1
المنبر الحر / الحروب الصليبية ... ثانية !
« في: 23:46 17/02/2008 »الحروب الصليبية ... ثانية !
- عامر فتوحي -
- عامر فتوحي -
تقديم :
لايمر يوم إلا ونسمع أو نقرأ فيه عن جرائم (تقشعر لها الأبدان) ترتكب بحق المسيحيين المشرقيين وأتباع الديانات الأخرى غير المسلمة ، ذبح غير المسلمين على الطريقة الإسلامية (ذبحاً حلالاً) تقليد بدأ منذ غزوة بدر الكبرى حتى لحظة كتابة هذه السطور ، إغتصاب الصبايا المسيحيات مستمر على قدم وساق منذ نشأة الدولة الإسلامية الأولى حتى يومنا هذا ، التغرير بالفتيات المسيحيات ومن ثم نكاحهن بعقود زواج مدفوعة الأجر (طالت أو قصرت) أمر متعارف عليه ويتم تحفيظه للمترددين على التكايا الممولة سعودياً ، تفجير الكنائس وحرق المكتبات المسيحية لم يتوقف منذ عهد (الشروط العمرية المتخلفة) ، شتم المسيحيين واليهود والتعريض بهم في البلاد المسلمة سواء في الطرقات والمحلات العامة وعبر أبواق المآذن حالة عامة شاملة ، الإستهزاء بالصلبان تعدى حالة المطالبة بإنزالها من على دور العبادة إلى التدرب عليها كشواخص قتالية تبث تفاصيلها يومياً ودون وازع من ضمير محطات التلفزيون في البلدان العربية والإسلامية على حد سواء مع ذلك لم نسمع أو نقرأ عبارة تنديد واحدة ، بل وصلت السفاهة بتلفزيون دويلة (الكيان الفلسطيني) في غزة إلى مستو من الوضاعة في نشر الكراهية تجاه الآخر إلى حد بث (برامج للأطفال) تجمع بين مزيج من شخصيات كارتونية محببة كالأرنب والبطة وأشخاص إعتياديين (بلحى إسلاموية ونساء وفتيات بعمر الورود بين محجبة ومنقبة) ، ولا هم لمثل هذه البرامج (التربوية) إلا العويل والزعيق والدعوة الصريحة إلى محاربة الكفار (الصليبيين) وأكل (اليهود) وهم أحياء بإرادة ومشيئة من ألله !!!
أما عن معاملة سكان البلاد الأصليين المسيحيين كمواطنين من مرتبة أدنى من كلدان وبقية الناطقين بالسورث علاوة على القبط وغيرهم فحدث ولا حرج . وإن كان هذا الذي أشرت إليه بشكل مقتضب وسريع يجري بشكل يومي متنام ومتصاعد مع إزدياد حدة التخلف وإضطهاد المرأة (العورة) في البلدان التي تضم غالبية مسلمة ، ولا من أحد يكترث بما يحدث من ظلم مريع في هذه البلدان على أساس (أنها شأن داخلي) ؟!!
أن سيل الإجابات الجاهزة التي يتلقاها المسيحيون المشرقيون وبقية أتباع الديانات غير المسلمة المتجاوز عليها في البلدان الناطقة بالعربية وما يسمى بالعالم الإسلامي ، لا يتعدى تأثيرها في معظم الأحيان مساحة الحبر الذي يكتب به على الورق ، بخاصة وأن تبريرات أولي الأمر هنالك مرتبة وجاهزة ، فأن من يذبح المسيحيين واليهود والصابئة وغيرهم من وجهة النظر التبريرية تلك (هم محض قلة ضالة) ، أما الذين يغتصبون (الكتابيات على حد التعبير الإسلامي) وهؤلاء الذين ينكحهون بعقود زواج ممولة سعودياً إذلالاً للفتاة المغرر بها وإحتقاراً لأهلها (فهم بين شباب طائش وعشاق أضناهم الهوى) ، أما هؤلاء الذين يفجرون الكنائس ويذبحون رجال الدين والراهبات ويحرقون المكتبات المسيحية فهم (مجهولون خارجون على القانون) ، أما عن رجال الدين وأئمة الجوامع الذين يشتموننا ليل نهار عبر مكبرات الصوت المنصوبة على قمم المآذن ويدعون إلى تهجيرنا وذبحنا أو التفضل علينا بالدخول إلى الإسلام أو دفع الجزية عن يد ونحن صاغرين ، فهم (فئة من المتعصبين لا تحل ولا تربط) ، وأما عن المناهج التعليمية التي تلغي كل الثقافة والحضارة المسيحية وتقوم علانية وجهاراً بإشاعة مفاهيم تغريبية تجرد المسيحيين المشرقيين من هويتهم الوطنية الأصلية (فهي موضوعات تافهة وعديمة الأهمية) ؟!!
وفي النهاية نكتشف بأن (هيام المسيحيين بالغرب الصليبي وليس أي سبب آخر) كان السبب الرئيس في تناقص عددهم الذي كان يتجاوز التسعة ملايين وكانوا يشكلون 95% من عدد العراقيين قبل معركة القادسية إلى نسبة واقعية تقرب اليوم من 10% أي ما يقرب من مليونين إذا ما أعتبرنا أن عدد سكان العراق (الداخل والخارج) اليوم (22 مليوناً) ، أما أنهار الدم التي لم تتوقف فليست إلا محض خيال ؟!!
كما نكتشف بأن كل هذا الذي يجري بحقنا منذ قرون (في بلادنا) التي يعاملنا المحتلون الدخلاء عليها (من عرب وفرس وكورد وترك) كأجانب ومواطنين من درجة أدنى (بتصديق دستوري يستمد مفاهيمه من الشرع الإسلامي) ليست إلا تصرفات فردية ينبغي أن لا نعيرها أية أهمية ؟!!
