1
المنبر الحر / نهمّشهم أحياء .. نكرّمهم أموات !!
« في: 19:22 27/11/2010 »
نهمّشهم أحياء .. نكرّمهم أموات !!
احياناً كثيرة نسئم الصمت رغم أنه (سمة العقلاء ) ، فهناك أشياء كثيرة جداً نصمت أمامها ، وغالباً ما يكون السبب هو اللامبالاة إن لم نقل الخوف، ورغم أن (السكوت من ذهب ) لكني فضلت الفضة هذه المرة لأني أراها محاولة للخروج من الواقع المزري الذي نعيش فيه ، ولو من خلال الكلمة إلى أن نجد طريقاً آخر... بالتأكيد لن يكون سردي هذا لمحاكمة (فئة معينة من الناس ) فأنا لست بقاضٍ أو ديّان ، ولا لعد مآثرهم أو مساوئهم وإنما لأخذ العبرة والعظة وربما لتلاشي الأخطاء المقصودة من أجل أن نصل لحل ، ليس من باب التشهير أو الإساءة لأحد ، وإنما كي نسعى في الحدود الدنيا لاستدراك ما فات . فأمور الدنيا متشابهة في الإطار العام وعلى الإنسان تجربتها وهناك الكثير من الأحداث يمكن أن يستفيد منها الإنسان في أمور تتكرر ، أو يمكن أن تحدث مستقبلاً .
في يوم 20 /10 / 2004 هاتفني الكاتب والمخرج الآشوري المعروف الصديق (جان هومه ) ، وهو الأخ الأكبر للفنان الراحل (جورج هومه ) ليخبرني بأن (جورج ) موجود في سوريا/ منطقة الخابور بغية إحياء بعض الحفلات الغنائية هناك ، وسألني إن كان بوسعي تنظيم حفلة له في بيروت ، حيث كان على يقين بأن لي خبرة متواضعة في هذا المجال ، وقد سبق لي ونظمت العديد من الحفلات في ظروف (صعبة جداً ) لعدد لا بأس به من الفنانين أمثال : (أدور موسى ، نغم أدور موسى ، نينوس أوشانا ، أمير موشي ، وردا شيمون وجهاد ماروكيل وغيرهم ... ) إضافة إلى العديد من الفعاليات والنشاطات الغنية كالسهرات الفنية والأمسيات الموسيقية والأدبية والمسرحية في مناسبات قومية ودينية متنوعة. ساعدني في ذلك عدا خبرتي في هذا المجال علاقاتي الاجتماعية بالكثير من أصحاب الشأن والنفوذ في المجتمع الآشوري اللبناني ، بالإضافة إلى أنني كنت متولياً رئاسة مجلس إدارة (جمعية مارت شموني الخيرية الآشورية في لبنان ) والتي كانت في أوج نشاطها حيث كانت تضم إلى صفوفها 92 عائلة آشورية معظمهم من هلمون ( قرية تل جمعة ) .
