عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - حسن العاصي

صفحات: [1]
1
حسن العاصي
باحث وأكاديمي فلسطيني مقيم في الدنمرك


العلوم العربية بين الأمجاد والارتداد

على مدى آلاف السنين الماضية، كان تاريخ العالم مدفوعاً بقوى أربع حضارات مهيمنة: الصينية، والهندية، والعربية، والأوروبية. وبينما طورت هذه الحضارات الأربع هوياتها الخاصة وشرائع الأعمال المقدسة، كان هناك على مر التاريخ قدر كبير من التلقيح المتبادل بين الحضارات الأربع. ونذكر مثالاً واحداً فقط من أمثلة متعددة: كان العالم العربي المسلم، ابن رشد (1126-1198)، المولود في قرطبة، وهو عالم في الفلسفة الأرسطية، ويُعرف على نطاق واسع بأنه الأب المؤسس للفكر العلماني في أوروبا.
تطورت الحضارات الأربع وتوسعت من خلال مزيج من التجارة والاستكشاف والحرب والغزو والأيديولوجية (الدين). وكانت الحضارة العربية هي الأخيرة من الناحية التاريخية. نشأت من زمن النبي محمد” ﷺ " (570-632) وتجميع القرآن الكريم، مدفوعاً بمفهوم الأمة – مجتمع جميع المسلمين الذين يوحدهم الدين وليس العشيرة أو العرق. وفي القرون التالية توسعت الأمة عبر معظم جنوب وشمال البحر الأبيض المتوسط، وشمال وشرق أفريقيا، وعبر آسيا الوسطى وصولاً إلى الهند، عبر المحيط الهندي، عبر بحر الصين الجنوبي، لتصل إلى ما يسمى اليوم إندونيسيا.
بدأ صعود أوروبا مع "عصر الاكتشافات" في أواخر القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث أتاحت التقنيات البحرية الجديدة ورسم الخرائط وانتشار المطبعة للإمبراطوريات الأوروبية المنقولة بحراً غزو "العالم الجديد". مع الثورات الزراعية والعلمية والتجارية والصناعية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي حدثت، منذ أوائل القرن التاسع عشر، أصبح شمال غرب أوروبا يهيمن على العالم. وفي حين كانت حصة أوروبا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1700 تبلغ 20%، فإنها بحلول عام 1900 تضاعفت إلى أكثر من 40%.
لقد تحطم التوازن الاقتصادي والسياسي والعلمي والعسكري والثقافي والنفسي الذي كان قائماً بين الحضارات الأربع لعدة قرون في ضوء صعود أوروبا الذي لا يرحم على ما يبدو، وفي ضوء تحول الأوروبيين، على حد تعبير عنوان العمل الذي كتبه الراحل المؤرخ فيكتور كيرنان، "أسياد الجنس البشري" (1969). يشير الصينيون إلى الفترة التي تلت حرب الأفيون الأولى (1839) إلى التحرير (1949) باسم "قرن الإذلال". لقد تعرض جميع غير الأوروبيين للإذلال.
العصر العالمي الجديد
لقد حدثت عدة اتجاهات تحويلية رئيسية في العقود الأخيرة. أحدها كان انحدار أوروبا. الإمبراطوريات الأوروبية لم تعد موجودة. ومن 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1870، أصبح بحلول عام 2010 أقل من 20%، وهو نفس المستوى تقريباً الذي كان عليه في عام 1700. وسوف تستمر أوروبا في الانحدار ديموغرافياً واقتصادياً وجيوسياسياً. إن "القرن الأوروبي (التاسع عشر)" هو تاريخ، في حين يعلن النقاد ظهور "القرن الآسيوي (الحادي والعشرين)".
هذا التصوير مضلل. وفي حين أصبح شرق آسيا، والصين على وجه الخصوص، القاطرة الرئيسية للنمو العالمي وتقوم مؤسساتها بتوسيع نطاقها العالمي بشكل متزايد، شهدت منطقة جنوب آسيا، والهند على وجه الخصوص، بعض التحولات الواعدة، في جزء كبير من وسط وغرب آسيا، بما في ذلك معظم آسيا. يعيش العالم العربي حالة من الركود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والجيوسياسي المضطرب.
واليوم انتهى الإذلال في شرق وجنوب آسيا. وبوسع المرء أن يفتخر بكونه صينياً أو هندياً، ليس فقط بسبب أمجاد الماضي، بل بسبب إنجازات اليوم والتوقعات بتحقيق المزيد من التقدم في الغد. في المقابل، يمكن للعربي أن ينعم بأمجاد الماضي، لكنه لا يستطيع أن يستمد أي شعور بالفخر من ظروف الحاضر؛ وتبدو آفاق المستقبل، كما تبدو الأمور في عام 2024 قاتمة.
تفاقم الإحباط بشدة بسبب الحروب التي شُنت ضد العالم العربي، وخاصة بعد غزو العراق عام 2003. لكن جذور فشل العالم العربي في الارتقاء إلى مستوى التحديات والفرص التي يتيحها العصر العالمي الجديد بطريقة ديناميكية كما هي الحال في شرق وأجزاء من جنوب آسيا تسبق هذه الأحداث. ويمكن العثور عليها في جزء كبير منها إلى الحالة الاجتماعية والسياسية المتعفنة في الشرق الأوسط الموبوءة بالاستبداد والفوضى والعلاقة المضطربة، وغير العقلانية في بعض الأحيان، مع الغرب. لا توجد أمة عربية يستطيع العربي أن يعتبرها قدوة له بكل فخر. حتى دول الخليج، على الرغم من ثرواتها، لا يمكن اعتبارها قدوة لأسباب عديدة.
اليوم، يمكن رؤية عولمة الشركات والأفراد في شرق وجنوب آسيا في مجالات متعددة: الأعمال التجارية، والخدمات المصرفية، والأكاديمية، والفنون، والإعلام، وما إلى ذلك. ولم تعد هذه الأجزاء من العالم تعاني من "هجرة الأدمغة" الحادة. هناك قدر كبير من الحركة عبر القارات. إن الفيتناميين الذين عانوا من الإرهاب والإذلال على أيدي الغرب (الفرنسي والأمريكي) أصبحوا الآن مندمجين بشكل جيد في الرأسمالية العالمية. وقد عاد العديد من ركاب القوارب السابقين إلى فيتنام كرجال أعمال (على الرغم من حرصهم على الاحتفاظ بجوازات سفرهم الغربية). ويعيش ما يقدر بنحو 2.75 مليون فيتنامي في أجزاء مختلفة من الغرب. لقد أدى التأثير الواضح للاندماج في العولمة إلى ظهور ما أطلق عليه "نظرية الدومينو العكسية" في جنوب شرق آسيا. وتظهر ميانمار (بعد فيتنام ولاوس وكمبوديا) كمشارك جديد. وتظل كوريا الشمالية هي الحالة المتطرفة.
وفقاً للمقولة الشهيرة لتشارلز داروين القائلة بأن البقاء ليس للأقوى ولا بالضرورة الأكثر ذكاءً، بل الأكثر استجابة للتغيير، تنشأ الدراما العربية بطرق عديدة من عدم رغبتها في التكيف مع التغيير، وعدم رغبتها في التعامل مع التغيير. العصر العالمي الجديد، في تناقض صارخ مع المجتمعات في شرق آسيا. وكما قال الاقتصادي اليساري الراحل جوان روبنسون مازحا: إن الأسوأ بكثير من أن يتم استغلالك من قبل الرأسمالية العالمية هو أن تتجاهلك الرأسمالية العالمية. وبعيداً عن النفط، فإن العالم العربي لا يكاد يظهر على خريطة الأعمال العالمية؛ عدد قليل جداً من الشركات العربية تشارك في سلاسل القيمة العالمية.
يبدو أن إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم، تمر بتحول اقتصادي واجتماعي وسياسي إيجابي. من المؤكد أن العالم العربي سيتعلم الكثير من التحول نحو العولمة في جنوب شرق آسيا. ولكن في نهاية المطاف، لا بد أن يأتي الإصلاح من العرب أنفسهم تحت قيادة عربية. فقد تتوفر منارة صغيرة من الضوء. إصلاحات جذرية على جميع المستويات - المجتمع والتعليم والثقافة والسياسة والحكم والاقتصاد والعلوم - داخليا واحتضان الفرص التي توفرها العولمة.






العصور الوسطى
كان العالم الإسلامي قبل ألف عام مليئاً بالأفكار التي تشمل العلوم والثقافة والاقتصاد. كان "بيت الحكمة" القلب النابض، حيث ترجم العلماء النصوص الأجنبية الكلاسيكية إلى اللغة العربية، وقيل إنه تم ببناء أكبر مجموعة من المعرفة في العالم. لقد ازدهرت علوم الجبر والفلك والطب والكيمياء في عصر يُوصف أحياناً بالرومانسية في الغرب باعتباره "العصر الذهبي".
بدأ العصر الإسلامي عام 622. وفي نهاية المطاف، غزت الجيوش الإسلامية شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد ما بين النهرين، ونجحت في تهجير الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية من المنطقة في غضون بضعة عقود. وفي غضون قرن من الزمان، وصل الإسلام إلى منطقة البرتغال الحالية في الغرب وآسيا الوسطى في الشرق. امتد العصر الذهبي الإسلامي (ما بين 786 و1258 تقريباً) خلال فترة الخلافة العباسية (750-1258)، مع هياكل سياسية مستقرة وتجارة مزدهرة. تُرجمت الأعمال الدينية والثقافية الرئيسية للإمبراطورية الإسلامية إلى العربية وأحيانًا الفارسية. ورثت الثقافة الإسلامية التأثيرات اليونانية، والهندية، والآشورية، والفارسية. وتشكلت حضارة مشتركة جديدة على أساس الإسلام. وتلا ذلك عصر من الثقافة العالية والابتكار، مع نمو سريع في عدد السكان والمدن. جلبت الثورة الزراعية العربية في الريف المزيد من المحاصيل وتحسين التكنولوجيا الزراعية، وخاصة الري. وقد دعم هذا العدد الأكبر من السكان ومكن الثقافة من الازدهار. منذ القرن التاسع فصاعداً، قام علماء مثل الكندي بترجمة المعرفة الهندية والآشورية والساسانية (الفارسية) واليونانية، بما في ذلك أعمال أرسطو، إلى اللغة العربية. وقد دعمت هذه الترجمات التقدم الذي أحرزه العلماء في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في وقت سادت فيه العقيدة المسيحية في أوروبا بالعصور الوسطى، التي تقول بأن العالم قد تطور وفقاً لخطة إلهية محددة سلفاً.

العهد العباسي
في العهد العباسي (750 إلى 1258)، تم تشجيع التعلم في الإسلام في كل مجال من مجالات المعرفة، وسافر العلماء من كل لون ومذهب إلى دمشق وبغداد للدراسة والعمل. وفي هذه الأوقات المتسامحة، شجع قادة الإسلام التعلم واستخدام العقل لفهم الطبيعة. اعتنق الخلفاء العباسيون الأوائل - وأبرزهم المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، الذين حكموا من 754 إلى 833 - العلم كسياسة محددة للدولة، إيذانا ببدء عصر ذهبي للحضارة العربية الإسلامية. تلا ذلك حركة متحمسة لترجمة ودراسة الكتب القديمة وتطوير المعرفة الجديدة على نطاق غير مسبوق. حقق العلماء العرب والمسلمون إنجازات في كل مجال من مجالات العلوم: الرياضيات، وعلم الفلك، والطب، والبصريات، والفلسفة. لقد أرست أعمال الرازي والخوارزمي المبدعة في القرنين التاسع والعاشر الأساس للطب السريري الحديث والرياضيات، وسرعان ما انتقل هذا التعطش للمعرفة إلى أجزاء أخرى من الإمبراطورية الإسلامية، وسرعان ما تنافست الأندلس مع بغداد باعتبارها المركز الثقافي للعرب والمسلمين.

عصر النهضة
تم وضع أسس الفكر العلمي الإسلامي قبل وقت طويل من ترجمة المصادر اليونانية رسمياً إلى اللغة العربية في القرن التاسع. وبالاعتماد على رواية المؤرخ الفكري ابن الناديم في القرن العاشر والتي تجاهلها معظم العلماء المعاصرين، يذكر المفكر "جورج صليبا" في كتابه " العلوم الإسلامية وصناعة النهضة الأوروبية" أن الترجمات المبكرة من المصادر الفارسية واليونانية بشكل رئيسي والتي تحدد الأفكار العلمية الأولية لاستخدام الإدارات الحكومية كانت الدافع للتطوير. للتقاليد العلمية الإسلامية. ويجادل كذلك بوجود علاقة عضوية بين الفكر العلمي الإسلامي الذي تطور في القرون اللاحقة والعلوم التي ظهرت إلى الوجود في أوروبا خلال عصر النهضة.
إن أهم مفكرين إسلاميين ألهما رواد عصر النهضة هما ابن سينا (980 إلى 1037) وخاصة (كتاب الشفاء) وهو موسوعة علمية وفلسفية. يناقش ابن سينا فيه العقل ووجوده، والعلاقة بين العقل والجسد، والإحساس، والإدراك، وما إلى ذلك.
والثاني هو الفيلسوف ابن رشد (1126 إلى 1198)، الذي أعادت كتاباته وتعليقاته إلى أوروبا في العصور الوسطى النهج الأرسطي في دراسة الطبيعة عن طريق الملاحظة والاستدلال. ساعد ابن رشد على فتح طرق جديدة للتفكير من خلال محاولة التغلب على التناقضات بين الفلسفة الأرسطية والدين الموحى به، من خلال التمييز بين نظامين منفصلين للحقيقة - مجموعة علمية من الحقائق مبنية على العقل وهيئة دينية الحقائق المبنية على الوحي.
ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، تقدم النموذج العلمي لإنتاج المعرفة بلا هوادة في جميع أنحاء أوروبا. وفي الوقت نفسه، بدأت الحضارة العربية الإسلامية وإسهاماتها في العلم والمعرفة في تراجعها الطويل مع ابن خلدون (1332 إلى 1395) الذي أسس في “مقدمته” المبادئ الأساسية لعلم الاجتماع الحديث، وكان آخر أبرز العرب.

تراجع العلوم في العالم العربي
مع تقدم العصور الوسطى، بدأت الحضارة العربية في النفاد. بعد القرن الثاني عشر، كان لدى أوروبا علماء علميون أكثر أهمية من العالم العربي، كما أشار مؤرخ جامعة هارفارد جورج سارتون في كتابه مقدمة لتاريخ العلوم (1927-1948). بعد القرن الرابع عشر، شهد العالم العربي عدداً قليلاً جداً من الابتكارات في المجالات التي كان يهيمن عليها سابقاً، مثل البصريات والطب؛ ومن الآن فصاعدا، لم تكن ابتكاراتها في معظمها في عالم الميتافيزيقا أو العلوم، ولكنها كانت اختراعات عملية أضيق مثل اللقاحات. يقول برنارد لويس في كتابه الإسلام والغرب (1993): "لقد مر عصر النهضة والإصلاح، وحتى الثورة العلمية وعصر التنوير، دون أن يلاحظها أحد في العالم الإسلامي".
فالحضارة التي أنتجت المدن والمكتبات والمراصد وانفتحت على العالم، تراجعت الآن وأصبحت منغلقة ومستاءة، وعنيفة، ومعادية للخطاب، والابتكار.
وفي الوقت الراهن، لا يتناسب الإنتاج العلمي للعرب مع قدراتهم البشرية والاقتصادية. بالمقاييس المقارنة يشكل العرب 5% من سكان العالم، لكنهم ينشرون 1.1% فقط من كتبه، ومساهماتهم في براءات الاختراع لا تكاد تذكر. وبأخذ البحوث الطبية الحيوية كمثال، تنتج الدول العربية حاليا أقل من 1% من الاستشهادات في العالم وتساهم بأقل من 0.5% من الأوراق البحثية التي تظهر في 200 مجلة طبية رائدة. يقدر الإنفاق السنوي على البحث والتطوير في الدول العربية بنحو 0.15 % من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 1.4%. يعد نقص التمويل، وضعف الدعم المؤسسي، والتكامل الهزيل داخل المجتمع العلمي. وفيما يبدو وكأنه نكتة سيئة عن العلوم في العالم العربي فإننا نتفوق في ثلاثة مجالات علمية فقط: تحلية المياه، والصيد بالصقور، وتكاثر الإبل.
 من بين الأسباب العديدة التي ذكرها المحللون لتفسير الوضع الحالي العلوم في الدول العربية. كما أن هناك عوامل أكثر عمومية، مثل الحروب والصراعات والعقوبات السياسية والاقتصادية الدولية.
ولا شك أن هذه عوامل مهمة، ولكنها لا تشمل الجذور الأكثر جوهرية للوضع الحالي للعلوم في العالم العربي. على سبيل المثال، فإن البلدان التي تتمتع بفترات طويلة نسبيا من الاستقرار والرخاء مثل دول الخليج لا تكون أفضل حالاً من حيث البحوث الطبية الحيوية، وخاصة عندما يؤخذ في الاعتبار العدد الكبير من العلماء الأجانب العاملين هناك. من ناحية أخرى، فإن دول مثل المغرب وفلسطين ومصر والأردن والعراق وهي دول ليست ثرية، تكون أفضل حالاً من الدول العربية الأخرى عندما يتم موازنة إنتاجها العلمي مقابل ناتجها المحلي الإجمالي. حيث يستحوذ المغرب على سبيل المثال على أكثر من نصف الأبحاث والدراسات التي تصدر سنوياً عن الدول المغاربية، خاصة في العلوم الإنسانية. وهذا يشير إلى أن عوامل متعددة تلعب أدواراً حاسمة في تقييم العلوم في المجتمعات العربية.

السيطرة الناعمة
فقد أدى انتشار وتوسع تكنولوجيات المعلومات إلى غزو لا يرحم للثقافة الغربية في كل مجالات الحياة تقريباً. ومع القنوات الفضائية، والإنترنت، والاتصالات الإلكترونية، تسللت أنماط الحياة والأزياء والسلوك والقيم الغربية إلى البيوت العربية دون أي وسيلة حقيقية للسيطرة على هذا التدفق.
يمكن للثقافة "المتلقية" أن تنظر إلى التأثير الثقافي باعتباره تهديدًا لهويتها الثقافية أو إثراء لها. لذلك يبدو من المفيد التمييز بين الإمبريالية الثقافية باعتبارها موقفاً (إيجابياً أو سلبياً) للتفوق، وموقف ثقافة أو مجموعة تسعى إلى استكمال إنتاجها الثقافي، الذي يعتبر ناقصاً جزئيًا، بمنتجات مستوردة.
يمكن أن تمثل المنتجات أو الخدمات المستوردة نفسها أو ترتبط بقيم معينة (مثل النزعة الاستهلاكية). ووفقاً لإحدى الحجج، فإن الثقافة "المتلقية" لا تدرك بالضرورة هذا الارتباط، ولكنها بدلاً من ذلك تمتص الثقافة الأجنبية بشكل سلبي من خلال استخدام السلع والخدمات الأجنبية. نظراً لطبيعتها المخفية إلى حد ما، ولكنها قوية جداً، وصف بعض الخبراء هذه الفكرة الافتراضية بأنها "الإمبريالية المبتذلة". على سبيل المثال، يقال إنه في حين أن "الشركات الأمريكية متهمة بالرغبة في السيطرة على 95% من المستهلكين في العالم"، فإن "الإمبريالية الثقافية تنطوي على أكثر بكثير من مجرد سلع استهلاكية بسيطة؛ فهي تنطوي على نشر المبادئ الأمريكية مثل الحرية والديمقراطية". وهي عملية "قد تبدو جذابة" ولكنها تخفي حقيقة مخيفة: العديد من الثقافات حول العالم تختفي بسبب التأثير الساحق للشركات والثقافة الأمريكية.
يعتقد البعض أن الاقتصاد المعولم حديثاً في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين قد سهّل هذه العملية من خلال استخدام تكنولوجيا المعلومات الجديدة. وهذا النوع من الإمبريالية الثقافية مستمد مما يسمى "القوة الناعمة". توسع نظرية الاستعمار الإلكتروني القضية لتشمل القضايا الثقافية العالمية وتأثير تكتلات الوسائط المتعددة الكبرى، بدءًا من باراماونت Paramount، ووارنر ميديا  WarnerMedia، وإيه تي آند تي AT&T ، وديزني Disney، ونيوز كورب News Corp ، إلى جوجل Google ، ومايكروسوفت Microsoft ، مع التركيز على القوة المهيمنة لهذه الشركات المتحدة بشكل أساسي كونها عمالقة الاتصالات في العالم.

صناعة العلوم العربية
يحتاج العالم العربي الذي يموج بالاضطرابات السياسية، بصورة ماسة إلى ثورة جديدة لإصلاح ثقافتي التعليم والبحث. ركزت صحوة الشعوب العربية في السنوات القليلة الماضية، على البعد السياسي للتغيير المجتمعي بهدف القيام بعملية التحول الديمقراطي، فإن هذه العملية لا تنتهي عند هذا الحد بالرغم من كونها جلبت تغييرات سياسية، إلا أن هناك حاجة إلى ثورة جديدة لتحويل ثقافة التعلم. إن فشل التعليم العربي هو سبب أساسي مهم وراء استياء الشباب في المنطقة وله عواقب ثقافية واقتصادية وسياسية خطيرة.
إن مكانة العالم العربي في العلوم والتعليم غير مقبولة. إن مساهمتها في البحث العلمي الدولي ضئيلة، ولا تصنف الجامعات العربية بانتظام بين أفضل 500 مؤسسة في العالم. ومن اللافت للنظر أن ما بين 25% إلى 40% من السكان العرب الذين يبلغ عددهم حوالي 400 مليون نسمة ما زالوا أميين، في حين أصبحت مهارات البالغين في العصر الرقمي محددة الآن من حيث القراءة والكتابة، والحساب، وحل المشكلات.
في العديد الدول العربية، يحصل مئات الآلاف من الطلاب على تعليم جامعي لا يتوافق مع العالم الحديث. وفي السوق العالمية، لا توجد منتجات تكنولوجية "صنع في الجزيرة العربية".
من التبسيط للغاية أن نعزو سبباً واحداً، مثل التمييز الزائف بين الإيمان والعقل. من وجهة نظر وراثية، فإن العرب لا يختلفون عن أي عرق آخر؛ ولا يوجد احتكار جغرافي للاستخبارات. ومن الواضح أن العرب والمسلمين في إسبانيا وشمال أفريقيا والجزيرة العربية كانوا في قمة الحضارة عندما كانت أوروبا المسيحية في العصور المظلمة.
إن أسباب هذا النقص في المسعى والإنجاز لا تعد ولا تحصى. بما في ذلك الاستعمار والفساد والقصور الدستوري الذي يقيد حرية الإنسان وحرية الفكر. ولعقود من الزمن، أدى استخدام الدين في السياسة، واستخدام السياسة في الدين، إلى حجب الأهداف الوطنية وتحويل الانتباه عن القضايا الحقيقية التي تواجه الدول العربية.
والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة ليس ما الخطأ الذي حدث، بل ما الذي يمكن فعله الآن؟ يجب أن تحدث تغييرات ثورية، وليس تغييرات تدريجية، في التعليم والفكر العلمي، مع ثلاثة مكونات أساسية للتقدم.
الأول: هو بناء الموارد البشرية من خلال استعادة محو الأمية، وضمان المشاركة النشطة للمرأة في المجتمع، وإصلاح التعليم.
ثانياً: هناك حاجة إلى إصلاح الدستور الوطني للسماح بحرية الفكر؛ وتبسيط وترشيد البيروقراطية؛ لتطوير أنظمة قائمة على الجدارة وإنشاء مدونة قانونية موثوقة وقابلة للتنفيذ.
ثالثاً: يجب أن يضمن الدستور وبشكل ملموس أكثر، أن تكون ميزانية البحث والتطوير أعلى من 1% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

وفي هذه الرؤية، يحتل رأس المال البشري أهمية قصوى. يحتاج العالم العربي إلى تنشئة جيل جديد من المهنيين القادرين على التفكير النقدي والإبداعي، جيل يتمتع بالمعرفة المعاصرة بالعلوم والتكنولوجيا، والتخصصات الناشئة الجديدة في العلوم الفيزيائية والطبية والاجتماعية. ومن شأن هذا المجمع من المعرفة أن يساعد في تحديد وتقديم الحلول للمشاكل الأساسية التي تواجه المجتمع. يمكن أن يحقق البحث في الطاقات البديلة أو الموارد المائية أو تصميم الأدوية العديد من الفوائد الاجتماعية والمكافآت من النمو الاقتصادي للبلاد والمشاركة في السوق العالمية.
يجب البدء بالتغييرات من جذور نظام التعليم الذي يعتمد على التعلم عن ظهر قلب مع التركيز على الكمية بدلاً من جودة المعلومات المقدمة للطلاب. وينبغي الاستعاضة عن ذلك بنظام قائم على الجدارة مصمم لتشجيع التفكير الحر والإبداعي، مع اكتساب الخبرات العملية.
كما يحتاج مشهد التمويل والاعتراف في مجال البحوث إلى الإصلاح. لقد ثبت أن التقليد المتبع اليوم والذي يقضي باستخدام عدد المنشورات لتحديد المرشحين للترقية الأكاديمية ليس له قيمة تذكر، ويجب استبداله بإطار لتحديد المساهمات الأصلية والمبتكرة. وأخيراً لا بد من إقامة صلة قوية بين القطاعين الأكاديمي والصناعي لتعظيم الفوائد المتبادلة المحتملة من البحوث الأساسية والمصالح الصناعية، على الصعيدين العالمي والمحلي.
إن النهضة في العالم العربي لن تكون ممكنة من دون الاعتراف الحكومي الحقيقي بالدور الحاسم الذي يلعبه العلم في التنمية. لذلك تتحمل الحكومات العربية المسؤولية الأساسية في إنشاء ورعاية مراكز الأبحاث ومعاهد العلوم والتقنيات الحديثة. إن العلوم والتكنولوجيا يتمثل دورها الأساسي في جذب الطلاب الموهوبين وتقديم مناهج أكاديمية فريدة من نوعها في مجالات العلوم والهندسة المتطورة. والمعاهد البحثية المزودة بعلماء من الطراز العالمي الذين يعطون الأولوية للبحث في المشاكل الوطنية الأساسية. وتمثل المعاهد المجهزة بأحدث المعدات مجموعة واسعة من المجالات متعددة التخصصات، بما في ذلك تكنولوجيا النانو، والهندسة البيئية، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيا الفضاء والاتصالات، وعلوم المواد، والعلوم الطبية الحيوية، وفيزياء الأرض والكون. وضرورة توفر جهات مسؤولة عن تحويل مخرجات البحوث إلى التطبيقات الصناعية. وهي مصممة لإنشاء حاضنات وشركات فرعية، مع حماية الملكية الفكرية، ولجذب الشركات الدولية الكبرى لتشجيع مناخ صحي للتبادل بين البحوث والصناعة.
إن النهضة في العالم العربي لن تكون ممكنة دون اعتراف حكومي حقيقي بالدور الحاسم الذي يلعبه العلم في التنمية والسياسات التي توفر التمويل المتناسب للبحوث الأساسية وإصلاح البيروقراطية الصارمة التي تحبط التقدم. ومن خلال القيام بذلك، سوف تستعيد الدول العربية الثقة للمنافسة في العلوم الدولية والاقتصاد المعولم اليوم.


2
د. حسن العاصي
أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


طراز الطاغية..
الدليل الميداني للاستبداد


في العصور القديمة، لم تكن كلمة طاغية بالضرورة تحقيراً وتدل على صاحب السلطة السياسية المطلقة. فالطغيان في العالم اليوناني الروماني، هو شكل من أشكال الحكم الاستبدادي يمارس فيه فرد واحد السلطة دون أي قيود قانونية. في استخدامها الحديث، عادة ما تكون كلمة الطغيان تحقيراً وتشير ضمناً إلى الحيازة أو الاستخدام غير الشرعي للسلطة. يتشارك جميع الطغاة بنفس الطريقة القبيحة، لأن الجميع يسعون إلى نفس التأثير: الترهيب وليس السحر. عادة ما تجتمع عناصر السيرة الذاتية للطغاة، من الصعود إلى السقوط، في كل حالة تقريباً لتكوين رواية موحدة.
الديكتاتور هو زعيم سياسي يحكم دولة بسلطة مطلقة وغير محدودة. تسمى الدول التي يحكمها ديكتاتوريون بالديكتاتوريات. تم تطبيقه لأول مرة على قضاة الجمهورية الرومانية القديمة الذين تم منحهم صلاحيات استثنائية مؤقتاً للتعامل مع حالات الطوارئ، ويعتبر الحكام المستبدون المعاصرون، من أكثر الحكام قسوة وخطورة في التاريخ.
اليوم، يرتبط مصطلح "الدكتاتور" بالحكام القساة والقمعيين الذين ينتهكون حقوق الإنسان ويحافظون على سلطتهم من خلال سجن وإعدام معارضيهم. عادة ما يصل الديكتاتوريون إلى السلطة من خلال استخدام القوة العسكرية أو الخداع السياسي ويحدون أو يحرمون الحريات المدنية الأساسية بشكل منهجي.
وعلى غرار "الطاغية" و"المستبد"، أصبح مصطلح "الدكتاتور" يشير إلى الحكام الذين يمارسون سلطة قمعية وقاسية وحتى مسيئة على الناس. وبهذا المعنى، لا ينبغي الخلط بين الدكتاتوريين والملوك الدستوريين مثل الملوك والملكات الذين يصلون إلى السلطة من خلال خط وراثي للخلافة.
من خلال قبضهم على السلطة الكاملة على القوات المسلحة، وعلى الأجهزة الأمنية، وعلى وسائل الإعلام، يقضي الطغاة على كل معارضة لحكمهم. يستخدم الدكتاتوريون عادةً القوة العسكرية أو الخداع السياسي للحصول على السلطة، والتي يحافظون عليها من خلال الإرهاب والإكراه والقضاء على الحريات المدنية الأساسية. غالباً ما يكون الطغاة يتمتعون بشخصية كاريزمية بطبيعتهم، ويميلون إلى استخدام تقنيات مثل الدعاية الجماهيرية المنمقة لإثارة مشاعر الدعم والقومية بين الناس.
في حين أن الطغاة قد يحملون وجهات نظر سياسية قوية ويمكن دعمهم من قبل الحركات السياسية المنظمة، مثل الشيوعية، إلا أنهم قد يكونون أيضاً غير سياسيين، ولا يحركهم سوى الطموح الشخصي أو الجشع.
كما تم استخدامه لأول مرة في مدينة روما القديمة، لم يكن مصطلح "الديكتاتور" مهينًا كما هو الحال الآن. كان الدكتاتوريون الرومان الأوائل قضاة موقرين مُنحوا السلطة المطلقة لفترة محدودة للتعامل مع حالات الطوارئ الاجتماعية أو السياسية. تتم مقارنة الدكتاتوريين المعاصرين بالعديد من الطغاة الذين حكموا "اليونان القديمة" Ancient Greece
 و"إسبرطة" Sparta خلال القرنين الثاني عشر والتاسع قبل الميلاد.
مع تراجع انتشار الأنظمة الملكية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، أصبحت الديكتاتوريات والديمقراطيات الدستورية هي الأشكال السائدة للحكم في جميع أنحاء العالم. وبالمثل، تغير دور وأساليب الدكتاتوريين مع مرور الوقت. خلال القرن التاسع عشر، وصل العديد من الطغاة إلى السلطة في دول أمريكا اللاتينية عندما أصبحت مستقلة عن إسبانيا. هؤلاء الدكتاتوريون، مثل "أنطونيو لوبيز دي سانتا آنا" Antonio López de Santa Anna في المكسيك، و"خوان مانويل دي روزاس" Juan Manuel de Rosas في الأرجنتين، قاموا عادة بتشكيل جيوش خاصة للاستيلاء على السلطة من الحكومات الوطنية الجديدة الضعيفة.

الدكتاتوريون عبر التاريخ
لقد كانت الدكتاتورية، من ناحية ما، هي الحالة الافتراضية للإنسانية. يمكن تلخيص النظام الحكومي الأساسي منذ فجر الحضارة، ببساطة، في تلقي الأوامر من الرئيس. يخبر الزعماء الكبار، وهم من الذكور دائماً، أتباعهم بما يجب عليهم فعله، ويفعلون ذلك، أو يُقتلون. في بعض الأحيان يتم ارتداء هذا في عملية صنع القرار المجتمعي، من قبل مجموعة من الرؤساء المحليين أو الحكماء، ولكن حتى الإدارة الأكثر جماعية يجب أن يكون لها رئيس: "كابو دي توتي كابي" Capo dei capi يحترم الرأس الآخرـ مصطلح يستخدم للإشارة إلى زعيم الجريمة القوي للغاية في المافيا الصقلية أو الأمريكية الذي يتمتع بنفوذ كبير على المنظمة بأكملها ـ كما كان الملوك في إنجلترا يحترمون اللوردات. لكن الكابو لا يزال هو الكابو والملك لا يزال هو الملك. على الرغم من أن الترتيب يمكن أن يتم التلاعب به إلا أن الحقائق الأساسية لا تتغير.
مع اجتياح ردود الفعل المضادة لليبرالية التنويرية خلال العقود الأولى من القرن العشرين، كان على الحكام المستبدين، أن يتبنوا طقوساً مختلفة عن طقوس الملوك والأباطرة الذين سبقوهم. أدى غياب الأسطورة الموروثة المعقولة والحاجة إلى إنشاء نصب تذكارية واحتفالات تحظى بشعبية وترهيب في نفس الوقت إلى ظهور أنماط عامة جديدة من القيادة. كل هؤلاء اجتمعوا في أسلوب عبادة الطغاة.
ارتكب الطغاة جرائم ضد الحضارة إلى جانب الجرائم ضد الإنسانية. لقد اتُهم "ستالين" Joseph Stalin باستجواب وتعذيب وإعدام أكثر من 1.5 مليون شخص. وفي ذروة حملته في عامي 1937 و1938، كان معدل الإعدام حوالي ألف شخص يومياً. لكن ستالين يتحمل أيضاً مسؤولية التدهور الثقافي الكابوسي الذي حدث في نفس الوقت، وهو الإصرار على استبدال الفن بالسياسة.
مع عبادة القائد الذي تم ختم اسمه على كل سطح ممكن. مثل بيت الثقافة الستاليني، التابع لمصنع ستالين، في ساحة ستالين، في مدينة ستالينسك.
 يمكن العثور على مثل هذه الكوميديا السوداء للأنانية حتى بين الطغاة الستالينيين الجدد. في عام 1985، أمر "نيكولاي تشاوشيسكو" Nicolae Ceaușescu الزعيم الشيوعي الروماني، بإعداد برامج تلفزيونية مثل "عصر نيكولاي تشاوشيسكو" و"العلم في عصر نيكولاي تشاوشيسكو". وبموجب القانون، كانت صورته تظهر في بداية كل كتاب مدرسي.
امتد هذا الأسلوب إلى أركان العالم عبر نماذج للطغاة في بلدان عديدة. على سبيل المثال ـ الحكام المستبدين مثل "دوفالييه" François Duvalier في هايتي، و"منجيستو" mənɡɨstu haylə Maryam في إثيوبيا الذين دمروا بلدانهم الفقيرة، ويتوافق مع هذا النوع الرهيب عدد من الطغاة في العالم العربي. السبب الذي يجعل الطغاة يُظهرون أسلوباً واحداً هو جزئياً ـ التأثير المتبادل والتهجين (صنع الفنانون الكوريون الشماليون لـ "منجيستو" نصباً تذكارياً يبلغ ارتفاعه مائة وستين قدماً في إثيوبيا)، وجزئياً هو الحاجة المشتركة. الكل يشترك في قبح واحد، لأن الكل يتجه نحو نتيجة واحدة: ليس السحر، بل الترهيب، وليس الإقناع، بل الخوف.

