله إلى القمة الثرية، يقدم لها "حرية السوق" ويهتم بـ "ظروف الإستثمار" التي تعني غالباً نسبة بطالة عالية تؤمن عمالاً بأجور منخفضة وقوانين متساهلة تسمح بتلويث البيئة وساسة مرتشون، فيعيش الأثرياء في مستوى راق مسرف متطرف، ويترك الآخرين في مدن الصفيح ضحية للجهل والفقر والمرض.

الديمقراطية لمن تكن أيضاً هدية من الرأسمالية للشعوب كما يتوهم البعض بتأثير وجود الديمقراطية في البلدان الرأسمالية، بل أن الرأسمالية أضطرت إلى التنازل والسماح بها تحت ضغوط اليسار بأشكاله المختلفة. نلاحظ مثلاً أن الديمقراطية كانت في البداية لأصحاب الأموال فقط، دافعي الضرائب، مثلما كانت الديمقراطية الرومانية للرومان فقط، فمن الذي جعلها للجميع؟ تاريخ الديمقراطية هو أيضاُ تاريخ من الصراع المرير، خاضه ما يسمى اليسار من اجل حقوقه في الحكم كما في الأجور. إننا إن كنا مدينون للرأسمالية في حجم الإنتاج الكبير، فإننا بشكل عام مدينون لليسار بكل ما تحقق من توازن نسبي وعدالة نسبية وحقوق عامة وما يسمى دولة الرفاه والديمقراطية الإجتماعية.

إننا نلاحظ عندما نعجب بنظام رأسمالي أوروبي مثلاً، فأن أكثر ما يعجبنا فيه في الحقيقة هو التأثيرات الإشتراكية التي تركها أثر الصراع فيه. فنحن نعجب بالسويد أكثر مما نعجب بأميركا ونشعر أن في الأول حضارة إجتماعية أكبر بكثير من الثانية، لأن اليسار السويدي نجح أكثر من اليسار الأمريكي في فرض شروطه على الرأسمالية في بلاده.
لم يكن ذلك لأن اليسار في أميركا كان متخاذلاً، بل العكس، إنما السبب ربما يعود بالدرجة الأولى أن الثروة الواسعة في أميركا، خلقت شركات من القوة المالية ما لم تعرفه أوروبا، وتمكنت هذه الشركات من فرض نظام أكثر رأسمالية مما في أوروبا، وها نحن نرى أكبر الفوارق الطبقية في أميركا وأكثر نسبة السجناء في العالم في أميركا وهي الدولة الصناعية الوحيدة التي لا توفر لفقرائها تأمين صحي....الخ.

نلاحظ أيضاً أن هناك تراجع في السنوات الأخيرة في حقوق العمال والموظفين والمواطنين في جميع الدول الرأسمالية، فالنموذج الأمريكي يضغط على الآخرين لفرض رأسمالية أكثر حدة. وبزوال دول المنظومة الإشتراكية، زال الدافع للدول الرأسمالية بتقديم نفسها كنموذج أفضل يرعى المواطن، وبالتالي كشرت الرأسمالية عن أنيابها أكثر.

اليوم لدينا قوانين تحدد عدد ساعات العمل، والحد الأدنى للأجور، لكن هذه لم تأت من نفسها، بل من خلال صراع مرير طويل مليء بالمآسي لمن رفض الإستغلال البشع وضحى من أجل ذلك. ولعلكم لا تعلمون أن قوانين العمل الأولى لم تكن قد وضعت حداً أدنى للأجور، وإنما وضعت "حداً أعلى" لها!! وطبعاً كان ذلك بتأثير رجال الأعمال على السلطة التشريعية في البلد، سواء كانت برلماناً أو دكتاتورية. فلم يكن مسموح حتى لصاحب العمل أن يعطي العامل أجراً عالياً خوفاً من أن يؤثر ذلك على بقية العمال في المصانع الأخرى. والغريب أنه في حالة مخالفة ذلك القانون فأن العقوبة الأشد كانت تقع على العامل الذي قبل بأجر أعلى من أجره المحدد!

لقد كان الصراع على حقوق وساعات العمل والأجور طويلاً ومريراً، ومن جيب هذا الصراع الذي لم يكن هناك مفر منه بين مستغِل ومستغَل، خرجت الكثير من أحداث التاريخ البشري، خاصة في القرون الخمسة الماضية التي تمثل فترة حياة الرأسمالية، وقصة الأول من أيار واحدة من قصص ذلك الصراع.

 

في 4 أيار  1886، تجمع الاف العمال في سوق التبن في شيكاغو احتجاجاً على قتل الشرطة لستة من العمال المضربين في اليوم السابق. وفجأة إنفجرت قنبلة في التظاهرة، فصارت الشرطة تطلق النار عشوائياً، وكانت النتيجة مقتل سبعة من أفراد الشرطة وعدد غير معروف من المتظاهرين، وكان معظم الضحايا نتيجة رصاص الشرطة. أستعملت تلك الحادثة كحجة أرادتها الشرطة الأمريكية لإطلاق أول حملاتها لـ "شيطنة الحمر" وإرهاب الناس منهم. وسارع الإعلام والسلطة إلى توجيه وتثبيت الإتهام بالجريمة إلى العمال وقادة الأناركية، الذين تم اعتقالهم ومحاكمتهم وإدانتهم بشكل مسرحي.
وجرت حملة عالمية لإلغاء عقوبات الإعدام التي صدرت بحق المتهمين، الذين تم شنق أربعة منهم فيما أسمي بـ "الجمعة السوداء". وشملت الحملة المئات من الرجال والنساء الذين كان يشك بأنهم من الأناركيين أو الإشتراكيين أو الشيوعيين وألقي بهم في السجون، وتم الإعلان عن "أكتشاف" مؤامرات عديدة للقيام بتفجيرات بالديناميت، و"العثور" على كميات من الأسلحة.
وأجمع المتهمون على البراءة في خطاباتهم الأخيرة قبل تنفيذ الحكم(2) ، وقال أوكست سبايس المحكوم بالإعدام في خطابه أن المحكمة حكمت عليه بدون أية أدلة على علاقته بالحادث، وبالتالي فأنها أدانت نفسها بعملية قتل!

وتعتبر حادثة "سوق التبن" في شيكاغو رمزاً مكثفاً لصراع طويل خاضته حركة "8 ساعات عمل" ، والتي كانت اصل الإحتفال بالأول من أيار  كعيد للعمال العالمي.

في 1904 دعا المؤتمر الإشتراكي الدولي في امستردام جميع الإتحادات والمنظمات الديمقراطية الإجتماعية في العالم إلى التظاهر بقوة من أجل تثبيت قانون لتحديد يوم العمل بـ 8 ساعات والسلام في العالم.
وحصل الأول من أيار على رمزية عالمية كبيرة، أشرت وفق بعض المؤرخين مسيرة الحركة العمالية بعد ذلك. ويمكننا أن نعرف فكرة عن نوع الحكومات والجو السياسي للدول، من خلال موقفها من احتفالات الأول من أيار. (3)
وقد سعت الحكومات اليمينية في كل العالم للتمويه على يوم العمال وطمسه أو الغائه نهائياً.

وقصة الأول من أيار في اميركا التي ولدت تلك المناسبة فيها بالذات، تدل على الكثير. فبعد انتصار الثورة الإشتراكية في روسيا تم الترويج للأول من أيار، من قبل مجموعات المحاربن القدماء ومحاربة الشيوعية، باعتباره "يوم الأمركة" (Americanization Day) ثم غير الكونغرس اسمه عام 1949 إلى "يوم الولاء" (Loyalty Day) (4) من أجل أميركا وقيمها، وهو يحمل رمزاً مغايراً تماماً لرمز العمال والثورة، وفي نفس العام أعطاه الرئيس ايزنهاور إسماً إضافياً هو "يوم القانون" (Law Day) (5) ربما في إشارة إلى إدانة عمال "سوق التبن" وكأستمرار في عملية شيطنة العمال واعتبارهم خارجين عن القانون. ونقل الإحتفال بـ "عيد العمل" إلى سبتمبر، وتبعت كندا الولايات المتحدة في هذا الأمر.

 حاول العمال الأمريكان أعادة يومهم رسميا إلى الأول من أيار دون جدوى. لكنهم بقوا يعترفون به ويحتفلون به ويسعون لإعادته رغم القرارات الحكومية. ففي "الكساد الكبير" في الثلاثينات كان الألاف من العمال الأمريكان يتظاهرون في المدن الأمريكية في الأول من أيار.

وفي 1955 خصصت الكنيسة الكاثوليكية الأول من أيار  لـ "سانت جوزيف العامل" و لـ "محاربة الشيوعية"! والغت الحكومات الفاشية التي تعاقبت على البرتغال وإيطاليا والمانيا واسبانيا يوم العمال.

وفي تركيا ألغت حكومة إنقلاب عام 1980 الإحتفال في السنة الأولى لتوليها السلطة، ثم أعيد الإعتراف به عام 2010.
وفي بولونيا، تم تغيير اسمه عام 1990 إلى "يوم الدولة"
وفي نيسان 1933 قامت الحكومة النازية المشكلة حديثاً في ألمانيا بتسمية الأول من ايار بـ "يوم العمل القومي" ومنعت المنظمات اليسارية والشيوعية والإتحادات العمالية من تنظيم تظاهراتها فيه واقتصر ذلك على الحكومة. ثم اكتشفت ألمانيا أن تنظيم إحتفالات الشوارع الكبرى في نفس يوم التظاهرات هو خير طريقة لمنع "الشغب". وفي السنوات الأخيرة حرص النازيون الجدد على القيام بتظاهرات مضادة لتخريب تظاهرات اليسار بعيد العمال.

وفي روسيا القيصرية لم يكن مسموحاً الإحتفال بالأول من أيار..

وفي اسبانيا كان العمال يحتفلون بالعيد حتى مجيئ الدكتاتور الفاشستي فرانكو، ولم يتم الإعتراف بالأول من أيار إلا بعد زوال الدكتاتور عام 1975
وفي جنوب أفريقيا لم يتم الإعتراف بهذا العيد إلا بعد سقوط نظام التمييز العنصري، في عام 1994

إن تصرف الحكومات المختلفة منذ القرن التاسع عشر وموقفها من الأول من أيار، يوم العمال العالمي، والسعي الحثيث لتمويهه والتغطية عليه من قبل الحكومات الفاشستية والرأسمالية، يكشف مدى اهمية الرمز وقيمته وما يثير من مخاوف لدى هؤلاء.
واليوم تهتز الشوارع مرة أخرى تحت أقدام المحتجين على ما اوصلت الرأسمالية العالم إليه من فوضى وفوارق هائلة في المال وحروب مدمرة لا نهاية لها، لأنها جزء من منظومة الرأسمالية الإقتصادية.
لقد سجلت الرأسمالية انتصاراتها وكتب البعض عن "نهاية التاريخ"، باعتبار أن أهم الصراعات قد تم حسمها، وأن البشرية قد رضت بالرأسمالية نظاماً أزلياً.
لكن هذا يبدو إحتفال قبل وقته، وبالفعل تراجع فوكوياما خجلاً عن طروحات كتابه عن نهاية التاريخ واعترف باستمرار الصراع وأشتداده.
ففي الوقت الذي سقط النظام الدكتاتوري الإشتراكي في الإتحاد السوفيتي، نبتت كالفطرأنظمة إشتراكية ديمقراطية في فنزويلا والبرازيل وبيرو وغيرها من دول أميركا الجنوبية، واحتجت جماهير الربيع العربي على الأوضاع الإقتصادية بلهجة إشتراكية، ودكت النقابات شوارع أوروبا ثم أميركا إحتجاجاً على نظام جشع في طبيعة تكوينه، يدخل العالم المرة تلو الأخرى في أزمات لا نهاية لها، وحروب لا نهاية لها، في الوقت الذي يزداد ثراء الأثرياء بشكل لا حدود له.
ويمزج العمال والمحتجون تظاهراتهم بالأغاني والإحتفالات. ونترككم مع أغنية لأسطورة البيتلز الراحل جون لينون، الذي تم اغتياله في الثمانينات في أميركا، بظروف غامظة. (6)  لكن من يستمع إلى كلمات أغانيه، يزول الكثير من هذا الغموض. أترككم في هذه المناسبة مع أغنيته "بطل الطبقة العاملة" لتتمتعوا بالإستماع إليها، وادناه ترجمة حرة لبعض من سطورها.
Working Class Hero - John Lennon
http://www.youtube.com/watch?v=cFdVhDdDK9A

منذ يوم ولادتك، يجعلونك تشعر بأنك صغير
لا يمنحونك الفرصة، حتى يتسع الألم ، فلا تعود تشعر بشيء
يردعوك ويخيفوك عشرون عاماً
ثم ينتظرون أن تنغمر في العمل
حين يعجزك الخوف عن التفكير
لكن المسألة أن تكون بطلاً عمالياً

هناك فسحة في القمة، يقولون لك
لكن عليك أن تتعلم الإبتسام وأنت ترتكب القتل
إن أردت أن تكون مع الذين على التل
لكن المسألة أن تكون بطلاً عمالياً

(1)  http://www.marxists.org/archive/marx/works/1865/value-price-profit/ch03.htm
(2) http://www.marxists.org/subject/mayday/articles/speeches.html
(3) http://en.wikipedia.org/wiki/International_Workers%27_Day
(4) http://en.wikipedia.org/wiki/Loyalty_Day
(5) http://en.wikipedia.org/wiki/Law_Day
(6) http://www.doroob.com/archives/?p=12956

روابط عن الموضوع:
http://www.wsws.org/articles/2009/may2009/haym-m19.shtml
http://www.marxists.org/subject/mayday/articles/young.html


29
كيف يراك الآخرون؟ 7 - شيطنة إيران 2- إرهاب ومخدرات وإسرائيل وكراهية

صائب خليل
27 نيسان 2012



 


لعل أكثر جهة تعرضت إلى حملات التشويه الإعلامي في التاريخ بعد الشيوعية والإتحاد السوفيتي، هي إيران!

إن الكم الهائل من الأكاذيب وتحوير التصريحات وتزوير الصور وتأليف القصص الخرافية والإيحاء بالكراهية ليجعل المرء يقف مذهولاً حائراً أمام هذه الإرادة الهائلة لتشويه الآخرين وشيطنتهم.
وإن كان الإطلاع على تلك الحقيقة يسبب حيرة كبيرة، فأنه يزيل حيرة أخرى. فمن يرى حجم ما تم تزويره، يفهم كيف تشوهت مفاهيم الناس في المنطقة، بل في العالم إلى تلك الدرجة الغريبة. ومثلما فهم الشيوعيون كيف يمكن أن يقوم الفقراء من الناس بمهاجمتهم وهم الذين يدافعون عن حقوقهم، فأنه يفهم كيف تم استنبات الكراهية العربية لإيران، التي تقول الشواهد أنها وقفت وتقف من قضايا العرب ما لم يستطع العرب أن يقفوه بأنفسهم. هذه ا لقوة الإعلامية الجبارة تدفع ضحاياها إلى ما يقرب الجنون.
أنظروا إلى هذه الصورة أعلاه جيداً واحفظوا ملامحها وتذكروها، فربما هي الرمز الأعلى لما تمكن هذا الإعلام من أن يوصلنا إليه من شلل في القدرة على التمييز ومن عمى في البصر....وسنعود إليها في متن المقالة.

خصصت الحلقة السابقة (31) من سلسلة "شيطنة إيران" والتي هي جزء من سلسلة "كيف يراك الآخرون"، للحديث عن "التدخل الإيراني" في العراق، والذي بينت أنه قد تم تضخيمه بالكثير من المبالغات والأكاذيب، والإيحاءات الكثيرة التي لا سبيل لإثباتها حتى أن أشد مروجيه يقرون ضمناً بأنه "لا يرى..."، لكنهم "يحسون به" فهو "كالهواء...لا تراه لكنك تعلم أنه موجود" وهذه التعابير ليست سوى اعتراف بالفشل التام في تقديم أي إثبات يستحق الذكر، وأقرب ما تكون لوصف ممتاز للأوهام مما هي للحقائق.

ورغم أن أحداً لا يشك بأن إيران كغيرها من الدول تسعى إلى أن تتدخل في العراق كما يسعى غيرها، إلا أن حجم ما يتخيله العراقي من ذلك التدخل، يخرج تماماً عن المنطق ولا تسنده مراقبة الأحداث بأية درجة من الموضوعية.
كيف حدث ذلك؟ في هذه الحلقة نستمر في كشف نماذج من أكاذيب تلك الماكنة الإعلامية الجبارة التي وضعت لها هدفاً أن تشكل صورة لإيران في رؤوسنا بأبشع ما يمكن ان تكون، وقد نجحت إلى حد بعيد.
  
لكبر حجم المادة نضع معظم الأخبار بلا تعليق أو بتعليق قصير، أو بتوجيه القارئ للعبارة المهمة من خلال وضعها ضمن أقواس مزدوجة، فهي تشرح نفسها بنفسها. ونلاحظ هنا كما في الحلقة السابقة، كثرة استعمال "المصدر المجهول" وهي علامة مميزة للكذب الإعلامي عادة، ويفعل المرء حسناً إن يرفض قراءة أي خبر يشير إلى مصدر "رفض ان يذكر اسمه"، بل أن يضع علامة استفهام على وسيلة الإعلام التي أطلقته.

إيران والإرهاب

== "النائب عن القائمة العراقية أحمد العلواني يتهم إيران بالضلوع في الهجوم على مقر فوج شرطة طوارئ حديثة واحدى نقاط التفتيش" (1)
أما السبب الذي يقدمه النائب فهو: للحيلولة دون اعلان اقليم الأنبار ومنع العشائر من استقبال اللاجئين السوريين! وطبعاً "السيد النائب" ليس بحاجة إلى تقديم أدلة على ما يقول ما دام المتهم هو إيران!

== "قائد الفرقة الثامنة في الجيش العراقي اللواء علي صالح فرهود عثمان يحذر من خطر وجود قوات من الميليشيات الخاصة تختبئ في إيران للتدريب ولاغتيال القادة السياسيين والعسكريين في العراق". ... . (2008 11 يوليو) (2)
وهو لا ينسى بطريقه إمتداح القوات "التحالف" (الأمريكية)، لكنه ينسى أن يقدم أية أدلة أو أسباب اعتقاداته. وعندما يصرح ضابط رفيع في الجيش بهذا المستوى، بمثل هذا الكلام وبدون أدلة، فهو يعني إن أرادت "قوات التحالف" الممدوحة هذه أن تقوم بانقلاب في العراق، فستعرف إلى من تتجه..

== "ذكر ((شهود عيان)) بأن مجموعات كبيرة من الإيرانيين قد دخلت عبر نقطة الشلمجة الحدودية ((و يعتقد)) بأنهم من أفراد فيلق القدس الإيراني المرابط على مشارف البصرة و العمارة, ((و يعتقد)) بأن دخول هذه المجموعات الكبيرة من حرس الثورة الإيراني يأتي لدعم منظمة ثار الله الإيرانية و التي ترتبط مباشرة بجهاز المخابرات الإيراني (الإطلاعات ). (21 أكتوبر 2005 بغداد ـ يو بي أي )
من هم "شهود العيان" ومن الذي "يعتقد" ومن هي الـ "يو بي آي"؟

== الخبر يقول: "... كانوا يستهدفون جسر الملك فهد ومبنى وزارة الداخلية البحرينية والسفارة السعودية بالمملكة وأعضاء في مجلس الشورى وعدد من الوزراء ... الخلية لها علاقة بحزب الله وكانت في طريقها الى ايران .... انها احدى مخططات ايران الجديدة لزعزت الامن في دول مجلس التعاون الخليجي..."
من هذا الخبر يسخر علي الموسوي من هولندا ويشير إلى بعض التفاصيل الفاضحة للكذب فيقول:...خلية تحاول انشاء تنظيم مسلح في داخل البحرين ! يستهدف عددآ كبيرآ من الأهداف الستراتيجية في مهمة كبيرة وخطيرة جدآ ومعهم مبالغ بالدولار والتومان الايراني !!! ...معلومة مهمة للقارىء العزيز لكي تحمل معك مبلغآ بالتومان الايراني فعليك أن تأخذ معك كيس كبير وما يسمى عندنا بالكونيه ... ولماذا التومان ؟؟؟ !!!! " (3)

ولا تدعم إيران "إرهاب" حزب الله فقط كما يبدو، وإنما تمد دعمها إلى الجانب المقابل، فهي "ظهير للقاعدة"، كما تبين هذه المقالة القديمة المنشورة في (صوت العراق - 13-09-2007) وهي عبارة عن "تصريحات" متتالية لا يقف الكاتب الشديد الإيمان بشيطنة إيران، لفحص مصداقيتها، ولا يعطي أي دليل أو مؤشر:
== "فقد بات واضحاً لأي مراقب،(؟) ... أن إيران تسهم في إضعاف العراق لمصلحة تنظيم القاعدة، ...ومن يشكك في الأمر سيجد نفسه أمام حقائق تاريخية (؟) مهمة ، وأكثرها وضوحاً،هو ما حدث في كربلاء مؤخرا(؟)، من أن جهات عدة من بينها إيران وجيش المهدي والقاعدة قد اشتركوا جميعا في مؤامرة لتهديم العتبات المقدسة (؟). وسيكشف التحقيق ذلك (؟) بالرغم من أنه سيغطى كغيره من التحقيقات السابقة (؟).. والتصريحات الجديدة لنجاد ليوم 13/9/ تؤكد أن إيران قد بدأت أوصالها ترتجف، ليس من الضربة الأمريكية القادمة، بل من إنهيار القاعدة.(؟)".

أسلحة إيرانية

== "قال ((مصدر)) في مركز التنسيق المشترك في محافظة صلاح الدين ان قوات الشرطة عثرت، الاثنين، على عبوات إيرانية الصنع في قضاء الشرقاط. وأوضح((المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه))..الخ (اصوات العراق 11-02-2008)

يعلم متابعوا فترة الحرب الباردة أن الكثير من "الاسلحة الروسية" وغيرها قد "تم اكتشافه" في الزمان والمكان المناسب لتبرير عمل ضد حكومة لا تروق للولايات المتحدة في بلد لها سلطة عليه.
في الفصل المخصص للتدخل الأمريكي في "غرانادا" من كتابه "قتل الأمل"، يكتب وليام بلوم : "ولم يمض وقت طويل حتى كانت "فرقة العمليات السيكولوجية" تتجول في طائرة هيليوكوبتر عبر الجزيرة وتعلن للناس أن معلومات عن "التدخل الكوبي" في بلادهم، وأحاديث عن "الخطر الكوبي"، وتم نشر بوسترات لأسلحة كوبية زعموا أنهم صادروها، وقد كتب عليها: "هل هذه هي أدوات بناء المطارات؟".

== "القت القوات الامنية العراقية القبض على شخص يحمل الجنسية الايرانية خلال محاولته زرع عبوة ناسفة في البصرة .واوضح ((مصدر من شرطة البصرة)) أن .....واضاف ((المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه)) .....الخ.. (العين ـ البصرة-6/4/2009)

== "رئيس جهاز المخابرات العراقي السابق: قدمت معلومات كاملة عن التفجيرات التي هزت بغدادـ عملاء فيلق القدس الايراني في كل مكان".

== "تفجيرات مجزرة تكريت وقتل المسيحيين وتهجيرهم مخطط ايراني بالتنسيق مع حزب جلال طالباني والاشايس الكردية.. وإليكم الديليل القاطع".!؟( 19 كانون2 2011 - "منظمة الرصد والمعلومات الوطنية"؟؟ ) (4)
وتبحث في الخبر، فلا تجد أي  دليل لا قاطع ولا غير قاطع...

== "الاستيلاء على عشر دراجات نارية تحمل لوحات إيرانية في واسط.....قال ((مصدر أمني)) .... وأضاف ((المصدر)) في حديث لـ"نيوزماتيك" ....وأضاف ((المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه))....الخ (نيوزماتيك/ الكوت 6.11.2008) (5)
ولا ندري من أي شيء تخاف تلك المصادر التي ترفض كشف أسمائها لهذه الـ "نيوزماتيك"، حتى في موضوع الإستيلاء على دراجات نارية!

== "..وثيقة حول قيام عملاء استخبارات إيرانيين بالتخطيط لشن هجمات على مسؤولين عراقيين ردا على تهديد بهجوم من قبل عملاء إيرانيين...
1- قام عملاء من الاستخبارات الإيرانية ضمن قوة بدر وجيش المهدي بالتخطيط لشن هجمات على مسؤولي الوزارات العراقية، والهدف التالي للهجوم هو مساعد وزير الصناعة العراقي.
2- رجل يدعى ....... .......، والمعروف أيضا باسم ....... .......، يرأس عملية التنفيذ والتخطيط للهجوم على وزارة الصناعة........ أحد أفراد جيش المهدي ويقيم في منزل (....... .......) بشارع ....... ....... بحي الجهاد في بغداد. (النقاط في هذا الخبر ليست من عندي، بل في الخبر الذي نشرته "الشرق الأوسط" فهل هناك سخرية أكبر من هذا؟)(6)

== «الشرق الاوسط»:  صرح ((مصدر مسؤول)) في جهاز المخابرات الوطني العراقي، بان الاستخبارات الايرانية وضعت خطة تهدف الى افشال وتعطيل بناء الجهاز، من خلال تصفية ضباطه ... واضاف ((المصدر))، ..
يضيف "المصدر" ما أراد أن يضيف طبعاً...ما دام بلا إسم.
وقد انتشرت بين الناس معلومة أن إيران تستهدف الضباط والطيارين والعلماء العراقيين. والحجة بالنسبة للضباط والطيارين، أن إيران تريد الإنتقام منهم بسبب حرب الثمانينات. والحجة رغم ضعفها، فهي تبدو قابلة للتصديق. إنها تعني أن هناك دافع، لكنها طبعاُ ليست دليلاً، ولم يقدم أي دليل على ذلك رغم كثرة تلك الجرائم. كما أن قتل العلماء والأطباء ليس له أي مبرر أو دافع لدى إيران. وعمليات الإغتيال عمليات مخاطرة، خاصة لمن كان بموقف حرج مثل إيران، فلا يعقل أن تفعل ذلك بلا دافع قاهرة.
بالمقابل هناك دوافع أقوى لإسرائيل وأميركا لإغتيال هؤلاء جميعاً، وهي تستطيع العمل بحرية أكبر في بلاد يسيطر أو كان يسيطر على أمنها الأمريكان. فالطيارون إن قتلوا، فسوف تضطر الحكومة إلى تدريب المزيد منهم، ويكون ذلك غالباً في أميركا، لأننا نشتري الطائرات الأمريكية. وهذا يقلل من فرص شراء العراق طائرات روسية مستقبلاً، ويزيد ارتباط العراق بالأسلحة الأمريكية من ناحية، ويقدم لها فرصاً ذهبية لتجنيد بعض العملاء ممن تجد فيهم الإستعداد لذلك من ناحية ثانية. ومن المؤكد أن دوافع المصلحة أهم من دوافع الإنتقام في السياسة الدولية.

== "إرهابيين سعوديين،... ولكن تدربوا في إيران"!
"كشفت ((التحقيقات)) مع عدد من المعتقلين السعوديين في العراق، وآخرين تم تسليمهم للأمن السعودي من دول غير العراق، أنهم تلقوا تدريبات في معسكرات بإيران، وأن آخرين تلقوا تدريباتهم في العراق نفسه على أيدي قياديين في القاعدة سبق لهم أن عملوا في إيران. (الجيران - الرياض - وكالات  17/06/2007) (7)
 
== وبتحرره من تقديم الأدلة حول أي شيء له علاقة سلبية بإيران، يشطح الخيال العراقي بعيداً ، فهذا "اياد علاوي عميل مبطن للحرس الثوري الايراني" (8) ، ولا يقل الخيال العربي عنه حرية وانشطاحاً : رئيس وزراء الكويت : "اتهامي بالعمالة لإيران سخيف" (9)

الخطر الإيراني

يلاحظ المرء أن جميع أعداء أميركا "خطرين" بشكل غير معتاد وغير معقول على جيرانهم، وبالتالي فأميركا "مضطرة" لتقديم الحماية لهؤلاء الجيران المساكين، كما رأينا أعلاه خطر كوبا على "غرانادا".

== "قال جنرال امريكي يوم الثلاثاء إن ايران ربما تشكل اكبر تهديد في الاجل الطويل لاستقرار العراق وذلك بعد يوم من اختتام الرئيس الايراني زيارة لبغداد. كما قال اوديرنو انه لم يندهش لتمكن الرئيس محمود احمدي نجاد من التحرك دون مشكلات امنية خلال زيارته التي استمرت يومين لبغداد لان المجموعات التي تستهدف في معظم الاحيان كبار الزوار مدعومة من ايران. (رويترز  Mar 4, 2008) (10)
 (على نفس هذا المنطق فأن كثرة قتلى الزوار الإيرانيين تبرئ إيران ... وتتهم غيرها! )

ويمتد الخطر أبعد...
== " واشنطن تطمئن دول الخليج حيال التهديد الايراني" (11)

بل أن خطر هؤلاء يمتد إلى أية منطقة تحتاج أميركا أن تقنع سكانها بخطرهم:
== "غيتس: إيران قادرة على إطلاق مئات الصواريخ على أوروبا" (12)

لا بل أن رئيس وزراء كندا أكد أن إيران أكبر خطر على السلام في العالم!  - مستبدلاً إسم "إيران" بدلاً من "إسرائيل" ، برأي جميع شعوب أوروبا الغربية بلا استثناء، كما كشفه إحد الإحصاءات التي قامت بها الأمم المتحدة عام 2003.

مخدرات وأدوية ملوثة ومتاجرة بالأعضاء وبذخ وسيارات تنقسم نصفين دون سبب!


== "كشف ((مصدر امني)) في مديرية الاسايش بقصبة " قلعة دزة " بمحافظة السليمانية، عن القبض على عصابة متخصصة ببيع الكلى البشرية عبر خداع اصحابها واغوائهم بمغريات مادية . واضاف ((المصدر الذي  فضل عدم ذكر اسمه)) ان.."    ( 02/12/2007 السليمانية – الملف برس – احسان عزيز)

ويمكن أن نعتبر هذه نسخة الموساد المضادة لحملات مقاطعة إسرائيل:
== "ساهم معنا...في حملة مقاطعة البضائع الإيرانية ردا على استباحتها لدماء شعبنا و مياهه و اخيرا نفطه, و ارسل هذه الدعوه إلى كل من تراه يحلم بوطن جميل....أخوكم مثال الآلوسي" (13)

== في المدى نشر التحقيق التالي: "يتحدث أصحاب معارض السيارات وسائقو "التاكسي" عن حادثة غريبة جرت قبل فترة،  بشأن سيارة اجرة صفراء ، انفصلت الى نصفين دون ان تتعرض لاصطدام ، بل قطعت  لوحدها دون تدخل خارجي... يرى عدد من المختصين في مجال السيارات ان المستورد منها والقادم من ايران غير مطابقة للمواصفات ولا تلائم الاجواء والطرق العراقية.ويشير محمد كاظم صاحب معرض سيارات في منطقة النهضة الى ان سيارات الاجرة الصفراء،أكثر رواجا في المعارض واسرع  في البيع، على الرغم من انه يشير الى ان مواصفات  تلك السيارات  متواضعة فهي لا تحتوي على كيس الهواء(ايرباك) ونظام تغيير السرعة عادي(كير عادي) ومنظرها الخارجي غير مميز وقديم ولكن اكثر المشترين  يريدون سيارات رخيصة ولا تحتاج إلى تصليح دائم" ( 17 -05-2011) (14)
من الواضح أن المقال موجه لتشويه سمعة الصناعة الإيرانية، لكنه يعترف أنها:"رخيصة ولا تحتاج تصليح"! وبالتالي فلا تحتاج هذه السيارات على ما يبدو إلى فساد يساعدها على الإنتشار، وربما ليس هناك فساد سوى في كتابة المقال نفسه...

== وهذا عبد الرحمن الراشد، الذي يقف على قائمة إسرائيل للكتاب العرب الذين يمثلون وجهة نظرها، يبدو وقد كلف بتشويه حقيقة صعبة التشويه، وهو رجل "المهمات الصحفية الصعبة"، ، وهي أن استلام أحمدي نجاد راتب 250 دولار في الشهر فقط، عملية إحتيال لا أكثر. الراشد فلم يجد دليلاً على ما يقول أكثر من  أن نجاد كان "يتهندم ببذلة فاخرة في زياراته الأخيرة لنيويورك."، ويبدو أن الراشد لم يسبق له أن شاهد مثل هذا "البذخ الهائل" في البلد الذي يعيش فيه! (15)

== "إيران توزع الكوليرا على العراقيين بمناسبة رمضان المبارك"
"...فالذي يرسل الاسلحة لقتل العراقيين ويدعم الجماعات الارهابية كافة ماديا واسخباراتيا لا يتورع إن يدس وباء الكوليرا في مياه الشرب فـ قد تعددت الاسباب والقتل واحد والغرض واحد وهو قتل اكبر عدد من العراقيين والفاعل المباشر هو نفسه من كان يحمل السلاح لقتل العراقيين وهو الذي يزرع العبوات وهو الانتحاري في السيارات المفخخة وهو وهو ......... وقد حاولوا وضع سموم في مياه الشرب مرات عديدة" (سلام الامير، الحوار المتمدن - 2008 / 9 / 22) (16)

== "أنسولين إيراني ملوث بالإيدز."
"ونقلت الأنباء الواردة من العاصمة العراقية بغداد اليوم الإثنين عن الصيدلاني العراقي أحمد عبد الله (؟) قوله إن هناك أنسولين إيراني ملوث بالإيدز في العديد من الصيدليات العراقية، ..مشيرا إلى أن الاختبارات المخبرية أثبتت ثلوت الأنسولين بفيروس الإيدز، داعيا المواطنين إلى تجنب استعمال أي منتج إيراني (؟) وخاصة الأدوية، تجنبا لأي مضاعفات أو مخاطر." (17)
بينت وزارة الصحة فيما بعد أنه لا يمكن تلوث الأنسولين بالأيدز، وأن الخبر الذي نشر بسرعه فائقة، لا اساس له.

== "فواكه مغلفة بصفحات القرآن"
"تظاهر الآلاف من أهالي الفلوجة ، لـ "وصول صناديق فواكه وبضائع منزلية زجاجية وغيرها من إيران عبر منافذ العراق الحدودية تحتوي على صفحات مقطعة من القران الكريم ومهانة بشكل فضيع أمرا لا يمكن السكوت عنه".(الثلاثاء 13 آذار 2012  السومرية نيوز) (18)
من المعروف أن الحكومة الإيرانية تحترم الإسلام والقرآن إلى درجة يستغلها أعداءها باتهامها بالتطرف الديني، فكيف يلائمون التهمتين معا؟!

== وتصل الحملة حتى إلى تنظيم حملات اتلاف البضائع الإيرانية:
"جماعات مسلحة تباشر بمصادرة واتلاف البضائع الإيرانية في أسواق المقدادية"  (19)

تلفيقات إعلامية لإثارة الكراهية


من الأخبار التي انتشرت في الصحافة العربية بشكل كبير وأثارت إنتباهي لغرابتها خبر نشر بعيد خسارة الفريق العراقي أمام الإيراني في كرة القدم قبل فترة، ويقول الخبر الغريب:
== (اللاعب) الإيراني مسعود شجاعي: "حقدُنا تجاه العراقيين جعل المباراة أكثر حساسية"
وجاء فيه " أكد لاعب خط وسط المنتخب الإيراني مسعود شجاعي أن الحقد الذي يحمله الشعب الإيراني تجاه العراقيين تسبب في جعل المباراة أكثر حساسية" (20)
حين قرأت هذا الخبر، راهنت نفسي أنه ملفق، فحتى لو كان هذا الشخص حاقداً على العراقيين، أو كان الشعب الإيراني كذلك، فأنه لن يقول مثل هذا الكلام، ولا يوجد حاقد يقول أنه حاقد أو أن شعبه حاقد، إلا في حالات نادرة غير طبيعية، إلا إذا كان يريد أن يذم نفسه أو شعبه!
بحثت علي أجد تكذيباً للخبر فلم أجد. لكني لم أيأس وبدأت أبحث في أصل التصريحات باللغة الفارسية مستعيناً بكوكل للترجمة، فوجدت الخبر الصحيح، مختلفاً تماماً ولم يكن فيه أية إشارة إلى أحقاد أو كراهية، بل العكس، كان أقرب إلى امتداح للفريق العراقي!:
"اللاعب الإيراني مسعود شجاعي: العراق لديه فريق جيد جدا، ولكن أعتقد أن هذا الفريق لم لديه التناسق الذي كان له في الماضي. (21)
ورغم ذلك فقد مر الخبر المزيف بشكل كامل، حتى على محبي إيران الذين أعربوا عن أسفهم لذلك التصريح!!

== "عبر ((قيادي في حزب الدعوة)) الاسلامية العراقي عن قناعته بأن ايران ارادت من منع تحليق طائرة رئيس الوزراء نوري المالكي من التحليق فوق اجوائها متوجهة الى اليابان توجيه رسالة امتعاض لما تراى بان خطة امن بغداد المطبقة حاليا ((تستهدف وجودها)) وانصارها ....وقال القيادي الذي كان يتحدث مع "ايلاف" اليوم ((مفضلا عدم ذكر اسمه))...الخ  (أسامة مهدي من لندن 2007 12 أبريل)

== فراس غضبان الحمداني: " لم تعد الأمور مخفية على احد وليس باستطاعة احد بعد ألان إن يضحك على ذقون العراقيين لان الحكومة نفسها أصبحت تعلن كل يوم باكتشاف أدلة جديدة عن ((تورط الجارة المسلحة إيران بقتل العراقيين وفي مقدمتهم أتباع آل البيت...)) "
فراس الغضبان يطمح ليس فقط أن يخدع السنة بشرّ إيران، وإنما "أتباع آل البيت" أيضاً! (22)

== "هل سقط مثال الالوسي في الفخ الايراني"
هذا عنوان مقالة أخرى لفراس غضبان الحمداني، ويبدو أنه قد طلب منه هذه المرة حشر إسم إيران في العنوان. فموضوعه ليس له أية علاقة بتلك الدولة، لكنه عبارة عن دعاية إسرائيلية مباشرة بشكل نادر الصراحة في العراق. فبعد أن يدافع الغضبان عن مثال الآلوسي وحقه في "ان يذهب لاسرائيل في زيارة معلنة ويرى ان فيها مصلحة لبلاده" فهو يحذره من "حاجز نفسي كبير" لدى الذين "مازالوا ينظرون بريبة وخوف وربما اشمئزاز للدولة اليهودية". وطبعاً ليس الذنب في هذا ذنب "الدولة اليهودية" التي لم تؤذ أحداً، وإنما هو "بسبب الايدلوجية الدينية والتعبئة السياسية لمعاداة اليهود ودولة اسرائيل" المسكينة...التي " مازال البعض يصر على انها (لقيطة) ومصدرا للشر والعدوان". وتصحيح هذا الأمر ليس سهلاً " في ظل بيئة محكومة بالتقاليد الضيقة" !! ... هكذا تكلم فراس الغضبان، صاحب القصة الكاذبة المشبوهة عن مذبحة كنيسة النجاة ، ألا يؤشر ذلك من يحتمل أن يكون وراء تلك الجريمة إذن؟! (23)

وطبيعي أن توجه تلك الدوائر حصة من جهودها لإثارة الكراهية الطائفية بالذات:
== كشفت تقارير عراقية عن توجه ايراني لضبط حركة النشطاء العرب السنة في العراق, وافادت التقارير التي حصلت عليها «الراي العام»، ان احد قادة المجموعات العراقية القريبة من طهران، ....وتحمل التقارير ....ان الجهاز يدار من قبل لجنة مكونة من قادة «منظمة بدر»، القريبة من طهران، ...الخ (شبكة عراقنا 17 أكتوبر 2005)

وأخيرا، هذه الصورة التي اشتهرت خلال الإنتفاضة البحرينية، والتي تبين تزوير الصورة الأصلية (على اليسار) والتي تحمل شعار سلمية وشرعية الحركة ومكتوبة بخط اليد، واستبدالها بواسطة الفوتوشوب بعبارات كتبت بخط الحاسبة كما أوضحت في مقالة في حينها، بعنوان "تزييف الصور، هذه المرة لتشويه متظاهري البحرين!" (24)


 

ومن الواضح أن هذا التزوير يهدف لإثارة كراهية ثلاثية الأبعاد: الطائفية، والإنتفاضة وإيران معاً.

علاقة إيران بأميركا وإسرائيل

موضوع علاقة إيران بأميركا وإسرائيل واحد من أغرب القضايا الإعلامية. فرغم كثرة الشواهد التي تقول أن تلك العلاقة علاقة عداء، فأن إيران لم تسلم من تهمة العلاقة السرية بينها وبين الدولتين. ويستعمل أصحاب هاذا الرأي أي شيء يقع بين أيديهم كدليل، فهذا الرجل يقدم:

== "دراسة مهمة جدا" عن التعاون الايراني الاسرائيلي لتدمير العراق .. والدليل على أن محمود أحمدي نجاد من أصل يهودي! (13 أبريل 2009 ) (25)

وبما أن "بايدن" ومشروعه يصعب أن يحسبا على إيران، فقد جرى إشراك "المصالح العربية" معها من أجل الظهور ببعض المصداقية من خلال التظاهر بالحيادية، وهذا حزب الأمة العراقية يبلغنا أن:
== "مشروع بايدن يخدم المصالح الإيرانية والعربية في العراق" (aliraqnews2 2007/10/7) (26)

لكن ليست كل المحاولات تافهة بهذه الدرجة، فقد انتشر الخبر التالي كثيراً وأثار تساؤلات كثيرة:
== "اثارت المعلومات التي كشفت عن وجود علاقات تجارية بين مجموعة اسرائيلية للنقل البحري وايران ... وقررت الولايات المتحدة الثلاثاء ادراج مجموعة "عوفر براذرز" وفرعها "تانكر باسيفيك" على قائمة سوداء (لإنتهاكها) العقوبات المفروضة على الجمهورية الاسلامية." (2011/05/30 ) (27)  لكن تبين وفق  صحيفة «صندي تايمز»، أن سفن الشحن التي اتُّهمت بانتهاك الحظر المفروض على التعامل التجاري مع إيران، كانت في الواقع تحمل قوات خاصة إسرائيلية. ... للقيام بمهمات استطلاع وتجسّس على المنشآت النووية السرية لدى إيران! (أ ف ب، رويترز، يو بي آي) (28)
فهل كانت إيران إذن تتآمر مع إسرائيل للتجسس على منشآت إيران النووية؟

== ومن بين كل تلك المحاولات لإقناع الناس بتلك العلاقة السرية، فأن أكثر ما أثار قلقي وأوضح لي مدى التأثير المخيف للإعلام الأمريكي في العراق والبلدان العربية، هي الصورة التي اخترتها في بداية المقال، وهي واحدة من مجموعة من الصور تظهر الرئيس الإيراني نجاد وهو يستقبل مجموعة من الحاخامات اليهود. لقد وزعت هذه الصورة بكثافة شديدة بواسطة الإيميل ووضعت على الإنترنت في مواقع عديدة (29) وكتب العديدين المقالات حولها (30) مقدمين إياها كدليل قاطع يفضح أخيراً علاقة نجاد السرية الممتازة بإسرائيل وزيف ادعاءاته بمعاداتها!
المقلق في الصورة أنها نجحت في إقناع الكثيرين بما أرادته، رغم أنها تحمل علامة إدانتها واضحة بلا أي التباس، متمثلة بالباجات التي يحملها الحاخامات والتي تمثل العلم الفلسطيني، إضافة إلى شطب على العلم الإسرائيلي! إنها تدل بوضوح على أن هؤلاء الحاخامات من مجموعات يهودية أشد تطرفاً في معاداتها لإسرائيل من العرب أنفسهم، وتؤمن بضرورة إزالتها كما تشير تعاليمهم وشعاراتهم، وهو ما لا يراه إلا اشد العرب تطرفاً وخيالاً، ولا يجروء على التصريح به من هؤلاء إلا ندرة نادرة، والباج الذي يحملونه في تلك المقابلة يوضح ذلك الأمر بجلاء تام!
ما بدا لي أكثر غرابة في الأمر أن المروجين للتهمة، لم يحاولوا حتى إزالة الباجات الفاضحة من بدلات الحاخامات بواسطة الفوتوشوب، كما فعلوا في حالات أخرى. ولو قلنا أنهم كانوا يخشون افتضاح التزوير ككل مرة، لكن لماذا لم يتم اختيار الصور التي لا تظهر فيها تلك الباجات، أو لا تظهر بوضوح، بل نشرت تلك الصورة بالذات وكما هي وبحجم كبير وواضح؟ ورغم كل ذلك تبادلها الناس فيما بينهم بلا تمحيص مكررين ما كتب عن العلاقة السرية لنجاد، وناشرين متطوعين لتلك الكذبة الواضحة!
إن ذلك يدل في رأيي على المدى المخيف الذي نجح الإعلام الإسرائيلي الأمريكي في الوصول إلى عقل العربي وإرهابه من إيران وتكريهها له حتى صار هذا العقل يستقبل كل ما يصله ضدها بكل ترحيب، ويمتنع عن إخضاعها لأي شك أو تمحيص. أن هذه الصورة يجب أن تبقى رمزاً يحذر العرب مما وصلوا إليه من حال بتأثير الكذب الإعلامي الأمريكي الإسرائيلي الذي يحيط بهم من كل جانب!

كانت الحلقة السابقة عن "التدخل الإيراني"(31) و ستكون الحلقة التالية عن شيطنة إيران في الإعلام الغربي، ثم حلقة تختم موضوع شيطنة إيران بتبيان الجوانب الإيجابية التي يحرص الإعلام الغربي وتوابعه العربية على الإمتناع عن الإشارة إليها، ثم نعود لإكمال بقية حلقات "كيف يراك الآخرون".

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13881
(2) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=205528.0;wap2
(3) http://nasiriyah.org/ara/post/8364
(4) http://www.almorabit.com/main/ar/component/content/article/42-arabic-documents/1305-2011-01-19-21-38-35.html
(5) http://www.alquds.co.uk/data/2008/11/11-09/06b31.htm
(6) http://www.aawsat.com/details.asp?issueno=11700&article=592210
(7) http://www.10452lccc.com/daily%20news%20bulletin/june.arabic19.07.htm
(8) http://www.youtube.com/watch?v=iiUdKGX3oTA
(9) http://gate.ahram.org.eg/News/76129.aspx
(10) http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAOLR47838620080304
(11) http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2010/12/101218_mullen_iran_nuclear.shtml
(12) http://www.alarabiya.net/articles/2010/06/18/111637.html
(13) http://www.elaphblog.com/posts.aspx?u=880&A=33276
(14) http://almadapaper.net/news.php?action=view&id=40711
(15) http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=592450&issueno=11654
(16) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=147828  
(17) http://www.idu.net/portal/modules.php?name=News&file=article&sid=6536
(18) http://www.alsumarianews.com/ar/5/38057/news-details-.html
(19) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=109547.0;wap2
(20) http://www.alarabiya.net/articles/2011/01/12/133251.html
(21) http://news.gooya.com/sports/archives/116027.php
(22) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=144838
(23) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=147860
(24) http://baretly.net/index.php?topic=1685.0
(25) http://www.lobabforum.com/smf_ar/index.php?topic=2106.0
(26) http://archive.aliraqnews.com/modules/news/article.php?storyid=1484
(27) http://alwatan.kuwait.tt/articledetails.aspx/resources/articledetails.aspx?Id=114829
(28) http://www.al-akhbar.com/node/13996
(29) http://www.alahwazalarabi.com/showthread.php?t=8071
(30) http://www.albasrah.net/ar_articles_2007/0107/najad_300107.htm
(31) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=62988


30
الخلاف بين الإقليم والمركز، سياسي أم لصوصي؟ لنسأل الوثائق...

صائب خليل
19 نيسان 2012

عندما نبحث عن حل لمشكلة، فأن أول واجباتنا أن نفهم طبيعتها، والمشكلة القائمة اليوم بين إقليم كردستان والحكومة العراقية ليست أستثناءاً، ورغم ذلك يجهد الساسة والكتاب في البحث عن "حل" لها دون مناقشة طبيعتها. ومن الطبيعي أن أحد طرفي المشكلة قد لا يناسبه أن تعرف طبيعة تلك المشكلة. من صالح الجانب الكردي أن يفهم الناس أن القضية "قومية"، فلقد كان الكرد لعقود طويلة ضحايا "قضايا قومية"، وبالتالي فأن تعريفها كقضية قومية يعطي فريق القيادة الكردستانية أفضلية "اللعب في بيتها". ولذلك أكثر البرزاني من الكلام عن اضطهاد الكرد وحرمانهم من ثرواتهم مدى التاريخ، وكأنه كان يسعى للحفاظ على ثرواتهم! لكن هذا الطرح يجعل مناصري الجانب المقابل يزداد تمسكاً به، باعتباره مدافعاً عن مصالحهم القومية.
فكرة قد تبدو أنسب، أن نجعل القضية شخصية! ففي مقابلته مع صحيفة كردية، قالوا للمالكي "هناك أنطباع عام في كردستان بأن الخلافات بين حكومة المركز والأقليم أخذت طابع شخصي".(1)
ونلاحظ هنا أن القضية كانت قد صممت من قبل لتكون ذات طابع شخصي بين اشتي هورامي والشهرستاني، وكال التحالف الكردستاني هجمات هي أقرب إلى الشتائم للشهرستاني، ربما بأمل الرد بالمثل لتضيع القضية في "قضية شخصية".
وعندما وجد مثال الآلوسي الجو ملبداً بالغيوم بعد عودته من رحلته المخزية الثانية إلى إسرائيل، سارع بإثارة الآخرين نحو معركة بالأيدي، فظهر بمظهر الضحية التي تكالب عليها الآخرين، وضاع في الضجة عمله اللاأخلاقي وتحولت القضية إلى "قضية شخصية" ولم يجد عدد من المثقفين ما يخجلهم من التوقيع على احتجاج على البرلمان دفاعاً عن "حق مثال الآلوسي في زيارة إسرائيل"!  
وحين كشف كاتب هذه الكلمات فضيحة فراس الغضبان الإرهابية، سارع بعض مجهولي الأسماء إلى شتيمتي بأمل الرد بمثلها، ورغم أني لم أفعل، إلا أنهم أكملوا الخطة وسدوا النقاش الذي كان يهدد بفضح الكثير، باعتبار أن الموضوع أصبح شخصياً، وأننا لا نريد الشخصنة..

كل هذه الطروح تقدم خدمة كبيرة للطرف الذي ليس الحق في جانبه، لكن مشكلتها أنها غير مقنعة بشكل كاف، لذا يفضل أختيار صورة أكثر إقناعاً، حتى لو كانت أقل فائدة في الصراع. صورة يسهل إقناع الناس بها: أن القضية هي "خلاف سياسي"!
لكن هذه الصورة تتلاشى كتزييف آخر للواقع متى ما نظرنا إلى المشكلة بتأن، كأن نبدأ بتجزئة عناصر الخلاف: هل توقيع عقود سيئة خلاف سياسي؟ هل تهريب أحد الطرفين النفط الذي يخص الطرفين خلاف سياسي؟ هل الإمتناع عن تسليم الحكومة مبالغ الكمارك خلاف سياسي؟ هل الإستيلاء على أراضي المحافظات المجاورة بقوة السلاح، وتسليم حقولها للشركات الأجنبية خلاف سياسي؟ هل استغلال لحظة نحس بوجود مرشو وضيع على رئاسة حكومة بلاده ليتفق معه على زيادة 50% من حصة الإقليم في المالية وأصوات البرلمان، خلافاً لكل الإحصاءات المتوفرة، فيصبح لكل كردي ما لكل عربي ونصف من أموال وتأثير سياسي، هل هذا خلاف سياسي؟

ما الذي يطالب الإقليم به؟ أن يسمح له بتوقيع عقود سرية لا تعرض على شريكه، فأية شراكة هذه، ومن يقبل بها؟ من لديه استعداد أن يتشارك مع شخص في مشروع، يطالب شريكه أن يسمح له بأن يبيع منه بعضه بعقود سرية ثم يقول له أنه باعها بكذا دينار، وتفضل هذه حصتك، وعليه أن يقبل حتى لو شك بالصفقة ووجد السعر دون سعر السوق بكثير؟ أي شريك ذليل هذا الذي لا يعترض على هذا ولايعتبره مشروع سرقة صريحة؟

في دراسة نشرها قبل أيام الأستاذ فؤاد الأمير (2)  حول "عقود أكسن موبيل مع حكومة إقليم كردستان، والتطور النفطي في الإقليم" كشف الكثير من الحقائق، وقد وردتني إضافة إلى ذلك بعض الوثائق التي أدرجها في هذه المقالة والتي تؤكد صحة ما جاء به الأستاذ فؤاد الأمير، حول خطورة تخندق ساسة إقليم كردستان مع شركات النفط الأمريكية العملاقة من أجل سرقة نفط العراق في وضح النهار.

بدأت المشكلة عندما أعلنت حكومة إقليم كردستان في أواخر العام الماضي أنها وقعت مع شركة أكسن موبيل ExxonMobil ستة عقود من نوع "مشاركة التنقيب والإنتاج" سيئة الصيت، لست رقع استكشافية. وحاولت الشركة الضغط على السيد حسين الشهرستاني للموافقة على مثل هذه العقود بعد التوقيع مع حكومة الاقليم، و كذلك أدخل السفير الأميركي في بغداد في الموضوع.

رفض الشهرستاني ذلك وخير أكسون موبيل بين عقود الإقليم وعقود الجنوب الضخمة، مهدداً بإلغائها.
ولنلاحظ هنا، أن المسؤول العراقي يؤجه الضغط إلى الشركات الأجنبية وليس لحكومة إقليم من أقاليم بلاده، وهذا بحد ذاته يؤشر عمق المهزلة التي وصل إليها حال البلد. فالرجل لا يأمل أن يقنع قادة إقليم في بلاده بالإمتناع عن المشاركة في تلك السرقة لثروة شعبهم، لكنه يأمل أن تمتنع الشركات الأمريكية عن المشاركة في تلك السرقة تحت التهديد بخسارتها لعقود أكثر قيمة!

ثم ظهر أن اثنتين من الرقع الاستكشافية الستة، تقعان في محافظة نينوى، وثالثة في "المناطق المتنازع عليها" في كركوك. ورفضت الشركة الإجابة على اي من رسائل الوزارة، واكتفت الوزارة بتهديدات ضعيفة ، ولا يستبعد أن تتراجع عنها تحت ضغط خندق الشركات وإقليم كردستان والعراقية، و "التيار الديمقراطي", وسمح للشركة بالفعل بشراء وثائق مزايدات دورة التراخيص الرابعة، وبالدخول في مزايدات بيع النفط العراقي. هذا الموقف الضعيف، شجع شركة توتال الفرنسية على التعاقد مع حكومة إقليم كردستان للتنقيب والتطوير لأربع رقع استكشافية بعقود مشاركة بالإنتاج، إثنتان من تلك الرقع تقعان في مناطق "متنازع عليها"ولا يستبعد أن تلجأ شركات أخرى إلى ذلك إن استمر الموقف الضعيف للحكومة بفضل شركائها.
ويلاحظ فؤاد الأمير أن المشروع النفطي العراقي كله مهدد بالإنهيار بسبب هذا الموقف العدائي للشركة العملاقة، التي من الطبيعي أن تبحث عن مصالحها، ولها قدرات هائلة للضغط على الحكومة خاصة بوجود دعم من بعض الجانب العراقي في الأمر، بل يمكنها التدخل في القرار السياسي العراقي. وبالفعل فأن الأمير يلاحظ أن "الشركة دخلت كطرف في الخلافات السياسية العراقية الداخلية، حيث تعاقدت على مناطق متنازع عليها، وداخل محافظة نينوى."

ويلاحظ أن الحكومة الأمريكية السابقة قد نأت بنفسها عام 2007 عن فرض مثل تلك العقود على العراق عندما أعلنت كل من حكومة الإقليم وشركة "هنت أوف دالاس" الأميركية أنهما وقعتا عقد مشاركة بالإنتاج لتنقيب وتطوير رقع استكشافية، لأن قسماً من المنطقة المتعاقد عليها وقعت ضمن "المناطق المتنازع عليها" في محافظة نينوى. وأثير الموضوع في حينه في الكونغرس الأميركي، وتنصل الرئيس بوش ومعه الحكومة الأميركية من الصفقة، وبينوا عدم معرفتهم بها أو الموافقة عليها، وبين الرئيس بوش: "إن السفارة الأميركية في العراق كانت قد بينت قلقها من هذه الاتفاقية".
وحول الصراع الأخير قالت فيكتوريا نولاند، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية: "إن الولايات المتحدة حذرت شركاتها كافة، ومنها أكسون موبيل، بأنها تخاطر مخاطرة سياسية وقانونية كبيرة إذا ما وقعت على تعاقدات مع أي طرف في العراق قبل إقرار اتفاق وطني"

فأي شركاء هؤلاء الذين لا يخجلون مما خجل من فرضه، الإحتلال نفسه؟ ومن يشاركون في الحقيقة، بقية العراقيين أم شركات النفط، التي يتحمسون لمصالحها أكثر مما تتحمس له أو حتى تتقبله حكومات دولة تلك الشركات؟

ويؤكد الأستاذ فؤاد الأمير من خلال شواهده، أن: أولاً من مصلحة الحكومة العراقية إلغاء عقودها مع إكسون موبيل، فهي لم تكن مناسبة وغير لازمة، وثانياً أن من حق الحكومة الشرعي القيام بذلك، وانها ستكسب القرار حتى لو لجأت الشركة إلى التحكيم الدولي. وهذا الرأي مخالف لما ردده رئيس وفد الشركة حين التقى الدكتور حسين الشهرستاني ووزير النفط، وكرر ما يقوله ساسة كردستان بأن الدستور العراقي يسمح بمثل هذه العقود، وأن ليس للحكومة الاتحادية حق الاعتراض! وهو غير صحيح حسب قانون النفط القديم الذي لم يغير في العراق، وأن للحكومة أن تستند إليه لإلغاء عقود أكسون موبيل لأنها تتضمن فقرة توافقها مع القانون العراقي، إضافة إلى ان عقود "مشاركة الإنتاج" التي تتبعها جميع عقود كردستان، مناقضة للدستور لأنها تفقد الشعب العراقي السيطرة على ثروته لصالح الشركة.
ويرى الأستاذ الأمير ضرورة إحراج الحكومة الأمريكية بطلب موقفها ومساعدتها، ويتساءل عن جدوى معاهدة الصداقة الإستراتيجية مع أميركا، إن لم تستطع أن تحمنا من إبتزاز الشركات الأمريكية مثلما لم تقدم لنا أية مساعدة للخروج من الفصل السابع، مشيراً إلى "أن شركة أكسن موبيل من الممولين الرئيسيين للحزب الجمهوري" ومذكراً بقول دونالد ترمب، أحد مرشحي الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية "إن على الولايات المتحدة أن تستحوذ على أي نفط ينتج في العراق لأنها كانت القائد لغزو العراق".

ليس كردستان هو الوحيد الذي يقف مع الشركات في معركتها، بل تقف معهما كتلة العراقية بكل قوة! ويلعب النائب عدنان الجنابي من تلك الكتلة، ورئيس لجنة الطاقة والنفط والموارد الطبيعية في مجلس النواب دوراً خطيراً في المعركة، فهو المسؤول عن مسودة قانون النفط والغاز سيئة الصيت، التي بين الأستاذ فؤاد الأمير سوءها في نفس الكتاب المشار إليه أعلاه. المسودة "الأتعس" ، والتي صيغت خصيصاً لغرض إعطاء مشروعية قانونية لكل عقود حكومة الإقليم. وعندما فشلوا في تمرير القانون تحركت الشركة "العظمى" لتدخل المجابهة مباشرة. لقد "دخلت في معترك الأمور السياسية العراقية الداخلية وهي لا تزال في أول الطريق، فيا ترى ماذا ستفعل في المستقبل في طريق زرع الفتنة بين مختلف الطوائف والقوميات؟!" كما يتساءل الأستاذ فؤاد الأمير، ويضيف: " إن دخول شركة أكسون موبيل غالبية الرقع الاستكشافية التي تعاقدت عليها تقع في داخل المناطق المتنازع عليها أو في داخل محافظة نينوى، كما وأنها تتحدى علناً الحكومة الاتحادية وتهديداتها."

لا غرابة في ذلك، ما دامت الشركة تجد كل ذلك الدعم من داخل مكونات العراق ومؤسساته الأساسية. فنجد هذا النائب، صاحب المسودة المشبوهة، يكرر تماماً نفس عبارات موقف الشركات وكردستان من معظم أجزاء تلك المشكلة، رغم أنه يحاول أن يبدو كـ "وسيط" بين الجميع. فهو يهتف: "لا يحق لبغداد من الناحية القانونية فسخ عقد نفطي كبير مع أكسون موبيل رداً على عمل الأخيرة في منطقة كردستان شبه المستقلة"، وأيضا: "لا توجد قوائم سوداء في البرلمان"! فهل انتخب البرلمان ليمثل الشعب العراقي أم ليكون وسيطاً بينه وبين الشركات؟
وفي محاولة النائب فرض مسودته السيئة أشار إلى "إن العقود الموقعة من قبل الحكومة المركزية والمنطقة الكردية ليست دستورية تماماً. نحتاج إلى إقرار قانون النفط لتشكيل المجلس الاتحادي الذي يمكنه حينئذ أن يقر كل العقود". و "ليس من حق وزارة النفط وضع شركة في القائمة السوداء”.

وحتى لو فرضنا أن هناك شكوكاً في حقوق وزارة النفط في مجابهتها للشركة، ألا يفترض أن يقف هذا النائب مع الحكومة ويدفع باتجاه تقوية أوراقها؟ فنائب عن من هذا الرجل، وأين نرى "عراقية" الكتلة التي ينتمي إليها؟ ولماذا يتصرف كأنه محام للشركة يبحث في القوانين عما يدعم موقفها؟ من الذي يدفع راتبه، مجلس النواب "العراقي" أم مجلس إدارة أكسون موبايل؟

ومن الواضح أن حكومة الإقليم مصممة على فرض سيطرتها على ما تسميه اليوم "مناطق متنازع عليها" بالقوة . فيؤكد وزير الموارد الطبيعية في حكومة إقليم كردستان، الدكتور أشتي هاورامي أن مناطق العقود جزء من كردستان فـ "نحن ندير المنطقة، وفيها انتخابات (للإقليم)، ونحن ندير كل شيء من كردستان..." و يقول أيضاً: "أن ليس له علم بأنها مناطق متنازع عليها... ونحن لا نملك شيئاً في المناطق المتنازع عليها، وأن كل ما وقعناه هو في كردستان"!!. وهذه "الإدارة" تم الإستيلاء عليها بعد عام 2003 بقوات البيشمركة حينما كانت وحدها في الساحة، وليس بإحصاءات أو أنتخابات.
لقد رأينا موقف الإدارة الأمريكية أعلاه من هذا الأمر، وكذلك يرى يوست هلترمان من مجموعة الأزمات العالمية " أن كردستان تحاول أن تخلق واقعاً على الأرض"!
هذا "الواقع على الأرض" يعني حسب قراءة الأستاذ كامل المهيدي في دراسته التي نشرت مؤخراً بعنوان : "قراءة في عقود أقليم كردستان النفطية- مقارنة مع عقود وزارة النفط":
"ان الرقع الاستكشافية الممنوحة لشركة اكسون يقع  بعضها في مناطق مختلف عليها. وأن الأراضي المختلف عليها، حسب المصادر الأمريكية، تشمل كل شمال الموصل، وتمتد جنوبا- لتشمل كل محافظة كركوك ومعظم ديالى وصولا  الى محافظة واسط. بمعنى أن المخطط، ان نفذ، فأن مساحة كردستان تكون ضعف ما عليه الآن، وان العراق يخسر حدوده مع تركية ويفقد منفذه التاريخي الى أيران عبر خانقين."
 
الفرق بين أرباح الشركات في عقود إقليم كردستان، وعقود الحكومة الاتحادية

ويقول الأستاذ فؤاد الأمير أن عقود حكومة إقليم كردستان هي عقود مشاركة بالإنتاج، وهي بالنتيجة خصخصة النفط العراقي وإعطاء حصة كبيرة للأجنبي، وتمثل ضرراً جسيماً للعراق، لذلك يجب رفضها أصلاً. ويشرح بأن في مثل تلك العقود تكون "للشركات حصة في النفط تعتمد على النسبة المقررة في العقود. أما عقود الحكومة الاتحادية فهي تمثل عقود خدمة فنية، وتتمثل أرباح الشركات بـ"الحافز" الذي يعطى للشركة، وهو اعتيادياً قليل إذ يصل إلى حوالي 2% من أسعار النفط الحالية. ثم يحسب"نسبة العائد الداخلي لعمر المشروع" للشركات بالنسبة لعقود كردستان قد تصل إلى ضعف ما هي في عقود الحكومة، والتي يرى أن نسبة العائد فيها مرتفعة ومغرية بأكثر مما يكفي للشركات، حسب المقاييس العالمية.
ويتفق الأستاذ كامل المهيدي وفق حسابات من زاوية أخرى، فيقول : "واذا تصفحنا هذه العقود نلاحظ ان جميعها من نوع عقود مشاركة الانتاج (PSC)" و"إن الشركة المتعاقدة مع الاقليم تجني ربحا يقدر بأربعة أمثال ما تحققه من حقل مماثل فى الجنوب، بموجب حسابات القيمة الحالية".
محلل النفط بيتر ويلز ان قد قام بدراسة اقتصادية عن عوائد الشركات الأجنبية من عقود المشاركة بالإنتاج الموقعة من قبل حكومة الإقليم: "إن هكذا عائد للشركات عال جداً مقارنة بالمقاييس السائدة".
لذا لا مفر من أن يتساءل المرء: "لماذا يجاهد سياسيوا كردستان من أجل إعطاء الشركات أرباحاً أكبر بكثير بعقود مشاركة الإنتاج، وهم يستطيعون توفير تلك الأرباح لبلادهم بمشاركة الحكومة الإتحادية التوقيع على عقود خدمة، خاصة بعد أن برهنت الحكومة الإتحادية أن الشركات لن ترفض مثل تلك العقود إن وضعت أمامها كخيار وحيد؟

ولكي يفهم المواطن العراقي ، والكردي خاصة، عمق المؤامرة على ثروته نشير إلى مثال حقل (طق طق) المكتشف منذ السبعينات في كركوك، والذي قام أشتي هورامي بنقله إلى قوائم الرقع الاستكشافية (أي غير المكتشفة بعد) لتبرير تقديمه للشركة التركية Petoil Petroleum ، كعقد مشاركة بالإنتاج. ويشرح فؤاد الأمير أن "مثل هكذا عقود تكون لرقع استكشافية وليس لحقول معروفة ومحددة، وهو ما أثار استغراباً كبيراً لدى الدوائر النفطية العراقية، فالحقل مكتشف سابقاً وكان قد حفر فيه ثلاث آبار في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وتم تقييمه وتقييم نفطه وتقرر الاستمرار في حينه بالحفر فيه لطبقات أعمق."!

ثم نأتي إلى قضية سرقة النفط العراقي، الذي هو ثروة مشتركة في كل مناطقه حسب الإتفاق المجحف أساساً الخاص بحصة الـ 17% التي أعطيت بعملية ابتزاز ورشاوي كما يبدو، لـ 12% من السكان، حسب جميع الإحصاءات المتوفرة.
وتتم هذه السرقة بشكلين، الأول هو تهريب النفط الخام من كردستان بدون الإعلان عنه، وبأسعار زهيدة، وقد وصلت فضيحة ذلك التهريب إلى أفغانستان، والثانية بتصديره بعد تصفيته في مصاف غير معلن عنها، "ولقد كان الحديث في السنتين الماضيتين عن أرقام هائلة لعددها والذي تجاوز (100) مصفى!!"

وقدم الأستاذ فؤاد الأمير في دراسته ما بين أن كميات النفط المستلمة من قبل الحكومة الاتحادية من نفط الإقليم ولأغراض التصدير تذبذبت، بلا مبرر فني بين 69 ألف برميل/اليوم معدل شهر شباط 2011
 إلى183  ألف برميل/اليوم في أواسط 2011 ، وحتى 9  ألف برميل/اليوم معدل شهر كانون الثاني 2011، فأين يذهب هذا الفرق؟ وكيف استطاعت حكومة الإقليم تزويد الحكومة الاتحادية (183) ألف برميل/اليوم في يوم واحد في  شهر حزيران 2011، ولم تستطع المحافظة على تلك الكمية أو ما يقاربها لاحقاً؟ هل من تفسير له سوى أن تلك الكمية تتذبذب وفق مؤشر المعركة بين الحكومة العراقية وخندق كردستان – العراقية – الشركات؟
أخيراً يحتسب الأستاذ فؤاد الأمير من حساب الفرق بين الإنتاج، وما تستلمه الحكومة الإتحادية "أن التهريب يعادل (79) ألف برميل/اليوم (بضمنها البيع الداخلي في السوق السوداء)."، والتي هي ملك للشعب العراقي كله وليس لكردستان وحدها حسب الإتفاق.

وتأكيداً لكل هذا، قال المالكي في لقاءه مع صحيفة كردية قبل أيام:
" واقول لكم سبق وان عرضت على احد المسؤولين الكرد صورا لصهاريج النفط التي تهرب من حقول نفط خانة (خانقين) وايده بكل قوة واشار الى الجهة التي تهربه، ولما اردنا منعه بارسال فوج لحماية الابار من التهريب كادت تحصل معركة مع قوات جاءت من الاقليم."(1)
فهو إذاً ليس لصوصية فقط، بل "سطو مسلح"!

قبيل انتهائي من هذه المقالة وردني الخبر التالي،(3) الذي يفيد وفق السيد حسين الشهرستاني نائب رئيس الوزراء العراقي لشؤون الطاقة بأن اكسون موبيل أبلغت بغداد أنها لن تبدأ العمل في امتيازات نفطية في منطقة كردستان قبل موافقة الحكومة المركزية على العقود". ثم أعلنت وزارة النفط أن شركة اكسون موبيل قد استبعدت من جولة التراخيص الرابعة.(4)

ومن الواضح أن ذلك يعتبر تقدماً في المعركة القائمة لصالح الحكومة، لكننا نلاحظ مرة أخرى أن خطاب الشركة لم يكن حاسماً بإلغاء العقد مع كردستان، وأنها تترك الباب مفتوحا للمزيد من الضغط على الحكومة من خلال حكومة كردستان والعراقية، فهي تتعهد بأن لا تحسم المعركة ، لكنها تتركها مستمرة. كما أن استثناء الشركة من الجولة قد يتم التراجع عنه في أية لحظة مقابل تنازلات جزئية من قبل الشركة، ومازال هناك ثلاثة اسابيع لتجد الشركة طريقاً، أما عن طريق الإقناع أو الضغوط السياسية.

لو عدنا أخيراً بعد كل ذلك إلى سؤالنا ألاساسي: هل الخلاف بين الحكومة العراقية وكردستان، خلاف سياسي – إقتصادي، أم هو موضوع سرقة واضحة بين لصوص كبار وشركات نفطية عملاقة من جهة، ومن يحاول الدفاع عن حق بلاده في عقود نزيهة من الجهة الأخرى؟ فأن الجواب يبدو لي قد صار أسهل وأوضح.

إن مثل هذا السؤال لن يطرح طبعاً على المستوى الحكومي لأسباب سياسية ودبلوماسية، وطالما تم تجنب الأسئلة خوفاً من الأجوبة. لكننا كمواطنين لسنا ملزمين بتشويه الحقائق وفق الضغوط السياسية والدبلوماسية، ويمكننا أن نقرر بأنفسنا طبيعة ما نراه، ونتخذ على اساسه موقفاً واضحاً قدر الإمكان لندفع بالمسؤولين الذين يقررون ثروات أجيالنا القادمة في كل من العراق وكردستان في الإتجاه الذي نراه صحيحاً، وبعيداً عن كل المشاعر القومية والعاطفية.

يرى الاستاذ فؤاد الأمير أنه "..من الضروري جداً إنهاء عقودها مع الحكومة الاتحادية وبأول فرصة، وذلك في حال عدم انصياعها لأوامر الحكومة الاتحادية، بالانسحاب الكامل من العمل في إقليم كردستان. إن قرار الحكومة الاتحادية هذا يجب أن يكون واضحاً وحاداً وعلنياً وسريعاً ولا يحتمل أي تأويل آخر (مثل التجميد أو ما شابه ذلك)، ويعلن للشعب العراقي وللشركات العاملة في العراق.
إن عدم اتخاذ الحكومة الاتحادية لمثل هذا القرار لن يعرضها فقط لأضرار مالية، وإنما الأهم سيقلل من هيبتها واحترام الجماهير لها، وسيؤدي إلى تفكيك العراق، وخلق موضوع الأمر الواقع على الأرض والقبول به بخنوع وذلة، ومضرة كبيرة للعراق ووحدته."

المشكلة من الجانب العراقي يجب أن ترى على أنها معركة مع الشركات الأمريكية على ثروات البلد النفطية، وليس صراع مع الجانب الكردستاني والعراقية، رغم أنهما وضعا نفسيهما هراوات مجانية في ايدي الشركات، لكن التركيز على تحطيم تلك الهراوات ليس هو الهدف. فمن المحتمل أن يتم التوصل إلى اتفاق مع الشركات، يضر بكردستان دون أن يمنع الشركات من تحقيق معظم أهدافها، كأن يتم التنازل لأكسون موبيل عن المزيد من الأرباح أو بعض الشروط في الجنوب، مقابل تركها العمل في الإقليم، وهذا يجب تجنبه.

الشيء الآخر الذي يجب تجنبه هو رفض الإستماع إلى كل ما يقوله الجانب الكردي، باعتبار أنها أكاذيب تتطلبها المعركة. فهناك اتهامات بتهريب النفط إلى إسرائيل، يجب التحقيق بها. فالتفسير الوحيد المنطقي لدي باضطرار الحكومة إلى دعم حكومة الأردن نفطياً في هذه الظروف، هو أما قرب حكومة الأردن من إسرائيل، أو أن هناك تهريب فعلي للنفط العراقي من خلال الأردن إلى إسرائيل، ولولا ذلك لما حصلت هذه القضية الغريبة على هذا الغموض الغريب والإصرار العجيب من جميع السياسيين بلا استنثناء على تجنب الخوض فيها!
كذلك نريد أن نعرف حقيقة اتهام الحكومة للإقليم بتهريب النفط إلى إسرائيل، وهذا ليس مستغرباً أبداً، عندما نراجع العلاقة الودية غير الطبيعية بين الطرفين، والتي أضطر الساسة الكرد إلى تحاشي الحديث عنها في المدة الأخيرة بسبب ما كلفتهم في الفترة الأولى بعد الإحتلال.

متى ما رأينا بوضوح، كشعبين، عربي وكردي، أن القضية ليست قومية وليست سياسية وليست شخصية، بل قضية لصوصية بحتة، وواجهنا هذه الحقيقة بشكل مباشر فإننا نكون قد وصلنا إلى نصف الحل.
أما النصف الآخر منه فهو أن نتمكن من تجاوز كل تلك الخدع، وأن نعامل اللص الكبير بنفس ما نعامل به اللص الصغير من أحتقار، وأن نطالب الشرطة أن تجرجر الوزير اللص بنفس ما تجرجر به نشالاً في الشوارع من إهانة وإذلال، دون أن نترك لموقعه أو قوميته أو ثرائه أو ملابسه أن تؤثر على حكمنا عليه، إن لم تزدنا احتقاراً له.

لقد طارد الناشطون الغربيون ساستهم الذين خدعوهم مطاردة مهينة في الشوارع، فهذا رامزفلد يخشى أن يذهب لأي مطعم عام، وهذا جورج بوش يلغي زيارة لسويسرا، وجدير بنا أن نتعلم من هؤلاء الناشطين معاملة الساسة المخادعين.
ليس الأمر بحلم بعيد، فهاهي العدوى الجميلة تصل إلينا، فيطارد ناشط مصري اللص بطرس غالي في شوارع لندن ويجعله يتلفت كالفأر هارباً لا يدري إلى أين. فلننظر إلى هذا الفلم (5) ولنتعلم منه كيف نعامل لصوصنا، وعملاء الشركات التي تسعى لنهب ثروتنا، كرداً كانوا أم عرباً، في العراقية أو في الحكومة، فهؤلاء لا ينفع معهم غير ما يستحقه نشالوا الجيوب من احتقار.


(1) http://www.pmo.iq/ArticleShow.aspx?ID=522
(2) دراسة الأستاذ فؤاد الأمير:" الجديد في القضية النفطية العراقية"
http://www.yanabeealiraq.com/article/fqa/fqa150412.html
(3) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=15355
(4) http://www.shafaaq.com/sh2/news/economy-news/39759--47---------.html
(5) http://www.youtube.com/watch?v=hkvZ9_QX_-k

ملحق: وثائق عن انتاج النفط من كردستان يمكن حساب منها كمية التهريب









 

31
كيف يراك الآخرون – 6- الإعلام وشيطنة إيران 1- التدخل الإيراني

صائب خليل
17 نيسان 2012

في حديث أدلى به لقناة «الآن» اللبنانية قال أياد جمال الدين  "التدخل الإيراني في العراق شيء يدرك ولا يوصف مثل الحبّ مثل الكُره، الانسان يشعر بالحبّ ولكن لا يستطيع ان يراه لا يستطيع ان يشير له ويقول هذا حبّ. ولا يستطيع ان يقول هذا كُره. التدخل الإيراني من هكذا نمط. يُدرَك ولا يوصَف، ايران تُسيطر وتُهَيمن على كل مفاصل الحياة في العراق، السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية وغير ذلك، البرلمان والحكومة ومجالس المحافظات القادمة أو الحالية والحكومات المحلية كل ذلك خاضع للنفوذ الإيراني، من يخالف إيران لا مكان له في العراق،"

في الحلقة الخاصة بصورة السنة لدى الشيعة، أشرت إلى تأثر السنة بشكل خاص بالإعلام المضاد لإيران، وتحولهم إلى ضحايا سهلة لأكاذيبه، مما جعلهم يبدون كطائفيين غير منطقيين في موقفهم هذا أمام الشيعة، والأخطر من ذلك أن هذا التأثر والخوف من إيران جعل مواقف الكثير من السنة تقترب من مواقف إسرائيل كثيراً، وقد قدمت في تلك المقالة فيديو لأحد السياسيين الإسرائيليين وهو يتحدث عن تعاون إسرائيل المرجو مع السنة ضد إيران. وليس الأمر مزحة أو كلام إعلامي، فهاهو بيريز أيضاً يعزف على نفس وتر تعاون إسرائيل مع السنة، و يريد تخليص السنة العرب من خطر إيران والشيعة! (1)

لهذا ورغم أن معرفة الحقيقة كما هي بلا مبالغة أو تشويه من مصلحة الجميع، إلا انها بشكل خاص مهمة للسنة فيما يتعلق بإيران. فالخوف من إيران، إضافة إلى ما يثيره من إشكالات طائفية، فإنه يستخدم لدفع السنة في الوطن العربي في طريق خطير، نهايته التعاون مع إسرائيل وما قد يعني ذلك من كوارث مادية ومعنوية لا يمكن تقديرها. إن من يكون هذا ثمن خوفه، عليه أن يراجع ذلك الخوف ألف مرة قبل أن يستجيب له، وأن يتأكد من أن ما يقال، حقيقة لا تشويه فيها ولا مبالغة.

ولقد وعدت في تلك المقالة أن أقدم الأدلة الكثيرة التي تجمعت لدي على أن العراقيين خصوصاً، والعرب عموماً (بل والعالم كله) يتعرضون لسيل هائل من الإعلام الكاذب الموجه لشيطنة إيران.. ورغم أني قسمت المقالة إلى ثلاثة أقسام، يختص الأول الذي بين ايديكم بموضوع التدخل الإيراني في الشأن العراقي، وسيكون القسم الثاني مخصصاً لبقية الإدعاءات حول علاقة إيران بإسرائيل والإرهاب ومجموعة كبيرة من الإشاعات المتفرقة، وسيخصص القسم الثالث لتحليل دور الإعلام الغربي وأسلوبه في تلك الشيطنة، وما ينشر في الوسائل الغربية وردود أفعال الناشطين اليساريين على ذلك.

أنبه إلى أن ما أقدمه هنا هو ما وصل إلي عن طريق الإنترنت من أخبار ومقالات نشر بعضها في الصحافة الورقية أو استند إلى التلفزيون، ومما لا شك فيه أن هذه كلها ليست سوى رأس جبل الجليد الطافي من الكم ا لهائل من الإعلام الموجه لشيطنة إيران، وآمل منها أن يتخيل القارئ حجم الجبل الكلي، وأن ينتبه إلى دقة الأخبار، خاصة عندما تتعرض لخصوم أميركا وإسرائيل عموماً، وليس إيران فقط، وفي أي مكان في العالم.

لاحظوا الخطوط العامة للأكاذيب، وأهمها الإستناد إلى "المصادر المجهولة"! والحقيقة أني لم اجد في العالم إعلاماً يعتمد على المصادر التي "ترفض ذكر إسمائها" بقدر ما في الإعلام العراقي. أما تحليلي لذلك فهو أن هذا الإعلام المرفوض عادة، نجح في العراق بشكل خاص، بسبب شدة الإستقطاب والوضع الطائفي بالذات. والسبب هو أن "المستفيد" من خبر "المصدر المجهول" لن يزعج نفسه بالمطالبة بمعرفته، بل يحتج منزعجاً إن طالب أحد باسم مصدر ذلك الخبر، لكنه يسارع إلى المطالبة به إن كان الخبر لا يناسبه، كما لاحظت بشكل خاص من تعليقات قراء أحد المواقع ذات الأكثرية الشيعية التي أكتب فيها، وكذلك لاحظت أن بعض العلمانيين والسنة مستمرين بالغمز بموضوع علاقة المالكي بـ "السبح" حتى بعد كشف تزوير الصورة، وهو أمر مؤسف يدل على أن نسبة لا بأس بها من العراقيين، مستعدة لتبني أي شيء يساند موقفها، حتى لو كان كذباً، وأني لن أستغرب أن استمر البعض باستخدام الأكاذيب حول إيران حتى بعد أن يقرأ زيفها في هذه المقالة أو غيرها.
وعدا المصادر المزيفة التي يستطيع كاتب الخبر من خلالها أن يصب أكاذيبه بلا قلق، فان هناك الكثير من وسائل التزوير، ومنها الإيحاء بما يريد، كأن يذيل الخبر بكذبة صغيرة أو رأي هلامي مثل: "ويذكر أن.....(ويضع ما يريد هنا)".
وهناك الترجمة المتعمدة الخطأ. لقد وصل الأمر أني شاهدت مؤخراً مقابلة لأحمدي نجاد في "الجزيرة" وقد اصطحب مترجمه الخاص، لكثرة ما تم تزويره من أقواله من خلال الترجمة، مثل "محو إسرائيل من الخارطة"  و "تصريحات سليماني" من التي سنمر عليها لاحقاً، وغيرها كثير.
كذلك هناك التزوير المباشر للصور، وكلنا نذكر أيضاً صورة البحرانيين اللذين كانا يرفعان لافتة عن سلمية تظاهراتهما، فغيرت الكلمات بأخرى بواسطة الفوتوشوب، لتضرب كل من ثورة البحرين وإيران بحجر (كذبة) واحدة.
وهناك تزوير لا يقل أهمية لكثرة انتشاره، وهو إعطاء رأي بلا برهان أو دليل، عن قضية خطيرة. فالكثير يتبرع بتأكيد التدخل الإيراني وتأكيد خطر إيران، دون أن يكلف نفسه أن يقدم ما يستند إليه، أو يعطي تبريراً تافهاً لا يصمد للمناقشة.

لكن "التخويف" يبقى السلاح الأكثر استعمالاً في الإعلام، ربما منذ مشى الإنسان على هذه الأرض وحتى اليوم. والغريب أن الحيوانات أكثر حكمة ومنطقية من البشر في هذا الأمر. فالحيوانات عموماً تعرف قوتها وضعفها وتتصرف ضمن قياس سليم للغاية. ومن النادر أن تجد حيواناً يخاف من آخر أضعف منه، أو يهاجم من هو اقوى منه دون أن يكون مضطراً لذلك. سيكون من الصعب علينا تماماً أن نقنع فيلاً بأن يخاف من ارنب، ولو نجحنا لضحكنا عليه كثيراً. لكن الشعب الأمريكي والبريطاني لم يضحكا حين أخبرهما ساستهما أن صدام يشكل خطراً عليهما، ربما خلال 45 دقيقة، وأقنعاهما بشن الحرب عليه.

في منتصف القرن الماضي، دعا الرئيس كندي، المكسيك إلى التعاون مع أميركا لمواجهة "خطر" كوبا، فأجابه وزير الخارجية المكسيكي: "بودي أن اتعاون معكم، لكني إن قلت أن كوبا تشكل خطراً على المكسيك، فسيموت خمسين مليون مكسيكي من الضحك". ويعبر البروفسور نعوم جومسكي الذي ينقل الحادثة، عن قلقه من أن لا أحد "يضحك" اليوم عندما يخبر الرؤساء الأمريكان شعبهم أن كوبا تشكل خطراً عليهم، رغم أن أميركا أقوى بما لا يقاس من المكسيك، وهو ما يعني بالنسبة لجومسكي أن الشعب الأمريكي، وتحت تأثير سياط إعلامه الشديدة التأثير، صار يتقبل ما لا يعقل، وكأنه أمر ممكن!
والآن تحولت أضواء هذه "المضحكات" إلى إيران، وهاهو رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر لا يجد مشكلة بالقول أن  "إيران اکبر خطر على العالم!!" (2) دون أن يقلق أن يموت الكثير من الكنديين من الضحك على ما يبدو، لذا يحق لجومسكي أن يقلق على سلامة الكنديين العقلية ايضاً.
إذن كثرة الإعلام الكاذب وطول استمرار قصفه للرؤوس يسبب العمى حتى لأرقى الشعوب، وما نريده هنا أن نقف بوجه هذا الإعلام السام وفضحه أمام شعبنا قدر الإمكان. هناك جهود هائلة تبذل لتشويه الحقائق علينا، و لإيران منها حصة الأسد كما يبدو.

من المؤسف أن نحتاج إلى القول البديهي، إن البحث عن الحقيقة، وليس "الحقيقة المناسبة" يجب أن يكون هدف كل إنسان، على الأقل كل إنسان يحترم عقله ومواقفه، وبالتالي فأن علينا ايضاً أن نكره الكذبة التي تدعم موقفنا مثلما نكره الكذبة التي تظلمنا، وأن نحتقر الذي يكذب لتشويه "يناسبنا" مثلما نحتقر من يكذب لتشويه لا يناسبنا، بل أكثر منه، لأن من يكذب لتشويه "يناسبنا" إنما يستهدفنا بالذات في خداعه. إننا إن لم نفعل أدخلنا أنفسنا في عالم من الكذب المتبادل والضياع المتبادل وصرنا بجيمع أطيافنا ضحية إعلام شرس قبيح يبذل الكثير من الطاقة والمال من أجل أن نتيه عن أهدافنا ونكمكش كالعميان بين توجيهاته التي يديرها كما يشاء من وراء الستار بسيطرته الكبيرة على وسائل إعلامنا، ليكون هو في نهاية الأمر "المفتح" الوحيد القادر على توجيه البلاد ببشرها وثرواتها.

يستدل جومسكي على النجاح الكبير في التزوير للإعلام الأمريكي على الشعب من خلال عدم استسخاف الشعب لكذبة "الخطر الكوبي" وجرأة الساسة والإعلاميين على تكرار هذا الخطر الوهمي على الناس دون أن يخشوا ردة فعلهم ضدهم، رغم أن الأمر لا يختلف عن محاولة تخويف فيل من "خطر" أرنب.

كيف أوصلت أميركا وإسرائيل العرب إلى تلك الحالة؟ عندما نراجع الكمية الهائلة من سيول الإعلام المخادع الموجه التي أمطرنا بها من وسائل الإعلام العربية والعراقية المملوكة لتلك الجهات، والتي تحاصر المشاهد والمستمع والقارئ العربي، فأن العجب يزول قليلاً، وهذا البحث محاولة من أجل ذلك.

لذا لا يجب أن يؤخذ هذا البحث بجزئيه كدفاع عن إيران. فرغم أنه سيكون كذلك كتحصيل حاصل، وهو كشف للكذب وبالتالي دفاع عن الحق في رأيي على أية حال، فأن الغرض الأساسي المرجو منه هو الدفاع عن سلامتنا العقلية وسلامة بصرنا الضروريتان لكي يتمكن الإنسان الفرد والمنظمات والمجتمع من اتخاذ مواقف صحيحة مما يجري حوله وحولها في الحياة، ويعرف ما هي الأخطار التي تهدده وما هي الفرص التي لديه، من هم أعداءه الحقيقيين ومن هم أصدقائه ومع من تلتقي مصالحه ومع من تتضارب، وبمن يمكنه أن يثق وإلى أية درجة، وممن يجب أن يتوقع الأذى، ليستطيع الصمود في المعارك الجارية في عالمه هذا بلا هوادة.

في هذا الجزء من المقالة الذي سيركز على التشويه في الإعلام العربي، وبشكل خاص العراقي، قدمت الأدلة والمؤشرات على التزوير الإعلامي بشكل نقاط منفصلة كأمثلة من بحر كبير من تلك الأكاذيب الإعلامية، وغالباً بلا تعليق للإختصار. وقد تم تجميع الأمثلة بشكل مجموعات لسهولة متابعة خارطة التضليل الذي يراد للعقل العربي الإقتناع به، وهنا ما وجدته عن موضوع التدخل الإيراني:

إيران والتدخل

لقد بدأت مقالتي بمقطع من تصريح لأياد جمال الدين، المرشح السابق للبرلمان العراقي، والذي حظي بدعم غير مسبوق من الجهات الأمريكية تضمن تخصيص قادة إنتخابات كبار كان أحدهم مديراً لإنتخابات الرئيس الأمريكي نفسه! فأياد جمال الدين شخصية لها أهميتها الخاصة، وتجربة أمريكية في العراق (يبدو أنها فشلت) للجمع بين عواطف المشاعر الدينية والطائفية، مع التقدير الخاص الذي تكنه الجماهير العراقية للعلمانية وحرية الفكر والنفور من الضغوط الحكومية على تطبيق الدين. وقد صرف على المرشح أياد جمال الدين وفريقه الإنتخابي، أموال وخبرات أمريكية هائلة باعترافه هو، لكن كذبه المفضوح كان أكبر من ذكائه الحاد، ففشل فشلاً ذريعاً حتى بالحصول على مقعد واحد في البرلمان! ومن المحتمل أن الكره العراقي لأميركا لعب دوراً في ذلك الفشل.

لكن لو فحصنا عبارة اياد جمال الدين التي أوردتها في المقدمة، فإننا لا نرى رأياً، بل هو أقرب إلى خطة عمل إعلامية. إنني أقرأ في سطور اياد " يجب أن نقنع الناس أن ... التدخل الإيراني في العراق شيء يدرك ولا يوصف...وأنها تسيطر على كل مفاصل الحياة في العراق". ويبدو لي أنه بسبب عدم تواجد الأدلة على صورة الشر والسيطرة التي يحاول الأمريكان وفريقهم تقديمها عن إيران ، فقد استعانوا بصورة "شيء يدرك ولا يوصف"، وطبعاً لا يستطيع أحد أن يطالب بدليل على ما "يدرك ولا يوصف"!

لذلك فأن المراقب المتابع يرى حالة تناقض غريبة: فمن ناحية، هناك كثافة هائلة في الشكوى من إيران في الإعلام العراقي (والعربي والغربي)، عن التدخل الإيراني وعن علاقتها مع إسرائيل وتمويلها الإرهاب، ليس على المستوى الشيعي فقط، بل تعدته إلى القاعدة، ومن ناحية اخرى فأن هناك بالمقابل فقر شديد في الأدلة التي تساق على تلك الإدعاءات. كذلك هناك صياغة غير دقيقة للخبر، وهناك قلة محاججة وتكاد لا توجد أية إشارات لحقائق موثقة في المقالات والأخبار التي تتناول نقد السياسة الإيرانية، إضافة إلى ذلك يلفت النظر وجود نسبة هائلة من تلك الأخبار، منسوبة إلى مصادر مجهولة "رفضت الإفصاح عن إسمها"، وهو ما يثير الريبة في كل الموضوع. وعدا هذا فأن العديد من تلك الأخبار والإتهامات تبين زيفها فيما بعد وتراجع بعض من جاء بها عن صحتها. فكأن كل الجهات من أمريكية وإسرائيلية وغربية، عجزت عن تقديم دليل مقنع واحد، رغم كثافة ووفرة الأعمال الإيرانية المدانة، حسب ادعائها.

يكتب عماد الاخرس في مقالة بعنوان: "شائعات التدخل الايرانى فى عراق مابعد صدام .. من يقف وراءها ؟"(3) حائراً فيقول: "حقائق وشائعات كثيره لاتعد ولاتحصى تتناول التدخل الايرانى فى عراق مابعد صدام ... اقول حقائق او شائعات لان بصراحه تشابكت الاحداث وضاعت الحقيقه ولايستطع احد التأييد او النفى !"
ثم يناقش أهم الإتهامات الموجهة لإيران، فيعترف بوجود تدخل ما، إلا أنه نوع التدخل الطبيعي المتوقع بين أية دولتين جارتين، لا اكثر، ليصل إلى أن ليس كل ما يقال من تلك الشائعات معقول، وأن العراق يجب أن يسعى ليكون له علاقة جوار جيدة مع إيران، وأن ذلك مسألة خطيرة الأهمية بالنسبة للعراق. وأنا هنا أتفق مع عماد الأخرس، فالتدخل موجود بالطبع، ولكن السؤال ما هو حجمه؟ وما هو تأثيره الحقيقي على قرارات الحكومة العراقية؟ وهل وصل حداً مقلقاً كما يحاول الإعلام أن يقنعنا؟

حسب تقديراتي فأن ما يضغط على المالكي ويدفعه في قراراته هو الضغط الأمريكي وليس الإيراني المعاكس له، فنحن نرى قرارات مضادة لإيران أكثر بكثير من تلك التي تود إيران لو أن الحكومة العراقية اتخذتها، ولكن المجال هنا لا يتسع لهذه المناقشة التي أرجو أن أخصص لها مقالة منفصلة في المستقبل. أما الآن فأكتفي بالقول أن اياد جمال الدين كان منافياً للحقيقة تماماً، وأن إيران في العراق تهمة وليست نقطة قوة، ومن يريد أن يقول كلمة في صالحها يحسب ألف حساب كما سأبين مستقبلاً، على العكس من أميركا التي يحاول التمسح بها كل اللصوص، ويدعون عداءهم لإيران ليكسبوا الرضا الأمريكي ويتم تهريبهم، وأن من قتل من الزوار الإيرانيين كثير، واعتقل من السياسيين الإيرانيين دون غيرهم العديد، والتفجيرات قرب السفارة الإيرانية والأموال المستحقة لإيران لا تدفع ومجاهدي خلق صمدت حتى الآن رغم الحكومة ورغم إيران فأية سيطرة هذه التي يتحدث عنها أياد جمال الدين؟

أترككم مع مقتطفات صحفية توضح مدى التشويه الإعلامي الذي يتعرض له موضوع التدخل الإيراني. بعضها أكاذيب مباشرة وغيرها لا يمكن التأكد منها، وبعض المقتطفات تبين الخطأ في الصورة التي قدمهاه ذلك الإعلام عن إيران للقارئ العربي. لقد أدرجت روابط لمعظم المقتطفات، لكن قسم قليل منها لم يعد يعمل فأزلته، لكنها جميعاً موثقة.


* عضو مجلس النواب العراقي محمد الدايني (يتحدث) عن عمليات تحقيق وتعذيب يقوم بها اشخاص ايرانيون ضد معتقلين عراقيين تتضمن شهادات حية وتقارير طبية موثقة . (أسامة مهدي من لندن  :2007 21 فبراير) (4)
 (نذكر هنا الصور التي قدمتها العراقية عن عمليات تعذيب عراقيين في سجون إيران، ليتبين أن من كان في الصورة لم يكن سوى الرئيس الإيراني "المعتدل" السابق خاتمي! كذلك فأن الدايني نفسه متهم بالإرهاب).

* استهجنت حركة العدل والإصلاح التصريحات التي صدرت من قائد فيلق القدس الإيراني العميد قاسم سليماني وعدتها تدخلاً صارخا وفاضحاً في الشؤون العراقية وانتقاصاً من سيادة البلد. 2012-01-24 (5)
 (نفى السفير الإيراني في بغداد ذلك، وقال أن أقوال سليماني تمت ترجمتها خطأً بشكل متعمد)

* كما قال المسؤول الذي رفض ذكر اسمه ان مئات المقاتلين عبروا الى ايران للتدريب عند قوات القدس وهي وحدات خاصة في الحرس الثوري ويعتقد انها هي التي تدرب حزب الله في لبنان. (6)

* الصدريون يجمعون تواقيع النواب لمنع السفير الاميركي من دخول البرلمان (05 يوليو 2011) (7)

* وزارة الكهرباء:عقوبات مصرفية دولية ( الصحيح: أمريكية وليس دولية!) على ايران تعيق تسليمها 200مليون دولار (18 تموز 2011 ) (8)

* إيران :البارزاني منح منظمة بيجاك الكردية 300 ألف هكتار لبناء مقراء لها في كردستان(9)

* اكد وزير الدفاع العراقي السابق حازم الشعلان، وجود تدخل ايراني في الشؤون العراقية، واعتبر ان المسؤولين والساسة الذين ينفون هذا او يسكتون عليه، ينطبق عليهم المثل القائل «الساكت عن الحق شيطان اخرس». ... وقال الشعلان ان لديه ادلة على التدخل الايراني في العراق.
(بشكل عام، قال جميع اللصوص الكبار في عراق بعد 2003، أنهم ضد إيران وأنه تم اتهامهم بالسرقة لأنهم وقفوا بوجهها)

* نفى الخبير النفطي عبد الجبار لعيبي وجود تجاوز من قبل السلطات الايرانية على الابار النفطية على الحدود. (10)

* الربيعي: لا دليل على استغلال إيران آبار نفط عراقية(11)

* الأمين العام لإئتلاف أبناء العراق الغيارى الشيخ عباس المحمداوي يتهم إيران بالسعي إلى تقسيم العراق طائفيا(12)
دون تقديم دليل...

* القرضاوي يحذر من حريق إيراني مدمر ينتظر العالم الإسلامي سورية السعودية ليبيا مصر(13)

* واشنطن بوست: هل ستسيطر ايران على العراق ام القاعدة ستفرض سيطرتها؟ (اصوات العراق  18 /07 /2007 )

* هاجم اياد علاوي زعيم القائمة العراقية ايران ووصفها بانها تحاول ان تفرض إرادتها على الشعب العراقي من خلال مساعيها لإبعاده عن تشكيل الحكومة المقبلة

* وصف مصدر إيراني (؟) ..... زيارة رئيس الوزراء العراقي الثالثة لإيران، بـ«الفاشلة من الألف الى الياء». وأوضح المصدر ..... ان الاستخبارات الإيرانية لم تكتف بدعم جيش المهدي والميليشيات الشيعية والسنية المناهضة لحكومته فحسب، بل انها تسعى بكل ما بوسعها، لافشال حكومته من أجل اعادة غريمه ابراهيم الجعفري الى الحكم». لندن: علي نوري زاده(14)

* أتهم رئيس تجمع عراقيون النائب عن/ائتلاف العراقية/ حسن الجبوري، إيران بأنها لها الدور الكبير في الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد. (13-02-2012) (15)

* حسن العلوي : السنة خسروا التمثيل السياسي بمكيدة ايرانية

* بايدن يصف الانتخابات العراقية بأنها شوكة في عين الإيرانيين(16)

* قال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إن محاولات إيران في التدخل في الشأن العراقي والتأثير في نتائج الانتخابات التشريعية فشلت في تحقيق أهدافها، مشددا على شرعية النتائج التي أعلنتها مفوضية الانتخابات.... مشيرا إلى أن طهران أنفقت نحو مائة مليون دولار لدعم الأحزاب الشيعية الدينية في العراق وتهميش قائمة "العراقية" التي يتزعمها إياد علاوي. وجدد بايدن رفض واشنطن لأي محاولات غير شرعية لقلب النتائج، ...(التي قامت أميركا بتزويرها ...) (17)

* أكد نائب رئيس الامريكي جو بايدن ان ايران منيت بهزيمة ساحقة في سعيها للتاثير بالعملية الانتخابية ، مشيرا الى ان طهران دفعت 100 مليون دولار في انتخابات العراق ومُنيت بالفشل. ...واكد بايدن على ان الجهود التي بذلتها طهران بعد الانتخابات للضغط على الزعماء العراقيين الذين زاروا العاصمة الإيرانية أسفرت عن عواقب سلبية وذلك عندما اكتشف هولاء الزعماء ان عليهم ان يرفعوا ثمناً حقيقياً مقابل الحصول على موافقة طهران (2010/4/11) (18)
ربما تكون إيران قد دعمت مرشحين ما سراً، لكن بايدن ينافق بوقاحة تامة وواضحة إن تذكرنا دور السفارة الأمريكية الصريح في تلك الإنتخابات ، والمبالغ الضخمة الخليجية والأمريكية لدعم ليس علاوي فقط وإنما أياد جمال الدين ايضاً، وهو ما لم ينكره الرجل.

* وهذا عنوان إعلامي آخر مشابه من تلك الفترة: "أميركا تنأى بنفسها عن السجال الانتخابي العراقي مقابل تدخل إيراني واضح"

* قال علاوي في مقابلة مع هيئة الاذاعة البريطانية (بي.بي.سي) ان من الواضح ان ايران تحاول منعه من ان يصبح رئيس الوزراء المقبل. (30/03/2010)

* لأسفها على رحيل الشهواني ، واشنطن بوست : العراق سيصبح مستعمرة إيرانية خلال 5 أعوام (26/08/2009 ) (19)

* لوس آنجلوس تايمز: مسؤول عسكري أمريكي (يرفض ذكر اسمه "لحساسية القضية سياسيا"(؟)): ان "احدث دليل على التدخل الايراني، هو ذخيرة صنعت في العام 2008 وجدت في البصرة"(20)

* (وحتى في مصر أيضاً) ..."دخل على الخط ... مرتزقة وعملاء فيلق القدس الذراع الخارجي للعمليات القذرة التابع للحرس الثوري الإيراني سيئ السمعة والصيت وبعض العناصر التابعة لحزب الله اللبناني لغرض تحريك الخلايا النائمة في مصر للمساعدة والعمل والتنسيق فيما بينهما للقيام بعمليات تخريبية خاصة جدآ"(21)

* الهاشمي لـ «الحياة»: المالكي وإيران لفقا الاتهامات ضدي (23 ديسيمبر 2011) (22)

* حيدر الملا: ”هيئة المساءلة والعدالة هي الجهة غير القانونية مدت أذرعها نيابة عن فيلق القدس الايراني" (23)

* “البوابة العراقية” :كشف "مصدر بارز" في التحالف الوطني العراقي المؤتلف مع كتلة دولة القانون بزعامة نوري المالكي، رئيس الحكومة العراقية، عن أن «إيران ضغطت على حلفائها في بغداد من أجل دعم السلطات السورية بمبلغ 10 مليارات دولار»، مشيرا إلى أن «المالكي رضخ لهذا المطلب الإيراني وقام بالفعل بدعم الرئيس السوري بشار الأسد ماديا». وأضاف "المصدر القيادي"...... (24)

* اعتبر النائب المستقل حسين الفلوجي تصريحات قائد القوات الامريكية في العراق الجنرل اوديرنو التي يتهم فيها بعض اعضاء مجلس النواب بتلقي رشاوى من ايران تحت ذريعة محاولة ايران نسف الاتفاق الامني المزمع توقيعه بين العراق وامريكا، بأنها محاولة مدانه لابتزاز المواقف الوطنية والمشرفة لاغلب اعضاء مجلس النواب العراقي والذين يقاومون الضغوط والاغراءات وبشتى الوسائل لثنيهم عن مواقفهم الصحيحة.

* اتهم مشعان الجبوري ...الاكثرية البرلمانية موالية لأيران بتهديد هوية العراق القومية.وكشف الجبوري ان الاكراد وافقو على تثبيت فقرة عروبة العراق الا ان اطرافا حليفة لأيران داخل الائتلاف الشيعي رفضت ذلك، مؤكداً ان هذا الموضوع موثق ولا يخضع للشك. (بغداد- الدستور- باسل عدس) (25)

* صرح "مصدر حكومي" إيراني لموقع بازتاب التي (؟) تمتلكه الحكومة الايرانية عن أطماع النظام الايراني التوسعية لابتلاع العراق ... بقوله ان الثمرة العراقية قد نضجت وحان وقت إقتطافها وكشف موقع «بازتاب» على الانترنت بشكل صريح أطماع الحاكمين في ايران لابتلاع العراق ونشر التطرف الى بقية الدول الاسلامية . وأكد هذا المصدر الحكومي: ان الجمهورية الاسلامية الايرانية يجب أن توسع حدودها الاعتقادية وأن لا تحصر وجودها في الحدود الجغرافؤوية لان الامن لايتوقف عند الحدود الجغرافؤوية." (صوت العراق)
لاحظ هنا: 1- الحديث عن "الثمرة الناضجة" هو نفس أسلوب الأمريكان عن كوبا حين ارادوا الإستيلاء عليها في القرن التاسع عشر ، 2- كثرة الأخطاء الإملائية 3- مبدأ "الأمن لا يتوقف عند الحدود الجغرافية" هو من المبادئ الأساسية الجديدة في حلف الناتو، وليس في إيران. 4- المصدر مجهول مرة أخرى..

* مثال الآلوسي: "قانون النفط و الغاز سيصادق عليه من قبل البرلمان في حالة موافقة إيران والسعودية عليه". وأوضح الآلوسي في تصريح صحفي اليوم الجمعة أن "إيران والسعودية ترفضان تطوير قطاع النفط العراقي، لأنه يعني زيادة الطاقة التصديرية للعراق بشكل يضمن عودته كقوة رئيسة بالمنطقة". وأضاف الآلوسي أن "الكثير من النواب العراقيين لديهم ارتباطات مع السعودية ومع إيران، وهم يمثلون أجندة الدولتين، ولهذا فإن القانون لن يمرر من دون موافقتهما" (26)
قانون النفط الذي يتحدث عنه هوالقانون الذي ضغطت الشركات الأمريكية من أجل توقيعه، وجوبه بمقاومة عنيفة من قبل سياسيين ونشطاء وخبراء نفط عراقيين، ومثال الآلوسي هنا يمارس بوضوح مهمة مكلف بها بتشويه صورتهم من أجل الضغط عليهم، وتصوير أن الامر في صالح العراق، وأن من يمنعه هو إيران (ووضع السعودية إكمالاً للصورة على ما يبدو). وكان مثال الآلوسي يدعو إلى "تشكيل تحالف دولي لحماية النفط العراقي من الأطماع الإيرانية" وليس من أطماع الشركات الغربية!

* إيران تحتل مدينة العمارة تجاريا ومخابراتيا وليس للعراقيين غير الشكوى :
تجد هنا السيارات الصفراء المستوردة من إيران أكثر من أن تحصى...... أينما تذهب تسمع شكوى من أصابع إيران، ولكنك لا ترى منهم غير الظلال... (10 نيسان 2012- ساحات التحرير) (27)

* ضباط في الجيش الإيراني نواب في برلمان العراق؟؟؟
قال "محامون عراقيون" يقيمون في اوروبا انهم يعدون لرفع قضية في المحاكم العراقية لاسقاط عضوية تسعة من نواب الجمعية الوطنية العراقية هم ضباط، حتى الان، في القوات المسلحة الايرانية وعناصر فاعلة في اجهزة مخابرات ايران. واصدر "المحامون العراقيون".....(28)
ومقابل هذه الكذبة التافهة، إليكم الحقيقة الناصعة التالية:

* بعد أن خسرهم بلدهم....عراقـيون عــلى رأس أجــهزة إيــرانية مـهمة
(حقائق تستحق القراءة بتمعن)..... "ومن هؤلاء: اية الله الشيخ محمد علي التسخيري القيادي السابق في حزب الدعوة ومساعد قائد الدولة في ايران فيما بعد، آية الله السيد محمود الهاشمي رئيس المجلس الاعلى الأسلامي العراقي الأسبق ورئيس السلطة القضائية في ايران فيما بعد ، آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي الناطق السابق باسم حزب الدعوة وامين عام المجمع العالمي لاهل البيت في ايران فيما بعد ( برتبة وزير) ، الدكتور علي اكبر صالحي رئيس منظمة الطاقة الذرية ثم وزير الخارجية الايراني، الدكتور محمد رضا الهاشمي وزير التعليم العالي، الدكتور محمد جواد لاريجاني نائب وزير الخارجية، الدكتور علي لاريجاني رئيس البرلمان، الاستاذ محمد حسين الاديب المسؤول في وزارة التربية، الدكتور صباح زنكنه نائب وزير الثقافة، الدكتور محمد علي آذرشب نائب امين عام المجمع العالمي للتقريب، الشيخ محمد سعيد النعماني نائب رئيس منظمة الثقافة والعلاقات (بدرجة معاون وزير). والثلاثة الأخيرون كوادر سابقين في حزب الدعوة ، وغيرهم كثير...
وربما لايعلم احد ان في حكومة رفسنجاني كان هناك ثلاثة وزراء من اصول نجفية وكربلائية وبغدادية؛ إذ ولدوا ونشأؤا ودرسوا في العراق ولايزالون يحتفظون بلغتهم الأم، وكان آباؤهم من التجار او علماء الدين في العراق، بينهم وزير الداخلية ووزير التعليم العالي....وربما يصل عدد النخبة الايرانية من أصول عراقية، والعاملة في أجهزة الدولة الايرانية، من درجة رئيس قسم وحتى وزير؛ الى اكثر من ثلاثة آلاف شخص." (29)

تخيلوا إلى أي مدى سيكون خطاب من يقول بسيطرة العراقيين على مقادير الأمور في إيران، أكثر قابلية للتصديق ممن يقول بسيطرة إيران على مقادير الأمور في العراق! ومع ذلك، فهل يشعر العراقيون أنهم يسيطرون على إيران؟ إذن على أي أساس سيشعر الإيرانيون أنهم يسيطرون على العراق؟ أم أن الفارق هو بمقدار الثقة بالنفس والمناعة ضد الإعلام المضلل والمشيطن للجار؟

(1)  http://www.masress.com/alshaab/14939
(2) http://www.alalam.ir/news/762824
(3)  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=114152
(4) http://www.elaph.com/Web/Politics/2007/2/213011.htm?sectionarchive=Politics
(5) http://www.ipairaq.com/index.php?name=inner&t=politics&id=49890
(6) http://www.aawsat.com/details.asp?article=411879&issueno=10342
(7) http://daralhayat.com/portalarticlendah/284789
(8) http://www.akhbaar.org/home/2011/07/113823.html
(9) http://hekar.net/modules.php?name=News&file=article&sid=7110
(10) http://www.alnajafnews.net/najafnews/news.php?action=fullnews&id=48058
(11) http://www.aawsat.com/details.asp?article=457224&issueno=10662
(12) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=14289
(13) http://ejabat.google.com/ejabat/thread?tid=763a910d54d13636
(14) http://www.aawsat.com/details.asp?issueno=10261&article=432334
(15) http://www.yanabeealiraq.com/n0212/n14021202.html
(16) http://almothaqaf.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=12844
(17) http://www.radiosawa.com/arabic_news.aspx?id=8038547
(18) http://archive.aliraqnews.com/modules/news/article.php?storyid=36175
(19) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=338579.0
(20) http://www.alnajafnews.net/najafnews/news.php?action=fullnews&id=55498
(21) http://www.almorabit.com/main/ar/almorabit-arabic-articles/34-articles-cat-ar/1574-2011-02-04-20-21-55.html
(22) http://www.yanabeealiraq.com/n0112/n24121106.html
(23) http://www.sotaliraq.com/iraqnews.php?id=59048
(24) http://www.albawwaba.net/arabic-international/40035/
(25) http://www.addustour.com/PrintTopic.aspx?ac=%5CArabicAndInter%5C2005%5C10%5CArabicNews_Issue14845_Day5_ID130713.htm
(26) http://www.alnajafnews.net/najafnews/news.php?action=fullnews&id=58713
(27) http://www.albadeeliraq.com/article18882.html
(28) http://arabic.rt.com/forum/showthread.php?t=10399
(29) http://www.almowatennews.com/news_view_15375.html


32
أميركا تريد إعادة البعث للعراق بواسطة الفصل السابع!

صائب خليل
7 نيسان 2012

مازالت الولايات المتحدة مستمرة في جهودها المستميتة منذ احتلالها للعراق، على إعادة حزب البعث إلى الحكم لا يمكن فهم تصريحات سفير الولايات المتحدة الأمريكية جيمس جيفري في مؤتمره الصحفي الذي عقده في محافظة البصرة، ودمجه  الحديث عن ضغوط أمريكية لـ "مساعدة" العراق في الخروج من الفصل السابع مع ضغوط تمارسها "لحل الأزمة السياسية الداخلية"، إلا بأنه تهديد شبه مباشر باستمرار استعمال ورقة الفصل السابع للضغط على العراق من أجل الهدف الأمريكي المتمثل في إعادة البعث إليه عنوة.

وقال جيفري "إن الولايات المتحدة الأمريكية تلعب دورا كبيرا في العراق لحث الكتل السياسية من اجل التوصل لاتفاق مشترك قد يضمن حالة من التوافق السياسي".
مشيرا "إلى إن بلاده ترى إن الحل يكمن في تقديم التنازلات واللجوء إلى الحوار المشترك لحل الأزمة العالقة" .(*)

ورغم أن تلك الجهود لم تتوقف لحظة واحدة منذ تواجدها على الأرض العراقية، متمثلة أولاً بإصرارها على فرض أياد علاوي رئيساً للحكومة الأولى التي عينتها قبل الإنتخابات، ومشروعه الواضح في إعادة بقايا ضباط الأمن الصداميين دون غيرهم إلى السلطة، ثم بلغت تلك الجهود قمتها حين تدخلت السفارة الأمريكية بشكل مباشر وعلني في الضغط على الهيئات التشريعية والقضائية تحضيراً لانتخابات 2010 ، لفرض قبول عدد من الشخصيات التي تم إبعادها من المشاركة بواسطة قوانين المساءلة والعدالة، والتي وصل الأمر فيها أن تهدد الحكومة العراقية السفير الأمريكي بالطرد من العراق، وهي سابقة لم تحدث سوى مرة واحدة، رغم كثرة الشكاوى السابقة، الحكومية وغيرها، من كثرة التدخلات الأمريكية السابقة في شؤون الحكومة. وبعد الإنتخابات قامت أميركا بعمليات تزوير الإنتخابات كما تشير العديد من المقالات للكاتب، وما فضحته النائب حنان الفتلاوي من استلام الجيش الأمريكي صناديق الإقتراع سراً من المفوضية العامة للإنتخابات ، وتم ذلك أثناء المحاسبة البرلمانية للمفوضية، والتي حضر فيها أياد علاوي إلى البرلمان لأول مرة ليقود الدفاع عن المفوضية التي بينت النائب الفتلاوي أيضاً أنها منخورة بالفساد ، ومخترقة بالإرهاب إلى أعلى المستويات.
وكدليل مخيف آخر لعمق الإختراق الأمريكي للنظام السياسي العراقي، قيام أسامة النجيفي، رئيس البرلمان والقيادي في القائمة العراقية، حينها بحجب التسجيل التلفزيوني للجلسة لحظة إشارة النائب الفتلاوي إلى تسليم المفوضية لصناديق الإقتراع للجيش الأمريكي، دون حجبه بقية الفضائح التي طالت المفوضية.

ويأتي هذا الضغط الأمريكي الجديد لفرض إعادة البعث إلى السلطة في العراق، بالإستعانة حتى بمجلس الأمن والفصل السابع، ضمن حملة شعواء ضد الحكومة تقودها الكتلة الكردستانية لفرض شروط الشركات النفطية الأمريكية في العراق وعقودها المجحفة التي وقعتها مع الحكم اللصوصي الإقطاعي في الإقليم. ويعتبر ما يجري في العراق من صراع ، لحظة تاريخية أخرى تعبر فيها تلك الشركات عن سياستها العدائية لأي شعب تتواجد على أرضه، وعلى قدرتها الكبيرة في توظيف سياسيين كثيرين في البلاد من أجل خيانة شعبهم وتمشية القرارات التي تناسبها، كما تبرهن على اختراقها لقوى ومؤسسات أخرى لتضمن مساندتها أو تحييدها في ذلك الصراع. وما استمرار الصراع بشأن عقود شركة أكسون موبيل الأمريكية والحكومة العراقية إلا أوضح مثال على قوة وإصرار تلك الشركات على نهب النفط العراقي ووفقاً لشروط مماثلة لتلك التي قبل بها عملاؤها في كردستان.

ولا تسيطر الشركات الأمريكية على حكومة كردستان وحدها، وإنما تخضع برلمانها لإرادتها أيضاً، فلا يجرؤ هذا على أن يطالب ويجبر الحكومة على عرض العقود النفطية السرية المشبوهة مع تلك الشركات عليه. وهي تجد من أعضاء كردستان في البرلمان العراقي ومعظم أعضاء العراقية، مقاعد أمريكية – إسرائيلية في البرلمان العراقي، لم يسبق لها أن رفضت أي مشروع أمريكي في العراق، إلا حينما لا تجد أي أمل لتمريره، فلا تجد مبرراً لفضح نفسها بذلك الرفض. ومن خلالها سلطتها على كردستان تسيطر هذه الشركات والإدارة الأمريكية بدرجة أو بأخرى على قرارات الخارجية العراقية، إضافة إلى تأثيرها في قمة القرار العسكري العراقي. وكذلك يجد خندق الشركات الأمريكية في أعضاء العراقية سنداً أساسياً، دون إنكار اختراقات كبيرة للغاية في بقية الكتل السياسية على وجه العموم.

وتمكنت الشركات من وضع عملائها هؤلاء في لجنة النفط والطاقة والثروات الطبيعية في مجلس النواب، من خلال رئيسها من القائمة العراقية وأعضاء من التحالف الكردستاني، والتي تقف تماماً في حقيقة الأمر في خندق الشركات الأمريكية والحكومة الكردستانية، وتقدم مشاريع القوانين النفطية التي تسعى الشركات من أجلها والتي تمكنت من فرضها على كردستان، ويمكن لمن يريد أن يراجع مقالات ودراسات عديدة حول الموضوع للأستاذ فؤاد الأمير وكاتب هذه السطور والعديد غيرهما.

ويستعر اليوم صراع شديد بين جبهة الشركات، بكل أدواتها الكردستانية و "العراقية" من جهة، وجبهة حكومية غير واضحة المعالم، رمزها الوحيد الصريح الذي قبل أن يتلقى الضربات دون أن يخفي رأسه أو يترك الباب مفتوحاً للتراجعات كرئيس الوزراء أو بقية أعضاء الحكومة، هو حسين الشهرستاني، والذي يركز بطبيعة الحال أفراد تلك الجبهة هجومهم عليه بكل ما لديهم من أدوات، نظيفة وغير نظيفة.

وفي خبر غريب من نوعه يظهر علينا شخص باسم "أبو عبد الله المحمداوي" يأمر الكرد بالخروج من كافة محافظات العراق، ويعطيهم مهلة لذلك! إن مثل هذه الحركات التي لا يمكن أن تكون جدية، يمكن أن تخدم، بمساعدة الأذرع الأمريكية كورقة ضغط وحجة لإبقاء العراق تحت الفصل السابع، وإجباره على التنازل وقبول شروط الشركات النفطية الأمريكية ، مقابل إخراجه منه، أو حتى مقابل "وعد" بإخراجه منه.

ولا مفر من أن يحتار العراقي متسائلاً: من الذي يبقيه ضمن الفصل السابع؟ وكيف تحول ميثاق الأمم المتحدة من ورقة عمل من أجل حماية السلم العالمي وحقوق الإنسان، إلى أداة للضغط على الشعوب من أجل إخضاعها للشركات الكبرى وعملائها؟
أما بالنسبة للسؤال الأول، فمن يستطيع أن يبقي العراق أو يخرجه من الفصل السابع هم أعضاء مجلس الأمن، فمن منهم يعترض على إخراج ضحايا صدام، من نير قرار تم إقراره لإخراج صدام من بلاد أحتلها؟ من يمكن أن يكون بهذه الدرجة العلنية من النفاق أمام العالم؟
لو سألنا هذه السؤال لما وجدنا جواباً محدداً. فالكويت غير قادرة على إبقاء العراق أو أخراجه من القرار، والوحيدون القادرين حقاً على الإعتراض على أخراج العراق هم الأعضاء الدائميين، أصحاب "حق" الفيتو في المجلس. فمن منهم يعترض حقاً على إخراج العراق؟ فرنسا؟ بريطانيا؟ أم روسيا أم الصين؟ أم أميركا التي أكد سياسيوها على العكس من ذلك، بل على جهودهم لـ "مساعدة" العراق للخروج من الفصل السابع؟ أميركا تريد "مساعدتنا" منذ سنين، فإن كان الكويت غير قادر على منعها حتى لو أراد، فمن الذي يمنعها ويقف بوجه رغبتها بمساعدتنا إلى هذا الحد؟

إننا لن نعرف الجواب، ولن نتمكن أن نعرف من يستمر بخنقنا، لأن هذا الأخير نجح في منع الدعوة للتصويت على مثل هذا القرار. فوزير "خارجيتنا" الذي برهن خلال المعاهدة الإستراتيجية وسواها أنه ليس سوى موظف صغير في السفارة الأمريكية، لم يكتف بالإمتناع عن طلب مثل ذلك التصويت لنفهم منه اين نقف، بل وقف بصراحة بوجه محاولة عربية لدعوة المجلس لإخراج العراق من ذلك القرار، مثلما منع العميل أياد علاوي المجلس من تخفيف الشروط العسكرية على العراق عندما ذهب إليه مع كولن باول طالباً منه أن يترك أمر الشعب العراقي بين أميركا والحكومة العراقية (يعني هو)، أي بين أميركا وعملائها، فكان له ما طلب. وهكذا صمد هذا القرار الذي لم يعد سوى أداة دنيئة بيد الشركات الأمريكية والحكومة الأمريكية الخاضعة لها مع جيش عملائها لإبتزاز الشعب العراقي الذي قالوا أنهم جاءوا لتحريره وتسليمه قرارات بلاده من خلال الديمقراطية.

ويأتي تصريح السفير الأميريكي الأخير أعلاه، اعترافاً بالضغوط الأمريكية لإعادة إدخال البعث المتمثل بالقائمة العراقية إلى مركز القرار العراقي، ويأتي تلميحه إلى "مساعدة" العراق للخروج من الفصل السابع تهديداً يكاد يكون مباشرا باللغة الدبلوماسية بضرورة الإنصياع لرغباته في تسليم الأمور لعملائه، وتذكيراً للحكومة العراقية بأنها مازالت تحت رحمته...وستبقى!

لقد استمعنا كثيراً إلى الساسة الأميركان يعدون العراقيين بإخراجهم من الفصل السابع، فكل زيارة لكل مسؤول أمريكي للعراق أو عراقي لأميركا كانت الدنيا تمطر وعوداً بلا خجل من "مساعدة" العراق للخروج من ذلك الفصل، حتى أني أشعر أن أي عراقي يستمع مجدداً إلى تلك الوعود الأمريكية دون أن تراوده رغبة شديدة في البصاق على يكرر الخدعة بوجهه، إنسان يعاني من مشكلة في الإحساس!

إننا في الوقت الذي رفضنا فيه السياسة النفطية المتهورة لزيادة "الإنتاج النفطي" (إقرأ التبديد) بلا حدود التي يتبناها الشهرستاني، وفي الوقت الذي نشارك فيه بقية الجهات السياسية القلق من تزايد تركيز السلطة لدى رئيس الوزراء وما يعنيه ذلك من نتائج قد تكون خطيرة على مستقبل العراق، فإننا نجد أن الطرف الآخر يجر الأمور نحو الطرف الآخر تماماً ويسعى إلى سياسة تنتهي بتحطيم العراق وقدراته النفطية، لذا فإننا نقف في هذا الصراع بكل قوة مع الحكومة رغم ملاحظاتنا السابقة عليها، ونجد من واجب كل المخلصين أن يقفوا بوضوح، ضد هذه المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية بأدواتها الكردستانية و "العراقية" وغيرها، لإفشالها كما أفشل غيرها.

على الحكومة العراقية أن تهب إلى المبادرة، وأن يعلن رئيس الحكومة بصراحة وقوفه بقوة مع موقف الشهرستاني، ولا يتركه وحيداً في المواجهة، ليترك لنفسه حرية التراجع في اللحظة المناسبة له، والتضحية بالرجل إن وجد الحديدة ساخنة عليه. على الحكومة العراقية أن تتوحد في موقفها وبوضوح، وأن تشعر أكسون موبايل والشركات والحكومة الأمريكية بأنها تخاطر بوجودها في العراق إن هي أصرت على السيطرة على ثروته بعقود لصوصية كتلك التي تمكنت من فرضها في كردستان، وعلى سياسته من خلال فرض عملائها على السلطة بحجة الفصل السابع أو غيره.
لو استمعت الحكومة إلى نصيحة الأستاذ فؤاد الأمير لأستغلت الفرصة لإلغاء اتفاقاتها مع شركة موبايل فوراً، والعدول عن سياسة أقصى استخراج ممكن للنفط ، والتي تهدد بتبديد ثروة العراق بلا تخطيط ، وإلى تحطيم الأوبك. وإن لم تستطع الحكومة أن تمثل مصلحة الشعب العراقي في هذه القضية بهذه القوة، فعلى الأقل أن تصارح الشعب بما يحدث وأن تدعوه لدعمها بعد أن تحدد له من هم أعداءه ومن هم أصدقاءه وأن تحدد أهدافاً مقبولة وواضحة بشأن مستقبله السياسي وسياستها الإقتصادية والنفطية، وأن تفكر بطريقة لإبعاد سلطة الشركات عن الخارجية العراقية ودعوة مجلس الأمن للتصويت على الفصل السابع ليفهم العراقي من هم أصدقاءه ومن هم أعداءه، ومن هم الذين يسعون "لمساعدته" على الخروج من ذلك الفصل السابع!

(*) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=14836



33
كيف يراك الآخرون 4- السنة ومواقفهم السياسية

صائب خليل
23 آذار 2012

في هذه الحلقة الرابعة الأخيرة المخصصة حول صورة السنة سنناقش مواقف سياسيي السنة، والعداء ضد إيران وما يتشعب عن الموضوعين، وكنا في الحلقة السابقة المعنونة "كيف يراك الآخرون؟ (3) صورة السنة والفتاوي والإرهاب" (1) قد أشرنا إلى التأثير المشترك للفتاوي السيئة والإرهاب المنسق معها، على صورة السنة لدى غيرهم، وكان الجزء الثاني من السلسلة بعنوان " كيف يراك الآخرون (2): خرافات عن السنة"(2)،  والأول كان بعنوان "كيف يراك الآخرون؟ (1): حديث عام"(3) وسوف تكمل السلسلة بعد ذلك حول صورتي الشيعة والكرد لدى الآخرين.

مواقف سياسيو السنة من الشيعة ومن إيران شديدة الشبه بمواقف أميركا وإسرائيل منهم، وهذا ليس صعب الفهم حين ننظر من الذي دعم هؤلاء السياسيون، سواء من الدول العربية أو غيرها. لكن هناك أيضاً مواقف شعبية سنية غير سليمة من الشيعة لا علاقة لها بتلك الأجندة، وإنما بسبب التشويش الإعلامي الشديد الذي مورس ضدهم وأثار عندهم الخوف من الشيعة عموماً ومن إيران خصوصاً، أو ما أسماه ياسر الحراق الحسني  بـ "الشيعفوبيا" والتي يراها كـ "ظاهرة ملتصقة بالعالم الإسلامي السني. المصابون بالشيعفوبيا يروجون تصورات خاطئة لشيطنة الشيعة والتشيع من خلال نسبتهم إلى المجوسية تارة واعتبارهم أكبر خطر على الإطلاق تارة أخرى ونسبتهم إلى إيران وغير ذلك.... وقيام البعض بربط كل ما هو شيعي بإيران.  من  الأمثلة على ذالك نظرية الهلال الشيعي لملك الأردن عبد الله الثاني... (وأحاديث) حسني مبارك عن ولاء الشيعة لإيران.(4)
هؤلاء السياسيون المنتخبون أولاً من قبل الإحتلال، وتلك الفوبيا من الشيعة تسببت في مواقف غير سليمة نسبت إلى السنة، بعضها بغير حق، والآخر بحق، مما تسبب في تشوه شديد في صورتهم خاصة لدى الطائفة الأخرى وهذا ما سنناقشه هنا.

أتمنى أن يخصص القارئ وقتاً كافياً لهذه المقالة وأن لا تقرأ بعجالة كغيرها، وأن يعطي الوقت خاصة لمراجعة الروابط ومشاهدة أفلام الفيديو التي قدمت كأمثلة، فلم يكن ممكناً لكبر الموضوع سوى الإشارة إليها بسرعة آملين أن يذهب القارئ الى تلك الروابط من أجل التفاصيل الهامة، والإنطباع الدقيق عن حجم المشكلة، فالقضية هنا كلها تتمحور حول "الإنطباع" ولا يكفي سرد الحقائق من أجل ذلك. فمثلاً لا يمكنك أن تتخيل أثر خطاب عدنان الدليمي أو طه حامد الدليمي وما يسببانه من ألم في المقابل وتشويه لصورة السنة لديه، بمجرد ذكر فحوى ما يقولان أو حتى قراءة نصهما، فمشاهدة الفيديو وسماع الصوت واللهجة ونظرات العيون، توحي حتى أن البعض قد تدرب خصيصاً على التمثيل المسرحي لاستفزاز الشيعة وإثارة العداء ضد السنة لديهم وتشويه صورتهم كطائفيين مجانين وعدوانيين وحشيين، وأنا لا أستبعد ذلك أبداً.
نقطة أخرى، في مقالتي السابقة نبهت إلى أن ليس كل الإقتباسات السابقة وثيقة المصادر، ويمكن ان يكون فيها ما هو غير صحيح، ومع ذلك فهو يؤثر على صورة الطائفة لدى الآخرين إذا انتشر، ولذا فمن المفيد طرحه أيضاً، وبالفعل إعترض عدد من القراء على ما نقل عن إبن باز، وأنه افتراء عليه. ومن الطبيعي أن على الطائفة التي تريد أن تحافظ على صورتها أن تبحث عن الإفتراءات وتفندها وربما تحاسب من يقوم بها إن أمكن.

من يمثل السنة؟

لم تسبب مقاطعة للعملية السياسية في البداية من قبل السنة (أي الذين يجدون هويتهم في كونهم سنة) في عزل جزء هام وكبير من الشعب العراقي عن الحوار والجدال مع بقية الشعب, لكنها وضعت هذا الجزء بلا شكل أو قيادة شرعية او شبه شرعية. ففي الوقت الذي يعي فيه الشيعة انفسهم كطائفة مميزة، فأن الغالبية الساحقة من السنة ركزوا على هويات أخرى وانتموا، عندما أرادوا أو اضطروا، إلى أحزاب ذات اتجاهات غير دينية، مثل الشيوعي و البعث والقوميين الخ.
لذا فعندما يجري الحديث اليوم عن "قادة السنة" او "ممثلي السنة" يكون المقصود من دفع بهم كممثلين السنة، وهم لم يكونوا يمثلون سوى أحزاب صغيرة جداً، أو شيوخ عشائر، لمجرد كونهم من السنة، أو حتى دون أن ينتموا إلى السنة مثل أياد علاوي! لقد أفهم السنة أن هؤلاء ممثليهم مقابل ممثلي الشيعة، فذهبوا لإنتخابهم راجين أن يحققوا لهم بعض طموحاتهم وإزالة مخاوفهم. وقد وجد الإحتلال فرصة ذهبية في هؤلاء ليقدم من يمثلوه هو أكثر مما يمثلون السنة، لإشغال تلك المناصب، واستعمالهم للضغط على الحكومة وإفشال أية مشاريع يمكن أن تطمح إليها، كما تم استخدام الكثيرين منهم من أجل إثارة الحقد الطائفي بين الطرفين، وهو أحد أهم وسائل الإحتلال في خلق ديمقراطية مشلولة، تفي بالغرض الإعلامي له، دون أن تمثل خطر الديمقراطية عليه متمثلاً بطموحاتها للإستقلال وبناء بلاد متطورة لها كيانها المميز والرافض لكل إحتلال وتدخل وباحثة عن مصالح أبنائها وليس الشركات الأجنبية وتستهدف حرية الشعب وليس "حرية السوق".

من هنا كان الخطر على صورة السنة أكبر بكثير مما هو على صورة الشيعة. فمهما كان الفساد والإختراق في الأحزاب الدينية الشيعية، فإن لها قياداتها المعروفة، ولن تكون بالمطاوعة للإحتلال مثل تلك التي يتاح لها أن يرتبها بنفسه أو يختار بحريته من الموجود من هو اكثر استعداداً لتمرير أجنداته.

دعوني أبدأ بهذا المثال الصدمة، عدنان الدليمي، المتهم بتنظيم عمليات تهجير واسعة، إضافة إلى تهمة الضلوع في عمليات إرهابية(5) لم يتم إثبات علاقته بها قضائياً بعد، ويمكنه إنكارها، لكن كيف سينكر جريمة لسانه الكبرى المسجلة في هذه القطعة التي تثير الإشمئزاز، والتي نشرتها سابقاً في مقالات أخرى: عدنان الدليمي يلقي كلمته في اسطنبول. أرجو تحمل الإستماع إليه حتى النهاية، وبعيون شيعية وآذان وذاكرة رجاءاً: (6)
هل تشعرون أن هذا إنسان طبيعي؟
أليس واضحاً أن هذا الرجل تم تدريبه وتلقينه التمثيل ليلعب دور الهراوة الضاربة على رأس وحدة الشعب العراقي ليفلقها؟ أنا لم أحتج إلى عيون أو ذاكرة شيعية لأدير وجهي استهجاناً وتقززاً، فكيف بمن يوجه لهم هذا الكلام؟ ألا يكفي هذا، ومثال الآلوسي أن تطالب الحكومة بمنع السياسين من استعمال ألقابهم ليتحملوا وحدهم ما يمكن أن يجلبونه من عار على تلك الألقاب؟ هل يشعر أحد منكم أيها السنة، أن هذا "الشيء" يمثله؟ فكيف يقبل أحد أن يترك مثل هذا يصنع صورته لدى الآخرين؟ وأي تشويه يمكن أن يحدثه أهبل أو مأجور في صورة طائفة كاملة من الناس؟

لننظر إلى باقي السياسيين الذين يمثلون السنة. يمكننا أن نؤجل اتهام الحكومة للهاشمي حتى يتم التحقيق وتتكشف قضية ضابط الحماية الذي توفى أو قتل في السجن، لكن هاهم  اهالي الفلوجة يرفعون دعوئ قضائية ضد الهاشمي والعيساوي لدعمهما ضباطا في مديرية شرطة الأنبار متهمين بخطف وقتل في المحافظة (7)

ولا يحتاج أحد أن يخبرني بعلاقة الهاشمي المشبوهة بالإحتلال الذي يدعي أنه يقاتل ضده، فقد كتبت عن تلك العلاقة وكيف عاد من واشنطن ينادي بتمديد القوات، وهاهو هنا بكل صلافة يعبر عن خشيته "أن الوضع في العراق .... قد يؤدي بالمحصلة العامة إلى الإضرار بالمصالح الأمريكية في المنطقة، داعياً واشنطن إلى التنبه بجدية لهذا الأمر،(8)
   
فهل يشعر السنة أن موقف الهاشمي هذا، هو موقفه في هذا القضية المفصلية ، هو من مواقف السنة؟ هل انتخب الهاشمي ليكون عراباً لتمديد بقاء القوات ويضع نفسه حارساً للمصالح الأمريكية ومنبها لواشنطن لما قد يصيبها؟
ولا يختلف العديد من أعضاء القائمة العراقية عن مواقف الهاشمي من أميركا والتدخل الأجنبي. فعدا الفضائحي أياد علاوي الذي مازال العراق يقبع تحت الفصل السابع بفضل عمالته حين ذهب إلى مجلس الأمن برفقة كولن باول لمنع محاولة إخراجه، كما فعل زيباري حين احتج على بعض العرب الذين تقدموا بطلب من أجل ذلك.

هنا يطلب 64 نائباً من القائمة العراقية وعلى رأسهم حيدر الملا ( باسم لجنة حقوق الإنسان النيابية ) من مجلس الأمن، التحقيق بمجزرة معسكر أشرف (حسب تعبيرهم) ومنع المحاولات للتغطية على هذه الجريمة من قبل حكومة المالكي. ،(9)

ورغم أن هدفنا من المقالة هو التركيز على "صورة السنة" كما يراها الآخرون، لكن لا بد هنا من الإشارة لبعض الحقائق، التي تساعدنا أن نفهم لماذا يكون هذا الدعم مشوهاً للصورة السنية. فتلك "الجريمة" التي يتحدث عنها هؤلاء النواب هي محاولة الحكومة دخول مدينة أشرف، ومنعها بالقوة من قبل مجاهدي خلق، الذين لم ير العالم في كل تاريخه "لاجئين" بصلافتهم تجاه حكومة البلد الذي يستضيفهم. ويمكننا تفسير مصدر تلك "الصلافة" غير المعتادة ومعرفة من يقف وراء المنظمة ويمنحها تلك القوة، فمن المدهش أن يتم الكشف أن المنظمة تقوم برشوة الساسة الأمريكان. (10) فهل من غرابة أن ترشو بعض الساسة العراقيين وغيرهم إذن؟
لكن قوة المنظمة الحقيقية تأتي من أدوارها التي تخدم أميركا وإسرائيل مثل شبهة المساعدة في تزوير الإنتخابات العراقية لحساب أجندات الإحتلال ومن يريده لتسلم السلطة، كما كشف كاتب هذه السطور في اكثر من مقالة سابقة حول شركة "ناشطة".(11)  وأهم من ذلك دور مجاهدي خلق التنفيذي الأساسي بالنسبة لإسرائيل في عملياتها الإجرامية لاغتيال علماء الذرة من ابناء وطنهم، وليس النظام الذي يعملون ضده. (12)
 ويعرف العراقيون عدا ذلك، الدور الإجرامي الذي لعبته هذه المنظمة في الشمال والجنوب أيام الإنتفاضة الشعبانية، دفاعاً عن صدام حسين، وننتظر اليوم تفاصيل عن الأخبار حول ثلاث مقابر جماعية تم كشفها قبل أيام في مدينة أشرف. (13)
ورغم ذلك يتراصف "ممثلوا السنة" بالعشرات مع أمثال هؤلاء بل ويطالبون مجلس الأمن سيء الصيت، بالتدخل في بلادهم من أجلهم، ويصفهم ظافر العاني بأنهم "أصدقاء للشعب العراقي"(14)
إنهم يفعلون ذلك باسمكم أيها السنة، فهل هذا يمثلكم؟ هل الذين وقفوا مع صدام حسين بوجه الشعب العراقي في لحظة حاسمة، ويتدربون اليوم في إسرائيل لإغتيال علماء بلادهم، هؤلاء أصدقاء للشعب العراقي؟

استفزاز

ويبدو ممثلوا السنة وكأنهم يقفون دائماً في الجانب المضاد للحكومة "الشيعية" من أي موقف سياسي، لمجرد الإستفزاز. فهاهو محافظ الأنبار يقف ضد الحكومة السورية ويتهم الحكومة العراقية وجيش المهدي بدعمها، ثم يتراجع عن ادعائه بامتلاك الأدلة وأنه "يرى أن الحكومة العراقية لاهية في دعم أنظمة تضطهد شعوبها وتتهاوى أمام ضربات تلك الشعوب"(15) علما أن تلك "الشعوب" لم تحسم موقفها بين الحكومة والمعارضة ، لأن تلك المعارضة تطلب الديمقراطية بحق، من جهة، ومشبوهة بالعلاقات بأجندة الناتو وإسرائيل من جهة أخرى، مما أدى أن تتخلى عنها غالبية من الشعب السوري كما بينت العديد من الإستطلاعات التي سبق أن أشرنا أليها في مقالات سابقة.

ويقف ممثلوا السنة موقفاً لا يحترم ضحايا الشيعة في دفاعهم بشكل عام عن كل متهم أو مدان بجرائم تتعلق بالإنتفاضة الشعبانية مثل الإستماتة لمنع إعدام سلطان هاشم، بل وتصويره بطلاً أحياناً، علما أن الرجل لا يعرف إلا باختيار صدام له لتوقيع معاهدة خيمة صفوان المشينة.
ويتناغم ذلك بشكل مؤذٍ لصورة السنة عموماً مع إنكار بعض قادة السنة للمقابر الجماعية فيقول أحد "الخبراء" العرب بان "المقابر الجماعية هي لابناء السنة قتلتهم القوات الايرانية وعملائها الشيعة في الجنوب وتم وأدهم هناك " وقال ظافر العاني بانهم " جنود عراقيين  كانوا منسحبين من الكويت تم قتلهم ودفنهم في الجنوب"(16)
وتمت صياغة حتى الشكوك المشروعة بقصص الحكومة عن الإرهاب، بشكل طائفي استفزازي واضح لأهالي الضحايا وآلامهم في قضية جريمة عرس الدجيل مثلاً.(17) وجريمة النخيب، حيث اتهم عضو في مجلس الأنبار الجهات التي تطالب بضم ناحية النخيب الى محافظة كربلاء، بأنها  "هي التي تقف وراء هذا الحادث ودبرت له لتستغله ذريعة وتصعد الأجواء".(18)
وتستمر مغازلة هؤلاء لحزب البعث في استفزاز واضح لضحاياه ولكل الشعب العراقي، فيزار قبر صدام في تكريت،  (19) وتقوم الإذاعات بإيصال أصوات البعث إلى الناس بشكل إرهابي بمعنى الكلمة  (20)

وقد فشل السنة فشلاً ذريعاً في فصل انفسهم عن حزب البعث وصدام حسين، وتركوا للمغرضين أن يلصقوا جرائمهما بصورتهم لتشوهها أيما تشويه في نظر العراقيين، حتى من السنة انفسهم الذين يشمئزون من تلك الجرائم وهم غالبية كبيرة، فتشوهت بذلك صورة السني حتى بالنسبة لنفسه وكما يراها هو.
ومن أهم ما أسهم في ذلك الإلتصاق، موقف القائمة العراقية التي انتخبها نسبة كبيرة من الناخبين السنة، من إجتثاث البعث أو "المساءلة والعدالة"، واهتمام قائد القائمة بشكل رئيسي ومفضوح بإعادة بقايا الأمن الصداميين إلى المراكز الأمنية، وأحتضان أكبر نسبة من السياسيين البعثيين الذين لا يخفون تعاطفهم مع البعث في القائمة نفسها.

كتبت "مها عبد الكريم" توضح جزءاً من الصورة المشوهة: "المجتمع العراقي في ذلك الوقت غير المجتمع العراقي بعد 2003، الحصار الذي ضاعف صدام اثاره على الشعب مئات المرات دمر الروابط الاجتماعية بين الناس بشكل رهيب، وارجع العراق والناس لسيطرة العشائر بما فيها من تعصب وتخلف ، وجعل ضباط الجيش الوحيدين الذين يتمتعون برواتب ضخمة وسمح لهم بكسب المزيد من الاموال عن طريق الرشوة العلنية واخذ الاموال من الجنود، واصدر قرارات لخدمة الاحتياط سمحت لهم بابتزاز الفقراء اكثر واكثر في تلك السنوات الصعبة،وطبعا الضباط الذين كانوا مستفيدين من هذه القرارات كانوا يحملون القاب مثل التكريتي والعاني و  و  الخ . لكن هذا لا ينفي ان هناك ضباط من الشيعة كانوا يقومون بنفس الفعل لكن الفرق ان الفئة الاولى كانت تتعمد اظهار هذه الالقاب والتباهي والاستقواء بها لذلك هي رسخت اكثر في اذهان الناس وصارت مرادفة للرشوة والتسلط والظلم !"
كذلك وقف العديد من سياسيوا السنة، ضد ثورة البحرين، وتضاف إلى تلك الصورة حديث عن تواجد فدائيي صدام ضد الثورة (21) فيبدو وكأن السنة يقفون إلى جانب فدائيي صدام حسين لقمع الشيعة هناك. ويسارع الكثير من السنة إلى تصديق الشائعات التشهيرية الوسخة المسيئة للأخلاق عن علاقات جنسية بين المتظاهرين، وينشرون صوراً لملابس داخلية ألقيت في الشارع كـ "دليل" على ذلك، كما ينشرون صوراً تبين أن شيعة البحرين يكرهون العرب ويحبون إيران، وقد ثبت أن تلك الصور مزيفة، وأسهم كاتب هذه السطور في فضح بعضها، وكشف البرامج التي استخدمت لتزوير حروف شعاراتها بالحاسبة(22)،
 كما كتبت " نظرة على التأثيرات الطائفية الخطيرة لقمع تظاهرات البحرين" (23) فما هو الموقف "السني" المناسب من ذلك، ليعطي صورة إنسانية حقيقية؟ أولاً من الطبيعي عدم تصديق تلك التزويرات والتشهيرات القبيحة، وثانياً أستهجان من يقف وراءها ووراء محاولة خداعنا، وبالنسبة لي فإني أضيف ثالثاً: إعطاء مصداقية لضحاياها لأن خصومهم برهنوا أولاً أنهم كذابين، وبينوا أن ثورا البحرين شرفاء لم يجدوا عليهم ما يسيئهم، فاضطروا إلى التزوير لتشويه سمعتهم! فهل كانت الصورة السنية حول هذا الموضوع قريبة من هذا الشكل؟

عندما أشير إلى أن هذه مواقف السياسيين، فإني لا اقصد أن ليس هناك أي جمهور سني لا يقف مثلها، فالجمهور يتأثر كثيراً بالإعلام، لكنه بشكل عام يتخذ مبدئياً الموقف الإنساني قبل ذلك، والدليل هو الفرق الكبير بين نسبة السياسيون من السنة الذين يتبنون تلك المواقف ونسبة الجمهور السني الذي يتبناها.

ويستنتج من العديد من مواقف السياسيين السنة أنها صممت من قبل جهة ما ، ليس من أجل هدف سياسي محدد , وإنما لإستفزاز الشيعة وانزال المزيد من الأذى بالوحدة الوطنية المترنحة.
ورغم معارضتي لها، لكن يمكن أن نفهم مطالبة البعض بالفدرالية من أجل زيادة صلاحيات مناطقهم ودرءاً للظلم الواقع عليها، وأن يتجاوب بعض أبناء السنة مع مثل هذا المطلب ويرفضه غيرهم (الأغلبية الكبرى)، لكن من الصعب أن نفهم موقف النائب "شعلان الكريم" عن صلاح الدين، حين رد عن سؤال قائلاً: "حتى لو استجاب المالكي الى كل مطالبنا وحتى لو اضاف لها اكثر وحقق لنا كل شئ سنعمل على انشاء الاقليم في صلاح الدين وحتى لو منحنا كل شئ فان خيارنا هو اقامة الاقليم ولن نقبل اي عرض يقدم حتى لو منحنا العالم كله" (24)
فهي إذن أجندة أخرى غير "توسيع صلاحيات" المحافظة، ومصلحة السنة، كشفها هذا النائب بغباء، والله يعلم من وراء تلك الأجندات. وتقارن مها عبد الكريم بين ردود الفعل على مشاريع الفدرالية والتقسيم والأقاليم في السنوات السابقة والوقت الحاضر، وتلاحظ أن تلك المشاريع من مشروع فدرالية الجنوب للمرحوم عبد العزيز الحكيم ومشروع بايدن جوبها برفض قوي، بينما نسمع اليوم ترحيباً عربياً بتهديدات الكرد بالإنفصال، كما أن التهديد بتكوين اقاليم الأنبار وصلاح الدين لم يعد مرفوضاً بشدة من قبل الشيعة، وهو ما يؤشر تدهور خطير في أسس الوحدة الوطنية خلال هذه الفترة.

ليس ذلك غريباً. أنظروا إلى الفشل في تمثيل الغضب المبالغ به في عيني (الشيخ د.طه حامد الدليمي) ولفتاته الذي يبدو كممثل الح المخرج عليه أن ينفعل أقصى ما يستطيع وهو يحاول أختيار ابشع العبارات الطائفية التي يمكن تمريرها، وهو يحرض السنة على الإقتداء بكردستان والثورة على الحكومة: (25) وهو يذكرني تماماً بحالة برزان بعد أن اخذه الأمريكان لمدة اسبوعين "للعلاج من السرطان" (!) وكان قبلها يتباكى في رسائل التوسل، فعاد يتكلم وكأنه يعض!

تابعوا ايضاً داعية المقاومة الدكتور أحمد الدباش، ويقول أن سلاحه "لن يرفع إلا بوجه المحتل وأعوان المحتل وأذناب المحتل"، والذي يرفض حتى الدستور لأن الإحتلال كتبه(26) والسؤال هنا: لماذا يتم تهريبه من قبل قوات المحتل بعد إعتقاله في عام 2006 إن كان بهذه الشراسة ضد الإحتلال؟ وعلى ماذا "جلسوا معه" كما قال؟ ولماذا تستضيفه السعودية والأردن وهما تأتمران بالأمر الأمريكي المحتل بلا مناقشة؟ (27). أتمنى أن يسأل كل من السنة أولاً والشيعة ثانية، انفسهم مثل هذه الأسئلة لتتوضح الصورة، ولنبحث أين في واقع الأمر هي "نظرية المؤامرة"..

إيران

الخوف من إيران، يمثل نقطة مركزية في الصورة السنية، وقد بلغ هذا الخوف درجة بعيدة عن كل المؤشرات الواقعية لحجم هذا الخوف. ولم يعد السني يطلب أي دليل على خبر يشير إلى تدخل إيراني أو أتهام إيران بالإرهاب. وهذا الأمر الواضح لدى جمهور السنة، يكاد يكون قاطعاً لدى السياسيون السنة. ربما كان النشاز الوحيد الواضح هو وزير الكهرباء السابق الذي تم التخلص منه بطريقة غير مفهومة حتى الآن، والذي طالب بعلاقة قوية وسليمة مع إيران وقال أن العراق بحاجة إليها وأن بنك جي بي موركان الأمريكي يقف حجر عثرة في طريق تلك العلاقة. وكان موقفه الذي لم يصل إليه أي من السياسيين الشيعة "نشازاً" في الطيف السياسي السني الذي يكاد يعتبر إدانة إيران بأي شيء ولأي سبب، أمر يفتخر به.

هل الشيخ علي الحاتم هذا يمثل السنة في دعوته المنفلتة لمقاتلة إيران؟ (28) هل حديثه بريء عن "خامنئي العفن"؟ لماذا خامنئي عفن في نظره؟ هل فعل الرجل شخصياً ما هو معيب، ام أن استهدافه مقصود لقيمته الرمزية لدى الشيعة؟ وبعنصرية بشعة يتحدث عن الإيرانيين "النفك"؟ ويصف حكومتهم بـ و "حكومة ملالي عفنة"، ففي أي شيء يختلف عن صدام، سوى بركاكة خطابه؟  ثم يهدد بالضرب بالسلاح، وأنه "بعد أن ينتهي من سوريا"..الخ، وكأنه سفير لحلف الناتو أو إسرائيل... وكلماته والفاظه وجمله تشكك بأنه يعرف القراءة والكتابة، دع عنك أدب الحديث، ليصل، وبتشجيع من أسئلة الصحفية، إلى التهديد بالإنتقام من هؤلاء الأعوان بمجرد خروج الجيش الأمريكي!! إنه يعطي صورة عن السنة للشيعة تقول: "السنة سوف يهجمون عليكم بمجرد خروج الجيش الأمريكي"! (لذا عليكم أن تمددوا بقاء الأمريكان!). هل هذا يمثل السنة في نظر السنة؟

هذا النائب أحمد العلواني عن القائمة العراقية يتهم إيران ويصف نظامهم بالفاشستي (؟) بالضلوع في الهجوم على مقر فوج شرطة طوارئ مدينة "حديثة". وطبعاً هو لا يحتاج أي دليل أو حتى مؤشر يخبرنا به، أما "دافع الجريمة" في تصوره فهو "ألحيلولة دون اعلان اقليم الأنبار ومنع العشائر من استقبال اللاجئين السوريين"!!  (29)

أرجو أن يكون القارئ قد قرأ المقالة بعين شيعي، ليدرك حجم الكارثة التي نحن بصددها، ويستطيع أن يفهم موقف الآخرين السلبي منه. من يفعل ذلك لا يعود متعجباً للوضع الذي آلت إليه الأمور في هذا البلد، بل يتعجب كيف أنها بقيت حتى الآن بلداً واحداً!
يتساءل كاظم سهر جابر متألماً، لماذا يرى البعض من السنة أن إيران أشد خطراً من إسرائيل التي يعرب قادتها عن سعادتهم بمقتل الأطفال الفلسطينيين في باص مدرسة، لأن إيران شيعية. متناسين "مافي تاريخ الشيعة من ايدي بيضاء ممدودة كأواصر محبة ابدية، فهم "من اعلن الجهاد ضد بريطانيا في الحرب العالمية الاولى دفاعا عن الدولة العثمانية لانها تمثل بالنسبة لهم دولة الاسلام" وفتحوا سفارة لفلسطين في "زمن يتسابق فيه غيرهم على فتح سفارات لإسرائيل" وأول من حرر أرض عربية اغتصبتها إسرائيل وأول "من أهدى العرب النصر العسكري الاول في تاريخهم (الحديث)"
ليعود ويقول "وأنصافا للحقيقة فان من يدعي بذلك ليس سنيا وان لبس لبوسهم. وليس شيعيا وان اقام شعاءرهم ." (30)

وتتساءل "مها عبد الكريم" بحق: لماذا يقبل العراقي على نفسه - اذا كان لايرضى بالاحتلال- ان يأتي العربي ويقاتل المحتل بالنيابة عنه؟ كان هناك الكثير من الاتهامات بوجود تدخل ايراني وفيلق القدس وغيره في العراق فلماذا لم يتم اطلاق لقب " المجاهدين " عليهم ايضا؟؟
الخوف غير الطبيعي لدى السنة عموماً من إيران، في تقديري، ليس إلا نتيجة إعلام أمريكي إسرائيلي خفي منظم ومنسق لتحطيم صورة الواقع، وإحلال الشيطنة محلها. لقد جمعت خلال متابعاتي مئات الأدلة على تلك الشيطنة الإعلامية الموجهة بتركيز وكثافة ضد إيران من قبل الإعلام العراقي المؤسس بأموال أمريكية بعد الإحتلال، والعربي السابق له. وإنني أعد القراء بمقالة مخصصة لكشف ذلك التشويه للحقائق وحجمه المهول، لكي يعرف السنة بشكل خاص، ما مدى صحة صورة إيران لديهم، وهل بنيت على الحقائق أم الأكاذيب الإعلامية.
فصورة السنة مشوهة كثيراً من خلال موقفهم من إيران، والذي لا يجد أخوتهم من الشيعة العراقيون تفسيراً له سوى الحقد الطائفي لأن إيران شيعية، فهم لا يرون هذا الخطر الداهم الذي يصوره الوهم للسنة.

وللخوف البالغ من الوهم أخطار أخرى غير تشويه الصورة لدى المقابل. إنه يجعل المواقف السياسية مقلوبة أيضاً. إنني حين أراجع مواقف السنة من القضايا الدولية ، أصاب بالرعب لأني أجدها تكاد تنطبق مع مواقف إسرائيل! فعندما تؤمن أن إيران خطر كبير عليك، مثلما تؤمن إسرائيل، فلا مفر من أن يدفعك ما تراه "مصلحة مشتركة" إلى تقترب من إسرائيل بوعي أو بدون وعي.
وإلا فبماذا نفسر الموقف السلبي لنسبة من السنة من "حزب الله" اللبناني وقائده  السيد حسن نصر الله؟ بدلاً من الإفتخار بهما كما تفعل كل الأمم مع محرريها وأبطالها التاريخيين، الذين "منحوها نصرها الأول" في العصر الحديث كما ينبه كاظم سهر بحق؟ هل من أمة لديها مثل حسن نصر الله وتتردد في رفعه بطلاً ورمزاً تاريخياً يشحذ الهمم ويقوي العزائم؟ بأي شيء سوف يمكن تقوية العزائم إذن؟ لماذا نحتقر الأنظمة العميلة المهزومة، دون أن نحترم من يقف بصلابة ويحقق النصر؟ لماذا نتبادل رسائل السخرية من هزيمة الأمة بكثافة وسرور، ولا يرسل أحداً تذكرة بانتصارات أبطالها؟ ألسنا نشوه صورة الأمة هنا بتبهيت جانبها الإيجابي وإضاءة ما هو سلبي ومهزوم فيها، ربما بلا وعي، وإلى أين سيؤدي ذلك؟

أرجو أن لا يفهم السنة أن هذه المقالة كتبت للإنتقاص منهم، ولتذكير الناس بأخطائهم وخطاياهم، بل كتبت لخدمتهم بالدرجة الأولى ولتنبيههم إلى ما يراه الآخرين من أبناء هاذا الوطن منهم. وحتى لو كان ليس كل ما فيها دقيق وذو مصداقية كاملة، فأنه يؤثر بنفس الطريقة على تلك الصورة، ومن واجب السنة إزالة ما ليس صحيحا عن صورتهم لدى الآخرين، كما هو من واجبهم تصحيح ما يشوهها من مواقف غير سليمة من قبل قادتهم أو قناعاتهم. إنها محاولة لوضع مرآة يرى فيها الإنسان صورته كما يراها الآخرون بلا تزويق ولا مجاملة ولا دبلوماسية. وأني أذكّر أن هناك مقالات أخرى للآخرين، ولخدمتهم أيضاً، وليس للإنتقاص منهم، للمساعدة على أن يروا أنفسهم بأعين الآخرين، ويفهموا ردود أفعال الآخرين على مواقفهم.

لا يجب أن يأخذ السنة هذه المقالة كهجوم عليهم، بل هي كتبت من أجلهم قبل كل شيء، فقد وصل حال صورتهم ما لا يرتضوه لأنفسهم، وبسبب مخاوفهم الطائفية والرعب من إيران، لم يعد من السهل تمييز مواقفهم في السياسة الخارجية عن مواقف إسرائيل، وصارت المقالات التي تردني من معارفي السنة تكثر من مصادر وكتاب أعتبرتهم إسرائيل يمثلون موقفها في العالم العربي أكثر وأكثر! أنظروا هذا "المفكرالإسلامي" السعودي عايض القرني يفتي بأن قتل بشار أوجب من قتال الإسرائيليين (!) محتجاً بفتوى بأن قتال "الفاطميين" أوجب من قتال النصارى(31)
ولو أنه طلب من الموساد أن يكتبوا له خطابه لما كتبوه بشكل مختلف. ولكي أؤكد لكم ان هذا التقارب ليس مزحةً، أترككم مع هذا الفيديو الذي يفترض أن يتسبب بالرعب لكل سني ، بل كل مسلم وكل عربي، عما أوصلت مواقف السنة السياسية صورة السني إليه، حتى لدى الإسرائيليين صاروا يرون في السنة "أصدقاء" محتملين لهم، لأن "مصالحهم مشتركة"(!!) فانظروا أين وصل الأمر أيها السنة، وأفعلوا شيئاً قبل فوات الأوان. (32) (http://www.youtube.com/watch?v=4WT1SzOaZh8)

(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=61926
(2) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&;view=article&id=61755
(3) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&;view=article&id=61468
(4) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20728
(5) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=12332#comment80152
(6) http://www.youtube.com/watch?v=pp8UkRB5GOI
(7) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=12172
(8) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=12527
(9) http://www.bahzani.net/services/forum/showthread.php?16808-%CD%ED%CF%D1-%C7%E1%E3%E1%C7-%E664-%E4%C7%C6%C8%C7-%E3%E4-%C7%E1%DA%D1%C7%DE%ED%C9-%ED%D1%DD%DA%E6%E4-%D4%DF%E6%EC-%D6%CF-%C7%E1%E3%C7%E1%DF%ED-%DD%ED-%C7%E1%C7%E3%E3-%C7%E1%E3%CA%CD%CF%C9-!
(10) http://openchannel.msnbc.msn.com/_news/2012/03/16/10710422-ex-us-officials-investigated-over-speeches-to-iranian-dissident-group-on-terror-list
(11) http://www.yanabeealiraq.com/articles_0410/articles_10/s_kalil020410.htm
(12) http://rockcenter.msnbc.msn.com/_news/2012/02/08/10354553-israel-teams-with-terror-group-to-kill-irans-nuclear-scientists-us-officials-tell-nbc-news
(13)  http://www.albawwaba.net/news/79150
(14)  http://www.janubnews.com/razuna3/modules/news/article.php?storyid=2296
(15) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9550
(16) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13765
(17) http://www.burathanews.com/news_article_129399.html
(18)  http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7479
(19) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9988
(20) اhttp://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=8959
(21) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=8230
(22) http://baretly.net/index.php?topic=1685.0
(23) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=46268
(24) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=12300
(25) http://www.youtube.com/watch?v=oqr6r9zHIoc&feature=youtube_gdata_player
(26) http://www.youtube.com/watch?v=64bNMNAoljY
(27) http://www.almonasron.com/vb/showthread.php?t=3150
(28) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9047
(29) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13881
(30) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13202
(31) http://www.youtube.com/watch?v=D-NzDtfHUsE
(32) http://www.youtube.com/watch?v=4WT1SzOaZh8

34
كيف يراك الآخرون؟ 3- صورة السنة والفتاوي والإرهاب

صائب خليل
20 آذار 2012

مقدمة
يقول " لنكولن" أن " الدبلوماسية" هي "المقدرة على وصف الآخرين كما يرون أنفسهم"، وهو ما يعني بشكل ما، خداعهم!
دعونا نغادر راحة "الدبلوماسية" إلى أشواك المكاشفة، ودعونا ننظر إلى صورتنا، لا كما نراها نحن، بل كما يراها الآخرون، وهل هي بالشكل الذي نستطيع أن نقبله على أنفسنا؟ هذه الحلقة مخصصة للسنة وكذلك الحلقة القادمة ثم تليها حلقة أو أكثر بالنسبة للشيعة وأخرى بالنسبة للكرد.
أرجو من القارئ السني أن يقرأ ما يرد في نصوص هذه المقالة من فتاوي وحقائق من وجهة نظر شخص شيعي (أو مسيحي)، أن يغمض عينيه قليلاً ويتخيل نفسه شيعياً لكي يستطيع أن يأخذ أوضح فكرة ممكنة عن صورته كسني كما يراها الشيعة، ثم ليقرر بنفسه ما إذا كانت ترضيه، وهل من غرابة أن يرفضه الشيعة الذين يرونه بتلك الصورة، ثم ليقرر أين الخطأ وما العمل. كما أرجو أن يترك القارئ الدفاع عن نفسه أو مذهبه على أساس أن الآخرون هم ايضاً هكذا، فحتى إن افترضنا جدلاً أن للآخرين صورة قبيحة، فهذا لا يعني أن تترك صورتك قبيحة لدى الآخرين.

الفتاوي
باعتبار أن السنة مذهب ديني، فلا غرابة أن يتعرف المرء على صورته من خلال الفتاوي التي يصدرها أئمته. ولو فعلنا ذلك لرئينا حالاً مريعاً وصورة بشعة للسنة، لا علاقة لها بهم كأشخاص منطقيين عقلانيين. ولن ندخل في كل الفتاوي المرعبة الموجودة على النت، بل سنأخذ بضعة نماذج حديثة، لننظر إن كان السني يقبل أن تتشكل صورته من خلالها:

مثال من الفتاوي الخاصة بالحياة الإجتماعية:
افتى الشيخ آبن باز رحمه الله في كتاب بكريات الامه في دحر الغمه باب العطف العائلي الجزء الاول م 1 الصفحة 77
"يحق للمسلم  أن يلاعب أمه إذا كانت أرمله ويداعبها بطريقة جنسيه بدون أن يطئها لكي لاتحتاج الي الزواج وتهجر صغارها , فللولد الكبير فقط حق لمسها ومغازلتها وأملاء فراغها العاطفي ...(1)

الفتاوي الخاصة بالآخرين:
المفتي الاكبر في السعودية عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ يفتي بهدم الكنائس ...(2)

فتاوي إرهابية ضد "الفرس والروافض".
دعى شيخ السلفية الجهادية في تونس المدعو أبو عياض التونسي إلى الجهاد معتبرا الجهاد الفعلي في العراق بدأ "الآن" وبعد الإنسحاب الأمريكي "لان الأمريكان تركوا الفرس و الروافض يحكمون العراق"....(3)

وإليكم هذه المقتطفات دراسة السيد محمد طالب الأديب حول الموضوع، تعكس كيف يرى الآخر هذه الصورة:
فتاوى التكفير تتوالى من رئيس هيئة علماء المسلمين في العراق حارث الضاري ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي والعشرات من العلماء السعوديين كعبد الرحمن البراك (أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً) الذي قال في بيان ومعه 38 من علماء السعودية: “الشيعة كفار”. وبحسب رويترز قال البراك: “الرافضة (الشيعة) في جملتهم هم شر طوائف الأمة واجتمع فيهم من موجبات الكفر تكفير الصحابة، وتعطيل الصفات، والشرك في العبادة بدعاء الأموات، والاستغاثة بهم”. (ووقع هذا البيان عدد من أساتذة الجامعات) علماً بأن هذا النوع من التكفير يتعدى التكفير الديني أو الفكري الى الدعوة “استحباب” الى قتل هؤلاء الشيعة ونهب أموالهم وسبي نساءهم.

ويرى الكاتب أن الكثير من التفجيرات في بغداد كانت نتيجة هذه الفتاوي. ثم يستمر:
"وفي مقال كتبه المستشار الأمني للحكومة السعودية نواف العبيد بصحيفة الواشنطن بوست، أكد “الدور السعودي في دعم التنظيمات الإرهابية لبعض السنة في العراق”، ودعوته الى “تشكيل تنظيمات أخرى، وبناء جيش عراقي خاص لكي يستولي على الحكم في العراق”. ... في (تموز/2011) كشفت (قناة الحرة) عن آخر أعمال “مجاهد السيدية” حيث قام باختطاف شاب شيعي ثم قتله وحرقه، وهو ما يذكرنا بحادثة الأعظمية في منتصف 2010 قتل إرهابيون جنوداً موجودين في إحدى السيطرات لكنهم قاموا بعد ذلك بحرق جثث الجنود الشيعة منهم فقط،

ويرى الكاتب أنه في الوقت الذي يعتبر “الإرهاب الشيعي” اندفاعات مارقة ليس لها أي أساس فقهي، فإنه يقتطف : “أساس مشكلة التطرف هو أن مصادر تشريعه وأساسيات فقهه موجودة أصلاً في كتابات وآراء ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب". وينبه إلى أن هذه الكتابات والآراء منشورة ومتوفرة في كل الدول الإسلامية تُدّرس وتُحفظ على أنها المنهج السلفي الذي كان عليه النبي (ص) وصحابته والسلف الصالح في جامعات بعض الدول ومدارسها ومساجدها ومراكز الدعوة والإرشاد، ويتم تلقينها  للأطفال.

واقرأ هذا الخبر، بعين شيعية أيضاً:
شن 190 من رجال الدين السنة .. هجوما على المسلمين الشيعة على خلفية الجدل الدائر بين الشيخ يوسف القرضاوي وعدد من رجال الدين الشيعة. وأشار البيان الذي نشرته مواقع سنية امس إلى أن الخلاف السني مع الشيعة الإمامية الإثني عشرية هو خلاف في أصول الدين فضلا عن فروعه. ودعا الموقعون علماء الأمة إلى القيام بدورهم نحو 'إدراك مخاطر المد الشيعي الذي ترصد له المليارات طمعاً في تشييع أهل السنة'.
وقال العلماء في بيانهم ان 'تصريحات القرضاوي، جاءت انطلاقاً من مسؤوليته الشرعية في تنبيه الأمة إلى ما يحدث من
وكان القرضاوي قد كرر في تصريحات وبيانات عديدة خلال الاسابيع الماضية اتهاماته للشيعة بمحاولة ما دعاه بالتبشير في البلاد الاسلامية . ...(4)

وهذا الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الجديد يؤكد من القاهرة: أن الأزهر سيتصدى لأي محاولة لنشر المذهب الشيعي في أي بلد إسلامي أو لنشر خلايا شيعية في أوساط الشباب السني، تماماً مثلما تتصدى "إيران" لأي محاولة لنشر المذهب السني لديها. ...(5)
ونلاحظ أن الأزهر "الشريف" مشغول بمحاربة الشيعة أكثر بكثير من محاربة الصهيونية ألتي ينعم معها بعلاقات أكثر من "ودية"! ويبدو هذا "الشريف" وكأن مهمته وقاية السنة من الإندثار تحت "خطر" التشيع. وهنا أذكر أحد اللبنانيين الذين طرح الموضوع عليهم في مقابلة تلفزيونية فاجاب مستسخفاً الفكرة وقال أنه يعاشر الكثير من الشيعة ولم يدعه أحد يوماً ليصبح شيعياً، وانه بدل من الجهود المضنية وصرف الأموال والزمن والدخول في مشاكل لتشييع 10 أو عشرين سنياً، يمكنهم أن ينجبوا هذا العدد من الأولاد زيادة عما ينجبون وتنتهي المشكلة!

ليتخيل القارئ السني نفسه شيعياً، وهو يقرأ ما يكتبه "الشيخ عبدالله الحمد التميمي" من لبنان على الفيسبوك، معترفاً بأنه امر بإحراق مكاتب "حزب الشيطان" في باب الرمل عام 2008، ويقول: "السني البنغالي أخي والشيعي اللبناني عدوي فاتقوا الله والله سيقتلكم الشيعة بسلاحكم الذي اشتريتموه للجيش الحاقد اللبناني وبأولادكم الذين تبيعونهم لهم مقابل مليون ليرة شهريا".....(6)
وهذا أحمد الدباش .. تم إعتقاله في عام 2006 لإرتكابه مذابح بشعة أيام الإقتتال الطائفي في العراق , ثم تم تهريبه لاحقا على يد القوات الامريكية وترحيله الى الاردن. و قامت قناة العربية السعودية بإستضافة الدباش...(7)
 استمعوا إليه في مقابلة تلفزيونية ...(8)
وهذه برامج وشخصيات مشبوهة الأجندة والتبعية يختارون عباراتهم من أجل أقصى استفزاز ممكن للشيعة.(9)
ومحتالون لا يجيدون حتى التمثيل لإستثارة السذج من السنة.(10) وغيرها كثير.

والآن... ما هي صورة السني لدى الشيعي الذي يقرأ كل هذا ويتابع بقلق دعوات تصفيته هو وعائلته ومذهبه، لأي سبب كان؟ هل يمكن أن ينتظر من هذا الشيعي أن يتفهم الوضع، وأن يبقى مؤمناً أن السني أخيه في الدين والوطن، بريء من كل ذلك، لمجرد بعض المواعظ الأخلاقية والدينية؟ هل من الغريب بعد هذا أن يكتب أحدهم: "الإرهاب سني" وأن يتعاطف معه الكثيرين من الشيعة؟ هل من الغريب أن أكتب عن علاقة أميركا بالإرهاب فيدير البعض رؤوسهم بعيداُ؟
حتى الذين يعتقدون بقيادة أميركا للإرهاب، يقولون، لكن العتب على إبن وطني وديني الذي ينفذ لهم هذا الإرهاب. والعتب على من يفتي بقتل الشيعة والعتب على من يصمت عن ذلك.

والعتب أيضاً على الطائفة التي لا تقف بوجه هذا السيل من تشويه السمعة الذي تتعرض له وتتركه يحطم صورتها وتبقى سلبية لا تكاد تحرك ساكناً.
ربما يكون القول "لا تحرك ساكناً" قول ظالم، فالبعض طالما أعلن شجبه لتلك الفتاوي وأعمال الإرهاب، فاعتبر رئيس هيئة إفتاء أهل السنة والجماعة مهدي الصميدعي أن أي شخص يحمل السلاح بعد الانسحاب الأميركي يسعى لقتل العراقيين، رافضا أي تجاوز على الشعب العراقي(11)

وإثر التفجيرات الإرهابية التي اجتاحت العراق اليوم (20 آذار 2012) اصدرت  جماعة علماء العراق التي يترأسها الشيخ د.خالد عبد الوهاب الملا بيانا تستنكر الجريمة وأشارت فيه إلى أن "يد الإرهاب الآثمة ... استهدفت العراقيين في أماكن مختلفة ومكونات متنوعة ولم تستثنِ هذه الضربات حتى الكنائس في مناطق المنصور وغيرها كما وجهت ضرباتها الى اماكن الرمادي وصلاح الدين وسامراء ومناطق  الجنوب مثل  كربلاء والحلة ....فتفجيرات اليوم لم تستهدف لونا واحدا معينا وإنما استهدفت الجميع وطالت اغلبية مكونات الشعب ما يشير الى أن مخطط الإرهاب في العراق يستهدف الإنسانية والاعمار والتنمية وهو بعيد كل البعد عن اشكال المقاومة التي ما يزال بعضهم يتبجح بها بدعوى تحرير العراق و الدفاع عن مصالح هذه الطائفة او تلك لذا من واجبنا وانطلاقا من حسنا الوطني نشدد على ان الشعب هو المنتصر وعراق الديمقراطية هو القادر على جمع صف العراقيين . (12)

وحسب السيد محمد طالب الأديب، وجه الناشط والمستشار القانوني أمين طاهر البديوي خطاباً الى ملك السعودية عبدالله بن عبدالعزيز مطالباً إياه بإحالة (52) من العلماء السعوديين إلى هيئة الادعاء والتحقيق، وتوجيه أكثر من (13) تهمة منها تهماً إرهابية وتحريضية، وإشعال الفتنة بين مذاهب المسلمين، وتشويه سمعة الإسلام
والمؤسف أن القرضاوي الذي أباح دماء العراقيين المدنيين بفتوى نشرت على موقعه، لم يتلق إدانة واحدة من النخب “السنية المصرحة” بينما قام صحافيون مصريون بمهاجمته وأرغموه على رفع الفتوى من موقعه الإلكتروني، في حين تساءل ‎‎مساعد رئيس ‎تحرير مجلة ‎(أخبار العرب) الناطقة باللغة الإنكليزية سابقاً الإعلامي جمال الخاشقجي في مقال له قائلاً: “لو كان ‎آية ‎الله السيستاني ‎يحذو حذو المتشددين ‎من السلفية‎‎ ويفتي‎ بقتل‎ السنة فما كان‎‎‎ يحدث؟! أليس‎ بإمكان شخص‎ من الشيعة‎‎‎ تفجير سيارة مفخخة أمام‎ مسجد للسنة‎‎ في‎ يوم‎ الجمعة ويقتل‎ بعض‎ الأشخاص؟ هل‎ بإمكاننا أن ‎نتصور نجاحاً لهذه المجازر التي ‎‎تطال ‎العراقيين‎ على أيدي ‎هؤلاء المتشددين؟!”. وأضاف ‎الخاشقجي أن‎ “الشخص‎ الوحيد الذي ‎بعث الهدوء في‎ صفوف‎ الشيعة ‎‎هو سماحة آية ‎‎الله السيد السيستاني, ولذلك‎ ألا يجدر بان‎ يتوجه شيخ ‎الأزهر ومفتي‎ لديار العربية السعودية ‎والشيخ‎ القرضاوي والآخرين إلى ‎النجف‎‎ الاشرف لتقبيل‎ أيدي ‎سماحته؟”.

لكن هؤلاء مشغولون بأمور أخرى على ما يبدو غير تقديم الشكر لمن كان له الفضل في حقن دماء أبناء "طائفتهم"!

ومعلوم أن "علماء العراق" من أكثر الجهات السنية أداءاً لواجبها في هذا المجال. وكانت قد أصدرت بياناً إثر فتاوي أبو عياض أعلاه، دعت فيها الحكومة العراقية الى إقامة دعوى قضائية على المحرض الإرهابي شيخ السلفية أبو عياض التونسي. وقالت الجماعة في البيان: "ان الارهابي العياض التونسي ينوي شن هجمات طائفية ضد العراقيين وذلك من خلال أسئلة وُجهت له من بعض أتباعه".
وناشد علماء المسلمين في داخل وخارج العراق كي يرفعوا أصواتهم لفضح هؤلاء وبيان خطرهم لأبناء الأمة حتى لا ينساق بعض الشباب وراء رغباتهم ومنهجهم المتطرف الذي يرفضه العقلاء من أبناء الأمة ونحن إذ نحذر من هذا الفتنة السوداء فإننا نريد أن نحافظ على دماء العراقيين وكفانا إزهاقا للأرواح وسفكا للدماء" 

وبعد يومين استنكرت جماعة العلماء التفجيرات الإرهابية التي استهدفت مدينة الصدر والكاظيمة المقدسة وزوار البطحاء في مدينة الناصرية والتي وقع على إثر الإنفجارات عددٌ كبيرٌ من الشهداء والجرحى، وقال الملا في بيان أخر "اننا قبل يومين حذرنا ببيان واضح المقال وظاهر الحال عن التهديدات التي أصدرها المجرم الإرهابي أبو عياض شيخ السلفية في تونس والذي توعد بذبح العراقيين الأبرياء  وذلك بعد رحيل الأمريكان".

كذلك اعتبر أمير السلفية الجهادية في العراق الشيخ مهدي الصميدعي أن في تلك الفتوى تجاوزاً لرأي الجماعة التي درست الواقع عن كثب وأصدرت فتوى بضرورة العمل على بناء لحمة المجتمع ونبذ العنف والتطرف الفكري وعدم جر المسلمين الى أمور لا تحمد لها نهاية. (13)

وهذا كله حسن، لكنه لا يكفي، ولا يستطيع أن ينافس بأي شكل، العمليات الإرهابية المنسقة مع الفتاوي الإرهابية التي ترد من السعودية وغيرها، والتحريضية التي ترد من مصر، والتي تحضر الذهن لتوجيه التهمة إلى السنة في جريمة الإرهاب و لتصنع لدى المواطن الشيعي، صورة السني الإرهابي المصمم على القضاء عليه ولو بالإنتحار!

لنسأل: من أجل ماذا يقوم رجال الإفتاء السنة بتشويه سمعة مذهبهم؟ ولنفترض أنهم فعلاً مجانين بالخوف من الشيعة، وأنهم يعتبرونهم خارجين عن الدين، كما يقولون، فلماذا يسعون أيضاً إلى إصدار فتاوى تثير السخرية من الإسلام كما فتوى إرضاع الكبير ومداعبة الأم؟ لماذا يفتون بهدم الكنائس؟ هل قام النبي محمد نفسه بهدم كنيسة؟ ولنسأل أيضاً:  من يسيطر على رجال الإفتاء السنة؟
إننا نلاحظ أن رجال الإفتاء هؤلاء يتواجدون جميعاً في دول تحكمها حكومات فاسدة دكتاتورية وعميلة للولايات المتحدة ويشتبه في علاقتها بإسرائيل، وبعضها يتمتع بعلاقة صريحة معها، فهل هذا الأمر صدفة؟

لا يفترض أن تمر هذه الحقيقة بلا انتباه، وقد انتبه إليها حتى الأجانب. قال راديو " اوستن " النرويجي : ان فتوى المفتي الاكبر في السعودية عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، لم تصدر بشكل عفوي منه ، اذا انه يخضع وبشكل كامل الى سياسة اسرة ال سعود التي تسيطر على شبه الجزيرة العربية منذ عام 1934 ، بل هي فتوى مسيسة هدفها الاول والاخير اثارة مزيد من الفوضى والقلائل الطائفية في الشرق الاوسط ، في الكويت ولبنان ومصر ، وهذا يکن بشكل كامل في خدمة المشروع الاسرائيلي ــ الامريكي لاثارة النزاعات وصولا الى ترسيم جديدة للخارطة السياسية في الشرق الاوسط التي من شانها ان تخدم اسرائيل وتوفر لها مناخات اكثر ايجابية للاستمرار في الوجود دون تهديدات جدية من تطلعات شعوب الدول العربية المحيطة بها والتي اثبتت احداث اقتحام السفارة الاسرائيلية في الجيزة في قلب القاهرة العام الماضي انها مازالت تعيش في محيط ينبذها ويعمل على ازالتها ".(14)

هل في المعلومات أعلاه بعض الخطأ؟ هل أن بعض الفتاوى كاذبة؟ هل المواقع التي نشرت فيها غير رصينة؟
ربما كان بعضها كذلك، لا استطيع التأكد، لكن المتلقي الشيعي يقرأ هذا ويكون من خلاله صورة السني بالنسبة له، وفي هذا يكون أثر الأكاذيب نفس أثر الحقائق، فعلى من تقع مسؤولية إيضاح الحقائق في تلك الحالة؟

صحيح أن الوعي بالخطر والمؤامرة من واجب الجميع، لكن الواجب المباشر في ردع هذه المؤامرة يقع على من تهدف تلك المؤامرة إلى تشويه صورته وإعطائه صورة الإرهابي المجنون المرعوب والكاره للطرف الآخر والمستعد لقتله. فبعد عملية التشويه هذه تنسق نفس الجهة عملية إرهابية فيقع اللوم فيها على صاحب الصورة الإرهابية بالطبع، حتى قبل أي تحقيق. مثال حي اليوم، حيث كانت التفجيرات في كل مكان وكان للمناطق السنية فيها نصيب وافر، ورغم ذلك فأن رد الفعل الشيعي على النت كان سريعاً وشديداً لإتهام السنة بالموضوع سواء بشكل مباشر أو بالتلميح.

على من يقع اللوم؟ على الذي ترك صورته تتشوه بهذا الشكل المخيف دون أن يعي أن من يفتي هذه الإفتاءات إنما يستهدفه قبل أن يستهدف الضحية المباشرة من التفجيرات! فما أنتم فاعلون ايها السنة في أمر صورتكم؟

الجزء التالي سيكون عن مواقف السنة وسياسييهم، وأثرهم على صورة السنة لدى الآخرين.

(*) الجزء الأول كان بعنوان " كيف يراك الآخرون؟ (1): حديث عام "
   http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=61468
(*) الجزء الثاني كان بعنوان " كيف يراك الآخرون (2): خرافات عن السنة"    
     http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=61755

(1) http://alsalafalsalh.blogspot.com/2011/09/blog-post.html?m
(2) http://www.abna.ir/data.asp?lang=2&Id=303058
(3) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11641
(4) http://www.elaph.com/Web/NewsPapers/2008/11/381603.htm
(5) http://www.mriraq.com/vb/showthread.php?t=475088
(6) http://www.jam3.org/newsite/details/24517
(7) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=12460
(8) http://www.youtube.com/watch?v=64bNMNAoljY
(9) http://www.youtube.com/watch?v=ILA0zxwmalU&feature=related
(10) http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=AUFa2d5FMPI
(11) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11355
(12) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=14325
(13) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11641
(14) http://www.abna.ir/data.asp?lang=2&Id=303058
 
معلومات متفرقة أخذت من دراسة السيد محمد طالب الأديب "في الذكرى العاشرة لـ 11/سبتمبر السنة في العراق – مراجعة ورؤى مستقبلية" في "الجديدة"
http://aljadidah.com/2011/09/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D8%B1%D8%A9-%D9%84%D9%80-11%D8%B3%D8%A8%D8%AA%D9%85%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7/


35

كيف يراك الآخرون: 2- خرافات عن السنة

صائب خليل
15 آذار 2012

ترددت قليلاً في الإستمرار بمشروع مقالات "كيف يراك الآخرون" بعد تحذير من عدد من الأصدقاء بأن الظرف غير مناسب، لكن ما أثارته مقالة لي تتساءل عن الدور الأمريكي في إرهاب الهاشمي، من ردود فعل من بعض الأفراد من الجانب الشيعي جعلتني أدرك أننا أمام هاوية كبيرة إن لم نسرع ونحاول أن نتكاشف بالحقائق.
تلك الردود تحمل "بصمات" الجانب الأمريكي، كما يقولون، خاصة بما صاحبه من تشهيرات وأساليب استفزاز وتنظيم عالي، عرفتها في مرات سابقة في مقالات أزعجت ذلك الجانب أكثر من غيرها. كان الغضب دفاعاً عن أميركا لا عن الشيعة، فلم يهاجم الشيعة أحد، لكن التجاوب مع ذلك الغضب، من الجانب الشيعي من القراء، وتصديقهم السهل بأن القصد من هذه المقالة هو إبعاد التهمة عن المجرمين "السنة" وإلقاؤها على الأمريكان، كان جرس إنذار بالنسبة لي، خاصة حين تبين ان البعض يلجأ إلى ما أعتبره شتائم نابية، ويقولها ببرود من يتحدث عن حقائق بسيطة. هذه "الحقائق" الشتائمية، تستند إلى حقائق مكبرة، وأخرى مجتزئة، وأيضاً عدد من الـ"أساطير" التي لا أساس لها، وهي التي دعتني لكتابة هذه المقالة كجزء طارئ غير مخطط في مجموعة "كيف يراك الآخرون".

الشرخ الإعلامي بين الشيعة والسنة كبير ويكبر، ومحاولات ردمه أو تحجيمه من قبل القيادات الدينية والحكومة وبعض المثقفين لا تتناسب مع الجانب الذي يسعى إلى توسيعه وتعميقه قدر إمكاناته، والدليل على ذلك هذه الصعوبة المتزايدة في إجراء أي حوار بين الطرفين. لقد وصل الأمر أن ما كان يعد شيتمة أخلاقية منحطة، صار يعتبر نقلاً "للواقع" وأن الإحتجاج على تلك الشتيمة محاولة لتزوير الواقع من الجانب الآخر. وما كان يعتبر تهمة خطيرة تثير الغضب، صار أمراً طبيعياً و"حقيقة" مؤكدة لدى الجانب الآخر.
فحينما يكتب أحدهم أن "الإرهاب سني" متهماً ثلث الشعب العراقي بأنهم إرهابيين، قد لا يقصد الإساءة بقدر ما يقصد نقل ما يراه حقيقة واضحة. ومن يكتب أن السنة "جعلوا الإرهابيين ينامون مع أخواتهم"، على انحطاط التعبير، فإنما يستند على ما تعود سماعه وقوله دون أن يرفضه أو يناقشه أحد.
في الجانب الآخر هناك بذاءات لا تقل عن هذا، فتسمع عن "أولاد المتعة" من بعض السنة، وهو يقولها بهدوء مثير للقلق وكأنه ينقل حقيقة، وليس شتيمة وسخة بحق أناس لم يسيؤا له بشيء.
وعندما يغضب أحد من الجانب المقصود بالشتيمة، فأن القائل يفتح فمه دهشة: "اليست هذه هي الحقيقة؟ لماذا تنكروها؟".
لا يصعب الرد على هذه "الحقائق"، وهنا تكمن المصيبة. بعض المنطق يكفي وبعض القراءة تكفي، وبعض الحديث مع الآخر يكفي، لكن هذا الرد لا يأتي.

****

السنة تربوا أجيالاً على كره الشيعة
 كم سنياً تعرفون ربى أولاده على كره الشيعة؟ أنا لا أعرف ولا واحداً! هل دخل شيعي يوماً في بيت صديق سني له والتقط كلاماً من الأهل يحث على قتل الشيعة أو كرههم؟ هل قال طفل سني يوماً بالخطأ أمام شيعي، شيئاً ينبئ عن أن أهله كانوا يعدونه لقتل الشيعة أو لكرههم؟ أنا لا أقصد هنا الحديث العابر أو كلام أطفال أو عجائز هنا وهناك، وإنما أن يدل على تربية منظمة من أجل ذلك الهدف.
كيف يزوج الكثير من السنة بناتهم ويتزوجون من نساء مجموعة ينوون القضاء عليها؟ لماذا يسمون أولادهم علي وحسين وحسن وفاطمة؟ لماذا يصلون في راوه وعنه التراويح بالدعاء للإمام علي والحسن والحسين وفاطمة الزهراء أكثر مما يصلون لأبي بكر وعمر، كما أخبرني أبي؟
في أكبر مساجد اسطنبول، بحثت عمداً في الزوايا عن إسم "علي" فوجدته برفقة بقية الخلفاء، بنفس الخط ونفس الحجم. هل هذه تصرفات طائفة تريد أن تربي أجيالها على كره الطرف الآخر والقضاء عليه؟

****

الإرهاب سني!

عندما ترفض ذلك يبادر أحدهم: "هل سمعتم بشيعي فجر نفسه بين السنة"؟
وأسأل أولاً كم هم الإرهابيين الذين "فجروا أنفسهم" أو تم تفجيرهم، أمكن التعرف على شخصياتهم؟ ومن هؤلاء، كم واحد تمت دراسة دوافعه (وكيف؟) ليتبين انها طائفية؟

ثانياً: الشيعة يبادرون فوراً إلى التفسير الطائفي، فيما بينهم وفي إعلامهم، فيبقى في البال أن الذي فجر نفسه سني يريد القضاء على الشيعة، حتى لو لم يثبت شيئ، أو ثبت غير ذلك فيما بعد، بينما الامر ليس كذلك بين السنة. ففي حادثة جامع أم القرى، لم يسارع السنة إلى اتهام الشيعة بالأمر، ولو أنهم فعلوا، لترسخ في أذهان الناس أن المفجر شيعي طائفي، حتى لو لم يثبت شيء من ذلك رسمياً.

ثالثاً:هذه إحصائية حكومية قدمتها الحكومة "الشيعية" وليست السنية، ونشرها موقع "عراق القانون"، عن تصريح للناطق الرسمي باسم الحكومة علي الدباغ، تقول بأن أعلى نسبة من ضحايا الإرهاب هم في المدن السنية: "تأتي محافظة ديالى كأكبر نسبة من الشهداء مقارنة بعدد النفوس تليها الأنبار ثم نينوى ثم بغداد، بينما سجلت محافظة المثنى أقل عدد من الشهداء بلغ (94) شهيداً لكل الفترة."(1)

أنا لا أريد الإستنتاج أن للشيعة حصة أكبر في الإرهاب أو أنها مساوية للسنة، فأنا أؤمن تماماً أن لا الشيعة ولا السنة لهم اية مصلحة في إرهاب بعضهما البعض، وفي حقيقة الأمر لم ولن يهمني طائفة من ينفذ العملية رغم أني ادعو في كل الأحوال إلى إنزال أشد عقوبة ممكنة به وبمن أسهم معه في الجريمة. لكن القضاء على الإرهاب في العراق وتحقيق الأمن لا يتم إلا بمعرفة مصدر تفريخ الإرهابيين وتدريبهم وإعداد الجريمة وتنظيمها، وهو ما لم يكشف عنه إطلاقاً في اية جريمة، وهو ما يشككني في تبعية اعلى الهرم الأمني في العراق.
من وراء جريمة التاجي؟ من نظم جريمة كنيسة سيدة النجاة؟ من وراء تفجير البرلمان؟ وعندما أسأل "من؟" فإني أبحث عن آخر الخيط الذي يطمئنني أن الموضوع تم اجتثاثه، أما ما يحدث فهو إعدام المجرمين المنفذين (إن حدث.. لا أحد يعلم بما يحدث) وتخليص المخططين للأمر من الشهود على إرهابهم. هذا البحث هو ما يدعوني إلى التساؤل عن من وراء تنظيم جرائم الهاشمي، وليس محاولة تخفيف الجرم عنه أو إزاحة التهمة عن السنة.

****

معظم أو نسبة معتبرة من السنة إرهابيين، ويريدون القضاء على الشيعة

لو كانت نسبة عالية من السنة إرهابيين، أو لو كان موضوع القضاء على الشيعة موجوداً لديهم كهدف، لما بقي شيعي واحد في العراق في زمن السني الأكثر وحشية صدام حسين، ولا في معظم الدول العربية ذات الحكومات السنية أو الأكثرية السنية، فلماذا أجل هؤلاء الإرهابيين السنة ذبح الشيعة حتى يفقدون السلطة؟ لماذا سمحوا أن يفوتوا تلك الفرصة التي ينتظرونها 1400 عام؟ علماً أنهم كانوا يحكمون المنطقة، إن قبلنا منطق الطائفيين، معظم تلك الـ 1400 عام؟ لماذا لم يقض الصفويون عندما استلموا الحكم، على السنة الذين كانوا يريدون إبادة الشيعة ويخلصوا أهلهم من هذا الخطر الداهم؟

ألا يكفي هذا برهاناً على تخريف هذه القصص الأسطورية التي تمزق الشعب لتخدم لصوصه؟ ألا يكفي هذا لتنظيف رؤوسنا من هذا الوهم التافه الذي حشوه بها؟

****

لماذا إذن أنتخب السنة الإرهابي طارق الهاشمي؟

عندما انتخب السنة طارق الهاشمي، لم يكن إرهابياً، لا في نظرهم ولا في نظر الحكومة التي قبلته مشاركاً. وإن كان هناك من يلام على ذلك فهو المالكي الذي كان يعلم به دون ان يخبر به أحد. أن تصرف السنة تجاه الهاشمي عندما عرف تورطه الإرهابي، هو في رفض الأغلبية الساحقة له، وعدم قدرة حزبه إخراج أية تظاهرات لدعمه سوى ما قدرت بعشرات الأشخاص، وفي عدد من تصريحات المراجع السنية التي طالبت بمحاكمته وطالبته بتسليم نفسه.
المالكي كما يقول بنفسه مازال يحتفظ بمعلومات عن إرهابيين آخرين من السياسيين، فإن تم انتخابهم من قبل السنة أو غيرهم، فمن الذي سيلام غداً عندما يأتي الوقت المناسب حسب تقدير المالكي للكشف عن حقائقهم؟ من سيكون المسؤول عن إيصال إرهابيين إلى السلطة بكل ما يتيحه لهم ذلك من هويات خاصة وسيارات خاصة وحمايات مسلحة وقدرات مالية وسياسية؟ إنني أطرح السؤال مسبقاً، لعل البعض يفكر فيه قبل ان يتكرر ما حدث، ويستعمل لتكبير الشرخ الكبير في المجتمع العراقي.

****

ماذا عن المقابر الجماعية؟

يجب أن لا نخلط صدام حسين وأجهزته التي كانت تمتلئ بالسنة والشيعة، مع موقف السنة، فهذا الخلط قد يكون بريئاً لدى البعض، لكنه خبيث لدى الآخر الذي يكرر طرح قائمة البعثيين السنة ويلفت نظره بعيداً عن قائمة البعثيين الشيعة التي وضعت أمامه قبل دقائق (من قبل شيعي آخر، بريء من الطائفية).

نعم لم يصب السنة من أذى ما اصاب الشيعة أو الكرد من صدام والبعث، لكن هل يعني هذا أن السنة كانوا مع صدام وجرائمه؟ هل يعني أن مدينة شيعية عانت الأكثر مثل الدجيل، يمكنها أن تعتبر مدينة شيعية أخرى عانت أقل، بأن الأخيرة كانت مع صدام؟

السنة في زمن صدام ، مثل غيرهم تماماُ، لم يكونوا قادرين حتى على الدفاع عن أنفسهم عندما يوجه غضبه إليهم. بل لم يستطع حتى أقرب المقربون إليه أن يرجوه حتى العفو عن شخص واحد، فقتل عدد من رفاقه الذين حاولوا ثنيه عن عزمه في قتل البعض من رفاقهم حين استلم السلطة العليا في البلاد، وتكرر ذلك في مناسبات تالية. بل أنه أغتال إبن خاله الذي رباه عندما كان لقيطاً، وعاش معه كما يعيش مع أخيه، لمجرد إحساسه بأنه قد يمثل رجاءاً يأمل به الناس التخلص من ظلمه؟ هل كان إبن خاله شيعياً؟ هل كان أزواج بناته الذين قتلهم من الشيعة؟

****
السنة لا يتحملون العيش دون أن يحكموا

أنا لم أشعر في يوم من الأيام أني لا أستطيع أن أعيش دون ان أحكم، بل أني لم احاول أن "أحكم" في يوم من الأيام، ولم أشعر في يوم من الأيام أني كنت أحكم، ولا أعرف أحداً من أصدقائي من السنة يشعر بمثل هذا الشعور الخرافة. وإن أخذنا مجمل ما قمت به، فأن مجمل كتاباتي كانت في صالح خيار وصول شيعة إلى الحكم، حتى الناقدة منها لم تكن يوماً موجهة لإسقاط الحكومة الشيعية، سواء للمالكي أو الجعفري، ولا توجد لدي مقالة واحدة تتجه بهذا الإتجاه.
في المقابل لدي عدد كبير من المقالات التي تحذر المالكي والدعوة من التزوير في الإنتخابات لصالح العراقية ومن قبل الأمريكان، ووقفت بوجه هؤلاء حينما حاولوا عرقلة "الحكم الشيعي" من خلال فرض بقايا البعث عليه شريكاً في الإنتخابات وثم السلطة ودعوت المالكي وغيره إلى نبذ فكرة حكومة الوحدة الوطنية وسخرت من شراكة علاوي وانتقدت الشيوعيين بشدة لإنضمامهم تحت قائمته يوماً ووقفت مع المالكي حين كان الكل ينهال عليه في بداية تسلمه السلطة ويقع تحت الضغط الأمريكي الشديد، ووقفت مع الجعفري حين جاءت كونداليزا رايس لتزيحه ووقفت مع الصدريين حين كان المالكي يصول بهم داعياً إياه إلى محاولة حل المشكلة سلمياً واستنزاف كل الفرص لحقن الدماء وسخرت من "صولة الفرسان" التي كانت مؤامرة أمريكية في رأيي للتخلص من اشد خصومهم وإيجاد شرخ في صفوف الجانب العراقي الأكبر.
هل هذه كلها، وأشياء أخرى كثيرة نسيتها، تدل على تصرف شخص يطمح إلى الحكم؟
أبعدوا السياسيين القادة السنة، والقياديين الشيعة، وكل القياديين، من يبقى "لا يستطيع الحياة بدون حكم"؟ أنا لا أعرف مجانين من هذا النوع، إن كان غيري يعرف فهذا متروك له.
غريبة هي فكرة، "الطائفة التي تحكم"...هل أحس بعضكم ممن تعامل مع أصدقاء سنة له، أنهم كانوا يحسون انهم "يحكمون" في وقت صدام؟ ربما بعض التكارتة، (ليس كلهم بالتأكيد، فأنا أعرف منهم من يخجل أن يكتب خلف إسمه "التكريتي") ، ربما بعض الشيوخ في الرمادي والفلوجة... وواصل إلى السلطة هنا وهناك. أما كطائفة، كناس، كطلاب وموظفين نساء ورجال وشباب...من رأيتم من كان يشعر انه يحكم، ومتى صارت عنده هذه عادة لا يستطيع الإستغناء عنها إلى هذا الدرجة؟

أمي قضت سنيناً من عمرها تطارد وراء السجون في زمن البعث بحثا عن أخيها المرحوم جميل منير، وسنيناً أخرى تبكي أخاً آخر لها قتله مجرموا البعث صبيحة 8 شباط، في فراشه، هو توفيق منير. ولا أدري إن كان هناك الكثير من النساء من دعت الله أن يخسف الأرض بصدام أكثر منها. لا ادري إن كانت أم قد أخبرت أولادها بقدر ما أخبرتنا عن جرائم الحرس القومي في عنه، تحفظها بالتفاصيل الدقيقة والتواريخ والأسماء، وتتحدث بها بحرقة كأنها حدثت أمس، فتخيلوا شكلي لو أخبرها أنها كانت واهمة في حزنها وألمها لأنها كانت "تحكم" دون أن تدري، لأنها سنية!

****

ما قصة الإرهابين الذين يفتح لهم السنة أبواب بيوتهم ليناموا مع نسائهم، كما يصرّ بعض الشيعة؟

سألت أحد أقربائي هذا السؤال فقال: "كلام فارغ". قلت "لا ليس كذلك ، هناك قناعة واسعة بأن هذا حدث. أرجوك أن تتقصى" قال: "سأستفسر لك عن التفاصيل وأخبرك". ثم بعد يومين أرسل لي ما يلي:

"سألت أخي اليوم: هل سمعت بأي عائلة في مناطقنا زوجت بنتها الى المجاهدين؟ الجواب : نعم سمعت (الكلام لأخي) بحالة واحدة فقط ليس في حديثة ولا عانة ولا راوة ولا حصيبة وانما في قرية المعاضيد حيث زوج رجل ابنته لمجاهد من السعودية. "

واضاف "هؤلاء جاءوا لمحاربة الأمريكان، وقد قتلوا مئات من الجنود الأمريكان قبل أن يتحولوا  فجأة من مجاهدين الى ارهابيين وبدأوا بذبح الكثير من أهل المنطقة."

وأكمل "ذهبت يوماً لزيارة صديقي في القائم فقال لي: في أحد الأيام طرق باب البيت واذا بمجاهد سعودي ومعه مجموعة من الشباب وأسلحتهم فطلب منه أن يختبئوا في بيته لأنهم مطاردين من قبل الجيش الأمريكي. يقول لي صديقي وهل كان لي خيار سوى أن أقول تفضلوا. يقول بقوا فترة قصيرة وبعدها غادروا واشتبكوا مع الأمريكان في منطقتنا ودمروا ناقلة جند أو عربة مدرعة لا أذكر ولقد أخذني صديقي الى موقع الحدث."

هذا ما يتحدث به السنة عن القصة، هذه هي "الحقيقة التي يرونها" فهل من غرابة إذن أن يغضبوا من تلك التهمة ويروها شتيمة وسخة؟
القصة إذن، شخص واحد حسبما يقول، ربما شخصان أو ثلاثة في مناطق أخرى، لا يدري بها أخيه، زوجوا إبنة لهم لمن كانوا يعتبرونه "مجاهداً"– هذه قناعته - جاء لمحاربة المحتل وليس لقتل الشيعة، ومحاربة المحتل إن لم تعتبر واجباً مقدساً لدى البعض كما هي الحال لدى جميع الشعوب التي تحس بأن كرامتها في استقلالها، فهي على الأقل أمراً مفهوماً حتى لغير هؤلاء. ولا يشبه في شيء إرهابياً طائفياً يأتي ليقتل أبرياء من الطائفة الأخرى، دع عنك من يقتل نفسه من أجل قتل بضعة أشخاص لا يعرفهم من الطائفة الأخرى، وهي قصص خرافات لا يجب أن يعقلها أي عقل سليم.
هل غريب أن يحترم سنة من يقاتل الأمريكان؟ ألم يحارب الكثير من الشيعة المحتل؟ من حارب المحتل أكثر من جيش المهدي بمختلف فئاته، من الشيعة؟ هل هؤلاء إرهابيين أيضاً أم يمكن تفهم دوافعهم ويجوز لمن يريد إطلاق إسم "مجاهدين" عليهم دون أن يغمز أحد بعبارة "المقاومة الشريفة"؟

لقد فهم سكان هذه المناطق أن هؤلاء جاءوا لمساعدتهم ضد الإحتلال الذي بدا حينها أنه باق، فرحبوا بهم، بحدود تم تصويرها بشكل آخر تماماً. ثم حين تبدل هؤلاء بإرهابيين صارت العلاقة بينهم علاقة تضاد وقتل كل منهما من الآخر الكثير، وساعد الشيعة الناس مساعدة كريمة في القضاء عليهم، وحسب الكثير من الشهود كان الأمريكان هم من يمنع العراقيين من إنهائهم ويسهلون لهم الطريق للإفلات، مثلما حدث في ديالى وغيرها.

كيف تحولت قصة زواج لمقاتل ضد الأمريكان، إلى قصة أن السنة يسمحون للإرهابيين القادمين للقضاء على الشيعة، بالنوم مع نسائهم؟ من الذي حولها؟

****

أسئلة بسيطة تكفي لدحض خرافات خطيرة، لكن الأكثرية لا تطرح على نفسها الأسئلة عن تلك القصص الغريبة، مادامت تلك القصص تلقي بالسوء على الآخر. أسئلة بسيطة: كم سنياً تعرف زوج ابنته لإرهابي؟ كم شيعياً تعرف كان "إبن متعة"؟ وحين تأتي الأجوبة بالنفي القاطع، عندها يفتضح الإعلام الخبيث وما يبثه في الرؤوس من سموم!  فلا يعقل أن نقول أن السنة يزوجون الإرهابيين دون أن نعرف مثالاً واحداً منهم، ولا نسمع بذلك إلا من خلال الإعلام، ولا يعقل أن نقول أن الشيعة أولاد متعة دون أن نعرف مثالاً واحداً منهم، وقد عشنا معاً كل هذا الزمن الطويل!

يجب أن لا نستهين بالأمر، فتحطيم هذه الأساطير والخرافات، يعني تحطيم أساس كبير تعب الإحتلال على ترسيخه وكلفه الكثير من الأموال، وهو ضروري لبقاء تأثيره على البلاد من خلال بقائها ضعيفة مشتتة لا تستطيع أن تجمع إرادة سياسية للإستقلال الإقتصادي والسياسي، فلا تطلب من أحد إعفائها من مقاطعة دولة ثالثة ، ولا تشتري إلا من أفضل وأرخص المصادر، ولا "تدعم" حكومة معادية وشعبها بأشد الحاجة لكل دينار، ولا تصوت لقرار ليست مقتنعة به في الجامعة العربية أو الأمم المتحدة ولا تضطر للخجل أمام شعبها لقرار ليس في صالحه أو صالحها، خضوعاً لأية ضغوط.
لذلك سوف تعرقل كل المحاولات لردم الهوة بين مكونات الشعب العراقي، وخاصة بين الشيعة والسنة، بعد النجاح الساحق في فصل العرب والكرد، وسوف تواجه أية محاولات قد تبدو جدية التأثير بكل الوسائل الشريفة وغير الشريفة لمنعها وتخريبها.

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13639


36
كيف يراك الآخرون؟ 1- حديث عام

صائب خليل
9 آذار 2012

أن امتلاك مكونات أي مجتمع لصور متقاربة عن أية جهة أو قضية، هو الأساس الذي لا غنى عنه لأي حوار وتفاهم بين تلك المكونات وصولاً إلى القدرة على الرؤية المشتركة للأمور الأساسية في الحياة، وتكون المصالح المشتركة ، واتخاذ المواقف المشتركة. فهل لدى المكونات العراقية الثلاثة مثل ذلك التصور المشترك بحدوده الدنيا؟ هل هناك تقارب في رؤية الكرد والعرب، الشيعة والسنة، من الموقف من سوريا مثلاً، أو إيران أو تركيا أو الأردن؟ هل يرون الدور الذي تلعبه أميركا بمنظار متقارب، إن لم يكن مشتركاً؟ هل هناك أية مشتركات في وجهة النظر بين العرب والكرد من إسرائيل مثلاً؟ إن لم تكن هناك رؤية مشتركة، فهل يستطيع العرب أن يتفهموا الحماس الكردي لأميركا وتعاطفهم مع إسرائيل، وهل يستطيعون قبوله؟ وهل يستطيع الأكراد أن يفهموا موقف العرب من إسرائيل ويتعاطفوا معه؟ هل يقف السنة والشيعة موقفاً متشابها من التطور النووي الإيراني مثلاً؟ هل يستطيعون مناقشة ذلك الإختلاف، والتعايش معه؟

في رأيي أن فئات العراقيين سمحت أن تسير مواقفها كل في طريق مخالف وأحياناً مناقض، لمواقف بقية الفئات، ودون محاولة جدية لمناقشة الفرق والإتفاق على الحد الأدنى، ولم تبذل الحكومة ولا الجهات الثقافية والإعلامية أي جهد يذكر من أجل إبقاء الحوار حياً، لكي يبقى الفرق في المواقف ضمن المقبول ولا يتحول إلى تناقض خطير يهدد كيان المجتمع العراقي، وفي نهاية الأمر إقتنع كل بموقفه واستحالة مناقشة الآخر وإقناعه أو الإقتراب منه.

في تصوري، لقد لعب الإعلام المدفوع الأجور أجنبياً، وبالتعاون مع الإرهاب المنظم (أجنبياً أيضاً، حسب تقديري)، دوراً أساسياً في تباين تلك الصور، وإدامة ذلك التباين من خلال "العزل المكاني" الذي قام الإرهاب بواجبه فيه، من خلال السياسة المخططة الرامية إلى فصل المناطق الشيعية عن السنية، وتصفية المناطق المشتركة من خلال التهجير على مدى سنوات. كما قام الإعلام بدور متقن في "العزل الإعلامي" بين الطرفين وصار كل جانب يمتلك وسائل إعلامه التي تقول ما يناسبه. أما الكرد فهم معزولين مكانياً إلى حد بعيد، كما أن اللغة والعواطف وتراث الإضطهاد كانت أكثر من كافية لعزلهم إعلامياً وعاطفياً عن العرب في العراق.
وفي معرض تحليلي للإرهاب في العراق، كتبت عن هذين النوعين من العزل بالتفصيل في مقالات سابقة ولن نناقشها هنا ثانية.

لقد كان الشيعة والسنة يرى كل منهما الآخر، بشكل عام، كفئة طيبة من فئات العراق، ويرى السنة أن هناك عدم ثقة من قبل الحكومات بالشيعة، يؤدي إلى تهميشهم بدرجة ما، وكان الشيعة يرون التهميش أكبر مما يراه السنة. كان الشيعة يرون أن السنة يحصلون على أكثر من حقهم من الإهتمام الحكومي، وربما يعترف الكثير من السنة بذلك، بدرجة أو بأخرى، لكن أحداً منهما لم يكن يلوم الفئة الأخرى على ذلك حسب تجربتي، فالعلاقة بين الفئتين كانت أكبر وأقوى من علاقة اية فئة بالحكومات.

وكان كل من الكرد والعرب، يرون أن الحكومات تضطهد الكرد وترهبهم وتقوم ضدهم بالحملات العسكرية، وأن الكرد أبطال يناضلون من أجل حقوقهم القومية المهضومة. ومن خلال العلاقة بين الناس من العرب والكرد، يمكنني القول بأن الكرد لم يكونوا يرون "العرب" كمضطهد لهم، بل الحكومات، التي ليس لهؤلاء العرب من الناس، أي قدرة للتأثير عليها، حتى لو قامت باضطهادهم هم انفسهم، كما تبين التجارب!
مما لا شك فيه أن الكرد والشيعة كانوا يرون الظلم ضدهم بصورة أوضح مما كان يراه السنة والعرب، وهذا امر طبيعي، لكن مع ذلك كان هناك جزء كبير مشترك في التقدير للموقف. لم يلم هؤلاء  الذين عانوا من الظلم، السنة العرب على ذلك الظلم، ولم يتصور الكرد أن مواطنيهم العرب هم السبب في حروب الحكومات ضدهم وبالتأكيد لم يتمنى العرب هزيمة الكرد في هذا الصراع، بل كانوا يرونهم كأبطال هيأت لهم ظروفهم وشجاعتهم أن يفعلوا ما لم يستطع العرب أن يفعلوه تجاه تلك الحكومات، رغم بعض المحاولات. وطالما تعاون الكثير من العرب والكرد حيثما أمكن، في قتال تلك الحكومات. 
وينطبق نفس الأمر في العلاقة بين السنة والشيعة إلى حد بعيد، وربما فيما عدا قضايا صغيرة محددة، لم يكن هناك فرق يستحق الذكر بين مواقف الشيعة والسنة من الحكومة.
ربما لم تكن الآراء متطابقة ولم تكن التقديرات متشابهة، ولم تخل تلك الطوائف من نسبة بسيطة جداً، لها آراء حادة من الطوائف الأخرى، خاصة بين غير المتعلمين وندرة من سكنة المناطق غير المختلطة، لكن الخط العام كان سليماً ومتقارباً وكان النقاش والحوار والوصول إلى نتيجة أمراً ممكناً دائماً، وكان هناك اعتراف من السنة ببعض التهميش للشيعة خاصة في الوظائف الأمنية والعسكرية من قبل الحكومات لقلة الثقة بهم، أحياناً لأسباب طائفية وأخرى لوجود التنظيمات الدينية القوية لدى الشيعة ، خلاف السنة، وهو ما تراه الحكومات الدكتاتورية المختلفة، خطراً يشبه خطر التجمعات الحزبية.

لقد تطورت المشكلة كثيراً خلال سنوات الإحتلال، ولم يكن الأمر صدفة في رأيي، بل يبدو كعمل مخطط لفصل الجانبين مكانياُ و إعلاميا كما أسلفنا، وتشكلت لدى كل منهما قناعات ومواقف مختلفة عن الآخر بشكل كبير، وهو ما تسبب في انفصالهما روحيا وعقلياً إلى درجة لم يشهد العراق مثلها من قبل في تاريخه، وهو ما يهيئ الظرف لتقسيم العراق.

ومع الوقت وعدم اتخاذ الحكومات والمثقفين اية إجراءات تستحق الذكر لمواجهة هذا الخطر، تفاقم الأمر ولم يعد الفرق في التصورات مقتصراً على المواقف من الأحداث، وإنما حدث خلل إضافي في تصور كل فئة عراقية عن الفئات الآخرى، وحدث اختلاف حاد بين الصورة التي ترى كل فئة نفسها بها، وتلك الصورة كما يراها الآخرون، وهذا تطور نوعي خطير يجعل الفئات المختلفة ليست منفصلة فقط، وإنما ترى كل الآخرى موضع الشك والإتهام، وكثيراً ما تكون متعادية وكل منها يعتبر الآخر خطراً عليه، في الوقت الذي يرى نفسه كضحية بريئة فقط.

لو لم تكن فئات الشعب العراقي تعيش بشكل منفصل مكانيا وثقافياً، لتمكنت هذه الصور المتناقضة أن تتواجه في النقاش، وأن يتبين كل طرف مدى خطأ الصورة التي لديه عن الآخر، ولتمكن كل طرف أن يبين للآخر وجهة نظره وأن يقنعه بوجهة نظره ، حتى لو لم يكن بشكل تام، وبذلك يتم قص الحافات الحادة من الخطأ، والجزء الخطر منه، ويعود من الممكن أن يتم النقاش والحوار والعلاقة الطبيعية.

ما أود طرحه والمساهمة في إثارة مناقشته هنا: هل تستطيع أي من فئات الشعب العراقي، خاصة في هذا الظرف العصيب، أن تتخيل ماهي صورتها عند بقية الفئات بعيداً عن رؤيتها الذاتية لنفسها؟ وقبل ذلك، لنسأل: هل تهتم أية فئة بمعرفة صورتها تلك كما تراها عين تلك المكونات؟ هل تهتم بتصحيحها إن رأتها مشوهة، وهل هي مستعدة لأن تبذل الجهد اللازم لدراسة موضوعية لأسباب هذا التشوه في صورتها لدى الآخر وتعمل على تصحيحها؟ هل هي مستعدة أيضاً لتصحيح الصورة التي لديها عن الآخر إن اكتشفت خطأها؟
يجب عدم التعجل باستسهال ذلك الأمر، لكن مما لا شك فيه أن الأجوبة عن هذه الأسئلة يجب أن يكون بالإيجاب، إن كان هذا الشعب العراقي يريد أن يبقى كشعب، ولا يتجزأ إلى إمارات صغيرة كما تريده له قوى تستفيد من ذلك. أو على الأقل أن يفهم كل جانب، الجانب الآخر، حتى إن أراد الإنفصال عنه.

من خلال متابعاتي الصحفية، أرى أن كل من مكونات الشعب العراقي الثلاثة الأكبر: الشيعة والسنة والأكراد، تعيش عالمها الخاص وتصوراتها الخاصة عن كل من بقية المكونات، وأن كل منها يرى الآخر في صورة بعيدة كل البعد عن الصورة التي يراها ذلك الآخر عن نفسه. صورة أسوأ كثيراً، وربما أسوأ كثيراً مما يتخيل ذلك الآخر. ولأن متابعاتي تقتصر على متابعة رؤية الشيعة للسنة والسنة للشيعة والعرب للكرد، دون رؤية الكرد للعرب فسوف لن أتطرق لهذه الأخيرة، مكتفياً بالصور الثلاثة الأولى. الصور الثلاثة مشوهة تماماً، وسلبية إلى درجة كبيرة، وسأحاول قدر الإمكان أن أعرض تلك الصور أمام أصحابها، مع أسباب تشوهاتها حسب فهمي للأمر، داعياً الجميع إلى مراجعة ذلك ومحاولة إصلاح صورته أمام الآخر لتعكس حقيقته التي هي في تقديري أفضل كثيراً من تلك الصور.

هذا التصحيح لن يكون سهلاً، ولن يكون مجرد جهد إعلامي، فالصورة المشوهة ليست فقط نتاج إعلام ناقص، بل ايضاً تصرفات لا أبالية و بعض المواقف غير المسؤولة، خاصة من القيادات السياسية. هذه المواقف تعطي انطباعاً سيئاً لدى الطائفة الاخرى لايمكن إصلاحه بالإعلام ما لم يتم معالجة الخطأ وتصحيح تلك المواقف. فالكثير من المواقف التي تبدو طبيعية للجهة التي تقوم بها، ستبدو غير طبيعية من وجهة نظر الجانب الآخر، ويمكن ببعض الجهد والنقاش والأسئلة تفهم هذا الفرق، وبالتالي تتاح الفرصة لتعديله.
كذلك يتم أحياناً التغاضي عن بعض التصرفات التي تعطي انطباعاً سلبياً للجانب الآخر، حتى لو علم صاحبها بذلك مسبقاً، وذلك برغبة "الإنتقام" أو المعاملة بالمثل، أوعدم الإهتمام بشعور المقابل. فبما أني أرى الجانب الآخر مسرف في "سوئه"، ولا يبالي، فلماذا أبالي أنا بمشاعره وانطباعاته؟
لكن المكاشفة كفيلة بكشف العديد من المفاجآت، وستكشف لكل جانب بالتأكيد أنه تصور الآخر أسوأ بكثير من حقيقته، وأعطى انطباعاً سيئاً عن نفسه، حتى حين لم يكن يقصد ذلك او يدري به. وإن تمكنّا من حث البعض على إبداء الإهتمام بمشاعر المقابل، والتقدم نحوه خطوة، فأن نفس مبدأ "المعاملة بالمثل" الذي أسهم في زيادة التوتر كما أشرنا، سيكون في خدمة إعادة بناء العلاقة السليمة والطبيعية التي كانت بين الطرفين من قبل.

وفي الوقت الذي اتصور فيه أن تصحيح الصور بين الشيعة والسنة سوف يخدم في ردم الهوة بينهما وصولاً إلى عراق اكثر وحدةاً وتآلفاً، فأن الأمر ربما يكون مختلفاً بالنسبة للأكراد. فما عدا الجهد اللازم لتغيير الصورة السيئة لديهم عن العرب وبالعكس، وشدة التقارب الإسرائيلي الأمريكي معهم وتغلغله في كردستان والثقافة والوعي الكرديين، والمعاكس للجانب العربي الذي يرى فيه خطراً عليه، عدا هذا فأن "وحدة العراق" بالنسبة للشعب الكردي لا تعتبر طموحاً، بل تصطدم بطموحه القومي القوي والمشروع. والوقوف بوجه هذا الطموح، مهما كانت النوايا، ستكون له نتائج سلبية وسيكون له رد فعل معاكس شديد.

لكن توضيح أسباب التشويه في صورة الكرد لدى العرب، وتنبيههم إلى مدى الإساءة والضرر الذي لحق الجانب العربي من العراق، جراء تصرفات قادتهم والجو الثقافي المعادي للعرب السائد لديهم، مهما كانت أسبابه التاريخية، قد يسهم (هذا التوضيح) في أن يتخذ الكرد موقفاً أكثر تفهماً واعتدالاً من العلاقة بين الشعبين من الناحية الإنسانية حتى إن لم يكن ممكناً ردم الهوة من الناحية الوطنية. فتصوري أن قضية انفصال كردستان مسألة منتهية، بل أن تأخيرها فيه ضرر للطرفين، وكل يوم يبقى فيه الكرد والعرب في عراق موحد، يمثل إضراراً للعرب لصالح إسرائيل والولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى فأنه يمثل مخاطرة بضياع فرصة الشعب الكردي المتاحة الآن من أجل استقلاله بشكل مناسب وبأقل الأضرار للطرفين، والتعجيل بالإنفصال والمساعدة على إقامته، ربما بتقديم بعض التنازلات، قد يسهم في تفهم الطرفين لبعضهما البعض ويساعدهما في بناء جيرة سلمية مستقبلاً قدر الإمكان، وتخفيف الضرر الذي لا مفر منه، متمثلاً بوجود دولة ترتبط عضوياً بإسرائيل على حدود العراق.

في الحلقات الثلاث التالية سوف نناقش على التوالي صورة السنة لدى الشيعة، ثم الشيعة لدى السنة وأخيراً صورة الكرد لدى العرب، ومن المحتمل إضافة حلقتين لصورة العلمانيين لدى الإسلاميين والإسلاميين لدى العلمانيين إن سمح الوقت والظرف. هذه الصور جميعها سلبية ومشوهة وسنحاول وضع أصبعنا على المسببات الموضوعية لتلك التشوهات، لنعطي الفرصة لكل جانب لتحسين صورته أمام الفئات الأخرى في الوطن لتعكس النواحي الإيجابية - الإنسانية والوطنية - التي يمتلكها، أملاً في علاقة أفضل بين مكونات الشعب العراقي، وتفويت الفرصة على من يريده بلداً مفتتاً متصارعاً إلى الأبد، ويريد لشعبه التخلف والعذاب إلى الأبد.


37

قصة الهاشمي برهان آخر أن الإرهاب في العراق أميركي

صائب خليل
3 آذار 2012

من المعروف أن هتلر كان يمتلك ملفاً عن كل شخصية لها أهمية ما في العالم، وأن هذه المعلومات لعبت دوراً كبيراً في تحقيقه لإنتصاراته. لم يكن هتلر يمتلك الحاسبات الحديثة وقدرتها على خزن المعلومات بعد، ولم تكن لديه القدرات التجسسية التكنولوجية الهائلة للمراقبة التي تمتلكها السي آي أي والموساد اليوم. لذلك يمكننا أن نفترض أنه بالنسبة للقيادات العراقية السياسية، والتي ولدت في مكان هيأته أميركا وزرعته أجهزة إلكترونية للتنصت واختارت حاسباته للإنتخابات وغيرها وأنشأت إتصالاته وأمنه وقياداته العسكرية والأمنية ودربتها و"نقتها" من كل من يمكن أن يزعجها (مثل أغتيال اللواء مبدر الدليمي)، يمكننا أن نفترض بتأكد كبير أن أحداً من هذه الأجهزة لا يمكنه أن ينطق كلمة دون أن تصل إلى الأمريكان، ليس فقط من خلال الإتصالات التلفونية فقط، بل ربما حتى في حجرة نومه! وإدارة عمليات إرهابية تتطلب بدون أدنى شك الكثير من الإتصالات والتنظيم والعمل اللوجستي.

وحتى إن أهملنا موضوع التنصت على الهاشمي نفسه بأجهزة تنصت مزروعة في مقراته ومكاتبه وربما في بيته، فأن جميع أفراد حمايته يستخدمون اللاسلكي للإتصال فيما بينهم بلا شك، وبالتالي يمكن التنصت على كل ما يقولونه، وكذلك يمكن تحديد خارطة أماكن تواجدهم في كل دقيقة وتثبيتها ومقارنتها مع أماكن العمليات الإرهابية العديدة التي قاموا بها لإيجاد ربط منطقي بين تحركات تلك الحمايات والعمليات الإرهابية التي قاموا بتنفيذها بأنفسهم كما يبدو من إعترافاتهم.

وعلى أية حال، فمن المستحيل أن لا يعرف الهاشمي أو ضباطه بهذا الكلام، ومن المستحيل أن يتجرأوا على التورط في أمر خطير إلى تلك الدرجة، وسهل الكشف إلى تلك الدرجة من قبل القوات الأمريكية، دون أن تصلهم تطمينات واضحة بأن القوات الأمريكية تقف معهم في الموضوع، بل ربما بتهديدهم بها إن هم رفضوا التورط فيها.

هل تشجع علاقة الهاشمي بالأمريكان على مثل ذلك السيناريو؟ بغض النظر عن انتمائه إلى حزب يعلن موقفاً صريحاً معادياً للوجود الأمريكي في العراق، وخلفية جماهيرية رافضة بشكل تام لذلك الوجود، فأن المؤشرات تقول أن طارق الهاشمي كان من رجال أميركا المفضلين.
لم يغب بعد عن ذاكرة العراقيين، الدعم الأمريكي للتحالف الذي يضم الهاشمي، للوصول إلى السلطة في الإنتخابات الأخيرة، واتباعها أساليب بعيدة عن القانون والدبلوماسية من أجل الضغط على المؤسسات العراقية لقبول بعض أعضائه المتهمين بقوة بالتبعية لأجندات بعثية، وتدخل السفير الأمريكي في الأمر بشكل فاضح وصل إلى حد تهديد الحكومة العراقية بطرده من العراق، ولكن أيضاُ من خلال تزوير الإنتخابات الأخيرة من خلال حاسبات شركة ناشطة التابعة لمجاهدي خلق كما كشفنا في مقالات سابقة، وتواطؤ اللجنة العليا للإنتخابات (المتورطة بالتزوير وتسليم صناديق الإقتراع إلى القوات الأمريكية وأيضاً بالإرهاب كما كشفت النائب الفتلاوي)، وكذلك رشوة القضاء لإصدار قرار فضائحي بالسماح بالعد اليدوي دون السماح بمقارنة نتائجه بما يكشف التزوير.

في أواخر عام 2010، عاد الهاشمي من زيارة لواشنطن، وقد قادتني تصريحاته المريبة إلى أن أكتب مقالة بعنوان "هل وعدوه برئاسة حكومة بعثية مقابل تمديد المعاهدة؟" (1) ركزت على تصريحات طارق الهاشمي لـ "الشرق الأوسط" (2)  فور عودته من زيارته المثيرة للتساؤل إلى واشنطن، والتي استقبله فيها "ليس فقط الرئيس أوباما، ... وإنما أيضا معه، نائب الرئيس ووزيرة الخارجية والدفاع، وايضاً عدد من اليسناتورات! وقال الهاشمي أنه بحث معهم "جدولة انسحاب القوات الأميركية من العراق وتأهيل القوات العراقية والنظر إلى المستقبل." وهي أمور يفترض أن تناقش مع "فريق متكامل من الدفاع والداخلية والخارجية وربما رئيس الحكومة؟" خاصة وأن "العراق يوشك أن يقوم بانتخابات ليس معلوماً إن كان الهاشمي سيفوز فيها بمنصب حكومي.... لماذا لم ينتظروا النتائج ليتحدثوا مع الشخص الأكيد على الأقل؟" 
قال طارق: "نحن نؤيد انسحابا عاجلا من العراق، ولكن يجب أن يكون انسحابا مسؤولا وبشكل جيد، إذ لا نريد أن نترَك بفراغ أمني، إذ يبدو أن التحدي الأمني حتى هذه اللحظة يتجاوز إمكانية الأجهزة الأمنية العراقية. اتفاقية سحب القوات تلزم الولايات المتحدة بسحب قواتها بنهاية عام 2011، ولكن الولايات المتحدة مع التعاون مع الحكومة العراقية. يجب أن تنظر إلى التحديات الأمنية ويجب أن نستعين بأصدقائنا."

لا يمكننا أن نتخيل أن مسؤول بمستوى الهاشمي يمكن أن يقوم بأية حركة دون أن تكون السي آي أي والموساد الموجودة في العراق على علم بها، وأن وأي تورط بالإرهاب من القيادات العراقية، سيكون في غاية الخطورة على صاحبه، ولا يعقل أن يتم ويستمر إلا بتواطؤ أمريكي، وبالتالي أجزم بالقول أنها كانت بقيادة أمريكية. فمن المستحيل أن تكتفي السي آي أي والموساد بـ "العلم" بالإرهاب، دون أن تسعى لتجنيده لصالحها ووضعه في الطريق المناسب لخدمة أهدافها. فالإرهابي المكشوف، حتى لو فرضنا أنه بدأ العمل مستقلاً، شخص في موقف ضعيف لا يمكنه أن يقول "لا" أبداً، لمن يمتلك ما يدينه.

وقصة علاقة الأمريكان بإرهاب الهاشمي لا تنتهي عند هذا الحد، بل أن سيناريو الكشف عنها نفسه من قبل المالكي، يقدم برهاناً على تلك العلاقة لا يقل أهمية عما جاء أعلاه. ففي مقالتي"المالكي يقر بأنه يحتفظ بملفات الإرهاب للوقت المناسب"(3) طرحت دور الأمريكان في إرهاب الهاشمي وتساءلت: "هل أبلغ المالكي وحزبه الأمريكان بالمشكلة، خاصة أن الأمريكان هم من كان يصر ويلح على إبقاء الشركاء في الحكومة، وماذا قالوا له؟ إن لم يبلغوا الأمريكان فلماذا؟ وإن فعلوا فما فعل الأمريكان؟ ألم يكن كشف تلك الملفات لهم كفيلاً بمنعهم من دعم هذا الحزب وتزوير الإنتخابات من أجله في الإنتخابات الأخيرة؟ أم أنه لم يفعل لأنه مقتنع أن الأمريكان هم وراء الإرهاب، وأنهم سيدافعون عن الإرهابيين؟
ألا يعني مجرد وجود مثل هذه المشكلة، أن وجود الأميركان لم يكن له أي مبرر وأن الحكومة لم تستطع الإعتماد على مساندتهم حتى حين كانت تعرف الإرهابيين وتمتلك ملفات لمحاسبتهم؟ بل ألا يعني ذلك أنهم يدعمون الإرهاب حين يصرون على دخوله الحكومة، ويزورون الإنتخابات من أجله وهم يعلمون به، وأن التخلص منهم بأسرع ما يمكن كان واجب الحكومة الأول؟ ألا يعني أن المعاهدة التي أبقتهم ثلاث سنين إضافية كانت كارثة أبقت دعما للإرهاب ثلاثة سنوات إضافية ؟ هل إذن أن خروج الأمريكان هو ما جعل المالكي يرى أن الوضع أصبح يسمح بكشف تلك الملفات؟"
وقلت: "لندفع بسؤال صريح: هل يمتلك المالكي أيضاً ملفات تدين الأمريكان بالإرهاب وأن "مقتضيات سياسة الممكن" رأت أن طرحها "غير ممكن"؟ إن مبرر الخوف من نقمة الأمريكان، ....، يبدو مبرراً مقنعاً أكثر بكثير من مبرر الخوف من نقمة الهاشمي وجماعته."

ليس في الأمر ما هو غريب وصعب التصديق، فلطاما إتهم العديد من السياسيين في مناسبات مختلفة الأمريكان بالضلوع بالإرهاب في العراق، إلا أن تلك الإتهامات تودع في النسيان دائماً. ولعل من أواخر تلك الإتهامات ما كشفه النائب عن التيار الصدري جواد الحسناوي من وجود وثائق تؤكد صلة تنظيم القاعدة بالقوات الأميركية في العراق، معربا عن أسفه من أن الذين ينفذون تلك الأجندات “وجوه عراقية”، مشيراً إلى أن “القادة السياسيين والأمنيين يشيرون في تقاريرهم إلى أن خيوط الجريمة تتجه دائما باتجاه القواعد الأميركية”، وملمحاً بتعمد إفشال أميركا تدريبها للأجهزة الأمنية. "(4)

الشيء بالشيء يذكر، ونذكر أن القيادي في أئتلاف دولة القانون سعد المطلبي في اواخر العام الماضي حمل الامريكان مسؤولية عدم قيام رئيس الوزراء نوري المالكي بصولة القضاء على الفساد المالي والاداري". واضاف ان "الامريكان كانوا يمنعون رئيس الوزراء من القيام بمهامه وكانوا يصرون على ضرورة الحفاظ على مبدأ التوازن وحماية الفساد والمفسدين"."(5)
فإن كان الأمريكان يمنعون المالكي من محاربة الفساد كما قال قيادي دولة القانون، فما المانع أن يمنعونه من محاربة الإرهاب؟

طالما تساءل الناس: ما الذي استفاده الأمريكان من اتفاقية "سحب" القوات التي ابقتهم ثلاث سنوات إضافية في العراق، وأثاروا كل تلك الضجة من أجلها؟ ربما تجيب هذه الحقائق عن ذلك التساؤل. على الأقل أني لا أعرف ما يمكن أن يفسر حماسهم لتلك المعاهدة والضغط الرهيب الذي سلطوه من اجلها، سوى هذه الحقائق التي تشير إلى أن الهدف كان إعادة تسليم السلطة إلى البعث، وهي المحاولة التي فشلت بامتياز، ثم تعمدهم إبقاء الإرهاب والفشل الأمني والسياسي والإقتصادي أطول فترة ممكنة،مثلما تعمدوا شل الحكومات العراقية المتعاقبة بإصرارهم على "حكومات الشراكة" التي تمكنهم من وضع الأسافين في عمل الحكومة، بمساندة مواد في الدستور تمت صياغتها لتتيح لهم ذلك.

والحقيقة أن علاقة الأمريكان بإرهاب الهاشمي، هو ايضاً في رأيي خير ما يفسر غرابة سماح الحكومة للمتهم بالهرب من خلال إعلان الموضوع قبل القبض عليه، لأن الإمساك به قد يعني في هذه الحالة مواجهة مع الأمريكان، الذين لا يستبعد ان يستعملوا كل قدراتهم، إن لم تكن العسكرية التي ذهبت، فالدبلوماسية والسياسية وربما العملاء الذين يكثرون في قيادات الجهاز الأمني ووزارة الدفاع بلا أي شك، لإنقاذ الهاشمي كما فعلوا مع الشعلان، وهو إحراج من الطبيعي أن تحاول أية حكومة تجنبه بأي شكل.

(1) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/6hashmi.htm
(2) http://aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11392&article=555954&feature
(3) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10982
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7473
(5) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9193#comment53024


38
لماذا مصالح الفقراء دائماً بالآجل؟

صائب خليل
27 شباط 2012

أثار تصويت مجلس النواب العراقي على موازنة 2012 إحتجاجات كبيرة بين الناس، شملت المؤيدين للحكومة ربما لأول مرة. وحظيت نقطتان بغضب المحتجين، الأولى كانت تخصيص 60 مليار دينار عراقي لشراء 350 سيارة مصفحة للنواب، والثانية الغاء فقرة لإنشاء مشاريع إسكان وبنية تحتية "للفقراء" كان يفترض أن تدفع "بالآجل" (1).

من الناحية الحسابية، ربما يبدو الغضب على مبلغ السيارات المصفحة البالغ حوالي 50 مليوناً، غضب مبالغاً به، إن تذكرنا عشرات المليارات الضائعة هنا وهناك، والتي لم تثر مثل ذلك الغضب علماً أنها تبلغ ألف مرة تقريباً بقدر مبلغ السيارات المصفحة، وأنها سرقت واختفت تماماً، بالتعاون بين قادة الولايات المتحدة ولصوصنا المحليين، ومنها 40 مليار دولار في ضربة واحدة! (2).

إلا أن غضب "المصفحات" كان له صفة خيبة الأمل الشديدة بالنواب، الذين يفترض أنهم الأقرب إلى الشعب الذي انتخبهم. ومما زاد الغضب من قرار شراء السيارات المصفحة الذي بدا وكأنه قد تم طبخه سراً، أن إعلانه تواقت مع تفجيرات إرهابية عنيفة هزت العراق، فصب ذلك الإعلان الملح على جروح العراقيين، ووجدوا في نوابهم تصرفاً مخيباً للآمال.
لذلك سارع القادة والسياسيون إلى التبرؤ من هذه الفقرة وادعى الجميع أنه لم يصوت لها، أو تجنب الإشارة إلى ذلك. ووصف السيد مقتدى الصدر من يستعملها بأنه خائن للشعب. وكشفت المناقشات أن هناك ما لا يقل عن 1000 سيارة مصفحة، ليس فقط للمسؤولين الكبار وإنما لحماياتهم أيضاً، وطالب أحدهم بـ "عرض جلسة التصويت على السيارات المصفحة على الشعب" من أجل "إنهاء المزايدات" (3). كما طالب آخرين بإيجاد مخرج لإلغاء تلك الفقرة من الموازنة (4).

الغضب من النقطة الأولى كانت لإقرار المجلس لفقرة بعيدة عن الشعب، أما الغضب من الثانية فكان لعدم إقرار الفقرة الأقرب إلى الشعب وهنا طامة أكبر، وقال أحد النواب بأنها " ضربة قاضية للفقراء". ومثلما سارع النواب والقادة إلى التبرؤ من الأولى، كثرت المزايدات في الهجوم على عدم التصويت على الثانية. فهذا النائب عن ائتلاف دولة القانون حسن السنيد يهدد بالاستقالة من البرلمان إذا ألغيت المادة 36 (5).
وعن تلك الفقرة، قال عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار عزيز شريف المياحي عن الكتلة العراقية البيضاء بأنها "مشاريع للبنى التحتية بما لايزيد عن 18 ترليون دينار منها 2 ترليون دينار لبناء مجمعات سكنية للفقراء توزع بحسب النسبة السكانية لكل محافظة وتنفذ على اساس الدفع بالآجل "، محذراً من إجراء أي تعديل او تغيير عليها (6).
والحقيقة أن الفقرة لم تغير فقط، وإنما تم التصويت بإلغائها كلية، وسننتظر إستقالة السنيد ونتيجة غضب الباقين على "مصالح الفقراء"!

الملفت للنظر ليس فقط أن "فقرة الفقراء" بالذات هي التي ألغيت من الموازنة، وإنما حقيقة أن مخططي الميزانية قد اجمعوا وقرروا بأنها، لو تم التصويت عليها، فسوف تنفذ بالدفع "الآجل"!
ولعلكم تذكرون القضية التي إثيرت على وزير الكهرباء السابق وأن سببها كان قرار الحكومة بالدفع بالآجل لمشاريع كهرباء، فلم تجد وزارة الكهرباء شركات "رصينة" تقبل بالآجل في ظروف العراق فاضطرت لإعطائها للشركتين الوحيدتين التين قبلتا بذلك، وكان ما كان.

والآن، ماذا لو لم تجد الوزارة المسؤولة شركات تقبل بالتنفيذ بالآجل للبنية التحتية ومساكن الفقراء؟ ماذا إذا لم تجد غير شركات "غير رصينة" لتنفيذ تلك الفقرة؟ ماذا لو قبلت شركات ولكن بأسعار تعجيزية؟ عندذاك سيولول الجميع بعدم توفر المال وعدم قبول الشركات بالتنفيذ، ويتم إلغاؤها وكأن الحكومة والأحزاب قد أدت ما عليها تجاه "الفقراء" لكنه سوء حظ هؤلاء الفقراء ليس إلا، ولن يحتاج السنيد إلى أن يستقيل أو أن يشعر أي نائب بوخز ضمير!

يتساءل المرء، لماذا تترك مطالب الشعب إلى الصدفة وتعامل باعتبارها أقل المشاريع أولوية؟ الكهرباء كانت أيضاً مطلباً شعبياً أساسياً، فوضعت على لائحة "الآجل". ومثلما أعلن السيد المالكي في نفس تلك الأيام عن عقود طائرات أمريكية "تدفع من فائض النفط" تاركاً مشاريع الكهرباء لمشاكل "الآجل"، فأننا نقرأ اليوم ايضاً أن "العراق يستعد لتسلم صواريخ ومنظومة رادار متطورة جداً" (7)، وأنها ستأتي "من البلدان العالمية المعروفة بتصنيع هكذا انواع من الاسلحة." وهي بالتأكيد ليست بالآجل، بل تدفع مقدماً. هذا مع العلم أن العراق ليس معرضاً لأي تهديد، وليس هناك أية ضرورة مستعجلة لها.

يتعجب صادق حسين الركابي، كيف يمتلك شعب عشرات المليارات في خزانته، ورغم ذلك يبقى العراقيون "أغنياء تحت خط الفقر."؟ (8) لكن الصورة تتوضح شيئاً فشيء، والعجب يزول تدريجياً. ليست فقرة "مساكن الفقراء" هي السابقة الأولى من نوعها التي يصوت ضدها أو توضع على "رف الآجل"، ولم تكن الكهرباء هي الأولى ايضاً، بل يبدو أنها القاعدة العامة للتصرف بأموال الدولة، وأن مصالح الفقراء دفعت دائماً إلى "آجل" غير مسمى. ولولا ذلك لما وجدنا 7.6 مليون عراقي بدون مياه صالحة للشرب (9)، ولا جلس التلاميذ في مدارس الطين التي بلغت الألف مدرسة في العام الماضي، ومازالت تتكاثر، يعانون الحر الشديد في الصيف، وفي الشتاء ينقلون المدافئ القليلة بين الصفوف والإدارة، لكي لا يتجمد أحد من البرد (10)، ولا عاش "اكثر من نصف الشعب العراقي ... بأقل من “نصف بقرة” اوروبية!" (11)، ولا أضطر بعض العراقيين أن يبيع أعضاءه (12)، أو تصل الحالة بأب أن يبيع إبنه أو آخر أن يلقي به في النهر لشدة العوز! في ثاني بلد في إحتياطي النفط، وبعد سبعة سنين من ديمقراطيته (13).

وعندما يكون تركيز النواب على فقرات مصفحاتهم والسياسيين على إرضاء شركات الأسلحة الغربية وغيرها، فمن الطبيعي أن لاتجد فقرات الفقراء إلا "الآجل" المؤجل، بل إلى قضم الموجود البسيط منها. ففي أواخر عام 2007 الغت حكومة المالكي الأولى نصف مواد البطاقة التموينية بسبب "عدم توفر المخصصات المالية الكافية"، حيث تتطلب 8 مليارات دولار وقد خصص لها 3 مليارات فقط، حسب وزير التجارة.
في هذه الأثناء، كان وزير المالية باقر جبر الزبيدي يعلن أن العراق وقع اتفاقا مع الوكالة الدولية لحماية الاستثمار يقوم البنك الدولي بموجبه برصد 17 مليار دولار لحماية المستثمرين في العراق من "أية إجراءات تعسفية محتملة." وطبيعي أن البنك سيقوم باستقطاعها من العراق لاحقاً! فمن الذي قرر ان يعطي الإستثمار 17 ملياراً وأن الناس لا يستحقون أكثر من ثلاثة؟ هل انتخبه الشعب، أم "الإستثمار" يا ترى؟ (14)

قبل ثلاث اعوام تقريبا قال علي الدباغ، الناطق باسم الحكومة العراقية أن "عدد الأيتام في العراق يفوق قدرات الدولة العراقية!" ومن الطبيعي أنه يقصد أن "قدرات الدولة العراقية" بعد استقطاع المصروفات الباذخة والرواتب الضخمة والسيارات الغالية والسرقات الكبرى، فأن "عدد أيتام العراق" سوف يفوق ما يتبقى من قدراتها! كتبت حينها في مقالة لي بعنوان "قدرات الدولة وأيتامها"، وشبهت حالة الشعب العراقي بالشعب المصري تحت حكومته السابقة التي ولا تجد المال اللازم لسكن أبنائها سوى المقابر لأنه "يفوق قدرتها" أيضاً، لكن دعم إسرائيل من تصدير الغاز المخفض بمقدار 13.5 مليون دولار في اليوم، لا "يفوق قدرتها".
و"يفوق قدرات الدولة العراقية" التي يحكمها الدباغ أيضاً، توفير مياه الشرب والحد الأدنى من العيش للإنسان الذي يضطر إلى بيع ليس شرفه فقط، بل أطفاله أيضاً، مثل قصة (زهراء) ذات الأربعة اعوام والتي بيعت في وسط بغداد بمبلغ 500 دولار كما نقل التلفزيون السويدي وطفل آخر في العاشرة باعه أبوه ليطعم أخوته فانتحرت أمه بمبيدات زراعية (15).

يجب أن يدرك العراقيون أن الإتجاه نحو "الإستثمار" والخصخصة والمؤسسات المالية الدولية التي تسيرها الشركات، أمر يجب أن يؤخذ بحذر شديد، وأن المنطقة مليئة بالألغام والأفاعي التي لا تقدر على الولوج فيها إلا أقوى الدول وأكثرها خبرة وخبثاً وقوة، وأن السقوط بين انيابها قد يعني نهاية البلد ومستقبله. والعراق ليس في وضع يتيح له الإستفادة المرجوة من تلك المؤسسات وذلك الإنفتاح على السوق والخصخصة والإستثمار، وان خير ما يفعله العراق اليوم هو غلق الابواب بوجه الإستثمار والقطاع الخاص، خاصة الاجنبي الكبير، قدر الإمكان والإعتماد على القدرات الذاتية وعدم تبديد النفط واستعماله بعناية وبحساب دقيق حريص وبضمير حي.

إن الإتجاه الحالي للساسة العراقيين بمختلف كتلهم هو بالعكس من هذا تماماً، وهناك اندفاع يكاد يكون جنونياً نحو الإستثمار والتبذير في استخراج وبيع النفط وكانه قذارة يجب التخلص منها بسرعة، وبلا اي تخطيط ولا اي حساب لما يحتاج إليه البلد وما يستطيع أن يستخدمه من امواله. مخططي الإقتصاد العراقيون، يخبرونا أنهم "يخططون" للوصول إلى 12 أو 14 مليون برميل في اليوم، لكنهم لا يخبرونا لماذا يريدون ذلك. لا يخبرونا أن العراق بحاجة للمشاريع كذا وكذا، وأن هذا يتطلب كذا مليار، وبالتالي نحتاج إلى 12 مليون برميل من النفط يومياً، إنما يقدم الرقم الأخير وحده، وكأنه يمثل خطة إقتصادية وغاية بحد ذاتها – ثم سنرى ما نفعله بتلك النقود! المهم أن نغلب السعودية في تبديد ثروات بلدنا لندخل مقياس جينيس. هذه حالة جنونية، ولقد لعب الإعلام العراقي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة دوراً سيئاً للغاية في توجيه المزاج الحكومي وربما حتى الشعبي، نحو استخراج النفط بلا حدود، ونحو الإستثمار والإنفتاح واقتصاد السوق. بل أن حتى يساريي العراق يخلطون انفسهم مع "الليبراليين" بلا وعي.

كتب رئيس الوزراء نوري المالكي في مقالة له في الواشنطن بوست في العام الماضي انه  يعمل "من اجل تحطيم الحدود التي تعيق الاستثمار من اجل ان تكون هذه الرؤية واقع حقيقي، وانا اعمل باجتهاد مع هيئة الاستثمار لضمان حق المستثمر الأجنبي، من اجل خلق بيئة مناسبة تساعد على قيام الاستثمار" (16).
ماذا عن حق العراقي في "بيئة مناسبة" لحياته؟ ما الذي تم عمله من أجلها؟ يجب أن يدرك الشعب أن هذا الإتجاه مؤسس بضغط الشركات العالمية، وأن لا مصلحة له إطلاقاً في مثل تلك السياسة. ولو ان العراق بلد فقير تعوزه الأموال لفهمنا إضطراره لقبول شرور الإستثمار على مضض، كما تفعل بقية الدول الفقيرة إلى المال، لكن كيف يمكن أن نفهم أن يفعل ذلك من يضطر إلى معاقبة وزرائه لعدم تمكنهم من صرف الأموال المخصصة لوزاراتهم؟ لقد اضطرت الحكومة سابقاً إلى معاقبة كل وزير لا يصرف ما يزيد عن 75% من مخصصات وزارته، واليوم تراجعت مضطرة إلى محاسبة كل وزير لا يصرف 60% من المخصصات المالية له، وإلا عوقبت كل الوزارات تقريباً! مثل هذا البلد يفترض به أن يستثمر أمواله في الخارج إن لم يستطع أن يجد لها استثماراً في الداخل ويعجز عن صرفها، لا أن يجلب إستثمارات من الخارج، وأن يستدين من مؤسسات تضع القيود على إقتصاده وقراراته، وأن يتحدث عن "عجز" في الميزانية، وكأن العجز قاعدة إقتصادية!

هل من المعقول أن تشتري وزارة الدفاع العراقية "النانو تكنولوجي" وطلاب العراق يقتلهم الحر والبرد في مدارس الطين؟
هل يجب أن ننسى ذلك ونفرح لأن "بورصة العراق تتصدر تداول الأسواق المالية العربية"؟ (17)، رغم أنه وفي نفس الوقت تماماً، تعلن وزارة التربية العراقية، عن إيقافها مشروع التغذية المدرسية المقرر تطبيقه للمدارس الابتدائية للعام 2012 ، والذي يتضمن قطعة بسكويت وقدح حليب وقطعة فاكهة، بسبب قلة التخصيصات المالية للوزارة؟(18)
هل من الضروري أن نشتري دفعة واحدة 18 من أغلى الطائرات الحربية "المتطورة" في العالم، في الوقت الذي يخبرنا اليونسيف أن هناك "حوالي 3.5 مليون طفل يعيش في فقر ويعاني أكثر من 1.5 مليون طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية ويموت 100 رضيع تقريباً كل يوم"، وأنه ينبغي حصولهم على الغذاء الكافي لتمكينهم من النمو بشكل سليم؟(19)

كم عراقياً ستنقذ تلك الطائرات الغالية و"الرادارات المتطورة"، وكم سياسياً ستنقذ تلك السيارات المصفحة، بأكثر من خطر يقتل 100 رضيع كل يوم ويشوه نمو الملايين، باستلابها التخصيصات المالية من أفواههم؟

لماذا تتفتح "قدرات الدولة" عندما يتعلق الأمر بشراء السلاح والتبذير ومشاريع مشكوك بها وأخرى مشبوهة، وتقف عاجزة أمام طعام الأطفال ومساكن الفقراء وحاجة الناس للماء والكهرباء والصحة، لتلقي بها في غياهب "الآجل"، أو يصوت البرلمان ضدها في النهاية؟ لقد شبه عبد الزهرة المنشداوي في مقالة له في المدى الفوارق بين رواتب المسؤولين ورواتب الناس، بالذي (يأكل بين عميان)، فيستغلهم بلا رحمة أو ضمير (20)،  وهذا هو الحال كما يبدو. لذلك فعلى الناس أن "تفتح أعينها" إن أرادت الأكل من وليمة الميزانية، وإن أرادت لأطفالها أن تتعلم وتنمو بشكل سليم. عليها أن تتساءل عن فائدة أي مشروع بالنسبة لها، وأن لا تخدع بعبارات لا ناقة لها فيها ولا جمل، مثل النانو تكنولوجي والبورصة والإستثمار وحرية السوق وصندوق النقد الدولي والخصخصة، فليست هذه إلا عبارات منمقة لأدوات لصوص أخترعت لسرقة ثروات الشعوب قبل ان تبني بها بلدانها. كيف يكون الإستثمار خيراً عندما يطالب بـ 12 مليار لما يستطيع القطاع العام توفيره بـ 800 مليون كما برهن وزير الكهرباء المقال، وبمثال عملي من الواقع؟ (21) أليست الخدعة واضحة؟

على الناس أن تسأل المسؤول: ماهو نفع هذا المشروع بالنسبة لي؟ ما هي الإتفاقات التي تمت للدراسة في الخارج، وبأي اختصاصات وكم تكلف، وهل نحن بحاجة إليها، وهل استخدمنا كل الشهادات العليا المتوفرة لدينا فعلاً لنرسل البعثات الجديدة بكل هذه الكلفة؟ ماهي نسبة بقاء الطلاب في الخارج بعد تخرجهم؟ ما هو النانو تكنولوجي ولماذا يجب أن نصرف فلوس عليه؟ إن لم أفهمه فاشرحه لي، لأن من حقي أن أعرف وأن افهم. لا يهمني أن أتفاخر بـ "آخر ما توصل إليه العلم"، لا اريد أعلى برج في المنطقة ولا أجمل بناية مجلس وزراء في العالم... أريد شيئاً نافعاً لي ولأولادي يعيننا على الحياة. هكذا يجب أن يفكر المواطن ويتكلم.

إن كل ما يقال عن تطوير الإقتصاد وبناء البلاد عن طريق حرية السوق كذب مفضوح. لقد تحدى البروفسور جومسكي أن يقدم أحد له مثالاً واحداً عن بلد تم بناء إقتصاده عن طريق حرية السوق، فلم يجد من يقبل تحديه! كلها بلا أي استثناء بنيت بالحماية، وعلى مدى التاريخ، من بريطانيا وأوروبا إلى أميركا وصولاً إلى اليابان ونمور آسيا والصين، فلماذا يشترطون على العراق أن يبني صناعته بحرية السوق؟ إن من يقول بحرية السوق والقطاع الخاص، لا يريد لهذا البلد والشعب الخير، وكلما أدرك الشعب ذلك مبكراً، بوضوح وبلا مجاملات، وأتخذ مواقفه الواثقة على اساس ذلك، زادت فرصته في الحياة.

في النهاية أقول، ورغم مرارة أخبار الميزانية الجديدة، فإني أرى هذا الغضب نقطة ضوء ووعي ديمقراطي، تبعث بعض الطمأنينة. إنه يعني أن الشعب بدأ أخيراً يدرك عميقاً أن ثروات بلاده هي ثرواته، وأن المسؤولين ليسوا أصحابها يتفضلون عليه بفتات التبرعات هنا وهناك كلما أراد واحد منهم أن يؤمن أصوات ناخبيه، وإنما هم وكلاء أُجراء فقط، كلفهم بإدارتها وتحت رقابته، وقد بدأ يطالبهم بتوزيعها لصالحه ولصالح مشاريعه، ويرتفع صوته المهدد وليس المتوسل، بما يخيف "ممثليه" في البرلمان، ويجعلهم يحسبون حساباً لرأيه. وخير دليل على ذلك الدعوات التي تنادي بإعادة التصويت على "فقرة 36" و "فقرة السيارات".

يجب أن أذكر هنا أن البرلمان يبقى الحصن الديمقراطي الأهم للشعب، وسنده الأخير، وأن حكومة المالكي هي حكومة منتخبة بحق، رغم بعض إشكالات الإنتخابات، وإن جرى تزوير في الإنتخابات السابقة فقد جرى بالضد منها وليس لصالحها. ليكن واضحاً أن هذه المقالة لا تدعوا إلى إلغاء البرلمان أو إعادة الإنتخابات، فليس هناك أي مؤشر إن الحكومة القادمة ستكون أفضل بالضرورة. إنني أدعو الشعب فقط إلى ممارسة دوره المطلوب في الرقابة الشعبية، وإلى الوعي بأن ثروات البلاد ملك له وأن البرلمان والقادة ليسوا سوى وكلاء انتخبهم الشعب لإدارة مصالحه، ولكن برقابته المستمرة. فإن تخلى الشعب عن رقابته، فلن يمكنه أن يأتي بحكومة ونواب يخدمونه حقاً، مهما حاول ومهما أعاد الإنتخابات، وتجارب الشعوب العريقة في الديمقراطية تؤكد ذلك. مجلس النواب والحكومة المنتخبة والإنتخابات والصحافة الحرة، هي أدوات للديمقراطية – حكم الشعب – وليست الديمقراطية نفسها. ولهذه الأدوات كغيرها، أمراضها ونقاط ضعفها، ولذلك وجدت الشعوب أن الطريق الوحيد الصحيح هو باستمرار المراقبة الشعبية والتصحيح والتنظيف إن تطلب الأمر. فالسلطة تدعو للفساد والتوسع، والإغراءات شديدة والضغوط أشد عليها، وأن هذه الضغوط والإغراءت على النواب والحكومة يجب أن يتم معادلتها بضغط الرقابة الشعبية القوية من أجل حماية ممثلي الشعب وحكومته من الإنزلاق.

إن ما حدث اليوم هو تجاوز للإستقطاب الطائفي الذي طالما احتمى به السياسيون ليقيهم المساءلة، فهو يقسم الناس بين "مؤيدين دائماً" لا يخشى منهم، و"محتجين دائماً" لا جدوى من محاولة كسبهم ، وهو ما يعفي الحكومة والبرلمان من أية رقابة شعبية مؤثرة، والتي هي من أسس الديمقراطية.
لكن الرقابة الشعبية مازالت عليلة، بل ومازالت مستهدفة. ومازال مجهولاً للناس أي من البرلمانيين صوت على اي قرار وبأي شكل. واليوم قرأت عن غش في التصويت الإلكتروني في البرلمان(22). ولكن متى تم إقرار التصويت الإلكتروني في البرلمان؟ وما هي الإحتياطات التي اتخذت بشأنه؟ لطالما حاول البعض التخفي وراء التصويت الإلكتروني والتصويت السري الذي لا يفسر إلا على أنه ستار يحتاجه لتمرير مواقف مخجلة لا يريد الناس أن يروه يتخذها، مثل المواقف الأنانية اللصوصية ومواقف الرضوخ لضغوط الشركات الأجنبية الكبرى والدول القوية على حساب مصالح الناس، وطالما كتبنا عن ذلك وحذرنا منه، وإذا به يمرر خلسة وبدون علم الناس!
على الشعب أن لا يستخف بهذه الإجراءات ولا يعتبرها صدفة وأن ينظر بعين الشك إلى أي إدخال للإلكترونيات والحاسبات في شوؤن التصويت وحساب الأصوات، فهي مصدر لا ينضب للغش الذي لا يرى ولا يكتشف، وهو بالضبط ما يريده البعض. يجب المطالبة بكشف كل جلسات البرلمان (إلا في الحالات النادرة التي يريد المتكلم فيها ذكر أسرار عسكرية أو أمنية خطيرة) وجعلها علنية، وربما تخصيص قناة تلفزيونية لها كما في بعض الدول الأوروبية. على الشعب أن لا ينسى حقوقه، ولا يأتمنها تماماً لأحد، ولا يقبل أن يكون "أعمى الوليمة". عندها فقط يمكنه أن ينتظر ثمار الديمقراطية الطيبة ويستحقها، ولتكن "غضبة السيارات المصفحة" إشارة تحول في الرقابة الشعبية العراقية، وعندها فقط لن نرى من يجرؤ على التصويت ضد فقرات مصالح الفقراء أو تركها لـ "الآجل".

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13420
(2) http://al-nnas.com/ARTICLE/TITaha/5mth5.htm
(3) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13532
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13517
(5) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13418
(6) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13356
(7) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13554
(8) http://al-nnas.com/ARTICLE/is/16t.htm
(9) http://www.margaya.com/forum/index.php?topic=16601.0
(10) http://www.yanabeealiraq.com/n1011/n14111108.html
(11) http://www.doroob.com/archives/?p=22338
(12) http://www.dctcrs.org/s5297.htm
(13) http://www.sautalomal.org/index.php?option=com_content&view=article&id=1508
(14) http://www.alnoor.se/article.asp?id=15382
(15) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/1eg.htm
(16) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10072
(17) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5784
(18) http://www.aknews.com/ar/aknews/3/286660/
(19) http://www.yanabeealiraq.com/news0511/n02071108.html
(20) http://almadapaper.net/news.php?action=view&id=16598
(21) http://www.youtube.com/watch?v=rocQRgIy3io
(22) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13553

39
 

ذات مساء ماطر– هانز بليكس وأنا وقنبلة إيران

صائب خليل
19 شباط 2012

كان موضوع الجزيرة هذا اليوم هو الحدث "الخطير" بعبور سفينتين حربيتين إيرانيتين لقناة السويس! مذيعة القناة تتصل بخبراء قانونيين وعسكريين، وتسألهم بقلق هل أن قوانين القناة هي قوانين مصرية أم دولية، كيف ذلك؟ وهل لا يحق لمصر أن تمنع السفن التي قد تمثل "خطراً" على أمنها؟ لم تهتم أبداً بما أخبرها أحد المتحدثين من مرور سفن حربية إسرائيلية وامريكية قبل فترة قصيرة، واستمرت بحث ضيوفها بالتحدث عن "دلالات" ذلك الحدث الخطير، وإن كان "جزء لا يتجزأ من التوسع" الإيراني في المنطقة....  

إيران التي لم تعتد يوماً على مصر، تمثل خطراً على امنها، وإسرائيل التي لم تهادن مصر يوماً، حتى وضعت عملاءها على قيادتها، دولة لا خطر منها على أمن مصر! مرور سفينة إيرانية "توسع في المنطقة" واحتلال إسرائيل للأراضي العربية ليس "توسع"، فلا بأس أن تمر تلك السفن! لا يكاد يكون هناك خبر عن إيران لا يحمل غمزة المقاييس المزدوجة، فالدولة التي تزعج إسرائيل يجب أن يكون لها قائمة حقوق منقوصة مختلفة عن بقية دول العالم. أعادني هذا الخبر إلى سنتين إلى الخلف...

***

مساء الثالث والعشرين تشرين الثاني 2009، وبروكسل تغتسل بالمطر وانعكاسات أضوية الشوارع، وأنا أبحث عن قاعة محاضرة أقامها "مركز السياسة الأوروبية" (European Policy Centre) لـ "هانز بليكس"، الرئيس السابق للجنة التفيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق.
تحدث الرجل إلى حضور لا يزيد عن مئة شخص في قاعة صغيرة عن حال العالم، وقال أن الأسلحة النووية مازالت خطراً يهدد السلام العالمي، والحكومات التي تصرف ألاف المليارات على التسلح ، لأميركا حصة منها تقارب نصفها، بينما يتقاسم النصف الآخر بقية العالم كله.

ولمح المفتش السابق للأسلحة معاهدات التسعينات التي لم تفعّل، وبدأ الإنزلاق إلى العودة إلى التسلح في بداية القرن الحالي، ورفض الكونغرس الأمريكي معاهدة منصات التجارب النووية وانسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية الصورايخ المضادة للصواريخ البالستية، وتوسع الناتو بما لا يخدم السلام العالمي، وازدادت التهديدات الأمنية بعد 11 سبتمبر وغزو العراق، وانتهى مؤتمر نزع السلاح عام 2005 بجدل حاد، وفشلت محاولات تحريم الإتجار ببعض أنواع الأسلحة الشديدة الخطر، ورفضت كوريا الشمالية التخلي عن برنامجها النووي بالرغم مما عرض عليها من حوافز، مثل ضمانات ضد اي هجوم خارجي وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة واليابان ومساعدات من الغذاء والطاقة.

أسف بليكس أن الدول الكبرى لم تبدأ بنزع أسلحتها النووية وفق "معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية" رغم أن كل أوباما ومدفيديف يعترفان بأن هناك إلتزام قانوني على الدول النووية بالبدء في نزع سلاحها. وقال أن مما يعرقل الإتجاه إلى نزع السلاح بشكل عام هو قوة لوبي السلاح في الولايات المتحدة وأنهم يملكون الملايين ورجال الكونغرس بحاجة إلى ذلك المال.

وبدد الرجل أيضاً الدعاية "الإرهابية" عن خطر احتمال بيع كوريا للتكنولوجيا النووية إلى الإرهابيين كالقاعدة، بالقول أن تكنولوجيا كوريا قديمة جداً، كما أنه ليس من الممكن عملياً لمنظمات لاتحكم دولاً أن تمتلك أو تشتري السلاح النووي.

وحين جاء الحديث عن إيران، كان جلياً من أسئلة الحاضرين، أنهم ينقسمون بين الخبيث والخائف فعلاً، لكن بليكس أتخذ موقفاً مبدئياً، فقال: "يمكننا أن نفهم اندفاع إيران إلى تطوير سلاح نووي عندما كانت في حرب مع العراق، أما اليوم فلا يوجد ما يهددها في دول الجوار" ثم استدرك قائلاً: "هل ترى إيران في الولايات المتحدة خطراً عليها؟ لن يكون ذلك غريباً عندما تقول الولايات المتحدة بأن "جميع الخيارات موضوعة على طاولة البحث" في  الوقت الذي تدور فيه بواخرها قرب السواحل الإيرانية.

وأشار بليكس إلى أن الإتحاد الأوروبي عرض على إيران عضوية منظمة التجارة مقابل تخليها عن برنامجها النووي، لكن ذك لم يكن كافياً وتساءل: لماذا لا تقدم الولايات المتحدة على تقديم حوافز لإيران مشابهة لتلك التي قدمتها إلى كوريا الشمالية، مثل ضمان عدم مهاجمتها وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها؟

ورداً عن سؤال فيما إذا كان تسلح إيران سيثير سباقاً نووياً في الشرق الأوسط، أجاب بالشك، لكنه ألمح إلى أنه بالمقابل فأن امتلاك دولة أخرى غير إسرائيل لليورانيوم المخصب، قد يقنعها بتغيير موقفها والقبول بمعاهدات تخلي الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، فهي لا ترى حافزاً لذلك الآن!

وسأل أحدهم بخبث، فيما إذا كان الدين الإسلامي هو ما يدفع إيران لتطوير الأسلحة النووية، فأشار بليكس إلى  "أن المرشد الأعلى خامنئي قال بالعكس من هذا وأكد أن السلاح النووي ضد مبادئ الإسلام" وأن إيران تقول أنها تطور وقوداً نووياً فقط، و"علينا أن ننتظر لنرى."
وذكر بليكس أن إيران إشترت وقوداً نووياً من الولايات المتحدة في زمن الشاه، وأن تلك الحكومة دفعت ثمن الوقود. وحين جاءت الثورة الإسلامية لم يتم لا تسليم الوقود, ولا اعيد إليهم المال، لذلك رأى الإيرانيون أنه يجب أن يحصلوا على ذلك الوقود بأنفسهم.

رغم أن بليكس تطرق إلى ما يقلق إيران، فأنه كان بشكل عام كان يركز على حقيقة بعد إيران من القنبلة النووية، سواء من خلال تصريحات قادتها أو من الناحية العملية. أما بالنسبة للحضور، فقد كان الشك والقلق يبدو عليهم من نوايا إيران وضرورة منعها من حقها في انتاج الوقود النووي لأنه قد يتحول يوماً إلى قنبلة نووية. أما حقها في إنتاج السلاح النووي، فهو امر مرفوض ومفروغ منه، فمثل ذلك الحق لهم هم فقط وإسرائيلهم. وهذا زاد من رغبتي في تحدي هذه الفكرة الشوفينية المتعالية، فكان سؤالي هو خاتمة المحاضرة:

"السيد هانز، شكرا لك على كل المعلومات القيمة، التي بينت لنا مدى الخطر الذي يحيق بالعالم وأسباب ذلك الخطر. لقد تمتعت بهذا النقاش الصريح، حول فيما إذا كان الإيرانيون ينوون بناء قنبلة نووية أم لا، وأرجو أن تسمح لي بنقل النقاش إلى مرحلة أعلى من الصراحة، ليس حول نوايا إيران، وحقها في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية، وإنما حول حق إيران في امتلاك القنبلة النووية نفسها في عالم قلت أنت أنه غير آمن. دعني أطرح السؤال عليك بالصيغة التي طرحها المؤرخ الأمريكي اليساري الراحل، "هاوارد زن". يقول زن : "عندما نسأل سياسيينا لماذا تستمرون في تطوير المزيد من الأسلحة النووية ولديكم الآلاف منها، يجيبون بأن من الضروري أن نحصل على "رادع نووي". إذن لماذا ليس من حق إيران أيضاً أن تحصل على رادع نووي؟ لماذا يحق لنا أن نحصل على ألاف الروادع النووية ولا يحق لإيران أن تحصل على واحد فقط منها"؟

تنحنح هانز بجسمه الممتلئ تملأ وجهه ابتسامة طفولية محرجة، ثم قال: "ليس لدي ما أقول سوى إننا نعود بهذا السؤال إلى حقيقة المقاييس المزدوجة الغربية. لقد قال أوباما أنه ليس هناك أمة في العالم لها الحق في ان تقرر أي الدول لها الحق في امتلاك السلاح النووي وأيها لا تملك هذا الحق، وبقي أن ننتظر تطبيق هذه المبادئ."

هكذا أنتهت الأمسية، ولن يحتاج بليكس أن ينتظر اكثر، فأوباما قال منذ زمن أن امتلاك إيران لقنبلة ذرية "غير مقبول"، وأنه مستعد لإستعمال مختلف الطرق لحماية بلاده من خطرها. أما وزير دفاعه بانيتا فقال قبل أيام أنهم "لن يتحملوا إيران مسلحة نووياً".

بعد أيام من تلك الأمسية، حصلت على نسخة من التقرير الذي أعده "مركز السياسة الأوروبية" عن المحاضرة، والذي وزع على المشاركين والصحافة، فوجدت أن معظم ردود السيد بليكس فيما يتعلق بإيران بالذات قد تم إيجازها إلى شكل أقرب إلى ما يقبله الإعلام الغربي، أما سؤالي وجوابه عليه فقد حذفا تماماً من التقرير! فالحق في الردع النووي، مثل أمور أخرى عديدة، حق حصري بأميركا وإسرائيل وأتباعهما، ويجب أن لا يطرح على طاولة النقاش!

لا أكتمكم أني كنت سعيداً بقذف سؤال المؤرخ الكبير هوارد زن بوجههم، وسعيد بجواب بليكس، وكنت سعيداً أيضاً أنهم لم يتحملوا أن ينشروهما في تقريرهم!


40
 


الشعب السوري بمواجهة إعلام الحرب

صائب خليل
15 شباط 2012

تنشر "الجديدة" كاريكاتيراً لممثلي كل من الصين وروسيا في الأمم المتحدة، وهما يحملان الرصاص الذي يطلقه الأسد (على شعبه). هذه هي رؤيتها للموقف الروسي الصيني من الأزمة، وهو تصوير لا ينقصه الذكاء، لكن هل ينقل الحقيقة لأذهاننا؟

"لننظر ما تريدنا إسرائيل أن نرى اليوم" قلت لنفسي، وأنا أفتح "الجزيرة". وجدت فيصل القاسم في مقابلة بين شيخ معمم من المعارضة السورية مقابل رئيس جمعية الصداقة الروسية العربية...

فيصل القاسم يفضح "حياديته" فيبادر الشيخ المعارض بعبارة: "أليس صحيحاً أن بشار الأسد قدم وعوداً بالديمقراطية؟" لكنه ينهال على ضيفه الروسي بعبارات مثل:
"أنتم أعطيتم الضوء الأخضر للقتل" ...."أبشع أنواع الدكتاتورية والفاشية التي عرفها التاريخ...كما يقول فلان..."  "الشهداء الذين قتلوا بالأسلحة الروسية"...."قطعان جيش المهدي التي تدير الصراع في سوريا بمعية حزب الله"

أما الضيف ذو العمامة البيضاء الكبيرة فقد كانت عباراته من مستوى آخر: "الثورة ستزيحكم عن العالم العربي، وستغير معالم وجود روسيا في العالم" و "نهاية روسيا في العالم ستكون على أيدينا" و "هذه الثورات لتصحيح الكون".. " ستجبر الروس على أن يخرجوا من تاريخ العالم كله".حتى صار يصرخ: " إستحي على نفسك يا ماتازوف أنت كبير في عمرك .. إستحي يا رجل، إستحي ... عاهراتكم في البلدان العربية".  ولا يملك المشاهد إلا أن يهز رأسه دهشة لهذا المشهد الكوميدي التراجيدي وهو يرى رجل دين يتكلم بأحط أساليب أولاد الشوارع والفاظهم!

بعد قليل يتحدث للجزيرة، مسؤول من الخارجية الأمريكية عن تشكيل "منظمات جديدة لدعم الشعب السوري"! وكيف أن أميركا وقفت دائماً مع الشعب السوري(!)، وأخيراً يظهر "مدير العلاقات الدولية في مجلس التعاون الخليجي" من السعودية ليتحدث عن "تهديد النظام السوري لإستقرار المنطقة"!! ولكي يفهم المرء هذه المفاجأة، يجب ان يتذكر أن "الجيش السوري الحر" طالب صراحة مجلس الأمن بـ "التدخل الفوري ... تحت الفصل السابع  ".(1)
و"الفصل السابع"، هو الذي ذاق العراقيون بحجته ويذوقون حتى اليوم أشد الهوان من قبل "محرريهم" الأمريكان وتوابعهم الخليجية. هذا الفصل يستطيع الأمريكان تفسيره بقدرة قادر على أنه إطلاق يد أمريكا في بلد ما لتفعل ما تشاء، وإبقاءه أسيراً لها بقيود دولية شديدة. المشكلة هي أن الفصل السابع لا يستعمل وفق ميثاق الأمم المتحدة إلا في حالة وجود "تهديد للأمن الدولي"، لذا تم تكليف "مدير العلاقات الدولية في مجلس التعاون الخليجي" على ما يبدو بترويج الفكرة.
وفي هذه الأثناء بدأت في سوريا عمليات إرهابية إنتحارية، كما حدث في العراق بعد أن وجدت القدم الأمريكية – الإسرائيلية موطئاً لها على أرضه. (2)

ومرت الدقائق، وتساءلت أكثر من مقدمة برامج جميلة الوجه: "لم تلتزم أميركا بقرارات مجلس الأمن في العراق وكوسوفو والصومال، فلماذا تلتزم في قضية سوريا؟"! معبرين عن بلاهة نادرة لمن لا يدرك معنى دعوته وتداعياتها، والتي هي في حقيقة الأمر ليست إلا دعوة أمريكية – إسرائيلية لتطبيع إلغاء القانون الدولي المزعج، نهائياً.

أطفأت الفضائية الإسرائيلية لأستطيع التفكير قليلاً....بالشعب السوري، وأين يقف...؟

من يسمع الجزيرة، يتصور أن هناك خندقان، يقف في أحدهما بشار الأسد، وفي الخندق الآخر، الشعب السوري يدعمه كل العالم، عدا بضعة من "الأشرار" بقيادة الروس، من الباحثين عن مصالحهم الإنتخابية المؤسفة .. فهل هي صورة حقيقية؟ وهل حقاً الشعب السوري غاضب من روسيا ويريد تحطيمها؟
لماذا إذن خرج حوالي مليون متظاهر سوري ليستقبلوا وزير الخارجية الروسي بالهتافات المؤيدة، إمتناناً له على موقف روسيا!.
قد تقول المعارضة بأنهم أخرجوا إجباراً، وهو أمر مشكوك به، لصعوبة ذلك وخطورته الشديدة. وتذكرنا تلك الحجة بما قاله الصحفي الفرنسي الشهير تييري ميسان قبل اكثر من نصف عام حول ليبيا، قال:
"تبيّن لنا أن عدد القتلى لا يتجاوز 200 قتيل عندما قيل وقتها بأنهم 6 آلاف. ثـانيا، نحن نرى الدعم الشعبي للحكومة الليبية، ... لقد تم توزيع مليوني قطعة سلاح رشاش على السكان، وكانوا يطلقون الرصاص في الهواء، ولو كان الناس هنا في طرابلس ضد القذافي، لاستعملوا هذه الأسلحة ضده يوم الجمعة."
وعن وسائل الإعلام الغربية يضيف ميسان "مهمتها الكذب على الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة، والادّعاء أنه يجري تحرير شعب من ديكتاتور....يأتون إلى هنا ويأخذون صورا لمباني مهدّمة ملتقطة في طرابلس، ويعرضونها على أنها مبان قصفها نظام القذافي في مصراتة." (3)
ولسنا هنا بصدد الدفاع عن نظام القذافي، وإنما بصدد استكشاف طرق الإعلام الغربي، ومقدار مصداقيته، لنرى كيف تجري الأمور حقاً في سوريا.

قبل اسبوع نشر الصحفي "بوريس دولوكوف" مقالة يقول فيها أن تطور الأحداث في نصف العام الماضي، التي شهدها في سوريا تشير إلى تشديد العمليات الإرهابية ضد مؤسسات الجيش والخدمات المدنية والمدارس وأنابيب النفط والسكك والتفجيرات من جهة، ومن جهة أخرى توسع التأييد للرئيس بشار الأسد. وتحدث عن التظاهرات التي رآها، وأعطى مثالاً عن إرهاب المعارضة للناس بقتلها لأبناء المفتي الذي رفض الإنضمام الى المعارضة. (4) إضافة إلى مؤشرات عديدة بأن القوات القطرية والبريطانية تشن بالفعل حربا ً سرية في سوريا. (5)

وما هي حقيقة الموقف الروسي الذي تفرغت "الجزيرة" لشيطنته؟
حسب عبارات وزير الخارجية الروسي لافروف، فأن المشروع الروسي "يرمي إلى
اولا ـ وقف العنف مهما كان مصدره،
وثانيا ـ ان يجري الضغط في هذا المجال على كافة المشاركين في النزاع، على السلطة وعلى المعارضة المسلحة.
وثالثا ـ ان تتخلى المعارضة السياسية والمظاهرات السلمية بشكل جلي عن المتطرفين وكل من يحاول استغلال الاحتجاجات السلمية للتحريض على المواجهة بالقوة.
ورابعا ـ دعم بعثة الجامعة العربية وضمان تعاون كافة اطراف النزاع وكافة تنظيمات المعارضة معها.
وخامسا ـ البدء فورا بحوار وطني بمشاركة كافة التنظيمات السورية".(6)

ويرى أحد الكتاب أن "كل ما أرادته روسيا والصين هو إعطاء السلام فرصة. ... داعيتين جميع أطراف المعارضة السورية إلى الإبتعاد عن المجاميع التي تقوم بأعمال عنف." (7)


ما الذي جرى إذن في مجلس الأمن ليعارض تلك الأفكار؟ يكتب ألزنك بايرن تقريراً مفصلاً عما حدث من تحايلات ومراوغات هناك، فيشير إلى إصرارا وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على أن يقرأ المجلس التقرير الكامل لمراقبي الجامعة حول سوريا. لم يكن إخفاء التقرير اعتباطاً، ففي الوقت الذي أكد فيه ممثل السعودية بأن "سوريا لم تنفذ أياً من النقاط المطلوبة" فأن التقرير يؤكد العكس. فعن نقطة "إيقاف العنف" يؤكد التقرير (هنا نصه (8)) "تحسن كبير في تهدئة الموقف"، وأنه تم إطلاق سراح معتقلين، وأكد أن "جميع العربات العسكرية والدبابات والأسلحة الثقيلة قد تم سحبها من جميع المدن والمناطق السكنية"، وأن البعثة قد حصلت على تعاون الحكومة السورية في أداء مهمتها. كذلك تحدث التقرير عن إخباريات كاذبة عن تفجر الوضع وعن مبالغات وسائل الإعلام، وان البعثة كانت نفسها هدفاً للتشهير من تلك الوسائل، وادعت عنها تصريحات كاذبة.
ويضيف "للسخرية فأن النجاحات التي حققتها بعثة الجامعة العربية نفسها قد استغلت من قبل الغرب لدفع مجلس الأمن لإتخاذ قرار ضد سوريا. فانسحاب قوات الأمن السورية من المدن بطلب من البعثة، قد تم تصويره بأن المعارضة قد تمكنت من "السيطرة" على أجزاء من سوريا، مستعرضة صور بعض المسلحين وعوارض الطرق"  ، وهو ما حدث في الزبداني حيث تم اتفاق وقف إطلاق النار في 17 كانون الثاني، وفي اليوم التالي أعلنت المعارضة "سيطرتها" على المدينة، بأمل أن تقوم تلك المناطق "المحررة" بمقام بنغازي في ليبيا! 
ونبه الكاتب إلى تحدث وسائل الإعلام عن "قناصة" و "حرس ثوري" إيرانيون مزيفون. وقال أن إحصاءات بينت أن أغلبية الشعب السوري تدعم الأسد وأغلبية اكبر صوتت بالضد من تدخل "الجزيرة" و "تركيا" والمقاطعة العربية وتغيير الوان العلم وتصويت الأمم المتحدة بشأن سوريا.
ويلاحظ الكاتب محاولة الإستعجال بإحداث تغيير بوجود الرئاسة القطرية للجامعة العربية والتي ستكون للعراق في آذار المقبل، وأن الغرب حاول الإستفادة من رئاسة قطر لصياغة قرارات بشكل متعمد لترفضها سوريا. (9)

ويقول البروفسور جومسكي في أحد أحاديثه، أن السياسة الأمريكية تسعى دائماً إلى منع التفاهم بين الأطراف المتنازعة، وأنها إن قدمت أقتراحاً، وقبله الطرف الثاني، سارعت إلى رفع سقف مطالبها، فإن قبلها رفعتها ثانية أو ألغت المشروع، حتى يتحقق تحول النزاع إلى الجانب العسكري الذي تتفوق فيه أميركا بجلاء.

وقد استخدمت أميركا هذا الأسلوب بإمعان في يوغوسلافيا، وقد أحرج ميلوسوفيج هيئة المحكمة، رغم تحيزها الشديد، عندما طلب شهادة وزير الخارجية البريطاني السابق اللورد أوين، الذي أقر بأن ميلوسوفيج قد نفذ شروط الناتو، لكن الناتو استمر بضرب يوغوسلافيا رغم ذلك.
وفي القضية السورية، طالبت الجامعة العربية سوريا بقبول مفتشين ومراقبين عرب على أراضيها. وقبلت سوريا ذلك، فقال "رئيس" المعارضة غليون مستبقاً صدور التقارير، أنه لن يقبل تقرير المراقبين "إن لم يكن موضوعياً"!(10)
 فلما جاء التقرير غير مناسب لدعاة الحرب، لأنه يقر باستعمال الطرفين العنف، تم سحب المراقبين فوراً، ورفضت الجامعة "العربية" حضور الجنرال الدابي إلى مجلس الأمن! (11) ويزول العجب من ذلك التصرف عند مشاهدة المؤتمر الصحفي الذي عقده الدابي. (12)

ليس التآمر على سوريا بجديد، فيشير الكاتب ستيفن كوانز إلى  تقرير لنيويورك تايمز جاء فيه: ناقشت إدارة أوباما في أيلول الماضي إسقاط الأسد، "دون أن يبدو وكأن الولايات المتحدة تقود التغيير في سوريا".
ويسخر الكاتب "أن يضع مجلس التعاون الخليجي نفسه بشكل ملفت للنظر في خط ما يسمى بـ "المتمردين من أجل الديمقراطية" يشبه بعض الشيء دعم "الوول ستريت جورنال" لـ نقابة التضامن البولونية في الفترة الشيوعية، باعتبارها "الوجه الحقيقي للإشتراكية في بولندا"! ومهما يكن من امر، فأن نقابة التضامن لم تكن "الوجه الحقيقي للإشتراكية" وكان هذا هو السبب وراء دعم وول ستريت جورنال لها.
ويلاحظ الكاتب أن شكوى الخارجية الأمريكية من أن سوريا "فشلت في المشاركة في الإقتصاد العالمي"، يعني أن الولايات المتحدة منزعجة من النهج الإقتصادي المستقل لسوريا، إضافة إلى مواقفها السياسية "المزعجة".  (13)

في مجلس الأمن انهال ممثلوا أميركا وفرنسا بشكل خاص بالإستنكار على الفيتو المزدوج ووصفوه بالمخزي وأن الندم سيكون نصيب من جاء به، غير أن هذه التمثيلية لم تنطل على من يعيش أحداث الشرق الأوسط حين دعمت تلك الدول إسرائيل في فيتوات أكثر خزيا بكثير، وهي لم تنطل على الغرب ايضاً ، فكتب أحد الصحفيين أن الأمر لا علاقه له بالعار، وإنما بالغضب الغربي من فشله في جر روسيا والصين إلى موقفه (14).

ويشرح وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور رفض الجامعة العربية تضمين أية إشارة إلى العنف من قبل طرفي النزاع، وتجاهلها ما جاء في تقرير مراقبيها في البنود: 26 (استعمال اسلحة خطيرة كالقنابل الحرارية والقذائف الخارقة للدروع")، 27: (تفجير باص مدني وقطار محمل بالمازوت وتدمير باص لقوات الشرطة، وتفجير خط انابيب ناقل للوقود) و 44 (مقتل الصحفي الفرنسي من قبل المعارضة) ورفض الشعب السوري تدويل الأزمة ، البند 74. (15)
كذلك تم تماماً تجاهل ما قدمته الحكومة السورية للعديد من مطالب المعارضة، مثل إلغاء حالة الطوارئ، إلغاء محكمة أمن الدولة، إقرار حق التظاهر السلمي لأول مرة في البلاد، إجراءات بحق الفساد، الدستور في آذار المقبل والإنتخابات البرلمانية في حزيران. وقد يقول القارئ أن لا ثقة هناك بوعود نظام دكتاتوري، وهو أعتراض محق، فلماذا لا تركز الجهود إذن على ضمان إجبار النظام على تنفيذ تلك الوعود، وإحراج الروس والصينيين في هذه الحالة لإصدار قرارات قاصمة ضد النظام في حالة تهربه من وعوده؟ لأن ذلك يفوت فرصة الحرب!