في المقابل نرى بأن مواطني البلدان التي تتواجد فيها جاليات صغيرة مهاجرة (مسلمة) وتحديداً أوربا وأمريكا وكندا تستمتع بكافة الحقوق المكفولة لمواطني تلك الدول ، ذلك أنها دول قامت على أسس التعاليم المسيحية المتسامحة حقاً وفعلاً ، علماً أن مجتمعات معظمها اليوم تطغي عليها الروح الليبرالية المتطرفة التي لا تعترف نسبة كبيرة من مواطنيها بأي دين سماوي ، بل أن هنالك العديد من الشواهد من (أفلام وكتب) تنشر وتنتج بين بين حين وآخر في تلك البلدان لا لقصد إلا الإساءة لشخص السيد المسيح وأمه البتول . ومع ذلك أذا ما قام شخص من بين هؤلاء الغربيين الملحدين بالتجاوز على الرموز الإسلامية أو حتى بمحاولة تغطية نمط الحياة في المجتمعات الإسلامية كما حدث لحفيد (فان كوخ) الذي تم ذبحه حلالاً على الملأ (وعلى الطريقة الإسلامية) ، نرى أن ذات الحكومات والجهات التي لا نسمع منها إلا الأجابات الجاهزة والتافهة عن التصرفات الفردية (التي يذهب الآلاف من المسيحيين ضحية لها) ، تتدافع بالمناكب لدعم حملات التبويق التي لا غرض منها إلا تأجيج ضغائن عامة المسلمين في البلدان الإسلامية التي يشيع فيها التخلف أساساً ، والتي بمقدور أصغر إمام جامع فيها أن يؤجج (مشاعر الغضب الغريزية الجاهزة) في عشرات الآلاف من العامة ، ملوحاً ببوادر (حرب إمبريالية صليبية جديدة ومؤامرة عالمية مسيحية) على الشرق (الوديع البريء المسالم) متجاهلاً أنهار الدماء التي فجرها المسلمين منذ نشأة الإسلام حتى اليوم ، ومبرراً تلك التصرفات الأوربية (الفردية فعلاً) سواء كانت (قصدية أو عفوية) بالعداء الصليبي المستفحل ضد الإسلام والمسلمين ؟؟؟
أن موضوع (الحروب الصليبية) الذي يتعكز عليه السلفيون عامة والوهابيون بشكل خاص ويشكل ركناً أساسياً في ذهنية رجل الشارع سواء في البلدان ذات الأغلبية المسلمة أو في البلدان الغربية ، هو من وجهة النظر العلمية والعملية إنما يعد أحد أهم المواضيع التي تعكس آثارها السلبية الخطيرة على مجتمعاتنا المشرقية والعالم المتمدن على حد سواء ويؤثر في نموها سلباً .
الغريب هنا أن كتابنا المنفتحين ومثقفينا اليساريين المتنورين يتحاشون الخوض في هذا الموضوع الذي تردده وسائل الإعلام والمنابر الدينية يومياً بشكل ببغائي يعكس وجهة النظر العربسلامية المليئة بالأكاذيب والمغالطات السفيهة التي تبرر دونما جدال (وحشية زمر الإرهاب) وتدعم بشكل أو بآخر أجندتها لذبح المسيحيين في الشرق من خلال إستخدام هذا الموضوع وفق آلية عمل مزدوجة داهية وخبيثة في آن ، فمن ناحية يشجع موضوع الحروب الصليبية (الملفق والمحشو بالأكاذيب والسفاهات) شراذم الإرهابيين لتصفية الوجود المسيحي في الشرق ، ومن ناحية أخرى يتم إستخدامه بدهاء عندما يتطلب الأمر (التمسكن والتباكي) أمام الإعلام الغربي الليبرالي ومؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان . وفي كلتا الحالتين فإن المسيحي المشرقي هو الضحية الدائمة ، فعندما نشر رسام الكاريكاتير الدانيماركي المغمور كورت فوستغارد (73 عاماً) رسومه عن نبي المسلمين دفع المسيحيون في البلاد التي يحكمها المسلمون الثمن غالياً ، حيث سفحت الدماء ونحرت الراهبات وخربت دور العبادة وأنتهكت الأعراض وفق منطق يسميه العراقيون (الفرهود) وكذلك (ولية مخانيث) ، وبصراحة فإن (ولية المخانيث) هذه لم تتوقف منذ غزوة القادسية في القرن السابع للميلاد حتى اليوم .
أن موضوع (الحروب الصليبية) هذا الذي يمنح خفافيش الظلام المبررات التي تسوغ لهم التعبير عن نوازعهم الدموية الشريرة بأبشع الصور ، هو دافعي الرئيس اليوم لرد و(تصويب المغالطة) التي تضمنتها الرسالة التي بعثها (الداعية الإسلامي الحبيب علي الجفري) إلى عدد من المفكرين ورجال الدين المسيحيين في العالم الغربي ، آملاً أن يبدأ العراقيون (إذا ما أرادوا الخير للعراق) بقراءة التاريخ بعيداً عن الترهات والأكاذيب التي تم حشرها في عقول العامة مع هيمنة الطاغية عبد الملك بن مروان على مقاليد حكم (الدولة الأموية) وتسليط عامله المسخ (الحجاج بن يوسف الثقفي) على رقاب العراقيين .
ولكي أمنع على المتصيدين في المياه العكرة حججهم التي يبررون بها أعمال الحثالات الإرهابية شرقاً وغرباً ، ولكي أقطع على هذا البعض التكتيك الذي يستخدمونه لكم الأفواه وإغتيال (الكلمة الحرة) من خلال إستخدامهم لعبارات جاهزة يستخدمها السلفيون والمتطرفون الليبراليون الغربيون ومثيليي الجنس في المجتمعات الغربية من نوع (سياسة نشر الكراهية ضد الإسلام) ، (تعد على الإسلام) ، (تجاوز وطعن وإساءة وما شاكل من مفردات جاهزة ) ، فقد حرصت على أن أتقيد في موضوعي هذا أعتماد مقتبسات مستلة من القرآن (مصحف عثمان) وأحاديث نبي المسلمين المتفق على صحتها بين جمهرة علماء المسلمين من المذاهب الرئيسة الخمسة ، وذلك من أجل تفنيد أباطيل وحجج تلك الشراذم الظلامية الشريرة وفق المنطق القائل: (من فمك أدينك) أو كما تقول العرب: (شهد شاهد من أهلها) . كما إن مبرر إعتمادي لهذه المقتبسات القرآنية والحديث وكتب السيرة النبوية ، هو إثبات (الحقائق الدامغة) التي تتعلق بالخلفية (الواقعية) والدوافع (الحقيقية) التي أدت إلى قيام (الحروب الصليبية) التي جاءت كما سيتبين لنا من خلال الشواهد والإثبات المستمدة من التاريخ والشرع الإسلامي (كرد فعل غربي لا بد منه) على قرون من (الإنتهاكات والفضائع العربسلامية) للعالم المشرقي وأوربا على حد سواء ، والذي أجبر الأوربيين آخر الأمر على خوض غمار تلك الحروب من منطلق (مكره آخاك لا بطل) .