طراز موحد
تتجمع العناصر معاً في كل حالة تقريباً لتكوين سيرة ذاتية موحدة للديكتاتور. هناك الصعود، الذي عادة ما يساعد فيه الانتهازيون من الحاشية الذين يخدعون أنفسهم، والذين يعتقدون أنهم قادرون على كبح جماح الشخصية الاستبدادية الصاعدة. لعب البلاشفة القدامى، مثل "غريغوري زينوفييف"  Grigory  Zinovyev دوراً مهماً في مواجهة "تروتسكي" Leon Trotsky وفي صعود ستالين إلى حد كبير.
كما فعل السياسي الألماني المحافظ "فرانز فون بابن" Franz von Papen في عهد "هتلر" Adolf Hitler. حين كان يردد "يمكننا السيطرة عليه" وهو شعار أظهر قصر نظر باين. ثم هناك الوصول إلى السلطة، والتطهير المحموم على نحو متزايد، تليها عبادة الشخصية التي تُصبح أكثر سخافة مع مرور الزمن، لأنها شيء قابل للتضخم فقط، وليس للتغير. إلى جانب ذلك تأتي بعض إعادة التماهي مع شخصيات من الماضي الوطني. حيث أصبح استغلال التاريخ الآري الخيالي، الذي رسمته الأسطورة الاسكندنافية آلهة "فالهالان" Valhalla محورياً في عبادة هتلر. وبنفس الطريقة تبنى دوفالييه روحانية مذهب "الفودو" Vaudou الهاييتي، وقدم نفسه على أنه الصورة الرمزية لروح المقبرة البارون "صاميدي" Samedi.
ثم تأتي عزلة الدكتاتور داخل قصره - حيث لا أصدقاء له، ويصاب بجنون العظمة - ويشذب دائرته لتقتصر على عدد قليل من المتملقين. وبدلاً من أن يبتهج الدكتاتور بانتصاره، ينسحب إلى عزلة مخيفة. وأخيرا، بعد كل الموت والوحشية المفروضة، تنتهي سلطة الدكتاتور، وغالباً تنتهي حياته أيضاً بمفاجأة ملحوظة.
يمكن مشاهدة لقطات فيديو لـ "تشاوشيسكو" في بوخارست عام 1989، وهو يخاطب بثقة الجمهور المجتمع ويدرك في لحظة واحدة أن الجمهور قد تحول وتغير. "أيها الرفاق! اخفضوا أصواتكم!" ويصرخ الدكتاتور، بينما تصرخ زوجته بأعلى صوت: «اصمتوا!» وبعد أيام قليلة فقط كانت فرقة الإعدام تُنهي حياة الاثنين.
تم طرد الفاشي "موسوليني" Benito Mussolini فجأة، وكان هتلر ليفعل ذلك أيضاً لو لم يقتل نفسه أولاً. وبدا أن ستالين قد وصل إلى نهايته الطبيعية، ولكن كما يُظهِر فيلم "موت ستالين"، فإنه ربما مات في وقت أقرب مما كان ليموت لولا ذلك، لأن رفاقه كانوا مرعوبين للغاية لدرجة أنهم لم يتمكنوا من القيام بأي شيء عندما وجدوه فاقداً للوعي في غرفة مظلمة.
ومع ذلك، فإن هؤلاء الحكام المستبدين: وبغرابة فظيعة في معظم المجالات، يميلون إلى أن يكونوا جيدين في شيء واحد، ومهاراتهم في شيء واحد تجعل أتباعهم الخائفين يبالغون في تقدير مهارتهم في كل شيء. مثل أطفال الأب المخمور الذين يعتبرون عملاً صغيراً من الأعمال الخيرية في عيد الميلاد دليلاً على الكرم الغريزي الهائل.
يمكن مقارنة صعود "هتلر" برواية اليساري المجري "جون لوكاش" György Lukács وسوف يتذكر المرء كيف أدرك لوكاش، دون تخفيف الصورة، أن "هتلر" قام ببعض الأشياء بشكل جيد للغاية. إن لحظات الدهاء وحتى الحنكة السياسية التي كان يتمتع بها "هتلر" من حين لآخر ــ على سبيل المثال ـ عندما رأى أن "ستالين" سيثق به في عدم غزو روسيا، أو أن فرنسا لم تكن مستعدة للقتال ــ جعلت أتباعه أكثر اقتناعاً بعبقريته من أي وقت مضى.

عبادة الشخصية
إن الفرق بين القيادة الكاريزمية وعبادة الشخصية – نقاط مختلفة في مسار الدكتاتور – هو أن القائد الكاريزمي يجب أن يُظهر نفسه، ولكن في موضوع عبادة الشخصية لا يستطيع الديكتاتور أن يُظهر نفسه بشكل كبير. تصبح المسافة بين الحقيقة والصورة أكبر من أن تستمر.
الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ" Mao Zedong لا يستطيع أن يكون عالماً بكل شيء على نحو جدير بالثقة إلا من خلال رؤيته على نحو لا يمكن التنبؤ به. إن فرض عنصر الغموض أمر ضروري للديكتاتور. ولذلك فإن معظم الطغاة نادراً ما يظهرون علناً في ذروة طغيانهم. على سبيل المثال ظل "ستالين" و"هتلر" مختبئين طوال فترة طويلة أثناء الحرب العالمية الثانية.
أثناء الثورة الثقافية، كانت صورة "ماو" موجودة في كل مكان، ولكن عندما كان يستعد لاستقبال الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" Richard Nixon عام 1972 أخفى كثيراً من الصور. تمت إزالة جميع العلامات التي تشير إلى الرئيس من الشوارع والميادين. لقد تم تفكيك آلاف التماثيل، وإرسالها سراً لإعادة تدويرها.
يتجه الملك أو الإمبراطور إلى الدين أو الطقوس الوطنية طلباً للمجد. فالديكتاتور الذي نهض مع ثورة ضد النظام القديم، هو إلى حد ما متمرد للأيقونات، ويجب أن يكون أكثر غموضاً.
أما "موسيليني" فقد مرت أشهر لم يره فيها أحد. طما رفض "ستالين" المشاركة في موكب النصر الخاص به بعد الحرب العالمية الثانية، تاركاً المهمة لجنراله الكبير "جورجي جوكوف" Georgy Zhukov. كما تحصن "دوفالييه" في قصره، ثم ظهر فجأة وهو يتسوق في متاجر صغيرة في العاصمة الهاييتية "بورت أو برنس" Port-au-Prince. وأحياناً يكون هناك، وأحياناً لا، فهو كان بطل بألف وجه بقدر ما هو مراقب بمليون عين.
والسؤال التاريخي المهم حقاً هو كيف تختلف عبادة شخصية الاستبدادي الحديث عن عبادة الملك أو الإمبراطور. تم تأليه الأباطرة الرومان. من المهم أن عبادة الشخصية السياسية في القرن العشرين نشأت في سياق عبادة المشاهير الأوسع، فكان من الممكن إضفاء الطابع الأسطوري على الملوك الذين وصلوا إلى السلطة في القرون التي سبقت وسائل الإعلام، وإضفاء طابع شعري عليهم، لأن الأساطير والقصائد كانت المادة الثقافية الرئيسية الموجودة. لقد تنافس الطغاة مع الأفلام ومع النجوم. قال "تشارلي شابلن"  Charlie Chaplin ذات مرة: "عندما رأيت هتلر لأول مرة، بهذا الشارب الصغير، اعتقدت أنه يقلدني". على الرغم من أن "تشابلن" كان حزيناً بأثر رجعي، إلا أنها لم تكن فكرة مجنونة - وكان يستخدمها لإحداث تأثير كوميدي رائع في أعماله.

الطغاة واللغة
لقد ظهر التعصب والطغاة تاريخياً جنباً إلى جنب. حتى يومنا هذا، لا يزال الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" Donald Trump يحب الطغاة، ليس فقط لأنه يحب المستبدين، ولكن أيضاً لأنهم يقدمون أنفسهم، بطرق يفهمها، كمشاهير مع حاشية و"مظاهر" معدة مسبقاً. وإذا كان هناك أسلوب دكتاتوري ينتشر في جميع أنحاء الكوكب، فهل هناك أيضاً صوت دكتاتوري - طريقة محددة يستخدمون بها اللغة؟ كتب الشاعر البريطاني الأمريكي "ويستان اودن" Wystan Auden في عام 1968، بعد دخول الدبابات السوفييتية إلى براغ: "يفعل الغول ما يستطيع الغيلان فعله، وهي أفعال مستحيلة تماماً على الإنسان. لكن هناك أمراً واحداً لا يستطيع الغول فعله، هو إتقان الكلام." فكرة أن اللغة كانت الحصن الأخير ضد الجنون كانت فكرة مركزية في منتصف القرن الماضي، بالنسبة لعقول مثل الكاتب الفرنسي "ألبير كامو" Albert Camus والروائي البريطاني "جورج أورويل" George Orwell فالوضوح هو اختبار للنزاهة، كما ذكر أورويل في كتابه "السياسة واللغة الإنجليزية" إن الطغاة لا يستطيعون التحدث بشكل منطقي.
ولكن ماذا لو كانت الفكرة المروعة أن العكس هو الصحيح - ماذا لو كانت اللغة هي بالضبط ما تتقنه الغيلان. يميل الأشخاص السيئون إلى إتقان اللغة بشكل أفضل من الأشخاص الطيبين، الذين غالباً ما يكونون معقودي اللسان في مواجهة قوى العالم وتعقيدات الطغيان. ماذا لو كانت مآسي الطغيان في المقام الأول، مآسي البلاغة التي أُسيء تطبيقها - لغة تستخدم لأغراض شريرة، ولكنها استخدمت بشكل جيد. لعدة قرون تعلم الطلاب اللاتينية عن طريق حفظ كتابات الطاغية الروماني العظيم والغول الذي أنهى الجمهورية "يوليوس قيصر" Julius Caesar لقد فعلوا ذلك بالضبط لأن أسلوب قيصر كان واضحاً جداً. حيث كان يفرز بكفاءة طبقة "الدرويد" Druid ـ أي الكهنة ـ والصور، ويركز دائماً على النقطة الرئيسية.
يميل أسوأ الطغاة إلى أن يكونوا القراء والكتاب الأكثر حماسة. مات "هتلر" وفي مكتباته الخاصة ما يزيد على ستة عشر ألف كتاب. كتب الزعيم البلشفي "ستالين" كتاباً طُبع بعشرات الملايين، وعلى الرغم من أن القيام بذلك يكون عادة سهلاً عندما تدير الناشر، وتمتلك جميع المكتبات، وتحرر جميع مراجعات الكتب، إلا أن "ستالين" قام بالكتابة بنفسه. كما شارك "موسوليني" في تأليف ثلاث مسرحيات أثناء حكمه لإيطاليا. وكان الرئيس الفخري لجمعية "مارك توين الدولية" Mark Twain International Society حيث كتب تحية لقراء مؤلفه المفضل أثناء تنصيبه في منصب بلقب "دوتشي" Duce.

السلطة من فوهة البندقية
بعكس الطغاة، أياً كان ما فعلوه، هناك من كتب بشكل أكثر وضوحاً وإسهاباً مما فعلوا، على سبيل المثال، رئيس الوزراء البريطاني السابق "كليمنت أتلي" Clement Attlee أو السياسي الأسكتلندي "تومي دوغلاس" Tomy Douglas - السياسيون الاشتراكيون الديمقراطيون الذين فعلوا خيراً كبيراً في العالم ولم يتركوا وراءهم سوى القليل من الشعارات الجذابة. مثل تلك التي كان يرددها الزعيم "ماو تسي تونغ" مثل "السلطة السياسية تنبثق من فوهة البندقية" و"الثورة ليست حفل عشاء". إن اعتذارات ماو عن القتل الجماعي، قد لا تكون مشاعر مثيرة للإعجاب، لكنها أقوال مأثورة لا تُنسى - أكثر تذكراً بكثير من الحقيقة المتناقضة التي يقولها بعض الناس. تنمو القوة السياسية من فوهات بعض الأسلحة في بعض الأحيان، اعتمادًا على ما تعنيه بـ "السلطة" و"السياسة"، ومن تصوب البندقية نحوه.
تم وضع هذه الفرضية المتناقضة بشكل جيد في كتاب الكاتب الاسكتلندي "دانييل كالدر" Daniel Kalder  "المكتبة الجهنمية: عن الطغاة، والكتب التي كتبوها، وغيرها من كوارث محو الأمية" The Infernal Library: On Dictators, the Books They Wrote, and Other Catastrophes of Literacy. الصادر عام 2018، وهو عمل باحث غير أكاديمي يتمتع بشهية مذهلة للقراءة. ويعتبر كتاب من أدبيات الدكتاتورية.   وفي كتاب "الديكتاتوريون: عبادة الفرد في القرن العشرين" الطريق إلى الديكتاتورية" “Dictators: The Cult of the Individual in the Twentieth Century” The Road to Dictatorship. للمؤرخ الهولندي "فرانك ديكوتير"  Frank Dikötter، وصدر في عام 2020.
كلا الكتابين يتضمنان نفس الطغاة، لكن تركيز "كالدر" ينصب على كلماتهم أكثر من أفعالهم. لقد عمل على قائمة قراءة من شأنها أن تجعل معظم الناس يتجهون يائسين نحو الخروج. يمكن لأي شخص أن يقرأ كتاب "كفاحي" إذا كان لديه الجرأة لتحمل هراء رسام الألوان المائية النمساوي الفاشل الذي يشفق على نفسه. لكن "كالدر" شق طريقه بالفعل من خلال فلسفة "أنطونيو دي أوليفيرا سالازار" António de Oliveira Salazar الذي كان رئيس وزراء البرتغال في منتصف القرن الماضي، وكان استبدادياً، وظل لعقود من الزمن شبه دكتاتور وشبه فاشي، ويقدم كتابه الصادر عام 1939 بعنوان "العقيدة والعمل" مراجعة عادلة لفترة حكمه.
ربما سمعتم أن كتاب "ستالين" بعنوان "أسس اللينينية" طُبع بالملايين، لكن كالدر قرأه وقال عنه بنوع من الاحترام "إنه واضح ومقتضب، وجيد في تلخيص الأفكار المعقدة لشخص متوسط المستوى".
ما أقصده هو النقطة المثيرة للقلق، وهي أن أسوأ الطغاة في القرن الماضي لم يكونوا هم الأقل وحشية من المتعلمين في خيالنا. (هتلر البالغ من العمر عشرين عاماً والفقير في فيينا، ذكر كلمة "كاتب" في وثيقة رسمية باعتبارها مهنته. لم يكن كذلك، لكنه كان ما كان يحلم بأن يصبحه). ولم تنبع قوتهم من فوهة البندقية. لقد نشأت من قدرتهم على تكوين جمل تقول إن القوة تنبع من فوهة البندقية، في حين أنها في الواقع تنبثق من صفحات الكتاب. وكان "ماو" أكثر فعالية كمدافع منه كجنرال. المشكلة في لغة هؤلاء الطغاة هي ما استخدموه من أجله.
في هذا السياق أطن أن "لينين" هو منشئ الأسلوب الشمولي الحديث في النثر، متبنى لهجة ماركس الجدلية لأغراض الثورة الشيوعية. والنسخة أكثر اعتدالا من" لينين" التي لا تزال تظهر من وقت لآخر - ولا بد من القول إن ذلك يرجع جزئيا إلى كتاب الناقد الأمريكي "إدموند ويلسون" Edmund Wilson الذي صدر عام 1940 بعنوان: "إلى محطة فنلندا: دراسة في كتابة التاريخ وتمثيله" To the Finland Station: A Study in the Writing and Acting of History. يعتبر هذا الكتاب أحد أعظم الأعمال في الكتابة التاريخية الحديثة، وهو وصف كلاسيكي للأفكار والأشخاص والسياسة التي أدت إلى الثورة البلشفية.
ربما لم يكن "لينين" حساسًا بالقدر الكافي للحريات المدنية في كتاب "ويلسون" لكنه كان إنسانياً وفلسفياً في الأساس، ومفكراً من الدرجة الأولى، وقع في أزمة من الدرجة الأولى. وكان عيبه هو افتقاره إلى الصبر على إنسانيته العميقة، وفرض رقابة ذاتية حتى على حبه لـ "بيتهوفن" سعياً لتحقيق الصالح العام. بعد "ويلسون" أظهر الكاتب البريطاني التشيكي "توم ستوبارد" Tom Stoppard في فيلمه الكوميدي الرائع "محاكاة ساخرة" Travesties عام 1974، أظهر لينين وهو يستمع بلهفة إلى سوناتا  Appassionata لـ "بيتهوفنن".
 حاول الأديب الروسي "فلاديمير نابوكوف" Vladimir Nabokov الذي كان يعرف "لينين" بصورة أفضل، تحرير "ويلسون" من وهم هذا الاعتقاد. وكتب إلىه في عام 1948: "ما تراه الآن على أنه تغيير نحو الأسوأ ('الستالينية') في النظام، هو في الواقع تغيير نحو الأفضل في المعرفة من جانبك". لقد حدثت الآن تغييرات في الديكور تحجب بشكل أو بآخر هاوية سوداء من القمع والإرهاب لا تتغير.
يوافق الاسكتلندي "دانييل كالدر" على هذا الرأي. فبعد قراءته كتاب لينين "الدولة والثورة" كتب: "من المستحيل أن نتفاجأ بأن مصير الاتحاد السوفييتي كان بهذا السوء". في عام 1905 كان لينين يرفض فكرة "الحرية" في مجتمع استغلالي حيث كتب: "إن حرية الكاتب أو الفنان أو الممثلة البرجوازية هي ببساطة اعتماد مقنع (أو مقنع بشكل نفاق) على كيس المال، والفساد، والدعارة". ومن المهم أن تأتي "الممثلة" في موقف لا يوافق عليه لينين.
 اعتبر المفكر الإنجليزي اللبرالي "جون ستيوارت ميل" John Stuart Mill وشريكته "هارييت تايلور" Harriet Taylor Mill)‏ في كتابهما "إخضاع المرأة" The Subjection of Women الصادر عام 1869، الممثلات على أنهن أحد رعايا الحركة النسوية الليبرالية، حيث إنهن كن النوع الوحيد من الفنانات الذي كانت مساواتهن أو تفوقهن على الرجال معروضة أمام الملأ.  (كانت هيلين ابنة تايلور ممثلة). وبالتالي فإن إضعاف معنويات الممثلات واعتبارهن مجرد عاهرات هو جزء أساسي من الهجوم الماركسي على النسوية البرجوازية.

الرومانسي القاتل
إن "ستالين" ـ في رأي كالدر ـ لا يخلف "لينين" كمؤلف فحسب، بل يتفوق عليه. هذا يشكل وجهة نظر مضادة لموقف التروتسكية من "ستالين" باعتباره رئيس قطاع طرق جورجي. ويرى "كالدر" أن "ستالين" كان في الواقع مفكراً كبيراً، وكاتباً جيداً، قادراً على الترويج لماركس بطرق لم يستطع لينين القيام بها. لقد كان أيضاً حرفياً نثرياً مخلصاً، كما تشهد بذلك مخطوطاته المميزة.
نظراً لأن وسيلة ستالين الأساسية للتفاعل مع العالم المادي كانت من خلال الورق، فليس من المستغرب أنه استمر في إظهار الرهبة الخرافية لقوة الكلمة المكتوبة. كان "ستالين" مفتوناً بالكتب والروايات والمسرحيات والفنون بشكل عام. حتى أن بعض الكتاب لجأوا إلى ستالين للحصول على المشورة الأدبية. والأمر المذهل هو أنهم فهموا ذلك: فقد بدأ أحد الكتاب المسرحيين البارزين هو "ألكسندر أفينوجينوف" Alexander Afinogenov في إرسال مسرحياته مباشرة إلى ستالين لقراءتها لأول مرة، وعلى الرغم من الأعباء المترتبة على حكم إمبراطورية شمولية، كان ستالين يعود إليه بملاحظات. فكانت تلك الدولة التي على رأسها محرر.
يخلص "كالدر" في كتابه إلى أن "ستالين" كان رومانسياً ساذجاً، على الأقل بقدر ما كان يؤمن بقوة الأدب التحويلية. لقد أدرك أن الكلمات تشكل الأفكار، والأفكار تشكل النفوس. في عام 1932 استدعى أربعين من كبار كتاب الاتحاد السوفييتي للحضور لتناول العشاء، وحثهم بلغة يمكن للمرء أن يتوقعها من عميد كلية يدافع عن العلوم الإنسانية قائلاً: "إن دباباتنا لا قيمة لها إذا كانت الأرواح التي يجب أن تقودها مصنوعة من الطين. ولهذا أرفع كأسي إليكم أيها الكتاب، إلى مهندسي النفس البشرية" من بين الكتاب الذين كانوا في تلك الغرفة، قتل ستالين أحد عشر كاتباً منهم قبل نهاية الثلاثينيات.
بعد إلقاء بعض الضوء على "ستالين"، نجد أن "هتلر" و"موسوليني"، باعتبارهما مؤلفين، يكاد يكونا في حالة من عدم الاستقرار. ومع ذلك يمكننا ملاحظة شيئاً يصعب التعبير عنه، ولكنه يستحق التفكير فيه. عندما خاطب "ستالين" العمال الذين يصنعون الجرارات، كان مهتماً في الواقع بالجرارات: فهي وسيلة نحو روسيا أكثر إنتاجية. وكانت الحياة الأفضل - القائمة على المزارع الفعالة والمكهربة والحديثة - واضحة للعيان، مهما كان عدد الأرواح التي كان عليك أن تحصدها للوصول إلى تلك الحياة.
وعلى النقيض من ذلك، كان "هتلر" و"موسوليني" متشائمين. يبذل عملهم طاقة أكبر بكثير على ميلودراما الانحدار والانحطاط، وعلى رؤى اليهود وهم ينقلون مرض الزهري إلى العذارى والنساء الآريات، وعلى الآثار الرومانية، أكثر من التركيز على المستقبل الإيجابي. وقد قرأ عدداً من المؤرخين مذكرات "موسوليني" التي كتبها بعد إقالته، وأذهلتهم قناعة الدكتاتور الإيطالي المثيرة للشفقة على نفسه بأن ثمن السلطة هو الانغلاق التام على الذات، حيث كتب: إذا كان لدي أي أصدقاء، فهذا هو الوقت المناسب ليتعاطفوا معي، حرفياً ليعانوا معي. ولكن بما أنني لا أملك أي شيء، فإن مصائبي تظل ضمن الدائرة المغلقة لحياتي الخاصة.
كان هذا الذوق لليأس جزءاً من رومانسية الرجلين. في حالة "هتلر" كان مسؤولاً بشكل مباشر عن الأشهر الأخيرة المروعة من الحرب التي خسرها بالفعل. لقد أراد أن يحترق العالم، لأن ألمانيا لم تكن تستحقه.
نشير إلى وجود اختلاف آخر بين ""ستالين" و"هتلر". إن الاتحاد السوفييتي وشموليته اليسارية بشكل عام كانت تعتمد على ثقافة الكلمة المكتوبة. أما الرايخ الثالث، والاستبداد اليميني بشكل عام اعتمد ثقافة الكلمة المنطوقة. حذراً من هيبة التأليف، ولكن مع اكتشاف "هتلر" أن الكتابة عمل شاق، أملى معظم كتاب "كفاحي" على كاهل كاتبه "رودولف هيس" Rudolf Hess المتحمس. كان "هتلر" دائماً غير راضٍ عن بطء القراءة والكتابة، مقارنة بالقوة المفعمة بالحيوية في مسيراته.
في حين أن التراث الماركسي كونه ذو عقلية نظرية وملتزماً بالمبادئ، ينطوي على أولوية النص، فإن الاستبداد اليميني، كونه رومانسياً وجذاباً مدعوماً بالسحر المشترك بين الخطيب وحشده. يعتمد أحدهما على مجموعة من القواعد المجردة، وعلى سلسلة من السحر المتبادل.

خداع الذات
رغم أن لمنظور التاريخي يشير إلى أن الدكتاتورية اليوم في تراجع.  لكننا نرى علامات مشؤومة في صعود واستمرار عدد من الطغاة في الدول الشمولية، وتلك النامية.
الرئيس الصيني الحالي "شي جين بينغ" Xi Jinping أصبح محبوبا بفضل "آلة الدعاية" الرهيبة. وفي عام 2017، منحته جريدة الحزب سبعة ألقاب، من القائد المبدع، جوهر الحزب، والخادم الذي يسعى لتحقيق السعادة للشعب، إلى زعيم بلد عظيم، ومهندس التحديث في العصر الجديد. نلاحظ في الوقت نفسه أنه بينما يبذل النظام جهوداً متضافرة لطمس المجتمع المدني الناشئ، يتم حبس ونفي وسجن الآلاف من المحامين ونشطاء حقوق الإنسان والصحفيين والزعماء الدينيين في الصين.
إن صورة "أودن" Uden النبيلة ـ كبير الآلهة في الميثولوجيا النورديةـ التي يحارب فيها الشعراء الغول الأبكم، لا يمكنها أن تنجو من صدمة التاريخ. اتضح أن الغيلان جزء من الثقافة الأدبية وكانوا كذلك دائماً - يتحدثون ويكتبون الكتب ويقرأون كتب الآخرين. إذا كنا نعني بحماية سلامة اللغة دعم الاعتقاد بأن الثقافة الأدبية، أو حتى مجرد قول الحقيقة، هي في حد ذاتها حصن، فإن الحقائق لا تدعم الفرضية. فالثقافة الأدبية ليست علاجاً للشمولية. إن الخطابة سائلة ومفيدة للأسوأ كما هي مفيدة للأفضل. إن العلوم الإنسانية يا للأسف، تنتمي إلى الإنسانية.
ربما تكون الفكرة الأكثر إحباطاً الذي أثارها كلا الكتابين، هو الطبيعة الضعيفة للمراقبين في مواجهة الأعمال الوحشية الخشنة للديكتاتوريات. لاحظوا تودد "ماو تسي تونغ" الناجح للكتاب والزعماء الغربيين، الذين أبقوا الأسطورة الماوية حية، بينما انحدرت سياساته إلى العبثية.
قرأت مرة أنه عثر في بلدة أسكتلندية صغيرة على ترجمة إنجليزية معاصرة لخطاب "ستالين" في مؤتمر مشغلي الحصادات والجمعيات، والذي ألقاه في ديسمبر من عام 1935، بما في ذلك ترجمة رد فعل الجمهور: هتافات وتصفيق بصوت عالٍ ومطول. صرخات "يعيش ستالين الحبيب!". والعجيب هو أن الكُتيب قد تُرجم إلى اللغة الإنجليزية في غضون أيام بعد إلقاء الخطاب. بعد ذلك قام اليساريون الهائجون بنقله عبر الأمواج، وقراءته، ووجدوا فيه قيمة، في مجتمع لم يكن فيه أحد يتضور جوعاً حتى الموت، أو يُطلق عليه الرصاص في الرأس، أو يُحتجز في معسكرات العمل بالسخرة. إن القدرة على خداع الذات من جانب الطوباويين المدللين بشأن واقع المدينة الفاضلة تظل العنصر الأكثر غموضاً في قصة القرن العشرين.





3
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


أقل من الإنسان.. سيكولوجية القسوة

قيل لنا إن مرتكبي العنف يجردون ضحاياهم من إنسانيتهم، لكن الحقيقة أسوأ. فلماذا نحط من قدر الآخرين ونستعبدهم ونبيدهم. إن البشرية قد تتوقف عند حدود القبيلة أو القرية، أو عند حدود العرق، أو الدين، أو اللغة، أو اللون. واليوم تبدو ظواهر مثل العنف، والقسوة، والتجريد من الإنسانية أمراً منتشراً. لو بحثنا في محركات البحث عن المجموعة البشرية المفضلة والمحتقرة لدينا "اليهود، والسود، والعرب، والمسلمين، والمثليين" وما إلى ذلك - جنباً إلى جنب مع كلمات مثل "الحشرات"، أو "الصراصير"، أو "الحيوانات"، وسوف يتدفق أمامنا سيل لا يتوقف منها. سوف نسمع كلمة "حيوانات" يستخدمها حتى الأشخاص المحترمون، في إشارة إلى الإرهابيين، أو الإسرائيليين، أو الفلسطينيين، أو المهاجرين غير الشرعيين، أو مُرحّلي المهاجرين غير الشرعيين. تظهر مثل القسوة والتجريد  في خطاب المتعصبين البيض، والتيارات اليمينية غالباً، ولكن نجده عندما يتحدث بعضنا عن المتعصبين البيض أيضاً.
إنها ليست مجرد مسألة كلمات. على مر التاريخ، اعتقد بعض الناس أنه من المقبول امتلاك البشر، وكانت هناك مناقشات صريحة من قبل بعض الباحثون والساسة فيما إذا كانت مجموعات معينة (مثل السود والأمريكيين الأصليين) "عبيدًا طبيعيين". وحتى في القرن الماضي، كانت هناك حدائق حيوانات بشرية، حيث تم وضع الأفارقة في حظائر لينظر إليها الأوروبيون.
نظراً لندرة الأدلة المتاحة، فإن دراسات علماء الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية منقسمة بشدة حول سؤال: ما هو عمر العنف البشري؟ استنتج بعض العلماء أن البشر عنيفون بطبيعتهم، شأن عالم النفس النمساوي "سيغموند فرويد"  Sigmund Freud الذي يعتبر أن الإنسان هو كائن يختزن قدراً كبيرًا من العنف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية. وآخرون أنهم في الأساس غير عنيفين، إنما يتعلون العنف بنفس الطريقة التي يتعلمون بها أنماط السلوك الأخرى. مثل عالم النفس الاجتماعي الكندي الأمريكي "ألبرت باندورا" Albert Bandura، ولكن في كلا المدرستين التفسيريتين هناك ميل واضح للاعتماد على نظرية المعرفة الطبيعية لتحليل أنواع البنى النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى تجريد الآخرين من إنسانيتهم وإساءة معاملتهم.
لا تحتاج إلى أن تكون عدائياً لتكون عنصرياً، لكنك تحتاج إلى تصنيف المجموعات. فإذا كنت تعتقد أن أعضاء مجموعة معينة أقل شأناً، وأن لديهم قيمة جوهرية أقل من أعضاء مجموعة أخرى، فإنك تظهر العنصرية. إن التجريد من الإنسانية هو ظاهرة اجتماعية معقدة، ترتبط ارتباطًا وثيقاً بالأذى والإهمال بين المجموعات.

العقلية اللاإنسانية
إن تصنيف الناس أو تصنيف الأجناس حسب العرق، أو اللون، أو الدين، أو القومية، أو اللغة، يؤدي إلى تجريدهم من إنسانيتهم. يعرّف علماء النفس والأنثروبولوجيا التجريد من الإنسانية بأنه تصور شخص آخر على أنه دون البشر. يقول عالم النفس التطوري في جامعة نيو إنجلاند "ديفيد ليفينغستون سميث"David Livingston Smith "في ظل الظروف المناسبة، فإننا جميعًا تقريبًاً قادرون على الانزلاق إلى العقلية اللاإنسانية، وارتكاب أعمال وحشية كان من الصعب أو حتى المستحيل بالنسبة لنا القيام بها".
هذا التصنيف للأشخاص حسب "العرق" له تاريخ طويل. حدّد الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو نوعين من الناس: اليونانيون والآخرون. جمع  كل غير اليونانيين معاً باعتبارهم برابرة، وليس ـ على سبيل المثال ـ سوريين أو إثيوبيين أو فرس. كان من المفترض أن يكون البرابرة أقل عقلانية من اليونانيين. كان البرابرة "عبيدًا بطبيعتهم"، مما يعني أنه كان من الطبيعي أن يستعبدهم اليونانيون. وتم استخدام أفكار مماثلة لتبرير الاستعمار واستعباد الشعوب في جميع أنحاء العالم من قبل القوى الأوروبية.
فخلال تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، كان الملاكين عبر التاريخ يعتبرون العبيد حيوانات دون البشر. كما جمع الأوروبيون والأمريكيون الشعوب الأفريقية معًا على أنهم سود «الزنوج» تاريخياً، رافضين حقيقة أنهم ينتمون إلى مجتمعات مختلفة.
هناك العديد من الأحداث التاريخية التي توضح التحول إلى العقلية اللاإنسانية. والأكثر شهرة بالطبع هو أيديولوجية ألمانيا النازية، التي نشرت أفكارًا حول تفوق الآريين على جميع الأمم الأخرى. وكانوا ينظرون إلى الفساد على أنه متأصل في الأشخاص اليهود. وعندما وصف النازيون اليهود بأنهم "Untermenschen"أي دون البشر، أو أقل من البشر، واعتبروهم جرذان لم يقصدوا ذلك مجازياً، كما يقول سميث "لم يقصدوا أنهم كانوا مثل البشر دون البشر. بل كانوا يقصدون أنهم كانوا حرفيا دون البشر." وحين أطلق اليهود الصهاينة على الفلسطينيين أنهم حيوانات بشرية، كانوا يقصدون ما قالوه تماماً.
وفي مثال مماثل يمكن تسمية سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا القائمة على التمييز العنصري، الذي استمر حوالي نصف قرن وسقط رسميا في العام 1991 أيضاً تجريداً للإنسانية من قبل أتباع "الحركة البيضاء" لغالبية السكان الأصليين الأفريكانيين (أو البوير).
وعندما شاركت قبائل "الهوتو" في الإبادة الجماعية في رواندا أطلقوا على قبائل "التوتسي" صراصير. هذا التجريد من الإنسانية فتح الباب أمام القسوة ن والوحشية، والإبادة الجماعية.
التجريد من الإنسانية هو وسيلة لحرب المعلومات، والجوهر هو تشكيل صورة الشخص الذي يصبح غير مهم، طفيلي ولا يستحق الوجود. وهو أحد أكثر طرق الحرب الإعلامية وحشية. على سبيل المثال صورة الجندية الأمريكية "ليندي إنجلاند" Lynndie England وهي تسحب مقوداً مربوطاً برقبة سجينة في سجن أبو غريب، تضطر للزحف على الأرض، بينما  زميلتها الجندية "ميغان أمبوهل" Megan Ambuhl تُراقب.
خلال الحرب العالمية الأولى ظهر ملصق دعائي نمساوي يصور أحد الصرب على أنه إرهابي يشبه القرد. كما ظهر ملصق دعائي أمريكي من الحرب العالمية الثانية يظهر فيه جندي ياباني على شكل فأر.