هل الطريق العسكري من صالح المعارضة، أم أنها مجبرة في موقفها الذي لا تحسد عليه؟ يتحدث جون برادلي، مؤلف كتاب "ما بعد الربيع العربي" عن الضغط الهائل الذي تتعرض له المعارضة من جهات خارجية لمنعها من قبول المحادثات مع أسد، وإفشالها قبل أن تبدأ، وأن الناتو مصمم على تركيع نظام الأسد، كمقدمة لإجتياح إيران. (16)
ومثلما كلفت أميركا المخابرات البريطانية بإثارة القلاقل في يوغوسلافيا، هاهي تكلف المخابرات التركية بذلك في سوريا،
وقد اعتقلت القوات السورية 49 عنصراً من الاستخبارات التركية في سوريا. (17) وهو ما اعتبره مصطفى الأدهم السر وراء تغير الموقف التركي الأخير وتهدئته (18).

كذلك نلاحظ أنه قبيل التصويت على قرار مجلس الأمن، غيرت الخارجية الأمريكية نغمتها فجأة، وقالت أنها لا تسعى لتغيير النظام، بالرغم من كل التصريحات السابقة عن عدم شرعيته وضرورة تنحيته. وقالت كلنتون أن سيناريو ليبيا لن يتكرر. أما السبب في ذلك فهو محاولة طمأنة روسيا بأنها لن تخدعها هذه المرة كما خدعتها في موضوع ليبيا عندما وافقت على قرار منع الأسلحة "عن الطرفين"، فلم ينفذ منه سوى المنع عن القذافي. لذلك فأن روسيا تدرك الفرق بين القرار وما يمكن التلاعب به عند تنفيذه، ولا تثق بالأقوال الأمريكية، وتطالب تضمين القرار ضمانات تمنع الحرب. وبينت روسيا أنها رفضت القرار لأنه "لم يكن يعكس واقع الوضع في سوريا ويدعو الى تغيير النظام ويوجه رسالة غير متوازنة الى الطرفين النظام والمعارضة". (19)

الحقيقة الواضحة، هي أن الولايات المتحدة وإسرائيل، إن كانت تخشى بقاء الأسد، فهي تخشى أكثر منه بكثير أن تأتي بدله حكومة ديمقراطية تمثل الشعب السوري حقيقة. ولنا في العراق مثال حي أيضاً. فعندما كان بإمكان أميركا أن تسلم الحكم في العراق للشعب العراقي في عام 91، بمجرد الإمتناع عن دعم صدام حسين، وتسليم الأسلحة العراقية التي استولت عليها إلى الثوار. لكنها فضلت أن يبقى صدام ويسلخ الشعب العراقي بمذبحة جديدة، على أن يستلم الشعب سلطته في بلده.

يبدو من هذا كله أن الصورة التي تقدم لنا أبعد ما تكون عن الواقع، وأن السادة لا ينشغلون فعلاً بالإهتمام بالشعب السوري والديمقراطية، فهم لا يسمحون له حتى بإيصال صوته إن كان مخالفاُ لما يريدونه منه، فكيف يريدون له أن يحكم بلده؟ وهم لا يقدمون لشعبهم أي شيء من الديمقراطية، فلماذا هم بهذا الحرص المفرط على ديمقراطية الآخرين؟ من أجل ماذا إذن يصرفون الأموال ويحرجون أنفسهم بالكذب أمام الناس، ولصالح من؟ الأكثر سعادة بالقرارات "العربية" هي تل أبيب (20)، ومعها يتآمرون على سوريا كما يتآمرون على إيران في "هرتزليا". (21)
وخير من يعبر عن الموقف الإسرائيلي في العالم العربي هو بعض الصحفيين الذين اختارتهم وزارة الخارجية الإسرائيلية باعتبارهم يمثلون وجهة النظر الإسرائيلية في العالم العربي ومن أهمهم عبد الرحمن الراشد الذي كتب: "الأسد وإيران والعراق و«القاعدة» ضد السوريين". وطبعاً شمل هجومه كل خصوم إسرائيل بضمنهم "حزب الله"، مشيدا بطريقه بأمراء السعودية الذين "لم يعودوا يستطيعون السكوت" على مذابح الشعب السوري، دون أن يلتفت إلى انهم لم يكتفوا بالسكوت فقط في مذابح شعب البحرين بل شاركوا فيها بفعالية! (22)

هذا التناقض بين الأهداف الحقيقية والأهداف المعلنة، يحتاج إلى الكثير من جهود التزوير الإعلامي والتغاضي عن الحقائق غير المناسبة و"خلق" الحقائق المناسبة، وإعادة صياغة الأخبار والتصريحات بطريقة تعكس "الصورة المناسبة" حتى لو كان ذلك بحيل إعلامية بعيدة عن أخلاقية المهنة.
فعندما تبين، وفق تقارير المراقبين أن الثوار "على مايبدو" هم من قتل مراسل شبكة فرانس 2 "جيل جاكييه" في حمص في قصف مدفعي بقذائف الهاون على تظاهرة موالية لبشار الأسد كان الصحفي يغطيها، لم تجد المتحدثة باسم الخارجية الأميركية حرجاً في التنديد "بعجز النظام السوري عن توفير «ظروف ملائمة» لعمل الصحافيين"(!) ، في الوقت الذي تعمل فيه حكومتها وهي شخصياً، على تحطيم تلك "الظروف" بإرسال السلاح إلى من قتل ذلك الصحفي، وهي تعلم أن "النظام السوري" يعجز بسبب ذلك عن توفير الحماية حتى لمنتسبي قواته المسلحة! (23)

وتتبع أقطار المحور نفس النهج في تجاهل الحقائق، حتى على حساب مواطنيها. فوصلت قلة الحياء السياسي للحكومة الفرنسية أقصاها، فلم تقل كلمة واحدة عن قتلة مواطنها، وحاولت تحويل اللوم في الجريمة على النظام السوري، لتتمكن من تبرير استمرار دعمها للمشروع الأمريكي لتسليح من قتل الصحفي. (24)
وقامت مؤسستا "العربية" وكلنا شركاء" بالتزوير الإعلامي بتسجيل شريط لساحة في دمشق، في وقت مبكر (الساعة التاسعة صباحاً، بينما الخطاب كان في الواحدة) للإيحاء بأن عدد من سار في مسيرة مؤيدة للسلطة كان محدوداً. (25)
كما استعمل الإعلام الغربي المونتاج لتغيير انطباعات اللقاءات التلفزيونية للأسد. (26) وكشف الإعلام السوري عمليات أخرى من "التضليل الاعلامي" (27) (28) (29).

وما يبين قوة التشويش الإعلامي الغربي بشكل خاص، ما نشرته الغارديان من نتائج استطلاع أجرته بتكليف من "مؤسسة قطر" (!)، وتوصل إلى أن 55 في المئة من السوريين لا يرغبون برحيل الأسد، خوفا من اندلاع حرب أهلية!
ويضيف جوناثان ستيل، من نفس الصحيفة، أن التغطية الإعلامية الغربية تتجاهل عمداً تلك المعلومات التي تناقض  نتائجها ما يريده ذلك الإعلام من إنطباع، وهو أن الشعب السوري يريد الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، بالرغم من أن السوريين يرغبون بأن تجرى انتخابات مع بقاء الرئيس في السلطة، وهو ما وعد بشار به أكثر من مرة. وقال أن هذه الأغلبية غير قادرة على إيصال صوتها إلى العالم بسبب التحيز الإعلامي الغربي. (30)

إذن الشعب السوري قال رأيه، وإن كان قسم منه يرى في الحرب الحل الوحيد، فأن الأغلبية كما يبدو مع الإنتقال السلمي التدريجي إلى الديمقراطية، ولا تريد الحرب الأهلية والتدخل العسكري الأجنبي، ويفترض بالأقلية التي ترى في الحرب حلاً، أن تحترم رأي الأغلبية إن كانوا فعلاً طالبين للديمقراطية، وأن يقفوا معها بحزم من أجل مستقبل بلادهم كما تراه هذه الأغلبية. ولنقف نحن أيضاً بحزم مع أغلبية الشعب السوري في سعيه للديمقراطية، بالطريقة التي يقررها هو، وبوجه من يريدون فرض رأيهم عليها بالقوة خدمة لإله الحرب العالمي.

"سيأتي يوم فيه سيعلم السياسيون الذين يثيرون الحرب ويؤججون الصراع الدولي، بأن مثولهم في قفص الإتهام أكيد، مثل مثول المجرم القاتل، وأن حبل المشنقة أقرب أليهم مما هو إليه. فليس من المعقول أن الذين يغامرون بحياة الناس لا تتعرض حياتهم للخطر." - الكاتب الإنكليزي إج جي ويلز.

(1) http://www.dw-world.de/dw/article/9799/0,,15670530,00.html
(2) http://www.alintiqad.com/essaydetails.php?eid=50270&cid=75
(3) http://www.alwatan-udu.com/?p=1494
(4) http://www.informationclearinghouse.info/article30412.htm
(5) http://www.informationclearinghouse.info/article30479.htm
(6) http://www.alalam.ir/news/946344
(7) http://www.informationclearinghouse.info/article30506.htm
(8) http://www.innercitypress.com/LASomSyria.pdf
(9) http://www.informationclearinghouse.info/article30427.htm
(10) http://www.radioalgerie.dz/ar/index.php?option=com_content&view=article&id=13098
(11) http://www.syria-news.com/readnews.php?sy_seq=143052
(12) http://www.youtube.com/watch?v=JDOqmoWim2M&feature=related
(13) http://www.informationclearinghouse.info/article30511.htm
(14) http://www.wsws.org/articles/2012/feb2012/pers-f08.shtml
(15) http://www.alalam.ir/news/953274
(16) http://rt.com/news/syria-nato-iran-russia-149/
(17) http://www.facebook.com/photo.php?pid=1082364&l=cd333f3d48&id=237376096296405
(18) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=60431
(19) http://www.alalam.ir/news/971954
(20) http://www.al-akhbar.com/node/33716
(21) http://www.alalam.ir/news/950344
(22) http://aawsat.com/leader.asp?section=3&article=663432&issueno=12130
(23) http://www.al-akhbar.com/node/29379
(24)http://www.khaleejtimes.com/DisplayArticle09.asp?xfile=data/middleeast/2012/February/middleeast_February8.xml&section=middleeast
(25) http://www.facebook.com/meeadin.tv/posts/153194974791802
(26) http://www.youtube.com/watch?v=DqUADgAjf14&feature=related
(27) http://www.youtube.com/watch?v=281N2ijUMUE&feature=related 
(28) http://www.youtube.com/watch?v=FcGfLBmjbrY&feature=related
(29) http://www.youtube.com/watch?v=pzwUxwsbDdA&feature=related
(30) http://www.bbc.co.uk/arabic/inthepress/2012/01/120118_in_the_press_on_wednesday.shtml



41
أدب / جوع البطاريق
« في: 18:28 12/02/2012  »


جوع البطاريق

صائب خليل
12 شباط 2012

بعد شهور من الجوع وعواصف الثلج القطبية، وصلت طلائع ذكور "بطريق الإمبراطور" نهاية رحلتها الطويلة إلى البحر، وهاهي الأسماك الفضية تتلوى أمامها. لكن تلك السعادة يشوبها خوف شديد، ففي البحر مع السمك ينتظرهم دائماً... أوركا!
أوركا كبير ومهيب وفاتن الجمال، إلى درجة أن الكثير منهم يصر أنه "صديق" ويؤكدون بافتتنان: "العالم رائع". الآخرون يقولون أنه قاتل شرس لم تعرف البحار وحشاً مثله.

لكن رغم اختلافهم الشديد، فأن البطاريق تقف مترددة أياماً عديدةً لا تقفز إلى البحر، فحتى من يراه صديق، يدرك كما يبدو أن من يقفز أولاً، ليس له من حظ البقاء سوى القليل.

تقدم أحدهم يهز جناحيه وقال: "أنه طيب وودود.. ألا ترون جماله وقوته؟"، ..." كل ما يقال عنه "إشاعات" تثيرها كلاب البحر الوحشية التي كانت تفترسنا، وبعض بطاريق السوء!" 

في كل عام ، ويتقدم دائماً أحد البطاريق المفوهين، ليبدأ الدعوة لمحبة أوركا والثقة به وتتكرر هذه الخطبة. ليست الدعوة سهلة الإقناع لجمهور يتذكر أو سمع بالمجازر التي يقيمها أوركا للبطاريق كل سنة في مثل هذا الوقت. لكن عام كامل قد مضى على آخر مرة رأوا فيها مجزرة لأوركا، ولا شك أن النسيان، الذي هو من أكبر فضائل قبائل البطريق، كفيل بإزالة تلك الصور.

لكن أصدقاء أوركا يعانون من طباعه، فهو لا يساعد الآخرين على النسيان. وفي رأس كل بطريق تنطبع صورة مخيفة له وهو يقفز قفزته الرشيقة الهائلة ويعرض خطوط جلده الناصع وبقعه، وأسنانه الملوثة بالدماء، وهو ينفض ضحاياه بوحشية تشي بسادية تذهب أبعد مما يحتاج إليه لقتل ضحاياه. أوركا يقوم بما يحب وكما يحب، ولا يبدو معنياً بتسهيل الأمر على البطاريق المفوهة.

"ألم يعدنا مرة أن يذهب، وفعل؟؟ ألم يقل بطاريق السوء أنه لن يذهب، وذهب؟". – يتلفت حوله وينظر في العيون، آملاً أن يستنتجوا من تلك الحقيقة قاعدة عامة مناسبة. عاصفة من التصفيق... "رائع رائع... لقد قلت ما نريد أن نسمع بالضبط".
"هل نسيتم أنه هو الذي أنقذنا من كلاب البحر"؟

"لكن يقولون أنه هو الذي أرشد كلاب البحر إلى مكاننا أول مرة" جاء صوت بطريق شاب من خلف الصفوف، فتعالت قأقأة البطاريق مستنكرة. لكنه مشهد مكرر أيضاً، ففي كل عام يعترض بعض من يشارك في المسيرة لأول مرة، ولا يعرف متى يجب الكلام وما يجب أن يقال وما لايقال. لذلك لم يفاجأ المفوه وأشار بجناحه فهدأت القأقأة، وقال: "هل تصدق كل شيء في التاريخ يا بني؟ من أخبرك بهذه الترهات؟"
"أبي أخبرني، قال أنه سمع كبير كلاب البحر يقول أنهم جاءوا على ظهر أوركا إلى القطب".
"على ظهر أوركا... أتصدق أن أوركا العظيم يركب كلاب بحر على ظهره؟"
"ولماذا يكذب؟ أبي قال أن الكلاب كانت تصيدنا لحسابه".
"ولماذا إذن مزقها تمزيقاً إن كانت تعمل لحسابه؟"
"أبي يقول أنه مجرد.."
"أبوك يقول وأبوك يقول.. لا تصدع رأسنا بتخريفات أبيك"
لكن الشاب استمر: "وقال أيضاً أن أوركا حاول أن يلملم كلاب البحر التي بقيت لتصيدنا لحسابه من جديد...هل تنكرون أننا رأيناهم معاً أمس؟"
" لا تصدقوا هذا الكلام، إنه كلام بطاريق السوء التي لا تريد الخير لبطاريق الإمبراطور، إنها تريد أن تعيد كلاب البحر إلى القطب لتفترسنا من جديد، يريدون القضاء على نوعنا... ألم يتحالفوا مع كلاب البحر في الماضي؟ ".
"هؤلاء البطاريق الأخرى هي أعداؤكم الحقيقيين، وليس أوركا"..."يعيش أوركا المحرر!".
"يا يا يا" رددت البطاريق مؤيدة..
"لكن أبي يقول أن الجميع خضع لكلاب البحر، وأشترك في مذابحها وأن ليس أحد خير من أحد، وأن الكلاب افترست البطاريق الأخرى أيضاً"
"صحيح ولكن ليس بالقدر الذي افترستنا به، وليس بنفس الطريقة ايضاً"
"ما أهمية من أفترس أكثر؟ كلنا ضحايا...لماذا لا نبحث عن مكان ليس فيه لا كلاب بحر ولا أوركا؟"
"ليس هناك مثل هذا المكان يا ولدي...".....
" أما أوركا أو كلاب البحر" هتف المفوه رافعاً صوته كمن يعلن شعاراً.
"يا يا يا" هتفت البطاريق.
"لكننا لم نحاول... ما الذي نخسره أن نحاول.."

لكن أحداً لم يسمعه، فقد تقدم من الحافة بخطوات بطيئة بطريق أرهقه الجوع والإنتظار في هذه الأثناء ، وأشار المفوه فبدأ البطاريق رقصة القفز، وصاروا يضربون الثلج القاسي بأقدامهم مشجعين المتقدم أن يلقي بنفسه في الماء، وقد كان يتقدم على وقع ضرباتهم، وبحركة واحدة، قفز البطريق في الهواء، فهتفت البطاريق وهي تمد رؤوسها: "يا لها من قفزة رائعة!"
 وفجأة ارتفع من تحت الماء عمود هائل أسود وأبيض يلمع تحت الشمس، والتقط البطريق برشاقة وغطس به في الماء!

أنطلقت البطاريق تقفز إلى البحر وهي تقأقئ، واصطبغ الماء بالأحمر كلما أخذ أوركا دورة جديدة، لكن رائحة السمك الشهي غلبت رائحة الدم التي اختلطت بها.


42
قارئة فنجان عراقية لليبيا
صائب خليل
29 تشرين الثاني 2011

جلست والخوف بعينيها، وقالت: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي على محمد سيد المرسلين، خير اللهم اجعله خير، أعطني فنجانك يا ولدي..

الديمقراطية الجديدة

ستكون لديكم ديمقراطية. أحزاب ودستور وإنتخابات و إعلام حر، ومنظمات مجتمع مدني، وتبادل سلطة. لكن....
أحزابكم مشوشة، لاتتميز مرجعيتها السياسية عن الدينية، ولا يسارها التائب الليبرالي من يمينها. دستوركم لا يجمع بل يفرق، ولم يكتب من أجل تنسيق عمل الحكومة والبرلمان بل شلهما بـ "فيتوات" إذا خرجت عن إرادة الإحتلال.
أرى لديكم جيوش متعددة، وأقاليم تتفق سراً لبيع النفط، ومسؤولين يطمرون الآبار ليبيعوها رخيصة للشركات، ويكتشفون ويفضحون، لكن صوتهم يبقى هو الأعلى وهو الذي يهدد.

ستأتيكم الضربات من كل جانب، فلاتفاجأوا. سيطالبكم "المجتمع الدولي" بدفع ديون دكتاتوركم ، حتى تلك التي استخدمت لقتلكم. ولا تدهشوا إن استخدم هذا المجتمع نفس القرارات التي أصدرها دعماً لكم ولتحريركم، للضغط عليكم وابتزازكم، وحولكم في غفلة منكم، من ضحايا يبكي عليكم، إلى مجرمين خطرين يجب أن يثبتوا حسن السلوك، ودفع أثمان جرائمهم! "الفصل السابع" الذي فرض لحمايتكم من القذافي سيبقى بعد الآن ليفرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم، لحماية العالم منكم! وسيعدكم رجل إسمه بايدن اربعة عشر مرة أنه "سيساعدكم" على الخروج منه، إذا...

عندما تنتخبون، ستقوم حاسبة مشبوهة، يدور فيها برنامج كتبته شركة أجنبية مجهولة، بتحديد من يفوز ومن يخسر. وستنتظرون النتائج شهراً بعد انتهاء التصويت، وليس ساعات أو يوم، كبقية الناس.
وإن شككتم بالنتائج، فسيضحك رئيس المفوضية لجهلكم، ويقول الكومبيوتر "لا يعرف التحيز"!! وإعادة العد "مستحيلة"! وإن جيء بالأدلة فستصدر المحكمة الدستورية قراراً بالعدّ مشروطاً بمنع المقارنات التي قامت على أساسها الأدلة!! خياركم أن ترفضوا الحكم، وتقضون على ديمقراطيتكم، أو تقبلوا وتسكتوا، وستختارون الأخير. .. لا تحزن يا ولدي..

في ليلة غائمة، ستكتشفون ان المفوضية كانت تسلّم الإحتلال صناديق الإقتراع سراً! وأنها مرشوة ومختلسة وأن بعض اعضائها إرهابي! ويحاول رئيس برلمانكم حجب ذلك بقطع النقل التلفزيوني، فتعلمون لأي جهة ولاء رئيس برلمانكم! ورغم ذلك ستبقى المفوضية ويبقى رئيس البرلمان معززين!
وتكتشفون أن رئيس أخطر محكمة في بلادكم، يصفي حسابه مع نسيبه أو أخيه باتهامه بجرائم الإبادة الجماعية، لأنه الإختصاص المتوفر في محكمته! وهذا القاضي أيضاً سيستمر بالعمل بعد فضيحته، وستبقى المحكمة تحت سلطته!
أرى حماية أحد أكبر السياسيين تسطو على مصرف وتقتل حراسه، وتهرّب الحماية ويستمر السياسي في عمله بعد الفضيحة وينتخب ويرشح لرئاسة الجمهورية!
سارعوا بإحصاء نفوسكم، فسيأتي مرتشي لرئاسة الحكومة يتفق مع أحدى فئات الشعب على مضاعفة نفوسها مرة ونصف ، فتغنم المال ومقاعد البرلمان، ولن يمكن تعديلها بعد ذلك ابداً! .. لا تحزن..

الإرهاب

سيرسلون سفيرا "ليساعدكم في بناء بلدكم" المحطم، لكن ورقة أعماله تقول أنه خبيراً في إنشاء الإرهاب وليس بناء البلدان! بعدها سيهطل عليكم الإرهاب كالمطر، وتتكاثر عليكم المصائب والغرائب، من أطفال مشوهين باليورانيوم المنضب إلى حيوانات عجيبة في مدنكم، إنفجارات و"إنتحاريين"... وكل ما يدفع الإنسان إلى الجنون.
إن تورطت الأمم المتحدة وأرسلت لكم رجل شريف مستقل، فستقوم "القاعدة" باغتياله، ويستبدل بآخر يتصرف وكأنه موظف في "السفارة".
سيقوم الإرهابيون بأخطاء، وسيمسك جنود الإحتلال متلبسين بالإرهاب، ويقتلون شرطتكم، ثم تأتي دبابات تحطم السجن وتطلقهم. وسيضطر سياسيوكم لحيرتهم للصمت، وبين الحين والآخر إلى قول أشياء مضحكة ، مثل أن محطة تصفية نفط أنفجرت بسبب حرارة محرك طائرة "صديقة" حلقت فوقها! ومن لا يصدق فهو من جماعة نظرية المؤامرة!

في رمضان، سيقدم لكم التلفزيون مسلسل "الزرقاوي" (أو غيره) في كل حلقة منه سيلقى القبض على "مساعد" له، ورغم ذلك فأن أي "مساعد" منهم لن يعترف على مكان الزرقاوي. وحين يبلغ عدد مساعديه الف مساعد ومساعد، تنتهي المسلسلة بمقتله بشكل باهت ويتبين أنه أعرج! ثم يبدأ مسلسل "رمضاني" جديد. فلن يدعوكم تضجرون.

 وسوف يتم اغتيال الكفاءات لديكم وبشكل منتظم، وطبعاً ستقوم بذلك منظمات تدعمها أقرب جارة لكم لا تحبها أميركا. وسوف تعلن الحكومة القبض على عصابات أعضاؤها بالألاف، ثم تختفي!! وسيقدم مجرمون كثيرون للمحاكمة ويعترفون وهم يبتسمون، وسيقال أنهم أعدموا، والناس لا تدري إن كان صدقاً أم تم تهريبهم! وستشكل لجان تحقيق بلا عدد ، ولا نتائج لها ولا تقارير.
ستشتري حكومتكم عصي العاب تعمل ليس بالكهرباء، وإنما بالسحر، لكشف المتفجرات! لن تعجبوا بعد ذلك لتكاثر التفجيرات، لكن قد تعجبوا أن تلك الأجهزة ستبقى تستعمل حتى بعد افتضاحها! حافظوا على شجاعتكم في تلك اللحظة العصيبة، فستحتاجون إليها للمزيد من "المفاجعات". فلاشيء يحطم الإنسان ويجعله يحس بالضياع مثل أن يكتشف الحقائق، ويكتشف أنه لا يستطيع أن يفعل بها شيئاً! لكن لا تحزن..

الطائفية

تدريجياً سينقسم شعبكم على كل خطوط الإنقسام المتوفرة. طائفية وقومية وعشائرية ودينية، وستزداد الشقة بينهم بشكل متواصل. سيعمل "الإرهاب" على فصل مدنكم، ويعمل الإعلام على فصل قلوبكم وعقولكم، سيكون لكل طائفة مدنها، ولكل طائفة صحفها ومواقعها على الإنترنت وفضائياتها، التي تتفرغ في مديح تلك الطائفة وذم الأخرى. وسيرفض حتى المعتدل منكم أن ينظر إلى قناة الآخر الإعلامية لأنه لن يجد فيها إلا ما يزعجه. هكذا سيكون لكل طائفة تفسير مختلف للأحداث والأخبار، وسيختفي المنطق المشترك ، ومعه أرضية الحوار والمعايشة وتاسيس الوطن.
سيمحو الإعلام تدريجياً، ودون أن تشعروا، كل ما في ذاكرتكم عن حياتكم معاً، وسيترسب فيها مكان ذلك "أنكم أعداءاً منذ الاف السنين". بين الحين والآخر سيصرخ شخص: "لكننا عشنا طويلاً بسلام..وتزوجنا من بعضنا البعض...وعرفنا بعضنا البعض .. هذا كذب!" لكن صرخاته ستضيع شيئاً فشيئاً، ويبدأ الجيل السابق بالصمت يأساً، ويتعلم الجيل الجديد تاريخاً لبلادكم أعيدت كتابته من قبل مجهول.

سيعمل إعلامكم بنشاط على عزلكم عن جيرانكم من الدول أيضاً، خاصة "ألمغضوب عليها"، وفي يوم ما ستجدون مواقفكم في السياسة الخارجية متطابقة بشكل مدهش مع موقف أعدائكم من كل دولة أجنبية!

سترى كل طائفة في كل جريمة برهاناً ثميناً على إرهابية الطائفة الأخرى. وإن اشار أحد إلى أنه قد يكون الإحتلال، باعتباره المستفيد، فسينبذ من جميع الطوائف. وعندما يصعب تفسير جريمة إرهابية على أساس طائفي، ستقول جرائدكم أنها "حادثة غريبة" و "لا تفسير لها"...فكل ما لا يمكن تفسيره بشكل طائفي، سيكون "لا تفسير له"... لا تحزن..

الإعلام

سيتعاون عليكم الإرهاب والإعلام. وسوف تكون هناك إعلانات ضد الإرهاب تقصفكم بين برامج التلفزيون كل بضعة دقائق، تقول "الإرهاب لا دين له" ويجب "مواجهته"، لكن ما سيستقر في رؤوسكم في نهاية الأمر هو: "ألإرهاب إسلامي" ... "ألإرهاب مرعب"..."نحن بحاجة للحماية"..

إن كنتم تنتظرون احتلالاً يأتي بثقافة حديثة، ستفاجأون بتلفزيونكم يمتلئ ببرامج السحر وقراءة الكف والأبراج، وربما وجدتني أعمل هناك!

إعلامكم سيدهشكم بجرأته، إلى حد الوقاحة، لكنه لن يطرح سؤالاً محرجاً على مسؤول، فالجرأة ستبقى في حدود بعض قلة الأدب في طريقة الخطاب، وليس المحتوى.
كذلك ستملأ صحفكم أخبار "المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه"، "مصادر عديدة" و "مصادر مطلعة" و "مصدر مسؤول"، ولن ينزعج أحد من ذلك، فالطائفة التي يناسبها الخبر لن تمحصه ، والتي لن يناسبها لن تقرأه. .. لا تحزن..

القوات الأجنبية

عدا القوات النظامية الأجنبية، ستسير في شوارعكم عصابات دولية مسلحة حتى أخمص قدمها، شديدة المراس والتدريب، تتسلى بين الحين والآخر بصيدكم "كالديكة"، أو تدهس أية سيارة قريبة منها، ويسمى هؤلاء "المتعاقدون المدنيون"!

وسيغرسون في عاصمتكم سفارة ما أنزل الله بها من سلطان، أكبر من دولة الفاتيكان، يسكنها الآلاف من الصبايا والفتيان ويحميها الألاف من الخيالة والفرسان.

عندما سيحين موعد الإنسحاب، سيظهر ألف "خبير" يؤكد "حاجة البلد إلى الحماية" ولن يسأل أحد أبداً ، الحماية ممن؟ وستقوم في برلمانكم وإعلامكم حملة مكثفة تدعوا إلى إقرار "التصويت السري" لكي يمكن تمرير القرارات المخجلة بلا إحراج. هذا إن لم تجدوا التصويت السري في الدستور مقدماً.
ستشترط القوات لبقائها أن يسمح لها بقتل من تشاء منكم بلا محاكمة، وسيدعو رئيسكم إلى الموافقة على ذلك!.. لا تحزن..

الإقتصاد

سينتشر الفساد بسرعة، وسيسرق الإحتلال ما يصل إليه من مليارات، وسيضع حكومة فاسدة ويحمي وزرائها من يد القانون، ويهرّب إلى بلاده من يكشف أمرهم.
ستكون لديكم أموال "تحميها لكم أميركا". أما الأموال المجمدة للدكتاتور فلن تفتح إلا بعد أن تؤسس المؤسسات الأجنبية اللازمة لنهبها.
ستكتشفون شيئاً فشيء أن المليارات تلو المليارات قد سرقت. وفي كل أزمة سيتم تمرير قرار "تحطيم" إقتصادي خلسة. ستقترض حكومتكم من البنك الدولي مبلغاً تافهاً، توقع بسببه تعهدات للبنك تحدد سياستها الإقتصادية وإذعانها لشروطه، ثم تعيد المبلغ، دون استعماله!
سيهبكم الإحتلال حملات "تثقيف" وتعليم ، ليس لأطباء أو معلمين أو مهندسين، تحتاجونهم، بل إلى "رجال أعمال" ومضاربين. الإحتلال يخلق "إصدقاءه"، إن لم يجدهم.

ستكون "الإستثمار" الكلمة المقدسة في البلاد، وسيكون لتوفير "الجو الملائم للإستثمار" اولوية أكبر من توفير الجو الملائم للناس. جو يضمن للشركات حرية نقل أموالها والمضاربة بها والتحكيم بينها وبين البلد لدى جهات أجنبية، وأن تحصل على الأرض باسعار رمزية والإسيتراد بشروط خاصة ولا تطالب بمعالجة التلوثات التي تسببها للبيئة، وأن لا يسمح للعمال بتنظيم انفسهم والمطالبة بحقوقهم، وأن يكون هناك ما يكفي من البطالة لخفض الأجور وخضوع العمال وكثير من الشروط الأخرى التي لا يتوقع منها سوى الأذية لكم ولبلادكم!
في النفط، سيجهدون لكي توقعوا مع شركاتهم عقود إسمها "مشاركة إنتاج". ويشترطون عليكم استخراج النفط بأقصى طاقة أو تدفعون ثمن "تقصيركم"، فعليكم أن تعاملوا نفطكم كعدو يجب التخلص منه بأسرع وقت.

وفي عز حاجتكم إلى كل دينار، ستفاجأون بحكومتكم تتكرم بمساعدة حكومة "شقيقة" بأسعار مخفضة للنفط، ولا أحد من سياسيكم يسأل أو يعترض! ومن طريقة تعامل حكومة هذه الدولة مع حكومتكم، ستفهمون أن الأمر ليس "مساعدة" بل "جزية" مفروضة عليكم فرضاً من "جهة ما".

قد تكتشفون يوماً بالصدفة، وبعد فوات الأوان، أن بنكا أجنبياً، هو الذي يحدد مع من يسمح لكم بالشراء والبيع، إلا للخردة. عندها ستتذكر يا ولدي أيام الطفولة عندما كان بابا يعطيك مصروفك اليومي لتشتري به ما تشاء، بشرط أن لاتشتري ما لا يرضى عنه بابا! إن حدث ذلك ورأيت البنك، فلا تتعجل بالإعتراض فتلقي بنفسك في التهلكة، كما ألقى بها آخرون من قبلك!

ملخص الحكاية، ستعانون يا ولدي، رغم ثراء بلادكم، من شضف العيش وضيق الحال وقلة الخدمات وكثرة الأزبال، وانقطاع المواصلات والكهرباء وانتشار البطالة والجريمة والفساد والأمية والمرض والخوف والحر والبرد والطين والغبار، فلا مال لدى الحكومة لكم. فإن انخفض سعر النفط قالت حكومتكم ليس لدينا نقود، وإن ارتفع، ستأتيكم بصفقة أسلحة "تدفع من فائض سعر النفط"!

صمتت قارئة الفنجان ونظرت إلى عيني وقالت:
فإذن يا ولدي لا تحزن... فالهمّ عليك هو المكتوب.... يا ولدي..

43


قصة لوحة – الناعور الذي أراد أن يقول شيئاً

صائب خليل
6 شباط 2012

كنت أقضي عطلة الصيف في معظم عقد الستينات في بيت جدي في “عانه”. (يكتب إسم مدينة “عانه” بهذا الشكل عادة "عنه" لكني لا أرى مبرراً لكتابتها هكذا، خاصة أنها تعطي لفظاً خاطئاً لمن لا يعرف المدينة.)  وبيت جدي واحد من مجموعة بيوت ضمن "حوش"، وهو شيء وسطي، بين البيت الكبير لعائلة كبيرة، والمحلة الصغيرة.
لـ "حوش حسين" باب خارجي كبير متداعي، يبدو أنه بني للدفاع عن سكانه من هجمات الغزو التي حدثنا عنها أهلنا. يطل هذا الباب على "الدرب الجواني" (الداخلي) وهو شارع ترابي متعرج يخترق “عانه” من شرقها إلى غربها، وكثيراً ما مشينا به ولعبنا الدعبل. فالشارع الترابي بانحناءاته وارتفاعاته ورقة ارضيته، هو بيئة صديقة للدعابل وللأقدام الحافية.
وفي “عانه” شارع ثان خارجي يفصل المدينة عن التلال الصخرية التي تحيط ب”عانه”، وتجعل منها شريطاً رقيقاً طوله 11 كلم، وعرضه لا يزيد عن بضعة مئات من الأمتار. بين "الدرب الجواني" والنهر، تطل البيوت المحظوظة على منظر ساحر لجزر الفرات، وحيثما سمح المكان، تواجدت المقاهي التي تطل على النهر. وبين دربي "“عانه”" الوحيدين، خط من البيوت وبساتين النخيل والحمضيات ذات الأسيجة الواطئة، ثم يأتي "الدرب البراني" (الخارجي) والتلال الصخرية. ويربط هذا الطريق الأخير "“عانه”" بـ "لواء الرمادي"، كما كان يسمى، وبقية المدن التابعة له مثل هيت وحديثة، من جهة، ومن الجهة الأخرى يستمر الطريق نحو ناحية "“راوه”" القريبة، متلوياً بين البساتين عن اليمين والتلال التي تتحول إلى مغارات نسجت حول بعضها قصص الجن، وأشهرها مغارة "أم حجول".

وكان الشباب يتراهنون على شجاعة بعضهم البعض في من يستطيع أن يذهب في منتصف الليل ويضع علامة في مغارة أم حجول، ثم يذهب رفاقه في الصباح ليتأكدوا منها. ولم يكن يجرؤ على ذلك إلا أشجع الشباب. ويروى أن واحداً منهم، ذهب فتأخر كثيراً، فقلق رفاقه عليه فذهبوا يفتشون عنه، فوجدوه في المغارة مغشياً عليه. وحين عاد لوعيه، قال أنه وضع العلامة المتفق عليها، وحين هم بالعودة إذا بأحد ما يمسك دشداشته! وتبين أن دشداشته قد حصرت تحت الصخرة الكبيرة التي وضعها كعلامة!
 
على تلك التلال كان "تانكي المي" (خزان الماء) ينتصب شامخاً، وتحته بقليل المدرسة الإبتدائية، وأعلى منها بقليل المدرسة الثانوية ذات الساحة الرياضية البسيطة التي شهدت تحديات وخاصة بكرة القدم وكرة الطائرة التي اجتذبت الشباب بشكل خاص، وكثرما تحولت إلى معارك بسيطة بين فرق مدارس "“عانه”" و”راوه”، خاصة عندما تخسر فرق "راوه" الأكثر مشاكسة وجرأة. ومع الوقت بنيت بعض البيوت المتناثرة على تلك التلال.

وفي الربيع تشهد التلال الأبعد، حركة نشطة للباحثين عن الكمأ والفطر وكذلك "الشعيفة"، وهو حشيش صحراوي أبري، سهل الأكل وطيب المذاق، وأيضاً "الكعوب"، وهو نبات صحراوي شوكي له أزهار بنفسجية كبيرة تؤكل نية أو بإعدادها بطرق مختلفة.
ولا أنسى أبداً حين كانوا ينظفون خزان الماء، فيتراكض الأطفال يبلغون بعضهم البعض بصرخة "سال التانكي"!، فكنا نهرع لنغنم دقائق الشلال القصير العمر الذي كان يحدثه الماء عند الحافة الصخرية، لنأخذاً "دوشاً" بارداً ونحن نلعب ونتضاحك.

عندما صرت في الثانية عشر كنت آخذ كل صيف كامرة خالي، الذي كان قد عاد من دراسته في الخارج،  وفلم واحد، ولم أصور به إلا "“عانه”" ببساتينها ونوعيرها وممراتها. لم أكن التقط صوراً لأصدقائي إلا نادراً جداً...فلدي 36 صورة فقط، أخصصها كل عام لتدوين جمال "“عانه”" دون غيرها.

أذكر مرة رآني رجل أحمل كامرتي في المنطقة بين “عانه” و"“راوه”"، فأثار هذا الصبي فضوله، فسألني (السؤال التقليدي هناك)"إبن من" أنا، وماذا أفعل فقلت له، فنظر حوله وأشار إلى النهر وقال: "هذا منظر جميل، خذ له صورة"..أجبته، أتصور أنه سيكون أجمل من فوق هذا التل، ثم تركته وصعدت. وبينما أنا أفكر في الصورة، رأيته يصعد خلفي، نظر إلى النهر وقال: "والله صدقت...هيا خذ الصورة"! .. أجبت.."لا .. لم أقتنع بعد، سأصعد أكثر وسيكون المنظر أفضل"، وصعدت، حتى وصلت لمكان مناسب وكنت أعد كامرتي لإلتقاط صورة فإذا به يتسلق وهو ينهت... نظر حوله إلى النهر، والتوائه عند قلعة “راوه”، والبساتين المنتشرة بتفاصيلها الكثيرة، ونواعير النهر على الضفتين، فهز رأسه وقال عبارة لم أنسها حتى اليوم: "تقدر على زمانك"! وكانت لقطة من أجمل ما صورته في حياتي. هكذا كنت أقضي ايامي في “عانه” بين عشقي السباحة والتصوير، ويمكنكم أن تتخيلوا الصدمة حين قال لي المصور في بغداد مرة: "الفلم محروق"! – كم حقدت عليه! لم يكن عندي شك أنه أحرقه بإهماله.
عندما حان وقت حياة "التشرد"، أخذت معي جميع تلك الصور، وكانت غلطة العمر، ففقدت جميعاً!

النهر في "عانة"، لم يكن ممراً مائيا فقط بالنسبة لنا نحن الأطفال. بل كائن مهيب مليء بالتفاصيل والقصص والسعادة. أمام "حوش حسين" تمتد جزيرة "الحضرة"، تليها إلى الشرق جزيرة "المقطعات". وهكذا تتوالى الجزر كلآلئ عِقد في وسط النهر، وعلى طول “عانه”، بل وبعدها وقبلها أيضاً.
كنا نقضي يومنا في النهر من الصباح وحتى المساء أحياناً، وحسب الموسم ومستوى المياه. مجموعة من أربعة إلى ثمانية أطفال عادة، نسبح عند ناعور "صدر الرحى" (الذي يظهر في اللوحة) ، وكان أهلنا ألقلقين علينا لا يريدوننا أن نذهب عند الناعور، حيث الماء سريع، يخبرونا – دون جدوى- أنه "بيت السعلوة". بل كان الأطفال الأكثر جرأة وأكبر عمراً يمسكون بالناعور، ويجعلونه يرفعهم من النهر عالياً، وهو يئن ويكاد يتوقف من الثقل، ثم يقفزون إلى الماء ليعود يدور مسرعاً ويستعيد إيقاع أغنيته الحزينة!

وفي موسم الفيضان يتغير المنظر، ويربط الناعور بحبال قوية، ويسرع النهر وتصعب السباحة. لكن الشباب الأكبر كانوا يستغلون غرق الأرصفة العالية حين لا يبقى منها الكثير ظاهراً ليلعبوا "الدكة"، حيث ينقسمون إلى فريقين يتصارعان للسيطرة على ذلك الرصيف (الدكة)، وكنا نراقبهم بحسد وببعض الخوف مما كان يبدو في لعبهم من العنف وكل يلقي بالآخر في الماء الجارف بقوة وبلا رحمة.

عند الناعور، كان أهالي “عانه” يقطعون النهر بخط من الحجارة، هي أشبه بالسد غير المكتمل، يسمى "السِكِر" (بكسر السين والكاف وتسكين الراء)، الغرض منه رفع مستوى الماء قليلاً، لكي يدور الناعور بشكل أفضل. ومن المنطقي أن تجد دائماً ناعورين على جانبيه عند ضفتي النهر للإستفادة من ارتفاع الماء. وفي وسط النهر تترك عمداً "الفتحة"، لكي لا يحصر النهر أكثر من اللازم ويدحرج الصخور. وتتطلب إدامة "السكر" عناية لإعادة وضع ما تدحرج تلك الصخور الكبيرة، في مكانها كل عام، وكذلك تتطلب إدامة النواعير أعمالاً متكررة.
الناعور يدور باستمرار، ويأخذ كل صاحب بستان حصته من مائه وقتاً محدداً، قد يكون بعد منتصف الليل وحتى الصباح، وعليه أن يقضي ذلك الوقت يركض لفتح السواقي وغلقها. لا ينقسم مجتمع "عانه" أو "راوه" إلى "عشائر"، وإنما "أحواش" أو "بيوت"، ولم تعرف "عانه" أو "راوه" أو المناطق القريبة منها الإقطاع، ولم تكن هناك فوارق طبقية حادة بين الناس. وكان الجميع تقريباً يمتلك بعض الأرض التي يقوم بفلاحتها، ولم نسمع بأحد يمتلك أراض شاسعة يقوم الفلاحين بزراعتها له، ولم يكن هناك "شيوخ" و "عبيد" أو "اقنان" ولم أر يوماً شخصاً "مسكيناً" يشعر بالدونية في تلك المناطق. وتقسم أراضي البساتين إلى "صلبان" (جمع صليب، عمودان من الخشب متعامدان في الناعور) وهي وحدة قياس مساحة مبتكرة مشتقة من الناعور الذي يتكون من 12 صليب. فالناعور يستطيع ري مساحة محددة من الأرض، ويتم تقسيم هذه الأرض إلى 12 قسم يسمى كل منها "صليب" (تنطق بتسكين جميع الحروف).

"السكر" وصخوره الزلقة المغطاة دائماً بطبقة خفيفة من الماء، وخطوط الأمواج البيضاء التي كان يرسلها ذيولاً طويلة وقصيرة كما تشاهدون في اللوحة، كانت بالنسبة لنا مكان لعب ومتعة لا حدود لها. نلعب ونلهو ساعات عند "السكر" ونحن نقترب شيئاً فشيء من وسط النهر، عند "الفتحة"، وأخيراً نقرر العبور إلى الجزيرة، وعندها نقذف بأنفسنا في "الفتحة" ذلك الممر السريع المخيف من الماء، ونضرب ونضرب حتى نصل الى ذيل الجزيرة الرملي، محاذرين التلكؤء كيلا يجرفنا الماء نحو الجزيرة التالية، "المقطعات". وبعد استراحة وبعض اللعب، نخترق الجزيرة حتى غربها، صعوداً عكس تيار النهر، على طولها الذي يقل عن كيلومتر واحد، وفي طريقنا المظلل بالنخيل والأشجار المثمرة نحصل على "البسر" الأصفر، وهو التمر نصف الناضج، ألذ أصناف الفاكهة، أو هذا ما كنا نراه.
من مقدمة الجزيرة تبدأ رحلة عودتنا فيجرفنا النهر خلال وقت سباحتنا، عائداً بنا إلى "الفتحة" السريعة والضحلة المياه، والتي يجب أن نتسطح عندها فوق الماء قدر الإمكان خشية أن تصيبنا سرعة التيار وصخور القاع القريبة، بأذى، وكثرما فعلت ذلك!

لكن صديقنا "السكر" لم يكن لطيفاً دائماً - تغرورق عيناي بالدموع وأنا أكتب هذا السطر – فما أزال أذكر ذلك المساء الثقيل الحزين الصامت، إلا من نواح أم بعيدة، حين غرق صديقي "كفاح"! كان يسبح لوحده ذلك اليوم، وتخيلته يقفز غاطساً عند "السكر" فتصيب رأسه حجارة قاع كان يتصوره عميقاً، فيغمى عليه ويغرق. وجدوا جثة كفاح في اليوم التالي مع جرح في جبهته! كنت مصدوماً ومذهولاً، لكن لا أذكر أني بكيت "كفاح". يبدو لي أن الأطفال لا يبكون الموت، اليس كذلك؟

الصيف في "عانه" رقيق. حره لا يؤذي ولا يمنع من العمل واللعب، ولكن بما يكفي للتمتع بالسباحة. وحتى حين يشتد قليلاً، فيكفي أن تجلس في "عشة" من سعف النخيل أو أغصان "الغَرَب" وترشها بالماء لتنعم بالهواء المنعش المعطر. والنوم على السطوح في الليل، متعة أخرى! فيتحول السطح إلى ساحة للّعب والمصارعة. وعندما كان النسوة والفتيات من عدة بيوت يجتمعن لعمل "الكليجة" في السطح، ويضاف عدد من المصابيح لزيادة الإضاءة، كان ذلك سبب آخر للإحتفال واللعب حتى وقت متأخر.

لكن ألذ ما في النوم على السطوح، ذلك البرد الخفيف الرطوبة على الوسادة عندما نضع رأسنا عليها لأول مرة! إني أفهم السياب تماماً عندما قال: "واحسرتاه متى انام... فاحس ان على الوساده، من ليلك الصيفي طلا... فيه عطرك ياعراق"!
كنا نخبث على بعضنا البعض، فنتسابق إلى "سرقة" ذلك "الطل" بأن ننام على وسادة الغائبين أولاً، قبل أن ننقلب إلى فراشنا! حتى النوم كان احتفالية في ذلك الزمن، لماذا، وما الذي حدث؟
وأخيراً يهدأ ضجيجنا، ويتوقف سعف النخيل عن الحركة، والعصافير عن الزقزقة. وقبل أن أستسلم إلى النوم، أسمع في ذلك الهدوء من بعيد هدير "السكر" الذي أخذ "كفاح"، وأنين الناعور الذي كنت أتخيله يريد أن يقول شيئاً....ونغفوا!

في بعض المرات كنا "نسيّس" – بكسر وتشديد الياء- (أي نترك مجرى النهر يأخذنا) من “راوه” إلى “عانه”، على "الجوب" المطاطي الأسود. كانت هذه السفرة مع تحضيراتها تستغرق يومناً، لبطء النهر خاصة عند منحنى النهر عند قلعة “راوه”، وكنا نمر في طريقنا بـ "الطِين" (جمع "طينة" .. وهي جزيرة صغيرة مؤقتة تظهر في موسم هبوط النهر وتتم زراعتها بالخيار والرقي واللوبياء الغضة وغيرها. وروى لي أبي مرة كيف كانوا يذهبون لزراعة "الطيَن" والعناية بها في الفجر المثلج وقبل ذهابهم إلى المدرسة). وكنا "نسرق" ونأكل بعض ما تجود به "الطين"، ثم نستمر، لنصل وقد أسدل الليل ستاره على “عانه”، وكل شيء هادئ، إلا هدير "السكر" وصوت الناعور، وصراخنا يملأ النهر، وقد ابتعدنا عن بعضنا.

عندما أتذكر ذلك، أفكر، مسكين طفلي، ومساكين أطفال الأجيال التي تلتنا. لن يمكن له أو لرفاقه أبداً أن يذوقوا طعم تلك السعادة وتلك الحرية وذلك الإحساس بالأمان والضحك الكثير والمشاعر العميقة، وحتى لو كنت مليونيراً اليوم لما أمكنني توفير مثلها له أبداً!

الطريق بين بغداد و"عانه" كان شاقاً ووعراً وطويلاً، وأكثره غير مبلط، وسعيد من ينجو من الدوار حتى نهايته. لكنه لا يخلو من أماكن ساحرة مثل منطقة "البغدادي" ومقهاها الذي يطل على منطقة في النهر، تبرز فيها الصخور وأشجار "ألغَرَب" برائحتها المميزة المنعشة، وتسير عميقاً عبر النهر. كنت أتصور أنه الجنة!
وعندما نصل إلى "عانه"، فأن أول شيء كنت أحرص على رؤيته هو "الشط". وحتى لو وصلنا في وقت متأخر من الليل، فإني أفرك عيني وأقفز من السيارة وأركض حتى النهر. وهناك أبقى دقائق طويلة أستمع إلى صوت "السِكر" وهو يحطم الأمواج بهدير مهيب، ويرتفع وينخفض أنين ألناعور الأزلي...

أذكر في إحدى المرات عندما وصلنا “عانه”، كان جرح في إصبع قدمي قد تورم، ويجب أنتظار شفائه قبل أن يسمح لي بالسباحة. نزعت ملابسي، ووقفت عند الدكة التي نقفز منها إلى النهر. قالت خالتي محذرةً:" يجب أن يطيب جرحك أولاً؟" قلت... "أنا أقف فقط ".. كنت أريد على الأقل أن أقترب من متعة السباحة بقدر ما يُسمح لي به. بقيت هكذا لدقائق طويلة أنظر إلى النهر وأتخيل نفسي اتلوى في مياهه، وأنا ألمح خالتي تحدق بي باسمة ومتأثرة. وفجأة ضممت يداي إلى صدري وصرخت، لم أعد استطيع المقاومة، وقفزت الى الماء!

اللوحة التي أمامكم، تمثل "حوش حسين" على فرات “عانه” القديمة. فيها بعض التفاصيل والشخوص المتخيلة، أما معظمها الباقي فيعود إلى صورة التقطتها للمكان، عام  67 أو 68، وما أزال أذكر تفاصيل التقاطها. البيت على اليسار كان بيت خالتي، التي كانت تنادي إبنها من تلك الشرفة لكي يتغدى، ثم ليتعشى، وأحياناً ليتناول فطوره! فقد كان "سلام" سمكة أكثر مما كان طفلاً. والى يمين البيت مكان أشبه بالحجرة المغلقة في الماء، تغسل فيها الفتيات الصحون ويسبح فيها الأطفال الصغار. هذا الخط الداكن النازل عند حائط الجامع كان مسار ماء التغسيل من الجامع إلى النهر. كان في الجامع "قمرية" عنب كبيرة تطل على النهر، وكان في اعلى مئذنته عش لقالق. البناء قرب الناعور كان طاحونة يوماً ما، ومن هنا جاء إسمه "صدر الرحى"، لكننا لم نشاهدها.

كان هذا المكان أفضل ما يمثل “عانه” بالنسبة لي، بلا منازع، لكن لم يكن ممكن التقاط صورة له إلا من داخل النهر، وكانت تلك مشكلة. وفي أحد الأيام أقنعت صديقي فاضل، أن نذهب في "بلمه" (زورقه) إلى منتصف النهر لنأخذ الصورة!
وبعد قليل كنا نصارع أمواج "السكر" في بلم صغير جداً، "أبو أربعة تنكات" – (مصنوع من أربعة علب دهن الراعي الكبيرة) مهدد بالغرق في أية لحظة، وما قد يعنيه ذلك من احتمال فقدان البلم، وأهم من ذلك بالنسبة لي، تلف الفلم كله وربما الكامرة! ولأني يجب أن أهتم بالصورة فقد كان على فاضل أن يهتم بالبلم لوحده ويجدف بقوة ليتقدم أو يقاوم الإنجراف حتى نصل إلى المنطقة التي ترضي "المصور". وأذكر صراخه وهو يحتج على طلباتي المتكررة الكثيرة: .. "يجب أن نذهب أكثر في عمق النهر" .. "تقدم قليلاً" .. "لا معنى للصورة إذا أخذناها من هنا، شوية بعد" .... "لا .. متكفي لازم نروح أبعد"..."منارة الجامع لا تظهر كلها مع الماء من هنا"... "يا أخي إذا أخذت الصورة من هنا، أما الناعور ما يطلع أو الحوش ما يطلع".."إحنا تعبنا تعبنا.. خللي نحصل صورة زينة"...
وأخيراً، صرنا حيث كانت كامرتي تستطيع أن تحتوي أحب مكان لدي في العالم. لم يكن في الكامرة شيء أوتوماتيكي، ولن أبذر أكثر من صورة واحدة حتى هنا!  أضبط المسافة... قدّر فتحة العدسة المناسبة.... السرعة... والآن حاول أن تستقر أكثر ما يمكن ذلك في بلم صغير تؤرجحه الأمواج...و..." كليك" !

وغرقت “عانه”! ومازالت ترن في أذني أصوات صرخاتنا وتلاطم الأمواج ورذاذ الماء وصراخ فاضل القلق من غرق البلم، وصوت الناعور الذي لم أفهم حتى اليوم ماذا كان يريد أن يقول لنا!



44
الحماس الإنساني العسكري تجاه سورية
صائب خليل
أخيراً، أوصل "الحماس الإنساني العالمي" مشكلة سورية إلى مجلس الأمن، فهل هي "صحوة ضمير" عالمية لم نعرفها من قبل؟ أم هي مجرد نسخة مكررة أخرى من "النفاق العالمي" التي تنتشر بكثافة على تاريخ البشرية المخجل؟

من يراقب اردوغان وهو يرفع أهتمامه "الإنساني" بالشعب السوري إلى مستويات غير طبيعية، لا يستطيع إلا أن يرتاب فيما وراء ذلك، فالسياسة وواجب القائد تجاه بلده، لا تعرف مثل هذه المواقف البالغة التعاطف تجاه شعب بلد آخر، حتى لو كان ذلك القائد شديد العاطفية بالفعل. فأردوغان لم يضح بعلاقات بلده مع جار هام فقط، بل أوصلها إلى حد العداء وإلى قضية حياة او موت بين البلدين، لم تصلها أشد الحالات عدوانية بين تركيا وجاراتها المتعادية تقليديا منذ الأزل، وضحى أيضاً بجهود وتضحيات كبيرة كانت تركيا قد بذلتها في حملتها لـ "العودة إلى الشرق" والوقوف بوجه التسلط الإسرائيلي منذ أيام أسطول الحرية. فكيف تناسقت أهداف تركيا الإنسانية مع أهداف أميركا وإسرائيل العدوانية حول سوريا بهذا الشكل الكبير؟(1)

وحقيقة الأمر أن كل من أراد شن عدوان عسكري في التاريخ، دعمه بغطاء إعلامي "إنساني". وقد فسر هتلر نفسه هجومه الأول على جيكيا بأنه إنساني، ووصف الأمريكان إحتلالهم للفلبين في القرن التاسع عشر بآيات مغرقة في الإنسانية والدين، وأحيط هجوم الناتو على كوسوفو في نهاية القرن الماضي، بالكثير من التعابير "الإنسانية"، حتى أن البروفسور جومسكي أصدر كتاباً بعنوان "النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة"، فضح فيه نفاق "الإنسانيون الجدد" حين قارن بين "حماسهم الإنساني" للهجوم على كوسوفو، وافتقار ذلك الحماس لتطهير عرقي كانت تقوم به دول صديقة لهم مثل تركيا في ذلك الوقت ضد الأكراد، بل دعمها بقوة!
اكتشف الأمريكان سر قوة "الإنسانية" و "الديمقراطية" كغطاء سياسي، فأسسوا العديد من المنظمات "الإنسانية" الساعية لنشر "الديمقراطية" التي تحضر الأجواء في العالم من أجل التدخل الأمريكي "ألإنساني" في اللحظة المناسبة. فيكتب "جوليان تاي" عن "المؤسسة القومية من أجل الديموقراطية" (NED)  وهي إحدى تلك المنظمات التي تنشط اليوم في سوريا: "هي منظمة تقدم نفسها على أنها منظمة غير حكومية تنذر نفسها رسمياً لـ "التنمية ولتعزيز المؤسسات الديموقراطية في العالم". ولكنها في الحقيقة تنظيم يموله الكونغرس الأميركي بنسبة 95 بالمئة. وقد اكتسب إنشاؤها صفة رسمية عام 1982 في ظل إدارة الرئيس ريغان." (2)

ويكتب تييري ميسان عنها: "منذ ثلاثين عاماً تقوم "المؤسسة القومية من أجل الديموقراطية" (NED) بتنفيذ الجانب الشرعي من العمليات غير الشرعية التي تنفذها وكالة الاستخبارات الأميركية. ومن غير أن تثير الشبهات، أنشأت المؤسسة المذكورة أوسع شبكة فساد في العالم عبر شراء نقابات العمال وأرباب العمل والأحزاب السياسية من اليسار واليمين، ممن وضعتهم في خدمة مصالح الولايات المتحدة لا في خدمة مصالح المنتسبين إليها. "(3)

ومن جوليان تاي نعلم أيضاً إن "مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان" في سوريا، هو التنظيم الرئيس التابع لـ (NED)  وهو أيضاً شريك لـ " الاتحاد العالمي لحقوق الإنسان" (FIDH). وقد حصل الاتحاد على مبلغ 140 ألف دولار أميركي دفعتها (NED) بعد اجتماع عقد بين كارل غيرشمان ومنظمات حقوق إنسان فرنسية مزعومة. "

ويمكننا أن نرى علامات "الحماس الكاشف للكذب" في الحركة والنشاط والحزم غير المتوقعة للجامعة العربية أيضاً. فهي تبدو أكثر حماساً لإسقاط الأسد من اية قضية عربية طرحت عليها مهما كانت خطيرة– إلا اللهم ما بدا خلفه إرادة أمريكية إسرائيلية ايضاً. وهنا نجد حماساً واستعجالاً واستنفاراً غير طبيعي للجامعة، تقوده قطر، من أجل معاقبة نظام عربي، يمكن أن يقال عنه بالتأكيد أنه ليس أسوأ الأنظمة العربية، إلا وفق مقاييس إسرائيل، فالجامعة تبدو متفقة تماماً مع مقولة باراك: "سقوط الأسد نعمة للشرق الأوسط"! (4) أو مع أمنية الناتو بإثارة "حربٍ أهليةٍ تغلي" كمقدمة للتدخل (5)

ومن أغرب تداعيات "المشاعر الإنسانية" في موضوع سوريا، القرار الأخير للدول الخليجية، والذي بدأته السعودية بسحب مراقبيها من بعثة الجامعة العربية الى سورية بعد "تاكدها من استمرار نزيف الدم وقتل الابرياء" حسب تعبيرها. ولا يفهم المرء كيف يمكن لسحب مراقبين أن "يوقف نزيف الدم" ، لكن يمكننا أن نصدق أكثر ما قاله وزير خارجية سوريا بأن " تقرير المراقبين لم يعجبهم فقرروا الإلتفاف عليه"(6)

وتتجه الجامعة العربية اليوم للتعبير عن مشاعرها "الإنسانية" إلى تدويل القضية ودفع الأمور باتجاه الحرب الأهلية من خلال وضع شروط تعلم مسبقاً أن الحكومة السورية لا يمكن أن تقبلها. (7)

وتقف قطر على رأس "المتحمسين الإنسانيين" في القضية السورية، ويبدو أن مشاعرها تقتصر على الحلول العنيفة وإسقاط الحكومة السورية. فوضع الأمير "كل إمكانيات قطر" تحت خدمة ذلك الهدف. (8)

فلم تكتف قطر بتجنيد كل طاقاتها الدبلوماسية والمالية والعسكرية والإعلامية المتمثلة بقناة الجزيرة لهذه المهمة، بل دفعت برجال الدين إليها فاستنفر القرضاوي الذي دخل الموضوع بكل "ثقله الديني الإنساني" رغم أن الدعوة للتدخل الأجنبي تخالف التعاليم الإسلامية بصراحة. (9)
وعن الحماس القطري للتدخل "الإنساني" في ليبيا كتبت "الفيغارو": " في حين بدا الغربيون متردّدين في تسليح الثوار، فقد سارعت "الدوحة" لتدريب المقاتلين الليبيين قليلي الخبرة. وبموافقة أجهزة الإستخبارات الغربية، فقد تم إرسال ما لا يقل عن ٢٠ ألف طن من الأسلحة القطرية إلى ثوار ليبيا.
ونقلت عن وزير خارجية إسبانيا السابق، ميغيل أنجيل موراتينوس لا يجرؤ أي مسؤول عربي على مواجهة القطريين". (10)

لكنك "لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت" كما يقال، ويمكننا أن نلاحظ انحسار الزخم الذي اعطاه "الإعلام الإنساني" لذلك التدخل في الدول العربية الذي تقوده قطر. فبعد نجاح الثورة الليبية أنقلب على قطر الكثير من ثوار ليبيا, متهمين حكام قطر "بتنفيذ أجندة خفية ,... لتحقيق مصالح قطرية وأمريكية وإسرائيلية". وحذر علي الترهوني نائب رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي الليبي من خلال مجلة تايم الأمريكية قائلاً: "القطريين جلبوا السلاح وأعطوه لأشخاص لا نعرفهم." (!!)
وحدث امر مشابه في تونس فتظاهر تونسيون أمام سفارة قطر في تونس احتجاجاً على تدخلها في شؤون بلادهم. لذلك يصف البعض ما حدث في دول ثورات الربيع العربي بأنه "ثورة جديدة في ليبيا ضد قطر!" (11)

ويلاحظ في كل الحملات "العسكرية الإنسانية" أن عواطف أصحابها الجياشة لم تكن في أي يوم من الأيام موجهة نحو شعوبهم وأوضاعها الإنسانية والديمقراطية. فكلنتون، صاحب حرب كوسوفو الإنسانية، كان ممثلاً بامتياز لمصالح الشركات الكبرى ومشاريع العولمة التي زادت قسوة الحياة على فقراء بلاده وجيرانها، إن لم يكن العالم. ولم يعرف تاريخ الولايات المتحدة رئيساً تم تحطيم أسس المجتمع المدني والديمقراطية فيه بقدر ما حدث أيام جورج بوش الإبن، والذي كان يصرخ بوجه أحد مستشاريه بأن لا يزعجه بالدستور، لكنه يبدو مستعداً للتضحية بألاف الأمريكان والترليونات من دولاراتهم من أجل إقامة دستور وديمقراطية في العراق!

وتساءل الكثيرين أيضاً عن موقف أمير قطر و "معنى نصائحه لسوريا, فيما دولته وأمثالها لا تحكم إلا من خلال أسر عائلية لا تفقه معنى المساواة والعدل والحقوق والواجبات بين المواطنين" – وقال وزير العدل الأردني السابق حسين مجلي "أن قطر التي تقود ما يسمى العمل العربي هي قاعدة أجنبية. كما أن قناتي الجزيرة والعربية هما غرف عمليات أمريكية صهيونية"(12)
وعن "إنسانية" القرضاوي الإسلامية قال الأمين العام لهيئة علماء لبنان الشيخ يوسف الغوش: "لم نسمع من يوسف القرضاوي اعتراضاً على تهويد القدس, ولا على منع الآذان داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة, ولا حتى على القصف الاسرائيلي لغزة ومعبر رفح, ولم نسمعه يرد على تصريحات مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة نيوت غينغريتش الذي أتهم الفلسطينيين بأنهم إرهابيون."

هكذا يكشف "الموقف الإنساني" المزيف نفسه تدريجياً، وكلما طال الوقت أفتضح المزيد، وأحرج دعاة "التدخل الإنساني" أمام شعوبهم وتلك التي تتجه إليها "عواطفهم الجياشة"، ويصير الدفاع عن مواقفهم أكثر صعوبة.
لقد عبر حمد بن جاسم ، رئيس الوزراء القطري في مقابلة مع الجزيرة مؤخراً عن ذلك الإحراج حين قال: "إن اتخذنا قرار في الجامعة العربية نلام، وإن لم نتخذ قرار نلام.."!، ولم يشر إلى الجواب الواضح، وهو أن الشارع يرى أن رياح الحماس الإنساني والقومي للجامعة التي يقودها فعلياً، لا تهب ، إلا وفق الأجندة الإسرائيلية الأمريكية، فلا تتخذ القرارات، إلا عندما تخدم تلك القرارات تلك الأجندة، ولا تتخاذل إلا عندما يخدمها التخاذل!

(1) http://www.abna.ir/data.asp?lang=2&id=288744
(2) http://www.alintiqad.com/essaydetails.php?eid=49393&cid=88
(3) http://www.alintiqad.com/essaydetails.php?eid=50146&cid=88
(4) http://www.al-akhbar.com/node/27579
(5) http://rt.com/news/nato-civil-war-syria-011
(6) http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=172209&cid=21&fromval=1
(7) http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=172099&cid=21&fromval=1
(8) http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=169359&frid=21&seccatid=23&cid=21&fromval=1
(9) http://www.alalam.ir/news/901814
(10) http://groups.google.com/group/fayad61/browse_thread/thread/8ff9e9d75552728c
(11) http://www.algeriatimes.net/algerianews19238.html
(12) http://groups.google.com/group/fayad61/browse_thread/thread/e8912e3f954b37ec


45
قوانين للعبيد وقوانين للأمريكان – محاكمة المارينز في جريمة حديثة

صائب خليل

إذا أراد القاضي الأمريكي أن يقسوا كثيراً على مشاة البحرية الأمريكان سفاحي مجزرة حديثة، والتي سقط فيها 24 مدنياً عراقيا من رجال ونساء وأطفال في منازلهم، فسوف يحكم على واحد منهم فقط بالحجز لمدة ثلاثة أشهر! هذا ما وصل إليه القضاء الأمريكي بعد سنوات طويلة من التأجيل والمماطلات.
فلقد تم الإتفاق مع المتهم الوحيد الباقي فرانك ووتريتش بأن يقر بالذنب بتهمة "التقصير" في أداء واجبه، على أن ترفع عنه بقية التهم، كما قال الضابط بالبحرية الأميركية تشاد ماكين، وفق "صفقة" تم التوصل إليها بين فريق الدفاع وهيئة المحكمة!! وكأن أهالي الضحايا كانوا منزعجين من "تقصير" أحد الجنود في أداء واجبه، وليس طلب العدالة عن ذبح ذويهم بدم بارد، واعتبار القتل تسلية حين يتم أخذ  الصور التذكارية مع الضحايا، كما كشفت "نيويورك تايمز" بالصدفة (1)

بطل المجزرة قرأ إفادته بثقة وهدوء وقال أنه "يأسف" لما حدث، مقراً بأنه اعطى الأوامر: "أضرب ثم ناقش" وقال أن ذلك ربما كان خطأ. وقال عنه محاميه أنه "ليس شريراً" وأنه "رجل خلوق وأمين وشريف". وقال هو عن فريقه أنه لا يعتقد أن أي منهم قد تصرف بشكل غير مشرف، أو بخلاف أرفع القيم التي "تعيش المارينز من أجلها" ...". وبالتالي تحولت محاكمة القتلة إلى احتفال تكريمي لهم! (2)

ولم يستطع المحللون إخفاء قلقهم من أن هذا الحكم يرسل رسالة للعالم تؤكد الفكرة المأخوذة عن أميركا بأنها لا تحاسب منتسبيها على جرائمهم، وأنها لا تتبع المقاييس التي تحاول فرضها على الدول الأخرى، وأن هذا، كما قالت ساره ليه مديرة فرع أفريقيا والشرق الأوسط من "هيومان رايتس واج" ، يسهم في تثبيت الفكرة المستهجنة الساخرة من الخطاب الأمريكي في المنطقة. (3)
كتب يساري أمريكي: "لقد أذهلتنا هذه النهاية المحبطة لقضية وصفت يوماً بأنها "ماي لاي العراق" ... "، إشارة إلى مجزرة وحشية أخرى من مجازر الجيوش الأمريكية في العالم. (4)

وحاول ووتريتش في مقابلة له مع برنامج 60 دقيقة أن يعطي إنطباعاً بالتأثر، وروى القصة على أنهم كانوا مجبرين على قتل الضحايا بإلقاء القنابل اليدوية داخل الغرف قبل اقتحامها، وأنهم لم يكونوا يعرفون من قد يكون فيها، وأن ذلك من ضرورات التعليمات العسكرية ووفق التدريب. (5)

لكن الفتاتين الناجيتين من المجزرة أكدتا أن الجنود الأمريكان كانوا يصرخون بوجه أهاليهم قبل أن يقتلوهم، مما يعني أنهم رأوا ضحاياهم وعرفوا أنهم نساء وأطفال أبرياء ولا يمثلون تهديداً، وقتلوهم رغم ذلك عن قصد، وأن القصة ملفقة. (6)
وفي البرنامج قال القاتل أنه لم يخطئ وأنه مستعد لكي يفعل ذلك مرة ثانية لو عاد للعراق!.

أن يكذب جندي مهدد بحكم خطير، ليس أمراً غريباً، ولا يعنينا الكثير. لكن سخرية النظام الأمريكي، القضائي والسياسي والعسكري، واحتقاره لضحاياه، هو ما يلفت النظر. فعندما يقتل أمريكان، فعلى العالم أن يتوقع حرباً وأن تكون "ديتهم" الملايين من الأبرياء وغير الأبرياء، أما عندما يقتل الأمريكان آخرين، مهما كانت بشاعة القتل ومهما كانت الجريمة ثابتة، ومهما كان المجرمون محددون، فالأمر مختلف تماماً. أو كما يقول جومسكي ساخراً: "عندما يقوم الآخرون بالقتل، فهو عمل إرهابي وعندما نقوم به نحن، فهو عمل مضاد للإرهاب".

كلما مرت واحدة من قصص "العدالة" الدولية الأمريكية أمامي، أتذكر حادثة لوكربي وقتلى العراقيين على يد الأمريكان، والفارق في "الدية": ملايين الدولارات للضحايا الأمريكان والبريطانيين، وبضعة مئات الدولارات للضحايا من العراقيين. وأتذكر أيضاً قوانين العالم القديم، أيام العبودية  والإقطاع، وقوانين العبيد والسادة التي قرأناها في مسلة حمورابي. (7)
فتقول المسلة مثلاً : "من تسبب في إتلاف عين رجل من الطبقة العليا تقلع عينيه" وتنص ماده تالية على أن "من يفقأ عين رجل من العامة يدفع مينه من الفضة" وأخرى تقول "ومن يفقأ عين رجل من العبيد يدفع نصف القيمة." (8)
لكن علينا أن لا نظلم حمورابي، فالرجل عاش قبل حوالي 4000 عام من الآن، ويفترض أن الإنسان تطور قليلاً خلال هذه الفترة! فما هو الفرق بين الإنسان العراقي القديم "المتوحش" و الأمريكي الديمقراطي المتحضر؟ النتيجة واحدة، ولكن الفرق هو أن تلك القوانين العنصرية لم تعد مكتوبة، لكنها تنفذ بشكل نظامي ودقيق وفي كل مرة.

والفرق ايضاً أن التمايز بين سادة وعبيد اليوم صار أكبر بكثير من سادة وعبيد زمن حمورابي، فمن يقتل جندياً أمريكياً، حتى لو جاءه الجندي معتديا على بيته، لا يحكم بالحجز فقط لضعف مدة حجز المدلل ووتريتش ، أو ثلاثة أو أربعة أضعاف...بل أحكام أقسى كثيراً، قد تشمل دولته كلها وشعبه كله!

لنعد إلى بعض تاريخ الولايات المتحدة، وقوانين العبيد فيها، لعلنا نجد سبباً لهذا الوضع الغريب، لدولة تدعي أن لها الحق بقيادة البشرية.
قوانين ساوث كارولينا عام 1749 – أي قبل الإستقلال عن بريطانيا، تقول المادة التاسعة أنه في حالة قتل عبد لسيد فأنه يجب إحضار العبد إلى محاكمة عاجلة خلال ثلاثة أيام، وفي مادة أخرى نقرأ إن قتل العبد شخصاً أبيض، فإنها جريمة تحكم بالإعدام، ومادة أخرى تشرح ان قتل شخص أبيض لعبد بلا مبرر فأنه يغرم 700 باوند، أما إن كان في الأبيض في سورة غضب، فأن العقوبة تخفض إلى النصف، فيدفع 350 باوند!

وتوضح لنا مادة أخرى أن معاقبة العبد بأعمال مثل الكي أو الحرق أو الإخصاء أو قطع اللسان أو قلع العين أو قطع عضو منه أو اية عقوبات "قاسية" مشابهة، عدا جلده بسوط من الجلد أو العصا أو وضع الحديد (في يديه و رجليه) أو حبسه .. (هذه العقوبات المسموح بها) فأن الأبيض يغرم 100 باوند. (9)

إذن يمكننا أن نقول أن قوانين حمورابي تتميز عن تلك الأمريكية التي جاءت بعدها بحوالي 4000 عام بأنها أقل عنصرية وظلماً واحتقاراً، لعبيدها من "عبيد العصر الجديد" ...نحن! بل أن مسلة حمورابي في زمن العبودية، تسمح بزواج العبد من حر للجنسين، وتعتبر اولاده أحراراً، بينما قوانين أميركا في القرن الثامن عشر، عصر ازدهار الرأسمالية، تحرم ذلك وتعاقب من يقوم به وتضع العراقيل أمام الإعتراف بالأطفال أيضاً!
لقد أزيلت تلك القوانين، لكن روحها مازالت باقية كما يبدو. فقبل نصف قرن منع شرطة امريكان سود من دخول مطعم في اميركا، بينما سمح بذلك للأسرى النازيين الذين كانوا يقتادونهم! ويذكر وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول أنه منع من دخول مطعم في إحدى الولايات الجنوبية لكونه أسود عندما كان ظابطاً في الجيش الأمريكي. كذلك لا يدل تأخر انتخاب أول رئيس اسود للولايات المتحدة والدهشة الكبيرة التي صاحبت الحدث، إلا على أن القضية لم تنته بعد في النفوس الأمريكية.

هل من غرابة بعد كل ذلك أن يحكموا على من يقتل العراقيين ببضعة اسابيع في الحجز؟ وهل من غرابة بعد ذلك أن يشترط "اصدقاءنا" هؤلاء، الحصول على الحصانة من القانون حيثما حلوا؟

(1)  http://www.alsumarianews.com/ar/8/35209/news-details-Iraq%20international%20news.html
(2)  http://www.courant.com/news/nation-world/sns-rt-us-iraq-usa-hadithatre80n1tb-20120124,0,6725921.story
(3)  http://www.informationclearinghouse.info/article30340.htm
(4)  http://www.informationclearinghouse.info/article30339.htm
(5) مقابلة الجندي المتهم عام 2007
 http://www.cbsnews.com/video/watch/?id=2582353n
(6) شهادة فتاة عراقية عن مجزرة حديثة
http://www.informationclearinghouse.info/article30339.htm
(7) http://www.commonlaw.com/Hammurabi.html
(8)  http://radiosawaa.com/vb/t562.html
(9)  http://legal-dictionary.thefreedictionary.com/South+Carolina+Slave+Code




46
رئيسة الصداقة الإسرائيلية - سفيرة أوروبا للعراق وجيكيا بوابة إسرائيل اليه



صائب خليل
27 كانون الثاني 2012

قرأت أمس خبر عودة السيد الشهرستاني من جيكيا بعقود كبرى، فذكرني بخبر نشر قبل فترة قصيرة في الصحافة العراقية، بأن قوات الأمن العراقية عثرت على مسدس كاتم وعتاد موزع في حقائب السفير التشيكي وحمايته، وقبض عليهم واحيلوا للتحقيق .(1)
ورغم أن الخبر الأخير لم يشر في حينها إلى مصدره، فهو يثير قلقاً قد يكون مشروعاً. فجيكيا، خاصة في زمن حكومتها الأخيرة، صارت دويلة تابعة لإسرائيل بلا قيد أو شرط، وفي مواقف عديدة وقفت حكومتها مع إسرائيل في أبشع الظروف التي حاول أكثر أصدقاء إسرائيل وقاحة أن يبعد نفسه عنها لحين حفاظاً على سمعته. وقد أشرت قبل عام ونصف في مقال بعنوان "هل يكون الجيك مدخل إسرائيل إلى العراق؟" إلى المحاذير من تطوير العلاقة الجيكية بالسرعة التي تتطور بها، ووصول سفيرتها حتى إلى الحكومات المحلية في المحافظات وليس فقط في الإقليم، وبحجم مذهل يشمل كل الجوانب الإقتصادية والتجارية والعسكرية والأمنية والسياسية، (يمكن مراجعة المقالة من أجل التفاصيل والمراجع) رغم الوضع الأمني الصعب الذي يخيف شركات بقية دول العالم، فما الذي كان يطمئن الجيك؟
وتشير مقالتي السابقة ايضاً إلى استبيان للمستوى غير الإعتيادي من الفساد في البلد حيث تلعب الرشوة دوراً حاسماً في أمور البلاد
و حكام جيكيا اليوم هم بقايا "الثورة البنفسجية"، التي دشنت ما سمي بـ "الثورات الملونة" التي كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والمنظمات المدنية الممولة من قبلها تدعمها وتقودها. وهو ما أنتج حكومات هزيلة خطرة كحكومة جورجيا التي خسرت مقاطعتين بسبب تعبيتها لمشاريع التحرش الأمريكية الإسرائيلية بروسيا، وحكومة أوكرانيا التي اسقطها الفساد وحكومة الجيك التي كانت مسخرة لشعبها والعالم الذي رأى كيف يتصرف وزراؤها في هذا الفيديو(2)
ولأن أميركا دشنت ثوراتها الملونة في جيكيا، فأن براغ أصبحت بعد ذلك الوكر الأساسي لتصدير تلك الثورات، وغالباً على حكومات منتخبة، وورشة تدريب الكوادر للقيام بتلك "الثورات".

وتميزت سياسة جيكيا في الإتحاد الأوروبي بقيادة المحور المنساق وراء السياسة الأمريكية الإسرائيلية، ليس فقط في دعم مواقف إسرائيل وتمكينها من موقع متميز في الإتحاد الأوروبي يكاد يصل إلى العضوية، فقط، بل أيضاً في مجمل السياسات التخريبية لهذا المحور على المستوى الأوروبي. فكانت من أشد دعاة الإصطدام مع روسيا حماسة رغم أن ذلك انعكس سلباً بشكل كبير على الإقتصاد الأوروبي المعتمد على الغاز الروسي. وكذلك كان موقفها أمريكياً – إسرائيلياً في قضية الدرع الصاروخية الأمريكية والموقف من إيران. وكانت جيكيا آخر حلقات سلسلة العثرات التي وضعتها أميركا أمام إتفاقية برشلونة لتطوير الإتحاد الأوروبي، وكادت تسقطها حتى بعد إقناع بقية المعترضين من نفس المجموعة التي تقودها أميركا.
ولم يفوت البرلمانيون الجيك في الإتحاد الأوروبي أية فرصة للحديث الغاضب عن "الفاشية الإسلامية".. لكن غضبهم الإنساني كان غائباً تماماً في مذبحة غزة ضد "المسلمين". ووقتت إسرائيل هجومها الوحشي على غزة ليكون متأخراً أقصى ما يمكن لإعفاء بوش كرئيس مغادر من اتخاذ موقف، ولكن بالتأكيد قبل (أسبوعين من) نهاية رئاسة جيكيا للإتحاد الأوروبي، لضمانها دعمها غير المحدود، وبالفعل وقفت جيكيا كأكثر أعضاء الإتحاد الأوروبي حماساً لدعم إسرائيل في تلك الحرب، وتحويل اللوم إلى غزة. كما عرقلت جيكيا بعد ذلك بكل السبل المطالبات الأوروبية بالتحقيق في المجزرة، وأفشلت المبادرة السويدية لجعل القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، ودعت إلى ترك الأمر للمحاكم الإسرائيلية. وكذلك وقفت تشيكيا ضد التحقيقات الدولية في جرائم إسرائيل ضد ركاب أسطول الحرية وتقرير كولدستون، حيث صرحت حكومتها بأنها تعتبر "المحاكم (العسكرية) الإسرائيلية موضع ثقة أكثر من الأمم المتحدة". (3)

واليوم يعود النشاط غير المعهود وغير المتحسب لتوقيع أتفاقات مع جانب أقل ما يقال عنه أنه "غير مؤتمن"، لتشمل كل شيء تقريباً، بما في ذلك الدراسة والزراعة والكهرباء والبنى التحتية والنفط والأمن والجيش وتم التوقيع على عقود لشراء طائرات حربية و "وتطوير مشاريع دفاعية واستراتيجية". ودعم القطاع الخاص، وحتى التعليم! وكانت جيكيا قد أعفت العراق من معظم ديونها عليه خلال زيارة رئيس حكومتها للعراق، كبادرة لتشجيع انطلاق تلك العلاقات.
وكان آخر تلك الأنشطة الزيارة التي قام بها حسين الشهرستاني مؤخراً إلى جيكيا، وعاد منها قبل ايام وتحدث عن صفقات عسكرية وغيرها كثير.(4)

وتثير هذه السرعة في العلاقات المتميزة القلق أن تكون إسرائيل وراء الموضوع، وأنها تستخدم جيكيا لدخول العراق من "الشباك" بعد أن عجز الساسة الكرد ومن بعدهم مثال الآلوسي عن إدخالها من الباب. وكنت قد نبهت وزير الكهرباء السابق السيد رعد شلال العاني إلى موضوع العلاقة غير الطبيعية بين جيكيا وإسرائيل، والذي اهتم بالأمر، واخبرني لاحقاً أنه أوصل الأمر إلى بعض الوزراء وكذلك رئيس الوزراء نوري المالكي ألذي لم يبد اهتماماً بالموضوع، وعلق بأن لدى كل الدول علاقات "متميزة" مع إسرائيل. وحين طُلب من وزارة الكهرباء إرسال ممثل لها كبقية الوزارات لإنشاء لجنة عراقية جيكية كبيرة، نبه الوزير شلال إلى ضرورة عدم الإندفاع في العلاقة مع جيكيا، لكن ذلك لم يكن له أي تأثير، وربما كان موقف الوزير أحد العوامل التي ساهمت في إقالته، إضافة إلى موقفه من شركات الإستثمار والتقييد الذي يمارسه بنك جي بي موركان الأمريكي على الإقتصاد العراقي.

ثم جاء خبر يثير القلق بشكل خاص، وهو تعيين الإتحاد الأوروبي لرئيسة لجنة الصداقة الإسرائيليلة الأوروبية في البرلمان الأوروبي، جانا هيباسكوفا، لترأس بعثة الإتحاد الأوروبي إلى العراق. وفي ذلك المركز ما يكفي ليعرفنا بموقف هيباسكوفا من العرب وما قد تريده للعراق، بعيداً عن الكلام الدبلوماسي الجميل. 

كانت هيباشكوفا من أول الدبلوماسيين الذين دخلوا العراق بعد الإحتلال، وعملت مع البعثة الجيكية في البصرة. وشغلت هيباشكوفا في السابق منصب سفيرة لبلادها في الكويت وقطر، كما كانت عضوة في بعثات الاتحاد الأوروبي للعلاقات مع المجلس التشريعي الفلسطيني واسرائيل وايران للفترة من 2004-2009، أضافة الى عدة لجان اوروبية اخرى كالدفاع والمالية وغيرها، وهي تنتمي لكتلة حزب الشعب (EEP) وهو الحزب اليميني الأكبر في الإتحاد الأوروبي، الساعي لتحطيم الإتحاد الأوروبي. ودرست هيباشكوفا اللغة العربية، ومن يدرس لغة شعب آخر، يكون أما معجب بذلك الشعب، أو يعد لأذيته. ومن الواضح من علاقة هيباشكوفا بإسرائيل أن الإحتمال الأول غير محتمل في بالها.
 
 
 
           


وفي مناقشات ضمن لجنة التطوير البرلمانية قالت هيباسكوفا أنها اضطرت لأن تأخذ الجانب الإسرائيلي لأنه النقاش كان "يفتقر إلى التوازن". (5)

مهمة بعثة الصداقة الأوروبية الإسرائيلية التي رئستها هيباشكوفا تقوية الروابط البرلمانية الأوروبية الإسرائيلية ورفع مستوى "الوعي" الأوروبي حول إسرائيل. وجذبت البعثة عدداً من الأعضاء الداعمين لإسرائيل في مختلف مرافق الإتحاد الأوروبي.
ويذكر أن تلك البعثة التي كانت تحت رئاسة البرتغالي ماريو سواريز كانت تنتقد إسرائيل أحياناً، ثم صارت أكثر ودية معها تحت رئاسة الألماني ويلي كورليتش، لكن استلام رئاستها لشخصية ذات قناعة ومن دولة تعتبر واحدة من أقوى أصدقاء إسرائيل، غير الحال بشكل كبير، كما يقول أحد الكتاب الإسرائيليين.
وخلال عملها في الإتحاد الأوروبي حصلت على استحسان الدبلوماسيين الإسرائيليين هناك. ووصفت بأنها ترى نفسها "التوازن" الشديد الرغبة بدعم العلاقات الأوروبية الإسرائيلية. ويأتي هذا "التوازن" من خلال بعض مواقف هيباسكوفا المعارضة للإسيتطان، لتعود وتؤكد أن بعضاً من المستوطنات يجب أن يبقى لإسرائيل، وأن الموضوع الأساسي هو إيقاف "الإرهاب" (الفلسطيني) والتعاون الأمني. (6)

في عيد ميلاد إسرائيل الستين هنأتها هيباسكوفا بحرارة ، وبعد أحاديث عن التصفية العرقية وخطورتها الحاضرة ، اعتبرت أن القانون الدولي ذو ثغرات مستشهدة بالقرار 242 (!) الذي يدين إسرائيل، وعدم تحديد الحدود الدولية (!) و "حتى عدم الإعتراف التام في الوجود الآمن لإسرائيل"، ووصفت ذلك بأنه "فضيع". وقالت أن "قوة الديمقراطية" هي التي حافظت على إسرائيل لستين عاماً أمام القوة العسكرية التقليدية لجيرانها العرب! وتحدثت عن الإرهاب (العربي) والأسلحة والإنتحاريين والصواريخ المحلية الصنع والإختطاف والكاتيوشا، كعلامات لتهديدات جديدة لإسرائيل، والقت باللوم على حماس التي ترفض الإعتراف بإسرائيل، وقالت أنه "بمقاتلة الجهاد الإسلامي، فأن إسرائيل تقاتل بالنيابة عنا". ثم أضافت بأنه على الأوروبيين أن يساعدوا الفلسطينيين على بناء دولتهم المستقلة. (7)

وفي الوقت الذي كان البرلمان الأوروبي يسعى للضغط على إسرائيل من أجل إبداء بعض المرونة مع الفلسطينيين قبل إعطائهم الأفضليات التي يريدونها، والتي وجدت فيها أوروبا ورقة الضغط الوحيدة لديها، فأن هيباسكوفا ورفاقها كانوا يضغطون من أجل سحب تلك الأورواق من البرلمان، ويصرون على عدم الضغط على إسرائيل وأن "الحوار" معها هو الطريق الصحيح، وقد وصل نشاطها في هذا الأمر إلى أنها صارت تعتبر نفسها كموظف ضغط (لوبي) لإسرائيل، مؤكدة أن حل الدولتين "غير ممكن التحقيق إلا في المستقبل البعيد" ودعت إلى دعم أمن إسرائيل باعتباره سيقلل من عوارض الطرق لصالح الفلسطينيين واقتصادهم وأوضاعهم الإنسانية ! (أي أنه إن أراد الأوروبيون دعم الفلسطينيين، فعليهم ان يفعلوا ذلك من خلال دعم إسرائيل!) (8)

واهتمت هيباسكوفا بشكل خاص بموضوع التعليم في العراق، وما أسمته "مشاركة القيم الأخلاقية بين أوروبا والعراق"(9)
ومن نشاطاتها عقد مؤتمراً صحفياً لمنع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من دخول الإتحاد الأوروبي(10) ودعت إلى وضع حزب الله على قائمة الإرهاب الأوروبية وقالت بأن الإرهاب "واحد من أكبر التهديدات الأمنية" وأنه منذ 1980 فأن 90 أوروبيا قد قتل بسبب الهجمات الإرهابية التي ارتكبتها المنظمة الإرهابية "حزب الله". وقالت أن اوروبا معرضة لخطر الإرهاب حسب رأي الخبراء، وأنها تتعجب لماذا وضع حزب الله في قوائم الإرهاب في بريطانيا وهولندا فقط"، وقالت أن "الإتحاد الأوروبي ملزم بحماية مواطنيه (من خطر حزب الله) المنتظر"، وأختتمت بتهديد المبطن لمعارضيها بالقول "أن الذين يعارضون وضع حزب الله على قائمة الإرهاب يعرضون حياة المواطنين الأوروبيين للخطر"(11)

 لكن لماذا ينتخب الإتحاد الأوروبي لتطوير علاقاته مع العراق، شخصاً أقل ما يقال عنه أنه مشبوه بأجندة أخرى قد تعرقل تلك العلاقة؟ من أجل فهم ذلك علينا أن نفهم العلاقات المعقدة داخل الإتحاد وقدرة المحور الإسرائيلي الأمريكي في الضغط عليه حتى في اتخاذ قرارات لا تبدو لصالحه. فالموقف الإسرائيلي من الإتحاد الأوروبي معقد، فهو في الوقت الذي يستفيد منه أقصى استفادة، فأنه يعمل على إسقاطه باعتباره منافساً للقطب الوحيد في العالم، والذي يدعم إسرائيل بلا أية شروط، وليس كالإتحاد الأوروبي الذي اعتبرت شعوبه في استفتاء عام 2001  إسرائيل الخطر الأكبر الذي يهدد السلام العالمي، وبمعدل قارب الـ 60%.

لذلك، وسواء كان خبر اكتشاف كاتم الصوت لدى السفير الجيكي دقيقاً أم لا، فأن حقائق جيكيا أعلاه أكثر خطورة على البلاد. وعلى الساسة العراقيين أن يتحملوا مسؤوليتهم أمام هذه الحقائق وأن يدرسوا نتائجها المحتملة على مستقبل البلاد، وأن يلجموا اندفاعهم لهذه العلاقة، ويحسبوا الحساب ليوم قد تبرز فيه إسرائيل من بين المشاريع الجيكية لتفرض نفسها كشريك لا مفر منه للعراق، وبشكل علني هذه المرة، وما قد يترتب على ذلك من نتائج سياسية واجتماعية وأمنية خطيرة. فخطورة إسرائيل ليست متعلقة فقط بالشأن الفلسطيني، بل تمتد إلى أية دولة تثبت موطئ قدم فيها، وقد عبر الشعب العراقي عن رفضه القاطع والحاسم لتلك العلاقة من خلال إفشال المحاولات السابقة لـ "أصدقائها"، لإدخالها البلد وتطبيع العلاقة معها.

إنني أدعوا على سبيل المثال إلى إدراج نص في جميع العقود مع جيكيا أن لا يكون في المنتجات المتعاقد عليها معها أي منتج إسرائيلي أو أي شيء قد يفرض على العراق علاقة مع إسرائيل، وأن يكتب نص واضح بتحميل الشركة الجيكية نتيجة أية مخالفة لذلك النص وأن تتخذ الإحتياطات لضمان إمكانية تنفيذ هذا النص.
وأفضل من ذلك كله، إلغاء أية عقود استراتيجية مع جيكيا والبحث عن دولة أخرى لها على الأقل موقف محايد إن لم نقل مؤيد من القضايا العربية وما يهم الشعب العراقي ومواقفه، مثل الصين وروسيا، أو حتى بقية دول الإتحاد الأوروبي الأقل خطورة ، وكذلك عدم الخوف من تطوير علاقاته الإقتصادية مع جيرانه الأبعد عن إسرائيل، مثل سوريا وإيران. فمن الغريب أنه عندما يقول الرئيس الإيراني أننا سنتعاون إقليمياً لتوفير الأمن وسد أية ثغرات أمنية عند خروج الأمريكان، تثور الثائرة في العراق، وتطالب (عن حق) بأن يكون الأمن عراقياً خالصاً، وعندما يصرح رئيس دولة الجيك المعروفة بتبعيتها لإسرائيل،  باستعداد بلاده لمساعدة العراق أمنياً، فأن أحداً لا يجد الأمر يستحق القلق أو التعليق!


(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11486
(2) http://www.youtube.com/watch?v=6KBLygVCiYM
(3) Address : http://www.alkufanews.com/news.php?action=view&id=3454
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=12278#comment79960
(5) http://www.jta.org/news/article/2004/10/20/12088/BetterEUIsraelt
(6) http://www.jta.org/news/article/2004/10/20/12088/BetterEUIsraelt
(7) http://www.eppgroup.eu/press/showpr.asp?PRControlDocTypeID=1&PRControlID=7399&PRContentID=12898&PRContentLG=en
(8) http://israel-in-media.com/blog/?p=58
(9) http://www.iraq-businessnews.com/tag/european-union/
(10) http://www.eppgroup.eu/press/showpr.asp?PRControlDocTypeID=1&PRControlID=4908&PRContentID=8855&PRContentLG=en
(11) http://philosemitism.blogspot.com/2008/10/hezbollah-missing-from-eu-terror-list.html


47
علاوي وحلوله الثلاثة للعراق

صائب خليل
19 -1-2012

هاجم الدكتور أياد علاوي غريمه رئيس الوزراء نوري المالكي قبل اسبوع في مؤتمر صحفي جاء ضمن الإضطراب السياسي في العراق إثر خروج القوات الأمريكية وحملة حكومية ضد شخوص متهمة بالبعث والإرهاب.
في كلمته في المؤتمر، كرر علاوي إهتماماته المعتادة بالحصول على "المواقع العسكرية والامنية المتقدمة" و " تعيينات الوزرات الامنية"، إضافة إلى خطابٍ مملٍ عن القائمة العراقية التي فازت ثم "تنازلت" عن "إستحقاقها الديمقراطي والدستوري والقانوني"- رغم أن الجميع يعلم أنها خرجت من السباق لأنها لم تجد من يثق بعلاوي ويتحالف معه.

أما أهم ما قدمه علاوي فهو خيارات ثلاثة للمسيرة في العراق وهي: الأول - إجراء انتخابات مبكرة تنظم بنزاهة تعيد للعراق كرامته المسلوبة من خلال احترام الدستور، أو الثاني – تسمية رئيس وزراء جديد، له وزراء كفؤين، "بعيد عن المحاصصة الطائفية" مع "ضرورة وجود معارضة نيابية لا تقلُ شأناً وفعاليةً عن الحكومة وتكونُ مسؤولةً عن تقويمِ أداءِ السلطة نحوَ الصواب"، أو : ثالثاً- تشكيل حكومة شراكة وطنية حقيقية تستند على التنفيذ الكامل لاتفاقية اربيل. (1) وهو بشكل عام تكرار لما سبق أن طرحه. (2)

إن من يريد أن ينتقد حكومة المالكي وطريقة إدارته للأمور في البلاد، لن يجد صعوبة ابداً، لكن عندما يأتي ذلك النقد على لسان شخص قليل المصداقية، فعندها سيردد حتى القلقين من إتجاهات حكم المالكي ما كتبه عاصم الفياض يوماً:"الأسوأ من أن يحكمك المالكي أن ينقذك علاوي منه!".

وأسباب الهرب من "المنقذ" أنه بتصرفاته، أكثر من تاريخه، قد حطم كل إمكانية لتصديقه. ولو راجعنا عبارات الخيارات أعلاه، لكدنا نجد في كل كلمة "نفاقاً". "إنتخابات نزيهة"؟ من وقف مع فساد المفوضية أكثر من اياد؟ كرامة العراق؟ احترام الدستور؟ وزراء كفوئين؟ معارضة ذات شأن؟ كلها كلمات تثير ذكريات تدين أياد علاوي، ربما أكثر من اي شخص آخر، وهذا ما يعرفه العراقيين.
لذلك يبدو للمراقب أن الصديق الوحيد الذي بقي أياد علاوي يأمل به هو الولايات المتحدة. فلطالما طلب منها النجدة (3) ولجأ مؤخراً إلى دعوى أن "الولايات المتحدة ملزمة اخلاقيا" بالتدخل "لإعادة "العقلانية" الى المشهد السياسي العراقي.(4) وقال أيضاً:"انسحب الامريكيون دون اتمام المهمة التي كان ينبغي أن ينجزوها" (5)

فعلاوي يعتبر أميركا هي صاحبة السلطة (الشرعية؟) في العراق، ويدل على ذلك أيضاً قوله على قناة العراقية في لقاء خاص معه انه طلب من "الامريكان" وليس من القانون والقضاء العراقي، ان يطلقوا سراح سلطان هاشم"، كما نبه أحد الكتاب.
وكتب محمد ضياء عيسى العقابي "لقد إجتمع السيد أياد علاوي بالدكتورة كونداليزا رايس،2007 ...، لعرض مشروع بديل عليها لحكم العراق وقد أيدته الوزيرة، وهو: "إعادة النظر في العملية السياسية بالكامل وتغيير طريقة إدارة الدولة العراقية وتجميد الدستور وحل البرلمان".  هذا يرقى بلا شك إلى جريمة التآمر على الديمقراطية، ويعاقب بقسوة متناهية حتى في أشد البلدان ديمقراطية!

المطالبة بتحمل "المسؤولية الأخلاقية" هي الحيلة الأخيرة اليائسة التي لجأ إليها من أراد بقاء القوات الأمريكية بالضد من إرادة الشعب العراقي، من سياسيين وكتاب مثل "عبد الخالق حسين".

ولسوء سمعة الأمريكان في العراق فقد كان علاوي حذراً في ربط إسمه بهم، ففي تصريحاته يؤيد خروج القوات الأمريكية (خاصة بعد اليأس من ذلك البقاء)، لكنه من الناحية العملية كان يسعى إلى إبقائها بكل ثمن. وهذا أمر طبيعي ممن ينتظر منهم مثلما ينتظر علاوي. ومما استخدمه أياد للترويج للأمريكان بكثرة هي حجة "الخطر الإيراني"(6)

وبالفعل القى الأمريكان بثقلهم وراء علاوي وسعوا لإيصاله إلى السلطة بكل الطرق غير الشرعية (فلا توجد طرق شرعية لذلك) من دعم مالي وسياسي وتزوير انتخابات وربما توفير الإرهاب اللازم لخطاب علاوي عن الفشل الأمني لخصومه. ومن تلك الجهود الضغط المباشر على الحكومة لتبني "الشراكة"، وهي طريقة استعملت كثيراً لفرض عملائهم على حكومات دول أخرى تحت الضغط، ولعل مثالها الأخير دعوة الكونغرس المالكي لضرورة التحالف مع علاوي(7)
ولا غرابة من ذلك الزواج الكاثوليكي بين علاوي والأمريكان، فقد تمكن الطرفان من تحقيق الكثير من المصالح لكلا الطرفين، (على حساب العراق طبعاً) مثل ما كشف مؤخراً من اختفاء 21 مليار دولار بين "الامريكان ومطار بغداد وكردستان وحكومة علاوي" حسب لجنة النزاهة. (8)

لكن جهود الأمريكان باءت حتى الآن بالفشل لمواجهة ذلك السيل الهائل من السمعة السيئة لعلاوي لدى العراقيين، بل في العالم ايضاً. وقد أثار باحث اميركي من معهد اميركان انتربرايز المقرب من المحافظين، في تقرير شديد اللهجة قلة حظوظ رئيس الوزراء العراقي الأسبق أياد علاوي رغم تلقيه "ملايين الدولارات من حلفاء صدام حسين السابقين في الأردن وغيرها من الدول العربية". وقال أن أدارة أوباما تسعى الى دفع حظوظ علاوي للوصول الى رئاسة الحكومة، "الا ان العراقيين يذكرون سجله".
فحين أعلن فوز قائمة علاوي كتب جوشوا هولاند "هل انتخب العراق لتوه قاتلاً جماعياً؟"(9) وكتب الصحفي الكبير سيمور هيرش:" حسب ريول مارك خرخت, مسؤول المخابرات المركزية الامريكية (C.I.A ) الذي خدم في الشرق الأوسط "هناك حقيقتان بارزتان بالنسبة لعلاوي. الأولى انه يحب ان يتصور نفسه رجل ذو افكار, والثانية هي ان اكبر فضائله هو انه سفاح".
إضافة إلى وزير دفاعه حازم الشعلان، وهو بعثي سابق على غرار علاوي نفسه، كان يحظى باعجاب الاميركيين بسبب شدة معاداته للايرانيين، واشتهر بأكبر صفقة فساد في تاريخ العراق قيمتها مليار دولار، ومسارعة الأمريكان بتهريبه. ويذكر العراقيون أيضاً ضحكات علاوي وهو يصدر أوامره لتدمير الفلوجة، والإستقبال بالأحذية في النجف بعد ضربها.

وتصطدم عبارات علاوي الرنانة الكثيرة عن "المشاركة" و "نبذ التهميش" و "الديمقراطية" بحقيقة صادمة مع إدارته الدكتاتورية للأمور حيثما كانت له سلطة. ويكتب حامد حمودي تحت عنوان "اياد علاوي....بذرة دكتاتورية عراقية في طور التشكل"، أن "مايميز اداء اياد علاوي ....هو روح الاقصاء التي يمتاز بها واستسهال واسترخاص الكذب ".
ولم يحدث في جميع الكتل ا لسياسية التي تواجدت في العراق بعد عام 2003 أن انفض أعضاؤها بأسرع وأكثر من الكتلة التي شكلها أياد علاوي، وأن يتفق الجميع على أن دكتاتورية الرجل وتهميشه للآخرين هي السبب. حينها أعلنت صفية السهيل أن: ” القائمة تدار بطريق الهاتف او الايميل .... والاوامر تعطى دون استطلاع الاراء ولسنا شركاء في اتخاذ القرار".  وقالت “لايشرفني ان اكون مسلوبة الارادة ولاقرار لي في القائمة التي انتمي اليها” . وقال مفيد الجزائري أنهم (الشيوعيون- كحلفاء لعلاوي) كانوا يعرفون بأخبار رئيس تحالفهم أياد علاوي "من خلال وسائل الاعلام شأننا بذلك شأن جميع المواطنين.”

كل هذا أدى إلى نبذ علاوي من قبل العراقيين ووصفه السياسي عبد الإله كاظم بأنه "افشل سياسي عرفه التاريخ"، وطالبه "باعتزال السياسة ومغادرة العراق لترك شعبنا يعيش بسلام وانسجام ". وحمله  "مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد"، مشيرا إلى أن "السياسات التي ينتهجها علاوي ستؤدي إلى تمزق القائمة العراقية". (10)
ولا داعي للتذكير بالعدد القياسي للإنقسامات ألذي تعاني منه "العراقية" وبشكل مستمر، ولعل آخرها إنفصال مجموعة سلام الزوبعي وفتاح الشيخ وعبود الفريجي ونعيم الكعود وعبد الستار الجميلي وانضمامها إلى ائتلاف أبناء العراق. (11) و انسحاب 28 قياديا من ائتلاف العراقية بديالى من ضمنهم أمينها نفسه (12)
لكثرة الإنسحابات فقدت العراقية صوابها وصارت تشتم المنسحبين ب "ضعاف النفوس" والإدعاء بأنها "خسرت انتخابات داخلية" ليتبين أن العراقية " لم تجر اي انتخابات في الحركة منذ تأسيسها لحد الان"، حسب سعد الجابري الناطق بأسم تجمع المنسحبين من الوفاق. (13)

ويتبين مدى العلاقة غير الطبيعية بين أميركا وعلاوي ، ومدى اعتماد كل منهما على الآخر، من خلال الكثير من الأحداث، فقبل سنوات نشر علاوي مقالا في واشنطن بوست بعنوان "خطة للعراق" دعا فيه الإدارة الأميركية إلى التعجيل في إجراء تغيير في رئاسة الحكومة العراقية المتمثلة في رئيس الوزراء نوري المالكي، وقدم خطته لإنقاذ العراق تتضمن إعلان حالة الطوارىء ... ومنح الأمم المتحدة والدول العربية دورا أكبر في ملف الأمن" مشيراً بصلافة إلى أنه من دون تغيير رأس الحكومة العراقية، لن تفلح الاستراتيجية الأميركية الحالية في جلب الاستقرار إلى العراق.!
وقام علاوي منذ بداية عمله السياسي في العراق الجديد بتكليف شركة ترويج (لوبي) ( باربر كرفيذ اند روجرز) بحملة "تشويه سمعة" ضد المالكي وإظهاره كرجل ضعيف وطائفي وعميل إيراني، وأن وجوده في السلطة لا يناسب المصالح الأمريكية، وأن الشخص المناسب هو الرجل القوي، أياد علاوي"!
.(14) (15)
 وكانت جبهة الحوار قد أعلنت  ان “أكثر من (100) شخصية عراقية ... طالبت الرئيس بوش بأن يصبح علاوي رئيساً للحكومة! ومضى بيانها قائلا “إن الشعب العراقي يتطلع إلى أن تساعده الولايات المتحدة، في هذا المنعطف المصيري، في اقامة حكومة ديمقراطية (!)” (16)
ومنع علاوي مجلس الأمن قبل ذلك إخراج العراق من البند السابع من خلال رسالة مشتركة مع كولن باول كما بين النائب الكردستاني محمود عثمان. (17)  (18)

وعلى مستوى الفساد والإجرام، وعدا وزراء علاوي الأشد فساداً خلال حكومته القصيرة، ومبلغ الـ 21 مليار دولار المختفية الذي ذكرناه أعلاه، نذكر كذلك أن علي الصجري المنسحب من قائمة علاوي كشف عن رشاو عربية بمبلغ 100 مليون دولار لدعمهم في الانتخابات". (19)
كذلك يشتبه بقيام أياد علاوي بالعديد من جرائم القتل وإلإرهاب، وآخر ما تم كشفه من فضائح أياد علاوي هو ما كشفه ضابط مخابرات عمل معه من أعمال إجرامية(20)

ونلاحظ أخيراً، أن علاوي لا يمانع مشاركة الحكم حتى في حكومة يعتبرها سيئة للغاية، وهو ما يشكك بأنه يمكن أن يفكر بخدمة البلد من خلال ذلك. فبالرغم من تصريحات علاوي الشديدة القسوة تجاه المالكي، كقوله "لا يشرفني ان اكون شريكاً للمالكي ولا اشتري تصريحاته بـ[فلسين] "(21) أو أن المالكي يقود "خفافيش الظلام" وسيكون حسابه عسيراً (22) ، والذي طالما أحرج كتلته (23) فهو ، ومن خلال شرطه الثالث، يترك الباب مفتوحاً لإقامة "حكومة شراكة" معه!

لقد تسببت حركات علاوي لضرر شديد لقائمة العراقية كما تبين، ويفضل بعض المنشقون أتباع طريق عقلاني والإنسحاب إلى المعارضة وترك المالكي يؤسس حكومة اغلبية، وأن هذه الخيارات هي الأفضل والأسلم للعملية السياسية . (24)

لقد قدم أياد علاوي ثلاث حلول للعملية السياسية ولدينا أيضاً ثلاث خيارات للقائمة العراقية، إن كان لها بقية إرادة لتختار، وهي أما أن تحل نفسها وتترك العراق لشأنه، أو أن تطرد علاوي منها، لعل أحداً يقبل بها شريكاً، أو أن يبحث ناخبوها عن ممثل أفضل لهم.

(1) http://wifaq.com/more.asp?NewsID=3001&CatID=17&lang=arb
(2) http://www.yanabeealiraq.com/n0112/n28121124f.html
(3) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7120
(4)  .http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11883
(5) http://www.yanabeealiraq.com/n0112/n21121139.html
(6) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10145
(7) http://alwatan.kuwait.tt/ArticleDetails.aspx?Id=40201
(8) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9574
(9) http://www.qanon302.com/news/news.php?action=view&id=245
(10) http://www.yanabeealiraq.com/n0112/n24121104.html
(11) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10207
(12) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11947
(13) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11009
(14) http://www.prwatch.org/node/6394
(15) http://www.prwatch.org/node/6377
(16)  http://www.doroob.com/?p=21234
(17) http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=53756
(18) http://pukmedia.com/index.php?option=com_content&task=view&id=9184&Itemid=25
(19) http://www.aknews.com/ar/aknews/4/84889/?tpl=print.tpl
(20) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10544
(21) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7962
(22) http://www.shatnews.com/index.php?show=news&action=article&id=951
(23) http://www.nakhelnews.com/pages/news.php?nid=8754
(24) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=12021


48
الشعب الأمريكي مدين لمقتدى الصدر

صائب خليل
29 كانون الأول 2011

في تشرين الثاني الماضي، كان جنود اميركيون في قاعدة عسكرية قرب بغداد يحيون آخر عيد شكر لهم في العراق، معلنين عن سعادتهم لقرب عودتهم الى بلادهم. أما بالنسبة للعراقيين، فرغم بعض المنغصات مثل وجود سفارة لا تشبه السفارات بشيء، والقلق حول فحوى الإتفاقات الستراتيجية، فإّنّ إحتفال العراقيين بجلاء القوات الأميركية كان كبيراً ومدوياً. 

لاعجب، فقد كان الوجود العسكري الأمريكي الذي يرتبط بالكثير من الجرائم المشينة والصور القبيحة في الذاكرة، مكروهاً لدى الشعب العراقي، كما أكدت جميع الإستطلاعات الأميركية والعراقية. ولعل آخرها كان استبيان نشره مركز المعلومة للبحث والتطوير في نهاية 2011، حول موقف طلاب الجامعات العراقية، وأظهر إنّ نسبة من أيد الإنسحاب قاربت الثلثين، رغم شمول أربيل، حيث التأييد الكردي لبقاء القوات، ورغم تخوف نسبة كبيرة من الطلاب من تدهور الأمن والطائفية وغيرها. ولم يعتبر الوجود الأميركي تحريراً سوى 13.5%، ورفض منح الحصانة حتى للمدربين الأميركيينن أغلبية ساحقة بلغت 86.2 %!  (1)

وقد وصل هذا الموقف الشعبي إلى الكتل السياسية والبرلمان قوياً وتم إقراره. لقد كان هناك تردد وتذبذب لدى البعض وإصرار ثابت لدى الآخر. الثابتان كانا: الكردستاني في القبول والصدريين في ا لرفض والتهديد  بعمل عسكري ضد الإحتلال. وبدا موقف كتلة رئيس الحكومة متردداً بين الضغط الأميركي والضغط الشعبي، ثم أخذ موقفاً حاسماً، ثم عاد ليشكك بموقفه، من خلال قول رئيس الحكومة المشهور للكتل الآخرى: «إن قبلتم سأقبل». لكن الجميع استجاب في نهاية الأمر للإرادة الشعبية، وكسب الرافضون للتمديد واحتفل العراقيون.

على الجانب السياسي الأميركي لم تسر الأمور بهذه البساطة، فقد تعرضت إدارة أوباما للّوم والإتهام، واعتبر البعض قرار الإنسحاب «لحظة مهينة للولايات المتحدة». وكان الناطق باسم السفارة في بغداد يرد معتذراً بأنّه قرار العراق و«لا يمكننا أن نقول للعراقيين: سنبقي قواتنا رغم إرادتكم" (2)
وتعرض وزير الدفاع الأميركي إلى النقد والتقريع من قبل أعضاء مجلس الشيوخ لسحب القوات من العراق. واجاب بانيتا: «الخيار لم يكن خيارنا». السيناتور الجمهوري جون ماكين لم يصدق، واتهم الإدارة بأنّها فعلت ذلك لأنّه جزء من إلتزامها الإنتخابي! فردّ بانيتا بقوة قائلا "سناتور مكين هذا ببساطة غير حقيقي."! (3)

لم يكن غضب ماكين مفاجئاً، فقد كان هناك لوبي سياسي كبير يعمل منذ حوالي سنتين من أجل توقيع معاهدة جديدة تبقي القوات، لكنّه فشل في النهاية. (4)

أما الشعب الأمريكي، فكان في غير واد سياسييه، فلم يكن أقل حماساً للإنسحاب مما كان لدى العراقيين، بل ربما أكثر. فقد بينت إحصائية أجرتها الواشنطن بوست أن أكثر من ثلاثة أرباع الأميركيين (78%) يؤيدون سحب القوات الأميركية! (5)

وهنا يتبادر إلى ذهن المرء سؤال لا بد منه: إذا كان شعبان يعيشان الديمقراطية التي تعني «حكم الشعب»، ويؤيدان قضية واحدة في العلاقة بينهما، وبنسب عالية جداً تكفي حتى لتغيير دستوريهما، فلماذا بدا الإنسحاب كحلم لا يصدق لكليهما؟
وأكثر إثارة هو السؤال: لماذا نجحت ديمقراطية الشعب العراقي التي تئن تحت الإرهاب والفساد في تحقيق ما ينتظر منها، فكان قرار ساسته في هذه النقطة ما يريد شعبهم، بينما لم يقبل الساسة الأميركيين الأمر إلا غصباً؟ ولماذا وجب على بانيتا أن يختبئ  وراء جواب خجول بأنّ الإنسحاب «لم يكن خيارهم» بدلاً من أن يجيب بثقة: «نعم إنّه خيارنا لإنه خيار شعبنا ونحن نعيش في ديموقراطية»!

أليس مثيراً للإنتباه أن الدولة التي تنشر جيوشها في كل العالم "من اجل الديمقراطية"، لا تبدو مهتمة بحال الديمقراطية في بلدها؟ أليس غريباً أنّ الحكومة التي طالما دعت القذافي وعلي صالح والأسد إلى الإستماع لصوت شعوبهم، تتعرض للتقريع بأنّها تستمع لصوت شعبها، فتعتذر بأنّ الأمر لم يكن في يدها؟ اليس من المدهش أن يكون «تنفيذ الأجندة الإنتخابية» تهمة تنأى الحكومة بنفسها عنها، ويؤكد وزراؤها بغضب: "هذا ببساطة غير حقيقي!"؟ أخيراً، أليس غريباً أنّ الدولة التي تصدر المجلدات في إنتهاكات حقوق الإنسان في العالم، تنتخب مرتين رئيساً يضطر لإلغاء زيارة إلى السويد خوفاً من القاء القبض عليه بتهمة التورط بالتعذيب؟ (6)

ما نتحدث عنه ليس في شكل ومظاهر الديمقراطية، بل أسس الديمقراطية وتعريفها، فحين يصل الأمر إلى أن يتعرض السياسي الذي «يشك» بأنّه أتخذ قراراً أراده الشعب الأميركي بنسبة 78%، ويتوقع أن يعود عليه بالخير لدعم خزينته المنهارة. (7)

 ألا يعني أن الديمقراطية الأمريكية في أزمة كبيرة، وأكبر من أزمة الديمقراطية العراقية المنهكة، وأنّ ساسة أميركا يعاملون شعبهم باحتقار رغم كل ما يقال.

كتب أحد المتظاهرين في حركة «إحتلوا وول ستريت» يقول: "كيف يمكن أن يحدث هذا في أميركا؟ لماذا تعامل الشرطة المواطنين الأمريكيين وكأنّهم أهدفا عسكرية؟ ولماذا توجه القوة العسكرية اللازمة لشن الحروب على الخارج، ضد تجمعات محلية واحتجاجات سلمية؟ هل مازال هذا بلدي؟" (8)

ويرى رون باول، الساعي لرئاسة أميركا بأن "المسمار الأخير قد دق في نعش الجمهورية الأمريكية. الكونغرس يعيش حالة إنكار تام، وحقوقنا المدنية تختفي بتسارع أمام عيوننا، يدفعها الخوف غير المبرر والجهل بالمعنى الحقيقي للحرية، مؤسسة على خرافات  إقتصادية وأكاذيب ونوايا حسنة غير منطقية. دور القانون يلغى باستمرار وتقدم حلول سلطوية لجميع مشاكلنا."
ثم تحدث رون عن الصلاحيات الجديدة التي يتم منحها للرئيس والتي شبهها بصلاحيات الدكتاتورية. "فالرئيس الآن يحق له إصدار أوامر الإغتيال، حتى للمواطنين الأمريكان، وإجراء المحاكمات العسكرية السرية، والسماح بالتعذيب وإصدار أوامر الإعتقال لمدة غير محدودة، وخارج نطاق النظام القضائي المتعارف، والتفتيش بدون الإجراءات النظامية والدستورية  وتجاوز الحد الأقصى القانوني لستين يوماً لإبلاغ الكونغرس عن طبيعة اية عملية عسكرية، والإستمرار بتنفيذ "الباتريوت أكت" الذي لا يعني سوى "إشعال الحروب حسب الرغبة"، ومعاملة الأمريكان جميعاً كمشبوهين بالإرهاب في المطارات بالتفتيش بالأشعة التي تكشف الجسم..." ....ويستمر الحديث.. (9)

ما الذي أصاب النظام الأمريكي ليصل بالبلاد إلى هذا التدهور الإقتصادي وبأهلها إلى خيبة الأمل العميقة تلك؟ - أنا أقول: "الشركات"!

تعتمد الديمقراطية الحديثة على مبدأ «صوت واحد لفرد واحد»، إلا أنّ ضرورة المال للإعلان، يجعل من قدرة الشخص على التبرع للجهة التي يريد انتخابها أكثر أهميةً من صوته نفسه. وبالتالي فتأثير ملياردير على نتيجة الإنتخابات ربما يكون أكثر من تأثير أصوات الف مواطن. هكذا تحطم هذا المبدأ.
ومفهوم الديمقراطية الاساسي هو أنّ الشعب هو الذي يقرر سياسات الدولة، لكن كما رأينا فإنّ القرارات العسكرية بعيدة عن إرادة الشعب، بل إنّ القرارات الإقتصادية والإجتماعية، جميعها أيضاً تحت ضغط سلطة المال.
فمن الناحية الإقتصادية، يمتلك سوق الأوراق المالية عملياً حق الفيتو على قرارات الحكومة المنتخبة. فأول سؤال يسأله البيت الأبيض أو الكونغرس حول أي قرار إقتصادي هو عن رد فعل سوق الأوراق المالية المتوقع على ذلك القرار. وعندما رفض مجلس النواب أول رزمة لإنقاذ البنوك الأميركية في أيلول 2008، هبط سوق الأوراق المالية برقم قياسي مقداره 777 نقطة، ولم "تهدأ الأسواق" إلا بعد إمرار القرار!
وأما من الناحية الإجتماعية فتشن السطلة المالية التي تقود اقتصاد السوق حملة متواصلة لإلغاء مختلف مخصصات الأمن الإجتماعي وتخفيض ضمانات التقاعد والبطالة، وتحارب كل محاولات فرض نظام عام للتأمين الصحي وتقليل الصرف على التعليم العام والخدمات العامة.


أن ما تشهده أميركا اليوم، هو نتيجة السير في طريق بدأ قبل قرون، وانتهى إلى تسليم شركات السلاح سلطات تؤثر على القرارات السيادية للشعب كما حذر الرئيس السابق آيزنهاور،(10) وقبلها كانت الشركات المالية قد سلبت حكومة الشعب المنتخبة حتى حق طباعة الدولار!

منذ ذلك الحين سارت فيه الديمقراطية الأمريكية اشواطا إلى الوراء، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. فهل من غرابة إذن أن يحتفل الأمريكان غير مصدقين بتنفيذ حكومتهم ما يريدون ولو إجباراً؟ وهل من العجب أن يعتذر الساسة ولو بشكل غير مباشر، لأنهم نفذوا دون قصد، نقطة في أجندتهم الإنتخابية تتعلق بسحب القوات من ا لعراق؟ وهل نكون مجانبين للحقيقة إن اعتبرنا أن الشعب الأمريكي صار مديناً لمقتدى الصدر وليس لأوباما، لتحقيق ديمقراطيته في هذه القضية ؟


(1) http://www.tammuz.net/news/arabic/22-12-0111.pdf
(2) http://www.bbc.co.uk/news/world-middle-east-15724404
(3) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=57013
(4) http://www.tomdispatch.com/blog/175216/tomgram%3A_engelhardt,_the_future_belongs_to_no_one___/
(5) http://www.washingtonpost.com/blogs/behind-the-numbers/post/public-opinion-is-settled-as-iraq-war-concludes/2011/11/03/gIQADF2qsM_blog.html
(6) http://www.dailymail.co.uk/news/article-1354211/George-W-Bush-cancels-Switzerland-visit-fears-arrest-torture-charges.html
(7) http://www.yanabeealiraq.com/n1011/n01111108.html
(8) http://www.alternet.org/story/153170/%22how_could_this_happen_in_america%22_why_police_are_treating_americans_like_military_threats?page=entire
(9) http://www.youtube.com/watch?v=XeCpLcjxOq4
(10) http://www.informationclearinghouse.info/article5407.htm

49



نزهان قال لنا كيف نوقف الإرهاب

صائب خليل
11 كانون الثاني 2012


حولت دماء الشهيدين نزهان الجبوري وعلي السبع الجريمة الإرهابية في البطحاء، والتي أريد منها بوضوح إتمام شق الصفوف العراقية تمهيداً لحرب أهلية، إلى رمز جديد لتلاحم ووحدة الشعب العراقي، وافتضاح " أكذوبة الشيعه والسنه"، كما عنون الزميل عماد العتابي مقالته الجميلة (1).

وكان انتحاري يرتدي حزاماً ناسفاً قد استهدف الخميس الماضي احد مواكب السائرين نحو مدينة كربلاء لإحياء ذكرى اربعينة الإمام الحسين ع في مدخل ناحية البطحاء ، مما استدعى تحركاً سريعاً من الملازم نزهان صالح حسين الجبوري، وهو شاب في الثلاثين وأب لطفلين من حويجة كركوك، الى الإمساك بالانتحاري برفقة الجندي علي أحمد سبع من ديالى ، إلا أن الانتحاري تم تفجيره عن بعد كما يُعتقد, رغم السيطرة عليه، وقتل أكثر من 44 مدنيا وجرح أكثر من 85 آخرين. (2)

لكن العملية فشلت فشلاً ذريعاً رغم ذلك، بما نشرته من جو أخوي رائع بين السنة والشيعة، لم ألحظ مثله منذ الإحتلال. فهدف الإرهاب ليس قتل أكبر عدد من الضحايا، كما بينت جريمة كنيسة سيدة النجاة بوضوح تام، بل ما ينتظر من الجريمة الإرهابية أن تحدثه من أثر على المجتمع ، بعد حدوثها. وقد بينت في مقالة لي عن مجزرة كنيسة النجاة  "أن مرحلة "ما بعد الجريمة" تلعب في حجم وتأثير العمل الإرهابي، الدور الأساسي، وليس الجريمة نفسها." (3)

وكانت ردود الفعل على بطولة الشهيدين رائعة، ولم يوفر الكتاب والسياسيون - الشيعة بشكل خاص - أي جهد في التعبير عن مشاعرهم الجياشة بالإحترام والتقدير لتلك التضحية، فارتفع الصوت الإتحادي الجامع ثانية فوق الصوت الطائفي الذي تعود ان يصطاد في الماء العكر الذي توفره له مثل تلك العمليات الوسخة. وقد زاد من قوة رد الفعل الشعبي المتفاعل من الجانب الشيعي، الموقف السامي لوالدة الشهيد التي افتخرت بابنها ولم تبكه وقالت أن جميع العراقيين اولادها، فكان موقفها في هذا الظرف العسير بشكل خاص عليها، إكمالاً وخاتمة رائعةً لموقف ولدها البطل.

دعى أحد القراء على الإنترنت الجيش لإطلاق اسمي الشهيدين على معسكرين أو تشكيلين له، مذكرا بدعوته لإطلاق بطولة لسباحي العراق باسم شهيد جسر الائمة عثمان، وأكمل "نحن نعرف ان ارض الائمة والاولياء في العراق مليئة بالكرام ، ولكن علينا ان نسقي هذه الشجرة الطيبة لتنمو وتزهر عراقا نحلم به". (4)

وكتب الكاتب عماد العتابي: "كفاكم يا أهل الجبور فخرا أن  نزهان  منكم .. كفاكم يا أهل نزهان هذا الشرف الخالد وهذا الفوز العظيم لولدكم ولد العراق كله".(5) وعلق في مكان آخر: " اكذوبة الشيعه والسنه لن تستمر بعد اليوم أبدا .. عراقنا واحد .. شعبنا واحد .. وليذهب سياسيي أخر زمن وأمراء الحرب  الى البحر ليشربوا منه .. فلن نتقاتل مجددا من اجلهم ومن أجل اختلافاتهم.. سنبقى عراقيون .. عراقيون لاغير".
وكتب عزيز الحافظ "العراقية أم نزهان تتنزه بزهو وفخر بين قلوب العراقيين" ليقول "كانت عيون الشهيد نزهان الضابط العراقي  الكركوكلي بلا لون مذهبي،.. كان يمكن لنزهان اليقظ ان ينزوي عندما ارتاب في عسكرة شخص دخل الجموع....كان يمكن ان ينجو بيسر وسهولة ...ولكن روحه الابية الطيبة النقية الطاهرة أبت إلا أن تعانق المجد من توّها!!" (6)
وقال الامين الخاص لمرقد الصحابي سلمان المحمدي: " ان الاشرار ارادوها فتنه طائفية ، لكن البطل نزهان ورفيقه الديالي علي سبع حولاها الى عرس لرص الصفوف ونبذ الطائفية ".وأضاف: "طالما أمثال الشهيد نزهان البطل موجودون في العراق الحبيب، فلا خوف ولا خشية من (تقسيم) العراق أو من حرب (طائفية) بين أبناء البلد الواحد أبدا".(7)

وإزاء مثل ردود الفعل هذه، وهذا ليس إلا قليل جداً من كثير، فلا بد أن الجهات التي خططت ونفذت هذا العمل الإرهابي قد أصيبت بصدمة وأنها ستأخذ الوقت لتفوق منها وتدرسها أمام الواقع الجديد الذي فرضته تلك التضحية البطولية التي عكست خنجر الغدر إلى نحرها. فعلى العكس من أغلب العمليات الإرهابية ذات الأهداف غير المميزة، والتي يصعب من خلالها إطلاق خطاب تفريقي ذي مصداقية قوية، أستهدفت تلك العلميات مواكب حسينية واضحة الهوية المذهبية مما كان يؤمل منه أن يساعد الإعلام المأجور على تأجيج العواطف الطائفية إلى أكبر درجة ممكنة.

لقد كتبت سابقاً حول"الأهداف التحضيرية لمؤامرة الإرهاب". وتحت عنوان "ضرورة فصل الطرفين مكانياً وذهنياً" كتبت أن ما "يؤمن أكبر إمكانية للنجاح الإعلامي في بث الكراهية وتثبيت صورة بشعة للمقابل هو أن تفصل المجموعتين مكانياً وثقافياً وتقطع الروابط والوصلات بينهما. وبالفعل تم بذل جهود كبيرة في حملات التهجير في مختلف أنحاء العراق من أجل الفصل المكاني بين الطرفين، ليس في المدن فقط، وإنما في الأحياء أيضاً، فانقسمت "الدورة" إلى قسمين، شيعي وسني."(8)
وتحدثت أيضاً عن "الفصل الثقافي والإعلامي" حيث يصبح لكل فئة قصة مختلفة تناقض الآخرى عن كل حدث. فالفصل يتيح للإعلام، والإعلام في ا لعراق مشبوه أسسه الإحتلال، أن يحتكر صورة كل طائفة لدى الطائفة الأخرى ويشوهها كما يريد دون ان يستطيع أحد أن يرى الحقيقة بنفسه.
لكن وفي هذه الجريمة تم تحطيم ذلك الفصل الإعلامي أيضاً، فهاهما الطائفتان تتحدثان برأي واحد وموقف واحد ومبدأ واحد، عن رفعة التضحية وخسة الإرهاب، بغض النظر عمن يقوم به.
لقد لفت انتباهي تعليق أحد القراء الذي قال أنه يستغرب من دهشة الناس على هذا العمل البطولي، فهو امر طبيعي ومتوقع. والحقيقة أن الحق معه، وأن هذه الدهشة ليست سوى نتيجة الصورة الإعلامية المزيفة التي غرسها الإعلام في رؤوس كل من الجانبين عن الآخر، فتحطمت الصورة لتظهر الحقيقة "المدهشة"!
لقد قال الكاتب الإنكليزي الدوس هكسلي (*) أن من "أن مهمة رجل الدعاية ان يجعل من مجموعة من الناس تنسى ان مجموعة اخرى من الناس هم من البشر". ولقد كاد كل من السنة والشيعة ان ينسوا أن الطائفة الأخرى من البشر مثلهم، لكثرة ما حدث من ويلات وما أحيط بها من تفسيرات وإيحاءات إعلامية مشبوهة مستمرة، فإذا بهم يكتشف كل منهما إنسانية الآخر التي كان  يعرفها لقرون طويلة، ويفرح بها كمن يلتقي بالعالم القديم الذي يعرفه، رغم كارثية المناسبة!

لقد شعر الشيعة بإطمئنان كبير، أن السنة، الجماعة التي ربت أمثال نزهان الجبوري لا يمكن أن تكون طائفية حقاً، تربي أبناءها ضد آل البيت وتهدف إلى تصفية الشيعة، كما يتصور البعض. كذلك فأن ردود الفعل الشيعية الرائعة طمأنت السنة أن ما كان لديهم من صورة عن الشيعة بأنهم يحكمون عليهم ظلماً لضغينة طائفية في انفسهم، ليست صحيحة. وهكذا، ما إن أطمأن كل طرف إلى الآخر، ورآه كما كان يعرف به صديق الامس العزيز، حتى أحتضن كل منهما الآخر بشوق كبير.

لاشك أن الإطمئنان ورؤية زور تلك "الطائفية" المزعومة، سوف تكون له تداعيات إيجابية هامة على الوضع في العراق، وكنت قد كتبت في نيسان الماضي تحت عنوان "نحن والخوف من طائفية المقابل"(9) وبأن معظم المواقف الطائفية ما هي إلا بسبب القلق والخوف من طائفية الطرف الآخر، والتي سعى الإحتلال من خلال وسائله المختلفة لتأكيده، لأنه وكما يقول  الفيلسوف برتراند راسل: "الخوف الجماعي يحفز غريزة القطيع, وينحو الى انتاج العنف تجاه من لايعدّون اعضاء في ذلك القطيع" وهو ما يعرفه مؤسسوا الإرهاب جيداً. لذلك فأن ما يحتاج إليه العراق هو تأسيس قناة اتصال وتفاهم بين الطرفين ليرى كل منهما الجانب الجميل والإنساني العميق من الآخر.

تحت عنوان "الارهاب المبدع" كتبت عام 2005 : "ليس الامر امر "سنة وشيعة". "فالسنة والشيعة" من الناس الاعتياديين والطيبين ...التخطيط لعمل ارهابي بهذه الوحشية هو امر مختلف.... "السنة والشيعة" غريبين عن هذا النوع من العمل, ولا نستطيع ان نصدقه او نتخيله معبراً عن العلاقة بينهم. لكننا نستطيع ان نتخيل تماماً صورة العلاقة التي عبر عنها المئات من السنة من الاعظمية وهم يساهمون في انتشال ضحايا المجزرة شأنهم كشأن الشيعة انفسهم. لا استطيع ان اتخيل شاباً من الاعظمية يفكر قبل ان يتنشل جريحا او غريقاً من دجلة ان يفكر ان كان سنياً او شيعياً, ولا العكس طبعاً." (10)

والآن؟

إننا لن نستطيع أن نعوض هؤلاء الشهداء حياتهم، لكننا نستطيع أن نجعل فديتهم الكريمة ذات معنى وأن يستمد منها الشعب العراقي الذي أحبوه إلى حد التضحية بأرواحهم من أجله بلا أي تمييز أو تردد، القوة والصمود. علينا أن نكون جديرين بتلك التضحية التي قدمها عثمان ونزهان وعلي وأمثالهم لنا. لقد أقر المسؤولون تقديم تعويض مادي كريم لعوائل هؤلاء الشهداء، لكن الرموز الرائعة التي قدمتها ملاحمهم الإنسانية مازالت خافتة ومازال شعب العراق محروماً من أثرها الطيب على بنائه النفسي والإجتماعي. وما أحوج هذا الشعب المكابد إلى مثل تلك الرموز، فما الذي يمكننا أن نفعله؟

منذ عام 2005 كتبت: "الفتنة- لادواء  لها سوى المبادرة"، وقلت "يجب التوقف فورا عن "الصمود السلبي" المستنزف لطاقة الناس, والتحول الى "مهاجمة الفتنة" والا فان انتصار الفتنة مسألة وقت ليس الا."
وفي مقالة أخرى  اواسط 2005، كتبت "لو ان القتل الذي يقصد منه تفرقة الشيعة والسنة ادى الى تقاربهم لتوقف ذلك القتل (....) والى ان تؤدي الجرائم الى ردود فعل قوية بعكس ما يشتهي المجرمون, الى ان تسود مثل هذه الروح المبادرة لدى الشعب ومنظماته, فسيقتل المزيد من الشيعة والسنة والصحفيين وغيرهم"(11)

وفي أواخر عام 2005 اقترحت أن : "تحج طوائف المسلمين معاً في العيد القادم" فقد كان رأيي أن الطريقة الوحيدة لمحاربة الارهاب المحرض للطائفية هي ان نعكس نتائج الارهاب، وقلت: "يريدون ان يزداد الشق بيننا؟ سنصلي معا في كل مسجد من مساجد العراق (.....) وان فعلوها ثانية سنوحد طريقة صلاتنا ووضعية ايدينا ودعواتنا ....وان فعلوها ثالثة فسنصوم ونفطر ونحج معا!  "(12)

وقبل اكثر من عام عن ذلك, وعلى اثر مذبحة كربلاء والكاظمية, كتبت : "يريدون زيادة العداء بين الشيعة والسنة؟ لن نكتفي بان لا يزيد عداؤنا, بل سنخفضه! .... يريدون ان يزداد الشق بيننا؟ سنصلي معا في كل مسجد من مساجد العراق, ولو تحملنا الجهد من اجل ذلك. ان في هذا رمزا عظيما اضافة الى انه يحرمهم هدفهم الرئيسي للفتنة. فلن يضرب مثل هذه الجوامع سنة او شيعة, بل سيكون واضحا انه عدو للاسلام والعراق. وكلما قاموا بجريمة جديدة لن نكتف بأن "لا نحقق اغراضهم" بل سنجعلها ابعد منالا, الى ان يقتنع ان جرائمه تعمل عكس ما يروم فيتوقف عنها!" (13)

نعلم جميعاً أن شيئاً من ذلك لم يحدث للأسف، ولم يبادر المسؤولون إلا ما ندر، إلى أية مبادرات مؤثرة رغم العديد من التصريحات الطيبة والنوايا الجميلة، وربما لو كان، لما استمر الإرهاب حتى اليوم.
لكن الفرصة مازالت متاحة وهاهو نزهان ورفاقه يقدمونها لنا ثانية على أرواحهم، فهل سنهملها ثانية؟

إن ما أقترحته يتمثل بما يلي:

1- التوقف عن إهمال "معركة الرموز"، فلم يأخذ الشهيد عثمان مداه الرمزي إلا في ضمائر العراقيين وبلا مبادرة محددة لتعميقه وثتبيته حتى الآن. القضية اقدم من ذلك أيضاً، فلماذا لم يطلق حتى الآن إسم الرمز العراقي "عبد الكريم قاسم" على أحد الشوارع حتى الآن، وبقي يطلق إسم السياسي المفضل للإحتلال الإنكليزي على أحد أهم شوارع بغداد، "شارع السعدون"؟ لماذا لم تكن هناك مسلسلة باسم عبد الكريم قاسم ولكن كانت هناك واحدة زيفت التاريخ لتكريم العميل نوري السعيد؟

2- بشكل محدد عن قضية الطائفية، علمنا أنه تمت الموافقة على إطلاق إسماء الشهداء على شوارع أو ساحات، وهذه بداية جميلة، وأكرر أقتراح من سبقني بإطلاق مسابقة سباحة باسم الشهيد عثمان، تكون بشكل رمزي محدد وخاص بالمناسبة، يتمثل بتشبيه عملية الإنقاذ التي قام بها ذلك البطل، بإلقاء دمى تطفو في منطقة الكارثة ويكون السباق حول من يستطيع أن "ينقذ" أكبر عدد ممكن من تلك الدمى ويعود بها إلى الشاطئ، خلال وقت محدد.

3- عدا قضية الرموز، فأن ردود الفعل الرائعة على استشهاد هؤلاء الأبطال يشير لنا بأصبعه إلى طريقة لوقف الإرهاب. والطريقة هي أن تحرص الحكومة دائماً على خلط الحراس السنة والشيعة، وخاصة في المناسبات والأماكن الخاصة بمذهب معين منهما، وفي رأيي أن هذا الأمر سيقلل كثيراً من الدوافع الإرهابية، مهما كانت تلك الدوافع.
فإن كان الهدف طائفياً للإنتحاريين، (وهو ما لم ولا أصدق به) فسيعلمون أن هناك من سيقتل أيضاً من طائفتهم، ويفترض أن يمتنعوا عن ذلك. وإن كان الهدف إحداث الشروخ الطائفية في المجتمع لتحطيمه، وهو ما أعتقد به جازماً، فأن رد الفعل الذي حدث لجريمة البطحاء، إن تكرر، سوف يردع تلك الجهات عن هذه الأعمال.

لقد أشار لنا نزهان بدمه، كما فعل عثمان وغيره قبله، ومن الجانبين، إلى ما قد ينقذ العراق ومستقبله، وأتمنى أن يتحمل المسؤولون مسؤوليتهم ويحرصوا هذه المرة على المبادرة للإستفادة من هذه الفرصة الغالية التي كلفت الكثير، لقطع الطريق على المزيد من الإرهاب والدم والدموع، فقد نزف العراق ما يكفي منها.


(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11400
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11513
(3) http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20899
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11513
(5) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11548
(6) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11608
(7) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11630
(8) http://www.albadeal.com/2010-11-24-00-35-27/3445--3-.html
(*) http://en.wikipedia.org/wiki/Aldous_Huxley 
(9) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=47975
(10) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=44494
(11) http://www.c-we.org/ar/show.art.asp?aid=39478
(12) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=15831
(13) ,http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=15831



50
 



المالكي يقر بأنه يحتفظ بملفات الإرهاب للوقت المناسب

صائب خليل
27 كانون الأول 2011

في المؤتمر الصحفي (1) الذي عقده إثر قضية اتهام الهاشمي، أدلى رئيس الحكومة العراقية، بعدة تصريحات خطيرة يبدو أنها لم تلق الإنتباه الذي تستحقه.
النقطة الأخطر كثيراً في القضية هي أن المالكي قال ما يستنتج منه أنه قرر شخصياً في الماضي تأجيل تقديم المعلومات التي لديه حول إتهامات إرهابية ضد كبار مسؤولي الدولة إلى القضاء، إلى الوقت الذي رآه مناسباً! وقال أيضاً أنه مازال مستمراً بممارسة ذلك، وأن "لديه الكثير" من تلك الإعترافات!

فعن سؤال إن كانت "هناك شخصيات سياسية أخرى" في الطريق إلى عرض ملفاتها.
أجاب المالكي: "لم نسكت على أحد ارتكب مخالفة كما لم نسكت عن هذه المخالفات وقد حذرنا أصحابها. أنا قبل ثلاث سنوات قدمت ملف باعترافات مصدقة إلى هيئة رئاسة الجمهورية وإلى سماحة المرحوم عبد العزيز الحكيم  عن المخالفات التي ارتكبها نائب رئيس الجمهورية قبل ثلاث سنوات وكنت أصبر من اجل العملية السياسية واصبر"!
ولا يحتاج الأمر إلى بلاغة لنفهم أن السيد المالكي يعطي لنفسه هنا حق الإحتفاظ بمعلومات عن إرهابيين مازالوا طليقين يمارسون إرهابهم في العراق ويفجرون ويقتلون، وكل ما يفعله هو أنه "يصبر من أجل العملية السياسية"!
والسؤال الأول عن الحكمة في ذلك التصرف، والسؤال الثاني عن الحق بممارسته، وهل أن منع المعلومات من الوصول إلى القضاء ليست جريمة يحاسب عليها القانون، في "دولة القانون"؟

يبرر المالكي تصرفه بأن "الصبر في مثل هذه الحالات ضروري رغم أنه صعب وشاق، بالذات حينما يكون الصبر على مخالفات وعلى تجاوزات أمنية وأرواح ودماء".
ولا تعنينا هنا "صعوبة" و "مشقة" ذلك "الصبر"، فهذا اعتراف صريح بأن هذا التلكؤ في الإبلاغ عن المعلومات الإجرامية كلف ارواحاً ودماءاً، فمن له الحق بمثل ذلك "الصبر" وأين أجاز الدستور والقانون مثل هذا؟ وكيف يفسر رئيس الحكومة لأهالي الضحايا أن الوقت لم يكن مناسباً لوقف ذلك الإرهاب والقتل حسب قوله، وأن السماح بقتل أهلهم بصمت، كان ضرورياً لإستمرار العملية السياسية؟ لاحظوا أننا لا نتحدث عن إخفاء عملية قتل تمت وذهبت، وهي جريمة في عرف القانون، وإنما نتحدث عن التستر عن أعمال قتل جارية ومستمرة!
فماذا يعني هنا "لم نسكت على أحد ارتكب مخالفة" وهل يكفي القول "أننا حذرنا أصحابها"؟ هل نتحدث هنا عن عمليات إرهابية أم "مخالفات"؟ وهل أجاز القانون معاملة الإرهابيين بـ "التحذير"؟

المالكي يدرك بلا شك خطورة موقفه فيقول "ربما يقول البعض ان هذا تستر وخيانة"، وتبريره هو:"وإذا كان بغرض التستر فهو خيانة ولكن إن كان ضمن إطار الممكنات والإدارة..."
ولكن، من الذي يحكم على "الغرض" والنية و "الإطار"؟ هل سيقبل المالكي أن يبرر مواطن عادي أو حتى مسؤول أو وزير أو رئيس برلمان أو رئيس جمهورية غداً، إخفاء معلومات جنائية خطيرة، بأنه رأى شخصياً أن "مصلحة البلاد تتطلب إخفاءها"؟ وأن "السياسة فن الممكن"؟ وهل هناك أمتياز في الدستور أو القانون لرئيس الحكومة يسمح له بذلك دون غيره؟ ألا يطالب المالكي هنا لنفسه بثقة عمياء من الشعب ومؤسسات القانون، حول "غرض" ونية رئيس الحكومة، والإكتفاء بذلك دون تطبيق القانون؟

هل مقبول أن لا يُترك للدستور والقانون أن يأخذا مجرياهما إلا بعد ان يسمح لهما رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية، وأن يمنعاهما متى ما اعتبرا "الغرض" شريف؟ هل يسمح لرئيس الحكومة أن يوقف عمل القضاء بقطع المعلومات عنه، بمجرد أن يقول أنه رأى أن السياسة "الممكنة" تتطلب ذلك؟ ألا يلعب رئيس الحكومة حين لا يسمح بتمرير اتهام إلا بعد موافقته وتقديره بأنه "ممكن" سياسياً، نفس الدور الذي طالما انتقده لرئيس الجمهورية في عرقلة عمل القانون والقضاء؟ بل أوليس ذلك أخطر مئة مرة، باعتبار أننا نتحدث هنا ليس عن عرقلة إعدام مجرم سجين وإنما عن إرهابي طليق ما زال يمارس الإرهاب والقتل؟

أية عملية سياسية وأية حكومة هذه التي يريد المالكي إنقاذها؟ وكيف تعمل حكومة لا يعرف كل وزير فيها إن كان زميله إرهابيا أم رجل لطيف؟ هل من حق رئيس الحكومة أن يجعل البلاد تعيش في حالة قلق هكذا وهل يمكن لمثل هذه الحالة أن تخدم أية عملية سياسية؟ وأين هو فصل السلطات وأين إطاعة القضاء الذي يقول السيد المالكي "أنه يأمرنا"؟ وأين القانون الذي يمنع إخفاء المعلومات الخطيرة ويتهم من يقوم بذلك بالتستر والمشاركة في الجريمة؟ أم أن رئيس حكومة دولة القانون فوق ذلك القانون؟

يقول المالكي في نفس  الخطاب: "القضاء لا يسيس... وينبغي ان نفصل في القضايا التي تعترض طريقنا ، بين قضايا امنية تاخذ طريقها عبر القضاء وتنتهي عبر القضاء وتنتهي بنعم أو لا وبين القضايا السياسية والقضائية. الدستور يفصل بين السلطات وهي أهم فقرة في ا لقضايا الدستورية... دستورنا فصل بين السلطات".
لكن "تسييس القضاء" لا يعني فقط تقديم القضايا الكيدية لأعداء سياسيين، وإنما أي تدخل للأجندة السياسية والتقديرات السياسية في عمل القضاء. وعمل السلطة القضائية يعتمد على المعلومات التي تقدمها لها أجهزة الأمن التابعة للسلطة التنفيذية، فإن خضع سير المعلومات إلى تقديرات سياسية للسلطة التنفيذية، خضعت السلطة القضائية وقدرتها على ا لعمل، للتقديرات السياسية للسلطة التنفيذية، بل لرئيس الحكومة شخصياً في هذه الحالة.

ولو افترضنا أن المالكي لم يستطع كشف الملفات في الماضي، لصعوبته السياسية كما يقول، ولنفترض جدلاً أن ذلك من حقه، فما الذي فعله كبديل؟  وأين بحث عن حل لمثل هذا الكارثة التي تهدد بلده؟ هل أطلع حزبه على تلك الملفات واستشارهم وقرروا جميعاً أنه لا مجال لطرح القضية على القضاء وتحملوا المسؤولية معه، أم احتفظ بها لنفسه ليقرر توقيت طرحها؟ وإن كان فعل، فهل بحثوا معاً عن حل، أم احتفظوا لأنفسهم بالمعلومات وتركوا الإرهاب حر العمل في بلادهم؟

مثلاً هل أبلغ المالكي وحزبه الأمريكان بالمشكلة، خاصة أن الأمريكان هم من كان يصر ويلح على إبقاء الشركاء في الحكومة، وماذا قالوا له؟ إن لم يبلغوا الأمريكان فلماذا؟ وإن فعلوا فما فعل الأمريكان؟ ألم يكن كشف تلك الملفات لهم كفيلاً بمنعهم من دعم هذا الحزب وتزوير الإنتخابات من أجله في الإنتخابات الأخيرة؟ أم أنه لم يفعل لأنه مقتنع أن الأمريكان هم وراء الإرهاب، وأنهم سيدافعون عن الإرهابيين؟ ألا يعني مجرد وجود مثل هذه المشكلة، أن وجود الأميركان لم يكن له أي مبرر وأن الحكومة لم تستطع الإعتماد على مساندتهم حتى حين كانت تعرف الإرهابيين وتمتلك ملفات لمحاسبتهم؟ بل ألا يعني ذلك أنهم يدعمون الإرهاب حين يصرون على دخوله الحكومة، ويزورون الإنتخابات من أجله وهم يعلمون به، وأن التخلص منهم بأسرع ما يمكن كان واجب الحكومة الأول؟ ألا يعني أن المعاهدة التي أبقتهم ثلاث سنين إضافية كانت كارثة أبقت دعما للإرهاب ثلاثة سنوات إضافية ؟ هل إذن أن خروج الأمريكان هو ما جعل المالكي يرى أن الوضع أصبح يسمح بكشف تلك الملفات؟

لنسائل رئيس حكومتنا: ما هي الأشياء التي يمكن أن تجعل من كشف ملفات إرهاب، أمر "غير ممكن سياسياً"؟ لا يمكن أن يكون سوى أن وراء المجرمين قوة تستطيع الإنتقام وتدمير البلد او العملية السياسية. وإذا أخذنا قضية طارق الهاشمي التي أخفاها رئيس الحكومة سنوات، فمن الذي يمكن أن يدمر البلد من أجل الهاشمي حين تكشف أوراقه بوضوح وشفافية؟ العراقية؟ العراقية ليست حزباً، بل مجموعة سياسيين، كان لهم ناخبين كثر، ولا يمكنها بذلك أن تقوم لوحدها بالإنتقام. وناخبي العراقية لا يمكن أن يقفوا بصف قضية إرهاب واضحة، والدليل هو اليوم، فأن من وقف مع المحاكمة أكثر بكثير ممن احتج عليها، والذي احتج عليها لم يلجأ إلى العنف، فأين هي التظاهرات الصاخبة التي كنت تخشى على العملية السياسية منها، وأين هو احتلال الشوارع مثلاً؟ وإن لم يكن الشعب هو المشكلة، فمن هو المشكلة؟ أفلا يجدر برئيس الحكومة المنتخب، حين يعلم أن الشعب معه، خاصة إن تعامل معه بوضوح وشفافية، أن يكشف الأوراق لشعبه وأن يوحد صفوفه لمواجهة هذا التهديد، بدلاً من "الصبر" على الإرهاب لعله يهتدي؟ ألا يعني خروج الكثير من السياسيين عن العراقية أن الكثير منهم خدع في الموضوع، وأن كشف مثل تلك الأوراق كفيل بإنهائها سياسياً إن كانت وراء الإرهاب؟
ما هي الجهة التي يخشى المالكي أن تبقى تدعم العراقية حتى بعد كشف ملفات الإرهاب إذن؟ أن من وقف مع العراقية ليجبر الحكومة على إدخال منتسبيها إلى دائرة الإنتخاب رغم كشف ارتباطاتهم غير القانونية بالبعث ووجود قانون يمنعهم من الترشيح، لم يكن الشعب أو السنة وتظاهراتهما، وإنما السفارة الأمريكية والسفير الأمريكي الذي وصل الأمر إلى حد تهديده بالطرد من العراق من قبل المالكي نفسه، أذكّر بهذا لكي لا ننسى! أوليس أصحاب السفارة هؤلاء هم أنفسهم من يدعونا السيد المالكي لرهن مستقبل العراقي الأقتصادي والسياسي والأمني بأيديهم من خلال إتفاقيات الإطار الإستراتيجي؟ فهل أن أتفاقية الإطار الإستراتيجي كانت أيضاً ضمن سياسة مهادنة "الممكن"؟

لندفع بسؤال صريح: هل يمتلك المالكي أيضاً ملفات تدين الأمريكان بالإرهاب وأن "مقتضيات سياسة الممكن" رأت أن طرحها "غير ممكن"؟ إن مبرر الخوف من نقمة الأمريكان، على ضعفه، يبدو مبرراً مقنعاً أكثر بكثير من مبرر الخوف من نقمة الهاشمي وجماعته. ويبدو لي أن السيد الجعفري حين قال "لا مشكلة لدي مع البريطانيين" إثر اكتشاف جنديين متلبسين بعملية إرهابية وقتلهما لشرطيين عراقيين، كان أيضاً يرى أن الوضع السياسي لا يسمح بكشف الملفات، وربما كان محقاً، وأن الشهرستاني حين قدم قصة خرافية بأن محطة تصفية نفط انفجرت بفعل حرارة محرك سمتية مرت فوقها، كان أيضاً يرى أن الوضع السياسي لا يسمح بكشف الملفات بوضوح أكثر، فاكتفى بالتلميح، وربما كان محقاً. هذه نعرفها فيا ترى كم واحدة لا نعرف عنها شيئاً تم إخفاؤها لأن "الوضع السياسي لا يسمح بكشفها"؟

والآن؟ ما هي النية بالنسبة للمستقبل، هل هناك ملفات أخرى، وهل ستستمر سياسة إخفاء الملفات حتى يحين الوقت السياسي "الممكن" لها؟
قال السيد المالكي في المؤتمر: "ودعوني اقول بصراحة أن لدي الكثير و أتمنى على الأخرين أن يتوقفوا على الأقل عن عمليات التخريب والقتل ... أتمنى عليهم أن يقفوا على الأقل... وإلا كل الملفات ستخرج وستوضع أمام القضاء ولينظر القضاء ماذا يقول."

إذن فالمالكي مستمر في حكومة شراكة مع مجرمين يحتفظ لهم بملفات تطير بأعناقهم في اللحظة التي يقررها هو، وعلى الناس أن يقبلوا حكومة مثل هذه لا يعلم أحدهم كم وزير سفاح فيها وأيهم قاتل وأيهم لص وأيهم شريف! إذا كان المالكي يرفض "المساومات السياسية على ارواح الناس" كما يقول، فما هي المساومات السياسية إن لم يكن الوعد بعدم كشف ملفات القتلة، مقابل أن يتوقف القتل مساومةً سياسية؟

يقول المالكي أن  الفترة "المقبلة تحتاج إلى المزيد من الوضوح والجدية والإلتزام والحاكمية .."
ويقول أن "ماكان لا يصلح 2005، و 2006 و 2007 يصلح الآن" فلماذا لا يواجه الأمر، هو وكل من يمتلك ملفات إرهاب، وتكشف الملفات كلها مرة واحدة، وفضح ليس فقط من يقوم بتنفيذ الإرهاب وإداراته الوسطية، وإنما كل الجهات التي تديره حتى رأس الهرم؟ بهذا فقط ، وليس بـ "الصبر" و التوسل للإرهاب لـ "يتوقف" يمكن أن ينتهي هذا الفصل الغريب القبيح من تاريخ العراق السياسي وما يحمله من دماء ودموع وخطر. أفلا تكفي الصور المريعة لضحايا تفجيرات بغداد وأطفالهم للإقرار بخطأ وخطر هذه السياسة؟

إنها أسئلة ننتظر بقلق من السيد المالكي وكتلته أن يجيبونا عنها لنفهم إلى أين تتجه هذه البلاد..


(1) فيديو المؤتمر الصحفي للمالكي حول قضية الهاشمي
(3/1) http://www.youtube.com/watch?v=kMRLSqrcdWE&feature=related
(3/2) http://www.youtube.com/watch?v=gi1Ri1cbpR0&feature=related
(3/3) http://www.youtube.com/watch?v=FYTfXgAY5m0&feature=related

51
في الجانب المظلم من مدينة الدورة – إعترافات جندي أمريكي في العراق.

صائب خليل
20 كانون اول 2011

هذا تقرير عن فلم (1)  نشر مؤخراً بعنوان

، اتركه بلا تعليق، ليأخذ كل من يريد موقفه الذي يراه ضميره مناسباً منه، خاصة اؤلئك الذين كانوا يدعون بقوة لإبقاء القوات الأمريكية ومنحهم الحصانة، وصاروا بعد قرار الإجلاء، يدعون لعلاقات "متكافئة وقوية" مع أمريكا، وأؤلئك الذين لا يفوتون الفرصة لشكر أميركا وبوش على ما قاموا به من أجل العراقيين.
***

جون  نيدهام، جندي التحق بإحدى المجموعات العسكرية الخاصة للجيش الأمريكي في العراق في تشرين الأول 2006 ولمدة سنة، وكانت تجربته القاسية التي انتهت بتحطيم حياته وتحوله إلى قاتل، قد بدأت في منطقة الدورة في بغداد. هناك تعرف على الإجرام البشع واجبر على المشاركة فيه، وحين اعترض رأى رفاقه فيه خطراً عليهم، حاولوا التخلص منه بقتله أولاً في كمين، ثم بتحطيم اعصابه بمختلف الطرق وأدى ذلك كله إلى نهاية مأساوية. فقد كتب جون مرة لأهله: "هذه الحيطان تطبق علي..كم أفتقد إخوتي...أنا أتحطم ، أحتاج للإرادة للبقاء على قيد الحياة ، أشعر أنني أغرق، أقذفوا لي بحبل إنقاذ، إقذفوا لي بحياة تستحق أن تعاش .. إني جزء من الموت، أنا الموت"... وبالفعل كان متأخراً جداً.

 وقبل ان يرحل عن هذا العالم كتب جون تقريراً يفضح فيه بشاعة الإحتلال الأمريكي، لكنه سيكون بلا شك مجرد تقرير آخر عن تلك الجرائم البشعة، يوضع على الرف.  فلا أحد يهتم بهذه الضحايا، حتى أهلها، بل خاصة أهلها!

يتحدث والد الجندي في فلم وثائقي عن ما جرى لإبنه وعن تلك الجرائم، وقال عن مجموعته: "الفريق كان عصابة من القتلة لإرهاب المنطقة ولا يتحددون بالقوانين العسكرية، يتناولون المخدرات ويغتصبون الفتياة ويسرقون أحياناً، ويصوبون بنادقهم على رؤوس الأطفال لإجبار آبائهم على التعاون... شيء فضيع"
"كان جون رياضي وموسيقي وشاب يحب الحياة.. حين ودعته إلى العراق، اخبرته أن يحافظ على نفسه". لكن الأب لاحظ أن إبنه بدا غير مدرك لما هو مقدم عليه، "قلت له أن حياته لن تكون كما كانت سابقاً، وكان مندهشاً".
ويؤكد الأب "جون حصل على ثلاث ميداليات شارتي قلب أرجواني" لبطولته ومر بأخطار كبيرة. وقال أن أبنه أخبره أنهم أحياناً يطلقون القذائف قرب جهاز الإرسال ويدعون أنهم تحت النار، ليقوموا بعد ذلك باختراق أحد البيوت ويأخذون ما يريدونه منه وأحياناً يقتلون سكانه.

في أحد البيوت تعرض لهجوم من ثلاث جهات..ونجا منها باعجوبة شعر أنها مؤامرة للتخلص منه لإشتباهه بظروف ونوعية المهمة التي أرسل إليها ونوع مرافقيه وعدم قدوم النجدة إلا متأخرة جداً، وعدم الإجابة على ندائه باللاسلكي.
حين عاد بادرهم بالأسئلة لكنه وجد عدم اهتمام كبير وصار يصرخ ولم يجبه أحد، ثم بدأ إدمان الكحول ثم لجأ إلى محاولة الإنتحار بإطلاق النار على رأسه، إلا أن أحد رفاقه أنقذه في اللحظة الأخيرة، فوضع في السجن، وكان أصدقاءه يهربون له الطعام والماء. وقال أن المسؤولين كانوا يحاولون تعذيبه نفسياً.

سمع أبيه بأخبار اعتقال ولده فسعى للإتصال بالمسؤولين حتى وجد من يستمع إليه في شخصية المفتش العام. وفي هذه الأثناء كانوا قد أرسلو جون إلى سجن في الكويت. وأخيراً إنتهى به المقام في "معسكر كارسون" العسكري.

وفي إحدى الإجازات التي تمكن فيها الأب من حديث مطول مع إبنه أبلغه الأخير بما كانت وحدته 2-12 ترتكب من جرائم فضيعة، فقال له أنه ملزم بالإبلاغ عنها وإلا يعبتر مشاركا فيها. وبالفعل قدم جون تقريراً مرفقاً بصور عن تلك الجرائم، فتحدث عن الوحدات التي خدم فيها حتى وصل إلى "معسكر فالكون" في آذار 2007، حيث "شاهدت وأجبرت على المشاركة في الجرائم البشعة اللاإنسانية ضد المواطنين العراقيين في المنطقة التي كانت تقع تحت مسؤوليتنا."

ثم يبدأ جون بسرد بعض الجرائم ننقل بعضا منها.

 في حزيران 2007 قام العريف اول "سبري" بإيقاف واستجواب واعتقال وقتل أحد العراقيين. ولم يكن لدينا دليل على أنه إرهابي أو مقاتل، كما أنه لم يكن يمثل تهديداً عندما إعتقلناه. ورغم أني لم أشاهد عملية القتل، لكني شاهدت العريف أول "سبري" يقطع الجثة ويضعها على مقدمة سيارة الهمفي ويدور بها في شوارع منطقة "المحلة" بينما كان المترجم يتوعد الأهالي بواسطة مكبر الصوت باللغة العربية. ولدي صورة للعريف أول وهو يزيل دماغ الجثة. (صورة الجثة على الهمفي، لا أنصح بمشاهدتها! (2))

وفي مرة ثانية أوقف العريف روجرز أحد العراقيين ثم استجوبه. وبينما كان مقيداً خلف ظهره قام العريف روجرز بسلخ جلد وجهه! (صورة للضحية مسلوخة الوجه، لا أنصح بمشاهدتها(3))

ويروي جون أن العريف أول "سبري" قتل فتى عمره 15 عاماً، كان يقود دراجته عبر منطقة وضعت الفرقة فيها كميناً. لم يكن هناك أي استفزاز. ثم قام العريف بتقطيع اعضاء جثة الفتى (صورة للفتى ساقط قرب دراجته) (4)

وفي آب 2007 ذهبت إثر بلاغ حول إطلاق النار على عراقي كان يحاول دخول ثقب كان قد احدثه فريقه في أحد الجدران لمراقبة المنطقة. وحين وصلت وجدت رجلاً بذراع واحدة ملقى على الحاجز، وقد تعلق في إبهامه مسدس قديم من نوع "روجر". كان في حدود الثلاثين من العمر، ومازال حياً. ومن الطريقة التي علق بها المسدس فهمت أنه تم وضعه في يده بعد إطلاق النار عليه. أطلق عليه العريف النار مرتين، لكنه بقي حياً. وعندما كنت أسأل لماذا يطلقون النار عليه ثانية قام العريف هسكنز بإطلاق النار على رأسه من الخلف. وكان العريفين روجرز وبلات متمتعين بالقتل بوضوح، ثم قاما باستخراج دماغ الرجل العراقي عندما كانوا يضعونه في كيس الموتى. لابد أن الكابتن "كيرسي" علم بالأمر وانزعج وأعلم المسؤولين. (صورة – لا أنصح بمشاهدتها (5))

لقد سمعت العريف أول "سبري" يتفاخر مراراً بـ "قتل الكلاب".. قال أنه قتل 80 "كلباً"!

ويستمر جون بالسرد ويؤكد أن لديه صوراً توثق ما قاله، وقال أن لديه صوراً كثيرة جداً على حاسبته المتنقلة التي تمت مصادرتها.

كتب جون تقريره بعد أن تسرح من الخدمة عام 2008، لكن القي القبض عليه بتهمة قتله لصديقته، وقال في التحقيق أنه لا يتذكر شيئاً عن الموضوع. وفي فبراير 2010 مات بشكل مفاجئ في سجنه بدون معرفة السبب. ولم تقدم السلطات العسكرية أية إيضاحات بشأن التقرير او الصور المرفقة معه.
(1) http://vimeo.com/33755968
(2) http://www.informationclearinghouse.info/A4removedbrains.preview.jpg
(3) http://www.informationclearinghouse.info/A2%20tied%20tortured%20skinned.preview.jpg
(4) http://www.informationclearinghouse.info/A5boy%20killedridingbike%20.preview.jpg
(5) http://www.informationclearinghouse.info/A3One.armedman%20hollow%20points%20at%20point%20blank.preview.jpg

52
تلفون قصير مع عراق يبتعد...

صائب خليل
16 كانون الأول 2011

"ها يابا؟ شنو أخبار العراق يمّك"؟ جاء صوت أبي من بعيد، مشوبا بالسعادة لإتصالي وبعض القلق.
قلت له.. "والله يابا، ما أدري شأكلك...دايخ بمشكلة السنة والشيعة، ودا أكتب عنها... "
ضحك وقال: "ليش شكو"؟
قلت "السنة مرعوبين من إيران، وصايرين يحجون عبالك إسرائيليين، والشيعة داخلة بدماغهم السنة إرهابيين"..
ضحك ابي بمسحة أسف شفافة، فأكملت: "تصور أنهم يتخيلون أن السنة يربون ولدهم على كره الشيعة وآل البيت!"
قال: "وين أكو هيج حجي يا إبني...؟ زين يابا آني احجيلك فد سالفة.. "
(صمت قصير، تخيلت ابي يعدل جلسته استعداداً للتركيز...)  وأكمل :
"من كنا براوه، (في راوه) كنا نصلي صلاة "التراويح"، ورا  العشا برمضان.... وكنا نصلي وندعوا لكل واحد من الخلفاء أولاً، حسب تسلسلهم، ركعتين لأبو بكر، وركعتين لعمر وركعتين لعثمان، وركعتين لعلي، وبعدين نصلي ركعتين للحسن والحسين، وركعتين لفاطمة الزهرا، وركعتين للحمزة والعباس"..

قلت وأنا أهز رأسي: "علواه يسمعوك يابه... "  (علواه = ياريت) وأكملت متحرشاً:
"بس ليش ركعتين للحسن والحسين سوا، وفاطمة الزهرا وحدها ركعتين؟"
سكت كأنه لم يخطر مثل هذا السؤال الغريب بباله، ثم قال: "ما أدري يا إبني...هيه هيج جانت". (هي كانت هكذا)

وهنا سمعت صوت أمي تسأل : "هذا صائب؟"  فأجابها أبي بمزاحه المعروف: "إي... يحجي على الشيعة".  (على = ضد)
قالت له وصوتها يقترب من التلفون: "صائب ميحجي على الشيعة... شبيهم الشيعة؟"
قال أبي مصراً على مزاحه: "يقول صائب الشيعة يريدون يحكمون العراق"!
ويبدو أن أمي استسلمت وصدقت ولكن بتردد: "أي وشكون؟ خليهم يحكمون.. شكون صابنا من حكم السنة غير المرار؟ خليهم بلكي همه حكمهم أحسن". (أمي مستسلمة للصورة الإعلامية عن حكم السنة وحكم الشيعة) ( = ربما كان حكم الشيعة أفضل)
أخذت التلفون وبعد السلام، قالت بشيء من القلق: " صحيح تحجي على الشيعة؟" 
- (ضحكت) "يا أمي ليهسة متعرفين ابوية؟" ... (ليهسه = حتى الآن)
قالت متجاهلة سؤالي-  "لا والله الشيعة زينين... آني أشوفهم أحسن من عدنا"...
-  (ضحكت) "ليش يا أمي أحسن؟"
- " ما أدري ... ربعنا أشوفهم شوية منحوسين... ما هو صحيح؟ "
- ضحكت لا أدري ما أقول، ثم أجبت متهرباً: "يا أمي الزينين عند الثنين والشينين عند الثنين" ..
- "صحيح بس آني أشوفهم أحسن...هذولة ربعكم ...ها صديقك سليم، وها صديق رأئد علي رؤوف، والله ورود"
- فقلت ممازحاً: "غير إحنا ورود ويصادقونا ورود؟" 
- "أي والله يا عيني إنتم زاد ورود" (زاد = أيضا)

ثم بدأت تكرر على مسامعي قصص سبق أن حكتها لي، عن إمرأة شيعية طيبة للغاية اصرت أن توصلها إلى البيت من الكاظم، وأخرى أدت الصلاة معها في سفينة متجهة من البصرة إلى الإمارات ...
ولأنها قصص سمعتها سابقاً، قاطعتها ممازحاً: "يعني ما كنتم تربون ولدكم على كره آل البيت؟"
- "ها يابا؟ ....ما سمعتوك زين؟ ....شكون قلت؟"
- "لا يا أمي، ماكو شي...بس صوتج ديبعد...
قبل ما اروح، أريد أبوسج من راسج  واقول أحنا خجلانين منكم..!"

53
مؤتمر واشنطن و الدولة التي نريد
صائب خليل
15 كانون الأول 2011

في المؤتمر المشترك بين المالكي وأوباما (1)، بدا الحديث ودياً جميلاً، لكن كان هناك الكثير بين السطور، فالكثير منه يثير القلق على ما ينتظر وطنه وما يأمله من مستقبل له، وهنا نناقشه نقطة نقطة.

تحدث اوباما عن سرعة النمو في العراق، وقال أنه "في طريقه ليصبح في مقدمة (منتجي) النفط."

والحقيقة أن العراق لا يجب أن يريد أن يكون "في مقدمة منتجي النفط" بل أن يكون له إقتصاد متوازن، يستخرج نفطه (فليس هناك أي "إنتاج" في الحقيقة) بالدرجة التي يحتاجها لبناء عقلاني لإقتصاده وتطوير شعبه، وليس أن يكون مثالاً آخر للنماذج الخليجية التي أهدرت ثرواتها في شراء الأسلحة وبناء أعلى العمارات، ودعم الأزمات المالية للبنوك الأمريكية والبريطانية، وبقيت متخلفة العلم والثقافة كما كانت منذ عقود وهاهو نفطها يوشك على الإنتهاء ولم تكد تتقدم خطوة في سلم الحضارة. فكثرة "إنتاج" النفط بلا تخطيط وتحديد ليست تطوراً بل بلاهة وتبديد ثروة البلاد وخيانة للأجيال القادمة. أن من يقف في الصف الأول من منتجي النفط، دول لا تستحق التقليد.

وذكر أوباما أن "العراق يقيم علاقات إقتصادية وتجارية جديدة مع جيرانه".

لكن الحقيقة أن ليس هناك تأثير للولايات المتحدة سوى قطع العلاقات الإقتصادية بين العراق وجيرانه، وقد بدأتها بإيران، التي تضغط أميركا من أجل أن يشاركها العراق حصارها عليها. فبعد إقالة الوزير الذي كشف تحكم بنك جي بي موركان بقرارات العراق الإقتصادية ودعا إلى علاقة إقتصادية قوية مع إيران، وقال أن العراق بحاجة إلى تعاون إيران في قطاع الكهرباء والتي كانت تبيعه المحطات والغاز والمواد الإحتياطية بنصف سعر الغرب، ألغيت العقود مع إيران وأعيدت العقود الإستغلالية مع الشركات الغربية. وكما أخبرنا الوزير "الفاسد بلا دليل"، لم يسمح بنك جي بي موركان للعراق حتى بدفع ديونه مما اشتراه من إيران من كهرباء وغيرها، والآن يتظاهر أوباما بتشجيع العراق على علاقات إقتصادية مع جيرانه! بل لا يستبعد أن يتم الضغط على العراق، سواء بواسطة جي بي مورغان أو غيره لقطع العلاقات مع سوريا، وأية دولة لا ترتاح لها أميركا، وبالفعل عبرت بعض الشخصيات البرلمانية عن قلقها من هذا الأمر. ما تريده أميركا هو أن لا تبقى من علاقات "الجيران" إلا العلاقات الإبتزازية لأصدقاء أميركا، مثل علاقتنا النفطية المشبوهة بالأردن، وعلاقة التوتر مع حكومات الكويت والسعودية- الأمريكيتان بامتياز.

أوباما: "ستكون (علاقتنا) مثل العلاقات الحميمة التي لدينا مع الشعوب الأخرى ذات السيادة."

إن استثنينا إسرائيل، فليس للولايات المتحدة علاقة "حميمة" مع أية شعوب، وإنما مع حكومات فقط. فالشعوب عموماً لا تحب أميركا وسياساتها ولا تريد علاقة معها وتثبت الإحصاءات سنة تلو سنة أن موقف الشعوب من أميركا موقف سلبي، وأنها تعتبرها الخطر ألأكبر على إستقلال قرارها وسيادتها، وبالذات في البلدان التي تواجدت فيها قوات أميركية. وفي معظم الأحيان تجد تلك الشعوب أن حكوماتها تبتعد عن مصالحها حين تتعامل مع أميركا وإسرائيل، وبالتأكيد العراق ليس استثناءاً.
وإن كانت الولايات المتحدة قد فشلت في غرس قواعدها العسكرية ثابتة في العراق واكتفت بمركز تجسس عالمي أسمته "سفارة" فان دولاً أخرى فشلت في زحزحة تلك القواعد، وأدت محاولاتها إلى إسقاط حكومات منتخبة كما في استراليا 1972 و استقالة حكومات اخرى أنتخبت على أساس شعار إزالة القواعد الأمريكية كما في حكومة اليابان السابقة، فعن اي علاقات مع شعوب يتحدث أوباما؟ هل حكوماتهم قادرة على إقناع شعبهم بهم أصلاً؟ الم تصل خيبة امل الناسب بأوباما حدها الأقصى، وهبط من سبقه إلى أدنى من 20%؟

أشار أوباما إلى أن العراقيين يبحثون عن ... "دولة للمواطنين وليس للطوائف" ، وقال "لذلك فنحن نتشارك لتقوية المؤسسات التي تعتمد عليها الديمقراطية العراقية.. إنتخابات حرة..."

معروف لدى العراقيين أن المشاريع الأمريكية للعراق كانت مشاريع تقسيمية بامتياز، والإعلام العراقي الذي بناه الإحتلال ويموله مازال يبث سمومه لتفريق الناس، وآخر خبر كان عن شكوى محافظ كربلاء وتهديده قناة الحرة الأمريكية بالملاحقة القضائية لأنها اختلقت الأخبار عن الخلاف بين كتلتي أمل الرافدين ودولة القانون وإنها تضع صيغة الأخبار بما يلائم تلك الأجندات (2). وهاهو أبرز المرشحين للرئاسة الأميركية نيوت غينغريتش يصرح قبل أيام أن الفلسطينيين "شعب مختلق"(3)
فهل هناك دولة أخرى يقودها مثل تلك النماذج النازية الشديدة الإحتقار لشعوب الدول العربية بالذات، إن استثنينا حليفها الحميم إسرائيل؟ هل توجد أمة أخرى يكون أهم مواضيع مرشحيها للرئاسة ما يقدمونه من دعم للنازية الإسرائيلية المحتقرة للعرب والإسلام؟ ولا يستبعد أن يجد العراقيون أنفسهم وفق المعاهدة تحت رحمة إدارات برئاسة مثل هذه النماذج، وقد استلمت مقدراتهم الأمنية والعسكرية والإقتصادية، فما العمل عندذاك؟ وحتى لو بقي الديمقراطيون، فهل تدل مشاريع بايدن، عراف المعاهدة، إلا على أنه يعتبر الشعب العراقي أيضاً "مختلقاً" من أجزاء يسعى إلى إعادة تقسيمها؟

أما المؤسسات الديمقراطية، فقد رأينا نوع العلاقة التي تريدها أميركا معها، حين أرسلت السفير ليضغط على تلك المؤسسات من اجل إبقاء البعثيين الممنوعين من المشاركة في الإنتخابات، وعن الإنتخابات الحرة. ورغم ذلك تشتد اليوم مع المعاهدة حملة شرسة لإسكات كل من يعترض، فتخرج له كالدبابير أصوات محمومة ليتهمونه بأنه مع البعث!! وقد علق أحد الكتاب على الوضع قائلاً: ما أشبه اليوم باليوم الذي هتف البعض: "والما يصفق عفلقي" ثم "الما يصفق فارسي" وهاهو من لا يصفق لمشاريع المالكي الأمريكية "عفلقي" من جديد، رغم كل الحقائق التي تدين أميركا وتؤكد علاقتها الوطيدة بالبعث! ولقد رأينا فضيحة استلام الجيش الأمريكي لصناديق الإقتراع سراً من المفوضية الفاسدة، ورأينا رئيس برلماننا يقطع البث عن الناس لكي لا تفتضح أميركا، فهي عنده أهم ما يجب حمايته، ليس على حساب وطنه فقط، بل حتى على حساب سمعته، وكل ذلك من اجل إيصال قائمة علاوي التي تضم اكثر البعثيين عدوانية ووقاحة، ورغم ذلك فمن لا يصفق لهؤلاء فهو المتهم بالبعث!

أوباما: "سوف نجعل الظروف انسب للشركات للتصدير والإبتكار."

صدق أوباما هنا...ظروف أنسب للشركات لتنهب البلد وتسحق فقراءه وتتلف بيئته، كما تدل كل تجارب الدول التي دخلتها تلك الشركات، خاصة إن لم تكن فيها بنية تحتية سياسية وإرادة حكومية كافية لمنعها من ذلك.

أوباما: "سنقدم خبرتنا في مجال الزراعة والرعاية الصحية... ولتعميق تكامل العراق في الإقتصاد العالمي."

في حقيقة الأمر، خبرة الزراعة هي أعطاء شركات تطوير النباتات المحورة جينياً إحتكار النباتات الزراعية عملياً. ويمكننا أن ندرس ما حدث لفلاحي الهند من ويلات زادت من نسبة إنتحارهم بشكل كبير من جراء ذلك، لنعرف ما ينتظرنا من ذلك. أما في الصحة فهو يريد أن يأتي بتلك الشركات الوحشية التي حاربته هو بالذات وكلينتون قبله طويلاً من أجل منع تقديم التأمين الصحي لشعبه، ونجحت في إبقاء الشعب الأمريكي، الشعب الغربي الوحيد الذي لا يتمتع بتأمين صحي لعقود طويلة! وأما عن "تعميق تكامل العراق في الإقتصاد العالمي" فهو يعني بالضبط وضع العراق في مصيدة مالية مصرفية يمكن امتصاص ثرواته من خلالها بشكل هادئ، أو بشكل حاد في "الأزمات" التي تخلقها المصارف.
لقد بينت "الأزمة المالية" (وهي ليست أزمة، وإنما سرقة بنوك أمريكية للمال العالمي) أن تأثر الدول وخسائرها جراءها كان يتناسب طردياً مع درجة "تكامل تلك الدولة في الإقتصاد العالمي". وفي منطقتنا كانت الإمارات المتضرر الأكبر، وكادت تدخل في مرحلة خطرة على وجودها وسيادتها من جراء ذلك.

أوباما: "نحن نستقبل المزيد من الطلاب و "قادة المستقبل" للدراسة وتكوين الصداقات".

إنه يقصد بـ "قادة المستقبل"، اللصوص المهندمون من رجال الأعمال واصحاب الشركات والإستثمارات كتلك التي تكلف العراق 12 مليار دولار بدلاً من 880 مليون دولار في قطاع الكهرباء. إنها الطبقة الجديدة التي تسعى اميركا لتشكيلها في العراق بنشاط محموم، فهي تعلم من خبراتها السابقة أن مصالحها ومصالح تلك الطبقة الطفيلية تسير في خط واحد، وأنها ستجد في تلك الطبقة النصير الأكثر إخلاصاً، حينما يعي الشعب ما تكلفه علاقته بأمريكا ويسعى لتحديدها والسيطرة على مؤسساته بنفسه. وسيسعى الأمريكان إلى تسليم أمور العراق الحقيقية بيد "قادة المستقبل" هؤلاء، وخاصة من يبرهن أنه الأكثر إخلاصاً لأميركا.

أوباما: "نظراً للتحديات المشتركة التي تواجهنا في منطقة سريعة التغيرات... إتفقنا على تكوين قناة اتصال رسمية جديدة بين مستشارينا الأمنيين."

أية "تحديات مشتركة"؟ من يخدع نفسه بتخيل "تحديات مشتركة" بين العراق وأميركا؟ أية أهداف مشتركة لدى العراق وأميركا في المنطقة أو في أي مكان في العالم؟ "مستشارين أمنيين" سيكونوا أداة أميركا للسيطرة على العراق وشعبه. وسيجمعون كل المعلومات عن كل فرد من افراد الشعب، وبصمة اصابعه ورسم حدقة عينه وخارطة كروموسوماته، لتكون تحت تصرف السي آي أي والموساد، مثلما هي إتصالاته التلفونية الآن. إنهم يفعلون ذلك مع شعبهم وشعوب دول أوروبا "الصديقة"، فيتجسسون عليها لأنهم يعتبرون شعبهم وبقية الشعوب، الخطر الأكبر عليهم. هذه هي الحقيقة ولا توجد أية "تحديات مشتركة" بيننا وبينهم. التحدي الوحيد أمامنا هو في الإفلات منهم.

أوباما: "عدد لا يحصى من العراقيين الذين قدموا أرواحهم، ... وحوالي 4500 امريكي قتلوا."

الصحيح أن يقول: "عدد لم يحص"، وليس "لا يحصى" لان اميركا كما يعلم المتابعون، منعت الإستمرار في إحصاء الضحايا العراقيين منذ السنين الأولى للغزو، فعددهم لا يهم أميركا، ولا يجلب سوى السمعة السيئة للإحتلال.

وإن كان أوباما قد بدا فخوراً في المؤتمر، باعتباره يجلب صيداً ثميناً للشركات التي تقرر فرصه الإنتخابية، فأن الأمر كان أعقد بالنسبة للمالكي. إنه يعلم أن أغلبية كبيرة في العراق تمكنت من فرض سحب القوات، ولا تثق بالأمريكان، و أن لا مصلحة للعراق في علاقة "الشراكة" القوية التي يقوم بتوريطه بها....

المالكي: "لم يكن احد يتخيل أننا سنتمكن من هزيمة القاعدة"

"القاعدة"، هزمها جيش المهدي لوحده يوماً، فاضطرت أميركا لتحويل ما بقي منها إلى "صحوات"، فكيف لا يتخيل أحد أن تتمكن دولة من هزيمتها؟ لا أرى هذا التضخيم إلا محاولة لتبرير السماح للولايات المتحدة بإدارة الشؤون الأمنية في البلاد تحت شعار التعاون ضد عدو مشترك، ولو وهمي.

وأشار المالكي إلى مجالات التعاون المختلفة، بضمنها "الجوانب التربوية"

ولا نفهم لماذا يريد المالكي من الحكومة الأمريكية التعاون في المجال التربوي؟ أية تربية مميزة إيجابية قدمت الحكومات الأمريكية لشعبها لنريد نقل "خبرتها" إلى العراق؟ فوارقه الطبقية القصوى أم جهله بالعالم أم الإنحطاط المعروف في التعليم الحكومي (عدا مؤسسات الأثرياء) قياساً ببقية الغرب. هل نريد أن نقلد التربية التي أنتجت الرقم القياسي لعدد ونسبة السجناء في العالم؟ أم ان الأمر يتعلق بإزالة كل ما يفضح إسرائيل من كتب التاريخ؟

قال المالكي أنه بحث تفاصيل تنفيذ الإتفاقية في لجنة مشتركة عليا تحت رئاسة السيد بايدن ورئاسته شخصياً.

ولا ندري أولاً لماذا يساوي رئيس الحكومة العراقية نفسه بنائب رئيس، حتى ولو من الناحية الشكلية، واهم من ذلك ألم يجد هؤلاء "الأصدقاء" لرئاسة تلك اللجنة، شخصاً أنسب من الرجل الذي يفتخر بصهيونيته، والمعروف بالعراق بمشاريعه التقسيمية المتتالية؟ لماذا لم يطلب المالكي وجهاً أقل قبحاً بالنسبة للعراقيين من وجه بايدن؟ لقد علمته التجربة المرة، أن مثل تلك الطلبات لا ينظر إليها برضى من أميركا، فعندما طلب من بوش تغيير قائد القوات العسكرية الأمريكية في العراق لأنه "لا يستطيع التفاهم معه"، طلب منه بوش "أن يهدأ"!، وهكذا يتعامل الأمريكان مع "أصدقاءهم" - بشكل متكافئ!

قال المالكي أنه "يشعر بالحاجة إلى التعاون السياسي" أيضاً..." خاصة في القضايا المشتركة والأمور التي تهمنا كطرفين"

ما هي القضايا التي تتفق فيها سياسة العراق مع سياسة الولايات المتحدة لكي يتعاونا سياسياً؟ أولويات الولايات المتحدة، وأوباما بالذات معروفة هي حماية اعتداءات إسرائيل وتمكينها من تنفيذ توسعها المستمر بلا خشية من عقاب دولي. وكان قد "تنازل" لإسرائيل عن القدس، كأنه ورثها من أبيه، ووضعت أميركا دون غيرها الفيتو على إقامة الدولة الفلسطينية وانسحبت من اليونسكو وسحبت أموالها لأن هذه اعترفت بفلسطين. وعدا هذا تسعى الولايات المتحدة إلى إشعال الإضطرابات في المنطقة بمحاولات إسقاط حكومتي إيران وسوريا وجلب حكومتين عميلتين لها مكانهما، فاي من هذه الأهداف يشترك العراق في موقفه مع أميركا فيها ليتعاون معها في إنجازها؟

قال المالكي أن "العراق بحاجة إلى الشركات الأمريكية لاستغلال العراق لثرواته بالشكل الأمثل. ... ونأمل أن يكون للشركات الأمريكية  الدور الأكبر لتضخيم ثروتنا في مجال النفط والغاز وغيرها."

لماذا يتكلم المالكي عن الأمر وكأنه يطلب قروضاً من أميركا؟ في العادة ، رئيس الدولة صاحبة الشركات هو الذي "يأمل"  أن تحصل شركات دولته دوراً أكبر، وليس العكس. ولم يخبرنا السيد المالكي ما هي ميزات الشركات الأميركية لكي يأمل أن يكون لها الدور الأكبر لتضخيم ثروتنا في مجال النفط والغاز.
ولكن قبل ذلك ما هو في راي الحكومة ا لعراقية، "الإستغلال الأمثل لثروات البلد" وما هي الخبرة التي جعلتها ترى الشركات الأمريكية أنسب من غيرها لتنفيذه؟
لننظر إلى خارطة الإستكشافات النفطية التي تقدمها الشركات الغربية (التي تمتلك أميركا معظم حصصها) في العراق والدول المجاورة، لنفهم رؤيتها للعراق. إننا نجد أمثلة كثيرة تثير الريبة، ولعل أوضحها، حسب ما أشار خبير النفط العراقي فؤاد الأمير وآخرين، أن الشركات تعمل بنشاط كبير على الجانب الآخر من الحدود العراقية في دول الجوار، وتكاد لا تقترب من الحدود من داخل العراق، إلا عند الحدود الإيرانية. أي ان الشركات تريد أن تعطي كل النفط في الحقول الحدودية المشتركة، إلى الدول الأخرى غير العراق.
ولننظر إلى "الإستغلال الأمثل" بالنسبة للشركات الأمريكية كما طبقته في منطقتها الحرة، كردستان ،– حقول منتجة تحول إلى مناطق استكشافية وعقود مشاركة إنتاج وتعاقدات سرية لا تعرض حتى على برلمان كردستان. هذا ما أعرفه عن تجربة العراق مع الشركات الأمريكية، فهل هذا هو "الإستغلال الأمثل" لثروة البلاد كما يرى المالكي؟ أم هو ما جاء في عقود الجولة الرابعة من إجبار الحكومة على إبقاء معدل استخراج النفط بأقصى طاقته ودفع غرامة إن لم تفعل؟ هل تصرفات شركة أكسون موبيل وعقودها غير الشرعية في كردستان، ما يشجع المالكي للقول أنه يأمل أن تلعب الشركات الأمريكية الدول الأكبر في استغلال ثروة العراق؟ لقد نجح الشهرستاني في ردع تلك الكارثة التي حاقت بكردستان، حتى الآن، عن بقية البلاد ، فهل المالكي بصدد تعميمها على العراق؟

النقطة الوحيدة التي رأيت المالكي كرئيس مستقل يتكلم فيها بمصداقية، حين تكلم عن سوريا. تلك النقطة تعطي الأمل بأن الرجل يمكن أن يقول لا احياناً إن اقتنع بها. ولأن البلدين تصرفا هنا بمواقف تعبر بصدق عن مصالحهما التي لا تلتقي في تقديرنا إلا ما ندر، نجد أن كل منها قد وجه إهانة واضحة إلى الآخر، ربما دون أن يشعرا. أقول لكم كيف.
حاول أوباما تسمية خلافه مع المالكي بـ "الإختلافات التكتيكية" ثم قال: "أنا متأكد أن السيد المالكي قرر كما تقتضي مصلحة بلاده وليس على أساس ما تريده منه إيران".
وفي الجملة إفتراض ضمني أن رئيس وزراء العراق قد يعمل على اساس "ما تريده منه إيران"! وهي جملة مهينة في كل الإعتبارات. تخيلوا لو أن المالكي أجابه، ولو غمزاً: "وأنا متأكد أن السيد أوباما يعمل كما تقتضي مصلحة شعبه وليس كما تريده إسرائيل أن يفعل"! ألم تكن الدنيا ستقوم ولا تقعد مع أميركا؟ لكنها بقيت قاعدة مع العراق.
لم يفعل المالكي ذلك للاسف لكنه وجه إهانة أكبر إلى أوباما دون أن ينتبه – على ما أفترض - حين رد:
"نحن لسنا ضد تطلعات الشعب السوري لكن ليس من حقي ان اطلب من رئيس التنحي. .. لا نريد أن نمارس هذا الدور وأن نعطي لأنفسنا هذا الحق..."
وهذا لا يختلف عن القول لأوباما أنه ليس من حقك أن تفعل ذلك و أنك تمارس دوراً تعطي فيه لنفسك الحق بما لا حق لك به- التدخل في شؤون الدول الأخرى!
وكذلك عن سبب رفض أسلوب الحصار قال المالكي : "لأننا عانينا من الحصار والتدخلات العسكرية فإننا لا نشجع الحصار، لأنه يجهد الشعب ولا يجهد الحكومة." وهو بهذا يتهم الولايات المتحدة ويشير إلى ما فعلته بالعراق، ويذكرنا بالنصف مليون طفل، التي كانت ثمناً مقبولاً للسياسة الأمريكية، كما قالت مادلين أولبرايت، وما تفعله حتى اليوم بدول أخرى مثل كوبا وإيران وسوريا وكل دولة تخرج عن طوعها.
إن مناقشة القضية السورية كان الجزء الوحيد الحقيقي، والذي كشف حقيقة التناقض بين مصالح الولايات المتحدة والعراق.

وإحتار أوباما في جواب سؤال عن عدد منتسبي السفارة الذي يبلغ 15 الف وفيما إذا تمت مناقشة تخفيض هذا العدد باعتباره يثير إشكالات لدى الناس في العراق. وبعد أن أبدى أوباما تفهمه لمشاعر العراقيين قال أنها الحاجة لحماية الدبلوماسين والمدنيين. في الوقت الذي يعلم الجميع فيه ان هذا الرقم الكبير بسبب عدد هؤلاء "الدبلوماسيين" و "المدنيين" الذين لا يعلم احد ماذا يفعلون، وليس بسبب حمايتهم فقط. وقارن أوباما بعثته بتلك التي في الدول الكبيرة المهمة، وهنا كان يكذب بوضوح أيضاً، فليس العراق دولة كبيرة، والأعداد لا تقارن بسفارته في أكبر دولة في العالم، بأي شكل من الأشكال.

يذكر العراقيون أن معاهدة 2008، سميت في البداية بمعاهدة الصداقة، وبعد أحتجاجات شعبية عراقية شديدة، تحول إسمها مرات عديدة ليستقر على الإسم المتواضع الخجول: "إتفاقية سحب القوات" وهو ما اعتبره أحد الكتاب المؤيدين لبقاء القوات بشدة، إسماً "مهيناً"، لكنه كان ضرورياً لإقناع العراقيين بأن المقصود هو طرد الأمريكيين وليس إبقاءهم. واليوم يحاول السيد المالكي وأوباما تسويق علاقة "صداقة" من خلال أختراع "مصالح مشتركة" و "إهتمامات مشتركة"  و "القاعدة" و "الجوانب التربوية" و "تضخيم الإقتصاد" وكلها عبارات لا يستطيع أحد ألبرهنة على أن اي منها يمتلك اية مصداقية. ولهذا تقوم حملة نشطة لدعم إعلامي للمالكي وإسكات الأصوات المعترضة على الإتفاقية لكي لا تواجه هذه ما واجهته إتفاقية "الصداقة" السابقة.

والحقيقة أن على المالكي أن لا ينزعج من الأصوات المعارضة، فالإستسلام شبه التام لإرادة أية دولة أخرى ، سوف لا يستدعي إلا تمادي تلك الدولة في الضغط عليه لكي يستسلم أكثر، ولدينا في السادات وحسني مبارك وعباس خير أدلة. ولن تنفع العبارات المراوغة لإخفاء ذلك الإستسلام. وكلما استسلم أكثر وخسر شعبتيه، وجد نفسه تحت رحمتهم وضغطوا عليه أكثر، وهكذا في سلسلة من الضغط والتنازل لا تنتهي سوى بالكوارث له ولدولته. أتمنى أن يعي المالكي وحزب الدعوة والإئتلاف، تلك الحقيقة، ويضعوا حدوداً واضحة للعلاقة قبل فوات الأوان، وأن يتدربوا على قول "لا" واضحة عندما يتطلب الأمر، وأن يجعلوا الناس تشعر أنهم قادرين على قولها بالفعل وليس لأغراض إعلامية. فالشعب الذي اعترض بشدة على الإتفاقية السابقة، والذي منع تمديدها رغم ضغط أميركا، مازال يقف موقف الريبة من هذه الدولة، وسوف يخسره المالكي إن فهم الشعب أنه أعطى الأمريكان كل شيء مقابل إخلاء قواعدهم.

كخاتمة نقول أنه صحيح أن "صداقة" أمريكا بدون جيوشها وعصابات "بلاك ووتر" أقل صعوبة، لكن أميركا ما تزال تتبع سياسة شديدة العدائية للشعوب العربية وللعراق بالذات، ولم تقدم اية بادرة حسن نية طيلة السنوات الثمان الماضية من سيطرتها على البلد، ولم تكسب سوى كره الشعب العراقي، ولا يوجد ما يبرر التفاؤل بأن الأمر سيتغير. هذا إضافة إلى حماسها لسياسة رأسمالية متطرفة القسوة على الفقراء، بعيدة عن حاجة الشعب العراقي. أميركا لم تقدم اي مؤشر يدعو للثقة، والمالكي يبدو مندفعاً، ولا يضع أية حدود أو شروط لتلك العلاقة الخطيرة على مستقبل العراق، والتي تهدد بتحويله إلى إمارة خليجية ذليلة، تفتخر بتطور أسلحتها وارتفاع فنادقها، وتعطيها الأولوية على مدارس فقرائها التي مازالت من الطين والصفيح. إننا لا نريد دولة مثل هذه! نريد دولة حقيقية تعتني بشعبها ومستقبله ولا تتصرف بصبيانية وكأنها في مسابقة جينيس للأرقام القياسية. نريد دولة لا تشتري الطائرات الحربية كلما بقي لها بعض المال الذي يمكن به أن تؤسس شيئاً لأجيالها، دولة لا تحتاج لأخذ إذن من بنك أجنبي لشراء شيء من اية دولة تريد، ولا تقدم معلومات مواطنيها لدول أجنبية، خصوصاً تلك التي لا يثق بها مواطنوها، ولاتتحجج بالقاعدة والخرافات من أجل ذلك. نريد دولة يمكن أن يفتخر بها مواطنها لإهتمامها بمصالحه المباشرة وليس تكنولوجيا النانو للتجسس، فهل تستطيع إرساء أساس تلك الدولة ايها السيد المالكي؟ عندذاك سنضعك في قلوبنا و فوق رؤوسنا!

(1) http://www.whitehouse.gov/photos-and-video/video/2011/12/12/president-obama-s-press-conference-prime-minister-maliki#transcript
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10380
(3) http://www.alalam.ir/news/891124



54
لماذا الثورة السورية مختلفة؟

صائب خليل
5 كانون الأول 2011

كانت تظاهرات ثورتي تونس ومصر عرساً عربياً لم يتردد أي مواطن في تأييده لحظة واحدة؛ فقد كانت صورتا الثورتين متكاملتين ومنطقيتين، وشعبيتهما وسلميتهما ومواقفهما السياسية واضحة جلية، في تنافر مع وحشية النظام وعمالته، إضافة إلى الموقف الغربي والأميركي المحرج، الذي طمأن الجماهير العربية إلى سلامة الثورتين. كذلك كانت ثورة البحرين، رغم تمكن النظام من إضفاء بعد طائفي عليها. 

لكن الأمر كان أقل وضوحاً في اليمن وليبيا؛ فالأنظمة فيها مستهدفة من الغرب وإسرائيل. وكانت هناك تسائلات عدّة، وخصوصاً في الموضوع الليبي: فأي ثورة ترفع علم الملكية؟ وما هي قصة قادة الثوار وتاريخهم في "القاعدة"؟،(1)
 وكيف تدعمهم أميركا لتحرير ليبيا، وتسعى إلى تحرير أفغانستان من إرهابهم؟ ومنذ متى يحمي الناتو ثورات الشعوب، دع عنك ثورات الشعوب العربية؟ هنا بدأ الشكك في أن "الربيع العربي" مزيف،(2) أو على الأقل بعضه. إلا أن وضوح موقف جماهير البلدين ضد حكومتيهم لم يدع مجالاً للخيار لدى الشارع العربي، فأيد الثوار ودعم موقفهم، وإن كان بحماسة أقل.

ثورة سوريا

ومن بين كل الثورات، كان الموقف من التظاهرات السورية دائماً الأكثر صعوبة. فمن ناحية أولى، ليست حكومة بشار الأسد ديمقراطية بالتأكيد. ومن ناحية ثانية، يعلم الشارع العربي أنّ تلك الحكومة هي الحكومة العربية الأخيرة الباقية على رفض المشروع الإسرائيلي للمنطقة، وداعمة للمقاومة اللبنانية والفلسطينية بجرأة، ولا تخشى من علاقات علنية متطورة مع إيران.
واحتراماً لما عُدّ خيار الشعب السوري، شارك الشعب العربي والصحافة اليسارية، نظراءهما من الشعوب الغربية وإعلامها تأييد الثورة واستنكار العنف تجاه المتظاهرين.
لكن الشك بدأ يتسلل إلى النفوس شيئاً فشيئاً، مع تزايد حماسة الغرب للثورة السورية، واكتشاف مبالغات أشار إليها الصحافيّون الأجانب بعد جولاتهم في سوريا. (3) ومقابل صغر حجم تظاهرات الثوار، استطاعت الحكومة السورية تجييش تظاهرات أكبر بكثير، تماماً كما حدث بعيد الانتخابات في إيران! صحيح أن الحكومات الدكتاتورية لا تعدم وسيلة لحشد التظاهرات، لكنّها لا تفعل ذلك في الفترات الخطرة والاضطرابات، بل تلجأ إلى إلغاء التظاهرات حتى في مناسبات تؤيدها الحكومة خشية انقلاب الأمر عليها. إذاً، الحكومة تثق فعلاً بأنّ تلك الجموع تؤيدها بالفعل في هذا الموقف من «الثورة» على الأقل.  وكتبت الصحافة اليسارية الغربية أن الثوار لم ينجحوا في كسب شعبهم.(4)
 
لم تعط الثورة السورية انطباعاً مشابها لثورتي تونس ومصر، بل كانت أكثر وحشية وتسلحاً بنحو واضح. ويجيب المتظاهرون بأن ذلك كان رداً على قسوة القوات السورية، لكن الصورة لم تعد بذلك الوضوح. وكشفت تقارير غربية عن تشويهات إعلامية واضحة.(5)
 وفشل الثوار في إقناع الناس بأنفسهم في الإعلام، ولجوئهم المستمر إلى الإستفزاز والقسوة، (6)  إلى درجة دعوة البعض منهم إلى قصف بلاده، وهو ما لم يكن وارداً في ثورتي مصر وتونس. (7)
وحظي الثوار السوريون بمعاملة مميزة من أميركا، فترى السفير الأميركي في سوريا روبرت فورد، وقد كان مستشاراً للسفير الأميركي في العراق جون نيغروبونتي، والأخير متهم بتكوين خلايا الإرهاب في أميركا اللاتينية في ثمانينات ريكان، يلتقي المعارضين ويزور حماه. وهكذا تزايد الانطباع بوجود مؤامرة تختلط بالثورة، فلزمت الجماهير العربية الصمت والمراقبة.(8)

أردوكان تركيا

من ناحية أخرى، أثار موقف أردوكان وحماسه المبالغ به الشكوك. فهو كرجل دولة، تعدى كل حدود صفته بدعوى الموقف الإنساني. وكان حاداً في موقفه وهو المعروف بلجوئه إلى التهدئة السياسية مع جيرانه الآخرين، ولم يبد قلقاً من إزالة الحكومة العربية الوحيدة التي بقيت أمام إسرائيل التي يدّعي الوقوف بوجهها. ويعزو د.هاشم الموسوي وآخرون، الموقف التركي إلى رغبة تاريخية عثمانية في احتلال سوريا أو مناطق منها ، إضافة إلى محاولة للتقرب من إسرائيل لأسباب عدّة، منها تحييدها في المواجهة مع اليونان وقبرص.
وتبنى أردوكان موضوع «الممرات الإنسانية» التي سارع المعارضون للتدخل، ومنهم العراق، إلى رفضها، كما أكدت الأمم المتحدة عدم الحاجة إليها، (9)  وهو ما يكشف أن الهدف منها كان إمرار السلاح والمقاتلين، لا المساعدات الإنسانية، وبدت عبارته لترميم الموقف، (10) بأنّ «تركيا لا تنوي التدخل في أي مسائل داخلية لدول أخرى»، مضحكة في الوقت الذي أكدت فيه حتى الصحف الغربية أن تركيا تدرب جيش الثوار وفرنسا ترسل ضباط استخبارات للتدريب على حرب المدن. (11)
 ويبدو أن النظام السوري صمد، وتأخر سقوطه أكثر من المتوقع لدى المخططين له، فازدادت الحدّة والتطرف، حتى إنّ تركيا ربما كانت تستعد اليوم لإجتياح سوريا (12) خاصة بعد زيارات جو بايدن للمنطقة (وشملت العراق وتركيا)، وبالتالي سقطت كل مصداقية أردوكان التي بناها لدى العرب، بل حتى لدى الأتراك أنفسهم،(13) وتسرب الشك في أنّ مواقفه السابقة لم تكن إلا لكسب مواقف الجماهير العربية استعداداً للحظة الهجوم تلك، وهو ما يدفعنا إلى مراجعة مواقف أردوكان السابقة، فنرى أنهّا كانت إعلامية في مجملها، لم يتبلور عنها شيء ثابت، وأنّها لم تمنع الحكومة التركية في النهاية من استضافة الدرع الصاروخية للناتو، واستمرار العلاقة مع إسرائيل، التي طالما أهانت تركيا وقتلت عدد من مواطنيها. بالمقابل، قطعت تركيا علاقاتها بشكل كامل مع سوريا وفرضت عليها عقوبات إقتصادية قاسية،(14)  وهو إجراء نادر، خاصة خارج نطاق أميركا وأوروبا. هذا التراجع الدبلوماسي التام والمفاجئ عن ستراتيجية "العودة للشرق" والحماس البالغ "للإنسانية" يثير الريبة، خاصة من دولة عرفت بعنفها مع معارضيها شملت حرق آلاف القرى، ومازال ذلك العنف مستمراً، وإن خفت حدته.

الإستفزار سياسة دولية

ومثلما يثير حماس أردوكان البالغ الريبة، يفعل كذلك الحماسة غير المعتادة للغرب والدول العربية الأقرب لأميركا، والجامعة العربية أيضاً لدعم الثورة السورية. فالجامعة العربية، التي صارت فجأة في منتهى القوة والفاعلية، وهي المعروفة لدى الشارع العربي بسباتها الطويل في وجه إعتداءات إسرائيل، وضعت على سوريا شروطاً تسمح بتفسيرات «فضفاضة تصل حد التعجيز" كما عبر الوزير السوري المعلم،(15) لم تخل من صياغة مهينة عن "الإستجابة الفورية والكاملة" خلال 24 ساعة، والتهديد بعقوبات إقتصادية (16) تتضمن وقف رحلات الطيران ، ووقف التعامل مع البنك المركزي السوري، ووقف التبادلات التجارية وتجميد الأرصدة المالية، وهي عقوبات خارج اطار الأمم المتحدة وتتناقض مع ميثاقها كما يؤكد السوريون.(17)
وكانت سوريا قد طالبت أن يكون المراقبون الذين تفرضهم الجامعة العربية من جنسيات عربية وألا تتعدى مهمة المراقبين سيادة الدولة السورية. وهي شروط معقولة يمكن التفاوض على فحواها. (18)
ورغم أن سورية "نفذت ما هو مطلوب منها بموجب خطة العمل العربية" وفق وزير الخارجية اللبناني،
لكن ذلك لم يعن شيئاً لجبهة المعارضة (19) . وعندما حاولت الحكومة تقديم عفو عام لحل المشكلة، قالت وزارة الخارجية الأميركية بانها لا تنصح أحداً من المسلحين بتسليم نفسه إلى السلطات.(20)

المنتظر من الذي يريد تجنب الكوارث الإنسانية أن يستغل أي تقدم ، حتى إن لم يكن كاملاً، ليبني عليه. وعلق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على النداءات الصادرة عن العواصم الغربية إلى المعارضة السورية برفض الحوار مع القيادة السورية، بأنها "استفزاز سياسي دولي"، (21) وقارنه بدعوة الجامعة العربية إلى "بدء الحوار". وقال أن "اللاعبون الخارجيون يحاولون العمل لزيادة احتدام الوضع في سورية لتبرير التدخل في شؤونها"، (22) و "اننا نلاحظ التسرع الذي يحاول به لاعبون خارجيون تصعيد المجابهة في سورية"، أو ما وصف بـ "حملة بناء ذرائع" من أجل تبرير تدخل دولي.(23)

الجامعة العربية وهؤلاء "اللاعبون" على ما يبدو، يسيرون وفق أسلوب دبلوماسي أميركي معروف، كما أشار إليه البروفيسور نوام تشومسكي مراراً، يتمثل في إدامة الأزمة بتقديم عروض لا يستطيع الطرف المقابل أن يقبلها، فإن حدث وقبلها، يرفع سقف الشروط ثانية ليضمن استمرار الأزمة. وقد استعملتها الولايات المتحدة مع صدام حسين عند احتلاله الكويت حين كان خروجه السلمي يُعَدّ «سيناريو الكارثة» حسب تعبير كولن باول، وكذلك ما كشف عن الشروط التي وضعها الناتو لميلوسوفيتش في موضوع كوسوفو.
ولم يقف الأمر عند هذا، بل صاحبه نشاط دولي كبير لتهريب الأسلحة والمقاتلين من دول جوار سوريا، من لبنان (24) والأردن، (25) التي اضطرت أحياناً إلى الإعتراف بها، (26) وربما العراق، أي من جميع حدود سوريا، إضافة إلى ليبيا. (27)

الموقف من إسرائيل

وعلى العكس من ثوار مصر وتونس الذين كانوا يعلنون رفضهم لإسرائيل كأحد  أولوياتهم رغم حراجة موقفهم، فإنّ ما قاله قادة «الثورة» السورية التي طالما انتقدت الحكومة السورية بأنّها «لم تفعل شيئاً من أجل تحرير الجولان»، يدعو إلى القلق. رئيس "مجلس اسطنبول" برهان غليون بين لصحيفة وول ستريت جورنال ما يقلق الثوار السوريين هو علاقة بلادهم مع حزب الله وإيران، ويعدون بعلاقة أقل معهما، ودعا إلى فرض منطقة حظر طيران على سوريا، وأنّه سيسعى إلى استعادة الجولان «بالتفاوض»!(28) بينما يدعو المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد رياض الشقفة إلى تدخل عسكري في سوريا، وطالب عبد الحليم خدام في حديث لقناة الحرة الأميركية بتدخل عسكري لحلف الناتو.

موقف العراق

إعلامياً، تبنى العراق موقف المعارض لإزالة النظام بالقوة ، ودعا إلى التفاهم مع الحكومة السورية، وعارض الرئيس طالباني التدخل الأجنبي العسكري فيها. وكذلك أكد رئيس الحكومة نوري المالكي موقفاً مشابهاً، مدعوماً من معظم السياسيين في البلد. وترى الحكومة العراقية أن الأمر شأن داخلي في سوريا لا يحق لجامعة الدول العربية التدخل فيه. (29)
لكن من الناحية العملية، اكتفى العراق بالامتناع عن التصويت، وذلك لا يمنع «تدخل الجامعة» في «الشوؤن الداخلية» لسوريا. ومن ناحية أخرى، خرجت الجامعة عن بروتوكولها وصوّتت رغم اعتراض دولتين، بإصدار القرار، وهو ما يذكرنا بمرة سابقة كانت الجامعة فيها «أكثر فاعلية» مما يسمح به بروتوكولها، حين صوتت على حرب تحرير الكويت، فبدا للمراقب أن الجامعة لا تنشط إلا تنفيذا لأجندة أميركية!
الامتناع عن التصويت منح المالكي صورة الرافض، ومنح الأميركيين ما يريدون عملياً. ويؤكد هذا الموقف إعلان المالكي بعد زيارة بايدن الأخيرة أنّه مستعد «لاستقبال المعارضة السورية... لتحقيق مطالب الشعب بعيداً عن العنف والحرب الأهلية»، وهو ما قد يُعَدّ دعماً سياسياً وإعلامياً للمعارضة.(30)

وعلينا ألّا نستهين بالضغط الذي يتعرض له المالكي من الولايات المتحدة التي تلقي بكل ثقلها في المعركة، ولا تزال تعسكر في بلاده وتسيطر على الكثير من مرافقها بالسر والعلن.
وكان الإعلام العربي القريب من إسرائيل (31) قد قام بما اسميته في مقالة سابقة (32) بعملية «الضغط الاستباقي» لمنع العراق من التفكير بمساعدة سوريا أو التعاون معها ، من خلال بث شائعة مفادها أنّ الحكومة العراقية دعمت الحكومة السورية بالمال (بينما الحقيقة أنّها لاتدعم سوى حكومة الأردن المقربة من إسرائيل، بالنفط المخفض). وبالطريقة نفسها، أشيع أن مقاتلين من جيش المهدي أُرسلوا إلى سوريا للقتال إلى جانب الأسد، لكن أنيس نقاش أشار لاحقاً إلى أنّ القوات الأمريكية أطلقت 400 عنصر من «القاعدة» للقتال إلى جانب المعارضة السورية، (33) وهي الرواية الأقرب إلى التصديق باعتبار أن حماس الولايات المتحدة لدعم المعارضة السورية وقدرتها على تفعيلها، تفوقان كثيراً ما يقابله لدى الصدريين. وتنتشر في العراق دعوات "جهادية" على النت، وفي تقديري أنّها من صنع الموساد.(34)

خطر معركة كبرى في المنطقة


عدا خطر الحرب الأهلية في سوريا، فأن المنطقة تواجه احتمالات اشتعال حرب كبرى بسبب تلك القضية.(35)  ودفعت روسيا بوحدات بحرية إلى السواحل السورية، (36)  ربما لردع التفكير بضرب سوريا من قبل الغرب، في الوقت الذي تتواجد فيه قوات بحرية أميركية أكبر في المنطقة، بضمنها حاملة الطائرات النووية الحديثة "جورج بوش"، كما تستعد السعودية بشراء صواريخ حماية (37). ورغم أن الصين وروسيا الرافضتين للعقوبات والتدخل الخارجي في سوريا، قد تمنعان قراراً من مجلس الأمن، إلا أن الولايات المتحدة لم تجد ذلك عائقاً بينها وبين إشعال الحرب في الماضي.(38)



(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9984
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9922
(3) http://www.al-akhbar.com/node/26581
(4) http://www.informationclearinghouse.info/article29863.htm
(5) http://www.al-akhbar.com/node/26581
(6) http://www.youtube.com/watch?v=6rHIkAc79tc
(7) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9972
(8) http://www.al-akhbar.com/node/16332
(9) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9964
(10) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9833
(11) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9922
(12) http://www.informationclearinghouse.info/article29859.htm
(13)  http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10154
(14) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=10011
(15) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9844
(16) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9975
(17) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9152
(18) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9820
(19) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9724
(20) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9644
(21) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9854
(22) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9783
(23) http://www.nobles-news.com/news/news/index.php?page=show_det&select_page=21&id=97308
(24) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9350
(25) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9943
(26) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9928
(27) http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/middleeast/syria/8917265/Libyas-new-rulers-offer-weapons-to-Syrian-rebels.html
(28) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=10057
(29) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9956
(30) http://arabic.rt.com/news_all_news/news/573264/
(31) http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11935&article=633888
(32) http://baretly.net/index.php?topic=4735.0
(33) http://www.nakhelnews.com/pages/news.php?nid=11921
(34) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10086
(35) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9819
(36) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9980
(37) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9920
(38) http://www.znobia.com/?page=show_det&select_page=3&id=9924


55
ملاحظات هامة عن انفجار البرلمان – هل العراق في خطر؟
صائب خليل
8 كانون الأول 2011

ملأت أنباء الإنفجار الذي وقع في مدخل مبنى مجلس النواب العراقي بعد انتهاء جلسة لاستجواب صابر العيساوي ، وسائل الإعلام في ا لأيام الماضية وسط جو متوتر من تبادل الإتهامات والشكوك. (1)
وسارع المتحدث باسم القائمة العراقية حيدر الملا إلى القول انه "استنساخ تجربة محاولات اغتيال الرئيس في زمن النظام السابق”(2) فرد اللواء قاسم عطا بأنه يفتقر إلى "الدقة الفنية".(3)
سارعت الكتل لإتخاذ موقف الضحية، فقال رئيس الوزراء نوري المالكي، أن التفجير كان يستهدفه،
وإن معلوماته تقول أن "السيارة تدخل لتبقى في مجلس النواب وتنفجر حين دخولي إلى مجلس النواب"،(4) وأيده اعضاء كتلته، مثل النائب كمال الساعدي، (5) وفعل رئيس البرلمان نفس الشيء وأيده أعضاء كتلته مثل الخالدي (6) وحامد المطلك و مستشار النجيفي آيدن حلمي (7) مبينا أن «السيارة التي يقودها الانتحاري .. نفس نوع ولون سيارات موكب رئيس البرلمان».(8)
وفي هذه الأثناء كان إياد علاوي يؤكد من جديد بأن إيران تسعى الى تصفيته والقائمة التي يتزعمها.(9)
وقال الصدريون أن "رؤوسا كبيرة" وراء الموضوع، وشككوا بأن الظروف الحالية ستقف حائلا أمام الكشف عن المتورطين الحقيقيين، أشاروا إلى احتمال تقديم الجهة المكلفة بالتحقيق اسماء لا علاقة لها بالحادث. وشارك معتمد السيد السيستاني في كربلاء، بأتهام "سياسيين".(5)

وانتقد عدد من النواب اعلان قيادة عمليات بغداد نتائج التحقيق قبل انتهائه، وعدّه البعض محاولة لافتعال ازمة.(10) وقالوا أن "مدة ثلاثة أيام غير كافية للوصول إلى النتائج النهائية". (6) وأكدت لجنة الأمن والدفاع البرلمانية، أنها ستقوم بمساءلة الذين أطلقوا التصريحات بشان تفجير البرلمان من دون تقديم أدلة.(5)

كذلك فأن مصادر قوية جداً وقريبة من الحادث يصعب إهمالها، تؤكد أن الموضوع كان قنبلة هاون وليس تفخيخاً، مثل النائبة عن كتلة الفضيلة سوزان السعد (1) والنائب علي الشلاه، الذي أكد "كنت وبعض من زملائي النواب على مقربة من التفجير" وانه "اتصل بعدد من الجهات الامنية التي اكدت ذلك وحددت مكان اطلاق القذيفة، وانا متأكد ان الانفجار حصل بقذيفة هاون لأننا لم نشاهد اي سيارة انفجرت بالقرب منا".(11)  في الوقت الذي يذهب فيه آخرون إلى تفاصيل معاكسة، يصعب تخيل كيفية توصلهم إليها كتأكيد المالكي أن المواد المتفجرت صنعت " داخل المنطقة الخضراء ولم تأت من خارجها". (4) بينما أكد اللواء عطا على العكس، أن "السيارة فخخت خارج المنطقة الخضراء"(12) فهل يأخذ كل من السيد رئيس الوزراء و الناطق عن قيادة عمليات بغداد معلوماتهما من مصادر مختلفة؟ وأنها لا تتعاون أو تتفق مع بعضها البعض؟ أم أنه سهو فقط؟

كذلك وضعت تساؤلات جدية أمام سلامة عملية التحقيق والهدف منها، فأشار عضو لجنة الامن والدفاع البرلمانية مظهر الجنابي إلى"ان عدم القاء القبض على مالك السيارة المفخخة او من كان في داره على الرغم من اقتحامها من قبل القوات الامنية، واعلان نتائج التحقيق امس قبل انتهائه دليل قاطع على تمويه الحقيقة وافتعال ازمة" (10). المتحدث باسم رئيس المجلس أسامة النجيفي اكد أن المستهدف من تفجير المركبة المفخخة كان النجيفي وليس رئيس الوزراء، لأن جدول المجلس لا توجد فيه أي استضافة لرئيس الوزراء، مطالبا عمليات بغداد بإعطاء أي دليل على محاولة المركبة دخول أو استهداف مجلس الوزراء ورئيسه.(12)
وقال عضو لجنة الامن والدفاع النيابية فلاح حسن "ان اي سيارة تدخل المنطقة الخضراء لايسمح لها بالبقاء لدقائق" و "أن رئيس الوزراء يحاول السيطرة على الاجهزة الامنية لوحده".(13)
ولم يشمل ذلك خصم التحالف العنيد، العراقية فقط، بل آخرين مثل محمود عثمان الذي قال أن "نتائج التحقيق في تفجير البرلمان التي أعلنت عنها قيادة عمليات بغداد مثيرة للعجب وغير صحيحة و لاموفقة"، مبينا أنه "لم يكن هناك أي نية بأن يأتي رئيس الوزراء إلى البرلمان لأن مجيئه كان مقررا بعد زيارته للولايات المتحدة". و "من غير المعقول أن تبقى السيارة المفخخة في البرلمان 12 يوما حتى يأتي رئيس الوزراء". وأتهم ضمناً لجنة التحقيق بأغراض سياسية.(5)
وكان لدى مقرر مجلس النواب محمد الخالدي وغيره تساؤلات مشابهة:" كيف يعقل ان تبقى سيارة واقفة في مرآب مجلس النواب لايام عدة، كما قال اللواء عطا، بوجود قوات امنية تتحرى حتى عن علبة سكائر مرمية في الطريق وتستقدم كلبا بوليسيا لهذا الغرض؟". وقال "ان حضور المالكي لم يدرج على جدول اعمال البرلمان لحد الان."(14)

والآن، لنتخيل أن المستهدف كان أسامة النجيفي، وأن هذه السيارة نجحت في الإختلاط بسياراته، فلماذا تختار الدخول إلى البرلمان لتقوم باغتياله؟ لماذا تختار أصعب المناطق أمناً لذلك؟ لماذا لم تنتظر خروجه لتنفجر ضمن قافلته؟ ولنتخيل الفرض الأكثر استحالة، وهو ان الهدف كما قاله السيد المالكي، بأن السيارة المفخخة كانت ستنتظره (حتى يعود من أمريكا!) في إحدى ساحات وقوف السيارات في البرلمان، ولنفترض المعجزة وأن حراس البرلمان لم يلتفتوا لها، فكيف كانت ستقتل المالكي، وما أدراها أن المالكي سيمر في تلك الساحة بالذات حين يأتي إلى البرلمان؟ وهل ينزل المسوؤلون الكبار أصلاً في ساحات وقوف السيارات؟
الطريقة الوحيدة الممكنة في هذه الحالة هي أن يكون التفجير كبيراً بحيث يشمل مساحة كبيرة تضمن أن يكون المستهدف فيها. لكن ما قاله المالكي نفسه عن القنبلة: "قوة انفجارها لم يكن قويا ولا يعادل 20 كغم من مادة الـ(تي ان تي) كونها تصنيع محلي يرجح أنها صنعت في المنطقة الخضراء"!(4)

ثم ظهر الناطق بأسم عمليات بغداد اللواء قاسم عطا، في التلفزيون (15) وقال أن وراء الحادث "مجموعتين من بغداد والأنبار". وقال أن "السيارة كانت تنوي الدخول إلى مجلس النواب والمكوث في إحدى الساحات الداخلية لحين حضور دولة رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة إلى مجلس النواب..وموعد الحضور اعتقد تناقلته أغلب وسائل الإعلام خلال الأيام الأربعة الماضية بأن دولة رئيس الوزراء سيحضر قريبا إلى مجلس النواب لغرض إطلاع السادة أعضاء مجلس النواب على جاهزية القوات الأمنية العراقية. التحقيق لازال مستمراً، والتحقيق يجري بإشراف قضاة ومجلس القضاء الأعلى..." ( وأن هناك تفاصيل أخرى طلب منه عدم الإفصاح عنها).

مبدئياً، لا أثق بقيادات الأمن، خاصة بعد فضيحة أجهزة كشف المتفجرات والدفاع عنها وإبقائها، وكان اللواء عطا واحداً منهم، وكذلك بعد جريمة كنيسة سيدة النجاة، وأفترض أن الإختراق قد يصل إلى اعلى الهرم الأمني، لذلك أدقق في كل ما يقولون بإمعان.
لاحظوا أن اللواء قاسم عطا، يشير بحذر إلى موعد يتركه مبهم لقدوم رئيس الوزراء، ولا يقول عنه سوى أن "الموعد" تناقلته وسائل الإعلام خلال أربعة أيام، ولا يذكر أنه سيكون بعد مدة طويلة وغير محددة، وبعد زيارة الولايات المتحدة، كما أشار عثمان وغيره من البرلمانيين، وفي تصوري لأن ذكر هذه الحقائق يجعله محرجاً في تفسيرها.

ثم عرض عطا فلم صورته كامرة البرلمان لتفجير سيارة سوداء عن بعد بواسطة الهاتف النقال، كما قال.
(وتحدث عن سيارة بيضاء) "دخلت من أجل أن تأخذ رئيس مجلس النواب بعد انتهاء الإجتماع، الحرس سأل السائق وسمح له بالدخول. الحرس رجع العارضة والسيارة الدسك رجعت مكانها.. وهو (يقصد سائق السيارة السوداء) "أضطر" إلى الرجوع إلى الخلف والوقوف بالساحة المقابلة للباب، وبعد الوقوف بـ 42 ثانية بالضبط تفجرت السيارة ، هسه راح يصير الإنفجار ...صار الإنفجار." (15)

لدينا بضعة ملاحظات عن الفلم وعن تعليق اللواء عطا. نلاحظ أولاً، كملاحظة عابرة، أن هناك قطع في الفلم بعد رجوع السيارة واختفائها عن النظر، وقبل حدوث الإنفجار، ويمكن ملاحظة هذا القطع بوضوح من خلال متابعة حركة المشاة. ربما يكون القطع بالفعل يمثل الأربعين ثانية أراد عطا توفيرها على المشاهدين، أو قد يكون أي زمن كان، وعندها لا يكون هناك أي علاقة بين السيارة والإنفجار.

ثانياً نلاحظ أن اللواء عطا حاول إعطاء انطباع بأن السيارة السوداء "حاولت" دخول أو اختراق بوابة مجلس النواب ، (دون أن يذكر ذلك حرفياً)، وأن الحرس منعوها وأنها "اضطرت" إلى الرجوع إلى الخلف، في الوقت الذي نلاحظ في الفلم ان السائق رجع ببساطة وكامل إرادته، وأن الحرس لم يمنعه بل لم يتحدث معه أو يقترب منه، وحتى أن مقدمة السيارة السوداء لم تستدر بشكل كاف يوحي أنها كانت تنوي دخول البوابة، حتى ولم يتحدث سائقها مع الحرس ليطلب منهم فتح البوابة!

إن كان ما قالته وكالة "أصوات العراق" دقيقاً، فأن مقرر البرلمان محمد الخالدي يكرر نفس النقل الخاطئ للحادثة، فقال يصف وضع سائق السيارة بعبارة " فشل في اقتحام البوابة الرئيسية" وأنه "كان يحاول اقتحام المبنى للدخول اليه ولكن سيارة همر عسكرية كانت واقفه بالعرض فضلا عن ان عارضة البوابة كانت نازلة مما دفع بسائق السيارة للرجوع الى الخلف وقام بتفجير نفسه داخل السيارة".(16)
والفلم يكشف أن هذا الوصف لا علاقة له بالواقع. فـ "الإنتحاري" المفترض لم يحاول أن "يقتحم" البوابة، فكيف "فشل في إقتحامها"؟ كذلك فإن السيارة الهمر كانت واقفة بعيداً في داخل منطقة البرلمان، ولا نتخيل أن مجرد وجودها، ودون أن تعترضه، قد أرعب "إنتحاري"! ولنلاحظ أن العارضة كانت مرفوعة والسيارة البوكس فتحت الطريق عند دخول السيارة البيضاء، ولم يحاول سائق السيارة السوداء الإستفادة من تلك اللحظة ولم يتقدم بسيارته خطوة واحدة، ولو للإيهام بأنه مع السيارة البيضاء. وعلى اية حال فوجود العارضة لا يدفع بأحد أن يفجر نفسه بدون حتى أن يحاول أن يطلب من الحرس أن يفتحوها. هل كان هذا الإنتحاري ينتظر أن يجد بوابات المجلس مفتوحة ومرفوعة العوارض وبلا سيارات حراسة لكي يدخل حتى دون أن يكلم أحداً أو تزعجه سيارة تقف بالعرض؟ ثم لماذا يرجع إلى الخلف ليفجر نفسه بعيداً عن ضحاياه، بدلا من أن يقتل منهم من يمكنه ذلك؟ إنه يذكر المرء بـ "إنتحاريي" كنيسة سيدة النجاة العجيبين الذين كانوا يذهبون إلى خلف ساتر بعيداً عن ضحاياهم، لـ"يفجروا أنفسهم" براحتهم!
وجاء أيضاً أن كمال الساعدي قال ان "السيارة المفخخة دخلت الى مجلس النواب عبر (باج) رسمي"، وان شركاء في العملية السياسية سهلوا مهمتها.(12) لكننا لاحظنا أن السيارة لم "تدخل إلى مجلس النواب"، ولم يكن هناك من سأل سائقها عن باج أو اي شيء، فمن أين هذا الكلام عن الجهات التي سهلت لها؟ ولماذا لم يحاول السائق إستعماله فعلاً لدخول البرلمان؟ وإن كان هناك خطأ، وأن كمال الساعدي قصد باج لدخول المنطقة الخضراء فقط، أما كان بإمكان هؤلاء "الشركاء" المخططين لعملية الإغتيال المزعومة، ومن ضمنهم رئيس البرلمان على ما أفهم من المقصود، أن يعطوا السائق باج يستطيع به دخول البرلمان؟

ورغم أن المالكي أكد "أن الجهات المسؤولة عن الحادث " يعادونني ويعادون رئيس مجلس النواب والبرلمان وكل العملية السياسية، وأينما أصابت بالنسبة لهم فهو فتح".(4) وأن اللواء عطا نفى "وجود ارتباط بين التفجير الذي وقع في البرلمان وما عثر عليه في مقر الحزب الإسلامي بمنطقة العامرية غرب بغداد". (12) إلا أن هذا الإرتباط وصل إلى أذهان الناس بشكل أو بآخر، وهو ما أشار إليه القيادي في الحزب الإسلامي سليم الجبوري وقال أن اللواء عطا "اراد ان يوحي ان ما حدث في مجلس النواب نتاج اعمال ارهابية حدثت في احدى مقرات الحزب الاسلامي."
وكرر ما قاله الحزب تكراراً بأن المكان الذي جرى فيه المؤتمر والذي اكتشفوا فيه الصاروخ، هو ملجأ العامرية وليس مقر الحزب الإسلامي، وأضاف " اللافتة التي تم عرضها ومكتوب عليها (التوافق مستقبلنا الامن) كانت شعارنا في انتخابات مجالس المحافظات وهذا دليل على قدم المسألة، ما يعني انها فبركة سياسية". (12)
والحقيقة أنه من الصعوبة تصديق قصة الصاروخ، وحتى بدون ملاحظة الشعارات، فهل من المعقول أن لا يجد حزب مكان يخزن فيه المتفجرات ويصنع فيه الصواريخ غير مقره؟ ولماذا يعترف "مجاهد" على أربعة من رفاقه وهو على وشك الموت ويفقد سبب إقدامه على هذا العمل الخطر، وفرصته في الجنة؟ إنني لا أؤمن بوجود الإرهابيين المجانين، ولا الشهود الذين لم يرهم احد يشهدون!

في هذه الأثناء كان الإعلام يركز الصورة الخاطئة عن عمد واضح فمثلاً نقلت وكالة "الفرات نيوز" عن "مصدر لم يذكر اسمه" (؟) أن "نقطة التفتيش الخاصة بالمرآب الخاص وحسب كاميرا المراقبة لم تسمح له بدخول المرآب مما حدا به الى الرجوع وبعد رجوعه انفجرت السيارة وقد وجدت فيها جثة الانتحاري متفحمة". وتابع (المصدر) أن" المؤشرات ايضا تشير الى وجود اشخاص معه بعيدين عن موقع الحادث هم من قاموا بتفجيره عن بعد وليس هو من قام بتفجير العجلة لكونه كان ينتظر خروج البرلمانيين لتفجيرها عليهم لكن خشيتهم من أن يتعامل معه ويكشف امره جعلهم يستعجلون التفجير ".(17)
يعني ليس هو من خشى التعامل معه، وإنما "الأشخاص البعيدين، وهم الذين أوكل لهم أن يقدروا الأمر من بعيد، وهم من "خشوا أن يتعامل (الحرس) مع السائق" فاستعجلوا الإنفجار! كل هذا علماً بأن هؤلاء الحرس لم يقتربوا من السائق...فكيف "خشى" هؤلاء البعيدين من أن يتعاملوا معه، وما الذي دعاهم للعجلة؟ أما "الوسط" فتنشر ما أسمته "ملفات مهمة وخطيرة تم العثور عليها من قبل القوات الأمنية مع عناصر من الحزب الاسلامي" وأحدها "لعملية تخطيط كاملة لاغتيال شخصية عراقية الا وهو الدكتور أحمد الجلبي من قبل الحزب الاسلامي."(!) ما الذي يعنيه الجلبي بالنسبة للحزب الإسلامي، وأي طموح لهم يقف الجلبي أمامه حائلاً، ليقتلوه؟ لا بل ويوثقوا خطتهم للجريمة بوثائق!(18)

عندما قتل الناشط هادي، أشار البعض إلى أحتمال أن من قتله أراد إثارة الفتنة ضد الحكومة. وربما كانوا محقين في ذلك، فهذا النوع من القتل شائع جداً، وما قتل الحريري وما جر ذلك لبنان إلى تعقيدات خطيرة إلا من ذلك النوع في تقديري، خاصة بعد افتضاح شهود الزور ومعلومات المحلل الإسرائيلي.

والآن، ما هي نتيجة هذه العملية الإرهابية "الفاشلة" في البرلمان؟ إنني اضع كلمة "فاشلة" بين اقواس، لأني أتصور أنها نجحت في الوصول إلى هدفها: نشر جو بين الشيعة يقول بأن السنة يتآمرون لقتل المالكي، وبين السنة بأن الشيعة يتآمرون لقتل النجيفي، وما على من خطط العملية إلا أن يقتل من يشاء منهما أو قريب منهما، لتكون ربما شرارة بدء الحرب الأهلية! لقد تم تحضير الجو لرد الفعل المناسب، وما بقي سوى تنفيذ عملية إرهابية حقيقية لينفجر البلد. إنني لا أبرئ هنا أحد من أية تهمة، ولا أقول أن أحداً فوق الشبهات، وإنما أشير إلى أن القصة مليئة بالثغرات التي تتطلب الوقوف عندها بأمانة للمراجعة. إن صحت التحليلات فهناك ليس فقط اخطاء، بل تشويه متعمد للحقائق أيضاً، ويتم دعمه بتشويه إعلامي مناسب يهدف على مايبدو إلى تهيئة الجو لإثارة فتنة أستناداً إلى إتهامات ومعلومات مليئة بعلامات إستفهام يتجنب المسؤولون مواجهتها، كما فعلوا في معظم قضايا الإرهاب الخطيرة حتى الآن!
ربما اختار اللواء عطا الرد على قول حيدر الملا دون غيره، ربما لعموميته، ولأن بقية التساؤلات المحددة الأهم، والتي لا "تفتقر إلى الدقة الفنية"، لم يكن من السهل الرد عليها.

نختتم بالإشارة إلى تحذير النائب "قاسم الاعرجي" ، عن معلومات لديه حول احتمال قيام الولايات المتحدة بالانتقام ممن تسببوا بإخراجها من العراق. فقال أنه من" الممكن ان تقوم امريكا بعمليات اغتيال في العراق بعد زوال قواتها، من خلال جواسيسها وعملائها الذين دربتهم لهذا الغرض وكذلك ستعمل على استمرار حالة عدم الثقة بين الكتل السياسية واثارة المشاكل السياسية والامنية لتجعل من العراق في حالة من عدم الاستقرار السياسي."(19)

ذلك التحذير ليس إلا الأخير من تحذيرات كثيرة لمسؤولين عراقيين من مواقف مشبوهة للإحتلال. وإن ربطنا ذلك بحقيقة أن الأجهزة الأمنية العراقية كانت من صنع أو بموافقة الإحتلال، وأنه كان قادراً على التخلص من أي قيادي فيها ووضع من يثق بأنه سيطيعه حتى النهاية، أدركنا خطورة الموقف وأن الأمر يتطلب تحقيقاً جاداً مخلصاً لا يستثني أحد، وبخاصة قيادات الأجهزة الأمنية، ومواجهتها بالأسئلة الصعبة بلا تردد، وعدم ترك أي شخص يتبين أنه تعمد الكذب أو التضليل، بلا تحقيق وعقاب صارم. اما إن كان التحقيق سيكون كما كان في اجهزة فحص المتفجرات التي تعمل بالشعوذة، وتفتضح وتبقى رغم ذلك، ويكشف أن رئيس محكمة الجنايات يستغل سلطة محكمته لحل مشاكله العائلية ويبقى في مكانه، وهو ما يحدث في هذا البلد حتى الآن، وتترك الأدلة الثمينة والفرص الكبيرة للإمساك بالشر، تضيع هباءاً، فأقول لكم أن المالكي في خطر، والنجيفي في خطر، وأهم من ذلك أن العراق وشعبه كله في خطر، وأنا أضع كل إنسان أمام مسؤولياته!

(1) http://ar.aswataliraq.info/(S(ajs3tiyojb1idnnnynnatg55))/Default1.aspx?page=article_page&id=288366&l=1
(2) http://www.albawwaba.net/news/61836/
(3) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10095
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10001
(5) http://www.babil.info/thesis.php?mid=34616&name=axbar
(6) http://alsumarianews.tv/ar/1/32369/news-details-.html
(7) http://www.albayan.ae/24-hours/2011-11-30-1.1546547
(8) http://www.albayan.ae/24-hours/2011-11-30-1.1546547
(9) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10074
(10) http://www.uragency.net/ur/news.php?cat=news&id=6468
(11) http://ar.aswataliraq.info/(S(anpepv45dwmd5q55dfehqs45))/Default1.aspx?page=article_page&id=288372&l=1
(12) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10023
(13) http://www.almowatennews.com/news_view_31026.html
(14) http://www.uragency.net/ur/news.php?cat=news&id=6466
(15) http://www.youtube.com/watch?v=3fkq8oNCS04&feature=player_embedded
(16) http://ar.aswataliraq.info/(S(qcv4c355jxdyxizv1c01s1j5))/Default1.aspx?page=article_page&id=288380&l=1
(17) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=9872
(18) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10035
(19) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10089


56
هل تم تكليف العراق بتحطيم أوبك؟

صائب خليل
17 تشرين الثاني 2011

من نافل القول أن ثروات أي بلد، هي زورق نجاته ووسيلته إلى حياة كريمة لشعبه ومستقبل أجياله، خاصة في وضع دولي شديد الإضطراب كالذي نعيش فيه، ولكن من نافل القول أيضاً أن هذه القاعدة البسيطة قلما تجد طريقها إلى التطبيق، خاصة في عالمنا العربي، وبالتأكيد ليس العراق استثناءاً من ذلك.

لو تابعنا السياسة الإقتصادية النفطية للعراق، لوجدنا خللاً كبيراً، فالحكومة تبدو مثقلة بالإضافة إلى صراعاتها الداخلية، بمصارعة الضغوط الهائلة في معركة مصيرية أمام تحالف الشركات الكبرى وحكومة كردستان التي تلقي بكل ثقلها لدعم الشركات من أجل تحطيم إرادة الحكومة وفرض العقود المجحفة التي تحاول الشركات العملاقة فرضها على العراق.

من جهة أخرى لم تقدم الحكومة خطة إقتصادية إستراتيجية مقنعة يلتف حولها الشعب. وبدلاً من ذلك، يفاخر المسؤولون بخطط لرفع "الإنتاج" إلى أرقام قياسية. وتشرح عناوين الصحف توجه الحكومة مثل: "بغداد تتطلع إلى منافسة الرياض في إنتاج النفط الخام."
وعدا الحقائق التي تبين الفارق بين العراق والسعودية التي وصلت إلى هذه المرحلة بعد 70 عاماً، من التطوير الذي شمل البنية التحتية وبناء المصافي وشراء الناقلات، فإننا نتساءل: ما الذي كسبته السعودية من هذا "الإنتاج" البالغ لكي يقتدى بتلك السياسة؟ وأين ذهبت أموال تلك الثروات الهائلة التي تم ضخها؟  لقد ذهبت لدعم بنوك أميركا وإنكلترا في أزماتها، وشراء ترسانة هائلة من الأسلحة لهدف غير واضح، فلماذا يريد العراق السير في طريق هذه نتائجه؟

في الماضي كتبنا عن تعامل حكومة إقليم كردستان السيء مع ثرواتها النفطية، حيث لجأت إلى مختلف الحيل لحرمان شعبها من قيمة ثروته، ومنها تسجيل المناطق المستكشفة كمناطق إستكشافية، لتتمكن من تسليمها إلى الشركات بعقود زهيدة، ثم قامت بتوقيع عدد كبير جداً من العقود في زمن قياسي، وكأنها لص يسارع إلى لملمة ما خف حمله وغلى ثمنه قبل ان يطلع عليه النهار. واليوم يتكرر المشهد على مستوى العراق:
"الحكومة المركزية "تركض" لتوقيع العقود النفطية والغازية. حيث أن عدد العقود التي وقعتها الحكومة المركزية قد بلغت (15) عقدا خلال أقل من عامين (في دورات التراخيص الثلاث)، ويتوقع أن توقع (12) عقداً آخراً في الربع الأول من عام 2012، مقارنة بـ (25) عقداً قد وقع في إقليم كردستان خلال أربع سنوات، ولكن ما وقع من العقود في إقليم كردستان العراق كان لاحتياطيات محدودة، أما ما وقع في الوسط والجنوب فهو لاحتياطيات عالية قد تصل إلى 70% من الاحتياطي النفطي للعراق". – فؤاد الأمير (*)
تبدو الحكومة مشغولة في سباق مع السعودية وكردستان أكثر مما هي مشغولة بتخطيط ستراتيجي للإقتصاد، والسؤال الذي يجب التركيز عليه هو: ما هو مستوى "الإنتاج" المناسب للخطة الإقتصادية للبلد؟ كم سنة سيبقى النفط في العراق في هذه الحالة؟

إني أضع كلمة "إنتاج" بين علامات اقتباس، لأن "إنتاج النفط" الخام ليس إنتاجاً في رأيي، وإنما هو سحب من الرصيد النفطي. فإن كان يصح إطلاق عبارة "إنتاج نفط" على استخراج النفط من الأرض، فيجب أن نسمي سحب الجبن من الثلاجة "إنتاجاً للجبن"، في الوقت الذي هو أستهلاك و "صرف" له، سواء أكلناه مباشرة أم بعناه واستهلكنا ثمنه. لذلك سأستعمل كلمة "إستخراج"، وهي عبارة أكثر أمانة على المعنى لكي لا أسهم في التشويش الذي تثيره كلمة أختيرت لتقلب الحقيقة.

يعود التآمر على نفط العراق إلى ما قبل الإحتلال الأمريكي بفترة طويلة، ثم نشط بشكل كبير قبيل الغزو بقيادة رايان كروكر الذي أصبح فيما بعد سفيراً للولايات المتحدة في العراق، وكان الهدف تسليم النفط العراقي إلى الإستثمارات الأجنبية وفق عقود المشاركة. وهي السياسة التي تبناها رئيس الوزراء الأول الذي اختارته الولايات المتحدة للعراق، الدكتور اياد علاوي ونشرت في "ميدل إيست إيكونومكس سيرفي" و "الغد" البغدادية في أيلول 2004 بعنوان "علاوي يضع الخطوط العامة للسياسة النفطية الجديدة" والتي أكد فيها على عقود مشاركة الإنتاج، والتي تصدينا لها بمعية خبراء نفط عراقيون وأجانب، فأفلت العراق (وليس كردستان) من المرحلة الأولى من المؤامرة على نفطه...

لكن الدورة الثانية من العقود فاجأت الجميع باستهداف العراق لـ "استخراج" ما يتجاوز (12) مليون برميل/اليوم بدلاً من (6 م ب / اليوم) ، وهي الكمية المعقولة المعتمدة على حاجة وإمكانيات العراق، والتي كانت مخططة سابقاً. وتعني هذه الزيادة ضمن ما تعنيه انخفاض عمر النفط العراقي من 163 عاماً الحالية، إلى ثلاثين عاماً فقط.

من ناحية أخرى، فأن دورات التراخيص تعني عملياً إقتراض العراق أكثر من (150) مليار دولار، وبفوائد تزيد 5% على الفائدة المصرفية (نظام فوائد لايبر)، اي ما يزيد عن عشرة أضعاف الفائدة المصرفية الحالية. نصف هذه المبالغ مخصص للمشاريع الخاصة برفع الإستخراج إلى الحدود القصوى الجديدة التي يرى الخبير فؤاد الأمير " أن لا فائدة (..منها)، بل بالعكس كلها ضرر". وأنها " ستكون كارثة على العراق سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية." وهو ما يذكر بكتاب جون بيركنز الشهير: "اعترافات قاتل اقتصادي Confessions of Economic Hit Man" ($) والذي يشرح فيه اساليب السيطرة على الدول من خلال إغراقها بالديون في أمور لا تحتاج إليها.

بقيت عقود التراخيص سرية ولم يعرف محتواها بالكامل، لكن ما تم كشفه يبين أن في نصوص العقود مواداً تحدد طريقة تعامل الحكومة العراقية مع الشركات ومرجعية تحكيمها، وهو ما جعل صحيفة الغارديان البريطانية تنشر تقريراً في تموز الماضي قالت فيه أن شركة النفط البريطانية بريتيش بتروليوم BP قد أحكمت قبضتها على الاقتصاد العراقي عقب موافقة الحكومة العراقية على دفع تعويضات للشركة حتى في حال توقف إنتاج النفط في حقل الرميلة العراقي، وأن تعديلات جرت على العقود تجعلها تؤثر في القرارات السياسية التي تتخذها الحكومة العراقية فيما يتعلق بمنظمة أوبك.

وتحتوي العقود الجديدة، على نصوص (الفقرة 12) تلزم العراق باستمرار استخراج أقصى طاقة ممكنة من حقوله، وأنه إن أراد خفضها، أو حتى فشل في توفير مستلزماتها، فعليه تعويض الفرق في أسرع وقت ممكن بزيادة لاحقة في استخراج النفط عن المقرر، وإلا فهو ملزم بدفع تعويضات عن كل ما "تخسره" الشركات من جراء ذلك الخفض.

ومن الجانب السياسي، يتوقع أن يكون لهذه الستراتيجية أثر مدمر على أوبك وتوزيع حصصها. لقد كانت حصة أوبك من النفط الخام في 2010 (29,3) مليون برميل/اليوم، ولديها فائض مقداره ما بين (6-7) مب/ي. وبسبب حساسية سوق النفط فأن أية زيادة إضافية قد تسبب أنهياراً في الاسعار. ولفهم حساسية سوق النفط للعرض، نشير إلى دراسة للدكتور اياد القحطاني (#) من جامعة كولورادو تبين أن زيادة استخراج النفط بنسبة 2.5% تتسبب في انخفاض في اسعاره بنسبة 3.8% ، اي أن كمية اكبر من النفط لها عائد أقل!

حتى عام 2020 ستزداد حصة أوبك بمقدار 3,9 مب/ي عن 2010. ولو أعطيت كلها للعراق، (وهو أمر مستبعد) لأصبحت حصته حينها (6,2) مب/ي، وهو رقم بعيد عن خطته للوصول إلى (13,5). وهكذا ستجد الحكومة العراقية نفسها أمام حلين "أحلاهما مُر":
أما القبول بمخصصات أوبك، ودفع تعويضات مستمرة عن الفرق الكبير للشركات أي التعويض عن نقص ما قد يزيد عن (6) م ب/ي  من الاستخراج، بالإضافة إلى دفع كامل استحقاقات الكلف الاستثمارية والتشغيلية، أو تجاوز حصتها في أوبك، واستخراج ما تتطلبه منها العقود،  وهو ما قد ينتج عنه تسابق بين الأعضاء في زيادة وتجاوز الحصص، وبالتالي تفكك المنظمة أو حلها بالكامل!

لقد كانت تحطيم الأوبك دائماً هدفاً سعت الولايات المتحدة إلى تحقيقه منذ زمن، وكان آخر ما كشف عنه، ما نشره "كريك بالاست Greg Palast" من (323) صفحة من الوثائق السرية عام 2005  حول مقترح للمحافظين الجدد للرئيس بوش الابن لدفع العراق لتتجاوز حصته في أوبك كثيرا، بأمل الوصول إلى انهيار الأسعار وتفكيك أوبك.
لقد فشلت تلك الخطة في حينها، لكن أصحابها لم ييأسوا بعد على ما يبدو.نتمنى أن تعود بغداد عن سياستها المدمرة لثروتها، وأن لا تتحول بغداد من عضو مؤسس أساسي في الأوبك عام 1960 إلى محطم لها!

(*) نشرت المقالة في صحيفة "الأخبار" اللبنانية، واعتمدنا فيها على دراسة الأستاذ فؤاد الأمير "نظرة في دورات التراخيص النفطية والغازية".
http://www.albadeeliraq.com/article16756.html

($) http://www.youtube.com/watch?v=yTbdnNgqfs8

(#) http://www.iaee.org/en/students/best_papers/Al-Qahtani.pdf

57
أميركا في المنطقة.. بصمات جرائم أم أخطاء؟

صائب خليل
21 تشرين الثاني 2011

أعتذر السفير الأمريكي في بغداد جيمس جيفري للساسة وزعماء العشائر العراقية في جنوب العراق عن "خطأ" أمريكا "بعدم دعم" ادارة بوش الاب لهم خلال الانتفاضة الشعبانية عام 1991 ، حسب صحيفة نيويورك تايمز. واضافت الصحيفة ان موقف بوش الاب كان شديد القسوة بالنسبة للعراقيين عندما شجع علنا الثورة ضد نظام صدام ثم امر القوات الأمريكية بالوقوف جانبا حين قمعت من قبل طائرات صدام حسين وفرق الاعدام في حمام الدم الذي حصد عشرات الآلاف من الأرواح. (1) الحقيقة هي أن إدارة بوش الأب لم "تقف جانباً" بل دعمت حينها صدام حسين مباشرة ومنعت إسقاطه (2)

، وبالرغم من ذلك فإننا نتفق مع الصحيفة حين وصفت القرار بأنه "خطوة غير عادية للغاية".
ففي مقولة مشهورة للرئيس السابق جورج بوش الأب عندما كان في إدارة ريكان، حين حوصر بحقائق إسقاط سفينة حربية لطائرة ركاب إيرانية بركابها في المياه الإقليمية الإيرانية: "لن أعتذر عن أميركا. لا تهمني ما تكون الحقائق"!(3). لإيضاح موقف أميركا من الإعتذارات نذكر أنها قبلت أن تدفع تعويضات لضحايا جريمتها دون تقديم اعتذار أو أن تعترف بها رسمياً ! (4)  كذلك نذكر الرفض المضحك للرئيس كارتر من الدعوة للإعتذار للشعب الفيتنامي عن الأهوال التي تسبب بها الأمريكيون له فقال أنه لا مبرر للإعتذار ، فالضرر كان "متبادلاً"!!

مقاومة الإعتذار حتى آخر نفس، هو السياسة الأمريكية العامة، ومع ذلك، فعندما تصر "حقائق" الجريمة على فرض نفسها، فقد لا توجد طريقة افضل من تحويلها إلى "خطأ" وتقديم اعتذار عنها، كما اعتذرت أمريكا مؤخرا عن إجراء تجارب مرض الزهري التناسلي على سكان غواتيمالا، تم خلالها نقل عدوى المرض لمئات منهم في الأربعينات من القرن الماضي دون علمهم. (5) . لكن ذلك الإعتذار احتاج إلى 60 عاماً ليرى النور.

ولعل السبب في مقاومة الأمريكان للإعتذار هو انهم يخشون أن يفتح هذا باباً واسعاً على أنفسهم يصعب غلقه، فلماذا اعتذرت أميركا للعراقيين، وكما يقولون - لماذا الآن؟ هل "شعرت أميركا بالذنب" فجأة بعد عقود، وتريد الإعتذار عن خطأ غير مقصود، أم أنها تريد تحييد ما يمكن تحييده من جبهات للتركيز على المهم الآن: سوريا وإيران، مثلاً؟ لا نتصور أن الأمر صدفة ان تتزامن مثل هذه الإعتذارات و تصريحات كلنتون الغريبة المتأخرة عن ثورة البحرين و "دعم" ثورة مصر وتونس، عن الوقت الذي يبلغ فيه التوتر مرحلة حاسمة بين أميركا من جهة وسوريا وإيران من الجهة الأخرى.

لنعد قليلاً إلى تاريخ "الخطأ" الذي تريد أميركا الإعتذار عنه للعراقيين. كانت أميركا قد اختارت أن تحمي الشمال دون الجنوب. فالشمال سيصبح في واقع الحال دولة منفصلة قريبة من إسرائيل تماماً مثل جنوب السودان، وهذا يناسبها، أما في الجنوب العراقي، فالأمر مختلف. لذلك تركت لصدام فقرات في اتفاقها معه، تتيح له ما يحتاجه لكي يضرب الإنتفاضة الجنوبية بكل حرية وخاصة في النص الذي يمنع صدام من استخدام الطائرات ثابتة الأجنحة (دون غيرها). والعبارة منتقاة بدقة لتسمح له باستخدام السمتيات، السلاح الفعال الوحيد الذي يحتاجه لمواجهة الإنتفاضة. وكذلك أمتنعت عن تسليم المنتفضين أسلحة الجيش العراقي المحجوزة، وبالمقابل قامت القوات الأمريكية بتجهيز صدام بالوقود الذي كان يحتاجه لتلك السمتيات والآليات العسكرية لتمكينه من النجاة وتنفيذ مجزرته بحق المنتفضين، كما قال شهود كثيرون.

يشعر المرء أنه بحاجة إلى أن يكون في غاية "حسن النية" ليعتقد أن تلك السلسلة من القرارات المنسجمة المتناسقة تمثلاً "خطأ" أو"زلة" للسياسة الأمريكية يمكن محوها من التاريخ بـ "إعتذار". ويمكن للعراقي أن يتذكر المزيد مما يمكنه أن يضيفه من تاريخ العلاقة الأمريكية العراقية لدحض أسطورة "الخطأ" هذه. حل الجيش العراقي كان "خطأ" أمريكي، وترك الحدود مفتوحة كان "خطأ" واستدراج "القاعدة" كان "خطأ" وجرائم الفلوجة والنجف والرمادي ومدينة الصدر وو...كلها "أخطاء". هذه الأسطورة صارت لكثرة استعمالها في الإعلام في تحويل الجرائم المتعمدة إلى أخطاء، توحي بأن أميركا لا تكاد تفعل شيئاً إلا وكان خطأ! وكأن القائمون على الإدارة الأمريكية متخلفون عقلياً، ليفسر كل شيء مدمر بأنه "خطأ".
يستند داعموا اميركا إلى أن ليس هناك إنسان أو دولة لا تخطئ. وهذا صحيح، لكن حين تخطئ دولة كبرى بهذا الكم وبهذا الشكل المنسجم، فهو امر يدعو للريبة. حتى بطل العالم في الشطرنج يخطئ، لكنه إن كان يكاد يخطئ في نصف دسوته ، وأخطاء يمكن لمبتدئ ان يراها، فالأمر يدعو للريبة. وأميركا لها من المقومات ما يجعلها اقل من يمكن ان يخطئ من دول العالم قاطبة. فهل تاريخ اميركا في المنطقة تاريخ من"الأخطاء" ام من الجرائم؟

كانت أميركا من اتى بحزب البعث إلى السلطة (بل وتأسيسه، وفق العديد من المصادر) ودعمه في كل المراحل حين كانت بحاجة إليه لضرب الشيوعيين. وفي الثمانينات لم تتردد في تشجيع صدام حسين على إشعال حرب إيران ودعمه بالأسلحة المختلفة والدعم السياسي حين احتاج اليه (في موقف الأمم المتحدة من مجزرة حلبجة مثلاً)، ثم حين كانت السياسة الأمريكية – الإسرائيلية تتطلب إدامة الحرب لأطول فترة ممكنة، كان الأمريكان يوازنون بين المتحاربين فيدعمون الجهة المهددة بالهزيمة دائماً، خاصة بمعلومات الأقمار الصناعية، ليوقفونها على أقدامها لتستمر الحرب.
بعد حرب إيران أدخلت أميركا العراق في فخ الكويت، كما كشفته الوثائق الخاصة بالسفيرة كلاسبي ومجمل التصريحات الأمريكية في ذلك الوقت، والتي كانت بمثابة إعطاء الضوء الاخضر لصدام لدخول الكويت بعد محاصرته إقتصاديا بتخفيض اسعار النفط. (ابريل غلاسبي كذابة – للكاتب (6) )، ولا يجد الناطق باسم البيت الابيض ما يقوله عن التهديد العراقي سوى أن اميركا ليس لها معاهدة دفاع مشترك مع الكويت، لينقلب الخطاب الأمريكي 180 درجة لحظة سقوط صدام في الفخ ودخوله الكويت وتدق طبول الحرب. وقد سعت أميركا حينها أن تمنع بأي شكل ممكن تجنب الحرب، حتى أن كولن باول قال ان السيناريو الأسوأ أن يخرج صدام من الكويت بعد أن يضع فيها حكومة عميلة له، وهو ما عقب عليه المفكر جومسكي بالقول: "اي أن يفعل صدام كما فعلت أميركا في بنما" قبل اسابيع من ذلك التاريخ. ولتؤلف القصص من أجل خداع الكونغرس وإقناعه بالهجوم بسرعة وقطع الطريق على اية فرصة لإجبار صدام على الإنسحاب دون حرب، ومنها قصة حاضنات الأطفال الخدج. (7)
فهل أعتذرت الإدارة الأمريكية عن كذبتها على برلمانها ووممثلي شعبها نفسهم؟

كل هذه ، تفاصيل سياسة منسجمة، يصعب أن نسمي أي منها أنه "خطأ"، فـ "الخطأ" هو التصرف الطارئ المفرد، الذي لا يتكرر نوعه إلا نادراً، ولا ينسجم مع الهدف والخط العام للسياسة في دولة ما.
وبالطبع هذا ما يحاول الإعلام الأمريكي تصويره ، فجرائم الجنود الأمريكان التي لا تحصى في العراق كانت "خطأ" "لاينسجم مع أخلاق ومبادئ...الخ" ، وما حدث في سجن ابو غريب كان "لا ينسجم مع كذا...".
اليوم قرأت عن اعتذار أمريكي ولكن بشكل طريف مبتكر، عن "حادثة" عفوية أخرى "قالوا عنها أنها لا تنسجم". فقد نشرت صور لجنود أمريكيين في أفغانستان، في إحداها يظهر جندي يحمل سيجارة في يده وفي الأخرى يمسك برأس رجل ملطخة بالدماء، وبقية الصور مثل ذلك وتبين أن الجنود قتلوا افغاناً مدنيين لغرض التسلية (حسبما جاء في الخبر)، مثلما تسلوا أحياناً في العراق ب "صيد الديكة".
الطريف في الموضوع أن الإعتذار لم يكن للأفغان بل للجنود الأمريكان، الذين أساء لهم نشر تلك الصور! فقال بيان الجيش: إنّ الأفعال التي شُوهِدت في الصورة "تُثِير اشمئزازنا كبشر وتتناقض مع معايير وقيم الجيش الأمريكي". و .. تتناقض بشكل كبير مع الانضباط والمهنية ولاحترام التي اتّسم به أداء جنودنا خلال نحو عشر سنوات من العمليات المتواصلة". (8)
كان البيان أقرب لإمتداح الجنود الأمريكان منه إلى الإقرار بجريمة..أو حتى "خطأ". لو لم تكن هناك "صور" لما كان هناك ما يدعو لأي بيان أو اعتذار. المشكلة في الصور. عندما نشرت صور  أبو غريب كان رد فعل رامزفلد بنفس الإتجاه تماماً، فقد كان غاضباً بشدة على من التقط الصور، ثم أعقب ذلك بعد ايام بتعليق يزيل به انطباع تعليقه الأول ويؤكد أن المشكلة ليست في الصور (دون أن يسأله أحد).

هل من المهم أن نعرف إن كان ما يحدث خطأً أم جريمة متعمدة؟ نعم، فعلى ذلك يعتمد الموقف من اميركا، فالخطأ لا ينتظر أن يتكرر، أما الجريمة المتعمدة، فتمثل أخلاقية معينة وايديولوجية معينة، وهي تهدد بالتكرار كلما وجد المجرم الظرف مناسباً من جديد ليكررها، إن لم يكن الظرف الحاضر، فربما المستقبل.

لا يقتصر الجهد الإعلامي لتحويل الجرائم الأمريكية إلى أخطاء على الإعلام الأمريكي الخارجي و "ملحقاته" بل ينشط على المستوى الداخلي أيضاً. فالشعب الأمريكي شعب طيب لا يقبل أن تقوم حكومته بارتكاب الجرائم التي تدمر شعوباً صغيرة لا حول لها ولم تعتد عليها إلا في قصص لا برهان عليها ومليئة بالشكوك، يتم توسيعها كما تشاء اميركا لتشمل كل البلدان التي من مصلحة الشركات الأمريكية الإعتداء عليها. وقد تربى الشعب الأمريكي على صورة ان بلده راع للخير والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، وكلها خرافات ضرورية للصورة العامة التي احتاجتها الحكومات الأمريكية لصنع وحدة شعبية لدعم سياساتها. وقد استعمل الإعلام الأمريكي للشركات نفس الخطة في حربه ضد إضرابات العمال ونشاطات اليسار الامريكي بابتكار إعلامي سمي بـ "وصفة وادي موهاوك" (Mohawk Valley formula)  (أنظر: “الرنين الإعلامي”: كيف يجعلونا نقبل اخباراً غير معقولة؟ - للكاتب (9) )

الحفاظ على هذه الصورة الوهمية الضرورية ليس سهلاً ، وأحياناً تضطر أجهزة الإعلام إلى التضحية بشخصية ما بالقاء كل اللوم عليها في "الخطأ". ويحاول الإعلام أن تكون تلك الشخصية أصغر ما يمكن. فـ "خطأ" فضائع أبو غريب، تحملته مجندة أمريكية ساذجة، قيل انها ادخلت الكلاب البوليسية وأدوات التعذيب مع صديقها وحدهما دون تعليمات!
 لكن "كبش الفداء" الصغير ليس متوفر دائماً، لذلك فأن"خطأ" التصريحات الأمريكية التي شجعت صدام على دخول الكويت ألقي على السفيرة كلاسبي، وألقي "خطأ" ذبح الإنتفاضة على جهات متعددة مدنية وعسكرية من إدارة بوش الأب إضافة إلى بوش نفسه.
أحياناً يحتج هذا "الكبش" على التضحية به، إن استطاع. مجندة سجن أبو غريب تم تحطيمها نفسياً، كما شكت في مقابلة مع التلفزيون الهولندي، لكن  السفيرة السابقة كلاسبي كانت أصلب، فهددت بـ "كشف الحقائق" إن لم يتوقف الإعلام عن الهجوم عليها. رغم أنها كانت ومازالت ممنوعة من التصريح بأي شيء ، وحتى اليوم ،وبعد عقود من انتهاء القضية! (10)

لعل خير ما قرأت عن "خطأ" ترك صدام ينجو من عاصفة الصحراء، ما كتبه "فريد زكريا" بعد فترة وجيزة من "عاصفة الصحراء" في مجلة نيوزويك بعنوان "سافل بغداد" (The Villain of Baghdad )، وكان مدير تحرير الشؤون الخارجية في المجلة, كتب يقول:

"نعم هناك اغراء بالتخلص من صدام, لكن الحقيقة هي انه يخدم المصالح الامريكية"
"لو ان صدام حسين لم يوجد, لكان علينا ان نخترعه. انه مسمار تثبيت السياسة الامريكية في الشرق الاوسط. لولاه لكانت واشنطن تتعثر في رمال الصحراء."
"وأهم من كل ذلك, لولا القلق من صدام حسين, لنمت مشاعر العداء لامريكا في الشوارع العربية".

لنقف لحظة عند هذه الفكرة. إنها تقول حين تطلق كلبك لينهش الآخرين، لن يكرهوك كما قد تتصور، بقدر ما سينظرون إليك كأملهم الوحيد بتخليصهم منه. هذا الأمل القوي المتسلط على التفكير، سيحول دون أن تنمو "مشاعر العداء" تجاهك بين ضحايا كلبك.
ونجد انعكاس هذه النظرية واضحاً بين بعض العراقيين الذين يركزون على ان "أمريكا أنقذتنا من صدام"، فتلك فكرة شديدة السيطرة على الذهن، ويرفضون حتى النظر إلى الحقائق التي تقول أنه لولا أمريكا لما كان هناك صدام. لقد أنقذتنا منه وهذا هو المهم.
ولدى الكرد تجد مشاعر مشابهة. إنهم يعشقون أميركا التي خلصتهم من صدام ايضاً، ويرفضون النظر حتى في الوثائق التي تبين ان أميركا كانت قد دعمت صدام في حروبه على الكرد، وبشكل خاص في موضوعهم التاريخي الرمز، جريمة حلبجة. إنهم يفضلون أن يربطون بين العربي الذي كان يشاركهم تحمل اضطهاد صدام حسين، على لوم الأمريكي الذي كان يدعم صدام حسين في جريمته، فمن المهم نفسياً أن تبقى صورة اميركا نقية.
الإنسان يتجنب مثل هذه الحقائق المتعبة، فهي تتركه في عالم صعب بلا "صديق" لذا فهو يخترع من اعدائه أصدقاءاً إن تطلب الأمر. الأمل القوي كالخوف القوي، يحجب الحقائق الصعبة. بهذه الطريقة فقط يمكن أن تفسر الرغبة غير المنطقية الحالمة بصداقة أميركا في هذه المنطقة من العالم لدى البعض.

يعلق فريد زكريا في بقية مقاله على لوم بوش الاب لانه " فشل" في التخلص من صدام في حرب عاصفة الصحراء فيقول:
"ليست السياسة الخارجية ضربة مفردة, بل عملية مستمرة. ان ادامة تواجد امريكي طويل الامد في الخليج امر صعب في غياب تهديد محلي".
"لكثرة مشاكله, فان الشرق الاوسط بوجود صدام مقلم الاضافر, لكن القادر على التهديد, يساعد على تأمين مصالح اميركا".
"تخيلوا مصير السياسة الامريكية في الشرق الاوسط, بدون صدام حسين وحركاته".

لاحظوا صراحة فريد زكريا المطلقة في ما يقول. ليس من الصعوبة ملاحظة أن هذه "الصراحة" ليست ثراءاً أخلاقيا بل قلة أخلاق. إنه ببساطة لا يرى في كلامه مشكلة اخلاقية تمثلها المآسي والآلام التي تستجلبها مثل هذه السياسة والجرائم التدميرية الشاملة للشعوب التي ترافقها دائماً، والتي سيتوجب على الإعلام ان يرممها بشكل "أخطاء" ليقلل قباحة الوجه الأمريكي بقدر ما يمكن.

لم تقتصر "أخطاء" أميركا في العراق على دعم صدام في حروبه وفي ضرب الإنتفاضة وغيرها من الجرائم المباشرة، بل قامت أميركا بتسليم منتفضي 91 إلى صدام حسين بتخطيط متعمد مثلما سلمته في الماضي أسماء ضباط الذين أرادوا التآمر عليه فوثقوا بها وكانت نهايتهم المأساوية. ربما كان هؤلاء ايضاً يعتقدون ان جرائم سياسة أميركا ليست سوى "أخطاء" طارئة، وأنه يمكن الإعتماد عليها، أو كانوا يأملون ذلك فدفعوا الثمن غالياً. وحتى اليوم، مازال البعض يتأملون مثل ذلك الأمل الخطر.

(1) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=9078
(2) http://www.alternet.org/world/49864/?page=entire
(3) http://www.alternet.org/story/17846?page=2
(4) http://en.wikipedia.org/wiki/Iran_Air_Flight_655
(5)  http://www.shms.com.sa/html/story.php?id=111474
(6) http://www.yanabeealiraq.com/politic_folder/sayb-khalil250308.htm
(7) http://whatreallyhappened.com/RANCHO/LIE/HK/HK_IRAQ.html
(8) http://vb.tanseerel.com/showthread.php?t=6414
(9) http://www.doroob.com/archives/?p=16538
(10)http://www.informationclearinghouse.info/article11376.htm


58
تداعيات وإيضاحات حول مقالة "المثقفون المخنثون"

صائب خليل

14 تشرين الثاني 2011

أثارت مقالتي عن المثقفين المخنثين (1) الذين يتجاهلون الحقائق، حتى تلك التي تفيدهم، استسلاماً لما يقول الإعلام السائد ومن يقف وراءه ، أثارت بعض ردود الفعل المعتدلة أحياناً والعنيفة احياناً أحياناً أخرى. وفي الوقت الذي أؤكد فيه استمرار وقوفي خلف الفكرة العامة للمقالة، فإني لا انكر الوقوع في خطأ التعميم الذي لا يأخذ بنظر الإعتبار وقوع الغالبية العظمى من المثقفين تحت التأثير الإعلامي القوي، والقادر على إقناعهم بما هو خطأ والذي يحتاج المرء إلى أستقلالية تفكير عالية جداً ليفلت من الإطار العام الذي يضعه فيه، وبالتالي فأن الجبن لا ينطبق على الكثيرين ممن كتبوا عن الموضوع ضمن الإتجاه العام، وإنما كانت تلك قناعتهم ورؤيتهم وتحليلهم للمعطيات التي قدمها لهم ذلك الإعلام، وكلنا نقع تحت تأثير الإعلام بدرجة أو بأخرى. وقد تسبب هذا الخطأ المؤسف بتجريح مثقفين بعيدين تمام البعد عن تلك التهمة، وأسيء فهم المقالة احياناً، ولذلك أكتب هذه المتابعة لها لتوضيح الأمر.

كانت المقالة موجهة بشكل عام، للكتاب الذين يصرون على توجيه الإتهام إلى الإسلام (الذي يضيفون إليه عادة كلمة "المتطرف") في جريمة كنيسة النجاة، بالرغم من وجود حقائق مثبتة بشكل جيد، بأن الأمر ليس كذلك. وقد أثار الموضوع في ذهني أحد الأخوة المسيحيين في نادي شطرنج على الإنترنت، مطالباً المسلمين بالإعتراف بأنهم من نسل إرهابي وتحدث عن غزو قريش للعراق ووحشية المسلمين في كل مكان وتعاليمهم الدموية، وحين رد عليه البعض وكنت منهم، أجاب بأنه لا يذكر سوى حقائق تاريخية وحاضرة، فلم الغضب؟ تسبب الموضوع بمشكلة في الفريق نتج عنها طرد أحد أعضائه، وسيطرة جو من التوتر بين الباقين، بدل الألفة الجميلة التي كانت تسود بينهم قبل ذلك، وما اشبه حال الفريق بحال العراق كله!

والحقيقة أن الرجل لم يكن ملاماً، فالمسلمون قبل غيرهم، تركوا مثل هذه "الحقيقة" تثبت في ذهن العراقي والعربي وغيره، ولم يدافعوا عن انفسهم رغم وجود وفرة من الحقائق التي تشكك بهذه الصورة الظالمة. فهناك صورة أخرى تؤكدها الكثير من المصادر التاريخية لا تؤكد كذب تلك الرواية فحسب، بل تؤكد العكس منها أحياناً، ومن مصادر ذات مصداقية عالية غير متحيزة من علماء التاريخ، فعند مقارنة تاريخ المسلمين الذي لا يخلو من العنف طبعاً، مع تاريخ بقية الأديان، نجد أن له مكانة لا يمكن أن توصف بالوحشية، نسبة إلى هؤلاء. ويمكننا أن نذكر الكثير من التاريخ، ففي الوقت الذي كان المسلمون يؤمنون بعدم قتل الناس والأشجار والحيوانات في غزواتهم، كقاعدة عامة ربما خالفوها بين الحين والآخر، فأن قاعدة الرومان، أكبر الحضارات الغربية التاريخية، كانت إبادة المدينة التي يتم فتحها، قاعدة وليس استثناءاً. وفي الوقت الذي كان فيه المسيحيون يبيدون المسلمين حين ينتصرون في الحروب الصليبية، كان المسلمون يتعاملون برحمة كبيرة نسبياً مع خصومهم المهزومين، ثم سادت أخلاق المسلمين في تلك الحروب في النهاية بين الطرفين.

وفي الوقت الذي تشير فيه أكبر آثار المسلمين في اسطنبول، إلى مدى الإهتمام بالفقراء ، وتوفير الطعام المجاني والطبابة لهم في الجوامع الكبيرة، فأن أكبر الأثار في مدينة روما، "الكولوسيوم" كان المحل الذي  كان يلقى فيه خصومهم ومخالفيهم في الدين من أسرى ومسيحيين، إلى الأسود ليأكلوها تحت هتاف الجماهير المتمتعة بذلك المنظر الدموي المتوحش...فمتى ألقت الحضارة الإسلامية بالمسيحيين إلى الوحوش لتأكلها أمام هتاف الجماهير المهووسة بالدم؟ في تاريخ الحضارة الإسلامية بالمقابل، وبالرغم من كل كارهيها ومشوهي صورتها، يسود الأمان للديانات الأخرى أكثر من اية حضارة أخرى من الحضارات الكبرى. فالمسيحيين ذبحوا اليهود في اسبانيا وفي المانيا وكل أوروبا، ورفضت أميركا سفنهم الهاربة من هتلر، وكان المسلمون من قدم لهم الملجأ الآمن. وفي الوقت الذي نشهد وحشية لم تعهدها الإنسانية حين اكتشف الأسبان أميركا، فوصل الأمر إلى أن يلعبوا برؤوس الهنود الحمر الذي رحبوا بهم كضيوف، كرة القدم في نيويورك ، وكانوا كلما "أنتصروا" على قبيلة هندية ومزقوها بعد أن غافلوها في الظلام بأسلحتهم المتطورة واحتلفوا بـ "عيد الشكر" لربهم الذي نصرهم على تلك القبيلة، وصارت أعياد الشكر من الكثرة ما حدا بحكومة الولايات المتحدة أن تضع حداً لعددها المسموح به. فأين تاريخ الإسلام من هذا؟ متى لعب المسلمون كرة قدم أو أي لعبة أخرى برؤوس أطفال من يهزمونهم؟ لو أن المسلمون من كانوا قد بنى الكولوسيوم، ولو أن المسلمين كانوا يصرخون سعادة كلما مزق أسد ضحيته أمامهم، ألن يجعل هذا الإعلام أحفادهم يلعنون اليوم الذي ظهر فيه أجدادهم على وجه الأرض، خجلاً؟ فلماذا إذن لا ينبس أحد بشيء اليوم حين يقارن وحشية المسلمين بغيرهم؟
أنا رجل علماني، إن دافعت عن الإسلام فدفاع عن الحق، بدون أي تحيز ديني، أو أقل ما يكون من التحيز، أنا أرى التاريخ فأعجب لحال المسلمين اليوم في استكانتهم لصورة ظالمة بحق أجدادهم الذين يستحقون ان يفخروا بهم بدلاً من أن ينكسوا رؤوسهم مطأطئين كلما تحدث أحد عن ذلك التاريخ...لقد بنى هؤلاء الأجداد حضارة عظيمة لم يكلف أبناءهم المهزومين نفسياً حتى النخاع، أنفسهم حتى قراءة تاريخها، وحتى حين يعرفون ذلك التاريخ فأنهم ينسونه أو يتجاهلونه، لإلا يقال عنهم متخلفين أو متطرفين. أقول الحق إني لم أهتم يوماً بقراءة هذا التاريخ إلا بفضل ذلك الكذب الإعلامي الذي يفرض سيطرته اليوم، وإني أشكره لأنه جعلني أعرف الحقيقة من خلال رد فعلي على إلحاحه بالكذب.

هذا عن التاريخ، أما الحاضر، فقصته أخرى. وقبل كل شيء أنا لا أنكر عنفاً إسلاميا في الوقت الحاضر، لكني أشعر أنه من ناحية، أمر مبالغ به، ومن الناحية الثانية فأن الأمم المهزومة تصبح عنيفة بطبيعة الحال، والإسلام في حالة هزيمة كبرى اليوم ويشعر أبناؤه بالدونية التي تستدعي العنف والوحشية أحياناً. لكن هذه الوحشية لم تصل إلى ممارسات الشعوب الأوروبية حين كانت مهزومة في ما يسمونه "العصور المظلمة"، لأن الحضارة الأساسية فيها كانت حضارة المسلمين، وكانت منطقتهم هي المضيئة، بل حتى حين كانت حضارتهم منتصرة. ففي الفترة الأوروبية "المظلمة" تفننت الكنيسة في اختراع آلات التعذيب كما يؤكده سجل طويل موثق من الصور والشروح لتلك الآلات. وكانت شخصيات مثل إيفان الرهيب يتعبد في الكنيسة ساعات كل صباح وليس كل أحد فقط، ويجبر رعاياه على عبادات مطولة يومية، ليعود في المساء إلى هوايته المفضلة في غلي خصومه أو من يريد التسلية بهم، أحياءاً أمامه عند العشاء. أظن أن الكثير منكم لم يسمع بهذا، ولا غرابة، فلا يكتب الكثير عن ذلك، لكن لو أن من قام بذلك كان مسلماً لما بقي رجل في الأرض لا يعرف القصة عن ظهر قلب، ولا كتب "مثقف" في التاريخ دون أن يستشهد بها، أما والحال هذه فلن يكتب عنها أحد، فليس للإسلام من يدفع بمثل هذه القصص إلى طاولة المقارنة، ولا من يشير إلى أن المسلمون لم يقوموا بأخذ الصور التذكارية مع رؤوس مقطوعة على نطاق واسع في الإحتلال الياباني لمنشوريا، في العصر الحديث...كل هذه الصور الإعلامية، تشوش على الصورة الأصلية المطلوبة: أن يكون الإسلام هو الدين الوحشي الوحيد أو الأكثر وحشية، والمسلمون هم الإرهابيون في التاريخ وفي الحاضر.

المثقفون المسلمون لا يكتفون بالإنقيادية لما يقوله الغرب، وإنما بالإنقيادية لمزوري التاريخ في الغرب فقط. فبالتأكيد ليس الغرب كله مزور للتاريخ.
في ويكيبيدا عن توينبي ما يلي: "وُلِدَ أرنولد تُوينبي في لندن، في عام 1889، ودرَسَ اليونانية واللاتينية في أكسفورد، وتقلَّب في عدَّة مناصب، منها: أستاذ الدراسات اليونانيَّة والبيزنطيَّة في جامعة لندن، ومدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجية البريطانية؛ وتُوفِّيَ في عام 1975. يُعتبرُ تُوينبي أحدثَ وأهمَّ مُؤرِّخ بحَثَ في مَسألة الحضارات بشكلٍ مُفصَّلٍ وشامِل، ولاسيَّما في موسوعته التاريخيَّة المُعنونَة “دراسة للتاريخ” التي تـتألَف من اثـني عشرَ مُجلَّدًا أنفق في تأليفها واحدًا وأربعين عامًا."
هذا الرجل كتب: "كان المسلمون أرحم الفاتحين في التاريخ" ! إنها شهادة يفترض أن يعتز بها أي مثقف، بل أي إنسان سوي ينتمي إلى الجهة التي امتدحها توينبي، فهو لا يلقي الكلام على عوانه، لكن المثقفون المسلمون يفضلون ان يأخذوا دروس تاريخهم من توماس فريدمان، " واحد من أشد المفكرين اليهود الأمريكان تطرفاً في صهيونيته" حسب ويكيبيديا، وهو يوصيهم بضرورة الإستمرار بجلد انفسهم وتاريخهم إن ارادوا أن يكونوا "مثقفين معتدلين"...وأن يبعدوا عنهم شبهة دعم الإرهاب.

وبعيداً عن الدين، والتاريخ القديم كانت الرأسمالية في الغرب الحديث نسبياً، في قرون النهظة الصناعية تقتل الإنسان كباراً وأطفالاً، وتجبر حتى الأطفال على العمل لفترات تتجاوز أحياناً 16 ساعة في اليوم، وفي ظروف سيئة للغاية، دمرت أجيالا عديدة وشوهتهم وقصرت أعمارهم وأصابتهم بأمراض لا حصر لها، وأحدثت المجاعات في عموم بلدان عديدة في الوقت الذي تفرض تصدير محاصيلها الغذائية إلى حيث الربح أوفر، وهذا ما كتبه مؤرخوهم الإنسانيون، وليس "متطرفوا المسلمين"، وانا مسؤول عن كل كلمة في هذه التفاصيل.

وأخيراً تأتي قصة كنيسة سيدة النجاة، وتفتضح أكاذيب الإرهاب إبتداءاً من قصة فراس الغضبان عن ذبح الضحايا بالسيوف، وحتى الغرائب المتمثلة بتصرفات القتلة الذين كانوا يرهبون الضحايا لساعات ولا يقتلوهم رغم التمثيلية التي تدعي حقدهم ورغبتهم "الإسلامية" في قتل كل مسيحي، وصراخهم الهستيري المسرحي "ألله وأكبر"، لينتحروا "مفجرين أنفسهم" بعيداً عن المسيحيين الذين جاءوا خصيصاً لقتلهم، بل والتضحية بحياتهم من أجل قتلهم، فأي حاقدين هم هؤلاء؟ وأي انتحاريين هم هؤلاء؟ مسلم يصل به الحقد على المسيحيين أن يقتل نفسه من اجل أن يقتل بعضاً من المسيحيين في كنيسة، ثم حين تأتيه الفرصة "الذهبية"، يتلاعب بقنابل الصوت ويترك معظم الضحايا أحياءاً، ليذهب ويفجر نفسه بعيداً عنهم في مكان بحيث لا يروه، كما روى الناجون من المذبحة!! كل هذه الحقائق، تذهب إلى المزبلة، فهي تبرهن شيئاً ليس من مصلحة سيد الإعلام ان تتم البرهنة عليه، أما من كانت مصلحته في تثبيته وبرهانه، فهو أضعف وأجبن من أن يشير إلى تلك الحقائق ولو إشارة أو يستفهم عنها ولو استفهاماً!

وفي فلسطين، بذل الإحتلال الإسرائيلي كل طاقته لكسب المسيحيين ضد المسلمين، لكن إسألوا مسيحيي بيت جالة، لتكتشفوا مدى الفشل الذريع الذي حاق بتلك المحاولة، وكيف أن المسيحيين يتعاونون بكل ترحاب حتى مع حماس التي تعتبر إسلامية متطرفة لدى الكثيرين، ويهاجمون الإحتلال الإسرائيلي بقوة وصراحة لا تقل بأي شكل عن مهاجمة المسلمين له. فمن هو المتطرف في فلسطين ضد المسيحيين إذن، حماس أم المنظمات اليهودية اليمينية؟ بل حماس أم الحكومة الإسرائيلية "المعتدلة" ؟ لا تقولوا كلاماً من عندكم، إسألوا مسيحيي فلسطين وأنا راض بحكمهم!

بذل "محللوا" جريمة كنيسة سيدة النجاة جهداً كبيراً لإكتشاف "الحقد الإسلامي" على المسيحيين في العراق، وبحثوا في بطون كتب التاريخ ليصلوا إلى الجينات الخبيثة. لكنهم كانوا يبحثون عن شيء أخترعوه في رؤوسهم فقط. فتجاه المسيحيين في العراق ليس هناك سوى الإحترام والتقدير والمحبة. وليس هناك أي مشاعر مضادة حتى بسيطة لتكون قاعدة لعصابات يمكن ان ترتكب الإرهاب ضدهم، كما يحاول أن يقنعنا منظروا جريمة كنيسة سيدة النجاة، وسيوف فراس الغضبان الكاذبة. أنا كنت في العراق لعقود طويلة، ولم أشعر بوجود أي جو حقد تجاه المسيحيين فيه، ببساطة لأنهم لم يؤذوا المسلمين بشيء، ولم يكن هناك في التاريخ فترة عداء بينهما. ليست هناك في ذاكرتي حتى نكات تستهين بالمسيحيين، كما نجد بين السنة والشيعة بكثرة، كما توجد بين أي مكونين لوطن في أي مكان في العالم. فكرة المسلمين عن المسيحيين أنهم جماعة طيبة ذكية مثقفة نظيفة، أنيقة، حلوة الكلام ، جميلة الفتيات، تثير رؤيتهن صدى أغنية عراقية قديمة شهيرة، عن "سمراء من قوم عيسى" قتلت بجمالها "مسلم عانى بها ولها". فمن اين جاء الحقد الذي يحاولون إقناعنا بتحليله والبحث عن "جذوره"؟

وتأتي الثورة المصرية بحقائق جديدة خطيرة، وتبين أن من كان يدير إرهاب "المسلمين المتطرفين" في مصر، ليس سوى وزير الداخلية المصري، عدو المسلمين المصريين الأول وعميل اسرائيل المباشر، فلا يهتم أحد. وتكشف قضية أخرى أن لهذا العميل علاقة مباشرة بقضية كنيسة سيدة النجاة، ولا يهتم أحد. .. يقرأ المثقفون المسلمون والمسيحيون هذه الاخبار، ثم يذهبون للنوم، وعندما يصحون في اليوم التالي يعودون لشتم التطرف الإسلامي وإرهابه وجريمته في كنيسة سيدة النجاة، ويحلل "كبارهم" تاريخ "المسلم الوحشي" ويكتشفون في جيناته بقايا الصحراء القاسية، فيصفق لهم القطيع لـ "عمق التحليل" و "رصانة المقالة" و "الإعتدال"....أما من يقول : "مهلاً...ماذا عن هذه الحقائق"؟ فهو شخص قومي إسلاموي متطرف يرفض "القاء اللوم على نفسه"، و يريد إلقاء اللوم كله على أميركا وإسرائيل حتى في ثغرة الأوزون، ويكرر القصص المملة عن الجنديين البريطانيين الذين أمسكا متلبسين أثناء قيامهما بتفيذ عملية "إنتحارية" قرب حسينية في البصرة....إنه يثير الريبة والقلق، فإن تاب في المقالة القادمة، و "القى اللوم على نفسه" كما يفعل "المعتدلون"، فبها، وإلا إنبرى له فريق من "المؤدبين" "الهادئين" الذين يطاردونه في كل موقع لينصحونه بالعدول عن هذا الجنون، ويؤكدون على إنعزاله ووحدته وغروره داعين الآخرين لإبداء العطف عليه رغم ذلك، فهو "لا يخلو من طيبة"...فإن سكت، تأكد للناس اعترافه بمرضه، وإن رد بهدوء، كان ذلك تأجيلاً لإتهامه إن كرر ما فعل، وإن غضب، ثبتت التهمة عليه...