تكلمنا أنا و(جان ) مطولاً حيث شرحت له وضع (الجمهور الآشوري في لبنان ) طبعاً ( بدون تعميم ) موضحاً بأن معظمهم وخاصة الشباب منهم جمهور باهت خاوي لاهث وراء الأغنيات الخفيفة التافهة والإيقاعات الهزّازة الشاطحة والأصوات النافرة الناشزة والكلمات الهابطة المائعة التي لا تسمن ولا تغني من جوع . وتابعت مؤكداً ـ ولكنني بالرغم من هذا فسأبذل قصارى جهدي وبمساعدة الأوفياء من أبناء شعبنا للفن الراقي الذي يمثل (جورج هومه ) أحد أركانه الأساسية ، هذا النوع من الفنون التي تخاطب الوجدان والشعور بكل ما هو جميل ومناسب لهويتنا القومية ، وختمت كلامي بقولي : يشرفني ويسعدني أن أكون أول من ينظم حفلة غنائية للفنان ( جورج هومه ) في بيروت ، لستُ أدري لماذا شعرت بشيء من الارتياح . ربّما لأنّني تذكرت حفلة زفافي الذي شرفني (جورج هومه ) بإحيائها و(جان هومه ) بتصويرها عام 1982 بمدينة (الحسكة ) التي كان كلانا من المقيمين فيها حيث جمعتنا مقاعد الدراسة في ثانوية (أبي ذر الغفاري) بالحسكة لفترة من الزمن ، تسرّب البرد إلى جسمي صاعدا من قدميّ اللتين تجمّدتا. كنت شغوفا بلقاء جورج بعد كل هذه السنين، مولعا بالدخول إلى فضائه الملحمي، مبهورا بروعة أدائه وجمال صوته وقوته، حيث تخيلت نفسي أمام عملاق ضخم صنع نفسه بنفسه، يبحث عن الصعب والجديد دائماً ، في زمن كثر فيه صخب "الغناء" وزخم "المغنين"، وفي زمن كثر فيه نجوم " الأغنية الواحدة" وانتشرت وطغت أغنية " الفقاعة ".
كان جان قد زودني برقم هاتف في سوريا قائلاً : يمكنك التحدث مع جورج على هذا الرقم كي تتفقا على موعد الحفلة ومكانها والفرقة الموسيقية المصاحبة وكافة الأمور الأخرى التي تلزم لإعداد وتنظيم الحفلة ، وأردف قائلاً :لقد تكلمت مع جورج بهذا الخصوص وهو ينتظر مكالمتك .
لم أتأخر بمهاتفة جورج ، حيث تحدثنا مطولاً ، واتفقنا على كل ما يلزم من أجل تنظيم الحفلة ، كما قررنا بناء على طلبه أن يكون موعدها في 30 /10 / 2004 رغم المهلة القصيرة التي منحني إياها بسبب ضيق الوقت لديه ، وإشراف إجازته على نهايتها ،حيث أن حفلة بيروت لم تكن أصلاً مدرجة ضمن برنامج رحلته إلى سوريه.
بدأت التحضيرات الخاصة بالحفلة ، وكأن الحفل سيقام بعد ساعة، فالأعضاء الذين لم يتجاوز عددهم أربعة في عمل دؤوب لا ينتهي يسابقون الزمن دون كلل أو ملل، من أجل إنجاح الحفلة وتكريم المبدع ( جورج هومه ) في لحظة تعبر عن صدق النوايا الخالصة في سبيل رفع روحه المعنوية بعد أن انهارت تماماً كما علمنا فيما بعد نتيجة ما لقاه من جفاء ونكران من (اقرب المقربين إليه) و(أطراف حزبية ) لم تتضح لنا أسبابها لتاريخه ـ كل ما عرفناه حينها : أن أكثر من جهة عمدت وبشكل مقصود على إفشال حفلاته التي كان من المقرر إقامتها في سورية عن سابق تصوّر وتصميم مما اضطره إلى إلغائها باستثناء واحدة فقط أحياها بمشاركة الفنان أدور موسى !! .
وكي لا أنسى سأقف هنا برهة لأشكر الصديقين العزيزين: مهندس الصوت في استديو الياس الرحباني الفنان ( ميشيل كوركيس ) الذي بذل قصارى جهده في سبيل تأمين "صالة" تليق بفناننا الكبير ( جورج هومه ) وكان قد وقع الاختيار على صالة (Golden Beach ) في انطلياس ،بالإضافة إلى غرفتي شاليه واحدة لإقامة الفنان ( جورج هومه ) والأخرى لأعضاء (الفرقة الموسيقية ) أما الصديق الآخر فهو العزيز الكاتب والباحث الآشوري ( آشور كوركيس ) الذي سعى بدوره لتأمين عدد لا بأس به من معارفه لحضور الحفل ، خاصة وأن مطرب الحفل رجل أجمع كل من عرفه أو عمل معه أنّه قيمه فنية نادرة على الأقل بالنسبة لأبناء شعبنا وطاقة أبداعية قومية يندر تكرارها.