التحريض على أعمال الإبادة الجماعية
التجريد من الإنسانية هو أحد أشكال التحريض على الإبادة الجماعية. كما تم استخدامه لتبرير الحروب، والقتل القضائي وخارج نطاق القضاء، ومصادرة الممتلكات، والحرمان من حق الاقتراع وغيرها من الحقوق، ولمهاجمة الأعداء أو المعارضين السياسيين. وهذا ما تفعله إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.
تؤكد أفعال الصهيونية في فلسطين أنه عندما نكون في قبضة عقلية تجرد الإنسان من إنسانيته، فإننا غالباً ما نرى الآخر المجرد من إنسانيته "مرعباً وخطراً"، مما يؤدي إلى ما يراه الجناة على أنه صراع حياة أو موت ضد عدو قاتل. ومن المهم أن نتذكر أن المجردين من الإنسانية يعتقدون في الواقع أن الأشخاص الذين يضطهدوهم أقل من البشر، مما يجعل عملية التجريد من الإنسانية خطيرة للغاية. مثل دعوة "نسيم فاتوري" نائب رئيس الكنسيت الإسرائيلي وعضو لجنة الشؤون الخارجية والأمن إلى حرق قطاع غزة بالكامل. حيث نشر النائب المتطرف، تدوينة بالعبرية على حسابه على "أكس" قال فيها "كل الانشغال بمدى توفر الإنترنت في غزة ألا يظهر ذلك أننا لم نتعلم شيئا.. نحن إنسانيون للغاية.. احرقوا غزة الآن لا أقل من ذلك". وكان نفسه قد طالب في تصريحات نقلتها صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، بترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى البلدان المستعدة لاستقبالهم وعلى رأسها اسكتلندا. وكذلك دعوات وزير التراث الإسرائيلي "عميحاي إلياهو" ل إلى ضرب قطاع غزة بقنبلة نووية وإبادتها كأحد الخيارات المطروحة. وبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية دعا إلى استخدام الصواريخ الباليستية لمحو غزة عن الخارطة.
وكانت مواقف مماثلة واضحة تجاه السكان الأصليين في الأمريكيتين ("يعود الهندي دائماً إلى بطانيته" - مما يعني أنه لا يمكن أن يكونوا "متحضرين") وتجاه العبيد السود الذين كان يُفترض أن لديهم دوافع وحشية. يُظهر الإعدام خارج نطاق القانون أسوأ سلوكيات التجريد من الإنسانية - السادية والتعذيب والقتل. كان يُعتقد أن العبيد السود الذين أرادوا الهروب من العبودية، وهي حالتهم الطبيعية المفترضة، يعانون من اضطراب نفسي "ورم درابيتومانيا" وكان يتم جلدهم كعلاج. وهذا المرض العقلي المُفترض اخترعه الطبيب الأمريكي "صموئيل كارترايت"Samuel Cartwright في عام 1851 لشرح رحلة العبيد الأولى إلى شمال الولايات المتحدة. وفقًا لكارترايت، تم تفسير هروب العبيد بالحركات اللاإرادية.
من الناحية البيولوجية، يمكن وصف التجريد من الإنسانية على أنه نوع مُدخل يهمش النوع البشري، أو شخص/عملية مُدخلة تحط من شأن الآخرين بشكل غير إنساني. أثناء الحرب الصينية اليابانية الثانية، تنافس اثنان من ضباط الجيش الإمبراطوري الياباني في الصين المحتلة لمعرفة من يمكنه قتل مئة صيني بالسيف أولاً خلال مذبحة "نانجينغ" Nanjing.
تم تجريد الأمريكيين الأصليين من إنسانيتهم باعتبارهم "متوحشين هنود لا يرحمون" في إعلان استقلال الولايات المتحدة. وفي عام 1890 قام الجيش الأمريكي بقتل ثلاثمائة من الهنود السكان الأصليين، معظمهم من الرجال والنساء والأطفال في مذبحة سميت "مجزرة الركبة الجريحة" Wounded Knee Massacre. وفي الولايات المتحدة، تم تجريد الأمريكيين من أصل أفريقي من إنسانيتهم من خلال تصنيفهم على أنهم رئيسيات غير بشرية.
في أستراليا تم استبعاد السكان الأصليين من تعداد السكان حين وافقت المستعمرات الأسترالية الست على الاتحاد، وأنشأت الدولة القومية الحديثة عام 1901.  وتم حرمانهم بشكل قاطع من حق التصويت. لم يُسمح للسكان الأصليين الأستراليين بمزايا الضمان الاجتماعي (مثل معاشات الشيخوخة وبدلات الأمومة) التي كانت تُقدم للآخرين.

التمييز والعنصرية
التجريد من الإنسانية العنصري للمجموعات يستلزم فهم الجماعات والأفراد على أنهم أقل من إنسان كامل بحكم عرقهم. غالباً ما يحدث التجريد من الإنسانية نتيجة للصراع بين المجموعات. حيث يتم تمثيل الآخرين العرقيين والعنصريين كحيوانات في الثقافة الشعبية. هناك أدلة على أن هذا التمثيل لا يزال قائماً في السياق الأمريكي مع الأمريكيين من أصل أفريقي المرتبطين ضمنيا بالقردة. وبقدر ما يكون لدى الفرد هذا الارتباط الضمني المهين للإنسانية، فمن المرجح أن يدعم العنف ضد الأمريكيين من أصل أفريقي.
كثيراً ما يرتبط التجريد من الإنسانية بنزاعات الإبادة الجماعية تاريخياً، حيث تصور الأيديولوجيات قبل وأثناء الصراع الضحايا على أنهم دون البشر "مثل القوارض" ويمكن أيضاً تجريد المهاجرين واللاجئين من إنسانيتهم بهذه الطريقة. كما حصل في عدد من الدول الأوروبية عام 2015 خلال أزمة تدفق اللاجئين.
يتم تخصيص كلمات مثل المهاجر والمغترب للأجانب بناءً على وضعهم الاجتماعي وثرواتهم، بدلاً من القدرة أو الإنجازات أو التوافق السياسي. المغترب هي كلمة تصف الأشخاص المتميزين، ذوي البشرة الفاتحة في كثير من الأحيان والذين يقيمون حديثاً في منطقة ما، ولها دلالات تشير إلى القدرة والثروة والثقة. وفي الوقت نفسه، تُستخدم كلمة مهاجر لوصف الأشخاص القادمين إلى مكان جديد للإقامة فيه، وتوحي بمعنى أقل استحسانًا بكثير.
يتم أحيانًا ربط كلمة "مهاجر" بكلمة "غير شرعي"، والتي تحمل دلالة مهينة للغاية. إن إساءة استخدام هذه المصطلحات - غالباً ما يتم استخدامها بشكل غير دقيق - لوصف الآخر، يمكن أن يغير تصور المجموعة ككل بطريقة سلبية.
ويؤكد سميث أنه "طالما استمر التمييز والعنصرية، فإن التجريد من الإنسانية هو قاب قوسين أو أدنى". تُظهِر العنصرية البعض على أنهم كائنات بشرية أقل شأناً، في حين يُظهر التجريد من الإنسانية طبيعة أقل من الإنسانية. فالتجريد من الإنسانية هو عنصرية منشطة.
خلاصة القول: يمكننا إقناع أنفسنا بالاعتقاد بأن الآخرين هم دون البشر أو ليسوا أشخاصاً، من خلال الروايات الثقافية أو من خلال البيولوجيا العصبية الحساسة للتهديدات، أو مزيج من ذلك. إن الاعتقاد بأن الآخر ليس شخصاً حقيقياً يمكّننا من ارتكاب أعمال القسوة والدمار. إن الأحداث التي تدور حولنا تؤكد ما وصل إليه الفيلسوف الفرنسي "بليز باسكال" Blaise Pascal  في عام 1658 حين قال " البشر هم مجد الكون وحثالته. نحن نحب ونكره. نساعد ونضر. نمد يدنا ونلصق السكين".



4
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


الأشكال الأولية للحياة الدينية..
فلسفة الدين عند دوركهايم


كان "إميل دوركهايم" Emile Durkheim عالم اجتماع فرنسي برز في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ويُنسب إليه الفضل باعتباره أحد المؤسسين الرئيسيين لعلم الاجتماع الحديث، إلى جانب كارل ماركس وماكس فيبر. ومن أهم ادعاءاته أن المجتمع هو واقع فريد من نوعه، وغير قابل للاختزال إلى الأجزاء المكونة له. يتم إنشاؤه عندما تتفاعل الضمائر الفردية وتندمج معاً لتخلق واقعاً تركيبياً جديداً تماماً وأكبر من مجموع أجزائه. ولا يمكن فهم هذا الواقع إلا من خلال المصطلحات الاجتماعية، ولا يمكن اختزاله في تفسيرات بيولوجية أو نفسية.
وحقيقة أن الحياة الاجتماعية تتمتع بهذه الخاصية من شأنها أن تشكل الأساس لادعاء آخر لدوركهايم، بأن المجتمعات البشرية يمكن دراستها علمياً. ولهذا الغرض، طور منهجية جديدة تركز على ما يسميه دوركهايم "الحقائق الاجتماعية"، أو عناصر الحياة الجماعية التي توجد بشكل مستقل عن الفرد وتكون قادرة على ممارسة التأثير عليه. وبهذه الطريقة نشر أعمالاً مؤثرة في عدد من المواضيع. اشتهر بأنه مؤلف كتاب "حول تقسيم العمل الاجتماعي، وقواعد المنهج الاجتماعي، والانتحار. ومع ذلك، نشر دوركهايم أيضاً عدداً كبيراً من المقالات والمراجعات، كما نُشرت العديد من محاضراته بعد وفاته.
عندما بدأ دوركهايم الكتابة، لم يكن علم الاجتماع معترفاً به كحقل مستقل للدراسة. وكجزء من الحملة لتغيير ذلك، بذل جهوداً كبيرة لفصل علم الاجتماع عن جميع التخصصات الأخرى، وخاصة الفلسفة. ونتيجة لذلك، وعلى الرغم من أن تأثير دوركهايم في العلوم الاجتماعية كان واسع النطاق، إلا أن علاقته بالفلسفة ظلت غامضة. ومع ذلك، أكد دوركهايم أن علم الاجتماع والفلسفة متكاملان من نواحٍ عديدة، وذهب إلى حد القول إن علم الاجتماع له ميزة على الفلسفة، لأن منهجه في علم الاجتماع يوفر وسيلة لدراسة الأسئلة الفلسفية تجريبياً، وليس ميتافيزيقياً أو نظرياً. ونتيجة لذلك، استخدم دوركهايم في كثير من الأحيان علم الاجتماع للتعامل مع الموضوعات التي كانت تقليدياً مخصصة للبحث الفلسفي.
وإن وضعنا فكر دوركهايم الاجتماعي الصارم جانباً فسنلاحظ إسهاماته في الفلسفة. وتقع هذه إلى حد كبير في مجالات فلسفة الدين، والنظرية الاجتماعية، وفلسفة العلوم الاجتماعية، والتأويل، وفلسفة اللغة، والأخلاق، وما وراء الأخلاق، والنظرية السياسية، ونظرية المعرفة. كما أن تفكيك دوركهايم للذات، فضلاً عن تحليله للأزمة التي جلبتها الحداثة وتوقعاته حول مستقبل الحضارة الغربية، يستحق أيضاً اهتماماً كبيراً.

سيرة شخصية
ولد ديفيد إميل دوركهايم في أبريل 1858 في إبينال، الواقعة في منطقة اللورين في فرنسا. كانت عائلته يهودية متدينة، وكان والده وجده وجده الأكبر حاخامات. لكن دوركهايم كسر التقاليد وذهب إلى المدرسة العليا للأساتذة عام 1879، حيث درس الفلسفة. تخرج عام 1882 وبدأ تدريس المادة في فرنسا. في عام 1887 تم تعيينه لتدريس العلوم الاجتماعية والتربية في جامعة بوردو، مما سمح له بتدريس أول دورات علم الاجتماع الرسمية في فرنسا. وفي عام 1887 أيضاً تزوج دوركهايم من لويز دريفوس، وأنجب منها في النهاية طفلين. خلال فترة وجوده في بوردو، حقق دوركهايم نجاحاً كبيراً، حيث نشر أطروحته للدكتوراه حول تقسيم العمل الاجتماعي (1893، القسم)، وقواعد المنهج الاجتماعي (1895، القواعد)، والانتحار: دراسة في علم الاجتماع (1897، الانتحار). في عام 1896 أسس المجلة الأكاديمية "آني سوسيولوجيك" Année sociologique المرموقة، مما عزز مكانة علم الاجتماع في العالم الأكاديمي.
في عام 1902 حصل دوركهايم على ترقية ليصبح رئيساً لقسم علوم التربية في جامعة السوربون. في عام 1906 أصبح أستاذاً متفرغاً. وفي عام 1913 تم تغيير منصبه ليشمل علم الاجتماع رسمياً. ومنذ ذلك الحين أصبح رئيساً لقسم علوم التربية وعلم الاجتماع. هنا ألقى محاضرات حول عدد من المواضيع ونشر عدداً من المقالات المهمة بالإضافة إلى عمله الرئيسي الأخير والأكثر أهمية الأشكال الأولية للحياة الدينية (1912، النماذج). كان لاندلاع الحرب العالمية الأولى عواقب وخيمة على دوركهايم. أخذت الحرب العديد من تلاميذه الواعدين، وفي عام 1915، توفي ابنه أندريه أيضاً في القتال. لم يتعاف دوركهايم أبداً من ذلك. وفي نوفمبر 1917 توفي بسبب سكتة دماغية، تاركاً آخر أعماله العظيمة، La Morale (الأخلاق)، مع مقدمة أولية فقط.
خلال حياته، كان دوركهايم منخرطاً في السياسة، لكنه أبقى هذه الارتباطات منفصلة إلى حد ما. دافع عن ألفريد دريفوس خلال قضية دريفوس وكان أحد الأعضاء المؤسسين لرابطة حقوق الإنسان. كان دوركهايم على دراية بأفكار كارل ماركس. ومع ذلك، كان دوركهايم ينتقد بشدة أعمال ماركس، التي اعتبرها غير علمية ودوغمائية، وكذلك انتقد الماركسية، التي اعتبرها متضاربة ورجعية وعنيفة بلا داع. ومع ذلك، فقد دعم عدداً من الإصلاحات الاشتراكية، وكان لديه عدد من الأصدقاء الاشتراكيين المهمين، لكنه لم يلتزم أبداً بحزب سياسي ولم يجعل القضايا السياسية همه الرئيسي. على الرغم من مشاركته السياسية الصامتة، كان دوركهايم وطنياً متحمساً لفرنسا. كان يأمل في استخدام علم الاجتماع الخاص به كوسيلة لمساعدة المجتمع الفرنسي الذي يعاني من ضغوط الحداثة، وخلال الحرب العالمية الأولى تولى منصباً في كتابة منشورات دعائية مناهضة لألمانيا، والتي تستخدم جزئياً نظرياته الاجتماعية للمساعدة في شرح الحماس المتحمسين لألمانيا. القومية وجدت في ألمانيا.

التنمية الفكرية والمؤثرات
لم يكن دوركهايم المفكر الأول الذي حاول جعل علم الاجتماع علماً. قام أوغست كونت، الذي رغب في توسيع المنهج العلمي ليشمل العلوم الاجتماعية، وهربرت سبنسر، الذي طور منهجاً نفعياً تطورياً طبقه على مجالات مختلفة في العلوم الاجتماعية، بمحاولات ملحوظة وكان لعملهما تأثير تكويني على دوركهايم. إن تحليل دوركهايم للطرق التي تعمل بها أجزاء مختلفة من المجتمع لخلق كل فاعل، وكذلك استخدامه للقياس العضوي، كان مستوحى من نواحٍ عديدة من نوع التحليل الوظيفي الذي ابتكره سبنسر.
كما كان للعديد من معلمي دوركهايم في المدرسة العليا للأساتذة تأثير مهم على تفكيره. مع إميل بوترو، قرأ دوركهايم كومت وتوصل إلى فكرة أن علم الاجتماع يمكن أن يكون له موضوع فريد خاص به لا يمكن اختزاله في أي مجال آخر من مجالات الدراسة. قام كل من غابرييل مونود ونوما دينيس فوستيل دي كولانج، وكلاهما مؤرخان، بتعريف دوركهايم بالأساليب التجريبية والمقارنة المنهجية التي يمكن تطبيقها على التاريخ والعلوم الاجتماعية. وكان لتشارلز رينوفييه الفيلسوف الكانطي الجديد تأثير كبير على دوركهايم. كان رينوفييه عقلانياً عنيداً، ومن المحتمل أنه لعب دوراً أساسياً في تشكيل تفسير دوركهايم لكانط، وتحديدًا فهم دوركهايم للمقولات.
بين عامي 1885 و1886، أمضى دوركايم عامًا دراسيًا في زيارة الجامعات في ألمانيا. وما وجده دوركهايم هناك أبهره بشدة. التقى بعلماء ألمان مثل أدولف فاغنر، وغوستاف شمولر، ورودولف فون جيرينغ، وألبرت شافل، وويلهلم فونت الذين كانوا يعملون على الأساليب العلمية لدراسة الأخلاق. والأهم من ذلك أن هؤلاء العلماء كانوا يربطون الأخلاق بمؤسسات اجتماعية أخرى مثل الاقتصاد أو القانون، وفي هذه العملية كانوا يؤكدون على الطبيعة الاجتماعية للأخلاق.
طوال حياة دوركهايم، كان لمفكرين بارزين آخرين تأثير بارز عليه. في بداية حياته المهنية، كتب دوركهايم أطروحات عن جان جاك روسو ومونتسكيو، وكلاهما استشهد بهما باعتبارهما مقدمة لعلم الاجتماع. أثرت كتابات جون ستيوارت ميل حول المنطق على تأملات دوركهايم حول المنهج الاجتماعي. في عام 1895، تغير تفكير دوركهايم حول المجتمع بشكل كبير بعد أن قرأ محاضرات ويليام روبرتسون سميث حول دين الساميين. من المتعارف عليه عموماً أنه خلال هذه الفترة من حياة دوركهايم قام بتغيير الموضوعات والأساليب في عمله.
يظل دوركهايم شخصية أساسية وبارزة في علم الاجتماع والنظرية الاجتماعية بشكل عام. ومع ذلك، بالمقارنة مع ماركس وفيبر، كان تأثير فكر دوركهايم ضعيفاً إلى حد ما، خاصة فيما يتعلق بالفلسفة. ويمكن تفسير ذلك جزئياً بحقيقة أن المدرسة الفكرية الدوركهايمية قد تقلصت إلى حد كبير عندما قُتل العديد من طلابه الواعدين في الحرب العالمية الأولى، وأن دوركهايم بذل جهوداً كبيرة لفصل علم الاجتماع عن الفلسفة، أو بحقيقة أن أفكاره قد تغيرت. لقد تم، ولا يزال، تبسيطها أو إساءة فهمها أو تجاهلها.
ومع ذلك، كان لأفكاره، ولا تزال، تأثير قوي في العلوم الاجتماعية، وخاصة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. أعضاء مجموعته البحثية، مثل مارسيل موس، وموريس هالبواكس، وروبرت هيرز، وبول فوكونيت، وسيليستين بوغلي، ولوسيان ليفي بروهل، والمفكرين اللاحقين، مثل تالكوت بارسونز، وألفريد رادكليف براون، وروبرت نيسبت، وكلود ليفي. شتراوس، جميعهم تأثروا به بشدة. ويعترف فلاسفة مثل هنري برجسون وإيمانويل ليفيناس بتأثير أفكار دوركهايم، كما أن أعماله حاضرة في النظريات اللغوية لفرديناند دي سوسور. بالإضافة إلى ذلك، فإن أفكار دوركهايم كامنة في الفكر البنيوي الذي ظهر في فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال عند آلان باديو، ولويس ألتوسير، وميشيل فوكو، وكذلك في أعمال مفكري ما بعد الحرب الآخرين مثل جاك لاكان وموريس ميرلو. -بونتي. يعد فكره أيضاً مقدمة للعديد من التطورات اللاحقة في الفلسفة، بما في ذلك مفهوم جون راولز عن الليبرالية السياسية ومناقشة جون سيرل للمؤسسات الاجتماعية. لكن هؤلاء المفكرين لا يناقشون دوركايم بشكل مطول، ولا يعترفون بأي فضل فكري له.

الأشكال الأولية للحياة الدينية
يُعتبر كتاب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم Emile Durkheim (1858-1917) "الأشكال الأولية للحياة الدينية: النظام الطوطمي في أستراليا" الصادر عام 1912 أحد أهم المنشورات في الدراسات الدينية  الغربية. العنوان الأصلي للكتاب بالفرنسية " Les formes élémentaires de la vie religieuse: le système totémique en Australie". للأسف لم تتم ترجمته إلى اللغة الدنماركية، ولكنه تُرجم إلى الإنجليزية بعنوان " The Elementary Forms of Religious Life "
نادراً ما يمكن الادعاء أن كتاباً واحداً يحدد مجالاً ما، ولكن في هذه الحالة هناك اتفاق واسع على أن علم الاجتماع الديني، وبمعنى أوسع البحث الديني، يمكن فهمهما على أنهما توسعة وتطوير لكتاب دوركهايم ورد الفعل عليه.
كتاب "الأشكال الأولية للحياة الدينية" هو عمل رئيسي في علم الاجتماع يمثل بداية برنامج فكري يقترح فيه إميل دوركهايم نظرية جديدة للدين، وهو يمثل آخر عمل رئيسي في حياته المهنية الإنتاجية. يمكن قراءة العمل على أنه بداية لمشروع غير مكتمل وكنص يحتوي على ثروة من المساهمات والمقترحات التجريبية والمفاهيمية والموضوعية والنظرية التي تتطلب تفسيرًا من القارئ.
لقد أثبت تفسير "الأشكال الأولية للحياة الدينية" أنه مثمر بشكل غير عادي للمسار الثقافي الغربي في علم الاجتماع ولتطوير علم الاجتماع الديني كنظام بحثي.
لقد كان اسم ميلاد إميل دوركهايم هو في الواقع ديفيد إميل دوركهايم، وكان الطفل الرابع للحاخام موسى وميلاني دوركهايم، ابن وحفيد حاخامات.
إن استخدام دوركهايم لاسمه الأوسط كاسم أول ورحلته من منزل حاخامي فقير إلى جامعة السوربون المرموقة يوازي التثاقف الفكري والاقتصادي الذي شهده العديد من اليهود الفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر. وتعتقد المؤرخة الأمريكية "ديبورا داش مور" Deborah Dash Moore أن مساهمة دوركهايم العلمية يمكن فهمها بشكل أفضل في هذا السياق. من الجوانب الأساسية للغاية لفهم كتابات دوركهايم أن تكوينه الفكري حدث في أعقاب محاكمة ألفريد دريفوس (1859-1935) في الفترة من 1894 إلى 1906، حيث اتُهم القبطان اليهودي الفرنسي زوراً بالخيانة.

فلسفة الدين عند دوركهايم
خلال حياة دوركهايم، تغير تفكيره حول الدين بطرق مهمة. في وقت مبكر من حياته جادل بأن المجتمعات البشرية يمكن أن توجد على أساس علماني بدون دين. ولكن مع مرور الوقت، رأى الدين كعنصر أساسي في الحياة الاجتماعية. بحلول الوقت الذي كتب فيه النماذج، رأى دوركهايم الدين كجزء من الحالة الإنسانية، وبينما قد يختلف محتوى الدين من مجتمع إلى آخر مع مرور الوقت، فإن الدين سيكون دائماً بشكل أو بآخر، جزءًا من الحياة الاجتماعية. يرى دوركهايم أيضاً أن الدين هو المؤسسة الاجتماعية الأكثر جوهرية، حيث ولدت منه جميع المؤسسات الاجتماعية الأخرى تقريباً، في مرحلة ما من تاريخ البشرية. ولهذه الأسباب قدم تحليلاً خاصاً لهذه الظاهرة، مقدماً فلسفة للدين ربما تكون مثيرة بقدر ما هي غنية بالرؤى.
الدين عند دوركهايم هو نتاج النشاط البشري، وليس التدخل الإلهي. ومن ثم فهو يتعامل مع الدين باعتباره حقيقة اجتماعية فريدة ويحلله اجتماعيا. يشرح دوركهايم نظريته عن الدين باستفاضة في أهم أعماله "النماذج" Forms. يستخدم دوركهايم في هذا الكتاب البيانات الإثنوغرافية التي كانت متاحة في ذلك الوقت لتركيز تحليله على الدين الأكثر بدائية الذي كان معروفاً في ذلك الوقت، وهو الدين الطوطمي لسكان أستراليا الأصليين. وقد تم ذلك لأغراض منهجية، حيث إن دوركهايم كان يرغب في دراسة أبسط شكل ممكن من أشكال الدين، حيث يكون من الأسهل التحقق من العناصر الأساسية للحياة الدينية. بمعنى ما، يبحث دوركهايم في السؤال القديم حول أصل الدين، ولو بطريقة جديدة.
من المهم أن نلاحظ، مع ذلك، أن دوركهايم لا يبحث عن أصل مطلق، أو عن اللحظة الجذرية التي ظهر فيها الدين لأول مرة. مثل هذا التحقيق سيكون مستحيلا وعرضة للتكهنات. وبهذا المعنى الميتافيزيقي للأصل، فإن الدين، مثل كل مؤسسة اجتماعية، لا يبدأ من أي مكان. بدلاً من ذلك، كما يقول دوركايم، فهو يبحث في القوى والأسباب الاجتماعية الموجودة دائمًا بالفعل في الوسط الاجتماعي والتي تؤدي إلى ظهور الحياة الدينية والفكر في نقاط زمنية مختلفة، وفي ظل ظروف مختلفة.
لا يخلو تحليل دوركهايم من منتقديه، الذين ينتقدون، من بين أمور أخرى، منهجيته، أو تفسيره للبيانات الإثنوغرافية، أو تقويضه للدين التقليدي. ومع ذلك، فإن تأكيده على أن الدين له أساس اجتماعي بشكل أساسي، بالإضافة إلى عناصر أخرى في نظريته، تم إعادة تأكيده وإعادة تخصيصه على مر السنين من قبل عدد من المفكرين المختلفين.

من المهم أن ننظر إلى نقطة البداية في تحليل دوركهايم، أي تعريفه للدين: "الدين هو نظام موحد من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدسة، أي الأشياء المنفصلة والمحرمة – المعتقدات والممارسات التي توحد في مجتمع أخلاقي واحد يسمى الكنيسة لكل من يلتزم بها". هناك بالتالي ثلاثة عناصر أساسية لكل دين: الأشياء المقدسة، ومجموعة من المعتقدات والممارسات، ووجود مجتمع أخلاقي. ومن بين هذه الثلاثة، ربما يكون الأهم هو مفهوم المقدس، وهو النقطة التي يدور حولها أي نظام ديني. وهو ما يلهم احتراماً وإعجاباً كبيراً من جانب المجتمع وما يفصل ويبقي المؤمنين على مسافة.
يقارن دوركهايم بين المقدس ومفهوم المدنس، أو ما يدنس المقدس والذي يجب حماية المقدس منه، مما يجعل التعارض بين المقدس والمدنس عنصراً مركزياً في نظرية دوركهايم. ومن خلال هذا التعريف، يركز دوركهايم أيضاً على العنصر الاجتماعي للدين. وهذا أمر مهم لأنه يقضي قدراً كبيراً من الوقت في النماذج يتجادل ضد المنظرين مثل هربرت سبنسر، إدوارد تايلور، أو جيمس فريزر الذين حددوا أصل الدين في الظواهر النفسية مثل الأحلام (وجهة نظر سبنسر الروحانية) أو الظواهر الطبيعية، مثل كالعواصف (النظرة الطبيعية للاثنين الأخيرين). يرى دوركهايم أن مثل هذا التفسير للظواهر مكتسب اجتماعياً، ولا يمكن أن يكون إلا نتيجة لدين مؤسس بالفعل، وليس سببه.

كيف يعتقد دوركهايم أن الدين ينشأ ويعمل
وفقاً لدوركهايم، فإن الدين يأتي إلى الوجود ويكتسب الشرعية من خلال لحظات ما يسميه “الفوران الجماعي”. يشير الانفعال الجماعي إلى لحظات في الحياة المجتمعية تجتمع فيها مجموعة الأفراد الذين يشكلون المجتمع معاً لأداء طقوس دينية. خلال هذه اللحظات، تجتمع المجموعة وتتواصل في نفس الفكر وتشارك في نفس العمل، مما يعمل على توحيد مجموعة الأفراد. عندما يكون الأفراد على اتصال وثيق مع بعضهم البعض، وعندما يتم تجميعهم بهذه الطريقة، يتم إنشاء وإطلاق "كهرباء" معينة، مما يقود المشاركين إلى درجة عالية من التفاعل.
الإثارة العاطفية الجماعية أو الهذيان. هذه القوة غير الشخصية، خارج الفرد، والتي هي عنصر أساسي في الدين، تنقل الأفراد إلى عالم مثالي جديد، وترفعهم خارج أنفسهم، وتجعلهم يشعرون كما لو كانوا على اتصال مع طاقة غير عادية.
والخطوة التالية في نشأة الدين هي إسقاط هذه الطاقة الجماعية على رمز خارجي. وكما يقول دوركهايم، لا يمكن للمجتمع أن يصبح واعياً بهذه القوى المنتشرة في العالم الاجتماعي إلا من خلال تمثيلها بطريقة ما. لذلك، يجب تجسيد قوة الدين، أو جعلها مرئية بطريقة أو بأخرى، ويصبح الموضوع الذي تُسقط عليه هذه القوة مقدساً. يتلقى هذا الشيء المقدس القوة الجماعية وبالتالي يتم غرسه بقوة المجتمع. وبهذه الطريقة يكتسب المجتمع فكرة أو تمثيلاً ملموسًا لنفسه. عند مناقشة هذه الأمور، يحرص دوركايم على استخدام كلمة "الشيء المقدس" لوصف ما يُفهم تقليدياً في الغرب على أنه إله. وذلك لأن الأشياء المقدسة يمكن أن تكون متنوعة جداً ولا تشير بالضرورة إلى آلهة خارقة للطبيعة.
على سبيل المثال، يعتبر الله شيئاً مقدساً للمجتمعات المسيحية، وكان الثور شيئاً مقدساً لمجتمع الفايكنج، لكن الحقائق الأربع النبيلة هي أيضاً أشياء مقدسة عند البوذيين، وكما نرى أصبح الشخص الفردي شيئاً مقدساً للحداثة في المجتمع الغربي. يمكن أيضاً أن تصبح الأشياء المادية، مثل الصخور، والريش، والطوطم، والصلبان، وما إلى ذلك، مشبعة بقوة الجماعة، وبالتالي تصبح مقدسة وتكون بمثابة تذكير مادي لوجود المجتمع.
مثل هذه الآراء حول الدين تسمح لدوركهايم بتقديم ادعاء جذري بأن الشيء المقدس للمجتمع ليس سوى القوى الجماعية للمجموعة المتغيرة. الدين هو المجتمع الذي يعبد نفسه، ومن خلال الدين يمثل الأفراد لأنفسهم المجتمع وعلاقتهم به.
وبهذا يكشف دوركهايم عن الأعمال الداخلية للشبكة الرمزية للمجتمع. مع رفض دوركهايم للشيء في حد ذاته، فإن معنى الموضوع وقيمته ليسا جوهريين فيه، بل يمكن العثور عليهما في علاقة ذلك الشيء بالمجتمع. وبعبارة أخرى، فإن مكانة الشيء تتحدد بالمعنى الذي ينسبه إليه المجتمع، أو بوضعه كتمثيل جماعي. والأهم من ذلك، أن هذا التحليل يتجاوز ما يعتبر بشكل صارم المجال الديني، حيث إن كل المعاني المشتقة اجتماعياً تعمل بنفس الطريقة.
على سبيل المثال، الطابع أو العلم أو رياضة كرة القدم هي في حد ذاتها مجرد قطعة من الورق، أو قطعة قماش، أو مجموعة من الرجال المبطنين يطاردون كرة جلدية؛ جميعها ليس لها قيمة في حد ذاتها، وتستمد قيمتها من القوى الجماعية الفريدة التي تمثلها وتجسدها. كلما زادت أهمية المجتمع في تحديد الشيء الذي يجب أن يكون عليه، كلما زادت المجموعة من إضفاء الهيبة على الشيء، زادت قيمته في نظر الفرد.
وإذا كانت لحظات الفوران الجماعي هذه هي أصل المشاعر الدينية، فلا بد من تكرار الشعائر الدينية من أجل إعادة تأكيد الوحدة الجماعية للمجتمع، وإلا أصبح وجوده في خطر. ويشير دوركهايم إلى أنه إذا لم يتم إعادة إحياء القوى المجتمعية المركزية في الحياة الدينية للمجتمع، فسوف يتم نسيانها، مما يترك الأفراد دون معرفة بالروابط القائمة بينهم ولا مفهوم للمجتمع الذي ينتمون إليه. ولهذا السبب فإن الطقوس الدينية ضرورية لاستمرار وجود المجتمع؛ لا يمكن للدين أن يوجد من خلال الإيمان وحده، فهو يحتاج بشكل دوري إلى حقيقة القوة الكامنة وراء الإيمان حتى يتم تجديده. ويتم ذلك من خلال طقوس دينية مختلفة، يتم فيها إعادة تأكيد المعتقدات الجماعية ويعبر الفرد عن تضامنه مع الشيء المقدس في المجتمع، أو مع المجتمع نفسه. يمكن أن يختلف الشكل الذي تتخذه الطقوس المحددة بشكل كبير، من الجنازات إلى رقصات المطر إلى الأعياد الوطنية، لكن هدفها هو نفسه دائماً.
من خلال هذه الطقوس، يحافظ المجتمع على وجوده ويدمج الأفراد في الحظيرة الاجتماعية، ويمارس الضغط عليهم للتصرف والتفكير على حد سواء. في حين أن تحليل دوركهايم يتعلق بسياقات دينية بشكل واضح، فمن المهم أن نلاحظ أن عمليات التفاعل الطقسي التي يصفها تحدث في سياقات مختلفة وأقل رسمية. يمكن اعتبار العمليات الطقسية جزءًا من الحياة اليومية ولها دور فعال في تنظيم التضامن الجماعي والعلاقات بين الأشخاص في المؤسسات الاجتماعية المختلفة وعلى مستويات مختلفة من الشكليات. على الأقل من الناحية الرمزية، لأنها تعبر عن قوة موجودة بالفعل، قوة المجتمع. ولذلك، لا يمكن استبعاد الدين والمعتقد الديني والتجربة الدينية باعتبارها مجرد خيالات أو أوهام.