هذه هي الحال اليوم، فهل من عجب أن يغضب الإنسان عليها، وأن يكتب كلاماً لا يتصف بالنعومة واللطف؟
من يهتم بالحقيقة، يبذل الجهد في البحث عنها، فإن وجدها، فإنه يعاملها ككنز حقيقي ثمين، يأمل منه أن يزيل به بعض الظلام والخوف التي تحيط ببلده وشعبه. ولذلك فعندما يشعر أن تلك الحقيقة التي تعب في البحث عنها وتقديمها للآخرين سعيداً، أن يتم إهمالها وليس حتى مناقشتها ورفضها، وأن يستمر الوضع الجائر المخيف كما كان قبل اكتشافها، فإنه يشعر بالغضب.
ليس هذا هو الحال مع من يكتب ليبرهن للناس أنه كاتب "متمكن" من كلماته وعباراته، فتلك الكلمات والعبارات يمكن تركيبها على اية "حقائق" صحيحة أو خيالية، وبنفس القوة، ولذلك فهو لا يغضب لتجاهل أية حقائق ولا يصطدم بأحد ولا يفقد اعصابه ولا يلجأ غلى كلمات "مخرشة للذوق العام". الجمهور يطالب بالحقائق عندما تعصره الأزمات، بل ويطالب الآخرين أن يكونوا شجعاناً وناكري الذات ومستعدين للتضحية بمصالحهم وحياتهم من أجل "كشف الحقيقة"، لكن عندما تأتيه تلك الحقائق مجاناً وبلا جهد، يعاملها وكأنها أشياء رخيصة او مزعجة أو مقلقة، خاصة عندما تخرج عن الخط القطيعي العام للإعلام. تصبح عندها حقائق متعبة، تتطلب التفكير واتخاذ موقف، وهو متعب يريد أن يرتاح بقراءة شيء يؤكد له فقط صحة ما يحمله هو من أفكار، ويساعده على إفراغ غضبه بمن يتصور أنهم سبب مشكلته، لا أن تثار له مشاكل جديدة يجب أن يفكر بها ، وصور جديدة للواقع يجب أن يتأملها ويعيد حساباته على أساسها.

غضب الإنسان يأتي من حرصه، فليس يغضب من لا يهمه شيء..وغضبي على التجاهل المستمر للحقائق، والشعور بالعجز أمام الإعلام المضاد الذي يعمل على قتلها. لامني البعض لأني اغضب حين يختلف معي أحد في الرأي، وليس هناك رأي طرح على طاولة البحث لنختلف عليه. طرح البعض حقائقه، وحين طرحت حقائقي، رفض مناقشتها واصر على أن يقتصر "التحليل" على "حقائقه" فقط دون غيرها، واتبع كل الوسائل لكي لا يسمح لتلك الحقائق أن تقول كلمة، أن تصل إلى تلفزيون، ان يمثلها أحد وأن يدافع عنها أحد، إلا ما ندر، لكي لا تكشف شدة أحادية الطرح، زيف المناقشة وغشها. إطرحوا الحقائق المسيئة للإسلام ايضاً، لكن لا تكتفوا بها، وإطرحوا الحقائق الاخرى معها لكي لا تكونوا شهود زور على الأقل!

من ناحية أخرى، الإنسان المتعب يريد "حقيقة لذيذة" ، "حقيقة مسلية"...يريد مقالة يخرج بعد قراءتها أكثر راحة وقد أفرغ الكثير من توتره بمساعدة الكاتب، الذي يجب أن يلعب دور الملاية التي تساعد على إستدرار الدموع لتأخذ معها الألم الذي يشعر به. ولكن للأسف الحقائق قلما تكون لذيذة، خاصة عندما يكون الواقع مراً، وما أمر الواقع الذي نكتب عنه! لقد كانت مقالتي دعوة، بل صرخة استنجاد تطلقها الحقائق الجديدة المهددة بالإنقراض تحت بساطيل الإعلام الكبير، كما انقرضت الكثير قبلها في تاريخ البشرية، وهو ما أوصلها إلى هذا الحال المأساوي المتفجر في كل مكان. لم تكن لدي حقائق جديدة لأقولها بهدوء، فكل ما لدي هو حقائق قديمة تستغيث، وواقع يتدهور بسرعة إلى الفوضى والإتجاه للحرب الأهلية، ومثل هذه المادة لا أعرف كيف أوصلها بالهمس الرقيق.

تاريخ الإسلام ، وإن كان لا يخلو من العنف والتطرف والتخلف، شأنه شان اي تاريخ لأية جماعة بشرية، فأنه بشكله العام أدعى إلى الفخر مما هو إلى الخجل، كما تؤكد مصادر عالية المصداقية مثل المؤرخ توينبي وغيره عديدون، بينما نجد في الجانب المقابل شخصيات سياسية هزيلة يرفعها الإعلام إلى قيمة لا تستحق جزءاً منها، تعيش على تأكيد إرهاب الإسلام والمسلمين، ويستمع إليها مثقفون مسلمون وغير مسلمين دون روية أو تفهم.
كذلك العلاقة الإسلامية المسيحية تاريخ جميل يدعو للفخر والإعتزاز للطرفين، ولا شك أن لكل من الحضارتين فترات تاريخية عنيفة، لكن أي تأكيد على اقتصار ذلك العنف على جهة دون غيرها، ليس إلا كذب، وليس سوى محاولة من أعداء الجانبين لإثارة المشاكل بينهما. تاريخ جميل وإنساني وسلمي في خطوطه العامة، وليس هناك من مبرر لرفض الحقائق المؤكدة لذلك التاريخ، ولا تلك المؤكدة أن الحاضر لا يختلف عنه في ذلك الأمر، بسبب روايات مشبوهة مليئة بعلامات الإستفهام مثل الرواية الإعلامية الرسمية لجريمة كنيسة سيدة النجاة. أنا لا أدعوا المسلمين والمسيحيين أن يكذبوا على انفسهم من أجل سلامة علاقتهم، لكني أدعوهم على الأقل أن لا يتقبلوا الكذب وتجاهل الحقائق الموجه لتحطيمها. أدعو الجميع منذ اليوم إلى التحلي بالشجاعة اللازمة للدفاع عن الحقائق التي تؤكد الجانب الإيجابي المظلوم في القضية، والتي تتعرض إلى الإضطهاد والخنق.

(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=56697


59
المثقف المخنث أمام حقائق الإرهاب

صائب خليل
8 تشرين الثاني 2011

قبل أيام مرت الذكرى الأولى على جريمة كنيسة سيدة النجاة، وألقيت نظرات عابرة على المقالات التي دبجت في تلك المناسبة، فكانت خيبة أمل كبيرة. خيبة أمل كبيرة ، لأن الكتاب اكتفوا بالولولة على الضحايا وعلى لعن العدو المفضل: الإرهاب الإسلامي، وأهملوا تماماً ما كشفته تلك الجريمة من حقائق. حقائق لا تناسب تلك الولولة ولا ذلك اللعن.

المثقف المسيحي أهمل تلك الحقائق بجبن متميز، واكتفى بالبكاء واللعن...لعن "المذنب المفضل".
ما هي تلك الحقائق؟ معكم حق، فما دام لا أحد يشير إليها، فمن الذي سيذكرها؟
الحقائق هي: أن المجرمين لم يكونوا يريدون قتل الضحايا بقدر ترويعهم ودفعهم إلى نشر الرعب لتأمين قرار سياسي مناسب لهم،
الحقائق هي أن المجرمين تظاهروا بالقتل أكثر مما قتلوا لأنهم بقوا يطلقون الأسلحة ليلة كاملة وكان بإمكانهم قتل الجميع في خمسة دقائق....
الحقائق هي أن المجرمين كانوا كاذبين حينما تظاهروا بأنهم مسلمون يريدون إطلاق سراح السجناء الأقباط في مصر، فهم لم يتصرفوا كمن يريد ذلك..
الحقائق هي أن المجرمين "انتحروا" بعيدا عن الضحايا!! ...ولم يثر ذلك تساؤل أحد!!
الحقائق هي أن الأمن العراقي لم يتدخل وهو يسمع إطلاق النار لساعات طويلة، والمعروف أن يهجم الأمن فور سماع الطلقة الأولى أو الثانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الضحايا....لكن الأمن العراقي الذي كان يعمل بإشراف القوات الأمريكية من الطائرات، بقي يستمع إلى إيقاعات القنابل حتى الصباح....
الحقائق هي أن أحدا لم يحقق في هوية الذين خرجوا ولم يتأكد أحد من وجود الإرهابيين معهم...
الحقائق هي أن صحفياً، فراس الغضبان، ألف قصة كاذبة مناسبة لتركيز الإرهاب، ولم يسأله ‘عنها أحد حتى سؤالا بسيطاً.. والحقائق أنه مازال حرا يكتب في أخلاقية العمل الصحفي ويرشح لإنتخابات نقيب الصحفيين!
المثقف المسيحي قرر التغاضي عن كل تلك الحقائق، وقبول تلك المسرحية الفاشلة، والعودة إلى ما قسمه الله من البكاء وشتم الإسلاميين "المتطرفين" وأحقادهم على المسيحيين ووحشيتهم..

البارحة كتب أحد أفراد فريق شطرنج عراقي على الإنترنت، وكان مسيحياً، يذكر رفاقه المسلمين في الفريق، بأنهم من أصول من القتلة، وتحدث عن تاريخهم الدموي وكيف أحتلت قريش العراق ، وذكرهم بكنيسة سيدة النجاة...
ثار المسلمون من الفريق...بعضهم رد بذكر وحشية المسيحيين في التاريخ وبعضهم شتمه وبعضهم طالب بطرده من الفريق.
الرجل كما يبدو أصيب بالدهشة، وكان يؤكد أنه لم يذكر سوى حقائق! حقائق الحاضر والتاريخ عن التوحش الإسلامي، كما هي في الإعلام فلماذا كل هذا الغضب؟ قال أنه كان يتوقع من رفاقه أن يتصرفوا بطريقة أكثر تفهماً، وعدم نكران الحقائق....!

الحقائق بالنسبة له هي ان المسلمين متوحشين وهو مندهش لغضبهم من ذكره لحقيقتهم، وكان يتكلم بصدق بما يعتقده.

كانت هناك حقائق أخرى بالطبع، في قضية كنيسة النجاة وفي التاريخ أيضاً، لكن الخطأ لم يكن خطأه. المثقف المسلم أهمل تلك الحقائق بجبن متميز واكتفى في كل مرة بالولولة على الضحايا ومشاركة الآخرين شتم "متطرفيه" لكي لا يقال عنه أنه منهم.
الحقائق الأخرى هي أن الثورة الشعبية في مصر كشفت أن عملاء إسرائيل ، بضمنهم وزير الداخلية المصري السابق، كان متورطاً في جريمة كنيسة قبطية في مصر، أتهم بها أيضاً مسلمين متطرفين...
الحقائق الأخرى هي أنه كشف أيضاً أنهم كانوا ينسقون الأعمال الإرهابية في العراق ايضاً...

أنا أعرف أن الناس يغالطون أحياناً من أجل الدفاع عن انفسهم، فأي نوع من البشر من يهمل الحقائق التي تدافع عنه ويشترك مع الآخرين في قتلها والإساءة إلى نفسه ومعتقده الذي يتبختر مفاخراً به؟
تريدون روابط إلى تلك الحقائق لتعيدوا قراءتها؟ لن أقدم روابط هذه المرة، إحتجاجاً على إهمال كل الحقائق السابقة التي جاءت مع روابط. من كانت تهمه الحقيقة فليذهب للبحث عنها بنفسه، فيبدو أن ما يقدم مجاناً، تتم معاملته على أنه بلا قيمة.

كانت فرصة للمثقف المسيحي أن ينتقم لضحاياه بالإصرار على كشف الحقائق التي تكشف قتلتهم، وكانت فرصة للمثقف المسلم أن يدافع بتلك الحقائق عن دينه وتعاليمه، لكن المسيحي جبن عن الوقوف بجانب ضحاياه، والمسلم جبن عن الوقوف بجانب دينه، وترك الناس تعتقد بما اعتقد به صاحبنا لاعب الشطرنج، وهو ليس ملام، فأن احداً لم يحاول أن يرد على تلك الأقوال التي سمعها.

هكذا ذهبت الحقائق، حقائق كنيسة سيدة النجاة، الحقائق التي كلفت العراقيين دماءاً ودموعاً وقهرا ، ذهبت هدراً، فالمثقفون المسيحيون والمسلمون على السواء كانوا اجبن من مواجهتها والمطالبة بكشفها ومتابعتها. الأول يبكي ضحاياه، والثاني ينكس رأسه خجلاً كلما عيّر بهمجية متطرفيه. كان المثقفون من الجانبين مخنثون في مواجهة تلك الحقائق. وفي كل عام سيكرر النحيب والتنكيس ثم ينصرف كل إلى عمله تاركين الساحة للإعلام الإرهابي يقرر ما هي الحقائق.

لو أنهم ناقشوا تلك الحقائق ورفضوها لفهمنا، لكن حين تهمل حقائق كل منها أكبر من الجبال، فأي مثقفون خانعون هؤلاء؟ مثقفون يسمحون أن تحول ضحاياهم إلى سلعة لجلد الآخر ولشق المواطنة في بلادهم التي يقولون أنهم سكانها الأصلاء، ومثقفون يبتلعون الإهانة وأمامهم تسير الحقيقة التي يستطيعون الرد بها فلا يأبهون بها.
يقف واحدهم عند الحقيقة... يقرأها ...يهمهم قليلاً...ثم يضعها جانباً ليتيح لذاكرته الوقت لكي تنساها...ويعود لهوايته المفضلة، للعويل وشتم المسلمين المتطرفين، وأحقادهم العجيبة على بقية الأديان والأطياف.
أي حقد على بقية الأديان؟ سمعت سنة يتكلمون ضد شيعة وبالعكس، لكني لم أسمع حتى اليوم شخصاً واحداً قال كلمة سوء عن مسيحيين، فمن اين جاء هذا الحقد؟ ومن اين تربى هذا "التطرف" الأهوج؟ ألا يحتاج أي فكر حتى التطرف، إلى قاعدة ما تهيء له أن يتطرف؟ أساس فكرة تكون قريبة من تطرفه بعض الشيء؟ فكيف خرج هذا التطرف الأقصى المستعد للإنتحار من أجل أن يقتل الآخر، من اللاشيء؟ ألا يجب أن تكون هناك قاعدة واسعة من "حقد معتدل"، لينتج دائرة أضيق من "حقد ملحوظ" ثم لتنتج هذه دائرة ضيقة من "حقد متطرف"؟ أما أن يوجد "الحقد المتطرف" وحده دون أحقاد أدنى، فلا أجدها إلا قصة من قصص الف موساد وموساد!

وهذا المتطرف العجيب، ألا يحتاج تعليماً "يتطرف" في تنفيذه؟ كيف يكون متطرفاً في تنفيذ تعاليم دين يدعوه إلى عكس ما يتطرف إليه تماماً؟ وكيف يخرج من مجتمع يدعوه كله بلا استثناء إلى عكس ما ذهب إليه تماماً؟ أين في الإسلام ما يدعوا لقتل المسيحيين، دع عنك الإنتحار بهم؟ ربما دعى الدين إلى مقاتلة من يقاتل المسلمين، وربما استطيع أن أتخيل مجانين يقتلون من يبيع الخمر، لكن أن يفعلوا ذلك مع من كان يصلي في الكنيسة، فهو خارج كل تعاليم وكل عقل وكل منطق. 

هاكم سؤالاً آخر لأمعن في إزعاجكم: لماذا لم يكن لهذا الحقد من أثر يمكن أن يرى بالعين المجردة قبل أن يضع الأمريكان والإسرائيليون أقدامهم هنا؟
وهاكم حقيقة أخرى لأمعن في إزعاج "تحليلاتكم المتوازنة":
جنديان بريطانيان أمسك بهما متلبسين بالقيام بعملية إرهابية في البصرة عام 2006 فقتلوا شرطيين حاولا الإمساك بهما، فمن منكم كتب عن ذلك؟ من منكم أصر على أن هذه الحقيقة هي مفتاح قصة الإرهاب في العراق وربما في كل مكان آخر، ودليل فاضح يكشف كل شيء ولا يبقي مجال لشك في شيء؟ هل كان هذا خيالاً؟ هلوسات رجال شربوا الحشيشة؟ أم أنها حقائق أمينة موثقة وأن صورهم نشرت ومازالت على الإنترنت، وأنهما كانا يحملان أجهزة أرهاب وتفجير عن بعد، وأن الدبابات البريطانية حطمت السجن على عجل واخرجتهم بالقوة، خشية ان يتم استجوابهما؟ كيف يمكن لشخص يحترم نفسه أن يكتب عن الإرهاب في العراق ويتجاوز مثل هذه الحقيقة لينغمر في تحليل تاريخ وأصول التطرف الإسلامي والعنف الموروث لدى الشعب العراقي وكل النظريات "المناسبة" التي لا أساس لها، والتي يجهد للبحث عن آثار لها في التاريخ بتحيز لا يمارسه أعداء أمته انفسهم؟ كيف يسمى مثل هذا مثقفاً ومحللاً ومؤرخاً و "عميقاً"، ولا يؤخذ بجدية من يصر على ذكر الحقائق والتذكير بها أولاً؟

لم يعد هناك ما يستحق المداراة والمجاملة، فردوا علي.. أني اتهمكم واحداً واحداً، اخبروني ما هو موقفكم من الحقائق التي ذكرتها هنا؟ هل هي أكاذيب؟ هل هي "نظرية مؤامرة"؟ هل هي غير مهمة؟ هل هي غير موثقة؟ لم تسمعوا بها؟ كيف إذن تبررون أهمالكم المتعمد لها ولا تخجلون من الكتابة عن الموضوع وكأنها لم توجد أبداً؟ كيف تفسرون ذلك لأنفسكم؟ كيف تشرحون ذلك لأولادكم حين يسألوكم لماذا سمحتم لكذبة ان تمزق شعبكم وكنتم تعرفون تلك الحقائق؟ هنيئاً لهذا الإرهاب فقد حقق النجاح في ما يريد، وليس عليه أن يخشى الأخطاء والفضائح مادام المثقفون قد تعهدوا بإغماض عيونهم عن أية دلائل أو مؤشرات أو براهين، لا تناسب ثقافة العويل وجلد الذات.

ما أشد المشاهد بشاعة؟ "رجل يرتعد خوفاً"...وما أشد من ذلك بشاعة؟ .. رجل يرتعد خوفاً... هكذا تكلم رسول حمزتوف.

قرأت أنه سيقام نصب للطفل الشهيد آدم... وأن كلمة "كافي" ستكتب فيه بشكل بارز... المنافقون يريدون القول: "كافي حقد" ليخدعوا الأجيال أن ذلك "الحقد" موجود، وأنه كان هنا لزمن طويل، وهو لم يكن إلا في رؤوسهم المرعوبة. لكني سأقرأها كما أتخيل آدم بطفولته الصادقة البعيدة عن الزيف والخوف يقولها بوضوح بوجه الجميع: "كافي جبن"  "كافي هرب من الحقائق!" ، كونوا أبناءاً للشجاع أبونا فرج رحو وآباءاً لآدم ولا تنتسبوا لقطيع المخنثين... قولوا الحقيقة  بشجاعة...قولوا قبل فوات الأوان!



 

60
موقع للبحث المحدد للصحفيين والباحثين

صائب خليل
7 تشرين الثاني 2011

التقدم أمر ذو حدين، ففي الوقت الذي يمنح التقدم فرصاً كبيرة للحياة الفعالة المترفهة، فهو يفرض على الجميع مستوى جديد من المنافسة. المنافسة في الإستفادة من هذا الوضع الجديد الذي قدمه وفرضه التقدم على حياة الناس. إن من يتأخر في الإستفادة من ذلك التقدم فسيجد نفسه في حال أسوأ مما كان عليه قبل التقدم. ولذلك فالتقدم يفرض تحدياً جديداً ، يستفيد منه من يكون مستعداً له ومهتماً به، ولكن بالمقابل لن يكون تجاهله بلا ثمن.
ورغم ان هذه الحقيقة واضحة وبسيطة إلا اننا، لظروفنا أو لكسلنا ربما كنا أكثر الشعوب تجاهلاً لتحديات التقدم. وإن كان هناك عذر لمن لا يمتلك الوسائل، فليس هناك اي عذر لمن يمتلكها. وهنا أتحدث عن استخدام الصحفيين والكتاب للإنترنت وبرامج الكتابة مثل وورد بطاقاتهما الهائلة. فرغم أن هذا الشيء العظيم يقدم لكل من يريد، مصدراً لا ينضب للمعلومات وطريقة سهلة بشكل لم يسبق له مثيل للتأكد من المعلومة، وللإشارة إلى مصادرها، فأن الغالبية الساحقة من كتابنا مازال يكتب وكأن هذا الجهاز لم يوجد بعد. إنه مازال يستخدم الحصان والحمار لينافس السيارة. مازالت الغالبية الساحقة من المقالات، حتى التي تنشر على الإنترنت نفسها، خالية من المصادر والروابط، خالية مما يثبت صدقها وصحتها وحداثتها وقدرتها على التأثير وفرض مصداقيتها على القارئ.

لكن استخدام الحاسبة بكفاءة بحاجة إلى معرفة ووقت ، حتى لمن لديه القدرة المالية اللازمة لتحمل كلفتها. والبحث في الإنترنت ليس سهلاً تماماُ، عندما يكون الهدف محدداً، وعندما تكون الإدعاءات التي يحتويها المقال كثيرة وبعيدة عن القصة الرسمية المتداولة، أي أنها بحاجة إلى براهين أكثر. فيمكن للبحث أن يطول ساعات قبل أن يصل إلى أية نتيجة مرضية، وقد لا يصل.

وخلال سنوات عملي الصحفي التطوعي، لجأت إلى الكثير من الطرق والأفكار لتقليل هذا الجهد وهذا الوقت، إضافة إلى عملي كمبرمج. ويسرني أن اشارك القراء والزملاء الباحثين والكتاب ببعض تجربتي في حلقتين (تحذير: غالباً ما تتحول الحلقتان إلى ثلاثة أو أربعة)، هذه هي الأولى أقدم فيها فكرة صنعتها لنفسي في البداية لتسهيل البحث وفتح المواقع التي اتعامل معها بشكل متكرر، ثم فكرت في تطويرها شكلاً ومضموناً ووضعها على الإنترنت لكي يستفيد منها من يريد من الزملاء الكتاب والصحفيين وكذلك القراء الراغبين في البحث بين الحين والآخر.
وزاد حماسي لإكمال المشروع ما لمسته مؤخراً من انفصام إعلامي شديد ومتزايد بين الطوائف العراقية المختلفة واتساع هوة الثقة والمصداقية بينهم، وعدم وجود مشروع وطني لمجابتهتها ومحاولة وقفها، في الوقت الذي يبدو أن المشروع المعاكس، الهادف إلى توسيعها ، نشيط للغاية، ومصمم على الوصول إلى هدفه في تقسيم العراق.

إنني أضع بين يد القارئ والصحفي أداة تسهل عليه البحث، ولا تقدمه له مجاناُ. وليس فيها شيء جديد تماماً، وإنما استعمال أكثر كفاءة وتحديداُ لما هو موجود. 
خلاصة الموضوع هو أنني عندما كنت اكتب مقالاتي، كثرما كنت اتساءل عن موقف جهة معينة من قضية معينة. الإنترنت جهاز ممتاز، لكن من الصعب ان تسأله: ما راي اليسار العالمي بقضية فلان، أو ما هو موقف الحكومة العراقية من قضية كذا. سيعطيك البحث في كوكل أجوبة مختلطة، ربما أكثرها عديمة الأهمية أو بعيدة عن ما تريد، وتغرق أبرة الأجوبة التي تبحث عنها في أكوام من القش غير المفيد وغير المقصود.

لكن في كوكل إمكانيات أخرى، وهي أنك تستطيع أن تطلب منه أن يقوم بالبحث في مواقع محددة بعينها. مواقع تمثل بالنسبة لك رأي تلك الطائفة أو ذلك الإتجاه السياسي. إلا أن تنفيذ ذلك الأمر ليس سهلاً من الناحية العملية، فهو يتطلب منك أن تدخل عناوين تلك المواقع في كل مرة تبحث فيها عن شيء من هذا القبيل، وأن تضع بين أسماء المواقع عبارات مناسبة. وحدوث أي خطأ في ذلك ربما يفشل البحث.
إذن لماذا لا أضع كل مجموعة من تلك المواقع تحت أحد الأزرار، بحيث أنني كلما اردت البحث عن رأي جهة معينة في قضية معينة، أضغط على الزر الخاص بتلك المجموعة بدلاً من زر كوكل المعروض في موقعه فيأتيني بحث مصفى يخص تلك المجموعة؟ هذه كانت الفكرة الأساسية : البحث المتخصص بجهات معينة كل على حدة. وعلى هذا الأساس صممت الصفحة التي اعرضها عليكم هنا. وقد أضفت إلى الفكرة تجميع مواقع بحث مختلفة لتقليل الوقت والجهد. فلو أردنا أن نبحث عن شيء في كوكل فإننا نفتح كوكل أولاً، لكن لو أردنا البحث عن شيء في يوتيوب، فيجب فتح يوتيوب أولاً، فلا يمكن البحث في يوتيوب من خلال كوكل مباشرة. كذلك لو اردنا استخدام كوكل للبحث عن معنى كلمة أو إيجاد مرادف لها، لتطلب الأمر مرحلتين غالباُ، ولو أردنا ترجمة عبارة من لغة لأخرى لتوجب فتح موقع كوكل للترجمة (أو غيره) ثم ترتيب تسلسل الترجمة (من اللغة أ إلى اللغة ب) ثم استخدامه. ألن يكون أسهل وأسرع لو توفر لنا مكان نضع فيه كلمات بحثنا، سواء كان ذلك البحث عن صورة في كوكل أو عبارة معينة أو فلم في يوتيوب؟ هذه كانت الفكرة الإضافية للموضوع.
وعندما تريد البحث عن أمر ما تعلم أنه حدث خلال فترة محددة سابقة، فعليك أن تذهب إلى البحث المتطور لكوكل ، لتخبره بالفترة التي تريد البحث بها، ألا يمكن القيام بذلك مباشرة من الصفحة الأولى التي ندخل فيها المعلومات؟ كذلك إن أردنا البحث عن كل كلمات العبارة أو "أية كلمة" منها أو "العبارة كماهي" وكلها خيارات موجودة في الصفحة المتطورة من البحث لكوكل، لكن من الأسهل أن تكون موجودة مباشرة في نفس الصفحة الاولى التي نفتحها للبحث.... هذه الأفكار كلها أنتجت هذه الصفحة، إضافة إلى تطويرات حدثت لاحقاً، مثل إمكانية عرض أسماء المواقع واختيار بعضها احياناً، فليس من الضروري اننا نريد البحث فيها كلها. وهناك صفحات لا نريد البحث فيها بل فتحها. فمثلاً كنت اتضايق من أن بعض المواقع تشترط أن تدخل مقالتك بنفسك إلى مكان النشر، فإن كان لديك العديد من مثل هذه المواقع تنشر فيها مقالاتك، كان عليك أن تدور في تلك المواقع وتفتحها وتفتح صفحة إدخال المقالة .. وكلها تتطلب وقتاً وبعض البحث الممل المتكرر. هذه أيضاُ يمكن ان تحدث بنقرة واحدة على الزر المناسب.

لكن الذي شجعني أكثر على تطوير الصفحة وتقديمها على الإنترنت للجميع هو الإنفصال المتزايد بين الطوائف العراقية. إنفصال جغرافي متزايد وأنفصال إعلامي متزايد، تم ترتيبه بحيث يقتنع كل جزء بما يرفضه الآخر رفضاً قاطعاً. لكل وسائل أعلامه الخاصة التي لا يقرأ أو يشاهد او يسمع سواها. وسائل صار كل همها جمع الأدلة ، الصحيحة منها والخطأ، لإثبات تفوق جماعتها أخلاقيا وحضاريا ووطنية، على الجهة الأخرى التي يتم عنها جمع كل ما يسيء إليها ونشره. إنفصال وانقسام متزايد لا يمكن التنؤ بنتائجه الخطيرة وقد كتبت أكثر من مقالة حول ضرورة أن يلحق العراقيون أنفسهم ويعيدوا لمجتمعهم لحمته واتصاله، إتصاله ماديا بشكل مباشر، وإعلامياُ حيث تصل نفس الرسالة إلى جميع المكونات، وليس رسائل متناقضة تصل كل منها إلى مجموعة معينة، تسهم في تفتيت المجتمع. وكان آخر ما كتبته عن الموضوع تشبيه للوضع مع حالة خنادق الحرب العالمية الأولى، وضرورة الوصول إلى الثاني والحديث معه.


وإضافة إلى ما ذكرت من فوائد تسهيلية للصفحة المعنية، فأنها يمكن ان تسهم في وقف توسع تلك الهوة، عندما نقدم لكل طرف، طريقة بسيطة لمعرفة موقف الطرف الآخر من قضية معينة. وهذا ما شجعني على إتمام هذا المشروع ودفعه من مستواه الشخصي الفائدة إلى العام وعلى وجه السرعة، وعسى أن يكون مفيداً كما آمل منه في هذا الإتجاه. وبالطبع ليس من المستحيل أن يستفيد منه المغرضون أكثر من الطيبون، وتصبح الأداة، تسهيل للبحث عن أسباب الفرقة والنزاع مما هي محاولة لتفهم الآخر. وهذا يعتمد على تقبل الطيبين من الناس للفكرة واستعدادهم للإستفادة منها.

أخيراً أترككم مع الصفحة معتذراً عن الإطالة، وأرجو أن تنال رضاكم وأن تكون مفيدة لكم، مع تنبيهي أنها ماتزال في مرحلة الطفولة وأن أمامها الكثير من ا لتطوير. وهذه الصفحة نسخة مخصصة تقريباً للعراقيين بكليتها، مع وجود الندية لتكوين نسخ تهتم بالقضايا العربية والعالمية المختلفة . كذلك لا شك أنها تحتوي بعض الثغرات والأخطاء، ربما في اختيار المواقع وإهمال أخرى أهم منها. وفي هذا آمل من المستفيدين من الصفحة تجهيزي بمقتراحاتهم وتنبيهي على الأخطاء والنواقص التي فيها، وصولاً إلى شكلها المتكامل الفعال في خدمة الإعلام الوطني ووحدة المجتمع وتآلفه. ارجو لكم وقتا ممتعاً ومفيداً.

صفحة البحث: http://searchin.org/iraq1

حرب الخنادق الأهلية في العراق / صائب خليل
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=56518


61
حرب الخنادق الأهلية في العراق

صائب خليل
3 تشرين الثاني 2011

في مثل هذا الوقت قبل قرن، وبالتحديد عام 1914 كانت الحرب العالمية الأولى قد دخلت مرحلة الخنادق. فقد تم إيقاف الزحف الألماني على فرنسا، فانسحبوا إلى ارض مناسبة وحفروا الخنادق، وفعل الحلفاء الشيء نفسه. كانت النتيجة حوالي 800 كلم من الخنادق تمتد من القنال الإنكليزي وحتى سويسرا! هناك دارت المعارك العنيفة وسالت الدماء ودفن الكثيرين أحياء، ليستقر الوضع تدريجيا إلى حالة من الجمود والهدوء.

جمود وهدوء لم يرق لجنرالات الحرب الذين يعيشون على إدامة الحرب واشتعالها ، وصار كل منهم يخترع الطرق لإعادة "الحيوية" الى الحرب، فنتجت إختراعات مختلفة مثل قاذفة اللهب، والدبابات المتطورة وغيرها. لكن الجانب المقابل كان يصنّع بعد فترة نفس الأسلحة فيعود "التوازن" ويجبر المتحاربين على العودة إلى الهدوء المزعج للجنرالات.

زار الجبهة يوماً، الجنرال البريطاني اللورد أدوارد كلايكن، وروى منزعجاً، أنه سأل أحد الجنود عن آخر مرة رأى فيها المانياً، فقال له أن هناك ألمانيا أصلع ذو لحية يتطلع إليهم بين فترة وأخرى من وراء السواتر. فقال له الجنرال: ولماذا لم تطلق النار عليه؟ فأجابه الجندي: أقتله؟ لماذا يا سيدي..لم يؤذني بشيء! هذا كان مؤشراً في منتهى الخطورة للجنرال!

كتب ظابط إنكليزي: إنها سهلة كلعبة أطفال ان نقصف خطوط إمدادهم الخلفية، لكن ردهم سيكون سهلاً ايضاً: إن لم تسمح للطعام أن يصل إلي، لن أسمح للطعام أن يصل إليك!

كتب جندي الماني في مذكراته: كنا نطبخ في إحدى المرات، فسمعنا صيحة من الخندق المقابل، وكان هناك جندي فرنسي شم رائحة الطعام وطلب أن يشاركنا به، فدعوناه إليه، وبالفعل جاء وتمتع بالأكل، وصار كلما طبخنا يأتي ويشاركنا الطعام.

وكتب آخر من الجانب الآخر: إستلمنا من الخندق الألماني تقول: سوف نضربكم هذا المساء بقنبلة من زنة 20 كغم. نحن لا نريد أن نفعل ذلك لكنها الأوامر. لكننا سنطلق صفارة إنذار لتتمكنوا من الإختباء قبل أن نفعل ذلك. وبالفعل جرى الأمر كما جاء في الرسالة.

أثارت هذه الوضعية التي وصلت إلى القيادة القلق لدى قادة الجيش، فصاروا يصدرون الأوامر الإجبارية للهجوم، حتى من أجل الهجوم فقط، أو لإحتلال أراض لا قيمة لها، لكن متابعة ذلك لم تكن سهلة في جبهة بهذا الحجم. وتفتق ذهن أحد قادة الحلفاء عن فكرة، فصار يطالب وحداته بأن يقوموا بهجوم كل يوم، وأن يرسلوا له دليلاً على ذلك متمثلاً بقطعة من الأسلاك الشائكة الألمانية. لكن جنوده حصلوا من "أعدائهم" على كمية من تلك الأسلاك وصاروا يرسلون له قطعة منها كل مساء!

ليس هذا الأمر مقتصراً على الحرب العالمية الثانية، بل ربما في كل حرب أتاحت ظروفها للجنود من الطرفين أن يتحدثوا مع بعض فأكتشفوا ليس فقط أن لا مصلحة لهم في القتال، وإنما أيضاً أن العدو المقابل لهم ليس ذلك الوحش الذي أفهمهم رؤساؤهم إياه، بل إنسان عادي مثلهم وله اسبابه التي لا تقل منطقية عن اسبابهم لتحديد تصرفاته، وبالتالي يمكن التفاهم معه. حدث هذا أيضاً في الأشهر الأخيرة بعد وقف إطلاق النار بين الجيش العراقي والإيراني عام 88، وفي انتظار الأوامر الرسمية بنهاية الحرب، التقى جنود الطرفين وتحدثوا عن الحرب والحياة ووجدوا كل في الآخر غير ما قيل لهم عنه.

كما خمن بعضكم بلا شك، فأنني أكتب هذه المقدمة الطويلة "الدرامية" لأتحدث عن العلاقة المتدهورة بين الشيعة والسنة في العراق وما وصلت إليه من مرحلة خطيرة. وقد يعاتب البعض ويقول أن الأمر لم يصل إلى تشبيه الوضع بجيشين يتقاتلان في خندقين متقابلين، لكن التشابه كبير في تقديري للأسف.
كتبت قبل فترة عن ضرورة "الذهاب إلى المقابل" كأحد أهم وسائل محاربة الأجندات الإرهابية (1) وأكدت ذلك قبل بضعة أيام فكتبت مقالة بشكل أسئلة (2)، أدعو فيها الشيعة والسنة إلى بذل الجهد ومحاولة فهم الآخر ودوافعه وأسبابه، إنطلاقاً من الفرضية بأنه إنسان إعتيادي مثله، وأن الإعلام الذي يصوره وحشاً لا بد أن يكون خاطئاً ومغرضاً. ورغم أني لم أطرح أي رأي في اي شيء على الإطلاق، وأن المقالة كانت عبارة عن مجموعات من الأسئلة التي تخيلتها في رأس ألسني للشيعي والشيعي للسني، رغم ذلك لم أنج من الكثير من التهجم والإتهام بالتحيز (!!) وحتى النوايا السيئة، كما أشار أحد الكتاب في مقالة مخصصة لذلك نالت استحسان القراء، وعلق قارئ وقع باسم إمرأة محذراً من "صائب خليل الذي يخترق مواقعنا". ألا تجبر هذه العبارة المرء على تذكر الخنادق والجيوش المتحاربة فيها؟

لكن التركيز على المواقف السلبية لن يكون عدلاً، وكان هناك ردود فعل إيجابية ايضاً، وساهمت بعض التعليقات في الحوار ، لا أقصد الجدل حول مواقف كل من الجانبين فهذا كان تشويشاً غير مرغوب فيه، وإنما عن ضرورة "الذهاب إلى الآخر" في "الخندق المقابل" وخلق الحوار حتى ولو بإجبار المقابل وإحراجه، فالعراق في خطر شديد تتكاثر عليه المؤامرات، وكل خطوطه الأمنية والسياسية والإعلامية مخترقة إلى درجة غير معلومة العمق، ومن الواضح أن من يريد تقسيمه قد حقق نجاحاً كبيراً في غياب أي رد ثقافي حكومي أو غير حكومي على ذلك. ويتمثل النجاح الأكبر ليس فقط في عزل المناطق الشيعية والسنية عن بعضها، وإنما العزل الإعلامي الشديد بين الطرفين، فكل طرف يستمع ويشاهد ويقرأ محطات وصحف ومواقع إنترنت مختلفة. وهكذا قلما يختلط الطرفان ليتبادلا الحديث وتصحيح فكرة كل منهما عن الآخر، وهو ما لا يرجوه من أسس ذلك الفصل وهندسه وأداره بمهارة متناهية لا تكشف إلا بعد وقت طويل من عملها، وربما يكون الوقت قد فات لمواجهتها. هذه القنوات الإعلامية لم تعد موجهة للإعلام والأخبار بقدر ما صارت تهتم بكل ما يسيء إلى الجانب المقابل من أكاذيب وحقائق أيضاً، وتثبيت الصورة السلبية للمقابل في ذهن مشاهدها، الذي صار يتمتع بهذه العملية التي تؤكد له أنه هو الأفضل والأصدق والأعلى، وينزعج تماماً إن جاءه أي رأي يقول بغير ذلك، أو يعامل سياسييه المفضلين الذين صار يقدسهم، معاملة أعتيادية ومراجعة أقوالهم وتصريحاتهم بتمحيص لا يعتمد على الثقة التي يبديها هو لهم، ويطالب الجميع بمثلها، ويعتبر أي خلاف لذلك، "اختراقاً لمواقعه".

كما قال أحد الضباط: من السهل أن نضرب خطوط "العدو" ونحرمه الطعام، لكن الرد أيضاً سيكون سهلاً عليه، ومثلما سيتضرر، سنتضرر نحن أيضاً. وكذلك من السهل والرخيص أن يتجمع كل من الطرفين حول مواقع إعلامية خاصة بهما وتبادل الأخبار والتحليلات التي تؤكد تفوق كل منهما الأخلاقي على المقابل، وتجمع كل ما هو سيء عنه وكل ما هو جيد عنا. بل وتخترع السيء والجيد المناسبين  إن لم تجدهما، وتصدق كل الأخبار المناسبة، حتى لو لم تكن معقولة ، أو لم تكن لها أية مصادر غير "مصدر موثوق" أو "مصدر رفض أن يذكر اسمه" أو أمثالها من الحيل الإعلامية التي تتيح لمن يريد، أن يقول كل ما يشيء دون أن يتحمل مسؤولية الخبر. تلك أمور سهلة ، بل وممتعة للنفس البشرية الراغبة في تأكيد تفوقها، لكنها في النهاية متعة مسمومة، لا يحس بأثرها إلا عندما تشعر أنك لم تعد تطيق الآخر، أو تصدق أي خبر جيد عنه أو تتحمل أي دفاع عنه، وتختفي صورته الإنسانية وراء صورة إعلامية شديدة الحدية والتشويه. لكن بالمقابل يجب أن تتذكر أن المقابل يتعرض لمثل هذا القصف الإعلامي، وأنه سيكون عاجلاً أو آجلاً عدائياً تجاهك غير قادر على تحملك أو التفاهم معك لأن صورتك شوهت لديه كما شوهت صورته لديك. إن لم يكن ذلك يهمك، فليس لدي ما أقوله، أما إن كنت تعتبره أمراً خطيراً، يهدد أشياء غالية عليك كالوطن، فالوقت ضيق لمواجهة هذا الإتجاه.

لقد اكتشف الجنود الألمان والحلفاء أن لا مصلحة لهم بالحرب المدمرة التي اثارتها أطماع قادتهم بالمال والسلطة، وكذلك اكتشف الجنود العراقيون والإيرانيون الأمر، ولكن بعد أن دفعوا جميعاً ثمناً غالياً وكارثياً. فهل يجب أن ينتظر المتواجهون تلك الكوارث ليتحدثوا مع بعض؟ إني آمل أن أثير في نفوس البعض القرار بأن يصل إلى الخندق الآخر، وأن يكون جسراً ينقل مفاهيم كل طرف إلى الآخر والمساعدة على الوصول إلى الحقائق التي تعطي كل جانب حقه، وإلى التفاهمات والحلول الوسطية التي تتقاسم التضحيات (وليس السلطة)، بإصرار من يعتبر القضية قضيته والفشل فيها فشله ومكسبها مكسب شخصي له. هكذا فعل ناشطو ومثقفوا البلدان التي وصلت إلى القمة في كل مرة مرت فيها بلادهم بأزمة تهدد وجودها أومستقبلها.


(1)  توصيات لمواجهة الإرهاب (1) صمود العقل وتصحيح الصورة / صائب خليل
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=55506

(2) هل نثق بمصادرنا عن الآخر، أم نذهب للبحث عنه؟
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=8896&start=0&page=1




62

عام على واقعة الكنيسة وما تزال الأسئلة...

صائب خليل
31 تشرين الأول 2011

ها قد مضت سنة على مجزرة كنيسة سيدة النجاة، التي هزت الضمير العراقي كما لم تهزه جريمة أخرى. لقد كانوا يستعدون للصلاة من أجل نجاة العراق حين استشهدوا.. وهاهو العراق كله يتذكرهم خاشعاً ويصلي من أجل أرواحهم الطاهرة.

لقد كشفت تلك المجزرة حقائق خطيرة، دفع ثمنها غالياً من أرواح الأبرياء ومن دموع والام ذويهم ومن اشمئزاز شعبي كبير، فلماذا تم تجاهل تلك الحقائق الغالية؟

لقد كانت هذه الجريمة حلقة في سلسلة بشعة من عمليات الإرهاب التي اريد منها على ما يبدو إثارة الكراهية والخوف بين المسلمين والمسحيين في العراق وتحطيم علاقة رائعة نادرة من المحبة والتفاهم والتفهم على مدى السنين، وتحويل ذلك التآلف التاريخي الطويل إلى علاقة من الشبهة والريبة كما فعلوا بين المسلمين والأقباط في مصر، فهل نريد مثل تلك العلاقة؟ إذن ما الذي فعلناه خلال هذا العام، بل خلال الأعوام التي قبلها والتي تلت اغتيال الشهيد القس فرج رحو وغيرها من الجرائم؟ هل نريد أن يأتي اليوم فلا نجد فيه مسيحياً في العراق؟ إذن ما الذي فعلناه لكي لا نرى مثل ذلك اليوم؟

قد يسأل القارئ: وأية فرصة كانت موجودة للرد على الإرهاب ولم تستغل؟ وأقول: في جريمة سيدة النجاة بالذات كان هناك الكثير. لقد كانت عملية إرهابية فاشلة ومفضوحة بكل المقاييس وقدمت لمن يريد علامات دالة ثمينة على الإرهاب، لكن إن لم يكن هناك من يستغل ذلك، فليس هناك مجال للحديث عن فشل الإرهاب. كانت هناك ثروة من الأدلة تفند الرواية الرسمية للإعلام – بأنها حقد إسلامي ضد المسيحيين – وتشير إلى الطريق إلى الوصول إلى من كان وراءها. فلا المجرمون كانوا إسلاميين، ولا كان همهم إطلاق سراح اقباط ولا كانوا يهدفون إلى قتل أكبر عدد من المسيحيين ولم يفجر أحد منهم نفسه والرواية الأقرب للتفسير، والوحيدة بالنسبة لي، هي أنهم خرجوا مع الضحايا بعد أن اقتحمت القوات الأمنية الكنيسة، وأن هناك ضمن قوى الأمن، وعلى الأغلب في قيادتها العليا من هم متآمرون معهم، وهدف الجميع تحقيق أكبر كم ممكن من إرعاب للمسيحيين بهدف دفعهم إلى الخروج من العراق وتثبيت صورة المسلمين كوحوش هائجة تريد قتل كل من ليس مسلم، ومثل هذه الصورة يستفيد منها جهة واحدة فقط: إسرائيل والأجندة الأمريكية التابعة لها. لقد كان الشهيد فرج رحو يؤكد ذلك ويصر على أن الأمريكان وراء محاولة إخلاء العراق من المسيحيين، فدفع حياته ثمناً لذلك.

لحسن الحظ، أدت الثورات العربية إلى الكشف عن الكثير من الخفايا، وأحد أخطرها كان عن تورط وزير الداخلية المصري في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية ! ونشر خبر "إحالة وزير الداخلية المصري (1) بهذه التهمة، وتبين أن التقارير الإعلامية الخاصة بكنيسة القديسيين، والتي تنطلق من أن المجرم إسلامي متطرف، تحليلات مزيفة.

والأمر الآخر المهم في هذه الحقائق هو أن المتهم فيه هو وزير داخلية في حكومة تابعة تماماً لإسرائيل، وأن طاعة هذه الحكومة "أمنياً" و "إرهابياً" لإسرائيل وأميركا أمر معروف، وهذا يعني أن العلاقة بين تفجير الكنيسة وإسرائيل علاقة واردة تماماً، بل هي العلاقة المعقولة الوحيدة، فليس للحكومة المصرية أية مصلحة في مثل هذه الجريمة التي تثير لها المشاكل بشكل كبير. فلا يستبعد أن يكون وزير الداخلية المصري حبيب العادلي قد اتفق مباشرة مع إسرائيل على العملية، التي أدت إلى مقتل 23 شخصا وإصابة 97 آخرين، وكادت تتسبب في فتنة طائفية في مصر.
وبالفعل ماهي إلا وهلة و كشفت حقائق مباشرة  ليتبين بالوثائق، بأن نفس أمن الدولة المصري المتورط في تفجير كنيسة القديسيين، كان يقوم بـ "اعداد منفذين لعمليات تفجير في العراق"! (2)
وإذا كان لإسرائيل حكومة مطيعة في مصر حسني مبارك، فأن لديهم أميركا مطيعة تماماً في العراق، وهي تسيطر على مجاله الأمني بشكل غير اعتيادي لظروف معروفة.
لقد كشف الكثير من الأسرار ، ومازال هناك الكثير من الخفايا.

قالت الحكومة العراقية أنه قد القي القبض عن المسؤولين عن الجريمة، فأين هؤلاء المسؤولون؟ لحساب من يعملون، ومن هي الجهة التي تقف وراءهم؟ من هي الجهة التي تدعمهم وتخطط لهم وتمدهم بالمال والمعدات؟ لماذا لا يتساءل أحد عن من يقف وراء أية جريمة إرهاب يلقى القبض على منفذيها؟ لماذا لا تكتمل قصة أية جريمة إرهابية في هذا البلد، بل تبقى معلقة كصور قبيحة في ذاكرتنا تسخر منا وتثير فينا الإحباط؟ هل هذا إهمال أم أنه مخطط ليصل الإنسان العراقي إلى عبثية وضعه واليأس منه؟

لنتذكر الضحايا ولنبكهم فهذا من حقهم علينا، لكن حقهم الأهم علينا هو أن نكون شجعاناً لنطرح الأسئلة! لنصر على الحصول على أجوبة وعلى كشف الحقائق، فما زالت أسئلة كنيسة سيدة النجاة تفغر فاها.

(1) http://www.aljazeera.net/NR/exeres/24764930-5733-42DA-A0A8-00586C105984.htm?GoogleStatID=9
(2) http://www.jo-pal.com/News.aspx?id=65850

مقالات متعلقة:

مجزرة "سيدة النجاة": نقاط مريبة http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20785

"أما حان الوقت لننظر بشجاعة إلى الإرهاب في عينيه؟ " 
http://igfd.net/?p=2309

رسالة إلى آدم الذي فاتنا أن نعلمه الخوف
http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=40500

وهاهي حقيقة إرهاب تفجير الكنائس ومن يقف ورائها تتكشف!
http://baretly.net/index.php?topic=1092.0

الإنتحاريون صناعة أمريكية - دليل جديد - هل سيكفي هذه المرة؟

http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=45221

63
العراق - من القيود إلى علاقة طبيعية مع أميركا - طريق طويل

صائب خليل
27 أيلول 2011

مر شعب العراق اليوم بمفترق الطرق الأخطر على مستقبله منذ احتلال بلاده عام 2003، متمثلاً بحسم مسألة بقاء القواعد العسكرية الأمريكية. من حق العراقيين أن يبتهجوا بهذا القرار، فهو لم يكن سهلاً، فلم يكن إخراج أية قاعدة أميركية من اية بلاد، أمراً سهلاً في التاريخ، إلا إذا قررت أميركا الإستغناء عنها بنفسها، كما سيرد في بقية هذه المقالة. ومن حق المالكي ان يحتفل به كرئيس حكومة وبشكل شخصي أيضاً، فقد أنقذ نفسه، إن تم القرار بلا تلاعب، من لطخة سيكون مستحيلاً إزالتها من تاريخه، لو لم يجر الأمر بهذا الشكل.

لكن الإحتفال بإخراج هذا الجسم الغريب الذي ارتكب أهوالاً من الجرائم، من العراق، لا ينبغي أن يطول كثيراً. فالموضوع مازال يحتمل المفاجآت، العنيفة منها والهادئة، ومازال هناك حديث عن "قوات ناتو" ومدربين لا يعرف عددهم وعن "حصانة غير تامة" ولا يعلم إلا الله والراسخون في الحكومتين العراقية والأمريكية ما هي الضغوط التي تجري وراء الستار، لكن علاماتها واضحة، ليس فقط في العراق، بل أيضاً من تصريحات الساسة الأمريكان الكبار مؤخراً حول قرار أوباما، كما أن احتمال تدبير أميركا لإنقلاب عسكري ليس مستحيلاً بما ثبتت وجوده من عملاء، يتيح لها أن تدير مثل هذه العملية دون دليل على علاقتها بها، بل أن تشير إلى أن ذلك ما كان يمكن أن يحدث لولا أن حكومة العراق رفضت تمديد بقاء قواتها.

وحتى بافتراض أن الأمر تم كما يرضي العراقيين وبلا ألاعيب، فالأمر لم ينته بعد، و سيكون طريق تحرر العراق من القبضة الأمريكية الإسرائيلة، طويلاً وشاقاً ومليئاً بالمخاطر. فقد دخل هذه الجسم الغريب في كل مفصل من مفاصل البلد، وبشكل خاص العسكرية والأمنية والمالية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني، وله اليوم جيش من العملاء من كل نوع في كل مكان، وتجارب الآخرين في التاريخ تقول أن الأمر قد لا يكون سهلاً. فالمشكلة ليست في تمديد القوات وحدها، فهي ليست سوى واحد من القيود التي يجب أن لا "يمدد" بقاؤها وإن كان أوضحها.

من المفيد لفهم الموضوع أيضاً أن نضع مشكلة شعب العراق ضمن خارطة أمثالها في تاريخ شعوب العالم لنرى أين نقف.
(كتبت هذه المقالة قبل شهر من نشرها، ونشرت في "الأخبار" اللبنانية بشكل موجز، وهذه نسخة منقحة منها بعد قرار أوباما سحب القوات الأمريكية. ننشر المقالة اليوم رغم أن الكثير مما فيها قد عداه الزمن، لكنه مازال مفيداً لفهم موقف العراقيين في بلدهم بدون الإحتلال.)

تجربة العراق مع الدكتاتورية  والإحتلال

لعل أكبر عامل اسهم في سوء الفهم بين العراقيين من جهة، وبقية العرب من الجهة الأخرى، في موضوع الإحتلال هو الموقف من الدكتاتورية الصدامية، التي كانت تمثل أسوأ ما في الحياة بالنسبة للعراقيين، وتمثل "بطلاً" بالنسبة للكثير من بقية العرب، وهو موقف يشعر العراقيون بأنه ليس خطأً ضالماً فقط، بل ايضاً مؤسف أخلاقياً. أما موقف العراقيين من الإحتلال فهو غير ما يصوره الإعلام العربي والعراقي ايضاً ، فهو كما تدل عليه مختلف المؤشرات، موقف رافض ومقاوم بشدة أحياناً. ولكن من المفيد الإعتراف بأن الأمريكان نجحوا بالقضاء على المقاومة المسلحة ضدهم، باستخدام كفوء متناغم للقوة العسكرية والإعلامية، حيث تكفلت القوة العسكرية بالقضاء على المقاومة في مجازر الفلوجة وغيرها، وكذلك على قوات الصدريين في مناطق مختلفة من العراق. ونجح الإعلام الذي أسسه الأمريكان في العراق بأموال طائلة سراً وعلناً، بإلصاق صفة الإرهاب بالمقاومة وربط  بها كل عملية إنتحارية أو إرهابية، والتي كان يدير اغلبيتها الساحقة بنفسه حسب مؤشرات كثيرة، وبضعة ادلة قاطعة.
وحين أدركت المقاومة (مهما كانت هذه العبارة تعني الآن في العراق) المؤامرة، وحاولت أن تميز نفسها عن الأعمال الإرهابية، وأسمت نفسها "المقاومة الشريفة"، حول الإعلام تلك العبارة إلى مسخرة، وأصر على أنها تعني قتل الناس.
ومما لا شك فيه أن "المقاومة" نفسها ساعدت الأمريكان كثيراَ في صورتها المشوهة من خلال مواقفها المتخلفة وخطاباتها الحمقاء وضمها لكل من هب ودب، والسماح بتقديم السيئين من بقايا البعث على أنهم ممثليها، وأغلبهم من المجرمين والرجعيين الذين يرفض بعضهم حتى الكلام عن الديمقراطية، ويريد صراحة "إعادة العراق إلى ما كان عليه". هذا إضافة إلى اختراقها بشدة من قبل الأمريكان، وقدرتهم على تحديد قياداتها من خلال دعم من يريدوهم وتصفية الآخرين. وبالنتيجة فأن هؤلاء القادة لعبوا دوراً اساسياً في محاولة إقناع الشعب بضرورة بقاء الأمريكان، ليس فقط بتصريحاتهم، وأنما أيضاً بزيادة نشاطهم كلما جاء موعد الحديث عن انسحاب القوات الأمريكية، وهو مؤشر قوي على ارتباطهم.
أما كيف توصل الأحتلال إلى تحقيق ذلك، فلقد كان الفرق بين الجهتين هائلاً، فأمام هذا التقدم التكنولوجي والإستخباراتي، يتحدث الناس أن بعض "المقاومة" كانوا يتحدثون بالموبايل بشكل مكشوف مع بعضهم البعض دون أن يخطر ببالهم أنه قد يتم التنصت عليهم!
النتيجة النهائية لكل ذلك، أن "المقاومة" ا لعراقية المسلحة فشلت فشلاً ذريعاً في معركة البقاء، وصارت شيئاً كريهاً في نفوس أغلبية العراقيين، ولم تضع جهودها وتضحياتها فقط، بل أن اسمها ارتبط بالإرهاب والإجرام، وكان السبب الرئيسي في ذلك مواقف حمقاء ولا أخلاقية – براغماتية – غير مدروسة وغير مبدئية، ولم تنجح في كسب أي تعاطف يذكر من الشعب، رغم كرهه للإحتلال.

الآن، وقوات الإحتلال على وشك الرحيل، بافتراض أنه سيحدث حقاً، يواجه العراقيون وضعاً جديداً: يستلموا بلادهم ومسؤوليتها كاملة، وتتحمل الحكومات نتيجة قراراتها كاملة، ولا بأس من نظرة إلى الوراء، لنرى ما الذي يعنيه ذلك "الفراغ" الذي سيتركه الإحتلال، والذي يقلق الكثيرين. علينا أن نفهم تلك المرحلة وتأثيرات ذلك الجسم الغريب السلبية والإيجابية لنفهم حال بلدنا بدونه ونقدر خطواتنا التالية بشكل سليم. ودراسة تاريخ القوات الأمريكية في بلدان مختلفة سيكون مفيداً بشكل خاص لهذا الأمر.

الشعوب والقواعد: في العراق ودول أخرى

تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية في 130 من دول العالم بغير رضا شعوبها. فالإحصاءات تشير إلى تزايد كراهية تلك الشعوب لأميركا وسياستها، خاصة بعد عام 2001، حين تحولت الولايات المتحدة إلى "بلطجي" العالم المنفلت من أي قيد، وتكاثرت جرائمها وسجونها السرية وفضائحها في كل العالم.

وفي العراق تبخرت مع السنين تدريجياً، السعادة والامتنان لهذه القوات لتخليصهم من الدكتاتور الذي سبق أن دعمته نفس تلك القوات أكثر من مرة في الماضي، وحلت محلها مناظر سجن "أبو غريب" وغيرها من الجرائم المقززة التي ارتكبها الجيش الأمريكي ولواحقه في العراق، مازال الناس يطالبون بملاحقته عليها، (1) إضافة إلى دوام العنف والإرهاب في البلاد، والذي يتزايد عدد المؤمنين بأن الجيش الأمريكي يتعمد إبقاءه، إن لم يكن يديره كله..

خلال جدل البقاء، كرر دعاة بقاء الاحتلال في العراق ثيمات بسيطة واضحة يسهل حفظها، كما تنصح مدارس الإعلام منذ النازية، وكأنها لتكرارها توحي بأنها صدرت من مصدر مركزي واحد.
فالاحتلال،  "ضروري لحماية الديمقراطية"..و" قواتنا لم تكتمل بعد".. ."ليست لدينا حماية لسمائنا"... نحتاج إلى "الدعم اللوجستي" ، محاربة " تنظيم القاعدة" و "الإرهاب"...حمايتنا من أخطار "البعث" و"جيش المهدي" و"دول الجوار"، وهي أيضاً ضرورية لدعمنا إيجابياً من الأمم المتحدة “الشريرة” التي تريد أن تبقي علينا أحكام "الفصل السابع"  كما انها "ضمان ضد الاحتقان الطائفي" ، و"صداقة أميركا ضرورية لنا" و لـ  "الاقتصاد"..والتقدم العلمي.. الخ.

لاتحتاج تلك الحجج لدحضها إلى الكثير من الجهد، فادعاء حماية الديمقراطية (في العراق)، وحماية العراق من "البعث"، يفنده تدخل السفارة الأمريكية المتكرر وخاصة في الانتخابات العراقية الأخيرة وضغطها على المؤسسات الانتخابية والدستورية وحتى القضائية لفرض مرشحين للانتخابات من بقايا البعث الذي قالت أنها جاءت "لتحرر" العراق منه، مما حدا برئيس الوزراء لأول مرة أن يهدد بطرد السفير الأمريكي. وفي التحقيقات الأخيرة التي جرت بشأن المفوضية العليا للانتخابات، الشديدة الفساد، كشفت النائبة حنان الفتلاوي أن المفوضية كانت تسلم الجيش الأمريكي صناديق الاقتراع سراً!
أما "الحاجة لحماية السماء" و "الدعم اللوجستي" وعدم "اكتمال القوات العراقية" فهي حجج فارغة فلا يوجد شيء اسمه "اكتمال القوات"، وتطمح الدول باستمرار إلى زيادة قواتها وأولها الولايات المتحدة نفسها التي تمتلك جيشاً يعادل جيوش العالم مجتمعة وهي مستمرة بـ "إكماله"..كما أن هذه الحاجات تحدد على أساس تقدير حجم التهديدات التي يتعرض لها البلد، ويتفق الساسة العراقيون أن ذلك الحجم في هذه اللحظة يساوي "صفراً". فلم يعد أحد يتحدث عن "التهديد الإيراني"، فلا يبقى من تهديد إلا اللهم من الجهات الصديقة لأميركا، والتي تبين التجربة مع الكرد خاصة، أن القوات الأمريكية لن تمنعها، كما لن تساعد على استعادة ما استقطعه ويستقطعه أصدقائها - الكويت أو السعودية أو الأردن، من أراض وثروات عراقية نظمت بإدارة أمريكية واضحة. إضافة إلى كل ذلك، اتهم العديد من السياسيين الولايات المتحدة بـ "عرقلة حصول العراق على أسلحة" لإبقاء جيشه ضعيفاً، وليس العكس.(2) (3) (4) 

أما ميليشيات "جيش المهدي" فقد تعهد الصدريون بعدم إعادته إلا في حالة بقاء الاحتلال، وهم يتفقون اليوم مع رئيس الحكومة بأنه لم يعد هناك مبرر لذلك ووعدوا بدعم الحكومة في حالة تنفيذ خروج ا لقوات، وهذه من أول المكاسب الهامة لخروج قوات الإحتلال. وأما الفصل ا لسابع فقد وعدنا دعاة بقاء أميركا بالخروج منه عند توقيعنا على المعاهدة قبل سنتين، لكنه بقي كورقة ابتزاز أمريكية صريحة لشعب العراق، وليس هناك ما يشير إلى أنها ستتخلى عنها، سواء بقيت قواتها او خرجت، إلا لظروف خارج هذا الموضوع، أو لعدم قدرتها على استخدام تلك الورقة بعد أن اهترأت كثيراً. وأما القاعدة و "العفاريت” والقراصنة الصوماليين الذين هددنا وزير دفاعنا السابق بلا خجل بأنهم سيهاجموننا في حالة خروج أميركا، فهي أسباب أقل ما يقال عنها انها مخجلة.

وبما أن الإقناع بهذه الحجج أمر مستحيل، لم يبق للاحتلال إلا أن يفرض نفسه بالقوة المدعومة بالإعلام والعملاء. وهو يعلم أن تأثير الإعلام ليس أبدياً، ولا يأمل أن تدعمه الأكاذيب إلى الأبد، بل يأمل أن تدعمه إلى أن يصبح اكتشافها أمراً متأخراً بالنسبة للشعب. لذلك سعى إلى استغلال الوقت للسيطرة على المؤسسات المالية والسياسية على البلاد، وإحكام الخناق على المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتخريب أية محاولات لنهضة البلاد وإرغامها على صرف أية أموال إضافية قد تحصل عليها في شراء الأسلحة وغيرها، كما يحدث دائماً مع "أصدقاء أميركا"، غالباً بأضعاف أسعارها البديلة في مناطق أخرى، وفي عقود أشبه بالفخاخ تكبل البلاد أكثر وأكثر، وتتزايد تكاليفها بمراحل دون أن يكون هناك فرصة للتراجع، حتى إن جاءت حكومات تعترض على ذلك مستقبلاً.

وبالرغم من وجود نسبة مقتنعة بفائدة بقاء الأمريكان، فيمكن أن تكتشف شعوراً متزايداً داخل القابلين للوجود الأمريكي قبل قرار الرحيل، بأنهم إنما يقبلون خوفاً من بطش الأمريكان وليس قناعتهم بهم. أحد المدافعين عن إبقاء القوات الأمريكية يصف الأمر بالشكل التالي:
"وجود القوات الأمريكية في العراق قد يؤدي إلى مزيد من الاستقرار، ويعزز العملية السياسية، عندما تشعر الولايات المتحدة بالاطمئنان إلى توجه العراق نحو علاقة إستراتيجية معها. "
وهو يكشف ان الموضوع هو ليس لحماية العراق من أخطار ما، وإنما الهدف هو طمأنة أميركا أننا سنكون "لطفاء" دائماً ومرتبطين بـ "علاقة إستراتيجية" معها، "علاقة" تقدر هي أنها لا يمكنها أن تقنعنا بها إلا بوجود قوات عسكرية تخيفنا بها إن رفضنا تلك العلاقة يوماً أو طلبنا تغييرها أو قلنا أنها لم تكن ما اتفقنا عليه! قوات تستطيع ان تحدد بواسطتها تفسيرها للبنود وشروط تنفيذها وكل ما ترك غامضاً في المنطقة الرمادية في الاتفاقات.

بشكل عام، يتبع الاحتلال مبدأ مكيافللي في إعادة عناصر النظام السابق إلى مناصبهم حيثما أمكن، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أعاد الأمريكان الكثير من النازيين والفاشيين إلى المواقع الأمنية في الحكومات التي تأسست بإشرافهم، وذلك لمحاربة الحركة الشيوعية في الدول التي حرروها من النازية، خاصة اليابان وإيطاليا واليونان وألمانيا، بل وأسسوا منهم منظمات سرية تعمل على إسقاط النظام في حالة فوز الشيوعيين في الإنتخابات في أي بلد من بلدان حلف الأطلسي وبعض الدول المحايدة ايضاً ، ودعيت شبكة المنظمات هذه بأسم "غلاديو".(5).
وبشكل عام عمل الأمريكان على إعادة الجلادين في البلدان التي "يحررونها" من حكوماتها السيئة، أو سلموها إلى عصابات جديدة إن كانت الحكومة التي تم إسقاطها حكومة شعبية أمينة. (6) ذلك لأنهم اكتشفوا أن هؤلاء هم خير من يخدمهم في النهاية. وقد عملوا بجد واحتهاد في العراق على إعادة بقايا الصداميين إلى الحكم، (7) وخاصة في الجيش والأمن. وبلغ اشمئزاز الناس من ما فاح من فضائح في هذا الأمر، أن أضطر السفير الأمريكي في العراق إلى التأكيد بأنهم لا يعملون على إعادة البعث! (8)

هذا ما حدث في العراق وهو لايختلف عموماً عن ما يحدث مع جميع "الأصدقاء" من "الدول السعيدة"بالقواعد الأجنبية. ولنأخذ ثلاثة أمثلة على الدول "السعيدة" بتكرم أميركا ببناء قواعد فيها، ولنأخذ دولة عظمى هي اليابان، ومتوسطة هي أستراليا، وصغيرة هي سيشيل ولنر ما حدث ويحدث فيها.
يضرب دعاة القواعد الأمريكية في العراق المثل باليابان وتعايش شعبها مع تلك القواعد وعدم شعوره بالإهانة. لكن خير تعبير عن حقيقة شعور اليابانيين، هو انتخابهم مؤخراً للمرشح الذي وعدهم بإزالة القواعد الأمريكية! لكن الرجل فشل في ذلك عندما صار رئيساً لوزراء اليابان، فسارت تظاهرات عارمة تطالبه بالوفاء بوعده الأمريكان من أوكيناوا، (9) فقدم اعتذاره واستقال، وهي نهاية محزنة تكشف لنا حقائق أخرى أكثر خطورة عن مستقبلنا. (10)

في استراليا، أرادت حكومة غوف ويتلام (Gough Whitlam) الإشتراكية التي فازت بالانتخابات عام 1972  ، أن تعرف ما يجري في بلادها ونوع ومدى نشاط قواعد السي آي أي فيها، فلم تستطع شيئاً بل تمت إقالتها !! (11)

أما جزر سيشيل الصغيرة التي كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية ، فلم تتسع البلاد فيها للقواعد وللشعب، فقرروا إجلاء الشعب الصغير من بلاده ليفسح المكان للقواعد! (12)

في العراق كان خيار أميركا لأول سفير لها فيه  ذا معنى عميق، فلم يتم اختيار خبير في "الإعمار" كما يفترض ان يستنتج من الخطاب الأمريكي ، بل خبير في صنع خلايا الإرهاب، يطارد حيثما حل من قبل الناشطين في العالم، جون نيغروبونتي (13)  الذي تدرب على صناعة الإرهاب أثناء توليه لسفارة بلاده في هندوراس، فأغرقت شوارع العراق بعد احتلاله بحوادث لا تشبه في وحشيتها إلا ما عرفته دول أميركا الوسطى في ذلك الوقت. ولقد كان هناك العديد من الدلائل والمؤشرات على العلاقة الوطيدة بين الإرهاب والجيش الأمريكي. ومثل العديد من العمليات الإجرامية السابقة فأنه تبين أن إرهابيي جريمة النخيب الأخيرة كانوا ا قد أطلق سراحهم مؤخراً من سجن أمريكي يبدو أنه عبارة عن مركز لتدريب الإرهابيين.  (14)
أما انصع الأدلة قوة فلم يكن أقل من إلقاء القبض على عسكريين بريطانيين متلبسين بتنفيذ عملية "انتحارية" بتفجير شخص بأجهزة إطلاق عن بعد، تم ضبطها معهما، وقتلهما شرطيين قبل القبض عليهما، ثم تم إنقاذهما بالدبابات البريطانية التي حطمت السجن الذي كانا فيه، وفيما بعد تكفل التجاهل الإعلامي بأن يجعلنا ننسى أن البريطانيان كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد! (15).

وسعى الأمريكان إلى إحكام القبضة على الجيش والأمن من خلال محاولة فرض "أصدقائهم" لاستلام الوزارات الأمنية والعسكرية، وكذلك تم خلسة وبشكل مشبوه تمرير اتفاقيات بين العراق وحلف الناتو،(16) وبدون أن يثير الإعلام في العراق أية أسئلة حول الموضوع أو ينبه الشعب إلى ما يجري وراء الكواليس، واستمرت علاقات السياسيين من أصدقاء أميركا، المشبوهة بتلك المنظمة. (17)

كذلك إكتشف العراقيون مع الأيام كيف أن دستورهم كتب بشكل يجعل الحكومة مقيدة ومشلولة ومعتمدة على الإرادة  الأمريكية، كما اكتشفوا شدة وحدة وكلفة القيود الإقتصادية التي تم تكبيلهم بها. فالأجندة الأمريكية للإقتصاد العراقي جعلت لنفسها هدفاً مركزيا هو تحطيم القطاع العام وخلق طبقة مستثمرين ثرية تكون حليفاً طبيعياً للوجود الأمريكي، حتى بدون القوات. تخبرهم بذلك تجاربهم في مختلف الدول التي سبق أن سيطروا عليها ولو لفترة، وتم نهبها وتحطيم قاعدتها للقطاع العام وعرضه للصوص السوق الحر، كما حدث في روسيا يلتسين مثلاً. وتعمل أميركا جاهدة على تثبيت هذا الطريق بمشاريع لتدريب رجال أعمال وغيرها (18) فارضة على العراق نفس الأسلوب الأمريكي الذي أدى إلى حدة الفارق الطبقي وتدمير المجتمع وجعل من أميركا أكبر سجان لشعبه في العالم. (19)

أما مشاريع "المساعدات" الأمريكية فلم تكن إلا وسيلة لتحويل أموال دافع الضرائب الأمريكي إلى الشركات الأمريكية وبدون أية فائدة تذكر للعراق التي يفترض أنها مخصصة لمساعدته (20) بل على العكس ثبت مسؤولية الولايات المتحدة عن اختفاء مليارات كشفتها لجنة النزاهة في البرلمان العراقي (21) ومليارات أخرى إعترفت بها لوس انجلس تايمز (22). ويذكرنا هذا الخنق والتدمير لإقتصاد البلاد بما عرف عن الأجندة الأمريكية للدول النامية من خلال كتاب رجال الضربة الإقتصادية  (23) وكتب كثيرة أخرى.

إضافة إلى ذلك أسست الإدارة الأمريكية مصارف عراقية ترتبط بشكل لا فكاك منه بالنظام المصرفي الأمريكي الذي تسيطر عليه الشركات، وقد كشفت عملية إقالة وزير الكهرباء العراقي السابق مدى خطورة المخطط الأمريكي لخنق الإقتصاد العراقي وأن بنك جي بي موركان، يملك اليوم فيتو على قرارات العراق الإقتصادية ويقرر من أين يسمح للعراق ان يشتري ما يريد شراءه و أين لا يسمح له. كما كشف حديث الوزير المستقيل في مجلس النواب (24) (فيديو على الرابط) مدى بشاعة الإستثمار الذي تضغط أميركا من أجل تمليكه السلطة على الإقتصاد العراقي،  وبين الوزير في خطابه كيف أن مشروعاً للكهرباء في القطاع  الخاص الإستثماري كان سيكلف البلاد 12 مليار دولار ، بينما كلف البديل في القطاع العام بحدود 800 الف دولار، مع افضليات أخرى للقطاع العام. إضافة إلى تبعية العراق بشكل مهين للتحديدات الأمريكية في من يسمح له ان يتعامل معه تجارياً ومن لا يسمح له، وجعلت لبنك جي بي موركان الأمريكي فيتو على القرار الإقتصادي العراقي.

خاتمة: الشعوب مدعوة للتواصل أكثر وتبادل التجارب

القواعد العسكرية الأجنبية في أي بلد خطر كامن، وما لم تكن هناك ظروف حرب فوق طاقة البلد، فلا مبرر لتحمل ذلك الخطر حتى من دول صديقة. أما إبقاؤها بشكل طويل أو ثابت، ومن دول مشكوك بأجندتها، إن لم نقل أن لها أجندة معادية، فهو أما حماقة كبرى أو استسلام وفقدان للإرادة. وتدل تجارب الشعوب المختلفة وتاريخها مع السلطة الأمريكية، أن خير طريقة للتعامل مع مثل هذا الأمر هو بالرفض الصريح والواضح لاية سلطة أمريكية، وتحمل المخاطرة بذلك، فالأخطار التي تأتي بها المجاملات غالباً ما تكون أكبر بكثير، ولم تستخدم السفارات الأمريكية لدى الحكومات التي حاولت "مجاملتها" إلا لإسقاطها بدكتاتوريات وحشية تنشر الموت في البلاد، كما حدث في العراق عام 63 وشيلي عام 73 وغيرها كثير(25).

ربما كان من حسن حظ العراق، وهي حالة نادرة، أن يمر بهذه الأزمة في وقت يتواجد فيه رئيس معتدل بالقياس الامريكي، على الولايات المتحدة. فرغم كل ما قيل عن أوباما بحق، فهو يبقى أقل استعداداً للجريمة من الجمهوريين من أمثال ريكان وبوش الأب والإبن وما أنزل به هؤلاء العالم من ويلات. لقد استغل رئيس بنما الوطني توريخوس وجود كارتر على رأس الحكومة الأمريكية لتوقيع اتفاقية تحرير قناتها من سلطة أميركا، وبدأنا فعلاً بالتخلص من القواعد الأمريكية، وعلينا أن نسعى لتحرير البلاد من أية قيود أمريكية على العراق، عسكرية أو أمنية أو سياسية أو اقتصادية او غيرها، فقد لا تأت الفرصة المواتية الثانية إلا بعد زمن طويل من القهر والخسائر.

لقد جاء القرار بخروج القوات، وفرح أغلب الشعب وعبر عن ذلك بالتظاهرات وغيرها، إلا أن ذلك لا يعني أن لم يكن هناك من كتب بحزن حقيقي لرحيل تلك القوات. ولكن الحقيقة هي أن الذين يرون في العلاقة مع أميركا فائدة وضرورة استراتيجية يفترض بهم أن يكونوا أول الداعين إلى خروج قواتها من العراق، فوجود تلك القوات هو أكبر العراقيل أمام مشاعر الناس تجاه العلاقة مع أميركا، وتصويرها بشكل عسكري عدائي، فلا يوجد في العراق من يتصور أن هذه القوات وجدت لحمايته، بل لفرض نفسها عليه. والآن، إن تم تنفيذ الإنسحاب بلا مؤامرات ولا ألاعيب، فالفرصة متاحة أمام هؤلاء والأمريكان ان يبرهنوا – رغم شكوكنا -  أنهم يعنون شيئاً إيجابياً للعراق، وليس تحويله إلى مكب لإسلحة يشتريها بأغلى الأثمان وعقود تكبيلية وحكومات تابعة مكروهة من شعبها ومفروضة عليه، كما هي الحال في الغالبية الساحقة مع دول العالم الثالث ذات العلاقة الجيدة مع الإدارة الأمريكية. لا شك عندي أن هذا القرار سينعكس إيجابياً على المشاعر العراقية من أميركا، وأن هناك العديد من الخطوات التالية اللازمة لبناء علاقة حقيقية وجميلة ومفيدة معها وتتمثل بتحرر العراق من كل القيود الأمريكية الأخرى ومن أشكال الهيمنة الأمريكية، مثل السفارة العملاقة وارتباط بنك التجارة العراقي بالفيتو من بنك جي بي موركان الأمريكي، وأمثالها من الأمور غير الطبيعية في علاقة اي بلدين في العالم.
من أجل هذا فأن على الشعب العراقي أن يؤمن أولاً حريته الأكيدة في تعميق علاقته مع شعوب ودول المنطقة، بدون أية قيود أمريكية، وأن يسعى ايضاً إلى التعاون قدر الإمكان مع الشعب الأمريكي بعيداً عن أطماع ومشاريع شركات البلاد الخطرة وارتباطات إدارته السياسية بإسرائيل، فأن هذه العلاقة خير ما يؤمن البلاد من شرور تلك الشركات ومؤامراتها، لكنه بالتاكيد سيكون طريقاً طويلاً وشاقاً ومحفوفاً بالمخاطر.

(1) http://www.aljazeera.net/NR/exeres/32251A8A-EE96-4F02-AE3D-573328DAC5F4.htm
(2) http://www.iraqcenter.net/vb/35172.html
(3) http://www.alkufanews.com/news.php?action=view&id=5389
(4) http://old.moheet.com/show_news.aspx?nid=334566&pg=31
(5) http://en.wikipedia.org/wiki/Operation_Gladio
(6) http://www.doroob.com/archives/?p=20611
(7) http://almalafpress.net/index.php?d=168&id=92481
(8) http://www.yanabeealiraq.com/articles/saeb-khalil250809.htm
(9) http://www.wsws.org/articles/2010/apr2010/japa-a29.shtml
(10) http://www.wsws.org/articles/2011/sep2011/japa-s07.shtml
(11) http://www.thawabitna.com/Article/article09-09-08/Article323.htm
(12) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=145683
(13) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=20653
(14) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7539
(15)http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=46809
(16) http://www.imn.iq/news/view.3908
(17) http://www.alliraqnews.com/index.php?option=com_content&task=view&id=6088&Itemid=86
(18) http://www.nasiriyahnews.com/news.php?action=view&id=1018
(19) http://www.aljazeera.net/news/archive/archive?ArchiveId=1092467
(20) http://www.almawsil.com/vb/showthread.php?t=84624
(21) http://www.alkufanews.com/news.php?action=view&id=5298
(22) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=4988
(23) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=100627
(24) http://www.youtube.com/watch?v=rocQRgIy3io
(25) http://www.youtube.com/watch?v=ee6SdmmCN5Y&feature=related

64
عندما تقترب الحقيقة من أميركا – رد على مقالة سلام كاظم – الحقيقة لا تهمني

صائب خليل

18 تشرين الأول 2011


كتب الأستاذ سلام كاظم فرج  مقالة "أدبية – فلسفية" في "المثقف" بعنوان "الحقيقة لا تهمني!. تهمني كركرة الاطفال في الحديقة." (1) ، تبدأ بتحدي مفهوم وجود "حقيقة" أو بقيمتها بجمل فلسفية معقدة مثل " واستبطان الوجدان يتوزع على تمظهر خارجي في نوعية الرموز والطقوس الدينية والاجتماعية والتقاليد المستقرة والمتحركة..." ، لتنتهي بـالإستشهاد ببريمر وحسن العلوي... لتصل إلى نتيجة مفاجئة وحديث سياسي محدد عن " أناس تضرروا نتيجة هذا الاحتلال..فمقتوا من يذكر اميركا بخير"!

كصاحب أي فكر مثالي، يلجأ سلام كاظم فرج إلى الدعوة إلى البحث عن "الحقيقة" من خلال دراسة تاريخ "الوجدان" وليس من خلال دراسة الطبيعة، فـ "الحقائق" ذاتية ونسبية وموجودة في وجداننا فقط، وهناك يجب أن نبحث عنها، وليس في العالم الوهمي الذي خلقه ذلك الوجدان.

وهنا من المفيد الإشارة إلى أن الفلسفة يمكن تقسيمها على اساس مصدر المعرفة إلى قسمين رئيسيين: المادية والمثالية، الأولى تقول بأن العالم "موجود" باستقلال عنا ، وأما الثانية فتقول أننا اخترعنا العالم بخيالنا وإحساسنا، وأن لا وجود له بدوننا. المادية تقول أن افكارنا وأحاسيسنا إنعكاسات للعالم الموضوعي الموجود بنا أو بدوننا، والمثالية تقول أن العالم ليس إلا انعكاس لأحاسيسنا، وأن قوانين الطبيعة ليست سوى انعكاس لقوانين "الروح"، وهناك فلسفات عديدة حول هذه "الروح".
ولكي تصمد النظرية الثانية المنادية بأولوية الروح، توجب عليها أن تنكر أساس العلم، لأنه يقول أن وجود العالم قبل وجود الإنسان بمليارات السنين بدلائل حسابات النظائر المشعة والظواهر الجيولوجية والفيزيائية وغيرها. أي أن الإكتشافات العلمية، حسب هذه النظرية، ليست سوى خلق لأوهام جديدة نخترعها لحظة ما نسميه "ألإكتشاف".
ومن المآخذ التي لاتحصى على هذه النظرية، ان القائلين بها يحيون حياتهم بشكل يدل على إيمانهم بأن العالم موجود بالفعل وليس من اختلاق "وجدانهم" كما يؤكدون في كتاباتهم، وأن الحقائق موجودة ولها قيمة وليست "نسبية" يجب اهمالها، كما يريدون إقناعنا. إنهم يحسبون ويحاسبون ويخططون ويغضبون ويفرحون ويحزنون ويفكرون ويقلقون، وهذه كلها أمور يجب على من يؤمن بان "الحقيقة" من صنعه هو، أن لا يمارسها، فكيف يفرح الإنسان أو يحزن لوهم يعلم أنه خلقه هو، وأنه موجود في راسه فقط، وأن بإمكانه أن يخلق ما هو عكسه؟

لنعد إلى مقالة الأستاذ سلام الذي يقول: "ان الحقيقة ما تعارفت عليه مجموعة من الناس.." و ايضاً يقول "لكن السائرون الى مجد الشهادة اقل من  رواد  مطعم صيني.. والهاربون من مجد الشهادة اكثر بقليل من شعب الصين الصديق.."
فهل يعني هذا أننا حين نبحث عن "الحقيقة" ، فعلينا أن نقوم بإحصاءات عن عدد المصدقين بها؟ هل هذا هو طريق "البحث العلمي" عن الحقيقة في نظرية الأستاذ سلام؟
هل على الباحثين عن الحقيقة أن يعتنقوا في النهاية ، المقولة التي تحوز أكبر عدد من الأصوات؟ إذن ستكون هناك حقيقة واحدة لكل شيء، حقيقة الأكثرية، وسوف يستحيل تغييرها أو البحث عن "حقيقة" غيرها، لأن من يبدأ بالشك بها سوف يخرج بالضرورة عن هذا التعريف ويصبح باحثاً عن التزييف. ولو فرضنا أن هناك من يحب "التزييف" ويسعى له، حتى يزيد عدد المزيفين عن عدد أصحاب الحقيقة، فتنقلب الحالة فجأة ويصبح المزيفون هم "الحقيقة" والآخرون مزيفون، دون أن تتغير أي من المقولتين! وفي هذا العالم العجيب، يفترض بالتقدم والتطور أن يكون ممنوناً للمزيفين!

والغريب أن الأستاذ سلام، يأتينا باستشهاد يناقض قوله نفسه في أن الحقيقة تعتمد على عدد مصدقيها تمام المناقضة فيقول :"وفي الذكر الحكيم (وأكثرهم للحق كارهون..)" ثم استشهد بالإمام علي، والذي يقول "لا تستوحشوا طريق الحق لقله سالكيه" فأي موقف هو موقف الأستاذ سلام من هذين النقيضين؟

مقابل هذا العالم السريالي أو الهلوسي عن خلق العالم في رؤوسنا وعدم وجود الحقيقة أو نسبيتها التي تجعلها غير جديرة بالإهتمام، هناك من يقول ببساطة: أن ندرة الشيء ليست مقياساً لصحته أو خطأه. هناك مقاييس أخرى لمعرفة الحقيقة.
نقول ببساطة أن ما نفهمه من كلمة "الحقيقة" أنها "مقولة تعكس الواقع" مقولة "تساعدنا على التعامل مع الواقع" مقولة تساعدنا على "توقع رد فعله بشكل صحيح" على أي عمل نقوم به، وبالتالي نستطيع أن نخطط اعمالنا بشكل صحيح..والبشرية مستمرة في بحثها عما "يساعدها على التعامل مع الواقع والقدرة على توقع رد فعله مسبقاً"، في علم الإجتماع كما في معادلات الفيزياء والكيمياء. إنها مستمرة في البحث عن "الحقيقة"، وقد حققت البشرية خطوات كثيرة في هذا الإتجاه رغم العثرات. خطوات كان كل منها ، في الخط العام، "يقترب" من الحقيقة ويهيء للخطوة التالية التي تقترب منها أكثر.

فهل كانت قوانين نيوتن مثلاً، والتي "نفتها" نظرية النسبية فيما بعد، "لا تعكس الواقع" أو "لا تساعد على التعامل معه" أو تفشل في "توقع رد فعله" ؟ هل اكتسبت صحتها و"حقيقتها" بعد أن اعترف بها الناس، أم أن الناس اعترفوا بها بعد أن برهنت صحتها بالتجربة؟ هل اعترفوا بها بعد أن رأوا أن سرعة الجسم الساقط تشابه في كل مرة تلك السرعة التي تحسبها قوانين نيوتن، أم أنه كان مختلفاً حتى صدق الناس النظرية، فصار الجسم الساقط يتصرف بشكل يؤكد صحتها؟ لا يملك المرء إلا أن يتساءل: لماذا هذا الجهد من أجل قلب الأمور على رأسها؟

"الإستبطان المتجه نحو الذات الكامنة في كل فرد"، كما يصف الأستاذ سلام الأمر، كلام ليس جديد في شيء، بل هو روح فكرة "المثالية" التي تعتقد أن كل شيء في الحياة خيال من صنعنا، والتي تصارع "المادية" التي تؤكد أن العالم موجود وأن خيالنا وتصورنا ليس سوى إنعكاس له، يخدمنا  في التعامل معه. والحقائق "المتناقضة" التي جاء بها الكاتب، كدليل على "عدم وجود حقيقة" او "عدم اهمية الحقيقة" لا تدل على ما أرادها أن تدل عليه. وكل تطور علومنا يكاد يكون عائداً لإكتشافنا "حقائق متناقضة" تنفي واحدة الأخرى وترفض التعامل معها، وتجبرنا على اكتشاف أي منهما الحقيقة وأي منهما الوهم، أو أن نكتشف حقيقة ثالثة غير متناقضة، هذا ما يقول به ديالكتيك هيجل قبل ماركس.
في البداية كانت الإقطاعية "تقدمية" بالنسبة إلى مجتمع العبيد، ثم صارت "رجعية" عندما جاءت الرأسمالية، فهل هذا تناقض؟ وهل لأننا وصفنا الإقطاعية مرة بأنها تقدمية ومرة بأنها رجعية، فأن هذا يعني أن الحقائق متقلبة لا معنى أو وجود لها؟ لا اتصور أن هناك مخ سيدوخ في اكتشاف الفكرة: أن الإقطاعية تقدمية بالنسبة إلى العبودية ورجعية بالنسبة للرأسمالية الأكثر تقدمية منها. هذه "النسبية" ليست بمثلبة على الحقائق، فليست هناك أية مشكلة في القول أن "أ" أكبر من "ب" وأصغر من "ج"، أو أن "أ" كبير "بالنسبة" إلى "ب" و صغير "بالنسبة" إلى "ج"، ولا يعني وصفنا لـ "أ" مرة بالصغير ومرة بالكبير أي تشويش يتطلب مراجعة وجود "الحقيقة" ذاتها وقيمتها.

تترك المقالة الفلسفة بين الحين والآخر لتنتقل إلى موضوع "حقائق" محددة جداً ، بل و سياسية، وتستقر في النهاية عند موضوع الأمريكان وحبهم وكرههم، وبدون ربط بين المقدمة المغرقة في الفلسفة وبين موقف سياسي مباشر، فكيف اتخذ الكاتب موقفه هذا بدون استشارة الحقيقة التي لا تهمه؟ وكيف ارشدته "كركرات الأطفال إليه"؟ ويبدو لي ان موضوع أميركا هذا هو الموضوع الأصلي وما قضية "نسبية الحقيقة" إلا إطار تجميلي للموضوع.

في توصيف غريب للمارينز بأنهم الطبيب والعراقيين على ما يبدو هم "آكل لحوم البشر" المريض في المقالة، وكل ما يتفرع من تلك الصورة، أقول أن المارينز هم الأقرب إلى آكلي لحوم البشر من الذين تطلب لهم الشفاء، وفي المواصفات المطلوبة للمرشحين ليكونوا مارينز وفي تدريبهم من أعمال آكلي لحوم البشر ما يزيد عن غيرهم – ألا تراهم يصرون على الحصانة؟ أليس ذلك خشية ان يراهم أحد وهم يفترسون الآخرين، ويحاسبهم؟
وفي مغالطة غريبة عن الحقيقة، يشير الأستاذ سلام إلى قبول مساعدة الناتو في ليبيا ومصر وتونس والصومال، في الوقت الذي تقول الحقيقة ان ذلك حدث في ليبيا فقط، وبعد رفضه رفضاً باتاً لمدة طويلة، ولم يقبلوه إلا عندما لم يجد الثوار سوى الخيار بين الناتو والموت، أما الآخرين فقد رفضوا الناتو والغرب كله رفضاً قاطعاً، لكن إذا كان المبدأ هو أن الحقيقة لا تهم كما يقول الأستاذ سلام، فيمكن لصاحب تلك الفلسفة أن يكتب ما يشاء، دون أن يتناقض مع مبدأه.

يفسر الأستاذ سلام كراهية العراقيين لأميركا بأنهم " أناس تضرروا نتيجة هذا الاحتلال..فمقتوا من يذكر اميركا بخير"! ومن المعروف، وما اعترف به الأمريكان صراحة والسياسيون العراقيون أيضاً، أن الغالبية الكبرى من العراقيين تكره أميركا، فهل يريد الأستاذ سلام القول بأن الأكثرية من العراقيين قد تضررت من الإحتلال؟ وهو بالتأكيد لا يقصد هنا بعبارة "من يذكر أميركا بخير" من يذكر جومسكي أو مارتن لوثر كنج أو توماس أدسون بخير، كما قد توحي عبارته، وإنما من يريد ويصر على إبقاء الوحوش المسؤولة عن مذابح الفلوجة وبشاعات سجن أبو غريب وحديثة وإعطائهم الحصانة التي يحتاجونها ليطمئنوا وهم يمارسون القتل من الطائرات و هواية  "صيد الديكة" وإطلاق النار على الناس من المدرعات بلا سبب او مناسبة كما حدث في ساحة النسور وحالات لا حصر لها ولا عد. هؤلاء من يمقت البعض من يذكرهم بخير، ويبدو لي ان الأستاذ سلام يحتج على ذلك، ويموهه بعبارة "من يذكر أميركا بخير".

يكمل الأستاذ سلام بشرح سبب كره هؤلاء الأمريكان الطيبون بالقول: "ولهذا ترى ان من قتل الانكليز اباه في ثورة العشرين ظل على مقته للأنكليز. واورث هذا المقت لاحفاده.." فهل هناك إحصائية وصلت إلى الكاتب تشير بهذا الأمر أم أنه لا داعي للإحصائيات ايضاً باعتبار أن الإحصاءات "نسبية"؟
إن إرجاع كره أو حب "الإنكليز" (إقرأ : الإحتلال – الأمريكان) إلى قضايا في داخلنا، ورثناها عن أجدادنا، هروب فاضح من ما يقومون به من افعال. إنها محاولة يائسة لإعفائهم من نتائج جرائمهم، من خلال لإدعاء بأن ذلك الحب والكره شيء خاص بنا لا علاقة لأفعالهم به، وبالتالي فهم معفيون من أي عمل يقومون به. فتقييماتنا حسب الأستاذ سلام، تسبح في عالم وهمي من تجاربنا الداخلية ولا تتلقى أي شيء من العالم الخارجي وإنكليزه، وكأننا غارقون في نوبة ماريوانا تقطع اتصالنا بالعالم، وتقرر مواقفنا – كأننا مجانين، فتعريف المجنون هو "المنفصل عن الواقع".
ليس هناك إذن من معنى لقراءة جومسكي أو وليم بلوم أو حتى غاندي، وأي سياسي أو فيلسوف أو مؤرخ من أجل ان تتخذ موقفاً من "الإنكليز": أنظر إلى أجدادك وستعرف من شجرة العائلة أنك تحب الإنكليز أو لا تحبهم...وبما أن حبك وكرهك هذا مغروس في جيناتك، فليس لك أن تغير رأيك لأنك لن تغير جيناتك.
ومن الجهة المقابلة، حسب هذا الرأي، فيمكننا مراجعة صحة شجرة العائلة بأن ننظر إن كنا نكره الإنكليز أو نحبهم!

من لم يشارك في حفلة الماريوانا هذه لن يجد صعوبة في حل المشكلة، ولن يدوخ في معالجة حالة أناس يفعلون الجميل حيناً والجريمة حيناً: الإنكليز فعلوا ذلك الجميل فشكرا لهم ، وقاموا بتلك الجرائم فاللعنة عليهم. وعلينا أن نقرر ما نفعله مع مثل هؤلاء. هل نرحب بمجرمين لإحتمال أن ينفعونا يوماً؟ أم نتخلى عن تلك الأفضليات لنأمن جرائمهم؟ هل هناك طريقة تتيح لنا أن نستفيد من فوائدهم دون أن نقبل جرائمهم، كأن نتعامل معهم دون قبول قواتهم ومنظماتهم السرية في بلادنا والتعامل معهم كبلد أجنبي من خلال التجارة الحرة والتبادل الثقافي؟
هذه هي الأسئلة التي يطرحها الممتنع عن حفلة الأفيون، ولا يفترض أن يجد صعوبة كبيرة في الوصول إلى جواب، ولا يحتاج إلى التضحية بكركرات الأطفال من أجل ذلك.

لنعد إلى لب الموضوع: الكاتب يقول أن الحقائق نسبية ولذلك لا تهمه، وإنما يحب كركرات الأطفال، ولنفترض أنه كان يذهب كل يوم للإستمتاع بها.. ولاحظ أنها تقل يوماً بعد يوم، فماذا يفعل؟ هل يعتبر تلك "حقيقة" أم وهم من إنتاج وجدانه؟ هل يسأل عن السبب، أم أن ذلك سيكون "حقيقة" خارج أهتمامه؟ وإذا سأل وتبين أن الإستغلال يتسبب في أن يفقر أهلهم ولا يدعهم يكركرون، فماذا يفعل؟ هل يقف ضده، فيتخذ موقفاً سياسياً فيضيع الفرق الذي يفتخر به بينه وبين خصمه الساذج الذي يؤمن بوجود الحقيقة؟ أم سيجلس على مصطبة في الحديقة في انتظار الأطفال الذين سيعودوا للكركرة بأعجوبة ما؟

حين قرأت بداية المقالة، تصورت أن الموضوع موضوع فلسفي بحت، حتى وصلت السطر الذي ذكر فيه الإنكليز، ثم أميركا بصراحة، ففهمت ما وراء كل نبش التاريخ بحثاً عن فلسفة ما تخدم غرضاً ما يصعب على المنطق البسيط أن يخدمه. أقول الحق، اسعدني أن لا يجد من يريد أن يدافع عن بقاء الأمريكان طريقاً للدفاع عن رأيه سوى من خلال محاولة إلغاء وجود الحقيقة، فهذا يعني أنه لم يجد طريقاً للوي الحقيقة ليجعلها تدافع عن بقائهم. إنه مضطر لإلغاء الحقيقة لأنها تقول أنه في معظم البلدان التي سيطرت أميركا - إسرائيل عليها، خاصة في العالم الثالث، تراجعت كركرات الأطفال بشكل كبير، وكره أهل تلك البلدان أميركا كرهاً شديداً، يعبرون عنه حين يجدون لذلك طريقة، مثلما عندما وجد التونسيون والمصريون الحرية ليقولوا ذلك بعد عقود من "صداقة" أميركا.

العالم الذي يريده النظام الإقتصادي والسياسي الأمريكي عالم قاس موحش في ملاحقته الربح بأي ثمن، وما ينتج عن ذلك من فوراق طبقية تسحق غالبية الناس وأطفالهم. لذلك فأن العالم الذي ستسيطر عليه أميركا سوف يكون فيه بلا شك عدد أقل من كركرات الأطفال في الحدائق العامة، فهو نظام يسعى أصلاً لإلغاء الحدائق العامة و كل ما هو عام، وتسليمه إلى الإستثمار الخاص لتحويله إلى مشروع ربحي ومن الصعب أن تربح المال من حدائق الأطفال، إلا إذا حولتها إلى ملاعب غولف للأثرياء. لقد امتد هذا القبح ليشمل أذاه شعبهم نفسه الذي ينوء تحت ضغط الفوارق المتزايدة، رغم أن بلده أغنى وأقوى بلد في العالم. وهاهو العالم يسمع أصوات غضب عالية مدوية من شوارع أميركا، لا تشبه كركرات الأطفال بشيء، ولا تشجع أحداً على الإقتداء بمن كانت سياسته السبب فيها، دع عنك إبقاء قواتهم على اراضيه، رغم "الفلسفة السريالية" و"الحقيقة النسبية." وكل التواءاتها الفكرية.

(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=55856

65

أُكلنا يوم أُكل الثور الإيراني - إيران وقتل السفير السعودي

صائب خليل
14 تشرين الأول 2011

قال الأمريكيون أنهم أفشلوا عملية إرهابية باسم "عملية التحالف الأحمر"، تديرها "جهات مسؤولة عليا" في إيران تستهدف قتل " عادل الجبير"، السفير السعودي في واشنطن، وكذلك تفجير السفارتين السعودية والإسرائيلية في واشنطن وبوينس آيرس البرازيل، واحتمال قتل مئات الأمريكيين إن تطلب الأمر.
وحسب القصة الأمريكية الرسمية فأن أمريكياً إيراني الأصل باسم "منصور اربابسيار" قد اتصل لحساب غلام شكوري من حرس الثورة الإيرانية بكارتل كبير لتجارة المخدرات في المكسيك والمعروف باسم منظمة "زيتا" ، وعرض عليهم مبلغ مليون ونصف مليون دولار مقابل قتل السفير. لكن الرجل الذي اتصل به اربابسيار، كان في الحقيقة مخبر يعمل لـ "إدارة محاربة المخدرات" الأمريكية (DEA). وتقول القصة الأمريكية أن اربابسيار حول مرتين خلال 10 أيام ، مبلغا مقداره 49 الف و 960 دولار في كل مرة، إلى بنك يديره سراً مكتب التحقيقات الفدرالي- الـ إف بي آي. وقال التقرير أن الرجل الإيراني الأصل اخبر العميل السري بأن الحكومة الإيرانية مستعدة لتجهيزهم بـ "أطنان من الأفيون".(وهنا قرار الإتهام(1) )
وهاتف اوباما السفير السعودي عادل الجبير وأعرب له عن تضامن بلاده معه ضد المؤامرة. وقالت كلنتون أن واشنطن تريد زيادة عزلة إيران بعد المؤامرة التي "تشكل انتهاكا للمعايير الدولية". وقال جو بايدن نائب الرئيس الاميركي إن إيران ستحاسب على المؤامرة وإن إدارة  الرئيس باراك أوباما تعمل على توحيد الرأي العالمي وراء رد  أميركي محتمل (2). كذلك اعلنت الجمعيات اليهودية في اميركا والأرجنتين بترحيبها بالموقف الأمريكي، وأكدت ان الرواية صحيحة ومتناغمة مع طبيعة العنف للجمهورية الإسلامية. (3)
وادعى الرئيس السابق للاستخبارات السعودية بوجود "ادلة دامغة" على ان ايران تقف وراء "مخطط قتل السفير السعودي في واشنطن" واضاف : انه لا بد "ان تدفع ايران الثمن"، بينما قالت المتحدثة عن السفارة السعودية أنها غير مطلعة على موضوع المؤامرة. (4)

من جهة أخرى نفى كل من حرس الثورة الإيراني (5) ووزير الخارجية الايراني علي اكبر صالحي القصة. وقال الوزير ان الشعب الايراني واع، ويتحرك في اطار الحكمة والمصلحة ولايرحب بالمواجهة ابدا، وعلل الموضوع بالمشاكل الكبيرة التي تعاني منها الادارة الاميركية حاليا في الداخل الاميركي.(6) ، وقالت بعثة إيران في الأمم المتحدة أن التهمة استخفاف بعقول الناس في العالم كله (7).
هذ ملخص القصة وبعض المواقف منها، ولمن يريد أن يصدق على الثقة ليصدق، ومن يريد أن يكذب على عدم الثقة فليفعل ومن يريد أن يرى "براهين دامغة" قبل ان يصدق فهو خيار معقول أيضاً، بل هو الخيار الأكثر معقولية.

لكن معظم الناس حسمت موقفها بدرجة أو بأخرى مما تقدم من أدلة ومؤشرات. فقال الكاتب السعودي جمال خاشقجي لـ "راديو سوا" في هذه المرة اعتقد أن الشعرة قطعت وسوف تتخذ المملكة إجراءات حاسمة في أكثر من مكان تحصل فيها مواجهة مع إيران كسوريا والبحرين ولبنان، لأن المملكة مقتنعة بأن وجود هذا النظام في المنطقة وتركه يتمدد هو خطير جدا على المصالح الإستراتيجية."
ودعا خاشقجي شيعة الخليج إلى النأي بأنفسهم عن إيران "أنا أتمنى أن الأخوة في منطقة الخليج واعني الشيعة تحديدا، أن ينأوا بأنفسهم عن هذا التوجه أو التصعيد الإيراني وهم أبناء الوطن ولا يعنيهم ما تقدم عليه إيران. (8)
وعن الهدف من المؤامرة قال خاشقجي: "هو سفير مهم جدا مقرب من خادم الحرمين الشريفين وجرأة إيرانية لو قبلنا بها في المملكة يعني أن الإيرانيين سيتجرأون على من هو أهم من عادل الجبير، والجبير بحد ذاته شخصية مهمة. وأتوقع رد سعودي قوي جدا تجاه إيران". واعتبر أن استهداف السفير عادل الجبير يأتي باعتباره دبلوماسياً مهماً جداً يعرف واشنطن بشكل جيد وعلاقاته ممتازة مع الإدارة الأمريكية، وبالتالي هو هدف مهم جداً للإيرانيين.(9) وأضاف: "لم يكن الهدف من العملية المزمعة دافعاً انتقامياً، ولو كان الأمر كذلك لقاموا باغتيال دبلوماسي سعودي في كراتشي، ولكن الإيرانيين اختاروا مكاناً صعباً جداً، مما يعني أنهم كانوا يستهدفون شخص الجبير لأهميته".

بغض النظر عن ما تثيره السيدة كلنتون من مشاعر وهي تتحدث غاضبة على "إنتهاك المعايير الدولية"، فأن القصة لا تبدو بهذا الوضوح والمصداقية للجميع ولأسباب كثيرة. أولاً لأنها مفيدة جداً لسياسة صاحب القصة، الإدارة الأمريكية، وثانياً لأن هذا "الصاحب" ، هو أيضاً أكثر أصحاب السوابق بلا منازع في الكذب واستعماله لتبرير الحروب، إضافة إلى ثغرات كثيرة في الرواية نفسها. فهي تبدو كما وصفها قارئ أمريكي لإحدى المقالات عن الموضوع "أن القصة تبدو كما قال مدير مكتب التحقيقات الفدرالي مرة: كأنها صفحات من سيناريو فلم هوليوودي".
لا بأس بأنتظار "البراهين الدامغة" لكني أراهن أنها لن تكون أفضل من براهين كولن باول "ألدامغة" على امتلاك صدام حسين اسلحة الدمار الشامل في كلمته في الأمم المتحدة، وهو يحمل قنينة "أنثراكس" ويقدم صوراً لمربعات ودوائر سوداء يفترض بالعالم ان يصدق انها مصانع كيمياوية متنقلة، وهو ما أعلن خجله منه وأسفه عليه لاحقاً، وقال أنه "لطخة أبدية في سجله".(10)

قصة المؤامرة صعبة الهضم، ليس فقط لأن ليس لإيران سجل اغتيالات للدبلوماسيين، على العكس من سجل متهميها الحافل به، وإنما أيضاً لأنه لا يمكن تخيل سيناريو ما يمكن أن ينفع فيه مثل هذا العمل إيران، خاصة في وضعها الحالي، الذي يفترض بها أن تتجنب أية إثارة، على الأقل حتى تحصل على سلاحها النووي، كما يتهمها الغرب به. ثم ما أهمية قتل سفير سعودي شاب لإيران؟ إنها مغامرة كبيرة لو صحت واكتشفت قد تكلف إيران رأسها، فما الذي يمكن أن تجنيه إيران من قتل هذا الرجل، ليبرر ركوبها مثل هذه المجازفة؟
السفير كما قيل كان مستشاراً للملك عبد الله، وأنه قاد حملة دفاع عن بلاده بعد 11 سبتمبر. فأما قصة سبتمبر، فلا بد أن إيران كانت سعيدة بدفاع السعودية عن نفسها فيها، وأما عن المستشار، فما هي أهمية قتل مستشار سابق للملك؟ بل ما أهمية قتل مستشار حالي للملك؟ هل سيضيع الملك بعد ذلك لخسارته الإستشارة ولن يعرف كيف يحارب إيران؟ (11).
إن عبارات خاشقجي أعلاه عن أهمية الجبير وخطورته تبدو وكأنها محضرة مسبقاً لسد بعض ثغرات هذه القصة المشبوهة، والإجابة عن أسئلة محرجة يعلمون أنها ستطرح.

من جانب آخر تثير شخصية "منصور اربابسيار" الذي يعمل بتجارة السيارات المستعملة ويعاني من ضوائق مالية وحياتية، الكثير من الشكوك الإضافية. فأنظمة الأمن الغربية كثرما تستغل أمثال هؤلاء لأجندتها وبشكل غير سليم في كثير من الأحيان، كما علمتنا المراقبة لأحداث "الإرهاب" في هولندا، وربما كتبنا عنها مستقبلاً، وهناك مادة كثيرة متوفرة عن الموضوع في دول مختلفة. السؤال الذي يخطر في البال، كيف يمكن أن تعتمد حكومة إيران على شخص متقلب وغير مستقر، لتنفيذ عملية خطيرة مثل هذه؟ كيف تترك لمفلس، التصرف بمليون ونصف مليون دولار؟ (12).
ربما يقول المرء: أنها تمثيلية لكي لا يلفت المتهم نظر السلطات. لكن هذه النظرية لا تصمد أمام الوقائع، فـ "منصور" لفت بالفعل نظر السلطات الأمريكية واحتك بها اكثر من مرة ، لمشاكله العائلية وقيادته السيارة بدون رخصة وغيرها.
 

لا يبقى لتبرير مثل هذه المؤامرة المزعومة إلا افتراض أن إيران "مجنونة" ولا تسير وفق المنطق...وهو ما يذكرني بأجوبة المدافعين عن أميركا، عندما يحرجون في سبب إقبال "القاعدة" على القيام بعمليات تخدم اميركا ولا تؤذيها، وفي الأوقات المناسبة لتلك الأجندة. يقولون "إنهم مجانين" "إنهم خارج المنطق". هذا هو التبرير الذي يعطيه دائماً كل من يعجز عن تبرير الربط بين جهة والتهمة المتهمة بها، ولن نأخذها بنظر الإعتبار.
لكن هذا الإتجاه يجد من يتخذه هنا ايضاً، مثل المدافع المتحمس عن مشاريع الحروب دائماً، كين بولاك، الذي لا يجد سوى أن يذكرنا بأن "إيران ليست دولة طبيعية بأي مدى يمكن للخيال أن يصله". وما يفهم حقيقة من هذا أن بولاك يقول  " أن قصة المؤامرة غير معقولة، ولذا لا أجد للدفاع عنها سوى هو افتراض أن من قام بها، غير معقول أيضاً!" (13)

لامعقولية قصة المؤامرة أثارت عدداً كبيراً من الكتاب في أميركا نفسها، وبقية العالم، وإلى درجة الغضب.
كتب الكاتب جستين رايموندو مقالة قيمة بعنوان: "قصة مؤامرة إيران الإرهابية، مزيفة مزيفة مزيفة!" (14) وقال أن القصة "ليست حتى كذبة جيدة". ويرى رايموندو أن ما نشر في نيويورك تايمز  (15) بأنه "خلال كل العملية كانت مصادر الحكومة السرية تقاد من قبل قوات إتحادية"، كما بين النائب العام في الولايات المتحدة للجزء الجنوبي "بريت بهارارا" وأنه "لذلك فلم يتم وضع أية متفجرات في أي مكان ، ولم يتعرض أحد للخطر"، اعتبر أن هذا يدل على أن القصة كلها ملفقة من البداية إلى النهاية، وانها ليست سوى واحدة من "القصص المختلقة الكثيرة (16) عن "الإنتصارات" الوهمية (17) التي حققتها قوات فرض القانون الأمريكية، حيث ترتب الشرطة الإتحادية شخصاً ما (18) ، وتفبرك "جريمة" من لاشيء، ثم تقوم بحل (19) مشكلة قصة لم تحدث أساساً (20)، وهذا هو الشكل النموذجي للعمليات "المضادة للإرهاب" في الولايات المتحدة منذ بدايتها."
ويشير رايموندو أيضاً إلى غرابة "الصدفة" في ان لا يجد "الإرهابيين" الإيرانيين من مهربي المخدرات إلا عميل لإدارة مكافحة المخدرات (DEA)! واعتبر مصداقية القصة قريبة من الصفر..
وتساءل رايموندو قائلاً: "لنفرض أن الإيرانيين أرادوا أن يقتلوا السفير السعودي، وعلى الأراضي الأمريكية، فلماذا يعطوا المهمة إلى المافيا المكسيكية، ويرسلوا لها كل الحوالات المالية التي لا يصعب كشفها ومتابعتها (من قبل الإدارة الأمريكية)؟ أليس من الأفضل لهم ان يرسلوا متطرفاً يقوم بها ليس مجاناً فقط، وإنما يفجر نفسه (ويزيل الأدلة).!
ويسخر رايموند من عدم عناية الحكومة الأمريكية حتى بقواعد الروايات الخيالية (21) في قصتها. القواعد التي تقول أن عليك أن تخلق شخصية تقوم بأفعال قابلة للتصديق، ويبدو انها كانت تأمل ان الشعب الأمريكي منشغل بالصمود والبقاء على قيد الحياة (22)  هذه الأيام، ولن يطرح الكثير من الأسئلة.
أخيراً يرى رايموندو ان القصة مخيفة جداً، ليس لأنها حقيقية، بل لأنها تعني أن اميركا مصممة على خوض الحرب مع إيران مهما كانت النتائج.

ويكتب "كلين كرينوالد"، ساخراً وغاضباً في الوقت ذاته:"الصعوبة الكبرى في الكتابة عن "المؤامرة الإيرانية" التي تم الكشف عنها أمس، هو أن تقنع نفسك بأخذها على محمل الجد لكي تقوم بتحليلها". (23)
"هل يستطيع أحد على سطح هذا الكوكب أن لا يذهل وهو يستمع إلى هؤلاء المسؤولين الأمريكان المدمنين على القتل من الجو، وهم يستنكرون بوجه بارد، العملية "غير القانونية" بدخول أراضي دولة أخرى للقيام بعملية اغتيال؟"
ثم يشير إلى مفارقات أخرى، "المثير للإستهجان هنا إدخال البعض موضوع "الحرب على الإرهاب". فـ "عدونا الكريه" هنا، إيران، بلد لا علاقة له بأي شكل من الأشكال بـ 11 سبتمبر. بينما "حليفنا العزيز"، الضحية التي غضبنا من اجلها أشد الغضب، السعودية العربية، ليست فقط أكثر الدول دكتاتورية وعدوانية، وإنما كان منها 15 من الـ 19 الذين قاموا بعملية 11 سبتمبر، ولهم علاقة واسعة وغير معروفة بدقة، بالهجوم الذي حدث على الأرض الأمريكية."
ويسخر الكاتب أيضاً من الإحتجاج على "وحشية الإرهابيين الإيرانيين" الذين حسب الرواية الأمريكية قالوا للقاتل المأجور المفترض: نفضل أن لا يقتل أحد غير السفير، لكن إن لم يكن من بد، فليس هناك مشكلة. ويبين النفاق في منطق الساسة الأمريكان، مبتكروا عبارة "أضرار جانبية" (collateral damage) التي برروا بها قتل الآلاف من الأبرياء أثناء مطاردتهم واغتيالهم لأهدافهم، في بغداد وليبيا (وأفغانستان) وكدسوا جثث الأبرياء بشكل منهجي. "لا يفترض أن يذهب المرء إلى عاصمة دولة الآخرين لينسف أحداً"!! يقول توم كين الرئيس السابق للجنة 11 سبتمبر. (24) وأخيراً يتساءل الكاتب: "لا أفهم لماذا يصحو الإيرانيين من نومهم ليقرروا قتل دبلوماسي سعودي على الأرض الأمريكيية بينما يستطيعون أن يفعلوا ذلك بسهولة أكبر في اي مكان آخر؟".

هذه الأسئلة المنطقية التي لا تستطيع الرواية الأمريكية الإجابة عنها، وكذلك طبيعة النظام الإيراني، جعلت الخبراء في القضايا الإيرانية يضعون علامات الإستفهام ويؤكدون عدم منطقية العملية (25) بالنسبة لسياسيي إيران المعروفين بحذرهم، وعدم تلاؤمها مع "شخصية الدولة الإيرانية" (26) . و تكتب مجلة كريستيان ساينس مونيتور "أن الخبراء في الشؤون الإيرانية ... يقولون ان القصة غير متلائمة" (27) بينما تؤكد مقالة نشرتها رويترز على الثغرات في الادلة والمعلومات لدى أميركا.(28) كذلك عبر خبراء وصحفيون عرب عن عدم تصديقهم الرواية (29).
ولكن رغم ذلك فلا غرابة أن يتصدر نائب الرئيس الأمريكي "جو بايدن" الذي يفخر بصهيونيته والذي طالما جاء لبغداد كلما أراد تسليط الضغط لمشاريعه الصهيونية التقسيمية للبلاد أو لإبقاء جيوشه فيها، قائمة المطبلين والمهددين والمؤكدين على وجود الأدلة القاطعة على الجريمة وضلوع قادة إيران بها (30)

تذكّرني هذه الرواية وهذه "الإعترافات" بقصص جرائم إرهابية في العراق تحتوي أيضاً ثغرات كبيرة كتبت عن بعضها  وكان فيها أيضاً "معترفين" بارتكاب الجريمة، ولم أجد تفسيراً لها خير من ان هؤلاء المجرمين المعترفين قد تم ابتزازهم ثم طمأنتهم بأنهم إن قدموا الإعترافات المطلوبة، فسوف يتم إنقاذهم من حبل المشنقة وتسفيرهم إلى مكان آخر، وربما تقديم أشخاص آخرين للإعدام مكانهم دون أن يعلم أحد بشيء، خاصة وأن تلك الأحداث تجري في اماكن للأمريكان فيها سلطة أما تامة أو كبيرة جداً على الملف الأمني ومن يرأسه (أميركا والعراق) فهل "منصور اربابسيار" واحد من هؤلاء، وأن الجهة المنظمة للقصص والإعترافات هي واحدة؟(31)

الآن ستدور وفود السيدة كلنتون في العالم، تطالب بتعاونه على أساس هذه الكذبة، معتمدة على أنه من الصعب على الدول والمسؤولين أن يقولوا لها بصراحة أننا لا نصدق قصتك، كما أنه من الصعب تبرير رفض التعاون بدون هذا الرد. وحتى حكومة المملكة العربية السعودية لن تصدق كلمة واحدة من ذلك، (وربما كان تعبير ممثلة السفارة السعودية في واشنطن يمثل ذلك)، كما أنها قد لا تريد التورط في مثل هذا الموضوع الخطير، ولذلك فيجب ان تشغل أميركا وإسرائيل، اقلامها من امثال جمال خاشقجي لتسليط الضغط على المترددين في تلك الحكومة، وإجبارها على ان تتورط أبعد مما تريد.

لم تكن هذه القصص الخطيرة ستأتي إلى الحياة، لو ان الذين لم يصدقوا قصة 11 سبتمبر كانوا أقوياء وصريحين في رفضها، وكان لهم من الشجاعة والإصرار بما يكفي لإجبار الإدارة الأمريكية الجديدة - القديمة على التحقيق بها، وكشف حقائقها. لكن من يقف وراء 11 سبتمبر، تلك القصة المليئة بالثغرات الفاضحة، والتي لا تزيد في مصداقيتها عن مصداقية هذه الرواية الرخيصة، ما زال مسيطرا في أميركا، واكتشف أنه يستطيع إنقاذ نفسه حتى في حالة انكشاف كذبة بذلك الحجم، وأن العالم متساهل مع كذابيه، حتى أؤلئك الذين تهدد أكاذيبهم أمن العالم كله.
تساهلنا هذا حطم عملياً القانون الدولي وأسس التعايش السلمي العالمي ، وألغى الدروس التي استخلصتها البشرية من الحروب العالمية المدمرة التي دفعت الأجيال ثمنها من دمائها ودموعها غالياً. لقد جعل هذا التساهل المؤسسات التي أرادتها البشرية درعاً لها من مثل تلك الكوارث، كيانات إعلامية وهمية يرأسها مرتشون وتطير من أول كذبة يقدمها تجار الحروب للعالم، ويجبرونه على ابتلاعها، حتى حين يعلم أن فيها السم لحياته. لقد شعروا أن "الحرب على بُعد كذبة"، فكلما أرادوها قدموا أكذوبة صغيرة للعالم، كما فعلوا مع العراق وسوريا ولبنان وهاهي يقدمونها لإيران.

لقد صرخت منظمات الصهيونية في كل مكان مهلله بكل صراحة بالكارثة الموشكة على منطقتنا والعالم، ورددت الصرخة أبواقها المطيعة مثل جو بايدن وأوباما وغيرهما، وردد صداه الذيول العربية مثل جمال خاشقجي، داعياً إلى الإبتعاد عن إيران وتركها وحيدة أمام هذه المؤامرة عليها، ليبدأوا بها وليمتهم التي لن تقف عندها. وما أشبه صوت خاشقجي بصوت الضباع التي تدعو الثورين للتخلي عن الثور الأبيض وأنها لا علاقة لها به، وأنه سيتم افتراسه وحده دون أذيتها.

هذه هي النماذج الخطرة التي يدعو البعض ممن باعوا ضمائرهم إلى إبقاء قواتها في العراق، تحت غطاء الحماية الكاذبة أو محاربة الإرهاب أو تدريب الجيش، وأجندة أميركا تطلب ضعف العراق وجيشه وتصنع الإرهاب. هذه المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية جاءت لتصفع وجوه "المتفائلين" بأميركا وتغيرها، فمن الواضح أن شيئاً لم يتغير فيها، وأن أجندة بوش وريكان وكيسنجر باقية، وأن المستقبل لن يكون خير من الماضي وأن الحروب قادمة ومستمرة حتى يتم خضوع كل انسان في المنطقة والعالم إلى الإرادة الأمبراطورية بقوة السلاح- أو أن يشعروا بأن هذا الهدف مكلف وغير ممكن، وهو ما على شعوب المنطقة أن تقنعهم به.

لقد دعى خاشقجي شيعة المنطقة إلى الإبتعاد عن إيران والتخلي عنها استعداداً لإفتراسها لوحدها، وها أنا أدعو شيعة المنطقة وسنتها بلا استثناء للوقوف بشجاعة وشرف بوجه هذا الكذب الخطير النوايا بغض النظر عن الموقف من إيران، وإلإنظمام بقوة إلى مثقفي العالم الذين استنكروا هذا الإستخفاف بعقولهم وبسلام عالمهم، وإلا سوف يأتي دورنا ويأتي يوم لا نجد فيه من يردع معنا هذه الوحوش عن المنطقة ويوقفها عند حدها، فنقول بحسرة: أُكلنا يوم أُكل الثور الإيراني!

(1) http://msnbcmedia.msn.com/i/MSNBC/Sections/NEWS/A_U.S.%20news/Security/IranPlotComplaint.pdf
(2) http://www.alalam.ir/news/756474
(3) http://www.jpost.com/JewishWorld/JewishNews/Article.aspx?id=241460
(4) http://forum.rtarabic.com/showthread.php?t=126515
(5) http://www.alalam.ir/news/756814
(6) http://www.alalam.ir/news/756394
(7) http://www.presstv.ir/detail/204337.html
(8) http://www.radiosawa.com/arabic_news.aspx?id=8067006&cid=1
(9) http://www.alarabiya.net/articles/2011/10/11/171347.html
(10) http://www.nytimes.com/2005/09/09/politics/09powell.html
(11) http://alwatan.kuwait.tt/ArticleDetails.aspx?Id=144184&YearQuarter=20114
(12) http://www.washingtonpost.com/world/national-security/suspect-in-alleged-iranian-terrorism-plot-had-key-connections/2011/10/11/gIQAV6rfdL_story.html
(13) http://www.thedailybeast.com/articles/2011/10/11/iran-s-covert-war-against-the-united-states-shows-tehran-has-no-fear-of-us-military-retaliation.html
(14) http://www.informationclearinghouse.info/article29373.htm
(15) http://www.nytimes.com/2011/10/12/us/us-accuses-iranians-of-plotting-to-kill-saudi-envoy.html
(16) http://www.scribd.com/doc/56828822/Fear-Factory-Fake-Terror-Rolling-Stone
(17) http://motherjones.com/special-reports/2011/08/fbi-terrorist-informants
(18) http://motherjones.com/special-reports/2011/08/fbi-terrorist-informants
(19) http://harpers.org/archive/2011/08/0083545
(20) http://tpmmuckraker.talkingpointsmemo.com/2011/10/the_five_most_bizarre_terror_plots_hatched_under_the_fbis_watch.php
(21)  http://fictionwriting.about.com/od/crafttechnique/tp/createcharacter.htm
(22) http://gothamist.com/2011/10/10/household_incomes_keep_falling_rece.php
(23) http://www.informationclearinghouse.info/article29388.htm
(24) http://tpmmuckraker.talkingpointsmemo.com/2010/04/gen_mcchrystal_weve_shot_an_amazing_number_of_peop.php
(25) http://www.washingtonpost.com/world/national-security/alleged-plot-is-uncharacteristically-bold/2011/10/11/gIQA7vzpdL_story.html?hpid=z1
(26) http://www.theatlantic.com/international/archive/2011/10/would-iran-really-want-to-blow-up-the-saudi-ambassador-to-the-us/246505/
(27) http://www.csmonitor.com/World/Middle-East/2011/1012/Why-Iran-assassination-plot-doesn-t-add-up-for-Iran-experts
(28) http://www.reuters.com/article/2011/10/12/us-usa-iran-plot-idUSTRE79B7VO20111012
(29) http://www.reuters.com/article/2011/10/12/us-iran-saudi-arabs-idUSTRE79B57H20111012
(30) http://thehill.com/video/administration/186951-biden-iran-plot-an-outrageous-act
(31) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=8056


66


توصيات لمواجهة الإرهاب  2- إنقاذ القانون ورفض أجندة الإرهاب

صائب خليل
10 تشرين أول 2011

هذه خاتمة مقالة تتكون من قسمين،(1) كانت اجزاء الأول تتحدث عن ظروف العمليات الإرهابية وهذا هو الجزء الثاني والأخير من القسم الثاني الذي يتحدث عن الرد المناسب على الإرهاب وكان الجزء الأول عن ضرورة المبادرة ورفض الصورة الإعلامية المزيفة عن الآخر وإبقاء الإتصال به شخصياً ومقاومة مؤامرات الفصل المكانية والذهنية.
في هذا الجزء سنتحدث عن ضرورة إنقاذ القانون والإمتناع عن اتخاذ أي قرار سياسي كرد فعل على الإرهاب.

1- إنقاذ القانون

" نؤكد بشدة على ضرورة إحقاق العدل، لكن ذلك لن يكون إلا بتأكيد دور القانون ، وإلا وجدنا أنفسنا مرة تلو مرة، تحت حكم الخارجين عن القانون"، هذه الكلمات القلقة عن القانون ليست من سياسي عراقي أو دولة مماثلة يتعرض فيها القانون إلى الهجوم والتدمير، بل من مرشح الرئاسة الأمريكية رون باول، تعبر عن قلقه عما يجري في بلاده أميركا من استغفال متزايد للدستور والقانون في رأيه من قبل الإدارة الأمريكية. فإن كان هذا تقدير مرشح الرئاسة الأمريكية لما تفعله الإدارة الأمريكية في بلادها، فما الذي تفعله في بلدان الشعوب الأخرى، وكيف الأمر في العراق إذن؟ وكيف تتصرف الحكومة العراقية والمؤسسات العراقية تجاه القانون؟ وهل يعطى الحرص الذي يستحقه أم أن علينا أن نقلق عليه فعلاً؟

لكن لماذا يريد البعض تحطيم القانون في أي مكان؟ أليس القانون خير للجميع؟ لا طبعاً، ليس هناك خير للجميع، وإذا كانت قوة القانون أمر اساسي للأضعف بين الناس وأمر مهم لعموم الناس التي لا تريد سوى الحياة بسلام، فإنها عامل معرقل ومزعج للطامحين إلى التسلط والثراء. هؤلاء أعداء القانون في أميركا وفي العراق وفي كل مكان، وهم مستعدون للقيام بكل شيء من أجل إزاحته عن طريق أهدافهم ومشاريعهم.
في أجزاء المقالة الماضية بينا أن أحد أهم عوامل زيادة فعالية الإرهاب هو تحطيم ثقة الناس بالقانون ودفعهم إلى أخذ ثأرهم بيدهم، ليقضوا بالتالي على الدولة وتشيع الفوضى التي تناسبه. لذلك فمن الطبيعي أن "إنقاذ القانون" وإعادة الثقة به، من أهم واجبات من يتصدى للمؤامرة الإرهابية.

إعادة الثقة بالقانون

إذا كان هدف الإرهاب الأول هو "التخلي عن العقل" واللجوء إلى رد فعل عنيف. فمن الضروري لإستمرار تحكم العقل، ان تشعر جهة الضحية بالثقة بالقانون وأن تعتمد عليه للإقتصاص من الجناة، وان تؤمن أن رجال الشرطة والقضاء يعملون من اجل ذلك ما في وسعهم وبشرف.
لكن مثلما نفكر نحن، فكر الإرهابيون بما يعاكسه، ومثلما نريد حماية القانون، يريد هؤلاء حماية حالة "اللاقانون"، ووسائلهم متعددة لذلك. فنصبوا بما امتلكوا من صلاحيات فرضتها ظروف العراق، من يمنع القانون من أن يؤدي دوره، بتعيين عملائهم أو أشخاص فاسدين قدر الإمكان على قيادته وعلى رأس أية مؤسسة تطالها أيديهم، إضافة إلى توجيه الضغط على كل خارج عن هذه الوصفة يصل إلى مكان مؤثر. 

بدأً يجب أن نتوقف عن اعتبار أن الإخلال بالقانون في العراق هو فقط نتيجة طبيعية لظرف التحول السياسي والإجتماعي الي يمر به، وسعي الكثيرين إلى الإستفادة من ذلك، بل أن هناك جهات تعمل على إفساد القانون وتدمير الثقة به عن خطة عامة لإسقاط البلاد تحت سلطتها تماماً. وعلى هذا الأساس يجب النظر إلى ما تقوم به رئاسة الجمهورية مثلاً بمنع تنفيذ القانون في المدانين بعمليات إرهابية بحجج واهية مختلفة. وبالفعل بدأت مبادرات وعي لخطورة ما يقوم به هؤلاء وإخراجها من دائرة "الخلافات" إلى دائرتها الحقيقية الخطرة، دائرة دعم الإرهاب. قال النائب عن دولة القانون علي الشلاه "سنجمع تواقيع النواب لتسريع تنفيذ احكام الاعدام". ولكن الجانب المقابل لم يقف مكتوف اليدين أمام محاولة تخريب منجزاته الإرهابية، فكما يؤكد الشلاه، "نعلم ان هناك عملية تشويه سمعة للشخص الذي كلف بهذا الملف". (2)

والحقيقة أن صلاحيات الرئيس ونوابه المعطلة لعمل القضاء والعدل، غير واضحة إطلاقاً، وفي رايي أن تفسيرها الدستوري الأصح هو أن "الفيتو على القانون" أعطي للرئاسة في حالة إتفاقها على ذلك، (وحتى هذا ليس واضحاً)، أما ما ينفذ اليوم من تفسير فهو إعطاء الرئيس أو أي من نوابه حق الفيتو على القانون، حتى إن لم يتفق الآخرون في مجلس الرئاسة معه، وهو تفسير غريب يتم فرضه بالقوة في تقديري، رغم الكثير من الإعتراضات على هذا التفسير، وقد نكتب في الموضوع يوماً. فتفسير النص الدستوري بهذا الشكل، يعطي الرئاسة صلاحيات غير دستورية لأنها تتناقض مع مبدأ فصل السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية، فماذا يبقى من السلطة القضائية إن كان هناك نص يسمح للسلطة التنفيذية بوقفها، بل لأي شخص من اربعة أشخاص؟ صحيح أن مثل هذه النصوص موجودة (بالنسبة للرئيس وحده!) حتى في دول متقدمة، لكنها نصوص مدسوسة حتى في تلك الدول، وطالما أفلت مجرمون سياسيون بفعل عفو من رئيس الجمهورية الذي غالباً ما يكون معنيا ً بشكل مباشر بتلك الجريمة. إنه من المنافذ التي نجح أصحاب القوة في تركها مفتوحة كاحتياط أخير لهم للإفلات من العقاب، وقد قبل المشرعون العراقيون بذلك المنفذ بلا تفكير، ووسعوه ليشمل هذا الفيتو الغريب نواب الرئيس أيضاً، وجعلوا منه في التفسير، "فيتو" فردي!

الصورة التي ذكرناها عن "الرئاسة" كمعرقل للقانون في العراق صورة معروفة لدى الجميع، لكن ما يحميها من التغيير هو أن الموقف منها مختلف بين طائفتيه الكبيرتين. فالشيعة غاضبين بحق، لأنها تعرقل حصول ضحاياهم على حقهم بالعدالة، اما السنة، وبعد فقدانهم الثقة بعدالة الحكومة، فهم أما سعداء بتلك العرقلة لقانون لا يعتبرونه عادلاً تجاههم، او على الأقل غير مبالين، رغم ان النظام كله واحد، وأن تقوية القانون ونظامه يعني بالضرورة في نهاية الأمر أنه سيكون في خدمتهم، وأن أية ثغرات فيه ستكون أيضاً على حساب حقهم في العدالة.

ويلعب هذا الدور الذي تقوم به الرئاسة، على وتر الحساسية بين الشيعة والسنة، فالشيعة يعتبرون الرئاسة "سنية" رغم أن الشيعة ممثلين فيها دائماً، وبالتالي فأن عرقلة تنفيذ القانون هي "عرقلة سنية". ربما كان ذلك على أساس أن الرئيس هو "سني". لكن الحقيقة هي أن الرئيس طلباني لا يعرف سنة أو شيعة ولم يبد يوماً أية عواطف تجاه أي منهم، بل حتى أن عواطفه الكردية مشكوك فيها، فهو من توابع الإحتلال الأمريكي الشديدي الطاعة، حتى في أخس مشاريع الإحتلال تجاه البلاد، ووقف مؤيداً لكل مشروع إسرائيلي أمريكي حاول الإحتلال تمريره حتى اليوم، ولن نستغرب إن كان القضاء على سلطة القانون أحد تلك المشاريع.

تقصير الحكومة في تطبيق القانون وملاحقة الإرهاب

من الناحية الأخرى فأن التركيز على دور "الرئاسة" في عرقلة العدالة، طغى على دور الحكومة في نفس الموضوع وتجاوزاتها العلنية العديدة للقانون. كما أن النظر إلى الرئاسة على انها "سنية" طغى على حقيقة التمثيل الشيعي فيها
فالغضب الشيعي الذي ينال الرئيس ونائبه طارق الهاشمي اليوم كان يجب أن ينال ايضاً نائبه الآخر خضير الخزاعي. (3)
لهذا فيجب الإنتباه إلى أن قدرة الضغط والتأثير لدى من يريد منع القانون، لا تقتصر على الرئاسة دون غيرها، ولا على طائفة دون غيرها.
كذلك لا تقتصر عرقلة القانون على منع تنفيذ أحكام القضاء، بل تمتد إلى كل مرافق الفساد والشلل والسرية في السياسة العراقية. ففي العديد من القضايا الخطيرة والعديد منها شكل من أجلها لجان التحقيق، ولم ينته الأمر إلى شيء، ولم يعد أحد يسمع عنها شيئ حتى نسيها الناس. ولعل أغرب ما نسي الناس، وأراهن أن معظم القراء لن يذكروه أو سيذكروه كذكرى بعيدة مشوشة، ما اعلنته الحكومة في آذار 2008 عن إلقاء القبض على عصابة من 8000 إرهابي متخصصين بقتل الكفاءات!! وبعد ذلك لم يسمع عن الموضوع، ولا ما تمخض عنه من اعترافات واكتشافات ولا جهات مسؤولة عنه ولا من أين يتم تمويله. لم تقل الحكومة سوى أنه تم الحكم على 600 منهم بالإعدام نفذ الحكم بـ 200 منهم و 600 برئوا و 2000 يحكمون بالمؤبد! وهي أرقام تثير الشبهة ليس فقط في حجمها، بل في كثرة الأصفار فيها ايضاً! (4)

الأسئلة تلف الكثير من القضايا، ومنها تجاهل قصة فراس الغضبان في كنيسة سيدة النجاة، والجنديين البريطانيين في البصرة وأجهزة كشف المتفجرات وعشرات القضايا الأخرى التي لا يجد لها المواطن تفسيراً، ولا تقدم له الحكومة أي تفسير، لا مقنع ولا غير مقنع، وكأنها تتجنب الحديث في هذه المواضيع بأي ثمن، لسبب لا يعلم به أحد غيرها. ويساعدها في ذلك الصحافة "العراقية" التي لا تطرح الأسئلة إلا ما كان سهلاً وربما متفق عليه حتى إن بدا خشناً. ولا يمكن تفسير تجاهل كل تلك القضايا الخطيرة إلا بتواطؤ صحفي مع الحكومة والرئاسة ومعظم البرلمان واتفاقهم على الصمت.

ما أردت قوله في النهاية هو أن صورة الحكومة المسكينة التي تسعى لمحاربة الإرهاب وتعيقها مؤسسات تحت سيطرة جهات منافسة، ونصوص تم دسها في الدستور لذلك الغرض، رغم ما فيها من واقع، فهي ليست صورة كاملة أو دقيقة. فمن عمل على زرع تلك المؤسسات والضغط لتسليمها لعملائه، وحشر تلك النصوص في الدستور، يعمل أيضاً بالضغط على الحكومة ومؤسساتها ويجبرها (بنجاح على ما يبدو) على تجاهل الإرهاب والتوقف عن مطاردته عند حد معين. وعن هذا كتبت منذ فترة مقالة بعنوان "أما حان الوقت لننظر بشجاعة إلى الإرهاب في عينيه؟": الحقيقة هي أن الحكومة أيضاً تعرقل تطبيق القانون وبشكل ما، فإنها تحمي الإرهاب منه. (5)
وهذا ما يجب أن يكشفه الشعب وممثلوه ويضغطون من أجل معرفة حقيقته، مهما كان الأمر صعباً، إن أرادوا محاربة الإرهاب حقاً، وإلا فأن كل الصراخ الإعلامي تنفيس عن غيض، لا يؤثر في شيء.

إضافة إلى دور الرئاسة والحكومة في إضعاف القانون، فالمواطن ايضاً يسهم في ذلك بقلة وعيه والتربية الأنانية والطائفية التي نشأ عليها. فمن يراقب الأمور يرى بوضوح أن السياسيين العراقيين والمواطنين ليسوا مهتمين بدور القانون إلا عندما يستدعى القانون للدفاع عن ضحاياهم هم.

ليس هذا حال الشعوب التي تقدمت من خلال أحترامها للقانون لذاته بغض النظر عمن يستفيد منه في تلك اللحظة. كمثال رائع على هذه النقطة أنظروا إلى البسالة التي يحاصر فيها هذا الصحفي الأمريكي في تسجيل الفيديو، الناطق الرسمي للإدارة الأمريكية ويسائلها إن كان لديها براهين فعلية على ما تتهم أنور العولقي به، بعد أن قامت باغتياله بعملية أعتبرها الكثير من المثقفين الأمريكان مؤشراً خطيراً على تجاوز الدستور الأمريكي، خاصة وأن العولقي يملك الجنسية الأمريكية. لا شك عندي أن هذا الرجل لا يهمه العولقي قدر شعرة، لكن ما يدفع به إلى هذا هو غيرته الشديدة على سلامة واحترام دستور بلاده وخشيته على المستقبل، وهكذا يجب أن يفكر العراقيون وجميع الشعوب.(6)

من مثل هؤلاء الأمريكان يمكننا أن نتعلم شيئاً مفيداً، وليس من بوش أو أوباما التي يقف هؤلاء منهم موقف النقد والحذر، بل الخوف على البلاد ومستقبلها، والإحتقار ايضاً.

2- رفض اتخاذ أي قرار سياسي على خلفية إسباب أرهابية

التوصية الرابعة والأخيرة لدي، هي الإمتناع عن اتخاذ أي قرار سياسي بسبب عمل إرهابي أو كرد فعل له. فعلى الأغلب سيكون ذلك القرار هو ما يبغيه الإرهابيون. فليس من البعيد أن يكون إنشاء محافظة مستقلة للمسيحيين، وما يحدث حولها من تداعيات، هو القصد من جريمة كنيسة سيدة النجاة، (هل هي صدفة أن نفس المسؤول الذي يعرقل عمل القانون ضد الإرهابيين، هو من يقترح فكرة المحافظة أو يرحب بها بحماسة: رئيس الجمهورية؟).
ومثل هذا حدث بعد جريمة النخيب، فطالب البعض بإعادة النخيب إلى محافظة كربلاء وتحدث النائب عن التحالف عبد الهادي الحكيم عن ضرورة "اتخاذ خطوات حازمة لتجفيف منابع الإرهاب في العراق وإعادة منطقة النخيب الصحراوية إلى محافظة كربلاء كما كانت قبل أن يقتطعها النظام السابق ويضمها إلى الأنبار". (7) وكذلك طالب بالأمر نفسه محافظ كربلاء (8)
وتم نشر خرائط للمنطقة تعود لما قبل ضم النخيب إلى الأنبار تأييداً لهذا الإتجاه. وليس من الواضح كيف ان انضمام منطقة إلى محافظة كربلاء ستؤمن خلوها من الإرهاب، فهل أن المدن التي تحت سلطة الكتلة الحاكمة خالية من الإرهاب؟

إن كون منطقة ما تابعة لمحافظة معينة من محافظات العراق أمر غير ذي أهمية. وبغض النظر عن صحة مثل ذلك القرار او خطأه، فأنه سوف يقدم للمتربصين "مناطق متنازع عليها" جديدة بين الشيعة والسنة تكون نواة لسبب جديد للصراع. وقد تجنبت حتى الدول مثل هذه الأمور، رغم ما يعني ذلك من انتزاع أراض من دولة لأخرى، ففي خرائط سابقة أيضاً كان الكويت جزء من البصرة، وتركيا يمكنها ان تطالب بالموصل ، وسوريا الأسكندرونة والعراق كل شط العرب، وغيرها كثير..وعلى أية حال، فيمكن تسوية مثل هذا الأمر ضمن نفس ابلد بسهولة وفي ظروف لا تات إثر حادث إرهابي، كأن يتم تصويت سكان المدينة، بغض النظر عن انتمائهم الطائفي أو غيره، لاية محافظة يريدون الإنتماء.

المهم أن لا يكون رد الفعل ما قد يكون الهدف من العملية الإرهابية أو السبب فيها. وحتى لو لم يكن كذلك، فإنه يعطي سابقة توحي لكل من يريد مثل ذلك الهدف أن يقوم بعملية إرهابية، خاصة إن كان نجحت إحدى العمليات بإنجاز قرار سياسي لم يكن سيحدث دونها. ومعروف أن الحكومات التي تريد إشعال حرب مع دولة أخرى أو دخول حرب قائمة لا ناقة لشعبها فيها ولا جمل، أن يقوموا بعملية إرهابية تلقى تبعتها على الدولة الضحية ، فتسهل موافقة الشعب ودعمه لدخول الحرب. والفكرة الأكثر انتشاراً حول جريمة 11 سبتمبر أنها كانت الحجة اللازمة للبراليين الجدد لتنفيذ مخططات قدية لتوسع سلطة طموحة في العالم. ولا يجب أن يستغرب المرء من ذلك، فقد تم تقديم مثل هذا المشروع إلى الرئيس جون كندي في الستينات، يتضمن إسقاط طائرة ركاب أمريكية بركابها وإتهام كوبا بها لإشعال حرب ضد كاسترو. وقد رفض كندي الفكرة حينها، والتي قدمها له رئيس موظفي البيت الابيض!

ملخص التوصيات الأربعة

 من المهم أن يعي الناس هدف مؤامرة الإرهاب وأنها أكبر من الجريمة الإرهابية نفسها، وأن المطلوب ليس قتل بضعة اشخاص لا اثر سياسي هام لهم شخصياً، بل المطلوب هو رد فعل ذوي الضحايا وما ينتج عنه من تداعيات وانشقاقات تخدم الجهة المنظمة للإرهاب. ومن المهم ان تقوم الحكومة برد فعل مناسب بعكس ما يأمله الإرهابيون، فتعمل على ما يزيد لحمة طوائف البلد.
ومن ناحية أخرى فمن الضروري مقاومة الصورة الإعلامية السلبية عن المقابل، ورفض الإنفصال المكاني والثقافي قدر الإمكان، والسعي إلى استمرار الإتصال والحديث وتبادل الرأي بين الطوائف، فهذا من شانه أن يبين زيف أية صورة قد يريد المتسلطون على الإعلام إعطاءها للناس عن حال البلد وأهله.
ومن الطبيعي أن من الضروري حماية القانون واستعادة الناس لثقتهم به، لكي تشعر بالأمان وتتجنب التهديد باستعادة حقوقها بنفسها وتحطيم أساس الدولة والعودة إلى القبلية والعشائرية، التي تسهل على الإحتلال التسلط على ثروات البلد ومقدراته ومستقبله.
ومن المهم أخيراً تجنب إتخاذ اية قرارات سياسية يحتمل أن الإرهاب كان يريدها، حتى لو كان ذلك الإحتمال بسيطاً.


(1) – الجزء الأول: http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7652
    - - الجزء الثاني: http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7905
   -- الجزء الثالث: http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=55360
الجزء الأول من هذه المقالة: توصيات لمواجهة الإرهاب (1) صمود العقل وتصحيح الصورة
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7519#comment41504
(3) Address : http://www.alsumarianews.com/ar/1/23216/news-details-.html
(4) http://www.yanabeealiraq.com/politic_folder/saeib-kalil150308.htm
(5)  http://www.yanabeealiraq.com/articles/s-kalil191108.htm
(6)http://www.informationclearinghouse.info/article29283.htm
(7) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7484
(8) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7431


67


توصيات لمواجهة الإرهاب  1- صمود العقل وتصحيح الصورة

صائب خليل
7 تشرين أول 2011

هذه مقالة من حلقتين هي استمرار للمقالة السابقة (1) التي تحدثت عن الظروف المحيطة بـ "مؤامرة الإرهاب" والتي تزيد من فعاليته وتؤمن وصوله إلى أهدافه. في هذه المقالة نقدم أربعة توصيات لمواجهة تلك المؤامرة، مقسمة على جزئين.
1- صمود الإصرار على تحكيم العقل وعدم الإكتفاء به

ليس من الصعب أكتشاف ما يكفي من المؤشرات إلى ان هناك جهة تسعى بتخطيط إلى إشعال الفتنة في العراق. فقال النائب عن دولة القانون رياض غريب : " ما حصل في النحيب الهدف منه إعادة الحرب الطائفية والأهلية وإشعال نار الفتنة وهذا ما لا نرضاه ". وقال النائب عن حزب الفضيلة الشيخ محمد الهنداوي "الجريمة واحدة هي قتل العراقيين وزرع الفتنة الطائفية وإشعال الحرب الأهلية".، وعن تيار الأحرار قال جواد الحسناوي ان ما حصل في النخيب " لا تخرج عن أنها عملية تدخل ضمن الأجندة الأمريكية ومخابرات بعض الدول التي لا تريد للعراق الاستقرار " (2)
ومن جهة أخرى كتب غالب حسن الشابندر: "هل هي مقدمات حرب أهلية في العراق؟" محذراً من تنسيق إعلامي خطير:
"في وقت تتصاعد فيه موجة العنف الطائفي ... نشرت وثائق ويكليلكس خبرا مثيرا يتحدث عن أوامر كان قد أصدرها صدام حسين إلى جيشه بضرب قباب المرقد الحسني والعباسي في كربلاء سنة 1991 حينما كانت هناك مواجهة بين حكومته وثوار شيعة في جنوب العراق بمناسبة الزيارة الاربعينية المعروفة في التقليد الشيعي، فهل هو توقيت مدروس أم جاء صدفة؟ " مؤكداً أن "وثائق وكيليكس ليست خبرية ساذجة، بل هي جزء من ستراتيجية لدولة عظمى، وكل وثيقة لها هدف محدَّد مشخص" (3)

وبالفعل بادر البعض إلى تدارك الموقف الخطير من الجانبين. فقال الشيخ عبد الحميري شيخ عشائر حمير في كربلاء "حادثة النخيب يجب ألا تعد واحدة من الجرائم الإرهابية فحسب بل واحدة من السبل التي بينت معدن العراقي الأصيل الذي يرفض الفتنة التي خططها لها منفذوا الجريمة"، مشيرا الى ان شيوخ العشائر "طالبوا بإلقاء القبض على المجرمين لكي ينالوا جزاءهم العادل ولكي يسمعوا صوت العراقيين في الأنبار وكربلاء من أنهم يد واحدة ضد المجرمين" (4)

كلام جميل بلا شك، ولكنه أسهل قولاً مما هو في الواقع العملي. فكل عملية من هذا النوع، حتى إن صمد العقل بعدها، فإنما توجه ضربة إضافية لتحطيم تحكمه. وإن استمر الأمر فلا مفر من ان يأتي اليوم الذي يستسلم هذا العقل مهما كان قوياً. لذلك يجب تحقيق نجاح وتقدم في الحرب ضد الإرهاب يقنع أصحاب الضحية أن الأمر لن يتكرر وأن هناك من يعمل على حمايتهم في المستقبل و ابتكار إجراءات تزيد من تقارب الجهات التي كان الإرهاب يقصد ضرب العلاقة بينها.

أشرت بوضوح وأكثر من مرة إلى هذا الأمر الهام ومنذ عدة أعوام، فكتبت (2005) عن الإبداع والمبادرة الضرورية لمحاربة الإرهاب  والطائفية. فكتبت "الفتنة- لادواء لها سوى المبادرة"، (5) وقبلها في عام 2004 , وعلى اثر مذبحة كربلاء والكاظمية, كتبت مقالة بعنوان: " الثأر...الثأر...لدماء كربلاء والكاظمية!"  (6) اقتطف منها ما يلي:
"ماذا نقول لانفسنا ونحن نتلقى الصفعة تلو الصفعة والحزن وراء الحزن؟ هل يجب ان نرقص فرحا بان "اعداء الوطن" لم ينجحوا باثارة الفتنة مرة اخرى؟ اننعم بالنوم ونحن نعلم ان مرة "اخرى" و "اخرى" و "اخرى" قادمة بلا شك؟
الى متى نقبل الخسائر تلو الخسائر والهزائم تلو الهزائم؟ لا تقولوا لي ان الهدوء و"تجنب الفتنة" انتصار, هذا كلام نقنع به انفسنا. المبادرة في يدهم ليكيلوا لنا الصفعات والكفخات, ثم علينا ان نفرح بسيطرتنا على اعصابنا. وهذا الالم ماذا نفعل به؟ الحل هو: ان لانكتفي بعدم السقوط في الفخ وتنفيذ ما يريد ويأمل الغادرون, بل ان نبادر ونفعل عكس ذلك تماما! يريدون زيادة العداء بين الشيعة والسنة؟ لن نكتفي بان لا يزيد عداؤنا, بل سنخفضه! سيتحدث ائمتنا وسادتنا مع بعضهم, وسنحرص ان يرى المسلمون واعداؤهم ذلك . يريدون رؤية العراق سابحا في دماء الحرب الاهلية؟ سنفعل المستحيل لكي يرى الجميع ان العراق صار بعد الجريمة اقرب الى السلام والتعاون من اي وقت مضى. يريدون ان يزداد الشق بيننا؟ سنصلي معا في كل مسجد من مساجد العراق, ولو تحملنا الجهد من اجل ذلك... وكلما قاموا بجريمة جديدة لن نكتف بأن "لا نحقق اغراضهم" بل سنجعلها ابعد منالا, الى ان يقتنع ان جرائمه تعمل عكس ما يروم فيتوقف عنها!
لنبدأ بجعلهم يندمون على جريمتهم الكبرى بشئ غير معتاد..
حين كتبت تلك المقالة كنت امل ان يوصل الفكرة احد ما الى القيادة الخيرة لكل من الشيعة والسنة , لعلهم يجدون فيها حلا, لكن شيئا من ذلك لم يحدث للاسف حتى الان.

2- التصدي لأية عملية بناء لصورة سلبية مزيفة عن المقابل

لقد حرص الإحتلال الأمريكي (مع وجود إسرائيلي واضح، خاصة في كردستان) على السيطرة على وسائل الإعلام في العراق منذ دخوله، وبذل الأموال الهائلة في سبيل بناء ذلك الإعلام وشراء ما يمكن شراءه من صحفيين. البعض من هذه الوسائل كان بتمويل أمريكي واضح وصريح، والآخر أقل صراحة ويصعب برهنته. لقد كتب الكثير عن سيطرة الإعلام الأمريكي على العراق ولن نخوض هنا فيه فهو واسع جداً. ومن المعقول تماماً أن الأمريكان لم يكونوا وحدهم في الساحة، ولا شك أن إيران موجودة فيها أيضاً، لكن الفارق بين الدولتين في كل شيء، وبشكل خاص في مجال الإعلام، يتيح لنا أن نقدر أن السيطرة الأمريكية هي الأقوى بما لا يقاس، ونقول إن احتسبنا التأثير الفعلي كقياس، وليس عدد وسائل الإعلام بالضرورة ، أن الإعلام العراقي إعلام أمريكي – إسرائيلي التمويل بشكل رئيس، دون أن نجانب الحقيقة كثيراً.

بشكل عام يسعى الإعلام الحديث ليس إلى "مناقشة قضية ما" والدفاع عن وجهة نظر مالك وسيلة الإعلام، وإنما "بناء صورة عامة" في ذهن المتلقي تقوده في تفكيره وتفسيره للأحداث بالإتجاه الذي يريده صاحب وسيلة الإعلام. وهي قضية تحتاج إلى إحاطة المتلقي من مختلف الإتجاهات وقدرة على محاصرته من المنافذ الرئيسية التي يتلقى منها معلوماته وهذا أمر ليس سهلاً، خاصة مع وجود الإنترنت، لكنه ليس مستحيلاً إن امتلك هذا الجانب أكثر وسائل الإعلام تأثيراً وشعبيةً، وهي هنا الفضائيات، وتعاونت معها قدراته على اختراق الأمن والسياسة والإقتصاد وغيرها، لتؤكد بطريقة أو بأخرى ما تقوله تلك الوسائل، فيبدو للمتلقي أن "الجميع يقول ذلك" فيفكر أنه لا بد أن يكون صحيحاً.

في تقديري، نجحت وسائل الإعلام ، وبمساعدة أحداث ووقائع حقيقية وأخرى تم تدبيرها، أن تمحو الصورة الأخوية القديمة بين السنة والشيعة في العراق ، كما محت قبل ذلك نفس الصورة بين العرب والكرد، وأن تحل محلها صورة عنصرية طائفية متطرفة وإجرامية ومبالغ بها بشكل كبير، والتأكيد بأنها تمتد إلى 1400 عام – أي كل التاريخ الإسلامي! وهو تأكيد سطحي ساذج يمكن دحضه بسهولة تامة، لكن "أصدقاء" اميركا يدعمونه بصراحة، مثل أياد جمال الدين، حين شبه العراقي "كعصفور في قفص، جاءت أميركا وأطلقت سراحه بعد 1400 سنة"!

الإستفادة من "الصورة" عطلت المنطق عن تحطيمها، كما عطلت المنطق عن تفنيد الكثير من الاخبار غير المعقولة والآراء غير المنطقية للكثير جداً من الأحداث التي مرت بالعراق. وإحدى هذه الصور، أن "الإنتحاريين" هم طائفيون متطرفون، او إسلاميون متطرفون. وبالطبع فهؤلاء دائماً من الطائفة المقابلة المجنونة بالإرهاب!
الطائفية شعور إنساني أو حيواني طبيعي، (قطيعي) لكنه ليس شعوراً حاسماً إنتحارياً، حتى لو شذ بضعة أحياناً. أما تصوير طائفة كاملة بأنها ، أو الكثير منها، من هذا النوع فهو ضد المنطق والعقل تماماً، وليس فقط ضد الصدق والأمانة.

هذه الصورة المزيفة سهلت على الناس قبول أخبار وتفسيرات لا تمت للعقل بصلة. فصار كل تفجير، حتى الإنتحاري منها "لأسباب طائفية" وكل جريمة هي "جريمة طائفية" حتى لو كان واضحاً أن الإحتلال وراءها ، وحتى لو كان ضحاياها من الطرفين معاً، بل حتى لو لم يكن القاتل يعلم هوية وطائفة ضحاياه!

لقد انتبهت لهذه الظاهرة قبل سنوات فكتبت منذ ذلك الحين العديد من المقالات بهذا المعنى من بينها (2007) مقالة بعنوان "إرهاب بريئ من الطائفية" لشرح هذا الموضوع، وجاء ضمنها مثال على سعي الإعلام الأمريكي المباشر لتثبيت تلك الصورة المزيفة بمثال من مقالة للكاتب الأمريكي المعروف (والفارغ في تقديري) توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز، أنقل من مقالتي عنه ما يلي:
"المثال الذي اختاره فريدمان كأفضل دليل لديه على طائفية الإرهاب في العراق وهي جريمة تفجير جامعة بغداد الأخيرة. في هذه الجريمة البشعة مزق الإرهاب مجموعة من الطلبة جلهم من البنات, يقفون امام باب الجامعة في انتظار الباصات التي كانت ستقلهم الى بيوتهم. هذه المجموعة، لم تكن لها اية صفة طائفية مميزة معروفة او يمكن رؤيتها او فحصها او حتى تقديرها بشكل عام. من يعرف طائفة الطالبات الذين يقفن امام باب جامعة كبيرة مفتوحة للجميع بلا استثناء في مدينة يبلغ سكانها الملايين وتختلط فيها الطوائف اكثر من اي مكان اخر في العراق؟ أين الطائفية في هذا؟" (7)

الصورة المزيفة تعتمد على الفصل

من الواضح أن الصورة المزيفة عن المقابل تتطلب أن يفصل الطرفان عن بعضهما البعض قدر الإمكان، لكي يصعب على اي منهما رؤية الصورة الحقيقة للآخر. فلكما كانت المسافة بين الأثنين أكبر، كانت الفرصة اكبر لتكوين صورة مناسبة للإعلام، مهما كانت تلك الصورة مغايرة للواقع أو مبالغة فيه. وقد تحدثنا عن هذه النقطة بإسهاب في حلقة سابقة من المقالة وبينا أن الفصل المكاني والثقافي بين الطرفين، من أهم أهداف المؤامرة الإرهابية وكان أبرز مثالين عليها هو حرص الإرهابيين على فصل الطوائف في مدن وأحياء مختلفة كما سعت سياسة التهجير الإرهابية بوضوح في السنوات الماضية، وكذلك فكرة "المحافظة المسيحية" والتي كتبنا عنها مقالة متخصصة ايضاً (8). وأشرت في تلك المقالة أيضاً إلى سعي الإرهاب لإغتيال الشخصيات التي تعرقل محاولاته للفصل بين الطوائف والأديان متمثلة باغتيال الأب فرج رحو في الموصل، والذي رفض إخلاء المدينة والهجرة  ووقف بالضد من السياسة الأمريكية التي يتهمها بإثارة الفتنة والإرهاب، وليس "القاعدة"، ادت إلى نهايته على ما يبدو. ونحن لا نستغرب ظهور "وثائق تؤكد صلة القاعدة بالقوات الأميركية في العراق" (9) فـ "القاعدة" تبدو مهتمة باغتيال من يهاجم الأمريكان وليس بمهاجمة الأمريكان أنفسهم!

على الإنسان أن يرفض قبول الصورة التي يعطيها له الإعلام عن أي شيء دون تمحيص، خاصة عما هو مهم لمستقبله. ولذلك على المواطن العراقي أن يسعى إلى رؤية الجانب المقابل بنفسه وأن "يذهب إليه" و "يتحدث معه" ويتفهم كيف يفكر ولماذا يختلف معه في الرأي حول قضايا تبدو واضحة بالنسبة له؟ هل هو بشر مثله أم شيء مختلف؟ أين يلتقيان وأين يختلفان؟ هل يمكن العيش معاً ضمن تلك الخلافات أم أنها كما يقول الإعلام مسألة حياة أو موت؟
هكذا فقط يكتشف كل منهما الحقيقة وتفشل "الصورة" المزيفة التي يقدمها له الإعلام الخبير الخبيث، مع كل وجبة "تلفزيون" أو أنترنت أو صحيفة. لقد بينت في تلك الحلقة من المقالة أن "مؤامرة الإرهاب" نجحت في فصل الطرفين بشكل كبير، ليس في المكان فقط، وإنما في الثقافة والمعلومات أيضاً، وأن كل منهما لم يعد يطيق رؤية "فضائية الآخر" او "صفحته" في الإنترنت. إذهب إذن إلى تلك الصفحة ، وتحمل مشاهدة تلك الفضائية، لتعلم على الأقل كيف يكون هذا الآخر رأيه وما الذي يقال له، ولبحث إمكانية تصحيح الأكاذيب منها والرد عليها إن كانت في صفحة إنترنت أو الشكوى ضدها إن كانت فضائية.
يجب أن لا يفهم هذا على أنه "خدمة" و "تكرم" على المقابل، بل هو لخدمة الشخص نفسه حين يسعى لتصحيح فكرة خاطئة عنده عن المقابل. فحتى لو استفاد المقابل من ذلك، فأن الفائدة الأساسية هي للشخص نفسه عندما ينبذ فكرة خطأ من رأسه.

بالنسبة للعراقيين الذين مازالوا في العراق، قد لا تبعد عملية تصحيح الفكرة الخطأ عن الجار في الشارع المقابل أو نفس الشارع، أو من خلال زيارة محطة مخالفة لما تعوده، ولتكن محطة معتدلة ما أمكن. أما بالنسبة لنا في الخارج فإننا نستعين بذاكرتنا للدفاع عن ما هو صحيح أمام السيل الإعلامي الجارف الجديد. ذاكرتنا التي ترفض التصديق بما ليس معقول عن الآخر الذي عرفناه، وتسعى بكل الطرق إلى التأكد من كل ما يقال عنه.

لقد كتب أحد أصدقائي الأقرب إلي، وصاحب واحد من أطيب القلوب التي اعرفها يقول (2006) مذكراً أيانا بمن نكون :
" تعالوا الى الشعب الذي مصطلحاته اليومية الدارجه هي ( تفضل عيني, شلونك حياتي , شبيك عيوني , شتريد عمري , وين رايح كليبي, هله عيوني وتاج راسي , تعال اكعد هنا يمه رويحتي انت, هله بالحبيب بالعزيز بالغالي, هله بجمار الكلب وضوه العيون)..., بمقدساتكم هل لكم ان تتخيلوا ان عراقيا من هذا الشعب يمكن ان يقوم بهذا النوع من الاجرام او حتى التفكير بهذه الطريقة؟"

هكذا تكلم لطيف علو القيسي...


التوصيتان في الحلقة الثانية ستكون عن الدفاع عن القانون والإمتناع عن اتخاذ قرارات سياسية رداً على عمليات إرهابية

(1) – الجزء الأول: http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7652
    - - الجزء الثاني: http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7905
   -- الجزء الثالث: http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=55360
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7484
(3) http://www.elaph.com/Web/opinion/2011/10/686461.html
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7734
(5) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=38170
(6) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=15831
(7) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=87126
(8) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=53960
(9) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7473



68
مؤامرة الإرهاب – ج3: الأهداف التحضيرية لمؤامرة الإرهاب

صائب خليل
3 تشرين أول 2011

في الجزء الأول من هذه المقالة تحدثنا عن الجريمة السياسية التي تهدف إلى استثارة رد الفعل، وفي الجزء الثاني كان  التركيز على عوامل نجاح هذا النوع من الجريمة، وفي هذا الجزء نبحث الظرف التحضيري للإرهاب. ونلاحظ أن من اهم الأساليب المهيئة للجو المناسب لإثارة رد الفعل الغاضب المنتقم هو إشاعة جو الشك بالآخر وتهيئة صورته كمجرم او طائفي وحشي، وتغريب القانون وإرغام الضحية على محاولة الإنتقام لنفسها. النقطة الأولى تهيئ الذهن لربط أية جريمة تحدث، بذلك المقابل وبإعطائها اسباب طائفية، حتى لو لم تكن كذلك، والثانية تحاصره في مشاعره فلا يجد طريقاً سوى ذلك الذي إن سار فيه قام بدون أن يعي، بتخريب أسس الدولة وتحطيمها.

الحث على المواجهة والعنف

ليس من الصعب إثارة الشك بالآخر، إن كنت تسيطر على وسائل الإعلام وخاصة إن كانت لك القدرة على تدبير المؤامرات أيضاً. المشكلة الأساسية التي سيواجهها من يحاول ذلك، أن يجعل كل من الطرفين يؤمن بأن الآخر هو المجرم لأية جريمة، وأنه يستهدفه طائفياً، ويمكن لوسائل الإعلام أن تؤدي دوراً كبيراً في الموضوع، لكن ما قد يعرقلها هو معيشة الطرفين مع بعضهما البعض، وإمكانهما مناقشة الأمور وربما التوصل إلى الحقائق، خاصة من خلال الحكماء بينهما. لذلك توجب التحضير لذلك من خلال المندسين في الإعلام الذين يشجعون المواجهة ويحثون عليها، وكذلك فصل الجانبين قدر الإمكان وجعلهم يعيشون في عالمين منفصلين فيسهل خلق صورة غير واقعية لكل منهما عن الآخر دون إمكانية فحص تلك الصورة ومطابقتها للواقع.
لكن "الحث على المواجهة" مسألة حرجة قد تكشف المؤامرة، ويكون رد الفعل ضدها مدمراً لهدف الإرهاب، لذا توجب العمل عليها بالتدريج، أو بشكل غير مباشر وبفحص ردود فعل الجانبين على "بالونات اختبار" تحريضية.
فيمكن أن تحرض جهة ما بشكل غير مباشر، بالإيحاء بأن الطائفة الثانية هي وراء الموضوع، لكن بكلمات تقول بأنه يجب تحكيم العقل والمسامحة إلخ. وفي الغالب تسمع الرسالة الأولى بشكل أقوى من الثانية، وهكذا يتكون استعداد تدريجي لقبول التحريض المباشر في المرات القادمة.

على احد المواضيع عن جريمة النخيب كتبت جهة ما باسم "دولة شيعة العراق المنتظرة" حول إعادة النخيب إلى كربلاء، تقول: "الحدود واضحة والتاريخ معلوم للجميع والنظام البائد استقطها لاسباب طائفية وعليها ان تعود هذة الاقضية الى احضان اهلها الحقيقيين ونحن نستطيع ان نرجعها بالقوة مثلما فعل اخواننا الاكراد في الموصل اثيل النجيفي لا يستطيع ان يتحرك في 25 مكان في الموصل بين ناحية وقضاء وقرية هؤلاء لا تنفع مهم الا القوة ونحن لها علينا ان نعمل مثلما يفعل الاكراد ونتعلم منهم كيف يدافعون عن وجودهم ومصالحهم"
وفي مكان آخر كتبت: "لماذا الشيعة لا يعلنون انفسهم اقلية او قومية كي يتسنى لهم اعلان دولتهم تكون ملاذ امن لكل شيعي مظلوم بالعالم التأمر السني الصهيوني سوف يستمر ضد الشيعة.... واذا رغب سني يبقى في بغداد يعتبر اجنبي  لاجئ..."
و أيضاً "علينا ارسال قوات من جنوب العراق لضم النخيب تكون تحت أمر محافظة كربلاء هل الاكراد افضل منا عندما ارسلوا قواتهم لديالى"
ثم جاء تعليق مقابل باسم احمد الدليمي" يقول: "    
اين انتم من مليشيات ايران المجرمة الصفوية ؟! المالكي يريد زعزعة امن الانبار فهذا الامر يقلق اسيادة في طهران ونحن كابناء عشيرة الدليم مسؤلية المحافظة وامنا في ايدينا ولن نسمح لاي ارهابي ان يزعزع امنا سواء كان من القاعدة او من ايران او من حكومة الملالي في العراق برئاسة المالكي فمن يرشنا بماء نرشة بالدماء ومن لا يعرف مكانه كضيف نعلمة معنى الضيف ان يتحلى بالشرف لا الغدر والمكر فانها من شيم النساء" (1)
وعلى الأغلب فأن كاتب التعليقين هو نفس الجهة، ونلاحظ اختيار الإسم ليوحي بانتماء صاحبه، لكن ليس هناك ما يمنع أن تكون الموساد وراء ذلك، ولو كنت مسؤولا في الموساد، لما أخترت عبارات أخرى غير تلك التي جاءت في التعليقين. التعليقين تحريضيين بشكل مباشر وصريح، وربما كانا بالوني اختبار متطرفين لفحص ردود الفعل وإمكانية تقديم المزيد من "المواجهة" أو اللجوء إلى تخفيف اللهجة.
ونلاحظ في الكتابة أنها تركز على الإيحاء بأن ما يمنع الشيعة (الموقع أغلب قراءه من الشيعة) من الإنتقام والضرب والسيطرة على المدن، هو "الخوف" وليس التفكير والحكمة والقانون وبعد النظر، وبالتالي يحثهم على التغلب على هذه العقبة المشينة. ويذكرني هذا بمقابلة تلفزيونية مع الهولندية من أصل صومالي، "أيان هرسي علي" والتي كانت تخوض حرباً إعلامية ضد الإسلام في هولندا قبل بضعة سنين، حيث تركز الأسئلة في المقابلة: "هل ستجرؤين على الإستمرار" ؟ هل سيمنعك الخوف من قول ما لديك؟ هل هناك أخطار .. الخ. وهي أسئلة تحدد إطار تردد هرسي علي بالخوف أو الشجاعة، وليس إن كانت قراراتها أو مقولاتها صحيحة أم لا.
هكذا تدعو هذه الجهة إلى المواجهة وإذلال المقابل والإقتداء بالكرد. ونذكر ان بضعاً من "مثقفين" كرد كانوا قد اخذوا على عاتقهم مهمة التحريض بين السنة والشيعة خلال السنوات الماضية، ومعروف مدى التغلغل الإسرائيلي في السياسة الكردية وثقافتها ومثقفيها، وقد كتبت قبل اكثر من سنتين سلسلة من اربعة مقالات عن الموضوع إحداها بعنوان "الشعب الشيعي المجيد" و"السنّة القذرين"! (2)

تحطيم الثقة بالدولة ولقانون

وقد لاحظنا في ما أحيط بجريمة النخيب، وغيرها من الجرائم المثيرة للغضب، ان الجانب الضحية صار شيئاً فشيئاً يدعو لـ "الإنتقام" و "اخذ الثأر باليد" والتساؤل عن "الجرأة" اللازمة لذلك، وأن السبب في كل ذلك هو اختفاء الثقة بالقانون، وغموض ما يجري وراء الستار. فقد وضع البعض في العراق من انفسهم، أو وضعهم من يريد ذلك، حاجزاً بين القانون وبين أداء مهمته، فيما يسمى بـ "الرئاسة" المتمثلة بالرئيس ونوابه، ورفضوا توقيع أحكام الإعدام بالإرهابيين (3) وإرهابيي الجرائم ضد الإنسانية أيضاً. (4)
وفي بلد مثل العراق يهرب من سجونه الكثيرين، ربما بتدبير من نفس الجهة المقوضة للقانون، يصبح عدم تنفيذ حكم الإعدام أشبه ما يكون بإعطاء فرصة لإطلاق سراح المتهم. وبالفعل يقول  النائب عن دولة القانون علي الشلاه بأن "المجرمين يتحدون القوات الامنية بانهم سيخرجون بعد اعتقالهم" (5).
وتبين الإحصاءات أن القضية مبرمجة ومقصودة وليست مقتصرة على حالات محددة، فقال المتحدث باسم مجلس القضاء الأعلى عبد الستار البيرقدار "إن "عدد أحكام الإعدام التي تم التصديق عليها من قبل محكمة التمييز الاتحادية لسنة 2011، بلغت 338 حكما"، مبينا أن "هذه الأحكام أرسلت إلى رئاسة الجمهورية ولم تصادق إلا على ثلاثة منها فقط".
ويزداد تدريجياً إدراك خطورة دور الرئاسة في دعم الإرهاب، فقد وصف النائب حبيب الطرفي فعل رئاسة الجمهورية "لعلها شاركت بصورة أو بأخرى على أن تتطور العمليات الإرهابية"

العمل على تحقيق إرهاب ذاتي العمل

ويجب أن لا نتصور أن المخطط للإرهاب، جهة بسيطة، تعتمد الكذب البسيط المباشر لتمرير مخططها، فالكذب "حبله قصير" كما يقال، وتلك الجهة تعلم ذلك أيضاً، ولذلك فهي تسعى دائماً أن لا تعتمد عليه أكثر من ما يسمح به ذلك الحبل القصير، وأن تستعيض عنه بـ "صدق" تخلقه خلقاً، ويكون أكثر قدرة على الإقناع واكثر بقاءاً. فربما يمكن البدء بفرق مجندة "تقتل على الهوية" من الجانبين، لكن إن لم يقتنع الجانبان بالخدعة، ويسعيان إلى تأسيس فرقهما الخاصة بالقتل على الهوية، فأن الخطة ستكون فاشلة، وستكشف عاجلاً أم آجلاً، حين يتم القاء القبض على واحدة من تلك الفرق وتسقط تحت سلطة جهة غير مخترقة من قبل الجهة الإرهابية، وقد تقود الإعترافات إلى "كارثة" بالنسبة لتلك الجهة.
هذه المرحلة التي تهيئ فيها الجهة المؤسسة للإرهاب الوضع وتقوم بتدريب اللازم من الجانبين إن أمكن، هي مرحلة حرجة وحاسمة في مستقبل المعركة بين جهة الإرهاب والشعب. فإن نجحت الأجندة في تحضير فرق طائفية حقيقية تعمل ذاتياً، فعندها يمكن لجهة الإرهاب الإنسحاب باطمئنان، ولن يمكن لأي شيء أن يوقف الحرب الطائفية بعد ذلك، حتى اكتشاف حقيقة من سعى إليها، لان الحقائق المستجدة، والجرائم المستجدة الحقيقية ستطغى على تلك القديمة المزيفة عن أصل الموضوع، وهكذا يكلل الأمر بالنجاح.
وإدراكاً منها لأهمية تلك المرحلة، فأن جهة الإرهاب تعد العدة للنجاح، كما تعدها للتصدي لحالات الفشل و "إدارة الأزمات" بأقل الخسائر الممكنة.

السيطرة على شبكة الإتصالات والمنظومة الأمنية

ومن الطبيعي فان جهة الإرهاب ستسعى إلى السيطرة على شبكة الإتصالات إن أمكن، لكي تنبه عملائها في الوقت المناسب لوجود أي خطر لدورية شرطة في المنطقة مثلاً، أو حتى التشويش على اتصالاتها إن تطلب الأمر. وكذلك من الضروري اختراق المؤسسة الأمنية إلى أعلى المستويات، حتى إن تطلب الأمر تصفية بعض الشرفاء المتنفذين فيها. ولقد برهنت فضيحة كاشفات المتفجرات أن ذلك قد تحقق إلى أقصى الدرجات. هذا الإختراق يتيح لجهة الإرهاب تعطيل الجهاز الأمني، وحتى إطلاق سراح من يقع من جماعتهم في الأسر، الذي قد يحدث رغم كل الإحتياطات المتخذة، وأن يحدث ذلك بطريقة "رسمية" لا تثير الشبهات.
لكن هذا لا يتحقق دائماً، ففي هذه المرحلة، ويبدو أنه قبل أن يتمكن الأمريكان (وتوابعهم ا لبريطانيين) من تأمين عناصر عراقية للقيام بالعمليات الإرهابية المباشرة في الشارع، وأثناء التمرين والتحضير لذلك في السنوات الأولى للإحتلال، تم القاء القبض على بريطانيان وهما يقومان بتجربة عمليات تفجير عن بعد (أو ما يسمى "إنتحارية") عند أحدى الحسينيات في البصرة وكانا متنكران بزي رجال الدين ويحملان كل الأجهزة التي تدينهما بالجرم، وقتلا شرطيين حاولا إلقاء القبض عليهما، لكنهما لم يفلتا إلا بتحريرهما بواسطة الدبابات البريطانية التي اخترقت السجن لإطلاق سراحهما. ومن الواضح من هذه العملية الصعبة الخطيرة أن الجيش البريطاني كان أحرص على أن لا يتكلما، منه على حياتهما، فقد كان يمكن للعملية أن تقتلهما أيضاً.
مثل هذه العملية تمثل فشلاً ذريعاً للإرهاب، ولو انه تم استغلالها بشكل شجاع لكانت السنوات الدموية التالية مختلفة في العراق.

السيطرة على الإعلام ومنافعه

من ناحية أخرى يجب السيطرة على الإعلام قدر الإمكان وهذا مفيد من ثلاث نواح اساسية: الأولى تقوية الأثر النفسي للعمليات الإرهابية، كما أحدثت قصة فراس الحمداني المزيفة لجريمة كنسية النجاة، والثانية توجيه الجمهور إلى "الحل" الذي يريده الإرهاب، مثل دعوات دعاة المحافظة المسيحية، ومن تقمص إسم "دولة شيعة العراق المنتظرة" ، والثالثة طمس وتعتيم أية حقائق أو فضائح تهدد بتحطيم العمليات الإرهابية أو أية أجندات اخرى لها، كما حدث لتجاهل الإعلام وطمسه فضيحة الجنديان البريطانيان.
ويقوم الإعلام في العراق بتسويق للقصة المتمثلة بأن الإرهاب داخلي وسببه الأساس المشاعر الدينية والطائفية بين العراقيين، ويتجاهل تماماً الأدلة الخطيرة بأن الأمر غير ذلك، بما فيها ما كشفته الثورات العربية من أسرار عن ارتباط تلك الأنظمة العملية للأمريكان بالإرهاب في المنطقة، ف كتبت في مقالة لي عن المجزرة  بعنوان " وهاهي حقيقة إرهاب تفجير الكنائس ومن يقف ورائها تتكشف!" (6)  وأن: "أمن الدولة المصري المتورط في تفجير كنيسة القديسيين، كان يقوم بـ "اعداد منفذين لعمليات تفجير في العراق" (7) لكن الإعلام "غير العراقي" في العراق، لم يهتم بالأمر إطلاقاً، مثلما لم يهتم بالتركيز على تصريحات قادة سياسيين وتحليلها وإعطاءها المساحة المناسبة من تكرار حقيقة خطيرة بأن الكثير من الإرهابيين كانوا قد أطلق سراحهم من سجن بوكا الأمريكي قبيل الحوادث، كما حدث في موضوع جريمة النخيب  ! (8)

ضرورة فصل الطرفين مكانياً وذهنياً

الجانب الآخر الذي يؤمن أكبر إمكانية للنجاح الإعلامي في بث الكراهية وتثبيت صورة بشعة للمقابل هو أن تفصل المجموعتين مكانياً وثقافياً وتقطع الروابط والوصلات بينهما. وقد تم بذل جهود كبيرة في حملات التهجير في مختلف أنحاء العراق من أجل الفصل الفيزياءي بين الطرفين، ليس في المدن فقط، وإنما في الأحياء أيضاً، فانقسمت "الدورة" إلى قسمين، شيعي وسني. ولعل أبرز محاولات الفصل المكاني كانت مشروع المحافظة المسيحية.
اما الفصل الثقافي والإعلامي (الذهني) فيتحقق من خلال بضعة ادوات، اولها التطرف الإعلامي، فلا يعود السني يتحمل ان يشاهد فضائية شيعية أو يزور موقعاً شيعياً والعكس صحيح، وهو أمر قد تم تحقيقه بشكل كبير. إضافة إلى ذلك يسهم تكبير الهوة بين الطرفين وكثرة وشدة الخلاف، في استحالة النقاش، ولعل بعض الحوادث الإرهابية كان المقصود منها هذا بالذات. فتقدم قصة إرهابية مريعة قدر الإمكان، ولكن فيها تفاصيل مشبوهة. أصحاب الضحايا سوف يركزون على الفضاعة التي في القصة، اما الجانب المقابل فسوف يركز على النقاط المشبوهة، وهنا يحدث شق كبير في استقبال الطرفين لتلك القصة، يسهم في صعوبة التفاهم بينهما أكثر، وأفضل مثال لدي هو قصة جريمة عرس التاجي، التي لا تفسرها الروايتان الشيعية أو السنية.

جريمة عرس التاجي، حيث لا تصدق الروايتان


قصة عروس التاجي، قصة مريعة.. مريعة إلى درجة أثارت شكوكي لشدة شبهها بقصة فراس الغضبان عن كنيسة سيدة النجاة. قدمت القصة في البداية لإثارة أقصى قدر ممكن من المشاعر، وكان يثير التساؤل فيها مثلما في غيرها، أنه لم يتم الكشف عن أية جهة مستفيدة من القضية او منسقة لها، وإنما قدمت على انه عمل مجموعة مريضة الإجرام، وكل ما يفسر على أنه "مرض نفسي" في السياسة يجب أن يدعو إلى الشك.
في البداية قدمت "أدلة" على زيف الموضوع، كانت عبارة عن ملاحظات حول الملابس وغيرها، وقد رفضت الرواية السنية بكذب القصة في البداية وفندت تلك الأدلة التي يدعونها في مقالة مبينا أن الملابس ليست نفسها وأن القصة سليمة من هذه الناحية. (9)

لكن بضعة نقاط أخرى أثارت انتباهي وهما الإعترافات الكاملة للمجرمين دون أن يبدو عليهم أي أثر لتعذيب أو حتى ضغط من أي نوع كان، والسؤال هنا، لماذا يعترف مجرم بكل هذه التفاصيل بدون ضغط؟ وكان هناك غموض في تواريخ الحادثة ومتى إلقي القبض على المجرمين.
نقطة أخرى أثارت تساؤلي في رواية المتهمين عن كيفية دفع موكب العرس بعيداً عن الشارع العام لكي يمكن اختطافهم، وكان ذلك بافتعال تفجير يجعل الموكب يختار شارعاً جانبياً للوصول إلى هدفه، وهو ما كان حسب رواية المتهمين.
المشكلة في هذه القصة أن هذا التوقع من قبل الخاطفين، يجب أن يكون المنفذ المنطقي الوحيد للسيارات المحاصرة بإغلاق الطرق. وإذا كان هذا هو الواقع، فإنه يعني أن جميع السيارات أو على الأقل الكثير منها، سوف يسلك هذا الطريق، وبالتالي فلن يكون الطريق فارغاً لتنفيذ العملية!

 أهم من كل ذلك نقطة "السرداب" الذي اتفق عليه جميع المجرمين، دون أن يبدو أنه موجود في الواقع! هذه القضية محيرة بالفعل، فالتفسيرين السني والشيعي للقصة لم يعودا مقنعين.
الرواية الشيعية حاولت تجاهل موضوع السرداب، واكتفت بتأكيدات عن وجوده لم تثبت في الإعلام ولا في لجنة تحقيقية رسمية، علماً أن قضية السرداب كانت قضية حاسمة وإثبات وجوده كان يسكت المشككين من السنة في الموضوع.
الرواية السنية هي ان هؤلاء تم تعذيبهم في سجون السلطة فأقروا بجريمة لم يتركبوها، ولأغراض سياسية ودليلهم هو عدم وجود السرداب! وهذا ممكن من الناحية النظرية، لكن مشكلة السرداب التي فندت الرواية الشيعية تفند بدورها الرواية السنية، فعندما يتم تعذيب شخص أو أشخاص من أجل الإعتراف بجريمة ما فأنهم يستلمون "قصة جريمة" قابلة للتصديق وليس قصة فيها ثغرة هائلة.
هل يمكن أن يكون من ألف القصة قد أخطأ في ذلك؟ غير ممكن، فليس من المعقول أن يؤلف هذا قصة يكون مكان الجريمة فيها غير موجود، ولا يذهب ويتأكد من وجوده بل ووصفه بشكل جيد، خاصة أن جميع المتهمين تحدثوا عنه، أي أنه (حسب الرواية السنية) تم تلقينهم إياه ضمن الإعترافات المزيفة ، فلا يمكن أن يخترعه الجميع على انفراد أثناء التعذيب.

السؤال الآن: من الذي من مصلحته ان يخترع ثغرة في قصة الجريمة؟ إن كان المتهمون قد قاموا بالجريمة فعلاً واعترفوا حسب الرواية الشيعية، فقصة السرداب غير صحيحة، وإن كانوا اخترعوها فهي لا تخدمهم في شيء. وإن كانت الحكومة (الشيعية) أو جهة منها هي التي رتبت القصة لتلهي الناس أو لأي سبب كان، فلم تكن بحاجة إلى قصة السرداب ، الفاضحة.

من إذن أضاف قصة السرداب؟ تفسيري الوحيد هو جهة تريد أن تعطي الجهتين، الشيعة والسنة، قصتين مختلفتين يصدق كل منهما أحداها، الأول لأسباب عاطفية شديدة والثاني لأسباب تبدو منطقية (لكنها ليست كذلك كما بينا) وأن يستهجن كل منهما الآخر لأنه لا يريد الإعتراف بالحقيقة "الواضحة" التي يراها ! وهكذا تخلق هوة جديدة كبيرة فيما يصدقه كل طرف عن صورة الواقع ويرفضه الآخر بل يستهجنه تماماً ويرفض حتى مناقشته! لاحظوا أنه ليس من المهم أن لا يكون السرداب غير موجود، لكنه قدم في الإعلام على أنه كذلك، وأدى مهمته بهذه الطريقة.
هل ارتكب المتهمون جريمة أم لا؟ من الممكن تماماً أنهم فعلوا ذلك، لكن الرواية التي حكوها ليست دقيقة وتستهدف الإثارة تماماً كقصة فراس الغضبان، كما تستهدف فصل ما يقتنع به الشيعة عن السنة، ولا بد أن هناك جهة طمأنتهم إلى انهم سيخرجون من الموضوع سالمين إن اتبعوا التعليمات وأدوا دورهم بشكل جيد. ولإقناعهم بهذه المخاطرة الهائلة، ربما قام المنظمون بعرض عدد من المجرمين الذين يفترض أنهم تم اعدامهم، أمامهم سالمين منعمين في دولة أخرى على الأغلب. هذه التفاصيل الأخيرة قد تصدق قليلاً أو كثيراً، لكن السؤال: من الذي يفحص حقيقة إعدام من تم إعدامه؟ وهل تهريب محكومين بالإعدام وإعدام غيرهم أصعب من تمرير أجهزة خرافية على انها أجهزة كشف متفجرات؟ على أية حال، فالمتهمين مازالوا على قيد الحياة، ويبدو لي أن إعدامهم والتأكد منه أمر ضروري تماماً.
أعترف أنه لقبول هذا التفسير، علينا أن نقبل أيضاً أن الجهات الداعمة للإرهاب متغلغلة بشكل كبير ومخيف في كل من الأجهزة الأمنية والإعلامية، حتى قياداتها، ولكن هذا الإحتمال وارد تماماً كما تبين جريمة كنيسة النجاة وفضيحة اجهزة كشف المتفجرات وغيرها كثير.

نهاية الجزء الثالث، وسوف تختتم السلسة بالجزء الرابع والأخير خلال ايام.

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7515#comment41882
(2) http://www.yanabeealiraq.com/articles/s-kalil220209.htm
(3) http://www.burathanews.com/news_article_136735.html
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7680
(5) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7519#comment41504
(6) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=51
(7) http://www.jo-pal.com/News.aspx?id=65850
(8) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7539#comment41696
(9) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=4867


69
المؤامرة الإرهابية ورد الفعل – جزء 2

صائب خليل
28 أيلول 2011

ملخص الجزء الأول

في الجزء الأول (0) من هذه المقالة قسمنا الجريمة السياسية إلى نوعين حسب هدفها، فأما ان تكون مباشرة الهدف، حيث تحقق الجريمة هدفها بعملية الإغتيال أو التخلص من الضحية، ومن أنواعها أوردنا اغتيال اللواء مبدر الدليمي الذي كان يعرقل سيطرة الضباط المفضلين من الإحتلال الأمريكي على المفاصل الهامة، وكذلك مقتل النائب الصدري صالح العكيلي أثناء قيادته عملية معارضة توقيع المعاهدة الأمريكية، وقتل ممثل الأمم المتحدة سيرجو دي ميلو واستبداله في نهاية الأمر بملكرت المطيع للسفارة الأمريكية. كذلك قلنا أنه ليس من الضروري أن يتم التخلص من الشخص المزعج بجريمة عنيفة، مثلما حدث لوزير الكهرباء وللممثل اليسار الفرنسي، بفضائح مفتعلة أو مبالغ بها.
اما الجريمة من النوع الثاني التي نركز عليها فهي الجريمة التي يكون الهدف منها إستثارة رد فعل جماهيري، وهي لا تصل هدفها بالتخلص من الضحية، بل بالحصول على رد  الفعل المناسب الذ يجعل الناس يختارون خيارات كانوا سيرفضونها في حالتهم الطبيعية.
قلنا أيضاً أن من شروط العمليات الإرهابية أن تنفذ او تقدم إعلامياً بأقصى ما يمكن من البشاعة لتأمين رد فعل قوي ومؤثر، ولخلق جو هستيري يمنع دعاة التفكير والروية من عرقلة مشروع الإرهاب.
في هذا الجزء سنركز على الرد السليم على جرائم الإرهاب واستثارة الغضب كجرائم استثارة رد فعل من خلال تحليل ظروفها وشروط عملها.

شروط عمل وفعالية جريمة استثارة رد الفعل

قلنا أن المخطط لجريمة استثارة رد الفعل يعامل ضحاياه كما يعامل راعي البقر، قطيعا من الأبقار، يريده أن يتجه نحو جهة معينة، فيحاصر القطيع من كل الجوانب، تاركا الإتجاه الذي يريده للقطيع مفتوحاً ثم يبدأ بالصراخ وإطلاق النار في الهواء. ويمكننا أن نستعين بهذه الصورة التبسيطية أيضاً لمناقشة الرد السليم على عمليات الإرهاب.

أولاً – وجود الهدف الواضح المحدد من كل عملية إرهاب.

إذا كان الكاوبوي يطلق النار في الهواء دون أن يكون له هدف محدد، فهو شخص مجنون أو عابث، أما في السياسية فليس هناك مجانين، وكل عملية لا بد أن يكون لها هدف واضح ومحدد. يمكن للكاوبوي أن يعبث قليلاً فذلك لن يكلفه إلا ثمن بضعة إطلاقات في الهواء، أما الإرهابي فيخاطر بحياته في كل مرة يقوم بعمله، مهما اتخذ من أحتياطات وساندته قوة مسيطرة استخباراتياً وعسكريا، فلا مجال للعبث. العمليات الإرهابية مكلفة ، ليس فقط للضحايا، وإنما للقائمين بها أيضاً وتتطلب تخطيطاً وعملاً ومخاطرة، فلا بد أن يكون لها هدف محدد واضح يبرر تلك الكلفة.
.
ثانياً – أن يتم إيصال الهدف إلى الضحايا، ولو بالإيحاء.

الكاوبوي الذي يطلق النار في الهواء لا يحتاج إلى إيصال هدفه إلى الأبقار، فهي تتحرك من تلقاء ذاتها حين تخاف، أما بالنسبة للناس، فالأمر اكثر صعوبة، والخيارات أكثر تنوعاً، لذلك فأن مخطط الإرهاب يؤمن فريقاً مسانداً في الإعلام أو ضمن "القطيع" الذي يستهدفه، ومهمة هذا الفريق الإيحاء بحل إلى الضحايا، يحقق هدف مخطط الإرهاب.

ثالثاً – فتح المنفذ المطلوب ومحاصرة القطيع عن بقية الإتجاهات

إذا كان القطيع طليقاً حراً في أن يتجه حيث يريد، فقد تؤدي حركات الكاوبوي إلى ان يتجه القطيع بأي اتجاه حتى بالضد مما يريده الكاوبوي، وإن كان القطيع محاصر بسياج، فلن يمكن الكاوبوي أن يستفيد من الإرهاب لإنتاج رد فعل فعال. وكذلك الأمر في الجريمة الإرهابية، فما لم يهيء الجو النفسي لإقتراح رد الفعل المطلوب، أو أن يتم ذلك الإقتراح لاحقاً خلال فترة مناسبة فلن يكون من هذا العمل اي جدوى، وستكون عملية المخاطرة به مكلفة بلا مبرر بالنسبة لجهة الإرهاب.

رابعاً – أن يتم العمل بدرجة كافية من الصراخ والقوة لتحقيق التحرك نحو رد الفعل المطلوب

لا يمكن إقناع البقر بكلام لطيف أن يتحرك نحو جهة ما، حتى لو لم يكن يعلم أنها المسلخ، ولا يمكن إقناع الجماهير التي يعاملها الإرهابي كقطيع، بالتصرف وفق ما يريد، من خلال المناقشة، خاصة عندما يقف المنطق عائقاً أمام ذلك. لذلك يتوجب "تعطيل المنطق" ولو لحين إكمال الهدف، ويتم ذلك بالصراخ والإيحاء بالخطر- بالإرهاب، أو باستثارة الغضب الشديد. ويتطلب إرهاب العقل أو إغضابه إلى درجة تعطيل المنطق لدى البشر جهداً كبيراً لذا يتوجب أن يتم الإرهاب بأقصى قدر ممكن من البشاعة، أو أن يتم إيصال مثل هذه الصورة إلى عقول الضحايا على الأقل.

ولو راجعنا جريمة كنيسة سيدة النجاة لوجدناها تطبيقاً رائعاً لهذه المبادئ. إننا نفترض أن هناك هدفاً من عملية بهذا الحجم، ويحتمل أن يكون الهدف تهجير المسيحيين من العراق أو استثارة الرأي العام العالمي ضد المسلمين أو تبرير لتحرك بحجة حماية المسيحيين، أو مجموعة من تلك الأهداف. وبالفعل تم "الإيحاء بالحل" إلى ضحايا الإرهاب، ولا اقصد هنا من كان في الكنيسة، وإنما كل شخص أصابه الخوف نتيجة للعملية. وكان الحل بالدعوة إلى الهجرة من ناحية، أو  الدعوة إلى الإنفصال عن المسلمين وأقتراح إنشاء محافظة للمسيحيين. ونلاحظ أن الإقتراح جاء من أقرب الجهات إلى الجانب الأمريكي ، مثل الرئيس طالباني، ووسائل إعلام متعددة، ولا يشترط أن يعلم هؤلاء بهدف الإرهاب وأن يكونوا جزءاً منه، وإن كان ذلك ليس مستحيل. وبالطبع فليس كل من ايد هذا الإقتراح يعمل مع فريق الإرهاب، وإلا كان هذا الإرهاب فاشلاً بشكل كبير في الوصول إلى الآخرين.

وبالطبع فأن "فتح المنفذ" المطلوب، كان من خلال مبادرات سياسية جعلت من مشروع المحافظة المسيحية "السخيف" بكل معنى الكلمة، شيئاً قابلا للنقاش، رغم أنه يطفح بالتناقضات التي يستطيع منطق أي عقل بسيط أن يراها. لكن هذا المنطق تم تعطيله إلى حد بعيد بالفعل من خلال بشاعة العملية الإرهابية وكثرة الصراخ الذي صاحبها، وعرض شهودها على التلفزيون والإنترنت، والإعلام المهول الكاذب لمجرياتها، وانتقال الرعب والألم من وجوه الضحايا المباشرين للجريمة إلى مئات الآلاف أو ملايين من شاهدها، وتخيل نفسه مكانها.

وبالفعل بدا الضحايا المسيحيين محاصرين عن الحلول الأخرى غير الهجرة أو الإنعزال. وحين كتبت مقالة أبين فيها تفاهة وعدم معقولية أقتراح المحافظة المسيحية، لم اجد من يرد عليها، لكن معلقاً صرخ بألم تحسه من خلال تعليقه قائلاً: ما هو الحل إذن؟؟ إنه تعبير عن الحصار الذي يشعر به ضحايا الجريمة.

تفجيرات سامراء وجريمة النخيب من النوع الذي يستهدف إستثارة الغضب وليس الرعب، كما اشرنا في الجزء الأول، والحقيقة أن هذا امر طبيعي لسببين: الأول، ربما يكون صعوبة أستثارة الخوف في طائفة كبيرة جداً، ولكن الأهم منه هو أنه إن كان الهدف من العمليات إثارة الحرب الأهلية الطائفية، فان الخوف لا يوصل إلى ذلك الغرض بالضرورة. فبالرغم أنه يثير الحقد والكراهية، فقد يستكين المرعوب في بيته، وكذلك قد يكون اكثر استعداداً للتفاوض والوصول إلى اتفاق، أما الغاضب فسيكون هدفه الواضح الإنتقام بالقوة وهذا طريق اقصر وأضمن واكثر مباشرة إلى الحرب الأهلية الطائفية. ولذلك نرى أن جميع العمليات "الإرهابية" ذات الأهداف الطائفية ، إن صح التعبير، ، تبدو تستهدف أثارة الغضب في الضحية (كطائفة) وليس الخوف.

ولو راجعنا جريمة النخيب وفق الشروط الأربعة لجرائم إثارة رد الفعل لوجدنا أن الهدف منها على اغلب الظن، (وليس لدينا سوى الظن، حتى تكشف جميع غوامض القضية) هو إثارة رد الفعل (الغضب الطائفي)، فليس للضحايا أهمية شخصية خاصة محددة.
وأما المبدأ الثاني، فقد تم الإيحاء بما يجب عمله، بحذر احياناً وبصراحة أحياناً أخرى: الإنتقام للضحايا، عدم الخنوع أكثر، 1400 عام إضطهاد، السبب هو جبننا، لماذا نحرم من أن نكون طائفيين؟ وبالطبع ليس كل من كتب في هذا شخص موجه، فلا يمكن هنا معرفة من ينطلق من مشاعره ومن ينطلق من أجندة مدروسة، وهذه هي الصعوبة في القضية، وعدم الحذر فيها يوقع في خطأ أكبر حين تتهم الأبرياء بأنهم مجندون، فيزداد غضبهم وغضب المقتنعين بطروحهم.

يصعب اتهام أية جهة إعلامية محددة، لكن الإعلام بشكل عام يسهل إثبات تورطه. فقد سعى على ما يبدو بوعي للتركيز على الحقائق المثيرة للغضب وأهمل الحقائق المثيرة للتآلف بين الطائفتين، رغم أنها متوفرة تماماً. والحقيقة الهامة التي تم إهمالها بشكل كبير ولفترة طويلة هي أن ثلاثة من ضحايا الجريمة كانوا من السنة من الفلوجة (1). لقد قرأت تصريحاً لرئيس الوزراء يقول بأن الضحايا من الجانبين، لكنه كان الخبر اليتيم الذي وصلني لفترة من الزمن أتيح فيها للإعلام أن يلعب دوره التهييجي لإكمال العملية الإرهابية، ثم نشر الخبر بعد ذلك.

من الصعب إخفاء الحقيقة إلى الأبد، لكن ليس صعباً تأجيلها وتحجيمها. وهذه العملية، عملية إتاحة الوقت للإعلام ليعمل عمله قبل كشف الحقائق المعرقلة له، وهو مبدأ متبع بكثرة في مثل هذه العمليات وأيضاً في عمليات تشويه السمعة. من متابعتي موضوع وزير الكهرباء لاحظت أنه ترك للإعلام حوالي عشرة ايام لتشويه سمعة الوزير بالفساد، قبل أن يأتي اي تصريح رسمي تتحمل الحكومة مسؤوليته، ولا اتصور أن الأمر كان صدفة بريئة، بعد ذلك جاء التصريح بأن الموضوع ليس موضوع فساد بعد أن ارتبط إسم الرجل بكلمة الفساد في ذهن كل عراقي يقرأ، إرتباطاً لا انفصام عنه.
وبنفس الطريقة فإني لا أتصور أن من دبر الفضيحة الكاذبة لشتراوس خان، كان يجهل أن الرجل سيخرج بريئاً في النهاية، ولكن يجب تاخير ذلك قدر الإمكان لإتاحة الفرصة للجانب الإعلامي من العملية لتثبيت التهمة في رؤوس الناس، ولن يهتموا كثيراً بالحقائق بعد ذلك، وفي أسوأ الأحوال ومهما ثبتت براءته، فستبقى غيوم الشك والشبهة العاطفية تدور حوله وترتبط باسمه في الذاكرة.

وأما مبدأ محاصرة الطائفة الضحية إلا من منفذ واحد، فقد اقتنع اصحاب الضحايا، بأن القانون لا دور له في العراق وأنه عاجز عن حمايتهم، وذلك من خلال "عصابة" رئاسة الجمهورية، (وتساهل الحكومة بشكل فاضح في العديد من القضايا، وتركها الكثير من الأسئلة المفتوحة ضدها في أخرى، مما يشكك بجديتها في أحسن الأحوال) تقف بينه وبين المجرمين المدانين وتجعل القضاء غير قادر على تنفيذ أحكامه، وبطريقة تم تهيئتها في الدستور وتنفيذها من خلال المقربين من الجانب الأمريكي، أو من يمكن الإعتماد على طاعته. لقد عبر الكثير من السياسيون والإعلاميون والناس عموماً عن غضبهم من هذه الحال، لكنها مازالت كما كانت. وهنا يجب أن نذكر أن الشخص الثالث في رئاسة الجمهورية، خضير الخزاعي، لم ينل ما يستحق من لوم وهو مؤشر تحيز خطير لدى الجمهور الغاضب، فـ "الأقربون اولى بالغضب" أيضاً. وفي كل الأحوال وأمام هذا الحصار لم يعد أمام أهالي الضحايا سوى أن يسعوا للإنتقام بأيديهم من من يعتقدون أنهم القتلة، وفي مثل هذه الظروف لايكون هناك الكثير من الوقت والأعصاب للركون إلى المنطق والإجراءات القانونية، ويزداد احتمال إشعال شرارة الفتنة المطلوبة.

مما لا شك فيه أن المبدأ الرابع أيضاً قد تم بامتياز في جريمة النخيب، فالجريمة في حجمها ووحشيتها لا تختلف عن الكثير من الجرائم السابقة، لكن الإعلام الذي أحيطت به والظروف التي تبعتها، أعطتها "الصراخ" اللازم لإثارة رد الفعل المطلوب الذي كاد يصل إلى هدفه.

لقد وعدت في الجزء الأول أن نناقش الحلول المقترحة إستناداً إلى تحليل ظروف العمليات الإرهابية، لكن هذه "الظروف" أخذت حجماً أكبر من المتوقع، خاصة أن الفترة بين نشر الجزئين أقتضت إضافة موجز للجزء الأول، لذلك توجب تخصيص جزء ثالث للحلول المقترحة، فمعذرة.

(0) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7652
(1) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7582


70
مؤامرة الإرهاب ورد الفعل – ج1

صائب خليل
19 أيلول 2011

كتبت هذه المقالة بجزئيها كرد فعل على تداعيات جريمة النخيب المؤلمة والجارحة للمشاعر الإنسانية، والتي كادت أو تكاد تتحول إلى صراع طائفي خطير، أو حرب أهلية في العراق. كان عنوان هذه المقالة في البداية: "الإرهاب ورد الفعل" لكن أثناء الكتابة عن الموضوع والتركيز على ما يحيط العمل الإرهابي من تحضير إعلامي يسبقه ويتزامن معه ويليه، في عملية متكاملة لإيصاله إلى هدفه الذي أؤسس ذلك العمل من أجله، قررت أن من الأفضل أن يتم عكس هذا التكامل بين الجريمة الإرهابية وما يحيط بها، ليس في متن المقالة فقط وإنما في عنوانها أيضاً، لزيادة التأكيد والتثبيت في الذاكرة أن العمل الإرهابي ليس الجريمة الإرهابية وحدها والتي اعتاد المواطن التركيز عليها ، وإنما هي مؤامرة كاملة ليست تلك الجريمة إلا جزء منها، وهي وإن كانت الجزء المركزي الذي يمثل القلب من المؤامرة ، إلا أنها لا تكفي لإيضاح الإرهاب دون بقية الأجزاء التي أرجو من خلال جزءي المقالة هذه أن الفت إليه الإنتباه بشكل خاص.

الجريمة السياسية نوعين – جريمة الهدف المباشر وجريمة الإرهاب "طلب رد الفعل"

من المفيد ان نقسم الجرائم ذات الهدف السياسي، إلى نوعين للتبسيط، وهما الجريمة المباشرة التي تهدف إلى التخلص من الضحية، وبتنفيذها يتحقق الهدف، وتللك التي لا تلعب فيها الضحية إلا دوراً مساعداً في تحقيق الهدف، والذي يكون عادة إثارة رد فعل محدد يخدم القاتل (الإرهابي غالباً)، والإرهابي هنا يمكن أن يكون دولة أو منظمة.

الجريمة ذات الأهداف المباشرة :

كأمثلة على الجريمة ذات الهدف المباشر في التخلص من الضحية يمكننا أن نعتبر الجرائم الإرهابية التالية أمثلة جيدة لها من العراق، مع بعض التحفظ الضروري حيث أن تفاصيل وأهداف أية جريمة لا يمكن أن تكون أكيدة وتعتمد على التخمين المنطقي الذي يصيب غالباً ويخطئ أحياناً.
الجرائم من النوع ذو الهدف المباشر ، والتي تنتهي بانتهاء القيام بالجريمة، تتمثل بأمثلة من نوع اغتيال اللواء مبدر الدليمي (1) في وقت كان يعرقل سيطرة الضباط التابعين للإحتلال الأمريكي على المراكز الرئيسة ، وكذلك قتل النائب الصدري صالح العكيلي (2) في الوقت الذي كان الصراع على أشده لفرض توقيع معاهدة "الإنسحاب" الأمريكية وكان هو يقود المعارضة الصدرية للمعاهدة المشبوهة ويطالب بالإستفتاء الشعبي عليها بعد شرح بنودها للشعب. وكان مبعوث الأمم المتحدة  سيرجيو دي ميلو مصدر إزعاج مستمر لخبير الإرهاب بريمر ويمثل تهديداً حقيقياً للأجندة الامريكية في العراق، ولم يكن هناك أي موجب آخر لتصفيته من قبل جهة أخرى إلا اذا إفترضنا الحظ السعيد للإدارة الأمريكية، وهو ما يستبعد عادة في التحليل السياسي حتي يثبت ذلك. ولم  تختلف جريمة اغتيال علي اللامي رئيس هيئة المساءلة والعدالة الراحل عن ذلك حيث وقف كشخص وحيد أمام المحاولات الأمريكية الشرسة لإعادة قيادات البعث إلى السلطة عشية الإنتخابات الأخيرة.
في كل هذه الحالات كان الإغتيال يحقق الغرض في التخلص من الضحية، ولم يكن لأي منها هدف إرهابي يقصد منه الحصول على رد فعل مناسب لخطط القتلة، إلا أذا كان بعض القصد من قتل دي ميلو إرهاب فريق الأمم المتحدة ودفعه إلى الإنسحاب وترك الأمر بيد القيادة الأمريكية، وهو ما تم فعلاً، ومن قتل العكيلي إرهاب بقية الكتل، لأن كتلته أصرت على موقفها ولم تتزحزح عن رفض المعاهدة. وبالفعل كان الوضع العسكري أكثر مطاوعة للإحتلال بعد اغتيال الدليمي، وتفتت بعثة الأمم المتحدة حتى جاء ممثل للأمم المتحدة جديد، الهولندي أد ملكرت، والذي كان يعمل وكأنه موظف لدى السفير الأمريكي. هناك دائماً ردود أفعال على الإغتيالات السياسية، لكن بشكل عام لم يكن اغتيال أي من المذكورين يحتاج بالضرورة إلى رد الفعل، فقد كانت الجريمة بذاتها تحقق الكثير من التغيير الذي يفترض أنه ما يريده القاتل.

التخلص من الخصوم الهامين بالإبعاد

ولا يشترط التخلص من الأشخاص المعرقلين للقوة الكبرى أن يكون الأمر بعميلة إغتيال، فمعروفة قصة الجاسوس الأمريكي لدى الإتحاد السوفيتي السابق والذي كان مكلفاً بنقل أي موظف مهم في الإتحاد السوفيتي إلى عمل غير مناسب. ومن العراق لدينا إقالة وزير الكهرباء السابق رعد شلال، بعد أن تحرش بالمصالح الأمريكية والغربية وعارض تسلط بنك جي بي مورغان الأمريكي على الإقتصاد العراقي وإجبار العراق على مقاطعة إيران، والغى عقوداً هائلة للمستثمرين، فرتبت له تهمة فساد استندت إلى بعض اخطائه لكن حين لم يجد فيها متهموه فساداً، تحولت التهمة أو الحجة عدة مرات كما حدث مع أسباب احتلال أميركا للعراق، لكنها انتهت بالتخلص منه في كل الأحوال، وبدون عملية قتل (3). ومن النظام السابق في مصر نأخذ مثلاً من النائب عماد الجلدة وما حاول كشفه من أمر بسيط ، لكن بتداعيات كبيرة (4) وكيف تم التخلص منه (5) بدون جريمة قتل أيضاً.

ومازال العالم يتذكر الفضيحة التي أثيرت حول مرشح اليسار الفرنسي دومنيك شتراوس خان، والذي رأس لتوه صندوق النقد الدولي، وأعلن عن إصلاحات لا تناسب جميع المتنفذين، وكان مرشح اليسار الفرنسي لإستبدال "الصديق" الوفي لأميركا ، سركوزي، وكان متفوقاً على في استطلاعات الرأي، لذلك تمت ترتيب فضيحة له وبطريقة مفضوحة بالإدعاء بأنه حاول اغتصاب عاملة فندق، وهو أمر صعب التصديق إطلاقاً، مهما كانت طبيعة الشخص، إن لم يكن اخلاقياً، فلأن مثله يعلم أنه مراقب في كل حركة. ورغم ان العملية إنهارت  (6) وتم إطلاق سراحه، (7) إلا أن ذلك لم يتم إلا بعد إنهيار اي احتمال لإستمراره بمنصبه في صندوق النقد الدولي أو لإنتخابه لرئاسة فرنسا (8) رغم انه تبين بأن المدعية بالإعتداء عليها كانت قد كذبت في أماكن عديدة من التحقيق (9). وهكذا حققت "الجريمة" النتيجة المرجوة في النهاية.

الجريمة بهدفين: مباشر أو رد الفعل

ومن الطبيعي أنه لا يستبعد أن يكون هدف الجريمة ثنائياً، اي التخلص من شخص غير مرغوب به، وإثارة ردود الفعل المناسبة، كما أشرنا في الحديث عن اغتيال سيرجيو دي ميلو. وفي هذه الحالة يجب أن تكون الضحية شخصية مؤثرة سياسياً، وبشكل لا يناسب الجهة المرتكبة للجريمة، وأن تكون الجريمة من النوع الذي يتوقع منه إثارة رد فعل قوي، لجهة شعبية أو سياسية.

ولعل خير مثال نعرفه على العملية ذات الهدفين هو عملية اغتيال الإنسان الرائع المطران فرج رحو.
فالمطران رحو كان من أشد الشكاكين بقوات الإحتلال، وأعلن ذلك بصراحة في مناسبات مختلفة.
يقول بكل صراحة في هذا التسجيل الثمين: هناك مخطط امريكي لافراغ العراق من مسيحييه (الإنتظار قليلاً ليبدأ الحوار بالعربية)، لمن يريد أن يسمع. (10)  ومن ناحية أخرى فإنه كان يصر على بقاء المسيحيين في اماكنهم في العراق وصمودهم رغم الإرهاب.
"اكرر إنني وكهنتي سنكون آخر من يفكر بترك الموصل الحبيبة." هذه كلمات الشهيد المطران مار بولس فرج رحو  رئيس اساقفة الموصل الكلدان (11)  لذلك فقد كان التخلص منه بحد ذاته مكسباً كبيرا للإحتلال. إضافة إلى ذلك فأن من يريد ترحيل المسيحيين أو عزلهم عن المسلمين في العراق، من خلال إرهابهم، كان يحتاج بعض الضحايا لتبرير ذلك المشروع وإعطاءه المشروعية اللازمة.

ومن الجرائم المتميزة التي ارتكبت مؤخراً، والتي يحتمل أن يكون هدفها مشتركا (التخلص من الضحية واستدراج رد الفعل المناسب) كان جريمة مسجد "ام القرى" (12) في حي الغزالية غرب بغداد، أحد أكبر المساجد في العاصمة. فقد استهدفت عملية "إنتحارية" المسجد المذكور، وأصابت ما لا يقل عن 65 رجلاً، بين قتيل وجريح، بينهم النائب في البرلمان العراقي عن تحالف الوسط خالد الفهداوي، والذي قتل في الحادث، وأصيب رئيس الوقف السني الشيخ احمد عبد الغفور السامرائي بجروح. ويتوقع أن يكون السبب وراء استهداف الرجلين ما عرفا به من الإعتدال وكونهما مشروعاً للتقارب بين الطوائف الدينية، وهذا قد لا يناسب اجندة بعض القوى. إضافة إلى ذلك فأن استهداف المسجد بالذات كمكان للجريمة يزيد من بشاعتها وقد يؤمل منه أن يثير أحاسيس ببعد طائفي يفيد في زيادة الإحساس بالشكوك والعداء بين السنة والشيعة. إضافة إلى ذلك فلم يتردد البعض من أتهام نظام سوريا بتدبير العملية، مستفيدين من تصريحات للسامرائي، وهي محاولة تسجيل كسب واضح في هدف من ألأهداف الأكثر أهمية في هذه اللحظة لأميركا.

لكن أمل الإرهابيين في خلق توتر طائفي من وراء هذه الجريمة ، إن كان موجوداً، فقد خاب تماماً، فقد وجهت التهمة نحو تنظيم "القاعدة" (مهما يكن هذا التنظيم، لكنه ليس من الطائفة الأخرى (ليس شيعياً بالتأكيد). أما حزب الوسط الذي ينتمي إليه النائب المغدور، فلم يتهم الطائفة الأخرى بل وجهت إتهاماته ضمن نفس الطائفة السنية فحمل أمير عشائر الدليم علي حاتم سليمان والنائب السابق عبد الناصر الجنابي مسؤولية العملية من خلال التحريض.(13)

أنا أعتقد أن الإتهامين ليسا دقيقين، فـ "القاعدة" لا تعني شيئاً في حقيقة الأمر، إلا بمعرفة من يقف وراء هذه المنظمة الوهمية المجهولة، كما أن القاء اللوم على "التحريض" قد يكون معقولاً لو أن الجريمة كانت جريمة قتل، لكن ليس من السهل أن نتخيل تحريضاً يدفع بشخص إلى تفجير نفسه، والأمر يحتاج أما إلى أسباب اقوى أو جهة مستفيدة أقوى.
ونجد تفسيراً قد يكون أكثر منطقية في إتهام التيار الصدري القوات الأميركية بالوقوف وراء التفجير وأنه يهدف لتعكير صفو الأجواء في البلاد. (14) وبالتالي فأن الهدف الطائفي ، إن كان المقصود، قد فشل بشكل غير معهود، وانقلبت الآية إلى الضد منها. وفي كل الأحوال فلا نجد أي أثر للظن بوجود دوافع طائفية وراء الجريمة، وبالتالي فأن الجريمة فشلت في تحفيز أي رد فعل طائفي قد تكون تهدف إليه رغم اختيارها لهدف ذو طابع طائفي بامتياز.

الجريمة الهادفة إلى رد الفعل

قد لا تكون الجريمة تهدف في حقيقتها إلى ما تبدو عليه: التخلص من الضحية، بقدر ما هي تهدف إلى رد الفعل المتوقع من العملية. وفي هذه الحالة لا يشترط في الضحية أن تكون مؤثرة سياسياً بذاتها، وإنما يشترط أن لها صفة محددة تحفز رد الفعل، كأن تكون قائدة للمجموعة المعينة التي ينتظر منها رد الفعل المطلوب، أو حتى أن تكون عضو عادي في تلك المجموعة المحددة ، إن أمكن تسليط الضوء إعلامياً على تلك الصفة وإبرازها والتأكيد على أنها كانت السبب في مقتل صاحبها. فهذا الأمر يجعل من جميع أعضاء تلك المجموعة يشعرون بأن الجريمة كانت تستهدفهم هم وأهلهم ومجموعتهم، وبالتالي يتوقع منهم رد الفعل المطلوب. و من الممكن ان يكون الهدف المباشر مركزاً مقدساً لطائفة ما فقط.

العمليات الإرهابية بشكل عام، هي عمليات من هذا النوع من الجرائم الهادف إلى استثارة رد فعل محدد، وهي أحد انواعه فقط، فليس كل جريمة طلب رد فعل، هي جريمة إرهابية بالضرورة، أي تتضمن الإرهاب كوسيلة للحصول على رد الفعل، لكن تلك العمليات (الإرهابية) هي بلا شك أهم انواع الجرائم التي تبغي رد الفعل.
في الجريمة الإرهابية، يتم إرهاب عدد من الناس ، كبير او صغير، بعد أن توضع أمامه خيارات محددة، مرفوضة في الظروف الإعتيادية، لكن بعامل الإرهاب تصبح مقبولة له. ومن شروط العمليات الإرهابية أن تنفذ او تقدم إعلامياً بأقصى ما يمكن من البشاعة. هذا الشرط الأخير الإضافي الخاص يخدم المجرمين في نقطتين: الأولى هي أنه يؤمّن رد فعل قوي ومؤثر، والثانية هي أنه يؤمن جواً هستيرياً يمنع دعاة التفكير والتفهم والروية والنظر إلى الأدلة، من إفساد المؤامرة من خلال دفع الجمهور إلى مراجعة الحقائق والأدلة.

الإرهابي يعامل ضحاياه الذين يستهدفهم في حقيقة الأمر، كما يعامل راعي البقر قطيع من الحيوانات، فيحاصره اولاً، ثم يترك له مخرجاً واحداً (او أكثر)، ثم يبدأ بالصراخ والترهيب وربما إطلاق النار في الهواء، فلا يجد هذا القطيع إلا ذلك المخرج للهرب من هذا الرعب. ويمكننا ان نفهم أن مثل هذا الكاوبوي سيكون فاشلاً لو أنه أراد "إرهاب" هذا القطيع فقط، دون أن يفتح له منفذاً يريد من القطيع ان يسلكه. وكذلك فإن الإرهابي يتوقع من الناس الذين اصابهم بالرهبة بعمله، أن يسلكوا طريقاً معيناً يناسبه، إثر ذلك العمل الإرهابي، وإلا كان فاشلاً، وكان عمله بلا معنى.

الجريمة الإرهابية تمثلت بأفضل اشكالها كلاسيكية في مجزرة كنيسة سيدة النجاة، ففي هذه المجزرة كان الهدف واضحاً: ليس قتل اكبر عدد ممكن من المسيحيين ، كما حاول المجرمون الإيهام به، لكن بالعكس ، كان الهدف خلق أكبر عدد ممكن من المسيحيين المرعوبين، وبالذات من النساء (معظم الذين قتلوا من الرجال وبشكل متعمد حسب رواية الشهود)، وجعلهم ينشرون ذلك الرعب بين صفوف بقية المسيحيين، بغرض أما إجبارهم على ترك العراق كما فعلت العصابات الصهيونية مع يهود العراق قبل اكثر من نصف قرن، ففجرت القنابل وقتلت يهوداً من أجل ذلك الهدف، أو يجعلونهم ينكمشون على انفسهم وينعزلون عن بقية المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى ستهيء الجو لإطلاق شعارات وعبارات شديدة التطرف والعداء ضد المسلمين، تزيد من الشقة بين الطرفين، لم تكن ممكنة في الظرف الإعتيادي (وهو ما حدث بالفعل لفترة وجيزة). وفي كل الأحوال سيصاب المجتمع بضربة إضافية تسهل السيطرة عليه، وفي هذا فائدة تخدم أجندة الإرهابي أو من يعمل هذا الإرهابي لحسابه.

للوصول إلى ذلك الغرض، قام المجرمون باحتلال الكنيسة وإثارة الرعب بين المصلين، لفترة استمرت منذ المساء وحتى فجر اليوم التالي.
كان المجرمون على ما يبدو يعانون من مشاكل مصداقية عديدة. فلم يكن لديهم ما يبرهنوا به "تطرف إسلامهم" غير صرخات "ألله واكبر" بين الفينة والأخرى. وكان عليهم أن يرعبوا المصلين لأطول فترة ممكنة بالتظاهر بأنهم يريدون قتلهم، إلا أن عملية القتل نفسها ستقتل الشهود المرعوبين، كما أنها لا تستغرق الوقت اللازم للإرهاب. إضافة إلى ذلك فمن المحتمل أن المجرمين فشلوا في تنفيذ بعض المشاهد المتفق عليها، وهي قطع رؤوس القساوسة بالسيوف، ربما لأنهم لم يدربوا بشكل كاف على ذلك المستوى من الوحشية أو لأي سبب آخر. هذا التناقض والفشل كان بعضاً مما فضح خيوط تلك التمثيلية المقززة المرعبة.
كتبت في مقالة لي عن المجزرة : "لقد كان واضحاً بأن القتلة أرادوا من مسرحيتهم الدموية "مسرحاً إرهابياً" قدر الإمكان وليس "مسرحاً دموياً" قدر الإمكان. فقد حرصوا على مصاحبة القتل بالمؤثرات الصوتية والكلامية التي تزيد الرعب وتوجه العواطف لتسهيل العمل لما بعد الجريمة فعمدوا إلى إدامة مسرحية إرهابية لخمسة ساعات، وكانوا قادرين على إنهاء ضحاياهم بدقائق إن لم يكن دقيقة واحدة، وكانوا مسيطرين تماماً على مسرح الجريمة ولم يكونوا تحت هجوم من قوات الأمن. فالقوا القنابل الصوتية الكثيرة (كما يبدو) في غرفة صغيرة (فلم تقتل تلك القنابل اليدوية إلا بعضاً ممن كان في تلك الغرفة)، كما جاء في شهادة من نجا من المجزرة." (15)
وبالفعل وفيما بعد كشفت الصدف التي اثارتها الثورة المصرية حقيقة استهداف الكنائس في الدول العربية وأن من يقف وراءها لم يكن "مسلمون متطرفون" وإنما كان عملاء إسرائيل من أنظمة وأجهزة أمن في الأنظمة العميلة (16)، ويتبين بالوثائق، بأن نفس أمن الدولة المصري المتورط في تفجير كنيسة القديسيين، كان يقوم بـ "اعداد منفذين لعمليات تفجير في العراق"! (17) وللأسف لم تؤخذه هذه الحقائق الخطيرة باهتمام يمثل قيمتها الحقيقية.

ليست كل عملية إجرامية تستهدف رد فعل ، جريمة إرهابية تستثير الخوف بالضرورة، بل قد يكون "الغضب" هو الهدف. ويمكننا أن نصنف جريمة تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء من قبل مجموعة من الأجانب العرب (18).
كمثال ممتاز على هذا النوع. فلم يكن الهدف إخافة الشيعة من مثل هذه العملية وإنما استثارة غضبهم من الطائفة المقابلة، وبشكل شديد، تثيره صور قباب المرقد المهدم بوحشية تامة. كان يؤمل من ذلك الغضب أن يكفي لإثارة حرب أهلية، لكن ذلك لم يحصل بفضل الخيرين من أبناء الطائفتين، إلا أنه يجب القول أن الخطة كادت ان تنجح.

الجريمة البشعة الأخيرة في النخيب، لم تكن أيضاً تستهدف إثارة الخوف، وهي بهذا المعنى لا تصنف على أنها من الجرائم التي تستهدف إرهاب الجماهير بدفعهم الى تصرف معين، فلم يكن منتظراً منها أن تدفع بالشيعة إلى الخوف والإستكانة، ولكن الهدف كان منها على ما يبدو إثارة ألغضب والحقد، واستثارة المشاعر الطائفية، وفي وقت شديد الحساسية، خاصة بالنسبة لهم، حيث تتعرض الحكومة المنتخبة التي أسسها تحالف شيعي إلى هجمات متعددة في نفس الوقت، خاصة وأن موقف هذه الحكومة من موضوع تمديد القوات العسكرية الأمريكية لم يكن مرضياً للجانب الأمريكي، ولا كذلك صمودها في موضوع تسليم الوزارات الأمنية إلى من تريدهم أميركا من بقايا النظام السابق ومن برهن لها أنه طوع أوامرها بلا تردد، ولا في رفضها (حتى الآن) لقانون النفط الذي تقدمه كردستان نيابة عن الشركات والأجندة الأمريكية. وبالفعل تبين أن منفذي جريمة النخيب كانوا من معتقلي سجن بوكا قام الامريكان بإطلاق سراحهم (19) كذلك أشار النائب عن للتيار الصدري جواد الحسناوي أن " جريمة النخيب (...) يُراد منها التشكيك  بالقدرة الامنية وزرع الفتنة والرعب في البلاد من اجل تمديد بقاء القوات الامريكية في البلاد" . (20)

لقد اراد الإرهابيون في تقديري إثارة غضب منفلت من الجماهير الشيعية التي تمت "محاصرتها" في إحساسها بأن القانون لا يعمل في العراق. وقد قدم هذه الصورة بعض السياسيين الذين تكفلوا بإعاقة عمل القانون من الذين وضعوا في رئاسة الجمهورية لمنع تنفيذ احكام القضاء. كان الهدف أن تجد الجماهير المعنية بالضحايا نفسها مضطرة إلى سلوك "المنفذ الوحيد" لديها وهو بأخذها بالثار بنفسها وبيدها، وبالتالي توجيه ضربة شديدة إلى حكم القانون، وإثارة الفوضى القانونية والأمنية، على أن تتكفل الصحافة بإكمال القصة وإيصالها إلى المرحلة التي يريدها من دبر الجريمة، وربما تكتفي بإبقاء القوات الأمريكية، أو تذهب أبعد من ذلك، بتسليم الأجهزة الأمنية إلى عملائها أيضاً.

في الجزء الثاني من المقالة سنتحدث عن الظروف المهيئة لجريمة الإرهاب، وكذلك الرد المناسب عليها.

(1) http://www.yanabeealiraq.com/politic_folder/saab-kalil310108.htm
(2) http://www.alnoor.se/article.asp?id=34491
(3) http://baretly.net/index.php?topic=5078.0
(4) http://www.youtube.com/watch?v=_IkQ4C1xo04&feature=related
(5) http://www.youtube.com/watch?v=PVOh2HgCHdI
(6) http://www.wsws.org/articles/2011/may2011/left-m23.shtml
(7) http://www.truth-out.org/dominique-strauss-kahn-released-case-teeters/1309539785
(8) http://www.wsws.org/articles/2011/may2011/left-m23.shtml
(9) http://www.nytimes.com/2011/07/01/nyregion/strauss-kahn-case-seen-as-in-jeopardy.html?_r=1
(10) http://www.youtube.com/watch?v=8sEfRWFbcBI
(11) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=117885.0
(12) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=530714.0
(13) http://nasiriyah.org/ara/post/4994
(14) http://www.babil.info/thesis.php?name=axbar&mid=33275
(15) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=51
(16) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=43791
(17) http://www.jo-pal.com/News.aspx?id=65850
(18) http://www.mehrnews.com/ar/newsdetail.aspx?NewsID=1346990
(19) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7539#comment41696
(20) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7526


71

"المحافظة المسيحية" - تلك المزحة السامة!

صائب خليل
1 أيلول 2011

جزء من عنوان هذه المقالة من عنوان مقالة وليد يلدا "فكرة استحداث محافظة للمسيحيين هل هي مزحة" والتي يصور فيها مشروع المحافظة كحماية أرواح المسيحيين، وأن رفضه استهانة بدمائهم، فيسأل "هل ان دماء مكونات شعبنا من المسيحيين وباقي الاقليات المتعايشة في العراق رخيصة لهذا الحد؟! بحيث مكتوب عليها ان تسال دمائها بكل مرة او مناسبة مأساوية كما حصل في فاجعة كنيسة سيدة النجاة في الكرادة. ويقول بأن ما كتبه مجرد " تساؤلات" (1)

وقال رئيس الجمعية الكلدانية في عينكاوا، بولص شمعون: "استحداث محافظة خاصة بالمسيحيين يمثل الحل الوحيد لمشكلتهم في العراق". لكن سكرتير المجلس القومي السرياني الكلداني الآشوري، ضياء بطرس يريد أن يوضح، أن المطالبة باستحداث محافظة خاصة بالمسيحيين "لا تعني تسميتها باسم المحافظة المسيحية".(؟؟) كيف؟ يقول بطرس: "لأن الدستور يمنع استحداث مثل هذه المحافظة أو تشكيل مناطق على أسس طائفية أو دينية"! (2) والحل برأي بطرس، هو أن "يكون اسمها محافظة سهل نينوى!". حلينا مشكلة إعتراض الدستور! المشكلة الدستورية كانت في الإسم إذن! الا يشبه هذا حل مشكلة معاهدة بقاء القوات بتسميتها "إنسحاب القوات" و التخلص من ضرورة دستورية بموافقة البرلمان على اتفاقية فسميناها في حينها "مذكرة تفاهم" وحلت المشكلة!

وليد يلدا غاضب من ضحك الناس على ما يبدو، لذا يسأل لماذا، ويرجو "الاجابة عليها يا سادتي المعترضون على مشروعنا وبكل حكمة وادلة عينية حاولوا ان تُقنعوا او تَقنعوا وتتركوا الشعب يقرر مصيره بحرية".
ونحن هنا بصدد أن نحاول أن "نقنع أو نقتنع".

لنحاول أن نفهم اولاً ما هي "المحافظة المسيحية" هذه..
يقول يونادم كنا، الذي أبدى أحياناً بعض التردد منها ومن المشاريع المشابهة, وأحيانا الحماس، مثل عدد من الآخرين (3) (4) (5):

أن "المطالبة بإنشاء محافظة في سهل نينوى للمكون القومي (الكلداني السرياني الآشوري)، لا يعني إنشاء كانتون على أساس طائفي أو عرقي، بل أن المحافظة المقترحة ستكون لكل المكونات في المنطقة من أيزيديين وشبك وعرب وكرد، فنحن لا نريد الإنفصال عن باقي المكونات، كما أن إنشاء كانتون على أساس قومي أو ديني هو مخالف للدستور العراقي".

هل فهم أحد شيء؟ "محافظة للمكون القومي....ليست على أساس قومي!".. ؟

تفضلوا هذا آخر ، الأمين العام للمجلس القومي الكلداني ضياء بطرس إن "مشروعنا للمحافظة لم يبن على أساس ديني أو طائفي".
يعني "محافظة مسيحية... ليست على أساس ديني" !

ورغم أن الجميع يؤكد ان الموضوع مخالف للدستور، حتى مؤيدي المشروع الذين يحاولون أن يجدوا له مخرجاً فأن النائب عن دولة القانون خالد العطية يؤيد ويؤكد وعكس الجميع بأن المشروع دستوري بل أنه "الحق المشروع والدستوري"! (6)

إذن هي محافظة للمسيحيين، لكن إسمها "سهل نينوى" وليس "المحافظة المسيحية"؟
ليس بالضبط، لأن بطرس يرى أن مثل هذه المحافظة، إذا ما استحدثت فعلا، "لن تقتصر على المكون المسيحي فقط بل وستضم مكونات أخرى تعيش هناك مثل الكرد والشبك والايزديين". يعني فقط أن لا يكون فيها مسلمين عرب! لنسمها إذن "المحافظة النظيفة من المسلمين العرب" ، أو "الإرهابيين العرب"؟

ومضى سكرتير المجلس القومي السرياني الكلداني الآشوري ضياء بطرس، بالقول، إن الرغبة للتوجه إلى هذه المحافظة "ستكون اختيارية على أن يظل من يرغب بالعيش في بغداد أو الموصل أو غيرها فيها"، أي أن الجماعة يؤكدون بأنهم لن يأخذوا المسيحيين مخفورين إجبارياً إلى المدينة ليعيشوا فيها!  
بطرس يرى سبباً آخر لإنشاء للمدينة: "لكن الحل يكمن في تشكيل محافظة خاصة بالمكون المسيحي لوجود بطالة في المنطقة يعاني منها نحو تسعة آلاف شاب وشابة من الخريجين على الأقل وبتحويل المنطقة إلى محافظة ستوفر لهم فرص العمل"
سمعت أن محاربة البطالة تكون بانشاء المصانع والمزارع، أما محاربتها بإنشاء المدن فهو أمر مبتكر وجديد علي.

وأخيراً زعل ضياء بطرس "لعدم موافقة الحكومة الاتحادية على تشكيل محافظة خاصة بالمسيحيين"، مستنتجاً أنها "تنظر إليهم على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية في البلاد" (2)
معه حق! الحكومة منذ "التحرير" أنشأت حوالي 12 محافظة لمختلف المكونات، كل من أراد محافظة أنشأوا له محافظة  إلا المسيحيين، الا يعني ذلك أنهم يعاملونهم كمواطني درجة ثانية؟

لا يعقل أن تصل البلاهة إلى هذه الدرجة، فلا تخطر ببال هؤلاء أسئلة وتناقضات يستطيع طفل أن يكتشفها، لذلك لا عجب ان يتساءل البعض إن لم يكن الأمر "مزحة"؟..

لنطرح نحن الآن بعض الأسئلة و مثلما قال وليد يلدا، نقول "يرجى الإجابة عليها يا سادتي المؤيدين للمشروع"...

محافظة مسيحية..إن لم تمنع أحد من السكن فيها، فليس هناك أية مناسبة لتسميتها مسيحية، أو أن يفرح المسيحيون بها، وبالتالي لا بد من منع المسلمين من دخولها أو السكن فيها. أتوقع أن اليهود وغيرهم سيكونوا موضع ترحيب.. المشكلة مع المسلمين الإرهابيين...ألم يردد الكثير حتى من العراقيين عبارة الموساد : صحيح أن ليس كل المسلمين إرهابيين لكن كل الإرهابيين مسلمين؟ وطبعاً العقل الذي يعجز عن طرح الأسئلة أعلاه عن محافظة مسيحية سيعجز بالتأكيد عن اكتشاف أن "كل الإرهابيين مسلمين" لأن الإرهاب تم تعريفه على أساس أنه ما يقوم به المسلمون من جرائم، أما غيرهم فتسمى عادة بواحدة من الأسماء الحسنى مثل"العنف الذي لا معنى له"، او تربط شخصياً بمرتكبها فقط.. الخ.

حسناً، دعونا لا نناقش ذلك، المسيحيون يريدون محافظة لوحدهم لحمايتهم من إرهاب المسلمين كيف سينفذوها؟

وسؤالنا: هل ستمنعون المسلمين من دخول المدينة؟ ستكتبون على مداخلها: "محافظة سهل نينوى ترحب بكم....إن لم تكونوا مسلمين"..؟ أم يسمح لنا بالدخول دون السكن؟ أم السكن دون المشاركة في الإدارة؟ أفترض أنها ستكون مجهزة بسيطرات إنظباط مع كلاب مدربة تتأكد من خلو السيارات الداخلة إلى المدينة من المسلمين (وإلا فلن يمكن حمايتها من الإرهابيين، ولا معنى لإنشاء المدينة).

لكن كيف ستعرفون المسلم؟ هل مكتوب في الهوية أنه مسلم (أنا أعيش في الخارج ولا أدري ما يكتب في هوية العراقي)، أم ستطلبون تغيير الهويات في العراق ليكتب فيها الدين من أجل مشروعكم؟

طيب إذا قال واحد في السيطرة أنه لا يؤمن بأي دين؟ هل ستعتبرونه مسلم أو مسيحي أو صابئي بالوراثة؟ هل ستححققون في ديانة والديه مثلاً؟

طيب، هل ستسحبون جميع المسيحيين من باقي العراق؟ هل سيريد جميع المسيحيين ترك مدنهم والذهاب إلى هذه المدينة العصماء؟
يقول يونادم كنا: "نحن لا نريد من خلال إنشاء محافظة في سهل نينوى تجميع المسيحيين من كل أنحاء العراق في رقعة واحدة".
ويقول ضياء بطرس أن المسيحيين "لا يشترطون جمعهم كلهم في هذه المحافظة".

إذن ستتركون بعض المسيحيين خارج أسوار المدينة المحصنة.. لكن كيف ستتركون هؤلاء المساكين بين الإرهابيين لوحدهم وقد أصبحوا أقلية أشد قلة مما كانوا قبل هذا المشروع الذكي؟ إذا كان هؤلاء سيقتلون فليس من الأخلاق تركهم وحدهم، وإن كانوا في تقديركم قادرين أن يدافعوا عن انفسهم ويبقوا على قيد الحياة خارج المدينة المحرمة، فما الداعية للمحافظة المسيحية؟

طيب هذي المحافظة، ستكون كاثوليكية أم بروتستانتية؟ أم فيها قسمين معزولين مثل بلفاست؟ آسف..أكيد غير مسموح لنا بالتدخل في الشؤون الداخلية لمحافظتكم المستقلة إسوة بـ "فدرالية" كردستان ودولة الفاتيكان..

سؤال آخر..هل تتوقعون أن يرحب بكم المسلمون في بقية محافظات العراق، إن قمتم بأي تمييز ضدهم في هذه المحافظة ، حفاظاً عليها من "الشوائب الإثنية"، بفرض أنه يمكنكم أن تفعلوا ذلك؟ هل سيكونوا ملامين من رفض مشاركتهم في أي إدارة أو حكم؟ إن رفضتم بيع البيوت للمسلمين في تلك المدينة ، فهل سيكونوا ملامين في رفض أي بيع وشراء معكم في المدن الآخرى؟ هل تتوقعون أن يسمح لكم ببناء كنيسة في أي مكان، أم أنكم ستسمحون ببناء الجوامع في مدينتكم المقدسة، فتطير قدسيتها وتصبح مدينة عادية فيها الجوامع والكنائس معاً وغير مميزة "ثقافياً"؟

وبمناسبة التمييز، كيف وعلى أي مبدأ ستميزون أنفسكم عن الدعوات الإسرائيلية بالإعتراف بدولة إسرائيل كدولة يهودية، وهي الدعوة التي احتقرها العالم كله وليس الإسلامي فقط؟

طيب إذا كان المسلمين بهذا التوحش، ما الذي يضمن لكم أنهم لن يقصفوكم بالصواريخ؟ خاصة في هذا الوضع في مدينة كل سكانها مسيحيين، والذي يضمن لكل مسلم إرهابي متعطش لقتل المسيحيين أن صاروخه سيقتل مسيحيين فقط؟ هل ستجعلوها مدرعة مثل السفارة الأمريكية؟ هل ستطلبون "منظومة صواريخ متطورة" تحميها؟ هل ستنظم مدينتكم الفاتيكانية إلى اتفاقية "الدرع الصاروخية"؟

هل نقول أن المشروع نكتة، أم كل من فكر به أو أيده أو أطلقه نكتة؟

كل شيء يقول أن هناك نكتة، أو مزحة ، لكني لا أصدق بالنكات في السياسة، لذلك بحثت عن تفسير آخر. وخير ما وجدت لتفسير النكتة، هو هذا:
الأمين العام للمنبر الديمقراطى الكلدانى، سعيد شامايا: «إننا كمسيحيين نريد منطقة خالية من التشويه الديموجرافى، وأن ندير أمورنا بأنفسنا».(7) "خالية من التشويه الديموجرافي" .. عبارة قوية ومعبرة... هل قال هتلر ما هو كثير البعد عن ذلك ليعتبر ذو أفكار "شوفينية بغيضة" وتنصب على أفكاره عدا أعماله، لعنة البشرية؟

من يقف وراء هذه الفكرة ومن يدعمها؟
مسؤول العلاقات بالحزب الديمقراطي الكردستاني غازي فرمان أكد إن "وجود محافظة للمسيحين في سهل نينوى يجعل من المسيحيين احراراً في اتخاذ قراراتهم دون الرجوع إلى أي جهة". وأوضح أن "حكومة إقليم كردستان ستدعم المسيحيين فيما لو أسسووا محافظة مستقلة لهم وستقوم بحمايتهم"(8)
أتباع الحزبين الكرديين الرئيسين متهمون من قبل الكثيرين، خاصة من المسيحيين، بأنهم يؤيدون المشروع لأنهم ينوون من خلاله السيطرة على ما يسمونها "المناطق المتنازع عليها".

بعد هذه الحركات التي يفرضها مثل هذا المشروع، هل سيكون وضعكم أكثر أماناً، من "الإرهابيين الإسلاميين" لو فكرتم بالخروج من مدينتكم المسورة؟ أنا أحس أن مدينتكم غير الفاضلة هذه مشروع إسرائيلي لتأسيس مكان آمن لعصابات كعصابات أقباط مصر في كنيستهم المحصنة، التي صارت دولة داخل دولة بفضل قوة تأثير إسرائيل في مصر، وليست قوة تأثير إسرائيل ببعيدة عن "سهل نينوى" عند حدود كردستان. لذلك، وأنا البعيد عن كل مشاعر التمييز الطائفي والديني، أشعر لأول مرة في حياتي بمرارة تجاه المسيحيين وبخطر إضافي يتهدد البلاد منهم إن تم المشروع، بل وأستهجن حتى تفكيرهم بهذا المشروع.

لا أتصور إني سأكون الوحيد في ذلك، لذلك اتساءل: بعد كل المشاعر السلبية التي ستثار ضدكم بسبب هذه المدينة؟ كيف تتوقعون أن يعاملكم المسلمون بعد أن عبرتم عن اعتبارهم إرهابيين يجب التخلص منهم بمدينة محصنة منهم؟


وانظروا أيضاً ما وجدت! هذا المقال الذي يكفي عنوانه: " ثمة فرصة تاريخية لقيام "دولة آشورية مسيحية" في العراق "(9)،
 والأدهى ان الكاتب ليس عراقي، هو سوري إسمه سليمان يوسف، ويقول، بعد أن يتحدث عن الإهتمام الأوروبي والأمريكي الشديد بموضوع حماية المسيحيين، والتأكيد على وعد بلفور - عفواً طالباني بإنشاء محافظة قومية للمسيحيين، وأنه مادام الدستور فدرالي، فكل شيء ممكن فيه، ولذلك فأن سليمان يرى " أن ثمة فرصة تاريخية لقيام دولة آشورية (...) في بعض المناطق التاريخية للآشوريين في بلاد ما بين النهرين".!

ونكمل ما يقوله سليمان : "هذه الفرصة ممكنة فيما لو صمد الآشوريون والمسيحيون في وجه العاصفة وتشبثوا بأرضهم وتصاعدت التحركات والتظاهرات والاحتجاجات في مدن وعواصم العالم وتضافرت الجهود الآشورية والمسيحية العراقية والمشرقية عموماً مع الجهود والمساعي الأوربية والدولية الجادة في انقاذ آشوريي ومسيحيي العراق وحمايتهم.
من المهم جداً، أن يدرك ويقدر الآشوريون بمختلف تياراتهم ومذاهبهم الكنسية أهمية هذه اللحظة التاريخية التي يجتازونها لجهة تحديد مصيرهم ومستقبلهم ليس في العراق فحسب، وانما في جميع دول ومجتمعات المنطقة.لهذا عليهم عدم تفويت هذه الفرصة التاريخية في حسم خياراتهم السياسية وعدم التردد في المطالبة بحكم ذاتي في بعض مناطقهم التاريخية،مثل"سهل نينوى"."

قيام أي دولة يشبه هذا؟ لم تحزروا؟ تفضلوا هذه الجملة أيضاً:
"أن مثل هذه الدولة الآشورية المسيحية،ستشكل عامل استقرار واطمئنان لجميع الآشوريين والمسيحيين في دول ومجتمعات منطقة الشرق الأوسط."
ببساطة، هذا الوضيع، يريد دارفور ثانية في العراق، بكل صراحة، تجمع تحت سقفها المسيحيين في كل المنطقة وتتظافر على إنشاءها "الجهود الآشورية والمسيحية العراقية والمشرقية عموماً مع الجهود والمساعي الأوربية والدولية" والتظاهرات في كل أنحاء العالم! دولة إذن تحمي كل مسيحي في المنطقة، ولكل مسيحي في المنطقة فيها حضوة خاصة مادام مسيحياً، يريد إسرائيل أخرى بشكل مصغّر ومسيحي.

هكذا إذن تبدأ "النكتة" أو "المزحة" تأخذ شكلاً سياسياً مفهوماً، فلا غرابة أن يطلقها جلال الطالباني، فمن هناك انطلقت أو دعمت كل المشاريع الإسرائيلية التقسيمية في العراق، فهل هذا ما تريدونه أيها المسيحيون العراقيون؟ وما الذي تتوقعون أن يكون شعور بقية العراقيين تجاه مثل هذا الشيء؟ وكيف يمكن أن تتطور الأمور فيه تجاهكم برأيكم؟

من خلال مناقشاتي لا أتصور أن الجميع يدرك خطورة ما يتكلم عنه، حتى المثقفين على اعلى المستويات، فشلوا في اكتشاف الأسئلة الخطيرة التي تحيط بالموضوع، وتقبلوا بسذاجة وبلا تفكير بالتداعيات: محافظة مسيحية.. نعم لم لا؟ لكن هؤلاء لا يعلمون أن هذه الحركة هي الخطوة التي تبدو بريئة لما سيكون مشروعاً إسرائيلياً أمنياً يسيطر عليه العملاء المدربون جيداً في القواعد السرية لجارتهم الشمالية الفدرالية، على السياسة وعلى العمل الإرهابي، وعندها سيكون الوقت متأخراً لإكتشاف أي شيء، وتكون نواة دارفور الجديدة قد ولدت، وبرعاية أمريكية إسرائيلية ودولية تحميها من أي خطر، حتى تكبر وتأخذ دورها المرسوم لها.

لقد تحجج الكثير من الدعاة إلى هذا المشروع بعملية كنيسة سيدة النجاة، وفي تقديري أن العملية لم تكن إلا لهذا الغرض: أن تقدم حجة لمشاريع من هذا النوع، مشاريع غير معقولة، بحاجة إلى أسباب مخيفة للتحريض على تنفيذها. وعملية كنيسة النجاة كان من الواضح لأي ذهن هادئ أن يلاحظ أنها لم تكن عملية إسلام ضد المسيحيين، بل لم تكن ضد المسيحيين أصلاً في قصدها، وقد بينت من خلال مقالاتي أنها لم تكن تقصد إنزال أكبر قدر من الأذى بهم وإنما نشر الرعب بينهم ، وذلك من خلال تمثيلية الغرفة التي ألقيت فيها القنابل (الصوتية على ما يبدو) لمدة ساعات دون أن يقتل إلا بعض من فيها وفي العادة تكفي قنبلة يدوية واحدة لقتل من في الغرفة، وكذلك "الإنتحاريين" العجيبين ألذين ينتحرون بعيداً عن الضحايا!! كل هذا لم يلفت نظر الإعلام العراقي لسبب ألله يعلمه رغم أني كتبته بوضوح أكثر من مرة، وكذلك يعلم الله السبب وراء عدم مساءلة فراس الغضبان عن قصته الملفقة التي تدعم فكرة زيادة إرهاب أكبر عدد ممكن من الضحايا (10).
حتى ذوي الضحايا لم يكونوا بالشجاعة اللازمة لطرح تلك التساؤلات، وبالتالي تركزت الفكرة المطلوبة : مسلمين إرهابيين يصرخون ألله واكبر ويطلقون النار على المسيحيين، تركزت في أذهان المسيحيين من خلال تكرارها وإهمال الإشارة إلى التناقضات التي تفضح كذبها في الإعلام، وبالتالي صارت المشاريع المشبوهة مثل "المحافظة المسيحية" مشاريع يمكن إدخالها بالعقل من خلال خلفية الإرهاب التي تمت فبركتها والعناية بإدامتها في رؤوس الناس، وبالرغم من التكشف التدريجي الموثق للحقائق التي تقف ورائ ذلك الإرهاب بالذات.(11)


لحسن الحظ، ليس كل من في هذا البلد صار يفكر بشكل "نكتة"، لننظر إلى رجال من نوع آخر لنزيل الغثيان والتشويه الفكري الذي يسببه من جاءونا بتلك النكت الباهتة، سواء كان من المسيحيين أم غيرهم.

"اكرر إنني وكهنتي سنكون آخر من يفكر بترك الموصل الحبيبة." هذه كلمات الشهيد المطران مار بولس فرج رحو  رئيس اساقفة الموصل الكلدان (12)



وقال "سنقيم قداسا في كنيسة مار بولس التي ضربت للمرة الثانية، وهي الآن بدون أبواب ولا شبابيك، وصلاتنا هي لبعث الرجاء في قلوب أبناء الرعية ولنثبت صمودنا وبقاءنا في البلد" على حد قوله. (13)
وقال: "المسيحيون في الموصل كنائسهم مفتوحة ويصلون فوق الارض"
وعمل بمثابرة وصبر كما نعاه أحد الكتاب، لترسيخ فكرة "العراق بيتنا جميعا" (14)
ولا يلقي هذا الرجل الشجاع باللائمة حول الإرهاب على "الأشباح" المجنونة ذات القنابل الصوتية كما يفعل الجميع، بل يقول بكل صراحة في هذا التسجيل الثمين: هناك مخطط امريكي لافراغ العراق من مسيحييه (الإنتظار قليلاً ليبدأ الحوار بالعربية)، لمن يريد أن يسمع. (15)

أي أن "المحافظة المسيحية" ليست سوى الخطوة الثانية للعملية الإرهابية – السياسية التي كانت خطوتها الأولى فاجعة كنيسة النجاة، وأن من يشارك في دعم هذا المشروع، إنما يشارك في تلك العملية الإرهابية وليس يقف ضدها كما قد يتصور. أن خير ضمان لعدم تحقيق إرادة الإرهابيين هو أن نعمل على أن لا تكون لعملياتهم أية تأثيرات في القرارت السياسية التي نتخذها، وإلا فإن قبلنا أن تكون قراراتنا رد فعل لتلك العمليات، فإننا نرشد من يقف وراء تلك لمشاريع إلى الطريقة التي يقودنا فيها إلى ما يريد. إننا نقول له عندذاك: قم بعملية إرهابية وسنكون أكثر استعداداً لقبول فكرتك!

المطران الرائع هذا تم التخلص منه، ربما بالذات لأنه كان رائعاً، فهل انقلب الباقون وصاروا يبحثون عن مخبأ تقدمه لهم مشاريع مشبوهة بمدينة مسورة خاصة بهم؟ ليس الجميع لحسن الحظ، والتشكيك بتلك المدينة غير الفاضلة منتشر أيضاً بين المسيحيين، ومن هذا الجانب نأخذ هذه المقالة المتسائلة الرائعة لـلناشط القومي الكلداني كما يصف نفسه، نزار ملاخا حيث يكتب في "بحزاني" تحت عنوان:"محافظة للمسيحيين مرة ثانية" ما يلي:
"هل هناك طبخة جديدة تُطبخ للمسيحيين العراقيين يُشارك فيها أطراف مسيحية ومسلمة عراقية وغربية ؟ متى كان المسيحيين العراقيين بمعزل عن إخوتهم المسلمين العراقيين ؟ متى كان الكلدان العراقيين منزوين بعيدا عن الأكراد والعرب والتركمان ؟
لا يريدون التقرب منهم أو الإختلاط بهم ؟ متى كان للمسيحيين العراقيين دوائر خاصة بهم يشتغلون فيها ، واسواق خاصة بهم يتبضعون منها ، وأحياء سكنية ومحلات وحارات ودرابين وغيرها ؟
ألم يكن المسيحيون وطيلة هذه العقود يسكنون مع المسلمين في حي واحد وحارة واحدة وزقاق واحد ؟ ألم يعملوا في دائرة واحدة لا بل في نفس الغرفة وعلى نفس المنضدة ؟ ألم يأكلوا من قدرٍ واحد ، ومن خبزة واحدة ؟ألم يكونوا إخوةً لبعضهم البعض في السراء والضراء ؟
هل يستطيع كائنٍ مَنْ كان أن يميز بين المسلم والمسيحي في العراق ( قبل السقوط ) ألم يتكلموا لغةً واحدةً ؟ ويدرسوا في مدرسة واحدة ؟  هل رفض طبيباً مسلماً أن يعالج مريضاً مسيحياً ؟ أم أن معلماً مسيحياً رفض أن يدرّس طالباً مسلماً ؟
يا إلهي ما الذي يجري في عراقنا الحبيب ؟
ما هذا الهراء الذي نسمعه اليوم ؟ ولماذا حصر المسيحيين في محافظة واحدة ؟ محافظة للمسيحيين !!!!!!! لماذا ؟
 نحن ومن منطق العراق لكل المسيحيين وكل المسيحيين للعراق نشجب ونستنكر هذه الصيحات التي تتعالى مطالبة بمحافظة للمسيحيين .
إنني وبإسمي شخصياً أُناشد كل الشرفاء العراقيين ، وكل مَنْ بيده الأمر ، أن هناك طبخة جاهزة للمسيحيين غايتها القضاء على ما تبقى من بقايا للمسيحيين في العراق ، إن وافقتم على هذا المشروع المشبوه.
الكلدان المسيحيون عراقيون أُصلاء ، وأصولهم متجذرة في العراق العظيم منذ آلاف السنين ، وسكنو البصرة والناصرية وكربلاء والنجف والحلة وأور الكلدانيين ، كما سكنوا دهوك وأربيل والسليمانية ونينوى الحدباء، دياراتهم وكنائسهم وآثارهم ما زالت شاخصة في العراق كله من شماله حتى جنوبه ، فمن كانت له هكذا حضارة وهكذا تأريخ كيف يمكن أن نقوقعه ونحصره في محافظة واحدة ؟
نحن لكل العراق وكل العراق لنا، بدمائنا سقينا تربة العراق كله ولم نسق محافظة واحدة فقط   لقد كان وما زال العراق أرضاً فسكنّاه    وكان العراق هواءً فاستنشقناه، وصار العراق وأرضه وسماؤه دماءً تجري في عروقنا فكيف ننساه !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
عاش العراق حرا أبياً موحداًعاشت الأمة الكلدانية على أرض العراق الطاهرة، المجد والخلود لشهداء الكلدان وشهداء العراق جميعاً"

بمثل صوت المطران رحو، وصوت نزار ملاخا، نعيد الوعي والذاكرة إلى رؤسنا التي أصابها الدوار، و نمنع الإرهاب من قيادة مشاعرنا وتحديد قراراتنا، ونحبط في مهدها المبادرات المشبوهة، وما يريده قتلة "آدم".

(1) http://ankawa4all.net/vb/showthread.php?t=6629
(2) http://www.almawsil.com/vb/showthread.php?=&threadid=85518
(3) http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,458350.0.html
(4) http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,458476.0.html
(5) http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,458438.0.html
(6) http://www.khoyada.com/index.php?option=com_content&view=article&id=469
(7) http://www.shorouknews.com/Columns/column.aspx?id=378478
(8) http://www.aknews.com/ar/aknews/4/230602
(9) http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,460375.msg4941884.html
(10) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=51
(11) وهاهي حقيقة إرهاب تفجير الكنائس ومن يقف ورائها تتكشف!
http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=51
(12) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=117885.0
(13) http://www.tebayn.com/Tebayn%20Arabic/index.asp?pageID=1&SID=8376&Ln=En#
(14) http://www.ahewar.org//debat/show.art.asp?t=0&aid=127186
(15) http://www.youtube.com/watch?v=8sEfRWFbcBI


72

التوافقية العراقية - نظام مبتكر للتدوين الموسيقى
(I-Accord Music Notation)

صائب خليل

تطورت كتابة الموسيقى على مدى عدة من القرون الماضية، ولكنها بقيت تعاني من كونها قد صممت في الأصل من أجل ألات غير الآلات التي نستعملها اليوم، فورثنا من ناحية ما جمع فيها من حكمة وجهد فنانين وعلماء عملوا بجد ومحبة، ومن ناحية أخرى ورثنا أيضاً أخطائهم، فـ "ما يورث ليس فقط حكمة الشعوب، وإنما حماقاتها أيضاً" كما يقول الفيلسوف نيتشة. وبشكل عام، فكل شيء يتطور بشكل تدريجي يحمل بالضرورة نقصاً هاماً ومتزايد الأثر، يتمثل في أن أساسه قد بني في زمن سابق، ولا بد أن يأتي الوقت الذي يعجز فيه ذلك الاساس عن تحمل الثقل المتزايد عليه من الشروط والحاجات الجديدة، وعندها يستوجب تغييره بشكل جذري.
لكن إحداث تغيير جذري في أي نظام ليس أمراً هيناً، فالقدم يعطيه زخماً متزايداً يتمثل بتراكم نتائج استخدامه والنظم الأخرى التي تستخدمه والبشر الذين تدربوا عليه، وهذه كلها تصير عبئاً يجعل تغييره أمراً مكلفاً ويغري بإبقائه.

لذلك السبب، فلا تقويمنا السنوي هو الأفضل الممكن ولا توزيع الحروف على الطابعة هو الأفضل ولا كذلك نظام الـ في إج إس للفيديو على سبيل المثال هو الأفضل، وقد وجد المختصون أنظمة أفضل من كل هذه وبرهنوا على أفضليتها ومزاياها، لكن تغيير النظام يعني خسارة الكثير مما تم تعلمه وتثبيته وما تأسس عليه. فتغيير توزيع المفاتيح على لوحة مفاتيح الكتابة المسمى "كويرتي" إلى النظام الأكفأ (دفوراك) على سبيل المثال، يعني أن كل من تعلم الكتابة على النظام القديم، عليه أن يتدرب من جديد.
وهكذا يطيل هذا الزخم حياة الأنظمة القديمة التي لم تعد تفي بغرضها، ومنها نظام التدوين الموسيقي الحالي.

وقبل الدخول في تفاصيل فكرتي الجديدة أود إعطاء فكرة خاطفة عن السلالم الموسيقية الكلاسيكية (الغربية) وتوزيع النوتات فيها، وكذلك عن تاريخ التدوين الموسيقي ووضعه الحالي، لمن ليس لديه اطلاع على الموضوع. هذه المقدمة قد لا تكون مفيدة للمطلع على أسس الموسيقى، لذلك أقترح لمن لا يحتاج إليها القفز مباشرة إلى العنوان الداخلي: "نظام التدوين الموسيقي – التوافقية العراقية".

مقدمة عن أسس الموسيقى ونظام التدوين الكلاسيكي

تتكون الموسيقى من نغمات تعزف معاً أو بالتتابع، كل نغمة لها ذبذبة صوتية معينة (عدد المرات التي يصعد وتر العود (مثلاً) ويهبط في الثانية الواحدة) ، والنغمة التي تليها صعوداً لها ذبذبة أعلى منها بنسبة معينة. نغمة "دو" مثلاً تبلغ ذبذبتها 65.41, ذ\ثا، والنغمة التالية "ري" 73.42  ذ\ثا والنغمة التالية "مي" 82.41 وهكذا. وبالفارق بين تلك الذبذبات نستطيع أن نحس بالفارق بين النغمات، ويحس بها من يسمى ذو "الإذن الموسيقية" بشكل أدق من الشخص الإعتيادي، فيميز أي تغيير بسيط فيها.


 


شكل رقم (1) اسماء النغمات الموسيقية وتسلسلها وعلاقتها بمفاتيح البيانو

وتقسم سلسلة النغمات الموسيقية إلى وحدات كل واحدة تتكون من سبعة نغمات متتالية تسمى "الأوكتاف"، ويبدأ الأوكتاف التالي دائماً بنغمة تبلغ ذبذبتها ضعف النغمة التي بدأ بها الأوكتاف السابق. هاتان النغمتان تتشابهان في الإحساس الموسيقي تماماً، إلى درجة أنهما تعطيان نفس الإسم. وتستخدم الأسماء أو الحروف لتحديد النغمات، فالنغمة التي تمثل 440 ذبذبة في الثانية تسمى "لا" (A) وكذلك النغمة المضاعفة لها 880 ذ\ثا تسمى "لا" (A) أيضاً، وكذلك النغمة التي بنصف ذبذبتها، (220) ذ\ثا، والنغمة المسماة "صول" تسمى أيضاً (G) وهكذا.

فـ "الأوكتاف" هو مجموعة النغمات المحصورة بين "لا" و "لا" التالية المضاعفة الذبذبة، أو "دو" و "دو" التالية وهكذا تتكرر النغمات : دو ري مي فا صول لا سي دو ري مي فا صول لا سي دو ري...ألخ في صعود مستمر، وفي تكرار للأوكتافات، فإذا كانت الـ "دو" التي تحدثنا عنها أعلاه ذات ذبذبة 65.41  فأن "دو" التالية التي تبعد عن الأولى أوكتاف واحد، ستكون 130.82 .

التوافق – "الهارموني"

أن سبب التشابه أو "الهارموني" التام بين نغمتي الأوكتاف هو تلك النسبة العددية البسيطة بينهما 1:2 وهو ما يجعلهما تتوافقان إن عزفتا معاً. كذلك تتوافق نغمات أخرى لها علاقات عددية بسيطة مع بعضها البعض، مثل النسبة 2 إلى 3 والنسبة 3 إلى 4 ، و3 إلى 5. هذه النغمات تكون مريحة عندما تعزف معاً، وتسمى بـ "الهارمونية".

السلالم الموسيقية

السلم الموسيقي هو مجموعة انغام تمثل تتابعاً محدداً يتم الإلتزام به خلال المقطوعة الموسيقية. والسلالم الشرقية كثيرة ومعقدة، أما السلالم الغربية فتتوزع على نوعين يسمى أحدهما "الكبير" والثاني "الصغير"، ولكل سلم موسيقي نغمة أساس خاصة يسمى باسمها، فهناك مثلا سلم "دو الكبير"  و سلم "دو الصغير" حيث تكون نغمة "دو" هي الأساس، أما "لا الكبير" مثلاً فتكون فيه نغمة "لا" هي الأساس وهكذا.
وتلعب النغمة الأساس دوراً هاماً في السلم من حيث الإحساس، فهي التي تمثل الإستقرار التام للألحان المكتوبة بذلك السلم، بينما تتوزع درجة الإستقرار النسبي والتوتر في بقية النغمات حسب موقعها. وبشكل عام تكون النغمات التي تتوافق مع النغمة الأساس، أي تلك التي تتناسب معها تناسباً عددياً بسيطاً في عدد الذبذبات في الثانية، توحي بالإستقرار، والباقي تعطي الإحساس بالتوتر. وفي العادة يمكنك معرفة النغمة الأساس من نهاية اللحن، حيث ينتهي عادة بتلك النغمة المستقرة، ويبدأ بها غالباً. ينطلق منها ويعود إليها فيكمل اللحن قصته، بعد المرور بمختلف التوترات، تماماً كما في المسرحيات والقصص.

التدوين الموسيقي

 
 


شكل رقم (2) نظام التدوين الموسيقي التقليدي

تدون الموسيقى (الغربية والشرقية) على صف من خمسة سطور متوازية، وتنتشر العلامات الموسيقية فوق تلك الأسطر وفي الفراغات التي بينها بشكل يحدد نوع النغمة من خلال موقعها على التدرج، وزمنها الذي يحدده شكلها. وتكون مواقع جميع النغمات ثابتة على التدرج. فمثلاً النغمة التي تقع على السطر الأول من الأسفل في الشكل (2) الذي يمثل التدرج التقليدي، هي نغمة "مي" (E)، وتلك التي بين السطر الأول والثاني هي "فا" (F)  ثم على السطر الثاني "صول" (G) وهكذا. ويتكون اللحن الموسيقي من عزف أو غناء تلك النغمات الموسيقية على التتابع من اليسار إلى اليمين في التدرج الموسيقي ذو السطور الخمسة.
ابتكر التدرج الموسيقي الحالي غيدو دي اريزو في حدود عام 1025، لكنه لم يصبح نظاماً قياسياً عاماً حتى بداية القرن السادس عشر. وكان هذا النظام ذو الخمسة أسطر إنجازاً مهماً وتطوراً اساسياً لما كان قبله، واستمر بالتطور والإضافة ليتوائم مع الحاجات الموسيقية المتغيرة. لكن للتغيير والتعديل حدود، ثم تبدأ الحاجة إلى أنقلاب كبير ومؤثر في النظام كله.

إشكالات نظام التدوين الموسيقي التقليدي ومحاولات تطويره

يعاني النظام التقليدي للتدوين من إشكالات عديدة تجعله بعيداً عن أن يكون النظام المثالي لكتابة الموسيقى وقراءتها، ويمثل عقبة عسيرة ومزعجة تتطلب جهوداً طويلة مضنية، ومستهلكة لروح الفن بالنسبة لدارس الموسيقى، حتى أن الكثير من دارسي الموسيقى، بل من الموسيقيين الكبار لم يتعلموا التدوين الموسيقي، رغم ما يكلفهم ذلك من خسائر في حياتهم الفنية لاحقاً.
وقد دفع هذا الأمر عدداً كبيراً جداً من الباحثين إلى إبتكار أنظمة تدوين أخرى في محاولة لتجاوز تلك الصعوبات، ومن أجل أن يكون التدوين الموسيقي أكثر تعبيراً عن محتواه الموسيقي وأسهل قراءة وتعلماً، وما نظامنا "التوافقية العراقية" –  أو "التوافق الأول" إلا واحد من تلك الأنظمة وجزء من تلك المحاولات. لقد بادر البعض إلى تجميع عدد كبير من تلك الأفكار في موقع على الإنترنت باسم (The Music Notation Project) (1) وهو مشروع حضاري كبير بكل معنى الكلمة، بما فيه من موسوعة كبيرة وشروح مبسطة وجهود كبيرة لتناول هذا الموضوع الأساسي في الموسيقى.
وتتكون الأنظمة المنشورة في الموقع، وتلك الأكبر عدداً منها المنشورة في كتاب من إصدار نفس الموقع، من أفكار تقدم بها فنانون وباحثون لتطوير التدوين الموسيقي، ويتم نشرها بعد قبولها الذي يتضمن فحصها وفق مقاييس دقيقة منشورة في الموقع أيضاً. وقد ارسلت نظام "التوافقية العراقية" عام 2009 ونشر قبل بضعة أشهر (2011) في الموقع.

إحدى الإشكالات الأساسية التي يعاني منها النظام الكلاسيكي للتدوين الموسيقي، هو أنه من النوع "المطلق" (مقابل النسبي). أي أن كل نغمة (دو، لا، مي..الخ) لها مكان "مطلق" ثابت في التدرج. ومن هذا تنتج عدة نقاط ضعف للتدرج.

نقطة الضعف الأولى هي أن القيمة المطلقة للنغمة لا تعبر عن أهم ما في النغمة، فـ "مي" مثلاً لها دور أساسي يعبر عن الإستقرار التام، عندما يكون الحديث عن سلم "مي" (الكبير او الصغير) ولها دور مختلف وتعبير مختلف عندما تكون في سلم آخر مثل "لا" أو "صول" ..الخ. هذا "الدور" أو "التعبير" أهم بكثير من النغمة المطلقة متمثلاً بدرجة ذبذبتها الفيزيائية. هذا الأمر لا يعكسه التدرج الكلاسيكي، فنغمة "مي" لها نفس الشكل والمكان مهما كان دورها في السلم الذي تعتمده المقطوعة الموسيقية.

 


شكل رقم (3) العلامات المعقدة التي تعبر عن سلم المقطوعة في النظام التقليدي

كذلك يعاني التدرج الكلاسيكي من أنه أهمل التعبير عن النغمات خارج السلم، ويضطر للإشارة إليها بوضع علامات إضافية أمام النوتات السلمية المرتبطة بها. وتحاول التدرجات الأحدث المسماة "كروماتية" تجنب ذلك من خلال إفراد مكان خاص لجميع النغمات، بما فيها ما هي خارج السلم، لكن ذلك يكون غالباً على حساب المزيد من الأسطر وصعوبة القراءة.

ومن نقاط ضعف التدرج التقليدي أن النوتة المكتوبة في هذا التدرج تكتب لسلم معين فقط، فإن أردت تحويلها إلى سلم آخر، وجب كتابتها من جديد.
كذلك فأن التعبير عن نوع السلم المستعمل يمثل بعدد (يصل إلى سبعة) من إشارات الديز أو البيمول، تمثل 15 نوع من السلالم الميجر والمينور. وتكتب هذه العلامات عند بداية المقطوعة (أنظر الشكل رقم (3)) ليستنتج العازف منها ما هو السلم المقصود من ذاكرته، وأي النغمات بالضبط يجب أن يرفع أو أيها يجب أن يخفض، حين يعزف اللحن، وهي عملية مرهقة ومملة يتجنبها في العادة كل من لا ينوي امتهان الموسيقى، وبعض من يمتهنونها ايضاً.

لحل هذه المعضلات إبتكر الموسيقيون أصنافاً جديدة من التدرج الموسيقي للنوتة هما الصنف "النسبي" والصنف "الكروماتي". ويقع تحت كل صنف عددٌ كبيرٌ من الأنظمة المختلفة للتدوين. يميز الأنظمة الكروماتية أنها تحتفظ بمكان خاص للنغمات خارج السلم، وبالتالي تستغني عن علامات الرفع (ديز) والخفض (بيمول). كما أنها وبفضل كون عدد النغمات في الأوكتاف 12 نغمة، فأن النغمات المتشابهة ستقع دائماً أما على السطر أو بين سطرين، مما يساعد على التعرف عليها بسهولة أكبر.

أما الأنظمة "النسبية" فيميزها أنها تعطي مكان النوتة قيمة "نسبية" تعتمد على مكانتها من السلم الموسيقي وليس على نغمتها وذبذبتها. مثل أن يكون السطر الأول دائماً مكان النغمة الأساس في السلم ، مهما كانت تلك النغمة، وليس نغمة "مي" بالضرورة كما هو الحال بالنسبة للتدرج التقليدي. "التوافقية العراقية" نظام – نسبي وكروماتي في نفس الوقت. أي أن مكان نغماته يحددها مكانة النغمة من السلم الموسيقي، وأن هناك مكان مخصص للنغمات خارج السلم.

نظام التدوين الموسيقي – التوافقية العراقية


شكل رقم (4) : نظام التدوين الموسيقي "التوافقية العراقية" – أو "التوافقية الأولى" للسلم الكبير – ميجر

"التوافقية العراقية" نظام تدوين موسيقى ، يهدف إلى تسهيل قراءة النوتة من ناحية، وإعطائها شكلاً أقرب ألى التعبير الموسيقي مما يعطيها النظام التقليدي، من الناحية الأخرى.

جاء إسم "التوافقية العراقية" أو "التوافق الأول"  من الإسم الإنكليزي الذي اخترته له وهو (I-Accord) مستفيداً من المصادفة في استعمال الحرف (I) والذي يعني رقم واحد ، او الأول في الأرقام الرومانية، وأعني به هنا "النغمة الأساس". وهو أيضاً الحرف الأول من "العراق" بالإنكليزية. وكذلك كلمة (Accord) التي تعني "التوافق" في الإنكليزية، وتعني أيضاً مجموعة الهارموني باللغة الفرنسية، وهو ما يعبر عن فكرة النظام بالضبط. لذلك فـ "التوافقية العراقية" رمز لما آمل به للشعب العراقي أن يتوافق شعبياً بمختلف مكوناته، ويطرد ما تسبب به الإحتلال عامداً من حساسيات، لتسود بينهم المحبة والإحترام والتوافق.

"التوافقية العراقية" نظام تدوين من الصنف النسبي – الكروماتي في نفس الوقت، من أصناف أنظمة التدوين الموسيقي ، يتكون من علامات موسيقية (نوتات) تكتب على 3 أسطر وما بينها، لكل اوكتاف. والشكل رقم (4) يبين 6 أسطر تغطي أوكتافين، ويوضح شكل النوتات.
السطر الأول من المجموعة يمثل موقع النغمة الأساس دائماً، وتتوزع بقية نغمات السلم على بقية السطور والفراغات، حيث لكل نغمة مكان خاص ثابت حسب قيمتها النسبية في ذلك السلم، (الأساس، الثانية، الثالثة..الخ) وليس قيمتها المطلقة (دو، ري، مي..الخ) . أما النغمات التي تقع خارج السلم المستعمل، مثل "النغمات الطارئة"، فلها مكانها الخاص أيضاً في هذا النظام، وبسبب قيمتها الخاصة في اللحن، رأينا تمييزها أكثر من خلال رسمها بشكل نصف بيضوي، بدلاً من البيضوي الكامل للنوتات الإعتيادية في السلم.
اما التعبير الزمني للنوتة، متمثلاً بشكلها ، فلا يختلف عن ما هو عليه في النظام التقليدي، وكذلك يبقي هذا النظام كل ما لم يتم الإشارة إلى تغييره عن النظام الكلاسيكي أو التقليدي.

ميزات نظام "التوافقية العراقية"

إضافة إلى الميزات التي تنبع من كون نظام "التوافقية العراقية"، نظاماً نسبياً ، فهو يتميز بعدة مزايا أخرى. فكونه يستعمل ثلاثة خطوط بدلاً من خمسة، وكذلك كون هذه الخطوط تمثل أوكتافاً واحداً فقط، يمنح هذا النظام ميزة سهولة القراءة ، وهذا أمر في غاية الأهمية ليس فقط بالنسبة للمتعلمين الجدد، وإنما أيضاً بالنسبة للعازفين حيث يحتاج العازف أن يتمكن من قراءة النوتة بنظرة سريعة عابرة أثناء العزف.
إن استعمال 3 خطوط تتكرر مع كل أوكتاف إضافي، يسهل بالتأكيد سرعة معرفة نوع النوتة (موقعها النغمي في السلم – دورها الموسيقي)، وفي أي أوكتاف تقع. فهذا التكرار يعني أن موقع النغمة النسبي (النغمة الأساس، النغمة الثالثة..الخ) سيكون في نفس المكان دائماً، في أسطر الأوكتافات المختلفة. فالنغمة الأساس (القرار في الموسيقى الشرقية) ستقع على السطر الأول ، وتقع النغمة الأساس التالية (الجواب في الموسيقى الشرقية) أيضاً على السطر الأول من مجموعة سطور الأوكتاف التالي إلى الأعلى.

لو نظرت إلى الشكل رقم (4) لـ "التوافقية العراقية" - الميجر، ولاحظت موقع النغمة الأساس (C) وتكراره في الخطوط العليا، وكذلك بالنسبة لنغمة الأساس (A) في الشكل رقم (5) للتوافقية العراقية - المينور، للاحظت كيف ان موقعها هو نفسه مكرر في الأعلى لما هو في الأسفل.

ولو قارنت ذلك بالرسم الخاص بالتدرج التقليدي (الشكل رقم (2)) لوجدت أن النغمة الأولى من اليسار (C) تأتي على السطر (القصير) في الأسفل كأول نغمة، ثم تتكرر في بداية الأوكتاف الثاني (نهاية الرسم في أقصى اليمين- شكل رقم (2)) لكنها تأتي هذه المرة بين سطرين وليس على السطر. ولا يشعر المرء من خلال مقارنة النغمتين بوجود علاقة بينهما من خلال النظر إلى التدرج. أما في نظام التوافقية، فمن الواضح أن الثانية تكرار للأولى. وكذلك يرى قارئ النوتة الجديدة بوضوح وسهولة أين يبدأ دخول الأوكتاف التالي، لأن الاسطر مقسمة إلى مجموعتين كل منها من 3 أسطر، على العكس من النظام التقليدي، حيث تمتزج الأشياء وتصعب رؤية القيم النسبية للنغمات وبالتالي دورها الموسيقي.
 


شكل رقم (5) : نظام التدوين الموسيقي "التوافقية العراقية" – أو "التوافقية الأولى" للسلم الصغير – مينور

النقطة الأخرى في نظام كتابة النوتة "التوافقية العراقية" هو أننا نلاحظ أن المسافة بين الأسطر ليست متساوية، وهي بين السطر الأول والثاني أكبر مما هي بين الثاني والثالث، في حالة كتابة نوتة السلم كبير - ميجر (شكل رقم (4)) وبالعكس في حالة كون السلم صغير – مينور (شكل رقم (5)).

هذا الفرق في المسافة وقلة عدد الأسطر يساعد على الرؤية السريعة للنوتة وفهمها، مقارنة بمجموعة الأسطر المتساوية المسافات التي يضيع فيها العازف ويحتاج للتدقيق ليميز الأسطر، خاصة قبل ان يكتسب الخبرة. 
لقد تميزت الأنظمة الكروماتية بكونها تجعل تمييز النغمة أكثر سهولة ، لأنها تقع على سطر أو فراغ دائماً، لكن المسافات المختلفة بين أسطر نظام "التوافقية العراقية" يضيف الكثير من السهولة الإضافية للتمييز.
لكن هذا ليس كل شيء، فهذا الفرق في المسافات وضع لتؤكد حقيقة أنه في السلم الكبير، تكون المسافة بين النغمة الأساس والثالثة هي مسافة "ثالثة كبيرة" ، بينما تكون المسافة بين النغمة الثالثة والخامسة، مسافة "ثالثة صغيرة" أما في المينور فالأمر بالعكس، ولذلك فأن المسافات بين الأسطر مقلوبة في التدرج المخصص للماينور.

بالتالي فأن المسافات بين الأسطر تخبرنا فوراً عن نوع السلم المستعمل (ميجر أو ماينور) أما نغمته الأساس فيمكن للعازف أن يحددها بنفسه كما يشاء، فهو يعلم أين يجب أن يعزف نغمات كل سلم على آلته، أو يجب ان يتعلمها في كل الأحوال ولمرة واحدة، ولا حاجة إلى علامات الديز والبيمول الكثيرة التي توضع في مقدمة التدرج في العادة.

شكل التعبير عن نوع السلم من خلال علامات الديز والبيمول التقليدي، وكأنه كتب ليخبر العازف في كل مرة عن كل نغمة من النغمات العديدة التي يجب عزفها بشكل ديز أو بيمول، ولا يخبره شيئاً عن السلم نفسه، ويفترض بالعازف أن يحفظ عن ظهر قلب العلاقة بين تلك التشكيلات من العلامات والسلم الذي تمثله ، لكي يتجنب المهمة المستحيلة في تذكر كل ديز أو بيمول أثناء العزف. هذا الإنتقال بين تشكيلات العلامات وإسم ونوع السلم جهد إضافي يجب تعلمه، ولا معنى له ويختفي تماماً في "التوافقية العراقية" باعتبارها نظام نسبي، يكتب بشكل يصلح للعزف على أي سلم يختاره العازف لآلته.

هذا يعني أيضاً أن النوتة المطبوعة للحن ما بطريقة "التوافقية العراقية"، ستكون صالحة للعزف على جميع السلالم ، ولا حاجة لكتابة أو طباعة أوراق نوتة إضافية إن احتجنا إلى عزف اللحن أو غنائه على سلم مختلف عن الأصلي الذي كتب به، وهي حاجة يعرفها ويعرف إزعاجها ممتهنوا الموسيقى والغناء وهواتهما.

قيمة تعبيرية جمالية

من خلال هذه العلاقة الثابتة التي تحدثنا عنها بين دور النغمة في اللحن، وموقعها في النوتة المدونة، يبدأ ترابط في ذهن العازف بين تلك النغمة التي يرى رمزها دائماً بشكله الثابت المميز، وبين الشعور الموسيقي الذي تثيره، من استقرار أو توتر، وما مدى ذلك الإستقرار؟ وأي نوع من التوتر هو؟ ونحو أي شيء ينحو؟ وأين يريد أن يستقر؟
ما الذي يمكن أن تنتجه تلك العلاقة الجديدة في ذهن العازف خلال السنين والعقود؟ هذا أمر متروك للتجربة، لكنه مثير للفضول بلا شك.

قيمة ميلودية للشكل

بالنسبة للشكل اللحني (الميلودي) الموسيقي، اتخيل النوتات في نظام "التوافقية العراقية"، عصافير "تستقر" على أسلاك الكهرباء، وأخرى "تطير" فيما بينها قبل ان تقرر أن تتجه نحو أحدها لتستقر عليه. كل سلك له استقرار معين، وكل فراغ له توتر مميز. عصافير مستقرة وأخرى قلقة تبحث عن استقرار، ذلك هو تصوري للنوتات في هذه المنظومة. هذا التصور غير متوفر البتة في النظام الكلاسيكي، حيث لا علاقة لمدى استقرار النغمة ودورها بمكان وجودها، على السطر أو بين الأسطر. تلك هي ميزة هذا النظام فيما يتعلق بـ "اللحن" أو "الميلودي" وتفوقه على النظام التقليدي.

سهولة رؤية الهارموني المعقد


إضافة إلى ذلك ، وربما الأهم منه، هو ما يضيفه هذا النظام من سهولة قراءة على المستوى التوافقي (الهارموني) الأكثر تعقيداً. فقد خصص النظام الأسطر الثلاثة للنغمات الثلاثة المكونة للتوافقية الثلاثية (chord or Accord) ومنها اشتق أسم النظام، لما يلعبه الكورد من أهمية كبرى في الموسيقى. وتقع النغمة الأساس على السطر الأول من الأسفل، والنغمة الثالثة السطر الثاني والنغمة الخامسة السطر الثالث.
والحكمة من هذا التوزيع متعددة الجوانب. أولها أنه يمكن من خلالها التعرف فوراً على التوافقية الأساسية بنظرة واحدة (حين لا نجد أية نغمة خارج الأسطر) مهما كان عدد النوتات المكونة لها وتكرار بعض النوتات، وسواء كتبت هذه النوتات بشكل كورد عمودي، أو بشكل تدرجي "أربيجيو". وورود التوافقيات في الموسيقى أمر مكرر كثيراً وعسير على القراءة السريعة. ففي الوقت الذي يحتاج قارئ النظام التقليدي أن يقرأ كل نوتة على حدة تقريباً، ليكون متأكداً، خاصة في حالة وجود نغمات مضاعفة (مكررة) في الكورد، فإنه يستطيع أن يكتفي في هذا النظام بنظرة واحدة لإكتشاف التوافقية (الكورد) وحتى إن كان الكورد مقلوباً أو مضاعفاً (أنظر الجانب الأيمن من الشكلين (4) و (5)).

وهناك المزيد. فسهولة اكتشاف التوافقية النقية بنظرة واحدة ، يجعلنا بالضرورة أكثر قدرة أيضاً على اكتشاف التوافقيات التي تضاف إليها نغمات إضافية، كالنغمة السابعة مثلاً، من خلال ملاحظة أن تلك النغمة المنفردة وحدها تقع بين الأسطر، بينما تقع الباقيات على الأسطر تماماً.
كذلك نستطيع بنظرة ان نكتشف التوافقيات المؤسسة على نغمة أخرى غير نغمة الأساس، مثل النغمة الثانية، فتقع في هذه الحالة جميع نغمات هذه التوافقية على الفراغات بين الأسطر! وطبعاً أية إضافات إليها ستكون أيضاً سهلة التمييز نسبياً.
وينطبق هذا الأمر على بقية التوافقيات حيث يساعد توزيع الأسطر في هذا النظام على إعطاء كل توافقية شكلاً محدداً أسهل تمييزاً مما في النظام التقليدي لكتابة النوتة. كذلك نلاحظ أن احتفاظ هذا النظام بالنغمات الإضافية على الكورد مميزة تعلن عن نفسها بوضوح فلا تختلط بنغمات الكورد، يساعد العازف على الإنتباه لها وإعطائها ما تستحق من تركيز واهتمام خاصين.
بالطبع ليس لذلك التمييز من أثر في النظام التقليدي، حيث تبدو النوتات كمجموعة واحدة يتطلب تمييز النغمة الخاصة بينها ، عازفين ذوي خبرة طويلة.

خاتمة


بعد كل هذا يخطر بالبال السؤال الهام: هل الفارق في سهولة الإستعمال وبقية الميزات يكفي لتحمل أعباء التغيير المكلفة؟
وهل هناك حقاً حاجة محسوسة لتطوير نظام الكتابة الموسيقية؟
في رأي أرنولد سخونبرغ، أحد أكثر مؤلفي القرن العشرين تاثيراً: "إن الحاجة إلى نظام جديد لكتابة الموسيقى، أو إلى تطوير كبير لما هو موجود، هي حاجة أكبر مما نتصور. وأن العقول العبقرية التي حاولت حل تلك المشكلة هي أكثر مما يعتقد معظم الناس".
 ويعلمنا التاريخ أن سهولة قراءة واستعمال نظام معين قد تكون له نتائج ثورية أكبر مما يتخيل المرء. ولنأخذا مثالاً من تاريخ الرياضيات، فأن الأرقام العربية أو الهندية مثلت بالنسبة للعلم طفرة هائلة قياساً بالأرقام الرومانية لسهولة استعمالها وتنفيذ العمليات الحسابية الأساسية بواسطتها. فقد مكنت تلك السهولة المضافة علم الرياضيات من ان يصبح شعبياً بعد ان كان مقتصراً على الخاصة، وأن يتمكن أطفال اليوم من القيام بعمليات حسابية كانت معقدة لدى الرومان، حتى بالنسبة للجمع والطرح البسيط، أما عمليات الضرب والقسمة فكانت تحتاج إلى متخصصين في زمن الرومان وأرقامهم.

لذلك قد لا يكون من قبيل شطحات الخيال ان يتمكن اطفال المستقبل من خلال نظام تسجيل أبسط وأكثر تعبيراً للنوتات الموسيقية، من تعلم عزف معزوفات اكثر تعقيداً بوقت أقل، وأن يتمكن الفنانون من تخصيص وقت وجهد وأعصاب أقل لتعلم القراءة المجهد والممل، وأكثر للإبداع، وأن لا يجد الهواة في تعلم قراءة النوتة ذلك الحاجز المخيف الذي يجدونه اليوم، وبهذا تنتشر فائدة البساطة على الجميع خدمة لتطور الموسيقى وسعادة الإنسان.

صائب خليل
30 آب 2011
saieb.khalil-AT-gmail.com

http://musicnotation.org/wiki/I-Accord_Music_Notation

(1) http://musicnotation.org


73
وزير الكهرباء المستقيل يجيب على أسئلة المواطنين

صائب خليل
21 آب 2011

استجابة للعدد الكبير من علامات الإستفهام التي ظلت عالقة في أذهان المواطنين حول أسباب إقالة ثم استقالة وزير الكهرباء السابق رعد شلال العاني، ورغبة منا في إيضاح الحقيقة قمنا بمواجهة الأستاذ رعد بكل صراحة وبشكل مباشر، بجميع الأسئلة التي وردتنا وتلك التي وجدناها على النت، فكان هذا اللقاء المثير بما تضمنه من حقائق هامة.

