أحزابنا السياسية هل هي النموذج المطلوب أم هي إنعكاساً لصورة الواقع الاجتماعي المرفوض .. ؟؟
خوشـــابا ســـولاقا
إن واقع الحياة الاجتماعية للأمم وما يحتويه من صراعات وتناقضات قومية ودينية ومذهبية وقبلية وعشائرية واجتماعية وسياسية واقتصادية هي في الحقيقة صراعات من اجل المصالح بين المكونات المختلفة للمجتمع . هذا الوضع الاجتماعي الغير المستقر وغير المتوازن والهش يخلق ظروفاً ذاتية وموضوعية ملائمة لظهور الحاجة الملحة الى ضرورة البحث عن وسائل مناسبة وفعالة لتغيير الواقع الاجتماعي القائم والمتخلف باتجاه تجاوز تلك الصراعات والتناقضات للعبور الى واقع جديد له سمات يستجيب لمتطلبات الحياة الجديدة بشكل أفضل وأكثر إنصافاً وتوازناً لتحقيق العدالة بين مكوناته ، سواءً كان واقع المجتمع مكون من قومية واحدة ومن دين ومذهب واحد أو مكون من قوميات واثنيات متعددة وأديان ومذاهب عديدة . إن المجتمعات المتعددة المكونات تعيش حالة التصارع والتناقض والتفكك والتشرذم اكثر بكثير من المجتمعات الأحادية المكون ولذلك تكون المجتمعات المتعددة المكونات أكثر خصوبة لنمو وإنتشار الصراعات المصلحية المتعددة الجوانب منها الصراعات القومية والدينية والأجتماعية والثقافية إضافة الى المصالح الاقتصادية فيما بينها وقد تصل هذه الصراعات الى حد التناحر والحروب الأهلية مما هو عليه الحال في المجتمعات الأحادية المكون حيث تنحصر صراعاتها في الجوانب المذهبية والاقتصادي الطبقية وبعض الجوانب الثقافية والاجتماعية ولكنها قد لا تصل الى مستوى التناحر إلا ما ندر وذلك يكون مرتبطاً بمستوى الوعي الثقافي والسياسي في المجتمع . هذه الصراعات والتناقضات تحصل في المجتمعات في الحالتين بسبب تصادم المصالح بين المكونات الاجتماعية للمجتمع ، حيث تشكل وسائل إنتاج الخيرات المادية لأفراد المجتمع أي شكل وطبيعة النظام الأقتصادي السائد الذي يحدد طبيعة العلاقة بين مالكي وسائل الأنتاج وبين مشغلي ومحركي تلك الوسائل البنية التحتية للمجتمع ، بينما تشكل الثقافة والفكر والفنون والسلوكيات السائدة والقوانين المختلفة التي تنظم العلاقات بين افراد المجتمع كافة البنية الفوقية للمجتمع والتي تكون بالضرورة إنعكاساً للبنية التحتية له ، وهذه العلاقة بطبيعة الحال هي علاقة جدلية بين البنيتين ، أي بمعنى عندما تتغير البنية التحتية للمجتمع يتغير شكل النظام الاقتصادي من خلال عمليات ثورية إجتماعية بسبب صراع المصالح كما قلنا تتغير بالضرورة البنية الفوقية للمجتمع تبعاً لذلك لتستجيب الى متطلبات تنظيم العلاقات الجديدة التي تنشأ بعد ثورة التغيير الاجتماعي . في ضوء هذه الوقائع كانت الإستجابة الطبيعية لأكتشاف مثل تلك الوسائل الفعالة لأجراء التغيير الثوري المطلوب في البنية التحتية للمجتمع ، هي ظهور التنظيمات والحركات السياسية العقائدية التي بدورها تعكس فكر وتطلعات ومصالح الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية التي لها المصلحة الكبرى في تغيير شكل العلاقة الاجتماعية القائمة بين الطبقات المالكة لوسائل الأنتاج والمتحكمة بمقدراته وبين الطبقات المحركة لأدوات إنتاج الخيرات المادية للمجتمع ، أي بمعنى آخر تغيير شكل البنية التحتية للنظام الأقتصادي وهذا التغيير بدوره يؤدي الى تغيير شكل البنية الفوقية للنظام الأجتماعي القديم وولادة نظام إجتماعي جديد ببنى تحتية وفوقية جديدة تختلف عن ما كانت عليه في النظام الأقتصادي السابق . وهكذا تغيرت أشكال النظام الاقتصادي لأنتاج الخيرات المادية للمجتع عبر التاريخ من نظام المشاعية البدائية الى نظام العبودية والأقنان الى النظام الاقطاعي الأبوي الى النظام الراسمالي البرجوازي الى النظام الأشتراكي الشيوعي الى النظام الراسمالي الأمبريالي الليبرالي الحر نحو نظام العولمة نظام نهاية التاريخ كما يدعي فوكوياما الياباني الأصل والأميريكي الجنسية .