الحروب الصليبية ورسالة إعتذار قداسة البابا يوحنا بولص الثاني :
ثمة مفارقة تدعو إلى الدهشة والإستهجان معاً ، إذ يعتقد البعض أن إعتذار قداسة الحبر الأعظم (يوحنا بولس الثاني) للمسلمين عن مشاركة الكنيسة الكاثوليكية في الحروب الصليبية (وهيّ مجموعة الحروب التي حدثت بين أوربا (المسيحية طوعاً) وبين الشرق (الذي تمت أسلمته بالنار والحديد) من خلال إكتساح عسكري شامل تمثل في غزوتي (اليرموك والقادسية) ، إنما هو إعتراف موجه من قبل رأس المسيحيين الأوربيين والعالم الكاثوليكي إلى القوى الإسلامية المهيمنة حالياً على الشرق من (عرب وكورد وترك وفرس ) متضمناً موافقة قداسته (الوهمية) بعائدية الشرق الأوسط (العراق وما تسمى ببلاد الشام) إلى تلك القوى الإسلامية الأجنبية الدخيلة أصلاً .
كما يذهب البعض من هؤلاء (الموهومين) إلى أن الرسالة التي بعثها مجموعة من أساتذة جامعة ييل (الليبرالية المتطرفة) في الولايات المتحدة وذيلها عدد من رجال الدين المسيحيين البروتوستانت منطلقين من إيمان المسيحية بنبذ العنف من جهة ، ومن جهة أخرى جهل جلهم على ما يبدو بوقائع التاريخ الإسلامي ، إنما هيّ تأكيد آخر على صحة إدعاء مسلمو الشرق بعائديته لهم ، ولكن شتان ما بين الحدثين ، ذلك أن حسابات الحقل هيّ غير حسابات البيدر تماماً .
لأن إعتذار البابا يوحنا بولص الثاني للمسلمين الذين نالهم الأذى بسبب تلك الحروب إنما ينطلق من رؤية إنسانية شمولية وروحانية مسيحية خالصة ، حيث لا تؤمن الديانة المسيحية بالقتال أو العنف حتى إذا نال المسيحي الإضطهاد والتعذيب والقتل فأن عليه أن يسامح المعتدي والقاتل ويصلي من أجل هدايتهما إلى طريق الحق والحياة ، ولمن لا يعلم فأنه لا يوجد في المسيحية ثنائية في الموقف (أي مرة تبيح وأخرى تحرم) ، فلا ناسخ أو منسوخ ولا ظاهر أو باطن ، ذلك (أن كلمة إله المسيحيين ثابتة لا ينسها أو ينسخها أو يبدلها) كما هو الحال في الإسلام : (ما ننسخ من آيات أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ... سورة البقرة 2 : 106) . وبمعنى أوضح أن وعد إله المسيحيين للمؤمنين وعد أب لأبنائه فهو راسخ لا يتبدل حرف منه ولو أنطبقت السماء على الأرض ، كما يتضح ذلك جيداً في مزمور (119-89) إلى الأبد يا رب كلمتك مثبتة في السموات ، وكذلك في مزمور (89-34) لا أغير ما خرج من شفتي ، وايضاً في (بطرس 1: 24 و25) أما كلمة الرب فتثبت للأبد .
أما خير ما يعبر عن الفلسفة الدينية المسيحية المتسامحة التي أساسها المحبة (الحقيقية) فيتمثل في الآية الكتابية التي يقول فيها السيد المسيح : لا تقاوموا من يسيء إليكم . من لطمك على خدك الأيمن ، فحول له الآخر ... متى ( - 5 : 39 ) وأيضاً لوقا (6: 29-30 ). وأما عن محبة الأعداء فيقول : أحبوا أعدائكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وباركوا لاعنيكم ، وصلوا من أجل المسيئين إليكم ... لوقا (6: 27-28 ) وأيضاً متى ... (5 : 44 ) ، أما موقف المسيحية من العنف فواضح جداً تظهره الآية الكتابية (متى 26 : 52) التي أوردها مرقس ولوقا ويوحنا أيضاً : (من يأخذ بالسيف ، بالسيف يهلك) .
هذه هيّ التعاليم المسيحية التي يفترض بالمسيحيين عامة ورجال الكنيسة بشكل خاص أن يلتزموا بها ، وهذه التعاليم السمحاء وليس أي شيء آخر ما دفع قداسة الحبر الأعظم للإعتذار للمسلمين الذين نالهم الأذى بسبب الحروب الصليبية ، ليس كما يعتقد المسلمون (عن جهل) بأنه إعتراف بعدوان مسيحي (صليبي) على بلاد المسلمين ، بل لأن مشاركة الكنيسة في الحروب مهما كانت غاياتها ودعم العنف مهما كان سببه وبغض النظر عن مرتكبه إنما يخالف التعاليم الكنسية المستمدة من الكتاب المقدس الذي ينبذ الحرب والعنف بشكل عام .
لذلك لم نر على طول تاريخ البشارة المسيحية أن السيد المسيح أو أحد تلاميذه قد جيش جيشاً أو رفع سيفاً لنشر الديانة المسيحية ، ذلك أن إله المسيحيين واثق وقادر على أن يقول للشيء كن فيكون ، كما أنه ليس بحاجة لمن يقاتل عوضاً عنه أو يمنحه حصة من غنائمه ، وهل من المعقول أن يطلب رب العرش وخالق الأرض والسموات وكل ما يرى وما لا يرى حصة من غنيمة تافهة مهما كبرت أوعظمت في عين البشر . ناهيكم عن أن إله المسيحيين صبور غفور واناته طويلة بطول الزمان ، فهو المبتدأ والمنتهى ، لذلك (لا إكراه في دينه ولا مبدل لكلامه) ، وأولاً وأخيراً لا حاجة له لمن يجيش له جيشاً بأسمه ويفرض على الناس واجب عبادته (بالنار والسيف) .
ومن هذا المنطلق الواضح ، فأنه باطل كل من يجيش جيشاً يدعي صاحبه نشر المسيحية بقوة السيوف ، علماً أن نشر الديانة المسيحية لم تدر يوماً في خلد من جيش جيوش الصليبيين ، لأن حملاتهم تلك لم تكن من أجل نشر الإيمان المسيحي ، وإنما حملات أمراء وملوك (دول أوربية) لحماية رعاياهم ومصالحهم وأراضيهم التي أمتهنها وأغتصبها المسلمون ، وما شارة الصليب التي ميزت تلك الحملات إلا دلالة إعتزاز هؤلاء الأوربيين بديانتهم التي أنتهك حرمتها المسلمون على مدى عدة قرون ، وخير دليل على ذلك أن الإمبراطور قسطنطين الأول قد حارب على رأس جيشه تحت راية الصليب ، ولم يكن ذلك من أجل نشر التعاليم المسيحية أو فرضها على الآخرين بالقوة ، وإنما فعل ذلك إبان نزاعه مع ماكسين (منافسه على حكم الإمبراطورية الرومانية) ، حيث حسم النزاع بعد معركة جسر ميلفيان عام 310م لصالح الإمبراطور قسطنطين الأول .