قبل ساعتين من موعد الحفلة قمت بجولة على مراكز بيع تذاكر الحفلة التي كنا قد حددناها مسبقاً في الإعلانات بغية إحصاء العدد النهائي للحجوزات ، فكانت النتيجة مخيبة للآمال ... ( 25 ) تذكرة فقط هو أجمالي الحجوزات !!!!، لم يبق لموعد الحفلة سوى ساعة ونصف أو أقل ... خرجت من مركز الحجوزات مذهولاً .. أحمل قدمي حملاً.. سألت نفسي : أليس هذا جزء من التأخر عن ركب الحضارات التي كرمّت وستكرّم كل تجربة إبداعية ناضجة وكل موهبة قدمت الشيء الكثير في العديد من المحافل الوطنية وغيرها؟ !! ماذا أفعل؟! إلى أين أذهب ؟! إلى من التجأ؟!
وبينما أنا على هذه الحال مابين أمل وتأمل وسؤال وتساؤل ، رنّ جرس الهاتف الجوال فأرتعد قلبي في صدري .. وسرت رعشة في سائر بدني .. وكأن جسدي صعق بتيار كهربائي ... تمنيت أن لا يكون المتصل ( جورج هومه ) ولكن...!! (ما كل ما يتمناه المرء يدركه... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ...) سألني عن أخبار الحجز ! أربكني سؤاله ، ترددت كثيرا قبل أن أجيبه ... تذكرت كلامه ليلة أمس حين سهرنا معاً حتى الساعات الأولى من الصباح... قال بما معناه : (إن الهجرة لم تغيره ولكن حياته هي التي تغيرت.. كل شيء حوله تغير إلا أنه بقي في داخله القروي البسيط الذي يفرح لأبسط الأشياء ويحزن لأقلها... ) وقفت كالتمثال غير مستوعب ما يحدث... كانت النار تتأجج في صدري حتى أحرقته و فحّمته... تذكرت مقولة لأحدهم : ((لا لغة كلغة الإبداع وحبرِهِ أسرع للفهم ولإيصال رسالتنا، فالبروتوكولات الرسميّة والطاولات المستديرة والمستطيلة بكلّ حبرها الذي سال على أوراق حاولتْ صقل اتّفاقيّات، لم يحقّق ما حقّقته قصيدة واحدة أو قصّة أو رواية أوصلت رسالتنا بصدقِ مشاعرها)) .
لم أتحرّك و لم أتكلّم... و ربما حتى لم أتنفس... ولم أشعر بأي هواء يدخل صدري... سألته وأنا اصطنع ابتسامه خفيفة باهته محاولاً الهروب من الإجابة على سؤاله ! أين أنت الآن ؟ صمت برهة ـ أيقنت خلالها أنه ومن دلائل الحال ومن نداء قلبه قد أدرك كما (أدرك يعقوب أن يوسف لم يأكله الذئب ) أن وراء هروبي من الإجابة أشياء تؤلم القلب !! أجاب بهدوء ووثوق طافح بوقاره المعهود: أنا بالصالة مع عناصر الفرقة نجري بعض "البروفات" ولكن لم تخبرني عن الحجوزات ؟ !!
ابتسمت لأوحي له بالثقة والطمأنينة وأنا أقول : كل شيء غير متوقع ، لكنه مع ذلك ليس مفاجئاً ، و لا فيه ما يدعو للدهشة ، فمن عادة جمهورنا أنه لا يحجز إلا قبل الحفلة بدقائق معدودة ، لا بل أن بعضهم يأتي إلى الصالة بدون حجز مسبق ! .