بعد هذه المقدمة التاريخية لتطور الأنظمة الأقتصادية والاجتماعية عبر التاريخ والتي كانت تناقضاتها وصراعاتها تشكل الأسباب الموضوعية لولادة وظهور التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية التي قادت التغيرات الثورية والاجتماعية الكبرى في التاريخ ، نستطيع على ضوئها تقييم طبيعة وبنية التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية لأمتنا هل هي ( الأحزاب والحركات السياسية ) مجتمعات مصغرة تمثل النموذج المطلوب الذي نطمح إليه والتي من المفروض بها أن تعكس علاقات وقيم وسلوكيات من طراز جديد مغايرة لما كانت سائدة وقائمة على أساس متطلبات الولاء للخصوصيات الفرعية أم على العكس من ذلك ؟؟ . أن تلك المجتمعات المصغرة النموذوجية المتمثلة بالتنظيمات والأحزاب والحركات السياسية قد طُليت بطلاء التقاليد والعادات والثقافات السائدة في مجتمعنا المتخلف قومياً والمتعصب دينياً ومذهبياً وقبلياً وعشائرياً . بما أن مجتمعنا في أغلبيته الى نهاية السبعينيات من القرن الماضي كان مجتمعاً فلاحياً قروياً يعيش في القرى والأرياف ويعتمد إقتصاده المتخلف الى الزراعة وتربية المواشي بالأعتماد على الوسائل البدائية في زراعة الأرض واستثمارها ، وبحكم هذا الواقع كان مجتمعاً تسود فيه وتتحكم بسلوك افراده العلاقات القبلية والعشائرية والمذهبية المتسمة بطابع التعصب والتشدد للخصوصيات الفرعية وبطابع الحقد والكراهية وعدم قبول الاخر مهما كانت قومية ودين هذا الآخر ويكاد يكون الولاء للقومية فيه شبه معدوم في الممارسات اليومية وفي الثقافة المجتمعية . كانت ولاءآت أفراد مجتمعنا القروي للخصوصيات الفرعية هي المعيار لتقييم الشهامة والشجاعة والرجولة والأعتزاز بالنفس وغيرها من هذه القيم البالية ، وكانت الكراهية المذهبية والتمييز القبلي والعشائري سمات شبه مقدسة لدى أفراد المجتمع وكان تجاوز تلك الولاءآت خطوط حمراء لا يمكن لأي كان المساس بها وإلا يتم وصم المتجاوز بالعار ويعتبر منبوذاً في مجتمعه الفرعي ، مثل التجاوز في حالات الزواج المتبادل بين المكونات من اصغرها الى أكبرها في بنية هيكل المجتمع القومي الكبير . وكان الولاء للخصوصيات المختلفة قد جعل من تشضي وتشرذم وتفكك المجتمع القومي لأمتنا وفقاً لذلك امراً واقعاً ومعاشاً ومحاطاً بهالة من القدسية الكريهة بالرغم من حصول حالات شاذة استثنائية هنا وهناك لدى بعض العوائل المثقفة نسبياً والأسر السياسية التي لا تعير قدراً كبيراً من الأهمية للتزمت والتمسك بتقاليد الخصوصيات الفرعية حيث أنها قد تجاوزت هذه البنية الاجتماعية التحتية المؤسسة على الولاء للخصوصيات الفرعية . ولكن كانت القاعدة في مجتمعنا الفلاحي القروي هي التشرذم على أساس الولاء للخصوصيات الفرعية والتوجه نحو الوحدة القومية والوحدة الدينية هي السمة الشاذة والأستثنائية . هكذا كانت البنية الفوقية ( الثقافة والتربية ) لأمتنا تعكس ثقافة وتربية وقيم التشرذم والتفكك والتمزق القومي لحساب تثبيت وترسيخ ثقافة وتربية وقيم وأخلاق الخصوصيات الفرعية في عقول ونفوس الأجيال الناشئة من أبنائنا على حساب ثقافة وقيم الوحدة القومية .