وما يعنينا هنا أن رفع الأوربيين لراية الصليب أو إرتداء الدروع وتقلد التروس المزينة بشارة الصليب لم يبدأ على عهد الحروب الصليبية كما يروج لذلك (كذباً) دعاة الجهاد الإسلامي ، وإنما كان ذلك تقليداً أوربياً متعارفاً عليه سبق قيام الحروب الصليبية بما يقرب من (ثمانية قرون) لم يكن هنالك فيها ثمة من إسلام أو مسلمين .
أما الغرض من وضع شارة الصليب أو حملها أو تقلدها أوربياً ، فقد كان دافعه خليطاً من العرف العسكري والإعتزاز وطلب الحماية الإلهية حسب ، والتي ترجع جذورها إلى زمن الإغريق الذين كانوا يضمنون دروعهم وتروسهم رموزاً دينية (علماً أن أصل هذا التقليد يعود إلى بلاد الرافدين القديمة) .
عموماً ، أن إستخدام شارة الصليب إبان الحروب الصليبية كان مبعثه تمييز المقاتلين الأوربيين عن خصومهم من ناحية وطلباً للحماية الإلهية من ناحية أخرى ، والأخيرة لا تعدو أن تكون قناعة بشرية محضة لم ترد في الكتاب المقدس أو تفرضها التعاليم المسيحية الروحانية الخالصة مطلقاً .
ولمن لا يعلم من الأخوة المسلمين فأن الديانة المسيحية هيّ (الديانة الروحانية الوحيدة) التي لا علاقة لها بالأرضيات ، ذلك أن مملكة (المسيحي) الصحيح (بحسب الكتاب المقدس) ليست من هذا العالم ، لذلك إذا ما قام شخص أو ملك بتبرير تجييشه للجيوش متذرعاً بالديانة المسيحية ، فإنه إنما يكشف عن جهله المدقع بالتعاليم المسيحية التي ترفض العنف أصلاً ، لأن الدفاعيات المسيحية ترفض منطق العنف والسيف مفضلة منطق الحوار والتبشير بكلمة الرب حسب متمثلين بوداعة الحمام ، لأن إله المسيحيين (واثق وقادر) على كسب حب شعبه بالحجة والمنطق حسب . وتأكيداً على ذلك نضرب مثالين مستمدين من تاريخ الدولة (العباسية) الإسلامية يدلان على شجاعة المسيحي عندما يختبر إيمانه ، وأيضاً طريقته المسالمة المتميزة بالحوار المتحضر عند الدفاع عن ذلك الإيمان :
يتمثل أولهما في المساجلة التي حدثت بين الخليفة المهدي والبطريرك الكبير طيمثاوس الأول 727-823 م الذي عاصر المهدي وهارون الرشيد والأمين والمأمون ، وفي تلك المساجلة تمكن البطريرك من إقناع الخليفة المهدي بالأفكار الرئيسة للمسيحية مثل (تجسد السيد المسيح والثالوث الأقدس ودحض شهادة العهدين عن نبي المسلمين وموت المسيح على الصليب) وغيرها من دفاعيات مسيحية لعبت دوراً كبيراً في إحترام الخلفاء للمسيحيين وتقريبهم من الخلفاء وتمكينهم من دواوين الدولة .
كذلك اذكر رسالة المسلم التقي عبد ألله بن إسماعيل الهاشمي لصديقه المسيحي عبد المسيح بن اسحق الكندي يدعوه فيها إلى الإسلام مبرراً له بالحجة أهمية ذلك ، فرد عليه صديقه المسيحي برسالة يدعوه فيها إلى المسيحية بعد أن فند حجج صديقه المسلم وبين له (أهمية الخلاص بالمسيح) ، وقد أورد البيروني هاتين الرسالتين في مؤلفه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) ، لا سيما بعد أشتهارهما بين العامة حتى وصلت بشكل وشاية مضخمة ومزورة إلى دار خلافة المأمون 813-833 م ، فطلب المأمون أن يأتوه بالرسالتين وبعد أن قرئتا عليه وهو مصغ لهما بعناية بالغة ، أجاب الوشاة قائلاً : ما كان له (عبد ألله بن إسماعيل) إلى أن يتعرض لما ليس من عمله حتى أجاز كتاف نفسه (أن يخسر المساجلة) ، فأما النصراني فلا حجة لنا عليه ، لأن الأمر لو لم يكن عنده هكذا لما أقام على دينه . والدين دينان : أحدهما دين الدنيا ، والآخر دين الآخرة . أما دين الدنيا فالدين المجوسي وما جاء به زرادشت . وأما دين الآخرة (بمعنى الروحاني) فهو دين النصارى وما جاء به المسيح ، وسكت . لكنه بعد أن رأى وجوم المستمعين من حوله لعدم إشارته إلى الدين الإسلامي أضاف قائلاً : وأما الدين الصحيح فهو دين التوحيد الذي جاء به (صاحبنا) ، لأنه الجامع للدنيا والآخرة . فأنفرجت أسارير من حوله .
وهكذا يتبين لمن يريد أن يستوعب جوهر المسيحية القائم على المحبة والتسامح وقبول إهتداء الآخر عن طريق الحوار والإرادة الحرة حسب ، فأنه سيفهم بالضرورة بأن إعتذار قداسة البابا يوحنا بولص الثاني كان دافعه الأول والأخير (إيمانه المسيحي الذي ينبذ العنف ويشيد بالمحبة والسلام) ، وبالتالي فإن إعتذاره ذاك لم ينطلق من إعتبارات تتعلق بشرعية أو عدم شرعية تلك الحروب كما يتخيل المسلمون ، كما أنه لم يوجهه بدوافع سياسية أو وطنية أو أي دافع دنيوي آخر ، ذلك أن قداسة البابا يوحنا بولص الثاني هو بكل بساطة ووضوح (رجل ألله) الذي سعى بدافع من إيمانه المسيحي حسب أن يصلح ذلك الخطأ التاريخي المتمثل في تدخل الكنيسة في تلك الحروب التي لا تمت بأيما صلة إلى العقيدة المسيحية الروحانية الخالصة .