5
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك



النرجسية المتعجرفة: جوهر السياسة الخارجية الأمريكية


توفي قبل أيام عن عمر يناهز مئة عام، هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ومستشار الأمن القومي الذي فر من ألمانيا النازية في شبابه ليصبح واحدا من أكثر الشخصيات تأثيراً وإثارة للجدل في التاريخ الأمريكي، والقوة المهيمنة والمستقطبة في السياسة الخارجية الأمريكية. وكان يمثل كل ما هو متعجرف ومستبد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
كان كيسنجر مرادفاً للسياسة الخارجية الأمريكية في السبعينيات. حصل على جائزة نوبل للسلام لمساعدته في الترتيب لإنهاء التدخل العسكري الأمريكي في حرب فيتنام، ويُنسب إليه الفضل في الدبلوماسية السرية التي ساعدت الرئيس ريتشارد نيكسون على فتح الصين الشيوعية أمام الولايات المتحدة والغرب، وهو ما أبرزته زيارة نيكسون للصين في عام 1972. لكنه تعرض أيضا للانتقاد من جانب كثيرين بسبب قصف كمبوديا خلال حرب فيتنام الذي أدى إلى صعود نظام الخمير الحمر الذي ارتكب إبادة جماعية ودعمه لانقلاب ضد حكومة ديمقراطية في تشيلي.
وفي الشرق الأوسط، قام كيسنجر بما أصبح يعرف باسم "الدبلوماسية المكوكية" للفصل بين القوات الإسرائيلية والعربية بعد تداعيات حرب يوم الغفران عام 1973. وكان نهج "الانفراج" الذي اتبعه في التعامل مع العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، والذي ساعد في تخفيف التوترات وأدى إلى العديد من اتفاقيات الحد من الأسلحة، هو الذي قاد الموقف الأميركي إلى حد كبير حتى عهد ريغان.
وفي قرار مثير للجدل إلى حد كبير، تقاسم كيسنجر جائزة نوبل للسلام عام 1973 مع نظيره الفيتنامي الشمالي لو دوك ثو عن اتفاقيات باريس للسلام في ذلك العام؛ بسبب غياب السلام الفعلي في فيتنام، رفض ثو قبول الجائزة، واستقال اثنان من أعضاء لجنة نوبل احتجاجاً على الجائزة.
ولد كيسنجر في 27 مايو 1923 في فورث بألمانيا، وكان يهوديًا، فر من الاضطهاد النازي وجاء إلى الولايات المتحدة في عام 1938.
على الرغم من أن عصره كمهندس رفيع المستوى للسياسة الخارجية الأمريكية تضاءل مع تراجع نيكسون وسط فضيحة ووترغيت، إلا أن كيسنجر استمر في كونه محركاً وهزازاً مستقلاً ومؤثراً، وكانت تأملاته حول الدبلوماسية تجد آذاناً صاغية دائماً من قبل صناع السياسة الأمريكية حتى وفاته.
بعد تركه وزارة الخارجية في عام 1977، أصبح كيسنجر مؤلفًا غزير الإنتاج ومستشارًا دولياً. ظلت كتاباته ونصائحه بشأن الجغرافيا السياسية مطلوبة للقراءة في مجتمع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة وخارجها - حتى مع استمرار منتقديه في انتقاده.

لماذا يُنظر إلى الأميركيين في جميع أنحاء العالم على أنهم متعجرفون؟
هل الفكرة حقيقية أم أنها مجرد فكرة خاطئة؟ إن فكرة الأمريكي المتغطرس هي صورة نمطية سائدة في جميع أنحاء العالم. ولكن لا يتبنى هذا الاعتقاد كل مواطني البلدان المختلفة.
إن فكرة المتغطرس الأمريكي شائعة جدًا لدرجة أنها تستحق الاهتمام بها. بطريقة أو بأخرى ظل الأميركيون محفورين في أذهان البلدان الأخرى باعتبارهم أشخاصاً متغطرسين ووقحين ومتعجرفين.
وفقا للأستاذة "جينا زانوليني موريسون" Gina Zanolini Morrison أستاذة الثقافات العالمية في جامعة ويلكس الأمريكية فإن الجواب بسيط للغاية. تذكر موريسون أن "الأمريكيين غالباً ما يسافرون إلى الخارج دون قضاء الكثير من الوقت في التعرف على ثقافة وجهتهم".
لذلك عندما يصلون إلى هناك، يرتكبون أخطاءً ثقافيةً غالباً ما يُساء تفسيرها بطريقة سلبية. ومن الواضح إذن أن نلاحظ أن سمعتهم المتعجرفة ربما تكوّنت من شؤونهم الدولية.
إن الفهم المحدود لعادات وممارسات الدول الأخرى يمكن أن يكون له تأثير سلبي على تواجدهم العالمي.
في إشارة إلى ما إذا كانت هناك حقيقة لفكرة كون الأمريكيين متعجرفين، تقول موريسون: "لا أعتقد أن العديد من الأمريكيين يدركون كيف يتم تفسير سلوكهم من قبل أشخاص من ثقافات أخرى، وبينما قد يكون هناك غطرسة في هذا الجهل نفسه بصراحة، لا أعتقد أن الأميركيين متعجرفون بطبيعتهم".
المدير المساعد لشؤون التنوع بجامعة ويلكس "إيريكا أكوستا"  Erica Acosta لديها وجهة نظر مماثلة. تقول: "أشعر كما لو أنه قيل لنا في سن مبكرة جداً أن أمريكا هي واحدة من أفضل البلدان - أحلامك تتحقق في هذا البلد، لذا فقد غُرست فيك بالفعل تلك الوطنية".
وتعتقد أيضًا أنه "على سبيل المثال، عندما نذهب إلى مطعم كأمريكيين، يمكننا أن نختار. حسناً لا أريد هذا، هل يمكنك استبداله بآخر، يمكننا تغيير القائمة بأكملها لتناسب احتياجات الشخص التي يمكن أن يكون وقحاً عند زيارة بلدان أخرى". يوضح هذا المفهوم الفردية والدافع الذي تسبب بالثورة الأمريكية واستقلالها عن بريطانيا.
يعد هذا الحسم إحدى قيمنا الأساسية والتي يمكن أيضاً اعتبارها متعجرفة في البلدان التي تقدر الدقة، والتواضع، والتقدم الثابت، والفعال. وتؤكد أن هذا التوجه والتشجيع على المبادرة "كمواطنين طبيعيين أو أولئك الذين يحصلون على جنسيتهم بطرق أخرى، هو أحد حقوقك التي ستكتسبها كأميركي".
ما الذي يمكننا فعله لتغيير صورة الأمريكي المتغطرس؟ وفقاً لموريسون، فإن أحد أكثر الأشياء فعالية التي يمكننا القيام بها هو البحث والتعرف على العادات الدولية. تقول موريسون إن "أفضل مكان لإجراء بحثك هو الذهاب إلى وزارة الخارجية الأمريكية على الموقع travel.state.gov."
"استمر في البحث، وتعرف على أشخاص من ثقافات أخرى، واستمع جيداً، وابذل قصارى جهدك لتسامح نفسك عندما تسافر - لأنه بغض النظر عن مدى دراستنا للثقافات، فسوف نرتكب الأخطاء دائماً. فقط تعامل مع كل رحلة على أنها مغامرة رائعة وجديدة واستمتع بوقتك! لذلك، عند التنقل في عالم الصور النمطية الدولية، من المهم أن نفهم أن هذه الصور النمطية تغذيها المفاهيم الخاطئة.

غطرسة ونرجسية أمريكا
يردد قادة الولايات المتحدة بشكل روتيني أن الولايات المتحدة تؤيد "نظاماً دولياً قائماً على القواعد"، وأن واشنطن حاولت دائماً لعب دورها كزعيم عالمي يتزعم محور الخير. الواقع هو بالتأكيد أقل صدقاً وأكثر نرجسية. إن موقف واشنطن الفعلي منذ الحرب العالمية الثانية يتسم بالنرجسية المتعجرفة والغطرسة، ولا تزال المشكلة قائمة لغاية اللحظة..
ولعل التعبير الأكثر إيجازاً عن هذا المنظور كان تعليق وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت خلال مقابلة أجريت معها في فبراير/شباط 1998 في برنامج "توداي" على قناة إن بي سي. وقالت: "نحن أمريكا. نحن الأمة التي لا غنى عنها. نحن نقف شامخين ونرى المستقبل أبعد من الدول الأخرى". ولكن هذا الشعور كان موجوداً قبل أولبرايت، واستمر لفترة طويلة بعد رحيلها عن منصبها. ونلاحظ نفس النبرة في خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس جورج بوش الأب عام 1991. وهو صاحب عبارة "النظام العالمي الجديد".
مما قاله جورج بوش الأب: "على مدى أجيال، قادت أميركا النضال من أجل الحفاظ على الحرية وتوسيع نطاقها. واليوم، في عالم سريع التغير، أصبحت القيادة الأميركية أمراً لا غنى عنه. ويدرك الأميركيون أن القيادة تجلب الأعباء والتضحيات. لكننا نعرف أيضًا لماذا تتجه إلينا آمال البشرية. نحن امريكيون؛ لدينا مسؤولية فريدة للقيام بالعمل الشاق من أجل الحرية. وعندما نفعل ذلك، تنجح الحرية".
وفي خطابه الذي ألقاه في فبراير/شباط 2021 أمام مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي، قال جو بايدن: "أتحدث اليوم كرئيس للولايات المتحدة في بداية إدارتي، وأبعث برسالة واضحة إلى العالم: لقد عادت أمريكا. وكانت النتيجة الواضحة هي أن الولايات المتحدة، في عهد الرئيس دونالد ترامب، أهملت، إن لم تكن خسرت دورها كزعيم عالمي"
 وفي تصريحاته عقب قمة مجموعة السبع في يونيو/حزيران، أكد بايدن "أننا دولة فريدة من نوعها".
ولم تقتصر الغطرسة والنرجسية على الخطابات المبالغ فيها من جانب قادة الولايات المتحدة. وغالباً ما كانت تحكم جوهر السياسة الأمريكية. ومن الأمثلة على ذلك الطريقة التي تعاملت بها إدارة بيل كلينتون مع قضية برنامج الأسلحة النووية لكوريا الشمالية في عام 1994. ففي مذكراته، ذكر كلينتون: "لقد كنت مصمماً على منع كوريا الشمالية من تطوير ترسانة نووية، حتى مع خطر الحرب".  واعترف وزير الدفاع ويليام بيري في وقت لاحق بأن الإدارة فكرت جدياً في شن "ضربات جراحية" ضد المنشآت النووية الناشئة في كوريا الشمالية.
ولحسن الحظ، أقنع الرئيس السابق جيمي كارتر كلينتون بالسماح له بالتواصل مع بيونغ يانغ وإجراء محادثات لحل الأزمة سلمياً. لكن الخطر كان قريباً، ولم يلمح كلينتون أو مستشاروه في أي وقت من الأوقات إلى أن رغبات كوريا الجنوبية سيكون لها تأثير كبير على قرار واشنطن بشأن شن ضربات جوية. ومن المؤكد أن سيول لم يكن لديها حق النقض على السياسة الأمريكية. وينطبق الشيء نفسه على اليابان وحلفاء واشنطن الآخرين في شرق آسيا، على الرغم من التداعيات (المجازية وربما الحرفية) التي قد يتعرضون لها من الضربات الجوية الأمريكية على المنشآت النووية.

علاقة الغطرسة والجشع والعنف بالأمريكيين
أوضح استطلاع للرأي أجراه المركز العالمي للدراسات والأبحاث في نيويورك أن الأغلبية في اليونان وأستراليا والمملكة المتحدة وإسبانيا يعتبرون الأمريكيين متعجرفون وجشعون وعنيفون. وسأل الاستطلاع أيضاً عما إذا كان المشاركون يربطون ثلاث سمات سلبية - الغطرسة والجشع والعنف - بالأمريكيين. يعتقد متوسط 54% أن الغطرسة هي سمة من سمات الأمريكيين، ويقول نفس الشيء تقريباً عن الجشع (متوسط 52%). يعتقد عدد أقل قليلاً في البلدان التي شملها الاستطلاع أن الأمريكيين عنيفون (بمتوسط 48%).
أغلبية المستطلعين في تسع دول ربطوا الغطرسة بالناس في الولايات المتحدة. ما يقرب من سبعة من كل عشرة من اليونانيين والكنديين والأستراليين يربطون الشعور بالتفوق مع الناس في الولايات المتحدة وستة من كل عشرة أو أكثر في المملكة المتحدة (64٪). وتوافق إسبانيا (62%) والصين (60%) على ذلك.
فيما قالت أغلبية قدرها 57% من الأمريكيين بأن الصورة النمطية للأمريكيين الجشعين تناسبهم. وتتفق الشعوب التالية مع هذه الصورة: تقريباً من الإسبان (59%) والهولنديين (59%) والكنديين (58%) والأستراليين (58%) والبريطانيين (56%) والسويديين (55%) على أن الأمريكيين جشعون. وفي اليونان، هناك نسبة أكبر (68%) تربط الأميركيين بالجشع. وفي أماكن أخرى، وجد الاستطلاع أن ما يقرب من النصف أو أقل يوافقون على أن الأميركيين جشعون. وهذا الرأي هو الأقل شيوعاً في إيطاليا، حيث ينسب 21% فقط الجشع للناس في الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، تنسب نسبة البولنديين (-13 نقطة مئوية)، والبريطانيين (-9)، والصينيين (-8) الجشع إلى الناس في الولايات المتحدة. لقد زادت بشكل كبير نسبة الذين يربطون العجرفة بالولايات المتحدة منذ آخر مرة تم طرح هذا السؤال فيها في عام 2005.
وفي جميع أنحاء البلدان التي شملها الاستطلاع، تصف نسب كبيرة الأمريكيين بأنهم عنيفون. ويشكل هذا وجهة نظر الأغلبية في أربع دول: أستراليا (68%)، اليونان (63%)، المملكة المتحدة (57%) وإسبانيا (55%). وكانت آخر مرة تم فيها اختبار هذه السمة في عام 2005، على خلفية المهمة التي قادتها الولايات المتحدة في العراق. كانت نسبة الأشخاص في فرنسا الذين يصفون الأمريكيين بالعنف أعلى بنسبة 15 نقطة مئوية (63% مقابل 48%). وتبدو الفجوات أصغر حجماً، ولكنها لا تزال كبيرة في كندا (64% في عام 2005 مقابل 53% اليوم) والصين (61% مقابل 52%).

يختلف الجمهوريون والديمقراطيون حول العديد من السمات الأمريكية
وفي الولايات المتحدة، يكون لدى الديمقراطيين في بعض الأحيان وجهة نظر أقل إيجابية تجاه الأمريكيين مقارنة بالجمهوريين. فالديمقراطيون أقل ميلاً إلى وصف الأميركيين بأنهم متسامحون، وأكثر ميلاً إلى ربط الأميركيين بالجشع والغطرسة. ومع ذلك، فإن أكبر فجوة إدراكية تتعلق بالعنف. وبفارق 21 نقطة مئوية، يميل الديمقراطيون أكثر من الجمهوريين إلى وصف الأمريكيين بأنهم عنيفون.
كما يختلف أنصار الولايات المتحدة كثيرًا حول العنف باعتباره سمة من سمات الأمريكيين. على الرغم من أن الجمهوريين والديمقراطيين يربطون بين الأمريكيين والعمل الجاد، إلا أن هذا التكريم أكثر انتشاراً بين الديمقراطيين (85%) مقارنة بالجمهوريين (75%). والسمة الإيجابية الوحيدة التي يتفق عليها الجمهوريون والديمقراطيون هي التفاؤل. ويقول ما يقرب من ثلاثة أرباع الجمهوريين والديمقراطيين إن الناس في بلادهم متفائلون.

الإدارة الأمريكية لا تبالي بحلفائها
إن مثل هذه اللامبالاة لرغبات الحلفاء فيما يتعلق بالقضايا ذات المخاطر العالية هي التي ميزت سلوك واشنطن على مدى عقود. أحد الأمثلة على ذلك هو كيف عمل المسؤولون الأمريكيون على نسف أي مبادرات أمنية للحلفاء إن لم يكن للولايات المتحدة المسؤولية بشكل واضح. لقد ظهر موقف واشنطن الخانق بشكل كامل خلال حادثة وقعت في أواخر التسعينيات. سعت فرنسا وعدد قليل من الدول الأوروبية الأخرى إلى إنشاء سياسة الأمن والدفاع الأوروبية (ESDP)، والتي سيكون لها قدرات عسكرية أوروبية بحتة وتعمل خارج إطار الناتو، من خلال الاتحاد الأوروبي على الأرجح. والحقيقة أن الحلفاء المستقلين اقترحوا إنشاء قوة رد سريع تحت السيطرة الأوروبية لتنفيذ خطة الأمن والدفاع الأوروبية.
وكان رد فعل قادة الولايات المتحدة مثل القطط المحروقة. وكانت بعض الاعتراضات الحادة تصل حد الهستيريا. وفي حديثه أمام اجتماع وزراء دفاع الناتو في بروكسل في كانون الأول (ديسمبر) 2000، حذر وزير الدفاع ويليام كوهين من أنه إذا كان الاتحاد الأوروبي قد لجأ إلى هذه الخطوة، فإن ذلك لن يكون كافياً. وإذا ما أنشأت الولايات المتحدة قدرة دفاعية خارج حلف شمال الأطلسي، فإن الحلف سيصبح "من بقايا الماضي". وأبدى المسؤولون في إدارة جورج دبليو بوش اللاحقة موقفاً مماثلاً. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2003، انتقد نيكولاس بيرنز، سفير الولايات المتحدة لدى حلف شمال الأطلسي، بشدة خطة الاتحاد الأوروبي لتطوير قدرة عسكرية مستقلة. ووصف بيرنز هذا الجهد بأنه "أحد أعظم الأخطار التي تهدد مجتمع ضفتي الأطلسي".
وقد انتقد جون بولتون، الذي سيصبح مسؤولًا سياسياً كبيراً في إدارة بوش، ثم مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، بشكل خاص قوة الرد السريع ووصفها بأنها "خنجر موجه إلى قلب الناتو". (وهي عبارة استخدمها مرة أخرى في وقت سابق من هذا العام فيما يتعلق بأي مبادرات دفاعية أوروبية مستقلة). وتحت تأثير بولتون، أظهرت إدارة ترامب عداءً شديداً عندما أحيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فكرة إنشاء جيش يتبع الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن الإدارات الأمريكية، الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، اشتكت بشكل روتيني من أن الدول الأوروبية لا تستثمر في الدفاع عن نفسها وتفشل في قبول ما يكفي من "تقاسم الأعباء"، إلا أنها كانت على نفس القدر من الإصرار على معارضة المبادرات الأمنية المستقلة من قبل هؤلاء الحلفاء. ويريد المسؤولون الأميركيون تقاسماً أكبر للأعباء، ولكن فقط داخل حلف شمال الأطلسي حيث تتخذ الولايات المتحدة معظم القرارات. وبعبارة أخرى، فإنهم يسعون إلى بذل جهود أوروبية أكبر للمساعدة في تنفيذ أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
في بعض الأحيان، لا تنم مواقف المسؤولين الأميركيين عن اللامبالاة المتغطرسة تجاه رغبات شركاء أميركا الأمنيين المفترضين فحسب، بل إنها تنقل الازدراء. وقد ظهر هذا الازدراء بوضوح عندما سعى الحلفاء الأوروبيون إلى إدارة الاضطرابات التي أطلقها تفكك يوغوسلافيا في أوائل التسعينيات. ويقال إن أحد المسؤولين المجهولين، ولكنه رفيع المستوى في إدارة جورج بوش الأب، نفى مثل هذه الطموحات عندما قال ملاحظة ساخرة مفادها أن الأوروبيين "لا يستطيعون تنظيم موكب من ثلاث سيارات إذا كانت حياتهم تعتمد على ذلك". وبعد عقدين من الزمن، ردت مساعدة وزيرة الخارجية فيكتوريا نولاند، عندما قيل لها إن بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي قد يعترضون على جوانب من حملة واشنطن لتقويض الحكومة الأوكرانية المنتخبة الموالية لروسيا، بطريقة أكثر إيجازاً: "تباً للاتحاد الأوروبي".
يقال إن أليس روزفلت لونجورث، ابنة الرئيس ثيودور روزفلت، زعمت ذات مرة أن والدها كان مغروراً إلى حد أنه "كان يريد دائماً أن يكون الجثة في كل جنازة، والعروس في كل حفل زفاف، والطفل في كل تعميد". ويسعى المسؤولون المتغطرسون المسؤولون عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى الحصول على وضع مماثل للولايات المتحدة.
 إنهم يريدون دائمًا أن تكون واشنطن هي المسؤولة، حتى عندما تؤدي هذه السياسة إلى زيادة الأعباء المالية والمخاطر العسكرية على الشعب الأمريكي. لكن الحقيقة أنهم يحتاجون إلى سياسة خارجية أكثر تواضعاً.

أمريكا تحتاج إلى فضائل التواضع
رغم مرور أكثر من مئة عام على خطاب الرئيس الأمريكي "ودرو ويلسون" الذي ألقاه في العام 1916 بمناسبة بداية ولايته الرئاسية الثانية، حيث ينسب إليه مقولة "أن عَلَمَ أمريكا ليس علَمهَا وحدها، بل هو عَلَم الإنسانية جمعاء" إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق، ولم يصبح علم الولايات المتحدة علماً للإنسانية، بل أصبح علماً للشر وقتل الشعوب والغطرسة ونهب خيرات الدول. صار وجهاً قبيحاً للعنصرية والتمييز لم تنجح أفلام هوليود في تجميله.
نزعة السيطرة على العالم، والاعتقاد أنهم وحدهم المهيئين لقيادة العالم، كانت وما زالت في العقيدة الأمريكية منذ الاستقلال. ظهرت هذه النزعة بوضوح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة منتصرة، فيما بقية الأطراف إما مهزومة أو منهكة اقتصاديا، وعسكرياً، واجتماعيا، وسياسياً.
تُظهر تصريحات السياسيين الأمريكيين درجة عالية من الفوقية والاستعلاء والترفُّع على الآخرين، والتكبُّر والعجرفة، والزُهوّ. وتصريحات رونالد ترامب المستمرة تؤكد هده الحقيقة بصورة جلية، حين يواصل القول إنه يتمتع "بتواضع أكبر كثيرا مما يتصور الكثير من الناس". لكن ادعاءاته بأنه يتمتع بـ "عقل جيد جدًا"، وأنه يمتلك "أفضل الكلمات"، وأنه يعرف "أكثر من الجنرالات"، وتذكيره المستمر بأنه "الفائز" كلها تعزز فكرة أن التواضع هو فضيلة لا يعرفها ترامب.
لابد للولايات المتحدة أن تنسى "تفوقها" الماضي، لأن العالم اليوم تحول من القطب الواحد إلى متعدد الأقطاب. وفي الواقع أن أمريكا ليست سوى واحدة من عدة جهات إقليمية فاعلة. في العقود الماضية، فشلت الولايات المتحدة فشلا ذريعا من خلال الضغط على البلدان النامية لحملها على اتباع القواعد والقيم الأميركية، بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال شبكاتها من المنظمات الدولية غير الحكومية. وإذا رفضوا، فإن واشنطن كانت تبحث عن طرق لتوبيخهم بأكثر من طريقة. والآن، مع صعود الصين وعلاقاتها الاقتصادية الموسعة وبرامجها التنموية في مختلف أنحاء المنطقة، تحتاج الولايات المتحدة إلى الدخول في اللعبة الإقليمية، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية. يتعين على الولايات المتحدة تحسين دبلوماسيتها العامة تجاه العالم.












6
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


في الذكرى السادسة والأربعين لليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني
تحية إلى أحرار العالم


يصادف يوم الأربعاء التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، الذي تحيي الأمم المتحدة فاعليته كل عام، تزامناً مع اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة قرار التقسيم رقم 181. يشهد اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني فعاليات ثقافية ومهرجانات سياسية وجماهيرية تضامنية، من قبل حركات تضامن ولجان سياسية، والمؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية. واستجابة لدعوة موجهة من الأمم المتحدة، تقوم الحكومات والمجتمعات المدنية سنويا بأنشطة شتى احتفالاً باليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. من بين هذه النشاطات، إصدار رسائل خاصة تضامناً مع الشعب الفلسطيني، وعقد الاجتماعات، وتوزيع المطبوعات وغيرها من المواد الإعلامية.
كما تعقد اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف جلسة خاصة سنويا احتفالا باليوم الدولي للتضامن في مقر الأمم المتحدة بنيويورك. وتنشر شعبة حقوق الفلسطينيين التابعة للأمانة العامة للأمم المتحدة سنويا، نشرة خاصة تتضمن نصوص البيانات الملقاة والرسائل الواردة لمناسبة اليوم الدولي للتضامن، ومن بين الأنشطة الأخرى التي تُنظم في نيويورك في إطار الاحتفال باليوم الدولي للتضامن إقامة معرض فلسطيني أو حدث ثقافي ترعاه اللجنة وتُنظمه بعثة فلسطين لدى الأمم المتحدة، وعرض أفلام عن القضية الفلسطينية.
يذكر أنه في عام 1977، دعت الجمعية العامة للاحتفال السنوي بيوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر باعتباره اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني القرار 32/40 ب. في ذات اليوم من عام 1947 الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة قرار تقسيم فلسطين رقم 181 والذي بموجبه يتم إنشاء دولتين في فلسطين، يهودية وعربية. أنشئت الدولة اليهودية في العالم التالي، ثم اعترف بها كعضو في الأمم المتحدة عام 1949، لكن الدولة الفلسطينية، التي تم النص على إنشائها في ذات القرار، لم تر النور.  هذا القرار الذي أجهضته الحركة الصهيونية وتواطئ الرجعيات العربية، بحيث تم تدمير كيانية الشعب الفلسطيني وتشريده وحرمانه من إقامة دولته المستقلة منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا .

وعلى الرغم من جميع محاولات إسرائيل لإلغاء وجود الشعب الفلسطيني أو عدم الاعتراف بحقوقه أو بتمثيله السياسي الذي جسدته منظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد، إلا أن كل هذه المحاولات قد باءت بالفشل وتمكن الشعب الفلسطيني وعبر تضحياته الغالية من أن يفرض حضوره على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، ومن تعزيز مشروعية نضاله على أرضه ووطنه .
في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، انضمت فلسطين إلى الأمم المتحدة بصفة "دولة مراقبة غير عضو". وفي 30 أيلول/سبتمبر 2015، رفع العلم الفلسطيني أمام مقرات ومكاتب الأمم المتحدة حول العالم.

الذكرى السادسة والأربعين
تمر الذكرى السادسة والأربعين ليوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني هذه الأيام وشعبنا الفلسطيني في غزة يتعرض لمذبحة جماعية يقوم بها جيش الاحتلال الصهيوني النازي منذ سبعة أسابيع، حيث يتعرض البشر والحجر والشجر في قطاع غزة إلى إبادة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً. قضى نتيجة هذا العدوان أكثر من خمسة عشر ألف شهيد للآن، وما يقارب من خمسة وعشرين ألف جريح، وتسعة آلاف مفقود. جُلّهم من النساء والأطفال أي حوالي 70%. وقام الجيش الإسرائيلي الهمجي بتدمير 255 ألف وحدة سكنية، نتج عنها تشريد، كما قتلت إسرائيل 294 شهيداً من الكوادر الطبية بين طبيب وممرض ومسعف. وقتلت كذلك 46 صحفياً خلال عدوانها على غزة.
كما استهدف جيش الاحتلال 207 مؤسسة رعاية صحية، وأخرج 21 مشفى، و36 مركز رعاية أولية عن الخدمة نتيجة استهداف مباشر أو محاصرته ومنع إدخال الوقود. ودور العبادة لم تسلم من بطش وهمجية الجيش الإسرائيلي الذي قام بتدمير 33 مسجداً، واصاب العديد من المساجد بأضرار بليغة. وقام بتدمير عشرات المدارس التابعة للأمم المتحدة، حيث كان الآلاف من النازحين يتخذونها ملاذاً بعد تدمير بيوتهم.

تضامن عالمي واسع مع القصية الفلسطينية
في هذه الأيام تتواصل المظاهرات الشعبية حول العالم تضامنا مع الشعب الفلسطيني الذي يواجه وحيدا العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، والاعتداءات عليه في الضفة الغربية المحتلة والقدس، إلى جانب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، حيث يرفع المتظاهرون -المنددون بوحشية وعنصرية الاحتلال- الأعلامَ الفلسطينية، والشعارات التي تدين همجية جيش الاحتلال، وتدعو إلى تمكين الشعب الفلسطيني من انتزاع حريته وبناء دولته المستقلة. ومطالبين بوقف الدعم الأميركي والغربي لإسرائيل وضرورة مقاطعتها. عشرات الآلاف من المتضامنين يخرجون يومياً في العديد من المدن الأمريكية والغربية، وأمام البيت الأبيض في العاصمة واشنطن، وفي الساحات والشوارع الرئيسية. كما يكرر ذات المشهد في العديد من الدول الأوروبية، والآسيوية، واللاتينية، وغيرها من دول العالم.
أضخم وأكبر هذه التظاهرات جرى في المدن المغربية وخاصة في الرباط حيث شارك فيها عشرات الآلاف من الأشقاء المغاربة الذين تدفقوا إلى الشوارع يعلنون رفضهم التطبيع، ورددوا شعارات داعمة لفلسطين ومنددة بالجرائم التي يرتكبها العدو الصهيوني. كذلك في المدن الإيطالية، والبريطانية، والأمريكية، والدنماركية، والسويدية، والكندية، والألمانية، والسويسرية، والفرنسية، والإسبانية، والبلجيكية، والتركية، والإندونيسية.

مسيرة نضالية طويلة
تمر الذكرى السادسة والأربعين لليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني بعد مسيرة نضالية لهذا الشعب قدم فيها شعبنا عشرات آلاف الشهداء والجرحى الأسرى، وعشرات الاف المنازل التي هدمت، والعائلات التي شردت، وعشرات الاف الأشجار التي اقتلعت، بعد نهر من الدم الأحمر القاني، وأعمار تذوب وراء القضبان، وبعد أن اشتعلت المنطقة العربية بالحروب ومزقتها الخلافات، بعد أن تمردت إسرائيل على كافة القرارات التي أصدرتها الشرعية الدولية لإنصاف الشعب الفلسطيني، وإصرارها على المضي في سياسة تهويد الأراضي وفرض الأمر الواقع، وقتل المزيد من الأطفال الفلسطينيين، كل هذا في ظل عجز عربي رسمي لم تعد تغطيه لا ورقة توت ولا حتى إبرة صنوبر توخزه، وفي ظل عجز غير مبرر من القوى الشعبية العربية المكثرة من المؤتمرات والبيانات دون أي فعل حقيقي يعري الأنظمة العربية ويحشرها في ركن الحقيقة .
فما يجري فوق أرضنا الطاهرة فلسطين اليوم يضع العرب والمسلمين والمجتمع الدولي أمام مسؤولياتهم لأول مرة بشكل باتت فيه العربدة الإسرائيلية ترى من كل العواصم العربية وهي تنتهك مقدسات المسلمين، الامر الذي يفرض على الأمة العربية بمستوياتها الرسمية والشعبية المختلفة النهوض لمواجهة التهديدات والأخطار الجسيمة التي تواجه حاضرهم ومستقبلهم حيث تقتضي كل عوامل الأخوة والدين المشترك والمصالح المشتركة والمصير الواحد أن يتضامن العرب لمساندة ودعم النضال المشروع للشعب الفلسطيني.

كما تمر الذكرى وشعبنا وقواه المناضلة تواجه أشرس عدوان صهيوني متواصل بكافة الأشكال والأساليب واكثرها دموية وإرهابية وعنفا منذ قرن من الزمان. حيث تواصل إسرائيل جرائمها وممارساتها الوحشية واللا أخلاقية واللا إنسانية ضد شعبنا وأهلنا في كافة الأراضي الفلسطينية وإن تعددت أسا لبيها فان أهدافها واحدة.
هذه الجرائم إنما تحمل في طياتها أبعادا خطيرة وتمثل انعكاسا لإخفاقات حكومة نتنياهو وتعميق مازقها السياسي والامني بفعل المقاومة الباسلة والصمود الاسطوري لشعبنا وحركته الوطنية والاسلامية في القدس وفي بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وحشية صهيونية
إن ممارسات نتنياهو التي تشهد على دموية ووحشية الحكومة الصهيونية التي تحاول من خلال استمرار عمليات القتل والتدمير والاغتيالات والاعتقال والحصار المتواصل أن توصل الحالة الفلسطينية الثائرة والمناضلة الى مرحلة الياس والاستسلام، لكن وقائع وتطورات الأحداث تؤكد أن المحن ومهما كانت قاسية تساعد شعبنا وتدفعه إلى المزيد من التلاحم والوحدة والتكاتف وتصعيد كل آليات النضال لإفشال هذه المخططات، فقوافل الشهداء تزيد من قوة شعبنا وتعمق من التزاماته بخياراته الأساسية لوأد الاطماع الصهيونية وتحطيمها على صخرة هذا الصمود الأسطوري الرائع .
ولعلنا لا نخالف الحقيقة حين نقول إن التطورات الميدانية رغم فداحتها على شعبنا لكنها تقدم يوميا الدليل على تعمق المأزق السياسي والعسكري والأخلاقي لمجرمي هذا القرن الذين يمارسون بدعم وإسناد من الإدارة الأمريكية كل صنوف الإرهاب والعنصرية ويعتدون بشكل ممنهج ومتواصل على إرادة المجتمع الدولي .
أمام هذه الجرائم الفظيعة التي ترتكبها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني الأعزل بات من المسلم به أن الكيان الصهيوني ليست لديه أية تقاليد حضارية فهو لا يعترف بأي ميثاق أخلاقي ولا يحترم شرعة حقوق الانسان، فإسرائيل تحدت العالم بأجمعه بارتكابها أبشع المجازر في الأراضي الفلسطينية وعلى امتداد سنوات احتلالها، ولم تستجيب لنداءات المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية لإيقاف اجتياحها للأراضي الفلسطينية.
لقد بات من الأكيد أنه على جميع الأحرار والشرفاء في العالم وعلى جميع منظمات وهيئات المجتمع الدولي الإنسانية التحرك لفضح جرائم إسرائيل الدموية وعزلها على الساحة الدولية في كافة المحافل.

