1
المنبر الحر / ديالكتيك المهاجر والمهجر
« في: 05:19 26/04/2014 »ديالكتيك المهاجر والــُمهجر
رؤية نفسية
رؤية نفسية
شوقي يوسف بهنام
ناقد وأكاديمي
قلنا في سطور سابقة (1) ان هناك فرقا بين عمليتي الهجرة والتهجير . علاوة على ان مفهوم الهجرة مفهوم لم يتفق عليه العاملين في حقول العلوم الاجتماعية لمشاكله القانونية والاجتماعية والإنسانية وغير ذلك . وسوف نطرح مسألة نفسية بحصر المعنى لأنها تخصنا كبشر أولا وأخيرا . هذه المسألة هي " بقية العمر " . كيف ينبغي ان نعيشها أو كيف ينبغي ان تعاش . وكلما اتسعت المسافة بينهما كلما تفاقمت الازمة النفسية لكليهما . وأول خبرة نفسية توجههما هي الندم remorse فالأول ندم لأنه هاجر بينما الثاني يندم لأنه لم يهاجر بعد . وتبدأ صفحة المعاتبات والملامات بينهما . وهكذا يدور الاثنين في حلقة مفرغة . والأول يحاول التعويض النفسي للثاني بتقديم النصح والمشورة بعدم الهجرة تارة ودعم خطابات البقاء والولاء تارة أخرى . وكل منهما ينطلق من قدراته وإمكانياته ومؤهلاته وحجاته ودوافعه في الحالتين . ولا أريد ان اعلق على حالات العودة أو لنقل خبرة الفشل في التوافق مع البيئة الجديدة المهاجر إليها فيختلق الف عذر وعذر حتى يبرر فشله وعدم قدرته على ذلك التوافق . بينما الثاني يصور الهجرة ، في اي بلد كان ، فردوسا ارضيا لا يستطيع رسم معالمه من فرط الانبهار به !! . ويدعو ابناء جلدته الى حذو حذوه . والشماعة التي يتكأ عليها الجميع هي الأمن . ولا بأس من الوقوف عند مفردة الأمنSecurity في منظور العلوم الإنسانية حتى نعرف الى مدى توظف هذه المفردة في تبرير عملية الهجرة . ويقول اصحاب معجم العلوم الاجتماعية عن هذه المفردة ما يلي :-
1- الأمن في أساسه السيكولوجي شعور بالهدوء والطمأنينة وبعد عن القلق والاضطراب ، وهو شعور ضروري لحياة الفرد والمجتمع . ومن أهم أسبابه اطمئنان المرء على نفسه وماله ، وثقته باحترام حقوقه ، وإحساسه بالعطف والمودة ممن يحيطون به . ويتولد هذا الشعور عادة منذ الطفولة ، فمن ربى على الخوف والرهبة كثيرا ما يحمل بقايا من ذلك طوال حياته . ويطمئنه انتشار الأمن والطمأنينة في المجتمع .
2- ومن واجبات الدولة الأولى حفظ الأمن داخل البلد ومنع العدوان الخارجي ، و لا سبيل لاطمئنان نفوس أفراد الشعب اذا كانوا مهددين في أرواحهم أو أموالهم ، والحروب مدعاة للقلق والاضطراب دائما ، وهي مرحلة استثنائية في حياة الأمم ، لذلك كان لا بد الى جانب الأمن القومي من امن دولي حاولت هيئة الأمم المتحدة حراسته والسهر عليه ، وكثيرا ما عز عليها ذلك .
3- ومن مقتضيات الأمن ان يطمئن الفرد على قوته وقوت عياله ، وكيف يتوفر الأمن لجائع أو محتاج !؟ وتعنى الدول العصرية بتوفير أسباب الأمن والضمان الاجتماعي ضد الفقر والمرض والشيخوخة . وقد صدرت قوانين للضمان الاجتماعي في بلاد كثيرة ، صدرت في مصر منذ عام 1950 ، وعدلت وتوسع فيها بعد ذلك . واضحى نظام التأمينات الاجتماعية شاملا لقسط كبير من العاملين ، ويقضى منطق الاشتراكية ان تؤمن أسباب العيش لأبناء الشعب جميعا " (2) . ذلك إذن مفهوم الأمن كما تفهمه العلوم الاجتماعية (الإنسانية) . ومن هنا دواعي الهجرة . والعلاقة بين الهجرة والامن علاقة عكسية ، فكلما استتب الأمن فلت دواعي الهجرة العكس هو الصحيح . الا ما يلفت النظر في واقعنا هو هذه الصورة المتناقضة التي نراها في جموع المهاجرين في أرجاء المعمورة . صورة عدم العودة وفي نفس الوقت المناداة الهجرة . وما ينبغي توثيقه للتاريخ قد يكون مدعاة لإزعاج البعض من دعاة التمسك بتربة الوطن . ونحن نعلم ان أول من هاجر من ارض الوطن هم الإخوة الاثوريين منذ بداية الستينات ، وفق ما نعلم ، وتلاهم الكلدان والان بدأ السريان بحذو