أجريت اتصالاً هاتفياً بشخص من معارفي وهو من المسئولين في أحد الأحزاب ( السريانية ) في لبنان ووضعته بصورة الوضع ، دعوته لحضور الحفل بشكل عاجل مع من يختارهم هو من معارفه ، وألحت عليه أن يجلب معه اكبر عدد ممكن من الأشخاص ،وأن يعتبر الدعوة موجهة لهم جميعاً، وقد وعدني بالإيجاب ، وبالفعل فقد حضر وبرفقتة أربع عائلات يشكلون ما مجموعه ستة عشر شخصاً .
قبل موعد الحفل بربع ساعة كنت في الصالة ، كل شيء كان منسقا ومنظماً على أحسن ما يرام باستثناء الجمهور وهو الأهم !!، فسعة المكان250 شخص وقد حضر 50 شخص فقط ، الساعة تزحف بعقاربها نحو التاسعة والدقيقة السادسة عشر ليلاً ، وقد تجاوزنا موعد الحفل المقرر بتمام التاسعة ، ما زال الحضور يتوافدون بين الحين والآخر فرادى ولكنهم لم يتجاوزوا الثمانين شخصاً ، استعدت لتقديم الحفل , الجميع يترقب والمكان يعمه السكون والترقب ،كلفت الصديق ( ميشيل نانو ) بإبلاغ (جورج ) الذي كان في غرفة خاصة من غرف الصالة بانتظار شارة البدء، عاد (ميشيل نانو ) بعد قليل ليخبرني همساً بأن جورج جاهز وبإمكاني المباشرة ، وتابع قائلاً : لكنه في حالة يرثى لها محبطا ويائسا وغاضبا، يكلم نفسه، ويشتم كل ما تراه عيناه ، بعد أن نمي اليه أنه لا يوجد أحد من (أهل قريته ) بين الحضور حتى أقرب المقربين إليه .
بدأت أضواء الصالة بالخفوت ومضة ومضة، ليضاء بعدها المسرح مع دخول الفرقة، وكل منهم قصد مكانه ، وما أن حضرت الموسيقى ، حتى أطل( جورج ) فقام الجمهور وصفق بحرارة لدقائق عدة . وهنا ابتسم الفنان الكبير، وبادل الجمهور بالتحية، محنياً رأسه، ثم وقف كالنجوم وخاطب جمهوره بتواضع وعفوية لافتة ، شاكراً إياهم على حبهم وتشجيعهم الذي لامس قلبه ليبدأ بعدها بأغنية «قومية»، يشاركه الجمهور .
أستمر الحفل الغنائي لأكثر من ثلاث ساعات، حيث تضمن الكثير من أغانيه الرائعة التي تمايل على أنغامها الجمهور الذي لم يهدأ طيلة الحفل في الدبكة والتلويح والتصفيق والتشجيع ،وقد حضر الحفل عدد من الفنانين اللبنانيين ، أشادوا بقوة صوت وعزف جورج ، حيث قال عنه أحدهم: أنه يمتلك طاقات ومواهب مذهلة ذات أرضية موسيقية صلبة .
الحفلة كانت ناجحة على كل المستويات ، وأيضاً حالة ( جورج هومه ) النفسية كانت بعد الحفلة هي الأخرى منهارة على كل المستويات ، حالةٌ من القنوط واليأس سيطرت عليه، بينما جراحه تنزف وقلبه يتقطع... ويعتصر ألما ً ، وتموت همته ... وتضعف عزيمته ، كيف يمكن لمبدع أن يفجر طاقات الإبداع الكامنة داخله ، وهو لا يرى أحداً بانتظار إبداعه بالشغف الذي يشعره بقيمة إبداعه و حاجة الآخرين إليه , أليس هكذا يسقط المبدعون ؟!! ,و هكذا ... يكون اغتيال الإبداع !!! . فنان بقامة (جورج هومه ) يقف على الأبواب ليتسول جمهور !! أمة هذا هو حال شبابها... يهزؤون بمبدعيهم هي إلى زوال لا محاله . متى نكرم مبدعينا ؟ ... بعد أن يكرمهم التراب !! .