التأكيد على الثوابت
إن يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني هو يوم تعزيز التضامن العربي والدولي مع حقوق شعبنا، وهو يوم تجسيد الوحدة الوطنية دفاعا عن هذه الحقوق، وهو يوم تأكيد إخلاص جماهيرنا لقيم الحرية والنضال التي ضحى من أجلها الآلاف من الشهداء والجرحى، والتي زج بسببها عشرات آلاف المعتقلين في السجون الإسرائيلية والعربية، وهو يوم تأكيد استمرار الانتفاضة الشعبية دفاعا عن هذه الحقوق وإفشالا لكل محاولات تركيعها وهزيمتها من إسرائيل.
إن رسالة كفاح ونضال الشعب الفلسطيني هي رسالة سلام وحرية، سلام متوازن يقوم على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وضمان الحقوق المشروعة والأمن والاستقرار للشعب الفلسطيني، ونرى ضرورة أن يقف المخلصين لقضايا الوطن والشعوب وحقها المشروع في المقاومة والحرية والاستقلال ليوحدوا صفوفهم وجهودهم لمواجهة التحديات والانتهاكات المتواصلة لشرعة حقوق الإنسان والالتزام بالأعراف والمواثيق الدولية، فشعبنا في صراعه مع الكيان الصهيوني الغاصب يمضي في شق الطريق للعرب وللبشرية أجمع لاستشراف المستقبل، والأمل والتفاؤل للشعوب المضطهدة بغد مشرق وبعالم تسوده علاقات الأخوة والاحترام المتبادل على أساس الاختيار الحر للشعوب في حاضرها ومستقبلها، بعيدا عن سياسة التدخل والاملاءات الخارجية، والكف عن سياسة التهديد والتلويح بالعدوان على شعبنا وأمتنا العربية وبقية شعوب العالم، ولا نشك بأن النصر هو حليف الشعوب الفخورة بانتمائها للأرض التي خرجت قوافل الشهداء والمناضلين البواسل.

الإشراف والحماية الدولية
إن شعبنا الفلسطيني قد قال كلمته وعمدها بدمائه برفض العودة الى الصيغة السابقة للمفاوضات العقيمة التي انتهت الى الطريق المسدود وانهارت إلى غير رجعة، إن شق طريق السلام الحقيقي يتطلب تغييرا جوهريا في صيغة العملية التفاوضية بما يضمن أولا : حق شعبنا المشروع في استمرار المقاومة طالما بقي الاختلال قائما على أرضنا .
وثانيا : تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ونبذ أية محاولة للمساومة أو الالتفاف عليها أو إعادة التفاوض حولها.
وثالثا : كسر الاحتكار الأمريكي لعملية السلام بوضعها تحت الإشراف الدولي والجماعي للأمم المتحدة بمشاركة سائر القوى الدولية وفي مقدمتها الإتحاد الأوروبي .
إن هذه الصيغة مدعومة بالتضامن العربي والإسلامي والدولي مع شعبنا هي وحدها الكفيلة بالوصول إلى سلام حقيقي متوازن يضمن انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وإزالة المستوطنات وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس .
إن مجرد المحاولة لجمع الأطراف خارج إطار ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي يساهم في تلطيخ الحدود والخطوط بين القانون الدولي وبين ميزان القوى ويسهل استمرار انتهاك الحقوق الفلسطينية .
إن الشعب الفلسطيني يطالب المجتمع الدولي في هذا اليوم بتوفير الحماية الدولية له واتخاذ إجراءات فورية للجم العدوان والغطرسة الإسرائيلية وتشكيل لجنة تحقيق دولية نزيهة للتحقيق في جرائم الحرب التي اقترفتها إسرائيل ضد شعبنا ومحاكمة المسؤولين عنها أمام محكمة جنائية دولية وإرغام إسرائيل على احترام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.

تصعيد التحركات الجماهيرية
ويبدو من نوافل القول التأكيد في هذه المناسبة على التمسك بحق العودة وبالقرار رقم 194 الصادر عن الامم المتحدة، وتعزيز الإجماع الوطني على هذا الحق ورفض الشروط الإسرائيلية التي تهدف إلى إلغائه، وكذلك دعم صمود اللاجئين في المخيمات الفلسطينية في الوطن والشتات والعمل على تحسين ظروفهم المعيشية، ورفض مقترحات اتفاقية جنيف وغيرها وما تضمنته من حلول خاصة بقضية اللاجئين، وأهمية تفعيل دور المنظمات غير الحكومية لدعم قضية اللاجئين ودفع الأطراف الدولية المعنية لتحمل مسؤولياتها لتطبيق هذا القرار .
إننا ندعو شعوب العالم وخاصة شعوب أمتنا العربية والإسلامية أن تجعل من هذا اليوم، يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني مناسبة لتصعيد تحركها الجماهيري من أجل دعم نضال شعبنا وأهدافه العادلة والضغط على عواصم القرار الدولي من أجل دور فاعل للمجتمع الدولي لإرغام إسرائيل على وقف عدوانها في غزة والضفة، والإقرار بحقوق شعبنا الوطنية والسياسية.

كيف أدعم فلسطين؟
 قدمت الشعوب العربية، وأحرار العالم الكثير من الدعم لفلسطين على مدار العقود السبعة الماضية. يمكن لكم تقديم الدعم لفلسطين أينما تواجدتم بواسطة خطوات غير مكلفة.
ادعموا الشباب الفلسطيني وتداولوا أعمالهم الأدبية والفنية والسينمائية والثقافية، لعدم قدرة معظم المبدعين الفلسطينيين من الترويج لأعمالهم وتسويقها بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل، وبعض الأنظمة العربية.  تعريف الآخرين بالتراث الفلسطيني الذي يتمثل بكونه المخزون التاريخي للشعب الفلسطيني عبر العصور المتعاقبة. وهو هوية الشعب الفلسطيني والعمق التاريخي والحضاري له. الأثواب الفلسطينية المطرزة تحمل خصوصية كبيرة لكل مدينة وقرية فلسطينية، بالإضافة إلى الدبكة والأغنيات والأهازيج والأمثال والعادات والتقاليد وغيرها من القصص الشعبية، والحرف اليدوية، والمشغولات، والمطرزات. تسويق المنتجات الزراعية الفلسطينية -في حال توفرت. تتميز فلسطين  بمنتجاتها الزراعية، من فواكه وخضروات وحمضيات بجميع أنواعها، كما تميزت بإنتاج أجود أنواع الزيتون والزيت، والصابون. تعريف الآخرين بالأطعمة الفلسطينية التراثية. حيث يتميز المطبخ الفلسطيني بالعديد من الأكلات التراثية الشعبية التي تم ابتكارها بطريقة خاصة تتميز عن باقي شعوب المنطقة، مثل: المفتول، المقلوبة، المسخن، الرّمانية، المحاشي، والفلافل والحمص وغيرها من الأطعمة. ساعد بفضح الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على الفلسطينيين. يواجه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة اعتداءات على منازلهم، وأراضيهم، وأعمالهم، ويتعرضون للقتل أو الإصابة أو الاعتقال على الحواجز الإسرائيلية ويتم هدم منازلهم وفصل الأهالي عن بعضها من خلال جدار الفصل العنصري في انتهاكات واضحة للقوانين الدولية والإنسانية.
تحدث عن حصار إسرائيل لقطاع غزة الذي يضم أكثر من مليونين ونصف فلسطيني تحت حصار إسرائيلي مشدد منذ سبعة عشر عاماً. تسبب بهلاك البنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ورفع من نسب البطالة لأكثر من 50% بسبب تجريف آلاف الأراضي الزراعية وتدمير عشرات المنشآت التجارية والمصانع خلال الحروب. فضح ديمقراطية إسرائيل المزيفة، حيث تحاول تقديم نفسها للعالم على أنها دولة ديمقراطية، تدعم الحقوق والحريات، لكنها عكس ذلك تماماً. فهي دولة مارقة تمارس إرهاب الدولة، والتفرقة العنصرية ضد الفلسطينيين. اكشفوا كذب الرواية الإسرائيلية التي تروجها أن الفلسطينيين "تركوا" أرضهم عام 1948. لم يترك الفلسطينيون أرضهم، هذه رواية إسرائيلية تم نشرها في كل مكان حتى أصبح البعض يعتقد أنها الحقيقة وهي في الواقع كذبة ودعاية صهيونية. لقد تعرض الفلسطينيون لعملية تطهير عرقي كان معدًا لها مسبقاً. فهم وضعية فلسطيني الـ 48 الذين تطلق عليهم إسرائيل مصطلح "عرب إسرائيل" وهم الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم بعد النكبة، حيث يشكلون اليوم ما يقارب 20% من المجتمع الإسرائيلي، ينظر إليهم القانون الإسرائيلي على أنهم مواطنين، إلا أن الواقع مختلف، حيث تميز إسرائيل في تعاملها ما بينهم وبين اليهود في غالبية الحقوق التي من المفترض أن تمنحها لهم. خاصة بعد صدور قانون القومية الذي ينص على أن إسرائيل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي" وأن حق تقرير المصير فيها "يخص الشعب اليهودي فقط."



7
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


المأزق الأخلاقي للمثقف العربي وغيابه عن القضايا الكبرى


في مرحلة التحوّلات التاريخية الكبرى الجارية اليوم في البلاد العربية، المتتابعة بسيروراتٍ مختلفة، وباحتمالات وصيرورات متنوّعة، وإن كانت لا تزال في مراحل انتقالية تفاعلية، ولم تستقر على نتائج بعد، فإنها تتطلب دوراً مركزياً للمثقفين العرب.
إن غياب المثقفين العرب عن المشهد الحالي الذي يقوم فيه الكيان الصهيوني بارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية في عدوانه على قطاع غزة، يعيد من جديد إثارة السؤال المتعلّق بأدوار المثقفين العرب في تاريخهم الراهن، في مجتمعات تتغيّر، ومخاطر مصيرية تتطلب مواقف واضحة، ومجابهة العدوان والقهر، والتصادم مع أنظمة الاستبداد، وقيادة نضال الجماهير لتحقيق أهدافها بالحرية، والعدالة، والكرامة، والمواطنة، والديمقراطية. وكذلك الوقوف إلى جانب الكفاح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني لتمكينه من انتزاع حريته وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
منذ القدم كان المثقف صوت المجتمع الصادق وضميره اليقظ، والكثيرون منهم سددوا أثماناً فادحة لمواقفهم بدءاً من سقراط الذي أعدم بسبب أفكاره، عبوراً بقتل الشاعر الشهير الضرير "بشار بن برد العقيلي" ببيتين من الشعر، وفي التاريخ الإسلامي شهدنا ابن الهيثم، وابن رشد، والكندي، وابن سينا، والفارابي، وابن حيان. وعربياً عبد الرحمن الكواكبي، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وإدوارد سعيد، ومحمد عابد الجابري، عبد الوهاب المسيري، عبد الله العروي، محمد أركون، جورج طرابيشي، وسواهم المئات من المثقفين عبر العصور بسبب انشغالهم في قضايا واقعهم.
مثلما أسهم المثقفون التنويريون الغربيون في نهضة أوروبا، وكما فعل روّاد عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر فيما أُطلق عليه حركة التنوير العربية، أو اليقظة العربية، لما تم فيها من مقاربات التجديد الديني، وإنقاذ كبير للهوية العربية، بعد أن كادت أن تتأثر بكل ما حل عليها من ثقافات خارجية. فإن الراهن العربي البائس بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، يفرض تحديات جسيمة، وأسئلة مركبة كبيرة ومعقدة، تتطلب مقاربات وإجابات علمية من عقول متخصصة ومتسلحة بالمعرفة والوعي والبحث العلمي، وهذا دور ومهمة المفكرين والمثقفين العرب الأصليين. ومن أبرز القضايا الكبرى التي تتطلب انخراط المثقفين العرب حالياً التحرك لمواجهة  العدوان الإسرائيليّ الوحشي على قطاع غزّة، والذي اتخذ شكل الإبادة الجماعية بكل أشكالها.

صورة المثقف العربي
منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.
نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.
إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.

المثقف كما عهدناه
المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة خلال العقود الأخيرة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد "البروسترويكا". والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.
إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.
بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟
ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.
كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.
هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

لغز المثقف العربي
أظهرت الثلاثة عقود الأخيرة أن معظم المثقفين المناضلين العرب الذين غصت بهم شوارع المدن العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهم يهتفون بشعارات العدل والحرية والمساواة، وضد الرجعيات والديكتاتوريات العربية، ليسوا أفضل حالاً من أولئك الذين يمتهنون الأديان ويتاجرون بعذابات الناس، فالثقافة عند بعض اليساريين والقوميين والليبراليين مهنة للترزق وكسب العيش، فهم لا يتورعون عن عرض مواقفهم وأفكارهم سلعاً في الأسواق الإعلامية، ولا يترددون في انخراطهم بالتجاذبات السياسية والطائفية والمذهبية والإقليمية، لمصلحة من يملأ جيوبهم بالمال ويضاعف رصيدهم في البنوك، وهم يعلمون علم اليقين أنهم بفعلهم هذا يساندون القوى التي خرجت من التاريخ، ويقفون في وجه المظلوم والمعتدى عليه والمقهور، إلى جانب الأنظمة الفاسدة والمستبدة.
أثبتت المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية المتسارعة، أن غالبية المثقفين العرب لا يمتلكون وعياً تاريخياً، يمكنهم من قراءة الراهن العربي، وإجراء مقاربات علمية تحليلية تستنهض المقدرات الكامنة التي من شأنها أن تكون مبشرة، في حال توظيفها لترميم الخراب وإعادة الانخراط بالإصلاح البنيوي العربي.
في هذا الشقاء انقسم المثقفين بين من انتقل من جادة اليسار الثوري إلى اليمين الرجعي، فهو الانتهازي الوصولي الذي وضع مصالحه الذاتية فوق مصالح الجماهير. ومن آثر الصمت والانكفاء نتيجة الشعور بالعجز والاغتراب، وهو فعل مدان في التحولات الكبرى وجريرة لن يغفرها التاريخ. والقلة اليسيرة من المثقفين اختارت مقاومة الشقاء والتخلف، ومواجهة بعض الأنظمة التي تسببت بفعل سياساتها، في كل هذه الانهيارات التي يلاحظها المراقب في كل مفصل من جسد العالم العربي.
لم يعد من مهام المثقفين العرب خض جذع المجتمعات، وتحريك المفاصل المتكلسة، عبر أفكارهم التنويرية، ولا من مهامهم الآن الالتحام مع القضايا المطلبية للفقراء، والأهداف المصيرية للناس، ولا الدفاع عن المضطهدين والمظلومين، عبر إعلان المواقف والنضال لتحقيقها، ولم تعد تعني كثيراً المثقفين اليساريين قضية مواجهة الرجعيات والديكتاتوريات في العالم العربي، ولا التصدي للاستبداد الذي تتخذه معظم الأنظمة العربية سياسية معتمدة في علاقتها مع المواطنين.
لقد ولّى الزمن الذي كان فيه المثقفين المناضلين العرب يشكلون الضمير الحي اليقظ، الذي يعكس واقع وهوية المجتمعات، حين لم يكن المثقفين فيه يخشون من الاصطدام بالسلطتين السياسية والدينية، وبكل من يكرس ثقافة التجهيل. عصر مضى كان فيه المثقفين ينحتون الحجر بهدف تطوير المجتمعات العربية وترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله، والقضاء على النظام الأبوي ومجتمع القبيلة والطائفة، وترسيخ قيم ومفاهيم الحداثة، وبناء دولة المؤسسات والمواطنة.
أضحى الكثير من المثقفين العرب اليساريين شركاء لبعض الأنظمة العربية في محاربة الأفكار التنويرية الليبرالية، وشركاء في فرض سيطرة السلطات السياسية على الناس، وشركاء في تطويع وتليين الأفراد وقيادتهم وتوجيههم مثل القطعان الأنيسة، وهو ما يعزز الاستبداد الذي تشهره تلك الأنظمة، مما يطيل عمرها وعمره.

في اشتباك المثقف
المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.
المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.
المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.
معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.
مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.

سقوط المثقف
إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي
ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة، والسلام، ونشر المحبة، والتسامح.
وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونوا عبيداً للغرب.
إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.
سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.
إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.

المثقف الجوكر
ظل بعض المثقفين العرب ردحاً من الوقت يكابدون مقاربة الكثير من القضايا بمفاهيم أيديولوجية عمدت إلى بتر أطراف الواقع العربي كي تلائم مقاس سرير الأفكار الأيديولوجية التي آمن بها المثقفين، وغاب عنهم أن واقع المجتمعات تتداخل فيه الكثير من العناصر والعوامل الشائكة المتعددة المتداخلة، ولا يمكن بحال أن يتم تحديده بالأيديولوجيا.
إن مواقف معظم المثقفين العرب صعدت وهبطت وتبدلت يميناً ويساراً عبر العقود الماضية، فنجد بعض المثقفين من دعموا هذا الزعيم أو ذاك وساندوه ومدحوه، ثم قاموا بالهجوم عليه في فترة مختلفة، ومنهم من تبنى الأيديولوجية الدينية أو اليسارية ثم انقلب عليها، وآخرون كانوا من أشد دعاة التنوير والديمقراطية والدفاع عن حقوق البشر، فأصبحوا يدافعون عن الديكتاتوريات العربية ويبررون استبدادها.
إنهم المثقفون الذين يؤدون دور "الجوكر" المشهور في لعبة الورق، فهو يصلح لكل الأوضاع ويتكيف مع الظروف، وهذا حال بعض المثقفين العرب الزئبقيين الحربائيين، الذين يمتلكون المقدرة على لعب دور الجوكر في الحياة السياسية والثقافية

معلقون في الفراغ
لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين مراجعات فكرية هامة لعدد من المفكرين العرب، الذين أجروا مقاربات ومراجعات تناولت مفهوم المثقف ونقده وأصالة دوره، وأهم هؤلاء المفكرين "إدوارد سعيد، عبد الرحمن منيف، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز، علي أومليل". وبالرغم من إيماني بأن عصر المثقف الأسطورة، المثقف الخارق القائد قد ولى بغير عودة، إلا أن الموضوعية في مقاربة الانتهازية الثقافية والأمانة المهنية، تفرض الذكر أن هناك القلة القليلة من المثقفين والمفكرين والنقّاد، الصابرين الأوفياء لأنفسهم وأوطانهم، المثقفين الملتصقين بالجماهير والمدافعين عن مصالحهم وحقوقهم، وما زالوا ملتزمين بقضايا الأمة وأهمها القضية الفلسطينية، وهم يستحقون منا كل احترام وتقدير.
ومن أبرز مهام هؤلاء المثقفين الملتزمين التصدي للمثقفين المزيفين، والتنبيه للمخاطر المترتبة عن أفعالهم التي تهدد بتفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للأمة العربية. وبظني أن المثقف الحقيقي مطالب بالوضوح والشفافية في أفكاره ومواقفه وانحيازه، ورفض المواقف الملتبسة والتعابير الملتوية.
يقف ما ظل من المثقفين العرب اليوم بلا جدار أيديولوجي، يحصدون فشل المشروع القومي، وتشدد المشروع الإسلامي، وغياب المشروع الإصلاحي التنويري. يقفون دون أي حماية، معلقون في الفراغ، بدون خطاب موضوعي، بدون إطار مجتمعي موضوعي، مذمومون من السلطة السياسية، وهم موضع شك من السلطة الدينية، يشعرون بالاغتراب عن أنفسهم ومحيطهم، حائرون مربكون غير واثقون، يواجهون مجتمعاً مأزوماً مثقلاً بالخيبات، وسلطة منهزمة تسعى إما لتوظيفهم، أو تهميشهم، أو سجنهم، أو تصفيتهم.





















   


8
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


التمييز الهيكلي ضد النساء الأجنبيات في الدنمرك


يتم التعامل مع الرجال والنساء على قدم المساواة عند وصولهم إلى الدنمارك وتقديم طلب اللجوء، أو القدوم كأفراد من الأسرة عبر نظام جمع الشمل. إن مراكز اللجوء مختلطة وتخضع جميعها لنفس العملية لتقييم احتياجات الحماية أو الإلحاق. نظام التعليم الدنماركي وعروض العمل التي تقدمها البلديات تخضع هي الأخرى لنفس مبدأ المساواة بين للرجال والنساء دون أي تمييز.
تبنت الدنمرك سياسة المساواة بين الجنسين منذ عقود، وتعتبر أن المعاملة الخاصة والتقسيم إلى جنسين أمر سلبي وقديم الطراز. لكن عدم التفرقة في المعاملة لا يؤدي إلى المساواة. إذا كنت تريد معاملة جميع الأشخاص بنفس الطريقة، فهذا يتطلب أن يكون لديهم نفس نقطة البداية. وإلا فإنه يمكن أن يؤدي في الواقع إلى التمييز. من الأمثلة الجيدة على ذلك الصورة المستخدمة غالباً للمعلم الذي يقول: "لضمان الاختيار العادل، سيتم تكليفكم جميعًا بنفس مهمة الاختبار: يجب عليك تسلق الشجرة" لكن الطلاب هم بمثابة حيوانات مختلفة، مثل القرد والذئب والقنفذ والسنجاب - بالنسبة للبعض ستكون المهمة سهلة، وبالنسبة للآخرين ستكون المهمة مستحيلة.
يمكن تعريف التفرقة بأنه تمييز غير معقول يؤدي إلى حصول الشخص على معاملة أو حماية أسوأ من غيره. ليس من غير القانوني معاملة الناس بشكل مختلف. بل على العكس من ذلك، غالبا ما يكون من الضروري ضمان معاملة الجميع على قدم المساواة. هذا ما يكتبه معهد حقوق الإنسان الدنمركي على موقعه الإلكتروني.

تقرير حقوقي جديد
قامت مِؤخراً منظمة مساعدة اللاجئين في الدنمرك بنشر تقرير بعنوان "إنهم لا يعرفون مقدار الضغط الذي نعانيه"، والذي يسلط الضوء على كيفية تعرض آلاف النساء للتمييز من جانب المجتمع الدنماركي - ليس عن وعي، ولكن لأن الناس يتجاهلون كيف تختلف ظروف النساء الأجنبيات مقارنة بأزواجهم وإخوانهم، وبالمقارنة بالنساء الدنماركيات. وفي العديد من النقاط، تكون فرصة النساء أقل بكثير للوفاء بالمطالب التي يتم تقديمها، على الرغم من أن النساء القويات غالباً ما يخضن معارك الحياة دون كلل.
على سبيل المثال لم يُسمح لـ "آشا" بالذهاب إلى المدرسة في موطنها الصومال. ولذلك فقد تم تسجيلها في مركز اللغة الدنماركية، اجتازت المستوى الأول، ولم تتمكن من اجتياز المستوى الثاني، وهو شرط للحصول على الإقامة الدائمة. بينما تخطي المستوى الثالث يعتبر شرطاً رئيسياً للحصول على الجنسية الدنماركية. وهي مطالب قد يكون لإخوتها بعض الفرصة للوفاء بها. إنه التمييز الهيكلي. من ناحية أخرى، كأم عازبة وبعد قضاء السنوات الست الأولى في مركز اللجوء، قامت بتربية ستة أطفال، وقد حصلوا جميعاً على التعليم العالي أو المهني فيما بعد.
تضمن التقرير وصف مشاكل المرأة الأجنبية في الدنمرك من خلال تسع عشرة قصة لنساء لاجئات، والكثير من الاقتباسات. على سبيل المثال قصة "سميرة" وهي لبنانية تعيش الآن في مركز مغادرة لأنها تركت زوجاً يسيء معاملتها.
تقول "أتيت إلى الدنمارك منذ أربع سنوات بسبب الزواج. لكنه ضربني وتركته بعد أربعة أشهر. لا أستطيع العودة إلى لبنان حيث تعيش عائلتي. يريدون قتلي لأنني مطلقة. والآن أعيش في أحد المراكز المخصصة لمغادرة طالبي اللجوء المرفوضين منذ عام، ولا أستطيع الحصول على المال أو المساعدة من أي شخص. إنه أمر صعب للغاية."
يتناول التقرير النساء والفتيات اللاتي، لأسباب مختلفة، لا يستطعن العودة في وطنهن، ويقيمن الآن في الدنمرك، بإذن أو بدون إذن أي من تحمل منهن تصريح بالإقامة قانوني، أو من لا تمتلك أوراق. لم يتضمن التقرير النساء اللاتي قدمن إلى الدنمرك كعاملات مهاجرات أو بسبب الزواج من رجل دنماركي. بل التقرير يستهدف الفتيات والنساء الأجنبيات اللاتي وصلن الدنمرك وحدهن، أو بسبب زواجهن من رجال أجانب.
 البعض ترك وطنه بمفرده، والبعض الآخر مع أفراد الأسرة. وقد وصل البعض بعد رحلة محفوفة بالمخاطر بمساعدة مهربي البشر لتقديم طلب اللجوء، بينما كان آخرون ينتظرون الحصول على إذن للم شملهم مع الزوج أو الأب الذي سافر قبل ذلك وحصل على اللجوء. ولا يزال البعض الآخر يتم استدراجهم إلى هنا بوعود كاذبة، لكن ينتهي بهم الأمر إلى زيجات سيئة.

هؤلاء النساء ضمن الفئات التالية:
طالبات اللجوء.
اللاجئات المعترف بهن.
النازحات من أوكرانيا.
الموجودات بنظام جمع شمل أسرة اللاجئ.
نساء غير موثقات ـ على سبيل المثال بعد رفض اللجوء.
وتندرج العديد من هؤلاء النساء أيضاً ضمن فئة "غير غربية"، لكن هذا تعريف دنماركي يتضمن دلالات عرقية، تصفه كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنه موصم وغير مناسب، وبالتالي لم يتم استخدامه في التقرير. غالبية النساء في الفئات المذكورة أعلاه يأتون من دول في الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكن أيضاً من دول مثل أوكرانيا، والبوسنة، وسريلانكا، وتايلاند.
النساء، اللاتي يتحدثن إلى حد كبير عن أنفسهن في التقرير، غالباً ما يعانين من نقاط ضعف متعددة الجوانب في المجتمع الدنماركي، مما يتركهن في أسفل التسلسل الهرمي. على سبيل المثال "بينتا" من غامبيا. فهي ليست مجرد امرأة، ولكنها أيضاً مثلية، وأمية، وسوداء، ومسلمة، وفقيرة، وطالبة لجوء مرفوضة.
تقول "إستيلا " من أوغندا، التي أمضت خمس سنوات في مركز ترحيل مع طفلها الصغير "لا أحد يفهم ما نشعر به. إنهم لا يعرفون مدى الضغط الذي نعاني منه. إذا لم يسبق لك أن واجهت الإجبار على القيام بأشياء ضد إرادتك، لذلك تشعر حقاً بالضعف، فلا يمكنك إصدار الأحكام."
هؤلاء النساء لا يشكلن مجموعة متجانسة، فهن غير متشابهات، ويختلفن عن بعضهن البعض عرقياً وثقافياً. لذلك من المهم إدراك الخطر الكبير المتمثل في التعميم والوقوع في الصور النمطية أثناء النظر في قضاياهن. ومن المؤسف أن النظام الدنماركي يجد صعوبة في التعامل مع هذه الاختلافات. هؤلاء النسوة رغن أنهن ضحايا وضعيفات وتعرضن للعنف، ومعتمدات على الآخرين، ، إلا أنهن نساء قويات ويتحملن مسؤوليات كبيرة، ويعملن بعناد وعزيمة لتحقيق استقلالهن، رغم الاحتمالات المتدينة ارتباطاً بأوضاعهن العامة.

تشريعات قاصرة
اتم اتخاذ العديد من التدابير القانونية ـ على مدار تعاقب الحكومات ـ فيما يتعلق بنساء الأقليات العرقية في الدانمرك من أجل إدخالهن إلى سوق العمل والحد من عزلتهن في المنزل. اليوم، هناك تركيز كبير على مواجهة الثقافات والأنماط القمعية الآتية من البلدان الأصلية، أي الزواج القسري والمرتب، والرقابة الاجتماعية بشكل عام. ومن المؤسف أن الإجراءات المضادة المُتخذة كانت مقتصرة في كثير من الأحيان على العقوبات الصارمة للآباء والإخوان، الأمر الذي يهدد بفرض المزيد من المشاكل على النساء أنفسهن اللواتي يزعمن أن تلك الإجراءات تساعدهن.
وفي عام 2015، تم إلغاء تصريح إقامة "جميلة" رغم أنها أوضحت أن الطلاق كان بسبب العنف من قبل الزوج، وأنها عاشت في ملجأ لمدة ثلاثة أشهر. وشرحت أنها قبل ذلك أقامت مع الرجل خوفا من فقدان تصريح إقامتها. أكد الزملاء في المركز الذي تعمل فيه جميلة أنها أخبرتهم عن تعرضها للعنف سابقاً. لكن لم يكن هناك توثيق للعلامات المرئية بعد العنف، ولا تقرير طبي. ولم تعتقد السلطات أن العنف كان بالضرورة سبب الانفصال. علاوة على ذلك، تم التأكيد على أن جميلة احتفظت بارتباط قوي ببلدها الأصلي، وأن حقيقة أنها بدأت التدريب المساعد في النظام التعليمي لم يكن كافياً لاعتباره اندماجاً ناجحاً.
لقد تجاهل السياسيون والنظام العام، الدور الذي يلعبه النظام الهيكلي الدنماركي نفسه في الحفاظ على جزء من النساء في حالة اضطهاد واعتماد على أزواجهن.
لتوضيح هذا الادعاء، يجب النظر إلى ما تحمله النساء المعنيات معهن في أمتعتهن عند وصولهن إلى الدنمارك - وهذا ينطبق على تربيتهن والتجارب التي مررن بها أثناء الرحلة. تضطهد أفغانستان، والصومال، وإيران، النساء والفتيات بشكل مباشر في التشريعات، في حين أن دول مثل العراق، وسوريا، وإريتريا، وميانمار، تمنح النساء حقوقاً رسمية في التشريعات والقوانين، ولكنها في الواقع لا تمنحهن بأي حال من الأحوال فرصاً متساوية مع الرجال.

مستضعفات في الدنمرك
بشكل عام، تتمتع النساء في الفئات المذكورة بمتطلبات أقل لتحقيق أداء جيد في المجتمع الدانمركي بسبب الظروف التي نشأن فيها. يبدأ الأمر في مراكز اللجوء، وفي عملية اللجوء، وفي تقييمات اللجوء، حيث تكون النساء وحدهن بدون رجال. تشكل النساء في مراكز اللجوء أقلية ويشعرن بعدم الأمان بين العديد من الرجال غير المتزوجين. فالنساء أقل استعداداً لإجراء المقابلات الطويلة، كما أن دوافع لجوء النساء تؤدي إلى وضع قانوني أضعف بكثير من وضع الرجال، وهو ما يمكن أن يكون من الأسهل المشاركة فيه مرة أخرى. العديد من النساء يحصلن على اللجوء بسبب حالة أزواجهن، وبالتالي يرتبطن به.
تقول امرأة أفريقية عازبة "أحضرت طفلي معي في كل المقابلات. كان عمره عامين. جلس في حجري ثم أعطوه جهاز iPad وسماعات حتى يتمكن من مشاهدة الرسوم المتحركة. لكنه لم يتمكن من النظر إليها لساعات عديدة، وكان يبكي ويركض. كان من المستحيل بالنسبة لي أن أركز".
ومع ذلك، فإن ما يقرب من 80٪ من النساء يصلن بغرض لم شمل الأسرة، وبالتالي ليس لديهن تصريح إقامة خاص بهن على الإطلاق، لكنهن يعتمدن بشكل كامل على أزواجهن - ويخاطرن بفقدانه إذا انتهت المعاشرة.
إن خلفية المرأة تجعل من الصعب عليها أن ترقى إلى مستوى متطلبات المجتمع الدانمركي. لقد التحقن بمدارس أقل وحصلن على تعليم أقل من إخوانهن وأزواجهن. وهذا يعني أن عدد النساء أكبر من عدد الرجال المسجلين في أدنى مستوى من التعليم الدانمركي، والذي لا يتيح امتحان النجاح فيه الحصول على مزيد من التعليم أو الإقامة الدائمة أو المواطنة.
وقد تعرضت الأغلبية من النساء الأجنبيات للعنف من أقرب الأشخاص إليهم في مرحلة ما، ولم يُسمح للكثيرين باتخاذ قرارات مستقلة بشأن حياتهم الخاصة. هناك العديد من الأمهات العازبات في المجموعة، وحتى في العائلات التي لديها أب، تتحمل الأم دائماً المسؤولية الأساسية عن الأطفال، مما يربطهم بمراكز اللجوء والمنزل.
كما أن لديهم أيضاً خبرة عمل أقل أهمية ودخلاً مستقلاً أقل في وطنهم، مما يضعهم في وضع غير مؤات فيما يتعلق بدخول سوق العمل الدنماركي. يعاني العاملون الاجتماعيون في مراكز العمل من التحيزات التي تقول إن المرأة لا ترغب في العمل، وتقدم لهم أنواعاً أقل وأدنى من الوظائف من الرجال. ولم يكن للنسخ والتجارب والمشاريع المتغيرة من مساعدات بدء المشاريع للاجئين أي تأثير على جذب المزيد من النساء إلى العمل، وكان لها تأثير محدود فقط على الرجال. وقد أثرت المزايا المخفضة على الأمهات العازبات بشكل خاص، وفقا لمعهد حقوق الإنسان الدنمركي.
جاءت الإيرانية "شرارة" إلى الدنمارك مع ابنتها البالغة من العمر 16 عاماً،  لكنها اضطرت إلى قضاء عشر سنوات في مراكز اللجوء قبل أن تتمكن أخيراً من إعادة فتح قضيتها والحصول على اللجوء.  تقول "لم تكن إيران هي التي منعت ابنتي من أن تصبح امرأة مستقلة. بل نظام اللجوء الدنماركي هو الذي منعها من القيام بذلك".