صائب خليل- أستاذ رعد، دعنا نقفز إلى الماء مباشرة، ونفتتح لقاءنا بالأسئلة الأصعب والأكثر أهمية في تقديري، ولنسمها الأسئلة الإتهامية، ولنبدأ ما طرحته أمامنا، عضو مجلس النواب الدكتورة حنان الفتلاوي حول العقد مع الشركة الكندية، فتقول أن لديها معلومات بأن "الوزير واربعة من اعضاء اللجنة الوزارية سافروا لكندا قبل توقيع العقد ليطلعوا على الشركة وماذا تصنع وبعد عودتهم وقعوا العقود فاذا كانت الشركة وهمية اتساءل اين ذهب الوزير ووفده وعلى ماذا اطلعوا اذا كانت الشركة وهمية؟"

الأستاذ رعد شلال = هذا غير صحيح تماماً! لم يذهب أي فريق من وزارة الكهرباء إلى كندا أو المانيا فيما يخص هذين العقدين. أما بالنسبة لي فأنا لم أصل إلى كندا في حياتي إطلاقاً!

- لم تذهب إلى كندا، حتى في الماضي، ولا حتى خارج إطار هذا "الإيفاد" أو العقد؟
= أبداً، ولم أضع قدمي حتى هذه اللحظة في أي بلد من قارة أمريكا الشمالية كلها!

- جواب واضح ، شكراً. تقول السيدة الفتلاوي أيضاً أن : من حق اي شخص ان يتساءل لماذا الان استقال الوزير وهو ذكر سببا غير الذي كتبه في طلب الاستقالة (لأسباب إنسانية) وهي صلب الموضوع ولوكان استقال قبل كشف القضية لما شكك احد بسبب الاستقالة.

= هذا أمر طبيعي، ليس وارداً أن أكتب "أريد أن استقيل لأن رئيسي لا يريدني" وما كتبته ليس بعيداً عن الواقع. كتبت أنني عملت 28 سنة كموظف، منها 21 سنة بعيد عن عائلتي وبيتي، وقد تعبت زوجتي من هذا الوضع وصار من حقها علي ان اقف بجانبها، خاصة وانها تعبة الآن...
وهذه حقائق، فهي تعاني من متاعب الضغط وغيره، وقال الطبيب الذي زارها أنها نجت من جلطة واوصى لها بالراحة.
أما بالنسبة للإستقالة قبل "كشف القضية" فلم أكن أعلم ولم تقدم لي أية مؤشرات بأن الرئيس يريدني أن أذهب.

- وتسأل السيدة الفتلاوي: لماذا لم يتحدث قبل الان عن الإستغلال الأمريكي واين كانت وطنيته وعراقيته قبل هذه الفترة ولماذا حينما استضافه مجلس النواب سابقا وسأله عن اهم المعوقات لماذا لم يتحدث ولماذا اليوم بعد اتهامه وكان امريكا اليوم اصبحت الشماعة التي نعلق عليها فشلنا.

= هذا أيضاً غير صحيح، فقد طرحت هذا الإستغلال الأمريكي من خلال البنك التجاري العراقي (TBI) في جلسة مجلس النواب المخصصة لمناقشة البرنامج الحكومي مع كل من السادة وزير النفط والشهرستاني فتحدثت عن مشكلة وعلاقته بالبنك الأمريكي جي بي مورغان وعرقلتهما للمشاريع العراقية، وقلت بأنه لا يمكن أن تكون جميع تحويلاتنا من الـ (TBI) مادام بعضها غير ممكن من خلاله. بعد الجلسة اتصل النائب صباح الساعدي تلفونياً وقال أحييك على موقفك من الـ (TBI)، وأنا اورد ذلك فقط كشاهد على ما ذكرت.
وتابعت الموضوع بعد ذلك. كتبت كتابين إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء لطرح المشكلة للنقاش في مجلس الوزراء وكان الكتابان بعنوان: "العلاقات مع الجانب الإيراني"، قلت فيها أنه يجب الإيعاز إلى البنك التجاري العراقي (TBI) بتسديد ديون الجانب الإيراني وإتباع قرارات الأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة، وكان ذلك في الشهر الخامس على ما أذكر، ولم يأت جواب على هذا الكتاب، فكتبت كتاباً إلى رئيس الوزراء بنفس المعنى، ولم استلم رداً أيضاً.
من جانب آخر، طلبوا مني ترشيح عضو من وزارة الكهرباء للجنة العلاقات العراقية الجيكية من أجل معاهدة إقتصادية، فأجبت بأني لا أنصح بتوسيع العلاقات مع جيكيا لعلاقتها غير الإعتيادية مع الكيان الصهيوني.

- تقدم الفتلاوي وثائق تبين أن قرار مجلس الوزراء رقم 142 في2 5  2011 الفقرة 4-(الغاء جميع الموافقات السابقة الخاصة بالتعاقد مع الشركات الوسيطة) ومن ثم بعد هذا القرار نجد الوزارة بتاريخ 5 6 2011 تقوم بتوجيه دعوات لكل من الشركتين الكندية والالمانية مدعية انهما مصنعة واحتكارية وتطلب الموافقة على التعاقد معهما متجاهلة قرار مجلس الوزراء، وان الشركتين مصنعة واحتكارية وحسب الكتاب المرفق رقم 7348 في 562011

= ليس بالضبط، فلم نوجه الدعوة إلى الشركتين وإنما إلى اربعة شركات ، فكانت من ضمنها "كاتربلر" و "وارسله" إضافة إلى الشركتين موضع النقاش. اعتذرت كاتربلر ووارسله عن العمل بالآجل، وإضافة إلى التعذر بخطورة العمل في العراق، وكذلك قالت "كاتربلر" أنها تعمل في تصنيع المعدات وليس تركيبها.
بالنسبة لـ "إم بي إج" ما تزال كل المعلومات الموثقة تشير إلى أنها شركة مصنعة بالفعل، ويوشك فريق من المهندسين في وزارة الكهرباء أن يذهب إليها للتدريب على مكائن ديزل، ضمن عقود أخرى. أما كابجنت فقد قالت أنها ستصنع المواد لدى كاتربلر، مع وضع علامة صناعية باسمها، وهو ما يعد في المفهوم الهندسي، تصنيعاً.

- وتقول النائبة الفتلاوي ان التحقيقات اثبتت وجود اسمين لنائبين هما اللذان قاما بتزكية الشركتين والضغط على الوزير للتعاقد علما انهما من قائمتين مختلفتين، فما رأيكم؟

= لا..ليس صحيح. لم يقم أحد بالضغط علي إطلاقاً، لأنهم يعلمون أني لا اقبل بالضغط.

- تقول النائب الفتلاوي "ادعى الوزير انه قام بالغاء العقدين يوم 3 8 وهذا غير صحيح الإلغاء حصل يوم 7 8 "
= هناك مذكرة يمكنها الإطلاع عليها في الوزارة صدرت مني بالغاء العقدين في 3 آب، وأرسلت للشركتين يوم 4 آب.

- وتقول الدكتورة الفتلاوي أن هناك من توسط للوزير لقبول استقالته بسبب جلطة زوجته وليس لبراءته
= لا تعليق...

- الأستاذ ماهر سعيد متي يسأل :ان كان سيادة الوزير بريئا فلم وافق على تقديم الأستقالة وبذلك اعطى انطباعا اخر لموقفه.
= ببساطة لأن من المستحيل ان تتمكن من العمل مع رئيس تشعر أنه لا يريدك أن تعمل معه. فإضافة إلى مسألة الكرامة، فأن عمل الوزير بحاجة إلى تعاون وإسناد مجلس الوزراء، وألا لا يكون ممكناً.

- شخص كتب معلقاً، بأنه موظف في الكهرباء من مدينة الصدر، ويدعي أنك عينت أكثر من 400 شخص من أقاربك و "حاشيتك"
= (ضحك)  أنا وجه اللوم لي لأني لم أعين أحداً، عدا خمسة او ستة اشخاص حماية ومرافق، أما الباقين فكانوا (عدد كبير) معينين بعقود مؤقتة من قبل الوزير السابق فحولتهم إلى تعيين إعتيادي، فكيف يكونوا من أقاربي؟ للعلم الوزارة لم يخصص لها أي ملاك للتعيين في فترتي.

- جواد كاظم خلف يسأل: كيف لوزير ،مهندس كهرباء ولديه خبره هائله في مجال تخصصه تفوته صفقه بثمن هائل دون أن يسأل ويتحقق عن الشركات والمولدات.
= ليس الأمر في هذين العقدين فقط، بل مثل كل العقود الأخرى، ليس هناك نظام للتحقق من الشركات في العراق
- لكن هل يمكن لشركات ضعيفة الإمكانية المادية أن تقوم بعقد بهذا الحجم؟
= لا شيء مستحيل في العالم اليوم، إذا تمكنت من إقناع جهات بتمويلها على أساس العقد.

- السيد جعفر الساعدي يسأل: هل أرسلت الوزارة لجان للاطلاع على مواقع هذه الشركات؟ وكم هو عدد أعضاء هذه اللجان؟ وكم هي الفترة الزمنية التي قضتها تلك اللجان في زيارتها؟
= لا لم ترسل، أما إن سألتني لماذا فأقول لك هكذا هو العمل في العراق..

- سؤال من ليث: ألم يكن من الاسلم لك ان تتعامل بالمباشر مع نضرائك من وزراء الطاقه في الدول المعنيه بالتجهيز؟ اليست هذه هي الأعراف كون العقود تُمثل تجهيز جمهورية العراق وليست شركه خاصه؟؟)
= الوزراء ليس لهم صلاحيات الضغط أو التعامل مع الشركات المنتجة في البلد، إلا في البلدان ذات الإقتصاد المسيطر عليه حكومياً، مثل الصين وايران، وهناك فعلنا ذلك بالضبط.

- يقول ليث أيضاً:نطالب السيد الوزير ان يفضح حجم مربوطية القرار العراقي بالاحتلال وان يُعلن جوّر ومسؤلية هذا الارتباط بعدم حل قضية الكهرباء؟نطالب ايظآ ان يأخذ موقف امام الشعب بأن يفضح ((بالاسماء)) من يعرقل وصول الكهرباء الى الشعب؟
= بالنسبة للأولى تحدثنا في موضوع بنك التجارة العراقي بوضوح، أما الثانية فمن الصعوبة الحديث بها.

- سؤال من كريم كامل: هل يجيز العقد الموقع بين وزارة الكهرباء و شركه (ام بي إج) التعاقد مع شركه ثالثه لتنفيذ العمل
= لا يوجد في العقد ما يشير إلى هذه النقطة.
- لكن السيد الشهرستاني اشار إلى أنه أضاف نقطة لا تجيز وجود وسيط.
= المقصود بفقرة الشهرستاني عدم وجود وسيط يحصل على عمولة وليس تصنيع مع شركة اخرى أو تكليفها بعمل، ومن المؤكد أنهم كانوا سيحتاجون إلى التعاون مع شركات عراقية في التواجد والنصب في 5 إلى 10 محطات في نفس الوقت.

- سؤال من "مواطن بسيط"، هل الوزارة تخاطب الشركات ام الشركات تتقدم وفق اعلان مناقصة ام ماذا ؟ ثانيا اذا الشركات تتعاقد مع شركات ثانية لتصنيع مواد وتركيبها فلماذا لم تتعاقد الوزارة مباشرة مع هذه الشركات المصنعة ؟
= في العادة الوزارة تخاطب الشركات. والجزء الثاني أجبنا عنه في سؤال سابق.

- وكيف توصلت الوزارة الى هذه الشركات (الغير وهمية ) وهي شركات لا سمعة ولا انجازات وكانت اصلا مفلسة.
= عرفناها من خلال المراسلات مع شركات اخرى سابقة.

- مها من بغداد تقول: رئيس الوزراء بين في تصريحه ان سبب الاقالة جاء على خلفية اداء الوزارة خلال فترة المائة يوم، وانتم بينتم ان التعاقد مع الشركتين الكندية والالمانية كان لانها قبلت الدفع بالاجل ، والسؤال : نحن نعرف ان تخصيصات وزارة الكهرباء السنوية هي الاكبر وبما ان الوزارة لم يكن عندها اموال لتدفع لشركات معروفة فهذا يعني ان ميزانية الوزارة استنفذت بالفعل على مشاريع كبيرة ومهمة ستحل الجزء الاكبر من مشكلة الكهرباء، فهل حصلت مثل هذه التعاقدات ؟ واذا كان الجواب بالايجاب فلماذا اعتبر اداء الوزارة دون المطلوب خلال فترة المائة يوم ؟

= بالفعل، الوزارة لم تقصر في الإنجاز، و"وضعت الكهرباء على السكة الصحيحة"، وكنا مخططين لإكمال التعاقدات كلها وحجزنا لها الأموال اللازمة.. ولكن حدث ما حدث.

- وتسأل مها أيضاً: اين كان المفتش العام عندما قالت الوزارة انها شركات مصنعة ولماذا جاء تقريره بعد توقيع العقود؟
= بشكل عام ليس من مهمات المفتش العام التحري عن الشركات، وليس لدينا كادر متخصص لذلك.

- الصحفي علاء اللامي يسأل: كيف كان موقف وزارة الكهرباء من قضية وجود وسطاء في هذه العقود وهل صحيح إن الشهرستاني هو الذي أضاف بندا الى العقود اعتبرها فيه ملغاة إن وجد فيها وسطاء؟
= نعم صحيح

- هل جربت وزارة الكهرباء دراسة إمكانية التعاقد مع شركات من الشرق كروسيا  والصين والهند وهل تختلف أسعار هذه الشركات كثيرا عن الشركات الغربية  كالأمريكية والألمانية والبريطانية؟

= بالنسبة لعقدي الخطة الإستثنائية، حاولنا مع كوريا فقط (من الشرق)، وفشلت المحاولة..أما بالنسبة للخطة الستراتيجية فجميع العقود التي عقدتها الوزارة في فترتي هي من شركات من الصين وإيران فقط، أما الباقي فكانت مكائن مشتراة من شركات غربية وكنا نعمل على عقود نصبها فقط.
أسعار إيران هي نصف أسعار شركة "سيمنز" لنفس الأجهزة المرخصة من "سيمنز" نفسها، وهذا يتعلق بالتوربينات الغازية التي تعاملنا مع إيران بها.
أما بالنسبة للصين فاشترينا منها التوربينات البخارية، وكانت اسعارها 0,9 مليون دولار للميكاواط الواحد، أي حين تتعاقد معها على 1000 ميكاواط، فتدفع لها 900 مليون دولار. هذا مقابل 1.6 مليون دولار للميكاواط الواحد من فرنسا (1600 مليون دولار لمولد بطاقة الف ميكاواط أي ضعف السعر تقريباً). لذلك فقط لجأنا إلى الشركات الشرقية فقط.

- يؤكد السيد ابراهيم زيدان في مقالة له، أن الشحنة الخاصة بمحطة الناصرية التي تضمنت لعب أطفال لم تكن كما تناولها الإعلام وأن الخطأ كان من الشركة الشاحنة، وأن الشحنة كانت تضم مواد محطة كهربائية، ما هي قصة تلك القضية؟
= كان في الشحنة كيبلات وصينية كيبلات وبعض الأدوات، إضافة إلى لعبة الأطفال، بينما قائمة الشحن كتب فيها محولة لم تكن موجودة إضافة إلى "رافعة شوكية" ، كانت لعبة الأطفال. إن أهملنا لعبة الأطفال فالمسألة هي أننا قدرنا قيمة الشحنة بـ 85 الف دولار، وكانت الشركة قد احتسبت 4.5 مليون دولار عليها، وكان لديهم مبلغ يقارب الـعشرة مليون دولار مدفوعة مقدماً.

- دكتور سلام فخري يسألك مباشرة: هل لديك اي ارتباط سياسي؟
= لا

- مواطن بسيط سأل عن اللجنة وأهمية تواقيعها ولماذا تتخلى عن مسؤوليتها:
= لا أريد الحديث عن اللجنة، ولكن أعضائها كانوا بحاجة لأن يتعلموا "العمل كفريق"، وهو أبسط وأهم أسس العمل المنتج لاية لجنة".

- سعد السعيدي، أشار إلى أن ارتباط بنك التجارة العراقي لا يقتصر على جي بي موركان، وأن هناك من بين من يرتبط بهم "بنك الكويت الوطني"...
= (ضحك) بنك الكويت الوطني هو "الطبعة العربية" لـ جي بي موركان، لأن الجيوش الأمريكية كانت هناك في الكويت قبل أن تأتي إلى العراق.

- سيدة تسأل:الموضوع لا الشهرستاني ولاشلال وانما تضرر شركات عالمية وسياسات . يعني مشكلة الكهرباء مثل مقتل كندي،  مستحيل التوصل الى الحقيقة فيها؟
= (ضحك) مشكلة الكهرباء يفترض أن تكون محلولة عام 2013 إن سارت الخطة التي وضعناها، لكن ربما أن سبب إقالتي هو الذي لن نعرفه أبداً، مثل سبب مقتل كندي.

- أود أن أسألك عن أمر أجده غريب، يتمثل في قول الشهرستاني بأنه عارض القرار في مجلس الوزراء لاحقاً، أي أنه عارض في المجلس التوصية التي وقعها ورفعها للمجلس، فكيف نفهم ذلك؟
= لا..لم يكن تصرف الشهرستاني غريباً. الشهرستاني رفع توصية لعقود بعشرة ألاف ميكاواط، لكن التصويت في مجلس الوزراء تم على عقود بـ 25 الف ميكاواط، فصوت الشهرستاني ضده.

 - مواطن يسألك: من هم مجاميع الاستثمار الذين تعاقدوا سابقا مع الوزارة؟ ما هي جنسياتهم؟
= فيهم عراقيين أكراد وعرب وأجانب أيضاً

- علي غلام يسأل:هل هناك دوافع سياسية وراء كل ذلك أم قد أثيرت من قبل اصحاب ( الكمشن) لأنهم لم ينتفعوا من هذه الصفقة ؟
= لا أدري، لكن في تصوري أن الدوافع مالية، فأنا رجل غير سياسي.

- لماذا لايتم انجاز محطات كهربائيه في العراق من خلال شركات معروفه عالميا مثل سيمنز وغيرها؟ حتى ولو كانت عاليه الأجور
= لدينا العديد من المحطات من شركات معروفة مثل سيمنز في الخطة الإستراتيجية، لكنها رفضت التعامل بالآجل.

- المصور الفنان سفيان الخزرجي يسألكم:من قام بالتحري عن صحة وجود الشركتين وانهما لا يخالفان الشروط ؟
= لا يوجد لدى الوزارة جهاز خاص بالتحري عن الشركات، ونحن مضطرون للعمل حتى الآن كما في السابق إعتماداً على معرفتنا وما نحصل عليه من معلومات.

- الأستاذ عصام الجلبي، وزير النفط العراقي السابق يسأل: ما هي طاقة التوليد اليوم، ما هي الطاقة المستوردة عبر الحدود بالتفصيل، و ما هي توقعاته لطاقة التوليد لكل سنو من السنوات القادمة، وهل أنت مقتنع فعلا بصحة العقدين وأن الشركتين قادرتين على التنفيذ.

= التوليد الحالي 5550 ميكاواط ، المستورد  750 ميكاواط ، أي الكلي 6300 ميكاواط
في 2012 ستكون 9000، وفي 2013 ستكون 13000 ويفترض أن تغطي حاجة العراق 24 ساعة في اليوم.
بالنسبة للشطر الثاني، حسب المعلومات التي لدي، وما لم تستجد معلومات أخرى خلافها، فالشركتين تعلنان حتى الآن استعدادهما للعمل وأنا ارى أن ليس من ضير من اعطائهما الفرصة. كابجنت تخلت عن الداون بيمنت، فحلت مشكلة الضمانة المصرفية، أما بالنسبة لـ إم بي إج الألمانية فما أزال أعتبرها مصنعة وما قيل عنها غير دقيق بالنسبة للضمانات وهي كما قلت لكم بصدد استقبال فريق هندسي عراقي للتدريب بشأن عقود أخرى حول محطات لشركات أخرى، فكيف سترسل الوزارة القادمة مهندسين للتدريب إلى "شركة ورقية" ؟

- في الختام نقول لقد نقلنا لك في الفترة الماضية واليوم أيضاً الكثير من الآراء الناقدة والتي تحمل أيضاً إتهامات مريرة، ولا شك أن الأمر لم يكن سهلاً بالنسبة لك، لكننا نؤكد لك أن تلك النماذج تمثل جزءاً فقط من طيف الآراء بالنسبة لقضيتك وليس الجميع، واسمح لنا لغرض إعادة التوازن أن نقرأ مختصراً من عدد من رسائل الدعم الموجهة إليك من خلالنا مباشرة أو من خلال التعليقات:
"أعتقد ان العراق قد خسر مهندس كهرباء مسلكي في وزارة الكهرباء بسبب الضغوط من  قبل بعض الاحزاب التي لا تريد من العراق النهوض" ... "قليل من يمتلك شجاعة هذا الرجل" ... "الرجل جريئ وواضح ,,لاعلاقة بكلماتي هذه بطبيعة العقود وذاك موضوع آخر ، وهو أشرف من الكثيرين." ..." الحقيقة واضحة وانه رجل نزيه.. اننا بامس الحاجة لهكذا رجال، ان احترمه جداا لان بكل سهولة تنازل عن منصب الوزير وجاء ليبرء نفسه امام اولاده والعالم كله" ... " اجمل عبارة قالها (( انا ما اتكلم بالسياسة انا احجي حقائق وارقام وخل الشعب العراقي يعرفون الحقيقة)).. كم شريف انت ايها الشلال وانت لن تدنسك الطائفية الاولى ولا الثانية!!"

وأخيراً ننقل لك نصين كاملين، الأول من الشاعر والكاتب علوان حسين، يقول: "الحقيقة التي يحاول البعض طمسها والإلتفاف عليها وهي أن السيد رعد شلال نظيف اليد والضمير هذا أولا وثانيا مسألة تحميله المسؤولية وإرغامه على الإستقالة كان أمراً مريبا ولا مسؤولا ولا وطنيا ولا أخلاقيا بكل المقاييس , رجل كهذا كم نحن محتاجون إليه لنزاهته وصراحته ونظافته وخلوه من الفساد وأن التقصير يطال السيد حسين الشهرستاني , يبقى موقف السيد رئيس الوزراء غير المفهوم بحاجة الى تبرير وتوضيح ثم موقف الحكومة من مسألة سيادية ومبدأية حول حق التصرف بالأموال العراقية وإرتهانها من قبل بنك أمريكي يعد هذا الأمر بالغ الحساسية والخطورة التي تثلم مصداقية الحكومة ورئيس وزرائها وتوضح مدى إرتهان هذه الحكومة وخضوعها للجانب الامريكي وهي التي ملئت الدنيا صراخا حول السيادة وهيبة الدولة حيث تبين لا سيادة ولا هيبة لا للدولة ولا لبرلمانها العتيد بصمته عن هذه الفضائح .. ماذا عن موقف التيار الصدري ببرلمانيه ووزرائه وقائده الذي بنى نفوذه وقوته الشعبية من خلال الشعارات الوطنية والموقف من الإحتلال وغيرها ؟"

والرسالة الثانية من رجل يوقع بأسم "مواطن بسيط"، كتب يقول: سلملي علية امانة الله ورسوله، وكله مواطن بسيط يكلك اذا احد شكك بيك كدام اولادك دزهم على اولاد مواطن بسيط همة يفهموهم انو ابوهم اشرف من الشرف لان ابوهم حجالهم ووضحلهم كلشي وخل يدير باله على نفسة هاي وصية من الناس البسطاء والفقراء اللي الغى عقود المستثمرين علمودهم وانكله ممنونين كفيت ووفيت"

- هذه كانت بعض الكلمات الطيبة التي وصلتنا بشأنك أستاذ رعد، هل تريد من جانبك أن توجه كلمة أخيرة للمواطنين؟

= أود أن أشكر من أعماقي كل الذين ساندوني، وإنشاء الله ان تسير الأمور نحو الأفضل في العراق مادام فيه ناس يخافون على الوطن ويخافون الله ويرفضون المال والفساد. عدا هذا اتمنى من السيدة النائب حنان الفتلاوي أن تبرهن أنها قادرة على تقييم أستقلالية الحكومة، وأن تتحرك بشكل عملي بدل الإعلام، وتحاول أن تجد طريقة لتسديد ديون إيران وطريقة لفتح الإعتمادات للشركات الإيرانية، لكي ترى بنفسها مدى الصعوبة التي ستواجهها في ذلك، وعندها ستتيقن أننا مسلوبي الإرادة.

= وأخيراً نود ان نزف لقرائك وللعراقيين جميعاً خبراً جميلاً نختتم به المقابلة، ونقول أن المحاولات التي حدثتك عنها في فينا إن تذكر، لإعادة التفاوض مع شركة جنرال إليكتريك حول أسعارها التي تم الإتفاق بينها وبين الوزارة السابقة، والتي بدأناها بلقاء ممثل الشركة في فينا على هامش المؤتمر قبل شهرين، قد أثمرت عن نتيجة وبعد مماطلات عديدة. لقد وصلنا قبل أيام كتاب من الشركة، توافق فيه على تعديل قيمة الأجور التي طلبتها لقاء خدمات النصب في محطات مختلفة، وتخفيضها بمقدار 49 مليون دولار، وهذه ستكون مكسباً آخر للعراق أسعدنا تحقيقه قبل ترك الوزارة!



74
إعادة بث حديث وزير الكهرباء المستقيل في قناة الرشيد اليوم ورابط إلى تسجيل لأهم جزء منه


 
الأخوة الأعزاء،
أثار وزير الكهرباء العراقي المستقيل رعد شلال العاني في خطابه في البرلمان العراقي أمس ضجة كبيرة مازالت أصداءها تتردد، وستبقى تتردد فترة طويلة.
ورغم أنه لم يتحدث بما يشبع فضول الناس حول العقدين مع الشركتين المشبوهتين، إلا أنه أخبرني أنه سيفعل ذلك لاحقاً، مع الوثائق والأوراق، وأن اعتقاده هو أن الشركة الكندية كانت غشاشة إلا أنه مازال يعتبر أن غش الشركة الألمانية إم بي إج غير ثابت بعد. وقال أنه ألغى العقود بالفعل قبل أربعة ايام من وصول كتاب السيد حسين الشهرستاني رئيس لجنة الطاقة بخصوص الموضوع.
 
ركز رعد شلال في حديثه للبرلمان على مشكلتين أساسيتين، هنا استغلال شركات الإستثمار، والذي اوقفه فأنقذ 12 ونصف مليار دولار كانت ستدفع على مدى خمسة وعشرين عاماً ، واستعاض عنها بالقطاع العام لوزارة الكهرباء بمبلغ لا يتجاوز الـ 800 مليون دولار تدفع بشكل قسطين في عامين.
أما الموضوع الخطير الثاني فهو أن تبعية البنك التجاري العراقي لشريك في الولايات المتحدة يجعل منه سبباً لخنق الإقتصاد العراقي من خلال رفضه العمل مع أية جهة لا تتعامل معها الولايات المتحدة ، ومن ضمنها إيران، والتي بين أن التعامل معها في غاية الضرورة بالنسبة للكهرباء العراقية.
وأشار رعد شلال إلى أن هذه الحالة العامة لا تشمل قطاع الكهرباء فقط، بل كل القطاعات الإقتصادية التي يقوم فيها البنك المذكور بتحديد حرية واستقلال القرار الإقتصادي العراقي ويجبره أن يسير وفق الإجندة الأمريكية.
 
حديث السيد رعد شلال يعاد اليوم في الساعة التاسعة بتوقيت بغداد (الثامنة بتوقيت أوروبا – امستردام ) هذا اليوم الخميس 18 آب على قناة الرشيد الفضائية. كذلك قمت بوضع أهم جزء من الحديث على صفحة يوتيوت على الرابط التالي لمن يرغب في الإستماع إليه.
 
http://www.youtube.com/watch?v=3CGEeTPQdcI
 
 

75
وزير الكهرباء غداً في البرلمان وكتاب الشهرستاني ارسل بعد الإقالة

صائب خليل
16 آب 2011

في اتصال اليوم مع السيد وزير الكهرباء رعد شلال ابلغني انه قدم استقالته إلى السيد رئيس مجلس الوزراء وأن الأخير قبلها. وقال أنه سيتم استضافته في البرلمان الساعة الواحدة ظهراً غداً الأربعاء، وأنه سيتحدث بصراحة عن مشكلة الشركتين الكندية والألمانية وتداعياتها، إضافة إلى سياسته العامة أثناء توليه الوزارة ومدى إنجازاتها، ثم سيجيب عن أسئلة النواب.

وقال أنه لم يظهر حتى الآن من المعلومات الرسمية حسب علمه، ما يكفي لتبرير إلغاء العقدين وان الشركتين تقومان الآن بإثبات وجودهما أمام الإعلام العراقي، وتدعوان الحكومة لتشكيل فرق تحقيق ترسلها إلى مقرات الشركتين للتحقق من صحة العقود وجدية العمل على التنفيذ، وأنه لايستطيع أن يزكيهما، لكنه لا يرى مانعاً من منح الشركتين فرصة إثبات صحة أوراقهما، ثم تتشكل قناعة مدروسة بشكل افضل لدى الجانب العراقي، وهي مهمة حتى إن أراد العراق بعد ذلك إلغاء العقدين، لكي يستند إلى أسس وحجج قانونية تجنبه الشكوى.

وأكد السيد رعد شلال بأن الوزارة بصدد إرسال عدد من المهندسين العراقيين من محطتي الحلة وكربلاء، للتدريب في شركة إم بي إج، وأن كابجنت كانت تخطط لتكيليف كاتربيلر بتصنيع التورباين لكنها ستضع إسمها عليه. فشركة إم بي إج ستقوم بتصميم المحطة ومواصفاتها وتطلب من كاتربيلر تنفيذ التصميم لحسابها وهو ما يعتبر من الناحية الهندسية تصنيعاً، إذ تكون مسؤولة عنه، وهو أمر طبيعي ومعتاد جداً في مثل هذه العقود.

وحين أخبرت الأستاذ رعد عن الكتاب الذي ابرزه الشهرستاني يبين فيه لوزارة الكهرباء قلقه من مصداقية الشركتين ويدعو لإلغاء العقدين معهما، ونبهته إلى أن الكتاب كان قد صدر في 4 آب (الخميس) وأقيل الوزير يوم 6 آب، وهو أمر يبدو غريب السرعة، وسألته لماذا رفض إلغاء العقود وكيف تمكن من ذلك بسرعة ومن ثم كيف تمكن رئيس مجلس الوزراء من إقالته بعد ذلك وكل ذلك في يومين، علماَ أنهما كانا يومي عطلة نهاية أسبوع ، كشف الأستاذ رعد المزيد من التفاصيل الأكثر غرابة وإثارة للإهتمام.

قال أنه لم يرفض التنفيذ، وإنما طلب  مهلة لإستشارة كادر الوزارة، كما صرح من قبل. ثم أضاف أن الأهم من ذلك أن الكتاب مؤرخ في 4 آب، لكنه أرسل إلى الوزارة يوم الأحد 7 آب، أي بعد إقالته (الأولى) من قبل رئيس الوزراء بيوم واحد! وبالتالي فلا يمكن أن يكون هذا الكتاب حجة تبرر الإقالة، كما ورد في ما ادعاه السيد حسين الشهرستاني. وأنه أجاب عن هذا الكتاب بكتاب ورد فيه "إشارة إلى كتابكم المؤرخ في 4 آب، والذي وصلنا يوم 7 آب" للتأكيد، وكان نفس الكتاب الذي ذكر فيه الوزير الأستاذ الشهرستاني بكونه هو الذي أوصى بتزكية الشركتين ورصانتيهما.

وأشار الأستاذ رعد شلال إلى أنه يعتقد أن الكتاب قد كتب فعلاً في 7 آب وأعطي تاريخ 4 آب، لأن مكتب الشهرستاني طلب منه صباح يوم 7 آب أوليات الكتب المتعلقة بالموضوع، فارسلها لهم، ثم جاء الكتاب بعد ساعات وكان متنه يحمل إشارات إلى نفس تلك الكتب التي طلبها المكتب، فلو كان الكتاب قد كتب الخميس 4 آب، فأن ذلك يعني أن لدى مكتب الشهرستاني نسخاً من الكتب التي أشار إليها الكتاب، وبالتالي فلم يكن هناك داع لأن يطلبها من وزارة الكهرباء.

وسواء كانت هذه الملاحظة صحيحة أم لها تفسير آخر، فأن كتاب الشهرستاني الذي قيل أن الوزير رفض الإستماع إليه وأن إقالته تمت على أساسه، كان قد وصل يوم الأحد كما هو مثبت في الكتب الرسمية، أي بعد يوم من الإقالة وبالتالي فلا يمكن أن يكون لموقف الوزير من الكتاب ، سواء كان بالرفض أو طلب المهلة، أية علاقة بتلك الإقالة!

غداً نستمع إلى السيد رعد شلال في استضافته أمام البرلمان ونأمل أن نعرف المزيد من الحقائق الهامة.

76
صولة الكهرباء، ماذا تقول لنا عن مستقبل العراق؟

صائب خليل
15 آب 2011

اتصل السيد رئيس الوزراء بوزير الكهرباء وطلب رؤيته لأمر هام، فسأله الوزير:
الوزير - هل الأمر عاجل يا سيادة الرئيس؟ اليوم لدي موعد للقاء طويل مع السفير الصيني، لا استطيع أن أقدر متى ينتهي، هل الغيه؟
الرئيس – لا ليس الأمر عاجلاً كما أظن، إنه يتعلق بالشركتين الكندية والألمانية، وصلتنا معلومات أثارت لدينا شكوك حولهما. هل دفعنا لأي منهما أية مبالغ، أو إننا بصدد تسليمها أية مبالغ حالياً؟
الوزير – لا، العقود بالآجل، وهناك اتفاق على تسليم داون بيمنت 5% ولكن بعد أن تقدم الشركة إئتماناً من بنك التجارة العراقي أو بنك تعترف به الحكومة العراقية، وهذا لم يحدث حتى الآن.
الرئيس – إذا كان الأمر كذلك فليس هناك مبرر للعجلة، أكمل موعدك مع السفير وتفضل عندي غداً صباحاً لنناقش الموضوع.

(في مكتب رئيس الوزراء صباح اليوم التالي)

الرئيس – هذه معلومات تؤكد أن الشركتين ليستا موضع ثقة، وربما تكون أحدهما أو كلتيهما وهميتان...أو لديهما مشاكل مالية.
الوزير – سيادة رئيس الوزراء، لجنة الطاقة وقعت معهما عقداً على أساس مراجعة و توصيات اعتبرناها موثوقة، لكن لا بأس أن نراجع ذلك على ضوء المعطيات الجديدة.
الرئيس – لكن لماذا نطيل الأمر؟ ألم نتخذ في مجلس الوزراء قراراً بعدم التعاقد مع شركات وسيطة؟ هل حاولت أن تتصل بالشركات الأصلية المصنعة؟
الوزير – نعم سيادة الرئيس، اتصلنا بخمسة من أكبر الشركات التي نتعامل معها، وأجابونا بالرفض، وهاتين الشركتين هما الوحيدتان التان قبلتا.
الرئيس – هل طلبت الشركات المصنعة مبالغ ضخمة أم رفضوا؟
الوزير – رفضوا، ولدينا كتب مخاطبة الشركات وأجابتنا بكتب رسمية رفضت فيها التعاقد بالآجل، إن أحببت أرسلها لكم.
الرئيس – لا داعي لذلك، لكن إن لم تنفذ الشركتان العقد، ماذا يحدث؟
الوزير – نكون في حل من أية التزامات، ولا نخسر أية مبالغ..
الرئيس – لكننا سنخسر الوقت، اليس كذلك؟ سيمر عام 2012 دون تحسن في الكهرباء..وانا وعدت الناس بذلك بنفسي.
الوزير – صحيح. الناس تريد كهرباء بسرعة ، وأنت وعدتهم بذلك وهذا شجع قبولنا بالتعاقد مع الشركتين.
الرئيس – لماذا لا نلغي العقد من جانبنا ونخلص، خاصة أنه ضد تعليماتنا بعدم التعاقد مع شركات وسيطة؟
الوزير – كما تشاء، لكن في هذه الحالة سوف يكون التأخير أكيداً ، وأننا لن نحصل على تحسن في الكهرباء عام 2012، وهو أسوأ ما يمكن ان يحدث لو أبقينا العقدين.
الرئيس – هممم... دعنا نفكر بالموضوع إذن ، اتصل بلجنة الطاقة وأكتبوا لي تقريراً بالأمر رجاءاً، تفضل هذه اوراق التشكيك بالشركتين لكي تدرسوها جيداً..لكن لا تقوموا بأي خطوة في تنفيذ العقد أو تسليم مبالغ في الوقت الحاضر..
الوزير – بأمرك سيادة الوزير...

هذا الحوار، لم يحدث للأسف! ولو أنه حدث، ورأيناه على التلفزيون، لما وجد فيه أحد غرابة ولما استشاط الناس غضباً، ولما صرخنا بالفساد والويل والثبور، بل لرأيناه حواراً معقولاً وحضارياً، بين رئيس حكومة وأحد وزرائه، فلماذا لم يحدث هذا الحوار، ولماذا حدث ما حدث بدلاً منه؟ ولماذ ثار الناس غضباً وهم لم يحصلوا إلا على نفس المعلومات التي في هذا الحوار، ولم يختلف شيء سوى أسلوبه؟ هل الحقائق هي التي تقرر غضبنا أم أسلوب طرحها في الإعلام؟ سؤال جدير بأن يطرحه كل فرد على نفسه.

بدأت الحكومة، بدلاً من مناقشة وزيرها بهدوء، بحملة تشهير ساحقة وبدون تقديم أية معلومات واضحة للناس، (المالكي يقيل وزير الكهرباء بسبب العقود الوهمية) (1) مستغلة الهياج الجاهز للجماهير بسبب كثرة الفساد السابق في الكهرباء وانعدام الإنجاز لسنين عديدة وشدة الحر . وبدلاً من الحديث مع الوزير المعني، بدأت بخبر صاعق يمثل إقالته الفورية، متصنعة موقف "الحسم". وتبجح البعض من الحكومة بأنها تفادت خسارة المليارات من هذه العقود الفاسدة لأنها سارعت بوقفها في اللحظة الأخيرة، وكأن الحكومة كانت على وشك تسليم الشركتين صك الـ مليار وسبعمئة مليون دولار، لولا أن لحقته تلك الإجراءات "الحاسمة". وصاحب تلك الحملة الإعلامية السياسية مقاطعة تامة للوزير فلم يكن يعرف المعلومات إلا عن طريق الإعلام، ولم يعط فرصة لشرح موقفه ولم يصله أي موقف رسمي من رئيسه أو حكومته، ليتمكن من اتخاذ موقفه بنفسه، إلا بعد أكثر من أسبوع من التشهير الإعلامي! لماذا بدأت الحكومة المناقشة بعد تهييج الشارع وتلقينه كلمات "الفساد" والضرب بيد من حديد، وتأسيس زخم إعلامي سلبي مندفع يستحيل تعديله بعد ذلك؟ لماذا بدت الحكومة رافضة لرؤية وجهة نظر "المتهم" وانشغلت بالتشهير به وكأنها استبدلت سياسة البعث "نفذ ثم ناقش" بسياسة "شهّر ثم ناقش"؟

بالنسبة لموقف الحكومة وردود فعل الناس، يبدو لي أن العراقيين مولعين بـ "الصولات" والحلول البطولية، أكثر بكثير من حل المشاكل بالنقاش وطرق الأبواب السلمية والدبلوماسية أولاً، فهذه الحملة التي لم تسبقها أية محاولات لفهم الموقف أو حله بالتحقيق والكلام، تشبه تماماً "صولة الفرسان" التي لمت السيد المالكي عليها لأنه لم يحاول إطلاقاً أن يحل المشكلة دبلوماسياً، وكان واجبه أن يفعل، ولو من اجل أن يقول "حاولت".
لم يفعل المالكي بل لجأ إلى الطريقة "الأمريكية" في حل الأمور، فدفع ثمنها لاحقاً حين تعامل الصدريون معه بنفور شديد قبل وخلال وبعد الإنتخابات الأخيرة، وتبين ان الشق الذي أحدثته تلك "الصولات" ليس سهل الردم، وأنه مازال يدفع ثمن ذلك اليوم.
لقد تقلبت مواقفي من المالكي كثيراً حسب ما يتخذ من قرارات وما يصرح به من تصريحات، لكني لم أضع أملي عليه بقدر اليوم الذي اشتكى فيه بصدق مؤثر بأنه "غير قادر على تحريك سرية" ولم أفقد أملي منه بقدر اليوم الذي كان يفتخر فيه بـ "صولته"، لكني للأسف على ما يبدو ضمن أقلية نادرة في هذا الموقف.

اليوم يتكرر المشهد، فرفعت الحكومة شعارات "إضرب ثم ناقش" و "شهّر ثم ناقش" ليجدوا أنفسهم في موقف حرج في قضية "فساد" الكهرباء. فبعد حين من بدء "صولة الكهرباء"، وحين لم تستطع الحكومة أن تجمع الأدلة على ادعاءتها، وجاءتها بعض اجوبة الوزير من خلال الإعلام تفند إحكامها الأولى، أحتارت كيف تتصرف. بدلاً من أن يعتذر رئيس الوزراء ويجد عبارات للتراجع بكرامة، بحث عن "أسباب أخرى" لإكمال هجومه، فحول الحديث وهو يمازح الصحفيين، ويلقي بالنكات، وكأنه يتحدث عن أمر جميل أو طبيعي، وليس قضية مصير وشرف لأحد وزرائه، وبالتالي وزارته، فاشار إلى أن الوزراة لم تقدم الإنجاز اللازم خلال المئة يوم!! ثم قال أن الوزير "أصر" على إبقاء العقود!! وأن الوزير وقع عقوداً مع شركات وسيطة خلافاً للتعليمات؟
وماذا عن تهم الفساد التي ملأت البلاد والإعلام؟ ولماذا تذكر السيد رئيس الوزراء إنجاز المئة يوم الآن؟ كيف يمكن للوزير أن يصر على عقد ترفضه الحكومة؟ ما هي الكارثة في "الشركات الوسيطة" ومعظم عقود العالم من خلال شركات وسيطة؟ ولماذ قبلت لجنة الطاقة كلها توقيع تلك العقود؟ ولماذا لا يتم الحديث عن تجاوز لجنة الطاقة كلها للتعليمات، بدلاً من الوزير؟ أسئلة لا بد أن تكون قد مرت بالكثير ممن شاهد رئيس الوزراء في لقائه الصحفي السريع.

هذه الأسباب "الإحتياطية" تذكرني بحكومة جورج بوش الإبن حين بحثت عن تفسير لشعبها لهجومها على العراق، فقالت أنه درء لخطر الأسلحة النووية التي يوشك صدام أن يضرب بها الغرب خلال 40 دقيقة! وحين لم يجدوا تلك الأسلحة، أنتقلوا إلى "السبب الإحتياط": علاقة صدام بالقاعدة وبن لادن. وحين لم يثتبوا تلك العلاقة كان السبب: حبهم الذي لا يسيطرون عليه، للديمقراطية!

ينقل جورج كنان، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم في محاضرات عن التجربة الدبلوماسية الأمريكية في النصف الأول من القرن العشرين حكمة تقول: "حين تقدم تفسيرات عديدة لحدث ما، فعلى الأغلب أن أي منها ليس التفسير الحقيقي له". ومثلما لم يصدّق أحد تفسيرات بوش لحرب العراق، لا اتصور أن يصدق الكثيرين قصة المالكي في الأسباب المتقلبة للأقالة. لا مفر إذن أن يبحث كل متابع عن سبب يراه الأكثر معقولاً.

التفسيرات الممكنة كثيرة، والإستفادات الممكنة كثيرة لمختلف الجهات. وإذا بدأنا "تحقيقنا" بالبحث عن المستفيد، أو "أين تجري النقود" فيمكن أن يكون المتضررين من الغاء عقود الإستثمار اللصوصية هم وراء تحويل قضية بسيطة كان يمكن أن تحل بالحديث الذي بدأنا المقالة به، إلى ازمة حكومية عارمة. فلقد فقدت جماعات قوية ، 14 مليار دولار مرة واحدة، كانت ستلطشها من الحكومة بعقد واحد يمتد ربع قرن. وفقدت شركات غربية عقوداً كبيرة، وسارت وزارة الكهرباء بعكس ما تأمله الإدارة الأمريكية، التي تعمل جاهدة وبصراحة، على تمكين القطاع الخاص من السيطرة على الإقتصاد في البلاد. سياسة وزارة الكهرباء أعادت تلك السياسة خطوة إلى الوراء بالغاء عقود الإستثمار اللصوصية المجحفة.
كذلك لمست سياسة الوزير رعد شلال خطاً أحمر آخر أمريكياً أكثر خطراً، وهو خط التعامل الإقتصادي الإستراتيجي مع إيران.
كل هذا يؤشر لنا المتضررين من سياسة الكهرباء في فترة رعد شلال القصيرة، ويؤيد شكوكنا هذه، قيام محتال دولي مطلوب للعدالة في عدة دول بأمور تتعلق بالفساد، بنشاط كبير في الموضوع، يقول أن دافعه له "حبه الطاغي للعراق" ومطالباً بضرب "الفساد" بيد من حديد.

ولعب الإعلام دوره بإتقان، فكانت الأخبار تكتب بشكل مثير، فيضاف في نهاية الخبر تذييل لا علاقة له بالوزير، مثل أن الكهرباء تعاني من الفساد منذ سنوات، أو تشير إلى إدانة قيادي في الكتلة التي رشحته بجرائم خطيرة، وطرق أخرى مختلفة، لعل أكثرها فضائحية جاء في جريدة "المدى"، وهي جريدة تروج للسياسة الأمريكية والخصخصة، وتعتمد على التضليل بشأن اهدافها معتمدة على الماضي الشيوعي لصاحبها. كتبت المدى ضمن ما كتبت، أن مكتب إحدى الشركتين يدار من قبل "مكتب في عمان متخصص بقضايا الهجرة والإقامة"، لتضيف " أي انه يمارس نوعا من التجارة بالبشر!" وهي مغالطة رهيبة تكشف إلى أي "مدى" يمكن أن تهبط "المدى"، فحتى إن صح موضوع "مكتب الهجرة والإقامة" فأي أبله يعلم أنه ليست لهذا العمل الرسمي أية علاقة بجريمة الإتجار بالبشر! (2)
كذلك هيأت "المدى" الجو لإستثارة الناس بتأكيدها عن "مصادر حكومية عراقية موثوقة" بأن الوزير يخفي أسرار فساد كثيرة ليساوم بها، وهي ادعاءات رددتها وسائل الإعلام بعد ذلك كثيراً، دون أي دليل أو أي تصريح من الوزير يشير بأي شكل حتى هذه اللحظة إلى مثل هذا الأمر. كذلك فأن الصفقات الفاسدة السابقة معروفة ومكشوفة، ولا تصلح للتهديد بكشفها ومنها صفقة الشركة التي ارسلت لعب اطفال بدلاً من المكائن في وقت كان الشهرستاني يتولى فيه شؤون الوزارة.(*)

وربما يشرح دور الصحيفة وعلاقاتها بالإستثمارات الأجنبية وموقفها العام ما كتبته سابقاً من امتداح الخصخصة وضرورة الإستثمار في قطاع الكهرباء، فتؤكد أن الحاجة الفعلية في العراق "لا تستطيع الكوادر المتوفرة في العراق تأمينها دون الاستعانة بالاستثمارات الأجنبية" وهو ما فندته وزارة رعد شلال خلال بضعة أشهر، فليس هناك أي نقص في الكادر، لتنحدر إلى المدح المباشر لأية عملية خصخة، بشكل معاكس للواقع تماماً فتقول "ويرى الخبراء إن خصخصة اي قطاع تعني تقديم خدمات أفضل للمستهلك الذي سيدفع ثمنها، بدلا من الخدمات الرديئة التي تقدمها له الدولة بشكل مجانٍ. وان دافع الربح سيفرض على الشركات المستثمرة تقديم خدمات جيدة"، لتؤكد عن لسان مستشار وزير الاقتصاد الأميركي بـ "ان أزمة الكهرباء في العراق لن تحل قبل عام 2015". (3) وهو موعد تسبقه خطة وزارة الكهرباء بعام كامل.
ومن الصعب ان تجد مقولة أشد تطرفاً في رأسماليتها من هذه المقولة عن الخصخصة في هذه الجريدة المحسوبة على الشيوعيين، والتي لا نستغرب انطلاقاً من موقفها هذا أن نقرأ الأكاذيب الرخيصة عن "الإتجار بالبشر"، فمن يكتب عن الخصخصة بهذا الشكل ينزعج بالتأكيد ويسعى لتشويه من يحرم الخصخصة من سرقاتها، وهذا وذاك مؤشر في تقديري إلى علاقة الجانب الأمريكي بما حدث. هذا مثال لتعاطي الإعلام مع الموضوع من خلال صحيفة "محترمة".

تداعت الأحداث متوالية، ووصلت أخيراً إلى استبدال اتهام رعد شلال بالفساد، باتهامه بالتواطؤ مع الحكومة على إخفاء فساد متبادل بينهما. لعل أهم محاولات إثبات هذه التهمة قام بها صباح الساعدي الذي سارع إلى عرض وثيقة كتاب ارسله الوزير رعد شلال إلى الشهرستاني يذكره فيه بأنه هو من زكى الشركتين وامتدح عملهما. واعتبر الساعدي ذلك دليل على تواطؤ الوزير مع الشهرستاني لطمس الموضوع وأن هذا الكتاب كان تهديد من الوزير إلى الشهرستاني بأنه سيكشف ذلك إن لم يتراجع الأخير عن موقفه. (4)
والحقيقة أنه ليس سوى استعراض فارغ، فالكتاب ليس سراً يمكن التهديد بكشفه، فقد كشفه الوزير من خلال مقالة كنت قد كتبتها عن الموضوع ونشرت في النت والإعلام، فكيف يهدد الوزير بكشف ما كان قد كشفه بالفعل؟ (5)

قائمة "العراقية" سارعت في البداية قبل غيرها إلى التنصل من وزيرها على غير العادة، مما أثار دهشة الشارع العراقي، وربما دفعها هذا إلى التراجع ومحاولة دعم الوزير لتمرر التمثيلية. كما أنها قد تكون تراجعت رغبة منها في توجيه ضربة إلى شريكها اللدود وحكومته وتظاهرت بالدفاع عن الوزير، لكنها ركزت بدلاً من ذلك على دور بقية أعضاء الحكومة في الأزمة، وكل أزمة هي ورقة رابحة ثمينة لدى العراقية تساعدها في فرض شروطها، مثل تسليم وزارة الدفاع إلى بعثي صدامي، كما يريد الأمريكان والإسرائيليين. ويساعد "العراقية" على مرونة الحركة أن رعد شلال ليس عضو فيها أو في أي من مكوناتها، وأنها اختارته كتكنوقراط مستقل يسهل التضحية به دون ان تخسر شيئاً تقريباً. لذلك لا أستبعد إطلاقاً أن العراقية ومن يقف وراءها من جهات دولية هي وراء الموضوع أصلاً وأن موقفها كان الهجوم المبادر وليس فقط الإمتناع عن الدفاع عن "وزيرها".

فوزير العراقية هذا لا يشبه هذا الفريق في شيء. ففي هذه القائمة التي خرج بعض أعضائها إثر كشفهم تورطها برشاوي مالية من السعودية، ووصولها المشبوه بمساعدة تزوير الإنتخابات، والدكتاتورية الشديدة في إدارتها، وهرب الأعضاء المستمر منها لهذا السبب وغيره. في هذه القائمة، يحاول اللصوص أن يتخلصوا من التهم الموجهة لهم دائماً بالقول بأنه تم استهدافهم لأنهم وقفوا ضد إيران. ففي هذا النادي يقاس إخلاص الشخص ووطنيته ليس بتبيان إخلاصه للوطن، بل بمقدار عرضه لعدائه لإيران، تماماً كما تأمل أميركا وإسرائيل. وتبلغ مزايدات الأعضاء من أجل نيل الحظوة بهذه الطريقة، حداً مثيراً للإشمئزاز او الضحك أحياناً، خاصة حين يحاول أحدهم أن يبرهن وطنيته ونقاءه، فلا يجد له فضلاً يفخر به إلإ أنه "لم يزر إيران ابداً!"، فيزايد عليه متملق أخر أشد، بالمطالبة بمحاسبة رئيس القائمة ومطالبته بالإعتذار للشعب العراقي لأنه "زار إيران"!.

قد تبدو هذه الحركات كأنها تصدر من مستشفى مجانين، لكن الحقيقة أن لا جنون في الموضوع، ولا جنون في السياسة عموماً. فهذه ليست سوى النغمة المفضلة التي يريد الأمريكان والسعوديين سماعها من أعضاء العراقية، وليس نغمة وزير يتحدث عن تغيير العقود من فرنسا والمانيا إلى إيران، ويشتري المواد الإحتياطية الأرخص من إيران، ويطالب بنك التجارة العراقي بإيجاد آلية لتحويل أموال العقود إليها رغم المقاطعة الأمريكية، ويطرح على مجلس الوزراء ضرورة إيجاد بديل عن بنك التجارة العراقي لتسيير أمور التحويل مع إيران إن لم يرضخ البنك العراقي والبنك المتعلق به في أميركا، للطلب العراقي.

بالنسبة لرعد شلال، كوزير عراقي، وجد العقود الإيرانية أفضل وأقل كلفة، فلم تكن تعنيه مصالح أميركا وأجندتها ومقاطعتها لإيران، وبادر بالتفاوض مع الأخيرة على عقود رأى أنها تفيد وزارته وبلاده. فأي عضو في العراقية هذا، وكيف يأمل أن يحوز رضا اربابها؟

من الحقائق الخطيرة التي كشفها صراع الديكة هذا، أن الإحتلال رتب الأمور في العراق بحيث يكون اقتصاده تابعاً بشكل مباشر للأجندة السياسية الأميركية، ليس فقط من خلال ضغط العسكر و "المدربين" و الأسلحة والطائرات الأمريكية، وإنما أغلق الباب تماماً لأي احتمال لقرار إقتصادي متحرر من الإرادة الأمريكية، وذلك من خلال كشف الوزير لحقيقة عدم قدرة العراق على أن يفرض على ما يسمى "البنك التجري العراقي" (TBI) - وأشدد على "العراقي" - على تحويل المبالغ المتعلقة بعقود مع جهات تتعرض إلى مقاطعة أمريكية، لأن البنك الذي يرتبط بها هذا البنك "العراقي" هو بنك أمريكي، وهو مهدد بالعقوبة من الحكومة الأمريكية إن هو أجرى أية معاملات قررت أميركا أن تعرضها للمقاطعة والتجويع كما فعلت مع العراق الذي عاقبت شعبه بالجوع وتركت دكتاتوره يسرح فيه لحين.
وحتى اليوم لم يستطع العراق تحويل مبلغ 200 مليون دولار أشترى بها الكهرباء من إيران بسبب ذلك التحديد الأمريكي عليه.(6)

لذلك فإننا وعلى هامش هذا الموضوع، نسأل حكومة السيد المالكي سؤالاً محدداً واضحاً: هل تستطيع الحكومة العراقية في مثل هذا الوضع من المؤسسات المالية، أن تتعامل بحرية، مع مختلف دول العالم كأية دولة مستقلة، أم أنها مرتبطة بموافقة الحكومة الأمريكية على اية صفقة أو عقد ذو حجم معين يمكن أن تعقدها مع تلك الدول؟ هل حكومة العراق ملزمة عملياً بأن لا تتعامل إلا مع الدول التي تسمح أميركا بالتعامل معها؟ هل نحن دولة مستقلة في قراراتها الإقتصادية أم لا؟ إنني أرجو أن يتابع الوطنيون هذا الأمر وأن لا يضيع هذا السؤال الخطير، مثلما ضاع الكثير غيره!

لقد تسبب رعد شلال العاني بسياسته هذه في وضع الإحتلال الأمريكي وتوابعه من العراقية في مشكلة كشفت تلك الثغرة الخطيرة في إستقلال القرار الإقتصادي العراقي عن الأجندة الأمريكية، وأن الإحتلال ليس عسكريا فقط، إنما يمتد إلى جسد الإقتصاد وشرايينه، وهو اكتشاف لا يسر الأمريكان و "أصدقاءهم" أن يطرح في ضوء النهار بهذا الشكل، وقد تم إخفاؤه بنجاح تام منذ سنين وحتى الآن، فليس لي علم بأن أحداً قد طرح هذه المشكلة من قبل، وأن شيئاً قد كتب عنها قبل كتابة هذه السطور.

لقد توجب التخلص من هذا الرجل المشكلة على ما يبدو، لكن المشكلة الإضافية التي يضعهم هذا الوزير فيها، هي حقيقة أنه رجل "سني"، مما يجعل من المضحك أتهامه بالولاء لإيران، وأن يعزى ذلك لأسباب طائفية مثلاً، وهو التهديد الذي يشعر به كل سياسي شيعي يفكر أن يجعل العلاقة بين العراق وإيران أكثر طبيعية وأكثر تحرراُ من الأجندة الأمريكية. لهذا كله كان رعد شلال يمثل "ورطة" للعراقية وأربابها، لم يكونوا قد تحسبوا لها، وأتصور أنهم لن يكرروها. أما التصدي لها فكان بتحريك المحتال الدولي المدان جواد هاشم المحكوم بما مجموعه 425 سنة سجن عن الفساد، واستغلال كونه وزير سابق في العراق لإعطاء قيمة مزيفة لشهادته، والضغط عليه بالإبتزاز (لأن لا مصلحة له بفضيحته) للتحرك، وابتزاز رجل في موقف جواد هاشم الضعيف، أمر يسير جداً.

 في البداية هاجمت العراقية مع المهاجمين، ثم اتخذت موقف دفاع مزيف لم يشكك بالأدلة ويطالب بالتحقيق العادل، أكثر مما ركز على محاولة إشراك خصومهم السياسيين في "الجريمة"! ثم عادت العراقية إلى الهجوم في أول فرصة على لسان ميسون الدملوجي (7) التي لم تكلف نفسها الإتيان بأي دليل على قصة إدانتها لـ "وزير كتلتها" - وغيرها، بعد أن قاد الهجوم الأول سيء الصيت حيدر الملا، الذي لم يكن يتردد في الدفاع حتى عن المجرمين المدانين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إن اعتبرهم من جماعته.
وهكذا وجد رعد شلال نفسه وحيداً، بعد أن خسر رضا العراقية، دون أن يكسب رضا خصومها أو دعمهم. وهكذا يبدو أن الشعب العراقي يوشك أن يخسر من وضع وزارة الكهرباء على سكة حل المشكلة، فلم يتح له أن يكمل، فمثلما لا يريد الأمريكان أن تتم حل مشكلة الأمن إلا على يد علاوي أو من يرشحهم من بقايا الصداميين المخلصين لكل من يدفع لهم، فإنهم لا يريدون ان يحل مشكلة الكهرباء إلا القطاع الخاص، أسوة بكل النشاطات الإقتصادية العراقية. إننا نعلم جميعاً ما تتعرض له الحكومة والقطاع العام من ضغط شديد لبيع مؤسساتها ومعاملها إلى القطاع الخاص الذي بدأ يحطم المعارضة الشعبية لإستيلائه على مقدرات البلاد، ونجح مؤخراً في فرض بيع عدد من معامل القطاع الخاص له، وفي الوقت الذي  فهذه ستراتيجية أمريكية أساسية بالنسبة لأجندتها في العراق، ولن تسمح لشخص ما بعرقلتها لأي سبب. وفي الوقت الذي تكشف فيه اليونسيف عن "معاناة اربعة ملايين طفل عراقي لفقر مدقع"(8) فأن الحكومة تقيس نجاحاتها بالمقاييس الأمريكية، فتدعونا لأن نكون سعداء بأن " العراق يتصدر لائحة الاسواق المالية العربية بالتداول"! فإلى أين يسير العراق وأي مصير يعد الإقتصاد الموجه امريكياً، فقراءه؟(9)

إننا نجد ارتباطاً منطقياً قوياً بين الحملة غير المبررة ضد وزير الكهرباء، والتي تراجعت عنها الحكومة بشكل شبه تام، وهذه الخطط والمصالح والأجندات. نعم هذه مجرد افتراضات، وليست بحثاً علمياً متكاملاً عن الحقيقة، لكن الإفتراضات المنطقية وإيجاد المستفيد من أي حدث، هي المؤشرات الأولى التي تقود التحقيق العلمي وتساعد على ربط الخيوط وتشير على الباحث أين يجب أن يركز بحثه وأين يحتمل أن يجد أداة الجريمة. ما نطالب به ويطالب به جميع افراد الشعب العراقي، هو مساءلة علنية مكشوفة وبالبث المباشر، للوزير رعد شلال، بعد إصدار قرار بتأمين حمايته من الإغتيال واستمرار تجهيزه بحماية كافية لعدة سنوات بعد خروجه من الوزارة، لكي لا يكون معرضاً للتهديد بالقتل هو وأفراد عائلته، من أجل ان يستطيع أن يقول لنا الحقيقة التي تهمنا.

كما يبدو، لقد نجحوا بأن يجعلوا من قصة رعد شلال عبرة لمن اعتبر ممن قد يفكر بالخروج عن الخط الأمريكي وتحدي إرادته من اجل ما يراه في صالح وطنه، وحولوا قضية اعتيادية كان يمكن أن تنتهي بحديث بسيط كالسيناريو الذي بدأنا به المقالة، وهو السيناريو المنطقي العاقل لمثل هذه الإشكالات والشكوك، حولوها إلى سيل من الغضب الشعبي الباحث عن الإنتقام والضرب، يمتنع عن المراجعة والنظر إلى الأدلة ويرى أية دعوة لذلك بمثابة اعتداء عليه، قبل البدء بأي تحقيق.

يبدو أن الرجل قدم استقالته، وهو أمر طبيعي، فما الذي سيفعله من يأتي بعده؟ هل سيعيد عقود الإستثمار اللصوصية، ويلغي العقود الأقل كلفة مع الشرق – تركيا وإيران والصين، ليعيد الشركات الكبرى وأسعارها الفاحشة ويعيد لـ "المستثمرين" فريستهم التي سلبهم إياها رعد شلال؟ هذا ما ستكشفه الأيام.
وما الذي ترسله هذه التجربة ايضاً من رسائل عن الحكومة وطريقة عملها؟ عن استعدادها لتدمير وزير تدميراً تاماً، لتقول فيما بعد أنه تبين أنه بريء من الفساد؟ ما هو إحساس وزراءها الآن، وكيف يفكرون بحماية نفسهم من احتمال هذا التشويه للسمعة؟ وكيف سيكون رد فعل الناس حين تتهم الحكومة وبمثل هذه الثقة، مسؤولاً آخر بالفساد؟ أي مدخل ادخلت فيه نفسها، حكومة المالكي بهذه "الصولات"؟

لم يعد بالإمكان إنقاذ تلك التجربة التي تشير مختلف المؤشرات إلى انها ربما كانت محاولة رائعة للدفاع عن مصالح الشعب والفقراء، وتجاوز الأجندة الأمريكية الهادفة إلى إثراء الأثرياء بخصخصتها اللصوصية، وربما كانت وزرارة رعد شلال أيضاً فرصة لتوجيه ضربة إلى الإنقسام الطائفي بموقفه النظيف من تلك المشاعر ووقوفه إلى جانب الوطن والعمل بإخلاص لحكومته بلا تأثر بالتوترات والمشاعر السلبية التي تحكم أطرافها الطائفية، ولا موقف سلبي من دول الجوار مؤسس على الطائفية.

لقد خسرنا على ما يبدو تلك التجربة، لكن لعله مازال ممكناً إنقاذ بعض الحقائق من الضياع في هذا الهياج، حقائق قد يتمكن الشعب من مراجعتها بعد أن تهدأ العاصفة، ويتعلم منها شيئاً، ولو متأخراً بعض الشيء. لذلك نطالب ثانية وثالثة ورابعة، بالتحقيق غير المجامل والشفاف والعلني، ولن يقتنع الشعب بأية عملية تحقيق تجري خلف الكواليس، وبيان يصدر عن نتائجها.


(1) http://taakhinews.org/?p=91398
(2) http://www.almadapaper.net/news.php?action=view&id=46414
(*) http://www.almadapaper.net/news.php?action=view&id=46146
(3) http://www.almadasupplements.com/news.php?action=view&id=2375
(4)http://www.ikhnews.com/news.php?action=view&id=18311
(5)http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=53104
(6) http://www.aknews.com/ar/aknews/2/252370/
(7)http://www.ikhnews.com/news.php?action=view&id=18341
(8)http://www.yanabeealiraq.com/news0511/n02071108.html
(9)http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5784


77


وزير الكهرباء : لم أصرّ على العقود، والشهرستاني زكى الشركتين أمام لجنة الطاقة!

صائب خليل
12 آب 2011

في اتصال مع السيد وزير الكهرباء رعد شلال، ورداً على تصريح السيد رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، عن رفضه تنفيذ تعليمات السيد رئيس الوزراء بشأن إلغاء العقود وإصراره على استمرارها، أكد الوزير أنه لم يكن هناك أي إصرار على إبقاء العقود، وأنه لا مبرر له للإصرار على ذلك، إضافة إلى أنه مستحيل من الناحية العملية حتى لو أراد الوزير أن يصر على ذلك، وهذا ما لم يحدث.
قال السيد الوزير أنه لم يرفض إلغاء العقود، وإنما طلب بعض الوقت ليستشير كادره في وزارة الكهرباء للتأكد من دقة المعلومات الواردة لمجلس الوزراء عن الشركتين وفي حالة تأكيدها، فالبحث في المترتبات القانونية عن الغاء العقود ومدى القوة القانونية للأسباب المقدمة من الجانب العراقي لمثل هذا الطلب، وما يمكن أن ينتج عن إلغاء العقود من غرامات في حالة عدم سلامة الأسباب، وما هي أفضل السبل للإلغاء بحيث لا يكلف ذلك العراق غرامة ما، خاصة وأنه لم يكن هناك مبرر للعجلة فلم نكن بصدد تسليم مبلغ من المال أو شيء من ذلك.


من ناحية أخرى أوضح السيد الوزير أن طلب رئيس الوزراء الرسمي إقالته يتعلق بتقدير السيد رئيس الوزراء بعمل وزارة الكهرباء خلال المئة يوم وليس بسبب قضية عقود الشركتين، واستغرب من أن يتم خلط وتبادل الأسباب بهذا الشكل.

ورداً على سؤال عن تقديره الشخصي لإداء وزارة الكهرباء خلال المئة يوم، قال الوزير أن لديه ما يكفي للبرهنة على أن الإتهام بالتقصير بالأداء ليس صحيحاً، وأن العكس هو الصحيح وأن وزارة الكهرباء قدمت إنجازاً ممتازاً، وأنه ينتظر أن تتاح له الفرصة ليثبت ذلك بشكل علني وأمام البرلمان والناس، وأنه ينتظر أن يتم ذلك خلال الأسبوع القادم.


وعن الموقف من الشركتين موضع الحديث، قال أنه يرى أن الضجة مبالغ بها، وأن المؤشرات التي لديه حتى الآن لا تؤكد أن هناك احتيال في الموضوع. وقال أن التوقيع على عقدي الشركتين تم من قبل لجنة الطاقة كلها، وأنه ليس مخولاً بتوقيع عقود بهذا الحجم.

وأضاف الوزير أنه مما استندت إليه اللجنة في توقيعها كان موقف السيد الشهرستاني نفسه من الشركتين. وقال أن السيد الشهرستاني ليس فقط لم يعترض على الشركتين "الوهميتين" في حينها بل كان قد قال وأمام لجنة الطاقة التي تضم إضافة إليه والسيد الشهرستاني عدة وزراء من بينهم وزير التكنولوجيا ووزير البيئة ووزير النفط وآخرين، أمام هؤلاء قال الشهرستاني أنه بحث عن معلومات الشركتين في الإنترنت وتأكد من أن الشركتين "رصينتين".
وقال السيد الوزير أنه أرسل مؤخراً إلى السيد الشهرستاني استفساراً بكتاب رسمي، مذكراً إياه بما قاله حينها أمام لجنة الطاقة.


78
وإذا أتاكم هاشم بنبأ...حقائق خطيرة عن جواد هاشم الذي أطلق قضية وزير الكهرباء

صائب خليل
10 آب 2011

(تحذير: كاتب هذه الكلمات يرتبط بصلة قرابة مع وزير الكهرباء رعد شلال سعيد العاني، ولذلك لا يجب الإعتماد على حيادية الكاتب، وعلى القارئ تمحيص الحقائق التي ترد، والإستنتاجات والمنطق الذي يقودها – الكاتب)

“دولة الرئيس: أن ما يدفعني للكتابة إليكم هو حبي الطاغي للعراق. هذا البلد العظيم الذي تريد قوى الشر والسرقة والفساد خنق تجربته الديمقراطية الوليدة. على عاتق دولتكم يا سيادة الرئيس تقع مسؤولية حماية العراق وحماية ثروته. ودعني أقول لدولتكم بكل تواضع واحترم بأن الواجب الوطني يقتضي منكم ليس إلغاء هذه العقود المشبوهة فحسب، بل أن تضربو بيد من حديد...وبكل قسوة، عناصر الشر والسرقة، وأن تحاربهم في كل دائرة ووزارة ، بل تحاربهم في كل منعطف وشارع دون مراعاة للأحزاب أو الكتل أو الطوائف التي ينتمون إليها. وتقبل يادولة الرئيس خالص الإحترام والمودة. جواد هاشم، وزير التخطيط العراقي الأسبق.”

من هذه الرسالة أنطلقت حملة التحقيق في الشركات الوهمية والمفلسة التي تعاقدت وزارة الكهرباء معها لإنجاز مشاريع بمبلغ مليار و700 الف دولار.  وقد أشرنا في مقالتين سابقتين إلى بعض الحقائق والآراء حول الموضوع، دون أن نلتفت إلى التشكيك بمصدر المعلومات الذي أطلقها، فحتى المعلومات التي يدلي بها لص، قد تكون مفيدة وتستحق التحقيق.

والآن وقد بدأ التحقيق يأخذ مجراه عن الحقائق المجردة، وبينت في مقالتي السابق أن تهمة "الفساد" التي سعى الإعلام لتثبيتها على قضية لا أموال فيها ولا استفادة، قد أصابت بالضرر جهات قوية ومتنفذة سياسياً ومالياً، وأن الموضوع قد لا يخل من أن يكون على الأقل في جزء منه، رد فعل إنتقامي من قبل تلك القوى، لذلك لا بأس أن نضيف إلى معلوماتنا عن القضية، معلومات عن المصدر الذي أطلق تلك الحملة.

وبالفعل اكتشفنا حقائق كبيرة ومخيفة عن هذا الرجل الذي يحمله "حبه الطاغي للعراق" إلى الركض إلى المدن لتصوير أماكن الشركة وهو في السبعين، والإتصال بوزير آخر لإكمال عمله في المانيا. لننظر إلى حقيقة هذا الرجل الذي كان رفيق صدام حسين الأمين والمدلل، وتثور حميته اليوم لحماية "التجربة الديمقراطية الوليدة" من قوى الشر والسرقة والفساد! لننظر إلى تاريخ هذا الرجل المغثوث بشدة من السرقة والفساد، لنعرف من الذي يتكلم معنا.

هذه ترجمة لأجزاء من مقالة كتبها جون دوهرتي في مايس 1995 بعنوان "العراقي المحتال"

الدكتور جواد هاشم، الوزير العراقي السابق في عهد صدام حسين، المتهم بسرقة 50 مليون دولار من صندوق النقد العربي (Arab Monetary Fund) مطلوب للعدالة في الإمارات العربية المتحدة بأحكام بالسجن لمدة 243 عاماً ودفع مبالغ 80  مليون دولار غرامة، وبالحكم بالسجن سنتين في بريطانيا وغرامة 160 مليون دولار، والذي لا يفوت الفرصة من الشكوى بأنه مطارد ومظلوم فيقول "جئنا إلى هنا معتقدين اننا في مأمن من أيدي صدام، لكنها يهاجمنا من خلال صندوق النقد العربي"، والذي أنتهى به المطاف ليختار أن يلجأ إلى الحماية عن طريق قانون إعلان الإفلاس، بتعقيداته القانونية الكبيرة التي يعرفها محاموه.

وقد تعرف الدكتور جواد هاشم على صدام حسين عندما كان الأخير يدرس في جامعة بغداد التي كان جواد يدرّس فيها، ومنذ ذلك الحين صعد على أكتاف صدام إلى أعلى المناصب ووصل إلى مرتبة وزير للتخطيط، ثم رشحه صدام حسين لرئاسة صندوق النقد العربي، المؤسس من 22 دولة عربية بغرض تمويل مشاريع التطوير العربية. وترأس هاشم الصندوق لفترة كان خلالها مستشاراً خاصاً لصدام حسين، كانت فرصة هاشم ليضرب ضربته، ثم يرفض العودة للعراق ويتخذ موقف ضحية نظام صدام حسين.

في تموز 1991 أرسل هاشم مذكرة عن إساءة استخدام صدام للأموال وتحويلها إلى سويسرا إلى الأمم المتحدة. وجاءت المذكرة في وقت دقيق، حيث كانت الأمم المتحدة تناقش تخفيف العقوبات الإقتصادية على العراق، وكان لها الأثر في بقاء العقوبات الدولية كما هي. وأخبر الصحافة بعد ذلك خلال الإهتمام بإثبات امتلاك العراق للأسلحة النووية : "إذا كان هناك رجل سينتج تلك القنبلة فهو ذلك الرجل".
بعد انتهاء فترة رئاسة جواد هاشم لصندوق النقد العربي في 1982، أطلق الصندوق عملية تحريات دولية للتحقيق في أسباب الخسائر الضخمة التي عانى منها خلال تلك الفترة. وكشفت التحريات عن سلسلة من التحويلات لأصول بنكية خاصة بالصندوق إلى "درسدنر بانك" (Dresdner Bank) في لكسمبورغ، ووضعت في الحساب رقم 444. وكان الحساب باسم جواد هاشم.

ونتيجة لذلك أجر البنك مكتب حسابات "إيرنست أند ويني" (Ernst & Whinney) والذي قدم تقريراً بالأدلة بأن هاشم حول لنفسه ما يقارب 50 مليون دولار من أموال الصندوق. في هذه الأثناء كان هاشم قد حول المبلغ إلى "بنك الإعتماد والتجارة الدولي" (Bank of Credit and Commerce International) سيء السمعة، والذي كان يلقب بتشابه حروفه الأولى بـ "بنك اللصوص والمجرمين" (Bank of Crooks and Criminals) الدولي.

لاحق الصندوق هاشم بدعوى جنائية في أبوظبي في 1984، وبعد 53 جلسة غيابية أدانت المحكمة جواد هاشم بـ 47 جريمة نقض ثقة وتزوير، وحكم عليه غيابياً بـ 243 عاماً في السجن، وغرامة قدرها 80 مليون دولار
إتهم هاشم المحكمة بالفساد وقال أن الحاكم عرض عليه حكماً بالبراءة مقابل مليون دولار لكنه رفض، وأن القاضي اتصل به تلفونياً من أجل ذلك وأنه يملك تسجيلاً صوتيا للمكالمة، وقال أنه سوف يظهرها للعالم في يوم من الأيام! ورفض هاشم تقديم الأشرطة إلى صحيفة "نيو تايمز" التي طلبتها منه.

وكشف مكتب آخر (Shearman & Sterling) أن الدكتور جواد هاشم حول مبالغ كبيرة من حسابه في "بنك الإعتماد والتجارة الدولي" إلى رقمين حسابيين في سويسرا. وقدم صندوق النقد العربي شكوى ضد هاشم في سويسرا تبين من خلال تحقيقاتها أنه تم تحويل 25 مليون دولار إلى ومن حسابات هاشم في سويسرا، لكن المحكمة السويسرة أقرت برفض الدعوة باعتبار أن الـ 25 مليون قد غادرت الأرض السويسرية وأنها خارج نطاق عمل القضاء السويسري.

بقي الصندوق يطارد هاشم دون جدوى، وحصل الاخير على الجنسية الكندية حيث يسكن. وتمكن الصندوق من تحقيق اختراق ما حين أبلغ الإنتربول الصندوق بأن هاشم قد دخل بريطانيا، فطلب الصندوق من بريطانيا تجميد أصوله. وطال تحقيق بريطانيا في الأمر عاماً كاملاً ونتج عنه تقرير من 606 صفحات لصالح الصندوق، تقول أن هاشم استولى على أصول كبيرة للصندوق لمصلحته الشخصية. (وفي المقالة التي نترجم منها تفاصيل عن تلك التحويلات)
في النهاية وبخت محكمة العدل العليا هاشم وزوجته على الكذب على المحكمة، وتقديم وثائق مزورة وتدمير الأدلة أثناء المحاكمة، وأمرته بدفع 160 مليون دولار للصندوق وأمرت زوجته بدفع 11 مليون ، وأولاده جعفر وعمر، 12 و 11 مليون على التوالي. وقال القاضي الأول جون موراي جادويك: "منذ البداية وحتى النهاية ، فأن الدكتور هاشم لم يترفع عن الهبوط إلى أي مستوى من أجل تشويه سمعة الصندوق، من أجل تحويل القضية لصالحه".
لكن هاشم كان قد غادر بريطانيا قبل الحكم، ووصل إلى كندا في نوفمبر 1993 حيث يقيم. وحكمت عليه المحاكم البريطانية بالسجن لسنتين لقضايا تتعلق بتلك الدعوة بشكل غير مباشر.
لم يكن ممكناً طلب تسليم هاشم إلى إنكلترا من أريزونا، كما أن الحكم في أبو ظبي ليس له قوة القانون هنا (في كندا).
وأجر الصندوق مكتب غافني للمحاماة المتخصص بقضايا إعلان الإفلاس، والذي أمتلأت شقته بوثائق حول القضايا المالية لهاشم. وضايقت هذه الملاحقة هاشم الذي قال أن غافني مدفوع لقضايا "سياسية"(!!) وبدعم من الصندوق الذي يريد الإنتقام منه! ويسعى غافني إلى إثبات أن هاشم قد اخفى معلومات عن مسؤولي "الإفلاس الفدرالية"، وهي قضية خطيرة يصل الحكم فيها إلى خمسة سنوات سجن وغرامة مالية كبيرة. ويحاول محاموا المؤسسة أن يحصلوا على إذن بملاحقة أعضاء أشخاص خارج عائلة هاشم، كان الأخير قد تعامل معهم بشكل مشبوه مثل نسيبه رجل الأعمال الإيراني الأصل علي سالاس، الذي يعتقد أنه يمثل طريقاً لتمرير معاملات هاشم المالية.

إنتهى الإقتباس من المقالة، وفيها تفاصيل أكثر لمن يرغب في قراءتها.

هذا هو إذن الرجل الذي يريد من المالكي أن "يضرب بيد من حديد...وبكل قسوة، عناصر الشر والسرقة، وأن تحاربهم في كل دائرة ووزارة ، بل تحاربهم في كل منعطف وشارع".

إننا مع هذه الدعوة تماماً، رغم أنها جاءت من "فاسق" من النادر أن تجد له مثيلاً في التاريخ العراقي، لذا نقول للسيد رئيس الوزراء، وللجنة التحقيقة والبرلمان، كونوا حاسمين بل وقساة على كل فساد، ولكن "تبينوا...."

http://www.phoenixnewtimes.com/1995-05-18/news/the-stealth-iraqi/
http://www.internationallawupdate.com/getarticle/volume/6/issue/6/article/2/BANKRUPTCY

المقابلة مع السيد الوزير
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6410

فساد خالِ من النقود
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6504#comment35013


79
فساد خالِ من النقود

صائب خليل
9 آب 2011

(تنبيه هام: كاتب هذه السطور له صلة قرابة بوزير الكهرباء السيد رعد شلال، لذا فحياديته غير مضمونة، فيرجى الإنتباه وعدم أخذ الأمر على الثقة بل تمحيص ما جاء فيها من آراء وحقائق وطريقة ربطها والإستنتاجات التي تنجم عنها – الكاتب)

إضافة إلى ما جاء في العبارة أعلاه، كنا نمتنع عن إبداء رأينا بنقاط هامة على خلفية تهمة "الفساد" التي اثيرت ضد الأستاذ رعد شلال، وزير الكهرباء، كنت حريصاً على أن يأخذ السؤال الموجه له حقه الكامل بالإجابة الواضحة وعدم الخروج عنه، ولذلك قمت بإجراء مقابلة تلفونية مع السيد الوزير طرحت فيها ما أمكن من أسئلة حول موضوع تهمة "الفساد"، المتعلقة بعقدين مع شركتين مشبوهتين، بشأن مشاريع توليد كهرباء بقيمة مليار و700 مليون دولار.(1) وقد طرح السيد الوزير في المقابلة نشاطات وزارته خلال الأشهر القليلة التي قضاها وزيراً فيها، وطرحت فيها الحقائق بلا تعليق لكي  يتاح للقارئ أن يحكم بنفسه على الحقائق بدون تأثير.

والآن أشعر ببعض الحق والحرية في مراجعة تلك الحقائق معكم، وتقديم استنتاجاتي الشخصية حولها وما تعني، وكيف افهمها، وماهو أهم ما فيها.

حين وجهت التهمة (غير الرسمية، ولكن شملت جهات رسمية) بالفساد إستناداً على العقدين مع الشركتين الكندية والألمانية، باعتبارهما شركتان غير موثوق بهما لأسباب جدية (أحدهما وهمية والثانية مفلسة مدعومة، حسبما جاء في الإتهامات)، كان الرد الأساسي للوزارة هو ان العقدين مع الشركتين هما عقدان بالآجل، وبالتالي فلم تكن هناك أضرار مالية على الحكومة العراقية، ولم يكن هناك فرصة للشركتين أن تتحايلا على الجانب العراقي، لأنهما لا تستلمان أي مبلغ على الإطلاق، قبل تسليم المحطات المتفق عليها وتشغيلها لمدة سنة، حيث يسلم نصف مبلغ العقد، وسنة أخرى ليسلم الباقي. أما لماذا تساهلت الوزارة وأهملت حقيقة كون الشركتين غير معروفتين ولم تتحر عنهما بما يكفي، كان رد السيد الوزير أن الوزارة حاولت مع عدة شركات معروفة دون جدوى لأنهم رفضوا العمل بالآجل، وبالنسبة للثقة، اعتمد على ضمانات لبنوك كما هو السياق، وفي كل الأحوال لم تكن هناك مخاطرة بأية اموال عراقية بفضل طبيعة العقد.

ورغم أن كل شيء واضح موضوعياً، لكن الضباب شديد في المشاعر، فلا بأس بإضافة مقولة لشخصية ذات منصب مسؤول، فقد أكد الخبير القانوني طارق حرب: "التعاقد مع الشركات الوهمية لم يلحق ضرراً بالدولة، لان الدفع بالاجل، ولن يحصلوا على اموالهم الا بعد إستكمال المحطات." (2)

وبما أنه لا توجد أموال في القضية، ولا ينتظر أن تعطي شركة لم تستلم اي شيء، رشاوي لأحد ما، ولم يترتب على القضية اي ضرر بالنسبة للعراق، كان رأيي أن هذا ينفي تهمة الفساد عن السيد الوزير، مالم تكشف حقائق جديدة تدينه بالفساد. هل كان على الوزير أن يرفض الشركتين الوحيدتين اللتان تقدمتا بمشروع، على علاته التقنية وسمعة شركتيه، يستطيع تحقيق تحسن في مستوى الكهرباء إبتداءاً من عام 2012، والإكتفاء بعقود المشاريع المؤكدة مع الشركات المعروفة التي تبدأ إنتاج الكهرباء عام 2013؟ هل كان الناس سيتحملون أن يتأجل أي تحسن في الكهرباء حتى عام 2013، ورغم وعود رئيس الوزراء للشعب بموعد قبله؟ هل كان صحيحاً أن يخاطر الوزير بشركتين غير معروفتين من أجل تحسين الكهرباء عام 2012؟ ربما... هذه قضية فيها سؤال وجواب ورأي، وقد يكون قرار الوزير فيها خاطئاً، وقد يكون أهمل التحقق من الشركتين وخاطر بالتعاقد معهما. لكن خاطر بماذا؟ لم تكن هناك مخاطرة بأية اموال عراقية، لكن هناك مخاطرة بوعد قد لا يتمكن من تنفيذه، ويتحمل مسؤوليته.
قلنا هذه كلها أسئلة منطقية واردة، يمكن أن يقتنع المرء بأي راي فيها، وقد يكون قرار الوزير صحيحاً أو خاطئاً، لكنه بالتأكيد ليس دليلاً على "فساد". قد يسمى هذا "خطأ" أو "تقصير" أو "إهمال"، وحينها يناقش على هذا الأساس، لكنه بالتأكيد لا يرقى إلى تهمة الفساد التي تتضمن عنصراً أخلاقياً دائماً. ولنكون دقيقين دعونا نراجع تعريف "منظمة الشفافية الدولية" للفساد:

هو الاستغلال أو التوظيف غير المشروع للصلاحيات الإدارية او المنصب الحكومي المخول وفق القانون بنفسه او من خلال غيره ، او بناء على ما يتمتع به من أداء خدمة عامة ، ويكون ذلك الاستغلال لإغراض شخصية او نفعية او لميول عاطفية او قبلية او كل ما يدخل تحت نمط المحسوبية و المنسوبية مما يخل بحيادية او عدالة العمل الحكومي و الإداري .

ومن الواضح أن قرار الوزير بقبول العقد لا علاقة له بالفساد، فلم يكن في هذه الحالة، "توظيف غير مشروع...لأغراض شخصية أو نفعية..." الخ. حسب المعلومات التي تم كشفها حتى هذه اللحظة.
أما من ناحية التقصير فأنقل جملة من تعليق السيد ماهر سعيد متي من موقع برطلة، يقول فيها:
"المسؤولية التقصيرية قائمة على تحقيق اركان ثلاث هي ركن الخطأ والضرر، والعلاقة السببية بينهما". (3)


وهنا نلاحظ أن حتى التقصير أمر مشكوك به هنا، فلم يقع "ضرر" ولا حتى كان ينتظر أن يكون هناك ضرر منظور، والحديث عن أنه تم تجنب الضرر من خلال الإجراء السريع بإلغاء العقد ليس له أساس من الصحة، وعرض إعلامياً، وكأن صكاً بمليار و700 الف كان على وشك أن يصرف، فتلاحقت الحكومة للأمر وأنقذت الأموال! ليس هناك ما هو أبعد عن الحقيقة من ذلك...ولم يكن هناك صك سيصرف قبل ما يقارب السنتين من الآن، ليكمل بعد ثلاث سنين، وإذن فلم يكن هناك تفسير لهذه الإجراءات الطارئة العاجلة، ولا الصورة الإعلامية التي وضعت فيها.

هذا ما كان من أمر هذا "الفساد" – "الخالي من النقود"، ويبدو أنه استحوذ على إهتمام الإعلام العراقي فنسي "فسادات" أخر، كشفت عنها ملابسات القضية، يصبح هذا "الفساد" أمامها قزماً صغيراً. وكما قلنا فضلنا أن لا نتحدث عن أية "فسادات أخر" قبل أن يستوفي "الفساد" المطروح للمناقشة وقته، لكي لا نكرر طريقة إخفاء فساد عن طريق إظهار آخر يسد عنه الضوء، وإيماناً بأن كل فساد أو أحتمال فساد يستحق أن يسلط عليه الضوء المناسب لكشفه. ألآن يمكننا أن نسلط بعض الضوء على الفسادات الأخرى.

في المقابلة التي أجريتها معه، بين السيد الوزير من خلال الإجراءات التصحيحية والقرارات التي كان قد اتخذها، أنه قد راجع بعض العقود الأقدم، وأوقف العمل بعدد منها.

وأول تلك الإجراءات أنه رفض عقوداً لمستثمرين عراقيين وأجانب، كان الوزير السابق قد اتفق معهم عليها، حيث رأى أن تلك العقود مجحفة للوزارة بشكل كبير.  وقصتها ملخصة لما وردت في مقالتي السابقة
، أن الوزارات السابقة استوردت عدداً من الـ "تورباين جنريتر"، وهي قلب المحطات الكهربائية، لكن التخصيصات انتهت ولم يكن لديهم ما يكفي لبناء المحطات اللازمة لتشغيل هذه التوربينات. فلجأوا إلى "الإستثمار"، فخصصوا 22 تورباين منها لمستثمري القطاع الخاص على أن يدفع ثمنها بعد سبعة سنوات. ويقوم المستثمر ببناء المحطات اللازمة للتوربينات، ويبيع لنا الكهرباء بسعر 3,67 سنت للكيلو واط  ساعة ولعقد مدته 25 سنة، ويكون تجهيز الوقود على حساب الوزارة.
وبعد حسابات، وجد الوزير أن تلك العقود فاحشة الثمن وتكلف الوزارة مبالغ هي أحوج ما تكون إليها لمشاريعها التي يعرقلها نقص المخصصات، حيث تدفع الوزارة ما يزيد عن 600 مليون دولار في العام، وهو مبلغ خيالي قياساً بتكاليف المشروع بالنسبة للمستثمرين الذين يستعيدون أموالهم المستثمرة خلال سنة ونصف. أي أن العقود بالنسبة للوزارة كانت كمن يقترض من مصرف بأرباح تبلغ 70% في العام! وهي أرقام إبتزازية في أحسن الأحوال، في وقت تعاني فيه الوزارة من شحة قاسية في التخصيصات. فكر الأستاذ رعد بمطالبة "المستثمرين" بخفض الأجور إلى 3 سنت. لكنه وجد أنه حتى في ذلك السعر، فأن العقود تبقى مجحفة بالنسبة للوزارة حيث ستدفع 500 مليون دولار في العام الواحد، بينما يمكن أن تقوم الوزارة ببناء المحطات بنفسها، وتتحمل كلفة 440 مليون دولار في العام لمدة عامين فقط، وتوفر بذلك تلك الـ 600 مليون دولار لمدة 25 عام، اي تدفع بحدود 880 مليون دولار لتوفير أكثر من 15 مليار دولار، إضافة إلى امتلاك الدولة للمحطات بعد سنتين، مقارنة بعدم امتلاك شيء بعد خمسة وعشرين عاماً.
وبالفعل مضى السيد الوزير في خطته وأوقف محادثات تلك العقود وباشر بتنفيذ خطته فتمكن من إحالة المجموعة الأولى إلى مقاول بأقل حتى من الـ 440 مليون المقدرة أساساً لها!

من المثير للدهشة، أن عقوداً تخسر الدولة أكثر من 14 مليار دولار، بلا اي مبرر أو تفسير، اتفق عليها الوزير السابق، ومنعها الوزير رعد شلال، لم تثر إهتمام الحكومة ولا الإعلام على الإطلاق، ولم تحرك غضب الغاضبين من الفساد. هل هناك فساد في هذه العقود؟ من الواضح جداً أن الأمر هنا فيه ضرر شديد للدولة، وإجحاف شديد في الأسعار، غير مبرر على الإطلاق. فلا يوجد في المحطات من أسرار يمكن للمستثمر الخاص أن ينفذها ولا تستطيع الحكومة أن تنفذها ذاتياً أو بمقاولة تنفيذ مع شركة ما. إنه فساد بنفس معنى الفساد الذي وجهت تهمته إلى وزير التجارة السابق على أساس شراء مواد بأسعار أكبر بكثير مما هو ممكن شراؤه من مكان آخر. وكذلك فعل وزير الكهرباء السابق، فرتب عقوداً إشترى من خلالها الكهرباء بأسعار أكبر بكثير مما كان يمكنه أن يفعله، وهو من أشكال الفساد المعروفة، بل ربما يكون الأشهر بينها.

إذن، لماذا يغلي العراق غضباً على "فساد" لم يكلف شيئاً، ولم يكن سيكلف شيئاً على ما يبدو، ويغض النظر عن فساد أعلن الوزير بشكل غير مباشر، انه كان يخطط لسرقة 14 مليار دولار من أموال الشعب خلال خمسة وعشرين سنة ليسلمها إلى "المستثمرين"؟

عدا هذا، تحدث الوزير عن عقود أخرى تمكن من إيجاد بدائل مطابقة لها بأسعار أخفض بكثير، ومواد احتياطية بنصف سعرها، وكان كل ذلك يعني توفير مليارات عديدة إضافية، ولم يبد أن أحداً يهتم لتلك الأخبار.

والحقيقة أن الأستاذ رعد شلال كان قد أخبرني في وقت سابق أنه بصدد مراجعة عقود الصيانة مع الشركات المختلفة، حيث وجدها عالية الأسعار، وكان يشك بأن عقود وزرارة الكهرباء قد بولغ فيها، وأنه يعتزم في حالة ثبات ذلك، إستعادة المبالغ الزائدة من الشركات. وبالفعل كان بصدد مقابلة ممثل إحدى الشركات في فينا بعد ساعات المؤتمر، على أن يكمل ذلك في بغداد.
وفي ذلك الوقت أعجبتني روحية الوزير، فاقترحت مراجعة العقود المنجزة ايضاً، وتحدثنا عن إمكانية استعادة مبالغ زائدة مماثلة إن وجدت، حتى وإن كانت المبالغ قد دفعت فعلاً، ومن خلال شكوى دولية باعتبارها عقود مغشوشة، حتى إن كانت سليمة من الناحية القانونية. وما لم يكن ممكناً الضغط عليه من الناحية القانونية، فيمكن استعمال مكانة وزارة الكهرباء العراقية في كشف عمليات الغش في الأسعار إن وجدت، وفضحها عالمياً بما يمثل ذلك من خفض لسمعة تلك الشركات، مما قد يجعلها تفضل إعادة المبالغ الزائدة التي قد تكون حصلت عليها من الوزارة السابقة كما حصل عليها "المستثمرون" ، أو أن تعرض إعادة جزء منها كتسوية وسطية، وفي كل الأحوال يكون هناك ربح للعراق.

كان الحديث مع السيد الوزير بهذا الشكل، ووجدت أمامي شخص يعامل اموال الوزارة والعراق بحرص من يتعامل مع أمواله الخاصة تماماً، ليس بمعنى صرفها كما يشاء، بل بالحرص عليها، ويفكر ويسهر بحثاً عن بديل أفضل وأقل كلفة وأفضل نوعية، من ناحية المواد والخدمات.

لذلك، عندما أثيرت قضية "الفساد" كنت مندهشاً جداً، إذ أنها تتناقض مع ما عرفت الرجل به من أمانة، رغم أني لم أره كثيراً خلال الأعوام المنصرمة، كان آخرها ذلك اللقاء القصير في فينا. ولذلك سألت السيدة حنان الفتلاوي إن كانت قد سألت الوزير عن شكوكها، لكنها كانت مقتنعة بما لديها من وثائق، ووعدت أن الكثير من الأمور ستكشف في الفترة القادمة. فكان أن اتصلت بالسيد الوزير بنفسي لأطمئن على تقديري للأمور أولاً، ولكي أوضح للآخرين ما أعرفه عنه وعن مشاريع الكهرباء ثانياً، والذي كان يتناقض مع تلك الإتهامات، فكانت النتيجة تلك المقابلة القصيرة التي نشرتها في المواقع المختلفة (1).

كتبت تلك المقابلة كمعلومات بلا تعليق مني تقريباً، وكنت واثقاً من أن الناس والإعلام سيرى أن هناك تناقضاً شديداً بين التهمة بالفساد، عن قضية لا تبدو اكثر من أنها قد تحتوي تقصيراً ما أو رأياً يقبل الخطأ، وأن تهمة الفساد لا تتلاءم مع ما رأيته من رعد شلال. قلت أن الناس ستتساءل: هل من المعقول أن يلجأ إلى فساد "بالدفع الآجل" من يريد أن يفسد ويثري، وأمامه طرق أسهل كثيراً، وليس عليها أي مستمسك، فما كان يحتاج حتى إلى خلق فساد جديد يستفيد منه، بل يكفيه أن يمرر الفساد القديم ذو المليارات الأربعة عشر، ويفرض لتمريره عمولة بسيطة جداً، فإن كانت واحد بالألف، حصل الوزير خلال الأعوام الخمسة والعشرين القادمة على 14 مليون دولار بكل هدوء، ودون أن يستطيع أحد أن يحاسبه، لا على عقود فاحشة ولا شركات وهمية، فالعقود ضمن اتفاق مسبق، ولم يأت هو بجديد!

ويمكن للوزير، إن أراد ، أن يحتفظ بضميره مرتاحاً، إن لم يكن ممن يقبل الرشوة دون أن يكون حريصاً، وأن يمرر العقود بلا مشاكل، ويمرر أسعار الشركات العالمية بلا اعتراض، ويكفي نفسه هموم البحث عن مواد إحتياطية بديلة أرخص سعراً وما يحمله ذلك من مسؤوليات إضافية، فيما لو تبين لأي سبب كان، ان المواد كان بعضها دون المطلوب، أو لو ارادت الشركات التي خسرت الصفقات أن تدفع بالبعض لخلق المشاكل وإدعاء فشل المواد بأية طريقة.
ولماذ يورط نفسه بالبحث عن مصادر في دول مغضوب عليها من قبل معبود العالم الجديد؟ ولماذا يدخل في كتابنا وكتابكم مع البنك التجاري العراقي ويعترض عليه ويكشف أن نظامه في غير صالح العراق، فيكسب غضبه وغضب من يقف وراءه من كائنات مخيفة؟

لا أجد تفسيراً لذلك سوى في أن الأستاذ رعد شلال كان رجلاً يشعر بالمسؤولية ومستعد لتحملها على العكس من الكثيرين للأسف.
يذكرني هذا الأمر بحديث دار بيني وبينه والدكتور عصام شريف عندما كنا نسير على ضفاف النهر في فينا. حدثنا عن سد الموصل وعن المخاوف التي كانت تحيطه وقال أنه ليس معرضاً للخطر. وأضاف بأن الماء في دجلة هذا العام وفير جداً لكنهم في سد الموصل يخشون أن يرفعوا المنسوب في البحيرة، ويتركون الماء الثمين يذهب سدى. وكانت القصة أنه حين بدأت الشكوك تساور المهندسين بسلامة سد الموصل، تقرر عدم رفع المنسوب إلى أعلى مما هو عليه في ذلك الحين، لحين التأكد من سلامة السد. وقد تغير تقدير الخطورة للسد كثيراً منذ ذلك الحين، لكن المهندسين بقوا يرفضون التوقيع على رفع منسوب البحيرة أمام السد، رغم ذلك. كل منهم لا يريد تحمل المسؤولية بأي شكل، فرغم اعتراف كل منهم بسلامة الحسابات وعدم وجود خطورة حقيقية، إلا أن كل منهم يرى أن أحداً لن يشكره إن قبل مسؤولية رفع المياه، ولكن "لو حدث خطأ" فستكون مسؤوليته عليه. "وهكذا تهدر المياه الثمينة لعدم وجود من يتحمل مسؤوليتها" قال الأستاذ رعد بحسرة واضحة مضيفاً "يقولون فيها مسؤولية...قلت لهم نعم مسؤولية.. وأنتم تأخذون رواتبكم كمهندسين لتحملكم المسؤولية، فكيف تهربون منها"؟ هذه هي كلمات الرجل، ويشهد عليها الدكتور عصام ومهندسوا سد الموصل.

نفس هذه الروحية هي التي تفسر في تقديري ما حدث للأستاذ رعد في تعامله بمسؤولية مع المهمة المناطة به في قيادة وزارة الكهرباء، وكل مسؤولية تعني بالضرورة تحمل نسبة من المخاطرة، لكن تلك المخاطرة إن كانت ضئيلة جداً، و كانت تستند إلى حسابات هندسية سليمة فمن واجب المهندس والوزير وكل مسؤول، قبولها على عاتقه.

هكذا كما أظن حسب الوزير رعد شلال عقود الشركتين موضع النقاش، وجعل مخاطرتها صفراً أو تقارب الصفر، وقبل بتحمل مسؤولية القرار المحسوب، بعد أقتناعه به، فكان جزاؤه، ماكان يخشى مهندسوا سد الموصل منه!

دعونا إذن نراجع الأمر بهدوء، ونسأل: لقد دخل الوزير رعد شلال في عقد مع شريك غير مؤكد، لأمر يراه في مصلحة وزارته وخططها، ودون احتمال مخاطرة بأموال الدولة، وبدون أن يكون في الموضوع ما يربحه لنفسه أو لجماعته، فهل الإسم المناسب لوصف ذلك التصرف هو "الفساد" أم "تحمل للمسؤولية" بمبادرة شخصية بعد دراستها وتأمين مخاطراتها بالنسبة لأموال وزارة الكهرباء والدولة؟

ما كان على رعد شلال إلا أن يكون وزيراً قياسياً يبتعد عن "الشر"، وفي هذه الحالة يمكنه أن يتوقع أن يمضي عمله في الوزارة بهدوء، ويتمتع براتبه الممتاز، وحتى إن خرج مبكراً فسيحتفظ بـ 80% من الراتب حسب القانون، ليمضي بقية ايامه متمتعاً على ضفاف الفرات الذي لا يبدله بأي شيء كما قال لي يوماً. عندها سيكون كل شيء على ما يرام، فلماذا يحمل نفسه مسؤولية لم يكن مضطراً لها، فيورط نفسه في قضية خائبة، قضية "فساد خالِ من النقود"؟

إذن أي نوع من الموظفين والمسؤولين نريد في العراق، وأية رسالة تبعث هذه الضجة إلى المسؤولين في مختلف الوزارات ودوائر الدولة؟

أتساءل: أهذا ما اثار غضب حكومة العراق ومؤسساته الإعلامية إلى هذه الدرجة؟ هل خلا العراق من كل فساد فرحنا نطهر بلادنا من  "أشباح الفساد"؟ ألا ليت كل فساد لدينا كان هكذا! يوفر للبلاد المليارات ويخرج فارغ اليدين والجيوب.. بل ألا ليت جميع وزرائنا كانوا فاسدين مثل رعد شلال. لو كان الفساد هكذا لكان فساد الوزير من أول المطالب لتعيينه، ولأستبدلت صفحة أعمال المتقدمين للعمل بـ "صفحات فسادهم"، وربما زوروها بإيراد فساد لم يقوموا به!

ما الهدف إذن من كل هذه الضجة ؟ ومن الذي أثارها حقاً؟ ساحاول الإجابة في مقالتي القادمة، غداً إن شاء الله.

(1) المقابلة مع السيد الوزير
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6410
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6432
(3) http://baretly.net/index.php?topic=4751.0








80
حديث مع وزير عراقي أقيل خلال ساعات!
(حديث مع وزير الكهرباء الأستاذ رعد شلال، قبل إقالته بساعة واحدة)

صائب خليل
7 آب 2011

أكتب هذه السطور وأنا في حالة دهشة وتساؤل، فقد فوجئت قبل قليل بما قد تكون أغرب إقالة لوزير، ربما ليس في العراق وإنما في العالم، حيث بدأ الأمر بتنبيه من وزير سابق إلى أن عقدين من عقود وزارة الكهرباء تم التعاقد وفقهما مع شركتين إحداهما تعاني من وضع مالي قريب من الإفلاس والثانية وصفت بأنها وهمية.
ما أثار دهشتي السرعة الكبيرة التي تم بها الأمر كله، فقد كتب الدكتور جواد رسالة التنبيه الموجهة للحكومة العراقية بخط يده في 2 آب، وتمت الإقالة السبت 6 آب، وإذا افترضنا جدلاً أن الرسالة وصلت المسؤولين في اليوم التالي لكتابتها، أي 3 آب، فقد تمت الإقالة خلال ثلاثة ايام من ضمنها يومي نهاية الأسبوع! هل صار العراق فجأة أكفأ دولة في العالم في سرعة التحقيق ومحاربة الفساد، أم هناك تفسير آخر؟

يوم الجمعة 5 آب قرأت رسالة الدكتور جواد في الإنترنت فاتصلت بالأستاذ رعد شلال، وزير الكهرباء، بحكم قرابتي به لأستفسر منه عن الموضوع، فقال أنه سمع بالأمر، ويعتقد أنه حملة سببها أنه تسبب في الإضرار بجهات متنفذة من خلال كشفه وإلغائه عدد من العقود المجحفة بالوزارة، لكن ذلك لا يهمه لأن العمل جار وفق الخطة وسوف يكتمل الكهرباء حسب الجدول الزمني الذي وعد به في نهاية الأمر، وان الموضوع يتعلق بعقدين ليسا ضمن الخطة الرئيسية لتجهيز الكهرباء، وحتى إن لم تنفذ الشركتان التزامهما فلن يكون لهما تأثير على المدى البعيد، وإن كان سيؤخر التزامات وزرارة الكهرباء بالنسبة لعام 2011، كما ان العقدين بالآجل، ولم تدفع أية مبالغ للشركتين. وحين اوضحت له أن الإعلام ينشر الخبر باهتمام وأن عليه أن يوضح وجهة نظره للناس، قال انه ينتظر إجتماع مجلس الوزراء يوم الثلاثاء لإيضاح وجهة نظره، ثم سيقترح على المجلس أن تتم مناقشة القضية بشكل علني في البرلمان او في مؤتمر صحفي.

في اليوم التالي، السبت، قرأت خبراً بأن النائبة حنان الفتلاوي، كشفت "عن ملفات فساد كبيرة في وزارة الكهرباء تقدر قيمتها باكثر من مليار و700 مليون دولار , مطالبة في نفس الوقت بمحاسبة الوزير وكل من تورط بقضايا فساد مالي في الوزارة." وأن الموضوع يتعلق بـ "شركتين وهميتين" وأنه :"تم الغاء العقدين مع الشركتين الوهميتين , ولكن يجب ان يتم محاسبة وزير الكهرباء رعد شلال ( القائمة العراقية ) وكل من تورط في هذه القضية".
ويقول الخبر معقباً: "لكن وبالرغم من التخصيصات المالية الاضافية للوزارة من قبل مجلس الوزراء لم تشهد الطاقة الكهربائية اي تحسن." (1)

كتبت للسيدة الفتلاوي، في خانة التعليقات وكنا قد تراسلنا بهذه الطريقة أكثر من مرة في موضوع المفوضية، كتبت أن معلوماتي بأن العقدين هما بالدفع بالآجل، فإن صح ذلك فليس هناك أي إمكانية لحالة فساد، فالمبالغ لن تدفع إلا بعد فترة من تسليم المولدات، وسألتها إن كانت قد سألت الوزير عن المعلومات قبل اتخاذ موقفها.
ولما تأخر الجواب، أتصلت بالأستاذ رعد وأبلغته بالتطور السريع وأن الموضوع ضمن اهتمام النائبة الفتلاوي وأنها تتهم الوزارة بالفساد وقالت بأن العقدين قد الغيا، ففوجئت بأن الوزير ليس له أي علم بالموضوع، وأن السيدة الفتلاوي لم تحاول على ما يبدو الإتصال بالوزارة للإستفهام، فاقترحت على الأستاذ رعد ان يتصل بها بنفسه ليوضح موقفه، قبل موعد اجتماع مجلس الوزراء، فوافق على الفكرة.
بعد ذلك طلبت منه المعلومات المفصلة عن الموضوع، وعن عمل الوزارة بشكل عام، وسألته إن كان يسمح بنشر تلك المعلومات، فقبل فوراً، وهو ما سأقدمه بلا تعليق أدناه:

عن العقدين، قال السيد الوزير أنهما ضمن ما أسماه "خطة الطوارئ" وهي خارج الخطة الأساسية لإعادة الكهرباء إلى العراق، وأن الغرض منها تحقيق زيادة ساعات الكهرباء لعام 2012، أما الخط الستراتيجي للعقود فسيبدأ الإستفادة منه عام 2013 وتصبح الشبكة نظامية عام 2014 بساعات كهرباء كاملة.

بالنسبة لخطة "الطوارئ" التي تمثل العقدين موضوع النقاش، قال طلبنا من الشركات الكبرى فرفضت، خاطبنا شركات كاتربيلر، مان، هيونداي و رولز رويس ولم تبد اهتماماً بالعمل بالآجل، وكان هذا أمر أساسي فليس لدى الوزارة مخصصات إضافية لهذا الأمر. وكانت محاولاتنا مع الصين بالنسبة للعقود الآجلة قد فشلت لتعقيد موضوع الدفع ولم نستطع أن نجد آلية نتفق عليها حوله.

لم توافق على الموضوع سوى شركتين ( CAPGENT الكندية و MBH الألمانية ) فأحيل العقدان لهما.

وحين سألته عن إمكانية الثقة بشركتين غير معروفتين قال الأستاذ رعد بأنه لم يكن لديه خيار، لأنه كان مطلوب منه تقديم تحسن خلال عام 2012، ولم تكن هناك مخصصات لذلك، فلم يبق سوى العمل بالآجل, وقال: "لم يكن لدي حل أفضل، والخيار كان أن اترك الموضوع أو اقبل بهاتين الشركتين، فإن نفذتا المطلوب منهما، كان خيراً وحصلنا على تحسن في الشبكة لعام 2012، وإن لم تفعلا، فسنلغي العقدين وكأنهما لم يكونا، وبدون أية كلفة إضافية.
 
وعن الإجراءات التي اتخذتها الوزارة لضمان سلامة الصفقة، قال أن الشركتين لا تنتجان المولدات بل تشتريانها من الشركات الكبرى، فتلك هي الوحيدة التي تنتج هذه المولدات، وبالفعل إتصلنا وعلمنا أن الشركة الألمانية متعاقدة مع كل من "رولز رايس" و "مان"  وتوجهت الكندية إلى كاتربلر، التي اتصلنا بها للتأكد فقالوا أن الشركة الكندية مازالت تتفاوض معهم وان العقد معها لم يتم بعد.

إضافة إلى ذلك، فالمهم في العقود اكثر هو البنك الضامن. بالنسبة للشركة الكندية كان الضامن لها هو بنك التصدير والإستيراد الأمريكي (BANK  Ex-Im)، أما الشركة الألمانية فكان الضامن لها هو بنك التجارة العراقي (TBI)، وبالتالي فالموضوع لا شائبة مالية عليه.

عدا هذا فالعقد ينص على أن تسليم قيمة العقد إلى الشركتين، لن تتم إلا بعد تسليم المحطات كاملة وتشغيلها لمدة سنة كاملة، وعندها يتم تسليم الشركة 50% من قيمة العقد، على أن يسلم النصف الثاني بعد السنة الثانية من التشغيل.

أخبرت الأستاذ رعد أن كل شيء يبدو لي سليم، إن كانت تلك الإجراءات قد اتخذت بالفعل، فما هو السبب في تلك الضجة إذن؟ فضحك وقال أعتقد ان البعض لم يفهم الموضوع، لكن بلا شك هناك من يتعمد الأذى. أما السبب فقال أن سياسة الوزارة تسببت في خسائر كبيرة لجهات قوية ومؤثرة مالياً وسياسياً، محلياً ودولياً.
وحين طلبت منه ان يشرح لي الأمر بتفصيل أكثر، قال:

أول جماعة تضرروا هم من يسمون جماعة "الإستثمار" ، وهي شركات لا علاقة لها بالإستثمار في الحقيقة، إنما تعمد إلى استعمال مكائننا وإكمال نواقصها ثم نشتري منهم الكهرباء بعقود طويلة. إنهم يقولون أنهم "يستثمرون" اموالهم في الكهرباء ومن هنا جاء الإسم.

أما قصة هؤلاء فهي كما يلي: الوزارات السابقة استوردت عدداً من المولدات من نوع "تورباين جنريتر" بطاقة كلية 3300 ميكاواط ، رغبة منها في حل مشكلة الكهرباء بسرعة. لكن التخصيصات انتهت ولم يكن لديهم ما يكفي لبناء المحطات اللازمة لتشغيل هذه التوربينات. فلجأوا إلى فكرة "الإستثمار".
وهذه تتلخص بأنهم عزلوا 22 تورباين منها، من نوع (GE) طاقة الواحد منها 125 ميكاواط تعطى لمستثمري القطاع الخاص على أن يدفع ثمنها بعد سبعة سنوات. ويقوم المستثمر ببناء المحطات اللازمة للتوربينات، ويبيع لنا الكهرباء بسعر 3,67 سنت للكيلو واط \ ساعة ولعقد مدته 25 سنة، ويكون تجهيز الوقود على حساب الوزارة.

هذا كان الحال في الوزارة السابقة. حين جئت إلى الوزارة، راجعت الأسعار ووجدتها عالية، وقررت مفاوضة "شركات الإستثمار" هذه، وتخفيض السعر إلى 3 سنت فقط. وحين عرضت الفكرة على المهندسين في الوزارة أعتبروا تلك فكرة طموحة توفر الكثير من المال، وقالوا بأن الشركات لن توافق على ذلك.
لكني عدت فسحبت أننا حتى في حالة سعر 3 سنت، فأننا نخسر كثيراً، وأن العقد مازال ظالماً حتى بـ 3 سنت، حيث أن الوزارة سوف تدفع لـ "المستثمرين" مبلغ نصف مليار دولار (500 مليون) في العام الواحد. وحسبت أن الوزارة تحتاج إلى 880 مليون دولار لكي تبني بنفسها المحطات اللازمة لتشغيل التوربينات الـ 22. ولم نكن بحاجة للمبلغ كله مرة واحدة، فيمكن تقسيم المبلغ على سنتين، كل سنة 440 مليون دولار.

إذن كان أمامي الخيار بين حلين: أما أن ندفع نصف مليار دولار كل سنة ولمدة خمسة وعشرين سنة، وفي نهايتها لا تملك الدولة شيئاً، فالمحطات تبقى للشركات. أو أن ندفع 440 مليون دولار لمدة سنتين، ونبني المحطات بأنفسنا وتبقى لنا. وهكذا قررت إلغاء التعاقد مع شركات الإستثمار، وخصصنا ما لدينا من تخصيصات لهذا المشروع (ومن هنا كنا مصرين على أن تكون المحطتين الكندية والألمانية بالدفع الآجل)، وبالفعل تمت إحالة المجموعة الأولى للتنفيذ وبأقل من الكلفة التخمينية (الـ 440 مليون دولار) التي قدرناها.
ومن الطبيعي أن هذا تسبب بفقدان شركات الإستثمار فرصة إثراء هائلة على حساب العراق.

أما على مستوى الشركات الكبرى، فأن الوزارة السابقة كانت تتفاوض مع شركة سيمنز لبناء 4 محطات مختلفة الحجم، وكان سعر سيمنز الكلي هو 1815 مليون دولار. ومع الإنشاءات المدنية يقدر أن تصل الكلفة للمحطات الأربعة إلى ما يقارب 2 مليار دولار.

بعد لقاءين مع سيمنز، أوقفت المفاوضات واتجهنا إلى الشركات الأخرى، وبالفعل تمكنا من إحالة أكبر تلك المحطات إلى شركة أوراسكوم بمبلغ 376 مليون دولار، ويقدر أن تصبح الكلفة الكلية للمحطات الاربعة بضمن الأعمال المدنية بحدود مليار ومئة مليون دولار، أي ما يزيد قليلاً عن نصف سعر سيمنز. وهكذا أغضبنا شركة كبرى..إضافة إلى ذلك فنحن بصدد مراجعة تسعيرات الصيانة لبعض الشركات، وكذلك بعض العقود السابقة وننوي مطالبة الشركات بإعادة أية مبالغ زائدة في عقود سابقة مجحفة.

وأما على المستوى الدولي، فقد وجدت الأسعار الغربية مرتفعة، فاتجهت إلى الشرق، إلى تركيا وإيران والصين..بالنسبة لتركيا والصين نحن مستمرين في تنفيذ مشاريع تم التعاقد معها مسبقاً، كما نحاول إعادة إحياء مشاريع متوقفة. لدينا مجموعة محطات "الخيرات" في كربلاء ، عشرة محطات بطاقة 125 ميكاواط للواحدة و "نينوى" في الموصل، ستة محطات من نفس النوع. وتنفذ الصين عقد محطات واسط بطاقة 2500 ميكاواط.
الصين لم نستطع الوصول معها إلى العمل بالآجل لتعقيد آلية الدفع، لكننا حصلنا على شروط تسهيلية مثل دفع رسالة الإعتماد بجزء من المبلغ فقط، ثم يعزز في كل سنة من سنوات العمل بالعقد، وهذا خلاف المعتاد من شروط وضع المبلغ كله في البنك مرة واحدة.

أما بالنسبة لإيران، فقد كنا نتفاوض مع شركة "الستوم" الفرنسية على محطة في المنصورية تتكون من أربعة مولدات بحجم 182 ميكاواط للواحدة. وفي زيارتي لإيران أبدت أستعدادها لبناء نفس المحطة بمبلغ يقل بمقدار 118 مليون دولار عن سعر "الستوم".
كذلك أتفقت معهم على شراء إجزاء تبديل (spare parts) بنصف السعر الذي تقدمه سيمنز و جنرال إليكتريك (GE).

وسألت الأستاذ رعد شلال عن موضوع الدفع لإيران، حيث أني قرأت خبراً يفيد بأن وزارة الكهرباء مدينة لإيران بمبلغ 200 مليون دولار لم تستطع دفعه بسبب إشكالات مصرفية، فهل تم تحقيق ذلك؟ فأجاب:

حتى الآن لم يتم ذلك، والمشكلة تتلخص بالشكل التالي. هناك شروط أن لا يتم فتح أي اعتماد إلا من خلال المصرف العراقي (TBI)، وهذا المصرف تم تأسيسه امريكياً، ويرتبط بما يسمى بالمصرف المراسل، وهو مصرف "جي بي موركان". وبسبب المقاطعة الأمريكية لإيران، فهي تهدد أي مصرف أمريكي يتعامل معها بالعقوبات، وبالتالي يرفض "جي بي موركان" أن يقوم بالتحويل من خلال المصرف العراقي المرتبط به، وهذه الحالة تشمل كل المصارف الأمريكية. ومن الغرائب في بنك التجارة العراقي، هو أن القانون يجبر الوزارات العراقية على وضع كل اموالها فيه، ولا يدفع لها أرباحاً، في الوقت الذي يشغل تلك الأموال بإرباح لحسابه، فيصبح من مصلحته أن يؤخر أو يعرقل المشاريع لأنها تسحب المال منه. لو كان هناك بنوك منافسة لكان الأمر مختلفاً، لكنه يحتكر التحويلات التي من مصلحته أن يعرقلها.

سألته: هل لمنع التحويل لإيران علاقة بقرارات مجلس الأمن بشأن إيران؟ وإن كانت المشكلة مازالت قائمة فكيف ستوقعون العقود المخطط لها مع إيران؟
فقال: المشكلة لم تحل بعد، ولا علاقة لها بمجلس الأمن أو الأمم المتحدة بل هي قرارات مقاطعة إقتصادية أمريكية فقط. أما الحل فقد اقترحت على مجلس الوزراء أن نتعامل مع بنك آخر فيما يتعلق فقط بالعقود الخاصة بإيران، وأنتظر نتيجة الإقتراح.


هذا ما كان من حديثي مع الأستاذ رعد شلال، وزير الكهرباء الذي تمت إقالته بسرعة مثيرة للدهشة قبل ساعات، وبدون استجواب، وهي مليئة بالأسماء والأرقام التي يمكن التحقق من صحتها بسهولة تامة لمن يريد. لم يكن الاستاذ رعد يعلم أثناء ذلك الحديث أن قرار إقالته كان قد كتب على عجل في مكان ما، وأترك حديثه بلا تعليق أمام القراء.

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6383#comment34307


81
صدقت "الشرق الأوسط"، - حكومتنا تدعم نظاماً قمعياً في الجوار بمليارات الشعب!

صائب خليل
6 آب 2011

قالت "الشرق الأوسط" السعودية، أن العراق بصدد تقديم دعم بمقدار عشرة مليارات دولار الى سوريا، تنفيذا لأوامر إيرانية وأن «المالكي رضخ لهذا المطلب الإيراني وقام بالفعل بدعم الرئيس السوري بشار الأسد ماديا». (1)
ونفت الحكومة ا لعراقية الخبر على لسان حسن السنيد الذي قال "لايمكن للحكومة الإقدام على خطوة مماثلة في حين يسعى العراق للحصول على مساعدات مالية من دول العالم لبناء بنيته الإقتصادية من جديد". مؤكداً أن "الحكومة العراقية لا يمكن أن تقدم مساعدات للأنظمة القمعية في العالم بضمنها النظام السوري" (2)

لقد بينا في المقالة السابقة  أن قصة "الشرق الأوسط" ملفقة، وأنها "ضغط إستباقي" يهدف إلى تخويف الحكومة من بناء علاقات أقوى مع سوريا أو إيران، وما نزال نعتقد ذلك، لكننا نرى الآن أن القصة ليست ملفقة بالضبط، وإنما "غير دقيقة".  فهناك فعلاً عشرة مليارات دولار قدمت وتقدم، وإلى نظام قمعي عربي بالفعل، وأن كلام السنيد عن رفضه مبدئياً، ليس صحيح على الإطلاق. أي أنه من الناحية المبدئية فقصة "الشرق الأوسط" سليمة، لكنها مخطئة بالتفاصيل. فالحكومة التي قدم وتقدم لها المليارات ليست سوريا، إنما دولة قريبة منها جداً. لننظر إلى القصة. (3)


في حزيران 2008 سافر المالكي ليعقد اتفاقية نفطية جديدة لم تكن سوى حلقة أخرى في سلسلة الإتفاقيات النفطية "غير المفهومة" مع حكومة الأردن (4)
وتم الأمر بدون استشارة البرلمان في مسألة من اختصاصه. وجاءت تلك الإتفاقية ضمن سلسلة إتفاقيات غير مفهومة، شكلها مساعدة عراقية للأردن، لكنها أشبه ما تكون بحالة ابتزاز منها إلى المساعدة، فهي مساعدة تتجه بعكس قوانين التأريخ والمنطق، من دولة وشعب اضعف وأفقر إلى حكومة دولة أقوى وأغنى، و الأشد غرابة هو أن هذه المساعدة ربما تمثل الحالة الوحيدة في التاريخ حيث "تساعد" دولة ما، دولة دائنة لها، ودون أن يؤثر ذلك على قيمة الديون!!
هذا الدين اتى كما يشرح جهاد ابو العيس في "السبيل" قائلاً: "ويشار بهذا الصدد الى ان مستحقات الحكومة الأردنية على العراق تبلغ حوالي 767 مليون دينار (اردني) (1084مليون دولار) تمثل الفروقات بين ما كان يصل الأردن من نفط عراقي وما يصدره الأردن من سلع وبضائع للعراق خلال السنوات الماضية." (5)
اليس الأكرم له، أن ينتهي حاتم الطائي من ديونه قبل أن يستعرض كرمه؟

ولغرابة القضية، فقد تخللها الكثير من السرية والمراوغة والكذب أحياناً. مثلاً الناطق الرسمي في وزارة النفط عصام جهاد قال بأن الدعم "البسيط" ناتج عن "عدم احتساب أجور الحماية الأمنية، وأجور النقل للشاحنات التي تنقل النفط إلى الأردن" (6).
لكن الحقيقة هي أن الفارق المعلن هو 18 دولارا للبرميل بدون إحتساب النقل، وفي حالة احتسابه يكون الدعم بـ 22 دولار. كما أن "أجور الحماية الأمنية" لايمكن أن تكون هي التخفيض أو ضمنه، فهي ضمن الكلفة وليست مشكلة الزبون سواء كان أردنياً أو غيره، فلا يعقل أن يدفع زبائن العراق مبالغ إضافية لشراء نفط العراق لأنه بحاجة إلى الحماية الأمنية. لا أحد يدفع ذلك، فكيف "أعفي" الأردن منها؟
إحدى الحجج الأخرى هي "دعم اللاجئين العراقيين في الأردن" وتعويضه، وليست هناك اية علاقة مفهومة بين الأمرين، ولو صح الأول لكان علينا أن ندعم كل من سوريا وإيران بأضعاف ما نفعل للأردن، علماً أن من لجأ إلى الأردن من العراقيين كان يحتوي نسبة أعلى من غيره من الأثرياء الذين هربوا أموالهم إليه، وكان كالعادة المستفيد الأكبر من هروب الأموال العراقية بسبب الظرف الكارثي، وثانياً أن العراق كان يدفع عن لاجئيه تعويضاً مالياً مباشراً للأردن. وعلى أية حال، فحين انتهى موضوع اللاجئين، هل انتهى الدعم؟
ومن الحجج الأخرى الأغرب التي سيقت في الموضوع أن الأردن هو منفذ العراق في استيراد وتصدير حاجاته، ولم أسمع بدولة تعوض أخرى عن مثل هذا، فالدولة "المنفذ" أو "المعبر" هي المستفيد الأساسي من ذلك وتتسابق الدول لتشجيع استعمال أراضيها وموانئها وخدماتها من قبل الآخرين لتحصل على الضرائب والترانزيت وتشغيل المرافق والناس، فلماذا يجب أن ندفع للأردن بدلاً عن هذا؟ هل هو الممر الوحيد الذي بدونه سيختنق العراق؟ وهل يهددنا الأردن بخنقنا إن لم ندفع "خاوة"؟ الممرات في كل مكان تبحث عن مستفيد منها، وليس العكس.
فوق كل ذلك يدفع العراق ما يقارب الـ 50 مليون دولار شهريا (2008) كاستحقاقات الى الجانب الاردني نتيجة عقد المؤتمرات وتكاليف الايفادات الرسمية العراقية وتكاليف الاقامة المؤقته والدائمة واستحقاقات اخرى. إضافة إلى كل ذلك فأن العراق هي سوق البضاعة الأردنية الأولى، بل أن صادرات المملكة الى العراق احتلت المرتبة الاولى عربيا خلال عام 2009 حصل الأردن من خلالها على ما يتجاوز 700 مليون دولار كما افاد البنك المركزي الأردني(7)
والأدهى من ذلك أن الأردن على ما يبدو يستغل هذا الوضع لترويج البضاعة الإسرائيلية في العراق تحت غطاء أردني وعمولات تحصل عليها المملكة.(8) فمن المستفيد من الآخر ويعيش عليه؟
حين تكثر المبررات غير المعقولة، تشك أن وراءها سبباً لا يقال!

معاملة الأردن للعراقيين وحكومتهم

هل عامل الأردن العراق بالمثل على هذا الدلال غير المفهوم؟ العكس تماماً والقصص كثيرة جداً، فحتى في التجارة التي يفترض أن يحصل العراق على موقع خاص منها، ولكي تكون كل تلك التجارة مقصورة على الجانب الأردني، فأن الأردن ضيقت على رجال الأعمال العراقيين بحجج أمنية واضطرتهم للمغادرة خارج الأردن، حسب ما قال السفير العراقي في عمان، سعد الحياني.(9)

أما عن المعاملة في الحدود وفي المطار فيتذكر العراقيون قصصاً مؤلمة لم تقتصر على المواطنين العاديين واللاجئين، فيتم احتجاز برلمانيين في مطار الأردن وأن يتم طرح هذه المشكلة في البرلمان العراقي، وإلى دعوة منظمات شعبية إلى مقاطعة البضاعة الاردنية لسوء معاملة العراقيين في مطار عمان (10).
وشرحت صحيفة واشنطن بوست كيف تقوم شرطة الحدود الاردنية برد مئات المركبات العراقية يومياً على أعقابها من نقطة حدود الكرمة ، ومن دون تقديم أية إيضاحات وشملت تلك المعاملة ممثلي منظمات المجتمع المدني وحتى دبلوماسيي السفارة العراقية الأمر الذي دعا مجلس محافظة ميسان الى منع سفر أعضاء المجلس ومسؤولي المحافظة الى الاردن على خلفية الممارسات الاستفزازية والطائفية من قبل الجانب الاردني ووصل الأمر الى الغاء الأردن جوائز المسرح لفوز العراق بها وحين تم اعدام صدام قام مجلس النواب الأردني بقراءة سورة الفاتحة وتأبين له في افتتاح إحدى جلسات البرلمان.
كما أقامت عوائل انتحاريين إردنيين قتلوا عراقيين بتكريمهم. فكشفت إحدى الصحف الأردنية أن الانتحاري الذي فجر نفسه بين المواطنين في مدينة الحلة و اوقع 118 قتيلا  هو أردني (رائد منصور البنا) ، وأن عائلته هناك أقامت حفلاً تلقت فيه التهاني ضمن أعراس عديدة قد أقيمت من قبل في مدينتي السلط والزرقاء وحين احتجت الحكومة العراقية، غضبت الحكومة الأردنية لما اعتبرته إهانة لهم.

ورفض الأردن الحديث عن اية اموال مهربة من قبل اعضاء النظام السابق والتي قدرت بمليارات عديدة من مصادر مختلفة كما وقف بتصلب شديد تجاه الأموال العراقية المجمدة (11) وحين طلب العراق من الأردن شطب بعض الديون المستحقة، أسوة بالمجتمع الدولي"، رفضت الأردن أي شطب، وكان الساسة الأردنيون شديدي القلق من ان يتم اعفاء العراق من ديونه، إذا ما تم اعتبارها ديوناً فاسدة. والسبب هو قلق على النسبة الضئيلة التي ستصيب الأردن من ذلك، لذا تمنوا، وربما عملوا على أن يفرض على العراق ان يدفع ما يزيد مجموعه على 120 مرة بقدر الدين الأردني. لكن الكرم الأردني على العراق تمثل بعرض لشطب ديونه على العراق ان تشطب دول نادي باريس الدائنة للأردن، كمية من ديون الأردن تساوي ضعفي المبلغ المطلوب من الأردن شطبه على الجانب العراقي!
كذلك رفضت الحكومة الاردنية الإستجابة للمطالبات العراقية باعادة مبلغ 480 مليون دولار اودعه احد المطاردين قضائيا في قضايا فساد وزارة الدفاع العراقية ايام وزيرها حازم الشعلان إضافة إلى الاموال العراقية المهربة التي اودعها حسين كامل في بنوك الاردن والتي تقدر باكثر من (5) مليارات دولار والتي استحوذت عليها زوجته رغد صدام المطلوبة للحكومة العراقية.

موقف الحكومة  العراقية الغريب

موقف الحكومة العراقية محير تماماً، في تفضيلها دعم حكومة الأردن على حل مشاكلها ومشاكل شعبها المهولة. كانت "مساعدة" الأردن تبدو أمراً مقدساً غير مطروح للنقاش. وزير التخطيط العراقي بابان مثلاً انتقد دولته لأنها "تحولت الى منظمة خيرية",بابان منزعج لأنها تعطي مواطنيها "غير المنتجين" رواتب بشكل "بطاقة تموينية" و "شبكة حماية اجتماعية" و شهداء وذوي احتياجات خاصة...الخ، ولا يذكر الدعم الذي يستعصي على الفهم الى "الإشقاء" الأكثر رفاهاً في الأردن! عدا هذا وقفت جميع الكتل موقفاً صامتاً غريباً، وأبعدت الموضوع حتى عن خلافاتها وتصيدها الأخطاء بعضها للبعض الآخر، وكأن هذا الموضوع شيء مقدس فوق الخلافات!

كم برميل هو الإتفاق الحقيقي؟ وكم هو الدعم الحقيقي؟ وهل هناك كمية مجانية سرية؟

تتناقض الأخبار فيما يتعلق بعدد البراميل المتفق على دعمها للأردن. فتشير بعض الأخبار الى انها ستبدأ بـ 10 الاف برميل لتصل الى 30 الف برميل يومياً، وهناك اخبار اخرى تقول انها ستصل الى 50 الف برميل، وفي مكان اخر يقول الناطق الإعلامي باسم وزارة النفط العراقية عاصم جهاد لـ (أصوات العراق) ان ما سيستورده الأردن من العراق هو "70 - 100 ألف برميل يوميا والكمية قابلة للزيادة"!
كذلك تضاربت الأخبار حول كمية الدعم للبرميل الواحد الذي تنص عليه الاتفاقية التي وقعت بين الأردن والعراق في أب 2006 ، فذكرت بعض الأخبار ان كمية الدعم "لم يعلن عنها" وفي اخبار اخرى انها 10 دولارات للبرميل الواحد  ثم اعلن انها 14 دولار لتستقر على مبلغ 18 دولار للبرميل الواحد ، وفي خبر اخر مثير للإنتباه  ان الإتفاقية تتضمن كمية مجانية غير محددة!: "مبدئياً، سيتم تزويد الأردن بعشرة آلاف برميل يومياً، يتم زيادتها مستقبلاً، كما سيتم تزويده بكمية مجانية لم يتم تحديدها بعد" ، لكن لم يأت على ذكر تلك الكمية في الأخبار اللاحقة! (12)

قال الوزير بيان جبر صولاغ الذاهب الى الأردن عام 2008: "ان العراق بجميع مسؤوليه يعمل جاهدا على مساعدة الاردن الذي لم يأل جهدا في الوقوف الى جانب العراق حتى في اصعب الظروف". ويقول بأن بلاده "جددت قرارها اخيرا بتزويد الاردن بجزء من احتياجاته النفطية ودراسة زيادة الكميات مستقبلا وباسعــار تمكن المملكة من مواجهة التحديات التي تواجهها".
أترك هذا للعراقيين بلا تعليق ليحكموا عليه.

كمية النفط المصدر المدعوم تبدو غير واضحة.  فقد تدرجت في التصريحات بين الواقع والمخطط فاختلطا، من 10 الاف برميل يومياَ إلى 30 الف الى 50 الف الى 70% من حاجة الأردن ( = 70 الف برميل يومياً) واخيراً الى 100 الف برميل يومياً وهي الحاجة الكلية للأردن، مع عبارات غامضة عن "امكانية زيادة الكمية مستقبلاً".
وكذلك تزايد الدعم بشكل تدريجي ابتداء من الحديث عن ان "الأسعار التفضيلية اصبحت من الماضي" الى دعم قدره 10 دولارات للبرميل الى 14 دولار واخيراً صرح علي الدباغ في أيلول 2007 بأن مجلس الوزراء وافق، على "تخفيض إضافي بمبلغ أربعة دولارات للبرميل، و تحدد سعر البرميل المباع للأردن بسقف ثابت هو 18 دولارا أدنى من المستوى العالمي". أما صولاغ فيترك الباب مفتوحاً لزيادة لا يحددها سوى كونها "اسعار تمكن المملكة من مواجهة التحديات التي تواجهها"!
أما التحديات التي يواجهها العراق، فلا أهمية لها على ما يبدو.

ما هي قيمة الدعم الذي قدمه العراق للأردن حتى اليوم؟

. يكتب محمد النجار في مقالة له قبيل الضربة الأمريكية عن الخسارة الأردنية المتوقعة في حالة ضرب العراق،
"ويلحق بامتياز الحصول على النفط بسعر تفضيلي والحصول على ما يقارب نصف حاجات الاردن «مجانا» امتياز لا يقل اهمية برأي مراقبين وهو ان الاردن لا يضطر لدفع ثمن فاتورته النفطية للعراق بالعملة الصعبة،"
ويقول النجار: "ان اقل التقديرات تشير الى ان الفاتورة النفطية الاردنية ستبلغ مليار دولار، مما يعني انها ستزيد عمليا من (650 الى 700) الف دولار على اقل تقدير"
أي أن ما خسره العراق خلال 12 عاماً، لحين سقوط صدام، يبلغ حوالي 8 مليارات دولار، والعداد مستمر بالعد بعد "التحرير" وتوقيع الإتفاقيات وحتى اليوم!

الفضيحة الأخرى

حين بدأت الحرب الأمريكية وعجز العراق عن تقديم "الجزية" النفطية المفروضة عليه، تم تحويلها مؤقتاً الى السعودية والكويت والأمارات. وبعد سنة من تدفق النفط الخليجي البديل الى الأردن كشف نائب في البرلمان الكويتي وثائق خطيرة احرجت الحكومتان الاردنية والكويتية التان التزمتا الصمت تجاهها. فقد بين احمد السعدون ان الأردن طلبت من الكويت بيع النفط المخصص للأردن وتغيير وجهة عائدات المنحة النفطية الكويتية من البنك المركزي الاردني الى حساب شركة (Free Market Petroleum) الأمريكية الخاصة (5) التي يمتلكها رجل من اصل تركي!

وكشفت تداعيات القضية وثائق خطيرة اخرى منها ان الحكومة الكويتية كانت قد اخفت اتفاقية مع الأردن تجدد فيها المنحة النفطية لمدة ثلاث سنوات، وهو الأمر الذي سبق وانكرته كل من الحكومتين الأردنية والكويتية, مما اثار الكثير من الريبة. وطبعاً لم يبلغ البرلمانين الكويتي والأردني بموضوع هذا التجديد ولا بموضوع تحويل المنحة الى الشركة الأمريكية.
على اثر ذلك وجهت الاتهامات للاردن بان اموال المنحة الكويتية حولت «لاشخاص وليس للدولة»، وقال النائب مسلم البراك "…هل يعقل ان تصبح مؤسسة البترول وسيطا لبيع النفط للأردن وتحويل مبالغ المنحة لصاحب شركة تركي؟!" واضاف :"ان اموال المنحة النفطية لم توجه الى الشعب الاردني."
من الجانب الأردني كشف النائب عبد الرحيم ملحس انه وجه سؤالا للحكومة العام الماضي حول اعادة ناقلة نفط من ميناء العقبة الا ان الحكومة اجابته يومها «باجابة لا علاقة لها بموضوع السؤال»، وقال ملحس: «بعدها سألت معالي وزير المالية عن البند الذي توضع تحته اموال المنح النفطية في الموازنة العامة فلم اجد منه اجابة»

ليس مفهوماً لنا لماذا يحس النائب الكويتي بمسؤوليته عن ثروة بلاده والعراقي لا، ومسؤولية النائب العراقي تماثل مسؤولية السعدون على ثروة بلاده مضاعفةً بالفارق بين رفاه الكويتي وفقر العراقي والفارق بين تأثير "المنحة" على كل منهما! (13)

ما الذي يحدث الآن؟

هذه المعلومات كلها نشرتها منذ ثلاث اعوام، فما الذي حدث خلال ذلك؟ وما الذي يحدث الآن؟
لنقرأ الأخبار، أولاً وحسب علمي فأن الأردن لم تدفع حتى الآن حتى ثمن النفط المخفض، وأن الإبتزاز بأبشع أشكاله الأخرى مازال مستمراً . هل قرأتم هذا الخبر مثلاً؟: الأردن يستلم 50 مليون دولار تعويضا عن أضرار بيئية جراء غزو الكويت وقالت الوكالة الاردنية للانباء التي نقلت الخبر ان حصول الاردن على هذه الدفعة بعد الجهود المتواصلة التي بذلتها الحكومة خلال الفترة الماضية مع المجلس الحاكم ولجنة التعويضات في الامم المتحدة مع مساعي العراق للخروج من البند السابع من ميثاق الامم المتحدة ، واشارت الوكالة الاردنية الى ان حصة الاردن من برنامج التعويضات البيئية كانت تصل الى 160 مليون دولار وهي الاعلى مقارنة بدول المنطقة التي حكم لها بالحصول على التعويضات. (14)
الأردن يتضرر بيئياً من احتلال الكويت؟ أكثر من أي بلد آخر؟ عشرون عاماً وهذا الإبتزاز مستمر!

عفواً، ليس "مستمر" فقط،... الاردن يطلب من العراق تزويده "بكميات اكبر" من النفط الخام لتعويض الغاز المصري (15). وقالت الحكومة الأردنية أنها تريد ايضاً أن يضاعف العراق تخصيصاته للأردن لأن الأردن "يتوقع ان يتضاعف استهلاكه من الطاقة الكهربائية في السنوات العشر المقبلة"!

ولا تتصوروا أن الأردنيين ممنونين لهذا الكرم الطائي، بل هم الغاضبون علينا، ويحسون أن العراقيين يسلبونهم "حقهم" الذي اعتادوا عليه أيام صدام حسين، لذلك نجد أن النائب خليل عطية يترحم على "الرئيس العراقي الراحل" فيقول:
"في مناقشات الموازنة العامة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والمتفاقمة، التي يعاني منها إقتصادنا الاردني نفتقد الشهيد البطل صدام حسين يرحمة الله الذي كان سنداً وضهيراً للأردن وشعبة، فمن منا لا يذكر منحته البترولية التي كان يهديها للشعب الاردني دون منة وإعطاء الأولوية في التعاون الإقتصادي مع الاردن مما كان ذلك يشكل داعماً أساسياً لإقتصادنا الوطني فعشنا في تلك الأيام في بحبوحة من العيش".(16)
وهذه برلمانية أردنية في كلمة لها بمؤتمر لمنظمة مجاهدي خلق في باريس قبل أسابيع، تهين وتهدد:
"أيها الإخوة والأخوات، لقد جاوز الظالمون المدى , وحق الجهاد وحق الفداء ....وتزكم أنوفنا روائح الخيانة والدناءة من فعال المالكي وزبانيته الملالي في بغداد. نلتقي ولا زالت جثامين الشهداء طرية ندية معطرة بعبير الصمود والفداء ..... فإما حياة تسر الصديق، وإما مماتًا يغيظ العداء، ..." (17)

أليس من حق المواطن العراقي أن يتساءل عن هذا السر العجيب، والحب المتفاني من جانب حكومته تجاه الحكومة الأردنية، وهي تهينها وتمعن في إهانتها، فلا تلقى منها رداً سوى المزيد من "الدعم"؟ أليس من حقه أن يتساءل عن سر "الأردن" المقدس الذي لا تفكر أية جهة سياسية في وضع ابتزازه لبلادها وإهانته لحكومتها على طاولة البحث؟ كيف تغلب هذا التقديس المجهول، ليس فقط على وطنية الوطنيين من العراقيين، بل أيضاً، على قومية القوميين المتعصبين من الأكراد فلم يحاسبوا العرب على تبذير أموالهم، والطائفيين من الشيعة فلم يحاسبوا السنة من الحكومة عليها، والمتربصين من السنة فلم يطاردوا الحكومة ويطالبوها بتفسير لتضييع أموال الشعب! كيف نسى كل هؤلاء، الأخلاقيون منهم وقليلوا الأخلاق، خلافاتهم وصراعهم المرير الذي أنهك الشعب العراقي، حينما وصلوا إلى موضوع دعم حكومة الأردن؟

لم تكن صحيفة "الشرق الأوسط" كاذبة تماماً في ادعائها، وعندما قال حسن السنيد: "لايمكن للحكومة الإقدام على خطوة مماثلة في حين يسعى العراق للحصول على مساعدات مالية من دول العالم لبناء بنيته الإقتصادية من جديد". لم يكن صادقاً إذن! وعندما أكد أن "الحكومة العراقية لا يمكن أن تقدم مساعدات للأنظمة القمعية في العالم" لم يصدق أيضاً!

ما هو السر الخاص بالأردن للتحمل من أجله حكومتنا كل هذا الإحراج؟ أنا لا أعرف ما يميز هذا البلد سوى كونه الدولة الأكثر تسويقاً للبضاعة الإسرائيلية في العالم العربي، فهل هناك شيء آخر لا أعرفه؟ من أجل ماذا خسر العراق أكثر من عشرة مليارات من العقود المباشرة المعلنة فقط، ، وعن أي شيء يتم دفع أكثر من نصف مليار دولار سنوياً للاردن عن إقامات وقاعات اجتماعات وما أشبه؟ هل نحن دولة عظمى أم دولة حائرة أين تذهب بكثرة أموالها ورفاهها ماذا؟ ما هذه العلاقة المظلمة المريبة، وما الذي يخطط لها في المستقبل في حقيقة الأمر ، من خلال تطوير خطوط الأنابيب والسكك وبناء المصافي هناك؟ إن كان الإبتزاز المعلن الحاضر بهذا الحجم فكم هو الإبتزاز الحقيقي، وكم سيصبح بعد إكمال منشآت البنية التحيتة هذه؟ دعوني اطرح السؤال مباشرة: هل تجبرنا أميركا على دفع "حصة" إسرائيل، من خلال دعم الأردن بثروتنا، كما اجبرت صدام ومبارك، ولم يكن لأي منهما أية مصلحة في ذلك؟

لم يكتفوا بتدمير العراق بالدكتاتوريات التي دعموها، وبالحروب التي أحرقوه بها، بل أجبروه ويجبروه في أحلك ظروفه على دفع "الخاوة" لإسرائيل والحكومات العميلة لها لعقود. واليوم يريدون من هذه الضجة، أن يسلطوا على العراق ضغطاً إستباقياً سياسياً وإعلامياً، ليردعه من التفكير بإقامة وتطوير علاقات إقتصادية مع غيرهم، وكأن العراق وثروته صار حصة أميركا وإسرائيل وعملائهما، ولا يجوز له الخروج عن هذا الخط وبناء علاقات أخرى، وإن حاولت حكومة عراقية الآن أو في المستقبل، أن تجرب الحركة خارج "دائرة الطباشير" هذه، كانت صحف "العرب" الفائزة بتكريم إسرائيل لكتابها، لها بالمرصاد، وتنناغم معها عملائها داخل العراق وخارجه وتباكوا على حكومة تبذر الأموال على الآخرين!

نعم، كانوا محقين في هذا الأخير. نحن فعلاً "نبذر الأموال على الآخرين"! لقد وعدت في مقالتي السابقة أن اقترح رداً على الصحيفة، فهل هناك رد أفضل من هذا؟
"السادة الكرام في إدارة صحيفة "الشرق الاوسط" الغراء، لقد استفدنا من مقالتكم القيمة وحققنا فوجدنا أنكم محقين في ما نشرتموه، إنما هناك خطأ في إسم الدولة التي تستفيد من تبذيرنا واسم الدولة التي أجبرت حكومتنا على ذلك، وقال سفيرها أنه "غير مخول بمناقشة المبلغ"، وقد قررنا تصحيح الخطأ ووقف دعم الحكومة غير المنتخبة لهذه الدولة ولجميع الأنظمة القمعية مستقبلاً، وبالتأكيد شعبنا أولى بأمواله، وشكرا جزيلاً لكم لتنبيهنا". هذا ببساطة هو الرد، إن كان هناك من يرد!

لا أرغب بأذى الشعب الأردني بأي شكل، لكن شعب العراق هو الأحوج لأمواله، كما أن الدعم موجه لحكومة تقمع شعبها، هذا إن تم تجاوز الفضيحة الخاصة بالتحويل للشركات الخاصة، ووصل الدعم فعلاً إلى الحكومة. ليست هذه دعوة مواجهة وصراع، بل إيقاف خطا فضيع لا مبرر له وليس له تفسير (مشرّف). إنها الفرصة المناسبة تماماً لإيقاف هذه المهزلة، خاصة وأن الأردن قد انضم تواً إلى دول مجلس التعاون الخليجي، وينتظر منهم أن يتكفلوا به مادياً، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنهم تقديمه له مقابل قوات الجيش والأمن المستعدة لمساندتهم عند الحاجة. لنقل لحكومة الأردن: لقد دعمناكم حتى صرتم خليجيون، وصار الخليج أولى منا بدعمكم.(18)

لقد فجر المصريون أنابيب الغاز التي كانت تتجه لإسرائيل والأردن بعد أن لم تعجبهم الأسعار ورفضوا الإستمرار في دفع "الجزية" التي كان يدفعها مبارك، ومثله صدام حسين، فهل يستمر العراقيون في دفعها ويدعون أن لديهم حكومة تمثلهم؟ ما الذي يقف وراء ذلك ويصرّ أن يبقي العراق في هذا الوضع الغريب المهين؟ ننتظر الرد من حكومة العراق والموقف من هذه الفضيحة من كل برلماني ومثقف فيه.

(1) http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11935&article=633888
(2) http://www.iraqicp.com/2010-11-22-05-28-38/5422-2011-08-03-17-30-59.html
(3) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6349
http://www.aljazeera.net/NR/EXERES/51CC04F1-052D-4DA9-9F99-DC8D65FE93D2.htm  (4)
(5) http://www.assabeel.info/inside/article.asp?version=519&newsid=5225&section=78
(6) http://al-vefagh.com/1385/850823/html/eghtesad.htm#s182370
(7) http://gerasanews.com/print.php?id=21047
(8) http://www.alfikralarabi.net/vb//showthread.php?t=15487
(9) http://www.aladalanews.net/?show=news&action=article&id=66446
(10) http://www.nahrain.com/news.php?readmore=13459
(11) http://www.almustaqbal.com/storiesprintpreview.aspx?storyid=41511 
(12) الروابط التي تخص معلومات هذه الفقرة لم تعد تعمل، وربما رفعت من الشبكة، لكن مكان نشرها هذا محدد في مقالاتي السابقة، لمن يريد التأكد.
 (13) إكشفوا اين اختفت المنحة النفطية الكويتية للأردن قبل توقيع المنحة العراقية ومد انابيب النفط
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=120437
(14) http://www.shaqlawa.com/forum/index.php?topic=12344.0
(15) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=4185
(16) http://www.nakhelnews.com/pages/news.php?nid=7327
(17) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5181
(18) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=48509

روابط المقالات الأصلية
الجزية السرية 1- العجائب السبعة للعلاقة العراقية الأردنية
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=119902
العلاقة المخجلة للحكومة العراقية بالحكومة الأردنية
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=120128
العراق والأردن - ديون غريبة ومفاوضات مريبة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=120246
إكشفوا اين اختفت المنحة النفطية الكويتية للأردن قبل توقيع المنحة العراقية ومد انابيب النفط
http://www.doroob.com/archives/?p=24396




82
الأكاذيب السعودية حول مساعدة سوريا ضغط إستباقي وله رد مناسب

صائب خليل
4 آب 2011

نشرت "الشرق الأوسط" السعودية، قصة ظريفة رغم وقاحتها، تدور حول عشرة مليارات دولار، "أمرت" إيران، الحكومة العراقية بتقديمها الى سوريا، وأن «المالكي رضخ لهذا المطلب الإيراني وقام بالفعل بدعم الرئيس السوري بشار الأسد ماديا». والقصة بعنوان: "قيادي في التحالف الوطني يكشف لـ«الشرق الأوسط» عن دعم مالي عراقي لسوريا" (1)

"الشرق الأوسط" استندت إلى قول لـ  "مصدر بارز في التحالف الوطني" لم تكشف عن إسمه، قال لصحفيها، معد فياض أن "السفير الإيراني في بغداد، حسن دنائي فر، نقل رسائل شفوية من مرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي، والجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، إلى قادة التحالف الوطني، كل على حدة، تتضمن ضرورة دعم الرئيس السوري ماديا وبمبلغ حدده بـ10 مليارات دولار" مشيرا إلى أن «الطلب الذي جاء بصيغة أوامر قد وافق عليه المالكي باعتباره رئيسا للحكومة العراقية».

ولكي تضيف الشرق الأوسط بعض الإخراج المسرحي، قالت أن "مصدرها" بين أن "بعض أعضاء التحالف الوطني أبدوا اعتراضهم على قيمة المبلغ وليس على مبدأ مساعدة الرئيس الأسد، لكن السفير الإيراني أبلغهم بأنه غير مخول بمناقشة الموضوع".
وذكر المصدر أن "السفير الإيراني قد أوجد للتحالف الوطني صيغة مناسبة لدعم النظام السوري، بحيث تدفع الأموال باعتبارها ضمن الاتفاقيات الاقتصادية التي تم إبرامها وتفعيلها بين بغداد ودمشق نهاية الأسبوع الماضي".

وأكملت الصحيفة الحديث عن "إجراءات من شأنها تسخير الإمكانيات العراقية لدعم النظام السوري" وأنه سوف يتم دفع الأموال "باعتبارها ضمن الاتفاقيات الاقتصادية" مشيراً إلى ترحيب المالكي بوزير الإقتصاد السوري وأمنياته بتطوير التعاون التجاري والإقتصادي بين البلدين.
كذلك أشارت الصحيفة إلى نفي "هاشم حاتم، مدير عام العلاقات الاقتصادية الخارجية في وزارة التجارة العراقية" وجود أية إتفاقيات جديدة وأن ما تم التوقيع عليه هو اتفاقيات تعود إلى سبعينات القرن الماضي، تم تعديلها لتناسب نهج السوق الحر الذي تنتهجه الحكومة العراقية حالياً. لكن الصحيفة أكدت "حسب المصدر القيادي" إن «الحكومة العراقية أبرمت اتفاقيات جديدة ... ودفعت مبلغ الـ10 مليارات دولار تنفيذا لإرادة إيرانية بحتة».

ردود الحكومة ا لعراقية جاءت على لسان حسن السنيد الذي نفى الأنباء، مشددا على أنه "لايمكن للحكومة الإقدام على خطوة مماثلة في حين يسعى العراق للحصول على مساعدات مالية من دول العالم لبناء بنيته الإقتصادية من جديد". مؤكداً أن "الحكومة العراقية لا يمكن أن تقدم مساعدات للأنظمة القمعية في العالم بضمنها النظام السوري" (2)

كذلك نفى النائب عن ائتلاف دولة القانون خالد الأسدي الموضوع كلية وقال " إن العراق بحاجة لأي مبلغ لإصلاح أوضاعه، فكيف يتبرع بعشرة مليارات دولار لسوريا". (3)

وتكمن ظرافة القصة في انها كانت "عفوية" و منطلقة في وقاحتها، ولم تشوبها تشويهات لضرورات دبلوماسبة أو صحفية أو حتى تلك الضرورات اللازمة لتمكين الأكاذيب من الوصول إلى هدفها. يبدو أن تلك الضرورات لم تعد ضرورات، فقد نقلت صحف "عليها الإعتماد" هذا الخبر بلا تمحيص، كما أن "العراقية" المشاركة في الحكم وتعرف خفاياه لم تتردد لحظة في التهديد بالمساءلة القانونية لرئيس الحكومة على إثر ذلك، على لسان القيادي زياد ذرب الزوبعي، مؤكدا على ان "العراقية ستبحث المسألة في النواب العراقي بالإضافة الى دعوة لجنتي العلاقات الخارجية والنزاهة للتحقيق في المسألة لتبيان الحقائق." (2)

لا مشكلة إطلاقاً في التحقيق وتبيان الحقائق، لكن متى كان مجلس النواب بالأمانة السامية التي تحدوه إلى التحقيق، حتى عندما تكون هناك إشارة من "مصادر مجهولة" على الغش لإتخاذ إجراءاته؟ لا مفر لنا إلا أن نتذكر المصادر الموثقة تماماً، التي رفضت العراقية أن تستمع إليها في التصويت بحجب الثقة عن المفوضية، ولا مفر لنا من أن نفترض أنه لسبب لا يعلمه إلا الله، فأن أعضاء العراقية يفضلون "مصادر مجهولة" من صحيفة سعودية، على مصادر محددة من نائبة في البرلمان العراقي.

لكن من الظلم أن نعتبر "الشرق الأوسط"، ببساطة "جريدة سعودية"، رغم أنها ممولة من السعودية، فليس كل ما تموله السعودية سعودي بالضرورة. وليس من الدقة أن نصدق أنها "جريدة العرب الدولية"، كما تكتب تحت عنوانها، فقد يكون هذا إضافة هدفها التغطية، مثل أسماء "شريف" و "نظيف" في الحكومة المصرية السابقة. أفضل من الأسماء دليلاً، هو ما تشير إليه قائمة أهم كتاب الصحيفة وتوجهاتهم، ولدينا خبر طازج، بفوز الجريدة بأعلى عدد من الكتاب الذين نالوا تكريم الخارجية الإسرائيلية، (متقدمة على "السياسة" الكويتية و "الوطن" الكويتية) من بينهم رئيس تحريرها طارق الحميد، ورئيس تحريرها السابق عبد الرحمن الراشد، إضافة غلى كتابها تركي الحمد، مأمون فندي، علي سالم، عادل درويش وأيان هرسي علي، النائبة الهولندية السابقة والصومالية الأصل التي اكتشف تزويرها لإسمها وتلفيقها القصص عن حياتها، وأنيطت بها مسؤولية تشويه ومحاربة الإسلام في هولندا قبل سنوات. (4)
وليس الأمر غريباً، فلا أذكر إني قرأت لأي من هؤلاء مقالاً واحداً يمكن أن يزعج إسرائيل، مقابل سيول المقالات التي تنطلق من سياستها مباشرة، ولو كان الأمر غير ذلك لاعتبرناه تشويها إسرائيلياً متعمداً.

مقالة "الشرق الأوسط" تأتي ضمن محاولات إسرائيلية أمريكية لإثارة الكراهية لدى الشعب العراقي مع جيرانه، وخاصة الأنظمة غير العميلة لإسرائيل، وهي تحاول هنا ضرب عصفورين بحجر: علاقة العراق بكل من إيران وسوريا، والتأكيد على سلطة الحكومة الإيرانية على الحكومة العراقية وأن الأخيرة منقادة تماماً للأولى، فالسفير "غير مخول بمناقشة حتى المبلغ!"

هذا "الخبر"، أو القصة إن شئتم، ذكرني بخبر آخر قرأته قبل فترة وجيزة، يتناقض تماماً مع قصة المليارات العشرة، يقول عنوان الخبر: "الكهرباء الأتحادية:عقوبات مصرفية على ايران تعيق تسليمها  200مليون دولار" (5)
ويبين الخبر أن وزارة الكهرباء عجزت عن سداد ديونها المستحقة لإيران، لعقود توفير الكهرباء بينهما بسبب الحملة الأمريكية الدولية لمقاطعة إيران. ويشير الخبر إلى أن" وزارة الكهرباء تعمل على توفير آليات جديدة لتنظيم عملية التعاقد مع الشركات الايرانية بما يزيل شرط التحويل إلى مصارف وسيطة عالمية لتسديد 200 مليون دولار التي تطلبها إيران للعراق جراء تنفيذ مشاريع أستراتيجة".

إذن، أليس من الأجدى أولاً ، أن يأتي هذا السفير "الرهبر" المخيف، الذي يأمر فيخر له العراقيون ساجدين، ليحاول استلام مستحقات رسمية من أموال بلاده أولاً، قبل أن "يأمر" بإعطاء المال للآخرين؟
كيف لمن يعجز ويحار بالحصول على 200 مليون دولار له، أن يأمر بتسليم الغير 10 مليارات؟

قبل فترة كتبت عن عمليات "الضغط الإستباقي" على الحكومة، الذي أشرت إليه:
"اسميته "الضغط الإستباقي" وكما يفهم من اسمه فأنه يتم تسليطه مسبقاً لمنع الحكومة (أو أية جهة أخرى) من التصرف بشكل معين فيما إذا أرادت، أو لإجبارها مستقبلاً على أن تنحو نحواً معيناً في سياستها، ويتم بناء هذا الضغط بشكل تحضيري وقبل أن تبدأ الحاجة الفعلية إليه.
ومثل "الحرب الإستباقية" فأن "الضغط الإستباقي" يغلق على الضحية بعض الخيارات مسبقاً ويجهزها لتيسير بالإتجاه "المناسب". " (6)

 وهذا مثال رائع على ذلك الضغط الإستباقي، الذي يهدف بوضوح إلى منع الحكومة العراقية حتى من التفكير بتطوير العلاقة الإقتصادية مع كل من إيران وسوريا. فرغم أن الكذبة مفضوحة ولن يتخذ على الأغلب أي إجراء بشأنها عدا الضجة الإعلامية، فأن هدفها في تقديري قد أنجز. الآن قد تهيأ الجو لمهاجمة أية إتفاقيات إقتصادية قادمة محتملة مع إيران أو سوريا، وستصرخ نفس وسائل الإعلام التي اخترعت الكذبة، وبعض تلك التي تلقفتها:
"أنظروا!! ألم نقل لكم هناك اتفاقات لتسليم المال العراقي لسوريا حسب الأوامر الإيرانية بطرق تجارية!!"
و لو تم إيجاد طريقة لسداد عقود الكهرباء مع إيران، فلن يكون التغيير كبيراً:
"أنظروا!! بعد اكتشاف أمرهم، إنهم يحولون المال المطلوب إلى إيران لتحوله إلى سوريا!!
 وستتبادل القنوات الفضائية العراقية ، وما هي بعراقية، ترديد ذلك الصدى بلهجتها المثيرة للهيجان، وعندها ستفضل الحكومة على الأغلب الإنكفاء على نفسها وقبول محاصرتها، وتقبل حتى تعطيل مشاريع الكهرباء التي تعلم مدى اهميتها للعراق، ولها أيضاً، وتعود إلى البحث عن اتفاقات ضمن المجال المسموح لها به، ولا تجلب لها وجع الرأس، حتى لو كانت في غير صالح العراق: مع الأردن والسعودية وبقية عملاء أميركا. فالعراق وثرواته، كما ترى هذه الدولة، هو من حصتها وحصة عملائها من الدول، ويجب أن تقتصر علاقاته على تلك الدول فقط!

هذا في تقديري ما حدث ويحدث، أما الرد العراقي، فهناك رد مناسب تماماً على هذه الأكاذيب، رد لا يكلف العراق شيئاً، وبلا اية مواجهة، وسنقترحه في المقالة التالية.


(1) http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11935&article=633888
(2) http://www.iraqicp.com/2010-11-22-05-28-38/5422-2011-08-03-17-30-59.html
(3) http://www.kulalakhbar-iq.com/index.php?option=com_content&view=article&id=1857
(4) http://www.albadeeliraq.com/article15744.html
(5) http://www.aknews.com/ar/aknews/2/252370/
(6) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=972


83

درس من شيوعيي سجن الحلة للمنتصرين للفساد

صائب خليل
3 آب 2011

قلنا أن فاسدي مفوضية فرج الحيدري وداعميهم لم يسجلوا انتصاراً في المعركة، فالفضيحة كانت ثمناً كافياً لتخريب أي انتصار مفترض، ولا شك أن جماهير هؤلاء الداعمين تنظر إليهم اليوم نظرة أخرى. أما فرج الحيدري فسيورث حتى أبناءه وأحفاده السمعة السيئة، وما لم يكونوا مثله فسوف يشعرون بالخجل من انتسابهم إلى فاسد مفضوح بهذا الشكل، ولن أفاجأ إن غير بعضهم إسمه.

هذا كله صحيح، لم ينتصر الفاسدون ، لكن لا بد أن نقر بأن "الفساد" نفسه سجل في هذه الموقعة نصراً واضحاً. فقد أسس هؤلاء المأسوف على موقفهم لمفهوم جديد هو أنه من المسموح به أن تدعم الخطأ والفساد، إن كنت تعتقد أن الحملة ضده "موجهة سياسياً" ، وأن خصمك هو من سيستفيد منه!

ذكرني هذا الموقف بموقف مناقض تماماً شهدته قبل زمن طويل، وطويل جداً إن قيس بأحداث العراق. كنا في زيارة لخالي المرحوم جميل منير، في سجن الحلة، وصادف أن كان نظام البكر قد أعلن تأميم النفط العراقي في تلك الأيام، وكان الشيوعيون قد اصدروا للتو بياناً يعلنون فيه تأييدهم لموقف الحكومة من تأميم النفط. إستشاط خالي الأكبر ياسين، غضباً وعنف أخاه: "كيف تؤيدوهم وهم يسجنونكم"؟
هذا ما بقي في ذاكرتي من كلمات النقاش، أما فحواه فكانت كما أذكر، جواب خالي جميل، بأن القضية قضية مبدأ، وأننا لا يمكن أن نقف ضد التأميم لأن من يقوم به هم خصومنا البعثيون، ولا يمكننا أيضاً أن نمتنع عن موقف مبدئي لمجرد أن خصومنا يستفيدون منه سياسياً.

طال الجدال بين خالي الكبير المتوتر حرصاً على سلامة أخيه وحقداً على المتسببين له وللكثيرين من رفاقه وأهلهم، بالكثير من الأذى، وخالي الآخر الذي يدرك دقة الموقف ويفهم في الوقت نفسه دوافع أخيه الأكبر الطيبة المفهومة.  كان يقول له ما معناه، "تصور أن الحزب رفض التأميم، أو حتى امتنع عن تأييده، ثم فشل التأميم، ماذا سيكون موقفنا أمام الناس غداً؟ الن يقولوا لماذا لم تساندوه وهو أحد أهدافكم بل أحلامكم ومن صميم مبادئكم؟ ماذا سنقول لأنفسنا لو تبين أن موقفنا السلبي إن اتخذناه ساهم في عودة الشركات إلى العراق وبقوة أكبر؟... الخ، حتى نجحت تلك الأسئلة في إقناع خالي الكبير، فقبل أخيه وهو يبكي.

ما نجح شيوعيو الأمس في إنجازه من الوقوف إلى جانب مبادئهم في ظرف صعب، فشلت الغالبية الساحقة من الكتل والبرلمانيين في القيام به، وهم طلقاء، في بلد ديمقراطي بدرجة ما، بل ومشاركون في الحكم. ما نجح فيه شيوعيو الأمس من دعم لمبدئهم وهم تحت السياط، ولديهم كل الحجج لمن يريد ان يتحجج، فشل فيه ممثلوا الشعب العراقي اليوم، وتحججوا بأوهى الحجج. نجح أؤلئك في نصرة مبدئهم حتى حين كان يعني انتصاراً للمقابل الذي كان جلادهم ، يكيل لهم العذاب كل يوم، بينما فشل المصوتون على إبقاء الثقة بالمفوضية رغم اعترافهم بفسادها، في الوقوف بصف مبدئهم، لمجرد أنهم رأوا أن منافسهم يستفيد منه. منافسهم، وليس جلادهم!

الحجة؟ أن ذلك المنافس "يستفيد منه سياسياً"! أليس هذا مخجل؟ أن يستفيد منافسك سياسياً من إزالة مؤسسة فاسدة خطيرة، وتستفيد أنت من بقاء الفساد؟ أي فساد في العالم، لابد أن يفيد جهة ويضر بجهة، فهل لا يتوقف البعض عند حقيقة كونهم مستفيدين من بقاء الفساد؟ وهل يحق للجهة المتضررة من إزالة الفساد أن تدافع عنه؟ وهل يكفي أن تكون تلك الإزالة مفيدة لجهة مقابلة لتبرير ذلك؟ وما العيب أن تستفيد جهة من إزالة فساد موجه ضدها، وهذا من حقها تماماً، بل من واجبها تجاه نفسها وناخبيها.

وتلك التهمة بأن الموضوع وراءه "نوايا "مسيسة"، ما هو الخطير في "المسيسة" لكي يبرر تحمل فساد أخطر مؤسسة في البلاد؟ وهل تعتمد مواقفنا المبدئية على تقديرنا بأن "نوايا" الآخر مسيسة؟
بعد الآن ، نعم! بل لا تحتاج حتى أن تكون مسيسة فعلاً لرفضها، فما جرى هو إتهام بالتسييس، دون إمكانية أو وجود الحاجة على ما يبدو للبرهان. فكل ما يحتاجه السياسي في العراق إن أقر بهذا المبدأ السيء، لكي يدعم اي فساد أو لصوصية تقتضي مصلحته أن يدعمها، أن يصرخ بأن القضية "مسيسة"!

ليست القضية إختراعاً جديداً، فقد مارسه كل اللصوص الكبار، من حازم الشعلان إلى مشعان الجبوري إلى كل وزير ومسؤول تم القبض عليه متلبساً، فصرخ أن "القضية مسيسة" . ليست القضية جديدة، لكن ما هو جديد فيها هو انتصارها الباهر هذه المرة، وسعة طيف الذين وقفوا خلفها وضد المبادئ التي يدعونها، أخلاقياً، ودينيا ووطنياً. لقد عبد هؤلاء الطريق للفاسد القادم ولداعميه. من سيستطيع أن يفتح فمه بعد الآن إن وقف "دولة القانون" غداً مع الفاسد القادم من أعضائه، ورفض التحقيق معه حتى بوجود الأدلة القاطعة التي لا ينكرها، مستعيناً بنفس حجة خصومه: أن "القضية مسيسة"؟

رسمت كاريكاتيراً يقول فيه الداعمون للحيدري له، بأنهم يقرون بأنه فاسد، لكنهم "يثقون" به. والحقيقة أني لم أكن بحاجة إلى إبداع أي شيء من عندي في هذا الكاريكاتير، فهو بالضبط معنى ما قاله هؤلاء للحيدري وللشعب العراقي، وصفقوا لأنفسهم فوق ذلك على "نجاحهم" في أن يدوسوا على ضميرهم والإمتناع عن الوقوف إلى جانب ما يدعون من مبادئ.

النقطة الخطيرة الأخرى في الأمر أن هذا المبدأ، وبفعل سعة النقاش الذي دار حوله، قد تسرب إلى ذهنية المواطن العراقي من خلال الإعلام، ولم يعد غريباً أن تدعم أية كتلة فاسديها لنفس السبب، وينتظر أن يقف ناخبوا هذه الكتلة وراء كتلتهم في دفاعها عن لصوصها، باعتبار أن الآخرين قد فعلوا ذلك. وحين سيعترض البعض، سيرتفع الناعقون بالمفهوم سيئ الصيت: "لا أخلاق في السياسة"، ويشيرون إلى تلك الحادثة كبرهان على صحة رأيهم.

لقد أتم المصوتون بالثقة، تثبيتاً لمبدأ خطر جديد في السياسة في هذا البلد، وأتمنى أن يدرك البعض منهم على الأقل، فداحة الخطأ الذي وقع فيه، والإعتراف به، وأن يبادر إلى محاولة تصحيحه. لا ادري كيف، لكنها مشكلته، ربما بدعم محاسبة النزاهة لموظفي المفوضية أو الدعوة إلى إجراءات جديدة بحقها واتخاذ مواقف تمسح الأذى المبدئي والسمعة السيئة التي لحقت به، أو إعلان انفصاله عن كتلته إن هي رفضت التراجع عن ذلك الموقف. عليه أن لا يترك الحادثة المخجلة تغور في التاريخ بشكلها الحالي. هذا بالنسبة للجميع، أما من كان منهم يخشى الله ويوم القيامة، فعليه أن يتذكر أيضاً أن دعم الفساد تحت أية حجة، مرفوض دينياً في مئات النصوص، وأنه بموقفه المؤسف، قد سن "...سنّة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".

84
عن طائرات الـ إف 16 والفائض، - ليطمئن قلبي يا رئيس الوزراء...

صائب خليل
31 تموز 2011

السيد رئيس الوزراء نوري المالكي المحترم،

نود لو أخبرتمونا يا سيادة رئيس الوزراء، لماذا قررتم فجأة، وبلا سابق إنذار، شراء ضعف عدد الطائرات التي كنتم قد رفضتم شراءها قبل اسابيع وقلتم أن هناك أولويات أخرى أهم، وأن العراق ليس بحاجة إليها؟ هل زالت تلك الأولويات، أم وصلتكم أنباء جديدة غيرت رأيكم؟ نفهم أن بناء الجيش ضروري، لكن لماذا هذا التغير السريع في الموقف؟ هل يستعد أحد لمهاجمتنا دون أن ندري أم أننا سنعلن الحرب على أحد؟

ربما يكون سؤالي التالي غريباً، لكن لماذا الطائرات من أميركا يا سيادة رئيس الوزراء علماَ أنها أغلى بمرات عديدة من نفس الأسلحة من مصادر أخرى، حسبما بينت العديد من المصادر العسكرية في مناسبات متعددة؟ هل حاولتم مفاتحة جهات أخرى غير أميركية، بموضوع الطائرات، ووجدتم أن الـ إف 16 هي الأنسب للعراق سعراً؟ أم أن تواجد القوات الأمريكية في البلاد يضغط بثقله على حرية الإختيار؟ وما هي شروط استعمال تلك الأسلحة يا سيادة رئيس الوزراء؟

قالت جهات عسكرية وسياسية عديدة أن أميركا سعت عن عمد لتأخير تسليح الجيش العراقي، وأنها لا تريده جاهزاً، لكي يكون لها الحجة للبقاء فيه. ومعروف أن الـ إف 16 التي تسلم إلى السعودية ليست كـ أل إف 16 التي تسلم لإسرائيل، بحكم فرق العلاقة، وليس من الغريب إذن أن لا تكون الـ إف 16 العراقية أكثر تخلفاً من تلك التي تسلم للسعودية، فهل لديكم فكرة عن أي إف 16 تتحدث العقود؟ وما هل التجهيزات التي ستسحب منها وما هي الأجزاء التي ستستبدل بنسخة قديمة؟ هل لدى العراق طاقم خبير يمكنه خوض مفاوضات شراء طائرات متطورة مع جهة غير موثوق بها؟

سمعنا أيضاً أنكم بصدد محادثات مع جيكيا لشراء طائرات أخرى، ألا يقلقكم أن يشتري العراق طائراته من دولتين تختلطان بإسرائيل إلى الدرجة التي يصعب تمييز الحدود بين الدولتين، وأنهما لا يرفضان طلباً لإسرائيل، وما قد يعني ذلك على مستقبل الأسلحة العراقية والجيش العراقي والأمن العراقي؟ ماذا لو قالوا غداً أن بعض قطع الغيار تصنعها إسرائيل، وأنها ترفض تقديمها لكم؟ ....مالم "تحسنوا" علاقتكم بها....؟

أقلقني أيضاً يا سيادة رئيس الوزراء قولكم أن مبالغ العقد ستسدد من "فائض" النفط المتحقق بفضل ارتفاع أسعاره. ما أدرى سيادتكم أن اسعار النفط ستبقى مرتفعة لفترة كافية لتسدد بفائضها ذلك المبلغ؟ وإن لم تبق كذلك فمن أي جهة ستستقطع تلك المبالغ؟ أم أننا سنكون مدانين للولايات المتحدة بكل ما يعني ذلك من مرارة ابتزاز جديد؟
وهل لحكومة عراقية يا سيادة رئيس الوزاراء أن تتحدث عن "فائض"؟ هل هناك "فائض" في بلد يعيش نصفه تحت خط الفقر وتعجز مؤسساته حتى عن جمع القمامة من شوارع عاصمته ويرزح فيه ملايين الأيتام والأرامل تحت الفقر وانعدام الأمل، وتبلغ فيه الأمية والتدهور الصحي مبالغ مهولة؟ لا أعرف على وجه التحديد كم ستكلف هذه الطائرات، لكن من المعطيات السابقة، يمكنني أن أقدر أنها تعني بحدود 200 دولار للفرد العراقي الواحد، ما لم يتم زيادتها لاحقاً، وهو المعتاد والقاعدة في مثل تلك الصفقات، أي أن العائلة الواحدة ستدفع ما قد يزيد عن الألف دولار لهذه الصفقة.
هل سألت عوائل العراق الفقيرة إن كانوا مستعدين لتقديم 1000 دولار لكل عائلة من أموالهم، أموال النفط "الفائضة" ، من أجل طائرات إف 16 في هذه الظروف؟ أم أنها ليست أموالهم يا سيادة رئيس الوزراء؟ وزارة الكهرباء تشكو أنها لا تملك تخصيصات لمشاريعها، وأنها تعمل بالآجل، مما يجعل مشاريعها أكثر كلفة، فأيها أهم بالنسبة للشعب في رأيك يا رئيس الوزراء؟ مدارس العراق من الطين والتنك، المستشفيات فارغة من الأدوية، الشوارع مجاري لمياه الأمطار، البطالة تخنق البلد وتقتل الأمل والتلوث ينشر الأمراض والسرطان في البلاد، والحر يقتل الناس، وتقول لنا "فائض"؟

وبمناسبة فائض النفط، لماذا تستمرون يا سيادة رئيس الوزراء بدعم الأردن في أسعار النفط؟ هل لأنهم عاملوا الشعب العراقي أو الحكومة بشكل مناسب؟ هل تنازلوا عن دينار واحد من ديونهم؟ هل هم أكثر فقراً من أبناء العراق؟ هل هذا أيضاً "فائض"؟ ولماذا الأردن بالذات يا سيادة رئيس الوزراء؟ لا أدري إن كنت قد اطلعت على سلسلة مقالات لي في هذا الشأن، أبين فيها أن الأردن يقوم ببيع النفط الذي يصله كمساعدات، لشركات مجهولة، ويضع المال في جيوب مجهولة، وأن نواباً في البرلمان فضحوا ذلك وفضحوا ايضاً أن موارد ذلك النفط لا تجد طريقها إلى الخزينة الأردنية. لقد دخل الأردن في "مجلس التعاون الخليجي" فلتدع المجلس يوفر لأعضائه النفط المخفض، وليس العراق المنهك الذي لم ينل من حكومة الأردن إلا التآمر. إني لا أرى في "مساعدة" حكومة الأردن (وليس شعبها) ، إلا ما وراء صفقة الطائرات وبقاء "المدربين" الأمريكان: إبتزازات تقوم بها أميركا لصالح جيشها وشركاتها وعملائها، على حساب شعب العراق المأزوم، فهل فرض على هذا الشعب أن يشبع لصوص الداخل والخارج؟

أميركا اليوم يا سيادة رئيس الوزراء، رفيق شديد الخطر، فهي تحت سلطة شركات في غاية الجشع وشديدة العطش للمال، وإن فتح لها مصدر مال امتصته حتى آخر قطرة فيه. لقد بلغت ديون أميركا بفعل سياسة ساستها الحربية في كل مكان في العالم وقواعدها العسكرية التي تبلغ الألف حسب بعض التقديرات، وهي تصرف على جيوشها ما تصرفه بقية دول العالم مجتمعة، في حمى عسكرية لا تعرف الحدود، حتى بلغت ديونها رقماً مهولاً لم تعرفه اميركا في كل تاريخها، تجاوز حد الـ 14,3 ترليون المسموح به دستورياً. إنهم يتعاركون الآن حول كيفية توفير هذا المبلغ، فلا تفتح الباب لخروج أموال النفط العراقي وصبها في خزانتهم التي لن تمتلئ أبداً، وكلما أعطيتهم، لم يعن ذلك بالنسبة لهم إلا إغراء بالضغط من أجل المزيد، فامتنع وابتعد عن هذه البالوعة التي لا قعر لها قدر ما تستطيع، ولا تدخل العراق فيما ادخل حكام الخليج التابعين لأميركا بلدانهم فيه فحولوا نفطهم إلى أسلحة لا ناقة لشعوبهم فيها ولا جمل، وأموال في بنوك الغرب لن يروها أبداً. وإن كان لدول الخليج "فائض" لدفع ثمن ابتزاز الشركات الأمريكية، فليس لشعبك الذي ينهشه الجوع يا سيادة رئيس الوزراء من "فائض".






85
عن المدربين - ليطمئن قلبي يا رئيس الوزراء...

صائب خليل
31 تموز 2011

السيد رئيس الوزراء نوري المالكي المحترم،

إستمعت بقلق شديد لتصريحكم بأنكم لن تمددوا بقاء القوات وأنكم قررتم الإبقاء على قوات أمريكية للتدريب وأن ذلك القرار لا يحتاج موافقة مجلس النواب. أتمنى أولاً أن تتفهموا "قلقي الشديد" هذا، وأنتم تعلمون أن السياسة عموماً، والديمقراطية خصوصاً، لا تعتمد على الثقة العمياء، وأن الشك والتمحيص أهم مقوماتها، وأن الشعب الذي لا يدقق وراء حكومته، يهمل واجبه الأساسي، ومحكوم عليه بخسارة ديمقراطيته عاجلاً أو آجلاً، مهما كانت تلك الحكومة ممتازة ونزيهة، فالسلطة تتجه بطبيعتها نحو الفساد، كما بين حكماء البشرية وتاريخها. وإذا كان القلق والشك مبرراً لبقية الشعوب، فأنه مبرر أكثر للشعب العراقي في هذا الظرف الملتبس، كما تعلمون.

تصريحكم يا سيادة رئيس الوزراء أثار أسئلة كثيرة عن مصداقية محتوى الخطاب، فالتدريب كما أفهمه، وأنا خدمت عسكريتي ورأيت وتعاملت مع مدربين أجانب، يختلف جذرياً عن تواجد قوات أجنبية مرابطة في البلاد. "التدريب" ليس شيئاً عاماً، فلسنا نتحدث عن تدريب الجيش على المسير أو ما شابه ذلك، فلا بد أن يكون كل مدرب أمريكي خبير في سلاح ما قام العراق بشرائه، فما هي تلك الأسلحة التي اشتراها العراق وهل أن جميع من سيبقى هم من المدربين على تلك الأسلحة؟ حسب علمي ليس هناك صفقات اسلحة كبيرة مؤخراً سوى ما تفضلتم به عن شراء 36 طائرة إف 16 من الولايات المتحدة، فهل المدربين كلهم أو جلهم خبراء وطيارون على هذه الطائرات؟ أنتم تعلمون أنه لم تعد هناك أسرار تخفى في نوع الأسلحة التي تشتريها دولة من أخرى، فنرجوا أن توضح ذلك للشعب ايضاً.

قلت يا سيادة رئيس الوزراء أيضاً أن إبقاء المدربين لا يحتاج إلى موافقة مجلس النواب، وهذه العبارة تقلقني كعراقي، فسبق لكم أن قلتموها عن "وثيقة تفاهم" انتهت إلى إتفاقية إشكالية لم تمر على الشعب إلا بعد جر وعر وأسماء مقلوبة المعنى، فهل هذا "التدريب" أيضاً مقدمة أو تغطية لإتفاقية طعمها سيكون مراً على الفم العراقي؟ لقد قال وزير الدفاع الأمريكي الذي تنحى قبل فترة وجيزة "العراقيون يكرهوننا، وذلك هو التحدي"، وهذا يعني أن شعبكم لا يريدهم، فهل تشاركون الشعب هذا الإحساس وبخطورتهم على البلاد؟
الأمور التي قرر الدستور أنها لا تحتاج إلى موافقة البرلمان، هي تلك التي اعتبرها غير ذات أهمية، وأنها خارج إهتمام الشعب ومضيعة لوقت المجلس، فهل ترى أن هذه القضية غير مهمة للشعب، ولا تستحق وقت المجلس؟ أم أنها قضية يهتم بها كل عراقي ، ويراها خطيرة على مستقبل بلاده، ومن حقه أن يطمئن على كيفية تصرف الحكومة بشأنها، وأن يصوت ممثلوه عليها، بغض النظر عن إسمها، وإن كان هذا الإسم يقع ضمن مساحة سلطة رقابة ممثليه أم لا.
لا يخفة عليك أن الشعب يشك بكونها قضية تدريب، فلماذا لا تعرض على المجلس، كرما منك وتأكيداً لحرصك على طمأنة المواطن وثقته بالديمقراطية حتى إن لم تكن مجبراً على ذلك دستورياً؟

المدربين، إن كان لا مفر من مدربين أمريكان في تقديركم، رغم شكوك الشعب وكراهيته لهم كما قال وزير دفاعهم، يمكن تمييزهم عن القوات التي تعمل باستقلال، فينتظر منهم مثلاً أن يسكنوا في بيوت ضيافة، وتحميهم وتراقبهم قوات عسكرية محلية، وهم لا يحتاجون إلى قواعد عسكرية ولا يسمح لهم بقوات حماية أجنبية، فهل سنرى القواعد العسكرية تختفي من كل العراق عندما لا يبقى فيه سوى عناصر التدريب؟

سؤال أخير حول الموضوع يا سيادة رئيس الوزراء: كم سيكون عدد هؤلاء المدربين؟ كيف ستتأكدون من عددهم؟ وكيف سنتأكد من أن كل من بقي، هو مدرب انتم بحاجة إليه وأن الإتفاقية لم يتم تجاوزها. إن كنتم ستعتمدون على الثقة ، بهم فأني أقول لكم بأن تاريخ أميركا الحديث لا يدع مجالاً لتلك الثقة. فعلى سبيل المثال، حصلت أميركا في عام 1960 على إذن دولي بتواجد 685 من "الخبراء العسكريين" في جنوب فيتنام، فأرسل آيزنهاور بدل ذلك سراً بضعة ألاف من المقاتلين، ثم رفعها كندي إلى 16 ألف (هوارد زن: "تاريخ  الشعب الأمريكي")، وتزايدت حتى تحولت إلى المأساة التي عرفها العالم. ماهي طريقتكم يا سيادة رئيس الوزراء لضمان أن لا يتجاوز الأمريكان الأرقام المتفق عليها أضعافاً كما فعلوا مع فيتنام، إن كانوا سيعيشون في قواعد منفصلة بعيدة عن عيون الحكومة؟ أم أنكم ستقومون بتنظيم تعداد صباحي لهم كل يوم؟


86
نظرية صائب خليل في الفرض البديل "إشكالين أسهل من واحد"

صائب خليل
30 تموز 2011

(مقالة ساخرة)
لدي قاعدة، تصح غالباً: كلما دهشت وحيرني أمر لسببين مختلفين، أستبشر خيراً، فاكتشاف تفسير للأحداث يزيل حيرتين معاً، أسهل من اكتشاف تفسير يزيل حيرة واحدة. قد يبدو الأمر غريباً لكن لا تتعجلوا سأشرح لكم الفكرة ولكم ان تحكموا.

طالما أثار علاوي استغراب الجميع برفضه التام والمزمن لأن تطأ قدماه البرلمان. وهذا الأمر الإشكالي الغريب الأول، الذي يصعب تفسيره، فالمعتاد، أن يهتم البرلماني بمصالح ناخبيه ويدافع عنها، أو على الأقل يتظاهر بذلك من أجل الإنتخابات القادمة...هذه هي الفرضية المنطقية الأولى، وبشكل عام هذا هو حال البرلمانيين في العراق وحتى العالم، إلا علاوي، فكان تصرفه يناقض هذه الفرضية الأساسية، ويرفض حتى حضور الجلسات، ومهما كان موضوعها خطيراً.

ربما يفسر الأمر كون الرجل كسول أو متكبر لو أنه بقي متمنعاً عن الحضور، لكن السحر كسر أخيراً على ما يبدو، وجاء علاوي أمس مثل أي برلماني إلى قاعة المجلس، ودافع عن المفوضية في جلسة التصويت على سحب الثقة منها، ولم يكتف بالتصويت بل تحرك كثيراً وصفق كثيراً وجعل الجميع يراه ويسمعه، مما أدهش الجميع لهذا التغيير الغريب في سلوك الرجل، وهذا التغيير هو الإشكال الأول أو "الحيرة الأولى".

لننظر إلى "حيرة" أخرى. يفترض بالمفوضية انها "مستقلة" و "حيادية" لتستحق "الثقة"، وبالتالي فهي ليست من مصلحة أحد ولا ضد أحد، وبالتالي لا ينتظر من أحد، خاصة إن كان براغماتي يبحث عن مصلحته مثل أغلب السياسيين، وعلاوي بالتأكيد كذلك، لا ينتظر منه أن يتحمس لها بشكل شديد أو يكرهها بشكل شديد. وإذا كانت مثل هذه المفوضية متهمة بفساد فينتظر من الجميع أن يتخلوا عنها، بل يتباروا في التخلي عنها ليبينوا أنهم ضد الفساد أمام التلفزيون والناس.
الذين صوتوا ضد المفوضية، قالوا أنها ليست حيادية، وبالتالي لا غرابة في تصرفهم، ويمكنهم تبرير كرههم للمفوضية وحماسهم لإزالتها. لكن الذين دافعوا عنها وأعطوها الثقة، يفترض ضمناً أن يكونوا قد اعتبروها حيادية، على الأقل إلى درجة تكفي للمخاطرة بالسماح لها لقيادة بلادهم في انتخابات جديدة، لكي تستحق الثقة. لكنها إن كانت حيادية فهذا يعني أن لا مصلحة لأحد ببقائها أو زوالها. بل مادامت سمعتها قد أصابتها لوثة، فمصلحة الجميع المباهاة بالتخلي عنها، فما الذي جعل علاوي يتحمس لجلسة الدفاع عن المفوضية بالذات ويحضرها على غير عادته، ويتحدث بحماس مدافعاً عنها ويصفق طرباً لنجاحها في البقاء على قيد "الثقة"؟ هذه هي الإشكالية أو الحيرة الثانية التي نبحث عنها لتساعدنا على الحل.

وبالفعل فأن الإشكالية الثانية تدفعنا إلى أن نرى أنه لا بد أن ما قلناه كان "خلاف الفرض" وأن التفسير الوحيد لحماس علاوي ورهطه، إذا استبعدنا التهم بالجنون، هو أن الرجل وكتلته لهم مصلحة في بقاء هذه المفوضية بالذات، وبالتالي فهي حسب تقديره على الأقل، ليست حيادية ومستقلة. إنها "تنفعه"، فهذا هو السبب الوحيد لكي يتحمس "النفعي" البراغماتي لشيء ما.
وبماذا تستطيع "مفوضية" إنتخابات، ان تكون "مفيدة" لسياسي يطمح لرئاسة الحكومة؟ ليس غير "الأصوات الإنتخابية"!.

ها قد صار لدينا معلومات لتكوين فرضية أخرى تستطيع أن تفسر التناقضين أو الإشكالين معاً بشكل معقول: علاوي يرى أنه يحصل على معظم اصواته "من المفوضية" وليس من الناس، أي أنه يرى أن "ناخبيه" هم في الحقيقة ليسوا سوى "المفوضية"، ولذا لم يكن يعتبر النقاشات السابقة في البرلمان تعني "ناخبيه" – أي المفوضية، ولذا لم يهتم بها، وحين جاء دور موضوع حاسم بالنسبة لـ "ناخبيه" - المفوضية، مصدر اصواته الأساسي، فأنه تصرف كأي نائب "مخلص لناخبيه" يحضر (فقط) عندما تكون مصالح ناخبيه على جدول الأعمال الجلسات، وينتفض مدافعاً عن مصالحهم التي هي مصالحه، ولا تهمه بقية الجلسات.

سيعترض من انتخب علاوي على هذه الفرضية، ويسألون سؤالاً وجيهاً فيقولون أنهم صوتوا لعلاوي بالفعل، وحتى لو كان قد حصل على تزوير زاد أصواته، فأننا أيضاً صوتنا له. وأقول أنني لم أقل أن احداً لم يصوت لعلاوي سوى المفوضية، إنما قلت أنه – هو – يعتبر على ما يبدو أن معظم الأصوات جاء من المفوضية وليس من الناس، وإلا فبماذا يفسرون عدم حضور الرجل جلسات البرلمان حينما كانت تناقش فيها المساءل التي تهمهم، والتي انتخبوا علاوي من أجل الدفاع عنها، وحضوره النشط عندما كان مصير المفوضية على المحك؟

لنأخذ مثالاً آخر لشرح النظرية، ومن نفس الموضوع..

أمر محير وخطير كان كشف النائبة الفتلاوي أن هناك "إرهابي" – أو رجل عصابات إن شئتم، تم تسليمه باج دخول مركز المعلومات، والذي تعتبره المفوضية من الخطورة على سلامة الإنتخابات، بحيث أنه منع عن قادة الكتل السياسية المنتخبين في البلاد. وتم اكتشاف ذلك صدفة من خلال اشتباك للشرطة مع الرجل، حين كان يهم بقتل رجل آخر في الشارع، حسبما جاء في وصف الفتلاوي ولم تعترض المفوضية عليه. هذه هي "الحيرة" الأولى، فيفترض أن تكون لدى المفوضية ضمانات تستبعد أي شخص مشكوك به، مهما كان الشك صغيراً. إكتشافه بالصدفة يعني أيضاً أنه لا يستبعد أبداً أن يكون هناك آخرين مثله في المركز أو في أية مراكز حساسة في المفوضية.

الحيرة الثانية، هي أن الرجل غير معين في المفوضية ، ومع ذلك يحمل باج دخول مركز إدخال المعلومات! فرج الحيدري قال أن الأمر كان بسبب الإستعجال للحاجة الماسة إلى خدمات الرجل للعمل في المركز، لذا تم تسليمه الباج قبل أن يتم تعيينه. لم تخبرنا التحقيقات، ولم يخبرنا الحيدري لماذا كانت هناك حاجة ماسة مستعجلة للرجل، فهل كانت له خبرة خاصة لا يمكن الإستغناء عنها حتى يحصل على التعيين، أم أن المفوضية كانت تعاني من قلة شديدة في الموظفين المعينين "الموثوق بهم مثل هذا الرجل"؟
ربما، لكننا سنهمل هذه التساؤلات الآن، ونركز على سؤال آخر: قالت الفتلاوي، ولم ينكر الحيدري ذلك، أن معلوماتها تقول أن الرجل كان قد "اختفى" عن المفوضية لمدة شهرين قبل أن يقتل في تلك الحادثة، فلماذا لم تسأل المفوضية عنه، وهو ذلك الرجل في الموقع الخطير؟ هل يعقل ان تعين رجلاً مجهولاً لا يمكن الوصول إليه إن اختفى ولا يعرفه أحد؟ هل سألت عنه أخيه الذي يعمل في المفوضية ولم يعرف؟ لماذا لم يدق ذلك لديها جرس إنذار وتبلغ الشرطة، على الأقل باعتبار أن الرجل ربما يكون قد قتل وأن إرهابيين قد استولوا على باجه الخطير؟ ولماذا لم تستكمل عملية تعيينه خلال كل تلك الفترة، أو تلغى؟

هذه "الحيرة" الثانية بكون الرجل غير مدرج في سجلات التعيين، وعدم اتخاذ المفوضية أية إجراءات بشأن اختفائه مع الباج، تشير إلينا إلى فرضية مخيفة قد تفسر الحيرتين معاً، بأفضل من اية فرضية أخرى أعرفها، وهي أن المفوضية ، أو جهة متنفذة جداً فيها، كانت على علم بأن الرجل إرهابي، وأنها تعمدت عدم تعيينه رسمياً، لكي يسهل إخفائه أولاً، ولكي يصعب اكتشاف علاقة المفوضية به في حالة القاء القبض عليه متلبساً. وبالفعل، فلو لم يكن لسوء حظ المفوضية الشديد، يحمل الباج، لما كان هناك مؤشر يدعو الشرطة إلى السؤال عنه في المفوضية وكشف علاقته بها! ... سؤال خارجي: هل هناك آخرين؟

هذه الفرضية التي اعترف أنها "مخيفة" هي أفضل ما وجدته لتفسير الإشكالين، فمن لديه فرضية أفضل لتفسير ذلك، فليتفضل لنا بها.

أفترض أن الفكرة قد صارت مفهومة، لكن زيادة في التوضيح دعونا نأخذ مثالاً أخير لشرح هذه النظرية.

لنأخذ أمرين محيرين آخرين من نفس القضية. للحيرة الأولى سنختار خبر الأكتشاف المدوي – (أو بالأحرى، الخبر الذي لم يسمح له الإعلام أن "يدوي" كما يجب، فلم تعقد الندوات ولا جلسات المناقشة حول هذا الأمر الذي يفترض أن يكون خطيرا جداً) وهو أن المفوضية كانت تسلم صناديق إقتراع (واحد منها تم أثباته، وقد يكون هناك أكثر) إلى الأمريكان. وإن صدقنا علاوي والعراقية والإعلام "العراقي" و "العربي" في غالبيته، في الفترة الأخيرة، فأن أميركا "تخلت" مؤخراً عن علاوي، وصارت تفضل المالكي لرئاسة الحكومة العراقية. صحيح أن أحداً لم يقدم تفسيراً لهذا التحول الغريب، لكن عندما يكون هناك سيل إعلامي كبير، يتخلى الناس عن ضرورة تقديم التفسيرات أو البراهين، ويبدو أن الجميع مقتنع به، ومن ضمنهم علاوي، فدعونا نفترض مع الآخرين أن هذا صحيح.
إذن كيف يدافع علاوي عن مفوضية (1) تسلم صناديق الإقتراع للأمريكان الذين هم يدعمون خصمه "اللدود"؟ و (2) لماذا يتحمس للتخلص من تلك المفوضية، نفس فريق الخصم، وهم الذين يفترض أن يستفيدوا دون غيرهم، من فساد المفوضية و"تعاونها" مع الأمريكان؟

نستنتج إذن، ما لم يكن علاوي أحمق لا يعرف مصلحته، وهو ليس كذلك كما افترض، فأن من غير الصحيح أن الأمريكان قد غيروا  رأيهم وفضلوا المالكي، وأنها لم تكن سوى قضية إعلامية، ربما لإزالة ثقل سمعتهم السيئة في العراق عن "صديقهم" وإلقائها على خصومه، وأن علاوي مازال "رجلهم في بغداد". وهذه الفرضية الجديدة تحل الإشكال الثاني، فما دام علاوي يعلم أن الأمريكان في جانبه، فأنه يفترض أنهم سيأخذون الصناديق لتغييرها لصالحه. هذا بالنسبة للحيرة الثانية، أما الأولى فتحل فوراً أيضاً ، فليس هناك غرابة في هذه الحالة من أن مجموعة المالكي تريد التخلص من مفوضية فاسدة، وأن تتحمس لذلك بشكل خاص حينما ترى أن ذلك الفساد يعمل ضدها، فهذا "الدفاع عن النفس"، أمام الضرر من الفساد، والذي أسماه الآخرين "دافع سياسي"، تصرف طبيعي تماماً.

بقي هناك سؤال وجيه قد تطرحه عزيزي القارئ وتقول: فهمنا موقف علاوي وموقف المالكي، لكن لماذا دعم الباقون المفوضية المفضوحة، وخسروا بعض سمعتهم بلا مقابل؟ وجوابي إنها حيرة واحدة، لذلك ما أزال حائراً في حلها، وما أزال أبحث عن "الحيرة الثانية" التي قد تساعدني في حلها!

أرجو عزيزي القارئ أني تمكنت من إقناعك بنظريتي "الغريبة"، بأن إيجاد فرضية تحل الإشكالات المنطقية المزدوجة أو الحيرة المزدوجة، أسهل من تلك التي تحل حيرة واحدة. لذلك لا تنسى كلما حيرك أمر وعجزت أن تجد له تفسيراً، إبحث عن "حيرة أخرى" في نفس الموضوع، فإن وجدتها، ستجد غالباً أن الحل يأتي بنفسه منقاداً إليك!


87
قالوا...في المفوضية

صائب خليل
29 تموز 2011

النائب عن العراقية سلمان الجميلي: "إن عدم التصويت على سحب الثقة عن المفوضية يمثل دفاعا عن الديمقراطية في البلاد ونموذجا للموقف الوطني البعيد عن الانقسامات الطائفية أو العرقية."

النائب عن العراقية عزيز العكيلي: "أهمية حماية مؤسسات الدولة من الخضوع لسيطرة فكرة الحزب الواحد او الفرد الواحد."

النائبة عن ائتلاف دولة القانون حنان الفتلاوي: "انتصارا للفساد في مجلس النواب وموتا للدور الرقابي للبرلمان"

الفتلاوي: "سحب الثقة عن المفوضية تحول من قضية رقابية إلى سياسية."

فرج الحيدري " طالبنا أيضا من هيئة رئاسة مجلس النواب بإرسال الوثائق والأوراق التي اعتمدتها النائبة الفتلاوي حتى نتمكن من تحضير الإجابات".... "لغاية ألان لم تصلنا أي وثيقة من هذه الوثائق"،

الفتلاوي "سأقوم شخصيا بطباعة هذه الوثائق وسأقوم بتوزيعها على جميع اعضاء مجلس النواب وكذلك على اعضاء المفوضية ليطلعوا عليها ويكونون على علم بها".

قاسم العبودي "الدعوى القضائية التي اقامتها المفوضية بحق النائبة حنان الفتلاوي لاتزال قائمة "

العبودي: "هذه التصرفات سبق وان تم مراجعتها من قبل ديوان الرقابة المالية ولم تبين شي بتقاريرها"

 العبودي :"المفوضية من اقل الدوائر التي تنفق على الايفادات كونها اغلب برامجها متبناة من قبل الأمم المتحدة".

العبودي :"البدء بالحلقة الأضعف وهي المفوضية".

رئيس كتلة الفضيلة في مجلس النواب عمار طعمة : " لم ولن تصفق يوما للفساد بكل اشكاله السياسي والمالي والاداري".

حنان الفتلاوي" أعزي نفسي والشعب العراقي على انتصار الفساد في جلسة مجلس النواب لهذا اليوم بعدم التصويت على اقالة مفوضية الانتخابات" .

الفتلاوي :" في جلسة مجلس النواب لهذا اليوم صفقت القائمة العراقية والكتلة الصدرية والفضيلة والمجلس الاعلى للفساد من خلال عدم تصويتهم على اقالة المفوضية".

الفتلاوي:" بعد هذا اليوم لا نطمئن على اصواتنا في المستقبل وسنتحرك عبر القضاء والمحاكم في احالة الفاسدين ".

الحيدري :"إذا كان هناك عمليات فساد في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات فمجلس المفوضين ليس معنياً بهذا الشأن، ولن يكون مسؤولاً عن ذلك".

الحيدري: "كان على النائبة جنان الفتلاوي تقديم أسئلة أكثر نضجاً".

العبودي : "النائب له الحق بالتكلم عن أي ملف داخل مجلس النواب فقط وليس خارجه".

الفتلاوي: " رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي قد اقتطع من محضر جلسة مجلس النواب الخاصة باستجواب المفوضية السابقة بعد كشف وثائق عن وجود جهاز خاص بمركز إدخال بيانات المفوضية قد سلم منها الى جهات أمريكية ".

حيدر الملا في حديث لـ"السومرية نيوز"، إن "إرادة العراقية وزعيمها أياد علاوي انتصرت على إرادة المالكي وائتلاف دولة القانون عندما صوت البرلمان، اليوم، برفض سحب الثقة عن المفوضية العليا للانتخابات".
 
حيدر الملا : "ما جرى اليوم في مجلس النواب يمثل صراع إرادتين، الأولى تحاول المحافظة على المكسب الديمقراطي وصيانة العملية السياسية من خلال الإبقاء على مفوضية الانتخابات ، اما الثانية فتحاول القضاء على المكسب الديمقراطي والعودة إلى ما قبل 2003 "

الحيدري :"اذا ارادوا سحب الثقة عن المفوضية بطرق غير قانونية فسيكون لنا موقف حيال المسألة، وسنعلن عن موقفنا لجميع الاطراف".

النائب عن دولة القانون عبد السلام المالكي:  "كنا نتوقع من الكتل السياسية ان تتجه باتجاه سحب الثقة لانها اكدت على ذلك الامر  اكثر من مرة خصوصا بعد جلسة استجواب المفوضية , وما قدمته المستجوب من  ملفات فساد مالي واداري "

عبد السلام المالكي: " الشارع العراقي عرف الان من يحاول التستر على ملفات فساد المفوضية  "
 
عبد السلام المالكي: "الكتل السياسية التي لم تصوت على سحب الثقة ستكون محاسبة امام الشعب لانها لم تؤدي الدور الوطني المطلوب اتجاه سحب الثقة عن المفوضية على الرغم من الاطلاع التام على ملفات الفساد ."
 
رئيس كتلة الرافدين في البرلمان يونادم كنا : "قناعة كبيرة ترسخت لدينا من خلال استجوابات المفوضية بوجود فساد كبير"
 
التغيير والرافدين والعراقية البيضاء "مصير الديمقراطية في خطر وتصويت البرلمان بالرفض على عزل مفوضية الانتخابات "انتكاسة كبيرة".
 
النائب عن ائتلاف دولة القانون خالد العطية : "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات فقدت مصداقيتها ونعتبرها غير مؤهلة وباطلة"

خالد العطية: "المشروع الجديد سيقدم مفوضية انتخابات جديدة مستقلة وبعيدة من الانتماءات السياسية وغير تابعة للحكومة ومجلس النواب"،

خالد العطية:"ائتلاف دولة القانون لن يعترف بأي إجراء تتخذه المفوضية الحالية".
 
النائب عن كتلة العراقية البيضاء قتيبة الجبوري : "ما حدث انتكاسة وصدمة كبيرة

قتيبة الجبوري: "هدف التظاهرات التي شهدتها البلاد محاربة الفساد وتصويت اليوم جاء ضد إرادة الشعب العراقي".
 
النائب عن كتلة التغيير محمد كياني : "مصير الديمقراطية في العراق أصبح في خطر بعد التصويت على عدم حجب الثقة عن مفوضية الانتخابات".
 
قاسم العبودي: "رفض البرلمان سحب الثقة عن مفوضية الانتخابات يوضح أنّ النواب متفهمين لعمل المفوضية وانتصار لاختيار الديمقراطية إذ أنّ ما طرح لايرقى الى مستوى الفساد الإداري والمالي".

الفتلاوي:" لن نطمئن بعد اليوم على أصوات الشعب أو نثق بأمانة المفوضية التي سنعتبرها ملغية بعد الآن ".

الفتلاوي :" سأتقدم بدعوى قضائية ضد( 35 )من أعضاء مجلس المفوضين للمحكمة الاتحادية بتهم تتعلق بفساد إداري ومالي والتي ستثبت مدى حجم الفساد في المفوضية "

الفتلاوي:"ان كتاب العلوم والتكنلوجيا يؤكد ان المفوضية لم تطلب منهم تصميم اي برنامج ،وهذا يفند ادعاءات قاسم العبودي اثناء الاستجواب بأنه لاتوجد جهة عراقية قادرة على تصميم هكذا برنامج."

الفتلاوي :" ذلك يؤكد كذب تبريرات المفوضية لجعل جهة اجنبية تصمم برنامج ادخال البيانات."

الفتلاوي : "بعد البحث المعمق في وثائق اعضاء مجلس المفوضين تبين أن رئيس المفوضية فرج الحيدري لايمتلك وثيقة دراسية، كما ان هناك أربعة اعضاء في مجلس المفوضين لايحق لهم قانونا تولي المنصب لمخالفتهم شروط التعيين المتبعة في المؤسسات الحكومية".

الفتلاوي :"فرج الحيدري في مكان ما كتب انه يمتلك شهاد دكتوراه، وفي مكان اخر كتب انه يمتلك شهادة بكالوريوس، وعند طلب ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة ابراز وثيقته الدراسية لم يقدمها، ولو وجدت بين يديه لقدمها".

الفتلاوي : "أربعة اعضاء في مجلس المفوضية لايحق لهم قانونا تولي المنصب لان احدهم مقال من قبل وزارة التعليم العالي لتورطه بقضايا فساد مالي واداري، والاخير لايمتلك شهادة دراسية، والثالث مؤشر لدى القوات الامنية بأن عليه قيدا جنائيا، والعضو الرابع وهي امرأة ثبت أنها مختلسة لاموال الدولة وجميعهم لايمكن تعيينهم وفقا للقانون العراقي"،

رئيس كتلة الفضيلة البرلمانية عمار طعمة :"ليست بمستوى المسؤولية وتستحق الاقالة , ولكن لا يمكن اقالتتها الان".
 
طعمة: "إن الاقالة من دون وجود البديل قد يولد فراغا في ادارة العملية الانتخابية وخصوصا مع غياب التوافق السياسي للكتل في الكثير من المواضيع"

القيادي في المجلس الاعلى باقر جبر صولاغ: "إن اقالة المفوضية وسحب الثقة عنها سوف يدخل العراق بدهليز مظلم"

 قيادي في المجلس الاعلى حبيب الطرفي : "ان موضوع سحب الثقة عن رئيس واعضاء المفوضية العليا المستقلة للانتخابات سابق لاوانه وغير صحيح كونها مؤسسة مسؤولة عن رسم السياسات العراقية ولا نريد ان يكون مكان هذه المؤسسة خاليا".

حذررئيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي عمار الحكيم من التحركات  التي تسعى إلى سحب الثقة من مجلس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من دون ايجاد بديل .

النائب احمد العلواني من العراقية:"هناك اطرافاً تسعى لسحب الثقة عن المفوضية لأيجاد مفوضية بديلة ومؤقتة يفصلونها حسب مقاسات احزاب السلطة للسيطرة على نتائج الانتخابات المقبلة".

احمد العلواني:" اثبت استجواب المفوضية في مجلس النواب، وقوف دوافع سياسية وراءه".

احمد العلواني:" هذه الخروق لا ترتقي الى مستوى المطالبة بسحب الثقة عن المفوضية".

زعيم المجلس الاعلى الاسلامي عمار الحكيم : "يجب ان نعرف كذلك هل ان المفوضية هي المقصرة ام جهات اخرى "داعيا الى" الابتعاد عن الانفعالات في هذه القضية".

الحكيم :"ان على الكتل السياسية ان تجد البديل ومن يشغل هذا المنصب الحساس لان اهم معالم الديمقراطية تتمثل بوجود مفوضية انتخابات وبان تكون الانتخابات في موعدها المحدد".

الحكيم: "سحب الثقة عن مفوضية الانتخابات يجعلنا ان نتسائل من سيحل محل المفوضية وكيف تدار وما هي البدائل المطروحة".


وشيء من التاريخ للتسلية:
النائب بهاء الأعرجي: ندعو الى تغيير مفوضي المفوضية العليا لعدم استقلاليتهم
 http://alseyasa-iq.com/news.php?action=view&id=632

بهاء الاعرجي : خروقات كبيرة وعمليات تزوير وفساد مالي واداري في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات
 http://www.shafaaq.com/sh2/news/iraq-news/524-2009-06-04-05-49-28.html

قال الحكيم في كلمة ألقاها نيابة عنه نجله عمار الحكيم أمام حشد من زوار الأربعين في كربلاء، إن النتائج المحلية لم تكن بتلك الدقة، مشيرا إلى حدوث عمليات تزوير من قبل أطراف نافذة في المفوضية، على حد تعبيره.
Address : http://almarayanews.com/new/index.php?news=132

الحيدري ينتقد بشدة تهجم اياد علاوي على المفوضية من على قناة الشرقية ويعتبره غير لائق
http://www.burathanews.com/news_article_89140.html

حيدر العبادي:"هذا راح يعتبر محاولة لتأخير أو تأجيل الإنتخابات القادمة. لا يمكن الطعن وتغيير المفوضية الآن"
http://www.youtube.com/watch?v=e1UqsJUpiBE


88
سنجلعهم يعلمونا كيف ننتصر عليهم

صائب خليل
28 تموز 2011

لقد كسبوا معركة التصويت، وصمدت المفوضية الفاسدة وأصيب العراقيون الذين كانوا يأملون بتحطيم مركز أساسي من مراكز الفساد والإختراق الأمريكي للمؤسسات العراقية، بخيبة أمل لا سبيل لنكرانها.(1)
كتبت أول أمس عن أؤلئك الذين صفقوا في البداية للنائبة الفتلاوي (2)، وأبدوا إعجابهم بقوة حجتها ضد المفوضية الفاسدة، ثم بعد حين رفضوا التوقيع على مذكرة تطالب بالتصويت لسحب الثقة بها، فانخفض عددهم إلى 114 نائباً، وشبهت هؤلاء بمن وصفهم الفرزدق للإمام الحسين: "قلوبهم لك وسيوفهم عليك"، محتقراً أؤلئك الذين لا يحركون سيوفهم وفق قناعاتهم، كما لا يحرك هؤلاء البرلمانيون أيديهم وفق قناعاتهم، وتساءل "مواطن بسيط" إن كان هؤلاء وناخبيهم سيخرجون ثانية بلا خجل في مواكب الحسين يدمون رؤوسهم و يصرخون "يا ليتنا كنا معك"؟ واليوم يتزايد الشبه بين الذين خانوا ضميرهم مع الحسين ومن فعلها في مجلس النواب اليوم، فتناقص العدد حتى لم يبق معه سوى سبعين رجلاً، وتناقص النواب حتى لم يبق مع الحق سوى 94 نائباً!

كيف غير المصفقون رأيهم؟ وكيف بدل العشرون الأخيرون قناعاتهم؟ هل كشفت حقائق جديدة غيرت رأيهم وبينت نقاء المفوضية وخلوها من الفاسدين والكذابين والإرهابيين؟ نترك الجواب لناخبي هؤلاء.

كتب لي صديق:"لم الحزن؟ لم نكن نتوقع شيئاً آخر" فكتبت له: "يحزن الإنسان على وفاة من يحب، حتى لو كان مصاباً بالسرطان، ولم يكن يأمل شفاؤه"... نعم ، فينا سرطان بالفعل، ولم تكن تلك المعركة ونتائجها إلا نتيجة منطقية لحقيقة أن ذلك السرطان كان أقوى منا في هذه اللحظة.

عن ذلك السرطان كتبت الزميلة مها عبد الكريم "السبب تأكدهم باننا اصبحنا شعب منقسم ومشتت لاقصى درجة". وكتبت زينب الموسوي"لأن بنائنا قام على أسس غير صحيحه"، وأن "من تمسكوا بفرج  يعلمون أن منحه أميركيه خير من الرهان على دعم الشعب وثقته ". لم تكتب مها وزينب عن "التشتت" و "الأسس" كما يكتب عنها الطائفيون، ولم تقصد أي منهما ضرورة توحد طائفي، بل ضرورة توحد من يطالب بالحق، وضرورة أن يثق هؤلاء ببعضهم البعض وأن كل جهة منهم ستقف مع الحق حتى حين يكون ضد طائفتها أو ميلها أو حزبها. هذا ما تعلمناه من هذا الدرس الغالي الثمن.

كتبت صديقات وأصدقاء آخرون العديد من التساؤلات والأفكار، والجميع يفكر بألم وغضب واضح، ولكن بروح الإستمرار والإصرار. كتبوا يبحثون عن حل، وعن "الخطوة التالية" . ذهب سامر مباشرة إلى الهدف واقترح قائمة بـ  "الخطوات الواجب عمل بها"، وكتب "مدرك" منبهاً أن  "العدالة لاتخضع للتصويت السياسي" وقال أنه يجب البحث عن "ادلة جرمية مثبتة في كشوفات دلالة  قانونية" لخوض المعركة على مستوى القضاء لأن "قناعة النائب قد تعتمد على حسابات المعادلة السياسية ومصالح الحزب والكتلة ....بينما القضاء غير معني بتلك الحسابات وياخذ بالأدلة والقرائن".

قبل أيام علقت على مقالة لأحد الزملاء بأن ليس أمامنا من هزيمة، فهو أما انتصار للحق، أو فضيحة للباطل، وليس للفاسدين سوى أن يختاروا بين هاتين الهزيمتين، وفي كل منهما انتصار لنا، وبالفعل تمكن الفساد من تجنب انتصار الحق، واكتفى بالفضيحة، فقد رآها "اهون الشرين" عليه. لقد كانت هذه الفضيحة التي كشف الفساد نفسه بها انتصاراً لا شك فيه لمن يبحث عن الحقيقة. عندما يتبخر ضباب الكذب بفعل شمس الحقيقة، يمكن للناس أن يروا طريقهم بشكل أفضل.

يقول مثل صيني: "أعرف نفسك واعرف عدوك وسوف تنتصر في جميع معاركك". وهذه المعركة علمتنا من نحن، أولاً...المجموعة التي خاضت المعركة ومن وقف معها، عرفت نفسها وأهدافها وكأنها تكتشف نفسها لأول مرة. هاهم يكتبون مواسين بعضهم البعض كعائلة فقدت فرداً منها، ويشكرون بعضهم البعض على ما قدم من جهد، ويشجعون بعضهم البعض على الصمود. كتب عادل مشجعاً وشاكراً جهود كل من عمل، وقال "ساقول كما قال علي الاكبر للامام الحسين : اولسنا على الحق ؟؟ قال بلى .. قال : اذن والله لا نبالي اوقعنا على الموت ام وقع الموت علينا".

حصلت "عائلتنا" الجديدة التي اكتشفت نفسها على كل ذلك، فهل حصل على مثله فريق الفساد في الجانب الآخر؟ إنهم يتهربون من الآخرين ومن بعضهم البعض، ويفضلون لو أن الناس لا تراهم، ويأملون أن تنساهم وأن تنسى فعلتهم وأن لا يكتب التاريخ عنها. وفي الوقت الذي تؤكد النائبة حنان الفتلاوي أنها ستكشف كل أسماء من صوت مع وضد مشروع حجب الثقة، أعتزازاً بالأول وفضحاً للثاني، فأنهم بالمقابل يبحثون عن طريقة لستر عورتهم، ويدعون إلى "التصويت السري" والتصويت الإلكتروني، تخلصاً من عار صورتهم وهم يرفعون يدهم معترضين على محاسبة الفساد.
هكذا عرفت المجموعة نفسها، وعرفت أيضاً أعداءها، وأعداء ما تأمل به لبلادها، كما لم تعرفهم من قبل. كانت هذه المعركة ضوء مصباح في الظلام، ومقياس تقاس به المواقف، وما أثمن المصابيح والمقاييس في زمن الظلام والتشويش.

"سنجلعهم يعلمونا كيف ننتصر عليهم"، هكذا قال الإمبراطور الروسي بيتر الكبير (3) بعد خسارته في معركته الأولى ضد السويديين. قال: "السويديون أقوى منا وأكثر حنكة في الحرب، وقد هزمونا، وسيهزموننا مرات أخرى، لكننا في كل مرة سنتعلم منهم شيئاً جديداً يجعلنا أقوى في المعركة التالية، حتى نتعلم منهم كيف نغلبهم. سنجعلهم يعلمونا كيف ننتصر عليهم."
وبالفعل، بقي بيتر يخسر المعركة تلو المعركة، حتى تمكن من هزيمة السويديين و بنى مدينة "سانت بيترسبرغ" التي كان يحلم بها.

ونحن أيضاً، خسرنا هذه المعركة، ولعلنا سنخسر العديد من المعارك، لكننا سنتعلم من كل هزيمة شيئاً جديداً ، و إن كانت لنا إرادة بيتر الكبير وصبره فإننا "سنجلعهم يعلمونا كيف ننتصر عليهم"، ونبني عراقنا كما نحلم به.


(1) http://www.parliament.iq/Iraqi_Council_of_Representatives.php?name=articles_ajsdyawqwqdjasdba46s7a98das6dasda7das4da6sd8asdsawewqeqw465e4qweq4wq6e4qw8eqwe4qw6eqwe4sadkj&file=showdetails&sid=5182

 (2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6097

(3) http://en.wikipedia.org/wiki/Peter_the_Great



89
تصفيقهم لك وأصواتهم عليك

صائب خليل
27 تموز 2011

حين وصف الشاعر الفرزدق للإمام الحسين حالة أهل الكوفة قائلاً "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، لم يكن يقدم له مجرد تقرير عن الوضع العسكري في البلاد، بل وضع في عبارته المختصرة في اربعة كلمات، وصفاً لنفسية هؤلاء وقيمتهم.

تذكرت قول الفرزدق حين قرأت ما كتبته النائب الدكتورة حنان الفتلاوي ضمن تعليق لها على مقالة الزميل عباس العزاوي فوصفت ما جرى في البرلمان قائلة:"الكتل السياسية التي هي الاخرى كانت متحمسة ومتفاعلة مع الاستجواب فبعد التصفيق الحار وبعد كل كلمات الاعجاب والتشجيع التي سمعتها من رؤوساء الكتل مثل سلمان الجميلي وفؤاد معصوم عادوا بعد ايام وبعد ان اعادوا حساباتهم ليعلنوا انهم لن يصوتوا لاقالة المفوضية نعم رفضت العراقية التوقيع ورفض التحالف الكردستاني كما ورفض الصدريون والمجلس الاعلى وحتى الفضيلة رفضوا؟؟من وقع هو دولة القانون وكتلة التغيير والعراقية البيضاء والمسيحيين وبعض الشخصيات المستقلة فقط" (1)

عند الطبيعيين من الناس ، يسعد المرء بأن يستطيع أن يقنع شخصاً بوجهة نظره، ويسعد أكثر إن كسب تعاطفه، خاصة إن كان ذلك الشخص ذا تأثير وأهمية، وكان كسبه إلى جانبك وتعاطفه معك، قوة تضاف إلى قوتك وتدعم موقفك.
ما قاله الفرزدق في حقيقة الأمر، أن من وصفهم، رجال لا قيمة لمشاعرهم. إن كسبتها لن تفرح، وإن خسرتها لن تحزن، فمشاعرهم لا تقود تصرفاتهم، بل تقودها مصالحهم أو أوامر سادتهم. هؤلاء لا أهمية لـ "قلوبهم"، حالهم حال من يكون مستعداً للتخلي عن أحبته وأهله، وأن يرفع السيف عليهم، إن هو أمر بذلك من سيد له أو مصلحة ما.

أليس هذا هو حال سلمان الجميلي وفؤاد معصوم وبقية الذين صفقوا للدكتورة حنان حين تجاوزت في خطابها ومناقشاتها، الكفاية والإقناع لتصل بهم إلى حد الإعجاب الذي يدفعهم إلى التعبير عن مشاعرهم بـ "التصفيق بحرارة"؟ لكن ما أهمية أن يصفق لك "عبد" لا يملك إرادته؟ عبد لسيد ما، او لمصلحة ما، لا يستطيع له أو لها خلافاً؟ عبد لا تقرر مشاعره وقناعاته، حركة يده وسيفه وصوته؟

تخيل شخصاً يحييك بحرارة ويكيل لك المدائح ويبدي إعجابه بسلامة موضوعك وحسن دفاعك عنه وربما يقول لك أنه لم يسمع في حياته البرلمانية أوضح وأفضل من الطريقة التي عرضت فيها قضيتك العادلة، ثم يكمل قائلاً: "لكني لن أصوت لك للأسف!" تخيل ما قد يكون الإمام الحسين شعر به أمام من يقول له إنك الرجل الصحيح، وإني أرى الحق معك تماماً، لكني سأذهب مع خصمك!

أية مشاعر مرت بالدكتورة حنان الفتلاوي وهي تجد نفسها أمام مثل هذه المخلوقات وأي شعور بالإحباط والخوف من عالم لا تقرر فيه قناعات الناس مواقفهم؟ و الأدهى أن لا يجد هؤلاء ما يثير الخجل في حقيقة أن قناعتهم وتعاطفهم وما يحبون وما يكرهون، ومن يحبون ومن يكرهون، لا قيمة لها عندهم على الإطلاق، ولا تقرر شيئاً من تصرفاتهم! أين الفرزدق من هؤلاء!

هل من غرابة بعد ذلك أن تجد النائبة دموعها تنزل من عينها بالرغم منها، أمام مشاعر صادقة نقية وجدتها في كلمات الصديق عباس، بعد تلك التجربة المثيرة للتقيؤ مع مخلوقات منفصلة العلاقة بين العاطفة والإرادة، مخلوقات كأنها قد خرجت من منطقة تعرضت لإشعاعات نووية شوهت طبيعتها وقتلت اعتزازها، فتعجب وتصفق وتهنئ وتضحك لشيء، ثم تصوّت ضده!


(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6000


90
التيار الصدري والفضيلة والمفوضية الفاسدة ...نحو موقف ملتزم أم نحو فضيحة جديدة؟

صائب خليل
26 تموز 2011

طالما وقف التيار الصدري وفريقه البرلماني مواقف مشرفة أسهمت في دعم الشعب العراقي ومطالبه، في البرلمان وفي الشارع، وقد كتب كاتب هذه السطور عنها كثيراً ومطولاً، حتى لامه البعض على ذلك.
فقد تلقى أبناء هذا التيار بصدورهم العارية المؤامرات الأمريكية الخبيثة على هذا البلد، ووقفوا بوجه المعاهدة الأمريكية العراقية موقفاً مشرفاً لن ينساه التاريخ لهم، وهم وإن لم يتمكنوا من منعها للأسف، فأن لهم الدور الأول في تغيير مضمونها وتقليل أذاها كثيراً. كذلك كانت لهم مواقف مشرفة من الهجمة اللصوصية الدولية على ثروات العراق النفطية، وبشكل عام وقفوا بوجه كل مؤامرة أمريكية على البلاد، وكانوا سباقين إلى كشف المؤامرات التي تحاك في البرلمان وغيره، وأشروا نقاط الخلل والإلتفاف على الدستور في كل مرة.
ورغم أن التيار لم ينجح في كبح جماح المسيئين في جيش المهدي، إلا أن مواقف فريقه البرلماني لا يمكن إنكارها، وقد دفع هذا الفريق ثمناً لذلك من دماء شبابه، بالمعنى الحرفي للكلمة.

لكن الأمر لم يعد كذلك للأسف منذ حين، وقد فاجأنا الصدريون أكثر من مرة بمفاجآت تحمل خيبة أمل مريرة للشعب العراقي، من الجهة التي كان يؤمل منها ويعول عليها كثيراً. مفاجآت بدت أحياناً مذهلة للمواطن العراقي المراقب للأحداث.

وقد ابتدأت تلك المواقف الغريبة بدعم القائمة العراقية ومغازلتها في مناورات تشكيل الحكومة الأخيرة، علماً بأنها تمثل الجانب الأمريكي الذي يعلن التيار تكراراً أنه خصمه الإستراتيجي وخصم كل مظاهر الإحتلال، ويعلم الصدريون بكل يقين أن السفارة الأمريكية بذلت جهداً هائلاً لإعادة البعث إلى دائرة الضوء وإعادة المستثنيين من قبل هيئة المساءلة والعدالة، إلى الساحة السياسية العراقية، وبالتالي فلم يكن مفهوماً كيف يقف الصدريون بالضد من الإحتلال الأمريكي إستراتيجياً، ويقفون مع من يريدهم هذا الإحتلال لحكم البلاد؟

وبعد أن أثنينا كثيراً على مبادرة التيار الصدري في استفتاء جمهوره والجمهور العراقي فيمن يرشحه لرئاسة الحكومة الحالية، وإعلان التزامه بوضوح تام بخيار الشعب، وبعد أن اختار ناخبي التيار ومن شاركهم الإستفتاء، السيد الجعفري بوضوح لا لبس فيه، ولا غرابة في ذلك، فلقد كان للرجل موقف مشرف لإنهاء "حملة الفرسان" ضدهم والعودة إلى حلول التفاهم، بعد كل ذلك ، وبعد اتصالات مثيرة للقلق في قيادته، اتخذ التيار قراراً مذهلاً بترشيح المرشح الأمريكي الثاني ، عادل عبد المهدي، ذلك الرجل الذي ينتمي إلى الجهة التي طالما اتهمها التيار بارتكاب جرائم القتل ضد أبنائه، بديلاً للجعفري، ورغم كل الوعود لناخبي التيار!!

لم يكن لدينا لتفسير هذا الإنقلاب في المواقف الأساسية المبدئية للتيار سوى أن قياداته قد تعرضت لإبتزاز كبير، خاصة وأنها معروفة بأنها مخترقة إلى حد بعيد، وأن الكثير من رجال التيار قضوا زمناً طويلاً في السجون الأمريكية تحت التعذيب، وليس غريباً أبداً أن البعض منهم قد انهار وقرر العمل لصالح الإحتلال الأمريكي. هذا إضافة إلى ما قد تحتفظ به الإدارة الأمريكية من وثائق بشأن مقتل السيد الخوئي، وأية أوراق ابتزاز أخرى محتملة من وثائق فساد تطال بعض قيادات التيار، فقد كانت هذه هي السياسة المفضلة للولايات المتحدة منذ عقود طويلة، في اختراق قيادات الأحزاب المعارضة لها وتحييدهم بل قلبهم للعمل لصالحها.

وقبل أيام، أعلنت قيادة الصدريين إعلانات تثير القلق، تمثل تغييراً مخيفاً في موقفها من الإحتلال، فأعلن عن أن جيش المهدي لن يتم إعادته إن تم تمديد بقاء القوات الأمريكية، بحجة غير مقنعة، وفي توقيت يثير الشكوك والشبهات. وجاءت تعليقات بعض قياديي التيار مؤكدة هذا الإتجاه، وأستفاد منها كثيراً الإعلام الموجه أمريكياً ليعطيها صورة أكبر من حجمها أيضاً.

ثم جاء نفي التيار لتغير موقفه من الإحتلال وضرورة رحيله، واتهم الإعلام بتشويه صورة موقف التيار، رغم أنه لم ينف ما جاء في تصريحات قيادته، وبدت كلماته تبحث عن مخرج بين رفض "التمديد" و إبقاء قوات أمريكية "للتدريب"، وبدا أن هناك صراع يدور داخل التيار ، بين جماعة لا يستهان بها، تم اختراقها وابتزازها، وتعمل على تجنب إغضاب من يمتلك اوراقها، أو "تعمل بالممكن ولا تنسى الطموح"، - وجماعة مازالت مخلصة لمبادئها ولناخبيها، وان نتيجة هذه الصراع ليست محسومة على الإطلاق، وفي كل معركة حول قرار برلماني يهم الولايات المتحدة. وتشير حقيقة مخاطرة التيار وقيادته بسمعته تماماً في ترشيح عادل عبد المهدي بدل الجعفري، ومن ثم فشل ذلك المشروع بضغط القوة الشعبية لناخبي التيار وناخبي كتل آخرى.

واليوم يراقب الناس وناخبي التيار الصدري بشكل خاص، بقلق شديد موعد الخميس القادم، حيث تشير الدلائل إلى أن موقف قيادة التيار الصدري سوف يدعم المفوضية العليا للإنتخابات ويعمل على إفشال مشروع سحب الثقة منها، رغم أن الدلائل على فسادها لا ينافسها في وضوحها أية دلائل على أي فساد في أية جهة عراقية سابقة، وصلت حتى اكتشاف أن مفاتيح مركز إدخال المعلومات في المفوضية بيد الإرهابيين والأمم المتحدة (الإحتلال الأمريكي)، فما الذي ينتظر الصدريون أكثر من ذلك لتقديم موقف مبدئي لناخبيهم وللشعب العراقي؟ عندما اختار الصدريون عبد المهدي رغم انتخاب جمهورهم لإبراهيم الجعفري تساءلنا: هل سيكون بإمكانكم ان تتحدثوا براحة ضمير عن "الديمقراطية" وإنصات لصوت الناخب؟ واليوم نتساءل: إن صوتّم لبقاء المفوضية الفاسدة، هل سيكون لكم أن تتحدثوا بعد ذلك عن "الفساد" دون أن تحسوا بوخز الضمير؟

نفس هذا الكلام ينطبق بدرجة او أخرى على حزب الفضيلة، لذا لن نقوم بتكراره، بل نتساءل: أي شرف في دعم المفوضية المفضوحة و"أية فضيلة في دعم الفساد"؟

في الوقت الذي نحيي فيه موقف عراق القانون والمسيحيين والمستقلين الذين لم يكونوا بحاجة إلى من ينبههم إلى الموقف السليم، واتخذوا على عاتقهم مقاومة ضغوط يعلم الله ما هي، نقول إن الشعب العراقي لن يتسامح مع من يخون موقفه ووعده، والشعب يرى الفساد والمؤامرة بوضوح، وعلى الأحزاب والقيادات أن لا تعول على ناخبيها أن يكونوا مخلصين لها بشكل أعمى، وأمامكم المجلس الأعلى الذي انهار انتخابياً بشكل مفجع منذ اكتشاف ناخبيه أنه يمثل أجندة الإحتلال والفساد ويدعم اللصوصية والإثراء المشبوه، ولا نظن بأن جماهير التيار الصدري والفضيلة أقل وعياً من جماهير المجلس الأعلى، وعلى الحزبين أن لا يعولا على ذلك.

وفي الوقت الذي ننظر بيأس إلى أحزاب الكتلة الكردستانية التي تهتم بالأجندة الأمريكية أكثر من العراق، والمجلس الأعلى الغارق في التبعية الأمريكية والفساد، وكذلك القائمة العراقية المستفيدة المباشرة الوحيدة من التزوير والفساد في المفوضية، فأننا سعداء ومتفائلون بالأمل الذي يعطيه أنشقاق حزب التغيير عن التكتل الكردستاني المتراص من اللصوص الذين يسرقون ثروات كردستان قبل ثروات العراق ويغرقون في نفطه وميزانيته، وكذلك سعداء ومتفائلون بما فعلت العراقية البيضاء وأعطت الأمل بأن القائمة الأم قد لا تخلو من المزيد من الشرفاء. لقد اعلن حزب التغيير "كوران" أنه سيصوت ضد المفوضية الفاسدة، وكذلك فعلت "العراقية البيضاء"، ونأمل أن يلتحق بهما من الكتلتين الأخريين كل من يخشى على شرفه من لثمة لن تنسى في سجله السياسي أبداً. إنها فرصة ذهبية للمترددين من الكرد والعرب في القائمتين: أخرجو من قائمة اللصوص المغلقة فقد افتضح امرها ولم تعد كما كانت تسيطر على ساحة كردستان كما يرى كل من له عينان، وأخرجوا من "العراقية السوداء" التي لن تزداد إلا اسوداداً مع الزمن.
ولا نستثني من هذا النداء الشرفاء في المجلس الأعلى، وليس هذا الكلام إكمالاً للقائمة، فقد بينت الأحداث وجود انشقاق كبير فيه اضطره أحياناً إلى تعديل موقفه، وأن ليس كل مكونات المجلس راضية عن الطريقة التي يقود بها عمار وعبد المهدي المجلس لإنبطاح أمريكي تام داعم للفساد، ونقول هذه هي الفرصة التي لن تعوض للخروج من هذا الجب سيء السمعة.

إننا نأمل أيضاً أن يصوت الخميس القادم، بقية الكتل وجميع المستقلين الحريصين على شرف موقفهم وتاريخهم بشكل يحمي سمعتهم أمام شعبهم. إننا نعلم أن القضية ليست سهلة أمام البرلمانيين، وأن الموقف خطير، وأن الفساد لا يتخلى عن مواقعه بسهولة وقد يدافع عنها بكل السبل المتاحة له من تهديد وتشويه وحتى العنف والقتل، لكن ليس هناك مفر، فالمعركة واضحة، والصحيح والخطأ متميزان بشكل لا يترك حجة لأحد، خاصة بعد أن تهدأ الضوضاء الإعلامية الحالية التي تسعى لتشويش الموقف وتصويره بأنه حمال أوجه، وتبقى المعطيات المحددة الموثقة وحدها في ساحة التاريخ. الخميس القادم من لحظات التاريخ التي تسوّد فيها وجوه وتبيض فيها وجوه، ولن يكون ممكناً مستقبلاً إعادة الزمن لتصحيح قرار خاطئ أبداً.



رابط إلى مقالة سابقة لي بعنوان:" ماذا يعني ان تكون مفوضية الإنتخابات فاسدة ؟"
 تحتوي معلومات وروابط كثيرة حول الموضوع، وكذلك التعليقات عليها لمن يريد الإطلاع: هنا:
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=51995
و هنا:
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5951


أنظر أيضاً مقالة الزميل عباس العزاوي:دعوة لنصرة العراق ضد المفوضية الفاسدة
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=6000




91
النواب أمام الحقائق – قبل التصويت على الثقة بالمفوضية العليا للإنتخابات

24 تموز 2011

السادة أعضاء مجلس النواب المحترمون:

وأنتم امام لحظة حاسمة في تاريخ العراق، نلفت انتباهكم الى الحقائق التالية التي سبق أن طرحت في أكثر من مكان، ونطالبكم بالإجابة عن الأسئلة المرفقة بها، بكل أمانة، أمام ضميركم وأمام شعبكم:

قدمت دلائل عديدة على فساد مالي لعدد من أصحاب المراكز المفصلية في المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات، البعض منها كبير، والآخر تافه، وكل أنواع الفساد تدل على نقص اخلاقي خطير خاصة لمن يمتلك سلطة هامة. هل تعتبر وجود أشخاص بهذه المواصفات ليس خطراً على سلامة الإنتخابات ونتائجها؟

نشرت وسائل إعلامية عديدة تلقي المفوضية المستقلة للانتخابات كتاباً شديد اللهجة من الامانة العامة لمجلس الوزراء يشير الى عدم صحة اجراءات المفوضية في تصرفاتها المالية واصرار اعضائها على الانتفاع من المال العام دون وجه حق، فيذكر "لانجد في الاجراءات المتخذة من قبل المفوضية مايستند الى نصوص قانونية او موافقات رسمية"  واشارة الكتاب الى جملة مخالفات تم اثارتها في عملية الاستجواب ومنها تقاضي وانتفاع غير مشروع من قبل بعض اعضاء مجلس المفوضين بمخصصات مالية تصل الى مئات الملايين سنويا دون ان يكونوا مشمولين بها اصلا، في الوقت الذي ذكر عضو المفوضين قاسم العبودي في وقت سابق في وسائل الاعلام المختلفة ان  "وزارة المالية اقرت بشرعية الاموال المصروفة من قبل المفوضية العليا المستقلة للأنتخابات و ان جميع تصرفات مفوضية الانتخابات كانت صحيحة وموافقة للقانون ووفق اجراءات اصولية وموافقات سابقة وبالتالي لا توجد اي ملاحظات على الاجراءات المتخذة من قبل المفوضية في صرفها للاموال".

أن إدخال المعلومات إلى حاسبات الإنتخابات عملية حاسمة في تقرير سلامة الإنتخابات وتوجهها، ولذلك لا توجد دولة في العالم يضيع فيها تحديد من المكلف بمسؤولية إدخال المعلومات إلى تلك الحاسبات، وبالتأكيد لا تسلم مثل تلك الأمور إلى موظف في الأمم المتحدة، فهو في النهاية إنسان يمكن ان يكون أي شيء، بل لفريق يمثل الكتل السياسية المختلفة. فهل تعتبر تسلم موظف الأمم المتحدة السيطرة على تلك المهمة، أمر طبيعي ومقبول وينبغي ان يستمر؟

اكتشف أن الإرهابي يوسف حميد عبد الرزاق يحمل باجاً للمفوضية يسمح له بالدخول إلى مركز إدخال المعلومات، وهو مركز حساس رفضت المفوضية السماح حتى لممثلي الكتل السياسية بدخوله باعتبار أن من يدخله يصل إلى مناطق قد تمكنه من التأثير على نتائج الإنتخابات. فإذا صدقنا تقدير المفوضية نفسها لهذا الأمر، فهل ترى أن إدخال إرهابي وإيصاله إلى منطقة يمكنه أن يؤثر فيها على نتائج الإنتخابات، أمر طبيعي ومقبول، حتى لو كان تقصيراً غير متعمد، رغم ان التعمد في ذلك ليس مستبعداً؟

الإرهابي الذي يمتلك باج المفوضية لم يكن معيناً في المركز، وكانت حجة رئيس المفوضية أن ذلك حدث بسبب ضرورة استعجال استخدامه في المركز، فهل من الطبيعي أن يمنح شخص تلك الإمكانية الخطرة بدون أخذ الوقت اللازم حتى لإصدار كتاب تعيينه؟

من المعلوم ان الإنتخابات انتهت منذ فترة طويلة، وبفرض أن الإستعجال منع المفوضية من إكمال إجراءات تعيينه حينها، فلماذا لم يتم الإنتهاء من إجراءات تعيين الرجل بعد ذلك، وحتى لحظة اكتشافه من قبل رجال الأمن؟

الإرهابي يوسف حميد عبد الرزاق اكتشف صدفة حين كان يهم بقتل شخص آخر في الشارع، وليس من خلال عملية تمحيص للمفوضية في سجلاتها وموظفيها، فهل أجرت المفوضية مثل ذلك التمحيص والفحص بعد ذلك؟ هل تضمن أن ليس هناك المزيد من الموظفين الذي يصلون إلى المناطق الحساسة فيها، دون ان يتم تعيينهم رسمياً؟

كيف نتأكد من أن عمل هذا الإرهابي في هذا المركز الحساس من المفوضية بدون تعيين، كان خطأً وليس أمراً متعمداً من قبل بعض من في المفوضية بهدف إخفاء الرجل عن العيون والسجلات من جهة، وتملص المفوضية من مسؤوليته في حالة اكتشاف أمره؟

إن الإرهاب وعمليات محاولة قتل شخص في الشارع لا يقوم بها شخص صدفة، فهل تم التحقيق في سوابق الرجل؟ ومن هو الشخص الذي كان يهم بقتله؟ وهل عرفت الدوافع؟ هل تم التحقيق ومعرفة من يقف وراء هذا الرجل وينظم عمله أم أنه كان يعمل إرهابياً "لحسابه الشخصي"؟

قال السيد قاسم العبودي أن البرنامج الخاص بحساب الأصوات قد سلم إلى شركة إماراتية، ومن المعلوم ان برنامج الحاسبة يمكن أن يقرر في النهاية من يفوز في الإنتخابات، بغض النظر عن عدد الأصوات الحقيقي، فمن هي الشركة التي كلفت بالمهمة؟ وما هي الآلية التي تم بموجبها اختيار الشركة المكلفة بالأمر؟ وما هي الإجراءات التي تم اتخاذها التحقق من أمانة تلك الشركة؟

هل تمت مراجعة كود البرنامج من قبل جهة عراقية تثق بها الأطراف المتنافسة في الإنتخابات للتأكد من سلامته، أم أن الكود كان سرياً هو الآخر؟ إن كان الأمر كذلك فكيف تثق المفوضية بكود سري لا تعرف أي شيء عن عمله، يقرر كيفية التصرف بالأصوات؟

برر السيد قاسم العبودي تسليم مهمة كتابة برنامج الحاسبات إلى شركة أجنبية بأنه كان بسبب عدم وجود جهة لها القدرة الفنية اللازمة لكتابته في العراق، ويفهم من هذا ان المفوضية قامت بمفاتحة جميع الجهات العراقية التي ينتظر منها أن تكون قادرة على إنجاز البرنامج، فمن هي الجهات العراقية التي تمت مفاتحتها بأمر كتابة البرنامج واعتذرت عن ذلك لعدم قدرتها على تلك المهمة؟

وصل إلى النائب الدكتورة حنان الفتلاوي كتاب من وزارة العلوم والتكنولوجيا يؤكد أن "المفوضية لم تطلب منها تصميم برنامج ولو كانت فعلت لامكنها ذلك كونها لديها مختصين"، ألا يدل ذلك على أن ادعاء السيد العبودي غير صحيح وأنه كان يظلل البرلمان العراقي حين برر تسليم مهمة كتابة البرنامج لجهة أجنبية، بعدم وجود جهة عراقية قادرة على كتابة البرنامج؟

قال قاسم العبودي "ان النظام الفني الالكتروني المعتمد لادخال البيانات لايمكن التلاعب به من قبل اي جهة"، فما الذي يجعل السيد العبودي متأكد إلى هذه الدرجة من سلامة النظام الإلكتروني المعتمد في العراق، في الوقت الذي نعلم فيه أن البرلمان الهولندي قرر التوقف نهائياً عن استعمال الأنظمة الإلكترونية في حسابات الأصوات الإنتخابية، لأنهم لم يجدو طريقة لضمان منع تزوير الأصوات بواسطة عندما تستعمل تلك الأنظمة، فما هي الطريقة التي تمتلكها المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات لضمان منع التزوير والتلاعب، ولا تمتلكها هولندا؟

هذا التأكيد من قبل السيد العبودي على سلامة الأنظمة الإلكترونية يقودنا بالضرورة إلى مراجعة تأكيدات سبق لرئيس المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات، السيد فرج الحيدري، أن قدمها في الإنتخابات الماضية حين قال في مقابلة في الشرق الأوسط .. «الكتل السياسية إذا لم تثق بالفرز الإلكتروني وبأجهزة الكومبيوتر التي لا تعرف الإنحياز إلى أية كتلة، وهي أصلا غير منتمية إلى أي حزب ولا تقبل الخطأ، فكيف لها (الكتل السياسية) أن تثق بالفرز اليدوي الذي يقوم به أشخاص لا نعرف انتماءاتهم؟». اليس غريباً أن رئيس مفوضية إنتخابات لا يدري بأن الحاسبة تقوم تماماً بما يريده كاتب البرنامج، وكيف أنه لم يسمع بوجود مئات منظمات المجتمع المدني تضم كل منها خبراء في الحاسبات تؤكد سهولة تزوير الأصوات عن طريق الحاسبات، والتي نجحت أخيراً بإقناع البرلمان الهولندي، ليس فقط بأن الحاسبات معرضة للتزوير، بل وأنه " لا توجد أية طريقة لحمايتها منه"، وأنه يمكن القيام بالتزوير حتى لا سلكياً وعن بعد وبدون دخول مركز إدخال البيانات، فقرر التوقف عن البحث واستبعاد الحاسبات نهائياً عن هذا الموضوع؟

وما دمنا في مراجعة ما حدث في الإنتخابات الأخيرة، والتأكد من أن أخطاءها لن تتكرر مستقبلاً، لنا أن نتساءل عن التأخير الكبير غير المعقول لإعلان نتائج الإنتخابات العراقية، والذي تم تبريره بشكل غير مقنع بتعقيد الإنتخابات العراقية وانخفاض المستوى التكنولوجي في البلاد، ونتساءل هل تم تجاوز هذه الحالة؟ وما هي التكنولوجيا اللازمة التي لم يكن العراق يمتلكها رغم اعتماده على نظام إلكتروني معقد كما تقول المفوضية؟ نشير هنا إلى أن أحد الصحفيين أشار إلى أن "المعارضة في الزيمبابوي احتجت على أن إعلان نتائج الإنتخابات قد تأخر "عدة ساعات" عن الوقت الذي يفترض فيه إعلانها، وأنها تعتقد أن هذا التأخير يمكن أن يستعمل في تزويرها. وتساءل الكاتب عن التكنولوجيا التي كانت تمتلكها زيمبابوي ولا يمتلكها العراق وتبرر هذا الفرق الهائل في سرعة إفراز الأصوات.

كذلك لنا ان نتساءل عن "إستحالة إعادة العد يدوياً" وأنها تستغرق عدة أشهر، في العراق دون غيره، كما ادعى السيد رئيس المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات حينها، وسؤالنا: كيف يمكن ان يتم العد، رغم تأخيره غير المفهوم، في فترة أقل بكثير من "إعادة العد"؟ وهل مازال النظام الذي تتبعه المفوضية، مهما كان هذا النظام، يجعل من إعادة عد الأصوات، عملية استحالة إعادة العد واستغراقها زمناً غير معقول، أم أنه تم تجاوز هذا الموضوع؟ إن كان الأمر كذلك فكيف؟ نذكر هنا أن منظمة تموز في ذي قار قد كلفت نفسها بحساب الأمر وتحملت مسؤلية الإعلان بأن "عملية اعادة العد اليدوي ليست مستحيلة" ضمن وقت قصير.

قبيل إنتخابات مجالس المحافظات السابقة قامت المفوضية باستخدام نظام "ألقرعة الإلكترونية" لإختيار موظفي مراكز تسجيل الناخبين، وأعلنت أن الأمر سيتم بحضور جميع وسائل الإعلام، التزاماً بالشفافية. وفي وقتها بين أحد الصحفيين من ذوي الخلفية العلمية في مجال الحاسبات أن "الحاسبات لا تعرف القرعة الحقيقية، وأن الأمر يعتمد تماماً على المبرمج والثقة به، وأنه بالإمكان برمجة الحاسبة لتقول ما يشاء المبرمج، وحتى البرنامج المعروف الذي ينتج رقماً عشوائياً في الحاسبة، فإنه ينتج "رقماً عشوائياً ظاهرياً" أو "كاذبا" (Pseudo random) وأنه يمكن السيطرة عليها أيضاً عن بعد، وأن وجود وسائل الإعلام لا يعني شيئاً على الإطلاق، ولذلك تستخدم القرعة الإلكترونية في الأمور التافهة نسبياً فقط على مستوى العالم." وقال أنه لا يمكن لحضور الإعلام في مثل هذه "القرعة" أن يعني شيئاً لأنهم لا يستطيعون أن يروا ما يحدث داخل الحاسبة وكيف يختار برنامجها الشخص المرشح، وإن كان ذلك عشوائياً أم عن قصد مبرمج، وأن الصحفي كتب رسالة إلى موقع المفوضية بهذا الخصوص. فهل تستند ثقة المفوضية بسلامة اختيار الحاسبة وعشوائيتها إلى سند علمي من جهة متخصصة؟ وهل تمت مفاتحة جهات علمية بهذا الشأن مثل وزارة العلوم والتكنولوجيا؟ ومن هي تلك الجهات؟


رغم كشف كل تلك الحقائق اتخذت بعض الجهات والشخصيات السياسية موقفاً لا يتناسب في تقديرنا مع هذه الحقائق الخطيرة. فهل يمكن وصف إيقاف كل هذه الخروقات الخطيرة ومن يقف وراءها بـ "خسارة لا يمكن تعويضها"؟ وهل يفترض بنا أن نحاكم الحقائق أم نستبعدها بادعاء ظني بأن "وراءها أهداف سياسية"، دون حتى مناقشة إن كانت تلك الحقائق صحيحة أم لا، وخطيرة ام لا؟ وإذا كان التحقيق الدقيق المؤسس على الأرقام والأسماء والتواريخ في مثل هذه المعطيات الهامة يعتبر من قبل البعض بـ "الإنفعالية" فكيف تجري الأمور "العقلانية" إذن؟ وإن كان بعض البرلمانيين يرى أن مثل هذه الأمور ليست مهمة، فما هي الأمور المهمة التي ينتظر الناخبون أن يراقبها البرلمان؟ وهل ان التحقيق الذي يستند على معطيات محددة "يؤسس لدكتاتورية" كما قالت إحدى الجهات السياسية، أم اعتبار شخص ما أو جهة ما فوق الشكوك وفوق التحقيق؟ وأية ديمقراطية تبنى على تجاهل الحقائق الخطيرة؟ وكيف يمكن "التريث" وتأجيل الموضوع "حتى حل المشاكل العالقة بين الكتل السياسية " الذي قد يستغرق إلى الأبد؟ وأية ديمقراطية أو شفافية تبقى، وأي انحدار ننحدر إن صار البرلمان يتخذ قراراته بالتصويت السري بعيداً عن أعين ناخبيه، كما يطالب البعض هذا اليوم للأسف؟
لا أدري لماذا كل هذا الخوف من مواجهة حقائق الفساد التي لا يمكن إنكارها، والهرب منها بالتجاهل والإستصغار والتأجيل والكلام المقلوب والإنكفاء إلى التصويت السري. لماذا كل هذا التردد أو الإمتناع عن حتى التفكير بسحب الثقة من المفوضية الحالية بشخوصها من بعض النواب، وكأن الديمقراطية لا تعيش بدونها، وأنها "القائد الضرورة" الجديد المقدس الذي لا يسمح بمسه أو الشك به، وكأن البلاد ستنهار إن تمت محاسبته ومواجهته؟

أيها السادة البرلمانيون، بين أيديكم لحظة حاسمة وخطيرة في مستقبل محاربة الفساد وتأسيس ديمقراطية حقيقية سليمة، لحظة قد تقرر مستقبل البلاد السياسي والإجتماعي، لحظة سوف يحكم الشعب من خلالها على من انتخبه بلا رحمة، فليكن حكمكم مدروساً ومؤسساً على الحقائق ومواجهتها وليس تجاهلها والبحث عن تبرير لذلك. القضية أمام ضميركم وأنتم وضميركم أمام الشعب في هذه اللحظة الحاسمة.


http://nasiriyah.org/nar/ifm.php?recordID=6380

92
ماذا يعني ان تكون مفوضية الإنتخابات فاسدة؟ اسئلة إضافية لدعم النائبة الفتلاوي



صائب خليل
22 تموز 2011

تدور اليوم في اروقة البرلمان العراقي وخلف الكواليس معركة حياة أو موت في طرفي قضية من أهم ما واجه الشعب العراقي من قضايا مصيرية سيكون لها الأثر الحاسم في تقرير مستقبله السياسي والوطني، معركة فساد المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات مع سيدة عراقية تكاد تقف وحدها في وجه جهات عملاقة محلية ودولية ترى من مصلحتها أن يبقى العراق فاسداً ومصدراً للإثراء والنهب غير المحدود، إنها معركة النائبة الباسلة حنان الفتلاوي دفاعاً عن بلادها ضد الخطر المحدق بها.

أشارت النائبة الفتلاوي إلى عمليات فساد لا حصر لها مثل قيام عضو المفوضية اسامة العاني باستئجار منزل بمبلغ 33 مليون دينار خارج المنطقة الدولية، وأن معظم من شارك في الايفادات هم من اقارب المفوضين، وجمع وكيل السيد قاسم العبودي مابين وظيفتين وتساؤلات عن الحريق في بناية المفوضية وادى الى خسائر تقدر بمليوني دولار ، وعن اسباب معاقبة رئيس قسم العقود وتخفيض درجته ومن ثم اعادته الى درجته الوظيفية وتسليمه مستحقاته المالية عن فترة العقوبة.
وقالت أن فرج الحيدري حصل على 206 ايام اجازة وحصل المفوض سعد الراوي على 213 يوم.
ولكن أخطر ما قالته الفتلاوي امتلاكها وثائق تبين أن ادخال البيانات كان تحت سيطرة الأمم المتحدة (إقرأ "الولايات المتحدة") بعدما تم سحب صلاحية الجانب العراقي منه وخضوع بعض الموظفين المعترضين لعقوبات ادارية قاسية بسبب تقديمهم شكوى بخصوص عدم سيطرة المفوضية على مركز ادخال البيانات في ظل عدم تدخل اي شخص عراقي في تصميم برنامج الادخال. وقال قاسم العبودي ان النظام الفني الالكتروني المعتمد لادخال البيانات لايمكن التلاعب به من قبل اي جهة (!) واكد عدم وجود قدرة على تصميم مثل هذه البرامج المعقدة في العراق مما دفع المفوضية للاتفاق مع شركة اماراتية. (1) وهي أكاذيب صلفة بإمكان أي مهندس حاسبات (في وزارة التكنولوجيا مثلاً) ان يفندها فالبرنامج نفسه بسيط جداً، وما يعقده هو ما يمكن ان يضاف إليه ليسيطر عليه من بعد، دون أن يحس بذلك أحد!
وبالفعل تبين من تعليق للنائبة حنان الفتلاوي على موقع عراق القانون أن الموضوع كله كذب وأن أحداً لم يحاول أن ينتج ذلك البرنامج عراقياً على ما يبدو، فقالت: "اليوم وصل كتاب من وزارة العلوم والتكنلوجيا تقول فيه ان المفوضية لم تطلب منها تصميم برنامج ولو كانت فعلت لامكنها ذلك كونها لديها مختصين" (40)
بالمقابل فأن المفوضية هي التي يمكن اتهامها بقلة التأهل لمثل هذا العمل، فكتبت ...الفتلاوي أن الحيدري لايحمل تحصيلاً دراسياً يؤهله لرئاسة المفوضية (39)

كذلك تذكرنا أكاذيب "النظام الذي لايمكن التلاعب به" للعبودي، بأكاذيب فرج الحيدري السابقة، منها حين قال في مقابلة في الشرق الأوسط .. «الكتل السياسية إذا لم تثق بالفرز الإلكتروني وبأجهزة الكومبيوتر التي لا تعرف الإنحياز إلى أية كتلة، وهي أصلا غير منتمية إلى أي حزب ولا تقبل الخطأ، فكيف لها (الكتل السياسية) أن تثق بالفرز اليدوي الذي يقوم به أشخاص لا نعرف انتماءاتهم؟». اليس غريباً أن رئيس مفوضية إنتخابات لم يسمع بوجود تزوير اصوات عن طريق الحاسبات "التي لا تعرف الإنحياز"، حتى إن لم يقرأ عن الغاء البرلمان الهولندي لإستعمال الحاسبات التي "لا تعرف الإنحياز" ....وأن المدافعين عن سلامة الإنتخابات الإيرانية مثلاً، اعتبروا أن عدم استخدام الحاسبات في تلك الإنتخابات يعني أنها لا يمكن ان تكون قد زورت على نطاق واسع.

ونذكر التأخير الكبير غير المعقول والمشبوه لإعلان نتائج الإنتخابات العراقية وما أشرنا إليه في إحدى المقالات من أن "المعارضة في الزيمبابوي احتجت على أن إعلان نتائج الإنتخابات قد تأخر "عدة ساعات" عن الوقت الذي يفترض فيه إعلانها، وأنها تعتقد أن هذا التأخير يمكن أن يستعمل في تزويرها. هل تذكرون عندما تأخر إعلان نتائج انتخاباتنا الأخيرة "بضعة أسابيع" كانت صناديق الإقتراع حينها في حوزة الأمريكان؟ وقتها أيضاً لم يكد أحد يحتج على ذلك، وتحجج المسؤولون بـ "صعوبة الفرز" لأنهم لا يمتلكون أجهزة حديثة كالدول المتقدمة! ويبدو أن أجهزة زيمبابوي المتقدمة تستطيع في بضعة ساعات ما لاتستطيعه أجهزتنا في بضعة أسابيع! "

وعدا ذلك فأن من أهم ما كشفته النائبة الفتلاوي أن إدخال البيانات كان يتم من قبل أشخاص لهم ارتباطات بعصابات مسلحة (أو إرهابيين) وتم صدفة قتل أحدهم من قبل الشرطة العراقية في اشتباك بالسلاح الناري في شارع حيفا، واسمه يوسف حميد عبد الرزاق وكان يهم بقتل شخص آخر! (2)
يوسف هذا الذي إكتشف أنه يمتلك باج إدخال المعلومات، أي أنه يقرر ببساطة من الذي سيفوز في الإنتخابات ويصل إلى مجلس النواب العراقي كان مسلحاً بأسلحة نارية ورمانات وغيرها، وتبين أنه لم يتم تعيينه رسمياً في المفوضية! وتبين أنه يعمل في حماية أحد المفوضين (لم تفصح النائبة عن اسمه، ولم تفصح عن المفوض الذي وقع بالسماح بتسليمه الباج أيضاً).. بعد ذلك تجاهلت المفوضية تنبيه ساندرا ميشيل إلى ضرورة التحقيق في كل موظف في المفوضية له علاقة بهذا الشخص، وترك هؤلاء بلا استجواب، ومن ضمنهم أخ الموظف الإرهابي الذي قال الحيدري أنه تم تشكيل لجنة للتحقيق "أثبتت براءته" وبقي يعمل في المفوضية!
قال الحيدري بوقاحة جواباً على ذلك بأن الموظف تم صرف باج دخول له قبل تعيينه استعجالاً، لكنه تجاهل الحقيقة الأساسية التي تقول أن الباجات الخطيرة صرفت لشخص قبل تعيينهم أو التأكد من موقفهم، في الوقت الذي يفترض أن تتعامل المفوضية بحذر شديد مع مثل هؤلاء، لكنها فعلت العكس، ولم يثرها إختفاء الموظف المعني لمدة شهرين!
الفتلاوي، بحكم موقعها المسؤول تعاملت مع الموضوع باعتباره "إهمالاً"، أما نحن فنقول أن المسألة تبدو لنا غير ذلك، وأنها ببساطة قد تعني تسليم مركز إدخال البيانات لأشخاص من جهات مشبوهة، ربما بشكل متعمد, وربما يكون عدم تعيينهم حرصاً على سرية تلك العملية وليس الإستعجال، وكذلك القدرة على تخفيف المسؤولية عن المفوضية في حالة انكشافهم.
الحقائق بسيطة وحاسمة، لذلك لجأ هؤلاء إلى تشويش الصورة وطمس الحقائق ومنها التشويش على أهمية القضية كلها وخطورتها. مقال في موقع جهة سياسية هامة يهمها طمس الموضوع، يلوم النائبة لأنها "تشغل وقتها ووقت مجلس النواب والشعب بمبلغ 250 الف دينار" ومؤكداً أن "مجلس النواب ....عليه واجبات جسام لذا فمن الجرم اشغاله بقضايا تافهة يستطيع ملازم شرطة حلها".(3)
نلاحظ هنا أن أغلب وسائل الإعلام تجاهلت تماماً هذا الموضوع، فلم تغطها أكثر الأخبار التي غطت موضوع فساد المفوضية واعتراضت النائبة الفتلاوي عليها، كذلك لم أجد حتى اليوم مقالة أو خبراً تحت عنوان مثل: "إرهابيين في مركز إدخال المعلومات للمفوضية في الإنتخابات العراقية"!
لذا وجب التأكيد أنه رغم ان المبالغ المختلسة كبيرة، إلا أن الموضوع أبعد وأكبر كثيراً من حجم المبالغ المختلسة. فما الذي يعنيه أن تكون مفوضية الإنتخابات فاسدة في بلد ما؟ إنها تعني ببساطة أن النظام الإنتخابي والديمقراطي ووسيلة الوصول إلى السلطة كلها فاسدة وخطيرة، يعني أن البلاد وشعبها ومستقبل أجياله على كف عفريت!

***

منذ انطلاق الإنتخابات الأخيرة (2010) دارت حولها الكثير من الشبهات بالتزوير التي وصلت حدود اليقين. تزوير بجميع أنواعه، المالي والإعلامي والغش بالبطاقات الإضافية ومنع ناخبين وتغيير أرقام وإدخال بيانات وتأجيل إعلان نتائج وابتزاز الهيئات الإنتخابية والدستورية من قبل السفارة الأمريكية وممثل الأمم المتحدة، منذ ذلك الحين والشعب العراقي يتطلع إلى التحقيق في ههذه المجموعة التي يقودها فرج الحيدري وتفرض نفسها بشكل غير معهود، ورفض الحيدري المراجعة، فأصر على "إستحالة إعادة العد" ثم "إعادة العد مع الإمتناع المتعمد عن مقارنة بعض الأرقام" ، والإصرار على أن الحاسبات ملائكة لا تخطئ ولا تغش وأن الشك بنتائج الحاسبات كفر والحاد!
كان عدد قليل من الكتاب منهم كاتب هذه السطور يتصدى بما استطاع لتلك الأعاجيب ويبين خطأها ولا معقوليتها، وأن الحيدري كان يستغل جهل العراقيين بالإنتخابات ليقلب الحقائق ويفرض على الناس قبول ما هو خاطئ تماماً، "لسبب ما"!

كذلك أثيرت أثناء وبعد الإنتخابات العديد من الشكوك حول تصرفات منتسبي المفوضية في مختلف أنحاء العالم (4) وأثار بعض المفوضين مثل السيدة حمدية الحسيني، إشكالات عديدة واعترضت وفضحت "حقائق" ثم أثيرت حولها تساؤلات أيضاً وضاع الأمر فلم يعد مفهوماً من هو الضحية ومن هو المذنب، فاتهمها البعض بأنها "نموذج للفساد" (5)  وأنها "تواجه ملفات جرمية" (6) ومنحها البعض الآخر فرصة للدفاع عن نفسها من خلال مقابلات صحفية، بدت خلالها شديدة الحذر في اختيار كلماتها.(7)

واليوم كما فعل في الأمس من التهرب والسخرية من المتسائلين، وقف الحيدري موقفاً معادياً لمحاولات الإستجواب التي أثارها بعض النواب والإعلاميين، وأشار في بيان إلى أن «المفوضية لاحظت وجود حملة اعلامية من قبل القائمين او الداعين للاستجواب ابتعدت عن الهدف الاساس منه». وأخيراً، ورغم كل محاولات التملص والتأخير والتهرب، تمكنت النائبة حنان الفتلاوي من إقناع عدد كبير من النواب بتوقيع طلب استجواب رئيس المفوضية وأعضاءها. (8) وقال الحيدري إن طرح موضوع استجواب مجلس المفوضية من قبل البرلمان "شيء غريب عجيب"، و "لا يليق بالمفوضية" و "لا يعرف دوافعه" و "يعد تراجعا عن الديمقراطية." (9) وبالفعل أشارت مجموعة نواب قائمة دولة القانون الداعية للإستجواب، الى محاولات للمفوضية ، لـ«تمييع قضية الاستجواب والعمل على الغائه عن طريق التنسيق مع كتل نيابية»، وأن تلك المحاولات مدعومة من بعثة الامم المتحدة (!) وأشارت حنان الفتلاوي إلى تحقيق المفوضية بعض النجاح في مسعاها لتمييع الموضوع فقالت أن «هناك جهات نيابية اخذت تغير موقفها من طلب الاستجواب بضغوط من البعثة الاممية او عن طريق تنسيق المواقف مع اعضاء في المفوضية». وبالفعل تم تأجيل الإستجواب لتمكين الضغوط من الوقت الذي تحتاجه لإفشال المشروع. (10)
وخلال الإستجوابات تصرف بعض أعضاء المفوضية بشكل خشن، ربما كان محاولة واعية لتحويل قضية خاسرة إلى "عركة" يختلط فيها الحق بالباطل، كما فعل مثال الآلوسي عندما حاول البرلمان محاسبته عشية زيارته لإسرائيل، وأدى ذلك إلى إقالة عضو مجلس المفوضين في المفوضية، إياد الكناني (11)

وهذا  تقرير مصوّر حول ندوة الدكتورة حنان الفتلاوي في دار الاسلام - لندن‏ (12)

ردود الفعل

وصفت النائبة المستقلة صفية السهيل جلسة مجلس النواب التي تم فيها استجواب مفوضية الانتخابات بانها تاريخية وان اداء النائبة حنان الفتلاوي خلالها اثبت كفاءة ونزاهة وقدرة المرأة البرلمانية.
"وخاصة الدخول بتفاصيل من يدير مركز ادخال البيانات والسيرفر الذي اتضح ان الامم المتحدة تديره ودون اية ارادة للمفوضية، وهذا ما يضع علامات استفهام كبيرة على نتائج الانتخابات الماضية".
واضافت "ان الفتلاوي اثبتت ان الانتخابات الماضية غير شفافة ولم تدار من قبل المفوضية بل اديرت من قبل الامم المتحدة والفريق الدولي بمساعدة المفوضية وليس العكس كما هو المفروض".
واشارت السهيل الى انه اتضح من خلال الاستجواب الى ان الجانب العراقي لا يملك مفاتيح الدخول للسيرفر الخاص بادخال البيانات ". (13)
ومن القائمة العراقية البيضاء قالت عالية نصيف إن "مجلس مفوضية الانتخابات فيه الكثير من الخروق الإدارية، خصوصا وقد اشرنا الكثير من منها في عملية تزوير الانتخابات خلال المرحلة السابقة" (14)
وكتب عميد كلية الإعلام د. هاشم حسن: "نعم كانت اسئلة السيدة الفاضلة دقيقة ومستندة لوثائق وجهد معمق من التحري والتثبت مايرقى لمستوى التحقيق الجنائي الملم بكل المبرزات الجرمية المستخلصة والمستلة من ميدانها الحقيقي لتكون قاطعة ودامغة لم تفسح مجالا للطعن (...) وهذه حالة نادرة لو تكررت مع نواب اخرين لاطمئن الشعب على مستقبل البرلمان والبلاد شرط ان لايمر هذا الاستجواب بسلام مثل غيره بل يجب ان ينتهي بسحب الثقة وتحويل ملفات المفوضية لقاضي عادل وحاسم لايجامل بل يتخذ القرار بسرعة فالوثائق جاهزة والاجوبة كانت ضعيفة وغير دقيقة بل مضحكة وتثير السخرية...شكرا باسم الشعب لحنان الفتلاوي"(15)

وحاول فرج أن يقلب الأمور ويتحول إلى الهجوم على النائبة ومن وقف معها، بدلاً من الدفاع عن نفسه أمام التهم التي وجهتها له، فهاجم كل من اتهمه، وأقام دعاوي قضائية ضد كل من الدكتور هاشم حسن والنائبة الفتلاوي، مطالباً إياهم بملايين الدولارات. ولا يمكننا لوم الحيدري على ذلك فلم يكن في وضع يمكنه منه أن يقنع أحد بالرد والكلام.(16) بضمنهم رئاسة البرلمان (17) وقال عبد السلام المالكي المالكي عن ائتلاف دولة القانون ان "اجوبة رئيس مفوضية الانتخابات فرج الحيدري خلال استجوابه من قبل مجلس النواب امس الخميس لم تكن مقنعة لكثير من اعضاء المجلس".
ولكن، إن كان خطاب الحيدري غير قادر على إقناع أحد، فأن "أموراً أخرى" تستطيع ذلك بلا شك. فرغم وضوح الفساد الشديد المثبت على المفوضية فقد انبرى للدفاع عنها نفس المجموعة المدافعة عن الإتجاه الأمريكي: الإتحاد الكردستاني والمجلس الأعلى (الذي لم يستطع الدفاع فقال أن حلها يمثل "خسارة لا يمكن تعويضها" وأنه تم صرف أموال كثيرة عليها) (18) وشكك المجلس الأعلى بـ "وجود أهداف سياسية وراء استجواب مفوضية الانتخابات في البرلمان" (19) ووصف "هذه الاجراءات بالانفعالية وانها ستدخل البلاد في فراغ" (20) والعراقية (21) (دون العراقية البيضاء التي انفصلت عنها)، ووصل الأمر بالعراقية الإتهام بأن محاسبة المفوضية "يؤسس لدكتاتورية جديدة" (22).

 كما انظم إليهم التيار الصدري الذي أكثر في الفترة السابقة من اتخاذ مواقف غريبة تتناقض مع مواقفه المعلنة، وبشكل مفاجئ وبدون تقديم أية تفسيرات تستحق الذكر. ويذكر أن الصدريين اتخذوا موقفاً غريباً مشابها تماماً في منع إعادة العد في الإنتخابات السابقة، وهو ما يؤشر خللاً خطيراً ربما يمثل اختراقاً لقياداتهم التي لم تعد قراراتها تنسجم مع مواقفها المعلنة التي تعبر تطلعات جماهيرها، وحينها كتبت:
"أشير هنا باستغراب شديد إلى مشاركة بهاء الأعرجي لدعاوي رفض إعادة العد وتصويرها كشيء عسير وغير منطقي و "قفز على الشرعية" (رغم أنها جرت بكل الطرق والأدوات الشرعية المتوفرة)، بدلاً من الإصرار على ما يطمئن الناخب حتى إن تبين أنه لم يكن هناك خطأ. موقف الأعرجي يمثل تراجعاً خطيراً عن مواقف الصدريين السابقة التي كانت تطالب دائماً بأقصى شفافية ممكنة، وتؤكد على حق المواطن في المعرفة والمشاركة.....وهكذا يراد إفهام الجميع أن من يستطيع التزوير في أية انتخابات قادمة فليفعل، وليس عليه أن يخشى إعادة العد، فهي "مستحيلة"! (23) وحينها بينت بعض الجهات مثل منظمة تموز في ذي قار قد كلفت نفسها أن تؤكد للمفوضية صراحة بأن "عملية اعادة العد اليدوي ليست مستحيلة".(*)

ولم يكتف هؤلاء الذين وضعوا نفسهم بلا خجل سداً منيعاً أمام التحقيق ومعرفة الحقيقة، بالإمتناع عن إدانة الفساد في المفوضية، بل سارعوا إلى مهاجمة من فضحه، فقال النائب عن التحالف الكردستاني محما خليل أن "استجواب رئيس وأعضاء مفوضية الانتخابات في البرلمان كان سياسيا وانتقاميا". (24)
وليس هذا غريباً، فقد واجه منتقدوا المفوضية في الإنتخابات السابقة أيضاً هجوماً إعلامياً كبيراً ، فكتبت في إحدى مقالاتي حينها: "في هذه الأثناء انتشر في وكالات الأنباء والصحف والإنترنت، سيل هائل من المقالات التي تعتمد على مصادر مجهولة وتؤكد أن المالكي يستعد لأعتقال موظفي المفوضية، أو يتسعد لأستعمال الجيش وأن المالكي وحلفاؤه لا ينوون تسليم السلطة سلمياً" (الواشنطون بوست) وجميعها لا تشير إلى أي مصدر، وكثيراً ما تحور العبارات لتعطي انطباعاً أقوى أو حتى مختلف عن أصلها!
من الذي يسعى إلى إعاقة إعادة العد يدوياً، وفحص الحقيقة؟ إنه من يرفض ويهول العد، ومن يقف وراءه: الإحتلال!"(25)

ورغم أن محمود عثمان عد بعض اجوبة رئيس واعضاء المفوضية "غير مقنعة" ، إلا أنه عاد ليقول ان "عملية لاستجواب جزء منها كان هدفه سياسي"!
ولم يكن هذا الأمر مستغرباً من التحالف الذي وقف دائماً مع أية جهة تتهم بالفساد أو حتى تدان به وغالباً بصراحة وتحدي منذ أيام الشعلان، رغم أنه أشار بحكم العادة إلى دعمه للجهود ضد الفساد (!) وهي المقدمة المعتادة لكل من يريد الإقدام على عمل مخجل.
ولم يجد الاتروشي سوى اقتراح تأجيل الموضوع إلى الأبد حين طالب "بالتريث في استجواب المفوضية حتى حل المشاكل العالقة بين الكتل السياسية" (!) مبرراً ذلك بأن "استجواب المفوضية يخدم مصالح طرف مشارك في العملية السياسية"  (كأن فضح الفساد يجب أن لا يخدم أحداً ليكون مقبولاً، وأن المتضرر من الفساد يصبح مشبوهاً إن فضحه) ، مؤكدا أن "الأجدر بالبرلمان والكتل السياسية تسمية المرشحين للوزارات الأمنية بأسرع وقت ممكن"  بدل الانشغال بهذه القضايا غير المستعجلة (!) (26)
 
ومثلما يفعل أي لص يمسك متلبساً، نفى عضو مجلس المفوضية القاضي قاسم العبودي بشدة، أيَّ وجود لفساد مالي أو اداري في المفوضية، وتساءل العبودي عن «سبب استجواب المفوضية مرتين، فيما لم يتم التحقيق في قضايا فساد كبيرة جداً». (27)

 يلاحظ مهند الحسيني أن الحيدري بعد ان واجهته السيدة الفتلاوي ببعض الوثائق الدامغة قال بالحرف الواحد " لا يوجد لدي تعليق"، (28) وهي سخرية من مجلس النواب معروفة في السياسة الأمريكية حيث كان ريكان يجيب الكونغرس باستخفاف مماثل عندما تتم محاصرته، معتمداً على انقسام الكونغرس حزبياً، وقلة الشرفاء فيه.
ونتيجة مثل هذا الإنقسام التحزبي، وقلة من يهتم بالشرف في مجلس النواب، كان الحيدري مطمئناً إلى أن فضائحه لن تؤدي إلى نتيجة  وأن “ائتلاف دولة القانون ليس قادرا على سحب الثقة من مجلس المفوضية لأن بقية الكتل السياسية لا تدعم هذا التوجه”.(29)

ليس سهلاً فهم منطق العراقية وبقية الفريق المعارض لمحاسبة أعضاء المفوضية، ولم نسمع يوماً بديمقراطية تعيش على عدم محاسبة إنسان ما وكشف الحقائق. فالمحاسبة يجب أن تكون قادرة للوصول إلى أي شخص، مهما كان مقدساً وفي أي منصب. وعلى أية حال فلا أتصور أن أي من أفراد الشعب يرى "هالة قدسية" على فرج الحيدري وفريقه، بل أن اختيارهم وتعيينهم كان مشبوهاً، كما سيأتي في إحدى مقالاتي أدناه، وكما لاحظ الباحث سلام كبة فأن المفوضية "لم يطلع ابناء الشعب العراقي على السيرة الذاتية لاعضائها،...كما لم توضع شروط للمتقدمين تساهم في اختيارهم لجنة مكونة من اعضاء من محكمة التمييز وممثلي الامم المتحدة وهيئة النزاهة بالتعاون مع مجلس النواب."(30)
كذلك لا نفهم كيف تكون "خسارة" أن تزاح مفوضية تسلم مفاتيح إدخال المعلومات إلى إرهابيين لم تعلن عن تعيينهم فيها، ويعرض أعضاءها انفسهم كسلع للبيع في حالات فساد من مستوى متدن للغاية.

إن خطورة الفساد في المفوضية ليست في الأموال الضائعة، بل في أصوات الناخبين الضائعة وتمكين الجهات الأجنبية (الولايات المتحدة) من التأثير وبحرية، على نتائج الإنتخابات، ولا نستطيع أن نبعد عن فكرنا أن هذا لا بد أن يكون السبب الأول الذي فازت فيه الكتلة التي تدعمها الولايات المتحدة بأعلى نسبة مقاعد، لكنها لم تجد جهة واحدة تثق بها لتشكل معها تحالفاً يوصلها الى السلطة!

من المفيد التركيز على هذا الجانب الخطير من الفساد، وأشير هنا إلى مجموعة مقالات لي عن المفوضية، أدرج هنا ملخصاً لأهم ما جاء فيها.

قبيل إنتخابات مجالس المحافظات السابقة أعلنت المفوضية عن نيتها استخدام نظام "ألقرعة الإلكترونية" لإختيار موظفي مراكز تسجيل الناخبين، وأعلنت أن الأمر سيتم بحضور جميع وسائل الإعلام، التزاماً بالشفافية. وقد يبدو الأمر سليماً بالنسبة لمن لا يعرف شيئاً عن الحاسبات، لكن هذا اختصاصي، فكتبت مقالة بعنوان " إستخدام الإلكترونيات في الإنتخابات ليست حضارة وإنما محاولات تزوير"
بينت فيها أن الحاسبات لا تعرف القرعة الحقيقية، وأن الأمر يعتمد تماماً على المبرمج والثقة به، وأنه بالإمكان برمجة الحاسبة لتقول ما يشاء المبرمج، وحتى البرنامج المعروف الذي ينتج رقماً عشوائياً في الحاسبة، فإنه ينتج "رقماً عشوائياً ظاهرياً" أو "كاذبا" (Pseudo random) وأنه يمكن السيطرة عليها أيضاً عن بعد، وأن وجود وسائل الإعلام لا يعني شيئاً على الإطلاق، ولذلك تستخدم القرعة الإلكترونية في الأمور التافهة نسبياً فقط على مستوى العالم. وقد كتبت رسالة بذلك إلى المفوضية طالباً شرح تلك الآلية، ولم اتلق رداً. (31)

وعن الخوف مما قد تكشفه عملية إعادة العد كتبت مقالة "إحترام نتائج التزوير" جاء فيها : "يرى الدنبوس أن مصيبة العراق تكمن في "إعادة العد"، وأن الحل في "احترام نتائج الانتخابات"....ويرى بهاء الأعرجي أن "إعادة العد" ليس سوى “تصعيد سياسي وحب الذات" وعمار الحكيم يرى "ان عملية الفرز اليدوي التي يراد تحقيقها في البلاد تحمل في طياتها العديد من المخاطر" ، والنجيفي يقول أن إعادة الفرز في بغداد قد تؤخر العملية السياسية سنة! والملا يصف "أعادة العد" بانصياع القضاء العراقي لرغبات السلطة التنفيذية وأنها "مؤشر خطير"، وستجعل شرعية الانتخابات على المحك. أما ظافر العاني فجعلها مسألة شرف فقال أن اعادة فرز الاصوات " علامة سوداء في جبين القضاء العراقي" . فرج الحيدري، ... أن إعادة العد يعادل إعادة الإنتخابات، وأنه سيجر البلاد إلى الهاوية! وقال أنها "ضرب من المستحيل"، ...سعد الراوي يؤيده ... "خطة لوجستية وأمنية جديدة"!

السفير الامريكي كريس هيل، الذي لم يزعجه التأخر غيرالطبيعي في إعلان نتائج الإنتخابات الأولي، قد عبر عن احتجاجه غير المباشر على إعادة العد فقال أنه "قلق بشأن المدة التي يستغرقها الساسة العراقيون في التصديق على نتائج الانتخابات" أما جو بايدن فوقف بوجه إعادة العد بوضوح وشراسة قائلاً أن الإنتخابات البرلمانية التي جرت في السابع من آذار هي انتخابات نزيهة وان الولايات المتحدة تعارض اي جهد غير قانوني لتغيير النتيجة.! .....
... جرت إعادة العد في هولندا، وبدون كل تلك الإعتراضات والتهويلات ليس في روتردام فقط بل وأيضاً مدينة ماسترخت إضافة إلى عدد كبير من المدن الصغيرة مثل الميرة ، هلموند، زيفولده، إيمين، ليلستاد، ستادسكانال، خلدروب – ميرلو، لوبيك! " (32)

انطلق الحيدري بعملية إعادة العد، بشكل مثير للسخرية! وقد اعترض الدكتور الشهرستاني عليها، فقال في مؤتمر صحفي " ان مفوضية الإنتخابات قررت في اجراءاتها باعادة عملية العد والفرز عدم مطابقة الاستمارات في صناديق الاقتراع مع سجل الناخبين، الأمر الذي نعتبره مفاجئ لنا ولأسباب نجهلها حيث من المفروض ان تقوم المفوضية بمطابقة سجل الناخبين والتواقيع لكل ناخب مع استمارات الناخبين في صناديق الاقتراع ثم احتساب الأصوات في كل محطة"
وتحججت المفوضية على ما يبدو بصيغة تم ترهيمها خلال فترة التأخير التي قدمها لها الحيدري، فقالت "بأنها لا تستطيع  ان تدقق في التواقيع لان ذلك موضوع جنائي" لكن الشهرستاني أشار "طلبنا كان واضحا وحسب القنوات القانونية بان تلجأ مفوضية الانتخابات الى مطابقة استمارات الناخبين في صناديق الاقتراع مع سجل الناخبين وعدم اعتماد استمارات (501) و (502) القديمة" وأغرب من كل ذلك أن المفوضية رفضت السماح لممثلي دولة القانون دخول قاعة العد، بعد تأخير المفوضية إصدار هوياتهم!! وقد قدمت دولة القانون شكوى قضائية.
... سارعت كل من السفارة الأمريكية وممثل الأمم المتحدة بإمتداح عملية إعادة العد هذه وطالبت بقبول نتائجها!! (33)

العراقية ...وصفت المطالبة بإعادة العد، بأنها "تدخل في شؤون المفوضية وشؤون خبراء الأمم المتحدة وابتعاد عن السلوك الديمقراطي الذي يقضي بقبول النتائج دون محاولات خلق حالات فوضى"!!  أي يجب قبول النتائج دون أعتراض، وعدم التدخل في "شؤون الأمم المتحدة"! وقالوا أيضاً أن "العد اليدوي غير منطقي وهو امر غير صحيح للتداول السلمي للسلطة"!!  وكأن من يقوم بالإعتراض على سلامة العد، إنما يقوم بإنقلاب عسكري على الديمقراطية!

ويقول ... حيدر الملا بأن المطالبة بإعادة العد، "محاولة تزوير"، وأن هذا العمل "يدلل على تورط المالكي في أعمال العنف التي شهدتها البلاد قبل الانتخابات" (!!) وأن البرلمان المقبل مطالب بمحاسبة المالكي على تلك الأعمال! ووصف الهاشمي ردود فعل إئتلاف دولة القانون بالتهديد بالعصيان المدني مالم يتم عد الأصوات بأنها " تهديدا للكتل السياسية وتحديا لإرادة المواطنين" و "لعب بالنار". كيف تكون المطالبة بإعادة عد أصوات المواطنين، "تحدياً لإرادة المواطنين"؟ لا ندري. أذكر مقابلة لأياد علاوي في برنامج "هارد توك" في الـ بي بي سي، الح فيه المحاور بسؤال أياد علاوي فيما إذا كان سيقبل نتائج الإنتخابات إن لم ينجح فيها، فكانت إجابات علاوي برفض مثل ذلك القبول واشتراطه برؤيته لشفافية وسلامة الإنتخابات, وإلا....!!
أي أن الإعتراض حق طبيعي بالنسبة لهم، و"تدخل في شؤون المفوضية، والأمم المتحدة" بالنسبة للآخرين!  (34)

وتحت عنوان "شركة حاسبات واتصالات مفوضية الإنتخابات مملوكة لمنظمة مجاهدي خلق وتدار من معسكر أشرف!" كتبت:" أن النظام الحاسوبي الذي تستعمله المفوضية قد تم شراؤه من قبل بعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق (UNAMI) من شركة تسمى “ناشيتا” (Nashita) (2) وأن الشركة تجهز المفوضية بكافة أجهزة الإتصالات بين مراكزها في المحافظات وبين المركز في بغداد، بواسطة شبكة أتصالات من خلال الأقمار الصناعية (VSAT) والذي يجهز إتصالات الإنترنت من خلال تلك الأقمار لتقديم خدمة البث الفيديوي الرقمي، من الجيل الثاني (DVB-S2).....النقطة الأخرى الأكثر خطورة في تلك المعلومات هي أن هذه الشركة مملوكة لمنظمة مجاهدي خلق، وأن حساباتها المالية تدار من معسكر أشرف، وبمساندة من منظماتهم في الخارج! (35)

وبعد نشر مقالتين لي عن علاقة حاسبات واتصالات مفوضية الإنتخابات مع منظمة مجاهدي خلق وردني من شركة محاماة شركة "ناشطة" تهديد بإقامة الدعوى ضدي في المحاكم الأمريكية والدولية، وقد رددت على تلك الإتهامات. (36)
إضافة إلى مقالات أخرى لي : "ما الذي كشفته الإنتخابات ومعركة العد اليدوي؟ الجزء الثاني" (37) و "معلومات جديدة هامة عن شركة حاسبات المفوضية، ناشطة" (38)


خاتمة

كتبت النائبة حنان الفتلاوي تعليقاً في موقع "عراق القانون" دعت فيه من يريد الخير للعراق للوقوف معها في هذا الموضوع الخطير، ولم تخف قلقها وشكواها من التحيز الإعلامي ضدها، والتهديدات الموجهة إليها

"نعم اخوتي هناك الكثير ممايحتاج للتغيير وهذا يحتاج الجميع يد واحدة لاتصفق وبعد الذي حصل لي لااعتقد ان هناك من سيجازف ويواجه عصابة فاسدين فليس كل مايعرف يقال هم مجموعة ومعهم احزاب بامكانيات وماكنة اعلامية وانا وحدي سوى الله ودعاء الفقراء والمخلصين فالقنوات الفضائية معهم والمواقع الالكترونية لهم وانا احارب حتى بعض الوزارات التي بدأت بالتواطؤ معهم وبدأوا بتغيير بعض الوثائق. احتاج دعم الرأي العام فهذا هو الشيءالوحيد الذي تخافه الكتل وبقي لدينا عشرة ايام حيث تم تحديد الخميس من الاسبوع القادم موعدا للتصويت واخشى ان لاتصوت الكتل وبالنتيجة لن يحاسب اي فاسد بعد اليوم لانه بعد الذي سمعناه ورأيناه ويسكت عنه سيسكت عن اي فساد مستقبلا".(40)

وفي الوقت الذي تعمل فيه النائبة الفتلاوي على كشف المزيد من الحقائق وتهدد بكشف الكتل التي ستصوت ضد قرار حجب الثقة، فأن الجهة المقابلة تسعى بالضبط لحجب الحقيقة. فمثل كل مرة تتعرض فيها مصالح الولايات المتحدة إلى الخطر، ويوكل إلى البرلمان بقرار خطير، عادت العصابة إلى طرح موضوع "التصويت السري" لكي يمكن للنواب المرتشون والمبتزون العمل في الخفاء باطمئنان. فأشار النائب عن ائتلاف دولة القانون عباس البياتي إلى أن هناك من يسعى لتكون جلسة التصويت سرية. (41) ودعت النائبة جنان البرسيم إلى التصويت السري الإلكتروني بصراحة وقحة وبحجة التقدم التكنولوجي وحاجة ممثلي الشعب للعمل دون أن تعرف كتلهم بما يصوتون! (42)

هنا نقول بعجالة أن على النائبة الفتلاوي أن تقول كل ما عندها من حقائق وبأسرع وقت ممكن، ليس فقط من اجل الحقيقة، وإنما لحماية حياتها أيضاً، فكلما كانت الحقائق التي يمكن طمرها باغتيال الفتلاوي أكثر، كلما كان الدافع لذلك الإغتيال أكبر، وهذا ينطبق على كل من يحتفظ لنفسه بحقائق خطيرة، لأية أسباب، حتى لو كانت تلك الأسباب معقولة، وخاصة في مواجهة العصابات، مثل تلك التي نحن بصددها.