على خلفية إندلاع الحركة الكوردية في عام 1961 ونزوح أغلب ابناء أمتنا من قراهم الى المدن الكبرى والأختلاط بمجتمعات المدن وتأثرها بها وتوسع إنتشار التعليم بكل مستوياته بين الشباب من أبناء أمتنا ، وعلى أثر الانشقاق الذي حصل في كنيسة المشرق الآشورية في عام 1964 م على خلفية التحول على اعتماد التقويم الغرغوري الحديث في ممارسة طقوس الكنيسة بدلاً من الأستمرار على اعتماد التقويم اليولياني القديم وما كان ينشر في الصحف المحلية العراقية من مقالات مسيئة الى إنتفاضة الآشوريين عام 1933 وقادتها وما حصل من شحن المشاعر والعواطف والتعصب القبلي والعشائري ومعاداة بعضها للبعض الآخر حتى بين أعضاء الآسرة الواحدة خلق وضعا إجتماعياً متفجراً ومحتقنا بالأحقاد والضغائن والكراهية المتبادلة بين أنصار الطرفين ، ومن ثم جاء تاسيس النادي الثقافي الاثوري الذي كانت لنشاطاته الثقافية والأجتماعية والفنية المختلفة دوراً رائداً وبارزاً في تأسيس ونشر الثقافة القومية والوعي القومي بين الشباب الجامعي بشكل خاص وشبابنا الآشوري والمجتمع بشكل عام ، وما تركته عودة البطريرك الشهيد مار إيشاي شمعون من منفاه لزيارة العراق ومن بعده عودة المرحوم ملك ياقو ملك اسماعيل بناءً على دعوة من قبل الحكومة العراقية آنذاك من أثر بالغ لنمو وانضاج الوعي القومي بين شبابنا المثقف ، ثم جاء قرار منح الحقوق الثقافية للناطقين باللغة السريانية من الكلدان والسريان والآشوريين كنوع من التعزيز المباشر لما كانت جذوره قد امتدت في أعماق مشاعر شبابنا وتجذرت في كيانهم ، كل هذه الأحداث المتوالية والمتزامنة مع النهضة القومية المعاصرة لأمتنا أثرت بشكل مطرد في نمو الوعي القومي وتبلوره بين أبناء أمتنا ، عندها بدأت الحاجة بحكم الضرورة التي فرضها هذا الواقع المتشرذم مذهبياً وقبلياً وعشائرياً الى ظهور المبادرات الأولى بالدعوة إلى تأسيس التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية لتقود نضال الأمة لنيل حقوقها القومية والتي دعت أبناء الأمة الى الأنخراط في صفوفها للنضال من إجل نيل تلك الحقوق والأعتراف بوجودنا القومي في العراق ، وكانت كل تلك الدعوات مبنية على أساس الولاء المطلق للثقافة والوحدة القومية بهدف العبور من فوق ثقافة الولاء للخصوصيات الفرعية بكل أشكالها الى خصوصية الولاء القومي للأمة . لهذا السبب كانت استجابة الجماهير الشبابية المثقفة منها عن وعي وإرادة قومية لهذه الدعوات كبيرة وقوية ، وكانت استجابة الجماهير البسيطة منها عن الشعور بالتعاطف القومي الغريزي لدعوات هذه الأحزاب والحركات السياسية بحماس وإيمان من دون خوف بالرغم من قساوة النظام في العراق . وبعد إنشاء المنطقة الآمنة شمال خط العرض 35 وتشكيل حكومة كوردستانية مستقلة في هذه المنطقة تحت حماية التحالف الدولي ومشاركة أحزابنا السياسية التي كانت موجودة آنذاك بشكل رمزي في تلك الحكومة وظهور المنافع من وراء المناصب جراء هذه المشاركة الهزيلة في ظل غياب الوعي القومي الحقيقي والفكر والنهج السياسي السليم للعمل المنظم والممنهج لدى هذه الأحزاب والحركات سارت الأمور على غير مسارها الطبيعي أي سارت بالأتجاه المعاكس للمطلوب ، فتشكلت أحزاب كثيرة ذات تسميات رنانة ودخلت قياداتها في صراعات ومناكفات ومنافسات من أجل المناصب والمنافع ، وتوسعت وانتشرت هذه الظاهرة ظاهرة