اندروس هرمز / لبنان
احياناً كثيرة نسئم الصمت رغم أنه (سمة العقلاء ) ، فهناك أشياء كثيرة جداً نصمت أمامها ، وغالباً ما يكون السبب هو اللامبالاة إن لم نقل الخوف، ورغم أن (السكوت من ذهب ) لكني فضلت الفضة هذه المرة لأني أراها محاولة للخروج من الواقع المزري الذي نعيش فيه ، ولو من خلال الكلمة إلى أن نجد طريقاً آخر... بالتأكيد لن يكون سردي هذا لمحاكمة (فئة معينة من الناس ) فأنا لست بقاضٍ أو ديّان ، ولا لعد مآثرهم أو مساوئهم وإنما لأخذ العبرة والعظة وربما لتلاشي الأخطاء المقصودة من أجل أن نصل لحل ، ليس من باب التشهير أو الإساءة لأحد ، وإنما كي نسعى في الحدود الدنيا لاستدراك ما فات . فأمور الدنيا متشابهة في الإطار العام وعلى الإنسان تجربتها وهناك الكثير من الأحداث يمكن أن يستفيد منها الإنسان في أمور تتكرر ، أو يمكن أن تحدث مستقبلاً .
في يوم 20 /10 / 2004 هاتفني الكاتب والمخرج الآشوري المعروف الصديق (جان هومه ) ، وهو الأخ الأكبر للفنان الراحل (جورج هومه ) ليخبرني بأن (جورج ) موجود في سوريا/ منطقة الخابور بغية إحياء بعض الحفلات الغنائية هناك ، وسألني إن كان بوسعي تنظيم حفلة له في بيروت ، حيث كان على يقين بأن لي خبرة متواضعة في هذا المجال ، وقد سبق لي ونظمت العديد من الحفلات في ظروف (صعبة جداً ) لعدد لا بأس به من الفنانين أمثال : (أدور موسى ، نغم أدور موسى ، نينوس أوشانا ، أمير موشي ، وردا شيمون وجهاد ماروكيل وغيرهم ... ) إضافة إلى العديد من الفعاليات والنشاطات الغنية كالسهرات الفنية والأمسيات الموسيقية والأدبية والمسرحية في مناسبات قومية ودينية متنوعة. ساعدني في ذلك عدا خبرتي في هذا المجال علاقاتي الاجتماعية بالكثير من أصحاب الشأن والنفوذ في المجتمع الآشوري اللبناني ، بالإضافة إلى أنني كنت متولياً رئاسة مجلس إدارة (جمعية مارت شموني الخيرية الآشورية في لبنان ) والتي كانت في أوج نشاطها حيث كانت تضم إلى صفوفها 92 عائلة آشورية معظمهم من هلمون ( قرية تل جمعة ) .
تكلمنا أنا و(جان ) مطولاً حيث شرحت له وضع (الجمهور الآشوري في لبنان ) طبعاً ( بدون تعميم ) موضحاً بأن معظمهم وخاصة الشباب منهم جمهور باهت خاوي لاهث وراء الأغنيات الخفيفة التافهة والإيقاعات الهزّازة الشاطحة والأصوات النافرة الناشزة والكلمات الهابطة المائعة التي لا تسمن ولا تغني من جوع . وتابعت مؤكداً ـ ولكنني بالرغم من هذا فسأبذل قصارى جهدي وبمساعدة الأوفياء من أبناء شعبنا للفن الراقي الذي يمثل (جورج هومه ) أحد أركانه الأساسية ، هذا النوع من الفنون التي تخاطب الوجدان والشعور بكل ما هو جميل ومناسب لهويتنا القومية ، وختمت كلامي بقولي : يشرفني ويسعدني أن أكون أول من ينظم حفلة غنائية للفنان ( جورج هومه ) في بيروت ، لستُ أدري لماذا شعرت بشيء من الارتياح . ربّما لأنّني تذكرت حفلة زفافي الذي شرفني (جورج هومه ) بإحيائها و(جان هومه ) بتصويرها عام 1982 بمدينة (الحسكة ) التي كان كلانا من المقيمين فيها حيث جمعتنا مقاعد الدراسة في ثانوية (أبي ذر الغفاري) بالحسكة لفترة من الزمن ، تسرّب البرد إلى جسمي صاعدا من قدميّ اللتين تجمّدتا. كنت شغوفا بلقاء جورج بعد كل هذه السنين، مولعا بالدخول إلى فضائه الملحمي، مبهورا بروعة أدائه وجمال صوته وقوته، حيث تخيلت نفسي أمام عملاق ضخم صنع نفسه بنفسه، يبحث عن الصعب والجديد دائماً ، في زمن كثر فيه صخب "الغناء" وزخم "المغنين"، وفي زمن كثر فيه نجوم " الأغنية الواحدة" وانتشرت وطغت أغنية " الفقاعة ".