تصويب وتفنيد ما جاء في متن رسالة جامعة ييل :
أما بخصوص رسالة جامعة ييل الأمريكية ومن آزرها من رجال الدين المسيحيين التي أعدها وبعثها نيابة عنهم البروفيسور ميروسلاف فولف (مدير مركز الإيمان والثقافة) في جامعة ييل (وهيّ جامعة معروفة بتطرف أساتذتها الوجودي وكادرها الذي يغلب عليهم روح الإلحاد ومناوئة المسيحية) وهيّ الصفة الغالبة اليوم على مجتمع المستعمرات الثلاثة عشر التي كانت أساس قيام دولة الولايات (الفيدرالية) المتحدة ، فأنها تمثل وجهة نظر تلك الجامعة المتطرفة والجو المغرق في ليبراليته الذي يسود تلك الولايات المعروفة اليوم بتطرفها وتشجيعها لبدعة زواج مثيليي الجنس وما يطلق عليه مبدأ التصحيح السياسي المنفلت ومناوئتها الصريحة للمسيحية بذريعة الفصل ما بين الدولة والدين الذي ينادي به الدستور الأمريكي ، علماً أن فقرات الدستور الأمريكي غير معنية على الإطلاق بإلغاء وجود ألله الذي هو (إيمان) وليس (ديانة) ، كما لا تدعو تلك الفقرات إلى التجاوز على المسيحية التي كانت ثقافتها وقيمها المنبع والأساس الذي بني عليه الدستور الأمريكي .
وقد جاءت رسالة جامعة ييل رداً على رسالة (كلمة سواء بيننا وبينكم) التي بعثها الداعية الإسلامي الحبيب علي الجفري نيابة عن 138 عالماً مسلماً من مختلف مذاهب أهل السنة والجماعة إضافة إلى علماء من الطوائف الشيعية ، والتي برغم ما تحتويه من (خطاب ودي وتأكيد على عبادة ألله ومحبته ومحبة الجار وتؤسس لخطاب مسيحي إسلامي معتدل) ، إلا أنها تثير عدداً من التساؤلات التي لا بد من توضيحها ، علاوة على تجاهلها الكبير لحقوق السكان الأصليين لبلدان الشرق الأوسط وتلاعبها بحقائق التاريخ الدامغة المتمثلة بقرون من الإمتهانات والمذابح لأبناء الديانات الأخرى ولاسيما المسيحية واليهودية وهو ما يقلل من مصداقيتها وتأثيرها على المدى البعيد ، وهذا ما سأتناوله هنا .
إن مراجعة بسيطة لخلفية البروفيسور ميروسلاف فولف ترينا أنه (كرواتي الأصل ، بروتوستانتي المعتقد ، وهو معتقد منشق عن الكنيسة الكاثوليكية الجامعة التي لا ينتمي إليها ميروسلاف ، والتي أثار رأسها ( البابا أريان الثاني) خلافاً للمعتقد المسيحاني المسالم حماس قادة الجيوش الصليبية في خطاب له في كليرمونت جنوبي فرنسا مما أشعل فتيل تلك الحروب ، علماً أن تلك الحملات لم تكن أكثر من (حرب دفاعية) و (رد فعل أوربي منطقي) على قرون من التجاوزات والإعتداءات والإحتلالات الإسلامية لأوربا ، وهو ما يؤكد دونما لبس بأنها لم تكن موجهة بدوافع نشر الإيمان المسيحي ، وما يؤكد ذلك أيضاً أن الحملة الصليبية الرابعة لم تتجه إلى الشرق أصلاً ، بل عمد قادة الحملة (رغم معارضة وإستياء البابا أنوسنت الثالث) إلى مهاجمة عاصمة أخوتهم المسيحيين الشرقيين (القسطنطينية) ، حيث أدى ذلك الهجوم (خلافاً للتعاليم المسيحية) إلى تحجيم دور (الكنيسة البيزنطينية) المنافسة لروما .
أما لو قمنا بتحليل محتوى رسالة ميروسلاف وجماعته (غير المسؤولة) لوجدنا أنها :
1- تصادق على مسألة غير واضحة ليس لعامة المسيحيين الغربيين حسب ، بل لمعظم المسيحيين المشرقيين الذين تم تضليلهم وتجهيلهم بحقائق تاريخ المنطقة ، حيث تتعاطف الرسالة (دونما مسوغ) مع الرواية العربية الإسلامية التي (لا أساس لها من الصحة) والتي تصور الحروب الصليبية على أنها محض (هجوم أوربي مسيحي عدائي على الشرق العربي المسلم) من أجل نشر الديانة المسيحية . وهيّ (مغالطة تاريخية) تعتمد (الفهم القرآني) لنشر الدين الإسلامي .
وهذه المغالطة الفاضحة هيّ التي يستخدمها الإسلامويون منذ القرون الأولى للإسلام وحتى اليوم لذبح المسيحيين المشرقيين وهدم وتفجير كنائسهم وتخريب حتى مقابرهم لإفراغ الشرق منهم في (ظل صمت دولي) و(عدم إعتراض أو إشارة من ميروسلاف ومن وقع معه تلك الرسالة) التي تثير علامات إستفهام كثيرة ، علماً ، بأنني قمت بتفنيد (مغالطة) أو (إدعاء) العرب والمسلمين عامة بصدد ما تسمى بالحروب الصليبية ، و(تكذيب ذلك الإدعاء الباطل) بشكل لا لبس فيه في القسم الأول من بحثي الموسوم (الحروب الصليبية وصراع الأضداد -السيف والصليب- !) والذي يمكن قراءته على الرابط التالي :
http://kaldaya.net/Articles/600/Atricle659_Dec1_07_AmerFatuhi.html
2- أن رسالة ميروسلاف وجماعته تطلب الصفح من الأمة الإسلامية ومغفرة ألله . الحق أنني في الوقت الذي أفهم فيه جيداً طلب المغفرة من ألله ، لأن طلب المغفرة مسألة صحية ولازمة لجميع الذين يؤمنون بالله ، إلا أنني أجد طلب الصفح من الطرف المعتدي (ما يسمى بالعالم الإسلامي) الذي يصور نفسه (خلافاً للواقع) بمظهر الضحية ، إنما هو خطأ تاريخي وأخلاقي لا يغتفر .
فهل من المعقول أن تجوز الإدعاءات والمغالطات العربية الإسلامية على أساتذة ولاهوتيين مثل ميروسلاف ورجال الدين البروتوستانت ، مع أنه بإمكان أي إنسان إعتيادي وبمراجعة بسيطة لجوهر وتاريخ الديانتين (المسيحية والإسلامية) أن يتوصل إلى نتائج وحقائق لا تقبل الجدال ، وهيّ : أن الديانة المسيحية منذ بدء بشارة السيد المسيح وحتى إعلان مرسوم ميلانو عام (313م) على عهد الإمبراطور قسطنطين الأول الذي أعترفت فيه الإمبراطورية الرومانية بالديانة (المسيحية) ثم تبنيها فيما بعد ، وتحديداً في عام (438) على عهد الإمبراطور ثيودوسيوس كدين رسمي بديل عن العقائد الوثنية القديمة ، (لم يرفع مسيحي واحد سيفاً على أحد) أو تفرض المسيحية تعاليمها على أحد بالقوة ، لأن ذلك وبكل بساطة يتعارض تماماً مع العقيدة المسيحية التي تتطلب (الإيمان الصادق والإرادة الحرة) ممن يقبل المسيح (رباً ومخلصاً) .