كيف يمكن لمن يسمي نفسه عراقي وطني، من السياسيين والكتل أن يسعى إلى بقاء حال يصل فيه الإرهابيون إلى مركز إدخال المعلومات إلى حاسبات مفوضية الإنتخابات، ويعدون سقوط مثل هذا النظام خسارة؟ كيف يجرؤ هؤلاء السادة أن يدافعون عن مثل هذا الحال بلا خجل وأمام الشعب؟ كيف يجد البعض الجرأة في محاولة إقناعنا بأن هذه القضية ليست مهمة وأنه يجب الإلتفات إلى قضايا أخرى؟ وكيف يجرؤ غيرهم على الدعوة إلى تصويت سري يسهل تزويره ويسهل على المتآمرين والمبتزين والمرتشين أن يخفوا أعمالهم عن أعين الشعب دون أن يخشوا غضبه عليهم؟

 المؤامرة خطيرة وكبيرة، وقد تكون لها نتائج شديدة على نظام الحكم والقانون والديمقراطية في العراق، لكنها أيضاً فرصة لتوجيه ضربة قوية إلى الفساد والخراب الذي يعم البلد. لقد وضعت نائبتنا حنان الفتلاوي حياتها على كفها مخاطرة بها وبحياة كل عائلتها وأقاربها من أجل تلك الفرصة لبلادها، فليعمل معها من يستطيع كل ما يستطيع، ولا يقول احد بأن الوضع في العراق ميئوس منه وأن لا وجود لشرفاء في السياسة العراقية، فهاهم الشرفاء يخاطرون بحياتهم من اجل بلادكم، فهل من حجة بعد ذلك للوقوف يائسين متفرجين؟ لنكتب ولنتظاهر ولنشعر العصابة ومن رضخ لإبتزازها أن الأمر خطير عليه، وان وراء الفتلاوي شعباً لن يتسامح لا مع اغتيال الحقائق ولا مع من يمس شعرة من يقف معه ويخاطر بحياته من أجله من فاضحي الحقائق الأبطال.

(1) http://www.parliament.iq/Iraqi_Council_of_Representatives.php?name=articles_ajsdyawqwqdjasdba46s7a98das6dasda7das4da6sd8asdsawewqeqw465e4qweq4wq6e4qw8eqwe4qw6eqwe4sadkj&file=showdetails&sid=4964
(2) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5561
(3) http://www.burathanews.com/news_article_129366.html
(4) http://www.yanabeealiraq.com/articles_10/alnemsa240310.htm
(5) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5908
(6) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=47173
(7) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=3458
(8) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=2638
(9) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=2595
(10) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=3630
(11) http://www.iraqicp.com/2010-11-22-05-28-38/3349-2011-05-12-08-08-03.html
(12) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5605
(13) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5423
(14) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=3322
(15) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=49195
(16) http://ar.radionawa.com/Detail.aspx?id=11019&LinkID=63
(17) www.4newiraq.com/index.php?sid=16204
(18) http://www.4newiraq.com/news/?sid=18077
(19) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=3322
(20) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5561
(21) http://www.albawwaba.net/news/37639/
(22) http://www.shafaaq.com/sh2/news/iraq-news/32173-2011-07-18-11-50-04.html
(23) http://www.yanabeealiraq.com/articles_0410/s_kalil270410.htm
(*) http://nasiriyah.org/nar/ifm.php?recordID=6380
(24) http://alsumarianews.com/ar/1/25100/news-details-.html
(25) http://www.yanabeealiraq.com/articles_10/s_kalil260310.htm
(26) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=3817
(27) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=516098.0
(28) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=515311.0
(29) http://www.albawwaba.net/news/37617/
(30) http://www.yanabeealiraq.com/articles/salam-kuba010410.htm
(31) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/19val.htm
(32) http://www.sautalomal.org/index.php/index.php?option=com_content&view=article&id=198
(33) http://www.al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/4p.htm
(34) http://www.yanabeealiraq.com/articles_10/s_kalil220310p.htm
(35) http://www.doroob.com/archives/?p=42796
(36) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/1va.htm
(37) http://www.yanabeealiraq.com/articles_0410/saeb-khalel130510.htm
(38) http://www.neinawa.com/siasia/sb9s.htm
(39)  http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5886
(40) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5803&start=30&page=2
(41) http://alsumarianews.com/ar/1/25100/news-details-.html
(42) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5748#comment31234



93
ما معنى إن قبلتم سأقبل يا مالكي؟

صائب خليل
14 تموز 2011

بعد التقلب المؤلم لموقف الحكومة بين الرفض الحاسم، والتميع الشديد من توقيع إبقاء قوات الإحتلال أو جزء منها وبين رفض أية تسميات والقبول الفوري الضمني تحت تسميات لا تعني شيئاً، يترك الشعب حائراً أمام الموقف اللامبدئي المؤسف لمن انتخبهم، تماماً مثلما حدث في معاهدة المالكي (الأولى؟) والحيل اللغوية التي استعملت لتمريرها عليه.

الكثير من العبارات الإعتيادية المفهومة في الحياة العامة، تصبح ملتبسة عندما تدخل عالم السياسة الدقيق والعملي، فعندها تأخذ هذه العبارات صيغة مشوشة لها أكثر من معنى محتمل، أو لا معنى لها أحياناً – أي لا يكون لها معنى سياسي، أو نتائج سياسية.
ومن العبارات الملتبسة التي أذكرها وكانت تحوي أكثر من معنى، العبارة التي وردت في رسالة لرئيس الحكومة العراقية نوري المالكي إلى مجلس الأمن في الطلب الأخير لتجديد بقاء القوات التي تعمل تحت مظلتها في العراق، والتي قال فيها "على أن يكون هذا هو التمديد الأخير للقوات". ولم يكن واضحاً هل أن رئيس الوزراء كان يقصد أنه يشترط أن لا يمدد مجلس الأمن بقاء القوات، ام أنه يعد مجلس الأمن أن الحكومة العراقية لن تطلب تمديداً ثانياً؟
في النهاية تبين أن العبارة تخدم الوضع الذي أدى إلى توقيع المعاهدة التي بدأها رئيس الحكومة بتوقيع “مذكرة تفاهم” سرية مع الولايات المتحدة (الإسم اختير لكي لا يكون المالكي مجبراً على استشارة البرلمان، ولدى الأمريكان خبرة طويلة في الإفلات من مسؤولية الكونغرس بهذه الطريقة) ، ووصل إلى الوضع في العراق أنه لدينا جيش أمريكي (تحت مظلة الأمم المتحدة) وأنه "يجب توقيع معاهدة لتنظيم انسحابه" حسب ما قال رئيس الوزراء المالكي حينها، لأن الحكومة قد افهمت الأمم المتحدة أنها لن تطلب تمديداً!

اليوم، وبعد فترة من الكلام الواضح عن رفض التمديد لأي جندي أمريكي بعد 2011 ، يعود السيد المالكي للكلام الغريب غير المفهوم وبعد حديث يتم إلصاقه لصقاً عن الديمقراطية وضرورة التشاور واتخاذ القرار، الخ، يقول بأنه إن اتفقت الكتل على تمديد البقاء فسوف يوافق، او يوقع معاهدة جديدة- لا فرق، لهذا الغرض.
وقد تبدو عبارة رئيس الوزراء هذه مفهومة لو كان يتكلم مع أصدقائه على المستوى الشخصي، أو لو كان الحديث عن مبادئ الديمقراطية والمشاركة الخ، لكن الأمر ليس كذلك. فعبارة "سأوافق إن اتفقت أغلب الكتل" أو إذا وافق 90% أو 80% ، عبارات ليس لها أي معنى سياسي محدد ومعقول في الإطار السياسي الذي قيلت فيه.

لاكتشاف الخلل، تخيلوا جميع الكتل السياسية تجتمع لتقول "سنوافق إن وافقت بقية الكتل" .. ثم ماذا؟ من الذي سيقول أنه "موافق" قبل أن توافق بقية الكتل، على الأقل لكي نرى إن كانت "بقية الكتل" موافقة أم لا..
وطبعاً، "سأوافق إن وافقت بقية الكتل" مساوية وتحتوي ضمناً "وسأرفض إن رفضت بقية الكتل". والآن ماذا سيحدث إن تجرأ أحدهم وقال: "أنا موافق"! ربما نتوقع أن يحدث تسونامي من الموافقات، لكن ذلك التسونامي ليس مبرراً حقاً. فموافقة كتلة واحدة لا تعني أن "بقية الكتل" موافقة. ولكي نوضح الأمر أكثر، تخيلوا أن كتلة، الصدريون مثلاً، قالت: "أنا أرفض". المفروض أنه يحدث تسونامي رفض هنا، إستناداً إلى نفس المنطق. والحقيقة أن الرفض قد يكون هنا أكثر منطقية من القبول في الحالة الأولى لأنه يعني أن الـ 90% او الـ 80% لن تحصل. لكن هذا لم يكن مقصوداً بشكل واضح. رئيس الوزراء لم يعد بدعم الرفض إن وجد أكثر من 20% من الرافضين، أو أية نسبة أخرى.
الم تضجر عزيزي القارئ من هذه اللعبة السخيفة؟ إن كنت قد ضجرت وأحسست بسخفها في مقالة فما بال من يعيشها فعلاً؟ ومن يجد أن مصير بلده يتعلق على مثلها من المراوغات الكلامية التافهة؟

دعنا نصرّ على الفهم ، على الأقل للخطوط العريضة لهذا اللعبة التشويشية المقصودة. الشيء المنطقي الوحيد لتفسير ذلك الكلام هو أن السيد المالكي سوف ينتظر أن توافق أكثرية الكتل قبل أن يعطي صوته..ويتوقع أن يكون القبول أو الرفض بأغلبية ساحقة بحيث لا يؤثر صوته عليها، ليقول : "هم الذين اتخذوا القرار"، فهو لم يتحدث عن موقفه إن تساوت الكتلتان مثلاً أو كان الفرق بينهما بسيطاً، ويكون صوته مؤثراً في النتيجة. إذن نفهم من عبارة رئيس الوزراء أنه يشترط أن يكون الحال بحيث أن صوته لا يؤثر على النتيجة، لكي يعطي رأيه! شرط غريب..لرئيس حكومة!

في خطابه في 11 مايس، تحدث السيد المالكي بإسهاب عن أؤلئك الذين تخلوا عن واجبهم في اتخاذ القرار عندما جاء وقت المناقشة حول توقيع المعاهدة قبل ثلاث أعوام تقريباً، وكيف أنهم كانوا يصارعون على حجم حقوقهم الدستورية واخذ رأيهم وإذا بهم يمتنعون عن تقديم رأيهم عندما حان وقت يتطلب تقديم الرأي والموقف. أليس موقف السيد رئيس الحكومة اليوم نفس موقف من انتقدهم في ذلك الخطاب؟

وبعيداً عن كل هذا، فالعبارة "سأوافق" بحد ذاتها، عبارة مبهمة بحد ذاتها في ذلك السياق السياسي. فهل المقصود بها، "سأقتنع" أم "سأرضخ" لرأي الأغلبية؟

إن كان القصد هو الأول، فهو امر غريب. فقناعات الإنسان لا تأتي من التصويت بالأغلبية. لا أحد ينتظر مثلاً نتيجة تصويت لكي يؤمن بالله أو يكفر به، ولا حتى أن يحب "اللون الأصفر" لذلك السبب.

أما إن كان القصد هو سأرضخ لرأي الأغلبية، لأن الديمقراطية تتطلب ذلك، كما يفهم من المقدمات التي تساق قبل أو بعد تلك العبارة في المناسبات التي تذكر فيها، فهي عبارة عن تصريح لا معنى له، لأن الرضوخ لحكم الأغلبية مسألة مفروغ منها، ولا يمكن لرئيس الوزراء مثلاً أن يعارض ذلك القرار ويعرقله حتى النهاية. يستطيع طبعاً أن يحل الحكومة، فيقوم البرلمان بانتخاب حكومة جديدة، توافق على قرار الأغلبية.

والحقيقة أن رئيس الوزراء ليس وحيداً في خطابه المبهم حول الموضوع، ولا هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها الخطاب مبهما من قبل الكثير من سياسي البلد، إن لم يكن معظمهم، بل تتكرر هذه الظاهرة في كل موقف حرج، خاصة عندما يتعلق الأمر بإرادة امريكية، وكل إرادة أمريكية في العراق، أمر حرج. ومصدر الإحراج هو أن موقف الشعب يكاد يكون دائماً بالضد من تلك الإرادة، إلا أن لتلك الإرادة دائماً قدرة غير واضحة الحجم لدى الناس، على ابتزاز ممثلي الشعب والحكومة.
الساسة يتخوفون على انفسهم من القوة الأمريكية وتأثيرها، لكنهم يعلمون ايضاً أن الشعب مخيف إذا أصر على شيء، لذا ينتظرون وينظرون ويراقبون ردود فعل الشعب، وهل هو مصر على الثبات على موقفه أم "بيها مجال"؟
عندما كانت الهبة الشعبية شديدة ضد مشروع الصهيوني بايدن بتقسيم العراق، سارع الساسة إلى اتخاذ موقف الشعب وزايدوا عليه، حتى أؤلئك الذين كانوا يحبذونه، فما دام المشروع واضح الفشل، فلماذا يفضح السياسي نفسه؟ هذا ما يفكر به الكثير من السياسيين (بالتأكيد ليس كلهم) في العراق حالياً. فحتى أياد علاوي يرجو أن يتم القرار حسب رغبة أميركا دون أن يكون قد وسخ يديه به إن أمكن. والأمريكان يريدون أيضاً أن يتم القرار ببقاء قواتهم، لكن الشيء المثالي بالنسبة لهم أن يتم ذلك مع تصويت رجالهم (أياد علاوي ، النجيفي، المطلك.. الخ) ضده إن أمكن، فذلك يسهل تسويقهم فيما بعد ويساعدهم على الإحتفاظ بمؤيديهم الذين يقفون ضد الإحتلال بكل قوة. كما أن ذلك يعني بنفس الوقت أن وساخة توقيع المعاهدة ستصيب خصومهم، وتشتت صفوفهم وتصيب ناخبيهم بخيبة أمل يمكن أن تشل إرادتهم السياسية وتدفع بهم إلى عدم المشاركة في الإنتخابات القادمة، كما أن احتجاجهم على الأمريكان سيكون أضعف بكثير، وأقل مصداقية.

وقبل بضعة سنوات حين تم انتخاب الجعفري، تكرر مثل هذا الوضع. وبقي الساسة ينتظرون من الذي سيقرر الإستجابة للإرادة الأمريكية بشكل حاسم وضد الإرادة الشعبية. ولما لم يتجرأ أحد على ذلك، جاءت كونداليزا رايس فحسمت الأمر، فجاء "تسونامي الموافقات" على إزاحة الجعفري. وكما شكى المالكي في خطاب 11 مايس، تكرر الامر في توقيع المعاهدة، عندما هبط رجالات مافيا بوش على العراق بكثافة، فحسم الأمر لصالحهم أيضاً، وهاهم يهبطون بكثافة غير طبيعية الآن ليشاركوا في المعركة ضد إرادة الشعب العراقي وممثليه الذين يرون فيهم خطراً على البلاد وليس خط دفاع عنها.

نعود إلى ما بدأنا به: كيف كان يجب أن يتحدث رئيس الوزراء ليكون معقولاً ومفهوماً بدلا من "سأوافق إن وافقوا"؟ الطبيعي هو أن يقول كل مسؤول أو برلماني، وبضمنهم السيد رئيس الوزراء، قناعته الشخصية بالرأي الذي يراه يخدم البلاد أكثر، بغض النظر عن رأي الآخرين (الذي لم يعرف أصلاً بعد) وان يدافع عن تلك القناعة ويقدم أسبابها، وأن يعمل على إقناع الآخرين بها، وأن يستخدم ما يتيحه له الدستور من صلاحيات من اجل الدفاع عنها، سواء من خلال التصويت بالنسبة للبرلمانيين، أو من خلال رفض المشروع وقطع الطريق عليه، أو قبوله وعرضه على البرلمان ، بالنسبة لرئيس الحكومة. وقد يرى رئيس الحكومة أن أقلية تقف معه في الرفض أو القبول، ويقرر أن القضية قضية مبدئية، وأنه لا يتحمل المسؤولية التاريخية لمثل ذلك القرار، فيقيل حكومته ويقدم استقالته حسب العرف الدستوري، ليتم تشكيل حكومة جديدة تصوت على القرار من جديد وتوافق عليه وتتحمل مسؤوليته، قبل تقديمه إلى البرلمان - او ترفضه.

هكذا هو الأمر بسيط جداً، إن نسينا الضغوط التي تجعله صعباً، كما هو الحال دائماً مع أي شيء يتعلق بأميركا. فحتى "صداقتها" تبدو إجبارية وبالضغط!

لكن الغرائب لم تنته عند هذا الحد على كل حال. الغريبة الأخرى هي أن البلد يناقش ويجادل وتتبادل كتله السياسية التهم  حول قبول أو رفض إتفاقية لم يكتب بعد حتى نص مسودتها الأولى! وهذه الأعجوبة الأخرى ايضاً ليست عسيرة على الفهم إن تفهمنا كيف تجري الأمور عادة مع أميركا. فالعراقيون يعلمون أن "النصوص" لا تعني الكثير في المعاهدات مع أميركا. و"الأسباب الموجبة" أيضاً ليست مهمة و"الوعود" باستفتاء شعبي مثلاً لن يتابعها أحد، لكنها جميعاً تفيد في تمييع الإرادة الشعبية لفرض رؤيتها في الموقف. ففي نص المعاهدة السابقة هناك بند شديد الصراحة يمنع تمديدها. وعلى الأغلب كتب هذا البند لإرضاء أو خداع الشعب الذي تجرعها بمرارة ، فكان لا بد من مساعدته على تحمل تلك المرارة من خلال تلك الألاعيب ومن خلال إعادة تسميتها بشكل يهدئ النفوس: "إتفاقية سحب القوات" ، وتظاهرات تؤيد المعاهدة، تطالب بسحب القوات الأمريكية ، وتصور معارضيها وكأنهم يريدون إبقاء القوات!

البند الخاص بعدم التجديد في تلك المعاهدة جاء بضغط من رئيس الوزراء حسبما فهمت، والذي رفضها في البداية بقوة. قال أنه لن يوقعها لو قطعوا يده. أراد رئيس الوزراء طريقة ليضمن أن المعاهدة لن تمدد، فمن الواضح أنه متأكد بأن القصد من "معاهدة سحب القوات" لم يكن لسحب القوات، بل لإنتظار فرصة أفضل لإبقائها بشكل رسمي، وهو ما يخشى على سمعته منه، خاصة إن بقت القوات بسببها لزمن طويل في العراق. كما يدل تثبيت مثل ذلك النص، بأنها "غير قابلة للتمديد" على عدم الثقة بأن الأمريكان لن يسعوا إلى التمديد بكل الطرق، ومنها الضغط، ويمثل ذلك النص استعداداً مسبقاً لمواجهة ذلك الضغط. لكن ذلك كله لم يكن يكفي كما هو واضح مما يحدث الآن. لقد اعترضنا حين توقعي المعاهدة بأن ما يوضع فيها من نصوص لن يعني الكثير مع دولة مثل الولايات المتحدة، المتخصصة في الضغط والتحوير والتحويل، لأي نص في أية معاهدة، أو حتى تجاهل النص كإجراء أخير، وهاهو التاريخ يثبت صحة ما ذهبنا إليه بوضوح تام. 
ونتذكر ايضاً أنه كان هناك نص بإجراء استفتاء شعبي يتيح إلغاءها أو تقصيرها، كما يتيح تقصير فترتها إن ارادت الحكومة.. كل الإجراءات والإحتياطات الممكنة التي تعكس عدم الثقة الشديد بالحكومة الأمريكية والسعي لتجنب الضغط الذي قد تمارسه على الحكومة من أجل التمديد. لكن هنا أيضاً لم يكن ذلك فعالاً، والحقيقة أن أية محاولة جدية لم تتم بشأن ذلك، حتى من معارضي المعاهدة، لأنهم يخشون القدرة الكبيرة على تزوير التصويت كما حدث في الإنتخابات الأخيرة، وحينها سيتاح للولايات المتحدة أن تدعي أن الشعب يريد بقاءها!

مع مرور الوقت خف تركيز الأمريكان و"أصدقاءهم" على تحديد اسباب البقاء بشكل محدد، فيبدو أن أحداً لم يعد تنطلي عليه عبارات "التدريب" و "الفضاء المفتوح" و "البحرية" ، كما خف التركيز على حقيقة أن هناك الكثير من الدول التي فعلت ذلك، لذا يجب أن نفعل مثلها، وسكتت تماماً الأصوات التي كانت تكرر بلا خجل ضرورة إبقاء القوات لكي تحول العراق إلى اليابان وألمانيا، لأنها على ما يبدو أصبحت كلاماً واضح الكذب، ومثير للتوتر والحنق. لذلك يفضل الفريق الأمريكي في الوقت الحاضر الحديث بشكل عام مبهم عن القرار بجانبية "السياسي" من ناحية، و "المهني" من الناحية الأخرى، للإيحاء بأن "الجانب المهني" يطالب ببقاء القوات، وأن من يريد خروجها، لا يفهم في تلك "الضرورات المهنية" وأنه يريد خروجها لأسباب "سياسية" و تأثير "دول الجوار" ففي العراق لا يوجد من لديه شعور وطني، وفي العراق لا يوجد من يدرك الخطر الأمريكي ولا من يعرف تاريخها في أية بلاد لها فيها سلطة على الحكم.

نلاحظ أيضاً أن نفس الذين هللوا للمعاهدة، وأكدوا أنها لـ "سحب القوات" وصبوا اللوم على معارضيها لأن هؤلاء "لا يريدون سحب القوات"، أؤلئك الذين يبدأون خطاباتهم ومقالاتهم بعبارات مثل "ليس هناك عراقي وطني لا يريد خروج الإحتلال"، هم أنفسهم اليوم من يطالب بـ "عدم سحب القوات"، مبرهنين على أنهم كانوا حينها مشاركين في خداع الشعب، وتوريطه في اتفاقية يعلمون أنها ستمدد وتبقى، مهما كان زمنها المحدد ونصوصها الواضحة وأسمها المزيف.

أن نفس الذين يرون اليوم أنهم غير قادرين على تنفيذ الإتفاقية التي سعوا لتوقيعها لسحب القوات مع هذه الدولة العملاقة ، رغم وضوح نصوصها الشديد، يسعون اليوم بلا خجل لتوريط البلاد في معاهدة جديدة، ليلقوا بتلك الورطة الجديدة إلى الأجيال القادمة للعراق، لتكون قيداً إضافياً يقيد حريتهم ويقلل قدرتهم على رفض أو مفاوضة أية إرادة أمريكية – إسرائيلية قادمة تفرض على بلادهم. إن نفس الذين وقعوا الإتفاقية الماضية مقبلون اليوم على توقيع معاهدة تجعل سمعتهم وشرفهم معلقاً بالطريقة التي ستتصرف فيها الولايات المتحدة في البلاد وبشكل ليس لهم أية قدرة على التأثير فيه، ولا نفهم من أين أتتهم الثقة بأن الولايات المتحدة سوف تتصرف في العراق بشكل لا يمرغ شرفهم في الوحول إلى الأبد، وما هو الشيء الذي يجبرهم على تلك المغامرة بذلك الشرف، لمن كان له شرف منهم.

لكن توقيع اتفاقية تمديد قوات لن تكون نهاية البلد أو نهاية إرادة الشعب، رغم أنها ستسبب الكثير من الضرر والآلام والإنشقاق التي سيتحمل مسؤليتها كل من دفع باتجاه توقيع تلك المعاهدة القديمة والقادمة الجديدة. فحتى مصر التي استمر فيها التواجد الأمريكي الإسرائيلي وبأعمق ما يكون في البلاد، استطاعت أن تثور، وأن تقلب الطاولة على عملاء إسرائيل وأميركا، ولا يتساهل الشعب المصري اليوم بأية علاقة مع هاتين الدولتين التين امتصتا ثروته وإنسانيته بشكل مباشر، ولا العملاء الذين تسببوا بها من حثالات الشعب، ولا يخلو شعب من الحثالات. إن الإصرار على بقاء القوات والعلاقة المشبوهة مع الأمريكان تنهي أية آمال بعلاقة طبيعية للأمريكان ولعملائهم في هذا البلد، ويجعل من مسألة طرد آخر فرد منهم، مهمة وطنية عامة، وعداءهم لن يقتصر على "المتطرفين" من العراقيين، ولن تنفع أية أجهزة أعلامية في تصوير الأمر بشكل آخر مزيف، والدليل في مصر التي مازالت تغلي ضد عملائها الذين ستتخلى أميركا عنهم كما فعلت مع من قبلهم.

لقد قال وزير الدفاع الأمريكي المغادر قبل بضعة أسابيع في تعليق له على مسألة بقاء قواته في العراق: "العراقيون لا يحبونا، وذلك هو التحدي". وإذا اتفقنا بأن رأي الشعب هذا لا يمكن تغييره خلال أسابيع أو أشهر، فكيف يمكن فهم تلك العبارة إلا بأنها تعني تحدي الشعب العراقي وإرادته وفرض الإرادة الأمريكية عليه من خلال الضغط والإبتزاز على سياسييه ومن لديه استعداد لبيع ضميره رخيصاً؟ كل الألعاب وكل الحركات البلهوانية اللغوية والسياسية سوف تخمد بعد قليل. وبالرغم من انها قد تنجح في تمرير إتفاقية كريهة أخرى بالرغم من إرادة الناس، لكنها لن تخدم في تسهيل قبول التاريخ لها، وسيبقى العراقيون أجيالاً طويلة يتذكرون موقف كل سياسي وكل فرد من هذه اللحظة التاريخية لبلادهم.


94
النجيفي وإقليم السنة والتشكيك بجريمة التاجي – وكيف نتعامل معها

صائب خليل
10 تموز 2011

لم تكن تصريحات النجيفي الأخيرة حول انفصال "إقليم للسنة" مفاجأة كبيرة لي، فقد استلمت المفاجأة قبلها ببضعة ايام من أحد معارفي الذي كان يؤكد لي أن موضوع "إقليم السنة" أو "الإقليم الغربي" أمر لا مفر منه وأنه لصالح المنطقة. وحين عجزت عن إقناعه من الناحية المبدئية، حاولت أن ابين له أن هذا الإقليم لن يحصل على ما حصل عليه إقليم كردستان الذي بنى ما حصل عليه على القوة بما لديه من جيش، والتنظيم والعلاقات الدولية والمصالح المعقدة التي يستحيل على إقليم السنة أن يحصل عليها، قال أنه يعلم ذلك وأنه يعلم أن الحكومة المركزية سوف لن تعط الإقليم إلا الحد الأدنى، لكن حتى بهذا الحد الأدنى فأن وضع الإقليم سيكون أفضل كثيراً، فهو لا يحصل على شيء يذكر الآن...هذا ما قاله.

هذه المناقشة استمرت ليومين أو ثلاثة، شعرت خلالها بإحباط لم اشعر به منذ توقيع المعاهدة الأمريكية قبل سنوات..فكما يعلم بعض قرائي فإني من أشد المعادين ليس للإنفصال فقط، بل حتى لتكوين الأقاليم، بعد التجربة المرة لإقليم كردستان، ولأني أعتبر أن العراق لن يحتمل ابتزازين من هذا النوع، فقد كنت في الوقت الذي أعارض فيه تكوين أي إقليم جديد، فقد دعوت إلى انفصال الإقليم الوحيد، كردستان، إن كانت تلك الفدرالية، بهذا الشكل المهين والعدائي، هي البديل الوحيد الممكن.

صاحبي كان مقتنعاً، وبقناعة يبدو أنها مبنية على اطلاع، بأن الإقليم هو ما يناسب المنطقة الغربية. ولأني لم أكن على اطلاع مساو لما في الداخل، فقد كانت المناقشة غير متوازنة، فهو يعرف الكثير من الأمثلة، ولم يكن لدي سوى عدد الوزارات التي يشغلها السنة كرد عليه، إضافة إلى حقيقة أن السنة اختاروا مجموعة مشبوهة وخطيرة لتمثيلهم، مما يجعل الثقة بهؤلاء القادة انتحاراً، وهي حجج لم تكن كافية على ما يبدو لدرء فكرة إقليم السنة. 

الشيء الغريب والجديد الذي أود إطلاع القراء عليه هو أن هناك عائق غير متوقع، إضافة للعوائق المعروفة، أمام المشروع الفدرالي – الإنفصالي وهو الإنشقاق الشديد بين مدينة الرمادي وبقية المنطقة الغربية، وأن هناك شعور بالتهميش الشديد لدى تلك المنطقة تجاه الرمادي، لذلك فالدعوة للفدرالية في حقيقتها أكثر من دعوة، فهناك الدعوة لفدرالية أو استقلالية ما، في المدن الغربية لا تشمل الرمادي، والشائع بين أبناء تلك المنطقة هو "أن نكون تحت حكم الشيعة ولا الرمادي". وطبيعي أن مثل هذا الطموح يمكن اعتباره مستحيل عملياً ودستورياً، وبالتالي فأن الدعوة كلها ربما لا تكون أكثر من احتجاج لا يهدف حقا إلى ما يقول.

كان النجيفي قد قال إن العرب السنة في العراق  يشعرون اليوم بالإحباط الشديد وما لم يتم علاج هذا الإحباط سريعا فإنهم سيفكرون بالانفصال في إقليم خاص بهم ..وأنهم يشعرون بأنهم يعاملون كـ "مواطنين من الدرجة الثانية". وفور صدور تلك التصريحات أو بعد أن تبين حجم الإحتجاج والرفض لها، تنصلت "العراقية" منها بعبارات قوية، وأعلن النائب عن تجمع عراقيون عبد الرحمن الويزي الذي يرأسه النجيفي عن انسحابه من الكتلة. رد النجيفي (انا قلت ان الوضع يتجه الى تشكيل اقاليم نتيجة سياسة مركزية حادة وتدخل في شؤون المحافظات وعدم اعطاء المحافظات ما تستحق من اموال ومشاركة)،

جابهت تحذيرات النجيفي حملة رفض شديدة، من ناحيتين، الأولى هي كون تيار العراقية الجانب الأكثر تأكيداً على القومية ووحدة الأراضي العراقية الخ..والثاني هو أن تلك التصريحات انطلقت من مكان غريب للغاية، ومثير للشكوك للغاية وهو "مضيف" بايدن، الرجل الأكثر صهيونية في الإدارة الأمريكية وبتصريحاته الخاصة وليس كتهمة عربية ضده.

فعلى سبيل المثال فقط، وصف عضو قائمة دولة القانون محمد سعدون الصيهود تصريحات النجيفي بالخطيرة ومخيبة للآمال، ملمحا عن وجود صفقة بين الولايات المتحدة الأمريكية و النجيفي من اجل تمديد بقاء القوات الأمريكية والتي كانت سببا في تصريحاته التي تهدد بانفصال ألسنه. وقال عضو دولة القانون والنائب عن التحالف الوطني جواد البزوني " أن دعوة أميركا للنجيفي كانت بسبب تشجيعه على الدعوة لبقاء القوات الأميركية" (1)

اعتبر النائب عن ائتلاف دولة القانون عزت الشابندر أن تصريحات النجيفي تضعه في خانة الأطراف التي تسعى إلى تقسيم العراق وتخلع عنه شرعية رئاسته، في حين ربط بين تصريحاته ومشروع نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الداعي لتقسيم العراق. و أكد زميله علي الشلاه، أن 52 نائباً من كتل مختلفة قدموا طلباً إلى البرلمان لمساءلة رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي كما اتهم المرجع الديني الشيعي حسين المؤيد جهات سياسية قال إنها "تحسب نفسها زوراً على السنة" بالتحرك لتقسيم العراق، و أشار إلى أن الدستور العراقي الذي صيغ بإشراف الولايات المتحدة احتوى على عناصر تمزيق المجتمع تحت غطاء فدرالية الأقاليم.(2)

ويمكن القول أن الموضوع كله، بفشله الذريع، كان ذو تأثير إيجابي عام في العراق، فقد أشعر الجميع بالخطر الذي يهدد وطنهم فكان عنصر توحيد، كما كان مشروع بايدن قبل فترة. ويلاحظ الإستنكار الشديد بشكل خاص في الجانب الشيعي، الذي كان منقسماً في موضوع تأييد إقليم الجنوب أو إقليم البصرة، مع أكثرية كبيرة رافضة، مع ملاحظة أن الحديث لم يجر حينها عن الإنفصال.
والنقطة الإيجابية الأخرى هي الوعي ، أو إعادة الوعي بالخطر الأمريكي على وحدة البلاد، فليس صدفة أن يكون النجيفي في واشنطن عندما يصرح بما صرّح به.
وأعادت الأزمة إلى مركز الإنتباه، الإشكالات التي تم غرسها في الدستور العراقي ليكون تمهيداً لتلك المشاريع التقسيمية، فأشار العديد من الكتاب مثل علاء اللامي إلى الدستور العراقي "الذي أشرف على دَسْتَرَتِهِ الخبيران الأمريكيان فيلدمان المعروف بصهيونيته و غالبريث (3) الذي بلغت فضيحة (4) تلقيه رشى ضخمة من الزعامات الكردية العراقية مقابل دسه لعدة مواد دستورية خطيرة " حيث تتيح "المادة 119  لكل محافظة عراقية فما فوق تشكيل إقليم شبه مستقل."

ويتساءل الشاعر سعد الحجي في مشاركة له في استفتاء المثقف أدناه: في الولايات المتحدة مجموعات عرقية وطائفية أكثر مما في العراق وتاريخها، على افتقاده للجذور الضاربة عميقاً في الارض، حافل بالصراعات والحروب بين تلك المجموعات فلماذا تسنّ الولايات المتحدة لنفسها دستوراً ونظاماً سياسياً وحزبياً ينأى بها عن التقسيم العرقي والطائفي بينما تفرض على العراق هذا النظام السياسي البغيض؟

وكتب زياد اللامي "النجيفي من خلال كلامه اراد ان يحصل على امتيازات من امريكيا او يحب بقاء القوات الامريكية داخل العراق".

ويكتب صالح الطائـــي "في عام 2001 ألقى مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق " غيلييب" محاضرة في جامعة الإسكندرية المصرية تحدث فيها عن (9) أقاليم عراقية.! وأن التصريح "بالون اختبار مؤقت بعناية من حيث الزمان والمكان، أما من حيث الزمان فتوافقه مع قرب انسحاب القوات الأمريكية من العراق وتحمس القوائم الشيعية لهذا الانسحاب وسكوت الأطراف الأخرى (...) و اختيار التصريح بموضوع الانفصال السني على الأرض الأمريكية وفي قناة الحرة التي تديرها المخابرات المركزية الأمريكية، ليوصل رسالة إلى الأمريكيين بأن الطرف السني لا علاقة له بموضوع انسحابهم من العراق".(5)

ويمكن اعتبار الفهم العراقي للحدث، ضربة أخرى للجانب المتضائل المؤيد لإبقاء قوات أمريكية في العراق بعد العام الحالي، بربط هذا الحدث مع الموضوع. فنبه اللامي إلى أن تلك التصريحات قد تتعلق بتوجه قوي جداً – يستثنى الطرف الكردي – لرفض التمديد لبقاء القوات الأمريكية في العراق، حيث اتفق على ذلك "التيار الصدري وحزب الدعوة "المالكي" و كتلة حزب الحكيم البرلمانية وانضم إليهم أخيرا حزب "جبهة الحوار" بزعامة صالح المطلك (...) فأعلن موقفا جذريا وقاطعا لم يكتفِ برفض التمديد بل زاد فأشاد بموقف التيار الصدري الرافض له وهو أمر لا سابق له في المشهد السياسي العراقي".(6)
ومن الطبيعي أن بعض هؤلاء مثل الحكيم والمطلك لا يوثق بموقفهم وإنما يفعلون ذلك خشية رد فعل جماهيرهم، وهو ما يؤكد أن الجو العراقي يقف بالضد تماماً من ذلك التمديد وأن أصدقاء اميركا والمستفيدين منها أنفسهم يجدون انفسهم مضطرين للتظاهر بالرفض.

عدا كل ذلك فزيارة النجيفي لأميركا وما أحيط بها من ظروف عدم تنسيق مع البرلمان والحكومة، كلها محل شبهات، وتثير فوراً القلق من زيارته التي سبقت هذه إلى جيكيا، وجيكيا لمن لا يعلم، ليست سوى إسرائيل أوروبية، ومن يريد زيارة إسرائيل ويخشى على سمعته، فما عليه إلا زيارة جيكيا، وستوفر له كل اللقاء مع أية جهة إسرائيلية ترغب في لقائه باطمئنان، وقد كتبت سابقاً عن هذا ولنا عودة لهذا الموضوع إن أتيح لنا. أما الأن فأقول أن الموضوع محاط بالصهيونية ومشاريع إسرائيل وبقاء القوات الأمريكية من كل جانب.

ولكن كل هذه الشبهات لا تمنع أن يكون السنة فعلاً يشعرون بالإحباط والظلم، وأن المشاريع الصهيونية الأمريكية لا تختلق تلك الحجج وإنما تسعى للإستفادة منها، فهل تلك التظلمات حقيقية أم مفتعلة؟ حاول موقع المثقف الإجابة عن هذا السؤال فأجرى استطلاعاً حوله، انقل لكم بعض ما جاء في تعليقات المثقفين الذين اسهموا فيه (7):

أسعد البصري: السني العربي في العراق لا يريد أن يعترف أو يصدق أن الشيعة والأكراد كانوا درجة ثانية و مشكوك بولائهم طيلة الأربعة عقود زمن النظام القومي السابق . بنفس الغباء، الشيعي العربي اليوم لا يريد أن يصدق أن السني العربي هو مواطن درجة ثانية و مشكوك في ولائه اليوم . إدامة الطقوس الدينية الشيعية أمر مفهوم أول سنتين بسبب الشوق والمنع السابق لكن الأمر صار مبالغاً فيه و يجعل السني يشعر ب غربة و عزلة .... . فضائية حكومية مثل العراقية تعرض طقوس شيعية فقط ولا برنامج عن عمر بن الخطاب لماذا ؟ . أليست حكومية ؟ . جريدة حكومية مثل الصباح كلها مقالات شيعية ولا مقال عن أبي بكر الصديق لماذا ؟ السني يشعر بغربة ويتحول إلى خائن مثلما تحول الشيعي من قبل إلى خائن بسبب ظلم النظام السابق .
أنا شيعي مع السنة ، و سني مع الشيعة
ورافضي إذا انتصر السنة و ظلموا
و ناصبي إذا آنتصرت الشيعة و ظلمتْ .

عزيز الحافظ : أجروا إستفتاء في المناطق المسماة سنية حسب الدستور سيرفضون الفدرالية حتى لو جلبت العسل المغلّف بالذهب!

قاسم الخفاجي : لاتوجد دولة في العالم يسافر رئيس برلمانها ليطالب بامتيازات لطائفته

زياد اللامي: كلما اردوا السياسين من القائمة العراقية انجازات غير دستورية يصرحوا ان السنة مهمشين ...

مسلم السرداح :
والشيعة من قال انهم غير مهمشين والمثقفين العلمانيين من قال انهم ينعمون بالحرية ؟ النظام الحالي يمثل شريحة من المتطرفين الشيعة وليس الشيعة انفسهم .ان ثوار ساحة التحرير في غالبيتهم من الشيعة .

جبار حمادي : الذي يطالب بحقوقه وفق طائفته فمؤكد عليه ان يطلبها من اهل طائفته الذين يشاركون بالحكم ويشتركون بعملية المحاصصة ..اما من يقول بعراقيته ويطالب بحقوقه كعراقي فمرحبا به.

هزاع الجبوري: نعم نحن نشعر باحباط شديد في العراق واننا لسنا فقط مواطنيين من الدرجه الثانيه بل غرباء عن العراق فما يسمى بالشعائر الحسينيه انما هو مناسبه للطعن برموزنا والحث على الانتقام من اهل السنه فاين المشتكى ...في المدارس في الاسواق اسمع استفزازات الشيعه لرموز اهل السنه والسب العلني من الحسينيات والتحريض فهل فيكم من منصف.

ويكتب علاء اللامي في مقاله سابق الذكر اعلاه :إنّ الاتهامات بالإقصاء والتهميش واقعية وحقيقية وهي أمر متوقع من زعامات طائفية في الجهة المقابلة غير أن تحديها والوقوف ضدها لا يكون بتبني الموقف الطائفي المضاد، والذي لن يؤدي سوى إلى الضمور والانكفاء والهجرة  بل يكون بتبني الموقف الوطني العلماني الفاقع والمنادي بالمساواة بين جميع العراقيين وإعادة كتابة الدستور الاحتلالي من جديد وبشكل شامل.

وكتب صالح الطائي في مقاله آنف الذكر، "من حق العالم كله، ومن حقنا نحن العراقيين قبل غيرنا أن نعرف نوع الإحباط والتهميش المزعوم الذي تتعرض له المحافظات السنية بما يدفعها في هذا الوقت للمطالبة بالانفصال على لسان رئيس مجلس النواب العراقي؟
وهل أن المحافظات الشيعية التي عانت من الحرمان تاريخيا ولا زالت تعاني الأمرين والمرين، مر تجاهل الحكومة لها ومر العمليات الإرهابية الطائفية التي تنفذها القاعدة وفلول البعث، بل إنها تعاني من الحرمان الآن أكثر من قبل لأن المحافظات البيضاء كانت ترفل بعز مكرمات القائد لرضاه عنهم، هل أن المحافظات الشيعية ترفل بالنعيم اليوم وتتمتع (بخيرات) التغيير الأغبر ليشعر الأخوة السنة الآن أنهم مهمشون كما يدعي السيد رئيس المجلس؟ هل أن تشكيل الحكومة الحالية أقتصر على القوائم الشيعية فقط ....هل يتقاضى ابن البصرة والناصرية ومدينة الصدر والشعلة وباقي المدن والمحافظات الشيعية حصة تموينية أو حصة من الكهرباء أو مرتبا شهريا أكثر مما يتقاضاه ابن الرمادي والموصل وديالى ليشعر الأخوة السنة الآن أنهم مهمشون؟

هناك تصور شيعي طاغ بأن ضحايا الإرهاب جميعاً من الشيعة، وهم يخلطون الأمر مع صدام حسين ومقابره الجماعية لتصوير الموضوع على أنه إرهاب طائفي (تماماً كما يريد الأمريكان) والعكس صحيح أيضاً ، فأهل السنة مقتنعون تماماً أن الإرهاب تقوده قوات حكومية وعصابات شيعية طائفية تستهدف أهل السنة، كما أن الإعتقالات موجهة للسنة فقط. كل يقرأ ويتبادل الأخبار عن ضحاياه فقط، وبالتالي فالإرهاب لا بد أن يكون من الطرف الثاني.
كتبت قبل فترة قصيرة : "أستلم باستمرار رسائل الكترونية، يعيد إرسالها، أصدقاء اعلم علم اليقين أنهم أبعد ما يكونوا عن الطائفية، ورغم ذلك فأن محتوى تلك الرسائل طائفي واضح! هي مقالة تنتقد بقسوة، طائفة ما، (هي دائماً غير طائفة المرسل) ، فيها مغالطات واضحة، أو هي عبارة عن خبر يعتمد مصدراً مجهولاً، أو "وثيقة" لا يمكن التأكد من صدقها، أو صوراً لـ "فضائع" يبدو أنها لا تستحق الإهتمام أو أنها مفبركة، مقالات خبرية يختلف معنى عنوانها كلياً عن ما يحتويه متنها، وغير ذلك.
صديق لا يختار من الكتاب على الأغلب إلا كاتباً معيناً وآخر يبدو أنه لا يقرأ إلا موقعاً معيناً، وأحياناً تكون المقالات معقولة، لكنها دائماً تعكس جانباً واحداً من "الحقيقة" الجانب السيء في الطائفة المقابلة! " (8)

فمن قراءة بعض ما جاء على لسان بعض السياسيين والمثقفين نرى أن هناك انفصالاً إعلامياً يجعل من كل من الطائفتين ترى ما لا تراه الأخرى. وهذا الإنفصال الإعلامي يمثل شقاً نفسياً كبيراً يهدد بتقسيم المجتمع أكثر مما هو مقسم ما لم يتم تداركه. هناك جانب يحتج على ما يشعر به من ظلم يقع عليه دون سواه، فيحتج الجانب المقابل على هذا الإحتجاج الذي لا يرى أي أساس له وأن الظلم يخصه أكثر مما يخص المقابل، ويستغرب بذلك من "نفاق" هذا المقابل وقلبه لـ "الحقائق الواضحة". إنها بالطبع "الحقائق" التي يراها هو "بوضوح".

وما دمنا في هذا الأمر، فلا بأس من أن نعرج على مشكلة أخرى مماثلة ظهرت في موضوع مجزرة زفة التاجي. فقد قدم بعض "السنة" اعتراضاً على "المبالغة" في الموضوع ومحاولة تحقيق كسب سياسي من خلاله، بينما أبدى بعض آخر شكوكهم الكلية بوقوع الحادثة، وقدموا ما رأوه مبررات لتلك الشكوك.
الجانب المقابل تعامل بامتعاض شديد لتلك "الشكوك" بالواقعة، وطالب البعض في مجلس النواب بمحاسبة حيدر الملا "لتشكيكه في وقوع جريمة عرس الدجيل" داعيا إلى رفع الحصانة عنه وأن يقدم إعتذارا رسميا لأهالي الدجيل على ما بدر منه من تصريحات متهما الملا بأن له علاقة بمجرمي عرس الدجيل والدليل هو دفاعه عن الإرهابيين والقتلة.(9)

والحقيقة أن كاتب هذه السطور سبق له أن كتب مقالتين عن الموضوع، دحض في الثانية منهاا بعض أدلة المشككين بالحادثة (10) لكن هذا لا يعني أني أجد كل تشكيك "كفر وإلحاد"، فمن حق الإنسان أن يشك في كل شيء ويتأكد منه، خاصة في وضع كمثل وضع العراق. أن الغضب من المشككين بالحادثة والمطالبة بتوجيه العقوبة لهم وأتهامهم بأنهم يدافعون عن القتلة، يذكر المرء بالهولوكوست اليهودي، وطريقة الدفاع عنه أمام الشكوك التي تحيطه.

رفض مناقشة الرأي الآخر وتطمين شكوكه، تزيد من تلك الشكوك وانتشارها، خاصة أن اسئلة مهمة أثيرت وتركت بلا إجابة واضحة حتى الآن، مثل التساؤل عن وجود السرداب في المسجد الذي كان مسرح الجريمة، واختفاء الجثث، ومتى القي القبض على المدانين، ومن هي الجهة المسؤولة عن تنظيم العملية وكيف لم يكن لمثل منفذي تلك الجريمة المهولة سوابق يعترفون بها أو يكشفها التحقيق. كلها أسئلة أجدها وجيهة وتحتاج توضيحاً صبوراً، فليس من المقنع أن تلك التساؤلات تعني أن للسائل علاقة بالجريمة، فمن له علاقة بالجريمة سيفضل أن يصمت ليتم إعدام المجرمين وتختفي مشاركته المفترضة بها. كما أن الشرح الصبور لكل ملابسات الجريمة لا يقلل من بشاعتها ولا يسهم في تحسين صورة مرتكبيها بأي شكل، بل العكس، سيعيد تسليط الأضواء على بشاعة ما ارتكبوه، ويزيد الحقد عليهم. إن ما حدث في كنيسة النجاة من قصص كاذبة لفقها البعض لتهويل الجريمة، وأحداث وقعت فيها لا يفسرها التصور الحكومي للواقعة مثال ممتاز لما قد تنطوي عليه جرائم الإرهاب من شكوك وما تقتضيه من مراجعة تحترم شكوك المشكك وتطمئنه.

وبالعودة لموضوع التهميش والسنة، أذكر مرة حين اشتكى علاوي من ان السنة مهمشين في الجيش، قامت الحكومة بعمل إحصائية بينت من خلالها أن لدى السنة في الجيش أكثر من نسبتهم السكانية ، وبالفعل قامت بتخفيض تلك النسبة في الجيش على ما أذكر، مع اقتناع الناس بما فعلت، ولو أنها واجهت تلك الشكوى بالغضب لما أقنعت احداً..

كتب شاكر حسن: "من ارقى البحوث التي قرأتها  هو بحث صادر من معهد نوبل للسلام  والذي يقع في العاصمة السويدية  أستكهولم والذي جاء  فيه  مايلي : ان اكثر من 70%  من المشاكل والصرعات والحروب التي تقع بين الافراد والمجموعات ترجع اسبابها الرئيسية الى سوء فهم  الطرف الاخر . وهذا بالضبط ما اكده احد ائمة المذهب الجعفري واعتقد انه الامام جعفر الصادق (ع) قبل اكثر من 1000 عام  حيث قال: .. لو تكاشفتم لما تباغضتم  .. .(11)

وأخيراً أنقل ما كتبه الزميل "منير أسد" في "عراق القانون" رداً على أحد المعلقين على مقالة له: "أخي سعد صبراً على أخوة الوطن فلعل الأمر معكوس في نظرهم و هم أيضاً لا يستطيعون العمل في مدينة الصدر و العمارة و غيرها... المهم ندعو الله عز و جل أن يلهمنا الطريق الصحيح لنصنع مستقبل أفضل لنا نحن العراقيين من زاخو لحد الفاو هذه أمانتنا ولك الرأي.."(12)

لقد كان هناك نسبة عالية من الآراء المتفهمة المثيرة للتفاؤل والأمل، ولا أمل بعراق "من زاخو لحد الفاو"، ما لم تردم الهوة الإعلامية التي تقسم العراقيين، بالمكاشفة وفهم الآخر والإعتراف بآلامه وقلقه، والنظر في شكاواه وشكوكه حتى ما نجده منها غير معقول، وتطمينه عليها.... وعلى رأي منير أسد، "هذه أمانتنا" ولك الرأي أيضاً ، عزيزي القارئ الكريم..

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5337
(2) http://www.albadeeliraq.com/article15334.html
(3) http://www.albadeeliraq.com/article9832.html
(4) http://www.albadeeliraq.com/article8916.html
(5) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=50910
(6) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=50895
(7) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=50776
(8) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=4114
(9) http://www.albadeeliraq.com/article15422.html
(10) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=4867
(11) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=51203
(12) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?p=25719#post25719



95
كيف تتخذ القرارات الحكومية تحت الإحتلال؟

صائب خليل
27 حزيران 2011

نذكر جميعاً تدخل السفارة الأمريكية في الإنتخابات العراقية الأخيرة وضغطها المباشر بإجتماعات مع المؤسسات العراقية الدستورية والقانونية من أجل الدفاع عن أعضاء من القائمة العراقية وحمايتهم من قرارات هيئة المساءلة والعدالة. واستماتت السفارة في محاولة منع الهيئة القضائية من إصدار قرار بشأنهم قبل الإنتخابات، من أجل تأجيل القرار إلى ما بعد حصول المرشحين المعنيين على أصوات تتيح لهم دخول البرلمان والحصول على الحصانة، وبذلك يصبح تطبيق قرارات الهيئة غير ممكن عملياً، سعياً من السفارة إلى إيصال العراقية إلى السلطة بأي ثمن.
في ذلك الوقت أثارت دهشتنا هذه الواقعة. فرغم علم الجميع بقوة تأثير السفارة في السياسة العراقية، وحقيقة اعتبار الولايات المتحدة لأياد علاوي كـ "رجلهم في بغداد"، لكن المعتاد ان يكون تدخل السفارة بالعمل من وراء الكواليس ومن خلال "أصدقاءها" المقربين، وليس بهذا الشكل الصريح العلني المهين للحكومة والبلاد.

لكن دهشتنا لم تكن مبررة على ما يبدو، ولعلها لا تعود إلى غرابة الإجراء، بل إلى جهلنا بكيفية جريان الأمور الإعتيادية في عملية اتخاذ القرار العراقي في أية قضية تهم أميركا، وجميع القضايا المهمة تهم أمريكا.

في الشهر الماضي، طلبت السفارة الأمريكية من الحكومة العراقية فتح "مكاتب" لها في كل من الموصل وكركوك. وضمن التوجه العام للضغط من أجل إبقاء قواتها في العراق، وجدت الحكومة العراقية أن مثل هذا الطلب الغريب، مثير للشكوك والقلق، فسوف تعاد قصة : المكاتب بحاجة لحماية عسكرية، والحماية ستحتاج مقرات، حتى خارج "المكتب"، و...الخ، لكي يمكن التحجج بتلك المكاتب وحمايتها، لإبقاء "بضعة آلاف" جندي أمريكي إضافي في قواعد عسكرية، إضافة إلى جماعة "السفارة"، و "التدريب"! ولأن الكتل بشكل عام بين كارهة للأمريكان ورافضة لبقاء القوات وبين خجلة من السمعة التي ستلتصق بها تاريخياً، فقد كانت فكرة إضافة أية حجة، او فتح أي باب جديد لبقاء قوات أمريكية أمراً مزعجاً.
على هذا الأساس جرى التصويت في مجلس الوزراء على الطلب الأمريكي، ولأن جميع الكتل عدا التحالف الكردستاني، لا يريد بقاء القوات، فقد فشل القرار بتصويت عكس ذلك الموقف من مسألة بقاء القوات الأمريكية بالضبط: فصوت جميع الوزراء الأكراد معه والباقين ضده!

لكن الأمر لا ينتهي هكذا أبداً لدى الأمريكان. فرفض طلباتهم لا يعني إلا ضرورة المزيد من الإلحاح والضغط. ففوجئ الوزراء الرافضين للقرار بزيارة السفير الأمريكي لهم واحداً واحداً لكي "يقنعهم" بالموافقة. ولتسهيل الأمر عليهم فقد تم استبدال كلمة "مكتب" بـ "قنصلية" وبالفعل أعيد التصويت وفاز قرار فتح القنصليتين في نفس المحافظتين بالموافقة (1) ، وكأن الإعتراض كان على إسم "المكتب" أو "القنصلية". يذكرنا هذا الأثر السحري للإسم بقرار كريه آخر تمثل في اتفاقية إبقاء القوات الأمريكية سنتين إضافيتين، أو ما سمي أخيراً إتفاقية "سحب القوات" لكي يمكن تمريرها على الضمير العراقي بدون ثقل كبير، بعد أن كان ذلك صعباً لو أنها أخذت اسمها المناسب.

من الطبيعي أن يتساءل المرء: لماذا لا يأتي رأي الحكومة الأمريكية وسفارتها من خلال الطريق الذي تتبعه الدول الطبيعية لدى البشر في كل مكان، أي من خلال وزرارة الخارجية العراقية، والتي تعرض موقف السفارة أمام مجلس الوزراء، خاصة وأن للسفارة الأمريكية "حظوة" كبيرة في وزارة الخارجية العراقية؟
 لماذا يتوجب على الوزير العراقي الذي أعطى رأيه الذي لم يعجب سلطة الإحتلال، أن يواجه السفير الأمريكي ويقدم له مبرراته، ويسمح له بمناقشته ومن يدري، ربما تهديده بشكل مباشر أو مبطن، أو ربما إبتزازه أو رشوته؟ لماذا يسمح للسفير أن يتعامل مع الوزراء العراقيين كل حسب "كعب أخيله"؟ وما الذي يعني ذلك بالنسبة للوزير في المرة القادمة التي يواجه فيها قراراً يعلم أنه يهم الإدارة الأمريكية، ويعلم القرار الذي تفضله تلك الإدارة؟ هل يكون هذا الوزير حراً في اتخاذ قراره وفق ما يراه مصلحة البلاد، أم سيكون عليه في كل مرة أن يفكر بأنه سوف يضطر إلى تقديم مبرراته للسيد السفير، وليس رئيس حكومته أو برلمانها؟ وماذا بالذات عن الوزراء الذين يعلمون أنه توجد عليهم مستمسكات يمكن الضغط عليهم بها، وربما كان أغلبهم كذلك؟

 السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو: كيف عرف الأمريكان بالوزراء الذين صوتوا ضدهم في مجلس الوزراء؟
أنت محق عزيزي القارئ في إبتسامتك الساخرة، فالسؤال سخيف بالطبع، فالجميع يعلم ان الأمريكان يصلهم كل شيء، أول بأول، لكن الأمر لن يكون سخيفاً تماماً حين يستعمل الأمريكان علناً تلك المعلومات التي يفترض دبلوماسياً أنها لا تصلهم، يستعملونها بكل صراحة، ويبينوا للوزراء "العاقين" إنهم يعلمون بأمرهم وما صوت به كل منهم، واحداً واحداً!

عندما تدخلت السفارة قبل سنتين ووجهت ضغوطها على هيئات القرار العراقي أثناء الإنتخابات الأخيرة دعماً لمن استبعدتهم المساءلة بتهمة البعث، ودعماً لقائمتها المفضلة "العراقية"، هددت حكومة المالكي بجرأة غير مسبوقة، بطرد السفير الأمريكي لتدخله المهين والإعتدائي على السيادة العراقية، رغم أنها لم تطرده فعلاً. ويبدو أن السفير مستمر في عمله كالمعتاد، دون أن يخشى لا الطرد ولا حتى التهديد به. فهل تجد حكومة المالكي مجريات الأمور كما هي، أمراً طبيعياً؟ هل على الوزير أن يصوت وفق ما يراه في مصلحة العراق فقط، أم عليه أن يحسب حساب رد فعل السفارة الأمريكية وإرضاءها أيضاً؟ هل سيسأل السيد رئيس الوزراء، السفير الأمريكي من أين عرف قائمة الوزراء وخياراتهم في التصويت؟ وهل ستجرؤ الحكومة على تهديد السفير بالطرد ثانية، ام أن ذلك يقتصر على التدخلات الأمريكية التي تصيب كتلة رئيس الوزراء بالضرر في منافستها مع الكتل الأخرى فقط، وأن "السيادة العراقية" لم تكن في ذلك الحين إلا حجة؟
في انتظار تصويت مجلس الوزراء على القرار القادم الذي يهم السفارة، لنعرف الجواب بشكل عملي!

(1) الموافقة على فتح قنصليتين للولايات المتحدة الأمريكية في الموصل وكركوك
http://www.nmc.gov.iq/ArticlePrint.aspx?ID=1041


96
كيف تدير مصالحك أمام قوة عظمى 4- الموازنة

صائب خليل
17 حزيران 2011

في هذا الجزء من المقالة التي تعتمد مرجعاً أساسياً كتاب ستيفان والت: "تدجين القوة الأمريكية" (Taming American Power – Stephen Walt) (1) مع إضافات وتعليقات حيثما أجد الأمر مناسباً. الحلقتين الأولى (2)والثانية (3) والثالثة (4) تم نشرها خلال الفترة القصيرة الماضية.

***

في هذا الجزء سنبدأ بفحص استراتيجيات المعارضة للدولة العظمى، من قبل دولة أو دول أضعف منها، ونبدأ مناقشة هذه الستراتيجيات بـ "الموازنة" وربما تكون أهم الستراتيجيات لهذا الغرض.

ترى النظريات الساسية "الواقعية" بأن الدول تستجيب لوضعية القوة "غير المتوازنة" بـ "الموازنة ضد الدولة المهيمنة". ويرى كينيث والتز بأنه "عند مواجهة وضعية غير متوازنة القوة، فأن بعض الدول (في الجانب الأضعف - الكاتب) ستحاول ان تزيد من قوتها أو أن تتعاون مع دول أخرى، لإعادة توزيع القوة الدولي، إلى التوازن.
وهناك طريقتين للموازنة، أولاً: الداخلية، (التي سنطرحها بتفصيل اكثر بعد قليل) وتتم بأن تقوي الدولة نفسها من خلال استغلال أفضل لإمكاناتها الداخلية بطريقة تتيح لها مواجهة أكثر فعالية مع الدولة الأقوى، و ثانياً: الموازنة الخارجية، من خلال التعاون وعقد الإتفاقات لمواجهة القوة الأكبر، وفي الغالب تلجأ الدول إلى النوعين معاً. وفي جميع الحالات يبقى الهدف واحداً، وهو منع الجانب الأقوى من استغلال تفوقه بطريقة تؤثر سلباً على مصالح الدول الأخرى.
في التسعينات من القرن العشرين كرر وزير الخارجية الفرنسي أن "كل جهود السياسة الخارجية الفرنسية موجهة لخلق عالم متعدد الأقطاب، وليس واحداُ". وكرر رئيس الحكومة الألمانية جيرهارد شرودر الفكرة نفسها عام 1999 بالقول بأن خطر الإنفرادية الأمريكية أمر لا يمكن نكرانه. وحصل شرودر على الفوز في انتخابات 2002 من خلال إستنكاره للحرب على العراق. كذلك فأن زيادة عدد اعضاء حلف الناتو، لا يخفي الشقة المتسعة بين الولايات المتحدة وبقية الأعضاء في الحلف. ويسعى الإتحاد الأوروبي إلى تثبيت استقلاليته عن الولايات المتحدة من خلال محاولاته بناء قدراته العسكرية الذاتية، وهو ما تقاومه الولايات المتحدة بقوة، بشكل مباشر (من خلال التأكيد على أن تلك الفعاليات يجب أن لا تكون على حساب التعاون ضمن حلف الناتو) و بشكل غير مباشر، من خلال أعضاء الإتحاد الموالين للولايات المتحدة، مثل جيكيا وبولونيا، إضافة إلى عدد كبير من السياسيين الذين يقفون مع الولايات المتحدة في كل مشاريعها تقريباً بشكل ثابت.
كذلك نتذكر بشكل واضح التقارب الصيني الروسي (وأحيانا بمشاركة إيرانية) لمواجهة الضغط الأمريكي الأمني والعسكري وبشكل خاص، الإقتصادي والمالي ، وكثرة الحديث عن عملة بديلة للدولار، خاصة بعد تراكم الإحساس العام بأن الولايات المتحدة تستغل عملتها واستعمالها كعملة تبادل رئيسية وعملة ديون، لإمتصاص ثروات وجهود الدول الأخرى، من خلال طباعة كميات هائلة من العملة بشكل مستمر وغير متناسب مع الناتج القومي الأمريكي أو حاجة السوق التبادلية للسلع.
ويعبر هوغو شافيز عن نفس الإتجاه بقوله عام 2000: "يجب أن يكون القرن الحادي والعشرين قرن القطبيات المتعددة، وعلينا جميعاً أن نسعى من أجل ذلك العالم. لتحيا إذن ، "آسيا المتحدة" ، "أفريقيا المتحدة" و "اوروبا المتحدة". "
ورغم ذلك يرى ستيفان والت أن جهود الموازنة الدولية تبقى أقل من المتوقع بكثير، ويعزو ذلك إلى أن الدول الأخرى لا تجد في أميركا تهديداً. إلا أن الإحصاءات العديدة في مختلف المراحل في العقود الماضية، تبرهن العكس، وتبين أن أميركا تعتبر التهديد الرئيسي بالنسبة لمعظم الشعوب في العالم. لذلك ربما يعود ضعف إنجازات "الموازنة" المضادة بشكل رئيسي إلى الجهود الأمريكية لمنع تلك المحاولات بأساليب فعالة مختلفة. ويمكننا أن نتذكر بسهولة أن العديد من بلدان اميركا الوسطى والجنوبية كانت تتهم بشكل مباشر بالشيوعية من قبل الولايات المتحدة، لمجرد محاولة شراء السلاح من الإتحاد السوفيتي السابق أو لمجرد محاولة لإقامة علاقات معه، والتآمر لإسقاط تلك الأنظمة. وأخيراً ينبه الكاتب إلى أن إمكانات أميركا واستقلاليتها العالية تتيحان لها أن تلعب بشكل فعال لعبة "فرق تسد" لمنع أية تحالفات تحاول تعديل التوازن.

الموازنة الناعمة: بالعكس من محاولات تعديل موازنة القوة، فأن "الموازنة الناعمة" تقبل بحقيقة عدم التوازن، لكنها تعمل ضمن ذلك الوضع على الحصول على أفضل النتائج الممكنة، فالتوازن الناعم يمثل "التنسيق الواعي للجهود الدبلوماسية بهدف الحصول على نتيجة قد لا تفضلها الولايات المتحدة". نتيجة لم يكن ممكن تحقيقها بدون تعاون وتوحيد الجهود الدبلوماسية للجهات المعنية بالموازنة. وتهدف جهود "الموازنة الناعمة" عادة إلى تنسيق الجهود لزيادة القدرة على مقاومة الضغط الأمريكي، بضمنه الضغط العسكري.

ويمكن للموازنة الناعمة أيضاً أن تهدف إلى التعاون من أجل الحصول على قوة تفاوضية أفضل أمام الولايات المتحدة حول الأمور العالمية. فعلى سبيل المثال تمكنت واحد وعشرين دولة نامية بقيادة البرازيل والصين والهند وجنوب أفريقيا، وتمثل نصف الإنتاج العالمي، من فرض تخفيض مؤثر على دعم الدول المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة، لإنتاجها الزراعي، وهو الأمر الذي كان يضع الإنتاج الزراعي للدول النامية في وضع صعب.

كذلك يمكن أن يكون هدف الموازنة الناعمة توجيه تحذير للولايات المتحدة بأن لا تتمادى في إحادية القرار العالمي، كما حدث في المعاهدة الصينية الروسية عام 2001. وأكثر وضوحاً هو التقارب التجاري الأوروبي الصيني، فكل منهما هو الشريك الأول للثاني، كما أن حكومات الجانبين تلتقيان بشكل مستمر ومنتظم لتطوير تلك العلاقة وحل إشكالاتها.

إن الأساس لكل جهد موازنة صلب أو ناعم، هو ما يتوقعه كل من أطراف الجانب الموازن، من زملائه من تعاون ومشاركة في الجهد، فلا أحد يريد أن يواجه الولايات المتحدة لوحده. ولذلك فكلما كان عدد الدول التي تجد مصلحتها في تحديد وموازنة القوة الأمريكية، وكلما كانت الثقة بينها أكبر، كلما كتب النجاح لتلك الجهود. ويلاحظ أن عدداً من الدول المستفيدة من تلك الموازنة ستحاول أن تستفيد منها دون أن تلعب دوراً فيها، متجنبة كلفتها المحتملة.

لكن "الموازنة الناعمة" لها حدودها، فرغم جهود الموازنة الناعمة ونجاحها في حرمان الولايات المتحدة من شرعية مجلس الأمن فيما يخص الحرب على العراق، فإنها لم تستطع منع تلك الحرب. وكذلك يلاحظ الكاتب والت أن التوسع في الناتو منح الولايات المتحدة فرصة أكبر لممارسة سياسة فرق تسد بين رفاقها في داخل الحلف، حيث أن دول أوروبا الشرقية مهتمة بعلاقتها مع الولايات المتحدة اكثر من أهتمامها بالحلف نفسه. هذا الأمر يزيد من صعوبة تكوين اتفاق يمكن تحقيق موازنة من خلاله. من جهة أخرى نجحت "الموازنة الناعمة" بين بريطانيا وفرنسا والمانيا عام 2005 في ردع بوش عن استعمال القوة ضد إيران، واضطرت الولايات المتحدة إلى قبول أسلوب المفاوضات، وهو الخيار الأوروبي للموضوع. ويشير الكاتب أن على الولايات المتحدة أن لا تخلق لها العديد من الخصوم في نفس الوقت إن ارادت أن تتجنب تعاون تلك الدول من أجل الموازنة ضدها. ومادامت الولايات المتحدة لا تريد التخلي عن تفوقها، فليس لها سوى أن تعتني بالكيفية التي ترى فيها الدول الأخرى ذلك التفوق، وتقنعهم أنه لا يمثل تهديداً لها، ومن خلال التصرفات وليس من خلال التصريحات، حسب الكاتب.

الموازنة الداخلية: هي الجهود التي تبذلها دولة ما من أجل حشد مصادر قوتها الداخلية، للتخفيف من قدرة الدولة الأكبر على الضغط عليها، أو إزالة تلك القدرة، ويتم ذلك على المستوى العسكري والإقتصادي وغيرها. ومن الطبيعي أن على الدولة الأضعف أن تتجنب لعب اللعبة التي تجيدها القوة الأكبر، قدر الإمكان، وأن تواجهها حيث لا يكون لفارق القوة إلا أقل تأثير ممكن في حسم الموضوع. فحتى إن حاولت القوة الكبرى توجيه الصراع حيث تكون قوية، يجب على الأضعف أن يبحث عن رد في مكان آخر، وهو ما يسمى بـ "استراتيجية الصراع غير المتناظر". وينطبق هذا على الصراعات العسكرية بشكل خاص، فالدولة الأضعف لن تجد فرصة لكسب معركة جوية مع الولايات المتحدة، لكنها قد تسبب لها مشكلة كبيرة في حرب عصابات، كما في أفغانستان. وخير ما عبر عن تلك الستراتيجية قول "ماو تسي تونك" لليابانيين: "ستخوضون حربكم، وسأخوض حربي".
وينبغي الإنتباه إلى أن الولايات المتحدة تسيطر أيضاً على تكتيكات القتال من بعد، ولها سيطرة كاملة على الفضاء والقتال الجوي بعد ارتفاع 15 الف قدم وفي أعماق البحار، أو ما يسمى "المياه الزرقاء"، وكل ما يسمى "المناطق العمومية" التي لا تخضع لسلطة دولة محددة.
وعلى الجانب الأضعف البحث دائماً عن طرق غير متوقعة وابتكارية للصراع، لتجنب تأثير تفوق القوة الأكبر. وفي الموازنة بشكل عام يبحث الجانب الأضعف عن الطرق التي يمكنه بها أن يدفع القوة الأمريكية إلى التآكل في تأثيرها، أو صبرها أو إرادتها السياسية.

ويفرد الكاتب نصوصاً موسعة نسبياً للبحث في استعمال الجانب الأضعف للأسلحة غير التقليدية، أي الأسلحة النووية والكيمياوية وغيرها مما يسمى "أسلحة الدمار الشامل"، ويؤكدعلى أهميتها للموازنة فيقول: بدلاً من محاولة مجابهة الأسلحة التقليدية الأمريكية بشكل مباشر، قد يقرر الجانب الأضعف اللجوء إلى الاسلحة غير التقليدية، والتي تجعل من الصعب، وربما من المستحيل على الولايات المتحدة أن تستعمل تفوقها العسكري التقليدي ضده. لماذا تريد دولة فقيرة أن تصرف مواردها للحصول على سلاح نووي؟ لنفس السبب الذي فعلت كل من الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي ذلك: لتردع اعدائها الفعليين أو المحتملين من تهديد مصالحها الأساسية.
وفي 2003 صرح الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي قائلاً: "يقولون لنا ان سوريا هي الهدف التالي، (بعد العراق) لكن حسب ما وردنا من تقارير فأن إيران قد تكون الهدف بعد ذلك".
كذلك لاحظ الإصلاحي مصطفى تاجزاده قبيل الحرب على العراق: "إنها مسألة توازن. إن لم امتلك سلاحاً نووياً، لا أمتلك الأمن".

وورد في مجلة (World policy journl)  في صيف 2003 تحت عنوان "حسابات إيران النووية" ما يلي: "إن حسابات إيران النووية ليست مشتقة من أيديولوجية دولية، بل من حسابات منطقية تسعى إلى خلق رادع واقعي لمجموعة متزايدة من التهديدات الموجهة ضدها. فمما لا شك فيه أن القيادة الإيرانية ترى نفسها عند شعرة تسديد البندقية الأمريكية، وهذا ما يفسر برنامجها النووي العاجل."
ونرى وجهة نظر الدولة الكبرى لهذا الأمر في ما كتبه "كينيث والتز" في كتابه "مناقشة حول انتشار الأسلحة النووية" حيث قال : "إذا امتلكت الدول الضعيفة البعض منها (أسلحة الدمار الشامل)، فسوف تنكمش أساليبنا الممكنة. عندها ستكون المعاقبة العسكرية للدولة ، حين تتصرف بشكل لا يعجبنا، أكثر خطورة بشكل كبير".

ولأن "تغيير النظام" أو الإنتصار العسكري على مثل تلك الدولة يصبح أمراً خطير، فأن الدول التي تتمكن من الحصول على السلاح النووي، تكون قد حمت نفسها بشكل مؤثر من أشد انواع الضغوط الأمريكية المحتلمة قسوة. ولذلك سعت كل من إيران وكوريا الشمالية وصدام حسين إلى امتلاك ذلك السلاح.


(1) http://www.amazon.com/Taming-American-Power-Response-Primacy/dp/0393052036
(2) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=49151
(3) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=49151
(4) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=5892

97
ماذا يعني ان العراقية تفاجأت؟ وماذا تعني المصالحة بالنسبة للعراق؟

صائب خليل
14 حزيران 2011

تصريحات متعددة من أعضاء في القائمة العراقية حول "إعلان قادسية" رئيس القائمة أياد علاوي التي فاجأت القائمة على ما يبدو وجعلتها في وضع محير لا تحسد عليه.

لقد أبدت النائب عن القائمة العراقية وحدة الجميلي استغرابها من خطاب اياد علاوي ، وقالت ان الصراع بين علاوي والمالكي تحول الى صراع شخصي وليس صراع مشاريع، وأنه "شديد اللهجة وجاء في توقيت خاطىء اذ ان الشارع العراقي ملتهب الان كما ان العراقية لديها حاليا حوارات جارية مع دولة القانون".(1)
وقال النائب في ائتلاف العراقية زهير الاعرجي ، إن الكثيرين من اعضاء ائتلافه تفاجأوا بخطاب رئيس القائمة اياد علاوي بهذا الشكل، مشيرا الى ان هذا الخطاب رفع "لمستوى السجال واحباط للشعب العراقي" حول امكانية التوصل الى اتفاق سياسي. وأوضح الاعرجي لوكالة (أصوات العراق) أن "الكثير من الاخوة في ائتلاف العراقية تفاجأوا بخطاب الدكتور اياد علاوي بهذا الشكل لاننا جميعا نعرف شخصية الدكتور اياد علاوي المتزنة جدا والتي تتعامل بكل هدوء وثقافة عالية وحيادية في مجريات الامور التي تحصل وخاصة خلال الفترات الماضية"، مبينا انه "في بداية الازمة السياسية لم تكن هنالك هذه اللغة من التصعيد".(2)

ونحن نذكر أن أياد كان قد صرح قبل أيام أنه لا توجد هناك أية نية أو تفكير بالإنسحاب وأنهم هم من دشن الديمقراطية في العراق ..الخ، لذلك نجد أن موقف العراقية وأعضائها مثير لبعض الشفقة، حيث يتركها رئيسها تتفاوض مع القانون، بينما يجلس هو لإعداد البيان رقم واحد ، و"النصر" على القانون....ليقدم لهؤلاء المتفاوضين المساكين مفاجأة من الوزن الثقيل.
لكن كلمة "مفاجأة" ليست دقيقة حين يتعلق الأمر بالعلاقة بين أياد علاوي ومرؤوسيه. فقد تعود هؤلاء ، على مدى الزمن، أنتظار المفاجآت منه. كتبت قبل سنين مقالة  جاء فيها بعض شكاوى هؤلاء من رئيس قائمتهم :

صفية السهيل: " القائمة تدار بطريق الهاتف او الايميل كما ان اتخاذ القرارات يتم بمنأى عن الديمقراطية، الادارة غير شفافة والقرارات تتخذ بطرق غير ديمقراطية والاوامر تعطى دون استطلاع الاراء ولسنا شركاء في اتخاذ القرار."
"قرار انسحاب وزراءنا من الحكومة تم ابلاغنا به هاتفيا" وتسالت "هل يجوز ان يتم اتخاذ قرار مهم هكذا؟هل يعقل ان لايكون للقائمة رئيس داخل البرلمان للمناقشة واتخاذ القرارات؟."
"وانا كعضو في العراقية سمعت عن كل هذا من الاعلام، كما سمعنا عن تشكيل حكومة انقاذ وطني وان الجميع كان في انتظار تقرير الجنرال ديفيد بترايوس والسفير رايان كروكر لخلق فرصة لتغيير الحكومة، وكل هذا الكلام لا يهمني ولم يفاتحني احد لأخذ رأيي ولم نجتمع لنصوت على مثل هذه الخطوات».
حاجم الحسني: «لكننا فوجئنا في كل مرة بمزيد من عدم الشفافية في اتخاذ القرار ».
نقص الشفافية "المفاجئ" تحدث عنه الحافظ حين ترك العراقية قبل اربعة اشهر "حرصا منه على سيادة الشفافية واعتماد الاساليب الصحيحة في اتخاذ القرارات." فأين المفاجأة ولم لم يتحدث احد بالموضوع؟
مفيد الجزائري 21 – 9: " نحن لم نكن نعرف بموضوع الوساطة التي قام بها الدكتور اياد علاوي بين عزة الدوري والامريكان بل عرفناها من خلال وسائل الاعلام شأننا بذلك شأن جميع المواطنين."
حميد مجيد موسى 20 – 9:"هذا حديث غير لائق وغير ديموقراطي. فالائتلافات السياسية لا يرد عليها بطرد أو فصل....لا معنى ذلك يُسحب منه الحق والحرية في أن يُبدي وجهة نظره في موقف القائمة..... هذه ممارسات دكتاتورية، وليست لائقة بالقائمة الديموقراطية.". (3)

في ذلك الحين كان عزت الشابندر يدافع عن ديمقراطية علاوي في القائمة العراقية، لكن الأمر لم يطل به وانظم إلى الهاربين من تلك "الديمقراطية" ، بل صرح بأن أياد ليس فقط دكتاتوراً في قراراته بل أنه لا يسمح لك حتى ان تعرف ما يدور في رأسه! (4)
والحقيقة أن "ما يدور في رأس علاوي" لم يكن صعب التقدير هذه المرة. لقد وجد أموره الشخصية تتعرض للفضائح، فأعلن قادسيته على من تجرأ عليه، دون أن يتنازل ليسأل أعضاء قائمته عن رأيهم وعن تأثير ذلك الخطاب على القائمة سياسياً، او حتى يعطيهم تنبيها إلى أنه يوشك على "قصف سياسي مكثف" ليحموا رؤوسهم على الأقل من الشظايا المتطايرة، فلا يظهروا بمظهر من لا حول له ولا قوة ولا رأي في القائمة وتنكشف حقيقة ان "ذيول القائمة" ليست حتى على علم بما يجري "رأسها".
في الماضي قالت صفية السهيل حين خرجت: "لايشرفني ان اكون مسلوبة الارادة ولاقرار لي في القائمة التي انتمي اليها" (3) فهل لا يساور بقية القائمة إحساس مماثل؟ إن كانوا قد نسوا كلمات زميلتهم القديمة، فأن كلمات علاوي القريبة الماضي يفترض ان تثير فيهم إحساساً بها، فحين عرض عليه منصب بلا صلاحيات أمنية كما يطمح قال أيضاً أنه "لا يشرفه" أن يكون رئيسا لمنصب المجلس الوطني للسياسات العليا مالم تكن له كلمة في السياسات العامة للدولة.(5)

وفي الماضي أكد النائب عن القائمة العراقية القاضي وائل عبد اللطيف ان سبب الانسحابات المتتالية من القائمة يعود الى عدم تشاور رئيس القائمة الدكتور اياد علاوي مع الأعضاء في اتخاذ القرارات المهمة.
وقال: ان انسحاب الدكتور مهدي الحافظ كان بسبب مؤتمر عقد في عمان لبعض اعضاء القائمة ، كما ان انسحاب النائبين حاجم الحسني وصفية السهيل سببه لقاء علاوي مع البعثيين وبالاخص جناح عزت الدوري، لكنه عاد ليصف تلك الإنسحابات بالـ "ظاهرة الصحية"! (قبل أن ينسحب هو الآخر لاحقاً من تلك الظاهرة الصحية)!

كلما سمعت أياد علاوي يتكلم بحضارية وحماس عن "الديمقراطية" و "المشاورة" و "المشاركة" و "الشراكة" ويوجه سهامه الحادة لـ "التهميش" أتساءل بشكل خاص عن شعور أعضاء قائمته وهم يستمعون إلى ذلك الكذب المباشر، وخاصة حين يقول: "ليس من المعقول ان نكذب"! وأن الشراكة "مجرد وهم"، وأنه يرفض أن يكون "شاهد زور".!(6) بل ان الرجل يدعي أنه حريص على "عدم تهميش" حتى أشد أعدائه :"دولة القانون" (7)
لكنه رغم ذلك يخص رفاقه "الصابرين" في قائمته، بأكبر تهميش عرفته أية كتلة عراقية في "العهد الديمقراطي"! ولذا فكتلة علاوي تعاني من أسرع حالات الإنقسام السرطاني المعروفة، بين الكتل التي تتواجد معها على ارض العراق في أي وقت.

ومثلما عانت "العراقية" في الماضي من أنسحابات متكررة كما ذكرنا، فأن الأمر يتكرر اليوم. فقبل بضعة أشهر، إثر الإنتخابات، أعلنت مجموعة من قائمة الوفاق التي يترأسها علاوي الإنسحاب وتكوين كتلة مستقلون، بسبب "تفرد رئيس الحركة اياد علاوي بالقرارات وعدم مشاورة النواب في اختيار المرشحين للمناصب والحقائب الوزارية بشكل ديمقراطي." حسب النائبة كريمة الجواري (8) كما استقلت مجموعة "العراقية البيضاء " من عراقية علاوي لأسباب مماثلة.
ويصف هارون محمد ماحدث أثناء وبعد الإنتخابات قائلاً: "الذي حصل ان علاوي بعد ان اطمأن بانه بات سيد القائمة راح يتصرف وكأنه صار رئيسا للحكومة لا محالة وبدأ يسير في درب الانانية والفردية في اتخاذ القرار لنيل الحقوق والاستحقاقات بلا مشاورة مع رفاقه وزملائه وانصاره وتناسى من وقف الى جانبه" وقال انه مارس الدكتاتورية بشكل اشد بعد ظهور نتائج الإنتخابات.
"فقد فرض علاوي نظرية الاصرار على رئاسة الحكومة وان يكون رئيسها هو شخصيا كخيار أوحد لاغيره" رافضاً بشكل تام خيار، تولي منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب واضعاف المالكي وتهميش سلطاته كرئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة، كما اقترح البعض.(9)

ويتعرض المنسحبون من القائمة العراقية إلى ضغوط كبيرة على ما يبدو، يعلم الله مصدرها، إضطرت بعضهم إلى العودة إليها، رغم اتهامها بأقسى التهم التي تشمل الحصول على الأموال من جهات أجنبية للتأثير على الإنتخابات. ولا تنجو الكتل المنفصلة عن "العراقية" من الضغوط والمضايقات ايضاً  بإساءة استخدام اعضاء العراقية الباقون لبعض صلاحياتهم ضدها. (10)
وليس من المستبعد أن يكون هذا الضغط وراء عودة أعضاء العراقية إلى التجمع بعد "المفاجأة" المخجلة ورفضهم العلني لها، والقول بأن ما فعله أياد يمثل رأي القائمة! أي أن رأي القائمة هو الرأي الذي فاجأها علاوي به! (11) إن مثل هذه التبعية الرائعة تحتاج إلى أن نعود إلى زمن "القائد الضرورة" الذي لا مفر من التملق له بكل الأشكال.

ربما تزول بعض الغرابة إن قرأنا ما كتبه أمين يونس عام 2009 عن حركة الإندماج بين " اياد علاوي " مؤسس حركة الوفاق ،" جبهة الحوار الوطني " ، بزعامةِ " صالح المطلك " (....)الذي لم يتورع في مناسبات عديدة في إشهار بعثيتهِ ، وصرح قبل ايام بان البعثيين سيحصلون على اكثر من اربعين مقعداً في الانتخابات القادمة .". أمين يونس وصف حركة الإندماج التي كونت العراقية قائلاً:
"في حفل " الإندماج " الذي اُقيم في نادي الصيد ببغداد ، اُلقيتْ كلمات عديدة وردتْ فيها مِراراً عبارة [ القائدين الكبيرين ] و [ القائِدَين العظيمين ] ، ويعنون بهما اياد علاوي و صالح المطلك ! ووردت برقيات تهنئة وتأييد جاء فيها [ القائد البطل ] ! وتًعالتْ اهازيج " بالروح بالدم ..." ، وتُليتْ برقيات " مُجاهدي التصنيع العسكري " و " ديوان الرئاسة المُنحل " و " ضباط الجيش العراقي السابق " ...الخ . كان الحفل بحق صورةً ذّكرَتْنا بالايام الخوالي ، ايام القائد البطل العظيم ! الذي إعتقدْنا انه ولى بغير رجعة !"(12)

أما حان الوقت ليصحو من يضع آماله وراء مثل هذه الكيانات؟ أما آن لبقية اعتزاز بالنفس، أن يخبره أنه يستطيع أن يحصل على ما هو أفضل؟

فهمت "العراقية" أنها مخطئة بالإعتراض على المفاجأة، وأن رأيها هو ما قاله علاوي دون ان تدري! حان الوقت لمصالحة الأطراف الكبار! – العراقية والدعوة، أو علاوي والمالكي. فذلك ضروري لتقاسم كعكة العراق والتآمر عليه.
الفرق بين التآمر والإتفاق على الحكم من أجل الشعب، هو أن الأخير يحتاج إلى برنامج يتفق عليه طرفان أو أكثر، ومستوى من الثقة والتعاون بينهما، بينما التآمر لا يحتاج إلا إلى التفاهم والإتفاق على الطريقة المناسبة لتجاهل الخلافات بين المتآمرين وطرق ونسب تقاسم المكاسب، فأي الوصفين هو الأقرب لوصف إتفاق بين العراقية والتحالف الوطني؟

المؤلم في الأمر أنه عندما يجد الشعب فرصة في أختلاف من يتآمر عليه، وأملاً في تغيير قد يفضي إلى حكومة أكثرية، مثل حكومات البشر، فأن البعض يسارع لمصالحة التآمر على الشعب، من اجل تفويت الفرصة على الحل! واليوم نرى مبادرة من رئيس الجمهورية والسيد مقتدى الصدر لمنع هذه المؤامرة من السقوط، وتعليم الفرقاء كيف يتفقون على استمرارهم في إقتسام الغنائم من البلد الذبيح.

صدق أياد علاوي، وهو نادر ما يفعل، حين قال أن الشراكة "مجرد وهم" لكن الوهم لدى البعض "أهم من الحقيقة" كما قال الفيلسوف الألماني نيتشة. فالوهم كغيره، مفيد للبعض مثما هو ضار لبعضهم الآخر. لذلك سعى البعض إلى إنقاذ ذلك الوهم من خلال مبادرة لإنقاذ تلك "العقبة" المستعصية أمام الحل السياسي العراقي، والضرورية لإبقاء بقاء سلطة الأمريكان "ضرورية" في البلاد، العقبة المشكلة المسماة "الشراكة" ، والتي تؤمن شلل الحكومة وبقاء حاجتها إلى الإحتلال لتحريك أي شيء في البلاد بدلاً منها.

قال بهاء الاعرجي، ان "زعيم التيار الصدري بصدد تفعيل مبادرته، ولاسيما أن كتلة الاحرار دأبت خلال الايام القليلة الماضية على اجراء عدد من اللقاءات، سواء مع المالكي وعلاوي، فضلا عن بارازاني ورئيس الجمهورية جلال طالباني من اجل انهاء الخلاف بين الطرفين".
وتوقع الاعرجي ان "تشهد الايام القليلة المقبلة عقد طاولة مستديرة تجمع قادة الكتل من اجل الخروج بحلول للازمة الراهنة".
وعن الصيغة المتوقعة للحل، قال القيادي الصدري "نريد ان يكون هناك حل بمثابة ميثاق شرف، مع التاكيد على عدم تجاوز الخطوط الحمراء".(11) لكن ما الذي يعنيه "ميثاق شرف" بين طرفين يود كل منهما أن يشرب دم الآخر، ولم يتردد بوصفه بأبشع الصفاة؟ أنا أسميه، إن حدث، "ميثاق لصوص" قرروا أن يضعوا خلافاتهم جانباً لكي لا تمسك بهم الشرطة أثناء اقتسام السرقة! وبالطبع فأن الستراتيجية المتبعة في ذلك المشروع هي تمييع الحقائق والتركيز على "نسيان ما حدث" و "ترك ما جرى وراءنا" كما صار المصالحون يتحدثون، وقلب الحقائق على رأسها، ليقول جلال الدين الصغير بأن "العراق هو المتضرر الوحيد مما يجري الان"، بينما الحقيقة أنه الأمل الوحيد له بالخروج من الأزمة وإلشفاء من شلل الشراكة الرهيب.

لكن رحمة الله واسعة، فهناك علائم فشل لهذا المشروع، وأن يضطر الطرفان إلى الإنقسام إلى حكومة ومعارضة، بدل من حكومة شراكة في النهب. فالتحالف الكردستاني غير متفائل بإمكانية تحقيق نتائج. (11) كما أن النائب عن التحالف الوطني احسان العوادي قال إن تحركات رئيس الجمهورية جلال طالباني فشلت في لم شمل العراقية ودولة القانون. ومن الجهة الأخرى قال المتحدث الرسمي باسم العراقية شاكر كتاب "لاوجود لاي بوادر جدية لحل الخلافات". (13) ونأمل أن لا يتدخل الأمريكان في منع وفاة حكومة الشراكة سيئة الصيت هذه.

أنا ضد هذه التسوية، فكل تسوية تقتل حقيقة، وعلى قدر التسوية وشدة الخلاف يكون حجم الحقيقة التي يجب التضحية بها، وهذه التسوية بين طرفي نقيض شديدي البعد، تطلب دم حقائق خطيرة.
عندما أمسك شرطة الجعفري الجنديان البريطانيان متلبسين بالإقدام على عملية إرهابية "إنتحارية"، كانت الأضحية المطلوبة لكي يتصالح الجعفري معهم أن تنسى حقيقة تلك العملية، وبشكل خاص أن ينسى جهاز التفجير من بعد الذي ضبط معهما. وبالفعل تم اغتيال تلك الحقيقة، فلم يعد أحد يذكر الموضوع ولا أحد خالف الإتفاق بالإشارة إلى ذلك الجهاز خلال كل تلك السنين.
واليوم، إن تم التصالح فسيتفق الطرفان اولاً على الأضحية: أن ينسيا الحقائق الأكثر مرارة، وهي منصب الإرهابي الجبوري في حزب علاوي وأن تختفي صوره المشتركة مع علاوي وأن لا تكتب أية جهة عن الموضوع ثانية.
مثلما توجب على العراقيين ان ينسوا جهاز التفجير عن بعد، سيتوجب عليهم أن ينسوا صور علاوي التي أطارت عقله.

لا بد لكل مصالحة وتسوية من أن تعمّد بدم حقيقة ما ، وذبح الحقيقة في أن تنسى!

لكننا سنزعج الحفل إن أصر المتآمرون على إقامته...وكما كتبنا وسنكتب عن جهاز التفجير عن بعد الذي أمسك بيد البريطانيان ، سنبقى ننشر صور علاوي والجبوري ونذكر بها وبمن تآمر عليها. نحن لسنا معنيين بالإحتفالات لكننا معنيين بالحقائق. وما نريده للعراق هو ثنائي حكومة ومعارضة قادرة على الحركة بدون توجيه ودفع خارجي، وليس اتحاد شراكة وتفاهم لا يحسن سوى تقسيم الغنائم.
 
(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=4932
(2) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=511060.0
(3) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=110206
(4) http://www.youtube.com/watch?v=SxmA7aYxfuQ&feature=related
(5) http://www.iraqicp.com/2010-11-22-05-28-38/3624-2011-05-25-16-25-49.html
(6) http://www.elaph.com/Web/news/2011/5/652487.html?entry=articlemostvisitedtoday
(7) http://elaph.com/Web/news/2010/10/603412.html?entry=articleRelatedArticle
(8) http://www.ipairaq.com/index.php?name=inner&t=politics&id=33719
(9) http://www.aljewar.org/news-29212.aspx
(10) http://www.albaghdadia.com/n/iraq-polotics/28758-2011-06-14-11-59-29.html
(11) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=511060.0
(12)  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=190214
(13) http://www.albaghdadia.com/n/iraq-polotics/28756-2011-06-14-10-33-04.html


98
مطالب الكونغرس بالتعويضات هل هي خطوة نحو جعل العراق ألمانيا أخرى؟

صائب خليل
13 حزيران 2011

يحاجج من يود الإستجابة إلى الرغبات الأمريكية في العراق، حتى في إبقاء قواتها في البلد وما يعنيه ذلك من تداعيات ليست سهلة، في أفضل التعابير، يحاجج بأنه يأمل أن تكرر الولايات المتحدة مع العراق المحطم الذي تحتله، ما فعلته مع المانيا المحطمة التي كانت تحتلها بعد الحرب العالمية الثانية.
والمقارنة تبدو مغرية: نفس المحتل، يحتل بلاداً محطمة. "صنع" من الأولى جنة حين استسلمت له ولإرادته، فلماذا لا يكرر فعلته ويصنع من الثانية جنة أخرى؟

طبيعي أن هذا المحتل لم يصنع جناناً من كل البلدان التي احتلها، بل جلب لبعضها، متعمداً، خراباً كبيراً وربما أزلياً، كما فعل في شيلي وفي إيران، بل وفي مصر أيضاً التي استسلمت تماماً لرغباته، وكذلك هايتي ودول عديدة أخرى، لكن لم لا نجرب؟ سؤالٌ مغرٍ بلا شك، لكن كيف نتأكد أن الإستعمار الأمريكي سيجعل منا ألمانيا وليس هايتي أو مصر؟ إنهم لن يخبرونا بالطبع لو سألناهم فكيف نعرف قبل ان نتورط اكثر؟

لعل أفضل طريقة لتلمس الهدف الأمريكي من العراق هو أن ننظر إلى ما فعله الأمريكان في المانيا، ونقارن مع ما فعلوه في العراق حتى الآن، ونقدر إن كان الهدف من خطط أميركا في العراق مشابه لما كانت خططها لألمانيا. لنبدأ بألمانيا.

معلوم أن ألمانيا التي قادت الجانب المعادي لأميركا والحلفاء في الحرب، هزمت وقُسّمت إلى قسمين، ووقع القسم الغربي بيد أميركا وبريطانيا بينما وقع الشرقي بيد روسيا.
المنتصرين حاولوا أن "يعوضوا" خساراتهم الفادحة من العدو المهزوم الذي تسبب بها. فكان الحماس الروسي والفرنسي بالذات، للحصول على التعويضات أشد، مما كان الحماس الأمريكي لذلك، وهذا مفهوم، فأميركا لم تكن قد خسرت إقتصادياً في الحرب، بل على العكس. ومن الناحية الأخرى فهمت أميركا بسرعة نسبياً أن من مصلحتها ستكون إعادة بناء ألمانيا، او حصتها من ألمانيا لأسباب عديدة، أهمها دحر الشيوعية التي كانت تسيطر على اوروبا بعد الحرب، حيث كان أغلب المقاومين في جميع البلدان الغربية التي احتلها ألمانيا من الشيوعيين، وكسبوا بذلك تعاطفاً شعبياً كبيراً وجدت فيه اميركا خطراً على مصالحها. لذلك فارتأت أن الطريق الأنسب هو إعادة بناء أوروبا الغربية كطريق لتوجيهها بالضد من الشيوعية وإقناع تلك الشعوب بأن من مصلحتها أن تنتهج الرأسمالية. ولعل المانيا المقسمة إلى قسمين ستكون المقارنة المثلى بين النظامين، على الأقل من الناحية الإعلامية.

لم يبد أن الروس كانوا بنفس بعد النظر الأمريكي، أو أنه لم يكن لديهم نفس الخيارات الأمريكية. فبينما عمل الروس على نقل كل المعدات الصناعية الممكن نقلها من المانيا إلى بلادهم المحطمة وطالبوا بتعويضات مالية، اكتفى الأمريكان بنقل التكنولوجيا النووية والحربية والوثائق بشكل رئيسي، ولم يرهقوا المانيا بمطالبات بتعويضات كما فعل الروس، حيث وضع الأمريكان أمام أعينهم أنه سيكون عليهم إعادة ترميم البلاد إن أرادوا لها ان تسير خلفهم، وهو ما لم يدركه الروس إلا بعد حين.
وبعد سنتين من نهاية الحرب، أعلنت أميركا مشروع مارشال الطموح لإعادة بناء أوروبا الغربية، وتم ضخ الأموال والخبرات فيها مما ساعد كثيراً على إطعام أوروبا الجائعة أولاً، وإعادة صناعتها التي دمرتها الحرب ثانياً، وثبتت النظام الإقتصادي والأمني والسياسي الذي تطمح إليه أميركا، وتم توقيع معاهدة حلف الناتو العسكري في وجه السوفيت.

إنها البراغماتية كما يتفق الجميع، وليس "طيبة القلب" من جهة و "سوء السريرة" من جهة أخرى. لقد اعتبر الأمريكان أن من مصلحتهم إعادة بناء أوروبا وإنعاشها بسرعة، ففعلوا ذلك. وأمل العراق إذن أن تجد أميركا أن في مصلحتها أن تعيد بناءه، إن كان لحلم أبنائه في "المانيا" عراقية (مع الفارق الشاسع) أن يتحقق بأية درجة. فالأمريكان على مايبدو لم يجدو في مصر التي استسلمت لهم تماماً في حركتين متتاليتين من التراجع إثر استلام السادات ثم مبارك الحكم، وخلال زمن استغرق عقوداً عديدة، لم يجدوا أن من مصلحتهم بناء ألمانيا ثانية في مصر، بل وجدوها في امتصاصها حتى العظم وامتهان كرامة شعبها وتجويعه والقضاء على ثقافته، أو على الأقل وجدوا مصلحتهم في السماح للدكتاتوريتين الصديقتين لهم، أن تفعل ذلك. المليارين ونيف التي تقدمها الحكومة الأمريكية لمصر مقابل خروجها من دائرة القرار في الشرق الأوسط، كان تعود معظمها إلى شركات السلاح الأمريكية في صفقات كبيرة الكلفة وغير مفهومة الفائدة لمصر بعد أن استسلمت لإرادة خصومها التقليديين في المنطقة، إسرائيل، اما الباقي القليل فيذهب معظمه أيضاً إلى جيوب لصوص الرأسمال المصري، الذين يلعبون دورهم في تثبيت الوضع الإستغلالي للعلاقة بين أميركا ومصر. وبالتالي إنهار كل شيء في مصر، رغم توقف كلفة الحرب مع إسرائيل، وخسر شعبها ليس رغيف الخبز فقط بل ايضاً كرامته والكثير من ثقافته الراقية وصار يشتهر بأنه شعب المقابر، لكثرة من سكنها منهم.

لماذا فعلت أميركا ذلك في مصر، وفعلت عكسه في المانيا؟ القضية مثيرة للقلق بالنسبة للعراقيين، خاصة أن مصر ربما تكون مثالاً أقرب إلى المانيا مما هو العراق لها. فمصر كانت دولة الإستسلام العربي الأولى، وبالتالي، كان هناك حافز كبير لأميركا لتكرار المثال الأمريكي المغري للدول العربية، بينما تأتي قضية العراق في وضع عربي مغرق في الإستسلامية، وبالتالي فأن الحافز ليس بالحجم الذي كانت مصر عليه، رغم الحديث عن جعل العراق نموذجاً. ربما كان السبب الرئيسي لتدمير مصر، هو العامل الإسرائيلي. فهو أمر مركزي في السياسة الخارجية الأمريكية، وإنعاش مصر وجعلها دولة ديمقراطية متقدمة، يعني أن شعبها، مثل أي شعب آخر يحس بكرامته، سيعارض الإمتهان الذي تتطلبه المصالح الإسرائيلية، وسيكون مسيطراً على مقدرات بلاده التي ستكون قوية وخطيرة.
وربما لا نحتاج لعامل إسرائيل على قوته، لتفسير تصرف أميركا مع مصر، على النقيض مما فعلت في المانيا. فالمعتاد هو ان تبتز الدولة المحتلة او المسيطرة على دولة أخرى، تلك الدولة وتمتصها، وما حدث في المانيا كان "غير المعتاد" لظروف خاصة ذكرناها.

من بين الأدلة التاريخية التي لا عد لها على ذلك أختار مثالاً غير شائع، يتمثل في كتاب ألفه رئيس الهند الكبير الراحل جواهر لال نهرو، اشار فيه من خلال إحصائية بالأرقام، إلى أن نسبة الفقر والتخلف بين مناطق الهند بعد أن تركتها بريطانيا، كانت تتناسب مع قدم إحتلال بريطانيا لتلك المنطقة، أي، كلما كان احتلال بريطانيا أطول، كان الأذى أكثر للمنطقة وليس العكس. وكانت بنغلادش تقارن بـ لندن في القرن التاسع عشر، فأصبحت من أفقر المناطق في العالم وأشدها تخلفاً. وبعد امتصاص ثروات الهند الهائلة، قلع البريطانيون حتى سكك الحديد القديمة التي وضعوها في الهند وارسلوها كحديد خردة إلى بريطانيا!

الدولة المحتلة حيوان مفترس، ذئب، والدولة التي تقع تحت الإحتلال هي الضحية، الخروف الذي يجب ذبحه. هذه هي القصة المعتادة للإحتلال، وعندما يحدث العكس، تكون قصة غريبة وملفتة للنظر. الخط العام هو الأذى، والشذوذ هو الفائدة، أما افتراض العكس، وتصور أن "الصداقة" هي العلاقة الطبيعية بين الطرفين، لو أن الطرف الأضعف كان "لطيفاً" فهو من الأحلام وأفكار الأماني. فلو كان الأمر كذلك لصارت جميع الخراف "لطيفة"، ليس لطيبة قلبها ولكن من اجل البقاء. ولو أن الذئب كان يبحث عن الصداقة مع الخراف، لمات جوعاً.

لكن لن ندع هذه الحقائق تردعنا عن الحلم الكبير. يقول الأكثر حماساً لفكرة الصداقة الأمريكية: أليس من المحتمل أن العراق، شذوذ ألماني آخر، يغري أميركا بـ "صداقته"؟ أليس هناك ما سوف يجعل من مصلحة أميركا أن تراعي شعب العراق بالعكس مع ما فعلت مع شعب مصر، بفضل سيطرته على خزين هائل من النفط مثلاً؟ ألا يمكننا أن نزيد من احتمال أن تتعامل أميركا معنا بصداقة من خلال تقديم بعض التنازلات لها "لطمأنتها" على موقف العراق؟

بعد توقيع المعاهدة الثنائية مع اميركا قبل عامين، كتبت مقالة بعنوان: "عندما تريد شيئاً يمتلكه شخص آخر: هل صداقة أميركا ممكنة؟" وقد نشرها موقع الحوار المتمدن لدقائق فقط قبل نهاية فترة تجديد الموقع، ثم أزالها. في هذه المقالة كتبت:
"هناك طريقان للحصول على شيء يمتلكه شخص آخر: أن تكون لطيفاً معه فيعطيك مما لديه، أو ان تخيفه وتأخذ ما تريده بالقوة" وأشرت إلى أن مكيافيلي قال للأمير: "الخوف أكثر ضماناً لطاعة الناس من حبهم. لأن من يحبك يمكن أن يختار ان يطيعك أو لا، بينما من يخافك ليس له خيار."
ويمكننا ان نرى أن عاملي "النفط" و "تقديم التنازلات" ليسا عاملين مأمونين، لأنهما يغريان أميركا بكل من الخيارين. فالنفط يشجع على الصداقة، لكنه يشجع ربما أكثر على السيطرة بحكومة عميلة. كما أن تقديم التنازلات يسهل كل من الصداقة من جهة، وخيار السيطرة من الجهة الأخرى. والتاريخ يبين أن أميركا لم تختر أصدقاءها إستناداً إلى لطفهم، ولا كان خصومها البادئين بالعداء لها.
فبعد أن أسقط نظام باتيتسا ذهب كاسترو مباشرة إلى أميركا يطلب صداقتها ومعاونته على بناء بلاده لكن الرئيس الأمريكي استشاط من طلباته، وحين أخبره مساعدوه أنه ليس شيوعياً وأن الشيوعيين يقبعون في السجون في كوبا أجاب: "لايهمني إن كان شيوعياً أو غير شيوعي، إنه يتكلم كالشيوعيين". وكان الرئيس يقصد أن كاسترو كان يتحدث عن مشاريع تهدف إلى خير الشعب الكوبي وليس إلى أثراء أثريائه وإثراء الشركات الأمريكية فأثارت حنق الرئيس وغضبه. ولم تأت زيارة طلب "الصداقة" هذه لكاسترو بشيء بل حصل على حصار أمريكي - غربي قاس ومؤامرات بلا عدد لمدة نصف قرن.
وكذلك فعل القائد الفيتنامي "هوشي منه" فقد كان هو الآخر ولمدة طويلة كثير الأمل بصداقة أميركا. فقد كتب التماساً إلى وزير الخارجية الأمريكية روبرت لانسنج عام 1919، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، يطلب مساعدته في الحصول على الحريات المدنية الأساسية وتحسين ظروف المستعمرات في الهند الصينية، لكن أميركا لم تجب.
وبعد ربع قرن عاد ليكتب ما لايقل عن ثمان رسائل إلى الرئيس الأمريكي ترومان بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة طالباً مساعدة أميركا لفيتنام من أجل تحررها من الإستعمار الفرنسي. لكن أميركا ردت بالتعاون مع فرنسا في تحطيم بلاده، بل ومنعتهم من التفاوض من الفيتناميين، بالرغم من أن هوشي منه وأتباعه كانوا قد تعاونوا مع الـ (OSS)، وهي المؤسسة السابقة للـ(CIA)، بينما تآمر الفرنسيين مع اليابانيين ضد الأمريكان. وحسب ما يقول "وليام بلوم" الذي أخذت هذه المعلومات الأخيرة من كتابه (Killing Hope)، فأن هوشي منه كان يثق بأميركا أكثر من ثقته بالإتحاد السوفيتي وكان يحتفظ بصورة لـ "جورج واشنطن" ونسخة من بيان الإستقلال الأمريكي على مكتبه. لكن كل ذلك الحب والرغبة بـ "الصداقة" لم يلق أي تجاوب من الجانب الآخر، وكلنا نعرف بقية القصة.(1)

لكن دعونا لا نيأس، ولنراقب تصرفات أميركا في العراق خلال فترة احتلالها له، وأين تؤشر: هل إلى بناء المانيا جديدة أم مصر مبارك جديدة؟

كان أول سفير أمريكي في العراق هو جون نيكروبونتي، المتهم بإشاعة الإرهاب في أميركا الوسطى سنوات حكم ريكان، الثمانينات. ومن يريد بناء ألمانيا ثانية، كان ينتظر منه ان ياتينا بـ "مارشال" آخر وليس بمثل نيكروبونتي.
صحيح ان الولايات المتحدة تنازلت عن ديونها للعراق، لكنها في الوقت نفسه ثبتت تلك الديون كديون حقيقية وليست "فاسدة"، وبهذا اوقعت العراق تحت ضغط شديد. لقد كانت أميركا قادرة على دعم فكرة فساد الديون لو أرادت ولما وقف في وجهها أحد، فالديون فاسدة بامتياز، ومن دفعها يفترض أن يدفع التعويض للعراقيين الذين استعملت ضدهم وليس لهم.
إضافة إلى ذلك فهناك حادثة تاريخية لها مغزى كبير، وهي تحرير أميركا لكوبا من الأسبان، وكانت كوبا حينها غارقة بديون دولية أيضاً. ولأن أميركا كانت تعتبر أن كوبا صارت لها، ولن تحتاج إلى الضغط عليها، اعلنت أن ديونها فاسدة، وتم ذلك! أما في العراق فجرى تثبيت تلك الديون، في جولة جيمس بيكر التمثيلية "لخفضها" والتي كانت كما اقر مسؤولون عراقيون بأنها تسببت في ضرر شديد للعراق.
كذلك لم يشبه موقف أميركا من العراق موقفها من ألمانيا حين امتنعت عن سحب ممتلكاتها، فقام بريمر بسرقة 40 مليار دولار بشكل نقود فقط! وأدخل العراق في زمن "رجل أميركا في العراق" علاوي في معاهدة لا معنى لها مع البنك الدولي، ودعمت اميركا كبار لصوص حكومة علاوي وقامت بتهريب وزيري الدفاع والكهرباء الذان تسببا في أكبر السرقات، وانقذتهما من بين أيدي الشرطة العراقية والعدالة العراقية، وضغطت بشدة لنهب النفط بعقود سيئة للغاية ونجحت في ذلك بامتياز في كردستان حيث يحكم اقرب "اصدقائها" فحولوا مواقعهم المستكشفة إلى "أراضي استكشافية" لتقليل قيمتها كثيراً ولكي يمكن تقديمها بعقود تناسب الشركات، وهناك عشرات الفضائح الأخرى، وجميعها لا تشبه تعامل أميركا مع المانيا عندما أرادت إنعاش اقتصادها.

وأخيراً جاء طلب رجال الكونغرس الأمريكي كآخر دليل على نوايا أميركا بالنسبة للعراق. ففي الوقت الذي تجنبت أميركا طلب أي تعويض من المانيا، فأنها طلبت قبل بضعة أسابيع تعويضات عن خسائر جنودها في العراق، وعاد رجال الكونغرس الضيوف في بغداد بالمطالبة يوم الجمعة الماضية بتحميل العراق المنهك مصاريف الحرب الأمريكية عليه. (2)
"يذكر أن كلفة الجيش الاميركي في العراق كانت تبلغ شهريا 4 .4 مليار دولار أميركي سنة 2003، فيما ارتفعت عام 2008 ، لتصل الكلفة إلى 12 مليار دولار شهريا، وبلغت القيمة الإجمالية للحرب على العراق طبقا للمصادر الأمريكية وفي مقدمتها تقرير اللجنة الاقتصادية المشتركة التابعة للكونغرس الأمريكي، 8 .1 تريليون مليار دولار أميركي" (3)

لاحظوا أن الحرب الأمريكية كانت بمبادرة أمريكية صرفة، وأنها كانت تستند على أسس اعترفت أميركا نفسها "بخطئها" (عدم وجود اسلحة دمار شامل، عدم وجود قاعدة، عدم وجود تهديد مباشر) وبالتالي فمن العجيب أن تطالب أميركا بالتعويض بدلاً من العكس! وإذا تذكرنا أن المانيا هي التي اعلنت الحرب على أميركا، وأنها لم تطالبها بتعويض بل بادرت إلى مشروع مارشال، نفهم أي وهم يسقط فيه المؤملون بأميركا.
طالب أعضاء الكونغرس أيضاً وضغطوا من أجل الدفاع عن مجاهدي خلق الذين تعتبرهم أميركا منظمة أرهابية. وحين رفضت الحكومة العراقية هذا التدخل في شؤونها، واستعراض الدعم للمنظمة غير المرغوب فيها في العراق، استشاط رجال الكونغرس غضباً على تجرؤ الحكومة ان ترفض لهم أمراً وقالوا أن ذلك سيزيد إصرارهم على الدفاع عن خلق، بل وطالبوا بـ"محاسبة من أصدر الأمر بقتل المدنيين في معسكر اشرف". وهو أمر يؤشر ما سيكون عليه القادم من الزمان في هذه العلاقة التي ستصبح اكثر صراحة في عدم توازنها، إن سمح لها أن تسير في طريق القواعد العسكرية وتمديد القوات المرة تلو المرة، وفي فرض عملائهم من بقايا الأمن الصدامي في السلطة.

ورغم ان الإدارة قالت ان موقف أعضاء الكونغرس لا يمثلها، إلا أن هذا لا يعني زوال التهديد بمثل هذه المطالبات من العراق مستقبلاً. فهذا الموقف قد لا يكون سوى موقف دبلوماسي، كما أن الكونغرس واتجاهات تفكيره أكثر بقاءاً من الإدارات الأمريكية وسياساتها، وأن خلاف الإدارة مع اعضاء الكونغرس ليس سوى قولها لهم: "إنتظروا قليلاً حتى نوقع اتفاقية جديدة لبقاء القوات ثم يكون لكل حادث حديث". لقد برر رجال الكونغرس الطلب بأن أميركا في وضع مادي صعب. وإذا علمنا أن أميركا تمر بأكبر أزمة دين في تاريخها، وأن هذا الدين لم يبدأ بالإنخفاض بعد، بل هو في تزايد مستمر، فعلينا ان نعلم أن هذا السبب للطلبات والمطالبات من العراق ، سبب دائم وثابت ولن يتوقف.

يفهم العراقيون أن مثل هذا الطلب، وكذلك موضوع مجاهدي خلق، والفصل السابع الذي مازال موجوداً رغم التنازلات وتوقيع المعاهدات، ليست سوى عمليات ابتزاز لا تبدو لها نهاية، وإنها تفهم على أن الإدارة الأمريكية والكونغرس، ليسا معنيين بجعل العراق دولة مستقرة مستقلة، بل ينظرون إليها كدولة يجب شفط ما يمكن من خيراتها بأسرع وقت ممكن، كما تبين الأحداث التي ذكرناها اعلاه، وتبين أيضا أن اميركا تتجه إلى انتهاج طريق الضغط والعملاء لتحقيق طموحها في العلاقة مع العراق وليس الصداقة، وتتوقع أن يرفض العراقيون هذه السياسة ويشتبكون معها حين يكتشفون الحقيقة. ويعبر عن هذا التقدير الأخير، السعي الحثيث إلى تسليم السلطة وخاصة السلطة الأمنية إلى عملائها وبقايا البعث، وكذلك حجم وشكل "السفارة" الأمريكية المحصنة التي أعدت لليوم الذي يوف تقصف به بالصواريخ، إضافة إلى الإصرار غير المفهوم لإبقاء قواتها بحجج سخيفة عن التدريب مرة وعن فراغ أجواء العراق أخرى، لكن المؤكد أنها ورقة ضغط خطيرة قد ينتظر أستخدامها في الوقت المناسب لدعم أي ابتزاز قادم قد يحاول العراقيون رفضه.

رفضت الإدارة الأمريكية التعليق على الطلب في بادئ الأمر، ثم قالت أن ذلك لا يمثل موقفها، مذكراً العراق بأن الولايات المتحدة الغت ديوناً على العراق بمبلغ 4 مليارات دولار.
وأكد السفير الامريكي  إن "تواجد القوات الامريكية في العراق لا يشكل خطرا على دول الجوار ومنها ايران .
وتابع السفير الأمريكي جيفري في مؤتمر صحفي، مشيراً إلى التيار الصدري " اننا نرفض بشدة إستحواذ جهة سياسية تشكل نسبة اقل من عشرة بالمئة من المجتمع وتؤمن بالعنف وتتباهى بقتل الجنود الامريكيين على كامل القرار العراقي وكانه الممثل الشرعي الوحيد للشعب العراقي وهذا يذكرنا باسلوب الحزب النازي ضد الشيوعيين واليهود عند تسلمه للسلطة.
وأضاف إن "مستوى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الى العراق سينخفض بنسبة 75% بعد انسحاب قواتنا منه "•

ولفت جيفري الى إن "مستوى الدعم الامني لن يكون بمستواه الحالي في حال عدم تمديد تواجد القوات الامريكية في العراق عام 2011 ، وصلاحياتي كسفير ستكون محدودة جداً. (4)

ككل التصريحات الأمريكية، يحتاج هذا التصريح إلى مراجعة متأنية لفهم ما بين السطور. فهو يشير إلى التنازل عن 4 مليارات قدموها لصدام وبرامجه الحربية ، وهي ما يفترض أن يعتبر عار بحد ذاته وليس موضوع فخر، لكن طبعاً دون أن يذكر أن بريمر اختلس عشرة أضعاف هذا المبلغ.
وليس صعباً رؤية التدخل غير المعتاد في الشأن العراقي عندما يشبه الصدريين بالنازيين، وحين يفعل ذلك على أساس محاربة النازيين للشيوعيين، فأن الخطاب يصبح محاولة رخيصة للتشويش حتى على التاريخ، فيتستر على أن تلك المحاربة التي كانت مصحوبة دائماً بكوارث سياسية واجتماعية للبلاد التي تجري فيها، كانت دائماً وفي كل مكان في العالم تحظى بدعم امريكي، وأن أميركا أبقت رجال الجستابو في المانيا الغربية بعد احتلالها من أجل محاربة الشيوعيين هذا عدا فترة المكارثية الكريهة التي لا تختلف كثيراً عن النازية بالنسبة للشيوعيين الأمريكان. وأخيراً هذا التهديد المبطن بخفض المساعدات في حالة عدم التمديد.

كل هذه المؤشرات القوية، تشير إلى أن أميركا لم تختر أن تسير بالعراق في اتجاه بنائه كما فعلت في المانيا، ولا أن تجعل منه، لا ألمانيا ولا أي شيء مستقر ومتقدم، بل تحتفظ له بخطط من الجدير بالعراقيين أن يقلقوا بسببها.


(1) http://www.al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/7usa2.htm
(2) http://www.yanabeealiraq.com/0611/n11061133.html
(3) http://www.babil.info/printVersion.php?mid=32042
(4) http://www.alliraqnews.com/index.php?option=com_content&view=article&id=3241


99
قصيدة الدراجي طائفية خطيرة في وقت حرج

صائب خليل
11 حزيران 2011

في هذه الأيام الحبلى بالأخطار، تأتي قصيدة الشاعر العراقي فالح حسون الدراجي الشعبية "بعد ماننطيهه" كخبر ليس ساراً أبداً. ففيما عدا سطر او سطرين كأنهما وضعا احتياطاً كخط دفاع عند الحاجة، فالقصيدة تنبض ليس بالطائفية فحسب وإنما بالتمسك بالسلطة التي "كسبت بالدماء".
ومن الغريب فعلاً أن يلجأ الشاعر إلى عبارة قيلت، او أفلتت خطأً من صاحبها، في وقت ما، واعتبرت من العبارات السيئة التي استمسك بها "السنة" كدليل على طائفية الساسة الشيعة، ولم يعد إليها هؤلاء ثانية، فلماذا يعيدها الدراجي إلى أذهان الناس ويثبتها في ذاكرتهم بما توحي به من مشاعر سلبية تجاه المقابل الذي يدافع عنه؟

الأسطر اليتيمة في القصيدة بأن " أحنا شيعة وسنة واكراد ومسيح ... و .. أنتو خذتوها بتآمر وارتياب
واحنا خذناها بورق وبإنتخاب.. وكذلك ... تريد تاخذها أخذها بانتخاب، وآنا ازفنها بدي وانطيها..أما سالفة القتل أنسيها.
هذه الكلمات القليلة  تضيع في بحر الأبيات التي توحي بالعكس، وهي لا تكفي لمحو الإحساس الطائفي في القصيدة وتركيزها الحديث عما هو خاص بالشيعة دون غيرهم. مثل الحديث عن كبور النجف دون غيرها، وكأن لم يقتل سنة في البلاد.

ومما جاء في القصيدة:

إحنا خذناها وفلا ننطيها
إحنا خذناها على روس الحراب
ومن أجلها نطينا آلاف الشباب
....
لو دمانا تغطي جبال وسهول،
جذب ننطيها بعد لا والرسول

ومن الواضح أن الأبيات التالية لا تتحدث عن البعث، وتقول بصراحة أن من لا يقبل عليه أن يرحل: إنه منطق قريب جداً من روح الحديث الذي تحدث به الصهاينة في فلسطين، بكل الأسف! يقول الدراجي:

ما ننطيهه بعد لا مستحيل
حتى لو بينا الأرض تجفي وتميل
اللي يريد يشيل، الله وياه يشيل،
واللي يبقى يريد، يقبل بيها
إحذنا خذناها وفلا ننطيها!

ويقول:

إحنا أبناء الحسين وكربلاء
شلون لحلوك العوج ننطيها

إضافة إلى ذلك فالقصيدة تخلط في نهايتها بين البعث والعروبة والعقيدة والتراث وتجعلها جميعاً أشياء كريهة من نوع واحد، وهو خلط يثير القلق، خاصة في جو يكثر فيه الهجوم على كل ماهو عربي، ويتم الترويج لمفاهيم عنصرية مضادة لهم، في دعوة لتقديم التنازلات والتساهلات للأمريكان في السيادة، مثل هذا الوقت. فيقول:

عمي كافي متنا من البعث والإنبعاث والرسالة والعقيدة (والعروبة) والتراث
أنتو مال من الجذر حش واجتثاث، حتى مايضل عرك إلكم بيها
ولك ميت جيل وماننطيهه، الف جيل وأبد ما ننطيهه

ما الذي يفهم من "العرك" هنا، وكيف سيفهمه الناس؟ وفي الديمقراطيات يكون الحكم سعيداً إن جدد ولاية ثانية، فأية ديمقراطية تؤمن بتداول السلطة، تأمل أن تبقى مئات وآلاف الأجيال؟
لقد ترددت، هل من الأفضل الكتابة والرد، بما يحمل من نشر إضافي للقصيدة، ام السكوت؟ فضلت الأول لأني متأكد أن القصيدة ستنتشر، فالجو المكهرب كفيل بنشرها كالنار في الهشيم، ومن الأفضل التحذير منها ومن الكتابة بمثلها مستقبلاً.

من المعروف في الأدب أن ثيمة القصيدة أو الأغنية، وهي الجزء البسيط اللحن والكلمات، المعاد تكراراً في القصيدة أو الأغنية، وكذلك الجزء العنيف العاطفي فيها، هي ما يبقى في الذهن والذاكرة، وليس التفاصيل، فما سيبقى لدى من يستمع إلى قصيدة الدراجي أو يقرأها، هو تحدِ من الشيعة للسنة بأنهم استلموا الحكم ولن يعطوه أبداً، ومن يريده عليه أن يأخذه بأية طريقة، إن استطاع إلى ذلك سبيلا!

هذا يعيدني للقول، بأن بضعة كلمات وضعت هنا وهناك كخط رجعة ودفاع جاهز ضد من ينتظر أن يتصدى للقصيدة، ليست كافية لتبرئة القصيدة والشاعر، ولا تعني الكثير. فالحديث كان بوضوح عن الدفاع عن السلطة وليس عن الديمقراطية رغم التمويهات. إن ما يحتاجه البلد والشعب، خاصة في هذه اللحظة، ادب يخرج منه المتلقي أكثر رقياً وأقل طائفية وعنفاً، وأكثر ديمقراطية واعتزازاً بالحداثة، ولا يرى في خروج السلطة من يده كارثة دموية، كما توحي به انفعالات القصيدة.
فالأثر الأدبي والفني بما يخلفه من انطباع في رأس المتلقي، وليس بما يضيفه من خطوط حذر في تفاصيل كتبت من أجل محامي الدفاع في محكمة. لقد كتب الدراجي قصيدته مثل من يهز رأسه يميناً ويساراً بقوة كمن يقول "لا"...ولسانه يهمس: "نعم". الأولى ليعبر عما يريد ويوصله إلى من يريد، والثانية لكي لا يمكن إمساكه من لسانه.

ليست هذه هي الروحية المطلوبة لإنقاذ العراق، وهي بالتأكيد ليست الهدية المناسبة لشعبه في هذا الوقت، بل لأعداء هذا الشعب، وليس عندي شك أنهم سيفرحون بها.


100


علاوي الجريح يعلن قادسيته الأخيرة

صائب خليل
11 حزيران 2011

من يقرأ خطاب الدكتور أياد علاوي الذي صدر أمس (1)  يتذكر فوراً خطابات صدام حسين خلال قادسيته "المجيدة". الكلمات نفسها، الكذب نفسه، التهويل نفسه والتثوير والعنجهية ...هي هي..

" يا شعبَنا العراقيَّ الكريمَ الجريح...ياشعبَنا الصابرَ على الظلمِ والاستبداد....لقد تجاوز البغاة اليوم كل الخطوط وكل القيم.. قيم السماء وقيم الارض.. والله اكبر.. فقد تجاوز الطاغون المدى، عبثوا في البلاد واشاعوا فيها الشر وأذاقوا الشعب القهر وأهانوا كرامة الامة.. .... وعملوا في العراق نهباً وحرقاً وهدراً للدماء ونشر المهانة حيثما حلوا... واحرقوا الحرث والنسل... (ثم ليتحول بعد ذلك إلى حسني مبارك).. ليلحقوا الاذى والنهب بعراقنا الحبيب الذي قاتلنا من اجله ولاجله طيلة حياتنا لندفع عنه غائلة الخوف والعوز والفقر، وقاتلنا الظلم والدكتاتورية وكدنا ان نفقد حياتنا اكراماً واجلالاً وتقديساً لشعبنا العظيم وقيمه الأعظم....
أياد علاوي، قاتل طيلة حياته (بضمنها سنوات "حنين" إذن)، ليدفع "غائلة الخوف والعوز والفقر" عن شعبه!
ثم يتخذ، مثل كل الزعماء الكذابين، صورة "الزعيم المؤمن" ليتحدث عن الذين: "يمكرون ويمكر الله.. والله خير الماكرين.. والله اكبر.. الله اكبر على من ظلم ومن كذب"، ويعود لسيد الشهداء و "هيهات منا الذلة"، ويوم الحساب..الخ.  

 يستمر علاوي في خطابه "العجيب" المنفلت من أية حدود، عن "خفافيش الظلام" الذين لفقوا له "التهم الكاذبة" و "الصور الباطلة" التي له "منها مئات ألوف مع أبناء شعبه". وطبعاً لم يقل إن كانت تلك المئات من الألوف، هي من رفاقه، قياديي حزبه. وكأن من قدم الصور، استغل صورة التقطت لوجوده بالصدفة في الشارع بالقرب من أحد المجرمين التائهين. البارحة كان هو وأصحابه منزعجين أشد الإنزعاج، وقدموا الإحتجاجات، لأن "جماعة المالكي" مزقت صوره وضربتها بالأحذية، ولم يتذكر طبعاً ما فعل "جماعته" بصور غريمه من تشويه وتزوير باسم حرية الرأي، فلماذا لا تكون هذه حرية رأي أيضاً؟

يهاجم علاوي المالكي لأنه "لم يناقش برنامجه مع وزرائه" لأنه دكتاتور! أنا بالتأكيد لست معجب بديمقراطية المالكي، خاصة عندما يشعر بالسيطرة، وقد كتبت عن ذلك، ولا أستطيع كذلك أن ادعي أنه كان ممتازاً أو شفافاً في حكمه، لكن إن كان علي أن اختار بينه وبين ما أسميته يوماً "قطار من الفضائح" فليس هناك أي مجال للخيار. إن كان علي ان اختار بين ديمقراطية المالكي التي تحتاج الكثير، وبين الرجل الوحيد الذي هرب منه وفي كل فترة، أهم من وضعوا أنفسهم تحت قيادته لأنهم لم يتحملوا دكتاتوريته وغطرسته ولأنه كان يقودهم بالتلفون من الأردن، فلم يره لا "شعبه الذي قضى عمره يناضل من اجله" ولا حتى رفاقه، الرجل الذي وصفه رفاق هربوا من طغيانه بأنك "لا تعلم حتى بماذا يفكر"! ثم يأتي يبكي على نقص الديمقراطية ويهاجم الدكتاتورية، فهو الضحك على الذقون بعينه.

الرجل الذي لا يكاد يقول الصدق حتى بالخطأ، يشكو من كذب الآخرين. قبل أسبوع كان يهدد بالإنسحاب، ويضع الحدود الزمنية والإنذارات الأخيرة، ليقول أمس بأنه ليس هناك صحة حتى لفكرة إنسحاب من الحكومة! الرجل الذي لا يكاد العراقيون يروه في البلاد، والرجل الذي يفخر بأنه يتعامل مع ستة أو سبعة وكالات مخابرات اجنبية، يتهم خصمه بأنه "اعتمد على الأجنبي"! والأدهى من هذا أنه يعود في نفس الخطاب ليستنجد بـ "المجتمع الدولي" ويستهجن "السكوت الدولي" مذكراً أيانا، إن نسينا، كيف أنه كان يريد تدويل العراق قبل بضعة أشهر، وكيف كان يطالب أميركا "بتحمل مسؤوليتها" (بإعادته إلى السلطة مع بقية رجال الأمن الصدامي) ، ثم يتحدث عن الإعتماد على الأجنبي! فهل هناك صلافة أكبر من هذه؟
وبعد ذلك ينتهي الرجل من خطابه بنفس تعابير رفيقه القديم ، ويتحدث عن "النصر" والخلود والعزة و حرائر العراق ...! ربما نفهم صدام الذي يتحدث هكذا عندما كان في حرب، أما هذا الرجل، فعن أي حرب يتحدث، وأي نصر؟

ولعلها مصادفة غريبة ، وقد لا تكون، أن هذا الإنفجار العصبي يأتي في لحظة قامت الحكومة العراقية بطرد عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي من العراق، وهو ما يحدث لأول مرة، رغم أنها أمنية كل الشعب تجاه الغطرسة الكريهة لهؤلاء. وهي تذكرنا بمرة واحدة سابقة هددت فيها الحكومة بطرد السفير الأمريكي الذي عبر كل حدود اللياقة والدبلوماسية في جهوده لدعم نفس أياد علاوي هذا (الذي "لا يعتمد على الأجنبي" في الوصول إلى السلطة) بعد أن لم تكف تزوير الإنتخابات لإيصاله إليها، فلم يكن هناك من يثق به، رغم الإغراءات والضغوط الأمريكية، ليكمل معهم ما يكفي من المقاعد للحكم.

ليس لدي تفسير لموجة الهستيريا هذه سوى أن الرجل لم يعد يدري كيف يداري الفضيحة. ولو أنه حافظ على رباطة جأشه بدلاً من رد الفعل المرعوب هذا، لربما أمكنه بلا صعوبة أن يرتب الموضوع بأقل الخسائر الممكنة. أن يتبرأ من الرجل ويستنكر فعلته ويعتذر لـ "شعبه" الذي "أفنى حياته في الدفاع عنه" لأن قيادياً في حزبه، فعل ما فعل. ويطالب بإنزال "أقصى العقوبات" به، ويؤكد أنه "لا يتساهل" مع أي كان إن ارتكب جرماً، و"ها هو الدليل أمامكم". ويضيف إليها أن "ذلك يؤكد أنه لا يطالب بالعفو إلا للأبرياء"..الخ. فيمكن ترتيب مسرحية جيدة على هذه القصة، لتقلب الأمور ربما لصالحه. لكن زمام أموره أفلت منه، مثلما أفلت حين راح يعنف الصحفيين الذين جاءوا يحتلفون معه عند إعلان "فوزه" في الإنتخابات الأخيرة.

إنه الآن يريد أن يثير حرباً لينسى الناس في غمرتها موضوع زفة التاجي، لكن من وبمن سيحارب علاوي؟ (إن استثنينا احتمال القوات الأمريكية التي مازالت في البلاد!). ما أشبهه بدون كشيكوت يحارب طواحين الهواء! فلا شك أنه شعر أن من بقي حوله بدأوا يتململون، فلا أحد يريد أن يكون قريباً ممن يرتبط أسمه برفقة الإرهاب الوحشي، ولذلك فهو يشعر كالذئب الجريح الذي سيأكله رفاقه.

أتساءل، هل لهذا الشعور أثراً غير واع في أختراعه للعبارة التي كررها أكثر من مرة في خطابه الثوري: "يا شعبنا العراقي الكريم الجريح..."؟

(1) خطاب علاوي: http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2011/06/11/178889.html



101



زفاف التاجي -  فرصة لقطع رأس ميدوزا الإرهاب قبل أن يحولنا إلى صخرة

صائب خليل
9 حزيران 2011

كتب الشاعر العراقي الأكبر يحيى السماوي تعليقاً على مقالتي السابقة "جريمة عرس التاجي واختطاف العراق نحو مضيف الشيخ محجوب" فقال: "أجدني عاجزا عن وصف حنقي ووجعي فالتمس لي عذرا أيها العزيز". آلمني أن يحس ساحر الكلمة القدير، بالعجز أمام حجم الوحشية. كتبت له "...إن لم يكن أنت فمن؟.... من يستطيع أن يربت على كتف أمته، ويحيطها بالحب والطمأنينة في عالم شديد والوحشة والوحشية، ويعيد لها الثقة بالنفس ويذكر الإنسان فيها أنه أنسان وله من يحبه ويحترمه، رغم كل الأصوات الصارخة : أنت حشرة!....  شاعرنا الكبير، إن لم يكن أنت فمن؟". (1)

ذكّرني ألم السماوي بما قرأت قبل عقد من الزمان رد لأحد الكتاب العراقيين حين لامه أحدهم أن الأدب العراقي لم يعكس ما مر به العراقيون من كوارث، فقال بصدق: " هول الأمر كان أكبر منا"!

ليس غريباً إحساس هذا الكاتب بالعجز، فكيف تصف مذابح صدام حسين، حين كان صديق أميركا الوفي، للشعب العراقي برواية؟ وكيف للشاعر أن يضع على الورق ما يكفي للتعبير عن وحشية جريمة زفاف التاجي في قصيدة؟ هناك حدود للغة، تعجز بعدها عن العمل، ويصاب عقل الإنسان عندها بالشلل!

لسنا الوحيدين في العراق الذين نجابه بمثل جرائم زفاف التاجي المثيرة للذهول، فقبل خمسة سنوات كتبت في مقالة لي  عن حوادث مماثلة من أميركا الجنوبية اقتطف منها أثنتان هنا (والمقالة مازالت جديرة بالقراءة (2)) :

"-  امرأة فلاحة عادت الى بيتها ذات يوم فوجدت أمها وأختها وأطفالها الثلاثة جلوساً حول المائدة وقد وضع الرأس المقطوع العائد لكل منهم على المائدة بعناية أمام جسده, ورتبت اليدان فوق الرأس على نحو "كأن كل جسد كان يضرب رأسه بيديه". وقد وجد المغتالون, صعوبة في تثبيت رأس احد الأطفال الثلاثة, البالغ من العمر ثمانية عشر شهراً في مكانه, فدقوا اليدين على الرأس بالمسامير. وقد عرضت في وسط المائدة بذوق رفيع, طاسة كبيرة مليئة بالدماء."

"لايقتل الناس من قبل كتائب الموت ويكتفى بقتلهم فقط – فرؤوسهم تقطع ثم تعلّق على أوتاد لتأشير حدود الأراضي. ولا تبقر بطون الرجال.... ويكتفى ببقرها فقط, فأعضاؤهم التناسلية تقطع وتحشى بها أفواههم. ولا تغتصب النساء ويكتفى بإغتصابهن فقط, فأرحامهن تنتزع من أجسادهن وتغطى بها وجوههن.  ولا يكفي قتل الأطفال, إنهم يجرّون جراً على الأسلاك الشائكة حتى تتساقط لحومهم عن عظامهم والأباء والأمهات يجبرون على مشاهدة ما يجري.."

الحادثتان رواها ً الأب دانييل سانتياغو, وهو قسيس كاثوليكي يعمل في السلفادور, في صحيفة اميركا اليسوعية واصفاً أعمال الحرس القومي السلفادوري التابع للحكومة  المدعومة من الحكومة الأمريكية، وقد قتل القس نفسه فيما بعد (3). كما اعترف سيزار مارتينيز, الهارب من جيش السلفادور للصحفيين ومساعدي أعضاء الكونغرس في واشنطن عن أشتراكه في عمليات تعذيب وقتل تنتهي بإلقاء الضحايا في مياه المحيط الهادي تقوم بها مجموعة القوات الخاصة المسماة (  GC-2)  بعلم من المستشارين الأمريكيين. وقد نفت ادارة بوش (الأب) هذه الإتهامات ولو انها اقرت بأنها "خطيرة جداً" وزعمت ان التحقيقات جارية. لكنها حاولت اخراس مارتينيز وترحيله الى السلفادور قبل ان تسبب معلوماته الكثير من الضرر.

هناك بضعة قصص أخرى من نفس النوع في المقالة، وهي لا تختلف في نوعية فضائعها عن جريمة زفاف التاجي أو ما قيل عن اكتشاف رؤوس أطفال مثقبة بالدريل، وغيرها من الأهوال. هذه القصص التي تشبه ما يحدث في العراق، حدثت في الجزء الثاني من الكرة الأرضية، لكن ما قد يجمعها مع أحداث العراق هو أن جرائم أميركا الوسطى حدثت تحت إشراف جهات مدعومة من الحكومة الأمريكية، وقد افتضح رسمياً أن السفير الأمريكي كان "على علم بها" على الأقل، دون أن يعترض أو أن يؤثر ذلك على الدعم الأمريكي لتلك الجهات. والتشابه الآخر أيضاً أن تلك الأحداث قد وقعت في زمن ولاية جورج بوش الأب، ووقعت معظم أحداث ا لعراق في زمن جورج بوش الإبن (وقد تكون الباقية من إنتاج من ترك خلفه) ، وأيضاً "صدفة" أخرى هي أن السفير الأمريكي في تلك المنطقة، عندما كانت تشهد افضع المذابح، كان "جون نيكروبونتي" ، وهو "بالصدفة" أول سفير للولايات المتحدة في العراق!

إن القول بأن المجرمين المنفذين هم عراقيين في نهاية الأمر، ليس قولاً دقيقاً، فلا يوجد بلد ليس فيه ما يكفي من المجرمين، إنما السؤال هو فيمن ينظمهم ويجعل منهم قوة إرهابية مؤثرة، بدلاً من مجموعات فالتة ترتكب الجرائم المتفرقة كما يحدث في اي بلد في العالم، حتى المتقدمة منها. لم يعرف العراق قبلاً هذا "الإرهاب" كما لم تعرف أميركا الوسطى ذلك النوع والحجم من الإرهاب قبل ثمانينات ريكان ونيكروبونتي. إنها حقائق مهمة.

هؤلاء ، يريد البعض تمديد بقاء قواتهم في بلادهم! (أنظر الملحق في الأسفل رجاءاً)

****

عندما نصح مكيافيلي الأمير بأن عليه عندما يضرب، أن يضرب بقوة شديدة لا تدع مجالاً للضحية ومن حولها أن تفكر بالإنتقام، فقد كان يؤسس علماً للوحشية الحديثة، التي ربما لم يكن أول منظريها، لكنه كان من أشهرهم. وقد اتبع نصائحه تلك كل من كانت له أهداف مرفوضة، تحتاج إلى أن يرهب شعب البلاد ليقبلوها، سواء كان هؤلاء من المستعمرين أم من طغاة الداخل. فهي تتميز بالكفاءة العالية والتأثير السريع، وبالتالي فهي مغرية لكل فكر براغماتي. شعار الإرهابيين الحقيقيين البراغماتيين: إما أن تضرب بوحشية تعمي الضحية ومن حولها، أو أن لا تضرب. الحرص على التأثير المنتشر هو العامل المشترك في قصص الإرهاب، وهو العامل الحاسم لنجاحها في الوصول إلى أهدافها. ما اعترف بافتقاده هنا، هو أني لا أذكر أني سمعت بجريمة بهذه التفاصيل وقت وقوعها، وهو ما يفترض أن يحرص الإرهاب عليه. فهل كان تقصيراً في اطلاعي؟ أم أن الإرهابيون فشلوا في إكمال مهمتهم بجزئها الإعلامي؟ هذا ما لا استطيع الإجابة عنه حالياً.

وكما بينت جريمة كنيسة سيدة النجاة، فعندما يفشل الإرهابي البراغماتي من تحقيق الوحشية اللازمة، لأي سبب كان، توجب على فريق آخر أن يكمل عمله فينشر في الإعلام، ذلك المستوى المطلوب من الوحشية، وتصوري أنه على هذا الأساس كتب فراس الحمداني قصته المخيفة المزيفة عن جريمة كنيسة سيدة النجاة، أو تم تسريبها إليه. هو مازال يلتزم الصمت!

قصة الوحشية والإرهاب الذي يبعث على الشلل، تعود بنا إلى الأساطير الإنسانية القديمة، وبالذات أسطورة "ميدوزا" المرعبة التي كان شعرها من الأفاعي، وإن نظر الإنسان إلى عينيها، تحول إلى صخرة. ومن ينظر ملياً إلى وحشية جريمة زفاف التاجي، يحس بالشلل وعدم القدرة على الكتابة أو حتى التفكير. ربما تعلم أساتذة الإرهاب درسهم في الوحشية الباعثة للشلل، من وحي هذه الأسطورة، فصمموا على أساسها، وحشية جرائم أميركا الوسطى في الثمانينات، والعراق الحاضر.

ما الحل مع هذه المشكلة؟ إن لم تفكر بها وتتأملها، فلا أمل أن تجد طريقاً لمواجهتها، وإن فكرت وتأملت، اصابت وحشيتها رأسك بالشلل! لقد كان هذا هو سر قوة ميدوزا وطريقتها المنيعة لحماية نفسها، ولعله سر بقاء الإرهاب أيضاً.
لكن الأساطير لا تعلم الدكتاتوريات وحدهم، بل تعلم الشعوب أيضاً كيف ترد. "بيرسيوس"، أحد أبطال تلك الأساطير، وجد طريقة لقتل ميدوزا، فوضع في درعه مرآة تمكنه من رؤيتها، دون أن ينظر إليها بعينيه مباشرة، وهكذا تمكن من قطع رأسها، وهكذا علينا ان نفعل. أن لا ننظر إلى تلك الفضائع بكل مشاعرنا الإنسانية مباشرة، فتشلنا عن التفكير، بل أن نمنع القلب منها، وننظر إليها وهي تنعكس على مرآة العقل فقط، قدر الإمكان، فنحلل ما يحدث دون أن نغرق في الألم الذي يسببه النظر. هكذا يمكننا أن نواجه الوحش ونقطع رأس ميدوزتنا كما فعل "بيرسيوس". علينا أن نراجع قصص الإرهاب بشجاعة وننظر إليها من جديد بمرآة العقل وحده، وأن لا ندع للخوف أن يمنعنا من التفكير بأي متهم ممكن، مهما كان كبيراً.

لقد تم تحقيق نصر كبير، ولكنه قابل للتبخر كلياً، في قصة جريمة زفاف التاجي. لقد تمكنت الشرطة من القاء القبض على الجناة وتقديمهم للتحقيق، وايضاً عرضت اعترافاتهم على التلفزيون، وعرفت أيضاً، وهذا في غاية الأهمية، ارتباطاتهم ببعض كبار السياسيين من أمثال أياد علاوي وقائمته، وكشفت أمام الناس.
كل واحدة من هذه، إنجاز عظيم في المعركة، لكن كل هذه الإنجازات، يمكنها أن تتبخر تماماً، وتسجل نصراً كبيراً للإرهاب بدلاً من القضاء عليه. كيف؟

أولاً، حتى هذه اللحظة لم يتم الحكم على المتهمين، ولم يتم تنفيذ الحكم بهم، وهو الإعدام بلا شك. وما يجعل هذه نقطة مهمة، هي حقيقة احتمال تدبير أمر هروب هؤلاء قبل الحكم أو قبل تنفيذه. وهو أمر وارد تماماً بعد كثرة تكرار قصص الهروب من  أهم السجون العراقية المحصنة.
فحتى هذه اللحظة كانت القصة كلها تخدم الإرهاب فقط! حتى هذه اللحظة، تمكن الإرهاب البراغماتي من أن ينظر بعين العراقيين بوقاحة تامة ويحكي قصته، ويثير فيهم الغثيان والإشمئزاز. بل أن أحد الإعلاميين كان من البلاهة أنه سأل أحد أهم هؤلاء القتلة الوحشيين إن كانت معاملته جيدة في السجن، وإن كان مرتاحاً ، وإن كانت الكهرباء تنقطع عنه! كل هذا من أجل أن يقوم بدعاية رخيصة للحكومة وجهازها الأمني، وكأن من واجب المجتمع أن يطمئن على راحة هؤلاء أكثر من راحة أبنائه أنفسهم! لم يكن هناك أثر للضغط على أي من المتهمين ولم يرف لأحدهم جفن، مما يعني أنه تم بالفعل معاملتهم وفق حقوق إنسان لا يتمتع بها المواطن العراقي ابداً. فالسؤال الأول : لماذا؟

والسؤال الثاني: كيف أمكن الحصول على كل تلك الإعترافات من خلال معاملة متناهية الرقة؟ فهل يعترف أحد بمثل تلك الجرائم دون أن يشعر أن راسه قريب من المقصلة وأنه شخص حقير وأنه أمام مجتمع يستطيع ويريد سحقه كما تسحق الذبابة؟ والسؤال الثالث هو، إن كانت هذه هي المعاملة، فما الذي يجبر هؤلاء أن يعترفوا بكل ما لديهم، وخاصة ان يبلغوا عن القوى التي تقف وراءهم وتمدهم بما يحتاجون من معونة أمنية استخاراتية وتدريب وغيره لتنفيذ جرائمهم؟
أليس الإحتمال الأكبر أنهم احتفظوا بهذا الجزء الخطير من المعلومات من أجل إتاحة الفرصة لهؤلاء لإنقاذهم بعملية ما من السجن؟ لو كنت أنت مكانهم، فرضاً ، واعتذر عن التشبيه، هل كنت تعطي أسماء من قد يستطيع أن ينقذك مما أنت فيه، وأنت تعامل بحذر كبير واحترام ودقة وتعلم أن أحداً لن يمسك، وأن الكهرباء تأتيك بلا انقطاع ومعها التبريد، كما ذكر الوحش بنفسه؟

الجزء الثاني من الموضوع، أن الأشخاص ذوي العلاقة بالموضوع، من قيادة الوفاق، لم يتم التحرش بهم أو ربما لم يتم حتى السؤال عن علاقتهم بالموضوع بشكل رسمي، وربما لم يتم سؤال المتهمين "المقدسين" عن ذلك! مازال علاوي حراً طليقاً هذه المرة ايضاً، مثل كل مرة يتم اتهامه بها بجرائم إرهاب بيده أو بمساندة الإرهاب، كما اشرت إلى ذلك في مقالتي السابقة عن الموضوع (1).

لقد تجرأ حزب علاوي على إنكار معرفتهم بالمجرم رغم الصور، وكانت كذبة رخيصة لا تستحق الوقوف عندها. لكن ما قد يستحق الوقوف عنده قليلاً في أجواء العراق المفعمة بالشك، هو ما كتبته (أو كتبه) "عشتار العراقية"، من تشكيك بصحة وقوع الحادثة أصلاً، وتصوير الأمر كمؤامرة من الحكومة من أجل الإساءة إلى أياد علاوي والقائمة العراقية. (4)
وبالفعل قرأت الموضوع باهتمام، فالثقة في هذا الوقت بلاهة لا أكثر. وفي أدلة الكاتب على كذب القصة، كانت هناك نقطتان أساسيتان، الأولى أنه بين أن الصورة التي نشرها أحد المواقع مع الخبر لا تمت للموضوع بصلة، ولكن هذا  الموقع غير رسمي وحتى هو لم يدع أن الصورة للمتهمين بل وضعها دون تعليق.

 
وهناك نقطة أخرى هي أن ظهر أحد القتلة في الفلم يطلق النار وهو يرتدي ما اعتبره الكاتب "ملابس السجن" وقال أن هذا الخطأ كشف الكذبة، وانها كانت "إعادة تمثيل الجريمة" وأن الشرطة نسيت أن تلبس المجرم ملابس عادية.. الخ.
وبالفعل يظهر القاتل في الصورة بملابس قريبة من لون ملابس السجن، لكن التدقيق يكشف نقطتي ضعف في هذا التحليل وهما أن ملابس السجن التي تظهر في صورة مجموعة المجرمين، تتكون من قطعة واحدة، بينما يرتدي المجرم بدلة من قطعتين بشكل واضح. النقطة الأخرى هي أن بدلة المجرم بنصف ردن (نصف كم) بينما بدلة السجن ليست كذلك.
هكذا تفشل المحاولة لتبرئة اياد علاوي ومجموعته، من خلال الطعن في القصة. لننتظر المحاولة التالية.

من الواضح أن حلفاء علاوي في الحكم، مازالوا يخافون منه أكثر من خجلهم من ما سوف يمس سمعتهم أو ما قد يصيبهم من وجوده طليقاً بينهم بلا تحقيق ولا محاكمة ولا حتى رفض مشاركته، وهو ما تكفي لتبريره عادة الشكوك وحدها! عندما يتهم سياسي ما بتهمة كبيرة، ينسحب بنفسه أو يتخلى الحزب عنه حتى لو ثبتت براءته، مجرد بسبب احتمال السمعة المشبوهة التي يأتي إسمه بها إلى الحزب والمجموعة، أما في العراق فيتعامل الجميع، حتى الشرفاء، مع المشبوهين بتساهل تام يعرضون فيه شرفهم ومصير البلاد الى الخطر.

كل الذي فعلته الحكومة بعد الفضيحة أنها صارت أكثر قدرة على "المناورة" معه، وقالت له أنها ليست مضطرة لقبوله، وأنه إن رغب بالخروج فسيتم تشكيل حكومة أغلبية. وطبيعي أن علاوي تراجع عن مواقفه الصلبة، اما لأنه حسب الموضوع بنفسه أو لأن من يقف وراءه نصحه بالإنحناء للعاصفة حتى تهدأ، والتراجع إلى خندق خلفي في انتظار الفرصة التالية للضرب، وهو ما فعله بالضبط ، فهاهو ينكر بصلافته المعهودة عندما يحتاج للكذب، وبعد عشرات التهديدات بالإنسحاب. ورغم أن أكاذيب أياد علاوي والعراقية أصبحت تحصيل حاصل وأن الإشارة إليها وإثباتها أصبح أمراً مملاً ولم يعد يثير أهتمام أحد، فلا مفر من الإستشهاد ببضعة اسطر. ففي يوم  الأحد 29 مايس، "أكد مستشار العراقية هاني عاشور في حديث مع إيلاف أن قائمته ستجمّد مشاركتها في العملية الثلاثاء، إذا لم يخرج الاجتماع باتفاقات محددة ومثمرة لتنفيذ مبادرة بارزاني.". وكان إياد علاوي قد "هدد عقب اجتماع مع قيادات القائمة وأعضائها، بينهم رئيس البرلمان أسامة النجيفي، أمس الاول، باتخاذ موقف شديد من العملية السياسية في حال عدم تنفيذ المحاور التسعة في اتفاقية بارزاني"(5)

وعندما فشلت محادثات الثلاثاء أعلنت القائمة العراقية تعليق اجتماعاتها إلى حين توضيح موقف المالكي من القضايا الخلافية، وقال الناطق الرسمي للعراقية هاني عاشور بأنه لا يستبعد "انسحاب العراقية من العملية السياسية او تعليق مشاركتها في مجلسي الوزراء والنواب."(6) وبعد كل هذا لا يجد علاوي صعوبة في القول بأنه حتى "الحديث عن احتمال انسحاب العراقية من العملية السياسية....ليس له صحة إطلاقاً" !! (7)

لا أدري اي مستوى من الكذب يجب أن يصل إليه جماعة العراقية ليتوقف من يأمل منهم بشيء عن الوهم، لكن السؤال الذي يهمني أكثر هو لماذا يترك أمر "حكومة الشراكة" لعلاوي ليقرره؟ إن حكومة الشراكة كما يعلم الجميع اليوم، وكما حذرت منذ ظهور هذا المفهوم قبل سنين في اكثر من مقالة، ليست سوى فخ (أمريكي) للقضاء على الحكومة العراقية القادمة كما في سابقاتها، وإبقائها في حالة فشل وشلل حتى يرضخ الناس لحكومة يرأسها علاوي وبقية البعث الأمني وكل من ليس له ضمير.

إن دعوات علاوي لإعادة الإنتخابات ليست سوى خدعة، فلا أحد اليوم يقف مع علاوي وزمرته بعد هذه الفضيحة، وحتى أميركا قد تفضل تجنب ذلك. لكن من الناحية الأخرى فليس هناك مبرر حقيقي للحكومة للقيام بذلك فلديها أغلبية كافية للحكم بالأغلبية، وبدون هذا الداء الخبيث، داء "حكومة الشراكة". وإن لم يتم معالجة هذا الداء الآن، ووقف هذه التمثيلية الدموية في العراق، فلن يتم ذلك في وقت آخر، لأنه لن يأت وقت آخر أفضل. كونوا حكومة اغلبية بدون علاوي وزمرته، وأمتنعوا عن تمديد القوات التي لا تريد البقاء إلا لفرض أمثال هؤلاء على الشعب العراقي، واحسموا الأمر. لو كان علاوي في مكان القوة، وأتيحت له اقل فرصة للتخلص من كل شركائه، بلا استثناء، لما تردد لحظة واحدة، ولما تردد الأمريكان في مساعدته لحظة واحدة.

لماذا يكون الحسم دائماً في الجانب الأمريكي البعثي دائماً، والتردد والميوعة في الجانب المقابل دائماً؟ لقد منحت هذه الميوعة غير المحدودة حرية الحركة لعلاوي لكي يجرب انسحابات عديدة وتهديدات عديدة بالإنسحاب، وليجس النبض في كل مرة إن كان الإنسحاب سيكفي لتحطيم الحكومة أم لا، دون أن يخشى أن تكلفه تلك التجارب شيء، فهو يعلم أن المقابل لن يقوم بأي رد فعل يستحق الذكر. إنها سياسة تشبه لعبة نرد قواعدها: إن جاءت الفرصة للبعث وأميركا، حسم الأمر لصالحهم، وإن جاءت للمقابل، نلعب النرد من جديد! لذلك لنجرب إلقاء النرد (التهديد بالإنسحاب) كثيراً، فليس لدينا ما نخسره، خاصة عندما يمكن نكران التهديد بصلافة دون أن يحتج أحد. إنها لعبة خاسرة بالضرورة، ولا تحتاج إلا لبعض الوقت لإنزال الكارثة البعثية الأمريكية من جديد في العراق، كما حدث في 1963 و 1968.

أن تشبيه ما يحدث في العراق بالميدوزا ليس مبالغة على الإطلاق، فأمامنا "ميدوزا" إرهاب منظم وبراغماتي بامتياز، يسعى من خلال وحشيته إلى إبعاد نظرنا عن تنظيمه وبراغماتيته ودقة عمله باتجاه أهداف سياسية محددة، وليست عشوائية مجنونة بالتأكيد. العراق مهدد بأن يكون ضحية هذا الإرهاب السياسي إلى الأبد، مالم يجد بين أبنائه من له ذكاء وإرادة "برسيوس" لفهم الخطر والشجاعة اللازمة للنظر إليه دون أن يصيبه الرعب بالشلل، والقدرة على إتخاذ موقف حاسم قبل فوات الأوان.

(1)http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=49777       
(2) أبي يجد جواباً لحيرته: بحث عن الحقائق في موضوع العنف في العراق - 2
 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=76978
(3)Daniel Santiago, "The Aesthetics of Terror, the Hermeneutics of Death", America, 24/3/1990
 (4) http://www.iraq11.com/index.php?option=com_content&view=article&id=7923
(5) http://www.elaph.com/Web/news/2011/5/658303.html?entry=articleTaggedArticles
(6) http://www.elaph.com/Web/news/2011/5/658717.html
(7) http://wifaq.com/more.asp?NewsID=2646&catID=19&lang=arb

ملحق

قبل مجيئه للعراق كان نيكروبونتي سفيراً للولايات المتحدة في هيئة الأمم المتحدة, وقد قوبل ترشيح الرئيس بوش لنيغروبونتي لهذا المنصب حينها باحتجاجات واسعة من قبل منظمات حقوق الانسان وغيرها, حول دوره في دعم الارهاب في اميركا الوسطى. وكانت الاحتجاجات من القوة بحيث دفعت بمجلس الشيوخ الى التحقيق في الامر, وتأخير استلامه لمنصبه لمدة ستة اشهر. لكن ادارة بوش اصرت على ترشيحه, بل حاولت اسكات الشهود الذين يعرفون معلومات قد تهدد تعيينه. ففي 25 اذار, كتبت "لوس انجلس تايمز" تقريرا عن الابعاد المفاجئ لبعض اعضاء فرق الموت الهندوراسية, الذين كانوا يعيشون في الولايات المتحدة.
كذلك اشار الصحفي بيل فان الى ان نيغروبونتي, والذي رشح لتمثيل الولايات المتحدة في الامم المتحدة بعد اسبوع واحد فقط من هجمات 11 سبتمبر, كان مسؤولا عن تنظيم دعم ال (CIA ) لمرتزقة الكونترا والتي تسببت في مقتل 50 الف انسان, وقال انها مسخرة ان يرشح شخص متورط بمثل تلك الاعمال الوحشية, ليتحدث للمجتمع الدولي عن "محاربة الارهاب". (*)

(*) http://www.globalresearch.ca/articles/VAN111A.html
(**) "نيغروبونتي: السجل الخطير لسعادة السفير" مقالة نشرتها في تموز 2004 على إثر تعيين نيغروبونتي سفيراً للولايات المتحدة في العراق.

102
جريمة عرس التاجي واختطاف العراق نحو مضيف الشيخ محجوب!

صائب خليل
7 حزيران 2011

بعد أن تهدأ الروح قليلاً، وتأخذ نفساً يعينها على تحمل الصدمة المروعة لمجرمي عرس التاجي وكيف يمكن ان يصل الإنسان إلى هذا الوحش الأسطوري المتمثل بفراس الجبوري ومجموعته، لا مفر من أن يعمل فكره الهادئ للوصول إلى رؤوس خيوط لهذه الصدمة المروعة.

أول الملاحظات الهامة هي أن هذه الجريمة دليل آخر ، وليس الأول بالتأكيد، بأن ليس هناك "إرهاب" لمجرد الإرهاب، يقوم به أشخاص "يحبون" الإرهاب أو "يكرهون" البشر. الإرهاب عمل له هدف مثل كل الأعمال. ولإن الإرهاب عمل إجرامي شديد الخطورة على صاحبه، فلا بد أن يكون الهدف منه واضحاً وقوياً ليتحمل صاحبه تلك المخاطرة، وأن يكون وراءه من يدعمه ويسانده ويهيء له الأمور ويطمئنه إلى سلامته.
القائمين على هذا الإرهاب الشديد البشاعة، ليسوا مجانين ولا متخلفين عقلياً، (رغم أنهم قد يلغمون بعض المتخلفين كحملة متفجرات) بل بينهم الدكتور وبينهم الماجستير، وهم قياديين في أحزاب سياسية كبيرة، أي أنهم أناس يعرفون ما يريدون أفضل من غيرهم، ويعملون بتخطيط طويل المدى وتنظيم وإرادة عاليين.

بالتأكيد ليس الإغتصاب هو الهدف من جريمة عرس التاجي، فلو كان الأمر كذلك لما تم قتل الضحايا، وخاصة الأطفال. أوعلى الأقل لما تم اختيار هذه الطريقة المتعمدة البشاعة لقتلهم. لقد كان اسهل عليهم لو أنهم أرادوا محو الشهود مثلاً، أن يوجهوا رصاصة إلى رأس كل شخص بما فيهم الأطفال. لكنهم أرادوا شيئاً آخر... أرادوا "نشر الإرهاب" بعمل فضيع قدر الإمكان!

ويذكرني هذا بجريمة كنيسة سيدة النجاة، وبمقالة فراس الغضبان وقصته عن ذبح الضحايا وقطع رؤوسهم أمام الآخرين، فالإرهاب لا يخدمه بشكل كاف أن تقول بأن الجريمة كانت القتل بالرصاص، بل يجب تهيئة مسرحية مثيرة. مسرح إرهاب كنيسة سيدة النجاة تطلب مسرحية قتل استمرت ساعات طويلة، في الوقت الذي كان يمكن فيه قتل كل من في الكنيسة بخمسة دقائق فقط، لو ارادوا ذلك، أو ربما دقيقتين. لكن المسرحية يجب أن تأخذ وقتها، لذلك استمر العرض حتى الصباح، (ثم ذهبوا "خلف ا لستار" لكي "ينتحروا"! فالإنتحار ضروري لإكمال المشهد، مثلما هو السيف، وصرخات "ألله اكبر"). ولنفس السبب لم تقتل القنابل الكثيرة التي ألقيت في غرفة صغيرة، جميع الضحايا، وكانت قنبلة يدوية واحدة كافية لقتلهم عن آخرهم. المسرحية والمشهد الذي سينقل، أهم ما في الموضوع، لذلك يجب ترك عدد كاف من الشهود أحياءاً، وأن يتم تمثيل القصة بـ "تشويق" زائد، وأن ينقل فراس الغضبان السيناريو بشكل يخدم تلك المسرحية، كما تريدها الجهة التي تقف وراءها. ولنفس السبب توجب قطع ثديي العروس هنا أيضاً، وليس الإكتفاء باغتصابها (أمام زوجها!) وقتلها. 

ومن أكثر الأمور إثارة للإهتمام، علاقة اياد علاوي بالموضوع. الرجل الأساسي في هذه الجريمة الوحشية هو صديق لعلاوي وزميله في حزبه، حركة الوفاق الوطني، الذي يحتل الأول فيه مركز القيادة والثاني هو مدير مكتب الحركة في منطقة الرصافة الثالثة. ورغم المحاولة البائسة لإنكار تلك العلاقة، فأن المجرم الذي انطبع وجهه القبيح في ذاكرة كل العراقيين، قد تم تصويره في وقفات ودية مع أياد علاوي وفي مكتبه وهو يجلس أمام قطعة تبين منصبه، وكذلك في فيديو وهو يوزع الهدايا على المتميزين في الحزب!

ليس في الأمر اية غرابة بالنسبة لرجل مثل أياد علاوي أن يكون هؤلاء رفاقه، بل لن يكون عجيباً لو اكتشفنا يوماً أنه شارك في مثل تلك الجرائم بنفسه ونفذها بيده، فتاريخه الذي "لم يندم على شيء فيه" و"مستعد لتكراره" كما يقول بنفسه (1)، يرتبط بمنظمة إرهابية في حزب البعث، كانت مهمتها تصفية من تغضب عليهم قيادة الحزب. كذلك لا ننسى التهم التي وجهت إليه بشكل رسمي حول علاقته بمنظمات إرهابية في أكتوبر 2007 عندما اتهمته وزارة الداخلية مع حارث الضاري و "دولا اقليمية" بالتورط في احداث الزركة بمدينة النجف مطلع العام، وكشفت عن أسلحة خفيفة وثقيلة وأسلحة مقاومة للطائرات وانتهت بأحكام بين الإعدام والسجن الطويل، وأن "ضياء عبد الله الكرعاوي" حسب اعتراف شقيقه، كان على علاقة بأياد علاوي وكان يحصل منه على المال.(2) وعند فوز قائمة علاوي كتب جوشوا هولاند مقالة "هل انتخب العراق لتوه قاتلاً جماعياً؟" أشار فيها إلى أنه قتل بيده بدم بارد ستة "إرهابيين" مقيدين في مركز شرطة في العامرية، عام 2004. (3) هذه الحقائق أو التهم لعلاوي تم طمسها، ربما بسبب مكانته لدى الأمريكان بشكل خاص في بداية فترة احتلال العراق.

ليس في الأمر إذن ماهو جديد بالنسبة لعلاوي وما نعرفه عنه، إلا أن ماهو مثير أن هذه هي المرة الأولى التي تفتضح فيها القضية إلى هذه الدرجة من العلن. ورغم استغرابي لتأخر ردود فعل من هم حوله، (لعل أكثرهم لا يختلفون عنه كثيراً، لكن لا بد أن هناك البعض من صنف آخر)، لكني متأكد أن الهروب من هذه القائمة المشبوهة سوف يتسارع بشكل إنهياري. كذلك لا شك عندي بأن الأمريكان قد بدأوا البحث بشكل جدي عن بديل مماثل لم يفتضح بعد بهذا الشكل الصعب التسويق. وليس مستبعداً أبداً أن أحد أعضاء العراقية قد يمثل الدور، بعد ان يتظاهر بالثورة والغضب على الفضيحة ويقود البقية بتوجيه أمريكي بدلاً من علاوي، وقد يبدأ العمل مباشرة لدخول الحكومة وتخريبها، او يبقى في انتظار المرحلة القادمة إن تطلبت الظروف.

صحيح أن فضائح "الأصدقاء" هي إيجابية للأمريكان من ناحية، حيث تجعل من صاحبها طوع بنانهم، لا يجروء على أن يقول أية لا حتى لو أدى ذلك إلى التضحية به، لكن من الناحية الأخرى فأن تلك النماذج يصعب تسويقها بعد حد معين من الفضائح. لقد كان علاوي غنياً بالفضائح (4) لكنه اليوم ربما يكون قد عبر الممكن تسويقه حتى بإمكانيات أميركا الجبارة.

من الإستنتاجات الأخرى الهامة من الفضيحة، هي أن "الإرهاب يمكن إمساكه" أحياناً! فهذه هي المرة الأولى التي يتم إمساك شخص بهذا المنصب، يقوم بمثل هذه الجريمة، وهو قيادي في قائمة تسعى الولايات المتحدة إلى صعودها إلى الحكم بكل قوة! الحقيقة أنني بعد ردود فعل الحكومة على أجهزة كشف المتفجرات المزورة، وكذلك على الحقائق التي كشفت عن جريمة كنيسة النجاة، دون أتخاذ إجراءات معقولة، فقدت ثقتي بالجهاز الأمني تماماً، واعتبرته مخترقاً إلى أعلى المستويات من قبل "الإرهاب". لكن هذه القضية تعطي بصيص أمل ما، وتبين أن الإرهاب لا يسيطر على الجهاز الأمني، حتى إن كان قد اخترقه كثيراً جداً كما تشير القضيتان أعلاه، واللتان مازالت ملفاتهما مبهمة.

لقد تم القاء القبض على المجرمين الكبار هؤلاء، ومما لا شك فيه من خلال شجاعة كبيرة من عراقيين قرروا تحمل مخاطرة عظيمة بحياتهم، لكن القضية لم تنته بعد. وأول الأمور هو أننا لم نفهم بعد من يقف وراء هؤلاء، ولم يعط التحقيق قصة معقولة عن منظومة لها أهداف نهائية محددة تخدم تلك المنظمومة، وعن قدرة تلك المنظومة على البقاء على قيد الحياة وقدرتها على تنفيذ أعمالها غير الإعتيادية. فعمليات القتل وإغراق الأطفال وقطع الأثداء، أعمال ليست سهلة حتى على المجرمين، كما تبين دراسات علمية عن الموضوع اثبتت أن الناس العاديين يمكنهم انزال الأذى بالآخرين، أما التعذيب والقتل فيحتاج تدريب خاص (5) فمن هي الجهة التي تمول هؤلاء ومن هي الجهة التي دربتهم والتي تقوم بالتغطية على جرائمهم؟

عندما يكون الشخص ذو موقع مهم، خاصة في العراق، فلا شك أن أجهزة الأمن الأمريكية تتجسس على كل ما يقوم به وكل اتصال يجريه وكل علاقة يرتبط بها، وبشكل خاص قياديي الأحزاب المحسوبة عليهم (وخصومهم). وما لم يكن هذا الشخص ساذجاً إلى درجة كبيرة فهو يعرف ذلك. وهذا يثير سؤالين: كيف لم تعرف القوات الأمريكية بنشاط فراس هذا من قبل، فمما لا شك فيه أن عملية بهذا المستوى، لم تكن الدرس الأول في الإرهاب في حياته! والسؤال الثاني، كيف يتجرأ مثل هذا الرجل أن يقوم بما قام به، وهو يعلم أنه تحت المراقبة الشديدة في كل حركة من حركاته من قبل القوات الأمريكية؟ شيء ما أسكت الأمريكان، وشيء ما طمأن فراس الجبوري أنهم سوف يسكتون.. ربما كان هذين الشيئين شيئاً واحداً..

والآن؟ ما العمل؟ الخطوة الأولى في هذا الموقف شديد الحساسية هي تأمين عدم هرب هؤلاء المجرمين بأي شكل من الأشكال، خاصة بعد الفضائح الكبيرة في هروب السجناء، ولأهمية هؤلاء القصوى. وتأتي أهميتهم الخاصة إضافة إلى جريمتهم المتناهية البشاعة، إلى علاقتهم بأياد علاوي ورفاقه بالدرجة الأولى. ولأن هروبهم يعني توجيه ضربة مصداقية جديدة للحكومة بالدرجة الثانية. ولأنه على ما يبدو فأن المجرمين لم يعترفوا بكل شيء، بحيث تبدو القصة معقولة متكاملة كما أسلفنا. أي أن الرؤوس الأكبر المستفيدة من هذه العمليات والداعمة لها، مازالت مجهولة. وهذا أمر خطير، يشجع تلك الرؤوس على العمل بقوة أما على إنقاذ المجرمين أو التخلص منهم إن لم يكن إنقاذهم متيسراً. فعملية إنقاذ العسكريين البريطانيين كانت مخاطرة شديدة بحياتهم، لكن ما كان يهم الجيش البريطاني هو أن لا تخرج المعلومات التي يعرفونها إلى الخارج، مهما كانت طريقة منع ذلك وكلفته. وبالتالي فأن هذا يفرض أولاً ألسرعة في إكمال التحقيقات واستنفاد كل المعلومات منهم، وثانياً الإحتياط الكبير ليس فقط ضد إمكانيات هربهم، ولكن أيضاً ضد احتمال قتلهم ، ربما بـ "ألإنتحار" أو غيره! إن حدوث أي من الآمرين سيدمر مصداقية الحكومة بشكل يستحيل تصحيحه بعد ذلك، خاصة في هذا الوقت، ولن يلام من سوف يتهمها بالتعاون في العملية- عملية القتل أو الإنتحار أو الهرب!

أما على المستوى السياسي، فيجب على المالكي فوراً، إقتناص الفرصة ، أولاً، للتخلص من الشراكة المتناقضة الكريهة مع هذا الرجل وبعض رفاقه. فهم في وضع أضعف ما يكون، وللحكومة سبب كاف جداً ومنطقي لذلك، فمن ذا الذي يريد شريكاً في حكومته، يرتبط حزبه وقيادييه بعملية إرهابية من أبشع ما تكون؟ إن جميع من يقف اليوم مع علاوي، لا بد انه يراجع نفسه كثيراً الآن، ولعل أغلبهم قد ندم بالفعل، وحتى الآمريكان لن يكونوا متحمسين لإنقاذه في مثل هذا الموقف، خاصة أن قيمته قد انخفضت كثيراً.

الحالة المثالية هي أن يساق كل مشبوه له علاقة بالموضوع إلى المحاكم، لكن "توازن القوى" لن يسمح بذلك، فهذا يكشف أكثر من اللازم، إنما من الممكن جداً أن يسمح للمالكي بإنشاء حكومة أكثرية دون أن يتدخل بشكل عنيف للوقوف بوجهها. وبالطبع فأن تشكيل مثل تلك الحكومة أمر كريه وخطير بالنسبة للإحتلال، فربما تتمكن تلك الحكومة من تحقيق تقدم في ملفات أساسية مختلفة يصبح بعدها التخلص منها عسيراً، لكنهم مع ذلك قد لا يتمكنون من منع تشكيلها.  وإذا أصر المالكي أن يخرجوا قواتهم من البلد، فسوف تكون قدرتهم أقل لتنفيذ المؤامرات مستقبلاً، وربما قبلوا بالمعايشة مع حكومة عراقية ليست بالعمالة التي يحلمون بها، ولو في انتظار فرصة أفضل للتخلص منها بلا ضجيج ، وهو أمر في غاية الصعوبة الآن لأنه سيثبت الفضيحة في ذاكرة الناس تماماً بربطها بالحدث، وسيكشف تماماً أن الأمريكان وقائمة علاوي تقف وراء الإرهاب بل تقوم بتنفيذه بيدها، وإنها شعرت أنها انكشفت فلم يعد لها غير الهجوم لإنقاذ نفسها. ولعل العملية كانت مفاجئة بحيث صعب على مجموعة أميركا – علاوي أن تبادر إلى حركة قوية.

لذلك فهي اللحظة المناسبة لإقامة حكومة الأكثرية فوراً، وعدم ترك الأمر لعلاوي كما يحدث الآن، الذي سيتراجع، ربما باستشارة أمريكية، إلى خندق خلفي في انتظار فرصة افضل. وعدا ذلك فالرمز في اتخاذ القرار في اللحظة الحاسمة رمز مهم، فحتى الآن كان الجانب المقابل، الجانب الأمريكي البعثي، هو الوحيد المبادر والحاسم والواضح الإرادة، بينما بدا الجانب الحكومي يبحث دائماً عن توافق يسمح له بالإستمرار بالحكم دون تعريض نفسه للخطر، وكان دائماً على استعداد للتخلي حتى عن مسانديه عند الوصول إلى ما يكفيه لتلك الغاية. يبدو لي أنه يمكن تغيير هذه الصورة الآن.

من النادر أن يقوم المستفيدين النهائيين من الجرائم بتنفيذ الجرائم بأنفسهم أو من خلال من يرتبط معهم بشكل مباشر، خاصة إن كان هؤلاء المستفيدين من مستوى عال، كالإدارة الأمريكية ووكالاتها السرية وأصداقائها من السياسيين. لكن الأخطاء تحدث، لحسن الحظ، وتكشف أحياناً، على ندرة ذلك. لقد أخطأ البريطانيون عندما تركوا أثنين من عساكرهم ينفذون عملية إرهابية بأنفسهم، وتلاحقوا للأمر، وتمكنوا من تغطيته، رغم تسجيله وتصويره، واضطرارهم للقيام بعملية إنقاذ عنيفة لا تدع أي مجال لنفي القصة. لقد تركت تلك الفرصة النادرة للإمساك بالإرهاب الحقيقي تفوت، بسبب الضعف الشديد لحكومة الجعفري، وعدم اتخاذه موقفاً مبدئياً من الأمر. واليوم يمكن ان تمر هذه الفرصة الثانية لكشف الإرهاب الحقيقي وتوجيه ضربه له وليس للإرهاب الخرافي، إرهاب القاعدة والزرقاوي والعفاريت التي تفجر نفسها "بدون سبب". ويمكن أن يطمر الإعلام الذي يسيطر عليه الإحتلال هذه الحقائق مع الوقت، وتصبح أسطورة من أساطير "نظرية المؤامرة"، كما صارت قصة البريطانيين.

عندما تحدث فراس الجبوري عن العملية، لفت نظري أنه في إحدى المراحل، ربما كانت هناك فرصة للضحايا للإفلات من مصيرهم الدموي المرعب، لو أنهم فكروا بشكل سليم وشجاع. فحسب الجبوري، تم اقتياد سيارات الضحايا في موكب إلى مضيف الشيخ محجوب بسيارة أمامهم وأخرى خلفهم، وكانت السيارات الأسيرة تنقاد بينهما إلى فخها الأخير. ولم يحاول قادة تلك السيارات الهرب، فوصلوا إلى المكان الذي يسيطر عليه المجرمون تماماً وضاعت كل فرصة للنجاة. تذكرت عندها نصيحة الشرطة الهولندية لمن يتعرضون للخطف، أن يرفضوا الإنقياد إلى المكان الذي يختاره الخاطف، رغم خطورة ذلك، فالمخاطرة تبقى أقل من القبول، كما بينت هذه الحالة بوضوح.

أرى أن الولايات المتحدة تقود العراق من خلال مشروع إبقاء قواتها تكراراً، إلى "مضيف محجوب" آخر، فستجد الحكومات القادمة استحالة في إخراج تلك القوات من البلاد بعد أن تكون قد رسخت أقدامها في الأمن والجيش والسياسة. لقد حدث ذلك تكراراً في دول أخرى، فيكون سقوط الحكومة المنتخبة أيسر من إخراج قاعدة أمريكية، وآخرها ما حدث في اليابان حين استقالت الحكومة السابقة في العام الماضي بعد فشلها في تنفيذ وعدها الإنتخابي بإنهاء وجود القاعدة الأمريكية في أوكيناوا(6). واليوم يتحدث الجميع في العراق عن كتل سياسية محاصرة بين رغبة الشعب الواضحة في رفض الإحتلال من جهة، وبين ضغط الجيش الأمريكي الشديد لتنفيذ أجندته، مصحوباً بحملة إعلامية مشبوهة لتزيين خيانة الشعب.

أمامنا للمرة الثانية، حقيقة كبيرة، وكل حقيقة كبيرة هي فرصة كبيرة، فهل سنتركها تدفن إعلامياً كسابقتها؟ ربما كانت هذه هي فرصة العراق للخروج من هذا القمقم، وقد تكون الأخيرة، فهل للعراق من يتخذ قراراً حاسماً شجاعاً يقتنص تلك الفرصة؟ إن تضييع الفرص التي تقدمها صدفة نادرة، بحجم فضيحة البريطانيين أو مدير مكتب الوفاق متلبسين بالجريمة، قد يكون قاتلاً، ولا يكتشف ذلك إلا بعد فوات الآوان، بعد أن تجد الضحية نفسها في وضع ليس لها فيه خيار، في "مضيف الشيخ محجوب"!

(1) http://www.youtube.com/watch?v=V5Yd0K2xfnc
(2) http://www.alittihad.ae/details.php?id=144584&y=2007
(3) http://www.informationclearinghouse.info/article25096.htm
(4) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=13299:-2-
(5) تجربة ميلكرام: http://en.wikipedia.org/wiki/Milgram_Experiment
(6) http://www.bbc.co.uk/news/10211314

103
كيف تدير مصالحك أمام قوة عظمى 3- متى يمكنك أن تعارض؟

صائب خليل
3 حزيران 2011

هذه هي الحلقة الثالثة من المقال متعدد الأجزاء يعتمد كتاب ستيفان والت القيّم: "تدجين القوة الأمريكية" (Taming American Power – Stephen Walt) (1) منطلقاً مع إضافات وتعليقات لي، وأحاول أن أكون واضحاً قدر الإمكان في التمييز بين ما هو مقتبس من الكتاب وما هو إضافة عليه من رأيي الشخصي. الحلقتين الأولى (2)والثانية (3)تم نشرهما خلال الفترة القصيرة الماضية.

***

تتخذ الدول موقف المعارضة من الولايات المتحدة في ثلاث حالات أساسية:
1 الدول التي تعتبر الولايات المتحدة مضادة لها مبدئيا، والتي ترى أن مصالحها الأساسية تتناقض مع مصالح الولايات المتحدة، وهذه سترفض التعاون وتتخذ موقف المقاومة المفتوحة لسلطة الولايات المتحدة، ومن أمثلتها ما تسمى "الأنظمة المارقة".

2- بعض الدول تتخذ موقف المعارضة من الولايات المتحدة في مجموعة محدودة من المواقف، بينما تحاول الإبقاء على علاقة جيدة معها في بقية الأمور. وما لم تتطور الأمور بشكل حاد، فأن مثل هذه السياسة جزء من العملية السياسية المستمرة في الأخذ والعطاء.

3- الدول التي تختار موقف المعارضة قلقاً من نتائج التفوق الأمريكي على مجمل القضايا الهامة. وينطلق هذا من القلق من أن تتمكن الولايات المتحدة بسبب قوتها المتزايدة، من فرض مصالحها بغض النظر عن مصالح تلك الدول، او ان تستعمل (الولايات المتحدة ) قوتها بشكل يضر بتلك الدول في المستقبل.
ويعكس هذا القلق، التوجس العام من اية قوة تبلغ مدى يستحيل بعده تحديد حريتها في ان تفعل ما تشاء. ويعبر عن هذا القلق موقف الرئيس بوتين عندما قال بأنه والرئيس شيراك يتفقان على أن "العالم سيكون غير منضبط مالم يكن عالماً متعدد الأقطاب"، واتخذ الإتحاد الأوروبي والصين موقفاً مماثلاً من ضرورة تعدد أقطاب العالم وكان القائد الأفريقي نيلسون مانديلا قد وضع الأمر بعبارة واضحة حين قال: "لا نستطيع أن نقبل ان تكون هناك دولة تمثل الشرطي في العالم.... تقول لنا ما أين يجب أن نذهب وأي الدول يجب علينا ان نصاحب".

لكن الأمر ليس سهلاً أمام "غوريلا وزنها 400 كغم" كما يشبه الأمر صاحب الكتاب، ولها القدرة على الأذى بمختلف الطرق. ورغم ذلك فأن العديد من الدول وقفت بوجه الولايات المتحدة، وأحياناً بشكل عنيف، كما تبين أحداث العقود المنصرمة.
متى تتحدى الدول تفوق الولايات المتحدة؟ يعتمد ذلك على الإجابة عن بعض الأسئلة:

1- ما هو حجم الخلاف؟ من الطبيعي ان تلجأ الدول التي تجد مصالحها في تعارض مع السياسة الخارجية العامة للولايات المتحدة إلى الوقوف موقف المعارض من الهيمنة الأمريكية. والأمثلة على ذلك كثيرة، مثل الإتحاد السوفيتي السابق ودول ما اسماه بوش "محور الشر" وصربيا وليبيا وغيرها، ونضيف إليها الدول العربية (مستقلة الإرادة) التي تجد سياسة الولايات المتحدة من الشرق الأوسط في خلاف شديد مع مواقفها منه.
أما في حالة الخلافات ذات الحجم الأصغر، وحول قضايا محددة، فيمكن في العادة تسوية تلك الخلافات بطريقة أو بأخرى بدون اللجوء إلى تحدي الولايات المتحدة.

2- السؤال الآخر، هل ستعرف الولايات المتحدة بالمعارضة؟ تلجأ بعض الدول إلى مقاومة سيطرة الولايات المتحدة وهيمنتها، بشكل سري مع بعضها البعض أملاً في أن لا تكتشف الولايات المتحدة ذلك، وبالتالي لن يكون عليها أن تخشى رد فعلها. ورغم أن الكثير من المعارضة لا يمكن إخفاؤها، وتتطلب العمل العلني، إلا ان هذه ليست القاعدة دائماً. فالدول التي تريد تطوير أسلحة نووية، ضد رغبة الولايات المتحدة مثلاً، يمكنها أن تخفي نواياها تحت ستار التطوير النووي للأغراض السلمية. (لاحظ هنا أن الكاتب يفترض ضمناً أن للولايات المتحدة حقاً ما في فرض من الذي له حق تطوير أسلحة نووية ومن ليس له ذلك الحق، وأن مخالفة "رغبة الولايات المتحدة" في ذلك، هو نوع من المعارضة لها)
وتلجأ دول أخرى إلى معارضة اكثر تعقيداً تتمثل بالتظاهر بمسايرة الولايات المتحدة، لكنها تضع العراقيل سراً أمام تنفيذ الإتفاقت معها.

3- السؤال الثالث المهم هو : هل سترد الولايات المتحدة على ذلك؟ الدول التي تقدر أن الولايات المتحدة سوف لن تكون قادرة أو لن ترغب في الرد على معارضتها في أمر معين – إما لأنها لا تمتلك خيارات عملية معقولة لذلك، او لأن تكاليف الرد ستكون اكبر من منافعه -  قد تحاول القيام بتحدي الدولة العظمى. وأضيف هنا أنه مما لاشك فيه أن خيارات الرد الأمريكية تزايدت كثيراً بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، فقبل ذلك كان للعديد من الدول أن تتخذ مواقف مستقلة عن الإرادة الأمريكية بشكل اكبر مما بعد السقوط، حيث كانت المخاطرة باجتياح تلك الدول كبيرة وتحسب لها كلفة أكبر من فائدتها. فلم يكن إجتياح العراق وأفغانستان من قبل الولايات المتحدة خياراً سياسياً مقبولاً قبل سقوط الإتحاد السوفيتي، على سبيل المثال، وازدياد الفارق بين قوتها وقوة حلفائها والدول التابعة لها مقابل الدول المعارضة.
لكن ذلك لم يمنع العديد من الدول من تحدي إرادة الولايات المتحدة في عالم القطب الواحد، فتكاثرت مثلاً بشكل ملفت للنظر الدول التي تنتهج سياسة إقتصادية إجتماعية لا تروق للولايات المتحدة، خاصة في اميركا الوسطى والجنوبية، رغم أن الولايات المتحدة لم تأل جهداً لإسقاط حكوماتها المناوئة، وبمختلف الطرق. فقد اضطر "حجم الخلاف" مع السياسة الأمريكية الخارجية أن تتحدى هذه الدول حقيقة أن الولايات المتحدة قد ترد، وبعنف.

وعندما لا يكون الرد العسكري خياراً متاحاً، تلجأ الولايات المتحدة عادة إلى العقوبات الإقتصادية كخيار بديل. لكن هذا الخيار، ورغم موقع الولايات المتحدة الإقتصادي المهيمن، يحتاج إلى تعاون وتنسيق دولي واسع، وإلا كان مصيره الفشل.
نذكر إضافة إلى ما اورده الكتاب، أن العقوبات الإقتصادية تتميز بأنها تعمل بلا ضجة كبيرة، رغم أثرها الشديد. فالعقوبات الإقتصادية على العراق قتلت من سكانه أكثر مما قتلت الحروب الأمريكية عليه، دون ان تثير من الضغط الدولي الشعبي ما أثارته تلك الحروب. ويعرف العالم قصة مادلين البرايت حين أكدت في برنامج تلفزيوني أنها ترى أن الحصار على العراق يستحق ثمنه المتمثل بوفات نصف مليون طفل عراقي. وطبعاً، لأن "الثمن" لم تكن أميركا من يدفعه، كما ألمح تشومسكي.

لكن بشكل عام هناك ظاهرة "غريبة" لهذا النوع من الرد، وهي أن العقوبات الإقتصادية تكون فعالة ضد الدول التي لها علاقات اقتصادية قوية مع الولايات المتحدة، اي اصدقاءها، وأقل بكثير ضد الدول المعارضة. كذلك لا تميل الولايات المتحدة إلى هذا الإجراء إذا كان يضر بمصالح شركاتها بشكل ملحوظ، ولصالح الشركات المنافسة في دول اخرى.
وفي هذه النقطة سبب آخر لنا في العراق مثلاً أن لا نجعل من أنفسنا "أصدقاء" شديدي الإعتماد على الولايات المتحدة، لأننا نعطيها بذلك القدةر الإضافية لحصار كبير التأثير، وهي ورقة مفاوضات لصالحها قد تستخدم في أي وقت لإجبار العراق (أو أية دولة "صديقة" إلى القبول بتمرير سياسيات ليست في صالحها مستقبلاُ. أي أنه يجب أن يحسب دائماً في اية اتفاقية، وأي تعاون حساباً للسؤال: ماذا لو لم نتفق بعد ذلك؟ ما هي الأوراق التي لدى الولايات المتحدة للضغط علينا؟ إلى أي مدى ستكون الحكومات القادمة مجبرة على القبول بما تمليه عليها الولايات المتحدة بسبب ذلك الإعتماد الإقتصادي (أو العسكري أو الأمني)؟

وتسعى الدول التي تقرر تحدي سلطة الولايات المتحدة إلى ان تجعل من عملها مؤثراً على موقع الولايات المتحدة، دون أن يصل إلى الحد الذي يدفع بها إلى الرد العنيف. ويكتب توماس شلنك: "بإمكان المتحدي الأضعف، إن امتلك الإرادة والذكاء، أن يحصل على سلسلة من التنازلات الصغيرة المتتالية، التي لا تستدعي أي منها الرد من الجانب الأقوى، ولكن بتجميع تأثيرها الكلي، تكون ذات قيمة كبيرة".
وفي العادة يكون هناك عدد كبير من المتحدين الصغار للولايات المتحدة، مما يجعل الرد عليهم صعباً. وفي هذه الحالة قد تلجأ إلى التفكير بالرد على عدد محدود منهم بشكل يردع الباقين عن اتخاذ موقف التحدي. ويؤثر على القرار الأمريكي بالطبع الظرف الذي تمر به الولايات المتحدة. فعندما تكون مشغولة بحرب أو حربين، تكون أقل استعداداً للرد العنيف على تحد جديد. وعليه فأن الدول التي تبحث عن فرصة لتحدي الولايات المتحدة، تنتظر اللحظة التي تجد فيها القوة العظمى مكبلة بمشكلة اخرى.

ورغم ان تحدي الولايات المتحدة يحمل معه أخطاره دائماً، فأن الأمر قد يستحق المخاطرة، ولكن فقط إن كان النجاح فيه يضع المتحدي في موقع ستراتيجي أقوى تجاه الولايات المتحدة أو غيرها.
ويأخذ الكاتب مثالا على ذلك في قرار صدام حسين غزو الكويت، الذي كان ينتظر أن يعطيه موقعاً ستراتيجياً أقوى بكثير، كما أن الدبلوماسيين الأمريكان كرروا أنهم ليسوا معنيين بحماية الكويت، (*اعتبر الكاتب تصرف الدبلوماسيين الأمريكان "حماقة"، ولكن ما انكشف من حقائق يؤكد أنها لم تكن كذلك بل كانت خطة أمريكية متعمدة لخداعه وإغرائه بالإجتياح(4)) وبالتالي فأن قرار  صدام باجتياح الكويبت لا يعتبر (من وجهة نظر مؤلف الكتاب) من الناحية السياسية خطأً ولا كان مفاجئاً. (والحقيقة يمكننا أن نعتبره حماقة من الدرجة الأولى، لأن صدام لم يأخذ في الحسبان أن الولايات المتحدة قد تكون تحاول خداعه وما يمكن أن تجنيه من ذلك، وأن لها في ذلك من المصالح ما هو أكثر من تسليم العراق التحكم بنفط العراق والكويت معاً، مهما قدم لها من وعود، قد يكون تنفيذها غير ممكن سياسياً لأنه سيجعل من جميع أصدقائها وعملائها في المنطقة يتخذون موقفاً حاسماً لأنها ستصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم.)

وكمثال آخر على استغلال فرص الظروف التي تمر بها أميركا، فأن كوريا الشمالية استغلت فرصة إنشغال الولايات المتحدة بالحرب على العراق، من أجل تطوير قنبلتها النووية، والذي أعطاها موقعا ستراتيجيا أقوى بكثير. هذه الحرب أعطت لإيران كل من الفرصة والدافع لتطوير تكنولوجيتها النووية أيضاً، فقد شعرت بشكل ملموس بأن أمنها يعتمد على حصولها على تلك التكنولوجيا وانها ستكون في موقف ستراتيجي أقوى لمواجهة الخطر الأمريكي الصريح تجاهها. ويشرح الكاتب ذلك بأن إيران استغلت "النافذة" الزمنية المناسبة لذلك تماماً كما فعلت كوريا الشمالية.


(1) http://www.amazon.com/Taming-American-Power-Response-Primacy/dp/0393052036
(2) كيف تدير مصالحك مع قوة عظمى (1) ملاحظات عامة ضرورية
 http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=49151
 (3) كيف تدير مصالحك أمام قوة عظمى؟ 2 – مبادئ الصراع مع الأقوى
 http://www.yanabeealiraq.com/article/sk/sk290511.html
 (4) صائب خليل: "أبريل غلاسبي كذابة": http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/25april.htm


104
كيف تدير مصالحك أمام قوة عظمى؟ 2 – مبادئ الصراع مع الأقوى
   
صائب خليل
27 مايس 2011

هذه هي المقالة الثانية من هذه السلسلة، وكان المفروض ان تكون مخصصة لإمكانيات الدولة الأضعف في الدفاع عن مصالحها عن طريق الممانعة، على ان تكون الأخيرة لطرق ضمان المصالح بطريق المصاحبة، وهي تستند عموماً على كتاب "تدجين القوة الأمريكية" لـ ستيفان والت. لكن قبل إكمال بقية الأجزاء، ولإشكالية فهم هذه الحالة التي تبدو غريبة للقارئ العربي كما اكتشفت، وجدت من المفيد توضيح مفهوم الصراع مع الأقوى ولماذا يمكن تحقيق النصر عليه أحياناً، وبالتالي فهذه المقالة خارج نطاق الكتاب المذكور وتعتمد على أفكار شخصية في معظمها وقراءات متفرقة.

1- مبدأ "المدافع ينتصر".


ليس دائماُ طبعاً، ولكن في حالة تقارب القوتين، فأن الدفاع ينتصر في الغالبية الساحقة من المعارك. من المعروف عسكرياً، على المهاجم أن يكون ثلاثة أضعاف قوة المدافع لكي تكون له فرصة للنصر. فالمدافع متحصن في مكانه، إمداداته وخدماته موجودة، ليس مكشوفاً لسلاح المقابل ولا لظروف الطبيعة..كذلك فالمدافع أكثر حماساً للصمود، وأكثر استعداداً للتضحية من المهاجم بشكل عام.
ولا يقتصر الأمر على الجيوش، بل لاحظ علماء الحيوان ان من يدافع عن منطقته، يفوز دائماً تقريباً، رغم أننا لسنا هنا بصدد انكشاف أمام أسلحة أو ظروف طبيعية. لكن الحماس  الناتج من ما يصفه الكاتب بـ "العرف الشائع" الذي يفهم المدافع من خلاله بأن ما يدافع عنه هو حقه، وأن هذه ارضه، وأن ليس فقط من مصلحته بل من واجبه الدفاع عنها. هذا المفهوم يبقى هو الفارق الحاسم، كما يؤكد "ديفيد باراش" في  أحد فصول كتابه الجميل "لعبة البقاء"،(The survival game) الذي يدرس فيه تطبيق "نظرية الألعاب" على تصرفات الحيوانات، ويتوصل إلى نتائج مدهشة.
والحقيقة أن هذا المبدأ هو في أساس استقرار اي نظام. فلو كانت الأفضلية للمهاجم، لكان النظام في "هجوم مستمر" وصراع مستمر، وبالتالي فلا يوجد أي نظام لأنه سيكون في حالة تغير مستمر.
وطبعاً تأثير "العرف الشائع" واعتبار صاحب الأرض أنها حقه، ينطبق على الإنسان بنفس الدرجة على الأقل. كما أن القوانين الدولية، على ضعفها أحياناً فأنها تبقى رادعاً هاماً في صالح المدافع.
ومن الجدير بالملاحظة أن الإعلام الإسرائيلي مدرك تماماً لهذه النقطة، لذلك فهو يشيع بإصرار بأن الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وحتى تلك التي يحتلها المستوطنون، بأنها "أرضهم"، وتراهم مقتنعين بأنها كذلك فعلاً، مما يجعل الحل السلمي عسيراً للغاية.
والحقيقة أن ظاهرة قوة وعزيمة المدافع قد لا تكون مسالة "عرف شائع" فقط، وإنما لأن ما يخسره المدافع عادة أكثر أهمية بالنسبة له، مما هو للمهاجم، فهي بالنسبة له تعني المصير، وبالنسبة للمهاجم، تعني مكسباً أضافياً فقط.
ويؤكد الكاتب عامر محسن أن التكنولوجيا تخدم الدفاع أكثر مما تخدم الهجوم.(1)

بالنسبة للعلاقات الدولية، فأن هذه التأثيرات الخاصة بقوة مركز الدفاع، قد تنفع عندما يكون فرق القوة معقولاً، بين دول من حجم متقارب، لكنها لن تكون كافية عندما يكون الفارق هائلاً كما هو بين أميركا والعراق مثلاً، لكن هناك أشياء أخرى....

عندما نذكر كلمة "صراع" فإننا نتخيل مباشرةً تنافساً بين طرفين، كما في لعبة الشطرنج، لكن هذا مضلل.
لذلك فإن إسقاط مفاهيم وقياسات الشطرنج ،أو أية لعبة ثنائية شائعة، للربح والخسارة، على الصراع في الحياة وبين الدول، يستجلب معه أخطاءاً كثيرة هامة واستنتاجات مغلوطة خطرة أحياناً. ففي الشطرنج، إن خسرت فيلاً مقابل رخ يخسره رسيلك، فأنت رابح. لكن الحال ليس كذلك في الحياة غالباً، لحسن الحظ.
الصراع في الحياة الحقيقية يختلف عن الشطرنج في نقطتين أساسيتين، وضروريتين لوجود نظام ما في الحياة، وهذين الإختلافين الأساسيين هما ما يشكل المبدئين الثاني والثالث في هذه المقالة. هاتين النقطتين هما أن الشطرنج لعبة 1- حياة أو موت 2- بين طرفين فقط.

2- مبدأ 2: الحياة ليست "لعبة مجموع صفري"، أو: أذى المقابل لا يعني فائدتك دائماً 

الشطرنج لعبة حياة أو موت. لذلك فكقاعدة عامة، كل أذى للمقابل إنتصار لك في كل الأحوال، وعلى قدر خسارة المقابل يكون مكسبك، وبالمقابل فكل أذى يصيبك مكسب للرسيل المقابل وبنفس حجمه. فكل ما "يميت" رسيلك، "يحييك" وكل ضربة لمصالح خصمك، تحقيق لمصالحك، ولذا  فليس هناك لاعب يتردد في القيام بنقلة تكون نتائجها النهائية خسارة بيدق مقابل أن يقتل فيل من المقابل. فهو يحسب أنه "حصل على" فيل مقابل بيدقه. في الحياة، ليس الأمر كذلك، لحسن الحظ. فخسارتك لبيدق تعني خسارة بيدق. أما الفيل الذي قتلته من المقابل، فقد لا يعني الكثير  بالنسبة لك في سعيك لتحقيق مصالحك.
الشطرنج يصنف في هذه الناحية، حسب تعبير نظرية الالعاب: "لعبة المجموع الصفري"، أي أن مجموع الخسائر والأرباح بين الطرفين يساوي صفراً دائماً، فكل ما يربحه الأول يجب أن يخسره الثاني وبالعكس. فلو اتفق لاعبا الشطرنج على التعادل من اول نقلة وقبل ان يضرب اي منهما الآخر، أو اتفقاً على التعادل بعد أن حطم كل منهما الآخر حتى لم يبق لأي منها سوى الملك، فالنتيجة سيان، ولا يفضل أي من اللاعبين التعادل بلا صراع على ذلك الذي يأتي بعد تحطيم القطع.

الحياة مبدئياً ليست كذلك، فالحرب النووية التي تؤدي إلى تحطيم الولايات المتحدة المتحدة والسوفيت معاً، لا تساوي في نتائجها بالنسبة لللاعبين، أن يتفقا على أن يعيشا في سلام معا.

لقد اوقعت إسرائيل في لبنان عام 2006 وغزة 2009 خسائر هائلة بالجانب العربي المقابل، ولم تخسر شيئاً يستحق الذكر في كلتيهما، ومع ذلك فالكل يجمع على أنهما كانتا أول هزيمتين عسكريتين حقيقيتين لإسرائيل، فكيف ذلك؟
ببساطة لأن إنزال الخسائر بالمقابل، ليس دائماً نظيراً لتحقيق انتصارك، اي تحقيق أهدافك ومصالحك. وكانت اهداف إسرائيل تتمثل في التخلص من حزب الله وحماس، او على الأقل تحطيم وجودهما العسكري والسياسي والشعبي، ولم يتم تحقيق أي من تلك الأهداف أو المصالح، بل سجلت هزيمة في مصالح عديدة منها تحطم أسطورة قدرتها على تحقيق اي من اهدافها بتفوقها العسكري، إضافة إلى الخسارة الهائلة في موقفها الإعلامي أمام العالم، والذي أدى إلى تداعيات كثيرة ماتزال مستمرة التراكم، فكانت تلك المعارك القشة التي قصمت ظهر الجمل في خسارة علاقتها مع تركيا، وايضاً كان لها تأثير واضح في الثورة المصرية والتونسية وعرقلة تقاربها مع الإتحاد الأوروبي لفترة من الزمن، وتداعيات أساطيل الحرية إلى غزة وخسارتها الأخلاقية الكبيرة عالمياً.
إذن ففي حساب المصالح، كانت تلك المعارك هزيمة منكرة للأقوى، وسوف يحسب الكثير مستقبلاً قبل تكرار القيام بها ثانية، رغم انها اصابت الأضعف بأذى كبير.

إنطلاقاً من هذا المبدأ، ووعي الجانب الأضعف لحقيقة خارطة مصالح الطرف المقابل وإدراك حقيقة أن صراعاً عنيفاً قد يكون مؤذياً للطرف الأقوى ايضاً، تجعل الطرف الأضعف أكثر قدرة على إدراك إشكالات المقابل في حسابات مصالحه، وبالتالي أكثر مرونة في قدرته على الدفاع عن مصالحه هو امام الطرف الأقوى. فهو يدرك أن الفارق في القوة لوحده ليس المعادلة الصحيحة للحساب، وإنما القدرة على حرمان الأقوى من تحقييق مصالحه، ما لم تمر من خلال تحقيق (بعض) مصالح للطرف الأضعف. وبهذه الطريقة ،ووفقاً للنتائج التي برزت، فأن رد حماس على تجويع إسرائيل لها، بإطلاق صواريخ تحرش، لا يعد عملاً مجنوناً، ولا هو كذلك إصرار حزب الله على امتلاك أسلحته والحديث من موقع القوة والتحدي، رغم الفارق الهائل في القوة لصالح خصمهما.
فليس من الواضح أيهما اكثر قدرة على تحمل خسائره من تلك المعارك لو تكررت، وبالتالي فهما يقدمان لإسرائيل سبباً حقيقياً لمفاوضات حقيقية وتحقيق بعض مصالحهما، وليس الأمر كما هو مع عباس الذي قدم كل أوراقه مجاناً تحت شعار التزام الحل السلمي، باعتبار ان العدو أقوى.
المعركة تتحدد في القدرة على استمرار إدامة الصراع. ولذلك أيضاً فأن مبدأ "الصمود" شعار فارغ، بل مبدأ علمي أساسه أن المقابل الاقوى لا يجد مصالحه في هذا الصراع، وأن كل أمله هو في أن يتعب الأضعف، وإلا فأن مصالح الأقوى نفسها هي التي ستجبره في النهاية على الإنسحاب من ذلك الصراع.

3- مبدأ اللاعبين الثلاثة – أو "عقدة الذئب الجريح"


على العكس من الشطرنج أيضاً، فأن الصراع في الحياة قلما يكون بين طرفين فقط. هذا الأمر يغير قواعد اللعبة بشكل كبير.
رأيت مرةً إبتكاراً لشطرنج ثلاثي، يلعب فيه ثلاثة لاعبين ضد بعضهم البعض، حتى لا يبقى سوى واحد هو الفائز. وجود "اللاعب الثالث" في هذا الشطرنج يغير القواعد تماماً. ففي الشطرنج الثلاثي تكون خير إستراتيجية لك، هي أن تحاول أن تترك خصميك يتقاتلان ويضعفان بعضهما البعض قبل ان تقاتل أنت الرابح منهما، والذي لا بد أن تكون قد أصابته خسائر تضعفه، فتنتصر عليه.
ولنأت بمثل من الحياة، فانقسام أوروبا إلى خصمين، في الحربين العالميتين، ترك أميركا، اللاعب الثالث، هي الرابح* وتسيدت العالم منذ ذلك الحين.

في صراعها مع إيران، تحسب اميركا حساباً لتأثير ذلك الصراع على قوة روسيا والصين وبقية الدول أيضا. هي ليست مستعدة أن تخسر الكثير من قوتها العسكرية والمعنوية ومكانتها العالمية، مقابل أن تنتصر على إيران. وهي ليست مستعدة أيضاً أن يكون ثمن ذلك الإنتصار أن تجد الدول الآخرى قد حصلت على موقف أفضل في صراعها معها. فطمأنة أميركا لروسيا بأن الدرع الصاروخية ليست موجهة ضدها، مثلاً، يحتاج إلى تنازلات أمريكية حقيقية في توازن الصراع بينهما لغير صالحها. أي ان سعيها للإنتصار على الجبهة الإيرانية قد يكلفها ما قد يكون أكثر اهمية في الجبهة الروسية (وربما كان هذا هو السبب في تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها بشكلها الذي طرحته على روسيا، وتأزم الموضوع مع روسيا من جديد في قضية الدرع الصاروخية).

إذن وجود الآخرين، "اللاعب الثالث" في العالم، هو في صالح الطرف الأضعف بشكل عام، ويعطيه فرصة ممتازة للمناورة، إن هو أدرك ذلك. ولكن بدون إدراك هذه الحقيقة قد يكون الأمر مقلوباً، وتصبح ثلاثية أطراف اللعبة وبالاً على الطرف الأضعف. ولعل خير مثال على هذه الحالة هو تطبيق المبدأ الإستعماري المعروف: "فرق تسد" والذي لجأ إليه جميع المستعمرين، وابدع فيه البريطانيون والأمريكان من بعدهم حتى في علاقاتهم غير الإستعمارية. فالمستعمر الذي يواجه شعباً يريد الحرية، يحاول أن يغير هذه اللعبة "الثنائية" للصراع بينه وبين الشعب، إلى لعبة ثلاثية أولاً، بأن يقسم الشعب إلى قسمين (أو ربما أكثر)، ثم يسعى بإمكاناته الكثيرة إلى إقناع كل من القسمين بأن القسم الآخر هو من يمثل الخطر الأكبر عليه، ليتصارعا فيما بينهما، بينما يتخذ هو موقف اللاعب الثالث الذي يأتيه النصر على طبق من ذهب، كما جاءت الحربين العالميتين بسيادة العالم لأميركا.

وهكذا هو الأمر بالنسبة للصراع الدولي مبدئياً لكن مع تعقيد أكبر طبعاً. عندما كان العالم ثنائي الأقطاب، استفاد "اللاعب الثالث"، دول العالم الثالث من ذلك وتمكن من تحقيق بعض الإنتصارات. فلم يكن أي من البلدين الكبيرين شديد الحماس لإضعاف مصداقيته والدخول في حرب حتى مع من هو أضعف منه، إلا إذا كان يقدر انه يستطيع حسمها بانتصار سريع.
وعندما يخطئ التقدير، فأن اللاعب يدفع ثمن ذلك غالياً، فخسرت أميركا الكثير في فيتنام ، اما بالنسبة للسوفيت فكانت أفغانستان القشة التي قصمت ظهر الجمل، رغم أن خصميهما كانا في الحالتين أضعف منهما بكثير.
من الناحية الأخرى، فكلما ازدادت أهمية الصراع بالنسبة للدولة المتصارعة، فأن استعدادها لتقديم التضحية يكون اكبر، وبالتالي تكون اخطر، حتى لو كانت صغيرة، لأن احتمال تسببها في أذى يكلفها بعض تفوقها العالمي، يصبح قوياً. بالمقابل ليست الدولة مستعدة لخسارة ذلك من أجل صراع قليل الأهمية بالنسبة لها. وفي حالة دولة تتعرض لهجوم من دولة أكبر منها، فأن الدولة المدافعة تخوض صراعاً  أكثر أهمية بالنسبة لها مما هو بالنسبة للدولة المهاجمة (بكسر الجيم). ولذلك فقد تنسحب الدولة المهاجمة من الصراع رغم تفوقها الكبير، كما حدث لإسرائيل في معركتي بيروت وغزة، فالعالم بالنسبة لها ليس فقط بيروت وغزة، بل فيه لاعبين عديدين وتداعيات ربما تكون أكثر خطورة على وجودها بحساب المستقبل.

إنها نقطة الضعف في تلك القوى العظمى، "كعب أخيل" في هيكل نظامها في تعامله مع النظام العالمي ككل. وإدراك ذلك ، إن جاء مع استقلالية وحرية القرار، يعطي الدول الأضعف فرصة كبيرة للتصرف ومرونة هامة لتحقيق (بعض) مصالحها الأساسية بالرغم من القوة العظمى.
فنحن أمام قوة كبيرة، قادرة على سحقنا، لكنها تتردد في ذلك، لأنها تدرك أنها قد تسحق نفسها إن أخطأت في التقدير، وهي لا تريد بأي شكل ان تخرج من المعركة أضعف أمام خصومها الآخرين، مما كانته قبل المعركة.

إذن اللجوء إلى السلاح، وهو نقطة تفوق القوة العظمى الأساسية والملعب الذي تفضل اللعب به، ليس متاحاً دائماً، حتى لو أكثرت من التهديد به. وهناك تجارب تمكنت القوة الأضعف من إجبار تلك القوة العظمى على النزول عند رغباتها، ولو مؤقتاً. ولو أخذنا مثالاً من العراق مؤخراً، معركة الإنتخابات التي حاول فيها الأمريكان بكل طريقة تنصيب العراقية ، لكنها فشلت في تنصيب أياد علاوي وعادل عبد المهدي رغم الحملة الهائلة لتزوير الإنتخابات، بالمال وغيره وبشكل مباشر وغير مباشر. ولولا تخاذل المنتصرين في نهاية الأمر، لربما كان لهم حكومة أكثرية قابلة للحياة، لكنهم تراجعوا في النهاية وقبلوا بحكومة شراكة مشلولة، اما بسبب الخوف من الضغط الأمريكي، أو لأن الكثير منهم لا يهمه سوى الوصول إلى المنصب ورواتبه، أو بتعاون كل تلك الأسباب.

وفي لبنان، فشلت أميركا في التأثير على الإنتخابات (بأموال سعودية وإعلام غير متناسب) إلى الدرجة التي تعطي حرية كافية لعملائها لتمرير اجنتدها خاصة في ضرب سلاح حزب الله، والحقيقة أنه لولا أن الدستور اللبناني قد بني بشكل عنصري، لكان لجماعة حزب الله الأكثرية. وحين حاول سعد الحريري التمادي في الضغط من أجل الأجندة الإسرائيلية الأمريكية، كان رد الفعل كبيراً، وأنتج العكس، حيث كسب معسكر حزب الله الحكومة، ودفع المقابل للصراع من موقع أكثر صعوبة.
كل هذا دون أن تثور أية إشتباكات عسكرية بين المعسكرين، لكن إبداء الإستعداد لها إن تطلب الأمر، هو أمر حاسم في الصراع، وفي تجنب تحوله إلى صراع عسكري أيضاً.

***

النتيجة الهامة التي نريد الوصول إليها من كل هذا هو أن الطرف الأضعف المدافع، يجب أن لا يحسب الأمر من خلال السؤال التالي: هل العدو اقوى مني؟ إذن يجب تجنب الصراع بأي ثمن لأني مهزوم كنتيجة حتمية منطقية.
السؤال الصحيح هو: هل أستطيع أجعل المعركة مكلفة للعدو بما يزيد عن أرباحه منها؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فلا يكون التحدي ومحاولة الحصول على مكاسب، امرٌ غير منطقي.

السؤال الخطأ، طرحه الكاتب عبد الرحمن الراشد في مقالة له، فتساءل عن "حماقة" إيران في محاولتها تصنيع أسلحة نووية، بفكرة أنها لن تستطيع في جميع الأحوال أن تمتلك عدداً يساوي أو يزيد عن عدد أسلحة إسرائيل أو أميركا النووية، وبالتالي فهي لن تستطيع أن تستخدمها في الدفاع عن نفسها، ولذا فإنها جهود مضيعة للوقت والمال وحماقة لا طائل من ورائها.
نحن نعلم الآن ان ذلك ليس صحيحاً لأنه جاء من السؤال الخطأ، والسؤال الصحيح هو أن إيران لا تحتاج إلى مساواة إسرائيل أو أميركا، وإنما إلى أن تجعل مهاجتمها من قبلهم أمراً مكلفاً بأكثر من أرباحه. على هذا تستند كل افكار الدفاع، ولا نتصور أن الراشد بغافل عنها، لكنه يريد أن يوصل  القارئ إلى إستنتاجه لأسباب إعلامية سياسية. لو كان منطق الراشد سليماً لما اشترت اية دولة أو صنعت أي سلاح، ببساطة لأن أميركا ستبقى أقوى منها.

عبد الرحمن الراشد بما هو معروف عن ميوله، ربما كان يحاول إبعاد الجانب المعادي لإسرائيل من حتى التفكير باحتمال الإشتباك العسكري معها، وليس هذا بموقف غريب بعد أن فهمنا أن ذلك ليس خياراً خاسراً لنا دائماً ورابحاً لإسرائيل رغم فارق القوة الهائل، وان التلويح بالإستعداد للمجابهة ضروري لأية مفاوضات من اجل سلام فيه الحد الأدنى من العدل للجانب الأضعف، ولذلك نرى أن عباس والسنيورة وبقية عملاء إسرائيل يركزون على "السلام" كخيار وحيد، رغم أنهم من أشد البشر قسوة ووحشية أمام أبناء بلادهم، فلم يكن هناك شعور إنساني بالسلام حين اختار عباس تحويل منظمته إلى فرقة اغتيالات عسكرية تعمل بأسلحة وأوامر إسرائيلية، وحين كان السنيورة يرفض وقف القصف الإسرائيلي على بيروت من أجل القضاء على حزب الله أولاً.

عباس والسنيورة يعلمان أن الجانب القوي، إسرائيل، لديه حساسية وضعف في المواجهة ا لعسكرية تكمن بنتائجها التي يصعب تحويلها إلى نصر، وأن الجانب الأضعف كثرما حقق الكثير من الإنتصارات على الجانب الأقوى. وتشرح مقالة الأستاذ عامر محسن (كيف نتعلّم أن نحبّ القنبلة) تلك النقطة وتطبيقاتها التاريخية في عدة مناسبات، وبشكل مبدع.(1) ومما جاء فيها :
" ثلاثة تفجيرات قلبت ذاك الواقع رأساً على عقب، أربع قنابل وثلاثة تفجيرات غيّرت كلّ تاريخ لبنان والمنطقة. قلّما حصل أن أنتجت أفعال فرديّة معدودة هذا القدر الهائل من التأثير السياسي ـــــ بصرف النظر عن حكمنا الأخلاقي على الأحداث والوسائل." وهو ما "أفهم إسرائيل أنّه لا مجال لاستمرارها عسكرياً في البلد، وبدأت من يومها الاستعداد للانسحاب."

لعل ذلك ما يشرح كمية الجهود الهائلة التي تضعها الولايات المتحدة وإسرائيل لتشويه شديد لأي خيار مسلح للمقاومة، مع احتفاظ إسرائيل بكل "حقها" في ذلك باعتباره "دفاعاً" شرعياً عن النفس. ومن الواضح أن كلمتي "الدفاع" و "العدوان" تم قلبهما من خلال تلك القدرات الإعلامية الهائلة لتأمين إبعاد الجانب العربي تماماً عن حتى التهديد بالسلاح، وهو ما يشير بوضوح إلى أن هذه "القوى العظمى" تخشيان ذلك الخيار وتتوقعان منه خسارة.

معروف لدى الرعاة أن الذئب يخشى الكلب، ليس لان الأخير أقوى منه ، وإنما لأن الذئب يخشى إن هو جرح، أن تأكله الذئاب الأخرى. الكلب يدرك ذلك بسليقته، ولذلك يستطيع الكلب أن "يدافع" عن الخراف، أمام الذئب الأقوى والاكثر شراسة.

هذا الخوف من "جرح الذئب" هو ورقة الدول الأضعف في صراعها من أجل تأمين مصالحها من الدول الكبرى. وكأي شيء في الحياة، يجب عدم المبالغة، ومعرفة الحدود وقياس مصالح المقابل بدقة، بحيث لا يتعدى تحدينا حدود مصالح المقابل في تجنب الإشتباك، وإلا وقعنا في الخطأ. لكن من المؤكد أيضاً أن تصوير المشهد بأنه يائس بالإستناد فقط الى نظرة سطحية لميزان القوة، هو خطأ قاتل.

هذه كانت الحلقة الثانية من سلسلة مقالات "كيف تدير مصالحك امام قوة عظمى" وكانت الأولى بعنوان "ملاحظات عامة ضرورية" (2)، وستكون هناك حلقة ثالثة ورابعة تناقشان الإسترتيجيات الممكنة للدول الضعيفة في الدفاع عن مصالحها بمواجهة القوة العظمى. 


(*) لم تدخل أميركا الحرب العالمية الثانية إلا قرب نهايتها، وكان هتلر هو الذي اعلن عليها الحرب.
(1) http://www.al-akhbar.com/node/13326
(2) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=49151


105
أفراح غزة وصاحبي الذي خسر الرهان

صائب خليل
30 مايس 2011

ذكرني السقوط الرائع لجدار غزة، برهان غير معلن، مع زميل عرفته من الإنترنت، كان شعاره أن الإستسلام التام غير المشروط للقوة، هو فضيلة الفضائل. إنتاج غزير كالسيل من المقالات والشعر والتعليقات، كلها تصب وبدقة مثيرة للدهشة، في جهد إشاعة فضيلة الإستسلام التام واليأس. صاحبي ذو التاريخ اليساري هذا، يحفظ عن ظهر قلب كل هزيمة عرفتها البشرية أمام جبروت الطغاة، ليصفع بها كل من يفتح فمه بالأمل بشيء آخر.

ليس لحب صاحبي لليأس من حدود، حتى أنه لم يتردد في أعتبار أن من قاوم السلطة يوماً، ليس أحمقاً جاهلاً فحسب، بل أيضاً هو المجرم المسؤول عن معاناة البشرية! من أجل ذلك يحفظ قصة عن "مناضل" أعتذر قبل إعدامه من طفله الذي سيتركه يتيماً، لما سببه له نضاله "الأناني" (تصوروا!) من معاناة، وأعتبر صاحبي ذلك الإعتراف دليلاً قاطعاً على جريمة من يعارض، والإعتراف سيد الأدلة.

كان الرجل أيضاً، عنواناً لليساري التائب، الذي "عرف الحقيقة" وترك "طفولة اليسار" إلى "حكمة اليمين". كان يغازل الطرفين..فلم يترك علاقاته مع اليسار تذهب لشأنها، بل يربطها بماضيه، بعبارات جميلة منمقة، تنتهي دائماً بنوع من الأسف المشيع للإحباط واليأس، والمشجع على ترك هذه الأفكار الهدامة التي دمرت المجتمع، والإلتفات إلى "ما ينفع الناس"، فـ "الكرامة" من عبارات صدام، لكن "الناس تريد خبز" ، "الناس تريد كهرباء" .. وكأن الخبز والكهرباء بيد اليمين والوحشية المالية المتسلطة، وأن الطريق إليهما هو الصمت والإذعان والقبول الدائم لكل شيء. مسح من ذاكرته التي تخصصت بتذكر كل هزيمة، أن من أتى بالخبز للفقراء الفرنسيين كان الثورة وليس الصمت، الثورة الفرنسية اليسارية ضد الإضطهاد. ولم يبق في ذاكرته اليسارية أن لينين، الذي كان يوماً يقدسه، هو صاحب مشروع كهربة روسيا الأعجوبة، وليس القياصرة. وأن الصمت والإذعان التام للقوة، لم يقدم لهؤلاء سوى الجوع والظلام لقرون عديدة.

للحق أقول أن صاحبي هذا كتب مندهشا عندما قامت الثورة الشعبية العربية في تونس ومصر، كتب كفيزيائي فوجئ بإعلان ان قانون حفظ الطاقة، عمود الفيزياء، قد برهن خطأه، أو ككيميائي وصله خبر يقول أن جدول مندليف مزيف! كتبت له أحييه وأشجعه على "أول مقالة له"، لكن لا يأخذكم الوهم بعيداً، فما هي إلا دهشة لحظة، وعادت المياه إلى مجاريها، وعاد الإيمان بسلطة الطغيان الأزلية التامة إلى مكانه، وعادت التعليقات المحبطة تنشر.

قلت ان سقوط جدار غزة ذكرني برهان غير معلن، مع صاحبي هذا. فحين كنا نكتب عن أسطول الحرية ونرى فيه أملاً إنسانياً كبيراً، كتب لي صاحبي هذا أنه يراهن أن الأمر سوف ينسى بعد بضعة أشهر، وأن الحصار سيستمر كما كان. لم أجب، لكني كنت موقناً هذه المرة أن الحصار صار له وجه بشري إنساني عالمي، وأن البشرية لن تستمر في الخجل بصمت حتى يتحطم، وإنها مسألة وقت وصمود. وأن كل انتصار لإسرائيل في إدامة الحصار ولو جزئياً، سيكون ايضاً مسماراً في نعش هذا الحصار، وأن كل فشل إنساني في تحطيم هذا الحصار سيزيد من كره العنصريون الجبابرة الذين يدفعون بالبشرية إلى الغضب والخجل.

وبالفعل كان للحصار ردود فعل كبيرة، وعلى مساحة واسعة، وكان من اسباب غليان الشارع العربي المصري المحبط الذي يشعر بالعار من حكومته، ومن أسباب تحرره أيضاً في نهاية الأمر، مع كل الكوارث الأخرى التي يجلبها العملاء معهم لبلادهم دائماً. هذا ما بينته آراء الثائرين الشباب في تونس ومصر.

لم أتابع منذ مدة ما كان صاحبي يكتب، وانقطع نقاشنا، حتى كتبت قبل أيام مقالة فحواها أن الجانب الضعيف، سواء على مستوى الافراد أو الحيوانات أو المجتمع الدولي، قادر أحياناً على أن يرفض سلطة الأقوى، وإن حسبها بدقة وبلا مبالغة، يستطيع أن ينقذ "بعض" مصالحه من ذلك القوي.
مقالة علمية هادئة ليس فيها أي أثر للثورية او التطرف، لكنها داست على قدم صاحبي، فآلمه ان يقول أحد بأنه يمكن أن نقول، ولو همساً،  لا للمتسلط. فجاء باسم مزور، عرفته فوراً، وأنبرى يهاجم "دعوتي" (التي اخترعها لي) لـ "حرب شاملة" ضد أميركا لا تبقي ولا تذر. وحين ابرهن له العكس باقتباسات من المقالة، فإنه يترك الموضوع ليقفز إلى نقطة أخرى، وأخرى. جاء بأمثلة عن عنتريات صدام والقذافي والدمار الذي جاء بسببها..وترك الموضوع ليلومني على موضوع آخر عن بن لادن وكيفية دفنه، ودافع عن معلق آخر يؤكد أنني أتبع ما تمليه إيران.....ويعود ليقلب كل المنطق ليبرهن أن إبقاء العساكر المحتلة في العراق ضروري للسلام! ذكرني بمنطق إسرائيل بأن احتلالها للمستوطنات ضروري للسلام، وبمن ساق شعبه إلى الحرب العالمية الأولى باعتبارها "الحرب التي ستنهي جميع الحروب"، وكل من يحتاج لقلب الحقائق والنتائج وتجميل القبيح عنوة.

.. لم أرَ في حياتي إنسان يكن كل هذا "الحب" للسلطة المهيمنة، ولم اتخيل في حياتي أن همسة هادئة للضعيف بأنه قد يستطيع أن يقول "لا" احياناً بوجه القوي، يمكن أن تثير كل ذلك الغضب والإستعداد لتشويه الحقيقة.
****

للمفاجآت فضيلة أنها تكشف الحقائق بسرعة ووضوح تفوق قدرة الدراسة الهادئة الطويلة. ولمفاجأة صاحبي فضلين علي: الأول أنها افهمتني لماذا يغط المجتمع العربي والعراقي بشكل خاص، في يأس مطبق، يزيد حتى على ما تفرضه عليه ظروفه المعيشية والسياسية والأمنية القاسية. اليأس الذي اكتشفت زيفه شعوب العرب التي ثارت منذ مطلع هذا العام، وعرفت أن المهيمن ليس بتلك القوة، وهو ما أغاض الكثيرين بلا شك. فهمت من أين أتى هذا اليأس الإضافي، فهناك مثل صاحبي جيش من اليائسين او الميأسين أو العامدين، ينشر اليأس حيثما كان، وبنشاط غريب لا يعرفه اليائسون عادة!!

والفضل الثاني للمفاجأة هو أنه تأكد لي أن تلك القوة المهيمنة، ضعيفة أكثر مما تخيلت، وأنها تخشى حتى همسة "لا" معتدلة، وأن المدافعون عنها من دعاة اليأس يدركون هذا الخطر، ويعبرون عن ذلك بهجومهم العنيف غير المبرر، لكل من يهمس بها. وأن توازناً في المصالح يعطي الدول الأضعف والشعوب الأضعف بعض حقوقها، أمر ممكن تماماً، وهو سرٌ تحرص القوة المهيمنة أن لا ينتشر.

لكنه ينتشر...ليس من خلال مقالة هامسة قد يقرأها بضعة مئات من المثقفين فقط، بل من خلال أصوات أعلى بكثير، وأحلام خيالية صارت حقيقة بين ليلة وضحاها، وصور الوجوه السعيدة لأطفال ونساء غزة تغادر المعبر فرحة راكضة، وتغادر معه الصور المؤلمة التي مازلت لهم في ذاكرتنا منذ سنين.

كل هذا يؤكد لنا أن "لا" بوجهة الهيمنة والوحشية، كلمة مازالت ممكنة أحياناً، وهي إن درسناها، أسهل مما كنا نتصور، وسندرسها!

106
كيف تدير مصالحك أمام قوة عظمى؟ 2 – مبادئ الصراع مع الأقوى
   
صائب خليل
27 مايس 2011

هذه هي المقالة الثانية من هذه السلسلة، وكان المفروض ان تكون مخصصة لإمكانيات الدولة الأضعف في الدفاع عن مصالحها عن طريق الممانعة، على ان تكون الأخيرة لطرق ضمان المصالح بطريق المصاحبة، وهي تستند عموماً على كتاب "تدجين القوة الأمريكية" لـ ستيفان والت. لكن قبل إكمال بقية الأجزاء، ولإشكالية فهم هذه الحالة التي تبدو غريبة للقارئ العربي كما اكتشفت، وجدت من المفيد توضيح مفهوم الصراع مع الأقوى ولماذا يمكن تحقيق النصر عليه أحياناً، وبالتالي فهذه المقالة خارج نطاق الكتاب المذكور وتعتمد على أفكار شخصية في معظمها وقراءات متفرقة.

1- مبدأ "المدافع ينتصر".

ليس دائماُ طبعاً، ولكن في حالة تقارب القوتين، فأن الدفاع ينتصر في الغالبية الساحقة من المعارك. من المعروف عسكرياً، على المهاجم أن يكون ثلاثة أضعاف قوة المدافع لكي تكون له فرصة للنصر. فالمدافع متحصن في مكانه، إمداداته وخدماته موجودة، ليس مكشوفاً لسلاح المقابل ولا لظروف الطبيعة..كذلك فالمدافع أكثر حماساً للصمود، وأكثر استعداداً للتضحية من المهاجم بشكل عام.
ولا يقتصر الأمر على الجيوش، بل لاحظ علماء الحيوان ان من يدافع عن منطقته، يفوز دائماً تقريباً، رغم أننا لسنا هنا بصدد انكشاف أمام أسلحة أو ظروف طبيعية. لكن الحماس  الناتج من ما يصفه الكاتب بـ "العرف الشائع" الذي يفهم المدافع من خلاله بأن ما يدافع عنه هو حقه، وأن هذه ارضه، وأن ليس فقط من مصلحته بل من واجبه الدفاع عنها. هذا المفهوم يبقى هو الفارق الحاسم، كما يؤكد "ديفيد باراش" في  أحد فصول كتابه الجميل "لعبة البقاء"،(The survival game) الذي يدرس فيه تطبيق "نظرية الألعاب" على تصرفات الحيوانات، ويتوصل إلى نتائج مدهشة.
والحقيقة أن هذا المبدأ هو في أساس استقرار اي نظام. فلو كانت الأفضلية للمهاجم، لكان النظام في "هجوم مستمر" وصراع مستمر، وبالتالي فلا يوجد أي نظام لأنه سيكون في حالة تغير مستمر.
وطبعاً تأثير "العرف الشائع" واعتبار صاحب الأرض أنها حقه، ينطبق على الإنسان بنفس الدرجة على الأقل. كما أن القوانين الدولية، على ضعفها أحياناً فأنها تبقى رادعاً هاماً في صالح المدافع.
ومن الجدير بالملاحظة أن الإعلام الإسرائيلي مدرك تماماً لهذه النقطة، لذلك فهو يشيع بإصرار بأن الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وحتى تلك التي يحتلها المستوطنون، بأنها "أرضهم"، وتراهم مقتنعين بأنها كذلك فعلاً، مما يجعل الحل السلمي عسيراً للغاية.
والحقيقة أن ظاهرة قوة وعزيمة المدافع قد لا تكون مسالة "عرف شائع" فقط، وإنما لأن ما يخسره المدافع عادة أكثر أهمية بالنسبة له، مما هو للمهاجم، فهي بالنسبة له تعني المصير، وبالنسبة للمهاجم، تعني مكسباً أضافياً فقط.
ويؤكد الكاتب عامر محسن أن التكنولوجيا تخدم الدفاع أكثر مما تخدم الهجوم.(1)

بالنسبة للعلاقات الدولية، فأن هذه التأثيرات الخاصة بقوة مركز الدفاع، قد تنفع عندما يكون فرق القوة معقولاً، بين دول من حجم متقارب، لكنها لن تكون كافية عندما يكون الفارق هائلاً كما هو بين أميركا والعراق مثلاً، لكن هناك أشياء أخرى....

عندما نذكر كلمة "صراع" فإننا نتخيل مباشرةً تنافساً بين طرفين، كما في لعبة الشطرنج، لكن هذا مضلل.
لذلك فإن إسقاط مفاهيم وقياسات الشطرنج ،أو أية لعبة ثنائية شائعة، للربح والخسارة، على الصراع في الحياة وبين الدول، يستجلب معه أخطاءاً كثيرة هامة واستنتاجات مغلوطة خطرة أحياناً. ففي الشطرنج، إن خسرت فيلاً مقابل رخ يخسره رسيلك، فأنت رابح. لكن الحال ليس كذلك في الحياة غالباً، لحسن الحظ.
الصراع في الحياة الحقيقية يختلف عن الشطرنج في نقطتين أساسيتين، وضروريتين لوجود نظام ما في الحياة، وهذين الإختلافين الأساسيين هما ما يشكل المبدئين الثاني والثالث في هذه المقالة. هاتين النقطتين هما أن الشطرنج لعبة 1- حياة أو موت 2- بين طرفين فقط.

2- مبدأ 2: الحياة ليست "لعبة مجموع صفري"، أو: أذى المقابل لا يعني فائدتك دائماً 

الشطرنج لعبة حياة أو موت. لذلك فكقاعدة عامة، كل أذى للمقابل إنتصار لك في كل الأحوال، وعلى قدر خسارة المقابل يكون مكسبك، وبالمقابل فكل أذى يصيبك مكسب للرسيل المقابل وبنفس حجمه. فكل ما "يميت" رسيلك، "يحييك" وكل ضربة لمصالح خصمك، تحقيق لمصالحك، ولذا  فليس هناك لاعب يتردد في القيام بنقلة تكون نتائجها النهائية خسارة بيدق مقابل أن يقتل فيل من المقابل. فهو يحسب أنه "حصل على" فيل مقابل بيدقه. في الحياة، ليس الأمر كذلك، لحسن الحظ. فخسارتك لبيدق تعني خسارة بيدق. أما الفيل الذي قتلته من المقابل، فقد لا يعني الكثير  بالنسبة لك في سعيك لتحقيق مصالحك.
الشطرنج يصنف في هذه الناحية، حسب تعبير نظرية الالعاب: "لعبة المجموع الصفري"، أي أن مجموع الخسائر والأرباح بين الطرفين يساوي صفراً دائماً، فكل ما يربحه الأول يجب أن يخسره الثاني وبالعكس. فلو اتفق لاعبا الشطرنج على التعادل من اول نقلة وقبل ان يضرب اي منهما الآخر، أو اتفقاً على التعادل بعد أن حطم كل منهما الآخر حتى لم يبق لأي منها سوى الملك، فالنتيجة سيان، ولا يفضل أي من اللاعبين التعادل بلا صراع على ذلك الذي يأتي بعد تحطيم القطع.

الحياة مبدئياً ليست كذلك، فالحرب النووية التي تؤدي إلى تحطيم الولايات المتحدة المتحدة والسوفيت معاً، لا تساوي في نتائجها بالنسبة لللاعبين، أن يتفقا على أن يعيشا في سلام معا.

لقد اوقعت إسرائيل في لبنان عام 2006 وغزة 2009 خسائر هائلة بالجانب العربي المقابل، ولم تخسر شيئاً يستحق الذكر في كلتيهما، ومع ذلك فالكل يجمع على أنهما كانتا أول هزيمتين عسكريتين حقيقيتين لإسرائيل، فكيف ذلك؟
ببساطة لأن إنزال الخسائر بالمقابل، ليس دائماً نظيراً لتحقيق انتصارك، اي تحقيق أهدافك ومصالحك. وكانت اهداف إسرائيل تتمثل في التخلص من حزب الله وحماس، او على الأقل تحطيم وجودهما العسكري والسياسي والشعبي، ولم يتم تحقيق أي من تلك الأهداف أو المصالح، بل سجلت هزيمة في مصالح عديدة منها تحطم أسطورة قدرتها على تحقيق اي من اهدافها بتفوقها العسكري، إضافة إلى الخسارة الهائلة في موقفها الإعلامي أمام العالم، والذي أدى إلى تداعيات كثيرة ماتزال مستمرة التراكم، فكانت تلك المعارك القشة التي قصمت ظهر الجمل في خسارة علاقتها مع تركيا، وايضاً كان لها تأثير واضح في الثورة المصرية والتونسية وعرقلة تقاربها مع الإتحاد الأوروبي لفترة من الزمن، وتداعيات أساطيل الحرية إلى غزة وخسارتها الأخلاقية الكبيرة عالمياً.
إذن ففي حساب المصالح، كانت تلك المعارك هزيمة منكرة للأقوى، وسوف يحسب الكثير مستقبلاً قبل تكرار القيام بها ثانية، رغم انها اصابت الأضعف بأذى كبير.

إنطلاقاً من هذا المبدأ، ووعي الجانب الأضعف لحقيقة خارطة مصالح الطرف المقابل وإدراك حقيقة أن صراعاً عنيفاً قد يكون مؤذياً للطرف الأقوى ايضاً، تجعل الطرف الأضعف أكثر قدرة على إدراك إشكالات المقابل في حسابات مصالحه، وبالتالي أكثر مرونة في قدرته على الدفاع عن مصالحه هو امام الطرف الأقوى. فهو يدرك أن الفارق في القوة لوحده ليس المعادلة الصحيحة للحساب، وإنما القدرة على حرمان الأقوى من تحقييق مصالحه، ما لم تمر من خلال تحقيق (بعض) مصالح للطرف الأضعف. وبهذه الطريقة ،ووفقاً للنتائج التي برزت، فأن رد حماس على تجويع إسرائيل لها، بإطلاق صواريخ تحرش، لا يعد عملاً مجنوناً، ولا هو كذلك إصرار حزب الله على امتلاك أسلحته والحديث من موقع القوة والتحدي، رغم الفارق الهائل في القوة لصالح خصمهما.
فليس من الواضح أيهما اكثر قدرة على تحمل خسائره من تلك المعارك لو تكررت، وبالتالي فهما يقدمان لإسرائيل سبباً حقيقياً لمفاوضات حقيقية وتحقيق بعض مصالحهما، وليس الأمر كما هو مع عباس الذي قدم كل أوراقه مجاناً تحت شعار التزام الحل السلمي، باعتبار ان العدو أقوى.
المعركة تتحدد في القدرة على استمرار إدامة الصراع. ولذلك أيضاً فأن مبدأ "الصمود" شعار فارغ، بل مبدأ علمي أساسه أن المقابل الاقوى لا يجد مصالحه في هذا الصراع، وأن كل أمله هو في أن يتعب الأضعف، وإلا فأن مصالح الأقوى نفسها هي التي ستجبره في النهاية على الإنسحاب من ذلك الصراع.

3- مبدأ اللاعبين الثلاثة – أو "عقدة الذئب الجريح"

على العكس من الشطرنج أيضاً، فأن الصراع في الحياة قلما يكون بين طرفين فقط. هذا الأمر يغير قواعد اللعبة بشكل كبير.
رأيت مرةً إبتكاراً لشطرنج ثلاثي، يلعب فيه ثلاثة لاعبين ضد بعضهم البعض، حتى لا يبقى سوى واحد هو الفائز. وجود "اللاعب الثالث" في هذا الشطرنج يغير القواعد تماماً. ففي الشطرنج الثلاثي تكون خير إستراتيجية لك، هي أن تحاول أن تترك خصميك يتقاتلان ويضعفان بعضهما البعض قبل ان تقاتل أنت الرابح منهما، والذي لا بد أن تكون قد أصابته خسائر تضعفه، فتنتصر عليه.
ولنأت بمثل من الحياة، فانقسام أوروبا إلى خصمين، في الحربين العالميتين، ترك أميركا، اللاعب الثالث، هي الرابح* وتسيدت العالم منذ ذلك الحين.

في صراعها مع إيران، تحسب اميركا حساباً لتأثير ذلك الصراع على قوة روسيا والصين وبقية الدول أيضا. هي ليست مستعدة أن تخسر الكثير من قوتها العسكرية والمعنوية ومكانتها العالمية، مقابل أن تنتصر على إيران. وهي ليست مستعدة أيضاً أن يكون ثمن ذلك الإنتصار أن تجد الدول الآخرى قد حصلت على موقف أفضل في صراعها معها. فطمأنة أميركا لروسيا بأن الدرع الصاروخية ليست موجهة ضدها، مثلاً، يحتاج إلى تنازلات أمريكية حقيقية في توازن الصراع بينهما لغير صالحها. أي ان سعيها للإنتصار على الجبهة الإيرانية قد يكلفها ما قد يكون أكثر اهمية في الجبهة الروسية (وربما كان هذا هو السبب في تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها بشكلها الذي طرحته على روسيا، وتأزم الموضوع مع روسيا من جديد في قضية الدرع الصاروخية).

إذن وجود الآخرين، "اللاعب الثالث" في العالم، هو في صالح الطرف الأضعف بشكل عام، ويعطيه فرصة ممتازة للمناورة، إن هو أدرك ذلك. ولكن بدون إدراك هذه الحقيقة قد يكون الأمر مقلوباً، وتصبح ثلاثية أطراف اللعبة وبالاً على الطرف الأضعف. ولعل خير مثال على هذه الحالة هو تطبيق المبدأ الإستعماري المعروف: "فرق تسد" والذي لجأ إليه جميع المستعمرين، وابدع فيه البريطانيون والأمريكان من بعدهم حتى في علاقاتهم غير الإستعمارية. فالمستعمر الذي يواجه شعباً يريد الحرية، يحاول أن يغير هذه اللعبة "الثنائية" للصراع بينه وبين الشعب، إلى لعبة ثلاثية أولاً، بأن يقسم الشعب إلى قسمين (أو ربما أكثر)، ثم يسعى بإمكاناته الكثيرة إلى إقناع كل من القسمين بأن القسم الآخر هو من يمثل الخطر الأكبر عليه، ليتصارعا فيما بينهما، بينما يتخذ هو موقف اللاعب الثالث الذي يأتيه النصر على طبق من ذهب، كما جاءت الحربين العالميتين بسيادة العالم لأميركا.

وهكذا هو الأمر بالنسبة للصراع الدولي مبدئياً لكن مع تعقيد أكبر طبعاً. عندما كان العالم ثنائي الأقطاب، استفاد "اللاعب الثالث"، دول العالم الثالث من ذلك وتمكن من تحقيق بعض الإنتصارات. فلم يكن أي من البلدين الكبيرين شديد الحماس لإضعاف مصداقيته والدخول في حرب حتى مع من هو أضعف منه، إلا إذا كان يقدر انه يستطيع حسمها بانتصار سريع.
وعندما يخطئ التقدير، فأن اللاعب يدفع ثمن ذلك غالياً، فخسرت أميركا الكثير في فيتنام ، اما بالنسبة للسوفيت فكانت أفغانستان القشة التي قصمت ظهر الجمل، رغم أن خصميهما كانا في الحالتين أضعف منهما بكثير.
من الناحية الأخرى، فكلما ازدادت أهمية الصراع بالنسبة للدولة المتصارعة، فأن استعدادها لتقديم التضحية يكون اكبر، وبالتالي تكون اخطر، حتى لو كانت صغيرة، لأن احتمال تسببها في أذى يكلفها بعض تفوقها العالمي، يصبح قوياً. بالمقابل ليست الدولة مستعدة لخسارة ذلك من أجل صراع قليل الأهمية بالنسبة لها. وفي حالة دولة تتعرض لهجوم من دولة أكبر منها، فأن الدولة المدافعة تخوض صراعاً  أكثر أهمية بالنسبة لها مما هو بالنسبة للدولة المهاجمة (بكسر الجيم). ولذلك فقد تنسحب الدولة المهاجمة من الصراع رغم تفوقها الكبير، كما حدث لإسرائيل في معركتي بيروت وغزة، فالعالم بالنسبة لها ليس فقط بيروت وغزة، بل فيه لاعبين عديدين وتداعيات ربما تكون أكثر خطورة على وجودها بحساب المستقبل.

إنها نقطة الضعف في تلك القوى العظمى، "كعب أخيل" في هيكل نظامها في تعامله مع النظام العالمي ككل. وإدراك ذلك ، إن جاء مع استقلالية وحرية القرار، يعطي الدول الأضعف فرصة كبيرة للتصرف ومرونة هامة لتحقيق (بعض) مصالحها الأساسية بالرغم من القوة العظمى.
فنحن أمام قوة كبيرة، قادرة على سحقنا، لكنها تتردد في ذلك، لأنها تدرك أنها قد تسحق نفسها إن أخطأت في التقدير، وهي لا تريد بأي شكل ان تخرج من المعركة أضعف أمام خصومها الآخرين، مما كانته قبل المعركة.

إذن اللجوء إلى السلاح، وهو نقطة تفوق القوة العظمى الأساسية والملعب الذي تفضل اللعب به، ليس متاحاً دائماً، حتى لو أكثرت من التهديد به. وهناك تجارب تمكنت القوة الأضعف من إجبار تلك القوة العظمى على النزول عند رغباتها، ولو مؤقتاً. ولو أخذنا مثالاً من العراق مؤخراً، معركة الإنتخابات التي حاول فيها الأمريكان بكل طريقة تنصيب العراقية ، لكنها فشلت في تنصيب أياد علاوي وعادل عبد المهدي رغم الحملة الهائلة لتزوير الإنتخابات، بالمال وغيره وبشكل مباشر وغير مباشر. ولولا تخاذل المنتصرين في نهاية الأمر، لربما كان لهم حكومة أكثرية قابلة للحياة، لكنهم تراجعوا في النهاية وقبلوا بحكومة شراكة مشلولة، اما بسبب الخوف من الضغط الأمريكي، أو لأن الكثير منهم لا يهمه سوى الوصول إلى المنصب ورواتبه، أو بتعاون كل تلك الأسباب.

وفي لبنان، فشلت أميركا في التأثير على الإنتخابات (بأموال سعودية وإعلام غير متناسب) إلى الدرجة التي تعطي حرية كافية لعملائها لتمرير اجنتدها خاصة في ضرب سلاح حزب الله، والحقيقة أنه لولا أن الدستور اللبناني قد بني بشكل عنصري، لكان لجماعة حزب الله الأكثرية. وحين حاول سعد الحريري التمادي في الضغط من أجل الأجندة الإسرائيلية الأمريكية، كان رد الفعل كبيراً، وأنتج العكس، حيث كسب معسكر حزب الله الحكومة، ودفع المقابل للصراع من موقع أكثر صعوبة.
كل هذا دون أن تثور أية إشتباكات عسكرية بين المعسكرين، لكن إبداء الإستعداد لها إن تطلب الأمر، هو أمر حاسم في الصراع، وفي تجنب تحوله إلى صراع عسكري أيضاً.

***

النتيجة الهامة التي نريد الوصول إليها من كل هذا هو أن الطرف الأضعف المدافع، يجب أن لا يحسب الأمر من خلال السؤال التالي: هل العدو اقوى مني؟ إذن يجب تجنب الصراع بأي ثمن لأني مهزوم كنتيجة حتمية منطقية.
السؤال الصحيح هو: هل أستطيع أجعل المعركة مكلفة للعدو بما يزيد عن أرباحه منها؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فلا يكون التحدي ومحاولة الحصول على مكاسب، امرٌ غير منطقي.

السؤال الخطأ، طرحه الكاتب عبد الرحمن الراشد في مقالة له، فتساءل عن "حماقة" إيران في محاولتها تصنيع أسلحة نووية، بفكرة أنها لن تستطيع في جميع الأحوال أن تمتلك عدداً يساوي أو يزيد عن عدد أسلحة إسرائيل أو أميركا النووية، وبالتالي فهي لن تستطيع أن تستخدمها في الدفاع عن نفسها، ولذا فإنها جهود مضيعة للوقت والمال وحماقة لا طائل من ورائها.
نحن نعلم الآن ان ذلك ليس صحيحاً لأنه جاء من السؤال الخطأ، والسؤال الصحيح هو أن إيران لا تحتاج إلى مساواة إسرائيل أو أميركا، وإنما إلى أن تجعل مهاجتمها من قبلهم أمراً مكلفاً بأكثر من أرباحه. على هذا تستند كل افكار الدفاع، ولا نتصور أن الراشد بغافل عنها، لكنه يريد أن يوصل  القارئ إلى إستنتاجه لأسباب إعلامية سياسية. لو كان منطق الراشد سليماً لما اشترت اية دولة أو صنعت أي سلاح، ببساطة لأن أميركا ستبقى أقوى منها.

عبد الرحمن الراشد بما هو معروف عن ميوله، ربما كان يحاول إبعاد الجانب المعادي لإسرائيل من حتى التفكير باحتمال الإشتباك العسكري معها، وليس هذا بموقف غريب بعد أن فهمنا أن ذلك ليس خياراً خاسراً لنا دائماً ورابحاً لإسرائيل رغم فارق القوة الهائل، وان التلويح بالإستعداد للمجابهة ضروري لأية مفاوضات من اجل سلام فيه الحد الأدنى من العدل للجانب الأضعف، ولذلك نرى أن عباس والسنيورة وبقية عملاء إسرائيل يركزون على "السلام" كخيار وحيد، رغم أنهم من أشد البشر قسوة ووحشية أمام أبناء بلادهم، فلم يكن هناك شعور إنساني بالسلام حين اختار عباس تحويل منظمته إلى فرقة اغتيالات عسكرية تعمل بأسلحة وأوامر إسرائيلية، وحين كان السنيورة يرفض وقف القصف الإسرائيلي على بيروت من أجل القضاء على حزب الله أولاً.

عباس والسنيورة يعلمان أن الجانب القوي، إسرائيل، لديه حساسية وضعف في المواجهة ا لعسكرية تكمن بنتائجها التي يصعب تحويلها إلى نصر، وأن الجانب الأضعف كثرما حقق الكثير من الإنتصارات على الجانب الأقوى. وتشرح مقالة الأستاذ عامر محسن (كيف نتعلّم أن نحبّ القنبلة) تلك النقطة وتطبيقاتها التاريخية في عدة مناسبات، وبشكل مبدع.(1) ومما جاء فيها :
" ثلاثة تفجيرات قلبت ذاك الواقع رأساً على عقب، أربع قنابل وثلاثة تفجيرات غيّرت كلّ تاريخ لبنان والمنطقة. قلّما حصل أن أنتجت أفعال فرديّة معدودة هذا القدر الهائل من التأثير السياسي ـــــ بصرف النظر عن حكمنا الأخلاقي على الأحداث والوسائل." وهو ما "أفهم إسرائيل أنّه لا مجال لاستمرارها عسكرياً في البلد، وبدأت من يومها الاستعداد للانسحاب."

لعل ذلك ما يشرح كمية الجهود الهائلة التي تضعها الولايات المتحدة وإسرائيل لتشويه شديد لأي خيار مسلح للمقاومة، مع احتفاظ إسرائيل بكل "حقها" في ذلك باعتباره "دفاعاً" شرعياً عن النفس. ومن الواضح أن كلمتي "الدفاع" و "العدوان" تم قلبهما من خلال تلك القدرات الإعلامية الهائلة لتأمين إبعاد الجانب العربي تماماً عن حتى التهديد بالسلاح، وهو ما يشير بوضوح إلى أن هذه "القوى العظمى" تخشيان ذلك الخيار وتتوقعان منه خسارة.

معروف لدى الرعاة أن الذئب يخشى الكلب، ليس لان الأخير أقوى منه ، وإنما لأن الذئب يخشى إن هو جرح، أن تأكله الذئاب الأخرى. الكلب يدرك ذلك بسليقته، ولذلك يستطيع الكلب أن "يدافع" عن الخراف، أمام الذئب الأقوى والاكثر شراسة.

هذا الخوف من "جرح الذئب" هو ورقة الدول الأضعف في صراعها من أجل تأمين مصالحها من الدول الكبرى. وكأي شيء في الحياة، يجب عدم المبالغة، ومعرفة الحدود وقياس مصالح المقابل بدقة، بحيث لا يتعدى تحدينا حدود مصالح المقابل في تجنب الإشتباك، وإلا وقعنا في الخطأ. لكن من المؤكد أيضاً أن تصوير المشهد بأنه يائس بالإستناد فقط الى نظرة سطحية لميزان القوة، هو خطأ قاتل.

هذه كانت الحلقة الثانية من سلسلة مقالات "كيف تدير مصالحك امام قوة عظمى" وكانت الأولى بعنوان "ملاحظات عامة ضرورية" (2)، وستكون هناك حلقة ثالثة ورابعة تناقشان الإسترتيجيات الممكنة للدول الضعيفة في الدفاع عن مصالحها بمواجهة القوة العظمى. 


(*) لم تدخل أميركا الحرب العالمية الثانية إلا قرب نهايتها، وكان هتلر هو الذي اعلن عليها الحرب.
(1) http://www.al-akhbar.com/node/13326
(2) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=49151


107
علي اللامي وصالح العكيلي ومبدأ قطع السنابل العالية



صائب خليل
27 مايس 2011

ها قد غادرنا ذلك الرجل الشجاع، علي اللامي، الذي لا أعرف عنه سوى أنه ذلك الذي وقف لوحده رافضاً ضغط الجبهة الأمريكية البعثية في فرض المرفوضين شعبياً ودستورياً على سماء السياسة العراقية. وقف لوحده لا يتزحزح أمام الإبتزاز الأمريكي والبصاق الذي يتطاير من فم صالح المطلك عندما يحاول عامداً تذكيرنا بخطاب البعث القبيح المهين. وقف لوحده بعد ان انحنى الآخرون، وبضمنهم من كان يدافع عن حقهم وفق الدستور. حين رأيته يصر على موقفه الدستوري المبدئي الذي تخلى عنه حتى من كان يدافع عنهم وعن حقهم، وبحثوا عن طريقة لإرضاء الإحتلال وتمشية الأمور، وكان هو حجر العثرة الوحيدة الباقية، قلت ان الرجل ذهب لحتفه، وتذكرت قول شاعر عربي كبير، ينطبق عليه أكثر مما انطبق على اي إنسان آخر اعرفه في هذا الزمن:

"وقفت وما في الموت شك لواقف... كأنك في جفن الردى وهو نائم"

من أطلق النار على علي اللامي؟ لنقرأ الخبر التالي الذي نشر قبل عام بالضبط: في حديث لـ\"السومرية نيوز\" اتهم المدير التنفيذي لهيئة المساءلة والعدالة العراقية علي اللامي، يوم أمس الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تقود مخططا لاغتياله وإلقاء المسؤولية على تنظيم القاعدة، وبيّن أن واشنطن حاقدة عليه بعد تمكنه من \"إفشال\" مساعيها لإعادة حزب البعث إلى السلطة في العراق عبر القرارات التي أصدرتها هيئته، مطالبا الحكومة العراقية بفتح تحقيق في الموضوع.
وقال اللامي أنه تلقى تحذيرات نقلها له جهاز المخابرات العراقي قبل أيام عن وجود محاولات لتصفيته من قبل تنظيمات مسلحة، وفقا لمعلومات استخبارية من مصادرهم في كركوك والموصل\"، مضيفا أن تلك المعلومات أكدتها له \"قيادة عمليات بغداد التي اتصلت بدائرته ونقلت الخبر ذاته، وأيضاً من استخبارات وزارة الداخلية حسب قوله. (1)

لكن الأمريكان لم يقتلوه بأنفسهم طبعاً، ولا قتلوه لوحدهم. صحيح انك لم تطلق النار عليه، لكنك يا علي الدباغ كنت القاتل الحقيقي لعلي اللامي. قتلته حين صرحت بتخليك عن الموقف الذي كان يدافع عنه وعنك وعن حزبك فيه، بل وعن الشعب العراقي ودستوره أمام الضغط الأمريكي – البعثي الهادف لإيصال بقايا البعث إلى الحكم، أو إلى الأمن، بقيادة القائمة "العراقية"، القائمة التي تحتوي أكبر عدد من بقايا الصداميين، وتتشدق بأخلاقهم.

وعندما اقول "علي الدباغ" فإني اقصد الحكومة التي يشغل فيها الدباغ منصب "الناطق الرسمي"، فهو "لا ينطق عن الهواء". الحكومة التي كانت أجبن حتى من أن تراعي مصالحها نفسها، او أن تخفي جبنها في انتظار ما يحدث على الأقل، فلجأت إلى الإعلان الرسمي بأنها تختلف مع علي اللامي، ولم يكن اللامي يقول إلا ما يقوله الدستور في من كان مسؤولاً عن مذابح الشعب العراقي الكبرى في التاريخ. ولم يكن اللامي يطالب بإعدامهم ولا سجنهم، بل فقط بوقف استمرار مشاريعهم الدموية للبلاد وحرمانهم من دخول البرلمان، كما يقتضي الدستور صراحة. لكن الجبن تخلى حتى عمن يدافع عنه. في تلك اللحظة كان الجبن يطلق النار على نفسه، خوفاً!

نحن في لحظة "مقدسة".. لحظة انعطاف في علاقتنا مع الوحش العالمي الأكبر، والذي يرتبط بعلاقة لا انفصام لها مع الوحش العنصري الاكبر في المنطقة، والذي يخص العرب بشكل خاص بمشاعره الدنيئة ومشاريعه العدائية. هذه اللحظات المقدسة، هي دائماً "مواسم قطاف"... قطاف "السنابل العالية" التي تزعج الإحتلال ومن يريدهم للسلطة على البلد. هذه السنابل التي تتجرأ أن ترتفع أكثر من غيرها، حان وقت قطافها، فاليوم توشك لحظة الحقيقة ان تحل. وينتظر أن يساق سياسيو العراق إلى معبد السفارة الأمريكية كالآسرى، لتوقيع معاهدة جديدة تضمن بقاء رقابهم تحت سيف المحتل وبساطيله، ولزمن جديد قد لا ينتهي. إنهم الآن يتبارزون بالكلام المبهم المقلوب. لقد كانوا دائماً يتعاركون على "حق" كل منهم في القرار، ويجلب كل منهم "وعاض سلاطينه" من خبراء في القانون والدستور ليثبت ما استطاع، سعة صلاحياته، وحسب الدستور! اليوم أنقلب الأمر. صار كل منهم يريد أن يبرهن ضيق صلاحيته وبعدها عن هذا. اليوم ينظر كل منهم الى الآخر، ويحثه للتقدم، أملاً أن لا يكون هو الأول في صف العار.

تذكرنا هذه اللحظة "المقدسة" بلحظة أخرى، كانت لها نفس الشعائر تماماً! لحظة توقيع "معاهدة سحب القوات التي لن تنسحب". حينها توجب على الكبار أن يهيؤوا الجو لمن اراد التوقيع وخشي عاره، ليحسم امره، فقاموا ضمن ما قاموا به، بقطف رأس السنبلة العالية: النائب الصدري الدكتور صالح العكيلي.

وتلت تلك الجريمة حملة إعلامية تشويهية لإلقاء اللوم على جماعته، وتبرئة من تشير جميع المؤشرات الجرمية إليه: من مصلحة ومن تواجد قوات مكثف في منطقة الحادث. وطبعاً فقد "القي القبض على القتلة"، أثنين من المأجورين، وهرب رئيسهم (عنصر ارتباطهم؟) دون أن تكون هناك حتى محاولة للتحقيق في من يكون وراء ذلك الإغتيال. ففي العراق لم يتم التحقيق في أية جريمة على أساس السؤال الجنائي التقليدي: لمصلحة من يمكن ان تتم تلك الجريمة؟ الإعلام المسيطر عليه أمريكياً، هو من يتكفل عادةً بـ "التحقيق" وإلقاء التهم على من يناسب صاحب الإعلام من خصوم في تلك اللحظة، وبالفعل، ويا للغرابة، فقد تم إلقاء عبئ تلك الجريمة إعلامياً، على إيران والصدريين أنفسهم!

كتب بول ولفوتز، مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق في ولاية بوش الإبن، وأحد أشد الساسة الأمريكان عدوانية وصهيونية، وقبل توليه ذلك المنصب ببضعة اشهر، بأن استلام قيادة العالم يتطلب: " أن يتضح للجميع بأن أصدقاءنا ستتم حمايتهم ورعايتهم، وأن اعداءنا ستتم معاقبتهم، وأن الذين سيرفضون دعمك، سوف يرون اليوم الذي يندمون فيه على ذلك".

لا أتخيل أن صالح العكيلي أو علي اللامي نادمين على ما فعلا. أتصورهما يعلمان مصيرهما كاحتمال كبير، ولعله أكيد بالنسبة لعلي اللامي على الأقل، فقد كان له "ذنوب" كثيرة وكبيرة، كان آخرها تخليص العراق من 517 من بقايا البعث ومنعهم من الوصول إلى القيادة في مؤسساته الدستورية، لولا ارتعاب من ارتعب من المسؤولين وإعادة كبارهم. أتخيل علي الللامي وهو يرى نفسه يخطو إلى قبره، يقول لنفسه أن الحياة لم تعد تستحق أن تحيا، فلأوجه صفعة للسفلة قبل أن أذهب، وليكن ما يكون!

إن كان هذا هو خيار علي اللامي كما أتخيله، ولعله خيار صالح العكيلي أيضاً وربما كامل شياع، فهو يعفينا قليلاً من الحزن عليهم، لكنه لن يعفينا من الحزن على أنفسنا والخوف عليها وعلى مستقبل البلاد. فإن كان القتل سيطال كل من يتجرأ على أن يبرز كسنبلة عالية في حقل السنابل المنحنية، فستتحقق خطة بول ولفوتز، ولا يبقى يرفع رأسه إلا السنابل الفارغة من اصدقاء وولفوتز ومن يشابهه في أخلاقه.
ورغم أن هذه الشخصيات تمتلك رصيداً أخلاقياً شديد الإنخفاض، يتيح لها أن تقف بوجه البشرية ومبادئها في حرية تقرير المصير والديمقراطية، فان رصيدها من الذكاء ليس منخفضاً أبداً. وما تقترحه لمشاريعها الإجرامية يثبت أنه فعال بشكل كبير، وبالتالي فعلى الشعوب إن أرادت مواجهة تلك المشاريع، أن تتصرف بالمقابل بفعالية هي الأخرى، وأن نستعير من عبارة وولفوتز ذكائها وفعاليتها، وتغيير أخلاقيتها فنقول أن سيادة بلدنا تتطلب " أن يتضح للجميع بأن أبطال البلد ستتم حمايتهم ورعايتهم، وأن اعداءها ستتم معاقبتهم، وأنهم سوف يرون اليوم الذي يندمون فيه على ذلك".

هل سيمكننا أن نقول ذلك؟ هذا هو السؤال الذي يجب الإجابة عليه بشكل واضح، إن لم نرد أن نصل إلى عراق لا يجروء فيه شخص على رفع صوته بالضد من صوت الإحتلال، حتى حينما يسعى هذا صراحةً إلى أوسخ مشاريعه في إعادة بقايا حثالات صدام إلى الحكومة وجهازها الأمني بالذات، بالضغط والإرهاب وتزوير الإنتخابات، وإبقاء ما يكفي قواته لحماية تلك الحكومة إن لم تستطع أن تحمي نفسها يوماً من غضب شعبي قادم. في ذلك الوقت "المقدس" سوف تتذكر السنابل أخوتها العالية التي تم قطع رؤوسها، "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر"..

ليكن أبطالنا معززين في ضمائرنا على الأقل، لماذا لا يكون لعبد الكريم قاسم شارع باسمه بينما محسن السعدون، حبيب البريطانيين وسياسيهم المفضل، يحتل اسمه أهم شارع في بغداد؟ ولنختر شارعاً أو ساحة كبيرة مازال اسمها لا يمثل الشعب ونطلق عليها إسم "ساحة اللامي"، وأخرى لعثمان وهكذا مع كل شهيد يسقط من أجل الشعب، فذلك أضعف الإيمان بالشعب. لماذا ركض البعض لإعادة الإعتبار للعميل المعروف نوري السعيد بمسلسلة تلفزيونية وليس لعبد الكريم الذي يحبه كل الشعب بلا استثناء؟ اليست هذه كلها مؤامرات لطمس كل من يقف مع الشعب ويضحي من أجلهم و "معاقبتهم" من قبل وولفوتز وأمثاله، ورفع عملائهم ومكافئتهم؟ لنبدأ بتغيير هذا الحال إبتداءاً من الشهيد علي اللامي!

قد يبدو للبعض أن في الأمر مبالغة، وأن الموضوع أعطي حجماً "ثورياً" أكبر من حجمه، بل قد يسعد البعض من خصوم علي اللامي بمقتله دون أن يقولوا ذلك، كما يسعد كارهي التيار الصدري بمقتل العكيلي، لكن الموضوع ليس موضوع ثورة، بل هو الخوف من تآكل حرية الرفض بوجه الإحتلال، وما سيصل إليه الأمر كنتيجة حتمية إن لم يوقف أحد ما ذلك التآكل. الموضوع أكبر من التيار ومن علي اللامي ومن الخصومات، فما يتم اغتياله هو القدرة على ان تقول لا للإحتلال. وإن سارت الأمور بهذا النهج فقد تاتي ليلة كالحة، يريد الجميع فيها أن يقولوا "لا"، فلا يجدون صوتاً في افواههم.

ليست جريمة إغتيال رئيس هيئة المساءلة والعدالة، الشهيد علي اللامي، سوى حلقة في سلسلة الإرهاب التي يمر بها العراق اليوم في انتظار التصويت على معاهدة أمريكية جديدة. إنها معركة إرهاب وتحدي واضحة، وليست معركة "مفاوضات" و "مناقشات"، فليست هناك بعد مسودة لكي يمكن مناقشتها، إنما هي "معركة بقاء" بين قوات الإحتلال والسيادة. فلترفع يا شعب العراق رأسك مع سنابلك العالية الرائعة، فلو فعل ذلك ما يكفي من الناس لما أمكن للإحتلال أن يقطف سنبلة. أرفع رأسك ووجه احتقارك وغضبك لقاطفي السنابل ومن يتساهل معهم، لكي لا تأتي تلك الليلة الكالحة! دافع عن حقك في الكلام مادام فيه بقية. إحم صوتك قبل أن يخرسه الإرهاب الكبير القادم.

(1) http://www.kurdiu.org/ar/hawal/index.php?pageid=28349

108
كيف تدير مصالحك مع قوة عظمى:1- ملاحظات عامة ضرورية
 

صائب خليل
25 مايس 2022

هذا المقال متعدد الأجزاء يعتمد كتاب ستيفان والت القيّم: "تدجين القوة الأمريكية" (Taming American Power – Stephen Walt) منطلقاً.  وهنا لا بد من التنويه بأن الكاتب لا ينطلق من محاولة أن يشرح للدول الأخرى كيف يديرون مصالحهم على حساب دولته نفسها، أميركا، وإنما لكي يتمكن الأمريكان من رؤية الأمر من وجهة النظر الأخرى والتصدي لها او التعاون معها إن أمكن.
كما أن والت ليس ثورياً رافضاً، بل يبدو مصدقاً للأطر العامة للإعلام الأمريكي حول الرغبة الأمريكية في نشر العدل والديمقراطية، لكنه يرى ان حكومات بلاده، وخاصة إدارة جورج بوش، قد سارت في اتجاه لا يناسب ذلك الهدف السامي، وأن النوايا الأمريكية الطيبة تدمرها "أخطاء"، وان استخدام القوة الأمريكية للخير ليس فعالاً بسبب تلك الأخطاء التي تدفع الدول الأخرى بعيداً عنها وتتخذ مواقف مناوئة ومعرقلة لتلك القوة العظمى الخيرة.

التساؤل عن الطريقة الأمثل للتعامل مع القوة العظمى المهيمنة يطرحه على نفسه قادة جميع الدول الأخرى بلا استثناء. وفي كتابه هذا يحاول والت أن ينظر إلى الأمر من منظور حكومات الدول الأخرى التي وجدت نفسها (متورطة) مع قوة عظمى هائلة تسيطر على هذا العالم. حاول ان يكتشف كيف يفكرون؟ ما هي استراتيجيتهم للحفاظ على مصالحهم أمام مصالح تلك القوة التي تفوقهم بشكل كبير؟ هل هناك إمكانية لإستغلال وجود تلك القوة العظمى لصالحهم؟ كيف وبأية شروط؟ متى تنجح تلك المحاولات ومتى تفشل؟ هل هناك إمكانيات للممانعة والمعارضة والمقاومة، ومتى؟ ماهي الستراتيجيات الممكنة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالحك عندما تعارض تلك المصالح مصالح القوة العظمى؟

يفترض الكاتب أن هناك دولاً لها إرادتها ومصالحها المستقلة عن الدولة العظمى، ويبين أنه ضمن هذا الشرط، فأن هناك إمكانيات ممتازة لتأمين تلك الدول لمصالحها إلى حد بعيد. لكن شرط استقلال الإرادة السياسية للدول الصغيرة، نادراً ما يكون متوفراً في عالم اليوم، فالدولة العظمى، وعياً منها لإمكانيات الدول الأصغر المستقلة الإرادة لإقتسام كعكة المصالح معها، سعت وبقوة لأختراق تلك الإرادات وتحطيمها قدر الإمكان، لكي تؤمّن لنفسها أكبر قدر من تلك الكعكة، وتطمس مصالح تلك الدول لحساب مصلحتها (للدقة: مصلحة من يدير السلطة فيها – الشركات الكبرى).

ورغم ان افتراض استقلال الإرادة وحكومات تسعى بحرية لخيارات وطنية، ليس دقيقاً، فأن تلك الحقيقة لا تقلل من اهمية الكتاب وأفكاره، التي تمثل خطوطاً عامةً خطيرة الأهمية في تعامل أية حكومة ذات استقلالية نسبية كافية، مع القوة العظمى، وفهم فرصها والأخطار المحدقة بها، ومتى يمكن لها ان تدوس على أقدام الدولة العظمى ومتى يكون ذلك شديد الأذى.
أما بالنسبة للدول المخترقة بشدة من قبل الدولة العظمى، او المحتلة من قبلها، فلعل أهمية الكتاب تكمن في دحض الإعلام الإحباطي الذي يؤكد بقاء سلطة تلك الدولة المحتلة مستنداً إلى التخويف بالفارق الهائل في القوة بين الطرفين، فيكفي أن يكتشف الإنسان حقيقة أن هناك فرصاً لإنقاذ مصالحه إن توفرت درجة كافية من الإستقلالية، لكي يجعل من الإستقلال هدفاً لامعاً وممكناً في آن واحد، وأن تشحن تلك الحقيقة آماله وإرادته في العمل من أجلها.

***

تتعامل الدول المختلفة، ليس مع القوة الفيزيائية للولايات المتحدة ولا السياسات التي تنتهجها فحسب، ولكن ايضاً تتاثر بالطريقة التي توصف بها تلك القوة والطريقة التي تقدم بها تلك السياسات، والمعاني التي يتم ربطها بها. وهذا ما يعطي الموضوع التعقيد الذي يزيح الفكرة المبسطة عن أن الفارق في القوة يعني سيطرة القوي التامة على الضعيف.

وليس هذا الأمر مقتصر على الدول، فمثلاً الفارق في القوة بين سلطة الحكومة والسجناء في السجن، فارق حاسم، وكذلك بين السادة والعبيد في مجتمعات العبيد السابقة، وبين قوة سلطة الشركات الكبرى من جهة والعمال من الجهة الأخرى. ويدعم هذا الفارق في القوة الفيزيائية، أيديولوجية تقوم على تصوير العبيد أو السجناء أو الفقراء على أنهم ضعفاء وسيئين لأسباب وراثية اصيلة، وبالتالي فهم يستحقون الوضع الذي هم فيه. ورغم ذلك الفارق في القوة، ورغم دعمه بأيديولوجية مناسبة له، فأن السيطرة التامة تكاد تكون مستحيلة. فحتى عندما تكون إحدى الجهتين متمتعة باحتكار للقوة بشكل شبه تام، فمن الممكن للجهة الأضعف أن تحقق بعض مطالبها، وتقاوم النظام الذي تحاول الجهة القوية فرضه. فيستطيع السجناء إزعاج إدارة السجن إن لم تستجب لبعض مطالبهم، ويمكن للعمال في المعمل مقاومة الضغط من الجهات العليا، بواسطة الإضراب، أو التباطؤ في العمل أو التحجج بأية نواقص في التزامات الإدارة للتأخير، واساليب أخرى.
ورغم فرق القوة بينك وبين طفلك، فيمكنك ان تجبره على الذهاب إلى فراشه، لكنك لا تستطيع ان تجبره على النوم، فذلك يتطلب تعاونه.

فحتى حين يمكن للقوة أن تفرض إرادتها، فكثيراً ما يناسب القوة الأكبر أن لا تستخدم كل طاقتها، وأن تفضل تقديم بعض التنازلات بدلاً من ذلك، خاصة في الحالات التي يمكن لإستعمال القوة فيها أن تتدهور الأمور نحو الأسوأ.

تعتمد الهياكل الهرمية في السلطة في إرغامها الأفراد على الطاعة، ليس على فرق القوة وحده، وإنما ايضاً على ايديولوجيات قوية تشرعن سلطة تلك القوة، بشكل قوانين وانظمة ومؤسسات تساعدها في فرض إرادتها. أما في حالة الدول فلا توجد مثل تلك الإيديولوجية، بل العكس هو الصحيح، فمن الناحية الشرعية فأن جميع الدول صغيرها وكبيرها تمتلك مراكز متساوية، ولها إستقلالها وحقها في تقرير مصيرها، وهذه الأيديولوجية تعرقل ضغط فرق القوة. وكما سنرى فهناك استراتيجيات عديدة يمكن للدولة الأضعف أن تتبعها من أجل أن تخفف من تأثير فرق القوة الذي يعمل ضدها.

الدبلوماسية الأمريكية والتفوق.

تتمتع الولايات المتحدة بفارق في القوة عن أقرب الدول الأخرى، لم تعرفه أية دولة منذ تأسيس الدولة الحديثة. في عام 1850 كانت بريطانيا العظمى تسيطر على ما يقارب 70% من ثروة أوروبا، بينما كانت حصة فرنسا منها 16% فقط. إلا أن ما يميز التفوق الأمريكي هو انه متحقق على جميع المستويات المهمة، وليس الثروة لوحدها. فتمتلك للولايات المتحدة إضافة إلى أكبر اقتصاد في العالم، تفوقاً عسكرياً هائلاً، كما أن سلطتها واضحة على الموسسات العالمية الهامة، ولها تأثير ثقافي وأيديولوجي بعيد الأثر.

وتتمتع الولايات المتحدة ايضاً باستقلالية إقتصادية متميزة، مقاسة بنسبة التجارة الداخلية إلى الناتج القومي الكلي. ففي عام 2000 كان هناك ثلاثة دول تتفوق على الولايات المتحدة في انخفاض نسبة التجارة الخارجية إلى الناتج القومي، وهو ما يعني ان نسبة التجارة الداخلية فيها عالية، ومن بين تلك الدول الثلاثة، هناك دولة واحدة ذات قوة عسكرية مؤثرة.
وتنفق الولايات المتحدة اليوم ما يقترب من ما ينفقه بقية العالم مجتمعاً على الجيش والتسلح. ورغم هذا الفارق الهائل فهو لا يعطي الصورة الدقيقة عن التفوق العسكري الأمريكي، فإضافة إلى ذلك فأن العديد من الدول المتقدمة عسكريا، هي حليفة للولايات المتحدة، وليست خصماً لها.
ويزيد من الفارق الحقيقي لصالح القوة الأمريكية حقيقة أن التنظيم الأمريكي للجيش أكفأ من بقية الدول، كما أن قدرتها على بناء القوات المقاتلة وتقديم الدعم اللوجستي أفضل من الباقين، في حالة صرف نفس المبالغ. فبينما تمكنت الولايات المتحدة من وضع نصف مليون مقاتل في "درع الصحراء" و "عاصفة الصحراء" ، فأن الإتحاد الأوروبي لم يزل غير قادر على تجهيز 60 الف مقاتل مدرب بشكل جيد. كذلك فأن لدى الولايات المتحدة ما يقارب ربع مليون جندي ينتشرون في حوالي مئة بلد في العالم، وهو ما يتيح لها حرية المناورة وسرعة الحركة. كل هذا إضافة إلى التفوق التكنولوجي ومستوى تدريب المنتسبين.

من طبيعة تنظيم المؤسسات الدولية، والقواعد التي تحكمها، أنه لا يمكن لجهة واحدة، أو مجموعة واحدة، ان تسيطر عليها تماماً، ومع ذلك فأن الولايات المتحدة تلعب دوراً مميزاً في معظم المؤسسات الدولية الهامة. فهي اللاعب الحاسم في حلف شمال الأطلسي مثلاً، ويقود قوات الحلف المتواجدة في أوروبا دائماً ضابط أمريكي. ورغم أن المشورة موجودة في داخل الحلف، إلا أن "المفاوضات في كثير من الأحيان ليست سوى شكليات، ففي جميع الحالات تقريباً، كانت المبادرات الأمريكية هي التي تأتي بالتغييرات إلى الحلف"، كما يقول غليوم بارمنتير، رئيس قسم العلاقات الخارجية السابق في الحلف.
وبسبب ارتفاع إسهامها في منظمات الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها فأن للولايات المتحدة ورقة ضغط قوية تؤثر من خلالها على سياسة هذه المنظمات بشكل مباشر وغير مباشر.
أما من الناحية الثقافية فللولايات المتحدة افضلية كبيرة، حيث أن اللغة الإنكليزية هي اللغة الأهم في عالم الإنترنت والكتب على السواء، كما أن الأفلام الأمريكية تكتسح السينما في العالم، و جميع أعلى 25 فلم مردوداً، هي أفلام أمريكية.

يردع التفوق العديد من الدول عن تحدي مصالح الولايات المتحدة، حيث يعلم الجميع أن أمامهم دولة قوية وقادرة على الرد، ويدرك الأمريكان ذلك ويسعون لتثبيته وتقويته بشكل مستمر. وفي 1947 جاء في تقرير حكومي "أن السعي إلى أي شيء غير القوة المتفوقة، هو خيار الهزيمة". فلا يجب أن تحضى أهداف أخرى مثل السلم الدولي أو الرخاء الإقتصادي بأولوية على خيار التفوق. وفي أواسط الثمانينات من القرن الماضي قدم غورباتشوف تنازلات وعروضاً غير مسبوقة للولايات المتحدة، لكن الأخيرة لم تقابله بالمثل، بل زادت مطالبها كلما ازداد موقف الإتحاد السوفيتي ضعفاً، حتى ناقشا في النهاية حل حلف وارشو. وعندما اعترض غورباتشوف في 1986 بأن الولايات المتحدة "تبتز الإتحاد السوفيتي للمزيد والمزيد من التنازلات"، أجابه وزير الخارجية حينها جورج شولتز ساخراً منه "جعلتني أبكي عليك"!
وبسبب السعي وراء القوة المتفوقة فأن الولايات المتحدة لم تنزع ترسانتها الهائلة من السلاح حين تفكك الإتحاد السوفيتي، بل استمرت في زيادتها بوتيرة عالية. وكانت كل إدارة أمريكية جديدة تؤكد حرصها على بقاء الهوة بينها وبين بقية العالم. وحتى عندما تتصرف الولايات المتحدة بما يبدو "لطفاً" فأنه محسوب لصالح ذلك الهدف الأول. فبينت إدارة جورج بوش الأب أنه "يجب أن نحسب حساباً لمصالح الدول الصناعية الأخرى لكي لا نشجعها على تحدي قيادتنا للعالم".

ويرى الكاتب أن سعي الولايات المتحدة الحثيث لمنع انتشار الأسلحة النووية ليس سوى جزء من إستراتيجيتها للحفاظ على التفوق في القوة. ففي حالة حصول المقابل على السلاح النووي، فقد تكون له القدرة على ردع وموازنة تفوق الولايات المتحدة الكبير في الأسلحة التقليدية، كما عبر وزير الدفاع السابق ليس أسبن. ومع ذلك فأن الولايات المتحدة لم تتخلّ عن تطوير ترسانتها النووية، فرغم انها فككت جزءاً منها، إلا أن ذلك شمل منها ما أصبح قديما وغير ذي قيمة، وعملت إدارة بوش الثانية على تطوير جيل جديد من الأسلحة النووية، بضمنها القنابل الصغيرة، والتي تعتبر خطرة بشكل خاص، لأنها قد تمثل تحطيماً للخط الفاصل بين الأسلحة النووية والتقليدية، وتهدد بتحويل الحروب التقليدية إلى حروب نووية. وتسعى أميركا من خلال الحرص على إبقاء ورفع التفوق العسكري الكبير، إلى تأمين "حرية العمل" لها وبأي شكل، دون خشية رد فعل رادع، من قبل ما تسميه "الدول المارقة"، كما تهدف "الدرع الصاروخية" إلى تأمين التهديد بـ "الضربة الأولى" دون خشية رد فعل الدول النووية مثل روسيا.

ولنفس هذه الأسباب فأن الولايات المتحدة عرقلت دائماً أي بناء للقوات العسكرية الأوروبية خارج إطار حلف الناتو، (كما كان واضحاً في سياسة إدارات كل من كلينتون وبوش الإبن) والذي يعتبر الأداة المثلى لإبقاء التأثير الأمريكي في مسائل الأمن الأوروبي. وكثرما تسببت محاولات الولايات المتحدة لقيادة الناتو بشكل فردي في شكاوي شركائها الأوروبيين، مثلما حدث في مفاوضات صربيا، دون أن يتمكنوا من فعل شيء. وتسعى الولايات المتحدة اليوم لتجعل من حلف شمال الأطلسي يدها الضاربة، ليس في أوروبا فقط، بل في كل مكان بعد اختفاء الردع السوفيتي من الساحة، وتعكف "لجنة الحكماء" في الحلف بقيادة وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت بكتابة "مفهوم جديد" للحلف يتيح له استغلال غياب القوة المنافسة، ويسمح له بتحطيم المحددات التي وضعها له ميثاقه الأول (الذي تغير عدة مرات) من الإلتزام بالدفاع  عن الأعضاء في حالة رد اعتداء على أراضي دول الحلف فقط، والعمل في تلك الأراضي دون غيرها، وصولاً إلى ما يسمح له بالهجوم و"الحرب الإستباقية" والتدخل في ما يسميه "إرهاب الإنترنت"، بحجج مختلفة استندت إلى تعريف يتوسع بشكل مستمر لكلمة "الأمن"، لتشمل أمن الطاقة وأمن الغذاء وأمن الإنترت وغيرها، وبحجة أن الأخطار التي تهدد الحلف تولد خارج الحلف، وبالتالي فالحلف مخول لردعها قبل ان تشكل خطراً عليه، وبالتالي بضرب الدول التي يدعي أنها تشكل خطراً عليه، وهي قضايا فيها من مرونة المعاني والتشويش ما يكفي لجعل أية دولة هدفاً له، إن ارتأت مصالح اعضائه ذلك، وبغض النظر عن حقيقة خطورتها عليهم أو تهديدها لهم، والأمثلة الحديثة على ذلك كثيرة.

وعلى المستوى الإقتصادي، تسعى الولايات المتحدة الى إلغاء الحدود وتحرير التجارة، وهي سياسة تخدم مصالحها وتزيد قوتها بشكل خاص بسبب الفوارق التي لصالحها مقارنة بأغلب منافسيها في قدرتها على اختراق الأسواق بشكل افضل. وتؤمن سياسة تحرير التجارة واقتصاد السوق والعولمة الأطر المناسبة لزيادة ذلك الفرق في القوة بشكل عام، رغم استفادة بعض الدول الأخرى من تلك الأطر في حالات خاصة. كذلك تؤمن تلك الأطر هراوة قوية لضرب اقتصاد أية دولة قد تجد من مصلحتها أن تنحو نحواً إجتماعياً في اقتصادها، بعيداً عن حرية السوق.
على هذا الأساس وضعت قواعد منظمة التجارة العالمية وقوانينها واتفاقاتها، كما تم إنشاء نظام "حل الخلافات" بشكل يناسب الولايات المتحدة لقدرتها المتفوقة على إيقاع العقوبات الإقتصادية على الآخرين. بالمقابل فأن الولايات المتحدة لا تسمح لتلك القوانين بعرقلة مصالحها حين تطالب بالمعاملة بالمثل. فقد عملت الولايات المتحدة ونجحت في ردع محاولات منع دعم المنتجات الزراعية، كما أبقت حماية ضرائبية عالية على صناعات النسيج، وكذلك لم تمنع اتفاقيات منظمة التجارة العالمية الولايات المتحدة من اتباع سياسة العقوبات الإقتصادية للضغط على المقابل، والتوصل إلى اتفاقات ثنائية خارج إطار المنظمة وقوانينها، وهي أمور تتنافى تماماً مع روحية حرية التجارة التي تدعو لها.

كذلك أصرت الولايات المتحدة على أن تدخل في مفاوضات منظمة التجارة العالمية اموراً تعد من القضايا الداخليلة الخاصة بكل بلد، مثل مستوى أجور العمل وشروط حماية البيئة، ووضعت على الصين شروطاً عديدة لصياغة سياستها الإقتصادية، قبل قبول انضمامها إلى المنظمة. وغالباً ما تشترط المنظمة على الساعين لدخولها أيضاً السرعة في التغيير، رغم الإضطرابات الداخلية التي تصاحب ذلك التغيير في الهياكل الإقتصادية لدى العضو المرشح. وكان على الصين وغيرها، قبول شروط وقوانين لم يكن لها فرصة في كتابتها ومناقشتها، فكما يقال، فان منظمة التجارة العالمية "صنعت في الولايات المتحدة" (وإلى درجة أقل، في اليابان وأوروبا).
وجرى نفس الأمر في تحرير حركة النقد، حيث كان معروفاً مسبقاً أنه يخدم بشكل خاص البنوك الأمريكية الكبرى، وهو ما حدث بالفعل، والذي يتيح لأميركا المزيد من القدرة على فرض الشروط التي تناسبها في التعامل المالي الدولي.