كان جان قد زودني برقم هاتف في سوريا قائلاً : يمكنك التحدث مع جورج على هذا الرقم كي تتفقا على موعد الحفلة ومكانها والفرقة الموسيقية المصاحبة وكافة الأمور الأخرى التي تلزم لإعداد وتنظيم الحفلة ، وأردف قائلاً :لقد تكلمت مع جورج بهذا الخصوص وهو ينتظر مكالمتك .
لم أتأخر بمهاتفة جورج ، حيث تحدثنا مطولاً ، واتفقنا على كل ما يلزم من أجل تنظيم الحفلة ، كما قررنا بناء على طلبه أن يكون موعدها في 30 /10 / 2004 رغم المهلة القصيرة التي منحني إياها بسبب ضيق الوقت لديه ، وإشراف إجازته على نهايتها ،حيث أن حفلة بيروت لم تكن أصلاً مدرجة ضمن برنامج رحلته إلى سوريه.
بدأت التحضيرات الخاصة بالحفلة ، وكأن الحفل سيقام بعد ساعة، فالأعضاء الذين لم يتجاوز عددهم أربعة في عمل دؤوب لا ينتهي يسابقون الزمن دون كلل أو ملل، من أجل إنجاح الحفلة وتكريم المبدع ( جورج هومه ) في لحظة تعبر عن صدق النوايا الخالصة في سبيل رفع روحه المعنوية بعد أن انهارت تماماً كما علمنا فيما بعد نتيجة ما لقاه من جفاء ونكران من (اقرب المقربين إليه) و(أطراف حزبية ) لم تتضح لنا أسبابها لتاريخه ـ كل ما عرفناه حينها : أن أكثر من جهة عمدت وبشكل مقصود على إفشال حفلاته التي كان من المقرر إقامتها في سورية عن سابق تصوّر وتصميم مما اضطره إلى إلغائها باستثناء واحدة فقط أحياها بمشاركة الفنان أدور موسى !! .
وكي لا أنسى سأقف هنا برهة لأشكر الصديقين العزيزين: مهندس الصوت في استديو الياس الرحباني الفنان ( ميشيل كوركيس ) الذي بذل قصارى جهده في سبيل تأمين "صالة" تليق بفناننا الكبير ( جورج هومه ) وكان قد وقع الاختيار على صالة (Golden Beach ) في انطلياس ،بالإضافة إلى غرفتي شاليه واحدة لإقامة الفنان ( جورج هومه ) والأخرى لأعضاء (الفرقة الموسيقية ) أما الصديق الآخر فهو العزيز الكاتب والباحث الآشوري ( آشور كوركيس ) الذي سعى بدوره لتأمين عدد لا بأس به من معارفه لحضور الحفل ، خاصة وأن مطرب الحفل رجل أجمع كل من عرفه أو عمل معه أنّه قيمه فنية نادرة على الأقل بالنسبة لأبناء شعبنا وطاقة أبداعية قومية يندر تكرارها.