إصرار على التعلم
تجد النساء صعوبة في دخول سوق العمل، وعندما ينجحن، يحصلن على راتب أقل، ومعاش تقاعدي أقل، خاصة بسبب إجازة الأمومة - تماماً مثل النساء الدنماركيات، بالمناسبة. ومع ذلك، غالباً ما ينتهي بهم الأمر في أسفل التسلسل الهرمي، وتكون حالتهم الصحية أسوأ بكثير مما كانوا عليه
فيما يتعلق بالنساء المقيمات في الدنمرك، فإنه بحلول الوقت الذي يصلن فيه إلى سن التقاعد، تعيش 20-25% من النساء من الشرق الأوسط وتركيا تحت خط الفقر الذي تم إلغاؤه الآن، والذي ينطبق فقط على 10-15% من أزواجهن، و1% فقط من الرجال والنساء من أصل دنماركي عرقي.
في مجال التعليم، ترى شيئاً مثيراً للدهشة. عدد أقل من النساء حصلن على تعليم من وطنهن الأصلي، لكن عدد النساء اللاتي يتعلمن في الدنمارك ضعف عدد الرجال. ويلاحظ نفس الاتجاه بين الشباب والأحفاد، حيث لا تتفوق الفتيات على إخوتهن فحسب، بل تتفوق أيضاً على الفتيات الدانمركيات عرقياً. ولذلك فإن لدى النساء رغبة كبيرة في تحسين مهاراتهن ودعم أنفسهن. ولذلك، فمن الأفضل كثيراً لكل من السويد والنرويج أن تعمل على جلب النساء من الشرق الأوسط وتركيا وشمال أفريقيا على سبيل المثال - وهذا يتطلب استراتيجية طويلة الأجل تعتمد على تحسين المهارات بدلاً من الحل الدنماركي السريع المتمثل في الوظائف التي لا تتطلب المهارة في أقرب وقت ممكن.
على الرغم من أنها تتراجع في التصنيف العالمي على المؤشرات القابلة للقياس، فإن الدنمارك لديها صورة ذاتية مفادها أنها حققت المساواة الكاملة تقريباً بين الجنسين. الدنمرك حالياً في المركز التاسع والعشرين، في حين أن جميع دول الشمال المجاورة مستقرة في المراكز الخمسة الأولى. وحتى النساء الدانمركيات من أصل عرقي لم يحققن المساواة حتى الآن، على الرغم من تكافؤ الفرص في الالتحاق بالمدرسة، وحرية اختيار العمل، والزواج، وما إلى ذلك.
عندما تكون ظروف المجموعة المذكورة من النساء الأجنبيات في الدانمرك أسوأ من ذلك، ويظلن معتمدات على أزواجهن، فإن ذلك لا يشكل تعبيرا عن الرغبة في وضعهن في مكانة غير مناسبة من جانب المجتمع الدانمركي. وهو نتيجة لعدم الاهتمام بالجوانب المتعلقة بالجنسين وعدم الاهتمام بتنظيم العروض والطلبات بطريقة تتاح لهؤلاء النساء فرصة حقيقية للاستفادة منها والارتقاء بها.

توصيات الخبراء
ويحتوي التقرير على عدد من التوصيات لإجراء تحسينات، سواء في إجراءات اللجوء أو في مرحلة الاندماج أو الهدف النهائي المتمثل في أن تصبح مواطناً دنماركياً:
ـ هناك حاجة إلى المزيد من طرق الوصول الآمنة إلى الدنمارك.
ـ هناك حاجة لمراعاة سلامة النساء والفتيات في مراكز اللجوء بشكل أفضل.
ـ هناك حاجة إلى المساواة بشكل أفضل بين دوافع لجوء النساء والرجال.
ـ هناك حاجة إلى مزيد من الفحص والدعم والعلاج لضحايا العنف، ويجب أن تكون بعض أشكال العنف الجنسي مساوية للتعذيب.
ـ هناك حاجة إلى ضمان عدم بقاء أي امرأة مع رجل ضد إرادتها من أجل الاحتفاظ بتصريح إقامتها.
ـ هناك حاجة إلى تكييف التعليم الدانمركي بشكل أفضل مع النساء ورفع مستوى مؤهلاتهن لدخول سوق العمل.
ـ هناك حاجة إلى زيادة التركيز على صحة المرأة.
ـ هناك حاجة لتكييف متطلبات الإقامة الدائمة والمواطنة وفقًا لنقطة البداية والفرص المتاحة للفرد.
ـ يحتاج الوافدون الجدد من كلا الجنسين إلى تعليم الحقوق والمساواة.
ـ هناك حاجة إلى تعاون منظم مع المنظمات الإسلامية لتقديم الدعم للنساء والفتيات المسلمات اللاتي يعانين من مشاكل.
إن المساواة في المعاملة في الدنمرك تنطوي على تمييز لمجموعة معينة من النساء. إن التجاهل للجوانب الجنسانية يجعل النساء معتمدات ومستضعفات في نظام اللجوء وعملية الاندماج. لقد حان الوقت لكي تغير الدانمرك سياستها عندما يتعلق الأمر بالنساء اللاتي لجأن إلى هذا البلد والذين لم يحظوا بحياة مميزة مثل الدنمركيين. ليس رجالهم وحدهم هم المشكلة لهن. لا يرغبن في العودة إلى المنزل بمفردهن والعيش على أموال الرجل، لكنهن لا يستمتعن أيضاً بطلب سبع وثلاثين ساعة من التدريب غير مدفوع الأجر في أحد المستودعات، أو التهديد بفقدان تصريح إقامتهن إذا طلقن من أزواجهن. تطلب النساء المعلومات والعروض ذات الصلة والدعم لجعل الحياة اليومية ناجحة، لذلك يشعرن بالسعادة لبذل جهد كبير ويقبلن بفرح وفخر الفرص التي لم تتح لهن في بلادهن الأصلية.






9
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


تراجع أعداد طالبي اللجوء في الدنمرك


تُظهر أحدث الأرقام التي نشرتها وزارة الهجرة والاندماج الدنمركية انخفاض عدد طالبي اللجوء المرفوضين إلى النصف خلال عامين . تشير الأرقام إلى أن هناك حوالي 550 طالب لجوء مرفوضين في وضع الترحيل. بما يشكل انخفاضاً إلى النصف خلال عامين. وهو أدنى مستوى منذ عام 2009 أي من خمسة عشر عاماً تقريباً. حيث انخفض عدد طالبي اللجوء المرفوضين بشكل كبير من 1155 في نهاية عام 2020 إلى النصف عام 2022.
قدرت الوزارة تكاليف إيواء طالب لجوء واحد مرفوض، وموجود في أحد مراكز المغادرة في المتوسط بحوالي 350,000 كرونة دانمركية في كل عام. واعتبرت أنه من الإيجابي انخفاض أعداد المتواجدين حالياً.
يجب النظر إلى العدد المنخفض من طالبي اللجوء المرفوضين في مراكز الإرسال والترحيل، في ضوء انخفاض تدفق طالبي اللجوء إلى الدانمرك في السنوات الأخيرة بصورة عامة. ويعني انخفاض عدد طلبات اللجوء، مع تساوي العوامل الأخرى، انخفاض عدد حالات الرفض، وبالتالي انخفاض عدد طالبي اللجوء المرفوضين عن ذي قبل. لكن العدد المنخفض يظهر أيضاً أن الجهد الكبير لإرسال طالبي اللجوء المرفوضين إلى بلدانهم الأصلية، والذي بذلته "وكالة التسفير" التي أنشأتها الوكالة الوطنية للهجرة في أغسطس 2020، قد أتى بثماره.
خلال الستة شهور الأولى من العام الحالي 2023 تم تسجيل 1048 طلب لجوء في الدنمرك. تم منح تصريح الإقامة لـ 711 منهم.
في عام 2022، كان الرقم الإجمالي هو 4591 طالب لجوء جديد في الدنمارك، ولكن تم منح تصاريح إقامة لـ 1007 فقط بالفعل. وكان نصفهم تقريبًا من الأوكرانيين، وكثير منهم انسحبوا من تقديم الطلب مرة أخرى، أو ما يطلق عليه "استئناف". ومن الحاصلين على تصريح إقامة في عام 2022 ما يزيد قليلاً عن 100 من الأفغان الذين تم إجلاؤهم. والرقم يشمل أيضاً بعض المتقدمين الذين لديهم بالفعل تصريح إقامة آخر في الدنمارك عبر نظام ("مسجل عن بعد"). بالإضافة إلى ذلك، تم إرسال بعض المتقدمين بطلبات اللجوء إلى دول أوروبية أخرى بموجب اتفاقية دبلن. بشكل عام، أصبح عدد الأشخاص الذين يصلون فعلياً إلى الدنمرك ويتم النظر في طلباتهم للحصول على اللجوء قليل جداً.
وفي العامين الماضيين، تم منح 900 تصريح بموجب القانون الخاص للأفغان و36 ألف تصريح بموجب القانون الخاص للأوكرانيين. ومع ذلك، فقد غادر ما لا يقل عن 270 من الأفغان الذين تم إجلاؤهم الدنمارك مرة أخرى وأقاموا في الولايات المتحدة الأمريكية أو المملكة المتحدة.
ولم يتم إيواء معظم الأوكرانيين البالغ عددهم 36 ألفًا والذين مُنحوا الإقامة بموجب القانون الخاص في مراكز اللجوء، لكنهم عاشوا بشكل خاص أو انتقلوا مباشرة إلى البلديات. ولكن تم رفض إقامة 589 بموجب القانون الخاص، وحوالي. 800 حالة لجوء أوكرانية معلقة.
يوجد حالياً 15 مركزاً للجوء إجمالاً، لكن العدد وصل إلى 98 في عام 2015. يتم إيواء 2500 شخص في مراكز اللجوء، منهم 700 يعيشون في مراكز المغادرة الثلاثة، و700 آخرون أوكرانيون يمرون بسرعة عبر النظام.
وكان عدد الوافدين إلى أوروبا بأكملها قد انخفض منذ عام 2016 نتيجة للاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، وتشديد الضوابط على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، ولكنه آخذ في الارتفاع مرة أخرى - ومع ذلك، لا يزال عدد قليل جداً منهم يصل إلى الدنمارك.
في عام 2022، استقبلت ألمانيا أكثر من 100 ألف متقدم. لكن العدد الإجمالي للوافدين إلى الاتحاد الأوروبي مرتفعًا في عام 2022 حيث دخل دول الاتحاد ما يقارب من مليون لاجئ، وهو ضعف العدد لعام 2021، وبالإضافة إلى ذلك دخل 4 ملايين أوكراني.

عدد طالبي اللجوء في الدنمارك 2002-2022 (المجموع الإجمالي)
 
الأرقام في الشكل التوضيحي هي للعدد الإجمالي، على الرغم من أنها لا تشمل عدداً لا بأس به من الأشخاص الذين لم تتم معالجة قضاياهم مطلقاً في الدنمارك، لكنهم أقاموا في البلاد لفترة قصيرة فقط. ومع ذلك، فإن رقم التسجيل أكثر دقة، لأنه يمثل عدد القضايا المفتوحة بالفعل في الدنمارك، بعد مفاوضات دبلن وما إلى ذلك.
على سبيل المثال كان عدد طالبي اللجوء في الدنمرك عام 2002 يقارب ستة آلاف. وصل في عام 2015 إلى أكثر من واحد وعشرون ألف، بينما سجل عام 2020 أقل عدد بنحو 1515 طلب.
إن ما يقرب من واحد من كل أربعة متقدمين لديه بالفعل تصريح إقامة، غالباً إقامة لم شمل الأسرة من سوريا وإريتريا (المسجلين عن بعد)، مما أثر بشكل كبير على الأرقام على مدى السنوات الست الماضية.

التطور مع مرور الوقت
في ضوء التغطية الإعلامية المكثفة للاجئين في الدنمرك، والمناقشات المستمرة حول إعادتهم إلى أوطانهم الأصلية، ربما يتفاجأ الكثيرون بأن اللاجئين لا يشكلون سوى 1٪ من جميع الأجانب الذين حصلوا على تصريح إقامة في الدنمارك على مدار سنوات عديدة. تلقت البلديات الدنمركية ـ على سبيل المثال ـ فقط 489 لاجئاً جديدًا في المجموع في عام 2020. ويشكل الأشخاص الحاصلون على اللجوء كأساس للإقامة 1.9٪ فقط من السكان.
على مدى السنوات السبع إلى الثماني الماضية، كانت هناك العديد من التغييرات الرئيسية في وصول طالبي اللجوء إلى الدنمارك: بلغ العدد ذروته في نهاية عام 2015 مع 21000 وافد جديد - لكنه تراجع بعد فترة وجيزة إلى مستوى منخفض للغاية، حيث لا يزال النظام قائماً . ومؤخراً تم منح كل من الأفغان الذين تم إجلاؤهم والنازحين الأوكرانيين قانوناً خاصاً بهم وهيمنوا على نظام اللجوء.
كان عدد طالبي اللجوء الجدد منخفضا في السنوات الأخيرة. في عام 2020، أدى إغلاق الحدود بسبب كوفيد-19 إلى توقف وصول الوافدين بشكل كامل: تم تسجيل 1515 طالب لجوء جديد فقط في المجموع الإجمالي، وهو أدنى رقم على الإطلاق. وفي عام 2018، كان الرقم على سبيل المثال. 3500.
علاوة على ذلك، منذ عام 2015، رفضت الدنمرك حصة اللاجئين السنوية البالغة 500 شخص، وهي اتفاقية كانت ثابتة مع الأمم المتحدة منذ 38 عاماً. على مدى السنوات السبع الماضية، وصل إجمالي 235 لاجئاً من لاجئي الحصص إلى الدنمارك، وهم يأتون من مخيمات اللاجئين في رواندا.

"أزمة اللاجئين" 2014-16
وكانت الزيادة التي شهدتها الدانمرك في الفترة 2014-2016 أكبر من أماكن أخرى في أوروبا، وكان ذلك يعود إلى أن طريق وصول جديد وأقل خطورة ظهر عبر الجزر اليونانية وحتى عبر دول البلقان. وفي عام 2015، وصل أكثر من مليون شخص إلى أوروبا، وهو ضعف العدد لعام 2014. تم بعد ذلك تشديد الرقابة على الحدود الخارجية والداخلية، وانخفضت أعداد الداخلين بشكل حاد في جميع أنحاء أوروبا، لكنها ارتفعت مرة أخرى قبل بضع سنوات.
الرقم القياسي لدخول اللاجئين إلى الدنمارك كان على الإطلاق في أكتوبر 2015 حيث وصل 3694 طلباً جديداً في شهر واحد.
حصل إجمالي 80 ألف شخص على تصاريح إقامة في الدنمارك في عام 2016، لكن واحدًا فقط من كل تسعة منهم كان لاجئاً. أما الباقون فقد حصلوا على الإقامة بسبب العمل أو الدراسة أو لم شمل الأسرة.

من أين أتوا؟
لقد تغير ملف المتقدمين بطلبات اللجوء قليلاً خلال السنوات العشر الماضية، مما يؤثر على عدد تصاريح الإقامة، بما في ذلك الظاهرة الجديدة المتمثلة في نظام "المسجلين عن بعد"، والتي تشكل نسبة كبيرة إلى حد ما من عدد اللاجئين في الدنمارك.
لقد تغير تكوين الجنسيات التي طلبت اللجوء في الدنمارك كثيراً من عام 2015 إلى عام 2023. وفي الفترة من 2013 إلى 2020، شكل السوريون المجموعة الأكبر، لكن بخلاف ذلك كان الأفغان غالباً في القمة. وفي عام 2014، أصبحت إريتريا فجأة في المرتبة الثانية في القائمة، ثم تراجعت إلى المرتبة الثامنة في عام 2016، ولكن في 20
في المركز الأول تقريباً، احتل السوريون المركز الأول رقم 19، لكن هذا يرجع في الغالب إلى التسجيلات عن بعد.

أعلى 5 جنسيات تقدمت بطلب اللجوء في الدنمارك 2018-2022
 

وفي عام 2023، أعلى 5 جنسيات مؤقتة إلى جانب أوكرانيا: أفغانستان، سوريا، إريتريا، روسيا، عديمي الجنسية. واحتلت أفغانستان المركز الأول في عام 2021 بسبب الأشخاص الذين تم إجلاؤهم. وبعد عام 2015، أصبح عدد اللاجئين من بعض البلدان "الكلاسيكية" التي تشهد صراعات أقل، وأصبح أكثر من عدد أكبر من البلدان الأخرى.
ما يقارب من 30-40% من طالبي اللجوء هم من الأطفال دون سن 18 عاماً، وبعضهم قاصرون غير مصحوبين بذويهم. في عام 2023، يوجد حتى الآن 64 قاصراً غير مصحوبين بذويهم، نصفهم من الأفغان. ويأتي بعض الأشخاص غير المصحوبين بذويهم من المغرب، لكن لم يتم منحهم حق اللجوء.
في عام 2018 احتلت إرتيريا الصدارة في عدد اللاجئين حيث وصل عددهم 656 لاجئاً. والأقل كان من المغرب بعدد 181 لاجئاً.
عام 2019 احتل السوريين المركز الأول بـ 493 لاجئاً. المرتبة الخامسة من المغرب بـ 157 لاجئاً.
أما في العام 2020 حافظ السوريين على المركز الأول بـ 344 لاجئاً. المرتبة الخامسة للقادمين من إيران بـ 86 لاجئاً.
وفي عام 2021 تصدر اللاجئين الأفغان القائمة بـ 557 لاجئاً. والاقل كان من المغرب بـ 67 لاجئاً.
وأخيراً في عام 2022 احتل اللاجئين الأوكرانيين الصدارة بـ 2069 لاجئاً. والمرتبة الخامسة للقادمين من إيران 122 لاجئاً.

الجنسيات التي تقدمت بطلب اللجوء في الدنمارك 2015+ 2022
 
الرسم التوضيحي يبين الجنسيات التي تقدمت بطلب اللجوء في الدنمرك عام 2015 وعام 2022. ونسبة كل جنسية بالنسبة للعدد الإجمالي من اللاجئين. نلاحظ أن عدد اللاجئين في عام 2015 بلغ 21.300 لاجئ معظمهم من السوريين. بينما عدد اللاجئين في عام 2022 كان فقط 4597 لاجئاً معظمهم من أوكرانيا.

الطرق الرئيسية إلى الدنمارك
كل من يأتي إلى الدنمارك كطالب لجوء يصل بشكل غير قانوني تقريباً - مع مهرب أو بأوراق مزورة. من المستحيل الحصول على تأشيرة دخول إلى أوروبا إذا كنت قادماً من بلد مثلاً. سوريا أو إريتريا أو أفغانستان.
بالرغم من انخفاض عدد طالبي اللجوء في أوروبا بشكل كبير بسبب مراقبة الحدود وعمليات الإعادة على الحدود الخارجية والداخلية بعد عام 2016، إلا أن الأرقام ارتفعت مرة أخرى منذ عام 2021. وفي الدنمارك، توقف الوافدون تقريباً عند ذات المستويات دون أية زيادة. يعود ذلك إلى التشريعات والقوانين الصارمة التي أصدرتها الحكومات الدنمركية المتعاقبة بهدف الحد من تدفق اللاجئين والمهاجرين. وتُعد الأكثر تشدداً في أوروبا. ونتيجة لانخفاض أعدد طالبي اللجوء، فقد أغلقت الدنمرك المزيد من مراكز لاستقبال اللاجئين.
وعلى الرغم من أن العديد من القوارب الصغيرة لا تزال تبحر من تركيا إلى اليونان، إلا أن أعداداً أكبر نسبياً تصل عبر ليبيا وتونس. إنه طريق أكثر خطورة بكثير، حيث يموت الكثيرون في الصحراء الكبرى ويغرقون في البحر الأبيض المتوسط. أدت زيادة الدوريات وتجريم أعمال الإنقاذ إلى ارتفاع نسبة الغرقى وزيادة أعداد الضحايا.
إن عدم الاستقرار في ليبيا يعني أن الجهات الفاعلة الأوروبية تتعاون مع العديد من الميليشيات الليبية في مراقبة الحدود واحتواء المهاجرين قبل أن يتمكنوا من السفر عبر البحر الأبيض المتوسط. وقد أدى هذا إلى جعل وضع المهاجرين في ليبيا أكثر خطورة، حيث يحاول المزيد منهم السفر عبر طرق أخرى بديلة، مثل من مصر وتونس إلى إيطاليا.
تتغير أرقام دخول اللاجئين، وتتبدل المسارات كل عام، ولكن أشهر المسارات الحالية التي تحصل على أكبر عدد من اللاجئين بحسب الترتيب هي إيطاليا واليونان وإسبانيا.
لا تنتهي الرحلة عندماي يصل اللاجئين إلى حدود أوروبا - فالعنف الذي يمارسه حرس الحدود وعمليات الإرجاع غير القانونية أصبحت أكثر شيوعاً. كلاجئ، تجد صعوبة كبيرة في البقاء على قيد الحياة في اليونان أو إيطاليا لأسباب أمنية واقتصادية. بصورة عامة لدى اللاجئ في تلك الدول أمل في الحياة كشخص بلا مأوى. ويمثل اتفاق دبلن عقبة جديدة بوجه اللاجئين.
يوجد الآن أسوار وضوابط وعراقيل ومخاطر على طول الطريق إلى أوروبا، لذلك أصبح من الصعب جداً الوصول إلى الدول الاسكندنافية. الآلاف من اللاجئين عالقون في جزيرة ليسبوس اليونانية، وفي البوسنة، في ظروف غير إنسانية على الإطلاق.

* الصورة توضح أهم الطرق الرئيسية التي يسلكها اللاجئون للوصول إلى الدنمرك
 
أهم الخطوط للقادمين من سورية والعراق وإيران عبر مدينة إسطنبول براً إلى بلغاريا ثم يواصلون التحرك شمالاً عبر صربيا وكرواتيا والنمسا وألمانيا وصولاً إلى الدنمرك، ومن مدن إسطنبول، وإزمير التركيتين، ومن مدينة الإسكندرية المصرية بحراً إلى اليونان. ومن ثم يسلكون الطريق البرية السابقة.
ومن مدينة طرابلس الليبية إلى جزيرة مالطا، أو إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية ثم يعبرون الأراضي الإيطالية، والنمساوية، والألمانية للوصول إلى الدنمرك براً.

إعادة المرفوض طاباتهم
تتم معالجة قضية طالب اللجوء المرفوض من قبل مجلس اللاجئين المستقل مع القاضي بحضور محامي عن اللاجئ. في نهاية المطاف، وبعد تقييم فردي شامل لقضية اللاجئ، يتم التوصل إلى أن الشخص ليس لديه حاجة للحماية. ثم يطلب منه مغادرة الدنمرك طوعياً. في حال رفض اللاجئ المغادرة الطوعية، تقوم السلطات بترحيله قسراً.
لكن ليس من السهل دائماً ترحيل طالبي اللجوء المرفوضين وإعادتهم إلى أوطانهم الأصلية. فبعض اللاجئين لا يمتلك أوراق شخصية، وبعض السفارات التي تراسلها إدارة الهجرة لإصدار جوازات سفر لمواطنيها ترفض، أو لا تتعاون بصورة مقبولة. تسعى الدنمرك لحل سريع لهذا الملف وإغلاقه في أقرب أجل، وذلك بسبب التكلفة المالية المرتفعة، والاستحقاق الأمني. تسعى إدارة الهجرة إلى إقناع طالبي اللجوء المرفوضين باحترام قرار مغادرة البلاد. حتى لا يتم إرسال
إشارة مؤسفة للغاية إلى العالم الخارجي أنه بإمكان طالبي اللجوء المرفوضين البقاء عملياً في الدنمرك، حتى لو لم يكن لديهم إقامة قانونية. ولهذا الهدف أنشأت الوكالة الوطنية للهجرة وحدة توعية عام 2021 بهدف ضمان حصول الأجانب في مراكز المغادرة في البلاد على التوجيه بدعم العودة الطوعية إلى الوطن، وكذلك شرح العواقب القانونية لعدم التعاون والمغادرة. والبحث مع اللاجئين المرفوض طلباتهم حول الخيارات المتاحة.
وحدة التوعية موجودة في مراكز المغادرة، حيث يتواجد طالبي اللجوء المرفوضين، بهدف التمكن من بذل جهود بناء العلاقات على نطاق واسع من أجل زيادة عدد عمليات التسفير.
تُجري الوحدة محادثات تحفيزية مستمرة مع المجموعة المستهدفة الأساسية وهم مواطنو الدول الذين كانوا في الدنمارك بدون إقامة قانونية لأكثر من عامين. وتتكون الوحدة من الأخصائيين الاجتماعيين وعلماء الجريمة. ويركزون على سبيل المثال على حالة اللامبالاة التي يمكن أن يكون فيها الأجانب في موقع مراكز الترحيل، والاهتمام بالأشخاص الضعفاء بشكل خاص واحتياجاتهم فيما يتعلق بالرحيل وإعادة الاستقرار في الوطن الأم.

* الأرقام مصدرها وزارة الهجرة والاندماج الدنمركية.

10
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


الاستيعاب أم الفصل؟
المهاجرون المهمشون

يتم تعريف التهميش غالباً على أنه عمليات تفاعلية تراكمية تساهم/ ويتم من خلالها  دفع الأفراد أو المجموعات إلى هامش المجموعة، أو خارج المجموعة/السياق، نحو الحواف الخارجية للمجتمع بعيداً عن المركز. وقد يكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، عندما لا يحصل المهاجرون على وظيفة دائمة، أو عندما يترك الشباب المدارس، أو عندما لا تتمكن الأمهات العازبات من السماح لأطفالهن بالمشاركة في نفس الأنشطة الترفيهية مثل الأطفال الآخرين.
فالأفراد أو الجماعات المهمشة ليسوا موجودين بالكامل خارج المجتمع ولا في داخله بشكل كامل. ويجدون أنفسهم في منطقة رمادية بين الإدماج والاستبعاد، وغالباً ما تتاح لهم فرص أقل للمشاركة في المجتمع مقارنة بغيرهم.
وخلافاً لمفهوم الإقصاء، فإن مفهوم التهميش يعني ضمناً أن الأمر لا يزال يتعلق بمشاركة جزئية، وإن كانت هامشية، في سياق/مجموعة. يمكن فهم الهامشي بالطريقة التي لا يستطيع بها المرء المشاركة بشكل كامل. يشمل التهميش حقيقة أن تأثير الفرد محدود للغاية أو معدوم على الظروف المهمة في حياته.

أشكال التهميش
التهميش ظاهرة ذات أبعاد مختلفة. يشارك المرء الطبيعي في المجتمع من خلال عدة مجالات مختلفة. على سبيل المثال: يذهب إلى المدرسة، ويشارك في الحياة العملية، ويمارس أنشطة ترفيهية واجتماعية مختلفة، ويشارك في المنظمات ومع الأصدقاء.
 يمكن أن نكون مهمشين فيما يتعلق بواحدة أو أكثر من هذه البيئات. يمكن أن يكون الأفراد أو الجماعات على الحافة الخارجية للبيئات الاجتماعية (التهميش الاجتماعي)، أو الثقافات (التهميش الثقافي)، أو الحياة العملية (تهميش العمل)، أو الحياة السياسية (التهميش السياسي).
في مختلف المجالات في المجتمع، نواجه معايير وتوقعات مختلفة. إن التهميش في مجال ما لا يعني بالضرورة التهميش في مجال آخر. وفي الوقت نفسه، قد يكون هناك في كثير من الأحيان ارتباط بين التهميش في مجالات مختلفة. يمكن للمرض، على سبيل المثال، أن يمنعك من المشاركة في الحياة العملية. وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى الفقر وقلة فرص المشاركة في الأنشطة الاجتماعية مع الأصدقاء.
وعندما يؤدي التهميش في منطقة ما إلى التهميش في منطقة أخرى، نقول إن التهميش تراكمي. سيكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، إذا ترك شخص ما المدرسة بسبب المخدرات وأصبح في النهاية مجرماً.
في الغرب، نجد فئات مهمشة بين المهاجرين، والفقراء، والآباء الوحيدين، ومتعاطي المخدرات، والمرضى على المدى الطويل. غالباً ما تكون هذه الفئات المهمشة في منطقة خطر، وهو وضع مائع بين الإدماج الاجتماعي والاستبعاد الاجتماعي. فمن ناحية، بعد فترة سيندمج المزيد من الناس بشكل أفضل في المجتمع. ومن ناحية أخرى، سيسقط البعض في نهاية المطاف تماماً خارج المجتمع واستبعادهم من واحد أو أكثر من ساحات المجتمع.

وجهات نظر مختلفة حول التهميش
هناك عدة طرق مختلفة للتهميش. أولاً، يمكن النظر إلى التهميش على أنه عملية يتم فيها دفع شخص ما أو سحبه تدريجياً نحو الحواف الخارجية للمجتمع. وسيكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة للشباب الذين ينسحبون من الأسرة والمدرسة والحياة العملية، ويبحثون بدلاً من ذلك عن ثقافات فرعية منحرفة ومرهقة من أجل اكتساب الانتماء والقبول.
ثانياً، يمكن فهم التهميش من منظور بنيوي. ووفقاً لهذا المنظور، يتم تفسير التهميش على أساس السمات الهيكلية للمجتمع. يمكن للهياكل الاقتصادية، على سبيل المثال، أن تدفع الأفراد والجماعات إلى البطالة، كما أن الاختلافات الطبقية والفقر وسوء الظروف المعيشية يمكن أن تجعل من السهل إخراج بعض الأطفال والشباب من المدرسة والحياة العملية.
ثالثا، يمكن فهم التهميش من منظور فردي، نتيجة لتطور المجتمع الحديث. ووفقاً لهذا المنظور، أصبحت المجتمعات التقليدية ضعيفة على نحو متزايد في المجتمعات الغربية، ويُترك الأفراد على نحو متزايد لتدبر أمرهم بأنفسهم. وتؤدي عملية التخصيص هذه إلى زيادة الاختيار، ولكنها تؤدي أيضاً إلى زيادة عدم اليقين وخطر الاستبعاد.
رابعاً، يمكن فهم التهميش من منظور ثقافي. في عالم معولم، يمكن للعديد من الناس أن يجدوا أنفسهم بين عدة ثقافات مختلفة. يمكن أن يؤدي صراع الهوية هذا إلى انعدام الانتماء والتهميش. قد يكون هذا، على سبيل المثال، هو الحال بالنسبة لشباب الأقليات العرقية الذين يتم وضعهم بين ثقافات مختلفة، أو الشباب من البيئة التقليدية الذين يواجهون ثقافة جديدة من خلال المدرسة والتعليم.
على سبيل المثال كان المثليون جنسياً في السابق مجموعة مهمشة. في الخمسين عاماً الماضية، نظم المثليون جنسياً أنفسهم وناضلوا من أجل دمجهم في المجتمع.
ومن منظور ما بعد البنيوي، يُفهم التهميش باعتباره جانباً من جوانب الخطاب السائد، وبالتالي فهو مرتبط بالسلطة والمعرفة.  يمكن أن تساهم ما بعد البنيوية في تفكيك الخطاب السائد - وعلى سبيل المثال. المساهمة في إشكالية أن "الشباب المهاجرين متساوون في المشاكل" أو تعطيل الظروف المحيطة بنمو الأطفال، والتي تعتبر أيضاً كجزء من الخطاب السائد.

التهميش والانحرافات الاجتماعية والاستبعاد
في كثير من الأحيان يمكن أن يكون هناك ارتباط وثيق بين التهميش والانحرافات الاجتماعية والإقصاء، ولكن هذه المصطلحات تصف ظواهر مختلفة قليلاً. في حين أن التهميش يتعلق بعدم الاندماج في المجتمعات الاجتماعية، فإن الانحرافات الاجتماعية تتعلق بانتهاكات الأعراف الاجتماعية. وبما أن الأعراف تساعد على الحفاظ على تماسك المجتمع، فغالباً ما تكون هناك علاقة بين التهميش وانتهاك الأعراف الاجتماعية. الانحرافات الاجتماعية، مثل الجريمة، يمكن أن تؤدي إلى التهميش، والتهميش، مثل البطالة أو نقص التعليم، يمكن أن يؤدي إلى الانحرافات.

التهميش والإقصاء
التهميش والإقصاء مصطلحان يتم استخدامهما غالباً بالتبادل على أساس يومي، ولكن كمصطلحات فنية يتم استخدامهما بشكل مختلف قليلاً. في حين أن التهميش يصف عملية يتم فيها دفع شخص ما إلى الحافة الخارجية للمجتمع، فإن مصطلح الاستبعاد يستخدم لوصف حالة سقط فيها شخص ما تماما خارج المجتمع الاجتماعي.
وبالتالي يمكن أن يؤدي التهميش إلى استبعاد شخص ما وطرده تماماً من مجموعة أو مجتمع. وإذا أصيب الشباب أولا بمشاكل تتعلق بالصحة النفسية ثم تركوا المدارس، ومن ثم تُركوا تماماً خارج سوق العمل، فإن التهميش سيؤدي في نهاية المطاف إلى استبعادهم.

الدمج والاستيعاب والفصل والتهميش
ماذا يحدث عندما يعيش أشخاص من ثقافات مختلفة جنبًا إلى جنب؟ كيف سيتكيفون مع بعضهم البعض؟ يمكننا التمييز بين أربع استراتيجيات أو أنماط تكيف مختلفة: التكامل، والاستيعاب، والفصل، والتهميش.
في المجتمعات الغربية يوجد العديد من الأقليات ذات الخلفيات المختلفة. كيف يجب أن ترتبط هذه الأقليات بثقافة الأغلبية؟ هل ينبغي عليهم أن يحاولوا أن يصبحوا غربيين قدر الإمكان أم يحاولون حماية ثقافتهم ولغتهم؟ وكيف ينبغي للأغلبية أن تتعامل مع ثقافات الأقليات؟ هل يجب عليهم إجبارهم على تغيير ثقافتهم أم على العكس من ذلك تشجيعهم على الاهتمام بخصائصهم الثقافية؟
عندما تعيش الثقافات المختلفة بالقرب من بعضها البعض لفترة طويلة، فإنها يمكن أن تتكيف مع بعضها البعض بطرق مختلفة:
عبر الاندماج: ثقافة الأقلية مقبولة وتشارك في المجتمع الأكبر، ولكنها في الوقت نفسه تحافظ على هويتها الجماعية وتميزها الثقافي.
من خلال الاستيعاب: تختار ثقافة الأقلية ـ أو تضطر ـ إلى الالتحام مع ثقافة الأغلبية وتفقد ثقافتها الأصلية.
بواسطة الفصل: تظل ثقافة الأقلية وثقافة الأغلبية منفصلتين.
أو التهميش: تفقد المجموعات والأفراد انتمائهم ويتركون خارج ثقافة الأقلية والأغلبية.