وفي سعيها لتثبيت تفوق قوتها، سعت الولايات المتحدة أيضاً إلى "تحرير" نفسها من الإلتزامات القانونية الدولية. ورغم أن كلينتون وقع بعد لأي على الإتفاقية لإنشاء "المحكمة الجنائية الدولية" التي تهدف أساساً إلى محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فأن جورج بوش الأبن سحب ذلك التوقيع، وخاضت إدارته حملة كبيرة من الضغط على الدول الأخرى لرفض توقيع الإتفاقية أو حتى سحب توقيع الدول التي فعلت ذلك. ولعل تذكر تلك الحقائق يبين النفاق الذي لا تتورع عنه الولايات المتحدة حينما تطالب باحترام تلك المحكمة في لبنان والسودان وصربيا وغيرها.

ورغم أن الإدارت الأمريكية التي سبقت بوش الإبن، سعت جميعاً لتثبيت التفوق الأمريكي، إلا أن إدارة هذا الأخير سعت لتحرير أميركا من قيود القوانين الدولية، وحتى قوانينها الخاصة، التي تحدد "حرية حركتها" في هذا السعي نحو القوة. فرفضت تلك الإدارة أتفاقية كيوتو لوقف التصاعد الحراري للأرض، دون حتى تقديم بديل، بل عملت على تشويه سمعة من يدعو إلى ذلك داخل الولايات المتحدة نفسها، وخاضت حملة نشطة لتشويه سمعة المحكمة الجنائية الدولية والضغط على الدول لرفض توقيعها، ووقفت ضد الجهود الساعية لتقوية اتفاقية منع الأسلحة البيولوجية وعارضت الجهود الدولية التي هدفت إلى وضع اتفاقية لتحديد بيع الأسلحة الصغيرة، وكررت الرفض الأمريكي لوضع اتفاقية لمنع الألغام الأرضية.
وكانت 11 سبتمبر فرصة لفرض المزيد من الشروط والضغوط على المجتمع الدولي وحصر خياراته بين تاييد سياسة الولايات المتحدة، أو "دعم الإرهاب"، وشرعنة "الحروب الإستباقية" وغيرها من المفاهيم الخطرة، والتي رأتها إدارة بوش تخدم سعي الولايات المتحدة للتفوق وإبقائه بعيداً حتى عن طموح الإقتراب منه.

يلاحظ الكاتب (ستيفان والت) أنه في عالم يتكون من دول مستقلة، فأن الأقوى بينها يعتبر دائماً مصدر تهديد محتمل، على الأقل لأن الآخرين لا يستطيعون معرفة ما ينوي هذا القوي أن يفعله بقوته. في عام 2000 حذرت روسيا في تقرير أمني لها من "محاولات لحلق هيكل علاقات دولية يستند إلى سيطرة الدول الغربية المتقدمة... وتحت قيادة أمريكية، مصمم لشكل إحادي من الحلول، بضمنها إستعمال القوة، وفرضها على القضايا المفتاحية الهامة في السياسة الدولية". وأشار بوتين لاحقاً أن الأمريكان "لا يريدون أصدقاءاً، بل تابعين".

ولأن لكل دولة خصائصها المميزة، فليس هناك مفر من أن تتظارب المصالح، فالدول البحرية ترى الأمور بشكل مختلف عن تلك التي ليس لها سواحل، ويناسب كل منها شكل مختلف لـ "قانون البحار"، مثلاً. وهكذا تريد الدول الغنية خفض الحواجز الكمركية قدر الإمكان ، بينما لا يناسب ذلك الدول الأفقر أو الأقل تطوراً التي ليس لبضائعها وشركاتها اية فرصة في المنافسة في سوق مفتوحة.
ومن الطبيعي ان تخشىى الدول الأضعف أن لا تستطيع حماية مصالحها بحضور قوة تفوقها كثيراً. لقد عبر عن ذلك الوضع رئيس الحكومة الكندية السابق بيير ترودو حين قال: "العيش إلى جانب الولايات المتحدة يشبه النوم مع فيل في سرير واحد، فمهما كان لطيفاً، فأن أية حركة منه تؤثر عليك بشدة". ويقول الكاتب أنه في كل الأحوال فأن "من الحماقة أن تفترض الأمم الأخرى ، أن الولايات المتحدة لن تتصرف بطريقة تؤذيهم". ثم يمضي الكاتب ستيفان والت في انتقاد ملطف لسياسة أميركا في الشرق الأوسط ومناقشة الفرضيات الوهمية التي أكدتها إدارة بوش بأنهم "يكرهوننا لما نحن عليه" وليس لتصرفاتنا، وحاول تحديد مصادر الكراهية لأمريكا، وأسباب التدهور في مكانتها الدولية منذ عام 2000.
وأشار الكاتب إلى أن بن لادن نفسه قال في عام 2004 أنه ليس من الصحيح أنه وجماعته يحاربون الولايات المتحدة لأنهم يكرهون حريتها، وإلا لضربوا السويد مثلاً". وكذلك فأن التفجيرات في اسبانيا لم تكن بسبب كره التراث والثقافة الإسبانية، بل بسبب دعم اسبانيا لإحتلال الولايات المتحدة للعراق. ويقدم إيفان إيلاند أمثلة عديدة في العدد 306 من "تحليل السياسة" في مقالة له بعنوان "حماية الوطن: أفضل دفاع هو الإمتناع عن الهجوم"، تبين العلاقة بين الفعاليات الأمريكية والعمليات الإرهابية، فإسقاط ليبيا لطائرة بان أميركان، كان رداً على قصف الولايات المتحدة لها عام 1986، والهجوم على السفينة الحربية "كول" عام 1999 كان رداً على بقاء تواجد القوات الأمريكية في السعودية، وتم قصف القاعدة العسكرية الأمريكية في اليابان بالصواريخ عام 1991 بسبب المعارضة الشعبية لتواجد تلك القوات في اليابان، وأمثلة عديدة أخرى.

ويبين الكاتب أن التأكيد بأن تلك الهجمات كانت بسبب "ما نحن عليه" ليس سوى طريقة للتهرب من الشروط التي تضعها على السياسة الأمريكية إن هي واجهت حقيقة أن تلك الهجمات ناتجة عن تلك السياسة نفسها، مشيرا إلى حقيقة أن "الولايات المتحدة ساعدت على إسقاط ما لايقل عن تسعة حكومات منتخبة بحرية" (إيران 1953، كواتيمالا 1954، غينيا البريطانية 1953\ 1964، اندونيسيا 1957، الإكوادور 1963، البرازيل 1964، جمهورية الدومنيكان 1965، كوستاريكا في الخمسينات، وشيلي 1973)  في الوقت الذي تغض الطرف عن الأعمال الوحشية التي تقوم بها الدكتاتوريات الصديقة في الشرق الأوسط وغيره.
وقد أدت سياسة الولايات المتحدة  في أميركا اللاتينية إلى كراهية شديدة لها من شعوب تلك الدول، على العكس من ذلك الذي حدث في الدول التي ساعدت على تحريرها في الحرب العالمية الثانية.
ويشير الكاتب إلى العنجهية الأمريكية بمثال قول بوش الأب بأنه "لن يعتذر عن الولايات المتحدة، ولا تهمني ما هي الحقائق" عندما ثبت أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت وراء إسقاط طائرة الركاب الإيرانية ومقتل جميع من فيها عام 1988، ملاحظاً أن هذا النفاق يؤكد أن الولايات المتحدة تعتبر ضحايا سياساتها ذات قيمة أدنى. ويقول أيضاً، "أن الولايات المتحدة قد تدفع ثمناً غالياً وغير مبرر، بسبب معاملتها لبقية العالم وكأنهم مجرد حجرات عثرة في طريقها" يجب إزاحتها. وأن ما ينطبق على العالم من قوانين لا ينطبق عليها، (رافضة مثلاً تنفيذ حكم المحكمة الدولية عليها بشأن تعويض أثر نشاطاتها التخريبية في نيكاراغوا في الثمانينات من القرن الماضي)، ولا تعترف بالتشابه الأخلاقي بين اعمالها "المؤسفة ولكن الضرورية" حسب وصفها، وبين الأعمال "الوحشية غير المبررة" لأعدائها. لكن هذا المقياس المجحف، وإن كان يصلح لتسويق السياسة داخليا، فهو لا يخدع الضحايا، كما أن ضحايا الاعمال الوحشية تبقى تتذكر معاناتها لمدة أطول بكثير مما يتذكره من قام بتلك الأعمال. لهذا كله تزايد شعور بالعداء تجاه أميركا والإحساس بتهديدها لإستقلالية الدول الأخرى، وصار على الولايات المتحدة أن تتعامل مع هذا الواقع، وعلى تلك الدول أن تبحث في أساليب التعامل مع دولة عظمى تعتبرها عدائية وخطرة.

كتب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق في ولاية بوش الإبن، وأحد أشد الداعمين للتطرف في العدوان الإسرائيلي، بول ولفوتز، وقبل توليه ذلك المنصب ببضعة اشهر، بأن استلام قيادة العالم يتطلب: " أن يتضح للجميع بأن أصدقاءنا ستتم حمايتهم ورعايتهم، وأن اعداءنا ستتم معاقبتهم، وأن الذين سيرفضون دعمك، سوف يرون اليوم الذي يندمون فيه على ذلك".
وهو ما يعني أن الولايات المتحدة لا يهمها ما يفكر به الآخرون، ماداموا "غير قادرون على إيذائنا"، فتفوق القوة الأمريكية سيحمي أميركا من تلك المشاعر السلبية التي تتزايد ضدها في العالم، بافتراضهم.

لكن هل هذه هي الحقيقة كلها؟ في الجزء الثاني من المقالة سنتعرض إلى "إستراتيجيات الممانعة" المتاحة أمام الدول لرعاية مصالحها في مواجهة قوة عظمى، وفي الجزء الثالث سنتطرق إلى "إستراتيجيات المصاحبة" لتحقيق ذلك الغرض.

109
المالكي يقول أنه وقع المعاهدة تحت تهديد بإسقاطه!

صائب خليل
19 مايس 2011

في مؤتمره الصحفي في 11 مايس الجاري،(1) والذي نقل تلفزيونياً بشكل مباشر، قال السيد نوري المالكي كلاماً لم يتم الإنتباه لما كشفه من أمور شديدة الخطورة، قال:

"أما قضية التمديد والإنسحاب، نعم هذه تقدرها الحكومة. ولكن هنا كما قلت في المرة السابقة يوم عقدنا إتفاقية سحب القوات، كان عدنا أيضاً مجلس وطني، اللي صارإسمه مجلس السياسات، كان سابقاً رئيسه السيد رئيس الجمهورية.
قلت لهم هذه قضية وطنية كبرى لا أريد أن أتحمل مسؤوليتها أنا. المجلس الوطني، طرحت عليهم القضية وكانت الإتفاقية في النسخة الأولى مالتها، اللي أنا وقتها قلت "أقطع إيدي إذا أوقع مثل هكذا إتفاقية".
جلستين مجلس الأمن الوطني يناقش، خلص إلى نتيجة، الذين يطالبون بالشراكة ، والذين يحاسبون رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة إذا ينقل آمر فوج، وهي مسؤوليته، إذا يغلق مطار بناء على معلومات خطيرة إجتنا إذا تتذكرون مرة على أنه أكو طائرة مختطفة وقد تضرب الإمام علي عليه السلام، يعترضون علي شلون تعمل هذا ما تخبّرنا.." (حوالي الدقيقة 47 من الخطاب).
إنتهى الجزء الأول من اقتباس خطاب رئيس الوزراء.

خطاب رئيس الوزراء هذا كشف بشكل كبير ما يدور في الخفاء، وكيف يتعامل الساسة العراقيون مع بعضهم البعض بعيداً عن انظار الصحافة، وما هو مستوى الثقة بينهم، وأن التآمر هو الصفة السائدة بين الكتل وليس "التشارك"، الذي لا اتصور أن عراقياً يصدقه.
فيما عدا بعض الشرفاء، فالصورة بشكل عام لمجموعة من الأشخاص تهرب من المسؤولية في لحظة المسؤولية، فلماذا جاءوا إلى الحكم إذن؟ لا يبقى عندي تفسير لذلك سوى الرواتب والمنافع الضخمة، وما يستلمه العملاء منهم من أسيادهم لقاء تمرير أجندات تخدم الأسياد ولا تخدم العراق. وهو ما يجعل بناء وحدة "شراكة" وطنية، لا يعني إلا أن تقدم للعراق حكومة مشلولة، توافقت الأطراف المختلفة عليها رغم اختلاف مواقفها وآرائها وعدم وجود أية أجندة مشتركة بينها، وعدم الثقة بينها وتضارب مصالحها بشدة إلى حد التآمر والخوف كل من الآخر. حكومة لا يمكن ان تتفق على شيء يمكن أن يبني البلاد. بهذا الوصف فأن تشكيل حكومة الشراكة يعتبر جريمة بحق الشعب العراقي من جميع من سعى إليها، وبخاصة من ضغط من أجلها!

لكن هذا ليس سوى المقدمة لما هو أخطر وأدعى للقلق الشديد، إستمر المالكي:

"...فلما خبرتهم على قضية الإتفاقية، قالوا هذي مسؤولية الحكومة! لأنه قالوا إن وقعها وطلعت خطأ، سقط. وإن لم يوقعها سقط.. آني هذا المنطق ما اريده.... "

الجملة الثانية تشير إلى أن رئيس الوزراء، كان يعتقد لحظة توقيع المعاهدة مع أميركا عام 2008، أنه "إن لم يوقعها سيسقط!" ومن المحتمل تماماً، ان تقديره لما يفكر به بعض، إن لم يكن جميع، بقية شركائه في الحكم ، بأن رئيس الوزراء "إن لم يوقع الإتفاقية فسوف يسقط".

لاحظوا أننا أمام حكومة تجد نفسها أمام توقيع اتفاقية مع دولة أجنبية، وان لهذه الدولة الأجنبية القدرة على إسقاط الحكومة إن لم ترضخ الحكومة وتوقع! إنه أقرب إلى توقيع وثيقة استسلام منها إلى "إتفاقية".

إضافة إلى ذلك فأن جميع أطراف هذه الحكومة تعي ذلك الأمر الخطير، ورغم ذلك لا يبادر أحد منها إلى محاولة إصلاح الوضع، كأن يقترح تخليص الحكومة من قبضة تلك الجهة باللجوء إلى الإستفتاء مثلاً، أو أن تجتمع أطراف تلك "الحكومة" مع بعضها للتخلص من هذا الوضع الخطير وتخليص البلاد من نتائجه، أو أن يلجأ إلى فضح الوضع الخطير في الصحافة لتفهم الناس ما يجري من مؤامرة للضغط على حكومتها وممثليها المنتخبين، لكنهم بدلاً من ذلك يحاول كل منهم تجيير هذا المأزق الوطني لصالحه، في صراعه مع الطرف الآخر، ولتذهب البلاد إلى الجحيم!

ويبدو أن المالكي وجد نفسه تحت المطرقة، فاختار ان يوقع في النهاية، بعد إجراء بعض التعديلات، فقد كان يرى الموقف الذي وضعه فيه زملاؤه في الحكومة والبرلمان، حسب كلامه، أن - لا مفر من سقوط الحكومة إن لم يوقع! فهو يقول (ناقلاً رأي زملائه): " إن وقعها وطلعت خطأ، سقط. وإن لم يوقعها سقط."
أي أنه في حالة عدم التوقيع فالسقوط حتمي، وليس مثل حالة التوقيع، حيث هناك احتمال أن "تطلع خطأ" أو صح!

الآن نحن بصدد "مناقشة" لتوقيع "إتفاقية" جديدة، من نفس النوع، ومع نفس الإحتلال. رئيس الحكومة نوري المالكي وأعضاء حكومته والناطق الرسمي قالوا وكرروا أنهم ضد توقيع أي تمديد لأي جندي أمريكي في البلاد، وفجأة تتغير اللهجة، وتصبح هناك "أفكار" وضرورات للمناقشة وسؤال العسكر وغيرها، فما الذي تغير خلال أسابيع قليلة؟ وكيف تحول الجيش الكافي لحمايةالبلاد بكل ثقة، بل الجيش المتزايد فوق الحاجة إليه، إلى غير قادر على الدفاع عن البلاد أمام أخطار وهمية لا يكلف أحد نفسه بالحديث عنها، خاصة بعد أن أصبح وزير الدفاع العراقي مسخرة حين تحدث عن أخطار القراصنة الصوماليين، ولم يعد أصحاب "الفصل السابع" يجرؤون على ذكره؟ ما هي الأخطار الجديدة التي استجدت خلال أسبوعين أو ثلاثة لتقلب موقف الحكومة من الرفض القاطع الواثق، إلى ترك الأبواب مفتوحة لكل الإحتمالات؟ هل كان وجود بن لادن يضعف الإرهاب ، فازداد قوة بعد مقتله؟ هل انخفضت قوة الجيش فجأة؟ وكيف نفسر ازدياد التفجيرات والفضائح الصادقة والإشاعات الكاذبة والإشكالات مع "رفاق" الداخل في الحكومة والتوتر والحصار مع دول الجوار المرتبطة بأميركا، كلما لاحت بوادر الإتجاه إلى قرار لا يناسب ما يريده الأمريكان؟

لقد وقع رئيس الوزراء العراقي المعاهدة السابقة، عن قناعة أو غير قناعة، إنما فعل ذلك بالتأكيد، وهو يشعر بالتهديد بالإسقاط كما يقول. والآن تتكرر نفس الأجواء السياسية والأمنية المتوترة التي رافقت ذلك التوقيع سيء الذكر، ولا يستبعد أبداً أن المالكي سيعود بعد بضعة سنين ليخبرنا قصة مشابهة لما تحدث به اليوم عن الحالة التي وقع بها الإتفاقية المشؤومة. وسواء كنا نلومه على التوقيع، ونطالبه بالمخاطرة وكشف الحقائق أمام الشعب في وقتها وليس بعد انقضاء الأمر، أم كنا نتفهم ولا نطالب أحد أن يكون بطلاً ما لم يكن من نفسه، سواء كنا نثق بالمالكي أو لا نثق به، فمن واجب الشعب إن أراد الدفاع عن مصالحه ومصالح بلاده، أن يحرص على أن يختار ممثلوه قراراتهم بلا ضغط من أية جهة غير الشعب نفسه، وبالتأكيد أن لا يسمح الشعب أن يوضع ممثلوه في ظرف يحتم عليهم القيام بخياراتهم الخطيرة للبلاد، وهم يشعرون بحد السكين على رقابهم. من يتغاضى عن ذلك، ويترك حكومته تحت رحمة الضغط والتهديد في قراراتها، يفرش طريق الفساد والعملاء وعديمي الضمائر لحكم مستقبل بلاده، ويفقد حقه في المطالبة بأي شيء، او الإحتجاج على أي شيء مستقبلاً. "من لديه كلام فليقله الآن، او ليصمت إلى الأبد".

(1) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=5061

110
جدل بقاء القوات الأمريكية – نقاش ام حرب نفسية؟

صائب خليل
16 أيار 201

نيويورك في الثلاثينات من القرن الماضي.. يدخل شاب انيق الملبس إلى محل البقالة ويسأل صاحب المحل إن كان يريد تأميناً ضد الحريق، فيجيبه الرجل أنه ليس بحاجة لذلك، فليس هناك سبب لتوقع حصول حريق في محله. وبعد بضعة جمل مبهمة غير مباشرة، يفهم صاحب المحل أنه أمام رجل مافيا يهدده بحرق محله إن لم يدفع "الخاوة". بعد دقيقة تردد يلعب المسدس الذي يتعمد الشاب إبرازه من تحت قماش سترته، دوره في حسم القرار ويوقع صاحب المحل ورقة "التأمين ضد الحريق".
حين يعود إلى المنزل يقول لزوجته وكأنه يحاول إقناع نفسه: "من يدري، ربما نحن فعلاً بحاجة للتأمين ضد الحريق".

ليس الرجل ملاماً، فليس سهلاً على رجل أن يعترف بأنه خائف..إنها التركيبة الإنسانية منذ القدم ، ولازالت كماهي. رسول حمزتوف يخبرنا بحكمة داغستانية تقول: ما هو اشد المشاهد بشاعة؟ رجل يرتجف خوفاً. وما هو أشد منه بشاعة؟ رجل يرتجف خوفاً. وما هو أشد من ذلك بشاعة؟ رجل يرتجف خوفاً!
ينتظر من الرجل أن يكون شجاعاً مستعداً للتضحية، فذلك ما يؤمن سلامة عائلته، إنها حكمة الطبيعة. ورغم ذلك نتفهم موقف صاحب البقالة، فنموذج الرجل القادر على الإرتفاع فوق الخوف وهو يواجه هول المافيا، نادر. لا نستطيع أن نطالب أحد بأن يكون بطلاً، لكننا قد نطالب البقال أن يقول لزوجته "أسباب" موقفه بصراحة لتفهم ما يدور حول عائلتها من خطر، لا أن يخلق لها حججاً ويسميها "أسباباً". 

"الأسباب" التي يطرحها دعاة بقاء القوات الأمريكية في العراق، أو حتى دعاة مناقشتها، ليس بينها ما يمكن ان يسمى سبباً، لكنها قد تصلح ان تكون حججاً لإقناع النفس على الأقل.
لم يكن الأمر مختلفاً قبل اكثر من عامين، ولعل "السبب" الذي قدمه وزير الدفاع العراقي للتوقيع هو "خطر القراصنة الصوماليين" الذين سيصعدون في شط العرب على ما يبدو، إن لم نوقع المعاهدة!
في البداية رفض المالكي توقيع ورقة "تأمين الحريق"، رغم تغيير نصوص العقد مرات عديدة، وتغيير اسمه إيضاً. لإقناعه، جاءوا له بضابط كبير في المافيا. وخرج المسدس من خلف قماش السترة وأطلق النار على النائب الدكتور صالح العكيلي، وارداه قتيلاً. غير الرجل رأيه أخيراً ووقع، وقال لنا أننا " بحاجة فعلاً إلى التأمين".

اليوم يعود الشاب الأنيق الى العراق يحمل وثيقة تأمين جديدة...ويتتالى ضباط المافيا الكبار لزيارة "محل البقالة".
يحاول من يريد التوقيع، ان يقنعنا، بأن "الحريق" يهددنا فعلاً ، ويبدو خائفاً بصدق من "الحريق"! فقد أقنع نفسه قبل أن يأتي ليقنعنا:
 
 "ضروري لحماية الديمقراطية"..
" قواتنا لم تكتمل بعد" ... 
"عليهم التزام أخلاقي"...
"ليست لدينا حماية لسمائنا"...
"الدعم اللوجستي" 
"القاعدة"... 
"البعث"...
"جيش المهدي"..
"صداقة أميركا ضرورية لنا" ...
"الإقتصاد"..
"الفصل السابع" 
"ضمان ضد الإحتقان الطائفي" ..
"حمايتنا من دول الجوار"

(هذه قائمة مشتريات لا يجب أن نسمح للمحتل ان يغادرنا قبل أن يكملها لنا! ..يقول لنا المطالبون بالبقاء..)

ثم تسأل:
حماية الديمقراطية؟ أية ديمقراطية حمى هؤلاء؟ سفارة من، كانت تتدخل في العملية الإنتخابية وتضغط على المؤسسات الدستورية والقضائية؟
إكتمال القوات؟ ماذا يعني أن "تكتمل القوات"؟ هل هناك حدود تكتمل فيها القوات؟ من يطلب من إحتلال أن يكمل له قواته وكل شيء قبل رحيله؟
ملزمين أخلاقياً؟ ألست أنت الذي تبرر جرائم أميركا على قاعدة "لا اخلاق في السياسة"؟ فكيف تنتظر منهم تنفيذ التزام اخلاقي؟ متى فعل جيش احتلال ذلك؟
ومن الذي يهدد سماءنا؟ هل لدينا اراض تطالب بها دولة أخرى؟ أم أننا سنخوض قادسية لتحرير عربستان؟ أم أن القوات الأمريكية ستساعدنا على استعادة ما استقطعته وتستقطعه الكويت او السعودية أو الأردن، أحبة حامينا الجديد؟
قاعدة؟ أية قاعدة، وأي عفاريت صوماليين؟... يفترض بعشيرة كبيرة أن تخجل من الخوف من هؤلاء، فأية دولة هذه التي تخاف ان تترك وحيدة أمام هذه الأشياء؟
البعث؟ ومن الذي تفاوض مع البعث في اسطنبول رغما عن الحكومة، ومن الذي يفرض مصالحة البعث ومن دعم قائمة البعثيين الأولى؟
"جيش المهدي"؟ إنها مراوغة وكذبة كبرى، فقد قالوا أنه سيعود فقط في حالة بقاء الأمريكان وليس مغادرتهم...
صداقة؟ ولماذا "صداقة أميركا" لا تكون إلا بوجود بساطيل جيشها فوق كرامتنا؟ هل من صديق يشترط ما يهين كرامة صديقه ليقبله؟
الإقتصاد؟ هل عملوا على تحسين الإقتصاد أم على تدميره؟ من سرقات بريمر الهائلة إلى دعم كل الفاسدين الكبار وتهريبهم إلى اميركا عند افتضاحهم إلى فرض شروط صندوق النقد الدولي المدمرة إلى الدفع إلى الخصخصة اللصوصية والإستثمار الأجنبي وعقود النفط الفضيحة في كردستان ...
الفصل السابع؟ ألم يعدونا بإخراجنا من الفصل السابع إن وقعنا المعاهدة؟ الم تجعلوا رؤوسنا طبولاً حول خطورة هذا الفصل؟ لماذا نسيتموه فور توقيع المعاهدة؟ هل هو الجزرة التي سيبقى الحمار يقبل أن يساق من معاهدة إلى معاهدة على أمل ان يحصل عليها؟
إحتقان طائفي؟ أي احتقان طائفي هذا الذي أوقفه الأمريكان؟ هل سنصبح أقل طائفية عندما نراهم مثلاً؟ لكننا لن نراهم على كل حال، ألا يفترض أنهم سيبقون في قواعدهم بعيداً عن المدن، فكيف سيحموننا من جنوننا الطائفي من بعيد؟ ثم أليس الكثير من الإحتقان الطائفي بسبب وجود الأمريكان واتهام كل للآخر بالعمالة له؟
قبولنا في المجتمع الدولي؟ أليس من أكبر صعوبات قبول العراق في الخارج أن البعض يعتبر حكومته تحت الإحتلال؟
يحموننا ممن؟ هل ننتظر أن يهاجمنا أحد؟ هل هناك مؤشرات على ذلك؟ ألم تقولوا أن القوات "المقاتلة" غادرت جميعاً فكيف سيدافع عنا هؤلاء "المدربين" الـ 47 الف (!) وهم ليسوا قوات "مقاتلة"؟ كيف سيحمونا من القاعدة والطائفية والجوار ... ؟


ربما تشعر بالسعادة بأنك أجبت عن كل التساؤلات، وكشفت كل الحقائق، لكنك تكتشف ان الرجل الذي أمامك لم يكن يستمع إليك منذ فترة... وتكتشف ان الموضوع ليس له اولوية عنده، وأن "مخاوفه" لا تهمه، وأن القضية كلها ليست قضية نقاش وأسباب ومحاججة وإقناع، فالمقابل ليس سوى خائف يبحث عن حجة تعفيه من الإعتراف بأنه خائف..!
خائف ممن؟ حسناً..المقال الذي اقتبست منه معظم "الأسباب" لإبقاء القوات أعلاه، ينتهي بـ "السبب" التالي:

"وجود القوات الامريكية في العراق قد يؤدي الى مزيد من الاستقرار، ويعزز العملية السياسية، عندما تشعر الولايات المتحدة بالاطمئنان الى توجه العراق نحو علاقة ستراتيجية معها. "

فالموضوع هو ليس لحمايتنا من أخطار قد تحدث لنا، وإنما الهدف من التمديد هو طمأنة أميركا أننا سنكون دائماً في "علاقة ستراتيجية" معها، "علاقة ستراتيجية" لا يمكنها أن تقنعنا بها إلا بوجود قوات عسكرية تخيفنا بها إن رفضنا تلك العلاقة يوماً أو طلبنا تغييرها أو قلنا أنها لم تكن ما اتفقنا عليه! قوات تستطيع ان تحدد بواسطتها تفسيرها للبنود وشروط تنفيذها وكل ما ترك غامضاً.

مثلما صدع هؤلاء رؤوسنا بضرورة توقيع المعاهدة للخروج من الفصل السابع، ثم نسوه تماماً فور التوقيع، فأنهم سينسون كل هذه "الأسباب" المزيفة فور توقيع معاهدة بقاء جديدة، وتمضي الأمور كما هي: إرهاب وتخويف وعرقلة عمل الحكومة واغتيالات غير مفسرة وسرقات كبرى وانتخابات مزورة وسفارة تحكم البلد من وراء الستار، مدعومة بجيش عند الحاجة، واحتقار دولي وشعور داخلي بالإحباط والقهر يتم تغذيته حتى في برامج التلفزيون والكليبات بين البرامج. سينسى هؤلاء "الخائفون" كل مخاوفهم، لأنهم يعلمون في داخلهم أن الخوف الوحيد الحقيقي لديهم كان من غضب أميركا، وأن هذا تم إرضاؤه، اما بقية "الأخطار" و "المنافع" فقد أدت غرضها وذهبت، تماماً كما أدت حجة الفصل السابع غرضها في توقيع المعاهدة، وذهبت!

ليس كاتب المقال اعلاه وحده من يشعر بالحاجة "لتطمين أميركا" بأننا سنبقى "عقّال" وتحت تصرفها، فلو راجع كل مؤيد لتمديد القوات نفسه بصدق، لأكتشف أن ما يخيفه من رفض التمديد ليس فقدان الحماية الأمريكية من خطر ما، وإنما الخوف من إغضاب أميركا نفسها! إنشغاله بدرء غضب أميركا يجعله ينسى خطر غضب أغلبية سكان العراق الذين يشعرون بالحيف والإمتهان، وخطر التوتر الإجتماعي الهائل الذي يهدد البلاد ببقاء قوات الإحتلال، والذي لمح إليه المالكي والناطق باسم حكومته قبل أسابيع قليلة عندما كان خطابهم رافضاً بوضوح. من يريد بقاء القوات، ودون أن يدري، يقبل بإبقاء العصا فوق رأس العراق ليطمئن أميركا أننا سنكون طوع إرادتها دائماً.

عندما نفهم أميركا، وقد فهمناها جيداً خلال هذه السنين القليلة المرعبة، فليس غريباً أن يخاف المرء منها. رغم التصريحات التمويهية الكثيرة، لا يشك أحد أن الأمريكان يريدون وبشدة، إبقاء جيشهم في العراق. لا تتضح تلك الإرادة فقط من خلال تكاثف زيارات المسؤولين الأمريكان الكبار هذه الأيام للعراق، بل أيضاً من كثرة التقارير التي تؤكد للقادة العراقيين أنه من الضروري لهم أن يبقوا على بعض الجيش الأمريكي في العراق ودعوات السياسيين والعسكريين الأمريكان لهم لإستعجال تقديم طلبهم لتوقيع "تأمين الحريق". وبالطبع فعندما توافق على إبقاء الف جندي، سيبقون عشرة ألاف، فليس هناك من سيحصي أؤلئك الجنود، والغش في هذا معروف تاريخياً، وحدث في فيتنام وغيرها. لذلك هم بحاجة إلى اتفاقية ما، لا يهم العدد الذي تضعه على الورق. سيضعون على الأرض ما يريدون في النهاية.

السؤال الذي يجب أن لا يغيب عن بال أحد هو: لماذا يريد الأمريكان بهذا الإصرار بقاء قوات لهم في العراق؟ إن تجاوزنا الأساطير وقصص الأطفال، فليس لدي تفسير أفضل من أنهم يتوقعون اصطداماً بين ما يخططون له للعراق، وبين حكوماته القادمة. وهذا يعني أنهم يتوقعون أن مخططاتهم لن تكون مقبولة من قبل حكومة ليست عميلة لهم، قد تأتي بها الديمقراطية، وأنه لن يكون هناك سبيل لتنفيذ تلك المخططات إلا بالقوة أو التهديد بها. في هذه الحالة فقط تأتي أهمية القواعد العسكرية لتأمين مصالحهم.

لا يوجد مكان تساعد فيه القواعد العسكرية على بناء "صداقة"، بل تثير الحساسيات والكراهية اينما وجدت، وهذا الأمر المفهوم والبديهي قد تم تثبيته مؤخراً في دراسة صدرت قبل أيام لـ "مدرسة لندن للإقتصاد والعلوم السياسية" و جامعة إيسيكس، (1) والتي تثبت أن الهجمات الإرهابية الأجنبية على المواطنين الأمريكان تتزايد مع زيادة التواجد والدعم العسكري للولايات المتحدة لحكومات بلدانهم، وهذا صحيح أيضاً في أوروبا حيث طالما تظاهرت شعوب هذه البلدان مطالبة بخروج القواعد الأمريكية التي فيها، ثم سكتت على مضض، وليس عن رضا واقتناع، أما في اليابان فقد اسقطت الحكومة وجاءت الإنتخابات بحكومة شعارها الأساسي هو إنهاء التواجد العسكري في قاعدة امريكية في اليابان، (وكالعادة أزيحت الحكومة المنتخبة وبقيت القاعدة). إذن القواعد الأمريكية لا تخدم أية علاقة "صداقة" أو تعاون، بل تسيء إليها، فلماذا تصر أميركا إذن على قواعد لها في العراق؟ أترك الجواب للمتحمسين لبقاء القوات.

هذه هي حقيقة علاقتنا مع أميركا، وكل من يتحدث عن الصداقة التي تحتاج قواعد عسكرية لحمايتها يوهم نفسه. فطريق الصداقة مختلف، يحتاج ظروفاً مختلفة وتوازناً مختلفاً وحاجات مختلفة. إننا كمن يجد نفسه أمام لص لص يصوب مسدسه نحو رأسه ويأمره أن يطيع. نحن خائفون من أميركا وليس من أن نفقد حمايتها. إن كنت تشك في ذلك فتخيل للحظة أن أميركا اختفت من الوجود، ألا تشعر بأن كل العفاريت التي نحتاج لأميركا لتحمينا منها، ستختفي من رأسنا فجاة ، وتصبح تلك الأخطار "سخيفة" ومخجلة، وسيرقص الجميع طرباً؟ أميركا لن تختف طبعاً، إنما هذا الخيال يساعدنا على ان نفهم انفسنا ومشاعرنا الحقيقية، وأن نعترف بهذه الحقيقة أولاً لنفهم أين نقف، وما يجب أن نفعل.

حسناً، إعترفنا، سيقول القارئ..ما العمل الآن؟

شاهدت قبل فترة برنامجاً للشرطة ، كان يقدم النصح لمن يتعرض لحادث سطو مسلح، وكيف يجب أن يتصرف لضمان أكبر فرصة للنجاة. النصيحة تقول، حاول أن تبقى هادئاً ولا تصاب بالرعب لتبقى قادرا على التفكير، لا تثر المسلح ولا تتصرف بتهور، اعطه ما معك من المال، لكن إن طلب منك أن تذهب معه إلى مكان آخر، فهنا عليك أن تحاول الرفض أو الهرب وربما المقاومة! وليس هنا موضوع بطولة ورجولة، بل مسألة سلامة. فعندما يطلب منك أن تذهب معه إلى مكان آخر، فأن هذا يعني أنه يريد جرك إلى مكان بعيد، أنسب له لإرتكاب جريمة دون أن يحس به أحد. تقول النصيحة: فكر بالهرب بالركض بسرعة.. صحيح أن ذلك سيعرضك للخطر، لكن الخطر سيكون أكبر إن ذهبت معه إلى المكان الذي يختاره. ربما يتردد في إطلاق النار عليك إن هربت، كأن يخشى أن يسمع البعض صوت الرصاص، لكنه سيكون اكثر جرأة إن كان المكان نائياً خالياً من الناس...كلما سرت معه أبعد أزداد الخطر عليك، فإن كان لديك فرصة، فهي أن تهرب دون أن تخطو معه أية خطوة!
غالباً ما يجلب الخوف الأمان، لكن في مثل هذا الموقف يكون الخوف والطاعة أكثر خطراً من الشجاعة والرفض. إنها مسألة حساب.

وفي علاقتنا الورطة مع اميركا، ربما تقتنع أميركا بعلاقة يمكننا أن نقبلها إن هي أحست برفضنا الحاسم لوضع العصي فوق رقابنا، وأن إصرارها عليه سوف يكلفها اكثر مما يفيدها، وأن عليها أن تأمل بجني ما يمكن من منافع من خلال المعاهدة الإطارية وتنفيذها بطريقة معقولة لا تحتاج معها إلى قواعد عسكرية لتأمينها بالقوة. فرفض تمديد القوات ليس رفض للعلاقة مع أميركا، إنما رفض ان تكون تلك العلاقة محكومة بوجود قواعد عسكرية فوق رقبتك في البلاد، كما تريدها هي.

ليس لأميركا لتحقيق هدفها في فرض ا لقواعد سوى إثارة الرعب في البلاد، وخاصة بين أصحاب المناصب المؤثرة، وجعلهم يرتجفون من مجرد فكرة غضبها إن لم يوقعوا. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى عليها ان تقدم لمن تمكنت من أصابتهم بالخوف وأرادوا التوقيع، ممراً قليل الإحراج قدر الإمكان، بتغليف هذا الضغط التسلطي بكلمات لطيفة مثل "الصداقة" و "المشاركة" وتقديم بعض المنح الدراسية وزيارة فرق موسيقية مثلاً. أما بالنسبة للعراقيين فليس أمامهم إلا مقاومة تأثير هذا الإرهاب والإصرار على رفض هذه الرغبة المسيئة، ليحتفظوا بقدرتهم على موازنة الضغط ولو بدرجة ما مع أميركا، مما يجعلها تقبل باستغلالهم بشكل أقل.

قبل إرسالي لهذه المقالة بلحظات وصلتني المقالة التالية من الكاتب العراقي الكردي اليساري أمين يونس، اقتبس منها مطولاً:

"سبعة صواريخ كاتيوشا ، سقطتْ على بغداد يوم أمس فقط الأحد 15/5، واحدة في الباب الشرقي واُخرى في البياع ، والبقية في المنطقة الخضراء .. والضحايا كُلهم من قتلى وجرحى كانوا من المدنيين ، أي انها لم تكُن مُوّجَهة بِدِقة الى " أهداف " مُنتقاة لقوات أمريكية أو مقرات قوى أمن عراقية من جيش أو شرطة ... بل كانتْ عشوائية ، الغاية منها الترويع وإحداث خسائر وخلق بلبلة ، وإثبات هشاشة الوضع الأمني . وتشهد بغداد إختراقات أمنية مُتصاعدة ، منذ شهر ، ما بين إنفجار قنابل ناسفة ، او إغتيالات بكواتم الصوت أو عبوات لاصقة ، وعمليات سرقة مُنّظمة وإختطاف (...) والبعض يربط بين التصعيد الحالي وكذلك المُتوقَع في الفترة القادمة ، وبين الانسحاب الامريكي (...). ومن الشائعات المنتشرة في بغداد ، ان رئيس الحكومة نوري المالكي ، والأطراف التي تؤيده ولا سيما الأحزاب الكردستانية ، وبعض أطراف القائمة العراقية والمجلس الاعلى الاسلامي .. يُحّبِذون تمديد بقاء جزء من القوات الامريكية ، من خلال عقد إتفاقية جديدة .. لكنهم بحاجة الى [ مُبررات ] قوية ، تُقنِع عدداً كافياً من اعضاء مجلس النواب ، بحيث يُمكن الحصول على أغلبيةٍ مُريحة ، يستندون عليها ، لإضفاء " شرعية " على الإتفاقية المُزمَع عقدها ... ويتم الترويج في هذه الأيام ، لحقيقة وجود أكثر من 745 قاعدة أمريكية علنية في أرجاء العالم .. من ضمنها قواعد ضخمة في اليابان وألمانيا ، في حين لايستطيع أحد الإدعاء بأن هاتَين الدولتَين الكبيرَتَين ، منقوصَتا السيادة ! .. والتمهيد الى القبول النفسي للإتفاقية الجديدة ، بحجة عدم إكتمال القدرات العسكرية العراقية ، لاسيما في مجال القوة الجوية وحماية الأجواء وكذلك القوة البحرية ، وحاجة العراق الى التقنيات المتطورة للأمريكان ، في هذه المرحلة ... إضافةً الى تصريحات العديد من القادة العسكريين والأمنيين العراقيين ، هذهِ الأيام .. بضرورة " التَرّيُث " وعدم الإستعجال في سحب القوات ، وآخر مثال على ذلك ، طَلَب قائد منطقة البصرة يوم أمس ، عند إستلامه لمُعسكرٍ رئيسي من القوات الامريكية .. طلبهِ من المالكي ، بإبقاء جزء من القوات الامريكية في [ مركز ] مدينة البصرة ، وذلك للحاجة اليها ! .. ناهيك عن تصريح رئيس حكومة اقليم كردستان قبل يومين ، حول إعتقاد حكومتهِ ، بأن إنسحاب القوات الامريكية ، من المناطق المُتنازع عليها أو المُختَلَف عليها ، سيخلق فراغاً أمنياً (...) يعتقد البعض ، ان إستمرار الإنفجارات في بغداد والمحافظات ، وتزايد الإغتيالات وتساقط الصواريخ .. سيُساعد على [ تشجيع ] المواطنين العاديين ، على المُطالبة ببقاء القوات الامريكية في السنوات القادمة .... والمُحّصِلة النهائية لهذا الوجه القبيح من المعادلة ، هو خسارة المجتمع للأمن والخدمات والرفاهية ، من أجل مصالح الولايات المتحدة وحفنةٍ من السياسيين المُنتفعين ." 

أنتهى اقتباس (معظم) مقالة السيد أمين يونس! إنها حرب إرهاب لتحطيم إرادة العقل...
الجميع يعلم من وراء هذا كله، لكن الأغلبية تفضل أن تلقيه على "العفاريت" لتسبها "بشجاعة متناهية"، فالعفاريت طيبة، لا تؤذي من يسبها، تماماً مثلما يفضل من يرتعد من إغضاب أميركا أن يقول أنه يوقع لـ "أسباب" و "فوائد" لينجو من الموت والخجل معاً.

من الواضح إذن أن الجدل حول تمديد بقاء القوات ليس جدلاً في المنطق وليس وزناً للأفضليات والمساوئ، فلا توجد أية أفضليات تستحق المناقشة أمام الأخطار والخسائر الكبيرة للبقاء. كل الأخطار والخسائر، من توتر سياسي وانشقاق شعبي وإحساس بالمهانة وتوتر مع دول الجوار، ومخاطر توريط البلاد في حروب، وفرض حكومات عميلة أو قلب أنظمة ديمقراطية، كلها أخطار واقعية لا يصعب على أي شخص ان يراها، ولها نظائر عديدة في تاريخ التعامل الأمريكي مع مثل هذه الحالات. وبالمقابل، فجميع أخطار الخروج الأمريكي إفتراضية لا أساس لها من الصحة، أو صغيرة بدرجة يستطيع أي بلد مواجهتها.

 الصراع الحقيقي في جدل تمديد القوات إذن ليس في ما يقال، والمنتصر فيه ليس من لديه الحجج الأفضل، بل من ينتصر في حرب الإرهاب والكاتيوشات وكاتمات الصوت، والإبتزازات التي تدور خلف الكواليس في البرلمان والوزارات والسفارة ، مدعومة بالرشاوي والتهديدات، والحرب النفسية وراء الكلمات وبين السطور في المقالات وصياغة الخبر، وما يدعمها من أعمال إرهاب وتصريحات تؤكد الضعف والخطر، وفي ما توحي به البرامج وما بين البرامج في التلفزيون للمشاهد، وما تستطيع ان تبثه فيه من خوف وانعدام الثقة بالنفس من جهة، وبين صمود سلامة منطق وثقة هذا المواطن وذاك السياسي وذلك الإعلامي بنفسه من الجهة الأخرى. لذلك فكل ما يبعث الثقة بالنفس في نفس المواطن العراقي يعتبر حجر عثرة مزعجة في طريق تحقيق المخطط الأمريكي في التعامل مع العراق من خلال القواعد العسكرية.

أخيراً، هل سيكون قادة العراق بالشجاعة اللازمة لحمل البلاد بعيداً عن الخطر؟ لا نستطيع أن نحمّل أي كان فوق طاقته، لكننا نأمل أن يكون لدينا عدد كاف من النواب والسياسيين (والكتاب وغيرهم..) الذين سيصمد فيهم ما يكفي من الشجاعة والمنطق للتعاون ورفض توقيع "وثيقة تأمين الحريق" رغم الكاتيوشات وكواتم الصوت في كفة الميزان والملايين في الكفة الأخرى، وهو أمل نقر بأنه صعب المنال لمعظم الناس. قد يتفهم الشعب ضعف الإنسان أمام مثل هذه المعادلة الخطيرة الإختلال، لكنه لن يتفهم ولن يتسامح مع كل من أسهم في إيجادها أو الترويج لها والإسهام بضرب الواقفين في وجهها أو تنفيذها! نأمل أيضاً ممن يجد أن الرفض فوق طاقته، أن لا يقصف رؤوسنا بحجج عن الحرائق الخرافية المحتملة، وأن تكون له الشجاعة على الأقل ليقول لنفسه وللناس أنه يفعل ذلك لأنه خائف – ليس من الحريق، ولكن من الرجل الأنيق!


(1) US Military Support of Foreign Governments Increases Terror Attacks on US Citizens: Study http://www.informationclearinghouse.info/article28035.htm

111
بن لادن واولاد صدام - لماذا يقتلوهم ولا يلقون القبض عليهم؟

صائب  خليل
11 -- 5 -- 2011



أثار اعلان الرئيس أوباما(1) عن قتل أسامة بن لادن في مقره في باكستان (2)، (والذي كان "مكشوفاً بحيث أنه يفتقر فقط إلى وضع إعلان (3) من النيون على سقفه يقول: هنا القاعدة" ، وفقا لكاتب معروف)، ردود فعل الكثير في جميع أنحاء العالم (4) كذلك أثارت الأجوبة الرسمية حول تفاصيل العملية وأسباب الدفن المتسرع(5) المزيد من التساؤلات، ولم تكن تلك الأجوبة مقنعة ، لا للمسلمين ولا لكثير من الغربيين(6). وتساءل البعض عما إذا كان يجب تصديق حكومتهم (7) (الأمريكية) "بعد كل تلك السنوات من الكذب "، وكتب قصة خيالية تصور بوش(8) يقدم قصة مماثلة عن واحدة من أكاذيبه ، وطلب المقارنة.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الإدعاء بأن أسامة "قتل والقي في البحر" دون أثر ، فلا يسهل تصديق (9): "بأن الحكومة قامت بإغراق دليل على نجاحها في المحيط ، وأنها تمتلك بعض الصور التي قد يتم الافراج ، يوما ما"!

وأثار المزيد من الشكوك والأسئلة، التغيير الكبير في القصة التي قدمها البيت الأبيض عن نسختها الرسمية الأولى.  لم يكن هذا التغيير يهدف لإضافة معلومات جديدة أو توضيح بعض التفاصيل الغامضة ، ولكن تم "الغاء" بعض من المعلومات التي قدمت بشكل محدد وواضح في النسخة الأولى من القصة. وسحب البيت الابيض (10) على ما يبدو بهذه الطريقة محاولة لتصوير بن لادن على أنه شخص جبان (11) يختبئ وراء زوجته، وهي قصة لم يكن سهلاً بيعها إعلامياً. كذلك سحب في النسخة الثانية تماما قصة "القتال الشرس" الذي دار مع أسامة، بل تبين هذه المرة أن أسامة لم يكن مسلحا!
 وقال مسؤولون باكستانيون ان ابنة بن لادن أكدت أن والدها كان على قيد الحياة بعد إلقاء القبض عليه (12)، ثم تم قتله من قبل القوات الخاصة الامريكية.  ونفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (13) ذلك.
وقال رئيس وكالة المخابرات المركزية انه لا توجد لقطات فيديو حية للهجوم (14)! مما "أضاف إلى البلبلة (15) حول حقيقة ما حدث في المجمع".

لماذا صنعوا قصتين من ذلك؟ يمكننا محاولة لتخمين فقط.  ربما أرادوا قصة بطولية مذهلة للمارينز في البداية ، ثم غيروا رأيهم لسبب ما.  أما الصورة الحقيقة فتبدو بعيدة عن البطولة، فـ "الجيش الباكستاني يرسم صورة مختلفة (16) عن الصورة الأمريكية لأسامة بن لادن في خاتمة حياته : صورة بعيدة عن صورته باعتباره "العقل المدبر الارهاب الذي لا يزال يحاول ضرب امريكا"، فهو يؤكد أنه لم يعد إلا "إرهابي شائخ يختبئ في غرفة فارغة ، يفتقر الى المال ويكافح من أجل الحفاظ على قبضته على تنظيم القاعدة ".

وبمناسبة الحديث عن الصور ، أبرز هذا الحدث الدموي، قصصاً عن صور مسلية أيضاً، إليكم هذه القصة : هيلاري كلينتون تمت إزالتها (17) من صورة متابعة العملية، من قبل صحيفة أمريكية يهودية ، والتي تعتقد أن نشر صور النساء في صحيفة "يمكن أن يثير إيحاءات جنسية"!

وهناك صور دموية منها صورة أثارت الكثير من اللغط ، كانت تمثل بن لادن وقد قتل برصاصات في رأسه ، وقد نشرتها وسائل الاعلام "الكلاسيكية" (18) (وليس إعلام "نظريات المؤامرة"!) وقد تبين أنها كاذبة كما اوضحت صحيفة الكارديان (19) . كذلك أتى صحفي باستفسارات منطقية (20) وشكوك حول الصور التي نشرت للمجمع.

كان التفسير الرسمي لكل تلك الأخطاء الرسمية هو "التسرع (21)" و "ضباب الحرب".  لكن كاتباً طرح سؤالاً ذكياً (22) ومناسباً فقال: لكنكم تقولون أنه لم يكن هناك قتال ، فمن أين  أتى "ضباب الحرب" هذا ؟

هناك المزيد من الأسئلة الجيدة تدور في الصحافة، وهذا أحدها (23) :
"لماذا يا ترى..هذا " العقل المدبر الارهاب "-- الذي هزم ليست فقط وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ، ولكن أيضاً كل وكالات الاستخبارات الأميركية الـ 16 جنبا إلى جنب مع جهاز الموساد الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات في حلف الناتو ، والذي هزم نوراد (NORAD) ، ومجلس الأمن القومي ، والبنتاغون وهيئة الأركان المشتركة ، وسلاح الجو الاميركي ، وجهاز مراقبة الحركة الجوية ، والذي تمكن من الإلتفاف حول الإجراءات الأمنية أربع مرات في المطارات الامريكية في ساعة واحدة في اليوم نفسه، والذي تمكن من عبور أحدث الأجهزة المتطورة في العالم للدفاع الجوي التي يمتلكها البنتاغون، والذي تمكن من أن يضرب ثلاث طائرات في ثلاثة مبان بواسطة طيارين لم يتعلموا الطيران – لماذا لم يتمكن من تنفيذ أي هجوم آخر خلال عشر سنوات تقريبا؟ هل يعتقد الأميركيون حقا أن نظام الأمن الحكومي، والذي فشل تماما عندما واجه بضعة من السعوديين يحملون سكاكين صغيرة لقطع البلاستك والورق، يمكن أن يجدد نفسه بين عشية وضحاها ليصل الى الكمال؟ "
كاتب آخر يذكرنا بمسألة أخرى (24) ما زالت غير منتهية في هذه القضية :"لا أحد اليوم يتذكر أن فوكس نيوز أعلنت في كانون الأول 2001 ، ان اسامة بن لادن قد وافته المنية بسبب المرض".

أسئلة كثيرة جدا بقيت دون إجابات ، وربما ستبقى للأبد ، وحتى لو تمكن المطالبون بها من إجبار حكوماتهم على القيام بالتحقيق وقد نتذكر موضوع ذو صلة (25) يتعلق ببعض الحقائق حول 11 سبتمبر 2001 . يقول تقرير لجنة التحقيق في 9 / 11 أن الّجنة لم يسمح لها بالوصول لا لأعضاء تنظيم القاعدة المتهمين بالمشاركة في الهجمات ، ولا الى المحققين الذين استجوبوهم. وهكذا لم يكن للجنة أن تحقق في مدى مصداقية رواية المعتقلين، ولا توضيح النقاط الغامضة في المعطيات."

رحل الجسم ، ولكن " التخلص من أسطورة أسامة (26) بن لادن (لن) يكون بنفس السهولة". لقد كلف الموضوع (27) أمريكا 200 سنة من الجهد والتنمية على مستوى الديمقراطية الاجتماعية ، كما لاحظ أحد الكتاب. كذلك أعطى كاتب آخر تكاليف قصة بن لادن في تعداد الحروب  والدولارات والضحايا.

عندما سمعت القصة هذه الغارة وقتل بن لادن، تذكرت فوراً سؤالاً معيناً دار في رأسي منذ زمن ، وبقي سؤالاً بلا جواب. فعندما قتلت القوات الامريكية ولدي صدام حسين القميئين في يوليو 2003 : تساءلت لماذا يقتلوهم؟ والآن ، لماذا قتلوه؟ وفي كلتا الحالتين ، يبدو أنهم كانوا يمتلكون السيطرة الكاملة على الموقف ، وفقا لروايتهم نفسها ، لذلك أتساءل مرة ثانية لماذا يقتلوهم دائماً (تقريباً)؟

والسؤال له ما يبرره من جانبين على الأقل : الجانب الأمني ، والجانب الشرعي – الأخلاقي.  سأبدأ في مناقشة المنفعة الأمنية، لأن الشرعية والأخلاق لم تعد تثير اهتمام كثير من الناس هذه الأيام.

كان عدي وقصي في عام 2003 بالتأكيد مصدرا للمعلومات من أعلى المستويات ، لا سيما إذا تذكرنا أنه في ذلك الوقت ، لم يكن صدام قد القي القبض عليه بعد. ولا يستطيع المرء حتى أن يحلم بكنز معلومات أفضل ، باستثناء صدام نفسه. إذن لماذا قتلوهما؟
والآن يطرح السؤال نفسه مع مقتل بن لادن. لا تستطيع الرواية الرسمية ، التي تم تعديلها في العديد من التفاصيل الأساسية لأسباب غير مفهومة ، المساعدة في الإجابة على السؤال عن رد الفعل الغريب للقوات الأمريكية في مثل هذه الحالات.

بحثت في الإنترنت عن تلك الإجابات ، فلم أجد سوى الكثير من الناس تطرح نفس أسئلتي وأسئلة أكثر كثيرة  :
اقترح بعض المحللين (28) انه "بواسطة الغارة الأميركية ، يتم تجنب المحاكمة".  وأنه "عن طريق قتل اسامة بن لادن بدلا من القبض عليه، يمنكن للولايات المتحدة أن تتخلص من مشهد قاعة المحكمة التي كان يمكن أن تعطي تنظيم القاعدة دعاية وتخلق صداعا سياسيا للرئيس باراك أوباما".
وقال ضابط بالجيش "" هناك خطر حقيقي لو تم القبض عليه ، ومحاكمته كان يمكن أن تصبح  مثل السيرك ، وسجنه أيضاً قد يصبح سيرك ".
وقال آخرون إن تقديمه للعدالة كان سيكون امراً "معقداً"!
"سيرك"؟ "معقد"؟ أعتقد أنه ينبغي أن نجد أسباباً أكثر إقناعاً لتبرير " الإغتيال بلا محاكمة ولقتل المصدر الأكثر قيمة للمعلومات الإستخبارية على هذا الكوكب" كما وصف الأمر أحد الكتاب (29).

يبدو أن الأمريكان غير معنيين حقاً بالمعلومات الإستخبارية الأكثر خطورة عن الإرهاب!

هل ينطلقون من المنطق القائل بأنه مع نهاية بن لادن تكون "المهمة أنجزت"؟ لا يبدو أن الأمر كذلك، فجميع مسؤوليهم، من أوباما إلى كلنتون إلى تشيني وغيره يقولون بأن الأمر مازال طويلاً.
علاوة على ذلك ، فقد رفضوا الحصول على بن لادن قبل وقت طويل ، عندما كان هذا "الإرهاب" مازال في مهده، وحين يفترض أنهم كانوا بحاجة إلى اية قطعة معلومات يمكن الحصول عليها.
حينها رفض الرئيس جورج بوش العرض (30) المقدم من طالبان في فبراير 2002 لتسليم بن لادن بشرط أن تقدم الولايات المتحدة الأدلة على علاقته بالحادث. هذا الرفض يعني إما أنها لا تستطيع تقديم أي أدلة ، (ولا حتى "دليل" أعرج ، وهو أمر غير محتمل) أو أنهم كانوا يريدون الحرب نفسها ، وليس اعتقال المشتبه بهم في احداث 11 أيلول.

على الرغم من سمعة بن لادن ، فأن عدداً لا بأس به من الكتاب والمفكرين وخبراء القانون (31) تساءل بشدة عن الرسالة الشرعية والأخلاقية التي يرسلها للعالم ما وصفوه بـ "قتل خارج نطاق القضاء".

كتب نعوم تشومسكي (32) : "لم يكن هناك على ما يبدو أية محاولة للقبض على الضحية العزلاء ، كما يفترض أنه كان ممكناً لمن يمتلك 80 من الكوماندوس الذين لم يواجهوا عمليا أية مقاومة باستثناء ، كما يدعون ، من زوجته ، التي اندفعت نحوهم."

يذكرنا تشومسكي بأن بن لادن ليس سوى "مشتبه به" وانه "في أبريل 2002 ، قام رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ، روبرت مولر ، بإبلاغ للصحافة أنه بعد التحقيق الأكثر تركيزاً في التاريخ ، فأن مكتب التحقيقات الفدرالي لا يستطيع أن يقول أكثر من أنه" يعتقد" ان المؤامرة دبرت في أفغانستان ، على الرغم من التنفيذ بدأ في دولة الإمارات العربية المتحدة وألمانيا.  هذا ما كانوا "يعتقدون" به فقط في أبريل 2002 ، ومن الواضح أنهم لم يكونوا يعرفون أكثر من ذلك قبل ذلك التاريخ بـ 8 أشهر ، عندما كانت واشنطن قد رفضت عروض مبدئية من قبل (.....) طالبان لتسليم بن لادن إذا قدمت لهم الأدلة التي ، وكما عرفنا في وقت قريب ، بأن واشنطن لم تكن تمتلكها ".

يذكرنا أحد الكتاب (33) بأنه "في عام 1993 عندما وقع الهجوم الأول على مركز التجارة العالمي ، تم اعتبارها جريمة ، وعوملت على هذا النحو.  وبحلول عام 1995 كل المسؤولين في المشاركة بالجريمة قد القي القبض عليهم وحوكموا وأدينوا. لم يكن هناك إعلان لـ "حرب على الإرهاب" ، ولم يتم غزو أي بلد ، ولم تطبع رزم من اوراق اللعب بصور من الأفراد المطلوبين ولا استعراضات عظمى. بدلا من ذلك ، أسفر التحقيق الجنائي الدقيق والشامل عن إعتقالات تمت دون اطلاق رصاصة واحدة. "

كاتب آخر يرى (34) أن الهدف المشترك لكل من هذه الغارة وغوانتانامو هو
"إرسال رسالة مفادها أن الولايات المتحدة غرقت في عمق الوحشية وتخلت عن أي التزام بالقواعد التقليدية للسلوك (....) فالجميع يعرف الآن أن القواعد لا تنطبق على أمريكا."

ويسخر آخر بمرارة (35) : "كان علينا أن تدمير حرياتنا من أجل إنقاذها . (....) الآن وقد تم قتل قاتل واحد،  ماذا نحن فاعلون مع جميع القتلة في وسطنا، الذين قتلوه؟"

كاتب آخر يشير (36) إلى أن الأمر قد يكون ضمن المحاولات للمضي قدما في ثقافة الوحشية خطوة أبعد :
"في قطعة الدعاية هذه تفوح رائحة التفوق الأميركي ، (....) فكما كشف المسؤولين يوم الاثنين فأن " اسامة بن لادن ، تم اصطياده (...) بمساعدة المعلومات المستقاة قبل عدة سنوات من المعتقلين في سجون المخابرات المركزية السرية في مواقع في أوروبا الشرقية " ثم يتساءل الكاتب :" هل سيلاحظ الشعب الأمريكي بأن الفقرة الأولى من هذا "التقرير" تسعى لتبرير سجون المخابرات المركزية ، والتعذيب؟ فهي توحي بأنه بدون تلك السجون السرية والتعذيب فأن ما أسمته بـ "العقل المدبر الارهاب" كان سيبقى طليقاً حتى الساعة. "!

كاتب يعود بنا ليذكرنا بتعريف الحضارة (37) فيقول أن : "اسخيليوس ، في ثلاثيته (اوريستيا) (Oresteia  )  يبين لنا أن الحضارة تبدأ عندما تلقي غلة الانتقام بسلاحها لصالح العدالة"
لذا يكتب "كاي رايت" (38) ردا على بيان أوباما المتفاخر بالحادث وإشارته إلى عظمة اميركا، فيقول أن  "القدرة على قتل بن لادن ، لا يجعل أمريكا عظيمة" حيث يلاحظ : "إن الرئيس يقول أن يمكننا أن نفعل شيئا لأننا نستطيع أن نقتل. لانستطيع وقف معدلات الفقر من التصاعد والوصول إلى النسبة القياسية 14,3 في المئة من الأميركيين في عام 2009 ، ولكننا يمكننا أن نقتل لذلك نحن متميزون!  واحدة من كل أربع عائلات من السود واللاتينيين يعيشون تحت خط الفقر الآن ، معدل الفقر بين الأطفال في أميركا بلغ واحد من كل خمسة أطفال ، وهو ثاني أسوأ بين الدول الغنية، بعد المكسيك. ولكن يمكننا أن نقتل ، لذلك نحن عظماء!  لدينا النظام الأكثر كلفة في العالم للرعاية الصحية ، وفي 2009 وحتى الآن فأن معدل وفيات الرضع في الولايات المتحدة يأتي بعد 29 بلداً تسبقنا، وهو الأسوأ من بين الدول الغنية. لماذا؟ لأن معدل وفيات الرضع مرتفعة جدا بين النساء السود واللاتينيات. نحن لا نستطيع توفير العدالة بالنسبة لهم ، ولكننا نستطيع ان نقتل ونفخر بأننا حققنا العدالة!

لذا ، ومن كل ما سبق، يبدو أن هناك أسباباً اكثر من كافية لأن تحاول الولايات المتحدة إعتقال المطلوب بدلاً من قتله ، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. لقد كان   وكان ذلك ممكنا في بغداد في حينها ، والآن في أبوت آباد، فالجيش الامريكي كان على ما يبدو يفرض السيطرة الكاملة على الوضع في الحالتين.
فوفقا للقصة الأمريكية الرسمية عن اعتقال ولدي صدام ، فأن قوة من الجيش الأمريكي حاصرت مخبئهما في أحد البيوت، لذلك لم تكن هناك أية فرصة للفرار، فلماذا تم قتلهما؟ هل  رفضا الاستسلام؟ (أم "كان من المتوقع" أن يرفضا الاستسلام؟) ؟ هل ان الجيش الامريكي لم يكن يريد المخاطرة بأية احتمالات للخسائر بين الجنود الاميركيين؟ ولكن تلك المعلومات يمكن ان توفر الكثير من الضحايا الأمريكان، حسبما نفهمه من السياسة الأمريكية في الموضوع؟ وحتى إن افترضنا ان ذلك صحيح فيمكنك أن تحاصرهما دون الدخول معهما أو حمايتهما في أي قتال.  وحتى إن بادروا بإطلاق النار ، يمكن الإكتفاء بالإنتظار حتى يغيروا رأيهم أو يغيره لهم الجوع والعطش.
قد يقتلون أنفسهم؟ بالطبع هناك مثل هذا الاحتمال ، ولكن هناك فرصة أيضاً ان لا يفعلا، كلاهما او أي منهما، ويفضلا الإستسلام ، فلماذا يتم التفريط بمثل هذه الفرصة؟ لم استطع العثور على أي إجابة مقبولة في ذلك الحين ، ولا استطيع  العثور عليها الآن في قصة قتل بن لادن.

أتساءل: أيكون تفسير عدم اهتمامهم بالمعلومات، هو انهم كانوا يعرفون كل شيء منذ البداية؟

بعد أن قالوا كل ما يمكن أن يقال ، فإن الأميركيين الذين يشعرون بالقلق بشأن الطريقة التي سارت بها الامور حتى الآن، فأنهم يقبلونها على مضض كحقيقة واقعة لاحول لهم لتغييرها، ويبدأون بطرح الأسئلة عن المستقبل (39) : "ألان وقد قتل بن لادن، هل لنا ان نستعيد حرياتنا؟ دعونا نتذكر مرة أخرى من نحن، وأن نبدأ في إعادة بناء ثقتنا في أنفسنا -- بدءا من منظومة العدالة لدينا".

يحاول خبراء في الشرق الأوسط تذكير حكومتهم بأن استطلاعات الرأي تظهر ان "القواعد الامريكية تنج الكراهية للأمريكان (40)".
وحاول آخرون أن يجدوا لقياداتهم وبلدانهم مخرجاً من الورطة فذكروهم بالتجربة السابقة (41) عندما " عرض السناتور جورج ايكن من ولاية فيرمونت في 1960 على رئيسين أميركيين خطة للتخلص من حرب فيتنام تتمثل في: إعلان النصر والعودة الى الوطن"

ولكن ليس مع الكثير من  الأوهام والأمل (42)، فيقول أحدهم : "وهكذا ، والآن بعد أن مات بن لادن، هل يمكننا سحب قواتها من أفغانستان ، والسماح للأفغان أن يقرروا مستقبلهم؟ هل يمكننا أن نوجه اعتذارنا لأسر المليون عراقي الذين قتلوا في غزو العراق، وأن نمضي إلى الخطوة التالية في الحل؟ هل يمكننا وقف دس أنوفنا في الشؤون الداخلية لكل دولة ، في كل قارة ، في كل ركن من أركان هذا الكوكب؟ بالطبع لا. انه كوكبنا نحن فقط ، أليس كذلك؟ "
ولأن "الحرب على الارهاب" ليس لها "نقطة واضحة يمكن ان نعلن فيها انتصارنا –فأن الإرهاب هو التكتيك الذي سيبقى معنا طوال حياتنا (43)! "ويضيف:" "الحرب على الإرهاب" خلقت حيلاً جديداً من المسلحين. "وأوباما ، كلينتون وتشيني وتقريبا الجميع يقول ان" الحرب مستمرة ."  لقد رفعت أرقام الاستطلاع لصالح أوباما (44) ، وهذا كل شيء!

من الطبيعي في هذه اللحظة التاريخية المميزة من تاريخ ما يسمى بـ "الحرب على الإرهاب" أن يحاول البعض تذكر البحث عن الأسباب التي تقف وراءها. فأشار أحد الكتاب إلى دراسة تبين أن " الدعم العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة للحكومات الأجنبية يتسب في زيادة الهجمات الارهابية (45) على المواطنين الأمريكيين".
ولا أملك إلا الإشارة هنا إلى فلم الفيديو الذي يتحدث عن تجربة "سام ريتشارد"(46) في محاولة فهم الآخر، تحت عنوان "إنهم قادمون لقتلنا" كإحدى اروع الدراسات عن الموضوع.

 لكن مرارة الشعور بالفقدان المستمر المتزايد للحريات بسبب "الحرب" ، وتذكر التفسير المضحك لبوش أنتجت افكاراً ساخرة مرة.
 كتب أحدهم  (47) بذكاء : "إذا كان تنظيم القاعدة قد هاجمنا "لأنهم يكرهوننا لحرياتنا ، كما يكرر الرؤساء الأميركيين ادعاء ذلك بلا ملل، فلا بد أن القاعدة يحبوننا الآن أكثر بكثير!"

 ليس لدى الجميع ذلك المزاج للسخرية. فيعلق قارئ (48) على إحدى المقالات مذكراً بأن : "في كل واحدة من المحاولات "الإرهابية" التي حدثت منذ عام 2001 والتي فشلت أو ربما كانت مجرد وهم ، هناك دائماً عنصر مخبر لمكتب التحقيقات الاتحادي في القصة -- كل واحدة منها بلا استثناء!"..." ثم حين أسأل نفسي "لماذا"  فلا أجد جواباً إلا: لأن أنا وأنت هو الخطر الحقيقي ، ليس بعض من حلم بالتسجيل في منظمة إرهابية أو مسلح بمفرده ...—نحن العدو ".

وعندما نتحدث عن دولة تجد من شعبها عدواً لها، فإننا نتذكر جورج اوريل (49) والدولة البوليسية التي تراقب كل شخص، وصاحب "مزرعة الحيوانات". وهنا يشير أحد الكتاب إلى الكتاب الأشهر لأورويل فيقول : "الاميركيين يعيشون في قصة جورج أورويل "1984." ولمن لم يقرأ تنبؤ أورويل لما سيحدث في عصرنا ، حيث حكومة "الأخ الأكبر" ، وحيث يصدق المواطنون كل أكاذيب الحكومة بلا تمحيص ".
ولا تكون المقارنة مع دولة أورويل 1984 البوليسية، حيث تضع الحكومة كل شعبها تحت المراقبة الكاملة، لأنه هو "العدو" ، أمراً مبالغاً فيه ، اذا حاولنا متابعة الأخبار حول الموضوع.  وبالمناسبة ، فإن التقرير الأخير للكونغرس حول استخدام وزارة العدل لصلاحيات المراقبة الاستخباراتية الذي صدر للتو ، يظهر زيادة كبيرة في عدد من الأميركيين الموضوعين تحت المراقبة (50) من قبل مكتب التحقيقات الفدرالي -- بدون إشراف قضائي ، والذي يكاد يتضاعف في سنة واحدة (! 2010 مقارنة مع 2009)!

مقلق جدا أيضا هو الخبر القائل بأن الفريق الامريكي الذي خصص لعملية قتل بن لادل، قد تم إعداده للاشتباك مع القوات الباكستانية (51) إذا وجد ذلك ضروريا ، وأن أوباما تولى بنفسه الإهتمام بهذه النقطة! هذا التصعيد في توتر علاقة سيئة بالفعل ، يثير تهديدات بفتح حرب أخرى جديدة لأمريكا (52) ، مع باكستان هذه المرة.

أما بالنسبة لرد الفعل الباكستاني فقد قررت الحكومة، رغم بعض المحاولات لفرض إجراء تحقيق ، عدم إجراء تحقيق (53) من أي نوع وعلى أي مستوى على الإطلاق" ، ولا يتوقع إجراء أي تحقيق جدي أو موثوق به من قبل الحكومة الأمريكية ، لذلك فيمكننا أن ننسى جميعاً أسئلتنا الكثيرة التي تقلقنا.

مع كل هذه الفوضى، فأن المرء يتساءل فيما إذا كانت الحقيقة بتلك الصعوبة بحيث ان تجنب كشف الحقائق يجعل الحكومة الأمريكية تبدو كالرجل السكران الذي لا يستطيع تجميع قصة معقولة قادرة على الإجابة عن الأسئلة، أم ان الحكومة الأمريكية تتعمد ترك شعبها وشعوب العالم تصارع في حيرتها بحثاً عن الأجوبة وإملاء "الثقوب السوداء" في قصصها، وأن تجعلهم يشعرون بالإحباط والهزيمة والتخلي عن طرح الأسئلة عما تفعله وتقوله، وربما توصلنا إلى النقطة التي يمكن لها ان تتحدى بصراحة وتقول: "نعم نحن فعلنا ذلك، وماذا أيضاً؟ " كما كتب أحد المعلقين.

قال رئيس تحرير "مجلة الإستكشاف العلمي" ، برنهارد هايش (Bernhard Haisch):  "تحقيق التقدم يتم من خلال الإجابة عن الأسئلة، والإكتشافات تتم من خلال تمحيص الأجوبة". لكننا لا نحصل على أجوبة معقولة بالحد الأدنى لنأمل منها "تحقيق التقدم"، لذلك لا يبقى من أمل أمام الإنسانية لإنقاذها من هذا الوضع الخطير إلا تحقيق "الإكتشافات" من خلال نشر عادة المراجعة والتساؤل و "تمحيص الأجوبة" بشكل كاف بين الناس.


صائب خليل: كاتب عراقي
Saieb.khalil@gmail.com
تتوفر هذه المقالة باللغة الإنجليزية

(1) http://www.truth-out.org/transcript-remarks-president-obama-osama-bin-laden/1304311403
(2) http://abcnews.go.com/International/slideshow/photos-inside-osama-bin-laden-kill-zone-13508190
(3)  http://www.informationclearinghouse.info/article28008.htm
(4)  http://www.amazfacts.com/2011/05/global-reactions-to-news-of-osama-bin.html  
(5) http://www.guardian.co.uk/world/2011/may/02/osama-bin-laden-dead-pakistan
(6) http://www.truth-out.org/white-house-osama-bin-laden-dead/1304304877
(7) http://blogs.alternet.org/speakeasy/2011/05/03/12-questions-about-bin-laden
(8) http://www.informationclearinghouse.info/article28028.htm
(9) http://www.informationclearinghouse.info/article28029.htm
(10) http://tpmmuckraker.talkingpointsmemo.com/2011/05/administration_backs_off_tale_of_osama_bin_laden_using_wife_as_human_shield.php
(11) http://www.informationclearinghouse.info/article28012.htm
(12) http://www.informationclearinghouse.info/article28024.htm
(13) http://firstread.msnbc.msn.com/_news/2011/05/04/6583764-cia-denies-bin-laden-was-captured-before-his-killing?ocid=twitter
(14) http://www.smh.com.au/world/doubts-grow-on-us-version-of-strike-against-bin-laden-20110505-1eaah.html#ixzz1Lwqa68HW
(15) http://www.smh.com.au/world/doubts-grow-on-us-version-of-strike-against-bin-laden-20110505-1eaah.html
(16) http://www.ajc.com/news/nation-world/pakistan-paints-dismal-image-936998.html
(17) http://www.huffingtonpost.com/2011/05/09/hillary-clinton-der-tzitung-removed-situation-room_n_859254.html
(18) http://www.infowars.com/media-builds-strawman-argument-around-dead-obl-photos/    
(19) http://www.guardian.co.uk/world/2011/may/02/osama-bin-laden-photo-fake
(20) http://blog.alexanderhiggins.com/2011/05/03/numerous-oddities-osama-bin-laden-compound-photo-video-22190/
(21) http://www.politico.com/news/stories/0511/54162.html
(22) http://www.informationclearinghouse.info/article28029.htm
(23) http://www.informationclearinghouse.info/article28016.htm
(24) http://www.foxnews.com/story/0,2933,41576,00.html
(25) http://www.informationclearinghouse.info/article28036.htm
(26) http://www.informationclearinghouse.info/article28008.htm
(27) http://refreshingnews9.blogspot.com/2011/05/bin-laden-3519-days-2-wars-1283.html
(28) http://www.alternet.org/rss/breaking_news/577231/with_raid,_us_avoids__trial,_tomb_for_bin_laden/
(29) http://www.informationclearinghouse.info/article28029.htm
(30) http://www.youtube.com/watch?v=8fdboef5TZ8&feature=player_embedded
(31) http://www.informationclearinghouse.info/article28020.htm
(32) http://www.informationclearinghouse.info/article28045.htm
(33) http://www.truth-out.org/white-house-osama-bin-laden-dead/1304304877
(34) http://www.informationclearinghouse.info/article28014.htm
(35) http://www.informationclearinghouse.info/article28038.htm
(36) http://www.informationclearinghouse.info/article28016.htm
(37) http://www.informationclearinghouse.info/article28038.htm
(38) http://www.colorlines.com/archives/2011/05/the_ability_to_kill_osama_bin_laden_does_not_make_america_great.html
(39) http://www.alternet.org/world/150830/now_that_bin_laden_is_dead,_can_we_have_our_freedoms_back?page=entire
(40) http://www.truth-out.org/chris-hedges-speaks-osama-bin-laden%E2%80%99s-death/1304343151
(41) http://www.tomdispatch.com/post/175388/tomgram%3A_engelhardt%2C_osama_dead_and_alive/#more
(42) http://www.informationclearinghouse.info/article28014.htm
(43) http://www.alternet.org/story/150813/bin_ladens_killing_shows_the_utter_folly_of_our_war_on_terror?page=2
(44) http://www.informationclearinghouse.info/article28023.htm
(45) http://www.informationclearinghouse.info/article28035.htm
(46) http://www.informationclearinghouse.info/article26937.htm
(47) http://www.informationclearinghouse.info/article28036.htm
(48) http://www.informationclearinghouse.info/article28036.htm
(49) http://www.informationclearinghouse.info/article28062.htm
(50) http://www.cato-at-liberty.org/record-number-of-americans-targeted-by-national-security-letters/
(51) http://tribune.com.pk/story/165612/us-was-prepared-for-clash-with-pakistani-forces-in-bin-laden-raid-report/
(52) http://www.informationclearinghouse.info/article28058.htm
(53) http://www.thenews.com.pk/TodaysPrintDetail.aspx?ID=45852&Cat=6&dt=5/9/2011




112
نحن والخوف من طائفية المقابل

صائب خليل
30 نيسان 2011

أستلم باستمرار رسائل الكترونية، يعيد إرسالها، أصدقاء اعلم علم اليقين أنهم أبعد ما يكونوا عن الطائفية، ورغم ذلك فأن محتوى تلك الرسائل طائفي واضح! هي مقالة تنتقد بقسوة، طائفة ما، (هي دائماً غير طائفة المرسل) ، فيها مغالطات واضحة، أو هي عبارة عن خبر يعتمد مصدراً مجهولاً، أو "وثيقة" لا يمكن التأكد من صدقها، أو صوراً لـ "فضائع" يبدو أنها لا تستحق الإهتمام أو أنها مفبركة، مقالات خبرية يختلف معنى عنوانها كلياً عن ما يحتويه متنها، وغير ذلك.
صديق لا يختار من الكتاب على الأغلب إلا كاتباً معيناً وآخر يبدو أنه لا يقرأ إلا موقعاً معيناً، وأحياناً تكون المقالات معقولة، لكنها دائماً تعكس جانباً واحداً من "الحقيقة" الجانب السيء في الطائفة المقابلة!

إستلام تلك الرسائل لم يكن يستحق عناء الكتابة، لولا الجانب المدهش في الموضوع وهو أن من يرسل لي هذه الرسائل (بشكل إعادة إرسال)، مجموعة من الأصدقاء، هم كما قلت لكم، ابعد ما يكون المرء عن الطائفية. البعض منهم مؤمن بشكل "خفيف" لا يتيح له ان يعتقد بالتفاصيل الطائفية، والآخر مؤمن بعمق، يركز في كل أحاديثه وبصدق واضح على الشخصيات غير الطائفية ويعتز بها أيما اعتزاز، وآخر غير مؤمن أصلاً، وليس هناك مكان للإسلام في قلبه فلا يعقل أن يكون فيه مجال للطائفة..
ومع ذلك يرسل كل منهم رسائل متحيزة بشكل واضح.. البعض متحيز في محتواه والآخر متحيز في أنتقائيته للحقائق والبعض مشكوك به والبعض الآخر ليس سوى مغالطات واضحة.

أرسلت يوماً لأحد هؤلاء الأصدقاء قائلاً:"المقالة فيها الكثير من المنطق، كعادة هذا الكاتب الذكي، لكن ألا تلاحظ إنه لا يكتب عن أي شيء سوى البحث عن أخطاء و مساوئ الـ.... ؟ ألا يوجد في العراق مشكلة تثير اهتمامه غير هذه؟ هل انتهت مشاكل العراق ولم يبق سوى هذه المواضيع ليبحثها ويركز عليها ويعطيها كل جهده "الثقافي"؟

لصديق آخر كتبت مستغرباً أن ينشر صوراً من الواضح أنه تم ترتيبها للإساءة إلى الجماعة الأخرى، وقلت له أن ليس من المعقول أن تكون مثل هذه الصور صحيحة للأسباب التالية... وذكرته بأني ارسلت له مقالة كان فيها تنبيه إلى صور تم تزويرها ضد الجماعة .. قال أنه هو أيضاً لا يصدق كل تلك الصور، لكن بعضها.. فسألت لماذا ترسلها للآخرين إذاً؟

 واحد من أطيب الناس الذين عرفتهم خلال نصف قرن من الحياة، يرسل لي الكثير وأجيبه معلقاً بشكل لا يسره عادة. وفي مرة أجبته بأن الخبر الذي أرسله غير صحيح، وعنوانه يختلف عن محتواه، فأقر بذلك، فسالته فوراً: "ما يحيرني يا...لماذا اكتشف أنا خلال ثوان أن الخبر مزيف وعنوانه فيه احتيال، ولا تكتشف أنت ذلك حتى أخبرك به؟"

أكرر لكم التأكيد أن ليس أي من هؤلاء طائفي بأي شكل، بل أن كل منهم محصن تماماً ضد الطائفية، ولا يمكن أن أتخيل أي منهم يفضل شخصاً حقيقياً يتعامل معه، أو يرفضه، إستناداً إلى طائفته، ورغم ذلك فما يصل من هؤلاء الأصدقاء، لو لم أكن أعرفهم معرفة يقينة، لأتهمتهم بالطائفية بلا تردد! فماذا أسمي هذه الظاهرة الغريبة؟

لا أريد تضخيم الموضوع، رغم أعتقادي أن نتائجه على المدى البعيد شديدة الأذى، ولا أعتقد أنه مرتبط بالمشاعر الطائفية، فكما قلت لكم، من يقوم بهذا النشاط بعيد عن تلك المشاعر. كذلك لاحظت أن نفس الظاهرة تتوجد ضمن اتجاهات متنافسة أو متعادية من نفس الطائفة، مثلما يحدث بين كل من مؤيدي حزب الدعوة ومؤيدي الصدريين، ومؤيدي المجلس الأعلى، حيث يتبادل أعضاء كل مجموعة رسائل، ويتم تحويل رسائل بينهم، جميعها على حد علمي تدعم مجموعتهم على حساب واحدة من المجموعتين الأخرتين.

هؤلاء جميعاً ليسوا طائفيين كما أن الجماعات المذكورة لا تعتقد بالتمييز (العنصري او غيره) فيما بينها، ومن الممكن تماماً، بل يحدث كثيراً ان يقرأ هؤلاء مقالة أو خبراً لصالح الجانب الآخر، ولا يحتج عليه أو يكذبه أو يرفضه، لكنه حتى حين يقبله ويصدقه ويعترف به في داخله، فهو لا يحدث أن يعيد إرساله إلى مجموعته أو طائفته ابداً! فهو حتى حين يعترف بأن ما جاء في الخبر، حقيقة، فهو يحتفظ بتلك الحقيقة لنفسه ولا ينشرها، فهو يرى أن تلك الحقيقة قد تضلل من يقرأها، وتعطيه انطباعاً "خاطئاً" عن جودة موقف الطائفة أو المجموعة الأخرى. إنه يعتبرها خطراً على "السذج" من الآخرين من طائفته فتغير رايهم بالطائفة حين يعلمون أن فيها خطأً أو نقصاً ما، كما أنه قد "يساء استغلالها" من قبل الطائفة الأخرى لـ "تشويه" صورة طائفته. إنه يتجاوز حقيقة أنها لم تجعله يغير رأيه بطائفته حين قرأها فهو "ليس ساذجاً" كالآخرين، كما أنه لا يعتبر أن ارساله الحقائق المضادة نوعاً من "إساءة استغلال". إنه يضع نفسه فوق الآخرين من الجانبين، لذلك فلا بأس بقراءتها وحتى الإقرار بها لكن إعادة إرسالها غير وارد!

أثناء كتابتي لهذه المقالة مررت على مقالة أميركية تتحدث عن موضوع مشابه تماماً في داخل أميركا، والحديث هو عن النقاش الدائر بحماس حول التشكيك بجنسية اوباما الأمريكية، وتتحدث عن السهولة التي يصدق بها البيض من الأمريكان الإشاعات غير المعقولة والتي تناقضها الوقائع عن أوباما لمجرد كونه أسود وله علاقة ما بالإسلام، ويستغرب الكاتب (وغيره) هذه السهولة في تقبل تلك الأخبار عندما تكون مشككة بـ "الطائفة" الأخرى أو المجموعة الأثنية الأخرى، وشدة المحاسبة والتدقيق عندما تكون الأمور بالعكس، وهو ما يطلق عليه الكاتب إسم "العنصرية بلا عنصريين".(1)
ونستطيع ان نلاحظ في خطاب كولن باول (الداعم لترشيح أوباما) ملاحظات مشابهة تنتقد المجتمع الأمريكي في موقفهم المسبق من السود وترشيح أوباما.(2)

إذن ليس علينا أن نقفز هلعاً، فالظاهرة ليست عراقية إسلامية فقط، ومع ذلك فهي مؤذية وتعرقل التقدم الإجتماعي في أي مجتمع متطور مستقر، اما في المجتمعات التي تغلي، فقد تمثل بالتعاون مع غيرها من المشاكل، ومع تأثيرها على المدى البعيد، ضرراً خطيراً، خاصة في تأثيرها على القرارات عند المنعطفات الحاسمة لذلك الشعب.

إذا اعتبرنا أن تعريف الطائفية كمرض إجتماعي، ليس تجاوزاً كبيراً على حقيقتها، فيبدو لي أننا أمام مرض من نوع خاص لا يكتفي بطريقة واحدة للإنتشار. فمن المعلوم أن بعض الأمراض تنتشر من خلال إصابتها ضحاياها مباشرة بانتقال العدوى إليهم من المصابين بالمرض أو من الجو، او الأطعمة الملوثة.. الخ.
لكن أمراضاً أخرى تفضل طريقاً ملتوياً حين تجد أن الطريقة المباشرة غير فعالة بشكل كاف، وهي أنها تنتقل بواسطة "وسطاء" لا تصيبهم بالمرض، وإنما تستعملهم كناقل للمرض، يحملون الجرثومة التي تكمل دورة حياتها لديهم دون أن تؤثر عليهم مباشرة، استعداداً لتوجيه ضربتها التالية، لذلك فلا تجد أية أعراض مرض على ذلك "الوسيط الناقل"، لكنه مع ذلك يخدم المرض كأنه مصاب به.
يبدو أن الطائفية صارت تستعمل هذه الطريقة في كثيراً، فهي حين تعجز عن اختراق مقاومة الشخص وإصابته بالطائفية، بسبب وعيه أو لإحتقار المجتمع لكلمة طائفي، فإنها تحاول أن تجعله على الأقل ناقلاً لها لتصل بواسطته إلى من هو أضعف مقاومة منه لجراثيمها. إنه لا ينتج أي كلام طائفي بنفسه، ولا يجد نفسه طائفياً في مشاعره، ورغم ذلك فهو ينقل كلاماً طائفي التأثير، ويسهم في زيادة المشاعر الطائفية  دون أن يحس بذلك.

كل "ظلم" أو تحيز طائفي يتسبب في دفع الطائفية خطوة إلى الأمام، وليس من الضروري أن يكون الإنسان طائفياً حقاً لكي يمارس الظلم أو التحيز الطائفي. يكفي أن يكون محاطاً بجماعة طائفية لكي يعتقد أو يميل إلى التحيز الطائفي، فمن ناحية هو لا يكاد يسمع من الأخبار والآراء إلا ما يزيد اعتقاده بخطأ الطائفة الأخرى، ومن ناحية ثانية فالميل الطبيعي للإنسان لإرضاء المجموعة التي يعيش فيها، تجعل أسهل عليه أن يقول كلاماً متحيزاً بدرجة ما، أو أن يعتقد بأفكار متحيزة بشكل ما دون أن يحس بذلك التحيز. الطائفية بشكلها السافر ليست قادرة على اختراق اخلاق وعقل هذا الشخص، فهو سيرفض أي تمييز ضد شخص معين من الطائفة الأخرى، أما بشكلها المموه والمخفف، بشكل خبر قادم من مصدر آخر، أو رأي لكاتب آخر، فيمكن لهذا الشخص أن يقع في الفخ ويتحجج بأنه إنما يرسل خبراً، أو ان من "حرية الرأي" ان يكتب كل شيء، حتى لو كان الفحص البسيط يكفي لتفنيد ذلك الخبر أو الرأي.

وهناك أمر آخر مثير للإهتمام، فقد اكتشفت أن أصدقائي هؤلاء ليسوا فقط غير طائفيين، بل يسيطر عليهم الخوف من الطائفية، طائفية الجانب المقابل، وتبدوا افعالهم وكأنها تحذير للطائفة التي ينتمي إليها هذا الشخص من طائفية المقابل التي تمثل "خطراً" عليه وعلى طائفته، ويحاول بكل الطرق ان يسعى لإقناع طائفته بذلك الخطر، بعد أن اقتنع به بنفسه.

قد تتصور ، يا قارئي العزيز أنك منيع عن الطائفية تماماً، بشكليها الصريح وكناقل للطائفية، لكني أدعوك لمراجعة نفسك فالمرض بشكله الناقل، منتشر بيننا إلى درجة لا يسهل ان تجد من أفلت منه. وهذه كارثة وبائية بكل المقاييس. إلا أن هناك في هذا النفق بعض الضوء، فاكتشاف الإصابة بهذه الأعراض ليست عسيرة. فيكفي أن يراجع الشخص نفسه متسائلاً: كم هي نسبة الرسائل التي اعدت إرسالها إلى معارفي، من تلك التي تدعم الطائفة المقابلة، و "تبرهن" انها خطأ وفاسدة وتعمل بالضد من مبادئ الإسلام مثلاً، مقابل عدد الرسائل التي تدعم موقف طائفتي وتظهرها بأنها صحيحة وتمثل الإسلام الحقيقي؟ أثنان مقابل عشرة؟ واحدة مقابل عشرة؟ أراهن أنها لدى الأغلبية "ولا واحدة" مقابل الكل!

ربما ستقول: وماذا افعل، طائفتي هي بالفعل صحيحة وليس الموضوع موضوع تحيز من قبلي؟ هل أخالف ما أعتقده صحيحاً لكي أثبت لنفسي وللآخرين أني غير طائفي أو ناقل للطائفية؟

وهنا أسألك، هل من المعقول أن اي من الطائفتين صحيحة مئة بالمئة أو 90% والثانية خطأ مئة بالمئة أو 90%؟ هل مكوناتها نوعين مختلفين من البشر؟ هل برهن أحد أن السني أذكى من الشيعي أو أن الشيعي أطيب من السني؟ دعك من السياسيين وخذ الناس الذين تعرفهم، أصدقاءك، زملاءك، هل يمكنك أن تحدد السني والشيعي من خلال مقدار صدقه أو ذكائه مثلاً؟ لا... إذن لماذا يعتقد هذا الآخر بكل ما هو خطأ وتعتقد أنت بكل ما هو صحيح؟

نعم هناك اختلافات، وانا لا أطالب أحداً باستقلال مثالي، فيرسل نفس العدد بالضبط من الرسائل لكل من الجانبين، فبعض الفرق أمر طبيعي، لكن حين يكون الفرق كبيراً جداً ، فهناك خطأ كبير، ولا توجد أية أسباب معقولة لهذا الفرق وكل تبريراته مراوغة للحقائق. وحين يكون الفرق كاملاً، أي كل الرسائل لصالح جهة واحدة هي جهتك، فأنك تعمل بشكل أكيد كناقل للطائفية ومحفز لها دون أن تدري..

قلنا أن الخوف من الطائفية المقابلة هو ما يدفع إلى ذلك غالباً، لكن الخوف نفسه يصبح خطراً عندما لا يكون دقيقاً, وعندما لا يكون بحجمه الطبيعي، لأن المقابل لن يفهم مخاوفك وشعورك بأنه يهددك، فهو يعلم أنه لا يهددك، لذلك فهو يفسر تحيزك ليس على أنه نتيجة خوف بل نتيجة طائفيتك، وبالتالي يشعر هو بالخوف من تلك الطائفية ويبدأ بنشر الرسائل بدوره محاولاً تحذير طائفته من خطر طائفية الطائفة المقابلة، وندخل في دائرة تصاعد خوف وطائفية لا نهاية لها، الطائفية تزيد الخوف والخوف يرفع الطائفية فيزداد الخوف ليزيد ثانية من الطائفية وهكذا، تتدحرج كرة ثلج الخوف والطائفية ويكبر حجمها مع كل تمريرة إيميل يقوم بها شخص، دون وعي بتأثير تراكم ما يفعل ..

من أين تأتي كرات الثلج أصلاً إن لم يكن بيننا من يخلقها أو يتحمل مسؤولية ما يجيء بها؟ المصادر متنوعة بالطبع، من الناس الأبرياء الذين يعبرون عن رأيهم ، ولكن ايضاً وبشكل أهم وأكبر وأكثر من جهات متخصصة في الأمر، فليس من الصعب أن تكتشف أن بعض المواقع تكاد تكون متخصصة بانتقاد الطائفة الأخرى، وان بعض الكتاب لا هم له سوى أكتشاف أخطاء وخطايا الطائفة الأخرى والكتابة عنها. أن ما يكشف حقيقة هؤلاء هو السؤال: لماذا لا يكتشفون أيضاً بعض أخطاء طائفتهم؟ ولماذا لا يثير اهتمامهم أي موضوع آخر؟

كيف نتصرف؟ إن وصلنا إلى الإعتراف بالمشكلة ، فأن الحل لن يكون صعباً. أن يراقب كل منا "الميزان التجاري" الطائفي لرسائله، لنبحث عن صحيح الطائفة الأخرى وننشره. ربما لن نجده في ما يحيط بنا وحيث اعتدنا أن نقرأ. لنبحث عنه في أماكن أخرى، فأنت وأنا نعلم أنه موجود، فليس من المعقول أننا ملائكة وهم شياطين، فلنكتشفه ونكشفه وننشره بين جماعتنا فنخفف غلواء الطائفية فيها، وبين الطائفة الأخرى فنقلل خوفهم من طائفيتنا.

إننا إن فعلنا ذلك، نخلق كرات ثلج مضادة لكرات الخوف والطائفية، كرات من "الثقة واللاطائفية"  فعندما يقل الخوف يستطيع الناس ان يروا بشكل أفضل ويطمئنون فلا يمتنعون عن تصديق الجانب الإيجابي للمقابل و نشره أيضاً، وهكذا تعمل كرات الثقة واللاطائفية، كمظادات حيوية تسري في المجتمع لتشفيه من ميكروبات الطائفية الخطرة.

الخوف من طائفية المقابل إذن، لا ينتج نشاطاً مضاداً لتلك الطائفية بل على العكس، يعمل على انتعاشها بإثارة الخوف في المقابل من طائفيتنا نحن. فلتكن لنا الشجاعة اللازمة لإيقاف سلسلة الخطأ، ولنكبح كرات الطائفية عندما تمر بنا في المرة القادمة، ولنرسل بدلاً منها كرة ثقة شجاعة، تعبر عن التزامنا بخلق المجتمع الذي نرجوه، وثقتنا بالإنسان المقابل.


(1) http://www.alternet.org/story/150791/10_ways_that_the_birthers_are_an_object_lesson_in_white_privilege_?page=entire
(2) http://www.youtube.com/watch?v=T_NMZv6Vfh8&feature=player_detailpage#t=272s


113
إدعموا المالكي بموقف واضح كموقفه الرافض للتمديد

صائب خليل

25 نيسان 2011

لقد قرر المالكي بوضوح أنه لا يريد أي جندي أجنبي على أرض العراق بعد نهاية هذا العام. المالكي ليس رجلاً معاد للأمريكان وليس له حساسية شديدة من جنودهم، فهو الذي وقع المعاهدة التي شرعت بقاء أؤلئك الجنود في البلاد حتى الآن. فعندما يقول بإصرار بأنه لا يريد جندياً أجنبياً على أرض العراق بعد هذا العام فلا شك أنه فعل ذلك بعد أن درس الأمر جيداً، خلال كل سنوات المعاهدة وقبلها، وقدر المخاطرات من الجانبين، ولا شك أنه وضع الأحداث أمامه من جريمة البصرة التي امسك بها البريطانيان متلبسين بتنفيذ جريمة إرهابية "إنتحارية" بالرموت كونترول قرب إحدى الحسينيات، وكذلك حوادث دعم الجيش الأمريكي للقاعدة في ديالى والشبهات التي دارت حول جرائم اغتيال مبدر الدليمي وتفجير مصفى الرميثة ومذبحة أطفال النعيرية وغيرها من الجرائم التي تشير إلى تورط الأمريكان بالإرهاب في العراق.
ولا شك أنه سأل الخبراء العسكريين الذين يثق بهم، عن الخطورة العسكرية للخيارين، واستشار المستشارين السياسيين الذين يركن إلى رأيهم ورأى بوضوح كما تبين تصريحاته أن العراق بحاجة إلى خروج القوات الأمريكية وهو ليس بحاجة إليها. إن ما يمارس اليوم من نشاط دبلوماسي واعلامي محموم ليس القصد منه "تنوير" السيد المالكي وحكومته بل الضغط عليهما وابتزازهما بكل السبل غير الشريفة المتوفرة لدى الإحتلال لتغيير قرارهما الذي لم يأت عبثاً، والذي لن يكون هناك ما يضاف إليه خلال الأشهر الباقية للقواعد الأمريكية في العراق، حسب المعاهدة ، وإظهار القرار الحازم الواضح المدروس لسنوات، بأنه قرار متردد ومازال تحت النقاش والأخذ والرد.
المالكي يتحمل مسؤولية قصوى عن القرار، ليس فقط لأنه رئيس الحكومة المنتخبة للبلاد، وإنما أيضاً لأنه هو من وقع المعاهدة، ولا يريد أن يدخل التاريخ باعتباره الرجل الذي ثبت القدم العسكرية الأمريكية في بلاده، ولا يريد أن يذكره أولاده وأحفاده بما يسيء، ولا أن يخلده أبناء وطنه في قائمة من كانوا السبب في الإستعمار والكوارث لبلادهم، لذلك:

كل الذين بقي فيهم الإعتزاز الإنساني بأنفسهم وبلدهم، مدعوين اليوم ليقفوا بوضوح وقوة مع رئيس الحكومة نوري المالكي في موقفه الواضح والصعب، موقفه المصر على تنفيذ المعاهدة وعدم إبقاء جندي أميركي بعد نهاية هذا العام.

كل الذين يثقون بالمالكي وبصدقه وبأنه يريد تنفيذ ما وعد به، وأيضاً كل الذين لا يثقون بالمالكي وبما يريد حقاً، ويقولون أنه يضمر ما لا يقول، مدعوون إلى عدم إعطائه فرصة للتراجع بحجة عدم وجود موقف شعبي واضح داعم لمشروع تنفيذ الإنسحاب. هم مدعوون إلى كشف الحقيقة من خلال التعبير عن إصرارهم على رئيس الحكومة أن ينفذ وعده بأن يكون عام 2011 آخر عام يرى فيه أي عراقي أي جندي أمريكي على أرضه، وإلا فأنهم هم من يتحمل وزر بقاء الإحتلال وتثبيته إن لم يفعلوا.

كل الذين لا يثقون بالأمريكان كحماة لهم من "القاعدة" و"الإرهاب" وبقية الأساطير، كل الذين لم ينسوا جريمة البصرة التي امسك بها البريطانيان متلبسين بتنفيذ جريمة إرهابية "إنتحارية" بالرموت كونترول قرب إحدى الحسينيات، وكل الذين لم ينسوا دعم الجيش الأمريكي للقاعدة في ديالى، مدعوين للوقوف بوجه الإرهاب بدعم قرار المالكي بخروج الأمريكان.

كل الذين لم ينسوا جرائم بلاك ووتر في ساحة النسور وغيرها، وجريمة حديثة، وكل من لم ينس منظر الجنود الأمريكان وهم يحتفلون بـ "صيد الديوك" العراقية (من البشر) بسعادة وحشية لا مثيل لها..كل من تثور كرامته أو تشمئز إنسانيته لمثل تلك المناظر مدعو لوقفها نهائياً من رفض تمديد بقاء هذه الوحوش في العراق.

كل الذين لا يريدون أن يرو العراقيين وقد تحولوا إلى فريقين يتهم كل منهما الآخر بالعمالة للأجنبي ويوجه إليه احتقاره، وكل الذين لا يريدون أن يروا الشقاق في العراق يصل إلى حدوده القصوى، مدعوين لوقف هذه الحالة المرضية الخطيرة وإخلاء العراق من الجنود الأجانب.

كل الذين لا يريدون رؤية الميليشيات تعود وبقوة إلى الشارع العراقي، كل الذين لا يريدون ارتفاع الإستقطاب الطائفي والقومي يتصاعد في البلاد إلى حدود لم يعرفها في تاريخه، مدعوين لدعم المالكي في موقفه الشجاع الرافض لإبقاء أي جندي امريكي بعد نهاية هذا العام.

كل الذين لا يريدون عودة البعث الصدامي إلى الحكم من خلال الضغط والتزوير، ولا يسرهم رؤية المخطط الأمريكي الذي عبر عنه موقف السفارة من الإنتخابات الأخيرة من دعم للجانب الصدامي، ينفذ في العراق، ولا يريدون بقايا الأمن الصدامي تعود للسيطرة على الأمن من جديد بقيادة قياداتهم السابقة الدموية وبحماية أمريكية وتنسيق امريكي، كل هؤلاء مدعوون لرفض صريح لبقاء أي جندي أجنبي في العراق...

وكل الذين يتذكرون من قام بتهريب أيهم السامرائي و الشعلان..كل الذين يتساءلون عن المليارات الأربعين التي "اختفت" من بين اصابع بريمر، وغيرها وغيرها كثير، وكل الذين يرون في الفساد سرطاناً خطيراً يهدد كيان البلاد، مدعوون لدعم المالكي في وجه حماة الفساد اليوم.

كل الذين يدركون أن كل يوم إضافي يبقى فيه الأمريكان في العراق، يغرس الإحتلال الأمريكي والإسرائيلي أظافره في مقدرات هذا البلد، وكل الذين قرأوا كيف فشلت استراليا في عام 72 في استعادة سيطرتها على بلادها من السي آي أي، وسقطت حكومتها، وكيف سقطت الحكومة اليابانية المنتخبة الأخيرة بعد فشلها في تنفيذ وعدها بإنهاء تواجد العسكر الأمريكان على أرضها كمثالين من أمثلة كثيرة، عليهم أن لا يعرضوا بلدهم لمثل تلك السيناريوهات.

كل من يدرك بأننا إن لم نخرج الأمريكان اليوم في زمن أوباما الأعقل والأقل دموية ، فإننا قد لا نتمكن لا نحن ولا أبناءنا ولا أحفادنا من إخراجهم أبداً مستقبلاً، بما يأتي به من رؤساء امريكان من أمثال بوش وماكين وريغان بما فيهم من جنون وحماس للعسكرة والإعتداء والتآمر وقلب انظمة الحكم. كل من يخشى أن تفر هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ العراق، مدعو للإستفادة منها بحزم وإخلاء البلاد من العسكر الأمريكي.

كل من أثار أحاسيسه منظر المشوهين من الأطفال العراقيين حديثي الولادة بفعل اليورانيوم المنظب والأسلحة الغريبة الأخرى التي تنتجها مصانع الدمار الأمريكية الشديدة النفوذ في الحكومة، والقادرة حتى على إشعال الحروب لتصريف منتجاتها، كل من يأمل أن يرى العراق أبنائه أصحاء وتربته ومياهه خالية من التلوث الشعاعي الرهيب مستقبلاً، أن يمتنع عن تمديد بقاء مصدره.

كل الذين لا يريدون أن يرو العراقي مرتعباً كلما مشي وهو يحمل شيئاً قد يبدو غريب الشكل من الجو، أن تصطاده طائرات هيليكوبتر أو طائرات بلا طيار أو وحوش بلاك ووتر بأسمائها القديمة او الجديدة، يجب أن يدعموا خروج العساكر الأمريكان اليوم.

كل الذين لا يريدون استمرار عدم الثقة بين المواطن وحكومته وشكه بعمالتها للأجنبي، وشكه بأن كل قرار حكومي أو قضائي أو برلماني عراقي قد يكون مصدره الضغط الأمريكي، كل الذين لا يريدون رؤية دراما التزوير والشكوك في كل انتخابات برلمانية، ولا يريدون مؤسساتهم القضائية تصدر قرارات مثيرة للإستغراب والخجل، مثل الإمتناع عن النظر إلى الأدلة عندما تدين تلك الأدلة أصدقاء الإحتلال، مدعوون لوقف هذه المهازل بالإمتناع عن التمديد لمن يقوم بها.

كل الذين لا يريدون وزراء دفاع يهددون مواطنيهم بالقراصنة الصوماليين، أو وزراء خارجية يعملون كمساعدين للسفير المتنفذ بدعم قواته في البلاد، أو قادتهم العسكريين الذين انتخبهم الإحتلال أكثر مما انتخبتهم حكومة الشعب، يخوفونهم بهجوم شامل للقاعدة على السلطة في البلد، إن لم يصدر البرلمان قراراته وفق رغبات الإحتلال واتفاقياته، مدعوون لرفض بقاء القوات الأمريكية.

كل الذين يخجلون ان تصبح بلادهم العريقة التاريخ، هراوة أخرى في المنطقة في يد البلطجية الدوليين – أميركا وإسرائيل- لضرب أي شعب يحاول الحركة في المنطقة، وقاعدة انطلاق عسكرية تهدد بالقنابل والنار، كل من يفكر في حريته باختيار حكومة قد لا تناسب الأمريكان وأستمرار قواعدهم، مدعوين إلى رفض أن تكون تلك القواعد في بلادهم بعد اليوم.

كل الذين لا يريدون للعراق مشاكل مع جيرانه، وكل الذين لم تزل ذاكرتهم حية تتذكر الحروب التي خاضها هذا البلد بتنسيق وتشجيع ودعم من نفس من يريدون إبقاء القواعد في البلاد، كل من لا يريدون إدخال العراق في دوامة التحالفات العسكرية التي لا ناقة له فيها ولا جمل، وأن يعيش بسلام مع الجميع في منطقته، أن يرفض التمديد بحزم.

كل الذين اشمأزوا من خدع ومماطلات الأمريكان مثل التلويح بالفصل السابع الذي يفترض أن المعاهدة التي تنتقص السيادة قبلت من أجل الخروج منه، ثم تذهب الكرامة ولا يأتي إلغاء الفصل السابع، كل الذين تثير أحاسيسهم تصريحات السفير الأمريكي الوقحة مرة ثانية عن المساعدة في الخروج من الفصل السابع إذا...كل من يرفض الإستمرار في تلك اللعبة المهينة أن يرفض بقاء القواعد.

كل الذين لا يريدون أن يضعوا العراقي بين خيارين صعبين، قبول الإحتلال الأمريكي الدائم الصريح لبلاده أو عودة الدكتاتورية الصدامية أو غيرها من الجهات الدكتاتورية التي ستقدم نفسها كحل وحيد ممكن لكل من يأس من إخراج الإحتلال بالمفاوضات والمعاهدات والحكومات الديمقراطية، فينقسم الشعب بينهما انقساماً لا صلاح له، كل الذين يخشون على شعبهم من الحرب الأهلية إن بقي الإحتلال، أن يوقفوا هذه الإحتمالات المستقبلية المخيفة فعلاً، وليس كأوهام القاعدة والقراصنة، أن يرفضوا التمديد.

كل الذين يرغبون في صداقة أمريكا بصدق، ولا يودون أن يتحول العداء للجيش الأمريكي في العراق إلى عداء شامل لكل ما هو أمريكي، عسكرياً كان أو مدنياً، ولا يريدون أن يصل الحال في العراق أن ينظر إلى كل من يفتح فمه بما هو أمريكي عدو للشعب العراقي، هؤلاء أيضاً مدعوون للعمل على إخراج الجيش الأمريكي ليتسنى للذاكرة العراقية ان تنسى ما ارتبط به من مآسي وجرائم، أن يقفوا مع المالكي وموقفه الصريح بإخلاء العراق من الوجود العسكري الأمريكي تماماً بنهاية هذا العام.

كل الذين يرفضون أن يسجلهم التاريخ في الخندق الخطأ في هذه اللحظة التاريخية.. وكل الذين لا يريدون ترك المالكي ومن يرفض معه تمديد بقاء القوات الأمريكية بوضوح وإصرار، وحدهم تحت الضغط الأمريكي وتوابعه في معركتهم ومعركة أجيال العراق المصيرية، كل الذين لا يريدون خذلانه وخذلان بلادهم، من خلال موقف متردد يستغله الإحتلال في لحظة تدعو للحسم، أن يقولوا قولتهم الصريحة الواضحة برفض التمديد، أن يخرجوا مع التظاهرات الرافضة، ولو لمرة واحدة، أن يكتبوا ولو مقالتهم الوحيدة، أن يوصلوا صوت الرفض للتمديد، إن كان يمثل صوتهم، إلى أقصى مدى ممكن، وبأوضح تعبير ممكن.




114
كل التفاح في سلة واحدة

صائب خليل
20 نيسان 2011

عندما تتجمع معظم المنافع في خيار معين من الخيارات التي تواجه شعباً ما، أو عندما يتفق الشعب بغالبيته على حكومة معينة، يكون الأمر سهلاً، فيختار الشعب خياره ذي المنافع، والحكومة التي تفضلها الأغلبية المريحة باعتبارها تمثل مصالح الشعب، وينصرف الشعب بعد ذلك لحصاد تلك المنافع، أو يتمتع بالحكومة التي تمثله خير تمثيل، و "يعيش عيشة سعيدة".

لكن غالباً ما تواجه الشعوب، خيارات صعبة، تكون المحاسن والمساوئ موزعة بشكل متوازن بين الخيارات التي يتوجب عليها أختيار أحدها. يضطر الشعب في نهاية الأمر إلى قرار قاس ومؤلم يخسر فيه الكثير من الأمور العزيزة على قلبه، مقابل حصوله على ما هو أكثر اساسية وأهمية في تقديره. هذا "الإنقسام" في المنافع بين جهتين متناقضتين لا يمكن جمعهما، كثير الكلفة دائماً، ككل "إنقسام" ولا مفر عادة من دفع الثمن، بعد الكثير من التفكير والتمحيص للخيار بين الخيارين الصعبين.

هذا بالنسبة للأوضاع الطبيعية للبلدان الحرة نسبياً، أما في حالة البلدان التي تقع تحت تأثير قوي لقوة خارجية او محتلة، فأن تلك القوة لا تسمح عادة لهذه الشعوب بالتمتع بـ "خيارات تتجمع فيها المنافع" أو "حكومة تمثل الشعب" فهذا السيناريو يتعارض مع مصالحها. ففي حالة الشعب تحت تأثير القوة الخارجية، إن انقسم على نفسه، فأن تلك القوة ستلقي بثقلها في أحد الجانبين فيتغلب بسهولة على الجانب الآخر، ولا يعود "الإنقسام" ملحوظاً، بل تتكون حكومة تناسب القوة الخارجية.
وفي حالة القرارات السياسية الهامة، إن انقسم الشعب المحتل إلى قسمين متكافئين في رأيه في الخيار المناسب، فأن القوة الإستعمارية تلقي بثقلها أيضاً لترجح الخيار الذي يناسبها، ولا يعود الإنقسام ملحوظاً أيضاً.
إذن متى يحدث "الإنقسام" لدى الشعب المحتل او الواقع تحت تأثير خارجي؟ لننظر إلى انقسام الشعب في بلدين يقعان تحت تأثير أو أحتلال قوة خارجية قوية، هما فلسطين والعراق.

"الإنقسام الفلسطيني" من الإنقسامات المتداولة أكثر من غيرها في الإعلام العربي، ويؤكد الجميع أنه كلف الفلسطينيين الكثير، ورغم ذلك فهو "إنقسام مصطنع" كما بينت في إحدى مقالاتي التي خصصتها للموضوع سابقاً:"أين هو الإنقسام الفلسطيني الفلسطيني؟ (1)
وتبين المقالة أن هذا المفهوم المنتشر بشكل كبير، ليس سوى وهم يناسب من يسيطر على الإعلام والسياسة، فلو قارنا الحقائق لوجدنا "أن الشعب الفلسطيني متحد أكثر بكثير مما هو منقسم، بل ويفوق اتحاده ووحدة رأيه، أغلب شعوب الأرض"، فهذا الشعب ينتخب حكومة واحدة بأغلبية كبيرة وفي جميع المناطق، من غزة إلى الضفة الغربية، وهو أمر لايتحقق لكل الشعوب، ومع ذلك لا يتحدث أحد عن "انقسام الشعب الأمريكي" أو "إنقسام الشعب الإسرائيلي" الذي لم يحقق أي منهما هذا المستوى من الإتفاق في الرأي، بل يتم التركيز على "الإنقسام الفلسطيني". لا تفسير لما يسمى "الإنقسام الفلسطيني" سوى أنه ناتج عن القاء إسرائيل ثقلها في جانب حكومة عباس غير المنتخبة، لكي توازن هذه الحكومة مع ثقل إسرائيل، حكومة حماس المنتخبة من الأغلبية. هذه هي الحال عادة عندما نرى "إنقساماً" في شعب محتل، يمثل توازناً بين حكومة يريدها الشعب وأخرى يريدها الإحتلال.

وفي العراق تتكرر الصورة في "إنقسام" بين حكومة المالكي وحكومة علاوي المفضلة بشكل شديد من قبل الإحتلال الأمريكي، والذي لم تتورع سفارته في ممارسة مختلف الضغوط التي أدت إلى صعود الأخيرة إلى منافسة حكومة المالكي، رغم فشلها في نهاية الأمر في التغلب عليها. ولم تكتف قوات الإحتلال بتوفير المال والدعم الإعلامي الشديد لعلاوي من خلال وسائل الإعلام العراقية والعربية المملوكة أو "الصديقة" لأميركا، بل ومن خلال ضغط مباشر من قبل السفارة الأمريكية على المؤسسات الصانعة للقرار العراقي، السياسية منها والبرلمانية والقضائية لتمكين افراد العراقية من تجاوز القوانين العراقية والمشاركة في الإنتخابات، كما أن هناك مؤشرات قوية جداً بأن السفارة قد شكلت نواة لتزوير الإنتخابات لصالح علاوي، من خلال الهيئة المستقلة العليا للإنتخابات والتي تميزت تصرفاتها بالشبهة والغرابة، ومن ثم حماية ذلك التزوير من خلال ضغوط وعلاقات مع الجانب القضائي العراقي الذي وصل حد أشتراط عدم استخدام المقارنات بعد العد اليدوي لإثبات التزويرات التي حدثت، وذلك بعد أن جاهدت الهيئة المستقلة للإنتخابات أن ترفض إعادة العد يدوياً.
فرغم شعبيته التي صنعها تركيز وسائل الإعلام والمال، لم يتمكن علاوي من الوصول إلى العدد اللازم من المقاعد، كما أن سمعته السيئة، ليس فقط بين الشعب، بل أيضاً بين السياسيين باعتباره "دكتاتوراً" حتى بين رفاقه، لا يستطيع أن يحتفظ بأية درجة مقبولة من الوحدة بين من يتحد تحت راية حزبه أو كتلته، حرمته من الحصول على الثقة وتكوين أي تحالف لتشكيل الحكومة.
هكذا حدث "الإنقسام" العراقي الشديد الشبه بـ "الإنقسام " الفسلطيني، وهو ليس سوى "خلاف" طبيعي ومتوقع بين الشعب وقوة الإحتلال فيمن يجب أن يحكم هذا الشعب.

إذن السيناريو في الحالتين هو أنه عندما لا يتمكن الإحتلال من فرض الحكومة التي تناسبه، فأنه يسعى لخلق "إنقسام" اصطناعي، يجعل الحكومة الأخرى غير قادرة على العمل على الأقل. فإذا رأيت "إنقساماً" في "شعب محتل فاعلم أن ذلك الشعب غالباً ما يكون متفقاً إلى درجة كبيرة تكفي لموازنة الثقل الذي يلقيه الإحتلال في الجانب المضاد للخيار الشعبي.

ليس الأمر مقتصراً على خيار الشعب لحكومته، بل يشمل الأمر كل الخيارات الأخرى الهامة للشعب، خاصة في القضايا واللحظات المصيرية التي تهم الإحتلال. فهنا أيضاً لا يكون الإنقسام حقيقياً إن وجد، فلو كان كذلك فالإحتلال كفيل بحسم مثل ذلك الإنقسام لصالحه، لذلك إن وجد انقسام فهو يعني اتفاق اغلبية كبيرة من الشعب على خيار لا يناسب الإحتلال.

هذا الإتفاق ليس سهلاً، حيث تتوزع الأفضليات بين الخيارات عادة، ويحتاج الشعب غالباً إلى ضربة حظ كبيرة لكي تكون "كل تفاحاته في سلة واحدة" فلا يتردد ولا يتألم لخسارة عزيزة وتضحية غالية. لكن ما هو "حظ عظيم" للشعب، فهو سوء حظ لمحتليه، لذلك يسعى هؤلاء بكل جهد لتشويش الواقع، لكي لا يرى أصحاب هذا الحظ فرصتهم الذهبية، وذلك من خلال تشويه الواقع وتصويره وكأن هناك توازناً ما في الفوائد والأضرار وانقسامها بين جهتين، ثم يضربون ضربتهم الثانية بترجيح الكفة التي يريدها الإحتلال. هذا لا يعني أن جميع الشعب يتفق على موقف واحد وأن كل من يصوت للموقف الآخر متآمر مع الإحتلال، لكن الجانب الآخر يكون أضعف بكثير في العادة، ويلعب الضغط الإعلامي الخطير والسياسي والإبتزازي دور إعطائه القوة لينافس الخيار الشعبي ذو الأغلبية الواضحة، لذلك يبقى مثل هذا الإنقسام "وهمياً" رغم وجود أقلية من الشعب تؤيده.
ومثلما خلق الإعلام والضغط الأمريكي الإسرائيلي "الإنقسام" الفلسطيني الوهمي بين عباس وحماس، و"الإنقسام" العراقي الوهمي بين علاوي وفريقه البعثي من جهة، والمالكي وجماعاته من الجهة الأخرى، فأن "الإنقسام" الحالي في مناقشة بقاء قوات الإحتلال الأمريكي في العراق ليس سوى وهم إعلامي آخر، يهدد أن يصبح أقوى من الحقيقة التي تقول أن جميع الفوائد في ترحيل هذه القوات، وجميع الأضرار في بقائها، وأن هذا "الحظ النادر" الذي توفر للشعب العراقي في هذه اللحظة الحرجة، يتعرض للضياع.

التفاحات

رغم ان استعادة الكرامة والسيادة وحدها يفترض أن تكفي اي شعب سبباً لطرد أي أجنبي يكون وجوده مهدداً لها، فأن في إخلاء العراق من القوات الأمريكية فوائد مباشرة كبيرة وعديدة، أهمها:

1- تآلف المبدئية والكرامة مع الفائدة المباشرة، وهي حالة نادرة، حيث تفترض الكرامة عادة التضحية بالفوائد، لكنهما هنا يقفان معاً، فليس هناك من حاجة لتقديم أي منهما كتضحية.

2-  انسجام موقف الحكومة مع الشعب في الموضوع وما ينتج عن ذلك بالضرورة من تلاحم واقتراب من الديمقراطية والإستقرار، فالشعب كان ضد المعاهدة منذ البداية وهو اليوم أشد في عدائه للتمديد. والمالكي أعلن مراراً أنه يرفض بقاء جندي امريكي واحد بعد عام 2011 وقال الناطق باسم الحكومة أن بقاء الأمريكان يعقد الأمور ويجلب المشاكل.

3- إنسجام موقف الحكومة مع الموقف المعلن على الأقل لجميع الكتل السياسية (عدا الكتلة الكردستانية) في هذا الموضوع، وهو ما يبشر بتداعيات إيجابية على الوضع السياسي العراقي وعودة الإنسجام بي الحكومة وبين الكتل الآخرى مثل التيار الصدري المعارض الأشد للمعاهدة والتمديد، وتووفرصة إعادة الصلح واللحمة بينهما وإصلاح ما خربته أيام جيش المهدي من جهة، وأيام "صولة الفرسان" وأعتقالات الصدريين بضغط لا شك فيه من الأمريكان وبتنسيق وتنفيذ من المجلس الأعلى، الذي مازال بامتياز، الممثل الأعلى للجانب الأمريكي من الطيف السياسي الشيعي العراقي. أي أن خروج القوات الأمريكية خطوة عملية كبيرة نحو "الوحدة الوطنية"، تختلف عن تلك الخطوات "الإعلامية" الباهتة.

4- تآلف "صوت العقل" الذي يدعو إلى تجنب العنف وعسكرة البلاد وتكوين التكتلات أو المشاركة فيها، كما عبر عنه تصريح لرئيس الوزراء المالكي، مع صوت الحماسة الوطنية الداعي إلى إزالة سلطة الإحتلال.

5- تآلف أهداف الديمقراطية مع الحرية، فالحرية تريد رحيل الأمريكان كآجانب لا يمكن الإحساس مع وجود أسلحتهم بالحرية، وفي نفس الوقت فأن التخلص من السلطة الأمريكية أو على الأقل تخفيفها من خلال رحيل قواتهم العسكرية يمثل انتصاراً ديمقراطياً كبيراً. فالتاريخ لم يسجل وجود جيش أجنبي في بلد على أنه دعم للديمقراطية، كما أن وجود الأمريكان وسلطتهم في العراق قد برهن عملياً بأنه عمل مضاد للديمقراطية العراقية من خلال تدخل السفارة الأمريكية في الإنتخابات الأخيرة والضغط على المؤسسات الدستورية والقضائية العراقية علانية وبصراحة، مما ادى إلى أن تهدد الحكومة، ولأول مرة منذ احتلال العراق بطرد السفير الأمريكي من العراق. كذلك نتذكر استبدال رئيس الحكومة المنتخب السابق (الجعفري) التي أشرفت عليها كونداليزا رايس بشكل مباشر.

6- إنتفاء الحاجة للميليشيات وعدم توفر أي مبرر لتواجدها، والذي قد تجد في بقاء الإحتلال مبرراً قوياً وشرعياً لعودتها، أما انسحاب الجيش الأمريكي برمته فهو لا يدع مبرراً أو مجالاً لعودتها إلى شوارع العراق حتى لو أراد اصحابها ذلك.

7- رغم تظاهر الأمريكان باهتمامهم بمحاربة الفساد العراقي، إلا أنهم من الناحية العملية يعتبرون الداعم الأكبر للفساد، ويبدو أن الموقف الأول ليس إلا للتغطية على الموقف العملي الثاني. فالفساد الأعظم كان مدعوماً من الإحتلال وقد توفرت براهين قاطعة عليه وعلنية وصلت حد أن يهاجم الجيش الأمريكي الشرطة العراقية بالسلاح لإطلاق سراح وزير مدان بالسرقة، وهي وقاحة وصلف نادرين في دعم الفساد، الذي تقوم به عادة حكومات الإحتلال في السر، وتضطر للتخلي عن مفسديها عندما يتطلب الأمر عملاً مكشوفاً، لكنها وصلت في العراق مراحل نادرة في فضائحيتها.

8- إن خروج القوات الأمريكية، والبرهنة أنه لا توجد عفاريت عربية سوف تهاجم كردستان، خير طريقة للبرهنة على خرافة ذلك المنطق، واستعادة علاقة التآخي والمحبة، ليس بين الشيعة والسنة فقط، بل ايضاً بين العرب والكرد وكل مكونات العراق الأثنية والدينية والطائفية، تماماً كما برهنة ساحة التحرير المصرية انسجام الشعب المصري وخرافة الكراهية بين مكوناته الدينية وأنها كانت من اختراع وإدامة القوى المضادة للشعب.
فليس من الطبيعي أن يبقى الكرد يحسون بأن وراء سور الجيش الأمريكي "الحامي"، وحوش تتربص بهم وتريد أن تلتهمهم. ويبقى الشيعة والسنة مقتنعين بأنهم سيئين وغير ناضجين وغير آهلين لحل مشاكلهم بأنفسهم وأن القوة الأجنبية القوية هي التي تمنعهم من الإندفاع الجنوني لتحطيم بعضهم البعض.

9- التخلص من بقايا الصداميين، فقد برهنت الإنتخابات الأخيرة أن السفارة الأمريكية هي الحصن الحصين والصديق الأمين للصداميين وأن أميركا تسعى بجهد محموم لإعادة الصداميين إلى الحكم، أو السيطرة على الأمن، وكان ذلك مكشوفاً في فترة الإنتخابات إلى الدرجة التي دفعت بالسفير الأمريكي إلى التصريح بأن "أميركا لا تريد إعادة البعث"! (2)
لذلك فأن سحب القوات الأمريكية وإضعاف سلطة تلك الدولة على أرض العراق إضعاف لبقايا الصداميين الذين يحتمون بها.

10- الإستقرار الإقليمي. فليس هناك عامل على زعزعة الإستقرار الإقليمي أكثر من تواجد جيش أجنبي عدائي (بالضرورة) في إحدى دول المنطقة. فماذا لو بقي الأمريكان في العراق، وحشدت إيران جيوشها على الحدود العراقية بسببه، وماذا لو قال الإيرانيون مثلاً أن طائرة بدون طيار أمريكية جاءت من العراق وقصفت مواقعهم او مناطق مدنية لهم كما تفعل في أفغانستان وباكستان؟
وماذا لو أنكر الجيش الأمريكي ذلك؟ من سنصدق؟ هل لدينا طريقة للتحقيق أصلاً؟ ولو عرفنا الحقيقة، فماذا بإمكان الحكومة ان تفعل؟ هل تستطيع أن تطلب منهم مغادرة البلاد بعد توقيع معاهدة، حتى لو كان ضمن بنودها عدم التحرش بالجيران؟ من سيخرجنا عندها من تلك المعمعة التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، بل ورطة لا مخرج منها؟

11- وأخيراً فحتى الصداقة الأمريكية، أو أحتمالها لا يتواجد إلا في سلة خروج القوات الأمريكية! فحتى لو انزعجت الإدارة العسكرية الأمريكية من عدم وجود رغبة لتمديد بقاء عساكرها في العراق، فأن ذلك الغضب لا يمنع الصداقة مستقبلاً، حين تجد الإدارات الأمريكية أن طريق الإستفادة من العراق مسدود إن كان من خلال صداقة الفاسدين فيه وتمكين اللاأخلاقيين فيه من بقايا الصداميين واشباههم أخلاقياً من السلطة، وأن طريق التدخل لتعويج الديمقراطية ودعم الإرهاب ومحاولات تغيير الحكومات لا توفر طرقاً للإستفادة من خيرات العراق، ولا من خلال سفارة رهيبة هي عبارة عن قلعة عسكرية استخباراتية تجسسية على كل عراقي، و أن طريقتها الوحيدة للإستفادة من تلك الخيرات تكون بصداقة شعبه، فربما يمكن بدء علاقة "صداقة" أو على الأقل علاقة منفعة مقبولة.
عندما يكون المرء حراً في سلطته على بلده تكون له المرونة اللازمة لكي يجعل المقابل يرى أن الفائدة التي يمكن أن يجنيها ذلك المقابل منه، لا تتم إلا برضاه وصداقته، أما من يشعر أن أموره بيد قوة عسكرية أجنبية بحجة الحاجة إليها للأمن أو للتدريب أو أية حجة وهمية أو حقيقية، فلن يكون له تلك المرونة ولن يتحكم بالفائدة التي يجنيها المقابل منه، ولن يجد المقابل أي سبب لصداقة مثل هذا المستسلم الغير قادر على الرفض.
يقول المدافعون عن تمديد بقاء القوات أن أميركا "ليست وحشاً مصاصاً للدماء" والحقيقة أن ما يجعل من أميركا مصاصاً للدماء أكثر من أي شيء آخر، هو هذا التساهل في السيادة والتراخي في دفعها بعيداً عن بيتنا لكي ترى أن من أراد دخول البيت مجبر على أن يكون صديقاً لأصحاب الدار، فمن هو داخل الدار أصلاً، ولا يبدو أصحاب الدار لديهم الإرادة الكافية لإخراجه، لن يجد داعياً لمثل تلك الصداقة. الصداقة تتحقق، وخاصة على المستوى الدولي، حين تجد الدول أن الصداقة هي خير ما يحقق مصالحها، لذلك فعلى من يريد الصداقة ان يجعل المقابل يفهم أنها الطريق الأنفع لتعامله معه، وأن بقية الأبواب مغلقة، وهذا مستحيل في بلد تتواجد فيه قوات البلد الآخر الأقوى بما لايقاس.
بالمقابل فأن بقاء العراقي يحس أن أرضه تحت بساطيل القوات الأمريكية، وتحس اميركا أنها مسيطرة على العراق ولها القدرة على التحكم والمناورة فيه واحتمال التأثير في القرارات حول من يحكمه من خلال القوة العسكرية والتجسسية التي يوفرها له مركز العمليات الهائل المقنع بشكل سفارة، في مثل هذه الحالة فأن التفكير في "صداقة" يعتبر من أوهام تفكير التمني لمن يتمنى صداقة أميركا. والحقيقة أن احتمال تحول العلاقة العدائية بين أميركا وإيران إلى "صداقة" أكبر بكثير من إمكانيتها مع دولة شبه خاضعة لها. فالعداء يمكن أن يتحول إلى صداقة، إن كان فيه بعض الإحترام المتبادل، حيث يمكن ان يكتشف الطرفان أن الصداقة من مصلحتهما بدلاً من العداء، أما الإحتقار من جهة والخوف والكراهية من الجهة الأخرى، فلا ارى كيف يمكن أن تتحول الى صداقة. هذا الخوف والكراهية أثبتتها الإحصاءات المتتالية والتقارير عن راي الشعب العراقي بالجيش الأمريكي، ويثبتها اليوم من جديد تحذير في 14 نيسان من حكومة الولايات المتحدة لجميع الأمريكان من السفر إلى العراق في اي من محافظاته (3) فكيف لهذا الحال أن يتحول إلى صداقة، إلا في أذهان الحالمين؟ فالإحتلال اشد معوقات الصداقة.

إذن ليس هناك "إنقسام" في الأفضليات بين خيار رحيل القوات وبقاؤها، وما يطرحه الإعلام ليس سوى انقساماً وهمياً يعتمد على المراوغة الإعلامية بالحقائق والأكاذيب، ككل "الإنقسامات" في البلدان الواقعة تحت تأثير قوة أجنبية. ففي خيار الإصرار على عدم تمديد الإتفاق، وعلى مغادرة القوات الأمريكية العراق، تكمن كل التفاحات للعراق: إحساس العراقي بكرامته، واحترام الجوار والآخرين له، وبدء الإعتماد على النفس، وحماية الديمقراطية، وتراجع الفساد وخوفه من العقاب، ووحدة الصف العراقية بين الطوائف والقوميات، وإحساس العراقي بأن سياسة بلده الخارجية ومواقفه تمثل رأي مواطنيه، وسياسته الداخلية في توزيع الإقتصاد بشكل يحترم فائدة مواطنيه كمبدء وحيد، وليس أولويات البنك الدولي أو مبادئ حرية السوق، التي ليست سوى حرية الشركات في استغلال البلاد بالضد من مصلحة اصحابها كما تشير تجارب جميع دول العالم الثالث، وعدم وجود ميليشيات في شوارع البلاد، بعدم وجود حاجة إليها أومبرر لها، واحتمال صداقة أميركا لمن ير في تلك الصداقة فائدة هامة، دون أن يتهم هؤلاء بالعمالة للمحتل من قبل الآخرين، ودون أن يتحملوا تبعات الجرائم التي يمكن أن تقوم بها القوات الأمريكية إن تواجدت في البلاد كما هو الحال الآن.

من كل هذا نرى بوضوح أن الخيار العقلاني الوحيد، حتى من يرى في صداقة أميركا حلمه الأكبر، هو في دفع القوات الأمريكية إلى الخروج، لأن أية مشاعر إيجابية تجاه أميركا لا يمكن أن تبدأ بين الشعب العراقي إلى أن يخرج آخر جندي امريكي من البلاد ويتبخر ما يسببه وجوده من خوف وكراهية وقلق لدى العراقيين تجاه الأمريكان، وكل ما ينغص اعتزاز العراقيين بوطنهم ومحبتهم له واستعدادهم للتضحية من أجله.

(1) http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2009/11/08/179253.html
(2) http://www.yanabeealiraq.com/articles/saeb-khalil250809.htm
(3) http://www.ekurd.net/mismas/articles/misc2011/4/govt1824.htm


115
تمديد بقاء القوات الأمريكية - مشكلة ذاكرة!

صائب خليل
14 نيسان 2011

رغم أن مناقشة "قبول أو رفض" الإحتلال، أو قوات عسكرية أجنبية، وتمديد بقائه بحد ذاتها عملية مهينة، فهي تشبه من يعد النقود ليرى إن كانت تكفي ثمناً لكرامته، لكن واقع الحال يفرض علينا ذلك على ما يبدو، مما يفرض من مرارات.

جميع المناقشات حول تمديد بقاء القوات الأمريكية في العراق اليوم، تدور بشكل رئيس حول جاهزية العراق للتصدي للتحديات الأمنية. وكما هو واضح للجميع فأن ذلك لا يعني التحديات الخارجية، فلم يعد حتى الأمريكان أو مثال الآلوسي أو أياد علاوي يقولون بأن الجيوش الإيرانية ستدخل العراق عند خروج الجيش الأمريكي منه. لذلك فالمقصود اليوم هو الأمور الأمنية الداخلية، ويبدو من المناقشات أن التركيز هو على نقطتين هما "الإرهاب" والبعث.
كذلك أبرز تهديد الصدريين بإعادة جيش المهدي إن بقي الإحتلال، أبرز قلقاً آخر يفضل البعض بقاء الأمريكان من أجله، وهو القلق من الميليشيات. وهناك أيضاً من يرى ان بقاء اميركا ضروري "للحفاظ على الديمقراطية"، وأصوات أخرى تطلب مساعدة اميركا للقضاء على الفساد وأخرى تجد أن الولايات المتحدة وصداقتها ضروريان لإزالة التخلف التكنولوجي للبلد.

تعالوا نناقش هذه النقاط، رغم مرارة ذلك، واحدة واحدة.

فأما بالنسبة للإرهاب، فهناك ما يكفي من الدلائل على أن قوات الإحتلال قد دعمت الإرهاب بل وتم الإمساك بها متلبسة في الشروع بتنفيذ عملية إرهابية "إنتحارية" (البصرة 2005) (1) إضافة إلى دلائل أخرى كثيرة متجمعة في أوقات وأماكن مختلفة منها الحرب التي جرت على القاعدة والتي حمتها القوات الأمريكية أكثر من مرة، خاصة في ديالى.
وليست هي المرة الأولى التي تمسك فيها القوات الأمريكية وتوابعها متلبسة بالإرهاب، ولعل تعبير البروفسور جومسكي حين سؤل عن أفضل طريقة تحارب بها أميركا الإرهاب، فقال "بالتوقف عن المشاركة به"!

وأما من ناحية حماية العراق من البعث، فلقد أثبتت فترة الإنتخابات الأخيرة إضافة إلى ما قبلها، ان العلاقة بين البعث والأمريكان لم تتوقف عند جلبهم البعث بقطار أمريكي كما قال علي صالح السعدي، أحد أكبر قيادييهم في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ولا في ترك البعث يستعيد السلطة ومده بالبنزين في انتفاضة 1991 بل أستمرت العلاقة الوطيدة خلال فترة الإحتلال الأمريكي كلها واختارت سلطة الإحتلال أول رئيس للحكومة متمثلاً بأياد علاوي، الملطخة يده بكل جرائم البعث الأمنية والمستمر على نفس اساليبه والقائل مؤخراً بأنه لم يندم على اي شيء قام به في حياته، بضمنها على ما يبدو ما يشهد به زملاؤه من الأساليب البعثية عندما كان طالباً في الكلية وعندما كان قيادياً في منظمة حنين الأمنية البعثية، والذي كان شغله الشاغل الوحيد السيطرة على الأمن بعد 2003 وإعادة نفس رجال أمن صدام حسين إليه ولملمة كل البعثيين الممكن لملمتهم في قائمة العراقية. علاوي هذا كان خيار أميركا التي يريد البعض بقائها لحمايته من البعث، وبقي خيارها الذي استماتت من أجله في الإنتخابات الأخيرة.

وأما بالنسبة لموضوع الديمقراطية فلقد رأينا للتو التدخل الأمريكي السافر في المسيرة الديمقراطية ليس فقط في الضغط على المؤسسات الديمقراطية بكل الأساليب الإبتزازية من أجل فرض قرارات مضحكة مبكية لتأمين تمكين بقايا البعث ومن هو بأخلاق البعث من الحصول على أكبر سلطة ممكنة في البلد وبالضد من الخيار الديمقراطي للشعب (2). وليست تلك الممارسات إلا تذكير بما هو أشد جريمة ضد الديمقراطية حين أرسلت أميركا وزيرة خارجيتها السابقة كونداليزا رايس إلى العراق في الأول من نيسان 2006 لإجبار رئيس الحكومة المنتخب الجعفري على التنحي وإعادة اختيار رئيس حكومة آخر بدلاً له (3) وكان المالكي، وعلى الأغلب كانوا يأملون أن يكون عادل عبد المهدي. هكذا يساعد الأمريكان على الحفاظ على الديمقراطية!

أما عن الفساد، فيكفي أن نذكر بأن أفضع جرائم الفساد تمت تحت حماية الأمريكان، الذين لم يتورعوا حتى عن إختطاف المجرمين الكبار المدانين بالفساد من الوزراء من يد الشرطة، وبالقوة المسلحة، وتهريبهم إلى أميركا!
ويمكننا أن نلاحظ أيضاً أن أفسد مكان في العراق هو أكثر مكان رحب بالأمريكان وأكثر مكان يوده قادة الأمريكان وسفرائهم وأكثر العلاقات مودة مع قادته وهو كردستان! فليس هناك مكان آخر في العراق تم فيه توقيع عقود سرية وبشكل هستيري مع شركات النفط الأجنبية وبشروط مشاركة الإنتاج وتزوير الأوراق لصالحها، دون أن يكون في حكومته أو برلمانه الذي لم يجرؤ على طلب الإطلاع على العقود، دون أن يكون في أي منها شريف واحد له من الجرأة أن يعترض على ذلك الفساد المسيطر حتى النخاع! وحتى اليوم يبحث البرلمان العراقي عن 40 مليار دولار عراقية "إختفت" بقدرة قادر من بين يدي بريمر.
هؤلاء هم الأمريكان الذين يأمل البعض أن يساعدوا العراق في محاربة الفساد!

وأما التطور التكنولوجي، فأولاً لا أدري لماذا يفترض دعاة بقاء القوات الأمريكية أن الصديقة أمريكا لن تتعاون معهم تكنولوجياً إلا إذا سمحوا لها بوجود عسكري في البلاد. اليس من المفروض اننا وقعنا اتفاقية "التعاون الستراتيجي" التي يعلم الله وحده وبضعة من الناس ما تحتويه، من أجل التعاون التكنولوجي وغيره؟ أم أن تلك الإتفاقية كانت لعبة أخرى؟
وتعالوا نفترض أن اميركا لن تنعم ببركاتها التكنولوجية إلا للبلدان التي تخضع لإرادتها العسكرية، رغم أنه فرض مهين لكل من أميركا و"أصدقاءها"، ولنفترض أيضاً أن كل التكنولوجيا في دول العالم المتقدم الباقي لا تكفينا وأن لا أحد يستطيع مساعدتنا في بناء تكنولوجيتنا سوى أميركا، وحدها لاشريك لها. لننظر إلى مثال قريب جداً منا. لدينا في يسار خارطتنا أحدى الدول ألأكثر "صداقة" لأميركا، "صداقة" لا نسمح لأنفسنا أن نحلم بالوصول إليها. وعلى يمين خارطة العراق دولة تعادي أميركا إلى درجة لا نتخيل أننا يمكن أن نفكر بالوصول إليها أو نريدها.
دعونا نبقى في أمثلة قريبة منا، ولا نجعل من مناقشتنا أضحوكة بالمقارنة بيننا وبين اليابان والمانيا..لنقارن بدول تشبهنا قليلاً، لنأخذ هاتين الجارتين السعودية وإيران.
السعودية، تتمتع بالصداقة الأميركية الأولى، وإيران بعداوتها الاولى. السعودية تنتج أضعاف ما تنتج إيران من النفط، وإيران تعيل أضعاف ما تعيل السعودية من النفوس. السعودية لم تواجه حرباً، إلا اللهم التحرشات الصغيرة التي تقوم بها قواتها هنا وهناك، وإيران تعرضت لحروب أصدقاء أميركا منذ ولادة ثورتها. السعودية تتمتع بأفضلية تجارية وانفتاح غربي إقتصادي عليها، وإيران "تتمتع" بحصار أمريكي غربي منذ ربع قرن، ومع ذلك، إن لم نعتبر القصور الفارهة والأبراج التي لا معنى لها والأسلحة المتطورة المستوردة، أموراً تكنولوجية، فأي من الدولتين أكثر تقدماً تكنولوجياً؟ تلك التي تتمتع بصداقة أميركا القصوى أم بعدائها الأقصى؟ وأيهما أكثر ديمقراطية؟ أي الشعبين له رأي أكبر فيمن يحكمه؟
هذه هي صداقة أميركا التي لا تأتي إلا بقبولنا جنودها، ويراد لنا أن نستفيد من مساعدتها التكنولوجية.

أما جيش المهدي والميليشيات فأقول ببساطة أن الصدر يهدد بإعادة جيش المهدي إن بقي الإحتلال وليس إن رحل! لذلك فمن الأجدى بمن ينزعج من جيش المهدي أن لا يعطيه سبباً وجيهاً للعودة. فهل يساعد بقاء  القوات الأمريكية على التخلص من الميليشيات أم هو يعيدها، وهذه المرة بدعم كبير ومبرر قوي لا ينكره عليها أحد؟

المفروض ان تكون الحرية والإعتزاز بالذات قيماً عليا لا تقارن بأية مكاسب أخرى، ولذا يفترض بأي شعب كريم أن لا يناقش ويوازن أفضليات قبوله حماية جيش أجنبي مقابل أفضليات حريته، ولذلك أجد أن المناقشة بحد ذاتها مخجلة. ومع ذلك ولحسن الحظ، يمكن حتى للنفعيين الذين لا يحسبون للكرامة والسيادة حساباً أن يروا بأن منافع التخلص من القوات الأمريكية تزيد عن منافع بقائها، وأضرار البقاء أكبر من أضرار دفعها خارج البلاد، فما الذي يبقي المناقشة موجودة حتى الآن إذن؟

لا تفسير لدي سوى أن السر يكمن في أن تلك النقاط لا تذكر في الإعلام على الإطلاق، ولسبب لا يعلمه إلا الله والراسخون في الإعلام وأروقته السرية.
لقد كانت اول مقالة كتبتها عن العسكرييين البريطانيين الذين أمسكا متلبسين بالبدء بعملية إرهابية تحت عنوان "علينا ان ننسى: البريطانيان كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد" (1). فقد أدركت منذ ذلك الحين أن اغتيال تلك الحقيقة ستكون المهمة الأولى للإعلام العراقي الموجه أمريكياً. لقد كان ذلك "النسيان" ضرورياً، فتذكر مثل هذه الحقائق يعرقل إدامة أسطورة أن الجيش الأمريكي ضروري لمحاربة الإرهاب في العراق.

وبنفس الطريقة كان علينا أن ننسى أن أميركا هي التي تهرب الفاسدين لكي يمكن إقناعنا بأنها يمكن أن تساعدنا بمحاربة الفساد، وأن ننسى أن إيران أكثر تطوراً تكنولوجياً من جميع أصدقاء أميركا في المنطقة وأن شعبها يعيش ديمقراطية، على نقصها، لا تقارن بحالة أي من أصدقائها في المنطقة وأن ننسى أنها أزالت الجعفري بالضغط والإبتزاز، وإلا فكيف نقتنع بضرورة بقاء جيوشها لحماية ديمقراطيتنا؟ وأن ننسى دفاعها المستميت عن كل صدامي وكل غير صدامي بأخلاق صدامية وتدخلها في نتائج الإنتخابات من أجلهم وتفاوضها معهم في السر والعلن، في اسطنبول وغيرها... فإن لم ننسى ذلك فكيف سنقتنع بأن اميركا تساعدنا على التخلص من بقايا الصداميين والبعث الذي خلقته وأدخلته العراق من قبل؟

لماذا كل الأسباب التي تساق لقبول تمديد المعاهدة، أسباب مقلوبة؟ لماذا لا يقدم مؤيدو التمديد مبررات سليمة؟ ببساطة لأنه لا توجد مبررات سليمة للتمديد! لقد تساءلت مثل هذا التساؤل عندما كانت المناقشات تدور حول توقيع المعاهدة قبل ثلاث سنوات فكتبت : معاهدة لا تجد ما يدافع عنها سوى الكذب- (4)، فلم تكن هناك أية مبررات حقيقية لتوقيعها غير الضغط والإرهاب والإبتزاز والرشاوي الأمريكية على الحكومة والبرلمان، واليوم لا تجد تلك المعاهدة ما يدافع عن تمديدها سوى أسباب مقلوبة يأمل أصحابها ان لا ينتبه لاعوجاجها أحد!

يقول تعريف ذكي، أن "الذاكرة جهاز سياسي"، ويقول آخر ساخر "الذاكرة جهاز للنسيان"، أي أننا إن أردنا أن نقنع انفسنا بشيء، فأن ذاكرتنا "السياسية" (المراوغة) ستختار أن تنسى كل الحقائق التي تعرقل تبريرنا لما نريد وقبولنا به.

لكن لكل "جهاز" قدراته المحدودة، وحتى لمن تساهل بشان الكرامة والسيادة، ونجح في تمويهها في "تعريفات حديثة"، فأن أعمال الأمريكان خلال بضعة السنين هذه، كانت أكبر من قدرة أية ذاكرة على النسيان!

(1) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=46809

(2) أميركا تريد إعادة البعث؟ من يقول هذا الكلام؟
http://www.yanabeealiraq.com/articles/saeb-khalil250809.htm
(3) صائب خليل - برج الحرباء يمر على سماء بغداد
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=63228
(4) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/28usa.htm




116
ليبيا أمام تحديات الإحتلال واليورانيوم ومصر أمام المؤامرة؟

صائب خليل
30 آذار 2011

قلت لأحد السياسيين في بروكسل، وكان يتحدث عن مبادئ أوروبا والدعم الذي يقدمه المجتمع الدولي، قلت له: لاحظ أن الليبيين لم يطلبوا عون "المجتمع الدولي" حتى كان الخيار بينه وبين الموت! إلى هنا وصلت الثقة بالمجتمع الدولي بين العرب! ولا نستطيع ان نلوم الليبيين على ذلك ولا العرب، فانعدام الثقة لم يأت عبثاً من لاشيء، ولا هو جاء من جنون عربي بعيد عن الواقع. فالتجارب والكيل بمكيالين، والتآمر والتدمير التي أصابت كل دولة دخلتها قوات "المجتمع الدولي" وأوضح الأمثلة العراق، شاهد على ذلك.
الجميل في الأمر أن الغرب يدرك ذلك ويقره ولا يحاول الدفاع عنه. إنه لم يستغرب أنعدام الثقة به إلى درجة مفاضلتهم مع الموت، ولم يحاولوا الدفاع عن انفسهم، بل يؤكدون صحة الفكرة، وأحقية الحذر، بأن يلتزمون في أحاديثهم بطمأنة الليبيين بأن الأمر "مختلف تماماً عن العراق" وأنهم قادمون لحماية المدنيين من شرور القذافي فقط وأنهم لن يبقوا وسيغادرون بأسرع وقت ممكن... المشكلة هي أن هذه العبارات تؤكد أن الحالة قد تكون نفسها كما كانت في العراق، ففي العراق استعملوا نفس الجمل والعبارات أيضاً.
الليبيون يؤكدون وعيهم بحذرهم البالغ، فيطلبون أقل ما يمكن...طلعات جوية، قرارات سياسية.. على أن لا تطأ أقدام "المجتمع الدولي" أرض ليبيا، فقد يتعذر زحزحتها بعد ذلك، فهي نفسها ستعمل على أن تكون زحزحتها عسيرة ومكلفة.

وإذا كان الإحتلال وإخراجه هو الخطر الأول، كما يعي الشعب الليبي ذلك بوضوح، فلعل هناك خطر آخر أقل وضوحاً.

من بغداد المكتوية بالمصائب المختلفة كتب لي قارئ كريم النفس (1) أن أنبه الشعب الليبي إلى "ضرورة الابتعاد عن الاليات المدمره من طيران التحالف لخطورتهاعلى الصحه لانهم يستخدمون الاسلحه الحاويه على اليورانيوم المنضب كما فعلوا في العراق."
ولم نعرف بعد إن كان التحالف وحلف الناتو قد استعمل بالفعل أسلحة تتضمن هذه المادة المشعة حتى الآن، إلا أن الحذر واجب، كما أن توجيه أسئلة مباشرة وواضحة بهذا الخصوص إلى قيادات التحالف والأطلسي يعتبر أمراً ضروريا ًوعاجلاً، واتخاذ كل ما يلزم لوقفها فوراً إن كانت تستعمل بالفعل.
وللأخوة الليبيين الذين لم يطلعوا بعد على موضوع وخطر اليورانيوم المنضب نشير إليهم بمراجعة الموقع الذي انشأناه  في مجموعتنا "من أجل عراق نظيف من المخلفات الحربية المشعة، وإنقاذ الضحايا"(2) وفيه دراسات وصور للحالات الغريبة التي أصابت أبناء وبنات المناطق التي تعرضت للقصف في العراق، خصوصاً في محافظات البصرة وميسان والناصرية، ومنها:
كثرة حالات الأجهاض المتكرر والولادات الميتة.
ظهور حالات من التشوهات الولادية ليست فقط رهيبة، بل وغير معروفاً من قبل.
إنتشار العقم لدى رجال ونساء، وبينهم من خلف أو أنجب من قبل.
كثرة الأصابات السرطانية في المناطق التي قصفت بالأسلحة الغربية
إصابة أكثر من فرد واحد من أفراد العائلة الواحدة بأمراض سرطانية
إنتشار الحالات السرطانية لدى عوائل لم يصب أحد منها من قبل.
إصابة المريض الواحد بأكثر من حالة سرطانية( 2 و 3 وحتى 4 حالات) في اَن واحد.
إنتشار أمراض سرطانية وسط أعمار غير الأعمار المعروفة طبياً، مثل سرطان الثدي لدى فتيات بعمر 10 و 12 سنة، وسرطانات أخرى نادراً ما تصيب شريحة الأطفال
إرتفاع الأصابات السرطانية والوفيات بالسرطان بنسب عالية جداً، بلغت أضعاف أضعاف ما كانت عليه قبل عام 1989
عدم إستجابة مرضى السرطان للعلاج الكيميائي .
وما تزال هذه المشكلة قائمة في العراق حتى الآن ولم يتخذ بحقها ما يستحق الذكر من الإهتمام اللازم، فنرجو أن يعجل أبناء ليبيا بالوقاية من هذا الوباء المرافق لجيوش التحالف الحديثة، حيثما حلوا كما في كوسوفو ايضاً على سبيل المثال حيث سجلت حالات مماثلة، ليمنعوا عن أجيالهم القادمة ما أصاب ضحايا هذه المادة من أضرار لم نعلم حتى الآن مداها وحجمها الحقيقي.
ونذكر هنا أن المجموعة أوقفت نشاطها إثر بدء الإنتخابات العراقية التي استطالت وتكاثرت مشاكلها ومشاكل تشكيل الحكومة، مما جعل تأثير هذا النشاط معدوماً لإهتمام الحكومة والسياسيين والناس بتلك المعارك التي ربما لا تقل خطورة عن اليورانيوم المنضب في تاثيرها على مستقبل العراق، ولعلنا نعود إلى نشاطنا فور عودة الحياة في العراق إلى الحد الأدنى من الشكل الطبيعي الذي يجعل اهتمام الناس والحكومة بالموضوع ممكناً. نرجو أن لا يقع الليبيون في نفس الورطة المؤلمة هذه.

أما في مصر التي تمكن شعبها من إزاحة دكتاتوره بدون مساعدة من الغرب فقد نجا من ذلك النوع من المشاكل لكنه يواجه مشاكل أخرى خطيرة بلا شك. فهذا الشعب يتساءل اليوم: ما هو موقف الحكومة العسكرية المؤقتة حقاً؟ وأين تتجه مصر؟

ولعل كاتب هذه السطور كان أول من نبه إلى المشكلة التي بدأ الثوار المصريون بوعيها بشكل متأخر نسبياً، فكتبت في 30 كانون الثاني من هذا العام في مقالة تحت عنوان "ثورتا تونس ومصر - أخطار اللطف وامتصاص الزخم":
"محاذير ثورة مصر:الترحيب البالغ بالجيش:
وفي مصر، من الظواهر الملفتة للنظر، والمثيرة للقلق أيضاً، الترحيب البالغ بين المتظاهرين بالجيش المصري. والإعتماد عليه والثقة به بشكل يبدو غير محدود.
ورغم أن استمالة الجيش من التكتيكات المعروفة في الثورات في الفترة الأخيرة، فليس المقصود أن يذهب الشعب بعيداً في تلك الإستمالة إلى درجة إطاعة الجيش واتباع أوامره، بل جعل الجيش ينقاد لثورة الشعب. لكن ما يجري في مصر الآن، يبدو أن الجيش هو الذي يفرض اجندته وبلا مشاكل! وكأن التظاهرات تقول دعوا الجيش الرقيق يمنعنا وليس الشرطة العنيفة! (3)

 وقد كررت التحذير في مقالات تالية، وكانت بعض ردود الفعل مستنكرة لمحاولتي "تخريب العلاقة بين شعب مصر وجيشها الباسل" كما كتب أحد المعلقين، وكتب آخر مجهول الهوية لاحقاً أنني أحاول أن أشكك بالعبقرية التي أدار بها ثوار مصر ثورتهم فكسبوا الجيش.
ولكن مع الوقت أزدادت الأصوات المحذرة داخل الثوار أنفسهم، وضاع الكثير من الوقت في الصحوة المتأخرة من أحلام اليقضة بأن يكمل الجيش الذي رباه الدكتاتور ونقاه لعقود، أن يكمل للثوار ثورتهم التي احتفلوا بها مبكراً. وكان هذا الوقت ثميناً فلقد تمكن من تمكن من تهريب أمواله وتمكن من تمكن من حرق الوثائق الهامة.

لكن هذا ليس كل ما في الأمر، فما ضاع ضاع، لكن القادم قد يكون أخطر. الشعب المصري يتساءل عن ثورته، ويتساءل عن توجهات وخطط العسكر الذين يحكمون البلد اليوم.


مازال في البلد معظم افراد ومؤسسات النظام القديم، وبما أنهم لم يهربوا، فمن المحتمل جداً أنهم يعملون على تخريب الثورة بل ربما على التخطيط لإستعادة السلطة كلها. فهل أن الحكومة العسكرية المؤقتة مع الثورة كما يدعون أم أنهم يلملمون خيوط ثورة مضادة؟

لننظر كيف ستكون تصرفات الحكومة في كل من الحالتين لكي نستطيع أن نقرر أي منهما يمثل الواقع الفعلي للحكومة المصرية الحالية.

من الطبيعي أن التعامل مع بقايا النظام واحتمالات عودته هي الموضوع الحاسم في مصر الآن، وهو الذي تختلف حسبه تصرفات من كان مع الثورة ومن كان ضدها.

موقف الحكومة المعلن، سوف يكون "مع الثورة" إن كانت فعلاً معها، لكنها أيضاً ستعلن أنها "مع الثورة" إن كانت تخطط للإطاحة بها، لذلك فإعلان الجيش لموقفه لا يخبرنا بموقفه الحقيقي، ففي كل الأحوال سيقول أنه مع الثورة.

الحكومة التي تقف مع الثورة، ستكون بلا شك قلقة من مؤسسات النظام، تماماً كما يقلق الشعب من تلك المؤسسات ، وستعمل على إزاحتهم عن مواقع تأثيرهم بأسرع وقت ممكن، بل وفوراً بالنسبة لأغلب وأهم المراكز الحساسة.
بالمقابل فأن الحكومة المتآمرة، سوف تسعى قدر الإمكان إلى تأجيل أية قرارات مؤثرة في إزاحة تلك القوى القديمة من موقع تأثيرها لمنحها أكبر فرصة ممكنة في اللحظة الحاسمة للإنقلاب، وفي التحضير للحظة الحاسمة أيضاُ. إنما عليها أن لا تبالغ في ذلك فتنكشف قبل الأوان. عليها أن تتخذ الإجراءات غير المؤثرة أولاً، وأن تماطل قدر الإمكان في أي قرار مؤثر، إنما يجب بين الحين والآخر إقرار قرار مؤثر وتنفيذه أيضاً للتشويش على الحقيقة.

من المعروف أن الثورة يجب أن "لا تتلكأ" وإلا خسرت الزخم واعطت اعداءها الفرصة والوقت للتخطيط والتآمر، واعطتهم الإنطباع بأن البلد ضائعة وأن الثورة لا تعرف طريقها، فتساعدهم على امتصاص الصدمة والخوف وتعيد لهم الثقة بالنفس، في الوقت الذي يخسر في الثوار اندفاعهم وثقتهم بالنفس واستعدادهم للتضحية، شيئاً فشيء.
لذلك فالحكومة المتعاطفة مع الثورة والتي ترجو لها النجاح ستعمل بأقصى طاقة وأقصى سرعة لتفويت أية فرص قد تتحينها قوى السلطة السابقة.
الحكومة المتآمرة بالمقابل سوف تتميز بالإبطاء الشديد والمماطلة لإمتصاص ذلك الزخم ولإعطاء النظام السابق الوقت اللازم لترتيب أموره الداخلية ومع أصدقائه في الخارج لوضع خطة لإنقاذ حكومته وإعادتها الى السلطة.

يمكن للحكومة المتآمرة أن تتخذ العديد من القرارات التي توحي بإخلاصها، مثل تجميد أرصدة بعض المسؤولين، أو حل بعض المؤسسات، لكن مثل تلك القرارات لا تمثل مشكلة بالنسبة للثورة المضادة، فهي قابلة للإلغاء وعودة كل شيء كما كان في الوقت المناسب. إنها لا تضعف الثورة المضادة حقيقة، إنما تكسب لها بعض الوقت مجاناً. كذلك من الممكن تماماً أن تضحي الحكومة المتآمرة ببعض وجوه النظام القديم لإثبات حسن النية، وقد يشمل ذلك حتى الرئيس نفسه وأكبر الشخصيات أيضاً، إن كان ذلك ضرورياً لكسب الثقة والوقت اللازم لإعادة النظام القديم، ولو بدون (بعض) الوجوه القديمة.
ويمكن لحكومة متآمرة أن تضرب عصفورين بحجر في بعض القرارات، مثلاً القرارات التي تمنع سفر المسؤولين. إنها تجبر هؤلاء المسؤولين، خاصة من يريد أن يهرب بجلده من البلد، تجبره على البقاء في ساحة المعركة وتزيد من القوى المضادة للثورة في لحظة الإنقلاب الحاسمة، وفي نفس الوقت تبدوا مثل تلك القرارات "براهين" على صدق الحكومة ووقوفها مع الثورة.

الحكومة التي تقف مع الثورة ستسعى إلى تقوية جانب الثورة بإطلاق سراح قادتها المعتقلين وأية قيادات سياسية يمكن أن تلعب دوراً في تغيير كفة الميزان لصالح الثورة، بيمنا ستعمل الحكومة المتآمرة بالعكس من ذلك فتؤجل قدر الإمكان إطلاق سراح القادة المؤثرين بشكل خاص، وأن تتحجج بمختلف الحجج لتبرير ذلك "التأخير" لذلك القرار الذي يفترض انه لن يأت أبداً. إضافة إلى ذلك فعليها أن تعمل بالعكس من ذلك إن أمكن، باعتقال البعض من المؤثرين الذين مازالوا أحراراً. لكن هذه الخطوة ستكون مكشوفة وفاضحة لذا قد لا تكون ممكنة إلا بالحدود الدنيا وفي حالة توفر حجج كافية تقدمها الصدف، إن جاءت.

الحكومة التي تقف مع الثورة سوف تعمل على توفير الأجواء التي تساعد على إدامة زخم الثورة وقدرتها على الرد. والسلاح الأساسي للثورة هو في قدرتها على تكرار التظاهرات في حالة حدوث مفاجآت مضادة، وبنفس قوة التظاهرات القديمة وحجمها، وهذه قضية حاسمة في مستقبل ما سيحدث.
الحكومة المتآمرة على العكس من ذلك، سوف تعمل على تخريب ذلك الزخم ووضع العراقيل أمام التظاهرات المحتملة، السلاح الوحيد للثورة بوجه أعدائها. ستجرب، ولكن بحذر شديد، أن تصدر قوانين منع التظاهر، وبالتدريج. أي أنها ربما ستمنعها في بعض الحالات مثلاً، أو تحدد مدتها أو الأماكن المسموح بها. ستجد الحجج المناسبة لكل قرار من هذا بحيث لا يكتشف القصد، رغم أن مثل ذلك القصد لا يسهل إخفاؤه.

الحكومة التي تقف مع الثورة ستعمل على دعم وحدة الثوار.
الحكومة المتآمرة سوف تبحث عن أية طرق مبدعة لشق الثوار. ستبتدع أية أفكار تتوقع أن يختلف عليها الثوار، وتلقي بها على الطاولة للمناقشة (او الصراع!).
الحكومة التي تقف مع الثورة ستساعد الثوار على إدامة ثوريتهم وتركيزهم على هدفهم، والحكومة المتآمرة ستفعل المستحيل لتحويل الحديث إلى جهة أخرى، مثل ضرورة إعادة الحياة إلى مجاريها، وأهمية الإنتباه إلى الخسائر الإقتصادية التي سببتها الثورة، فتغير الموضوع، وتثير الناس ضد الثوار الذين تسببوا في تلك "الخسائر"، بدلاً من تشجيعهم بالإكثار من الحديث عن "الأرباح" الإجتماعية الهائلة التي تعد بها الثورة من إنسانية جديدة كريمة لم يعرفها البلاد ربما منذ خلقت.

الحكومة التي تعتبر نفسها جزء من الثورة، لن تكتفي بالتعجيل بتنفيذ ما تطلبه الثورة ليؤمن انتصارها، بل تفكر معها أيضاً وتبدع الأفكار في اتخاذ إجراءات لم يفكر بها الثوار، فتسبقهم إليها بالفكرة والتنفيذ.
أما الحكومة التي تحيك المؤامرات فلا تنفذ طلبات الثورة إلا بعد ضغط وتأخير ومطالبة واتهام...ولا تبدع من نفسها أية فكرة، ولا تتخذ أية مبادرة قد ترجح كفة الثورة في المعركة.

هذه بعض الأفكار لتساعدنا على التمييز بين حكومة مع الشعب وثورته، وحكومة تتآمر من خلف الكواليس مع أعداء الشعب، ولكن بصمت ووجه مستعار جميل، فأي الحكومتين تشبه الحكومة المصرية العسكرية الحالية؟

هل تعمل الحكومة الحالية بهمة وسرعة لتفتيت النظام القديم، أم ان التلكؤ هو الصفة المميزة لها؟ هل اعتقلت كل بقايا النظام السابق الذين يمثلون تهديداً للثورة وأستبدلتهم بمن تثق الثورة بهم؟ الإعلام مثلاً؟ هل قامت بحل أجهزت الأمن الوطني بنفسها واعتقلت قياديه، ام تلكأت حتى اقتحمت الجماهير بنفسها بنايات الأمن؟ ماذا عن الجيش نفسه؟ هل تم تنظيفه من الموالين المعروفين لمبارك، أم ترك كل شيء على حاله؟
هل وجهت حكومة العسكر المؤقتة ضربات قاصمة للنظام، هل وجهت ضربات قوية لم تكن مضطرة لها، ولم تتم بضغط، أم أنها تأتي بعد اللتي والتيا، و معظمها "ضربات" يسهل إعادتها كما كانت؟
هل أطلقوا سراح المعتقلين السياسيين، ام تركوهم في مكانهم في السجون بلا أي مبرر يمكن قبوله؟ بل هل أنهم أطلقوا سراح من اعتقلهم الأمن من المتظاهرين انفسهم فور تسلم العسكر السلطة، أم أنهم يتمنعون وحين يقبلون فبالقطارة وبعد ضغط وجهد وتأخير، وهل تمت أعتقالات جديدة لمتظاهرين أم لا؟
هل وفرت الحكومة الأجواء لإدامة ثورة الثوار أم أصدرت قوانين منع التظاهرات؟ ما الذي يقوله لنا الإستفتاء الذي جرى؟ وهل جرى بشكل سليم أم كان فيه ما يثير ريبة الناس بهذه الحكومة وطرقها؟ هل تكثر الحكومة الحديث عن "عودة الحياة إلى طبيعتها" و خطورة الخسائر الإقتصادية، ام تشجع الناس على الصبر لينالوا ثمرة ثورتهم كاملة؟ هل بادرت هذه الحكومة بأية فكرة أو مبادرة جعلت الثوار يشعرون انها جزء منهم وأنها تفكر معهم، ام يسود الإحساس بالقلق منها ومن تصرفاتها؟
هذه التحديات و الأسئلة أتركها لأحبتنا ثوار مصر وثوار ليبيا، ليجيبوا عليها، فثورتكم هي ثورتنا، وحرصنا عليها وحبنا لها قد لايقل كثيراً عن حرصكم عليها وحبكم لها. ها نحن نفكر معكم ونتمنى معكم ونقلق معكم. بالموفقية أيها الأحبة الأبطال.


(1) التعليق حول اليورانيوم المنضب كان من الصديق ابراهيم الكعبي/بغداد
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=46268
(2) http://www.cleaniraq.org
(3) http://www.neinawa.com/news2/details-573.html


117
نظرة على التأثيرات الطائفية الخطيرة لقمع تظاهرات البحرين

صائب خليل
27 آذار 2011

كتبت في مقالة سابقة (1) أن الموضوع الطائفي في قضية البحرين لم يكن الموضوع الرئيسي، بل الموضوع الرئيسي هو التهديد الخطير للمصالح الأمريكية في البحرين وفي الخليج بشكل عام، وكذلك تهديد الكيان السعودي الذي كان يستشعر الخطر حتى من زوال الدكتاتوريات البعيدة، وأن رد الفعل السعودي لم يكن سيختلف كثيراً لو أن المقصودين كانوا سنة، رغم ان الفارق الطائفي يسهل اتخاذ القرارات ويزيد الحماس للقمع ويسهل التبرير والقبول في الداخل خاصة. أي ان العامل الطائفي كان موجوداً، لكنه ليس العامل الأساسي، فحكام السعودية لا يترددون في قتل أهلهم إن تطلب بقاءهم في السطلة ذلك، فهذا النوع من الحكام لا يعرف الإخلاص لغير نفسه، وليس حتى لطائفته.
لقد بذلت محاولات مستميتة لإقناع العالم بأن المتظاهرين قاموا على أساس طائفي، وأن مطالبهم الحقيقية ليست تلك المعلنة، من دستورية ملكية. وطبعاً لم يقدم هؤلاء الذين حاولوا، بتكليف من الحكومة البحرينية والسعودية بلا شك، أية براهين على ما ادعوه.
لكنهم قدموا عدداً من الأكاذيب التي افتضحت بشكل كبير، من صور تم تحويرها وأفلام تم تزويرها لتقديم قصة خرافية عن متظاهرين متوحشين هاجموا قوات الأمن البحرينية والسعودية اللطيفة وأنزلوا بها خسائر بدنية كبيرة. لقد كتبنا عن ذلك أكثر من مرة، ولن نكرر ذلك فهذه المقالة مخصصة للتداعيات الطائفية بعد الحادثة، وسنركز على ذلك قدر الإمكان.

يسود بين الشيعة المسلمون إحساس بالمرارة الشديدة بعد أحداث البحرين وتفاعلات المجتمع العربي (والدولي) تجاهها. ومرد ذلك الإحساس، الفرق المحسوس بين رد الفعل لذلك المجتمع إزاء تلك الأحداث مقارنة مع تلك التي حدثت في تونس ومصر وليبيا، حيث لم يكن هناك عامل طائفي في الأمر، وبالتالي فلا بد أن العامل الطائفي هو الذي لعب ذلك التأثير.
ومما لا شك فيه أن هذا صحيح إلى حد بعيد، بالنسبة لردود الأفعال غير الحكومية، لكنه بلا شك ليس العامل الوحيد. ويمكننا أن نقرأ ذلك من خلال حقيقة أن ردود فعل الجانب الأمريكي والأوربي كان أيضاً أضعف كثيراً مما كان تجاه تونس ومصر وليبيا، وليس هؤلاء الأمريكان والأوروبيين من السنة. وإن اكتفينا بالحديث عن ردود الفعل الشعبية، فمما لا شك فيه أن للفارق الإعلامي الكبير في تغطيتها لأحداث البحرين وتغطيتها لتظاهرات بقية الدول. وهذا الفارق الإعلامي فارق دولي ومالي وليس فارق شعبي، فليست الشعوب من يسيطر على الإعلام.

إذن كل من العاملين الطائفي والإعلامي لعبا دوراً في تشكيل ذلك الفرق المؤسف والمخجل في رد الفعل على الأحداث من قبل الجانب السني. ويجب أن نذكر هنا أن رد الفعل الشيعي كان أيضاً مختلفاً ومتحيزاً، فلم يخرج الشيعة العرب في تظاهرات تأييد للإنتفاضات العربية الأخرى كما فعلوا في العراق مثلاً، لكن هذا الفرق في الحماس للدعم أسهل أخلاقياً من الفرق المتمثل بالسكوت والتأييد غير المعلن أو حتى المعلن لعمليات ضرب المتظاهرين البحرانيين الوحشية، مثلما عبر عن ذلك بيان لمجموعة وقعت تحت اسم "الأكاديميون العراقيون في مملكة البحرين"، وعباراتها كانت تؤكد أن أنفسهم "مشاريع تضحية وفداء نقدم أرواحنا ودماءنا من أجل البحرين تحت قيادة جلالة الملك المفدى ورئيس الوزراء الموقر وولي العهد الأمين".
إنها بلا شك ليست سوى تكرار مطابق تماماً للتملق السياسي المقزز الذي كانت تمارسه كثرة من الناس تجاه صدام حسين.
ومما لا شك فيه أن تلك المحاولات كانت تستهدف موازنة الموقف العراقي الشيعي الشديد الإنتقاد لحكام البحرين.

الإحساس بالخيانة والغبن والغدر الذي انتشر بشكل كبير بعد أحداث البحرين وقمع انتفاضتها دفع بالجماعات الشيعية المختلفة إلى الإنزواء في تكتلات أكثر انعزالاً، ودفعت بغالبية ساحقة منهم إلى المزيد من اليأس من تغيير الوضع الطائفي، لمن كان يريد التغيير، واقتنع الكثيرون بأن عليهم ان يبحثوا عن الدعم فيما بينهم كشيعة، وليس كعرب.
هذا الشعور في تقديري أكبر بكثير مما يشعر به السنة، فمن يتلقى الضربة يحس بألمها أكثر كثيراً من ذلك الذي يراها فقط. وربما يتصور السنة أن المسألة عابرة وانه من الأفضل دفنها في التراب وعدم الحديث عنها. لكن القضية أعمق من أن يحلها مثل ذلك التجاهل، وان ما دفن في العقل الواعي واللاوعي الشيعي جراء تلك الأزمة، كبير وخطير ويستوجب المكاشفة كأمل وحيد للحل.
لهذا كله لا أختلف مع رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي الذي حذر من تلك التداعيات وشبهها بكرة الثلج التي تكبر أثناء تدحرجها وتهدد بصدامات طائفية خطيرة إن تم تجاهلها. (2)




يكتب "اكرم الفضلي" أن القمع تم لـ "اناس عزل يحملون لافطات كتب عليها (سنة وشيعة هذه البلد ما نبيعة) مع بعض الشعارات التي كان المتظاهرون يرددونها التي تنادي بملكية دستورية، والتي تم تصويرها وتوثيقها من قبل وسائل الاعلام اللامنضفة التي لم تتنقل الا بعض اللقطات المنتقاة بعناية، والتي اريد لها التهويل."
ويتساءل: "اين الخلل اين العيب في هذه الشعارات.الم يسبق هذه التظاهرات تظاهرات في المنطقة طالبت باسقاط النظام؟!
هؤلاء المساكين لم يطلبوا ولم يرفعوا شعار سقوط الملك او نظامه، بل انهم طالبوا بملكية دستورية باعتبارها ضمان يحفظ حقوق الجميع، بدل حكم القبيلة والعشيرة...والطريف والغريب في الامر ان بعض من اخوانهم السنة كانت لهم ذات المطالب في بداية انطلاقة هذه الانتفاضة فتم تحييد هؤلاء والاستفراد بالشريحة الشيعة باطلاق الرصاص الحي على صدورهم العارية بعد ان القوا بباقات الورود على قوات جيش درع الجزيرة التي جاءت لجزرهم."

ومثل العديد من الناس انتبه الفضلي إلى تحيز خطاب الشيخ القرضاوي المؤسف وتناقضه بين القول بأنه لم يكن يمتلك معلومات كافية، وبين إدانته للتظاهرات وتوصيفها بالطائفية، ويذكر بأن هذا الرجل هو من أعطى صدام حسين صك الغفران.(3)

وكتب فخري مشكور تحت عنوان "المثقفون العرب طائفيون" يقول:"لماذا يصبح التظاهر المكثف سببا كافيا لسلب الشرعية عن نظام قائم في مصر وتونس وليبيا ولا يصبح كذلك في البحرين؟ لماذا تمكنت عدسات التلفزيون واقلام الصحافة ان ترصد كل ما حرصت تلك الانظمة على حجبه، لكنها فشلت في البحرين؟ لماذا تعتبر تصريحات دول الشرق والغرب في تاييد ثورة مصر وتونس وليبيا دليلا على انسانية تلك الدول الداعمة ونصرتها لحق شعوب تونس ومصر وليبيا، بينما تعتبر تصريحات ايران الداعمة  دلالة على عمالة ثوار البحرين لولاية الفقيه؟
لماذا لم تعتبر اتصالات شخصيات المعارضة الليبية بفرنسا وبريطانيا، بل وحتى دخول فريق عسكري سياسي بريطاني الى بنغازي والاتصال بالثوار، لم يعتبر كل ذلك دليلا على العمالة؟ عند هؤلاء المثقفين تخويف حسني مبارك من الاسلاميين ذريعة وهمية لتبرير تمسكه بالكرسي، وتخويف القذافي من القاعدة حجة غير حقيقية لتفسير تمسكه بالكرسي، ولكن تخويف آل خليفة من نفوذ ايران هي حجة حقيقة ومنطقية وكافية للتنازل عن كل القيم الاخلاقية والتنظيرات الفكرية وعن الديمقراطية وحقوق الانسان.
ودعونا نقول ان تصريحات صدرت من مسؤولين ايرانيين، وانها تخفي وراءها مخططا ايرانيا لاستعمار البحرين والخليج كله...لنقل ذلك ولنفترضه صحيحا، فهل يسقط هذا حق الشعوب البحريني في تقرير مصيره؟ وهل يبرر هذا سحق المتظاهرات السلمية بالدبابات والطائرات؟ وهل يكفي لتبرير السكوت عن هذه الجرائم كون ايران لها اطماع توسعية؟(4)

ويكتب صفاء ابراهيم تحت عنوان "درع الطائفية" قائلاً: "لم يخرج شيعة البحرين للمطالبة بحقوق يختصون هم بها , طالبوا بملكية دستورية بدل الحكم المطلق , طالبوا بان يكون لديهم مجلس نيابي منتخب بدل هذا المجلس الذي يعين الملك نصف اعضائه ويصادر ارادة النصف الاخر, طالبوا بالعدالة الاجتماعية والمساواة امام القانون بدلا من جعل كبار وظائف الدولة  بيد المقربين من ال خليفة ومن لون طائفي واحد, طالبوا بالكف عن التجنيس السياسي وعلى اساس طائفي من اجل تغيير التركيبة الاجتماعية للشعب, طالبوا بفرص العمل, طالبوا باصلاح النظم الانتخابية, طالبوا بالخدمات , طالبوا بكل هذه الامور فاي بعد مذهبي وراء هذه المطالب؟ وما علاقة ذلك بكونهم شيعة اوغير شيعة او حتى من عبدة النجوم؟ (5)

وتكتب بلقيس حسن: "أجمل مايتعلمه المرء ليكون سويـّا, هو أن البشر متساوون ولا فرق بينهم مهما اختلفت الوانهم وأعراقهم وانتماءاتهم وأديانهم وطوائفهم....انه شعور بالرقي حينما يفكر المرء بالصدق مع ذاته ويعمل على هذا الأساس. فالنبيل من يضع نفسه بمكان كل مقهور ومأزوم ومحروم وحزين, ....النبل ان تكون مع المظلومين مهما كانوا والى أية جهة انتموا.... وتصرخ مع صرخة كل انسان يقتل دون وجه حق فتهرع لإنقاذه لأنه لا يملك ما يدافع به عن نفسه....فما ابشعكم أيها الطائفيون حينما تصدقون دكتاتورا وتكذبون آخر.(6)

وينصح عباس العزاوي: "الثوار في الوطن العربي" ساخراً فيقول: "ان لايكون الشعب الثائر من الشعوب التي ابتلاها الله بالنفط والخيرات فأن اي تغيير من شأنه تحويل مسار اموال البلاد الى غير الجيوب المعتادة,.. فهذا محرم ومرفوض محلياً واقليماً وعالمياً من دون تقديم ضمانات اكيدة للجهات الشافطة....ان يكون الشعب المحتج ممن نالوا الرضى من آل سعود او آل ثاني الديمقراطي بالسليقة ,كي تحضى الثورة بدعم اعلامي كبيرمن قبل قناتي العربية والجزيرة والا سيبقى الشعب كمن يهتف داخل مجاري الصرف الصحي ولايجني غير الصدى والروائح الطائفية الكريهة .... ان لايكون الشعب الثائر منتمياً او تدور حوله شبهات الانتماء للمذهب الشيعي المحظور وهابياً ... بغض النظرعن انتمائه الفكري سوى كان ليبرالي او اسلامي او حتى ملحد (لان هاي الكلاوات ماتفيده )......ان لايكون الشعب المتظاهر ممن له علاقات سرية كانت ام علنية بدولة ايران " الفارسية المجوسية التوسعية المتغطرسة "...ان لايكون الشعب الثائر من القوميات الاخرى غير العربية كالكردية والتركمانية ...ان لايكون الشعب الثائر من اتباع الديانة المسيحية او دينات اخرى غير الاسلام... لاتشمل النصائح آنفة الذكر الشعب الثائر ضد الحكومات الشيعية او قادتها المنحدرين من عوائل شيعية .. بل يحبذ ذلك ويعتبرمن الواجبات الشرعية والاخلاقية.(7)

لا علم لي بطائفة معظم الكتاب السابقين، ولا أود أن أعرف، ولست متأكداً أن ما عبروا عنه من شعور بالمرارة له ارتباط بطائفية الكاتب، لكنها جميعاً تعكس الألم من الخطأ الأخلاقي الكبير المحسوس في التعامل من قبل الجانب السني من ثورة البحرين. وفي تصوري، وخاصة من خلال احاديثي والرسائل التي تصلني من معارفي واصدقائي، أن ما يقف وراء رد الفعل المؤسف ذاك، ليس بالضبط الطائفية، بالنسبة للأغلبية الساحقة من الناس، وإنما هو شور بالخوف من الطائفية المقابلة، بدون أساس كاف لذلك الخوف الذي أثارته حسب كل المؤشرات المتوفرة لدي، ماكنة إعلامية هائلة تحاصر المواطن وتلقنه ما يجب أن يخاف منه وما لا يجب، وسنعود إلى هذه النقطة بالتفصيل الذي تستحقه في الجزء القادم والأخير من هذه السلسلة حول البحرين.

لكن الحال ليس بهذه الخطورة إن تمت معالجته بشفافية ووضوح، وبذل الجهد اللازم لردم الشق الذي حدث. فالقرق في المواقف من البحرين بين الشيعة والسنة، ليس بالسوء الذي توحي وسائل الإعلام. ويمكن رؤية ذلك من خلال بضعة ملاحظات ربما تكون هامشية. ففي استفتاء لصحيفة "المثقف" كتب كتاب وقراء هذا الموقع الهام بتضامن كبير وقوي مع موقف شعب البحرين الثائر، بلا استثناء.(8)

واختتم هذه المقالة بما اقتطعه من مقالة نجم الحجامي "لن يسقط الشيعه في مستنقع البحرين الطائفي" التي يقول فيها:
"الشيعه في كل انحاء العالم من لبنان الى العراق الى ايران غير طائفيين ولا يمكن ان ينجروا الى المستنقع الطائفي ..مثل تفجير قبه الامامين العسكريين...نقلت صحيفة الحياة، اسماء الفصائل المسلحة التي اعلنت تخليها عن السلاح ودعمها وانضمامها للعملية السياسية العراقية بعد خروج القوات الامريكية من البلاد نهاية العام الجاري.....وفي لبنان فشلوا ايضا في جر شيعه لبنان والعالم العربي الى المستنقع الطائفي..... جر المنطقه الى عنف طائفي وقتال مذهبي يتورط فيه الشيعه في ايران والعراق ولبنان بعد ان نزلت السعوديه والامارات الى الساحه.....فشيعه البحرين الذين يحملون الورود في احتجاجاتهم اذكى بكثير من ان يسقطوا في المستنقع الطائفي ورحم الله الشيخ الدكتور احمد الوائلي حيث قال
ومشت تصنفنا يد مسمومة................متسنن هذا وذا متشيع
يا قاصدي قتل الاخوة غيلة.................لموا الشباك فطيرنا لا يخدع
غرس الإخاء كتابنا ونبينا....................فامتد واشتبكت عليه الاذرع (9)

هناك إذن ما يدعو للقلق وهناك ما يشجع على الأمل بتجاوز الأزمة، إلا أن ذلك لن يكون ممكنا عن طريق التجاهل وكأن شيئاً لم يحدث. فيجب في أدنى الأمور أن يعبر المثقفون، خاصة من السنة، عن موقف مبدئي سليم لا تشوبه شائبة، كما عبرت عنه الشاعرة بلقيس حسن في مقالتها أعلاه. لقد تم تجاهل الام الكرد طويلاً من قبل غالبية العراقيين العرب، وكانت النتيجة جرح عميق يصعب أن يندمل، ويدفع العراق اليوم غالياً ثمن ذلك التجاهل المؤسف، والإحساس بالظلم والغدر الذي ترسخ في الذاكرة الكردية. فعلى العرب السنة أن لا يسمحوا بتكرار ذلك الإحساس المرير الهدام بينهم وبين الشيعة، والذين مازال البعض منهم يذكر جرائم صدام الفضيعة بحقهم على أن لها صبغة "سنية"، فلنقل كلمة واضحة نفخر بها، تعدل ما تضرر من المشاعر وتطيب ما فتح من الجراح.


(1) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=1776
(2) http://news.yahoo.com/s/nm/20110325/wl_nm/us_iraq_politics
(3) http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=46075
(4) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=45721
(5) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=45669
(6) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=1814
(7) http://www.qanon302.net/vb/showthread.php?t=1976
(8) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=45569
(9) http://qanon302.net/vb/showthread.php?t=1869


118
البحرين و درع الحكام بوجه شعوبهم

صائب خليل
22 آذار 2011

من الطبيعي أن دخول القوات السعودية إلى البحرين ليس احتلالاً، فحكومة البحرين قد طلبت ذلك، تماماً مثلما أن دخول المرتزقة الأفارقة ليبيا ليس احتلالاً، لكن ذلك لم يجعل منه أمر جميل أو طبيعي، ولا أقل إجراماً بحق الشعب الذي يتم استيراد القوات لضربه.

لذلك كان الموقف الغربي يسير على خط حساس. فهو على أرض الواقع يدعم ذلك التدخل بكل ما أوتي من قوة، فقاعدة الأسطول الخامس الأمريكي على المحك، ومن ناحية اخرى فهو لا يجد طريقة لتبرير ذلك العمل، فطالما انتقد ما هو أقل منه وبشدة في الماضي، والناس لم تنس بعد. لكن بعض الكتاب العرب الذين يتميزون بسيطرة القلق الشديد من إيران عليهم، ولا يرون غيره مما يستوجب الأخذ في الحسبان، وجدوا في الموقف الأمريكي "ضعفاً" غريباً!

حتى أنه حين قالت وزيرة الخارجية الأمريكية "أن المملكة العربية السعودية سائرة في طريق خطأ دول الخليج العربي قد سلكت الطريق الخطأ بتدخلها في البحرين" ، تعجب طارق الحميد (1) وأعرب عن شكه بأنها "مطلعة على حقيقة مجريات الأمور" وتساءل إن كانت هذه واشنطن أم طهران تتحدث! الصحفي المعروف الذي يريد من الأمريكان الدفاع عن مصالحهم وقواعدهم بشكل مباشر وواضح أكثر مما يريد الأمريكان أنفسهم من الوضوح.
الحقيقة هي أن كلنتون لا تعاني من التطرف في اللطف، ولا الجهل الذي يتيح له التعجب وإسداء النصح لها. الفارق أنه هو لا يحسب شيء، أما وزيرة الخارجية ومستشاروها فينتظرون أسئلة صعبة إذا ما كان موقفهم المعلن كموقفهم الحقيقي في قمع المتظاهرين. فالإتفاقات العسكرية لا تبرر قتل المتظاهرين ويفترض أن الإتفاقات لم توقع من أجل ذلك. أما كون الحكومة البحرانية قد طلبت التدخل، فقد طلبت الحكومة الأفغانية الشيوعية تدخل السوفيت، فهل اعتبرت عملاً طبيعياً مشروعاً؟ حكومة أفغانستان تلك قدمت طلبها حين كانت تواجه تهديداً مسلحاً مدعوماً بقوة من المخابرات المركزية الأمريكية يهدد وجودها. وحين دخلت قواتهم، كان السوفييت حسب وجهة نظرهم يطبقون معاهدة الصداقة، التعاون وحسن الجوار لعام 1978  التي وقعها معهم الرئيس السابق تاراكي، بل أنهم لم يقوموا بالتدخل إلا بعد 18 طلب رفضها برجنيف للمساعدة. لم تطلب القوات السوفيتية لمواجهة متظاهرين سلميين ينصبون خيامهم في أحدى الساحات. ومع ذلك كان ذلك التدخل السوفيتي مداناً في كل مكان.

كذلك كان التدخل السوفيتي في هنغاريا عام 1956 و جيكوسلوفاكيا عام 1968 موضوع إدانة واستنكار شديدين من الغرب والعالم، رغم ان السوفيت كان لديهم حلف عسكري مع كل من البلدين، فماذا يختلف هذا عن ذاك؟ وإذا كان التدخل الخليجي متعدد الجهات ويمثل "درع الجزيرة" فقد كان التدخل في جيكوسلوفاكيا أيضاً متعدد الجهات، ويمثل حلف وارشو، ومع ذلك فقد حظي بانتقاد شديد وإدانة واضحة ليس من الغرب وحده بل من العالم كله.
المقارنة بين تصرفات الغرب بقيادة الولايات المتحدة مع الجهات المختلفة: الشعوب العربية، إسرائيل، دول الكتلة الإشتراكية السابقة، ممارسة ممتعة، تكشف الكثير، وتساعد على فهم من لم يفهم السياسة الدولية بعد، وتثير الإبتسام.

رغم صبغته الطائفية، ليس صحيحا في تقديري أن التدخل السعودي الإماراتي كان على أسس طائفية بشكل رئيسي. فلا أتصور أنه لو كان هناك "تهديد" شعبي سني لدولة خليجية أخرى، فأن السعودية ستقول: "لا.. لن نرسل قواتنا لمقاتلة السنة!". هؤلاء لا طوائف لهم. إنهم مستعدون لقتال ليس أبناء طوائفهم فقط، بل يتعاونون لقتل آباءهم وأولادهم عندما يتهدد كرسيهم. ومع ذلك ففي الطائفية دافع إضافي أكيد، يسهل القرار ويقضي على التردد ويضمن وجود دعم داخلي بدرجة ما.
لا اتصور أن الدافع وراء هذا الموقف الخليجي، هو الطائفية، لكن النتائج الطائفية للموضوع خطيرة بلا شك، فقد قرأه الطرفان على أنه اشتباك طائفي بحت! لكن هذا بحاجة إلى مقالة منفصلة.

ليس احتلالاً وليس طائفية، لكن دخول قوات درع الجزيرة إلى إحدى دول الخليج لتساعد حكامها على قمع تظاهرات شعبها، ربما توضح الغرض الذي أقيم من أجله ذلك "الدرع": حماية حكام الخليج من شعوبهم! – أو على الأقل أنه قد استعمل لهذا الغرض هذه المرة! والحقيقة إن إشارة طارق الحميد إلى أن "درع الجزيرة" المتدخل كان "قوات أمنية وليست عسكرية"، يفضح بشكل واضح طبيعة "درع الجزيرة" وأنه حلف بين حكام الخليج لحمايتهم من شعوبهم إن أحتاج أحدهم لذلك.


ومن الأحداث الرمزية التي تلفت النظر قيام الحكومة البحرانية بإزالة نصب دوار اللؤلؤة، بالبلدوزرات، (2)  والذي يتكون من ربطة من ستة من الأعمدة تمثل دول مجلس التعاون الخليجي ترفع لؤلؤتها في الأعلى. ولو افترضنا جدلاً أن لؤلؤة أية دولة هي ليست إلا شعبها نفسه، فيمكننا أن نرى التمثال يرمز إلى تعاون دول الخليج من أجل شعوبها، (إلا إذا كان الحكام يرفضون هذا الرمز!) وبالتالي فأن تدمير النصب يرمز إلى تدمير هذا ا لتعاون، وإن "اللؤلؤة" سيتم إسقاطها بالجرافات والمجنزرات، وبتعاون تلك الدول معاً، إن تجرأت تلك اللؤلؤة على الكلام والمطالبة بحقوقها وكرامتها الإنسانية في حكم بلادها.


لكن "اللؤلؤة" التي تم هدمها، انتقلت إلى قلوب البحرانيين وذاكرة العالم وستبقى عالية أبداً كرمز إنساني لنظال الشعب البحريني من أجل حريته.

ومثلما لم يكن التعاون العسكري البحراني السعودي لذلك سهل القبول إعلامياً في أميركا كما رأينا، كان مثله الموقف الأوروبي الذي يصلح موقف بلجيكا كمثال له حين عبر وزير الخارجية البلجيكي ستفان فاناكر عن "قلقه" وقال "ننضم لنداء الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي كاثرين آشتون، التي دعت قوات الأمن البحرينية إلى الإمتناع عن استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين".

الحكومة البحرانية أطلقت حملة دعايات بمساعدة سعودية، تريد أن تبرهن لنا بها أن المتظاهرين المتوحشين هم الذين يستخدمون "العنف المفرط" هم الذين قاموا بتمزيق رجال الأمن البحرانيين والسعوديين الذين تم استقدامهم على ما يبدو لإكمال "لطف" تعامل الأمن البحريني مع المتظاهرين.

هي ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها الحكومة السعودية لإنقاذ حكومة عربية من احتجاج شعبها، فقد هرعت لمساعدة حكومة اليمن على قمع تمرد داخلي للحوثيين قبل بضعة أشهر، أما إن رجعنا إلى الماضي أكثر فالتاريخ السعودي حافل بالأذى لأية حركة لأي شيء في صالح أي شعب عربي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالإستقلال والتحرر من دكتاتورية ما أو استعمار ما. واليوم تثبت المملكة المرة تلو المرة أنها ملجأ الدكتاتوريات العربية الآمن، حيث تستقبل دون غيرها المجرمين العتاة بحق شعبهم بلا خجل ولا تورية.

السبب الرئيسي في الطريقة التي اختلفت فيها الأمور بالنسبة للبحرين تكمن في أهميتها الخاصة بالنسبة للأمريكان. ولعل سائل يتساءل: ألم تكن مصر أيضاً ذات أهمية خاصة جداً بالنسبة لإسرائيل؟ وتصوري انه لم يكن هناك إمكانية لحل مشابه للثورة المصرية، فحجم المتظاهرين وطبيعة البلد مختلفة تماماً. لكنهم مازالوا يعملون بجدية تامة لتحطيم ما يمكن تحطيمه من ثورة مصر بطرق أخرى. ويمكن تقدير أهمية البحرين من حقيقة أن القوات المسلحة البحرينية ترتبط بشكل وثيق جدا بحلف الناتو وتحتضن الأسطول الخامس الأمريكي.
أن التساهل الذي تعاملت أميركا واوربا معه في قمع السلطات البحرانية للمتظاهرين إنما ينبع من التداعيات الخطيرة المتوقعة على المصالح الغربية في الخليج، بل وأمتداده حتى إلى وضع النفوذ الأمريكي في العراق . فحسب مقالة نشرتها مجلة "جيوبوليتيك ويكلي" (3)  لـ جورج فريدمان، فأن ما كان يجري في البحرين الأكثر اهمية بكثير، في تداعياتها على المنطقة والعالم من أحداث ليبيا وغيرها.
فيلاحظ فريدمان أن القوات الأميركية الباقية في العراق والبالغ عددها 50 الف، سوف تنسحب كلياً من العراق ما لم يتم تمديد بقائها مضيفاً أن الحكومة العراقية غير مستقرة وغير موحدة ولا قادرة على مواجهة تحدي خارجي بنفسها.
وقال فريدمان أن الإنسحاب من العراق سوف يترك فراغاً يخشى أن تقوم إيران بملئه، كما تؤكد تصريحات سابقة لها.
ويرى فريدمان ان القوى الأجنبية هي التي منعت إيران من تحقيق طموحها في لعب دور مركزي في الخليج، وأن انسحاب الولايات المتحدة من العراق، يجعل جيشها الأقوى في المنطقة، حتى بدون حصولها على السلاح النووي، ورغم تواجد القوات الأمريكية القوية في الكويت والقوة الجوية الأمريكية.
ويرى فريدمان أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى عدة شهور لنشر قوات متكاملة لها في حالة اضطرارها إلى التصدي لـ "عدوان إيراني"، إضافة إلى أنها ستجد صعوبة في  توفير الإرادة السياسية في الداخل الأمريكي لذلك، وهو ما يتيح لإيران حرية أكبر للحركة، ملمحاً ايضاً إلى اهمية "التغير في الموقف النفسي" الناتج من إنسحاب الولايات المتحدة.
ويأتي فريدمان إلى موضوع البحرين، الذي يعتبره "حالة اختبار"، ويرى أن البحرين عملياً "جزء من المملكة العربية السعودية"، وهو أيضاً مقر الأسطول الخامس الأمريكي، وأن الغالبية من سكانه من الشيعة، رغم ان حكومته سنية وترتبط بشكل وثيق بالمملكة العربية السعودية.
وينبه فريدمان إلى ان اسقاط الحكومة البحرينية من قبل الحركة الشيعية سوف يشجع الشيعة السعوديين الذين يسكنون المناطق الغنية بالنفط في الشمال الشرقي من المملكة على التغيير، وهو ما سيهدد المكانة العسكرية الأمريكية في المنطقة لصالح إيران.
وأن القواعد الدولية الأمريكية في المنطقة ستكون أقل استقراراً، وهو ما سيجعل التدخل الأمريكي في المنطقة أكثر صعوبة.
ويرى فريدمان أن لب المشكلة يكمن في أحتمال اضطرار الولايات المتحدة لترك العراق قبل أن تتمكن من ترك حكومة قوية موالية للولايات المتحدة فيه، وأن الولايات المتحدة قد تجد نفسها في إشكالية صعبة بشكل غير معتاد وخيارات خطرة تبدأ من السؤال حول كيفية مقاومة إيران مع إبقاء أسعار النفط ضمن السيطرة.
نلاحظ أن فريدمان نشر مقالته قبل دخول قوات "درع الجزيرة" الى البحرين.

يشعر البحرانيون بالمرارة لما يرونه خيانة العرب والعالم لهم، وأيضاً لأن الإعلام في الجانب السعودي الغربي يبدو هو المسيطر على الساحة وأنه أقنع الناس بصورة مشوهة وبشكل مبالغ به عن ثورة البحرين. ورغم أن الظروف دفعت بالبعض كما يبدو إلى موقف طائفي دفاعي، وآخر هجومي، لكني أقول للشعب البحريني أن العالم والعرب ربما تأثرت بهذا الإعلام القوي لكنها لم تقتنع به. ويمكننا أن نرى ذلك كمثال من خلال النداء الذي أقامته "المثقف" لإبداء الرأي بين كتابها وقرائها حول ما جرى في البحرين، (4) وكانت الآراء بشكل كاسح تقف مع الشعب البحريني في ثورته وترفض ضربه الوحشي من قبل القوات السعودية

فليطمئن الشعب البحراني أن الناس تفهم الحقيقة وتقف معهم في حقهم، حتى إن لم تستطع للأسف أن تقف معهم بشكل يحميهم من وحشية حكامهم وحكام المملكة السعودية، اليد الأمريكية الجاهزة أبداً لدعم أية دكتاتورية عربية.

لقد كان لأحداث البحرين المؤلمة تداعيات طائفية مؤسفة نأمل أن نتناولها في مقالة قادمة.

 
(1) http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=11797&article=612930

(2) http://photoblog.msnbc.msn.com/_news/2011/03/18/6293994-bahrain-demolishes-pearl-roundabout-statue

(3) Bahrain and the Battle Between Iran and Saudi Arabia | STRATFOR
http://www.stratfor.com/weekly/20110307-bahrain-and-battle-between-iran-and-saudi-arabia?utm_source=GWeekly&utm_medium=email&utm_campaign=110308&utm_content=readmore&elq=ff9746c968614884a757da37971e2c82#ixzz1G0vykXmr

(4) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=45569:2011-03-16-04-32-59&catid=39:2009-05-21-01-47-02&Itemid=60










119
على المالكي أن يلعب بالمكشوف ويعلن قراراً نهائياً بعدم تمديد بقاء القوات الأمريكية

صائب خليل
12 آذار 2011

وضع المالكي لا يحسد عليه. كل شيء في هرج ومرج والرؤية مشوشة، وكل الإحتمالات (السيئة) قائمة للعراق.
وبالرغم أن المالكي انتصر مبدئياً في معركة الإنتخابات وتشكيل الحكومة، لكنه ارتكب ما يكفي من الأخطاء الإستراتيجية والتكتيكية والخطايا لتدمير فرصه وجعل انتصاره هشاً قلقاً ومعرض للسقوط، خاصة في ظرف شديد الدقة.
فأما الأخطاء التكتيكية، فربما لا يعبر عنها شيء أفضل من الحركتين الغير مبررتين بأي شكل: إغلاق النوادي وخاصة نادي اتحاد الأدباء والكتاب، والذي لا أتصور أنه تم بدون التنسيق معه أو مع مكتبه، وثم إغلاق مقر الحزب الشيوعي، والذان افقداه كمية مهمة من الدعم الحرج، وبلا مقابل. نعم كان العملان "قانونيان"، فليس من الضروري أن تكون الأخطاء غير قانونية، ومع ذلك قد تكلف كثيراً.

وأما الأخطاء الإستراتيجية فهي متعددة. أولها أن المالكي لا يبدو قد فهم الظرف الذي يعيش فيه ولم يدرك ما معنى رئيس حكومة تحت الإحتلال، وما يمكن أن ينتظره رئيس الحكومة من الإحتلال. متى يتعاون معه ومتى يضربه وكيف يضربه وكيف يجب أن يتصرف هو ليحمي نفسه وبلده.
كان جهل المالكي بالأمور واضحاً حين أحرج نفسه بالشكوى لبوش من "ظلم" بترايوس، لسبب ما تخيل أن "بوش" سيقف معه بوجه بترايوس، مثلما تخيل ثوار مصر أن "الجيش المصري" يقف بجانبهم ضد من أسسه ونظفه وطبخه. كلاهما كان يفكر بطريقة التمني: يتمنى شيئاً فيتصوره قد صار، ويقنع نفسه بأنه صحيح، وكلاهما اكتشف خطأه بعد دفع الثمن.
الخطر في النظرة الخاطئة للموقف العام هو أنك لن تستطيع أن تخطط بشكل سليم، ولن تستطيع أن تقرر مواقفك مسبقاً وتحسب الإحتمالات. عندما يتصور المالكي مثلاً، تصوراً تبناه الكثير من الذين يرفضون قراءة التاريخ أو "علم السياسة" في العراق، بأنه بالإمكان إقناع الأميركان بأن يحولونا إلى يابان أو ألمانيا بفضل استعمارهم، ويساعدونا على تأسيس بلد القانون الديمقراطي مقابل أن نوقع معهم عقود فائدة متبادلة يستفيدون بها من النفط ونستفيد من تكنولوجيتهم المتقدمة.
لو كان الأمر هكذا، لما كانت سمعة الإحتلال سيئة في العالم، بل لتقاتلت الدول على الإستعمار، لكن الأمور ليست كذلك.

جميع الخراف السمينة تود لو تصادق الذئب الذي يصقل اسنانه اللامعة ويحدها كل يوم، لكن الذئب بحاجة إلى الفرائس أكثر من حاجته إلى الأصدقاء. هل الولايات المتحدة فعلاً ذئب يصقل اسنانه كل يوم؟ حسناً، لا ندري إذن لماذا تصرف على "أسنانها" بقدر ما تصرف بقية دول العالم مجتمعة، 500 مليار دولار في العام فقط!!، إن لم نحسب المصاريف الإضافية الخاصة بالصناعة الذرية ومشاريع ناسا للفضاء.
وهل نحن "خروف سمين"؟ ومن له أن نخفي ثالث أكبر "إلية" في العالم؟
لكن الذئاب لا تأكل إلا عندما تجوع، فهل أن الذئب الأمريكي جائع؟
إنه لم يتضور جوعاً في حياته كما هو اليوم...إلق نظرة على معدته الخاوية هنا: (ساعة الدين الأمريكي) (*)

ليس هذا ذنب الذئب، فلا نستطيع أن نطالب أي حيوان أن يموت جوعاً، ولا يستطيع الذئب أن يعيش على الحشيش، لكن يمكننا أن نأمل من الخراف أن تكون أكثر انتباهاً وذكاءاً وأقل سقوطاً في تفكير الأماني، خاصة من كانت إليتها كبيرة وحركتها ثقيلة وقرونها مكسورة. فأي ذئب أبله ذلك الذي يصادق مثل هذا الخروف وينتظر أن ينجح في امتحان البقاء القاسي، الذي لا يسمح بأي ضياع للفرص؟
خروفنا لايحب أن يتعب أعصابه المنهكة بهذه الأفكار المخيفة، ويفضل أن ينظر بعيداً، إلى فرائس لا تشبهه لا بالحجم ولا بالشكل، إلى المانيا واليابان، لا إلى زملائه من الشعوب القريبة التي فرضت عليها "صداقة" ذلك الذئب، في مصر مثلاً. الذئب يريد حاكما مثل مبارك، يحبس له القطيع في الزريبة، ويحلب له الحليب ويأتيه باللحم كل يوم ويجعل الخراف تبات ليلها مرعوبةً في المقابر. ليس هناك سوى الحمقى من الذئاب التي تفضل راعياً "شريفاً"، أو قد يفكر أن يكون شريفاً، على "بايع ومخلص" يعرف كيف يخدم سيده بلا تردد أو أسئلة أو شكاوي، تلك هي الصفاة الخلقية الحسنى لمن يتقدم لتلك الوظيفة.
ومن بين المرشحين "المناسبين أخلاقياً"، يفضل الذئب ذلك الذي ليس له حزب يحاسبه، إلا اللهم إن كان الحزب عبارة عن عصابة صغيرة من أمثاله. فالحزب قد يضغط على العميل ويعرقل عمله، كما أنه في حالة اختلاف المصالح لا سامح الله، فأن العميل صاحب الحزب قد يرى نفسه قوياً بعض الشيء ليعترض وقد يقول لا عندما يرى موقفه في خطر. الذئب يريد جماعة لا تستطيع أن تقول لا أبداً، وليس هناك حدود لما يمكن أن تقوم به. جماعة ليس لها خطوط حمر، وليس لها طرق للتراجع، ولا تستطيع إلا أن تقبل، حتى لو كان في القبول هلاكها! الذئب الحكيم يفضل "المستقلين": المستقلين عن المبادئ، وعن الشرف وعن الشعب وعن أي حزب حقيقي. الذئب الحكيم يريد مخلوقات مثل مبارك وعباس والسنيورة ... وعلاوي والمطلك.
فما هي فرصتك يا مالكي لإقناع الذئب بأنك انسب "لصداقته" من علاوي أو المطلك أو عادل عبد المهدي او ربما مستقبلاً، مثال الآلوسي أو أياد جمال الدين؟ كيف ستقنعه أنه من الأفضل له أن تكون أنت على رأس السلطة وليس أي منهم؟
لا أمل يا صاحبي، حتى إن كان هذا طموحك، ويجب أن تدرك ذلك، فحتى لو أردت واستطعت أن تصير بأخلاقهم، فأن فرصتك تعيقها ارتباطاتك الحزبية، والناس التي تحبك وترى فيك أملاً، سواء كان هذا الأمل صحيحاً أم كان وهماً.

هذه هي الحقيقة الستراتيجية الأساسية التي يبدو لي أنها فاتت المالكي، كما فاتت الذين من قبله، كالجعفري. الرجل كان يناقش الأمريكان في الكونغرس ويثبت لهم أنه واع ونبيه ومثقف، دون أن يدرك أنهم كانوا يرون في ذلك عوقاً! الجعفري لم يكن يتصرف بوعي مكانه وما يحيط به وما يريده اللاعبون فيه، لذلك كان في الكونغرس كمن يعدد مثالبه دون أن يدري، فهل من غرابة إن جاءت كونداليزا رايس خصيصاً إلى العراق لرفع الستار النهائي عن حملة سريعة لإزاحته قادها بالنيابة عنها "صديقه" العزيز جلال الطالباني وأمثاله من المطيعين؟

الخطأ الإستراتيجي الثاني الذي ارتكبه المالكي هو أنه قرر أن يستعمل المراوغات والسرية اسلوباً للوصول إلى أهدافه، وأن يلعب على كل الحبال، تماماً كما يقال عن عبد الكريم قاسم. وإن نسينا العامل الأخلاقي، الذي ننساه بسهولة عادةً، فليس هناك من عيب حقيقي في كفاءة المراوغات والسرية للوصول إلى الهدف، لكن المشكلة هي أنك عندما تستعملها مع الإحتلال فأنك تلعب لعبتهم المفضلة وفي الملعب الذي خبروه أكثر من أي ملعب آخر.

الإنفتاح والشفافية يسهل التنسيق مع الأصدقاء ويكسب المؤيدين المؤمنين بنفس الطريق، والسرية والتكتم تحرم الخصوم من الرؤية. لا يمكن عادة أن تكسب المنفعتين معاً وعليك أن تقرر أيهما أكثر أهمية بالنسبة لك.
من الطبيعي أنه للحصول على أكبر المكاسب، فعليك أن تعلن مواقفك وخططك ومعلوماتك لأصدقائك لكي يثقوا بك ويستطيعون التنسيق معك ويشعرون أنك معهم في مركب واحدة، وأن تمنعها عن أعدائك فلا يستطيعون أن يعرفوا ما تخبئه لهم من مفاجآت. لكنك طعباً لا تستطيع أن تخبر الكثير من أصدقائك، دون أن يصل الخبر إلى أعدائك. لذلك يختار المالكي ومن يفضل هذه الطريقة، أن يكون صامتاً يحيط تصرفاته وقراراته بغموض الأسباب أو يقدم أسباباً غير مقنعة للأكثرية.
المشكلة في هذه الطريقة مع خصم مثل الأمريكان وإمكانياتهم التكنولوجية هائلة التطور، هي أنهم يعلمون بكل كلمة تقولها أو تكتبها وأي نفس يدخل رئتيك أو يخرج منهما، وأنها تنقل بالنقل المباشر إلى غرف التحليل في "السفارة"  الهائلة، وإلى واشنطن وعلى الأغلب تل أبيب أيضاً.
هكذا نصل إلى النتيجة المقلوبة، فيصير خصومك عارفين بكل شيء، وأصدقاؤك يشعرون أنهم كـ "الأطرش بالزفة"! وخير دليل على ذلك هو أنك تجد أن جميع المبادرات تأتي من خصومك الذين حسبوا في هذه الأثناء كل رد فعل لك. وتأتي أفعالك كردود فعل تصد عن نفسها الهجمات المرة تلو المرة، دون أن تستطيع أن تتحرك أو تأخذ المبادرة والهجوم. في كل مرة يفكر خصم الأمريكان أنه "سيمرر" لهم الأمر هذه المرة إلى أن تأتي الفرصة الأنسب للرد. لكنه يفاجأ بأنهم قرأوا أفكاره، فمعظم خصومهم في العالم فعلوا نفس الشيء. لذلك فالأمريكان يستفيدون من "التمرير"، لكنهم يحتفظون بالمبادرة، ويوجهون له الضربة تلو الأخرى، ليكتشف متأخراً بأن "الفرصة الأنسب" لن تأتِ أبداً! لقد كان الجعفري قادراً على فضح الحقيقة الخطيرة بأن الإحتلال هو من يدير الإرهاب والتفجيرات، لو أنه أصر على التحقيق في حادثة البصرة، لكنه "مررها" لينتظر "الفرصة الأنسب"، ففرح الإحتلال بـ "التمرير" وحرصوا أن لا يحصل الجعفري على فرصة ثانية أبداً.

هكذا يكون الملعب مكشوفاً أمام خصومك ليخططوا كما يريدون، أما أصدقاؤك، فيديرون رؤوسهم حائرين يتابعون كرة التنس بينكما دون أن يستطيعون مساعدتك في شيء، ولا التنسيق معك، وفوق ذلك فأنك تثير فيهم عدم الثقة، والشك بالمستقبل. ولأنك تحتفظ بمعلوماتك لنفسك، فأن قراراتك تأتي بشكل مفاجآت لا يدرون أين يضعون انفسهم منها: بدون سابق إنذار، تأتي "مذكرة تفاهم" سرية موقعة ومنتهية!! تؤيد التفاوض مع البعثيين يوماً ثم تنقلب عليه تماماً في اليوم التالي! تعارض المعاهدة وتسخر منها، ثم تنقلب فوراً إلى تهديد الشعب ما لم يتم التوقيع عليها! تدخل البرلمان وتحصل بينك وبين أحدهم مشادة، فتقول له أنك تعلم عن إرتباطاته الإرهابية!

كيف يحسب الشعب، أو على الأقل ناخبوك، خطوتك القادمة يا سيادة رئيس الوزراء؟ كيف يطمئن، كيف تريده أن يقف معك بثقة؟ أين يذهب بالأسئلة التي تكاثرت في رأسه بلا جواب:
لماذا قال المالكي أنه كان يسهر على راحة منتظر الزيدي في السجن، بينما يقول منتظر أنه كان يعذب بالكهرباء في تلك الأثناء؟
ما قصة العصابة العجيبة ذات الثمانية ألاف عضو المتخصصة بقتل الكفاءات والتي تم إعدام مئتين منهم والحكم على 600 بالمؤبد (على ما أذكر).. بمن ترتبط.. من يمولها.. لماذا لا تعلن نتائج التحقيق؟
ما هي حقيقة أجهزة كشف المتفجرات المزيفة ولماذا لا نسمع قصة قابلة للتصديق عنها، هل هي أجهزة أم ليست سوى خدعة.. ولماذا يستمر مسؤولون عراقيون في الدفاع عنها حتى بعد أن تعترف حكومة الشركة بأنها عملية غش وخداع وتطردها من بلادها؟
من المسؤول عن تكرار قتل المتطوعين بعمليات إرهابية وبنفس الطريقة فيجمعون في صف انتظار ليأتي من يفجرهم، ولماذا بعد أن حدثت لأول مرة، لم يعط لكل مراجع ورقة لموعد في ساعة معينة في يوم معين لكي يمنع تجمعهم...كيف تتكرر هذه مرات ومرات ولا أحد يطير رأسه من المسؤولين عنها؟
ما قصة الأسعار المخفضة للنفط التي تذهب إلى الحكومة الأردنية رغم أن تلك الحكومة كانت أسوأ حكومة على الإطلاق في معاملة العراقيين حكومة وشعباً وكانت أقربهم إلى صدام قبل سقوطه وبعده؟ وهل يساعد مدين الجهة التي يدين لها بالمال، أم يبدأ بإيفاء دينه؟ هل العراقي أغنى من الأردني لكي يساعده؟... إن كان دعم للآجئين عراقيين فلماذا لا يقدم مثل هذا الدعم إلى سوريا وإيران، وفي كل منهما أضعاف ما في الأردن؟ لماذا لا يحتج أحد في الحكومة أو أي من النواب في أي من الأحزاب ولماذا لا يطرح أحد سؤالاً؟ كيف اتفقوا على هذه وهم مختلفين على كل شيء ويبحثون عن الزلات لبعضهم البعض في كل شيء؟

خصومك، المصرّين على مخاصمتك، يعرفون الأجوبة بالطبع عن كل زاوية من هذه الأسئلة، وهم يقدمون لـ "ممثليهم" في الحكومة والبرلمان، كل المعلومات والإستشارات اللازمة لكي تنورهم، وتساعدهم في معرفة مكانهم واتخاذ قراراتهم وحسب الحاجة، بينما يغرق رفاقك في الظلام الدامس، يكمكشون بأيديهم بحثاً عن الطريق. لا أدري كم من رفاقك المقربين يعرف ما تعرف، لكن بالتأكيد، فأن الشعب لا يدري شيئاً، هذا إن حسبت الشعب من أصدقائك. إذن فالحديث الشريف "أستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان" ليس مناسباً هنا ولم يكن يقصد به كتمان يقع على الأصدقاء دون الأعداء.
لعل التعلم من تجارب الخصوم من حكم الشعوب فهذا علاوي الذي وصف زميله السابق عزت الشابندر طربقة عمله واتخاذه قراراته بـ "أنك لا تعرف حتى ما يفكر فيه وما يدور في رأسه". وكانت النتيجة ألتي تعرفها لهذه المخاتلات، أن الرجل لا يستطيع أن يحتفظ لفترة طويلة بأية مجموعة تعمل معه، ومن يبقى معه هم ممن يرتضون لأنفسهم استلام الأوامر بالتلفون بلا مناقشة.
وأنت يا رئيس الوزراء، قد لا يكون الأمر معك بهذه الحدة، لكن من يستطيع أن يقول أنه يثق أنك لن تفاجأه في آخر لحظة مفاجأة غير سارة؟

ما العمل إذن؟ ليس هناك صعوبة في الجواب، ففي العاب الورق هناك العاباً مختلفة، في بعضها تخفى أكثر الأوراق، وفي أخرى تكشف أكثر الأوراق. وعندما تعرف أن خصمك وضع خلفك مرآة يرى فيها كل أوراقك "المخفية"، فلا يحتاج الأمر إلى دهاء لتقرر أن عليك أن تلعب معه على "المكشوف" لكي تتساوى فرصك مع فرص خصمك، أو على الأقل ليقل الفرق بينهما.

عليك أيضاً أن تتوقف عن التصرفات التي تثير الريبة والإحساس بالأسرار والظلام لدى الشعب، مثل الدعايات البائسة، صادقة كانت أم كاذبة (وهي على الأغلب كاذبة) مثل تلك القصة التي انطفأت فيها الكهرباء أثناء مقابلتك التلفزيونية! إن كنت تطالب الناس أن يصدقوا تلك القصة فلا تلومهم إذن إن صدقوا قصة صابرين الجنابي فهي ربما أقرب إلى التصديق من هذه القصة. المشكلة هي أنه حتى لو كانت قصة الكهرباء صحيحة، وجاءت في صدفة توقيت عجيب غريب لصالحك، فهي ليست في صالحك، ببساطة لأن رئيس الحكومة الذي لا يستطيع أن يؤمن لنفسه الكهرباء، شخص فاشل وليس "شعبي"، فخطورة ذلك كبيرة على البلد، كما أن رئيس حكومة يضطر إلى أن يتابع بنفسه إصلاح مولدة المنزل أو المكتب، مدير فاشل لأنه سيكون مشغولاً بالتوافه عن القرارات الهامة، وهو نوع معروف من الفشل الإداري في توزيع الأدوار يؤدي إلى ما يسمى "الإدارة المايكروية". وأهم من كل ذلك أن أحداً لن يصدق القصة حتى لو كانت صحيحة، إلا من كان قد أقسم مسبقاً أن يصدق كل ما يأتي منك، وهؤلاء ليسوا هدف الدعاية. لذلك كان عليك أن تمنع نشر ذلك اللقاء، إن كان حقيقياً، أما إن كان مزوراً فعليك أن تراجع نفسك وتطرد مدير دعايتك الأبله، ولا تستبعد تماماً أن يكون عميلاً سرياً يهدف إلى إسقاطك من خلال "أخطاء" متعمدة، فمثل هذه الحالات معروفة.

هذا في الإعلام، أما في السياسة فعليك ان تنتهج سياسة معاكسة لكل ما تقوم به الآن، حسب تصوري لما تقوم به الآن! أنت الآن تبدو كمن "يجمع الأوراق" على الآخرين ليستعملها في اللحظة المناسبة. تدخل إلى البرلمان، وحين يجابهك عضو برلماني بأسئلة صعبة، تفاجئه وتفاجئ العالم بأنك تخفي سلاحاً سرياً ضده، فتقول له أنك تعرف معلومات إرهابية تدينه! الحزب الشيوعي يغضبك، فإذا بك تستعمل ورقة تحتفظ بها، وهي كون مقره غير رسمي وأنه يمكن قانونياً للدولة أن تخليه!
الناس سيتساءلون: وكيف يخفي رئيس الحكومة معلومات إرهابية خطيرة؟ هل يحتفظ بها للإستفادة منها لنفسه، أم يفترض أن يستعملها لفائدة العراق وفور معرفته بها؟ إن كان إخفاؤها ضمن خطة لمصلحة العراق، فلماذا كشفها إذن، وفي اللحظة التي احتاج إليها في صراع شخصي مع خصم؟
وبالنسبة لإخلاء مقر الشيوعي، فلا يكفي أن الإخلاء قانوني ليبرر التصرف. الناس ستتساءل: لماذا في هذا التوقيت؟ لماذا تم استخدام استعراضي للقوة؟ لماذا قواتك الخاصة؟ هل خصصت هذه القوة لحل إشكالات وخلافات السكن أم هي قوات مدربة بشكل خاص للحماية؟ ولماذا هذا الحزب دون غيره، علماً أن لديه مقران فقط ولديه معاملة لتأجيل إخراجه لحين حصوله على مقراته المصادرة سابقاً؟ بيانات القوة العسكرية جاءت متناقضة وزادت الطين بله. مرة تقول أن اختيار المقرات جاء بسبب أولوية الحاجة إليها، ومرة ثانية تقول أنها فعلت نفس الشيء مع أحزاب أخرى.

ما الذي يتركه كل هذا من أنطباع عن المالكي؟ إحساس بالمخاتلة وعدم الراحة وعدم الثقة، في اللحظة التي يحتاج فيها إلى كل ثقة ممكنة. أنا من الناس لا أصدق أن توقيت الأمر وطريقة إنجازه مجرد صدقة، وأعتقد انها كانت عملية أنتقام من الحزب بإضهار واحدة من الأوراق التي كنت تخفيها عنه لحين الحاجة. قرأت اليوم خبراً يتحدث عن مشروع لتأخير استعادة الأراضي الزراعية المتجاوز عليها من قبل الفلاحين دعماً لهم في هذه الفترة، فلماذا لا يكون هناك تفكير بتأخير استعادة الأبنية المتجاوز عليها، خاصة من قبل الأحزاب الصغيرة التي لا تملك مكاناً آخر تذهب إليه؟ الأحزاب هي الجزء الأساسي في العملية السياسية الديمقراطية، وتستحق بالتأكيد من الحكومة أن تؤمن لها الحد الأدنى من ظروف العمل، فما هو الحدث العظيم الذي كان يتطلب إخراج حزب من مقراته خلال 24 ساعة؟ أليست ياترى ورقة ضغط حكومية على جميع الأحزاب الحالية؟ هل يفسر هذا تأخر تسوية الموضوع، وأن الحكومة ربما تفضل الإحتفاظ لنفسها بورقة ابتزاز على أن تحصل على ثمن الإيجارات؟ من حقنا أن نشك بالأمر.

سياسة تجميع أوراق الضغط، ولنسمها باسمها الحقيقي هنا، أوراق الإبتزاز، لا تجعل صاحبها محبوباً لدى الناس، وحتى إن لم يجرمها القانون فالأخلاق تفعل. لقد استعملتها أجهزة الأمن الأمريكية بكثرة في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات في الفترة الميكافلية، وما زالت تستعمل من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة، لكنها واحدة من الأسباب التي كره الناس الأجهزة الأمنية بسببها.

تلك أوراق إبتزاز، أما أوراق الضغط، فهي أوراق الإحراج، وحين تلعبها "على المكشوف" فأنك تكسب دون أن تخسر سمعتك كشخص شفاف مباشر. خذ مثلاً تدخل السفارة الأمريكية الوقح في الإنتخابات الأخيرة، وتعاون بعض السياسيين الذين ينقصهم الحياء معها للحصول على مكاسب بالقوة. يمكنك الآن فوراً أن تقترح على البرلمان التصويت على قانون يمنع السياسيين والجهات الحكومية من الإلتقاء بأية جهة أجنبية خلال فترة ما قبل وأثناء الإنتخابات وحتى الإنتهاء من تشكيل الحكومة، ويمنع على الجهات الدبلوماسية ان تلتقي بهم. وبالنسبة للزيارات المخجلة الذي قام بها عدد من هؤلاء إلى الدول الأجنبية، بعيدة وقريبة، وبشكل جعل العراقيين يخجلون من أنفسهم لتلك الإهانة، يمكنك أن تقترح على البرلمان، ما لم تكن تنوي الإستفادة من هذه الممارسات الضعيفة، سن قانون يمنع سفر المرشحين وقادة الأحزاب السياسية إلى الخارج خلال فترة الإنتخابات وما يحيط بها!

ماذا سيفعلون؟ إن قبلوا القانون كسبت موقفاً وكسب العراق قانوناً رائعاً، يزيد من اعتزاز العراقي ببلده وبمن أنجز ذلك القانون. وإن عرقلوه في البرلمان عليك أن لا تترك عراقياً واحداً لا يعرف من الذي عرقل ذلك القانون، ولماذا عرقله! هكذا توجه ضرباتك المباشرة إلى التآمر والمتآمرين بدلاً من انتظار ضرباتهم، وليس أن تحتفظ بحقيقة نتيجة التصويت لنفسك، لكي تستخدمها في يوم ما وتقول لأحدهم: "أنت صوتت ضد ذلك القانون".

سياسة الخصوم بالإستفادة من "التمرير" او التساهل دون دفع ثمنها، سياسة أمريكية إسرائيلية بامتياز، وتمتد من خلال الإستشارة إلى ممثليهم في السياسة العراقية، ويفترض أن المالكي أو اي سياسي آخر، قد أدرك ألآن أن هذه سياسة ثابتة، لذلك فأن أي توقع برد إيجابي على اي تساهل، هو وهم أصبح يعتبر حماقة في عالم السياسة. ما يجب أن ينتظره ويحسب حسابه لكل تساهل، هو أن يقوم المقابل باستغلال التساهل، وأن يعد المالكي نفسه لفضح ذلك الإبتزاز بصراحة وأكبر قوة بهدف فضح الخصم تماماً وتبرير وقف الشراكة معه.
اليوم حذر عضو مجلس النواب عن دولة القانون سامي العسكري من إن إستمرار رئاسة مجلس النواب بنهجها الحالي في تعطيل التشريعات والقوانين قد تؤدي باعضاء المجلس الى الطلب بإقالتها. ويلجأ الخندق المقابل للحكومة في هذا الأمر إلى تخصيص الوقت للخطابات الفارغة المطولة، وهي بالمناسبة طريقة مقتبسة من الكونغرس الأمريكية وتسمى الـ "فيليبستر" تستطيع فيه الأقلية عرقلة مشروع أي قانون بمناقشات لا نهاية لها. وقد أضطر الكونغرس لاحقاً إلى تعديل الدستور لكي يحدد إمكانية استخدام ذلك اللغم لتعطيل القرارات في البلاد.
خطوة سامي العسكري تتجه في الإتجاه الصحيح. فاللعبة القديمة في عرقلة القوانين تعود من جديد، وبنفس اللاعبين ويمكننا أن نرى ذلك أيضاً من خطاب رئيس الحكومة الأخير في البرلمان، فقال:
"ولايخفى عليكم وعلى الشعب العراقي أهمية القوانين التي مازالت معطلة حتى اليوم ومنذ الدورة السابقة لمجلس النواب ، مثل قانون الاحزاب و قانون الانتخابات وقانون المحافظات  وقانون النفط والغاز ومشروع الحكومة الالكترونية  وقانون حماية الصحفيين  وقانون وزارة الداخلية ، وقوانين مهمة اخرى مثل قانون التقاعد.." (**)

يجب أن يكون الإحراج المكشوف هو السلاح الأكثر استعمالاً أمام هذه الأساليب. وبالطبع ليس فقط أمام رئيس البرلمان، بل أيضاً أمام نواب رئيس الجمهورية، والذين أخذوا على عاتقهم هذه المهمة غير الشريفة، مثل عادل عبد المهدي وطارق الهاشمي. يجب توقع هذه العرقلة والإستعداد لفضحها بأكبر وضوح ممكن وبطريقة لا تداري ولا تخشى إحراق السفن معهم، فليست هناك أية سفن على الإطلاق.

و الآن؟ أمام العراق اليوم قضية في غاية الخطورة، وأتمنى أنها لن تتم بالطريقة المخاتلة المعتادة في السياسة العراقية، وأن يتم التعامل معها بشكل شفاف صريح جريء مفتوح ومواجه: قضية سحب القوات الأمريكية. فرغم أغلب التأكيدات الأمريكية (وليس كلها) بالنية بسحب القوات من العراق، فأن تصوري من خلال مراقبة الأحداث ومنطق الأمور والتاريخ أيضاً، فأن الأمريكان يرغبون بشدة في الإبقاء على قواتهم في العراق، فذلك هو التفسير المعقول الوحيد على إصرارهم على توقيع المعاهدة. المؤشرات كثيرة. وزير دفاعنا المنتهية ولايته صرح قبل فترة أن العراق سيحتاج إلى القوات الأمريكية إلى عام 2016. ومعلوم أن العبيدي الذي كان يهدد العراقيين بالقراصنة إن لم يوقعوا المعاهدة، بوق أمريكي مباشر، وهو لم يكن سـ "يسود وجهه" بمثل هذا التصريح لولا قصد الإستقادة منه لتهيئة القبول بالتمديد على الأقل. وقبل يومين قرأت تقريراً كتبه جورج فريدمان ينبه فيه إلى أن أخطر ما تمر به المنطقة العربية ليس الثورة الليبية وإنما ما يجري في البحرين، ليتوصل بعد تحليل مطول إلى أنه إن سقطت الحكومة البحرينية أو ضعفت كثيراً، فأن إيران ستكون قادرة على الضغط على المملكة السعودية التي لن تجد نفس مستوى الدعم العسكري والمعنوي الذي يوفره تواجد أسطولها الخامس في البحرين مع حكومة قوية مؤيدة لها في البحرين، فإذا انسحب الأمريكان من العراق أيضاً، فسيكون الضغط شديداً على أصدقاء أميركا، وأنها قد لا تكون قادرة على مواجهة متطلبات تطورات السياسة في المنطقة، كما ان إعادة قواتها إلمنسحبة لن يكون سهلاً من الناحية السياسية. في النهاية يصل إلى أنه على الحكومة الأمريكية أن تنتبه لما يحدث في البحرين وأن تفكر في تأجيل انسحابها من العراق.
وفي مقابلة مع "الحياة" الندنية، سؤل الجعفري عن أحتمال طلب تمديد بقاء القوات فأجاب بعد أن حاول التهرب من السؤال:

"هذا شأن يقرره أصحاب الاختصاص والخبرة في الشأن العسكري وهو ليس قصيدة شعر أو مقالة صحافية يمكن أن يحدد صاحبها متى تصدر، ويجب أن نسأل خبراء عسكريين عن الوقت المتبقي لاستكمال بناء قواتنا، ونحن بأسرع وقت نريد أن تخرج القوات الأميركية، لكن يجب أن نعقلن أداءنا وأن نصغي لأصحاب الاختصاص، فعندما نطالب بخروج القوات الأجنبية يجب أن نؤمن غطاء امنياً لأبناء بلدنا، والذي يحسم هذه المعادلة أصحاب الاختصاص، ولا مانع من الاستعانة بخبراء عرب، والقوات العراقية على وشك استكمال بناء نفسها." (***)

هذا الكلام الذي يبدو بريئاً ومنطقياً، كلام خاطئ وخطير للغاية. إنه خطير لأنه ببساطة دعوة لأميركا للتدخل في تشكلية الحكومة ولإثارة المشاكل. فعندما تعلم أن "أصحاب الشأن العسكري" هم من سيقرر مسألة تمديد بقاء القوات، فهي دعوة صريحة لك لأن تعمل على أن يكون "اصحاب الشأن" هؤلاء من جماعتك، ليقرروا الأمر كما تريد. أليس محتملاً أن هذا الصراع الطائل حول من يشغل منصبي وزيري الداخلية والدفاع، على الأقل جزئياً، عائد إلى الإصرار الأمريكي على تنصيب من تضمن أنه سيقول "نعم" لتمديد القوات؟ الا يكون معقولاً أن التنسيق للتظاهرات الحالية المستمرة، له علاقات أمريكية (إضافة إلى الناس المحتجة بحق من أجل الخدمات والإصلاح) تهدف إلى الضغط على المالكي لكي يقبل بمن تصر "ألعراقية" و المجلس الأعلى على تنصيبهم في تلك المراكز، أو بعضها، على الأقل فيما يتعلق بوزارة الدفاع؟ بشكل عام، عندما تكشف نواياك لطريقة اتخاذك القرار لخصومك، فأنك تدعوهم صراحة للتأثير عليه وترشدهم إلى الطريق اللازم لذلك، ومن هنا خطورة تصريح الجعفري.

لكن إضافة إلى خطورة قول الجعفري، فهو خاطئ. فالسياسي هو الشخص الذي يجب أن يقرر مثل هذا القرار وليس العسكري. السبب الاول هو أن العراق ليس في معركة لكي يمكن للعسكري معرفة ما يحتاجه بالضبط لحماية نفسه، بل الأمر يعتمد تماماً على تقديرات سياسية مستقبلية لأحتمال حدوث مثل تلك المعركة ومع من وإلى أية درجة وما هي البدائل السياسية الممكنة لتجنبها إن عرفنا الأسباب المحتملة لها وهل ستكون على نطاق واسع أم مجرد مناوشات أو تهديدات ومناورات.. الخ.. كل هذه أسئلة سياسية وليست عسكرية، ومن يقرر أجوبتها يفترض أن يكون السياسي وليس العسكري.
إضافة إلى ذلك، وبفرض معرفة أجوبة كل تلك الأسئلة، فأن مفهوم "الإستعداد الكافي" مفهوم مائع وهلامي تماماً. فإذا أردنا أن ننتصر بسرعة فأن ذلك يتطلب قوة أكبر بكثير مما إذا كان هدفنا الدفاع والصمود فقط، وحتى الدفاع تختلف متطلباته إن كنت تريد أن تضمن أن لا تسمح لأية قوة عسكرية بدخول بلادك أم أنك تعتقد أن تلك القوة حتى إن دخلت فلن تستطيع البقاء بسبب المقاومة الداخلية. الموضوع كله هلامي، وأي حديث عن حدود واضحة بأية درجة كانت لمستوى الجيش والتسلح اللازم للعراق هو أقرب الى الخداع منه إلى الحقيقة. لقد صمدت كل من حماس وحزب الله أمام إسرائيل، فهل انتظرتا أن يصبح لديهما جيش يعادل الجيش الإسرائيلي قبل أن تتصرفا؟ أستطيع أن أجزم بأن تصريح العبيدي عن عام 2016 قد قيل كيفما اتفق ولا يستند إلى أية دراسة.
إن القاء الكرة في ملعب "الخبراء العسكريين" قد لا يكون إلا محاولة للتخلص من المسؤولية عن الموضوع وهذا مؤشر خطير أيضاً. هذا يدفع المرء إلى التفكير بأن الساسة العراقيين قد بدأوا البحث عن الحجج اللازمة للتخلص من القضية والقاء عاتقها على العسكريين. لكن من ناحية أخرى لو كان الأمر كذلك لما اختلفوا مع العراقية التي تمثل الجانب الأمريكي حسب تقديري، على من سيتولى وزارة الدفاع مثلاً، لذلك أفترض أن المالكي على الأرجح، يريد فعلاً أنهاء وجود القوات الأمريكية في العراق.

هذا العام سيكون أخطر عام في مستقبل العراق، فإن ثبتت القواعد فإننا نورث الأجيال القادمة مشكلة قد يكون حلها فوق طاقاتهم. لننظر إلى اليابان التي يمتع الميالون للإستسلام للضغط الأمريكي انفسهم بالنظر إليها كمثال، فمثل ما يحدث في كوريا الجنوبية يتظاهر الكثيرين في اليابان سنوياً مطالبين برحيل القوات الأمريكية عن بلادهم، فلا يوجد أي منافق يستطيع القول أن اليابان تتعرض للخطر وأن وجود القوات يحميها. وأخيراً وصل الضغط الشعبي لإزالة القواعد الأمريكية حداً أنه قلب الحكومة اليابانية المستقرة منذ نهاية الحرب، وجاء بالرجل الذي وعد الشعب بإنهاء وجود القواعد. لكن الرجل جاء فرأى أن الأمريكان ركزوا رماحهم في قلب اليابان حتى استحال قلعها، فقدم استقالته، وذهب في سبيله خجلاً، وبقي الياباني يحس بمهانة وجود جيش على أرض بلاده لا مبرر له ولا يستطيع منه فكاكاً.

في عام 1972، استلم غوف ويتلام (Gough Whitlam)  السلطة في استراليا بعد أن فاز حزبه "حزب العمل" ولأول مرة منذ 23 عاماً بالإنتخابات، وقام باعادة القوات الإسترالية التي كانت تشارك في حرب فيتنام آنذاك وإطلاق سراح المحتجزين من الجنود الذين رفضوا الخدمة هناك. إكتشفت حكومة ويتلام أسراراً خطيرة عن أعمال الـ (CIA) الأمريكية في بلادها وتعاون أجهزة الأمن الأسترالية معها خاصة في التآمر على حكومة اليندي في تشيلي، فأمر الرئيس ويتلام بالتوقف فوراً عن هذا "التعاون"، (لكن الأمن الأسترالي استمر في ذلك حتى الإطاحة بالندي). كل هذا جعل حكومة ويتلام تحاول أن تعرف مدى تغلغل الـ (CIA) وبقية المؤسسات الأمنية الأمريكية في موسساته الأمنية، وحاولت إبقاءها عند الحدود المقبولة دولياً، فكانت النتيجة إسقاط الحكومة المنتخبة الأسترالية! من يريد الإطلاع على تفاصيل أكثر حول القصة أشيره إلى مقالي: "لنتعلم الحكمة من الذين وقعوا معاهدات قبلنا" (****) (مقالة رقم 163 حالياً)

إن وجود القواعد الأجنبية، عبارة عن رصاصة في جسد ذلك البلد، إن لم يتم إخراجها بسرعة صار ذلك مكلفاً لاحقاً، وستبقى شوكة ضغط على خيارات الشعب وغصة تمنع الإحساس بالكرامة لدى المواطن وشق من الشك بينه وبين حكوماته، ونظرة سلبية من جيران البلد، هي خليط من الخوف والإحتقار للبلد المضيف للقواعد. هذه هي النتائج النفسية الأكيدة والثابتة للقواعد على شعب البلاد مهما تم تجاهلها.
وبالنسبة للعراق، كما هو الحال مع أستراليا واليابان، فهذا أكبر بكثير وأخطر بكثير من أي تهديد عسكري محتمل في الوقت الحاضر، حيث لا توجد أية مطالبات بأراضي أو أية أسباب مباشرة للإحتراب بين دول المنطقة، بل أن تواجد مثل هذه القوات هو السبب الأكبر لإحتمال إثارة ذلك الإحتراب.

في تصوري أن كل هذه العوامل تشير إلى أن الخطوة الصحيحة الآن هي أن يعلن المالكي بأقرب وقت ممكن، أي فوراً، أنه لا ينوي، وتحت أية ظروف أن يمدد بقاء القوات الأجنبية! فمثل هذا التصريح حين يعلن وينتشر، ويسعد به الناس القلقون، قد يكون بحد ذاته رادعاً لأية مؤامرات. فأية محاولة لإستبدال الحكومة، إن كان هدفها التمديد، سوف تكون مكشوفة تماماً، وبشكل قد يتردد في الإقدام عليه حتى الأمريكان وعلاوي إن اعتبروا أن كلفة ذلك ستكون كبيرة وأنها لن تنتج حالة مستقرة. كما أن مثل هذه الخطوة ستعطي أفضلية إنتخابية لفريق المالكي في حالة إسقاط الحكومة وإعادة الإنتخابات، لأن الشعب سيزداد إصراراً على انتخابه لحماية العراق من التمديد. مثل هذا الإعلان سوف يغير جميع الأوراق الموضوعة على الطاولة لصالح الحكومة الحالية، وربما يعطيها فرصة أفضل لتحقيق الإصلاحات التي يطالب بها الناس.
يجب أن يدرك المالكي إن السياسة التي تعتمد السرية وتجميع الأوراق ضد الأخرين وترك الأبواب مفتوحة للمراوغة وتجنب إحراج الخصم علناً، سياسة عفا عليها الزمن وهي سياسة فاشلة بالذات أمام الإحتلال الذي يجيدها ويستفيد منها أكثر منه بكثير، وأن تغييرها إلى سياسة صريحة مباشرة يشعر الناس من خلالها أنهم يرون ما يحدث بوضوح وثقة ويفهمونه، سيكون نقطة تحول إيجابية كبيرة للغاية في العراق، خاصة في هذه المرحلة الحرجة. يجب عدم الإنتظار فكل يوم يتأخر ذلك التغيير، يمنح المقابل فرصة للمبادرة بتوجيه ضربة إضافية استباقية يخشى أن تكون حاسمة.

(*)  http://www.usdebtclock.org
(**) http://www.pmo.iq/ArticleShow.aspx?ID=123
(***)http://www.markazaliraq.net/?state=news&viewId=6065
(****) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/index.htm

120
المالكي و "دولة القانون على الضعيف" – حول إغلاق مقرات الحزب الشيوعي

صائب خليل
9 آذار 2011

أدعم المالكي وقلبي على يدي، فرغم أنه لا يقارن بمنافسه، مركز الكذب والدكتاتورية المتمثل بأياد علاوي، إلا أن المالكي، حسبما يخبرنا تاريخه القريب، رجل لا يتورع عن المراوغة و"الزغل" في اللحظة التي يراها مناسبة. وفي الوقت الذي نذكر له فضل إنقاذ النفط، حتى اليوم على الأقل، ونذكر له حماية العراق من عملاء الإحتلال، لكننا نذكر ايضاً أنه من أدخل العراق في معاهدة مشبوهة سرية، وبطريقة بعيدة عن الصدق والشفافية، وكان تعامله مع الشعب والبرلمان أقرب ما يكون إلى حيل الإدارات الأمريكية حينما تريد أن تمرر قراراً أو قانوناً يقف الشعب والكونغرس ضده: الإخفاء والمراوغة واستعمال الأسماء التي تسهل الإفلات من الدستور والتزاماته.
وفي الوقت الذي نذكر للمالكي صدقه وتواضعه حين قال عند استلامه السلطة أول مرة، أنه القائد العام للقوات المسلحة ولا يستطيع تحريك سرية دون إذن الأمريكان، فإننا نذكر تبجحه وهو يهتف أنه "هو وحده" من قرر القيام بـ "صولة الفرسان"، وكان يبدو سعيداً بهذه "التمارين العسكرية" بحيث أنه لم يبذل أي جهد لمحاولة حل المشكلة سلمياً، بل وقرر أن يقود "الصولة" بنفسه، رغم أن علمه بالعسكرية لا يزيد عن علمي بأصول الزراعة!
لا شك أن "صولة الفرسان" رفعت المالكي في عيون الكثير من العراقيين، فقد تعودنا على البطولات التي تسير على عزف أنفجارات القنابل وأزيز الطائرات الحربية، أما الحل بطريقة دبلوماسية؟ تلك أمور مخجلة لـ "الفرسان"!

ليس المالكي وحده في هذا، فلا نظلمه. فرئيس مجلس بغداد لم يجد ما يكفي من الإثارة في أن يرسل شخصاً يبلغ نادي الكتاب والمثقفين بأمر إغلاق النادي، فهذه قصة باهتة، وربما لن تكفي لإدخاله الجنة. لذلك أرسل عليهم "طيراً أبابيل" مدججين بالسلاح والإحتقار، لكنه كان عرضاً كوميدياً باهتاً، فالجماعة كانوا يشربون ويتحدثون، ونسوا أن يحفروا الخنادق حولهم ويعدوا للقادمين ما استطاعوا من قوة. علمت أيضاً أن القضية كلها ليست من اختصاص مجلس المحافظة! لكن المجلس على ما يبدو قرر أن يسجل لنفسه "حسنة"، ربما لكثرة سيئاته، لتنفعه يوم القيامة، وأن تكون حسنة "مدوية"، يصل صوتها إلى السماء!

لاشك عندي أن الذين أحترموا المالكي "الجنرال" هم نفس من احترموا رئيس مجلس بغداد "الورع" المدوي، وهم من نفس نوع من يحترم أياد وهو يصرخ بالصحفيين يوم فوزه بالتزويرات الأخيرة، وإن كانوا من فريق آخر، وهم من نفس النوع الذي يرى رجولة في صفاقة المشهداني وهو يزجر النساء وتتقافز من فمه الأحذية في البرلمان، وهم من يرون شجاعةً، في سفاهة بهاء الأعرجي الذي شوه وجه التيار الصدري وسوده، وهو يصرخ بطريقة تنبئ عن تربيته الصدامية الواطئة في وجه بزميل برلماني له: أطلع بره! وكأن البرلمان "بيت الخلّفه" كما يقولون... إنها كروموسومات الشقاوة، لا يحترمها إلا أثنان: من كان مصاباً بنفس المرض، ومن كان مصاباً بالإحساس بالدونية، فيرى في مثل هذه التصرفات هيبة.

بالنسبة لي كان المالكي في أقصى ارتفاعه الإنساني، حين كانت له الشجاعة أن يصرّح لنا بضعفه، وهبط إلى أدنى مستوى له عندي وهو يجعجع متباهياً بقدرته على تسليط العنف العسكري، بالإتجاه الوحيد الذي سمح له بترايوس به، ليخفي ضعفه وقلة حيلته خلف ضجيج المعركة ودمائها ودموعها. أي إنسان يحترم نفسه يستطيع أن يترك شخصاً شجاعاً صريحاً وضعته الظروف في لحظة ضعف؟ وأي إنسان يحترم نفسه لا يدير وجهه مشمئزاً من الذي يتباهى بقسوته على من هو أضعف منه؟

عندما كان الإحتلال يزور الإنتخابات ويبتز المؤسسات الدستورية، ويرشو ممثل الأمم المتحدة والقضاة والهيئة الدنيا للإنتخابات، برئيسها القبيح، فلا يستطيع المالكي حتى أن يفرض حقه البسيط في إعادة العد يدوياً ومقارنة النتائج، وهو رئيس الحكومة و...."ألقائد العام للقوات المسلحة"، عندها تشعر أن احترامك لنفسك يمر من خلال وقوفك في جانب هذا الشخص، فتدافع عن حقه بكل قوة، وتصر على فضح المزورين الذين اعتدوا عليه، بأكثر من إصراره هو نفسه على فضحهم، وتبقى تكافح خصومه حتى بعد أن يتفق على الإشتراك معهم، فتكرر الصفعات لهم ولشركائهم حتى بعد أن تنتهي المعركة، تريد أن لا ينسى الناس وضاعة الحديري ووقاحة السفير الأمريكي وصلافة أياد علاوي وحيدر الملا ودنائة أيد ميلكرت وهم يتآمرون لحماية التزوير ورفض الكشف عنه، وحرمان الضحية مما استحقت من مقاعد، الضحية التي هي رئيس الوزراء و "القائد العام للقوات المسلحة" ... المالكي.

وتقف مع المالكي وتخسر ود أصدقائك، حين يهاجمه الجميع ويتهمه بقمع المتظاهرين بوحشية. وتصر على أنك لم تر هذا القمع، وأن من يقول به لا يبدو صادقاً. وترد التهم بهدوء وترفض السباحة مع التيار الجارف، التيار القوي. فتصر أن الرجل لم يهدد المتظاهرين في خطابه بل ترجاهم، وأن منع المركبات على علاته، ليس منع تجول. والقنابل الصوتية ليست رصاصاً حياً...الجميع يعلم بذلك طبعاً، لكن ما أهمية الحقيقة؟ الموجة الجارفة للمزايدات "الوطنية" و"الديمقراطية" لا تنتظر لتسأل عن الحقيقة. لكن من يحترم الحقيقية يصر على أن يسأل، ويكرر السؤال، ولو إلى الأبد.

قبل بضعة سنين، لم يختر المالكي تطبيق قانون قصر حمل السلاح على الحكومة، إلا ضد الجهة الأضعف، الجهة التي يكرهها الإحتلال، فيهاجم ميليشياتها بكل ما امتلك فرسانه من صولات، ويقصف حتى بيوتهم على أهاليهم وأطفالهم، ويترك ميليشيات المجلس الأعلى والبيشمركة، تنعم بالأسلحة حتى الثقيلة منها، وبغض النظر عما يقول القانون والدستور.
وهاهو اليوم يختار أن يطبق قانون إخلاء أملاك الدولة، بأن يبدأ (وربما يكتفي) بأن يحاصر بقواته الباسلة أضعف الأحزاب وأكثرها سلمية وأقلها قدرة على الدفاع عن النفس، ويحيط مقر الحزب مقر جريدته بقواته الخاصة المدججة بالسلاح، لتأمرهم بإخلاء المقرات "خلال 24 ساعة"! ... فبعد 25 ساعة سوف تقوم القيامة. لم يكن هناك وقت على ما يبدو لكي يتم الشيوعيون معاملة اعتراضهم على قرار الإخلاء ومطالبتهم بمقراتهم التي صادرها صدام، كبديل لمقراتهم الحالية. لم يكن هناك وقت أيضاً لدى الحكومة لتبلغهم برفض اعتراضهم وإعطائهم إنذاراً لمدة شهر أو أسبوع ليرتبو لنفسهم مكاناً، فمصير العراق، دولة القانون، يتوقف على عدد ساعات بقاء بضعة شيوعيين وصحيفتهم في ذلك المقر! وزارة الدفاع تريد مكانها. وكيف تتساهل الدفاع مع هذا الحزب الخطير الذي تعهد وزيرها يوم استلامه منصبه بالقضاء عليهم في خطابه صراحة وعلانية؟

إنك يا مالكي لم تتمكن من أمورك بعد، وكان هذا منك، فكيف لو أنك تمكنت؟ هل كتب على العراقي إلى الأبد أن يرتعد من فكرة تمكن حكامه من أمورهم؟ هل أزعجك الشيوعيون في تظاهراتهم يا سيادة "القائد العام للقوات المسلحة"؟ من الذي كان يهتف بشعارات معادية ومهينة أكثر، هم أم شركاؤك في الحكم؟ من الذي يمتلك مقرات أكثر تابعة للدولة، هم أم أنت وشركائك في الحكم؟ من الذي يهدد الديمقراطية أكثر؟ من الذي زور الإنتخابات ضدك، هم أم شركاؤك في الحكم؟ من الذي تآمر لإسقاط حكومتك السابقة، ومن الذي وقف معك؟ فما هو السبب أنك لا تتذكر أنك "القائد العام للقوات المسلحة" إلا معهم، ولا تتذكر كل الحضارات والديمقراطية والأدب واللطف، إلا مع من لا يفوت فرصة لإسقاطك، ويتمنى لو شرب دمك حياً؟

حين كان فرسانك "يصولون" على الصدريين، كتبت لك مقالة صغيرة، أنهيتها بتذكيرك بمن قال: "أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". ويبدو أن تلك المقالة لم تصلك، أو أنك لا تصدق هذا القول، فهل نغير اسم كتلتك إلى "دولة القانون على الضعيف"؟



121
الإنتحاريون صناعة أمريكية - دليل جديد - هل سيكفي هذه المرة؟

صائب خليل
8 آذار 2011

حين انفجرت كنيسة القديسين في مصر بعمل إرهابي، أنهال المثقفون العرب، كما كانوا يفعلون منذ عدة سنين وخاصة بعد 11 ايلول 2001، وبعد كل عملية إرهابية، "يحللون" الأمر وينقبون في التاريخ وفي التعاليم الإسلامية بحثاً عن "سر" الجنون الذي يجتاح العالم الإسلامي – العربي والذي يدفع أبنائه إلى قتل انفسهم إنتحاراً ليقتلوا الآخرين.
وكان من الواضح أن هؤلاء المثقفين قد وضعوا لأنفسهم بشكل مسبق حاجزاً للتفكير والتحليل، ومنطلقاً قررته لهم وسائل الإعلام وهو أن الإرهاب عربي – إسلامي. إنطلق من هذه النقطة ولك كامل الحرية إلى ان تصل إلى أية نتيجة تتفتق عنها قريحتك، حتى لو توصلت إلى أن الملام على هذا العنف العربي الإسلامي هي أميركا وإسرائيل وسياساتهما العدوانية. المهم ان لا يخرج النقاش عن هذا الإطار ليقترح أن الأمريكان والإسرائيليين قد يكونوا هم من يقوم بتلك العمليات أو على الأقل، يديرونها!

الحق يقال، أن الإحتلال قدم عشرات الأدلة، بعضها قاطع، على أنه هو المتورط في الإرهاب في العراق وأنه يقوده ويديره، لكن "الجو الثقافي" و "الجو السياسي" كان مصراً بإرادة غريبة على تجاهل تلك الأدلة والإستمرار في البحث في مكان آخر، مكان تشير إليه وسائل الإعلام العراقية والعربية المملوكة من جهات أمريكية: عند المسلمين العرب المتطرفين!

منذ البداية، كان تعيين جون نيكروبونتي كأول سفير لأميركا في العراق، نقطة تثير الشبهات وتدعو للتفكير. فنيكروبونتي ليس سوى رجل صناعة الإرهاب في أميركا الوسطى في الثمانينات من القرن الماضي، والذي تطارده التهم والمتظاهرون حيثما حل ورحل في العالم. وحينها كتبت مقالتين أحذر من الرجل في أولها (نيغروبونتي: السجل الخطير لسعادة السفير).(1) وأطالب الجهات العراقية بطرده من العراق، ورفض التعاون مع الإحتلال حتى يستبدله في الثانية.

وفي 2006 جاءت الصدفة الذهبية بالدليل القاطع. فقد القي القبض على جنديين بريطانيين متلبسين بتنفيذ عملية إرهابية انتحارية قرب حسينية في البصرة، وتوقعت أن تقوم الدنيا ولا تقعد بعد الآن، وقامت القوات البريطانية بإطلاق سراحهما بقوة الدبابات.
لكن الدنيا لم تقم! وبقيت الصحف تكتب بخجل، وتتجنب النقاط المحرجة للإحتلال بتماه خطير ومقزز، ولم تكن تصريحات الجعفري وحكومته بخير منها، فقد كان  علينا ان ننسى: البريطانيان كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد. (2)

مرت السنون مثقلة بالإرهاب والقتل، والإعلام العراقي الأمريكي والسياسيون العراقيون لا يجرؤون على  الإشارة إلى الأمريكان حتى كمتهمين محتملين إلا نادراً، وهو ما كان أمراً محبطاً ويدفع إلى ا ليأس الشديد. فقد مرت تلك الفرصة الذهبية، وأفلت الوحش الذي يسفك الدم في العراق، فكتبت متألماً: "هذا الدم في رقبتك يا جعفري". و "أما حان الوقت لننظر بشجاعة إلى الإرهاب في عينيه؟"  (3)

لكن خبر مفرح آخر جاء: "وهاهي حقيقة إرهاب تفجير الكنائس ومن يقف ورائها تتكشف!" كما يقول عنوان إحدى مقالاتي، فقد أدى تحطم أسوار السجون المصرية إلى كشف خطير عن تورط وزير الداخلية في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية!" وكان خبر "إحالة وزير الداخلية المصري (4) بهذه التهمة خبراً صاعقاً! لقد تبين أن التحليلات الخاصة بكنيسة القديسيين، والتي تنطلق من أن المجرم إسلامي متطرف، حتى قبل أن يكون هناك متهم بالقضية، تحليلات مزيفة لا قيمة لها مهما عادت إلى التاريخ وعلم الإجتماع، لأنها تفسر أمراً لم يحدث!

والأمر الآخر المهم في الخبر هو أن المتهم فيه هو وزير داخلية في حكومة تابعة تماماً لإسرائيل، وأن تعاون هذه الحكومة "أمنياً" و "إرهابياً" مع إسرائيل وأميركا أمر معروف، ووصل إلى أن يهدد الأمريكان سجناءهم في غوانتانامو بنقلهم إلى مصر إن لم يسجلوا الإعترافات المطلوبة. وهذا يعني أن العلاقة بين تفجير الكنيسة وإسرائيل علاقة واردة تماماً، بل هي العلاقة المعقولة الوحيدة، فليس للحكومة المصرية أية مصلحة في مثل هذه الجريمة التي تثير لها المشاكل بشكل كبير. فلا يستبعد أن يكون وزير الداخلية المصري حبيب العادلي قد اتفق مباشرة مع إسرائيل على العملية، التي أدت إلى مقتل 23 شخصا وإصابة 97 آخرين، وكاد يتسبب في فتنة طائفية في مصر.

ومن الطبيعي أن يذكر هذا الحادث فوراً بحادثة كنيسة سيدة النجاة في العراق، وكانت قصتها هي الأخرى تثير الشكوك لما صاحبها من قصة ملفقة حيكت بطريقة متعمدة لتشير إلى متهمين إسلاميين، إضافة إلى نقاط ريبة أخرى بتصرفات الإرهابيين في الكنيسة وتناقضها مع ادعاءاتهم. وكان لكشف خبر تورط العدلي في كنيسة مصر سبباً لإفتراض احتمال ارتباط الجريمتين ببعضهما البعض وارتباط منفيذها ببعضهم البعض ايضاً.
لكن الموضوع ضاع مرة أخرى، ومرة أخرى لا يبقى منه سوى الألم وكتبت "رسالة إلى آدم الذي فاتنا أن نعلمه الخوف" (5)

واليوم تنهار أسوار أخرى (6) ويتبين بالوثائق، بأن نفس أمن الدولة المتورط في تفجير كنيسة القديسيين، كان يقوم بـ "اعداد منفذين لعمليات تفجير في العراق"! (7)
وهو بلا شك دليل قاطع آخر على خطل التحليلات المذعنة للضغط الإعلامي والخوف، وأن لا الإسلام ولا الطائفية ولا حتى "العرب" مسؤولين عن ذلك العنف الجنوني الخرافي، بل أجهزة أمن تتعاون مع المحور الإسرائيلي – الأمريكي وتأتمر بأمره إلى أبعد الحدود، فهل ستعود الإنتلجنسيا ويعود المثقفون العراقيون إلى إهمال الحقائق التي تقف صريحة أمام عيونهم، ويركزون على ما هو مسموح لهم به: البحث والتنقيب عن أصل العنف في التاريخ العربي والنصوص الإسلامية؟ أم ستكون هذه النقطة نقطة التحول التي تعلن نهاية هذه القصة الدموية المخجلة؟

(1) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=20653
(2) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=46809
(3) http://igfd.net/?p=2309
(4) http://www.aljazeera.net/NR/exeres/24764930-5733-42DA-A0A8-00586C105984.htm?GoogleStatID=9
(5) http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=40500
(6) http://www.youtube.com/v/wMmrf2_dijs&rel=0
(7) http://www.jo-pal.com/News.aspx?id=65850


122
الضغط على الحكومة 2- الضغط الإستباقي وتأثيراته على المالكي في حكومتيه – ج1

صائب خليل
3 آذار 2011

هذا هو الجزء الأول من القسم الثاني من مقالة "الضغط على الحكومة" وكان القسم الأول بعنوان "إدارة الضغط على الحكومة وتوجيهه (1)
وشبهنا فيه الضغط على الحكومة كالضغط على بالونه، وان البالونة ستقفز في الإتجاه الذي تجده مفتوحاً، ولذلك يتوجب على من يبغي تسليط الضغط على الحكومة من أجل أي هدف، أن يرتب الحواجز لتلك الحكومة لكي ينتج ضغطه حركة في الإتجاه الصحيح.

في هذا الجزء سنناقش أحد أشكال الضغط المثيرة للإهتمام، وقد اسميته "الضغط الإستباقي" وكما يفهم من اسمه فأنه يتم تسليطه مسبقاً لمنع الحكومة (أو أية جهة أخرى) من التصرف بشكل معين فيما إذا أرادت، أو لإجبارها مستقبلاً على أن تنحو نحواً معيناً في سياستها، ويتم بناء هذا الضغط بشكل تحضيري وقبل أن تبدأ الحاجة الفعلية إليه.

ومثل "الحرب الإستباقية" فأن "الضغط الإستباقي" يغلق على الضحية بعض الخيارات مسبقاً ويجهزها لتيسير بالإتجاه "المناسب". ولعل أكثر استعمال لهذا الضغط في العالم كان في توجيه الولايات المتحدة لتهمة الشيوعية إلى أية حكومة تشم فيها رائحة الإتجاه إلى الشعب ومصالح البلاد القومية. وقد اتهمت حكومات قومية عديدة في العالم بالشيوعية لذلك السبب، بل أن القساوسة في أميركا الجنوبية اتهموا بالشيوعية رغم أن ذلك أمر مضحك. والسبب كان أن القساوسة بدأوا يتفهمون مواقف الفقراء ويقفون معها، وهو ما كان يغيض الحكومات الدكتاتورية الوحشية التابعة للولايات المتحدة والتي تخرج أكثر قادتها (كلهم في إحدى الفترات) من "مدرسة الأمريكتين" في الولايات المتحدة للتدريب العسكري. ويذكر أن أحد القساوسة قال: "إذا أطعمت جائعاً، قالوا أنك مسيحي طيب، وإن سألت لماذا هو جائع، قالوا أنك شيوعي".
وكوبا أحد الأمثلة الممتازة. فأغلب الناس لا يعلمون أن كاسترو لم يكن شيوعياً في بداية حكمه، وحسب نعوم تشومسكي فأنه كان يضع الشيوعيون في السجون. وأنه بدأ حكمه بزيارة رئيس الولايات المتحدة، لكن هذا غضب من موظفيه أن يأتوه بشيوعي ليقابله. وحين قالوا له أنه ليس شيوعياً، قال: لا يهمني أن كان شيوعياً أم لا، فهو يتكلم كشيوعي.
وهكذا حكم على حكومة كاسترو بالشيوعية وتمت محاصرتها، حتى صارت كذلك بالفعل. وإذا كان كاسترو قد انتقم بهذه الطريقة من متهميه، فأن معظم الآخرين فضلوا الطريق الأهدأ. فاتهمت الولايات المتحدة حكومة ارستيد (القس) في هايتي وحكومة الساندنيستا في نيكاراغوا والعديد من الحكومات المستقلة في أفريقيا وآسيا، وكما يبين لنا "وليام بلوم" في كتابه القيم "قتل الأمل" فقد اتهموا حكومات حتى لم يكن لديها سفارة لدى الإتحاد السوفيتي بذلك. وفي العراق اتهموا حتى عبد  الكريم قاسم بالشيوعية.
كان غرض تلك التهم في كل تلك الحالات، تسليط "ضغط استباقي" يمنع تلك الحكومات حتى من التفكير بإنشاء علاقة مع الإتحاد السوفيتي. فعندما تكون متهماً بالشيوعية، فأن أسوأ شيء تفعله هو أن تؤكد ذلك للمشككين، بأن تخطو خطوة بهذا الإتجاه. الولايات المتحدة كانت تدرك أن "الإتحاد السوفيتي" يمثل الصديق المحتمل الأقوى الذي قد يعرقل مشاريعها في بلد الضحية ويقوي حكومتها ويجعلها أكثر قدرة على مقاومة ضغوطها، فكان يجب تسليط الضغط الإستباقي اللازم لمنع تلك العلاقة.
وعلى ضوء هذا التفسير، يمكننا أن نفهم لماذا كانت الحكومات العراقية المتتالية تتهم بالعمالة لإيران. ولإسناد تلك التهمة كانت الأخبار تنقل بشكل إيحائي غالباً، ولا يستند إلى شيء. وأحياناً كان يستند إلى أمور تافهة، مثل حقيقة أن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي في أول زيارة له لإيران لم يرتدِ ربطة العنق أثناء زيارته إلى خامنئي، وكانت أية زيارة تثير مثل تلك التعليقات. وهناك أسباب أخرى أكثر منطقية لكنها لا تثبت شيئاً، مثل انتماء الحكومة إلى الطائفة الشيعية، مثل إيران، وكذلك أن الكثير من افراد تلك الحكومة سبق لهم أن لجأوا إلى إيران في الماضي.

ومثلما عرقل "الضغط الإستباقي" لتلك التهمة الحكومة العراقية في إقامة علاقات قوية بإيران، فقد تم استغلاله من قبل جهات أخرى أيضاً. منظمة مجاهدي خلق، المتهمة بشكل ثابت بالمساهمة باضطهاد العراقيين في انتفاضة عام 1991، والتي ارتكبت جرائم قتل بحقهم، حمت نفسها من الملاحقة، من خلال الضغط الإستباقي للتهمة. فقد كانت تلك المنظمة من الأهداف الإيرانية، وبالتالي فأن أي إجراء عراقي بحقها سوف يفسر ضمن الجو الذي هيأه الضغط الإستباقي، على أنه دليل آخر على تلك "الإشاعات" بعمالة الحكومة لإيران. ولم تكتف المنظمة بالإستفادة من ذلك الضغط، بل ساعدت في تكوينه وتثبيته في بياناتها المختلفة. وجاء في أحدها قائمة بثلاثين ألف عميل لإيران يعملون في الحكومة! وإذا تذكرنا أنه ليس من المعتاد أن تتهم منظمة سياسية، حكومة  الدولة المضيفة لها بمثل هذه التهم حتى لو كانت صحيحة، وأن ذلك كفيل بطردها فوراً من تلك الدولة، إن لم يكن محاكمتها على تهمها، أدركنا عمق تأثير الضغط الإستباقي الذي استندت إليه تلك المنظمة وهي تقوم باتهاماتها دون أن تخشى رد الفعل.
ورغم كل الضجيج الذي صاحب الأمر، فان رد فعل الحكومة كان حذراً جداً. وحين اقتحمت قواتها مدينة أشرف التي تسكنها المنظمة، فأنها فعلت ذلك بدون أسلحة نارية، رغم الخطورة، وحصل اشتباك بين الشرطة العراقية وأعضاء المنظة أدى إلى سقوط قتلى من الطرفين. وتمت تغطية الحدث إعلاميا بشكل مؤثر كبير، وتم تصويره على أنه جريمة إنسانية وأنه دليل على تلك العمالة لإيران. ويمكننا أن نفند اتهامات المنظمة لحكومة المالكي بالقسوة الشديدة من خلال الحقائق المحددة ومنها أن الحكومة العراقية بقيت ثلاث سنوات تفاوض المنظمة من أجل السماح لقواتها بدخول مدينة أشرف! وكأن مدينة أشرف دولة أخرى لا يحق للشرطة العراقية أن تدخلها. ولم تنتج تلك المفاوضات أي شيء فتم اقتحام المدينة بالقوة، ولكن بالحذر الذي فرضه الضغط الإستباقي الشديد المسلط على الحكومة.

كذلك استفاد من ذلك الضغط، بعض اللصوص الكبار مثل وزير الدفاع "الشعلان" و"أيهم السامرائي" وغيرهما باتهام من يحاول أن يحاسبهما بأنه يفعل ذلك لأنهما وقفا ضد إيران، وكذلك فعل مثال الآلوسي حين حاول بعض البرلمانيين محاسبته على عمله المهين للشعب العراقي بزيارة إسرائيل وللمرة الثانية، وهنا نرى "مشعان الجبوري" يفلت من الحوار الذي كان يدافع به عن جلاد الشعب العراقي صدام حسين، بأن اتهم مقابله في النقاش بأنه "إيراني"..(2) لقد كان مثل هذا المشهد أمراً معتاداً، والأمثلة كثيرة ولا تحصى.

بشكل عام، فعندما يراد أن تقوم جهة عميلة أو منسقة مع الولايات المتحدة (في حالة العراق على الأقل) بعمل غير قانوني أو صعب القبول وتخشى أن تتعرض للهجوم عليها، فأن "الضغط الإستباقي" الذي يتم خلقه من خلال حملة إتهامات مركزة إعلاميا، يقوم بتغطيتها، لتقوم بهجومها، تماماً كما تغطي الجيوش أرتالها المتقدمة بقصف مدفعي مكثف على مواقع الأعداء، فيضطر هؤلاء الأعداء إلى الإهتمام بحماية أنفسهم بدلاً من مواجهة المهاجمين الذين يكونو في موقف ضعيف وخطر بدون تلك التغطية. بهذه الطريقة يمكن لمنظمة إرهابية متهمة بجرائم ضد الشعب أن تبقى في الدولة المضيفة وأن يدافع لص كبير أمسك متلبساً بجريمته، عن نفسه وأن يدافع شخص عن مجرم بمستوى صدام حسين، دون أن يخشى عاقبة عمله. بشكل عام، كلما كانت لديك مهمة صعبة، فأن المساعدة والتغطية التي يقدمها لك "الضغط الإستباقي" ستكون موضع ترحيبك. عليك فقط أن تختار التهم المناسبة لذلك وأن تنشرها في الإعلام بشكل كثيف ليكون فعالاً، تماماً كما هو الأمر مع القصف المدفعي لتغطية المهاجمين.

 لقد كانت إدارة بوش تريد منذ البداية إعادة بقايا البعث إلى السلطة، لإدراكها أهميتهم بالنسة لها وخاصة في المجال الأمني، فعن طريق السيطرة على الأمن تأمن الولايات المتحدة أخطار الديمقراطية التي جاءت بها الى العراق مضطرة.
إلا أن الولايات المتحدة كانت تدرك مدى كره الناس للبعث وكل ما يتعلق به، وأن أية عودة له ستكون لها ردود فعل شعبية قوية، خاصة إن كان الأمر يتعلق بالملف الأمني. لذلك كان يجب تأمين التغطية اللازمة لمن سيتصدى من عملائها (أو أصدقائها) من العراقيين لتلك المهمة. ولأن معظم رجال الأمن الصداميين السابقين كانوا من السنة، فأن ضغطاً إستباقياً بتهمة الطائفية ضد الحكومة ستؤمن درعاً ما للمتصدين لتلك المهمة. كذلك أثيرت حملة "أخلاقية" ضد كلمة "إجتثاث" ووصف "المجتثين" بالوحشية والتخلف. وقطع الطريق على من كان سيتصدى لعودة رجال الأمن والبعثيين السابقين الكبار من خلال حملة ضد "الخطوط الحمر"(أنظر: صائب خليل - برج الحرباء يمر على سماء بغداد).(3) فصار المتصدين يخشون أن يتهموا بأنهم "إجتثاثيين" وأنهم استبعاديين للآخرين يضعون "الخطوط الحمر" أمامهم، وصار التباهي بعدم وجود خطوط حمر لدى الشخص مودة في ذلك الوقت، رغم أنها صفة لا أخلاقية، وقد ناقشت في أكثر من مقالة أن من لا خطوط حمر له، لا أخلاق له.

ومقابل تشويه سمعة من يعترض على إعادة رجال الأمن والساسة الصداميين السابقين بالإتهام بالإجتثاثية والطائفية والخطوط الحمر، فأن المجموعة التي تدافع عنهم، قد حصلت على دفعة أخلاقية قوية من خلال عبارة "المصالحة" وتم تصوير إعادة الأمن الصدامي على أنه رمز لـ "المصالحة" بين الشيعة والسنة، ومن يعترض عليه يعترض على المصالحة، وبالتالي فهو طائفي. ثم تركز وسائل الإعلام والسياسين المتعاونين حملة تدعو إلى "المصالحة" وإلى "تشكيل حكومة وحدة وطنية"، وتقوم الولايات المتحدة بتقديم المعلومات والمشورة والتدريب الإعلامي وكل ما يسهل وصولهم إلى السلطة، وبخاصة الأمنية والعسكرية، لتهيئتهم للإنقضاض بعد ذلك على الحكومة الضحية إن هي ابتعدت عن الخط المرسوم لها. تجارب أميركا في أميركا الوسطى والجنوبية عبارة عن تكرار متنوع لهذا السيناريو، وأحياناً كان ذلك في أوروبا الغربية أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية!

واستخدمت الطائفية كتهمة جاهزة لتسهل عمل كونداليزا رايس في إزاحة الجعفري، وجاء بعده المالكي، وحزب الدعوة والسياسيين الشيعة متهمين بالطائفية.
بدأت حملة إعلامية شديدة عن "قلق السنة" من الطائفية وأن مهمة المالكي هو البرهنة بأنه فوق الطائفية...الخ. ومما لاشك فيه أنه كان هناك قلق "سني" حول الطائفية، لكن الإعلام الأمريكي استغله بشكل كبير كقدر ضغط جعل المالكي يسير نحو الأهداف الأمريكية في طريقه إلى تبرئة نفسه. وباستخدام العبارت التي وردت في الحلقة الأولى من المقالة، فأنه تم ترتيب الأشياء أمام المالكي بحيث يكون تنفيذ الأهداف الأمريكية طريقه الوحيد للتخلص من تهمة الطائفية.،وهكذا أقام مذبحة لألد أعداء الأمريكان من الصدريين، ثم سمح بملئ إدارته ومكتبه بضباط الأمن البعثيين، فكان ذلك استمراراً لجهود أياد علاوي في هذا المجال. كما تم تعيين شخصيات في مواقع مفصلية كانت مهمتها تأمين شلل الحكومة عند الحاجة، وأبرز تلك الشخصيات طارق الهاشمي وعادل عبد المهدي. مهمة هذه الشخصيات كان وضع الحدود أمام بالونة الحكومة، لكي يؤمنوا أنها لن تقفز بالإتجاه غير المناسب لمن يقودهم، وكانوا قد زودوا بنص دستوري غيريب يعطيهم الحق في اعتراض أي قرار برلماني. 
وهكذا بدأ المالكي منصبه بتقديم تنازل غريب تماماً وبدون اي مقابل وهو قبول مبدأ اعطاء وزارتي الداخلية والدفاع الى اشخاص "مستقلين". وكان تمجيد "المستقلين" الذي صار مقبولاً على نطاق واسع اليوم، قد بدأ لتوه، وليس هناك أي تفسير لهذا التمجيد سوى منع الحكومة من السيطرة على مقاليد البلاد كما يفترض. وانتشرت فكرة تستند إلى بعض من الحقيقة، وهي أن الحزبيين سيئين، ولذلك فالمستقلين جيدين، ويجب أعطاء الوزارات المفصلية (الداخلية والدفاع) لمستقلين، لكن أي مستقلين؟ فالمستقل شيء غير محدد المعالم، وبالتالي لا يستحق كل تلك الضجة.

(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=44513
(2) http://www.youtube.com/watch?v=ZDQRP4LLZj4&feature=player_detailpage
(3) www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=63228
(4) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=42298






الضغط على الحكومة 2- الضغط الإستباقي وتأثيراته على المالكي في حكومتيه – ج2

صائب خليل
3 آذار 2011

هذا هو الجزء الثاني من القسم الثاني من مقالة "الضغط على الحكومة" وكان القسم الأول بعنوان "إدارة الضغط على الحكومة وتوجيهه (1)


أمام هذه التهم الإستباقية والإنشغال بتبرئة الذات منها، نسي المالكي الأهداف الملحة التي كان العراق بحاجة إليها. وبالفعل أثير في الإعلام الأمريكي في البداية وتلقفه الإعلام العراقي لاحقاً ما يسمى بـ "تسجيل النقاط"، والمخصص لقياس تقدم المالكي لدى الحكومة الامريكية، وكان بترايوس قائد القوات الأمريكية في  العراق في ذلك الحين يقدم لحكومته التقارير عن تسجيل المالكي لتلك النقاط ، والتي كانت تنشر إعلامياً، وكان المالكي يعامل كتلميذ صغير يعطى واجباً من قبل المعلم، دون أن يثير ذلك أي شعور بالإحتجاج والمهانة!
تحت ذلك "الضغط الإستباقي" بالطائفية والتبعية لإيران، صار المالكي يتصرف وكأنه مجرم متهم بالطائفية والعمالة لإيران، تم إخراجه من السجن مؤقتاً ليبرهن حسن سلوكه! وبالفعل كان خطابه الأول يهتف ""من الان وصاعدا سيكون جهدنا منصبا على الغاء كل هذه المفاهيم والعمل على أساس الهوية العراقية وعلى أساس الشراكة الوطنية". وهي عبارة مفهومة القصد، لكنها غير دقيقة لأنها توافق ضمنياً على  إتهام بالطائفية للحكومة السابقة للجعفري.

وتم استغلال "الضغط الإستباقي" للتبعية لإيران للدفاع عن الإتفاقية العسكرية والإستراتيجية المشبوهة مع الإحتلال، حيث عزفت وسائل الإعلام والسياسيين التابعين للولايات المتحدة، على الأوتار الحساسة لتلك التهمة فكان شعارها "من لا يريد الإتفاقية هو إيران، إذن من يرفضها هو من عملائها". ونلاحظ هنا أن المعتاد في مثل هذه الحالات أن يتهم من يؤيد المعاهدات بالعمالة للأجنبي، لكن الضغط الإستباقي تمكن من تحويل إتجاه التهمة إلى العكس!

وفي ذلك الوقت (2007) كتبت مقالة ساخرة بعنوان "الوحي زار حاكم العراق في المنام"، وهي تشرح بشكل كوميدي وواضح حالة رئيس الحكومة الذي تم شله قبل أن يستلم السلطة، وتمثل سطورها سجلاً لتلك "الضغوط الإستباقية " التي كان على المالكي أن يعيش معها، وأقترح قراءتها لأخذ تصور عن الوضع في ذلك الوقت (وهو لا يختلف كثيراً عن الوقت الحاضر، لذلك أعدت نشر المقالة قبل اسابيع) وكمثال لما جاء فيها، بعد أن يأمر الوحي المالكي بأن يعامل الجميع بالعدل:

"ان تتجنب اعدام او سجن او محاسبة اي سني من شعبك وإلا كنت طائفياً ظالماً. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وكذلك يأمرك الله ان تتجنب اعدام او سجن او محاسبة اي شيعي وإلا كنت خائناً مشاركاً في المؤامرة الأموية للقضاء على آل البيت فاستحققت غضب الله ولعنته الى يوم القيامة. واجتنب كذلك محاسبة ومعاقبة المسيحيين واليزيديين والصابئة وإلا كنت متعصباً دينياً، فخالفت امره تعالى "لكم دينكم ولي ديني" وحق عليك حكم المخالفين.
ودع عنك محاسبة اي كردي او تركماني اواشوري أو ارمني وإلا كنت قومياً شوفينياً، والقومية والشوفينية بدع وكل بدعة ظلالة وكل ظلالة في النار.واجتنب محاسبة اي سياسي من الاحزاب الأخرى وإلا صرت متحزباً ضيقاً تعمل على "اقصاء الآخر" فإن انت فعلت عاقبك الله فملأ وجهك وجنبك بالخطوط الحمر يوم القيامة.
واياك اياك ان تكلم بعثياً ممن "لم يثبت عليه الجرم" ونخص بالذكر من كان اختصاصه في الأمن العامة فتقطع ارزاقه، فإن كنت فاعلاً كنت اجتثاثياً وكسبت ذنوبه، لا اراك الله اياها. فأن دعوةَ البعثي الذي لم تثبت عليه تهمة، ليس بينها وبين الله حجاب." (4)

حين استلم المالكي حكومته الأولى كتبت أنها "حكومة تولد في قفص الإتهام"، فقد كانت الإتهامات تحاصره، وليست كلها مزيفة، وكل اتهام يمثل "ضغطاً أستباقياً" يمنعه من التصرف بشكل ما، كما تبين سطور مقالتي الساخرة الأخرى. ومن الطبيعي أن من خلق تلك الضغوط كان يهدف إلى أن يحولها في النهاية إلى مكاسب سياسية واقتصادية محددة.
واليوم لا أجد إلا السيناريو يتكرر مع المالكي وهاهو يبدأ حكومته الثانية محاصراً بضغوط استباقية عن الفساد والعجز عن الإنجاز وإهمال مصالح الشعب والبلاد وتبذير الأموال والدكتاتورية والتشبث بالسلطة، وليست كل التهم بالتأكيد مزيفة. وقد ولدت تلك الضغوط التظاهرات الخطيرة في الإسبوع الماضي، والتي اصابت حكومته بالخوف الحقيقي والحيرة. ويلاحظ أن "الضغوط الإستباقية" شلت قدرة الحكومة على رد الفعل، فالإتهام بالدكتاتورية وقمع حرية التعبير مكّن وسائل إعلام خصومه أن تضخم من قسوة ردود أفعال حكومته وتفسر كلامه بشكل غير صحيح دون أن تخشى الإتهام بالكذب والمبالغة. فتحول قرار الحكومة بمنع سير المركبات إلى "منع تجول" وتلفظ مذيعة فضائية بغداد "القنابل الصوتية" وكأنها تقول "القنابل الذرية" وتتحدث عن "إشتباك بين المتظاهرين وقوات الشرطة" وتحاول عبثاً أن ترى أثراًَ لذلك الإشتباك، وكتبت صحف عن "ديمقراطية المروحيات" لأن مروحية حلقت بشكل منخفض قليلاً أثار غباراً بين المتظاهرين لبضعة ثوان! ووقعت حوادث عنف كلفت ضحايا غير معروفي العدد حتى الآن، ولكن يلاحظ أن كل تلك الحوادث حدثت في المدن التي يسيطر عليها المعارضين للحكومة، شعباً وحكومة محلية. هذا كله لا يقلل من الأساس الشعبي لتلك التظاهرات والمطالب الملحة التي كانت ترفعها، إلا أن توقيتها والمبالغة الإعلامية في تصوير ما حدث فيها يثير الريبة.

لم تنتج تلك التظاهرات ما كانت الحكومة تخشاه، لكنها خلقت "ضغطاً إستباقياً" هائلاً جعل الحكومة موضع اتهام شديد، ووضعها تحت المجهر. وقد قام المالكي بفعل ذلك الضغط بتقديم إجراءات ووعود طموحة وربما مستحيلة. لقد طلب إقالة المحافظين الذين طلبت التظاهرات إقالتهم، وهذه مسألة غير طبيعية، فالتظاهرات التي طالبت بإقالة محافظ البصرة مثلاً ليست حتى بالعدد الكافي لتبرير ذلك القرار، عدا كونها طريقة غير صحيحة. وأما الوعد بإجراء تقييم بعد 100 يوم وطرد الوزير المقصر، فهو قرار مشكوك به أيضاً، وإن كان ينقذ المالكي اليوم فهو يضعه في مأزق غداً. فلا يمكن إنجاز الكثير خلال 100 يوم، ولا مفر إذن من الغش في تلك الإنجازات، وهو ما يهدد بخسارة إقتصادية واجتماعية جديدة، كتلك التي كانت تنتج عن ضغط الدكتاتور لإنجاز الأمور بوقت غير طبيعي، فتأتي "الإنجازات" شكلية منخورة من الداخل، لايمض بعض الوقت حتى تتهاوى.

قلنا أن "الضغط الإستباقي" على الحكومة المالكية السابقة قد أسهم في تحقيق عدد من المشاريع الأمريكية ومنها إدخال أكبر عدد ممكن من بقايا صدام إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية، وتمكن من حماية منظمة مجاهدي خلق وبعض اللصوص الكبار وعرقل بدون شك تطور العلاقات مع إيران إلى ما يمكن أن تكون عليه، وقبل ذلك أقام مذبحة لميليشيات جيش المهدي محققاً حلما أمريكياً هاماً، فما الذي ينتظر أن ينجزه "الضغط الإستباقي" الذي تتوج بالتظاهرات الأخيرة؟
في تصوري أن أهم الأهداف الأمريكية التي يأملون إنجازها في هذا العام بالذات هو تمديد بقاء قواتهم في العراق. وما استماتتهم في تزوير الإنتخابات الأخيرة لصالح قائمة العراقية إلا دليل على ذلك. فمن المعروف أن علاوي ينسجم تماماً مع خططهم خاصة في السيطرة على الأمن من خلال بقايا الصداميين، وكان هو الذي اتاح لهم في فترة حكمه القصيرة وضع العراق تحت سيطرتهم بشكل كبير. أما طارق الهاشمي فقد صرح علنا وبدون مناسبة أنه من الضروري مراجعة جدول انسحاب القوات إثر عودته من الولايات المتحدة. وإضافة إلى هدف تمديد القوات هناك أهداف أخرى تتعلق بقانون النفط مثلاً والذي يضغط الأكراد لإقراره.

هل يستطيع المالكي الإفلات من "الضغط الإستباقي" الشديد الذي سلط عليه، أم سيضطر في النهاية لتوقيع تمديد القوات؟ حتى الآن تقول تصريحات المالكي بأنه لن يمدد الإتفاقية، لكن المفاجآت ليست غريبة على شخصية المالكي، فقد كان يرفض المعاهدة حتى آخر أسبوع قبل توقيعها، ثم انقلب فجأة.
لكن ما لا أشك فيه هو أن ذلك التمديد ليس في صالح العراق، ولا هو في صالح حكومة المالكي. فقد رأى المالكي بوضوح أن أي تواجد للأمريكان في العراق هو تدخل سافر وعميق في كل المقدرات والسيادة العراقية، من تزوير انتخابات إلى تدخل في الإقتصاد إلى الضغط على السياسيين وابتزازهم، وأهم من ذلك أن الإحتلال هو المتهم الأكبر بإدارة الإرهاب. ويدرك المالكي أيضاً أنه لم يكن ولن يكون الشخص المفضل أمريكيا لحكم البلاد. لكل هذه الأسباب أعتقد أن المالكي لا يريد التمديد بل يخشاه، فكيف سيفلت منه؟

لا أحد يدري ما الذي يخبئه الأمريكان للأشهر القادمة، لكن هناك طريقة واحدة لتقليص فرص الضغط على الحكومة إلى أدنى حد حول التمديد، بإعلان المالكي فوراً أنه لن يقبل بتمديد القوات تحت أية ظروف، وأنه سيستقيل إن أجبر على ذلك ويدعو لإنتخابات مبكرة!
بهذه الطريقة سوف يسلط المالكي "ضغطاً إستباقياً" مضاداً لأية خطة أمريكية لتمرير التمديد. أية محاولة لإزاحة المالكي واستبداله بآخر من أجل التمديد ستكون مكشوفة تماماً، وستكون فضيحة ليس من السهل على الأمريكان تسويقها داخل أميركا نفسها. كذلك فلن يكون سهلاً على اميركا أن تجد من يقوم بتنفيذ الخطة لها، وإن وجدت فأن هذا الشخص سوف يحرق أوراقه تماماً، ويتسبب للإحتلال ولنفسه بإشكالات كبيرة ربما تكون فوق طاقة الإحتلال نفسه.