وهكذا نجد أن المسيحية قد نمت وأنتشرت بالكلمة والإقتناع بالشهادة المسالمة التي تتضح أمثولتها بكل جلاء ووضوح في فداء السيد المسيح وحوارييه ورسله وشعبه ، ولعل عصور شهداء المسيحية المشرقيين والأوربيين الذي أمتد على مدى بضعة قرون دون أن يرفع مسيحي واحد سيفه لا بل حتى عصاه على أحد (خير دليل) على جوهر المسيحية الرافض للعنف والقائم على المحبة والإستشهاد عن إيمان ومحبة ورجاء وسلام داخلي .
في المقابل نجد أن الفهم القرآني وفلسفته لنشر الدين الإسلامي مختلفان تماماً عن المسيحية ، ولعل قراءة عاجلة لعدد من المصادر الإسلامية من الممكن أن تبين لنا طبيعة الإسلام وطريقة إنتشاره المعروفة جداً ، حيث كان الدين الإسلامي في أول الأمر مقتصراً في مكة على نبي المسلمين وبعض الأقرباء والمريدين مع عبيدهم أي (طبقة الأرذلين) بحسب النص القرآني ، وقد كانت ممارسته ولقاءات أتباعه الذين لم يتجاوز عددهم الأربعين (سرية للغاية) ، وكانت هذه الإجتماعات السرية تتم في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي في مكة ، ولم يعرف هذا الدين إنتشاره عالمياً إلا بعد تحوله من حركة (إصلاحية أبيونية) سرية ومسالمة إلى إستخدام العنف المسلح والقوة متمثلة بالغزوة والسرية التي كانت تنطلق من يثريبو (المدينة) التي عاش فيها نبي المسلمين لمدة عشر سنوات فقط ، حيث قصدها فاراً من ملاحقات ومضايقات أهل مكة وأبناء عمومته ليملك عليها في زمن قصير بعد نجاحه في التعرض (للقوافل التجارية المسالمة) وتصفية معارضيه وبخاصة من تطاولوا عليه بشعرهم أو مكذبين نبوته ، وذلك من خلال عمليات تذكر المصادر الإسلامية ومنها (السيرة النبوية وصحيح مسلم) أنها كانت تتم بليل وبسرية مطلقة ومن تلك العمليات التي تشهد عليها كتب التاريخ الإسلامي الآنفة الذكر ، نذكر على سبيل المثال تصفية (عصماء بنت مروان وأبي عفك اليهودي وكعب بن الأشرف وأبي رافع بن عبد ألله وسلام بن أبي الحقيق وأم قرفة وأبن شيبينة) وغيرهم كثير مما ليس هنا مجاله ، ناهيكم عن عدد كبير من الغزوات والسريات التي مهدت للقضاء على قبائل يثرب وتبوك الغنية والإستحواذ على ممتلكاتها قبل التوجه لتصفية الحسابات مع قادة مكة ، علماً أن نبي المسلمين شارك شخصياً في تسع وعشرين غزوة .
الجدير بالذكر هنا ، أن مصير سكان الجزيرة من مسيحيين ونصارى ويهود وبقية الملل لم يكن بأفضل من مصير كل من (رفض الدخول إلى الإسلام مرغماً) أو (أرتد عن الإسلام طوعاً) ، وقد ترسخ هذا (النهج العنفي) بعد وفاة نبي المسلمين محمد بن عبد ألله متأثراً بالسم الذي دس له في طعامه في المدينة من قبل زينب بنت الحارث ، وهيّ كما يذكر (البيضاوي) سبية يهودية جعلها نبي المسلمين من حصة سلام بن مشكم بعد أن قتل المسلمون زوجها وأبيها وعمها ونالوا من أهلها ما نالوا .
حيث قام الخليفة عبد الكعبة المعروف بأسم (أبو بكر الصديق) بشن حرب ضروس ضد القبائل التي أرتدت عن الإسلام (وهو ما يؤكد ثانية مسألة فرض الإسلام بالإكراه) ، فقهر جيش المسلمين الكبير العدة والعدد تلك القبائل المتفرقة في الجزيرة كل على حدة ، فأعاد من أعاد (مرغماً) إلى حظيرة الإسلام وقتل من قتل من الرافضين بالنار وحد السيف .
وقد واصل الخليفة المتزمت عمر بن الخطاب ذات النهج التوسعي فأحتلت جيوشه العراق (الذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالحجاز أو بما تسمى بجزيرة العرب) وفرض الإسلام على سكانه المسيحيين (بالقوة) ، ولعل خير مثال على حجم تلك التجاوزات اللا إنسانية بحق سكان العراق الأصليين ما أورده البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) حيث يذكر بأن عثمان بن حنيف ختم في يوم واحد على رقاب (550.000) ألف علج (كافر) من أبناء قرى وسط وجنوب العراق وهؤلاء العلوج (الكفار) الذين ينعتهم المستعرب الإسلاموي عمر فاروق : (أوباش النبط -الفلاحين- وأجراء القرى) وهما تسميتان عربيتان إسلاميتان تدلان على (الكلدان) الذين ذاقوا الأمرين من جيش الحجازيين الغزاة (برغم كل الدعم الذي قدمه مسيحيي العراق لجيش المسلمين) . ومع ذلك ، أستخدم غلاة المسلمين ضد مسيحيي العراق العديد من الأساليب البشعة لإجبارهم على إنكار دينهم والدخول في الإسلام ومنها وضع علامة الشيطان على أبوابهم ووسم جباه رجالهم بعلامات مهينة وهدم كنائسهم وإقتلاع قبور موتاهم ومنع إقامة طقوسهم ونهب ممتلكاتهم وقتل رؤسائهم ومنع نزول رجالهم في أيام الجمع إلى الشارع ونهيم عن إستخدام لغتهم وتبديل أسماء مناطقهم الأصلية إلى العربية وتهجيرهم من مدنهم ، ووصل الأمر حد إخصاء رجالهم وقلع أحدى أعينهم وقطع ألسنتهم ، ناهيكم عن هتك أعراضهم ، وهذا كله موثق في العديد من المصادر الإسلامية .