قبل ساعتين من موعد الحفلة قمت بجولة على مراكز بيع تذاكر الحفلة التي كنا قد حددناها مسبقاً في الإعلانات بغية إحصاء العدد النهائي للحجوزات ، فكانت النتيجة مخيبة للآمال ... ( 25 ) تذكرة فقط هو أجمالي الحجوزات !!!!، لم يبق لموعد الحفلة سوى ساعة ونصف أو أقل ... خرجت من مركز الحجوزات مذهولاً .. أحمل قدمي حملاً.. سألت نفسي : أليس هذا جزء من التأخر عن ركب الحضارات التي كرمّت وستكرّم كل تجربة إبداعية ناضجة وكل موهبة قدمت الشيء الكثير في العديد من المحافل الوطنية وغيرها؟ !! ماذا أفعل؟! إلى أين أذهب ؟! إلى من التجأ؟!
وبينما أنا على هذه الحال مابين أمل وتأمل وسؤال وتساؤل ، رنّ جرس الهاتف الجوال فأرتعد قلبي في صدري .. وسرت رعشة في سائر بدني .. وكأن جسدي صعق بتيار كهربائي ... تمنيت أن لا يكون المتصل ( جورج هومه ) ولكن...!! (ما كل ما يتمناه المرء يدركه... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ...) سألني عن أخبار الحجز ! أربكني سؤاله ، ترددت كثيرا قبل أن أجيبه ... تذكرت كلامه ليلة أمس حين سهرنا معاً حتى الساعات الأولى من الصباح... قال بما معناه : (إن الهجرة لم تغيره ولكن حياته هي التي تغيرت.. كل شيء حوله تغير إلا أنه بقي في داخله القروي البسيط الذي يفرح لأبسط الأشياء ويحزن لأقلها... ) وقفت كالتمثال غير مستوعب ما يحدث... كانت النار تتأجج في صدري حتى أحرقته و فحّمته... تذكرت مقولة لأحدهم : ((لا لغة كلغة الإبداع وحبرِهِ أسرع للفهم ولإيصال رسالتنا، فالبروتوكولات الرسميّة والطاولات المستديرة والمستطيلة بكلّ حبرها الذي سال على أوراق حاولتْ صقل اتّفاقيّات، لم يحقّق ما حقّقته قصيدة واحدة أو قصّة أو رواية أوصلت رسالتنا بصدقِ مشاعرها)) .
لم أتحرّك و لم أتكلّم... و ربما حتى لم أتنفس... ولم أشعر بأي هواء يدخل صدري... سألته وأنا اصطنع ابتسامه خفيفة باهته محاولاً الهروب من الإجابة على سؤاله ! أين أنت الآن ؟ صمت برهة ـ أيقنت خلالها أنه ومن دلائل الحال ومن نداء قلبه قد أدرك كما (أدرك يعقوب أن يوسف لم يأكله الذئب ) أن وراء هروبي من الإجابة أشياء تؤلم القلب !! أجاب بهدوء ووثوق طافح بوقاره المعهود: أنا بالصالة مع عناصر الفرقة نجري بعض "البروفات" ولكن لم تخبرني عن الحجوزات ؟ !!
ابتسمت لأوحي له بالثقة والطمأنينة وأنا أقول : كل شيء غير متوقع ، لكنه مع ذلك ليس مفاجئاً ، و لا فيه ما يدعو للدهشة ، فمن عادة جمهورنا أنه لا يحجز إلا قبل الحفلة بدقائق معدودة ، لا بل أن بعضهم يأتي إلى الصالة بدون حجز مسبق ! .