أن أي تساهل أو إشارة باحتمال تمديد القوات، تحت أية ظروف، سوف يشجع الإحتلال على الضغط على الحكومة من أجل التمديد، وسنجد تلك "الظروف" قد حدثت أو خلقت فجأة لتستدعي التمديد. اما الشعب العراقي فلن يصدق على الإطلاق أية حجة لذلك التمديد حتى لو مرت البلاد بأية ظروف أمنية قاسية، فسوف يفسر العراقيون أن الإحتلال وأعوانه قد خلقوا تلك الظروف خلقاً من أجل التمدديد، وبالتالي فسوف يحكم على أية حكومة توقع التمديد بأنها حكومة عميلة.
المالكي مسؤول بشكل خاص عن تخليص العراق من آثار تلك المعاهدة، أو على الأقل الجزء العلني العسكري منها وبأي ثمن، فهو الذي وقعها وورط البلاد بها، في ظرف كان يمكن رفضها دون مشكلة كبيرة. لذلك على المالكي أن يضع هذا الهدف نصب عينينه، وخير ما يبدأ به حملته للتخلص من القوات، هو أن يعلن فوراً، وقبل أن يهيء له الأمريكان مفاجأة جديدة، أنه لن يمدد المعاهدة بأي شكل من الأشكال. كل تأخير لذلك التصريح يحمل مخاطرة، وكثيراً ما يكون الحسم السريع أقل الطرق كلفة وخطورة.

(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=44513


123
نريد حكومة تحقق مصالح الشعب، فهل نحن مستعدون للدفاع عنها؟ 1- ما حدث في الأكوادور

صائب خليل
1 آذار 2011

طالب العراقيون بغضب، رئيس حكومتهم أن يؤدي واجبه كممثل أمين للشعب ومصالحه، فهل سيفعل؟
قبل أيام كان الشعب يتظاهر رافعاً شعاراته، ومطالباً حكومته بتنظيف البلاد من الفساد، بمحاربة الطائفية، بإلقضاء على الإرهاب وبإخراج الإحتلال وإنهاء الرواتب اللصوصية لكبار موظفي الدولة وتعديل الدستور الأعوج وتحسين الظروف الإجتماعية والصحية وصرف "نفط الشعب للشعب، مو للحرامية"، وأشياء أخرى..

لكن الحقيقة التي ينساها الغاضبون هي أن "الحرامية" أيضاً يريدون ما يرونه "حصتهم" – أكبر كمية من النفط! إنهم يشعرون أن صرف موارد النفط على الشعب تبذير لا طائل وراءه. ورغم أنك لن تراهم يتظاهرون هاتفين "هذا النفط مو للشعب، بس للحرامية"، إلا أن لهؤلاء أساليبهم الفعالة في حصولهم على ما يريدون. "الحرامية" الدوليون والمحليون يريدون النفط، والفساد يريد رئيسا يمثله، والطائفيون يريدون التعبير عن مشاعرهم بالقول والفعل، ومثلما ينفعنا دستور سليم، ينفع آخرين دستور أعوج ، وأوضاع إجتماعية بائسة قليلة الأجور وقليلة الوعي، والإرهاب والإحتلال لا ينويان ترك البلاد لخاطر سواد عيون الشعب أو المتظاهرين ورئيسهم. الكل يرى أن الثروة من حقه، ومن يريدها لنفسه، عليه أن يقاتل من أجلها وينتصر. الثروة ليست موضوعة على طاولة رئيس الحكومة، يقرر أن يعطيها للشعب أو الحرامية، بل هي مسرح صراع ليس الرئيس فيه إلا لاعب واحد.

هذه حقائق عامة، لا تعني شعباً معيناً أو رئيساً معيناً، وليس المقصود منها المالكي بالذات، ولا أي رئيس حكومة عراقي بالضرورة، بل تشمل جميع دول العالم الثالث.
الأسئلة المطروحة تعني جميع شعوب ذلك العالم وزعمائهم. والسؤال الذي يمر بخاطر الإنسان البسيط المحتج، الحانق من نقص الخدمات وانتشار الفساد في بلاده هو: إن لم يكن لصاً من اللصوص، ما الذي يمنع رئيس حكومة بلد ما، أن يؤدي واجبه كممثل أمين للشعب ومصالحه؟ للأسف قد لا تكون اللصوصية أو الأنانية أو الحماقة وحدها السبب، وقد يفشل إنسان أمين في تلك المهمة التي تبدو واضحة وسهلة. لننظر ما يقوله التاريخ لنا:

1- قصة الإكوادور وأبنها البار جايمي رولدوز

في فلم وثائقي بعنوان (Apology of an Economic Hitman) يشرح جون بيركنز (1) ، رجل الـ "سي آي أي" السابق النادم، في صحوة ضمير متأخرة، يشرح كيف يعمل الرأسمال الأمريكي لخلق مصالحه في البلدان الأجنبية والدفاع عنها، ويكشف بعض أساليبه في الوصول إلى غاياته ومصالحه، والتي تتناقض غالباً مع غايات ومصالح شعوب تلك البلدان، وهذا ما يجعل الأمر أكثر صعوبة، وأكثر إثارة.

الطريقة المفضلة التي عملت بها مجموعة بيركنز من الذين يسمونهم "رجال الضربة الإقتصادية" هي استهداف بلد غني بثروته المعدنية، مثل النفط تتكون من عدة خطوات. والخطوة الأولى هي أن تكون مستشاراً إقتصادياً في سفارة بلدك في البلد المعني، فتشجع حكومة الدولة الضحية على الإقتراض من جهة دولية مثل البنك الدولي. فيتم تزيين محاسن القرض وما يمكن أن ينشأ منه من مشاريع رائعة، وإقناع الحكومة بأنه سيمكنها سداد الدين من المشاريع وأكثر.
يقول بيركنز: لكن الأمر لا يجري بهذا الشكل ويذهب معظم القرض إلى الشركات الامريكية التي ستنفذ المشاريع المزمعة. عندما تساعد بلد ما فهذا لا يعني ان تساعد شعبه، بل ربما تنفع الأغنياء فيه.
ويضيف قائلاً أن رجال المخابرات المركزية الأمريكية لا يطلقون على أنفسهم اسم "جواسيس" أو "أشباح" وإنما "ملحقون إقتصاديون" أو "سياسيون" أو أي لقب رسمي آخر في السفارة الأمريكية في ذلك البلد.

ويكمل: "في السبعينات إكتشفنا أن الأكوادور غني بالبترول." – وفي عام 1979 انتخب الشعب الأكوادوري الغارق في الفقر والبؤس "جايمي رولدوز" الذي كان رجلاً طيباً ووطنياً، يريد الدفاع عن مصالح شعبه. وكما تقول ابنته أنه كان يقول أنه يريد أن يتذكره الناس كـ "رجل خير".
في إحدى خطاباته يقول رولدوزمخاطباً شعبه: "أحد مصادر ثرواتنا الطبيعية هو البترول. والبترول هو منجم الذهب للإقتصاد الإكوادوري."
يقول بيركنز: "عندما ينتخب شخص مثل هذا، كانوا يرسلون إليه عميل مثلي، وكان يدخل مكتبه ويقول له: "إسمع يا سيدي الرئيس. جئت لتهنئتك على انتخابك. في هذا الجيب أحمل مئتي مليون دولار لك ولعائلتك إن نفذت ما نريد. وفي هذا الجيب أحمل مسدساً لأطلق الرصاص عليك إذا قررت تنفيذ وعودك الإنتخابية. القرار يعود لك، لكن علي أن أذكرك. هل تذكر سلفادور أليندي؟ أربنز؟ أتذكر باتريس لومومبا؟ هناك قائمة كبيرة وطويلة من الرؤساء وانت سمعت بهم وتعلم ما حصل لهم. أي واحد يعارض مصالحنا فأما أن يقال من منصبه أو يقتل، فماذا تختار؟ "

لكن رولدوز كان من نوع صعب، فهو يخاطب شعبه قائلاً
-   "سوف نكافح ضد التدخل، وسوف ندافع عن حرية شعبنا، وسوف نحيي التقدم الديمقراطي لباقي شعوب العالم، نحن جميعاً نتطلع لأميركا لاتينية أقوى ومتحدة"
هذا ما قاله الرئيس الأكوادوري في ملعب لكرة القدم في أيار 1981 ، وأكمل:
-   "إسمعوا جيداً، حبنا مكرس للإكوادور، حبنا وعاطفتنا هما للإكوادور...عاشت أمتنا وعاش بلدنا"...

كانت خطبته الأخيرة! ....
سرعان ما تحطمت طائرة جايمي رولدوز الرئاسية التي كانت تقله وزوجته. ومنع رجال الشرطة الأكوادورية من الإقتراب من حطام الطائرة، وسمح بذلك فقط لرجال الجيش الأميركي وعدد من رجال الجيش الأكوادوري الكبار، وتم قتل رجلين في حادث سيارة مدبرة، كانا ينويان الشهادة بأن الحادثة كانت عملية اغتيال، ولم يستمر التحقيق الحكومي بالحادث أكثر من أسبوع واحد، وأغلق باعتباره الحادث قضاءاً وقدراً.
"لقد بقي حياً في ضمائر الناس بشكل أو بآخر"، هكذا تقول إبنة رولدوز، التي عاشت يتيمة الوالدين..

وبالطبع فأن الرئيس التالي كان قد فهم الدرس جيداً وعمل بما يقتضيه المنطق البراغماتي.

ليس هذا محض خيال بل أحداث موثقة، والأمثلة كثيرة وفي كل أنحاء العالم الثالث. و لا نحتاج إلى الذهاب إلى أميركا الجنوبية للبحث عن أمثلة، بل يكفي أن ننظر المرء في كتاب بلاده عادة. وفي العراق فأن أبن الشعب البار "عبد الكريم قاسم" لم يتم اغتياله بانقلاب دموي إلا لتوقيعه على القانون 80 الذي حرم الشركات النفطية من معظم اراضي احتكاراتها في العراق، كما يؤكد العديد من المؤرخين.

إذن، فتحقيق مصالح الشعب ومطالبه ومحاربة الفساد وتخصيص موارد ثروة النفط لمشاريع تخصص لتطوير الشعب والبلاد، تلك المطالب التي نصرخ غاضبين بوجه الحكومة مطالبين بها، ليست أموراً بالبساطة التي قد تبدو بها. إن المطالبة والتظاهرات خطوة كبيرة إلى الأمام في وعي الشعب لمصالحه وحقوقه والدفاع عنها، لكنها ليست سوى الخطوة الأولى. ويحتاج الشعب الذي يريد قائداً وحكومة تلبي مطالبه وتدافع عن مصالحه، أن يدرك مدى الضغط الذي يتعرض له مثل هذا القائد وتلك الحكومة، ويقدّرمدى المخاطرة التي يطالب قائده بها خاصة في عالم دولي شرس، صار أحادي القطب، وانفتحت أمام القوة الكبرى كل الطرق. الشعب لا يحتاج فقط إلى الدفاع عن مصالحه بقوة، بل أيضاً بالدفاع عن من يدافع عنها لصالح ذلك الشعب.

وفي الوقت الذي قبل فيه العديد من الزعماء عرض الشركات بسبب الخوف أو طمعاً بالرشوة، دفع العديد من الزعماء المخلصين حياتهم ثمناً دون أن ينجحوا في حماية مصالح شعبهم، مثلما حدث لرولدوز وعبد الكريم قاسم، وتمكن آخرون من النجاة وحماية شعبهم ومصالحه، حين قام الشعب بالدفاع عن رئيسه، كما دافع الشعب الفنزويلي عن رئيسه الذي اختاره "شافيز"، فهل نحن مستعدون للدفاع عن رئيس حكومتنا إن قرر النزول إلى الساحة والمخاطرة بالموت من أجل مطالبنا، بنفس حماسنا الذي نبديه في المطالبة بتلك المطالب؟ الجواب عن هذا السؤال يحدد إلى حد بعيد مستقبل كل شعب من الشعوب وما سوف يحصل عليه من زعماء وأين ستصب ثروة بلاده في النهاية.

كان جون بيركنز يلقي محاضرة اعتذاره في جامعة في الأكوادور، وكان الحاضرون يقاطعونه غاضبين، وقال أحدهم: "المسألة بسيطة للغاية، ثروة الإكوادور النفطية لثمانية ملايين إكوادوري وليست للشركات الأمريكية. لسنا بحاجة إلى السيد بيركنز ليخبرنا بذلك"، وأجابه الحاضرون بالتصفيق.
لقد خسر الأكوادوريون إبنهم البار، لكن من الواضح أنهم أدركوا أن مصالح الشعب لا تتحقق بالمطالبة بها فقط، بل أيضاً بالدفاع عنها وعن من يقف معهم في تلك المعركة، وخياراتهم اليوم لحكوماتهم الشعبية، تدل على أنهم تعلموا الدرس القاسي من خسارتهم لرولدوز، فهل تعلمنا من خسارة الزعيم عبد الكريم درسنا أيضاً؟

(1) يمكن مشاهدة أفلام فيديو عن هذه المواضيع بالبحث عن "john perkins" في "يوتيوب" أو معلومات في كوكل.

124
ليبيا تدخل الكهف الدولي المخيف الذي دخلناه قبلها - الفصل السابع!
صائب خليل
27 شباط 2011

أعلن مجلس الأمن الدولي أمس، أتخاذ قراره بالإجماع ضد النظام الليبي، وتحت الفصل السابع الذي يسمح باستعمال القوة.

وبالرغم من أن هذه الخطوة تعد بلا شك دعماً هاماً وخطيراً من المجتمع الدولي، للثورة الشعبية الليبية الرائعة الشجاعة ضد دكتاتور خرف، إلا أن العراقيين لن يكونوا ملامين إن شعروا بغصة في أمعائهم عند ذكر عبارات "الفصل السابع"، و "المجتمع الدولي" و "مجلس الأمن".

فقبل عقدين من الزمان، اتخذ مجلس الأمن قراراً ضد دكتاتور ا لعراق الأكثر وحشية من أي من زملائه في المنطقة، بدلالة ضحاياه كماً ونوعاً. ومثلما فرح الليبيون بلا شك لقرار مجلس الأمن اليوم، فقد فرحنا لمثيله في ذلك الحين. ولكن، ومنذ ذلك الحين أيضاً، استخدم هذا "الفصل المخيف" سلاحاً لإبتزاز العراق كبلد، سواء كان تحت حكومة صدام أو الحكومة التي تأسست بعد سقوطه.

لقد كان صدام مجبراً تحت ظروف الفصل السابع وهزيمته العسكرية إلى القبول بقرارات وإجراءات لم توجه كلها ضده شخصياً وضد نظامه، بل كانت لصوصية بحق الشعب العراقي. لصوصية قام بها "المجتمع الدولي" وأدت إلى نتائج مادية كارثية للعراق.
فتم نهب موارده النفطية بشكل منعدم الأخلاق وتسليمها بلا حساب ولا أصول قانونية إلى كل جهة طالبت بلحمة من لحم ا لعراق الجريج، سواء المستحقة منها أو غيرها، فأجبر العراق عملياً على استمرار تجهيز حكومة الأردن مثلاً بحاجاته النفطية مقابل لا شيء عملياً، في الوقت الذي كان فيه الشعب العراقي يتضور جوعاً بكل ما في الكلمة من معنى، وبشكل لم يسبق له مثيل في تأريخه الحديث. وحتى اليوم مازالت أثار تلك الإتفاقات الغريبة سارية لدهشة الناس، حيث تسلم حكومة الأردن، النفط العراقي مقابل مبالغ مخفضة غير مبررة، وحتى هذه لم يتم سدادها حسبما تبين شكاوى عراقية مؤخراً!
لقد كتبنا عن ذلك كثيراً، لكنه لم يثر أي اهتمام من أية جهة عراقية، ولا نملك إلا أن نقارن بين تلك العقود المشبوهة المستمرة حتى اليوم، والعقود المصرية مع إسرائيل لبيعها الغاز بأسعار مخفضة رغم حالة الشعب المصري البائسة وعيش الكثير من عوائله بين القبور، ولا نملك تفسيراً للعقود العراقية للحكومة الأردنية دون سواها، إلا لعلاقة تلك الحكومة المتميزة بإسرائيل. وقد بينت المقالات التي كتبتها عن الموضوع أنه من المشكوك به تماماً أن يذهب ذلك النفط إلى الأردن كمكان استهلاك نهائي أو ان الشعب الأردني يستفيد منه. فأي سر هذا وما هي القوى التي تقف وراءه ياترى، ولماذ يغلق الجميع أفواههم، وكأن جميع سياسيي العراق بلا استثناء، يتفقون على أمر ما بالسر، أو أنهم مجموعة مرعوبة تغلق فمها لسبب لا يراه الناس!! 

بعد سقوط الدكتاتور العراقي، لم تجد دول مجلس الأمن ما يجبرها على إلغاء قرار الفصل السابع الذي مازالت تراه أداة مفيدة لها، حتى وإن لم يعد له أي مبرر قانوني أو أخلاقي. والحقيقة أن ذلك جرى في غابة مشتبكة من تأثيرات القوى وغموض تفسيرات الفصل السابع وانعدام المبدئية في المجتمع الدولي. وقد أشار العديد من الباحثين العراقيين والأجانب، إلى أن الفصل السابع صار ساقط قانونياً في اللحظة التي تم تحرير الكويت فيها، وهو الهدف الذي أقر القرار من أجله. كذلك بين الباحثون، ومنهم الأستاذ فؤاد الأمير أن هذا الفصل لم يعد يلزم العراق بشيء بل يلزم قوة الإحتلال فقط.
إضافة إلى ذلك، كان هناك تهديد شبه معلن من أن العراق إن تجرأ على محاولة الخروج من الفصل السابع فأنه سوف يتعرض لسلب أمواله المجمدة، ليزيد هذا التهديد الغموض والتشويش على الشعب العراقي في حيرته أمام قلة أخلاق المجتمع الدولي وقلة أخلاق بعض سياسييه، بعد أن ذاق الأمرين من انعدام أخلاق دكتاتوره السابق.
فبقي العالم يتصرف وكأن العراق مازال عراق صدام حسين، وأبقى شعب العراق أسيراً للفصل السابع، وأصر أن عليه أن يثبت "حسن السلوك" أمام العالم، وأن ينال رضى كل دولة في العالم، وكأن الشعب العراقي مجرم تم إخراجه من السجن بشكل مشروط، وأن جميع أعضاء مجلس الأمن يجب أن يوافقوا على حسن سلوكه هذا قبل إطلاق سراح هذا الشعب، وأن أي واحد منهم قادر على إبقاء العراق وشعبه في السجن، وبلا أي مبرر يمكن أن يفهمه أي إنسان عاقل يتمتع بالحد الأدنى من المنطق والأخلاق.

قصة "الفصل السابع" التي مازالت فصولها قائمة في العراق، ربما تكون أحدث دليل للشعوب على أن تصرف القوى الدولية، وأية قوى في أي محيط، إنما يكون تصرفها مزيج من الإحترام للقانون، و "الإحترام" لمصالحها الخاصة، وبدرجة تعمتد كثيراً على مبدئية وأخلاقية الحكومات التي تسير "المجتمع الدولي" وحرصها على القانون الدولي، وهذه صفاة لم تثبت حتى الآن أنه يمكن الإعتماد عليها من قبل الشعوب الأضعف.
لقد حرصت القوى الكبرى على ملئ القانون الدولي مليئ بالثغرات، تماماً كما اكتشفنا متأخرين بأن الإحتلال فعل بالدستور العراقي، لتستطيع القوى الكبرى استغلاله لصالحها، وأهم تلك الثغرات، قانون الفيتو، الذي يتيح للقوى الكبرى دون غيرها، أن تخالف قرارات مجلس الأمن (كأكثرية) ودون أن تتعرض لا للمساءلة ولا إلى اعتبارها مخالفة لقرارات المجلس أو المجتمع الدولي. لقد وصف نعوم جومسكي "حق" الفيتو بأنه المخالفة الأكثر وقاحة لقرارات المجتمع الدولي.

إلا أن خطورة الفيتو لا تقف عند هذا الحد السلبي بمنع القرارات التي لا تناسب القوى الكبرى. فكما تبين لنا من قصة الفصل السابع معنا، فأن الفيتو يعطي عملياً الحق لأية دولة من هؤلاء الدول، أن تبقي أية دولة أخرى حبيسة لقرار سابق، حتى إن اتفقت جميع الدول الأخرى على إطلاق سراح تلك الدولة، ومهما تغيرت الظروف وزالت أسباب القرار ومبرراته.
فمن الناحية العملية، لم يعد هناك معنى لبقاء العراق تحت الفصل السابع بعد تحرير الكويت، ومن الناحية القانونية يرى الكثير من الباحثين أن القرار لم يعد موجوداً. وبالتالي فأن إبقاء العراق الجديد تحت الفصل السابع كان يحتاج إلى قرار جديد من مجلس الأمن. لكن الجميع تصرف بشكل معاكس للمنطق، ولم يدعم هذا التفسير، وبقي "إخراج" العراق من الفصل السابع يحتاج موافقة جميع الأعضاء الدائمين في المجلس، وأن أي فيتو يكفي لإبقائه فيه. "حق" الفيتو يشبه من الناحية العملية في هذه الحالة، قانون يتيح لأية دولة من الدول الكبرى، لوحدها، إصدار قرار "دولي"، ويعتبر ممثلاً للمجتمع الدولي كله!

الدرس يقول، عليك إذن، إن أردت أن تأمل في تطبيق قانون دولي او غير دولي، بشكل سليم، أن تحرص على الأقل أن تكون بعض تلك القوى الكبرى في جانبك، وأن لا تتركها تتوحد ضدك، وليس هذا ممكن دائماً خاصة إن كان البلد نفسه ممزقاً وكانت فئات منه تقف مع قوى "المجتمع الدولي" الأنانية التي تجد في تمزيق هذا البلد خير مصالحها. وخير مثال على تلك القوى الداخلية، وزير خارجية العراق هوشيار زيباري الذي وصلت قلة الحياء فيه أن وقف بوجه مشروع عربي لرفع العراق من الفصل السابع، مثلما وقف عميل المخابرات الغربية بامتياز، اياد علاوي بالضد من أية فرص لتحقيق ذلك في وقت سابق، ومنع مشروع فرنسي الماني لأعطاء العراق حرية إضافية في التعامل مع القوات الدولية. ويجب أن نذكر هنا بأن زيباري لا يمثل نفسه فقط، بل يمثل موقف التحالف الكردستاني, والذي وقف دائماً مع الإحتلال في كل قضية تثار بين العراق ككل، والإحتلال، ولم يختلف مع الأخير إلا في حالات نادرة، جميعها أمور تخص كردستان وحدها.
والحقيقة أنه لولا هذه القوى الداخلية المخربة في العراق لما أمكن للقوى الأنانية الخارجية من إنزال كل ذلك الإضرار والإذلال للعراق، فرغم الجو الدولي الخالي من الأخلاق، فلم يكن سهلاً على أية دولة، بضمنها الولايات المتحدة، أن تقف بصراحة وأمام العالم، كسجانة للشعب العراقي، وإن لم يكن الخجل كافياً، فربما يكفي الخوف من مستقبل علاقتها مع هذا الشعب. لكن مجتمع السياسيين العراقيين كان خالياً من أي روح يمكنها حتى أن تفكر في مواجهة مع اميركا، ولا حتى مجرد مواجهة إحراج! كان الإستسلام التام فضيلة المرحلة، حتى إن اختلف "الفضلاء" في درجة التزامهم بها.

هكذا تعاونت القوى الدولية الأنانية مع عملائها الأبرز في العراق على تحويل قرار الفصل السابع إلى وحش مخيف وتحويل مجلس الأمن إلى منظمة لصوص دولية، وتبين للشعب العراقي بوضوح، أن تلك المنظمة لم تسقط الفريسة من بين فكي الوحش صدام حسين، إلا لكي تتقاسمها بنفسها، ولم يكن لأحترام القانون الدولي أو الأخلاق من مكانة في قراراها إلا كمكانة الأخلاق في قرار الضباع حين تطرد ذئباً عن فريسته.

أمس تم إذن إدخال دولة أخرى في هذا الفصل ومن قبل نفس مجموعة الضباع، وتحت إشراف هيئة أمم متحدة أسوأ بكثير من تلك التي كانت أيام العراق، فالأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، واحد من أكثر أمناء هذه المنظمة في تاريخها تبعية للولايات المتحدة وأقلهم خجلاً، وكما يتبين في جميع مواقفه بلا استثناء وبشكل خاص في القضية الفلسطينية، وأيضاً موقفه وتصريحاته المراوغة من الفصل السابع للعراق ومواقف أخرى.

كيف يمكن للشعوب، أو حتى الدول الأقل قوة من الولايات المتحدة، أن تمنع استغلال قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالذات، من قبل القوة الأكبر ومن خلال الثغرات التي تم وضعها في القانون الدولي، وخاصة حق النقض الفيتو؟ أن "حق" الفيتو يجب تعديله إن لم يكن بالإمكان إلغاءه. ربما بوضع شرط أن تصوت للفيتو دولتيين بدلاً من دولة واحدة، ربما أن يكون "الفيتو" معادلاً لعدد من الدول الموافقة، أي أن يمكن بواسطته نقض القرارات ذات الأغلبية المحدودة وليس الساحقة.
إن تغيير القانون الدولي أمر صعب أو يكاد يكون مستحيل، حيث أن أي تغيير لابد أن يصيب بالضرر مصالح جهة ما، وهذه الجهة تمتلك الفيتو لمنع ذلك التغيير. ولذلك يحتاج مثل هذا التغيير إلى ضغط شعبي عالمي واع ومنظم لإنجازه.
ولكن في انتظار تكون ذلك الوعي وظروفه المناسبة، يمكن للدول الأقل قوة في مجلس الأمن أن تتخذ إجراءات محددة لمنع استغلال "حق" الفيتو بشكله العدائي، وذلك من خلال الإمتناع عن الموافقة على القرارات إلا بعد وضع سقف زمني لها. فيشمل نص القرار في هذه الحالة مثلاً، أحقية استعمال القوة منذ لحظة إصدار القرار ولمدة أسبوعين، أو شهر. وإن لم يكف ذلك السقف الزمني لإنجاز أهداف القرار، فسيمكن دائماً الإجتماع ثانية وإصدار قرار بالتمديد ولفترة زمنية جديدة. هكذا يصبح "حق" الفيتو لمن يرى أن الظروف تغيرت بما يكفي، ويريد وقف تدخل الأمم المتحدة في الأمر. وهكذا لن يكون قرار مجلس الأمن "ورطة دولية" يصعب الخروج منها بعد إقرارها.

نتمنى أخيراً للثورة الليبية الشعبية الشجاعة نجاحاً رائعاً تستحقه، فكل نجاح شعبي عربي هو نجاح عربي عظيم، وأهم من ذلك، هو نجاح إنساني عظيم. ونتمنى من كل قلبنا أن لا تكون ظروف الليبيين كظروفنا في العراق، وأن لا يتآمر المجتمع الدولي ضد الحكومة الشعبية الجديدة المؤملة، أو أن يجد هذا المجتمع الدولي الأناني، الأمر محرجاً بشكل لا يستطيع القيام به، وأن لا يتواجد بين سياسييهم أنفار مثل اياد علاوي وهوشيار زيباري وعادل عبد المهدي، سياسيون يضعون أنفسهم تحت تصرف القوى الكبرى المسيطرة على بلادهم بلا قيد أو شرط، فيتيحون ابتزاز حكوماتها ويؤسسون لكوارثها القادمة.
إن قصة العراق مع الفصل السابع قصة عار مخجلة لـ "المجتمع الدولي"، إن بدأها بشكل سليم، فقد انتهت بلف هذا المجتمع الحبل حول عنق الشعب العراقي الذي أدعى أنه جاء لنجدته، تماماً كما يقال اليوم للشعب الليبي، ولذا فنحن قلقون لهذه الحركة، التي قد تبدو بريئة الشكل في بدايتها، لمؤسسة مشكوك في مصداقيتها كما برهنت الأحداث، ولا يتمنى شعب أن يجد نفسه تحت رحمتها.
تتحدث كلنتون وراسموسن (أمين عام الناتو) بحذر، لكنهما يكثران الإجتماعات ويقولان أنهما لا يستبعدان أية طرق محتملة للعمل!
إن الحرص الواضح على عدم التدخل الأجنبي الذي يؤكده جميع المواطنون والقادة والسياسيون الليبيون يبعث على الإطمئنان، ويبشر بالخير، فدخول هؤلاء يفتح الأبواب لكل السفلة في الداخل والخارج، ويؤمن حمايتهم وتقديم الدعم لهم بتعاون متبادل يقود إلى تحطيم البلاد. نؤكد للشعب الليبي أن انتصار ثورته أنتصار كبير لنا جميعاً، ولذا نحرص عليه بحب وقلق كبيرين. وفقكم الله.

125
تظاهرات الغضب القادمة، إرادة أم انجراف؟

صائب خليل
23 شباط 2011

الإرادة هي القدرة على تنفيذ ما هو صحيح ومنطقي، وتظاهرات الغضب" لا تبدو قادرة على الإجابة عن الأسئلة التي تواجهها: لماذا التظاهر لإسقاط حكومة منتخبة؟ كيف تتظاهر احتجاجاً على أداء حكومة لم تعط فرصة لعرض أدائها؟ كيف ستكون الحكومة التالية أفضل منها إذا كان الناخبين نفسهم، ولم يتح لهم تجربة حكومتهم؟ كيف ستكون غاضبة وسلمية؟ أن من يصف التظاهرات بالغضب، ويتحدث سلميتها، لا ينسجم كثيراً في عباراته.
يأمل معظم المحتجون أن يتم الإلتزام بصفة "السلمية" لكن ذلك بالتأكيد ليس هدف الكثير ممن يريد أن يسحب التظاهرة إلى "الغضب". وبالفعل نجد شعاراتها تمثل الصراع بين هاتين الجهتين.
نجد "شوكت البياتي" يكتب "تنويه هام من شباب الفيس بوك العراقي" يحذر من المدعو "حسين الركابي" الذي ظهر في قناة الشرقية ليقول بانه المتحدث باسم المظاهرات الشبابية مؤكدا بان هذه المجاميع ستقتحم المنطقة الخضراء وتحاول اسقاط الحكومة الحالية! ويقول أن من "المخجل" أن تبث الشرقية لقاءاً مع احد الاشخاص الذين يحاولون افشال مهمة الشباب العراقي ، وسلمية أهدافهم..الخ. لكن من الذي سيتمكن من فرض شكل التظاهرات؟ من يحصل على مقابلات في الفضائيات المتحمسة لـ "الغضب" أم الآخر الذي ليس له سوى رسائل الإيميل الذي يحذر فيه من ذك ويدعو للإحتفاظ بـ "سلمية" التظاهرات؟

شخص آخر يصدر "بيانا" بالإيميل يرسل فيه الديمقراطية نفسها إلى الموت! ، فهي "تحوّل السوء الى أسوأ !! " و "لا تعترف بشهادات أرقى الجامعات العالمية والعربية والعراقية" و "تجعل الناس غرباء في وطنهم وتُزيد الغرباء غربةً" وهي المسؤولة عن سرقة البنوك والإغتيالات للعلماء لتضع محلهم " من لم يُكمل قراءة دار دور" و تقطع الرؤوس. هل هذا كلام موزون؟

أما "البيان رقم واحد" لـ "جمهورية العراق" فيقول أن جميع الأحزاب في العراق أثبتت فشلها الذريع منذ بداية القرن الماضي وسقطت في مزبلة التأريخ.
وهذا الحكم بمزبلة التاريخ والفشل يغطي فترات "حكم الشيوعيين والشعوبيين برئاسة عبدالكريم قاسم" و القوميين والبعثيين والإحتلال والكردية والإسلام السياسي الأمريكي والإسلامي العراقي والدعوة والمجلس الأعلى والفضيلة والصدري والمؤتمر والوفاق والمكلية والحوزة وهيءة علماء المسلمين وتنظيمات إرهابية وأحزاب أخرى، ويقول لهم البيان "كفى أيها الجهلة..."  (ألا يذكرك ذلك بشخص آخر؟).... أذهبوا جميعا الى مزبلة التأريخ.
ورغم أن "شباب العراق" قد ألقى بجميع التنظيمات العراقية في مزبلة التاريخ، ولايمثل أي حركة سياسية أو مرجعية دينية  أو تيار أو حزب سياسي، فهو مع ذلك "يمثل العراقيين في كامل مساحة أرض العراق بمحافظاته الثمانية عشر"!
ورغم أنه "يقول وبصوت واحد: لا    لجميع الاحزاب السياسي، لا    لجميع الاحزاب القومية، لا    لجميع الاحزاب الدينية" فهو يدعو جميع العراقيين للمشاركة الفعالة! من أجل "النصر أو الشهادة"! هكذا تكلم قائد ثان للتظاهرات المخططة!

هذه البيانات والعبارات البعيدة عن أي منطق، تمثل لغة وتناقضات الغالبية الساحقة من الدعوات للتظاهر "الغاضب السلمي" ولذلك بدأت بها مقالتي. لكن لا بأس أيضاً أن ننظر في نصوص تبدو أكثر تعقلاً، على الأقل في لهجتها، إن لم يكن في منطقها.

يكتب نزار حيدر تحت عنوان "   ورقة عمل ليوم الغضب"
"ان القضية اليوم لم تعد تحتمل اية قرارات ترقيعية وارتجالية ومتسرعة، كما تفعل الحكومة والبرلمان، فخطواتهما اليوم ردود افعال مجبرون عليها وليست افعالا بقناعة تامة، انهم يحاولون الانحناء امام العاصفة فقط، بل ان القضية اليوم بحاجة الى قرارات جذرية"

"يلزم ان يفضي تحرك الشارع الى تغيير حقيقي يقلع الفساد واسبابه والفاسدين من جذورهم."

ويقترح نزار حيدر "جدول عمل" أسماه "مطالب الثوار" يتكون من:
"اولا: دعوة مجلس النواب العراقي الى تعديل قانون الانتخابات فورا بما يضمن افساح المجال لكل مواطن عراقي مؤهل دستوريا وقانونيا لترشيح نفسه، بما يساعد على كسر احتكار السلطة من قبل ثلة من المتنفذين والمنتفعين، احزابا كانوا ام افراد.
ثانيا: الدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، تعتمد القانون الجديد، بما يساعد العراقيين على اسقاط العناصر الفاشلة وتلك التي خانت الامانة فسرقت وافسدت وتاليا فشلت.
ثالثا: حل الحكومة الحالية والطلب من شخصية وطنية غير حزبية وغير سياسية مشهود لها بالصدق والنزاهة والكفاءة والخبرة والحزم والحرص على العراق وشعبه وخيراته لتشكيل حكومة انتقالية يختار وزراءها على اساس الكفاءة والخبرة والمهنية والنزاهة، بعيدا عن المحاصصة والحزبية، وان لا يكونوا من السياسيين او من قادة الاحزاب، على ان لا يستوزر فيها اي نائب في البرلمان او وزير شارك في اية وزارة من الوزارات التي تشكلت منذ سقوط الصنم ولحد الان."

لكن كيف يفضي تحرك الشارع إلى إقتلاع الفساد وأسبابه، حين يأتي الفساد عن طريق الإنتخابات؟ وكيف يمكن منعه من العودة بنفس الطريقة ثانية؟ وكيف يدعو مجلس النواب العراقي إلى "تعديل قانون الإنتخابات فوراً" ويقول في نفس الوقت أن القضية لم تعد تحتمل القرارات الإرتجالية المتسرعة؟

وهل أن قانون الإنتخابات الحالي "لا يسمح للعراقيين المؤهلين دستورياً وقانونياً" بالترشيح لمجلس النواب؟
ولماذا ينتظر حيدر أن تنتج الإنتخابات الجديدة "إسقاط العناصر الفاشلة" الخ، التي فازت تواً في الإنتخابات التي انتهت قبل بضعة أشهر؟ هل يمكن كتابة قانون انتخابات يضمن أنتخاب "شخصيات ناجحة"؟ ومن يقرر ذلك؟

وتقترح "ورقة العمل" تشكيل حكومة مؤقتة تأتي من خلال "طلب" (من يطلبها؟) بتشكيل الحكومة. ومن الذي سيقرر أن شخصية ما تتمتع بتلك الصفاة الكاملة فعلاً؟ ولماذا يشترط بعد ذلك أن تكون تلك الشخصية بعيدة عن انتخاب الشعب؟
ويقترح تشكيل لجان ثورية للمحاسبة، ولجنة لإعاة نظر بالدستور الملغوم! وطبعاً فقد أقام نزار حيدر ثورة كاملة وأطاح بالنظام كله وشكل لجان ثورية، وكأنه يقود تظاهرات مليونية تشمل الشعب كله، وتزيل النظام المفروض عليها منذ عقود، وليس كأن تلك الجماهير هي التي انتخبت الحكومة الحالية قبل فترة قصيرة، ولم تحصل حتى على فرصة لتغيير رأيها بها!
ويحس نزار حيدر بنقص الشرعية في كلامه، فيقول "قد يطعن بعض المسؤولين في شرعية مثل هذه المطالب ودستوريتها"
ويجيب عن ذلك بجواب غريب فيقول "ان انعدام الثقة بالمسؤولين هي التي تدفعنا الى التفكير بهذه الطريقة، فبعد هذا الكم الهائل من الوعود التي لم ينفذوا منها شيئا، لم يعد الشارع يثق بهم، ابدا، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان كل مؤسسات الدولة العراقية تجاوزت الدستور بشكل او بآخر، خاصة البرلمان، ولذلك فليس من حق اي مسؤول ان يورد مثل هذا الاشكال على مطالب الشارع، خاصة واننا جميعا نؤمن، كما ان الدستور نص على ان الشعب هو مصدر السلطات، فكيف يجيز احد لنفسه ان يسال الشعب عن مصدر شرعيته؟ ثم ماذا ابقى المسؤولون والسياسيون من شرعية ودستورية ليحتجوا بها على الشارع الغاضب؟.

ونزار يستعير هنا عبارات سمعها في تغطيات الجزيرة لثورة مصر، وكما نقل منظموا التظاهرات صيغتها وحتى موعدها وبعض شعاراتها، نقلاً حرفياً، فأن نزار ينقل شرعيتها نقلاً حرفياً. وليس الفرق فقط أن نزار لم يحصل على شرعية ملايين مصر الثائرة على نظام دكتاتوري، لكنه لا يجد غضاضة من تحديد "شرعية الشارع" اعتباطاً بدلاً من التصويت المنظم نسبياً الذي اختار "الشارع" بواسطته هؤلاء الساسة ليمثلوه. إنه يقول أن "إنعدام الثقة بالمسؤولين هي التي تدفعنا الى التفكير بهذه الطريقة" فمن "أنتم" الذين "تفكرون بهذه الطريقة"؟ وما وزن ثقتكم مقابل الثقة التي اعطاها الناس لنفس هؤلاء الذين تعترضون عليهم، في انتخابات نظامية؟

يدعو نزار حيدر إلى دراسة مقترحاته بتأني.. الخ. لكن من الواضح أن تلك المقترحات "الثورية" لم تكتب "بتأني" وأنها كتبت بـ "إرتجال وتسرع وبتأثير العواطف"، ورغم أنها تختلف في كلماتها عن "البيانات" الثورية للتظاهرات، فأن محتواها ليس كذلك.

إذن، ما الذي لدينا؟

دعوة إلى إسقاط الديمقراطية – بدون نظام حكم بديل جدي، أو أن نظام الحكم البديل معروف في أذهان البعض، لكنه "سري"!

دعوة إلى إسقاط الحكومة – بدون أية فكرة عن حكومة بديلة ، او لأن الحكومة البديلة المنوي إقامتها سرية هي الأخرى!

دعوة إلى تظاهرات تتهرب من الأسئلة عن أهدافها وعن معقوليتها ...

تظاهرات ضد حكومة منتخبة من أجل حكومة لم تنتخب؟ وقد لا تنتخب؟ 

تظاهرات ضد انتخابات مريضة لصالح تظاهرات ضد حكومة منتخبة لم تستطع الجهات المعارضة لها إسقاطها حتى بتزوير الإنتخابات، وهاهي تدعوا إلى "انتخابات ثورية" عن طريق التظاهرات؟

تظاهرات ضد دستور عليل صوت عليه الشعب، لصالح دستور يصوت عليه المتظاهرون فقط؟

تظاهرات ضد عمل حكومة لم تبدأ عملها بعد، - ولصالح حكومة جديدة ليس لدينا أية فكرة عنها؟

ماذا لو أن جماعة الحكومة الساقطة كرروا الفكرة وأسقطوا حكومتكم التي لم تبدأ بعد؟ هل ستحاربوهم بالعصي؟

تظاهرات ضد الطائفية..هل الحكام الذين تم انتخابهم وحدهم طائفيين، أم الشعب الذي انتخبهم أيضاً؟ لم أسمع بشعب غير طائفي ينتخب حكام طائفيين!

تظاهرات ضد الإحتلال؟ – وتأتي في أنسب وقت يريده الإحتلال كحجة لتمديد بقائه؟

تظاهرات ضد المحاصصة؟ ألم تسموها "حكومة وحدة وطنية"؟ ألم تضغطوا لكي "لا تنفرد" الكتل الفائزة وتشكل حكومة أكثرية مثل بقية بلدان العالم؟ وإن حصلت حكومة الأكثرية، ألن يتظاهر أحد مطالباً بـ "حكومة وحدة وطنية"؟

لقد كان هناك أوقات عديدة تتطلب التظاهر، فلماذا أحجمتم عندما كان الوقت مناسباً؟
لماذا لم تتظاهروا حين وقع المالكي معاهدة سرية البنود؟
لماذا لم يتظاهر الشيوعيون حين تعهد وزير الدفاع الحالي بالقضاء على الشيوعيين في قسم تعيينه؟
لماذا لم تتظاهروا حين هدد وزير الدفاع الشعب العراقي بالقراصنة، ساخراً منهم؟
لماذا لم تتظاهروا حين هدد المالكي الشعب العراقي بإخراج القوات فوراً إن لم توقع المعاهدة؟
لماذا لم تتظاهروا حين جاءكم المالكي بمعاهدة سرية أسماها "مذكرة تفاهم"؟
لماذا لم تتظاهروا حين كان الصدريون يشكون من تصرفات الحكومة الوحشية ضدهم وخارج القانون؟
لماذا لم تتظاهروا حين اعلنت الحكومة أنها أعدمت بشكل سري مئتي شخص؟
لماذا لم تتظاهروا حين أطلقت القوات البريطانية بقوة الدبابات، سراح جنديين من جنودها كانا متلبسين بالإرهاب؟
لماذا لم تتظاهروا حين أعلن منتظر الزيدي أنه تم تعذيبه بالكهرباء وأعلن أسماء معذبيه؟
لماذا لم تتظاهروا حين تبرعت حكومتكم بالنفط المخفض السعر إلى الحكومة  الأردنية وأنتم بأشد الحاجة إليه؟
لماذا لم تتظاهروا حين اكتشفتم أن أجهزة كشف المتفجرات مزيفة؟
لماذا لم تتظاهروا حين منعت المحكمة كشف التزوير الإنتخابي بقرار عجيب؟
لماذا لم تتظاهروا حين تدخلت السفارة الأمريكية لرفع الإستبعاد عن البعثيين؟
لماذا لم تتظاهروا حين تفاوض الأمريكان مع البعث في اسطنبول بالرغم منكم ومن حكومتكم؟
لماذا لم تتظاهروا حين باع أشتي هورامي حقول النفط كبقع استكشافية ووقع عشرات العقود السرية المستعجلة؟
لماذا لم تتظاهروا حين قامت القوات الامريكية بتجميع أطفال النعيرية من أجل أن يفجرهم ارهابي بسيارة مفخخة؟
لماذا لم تتظاهروا حين تكرر تفجير صفوف المتطوعين وكان سهلاً جداً تجنب ذلك؟
لماذا لم تتظاهروا ضد تزوير الإنتخابات من قبل الهيئة المستقلة للإنتخابات؟
أو حين رفض رئيس الهيئة إعادة العد؟
هل أستمر..؟

كل هذه كانت مناسبات ممتازة للتظاهر وللغضب أيضاً، لكن أحداً لم يتظاهر في وقتها، والآن تدعون للتظاهر.
كل المشاكل التي يمكن أن تساق كحجج، كان لها وقت أنسب للتظاهر في الماضي، وسيكون لها وقت أنسب في  المستقبل، فلماذا هذا التوقيت المثير للشكوك؟
لماذا التظاهر الآن حين تستطيع الحكومة أن تجيب بأنها لم تبدأ بعد، وتركتم الفرصة التي كانت لا تستطيع أن تفعل ذلك؟
لماذا لم تتظاهروا حين اعتبرت ديون صدام ديوناً عراقية يجب الوفاء بها، بدلاً من اعبتارها ديوناً فاسدة؟
لماذا لم تتظاهر المدن والقرى مطالبة بمدارس ومستشفيات، حين كانت الحكومة السابقة قائمة؟ أو تلك التي قبلها؟
لماذا لم تتظاهروا حين كان يمكن للتظاهرات أن تأتي بنتيجة، وفضلتم الوقت الذي قد لا يأتي سوى بالخراب؟
لماذا لم تتظاهروا في كل هذا الوقت إلا حين صار  في مصلحة المندسين أو الإحتلال والبعث أن تتظاهروا؟
لماذا لم تضغطوا بتظاهراتكم على الحكومة إلا في أيام تفاوضها مع جماعة الإحتلال على توزيع الوزارات الأمنية؟
لماذا لم تتظاهروا إلا قبل أشهر من موعد خروج قوات الإحتلال، وضد الحكومة التي وعدت بعدم التمديد؟
أما كان بالإمكان قبل ذلك؟... اليس ممكناً بعده؟
أم ان من يقود التظاهرات يريد عامداً حكومة تمديد؟
أصدفة أن هذه الصحوات المفاجئة تصادف مواعيد خطيرة تهم أكبر قوة في العالم؟

إنني أحترم وأقدر المعاناة التي تدفع بمن يريد التظاهر لإتخاذ قراره، لكنه للأسف قرار سيء التوقيت ولا يمكن الدفاع عنه، ولا معنى له.
وأسوأ من ذلك أنه لن يكون له معنى أيضاً في الإنتخابات التالية، فـ "حكومة الوحدة الوطنية" لا تترك للشعب بديلاً. الجميع يدخل الحكومة غصباً عن الشعب في كل دورة! إن كان لكم أن تتظاهروا، فتظاهروا من أجل إلغاء حكومة الوحدة الوطنية وتمكين الكتل الفائزة من تشكيل حكومة أكثرية، لكي يمكن محاسبتها والحكم عليها في الدورة القادمة. ولكي يكون لدينا بدائل.

لكن "تظاهرات الغضب" هذه لها أهداف أخرى غير تمكين حكومة أغلبية من الحكم ولن يمكن تغيير أهداف التظاهرات الآن. لذلك يجب انتظار فرصة أخرى، وتظاهرات أخرى وأهداف أخرى. لكن التوقف ليس سهلاً على من عقد العزم على المضي في طريقه.

في العادة يكون العزم مطلوباً لإتخاذ القرارات المقدامة، لكن الأمر مختلف عندما لا يدفع إلى الحركة، المنطق، بل عدم القدرة على التوقف. في هذه الحالة فأن الحركة لا تكون مؤشر إرادة، بل عدم القدرة على الإمتناع عن الإنجراف. وكما يقول نيتشة فأنه: "يكون في الإحجام من العزم ما ليس في الإقدام أحياناً".

126
إدارة الضغط على الحكومة وتوجيهه -1

صائب خليل
22 شباط 2011
الضغط على الحكومة، كالضغط  من الأعلى على  بالون على الأرض. يمكن أن يجعلها تقفز عشوائياً بأي اتجاه كان.
الضغط، قوة غير موجهة في الفيزياء، وكثيرا ًما لا يختلف الأمر في السياسة. فعندما تضغط جهة ما على حكومة فإنها لا تستطيع دائماً أن تحدد نتيجة ذلك الضغط واتجاه رد فعل الحكومة المضغوطة. فلو أخذنا مثالاً للتشبيه، فأننا عندما نضغط من الأعلى على وسط بالونة على الأرض، فإنها ما لم تنفجر، سوف تقفز في أتجاه ما، يصعب علينا تحديده مسبقاً. كذلك معظم انواع الضغط السياسي المسلطة على أية حكومة، فمن أجل التخلص من ذلك الضغط، قد تتجه الحكومة للإستسلام له، أو بالعكس، قد تتجه إلى مقاومته ومحاولة كسره، أو قد تتجه إلى الهرب إلى جهة ما، قد لا تكون لها علاقة مباشرة باتجاه ذلك الضغط، مثلما تتجه الحكومات إلى الحرب الخارجية للتخلص من مشاكل داخلية لا علاقة لها بتلك الحرب. إنها تتجه إلى حيث تجد منفذاً، بغض النظر عن وجهة ذلك المنفذ.
خير طريقة لمن يريد أن يجعل البالونة تقفز باتجاه معين يحدده بنفسه، هي أن يضع الحواجز حول تلك البالونة، بحيث لا يترك لها سوى منفذ واحد تهرب منه، هو الإتجاه الذي يريده. إن هو فعل ذلك، فسيكون كل ضغط على تلك البالونة يخدمه، حتى إن كان من يقوم بالضغط يقصد أتجاهاً آخر.
لذلك يكتفي الضاغط في كثير من الأحيان بترتيب الحواجز المناسبة في أنتظار الضغط الذي تأتي به الصدفة أو الأحداث، أو الآخرين، كقبطان يعد أشرعته بشكل مناسب، ثم ينتظر الريح. إن ميزة هذه الطريقة ليست فقط الإقتصادية في الجهد، ولكنها تبعد الشبهات أيضاً، عندما يكون تسليط الضغط العلني غير مناسب سياسياً، كأن يفهم على أنه تدخل دولة أجنبية.

هكذا قد تجد شعباً يضغط على حكومته من أجل الديمقراطية، فتقفز الحكومة بدلاً من ذلك إلى توقيع اتفاقية أمنية مع دولة أخرى يمكنها أن تساعدها في تهدئة الوضع سياسياً أو بالقوة، أو ربما تثير حرباً لتشغل الناس بها فينسو الموضوع أو قد تلجأ حتى إلى المزيد من الدكتاتورية للتخلص من ا لضغط بواسطة قمعه، رغم أن الشعب الذي سلط الضغط المحرك للتغيير، كان يقصد العكس. ما يحدث هو أن الحكومة، وجدت الحواجز مرتبة بشكل يجعل من إشعال حرب في الخارج أو إستعمال الإضطهاد، ألطريق المفتوح أمامها للتخلص من ذلك الضغط. المضغوط لا يهمه أن يعرف رغبات من يسلط  الضغط عليه، بل يهمه أن يعرف المنافذ المفتوحة للتخلص من الضغط. وبالطبع من المحتمل جداً أن أحداً ما رتب الحواجز للحكومة بهذه الطريقة وانتظر ضغط ثورة الشعب، أو شجع ذلك الضغط بطرقه الخاصة، بعد تورية القصد من ذلك الضغط. ليس ذلك سوى ما نسميه "الفوضى الخلاقة" فهي فوضى في الحركة النشطة بأي اتجاه كان، وهي خلاقة لأن بالإمكان توجيه طاقتها كما يريد من يسيطر على منافذ تنفيس الضغط.

لقد كشف لنا أحد عملاء السي آي أي السابقين، جون بيركنز، الوسائل التي تتبعها المؤسسات السرية الأمريكية لتسليط الضغط على حكومات العالم عندما تريد أن تجبرها على سياسة باتجاه معين يتناسب مع طموحات رجال الأعمال الأمريكيين، مثل بيع ثروات تلك البلاد للشركات الأمريكية بشكل مجحف للشعب. وهنا نجد الإبداع في تسليط الضغط، حيث يبدأ الأمر عادةً بإقناع تلك الحكومة باقتراض مبالغ مالية كبيرة، وإقناع الجهات المالية الدولية مثل البنك الدولي، على تقديم تلك القروض. ورغم أن القصد من تلك القروض يبدو لحل مشاكل تلك البلاد الإقتصادية، فأن من يخطط الأمر يخفي أمراً آخر.
يقدر هؤلاء المخططين، أن البلاد سوف لن تتمكن من إيفاء ديونها، أو أنهم سيحاولون دفع الامور في ذلك الإتجاه من خلال علاقاتهم العالمية الإقتصادية وغيرها، بحيث يسلط الدين على الدولة المدانة، ضغطاً يمكن استثماره للوصول إلى غايتهم، حيث يتم محاصرة المنافذ الممكنة لحل الأزمة الإقتصادية، وترك طريق واحد مفتوح أمام حكومة البلد، وهو بيع ثروات بلادهم بسعر بخس للشركات التي خططت الموضوع كله بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الأمريكية.
ويبين جون بيركنز في كتبه وفي المقابلات التي أجراها، أنه في حالة فشل الضغط في توجيه حركة الحكومة بالإتجاه المطلوب فأن الخيار الآخر هو قتل المسؤول الذي يرفض الإذعان للضغط، كما حدث لرئيس الأكوادور السابق جيم رولدوس ورئيس بنما السابق عمر تروخيو، الذان تقبلا مصيرهما ببطولة نادرة بدلاً من بيع بلادهما وقتلا الواحد تلو الآخر خلال بضعة أشهر. (1)
يحتاج الضاغط إذن لإنجاح خططه، أن تكون له سيطرة على ظروف الضحية، وأن يتمكن من ترتيب محيطها بحيث يترك لها منفذاً واحداً لتنفيس الضغط، وهو المنفذ الذي يخدمه.

لنأخذ مثال عراقي، من حكومة المالكي الأولى المنتخبة، (بشكل ما). حين بدأ المالكي يحاول ممارسة عمله إصطدم بواقع محاصر أعد له، جعله يشتكي علناً قائلاً أنه "لايستطيع تحريك فصيل بدون موافقة أمريكية" رغم أنه القائد العام للقوات المسلحة. وكان جزء هام من هذا الضغط من أفضال أياد علاوي، رئيس الحكومة الأولى المعينة من الإحتلال، حيث رفض مشروعاً ألمانياً فرنسياً، يتيح للحكومة العراقية المنتخبة صلاحيات كبيرة للحركة وتجعل من قوة الإحتلال الأمريكية، التي كانت حتى ذلك الحين تحت غطاء أممي، قوة مساعدة على حفظ النظام حسب طلب الحكومة العراقية، التي كانت ستحتفظ بالسلطة الأعلى. لكن وجود علاوي في ا لحكم مكن الأمريكان من تجاوز الأمر، حيث ذهب هذا مع كولن باول وطلب من مجلس الأمن ترك الأمر بين العراق وأميركا ليتفقا عليه بدون تدخل الأمم المتحدة، فكان ما كان. (2)

كان هذا التصرف من قبل علاوي ضرورياً بالنسبة للأمريكان لتمكينهم من محاصرة الحكومات العراقية التالية، وتحديد خياراتها وإخضاعها للضغوط الأمريكية. وبالفعل وجد المالكي الضغط شديداً حيث اصطدم مع قائد القوات الأمريكية بشكل مؤلم فاشتكاه لبوش، فأجابه هذا بأن عليه أن يهدأ! وهذه الشكوى تبين بوضوح أن المالكي لم يكن يدرك الأمر، ولم يفكر أن تصرفات قائد القوات كانت مقصودة كجزء من خطة لمحاصرته وتحديد خياراته بما يناسب الإحتلال.
إضافة إلى ذلك فقد كان للوسائل الأخرى المعدة مسبقاً، مثل طريقة كتابة الدستور وتوزيع السلطات، وكذلك السلطة الإعلامية التي تمتلك الولايات المتحدة كل مفاتيحها الأساسية في العراق، ضغط كبير جداً على أية حكومة عراقية. وقد استفاد هذا الإعلام من حقائق معينة لتثبيتها وتكبيرها أيضاً، مثل الطائفية، والقرب من إيران، لمحاصرة أي عمل يحاول رئيس الحكومة أن يقوم به، ولا يناسب سياسة الولايات المتحدة.

ومما نذكره عن ضغوط الولايات المتحدة في العراق قضية الديون العراقية الفاسدة. فقد كان بإمكان الحكومة الأمريكية إعلان أن ديون العراق تعتبر ديوناًُ فاسدة تخص صدام حسين. وكانت قد فعلت ذلك عام 1820 مع كوبا عندما احتلتها. لكنها كانت ترى أن في العراق ظرفاً آخر يتطلب منها الإحتفاظ بأكبر عدد ممكن من أدوات الضغط عليه، ومنها الإقتصادية. وبالفعل كانت الديون حجة لتمرير شروط اقتصاد السوق والقبول بمعاهدات مع أميركا، لم تكن مقبولة من الشعب العراقي.
وخلق الإعلام جواً من الإتهامات والحساسيات، مستفيداً من حقائق فعلية، ضمنت إمكانيات كبيرة لتسليط الضغط على أي حكومة عراقية. وبغض النظر عن براءته أو نواياه، فقد كان المالكي عاجزاً عن محاسبة أي لص كبير أو التحقيق في أية جرائم يقوم بها المحسوبين على الطائفة الأخرى، السنة، أو أية شخصيات سبق أن اعلنت عدائها لإيران. فأية حركة من هذا النوع كانت تفجر بوجهه كل تهم الطائفية والعمالة لإيران، حتى صار الأمر معتاداً أن أي وزير لص كان يهرع فوراً إلى القول أن ملاحقته لها أسباب طائفية أو سياسية، أو لأنه انتقد علاقة السلطة بإيران! وإن لم ينفع كل ذلك في ردع الحكومة، كان الأمريكان يتكفلون بتهريب المتهمين، حتى بعد إدانتهم، بقوة السلاج ومن بين أيدي الشرطة!
هكذا أوصل الإحتلال المالكي إلى الإحساس بالشلل والحصار والضغط الشديد،ولم يكن المالكي يدرك في البداية أن الضغط الذي يسلط عليه كان جزء من اللعبة (بدليل شكايته لبوش)، وسرعان ما انفجر هذا الضغط بالإتجاه المرسوم له، الإتجاه الوحيد المفتوح له للعمل، وهو: ضرب الصدريين في "صولة الفرسان"، محققاً حلماً أميركياً كان سيكون مستحيلاً بدون ذلك الحصار ذو المنفذ الواحد للتصرف.
طبعاً كان للمالكي أسباب أخرى هي مشكلة الميليشيات وتصرفاتهم، لكن ذلك ربما كان يمكن حله من خلال الضغط على قادتهم في التيار الصدري، وهم شركاءه في الحكومة. هل كان سينجح بذلك؟ لا أحد يعلم، لكن ذلك لم يكن يناسب الأمريكان، ومن الواضح أن المالكي لم يحاول ذلك، وإن فعل فليس بأية جدية تستحق الذكر، فقد بدا الحل العسكري، منفذاً شديد الإغراء لتنفيس الضغط الأمريكي.

لكن إدارة الضغط لم تكن ناجحة دائماً، رغم شدته ومهارة إدارته. فقد تمكنت حكومة المالكي، ومن خلال السيد حسين الشهرستاني، من إدارة ملف النفط بشكل ممتاز إذا تذكرنا كمية الضغوط التي سلطت عليها. لقد كان انتصار الشهرستاني في ملف النفط، يتمثل في عدم الرضوخ للضغوط الشيديدة، ومحاصرته لكي يقبل الخيار المفتوح الوحيد لديه، وهو توقيع اتفاقيات شراكة مع شركات النفط الكبرى، والتي تمتلك الولايات المتحدة حصة الأسد فيها. وكان من أدوات الضغط التي سلطها الأمريكان على الشهرستاني بشكل خاص وحكومة المالكي بشكل عام، حكومة كردستان.
فعلى العكس من حكومة المركز التي صمدت في هذا الموضوع، كان حكومة كردستان مستسلمة تماماً للفساد، وكان وزير النفط الكردستاني يوقع عقود الشراكة بشكل هستيري، ولم يكن هناك من يجرؤ على ما يبدو في حكومة أو برلمان كردستان على مطالبته بكشف تلك العقود. وما وصل عنها كان من مصادر أجنبية. وكان من وقاحته أنه نقل بعضاً من أكبر الحقول من قائمة الحقول المكتشفة إلى قائمة المناطق الإستكشافية، لكي يبيعها رخيصة للشركات!
وبالطبع فأن صمود المركز ضد مثل هذه العقود كان محرجاً لكردستان، التي سلطت ضغوطاً شديدة لتوقيع قانون النفط الذي يتيح توقيع مثل تلك العقود، ووصل الأمر إلى ما يشبه الشتائم الموجهة إلى وزير النفط العراقي، الذي تحمل ذلك الضغط، دون أن يستسلم للتنفيس عنه، حين وجد أن التنفيس الوحيد الممكن، يتمثل في بيع ثروة بلاده بشكل لصوصي إلى الشركات. وحتى خلال تشكيل الحكومة الثانية للمالكي قبل فترة قصيرة، كان أحد شروط الإئتلاف الكردستاني للإنظمام، هو توقيع قانون النفط، أملاً في أن تجد الحكومة نفسها تحت ضغط يجبرها على التنفيس عنه من المنفذ الوحيد: القبول.
النفط يذكرنا بضغط آخر في مكان آخر. كان من الواصح أن أميركا لم تكن سعيدة بتطور العلاقة الإقتصادية بين روسيا والإتحاد الأوروبي، وكانت تسعى لعزل روسيا في السنوات العشرة الماضية. لكن الولايات المتحدة لم تضغط على الإتحاد الأوروبي لكي يتوقف عن استيراد الغاز الروسي، (من خلال إثارة المشاكل في دول أوروبا الشرقية العميلة لها، والتي تتحكم بطريق مرور هذا الغاز- خاصة أوكرانيا في ذلك الحين) قبل إعداد منفذ "مناسب" للإتحاد الأوروبي لتنفيس هذا الضغط، يتمثل بمشاريع أخرى مثل مشروع خط أنابيب بديل (مثل خط نابوكو) لإستيراد الغاز والنفط من دول أخرى تناسب أميركا أكثر من روسيا.
وهنا أيضاً لم تكن الحواجز الأمريكية مرتبة بشكل ممتاز، لأن "المنفذ" البديل كان مكلفاً ولم يكن كافياً، ولذلك كان نجاح أميركا في هذا المجال محدوداً رغم جهودها، فقد أصرت ألمانيا ودول أخرى على علاقات إقتصادية متينة مع روسيا، ومازالت أوروبا تستورد ربع حاجتها من الغاز من روسيا.

كأمثلة أخرى مختلفة لأستعمال الضغط الإقتصادي، نتذكر إجبار الإتحاد السوفيتي السابق على الدخول في سباق تسلح مكلف جداً، مما جعله عاجزاً عن تقديم الخدمات اللازمة لشعبه. ولزيادة الحصار، فأن الأمريكان ضغطوا على المملكة العربية السعودية ودول الخليج لإغراق السوق بالنفط ليهبط سعر البرميل الواحد بشكل كبير. ولأن العملة الصعبة للإتحاد السوفيتي كانت تأتي بشكل رئيس من النفط، فقد تسبب ذلك له بخسائر هائلة، تقدر بمليار دولار للعام الواحد لكل دولار واحد ينخفض فيه سعر البرميل. وهكذا تم خلق الجو المناسب لإثارة غضب شعوب الإتحاد السوفيتي من حياتها الصعبة.
وأستعمل نفط السعودية والكويت ايضاً للضغط على حكومة صدام بعد الحرب مع إيران. ووجد صدام نفسه أمام ضغط إقتصادي شديد يتوجب الحركة، حيث أنه خرج من حرب إيران (التي كان للولايات المتحدة والسعودية دور رئيس في إثارتها أيضاً) بديون ضخمة جداً، كانت أرباحها أكبر مما يستطيع دفعه. وقبل ان تقوم الولايات المتحدة بحركة الضغط، فأنها توصلت إلى أن صدام، الذي مازال يمتلك جيشاً قوياً جداً، لن يجد منفذاً للضغط الإقتصادي سوى أن يحتل فيها الكويت، أو جزء منها، وهو ما سوف يثير اضطراباً في المنطقة يتيح لها إدخال قواتها اليها وبشروط مناسبة جداً لها.
وبالفعل تم الإيحاء لصدام بذلك الحل. وكانت الحركات الأخيرة التي اسقطته في الفخ، هي تصريح الناطق باسم البيت الأبيض، رداً على أخبار احتمال اختراق عسكري عراقي للكويت بأنه "لا توجد اتفاقيات دفاع مشترك بين الولايات المتحدة والكويت" بدلاً من الجواب المعتاد بالتحذير من أي أعتداء عسكري.  وأخيراً جاءت مقابلة صدام حسين مع السفيرة الأمريكية أبريل غلاسبي، والتي أعطت الضوء الأخضر لصدام ليمر من المنفذ الوحيد الذي تركته الولايات المتحدة مفتوحاً أمامه، ويدخل بقواته إلى الكويت، إلى الفخ. (3)
عندها، تغير الموقف فجأة، وصار الهدف هو ترتيب البيئة لدفع صدام لإختيار البقاء في الكويت حتى يتمكن الأمريكان من إخراجه بالقوة. ومن أجل الهدف الجديد، تغيرت لهجة الولايات المتحدة وأصبحت عدوانية واستفزازية، ومهينة لصدام. وكان الغرض من ذلك أيضاً توجيه ضغط أدبي سياسي عليه لكي يغلق عليه باب الخروج من الكويت بلا حرب، وبالشكل الدبلوماسي، ويترك خياراً واحداً مفتوحاً له، الخيار الأنسب للخطة الأمريكية. وبالفعل نجحت الخطة تماماً. ورغم أن صدام أعلن إذعانه في الساعات الأخيرة المسموح له بها من الإنذار، فأن بوش رفض الأمر وأصر على المضي قدماً في إكمال خطته وإدخال جيوشه والبدء بالحرب، كاشفاً أن الحرب كانت هدفاً بحد ذاتها.

ويمكن أن نلاحظ أيضاً نوعاً آخر هو عبارة عن عمليات ضغط متعددة المراحل. فيمكن ترتيب ضغط يسلط على ا لشعب، ليقوم بدوره بتسليط ضغط على الحكومة التي يكون المخطط للموضوع كله قد رتب ظروفها لكي لا تجد منفذا للتنفيس عن الضغط إلا بالسير في الممر الوحيد الذي تركه لها المخطط للمؤامرة.
ويحدث مثل هذا الضغط في الدول الديمقراطية، حيث يكون للشعب رأي هام، وحيث يكون الضغط المباشر على الحكومة أكثر صعوبة، بسبب توزيع السلطات والشفافية، فأن الضاغطين كثيراً ما يلجأون إلى هذا النوع من الضغط غير المباشر. وإذا كان للحكومات مستشارين قد يساعدوها على اكتشاف الضغوط ومقاومتها، فأن الشعوب لا تمتلك هؤلاء، وهي تتصرف بعفوية حتى الشعوب المثقفة، وتتأثر بشكل أكبر بالمؤثرات الإعلامية، لذلك فهي تقع في الفخ بسهولة أكبر. فالشعب يضغط على حكومته عادة بشكل مباشر، ودون دراسة المخارج المتوفرة للحكومة، ودون ترتيبها بشكل يضمن أن حركة الحكومة ستكون كما يريد.
وأحد الأساليب هي أيضاً محاصرة الدولة إقتصادياً بحيث تجعلها عاجزة عن تقديم الخدمات اللازمة، وبالتالي يسلط نقص الخدمات الضغط اللازم على الشعب لكي يسلط ضغطاً على حكومته، التي يجب أن يكون المخطط قد رتب بيئتها لتسير الحكومة في ا لطريق المرسوم.
كمثال ممتاز على هذا النوع من الضغط الإقتصادي، نذكر خطة مارشال التي نفذتها الولايات المتحدة في أوروبا الغربية. فبعد حوالي سنتين من نهاية الحرب العالمية الثانية وجدت الولايات المتحدة أن شعوب أوروبا تختار الشيوعية بشكل كبير، وبشكل خاص في اليونان وإيطاليا وفرنسا والمانيا وأسبانيا وكذلك اليابان. ووجدت أن الطريقة الوحيدة لردعها عن ذلك هو استغلال الفقر الشديد الذي كانت شعوب أوروبا الغربية تعاني منه، وكون الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي كانت تتمتع بإقتصاد منتعش في العالم، فقررت الإستفادة من ضغط الجوع المنتشر، فوضعت أمام تلك الشعوب منفذاً واحداً لتنفيس ذلك الضغط، وهو: طرد اليساريين من حكوماتهم!
حدث مثل هذا الأمر في نيكاراغوا، فبعد إنهاك البلاد إقتصاديا بحروب العصابات التي كانت أميركا تدعمها، وضعت هذه شعب نيكاراغوا أمام خيار وحيد للخلاص من ضغط الجوع والإرهاب، وهو التخلي عن حكومتهم المفضلة، الساندينيستا، وقبول الحكومة المفضلة أمريكياً، والتي دفعت البلاد ثمن خيارها غالياً.
وتشمل إمكانيات هذا الضغط، شعوب أوروبا في العصر الحديث أيضاً، رغم أنها لا تعاني من الجوع. كمثال على ذلك، أختار الشعب الهولندي، بحريته، أسوأ حكومة في حياته قبل بضعة أعوام حين صوت لـ "حزب" الشعبوي "بيم فورتان"، وكان هؤلاء مجموعة من عصابات الشركات والمحتالين رفعهم الإعلام بشكل مثير للإنتباه. ولأجل ذلك تم استغلال غضب الشعب المشروع من حكومته اليمينية السابقة لتسليط ضغط شعبي يبحث عن حل بديل، وليقدم حزب فورتان كبديل وحيد، رغم أنه كان واضحاً للمراقب أنهم ليسوا البديل المناسب على الإطلاق، فالبديل المنطقي المناسب كان الخيار اليساري. لكن هذا الخيار كان مغلقاً بحواجز نفسية وإعلامية، فسقط الشعب الهولندي في الفخ وقبل "الطريق الوحيد المفتوح" عملياً، وانتخب مجموعة فورتان، الذين أسسوا حكومة لم تصمد ثلاثة أشهر حتى وصلت الصراعات بينهم إلى رفع المسدسات بوجه بعضهم!
سقطت الحكومة، لكن بعد إتمام توقيع صفقة مشاركة إنتاج الطائرات "جي إس إف" مع شركات الأسلحة الأمريكية، والتي كانت تواجه معارضة شعبية شديدة جداً، وكالعادة تبين لاحقاً أنها كانت صفقة سيئة، وأن كلفتها أكثر كثيراً مما كان معلناً.
أن الفرق بين الإتجاه المخطط سراً، وبين ما يبدو علنا، قد يكون كبيراً إلى درجة مدهشة، كما حدث للشعب الهولندي، حين كان يأمل بحكومة تلبي حاجاته، أي أكثر يسارية، فجاءت حركته بعصابة يمينية من أصحاب الشركات الفاسدين. وكمثال آخر أذكر أحد مواطني الولايات المتحتدة – ألباما، يقول بأن سبب انتخابه لبوش هو أنه تعب من الضغوط المادية، وأن بوش سيخفض الضرائب عن الفقراء!
يعرف ملاحوا الزوارق الشراعية أنهم يستطيعون الإستفادة من ضغط الرياح، لتسيير سفنهم باتجاه يكاد يكون معاكساً لإتجاه الريح الضاغطة، من خلال وضع الشراع وزعنفة السفينة بشكل مناسب!
هذه المرونة لتغيير اتجاه تأثير الضغط، يمنح من يسيطر على تحديد المنافذ، القدرة على الإستفادة من مختلف الضغوط المتوفرة، ومهما كان اتجاهها، وليس بالضرورة كما يتجه الضغط أو يريد صاحبه. أن من يريد تسليط الضغط على الحكومة من أجل هدف معين، عليه أن يحسب المنافذ المتاحة لها قبل أن يبدأ بتسليط الضغط.

(1) http://www.youtube.com/watch?v=mfXmk-87yv8&feature=related
(2)  أنظر مقالتي ("دور علاوي في فقدان سيادة العراق على العمليات العسكرية ووجوده تحت الفصل السابع)
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/18alawi.htm
(3) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/25april.htm


127
تظاهرات لا بديل لها، وأسئلة صعبة لجميع الأطراف

صائب خليل
17 شباط 2011

تمر قضية التظاهرات بمرحلة خطيرة، بعد أحداث الكوت العنيفة، وتجعل من التصدي للقضية أولوية وطنية كبرى. ورغم أن لا أحد ينكر حق المتظاهرين ومعاناتهم الشديدة، فأن اللجوء إلى التظاهرات في هذه اللحظة الغريبة – لحظة تشكيل حكومة منتخبة لم تبدأ عملها، وقبل أشهر من موعد انسحاب القوات الأمريكية-  يثير الكثير من الأسئلة. أسئلة صعبة لكل الأطراف.

في مقالة سابقة لي تناولت هذه الأسئلة وكتبت: " ليس هناك أي منطق سليم في مثل هذا التظاهر سواء كان هدفه أسقاط الحكومة، لأن الحكومة تمثل أكبر الكتل البرلمانية إن لم تكن تمثل اللكتلتين الأكبر. ولا إن كان هدف التظاهرات مطالبة الحكومة بالخدمات أو تغيير سياستها في أي شيء، فهي لم تقم بشيء بعد، يمكن الحكم عليها من خلاله."، لكني عدت واعترفت بصدق مشاعر الغضب التي تجتاح الناس. وكما قال الشاعر حميد الحريزي ، فأن "الوضع في غاية التعقيد والصعوبة بعد ان فقد المواطن العراقي الثقة بشكل كامل بالطبقة السياسية الحاكمة في العراق بكل تسمياتها ومسمياتها."

البارحة وصلتني رسائل الكترونية عامة عديدة تدعو إلى التظاهر والشجاعة وتبين مساوئ الحكومة والوعود الكاذبة، وكانت إحداها مستفزة فرددت ببضع الأسئلة ثم طلبت رفع اسمي من القائمة فأتاني رد خشن من أحد الذين نصبوا أنفسهم قادة لتلك التظاهرات، وتطور الأمر إلى تهديدي بـ "الأيام قادمة" أو شيء من هذا، مما دفعني للبحث عنه في النت، لأرى من يكون وما يمكن أن تكون دوافعه، فربما يكون نموذجاً يكشف بعض دعاة التظاهرات المتحمسين (وليس كلهم بالتأكيد) وما الذي يعدون العراق به.
 وبدأت بتوقيعه الذ يقول أنه:
عماد الكاصد، رئيس تحرير وناشر لصحيفة "شمس العراق" والمدير التنفيذي لشركة "ميديا العراق" - الميديا العراقية الجديدة- (العناوين مترجمة). أما على موقعه فاكتشفت أن الرجل يرى أن "عشائر العراق هي صمام للوحدة الوطنية" كما يقول عنوان إحدى مقالاته التي كتبها عام 2006، والتي جاء فيها رأيه بأن المشكلة هي في " حكومات القرن العشرين التي حكمت العراق حاولت جاهدةً تهميش دور العشيرة العراقية"  ويرى أن "الفصل العشائري" قانون متطور "يطبق الآن في أمريكا و أوروبا وجميع الدول المتحضرة"! (1) (هكذا جاء في المقالة)
ثم يكتب الكاصد في مقالة أخرى بثورية متحمسة " نحن معك يا لبنان..من أرض العراق.. حتى أرض عدن.." (2007) والكثير من هذه الجمل في المقالة، لكن المفاجأة، هي أن الكلام عن غدر بيروت وبغداد ليس فيه كلمة واحدة ضد إسرائيل أو أميركا كما قد يظن المرء، فالمشكلة في "العربان والعجم"، فهل الذين قصفوا بيروت هم العربان؟ أم أن الذين داست دباباتهم أرض بغداد، هم العجم؟ (2)
وفي الوقت الذي يفخر عماد الكاصد بعشيرته وعائلته التي حاربت الإحتلال الإنكليزي عام 1920، فأنه يفخر أيضاً بأنه حين قامت الحرب الأمريكية على العراق، فأنه سارع إلى عرض خدماته على بول وولفوتز!! قائلاً له أنه يسير معه معاً كتفاً إلى كتف! (3)
ومعروف أن وولفوتز واحد من أشد الشخصيات الأمريكية صهيونية وعدوانية وكان عراباً في فريق وصل به العداء للعرب والمسلمين أن كان يعترض حتى على إسرائيل إن هي قدمت "تنازلات" لهم، ويحثونها على فرض الأمور بالقوة وأنهم سيقفون خلفها ويدعمونها بما لديهم من علاقات في أميركا!
وكتهديد مبطن إضافي، ارسل عماد الكاصد لي صورة (لم افتحها) يسأل إن كانت صورتي، ثم كتب "يطمئنني" أنهم لن يقتلونني..لأنهم ليسوا كذا..الخ. أورد هذه التفاصيل لأنها توضح طبيعة شخص ذو مركز إعلامي ويبدو أنه يقوم بدور قيادي  في الدعوة للتظاهرات "السلمية"، وخلفيات علاقاته، وافتخاره بها!
ولا يبدو حرص الكاصد على أموال الشعب أكثر من "سلميته"، ففي مقالة له يرى أن كل محافظة يجب أن تكون إقليماً له حكومته وبرلمانه! وهو يعي ويعترف أن كلفة 18 برلمان ستكون هائلة، لكنه يراها مقبولة وأفضل من دفع كلفة برلمان واحد سيئ!. هذا الرجل يريد أن يتظاهر من أجل الفقراء في العراق، بل يقود تظاهراتهم!

أني أترك الحقائق بلا تعليق أمام القراء، ليكون لكل شخص رأيه في قيادة شخص مثل الكاصد للتظاهرات وإثارة الحماس لها، ولا أدعي أن كل المتظاهرين هم بهذا الإتجاه، فهذا بعيد تماماً عن الواقع، لكني لا أظن أنه ينفرد بعيداً عن المجموعة. وإذا كنت أنا وبعض آخرين نرى في الكاصد نموذجاً سيئاً يخشى على العراق منه، فقد يعتبره البعض مقبولاً وجيداً ويعتبر هذه المقالة دعاية له.

وكمؤشر آخر على أن نموذج الكاصد ووجهات نظره ليست استثناءاً غريباً في التظاهرات نشير إليكم بمراجعة ما كتبه الزميل نزار رهك وبعد مناقشة على مقالة لي حول الموضوع، فكتب "الخط الثاني من عملاء الأحتلال لإحتواء التظاهرات المطلبية" مشيراً إلى شكوكه التي أثارتها ملاحظات حول "حزب جماعة الفيسبوك أو مايسمون أنفسهم بثورة الغضب أو الشباب المختفي الذي لا يعرف عنه شيء لا يحملون في جعبتهم سوى تقليد شعارات الثورة المصرية ( إرحل) (طبعا يقصدون المالكي وليس علاوي ولا جلال طالباني)"، ويتساءل: "من أين جاءت الحركة وماهي نقاشاتهم القديمة وماذا كانت آراءهم وكيف تبادلوا المعاناة ؟ وما هي أوجه الأصلاح وكيف جمعهم الفيسبوك و هناك أزمة كهرباء ؟ وكيف هم في حالة فقر ولديهم خط إنترنت قسطه الشهري بحدود السبعين ألف دينار عراقي"(4)
كما ينبهنا نزار رهك إلى خبر كتب في موقع "كتابات" المعروف الإتجاه، جاء فيه أن "مجموعة من النشطاء العراقيين في امريكا في طريقهم للقاء الرئيس الامريكي اوباما ليشرحوا له معاناة الشعب العراقي من فساد حكام العراق الجدد الذي عينهم الرئيس الامريكي السابق طالبين منه اثبات مصداقيته بدعم الديمقراطية والعدالة في العالم من خلال نصرة الشعب العراقي لاسيما في حراكهم الاخير ومظاهراتهم ضد الجهلة .. والفاسدين.. واللصوص..... من الساسة المتحصنين في المنطقة الخضراء."(5) وهي بالضبط لهجة أعضاء العراقية عندما كانوا يطالبون أميركا بالتدخل للإستيلاء على السلطة وتسليمهم إياها!

نكتفي بهذا الجانب السلبي من مؤيدي التظاهرات وننتقل إلى الجانب الآخر الذي يعمل بإخلاص من أجل مطالب جماهيرية لم يعد تأجيلها محتملاً. وهنا نلاحظ بوضوح الغلبة الشديدة لمقالات التشجيع، ومن النادر أن تجد من مؤيدي التظاهرات من يحاول مناقشة الموضوع والإجابة عن الأسئلة المنطقية التي تحيط به، ومن هؤلاء القلة  الدكتور تيسير عبد الجبار الآلوسي لذلك، حيث كتب "رسائل مفتوحة وتفاعلات مع ما يجري تحت نصب التحرير" بجزئين (6)

أقتطف منها ما يلي وما بين أقواس مزدوجة (()) يمثل تعليقاتي:

-   "أما المواطن المغلوب على أمره مهضوم الحقوق المعتدى على كرامته، فيطالبونه بأن يعطي فرصا مضافة"

((والحقيقة هي أن الحكومة الحالية لم تحصل على أية فرصة أصلية بعد لكي تطالب بـ "فرص مضافة".))

-   "ويبدو أن الديموقراطية العراقية [على وفق هؤلاء] مقبول منها وفيها انتخابات مُفصَّلة على مقاس ممثلي القلعة الخضراء"

((يتم تصوير "القعلعة الخضراء" وكأنها مجموعة منسجمة متآمرة فيما بينها، بينما الحقيقة هي أنها مجاميع شديدة التناحر والإختلاف، ومحكومة بعدم ثقة متبادلة شديدة ولا تستطيع أن تتفق إلا بحدود ضيقة جداً، ودليل ذلك ما حدث أثناء الإنتخابات وثم تشكيل الحكومة.))

-   "الديموقراطية لكل الشعوب الأوروبية وغير الأوروبية ومنها الشرق أوسطية تمتلئ تفتحا بآلياتها كافة ومن ضمنها حق تغيير الحكومة بكل طاقمها، حتى قبل انتهاء المدة الانتخابية"

((صحيح، لكني لم أسمع بآلية لإسقاط حكومة منتخبة قبل حتى أن تبدأ عملها، إلا إذا كان احتجاجاً على تزييف للإنتخابات، ولا ترفع التظاهرات الحالية مثل هذا الشعار.))

-   "ومن المعيب لعاقل ذي بصيرة أن ينصح الشعب بإعلان الخضوع والخشوع لمسؤول فاسد كيما يحظى بمكرمة على طريقة الـ عشرة دولارات التي ألقيت إليهم بضغط مظاهرات شعوب أخرى"

((لا أحد يدعو للخضوع لفاسد، بل لمحاكمته وفق القانون، وإن كان ذو حصانة فيجب النظال من أجل إخراجه من الحصانة أولاً لكي لا يصيب العمل الدستور والقانون بمقتل. ))

-   "إنَّ أولئك الذين سيهتفون لسكان القلعة الخضراء، سيتحولون إلى طبالين وذرائعيين يديمون مسيرة الفساد أطول مدة"

((يمكن اعتبارها جملة ابتزازية للنيل ممن يعترض على الرأي الذي يتيناه الدكتور تيسير. تهديد بتحويلهم إلى "طبالين".))

-   "المسؤول الذي يريد أن يغيره الشعب ليس عليه من أمر سوى أن يختار بين ركوب موجة الفساد والدفاع عنه وارتكاب جريمة التمسك والالتصاق بالكرسي أو ركوب موجة الانتفاض والتغيير والجلوس مع الشعب في قطاره"

((وهذا ابتزاز للمسؤولين، وطريقة "بوشية" (من جورج بوش) بامتياز بعد تحوير بسيط: من ليس معنا فهو مع الفساد))

((كما أن الحديث عن "الإلتصاق بالكرسي" لا مصداقية له، فالمالكي في فترته الثانية، ومعظم الرؤساء في الدول الديمقراطية يقضون فترتين رئاسيتين، وفوق ذلك فالنظام العراقي تمثيلي برلماني لا يضع حدوداً للترشيح لرئاسة الوزراء، مثل بريطانيا التي شغلت فيها تاتشر مثلاً ثلاث فترات. أرى الحديث عن الإلتصاق بالكرسي غير أمينة على الإطلاق لمن يعرف هذه الحقائق.))

((كذلك يفهم من العبارة أن الدكتور الآلوسي يعتبر نفسه قد "ركب موجة" الإنتفاض، وليس قراره مستقلاً.))

وفي الجزء الثاني من المقالة يقول الدكتور الآلوسي:

-   "هم ينذرون المحرومين من أبناء الشعب من أنهم أمام خيارين: فأما الوقوف خلف أحزاب الطائفية االحاكمة أو هم مع البعث والقوى المعادية للعراق!" (7)

((ليس صحيحاً، ومن يحدد هذين الخيارين مخطئ، فالجميع يعترف بأن ظروف المواطن العراقي سيئة للغاية. وضع المقابل بين خيارين محددين فيه اعتداء على خيارات المواطن، لكنه بالضبط ما فعله الدكتور الآلوسي في الجزء الأول من مقالته حين خير السياسيين ومؤيديهم بين ركوب موجتين قائلاً ما معناه "أما معنا أو مع الفساد".))

-   "ولكن كيف يمكن للشعب أن يصدق وعدا وقد أثببت اليام التصاقا مرعبا بالكرسي "

((من الغريب أن توصف بداية دورة انتخابية ثانية، في بلد يسمح دستوره بذلك وأكثر، بأنها "إلتصاقاً مرعباً بالكرسي". ألا تضيع علينا مثل هذه المبالغة، أدوات القياس والنسب بالخلط بين ما هو "مرعب" وما هو طبيعي ودستوري؟ ))


وأجرى موقع المثقف (www.almothaqaf.com) استبياناً للرأي شارك فيه عشرات الكتاب والقراء أقتطف منه ما يلي بلا تعليق:

سعد العميدي
الرعب أصاب الحكام و بدأوا يتراجعون أما ضغط شعوبهم و بدأوا يقدمون الرشاوى للفقراء و يعدوهم بجنات عدن

وفاء عبد الرزاق
 أنا ابصم بالعشرة لأية حركة نحو التجديد والمطالبة بحق مسلوب من الشعب العراقي.

د. مهدي الحسني
دعوة ابتزاز سياسي وليست مظاهرة. لا اعرف مكان من يدعوا للتظاهر بهذه الحماسة في الخارطة السياسية للعراق او الخارطة الجغرافية. ..اي حزب او جهة غير مثلة بالحكومة على قدر حجمها؟ اذن على من التظاهر؟ على انفسنا اذن لنندب حظنا.

ياقو بلو
نعم اؤيد التظاهر بشدة رغم كل المحاذير،ورغم يقيني من انها سوف تستغل من قبل جميع الاطراف.

سعد الحجي
الشعوب تصنع تاريخها.. ولابد من فعل وإن كان بسيطاً ليقدح زناد المنجزات

كفاح محمود كريم
 السلطات العراقية الثلاث ليست من انتاج انقلاب عسكري أو مدني، بل نتاج عملية انتخابية حرة وشفافة.

غفار عفراوي
نحن من انتخبنا هؤلاء السياسيين وعلينا تحمل غباءهم وتخلفهم

هاشم معتوق
التظاهرات صمام امان اجتماعي واقتصادي وتمرين اولي للمشي في طريق الحرية

وداد فاخر
لدي في جريدة السيمر بيانات اوليه لعناصر معاديه لعملية التغيير في العراق ويتصدرها تجمع بعثي معروف طالما حاول ان يثير القلاقل ومتهم بمسانده الارهاب في الداخل .

صائب خليل
هناك نسبة (كبيرة جداً) من الناس انتختب هذه الحكومة وتشعر أن من حقها أن تعطى فرصتها. وإسقاطها سوف يفهم من هذه النسبة بأن الجهات الأخرى قد سلبت حقها وبالتالي فأن من حقها أن تستعمل نفس الأسلوب ضدها،
هناك الكثير جداً من الأسباب المشروعة للإحتجاج، وقد أضاف إليها مجلس بغداد سببباً آخر للخوف من الإسلام المتشدد، وهي خطوة أقل ما يقال عنها أنها تتسم بالبلاهة السياسية

د. حكمت محمود
الفساد يحارب بتفعيل القانون و بكل صرامة على المسيئين وليس بالتظاهر،
أكثر الناس تحمساً للتظاهر هذه الأيام هم البعثيون ، بتصفح المواقع الإلكترونية الأكثر تطرفاً في الحث على التظاهر نقرأ نفس اللغة و نفس الخطابات التي كنا قد قرأناها و سمعناها طوال الأربعين عاماً الماضية
يقول هاني الفكيكي في كتابه "أوكار الهزيمة" ما يلي في الصفحة 171: (وفي أذار 1961 طُلب الينا في أحدى الاجتماعات المشتركة استغلال قرار كان قد أصدره الحكم بزيادة سعر البنزين عشرة فلوس للغالون الواحد، و القيام بعمليات أضراب و تظاهر و صدامات مع الأجهزة لتقوية التنظيم الحزبي و توثيق صلته بمشاكل الناس. و فعلاً أستطاع الحزب أن يشغل بغداد على مدى أيام بمظاهرات متفرقة و إضرابات لسيارات التاكسي والنقل العام، كما مارسنا القوة لإجبار الكثيرين من الناس و نقابات العمال على المشاركة في الأضراب

يحيى السماوي
لابد من السماح به للجماهير الشعبية لتوصل .. مطالبها طالما أن " ممثليها " المزعومين ليسوا معبرين عن منتخبيهم

بلقيس حميد حسن..
مع علمنا بالاخطار المحدقة بالوطن من فلول النظام البائد ومجرمي القاعدة, ولكن هل تبقى هذه شماعة لعدم تقديم الخدمات الضرورية للشعب وتجويعه وسرقة ماله؟ والى متى؟

مها عبد الكريم
المشكلة الحقيقية تكمن في انه" كما تكونوا يولى عليكم" وان ثقافة من يحكم العراق انما هي جزء من ثقافة هذا الشعب !!

فائز الحداد
التظاهر جزء من عملية الإفصاح عن حق مشروع ومغيب .

حسين السوداني
أنا من الذين سيعطي فرصة للحكومة من أجل إجراء إصلاحات عامة في كل مرافق الدولة وسأنتظر لنهاية هذا العام 2011 وهو عام خروج قوات الإحتلال فأذا مددت الحكومة الحالية المبتلية بأمراض الفساد ونقص الخدمات وتفشي البطالة فترة بقاء الإحتلال فسأدعو لإسقاطها سلمياً

نزار بيرو
المشكلة ليس في الأحتلال ولا في السراق و الحرامية بل المشكلة في تركيبة العراق و فسيفسائيتها التي لا تستقر ولا تتخلص من الحرامية و السراق الا بنظام فدرالي متعدد و متحد مركزياً..بصراحة انا فقط مع مظاهرات تطلب بهكذا نظام

سلام كاظم فرج
مأزق المثقف العراقي انه لايستطيع ان يحزر هل سيأتي الطوفان. ام الامان..؟؟ مأزقنا اننا بين نارين..

حذام يوسف طاهر
نعم انتخبناهم ومن حقنا مثلما انتخبناهم نطردهم لانهم غير امينين على مصير الشعب ولا الوطن ولايفكرون الا في جيوبهم وعوائلهم . والان فقط وبعد تظاهرات متفرقة تذكروا ان هناك عطل في البطاقة التموينية وتذكروا الان ان هناك سرقة واضحة لاموال العراق بمليلرات رواتبهم فقرروا يقلصوها .. اذن التظاهرات اتت بنتيجة.

صائب خليل
 السيدة حذام يوسف المحترمة..سيدتي، انت كنت مرشحة للبرلمان، ولو أنك نجحت، كان يمكن أن تكوني ضمن التشكيلة الحكومية، فهل كنت ستشعرين أن التظاهرات التي تستقبلك قبل أن تبدأي عملك، تظاهرات عادلة؟ أم كنت ستقولين: اعطونا فرصة!



إذن، فالتظاهرات تعاني من مشكلتين كبيرتين، الأولى اختراقها من قبل جهات مشكوك في نواياها، والثانية عدم وضوح ومصداقية الأهداف بالنسبة للمتظاهرين الصادقين، حيث يعجزون عن الإجابة على التساؤلات المنطقية.
الجميع يتحدث عن "تظاهرات سلمية"، لكن من يستطيع أن يضمن شيئاً؟ والجميع يتفق أنها مخترقة ويمكن أن تسيس لجهات مشبوهة، من البعث، إلى الأمريكان الراغبين بالبقاء، وأنه يجب الحذر الشديد، ولكن من يستطيع أن يضمن أن لا تفلت من يده الأمور بعد المشاركة في تثويرها؟ رئيس الوزراء أكد في مؤتمر صحفي على ضرورة إبلاغ الجهات المسؤولة للحصول على موافقة على التظاهرات، وقال أن الموافقة تحصيل حاصل وهي عبارة عن تبليغ فقط، وأعتبر أن لهذا ا لتبليغ أهمية كبيرة بالنسبة للحكومة، فلماذا لا تحرص الجهات المنظمة للتظاهرات والتي تؤكد سلميتها على تقديم مثل ذلك الطلب؟ وفي حالة رفض الحكومة للتظاهرات يمكن عند ذلك الإعتراض، بل وتقديم الدليل إلى الإعلام على عدم مصداقية ما قاله رئيس الوزراء، وتكون لديهم حجة أفضل لتنظيم التظاهرات بدون موافقات مستقبلاً.

عدا هذا، من المؤكد أن التظاهرات مفهومة الأسباب وقد تحقق نتائج هامة، بل هي قد حققت الكثير حتى قبل أن تبدأ، كما أشارت السيدة حذام يوسف. والتظاهرات، وإن كانت عاجزة عن الإجابة عن الأسئلة وتفضل الهرب منها، لكنها تطرح بدورها سؤالاً لا مفر منه هي الأخرى، وهو: ما الحل إذن؟

ولكي لا نهرب نحن أيضاً من هذا السؤال سنحاول في المقالتين التاليتين الإجابة عنه.


(1) http://www.iraqsunnews.com/modules.php?name=News&file=article&sid=3926
(2) http://www.iraqsunnews.com/modules.php?name=News&file=article&sid=5779
(3) http://iraqsunnews.com/english/modules.php?name=Content&pa=showpage&pid=3 
(4) http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=44281
(5) http://www.kitabat.com/i80204.htm
(6) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=246436
(7) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=246585



128
صراع خطير بين إسرائيل والشعب المصري على حكم مصر

صائب خليل
15 شباط 2011

قلق أنا على مستقبل الثورة المصرية. إنها تمر بوقت خطر وحرج للغاية، يبدو لي أن ليس جميع من يقوم بالثورة يعي مداه. أخشى أن الثوار يتجهون نحو الإحتفال المبكر، والإستراحة المبكرة، على العكس من خصومهم، الذين بدأوا ينشطون بوضوح.

لكن من هم "خصومهم" حقاً؟ دعونا لا نضيع وقتنا بالبحث عن تعابير "متوازنة" و"لغة صحافة" وأقول بأنني أعتبر أن حكومة مبارك (مثل بضعة حكومات عربية)، كانت من الناحية العملية، ومن ناحية تأثيرها في المنطقة والعالم، ليست سوى فرع تابع للحكومة الإسرائيلية، أو ربما أدق، للجهاز العسكري الأمني الإسرائيلي. وأكتفي بالإشارة بدور الحكومة المصرية في الحصار على غزة وثم ذبحها، وكذلك المؤامرات السابقة عليها والتي شارك فيها عمر سليمان شخصياً. وكذلك بيع الغاز المصري بثلث سعره الدولي لإسرائيل، في الوقت الذي يموت فيه المصريون جوعاً ويسكنون القبور، وتلك خيانة تتعدى حدود النذالة إلى الوقاحة المتناهية.
ولأن ليس الجميع في إسرائيل سعيد بمذبحة غزة، ولأننا لو أعطينا الغاز منحة لشركة إسرائيلية، فلن تبيعه لإسرائيل بذاك السعر، يمكننا القول بثقة بأن حكومة مبارك، تعتبر من الأجزاء المتطرفة العداء للعرب من المؤسسات الإسرائيلية. ويمكن لمن يرى أن عبارتي مبالغة، أن يتذكر موقف كل من عباس ومبارك أثناء الرصاص المصبوب على غزة، حيث كانا يلحان على الجيش الإسرائيلي بالإستمرار بالضرب بأكثر مما كان يريد الجيش الإسرائيلي نفسه، وهو أمر مشابه لما فعل السينيورة في قصف لبنان.

لا غرابة في ذلك، فغزة وحزب الله كانت تمثل تهديداً لعباس ومبارك والسنيورة أكثر بكثير مما تمثل من تهديد لإسرائيل، وبالتالي كانوا أكثر وحشية منها في التعامل معها، فقد كانوا أكثر إسرائيلية من إسرائيل، وهكذا هي حكومة مبارك.

المعركة في مصر، كما كانت في تونس، هي كالعادة في مثل هذه الحالات، تدار من الداخل من جانب الشعب، ومن الخارج من جانب الخندق المقابل. ولذلك، يجب علينا أن ننظر إلى الخارج أيضاً لفهم تلك المعركة.
لا أريد تكرار الحديث عن الموقف الفرنسي الذي بدأ في تونس بعرض أسلحة لضرب المتظاهرين، ثم تراجع ليبدأ اسطوانة دعم الديمقراطية، ولا الموقف الأمريكي الذي أنتظر ثلاثة أشهر من التظاهرات والرد العنيف قبل أن يتكلم، وكذلك المواقف الأوروبية الأخرى وللغرابة فأن الموقف الروسي واحد من أكثرها سوءاً رغم أن حكومتي هاتين الدولتين لم تكونا محسوبتين عليه!
أصدقاء مبارك الحقيقيين، هما أميركا وإسرائيل. ويمكننا أن نفهم الموقف الحقيقي من التصريحات ذات الطابع الأقل إعلامية.

قالت "إيلينا روس- ليتنين"رئيسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأميركي وهي جمهورية: "الولايات المتحدة يجب أن تستفيد من أخطائها الماضية وتدعم عملية تشمل مرشحين يستوفون الشروط الأساسية لزعماء الدول المسؤولة، ويشجبون الإرهاب، ويلتزمون بحكم القانون، ويعترفون باتفاقية السلام مع إسرائيل". وقال رئيس مجلس النواب الأميركي الأسبق نيويت جينجريش (جمهوري) عن الوضع في مصر: "هناك احتمال كبير لأن تنضم مصر خلال أسابيع للبنان، وغزة، وأن تنضم لكافة الأشياء التي يمكن أن تشكل خطورة استثنائية علينا". ونصح أوباما: "ادرسْ ريجان وكارتر.. ثم افعل ما فعله ريجان وتجنب ما فعله كارتر".(1)
في جملة إيلينا روس، عبارة واحدة محددة، هي "إتفاقية السلام مع اسرائيل" والباقي رتوش تمت إضافتها كيفما اتفق. ذلك لأن الحكومة التي تقبل باتفاقية السلام مع إسرائيل كما هي، ليست "حكومة مسؤولة" ولا تمثل شعبها الذي يرفض المعاهدة ويسعى لتغييرها. أما نصيحة جينجرش، فتعني أن على أوباما أن يتصرف بعدوانية ريجان، صاحب حرب النجوم، وليس كارتر الأعقل.
وجينجرش يخشى بالفعل تنامي منطقة قوية في الشرق الأوسط تتكون، لا من مصر المحررة وغزة ولبنان فقط، وإنما أيضاً بالتنسيق مع تركيا وإيران. كتلة تستطيع أن تدافع عن استقلالها كدول وكمنطقة بشكل لم يكن موجود في الشرق الأوسط. والإستقلال هو ما يخيف أميركا وليس فزاعة "الإسلام المتطرف" أو الأخوان المسلمين، كما يبين نعوم تشومسكي.(2)

أما بالنسبة لإسرائيل فالقضية أكبر، وأكثر مباشرة، ولذلك كان الأسف واضحاً جداً على حكومتها لرحيل الدكتاتور الجلاد للشعب المصري. لكن ما قيمة حكومة مبارك بالنسبة لإسرائيل؟ أستطيع القول بثقة بأنها أهم من الحكومات الإسرائيلية نفسها، لأن زوال حكومة إسرائيلية يمكن تعويضه بحكومة مشابهة، لكن لا يسهل تعويض حكومة مثل حكومة مبارك، تسيطر على بلد من 85 مليون إنسان يشعر بالضغينة والمهانة تجاه إسرائيل، ولا تكتفي بتحييده، بل تحوله إلى جزء من الإحتياطي الأمني والعسكري والإقتصادي الإسرائيلي، يقدم لإسرائيل الغاز بأقل من كلفة الإنتاج والدعم العسكري على الفلسطييين وربما إيران وأية معركة عسكرية أو سياسية أو أمنية قد تحتاج إليها إسرائيل. لقد كان الغاز المخفض الثمن وحده يوفر يوفر 3 مليارات دولار في السنة، من جيوب المصريين، وهو أكثر من ضعف مبلغ "المساعدات" الذي تستلمه حكومة مبارك من الولايات المتحدة، بشكل اسلحة ليست بحاجة لها، ولن يسمح لها باستعمالها إلا لحساب إسرائيل وأميركا أو بموافقتهما. وكانت مصر أيضاً، مركز الإعتقال والتعذيب الآمن لمن يريد الأمريكان والإسرائيليين تعذيبه بحرية غير معتادة. الأمريكان كانوا يهددون حتى سجناء غوانتانامو بنقلهم إلى جحيم مصر، حيث التعذيب لا حدود له، إن لم يعترف أؤلئك السجناء، أما الإسرائيليين فكانوا يجدون في حكومة مبارك جلادين رخيصي الثمن، وكان لفضيحة الفلسطيني الذي توفي تحت التعذيب في سجون مبارك، رد فعل نفسي عنيف داخل الشعب المصري الخجل من دور حكومته. هذا إضافة إلى الفوائد السياسية والعسكرية الهائلة التي قدمتها الحكومة المصرية مجاناً لإسرائيل، وأتاحت لها حرية الإستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية دون أن تجد سبباً للتوقف.

بالنسبة للشعب المصري المعركة هي قضية استعادة حريته وسلطته على بلاده من سلطة دكتاتور، لكنه من وجهة نظر إسرائيل وأميركا، ينازعهما على "فريسة" ثمينة جداً، هي مصر، بلاده، وفي فترة خطيرة الحساسية، وبالتالي فلا يتخيل سوى السذج أنهم على استعداد للتخلي عن فريستهم بسهولة. إن إدراك وجهة النظر هذه ضرورية للشعب المصري ليفهم نوع الخصم الذي ينتظره وطبيعة المعركة المتوقعة معه.

ولأن الإنتفاضة المصرية كانت رائعة في سلميتها وتنظيمها إلى درجة حرمت أعداءها من أي مسكة ضدها، فأنها وضعت هؤلاء الخصوم في حالة يحتم عليهم الإكتفاء بعملائهم داخل مصر لإدارة الصراع من أجل مصر. ومن أهم شخوص إسرائيل في مصر هو لواء الإستخبارات العسكرية عمر سليمان، ولا غرابة أنه كان خيار مبارك ليتنازل له عن سلطاته بعد تعيينه نائباً له. ومما لاشك فيه أن يتعاون هذا الجانب مع جمع من المرتشين والمخترقين، مثل الأزهر، تلك المؤسسة الموسادية بامتياز، والتي لم تغضب إسرائيل يوماً منذ عقود. وهناك أيضاً قيادات بعض الأحزاب المعروفة بتخاذلها، فسارع حزب الوفد بحركة مفضوحة بإبداء التعاون مع مبارك بعد خطابه الأول الذي أثار غضب المتظاهرين، إلا أن هجوم "الهجانة" أضطرهم إلى التراجع. كذلك كرر حزب الأخوان المسلمين حركاته غير المفهومة دائماً، وذهب للتفاوض مع عمر سليمان دون الآخرين، وعاد يؤكد أنه ذهب "للإستطلاع" وكذلك كان من أول المنسحبين من ميدان التحرير بعد إعلان الجيش عن استلامه مقاليد الأمور.

تؤكد القناة الإسرائيلية العاشرة أن سليمان هو "صاحب بيت" في أروقة الحكم في "إسرائيل...انه مسؤول التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل في حربهما الهادئة ضد إيران".
المحلل العسكري الإسرائيلي ران إدلست يقول "أن عمر سليمان هو صديق إسرائيل الأول في مصر والذي يقوم على حراسة المصالح الإستراتيجية للدولتين". ويتابع "علاوة على اعتبارات أيديولوجية تتعلق بتوجهات وأولويات النظام الحاكم توثقت علاقات سليمان بإسرائيل على خلفية وجود عدو مشترك لها يتمثل بالحركة الإسلامية". ويشير إدلست إلى أن لإسرائيل مصلحة إستراتيجية ببقاء النظام الحاكم حتى بعد رحيل مبارك، مشددا على أن عمر سليمان بعيون إسرائيل هو وجه التعاون بينها وبين مصر.
ويقول الصحفي البريطاني ستيفن غراي الحائز على جوائز دولية في الصحافة الاستقصائية "عمر سليمان كان ولم يزل الطرف المصري الأساسي في التعامل مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية، والقناة الأساسية للتواصل بين الإدارة الأميركية ومبارك حتى في قضايا لا علاقة لها بالاستخبارات والأمن".
ويضيف غراي في كتاب له "أن اختيار مصر كمحطة لتعذيب المختطفين لم يأت بمحض المصادفة، فههنا تراث من التعذيب في زنازين أبو زعبل وليمان طرة. وهناك ايضا ضابط دموي جلاد على رأس المخابرات العامة يدعى عمر سليمان يهوى رؤية القتل والتصفيات الجسدية بعينيه ، بل وحتى ممارستها بيديه".(3) لذلك لا عجب أن كتب أحدهم أن "مصر تستبدل دكتاتوراً بجلاد" (4)
عمر سليمان، كان على ما يبدو، رغم كل هذه السمعة الوسخة، يحظى بثقة أطراف بين المعتصمين. لكنه بعد بضعة مواقف وبعض الحديث عن تاريخه، خسر تلك الثقة تدريجياً، وبقي الجيش وحده يتمتع بثقة المتظاهرين.

لقد سبق أن كتبت مقالة بعنوان (أيها المصريون، إنتبهوا من الجيش فقد يكون الفخ الأخطر (5)) على إثر ملاحظتي أن شباب الثورة كانوا يتحدثون عن الجيش المصري برومانسية وثقة واطمئنان لا تناسب حساسية الثوار وانتباههم وحرصهم على ثورتهم، وهو ما أثار قلقي كثيراً، وتساءلت فيها عن مبررات هذه الثقة والإطمئنان. فالجيش المصري قد تمت "تربيته" لعقود عديدة على يد الأمريكان والإسرائيليين، ولا ينتظر أن يترك هؤلاء قائداً عسكرياً كبيراً لا يطمئنون له، ومبارك الذي يجرؤ على إعطاءهم الغاز بأقل من كلفته لن يتردد في فصل أي ضابط يقلقهم.
كما أن الحديث عن ابطال الجيش المصري القديم حديث فارغ، فقد بادر أنور السادات بتصفية عدد كبير منهم خشية أن ينقلبوا عليه لسياسته التي كان يراها هؤلاء خيانة وطنية، فينتقموا منه إخلاصاً لوطنهم، تماماً كما فعل صدام مع ثلث رفاقه الذي كان يخشى منهم أن يجرؤوا على تحديه إخلاصاً لحزبهم. وبعد ذلك تم تدريب عدد كبير من الضباط في أميركا، وتدريب الضباط من الطرق المعروفة لدى الساسة الأمريكان للتغلغل إلى الجيش في أية دولة يريدون تثبيت سلطة تابعة لهم، كفوءة في استعمالها للعنف مع المعترضين على تبعيتها من أبناء شعبها، وخاصة في أميركا الجنوبية والوسطى.

لكن المتظاهرين المصريين لا يبدون متحسبين لهذه العوامل، ويفضلون الثقة بالجيش، حتى بدون مبرر كاف. والمشكلة أن الثوار بدأوا "يطيعون" الجيش ويلتزمون بترتيب تحركاتهم وفق ما يقبله وما يمنعه الجيش، إلا في بعض الأحيان. وكانوا ينتظرون من الجيش الحماية من الأمن، وكان الشباب يمسكون المخربين ويسلمونهم للجيش، بكل ثقة، وكأن الجيش لم يكن جزءاً من المؤسسة الأمنية العسكرية لنظام مبارك! وكأن الدكتاتور لا يحرص أول ما يحرص على تنظيف مؤسساته الأمنية والعسكرية من كل من يشك بإخلاصه له. كان الحديث يقتصر على بطولات الجيش وحروبه مع إسرائيل، وكأن كل من حارب إسرائيل بطل، وكأن مبارك نفسه لم يكن ممن حارب إسرائيل يوماً!

وبالفعل لم تمر سوى أيام حتى كشر الجيش عن أنيابه، مثلاً من خلال القائه القبض على بعض الشباب، وكان أحدهم تحدث عن اعتقاله من قبل الجيش والتحقيق معه، لمجرد أنه كان يحمل أدوية لمستشفى ميدان التحرير الذي اقامه الشباب. وأكثر من ذلك حين تآمر الجيش مع بلطجية مبارك فأفسح الطريق لهم ليمروا ويضربوا المتظاهرين المعتصمين في الميدان في المذبحة التي سقط فيها العديد من القتلى والكثير من الجرحى.
ومما لا شك فيه أن الجيش ليس سوى لاعب في الفريق المضاد للشباب، لكن النظام وجد أن الجيش يتمتع بثقة المقابل فأراد أن يستغلها بأفضل طريقة. هذا هو التفسير الأكثر عقلانية ومنطقاً للأحداث. الجيش لم يكن يريد أن يضرب بنفسه مادام يؤدي خدمة لجم الشباب الذي يثق به، لذلك يكتفي بمهمة حصر المتظاهرين، وأعمال صغيرة متفرقة مثل الإعتقالات المحدودة التي لا تثير الكثير من الإنتباه، وفتح الطريق لمفاجأة الشباب من قبل مجاميع الأمن، واستلام من يعتقله الشباب من عملاء الأمن، ربما لإعادة إطلاق سراحهم.
لقد كلفت مجزرة ميدان التحرير التي أشرف عليها الجيش، كلفت المعتصمين كثيراً، وكادت تمثل خطراً على حركتهم كلها، وتلا ذلك محاصرة المتعتصمين في الميدان من قبل الجيش والبلطجية وفهم المعتصمون أنه سوف يتم القيام بهجوم عليهم وأن عليهم إخلاء النساء، كما تحدثت نوارة نجم بصوت شديد القلق في تلك الليلة. قالت سيقتلوننا كلنا. ولم ينقذ الشباب من تلك المؤامرة القبيحة إلا وجود كامرات تنقل الأخبار إلى العالم، فخشي المتوحشون أن يرتكبوا جريمة لا يستطيع أحداً ان ينقذهم من أثرها حتى من يعملون لحسابه.
ثم بعد ذلك أحبط الشباب محاولة خبيثة أخرى للجيش، حيث بدأت الدبابات بالتقدم نحو الميدان بغرض حصر المعتصمين في مكان ضيق، فسارع الشباب إلى الوقوف والإنبطاح أمام الدبابات وتم إيقافها، وصاروا بعد ذلك ينامون بين عجلات الدبابات لعدم ثقتهم بها، وكما بينت الصور المنقولة من الميدان.
ونشرت الغارديان الخميس تقريرا عن نتائج تحقيق أجراه مراسلها في مصر جاء فيه أن الجيش المصري متورط في اعتقال وتعذيب المئات أو ربما الآلاف من المتظاهرين بشكل سري، وإن نصف المعتقلين منذ بدء حملة الاحتجاجات للمطالبة بتنحي الرئيس حسني مبارك في 25 كانون الثاني، قد تعرّضوا للتعذيب على أيدي عناصر من الجيش.(6)

وهكذا بدأت الثقة تذوب، وهدد مجلس امناء الثورة المصرية بالدعوة لمزيد من التظاهرات اذا تقاعس المجلس العسكري الذي استلم سلطة البلاد، عن تلبية مطالب الشعب.(7) وأصدر المجلس العسكري المصري السبت الماضي بيانه الرابع، أكد فيه الإبقاء على حكومة مبارك لتسيير الاعمال لحين تشکيل حکومة جديدة مع الالتزام بكل الاتفاقات والالتزامات المصرية السابقة، فيما أعلن الثوار رفضهم التعاون مع الحكومة.(8) وحدثت مناوشات بين المعتصمين و "حماتهم" فقال شهود عيان ان طوابير من الجنود المصريين تحرکوا حول المتظاهرين الذين لا زالوا متجمعين في ميدان التحرير بوسط القاهرة الاحد الماضي، واشتبكوا معهم.(9)
كذلك أعلن الجيش عن إمكانية إدخال اللواء عمر سليمان، رغم رفضه من المتظاهرين. وعرضت الجزيرة تصويرا لعمليات اعتقال لمتظاهرين جرت تحت إشراف الجيش.


إضافة إلى الأحداث التي ذكرتها أعلاه، يمكن ملاحظة أن العسكر الذين استلموا السلطة بعد إعلان تنحي مبارك، كانوا يتصرفون دائماً كأنهم في خندق مقابل للثورة، يفاوضونها ويقبلون ما يضطرون له ويرفضون ما يستطيعون رفضه، وفي أحد البيانات عبر الجيش عن احترامه العميق لحسني مبارك و "إنجازاته" في نفس الوقت الذي عبر عن تقديره للأبطال الذين كانوا ضحاياه والذين لم يثوروا إلا لإزالته!
كذلك يثير القلق الإختفاء الغريب لحسني مبارك، فلا أحد يدري أين هو ولماذا لم يترك البلاد إن كان النظام قد رفع الراية البيضاء، وهو المعرض لأشد العقوبات على جرائمه الخسيسة الكثيرة بحق الشعب؟
كذلك يثير إعلان عمر سليمان لتنحي مبارك غير طبيعي، وبالفعل شكك احد المتحدثين في دستورية مخاطبة الشعب بنفسه والقول بأن حسني قرر "تخليه" عن السلطة، ولم يقرأ نصاً يفترض أن يكون الرئيس المخلوع قد كتبه.
ولاحظ الباحث نادر قريط أن خطاب عمر سليمان عن تنحي مبارك (10) يبدو مفخخ  الكلمات، فكتب قريط:
"في 11 فبراير أعلن نائب الرئيس السيد عمر سليمان  في كلمة مقتضبة، أن الرئيس حسني مبارك قد تخلّى عن منصبه في رئاسة الجمهورية (فقط) وليس عن كل مناصبه.. وهذا أمر في غاية الخطورة لأن الرئيس السابق حسني مبارك ومنذ 14 اكتوبر 1981 هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. هذا يعني أنه الرئيس الفعلي للمجلس العسكري الحاكم حاليا.. وعندما يقوم بنقل سلطات رئيس الجمهورية إلى المجلس المذكور، يكون قد نقل الصلاحيات من الرئيس حسني مبارك إلى الفريق الطيار حسني مبارك، وهذا ما أكده بقاء الحكومة السابقة لأحمد شفيق، والبحث عن منصب رفيع لعمر سليمان....ومنه فإن الرئيس السابق حسني مبارك لا يزال يمارس نفس صلاحياته السابقة.."(11)

لماذا لا يفرجون عن الشباب الذين قالوا أنهم أبطال؟ ماذا ينتظرون ليبدأوا بإطلاق سراح المساجين السياسيين الآخرين؟ وماذا يمنعهم من إلغاء حالة الطوارئ؟ أما الذي يؤخر إلغاؤهم للجهاز الأمني الذي يفترض بمن يريد بناء دولة ديمقراطية جديدة، أن يخشاه ويخشى مؤامراته؟ إنها أسئلة تثير القلق والشك، وعددها أكبر مما يحتمل تأجيل القرار، فهناك الكثير من العلامات مما لا يدع مجالاً للشك بأن النظام يتآمر ويعد العدة بنشاط وحماس، وأن الجيش معه وليس مع الثورة، وكل ما قيل قد لا يكون إلا خدعة.
المعركة إذن قائمة وتشتد والصراع على مصر لم يختتم، والثعبان مازال يتحرك تحت الرماد ويعد المفاجآت، فاستعدوا للمفاجآت قبل فوات الآوان ياشباب المحروسة. لا تستهينوا بهم وتفجعوا قلوبنا بكم وبثورتكم، ففخرنا وفرحنا بكم وبها صار جزء منا، وصرتم جزءاً منا، نفكر معكم ونقلق معكم، والناس في مختلف أنحاء العالم يعلقون عليكم الآمال، وينظرون إلى نتيجة ثورتكم!

(1) http://www.alzaytouna.net/arabic/print.php?a=135886
(2) http://www.chomsky.info/articles/20110204.htm
(3) http://www.alalam.ir/node/318484
(4) http://www.alternet.org/rss/breaking_news/460714/egypt%3A_exchanging__a_dictator_for_a_torturer/
(5) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=43419
(6) http://arabic.rt.com/news_all_news/63212
(7)  http://www.alalam-news.com/node/319298
(8) http://www.alalam-news.com/node/319214
(9) http://www.alalam-news.com/node/319301
(10) http://www.youtube.com/watch?v=ph8e11KR8mk&feature=fvst
(11) http://almubaderealiraqia.com/c21.html


129
هل للعراق أن يتخلص من مشاكله بثورة تونسية؟

صائب خليل
9 شباط 2011

على أثر تظاهرات الثورتين الباسلتين، التونسية والمصرية تكاثرت الدعوات لتكرارها في كل دولة في ا لمنطقة، فقد بدت كحل سحري يفكر به كل من لم يعجبه نظام الحكم في بلده.
ورغم أنه لا توجد حكومة عربية مرضية لشعبها، ولا يتمنى إستبدالها، إلا أن الثورة ليست الطريقة السليمة لإستبدال الحكومة، إلا إذا كانت تلك الحكومة ترفض الزوال بطريقة ديمقراطية.

لذلك فأن الدعوة إلى التظاهر لإزالة الحكومة على الطريقة التونسية – المصرية في العراق دعوة غير سليمة، وهي أما تنطلق من نوايا سليمة خاطئة التفكير أو قد تكون إحدى المؤامرات الكثيرة التي مرت وتمر بهذا البلد.

ليس هذا دفاعاً عن الحكومة العراقية، فحتى رئيس الحكومة ليس متحمساً لها، بل المقصود من هذه المقالة هو تنبيه لخطأ خطير في اللجوء إلى الأدوات غير الصحيحة لحالة لا تشبه الحالة التونسية أو المصرية. فصاحب تونس قضى ثلاثة وعشرون عاماً في الحكم المطلق، وصاحب مصر زاد عن ثلاثين عاماً، فكم بقي المالكي في الحكم؟ إنها فترة حكمه الثانية في نظام برلماني لا يحدد أصلاً عدد فترات الحكم لرئيس الوزراء، وليس ذلك غريباً، فتاتشر حكمت أكثر من فترتين مثلاً، والأمر مختلف عن النظام الذي ينتخب فيه الرئيس مباشرة ويكون له صلاحيات كبيرة، كما في النظام الامريكي أو الفرنسي، حيث يشترط عدم انتخابه أكثر من مرتين عادة في الدستور. لذلك فأن من حق المالكي دستورياً أن يتم انتخابه من قبل حزبه، أي عدد من المرات، فلا توجد شروط للترشيحات الحزبية لرئيس الوزراء. ومع ذلك فقد صرح المالكي بأنه لا ينوي ترشيح نفسه للمرة الثالثة. وهي نقطة صحية من ناحية وغير صحية من ناحية أخرى.
هي صحية لأنه من الأفضل أن يتم استبدال صاحب أكبر سلطة بشكل منتظم، ومن المعقول أن ندعو إلى أن يبدل الدستور ليضمن ذلك مستقبلاً. وهي نقطة غير صحية، لأنها لم تأت من خلال الدستور، وإنما جاءت على ما يبدو من الضغط السياسي والإعلامي على رئيس الحكومة المنتخب، وأجبرته على التصريح بما صرح به رغم حقه الدستوري. هذا الضغط خطر، والإنصياع له خطر أيضاً، ففي النظام الصحي السليم، يكون لأصوات الناخبين القرار الحاسم الذي لا ينافسه عليه أحد في القرار بانتخاب الحاكم، أما في هذه الحالة العراقية فعلى الحق الدستوري الإنتخابي أن ينافس ذلك الضغط ويعاركه. أي أن المسيطر والمسير لذلك الضغط، وهو غالباً سلطة إعلامية قوية أو سلطة عسكرية أو سياسية أو أمنية قوية تكون أقوى من الإرادة الديمقراطية وتفرض أجندتها عليها في لحظة من الزمن، وتجبر من تنتخبه تلك الديمقراطية على الخروج من اللعبة، أو تمنعه من الإستمرار بالترشح الذي يضمنه حقه الدستوري.

التظاهرات التي تسقط حكومة ترفض الخروج في نهاية فترتها الدستورية، تخدم الديمقراطية، اما تلك التي تريد إسقاط حكومة تم انتخابها في انتخابات لم تزورها تلك الحكومة بشكل مؤثر لتصل إلى السلطة، ولم تحتفظ بالكرسي بعد انتهاء فترة الحكم الدستوري، فهي ركلة للدستور وتدمير للديمقراطية. وكان من الواضح أن حكومة المالكي لم تحصل على السلطة بتزوير الإنتخابات، بل أن الإنتخابات زورت ضدها وضد كل الجهات والأحزاب الأخرى عدا العراقية، التي تم التزوير لصالحها، كما افترض من قبل الإحتلال ومن تمت رشوته من أجل الأمر.
ولكي لا ندخل في أفتراضات غير مثبتة قانونياً، نذكر أن من طلب إعادة العد هو كتلة المالكي، ولا يطلب الإعادة من يزور الأوراق. ونذكر أيضاً أن المحكمة الإتحادية اشترطت أن يتم العد دون السماح بمقارنة حسابات العد اليدوي مع جداول صناديق الإقتراع، أي بطريقة لا تكشف التزوير!

هذا ما يراه مناصري المالكي والإئتلاف الوطني، اصحاب الحكومة،على الأقل، وقد يرفضه مناصري أياد علاوي، وينكرون تزوير الإنتخابات، لكنهم لا يدّعون بأن حزب المالكي زور الإنتخابات بأية درجة مؤثرة، فهم لم يطلبوا إعادة العد على أية حال. إذن، اليس من الغريب أن ترفض نتيجة الإنتخابات عن طريق التظاهرات التي تنادي بإسقاط الحكومة، دون أن تكون قد اعترضت على تلك النتائج بالشكل القانوني الدستوري أولاً؟ وهل لو كان للشعب التونسي أن يغير النظام عن طريق الدستور، كان سيقوم بالتظاهرات، وللشعب المصري أن يتحمل كل وحشية نظامه في تحطيم التظاهرات؟

في حالة تونس، لم يستطع النظام أن يخرج تظاهرات مضادة يقول أنها تمثل مؤيديه، فلم يكن له مؤيدون يذكرون. وأما النظام المصري، فلم يستطع ان يخرج سوى الف وخمسمائة بلطجي قال أنهم من يؤيده، فهل هذا هو الحال في العراق؟ ألا يستطيع المالكي أن يخرج تظاهرات لمؤيديه قد يزيدون على التظاهرات التي يدعو إليها خصومه؟ فهل مثل هذه ثورة شعبية أم صراع أهلي؟ حين خرجت التظاهرات في إيران، والتي بدأت بنفس طريقة مصر، خرج لها بعد أيام تظاهرات تفوقها عدداً بشكل كبير للغاية، تؤيد أحمدي نجاد، وهو ما ينتظر أن يكون الحال في العراق، فأي انتضار يرتجى في مثل هذه الحالات؟

لكن دعونا ننظر إلى نقطة أخرى في حالة العراق، اكثر مما في حالة إيران. ففي العراق هناك "حكومة وحدة وطنية" إن صدقنا ما يقوله السياسيون. أي أن الكتلتين الكبيرتين تشتركان في الحكومة، حتى هذه اللحظة على الأقل، فلم يبلغ الخلاف بعد الإفتراق الرسمي الذي يجعل من إحدى الكتلتين معارضة. فإذن من الذي يتظاهر؟ ومن الذي يمثله؟ وما هو وزنه الإنتخابي إن كان خارج الكتلتين الأكبر؟ وأي انتصار للديمقراطية ينتظر حين يسقط أقلية صغيرة، حكومة شكلتها أكبر كتلتين في العراق، وتمثلان أكثرية كبيرة في المقاعد البرلمانية؟

وإن اعتبرنا أن الكتلتين اللتان تتفاوضان اليوم، مازالتا غير متفقتين، وأن أحداهما هي التي تقود التظاهرات ضد الأخرى، ألا يعني هذا أنه استعمال التظاهرات للضغط من إحدى الكتلتين لإجبار الثانية على تقديم تنازلات تفاوضية بالقوة؟
وكإحتمال أخير، قد يقول قائل أن التظاهرات لا تهدف إلى إسقاط الحكومة بل للضغط عليها من أجل أهداف محددة، مثل توفير الكهرباء والخدمات المختلفة. وسيكون مثل هذا الهدف معقولاً ومنطقياً وديمقراطياً، لولا أن الحكومة لم تأتلف بعد، فعلى ماذا يتم حسابها؟ لو قامت تلك التظاهرات في وسط فترة الحكم السابقة لفهمنا أن الشعب أعطى الحكومة فترة كافية، ولا يريد أن يستمر في ا لمعانات، أما أن تقوم التظاهرات قبل أن تقوم الحكومة، أو يكتمل إئتلافها فأمر ليس من المنطق في شيء. فقد تم انتخاب هذه الحكومة تواً، ولم يتح لها أن تبرهن جودتها أو سوئها، فعلى أي أساس يتم طردها؟ وإن تم ذلك وصارت انتخابات جديدة، فهل ينتظر إلا أن تفوز نفس الحكومة؟ هل اعطيت الفرصة للحكومة حتى لكي تقوم بعمل يغير رأي ناخبيها بها؟

إذن، ليس هناك أي منطق سليم في مثل هذا التظاهر سواء كان هدفه أسقاط الحكومة، لأن الحكومة تمثل أكبر الكتل البرلمانية إن لم تكن تمثل اللكتلتين الأكبر. ولا إن كان هدف التظاهرات مطالبة الحكومة بالخدمات أو تغيير سياستها في أي شيء، فهي لم تقم بشيء بعد، يمكن الحكم عليها من خلاله.

لماذا إذن تتم الدعوة إلى التظاهرات، ومن الذي يدعو لها؟ في تصوري أن الغالبية الساحقة ممن يدعون الى التظاهر، هم مواطنين غير راضين عن الحكومة ولا يأملون منها بشيء ولم ينتخبوها، ولديهم اعتراضات هامة وحقيقية عليها. لكن في الديمقراطية، حتى المريضة منها، من حق الحكومة أن تحكم حتى إن لم تكن أقلية راضية عنها، وفي كل الأحوال من حقها أن تعطى الفرصة لتبرهن نفسها.
أما الأقلية ممن يدعون إلى التظاهر، فلا أتصورهم إلا من توابع الإحتلال يقوم بتوجيههم في مرحلة ثانية لتزوير إرادة الشعب، بعد أن فشل تزويره للأولى بإيصال جماعته إلى رئاسة الحكومة، والهدف في هذه الحالة هو أما إسقاط الحكومة بالقوة، او الضغط عليها لكي تضطر إلى تسليم المواقع الأمنية لجماعته، وهو ما كانت هذه الجماعة تصر عليه منذ البداية.
فالإحتلال يدير الإرهاب، ويريد أن يسيطر على الأمن لكي يقفل الدائرة. وفي تلك الحالة فقط، بالسيطرة على الإرهاب والأمن، يكون له أن يسيطر على البلاد حتى لو كان فيها هياكل ديمقراطية، فبإمكان الإرهاب أن يغتال أي مرشح غير مناسب، وبإمكان الأمن أن يحمي ذلك الإرهاب. وبإمكان الإرهاب أن يسقط أية حكومة مالم يكن الأمن بيد تلك الحكومة، وبإمكان الإرهاب أن يخيف أي مرشح ، ومعظم الناخبين، ما لم يكن الأمن بيد أمينة. وأخيراً يمكن للأمن نفسه أن يتجسس على أي مرشح غير مناسب للإحتلال وأن يبتزه وأن يدبر له التهم الجاهزة أو الفضائح الكاذبة. فالأمن هو الجهة العصية على الديمقراطية، لأن الديمقراطية تعتمد على الشفافية، والأمن يستطيع التحجج بالسرية الخاصة به، للهرب من أية محاسبة ديمقراطية.

إنني أفهم الدوافع القوية للغضب وعدم الرضا للغالبية الساحقة من العراقيين، لكن التظاهر وإسقاط الحكومة المنتخبة، للأسف، ليست الطريقة المناسبة لحل تلك المشاكل، ولا تزيد الإشكالات إلا إشكالات أكبر، وتسير بالبلاد إلى الهاوية.
لطالما دعوت إلى أن يتعود الشعب التظاهر للإعتراض على ما لا يعجبه، مثل المعاهدة الأمريكية التي جاءت بشكل إجباري، أو ضد قانون نفط سيء، أو من أجل ديمقراطية أكبر، أما في هذه اللحظة الزمنية بالذات، والحكومة لم تبدأ عملها بعد، فمن يدعو للتظاهر، فهو أما شخص متحمس لا يدري ما يفعل أو شخص خطر يحاول خداع الناس. لذلك أدعوكم، ليس فقط إلى عدم المشاركة في هذه العملية التي لا معنى لها، وإنما إلى رفضها والعمل على توعية الناس بخطورتها وعدم صلاحيتها لحل المشكلات المعنية، وبالتالي فمن خطط لها لا يقصد حل تلك المشاكل على الإطلاق!


130

وهاهي حقيقة إرهاب تفجير الكنائس ومن يقف ورائها تتكشف!

صائب خليل
7 شباط 2011

كان للخبر وقع الصاعقة علي: "إحالة وزير الداخلية المصري السابق إلى نيابة أمن الدولة بتهمة التورط في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية!" وتأتي إحالة حبيب العادلي إلى النيابة بعد أن قدم المحامى ممدوح رمزي بلاغا للنائب العام يتهم العادلي بالتورط، والتسبب فى التفجير الذي أدى لمقتل 23 شخصا وإصابة 97 آخرين، وكاد يتسبب في فتنة طائفية في مصر. (1)

ويذكر هذا الحادث فوراً بحادثة كنيسة سيدة النجاة في العراق، والتي سنعود إليها، لكن لننظر في تفاصيل الخبر المصري أولاً..

التحرك المصري جاء كرد فعل (إجباري على ما يبدو) على فضيحة كان كشفها صدفة تعدّ من افضال الثورة المصرية علينا جميعاً، حيث أدى هرب سجينين من سجون الداخلية المصرية إلى إفتضاح قضية في غاية الخطورة.
وبدأت الفضيحة من الخبر الذي جاء أولاً من المخابرات البريطانية، تحت عنوان: "المخابرات البريطانية: الداخلية المصرية فجرت الكنيسة"، وجاء فيه أن دبلوماسي بريطاني كشف أمام الحكومة الفرنسية عن "سبب إصرار إنكلترا على المطالبة برحيل الرئيس المصري وفريقه، خصوصاً أجهزة وزارة الداخلية التي كان يديرها الوزير حبيب العدلي، والسبب هو أن المخابرات البريطانية تأكدت، ومن المستندات الرسمية المصرية الصوتية والورقية، أن وزير الداخلية المصري المقال حبيب العدلي كان قد شكل منذ ست سنوات جهازاً خاصاً يديره 22 ضابطاً، وعداده  من بعض أفراد الجماعات الإسلامية التي قضت سنوات في سجون الداخلية، وعدد من تجار المخدرات وفرق الشركات الأمنية، وأعداد من المسجلين خطراً من أصحاب السوابق، الذين قُسموا إلى مجموعات حسب المناطق الجغرافية والانتماء السياسي، وهذا الجهاز قادر على أن يكون جهاز تخريب شامل في جميع أنحاء مصر في حال تعرض النظام لأي اهتزاز.."

وبين الخبر أن الرائد فتحي عبد الواحد المقرب من الوزير السابق حبيب العدلي، قام بتحضير المدعو أحمد محمد خالد، الذي قضى أحد عشر عاماً في سجون الداخلية المصرية، ليقوم بالاتصال بمجموعة متطرفة مصرية، لدفعها إلى ضرب كنيسة القديسيْن في الإسكندرية، وقام أحمد خالد بالاتصال بـ (جند الله)، وأبلغها أنه يملك معدات حصل عليها من غزة يمكن أن تفجر الكنيسة لـ"تأديب الأقباط"، فأعجب محمد عبد الهادي (قائد جند الله) بالفكرة، وجنّد لها عنصراً اسمه عبد الرحمن أحمد علي، قيل له إنك ستضع السيارة وهي ستنفجر لوحدها فيما بعد، لكن الرائد فتحي عبد الواحد كان هو بنفسه من فجر السيارة عن بعد، بواسطة جهاز لاسلكي، وقبل أن ينزل الضحية عبد الرحمن أحمد علي من السيارة.

تم توجه الرائد نفسه فوراً إلى المدعو أحمد خالد، وطلب منه استدعاء رئيس جماعة (جند الله)؛ محمد عبد الهادي، إلى أحد الشقق في الإسكندرية، لمناقشته بالنتائج، وفور لقاء الاثنين في شقة في شارع الشهيد عبد المنعم رياض بالإسكندرية، بادر الرائد فتحي إلى اعتقال الاثنين ونقلهما فوراً إلى القاهرة بواسطة سيارة إسعاف حديثة جداً، واستطاع الوصول بساعتين ونصف إلى مبنى خاص في منطقة الجيزة بالقاهرة تابع للداخلية المصرية، حيث حجز الاثنين لغاية حدوث الانتفاضة يوم الجمعة الماضي، وبعد أن تمكنا من الهرب لجآ إلى السفارة البريطانية في القاهرة حفاظاً على سلامتهما، وقال الدبلوماسي البريطاني، إن القرار في تفجير الكنيسة جاء من قبل النظام المصري لعدة الأسباب أهمها:

1ـ الضغط الذي يمارَس على النظام من قبل الداخل المصري والخارج العربي والإسلامي لمواصلته محاصرة مدينة غزة، لذا فإن اتهام (جيش الإسلام) الغزاوي بالقيام بالعملية يشكل نوعاً من دعوة المصريين لاتهام "المسلحين" في غزة بتخريب مصر لكسب نوع من الوحدة الوطنية حول النظام القائم، وإيهام العالم الخارجي بأنه يحمي المسيحيين.

2ـ إعطاء هدية لنظام العبري في تل أبيب، ليواصل حصاره على غزة، والتحضير لعملية كبيرة عليها، وتأتي هذه الهدايا المصرية للكيان الإسرائيلي ليستمر قادة إسرائيل في دعم ترشيح جمال مبارك لرئاسة مصر في كل أنحاء العالم.

3ـ نشر نوع من الغطاء على النظام المصري داخل مصر يخوله الانتقال حينذاك من حمى تزوير الانتخابات إلى اتهام الإسلاميين بالتطرف والاعتداء على المسيحيين، لكي يحصل النظام على شرعية غربية بنتائج الانتخابات المزورة، وحقه في اعتقال خصومه، كما حصل بعد الحادثة، حيث بلغ عدد المعتقلين الإسلاميين أكثر من أربعة آلاف فرد.

وختم الدبلوماسي البريطاني أن نظام مبارك فقد كل مسوغات شرعيته، بل إن عملية "الكنيسة" قد تدفع الكثير من المؤسسات الدولية والأهلية إلى المطالبة بمحاكمة هذا النظام، ناهيك عما فعله بالشعب المصري طوال ثلاثين عاماً، والأهم ما قام به في الأسبوع الأخير. (2)

وكانت جهات إسلامية ومصرية عديدة قد اتهمت الموساد بالموضوع، ومنها مساعد وزير الخارجية السابق عبد الله الأشعل، والمفكر الإسلامي المصري الدكتور محمد سليم العوا الذي ذكر بأن أساس الخلاف وجود امرأة مسيحية اعلنت إسلامها وتعتقلها الكنيسة، لا أكثر بالنسبة للمسلمين. لذا فهو وغيره يؤكدون ضلوع الموساد الذي يستفيد من القضية بهذه الجريمة، إنما دون دليل. والآن وباعتبار العلاقة الشديدة القوة بين الحكومة المصرية وإسرائيل، فأن هذا مؤشر ممتاز أن المخطط لمثل هذه العملية والموجه للقائمين بها هو إسرائيل، خاصة إن تذكرنا أن التهمة وجهت فوراً إلى بعض الفلسطينيين في غزة، يعتقد بعلاقتهم بأسر شاليط! وغزة هي الخصم العنيد والعدو الأول لكل من إسرائيل والحكومة المصرية.
ولم يكن الخبر مستغرباً جداً بالنسبة لي، فلقد رفضت منذ زمن تصديق أن بين المسلمين والمسيحيين أية توترات تصل إلى أن يفجر أحد من أي من الطائفتين نفسه من أجل أن يقتل الطرف الآخر، حتى لو حدثت جرائم قتل بينهما في الماضي، فالإنتحار بالعدو يتطلب حقداً ويأساً لا تتوفر الظروف الموضوعية له إلا بين الفلسطينيين ومحتلي أرضهم والمتسببين في إذلالهم لأكثر من نصف قرن. ليس هناك توتر إجتماعي واسع ومؤسس يكفي لتربية مثل ذلك العنف الشديد، الذي يحتاج سنين طويلة وقاعدة شعبية واسعة. ونفس الأمر ينطبق في رأيي على "الإنتحاريين" (الذين أفضل تسميتهم "الملغومين") الطائفيين حسب قصص الإعلام بين الشيعة والسنة.

وبالفعل فأن العلاقة الطبيعية والجميلة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية في مصر تبينت بوضوح في التلاحم الرائع بينهما في مظاهرات ميدان التحرير، حيث وقفوا يصلون معاً أمام خراطيم مياه الأمن المصري قبل أيام، ووقفوا يؤدون القداس الكنسي والصلاة على روح الغائب معاً، أمس الأحد. إن السؤال الذي يثيره ذلك هو: لماذا لا تحدث مثل تلك العمليات الإرهابية إلا حيث تتواجد سلطة إسرائيلية أو أمريكية؟ لماذا لا يكون هناك أي أثر لتوتر ديني بين ملايين المتظاهرين؟

ويبدو أن التهمة شبه ثابتة على وزير داخلية مبارك السابق حيث قال المحامي الذي قدم البلاغ بأن "كمحامين لا نتقدم ببلاغ إلا إذا كان دليلنا بيميننا"، متوقعاً أن يأخذ الأمر وقتاً طويلاً.

إننا نرى أن كشف حقائق تفجير الكنيسة القبطية وفضيحة إدارته بهذه الطريقة من قبل حكومة تضع نفسها كدرع في مواجهة "الإرهاب الإسلامي"، حكومة هي أقرب الأصدقاء لأميركا وإسرائيل، وأشد الأعداء للإسلاميين يجب أن لا يمر مرور الكرام وأن يدافع المسلمون عن أنفسهم وقد كشفت الحقائق أمامهم. فالمنظمات المتطرفة المنفذة أو المشاركة في التنفيذ، موجودة في كل دولة، ومن الواضح من الخبر أنها كانت عاجزة عن القيام بالعملية وحدها وأنها لم تكن تمتلك حتى الأسلحة والمتفجرات اللازمة، وكل ما استطاعت تقديمه هو سائق سيارة، لم يكن يدري أنه سيتم تفجيره عن بعد، وهي الطريقة التي نعتقد أن معظم ما يسمى بالأعمال "الإرهابية" قد تم بواسطتها، وأن "الإنتحاريين" ليسوا إنتحاريين على الإطلاق، وأن كل القصص التي حاولت إشاعة الأكاذيب عن الكره بين الأديان وبين المذاهب الإسلامية والذي بلغ أن يفجر إنسان نفسه لمجرد قتل الآخر، قصص مشكوك في أمرها في أفضل الأحوال. إن هذا يستدعي مراجعة كل مواقفنا من كل التفجيرات الإرهابية في كل مكان وخاصة في العراق!

وكان كاتب هذه السطور قد اكتشف قصة ملفقة لرواية جريمة كنيسة سيدة النجاة في بغداد كتبها الصحفي فراس الغضبان الحمداني، وكانت مكتوبة بطريقة تخدم الإرهاب، وتحاول تصوير الحادث على أنه من عمل "المجموعات الإرهابية الإسلامية المتوحشة" التي تقتل بالسيف، دون أن يكون هناك أي أساس لتلك الرواية، بل بينت شهادات الشهود أنها كانت ملفقة تماماً. ورفض الغضبان أن يفصح عن مصدر قصته رغم الحاحي عليه، ورد بدل من ذلك بتهديدي، حتى عشائريا.
لقد كانت هناك مؤشرات عديدة أخرى بأن ما حدث في الكنيسة يلفه الغموض وأن المجرمين لم يكونوا يهدفون إلى ما ادعوا انه هدفهم من الحصول على الرهائن من أجل إطلاق سراح المحتجزين في الكنيسة القبطية المصرية، فقد تصرفوا بعكس ذلك تماماً. كذلك فأن هناك شبهات قوية بأنهم لم يفجروا أنفسهم. كما كان واضحاً من تحليل تصرفاتهم أنهم لم يكونوا يقصدوا الإنتقام ولا قتل أكبر عدد ممكن من المسيحيين، وإنما الحصول على أكبر عدد ممكن من المرعوبين الذين ينتظر منهم أن ينشروا قصة الرعب بين المسيحيين الآخرين وكذلك لإيصال صورة إرهابية عن المسلمين وعداءهم الجنوني للمسيحيين ، وهو ما اتجهت قصة الغضبان الملفقة تماماً إلى دعمه، مما كان مؤشراً بالنسبة لي بأن مصدر تلك القصة قد يكون له علاقة بمنفذي الجريمة أو مخططيها، وأن المجرمين ربما يكونوا قد تمكنوا من الخروج من الكنيسة مع الضحايا وبترتيب مع بعض من كان في الخارج. إلا أن احداً لم يحقق في أي من هذه النقاط حسب علمي، بل لم يطالب أحداً بذلك، رغم كل اللغو الكثير عن الحرص على الأمن وعلى سلامة المكون العراقي المسيحي، ولم يطالب بها لا المسلمون المتهمون دائماً بالإرهاب، دفاعاً عن براءة أبناء دينهم منه ، ولاحتى المسيحييون اصحاب الضحايا انفسهم!

وليست هذه هي المرة الأولى التي يكاد الإرهاب فيها يفضح نفسه وينكشف ويتم الإمساك به متلبساً، دون أن تتخذ الإجراءات اللازمة المناسبة.
ففي عام 2006 تم القاء القبض على جنديين بريطانيين متنكرين بزي رجال دين شيعة في سيارة قرب حسينية في البصرة، وهم يوشكون على تنفيذ عملية تفجير في الحسينية، وأمسك بحوزتهم أجهزة تفجير عن بعد، تذكر المرء بعملية التفجير عن بعد التي قام بها الرائد فتحي عبد الواحد لـ "الإنتحاري" والكنيسة. وفي البصرة تم طمطمة الأمر بشكل غريب. وليست هذه إلا الحادثة الأكثر وضوحاً في تاريخ العمليات الإرهابية التي تشير إلى أن من يديرها هي قوات الإحتلال وتوابعها، وتم إهمال ذلك تماماً.

أن وجود اتصال بين الداخلية المصرية و "منظمة" قد لا تكون أكثر من حفنة من المعتوهين الذين لا يخلو منهم أي شعب، ويرتبط إسمهم بالإسلام المتطرف، وكذلك تحضير القائمين بالأعمال الإرهابية في السجون، يذكرنا بالقصص المشابهة في العراق، حيث كانت هناك سجون أمريكية نشرت عنها أخبار عديدة عن تحضير إرهابيين، وإمساك إرهابيين كانوا قد "أطلق سراحهم" من تلك السجون قبل فترة قصيرة من قيامهم بالعمل الإجرامي.

لقد تسببت خيبات الأمل العديدة التي أصابتني في كل مرة تفتضح فيها حقيقة جديدة دون أن يكون هناك رد فعل من الحكومة أو المؤسسات والمنظمات العراقية أن كتبت مقالة قبل عامين ونصف بعنوان: "أما حان الوقت لننظر بشجاعة إلى الإرهاب في عينيه؟ "  (7)، كتبت فيها مراجعة لحوادث إرهابية عديدة في العراق، ومما جاء فيها:

"قبل 40 يوماً أعلن الرئيس اليمني أنه أمسك خلية أرهابية مرتبطة بإسرائيل في اليمن، (*)
هل تذكرون ذلك؟ هل يذكر أحد ذلك؟ هل تساءلت صحيفة عن الحقيقة، هل تابع صحفي، ولو ممن يبحثون عن الشهرة، الموضوع؟ هل كتب احد في الإنترنيت عن الموضوع؟ لو كان المجرم مجهولاً ألم تكن ستسطر له عشرات المقالات في تهم جاهزة عن "الطائفية" و "المتطرفين" و"الإسلاميين" دون ألحاجة لأي دليل أو حتى مؤشر، فلماذا الصمت حتى عندما تكون هناك أدلة أو مؤشرات قوية على الأمريكان والإسرائيليين والبريطانيين؟ (**)
قبل نصف سنة، بالتحديد في 14-3-2008 قدمت قناة "ألعربية" برنامجاً بعنوان " صناعة الموت: مَن يحكم السجون الأمريكية في العراق؟" (***)  وتحدث فيه "عماد الجبوري" وهو معتقل سابق تعرض لإعتداء في سجن بوكا، عن أمور في غاية الخطورة إن صحت فهي تثبت أن ما يجري في تلك السجون هو تدريب فرق الموت التي تقتل الناس بوحشية لم يعرفها مجرموا العراق سابقاً. الا يستحق هذا التحقيق؟ "

هذا السؤال الكبير المتمثل في عنوان المقالة مازال في مكانه للأسف، واليوم يأتي هذا الخبر ليثبت الشبهات التي أشرت إليها حول قصة كنيسة سيدة النجاة وتجدونها في روابط مقالاتي عن الموضوع أدناه، وهنا أدعو الحكومة من جديد، وبإصرار هذه المرة، إلى التحقيق في الموضوع، وأدعو ذوي الضحايا وكل الشرفاء إلى الضغط على الحكومة لتقوم بتحقيق ذو مصداقية، لقصة الأجهزة المزيفة لكشف المتفجرات والإرهاب الإسلامي وكل خرافات القاعدة والزرقاوي وغيرها، ونقول كفى ضحكاً علينا وتجاهل الدماء، فرائحة قصة "الإنتحاريين الإسلاميين" فاحت وأزكمت الأنوف، والفضيحة بلغت حداً من الوضوح صار السكوت عنها فضيحة أكبر من الفضيحة نفسها!!

(1) http://www.aljazeera.net/NR/exeres/24764930-5733-42DA-A0A8-00586C105984.htm?GoogleStatID=9
(2)  http://www.tayyar.org/Tayyar/News/PoliticalNews/ar-LB/egypte-pb-679657980.htm
(3) مجزرة "سيدة النجاة": نقاط مريبة !
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20785
(4) يا فراس الغضبان الحمداني: نريد أن نعرف من اين لك القصة الملفقة عن قطع الرؤوس؟
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20899
(5) متى يكون الذبح مختلفاً عن القتل بالرصاص؟
http://www.saotaliassar.org/Writer/Saaieb%20Kalil/KirchenTerror03.htm
(6) رسالة إلى آدم الذي فاتنا أن نعلمه الخوف
http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=40500
(7) http://igfd.net/?p=2309
(*)   http://news.bbc.co.uk/go/pr/fr/-/hi/arabic/news/newsid_7655000/7655957.stm
(**)   أرهاب بريء من الطائفية
       http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=87126
(***)  http://www.alarabiya.net/programs/2008/03/16/47014.html


131
عشرة أيام عربية .. مازالت تهز العالم!


صائب خليل
5 شباط 2011

أتصل بي صديقي الكاتب المثقف عدنان عاكف، وقال: "الآن فقط أحسست أن لحياتي معنى"! وأسرني بفكرة عنوان هذه المقالة. قال أن ظروفه الصحية لا تتيح له أن يكتبها، وأنه يرسل تحياته الى الشعبين الرائعين التونسي والمصري، ولكل من فرح لهما.
نعم، ان "أيام الغضب الثوري الحضاري" التي تمر نسائمها المنعشة على المنطقة منطلقة من تونس ثم أم الدنيا، مصر، تذكر المرء برواية جون ريد الخالدة "عشرة أيام هزت العالم" والتي تتحدث عن الأيام الأولى من الثورة الإشتراكية، وترجمتها كروبسكايا، زوجة لينين، الى الروسية وقالت عنها "إن كل هذه اللوحات المرسومة بدقة تعبر عن مشاعر الجماهير" (الكتاب هنا (1) )

ولم يكن بالإمكان لأية لوحات مهما بلغت دقتها، أن تعبر عن مشاعر الجماهير العربية وأمنياتها في كل القيم الإنسانية والقومية والإجتماعية والحضارية، بأفضل ما عبرت تلك التظاهرات الرائعة والمستمرة، وهي تهتف في ميدان التحرير: "بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" وتحس بمعناها لأول مرة منذ عقود!
الأمر الذي أعطى هذه التظاهرات المليونية أهميتها العظمى هي أنها كانت ترد، وبالجملة، على كل الإتهامات وكل الهجمات على المواطن العربي، من أنه خنوع، عنيف، متخلف سياسياً، متخلف إجتماعيا، فوضوي، ناقص الوعي، غير قادر على التنظيم...فمن له بعد ذلك أن لا يقدس ما يرفع عنه كل تلك الأثقال بضربة واحدة؟ ضربة حضارية ثورية رائعة!
لقد كانت رائعة بشكل خاص، لأن الحكم في مصر، لم يكن يستحق أية معاملة حضارية، فقد تعامل مع شعبه بهذا الشكل الوحشي.(2) التحية جاءت ليس من المصريين والعرب فقط بل أيضاً وبحماس تام من القوميات الاخرى في الإقليم (3) (4) فالموضوع ليس قومياً، بل وجاءت أيضاً من العالم كله (5)

لم تشهد المظاهرات حرق الاعلام والهتاف ضد امريكا لا في تونس او الجزائر، بالرغم من الإحساس الشديد بالمرارة الذي يلف المتظاهرين بلا شك تجاهها وتجاه إسرائيل، وهو ما عبروا عنه في مقابلات صحفية، لكن عدم عرض تلك الإعتراضات بشكل عنيف واستعراضي، فوت الفرصة على من يتربص بهم لإتهامهم بمختلف التهم، وبذلك كان عملهم تعبير رائع عن المثل المصري الذي لا يقل روعة : "أمشي عدل، يحتار عدوك فيك"!
لكن "المشي عدل" لم يكن كافياً، حتى لو كان "على السراط المستقيم" كما فعل المتظاهرون، فالذين تربصوا بالثورة من أنظمة أمنية مرتبطة بدوائر خبيرة وخبيثة، تبحث عن أي أعوجاج مهما كان طفيفاً لإستغلاله، فإن هي لم تجد الإعوجاج اللازم، خلقته، وهي تردد "إن لم نجده عليها إخترعناه". ورغم عدم وجود أي دليل فأن تلك الأجهزة لم تتردد في نسب الثورة إلى "جهات أجنبية معروفة"، وتلك الجهات طبعاً هي إيران وسوريا والفلسطينيين وحزب الله، خصوم إسرائيل في المنطقة، مضافاً إليهم ضيف جديد هو أميركا!
كتبت 'الأخبار' عن "المؤامرة الأجنبية الخطيرة لضرب استقرار مصر" أنه "تم القبض على 40 سوريا وفلسطينيا في داخل ثلاث سيارات ميكروباص في دمنهور كما تم القبض على أربع فلسطينيين حاولوا إثارة الجماهير بوسط القاهرة وتوزيع منشورات تحث على التخريب. كما شهدت منطقة بولاق أبو العلا محاولة لإطلاق النار من سبع أجانب وعرب بينهم اثنان ملامحهما إيرانية وتمكنت اللجان الشعبية من ضبطهم وتسليمهم للجيش وضبط الأهالي أيضا ثلاثة يمنيين معهم أسلحة أمريكية."

وكما يخوف الغرب العالم من "الإرهاب" فأن مبارك حذر الغرب من أن الديمقراطية التي يطالب بها لمتظاهرون ستعني حكم الأخوان المسلمين، وذلك لن يناسب إسرائيل! وخلقت صحف اخرى تهماً اخرى للأخوان فاتهمتهم "المسائية" بأنهم يجبون الجباية الإجبارية من الناس وتحت التهديد، لدعم المتظاهرين!

ولم يكتف الجهاز الأمني الإعلامي بحملات الأكاذيب الفاشلة، بل تعامل بالعنف الشديد وكان يهدف على ما يبدو إلى دفع المتظاهرين إلى ارتكاب العنف لكسب مصداقية لتلك الإتهامات. وكانت المحاولات الأولى هي عمليات دهس للمتظاهرين بواسطة سيارات أمنية او مجهولة في شوارع المدن المصرية، وبوحشية متميزة! (سيارة شرطه تدهس متظاهرين في مصر (6)  سيارة دبلوماسية تدهس المتظاهرين  مصر (7) )
وكذلك قام "الحزب الوطني" (وهو ما يدعوه المتظاهرون "الحزب الواطي" ويشابه "حزب البعث" في العراق حين تحول إلى فرق أمنية تراقب وتعذب الشعب لحساب الدكتاتور) بهجوم على المتظاهرين، أدى إلى قتل وجرح عدد كبير منهم، وبطريقة "مبتكرة" شبهها البعض بأنها "قادسية" مبارك! لما استعمل فيها من جمال وخيول، وصارت سبباً في كسب الحزب الذي افتضح دوره من خلال الذين أمسك بهم من المهاجمين، للإستهجان، وتعريف العالم به، فالمصريون كانوا يعرفونه على اية حال. جهاز مبارك حاول تصوير "البلطجية" بأنهم متظاهرين مؤيدين له، بينما شبهت كاتبة عراقية الهجوم بأنه "عودة الهجانة" (8) ووصفها كاتب آخر بأنها "معركة القادسية التي قادها الحزب الوطني الحاكم لانتزاع قلعة ميدان التحرير، وتحريرها من الأعداء، حيث دفع في مقدمة الجيش بالفرسان على ظهور الجمال والخيول والبغال، ونسي الحمير وخلفهم المشاة المسلحون بالسكاكين والطوب.. ثم استخدم المنجنيق - أي زجاجات المولوتوف" مما أدى إلى "سقوط قتلى ومئات الجرحى من المدافعين عن قلعة التحرير، فقد تمكنوا من صد المهاجمين وأسروا منهم الكثير" مما أدى إلى فضح ارتباطهم بـ "جيش الحزب" وهتف المتظاهرون على دقات الطبول: "وكسبنا الجولة ومعاهم أمن الدولة". وبالفعل كانت تلك "القادسية" كارثة إعلامية لمبارك ورفقته، وعلى مستوى العالم، ليس لوحشيتها فقط بل لإفتضاح ما وراءها وكتب أحمد أبو حجر:'قام رجال الحزب الوطني بتحديد التسعيرة التي اختلفت حسب المنطقة، " فبعضها كان "مقابل عشرين جنيها بالإضافة لوجبة غذائية ويتم نقلهم في أتوبيس نقل عام لتوزيعهم على مسيرات بشارع جامعة الدول العربية، وأمام مبنى التليفزيون وفي عين شمس والمطرية قامت أتوبيسات سياحية بنقل المتظاهرين لميدان التحرير" ، وقام "سلاح البحرية المملوك للحزب" باستعراض في النيل ونشرت 'الأخبار' صورا لأربعة مراكب عليها يافطات مكتوب عليها، نعم لمبارك، وتحتها جملة: المواطنون خرجوا في مراكب نيلية لتأييد الرئيس.
وقال الممثل المصري المعروف خالد النبوي، ان مؤيدي مبارك أعطوا صورة سيئة لمصر بعد الصورة الحضارية التي قدمتها مظاهرات معارضيه. وقال النبوي: 'من دخلوا بالجمال لميدان التحرير يعيدوننا لعصر الباشوات'.
وحول التدخل الامريكي المطالب بانتقال سريع للسلطة قال النبوي: 'حتى إن عارضنا النظام فلا نرضى تدخل أمريكا فى رحيله، ويكذب من يقول ان أمريكا تريد رحيل النظام، لأن القنابل المسيلة للدموع من صنع أمريكا أصلاً'. (9)

 وكذلك فشلت حملات الإغتيالات بواسطة القناصة الذين استهدفوا البعض من المتظاهرين الأكثر نشاطاً، في الحصول على أي تأثير. من يرى كل ما قابلت هذه الوحشية الشعب المنتفض من قسوة وما تسببت به له من ألم، وما واجهت انتفاضته به من أساليب غير معروفة اللا انسانية مثل الدهس المتعمد الجماعي بالسيارات، لا يمتلك إلا أن ينحني لهذا الهدوء والصبر والإنظباط في رد الفعل، والإصرار على الإحتفاظ بالهدف المركزي، تبديل النظام، وليس الإنتقام، أمام عيون المنتفضين. أن من مازال بعد كل هذا يتحدث عن فوضى وعن تخريب إنما يعاني من مرض مزمن ثابت في الضمير تجاه العرب أو المسلمين أو أية جهة يرى المنتفضين جزءاً منها، ولا أمل بإرضاء هؤلاء. من لم يقف مع هذا الشعب بكل قلبه وعواطفه كما فعل شاعر العراق الكبير يحيى السماوي (10) حين قال وبلا تردد أو تلكؤ أو "ولكن"، فعلى ضميره أن يقدم حساباً للإنسانية.

مقابل هذه الوحشية للحكومة المعتدلة المثالية، عبر المتظاهرين عن روحهم المرحة وإصرارهم على أهدافهم سلمياً، كما عبرت عنها شعاراتهم التي لا ينقصها الظرف أيضاً، فكتببوا وهتفوا: متعبناش متعبناش .. الحرية مش ببلاش، مبيفهمش بالعربي، كلموه بالعبري، غور!، ارحل إرحل ياسليمان إرحل إرحل إنت كمان، هنخلعك يا مبارك،.. أرحل.. أرحل.. مش عايزينك، مش حنمشي...هوه يمشي، وحتى بالإنكليزي هتفوا: GO AWAY GO AWAY
لكن مبارك لا يفهم حتى بالإنكليزي، لذلك قالوا له مبيفهمش بالعربي، كلموه بالعبري،..وحتى حين يذكره البعض بنصائحه للغير، حين يدعوا صدام أن يستقيل ولا يدمر البلد، فكان بذلك رمزاً للنفاق بأوضح معانيه! (11)

التظاهرات عدت واحدة من أكبر الإستفتاءات الشعبية في التاريخ، سواء تلك التي جرت في تونس أو في مصر. لقد حاول النظام وأفواهه أن يحيدوا الإستفتاء. قالوا أن مصر ليست ميدان التحرير فقط، وليست القاهرة فقط. ثم قالوا أنه مقابل البضعة ملايين التي خرجت في مصر هناك عشرات الملايين التي لم تخرج، وهي من وجهة نظرهم، المؤيدين لمبارك. ثم أرسلوا "هجانتهم" وقالوا أنظروا، هؤلاء الآلاف مؤيدين للرئيس مبارك.
ولننسى الهويات الأمنية التي برهنت أن الجلاوزة مرسلين من الحكومة نفسها، ولننس قنابل المولوتوف والقنابل المسيلة للغاز التي يحملها هؤلاء الناس، ولنقل أنهم يمثلون المؤيدين لمبارك، فما هي الصورة التي يكشفها لنا هؤلاء عمن يؤيد مبارك من أخلاق؟ وإذا كان جماعة مبارك يقارنون بضعة ملايين متظاهر كأقلية أمام بقية سكان مصر، فأن ذلك يتيح لنا ان نقول أن هؤلاء الذين لا يزيدون عن الفاً أو الفين هم أقلية تافهة، ليس مقابل من "لم يخرج من بيوتهم" بل حتى أمام من خرج متظاهراً ضد مبارك، فنسبتهم أقل من مؤيد واحد له مقابل أكثر من ألف شخص معارض يخاطر بحياته من أجل التخلص من حكمه.
 
البعض قام بإحراق الغاز الذاهب إلى أعدائهم ، "عمليات تخريب" قال عنها البعض، وإهدار للثروة، ولم يقل بأن هذه الثروة تذهب بأقل من كلفتها وأن الشعب المصري الذي يعاني نفسه من نقص كبير في الطاقة، إنما يتحمل الفرق بين سعر الغاز المصدر وكلفة إنتاجه الأعلى. أي أن إحراق الغاز هذا يوفر لمصر بعض المال! هذه هي المهزلة التراجيدية التي تحيق بالبلاد عندما يحكمها دكتاتور "صديق" لإسرائيل وأميركا! أميركا "تتبرع" بمليار ونصف مليار دولار تقريباً للنظام المصري في العام، لكنه في الواقع ليس سوى تبرع لإسرائيل يوفر لها ما يقدر بـ 20 مليار دولار من كلفة الجيوش التي تحتاجها للجبهة المصرية لإدارة سياسة احتلالها وعدوانها المستمر على حقوق الشعب العربي. والمبلغ يذهب معظمه إلى صفقات سلاح لا معنى لها، ولا يستفاد منها إلا في حالة أن تقرر إسرائيل أو أميركا توريط أصدقائها في حروب ضد خصوم إسرائيل وأميركا، أما الباقي فيذهب إلى "عز" وأمثاله.
ورغم أن الشعب المصري لا يصيبه شيء من هذا المبلغ، فهو يدفع أضعافه إلى إسرائيل من خلال صفقات تجارية خاسرة، والغاز وحده يعيد ضعف ذلك السعر إلى إسرائيل، حيث يباع بثلث السعر العالمي، مما يكلف مصر 3 مليارات دولار في العام الواحد!
أن مثل هذه السياسة من الدكتاتور "المعتدل" صديق إسرائيل لا بد أن تكافأ، لذا لا غرابة أن تقدر ثروة مبارك وعائلته وفق الغارديان بأنها قد تصل إلى 70 مليار دولار تنتشر في مختلف أنحاء العالم، مما يزيد عن ثروة بيل كيتس كثيراً، في الوقت الذي يسكن فيه الكثير من المصريين في المقابر، ويعيش 40% منهم تحت خط الفقر.

نتنياهو يدرك ان نجاح الثورة وسقوط مبارك لا يعني فقط نهاية الغاز الأرخص من المجاني لإسرائيل بل يعني أيضاً نهاية كل ما بنته اسرائيل وامريكا على مدى ثلاثين عاماً من الاذلال وقتل روح الكرامة لدى الانسان العربي. لذلك فهو يتحدث للمرة الاولى عن رفع المسؤولية الاسرائيلية عن قطاع غزة وتركها لمشاريع دولية حول الصرف الصحي والكهرباء والماء، وتعزيز الوضع الاقتصادي لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية.
الصحف المصرية والشخصيات لم تعد تدري أي موقف تتخذ، فالخوف لم يعد مرشداً كفوءاً لأنه صار يأتي من الجانبين.
الفوضى والتردد واضحة في مواقف الصحف الحكومية المصرية لأن المحررين ما عادوا متأكدين من بقاء النظام، كما أشار أحد الصحفيين المصريين.
إشعاعات الثورة أصابت بقية حكام العرب دون استثناء، فالرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة يقرر رفع حالة الطوارئ، ويتعهد باصلاحات.. والرئيس اليمني علي عبدالله صالح يعلن انه لا يريد ان يبقى رئيسا مدى الحياة او يورث الحكم لابنه.
ومن الأزهر "الشريف" التابع للموساد، خرج رجل شريف لأول مرة منذ زمن طويل، فاستقال
محمد رفاعة المتحدث باسم مشيخة الأزهر الناطق باسم الأزهر من وظيفته حتى لا تحسب تصرفاته على المشيخة ، ونزل مع المتظاهرين في ميدان التحرير وقال أنه سيظل يساندهم بكل ما أوتي من قوة ، ولن يترك الميدان إلا برحيل مبارك.
فرنسا والغرب وأميركا الذين انتظروا كثيراً على أمل أن يقضي صديقهم بن علي على شعبه الثائر، لم ينتظروا كثيراً لإعلان موقف معتدل هذه المرة في قضية مصر. ومن الممتع أن فرنسا التي عرضت على بن علي المساعدة لقمع التظاهرات، اوقفت بيع الأسلحة إلى مبارك!
وكتب صحفي أن "الولايات المتحدة تتخلى بكل سهولة عن رجالاتها، وترفض ان توفر لهم الملاذ الآمن بمجرد ان ....تعتبره عبئا ثقيلا عليها تريد الخلاص منه"، وكتب شافيز عن الولايات المتحدة المتقلبة حسب مصالحها.

لكن المعارك لا تكسب بسهولة، وكالعادة تكاثرت المؤامرات. ومن المؤامرات التي حاولوا بها اغتيال الثورة، اصطناع علاقة "رقيقة" خطرة مع الجيش، وانطلت الحيلة في البداية، وكتبت عن الموضوع محذراً من الإسترخاء بدون مناسبة ولا ضمان لحماية الجيش. وبالفعل انسحب الجيش الذي اريد له هذا الدور في اللحظة المناسبة ليتيح الفرصة لمفاجأة المتظاهرين، على أمل أن تصيبهم المفاجأة بمقتل. لم تنجح. وهاهو الآن لواء من الجيش "يطلب" من المتظاهرين إخلاء الميدان، وكأنه قائد ثوري عليهم احترامه! أجابه المتظاهرون بالهتاف بسقوط الرئيس!
الدكتور عزمي بشارة ذهب إلى ما ذهبت إليه، وقال أن الإعتماد على الجيش بهذا الشكل ليس سليم فهو جزء من النظام، ولم يتم وضعه أمام الخيار الحدي، كما فعلت الجماهير في تونس، بل يترك الأمر له لكي "يعي مسؤوليته"، معبراً عن شكوكه بهذا الأسلوب.
لذلك نقول أنه ربما كان ما نقلته 'الغارديان' عن مصدر 'غربي' قوله ان قادة الجيش هم اصدقاء منذ زمن طويل" تصور أقرب إلى الواقع، مع بعض الإستثناءات بلا شك. (12) وفي كل الأحوال لا يفترض بالثورة أن تركن إلى الثقة بلا أساس.
ومن المحاولات اليوم، ما يسمى بلجان 'الحكماء' الذين ينشطون هذه الايام ويدعون انهم يمثلون طرفاً ثالثاً، ويعرضون حلولا ومخارج وسطية. هؤلاء يحاولون انقاذ النظام وليس مصر، ونسبة كبيرة من هؤلاء خدموا النظام الحالي مثلما خدموا انظمة سابقة، اي انهم رجال لكل العصور، كما وصفهم البعض.
هذا النهب المفرط الذي لا يترك للمواطن أن يحس بأنه يمتلك وطنه، بل لا يحس أنه يمتلك شيئاً منه سوى الظلم. لكن الأمر تغير بالنسبة للمنتفضين، وصار لديهم شعور جديد. أبلغتني زميلة من تونس بأن طفل في الخامسة قال بأنه يشعر لأول مرة بأن نشيد العلم في الصباح صار له معنى. ويمكنك أن ترى في وجوه المتظاهرين في ميدان التحرير علامات الكرامة التي حرم العربي منها طويلاً إرضاءاً لإسرائيل التي لا تجد أمن احتلالها إلا بإذلاله. لقد تمكن هؤلاء الشباب من تنظيم الحراسة والتصدي للجلاوزة وتأمين الضرورات الكبيرة لتظاهرات مليونية، من ماء وطعام ودواء وصرف صحي. إن تلك القدرات التنظيمية تؤشر بوضوح أي مستقبل ينتظر الأوطان حين يقوم عليها أناس يشعرون بان هذا الوطن وطنهم وليس سجناً للأشغال الشاقة المؤبدة لهم. إنه شعور لم يتمتع به الكثير من الناس في العالم منذ ولادتهم، وربما حتى وفاتهم.
 أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا والناشط السياسي أسعد أبو خليل يكتب:
"مَن كان في جيلي، مَن كان في سن السابعة عام 1967، حفرت خطبة الهزيمة لعبد الناصر في عقله ونفسه حفراً وجروحاً لا تندمل. يذكرُ مَن مِن هذا الجيل الكبار حوله وهو صغير غارقين في بحرٍ من الدموع، ويذكر أيضاً السخرية المرّة التي صاحبت رؤية العرب للإعلام الرسمي الكاذب. وتوالت الهزائم وتوالت الإحباطات، إلى أن تسنّى للولايات المتحدة الإطباق على النظام العربي الإقليمي عبر تحالف وثيق مع السعوديّة والنظام المصري بعد وفاة جمال عبد الناصر. هنا، تحوّل النظام المصري إلى صلب السياسة الأميركيّة في منطقتنا، وبات الحفاظ على النظام المصري ثاني الأولويّات الاستراتيجّية للإمبراطور الأميركي".. "تريد إسرائيل من مبارك أن يحتفظ بعرشه حتى آخر مصري. لا يساورنّك شك: إنّ إسرائيل هي لوبي حسني مبارك في قلب واشنطن: هي أكثر حرصاً على نظامه من واشنطن."
ويكتب الدكتور أسعد أبو خليل أن إلينا روس ــ ليتينن، رئيسة لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس النوّاب (وهي من أكثر كارهي العرب تعصّباً في الحلبة السياسيّة الأميركيّة) كانت أكثر صراحة إذ قالت: «على الولايات المتحدة التعلّم من أخطاء سابقة وأن تدعم تلك المسيرة التي تضم فقط هؤلاء المرشحين الذين تتوافر فيهم مقاييس زعماء الدول المسؤولة، أي المرشّحين الذين يدينون علناً الإرهاب ويحترمون حكم القانون ويعترفون بارتباطات مصر الدوليّة بما فيها التزامات عدم انتشار الأسلحة واتفاق السلام بينها وبين الدولة اليهوديّة في إسرائيل، والذين يضمنون الأمن والسلام لجيرانهم». فيلدَوِّن الشعب العربي تلك الأوامر بحذافيرها لأنّ أميركا تختار بيننا من يلائمها في حكمِها لنا،(13)
ويلاحظ أن "أسبوع واحد من الاهتزاز في النظام المصري أعطى دروساً بليغة للشعب العربي عن درجة التدخّل الإسرائيلي في حياته الخاصّة" وأنه "لم يعد ضلوع إسرائيل في حماية الطغاة العرب اتهاماً يرد في بيانات كانت تُوزّع في شوارع ضيّقة."
ما العمل الآن؟ أن انتظار الحل ليس سليماً، ولا ينتظر من أمثال مبارك ونظامه أن يترك الكرسي حرصاً على حالة البلاد، لذلك أقف مع السيد مهند السماوي حين يقول:"المطلوب الان الزحف على قصور الطاغية ومراكز قوته وارغامه على الخروج بالقوة ولو ادى ذلك الى الزحف المليوني". (14)

لكن الأخبار تؤكد ان الحيلة لم تنطل، وأن الجهات المختلفة في ميدان التحرير تمكنت من الوصول إلى توحيد في الرأي وتشكيل مجموعة مطالب محددة وسياسة محددة لإدارة المعركة.
ومن الصور الأجمل التي بقيت ناصعة في ذاكرتي من هذه الأيام المقدسة، صورة المسيحيين يلتحقون بجمع من بالمسلمين وهم يصلون في مشهد رائع، بمواجهة خراطيم المياه، واليوم وصلنا خبر قرار المسيحيون أن يقيموا قداس الأحد القادم في ميدان التحرير! هل من سوف يحدثنا عن هراء الصراع بين المسملين والمسيحيين في دولة ليس لإسرائيل أو أميركا فيها موطئ قدم؟
إنها أيام مباركة هزت الكثير... أيام هزت العالم، وأيقضته، وما تزال تهزه بقوة – بحضارة وصلابة!

وأترككم مع أبيات من رائعة الشاعر الكبير يحيى السماوي التي يدعو فيها ثوار مصر وتونس أن يكونوا صخوراً صلبة وليس أعناباً طرية، لتصل الثورة إلى نتيجتها المرجوة:

واسْـــحَـقْ بـنـعــلِـكَ كـلَّ مُـعْـتـسِـــفٍ     واسْـــتـأصِـلـنَّ الــرأسَ لا الـذَنــبـــا
واجْـعــلْ لـســيـفِــكَ كــلَّ طـاغــيــةٍ      غِـمـداً .. وجُـزَّ الـعـنـقَ والـعَـصَـبـا
كُـنْ صـخــرةً تُـدمـي فــحـاكـمُــنـا     يـخـشى الـصخـورَ ويعـصـرُ العِـنـبـا
وكـنِ الــسّـــيـولَ .. فــإنَّ ســاقــيــةً   أو جـدولاً لــن تـجـرفَ الـنُّـصُـبـــا
وكـنِ الـعـواصَـفَ لا نـسـيـمَ صَـبـاً   كـن غـابــةَ الــنـيــرانِ لا حَـطـبـا
وأعِـدْ " ربـاط الـخــيــلِ " لا كـتُـبـاً   تــسْــتـرحِـمُ الــجَـــلادَ أو خُـطــبـــا
واسْــحـقْ نـفـوســاًغـيـرَ طـاهـــرةٍ   أضْـحــتْ لــرأسِ خـطـيــئـةٍ ذنَــبـا
إنْ لـمْ تـبـثِّ الــرُّعــبَ فـي دمِــهِــم   ســتـظـلّ طـولَ الـعـمـرِ مُــرتـعِــبـا

(1) http://www.mediafire.com/?dobt75k2361t008
(2)  http://www.youtube.com/watch?v=uEQH8LedGDc
(3) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=43269
(4) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=43315
(5) http://www.youtube.com/watch?v=8HaNnp8TSRQ
(6) http://www.youtube.com/watch?v=Dm-hfoglbCc
(7) http://www.youtube.com/watch?v=8C7ySiqbZgo
(8) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=43569
(9) http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\04qpt910.htm&arc=data\2011\02\02-04\04qpt910.htm%20%20target=_self
(10) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=43543
(11) http://www.arabs48.com/?mod=articles&ID=77998
(12) http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\04qpt951.htm&arc=data\2011\02\02-04\04qpt951.htm%20%20target=_self
(13) http://www.al-akhbar.com/node/3670
(14) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=43623


132
هذا الرجل لا يمثل العراقيين يا إخوتنا في مصر...!!

صائب خليل
3 شباط 2011

وأنا مشغول مثل باقي كل الناس في المنطقة والعالم كله، بمتابعة الملحمة البطولية غير المسبوقة التي تجري في مصر، والهبة الرائعة للشعب المصري المطالب بحريته من الدكتاتورية القبيحة التي الهبت ظهره بالسياط 30 عاماً، وأتساءل لماذا لم تعلن الحكومة العراقية موقفاً صريحاً مع هذا الشعب البطل المحاصر في ميدان التحرير، متألماً للمؤامرات الدنيئة التي تحاك ضدهم وهم يتقون الحجارة والقنابل الحارقة التي تلقيها قوات الشغب وبلطجية النظام عليهم، وإذا بي أقرأ، وببالغ الألم والدهشة هذا الخبر:
تلقى الرئيس المصري حسني مبارك اتصالا هاتفيا اليوم من الرئيس العراقي جلال طالباني .
وذكرت وكالة انباء الشرق الاوسط ان الرئيس العراقي أعرب خلال الاتصال عن التطلع لتخطى مصر الأحداث الراهنة وثقته في قدرة الرئيس مبارك على ضمان واستقرار المجتمع المصري.(1)

مبارك يضمن استقرار المجتمع المصري؟ مبارك القميء؟ مبارك الذي حاصر غزة من الجنوب ليتم الحصار الذي فرضه عليها الإحتلال الإسرائيلي من الشمال؟ مبارك الذي باع غاز بلاده بثلث سعره لإسرائيل، وأبناء مصر يبردون في الشتاء ويقتلهم حر الصيف ولا يشبعون بطونهم يوماً؟ مبارك الذي بقي خانقاً لبلاده 30 عاماً وكان يريد توريثها لإبنه، "يضمن استقرار المجتمع المصري" يا طالباني؟

أحبتنا وأخوتنا المصريين، هذا الرجل لا يمثلنا نحن العراقيين، لا العرب منا ولا الأكراد، فلقد قرأت لكتاب أكراد يحيون ثورتكم بمثل ما حييناها وأجمل، ولم أقرأ مقالة واحدة تشبه ما ذهب إليه هذا الرجل من موقف مخجل. إنه رجل ذو تاريخ مخجل وحاضر مقلق. إنه لا يرتبط بالعراقيين لا عرباً ولا أكراداً، فهو الذي أقام للعرب مذبحة بشتاشان، وللكرد كان يختار أقبح جلادي الشعب العراقي في الفترة السابقة لينصبهم مستشارين أمنيين لنفسه متحدياً كل الضحايا الذين سقطوا على أيديهم من الشعب الكردي نفسه. إنه رجل ترك البعض من أكبر مجرمي البعث يهربون من سجون كردستان، وهو الذي لم يكن يفوت فرصة لمصافحة أي مجرم إسرائيلي يمر به لأية حجة وباستهانة واحتقار لمشاعرنا جميعاً. إنه الرجل الذي لم يستيقظ ضميره بالإمتناع عن توقيع الإعدام إلا أمام المجرم الكبير صدام حسين وبقية شلته ذات الجرائم الإنسانية الكبيرة بحق جميع فئات الشعب العراقي، لكنه لم نسمعه يفتح فمه بكلمة عن الإعدامات بالمئات التي أعلنتها الحكومة بعد ذلك بتهمة الإرهاب ودون محاكمة علنية.

هذا الرجل لا يمثلنا يا أخوتنا المصريين، لا كعرب ولا كعراقيين ولا كإنسانيين. فلم يبق أحد لم يدن النظام المصري ولم تبقه جهة لم تخجل من دعم مبارك حتى تلك الجهات المنافقة عديمة الأخلاق والمبادئ التي تريد دعمه، حتى هذه خجلت من دعمه وطالبت بتغييره في النهايةعدا جهة واحدة فقط لا غير، وهي إسرائيل، وليس هذا سوى تابع مطيع لإسرائيل فلا تحسبوه علينا، إنما هو الزمن القبيح الذي وضعه رمزاً مخجلاً على رأس العراق وكأن ليس في العراق من بين عربه وأكراده وقومياته الأخرى، رمز شريف يعبر عن مواطنيه بإخلاص ويرفع رأسهم بمواقف شريفة تعبر عن مشاعر العراقيين الحقيقية المتضامنة إنسانيا ومبدئيا، مع أخوتهم الذين يطلبون كرامتهم وحريتهم في مصر ببطولة نادرة.

أننا نكرر أيها الأخوة في مصر أننا نعتز بكم أشد الإعتزاز، ونوجه غضبنا واحتقارنا إلى من يريد اغتيال كرامتكم وثورتكم الرائعة كائن من كان، ومن يدافع عنه ومن يسانده. قلوبنا وأرواحنا وأقلامنا كلها معكم وبكل قوة وتصميم فأنتم تمنحونا وتمنحون كل إنسان في العالم درساً في الدفاع عن الكرامة، ولا يقف ضدكم ومع جلادكم إلا من كان من مثل مستوى أخلاقه. إن الحكومة العراقية مطالبة بالتبرؤ من هذا الموقف القبيح عديم المبدئية. أما أنتم أيها الأبطال فسيروا بقافلتكم الرائعة نحو الحرية، ولا تهمكم هذه الأصوات الناشزة الضئيلة، فقلوبنا وقلوب العالم، عيوننا وعيون العالم تراقب بطولاتكم وتتوعد جلاديكم بالويل والثبور إن مسوا شعرة منكم أيها الأبطال.

(1)  http://www.bna.bh/?ID=180936


133

أيها المصريون، إنتبهوا من الجيش فقد يكون الفخ الأخطر !!

صائب خليل
31 كانون الثاني 2011

كتبت أمس مقالة تحذر من الدور الذي يتخذه الجيش المصري في مسيرة أحداث ثورة مصر، والثقة المتزايدة التي لا يبدو أنها مؤسسة على ارض صلبة، والتي تبدو أقرب للأوهام منها إلى الواقع.
وخلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، وفي انتظار المسيرة المليونية غداً، أرى أن شكل المؤامرة والخطر الذي يحتمل ان يمثله الجيش تزداد احتمالاً. هناك تصور غير واقعي بأن الجيش يلقي خطاباته بشكل مستقل عن الحكومة والرئيس. لقد اعتبر البعض بيان وزارة الدفاع حدثاً سعيداً حين تحدث عن "مشروعية المطالب الشعبية"، لكن ملاحظة دقيقة تكشف أن ذلك الخطاب لم يختلف بأي شكل عن خطاب مبارك بعد الأحداث. فالبيان يقول أن "التظاهرات السلمية حق مكفول للجميع" وأنه يجب "عدم القيام بأي عمل من شأنه الإخلال بأمن وسلامة الوطن"، وتحدث أيضاً عن "فئة من الخارجين عن القانون"، بأعمال قال البيان أن "القوات المسلحة" لن تسمح بها "أو بالإخلال بأمن وسلامة الوطن" و "إن القوات المسلحة على وعي ودراية بالمطالب المشروعة للمواطنين الشرفاء" وأن القوات المسلحة من الشعب وإليه ولن تلجأ لإستخدام العنف والقوة ضد الشعب العظيم!
ما الذي سيغضب حسني في هذا الكلام؟ بل ما هو ا لجزء الذي يرفض حسني أن يقوله بنفسه؟

نعم كان الجيش أكثر لطفاً من الشرطة بالمتظاهرين، لكن علينا أن ندرك أن الموقف اللين واللطيف للجيش قد يكون الخيار الأفضل لوقف التظاهرات في مكانها وامتصاص زخمها، وأنه الطريقة الأكثر كفاءة للوصول إلى ذلك الهدف في هذا الظرف. فمن الصعب تصور أن يتخذ الجيش موقفاً عنيفاً دون أن يحدث مذبحة بمستوى غير معروف في التاريخ الحديث، أمام هذا الحجم من التظاهرات الإحتجاجية الغير معروفة في تاريخ مصر. علينا أن نتذكر بأن مبارك والمحور الأمريكي الإسرائيلي لم يعد له غير الجيش. ففعالية الجهاز الأمني توقفت الجهاز البيروقراطي توقف الجهاز القضائي توقف ، وبقي للنظام الجيش وحده، وينتظر أن يحاول أستخدامه بأي شكل كان. ولو كان الجيش بالفعل بهذه الحماسة للشعب ضد الدكتاتور الذي بطش به، فما الذي يمنعه أن يقف معه بصراحة ووضوح ويضمن له نجاح ثورته؟
وما هي المؤشرات التي تدل على أن الجيش يقف مع الشعب غير الملاطفة التي قد تكون مسرحية شكلية فارغة؟ علينا أن لا ننسى أن الجيش هي المؤسسة الأكثر خطورة التي يحسب لها الدكتاتور ألف حساب، ويراقبها ويصفيها حتى تخلو قيادتها ممن قد يفكر في التخلص منه لأي سبب كان. ولا ننسى أيضاً أن الجيش المصري قد تعرض لتصفية ثلاثة عقود من هذا النوع، وبشكل خاص كبار ضباطه. وفي إحدى المرات "سقطت" طائرة تحمل 40 من كبار ضباط الجيش المصري بحادث مشبوه، علماً أنه لم يكن يسمح لهم حسب قوانين الجيش بأن يركب أكثر من أثنان منهم في طائرة واحدة، لأهميتهم، كما هو معمول به في مختلف البلدان. كذلك فقد رأينا الرئيس مبارك وهو يجتمع في مركز عمليات القوات المسلحة مع كبار قيادات قوات الجيش، مما لا يوحي بأن تلك القيادة غاضبة على الرئيس أو أنه يجد صعوبة في التفاهم معها، ومع ذلك فلم يثر المشهد الشك في تلك الثقة الإغتباطية المتزايدة للجيش.

ومما يزيد الشكوك ملاحظة دور الإعلام في القضية والذي يركز بشكل غير طبيعي على الجيش وعلى قربه من الشعب والمتظاهرين، وبشكل مبالغ به يثير الريبة.
أحد الضباط يتحدث إلى الجزيرة فيقول: "الجيش تعرض لامتحانات كبرى في الدفاع عن البلاد.. هذا امتحان أمن البلاد القومي... الجيش يتحرك قليلاً قليلاً نحو الشعب.. "
ويؤكد على عبارات مثل "نحن نصر على مطالب المتظاهرين ومطالب المتظاهرين مكتوبة على مدرعات الجيش المصري"، وأمثالها محاولاً تصوير ربط الجيش بالشعب بشكل اعتباطي، وهو أمر يفترض أن يثير القلق.

العميد المتقاعد صفوت الزيات كان يتحدث للجزيرة عن الجيش بعبارات شعرية شاعرية مثيرة للقلق ويبدو وكأنه يلقن ما يجب ان يقول، فيتحدث عن التحام الجيش بالشعب وأنه حتى احتفالات الشعب جميعاً ذات ارتباط بالجيش وانتصاراته، وراح يعددها .. فما التأثير المتوقع لمثل هذا الحديث؟ التأثير الأساسي هو تقليل الحذر وتخذير الإنتباه وزيادة الإعتماد على الجيش وانتظار النجدة منه، فإذا انقلب بعد ذلك كانت المفاجأة أكبر وأصعب تحملاً من قبل المتظاهرين وفقدوا الأرض التي شعروا أنهم يقفون عليها.
أننا نجد أن المتظاهرين، الأسود حينما يتحدثون عن نظام مبارك ودكتاتوريته، يتحولون إلى كائنات لطيفة حين تتحدث عن الجيش، فهي تفقد غضبها وتفقد شكها الصحي واستعدادها وانتباهها ودفاعها عن اهدافها.

وسعت قناة "الجزيرة" حتى من خلال طريقة توجيه أسئلة الحوار إلى عزل النظام في جانب والمتظاهرين والجيش في الجانب الآخر، قبل ان يحين الوقت لمثل هذا العزل، ومثل هذا التوزيع في الخنادق. الضباط المتقاعدين المتحدثين كانوا يدافعون عن الجيش بشكل تام، ويزكون حتى الشخصيات الدنيئة مثل اللواء المخابرات عمر سليمان، رجل إسرائيل المعروف الذي عينه مبارك نائباً له، وهو ما يؤكد الشكوك بهؤلاء الضباط.

الأسئلة التي وجهت إلى صفوت الزيات من قبل "الجزيرة" كانت تشبه سيناريو معد مسبقاً بحيث يتم تشجيعه للحديث عن تاريخ الجيش العظيم، أما الزيات فيذهب في الحديث وكأنه قد حضر الدرس عن مآثر الجيش المصري وقربه من الشعب، ليس في العصر الحديث فقط وإنما صار يمر في ميادين القاهرة ويعدد شهداء الجيش في مختلف الأزمان. إنها حقائق، لكن هل أن استدعاءها في مكانه الآن؟ هل هناك ما يثبت أن الجيش المصري الحالي وقيادته يجب أن يعاملا بالثقة التي يعامل بها الأبطال، كما توحي تلك الأحاديث؟ يبدو أن الهدف من ذلك أن يجعل الجماهير تربط بغير وعي بين الثورة المصرية التي جاء بها الجيش بالبطل القومي جمال عبد الناصر، وافتراض أن الجيش سوف يأتي دائماً بأبطال شعبيين.

ولكن لماذا يتم امتداح الجيش أساساً في هذه اللحظة؟ اليس الأمر معكوساً؟ اليس الشيء الطبيعي هو أن يتكلم هؤلاء الذين يدعون أنهم يقفون مع الشعب، أن يتحدثو إلى الجيش ويذكروه بقيمة الشعب وبطولاته لكي يكسبوه إلى صف الشعب وليس لكي يكسبوا الشعب إلى صف الجيش؟ فما للأمور تبدو مقلوبة وكأن الموضوع أن يثق الشعب بالجيش وليس العكس ؟ هل قدم الجيش مشروعاً يتطلب الثقة به؟ لماذا يريد هؤلاء أن يثق الشعب بالجيش إذن ؟ النزاع هو بين الشعب والسلطة، وإن افترضنا أن الجيش حيادي أو مستقل، فيفترض أن تحاول كل جهة كسبه، أما كسب الشعب إلى صف الجيش فليس له تفسير مطمئن.

الأمريكان تركوا جميع الأبواب مفتوحة، وتحدثوا عن شرعية المطالب والمظالم وتسليم سلس للسلطة (مع التوكيد أن ذلك لا يعني بالضرورة رحيل مبارك) وترك الخيار للشعب، وهي لغة تختلف عن تلك التي استعملها الأمريكان لوصف تظاهرات البلدان الشيوعية السابقة أو إيران.

كذلك نلاحظ إن قيام نتانياهو اليوم بتحذير العالم من "إيران ثانية" إنما يهيء الجو، على الأقل في الغرب، لتقبل التآمر على إرادة الشعب المصري، فتحدث وكأنه يريد تغطية للمؤامرة القادمة، سواء في فرض عمر سليمان أو غيره بشكل سلمي أو أنقلاب عسكري. فمن المعقول أن يكون الهدف الأمريكي الإسرائيلي في هذه اللحظة، إزالة مبارك الذي لم يعد بالإمكان الدفاع عنه، والإتيان بشخص أقل فضائحية من المجموعة التابعة لهم ليقوم بالمهمة التي كان يقوم مبارك بها، وليطول الأمر عقداً أو أكثر قبل أن يجمع وجهه الحقد الذي تجمع ضد مبارك وتسبب في كل هذا الزخم المضاد. وهذا هو نسف السيناريو الذي تم به استبدال الوجه القبيح حينها، انور السادات، برجل لم يكن الناس يعرفون ما يخبئه لهم من كوراث وفضائع، لكن إسرائيل وأميركا كانت تعرف جيداً.

ما هي السيناريوهات التي يجب الحذر منها من الجيش؟ لعل أهم سيناريو هو أن يعلن الجيش أنقلاباً، ويأتي برئيس جديد، سيقول عنه أنه مؤقت، ويكون مقبولاً بدرجة ما، بل ربما يسعى إلى تسليم الأمر إلى شخص مثل عامر سليمان وعندها من المتوقع أن ينقسم المتظاهرون حوله بين مؤيد ورافض، وأمام اصطفاف الجيش معه لن يكون هناك زخم شعبي كاف للرفض والقيام بشيء.
أما في حالة تمكن المحور الأمريكي الإسرائيلي من إيجاد شخص أقل شبهة من عمر سليمان فأن النصر للخطة سيكون أكثر تأكيداً.

وهناك سيناريوهات أخرى مثل أن يتظاهر الجيش بالوقوف إلى جانب الشعب، وباعتباره الجهة الوحيدة المنظمة والمسلحة، فأنه سوف يتمكن من فرض الأجندة القادمة، فيحدد بشكل مباشر أو غير مباشر موعد الإنتخابات وربما تأجيله، كما سوف يمكنه أن يقيم حالة إرهاب وقتل في مصر، تماماً كما أسس نيغروبونتي في العراق، لكي يفرض من خلالها الأجندة الأمريكية الإسرائيلية وتفضيل انتخاب مرشحيها وإزالة أخطر المنافسين لها، واللجوء إلى الشخصيات المخترقة من المخابرات المصرية والأمريكية والإسرائيلية في قيادات الأحزاب الوطنية، وهي موجودة بلا شك، وتسهيل وصولها إلى السلطة.

أن خير ما يجب أن يهدف إليه المتظاهرون هو تحييد الجيش وليس تسليمه مصير التظاهرات وتحديد ما يجب أن تفعله ولا تفعله، بل على المتظاهرين استلام أمورهم بشكل تام بأنفسهم والعمل على تحديد أجنداتهم المناسبة للنجاح حتى إن تطلب الأمر مواجهة  الجيش، فمن الممكن أن ينقسم الجيش على نفسه في هذه الحالة إذا قرر قادته الإصطدام مع المتظاهرين، وأن ينضم جزء من هذا الجيش إلى المتظاهرين قابلاً بالعمل تحت قياداتها أو لحمايتها دون التدخل في قرارها السياسي.

من الواضح أن مبارك لم يعد له مكان، لا بين الشعب ولا لدى المحور الأمريكي الإسرائيلي، وانهم يبحثون عن البديل التالي الذي يجب فرضه على الشعب المصري، وعلى هذا الأساس يجب أن تحسب خطوات الأمريكان والمخابرات المصرية التي يجب أن لا يتردد أي عاقل في افتراض أنها أقرب إلى مخابرات إسرائيلية منها إلى مخابرات مصرية بعد هذه العقود من العمالة الحكومية المتناهية لإسرائيل، وأن الأخيرة لا يمكن أن تقبل بوجود فرد واحد في تلك المخابرات لا تطمئن أنه لا يعمل لحسابها، أو أن يكون فيه ذرة إحساس وطني. فبعد ثلاثين سنة من التصفيات، يبدو من خداع النفس أن تتوقع قيادات عسكرية أن تقف بجانب الشعب وضد النظام، وتعمل على هذا الإفتراض غير المؤسس وتراهن بمصيرك على صحة افتراضك المخالف للمنطق.

على الناس الثائرة وقيادتها أن تبقي على عيونها مفتوحة وتتحمل الشد العصبي الذي تتطلبه المرحلة الخطرة فلا تسترخي قبل الأوان بقصص واهية عن الجيش البطل الذي سيكمل لها المشروع، وبردأ عنها الخطر. ولكي تؤتمن المرحلة الإنتقالية يجب أن يقوم قياديو المتظاهرين بقيادتها بانفسهم نحو الديمقراطية، ولا يغامرون بها إطلاقاً من خلال الثقة بجهات محسوبة على النظام لعشرات السنين. نعم لاشك أن بين قيادات الجيش من يتعاطف مع الثورة، لكن بالتأكيد ليس الأكثرية وبدون أي شك، ليس الجميع كما يحاول الإعلام أن يوحي للناس، وبشكل يثير الريبة. على قيادات التظاهرات أن يواجهو الحقيقة الصعبة، وهي أن عليهم أن يأخذوا النصر بالناب والمخلب، وليس بالتمني بأن يجلبها قادة جيش الدكتاتور لهم. إنها لحظات دقيقة لثورة ثمينة جداً، ويجب الإنتباه لكل شيء.



134

ثورتا تونس ومصر - أخطار اللطف وامتصاص الزخم

صائب خليل
30 كانون الثاني 2011

تتعرض كل ثورة إلى محاولة سرقتها وتقليص مكاسبها إلى أمور شخصية أو سطحية غير مؤثرة على مصالح القوى الكبرى، وهي في حالة تونس ومصر، أميركا وإسرائيل. كلتا الثورتين، التونسية والمصرية، أثبتتا حتى الآن أنهما على وعي تام بهذه المؤامرات. مع ذلك فالأنظمة القبيحة لن تستسلم بسهولة، وستستعمل العنف والتفكير في نفس الوقت، وعلى الثورة أن تبقى على نفس المستوى وأن تتمكن من ملاحظة كل حركة وتحليلها والرد عليها بما يكفي لدحرها.

تونس

منذ أن شكل محمد الغنوشي حكومته الجديدة الأولى المؤقتة والقلق والريبة يتصاعدان، ليس فقط لدى المراقبين بل في الشارع التونسي والعربي. لم يكن الغنوشي وحده المشكلة، بل كانت الحكومة مشكلة من مجموعة من وجوه النظام الكريه بشكل أساسي ومن بينهم وزير الداخلية الذي عينه بن علي قبل رحيله تماماً، فأية حكومة هذه؟
فالسؤال الوجيه هو : أليس هناك من يقود مثل تلك الحكومة غير وجه ارتبط بـ بن علي منذ قيامه، بل وقبل استلامه رأس القيادة في تونس؟ إن من يدير مشروع هذه الحكومة ليس حريصاً على مشاعر الناس، فحتى لو كان الغنوشي قد تاب فجأة، فيفترض أن يبتعد عن القضية حتى تستتب الأمور ويطمئن الشعب إلى نجاح الثورة.
إضافة إلى ذلك فقد تحدث الغنوشي، ليس فقط عن وعوده بالإنتخابات الحرة، ولكنه بدأ بإطلاق وعود شعبوية مثل تعويض شهداء الثورة! وهذا دليل قاطع على أن الغنوشي لا يحمل في قلبه مشروع ديمقراطي، فمن هو لكي يعد بتعويض أحد؟ أليس الشعب نفسه قد أصبح صاحب البلاد وهو الذي يقرر كيف يوزع ثرواتها وتعويضاتها، فمن أين لشخص لم ينتخب بعد أن يعوض الشعب؟
إثر رفض الشعب بوعي، تم إبدال بعض الوجوه في الحكومة الجديدة بوجوه ربما تكون أقل إثارة للريبة في محاولة واضحة لبناء ثقة لا أساس لها بين الناس. (1)

مصر

في مصر، الثائرة العزيزة الرائعة الأخرى، تجري الأمور بنفس الطريقة تماماً، عدا تبادل في التفاصيل. ففي البلدين لم يهزم النظام بعد، بل هو ينسحب من خندق إلى آخر، ويحاول إقناع الشعب في كل مرة ومن خندقه الخلفي، بأنه، أي الشعب، قد حقق مطالبه وأن الأمر أصبح بيده وأنه لا داعي للإستمرار بـ "الإضطرابات".
الفرق بين تونس ومصر في التفاصيل، في حالة تونس، هرب بن علي وترك حكومته تقنع الشعب بأن التغيير قد حصل. أما في مصر، فقد أقيلت الحكومة وترك الريس مبارك ليقنع الشعب بأن التغيير قد حدث. ولا يحتاج المرء إلى أي ذكاء ليقرر أن الرئيس الدكتاتور وحكومته شيء واحد، لا يفترقان إلا شكليا، وعند الضرورة اللازمة لخداع من يمكن خداعه. فإن استلم أحدهما زمام الأمور، أعاد الثاني، وإن لم يعد الثاني فأن النظام السيء باق ما بقي رمز من رموز الدكتاتورية السابقة، فهم شلة من المجرمين الذين يرتبط مصيرهم جميعاً بحبل واحد وليسوا من الحماقة لكي لا يدركوا ذلك. وفي كل الأحوال، لو كان هناك احتمال للشك بمقدار 1% بنوايا هؤلاء فيجب على الشعب أن لايغامر بمصير ثورته حتى بـ 1% ، والشكوك أكبر بكثير بلا شك.

قال مبارك "انني انحاز كل الانحياز للحرية وأويد مطالب الشباب المصري" ..
لو كان هناك نكتة يراد تأليفها للسخرية من ما يجري، لما كان سهلاً أن نجد كلمات أفضل من هذه!
عمرو موسى كان مضحكاً أيضاً وهو "يحترم" رأي الناس "بإجراء إصلاح" وداعياً إلى "عدم حدوث انفجار كبير" و فوضى.(2)
قال مبارك أن شباب مصر هو أغلى مالديها" ..نعم .. وتعهد بـالقيام بـ "خطوات جديدة" على طريق الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ...صحيح! احتاج مبارك 82 عاماً من العمر منها 30 عاماً في صناعة رجال الأمن الوحشي في مصر لإضطهاد الشباب، لكي "يفهم" الآن أن الشباب هم أغلى ما لديها..(3)
ولعلنا، ولو من أجل النكتة، نذكر مبارك بنداءه إلى صدام حسين بالرحيل ليجنب بلاده الدمار أمام الأمريكان، فهل سيتذكر ذلك في مواجهة شعبه الذي يريد رحيله وليس محتل أجنبي؟

مواقف متشابهة: إسرائيل وأميركا... والأزهر وعباس والسعودية


معروف أن النظام المصري نظام مخلص لإسرائيل بامتياز، وقصة محاصرته لغزة تقول الكثير. تقول الأنباء أن "اسرائيل تراقب الأحداث في مصر" بدقة (4) والحقيقة أن تلك عبارة خادعة، فالمنطق يقول أن "اسرائيل تقود إدارة حكومة مصر للأحداث في مصر بدقة" ومحاولتها السيطرة عليها، فتلك الحكومة "كنز" لإسرائيل وأمنها كما قال بن اليعازر. ولأن المرحلة دقيقة للغاية فأن الحفاظ على ذلك "الكنز" يتطلب الحذر الشديد، لذلك فأن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو طالب جميع الناطقين الرسميين  ووزراء حكومته بعدم التحدث إلى وسائل الإعلام بشأن ما يحصل في مصر.(5)
وبالفعل في هذه الأثناء وصلت الأخبار بوصول عدة طائرات إسرائيلية إلى القاهرة، محملة بالأسلحة المختلفة للقضاء على التظاهرات ومنها اسلحة قنص لقتل قيادات التظاهرات.
أما الأزهر، والذي سبق لي أن كتبت أنه مؤسسة تابعة للموساد، لم يكن بحاجة إلى من يأمره بالصمت، فقد ساده هو ومشايخه وخطباء الجمعة صمت مطبق، على الأقل حتى وقت متأخر جداً.

اما عن موقف أميركا من الثورتين فقال مختار كامل مسؤول الاتصال في منظمة تحالف المصريين الامريكيين ان تأثير الثورتين في تونس ومصر يوازي تأثير الثورة الفرنسية في العالم الغربي، وستكون لهاتين الثورتين انعكاسات عميقة جدا في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي وبالتالي في العالم بأسره. ووصف كامل الموقف الأمريكي من الأحداث في مصر بانه غير مشرف (6)

وقال كلوفيس مقصود السفير السابق لجامعة الدول العربية في هيئة الأمم المتحدة ان الولايات المتحدة الأمريكية تريد ان يكون في مصر "نظاماً أكثر انفتاحاً وتلبية لمطالب الشعب"، خوفاً من تحول المعارضة الى "مشروع بديل" قد يكون ذو نفس "تحرري" يرمي الى استعادة مصر لدورها الإقليمي، وان الأمريكيين معنيين بالإبقاء على النظام الحالي شريطة اعتماد "سياسة انفتاحية"، تعنى بحل المشاكل الاجتماعية التي يواجهها المواطن البسيط  كالبطالة والتصدي للفقر، بالإضافة الى الاهتمام أكثر بالدفاع عن حقوق الإنسان.
وقال ان مصلحة إسرائيل "أمنياً" تقتضي استمرارية النظام الحاكم حالياً في مصر،  مشيراً الى انه من شأن تغييرات ما في مصر قد تفرز نظاماً ملتزماً بالثوابت العربية ورادعاً لإسرائيل، ان تضع حداً "لانفلات إسرائيل" وتحول دون "استباحة الحقوق الفلسطينية" كما هو الحال في الوضع الراهن.(7)
ويبدو موقف "الرئيس" عباس مؤيداً لتحليلات السيد مقصود، فمن دون غيره من العرب، تجرأ (مع ملك السعودية) بالإتصال بحسني مبارك معبراً عن تضامنه، فهو يريد أن يبقى "الإنفلات الإسرائيلي" مستمراً، حيث أن ذلك الإنفلات يمثل بقاءه على رأس السلطة، وربما على قيد الحياة، وكلنا نذكر كيف أنه كان يحث الإسرائيليين على استمرار القصف لغزة بأكثر مما يريدون أنفسهم!
ولا يختلف عنه شريكه في المصير، ملك السعودية الذي لم يقبل غيره باستقبال بن علي، محتقراً إرادة الشعب التونسي، وهاهو يوجه احتقاره للشعب المصري بدعم جلاده الساقط، ومن غير المستغرب أن يقف هذا الرجل ونظامه، مثلما يقف عباس ونظامه، ضد أي شعب من الشعوب العربية، فعبد الله لا علاقة له بكلمات مثل "الشعب" أما عباس فعبر عن رأيه بالشعب من خلال احتقاره لنتائج الإنتخابات الحرة التي طرده فيها من الحكم فبقي بالدعم الإسرائيلي وحده. (8) ومن الطبيعي أن تكون مواقف الشعوب العربية بالعكس من مواقف سجانيها، فهي تراقب معركتيها على ارضي تونس ومصر وتعبر عن ذلك أحياناً بالتظاهرات كما حدث في سوريا (9) والولايات المتحدة (10) ولبنان. (11)

اختار مبارك أيضاً لرئاسة الحكومة ضابط في الجيش، هو الفريق أحمد شفيق، واختار مبارك لنيابته رجلاً من المخابرات العسكرية، اللواء عمر سليمان البالغ  75 عاما والذي ترأس فرع التخطيط العام في هيئة عمليات القوات المسلحة وإدارة المخابرات العسكرية ثم رئاسة جهاز المخابرات العامة المصرية بدءا من عام 1991، وكان محملاً بمسؤولية الملف الفلسطيني الإسرائيلي، ويعلم الجميع موقف مصر في هذا الملف،وبأنه لا يكاد يتميز عن الموقف الإسرائيلي. (12)
ومثلما هو معروف بأن رجل أميركا في العراق أياد علاوي يتواجد في عمان أكثر من تواجده في بغداد، يقال عن عمر سليمان أنه يتواجد في تل أبيب أكثر من تواجده في القاهرة.
أن مثل هذه الخيارات كفيلة بأن ترش الماء البارد على أي موهوم بأي احتمال بأن السلطة قد استسلمت وقبلت بتطلعات الشعب المصري.
كذلك، ما يؤكد رأينا، وفي هذه الأثناء تصدر التعليمات التي تبين الإتجاه الذي ستتخذه الحكومة وماهية تلك "الإصلاحات" التي وعدت بها، فأصدر وزير الإعلام المصري في الحكومة المقالة أمس، قراراً بإغلاق مكتب قناة "الجزيرة" في البلاد، وسحب بطاقات اعتمادت كافة مراسليها بدون استثناء. (13) إن القرارات التي تعرقل الإعلام، لا تسبق إصلاحات إيجابية في العادة.


لقد لجأ النظامين، كما لجأ غيرهم، إلى إطلاق رجال أمنه ليعيثوا فساداً ويقوموا بالتخريب، والهدف الأول هو البرهان على أن ألثورة عبارة عن مجموعة مخربين ولصوص، فإن تمكن الشباب الثائر من التصدي لهم وحماية الممتلكات العامة، فيكونوا قد أشغلوا نسبة من ذلك الشباب بعيداً عن التظاهرات، أملاً في إعطائهم الوقت اللازم للسيطرة عليها.

خاتمة

نستطيع أن نقول بثقة أنه على  الأغلب الأعم، فليس هناك شريف واحد يمكن الإطمئنان له في التشكيلتين الحكوميتين الجديدتين، من وجوه النظام السابق. لأنه لو افترضنا وجود هذا الشريف، على صعوبته بالنسبة لمشاركين في أنظمة قمعية لعقود عديدة، لو افترضنا أن هناك تائب من هذا النظام، المفروض به ان لا يقبل بمشاركة الآخرين من النظام، فهو يعرف جيداً بأنهم غير موثوق بهم.
وفي مصر، ومقابل بعضٌ عبروا عن ثقتهم باللواء سليمان، فأن جماهير الإسكندرية كانت تهتف، ليس فقط برحيل مبارك، وإنما أيضاً، "إرحل إرحل يا سليمان، إرحل إرحل أنت كمان" رافضة البديل الملغوم بوعي تام.
الإكتفاء بتغيير رؤوس النظام على رمزيتهم ا لشديدة الأهمية، فأنه لن يزعج من يحرك الأمور من خلف الستائر، وربما يناسبهم حيث يأتي بوجوه جديدة قادرة على خداع الناس بشكل أفضل، تماماً كما حدث عندما تم استبدال السادات بحسني مبارك إثر فضيحة الأول التي تركته غير قادر على خدمة هؤلاء بشكل كفوء.

محاذير ثورة تونس: أمتصاص الزخم والقبول بوجوه النظام السابق


تتعرض ثورة تونس اليوم إلى خروجها المفاجئ من دائرة الضوء وتركزه بدلاً عنها، على الثورة المصرية التي جاءت بعدها، وهو ما يفقدها المتابعة الجماهيرية والعالمية لها، ويوفر لها بعض الحماية من عنف النظام السابق.
ويحاول النظام السابق في تونس في تقديري، ومن خلال مبادراته، أن يثبّت ما يمكن أن يثبت من رجالاته استعداداً للإنقضاض على الثورة في الوقت المناسب، أو على الأقل لعملية قد تكون سلمية، تهدف سلب الثورة أهم اهدافها وبشكل تدريجي. الهدف الحالي هو إيقاف الزحم الشعبي، وذلك من خلال التركيز على الأضرار الإقتصادية للثورة وضرورة عودة الحياة كما كانت، وبسرعة. وفي نفس الوقت تقديم الحكومة المؤقتة التي شكلها الغنوشي على أنها البديل الوحيد الممكن للفوضى في البلاد، حتى أن بعض القيادات الشعبية التونسية التي حاولت العودة من الخارج، تم الإعتداء عليها، كما نشط اختطاف قيادات التظاهرات وتخريب المنشآت.

من الواضح أن النظام السابق في تونس، (وكذلك في مصر) لم يسقط، وأنه يتراجع تدريجياً وبشكل محسوب من خندق إلى خندق، ويجرب الصمود في كل مرحلة، والإستعداد للإنسحاب إلى الخندق التالي أو الهجوم على الشعب إن قدر أن الفرصة مواتية.
 وبدأ الغنوشي ورموز حكومته ينقلون الحديث تدريجياً من المطالب الأساسية السياسية الديمقراطية، إلى القضايا الإقتصادية، والإستثمار والمستثمرين الأجانب الذين "يراهنون على تونس"، واستدعاء الخبرات التونسية من الخارج، وهي أمور تبدو كمحاولات ترضية للشعب أكثر مما هي مهمات حكومة انتقالية، ويفترض أن لا يكون لها مكان في الحديث في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ الثورة. وتحدث الغنوشي عن "تحقيق عدالة اجتماعية أكبر" (وليس "العدالة الإجتماعية") و عن المناطق المحرومة، والمفروض أنه سيكون في حكومة مؤقتة لا مهمة لها سوى التحضير للإنتخابات القادمة فإذا به يتحدث عن تغيير في أمور أساسية لا يمكن إحداثها في بضعة أشهر، مثل العدالة الإجتماعية. (14) ولم يتردد الغنوشي في الإطراء على رفاقه الذين طالب الشعب برحيلهم من حكومته وقال "التاريخ سيسجل ما قاموا به من مبادرات للحفاظ على أرواح التونسيين، وما عبروا عنه من رغبة في الانسحاب عندما لاحظوا انه طلب الشعب آخذين في الاعتبار المصلحة الوطنية قبل كل شيء لإنقاذ الثورة ولتمكين تونس من الانتقال الديمقراطي".
فكل الجرائم التي ساهم هؤلاء فيها في اضطهاد الشعب التونسي لم تعد موجودة، ولن "يسجلها التاريخ" إنما سيسجل تضحيتهم الكبيرة في "الإنسحاب"! والعجيب أيضاً أن السيد الغنوشي وبقية الشلة المحسوبة على الحكم القديم، لم تبادر إلى المشاركة بهذه الإستجابة التاريخية للشعب وتنسحب من أجل طمأنته وإعادةالأمور إلى الإستقرار في البلاد!

ومن جهة ثانية وعدت الحكومة بتعويض أهالي شهداء الثورة لتمتص جزء من الغضب، وتحويل هدف الناس إلى تفاصيل غير مهمة. وبالفعل شرعت جهات حكومية بعدد من الولايات في صرف التعويضات لاهالي شهداء و جرحى الثورة  الشعبية ، بمعدل 20 الف دينار لكل عائلة. (15) كذلك جرى التركيز على ضرورة استئناف الدراسة، بشكل مبالغ به، فأن تأخر الدراسة لبضعة أشهر في قضية مصيرية للبلاد أمر ليس كارثياً. وبالفعل استؤنفت الدروس بصفة جزئية في الجامعات التونسية ومن المتوقع ان تستأنف كليا فى بداية الاسبوع المقبل.(16)

أن الذين لم يخدعو في تونس بعبارات بن علي السخيفة "فهمت.. فهمت" جدير بأن لا يخدعو بمحاولات الغنوشي بإقناع الناس بأنه كان شخصاً عديم الإرادة مسيراً بيد بن علي لربع قرن، فإن كان كذلك، فمن أين أتت اليوم هذه الإرادة المفاجئة والإصرار على استلام مقادير الأمور وتسيير تونس في هذه المرحلة الحرجة؟ أن الكذب قلما يستطيع الإفلات من التناقض الذي يفضحه.

وفي الوقت الذي يخشى على الثورة التونسية من تراجع الزخم والإسترخاء، فأنه بالمقابل يخشى عليها من بعض التشدد في بعض الأمور التفصيلية، وأقصد هنا محاولة إشاعة ملاحقة رموز النظام الذين هربوا إلى الخارج، في هذه المرحلة الحرجة التي لم تنتصر فيها الثورة بعد ولم تثبت أرجلها على الأرض.
إن المطالبة بإعادة زين العابدين بن علي لمحاكمته، مطالبة عادلة تماماً ورائعة بكل معنى الكلمة، لكنها في تصوري لا تخدم الثورة في هذه اللحظة لأن التركيز الآن يجب أن يكون على إنجاح الثورة وليس محاسبة أعدائها. لذلك فالمفروض أن يترك الباب مفتوحاً لهؤلاء للخروج من البلاد وتشجيعهم على ذلك. فأن إعادة زين العابدين، أو التهديد بذلك، سوف يضع أعمدة النظام في مواجهة حياة أو موت مع الثورة، وبالتالي فسوف تتعرض الثورة للخطر، فمازال للنظام أدواته التي لا يستهان بها إن تم حصرها.

محاذير ثورة مصر:الترحيب البالغ بالجيش

وفي مصر، من الظواهر الملفتة للنظر، والمثيرة للقلق أيضاً، الترحيب البالغ بين المتظاهرين بالجيش المصري. والإعتماد عليه والثقة به بشكل يبدو غير محدود.
ورغم أن استمالة الجيش من التكتيكات المعروفة في الثورات في الفترة الأخيرة، فليس المقصود أن يذهب الشعب بعيداً في تلك الإستمالة إلى درجة إطاعة الجيش واتباع أوامره، بل جعل الجيش ينقاد لثورة الشعب. لكن ما يجري في مصر الآن، يبدو أن الجيش هو الذي يفرض اجندته وبلا مشاكل! وكأن التظاهرات تقول دعوا الجيش الرقيق يمنعنا وليس الشرطة العنيفة!
لقد قال البرادعي موجها رسالته للجيش المصري "أقول للقوات المسلحة إن دوركم أن تحموا مصر، يجب أن تقفوا مع الشعب المصري وليس مع الطغيان".(17) لكن لم يبدر من الجيش المصري حتى الآن ما يدعو الى الإطمئنان، عدا بعض المظاهر الشكلية مثل وضع لافتات تظاهرات على الدبابات، بل أن وزارة الدفاع المصرية اعلنت في بيان لها أمس السبت انها ستتعامل بكل حزم و"قسوة" مع الخارجين على القانون ومن يقومون بالسلب والنهب وتخويف وترهيب الناس... وبالطبع فأن وزارة الدفاع هي من سيقرر من هم "الخارجون عن القانون".(18)
وحتى الأن نجد أن ما قام به هذا الجيش هو ضمن أجندة الحكومة بدون أي شك فقد حمى وزرارة الداخلية والإذاعة من الجماهير، وبدون أية إشكالات، ولا أسبتعد أن الحكومة هي التي طلبت من الجيش أن يتظاهر باللطف التام مع المواطنين ليفرض إنجازه لمهامه في حماية المراكز الحساسة للحكومة. لذا يجب أن يتم الإنتباه إلى هذه النقطة الخطيرة وتصحيحها بأسرع وقت ممكن.



(1) http://www.akhbar.tn/?p=74983
(2) http://arabic.rt.com/news_all_news/62416
(3) http://arabic.rt.com/news_all_news/62379
(4) http://arabic.rt.com/news_all_news/62484
(5) http://arabic.rt.com/news_all_news/62401
(6) http://arabic.rt.com/news_all_news/62391
(7) http://arabic.rt.com/news_all_news/62395
(8) http://arabic.rt.com/news_all_news/62422
(9) http://arabic.rt.com/news_all_news/62469
(10) http://arabic.rt.com/news_all_news/62468
(11) http://arabic.rt.com/news_all_news/62446
(12) http://arabic.rt.com/news_all_news/62442
(13) http://arabic.rt.com/news_all_news/62487
(14) http://www.akhbar.tn/?p=75068
(15) http://www.akhbar.tn/?p=75304
(16) http://www.akhbar.tn/?p=75330
(17) http://arabic.rt.com/news_all_news/62441
(18) http://arabic.rt.com/news_all_news/62435


135
 

الإسكندرية تحررت... لسه ما فهمتش يا ريس؟

صائب خليل
28 كانون الثاني 2011

شابة جريئة تقول: "حنستمر حتى نسمع كلمة "أنا فهمتكم". ضحكت من أعماقي على ذكاء الطلب وعنصر المهانة الذي يغلفه للرئيس المتعفن في كرسيه، فهي كلمات "زين الهاربين" التي بشرت برحيله، وهي الكلمات التي اخترتها حين رسمت الكاريكتاتير الذي يمثل وضع الرؤساء العرب بعد ثورة تونس العظيمة، والذي تنبأت فيه بأن مبارك سيكون حجر الدومينو الثانية التي ستسقط. مبارك لن يستطيع أن يقول "فهمت" لأنها ستكون علامة نهايته، وهو "يفهم" ذلك بلا شك!

العملاق المصري قام أخيراً! الريس بلا شك "فهم" ذلك بالفعل، حتى إن لم يقل. ما يقوله الإعلام المصري أن القوات تسيطر على الموقف، لكن من ناحية أخرى فقد قطعت السلطة المصرية وسائل الإتصال، ليس الإنترنت والإيميل فقط، بل أيضاً حتى التلفونات الجوالة، وأخيراً حتى التلفونات الأرضية، فأية "سيطرة" هذه! لقد أوقفوا الفيس بوك، لكن الثورة تحولت من "الفيس بوك" إلى "الناس بوك"، كما عبر أحد المعلقين الأذكياء!

أوباما والنفاق الأوروبي يراقبون "بقلق"، ما يراقبه الشعب العربي بفرح عارم! إنهم يرون الوضع "مؤسف"، وتراه شعوب البلدان الثائرة على ذلها أجمل الأوضاع واروعها، ويدعو النفاق الغربي – الإسرائيلي إلى "التهدئة، وضبط النفس"، في الوقت الذي يدفع الشعب دمه من أجل أن لا "يهدأ" حتى يصل إلى إرسال الرؤساء العملاء وانظمتهم العفنة إلى سادتهم في إسرائيل أو إلى الموت والسجون. ما اوسع الفرق بين ما يريده هذا الغرب المنافق الذي القى بكل ثقله خلف إسرائيل والوضيعين منا!
 
إنها أيام مقدسة ولحظات ستدخل التاريخ بفخر وارتياح، لرؤية الشعوب حية كريمة تدافع عن نفسها وحقها في بلادها ضد القردة المنحطة التي تحكم بلادها. لا تملك نفسك من الضحك السعيد، وأنت ترى قادة الغرب عاجزين عن حماية عملائهم، دائخين فيما يجب أن يقولوه.. أنظمتهم التي أسموها "المعتدلة"، تأخذ إسمها الحقيقي: أنظمة شديدة التطرف والعنف في مواجهة شعوبها! أنظمة إرهابية في مواجهة شعوبها! فرق اغتيال وتعذيب ونهب بالنسبة لشعوبها، هذه "ألأنظمة المعتدلة"..أدوات حصار إسرائيلية وسجانين متوحشين تم اختيارهم من الوضيعين في كل شعب، ليكونوا سياطاً عليه.
من سخريات القدر أنه قبل أيام كان هناك دعوة إسرائيلية للتخلص من حكومة أردوغان، فإذا بالقدر يستجيب لهم بالمقلوب، ويتم التخلص من الحكومات العميلة لهم!الحكومات التي تكمل حصارهم اللاإنساني وتشارك في جرائمهم على شعوبها.

من أجمل ظواهر الطبيعة هذه الأيام، عدم قدرة السادة لنجدة عبيدهم، ولا حتى بالكلام والتصريحات! فقد دفع هؤلاء السادة ثمناً غالياً لتهورهم قبل أيام على يد الشعب التونسي واصدقائه، لذا يأتي خطابهم "حيادياً" خوفاً من أن يكون مصيرهم العار، كعار وزيرة الخارجية الفرنسية! وزارة الخارجية الأمريكية تعبر بحذر عن بعض عدم رضاها، عن الحكومة التي تدعمها لسنين طويلة بمليار ونصف المليار دولار كأجور سنوية لمهمتها في اعتقال شعبها بـ قوانين "طوارئ" عمرها عقود، وقوانين إرهاب جديدة إبتكرتها لهم. 
"الريس" المصري الذي كان يشجع إسرائيل على ضرب غزة، ويبني لهم الجدار "الواطي"، كصاحبه، كما وصفه كاريكاتير مصري،  صار بحاجة لمن يدعم موقفه الخاسر، وأقرب أصدقائه لا يستطيع ان يقترب منه لألا يصيبه رذاذ الوسخ المتطاير منه!
هيلاري "تراقب بقلق شديد" كما تقول أمامي في التلفزيون، لكنها لن تلمسك يا ريّس! أنت كالمصاب بالجذام اليوم، فتقبل مصير المصابين بالجذام بحزم، فقد مضى الأمس. تحرك الخطاب الأمريكي بعيدا عنك، كما فعل مع بن علي قبل أسبوع.
مشكلة الامريكان أنهم لم يجدوا "مسكة" يمكن لهم من خلالها مساعدة عملائهم، لا في حالة تونس ولا في حالة مصر. إنهم لا يستطيعون أن يتحججوا بأن التظاهرات يقودها الإرهابيون أو المتطرفون أو تقودها إيران أو الشيوعيون أو اي من العبارات التي تمت شيطنتها من قبل، كما أن الحكومات العميلة لهم كانت دكتاتورية بامتياز، فما هي الحجة للتدخل؟
قريباً سيمتعنا أحد ما بمقالة يقارن بها بين تصريحات الأمريكان والبريطانيون والفرنسيون عن رئيس مصر، قبل وبعد سقوطه!


الوحيدون الذين بقوا مخلصين للريس، هم حكومة إسرائيل التي عبرت بصدق، بأنها قلقة وتتابع ما يجري لتابعهم! ليس ذلك غريباً، فحسني مبارك لإسرائيل أهم من نتانياهو نفسه، أو كما قال بن اليعيار قبل فترة: "إن الرئيس مبارك بمثابة كنز استراتيجى بالنسبة لإسرائيل ووجوده فى السلطة فى مصر ضمان لأمن دولة إسرائيل".
صدق بن اليعازر، لكن ليس لأمن دولة إسرائيل فقط، وإنما لثروتها أيضاً، فمن غيره يمكن أن يبيع الغاز المصري لإسرائيل بما يقل عن كلفة إنتاجه؟ لو أعطينا هذا الغاز لشركة إسرائيلية لباعته لحكومتها بعد أن تحسب أرباحاً ما، فمن غير مبارك يبيع بخسارة؟
ألم يقل مسؤول مصري "كبير" عشية الإنتخابات بأنه إن حكم الأخوان مصر فستتغير العلاقة مع إسرائيل كثيراً؟ إنه أحرص على "العلاقة مع إسرائيل" مما هو على بلده! مثل هذا السياسي طبيعي أن تريده إسرائيل للسلطة على مصر وغيرها. اليس الرئيس المصري هو الرئيس الوحيد الذي يودع السفير عندما يغادر بلاده، السفير الإسرائيلي فقط! اليوم يضع الشعب نهاية لهذه الإهانات المخزية!

أستلم إيميلات أكثر من المعتاد عن "نكات" و "صور" و "أفلام" و "قصص مضحكة" أو ... أي شيء، وبكثافة غريبة، ليس هناك ما يعكس هذه الثورة الرائعة في هذه الإيميلات، لماذا؟ أقول لكم: أتذكرون إسرائيل تبث أغاني أم كلثوم أثناء حرب حزيران، فقط لتزيح اهتمام الإنسان العربي عن المعركة؟ لا تشاركوا في هذا أيها الأخوان، إبحثوا عن أخبار الثائرين وتبادلوها كدعم بسيييييط لهم!

الجيش يدخل القاهرة والشعب يبتهج بقدومه، فالجيش في الوعي الجمعي المصري صديق للشعب ومحترم، ولكن الحذر! فليس هناك ما يمنع أنه ليس كذلك هنا، كما لا شيء يمنع من أن تستخدم أجهزة الأمن عربات وملابس الجيش. أتذكر الدبابات البعثية في العراق والتي وصلت وزارة الدفاع في مؤامرة 63، وهي ترفع صور الزعيم عبد الكريم قاسم، فخدع الناس بها، وما أن وصلت حتى ألتفت حول نفسها وبدأت بمجزرة على الناس التي كانت تتجمع حول الوزارة للدقاع عن الزعيم.

عربة أمن كبيرة تترنح تحت ضغط الجماهير كما تترنح حكومتها.. فتاة من بورسعيد تعطي أرقاماً تبدو مبالغة في عدد المتظاهرين، وحين يعترض مقدم البرنامج، تقول لأن بيوت بورسعيد فرغت من سكانها ونزلت بكليتها إلى الشوارع، وقالت أن التواجد الأمني قليل لأن الأمن في بورسعيد ذهب لدعم جماعتهم في السويس التي تنافس القاهرة في سخونتها..
أما في الإسكندرية فقال المراسل أن شوارعها خالية تماماً من قوات الأمن..يئست قوات الأمن فانسحبت وغادرت المكان. اسكندرية اول مدينة تم تحريرها من الوحوش، فليس التحرر من الأجنبي فقط.

وغير بعيد..تونس مازالت تفور، الأردن بدأت تغلي، اليمن تشتعل من جديد...الوطن العربي يشتعل تحت مقاعد السفلة الذين يجلسون على قلبه منذ عقود، والباقي يتململ.. إنها أيام مباركة..كل شعب يريد قيادات تمثل "كنزاً" بالنسبة له وليس لأمن إسرائيل. لسه ما فهمتش يا ريس؟

136
لماذا يبقى الإرهاب في العراق؟ 2- ما الذي يعرفه المالكي عن عصي الشعوذة لكشف المتفجرات؟

صائب  خليل
26 كانون الثاني 2011

أنها "أجهزة متخصصة لكشف الشحنات السالبة وليست لكشف المتفجرات!"، هكذا وصف رائد فهمي، وزير العلوم والتكنولوجيا السابق، أجهزة كشف المتفجرات سيئة الصيت. (1)
لقد صمدت "أجهزة" (أضعها بين علامات لأن ليست هناك أجهزة، فلا شيء يتحرك ولا شيء يعمل في داخل تلك العصي) أقول، لقد صمدت تلك "الأجهزة" والمدافعين عنها، أمام الفضيحة العاصفة التي مرت عليها قبل سنة، وهو ما يدعو للدهشة والحيرة، والألم، ولكن أيضاً بعض الإعجاب بتلك "العصابة" على تحقيقها هذا الإنجاز الذي يبدو مستحيلاً. ورغم ما كتبنا، وكتب غيرنا، بأدلة قاطعة وشهادات حاسمة وتحديات لا تقبل الجدل، ورغم الأهمية الهائلة للموضوع، فقد أمكن بطريقة لا نعرفها، إخماد الموضوع، وإسكاته وإيداعه النسيان، تقريباً. توقعنا أن تطير بعض الرؤوس ا لتي كانت وراء تلك الحيلة التي جلبت مثل تلك العصي على أنها "أجهزة لكشف كل شيء"، تماماً كما في قصص الجان والعفاريت، لكننا كنا مخطئين تماماً في تفاؤلنا. لم تنج رؤوس البولاني والجابري وبقية الشلة من الإنفصال عن رقباتها، لكنها مازالت معززة مكرمة، بل ومازالت تلك الملاعيب – الأجهزة – في الطرق، تمسح بها السيارات، ويتحرك الشرطة المساكين وهم يمسكون بها جيئة وذهاباً. الذي عرف حقيقتها منهم، يندب حضه العاثر على هذه الشغلة المضحكة، ومن مازال يصدق بها، يعلم أنه عليه يحرص على أن لا يصير عصبي أو يرتفع نبضه أو يزداد ضغطه لأن الأجهزة "الحديثة" العجيبة، تزعل ولا تعود تعمل. ليس هذا جزء من المسرحية الكوميدية لكنه تعليمات التشغيل التي قدمت لهم!

كانت هناك تقارير وثائقية مصورة من جامعة أمريكية كبيرة عرضت في ا لبي بي سي والإنترنت، وكتبنا عن الموضوع تكراراً والمالكي أطلق لجاناً للتحقيق. رائد فهمي قال أيضاً أن "وزارة العلوم والتكنولوجيا كتبت وقتها تقريراً مفصلاً إلى رئاسة الوزراء بعد الاطلاع على آلية عمل أجهزة السونار وأكد أنه لا يصلح للعمل الامني". ومع ذلك بقيت "الأجهزة" في مكانها.
لم نعد ندري بصراحة، هل المالكي متواطئ في هذا الموضوع؟ أم أنه ضحية مؤامرة محكمة بشكل هائل؟ هل من المعقول أن ليس لديه من يخبره بالحقيقة وبحجمها المخيف؟ هل يعقل أن تستطيع عصابة مهما كانت متنفذة ومخترقة للحكومة وأجهزة الأمن، أن تعزل رئيس الوزراء تماماً عن من يريد أن يوصل له الحقيقة، فلا يجد طريقاً إليها ولا تجد طريقاً اليه؟ من الطبيعي أن تعمل تلك العصابة كل ما تستطيع، ففي القضية مشانق، لكن أن تنجح بهذا الشكل وحتى الآن، هو الأمر العجيب.

ربما لا يفهم الجميع، المغزى الكوميدي المرير لعبارة رائد فهمي، بأن الأجهزة "متخصصة لكشف الشحنات السالبة وليست لكشف المتفجرات! " ، لحاجتها لخلفية تكنولوجية، لذلك أوضح أن قول السيد الوزير يشبه أن يقول شخص: أن هذه البندقية تطلق كليجة تمر وليس الرصاص،!  فالعلاقة بين المتفجرات والشحنات السالبة ليست أقرب من العلاقة بين الرصاص وكليجة التمر.
ورغم أن كل منهما كثيراً ما أسكت الناقدين بحجة أنهما الأكثر علماً بتكنولوجيا المتفجرات، فلا يؤمل من وزير الداخلية البولاني أو جهاد الجابري أن يضحكا لنكتة السيد رائد فهمي...فليس لأي منهما في حقيقة الأمر، لا روح النكتة ولا العلم اللازم لفهمها. لكن من يدري، ربما كانا الوحيدان الذان يضحكان في السر في هذا الموضوع، إنما لأسباب أخرى بلا شك.

البولاني نجح بإيقاف ملف التحقيق بالأمر منذ عام 2008 وتمكن من حماية ستة من كبار ضباط وزارته بعد توفر أدلة تدينهم بالفساد حسب رئيس هيئة النزاهة رحيم العكيلي. أي أن البولاني وفر للإرهابيين حتى الآن ثلاث سنين من الطريق الآمنة لوصول متفجراتهم إلى أهدافها!
الحديث في الفساد، يدور عادة حول سعر ما تسمى "الأجهزة" التي تم شراء الواجد منها بـ 60 الف دولار وهي تباع بـ 40 دولاراً. ويمكن لأي ذو عقل أن يفكر أن شيئاً يباع بـ 40 دولار لا يمكن أن يكون جهازاً لكشف المتفجرات بأي شكل من الأشكال، وإنما لعبة تخدع من يريد أن يخدع نفسه بشيء ما. لذلك فالقضية ليست قضية فساد، ولا سرقة أموال، كما يحاول البعض تصويرها حتى الآن، بل قضية تنسيق إرهابي هام لكل هذه التفجيرات التي لم تتوقف في بغداد وغيرها.

إذن، النزاهة شمت رائحة خدعة، لكن البولاني تمكن من منع التحقيق في الوقت المناسب، فاعترضت النزاهة وفضحت البولاني ومنعه للحقيقة من الظهور (2) وقالت أن البولاني عرقل مهمتها.
تسبب إعتراض النزاهة بإثارة الضوضاء، فطلب المالكي من وزارة الداخلية توضيح السبب في منعها للتحقيق من أخذ مجراه (3)
فماذا حدث؟ قام البولاني بنفس التمثيلية التي قام بها الشعلان وكل لص كبير تم إمساكه متلبساً بالسرقة فصاح: "إنها قضية سياسية"! مؤكداً أن العقود سليمة والأجهزة لا غبار عليها.(4)

في 7 تشرين الثاني في مقابلة تلفزيونية أكد الجابري سأله صحفي لماذا لا تبحثون عن أجهزة أخرى ما دامت هذه أجهزة مشكوك فيها، قال أن من يقول ذلك لا يعرف عم يتكلم وأنه "لايوجد أي بديل" لتلك الأجهزة.
لكن النجف تعاقدت أول هذا العام لشراء منظومة أخرى لكشف متفجرات قيمتها ملايين الدولارات للنجف، واللواء جهاد الجابري أمتدحها بكرم هو الآخر، (5) فإذا كانت الأجهزة التي دافع الجابري والبولاني عنها سليمة وجيدة بهذا الشكل، فلماذا يلجأ البعض إلى أجهزة أخرى أغلى ثمناً وأكبر حجماً؟

البولاني لا يريد عودة القضية إلى الضوء، وهو منزعج من "إثارة الموضوع الآن" كما قال، وقال أن "الموضوع مضى عليه سنوات" وأنه فتح تحقيقاً لم يتوصل إلى أي فساد! لماذا إذن لم ولا تسمح يا سيادة الوزير، للنزاهة بإكمال تحقيقها لكي يثبت ضباطك براءتهم مادام تحقيقك قد أثبتها؟ أم أنك تخشى أن يضطروا لإعترافات قد تطالك أنت؟ ليس لدي تفسير آخر! وليس لدي سبب لتبرئة أي مسوؤل يقف في وجه التحقيق، مهما كانت درجته، حتى المالكي نفسه. وليس الموضوع "بحكم المنتهي" كما تقول يا بولاني، وإن كان سيكون في العراق قانون فسوف يكون عليك أن تجيب عن الأسئلة ولو بثمن رقبتك، لذا ربما يكون من الحكمة أن تسارع لتنسيق خطة للهرب بمساعدة من ساعدوا الشعلان على عندما وصل الحق إلى رقبته.

المالكي يعطي انطباعاً بأنه مهتم بالأمر، مثلما كان تماماً قبل سنة، فماهي نتيجة كل ذلك الإهتمام حتى الآن؟ سيفقد البعض عمله كما يبدو، لكن ليس الأجهزة أوالجابري أوالبولاني، بل رئيس النزاهة!

البولاني يصر أن "الأجهزة" كشفت الاف القنابل – لكن من يستطيع أن يثق برجل يعرقل التحقيق؟ وهو يقول أنه أنشأ لجان تحقيق لم تكشف عن شيء، وهذا يذكر المرء بلجان تحقيق إسرائيل في جرائم مذبحة اسطول الحرية، كلاهما "لم يجد شيئاً" يعاقب به أحد، ولم يكن أحداً يتوقع غير تلك النتيجة.

إثر أنفجار كبير في تشرين الثاني من العام الماضي، ، قال مدير عام مكافحة المتفجرات في وزارة الداخلية اللواء جهاد الجابري بأن “جميع القنابل....صنعت في الاماكن القريبة من التفجيرات”. وأضاف أن “المسلحين تمكنوا من ايصال المواد المتفجرة عبر حملها بعربات صغيرة أو أكياس بلاستيكية، وسلكوا طرقا فرعية تحاشيا لنقاط التفتيش”، منوها أن “الكميات التي استخدمت في التفجيرات لم تكن بالإحجام الكبيرة التي يصعب تمريرها في نقاط التفتيش، ومن الممكن ان يكون المنفذون قد جمعوها قبل شهر من هذه العملية”. وأردف الجابري أن “وزارة الداخلية باشرت بإجراءات استخبارية وفنية وتنفيذية لكشف منفذي العملية”، مشيرا إلى أنهم اصدروا كتابا لمكتب القائد العام للقوات المسلحة وعمليات بغداد “لمنع تداول مادة (الصجم) التي استخدمها منفذو عمليات التفجير، وسيصدر امر بمنع تداولها”. (6)
لاحظوا المراوغات الهادفة في كلام اللواء الجابري. فلكي يوحي بأن أجهزته لم تفشل في كشف المتفجرات، يوحي بأنها لم تمر على تلك الأجهزة، لأن المتفجرات "صنعت في أماكن قريبة"! ولا ندري كيف يتوصل الجابري إلى هذا الإستنتاج! هل وجد على بقايا المتفجرات، تربة من نوع المنطقة التي تم تفجيرها؟ وإن كانت من تربة المنطقة فلماذا لا تكون قد سقطت عليها نتيجة الإنفجار؟ ويمكننا أن نفهم الإستنتاج لو كان الموضوع على بعد مئات الكيلومترات حيث ربما تكون طبيعة التربة مختلفة، لكننا نتحدث عن بعد بضعة شوارع في نفس المدينة، وهو ما يكفي لكي يضطر المفجرون للمرور بنقاط تفتيش.
ثم يفهم من كلامه أن المتفجرات إن تم وضعها في أكياس بلاستيكية، أو حملت بعربات صغيرة، فأنها لن تكشف بأجهزة التفتيش، فلماذا إذن يمرون من طرق فرعية؟ ومادامت كل هذه الطرق ممكنة لتجنب الكشف، فلماذا تزعجون الناس بالتفتيش وتعطلوهم إذن؟

في مناسبة سابقة، سخر اللواء الجابري من "ألفحص البصري" لكثرة الأساليب التي تستعمل للتمويه عليه. وحين قال له الصحفي إن كانت الأجهزة تعمل فكيف تمر المتفجرات، قال له بأن الإرهابيين نشطين بشكل كبير في عمليات التشويش على الجهاز!


كلام الجابري هذا يثير أسئلة أخرى. فالفحص البصري مازال يستخدم في كل أنحاء العالم، لكشف المتفجرات الكبيرة، فلماذا لا ينجح "التمويه" إلا في العراق؟
من ناحية ثانية نلاحظ أن الجابري حين لم يستطع أن يشرح كيف يعمل الجهاز (لأنه في الحقيقة لا يوجد جهاز لكي يعمل) فأنه كان يتهرب من الجواب ويقول أن ذلك لا يهمه، وأن المهمة في الأجهزة "أنها تعمل". وهذا الكلام، على كونه كلاماً غير مسؤول، أن لا يكون لديك فكرة عن كيفية عمل جهاز خطير الأهمية، مع ذلك يمكن أن نفهم من ضابط لم يدرس العلم والكهرباء أن يكون "براغماتياً"، ويعترف بأنه "لايعلم كيف تعلم الأجهزة، لكن المهم هو النتيجة". لكن حين يتحدث لك متعجباً من الطرق التي يتبعها الإرهابيون للتشويش على الجهاز، فأن هذا أن يثير سؤالاً. فمن يعلم بالتشويش، ويدهش من النشاط الخاص بانجازه، يجب أن يعلم كيف يعمل الجهاز ليستطيع تقدير "جهد الإرهابيين للتشويش عليه"! فلا يمكن أن تشوش على جهاز لا تعرف كيف يعمل، ولا يمكنك أن تتعجب من مهارة التشويش، دون أن تفهم كيف يقوم هذا التشويش بتعطيل عمل الجهاز، وبالتالي فيجب أن تكون عارفاً ايضاً بطريقة عمل الجهاز! فإذا صدقنا حجج الجابري وقصصه عن "التشويش"، سيكون الجابري هو الشخص الوحيد في العالم، الذي يتعجب من عظمة التشويش على جهاز لا يعرف كيف يعمل!

كيف يفسر الجابري تخلي الحكومتين البريطانية والأمريكية عن الشركة المصنعة للجهاز العظيم، فطردت من أميركا، لتلجأ إلى بريطانيا، ثم بعد الفضيحة في العراق، منعتها بريطانيا من تصدير أجهزتها إلى إفغانستان، رغم أنهم لا يستخدمونها، إنما يستخدمها الجيش الأفغاني، لكن لأن عبور المتفجرات من نقاط تفتيش القوات الأفغانية قد يعرض الجنود البريطانيين للخطر. فكيف تمنع هاتين الحكومتين الشركة التي تملك "البديل الوحيد" لكشف المتفجرات من ممارسة عمله، وتمنعها من تصدير انتاجها وكيف تعتبر المعاهد البريطانية والأمريكية "الحل الوحيد" للمشكلة "عاراً عليها" وكيف تقول أشهر الجامعات الأمريكية أن الجهاز فارغ من أية دوائر كهربائية وأن قصة عمله بالكهربائية الستاتيكية ليست صحيحة، وأنه لا توجد في بطاقاته أية معلومات لأنه لا يحتوي على أية قطعة ذاكرة؟ ...! لذلك فأنا أتساءل: كيف يمكن التشويش على جهاز لا يعمل أي شيء أصلاً يا جابري؟

لم يكن السيد رائد فهمي ملاماً في سخريته المرة، ولم يكن الوحيد الذي سخر من هذه المهزلة التراجيدية. المقدم دنيس يايتس وهو من الذين انتقدوا هذه الاجهزة يقول: "اجد انه من الصعب والاصعب اكتشاف اية مزحة هذه، فهذه القطعة من الزبالة عملت وساهمت بشكل ملحوظ ومثير للشفقة في احيان كثرة في خسارة ارواح بريئة. ويجب ان يتعفن الشخص الذي اشتراها في السجون الرديئة التي تنتشر في بغداد". (7)
ليس كل الأمريكان متآمرين على العراق وأهله، فالبعض جاء مصدقاً إدعاءات حكومته بأن مهمته تحرير شعب العراق.

أتساءل أيضاً: هل تستعمل البيشمركة هذا "الجهاز" في كردستان؟ إن لم تكن، فلم لا؟ وماذا يستعملون بديلاً، وليس للجهاز بديل، حسبما تقول شلة الدفاع عن "أجهزة" الشعوذة هذه؟هل لذلك علاقة بنظافة الإقليم من الإرهاب؟

وسؤالي الآخر، ماهو الموقف الحقيقي لرئيس الوزراء من الموضوع؟ هل بالفعل أنه لم يحس بوجود لعبة كبيرة؟ أم أنه يعرف الكثير لكنه يشعر أن القضية أكبر منه، فيفضل تجاهلها؟ السيناريو الثاني ليس غريباً على الإطلاق، فما الفائدة من فضح فضيحة لا يستطيع القيام بما ينتظر منه بشأنها؟ النتيجة الوحيدة لذلك أنه سيظهر بمظهر الرجل الضعيف غير القادر على أداء واجبه كرئيس وزراء، وذلك في مرحلة في غاية الحرج بالنسبة له وللعراق.
والحقيقة هي أن المالكي لديه تجارب مرة في هذا الموضوع، وكان في البداية صريحاً في ذلك، فقال في أول استلامه لحكمه الأول أنه قائد القوات المسلحة، لكنه لا يملك أن يحرك سرية واحدة من مكانها بدون موافقة الأمريكان، إلا أن شكواه لم تأت بنتيجة سوى إعطاء الإنطباع الإعلامي بضعفه، كما أنه عرض نفسه إلى موقف صعب آخر حين اشتكى للرئيس السابق بوش علناً بأنه لا يستطيع التفاهم مع قائد القوات الأمريكية بترايوس، ولعله كان يتوقع من بوش أن يعده أما بتغيير بترايوس أو أن يكلم يضغط على بترايوس في الأمر، فما كان من بوش السفيه إلا أن طلب منه ان يهدئ نفسه.
من مثل هذه التجارب المرة، يستنتج رئيس الحكومة بشكل خاص, (والسياسي بشكل عام) أن لا يورط نفسه في كشف حقائق لا يستطيع التعامل معها بشكل يحفظ كرامته، وأن لا يفتح معركة يعلم أنه لا يستطيع الإنتصار فيها. ومن الواضح أن رئيس الوزراء لا يستطيع إلا القليل، من خلال فشله مثلاً مؤخراً في عزل ضابط شرطة في تكريت بعد الإنفجار الإرهابي فيها.
لعل هذا ما يفسر هذا الصمت وهذا الصمود لأجهزة الشعوذة لفحص المتفجرات، واستمرار الإنفجارات وسيول الدماء.

ما الحل؟ الحل، إن كان الأمر هكذا أو لم يكن، أن يثق المالكي بالشعب إن كان صادقاً، ويشرح له الحقائق كما هي ليعرف الشعب كيف يتخذ موقفه ويعرف من الذي يتآمر عليه، ومن هم المسؤولين عن هدر دمائه، فإخفاء الحقائق المتعلقة بدماء العراقيين غير أخلاقي وخطر على جميع الأطراف، ولقد سال ما يكفي من الدماء والدموع العراقية.

الحلقة الأولى من هذه المقالة كانت بعنوان لماذا يبقى الإرهاب في العراق(1) مجزرة تكريت والأسئلة الكبيرة (8)

(1) http://www.aliraqnews.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=23062
(2) http://www.arabtimes.com/portal/news_display.cfm?Action=&Preview=No&nid=3328&a=1
(3) http://www.aliraq-online.com/26779.html
(4) http://burathanews.net/news_article_113849.html
(5) http://www.imn.iq/news/view.3301/
(6) http://www.alitthad.com/paper.php?name=News&file=article&sid=85304
(7) http://www.baghdadtimes.net/Arabic/?sid=63802
(8) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=43090



137
 

لماذا يبقى الإرهاب في العراق 1- مجزرة تكريت والأسئلة الكبيرة

صائب خليل
23 كانون الثاني 2011

إن تكرار هذه الجرائم الشنيعة بنفس الأسلوب يدل على خلل أو تقصير واضح من الجهات المعنية.(1)
ليس هذا الكلام لي بل للسيد المالكي، فالرحل يبدو مثلنا محتار بشأن الإرهاب ومن يقف وراءه. والحقيقة أن المرء لا يستطيع أن يمنع نفسه أن يفكر بأن التآمر الإرهابي قد اخترق أعلى المستويات الحكومية، ويصيب الشك حتى المالكي نفسه فيما يعرف ولا يعرف، وما يخفي وما يقول. نعم ليس من المعقول أن لا يفعل أي رئيس وزراء، مهما كانت غاياته، ما بوسعه لوقف الإرهاب على الأقل خلال فترة حكمه، لكن ايضاً ليس من المعقول أن يكرر الإرهاب "إنجازاته" بكل بساطة، دون أن يقيم رئيس الوزراء الدنيا ولا يقعدها!
يقول المالكي أنه "خلل أو تقصير واضح من الجهات المعنية"،(2) وهذا "التقصير" الواضح، خلف ما يزيد عن 250 ضحية بين قتيل وجريح، فأين هي محاسبة صاحب التقصير الواضح؟ ألا يفترض أن نتوقع أن يعدم أحد على مثل هذا التقصير الواضح؟ وهل هي المرة الأولى التي يكون فيها "التقصير واضح"؟ لماذا لم نسمع حتى الآن عن أحد حوكم وأعدم من المسؤولين عن مثل تلك التقصيرات، او القي به في سجن مؤبد؟
نعم عزيزي القارئ، أنا أيضاً ضد الإعدام بشكل عام، فهو عمل وحشي، لكن أليس الإعدام الفعلي والمستمر، لمئات الأبرياء حتى من التقصير، من خلال التساهل المتكرر مع المقصرين، أكثر وحشية من إعدام من ارتكتب تقصيراً خطيراً أدى إلى موت هؤلاء؟ وما أدرى السيد رئيس الوزراء أن التقصير ليس متعمداً وأنه جزء من العملية الإرهابية؟ الا يستحق مثل ذلك "التقصير" تحقيقاً من أعلى وربما أقسى أنواع التحقيق للوصول إلى الحقيقة؟
ماذا يعني "إقالة" قائد شرطة مسؤول عن عملية خلفت عشرات القتلى ومئات الجرحى؟ هل هي عملية رشوة صغيرة، أم تسيب في الدوام، أو تأخر في إنجاز مهمة مطلوبة؟ لماذا لم يتم إلقاء القبض على كل المسؤولين الذين يحتمل أن يكون لهم ضلع أو تقصير في الحادث لحين انتهاء التحقيق؟

لكن مهلاً، فالمهزلة لا تنتهي هنا. فحتى هذه "الإقالة" اللطيفة لم يكن ممكناً تنفيذها، لأن محافظة صلاح الدين رفضت قرار الإقالة لأنه "صدر عن الحكومة المركزية" ! (3) واعتبره المحافظ "تدخلا بشؤون المحافظة ومجلسها، وفقا للقانون رقم 21 لسنة 2008 والذي يخص المحافظات غير المرتبطة بإقليم".(4)

المهزلة لا تنتهي هنا أيضاً. فالحرائق لا تستجلب الناس الطيبين الذين يرغبون بالمساعدة في إطفاء النار فقط، بل ايضاً أؤلئك الذين يأملون أن يسرقوا شيئاً من البيت المحترق، هذا إن لم يقوموا بأنفسهم بإحراقه لذلك الغرض. لقد رأينا في مقالات سابقة كيف كان علاوي وعادل عبد المهدي يسارعان للوقوف في مركز الضوء الذي يسلطه الحريق لتقديم إعلان انتخابي مجاني، أو لتسليط الضغط لتشكيل حكومة بالشكل الذي يناسبهم، ولم يختلف هذا الحريق عن غيره. واليوم، أنتهى الصراع على الحكومة فانتهت التفجيرات التي تقدم وسيلة للضغط للتأثير على تشكيلها، لكن تشكيل الوزارات الأمنية والدفاع لم ينته، وسيرحب البعض بإنفجارين أو ثلاثة تساعد في تسليط بعض الضغط. فسارع جمال البطيخ عضو العراقية بالإشارة إلى أن تأخر اختيار الوزارات الأمنية هو السبب في المذبحة! (5) وأكد زميله في العراقية قتيبة الجبوري، ان تاخير تسمية الوزراء الامنين ...ينعكس سلبا على الوضع الامني، ويؤدي الى استغلال التاخير من قبل الجماعات الارهابية.
الجبهة العراقية للحوار الوطني قالت في بيان لها "ان على الحكومة ، وهي الان امام امتحان عسير ، ان تثبت ان دماء العراقيين ليست رخيصة وهي تستحق كل الاحترام والقيام بكل ما مطلوب للحفاظ عليها ".(6) وبالطبع فالحكومة وحدها هي المطالبة بأن تثبت قيمة دماء العراقيين، اما الباقين فمعفيين من ذلك "الإمتحان العسير" ولهم أن يتشبثوا بمواقفهم كما يشاؤون.
وهاهو "مثال إسرائيل الدائم" في العراق، يخبر الحكومة كيف يجب أن تختار رئيساً للمخابرات العراقية (7) فالجماعة مهتمين كثيراً بالموضوع كما يبدو.
ولم ينس زملاء مثال، اللوبي الأمريكي، مروجوا بقاء القوات الأمريكية الذين يختبئون في انتظار الفرص والجو الملائم للظهور، بعد أن تيقنوا مراراً بأن الظهور قبل الأوان سيئةٌ عواقبه. فتكتب "عراق أون لاين" : "المالكي يؤكد استعداد العراق للإنسحاب الأميركي وحكومته تفشل في أول اختبار أمني كبير" (8) موحية بأن الخطر يقترب مع موعد انسحاب "48 الف عسكري اميركي مهمتهم تقديم النصح ومساعدة القوات الأمنية العراقية" في نهاية العام الجاري.
وليس سراً أن الجانب الأمريكي، بعد أن فشل في فرض "رجله في بغداد" كرئيس للوزراء، فليس أقل من أن يسيطر على الوزارات الأمنية لكي يمكن تنسيق الإرهاب من خلالها ليعمل بأمان، ليتمكن من توفير الجو المناسب لتنفيذ الإتفاقية الإستراتيجية السرية لتطوير العراق وتحديثه، وجعله "المانيا" ثانية، كما قال لنا مؤيدوا المعاهدة. وفي هذا الشأن يخبرنا النائب عن القائمة العراقية طلال حسين الزوبعي بأنه سيكون الدور الاكبر لواشنطن في تسمية الوزراء الامنيون،" وذلك "لكي يؤيدوا بقاء القوات الامريكية في بغداد"، مشيرا الى ان الشخصيات المدعومة من واشنطن ستتسم بالمهنية والخبرة في المجال الامني وكذلك بعض السياسيون سيذهبون الى مجلس النواب مطالبين ببقاء القوات الامريكية.(9)

نعود إلى موضوع التفجيرات، ونقول، رغم أن أي خلاف يتسبب في تأخير اتفاق ما، يحتاج إلى طرفين على الأقل للتسبب فيه، إلا أن هذه الحقيقة تنسى بسهولة تامة في الإعلام الموجه (أمريكياً في  العراق)، وليست هذه هي المرة الأولى.
في عام 2006، قادت الولايات المتحدة حملة علنية في تلك المرة، لإزالة الجعفري عن الوزارة، وكان الإعلام كله يركز وبتنسيق مع العديد من السياسيين وعلى رأسهم جلال الطلباني، على ضرورة ان يقدم الجعفري التنازل، وأنه يقف لوحده عثرة في طريق الحل.
اليوم، البطيخ يكرر المسرحية القديمة لقائمته العراقية فيقول "ان المالكي هو الوحيد الذي سيحدد متى ستحل هذه الازمة وتتشكل الوزارات الامنية." هذا بالرغم من أن نفس الخبر في المصدر أعلاه يشير بشكل مباشر إلى أن قائمة البطيخ، "ما تزال متمسكة" بمرشحيها، فلماذا يحق لهم أن "يتمسكوا" ولا يحق لغيرهم؟ ولماذ حين "يتمسك" الجميع، يلام طرف واحد على التأخير؟
لم يلمح أحد إلى أن العراقية مثلاً مسؤولة عن الإنفجار، لأنها "تتمسك" بمرشحها لوزارة الدفاع، والذي يعترض عليه الآخرون، تماماً مثلما لم يشر أحد في عام 2006 على الإطلاق (باستثناء كاتب هذا المقال على حد علمي) إلى وجود إمكانية أن يتنازل الجانب المقابل أيضاَ، وحينها استشعرت مؤامرة، وطالبت الجعفري أن لا ينسحب، (10) وكتبت كذلك عن مهزلة العملية بعد نهايتها بتنازل الجعفري(11).

 كل شيء يتكرر.. التفجير يتكرر، والإستنكار نفسه، ورد فعل رئيس الحكومة بالعمل على كذا .. نفسه، ولصوص الحرائق نفسهم، جاءوا ليقولوا الشيء نفسه، وها أنا أكرر مطالبتي، هذه المرة للمالكي، وأقول: لاتتنازل وعين من تستطيع أن تتحمل سمؤوليته! وإن تنازلت فلن يعفيك ذلك من مسؤوليتك عن الرجل الذي تقبل بتعيينه في منصب أمني، والجو مليئ بالمؤامرات ولا يتظاهر بالثقة إلا مغفل أو ضعيف.

والآن وبعد أن ذكّرنا بأن أي تأخير في الإتفاق على شيء، لا يمكن أن يتحمل طرف واحد ذنبه، وأن التركيز على جهة واحدة والضغط عليها للتنازل يثير الشكوك والريبة بالقصد، نعود لمناقشة نقطة أخرى، وهي علاقة تشكيل الوزارات الأمنية بما حدث في تكريت وأطلق كل تلك المطالبات، فنقول: إن كانت صلاح الدين ترفض أبسط إجراءات الحكومة المركزية، سواء كان ذلك بحق كما ذكر مجلس المحافظة أو بغير حق، فكيف لتشكيل الوزارات الأمنية أن يحل المشكلة؟ أليست تلك الوزارات جزء من "الحكومة المركزية" المغضوب عليها؟ لما ذا نثق أن "حكومة" صلاح الدين ستقبل من وزير الداخلية ما لم تقبله من رئيس وزرائه؟
هل سيتغير شيء إذن بعد تشكيل الوزارات الأمنية؟ الأمر يعتمد على من سيسلم تلك الوزارت. إن استلمتها الجهات الأمريكية، فعلى الأغلب لن تعترض محافظة تكريت على أوامرها، وسيصيب حتى الإرهابيين الشلل بقدرة قادر، أما إن كان العكس...

ولأضيف المزيد من الحيرة على حيرتكم أعزائي القراء، دعوني أعود إلى حادث تفجير تكريت، وأذكر بمقالة سابقة لي حول الموضوع.  خبر الحادث يقول أنه جرى من خلال أنتحاري يحمل 20 كيلو من مادة تي إن تي، وكمية من "الكريات المعدنية" (عثروا على الكثير منها في جثث الضحايا) في سترته ومتفجرات «سي 4» وأكثر من عشرة قنابل. (12)
يعني أن الرجل كان يحمل بحدود 35 كيلو أو أكثر، ولنعرف ما معنى ذلك نتذكر أن وزن كيس السمنت هو 50 كيلو، اي أن الإنتحاري كان يحمل حوالي ثلاثة أرباع كيس سمنت، معظمها "في سترته". أن من حاول يوماً أن يحمل كيس سمنت، يعرف أن هذا أمر غير معقول.. فلا يستطيع أحد أن يحمل ما يقارب كيس سمنت ويسير متظاهراً بأنه لا يحمل شيء، في مكان يشتبه في كل إنسان فيه في مثل هذه الظروف، فكيف لم يشك به أحد؟ أفيدونا رجاءاً....

دعك من هذا، يقول الخبر أنه فجر نفسه عند صف من أكثر من 300 شخص أمام مركز التطوع، وهنا نقطة أساسية. لماذا يتجمع 300 متطوع أمام المركز في نفس الوقت؟ اليس هناك بديل؟
يقترح النائب عن كتلة الوسط مطشر السامرائي فكرة التطوع عن طريق الإنترنت كما يفعل من يسعى إلى العمل في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات"(13)
لكن الأمر أبسط من ذلك كثيراً، فقد لا يتوفر الإنترنت لكل الناس. لقد سبق لكاتب هذه المقالة إثر حادث إرهابي مشابه لهذا بالضبط، أن نبه إلى أنه من السهولة تماماً تفادي مثل تلك الحالات وباسلوب لا يكلف فلساً واحداً، وهو أن يعطى كل مراجع فور وصوله، رقماً ووقتاً يراجع به المركز ويصرف فوراً،
كتبت في سطور تلك المقالة الأولى: (14)
"مئتي متطوع تتفجر أجسادهم عند وزارة الدفاع (*) ومئات تلحقها بعد أيام..هذه المآسي لم تعد تثير فينا سوى الأسئلة، وحتى الأسئلة ستنتهي مادام ليس لأبسطها أمل في الإجابة.
مرة أخرى ستنطفئ الأسئلة وتموت:.... لماذا تركوهم يتجمعون ليفجرهم الإرهابي؟ أما كان بالإمكان إعطاء كل مراجع رقماً وساعة معينة يعود فيها بدلاً من تجميعهم أمام باب الدفاع في إنتظار من سيفجرهم؟ اليس هذا الحل بسيطاً؟ لماذا لم يخطر ببال أحد من "الباحثين" في الإرهاب في وزارة الدفاع أو الداخلية من عراقيين و"مستشارين" أمنيين أجانب لا غنى لنا عن خبرتهم العظيمة؟ أغبياء لم تخطر الفكرة ببالهم؟ حسناً هاهي الفكرة مطروحة، هل تتصورون أن أحداً سينفذها؟ أم أنهم يتعاونون مع الإرهاب لتجميع الضحايا؟ إن البعض صار يتحدث عن ذلك ساخراً أو جاداً (**)
يتساءل المرء: ما نفع التحليل والتفكير والتدبير إن لم يكن هناك أدنى اهتمام حتى بحماية الناس من القتل؟ أليس هذا حال عجيب لحكومة؟ بالنسبة لي "لم يعد هناك عجيب".. هذا ما صرت أردده منذ فترة...أنا أقول: هذه الأجساد وتلك الدماء التي سالت والتي ستسيل، كلها في رقتبك إيها المالكي"

 ماتزال الحقائق نفسها صحيحة، وماتزال الأسئلة نفسها مطروحة بلا جواب، فلماذا؟ والآن أسأل نفس تلك الأسئلة، واضيف إليها سؤال آخر: لماذا لم يتم تبني الإتقراح الذي قدمته في تلك المقالة، إن لم يكن أحدا قد طرحه من قبل بالفعل؟ أخي رئيس الوزراء، ما الذي يمنعك أن تعلنه في الراديو والتلفزيون لتبرئ ذمتك أمام شعبك، إن لم يكن هناك طريقة أخرى؟
هل ما قاموا به في تكريت وفي وزارة الدفاع قبل ستة أشهر، "تقصير" أم "تجميع للضحايا" لكي يأتي الملغوم ليفجر نفسه بهم؟ ألا يشبه هذا مذبحة أطفال النعيرية حين وزعت سرية من الجيش الأمريكي الألعاب على الأطفال ثم تركتها مكومة وفرت مسرعة، لتأتي بعد ذلك فوراً سيارة ملغومة لتفجر الأطفال الذين تم تجميعهم؟(15) نفهم أن ألأمريكان يمكنهم أن يفعلوا كل شيء ولا يحاسبوا، فهل المسؤول عن تجميع هؤلاء وتحضيرهم  للملغوم، أمريكي الجنسية أيضاً؟ أفيدونا رجاءاً...

سؤال أخير قبل أن أودعكم.. إن كان هذا هو حال "محاربة الإرهاب" في العراق، وإن كان قادراً على تكرار جرائمه أمام جهاز حكومي لا يبدو أنه يتعلم شيئاً منها، فهل من غرابة في أن يبقى الإرهاب على قيد الحياة فيه طويلاً جداً؟..

***

في الحلقة الثانية لنا عودة إلى آخر تطورات فضيحة ثابتة أخرى هي أجهزة كشف المتفجرات...


(1) http://aljewar.org/news-30406.aspx
(2) http://www.moheet.com/show_news.aspx?nid=443644&pg=2
(3) http://www.alsumaria.tv/ar/Iraq-News/1-59213-.html
(4) http://www.iraqcenter.net/vb/61452.html
(5) http://www.shatnews.com/index.php?show=news&action=article&id=815
(6) http://www.ninanews.com/arabic/News_Details.asp?ar95_VQ=FFEELE
(7) http://www.almadapaper.net/news.php?action=view&id=6624
(8) http://www.aliraq-online.com/29930.html
(9) http://www.ikhnews.com/news_view_6935.html
(10) أيها الجعفري لاتنسحب..........صائب خليل
http://www.iraqcenter.net/vb/21169.html
(11) لو حكم سليمان الحكيم لأعطاها للجعفري فوراً – صائب خليل
http://www.iraqcenter.net/vb/21636.html
(12) http://arabinfocenter.net/pkg09/index.php?page=show&ex=2&dir=news&lang=1&nt=1&nid=119358
(13) http://www.burathanews.com/news_article_114639.html
(14) http://www.sautalomal.org/index.php?option=com_content&view=article&id=955
(*)http://www.alsumarianews.com/ar/2/10452/news-details-.html
(**)http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=17718
(15) صائب خليل: من قتل اطفال النعيرية؟ رائحة فضيحة اكبر من ابوغريب!
 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=99928



138
تونس التي جعلت قلمي يرقص طرباً!

صائب خليل
14 كانون الثاني 2011

كيف يكتب القلم، عندما يكون الوقت وقت للرقص؟ كيف يكتب القلم عندما يكون الفرح كبيراً لا تسعه الحروف؟ ...
آه شعب عربي يتحرر من قبضة الوسخين الوضيعين! نعم لست بحاجة إلى ان أتكلم عنهم بأي احترام ولم افعل ولن أفعل..

آه يا شعب تونس، منك تنطلق الشرارة الجديدة.. منك تنطلق صرخة تخرس أعداء الشعوب، ليس من الجلادين فقط، وليس من المدافعين عنهم فقط، بل تخرس أيضاً الأصوات التي غمرت المرحلة بالكلام التثبيطي اليائس، والدعوات المزيفة الكلمات بـ "الإعتدال" و "الحكمة" و "فن الممكن" و "التوازن"، وكلها كلمات قصد منها خطاب لا علاقة له بمعناها، خطاب لم يكن إلا جزءاً من المؤامرة ، ولم يكن أصحابه إلا جزءاً من المتآمرين، المتآمرين على إحساس الإنسان بالأمل والحلم.

آه يا شعب تونس، هل لي أن أقبلك؟ هل لي أن أشكرك على الفرحة ا لتي أدخلتها إلى قلوبنا المحزونة بالهم والإحباط؟ نعم يا جيفارا ".. لانستطيع أن نقف مكتوفي الايدي حيال ما يحدث في اي مكان في العالم، لان إنتصار أي بلدٍ على مضطهديه* لهو إنتصار لنا، تماماً كما أن هزيمة أي بلدٍ هي هزيمة لنا."

مساء أمس كنت أشاهد أحد القردة، (لعل "الكلاب المتوحشة" وصف أفضل) التي تحكمت بمصير الشعب الذي تنتمي إليه، وهو يشير بيده ببلاهة تثير الشفقة ويصرخ "لقد فهمت، لقد فهمت، لقد فهمت مطالب الشعب" .. الآن فقط، بعد ربع قرن من الحكم الحديدي، فهم هذا القرد "مطالب الشعب"! بيني وبينكم قلقت: "هل يعقل أن يخدع هذا الناس"؟ لكن تونس برهنت خطل مخاوفي، فلم يخدع هذا القميء أحد، ولم نتطل وعوده بالعمل وتخفيض الأسعار التي لم يتذكرها إلا والسوط في ظهره، على أحد!

هاهي دولة تعود إلى حكم الشعوب، هاهي دولة أخرى تهرب من سلطة رجال المال والإرهاب العالمي الحقيقي، وتعود إلى أهلها، فيكبر بها خندق الشعوب ويصغر خندق الجلادين.
ها هي تونس تقول: "أنظروا! يبدو أنه فعلاً نمر من ورق! هذا الذي كان يخيفنا، هذا الذي ما زال يخيفكم! أخترقوا الخوف معاً، فإذا به يتمزق، وإذا به غشاء خفيف لا شيء خلفه. ها هي تونس تكشف للناس سمك الحاجز الرقيق بين الحرية والعبودية.

على شاشة التلفزيون، مارتن داي ممثل الحكومة البريطانية، يرطن بلغة عربية قبيحة: "الأمور تتدهور بسرعة" ... أية بلاهة ! الأمور تتصاعد وترتفع بسرعة، الأمور ترتفع وتسمو بسرعة كأنها صعادات العيد، لكنه محق مع ذلك، الأمور "تتدهور بسرعة" بالنسبة لأعداء الشعوب، وهم لا يملكون أن يخفوا مشاعرهم القبيحة.
"...نريد الإستقرار في .. ولكن بنفس الوقت نؤيد الديمقراطية.." ... صه أيها القرد!.. ما أنتم إلا أعداء الديمقراطية وأعداء الحياة. أنتم مصدر الإرهاب و"محور الشر"... بملابسكم الأنيقة وأكاذيبكم الكبيرة وما تخفيان من نفوس ضعيفة مهترئة.

يذكرني هذا الأحمق بمواقف حكومته والحكومة الأمريكية وخاصة الفرنسية، عندما تخلوا عن رطانتهم الديمقراطية وتحدثوا عن إرسال قوات عسكرية لمساعدة عميلهم "زين العابدين". ولم يغيروا عباراتهم إلا بعد أن يأسوا من إنقاذه. إنهم لا يختلفون عنه، لا أخلاقاً، ولا موقفاً، ومثلما لم يتذكر الدكتاتور توفير الخدمات والمواد والعمل للشعب إلا بعد أن اقترب حبل المشنقة من رقبته، فهم لم يتذكروا الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا بعد يأسوا من إنقاذ الظلم الذي يضطهدها لحسابهم.
فرنسا لم يهن عليها هذه الهزيمة والفضيحة فلم تستطع منع نفسها من وصف البديل الغنوشي بـ "الرجل النظيف"! ولعله ليس أكثر "نظافة" من "نظيفهم" الآخر في مصر، الذي يراه المصريون رمزاً للوساخة!  لقد فضحتهم يا شعب تونس، وكشفت زيف شرفهم وزيف كلامهم الذي كان ينزل سكاكين مملحة على جروحنا، بكل ما يحتويه من كذب صلف.

دكتاتور تونس هرب، لكن الثعالب لم تهرب بعد، ومازال أمثال رئيس الحكومة ورئيس البرلمان ووزير الداخلية السابق يمتلكون الوقاحة والصلافة لإعلان استلام الحكم بالنيابة الموقتة عن بن علي. ذهب الوحش الكبير، ويجرب الغنوشي الصغير فرصته لإنقاذ النظام المهترئ بالتخلي عن رموزه وإبقاء روحه العفنة. إنه لا يخجل أن ينسب صلاحياته إلى تخويل من الدكتاتور المحتضر.
ولكن الشعب الذي لم يخدع لحظة بخطاب الدكتاتور، لن يفشل في اكتشاف الخدعة الصغيرة الجديدة، وبالفعل، أنا أستمع الآن إلى ردود أفعال قادة المعارضة التونسية، ولم أجد صوتاً واحداً يشير إلى أي احتمال لمرور الخديعة.

سمعت أن حكومة الأردن أعلنت تخفيضاً في أسعار بعض المواد الأساسية، فالرعب سينتشر في هذه المنطقة المتعفنة بالدكتاتورية ورجال الأمن. هذا اليوم، سألت زميلة تونسية ونحن نتابع الأحداث بترقب وشوق: "أتعلمين من يتابع الأحداث الآن بقلق لا يقل عن قلق بن علي؟...إنه حسني مبارك، وعبد الله الصغير، و "ارخص رئيس في التاريخ" أيضاً وأمثالهم... أراهن أن كل "ملك" وضيع في المنطقة، تحسس هذا اليوم رأسه ورقبته"! أراهن أن جواً من القلق والكآبة تخيم على القصور المنتشرة في هذه الأرض التي لم تتنفس منذ زمن طويل، دون أن يدري أصحابها ما السبب!

أين رجال الأمن المرعب؟ أين مخابرات الدكتاتوريات الرهيبة التي تعرف كل شيء؟ أين دعم الموساد والسي آي أيه التي تنصت لأي حرف ينطق وأي مفتاح يضغط على الكيبورد، وتنقله للحكومات "ألصديقة" و "المعتدلة"؟ أين تلك القادرة على إحصاء أنفاس الشعوب وخطواتها، كما تصورنا؟

لقد قال شاعرك أيها الشعب الصغير الكبير: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة"، وها أنت تكمل بالبرهان أنه "لا بد أن يستجيب القدر". إنه دورك فالعب، إنه يومك فانهض". لقد فاحت من تونس رائحة الحرية العبقة، ولا بد أنها منتشرة عبر السهول لتثير الهمم وتبعث الأمل وتغري الناس بمحاولة تحطيم قيودها، وكشف حقيقة نمر الدكتاتورية ومدى حقيقة صلابته، فلعله في كل مكان لا يزيد سمكاً عن نمر "بن علي" !؟ هناك طريقة واحدة لمعرفة ذلك! من يريد أن يجرب سعادة الشعب التونسي الذي لا تسعه الأرض من الفرح والفخر، فالطريق صارت واضحة أمامه. أما أنا فاعتذر من قرائي، إن لم يجدوا من قلمي التحليل الذي ينتظرون، فقد قرر أن هذا المساء للرقص فقط!


(*) "الإمبريالية" في النص الأصلي لجيفارا..
مقالة اخرى للكاتب حول الموضوع: شعب تونس يريد الحياة ...ولابد أن يستجيب القدر
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=42584:2011-01-13-06-32-38&catid=36


139
شعب تونس يريد الحياة ...ولابد أن يستجيب القدر

صائب خليل
12 كانون الثاني 2011

كما قادت أرواح أبطال أميركا اللاتينية، سيمون بوليفار وجيفارا، ثورات الشعوب الأمريكية، فألهبت "الحديقة الخلفية التي لم تؤذ أحداً" للولايات المتحدة وعملائها من الدكتاتوريات البشعة، فأن روح الشابي تحوم اليوم فوق الشباب التونسي وهو يهتف : إذا الشعب يوماً أراد الحياة    فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي    ولا بد للقيد أن ينكسر.

ومثلما فاجأت شعوب أميركا الوسطى والجنوبية دكتاتورياتها التي تخرجت من "مدرسة الأمريكتين" العسكرية الأمريكية، وأطاحت بهم، فاجأت انتفاضة الشباب التونسي السلطة الدكتاتورية المتشبثة بالسلطة، وانتشرت بشكل لم يكن متوقعاً على الإطلاق. ولم تكن الأحداث مفاجئة للحكومة التي أقالت وزير داخليتها وأنزلت الجيش إلى الشوارع، وإنما فاجأت الأحزاب السياسية نفسها، حسبما وصلني من داخل تونس. والحقيقة أن انتفاضة شباب تونس ليست سوى واحدة من سلسلة انتفاضات هزت عدداً من الدكتاتوريات العربية الراسخة في المنطقة. (*)

لقد أطلق انتحار شاب تونسي جامعي يائس وعاطل عن العمل، شرارة الإنتفاضة من "سيدي بوزيد" في وسط تونس تطالب بحياة كريمة واشترك فيها كل من يحس بذلك الإحساس لتنتشر إلى الشمال والجنوب وتشمل اليوم كل بقاع تونس، وليس "بضعة مدن" كما كان بن علي يحاول أن يكذب على الناس في خطابه الإستفزازي الذي انطلقت المزيد من التظاهرات بعد نهايته.

لقد عكست مطالب الشعب كما أعلنها أحد النشطاء في إحدى محطات التلفزيون والمتمثلة بـ : توفير الحاجات الأساسية والحرية والعدالة الإجتماعية ومعاقبة الذين استولوا على ممتلكات الشعب، وكذلك عدم ترشيح بن علي لولاية جديدة، عكست أسباب الإنتفاضة ومكانة الجانب الإقتصادي منها. وهنا أيضاً لا تختلف تونس ومتظاهريها عن دول أميركا اللاتينية وشعوبها التي طردت الشركات الأجنبية والحكومات الفاسدة التي تدافع عن مصالحها.
لقد استوحت أميركا اللاتينية أبطالها ليس فقط في ثورتها ودعمها لقادتها، بل أيضاً في مشاريعها الإقتصادية مثل "البديل البوليفاري"(1) ، الذي تم بين عدد من تلك الدول، كبديل عن إتفاقيات التجارة الحرة الرأسمالية، ويحرص على توزيع ثروات البلدان على شعوبها لتأمين صحتهم ومأكلهم وملبسهم، وليس لإرضاء مبادئ السوق المناسبة للشركات، وهي السياسة التي يحرص على تثبيتها في بلاده، أي حكم موال للولايات المتحدة.

من المثير للإهتمام أن نراقب هنا النفاق الغربي الذي التزم الصمت المطبق لعدة أيام، عن عمليات القتل وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، ثم حين طالت الأزمة، واضطر إلى اتخاذ موقف، لجأ إلى الكلام الغامض المموه. ولعل أجمل التصريحات تلك التي جاءت على لسان وزيرة الخارجية الفرنسية، والتي قالت: "إننا لن نعطي الحكومة التونسية دروساً في الديمقراطية."
الأمم المتحدة، اضطرت أخيراً إلى تصريح خجول بدعوة الحكومة التونسية للتخلي عن "الإستخدام المفرط للقوة"! أما الولايات المتحدة فقالت أخيراً أنها "غير منحازة لأي طرف"! قارنوا ذلك بموقف الغرب ومواقفه الحاسمة من تظاهرات الإنتخابات في إيران.

وليس الأمر أن الغرب وبان كيمون واقعين في حب الشعب الإيراني، ويكرهون الشعب التونسي، لكن الدكتاتورية التونسية، تماماً كالدكتاتورية المصرية، وكما كانت الدكتاتورية الصدامية في الماضي، وجميع دكتاتوريات أميركا الوسطى والجنوبية، كلها أصدقاء الحكومات الأمريكية، ولعلهم يرون أن "بن علي" "قد يكون وغداً، ولكنه وغدنا" كما عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي السابق فرانكلين روزفلت، وكما تكاثر أوغاد أميركا وانتشروا في كل مكان وصلت إليه يدهم، كما يعبر عن ذلك هذا الفيديو الكاريكاتيري الجميل. (2)

وإضافة إلى الوحشية الشديدة التي واجه بها حكام تونس المرعوبون مما يحدث، المتظاهرين، فأنهم لجأوا فوراً إلى محاولة تشويه الإنتفاضة، فأطلقوا عليها أسم "أعمال شغب" (وكررت وسائل الإعلام الغربية هذه العبارة في نشراتها)، ولم يكتفوا بذلك بل لجأوا إلى إدخال اللصوص ورجال الأمن داخل التظاهرات والقيام بعمليات تخريب وسرقة ليتم بها وصم المتظاهرين بالمخربين.

لكن الإنتفاضة التونسية دافعت عن نفسها وفضحت محاولات تشويهها، فقد وصلني الإيميل التالي:

القصرين  -مصادر نقابية ومحلية -  قامت مجموعات من لصوص التجمع باقتحام بعض المحلات التجارية ليلا في محاولة لتشويه العملية الاحتجاجية وتجريمها. وقدكانت العصابات تجوب المدينة ليلا لتخريب بعض الممتلكات الخاصة بحضور شهود الزور من قناة تونس7 متخفيين داخل سيارات الاسعاف لتصوير ما يحدث وتسويقه للرأي العام على أنه عمل اجرامي قامت به عصابات الملثمين .
ويجدر بالذكر أن اطرافا تجمعية شرعت في نشر فيديوات مفبركة ومقتطعة من سياقها وتعود لتواريخ قديمة على شبكة الفايسبوك (جزء من فيديو قديم لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ....فيديو لعمليات نهب لمخزن للخمور في القيروان (3) حدثت منذ عامين اثر نشوب حريق به ...إلخ

وهذا الأسلوب الدنيء ليس غريباً أو جديداً، ولا يقتصر انحطاط أخلاقيته على حكومات العالم الثالث الدكتاتورية، بل تمارسه "الديمقراطيات" الغربية للإيقاع بالمتظاهرين ضدها، وهناك أكثر من مثال تاريخي على ذلك.
من تلك الأمثلة أذكر ما رواه الناشط الهولندي الراحل، لوي سيفيكا الذي قتل قبل بضعة سنوات من قبل مجهول، ويستحق مقالة مستقلة بلا شك. (يعتقد أن الأمن الهولندي وراء الجريمة، كما أشارت عدة صحف هولندية، إنتقاماً من فضح سيفيكا عدد كبير من شخصيات الأمن السري سابقاً، وتخريب عملها) وجاء مقتله بعد أيام من تصريحه في مناسبة بأن رجال الشرطة والأمن طالما أخترقوا الناشطين بأشخاص يحثونهم على استعمال العنف، ويقودون عمليات العنف في كل مناسبة ليعطوا الفرصة للشرطة لمحاسبة الناشطين بشكل قانوني.

لكن شرطة بن علي لا يكتفون بذلك، بل يطلقون الرصاص الحي على المتظاهرين، وعلى الصدور والظهور وليس على الأرجل، والضحايا تسقط، لكن لا ينتظر من أميركا و "المجتمع الدولي" أن تنشئ محكمة دولية لمحاكمة القتلة، إلا أنها ستحصل على كل المعلومات اللازمة وتخزنها لإبتزاز حكومة بن علي إن احتاجت إلى ذلك مستقبلاً لأجل تمرير أجندة معينة، وحينها فقط سيستيقظ ضميرها ويملأ صوته الإعلام وستثير احتمال "محكمة دولية"، أو قرارات من مجلس الأمن، تماماً كما فعلوا مع صديقهم السابق صدام حسين، فدافعوا عنه عندما كان يرتكب جرائمه في حلبجة وغيرها، لكن إنسانيتهم تفتحت فجأة حين أرادوا التخلص منه.

لكن التظاهرات استمرت لتصبح موضع إحراج فلم يعد هناك مفر من بعض التصريحات الخجولة، وهي مؤشر لتداعي التضامن مع الدكتاتورية. ماتزال الإنتفاضة مستعرة وتتزايد، وقد هرب العديد من أفراد أسر العائلة الحاكمة إلى الخارج وتمت إقالة وزير الداخلية التونسي وكذلك الفريق أول رشيد عمار رئيس أركان جيش البر التونسي بعد أن رفض إطلاق النار على المتظاهرين، وعرضت صور تبين الجيش يحمي المتظاهرين من الشرطة كما عرضت أفلام يعبر فيها أفراد من الجيش عن تضامنهم مع المتظاهرين، فما نراه إذن ليس سوى رأس جبل كبير من الثلج الذي لم يعد النظام قادراً على إخفائه بشكل جيد، وفي  النهاية، "لا بد للقيد أن ينكسر"، كما يهتف الشباب التونسي الشجاع!
***

"... لا يكفي أن نتمنى للضحية التوفيق، بل على المرء ان يشاركها المصير: عليه ان يلتحم معها في موتها أو إنتصارها".
إرنستو تشى غيفارا



(*) انشغلنا للأسف عن انتفاضة انتخابات مصر، وعن تظاهرات انتخابات الأردن، لأن العراق كان يمر أيضاً في لحظات حرجة، لكن الوقت لم يفت لنقل كلمتنا بانتفاضة تونس المباركة.
(1) البديل البوليفاري   http://www.abnaa-elbalad.org/bolivar.html
(2) http://www.youtube.com/watch?v=0Q5oPxAItuk&feature=related
(3) http://www.facebook.com/note.php?note_id=168298846548327&id=189381554411547#!/TunisNews


140
العراق يحتضر تحت ضغط فدراليته

صائب خليل
10 كانون الثاني 2011

لقد كانت علاقة الكرد العراقيين بوطنهم علاقة إشكالية مؤلمة، دفعوا ثمنها غالياً، لذا فأن جراحهم عميقة وبحاجة إلى الكثير من الوقت لكي تلتئم. لكن هذا يفترض أن الجرح يتلقى العلاج السليم، وأنه يتماثل مع الوقت للشفاء، لا أن يزداد عمقاً وتعفناً، فالمريض قد يتجه نحو الشفاء او ليموت، فإلى أين تتجه فدرالية العراق؟
للأسف، نرى أن فدرالية العراق سارت في طريق يؤدي نحو الهاوية، وأن الوقت بدل من أن يضمد الجراح فإنه يزيدها عمقاً، والهوة التي كانت بين الكرد وحكام العراق فقط، امتدت مع الوقت لتصبح هوة مع الشعب العراقي أيضاً من غير الكرد.
هناك من يأمل أن يلتئم الجرح، لكن هناك من يريد العكس، ويبدو لي أن هذا الأخير أكبر قوة وسلطة في كردستان. هناك نشاط إعلامي وسياسي واضح موجه لتثبيت الكراهية الكردية للعرب وتحويل الظلم الذي طالهما معاً، والذي تحالفا ضده كثيراً، إلى "ظلم عربي" ضد "الكردي". لا يذكر الإعلام الكردي التعاون بين الشعبين ضد الدكتاتورية، بل يؤكد "عربيتها" وقومية المعركة، معمقاً الشق بين الشعبين وبين الحكومتين التين تتكونان من قياديين كانوا حتى قبل فترة وجيزة يعقدون مؤتمرات المعارضة للدكتاتورية سوية، ويتبادلون الرأي في كيفية محاربتها.

لقد أصبح الشق عميقاً، حيث سارت الأمور نحو الهاوية دون اعتراض. لقد كان لإعتزاز العراقيين بوحدتهم أثر سلبي أكثر مما هو إيجابي، تمثل برفض مناقشة الإشكالات التي تراكمت وتزايدت، لأن مجرد مناقشة أي احتمال قد يؤدي إلى انفصال كردستان، كان أمراً مخيفاً للعرب على الأقل، إن لم يكن كذلك بالنسبة لبعض الكرد أيضاً. والنتيجة أن أعداء وحدة العراق حصلوا على الوقت اللازم لتعميق الجرح والشق، وبالتالي ازداد الإحتمال المخيف واقعية مع الوقت بدلاً من أن يزول.