لذلك فإنه ليس من المنطق أو العدل المساواة ما بين ما تسمى بالغزوات والسريات والفتوح التي يقرها القرآن وأحاديث نبي المسلمين وبين ما تسمى بالحروب الصليبية التي لا يقرها الكتاب المقدس ، بذريعة أن كلا الدينين يستخدمان ويحثان على نشر الإيمان بالقوة ، لأن هذا وبكل بساطة (كذب وأفتراء) تفضحهما آيات الكتاب المقدس التي تحث على السلام والمحبة من ناحية ومن ناحية أخرى الأيات القرآنية التي تحث على الفتح والقتال .
وبرغم هذا الفرق الشاسع الذي يتجاهله الكتاب المسلمون ما بين (غزوات وفتوحات المسلمين) وبين (الحروب الدفاعية الأوربية المسماة بالصليبية) ، نرى مجاراة عدد كبير من الكتاب والمؤرخين الغربيين الحاقدين على المسيحية (لعلة فيهم) لتلك الإدعاءات المنتشرة في العالم الإسلامي والتي تكتسب قوتها من ماكنة الدولار التي تغذيها آبار النفط في السعودية وإيران ، ولعل خير مثال على ذلك فلم (الإسلام سلام) الذي أنتج في بريطانيا بعد تفجيرات عام 2005م بأموال سعودية عبر منظمة (مسلمو بريطانيا) وبتزكية ليبرالية ، وكذلك فلم (إمبراطورية الإيمان) الذي أنتجته شركة (بي بي إس) بدعم مموه من إيران والسعودية وقام عدد كبير من الأساتذة الجامعيين والإعلاميين الليبراليين والملحدين في بريطانيا والولايات المتحدة بإضفاء الشرعية على محتواه التمجيدي والتبريري ، ولعل الزيارة الأخيرة للأمريكية سندي شيهان للضغط على حكومة حسني مبارك للإفراج عن عدد من قادة الأخوان المسلمين (قادة الإرهاب في العالم) خير دليل على غباء وسذاجة وتفاهة معظم أفراد المجتمع الغربي الليبرالي المتطرف ، ومع ذلك عندما يتطلب التكتيك الإسلاموي تأجيج مشاعر عامة المسلمين ضد الغرب يتهم بالصليبية ؟!!!
وعوداً على بدء ، أي معرفة مَن الباديء بالعدوان على مَن ، (الهلاليون) المشرقيون أم الأوربيون (الصليبيون) ، وبالتالي مَن الذي عليه أن يعتذر لمَن ؟
أستشهد بحادثة الرسائل التي أرسلها نبي المسلمين شخصياً إلى ثلاثة أطراف من أطراف المعمورة (ذات الأغلبية المسيحية) والتي تثبت بالدليل القاطع (مَن هو الذي بدأ بالعدوان على دين الآخرين) وبدأ (مسلسل الدم) لم يجف حتى لحظة كتابة الموضوع ، وقد أيد الأزهر وعامة علماء المسلمين تلك الرسائل التي تؤيدها المصادر الإسلامية التقليدية ، حيث أطلع العالم كله من خلال النسختين العربية والإنكليزية من فلم مصطفى العقاد الشهير (الرسالة) على محتواها المعروف من قبل عامة المسلمين ، أما تلك الرسائل التي وجهها نبي المسلمين شخصياً إلى خسرو الثالث المعروف عند العرب بكسرى وهو ملك بلاد فارس والعراق المسيحي آنذاك ، الرسالة الأخرى وجهها إلى المقوقس -حاكم مصر الروماني الأصل- يسميه المسلمون عظيم القبط (المسيحيين) ، أما الرسالة الثالثة فقد وجهها إلى هرقل ملك المسيحيين الروم (بحسب القراءة العربية) ، وتلك الرسائل (كما يعرف الجميع) لم تكن تتضمن دعوة أخوية للسلام أو دعوة للحوار الديني ، ذلك أن مثل ذلك الحوار كان قد ثبت فشله مع وفد (مسيحيي نجران) بشخص أميرهم العاقب بن عبد المسيح وأسقفهم أبو حارثة بن علقمة اللذين ناقشا نبي المسلمين في الفرق ما بين العقيدتين وأنتصروا في النقاش لعقيدتهم (المسيحية) التي ميزها القرآن عن النصرانية أثر ذلك النقاش الخاسر إسلامياً بصفة (الغلو) ، ذلك أنها فاجئت نبي المسلمين بإختلافها الجوهري عن العقيدة (النصرانية الأبيونية) التي نشأ الإسلام على أنقاضها ، والتي تربى عليها معظم أهل مكة ومنهم آل بيت رسول المسلمين (إبتداء بقصي) ونسله (عبد العزي وعبد الدار وعبد مناف وعبد قصي) مروراً (بأسد وهاشم وذريتهما) ، والتي كان أساسها (أنجيل العبرانيين) الذي عربه (أسقف مكة) ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي ، وذلك في جبل حراء شرق مكة الذي كان يتحنث فيه مع تلاميذه !!!
لكن أهل واحة نجران دفعوا ثمن دفاعهم المتحضر عن ديانتهم المسيحية باهظاً ، وذلك عندما غزاهم جيش المسلمين (رغم عهد الأمان الذي كاتبهم عليه نبي المسلمين) ، فتم الإستيلاء على تلك الواحة المعروفة آنذاك بغناها الواسع وحياة أهلها المسالمين فقتل من قتل وهرب بجلده من نجى منهم إلى (الحيرة) في العراق.
المهم هنا أن مسيحيي العراق (النساطرة آنذاك) أو قبط مصر (الأرثوذوكس) أو حتى مسيحيو الإمبراطورية الرومانية (الكاثوليك) لم يفكروا يوماً بغزو الجزيرة العربية ليفرضوا على أهلها ديانتهم المسيحية (بحد السيف) ، بل أن من فعل ذلك (بتفويض إلهي بحسب المعتقد الإسلامي) هم المسلمون وبشكل أدق نبي المسلمين وخلفائه من بعده ؟!!
وتؤكد العديد من البحوث والمنشورات الإسلامية على أن السبب الرئيس لقيام الغزوات الكبرى أو ما تسمى بالفتوح إنما كان مرده نهي المسلمين عن غزو القبائل المجاورة التي تتشارك معها بالإسلام ، (ولما كانت العرب - خير أمة أخرجت للناس - قبائل غزو وسلب) ، فقد تم توجيهها إلى غزو الإمبراطوريات المجاورة الثرية التي كانت تعيش آنذاك مرحلة بذخ وإنهيار وتفسخ داخلي شنيع . وهكذا يتضح بأن المسلمين هم الذين بدأوا بالعدوان على الآخرين من مشرقيين وأوربيين ، وأنهم (هم ولا أحد غيرهم) من بدأ بأحتلال أراضي الأوربيين من أجل فرض الإسلام عليهم بالقوة .