توالد وتعدد الأحزاب والحركات السياسية ذات الهويات المذهبية بشكل سافر بين مكونات أمتنا ، واتخذت الخلافات والصراعات فيما بينها طابعاً تناحرياً حاداً وطافت على السطح مشكلة التسمية القومية والتي وصل فيها الخلاف الى نقطة اللاعودة الى الوحدة القومية بتسمية قومية موحدة وانتهى الأمر بالتوافق على القبول بالتسمية القطارية " الكلداني السرياني الآشوري " التي لا تحمل سمة وهوية قومية تاريخية محددة لا شكلاً ولا مضموناً . كل ذلك في الحقيقة جرى ويجري بين المتنفذين من قيادات هذه الأحزاب والحركات تحت يافطات وشعارات قومية براقة من أجل المناصب والمنافع الشخصية . هكذا فبدلاً من تنتقل الثقافة القومية والسلوك القومي المتجرد من الولاء للمذهبية والقبلية والعشائرية وغيرها من الممارسات المرفوضة من تلك المجتمعات النموذوجية المتمثلة بالتنظيمات والأحزاب والحركات السياسية الى المجتمع العام لتطبعه بثقافتها وتقاليدها القومية كما ينبغي أصبحت تلك الأحزاب والحركات السياسية حاضنات حامية للثقافات والسلوكيات الخصوصية الفرعية السائدة في المجتمع وتطبعت هي بها لحد النخاع ، وتحولت بذلك تلك الأحزاب والحركات الى أدوات ووسائل للفرقة والتشرذم في المجتمع وأصبحت فريسة لثقافة المجتمع بدلاً من أن تكون أدوات وأسباب لبناء الثقافة والوحدة القومية في المجتمع بسبب طموح وتطلع وسعي بعض القيادات الأنتهازية فيها الى التفرد بالقرار لتحقيق مكاسب ومنافع شخصية على حساب المصالح القومية للأمة ، فاتخذت التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية بتسمياتها المختلفة شكلاً معبراً للخصوصيات الفرعية بدلاً من أن تكون نموذجاً معبراً للوحدة القومية الشاملة فأصبح كل حزب يمثل بالاسم وبالعمل والسلوك خصوصية مذهبية معينة ويتخندق مع هذه الطائفة المذهبية ويتحلى بعاداتها وتقاليدها وأخلاقها بالضد من الطائفة المذهبية الأخرى ، وهذه الصورة للأحزاب ترسخت في عقول ونفوس وتفكير وشخصية أبناء أمتنا ، وبالنتيجة أصبحت القومية والثقافة القومية الحقيقية مجرد شعارات تذكر وترفع في المناسبات وفي الصراعات والمناكفات والمهاترات للمتاجرة بها بين بعض القيادات على المناصب والمصالح والمنافع ، واصبحت بذلك القومية خارج إطار النهج والفكر والسلوك القومي السياسي لتلك الأحزاب والحركات إلا بالقدر الذي يخدم أجنداتها المصلحية الشخصية ، وبالتالي أصبحت هذه الأحزاب والحركات السياسية تحمل هوية الخصوصية الفرعية هوية المذهب بعينه سياسياً وعملياً وبحسب ما تقتضي المصالح الشخصية للمتنفذين من القائمين على قياداتها بدلاً من أن تحمل الهوية القومية للمجتمع القومي المنشود ، كما هو حالها اليوم التي أصبحت تجسد الولاء للخصوصيات الفرعية على حساب الولاء القومي ، وكرست حالة التمزق والتشرذم والتفكك وأعادت إنتاج الكراهيات والأحقاد القديمة التي كانت سائرة الى الأنقراض والزوال بحكم تطور ضرورات الحياة العصرية ونمو الوعي القومي قبل دخول الأمة الى عصر الأحزاب والحركات السياسية التجارية التي تتاجر بعض قياداتها بالمصالح القومية من دون أن تحقق شيئاً ملموساً على أرض الواقع لصالح الأمة وانتهى الأمر بهذه الأحزاب والحركات الى الركون والقبول بتسميتنا بالمكون المسيحي في مؤسسات الدولة الرسمية والحبل على الجرار كما يقال .
خوشــابا ســولاقا
بغداد في 7 / شباط / 2018 م