عدم الثقة المتبادلة

لقد كان لحروب الدكتاتوريات ضد الكرد العراقيين أثره المدمر، وبشكل خاص على نظرة الشعب الكردي إلى العراق. وكان للتوجه الإعلامي بتصوير الحرب بطريقة ظالمة على أنها "عربية" ضد "كردية" أثره الأكثر تدميراً للنفسية الكردية، وقد كتبت العديد من المقالات عن ذلك الإعلام المغرض والذي يتجه غالباً بتملق شديد نحو إسرائيل، لأسباب عديدة.
ولأسباب عديدة أيضاً، تصرفت القيادة الكردية بطريقة خسرت معها التعاطف الشعبي العربي، الذي تحول إلى إحساس بالمهانة والخوف، بل الكراهية، ليس إلى الشعب الكردي، إنما لقيادته التي انتخبها. وليس هذا تحيزاً، بل من خلال متابعتي لما يكتب، فمن القليل أن توجه اية مقالات حادة إلى الشعب الكردي نفسه من قبل الكتاب العرب، رغم أن التمييز يقل مع الزمن بين الساسة والشعب الكردي لدى الكتاب والمواطنين العرب، ورغم وجود كتاب عرب شوفينيين بلا شك، لكن بالمقابل تتجه معظم المقالات الحادة النقد من الجانب الكردي إلى العرب ككل وليس إلى سياسيين محددين وحكام معينين.
هذا الوضع زاد من الشق بين الشعبين مع الوقت، وازداد عدم الثقة المتبادل بينهما، ولم يتم الإنتباه إليه إلا في وقت متأخر كثيراً. ولعل اليساريين العراقيين هم أكبر من يتحمل هذا الخطأ لمسارعتهم برفض أية محاولة لمناقشة ما يجري على أرض الواقع، واعتبار أي نقد عربي للجانب الكردي، بقايا بعث وشوفينية يجب شجبها بكل قوة. وبدورهم استعمل القادة الكرد هاتين التهمتين كدرع يردع عنهم أية انتقادات مزعجة.

النزعة الإستقلالية الشديدة

من المفعوم أن كل شعب يتعرض إلى ما تعرض له الشعب الكردي في مختلف البلدان التي يعيش فيها إلى نزعة شديدة للإستقلال. وقد صوت الشعب الكردي للإستقلال بأكثر من 90% في اول انتخابات جرت. ولا يفهم بقاء كردستان ضمن العراق إلا أنه بالرغم من إرادة الشعب الكردي، وأنه قد تم فرضه عليه من قبل قيادته، أو أن تلك القيادة أقنعت الشعب بأن الوقت لم يحن للإنفصال. وفي كلتا الحالتين يجب اعتبار كردستان في "ضيافة مؤقتة" في  العراق، والتصرف على هذا الأساس، ما لم تحدث معجزة تغير الأراء، ولا يبدو أن في هذا العالم ما يكفي من المعجزات لمعالجة جراحه. فبقيت السياسة الكردية والعربية في العراق تتباعدان وتتزايدان عداءاً وانعدام ثقة، وفي مختلف، بل في كل المجالات.

النفط

في النفط، تصرف قادة كردستان كمجانين (أو لصوص) يبغون بيع أكبر قدر ممكن من النفط الكردستاني إلى الشركات الأجنبية وبأبخس سعر ممكن، وبعقود سرية لم يطلعوا عليها، لا وزارة النفط الإتحادية ولا البرلمان العراقي، ولا حتى برلمان كردستان نفسه!
وكان أشتي هورامي وزير نفط الإقليم يتصرف كشخص مهووس، أو يتظاهر بذلك، فيصرح: "كلما قالت بغداد، - غير قانوني - وقعنا عقداً إضافيا"، ولو كان في كردستان حكومة في الحد الأدنى من المعقولية لحاسبت هذا الوزير الذي يوقع العقود ليس وفقاً لمصلحة البلد، ولا حتى كردستان، بل كرد فعل على ما تقوله الحكومة العراقية!

حقول ليست صغيرة اختفت من الخرائط وانتقلت اوراقها من ملحق رقم (3) الخاص بالحقول المكتشفة الى ملحق (4) للرقع الإستكشافية الخاصة بالمناطق غير المسكتشفة بعد، لتقوم الشركات بـ "إعادة اكتشافها" وبيعها للعراق من خلال عقود مشاركة الإنتاج على اساس ان الإكتشاف تم بمخاطرتها بأموالها وبجهودها! اننا لانتحدث عن حقول صغيرة بل عن حقول مثل حقل كورمور الغازي (والذي هو ضمن محافظة صلاح الدين وتم الإستيلاء عليه)، وكذلك حقل طقطق الذي وصفه خبير النفط العراقي فؤاد الأمير بأنه "قد يكون أثمن اكتشاف في حقول الشمال منذ اكتشاف حقل كركوك."! (1)
ووقعت بهذه الطريقة عددا كبيراً جداً من العقود لم يسبق لأية دولة في العالم، وليس إقليماً في بلد صغير، أن وقعته بتلك السرعة مع الشركات النفطية، الكثير منها بمشاركة ساسة وسفراء امريكان سابقون في العراق، وبخلاف واضح وصريح لأي مبدأ من مبادئ تضارب المصالح.
كل هذا والمواطن العربي ينظر إلى حكومته غير القادرة على التصرف إزاء هذا الإبتزاز والتبذير ليس لثروة كردستان فقط، وهي مازالت جزء من العراق، وإنما لثروة بقية العراق حيث أن العراق كله يمتلك نفط العراق كله حسب الدستور.
ولم يقتصر الحال على عقود حقول النفط، بل امتد إلى بيعه وإنشاء مصافي "غير شرعية" وصل عددها إلمعترف به إلى أكثر من 80 مصفى، وإلى تجاهل تسليم الحكومة المركزية الكمارك الدولية والضرائب وغيرها. الشرفاء في بقية العراق كانوا يتطلعون بألم وغيض، واللصوص كان لعابهم يسيل لتكرار "تجربة كردستان"، وخاض اللصوص حملات واسعة أقنعت نسبة من غير اللصوص أيضاً بمشاريعهم التي لم تأت ثمارها لحسن الحظ، حتى الآن.

البيشمركة

البيشمركة جيش مستقل، الهدف الأساسي من إنشائه هو محاربة الدولة العراقية عند الحاجة، وليس لدرء الأعداء الدوليين، فلا يملك هذا الجيش ما يكفي لذلك من مقومات تجاه دول مثل تركيا وإيران. ليس هذا الأمر موجود على الورق، لكنه شعور كل كردي وكل عربي في العراق، سواء كان ذلك صحيح أم خطأ. أن وجود جيش آخر، ومعاد للجيش الحكومي يعد إهانة يشعر بها كل عربي. أما الحجة الكردية في ذلك، وهو الخوف من عودة الصدامية إلى العراق فهي إهانة أخرى، بأن الدكتاتورية الصدامية مرض جيني وراثي يتعلق بالعراقيين (العرب) ويمكن أن يعود إليهم في أية لحظة.
لكن تلك "المخاوف" ليست سوى كذبة كبيرة، فالقادة الأكراد هم أكثر من وضع بقايا الصداميين في المراكز الأمنية الحساسة في كردستان، وأكثر من دعمهم في بغداد، وكانت العلاقة معهم على أفضل ما يكون تجاوباً مع الرغبة الأمريكية في تسليم الأمن إلى بقايا الصداميين، إلا أن القرصة التي حصل عليها الأكراد من هؤلاء أدت إلى تراجعهم قليلاً.

الإعتراض على تسلح الجيش

وتبلغ مظاهر عدم الثقة ذروتها الساخرة حين يعترض قادة كردستان على تسليح الجيش العراقي بأسلحة ثقيلة، ويتصرف برهم وكأنه يتحدث عن دولة أخرى، بل عن دولة عدوة، وهو يعلن بأن تلك الأسلحة تقلق الكرد. وإن كان هذا هو العلن، فالله يعلم نوع التصريحات والضغوط التي تثار في السر بين قادة الكرد وبين الجهات الموردة للسلاح العراقي. رغم ذلك يصر الكرد على أن البيشمركة جزء لا يتجزء من الجيش العراقي وأنه لذلك فعلى الحكومة الإتحادية أن تدفع رواتب أعضائه.

الخارجية

استلم هوشيار زيباري وزارة الخارجية، ولم يشعر العراقيون العرب بأنه يمثلهم، خاصة في قضية المعاهدة المشبوهة. فقد جاء يروج للمعاهدة في البرلمان العراقي كبائع أمريكي يروج بضاعة أمريكية، ولم يكن له أية ملاحظات ضد أي من نقاطها. لكنه حين جوبه بمعارضة شعبية وسياسية شديدة، عاد إلى الأمريكان ليقول لهم أن المعاهدة عسيرة بهذا الشكل وأنه يجب تحسين بعض بنودها. وحين تم ذلك التحسين، راح يفاخر به بصلافة على أنه من إنجازاته، وأن المعاهدة تأخرت بسبب جهوده الرامية إلى مناقشة كل جزيئة فيها. لقد تصرف هوشيار كسفير أو مساعد سفير أمريكي في العراق وليس كوزير خارجية عراقي، هذا ما كان إحساس العراقيين العرب على أية حال.

التعامل مع أميركا : القواعد، اللوبي ضد المنافسين، المشاريع الإنفصالية

وبنفس الطريقة تعامل الساسة الكرد مع موضوع القواعد الأمريكية، وعرضوا على الأمريكان إبقاء قواعدهم في كردستان، إن رفضت الحكومة العراقية ذلك، إعترافاً بأن كردستان ليست عراقية.
وفي سعيهم لتحقيق أجنداتهم، لم يكن هناك لدى الساسة الكرد ما هو ممنوع أو مخجل، فسعوا إلى إتفاقات مع مكتب الترويج (اللوبي) ، والذي أمن لهم في البداية ليس فقط حصتهم من النفط التي كانت تؤخذ ضمن "النفط مقابل الغذاء" بل كمية من حصة العرب في وقت الحصار. وإن كانت الحجة في ذلك الوقت هي أن صدام كان يحكم العراق في وقتها، فقد استمر نشاط هذا اللوبي بعد أن وصل إلى الحكم حكومة منتخبة شاركوا فيها بما يقارب ضعف نسبتهم العددية. وكان اللوبي الكردي في الولايات المتحدة يصرح بشكل علني أنه يطمح إلى مكانة إسرائيل لديها، وأن لديه علاقات وثيقة مع اللوبي الإسرائيلي. (2)
لاشك أن هذه العلاقات مثيرة للقلق لدى الجانب العربي، وفي الفترة الأخيرة تجاوز الساسة الكرد كل ذلك وسمحوا بتطوير ملحوظ للعلاقة متمثلاً بإطلاق مجلة "كرد – إسرائيل" والتي أفتتحت لها مكاتب في كلتا "الدولتين الصديقتين"!
وفي كل مرة، كان القادة الكرد لا يترددون بطرح أنفسهم كممثلين للمشاريع الأمريكية الكريهة في العراق، مثل مشروع بايدن، ألذي سارعوا إلى تأييده فور طرحه، ولا يستبعد أن يكونوا من المخططين له، لكنهم عادوا فتراجعوا حين وجدوا العراقيين يرفضون أن تقسم بلادهم إلى أشلاء صغيرة. ولا نتصور أن هذا التراجع يمثل تغييراً في الفكرة، فلم يكن هناك ما يدعوا إلى ذلك التغيير، بل هو على الأغلب، تأجيل لمشروع لم ينضج  وقته بعد. لقد فشل مشروع بايدن، لكنه يعود بصيغ أخرى، وقريباً ستنهار مقاومة الشعب العراقي وإصراره على الوحدة، تحت إغراءات النهب التي تكفلها إقامة الأقاليم تحت مواد هذا الدستور المدسوس، فيبرز المطالبون بأقاليم الجنوب والبصرة، وربما الأنبار وغيرها، على غرار إقليم كردستان، ولن يتمكن الرفض من الصمود طويلاً!

عدم وجود سلطة للحكومة في كردستان

لا يحتاج المرء أن يكون مطلعاً على اسرار السياسة العراقية ليعرف أنه لا وجود لأية سلطة للحكومة المركزية في إقليم كردستان، وأنها لا تأمل بأكثر من أن تأمن شروره دون الطموح إلى خيره. وزارئه وقادته ونوابه يتسابقون ليس فقط إلى احتلال اراضي خارج الإقليم، وخاصة النفطية منها، وليس فقط باستعمال البيشمركة ، الجزء الذي لا يتجزأ من الجيش العراقي، لطرد فرق العمل النفطية من حقول كركوك والإستيلاء عليها وتسليمها بعقود إلى شركات أجنبية، وليس فقط برفض رفع العلم العراقي في كردستان لفترة طويلة، ولا في الزيارات للدول الأجنبية، وإنما أيضاً بتكرار التهديد بالإنفصال من العراق كلما كان هناك مناسبة.

سياسة الإبتزاز واستغلال لحظة الضعف

ومن الواضح للمواطن العراقي العربي، أن كردستان تتبع سياسة تشبه تماماً سياسة إسرائيل في "فرض الأمر الواقع على الأرض" ، وتنتظر اللحظات المناسبة لإستغلال أي لحظة ضعف تمر بها الحكومة الفدرالية لفرض شروطها عليها. لذلك فأن العراقيين العرب، يضعون أيديهم على قلوبهم عند الأزمات السياسية، ليس بسبب الأزمات نفسها فقط، بل أيضاً من استغلالها من قبل الجانب الكردي، كما حدث حين فرضوا حصة لأنفسهم تعادل مرة ونصف ما يستحقون، حين رأوا أن الحكم بيد من يسهل رشوته – أياد علاوي – فـ "إتفقوا معه" لا ندري مقابل ماذا! والشروط التسعة عشر التي قبل بها المالكي (يقال أنه رفض واحداً) والتي طالبوا فيها بأمور لم يسمع أحد بمثلها من قبل، مثل حق الفيتو على بقاء الحكومة، إضافة إلى شروط مازالت مجهولة النتائج مثل فرض إقرار قانون النفط، وكأن الحكومة الإتحادية تتفاوض مع شركات النفط وليس مع شريك في الحكومة، مصلحته من مصلحتها.

الإعلام المعادي للعرب كشعب وبوقاحة كبيرةً

لقد وصل الإعلام الكردي المعادي للعرب حدوداً غير طبيعية، وكأن من يقود ذلك الإعلام هو إسرائيل نفسها، بل بلغ أحياناً حالات تخجل حتى إسرائيل من الهبوط إلى مستوياتها، وأحياناً حتى إلى إثارة صريحة للطائفية التي تهدد البلاد، وتعمد مباشر في زرع الفتنة بين السنة والشيعة والتفريق بينهما، كما أشرت إلى ذلك قبل بضعة سنوات في سلسلة من المقالات التي امتنع موقع الحوار المتمدن عن نشرها وأنهت علاقتي به، وكانت سلسلة من أربعة مقالات تحت عنوان "أيها الكرد، نشكوا لكم مثقفيكم" (3)
(3)   أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم: "1"- فلم كردي في أمسية ثقافية! 
(4)   أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم "2" – "الشعب الشيعي المجيد" و"السنّة القذرين
(5)   أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم  "3"- نزار جاف يتابع معارك العرب بقلب إسرائيلي حميم
(6)   أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم "4" -  إنهم يطالبونا أن نحتقر أنفسنا!

ورغم أن عدداً من المثقفين والكتاب الكرد الرائعين مثل أمين يونس وشيروان محمد وكفاح محمود وشه مال عادل سليم، وأمثالهم ممن يكتبون بالعربية، يبعثون على الأمل بوجود صوت من نغمة أخرى، إلا أن عدد هؤلاء قليل، ولذا فأني أعتبر أن المثقف الكردي عموماً لم يؤد واجبه في التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة، ولا فعل الكتاب العرب أيضاً بشكل كاف، فتطورت الحالة إلى ما وصلت إليه.
التهديد بتكرار تجربة الفدرالية الجارحة

لقد يئس العراقيون العرب من كردستان واعتبارها جزء من العراق، وفقدوا تدريجياً حلم "العصافير" بوحدة العراق، كما أسماه مسعود باحتقار واضح، وهم يشعرون بأنهم يستمرون في قبول التنازلات والإهانات بلا نهاية.
ومما لا شك فيه أن الشوفينيين من العرب عراقيين وغيرهم، قد استفاد من ذلك أكبر استفادة في الترويج لفكره، لكن قادة الكرد لم يكن يبدو عليهم أنهم قلقين من ذللك.
ما يخشاه العرب اليوم أكثر من أي شيء آخر هو أن تتكرر هذه التجربة المخيفة في مناطق أخرى من العراق، فهم يحسون أن يلادهم غير قادرة على تحمل "كردستان أخرى" تبتز الحكومة المركزية وتسرقها وتهينها، وتعتمد على القوات الأجنبية لحمايتها منها، وتعامل جميع دول الجوار بأفضل مما تعاملها.
والأدهى من ذلك أن حكومة كردستان كانت سباقة إلى دعم تلك الجهود لإقامة فدرالية الجنوب، وهم أما يريدون القضاء على البلد بشكل مخطط، أو أنهم لا يعلمون مدى الأذى الذي سببته وتسببه تجربة كردستان الفدرالية، القلق الذي تثيره لدى المواطن العربي العراقي، والحيرة في طريقة التصرف المناسبة تجاه تلك المشاريع.
ماذا لو طالبت البصرة بفدرالية، وطالب وزراؤها ليس فقط بدولار عن كل برميل بل أسوة بمشاريع كردستان بـ "الإستقلال في سياسة الطاقة"، وحرية التصدير والإستفادة من الموارد لبناء المشاريع في البصرة وتوقيع عقود النفط سراً مع الشركات الأجنبية وباستغلال المنفذ المائي الوحيد في العراق بالطريقة التي "تخدم الإقليم"؟ أي بلد سيكون هذا لو طالب كل جزء بحقه في مساواة إقليم كردستان؟ من الذي يخطط لإيصال العراق إلى هذا المصير؟
هذه نظرة موجزة للحال الذي وصلت إليه تجربة هذه الفدرالية المؤلمة، وهذا ما أدى إليه تجاهل الحقائق المرة من قبل المثقفين والسياسيين العرب، فتركوا الأمور تسير نحو الهاوية بحجة عدم التعرض لـ "الثورة الكردية" وبقوا يدعمون تلك "ألثورة" حتى بعد أن صارت تعتدي على شعبهم بالقوة العسكرية وبالإعلام المهين ، وتحولت إلى دكتاتورية يتظاهر مواطنوها اليوم احتجاجاً على القوانين التي تحاول فرضها لمنعهم من التظاهر والإحتجاج، ويسجن الصحفيون فيها بأحكام قرقوشية حين يتعرضون للأسرة الحاكمة، بل ويقتلون أحياناً بأبشع الطرق، ورغم ذلك يستمر "التقدميون" من العرب العراقيين، الذين يبدو أنهم توقفوا عن القراءة والمتابعة من زمن بعيد، رغم أستمرارهم الدءوب على الكتابة، يستمرون بـ "دعم الثورة الكردية" واتهام كل من ينتقدها بالشوفينية!
هذا هو الشعور العربي المؤسف، ولكنه لم يأت بلا أسباب منطقية.

إنهيار الثقة

والنتيجة أن عدم الثقة وصل إلى أقصى درجاته، ولم يعد يقتصر على الجانب الكردي، بل أن ما وصل إليه الجانب العربي زاد عنه. وكمثال ناصع على مستوى عدم الثقة، رفض العرب لإنجاز التعداد السكاني لكركوك وكردستان، لأنهم لا يحسون بأنه سيجري بشكل سليم، بل يحسون أن أعداداً هائلة تم تهجيرها إلى كركوك لتكريدها كما عربها صدام. ويحسون من خلال تعاملهم مع الحكومة الكردية، بأن الأخيرة مستعدة لعمل كل شيء لإقتناص أية مساحة إضافية ممكنة من الأرض، بما في ذلك الإرهاب.
المراقب المنصف، سواء كان كرديا أم عربياً أم من اية قومية عراقية أخرى، لا بد أن يصل إلى الإستنتاج بأن دوام هذا الحال من المحال، وأن شيئاً يجب أن ينفذ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البلاد قبل تحطمها تحت ضغط هذه الفدرالية الغريبة التي لم يعرف العالم مثلها من قبل. والمشكلة في الأمر أن العرب ليسوا الجانب الوحيد الذي يحس بالظلم من هذا الحال، بل أن الكرد يشعرون به أيضاً، فهم مقتنعون تماماً بأن كركوك كردية وكذلك أجزاء كبيرة من سهل الموصل وأقضية ونواح وقرى مختلفة تابعة لمحافظات أخرى، وان العرب "الشوفينيون" استولوا عليها ومازالوا يريدون الإحتفاظ بها.
ويبدو أن هناك تجاوباً شعبياً مع إهانة العرب والحكومة الفدرالية، وإلا ما تباهى به الساسة الكرد.
وعندما يكون هذا هو الحال، عندما يقلق تسلح الجيش المركزي، ساسة الإقليم، وعندما يطرد الجيش الكردستاني فرق النفط الحكومية وعندما يريد الكرد "سياسة مستقلة في الطاقة" حسب تصريحاتهم الأخيرة، وعندما لا يكتفون باحتجاز أموال الضرائب والكمارك ويدعمون قوانين النفط لصالح الشركات الأجنبية ويعدون الجيوش لعدم شعورهم بالأمان، ويريدون القواعد الأمريكية لتحميهم من الجيش الإتحادي لدولتهم.
يفهم العربي العراقي مواضع قلق ا لمواطن الكردي والتاريخ المر الذي عانى منه، لكنه يشعر أن هذه النقطة صارت تستغل بشكل أبعد كثيراً من ما يتطلبه الواقع، وعلى حسابه وحساب كرامته ومصالحه. المواطن العربي يتساءل اليوم: هل تستطيع الحكومة العراقية الإتحادية أن تحاسب وزيراً أو مسؤولاً كردياً؟ هل يحق للحكومة الإقليمية أن تصدر قوانين تتعارض مع حقوق الإنسان التي يكفلها الدستور في التظاهر مثلاً، حتى لو كان ذلك على أرض كردستان وحدها؟ ماذا لو أن مواطناً كردياً إشتكى لدى الحكومة الإتحادية باعتباره مواطناً عراقياً، مطالباً إياها بحمايته؟ هل ينتظر منها أن تقوم بحمايته وهي أضعف من أن تحمي نفسها من الإبتزاز المستمر عند كل منعطف وعند كل أزمة، فتضطر إلى تقديم التنازلات المهينة؟ هل هذه علاقة دولة بإقليم، أم دولة بدولة؟ وهل هي علاقة دولة بدولة صديقة، أو حتى محايدة، أم دولة بدولة عدوة متربصة؟ هل يثق أي عراقي، عربياً كان أو كردياً، أن الفرق الثلاثة التي تم تشكيلها مؤخراً، (7) جاءت برغبة الحكومة الفدرالية وشعورها بالحاجة إلى هذا الجيش لحماية "الوطن"، أم بضغط وابتزاز شروط تشكيل الحكومة؟ أية دولة هذه التي تنشيء فرق جيشها من أجل أن ترضي طرفاً لكي يمكن بتشكيل حكومة؟ تخيلوا إن كان على العراق أن يفعل مثل ذلك لدى تشكيل كل حكومة جديدة!
من ناحية أخرى، هل يأمن العراقيون العرب أن كردستان لم تقدم للموساد الإسرائيلي قواعد في ارضها، وأنه ينطلق منها للقيام بمختلف المهام في البلاد، من ضمنها المهام الإرهابية الغريبة التي تحدث هذه الأيام، وتلك التي حدثت قبلاً؟
أين وصل مستوى الثقة، عندما  يصل الأمر لدى العرب العراقيين أن يخشوا أن تغيير وزير النفط، كان استسلاماً من حكومتهم لإزاحة الوزير الذي وقف بوجه ابتزاز فريق الكرد مع الشركات الأجنبية لنفط بلادهم، وعندما يصرح الوزير الأخير بأنه تم الإتفاق مع حكومة كردستان على حل المشاكل العالقة، بل ويقول أنه سيعترف بالعقود النفطية المشبوهة التي تم توقيعها سراً من قبل من يعتبرهم الشعب لصوصاً رسميين، فيثير المزيد من القلق والحنق لدى المواطن العربي العراقي على ضعف حكومته وعلى من يعمل على ابتزازها واستغلال ضعفها، وما يعنيه ذلك من خسائر في ثروات بلاده... يكون الأمر قد وصل مرحلة عسيرة تتطلب الحل السريع الحاسم.

الحل: إستفتاء عربي كردي على صيغة علاقة مقبولة أو الإنفصال بسلام

يقول الأكراد بأن وضعهم "غير جاهز" لإقامة دولتهم، وأنهم لهذا يفضلون البقاء ضمن العراق، ويرون في ذلك مصلحتهم. إذن أليس مطلوباً منهم أن يقدموا شيئاً ولو من أجل مصلحتهم في ذلك الإتحاد المؤقت؟ لماذ يفترض بالعرب أن يدفعوا ثمن ذلك الإتحاد المؤقت الغريب والمؤذي، الذي هو من صالح الكرد كما يقولون؟ ما هي مصلحة العرب في تلك الرفقة المؤقتة التي تبتزهم في كل مناسبة؟: أنا لا أستطيع مغادرتك الآن، لأني أخشى من الآخرين، ولذلك فسأتفضل عليك بالبقاء معك حتى المنعطف التالي، ولذا عليك أن تتحمل مني الأذى والإهانات والإبتزاز. هذا هو منطق الساسة الكرد هذا اليوم!
بالمقابل، لا يريد المواطن العراقي حتى أن يفكر ببلاده مجزأة، ولا يتخيل خارطته وقد قطع رأسها، فلم تعد تشبه بلاده التي أحبها بكل عمق، وأحياناً أكثر من حياته، ويتذكر أصدقاء له في الجانب الآخر من الطيبة والمودة من النادر أن يجده بين أبناء قوميته. إنه ينظر إلى السودان ينحر من وسطه إلى نصفين، فيتخيل العراق وقد شوهه الإنفصال، لكنه سيرى في  النهاية أنه لا مفر من ذلك. وأن الخيار ليس بيده، فالعراق كبلد، يحتضر تحت ضغط فدراليته المريضة، ويهدد بالتجزؤ، والبعض يبدو سعيداً بذلك.

لذلك فأني اقترح العمل على حملة لحل هذه الإشكالية، تتمثل في إطلاق مناقشة إعلامية واسعة حول الفدرالية وحق تقرير المصير، ليس في كردتسان فقط، بل أيضاً وبشكل خاص في الجانب العربي من العراق، وإقامة استبيان شعبي، لكتابة إقتراح بالحد الأدنى من التغييرات الدستورية والإتفاق على الطرق المعقولة الممكنة لسياسة نفطية وعسكرية وديمقراطية، ولو بالحد الأدنى المقبول، وعرض الأمر للإستفتاء على الشعب الكردي، وتخييره بين القبول بفدرالية يمكنها العيش، أو أن ينفصل في تطبيق لمبدأ حق تقرير المصير، (وهنا يكون الشعب العربي من يستعمل هذا الحق). فكل تأخير في الوصول إلى حل ولو مؤلم، إنما يؤدي إلى تفاقم الوضع وزيادة صعوبته وعسر وتكاليف حلوله.
ليس الإحتمال كبيراً، لكن الأمل ليس مفقوداً أن يشعر الشعب الكردي بما يسببه ساسته من إشكاليات لا يمكن الإستمرار بقبولها من قبل العراقيين العرب والأخطار التي تهدد البلاد جراء تركيزهم على "مظلوميتهم" والتعامل مع العراق كجهة يجب الإنتقام منها لما ارتكبته في حقهم، وكفرهود ينهب في انتظار لحظة الإستقلال، واعتبار كل ما يقتطع منه كـ "شعرة من جلد خنزير".


(1) http://www.yanabeealiraq.com/articles/saieb-kalil160408.htm
(2) اللوبي الكردي في واشنطن والطموح الى مكانة اسرائيل
http://alfawanis.com/alfawanis/index.php?option=com_content&task=view&id=3380&Itemid=28
(3)   أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم: "1"- فلم كردي في أمسية ثقافية!  (http://www.yanabeealiraq.com/articles/sayb-khalil210209.htm )
(4)   أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم "2" – "الشعب الشيعي المجيد" و"السنّة القذرين
(http://www.yanabeealiraq.com/articles/s-kalil220209.htm )
(5)   أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم  "3"- نزار جاف يتابع معارك العرب بقلب إسرائيلي حميم
(http://www.yanabeealiraq.com/articles/saib-khalil230209.htm )
(6)   أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم "4" -  إنهم يطالبونا أن نحتقر أنفسنا!
(http://yanabeealiraq.com/articles/s-kalil280209.htm )
(7) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=42448


141
الوحي زار حاكم العراق في المنام – كأن شيئاً لم يكن..

أعزائي الأصدقاء
في عام 2007 كتبت المقالة التالية، وكان المالكي قد بدأ الحكم لتوه...

أرسلها لكم مكررة، لأني أرى أنها مازالت صحيحة إلى حد بعيد..

****

الوحي زار حاكم العراق في المنام


إن كنت يا صاحبي حائراً لماذا يحكم المالكي العراق بهذا الشكل فاستمع الى هذه القصة التي حدثت في اليلة الأولى لإستلامه الحكم في العراق, فلربما زال بعض حيرتك:

بعد نهار طويل مرهق مليء بالمفاجآت رأى الله سبحانه وتعالى حيرة عبده المطيع نوري المالكي وقلقه فقرر ان يزيل الهم عنه ويثبت فيه عزمه ليخزي اعداءه المتكالبين عليه ويرشده الى السراط المستقيم لتطبيق القانون بعدالة على جميع العراقيين بلا استثناء, ابتداء من اول يوم حكمه, فارسل له الوحي في المنام ويرشده الىالطريق القويم وينصحه بما يجب عمله.

بعد البسملة والإستغفار والشكر لنعم الله, رفع الوحي رأسه ونظر في عين رئيس الوزراء وقال:
" وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْل" وأما بعد فوجب على حاكم العراق المبايع من الناس, تطبيق القانون بصرامة وعدل وبلا تمييز على الرعية. ولتعلم يا نوري بن المالكي ان الناس سواسية كأسنان المشط, فلا تكل بمكيالين واتق الله.

لذا حق لك وعليك ان تسجن جميع اللصوص وتحاسب جميع المشجعين على الطائفية والإرهاب وتحقق في كل من شككت في سوء عمله او قوله, ولتنفذ امر الله: "فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره."

لكن وجب تنبيهك وانت تقوم بما يأمرك الله به لتقيم القسط وتحق الحق وتبطل الباطل ان تتبين ما يلي:

ان تتجنب اعدام او سجن او محاسبة اي سني من شعبك وإلا كنت طائفياً ظالماً. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

وكذلك يأمرك الله ان تتجنب اعدام او سجن او محاسبة اي شيعي وإلا كنت خائناً مشاركاً في المؤامرة الأموية للقضاء على آل البيت فاستحققت غضب الله ولعنته الى يوم القيامة.

واجتنب كذلك محاسبة ومعاقبة المسيحيين واليزيديين والصابئة وإلا كنت متعصباً دينياً, فخالفت امره تعالى "لكم دينكم ولي ديني" وحق عليك حكم المخالفين.

ودع عنك محاسبة اي كردي او تركماني اواشوري أو ارمني وإلا كنت قومياً شوفينياً, والقومية والشوفينية بدع وكل بدعة ظلالة وكل ظلالة في النار.

واجتنب محاسبة اي سياسي من الاحزاب الأخرى وإلا صرت متحزباً ضيقاً تعمل على "اقصاء الآخر" فإن انت فعلت عاقبك الله فملأ وجهك وجنبك بالخطوط الحمر يوم القيامة.

واياك اياك ان تكلم بعثياً ممن "لم يثبت عليه الجرم" ونخص بالذكر من كان اختصاصه في الأمن العامة فتقطع ارزاقه, فإن كنت فاعلاً كنت اجتثاثياً وكسبت ذنوبه, لا اراك الله اياها. فأن دعوةَ البعثي الذي لم تثبت عليه تهمة، ليس بينها وبين الله حجاب.

ولتبق بعيداً عن اؤلئك الوزراء الذين حذروا يوماً من ايران فاكتسبوا عصمة رباعية: السيادة الوطنية والمكانة القومية والحصانة الطائفية والثقة الأمريكية. المعصومون لايسرقون حتى ان كانوا لصوصاً, لكنهم قد يأخذون! فمن حاسبهم إنما اراد الإساءة اليهم لإغراض سياسية "معروفة" بسبب تصريحاتهم ومواقفهم فقط.

أما اكبر الكبائر فمحاسبة او التحقيق مع الأمريكان او البريطانيين فاجتنبها مهما فعلوا ولا تقرب العراقيين الحاملين لجنسية امريكية, فهذا طيش لايأتيك إلا بما لاتحمد عقباه, فإن انت فاعل اخزاك الله في الدنيا دون الآخرة, كما فعل بالذين من قبلك, ولكم يا ألي الألباب في غيركم عبرة وعظة لعلكم تفقهون.

وإن كان لك ان تحاكم احداً فلا تفعل لأهل الجاه والسطوة ومن كان عظيم الأذى, لأنك ان فعلت ونفذت حكمك كان ذلك حقداً انتقاماً فتكثر عليك اللعنات, وان عفوت كان منك ضعفاً وسقوطاً فتكثر عليك السكاكين.

واخيراً إن انت أغفلت اهل الجاه فإياك ومحاسبة الضعيف قليل الأذى فتصبح منافقاً فتهلك ومن معك: " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد"

وفيما عدا هؤلاء ممن نهى الرحمن عنهم, فلك ان تطبق العدل في طول البلاد وعرضها وعلى من تشاء من عباد الله في ارض العراق فلا تأخذنك في الحق لومة لائم!

استيقظ المالكي فزعاً فرأى نوراً يتجه نحو السقف فيختفي. استغفر ربه وحمده وشكره على هديه ونعمته واقام الليل يقرأ القرآن ويتفكر في أمره حتى لاحت تباشير الفجر فصلى وخرج ليحكم بما امره الوحي به.

وباقي قصتنا تعرفها يا صاحبي...ارجو ان قد ازلت بعض حيرتك, ولك مني سلام.



142
لا أخلاق في السياسة، ام في السياسيين؟ أكاذيب متفرقة، ومبدأ خطر.

صائب خليل
2 كانون الثاني 2011

هذه هي الحلقة الأخيرة من مقالة "لا أخلاق في ا لسياسية؟ أم في السياسيين؟" والتي تحتوي بشكل رئيس نصوصاً للسياسيين العراقيين قبل وبعد إنقلاب حاد في الموقف تقوده برأيي وبشكل مركزي، الولايات المتحدة. بعد الحلقات الثلاثة الأولى (*1) و (*2) و (*3) والتي احتوت كل منها على أحد أقسام هذه المقالة، نختتم ببقية تلك التصريحات والأكاذيب التي لم نستطع وضعها ضمن إطار معين، لكنها تبقى هامة لإكمال الصورة.

الصدريون يرحبون برفض العراقية للمالكي ويرفضون أي مرشح يقدمه

قال امير الكناني، الامين العام لتيار الاحرار (الصدري) "نحن نضم صوتنا الى صوت العراقية الرافض الى تولي المالكي رئاسة الوزراء لولاية ثانية خاصة وان الوزارة السابقة ضمت العديد من الوزارات الفاشلة التي لا يمكن القبول بتكرار تجربتها".(1)

وقال القيادي في التيار الصدري بهاء الاعرجي
، في حديث لـ"السومرية نيوز" أن "عدم توصل الكتل السياسية إلى اتفاق موحد خلال حواراتها جعل حكومة المالكي تتمادى في البقاء وممارسة كافة صلاحياتها وهي مخالفة دستورية كبيرة"، مشيرا إلى أن "مناقشة الخروق الدستورية التي ارتكبتها حكومة المالكي ستكون من أولويات مجلس النواب الجديد". وأشار إلى أن "نجاح الحوارات مع ائتلاف دولة القانون ...متوقفة على تغيير مرشح دولة القانون لمنصب رئيس الوزراء "، مؤكدا أن "الائتلاف الوطني ابلغ دولة القانون بضرورة إيجاد بديل عن المالكي الذي يعتبر نقطة الخلاف الأولى بين الائتلافين".

وشدد الاعرجي على أن "التيار الصدري لن يقبل بأي مرشح يطرحه المالكي لرئاسة الوزراء حتى لو كان حسين الشهرستاني الذي يدور حديث عن إمكانية طرحه كبديل للمالكي حاليا"، لافتا إلى أن "الشهرستاني غير مرفوض، لكننا نمتلك ملاحظات كثير على شخصه سيتم مناقشتها حال طرحه بشكل رسمي لمنصب رئاسة الوزراء". وأكد الاعرجي أن "بعض الكتل في ائتلاف دولة القانون تمارس ضغطا كبيرا على حزب الدعوة لتغيير مرشحه، بعد أن أيقنت أن سبب أزمة تشكيل الحكومة هو تمسك حزب الدعوة بمرشحه لرئاسة الوزراء". (2) .
الأعرجي الآن أهم مرشحي الصدريين لمنصب قيادي في حكومة المالكي القادمة!

والفضيلة...

النائب عن حزب الفضيلة حسون الفتلاوي:
ان "حزب الفضيلة انسحب من اجتماعات التحالف الوطني ،ولن يشارك في حكومة يترأسها المالكي، وسنكون مع معارضة ترشيحه". وعلل الفتلاوي غياب حزب الفضيلة والمجلس الاعلي عن اجتماع التحالف الوطني انه ياتي رداً علي الضغوطات الخارجية والداخلية لاختيار المالكي لرئاسة الوزراء.(3)

عادل عبد المهدي وأكاذيب أخرى

رغم أن معظم الأكاذيب والإنقلابات تركزت على موضوع رئيس الوزراء المرشح للحكومة القادمة، إلا أنها لم تقتصر على ذلك، فقد تحدثنا كثيراً في مقالات سابقة عن أكاذيب وتناقضات تصريحات أياد علاوي، الذي يبدو بالنسبة لي أنه لا يقول الصدق إلا بالخطأ أو لزلة في لسانه، ولكثرة ما كتبنا عنه نرى أن نترك الفرصة لزميله عادل عبد المهدي في هذه الحلقة.
بيرون وعلاوي وعادل في الكنيسة

في فلم "إيفيتا" التي تتحدث عن فترة حكم "بيرون" وزوجته، نرى الزوجة "إيفا بيرون" في إحدى اللقطات توقظ زوجها من النوم وتقول له أن هناك حريق كبير، وتشير عليه بأن يسرع في التواجد بين الناس والمشاركة في عمليات الإنقاذ وأن يكون في مركز المشاهد وأن يجعل الناس ترى الفحم على يديه لكي يكسب موقفاً إنتخابياً..
وفي موقف مشابه، يقوم أياد علاوي بالدعاية الإنتخابية لنفسه وهو يتبرع بالدم إثر إنفجارات رهيبة في بغداد...
واليوم أكتب وأمامي على الشاشة صورة كبيرة للقيادي المعروف في المجلس الأعلى عادل عبد المهدي، ووجهه يأخذ شكلاً لرجل محطم لشدة الحزن، في كل جزء من تقاطيعه، وهو يستمع "بتركيز شديد لشرح يقدمه أحد القساوسة عن مجزرة كنيسة النجاة.


قال عادل عبد المهدي "أنا خجل جدا وحزين جدا أن أكون في حكومة لا تستطيع الدفاع عن المواطنين"، واصفا حادثة كنيسة سيدة النجاة في منطقة الكرادة ببغداد بأنه "أمر مروع".
وأوضح عبد المهدي أن الحادث "لا يتناول عددا فقط (في إشارة إلى الضحايا) وإنما النوع"، مضيفا "كنت أتمنى أن أكون بين الضحايا واشعر بكرامة وشرف أكثر من كوني مسؤولا، فانا اشعر بخجل كبير". (4)

وانتقد عبد المهدي إدارة الملف الأمني وتعثر تشكيل الحكومة بالقول إن تشكيل الحكومة "قصة تلتقي مع هذه القصة الأمنية (حادثة الكنيسة) وقصة الثلاثاء الأسود(في إشارة إلى سلسلة هجمات الثلاثاء ببغداد) ويبدو أن كل الأيام ستكون سوداء إذا استمرت الأمور تدار بهذا الشكل".
ودعا عبد المهدي إلى "يقظة عراقية كبيرة اكبر بكثير مما يقال في الإعلام ويدعى ويروج له من بيانات"، موضحا "نحتاج إلى شيء أكثر صراحة وأكثر صدق ومسؤولية فالكلمات التي تقال فقدت أي معنى لها من معاني الصدقية والمسؤولية.(5)

نلاحظ إذن أن تصريحات الرجل لم تكن تشير إلى رجل حطمه الحزن فلم يعد يدري ما يقول، بل بالعكس، كانت تصريحاته دقيقة، لها رسالة سياسية إعلامية إنتخابية شديدة الدقة والوضوح. رسالة عبد المهدي تقول أن حكومة المالكي فشلت بشكل مخجل وأنها تتحمل عار الفشل الأمني، وأن القضية عامة في الحكومة الفاشلة وأن "كل الأيام ستكون سوداء" إن سمحتم للمالكي أن يحصل على رئاسة الوزارة ثانية، لذا يجب "اليقضة العراقية الكبيرة"، وأننا نحتاج إلى "شيء آخر" له "صدقية" و يتحمل "المسؤولية" وبالطبع فهذا "الشيء الآخر" ليس سوى: عادل عبد المهدي نفسه! الحديث عن "خجل" عادل عبد المهدي، وفي هذه اللقطة ومع هذه التصريحات يأخذ شكلاً درامياً ساخراً ومؤلماً في نفس الوقت.
فكم من البشر تبلغ به قلة الخجل أن يبتز مأساة بهذا الحجم للدعاية السياسية لنفسه وبشكل مباشر هكذا؟ وليست أية دعاية سياسية، وإنما دعاية من النوع المتدني التشويهي للآخر الذي كان يعمل حتى تلك اللحظة كزميل له في قيادة حكومة واحدة!
أنظروا إلى وجه عادل عبد المهدي في الصورة، وتأملوه جيداً...فأنتم أمام ممثل مسرحي تراجيدي شكسبيري رائع، قادر على تقمص مشاعر لا يعرفها على الإطلاق، فهو لم يطور خاصية فيه بقدر ما طور خاصية قلة الخجل، لكثرة المواقف المخجلة التي ارتكبها شخصياً، ليس فقط بالقفز بين الأحزاب السياسية برشاقة متناهية وبلا تردد، بل أيضاً في سجله البسيط خلال الفترة القصيرة منذ مجيء الأمريكان قبل سبعة سنين.
إنه لم يخجل حين رد طنطاوي رشوته للأزهر (لصغر حجمها) وإخباره بأن الجياع العراقيين أكثر حاجة إليها، ولم يخجل من دور حمايته في جريمة السطو المسلح والقتل في مصرف الزوية، بل ربما دوره على الأقل في تهريب رجل حمايته، ولم يخجل حين قتلت عصابة بلاك ووتر الأمريكية أحد رجال حمايته فلم يفتح فمه بكلمة، لكنه يخجل أن يكون ضمن حكومة تحدث فيها إنفجارات إرهابية يصعب السيطرة عليها، وهو غير مسؤول عن الأمن فيها!
ولم يخجل من إعلان مكتبه الإعلامي قبل شهر ونصف أن السيد النائب عادل عبد المهدي لم "ينسحب من إجتماع قادة الكتل السياسية لموقف سياسي، وإنما لأن عادل كان ملتزم بموعد آخر! ولكم أن تتخيلوا شخصاً لديه موعد لإجتماع قادة الكتل السياسية، يضع معه "موعداً آخر" أو أن لا يستطيع إلغاء أو تأجيل "موعده الآخر" لمثل هذا السبب! (6)

لاشك أنها "نكتة" واضحة لأي شخص، لكن ليس جميع النكات واضحة بشكل مباشر، ففي منتصف تشرين الأول الماضي، وحين كان الحديث يدور عن احتجاجات الشارع العراقي على زيارات سياسييه المخجلة إلى الدول الآخرى من دول جوار ودول بعيدة، أثناء محاولات تشكيل الحكومة، والقلق من تأثير تلك الدول على القرار العراقي، صرح عادل بأن زيارات الكتل السياسية الى الدول العربية والاقليمية امر ضروري،..."،مستدركا القول "لكن القرار النهائي يجب ان يكون عراقيا خالصا". (7)

ولو لم يكن المتحدث عادل عبد المهدي نفسه، لما كان هناك نكتة في الأمر، لكن حرص هذا الرجل بالذات على أن يكون القرار "عراقياً خالصاً"، أمر يدعو للضحك. فالعبارة تذكرني فوراً، والشيء بالشيء يذكر، بأمر ذو مغزى حدث قبل عدة سنوات، حين تم تمرير حزمة من ثلاث قرارات في مجلس النواب بالتراضي بين المجلس الأعلى والصدريين والأكراد، ثم عاد عبد المهدي ليقطع الطريق على الجزء الخاص بالصدريين من خلال الفيتو الخاص به في مجلس الرئاسة، ويمرر حصة المجلس والأكراد. وحينها ثارت ثائرة الصدريين وهددوا وتوعدوا بإحداث مشكلة كبيرة لكن عادل وقف كـ "رجل" صلب ولم يذعن للضغوط والتوصيات والواسطات والترجي من مختلف الجهات العراقية، وقدم أسباب اعتراضه في دراسة ممتازة ومقنعة (إطلعت عليها في حينها) تبين أن القرار فيه إشكاليات دستورية هامة. لكنه فجأة سحب اعتراضه دون مقدمات!
"وحول سبب تراجع هيئة الرئاسة عن اعتراضاتها علي قانون المحافظات قال عثمان لـ"الزمان" ان نائب الرئيس عادل عبدالمهدي قد اكد ان احد اهداف زيارة تشيني هو الاقناع بقانون المحافظات. واكد عثمان ان عبدالمهدي قد تراجع عن اعتراضاته علي القانون مما ساعد علي تمريره."
أي أن طلب أو أمر تشيني لعادل بتمرير القانون، تم تنفيذه فوراً، بالرغم من مخالفته للدستور حسب ما قاله عادل عبد المهدي قبل أيام من تراجعه، وعلى العكس من "القرار العراقي الخالص" الذي بقي يترجى عادل طويلاَ بلا جدوى! أما حين تكلم تشيني، فلم يطلب عادل ولو بعض الوقت لتدبير تمثيلية مفاوضات مع التيار الصدري، ليبدو قراره النهائي "عراقياً خالصاً"!
هذا هو عادل الذي يصر عليه "مام جلال" لأنه كان ممتازاً "أجاد في عمله"، ويراه الأمريكان والعراقية رجلهم الثاني المفضل، إن لم تسعف الظروف "رجلهم الأول في بغداد"، والحقيقة أن العراقيين لا يعرفون للرجل صفة مميزة أكثر من أنه "لا يخجل" أبداً، ولعل هذا سر الإصرار عليه من مام جلال ومن سفارة الولايات المتحدة. (8)

لننظر إلى وجه هذا الممثل المسرحي الصاعد، والإنسان الهابط، وهو يعتصر تقاطيعه "ألماً" فتضطرب كلماته من شدة التأثر ويتحدث عن تمزقه "ليس فقط على الكمية وإنما النوعية أيضاً"! فالتملق في هذا الموهوب لم يكتفي بالوصول إلى التألم لمصيبة المسيحيين، وكأنهم أخوته من المسلمين وحتى من الشيعة، بل أكثر من ذلك كثيراً، فـ "نوعية" الضحايا الأعلى بالنسبة له هي التي تعتصر قلبه! لننظر إلى وجه هذا الرجل وندقق في تقاطيعه ولنحفظها في ذاكرتنا، مرتبطة بكل ما نستطيع أن نتخيله من إشمئزاز من الكذب والتملق والتمسح، ومن الدناءة في استغلال أية حادثة إنسانية مهما كانت أليمة، للدعاية السياسية المباشرة وتشويه سمعة المنافسين.
لا أخلاق في السياسة؟ مبدأ خطر ومسألة حياة أو موت بالنسبة للشعب

بعد هذه المقالة بأجزائها الأربعة، لنا أن نتساءل: هل حقيقة أن لا أخلاق في السياسة، أم في السياسيين؟، او بالأحرى هؤلاء السياسيون بالذات، والذين تبحث عنهم اميركا دائماً وفي كل بلاد، وكأنهم لقى ثمينة؟
هل تعبر عبارة "لا أخلاق في السياسة" عن حالة فيزيائية وقانون طبيعي لا مفر منه، أم من أفتراض تم نشره على أنه طبيعي، لكي يخدم مجموعة من اللا أخلاقيين الذين دخلوا السياسة وينزعجون دائماً من محاسبتهم على أساس أخلاقي كباقي البشر، فاخترعوا الفكرة لإعفائهم من تلك المحاسبة وذلك القياس؟
عندما يقول شخص ما "لا أخلاق في السياسة"، هل يعبر عن حالة طبيعية مقبولة، أم واقع غير صحي وخطر يجب تغييره بأسرع وقت ممكن قبل أن يحطم البلد؟
لماذا نرى أن نفس من يبشر بمبدأ "لا أخلاق في السياسة"، ويضحك من تخلف من يحاسب السياسيين بمعايير الأخلاق، هو أول من يمجد الأخلاق السياسية حين يقارن الساسة العراقيين المتشبثين بالحكم، بسياسيين غربيين تدفعهم "أخلاقهم السياسية" إلى الإستقالة لأبسط فضيحة أو خطأ يرتكبونه، وينظر إليهم كأبطال؟ هل هؤلاء "الأبطال" إذن سذج سياسيين أيضاً؟ أم أنها المقاييس المزدوجة المقصودة التي يقع في تناقضاتها كل من يريد فرض سياسة لا أخلاقية وسياسيون لا أخلاقيون في العراق، وتطبيع المواطن ليقبل بذلك باعتباره حقيقة "سياسية" لا جدوى ولا مبرر لمحاربتها؟ لماذا يطالب الإنسان الإعتيادي بأن تكون له "خطوط حمر" أخلاقية ومبدئية، إضافة إلى القانونية، بينما يعتبر من يطالب السياسيين بمثل تلك الخطوط الحمراء "ساذجاً" لا يفهم في السياسة؟
أي نوع من السياسيين سيكون لدينا إن انتشر مبدأ "لا أخلاق في السياسة" كمبدأ عام مقبول، وأن ينظر إلى أكاذيبهم ليس فقط بحيادية، بل أيضاً بإعجاب باعتبارها "حقاً" و "ذكاءاً" تحسب لصالح السياسي وليس ضده!

هل يحق لنا بعد ذلك أن نحتج حين ينهب أحد سياسيينا وزارته بعقد بمليار دولار؟ اليست "السياسة بلا أخلاق"؟ بل هل يحق لنا أن نعترض على محمود عباس أو حسني مبارك أو صدام حسين؟ أم أننا منافقون نطالب بالأخلاق من نريد ونعفي من نريد؟ أي ضياع يروج له مروجوا مبدأ "لا أخلاق في السياسة" باعتباره مبدأً طبيعياً.؟
ما لم يطور الشعب شعوراً بالإشمئزاز الشديد من الكذب المباشر الوقح الذي ينفذ مع سبق الإصرار والترصد بهدف خداعهم، ما لم يطور الناس إحساساً بالحاجة إلى التقيؤ كلما نظروا إلى أمثال أياد علاوي يتلو الكذبة تلو الكذبة، وإلى تقاطيع وجه عادل عبد المهدي وهو يمثل عليهم الحزن بصلافة، وما لم يتوقفوا عن ترديد ذلك "ألمبدأ" الغريب، فلن يحق لهم الإعتراض على أي شيء، ولن يحصلوا إلا على سياسيون بلا أخلاق وسياسة بشعة لا أخلاق لها، ومستقبل شديد الضياع.
(1*) http://qanon302.net/news.php?action=view&id=4271
(2*) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=41928
(3*) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=42049
(1) http://www.shatnews.com/index.php?show=news&action=article&id=540
(2)  http://shiaee.com/vb/showthread.php?t=100367
(3) http://shiaee.com/vb/showthread.php?t=105253
(4)  http://www.iraqicp.com/news/10287-2010-11-04-19-27-29.html
(5) http://www.shaqlawa.com/forum/index.php?topic=18581.0
(6) http://www.nirgalgate.com/asp/v_news.asp?id=13006
(7) http://alanenews.org/news.php?action=view&id=2015
(8)  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=128898


143
لا أخلاق في السياسة أم في السياسيين؟ الجزء الثالث – المجلس الأعلى

صائب خليل
30 كانون الأول 2010

في الحلقتين الأولى (1) والثانية (2) من هذه المقالة قارنا في الأولى بين انقلابات السياسيين ا لعراقيين في عام 2006 إثر الحملة الأمريكية (الناجحة) لإزاحة رئيس الوزراء العراقي المنتخب، إبراهيم الجعفري، وبين الإنقلابات لحملة أمريكية مماثلة (ولكن فاشلة هذه المرة) في أواخر هذا العام، لفرض المرشح الأمريكي، أياد علاوي،(أو احتياطه عادل عبد المهدي) لرئاسة الحكومة، وكيف ان الحملات تبدأ دائماً بمرحلة تليين تحضيرية، يليها وبشكل مفاجئ وحاسم، قرار معاكس ووقح لتوجيه الضربة الأخيرة. وفي الحلقة الثانية ركزت على انقلاب اعضاء العراقية من خلال مقارنة مقولاتهم في الحملة الأخيرة، أما في هذه الحلقة فسنركز على شريكهم "المجلس الأعلى" الذي راهن بكل ما بقي له من أوراق على المشروع الأمريكي، لسبب مازال خاضعاً للإفتراضات، خاصة المشبوهة منها!

***

حركات مشبوهة: دعم المجلس للعراقية ودعم العراقية لعادل.

نسمي الحركات "مشبوهة" عندما يصعب تفسيرها على الأسس المعروفة، وعندما لا تكون التبريرات المقدمة من قبل المعنيين، مقنعة.
ورغم أنه ليس هناك شيء غريب بشكل عام من دعم جهة سياسية لأخرى والحصول بالمقابل على الدعم من الأخيرة، فأن حالة الدعم المتبادل بين المجلس والعراقية تبقى غريبة للغاية، من الناحية الموضوعية، ومن ناحية الطريقة التي جاءت بها وسرعتها.
فقد فاجأ عمار الحكيم العراقيين بالوقوف موقف حاسم في جانب القائمة العراقية في  الصراعة على السلطة الذي جرى إثر الإنتخابات الأخيرة. وسبب المفاجأة هو أن المجلس الأعلى، كجزء من الإئتلاف الوطني، الذي تغلب على مكوناته الصبغة الشيعية، يعتبر بشكل أو بآخر أقرب كثيراً إلى قائمة "دولة القانون"، وكان، ضمن الإتلاف الوطني مدعواً أصلاً إلى التفاوض من أجل المشاركة في الحكومة، وكان بإمكان المجلس أن يطالب بأكثر مما يستحق إنتخابياً، في عملية إبتزاز سياسية معروفة وشبه مقبولة في مثل تلك الحالات.
أما السبب الثاني فهو الصيغة الشديدة الحدة في ذلك الدعم الذي يتجاوز أي شيء معروف في عالم السياسة، العراقية منها والأجنبية. فقد ألقى الحكيم بكل ثقله وراء قائمة العراقية مصرحاً بأنه لن يدخل حكومة لا تكون العراقية جزءاً منها. وهي صيغة غريبة حتى بين الأحزاب شديدة القرب من بعضها أيديولوجياً وتاريخياً، فكيف بقائمتين لا يجمعهما أية أيديولوجيا وأي تاريخ؟
ولم يكتف قياديو المجلس بهذا الدعم المخالف لرغبات وعواطف ناخبيهم بل ذهبوا أبعد من ذلك فاعترضوا على عدم السماح للمتهمين بالتعاطف والإنتماء للبعث منهم بالمشاركة في الحكومة، رغم أن المجلس يبني "مظلوميته" بشكل رئيس على جرائم البعث بحق أعضائه وعوائله والطائفة التي ينتمي إليها. فقال القيادي في المجلس جمعة العطواني في حديث لـ"السومرية نيوز"، أن "هناك خطأ كبير في قضية اجتثاث أعضاء القائمة العراقية وإبعادهم عن العملية السياسية". (3)
ما هو "الخطأ الكبير" في مجرد إبعاد بضعة مناصرين صريحين للبعث الذي يراه المجلس كمنظمة إجرامية شوفينية، عن ممارسة القيادة السياسية في العراق، لا أكثر؟
هذه التصريحات وهذا الدعم الغريب وغير المحدود بحاجة إلى تفسير، يطالب به المجلس من قبل ناخبيه، فجاء تفسير عمار لذلك بقوله: "انتصارنا لـ (العراقية) تأكيد لمفهوم الشراكة الحقيقية في بناء العراق" (4)
لا يستطيع أن يقنع أحداً، فالعراقية التي يتحدث عنها لم تكن جزءاً صغيراً مظلوماً يخشى التهميش، بل مصارعاً في الخط الأول. كذلك فأن "دولة القانون" لم تكن في تلك اللحظة تصرح باستبعاد العراقية، بل العكس، لذا فأن من يريد أن يدعم "الشراكة الحقيقية" ان يستعمل أوراقه للضغط من أجل تحقيقها، من خلال شروط متوازنة على الأطراف المعنية، لا أن يلقي بها في حضن أحد الأطراف بلا شروط وبدون أية مفاوضات أو حتى محادثات.
إذن فالسبب الذي قدمه عمار لدعم العراقية المفاجئ وغير المحدود،غير مقنع، فما هو التفسير الحقيقي؟ يبدو أنه سبب يفضل عمار الإحتفاظ به لنفسه، سبب مخجل على الأغلب! لقد توقعت في مقالة سابقة أن الأمريكان قد تمكنوا من ابتزاز عمار الحكيم لكي يقدم على موقف مدمر لحزبه كهذا، ومازال مثل هذا الإحتمال وارد جداً، لكني أضيف إليه احتمال وعد الأمريكان للمجلس بأن يكون رئيس الوزراء منه (عادل عبد المهدي) بالرغم من أن المجلس لم يحصل إلا على بضعة مقاعد في الإنتخابات الأخيرة!

العراقية تدعم عادل عبد المهدي


من جهتها فأن العراقية كانت تواجه مشكلة أيضاً في تفسير دعمها للمجلس، إلى درجة أنها حسب تصريح قيادييها "تنازلت عن حقها في تشكيل الحكومة" لتقبل بتسليمها إلى عادل عبد المهدي!
والمشكلة التي تواجهها العراقية في تفسير ذلك التصرف هي أنها تستند في الكثير من إعلامها على أساس التصدي لـ "الخطر الإيراني" ورفضه واتهام دولة القانون والإئتلاف الوطني بالعلاقة التبعية معها، وبدعمها الشديد لعادل عبد المهدي والمجلس الأعلى فأنها تدعم أقرب الجهات العراقية إلى إيران! لنأخذ هذا الخبر عن البطيخ:
جدد القيادي في القائمة العراقية النائب جمال البطيخ التأكيد على استعداد كتلته لدعم عادل عبد المهدي مرشح الائتلاف الوطني لرئاسة الوزراء في الحكومة المقبلة. وقال البطيخ خلال تصريح اعلامي اننا في القائمة العراقية وخلال الاربع سنوات الماضية لمسنا مرارة من ادارة المالكي للسلطة وحتى في علاقتنا معه على العكس من الفترة الذي شغل عبد المهدي نائبا لرئيس الجمهورية ناهيك عن انه يمتلك خبرة اقتصادية وهذا ما تحتاجه البلاد في المرحلة المقبلة. واضاف ان العراقية عندما ستتنازل عن رئاسة الوزراء لعبد المهدي فان ذلك يأتي من باب النظر الى المصلحة العليا للبلاد. (5)
لا أتصور أن احداً يأخذ عبارات البطيخ عن عبقرية عادل عبد المهدي الإقتصادية بشكل جاد، أو أن ذلك يمثل "المصلحة العليا للبلاد"، فما هو ا لسبب إذن؟
يبدو أن العراقية تريد أن تحتفظ بالسبب الحقيقي لنفسها، فهو إذن سبب مخجل على الأغلب.

المجلس ينضم إلى المقاطعة الصريحة للمالكي

لم يتأخر المجلس الأعلى عن الحملة التي انطلقت في لحظة واحدة لمقاطعة المالكي، فشملت جميع اعضاء العراقية بلا استثناء، وهو ما حاولت العراقية تصويره على أنه "إنسجام" في المواقف، بينما إن دل هذا على شيء فإنه يدل على تبعية شديدة لجهة مركزية ما، داخل العراقية أو خارجها، فلا يعقل أن لا يختلف أي سياسي في قائمة كبيرة كتجمع العراقية المختلف بل المتناقض، عن الخط العام، حين يتحول بشكل كبير وهام من الدعوة إلى الشراكة والمشاركة وإلغاء الخطوط الحمر، إلى موقف عدائي صريح وغير مبرر تجاه شخص واحد هو المالكي. فحتى لو افترضنا أن جميع أعضاء القائمة يعتبرون المالكي شخصياً العدو الأكبر لهم (وهو ما لم تدل عليه الأحداث التالية إطلاقاً) فيفترض أن هناك من قد يخطر بباله الإعتراض على أسلوب العمل ضده. لكن "العراقية" كانت "منسجمة" تماماً !
هل أتى هذا الإنسجام من داخل العراقية؟ من الصعب تخيل ذلك، فالشخصية المركزية الوحيدة في العراقية التي يمكن أن تدير مثل هذا الأمر هو أياد علاوي، وهذا الأخير لا يتمتع بثقة الأعضاء، الذين عبروا أكثر من مرة عن الإعتراض علي قراراته وفرديته في اتخاذها. لذلك لا يبقى سوى أن يكون مركز القرار خارجي، يمكن لأعضاء العراقية المختلفين أن يثقون بقدرته على تنسيق مثل ذلك القرار الخطير وحصاد النتائج الإيجابية منه. أترك تقديره لكم.
لم يكن هذا التنسيق "إنسجاماً" في مواقف الأعضاء، كما حاول الملا وغيره أن يفهموا الناس، فقد تم حسب تصريحات هؤلاء الحصول على تواقيع جميع قادة العراقية على القرار، وهو ما يذكرنا بالتواقيع التي تفرضها الأنظمة الدكتاتورية على توابعها الذين لا تطمئن إليهم، وهو في كل الأحوال دليل قاطع على عدم الثقة بهؤلاء الأعضاء وعدم الإكتفاء بوعدهم الشفوي بالإلتزام، فلا مفر من استخدام تواقيعهم ضد كل من تسول له نفسه الخروج عن القرار المركزي لاحقاً.

أنضم المجلس الاعلى إلى الجوقة بدون تردد، مستخدماً أشد الألفاظ في رفض المالكي، وهو ما يبدو جزءاً من الإتفاق المركزي لمنع من يفكر من المجموعة في إبقاء خطوط رجعة له مع "دولة القانون". فأعلن المجلس:"لن نصوت للمالكي في مجلس النواب" (6)
وأعلن النائب عن القائمة العراقية احمد المساري عن هذا الإتفاق بين قيادة قائمتة وقيادات المجلس الاعلى والذي ينص على عدم مشاركتهما في حكومة يرأسها زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، وأنهم قرروا تشكيل قاعدة ثلاثية تضم العراقيية والمجلس الاعلى والاكراد لتشكيل الحكومة". (7)
وقال القيادي في المجلس عزيز العكيلي ان "المجلس الاعلي لديه تحفظ عن المالكي، ولن يوافق علي ترشيحه لرئاسة الوزراء". واضاف العيكلي: ان "عدم تأييدنا للمالكي رسالة واضحة للشعب العراقي"، قائلاً: ان "حكومته فاشلة ولا نريد دفع ثمنها مرة اخري". (8)
قال النائب عن المجلس الاعلى عزيز كاظم علوان العكيلي " ان المجلس الاعلى لن يعطي صوته لشخص قاد حكومة فاشلة وغير مقبول وطنيا ". (9) وهي عبارات تتطابق تماماً مع مثيلاتها من العراقية والتي تؤشر ثانية بأنها جمعت من مركز واحد قام بتوزيع ليس الأدوار فقط بل وحتى التصريحات، ليوزع خشونتها بالتساوي على المجموعة.

المجلس يشارك مع المالكي مثل الباقين

لكن، وكما حدث للقائمة ا لعراقية تماماً، تراجع المجلس وأعضائه عن كلامهم الذي كاد يصل حد الشتائم للمالكي، وأعلن موافقته على المشاركة في "حكومة يرأسها المالكي". فجاء في أحد الأخبار مثلاً:
أعلن المجلس الأعلى الإسلامي الذي يتزعمه عمار الحكيم، الخميس، موافقته على المشاركة في حكومة يرئسها نوري المالكي والتصويت له في جلسة البرلمان بعد أن "تحققت الشراكة الوطنية"،
وقال القيادي في المجلس الأعلى جمعة العطواني إن "المجلس الأعلى الإسلامي سيشارك في حكومة يرئسها نوري المالكي إذا تحققت الشراكة الحقيقية من جميع الاطراف" (10)

وسنكتفي بهذا المثال فالكثرة لا تعني شيئاً..

كان المقرر أن تنتهي سلسلة فضائح تصريحات الساسة العراقيون وتناقضاتها الخاصة بفترة الإنتخابات هنا في نهاية هذه الحلقة، وحرصنا على إنهائها وإرسالها قبل نهاية العام، لنبدأ عاماً جديداً نظيفاً،  لكن ضرورة الإنسجام في المقالة  وعدم خلط مواضيع مختلفة معاً، من ناحية، ولضرورة إكمال الموضوع بتفصيلاته من الناحية الأخرى، وجدت من المناسب إضافة حلقة أخيرة ملحقة ستكون بعنوان "أكاذيب متفرقة"، وهي أكاذيب "مهمة" من ناحية معرفتنا لسياسيينا، لكنها لا تقع ضمن إطار أي من الحلقات الأخرى. وبذلك سوف ننهي هذه المقالة بـ "أكاذيب متفرقة"، ولكن في العام القادم بعد أيام، فإلى ذلك الحين أتمنى لكم عاماً جديداً سعيداً، وخال من أكاذيب السياسيين أو على الأقل، اقل من العام الحالي الذي كان غنياً بها بحق. Saieb.khalil@gamil.com


(1) http://qanon302.net/news.php?action=view&id=4271
(2) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=41928
(3) http://www.iraq-ina.com/showthis.php?tnid=53938
(4) http://www.nahrainnet.net/news/52/ARTICLE/16193/2010-11-16.html
(5) http://www.aliraq-online.com/7837.html
(6) http://youssef19.yoo7.com/t44621-topic
(7) http://www.ikhnews.com/news.php?action=view&id=2531
(8) http://www.azzaman.com/indexq.asp?fname=2010\10\10-01\99.htm&storytitle
(9) http://www.qanon302.net/news.php?action=view&id=2066
(10)  http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20809


144

لا أخلاق في السياسة؟ أم في السياسيين؟ مقارنة تصريحات- الجزء الثاني: العراقية

صائب خليل
28 كانون الأول 2010

في الجزء الأول (*) من هذا المقال قارنا بين الإنقلاب المفاجئ في تصريحات الساسة العراقيين في عملية استبدال الجعفري من قبل الولايات المتحدة والتي حسمت بزيارة كونداليزا رايس في الأول من نيسان عام 2006، وبين الإنقلاب في تصريحات أؤلئك الساسة والمتمثل بنوايا القائمة العراقية في تكوين حكومة أغلبية وامتداحها لذلك النوع من الحكم، والذي تغير بعد ذلك إلى الحديث الكثير عن ضرورة الشراكة، والمشاركة والوحدة الوطنية وأمثالها من العبارات التي لا يكاد يخلو منها أي حديث في تلك المرحلة لأي عضو في العراقية وخاصة رئيسها أياد علاوي.
للإختصار وإبعاد الملل، لن نأخذ أمثلة من تصريحات "المشاركة" فقد كانت من الكثرة والتوفر بحيث لا يحتاج أي عراقي أية أمثلة لبرهنة ذلك، لكننا سننتقل في هذا الجزء من المقالة إلى المقارنة بين تصريحات المرحلتين الأخيرتين، ونبدأ بالمرحلة التي تلت تمجيد الشراكة وشيطنة الخطوط الحمر، ثم مرحلة وضع خط أحمر واضح أمام أية حكومة للمالكي. أي بين الرفض الحاسم للمالكي، وبين القبول المفاجئ للإنظمام إلى حكومته:
رفض المالكي ...
تصريحات الكتلة الرسمية (تشرين أول):
أكدت الكتلة العراقية الفائزة في الانتخابات انه "لا جدوى من أية حوارات جديدة لتشكيل الحكومة بعد ترشيح المالكي لان الحديث اصبح عن صفقات وهبات ومنح لمناصب"
وقالت : "كل المحاولات الاخرى للاستيلاء على الحكومة وأسلوب تشكيلها غير شرعية ولن تعترف العراقية بها، ولن تتعامل مع ما ينتج عنها". وشددت الكتلة على "رفض التدخلات الخارجية بكل اشكالها في التأثير على تشكيل الحكومة بسياقات غير عراقية وتؤكد انها لن تنصاع لإرادات من يريد فرض شكل الحكومة القادمة خلافاً لإرادة أبناء الشعب وانها ستستمر بالعمل على تشكيل الحكومة بإرادة عراقية" (1)
وفي بيان اصدرته قالت القائمة انها "لن تعترف بما يسمى التحالف الوطني" او افرازاته وتعتبر ذلك محاولة يائسة لترسيخ الطائفية السياسية (2) وفي مكان آخر كانت قائمة علاوي تحذر من "نهاية الديموقراطية" (3)

محمد سلمان: لا نثق بالمالكي
هاجم اعضاء القائمة المالكي بأشد الكلمات، فأكد عضو عن ائتلاف القائمة العراقية محمد سلمان أن قائمته "لا تتقاطع مع رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي بصفته الشخصية ولابصفته الحزبية" ،مشيراً الى ان العراقية لاتثق بقدرته على تسيير دفة البلاد. وأوضح ان "العراقية تعتقد ان المالكي لن يستطيع ان يسير دفة الأمور في العراق بالشكل الذي ترتضيه قائمتنا." (4)

ظافر العاني: يؤكد "أي حكومة للمالكي ستكون غير شرعية وعاجزة وتديرها إيران ونطالب بالتدويل ولن نقف مكتوفي الأيدي."
رفض القيادي في العراقية ظافر العاني فكرة مشاركة القائمة في اية حكومة يشكلها نوري المالكي باعتبارها انها "غير شرعية"، تأتي نتيجة "ابعاد قسري وغير قانوني للقائمة الفائزة" مشددا على أنه "ليس هناك تغيير في هذا الموقف" .
وأضاف العاني في حديث خاص لوكالة (آكي) الإيطالية للأنباء "نحن دعاة تغيير واصحاب مشروع للتغيير، وان حكومة يرأسها المالكي لا يمكن ان تحدث مثل هذا التغيير، فستكون عاجزة"، وأردف "فضلاً عن أن المالكي كما نعتقد لا يمتلك المؤهلات الكافية لانقاذ العراق وتحسين الوضع السياسي عدا انه اصبح الان خياراً ايرانيا وحكومة كهذه ستكون مسلوبة بارداتها وقرارها لصالح اجندة خارجية هي اجندة حكومة طهران".
ولم يكتف ظافر العاني بالرفض بل دعى إلى تدويل القضية العراقية صراحة، وأشار إلى الفصل السابع، وهو ليس سوى إبتزاز لوضع العراق في لحظة زمنية سيئة، أدخل فيه بسبب تهديده للكويت وليس له أية علاقة بتشكيل الحكومة العراقية واستمر ابتزازه له في قضية الديون والحدود مع الكويت وكل من أراد ابتزاز البلد في أية قضية، كما تحاول العراقية في مسألة وصولها إلى السلطة في مثل هذه التصريحات. 
وعما ستفعله العراقية خلال الفترة القادمة في حالة تكليف رئيس الجمهورية للمالكي بتشكيل الحكومة قال العاني"نحن كما قلت لن نشترك في حكومة يرأسها المالكي وسنعمل على الاتكون هناك حكومة يرأسها المالكي، وفي هذه الحالة لن نقف مكتوفي الايدي. (5)
وبقي ظافر العاني يتوعد بـ" التصدي للحكومة القادمة اذا شكلت برئاسة المالكي" حتى وقت متأخر نسبياً، (6) في الوقت الذي كان فيه الآخرون يفاوضون على المشاركة،

الدملوجي: لانشترك بحكومة يرأسها شخص لا يلتزم بالوعود
الناطقة الرسمية باسم القائمة العراقية ميسون الدملوجي قالت إن قائمتها لاتشترك بحكومة يراسها شخص لايلتزم بالوعود التي قطعها سابقا للاخرين . ...مشيرة الى إن هذا الموقف ينبع من احساس القائمة الوطني القائم على اساس تنفيذ الوعود التي قطعتها لناخبيها، وقالت " إن الشعب سيعرف من يتكالب على المناصب من الاخرين الراغبين في الاصلاح والتغيير." (7)

الجميلي :" ان اي وفد من دولة القانون اذا اراد التفاوض مع القائمة العراقية ، فعليه ان يعلم باننا نرفض بشكل قاطع المشاركة باي حكومة يتراسها المالكي"(7). 

عبد الكريم السامرائي: لانؤيد مطلقا ترشيح المالكي، ولن نعترف به
عضو القائمة العراقية عبد الكريم السامرائي: ان بيان العراقية كان واضحاً وهو ان العراقية لا تؤيد ترشيح المالكي مطلقاً لرئاسة الوزراء واذا كان هناك أية نية للتحالف الوطني لترشيح نوري المالكي فعليه اعادة النظر لان العراقية لن تعترف بهذا الترشيح ولا بالاليات التي اسفرت عن هذا الترشيح (8)

البطيخ: المقاطعة لأية حكومة يترأسها المالكي بالاجماع
عجيل الياور:اعتراض العراقية على شخصية المالكي الذي أذاق الشعب الويل
النجفي: لن نقبل مهما كانت العروض

أوضح البطيخ ان قيادات العراقية اتخذت قرار المقاطعة لأية حكومة يترأسها المالكي بالاجماع ولايوجد كيان منضويٍ بضمنها قد رفض أو عارض ذلك القرار،
و قال القيادي الاخر في القائمة النائب عجيل الياور ان اعتراض العراقية على شخصية المالكي وليس على دولة القانون كقائمة ومن الممكن ان نتحاور مع ائتلاف دولة القانون ان غيروا مرشحهم. ..واضاف ان جميع كتل القائمة العراقية ومكوناتها متفقون على هذا الرأي وليس هناك شخصنة للخلاف (!!) مؤكدا ان القائمة العراقية سوف تقاطع العملية السياسية والحكومة في حال تم اختيار المالكي رئيسا للوزراء.
وقال ان العراقية ان اصرت على رأيها فلن تشكل حكومة في البلد من دونها ولابد من ان تغير دولة القانون مرشحها وباختيار الدكتور عادل عبد المهدي يمكن ان نتفاهم معه اما مع المالكي فان المجرب لا يجرب وقد جربناه خلال فترة السنوات الاربع الماضية حيث اذاق فيها الويل للشعب ونحن غير مستعدين الاعادة الدكتاتورية من جديد.
أسامة النجيفي " إن "القائمة لن تقبل بان يكون زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي رئيسا لولاية ثانية مهما كانت العروض المقدمة من الأخير"، وأن العراقية "يمكنها التفاوض مع أي شخصية يتم ترشيحها لرئاسة الوزراء باستثناء المالكي ".(9)

حيدر الملا: موقف العراقية واضح برفض المالكي ووقعه الجميع
قال المتحدث باسم القائمة حيدر الملا في حديث لـ"السومرية نيوز"، إن "البيان الذي أصدرته القائمة العراقية، مساء الجمعة الماضية، والذي أعلن موقف القائمة بمقاطعة أي حكومة يرأسها زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، أقره ووقع عليه جميع قادة ومكونات القائمة من ضمنهم طارق الهاشمي"(10)
حيدر الملا:" ان موقف العراقية واضح برفض ترشيح المالكي كرئيس محتمل للوزراء وان العراقية حالة واحدة وليست مجزأ ة وليست فيها تيارات متطرفة و معتدلة." (11)

النجيفي: مقاطعة "العراقية" لحكومة يرأسها المالكي قرار لا رجعة فيه ولا هوادة
أسامة النجيفي: "يوجد في القائمة العراقية 6 قادة وافق جميعهم على بيان العراقية الرسمي بمقاطعة حكومة يرأسها نوري المالكي والأعضاء الباقيين محكومين بالارتباط والتماسك مع قادتهم قادة العراقية. العراقية وقادتها متماسكون جدا ولا صحة لكل ما يتم إشاعته كلام من هذا النوع يدخل في باب الإشاعات والمفرقعات الإعلامية وقد جربتها قائمة دولة القانون سابقا ومنذ بدء المفاوضات كانوا يتحدثون عن انقسامات بين قادة القائمة العراقية وقدموا إغراءات هائلة وعرضوا مناصب كبيرة لكنها لم تجد نفعا حيث بقيت القائمة العراقية متماسكة وموقفها موحد ولا يوجد أي نائب في القائمة العراقية يخرج عن الإطار الرسمي للقائمة العراقية.
"ألانسحاب من المشاركة في حكومة يرأسها نوري المالكي وهو قرار لا رجعة ولا هوادة. العراقية لن تشارك بأي حال من الأحوال في حكومة يرأسها نوري المالكي أوحزب الدعوة وان تم ذلك بصيغة من الصيغ فان القائمة العراقية ستكون معارضة في البرلمان. (12)

سلمان الجميلي: قرار العراقية بعدم المشاركة في حكومة يترأسها المالكي مطلق
اعلن القيادي في تجمع الوطني المستقل والنائب عن القائمة العراقية سلمان الجميلي ان قرار قائمته بعدم المشاركة في حكومة يرأسها المالكي قرار مطلقا ولا رجعه فيه. (13)


ثم قبول المالكي...

وحين تبينت صعوبة المطامح، راحت العراقية تطالب برئاسة الجمهورية بعد تنازلها عن رئاسة الوزراء (14) لكن حين أعلنت دولة القانون: رئاسة الجمهورية محسومة لصالح الطالباني وسنشكل حكومة أغلبية سياسية في حال رفض البعض المشاركة (15)

نفى علاوي "الأنباء" التي تحدثت عن مقاطعة قائمته لأية حكومة يرأسها المالكي، واعتبر "الانباء" كلها مزيفة ومفبركة (!) مؤكدا ان العراقية ستشارك في الحكومة وبثقلها وتسعى الى حصول اعلى المناصب الذي يمثلها بقدر ما فازت في الانتخابات التشريعية الاخيرة! (16) أما سبب قبوله حكومة يرأسها نوري المالكي، رغم تشبثه برفض ذلك طوال الأشهر الماضية، فقال أنه "الرغبة في معالجة مشاكل الشعب العراقي." ! (17)

لكنه بعد أن عرضوا عليه منصباً لا يرضيه، بدأ "يتعزز"،  وقال إنه "ليس مستعداً للتحول إلى دمية أو شاهد زور على التاريخ" بعد كل التنازلات التي قدمها. وتابع: "هذه دكتاتورية جديدة في العراق، والأمر بات مذلاً واستبدادياً لأنهم لا يريدون احترام الناس الذين لديهم أفكار مغايرة." وأوضح علاوي: "لقد حصلت على ضمانات من أمريكا ومن قوى أخرى بأن يحصل اتفاق على تقاسم السلطة.." وكرر اتهام إيران بمحاولة تفكيك كتلته وسد الطرق أمام وصوله إلى رئاسة الحكومة.
وأضاف: "احتى إن أكدوا لي عزمهم تنفيذ اتفاق تقاسم السلطة في المستقبل، فلن أثق بهم." (18)
وأكد أنه سيرفض شخصياً أي منصب حكومي قائلاً: "لقد عزمت على المستوى الشخصي بأنني لن أقبل لعب دور بهذه المسرحية"

المطلك يتحدث عن الإستعداد لدخول القائمة للحكومة بشروط لا تجعلها دكتاتورية وإلا فأي عضو في العراقية يشارك في الحكومة هو خائن! والقائمة تحرص على أهمية عدم احتوائها على خونة.(19)

إذن؟....

إذن "إعترفت" العراقية بـ "الحكومة وأسلوب تشكيلها غير الشرعية" و "تعاملت مع ما نتج عنها"، رغم أن دولة القانون "اصرت على رأيها" ولم تغير مرشحها وتبدله ببديل العراقية عادل عبد المهدي، و قبلت "بان يكون زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي رئيسا لولاية ثانية" ولم "تنته الديمقراطية" على ما يبدو.
وقبل أعضاء العراقية بالمشاركة في تلك الحكومة "غير الشرعية" بعروض محدودة، وليس "مهما كانت العروض"، وعرف العراقيون بالفعل من "يتكالب على المناصب" وينسى كلامه، ممن لاتتقاطع رؤيتهم مع المالكي "لابصفته الشخصية ولابصفته الحزبية". قبلوا بالعمل تحت سلطة شخص لا يثقون "بقدرته على تسيير دفة البلاد." في حكومة ينتظر منها أن تكون "عاجزة وتديرها إيران" إلى الدرجة التي طالبوا بتدويل العراق لإتقاء شرها. وتبين أن مقاطعة "العراقية" لحكومة يرأسها المالكي" قرار "فيه رجعة" وفيه الكثير من "الهوادة"، وأن كل تلك "البوزات" والغضب، ليست سوى مسرحية معدة سلفاً!
 
ويبدو مثيراً للسخرية أن نتذكر حديث ميسون الدملوجي التي أبدت اشمئزازها من "حكومة يراسها شخص لايلتزم بالوعود التي قطعها سابقا للاخرين" ونفاق تبجحها بـ "موقف قائمتها الذي "ينبع من احساس القائمة الوطني القائم على اساس تنفيذ الوعود التي قطعتها لناخبيها" وكل عبارات العراقية السابقة عبارة عن وعود بعدم المشاركة في حكومة حكموا عليها بأشد السوء فانقلبوا في لحظة واحدة عن تلك الوعود وتكالبوا على المناصب، حسب تعبير الدملوجي نفسها!

نلاحظ أن مرحلة "لا خطوط حمر" تشبه تماماً المرحلة التي سبقت إقصاء الجعفري عام 2006، كما أن الإنتقال السريع والحاسم بين "لا خطوط حمر" وبين مرحلة الإقصاء الواضح الذي وردت تعبيراته في بداية هذا الجزء من المقالة، مطابق تماماً لما حدث عام 2006 بعد زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية رايس، مما يؤشر أن المخطط لتلك المرحلة كان نفس الفريق الذي خطط سياسة العراقية ومواقفها الإعلامية والسياسية. الفارق الأساسي هو أن الخطة لإبعاد المالكي قد فشلت، فاضطر أصحابها إلى الإنقلاب السريع ثانية نحو القبول به، وجعلوا من أنفسهم مسخرة أمام ناخبيهم وخصومهم على السواء، أما في الخطة ضد الجعفري فقد تكللت بالنجاح، فلم يحتج أصحابها إلى الإنقلاب السريع ثانية، ولاشك بأنها لو لم تنجح لرأينا الجميع، وأولهم "مام جلال" يبوس الجعفري ويؤكد له "عمق الشراكة والصداقة التي تربط بينهما... " ولما تخلف الباقين عن ذلك!

هؤلاء هم (بعض) ساستنا،.....في الحلقة التالية نتحدث عن المجلس الأعلى..

(*)http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=41805
أو  http://qanon302.net/news.php?action=view&id=4271
(1) http://heilnews.com/article.aspx?articleno=4312
(2) http://www.almowatennews.com/news.php?action=view&id=9158
(3) http://www.yanabeealiraq.com/news0910/n09091013.htm
(4) http://www.nakhelnews.com/pages/news.php?nid=2540
(5) http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=446763.0
(6) http://www.nakhelnews.com/pages/news.php?nid=2554
(7) http://www.shatnews.com/index.php?show=news&action=article&id=584
(8) http://www.almowatennews.com/news.php?action=view&id=9158
(9) http://www.shatnews.com/index.php?show=news&action=article&id=538
(10) http://www.yanabeealiraq.com/news0910/n09091013.htm
(11) http://www.shatnews.com/index.php?show=news&action=article&id=584
(12) http://www.shatnews.com/index.php?show=news&action=article&id=548
(13) http://www.ikhnews.com/news_view_2314.html
(14) http://www.alsumarianews.com/ar/1/13003/news-details-.html
(15) http://www.non14.net/display.php?id=10875
(16) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=19302
(17) http://arabic.cnn.com/2010/middle_east/11/12/allawi.block/
(18) http://arabic.cnn.com/2010/middle_east/11/12/allawi.block/
(19) http://www.aljewar.org/print-29072.aspx


145


لا أخلاق في السياسة، أم في السياسيين؟ مقارنة تصريحات معارك الإنتخابات – الجزء الأول

صائب خليل
25 كانون الأول 2010

إننا لا ننظر إلى الماضي إلا من أجل زيادة قدرتنا على توقع المستقبل، فمن تصرفات الشخص الماضية يمكنك التكهن بشكل تصرفاته المستقبلية، وبذلك يمكنك أن تتجنب المفاجآت. وهاهي معركة تشكيل الحكومة تشارف على الإنتهاء، لذلك فلا بأس من مراجعة للطريقة التي قادت بها الجهات السياسية العراقية معركتها، وسأركز في هذه المقالة (من ثلاث أجزاء) على متابعة تصريحات الجهتين الخاسرتين الرئيسيتين في المعركة، القائمة العراقية  والمجلس الأعلى إضافة إلى التحالف الكردستاني في الإنتخابات السابقة، وهي الجهات التي تناقضت أقوالها في تقديري حسب المرحلة بشكل ملفت للنظر.
بالنسبة للقائمة العراقية، كانت هناك ثلاث مراحل، الأولى قبل إعلان المحكمة الإتحادية لتعريفها للقائمة الفائزة، والثانية بعد الإعلان، والثالثة بعد أتضاح انتصار دولة القانون في المعركة.، أما بالنسبة للمجلس فمرحلتين، مرحلة التحالف المفاجئ مع العراقية ومرحلة ما بعد اتضاح انتصار المالكي. كذلك سنقارن في نهاية هذا الجزء، مع معركة الإنتخابات السابقة التي أزاحت إبراهيم الجعفري عن الرئاسة قسراً.

***

مازالت ترن في أسماعكم بلا شك، الكلمات الأخلاقية الرفيعة، المصحوبة بنغمة غاضبة، والتي أكثر منها أعضاء القائمة العراقية، وبشكل خاص زعيمها أياد علاوي عن "المشاركة" و "الشراكة" (وتنبيهه على الفرق الخطير بينهما!) وكذلك الأحاديث المرادفة عن حكومة الوحدة الوطنية والإشتراك في القرارات، وانتقاد خصومه على روحهم الإقصائية والتهميشية، مما يوحي بأن الرجل ديمقراطي وأخلاقي مغالِ في ديمقراطيته وأخلاقيته وروحه الإجتماعية المشاركة.
ولولا دروس التاريخ القريب لصدقنا هذا الرجل الذي تكاد تحترق أعصابه من أجل القرارات المشتركة، لكننا نعلم جيداً أنه كان السياسي العراقي الوحيد بعد 2003، الذي غادره رفاقه الواحد تلو الآخر، لا لشيء سوى لدكتاتوريته في اتخاذ القرارات حتى ضمن كتلته، لكنه لا يمل من ترديد قصصه!
ومن بين من تركه نذكر النائبة صفية السهيل التي قالت حينها: ” القائمة تدار بطريق الهاتف او الايميل كما ان اتخاذ القرارات يتم بمنأى عن الديمقراطية، الادارة غير شفافة والقرارات تتخذ بطرق غير ديمقراطية والاوامر تعطى دون استطلاع الاراء ولسنا شركاء في اتخاذ القرار.”.... “لايشرفني ان اكون مسلوبة الارادة ولاقرار لي في القائمة التي انتمي اليها”
وانسحب الحزب الشيوعي من إئتلافه لنفس السبب فقال مفيد الجزائري: ” نحن لم نكن نعرف بموضوع الوساطة التي قام بها الدكتور اياد علاوي بين عزة الدوري والامريكان بل عرفناها من خلال وسائل الاعلام شأننا بذلك شأن جميع المواطنين.”
كذلك انسحب رفاق آخرون له تباعاً، وكان السبب دائماً نقصه الذي يلوم الآخرين عليه بشكل مستمر: إحادية القرارات والدكتاتورية المفرطة والتهميش لرفاقه.

على أية حال، يبدو أن العراقية اعتمدوا في حملتهم الجديدة، على ضعف ذاكرتنا وكثرة الضجيج، وهكذا امتلأت تصريحات الحملة بعبارات الشراكة والمشاركة والوحدة...

لكن الأمور لم تبدأ هكذا بالضبط، ولنا أن نشكر الأستاذ قاسم الخفاجي لتنبيهنا. تقول مقالة الخفاجي المعنونة: "تناقضات في تصريحات قائمة اياد علاوي" (1) والتي نشرت في نيسان الماضي:
"قبل اعلان نتائج الانتخابات  بايام ويبدو ان قائمة اياد علاوي قد حصلت على معلومات وتطمينات مؤكدة بانها ستكون الاولى رقميا ...فقد صرح ثلاثة اشخاص من هذه القائمة  تصريحات تشدد وتؤكد على ان زمن مشاركة الجميع في الحكومة قد ولى وان الاستحقاق الانتخابي البحت هو من يجب ان يسود ويرتب طريقة وعناصر الوزارة وكانت التصريحات كالاتي وقبل صدور تفسير المحكمة الاتحادية عن ماهية الكتلة النيابية الاكثر عددا
1. طارق الهاشمي  يقول علينا ان نستنبط الدروس من المرحلة السابقة واستغرب ممن يريد تشكيل حكومة مشاركة فهي لاتختلف عن المحاصصة بشئ
2. عبد الكريم السامرائي يقول القائمة الفائزة هي وحدها من يحق لها تشكيل الحكومة وعلى الاخرين التسليم بالنتائج
3. رشيد العزاوي  المحاصصة خطا ويجب ان تكون هناك معارضة في البرلمان وان المشاركة هي المحاصصة ذاتها وان قائمة العراقية لها وحدها الحق في تشكيل الحكومة"
"ومما لاشك فيه ان المتابع والقارئ لهذه التصريحات يفهم منها بسهولة انها تشير الى ان قائمة علاوي وحدها المخولة بتشكيل الوزارة.....وعلى الاخرين البقاء خارج الحلبة وترك العناصر البعثية والتكفيرية والتي انضوت تحت عباءة علاوي تقرر مصير العراق وتتحكم فيه. ولكن وبعد صدور تفسير المحكمة الاتحادية حول الكتلة الاكثر عددا عاد نفس الاشخاص واخرين معهم من نفس القائمة الى تصريحات مغايرة حين احسوا بان اي امكانية لان يشكل علاوي وقائمته الحكومة معدومة  لوجود تكتل نيابي كبير رافض يمثل القاعدة الجماهيرية الاوسع في العراق."
وهكذا أنقلب علاوي وشلته، في لحظة من لحظات الصراع، إلى الجانب المعاكس وتحولوا إلى الحديث عن الشراكة وحكومة الوحدة الوطنية، وكانوا في المرحلتين منسجمين تماماً في تصريحاتهم حتى تظن أنهم فريق إعلامي موجه من جهة مركزية، ولم تظهر أية اختلافات في وجهات النظر، إلا حين تنفجر الأمور وتكشف عن إنشقاقات عميقة، بل عن أن أعضاء العراقية لا يجمعها شيء، إلا اللهم شيء خارجها. (*)

مقالة الأستاذ الخفاجي أعادتني إلى التجربة المماثلة الأولى، تجربة الحكومة الأولى عندما تولى المالكي الحكم عوضاً عن الجعفري الذي تم استئصاله بعملية أمريكية ناجحة، تشبه تماماً ما جرى للمالكي، عدا أن النتائج كانت فاشلة هذه المرة. في تلك الفترة أيضاً كانت مراقبة الإنقلاب في تصريحات السياسيين حسب ما يناسب المرحلة، عملية مثيرة.
في مقالتي "برج الحرباء يمر على سماء بغداد" والتي كتبتها حينها، قدمت قائمة أقوال الساسة العراقيين قبل وبعد لحظة معينة، وهي تشبه تماماً الإنقلاب الذي تبينه مقالة الأستاذ الخفاجي، فكأن التاريخ يعيد نفسه بشكل معدل قليلاً.
في مقالة الخفاجي أعلاه كانت لحظة الإنقلاب هي لحظة اكتشاف العراقية أنها ليست مسيطرة تماماً على الموقف، فاستبدلت حديث الإقصاء والحق الإنتخابي، بالحديث عن المشاركة والوحدة الوطنية، أما في الإنتخابات الأولى (بعد الدستور) فكانت لحظة الإنقلاب تتمثل بوصول كونداليزا رايس في 1 نيسان 2006. وكان قد سبق زيارتها فترة ضغط تحضيرية على الجعفري الذي لم يكن ينوي إشراك علاوي في الحكومة. أي أن المراحل كانت مقلوبة، ففي عام 2006 بدأت العراقية بموقف الضعيف فبدأت بالحديث عن الشراكة والوحدة الوطنية (وشاركها التحالف الكردستاني) وخلال فترة الحديث عن المشاركة، كانت الضغوط توجه إلى الجعفري الذي لم يتراجع في البداية، وكتبت حينها مقالة: "أيها الجعفري لا تنسحب" (2)
لكن الضغوط ازدادت وضعف محيط الجعفري، حتى أحس الأمريكان أن لحظة ا لضربة القاصمة قد حانت، ففاجأت كونداليزا رايس البلاد بزيارتها لتضع الجميع أمام القرار الأمريكي بإزاحة الجعفري وأنه حاسم لا رجعة عنه، ونكتشف ذلك من  التصريحات التي أنقلبت فجأة رأساً على عقب، وتحول لطفاء "الشراكة" و "حكومة الوحدة الوطنية" إلى وقحين صلفين، وربما كان أشدهم صلفاً الرئيس جلال الطالباني، فكتبت مقالتي المعنونة "برج الحرباء يمر على سماء بغداد"، (3)  احتوت المقارنات التالية بين التصريحات:

ألقائمة العراقية قبل 1 نيسان
د. إياد علاوي:العربية نت، مقابلة مع (المرحومة) أطوار بهجت: " يجب أن تكون هناك حكومة وحدة وطنية،... ما قيل من إنه أكو خط أحمر وما خط أحمر وما يصير يشارك علاوي، يعني حقيقة ما أعرف منين جاية ..... يعني ما أعرف منو اللي يطرح هالطرح هذا،...إذا فعلاً مطروح الكلام بهالشكل دليل على القصور والتفكير.
... هذا موضوع يعني انتهى عفا عليه الزمان الواحد يخلي خطوط حمر على فلان جهة وفلان جهة، اليوم العراق للعراقيين ماكو جهة من الجهات أو شخص ممكن أن يعزل الآخرين ويقول والله الآخرين سوف لن يكون لهم موقع بالحياة السياسية انتهى هذا التفكير، والنمط من التفكير انتهى راح ويا صدام، اللي كرروه هم فقط اللي لا يزالون عندهم نفس التفكير اللي كان سائد بالسابق"
عبد الاله النصراوي الامين "ان سياسة الاقصاء وما تسمى بـ "الخطوط الحمراء" ، واحدة من المشكلات التي ابتلي بها الشعب العراقي بعد سقوط نظام الحكم السابق"
عزت الشاهبندر (كان ضمن القائمة العراقية) : وصف استعمال تعابير الخطوط الحمراء بـ "المراهقة السياسية."
(..أعترض السيد حميد مجيد موسى أيضاً على الخطوط الحمر بنفس الطريقة، لكنه لم يشارك الإنقلاب عليها وعلى الجعفري، حسب علمي).
 
القائمة العراقية - بعد 1 نيسان
الدكتور عدنان الباجه جي قال ان موقف القائمة من ترشيح الجعفري «متطابق مع موقف الاكراد والسنة» وأضاف ان «كتلة علاوي لا تكن عداء شخصياً للجعفري، فهو صديق ومناضل، لكنها ترى ان الظروف الحالية تتطلب شخصاً آخر لادارة البلاد».
راسم العوادي، «رسالة وجهت بهذا الخصوص الى زعيم كتلة «الائتلاف» عبد العزيز الحكيم، وقعت عليها «العراقية»، وتطالب بتغيير الجعفري

التحالف الكردستاني قبل 1 نيسان :
فؤاد معصوم: « ان لا يكون هناك أي اقصاء او تهميش لأحد او وضع خطوط حمراء امام مشاركة اي كيان او شخص»...:« من الخطر ان نضع أي فيتو او خطوطا حمراء ضد أي كيان او شخصية، ».
مسعود البارزاني طالب السياسيين العراقيين بـ «ترك لغة التهديد ولغة وضع الخطوط الحمر ولغة الفيتوات والتصريحات النارية والهجومية وتبادل الاتهامات»
جلال الطالباني قال " ان رأينا في الأساس هو تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة .. ونحن نعتقد بانه يجب عدم استثناء أحد " . وشدد على "عدم قبول قيام فيئة واحدة بفرض إرادتها على بقية الفئات وتقول لدي خط أحمر على هذا او ذاك .. هذه مرفوضة من جانبنا .."

التحالف الكردستاني بعد 1 نيسان :
طالباني بغداد (رويترز): «ان معارضة ترشيحه (الجعفري) لفترة ثانية مسألة وحدة وطنية »
"ان اعتراض التحالف الكردستاني وجبهة التوافق والقائمة العراقية على ترشيح الدكتور ابراهيم الجعفري لم يكن على شخصه أبدا(!)"..."اعتقد ان اغلبية الجماعات الاخرى او كل الجماعات الاخرى ترفض الدكتور الجعفري كرئيس للوزراء."... "أن التيار الصدري اذا ما أصر على تمسكه بترشيح الجعفري فسيكون لنا رأيا سنعلنه."
الدكتور فؤاد معصوم «لقد وجهنا رسالة ثانية الى الائتلاف نجدد فيها موقفنا الرافض من ترشيح الجعفري لمنصب رئاسة الحكومة»
محمود عثمان لــ (الزمان 04 Mar 2006 ): "في حال رفض الائتلاف الموحد لمقترح تسمية مرشح اخر غير الجعفري لرئاسة الوزراء فان كل الخيارات مفتوحة أمام القوائم الثلاث مدعومة بقوائم اخري تشكل اغلبية برلمانية يحق لها تسمية أحد اعضائها رئيساً للوزراء."

***
هكذا انقلب الجميع على إبراهيم الجعفري، وتحول جميع الذين تظاهروا يوماً بالتقزز من "الخطوط الحمر" إلى معتنقين لها، وصار الجعفري الذي أرادته رايس خارج اللعبة، خطهم الأحمر الوحيد، وكأنه "الخطر الأحمر" الذي يهدد العراق. ولو بحثنا عن السبب فلن نجد للرجل مأخذاً سوى أنه لم يكن، حسب ما يقول عارفوه، متملقاً للأمريكان ينتظر أوامرهم ليتخذ المواقف مثلما يفعل البعض، كما سنرى في حلقة تالية. الأمريكان كانوا يبحثون عن شخص وضيع قدر الإمكان، فكانوا يأملون بفوز عادل عبد المهدي، إلا أن التيار الصدري أضاع عليهم الفرصة وتم انتخاب نوري المالكي الذي كان اكثر تساهلاً معهم من ابراهيم الجعفري بكثير، لكن طموحهم إلى أشخاص بمستوى أياد علاوي وعادل عبد المهدي بقي مؤجلاً حتى الإنتخابات الأخيرة فعلموا المستحيل من أجلهما، ولم يتكلل جهدهم إلا بنجاح محدود، حيث سيتقلد الأثنان مناصب مؤثرة في الحكومة، يأملون أن تكون قادرة على شلها بعد أن يأسوا من الإستيلاء عليها، ومازالت المعركة مستمرة.

كيف برر السادة الذين انقلبوا فجأة وفي لحظة الضربة الأمريكية الحاسمة ضد الجفعري وصاروا من أصحاب الخطوط الحمر؟ طبيعي أنهم لا يملكون أجوبة معقولة أو مشرفة، ولعل جواب مسعود البرزاني التالي على الصحفي إيلي ناركوزي يمثل نوع الحجج التي حاول هؤلاء أن يبرروا موقفهم المخجل من خلالها:

إيلي ناكوزي: "أبو مسرور هناك من يقول أنكم اعترضتم على الخطوط الحمر( ...) ولكنكم عدتم لتمارسوا نفس الخطوط الحمر، واعترضتم على الجعفري ووضعتم خطاً أحمراً، يعني أنتم من كنتم ضد سياسة الخطوط الحمر لماذا الأكراد عادوا وتبنوا هذه السياسة؟"
مسعود البرزاني: "كنت ولا زلت أكنّ كل التقدير والاحترام للأخ الدكتور الجعفري، (....) ولكن مع الأسف الشديد زيارة الأخ الجعفري إلى تركيا في وقت حرج جداً بدون أن يكون لهذه الزيارة أي مبرر،(...) ولكن هذا الذي حصل يعني تلك الزيارة يعني الحقيقة غيّرت المواقف وكما قلت سحبت اعتراضي أمام تقديم الرسالة التي وجهت إلى الائتلاف."

حجة زيارة تركيا هزيلة طبعاً، لأن الزيارة ليست جريمة، وقد قام بمثلها مسعود نفسه فيما بعد(واشتهرت برفضه رفع العلم العراقي) كما أن طالباني هذه الأيام في تركيا أيضاً. وفوق ذلك فأنه كان بين زيارة الجعفري الى تركيا وبين إجتثاثه المفاجئ من قبل الكتل السياسية, شهر كامل من المفاوضات والأخذ والرد, ولم يتحدث فيها أحد عن عبور خطوط حمر. لم يكن القادة الأكراد يحبون الجعفري على كل حال، ولعله لم يكن الشخص المناسب للإبتزاز الذي كانوا يخططون له، وربما لم ينسوا له "خطأه" في خطابه الأول حين تجاوز كلمة "فدرالية"، ثم أعتذر عن ذلك وقال أنه سهو، لكن هذا كله لا يفسر الموقف الشديد الحاسم المفاجئ ضده من مسعود وجلال، والإنقلاب المبدئي على "خطوطهم الحمر"، لذا لجأ مسعود إلى حجة زيارة تركيا.

لاحظ أن معظم هذه الكتل السياسية والساسة الذين وردت أقوالهم في المقالة كانوا يكذبون، وبصلافة تامة. إنهم لا يشعرون بالحرج حين ينقلبون فوراً إلى الجانب المعاكس، ويسارعون لتبرير أنقلابهم أو يتجاهلونه تماماً، وكأنهم لم يقولوا شيئاً مختلفاً بالأمس.

في الجزء التالي من المقالة نقارن أقوال الإنقلاب الأخير حين أعطيت إشارة ساعة الصفر للفريق (المكون هذه المرة من العراقية مع المجلس الأعلى، وحيناً التيار الصدري) فانطلقوا يقسمون أغلظ الأيمان بأنهم لن يقبلوا بالمالكي ولن يشاركوا في حكومته، ثم عادوا يتحدثون عن الشراكة والوحدة الوطنية....وكالعادة، بلا خجل!
إن قصة إزاحة الجعفري وكذلك محاولة إزاحة المالكي من قبل أميركا في الحالتين (وكما بينت مقالات عديدة سابقة لي) ربما تكون خير برهان على مقولة أن "لا أخلاق في السياسة".. أم من الأدق أن نقول "لا أخلاق لدى هؤلاء السياسيين"؟

 ****

(1) http://www.sotaliraq.com/articlesiraq.php?id=63869
(2) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=61975
(3)  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=63228

(*) الحقيقة هي أن نوري المالكي كان قد فعل الشيء نفسه فدخل الإنتخابات معلناً أنه يسعى إلى حكومة أغلبية، وأنه تراجع عن ذلك بعد أن وجد الأمر مستحيلاً أو صعباً، لكن الفارق هو أن المالكي لم يتخذ موقف التظاهر الأخلاقي ولم يتحدث عن الشراكة كمسألة مبدأ، بل العكس قال أن العراق لم ينضج لتشكيل حكومات أغلبية وهي الشيء الصحيح، وأنه لذلك يتراجع عن هدفه الذي أعلنه، ثم قال أن الحكومة لا تمثل طموحه.

146
خنازير تأكل أبناءها، وأرهاب مجنون... كيف ومتى يصدق الناس ما هو غير معقول؟

صائب خليل
14 كانون الأول 2010

"من يشرب الخمر يصبح حماراً"، كتب أحد المعلقين في المعركة الإعلامية حول غلق النوادي في العراق، فكتبت: لماذا لم نصبح سادة العالم إذن، وأكثرهم يشربون وأكثرنا لا يشربون؟ ثم تساءلت مع نفسي: لماذا لم يخطر بباله أن يطرح هذا السؤال ليكتشف خطأه بنفسه؟
وتذكرت أمراً قديماً... كنت صغيراً حين قرأت مقالاً في مجلة "العربي" لا أزال أذكر عنوانه تماماً: "البيرة، ذلك السم الزعاف!". صدقت في البدء، فالمجلة محترمة ومطبوعة بشكل ممتاز وورق لماع، وفجأة خطر ببالي سؤال: كيف إذن لم يقض هذا السم الزعاف على الغرب كله؟ لماذا لا يموت القساوسة الذين يصنعون ويشربون البيرة والخمرة، أو على الأقل لماذا لم يقصر عمرهم؟ بدا لي الموضوع غير معقول بشكل جلي، وتساءلت: لماذا لم يطرح كاتب المقال هذا السؤال على نفسه؟

هذه الأفكار كانت من تداعيات معركة إغلاق النوادي الليلية في العراق، ولم تكن المبالغات في الجانب الإسلامي المنطلق، والمؤيد للإغلاق فقط، بل أيضاً في الجانب العلماني المنطلق المعارض لها. فلم أوقع الدعوة لنصرة الدفاع عن الحرية، التي دعا إليها من كتب النداء، لأني وجدته يتحدث بشكل مبالغ به، وتساءلت أيضاً، هل أن الفرق بين بغداد وقندهار هو في ا لنوادي وحدها؟ ولماذا لم يشعر من كتب ذلك ومن وقعه بأنه ذهب بعيداً في المبالغةً في قلقه؟ هل هي مبالغة بفعل الخوف، أم تراكم لمخاوف واحتجاجات سابقة لم تجد فرصتها للظهور، فبدت وكأن قضية النادي أخذت حجماً أكبر من حجمها؟

في الجانب الآخر كانت المبالغات كثيرة وتم تصديقها بسهولة وبلا تساؤلات: "الإساءة إلى العوائل البغدادية" ، "الراقصات المستهترات والرقص في الشوارع" "الضوضاء والعربدة"..قال الجانب الحكومي أنه كان يريد فقط "تنفيذ القانون على نوادي بلا رخص" وأن من يعترض إنما "يدافع عن ا لمخمورين والسكارى" و "يحمي الرذيلة"، وأمثالها من الإدعاءات التي مرت بلا تساؤل عن معقوليتها وواقعيتها. لم يسأل أحد مثلاً: لو كانت قضية ترخيص فقط، فهل يعقل أن يتظاهر المثقفون بدلاً من أن يقدموا طلب رخصة لفتح نادي لهم؟ وإذا كانت المسألة مسألة تراخيص، فما علاقة مجلس بغداد؟ ولماذا يرسل فرقة مسلحين؟ هل أن النادي أعلن العصيان وحفر الخنادق وأعد المتاريس؟ وهل يصاحب سكر المثقفين دائماً "العربدة" لترتبط الكلمتان بهذا الشكل؟ وكم عائلة أشتكت فعلاً من "عربدة" سكارى نادي الأدباء والكتاب؟ أتصور لا أحد! أذكر أن الشارع الصغير في المنصور الذي يضم نقابة المهندسين والمحامين والإقتصاديين ونقابة أخرى، كل منها تمتلئ حدائقها بمن يأكل ويشرب، كان دائماً هادئاً لا تسمع فيه همسة، ولم أر فيه أية مرة خلال سنوات طوال "راقصة تترنح مع سكران"، فلماذا تم اختلاق صور المبالغة، وما الغرض منها؟

شارك في تأييد الحملة لغلق النوادي الشيخ محمد اليعقوبي، وهو يعد مرجعية كبرى، وله مواقف تجعل من الصعب اتهامه بسوء النية أو تسرع التحليل، مثل موقفه الشجاع والدقيق من التطبير والذي أعلنه قبل أيام. لذلك يحتار المرء في تفسير ما قاله من أن  "شاربي الخمر يبولون على بعضهم البعض عندما تمتلئ بطونهم"، وهي عبارة "عجيبة" أحار في وصفها، فكيف مرت على ذهن تعود أن يزن الأمور ويتأكد ويراجع قبل أن يتكلم لتأثير ما يقول ومسؤوليته عنه؟ وهل يتوقع أن يصدقها الآخرون؟
 
لكن يبدو أن كل شيء كان ممكناً في ذلك الإشتباك وجو عدم الثقة، وكل جهة تصدق ما يناسبها من "حقائق"، مهما كانت.

قبل بضعة سنين حضرت جلسة نقاش في جامع في دولة خليجية، وانتقل الحديث في غرفة صغيرة إلى موضوع الخنزير. تحدثوا عن وساخته و"قلة غيرته" ...ألخ، وبدا وكأن الجميع كانوا يتبارون في المزايدة على مساوئ هذا الحيوان حتى وصلوا إلى أن: الخنازير تأكل أطفالها، فابتسمت لتصديق هؤلاء تلك القصة غير المعقولة!
سألت الشيخ، أليست الخنازير حيوانات نباتية؟ ساد صمت ثقيل، لكنه لم يكن عدائياً، الشيخ دار حول السؤال، مؤكداً أن الخنزير يفعل ذلك، فأكملت: وكيف لم ينقرض هذا الحيوان الذي يأكل أطفاله؟ تحول الصمت إلى ضوضاء خفيفة، وفقد الجالسون اهتمامهم بالحديث، وحين خرجت كنت أتساءل كيف لم يخطر ببال أي منهم هذا السؤال؟

الخنزير الذي يأكل أطفاله، ليست بدعة خيال بسطاء ذلك الجامع كما عرفت فيما بعد، ففي بدايات المسيحية كان الوثنيون يتهمون المسيحيون بأنهم يفترسون أطفالهم! المسيحيون تألموا كثيرا من هذا الظلم بلا شك، وتساءلوا أيضاً كيف يمكن أن يفكر الوثنيون بهذا الشكل القبيح عنهم. لكن ذلك لم يمنعهم من توجيه نفس التهمة العجيبة إلى اليهود في أوروبا القرون الوسطى. كذلك لم تجد مسرحية شكسبير "تاجر البندقية" التي تصور تاجراً يهودياً يسعى إلى أكل قلب شاب مدين له بالمال، أية صعوبة في اختراق قلوب وعقول الإنكليز في القرن السادس عشر وما بعده ولم يتساءل الناس عن معقولية هذا الطرح.
اليهود الذين عانوا من ذلك الظلم، تساءلوا بدورهم بلا شك أين عقل المسيحيين ليقبلوا مثل تلك التهمة؟ لكنهم يتهمون المسلمين اليوم بتهم لا يقبلها العقل أيضاً، ويقبل الكثير منهم يقبل بلا تفكير ما جاء كتبهم الدينية المليئة بما يعامل غير اليهود كوحوش يجب إبادتها مع أطفالها.

ربما ينظر القارئ اليوم إلى هذه الأمور، وتصديق هذا الجنون، على أنها تاريخ سحيق القدم حين كان الإنسان بسيطاً ساذجاً إلى درجة يمكن فيها أن يصدّق بمثل هذا، لكن الأمر ليس كذلك. ومثلما حصل الشيوعيون على حصة الأسد من اللوم والإشاعات في معركة النوادي، فإنهم كانوا يحصلون على مثل تلك الحصة منذ بدايتهم، ولم تكن الإشاعات الموجهة ضدهم بأكثر غرابة من تلك القديمة بين الأديان. فقد نشر الأمريكان أيضاً، بأن "الشيوعيون يأكلون أطفالهم"! وبقيت التعاليم بأن السوفيت يأكلون أطفالهم تنشر من قبل بعض الجهات مثل جمعية جون بيرج لجمهورها الواسع على الأقل حتى أواخر عام 1978. (*)

هاهي مجلة تايمز تعرض صفحة بخط عريض: "وصف لفضاعات حكم الحمر. سيمون وويلش يحكون لمجلس الشيوخ عن الفضاعات التي يرتكبها البلشفيك – تعرية النساء في  الشوارع ، وجميع الناس عدا الحثالات يتعرضون للعنف من قبل العصابات".
يكتب المؤرخ فريريك لويس شومان : "كانت النتيجة النهائية لتلك الأحاديث ... تصوير روسيا السوفيتية كمكان بلا قانون، يقطنه أناس من أدنى أنواع العبيد، محكومين بمجموعة مهووسة بالقتل، تهدف إلى محو أي أثر للحضارة، والعودة بالأمة إلى البربرية".(**)
لم تكن هناك أية حدود للقصص الخيالية عن البلاشفة تعتبر مرفوضة أو غير معقولة، ليمتنع الإعلام عن طبعها ونشرها، إبتداءاً من "تأميم النساء" ووضعهم "تحت ملكية الدولة" مع كل ما يرافقها من تفاصيل مثيرة للإشمئزاز عن "الحب الحر" و "الزواج الإجباري"، إلى "أكل البلاشفة لأطفالهم" وكان ذلك ينشر من خلال ألاف القنوات في البلاد كما كتب شومان. (**)

ويعرف العراقيون أيضاً الإشاعات التي انتشرت في الخمسينات والستينات وما تلاها عن الشيوعيين، مثل التحلل الأخلاقي في التعامل مع النساء وشيوعية المرأة وتأميمها، وهكذا ترددت هتافات غريبة مثل "ماكو مهر بس هالشهر"، ونشرت في كل العراق إشاعات مسيئة عن النساء الشيوعيات أو أية عائلة فيها شخص شيوعي، وروت لي والدتي أحداث محددة بالأسماء عن قصص تشهير دمرت عوائل كريمة كاملة بلا أي ذنب، وبلا أي ضمير.
ولم تزل تلك الأفكار التشهيرية المناقضة للواقع تتردد حتى اليوم، وإن كانت بشكل نادر، مثل ترديد طارق حجي، كاتب موقع الحوار المتمدن المدلل، الذي لم يفوت أية فرصة للهجوم على الشيوعية واليسار والإساءة إليهما، مثله مثل وفاء سلطان المتخصصة بإهانة الإسلام والشيوعية معاً (وهو ما يفضح ما وراءها)، ومحاولة دفع الإسلاميين والعلمانيين بكل طريقة إلى الإشتباك بطريقة صراع الديكة وأبعد ما تكون عن التمدن، تماماً كما يفعل برنامج الجزيرة - "الإتجاه المعاكس" بين أطرافه!

الإسلاميون كانوا مستعدين لتصديق أي شيء سلبي عن الشيوعيين والعلمانيين، لكن هؤلاء لم يكونوا أفضل مقاومة لتصديق الكذب المفضوح، عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين، فكانوا أول من يصدق الوصف السيء لخصومهم التقليديين، حتى تلك الواضحة الخطأ، ويبدو أنها طبيعة بشرية لا تستثني جهةً. لذلك رأينا الكثير من العلمانيين، يصفقون في الحوار المتمدن لكل ما تقوله وفاء سلطان الهستيرية أو كامل النجار المتطرف بشكل مضحك، والذي ينكر وجود أي فضل إسلامي في التاريخ (!) حتى ما يعترف به أشد الغربيين كرها للمسلمين، أو أؤلئك الطارئين الذين يحاولون أن يبينوا "حداثتهم" بالهجوم على الإسلام (دون غيره!) وبأشد ما يتوفر لهم من كلمات، بحجة الصراحة، وغالباً بدون وجه حق، وبتهم تشهيرية ضعيفة التأسيس، إن لم تكن كاذبة تاريخياً.
هذه "التهم" الضعيفة ذكرتني بمحاولات تشهير سابقة استهدفت واحدة منها المالكي خلال الإنتخابات، حيث نشرت في الإنترنت صورة له بشكل بياع محابس في دمشق! وأخرى استهدفت أحمدي نجاد بعرض صور له وهو يستقبل حاخامات يهود على أنها تثبت ان له علاقات سرية مع إسرائيل. وتقبل خصوم الرجلين، وهم من العلمانيين غالباً، تلك الأخبار والصور بفرح واضح، وسارعوا إلى إرسالها لكل قوائم البريد الإلكتروني لديهم، رغم أن بيع المحابس ليس عيباً، ورغم أن الحاخامات الذين ظهروا في صور نجاد كانوا يلبسون بدلات عليها قطع كبيرة تمثل العلم الفلسطيني، وتحتها العلم الإسرائيلي مشطوب عليه بالأحمر، فقد كان هؤلاء الحاخامات من المعارضين لوجود إسرائيل نفسه!

لنختم الأمثلة بتجربة شخصية لي قبل بضعة أسابيع. إثر مقالاتي التي أشارت إلى قصة فراس الغضبان الحمداني حول ذبح الإرهابيين لضحاياهم في كنيسة النجاة أمام الباقين، وعندما لم يستطع الحمداني أن يجيب عن السؤال عن مصدر القصة التي ثبت تلفيقها بالشهود، ويأس من أن أتعب وأكف عن طرح السؤال، أختار الهجوم كأفضل دفاع ولجأ إلى سلاح تشويه السمعة من خلال اتهامي بأني "أدافع عن الإرهاب"، مشفوعاً ببعض التهديدات التي تضمنت محاسبتي "عشائرياً"! وصحب هذا التشهير، حملة تشهيرات من أشخاص مجهولي الهوية، بعضها حاول إلصاق تهمة الطائفية بي، وبعضها الأخشن جرب تهماً في الشرف وأخرى بالإدعاء أن لي أخاً كان يعمل في سفارة هولندا في الأمن الصدامي، ونشرت في مواقع مختلفة. التهمتين كانتا ضعيفتين للغاية، فعدا أنهما أشيعتا في توقيت مشبوه، وإنهما لم تستندا إلى أية دلائل أو فكرة تساعد على تمريرهما، فقد كانتا تهمتين يسهل علي البرهنة على خطلهما.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تنجح التشهيرات في عملها حتى عندما تكون تافهة وبلا أي أساس؟ فماذا يعني لو أن المالكي عمل فعلاً في بيع المحابس في سوريا، ولماذا يضحك خصومه كأنهم اكتشفوا شيئاً خطيراً؟ وكيف لم ير الذين أعادوا إرسال الإيميل الذي يحمل صور نجاد إلى أصدقائهم كدليل عمالته لإسرائيل، تلك القطع الكبيرة الملونة على ملابس الحاخامات؟ وهل يصدق أحد أن صائب خليل المتهم من قبل البعض بالتحيز للشيعة والمالكي وإيران لكثرة ما وقف بجانبهم عندما رآهم على حق، يقول كلاماً طائفياً ضد الشيعة أو الإيرانيين؟

لكن من الناحية الأخرى، لو لم تكن التشهيرات، حتى التافهة، تنجح أحياناً، لما استخدمها أحد، فما سر ذلك النجاح؟

أحد أسرار نجاح عمليات التشهير يقوم على صعوبة الرد عليها، فمجرد محاولة الرد تنشر التشهير أكثر. لنستمع إلى نعوم جومسكي، الكاتب الأمريكي اليساري الكبير، وعالم اللغات الأول في التاريخ، تعرض الى الكثير من حملات التشهير التي قادها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة رغم أن الرجل نفسه يهودي. يقول جومسكي أنه لا يوجد طريقة للإنتصار على التشهير، فكيفما أجبت تخسر. ويضرب مثلاً تاريخياً عن الرئيس جونسون ألذي حين اشتكى إليه أحد مرشحي حزبه إلى الكونغرس، من أنه سيخسر المقعد، نصحه بإشاعة قصة عن منافسه بأن الأخير يمارس الجنس مع الخنازير. وحين قال له المرشح: لكن هذا غير صحيح! أجاب جونسون: أعلم ذلك، لكن كيف سيجيب خصمك؟ هل سيظهر في الإعلام ليقول أنه لا يمارس الجنس مع الخنازير؟

السر الثاني في احتمال نجاح عملية تشهير تافهة الإستناد، او صعبة التصديق أنها تكون عادة مسبوقة بقصف إعلامي شديد وطويل، يهيء الذهن لمرور تلك الشائعات دون معارضة منطقية تذكر، تماماً كما تخترق فلول المشاة مناطق العدو بسهولة إن سبقها قصف مدفعي وجوي كثيف وطويل يحطم مقاومة ذلك العدو ويمزق متاريس دفاعه.

إن تذكرنا هذا فلن يصعب علينا أن نتخيل شعوباً متحضرة تصدق القصص الخرافية عن السوفيت إن علمنا أن الهجوم الإعلامي على الإتحاد السوفيتي بدأ بعد الثورة مباشرة، وقبل ان تمضي سنة واحدة عليها كانت تعابير مثل "الخطر الأحمر" و "الهجوم البلشفي على الحضارة" و "التهديد الذي يمثله الحمر على العالم" تنتشر على صفحات نيويورك تايمز، كما كتب فريريك لويس شومان.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كان كل أمريكي فوق عمر الأربعين قد تعرض إلى حوالي 25 عام من البث المضاد للشيوعية، وهي الفترة اللازمة لتثبيت حالة تمتنع على العلاج (تعديل الخطأ)، وكانت مؤسسات معاداة الشيوعية تعيش حياتها الخاصة المستقلة عن الدولة. (**)
وكتبت بلانش ويزن كوك في دراستها عن فترة أوائل الخمسينات بأن النشرات الإذاعية لـ "راديو أوروبا الحرة" كانت تركز على التشهيرات التي تشمل اتهامات ملفقة بالتعذيب والفساد والجنون والرذيلة، وأنه لم تستثنى أية وسيلة لتصوير الشيوعيين سواء كانوا في إنكلترا أو بولونيا بأنهم أغبياء وعديمي الكرامة ولا قيمة لهم. (***)

وفي إيطاليا التي كان يسيطر عليها الشيوعيون الإيطاليون في نهاية الحرب العالمية الثانية، تم إغراق الإعلام بإشاعات لا حصر لها منها أنه: "في حالة حصول الشيوعيين الإيطاليين على الحكم، سوف يتم تفكيك المصانع الإيطالية وإرسالها إلى روسيا، وسيؤخذ ملايين العمال من إيطاليا إلى روسيا ليشتغلوا قسرياً." وكانت الإذاعة تقدم باستمرار من كان يصف لهم الفضائع التي تجري خلف الستار الحديدي."
وفي إيران 1953 ، حين كانت أميركا وبريطانيا تسعيان لإسقاط حكومة مصدق البرلمانية، ارسلت السي آي إيه رجال مدربين في شوراع طهران، يتظاهرون بأنهم من حزب توده (الحزب الشيوعي الإيراني) ويلقون الحجارة على الجوامع والقساوسة.

ولم يكتف الأمريكان بتشويه صورة الشيوعيين في العالم، بل شمل ذلك الوطنيين الذين يريدون سياسة مستقلة لبلادهم، مثل سوكارنو أندونيسيا، الذي اعتبر متساهلاً مع الشيوعيين بعد حصولهم على نتائج ممتازة في الإنتخابات، فتعرض إلى ا لتشهير، فصوروه على أنه وقع تحت تأثير مضيفة روسية شقراء تعمل للمخابرات السوفيتية.

وقد حقق هذا القصف الإعلامي الطويل والمركز، نجاحات مدهشة، فحول التشهير بسوكارنو كتب جوزف سميث، مسؤول مكتب السي آي أيه في اندونيسيا منذ اواسط 1956، قائلاً: "حققنا نجاحاً ممتازاً في هذه القصة، وانتشرت في الإعلام الدولي. وعندما حللت مجلة "راوند تيبل" الهامة أسباب انتفاضة 1958، فأنها وضعت ابتزاز سوكارنو من قبل شقراء روسية كأحد اسباب تلك الإنتفاضة."
ولدفع هذا "النجاح" إلى مستوى أعلى، بذلت السي آي أيه جهوداً كبيرة لتزوير أفلام جنسية أو صور، يمكن أن تسرب إلى الصحافة على أنها لسوكارنو والشقراء الروسية. ولما لم تستطع السي آي أيه أن تحصل على أفلام يصل فيها الشبه بين ممثليها وسوكارنو إلى الدرجة الكافية (وكانت الأفلام تجهز من قبل رئيس شرطة لوس أنجلس)، قررت السي آي أيه أن تسهم بنفسها في عملية الإنتاج فأنتجت قناعاً يشبه سوكارنو وأرسلته إلى رئيس الشرطة ليضعه على وجه من يمارس الجنس أثناء التصوير. إلا أن الصور والأفلام التي تم إنتاجها لم تستخدم، لسبب ما. كما أشار سميث.

كيف يعمل هذا القصف الإعلامي لتهيئة العقول لتقبل ما لا تقبله عادةً؟ لو لاحظنا تلك الشائعات الغريبة، لوجدناها تكاد تقتصر على جهات "مكروهة" بشدة من قبل الجهة المستعدة لتصديق الإشاعة : الشيوعيون مكروهون من الأمريكان، اليهود من المسيحيين، المسيحيين من الوثنيين، الخنازير مكروهة من قبل المسلمين، وهكذا. هذه الكراهية و"الإشمئزاز" هما ما يهيء العقل لقبول كل ما هو سيء عن الشيء أو الجهة المكروهة وبدون مراجعة لمعقولية تلك التهم ودقتها. وكلما كان الإشمئزاز أشد، كانت الأسئلة أقل، ولذلك يحرص الإرهاب أن تكون له صورة أشد اشمئزاز ممكن، أن تكون الصورة هي القتل الأبشع: الذبح وليس الرصاص، فهو ما يعطي سيلان الدم خيالاً أقوى عن الألم، يجعل رأس الإنسان يدور، فلا يفكر ولا يسأل.

أما "المقاومة المنطقية" فتمثلها الأسئلة المعترضة الطبيعية. أسئلة مثل: لماذا لم ينقرض الخنزير إذن؟ هل سبق لكم أن رأيتم سنياً له ذيل؟ لماذا يضع هؤلاء "الإسرائيليون" إذن علم فلسطين على بدلاتهم؟ وهذه الأسئلة الخطرة على عملية التشهير، تصمد لدى البعض رغم القصف، لذا يجب ردعها ومن قد يفكر بها. لذلك لجأ الغضبان ليمنع سؤالي إلى التهديد بالعشائرية، ربما ليس لي، أنا الذي أسكن في الخارج، وإنما لإسماع من قد يفكر في متابعته والمطالبة بمحاسبته في داخل العراق. ولا يصعب علينا أن من يجرؤ على طرح السؤال في المجتمعات الوثنية عن حقيقة أكل المسيحيين لأطفالهم، سيجابه بتهمة الدفاع عن المسيحية، مثلما حاول الغضبان مجابهتي بتهمة الدفاع عن الإرهاب، ومثلما يواجه كل من تجرأ على التساؤل عن حقيقة عدد ضحايا اليهود، بتهمة معاداة السامية.

دعونا ننظر إلى أشياء أخرى صرنا نصدقها رغم علامات الإستفهام: قصص الإرهاب. فالإعلام العراقي والعربي المسيطر عليه أمريكياً، يبث الإشمئزاز من "إسلاميين متطرفين" و "طائفيين" باعتبارهم من السوء والوحشية بحيث أنهم يفجرون أنفسهم من أجل قتل البعض من طائفة أخرى أو دين آخر، بالرغم من أني لم أعرف في حياتي شخصاً يكره طائفة إلى درجة الموت من أجل قتل البعض منها، حتى لو لم يكن هؤلاء المستهدفين، قياديين أو مهمين او حتى معروفين من قبله، ولم أسمع بمثل هذا في حياتي. لماذا تحيط كل عملية إرهابية عشرات الأستفهامات، التي تحتاج إلى تجاوز المنطق لقبولها، تماماً كإشاعات تشويه السمعة؟ أليس معقولاً أكثر أن جميع العمليات الإنتحارية كانت بدون وعي أو قصد المنفذ لها، وأنه ملغوم دون أن يدري، أو يكون قد غسل دماغه من قبل جماعة علمية متطورة؟ الا يجب في هذه الحالة أن نستبدل عبارة "الإنتحاريين" بـ "الملغومين" لكي نضع أنفسنا على طريق البحث الصحيح ونبحث عمن يلغمهم بدلاً من البحث عن الجنون الذي يدفع بهم إلى ذلك العمل الذي لا يصمد للأسئلة المنطقية؟
هل تم إمساك أي شخص كان يقصد الإنتحار بوعي كامل، وكانت له شبكة معروفة رتبت له الأمور؟ ومن ناحية أخرى، الم يتم الإمساك ببريطانيين متلبسين بعملية تفجير إرهابية إنتحارية في البصرة؟ لماذا أهملت؟

لماذا لم يصادف أن عرف أو سمع بشخصية حقيقية من تلك الشخصيات العجيبة خلال كل تلك السنين التي سبقت الإحتلال أو بعده؟
هل يكون ذلك لأن مثل هذا المجنون غير موجود! وإنه شبح خلق في رؤوسنا من خلال التلفزيون الذي "يقصفنا" بالأخبار والإعلانات التي تؤكد وجوده كل يوم عشرات المرات، بين البرامج، وبدعوى الوقوف بوجه الإرهاب؟ أيكون الشبح الذي تكسيه في رؤوسنا اللحم والعظم، قصص كثيرة تشبه قصة فراس الغضبان الحمداني دون أن ندري، وتثبت الصورة الوحشية لإنتحاريين إسلاميين ذباحين كما أخرجها لنا التلفزيون برسائل لايمكن التأكد من مصدرها؟

لم نر ولم نعرف في حياتنا مثالاً لهذا الشبح الذي يدعيه الإعلام، مثلما أن أحداً لم ير خنزيراً أو مسيحياً أو يهودياً أو شيوعياً يأكل أطفاله، فهل هما خدعة واحدة، عن شبح خرافي غير موجود، وأن من يقوم بالإرهاب والتفجيير والتخطيط له وإدارته جهات عاقلة تماماً، تدرك ما تريد وتسعى إليه بأي ثمن؟ قد تقول: والملايين الذين يصدقون اليوم قصة الإرهاب الإسلامي والطائفي، هل يعقل أنهم جميعاً مخدوعون؟ ولكن ألم يكن الملايين أيضاً في يوم ما متأكدين من أن اليهودي يأكل أبناءه والمسيحي والشيوعي كذلك؟

مثلما نعجب نحن اليوم كيف صدق الناس في الأزمان الغابرة قصص المجانين عن أكل الخنازير واليهود لأبنائهم، أرى أن يوماً سيأتي سيتعجب أبناءنا كيف صدق آبائهم بقصص الإرهاب التي تصرخ باللامعقولية.

هل أن هذه الحكاية أزلية؟ هل البشرية محكومة بالإنخداع إلى الأبد؟ هل سيخدع أولادنا أيضاً بقصة أخرى عجيبة تناسب جهة مستفيدة ما، وأن أولادهم سيتساءلوا أيضاً كيف صدق آبائهم تلك القصص؟ هل أن معركة العقل البشري ضد التشهيرات غير المعقولة، والقصف الذي يهيء الجو لإنتصارها، معركة غير قابلة للكسب، أم ان ذلك العقل والمنطق سينتصر يوماً ويضع لها حداُ؟

(*) سان فرانسيسكو كرونكال ، تشرين الأول 1978- نقلاً عن كتاب "قتل الأمل" لـ وليام بلوم،
(**) "السياسة الأمريكية تجاه روسيا منذ 1917" – فريريك لويس شومان
(***) "آيزنهاور- الأوراق المنشورة" – بلانش ويزن كوك - نيويورك 1981

147
قصة مدينة الأحلام الممكنة

صائب خليل
9 كانون الأول 2010

يخترق "مدينة الأحلام" شارعان يتقاطعان في ساحتها الوسطى. وحين كثرت السيارت أصبحت تلك الساحة مشكلة حقيقية.
إجتمع حكماء المدينة ووجدوا أن "الخلاف" بين أتجاهات السيارات هو المشكلة، وقرروا أن يحاولوا "إزالة الخلاف" – أي إقناع الجميع بأن يسيروا في اتجاه واحد!

وحين بلغ الناس ما وصل إليه حكمائهم من حل، راح كل منهم يمني نفسه بأن تكون مدينته، "مدينةالأحلام"، خالية من الزحام، بأن تتجه فيها كل السيارات في اتجاه واحد، هو الإتجاه الذي يقصده، فيصل إلى مبغاه سالماً وبسرعة وبلا تعب أعصاب.

حمل كل حلمه وذهب إلى الساحة ليشارك في النقاش حول الإتجاه الذي يجب أن تتجه إليه السيارات مستقبلاً. لكن الفكرة لم تنجح ولم يصل النقاش إلى "إزالة الخلاف"، وأصر كل جانب على أن أتجاهه هو الإتجاه الأنسب. وبعد أخذ ورد، يئس الحكماء من المحاولة، فقد تبين أن "الخلاف" أمر لا مفر منه، فتركوا الناس تحل مشكلتها بنفسها، أي من يستطيع المرور يمر، ولو بالقوة.

وكما هو متوقع، تكاثرت الإصطدامات بين السيارات وكثرت الضحايا، وبدا أن اسم "مدينة الأحلام" سيفقد معناه، فاجتمع الحكماء ثانية للبحث عن حل. وبعد أن تعبوا من الكلام ولم يجد أحداً طريقة لإزالة الخلاف، قال كبيرهم: "الخلاف لا يمكن إزالته، يجب أن نحاول أن نعيش معه، لذلك علينا أن نبحث عن طريقة لأدارته بدلاً من محاولة إزالته"، وأقترح أن تعطى ساحة التقاطع لأحد الجانبين لفترة محددة ليمر، ثم يوقف هذا ويستلم الجانب الثاني حق استعمال الساحة لفترة مساوية وهكذا. وأقترح استعمال أضوية حمراء وخضراء من أجل ذلك.

لكن سكان مدينة الأحلام، سرعان ما اكتشفوا أن فكرة التقسيم االمتساوي للوقت، لا تخلو من العيوب. فإذا كان صف السيارات المتجهة شمالاً أطول من صف السيارات المتجهة شرقاً، فأن كل من سائقي الصف الأطول سوف يحصل على حصة أقل من وقت الضوء الأخضر، ولذلك فأنهم ينتظرون وقتاً أطول، وهو أمر غير منصف.

إجتمع الحكماء ثانية وقرروا من أجل عدالة توزيع وقت الضوء الأخضر وتساوي الإنتظار، أن يقسموا الوقت حسب نسبة السيارات في كل من الإتجاهين، وهكذا قرروا: كلما ازداد عدد سيارات أحد الإتجاهات، سيارة واحدة، حصل ذلك الإتجاه على زمن إضافي من الضوء الأخضر على حساب الإتجاه الآخر، وأسموا الوقت الإضافي بـ "حق الأغلبية". وبدا أنه أنسب الحلول الممكنة، رغم أن كل جانب كان يرى أن النسبة لم تكن تمثل ما يراه بالضبط.

وسارت الأمور لفترة بشكل جميل، لكن المشاكل سرعان ما ظهرت. فقد اكتشفوا أنه حين يكون أحد الصفين صغيراً جداً، فأنه سيحصل على وقت قليل جداً، لا يكاد يكفي لمرور سيارة واحدة. لذلك صارت سيارات الصف القصير جداً، تنتظر لفترات طويلة إلى درجة أنهم يستحيل عليهم الوصول إلى عملهم في الوقت المناسب.

إجتمع الحكماء ثانية وبعد نقاش توصلوا إلى أن صف السيارات الأطول يجب أن يحتفظ بحقه في وقت أكثر من الصف القصير، ولكن بحدود! حدود تضمن حداً أدنى من حق الوقت لسيارات الصف الأصغر، مهما كان العدد صغيراً، وأسموا ذلك الحد بـ "الحق الأساسي" الذي يجب عدم التجاوز عليه، مهما كانت نسبة الجانب الآخر كبيرة. وبعد أخذ ورد، تم تحديد الحد الفاصل بين "حق الأغلبية" و"الحق الأساسي" بشكل وافق عليه الجميع، رغم أن كل من الجانبين لم يكن راضياً تماماً.

بعد فترة اختبار أكتشف الناس أنهم وصلوا إلى توازن معقول. ورغم أنه لم يكن يمثل بالضبط طموح أي منهم كما كان يحلم، لكنه شيء يستطيعون العيش به في مدينتهم مع بعظهم البعض، وهو أمر يقدر الجميع قيمته، ويتنازل كل منهم عن بعض حلمه من أجله عن طيبة خاطر.
في العيد الوطني التالي إحتفل المواطنون بحل المشكلة وتقدموا بالشكر للحكيم الذي اكتشف أن الخلاف لا يزول، وأشار عليهم بترك محاولة "إزالته" والتوجه بدل ذلك إلى "إدارته"، وقاموا بتعديل إسم مدينتهم من "مدينة الأحلام" إلى "مدينة الأحلام الممكنة".



*  فكرة القصة من إيحاء عبارة من محاضرة حضرتها للمفكر الإسلامي الراحل المرحوم نصر حامد أبو زيد القاها في مساء ممطر في لاهاي قبل أكثر من عقد من السنين.



148
الكحول وأثره الصحي والتجربة الأمريكية في منعه

صائب خليل
8 كانون أول 2010

أندفع النقاش حول قرار مجلس محافظة بغداد إغلاق نادي إتحاد الأدباء خارج المعقول والمألوف، ورغم أني أحمل مجلس المحافظة كامل المسؤولية عن ذلك الإندفاع بسبب الطريقة التي تم بها الغلق وأكثر منه الطريقة التي دافع بها مسؤولو المحافظة عن قرارهم الذي تسبب في الإثارة بأكثر من قرار الإغلاق نفسه، وذلك بتشويه صورة الأدباء ومن يدافع عنهم بشكل مؤسف وبعيد عن كل التوقعات، إلا أني سأؤجل الدخول في تلك التفاصيل لعل الأمور تبرد قليلاً وتصبح مواتية لطرح المشكلة بصراحة أكبر.
لذلك فمن الأنسب البدء بمراجعة الحقائق العلمية في هذه المقالة، والتي أناقش فيها حقيقة الخطر الصحي للكحول وإلى تجربة الولايات المتحدة في منعه في بداية القرن العشرين، والمحاولات التي جرت قبلها إبتداءاً من نهاية القرن السابع عشر. أفعل ذلك رغم إدراكي أن هذا ليس الموضوع الرئيس، وإنما مسألة تعامل الحكومة مع الحرية الشخصية والطريقة المثلى للتعامل مع مثل هذه الحالات وموقف الديمقراطية من ذلك.

**

ينطلق مؤيدوا قرار المنع من نقطتين موضوعيتين، إضافة إلى المنطلق الديني. فهم يرون أولاً بأن الكحول مضر بالصحة، وثانياً -لذا يجب منعه كأي شيء مضر بالصحة. لكن الحقائق الطبية عن الكحول، والحقائق التاريخية عن تجارب المنع قد تقول شيئاً آخر.

الحقائق الطبية تقول أن تناول الكحول بشكل مفرط مؤذِ، لكن تناوله باعتدال ليس كذلك. بل تذهب تقارير عديدة إلى العكس فتقول أن تناول الكحول بشكل معتدل قد يكون له أثر إيجابي على الصحة. (1)

والحقيقة هي أن تناول أي شيء بشكل مفرط هو مضر بالصحة، يضاف إلى ذلك أن الكحول يصيب الإنسان بالإدمان في حالة الإفراط فيه، أي أن أثر ضرر الإفراط قد يكون دائماً.

ولا يناقض هذا القول الطبي بالضرورة الموقف الديني من الكحول، فأن تحريم الكحول في الإسلام، إن جاز اعتبار كلمة "إجتنبوه" تحريماً، لم يتطرق إلى سبب التحريم. ولعل الطريقة التدريجية التي جرى بها تحريم الخمر في الإسلام، مؤشر قوي على أنه يمس تحريم الشرب المفرط، باعتبار أن البداية كانت تحريم الصلاة أثناء السكر، وبالتالي فلم يكن لدى المسلمين الذين يتناولون كأساً من النبيذ بعد الصلاة أية مشكلة، فهي لا تسكر، وإن أسكرت قليلاً، فأثرها زائل قبل موعد الصلاة التالية.
أما في حالة الإفراط فسيكون أثره موصولاً إلى الصلاة التالية وبالتالي تسبب للمسلم مشكلة. لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافياً لحل المشكلة، واستمر المفرطون في الإفراط في الشرب وترك الصلاة، فنزلت الآية التي تدعو إلى اجتنابه باعتباره رجس من عمل الشيطان. إني أرى أن هذا مؤشر على موقف الإسلام من الكحول وتمييزه بين الشرب والإفراط فيه منذ ذلك الزمن.

ولم تذكر الآية الكريمة سبب التحريم سوى أنه "رجس من عمل الشيطان" دون الإشارة إلى تأثيره الصحي، ولا جاء في الأحاديث ما يشير إلى ذلك التأثير حسب علمي. لذلك فالإفتراض بأن الضرر الصحي هو السبب في نزول الآية ليس سوى إفتراض، أو تفسير شخصي، وليس هناك أي مانع من أن يكون السبب دينياً واجتماعياً بالدرجة الأولى وليس صحياً، وبالتالي فأن الإكتشاف العلمي التجريبي الذي يؤكد أن ضرر الكحول يأتي فقط من الإفراط في تناوله، وليس من تناوله باعتدال، لا يتعارض مع أي نص ديني. والحقيقة أن العبارة التي جاءت في نص الآية الكريمة "فاجتنبوه لعلكم تفلحون" تؤشر إلى أن سبب الرفض الديني للكحول، رفض إجتماعي وليس صحي، فـ "الفلاح" التي تعني النجاح، كلمة مرتبطة بالمجتمع إن كان المقصود فيها حياتياً، وبالآخرة إن كان القصد بها ديني، وليس لها علاقة بالصحة بشكل مباشر.
ليس المقصود هنا تقليل شأن السبب الديني أو الإجتماعي، وإنما مراجعة السبب الصحي ودقته، وهل هو ضمن أسباب التحريم.

ويتساءل معارضو قرار منع الكحول أيضاً على هذه النقطة، إن كانت الصحة هي المشكلة، فلماذا لا يحرم التدخين إذاً بنفس المنطق، فهو مضر بشكل مباشر وواضح، حتى دون إدمان، ويموت من جرائه ما يقارب خمسة ملايين إنسان في العام الواحد!(2)، ومن يموت بمجرد جراء تواجدهم قرب مدخنين، يزيد ستة مرات عن جميع من يموتون بسبب تناول الكحول، حسب بعض التقديرات.

لكن حتى لو كان الإفراط في تناول الكحول هو الخطر الأساسي، فهذا يعني أن متناول الكحول معرض للخطر، فمن المؤكد أن نسبة من متناولي الكحول سوف يفشلون في تحديد تناولهم له،ويسقطون في الإدمان المفرط، وبالتالي التعرض للأذى وأحياناً الموت أيضاً.
لذلك حرصت الكثير من الدول، خاصة المتقدمة منها، على إيجاد أساليب للتقليل من تناول الكحول، ومنع تناوله دون سن معينة، تبلغ في بعض الدول 22 عاماً وربما أكثر. كما أن الأثر الإجتماعي لتناول الكحول، وخاصة الإفراط به، أثر سيء معروف في جميع الدول، لذلك يمنع تناوله في الحدائق والمتنزهات العامة والطرق، بينما لا يسري المنع على المشروبات غير الكحولية.

إذن، بشكل عام، الكحول مادة ضارة أكثر مما هي نافعة، حتى إن اتفقنا على نفعها أحياناً. لكن ضرر مادة لا يعني بالضرورة أن منعها القسري هو الحل. فالمنع القسري يحاول أن يمنع النتيجة، او الحركة الاخيرة، دون أن يتعرض للسبب، ولذلك فأن ما يتسبب في الضرر، يجد غالباً طريقاً آخر، قد يحدث ضرراً أكبر. إنه أمر مختلف أن يمتنع شخص بإرادته عن تناول الكحول لإدراكه ضرره عليه، وأن يمنع عنه ذلك من قبل جهة خارجية عن إرادته.

ولحسن الحظ فلدينا مجموعة تجارب تاريخية في هذا المضمار، أهمها التجربة الأمريكية في منع الكحول، وبدأت أول محاولاتها في القرن السابع عشر، وكان آخرها في عام 1920. وكانت وراء المنع منظمات دينية وأخرى تدافع عن حقوق المرأة. وحتى في ذلك الوقت لم يصدر المنع بالطريقة البوليسية التي جرى بها إغلاق نادي الأدباء العراقيين، بل قرر المدافعون عن فكرة المنع إقناع عدد كاف من الناخبين أولاً بفكرتهم. كذلك بدأت القوانين بتحريم المشروبات الكحولية الثقيلة التي تحتوي على نسبة تزيد على 40% من الكحول، ثم ازدادت لتشمل تلك التي تحتوي نسبة نصف في المئة. كذلك فأن تلك القوانين كانت على مستوى الولايات أولاً، فكانت بعض الولايات التي يصوت فيها لمنع الكحول تعلن نفسها "ولايات جافة" إلا أن شراء الكحول من الولايات المجاورة كان ممكناً رغم تكاليفه. هذا يعني أن قضية المنع سارت بطريقة أكثر سلاسة في أميركا، وبعد استعدادات نفسية هامة، ومع ذلك فماذا كانت نتيجتها؟

النتيجة كانت أن ازدهرت جرائم تهريب الخمر خاصة "الرم"، ولأن تلك الجرائم كانت تعطي مردوداً مالياً كبيراً، فقد خلقت عصابات الجريمة المنظمة الكبرى، مثل المافيا، والتي امتد نشاطها بعد ذلك ليشمل جوانب أخرى من المجتمع بضمنها السياسية، واستخدمت كثيراً لاختراق نقابات العمال وضرب الحركات اليسارية. وكان لتلك العصابات من القدرات الإقتصادية ما يؤمن لها شراء الحكومة والقضاة والشرطة. وكان لها شبكات أنفاق طويلة ومعقدة تحت المدن الكبرى التي تعيش فيها، مما يؤمن لها الإفلات من الشرطة في كل مرة يحاول فيها بعض المخلصون وضع حد لها. فاستشرى أذاها ولم يتم التخلص منها حتى فترة قريبة وبعد ضحايا كثيرة، شملت عدداً كبيراً من القضاة الأبطال الذين كانوا يعلمون أن لا مفر لهم من الموت وهم يحكمون على رؤساء تلك العصابت المقبوض عليهم بأقسى العقوبات. وما تزال بقايا المافيات الإيطالية موجودة على الساحة السياسية حيث يتهم الرئيس الحالي برلوسكوني بالتعامل معها.

والسؤال التالي: هل حققت عملية المنع الهدف المرجو منها بالنسبة لمتناولي الكحول؟ الدراسات تبين أن كمية الكحول التي كان يتم تناولها في الولايات التي منعت الكحول قد انخفضت بشكل ملحوظ، لكن مشككين يقولون بأن تلك الأرقام غير دقيقة فقد صار حصر كمية الكحول تقديريا، ولا يمكن حصره، وأن الإنخفاض لم يحصل، وإن حصل فأنه لم يستمر طويلاً.
ومن ناحية أخرى فأن منع الكحول شجع الناس على صنع الكحول منزلياً، وهي عملية سهلة ولا يمكن منعها، لكنها أحياناً محفوفة بالخطر على الصحة. وكذلك فأن منع الكحول دفع البعض إلى البحث عن بدائل أغلبها أكثر خطراً على الصحة والمجتمع من الكحول الذي تم منعه.

وتبين إحصاءيات المستشفيات في الولايات المتحدة تأثير قانون منع الكحول الذي صار إتحادياً يشمل جميع الولايات عام 1920. تقول الإحصاءات أن معدلات الوفيات بسبب حالات التسمم الكحولي كانت مرتفعة تزيد على 500 في ا لعام في بداية القرن العشرين، ثم بدأت تنخفض، فوصلت إلى 183 وفاة في العام للفترة 1918 وحتى 1922 . لكنها عادت للإرتفاع بشكل سريع بعد سنتين من تطبيق قانون الحضر، ثم لتصل إلى معدل 639 في العام خلال الفترة من عام 1923 إلى 1927.
ويناقش البعض بأن تلك الأرقام غير دقيقة لأنها أولاً يجب أن تحسب كمعدل لعدد أكبر من السنين. ومع ذلك فالفارق كبير ويؤشر حالة تأثير سلبية لقانون المنع. ويشير أحد الأطباء التجريبيين إلى أن تسجيل الخمر كسبب للوفاة رسمياً، أمر يحاول أهل المتوفي تجنبه في كل الحالات، ولكن بشكل خاص بعد صدور قانون حضر الكحول. وهو مؤشر إلى أن الفارق قد يكون حتى أكبر مما تقدمه تلك الأرقام. وكانت أرقام إحصاءات المرضى النفسيين مشابهة الإتجاه لحالات الوفيات من ناحية فترات الزيادة والنقصان.(3)

ولا زال هناك نقاش حو تفسير نتائج تلك الإحصاءات، لكن الجميع يعترف بوجود مشكلة في الكحول، ولكن أيضاً بخيبة أمل أكيدة بالنسبة للحضر كأسلوب لحل المشكلة، وأتفق الجميع على أن "العملية فشلت". ووصف أحدهم ذلك بالقول "أن الحضر دمر صناعة الكحول وتوزيعها، والتي كان الطلب القانوني على الكحول يعتمد عليها، لكنه فشل في أن يدمر الطلب على الكحول نفسه".


(1) http://www2.potsdam.edu/hansondj/HealthIssues
(2) http://www.who.int/tobacco/health_priority/en
(3) http://www.druglibrary.org/schaffer/LIBRARY/studies/nc/nc2a.htm


149


ما الذي كشفته ويكيليكس عن رأي العرب بإيران وإسرائيل؟

صائب خليل
2 كانون الأول 2010

هل ويكيليكس وثائق صحيحة أم لعبة؟

أثارت ويكيليكس أسئلة كثيرة هامة وكشفت امور خطيرة عديدة. لكن أكثر سؤال تردد بين الناس: هل أنها تسريب حقيقي أم أمر مرتب؟ ليس لأحد أن يعرف الجواب على هذا السؤال. ولعل أهم ما كشفته لم يكن نصاً في الوثائق نفسها، وإنما في اكتشافنا عجزنا ومواجهتنا لحقيقة أننا في عالم تضيع فيه الحقيقة على البشرية تماماً. وزير الداخلية التركي قال ما يدعم هذا الرأي حين صرح " إننا عندما ننظر إلى الوثائق تبدو كما لو أن الدبلوماسية تقوم على الشائعات. إننا أمام وضع غير جدي ويقابلها الإنسان بحيرة". (1)

إنها حالة محزنة، لكن ليس ذلك بغريب على "بشرية" تضع ثقتها في مكان غير مناسب، وتواجه كل هذا المد في تطور الإعلام الإفتراضي، بتصديق ساذج لقصص عجيبة تعتمد على أساس أفلام مشوشة يقول لنا البعض أن العفريت "بن لادن" ارسلها لنا على بساط الريح من أحد الكهوف البعيدة!

مع ذلك: هل الوثائق حقيقية أم أنها ترتيب أمريكي - إسرائيلي؟ مع الإحتفاظ بالشك، يبدو لي أن الموضوع مرتب من قبل جهات أمريكية والإحتمال الأكبر إنها إسرائيلية، يشترك فيها الجهات الإمريكية المخلصة لإسرائيل.
اهم سببين للإعتقاد بأنها لعبة، الأول،  أنه من الصعب التصديق بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تمنع نشر وثائق تهدد امنها القومي، و"تعرض حياة الكثيرين للخطر" حسب ما تدعي، (2) ومن خلال الإنترنت. فلقد تم إغلاق مواقع عديدة سابقاً لأسباب أتفه كثيراً، سواء بالتدخل البوليسي المباشر (خارج الولايات المتحدة) كما فعلت سابقاً مع إنديميديا. الآن فقط، وبعد نشر الوثائق، أصدر الإنتربول قراره بالقاء القبض على أسانج، أما قبل ذلك فكانت هناك حركات لا يفهم منها إن كانت تسعى لعرقلة الرجل أم زيادة شعبيته.
أما الإدعاء بأن الأمن الأمريكي لم يستطع أن يجد أين تكمن حاسبات ويكيليكس فأمر آخر يصعب تصديقه تماماً، وكما عبرت إحدى الناشرات على الإنترنت: " وكالة الأمن القومي الأمريكي تستطيع أن تستلم النص الذي أكتبه فور إكمال النقر على لوحة مفاتيح الحاسبة، فكيف لم تنتبه لما جرى في الوقت المناسب لتمنعه؟

أما السبب الثاني للشك هو أن الوثائق، وبالرغم من كثرة اللغط حول ما سوف تسببه للإدارة الأمريكية من إحراج، فهي تبدو منتقاة بشكل عام يناسب الولايات المتحدة، وأكثر منها، إسرائيل. إبراهيم الأبرش يلخص ذلك:
"المتابع للوثائق المنشورة سيلاحظ أنها لم تمس بالصميم الإدارة الأمريكية ولا المصالح الإستراتيجية الأمريكية ولم يتم ذكر أسماء مسئولين أمريكيين وتحميلهم مسؤولية جرائم وانتهاكات خطيرة تم ارتكابها في العراق أو أفغانستان أو مناطق أخرى كما لم يتم تجريم إسرائيل الحليف الاستراتيجي لواشنطن ،ولكن هذه الوثائق خلقت حالة من الإرباك والإحراج لدول وحركات سياسية وخصوصا في الشرق الأوسط وزادت من حالة انعدام الثقة بين المكونات السياسية والاجتماعية لدول المنطقة ،وهذه الحالة بالضبط مطلب استراتيجي أمريكي تم توضيحه في إستراتيجية (الفوضى البناءة)".(3)

وأنا أثني على رأي الأبرش، حيث بحثت بنفسي عن إشارة إلى مجزرة ارتكبت بحق عائلة صديقي لطيف علو، ولم أجد شيئاً عنها، وحين سألته أكد عدم وجودها وأن الإشارات إلى مثلها من "الأخطاء" تبرئ الأمريكان وتضعهم في موقف مثالي. كذلك اختفاء وثائق عن جريمتي الهجوم الإسرائيلي على لبنان وغزة واغتيال المبحوح وغيره، وعن فضائح قصف الفلوجة وغيرها من المدن العراقية، وعن الإرهابيين البريطانيين الذين إمساكا متلبسين بالجريمة في البصرة ولا جريمة قتل أطفال النعيرية أو اغتيال مبدر الدليمي، والقائمة تطول.

وإضافة إلى الإنتقائية الواضحة للوثائق المسربة، فهناك مرحلة إنتقائية ثانية بالنسبة للصحافة الأمريكية حيث نشرت أهم صحفهم أجزاء منتقاة أيضاً وموجهة للتحريض على الحرب على إيران، فقد اكتفت أهم صحيفتين أمريكيتين، هما نيويورك تايمز والواشنطن بوست بنشر وتأكيد ما أشارت إليه برقيات بأن الولايات المتحدة تعتقد أن إيران قد امتلكت صواريخ متطورة من كوريا الشمالية، دون أن تشير أي منهما إلى رد روسي مفصل ينفي النظرةالأمريكية وعدم وجود الأدلة القوية عليها.(4)

والهدف من اللعبة يبدو إعطاء انطباع معين للعالم يناسب مصالح تلك الدولتين وأجندتهما. ولكننا نلاحظ أنها تناسب الجانب الإسرائيلي بشكل أكثر مباشرة، أما فائدتها للجانب الأمريكي فهو في مواضيع تشترك مع الأجندة الإسرائيلية. ورغم أنها تخلو من أية فضائح أمريكية جدية، فهي تكلف الجانب الأمريكي كما كبيراً من المصداقية الدبلوماسية يمكننا أن نتخيل أنها ستلقي بظلالها على كل محادثات دولية مع هذه الدولة مستقبلاً. إضافةً إلى ذلك فهي تضعف الجانب الأمريكي في تعامله مع أختلافاته مع إسرائيل. الإحتمال الكبير إذن أنها لعبة إسرائيلية، لكن ذلك لايعني بالضرورة أن الوثائق مزيفة، أو على الأقل ليس كلها.

يتفق الساسة الأتراك على هذا التقييم، فيقول حسين جلك، مساعد رجب طيب أردوكان، أن إسرائيل أعلنت أنها لن تتضرر من الوثائق حتى قبل نشرها.(5) فالوثائق المسربة كلها تؤكد "صحة" المواقف الإسرائيلية في جميع النقاط الأساسية. وقال وزير الداخلية بشير اتالاي أن «لجهة المستفيدين فإننا نرى إسرائيل في المقدمة، حيث لم تنشر وثائق كثيرة متعلقة بها وما نشر يميل إلى مصلحتها". وقال رئيس البرلمان محمد علي شاهين انه يرى أهدافا سياسية وراء نشر الوثائق. وأضاف «لست على قناعة بأن هذه الوثائق يمكن أن تنشر رغما عن الولايات المتحدة». وأشار نائب رئيس حزب العدالة والتنمية حسين تشيليك بدوره إلى سرور إسرائيل بنشر الوثائق.(1)
وكمؤشر إضافي من ناحية أخرى، ليس من المعتاد بأن يختار ناشط سياسي يبحث عن الحقيقة إمتداح قائد يميني عنصري مثلما فعل أسانج حين أشار إلى نتانياهو ممتدحاً موقفه من نشر الوثائق كمثال إيجابي. (6)
وأشار أحد الكتاب إلى أن ويكيليكس جزء من ممارسة حسابات "نظرية الألعاب" التي تتفوق فيها إسرائيل.(7)

لا مفاجآت، بل تثبيت حقائق معروفة

من الملاحظ أن "الفضائح" أعطيت حجماً أكبر مما تستحق، خاصة تلك "المناسبة" منها. فعلى الصعيد العربي والعلاقة مع إيران، كان الأمر مقسماً بين كلام مبهم وفضائح لجهات مفضوحة أصلاً مثل أقوال السفير السعودي لدى الولايات المتحدة عادل الجبير الذي قال ان العاهل السعودي "يدعو الولايات المتحدة الى مهاجمة ايران لوقف برنامجها النووي" ونصح الأمريكيين بـ"قطع رأس الأفعى" وشدد على ان العمل مع الولايات المتحدة لمواجهة التاثير الإيراني في العراق هو اولوية استراتيجية للسعودية، وملك البحرين دعا إلى وقف البرنامج النووي الإيراني, لأن "خطر تركه يفوق خطر وقفه"، وتحذير مسؤول أردني كبير للأمريكان: "اقصفوا إيران وإلا فسيتوجب عليكم أن تعيشوا مع قنبلتها"، وإشارة رئيس الحكومة اللبناني السابق السنيورة في 2006: الحرب ضد إيران ضرورية، ومبارك الذي يقترح على أميركا تنصيب دكتاتور للعراق، ويحصل على المديح الشديد من نتانياهو. هذه مواقف لا أتصور أنها فاجأت أحداً. فهؤلاء الحكام لا يعدّون من قبل شعوبهم إلا امتدادات إسرائيلية.

يلاحظ تتناغم أقوال هؤلاء الأخيرين بشكل يصعب تجاهله مع التصريحات التي اعلنها السياسي العراقي المنشق عن قائمة أياد علاوي، السيد سلام الزوبعي، حول تخطيط قائمة العراقية لمهاجمة إيران بالإشتراك مع المملكة العربية السعودية. وكما هو معروف كانت العلاقة بين المملكة والقائمة العراقية شديدة الفعالية قبل وخلال الصراع الإنتخابي الأخير في العراق. ولا شك أن العراقيون سينظرون إلى هذا السيناريو الخطر، نظرة ذعر واشمئزاز من السياسيين الذين يخاطرون بإدخال بلدهم في المأساة التي سبق أن أصابته بدمار لم يسبق له مثله، قبل ربع قرن، ومازال يعاني منه بشدة. وفي تلك المرة، كان للسعودية أيضاً دور أساسي في دعم وتشجيع الحرب وتمويلها، ومن خلال نفس الحزب الذي تتعاطف معه قائمة العراقية ويتقارب معه ناخبوها ويحرص قادتها على إعادة الإعتبار إليه وإعادته إلى السلطة، وخاصة السلطة الأمنية، وبدعم أمريكي. مكشوف وصريح.
ولم تنشر الوثائق حسب أطلاعي برقيات السفارة الأمريكية في بغداد، أقوالاً لقادة عراقيين، وإنما اقتصرت على إعطاء آراء أميركية حولهم وحول الأوضاع العامة في العراق.

إسرائيل وأميركا، إسرائيل وتركيا، إسرائيل والعرب، وإسرائيل وإيران

بالنسبة لفائدة التسريبات لإسرائيل على الجبهة الأمريكية، يرى بعض الخبراء الإسرائيليين أن عاصفة ويكيليكس سوف تشتت تركيز إدارة أوباما على مفاوضة إسرائيل حول تجميد الإستيطان. وقال زلمان شوفال، السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة ومستشار نتانياهو للعلاقات معها، أن ما كشفته ويكليلكس يزيل الفكرة القائلة بأن من الضروري تحقيق تقدم في الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية أولاً، إن أرادت الولايات المتحدة أن تتخذ موقفاً شديداً من إيران. (8)

 وتصيب التسريبات الخصم الجديد لإسرائيل: تركيا، وبشكل خاص أردوغان، العدو اللدود لإسرائيل، فأشارت وثيقة إلى خشية أميركا وإسرائيل من "الأصولي" أردوكان! (9) الذي هدد إنه سيرفع دعوى على الدبلوماسيين الأميركيين أمام المحاكم الدولية. ودعا الرئيس التركي عبد الله غول الأتراك «لعدم الوقوع في هذا الفخ». وقال إنه التقى الرئيس الاذري الهام علييف الذي انتقد في وثائق «ويكيليكس» تركيا بلهجة شديدة. وأضاف إن «علييف أعرب عن أسفه للأكاذيب التي نشرت. وقد قلت له انه يجب عليه عدم الأسف لأننا أصلاً لم نصدق ما ورد على لسانه فنحن شعب واحد في دولتين"(1)

حاول الإسرائيليون الإستفادة من الوثائق لإشاعة صورة مركزية توحي بأن العرب يقفون في حقيقتهم مع إسرائيل، ومن هذه الصورة تشع استنتاجات بمختلف الإتجاهات، جميعها تصب في صالح إسرائيل.
فالصورة الكريهة عالمياً لإسرائيل، سوف تنخفض إذا كان ضحاياها يقفون معها، وسيمكن لعملائها ومؤيديها الخجولين من موقفهم المحرج أن يشيروا إلى أن "حتى العرب معها" وأنهم "لن يكونوا ملكيين أكثر من الملك"..الخ. أما الداعمين للحق العربي فسيصابون بالإحباط، حتى إن لم يغيروا رأيهم بإسرائيل. كذلك ينتظر أن يصيب الإحباط الأكبر الفلسطينيين انفسهم، ولأ أظن أنها مصادفة أن يبرز وجه فلسطيني غاضب في التلفزيون ليقول لك أنه تبين ان الإهتمام العربي بالقضية الفلسطينية ليس كبيراً وأنه يأتي بالدرجة 22 ، وأن على  الفلسطينيين أن يعدلوا استراتيجيتهم على ذلك الأساس.
ماذا يعني ذلك؟ أن موقفهم ضعفيف وأن عليهم أن يقدموا المزيد من التنازلات!
ويؤكد تلك الخطة قول نتانياهو "ألمسرب" بـ  "أن الفلسطينيين سيقبلون اي اتفاق يوافق عليه الاميركيون". وبالتالي سوف يستنتج العالم بأن أفضل طريقة لحل هذا الصراع هي أن يقدم الأمريكان مشروعاً يرضي الجانب اليميني الإسرائيلي، مادامت موافقة الفلسطينيين مضمونة! (10)

وينسجم ما تم تسريبه من مقولات نسبت إلى قادة عرب بشكل كبير مع دعم تلك الصورة، وأن العرب لا يخشون إسرائيل بل إيران، فقال نتانياهو بأن البرقيات " كشفت عن المخاوف العربية الواسعة بشأن البرنامج النووي الايراني ." معرباً عن أمله "أن يعلن زعماء الشرق الاوسط عن مخاوفهم بشأن ايران". وأضاف " للمرة الاولى في التاريخ الحديث هناك اتفاق لا يمكن اعتباره غير منطقي في اوروبا وفي اسرائيل ودول المنطقة على أن التهديد الرئيسي ينبع من ايران وخططها التوسعية وتسلحها". وأن "يتحلى الزعماء العرب بالشجاعة الكافية بالقول علناًَ لشعوبهم ما يفكرون به سراً". وأضاف "سيكون هذا تقدما حقيقيا من أجل السلام أولا وقبل كل شيء لاننا يجب أن نغير الخطاب والمجادلة الزائفة بأن اسرائيل هي التي تهدد الامن والسلام بالمنطقة في حين يعلم الجميع أين يكمن الخطر الحقيقي".(11)

عبارات نتانياهو مثيرة للإهتمام، وخاصة تلك العبارة التي تبدو بلا معنى، والتي تدعو الزعماء العرب "للتحلي بالشجاعة ليقولوا علناً ما يفكرون به سراً". وسر أهميتها هو أنها يفترض أن تثير التساؤل: "لماذا يخشى هؤلاء الزعماء أن يقولوا علناً" ذلك الذي يفكرون به سراً، ويسعد نتانياهو؟ ببساطة، لأن ما يفكرون به سراً، يقف بالضد تماماً بما تفكر به شعوبهم! لذلك فأن دعوة نتانياهو تبدو دعوة غبية، فهي لن تغير الموقف تجاه إسرائيل، لكنها دعوة لألئك القادة للإنتحار، فتخسر إسرائيل بذلك أشد أسلحتها فتكاً في صراعها ضد العرب. فهل أن نتانياهو أبله ليدعو إلى ذلك؟

الأسرائيليون ركزوا الإنتباه على ملف إيران النووي والتحريض على ضربها عسكرياً، من خلال وثائق عديدة تقول إحداها أن المقاطعة ستفشل وأنه يجب القيام بضرب إيران، وأخرى بأن الإستخبارات الأمريكية "على قناعة بان ايران حصلت من كوريا الشمالية على صواريخ فائقة التطور يمكن ان يصل مداها إلى اوروبا."  (في تخويف ضمني لأوروبا دون وجود أية مؤشرات على تهديد إيراني لأوروبا)، وأن نجاد شبيه بهتلر. وتم تمويه كل ذلك بإضافة تمليحات صغيرة عن آراء سلبية للساسة الأمريكان ببوتين و كرزاي وبرولسكوني وساركوزي وميركل والقذافي. إلا أن الصورة الرئيسية التي كانت الوثائق تقدمها هي أن جميع "الدول من فرنسا إلى أذربيجان تحس بالخطر الإيراني." (12)

هيلاري...بلهاء؟

في الطرف الآخر، كانت هيلاري كلنتون تردد نفس ما قاله نتانياهو، لكنها تبدو متورطة. قالت كلنتون:
"الوثائق تبين أن إيران تمثل تهديداً جدياً في نظر العديد من جيرانها، ومصدر قلق جدي حتى بعيداً عن منطقتها. ولذلك اجتمع المجتمع الدولي لفرض أقسى العقوبات على إيران. لم يحدث هذا لأن الولايات المتحدة قالت لهم: أرجوكم إفعلوا هذا من أجلنا، وإنما حدث لأن الدول حينما قيمت الدلائل حول أعمال و نوايا إيران وصلت إلى نفس النتيجة التي وصلت إليها الولايات المتحدة، وهي بأننا يجب أن نفعل ما في وسعنا لمنع إيران من أن تصبح دولة نووية. إن من يقرأ القصص حول هذه البريقات المزعومة ويفكر بشكل جيد فإنه سيصل إلى أن القلق بشأن إيران له أسس قوية وأنه واسع الإنتشار وأنه سيكون في مركز السياسة التي سنتبعها بمشاركة الدول التي تشاركنا نفس التفكير لمنع إيران من الحصول على الأسلحة النووية." (13)
إن قرأتم بانتباه فستلاحظون ورطة السيدة وزيرة الخارجية الأمريكية. إنها تقول أن البرقيات "مزعومة"، ورغم ذلك، وفي نفس الجملة في نفس الخطاب، تعاملها على أنها صحيحة ومثبتة حين تقول أن تلك البرقيات "تبين أن إيران تمثل تهديداً جدياً في نظر جيرانها..الخ" !

ولا تقتصر مشكلة هيلاري في أنها تواجه مشكلة دبلوماسية في الإعتراف بصحة الوثائق بصراحة، وإنما قد تواجه مشكلة قضائية لأن الوثائق أشارت إلى أنها طلبت من دبلوماسيين امريكيين جمع معلومات عن الأمين العام للامم المتحدة وكبار مساعديه ومندوبي الدول الاعضاء الدائمين بمجلس الامن. وتتضمن المعلومات المطلوبة كلمات السر اللازمة لاجراء اتصالات كما تتضمن توجيهات بطلب معلومات عن اساليب الاشخاص المعنيين بالعمل واتخاذ القرارات، وكذلك ارقام بطاقات الائتمان الخاصة بهم وغير ذلك من المعلومات الشخصية، وحتى البصمة الوراثية "دي ان ايه" وبصمات اصابع المسؤولين وتوجيه تلك الطلبات الى غالبية الوكالات الأمنية الامريكية." (14)
إنه لمن المثير للإنتباه الجرأة على اتهام الإدارة الأمريكية لأسانج بالتجسس، وإبداء الغضب الشديد من ذلك، في الوقت الذي تبين نفس الوثائق أن تلك الإدارة نفسها تطالب دبلوماسييها بالتجسس. تقول كلنتون أن التسريبات: "هجوم على المجتمع الدولي من تحالفات وشراكات ومفاوضات". وهذا استعمال معتاد لعبارة "المجتمع الدولي". فكل ما تريده الولايات المتحدة هو ما يريده "المجتمع الدولي"، وكل هجوم على الولايات المتحدة هو هجوم على "المجتع الدولي"، لكن التجسس على الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومختلف الدول، ليس "هجوم على المجتمع الدولي".

نلاحظ أنه في الفلم الذي اعلنت كلنتون موقفها من الموضوع، بدا وجه السيدة الوزيرة جاداً مهموماً، كمن أكتشف لتوه حقيقةً خطيرةً، ليس فقط في أسفها للتسريب، وإنما أيضاً أثناء حديثها عن ما "اكتشف" من موقف بعض الزعماء العرب من إيران واستنتاجاتها عما يجب عمله. ويبدو لي أن هذا خطأ في إخراج المسرحية. فإن كانت الوثائق صحيحة، فالمفروض أنها وثائق تابعة للخارجية الأمريكية وأن السيدة كلنتون تعرف بكل ما فيها من حقائق من زمن طويل، فمن أين أتت المفاجأة التي تقمصها وجه السيدة كلنتون؟

هذه الورطة المثيرة للسخرية والشفقة معاً، تذكرني بزيارة للوزيرة في وقت سابق إلى جامعة قطر، ضمن جولة في دول مجلس التعاون الخليجي، من أجل جمع الدعم ضد إيران. فبعد محاضرة ساذجة لها في الطلاب، وحديثها عن كيف أن تسلح إيران يسبب "إختلال التوازن" في المنطقة، قام طالب صغير السن والحجم بسؤالها بأدب شديد: "ألا تعتقد السيدة وزيرة الخارجية أن التوازن مختل أصلاً؟" ، ولم يكن سهلاً أن يمنع الإنسان نفسه من الضحك وهو يرى وزيرة أعظم دولة في العالم تلف وتدور لتستنجد بحيلة دبلوماسية معروفة فتخترع لنفسها سؤالاً آخر لتجيب عنه. ولم يكن حالها أفضل حين تحدثت بـ "تعاطف مؤثر" عن "الشباب الإيراني الذي يحرم مستقبله" بسبب تصرفات حكومته الرعناء، فجاءها السؤال: لماذا لا تتأثر السيدة الوزيرة بمستقبل الشباب في غزة؟! في النهاية عطف مدير البرنامج على الوزيرة وطلب منها أن تتحدث للطلاب عن "حرية المرأة" ، فتنفست الوزير الصعداء وانطلقت تتحدث وتتحدث، ولكن لا أتصور أن أحداً كان يستمع إلى ما تقول، ولا بد أن الجميع كان يضحك في سره مما رأى أمامه.

لا يمتلك المرء نفسه وهو يشاهد وزيرة الخارجية في مثل هذه المواقف إلا أن يهتف "بلهاء"! ولا يختلف الموقف كثيراً أمام ضحالة إدعاءات نتانياهو الذي يريد أن يقنع العالم أن الدولة الأكثر اعتداءاً وعنصرية في المنطقة، ليست هي الخطر عليها، حتى وهي مستمرة في توسيع احتلالها واعتدائها وتطوير قوانينها العنصرية المعادية لجيرانها! لكن المشكلة الحقيقية وراء فشل خطابها ليست في مستوى ذكاء هيلاري، بل في استحالة المهمة التي وجدت نفسها فيها، الدفاع عن موقف خاسر، لشدة وضوح نفاقه، بحيث يستطيع طفل أن يحرج به رئيسة الدبلوماسية الأمريكية!

في النهاية، من المفيد أن نسأل: هل تم الإستنتاج من المعلومات التي قدمتها وثائق ويكيليكس بشكل سليم، من أن العرب يخشون إيران ويريدون من أميركا وإسرائيل أن تحاربها؟
إن كنا نقصد بـ "العرب"، تلك الإمتدادات الإسرائيلية التي نصبت حكاماً على العرب، فالسؤال لا معنى له، لأن الإمتدادات لا بد أن تؤيد الأصل الذي امتدت منه. وإن كنا نقصد الشعب العربي ومن يحبه الشعب العربي من القادة العرب، فسنرى صورة مختلفة تماماً عن تلك التي حاول نتانياهو وهيلاري كلنتون أن يقدمانها عن "ألعرب".

حقيقة الموقف العربي بين الإحصاءات و ويكيليكس

من استبيان سنوي لمعهد زغبي الدولي، هو الخامس ، أجري عام 2007 (أي ضمن نفس فترة الوثائق) وشمل حوالي 4000 شخص في مصر، الأردن ، لبنان، المغرب، الإمارات العربية المتحدة والسعودية، تبين أن 80 % يرون في إسرائيل التهديد الأكبر والولايات المتحدة التهديد الثاني لأمنهم، ولم يشر إلى الخطر الإيراني سوى 6% فقط!

ولم ير سوى أقلية (الربع) ضرورة للضغط لوقف البرنامج النووي الإيراني، وبلغ المعترفين في الدول الستة، بحق إيران حتى بالحصول على السلاح النووي 61% . ورأت أغلبية ساحقة ( 82% (السعودية) و 87% ( المغرب) و90% (الأردن)) منهم ، أن التأثير الأمريكي "غير مرغوب به".
ومن نتائج الإستبيان أن حسن نصر الله هو القائد الأكثر شعبية، ولم يكن الذين تم استبيانهم متطرفين أو "كارهين للأمريكان" حيث بين الإستبيان أن السبب الرئيس لكرههم لأميركا كان دعمها لإسرائيل وأن الغالبية الكبرى من العرب كانوا يقبلون ويطالبون بحل سلمي نهائي مع إسرائيل (61%) وانسحاب جيوش اميركا من الدول العربية، وأن أقلية منهم كانت ترغب بالإستمرار بمحاربة إسرائيل لو توفر السلام.
واعتبرت اغلبية في جميع تلك الدول، تبدأ من 51% في لبنان إلى 77% في المغرب ترى أن من حق إيران الإستمرار في برنامجها النووي. وقال السيد "تلهامي" المشرف على الإستبيان أنه حتى في السعودية والإمارات التي تتميز حكومتها بالخوف الشديد من قوة إيران، فأن شعبيهما لم يحددا إيران "كخطر جدي"، وهو ما كان يدل على أن الشعوب العربية لم تكن تنظر من نفس المنظار الذي ينظر به حكامها، حسب تلهامي..
ويرى القائمين على الإستبيان أن تقسيم العرب بين سنة وشيعة لم يكن جذرياً بل كان أغلبية العرب ينظرون إلى الأمور من منظار الصراع العربي الإسرائيلي كأولوية لهم. وبين الإستبيان أن الأكثر شعبية بعد حسن نصر الله كان شيراك وأحمدي نجاد و شافيز، ونبه تقرير الإستبيان إلى أن أي منهم لم يكن قائداً سنياً، رغم أن الإستبيان كان يشمل عرباً سنة بأغلبية ساحقة! (15)

وفي استطلاع جرى هذا العام سئل المشاركون فيه مرة أخرى عن الزعماء المفضلين لديهم، ففاز بالمركز الأول رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، ثم الفنزويلي هوغو شافيز ثم أحمدي نجاد و السيد حسن نصر الله! (16)
ويلاحظ أحد الكتاب من هم القادة الذين يحبهم الشعب العربي من خلال الإلتفاف حولهم وحماس استقبالهم في لبنان مثلاً، فيقول:
"لا نتردد لحظة في القول، ودون اي خجل، بان الزعماء المسلمين الذين يكرههم الزعماء العرب، ويتآمرون ضد بلدانهم، هم الاكثر شعبية في الاوساط العربية. ولنأخذ السيدين رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي، وزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله كمثالين في هذا المضمار، فبينما يخرج مئات الآلاف لاستقبال السيد اردوغان عندما يحط الرحال في بيروت، نجد زعماء عرباً يزورون لبنان متسللين وسط غابة من السرية والحراسة المشددة."(17)

وبين استبيان آخر أجري قبل ثلاثة أشهر فقط، أن الإعلام الهائل لتخويف الشعب العربي من إيران وتحسين صورة إسرائيل قد فشل تماماً، وأن اتجاه الرأي الشعبي العربي يسير بعكس الإتجاه . فأوضحت الأرقام أن غالبية الناس في كل من مصر، السعودية، المغرب، الأردن، لبنان والإمارات العربية أن عدد من يرى في امتلاك إيران الأسلحة النووية تطوراً إيجابياً للشرق الأوسط، قد تضاعف خلال السنة الماضية من 29% في عام 2009 إلى 57% في عام 2010 (18)

إذن، إذا كان "العرب" هم حكام الدكتاتوريات التي ترى في إسرائيل سبباً لبقائها، فأن إيران هي الخطر وليس إسرائيل. أما إن كان المقصود بالعرب، الشعب العربي، فمن الواضح أنه يرحب بالتطور النووير الإيراني ولا يرى فيه خطراً، بل يجد الخطر في إسرائيل! والحقيقة أن الشعب العربي لا يختلف في هذا الأمر عن شعوب الأرض في موقفها من إسرائيل، بضمنها شعوب الإتحاد الأوروبي. فقد أثار استطلاع عام 2003 دهشة العالم ورعب إسرائيل حين رأت جميع شعوب دول الإتحاد الأوروبي وبغالبية كبيرة، أن إسرائيل هي الخطر الأكبر على السلام العالمي! (19)

ما الذي يعنيه تفضيل الإدارة الأمريكية للأخذ برأي بضعة حكام دكتاتوريين مكروهين من شعبهم، دون رأي ذلك الشعب؟ الكاتب الكبير نعوم جومسكي اعتبر أن اهتمام الإدارة الأمريكية برأي حكام الدكتاتوريات العربية، دون الإلتفات إلى موقف الشعب العربي، دليل على كره الإدارة الأمريكية للديمقراطية وبعدها عنها! (20)
وكما كشف جومسكي هذا النفاق في الديمقراطية لدى الإدارة الأمريكية، كشف الدكتور أسعد خليل من أميركا نفاقها في مسألة حقوق الإنسان فوجد من بحثه في البرقيات أن تلك المسألة لم تطرح من أي مسؤول أمريكي أمام الحكام العرب إلا مع سوريا، بل أن  مسؤولاً أمريكياً أشاد بـ  "تقدم حقوق الإنسان" في السعودية!

خاتمة: إذن ما الذي كشفته ويكيليكس؟

يرى الدكتور تميم البرغوثي، استاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون أن ليس من مصلحة العرب الأمنية والإقتصادية والسياسية تشجيع الحرب على إيران، بل من مصلحة العرب كضعفاء أن تقوى أية دولة أخرى لتوازن بعض قوة إسرائيل، وأن الحرب على إيران ضرر مباشر للعرب. وقال أن ويكيليكس كشفت للشعب العربي بشكل رسمي ما كان يعرفه عن بعض حكامه أصلاً، فصار أكثر ثقة بالنفس وبصحة تقييمه لحكامه الذين وجدهم يشكلون حلفاً "عربياً إسرائيلياً" لضرب إيران، وأن تلك حقيقة وليست "نظرية مؤامرة"، وقال أن ذلك الوعي الجديد يمثل خطراً إضافياً بالنسبة لأميركا وإسرائيل.

ربما يخطر ببالنا أخيراً أن نسأل: ألا تخشى إسرائيل على عملائها من أن ينتقموا منها ومن أميركا ويبدأون التقرب من شعبهم والإبتعاد عنها؟ إنها لا تخشى ذلك، لأن الفضيحة تجعل الطريق أمام العميل للعودة إلى شعبه أكثر صعوبة، فيجد نفسه بالعكس مضطراً أكثر وأكثر للإنبطاح التام.

إذن لنعد إلى سؤالنا الأول: ما الذي كشفته ضجة ويكيليكس عن علاقة العرب بإيران؟ بالنسبة لي وربما لكم أيضاً، ممن لم يطّلع على الإحصاءات التي وردت في نهاية المقال قبل الآن، فأن تلك الضجة وما صاحبها من كذب دفعني إلى البحث عن صحتها، وبذلك فأنها كشفت لي أنباءاً سارة على عكس ما تريد هيلاري ونيتانياهو وشلة الحكام العرب المنصبين لإدارة مصالحهم أن تفهمنا، وأن رأي الشعب العربي يدل على وعيه لمصلحته وأنه يقف بالضد تماماً من اي عمل عسكري ضد إيران، ولا يرى فيها خطراً عليه بل الخطر في إسرائيل المسلحة حتى أنفها وأميركا التي تدعمها بلا حدود في عدوانيتها وعنصريتها، تماماً كما ترى شعوب أوروبا وغيرها ذلك الأمر بوضوح تام. ويعي الشباب العرب حتى على مقاعد الدراسة أن تطوير إيران لأسلحة نووية لايخل بخرافة "التوازن" المختل ضد شعبه أصلاً، بل يعيد إليه بعض توازنه، لعل تلك الدولة العدوانية تجد في ذلك التوازن ما يدفعها نحو تحديد غرورها واحتقارها للعرب والمسلمين، وقبول سلام بالحد الأدنى من المقبولية، مع جيرانها في المنطقة.


(1) http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=1711&articleId=356&ChannelId=40081&Author=%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF
(2)  http://albidapress.net/news.php?action=view&id=10641
(3) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=236742
(4) http://www.informationclearinghouse.info/article26970.htm
(5) http://www.haaretz.com/news/diplomacy-defense/senior-turkey-official-says-israel-behind-wikileaks-release-1.328373
(6) http://www.haaretz.com/news/diplomacy-defense/wikileaks-founder-netanyahu-believes-expose-will-aid-mideast-peace-1.328380
(7) http://rense.com/general92/wikii.htm
(8) http://www.washingtonpost.com/wp-dyn/content/article/2010/11/29/AR2010112906979.html
(9) http://www.haaretz.com/news/international/wikileaks-cables-show-u-s-israel-fear-of-fundamentalist-erdogan-1.327607
(10) http://www.alquds.com/node/307534
(11)  http://www.almanar.com.lb/NewsSite/NewsDetails.aspx?id=163789&language=ar
(12) http://www.haaretz.com/blogs/mess-report/wikileaks-expose-makes-it-clear-everybody-hates-iran-1.327523
(13) http://vodpod.com/watch/5016238-hillary-clinton-wikileaks-disclosure-is-an-attack-on-the-international-community-pt-2
(14) http://www.moheet.com/show_news.aspx?nid=432476&pg=2
(15) http://electronicintifada.net/v2/article6538.shtml
(16) http://rubinreports.blogspot.com/2010/08/can-you-handle-truth-poll-shows.html
(17) http://albidapress.net/news.php?action=view&id=10703
(18) http://www.brookings.edu/reports/2010/0805_arab_opinion_poll_telhami.aspx
 (19) EU poll: "Israel poses biggest threat to world peace"
 http://electronicintifada.net/v2/article2129.shtml
 (20) http://www.alternet.org/rights/149032/noam_chomsky%3A_wikileaks_cables_reveal_%22profound_hatred_for_democracy_on_the_part_of_our_political_leadership%22


150

هل سيحصل المالكي على الدعم المسؤول من مؤيديه في مهمته الصعبة؟

صائب خليل
29 تشرين الثاني 2010

تنتظر المالكي في حكومته المقبلة مصاعب هائلة، وفترة صعبة لا تقارن حتى بفترة حكمه الأولى العصيبة. ورغم أن الأداء كان في العديد من المجالات المهمة دون المستوى المطلوب، ورغم أن أسئلة كبرى بقيت دون إجابة، ورغم أن الشفافية بعيدة كل البعد عن أبسط طموح عراقي، فقد حقق المالكي وحزبه في فترة حكمه الأولى انتصارات مهمة لنفسه وللعراق. فمجرد إنقاذ العراق من حكم القائمة العراقية هو إنجاز كبير للرجل. هذه المجموعة ذات العلاقة المخيفة بالإحتلال وتوابعه من العرب، وبقايا البعث معاً، وأحتقارها الصريح للدستور ومؤسساته، واعتماد الكذب والمغالطات وتزوير الإنتخابات والدفاع المستميت عن التزوير، وما كان يخطط للعراق من خلالها كانت خطراً حقيقياً على مستقبل العراق في هذه اللحظة الحرجة.
 
ورغم أن تكل المعركة لم تخل من الخسائر، وأنها لا تعتبر انتصاراً حاسماً، فأن خوض المعركة نفسه كان له مكسباً مهماً من الدروس وكشف الحقائق وفضح ما يخطط للعراق، خاصة من قبل الإحتلال الذي اضطر إلى كشف جميع أوراقه والمراهنة عليها قبل أن يخسرها.
لقد اكتشف أثناء المعركة الدور المشبوه للمفوضية المستقلة للإنتخابات وممثل الأمم المتحدة وجهات قضائية أذعنت لضغط السفارة الأمريكية في إصدار قرارات عجيبة، واحد منها بالإمتناع عن إصدار قرار بشأن منع متهمين بالبعث، والثاني بإصدار قرار بمنع لجنة إعادة العد من مقارنة نتائج العد مع سجلات صناديق الإقتراع، وهو في تقديري دليل قاطع وحاسم على أن القضاء تم شراؤه أو ابتزازه، لكي يصدر مثل هذا القرار الغريب. وهو دليل قاطع أيضاً على تزوير الإنتخابات وعلى أن من وقف ورائها قوة كبيرة قادرة على تسليط مثل ذلك الضغط على القضاء، ولا يوجد في الساحة قوة بهذا الحجم في ذلك الظرف سوى الأمريكان.
أكتشف أيضاً تعامل المفوضية مع شركة مشبوهة في تركيب أنظمتها الإلكترونية، وأن تلك الشركة قد ركبت أنظمة حاسبات وزارة الدفاع ومؤسسات حساسة أخرى.
وأكتشف أيضاً المدى البعيد والوقح الذي يمكن للسفارة الأمريكية أن تذهب إليه في سبيل إعادة البعث، حتى تم تهديد السفير بطرده، أو الإيحاء بذلك، وتم استبداله على إثر ما حدث. ولا يقل أهميةً كشف أعضاء القائمة العراقية وأساليبهم في الوصول إلى الحكم.

إنتصارات كبيرة، لكن المعارك  لم ولا تنتهي بهذه السهولة ، بل هي لا تنتهي أبداً في العادة، خاصة مع السفارة الأمريكية.

إن مجرد محاولة الكتابة عن ما ينتظر المالكي وحكومته من إشكالات ومنعطفات وضغوط ومفترقات طرق، امر شاق على المرء، فلا يدري أين يبدأ وعلى أي يركز وأيها يترك. لذا نكتفي هنا بإلقاء نظرة سريعة على تلك الإشكالات لتعطينا صورة عامة على حجم تلك التحديات وعلى ما ينتظر المالكي، ثم تقدير ما سيحتاج إليه من دعم.

مشكلة الحكومة: رغم أن المالكي استلم رئاسة الوزراء، إلا أنه لن يتمكن من تشكيل حكومة كما يريد. ومهما كثرت المجاملات والتصريحات فأن هذه الحكومة لن تختلف عن سابقتها كثيراً في تكونها من مجاميع متعادية أو متنافسة في أفضل الأحوال، ولا يهدف بعضها إلا إلى الإستعداد للإنتخابات القادمة بتخريب عمل البعض الآخر بقدر ما يستطيع، والإساءة إلى سمعته. سيهدف الداخلون إلى الحكومة اضطراراً، خاصة إن كان أياد علاوي ضمنهم، إلى عرقلة محاولاتها لإنجاز شيء، وإظهار فشلها في الحملة الإنتخابية القادمة، أو الإسراع في إسقاطها والمطالبة بانتخابات جديدة. ما واجهه المالكي في السنوات الماضية سيواجهه في التالية، لكن الفرق أن مؤيديه أكثر حماسة له من قبل، وسيكون هو وفريقه مسلحاً ببعض الخبرة للتعامل مع الموضوع بشكل أفضل.

المشاكل المنتظرة:

المشكلة الأمنية، رغم ما تحقق فيها، أوما يفخر المالكي بتحقيقه فيها، مازالت الوضعية الأمنية موضوعاً غامضاً تماماً. وليس من السهل على الإطلاق إعطاء تقييم لما تمكن المالكي من إنجازه وما تبقى له، فتصرفات الحكومة في قضايا أساسية مثل قضية أجهزة كشف المتفجرات المزيفة وطريقة تعامله مع الحقائق التي افرزتها مذبحة كنيسة سيدة النجاة والإفلات المستمر للمسؤولين عن التقصير الذي يؤدي إلى تلك المآسي دون أي عقاب يتناسب مع نتائج تقصيرهم، يشكك بأن المالكي يسيطر على الوضع فعلاً، ويوحي بأنه قد يكون في انتظار فرصة أفضل لضرب الإرهاب، وهو في كل الأحوال أبعد ما يكون عن الشفافية في هذا الأمر.

مشكلة الطائفية: الإحتقان الذي سببه التوتر السياسي المصاحب للإنتخابات غير النزيهة، خلفت لدى الجماهير الشيعية إحساساً شديداً بالقلق والغضب، ورأت أن الجانب الآخر لا يتورع عن القيام بأي شيء من أجل حرمانهم حقهم في الحكم كأغلبية برلمانية. ومن ناحية أخرى فأن من وضع أمله في العراقية، وقبل محاججاتها حول حقها في الحكم، يرى أن الجانب الآخر قد احتال لدفع "القائمة الفائزة" بعيداً عن حقها في الحكم. هذا الشعور زاد الإستقطاب في الجانبين، ورفع قدرة الطائفيين بين كل من الشيعة والسنة على إقناع جماعتهم بالتكاتف والتجمع في خندق واحد مقابل الآخر. أي أن التزوير وتداعياته جعل المشكلة الطائفية أصعب حلاً.

مشكلة الإحتلال: أفترض أن المالكي يدرك الآن أن الإحتلال لا ولن يريده حاكماً للعراق، وأنه مستعد لإتباع أي أسلوب إن كان يحقق له غرضه. وأفترض أنه يدرك أيضاً أن الإستراتيجية الأمريكية في العراق هي السيطرة الحكومة، وإن لم يمكن، فعلى الأمن عن طريق جهة تطمئن إليها. وتتصف هذه الجهة الأنسب بالنسبة للأمريكان بأنها 1-  تلك التي ليست لها موانع أخلاقية، و2- يفضل أن لا تكون لها شعبية منظمة بشكل حزب يمكن أن يحاسبها ويعرقل أو يحدد أنصياعها للأمريكان في القرارات الصعبة.
الأمن هو نقطة الضعف التي لا تعرف الديمقراطية كيف تتعامل معها، وكمثال على ذلك تركيا، التي لم تتخلص من سلطة الجيش عليها إلا بصعوبة وبعد إسقاط حكومتين منتخبتين ديمقراطياً عن طريق الجيش الذي يتبع بشكل عام سياسة الولايات المتحدة. وكاد الجيش التركي أن يرتكب جريمته السياسية الثالثة، فنذكر أن رامزفيلد قال غاضباً، حين رفض البرلمان التركي التعاون في عملية احتلال العراق، "أن الجيش التركي لا يقوم بما يفترض به أن يقوم به"! أي أستلام السلطة بانقلاب!
من المحتمل أن الأمريكان يفكرون جدياً بالتخلي عن الخيول الخاسرة الحالية، أو بعضها، كما قد يستنتج المرء من حركات الزوبعي ومؤتمره، لكن هذا لا يجب أن يفهم بأنهم غيروا رأيهم بالنسبة للمالكي أو خططهم في نوع من يفضلونه لحكم البلاد، فتلك سياسة راسخة تكررت عشرات السنين وتم صقلها وتثبيتها.

هذا هو تصوري للعلاقة مع الإحتلال، أما من الناحية العملية فأن العامل الحاسم الذي سيقيس به الشعب موقفه من المالكي هو تطبيق سحب القوات الأمريكية في موعدها بدون أي تأخير، وهو ما وعد به المالكي قبل أيام، ونتمنى أن لا يقدم لنا المالكي مفاجأة مؤسفة كما فعل حين تحول فجأة إلى قبول المعاهدة بعد رفض حاسم مماثل لها. وهنا يجب أن نقول أن المالكي يجب أن يفهم الأمريكان أن الأمر منته تماماً، وإلا إن فهموا أن الأمر يعتمد على الوضع الأمني،  فسيحصل على كل ما يشتهي من ضربات أمنية "تحمل بصمات القاعدة" لتغيير رأيه وإطالة بقاء القوات.
كذلك يجب عليه أن لا يضيع أية فرصة لتقليل سلطة الأمريكان التي أسسوها في البلاد، وإزاحة المستشارين والمقربين لهم والذين تم زرعهم في كل النقاط الحساسة، وهي قضية ليست سهلة على الإطلاق. سيحتاج المالكي إلى جهد كبير من أجل إقناع الأمريكان بأن عليهم أن يتعاملوا مع العراق كدولة، وليس مجموعة من المغفلين التي تصدق كل شيء، وأن الإعتماد على مخربي البلد سيكلفهم أكثر من التعامل مع الحكومة بشكل طبيعي. إنه أمر لا يقبل به الأمريكان عادة بسهولة، لكن تلك هي "ام المشاكل" وحلها يجب أن يكون له الأسبقية.

القيادة الكردية والنفط: تحاول القيادة الكردية اليوم الحصول على وزارة النفط أوالمالية، حسب قولهم. وليس هذا غريباً من مجموعة لم يعترض فيها شخص واحد على سرقة نفط بلادهم بهذا الشكل الفضائحي، وتسليمها رخصية إلى شركات النفط الأجنبية، بعد تزوير الوثائق الخاصة بها وتحويل الحقول المكتشفة إلى مناطق استكشافية، وتوقيع عقود سرية لم تكشف ليس فقط بالنسبة للحكومة العراقية والبرلمان العراقي، بل وحتى بالنسبة للبرلمان الكردستاني. لذلك يعتبر إنقاذ النفط من ما تخططه له حكومة كردستان والشركات التي تقف وراءها مهمة أساسية للمالكي في حكومته القادمة، وقد أجاد الشهرستاني في دفاعه عن نفط العراق بوجه تلك المجموعة، وهو ما جعل منه هدفاً للهجوم والتشويه من قبلهم، ولذا نجد أن من الضروري جداً إبقاء السيد الشهرستاني في وزارة النفط بأي ثمن، والتخلي عن فكرة "نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة"، وإن لم يتم التخلي عن تلك الفكرة، فعلى الأقل يجب في عدم تسليم وزارة النفط إلا لرجل يمكن إئتمانه على ثروة العراق ورئته التي يتنفس منها، ومن خارج التحالف الكردي، بسبب نقص الثقة واستحالة التعاون بين وزير من تلك المجموعة والشهرستاني كنائب لرئيس الوزراء لشوؤن الطاقة.
لقد كان من شروط قادة كردستان لتشكيل الحكومة توقيع قانون النفط العراقي. ومما لا شك فيه أنهم لا يريدون للعراق قانوناً يحفظ النفط العراقي. فلا يعقل أن يكون حرصهم على نفط العراق بأفضل من ما أرادوه لنفط كردستان.

الدعوات الفدرالية: هناك دعوتان خطرتان على الأقل في الوقت الحاضر سوف يكون على الحكومة القادمة أن تواجهها، وهي الدعوة إلى فدرالية الجنوب والدعوة لفدرالية البصرة، وكذلك تنطلق اليوم إثر مذبحة كنيسة النجاة، دعوة لمحافظة مسيحية، ولا يستبعد أن هذا هو ما كان قصد من نفذ الجريمة الإرهابية في الكنيسة.
لقد برهنت التجربة العراقية أن الفدرالية نظام في منتهى الخطورة على البلاد في هذه الإضطرابات، وأنه ليس سوى تحضير لتفتيت البلاد كما يحدث اليوم للسودان تماماً. فدرالية كردستان تتعامل بلصوصية مع العراق وميزانية العراق، مثل احتجاز مبالغ الكمارك وتهريب النفط إلى إيران وبيع النفط مباشرة مقابل مشاريع في كردستان، والذي لا يملكون منه سوى 17% . وهي بذاتها نسبة تساوي مرة ونصف بقدر حصتهم الحقيقية التي أقرتها جميع الإحصاءات السابقة للمحافظات الكردية الثلاثة. وحصلت القيادة الكردية على تلك النسبة عندما كان يحكم العراق شخص سهل الرشوة هو أياد علاوي، وتمت الموافقة على الإستمرار باتباعها بعد عملية ابتزاز واضحة في التصويت على الميزانية العامة السابقة والمتمثلة بفضيحة رزمة الإتفاقات الثلاثة والتي خرقها عادل عبد المهدي ليمررها بعد أن قال له ديك تشيني أن يفعل ذلك (حسب حديث لعادل عبد المهدي مع النائب محمود عثمان، وقد أشرت إلى المرجع في مقالة سابقة). وهاهي القيادة الكردية تبتز المالكي اليوم لتضيف رواتب البيشمركة، الذين لم يستعملوا سوى لتحدي الجهات الإتحادية مثلما حدث حول استيلائهم على حقول نفط كركوك، وحول "المناطق المتنازع عليها"، ودون أن ننسى أن قيادييهم مثل برهم صالح وغيره يعربون دائماً عن قلقهم كلما اشترى الجيش العراقي أسلحة جديدة، وهو ما لا تفعله دائماً حتى حكومة معادية.

إن الذين يدعون إلى فدرالية البصرة أو الجنوب، إنما يسيل لعابهم وهم يتخيلون ما يمكن أن يحصلوا عليه لو أنهم تمكنوا من ابتزاز العراق كما تبتزه الحكومة الكردية في كل أزمة، وتسرق نسبة الآخرين كما تفعل الآن. لكن العراق لن يتحمل إبتزازين كبيرين يمتصان دمه وكرامته من الشمال ومن الجنوب، وسيسلم الروح بلا شك، كما يريد مشروع بايدن الذي يقول بأنه يفخر بأنه صهيوني، والذي سارعت القيادة الكردية لدعمه بكل قوة، لكن المؤامرة فشلت برد فعل شعبي عنيف.
أما "المحافظة المسيحية" التي اتفقت عليها الأحزاب المسيحية أمس، أو دعوات الحكم الذاتي (بل أن البعض دعا إلى "جمهورية" مسيحية أشورية مستقلة!) إثر جريمة الكنيسة، فقد لا تكون سوى جزء من مؤامرة تهدف إلى جعل علاقة المسيحيين العراقيين بالمسلمين كعلاقة الأقباط في مصر بالمسلمين فيها.

التغلغل الإسرائيلي: من المنتظر أن الجهات الإسرائيلية في العراق لن تنتظر أكثر وستقوم بمحاولة جديدة قوية في هذه الفترة. لقد فشلت محاولتها الأولى من خلال القيادات الكردية، و"حزب الأمة – الإسرائيلية" في فرض العلاقة مع إسرائيل على العراق، فشلاً ذريعاً، عبر عنه توقف القيادة الكردية عن تصريحاتها السابقة الإستفزازية، وفشل رجل اسرائيل في البرلمان العراقي في الإحتفاظ بمقعده. ورغم أنهال مؤشرات مطمئنة، لكن من الناحية الأخرى فأن إسرائيل لاتستسلم بسهولة، وحققت نصراً محدداً بإصدرا مجلة علنية باسمها في كردستان، ومن المتوقع أن يتعرض المالكي إلى ضعوط قد لا تهدف إلى إقامة علاقة مباشرة مع إسرائيل، بل أتخاذ خطوات تسهل لها في المستقبل، ربما من خلال حكومات أو شركات أمريكية أو جيكية.
ومن المعروف ايضاً أن إسرائيل إن وجدت المجال، دخلت على نظام الحكومة وجعلته يتحرك لصالحها عاجلاً أم آجلاً. ومن الطرق التي تبدأ العمل بها اختراق نظام الإتصالات في البلد، ليؤمن لها المعلومات اللازمة لإبتزاز المتنفذين في البلاد ودعم من يؤيدها والتخلص ممن يعاديها، كما كشف مؤخراً في لبنان، وكشف تفاصيله حسن نصر الله، زعيم حزب الله، وفريقه التكنولوجي، حيث بين في خطاب له أن إسرائيل تمكنت من تزوير بطاقة المعلومات الخاصة بأي خلوي، واستنساخها وتمكين شخص آخر من التحدث باسم صاحب التلفون الأصلي. كذلك تمكنت من إدخال كارت معلومات على أي تلفون بحيث يكون له رقم إضافي يمكن الإتصال به والإستماع إلى أية اتصالات يجريها الشخص، وكذلك الإستماع إلى أية محادثات تجري في محيطه. أي أن الموبايل يتحول إلى ميكروفون التقاط إسرائيلي يتجول مع صاحبه، ودون أن يعلم ذلك الشخص أي شيء مما يجري. ما كشف في لبنان من تجسس إسرائيلي وسيطرة على وسائل الإتصال، كشف سابقاً مثله في دول مختلفة مثل هولندا وأميركا وعدد كبيرمن الدول الغربية، وإن كان بصيغة أبسط في ذلك الوقت.
ولاشك بأن وصول إسرائيل إلى شبكة الإتصالات العراقية المركزية وليس في كردستان فقط، هو أسهل وأكثر مباشرة من وصولها إلى لبنان. لذلك فأني أفترض بأن شبكة الإتصالات العراقية مزروعة بأجهزة المراقبة والتجسس الإسرائيلية وأنها تنقل إلى إسرائيل بشكل مباشر، ليس المزاج العراقي بشكل عام فقط، وإنما كل ما يتحدث به أي شخص مهم في العراق، سواء كان سياسياً أو عسكريا أو أمنيا أو إعلامياً، وإنها قد رسمت شبكة علاقات هؤلاء الأشخاص وطرق حركتهم، ويمكنها أن تؤسس على ذلك تقدير ردود الفعل العراقية وبالتالي سياستها تجاهها وتحديد التوقيت الأنسب لإطلاق مشاريعها.
على المالكي أن يتصرف وفق هذا المنظور وأن يخطط للتخلص من الأجهزة التي نصبها الإحتلال في وزارة الإتصالات والدفاع والداخلية وغيرها، ربما ليس بشكل فوري، إنما بأسرع ما يمكن، وأن لا يتم التراخي بهذا الشأن الخطير.

العلاقات مع دول الجوار: بشكل عام، العلاقات الدولية بين الدول المستقلة، مكسب كبير وهام لكل دولة. لذلك فإن الدول التي يجب على العراق تطوير علاقته بها هي الدول التي تتمتع بالإستقلالية والتي تمثل حكوماتها شعبها إلى درجة كافية، وهي بالنسبة للدول المحيطة بالعراق، تركيا وإيران وسوريا. أما العلاقات مع الأردن ومصر والسعودية والسلطة الفلسطينية فعلاقات خطرة يفضل أن تترك في أدنى الحدود الممكنة، ولا أرى أي مكسب في إقامة العلاقات معها، وخاصة العلاقات الأمنية. وأضيف إلى تلك الدول دولة جيكيا التي انتعشت مشاريعها في العراق بشكل غير معتاد، وهي معروفة بأنها الدولة التي تمثل إسرائيل في الإتحاد الأوروبي.
جميع حكومات هذه الدول تمت السيطرة عليها وهي لا تهتم بعلاقتها بشعبها قدر اهتمامها برضى إسرائيل عنها، وكثرما تفلت من مسؤوليها تصريحات تكشف ذلك بوضوح، مثل تصريح مسؤول مصري كبير قبل أيام، حين حذر أن فوز "الإخوان المسلمين" بالإنتخابات سيغير علاقة مصر بإسرائيل "100%" ، وهو السبب الذي يقلقه اكثر من غيره كما يبدو.

الحكومة والإعلام: برهنت الأزمة الإنتخابية أن الإعلام الحكومي ضعيف للغاية، ولم يتمكن حتى من درء الظلم الواقع عليها في الأزمات، فلم يتمكن من فضح غرابة حكم المحكمة التي حكمت بعدم جواز المقارنة التي تكشف التزوير الإنتخابي، ولا انحياز موقف ممثل الأمم المتحدة المخجل ضدها. خصوم الحكومة أقوى إعلامياً من الحكومة في بلادها نفسها، وهذه حالة خطرة، وليست ديمقراطية كما يدعي البعض الذي يعترض على أي إعلام حكومي. أن المقارنة بالإعلام الدكتاتوري الذي تسيطر فيه الحكومة على الإعلام. ليست سوى خدعة لفظية. فالحكومة ليس من حقها أن تحتكر الإعلام، لكن من حقها بل ومن واجبها أن توصل رأيها وتفسيرها لتصرفاتها إلى الشعب. الحكومة الدكتاتورية عدوة للشعب، فعندما تحتكر الإعلام فأن عدو الشعب يحتكر إعلامه. أما الحكومة المنتخبة، وفي كل الأحوال ومهما كانت الديمقراطية مريضة، فأنها قرب المؤسسات بعد البرلمان، إلى الشعب، وتأثير الشعب فيها أكبر بالتأكيد من تأثيره في ا لشركات الإعلامية الخاصة. فالشركات الخاصة مؤسسات دكتاتورية في طبيعتها، أو بتعبير أكثر علمية هي "فاشستية" ، كما يبين نعوم جومسكي، بمعنى أن الأوامر تسير فيها من الأعلى إلى الأسفل فقط، دون ضغط معاكس من الأسفل إلى الأعلى.
على المالكي أن يحل هذه المشكلة دون اللجوء إلى الحيل الإعلامية الرخيصة أو تقريب الإعلاميين المتملقين وهي نقطتان لم يستنكف المالكي من اللجوء إليهما في حكومته الماضية، ولسنا متفائلين بأنه سيفعل في حكومته القادمة.

مقابل كل تلك الصعوبات الكبيرة، هناك بضعة نقاط إيجابية هامة يمكن أن تساعد حكومة المالكي إن هي أحسنت استغلالها. وأول تلك النقاط أن المالكي خرج من المعركة أكثر شعبية وقوة مما دخلها، خاصة بعد افتضاح التآمر عليه والأساليب التي اتبعها خصومه في معركتهم. هذه النقطة، إضافة إلى افتضاح التزوير الأمريكي ورشوة المفوضية العامة للإنتخابات، تضع في يد المالكي ورقة قوية رابحة هي إمكانية إقالة الحكومة وإعادة الإنتخابات للحصول على عدد أكبر من المقاعد يتيح له حرية عمل أكبر.
أي أن سلاح إسقاط الحكومة أنتقل إلى يد المالكي من يد خصومه، خاصة إن أحسن التصرف في السنة الأولى من حكمه.

في كل الأحوال فأن المالكي سوف يحتاج إلى دعم جماهيري متميز.
التظاهرات المؤيدة عند الحاجة والإعلام الذي يركز على الإنجازات، يمثل دعم مهم جداً، لكنه النوع الخطر من الدعم الذي يسمى "الدعم الأعمى" أو السلبي، الذي لا يفكر. يصدق ولا يمحص، يوافق ولايقيس بنفسه، يهتف ولا يعترض، ينفذ ولا يسأل، بل يقوم أحياناً بإسكات المعترضين والسائلين بنفسه. إنه دعم يحول الرئيس الذي يتم دعمه من رجل جيد وقائد جيد إلى محتال ثم إلى صنم.
الديمقراطية والصراع الديمقراطي لا يخدمها مثل هؤلاء الداعمين، بل الداعمين الناقدين المطالبين بتنفيذ الوعود والمصرين على أن تشرح الحكومة لهم سياستها والمطالبين بأجوبة محددة على أسئلتهم. داعمين لهم من الجرأة أن يفكروا بتغيير رئيسهم إن هو تحول عن أهدافهم، ولا يرون فيه أملهم الأخير، وأن إزاحته ستمثل لهم كارثة لا يتحملونها. داعمين لا يرون في أحد "قائداً ضرورة".

لماذا يحتاج القائد إلى الدعم الناقد الذي يمارس ضغطاً؟ القائد شخص يتعرض إلى ضغوط هائلة خاصة في حالة مثل العراق، ويجب أن يقرر كيف يحل تلك الضغوط وعلى حساب أي طرف من الأطراف. وإذا بسطنا الأمور، فسنرى أن الضاغطين هم الأطراف الدولية والشركات والشعب. فإذا تخلى الشعب عن دوره، وجد القائد أن من الصعب عليه أن يصد كل ذلك الضغط بنفسه، حتى لو أراد. إنه بحاجة إلى ضغط شعبي مقابل يدافع عن مصالح ذلك الشعب لكي يساعد القائد على مقاومة الإنزلاق والتضحية بمصالح الشعب.
على الناس أن لا يفترضوا في قائدهم عملاق جبار يقاوم الضغط لوحده، ويأتيهم في النهاية بدولارات النفط ليتمتعوا بها، ويصرف أموال البلاد على البلاد والشعب دون غيرها، بل عليهم أن يذكروا أنفسهم بأنه ليس سوى إنسان، يجب دعمه عندما يكون محقاً ومحاسبته عندما لا يكون، ومسامحته عندما يخطئ أو يضعف، وعدم تصديقه عندما يقول ما يبدو خداعاً.

الدعم الأعمى هو كل دعم ناتج عن الإعلام الدكتاتوري، ولدينا تجربة غنية في ذلك. الإعلام الذي يركز على الصور أو الشعر والأغاني، المخصصة للقائد ، لذا يتوجب الإبتعاد عنه قدر الإمكان رغم الحاجة اليه أحياناً لحشد الشعب لتجاوز الأزمات. يجب أن يحب الشعب قائده لما يقوم به من أعمال وما يتخذه من قرارات وليس لأن صورته تملأ الشوارع وأغانيه تملأ الفضائيات.

لذا فأن وفرة الأصوات الناقدة نعمة، وإسكاتها خطأ وخطر يجب تجنبه حتى حين يصدر النقد من الأصوات التي يعتقد أنها مغرضة. إن رد النقد، إن كان ذلك النقد خاطئاً، يعتبر الفرصة الذهبية الإضافية للحكومة لشرح وجهة نظرها والدفاع عنها، وكسب التأييد لها، وهي فرصة يجب أن يرحب بها دائماً، ولا يجب أن يخشى منها إلا من يرى موقفه خطأ لا يمكن الدفاع عنه.
وللدفاع المنطقي وقبول النقد فضيلة قدرته على اكتساب احترام الخصوم وتأييد المحايدين و المشككين، وتقليل التوتر والإحساس بالظلم واليأس من العدل والقانون والديمقراطية، وهي أحاسيس أصابها خلال الفترة الماضية الكثير من الضرر، وهي بحاجة إلى إصلاح سريع من أجل أن يحس المواطن بأنه في مأمن وليس بحاجة إلى الإحتماء بطائفته، بل يمكنه الثقة بالقانون والعدل.

أما بالنسبة للقائد نفسه فيجب أن يكون واضحاً لديه أنه سيجد كل الدعم الذي يحتاجه إن هاجمه الظلم، لكنه  ليس محمياً أمام الحق. ولذا فهو بحاجة إلى داعمين يفكرون معه ويساعدوه على اكتشاف الطريق وليس توابع مغمضة الأعين. هو بحاجة إلى داعمين يتحملون المسؤولية معه عن الطريق التي يختاروها معاً، وليس جمع من الكسالى التي تنتظر منه أن يكتشف لها كل شيء ويختار لها كل شيء. فهل سيكون المالكي من الذكاء ليبحث عن مثل هؤلاء الداعمين وهل سيكون سعيد الحظ بالحصول عليهم؟


151
رسالة إلى آدم الذي فاتنا أن نعلمه الخوف

صائب خليل
24 نوفمبر 2010

ها انت أيضاً يا آدم الجميل...تحولت إلى شبح يطوف العراق.
ستحوم حول بيتك كل مساء، وتسمع ماما وهي تبكي، وتدور عند الشوارع التي طالما مشيتها مع بابا وعمة . لكنك لن تكون وحيداً، فمساء العراق يمتلئ بأشباح الأطفال، مثلك يا آدم.
الثعبان الذي ابتلعك وأنت تصرخ بوجهه: "كافي! كافي! ".. لكنه لا يكتفي، فقد إبتلع الكثير من الأطفال قبلك، وسيبتلع الكثير منهم بعدك.
قبلك ابتلع الوحش أطفال النعيرية، ولم نسأل، وقبلها وبعدها ابتلع آخرين في كل مكان .... ولم نسأل! ربما كنا مثلك نأمل أن الثعبان سيكتفي يوماً، وفضلنا الإنتظار على مواجهة الوحش بالسؤال، لعله يشبع. لكن الوحوش لا تكتفي ولا تشبع يا آدم! الوحوش يفضلون الشعوب التي تفضل الإنتظار إلى الأبد، على إزعاجها بسؤال.
ونحن أجبن من سؤال يا آدم. ها أنت تدفع ثمن انتمائك إلى سلالة مرتجفة، نما الرعب في أحشائها كالسرطان، حتى أن قرداً يكفي لجعلها تلوذ بالصمت، وتعود لإكمال طعامها ومشاهدة التلفزيون. نعتذر لك ولكل الأطفال الأشباح الذين معك. أبلغهم أننا خجلون منكم... فنحن، ربما دون جميع الحيوانات، لا ندافع عن أطفالنا أمام الوحوش.. إننا ننحني خجلاً، فنحن لا نقوى على النظر في عيونكم الصافية.

الوحش الذي أكلكم، يتبختر أمامنا.. نراه يأتي ويذهب..لكننا لا نرفع صوتنا، حتى يكون قد مضى...إننا نعرفه جيداً، لكننا نخشى أن نقول..بل نخشى حتى أن يعرف بأننا نعرفه!

لقد كنت شجاعاً يا آدم.. أتعلم لماذا يا حبيبي؟ لأنك لم تعش بيننا ما يكفينا لنعلمك الجبن.. لو بقيت بضعة سنوات أخرى، لعلمناك كيف تغلق فمك وعينيك. لو أنك بقيت قليلاً معنا، لما هتفت بوجه الموت: "كافي!".. لكنّا علمناك أن الصراخ والعويل والشجب والإحتجاج، ممكنة بوجه الأشباح فقط! مسموح لنا أن نلعن ونشتم "قوى الظلام" دون غيرها..فـ "قوى الظلام" وحدها، لا تنزعج من الصراخ بوجهها، ووحدها من يصيبها الحبور حين تشجبها.
لو بقيت معنا، لرأيت ذلك بنفسك، لكن، وقد ذهبت بسرعة هكذا، فليس لي إلا أن احدثك عما كنت ستراه. إن وجدت حديثي حزيناً، فلأنني حزين لأجلكم، لعالمنا كله. وإن حدثتك مرة كطفل صغير وأخرى كرجل كبير، فما حيلتي وقد اختصرت أنت العمر في ثلاث سنين؟

مسموح لنا يا آدم أيضاً أن نغني لشجاعتك، على أن نتعهد أن لا نفكر أن نمارسها! مسموح لنا، بل ومطلوب منا أن نلعن من ابتلعكم جميعاً، .. لكن ليس مسموحاً أن نحاول أن نقتفي آثاره أو نفكر أن نزيح قناعه..مسموح أيضاً بالزعيق والتهديد بالويل والثبور في كل مرة يقيم فيها الوحش وليمة دموية، ولكن فقط بعد أن يمضي بعيداً، خشية أن يفهم أنه هو المقصود، فتسوء العاقبة.

لقد تحولت إلى ملاك يطوف سماء العراق، سماء بلادك الأزلية التي لن تهاجرها أبداً، لكنك أيضاً، معذرة يا طفلي العزيز، صرت سلعة متاجرة أخرى في عالمنا! نحن لا نتغنى بشجاعتك لكي نتعلم منها كيف تقف الحياة بوجه الموت، لن نلصق صورتك في الأماكن العامة لتذكرنا بما يكلف الجبن من جواهر ولآلئ، لن نكتب فيك الشعر لتكون قدوة للأجيال القادمة منا، أن نرسمك نجمةً لنعلم الصغار أن يتطلعوا إلى الأعلى، ولن ننحتك تمثالاً لنقف أمامه خاشعين، أو نعلنك شهيداً، أو نعمّدك قديساً لتلهمنا الإيمان بقيمة الحياة والموت بكرامة. إننا نفعل ذلك فقط، ومعذرة لما سأقول يا ولدي، لنرفع قيمتك كسلعة متاجرة، فلسنا في النهاية سوى تجار، وليس لنا سوى أخلاق التجار ولا نعبد سوى آلهة التجار.
صرت يا آدم سلعة عظيمة، يمكن لمن شاء أن يبيعها لمن يشاء، ومطية يمتطيها من يريد أن يصل إلى ما يريد. تاجر سيهتف باسمك ويطالب بهجرة أهلك من وطنهم، وآخر سيذكرهم بك ليطالب بإقليم مستقل أو ربما "دولار عن كل برميل نفط" لـ "أهالي الضحايا"، وآخر سيرفع صورك في الأمم المتحدة مطالبا بحماية دولية وآخر سيصر على أن يسمى قتلك "جينوسايد"...

وقتلك هو "جينوسايد" يا آدم، ليس لأنك مسيحي، بل لأنك طفل إنسان، مستقبل إنسان، والوحش يريد الإنسان عبداً، لذا توجب قتل أطفاله أمامه ليبدأ رحلة العبودية الطويلة متحزماً بالخوف والصمت والنسيان... نسيان السؤال! عرفنا جينوسايدات كثيرة يا آدم، لكني لا أعرف واحداً منها لم يتحول إلى وسيلة ابتزاز واضطهاد لشعب ضعيف. هل سمعت يوماً بشعب قوي، حكم عليه بارتكاب جينوسايد يا آدم؟
قتلك كان "جينوسايد" يا آدم، ليس من المسلمين على المسيحيين، ولتسأل أباك الشهيد يخبرك عن الحب الذي بيننا. إسمع، سأريك رسالة وصلتني من صديقي "فارس أمانه" قبل أيام فقط.. كان يتذكر صورنا أيام الدراسة، فيقول:

"صور قديمة
قديمة جدا
عثرت عليها في أعماق وجداني
كلما أمعنت النظر
أحسست بشعاع ضوء خفي ينفذ الى روحي
من هو الشيعي في هذه الصور؟
من هو السني؟
من هو المسيحي أو اليزيدي ؟
من هو الكردي أو العربي أو التركماني أو السرياني ؟
هذه الصور وعشرات أخرى غيرها تنير لي ما تبقى من عمري"

هكذا كنا وهكذا سنبقى يا آدم، لم نكن نعرف حتى دين أو طائفة أو قومية أصدقائنا، ولم يكن يهمنا، فلا تصدق خرافات تتحدث عن الكراهية بيننا.
كذلك لا تصدق الحكومات التي تنادي اليوم بإنقاذ المسيحيين من المسلمين، فهم لا يهمهم المسيحيون العراقيون قيد شعرة، إلا كـ "سلع" مناسبة لما يريدون. الإسرائيليون يقتلون الأطفال المسيحيين الفلسطينيين في بيت جالة منذ ستين عاماً، ولم يقل الأوروبيون والأمريكان كلمة واحدة دفاعاً عنهم، لأنهم لم يكونوا السلع المناسبة للبيع.
الجينوسايد الذي يحدث ليس من دين على دين أو من طائفة على طائفه، لكنه من وحوش الأرض الكبار على مستقبل الإنسان، وكان من سوء حظك أنك كنت "مستقبل الإنسان". ولأنكم أنتم الأطفال مستقبل الإنسان، فأنتم الأكثر فقراً والأكثر بؤساً وشقاءاً. حتى في قمة العالم، يزداد الأطفال توتراً وعدوانية مع الوقت، ويزداد تعليمهم صعوبة وكلفة، أما في بلاد الفقر، فيعملون الليل والنهار ليأكلوا، ويشردون في الشوارع، بل وتقطّع أجسادهم لتستخدم كأدوات احتياطية للوحوش!

لو أنك عشت عمرك لرأيت ما يراد لجيلكم من خراب: أرض تتصحر وغابات تقطع ومناخ يسخن وحيوانات تفنى وجوع يتزايد وفقر يرتفع وبيئة تتلوث وفضاء يثقب وبحار تستبدل أسماكها ومرجانها بمساحات شاسعة من قناني البلاستك الطافية وبقع من النفط يمكن رؤيتها من القمر، ودول ثرية تعلن إفلاسها وأخرى فقيرة تعود إلى القرصنة وخرافات تستشري ونساء تترمل وأطفال تتيتم وأسلحة تتزايد فتكاً وإعلام يزداد كذباً وكتب تزداد سخفاً وفقراء يموتون جوعاً أو ينتحرون يأساً، وأثرياء يزدادون سلطة ووحشية.. ونحن، نحن أهلك الكبار، لا نفعل شيئاً من أجل عالمكم يا آدم، وبدلاً من توفير الطعام للجائعين، صرنا نحول قسماً منه وقوداً للسيارات، ونتسابق في شفط نفط الأرض خشية أن يبقى منه شيء لكم!

على مواقع الإنترنت يتجول عندنا متخصصون بالقضاء على اي أمل. لهم من الصبر واللطف ما يجعلك تبدو قبيحاً إن اعترضت عليهم، ومن شبكة العلاقات ما يحصنهم من أي هجوم. مهمتهم أحباط من لم يحبط بعد، وتثبيت صورة اليأس وضرورة قبول الواقع، وأن وجود الوحوش بيننا ضرورة لنا، لأننا سنأكل بعضنا البعض بدونها. حيثما وجدت أحدهم تراه يتغنى باليأس ويكتب فيه الشعر، ويحفظ عن ظهر قلب كل هزيمة لحقت بمن حلم بالأفضل ومن حاول الوصول إليه في التاريخ. يخبرك أنه كان مثلك في الماضي، لكنه "صحى" من حمقه، وعرف أن العالم الأفضل ليس سوى خرافة وأن الكرامة وهم قديم وخير الناس من "تاب" عن طموحه وتقبل "الواقع". وإن انتقد أمراً، أنتقد بشكل عام شامل، يغلق أمامك كل الطرق.

فعندنا لك أن تلعن أيضاً كل ما هو عام. يمكنك أن تسب جميع البرلمانيين، وتشتم جميع السياسيين، وتتهم جميع المثقفين بالتقصير والجهل، وأن تصرخ بأننا جميعاً متخلفون دون أن يحتج أحد. فمن ناحية أولى لا يخدم هذا إلا بتثبيت اليأس، ومن ناحية ثانية فكل ما هو عام، هو شبح أيضاً، ولك أن تسبه كما تشاء!
أما السؤال المحدد المميز بين الصحيح والخطأ، الموجه إلى شخص محدد عن موضوع محدد، المدعوم بالدلائل المحددة والمطالب بجواب محدد، فهو من الكبائر في بلادنا. لو تجرأ أحد بسؤال محدد يطلب جواباً محدداً، فسيتوقف الناس عن الكلام وتنظر الأعين بذهول وتفغر الأفواه ! من هذا الوقح الذي يجرؤ على تعكير صفو مسائنا بسؤال محدد؟ من الذي "يشخصن" اتهامه؟ الكلام يجب أن يبقى بلا أشخاص محددين لكي لا يزعج أحداً! نحن جميعاً طيبين ولطفاء! ومن اين يأتي الأذى إذن؟ يأتي من "قوى الظلام"، ومن يشير إلى غير "قوى الظلام" يكون مدافعاً عن "قوى الظلام"! لو عشت عمرك يا آدم لرأيت كل هذا، لكنك ذهبت مبكراً..
إن تسألني ما الذي نفعله لإنقاذ عالمنا؟ أقول لك إننا مشغولون بالعمل ليل نهار لإنقاذ البنوك من الإفلاس، وبين الحين والآخر، نفتح فمنا، لنلعن "قوى الظلام" و "الإرهاب" و "الأرواح الشريرة"!

لو بقيت معنا وفكرت بسؤال خارج الطقوس، فستهرع الجموع اليك، البعض يصرخ فيك والبعض يحاول أن يرضيك وغيرهم يفحص حرارة رأسك، بل أن بعضهم سيبحث في تأريخك لعله يجد تفسيراً لهذا الخلل الجيني، وغيره سيعيد فحص مناهج تربية القطيع! بعض "الخيرين" سيهرع لتهدئة الجميع و "إصلاح ذات البين" ويقول للآخرين أنك ولد طيب، لكنك "غير دقيق" مشيراً إلى رأسه وغامزاً "إنه مجنون" فلا تؤاخذوه. ماذا ستفعل؟ إن تكلمت قالوا كلامك دليل جنونك، وإن سكتَّ وجدوا في سكوتك دليل هزيمتك. إن غضبت برهنت الخلل فيك، وأن تأدبت كان ذلك دليل على ضعف موقفك وتراجعك عن غيك! بعضهم سيلعنك وبعضهم سيعطف عليك، لكن لا تسئ الظن، فلا أحد يكرهك حقاً. المهم أن تنسى سؤالك، وتشارك القطيع في اللغو العام ومهرجان لعن "قوى الظلام" وسيتحول الجميع إلى أصدقاء يمتدحون اعتدالك وتوازن مقولتك وحكمة تحليلك العميق!

ستغضب وستسأل لماذا يعامل سؤالك بهذا الشكل، وقد تشعر بالإحباط، لكنك ستشعر أيضاً بالسعادة تغمرك، حين تدرك أن وصول الخفافيش إليك، يعني أن سؤالك اقترب من غار الثعبان وأن هذا الأخير يرتجف خوفاً!

لقد بدأت رسالتي لك بما هو محزن، لأترك ما يسعدك في نهايتها، فلا تذهب من عندي مهموماً. أقول لك، لقد وجد سؤالك مكان له في قلوب الناس..بين امرأة تدافع ببسالة وترفض الحجج وتطالب بالجواب، وبين رجل يحميه بلطف وأدب، ويرفض زخات الكذب والترهيب والتهديد المبطنة والمكشوفة. وقفنا جميعاً فريقاً واحداً نطالب بسؤالك الذي هو سؤالنا، وبحقك وحقنا في الجواب.  وكان الكذب حيثما هرب، يجد من يكرر له السؤال الذي يرن جرساً لا يهدأ في أذنه. لذلك أقول لك أنهم لم يستطيعوا خنق السؤال هذه المرة، وأن شمس الحقيقة صارت تزعج الثعبان. الوضع صعب وشائك، ولكن، وكما يقول شاعر هولندي جميل، نقول ...
" لابد ان يكون هناك...من يوقد الشموس "
عندما يصرخ الآخرون: “ان لاجدوى..انها النهاية”
لابد ان يبقى هناك…من يصر أن “العالم لن يسقط”
ينادي من على السطوح “ان هناك الحب والفرح”!
ويرى في كل نهايةٍ, .... بدايةً جديدة..


152
متى يكون الذبح مختلفاً عن القتل بالرصاص؟

صائب خليل
17 تشرين الثاني 2010


كتب فراس الغضبان رداً على مقالة لي (1) كنت قد رجوته ثم طالبته فيها بإخبار القراء بمصادر قصة ملفقة وحشية كان قد نشرها حول مجزرة كنيسة سيدة النجاة، لكن رد الغضبان لم يتضمن الجواب عن سؤالي، بل متخذاً موقف الهجوم.

باختصار القضية هي أن فراس الغضبان الحمداني كتب حادثة ملفقة من الفها إلى يائها، خلال ساعات فقط من نهاية المجزرة، حول تفاصيل ما جرى في الكنيسة ووصف عمليات ذبح وفصل رؤوس لأشخاص معينين بالإسم، تبين فيما بعد أنهم قتلوا بالرصاص من خلال الشهود الذين تحدثوا في الإعلام وآخرين تحدثوا لأهلهم ولم يعترض أي شخص من الناجين على تلك الروايات على حد معرفتي. ولأنني أردت الكتابة بالموضوع ولأنني أبحث عن مصادر دائماً لما أكتب، رجوته إعلامي بمصدر قصته، فتجاهل طلبي المتكرر مما أثار الشك لدي بأن القصة مختلقة من أساسها وأنها ربما تم تسريبها من مصدر ذو علاقة بالإرهاب نفسه.

لم يجب الغضبان على السؤال البسيط، لكنه رد بمقالة عنيفة (2). معظم ما جاء في رد الغضبان لا علاقة له بموضوع النقاش، وما كان ذو علاقة، كان في معظمه مغالطات سهلة الدحض، مثل قول الغضبان ما يفهم منه أنه حصل على معلوماته بشكل مستعجل و "من شهود عيان كانوا في حالة شبه إغماء وفقدان للأعصاب والوعي". وعن هذا أقول إن كان هذا صحيحاً فكان عليه أن يشكك بأقوالهم ويتفحصها مع الوقائع ويسأل السلطات مثلاً، او الناجين الأكثر تماسكاً. وهو يعود بعد ذلك ليؤكد أن "اغلب الرهائن الذين كانوا داخل الكنيسة تحدثوا عن حالات الذبح.. الخ" ولو كان هذا صحيحاً لأشار الغضبان إلى واحد من هؤلاء. ويبرر عدم نشر أقوال هؤلاء من قبل الكنيسة "حتى لا تكون سببا كبيرا في رعب المسيحيين العراقيين وهو سببا مقنعا "(كما كتبها) وفي هذه الحالة نستغرب أن يؤكد قناعته بأن مثل تلك الأقوال سوف "تتسبب في رعب كبير للمسيحيين العراقيين" لكنه لا يتردد فينشرها قبل أن يقوم بأية محاولة للتأكد منها!

كتب الغضبان فيما كتبه: "لا فرق عندي إن يكون الذبح بالسيوف والخناجر أو باستخدام الرشاشات المتوسطة المهم إن الرصاص أو السيوف قامت بحصد رؤوس المسيحيين وقتلتهم بعد ترويعهم".

هل كلام الغضبان صحيح؟ وهل أنه لا فرق بين الأثنين؟ قبل أن نجيب عن هذا التساؤل، علينا أن نسأل: من وجهة نظر من؟ فإن كان من وجهة نظر ضحايا الجريمة الإرهابية أنفسهم فأنا مع الغضبان تماماً، في أن الفرق ليس كبيراً، فالموت واحد، رغم أن ذلك لا يبرر استبدال الرصاصات بالخناجر في نقل القصة.

وإن كان السؤال مطروحاً من وجهة نظر ذوي الضحايا، فهناك فرق! هناك فرق واضح في الألم أن تعلم أن أباك قد قتل فوراً برصاصة في رأسه ، على وحشيتها الشديدة، من أن يكون قد ذبح ذبحاً. والفرق نفسه بالنسبة لمن يسمع الخبر من خارج تلك الدائرة. ويعلم الصحفي قبل غيره، أن نشر صور لأناس ذبحوا وفصلت رؤوسهم يستدعي تنبيه الناس قبل أن يفتحوا الملف وينظروا إلى الصور، لما تثيره تلك المشاهد من الم شديد قد يبعث على التقيؤ. ليس الأمر نفسه بالنسبة لصور قتلى بالرصاص.

لقد لفت نظري قبل عدة سنوات، وفي مناقشة على الإنترنت، أن نصوص القرآن المترجمة الى الإنكليزية التي استخدمها محدثي، كانت تستعمل كلمة (slay) لترجمة كل كلمة "قتل" ترد في القرآن بدلاً من (Kill) الأكثر صحة، وحين نبهته إلى ذلك قال أن الفرق ليس مهماً. كلامه صحيح من ناحية النتيجة العملية، لكن الفرق مهم في تخيل الصورة، مهم "سينمائياً".     

الكود السينمائية أيضاً لا تسمح بمشاهدة مشاهد العنف ذات الدم والذبح، للأطفال دون سن معينه، لكن القتل بالرصاص يختلف تماماً من هذه الناحية رغم أنه لا يختلف في جريمته ونتائجها، وأركز على عدم التقليل من تلك الجريمة بأي شكل، وأن الحديث هنا فقط عن الطريقة التي يستلم بها المشاهد تلك الجريمة وكيفية تأثيرها النفسي عليه.
في سينما الرعب هناك مقولة معروفة تقول: اللحم والدم يبيع التذاكر، وكلما كان اللحم والدم أكثر كلما بيعت تذاكر أكثر. (3)
فهي حقيقة علمية إذن أن الدم الذي يسيل من الرقبة المقطوعة يثير الرعب أكثر إذن، وكلما ازدادت مشاهد الدم، ازداد الرعب.

وبالنسبة للإرهاب، ولهذا السبب بالذات، فالفرق مهم أيضاً، بل هو مركزي وأساسي. فالإرهاب يعتمد تماماً على مرحلة ما بعد ارتكاب الجريمة. مرحلة نشر الرعب والخوف الذي رافق الجريمة. ما يقرر نجاح الإرهاب من فشله ليس عدد الضحايا، بل هول الجريمة كما يستقبلها الإنسان وعدد من ينقل ذلك الهول. ولا يتورع الإرهابيون انفسهم عن المبالغة بوحشية جريمتهم والحرص على نشر أخبار الجريمة ومبالغاتهم بها، كما حدث مثلاً في مجزرة دير ياسين الفلسطينية. فالإسرائيليون لم يكونوا مهتمين بالقتل بل بنتائجه على سكان بقية القرى بعد العملية، ولنأخذ رسالة إينشتاين عن الموضوع لمجلة نيويورك تايمز 1948 :
"ان ما حدث في قرية دير ياسين العربية مثال على سلوكهم المثير للاشمئزاز. تقع هذه القرية على أحدى الطرق الرئيسية، ومحاطة بأراض يهودية، ولم يكن لها أي دور خلال الحرب، لا بل انها رفضت المحاولات التي قامت بها المجموعات العربية المسلحة لاستخدامها كقاعدة لها. في التاسع من نيسان ( حسب نيويورك تايمس ) قامت العصابات الإرهابية بمهاجمة هذه القرية المسالمة، والتي لم تكن تشكل أي هدف عسكري في القتال، وقتلت الغالبية من السكان، رجال ونساء وأطفال، بلغ عددهم 240 شخص. وقد أبقوا على بعض الأحياء ليتم استعراضهم فيما بعد في شوارع القدس. لقد روع معظم المجتمع اليهودي لهذا العمل، وبعثت الوكالة اليهودية ببرقية اعتذار الى الملك عبد الله، ولي العهد الأردني. لكن الإرهابيون كانوا أبعد من ان يشعروا بالخجل من فعلتهم، بل على العكس انهم يتفاخرون بمجزرتهم، إذ سعوا الى نشر الخبر على نطاق واسع، وقاموا بتنظيم رحلة للمراسلين الأجانب الى دير ياسين ليقفوا بأنفسهم على حجم الدمار."

ويروي الفلسطينيون الذين عايشوا المجزرة أن الإسرائيليين لم يسعوا إلى إخفاء الجريمة أو التقليل منها بل على العكس، أضافوا قصصاً لتزيد من الرعب الناتج عنها، فالرعب هو الناتج النهائي الذي كانت تبغيه العملية كلها وليس القتل. وبالفعل، نجحت الخطة، فسارت الجيوش الإسرائيلية في مناطق القرى العربية بعد ذلك "كما تسير السكين في الزبدة" حسب وصف أحد الإرهابيين. إن مشاهد العنف الأكبر هي التي صنعت الفرق وليس القتل نفسه.
وكذلك فعل الإرهابيون في كنيسة سيدة النجاة، والذين لم يكونوا يريدون القتل لذاته، بل حرصوا على ترك عدد كافِ من الشهود، كما أوضحت في مقالتي السابقة (4) . فكلما كان الشهود أكثر، وكلما كانوا مرعوبين أكثر، كان نشر الإرهاب أسرع وأقوى.

ولبشاعة الجريمة فضل إضافي آخر للإرهاب، فالبشاعة تشل العقل عن التفكير، وتجعله مشغولاً بالإشمئزاز لا يستطيع الوقوف طويلاً عند مشاهد الجريمة ليحللها. لا مكان للأسئلة والتحليل، ومن يطرح الأسئلة سيمكن اتهامه بأنه لم يتأثر بالجريمة بشكل كاف، أو حتى أنه يبحث عن طريقة للدفاع عن الإرهابيين، ويمكن دائماً أن ننهره على "قلة إحساسه" وندعوه إلى "إدانة الجريمة" بدلاً من التفكير في التفاصيل والإنشغال بالتحليل. لذلك فكلما سالت دماء أكثر، أو كلما فهم الناس ذلك من الإعلام، انخفض التفكير وانخفض معه احتمال اكتشاف الحقائق حول تلك الجريمة. التفكير والتمحيص يتطلب التركيز والنظر بهدوء، بينما يحرص الإرهاب الدموي على أن تدفع الناس أبصارها وأفكارها بسرعة، بعيداً عن مشهد الجريمة وحتى تخيلها أو التفكير فيها.

وفي قضية مجزرة الكنيسة كان هناك سبب آخر هام ليكون هناك فرق بين القتل بالرصاص من جهة وذبح الرقاب وفصل الرؤوس من الجهة الأخرى. فقد تم تثبيت صورة الإرهابيين الإسلاميين من خلال افلام يتم عرضها بشكل مستمر في مختلف وسائل الإعلام بشكل محدد، يقوم فيها هؤلاء الإرهابيين بذبح ضحاياهم ذبحاً. وقد كان إرهابيي كنيسة سيدة النجاة واضحي الحرص على تثيبت هوية التطرف الإسلامي على أنفسهم، رغم أنهم قاموا ببعض الأخطاء في ذلك، ، كما ورد في مقالتي. وصورة القتل بالخناجر وفصل الرؤوس كانت الجزء المكمل الضروري لذلك الإرهاب الإسلامي، ومن المحتمل جداً أنه كان في خطتهم القيام بعمليات الذبح فعلاً، لكنهم فشلوا في تنفيذها لسبب ما. فتلك الصورة تذكر فوراً بالإرهاب الإسلامي حتى بدون تعليق، بينما لا تثير صورة القتل برصاصة في الرأس سوى صورة إرهاب المافيا الغربية! ومن هنا فأن الصورتين، الحقيقية من جهة، وصورة الذبح للغضبان، من الجهة الأخرى، تحملان رسالتين مختلفتين بشكل هام بالنسبة إلى المتلقي. يبدو أن من كان وراء تسريب القصة الملفقة وإيصالها إلى الغضبان، يدرك الفرق، وأنه أراد إرسال الرسالة الثانية بالتحديد، محملة بأشد الصور دموية وبشاعةً، ومطابقة للصورة الإعلامية عن الإرهاب الإسلامي، لتحقق تأثيراتها المرجوة.

هذا هو الفرق أيها الغضبان، ومن أجل ذلك الفرق أردنا أن تكشف لنا مصدر قصتك الملفقة لعلها توصلنا إلى شيء. والكرة في ملعبك!


(1) يا فراس الغضبان الحمداني: نريد أن نعرف من اين لك القصة الملفقة عن قطع الرؤوس؟
http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20899

(2)  صائب خليل يدافع عن جرائم الإرهابيين في كنيسة النجاة
http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20988
 و  http://www.qanon302.net/news.php?action=view&id=3225

(3) Flesh and blood sells; more flesh and blood sells better
 http://www.imdb.com/title/tt0199528/usercomments

(4) مجزرة "سيدة النجاة": نقاط مريبة http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20785


153
يا فراس الغضبان الحمداني، نريد أن نعرف من اين لك القصة الملفقة عن قطع الرؤوس؟

صائب خليل
13 تشرين الثاني 2010

ما أهمية قتل 50 شخصاً من الناحية العددية لا أهمية لذلك إطلاقاً، أما من الناحية الإنسانية فهي جريمة كبرى، وأما من ناحية الإرهاب فهي إنجاز ضخم إن تم توجيه تداعياته وردود أفعاله بشكل مدروس ليحطم العلاقة بين طائفتين في شعب واحد. وإذن، فالعمل الإرهابي بطبيعته لا يكتمل إبداً إلا بما يلي العمل الإرهابي من نشر للرعب الذي أحدثه وتكبيره وقيادة تداعياته والعواطف الحادة التي ينتجها بشكل يؤدي إلى هدف العمل الإرهابي. أن مرحلة "ما بعد الجريمة" تلعب في حجم وتأثير العمل الإرهابي، الدور الأساسي، وليس الجريمة نفسها. وكثيراً ما يعمد الإرهابي، على عكس المعتاد في الجرائم العادية، حتى إلى نشر فظاعاته بنفسه وربما تكبيرها. ويعرف الناس أن الإسرائيليين هم من نشر فظائع مجزرة دير ياسين في القرى الفلسطينية، ويقال أنهم أضافوا إليها ما لم يكن فيها من تفاصيل، فهجر الفلسطينيون قراهم خوفا من مذبحة مماثلة، فسار الإحتلال بعدها "كما تسير السكين في الزبدة"، حسب وصف أحد قادة الجريمة.

لقد بينت في مقالتي السابقة (*) أن مجزرة كنيسة سيدة النجاة الدموية عمل القصد منه إرهابي بحت وليس انتقاماً أو من أجل إطلاق سراح أشخاص في الخارج أو حتى بسبب أحقاد دينية، والآن تتأكد الأهداف الإرهابية من العملية التي أثارت الكثير من الشكوك والأسئلة. لقد كان واضحاً بأن القتلة أرادوا من مسرحيتهم الدموية "مسرحاً إرهابياً" قدر الإمكان وليس "مسرحاً دموياً" قدر الإمكان. فقد حرصوا على مصاحبة القتل بالمؤثرات الصوتية والكلامية التي تزيد الرعب وتوجه العواطف لتسهيل العمل لما بعد الجريمة فعمدوا إلى إدامة مسرحية إرهابية لخمسة ساعات، وكانوا قادرين على إنهاء ضحاياهم بدقائق إن لم يكن دقيقة واحدة، وكانوا مسيطرين تماماً على مسرح الجريمة ولم يكونوا تحت هجوم من قوات الأمن. فالقوا القنابل الصوتية الكثيرة (كما يبدو) في غرفة صغيرة (فلم تقتل تلك القنابل اليدوية إلا بعضاً ممن كان في تلك الغرفة)، كما جاء في شهادة من نجا من المجزرة.

وهناك نقطة أخرى لم أشر إليها في مقالتي السابقة، حيث يبدو من شهادة السيدة "شهد" أن المجرمين تعمدوا قتل جميع الشباب الذكور، دون أن يمتنعوا عن قتل بعض النساء. ولو أنهم امتنعوا عن قتل أية إمرأة لأمكن تفسير الأمر باحتمال أنه يعود إلى وازع ديني، لكنهم قتلوا بعض النساء، ما ينفي هذا التفسير، فهل أراد الخاطفون أن ينقل إرهابهم إلى العالم على لسان النساء ليكون تأثيره أكبر، حيث لا تتحرج المرأة من التعبير عن رعبها بكل قوته؟ هل كان هناك انتقاء للنساء لقتل من أبدت صلابة أكثر من غيرها أمامهم؟ أترك هذا كاحتمال فقط.

كل هذا يبدو تحضيراً مدروساً للمرحلة الأكثر أهمية، مرحلة ما بعد العمل الإرهابي.

وبالفعل فقد انطلقت اصوات مشبوهة مثل شخص يسمي نفسه "سامر زيبر"، وتحت حجة التأثر بالمجزرة، بهجوم مباشر على الإسلام والمسلمين بلا تمييز، وبوحشيته لفظية غير المسبوقة بين أبناء الديانتين في العراق، وبأسلوب يذكر بطريقة الجمعية القبطية الأمريكية التي يديرها الموساد وتتميز بالدونية المتناهية للعبارات والتي تسعى إلى استفزاز المقابل للرد.
ليست تلك المقالة البائسة جديدة تماماً في المناوشات العنيفة بين الأديان، لكن المقلق أن تكتسب هذه وأمثالها مصداقية أخرى بعد الجريمة.  ولا أستبعد أن فكرة المذبحة نفسها جاءت لشعور المخططين بأن إثارة الطرفين في العراق ضد بعضهما ليست سهلة لما لهم من تاريخ تعايش متلاصق، بدون تهيئة النفوس لقبول مثل تلك الكتابات.

لكن إن كان لسامر وأمثاله أن يتحجج بالألم، ويختبئ بين المتأثرين بهول الجريمة بالفعل، فبعض الأعمال الأخرى لا تستطيع أن تختبئ خلف شيء، فيسهل كشفها لحسن الحظ. فقد انتشرت في وسائل الإعلام قصة مختلقة تماماً، تكمل رتوش الصورةالإرهابية لتشوه الحقائق وتضيف أحداثاً لم تحدث. كتب  فراس الغضبان الحمداني:
"لقد جرت تفاصيل رهيبة داخل الكنيسة وفظائع مرعبة لترويع هذه الشريحة المسالمة من الشعب العراقي فقد تم قطع رأس القس ثائر عبدال والقس رائد عبدال والشماس نبيل وفصل رؤوس عائلة جان وزوجته وطفلهم الرضيع وكذلك فصل رأس طفلة تبلغ من العمر عشرة سنوات وجميع حالات الذبح وفصل الرؤوس جرت أمام الحاضرين والمحاصرين داخل الكنيسة". (1)

وانتشرت هذه العبارة في الإعلام بسرعة فائقة، البعض أشار إلى أن مقالة فراس الغضبان كان مصدرها (2) والبعض الآخر لم يشر إلى مصدر، وأحياناً نشرت لوحدها دون إضافة (3)، وفي أحيان أخرى كانت ضمن مقالات.

ليس لتلك القصة علاقة بالحقيقة، فشهادات الشاهدتين لا تشيران إلى أية عمليات قطع أو فصل رؤوس التي ادعى فراس الغضبان الحمداني أنها حدثت أمام المحتجزين، بل أكد كل من الشاهدتان أن الضحايا الذين تحدث الكاتب عنهم قد قتلوا بالرصاص أمامهما ودون أي إشارة لقطع أو فصل رؤوس.
قالت أحدى الشاهدتين: "الشماس نبيل رموه ووكع من طوله، وابونا وسيم رموه ووكع من طوله، وأبونا ثائر انقتل..انضرب!"
وقالت الثانية: "طلع القس يسد الباب ضربوه طلقة براسه....أبونا ثائر ضربوه براسه وأبونا مخلص..أبونا وسيم ضربوه ... قتلوا كل الشباب".
إذاً لم يكن هناك ذبح ولا فصل رؤوس أمام المحاصرين، فمن أين جاءت تلك القصة المفتعلة ومن أي مصدر تم نقلها؟

بحثت فوجدت أن مقالة الحمداني كانت الأقدم بين المصادر التي وجدتها، فكتبت أسأله معلقاً على مقالته بما يلي:

"الأستاذ فراس الغضبان الحمداني المحترم،
أود الكتابة عن المجزرة التي تناولتها مقالتكم القيمة، وودت لو تكرمتم علي بالإشارة إلى مصادركم عن عمليات قطع الرؤوس والذبح، حيث أن الشهود لم يشيروا إلى شيء من هذا القبيل، علماً أن إحدى الشاهدات قالت أن القساوسة "قتلوا" أمامها، ولم تتحدث عن ذبح أو فصل رؤوس، ولكم الشكر." (1)

لكن الغضبان لم يجب، فكررت تعليقي راجياً الإسراع بالإجابة فلم يفعل، وكتبت له إيميلاً بنفس المعنى دون جدوى، وعدت أكتب له على مقالة ثانية له في موقع آخر، منبهاً إلى خطورة القضية، فكتبت له:

"الأستاذ فراس الغضبان المحترم،
لقد كتبت تعليقين حول مقالتك السابقة، في "المثقف" والتي ذكرت فيها أن عملية ذبح للضحايا وفصل رؤوس تمت في مجزرة كنيسة سيدة النجاة، ولم تشر إلى أية مصادر عن تلك الحادثة. بعد ذلك كتبت لك إيميلاً اسألك فيه نفس السؤال ولم أحصل على جواب منك بعد. ولأني لم اجد في أقوال الشهود أية إشارة إلى ذلك فقد رجوتك إرشادي إلى مصادرك عن الخبر، لأنني أعكف على كتابة مقالة حول حقائق ما جرى في الكنيسة، والحادثة التي أشرتم إليها قد تكون مهمة للغاية في التحقيق والوصول إلى من يقف وراء الحادث الإجرامي، لأن حادثة قطع الرؤوس تبدو ملفقة ودخلت إلى الإعلام بشكل غير معروف وتناقلتها الأخبار والمقالات دون الإشارة إلى مصدر.
معذرة لأني أعيد سؤالي في مقالتك هذه فلا اعرف طريقاً آخر للإتصال بك بعد أن لم يصلني منك رد على تعليقاتي السابقة ولا الإيميل." (4)

ولم يجب الغضبان فنشرت مقالتي التي كنت أجلتها يوماً ونصف دون أن احصل على المعلومة الهامة التي لدى الغضبان. تصورت أن فراس الغضبان ربما يكون من نوع الكتاب الذين يأنفون الرد على تعليقات قرائهم، ربما حتى مع أهمية الموضوع لكني وجدته يرد على قرائه في مقالات أخرى مما زاد حيرتي في سبب امتناعه عن الرد.

إن القصة الملفقة في مقالة فراس الغضبان الحمداني، لا يمكن أن تكون خطأً أو سهواً، وهي مؤشر خطير قد يقود إلى رأس الخيط الموصل إلى الجريمة، وأني أستغرب أن قوات الأمن العراقية التي هاجمت وأغلقت قناة البغدادية واعتقلت موظفين منها للتحقيق، رغم أنهم لم يفعلوا ما يمكن إثبات تهمة عليهم بواسطته، ولم تفعل شيئاً بالنسبة لقضية القصة المزيفة التي هي دليل قاطع، فإما من نشرها كان كاتبها أو عليه أن يقول من أين نقلها ويمكن التأكد من التواريخ.

الجريمة طبعاً مروعة وفظيعة حتى بدون ما أضافته قصة الحمداني إليها، والتنبيه إلى زيف القصة لا يهدف بأي شكل للتخفيف من فظاعة الجريمة. لقد كان الإرهابيون بشعين إلى درجة مخيفة، ولا أستبعد أن عمليات قطع وفصل الرؤوس كانت ضمن خطتهم الأصلية زيادة في الإرهاب وتأثيره، لكن يحتمل أنهم عجزوا عن تنفيذها في تلك اللحظة، فهي تحتاج إلى وحوش من مستوى متميز نادر.
إلا أن ما يهمني هو من يمكن أن يتعمد فبركة قصة إضافية موجهة بشكل واضح لزيادة فعالية صدى العمل الإرهابي، وإكمال مرحلته الثانية بنجاح؟ هل يا ترى كان مصدر تلك القصة الإرهابي قد جهزها قبل العملية وأنزلها في الإعلام قبل أن يعلم أن القتلة فشلوا في تنفيذها، لتتلاقفها وسائل الإعلام والصحفيون، المتعمدون منهم والأبرياء الذين أجتاحتهم العاصفة العاطفية فلم يقوموا بالتمحيص.

في مقالته الثانية التي كانت تحت عنوان "البغدادية قناة فضائية أم منظمة إرهابية" كتب فراس الغضبان الحمداني:
"ليس هناك أدنى شك بخطورة ما تتناقله وسائل الإعلام من أخبار ومعلومات وما تقدمه من آراء وأفكار لها قوة كبيرة في تحفيز العقول وتحرك العواطف واستفزاز المشاعر مما يؤدي إلى بلورة عقل جمعي يذوب في شخصه الفرد ويجد نفسه منساقا ومندفعا للقيام بفعل جنوني مثل القتل الطائفي والإبادة الجماعية التي تشعل فتيلها كلمة أو مقالة أو داعية للشر عبر إحدى الفضائيات  ، حيث يمثل دور المواطن وشر أحقاده وكراهيته وهذا ما يبدوا في الظاهر لكن المخيف هو أجندات سياسية ومخططات مدروسة تنفذها بعض القنوات وبعض الشخصيات التي تعرض نفسها في مزاد الدفاع عن الحريات وحقوق المواطنين ."

أليس من العجيب أن من يكتب هذا، يعود فيكتب أو ينقل قصة مخيفة دون تمحيص، ثم حين ينبه إلى ذلك، يهمل الموضوع تماماً، فلا يجيب على الأسئلة ولا حتى يصحح الخطأ؟

لو أن الأمر حدث معي، لقفزت فوراً ، وقبل أن أجيب أو أشكر من نبهني إلى الخطأ، لأكتب إلى كل من نشر مقالتي، مصححاً ما جاء فيها وراجياً إياهم نشر التصحيح بالسرعة الممكنة مبيناً سبب ومصدر الخطأ، ولأعتذرت لقرائي وللضحايا أشد الإعتذار..فقد أنزلت بهم ألماً إضافياً فوق ألمهم.
لقد كتب الغضبان مقالته التي جاءت بالقصة الملفقة، بعد ساعات فقط من المجزرة. فالمجزرة انتهت في منتصف ليل 31 تشرين الأول، ونشرت مقالة فراس الغضبان يوم 1 تشرين الثاني أي إنها على الأرجح قد نقلت القصة مباشرة من المصدر المرتبط بالإرهابين، إن لم تكن هي المصدر الأول لتلك القصة، وفي كلتا الحالتين فسؤال الغضبان عن مصدر القصة أمر شديد الأهمية، ويعد بكشف الكثير من الحقائق.
أن الشعوب التي نجت من الكوارث ووصلت إلى بر التقدم والأمان إنما فعلت ذلك من خلال الحرص على الإنتباه إلى أية إشارات على ما يتهددها من أخطار تكشفها مؤسساتها أو أفرادها، فلماذا إذاً لا تعامل هذه المعلومة بما تستحق من أهمية للعراق ومستقبله؟ ولماذا لا تحرص المواقع ووسائل الإعلام، ليس فقط الإسلامية والعلمانية، وإنما أيضاً التابعة  للجمعيات المسيحية نفسها ليس فقط على نشر الحقيقة، وإنما بالمطالبة بالتحقيق فيما قد يكشف لهم المجرمين الذين كانوا وراء فجيعتهم وفقدانهم لأحبتهم، بدلاً من نشر المقالات التي تكمل العملية الإرهابية مثل مقالة سامر زيبر التي سنشهد الكثير منها في القادم من الأيام بلا شك؟

قلما أدعو قرائي إلى نشر مقالاتي، لكني اليوم أدعوهم إلى نشر هذه المقالة والمقالة السابقة التي تطالب بالتحقيق في كل النقاط الغريبة  التي رافقت تلك المجزرة، وخاصة قصة قطع وفصل الرؤوس المفبركة، فالمؤامرة خطيرة وتهدف على ما يبدو إما إلى تهجير المسيحيين من العراق أو جعل علاقتهم بالمسلمين أشبه بعلاقة أقباط مصر بمسلميها، وليس من غرابة، فهناك يرتع الموساد أيضاً. أدعوكم جميعاً لإنقاذ العراق مما يخطط له من من المؤامرات والفظائع. الحقائق يجب أن تكشف مهما كلفت، وإلا فنحن مسؤولون عن النتائج القادمة حتماً، ولكل شخص أن يقرر ماهو دوره بما تمليه عليه قيمه في هذه اللحظة الخطيرة من تاريخ الشعب العراقي.

(*)http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20785 
(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20381
(2) أشار الكاتب نزار ملاخا إلى مقالة فراس
http://www.nirgalgate.com/asp/v_articles.asp?id=4856
(3) هذه المدونة نشرت نفس نص فراس، لكن تاريخ النشر يبين أن فراس نشر مقالته في 1 تشرين الثاني وتاريخ نشر الخبر في المدونة هو 6 تشرين الثاني : http://rudem.elaphblog.com/posts.aspx?U=349&A=67910
(4) http://qanon302.net/news.php?action=view&id=3078





154
مجزرة "سيدة النجاة" : نقاط مريبة !

صائب خليل
8 تشرين الثاني 2010

في قصة المجزرة المأساوية المؤلمة لكنسية سيدة النجاة الكثير مما يوجب التفكير والمراجعة.
في البدء أثار انتباهي تأكيد الجانب العراقي والأمريكي على أن العملية كانت عراقية بحته، لكن وكالة الأنباء الفرنسية قالت أن أحد الناجين يؤكد ان الذين قاموا بإخلائه هم الأمريكان الذين قادوا عملية الإختراق، ثم أتى العراقيون بعد ذلك (0). وهذا التساؤل ا لذي ما زال غير مجاب، دفع بي إلى متابعة المزيد عن الموضوع، فوجدت الكثير من الغرائب التي تحتاج إلى تفسير.

 شاهدوا أولاً الشهادات الثلاثة للأختين الناجيتين من المجزرة شهد وميرنا زهير مارزينا وأبيهما، إن لم تفعلوا ذلك قبل الآن، لأنها أهم ما في الأمر، كما أن المقالة تعتمد عليها (الروابط 1 ، 2، 3 )

من الواضح من البداية لمن يدقق قليلاً أنه لم تكن هناك دوافع دينية حقيقية وراء الجريمة رغم كل "تمثيليات" الخاطفين، وكذلك لا يسهل تفسيرها بأنها كانت من أجل تحرير أحد، ولا يبدو لهؤلاء أية علاقة بـ "أخوتهم" الأسرى لدى الكنيسة القبطية في مصر.
فأولاً إن كان هذا هو هدفهم ، لماذا لم يقوموا بالإختطاف في الكنيسة القبطية إذن، كما تساءل أحد الكتاب العراقيين بحق؟ وأهم من ذلك أن تصرفاتهم كانت مناقضة لأقوالهم، فمن يريد أن يحصل على فديته، لا يطلق النار على رهائنه، لكن الخاطفين حسب أقوال الشهود، لم يتأخروا في إطلاق النار والقاءالقنابل على الرهائن منذ بداية الإحتجاز وحتى قبل أن تتدخل الشرطة!

عند دخولهم الكنيسة سارع الأب ثائر حسب شهادة إحدى الفتاتين الناجيتين وقدم نفسه كمسؤول عن الكنيسة وقال لهم أن يكلموه فيما يريدون، والمفروض أن يكون الخاطفين سعداء جداً بذلك، فالخاطف بحاجة إلى من يتحدث معه كمسؤول، يتمكن من خلاله من ضبط النظام والهدوء في انتظار موافقة المسؤولين على شروطه التي جاء من أجلها، فلماذا يقتلوه فوراً؟ ولماذا يطلقون النار بشكل عشوائي فيما بعد، وقبل أن يعرضوا حتى شروطهم، فـ "سدوا الأبواب واشتغل الرمي".. وهم من يجب أن يحرص تماماً على أستتباب الهدوء ليمكن لهم ملاحظة أية حركة قد يقوم بها أي من الأسرى.

وبعد أن تبين أن الدافع الرسمي وراء العملية الأرهابية محل إشتباه، يمكننا أن ننتقل لملاحظة بعض التفاصيل. فمن وصف الضحايا الذين نجوا لم تكن تصرفات ومواصفات القتلة تصرفات ومواصفات إسلاميين، متطرفين أو غير متطرفين.
ففي التاريخ الإسلامي وفي أدبياته، لم يطلق المسلمون ولا الإسلام على المسيحيين لقب "الكفار"، فمن أين أتت تلك الكلمة التي بقي الخاطفون يرددونها أمام أسراهم؟
كذلك ملفت للنظر ما نقلته "شهد" من هستيريا وموجة عنف شديد أصابت الخاطفين عندما اكتشفوا "أصلعاً" !! فأين كان للإسلام موقف من الصلع؟ أليست هذه تمثيلية سخيفة واضحة، ولا يصدقها إلا من في رأسه خلل؟ بعد ذلك تعمد المتطرف الإسلامي (الذي يلبس قميصاً وردياً!) مع جماعته إهانة المخطوفين ليس فقط بشكل مباشر، بل وبالحديث عن المسيح بسخرية، ومعلوم أن المسيح بالنسبة للمسلمين نبي من أنبياء الله ولا يسمح بالحديث عنه بإهانة، حيث أن القرآن يؤكد تساوي الأنبياء بضمنهم محمد عند الله. وأذكر عندما كان المتطرفون المسيحيون في الغرب يكيلون الإهانات لمحمد، فأن المسلمين لم يلجأوا إلى مقابلة ذلك بإهانة المسيح، ليس لأنهم أفضل أخلاقاً، بل لأنهم يجدون أنفسهم محاصرين من خلال القرآن نفسه فإهانته إهانة للقرآن. لذلك قد تجد المسلم المتطرف يقول بما لا يرضي العقل والقلب، وقد يفعل ما تشمئز له النفس ويجرّمه القانون، لكنك لن تجد مسلماً مهما كان متطرفاً يتحدث عن المسيح بشكل مهين، بل أنه كلما ازداد تطرفاً ازداد حرصاً على الحديث عنه كنبي مقدس، إن لم يكن إحتراماً له فاحتراماً للقرآن الذي "يتطرف" في الإلتزام بما يجيء به. وإذا كان للمتطرفين تفسيرهم المتطرف للقرآن، فما جاء فيه عن المسيح صريح واضح لا مجال فيه للتفسير، ولم أسمع أحداً حاول تفسيره بشكل مختلف.

لم يحدث هذا حين كان المسلمون اقوياء يسيطرون على دول تحتوي المسيحيين واليهود والصابئة وغيرهم، فلماذا يحدث اليوم؟ هل ازددنا وحشية منذ ذلك الزمن؟ لماذا إذن لم يحدث ذلك أثناء حكم صدام مثلاً. لا تقل لي أن صدام كان يقف حاجزاً بيننا وبين المسيحيين، ولم يكن هناك أي مسيحي يشعر أدنى شعور بأنه في حماية صدام من المسلمين المتطرفين وأنه كان يخشى على حياته لو زال صدام، بل كانوا يتمنون زواله وفرحوا به مثلما فعل بقية العراقيين. ومن يريد أن يقتل وينتحر، لم يكن سيعجز عن الحصول على اللحظة المناسبة لذلك، لكن مثل ذلك لم يحدث ولا مرة واحدة قبل الإحتلال.
كذلك ليس من المعقول أن الإحتلال هو السبب، فلم يقل أحد يوماً أن مسيحيي العراق جاءوا بالإحتلال أو جاءوا معه أو تعاونوا معه على المسلمين، ولا حتى أشار الخاطفون إلى ذلك.
فمن أين إذن جاءت تلك الأحقاد؟ من المفهوم أحياناً أن تحقد الأقلية المضطهدة أو التي تشعر بالظلم بالحقد على الأغلبية المسيطرة، لكن كيف يمكن تفسير وجود حقد لدى الأكثرية ضد الأقلية، وهي لم تؤذهم يوماً، ولا قدرة لها على إيذائهم بأي شكل؟ أنا أقول لكم: ببساطة ليست هناك أية أحقاد، ولا أعرف مسلماً واحداً، ولم أعرف طيلة حياتي مسلماً واحداً، هكذا، "يحقد" على المسيحيين في العراق. بل أن ما بين الشيعة والسنة من توتر، على خفته، مالم يكن بين المسيحيين والمسلمين، شيعة كانوا أو سنة، وكانوا معروفين باللطف والنظافة والأدب، كما هم اليوم، فمن اين جاءت الأحقاد ليقتل بعض "المسلمين" أنفسهم لمجرد أن يقتلوا بعض المسيحييين المتعبدين في كنيستهم؟ لو كانت الحادثة في محل بيع مشروبات روحية لربما تخيلنا أن يهاجمهم البعض (دون ان ينتحروا بهم)، أما في الكنيسة؟ فالكذبة واضحة وضوح الشمس، وأقول لكم ببساطة: ليست قصة أحقاد، ولم تكن هناك أحقاد ولم توجد اليوم أحقاد.. لكن هناك قصة أخرى سيكشفها الزمن.

يمكننا أن نلاحظ أيضاً، من خلال شهادات الشهود، أن الخاطفين كانوا يتصرفون بطريقة أقرب ما تكون إلى فرق "القتل على الهوية" مما هم إلى الخاطفين او المنتقمين من "الكفار" يريدون القضاء عليهم "لوجه الله". وقبل الإستمرار أود أن أوضح رأيي بموضوع "القتل على الهوية" وهو أني أرى أنه حيلة من حيل الإحتلال ليس إلا حيث يرسل جماعة إرهابية لقتل السنة يوماً وترك من يعتبرونهم شيعة لينشروا الخبر، وفي اليوم التالي يقومون بالعكس. وهكذا تنتشر رواية تفرقة طائفية قليلة الكلفة وكبيرة الأثر. وبالفعل صدق أغلب العراقيون قصة القتل على الهوية وانطلت الحيلة مع أنه لم تكن هناك أية أدلة على هوية القتلة أو أنهم يقتلون بهدف تصفية طائفة ما، ولا لهم قيادة معروفة. ولا يلام من يصدق مثل هذا، خاصة من فقد أباً أو أخاً أو زوجة، فعندها لا يبقى مكان كبير للمنطق والتحليل، ولكن لحسن الحظ لم تؤدي هذه الخطة إلى حرب أهلية كما كان يؤمل مخططوها.

هذا بالنسبة للقتل على الهوية وهدفها الوهمي الكاذب، الذي يريدون إقناعنا به وهو ان كل من الطائفتين تريد محو الأخرى، ورأيي أن هذه العملية هي أيضاً من نواع الإرهاب الذي يريد أن يوحي للمجتمع بهدف كاذب، وهو أن المسلمين يريدون القضاء على المسيحيين في العراق.
قلنا أن الإرهابيين لم يتصرفوا كخاطفين وإلا ما كانوا أطلقوا النار على رهائنهم التي هي سلاحهم الوحيد للوصول إلى هدفهم، لكن لو لاحظنا بدقة، نجد أنهم لم يكونوا حتى يريدون قتل ضحاياهم "الكفرة"، بل كان التركيز على نشر الرعب. فبعد الإرهاب الكلامي الذي سبق عملية القتل، ميزوا الضحاياً حسب تأثرهم بالتخويف، وقسموهم (في روؤسهم) إلى قسمين. القسم الأول كان يمثل من أصابه الرعب الشديد، وأرادوا هؤلاء أن يكونوا أكبر عدد ممكن، أما القسم الثاني، فهو الذي لم يحالفهم النجاح كثيراً في إرهابه، وكان محافظاً على رباطة جأشه. هذا القسم هو الذي سيتم التضحية به، بقتله بوحشية، لرفع مستوى الرعب في القسم الأول إلى أعلى درجة ممكنة، ليقوم بنشر الهول الذي رآه للعالم بعد انتهاء الإختطاف، وهو ما يكمل العملية ويوصلها إلى هدفها.
ويمكن اكتشاف مؤشرات إضافية على صحة هذا الإحتمال من خلال حرص الخاطفين على تبيان غرضهم وأهدافهم بالكلام وتكراره والحرص على إسماعه للضحايا، والتأكيد بأنهم مسلمين ملتزمين (حديث بينهم لا يبدو له هدف محدد أومعنى، فيما إذا كان أحدهم قد أدى الصلاة ، واحد يصيح "ربي ثبتني بإيماني" ، ثم "ياربي سامحني"، و توجيه "التكفير" للمسيحييين الخ، إضافة إلى صرخات "الله وأكبر" المعتادة.

ومما يؤيد أن الهدف كان نشر الخوف بالدرجة الأولى ما أشارت إليه الشاهدتان من بعض تصرفات الخاطفين، فقد تحدثتا عن إطلاق نار كثير ولمدة ساعات، حتى قال أحدهم أن الرصاص نفذ منه، رغم أنه كان يملك المزيد منه كما لاحظت الشاهدة بدقة. إذن كان يريد أن يسمع الضحايا أنه أطلق كماً كبيراً من الرصاص. قال صاحبه له أستعمل القنابل إذن.  وألقيت حسب رواية الشاهدتين الكثير جداً من القنابل، ولمدة طويلة، فلماذا كل ذلك؟ أولاً، كل المحاصرين كانوا بحدود 150 شخص وكانوا مستلقين على الأرض تحت تصرف الخاطفين. يعني لو أرادوا قتلهم فسيكفيهم خمسة، أو قل عشرة شواجير (مخازن عتاد) للرشاش، فلماذا يتم إطلاق النار لساعات وبأي اتجاه كان، ولم يكن هناك قوات تهاجم المختطفين بعد؟ إلى اين كانت تلك الرصاصات توجه؟
يعرف العسكريون أن قنبلة واحدة تكفي عادة للقضاء على كل المتواجدين في غرفة، فكيف يتم إلقاء قنابل بتلك الكثرة في غرفة واحدة، ورغم ذلك يخرج أكثر من فيها احياءاً بجروح أو بدون إصابة؟ تفسيري الوحيد أن تلك القنابل كانت في معظمها، قنابل صوتية، وأن العملية كانت تريد زرغ أكبر قدر ممكن من الرعب في من سيبقون أحياءاً لكي يخرجوا ويرووا حكايتهم بأكبر شكل مؤثر، يدفع بالمسيحيين العراقيين إلى الهجرة ويؤلب الغرب على المسلمين أكثر واكثر.
 
كذلك نلاحظ أنه بالرغم من أن الخاطفين هم من "دولة العراق الإسلامية" (كما يقولون)، والتي يفترض أنها "تجاهد" لتحرير العراق من الإحتلال، فلم يشر في عملية الخطف بأي شكل إلى الإحتلال ولا حتى العراق، فلم يكن من بين الخاطفين سوى شخص واحد يتكلم اللهجة العراقية. وكذلك لم يكونوا مهتمين بإطلاق سراح "مجاهدين" عراقيين من رفاقهم مثلاً، والذين يفترض أنهم يتعرضون للتعذيب والإعدام، وفضلوا عليهم هدفاً غريباً أقل ما يقال عنه أنه ليس له أية أولوية في موضوعهم الأصلي.

وهناك سؤال هام: لماذا لم تتم عملية الخطف في إحدى الكنائس في إحدى دول هؤلاء العرب؟ مما لا شك فيه أن الوضع الأمني أكثر استرخاء في جميع الدول العربية مما هو في العراق. كما أن الهدوء السياسي النسبي أكبر في تلك الدول، وبالتالي فأن فرصة الحصول على مفاوضات مع الحكومة ونجاحها أكبر كثيراً. والمكان المرشح أكثر من غيره هو مصر طبعاً، ولن يعجز تسعة مسلحون بهذه الدرجة، وقادرون على اختراق كل تلك السيطرات الأمنية في العراق، من اختراق ما هو أقل منها والوصول إلى كنيسة قبطية في مصر لتهديد الأقباط الذين سيكونون أكثر استعداداً لمبادلة "الأختين" مقابل حياة قساوستهم ومصليهم، مما يكون الأمر في كنيسة كاثوليكية في بلد آخر بعيد، وكل ما يعنيه ذلك من عمليات اتصالات وتأمين مواصلات وغيرها.
لقد كان تجمع "المسلمين المتطرفين" في العراق يفسر على أنه بسبب الإحتلال، لكن بزوال هذا السبب فما الذي جمع هؤلاء هنا؟

قضية أخرى صغيرة غريبة، هي احتواء البيان ليس فقط على آيات قرآنية كالعادة في مثل هذه الأحوال، لكن أيضاً إلى إشارات إلى أرقام الآيات وأسماء السور! تلك ممارسة ليست غريبة في كتابة المقالات أو الكتب الدينية، ولكن ليس في بيانات التهديد والوعيد، فلم نسمع يوماً بن لادن مثلاً يكمل قراءته للآيات في تهديداته، بالإشارة إلى رقم الأية وأسم السورة كل ما انتهى من نص قرآني! والسبب ببساطة هو أن مثل تلك العملية تفقد الخطاب قوة اندفاعه وتعبيره وبالتالي تأثيره، خاصة أن الخطاب كتب ليقرأ من خلال التلفون وفي وسائل الإعلام الصوتية والمرئية، وليس لإقناع قارئ ما، من خلال الإشارة إلى المراجع! كانن بيانات الحرب العراقية الإيرانية تحتوي الكثير من الآيات لبث الحمية، فتخيلوا كم سيكون مضحكاً لو أنه قال بحماس " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" ثم يسكت ويكمل: "سورة الصف، الآية 8"، كما جاء في نص خطاب الخاطفين!. (4)

قال والد الفتاتين الناجيتن، وكان متابعاً لعملية الإختطاف منذ بدايتها وحاضراً أمامها منذالبداية- قال أن هجوم الشرطة كان عشوائياً وكان الهرج يعم المكان وأن هناك احتمال لهروب بعض الإرهابيين أثناء الخروج من الكنيسة بتخفيهم بين الضحايا.
وخطر لي أن أربط بين عبارته وبين ما قالته "ميرنا"، عن أحد الخاطفين الذي ذهب إلى "المكان اللي يقدس بيه القس"..حسب كلماتها، ليفجر نفسه عندما بدأ هجوم الشرطة! ويتساءل المرء: لماذا يذهب شخص يريد أن يفجر نفسه إلى مكان آخر، ليس فيه عدد أكبر من الضحايا من مكانه؟ بل ربما لم يكن فيه أحد؟ أليس معقولاً لو ربطنا القضيتين أن هذا الشخص ذهب بعيداً عن الأنظار ليفجر قنبلة صوتية وليستلقي على الأرض في انتظار هجوم الشرطة، ليخرج بعد ذلك مع الضحايا في الظلام حيث لا يميز أحداً وجه أحد؟ ربما فعل ذلك أكثر من واحد منهم، لنقل قيادة المجموعة، والتي تركت الباقين كخسائر مخدوعة. أتمنى أن يجيبنا رجال الأمن إن كان مثل هذا السيناريو ممكناً وقتها.

وآخر نقطة أود الإشارة إليها، قد تبدو بسيطة، لكنها ربما تكون أهم نقطة في هذه المقالة إن تم الإستفادة منها في التحقيق، هي الإشارة التي انتشرت في الإعلام العراقي والعربي عن فضائع لم يشر إليها أحد من الناجين من الكنيسة، بل هم أشاروا إلى ما يكذبها! لقد قرأت تلك الفضائع أول مرة في مقالة للأستاذ فراس الغضبان الحمداني، حيث يقول:
لقد جرت تفاصيل رهيبة داخل الكنيسة وفظائع مرعبة لترويع هذه الشريحة المسالمة من الشعب العراقي فقد تم قطع رأس القس ثائر عبدال والقس رائد عبدال والشماس نبيل وفصل رؤوس عائلة جان وزوجته وطفلهم الرضيع وكذلك فصل رأس طفلة تبلغ من العمر عشرة سنوات وجميع حالات الذبح وفصل الرؤوس جرت أمام الحاضرين والمحاصرين داخل الكنيسة (5).

ولأنني لم أتذكر إشارة إلى تلك المعلومات في شهادة الشابتين الناجيتين من المذبحة، رجوت من الكاتب، قبل يومين، وعلى عجل في تعليق على المقالة مرتين أن يزودني بالمصادر التي وصلت إليه منها تلك المعلومات، وحين تأخر الرد أرسلت إليه إيميلاً بنفس السؤال، ثم علقت على مقالة أخرى له مكرراً طلبي ولم يصلني الرد حتى ساعة كتابة هذه الكلمات.
وفي انتظار رد الأستاذ فراس حاولت البحث عن المصدر، فوجدت مقالات أخرى تتحدث عن نفس الموضوع دون أن تشير إلى مصدر أيضاً، كما أن البعض نقل نص الكاتب كما هو باعتباره مصدراً. ثم راجعت فيديو الشهادتين، وفي تسجيلين مختلفين فلم أجد إشارة إلى أي قطع رؤوس "أمام الحاضرين والمحاصرين داخل الكنيسة" كما يقول الأستاذ فراس، بل وجدت أقوالاً تناقض ذلك تماماً. فجاء في شهادتي الأختين الناجيتين ما يلي: قالت أحداهما: "الشماس نبيل رموه ووكع من طوله، وابونا وسيم رموه ووكع من طوله، وأبونا ثائر انقتل..انضرب!"
وقالت الثانية: "طلع القس يسد الباب ضربوه طلقة براسه....أبونا ثائر ضربوه براسه وأبونا مخلص..أبونا وسيم ضربوه ... قتلوا كل الشباب". إذن لم يكن هناك ذبح ولا فصل رؤوس أمام المحاصرين، فمن أين جاءت تلك الرواية؟ أنا طبعاً لا أحاول هنا أن أقلل من تلك الجريمة المروعة، ولم أكن أستغرب أبداً لو أنهم قاموا فعلاً بقطع الرؤوس أمام المحاصرين. وأغلب الظن أن تلك المذبحة كانت فعلاً ضمن الخطة، لكن يبدو أن تلك العملية كانت تحتاج إلى وحوش من مستوى آخر.
ما أردت التنبيه إليه هو أن رواية إعلامية أضيفت إلى الخبر بتعمد واضح، ولا يمكن أعتبارها سهو أو خطأً، وبالتالي فأن تلك الرواية وإضافتها إلى القصة، تؤكد أن الهدف من العملية كان إثارة أكبر قدر ممكن من الرعب في مسيحيي العراق، وتأكيد وحشية المسلمين بأقصى ما يمكن لتجهيز الهجوم الإعلامي التالي بالذخيرة اللازمة لتمرير الصورة المطلوبة.
هذه المخططات تبين أي شرّ يتهددنا ويخطط لنا، لكن من ناحية أخرى، فلو توفرت الإرادة اللازمة، لأمكن تحويل هذا المخطط الشرير إلى نحر أصحابه. فهذه الإضافة يمكن أن تقود التحقيق إلى رأس خيط لهذه المجموعة الإرهابية ومن يقف وراءها، لو تمكنا من أن نجد أول مصدر نشر الخبر، وهذا ليس مستحيلاً في الإنترنت. فإن وجد من اخترع الإضافة، سيمكن أن يتم استجوابه حول دوافع اختلاق تلك القصة. أحد ذلك أجدى بكثير من استجواب أعضاء قناة البغدادية لأنهم تلقوا مكالمة تلفونية كان يمكن ان تصل إلى أية قناة بينما لا يستطيع من يثبت انه بدأ الكذبة أن يبرئ نفسه.

***

حتى يتم مواجهة هذه الأسئلة والإجابة عنها، فأن الكثير من الضحايا سيتم تفجيرهم والعديد من الكنائس والمساجد والحسينيات وربما المدارس والمستشفيات وأية مراكز تجمع بشرية، ستشهد عمليات إرهابية فضيعة أخرى. حتى ذلك الحين سيتكرر مشهد الطفل آدم ذي السنوات الثلاث، الذي شاهد أباه يقتل أمامه وبقي ساعات يصرخ: "كافي...كافي".. حتى أصابه الإرهاق فارتمى صامتاً على الأرض..

حتى يحصل الشعب على إجابات على الأسئلة الصعبة لحل المشكلة من الجذر، يجب بذل أقصى العناية بالضحايا صحياً ونفسياً، وببذل أقصى جهد ومال لحماية الأقليات المعرضة أكثر من غيرها للإرهاب، وأن يتلاحم الشعب مع بعضه البعض. إن دعوة السيد الصدر إلى السماح لرعاياه بالتطوع لحماية الكنائس ليست فقط مثالاً رائعاً ورمزاً جميلاً، بل مبادرة تستحق التنفيذ فوراً ولو من إجل رمزيتها العظيمة التي تساعد على محو الأثر المرير الذي تسببت فيه الجريمة. (7)

أما بالنسبة لإخواننا المسيحيين فأتمنى، رغم صعوبة ذلك في مثل هذا الموقف، أن لا يصدقوا ما أراد الإرهابيون منهم أن يصدقوه، بأن المسلمين يشنون حرباً لإبادتهم أو تهجيرهم، وأن وراء تلك الجرائم جهات دينية متطرفة، أو طائفية مجنونة، بل هي جهات عاقلة، وعاقلة جداً، وليس لديها أية مشكلة في العقل، بل مشكلة عميقة في الأخلاق والضمير، لتجمع كل هذا الشر العبقري، وتسير ألات تم تحويلها بطريقة ما لوحوش بشرية لتنفيذ الأهوال التي تتطلبها خططهم. إن الخطط الإجرامية لهؤلاء "العقال" لن تقف عند حد، وهاهي الإنفجارات التي تلت الهجوم على الكنيسة تتكرر، لتثبت التأثير البشع الذي خلفته جريمة الكنيسة، ولا مناص من أن تكون مبادرة العراقيين أقوى من مبادرة قتلتهم لإفشال تلك الخطط ووءدها في مهدها.

ربما أمل البعض أن يتسبب هول الجريمة في فقدان الضحايا لأعصابها وتوجيه اتهاماتها لأخوتها الذين عاشوا معاً بسلام قرونا طويلة، لكن الأقوياء مثل الكاردينال عمانويل الثالث دلي قطع الطريق فتحدث بدلاً من الإتهام عن الأخوة، وقال لهم بأننا شعب واحد متآخِ بكل أديانه وطوائفه يمارس فيها كل فرد طقوسه ومعتقده بكل حرية وسلام.(8)

لقد أرادوا لهذه الكنيسة أن تكون رمزاً للإرهاب، وعلامة في الذاكرة تثير الأحقاد والكراهية والخوف، لذلك يجب الرد فوراً بإعادة بنائها لتصبح أجمل كنيسة في العراق ولنبدع الأفكار لتتحول "سيدة النجاة" إلى رمز للتلاحم ، عندها سيفكر من كان وراء ذلك مرتين قبل أن يكرر جريمته في مكان آخر.
لقد كانوا يستعدون للصلاة من أجل نجاة العراق حين استشهدوا.. وهاهو العراق يصلي اليوم من أجل أرواحهم الطاهرة، ويعاهدهم أن يعمل الجميع لتكون شهادتهم بداية لـ "نجاة" العراق مما هو فيه!


(0) http://www.france24.com/en/20101101-us-forces-led-assault-free-baghdad-hostages-witnesses
(1) http://www.youtube.com/watch?v=fIeV9ytTqcw
(2) http://www.youtube.com/watch?v=y3NCdR0lr14&feature=related
(3) http://www.youtube.com/watch?v=d2rwIMGuV78&feature=related
(4) http://iraqi.dk/news/index.php?option=com_content&task=view&id=18357&Itemid=346
(5) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20381
(6) http://www.nakhelnews.com/pages/news.php?nid=3249
(7) http://www.albadeeliraq.com/spip.php?page=imprimir_articulo&id_article=9903
(8) http://www.qanon302.net/news.php?action=view&id=3006

شعر جميل الى ابناء العراق المسحيين
http://www.youtube.com/watch?v=admClxW5p1Y

ردود الافعال العامة في العراق من كل اطيافه كانت متضامنة ومساندة للمسيحيين وما كتبه الكتاب من المسلمين كان الاكثر وضوحاً وحِدّة
http://www.nirgalgate.com/asp/v_articles.asp?id=4869

دور المسيحيين بعد الحادثة تميز عن سابقاته من الاحداث حيث كان الدور المسيحي شجاعاً في مواجهة الحادث
http://www.nirgalgate.com/asp/v_articles.asp?id=4869

كانت ولا زالت الاخوة بين المسيحي العراقي والمسلم العراقي تصب في خانة البيت الواحد
http://www.nirgalgate.com/asp/v_articles.asp?id=4863




صفحات: [1]