الاندماج
في بعض الدول الغربية ـ وخاصة في دول الشمال ـ يعتبر التكامل أمرًا مثالياً. والاندماج يعني أن شيئاً ما يصبح شمولياً، وهناك اليوم اتفاق سياسي واسع النطاق على قبول الخصائص الثقافية للأقليات ضمن كل مظهر ثقافي أكبر. فمن ناحية، تُبذل محاولات لإدماج الأقليات كمشاركين متساوين في المجتمع ككل. ومن ناحية أخرى، يُسمح للأقليات الثقافية بالحفاظ على هويتها ومجتمعها الاجتماعي والثقافي.
ومن أمثلة سياسة الاندماج في دول الشمال أن يتلقى المهاجرون الجدد تدريباً باللغة المحلية حتى يتسنى لهم الاندماج في الحياة العملية، في نفس الوقت الذي يتلقى فيه أطفالهم التعليم باللغة الأم من أجل الحفاظ على هويتهم الثقافية.
ولكي يكون الاندماج ناجحاً، فلابد أن تكون المجالات المختلفة في المجتمع مفتوحة أمام المهاجرين في نفس الوقت الذي يتم مساعدتهم على إظهار الإرادة والقدرة على الاندماج. ويمكننا التمييز بين التكامل في ثلاثة مجالات مختلفة:
ـ يتم التكامل الاقتصادي من خلال المشاركة في الحياة العملية.
ـ يتم التكامل الاجتماعي من خلال المشاركة في الشبكات الاجتماعية التي تشمل عرق الأغلبية.
ـ يتم التكامل من حيث النشاط من خلال المشاركة في المنظمات التطوعية والمنظمات المهتمة والفرق الرياضية والسياسة والأنشطة المرتبطة بالمدرسة.
الأساس الأيديولوجي الذي يقوم عليه التكامل يسمى التعددية الثقافية. تدّعي التعددية الثقافية أن المجموعات العرقية المختلفة لها الحق في أن تكون مختلفة ثقافياً، وأن الأقليات لها نفس الحق الذي تتمتع به الأغلبية في ثقافتها الخاصة.

الاستيعاب
الاستيعاب يعني محو الاختلافات الثقافية والاجتماعية بين المجموعات. الاستيعاب يعني "المساواة". يحدث أقوى أشكال الاستيعاب عندما تندمج ثقافة الأقلية مع ثقافة الأغلبية  تماماً، ولا يعود من الممكن فصلها عن بعضها البعض.
يمكن أن يكون الاستيعاب طوعياً أو غير طوعي. ومن الأمثلة على الاستيعاب الطوعي بعض الغربيين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة وفقدوا في النهاية لغتهم الأم وخصائصهم الثقافية. أحد الأمثلة على الاستيعاب غير الطوعي هو سياسة الولايات المتحدة تجاه السكان الأصليين في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث تم قمع اللغة والثقافة المحلية.
في السنوات الأخيرة، نشأ جدل جديد حول الاستيعاب. وقد دعا بعض الباحثين إلى أن الاستيعاب قد يكون مرغوباً فيه في مجالات معينة من المجتمع، مثل الحياة العملية والتعليم.

الفصل
الفصل يعني "الانفصال"، والفصل يعني أن الثقافات المختلفة تعيش منفصلة جسدياً. حيث يعيش سكان الأقلية بمفردهم وليس لديهم سوى القليل من الاتصال بالمجتمع من حولهم. وأشهر مثال على الفصل العنصري هو نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا. حيث كان يعيش البيض والسود في أماكن مختلفة، وكانت هناك قوانين تمنعهم، على سبيل المثال، من الزواج من بعضهم البعض، وكانت هناك مناطق لا يُسمح للسود بالدخول إليها.
مثال آخر على نظام الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين السكان الأصليين. حيث يتم تشريع القوانين باعتبار إسرائيل دولة لليهود، وليس للعرب فيها أي حقوق.
في السنوات الأخيرة، كان هناك أيضاً جدل حول ما إذا كانت المجتمعات الموازية قد تطورت في أجزاء معينة من أوروبا، حيث تعمل المجموعات ذات الخلفية المهاجرة على تطوير معاييرها وقيمها الخاصة. ومع ذلك، فإن التحدي الذي يواجه مصطلح المجتمع الموازي هو أنه يُستخدم بطرق مختلفة للغاية، ومن الصعب الاتفاق على تعريف دقيق حوله.

التهميش
التهميش هو عملية يتم فيها دفع الأفراد أو المجموعات إلى الحواف الخارجية (الهوامش) للمجتمع. بالنسبة للأفراد الذين ينتمون إلى الأقليات، يمكن أن يكون لهذه العملية بعد اجتماعي وثقافي. يمكن أن يحدث التهميش نتيجة لانعدام التواصل الاجتماعي والعلاقات مع مجتمع الأغلبية، أو نتيجة لعدم الانتماء إلى ثقافة الأقلية والأغلبية.
ومن الأمثلة على المجموعة المهمشة الشباب الذين ينتمون إلى الأقليات وطالبي اللجوء الشباب الذين يبيعون الحشيش في عدد من المدن الأوروبية، ويفتقر العديد من هؤلاء الشباب إلى السكن والتعليم والعمل، ويجدون أنفسهم على الحافة الخارجية لكل من ثقافة الأقلية التي ينتمون إليها وثقافة الأغلبية التي أتوا إليها.
هناك أشكال مختلفة للتهميش، ومن الممكن أن يتم تهميشك في منطقة واحدة دون أن يتم تهميشك في مناطق أخرى. على سبيل المثال، قد يكون أحد أفراد مجموعة عرقية مهمشاً اجتماعياً، ولكنه ليس مهمشاً ثقافياً. ويمكن أن يكون الأفراد خارج سوق العمل بينما يندمجون بشكل جيد في الثقافة العرقية التي ينتمون إليها.

أشكال مختلفة من التكيف
يمكن أيضاً وضع أنماط التكيف الأربعة المختلفة، التكامل، والاستيعاب، والفصل، والتهميش، كنموذج. إن نمط التكيف سيعتمد على كيفية إجابة ثقافة الأقلية على سؤالين مركزيين:

1ـ هل من المهم لثقافة الأقلية أن تحافظ على ثقافتها وهويتها الأصلية دون تغيير - نعم أم لا؟
2ـ هل يرغب أفراد ثقافة الأقلية في المشاركة وتطوير علاقات اجتماعية واسعة النطاق مع مجتمع الأغلبية - نعم أم لا؟
يمكن أن يُمنح السؤالان أربع مجموعات مختلفة من الإجابات وبالتالي أربعة أنماط تكيف مختلفة:
ـ إذا أرادت أقلية عرقية الحفاظ على هويتها الثقافية والمشاركة في ثقافة الأغلبية، فإنها تجيب بنعم على هذين السؤالين. ثم يصبح نمط التكيف التكامل.
ـ إذا أرادت أقلية عرقية الحفاظ على هويتها الثقافية، لكنها لا ترغب في بناء علاقات اجتماعية مع مجتمع الأغلبية، فإن نمط التكيف يصبح فصلاً.
ـ إذا أرادت الأقلية خلق علاقات اجتماعية مع مجتمع الأغلبية، لكنها لا تهتم بثقافتها الخاصة، يصبح النمط الاستيعاب.
ـ إذا كانت الأقلية لا ترغب في بناء علاقات مع مجتمع الأغلبية ولا الاهتمام بثقافتها الخاصة، وتجيب بـ لا على كلا السؤالين، يصبح النمط تهميشاً.
ومن المهم التأكيد على أن نمط التكيف سيعتمد أيضاً على ثقافة الأغلبية. لا يمكن دمج الأقلية إذا لم تكن ثقافة الأغلبية مفتوحة أمام الأقليات التي تريد الحفاظ على هويتها الثقافية.

يمكننا إعداد الخيارات الأربعة المختلفة في النموذج التالي:
التحدي الذي يواجه هذا النموذج هو أنه يحدد أربعة خيارات منفصلة بوضوح. في الواقع، غالباً ما يكون نمط التكيف عبارة عن مزيج يختار فيه الأفراد في مواقف مختلفة درجات مختلفة من التكيف. مشكلة أخرى هي أن النموذج يحدد فقط أربعة خيارات مختلفة. لكن الشباب الذين ينشؤون مع ثقافات متعددة لا يضطرون بالضرورة إلى الاختيار بين ثقافة الأغلبية وثقافة الأقلية. يمكنهم بدلاً من ذلك إنشاء ثقافة مختلطة جديدة.
يُطلق على الشباب الذين نشأوا خارج ثقافة والديهم أحياناً اسم "أطفال الثقافة الثالثة". ومن سمات العديد من هؤلاء الشباب أنهم لا يشعرون في المقام الأول بالانتماء إلى ثقافة آبائهم، ولا إلى ثقافة الأغلبية التي أصبحوا الآن جزءًا منها. إنهم يشعرون في المقام الأول بالانتماء إلى الثقافة المشتركة بينهم وبين الشباب الآخرين الذين نشأوا بين ثقافات مختلفة. فبدلاً من الاستيلاء على ثقافة الأقلية أو الأغلبية، يساهمون في خلق ثقافة جديدة ومعقدة.

عوامل محبطة
في الخطاب اليومي وفي العديد من الأنظمة التي تعمل مع "المهمشين"، يهيمن الفهم السلبي للتهميش. غالباً ما يرتبط التهميش بالبطالة، والافتقار إلى الشبكة الاجتماعية، والأمراض العقلية، وسوء المعاملة، والاختلاف الديني، والعرقي، والثقافي، والجريمة، والتشرد، وما إلى ذلك. وكلما زادت هذه العناصر التي تميز وضعية الشخص، كلما زاد تهميشه. ومع ذلك، في العمل الاجتماعي العملي، هناك أيضاً استثناءات لهذا الاتجاه.
كلما زاد عدد السياقات التي يكون فيها الشخص في وضع هامشي، كلما زاد التهميش. يُفهم التغلب على التهميش على العكس من ذلك على أنه انتقال الشخص تدريجياً من موقع هامشي إلى موقع مسؤول في سياقات العمل، والعلاقات، والفعاليات القديمة أو الجديدة. إن تجاوز موقف هامشي في سياق واحد أو أكثر له تأثير على الطريقة التي يعبر بها الشخص عن نفسه وفهمه ومجتمعه.


11

د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك



الأدب الدنمركي من الواقعية إلى النقد الاجتماعي


في الأدب الدنماركي، يُظهر الانتقال من نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين اتجاهاً واضحاً هو التحول من الجمالية المنغلقة والمؤكدة دينياً إلى الواقعية اليومية الجديدة.
اجتمع الشعراء والكتاب الرمزيون في تسعينيات القرن التاسع عشر، في وقت قريب من تغيير "تارنيت" Taarnet 1893-1894 مع الشاعر "يوهانس يورجنسن" Johannes Jørgensen 1866-1956، ودافعوا عن شعر يرى الحياة في مجملها الصوفي وليس فقط في الأدب مجرد المظهر. لقد كان الواقع دائماً رمزاً لشيء آخر وأكثر مما يبدو. هذه النغمة الميتافيزيقية حيث تُرى الحياة في طبقة مزدوجة، هي ما تم التخلص منه في العقود الأولى من القرن الجديد، وكان حامل لواء الشعرية اليومية الجديدة هو يوهانس آخر، وهو "يوهانس ف. جنسن"  1873-1950 Johannes V. Jensen الذي نشر قصائده في عام 1906، والتي لا يمكن المبالغة في تقدير أهميتها بالنسبة للأدب الدنماركي بشكل عام والحداثة بشكل خاص.

باستخدام شكل النثر المستوحى من الشاعر الأمريكي "والت ويتمان" Walt Whitman 1819-1892، بشرت القصائد عام 1906 بثورة في الشكل، حيث كان الإلقاء وبناء الجملة أقرب إلى الكلام اليومي من الأشكال الإيقاعية المقفّاة بإحكام التي اعتاد المرء عليها حتى ذلك الوقت. ولكن لم يقتصر الأمر على الجانب الشكلي فقط، فقد تخلص يوهانس ف. جنسن من الرمزية، وحقق أيضاً نغمة جديدة إلى حد كبير، وهو ما تم التأكيد عليه من خلال القصيدة الختامية في المجموعة بعنوان "كل يوم". هنا، من بين أمور أخرى، يمكنك قراءة السطور التالية:
 "دعونا ندخل في الحياة اليومية دون خوف / نحن الذين ليس لدينا ما نكسبه/ دعونا نجعلها لعبة لاذعة / اجتماع صلاة صعب / للملونين من سكان المدينة المشهورين.


مرحلة الاختراق الشعبي
في نفس الوقت الذي حدث فيه تغيير النظام السياسي في الدنمرك عام 1901، حدث انقطاع في الرسم وتأسست مجموعة  Fynboerneللفنانين التشكيليين الذين تأثروا بالرسام "كريستيان زهرتمان" Kristian Zahrtmann.
وفي الموسيقى أيضاً حيث كان "كارل أوغست نيلسن" Carl August Nielsen مؤلفًا موسيقيًا وقائدًا موسيقيًا وعازف كمان دنماركي، معترف به على نطاق واسع باعتباره أبرز ملحن في الدنمرك.
 وفي الأدب كان ما يسمى بالاختراق الشعبي في الأدب في الواقع اختراقًا للواقعية المعاصرة التي التبشير بها في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. هذا الاختراق تم بتفاوت على نطاق واسع اجتماعيا وعقائديا.
أصبح "يوهانس فيلهلم جنسن" Johannes Vilhelm Jensen المخترع اللغوي العظيم في تلك الفترة ومبادرًا للابتكارات في الأدب في القرن العشرين بشكل عام. وهو أحد أعظم الكتاب الدنماركيين في النصف الأول من القرن العشرين. حصل على جائزة نوبل في الأدب عام .1944
 أعلن كتّاب متنوّعون مثل "توم كريستنسن  Tom Kristensen، والكاتب "ألفريد مارتن جينس هانسن" Alfred Martin Jens Hansen الذي اشتهر بكتاباته كعضو في حركة المقاومة الدنماركية أثناء الاحتلال الألماني للدنمارك في الحرب العالمية الثانية. وكذلك "كلاوس ريفبيرج" Klaus Rifbjerg الذي ألّف أكثر من 170 رواية وكتابًا. وجميعهم شكلوا جبهة أيديولوجية متحدة.
وبخلاف ذلك، استمر الاختراق الحديث، أي في أجزاء من الأدب النسائي الجديد، حيث أثارت "أغنيس هينينغسن" Agnes Henningsen غضبًا من تصويرها وعيشها وفقًا لمعايير أكثر حرية لعصر جديد. وكانت هينينغسن كاتبة دنماركية وناشطة في مجال الحرية الجنسية. تركزت كتاباتها على الحب والجنس، وكذلك على حياتها الخاصة.
كما أصبحت "ثيت جنسن" Thit Jensen شقيقة يوهانس في جنسن  مؤلفة الروايات التاريخية والمعاصرة، شخصية بارزة في النقاش حول النساء والجندر، والزواج، والشبقية، ومنع الحمل، والإجهاض. أدت حقيقة أنها تحدثت عن مثل هذه الموضوعات المحظورة إلى معارضة كبيرة لدى معاصريها، ولكنها ساعدت أيضًا في تغيير موقف المجتمع.

فترة الحروب العالمية
لقد تركت المذاهب العالمية ـ وبعضها له صلات بالرسم في ذلك الوقت ـ بصماتها في الأدب الدنماركي بدءًا من الحرب العالمية الأولى فصاعدًا عبر المذهب التعبيري المستوحاة جزئياً من "يوهانس فيلهلم جنسن" Johannes Vilhelm Jensen. وفي الشعر والروايات التي كتبها "إميل بونيليكي"Emil Bønnelycke، و"توم كريستنسن"Tom Kristensen.

أعقب التعبيرية لمسات متفرقة من السريالية عند الشاعر "ينس أغست شاد" Jens August Schade، والشاعر والرساّام "غوستاف مونش بيترسن" Gustaf Munch-Petersen.
على الرغم من أن هذه المذاهب كانت رائدة في الحداثة اللاحقة، إلا أنها أصبحت مع ذلك ظاهرة هامشية في أدب ذلك الوقت، والتي تميز بشكل أساسي بتيار متعدد الأوجه من الواقعية الوصفية على نطاق واسع: من عالم الطبيعة البرجوازي "جاكوب بالودان"Jacob Paludan إلى الأدب الاجتماعي أو الاجتماعي النقدي. الروايات، وروايات الصراع الطبقي، والتصويرات الاجتماعية الواسعة للحياة، إلى التصوير النفسي الجديد المستوحى من فرويد من قبل.

تميزت الثلاثينيات على وجه الخصوص بالانقسام بين الخط الراديكالي ثقافيًا، وأحيانًا الاشتراكي، ومجموعة غير متجانسة تمامًا من الكتاب الذين استمروا في أشكال التعبير التي تمت تجربتها جيدًا مع جذب جمهور واسع ومحافظ.
بالنسبة للجناح الراديكالي ثقافيًا، كان الشخصية الرئيسية هو المهندس المعماري ومصمم الإضاءة والكاتب المسرحي والمحاور الثقافي "بول هينينغسن"Poul Henningsen.
وعلى الجبهة المحافظة  أثار الكاهن والكاتب المسرحي "كاج مونك"Kaj Munk  ضجة. احتلت البارونة الكاتبة كارين "بليكسين" Karen Blixenموقعًا خاصًا، حيث بدأت بنشر كتبها منذ منتصف الثلاثينيات في الولايات المتحدة أولاً ثم في الدنمارك.
تم تقويض النزعة المحافظة الأرستقراطية من قبل الأنوثة المتمردة في قصص بليكسن وكانت في الواقع تعبيرًا عن نقد ثقافي مستوحى من نيتشه والذي حدث منذ تسعينيات القرن التاسع عشر. تم ترشيحها عدة مرات لنيل جائزة نوبل للآداب. اشتهرت بروايتها " خارج افريقيا"Out of Africa، وهي عبارة عن سيرة ذاتية لحياتها أثناء إقامتها في كينيا. ورواية "عيد بابيت"  Babette's Feas، وكلا الروايتين تم تحويلهما إلى فيلمين نالا جائزة الأوسكار. 

الفترة الهرطقية
في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، اتخذ الشاعر والناقد الدنمركي "بول لا كور" Paul la Cour خطوة نحو إحياء الرمزية، والتي كان بيانها عبارة عن أجزاء من مذكراته عام 1948. جمعت مجلة "هرطقة" Heretica  مجموعة من الكتاب بقيادة "مارتن أ. هانسن" Martin A. Hansen، و"أولي ويفيل" Ole Wivel، و"ثوركيلد بيورنفيج" Thorkild Bjørnvig، الذين انفصلوا عن المذهب الواقعي ونظرته للإنسانية.
بدلاً من ذلك، استخدموا قضايا الدين والأخلاق والفن والشكل والطبيعة العالمية كأساس لكتاباتهم. كانت هذه القضايا مشتركة لدى العديد من المؤلفين والكتاب في الفترة أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة. كانت تجربة تعبر عن أزمة ثقافية عميقة، والتي بناءً على التعايش مع الحداثة الفنية المرئية، وجدت تعبيراً ملموساً بلمسة دينية في شعر أولي سارفيج.

الحداثة والتقليدية بعد الحرب
في سياق الهرطقة ظهرت الحداثة من خلال: قصص قصيرة تجريبية لـ "مارتن أ. هانسن" Martin A. Hansen وتجارب "برانر" Branner الفردية في القصص القصيرة والمسرحيات والروايات، وشعر "سارفيج" Sarvig، لكنها كانت حداثة "معنية" أخلاقياً. في الخمسينيات من القرن الماضي اندلعت الحداثة على أنها أمر مسلم به ووجدت أشكالًا مناسبة للتعبير عنها.
أسس "فيلي سورنسن" Sørensen grundlagde فن سردي جديد، استندت فلسفته وشعره على وعي متزايد للغة. ويمكن أن يصور فقدان الهوية من خلال الاختلاف الذاتي والانقسام. بالنسبة لـ "كلاوس ريفبيرج" Klaus Rifbjerg تحول المسار من موقف "الشاب الغاضب" الطبيعي إلى اتجاه تجريبي متزايد، وبلغ ذروته في مجموعة الشعر الحداثية القوية "مواجهة" Konfrontation، ومجموعة "تمويه" Camouflage. ومنذ سبعينيات القرن الماضي فصاعدًا، انتقلت كتاباته المكثفة إلى اتجاهات أخرى أكثر توجهاً للجمهور، ولكن في شعره يتحد كسر الحدود المشبعة بالواقع مع الطاقة اللغوية التي جعلته مبتكرًا على قدم المساواة مع "يوهانس ف. جنسن" Johannes V. Jensen، و"آدم أولينشلاغر" Adam Oehlenschläger.

كانت للكتابات الدرامية للروائي الدنمركي "ليف ثورمود باندورو" Leif Thormod Panduro التي تحولت إلى أعمال تلفزيزنية تأثير شعبي كبير ضد مجتمع الطبقة الوسطى المنظم ومعاييره.
خلال الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، يمكن ملاحظة تطور نزعة من العبث في شعر الشاب "بيني أندرسن" Benny Andersens وقصصه القصيرة، وفي نثر "بيتر سيبيرج" Peter Seeberg الذي نوقشت أعماله كثيرًا في ذلك الوقت، وفي شعر "إيفان مالينوفسكي" Ivan Malinowski، وفي كتابات الشاعر والمسرحي "جيس أورنسبو" Jess Ørnsbos ضد الحداثة البنائية أو الشكلية، وضد الحداثة الأدبية.
كانت هناك اتجاهات أخرى تؤكد نفسها في نفس الوقت مع الحداثة/ مثل الوجودية من خلال  فيلم وثائقي وجودي – تاريخي لـ "ثوركيلد هانسن" Thorkild Hansen بثلاثية مقتبسة من رواياته الثلاث عن تجارة الرقيق الدنماركية والتي تتكون من "ساحل العبيد" و"سفن العبيد" و"جزر العبيد". والواقعية النقدية والوجودية الواسعة من خلال الأديب الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1917 "هنريك بونتوبيدان" Henrik Pontoppidan.
وكذلك السيرة الذاتية، ومعها الاجتماعية والنفسية، ووجهات النظر التي تصور حياة المرأة من قبل الشاعرة والروائية "توف ديتليفسن" Tove Ditlevsen. الواقعية المعاصرة لـ "أندرس بودلسن" Anders Bodelsens، و"كريستيان كامبمان" Christian Kampmann، و"هنريك ستانجروب" Henrik Stangerup.

الدعاية والخصخصة
أدت انتفاضة الطلاب في عام 1968 إلى ازدهار عنيف للجدل الأيديولوجي، وبالتالي تراجع الاهتمام بالتجارب الأدبية. ظهر خلال السبعينيات أدب عمالي جديد وخاصة الأدب النسائي، على سبيل المثال كتابات "جيت دروسن" Jette Drewsen، و "فيتا أندرسن" Vita Andersen، و "ديا ترير مورش" Dea Trier Mørch اللواتي أثرن نقاشاً واسعاً حول أعمالهم.
ساعد النقد الأيديولوجي القاسي لوظيفة الأدب وأشكال التعبير، والذي ازدهر في بيئة النقد الجامعي، في دفع اهتمام المؤلفين في اتجاه الحياة اليومية غير الأيديولوجية، والخاصة، والاعترافات، والعلاقات الحميمية. أصبحت النصوص الشعرية الدنيوية والعامية التي كتبت بأسلوب يسمى "النثر المتصدع" Knækprosa شكلًا غنائيًا شائعًا ومقروءًا على نطاق واسع. وهو نثر بمثابة قصيدة ملفوفة في سطور من الشعر. غالبًا ما يكون المحتوى ملحميًا وقصصيًا، في حين أن اللغة تكون سهلة تذكرنا بلغة النثر والقصص القصيرة أكثر من الشعر التقليدي.

الأساطير وما بعد الحداثة والخرافة الجديدة
في الثمانينيات والتسعينيات أصبح الناس مشبعين بالاعترافات حول الحياة اليومية الحميمة وبأشكال لا شكل لها من الأدب. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه الماركسية الطلابية متعبة أثناء الانتعاش السياسي البرجوازي، سعى الأدب للعودة إلى جذوره كأدب.
ظهر جيل جديد من كتّاب الحداثة على سبيل المثال الشاعر "مايكل سترونج"  Michael Strunge، والأديب والناقد "بو جرين جنسن" Bo Green Jensen، والشاعرة والروائية "بيا تافدروب" Pia Tafdrup، والشاعر"سورين أولريك تومسن" Søren Ulrik Thomsen. وعادت الأشكال الأدبية الرومانسية والرمزية مرة أخرى.
انتقلت الواقعية التي كان يمثلها على سبيل المثال الكاتب والمخرج "هنريك ستانجروب" Henrik Stangerup إلى المشهد الثقافي عبر المواجهات الأيديولوجية والشخصية.
استأنف عدد قليل من الشعراء شكل الترنيمة  الذي كان أحد الركائز الأساسية للأدب الدنماركي المستوحى من الحداثيين الأقدم مثل "أولي سارفيج" Ole Sarvig، و"يورجن جوستافا براندت" Jørgen Gustava Brandt.
شكّل التدين الجديد إلى جانب ـ الانشغال بالكون والطبيعة ـ الخلفية لهذا الاهتمام بالترنيمة. واكتسب الوعي البيئي النقدي أبعادًا عالمية وأسطورية في أعمال الشاعر "ثوركيلد بيورنفيج" Thorkild Bjørnvig مؤسس محلة "هرطقة" كرد فعل ضد الموجة الحداثية والواقعية في الأدب الدنماركي، التي سادت في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. والشاعر والمخرج "فاغن لونبادي" Vagn Lundby. وأعاد الأديب والناقد والفيلسوف "فيلي سورنسن"Villy Sørensen تفسير الأساطير الكلاسيكية والاسكندنافية وأعاد سردها.
ظهر فن سرد القصص النابض بالحياة خلال هذه العقود. كتبت "كيرستن ثورب"Kirsten Thorup عن عوالم أنثوية من الخبرة في النثر الذي يوازن بين الواقعية المتماسكة اجتماعيًا والواقعية الواسعة النطاق، والجانب النفسي الداخلي.
وازدهرت كتب الأدب النثر إلى حد كبير بأشكال مختلطة، بين الرواية والمذكرات، على سبيل المثال أعمال الشاعرة والروائية "سوزان بروجر"Suzanne Brøgger، وبين الواقعية الأدبية مثل كتابات الروائي والمسرحي الوجودي "بيتر سيبيرج"Peter Seeberg  والشاعر والروائي "جينز سميروب سورينسن"Jens Smærup Sørensen.
صوّرت الأديبة "دوريت ويلومسن"Dorrit Willumsen الأشخاص المعاصرين في صور مخيفة كنماذج ميكانيكية وضحايا لنظام اجتماعي مشوه. تم استعراض الحياة كمختارات من مصائر الإنسان في العزلة المشتركة بأعمال الكاتب والمحلل النفسي "بير هولتبرج"Peer Hultberg، كما تم انتشار أدب الشكل المختلط واسع الانتشار عالميًا بين الواقعية والسرد الخيالي، فيما سمي حينذاك "الواقعية السحرية" بسمة دنماركية خاصة وبطرق مختلفة بأعمال الروائي والشاعر "إب مايكل" Ib Michael، والكاتب الروائي "بيتر هوج" Peter Høeg.
حقيقة أن الكاتبة البارونة الدنمركية "كارين بليكسن"  Karen Blixen كانت واحدة من أكثر المؤلفين قراءة ومناقشة لأعمالها في الماضي القريب خلال تلك الفترة، وقد تركت بصماتها الواضحة على الأدب الدنمركي.
على الرغم من أوجه التشابه في الاختيارات، كان هناك قفزة كبيرة من التدرج الإلهي لفهم العالم في سرد بليكسن إلى ما بعد الحداثة اللامركزية والوعي الجسدي الذي يكسر الحدود بصورة لافتة في الأدب الدنماركي في النصف الثاني من الثمانينيات والتسعينيات.
تميز الأدب الدنماركي في أواخر القرن العشرين بالتنوع في كل من أشكال التعبير والأنواع واختيار المواد. في عام 1987 تم افتتاح مدرسة الكتّابForfatterskolen  برئاسة الشاعر والناقد "بول بوروم"  Poul Borum. وفي عام 1996 تمت الموافقة على برنامج الدراسة من قبل وزارة الثقافة الدنمركية كبرنامج تعليمي عالي لمدة عامين.
أسس المدرسة عدد من الطلاب أنفسهم. تم تقديم روايات في فترة التسعينيات غالبًا ما تكون مبسطة، وانفصلت عن التفسيرات السببية التقليدية والاجتماعية مثل كتابات الأديبة "سولفج بال" Solvej Balle. ومع ذلك رأى الروائي "ينس كريستيان جروندال" Jens Christian   Grøndahl إمكانيات جديدة في الاستكشاف النفسي للتقاليد الواقعية.

الواقعية الجديدة للأدب والشعر والنقد الاجتماعي
ذهب الجيل الجديد من الكتاب، على حد تعبير جنسن، "بلا خوف إلى الحياة اليومية" وانتشروا في أرجاء الدنمارك بأكملها ولم يقتصروا على العاصمة كوبنهاغن. غنى جنسن لحبيبته "هيمرلاند" Himmerland  وسجل "مارتن أندرسن نيكسو"  Martin Andersen Nexø خريطة أرض بورنهولم، كما تناول "يوهان سكجولدبورج" Johan Skjoldborg  و"جيبي أكيار" Jeppe Aakjær   الإرث من أوصاف "ستين ستينسن بليشر" Steen Steensen Blichers لجزيرة يولاند في نسخة أقل رومانسية.
وفيما يتعلق بوصف الواقع، كان هناك أيضاً التزام اجتماعي ظهر بوضوح في الأعمال. كان المؤلفون واحدًا مع مادتهم. وذلك لأنهم لم يصفوا بيئاتهم من الخارج، بل من الداخل.
الأديب "يوهان سكولدبورج" Johan Skjoldborg الذي أصبح معروفاً باسم المدافع عن المزارعين، كان يعمل كعامل يومي وكان والده هو نفسه مزارعاً، وكان لدى الشاعر " جيبي أكيار" Jeppe Aakjær أيضًا معرفة مباشرة بظروف المزارعين ولم يكن أحد يعرف محنة العمال بشكل وثيق أكثر من "مارتن أندرسن نيكسو" Martin Andersen Nexø، الذي نشأ هو نفسه في بيئة فقيرة للغاية.
بالنسبة لهؤلاء المؤلفين، كان لتربيتهم  والظروف التي هم، الأثر المهم في إصدار سلسلة من الأعمال الساخطة اجتماعيا، حيث شكل وصف ظروف الطبقة العاملة -سواء في الريف أو في المدينة- نقدا اجتماعياً لاذعاً.


12
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


الدين في الدنمرك..
الجلوس في الحانة والتفكير في الرب

لا يُسأل الدنماركيون في كثير من الأحيان عما إذا كان الدين مهمًا في حياتهم. ربما لا يذهب الإنسان الدانماركي العادي إلى الكنيسة كل شهر، ولا يؤمن بالضرورة بالله. ولكن إذا سألت ما إذا كان هذا الشخص مسيحيًا، فستكون الإجابة على الأرجح نعم.
اثنان من كل ثلاثة دنماركيين يعرّفون أنفسهم كمسيحيين. أظهرت دراسة رئيسية جديدة أنه على الرغم من الحضور المحدود للكنيسة والإيمان بإله التوراة والإنجيل، تظل المسيحية علامة هوية لغالبية الدنماركيين. يبدو أن الإيمان المسيحي أصبح على نحو متزايد علامة وسمة وطنية للدنمركيين.
في دراسة جديدة تركز بشدة على الإيمان في أوروبا ، سُئل 15000 دنماركي ـ من بين أمور أخرى ـ عما إذا كانوا يعرّفون أنفسهم على أنهم مسيحيون، وأجاب 65٪ منهم بنعم.
يتضح هذا من خلال دراسة جديدة وكبيرة أجراها مركز بيو للأبحاث التابع لمعهد التحليل الأمريكي، والذي سبق أن حدد تدين السكان في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الجنوبية وأفريقيا. الآن ولأول مرة ينصب التركيز على أوروبا بما في ذلك الدنمارك، حيث شارك حوالي 15000 دنماركي في استطلاع.
في الاستطلاع عرّف 65 % منهم بأنهم مسيحيون. وهي أعلى مما قد يعتقده المرء في البداية، كما تقول "أستريد كرابي ترول" Astrid Krabbe Trolle عالمة اجتماع الأديان في جامعة كوبنهاغن، والتي تبحث في نظرة الدنماركيين للدين والكنيسة الوطنية.
تقول ترول "على الرغم من أن 75 % من الدنماركيين أعضاء في الكنيسة الشعبية، فإننا نعلم أن الكثيرين لا يعلقون قيمة معينة على العضوية أو يربطونها بهوية دينية. لذلك كنت أعتقد أن النسبة كانت أقل، ولكن عندما تنظر عن كثب في الاستطلاع، يتبين أن الدنماركيين يولون أهمية كبيرة لكونك مسيحيًا. لا يتعلق الأمر فقط بالاعتراف بالإيمان المسيحي. كما أن الهوية المسيحية تُعتبر أيضًا علامة ثقافية ووطنية ".
من بين 65 %من الدنمركيين الذين يصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون، يذهب منهم حوالي 10% إلى الكنيسة شهريًا، بينما يؤمن 68 % منهم بالله. لكن بالنسبة للجزء الأكبر لا يتعلق الأمر بإله التوراة والإنجيل، ولكن بقوة أعلى أو قوة روحية. وبينما تتشابه الدنمارك مع البلدان المجاورة في التركيز على إله محب، فإن الدنماركيين على عكس سكان العديد من البلدان الأخرى لديهم إيمان أقل بالغيبيات.
في حين أن هذه الأرقام تتلاءم جيدًا مع المعرفة الموجودة حول ما يسمى بالمسيحية الثقافية في الدنمارك، فإن التقرير يظهر أيضًا ارتباطًا مثيرًا للاهتمام بين الهوية المسيحية ووجهة نظر الأديان الأخرى، كما تقول أستريد كرابي ترول.
"تشير النتائج إلى أن الهوية المسيحية حاسمة أو مؤشر قوي على مدى تعارض المرء مع الأديان الأخرى. ووفقًا لأرقامهم، فإن المسيحيين أكثر انتقادًا وتشككًا في الهجرة والمسلمين على وجه الخصوص. هذا ينطبق على كل من المسيحيين المتعبدين والأشخاص الذين يفهمون أنفسهم كمسيحيين دون عبادات فعلية. هذه الأرقام مثيرة للفكر، لكنها تتفق جيدًا مع الجدل السياسي، حيث يصبح المسيحي علامة هوية على شيء آخر. في البحث يطلق عليه اسم المسيحية التفاعلية، حيث تصنف نفسك على أنك مسيحي كرد فعل ضد الإسلام على سبيل المثال. يشير هذا السياق إلى جبهة جديدة في الدنمرك، حيث يتجه المسيحيون ضد غير المسيحيين " كما تقول.
وفقًا لـ "أولي ريس" Ole Riis الأستاذ الفخري في علم اجتماع الدين بجامعة أغدر Agder والذي تعامل مع علاقة الدنماركيين بالدين، يؤكد التقرير أن العديد من الدنماركيين يربطون الكنيسة بالهوية الوطنية.
"لكننا نتحدث عن انقسام أعضاء الكنائس، حيث يعتبر نصفهم الكنائس أماكن التقاء تفصل نفسها عن الغرباء، وخاصة المسلمين. تشكل الكنائس إطارًا للمجتمعات التي تم تشكيلها تاريخيًا والتي تشترك في مجتمع القيم وتعززه. بالنسبة لمعظم الناس تُعتبر العضوية تعبيرًا عن هوية عاطفية أكثر من كونها تأكيدًا لعقيدة إيمان الكنيسة "، كما يقول ريس الذي يجد أيضًا أنه من المثير للاهتمام أن يؤمن معظم الأعضاء بقوة أعلى أو قوة روحية، ولكن ليس في صورة الكتاب المقدس الله.
"إنه تعبير عن الاستقلال العام الذي تدربنا عليه منذ الطفولة، حيث نتعلم اتخاذ موقف في مواجهة جميع تحديات الحياة. كما أثّرت على نظرتنا لعقيدة الإيمان. قلة قليلة من الناس يعتقدون أن المسيحية هي عقيدة ملزمة ".
حتى بين الدنماركيين الذين وصفوا أنفسهم في الاستطلاع بأنهم غير مرتبطين بدين، فإن الروحانيات ليست أجنبية، كما يقول "بيتر بيركيلوند أندرسن"Peter Birkelund Andersen الأستاذ المشارك في قسم الدراسات الإقليمية وعبر الثقافات في جامعة كوبنهاغن.