أجريت اتصالاً هاتفياً بشخص من معارفي وهو من المسئولين في أحد الأحزاب ( السريانية ) في لبنان ووضعته بصورة الوضع ، دعوته لحضور الحفل بشكل عاجل مع من يختارهم هو من معارفه ، وألحت عليه أن يجلب معه اكبر عدد ممكن من الأشخاص ،وأن يعتبر الدعوة موجهة لهم جميعاً، وقد وعدني بالإيجاب ، وبالفعل فقد حضر وبرفقتة أربع عائلات يشكلون ما مجموعه ستة عشر شخصاً .
قبل موعد الحفل بربع ساعة كنت في الصالة ، كل شيء كان منسقا ومنظماً على أحسن ما يرام باستثناء الجمهور وهو الأهم !!، فسعة المكان250 شخص وقد حضر 50 شخص فقط ، الساعة تزحف بعقاربها نحو التاسعة والدقيقة السادسة عشر ليلاً ، وقد تجاوزنا موعد الحفل المقرر بتمام التاسعة ، ما زال الحضور يتوافدون بين الحين والآخر فرادى ولكنهم لم يتجاوزوا الثمانين شخصاً ، استعدت لتقديم الحفل , الجميع يترقب والمكان يعمه السكون والترقب ،كلفت الصديق ( ميشيل نانو ) بإبلاغ (جورج ) الذي كان في غرفة خاصة من غرف الصالة بانتظار شارة البدء، عاد (ميشيل نانو ) بعد قليل ليخبرني همساً بأن جورج جاهز وبإمكاني المباشرة ، وتابع قائلاً : لكنه في حالة يرثى لها محبطا ويائسا وغاضبا، يكلم نفسه، ويشتم كل ما تراه عيناه ، بعد أن نمي اليه أنه لا يوجد أحد من (أهل قريته ) بين الحضور حتى أقرب المقربين إليه .
بدأت أضواء الصالة بالخفوت ومضة ومضة، ليضاء بعدها المسرح مع دخول الفرقة، وكل منهم قصد مكانه ، وما أن حضرت الموسيقى ، حتى أطل( جورج ) فقام الجمهور وصفق بحرارة لدقائق عدة . وهنا ابتسم الفنان الكبير، وبادل الجمهور بالتحية، محنياً رأسه، ثم وقف كالنجوم وخاطب جمهوره بتواضع وعفوية لافتة ، شاكراً إياهم على حبهم وتشجيعهم الذي لامس قلبه ليبدأ بعدها بأغنية «قومية»، يشاركه الجمهور .
أستمر الحفل الغنائي لأكثر من ثلاث ساعات، حيث تضمن الكثير من أغانيه الرائعة التي تمايل على أنغامها الجمهور الذي لم يهدأ طيلة الحفل في الدبكة والتلويح والتصفيق والتشجيع ،وقد حضر الحفل عدد من الفنانين اللبنانيين ، أشادوا بقوة صوت وعزف جورج ، حيث قال عنه أحدهم: أنه يمتلك طاقات ومواهب مذهلة ذات أرضية موسيقية صلبة .
الحفلة كانت ناجحة على كل المستويات ، وأيضاً حالة ( جورج هومه ) النفسية كانت بعد الحفلة هي الأخرى منهارة على كل المستويات ، حالةٌ من القنوط واليأس سيطرت عليه، بينما جراحه تنزف وقلبه يتقطع... ويعتصر ألما ً ، وتموت همته ... وتضعف عزيمته ، كيف يمكن لمبدع أن يفجر طاقات الإبداع الكامنة داخله ، وهو لا يرى أحداً بانتظار إبداعه بالشغف الذي يشعره بقيمة إبداعه و حاجة الآخرين إليه , أليس هكذا يسقط المبدعون ؟!! ,و هكذا ... يكون اغتيال الإبداع !!! . فنان بقامة (جورج هومه ) يقف على الأبواب ليتسول جمهور !! أمة هذا هو حال شبابها... يهزؤون بمبدعيهم هي إلى زوال لا محاله . متى نكرم مبدعينا ؟ ... بعد أن يكرمهم التراب !! .
اندروس هرمز / لبنان