وخير دليل على ذلك ما جاء على لسان الصحابي أبن عباس والذي أورده (السيوطي) ، أن نبي المسلمين قال لأصحابه : أغزوا تغنموا بنات بني الأصفر (بنات الروم الشقراوات !) .
وأختم هذا بما ورد في الصفحة (22) من كتاب (حروب دولة الرسول) للمسلم المعروف سيد محمد القمني والذي جاء فيه على لسان نبي المسلمين : (أتبعوني أجعلكم والذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر !! ) ... وإن لم يكن (الإستحواذ على بنات بني الأصفر) و (تملك كنوز كسرى وقيصر) هو العدوان بعينه ، فكيف يكون العدوان أثابكم ألله ؟!!
لرب قائل يقول: أن تلك الغزوات والسريات لم تكن إلا فتحاً إلهياً (وهذه قناعة تخص المسلمين فقط) . هنا يهمني أن يفهم ذلك المسلم قبل غيره بأن معنى الفتح كما أوردته آية النصر - مدنية - : (بمعنى فتح دار الشرك والكفر ودخولها في دائرة الإسلام) ، وهذا يتناقض تماماً مع الوصف القرآني الأصلي عن أهل الكتاب ، ذلك أن أهل العراق والشام ومصر والإمبراطورية الرومانية كانوا من المسيحيين واليهود ، أو كما تصفهم الآيات القرآنية (أهل الذكر) و (أهل مودة وإحسان) .
ولأنهم أهل دين وكتاب وغير عدوانيين بشهادة القرآن ، فأن مفردة الفتح تعد باطلة تماماً ولا تجيز ضمن العقيدة الإسلامية (إسلام مكة) غزوهم . لكن نية العدوان على الآخرين من شرقيين (كلدان وآراميين سوريين وقبط) وغربيين (صليبيين) بغطاء ديني إنما هيّ من بنات أفكار المسلمين الذين وجدوا في حسناوات وكنوز كسرى وقيصر غايتهم.
والسؤال الأخير الذي يفرض نفسه هنا هو : مَن ينبغي أن يعتذر مِن مَن جراء أنهار الدم التي أسالتها الفتوح الإلهية المفترضة ؟
لا سيما وأننا لم نسمع إعتذاراً واحداً قد صدر على مدى القرون من أي طرف رسمي إسلامي علماني أو ديني عن سلسلة المذابح التي طالت المسيحيين المشرقيين على طول التاريخ الإسلامي ، والتي ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا تحت غطاء مريب وتعتيم منظم ومدروس من قبل الحكومات العربية والإسلامية ومرتزقتها الغربيين ؟!!!
أعتقد أن على الداعية الجفري وعلمائه الأفاضل من شتى المذاهب الإسلامية أن يبادروا إلى (طلب الصفح والمغفرة من المسيحيين المشرقيين) جراء بحيرات الدم التي أغرقوا بها الشرق والعالم أجمع منذ بداية التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا ، لا سيما وأنها تمت بحق شعوب مسالمة آزر بعضها (الكلدان والقبط) جيوش المسلمين أملاً في التخلص من ربقة الإحتلال الأجنبي (الفارسي والروماني) ، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار !!
كما ينبغي على الجفري وعلمائه الأفاضل أن يستغفروا ربهم ويطلبوا صفح المسيحيين الأوربيين الذين قام المسلمون بغزو بلدانهم وسلب ممتلكاتهم وهتك أعراضهم على مدى عدة قرون قبل أن يطردهم سكان تلك البلدان ، وما خطبة البربري طارق بن زياد (المفصلة في الرابطين الأخيرين الواردين في أسفل الموضوع) إلا مثال حي على طبيعة تلك الغزوات الفاشية الغاشمة .
أما للبروفيسور ميروسلاف فولف وأساتذة جامعة ييل ورجال الدين البروتستانتيين الذين صادقوا على تلك الوثيقة فأقول : جميل جداً أن تشيع قيم المحبة وأسلوب الحوار الحضاري ما بين الأديان ، لكن من السذاجة والخطل أن يتم ذلك على حساب تجاهل دماء ملايين الضحايا من المسيحيين الأبرياء ، كما أن من الخطأ طلب الصفح من المسلمين الذين بدأوا الحرب (وما زالوا) على الديانات الأخرى (بتفويض إلهي) مفترض !
لقد كان المسلمون وما زالوا هم الطرف (الظالم) حتى لو أفترضنا (خلافاً للواقع) بأن الصليبيين كانوا أجلافاً وقساة ، أليس العرب من تقول : (الباديء أظلم) ؟!
أخيراً ، رغم قناعتي الشخصية الكاملة بلا جدوى مناقشة عامة المسلمين في الأمور الدينية نظراً لجهل معظمهم بحقائق التاريخ الإسلامي ، فأنني أعتقد أن أول خطوة نحو حوار علماني صادق وحقيقي وليس (حوار إستغفال وخداع وإستعراضات إعلامية) ، إنما تتطلب وفقاً للحجة والقرينة والمنطق والأخلاق أن يبدأ قادة المسلمين بطلب الصفح من ملايين الضحايا المسيحيين وغيرهم من ضحايا أبرياء ما تزال دمائهم المهدورة وأعراضهم المنتهكة وأراضيهم المستلبة منذ قرون وحتى يومنا هذا تستصرخ الضمير الإنساني دون مجيب ، فهل يفعلها قادة المسلمين ؟!!
إنتباهة لقراءة المزيد حول الفضائع التي أرتكبها الغزاة المسلمون والموثقة في كتبهم المتفق على صحتها أنظر الرابط التالي :
http://kaldaya.net/2008/Articles/100/Atricle21_Jan19_08_TomaShamani.html
ولقراءة وجهة نظر الكاتب المسلم الدكتور فواز الفواز التي تؤكد حقيقة مسالمة ووطنية المسيحيين المشرقيين ، أنظر الرابط التالي :
http://karemlash4u.com/vb/showthread.php?t=16150
إشكالية الحروب الصليبية وعروبة فلسطين بين الحقائق الدامغة والإدعاءات الباطلة !!
القسم الأول
الحروب الصليبية وصراع الأضداد (السيف والصليب) !
http://kaldaya.net/Articles/600/Atricle659_Dec1_07_AmerFatuhi.html
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,147253.0.html
الحروب الصليبية وصراع الأضداد (السيف والصليب) !
http://kaldaya.net/Articles/600/Atricle659_Dec1_07_AmerFatuhi.html
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,147253.0.html