حذوهم . والمفارقة العجيبة ان الذين هاجروا قاموا بتشكيل الاندية والحركات والاحزاب وهم في الخارج او تمويل البقية الباقية من أهل الداخل وكلها مكرسة لعدم الهجرة او وفق التعبير السائد لديهم وقف نزيف الهجرة . المهاجرون استقروا وكونوا رؤوس أموال وشركات واسهم والبعض منهم وصل الى مراكز حيوية في البلدان التي هاجروا إليها . كيف يروج آشوري او من أصول آشورية أو كلدانية أصبح وزيرا أو محافظا او مسؤولا في السويد او النرويج او هولندة او الويلات المتحدة الى وقف الهجرة وهو أصبح حاملا لجنسية البلد الذي هاجر اليه . أليس في هذا تناقض وازدواجية في المشاعر والسلوك والاتجاهات ؟؟؟ وتقام المؤتمرات والندوات للحد من الهجرة والقائمين والمشرفين عليها يعودون إدراجهم في أوطانهم الجديدة ليمارسوا حياتهم اليومية التي اعتادوا عليها هنا او هناك . الذي يريد الحد من الهجرة عليه ان يدعو الى الهجرة المعاكسة ويكون أول المنفذين لها والقائمين عليها . ما فائدة من تعاطف الذين يجلسون في نوادي أوروبا الليلية ، ويفعلون ما يفعلون ، ويتحاورون حول الشعب ووحدته ومصيريه وهم يدفعون دولارات قد لا تساوي ثمن اقداح الوسكي او البيرة التي يحتسونها في تلك النوادي هناك دعما للشعب الذي يقولون عنه بان حالته مزرية !!! . وتتسع الهوة السيكولوجية بين الـُمهاجر وأخيه في الوطن عندما يسمع الروايات والحكايات ؛ سواءا أكانت مختلقة ومن نسج الخيال او واقعية لوضعية لذلك الذي غادر وطنه وهو يذرف الدموع على أطلال وطنه . تلك الاخبار سوف تزيد من هموم الذي لم يهاجر بعد . ويلاحقه السؤال مت سوف يهاجر ويعيش مثلما يعيش فلان وفلان وعلان في هذا البلد او ذاك الذي منحه شقة ورتبا شهريا وتأمينا صحي وكل مباهج الحياة الأخرى التي نراها او نعرفها او نتخيلها . سوف أموت في قريتي التعيسة التي تفتقر الى ما تفتقر ولا أرى ألمانيا او أمريكا او الدنمكارك او السويد او استراليا بكل مباهجها وأساليب لهوها وحياتها .وسوف يقال له سوف تعمل طوال اليوم أنت وزوجتك وبنوك حتى تعيش يومك . وهكذا تتوالد الصراعات التي تعج بها النفس التي لم تهاجر بعد . ويزور المهاجر وطنه وهو يحمل في حقيبة سفره ما لم يحلم به ذاك الذي لا يتمكن من مغادرة قريته خوفا من هذا السبب او ذاك . ويقص القصص ويروي الحكايات حول الحياة في المهجر ويأتي ليختار زوجة لابنه او زوجا لابنته . لا ثقة في نساء وفتيات هولندة وأمريكا يختار فتاة من قرقوش او تلكيف او برطلي وغيرها . يتزوجها ويسافر الى بلده الثاني الحامل لجنسيته وفي الوقت نفسه يترك بضعة دولارات في جيب احدهم ويذرف بضعة دمعات ويستقل طائرته ليكون في موعده في حياته الجديدة ناصحا أخيه الذي منحه تلك الحفنة من الدولارات : اياك .. اياك ان تتخلى عن هويتك وآثرك (وطنك) وتغادره ولا تذق طعم المرارة التي نذوقها كل لحظة هناك . قلوبنا ودولارتنا (الفائضة ) في خدمتكم وخدمة قضايا شعبنا . اعتذر يا أخي من الاستمرار معك لأن موعد طائرتي قد حان .. علي ان أكون في المطار في الساعة الفلانية . وهكذا يستمر هذا الديالكتيك بين من الداخل مع من في الخارج الى ما لانهاية . وهكذا تتلاشى تلك الهوية التي صارت شماعة في فم فلان وفلان أولئك الذين ما زالوا يحلمون ان يكونوا اعضاء في البرلمان او في هذا الموقع او ذاك . ومتى وصل الى هدفه ملأ وجيوبه وانتهت دورته فيغادر مثلما غادر أسلافه ويسلم الراية .. اعني راية الهوية والقضية الى اولئك الذين ما يزالوا يحلمون مثلما حلم هو في وقت ما من الاوقات وليصير داعية وبطلا لقوميته او لشعبه ...!!
الهوامش :-
1- بهنام ، شوقي يوسف ، شعبنا وأحلام ودغدغات الهجرة ، موقع عنكاوة ؛ المنبر الحر .
2- نخبة من الاختصاصين المصرين والعرب ، معجم العلوم الاجتماعية ، ص 66 -67 .