"بين غير المنتسبين للكنيسة الوطنية الـ 37 % على سبيل المثال يؤمنون بقوة أعلى، وهي القبول بشيء ديني واضح. يجيب العديد من نفس المجموعة أيضًا أنهم يؤمنون بشيء روحي مما يشير إلى وجود سمة دينية.
يحدث تحول في الطريقة التي يتدين بها الناس. لكننا لا نختبر رفضًا عقلانيًا كاملًا للإيمان. وبدلاً من ذلك يتم إنشاء هياكل دينية أخرى ".
الكاهن "ماتيوس" راعي كنيسة فيستيربرو في كوبنهاغن يقول إن الدنماركيين يؤلفون عقيدتهم بأنفسهم، مما يعني أن الهوية المسيحية مجتمعة مع الإيمان بشيء أكثر بديلًا. بالإضافة إلى ذلك، فهي تؤشر على قلق مجموعة المسيحيين في الدنمارك التي تعرب عن قلقها بشأن الهجرة أكثر من أولئك الذين ليس لديهم انتماء ديني.
"وغني عن القول إنه عندما يكون لديك علامات هوية تحت الضغط، فستكون أيضًا أكثر قلقًا. أنا شخصياً أشعر بالقلق من أن تماسك أوروبا قد يكون مهددًا وأن التركيبة السكانية قد تبدو مختلفة. المسيحية لا تميل إلى أن تكون أصولية، لذلك نحن غالبًا من ينحني، ويمكن أن يصبح هذا ضعفنا. نخاف من تراجع المسيحية ".
إذا نظرت إلى البلدان الأخرى في أوروبا الغربية، ستجد عددًا أكبر بكثير من الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مسيحيين أكثر مما يوجد في الدنمرك، والنرويج، والسويد. يعرف معظمهم أنفسهم كمسيحيين، على سبيل المثال في البرتغال، وإيطاليا، والنمسا، وأيرلندا.

ما هي الطريقة التي يقسّم بها الدنماركيون أنفسهم دينياً؟
يبلغ عدد أعضاء الكنيسة الوطنية الدنمركية لعام 2023 ـ وفقاً لسجلاتها ـ 4311333 عضواً، وهذا يتوافق مع 73.8٪ من سكان الدنمارك. بالإضافة إلى الكنيسة الوطنية، يوجد 120 طائفة مسيحية معترف بها في الدنمارك. أكبرها نمواً الطائفة الأرثوذكسية والكاريزمية. كما يوجد العديد من الطوائف المسيحية غير المعترف بها أيضاً.
تقدر الجهات الإحصائية أن هناك 280.000 مهاجر وحفيد في الدنمارك لديهم خلفية ثقافية مسيحية
ـ الفردانية التقليدية: 12٪. وهم مؤمنون، لكنهم يختارون عدة عناصر من دينهم على فترات متقطعة. وهذا ينطبق بشكل خاص على الإيمان بالجنة والنار.
ـ التقليدي: 6٪. يؤمن بمجمل عقائد دينه بما في ذلك الجنة والنار على سبيل المثال.
ـ المؤمنون البدلاء: 24٪. يؤمنون بالله، ولكن ليس بإله شخصي. يتعلق الأمر أكثر بقوة الحياة الإلهية أو الروحية.
ـ أتباع الروحانيات: 11٪. يؤمنون بقوة الحياة الروحية أو الإلهية ، ولكن ليس بالله.
ـ غير المتدينين: 10٪. ليسوا متدينين، لكنهم غير متأكدين مما يؤمنون به.
ـ لا دينيين: 21٪. هم متأكدون من أنهم لا يؤمنون بأي شيء.
ـ آخرين: 16٪. يغطي عددًا من المجموعات المختلفة.
يوجد في الدنمرك ما يقرب من 2340 كنيسة. تضم 50 كنيسة مبان خاصة وأماكن للمعارض. توجد 400 كنيسة مجانية في الدنمارك ـ بدون اشتراكات شهرية ـ معظمها يقع في أماكن تجمعات المهاجرين.

الروحانيات
في عام 1981 سُئل الدنماركيون عن عدد الذين يؤمنون بالتقمص فبلغت نسبتهم 13 ٪.
زادت النسبة إلى 17 ٪ في عام 1990، وبلغت 24 ٪ في عام 2022، وخاصة بين الشباب والنساء الذين يؤمنون بالتناسخ.
في عام 2022 ، تم تسجيل 40 مجموعة ومؤسسة تقدم اليوجا في مدينة آرهوس، و151 في مدينة كوبنهاغن. في البداية كان الأمر يتعلق بشكل أساسي بمدارس اليوغا، ولكن في السنوات الأخيرة انتشرت أيضًا مختلف الخدمات مثل المدارس المسائية ومراكز اللياقة البدنية وأيضا الكنائس.
تظهر المقابلات مع المنتسبين أن الغالبية يمارسون اليوغا لاكتساب الرفاهية الجسدية ومنع الإجهاد. حوالي 1/3 يرى اليوجا شيئًا روحيًا وأقل بقليل من 1/10 كشيء ديني. لا يرى كل 1/5 تقريبًا أن اليوغا شيء روحي على الإطلاق.
ممارسة اليقظة هي ممارسة شائعة أخرى لها جذور في الدين الشرقي. هناك 135 شركة ومؤسسة مسجلة في سجل cvr الدنماركي تستخدم اسم "اليقظة".

استطلاع عام 2016
في دراسة استقصائية بواسطة عينة تمثيلية أجرتها Epinion لصالح القناة التلفزيونية DR في عام 2016 أجاب 17 %أن الدين مهم في حياتهم. أجابت الغالبية العظمى من الدنماركيين أن الدين ليس مهمًا جدًا في حياتهم. يعتقد واحد فقط تقريباً من كل خمسة دنماركيين أن الدين مهم جدًا في حياتهم. يقول أحد الخبراء إن الكثير من الدنمركيين ليسوا مؤمنين ولا ملحدين، لكنهم ببساطة لا يهتمون.
يقول "بريان أرلي جاكوبسن" Brian Arly Jacobsenعالم اجتماع الأديان وأستاذ مشارك في جامعة كوبنهاغن إن علاقة العديد من الدنماركيين بالكنيسة تتعلق بالهوية الوطنية وليس الهوية الدينية.
الدين ليس بالضبط موضوع "حديث صغير" وكثير من الناس لا يفكرون به حتى إذا كانوا يؤمنون بشيء ما. الدين ليس مهمًا بشكل خاص بالنسبة للدنماركيين ، فنحن نعلم ذلك أيضًا من استطلاعات أخرى. ليس لها مكانة كبيرة في حياتنا ، كما يشرح جاكوبسن.
ولكن إذا نظرنا إلى آخر مسح مشابه لعلاقة الدنماركيين بالدين، نلاحظ انخفاضاً كبيراً في عام 2016. حيث إنه في استطلاع مشابه جرى عام 2008 لقيم الدنماركيين يسمى مسح القيمة، أجاب 30 % من الدنماركيين أن الدين مهم أو مهم جدًا في حياتهم.
وعلى الرغم من أن الدراستين غير قابلتين للمقارنة بشكل مباشر، إلا أنهما يعطيان إشارة إلى أن شيئًا ما قد حدث في نظرة الدنماركيين للدين.
من الجدير بالذكر أن استطلاع عام 2016 أظهر أن الكثيرين من المُستطلعين ما نسبته 30% استخدموا خيار الإجابة "لا أوافق ولا أعارض". وهذا يشير إلى أن معظم المشككين ليسوا مؤمنين ولا ملحدين، لكنهم ببساطة لا يهتمون. إنهم ليسوا متدينين ولا يبتعدون بشكل واضح عن الدين. أي أن هناك مجموعة من السكان تصر على أنها غير مبالية أو لن تتخذ موقفًا لأسباب أخرى.
ما مدى مسيحية الدنمركيين؟
سؤال صعب للغاية للدنماركيين. تشير "ماري فيجروب نيلسن" Marie Vigrupp Nielsen الأستاذة المشاركة في الدراسات الدينية في جامعة آرهوس، إلى أن هذا سؤال ليس الدنماركيون مستعدين للإجابة عليه تمامًا.
يجيب الكثيرون من الدنمركيين بحذر، لأنهم ليسوا مسيحيين بقوة ولا ملحدين معروفين، وهذا في الواقع يخبرنا بشدة عن علاقة الدنماركيين بالدين. لا يحب الدنماركيون المواقف الدينية القوية. إنه يشكل السمة الناعمة في هويتهم.
فعلى الرغم من أن 17% فقط من الدنمركيين يعتقدون أن الدين مهم في حياتهم، إلا أنه لا يزال هناك 76% من الشعب الدنمركي أعضاء الكنيسة الوطنية. قد يبدو الأمر متناقضًا في الواقع، لكن السبب في ذلك هو أن المسيحية الثقافية لا تُعتبر نفس الإيمان الشخصي.
في الأساس، يوجد في الدنمارك مستوى منخفض من التدين الشخصي، ولكن هناك مسيحية ثقافية مستقرة، وميل للناس لاستخدام مجموعة الرموز الدينية فيما يتعلق بالهوية الشخصية. حيث إن علاقة العديد من الدنماركيين بالكنيسة تتعلق بهوية وطنية وليس بهوية دينية.
التدين في الثقافة الدنماركية يقوم على قاعدة مفادها أنه من الأفضل الجلوس في الحانة والتفكير في الرب، بدلاً من الجلوس في الكنيسة والتفكير في البيرة والسيدات.




13
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك



الأدب الدنمركي بين الرومانسية والواقعية

كان Bakkehuset في "فريديركسبيرغ" Frederiksberg في أوائل القرن التاسع عشر
مكانًا للقاء الأوساط الأدبية والعلمية في أوائل القرن التاسع عشر. حيث اجتمع العديد من الأدباء والفنانين والعلماء حول صالون الزوجين "كما رابيك" Kamma Rahbek الفنانة الدنمركية وسيدة الصالون، وزوجها المؤرخ الأدبي والناقد "كنود لين رابيك" Knud Lyne Rahbek، حيث كان المنزل مسكناً لهما. في عام 1925 تم تحويل المنزل إلى متحف للعموم.
حوالي عام 1750 بدأ التنوير كموجة واسعة في الأدب الدنماركي، حملها وعي ذاتي برجوازي جديد قائم على أسس اقتصادية، وعلى تقدم العلوم التجريبية الجديدة. وضعت مؤسستان إطار العمل للشعر الجديد "المسرح الملكي" Det Kongelige Teater الذي تأسس عام 1748 وأصبح المؤسسة التعليمية والثقافية المركزية في الدنمارك حتى النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وجمعية النهوض بالعلوم الجميلة والمفيدة  بالنرويج تأسست عام 1759 Selskabet til de skiønne og nyttige Videnskabers Forfremmelse.
ضمن هذا الإطار تم تطوير الأفكار الجديدة بشكل أساسي حول العالم المنظم، ومفاهيمه الأخلاقية والمسيحية اللطيفة والإنسانية، وليس أقلها مُثُل التعليم اللغوي التي تطورت في "أكاديمية سورو" Sorø Akademi التي أعيد بناؤها من قبل وريث "هولبرج" Holberg الكاتب الدنمركي وأستاذ العلوم السياسية "ينس شيلديروب سنيدورف" Jens Schielderup Sneedorff الأديب التنويري مؤيد أسلوب النثر الجديد المستوحى من الفرنسية.
ظهر الشاعر ورجل الأعمال النرويجي "كريستيان براونمان تولين" Christian Braunmann Tullin باعتباره الشاعر الشهير للمملكة التوأم في ستينيات القرن التاسع عشر. وقد ظهر في ذاك العصر أيضًا شاعر الترنيمة "بيرجيت بوي" Birgitte Boye والكاتبة المسرحية والمترجمة الدنمركية "شارلوت دوروثيا بيل" Charlotte Dorothea Biehl مؤلفة المسرحيات وسلسلة من الحكايات الأخلاقية، وكذلك الفكاهي "يوهان هيرمان ويسل" Johan Herman Wessel.
أصبح منزلBakkehuset  مكانًا للقاء للناس من مختلف التيارات، على الحدود بين التنوير والرومانسية وبداية "العصر الذهبي".
 وحوالي عام 1800 أدت أفكار التنوير والحماس للثورة الفرنسية إلى نفي الكاتبين "مالثي كونراد برون" Malthe Conrad Bruun، و "بيتر أندرياس هيبرغ" Peter Andreas Heiberg.

ما قبل الرومانسية
التقت العديد من التيارات في كتابات "يوهانس إيوالد" Johannes Ewald ولكن قبل كل شيء قام بتشكيل وعي ذاتي شعري جديد، حيث أصبح الفن مصدرًا للهوية، بينما تحترق الذات الخاصة للشاعر كوقود يُستخدم لخلق الفن، كما حدث بالفعل لإيوالد نفسه، يصور هذا الأمرفي مذكراته بكتابيْ "الحياة" Levnet و"الآراء" Meeninger عام 1774م وما تلاهما.
بصفته شاعرًا غنائيًا قام إيوالد بضبط اللغة لجعلها سامية، وبصفته كاتبًا مسرحيًا تطرق إلى الصراعات الذاتية بين الشعور الذاتي والنظام في "آدم وإيوا" Adam og Ewa عام 1769م. وفي "موت بالدر" Balders Død عام 1773/75 وحصل على أكبر تقدير في ذلك الوقت من خلال مسرحية "المهرجان الوطني للصيادين" nationale festspil Fiskerne والتي تمجد القوة الأخلاقية للشعب.
أعطى الشاعر الدنمركي "جينس باجيسين" Jens Baggesen مرحلة ما قبل الرومانسية لمسة عالمية. كتب كتاب السفر الرائع واعترافات الشاعر "المتاهة" Labyrinten عام 1972م، يتحدث عن الحالة المزاجية لثورة قلب الشاعر والثورة السياسية. كان ثلث كتاباته باللغة الألمانية، بما في ذلك كتاب "بارثينا أو رحلة عبر جبال الألب" Parthenaïs oder die Alpenreise عام1802م الذي لاقى نجاحاً أوروبياً واسعاً. وهو عبارة عن مقياس سداسي الشكل امتد بين الشاعر الألماني الشيق "يوهان هاينريش فوس" Johann Heinrich Voss والحماس الشعري المحموم لما قبل الرومانسية.

الرومانسية والعصر الذهبي
تأسس الأدب الرومانسي في الدنمارك بعد عام 1800 مباشرة، وحصل على صدى خاص خلال الحروب النابليونية. سرعان ما التقط الأدب الدنماركي أفكار وموضوعات الرومانسية الألمانية. استوحى الشاعر "شاك فون ستافيلت" Schack von Staffeldt الإلهام الرومانسي من إقامته لعدة سنوات في ألمانيا في تسعينيات القرن الثامن عشر جزئياً، حيث أتى عالم الطبيعة والفيلسوف "هنريك ستيفنز" Henrik Steffens إلى كوبنهاغن عام 1802 ونشر الأفكار في محاضرات في السكن الجامعي Elers Kollegium.
 أيقظ الشاعر "آدم أولينشلاغر" Adam Oehlenschläger الشاعرية الرومانسية وأصبح الشخصية الرئيسية الفاعلة للرومانسية الدنماركية المبكرة.
 تلاه القس والشاعر والفيلسوف الدنمركي "نيكولاي فريدريك سيفيرين غروندفيج" Nikolaj Frederik Severin Grundtvig. والأديب الطبيب الدنمركي "كارستن هوش" Carsten Hauch.  في حين أن الروائي والشاعر الدنمركي "برنارد سيفيرين إنجمان" Bernhard Severin Ingemann اتبع مساراته الخاصة، التي هي أقرب إلى "ستافيلت" Staffeldt والرومانسية الألمانية الأكثر راديكالية.
 تطوروا جميعًا في أوقات مختلفة بعيدًا عن الرومانسية الأصلية ونحو النقد الوطني والشعبي والتاريخي والمعاصر في التراتيل، والقصص القصيرة، واليوميات، والروايات.
كان للرومانسية بطريقتها الخاصة تأثير طويل الأمد في الدنمارك، حيث اختلطت عبادة الشعر كقوة حياة مع المعتقد الديني المسيحي في الأبدية وقدمت المادة الخام لاعترافات لاهوتية للشعراء في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ثم أسست الرومانسية لغة شعرية متأثرةً بلغة الأغنية الشعبية، والتي أصبحت تميز أجزاء كبيرة من الشعر الدنماركي حتى حوالي عام 1900. ولكن في شكلها الحقيقي أصبحت الرومانسية في حد ذاتها فترة فاصلة قصيرة العمر. فالثقافة البرجوازية من نهاية القرن الثامن عشر شكلت النظرة الأساسية للحياة، التي يغديها بشدة التأثير الواسع للأديب الألماني "يوهان فولفغانغ فون غوته" Johann Wolfgang von Goethe.
تشكل النزعة الإنسانية والمسيحية، والأخلاق، والرومانسية المخففة لغوته، العناصر الرئيسية لما يسمى "العصر الذهبي" نظرًا للثراء الاستثنائي لجميع الفنون في ذلك الوقت.
بينما كان الشاعر الدنمركي "آدم جوتلوب أولينشلاغر" Adam Gottlob Oehlenschläger الشخصية الرائدة في الرومانسية الفعلية، كان الكاتب المسرحي والناقد "يوهان لودفيج هيبرغ" Johan Ludvig Heiberg الشخصية الرائدة في تحول الرومانسية نحو الحياة اليومية ونحو الموضوعات الأكثر توجهاً في علم النفس المثير للاهتمام حينذاك.
أصبحت الدائرة حول الزوجين المتزوجين "يوهان لودفيج" و"يوهان لويز هايبرغ" عاملاً ثقافيًا مهيمنًا في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر. ضمت الدائرة والدة يوهان لودفيج هيبرغ "توماسين جيلمبورغ"  Thomasine Gyllembourg التي اكتسبت من خلال قصصها اليومية ذات الشعر الأدبي والديني المعتدل والأخلاقي، شعبية كبيرة في ذلك الوقت وأصبحت مثالًا لروح العصر التي كان يُطلق عليه "بيدرمير" biedermeier، وهي حقبة في أوروبا الوسطى بين عامي 1815 و1848 نمت خلالها الطبقة الوسطى من حيث العدد وتشاركت الفنون المشاعر المشتركة. بدأت مرحلة بيدرمير مع مؤتمر فيينا في نهاية الحروب النابليونية عام 1815 وانتهى ببداية ثورات عام 1848.

 تأسيس واقع جديد
شهدت فترة عشرينيات والثلاثينيات القرن التاسع عشر اضطراباً في الأدب، تحت تأثير التيارات الأوروبية وبدعم من الميول الليبرالية في الاقتصاد والفكر السياسي التي فشل الاستبداد الراحل في قمعها. تم ترديد الحداثة في الكلمات المركزية للشعراء الإيروتيكيين مثل "كريستيان وينتر"  Christian Winther و"إميل أريستراب" Emil Aarestrup الذي أدخل الحداثة أيضًا في قصائده السياسية.
كان ذاك الوقت عبارة عن فترة انتقالية  "الفترة السياسية"، شهدها عالم اللاهوت والفيلسوف والشاعر الدنمركي "سورين كيركيغارد"  Søren Kierkegaard وكان من بين الشخصيات الرئيسية في ذلك الوقت الشاعر الدنمركي "ستين ستينسن بليشر"  Steen Steensen والشاعر والفيلسوف الدنمركي "نيكولاي فريدريك سيفيرين غروندفيج" Nikolaj Frederik Severin Grundtvig، والأديب الدنمركي الشهير "هانز كريستيان اندرسن" Hans Christian Andersen.
 تمكن هؤلاء الأدباء سوياً من تجاوز حدود المجتمع الشمولي البائد، وتم تناول طرق الكتابة والقضايا وتصورات الجمهور التي بشرت بأنماط أدبية جديدة. أصبحت قصص بليشر القصيرة الواقعية أساساً للواقعية في حقبة لاحقة.
قام  غروندفيج بمزيج من الحماس للتنوير والمسيحية البدائية والإيمان الرومانسي بالروح والكلمة الحية (الله) بإصلاح الكنيسة والجماعة من خلال حركة النهضة التي بدأها. لقد ترك بصمة أساسية في فهم الذات الدنماركية، وتصور المدارس والثقافة العامة من خلال الحركة الجامعية التي انبثقت عنه.
شكلت الفترة المتبقية من القرن الأساس لتشكيل هوية الفلاحين حتى استيلائهم السياسي على السلطة في عام 1901، وظهر ذلك بشكل أكبر في الثقافة الديمقراطية الاجتماعية في القرن العشرين.
 اخترق أندرسن في مسار حياته حواجز الحكم الأوتوقراطي الجامد البرجوازي المتأخر في الحكاية الخيالية، وهو نوع شائع في الأصل من الأدب الذي حوله أندرسن إلى نوع واقعي وغريب الأطوار ومعاصر من نوعه. عبّر أندرسن عن التجارب المتنوعة والمعقدة التي جعلته عالمًا نفسيًا حادًا وخبيراً في التفاعل مع الناس، ولكنه أيضًا صاحب روح دينية غير أرثوذكسية.
وقف أندرسن على حافة عصره من جوانب عديدة، متحمسًا للتقنية الجديدة، مؤمنًا بالتقدم والظروف الأكثر إنسانية.
 لم يرد كيركيغارد أن يعرف عن "مشهد الظواهر الخارجية" لكنه وقف أيضًا على حدود الفترة، حيث شدد موقفه القائم على اعتبار أن سلوك الفرد مزيج من المثالية المسيحية والواقعية النفسية، وأشار إلى الواقع باعتباره المكان الذي يجب قياس حياة الفرد فيه.
في السنوات التي تلت إلغاء الحكم المطلق في عام 1849، بدأ تأسيس مجتمع جديد ترك آثاره الواضحة. تمت الدعوة إلى مناقشة أفكار جديدة، وفي مقدمتها النقاش حول تحرير المرأة. فظهرت الأديبة والحقوقية الدنمركية "ماتيلد فيبيجر" Mathilde Fibiger التي دافعت عن حقوق المرأة من خلال روايتها الأولى "كلارا رافائيل، اثنا عشر حرفًا" Tolv Breve التي نشرت عام 1851. القصة عبارة عن سيرتها الذاتية جزئيًا. ظهر حينذاك أيضاً العديد من الكتّاب والأدباء ساهموا في تشكيل ملامح الهوية الروحية لتلك الفترة، مثل الروائية الدنمركية "مير آرون جولدشميت" Meïr Aron Goldschmidt. والكاتب والسياسي الدنمركي "هانز إيجيد شاك" Hans Egede Schack.

الاختراق الحديث
اندلع أدب جديد وتشكلت جبهة ثقافية وأيديولوجية راديكالية جديدة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر لتظهر أخيرًا متطورة تمامًا نحو عام 1880. لقد كانت حركة شمالية مشتركة كان روّادها الأساسيون هم  "جورج وإدوارد براندس" Georg Brandes، Edvard Brandes. كان الاختراق الحديث كما أطلق عليه الناقد والباحث الدنمركي جورج براندس الذي حصل عام 1883، وثيق الصلة بالتصنيع والعلوم الطبيعية الجديدة والاضطرابات السياسية التي أحاطت بتفكيك بقايا المجتمع الاستبدادي.
بلغت العملية ذروتها في ديكتاتورية الحُكم حتى عام 1901، وهي الفترة المؤقتة التي أصبحت نقطة البداية لكتابات "هنريك بونتوبيدان" المبكرة، وهو الأديب الدنمركي الذي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1917 مع الشاعر والروائي الدنمركي " كارل جيليروب" Karl Gjellerup.
نظرًا لأن العقود التي سبقت بداية القرن العشرين كانت فترة من الاستيطان وإعادة التنظيم، كان لا بد من أن يتميز الاختراق الحديث في الدنمارك بشكل خاص بمواجهة ثقافية مع الماضي. احتل هذا الأمر مكانة في الأدب الدنمركي أكبر من التطورات الجديدة في المجتمع والصناعة والتكنولوجيا، والتي كان الشعراء غالباً ما يغلقون أعينهم عنها.

ظهرت في تلك المرحلة رواية "نيلز لين" Niels Lyhneللروائي الدنمركي  "جينس بيتر جاكوبسن" Jens Peter Jacobsen. وأصدر الأديب الدنمركي "هيرمان يواكيم بانغ" Herman Joachim Bang أولى رواياته باسم "أقارب بلا أمل" Haabløse Slægter عام 1880.
تعرضت الكنيسة المسيحية التقليدية والأخلاق المدنية، وخاصة الأخلاق الجنسية للهجوم، بينما دُفعت المفاهيم الداروينية إلى الأمام باعتبارها وجهة نظر نموذجية في ذلك الوقت.
حدث الاختراق الحديث في المذهب الواقعي، نحو الانغماس الجديد في الحياة الفردية المستوحى جزئيًا من الراديكالي الوجودي "فريدريك نيتشه" Friedrich Nietzscheالذي قدمه "جورج براندس" Georg Brandes في عام 1888.
براندس الذي اشتهر بنقده المسرح الأوروبي وليس فقط المسرح الدنماركي أو الاسكندنافي، مع ترجمته لكتاب "ستيوارت ميل" Stuart Mill حول إخضاع المرأة أعطى دفعة للنقاش حول تحرير المرأة، ولكن الكاتبات من النساء في ذلك الوقت "أمالي سكرام" Amalie Skram، و "إرنا جويل هانسن" Erna Juel-Hansen وآخرين، أسسوا بأنفسهم اختراقًا حديثًا بواسطة كتباباتهم.
تم توفر الظروف المناسبة في جميع أنحاء الدنمرك من أجل استيلاء الفلاحين على السلطة في عام 1901 من خلال رسائل ما بعد الرومانسية لهذه الطبقة الاجتماعية، والتي كانت تؤسس وعيها الذاتي الثقافي. حيث تم وضع الأساس للأدب الفلاحي المميز والشامل للغاية في الدنمارك من عام 1900 حتى عام 1950.
منذ الاختراق الحديث، أصبحت الراديكالية سمة مميزة للحياة الثقافية والسياسية الدنماركية حتى يومنا هذا. وفي الوقت نفسه، كان الاستقطاب الأيديولوجي يعني أنه منذ تفكك الثقافة الوحدوية السلطوية المتأخرة، ظهرت صورة للعديد من الثقافات والآداب جنبًا إلى جنب. إنها سمة ظلت حتى يومنا هذا أيضاً.

رمزية أدب نهاية القرن
في مطلع القرن العشرين تطور الارتباط بالواقعية إلى جبهة عريضة لشعر الطبيعة، وهو أكبر اختراق شامل لشعر الطبيعة في الدنمارك. تحقق عن طريق الشعراء "جوهان يورجنسن"  Johannes Jørgensen، و"فيجو ستوكينبيرج" Viggo Stuckenberg، و"سوفوس كلاوسن"  Sophus Claussen، و"لودفيج هولشتاين" Ludvig Holstein، و"ثوجر لارسن" Thøger Larsen.
كانت أيضًا فترة تم فيها تعميق التركيز على الفرد، الذي ميز أدب المذهب الطبيعي/ الواقعي، عبر النظرة ذاتية مرتبطة بالمزاج (غالبًا ما تكون متشائمة) للعالم الخارجي، مرتبطة بإعادة التوجيه الديني، مثل كتابات "ينس يوهانس يورجنسن" Jens Johannes Jørgensen الذي اشتهر بكتابة السير الذاتية للقديسين الكاثوليك. وكتابات الناقد "هيلج رود" Helge Rode.
في مطلع القرن العشرين ظهرت رواية "سقوط الملك"  Kongens Fal للروائي الدنماركي "يوهانس جنسن" Johannes Jensen. التي نُشرت في ثلاثة أجزاء من عام 1900 إلى عام 1901. وتروي قصة ميكيل ثورجرسن والتشابك الاجتماعي الذي جعله في خدمة الملك "كريستيان الثاني" ملك الدنمرك Christian II of Denmark.
كما ظهرت كتابات الأديب الدنمركي اليساري "مارتن أندرسن نيكسو" Martin Andersen Nexø مثل مجموعته القصصية "الظلال"  Skygger التي صدرت عام 1898م. وروايات مثل "بيل الفاتح" Pelle Erobreren، ورواية "طفلك الإنساني" Ditte Menneskebarn، ورواية "رش" Dryss. ورواية "طريق المعاناة" Lidelsens vej للروائي والفيلسوف الدنمركي "إرنستو دالغاس" Ernesto Dalgas، وهي رواية تربوية فلسفية تحاول شخصيتها الرئيسية أن يجد السلام الداخلي مع نفسه، من خلال السلطات وأنظمة الفكر القائمة.




14
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك



تقويض السلطات والأيديولوجيات
ما بعد الحداثة.. هل هي الحرية المطلقة أم المسؤولية الفردية؟

في عام 1967 أسس فنان البوب الأمريكي "آندي وارهول" شركة للنشر المطبوع، ومن خلالها نشر سلسلة من عشرة حافظات مطبوعة بالشاشة الحريرية حول موضوعات حملت توقيعه. كانت صور مارلين مونرو هي المشروع الأول. وكلها تُظهر نفس الصورة لنجمة السينما مارلين مونرو في الخمسينيات من القرن الماضي. واحدة حملت الصورة الفوتوغرافية، وبقية الصور مختلفة عم بعضها بدرجات متباينة من الألوان. بعضها برّاق، وبالآخر باهت.
 حول التكرار قال وارهول: "كلما نظرت إلى نفس الشيء بالضبط، كلما تلاشى المعنى، وكلما شعرت بشكل أفضل، ولكن أكثر فراغًا".
تعد النسخ العشر لمارلين مونرو التي رسمها التشكيلي وارهول مثالاً على تمرد ما بعد الحداثة ضد السلطات والأيديولوجيات وفكرة التقدم الحديث.
ما بعد الحداثة هو التمرد على السلطات والأيديولوجيات وفكرة التقدم الحديث. إنه الانقسام وليس الكمال، غير المكتمل وليس الكامل، والنسبي وليس المطلق. إنه بريق ومكياج "ديفيد بوي" وألغاز "بول أوستر" البوليسية بدون إجابات واضحة، ونسخ "آندي وارهول" العشر لمارلين مونرو. تتجنب ما بعد الحداثة وجود الأصيل والصادق والنقي، وبدلاً من ذلك تزرع النسخ والسخرية والهجين.
ما بعد الحداثة سلس مثل ثعبان البحر وقد أعطى القليل منهم تعريفًا واضحًا للمصطلح. يعتقد البعض أن ما بعد الحداثة هو فصل قد اكتمل، والبعض الآخر يعتقد أننا ما زلنا فيه، ومن ثم هناك من يعتقد أنه لم يكن موجودًا وأن ما نسميه ما بعد الحداثة هو مجرد بديل للحديث.
بعد أن نشر الفيلسوف الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار" "معرفة مجتمع ما بعد الحداثة" في عام 1979 بدأ الناس يتحدثون بجدية عما بعد الحداثة في الثمانينيات.
ما هو ما بعد الحداثة؟
"Post" هو المصطلح اللاتيني لـ "بعد"  وبالتالي فإن ما بعد الحداثة postmodern تعني حرفياً "ما بعد الحداثة". تتميز ما بعد الحداثة بحقيقة أننا انتقلنا من مختلف الأيديولوجيات والمذاهب التي تميز المجتمع الحديث، خاصة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مثل: التصنيع، والقومية، والشيوعية، والاستعمار، وما إلى ذلك، بحيث تصبح متشككا.
هذا هو السبب في أن "ألان ماكفارلين" الأستاذ البريطاني للأنثروبولوجيا والتاريخ، يسمي أيضًا ما بعد الحداثة "عالمًا بلا رؤية للعالم". في عالم ما بعد الحداثة  لم يعد الفرد ينمو بالضرورة ويأخذ نظرة العالم من والديه أو طبقته الاجتماعية أو الدولة، ولكنه يقرر بنفسه كيف يريد أن يعبر عن نفسه، لأن تعبيرنا يساوي الهوية. بعبارة أخرى، فإن الفرد ما بعد الحداثي هو مؤلفه الخاص ويمكنه كتابة حياته وهويته عبر الطبقة الاجتماعية، والعرق، والحدود الوطنية، والتاريخ، والتقاليد، والأسرة، وما إلى ذلك. لذلك يُطلق على ما بعد الحداثة أيضًا اسم عصر الفردية، لأنه فيما بعد الحداثة يقوم الفرد نفسه ببناء عالمه.
بدأت مناقشة ما بعد الحداثة بجدية في الثمانينيات، بعد أن نشر الفيلسوف الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار" "المعرفة ومجتمع ما بعد الحداثة" عام 1979، وغالبًا ما يشار إلى هذا العمل لشرح ما يدور حول ما بعد الحداثة. بدلاً من النظرة العالمية  يستخدم ليوتار مصطلح "ما وراء السرد" أو "السرد الكبير"، وهو النظرة العالمية أو إطار الفهم الذي ينظم الطريقة التي ندرك بها العالم. وبعبارة أخرى إن السرد الكبير يعطينا زوجًا من النظارات التي تلون نظرتنا إلى العالم. السرد الكبير ـ على سبيل المثال ـ هو سرد العلم مما يجعل العالم بطلاً، لأنه قادر على شرح العالم والتحكم فيه من خلال العقلانية.
 هذا هو الشيء العظيم. وهكذا يخلق السرد صورة للعلم الطبيعي باعتباره الطريق إلى الحقيقة المطلقة حول العالم. في مجتمع ما بعد الحداثة تحول الإيمان بالسرد الكبير إلى شك: لا توجد حقيقة واحدة حول العالم، ولكن هناك العديد من الحقائق المختلفة مثل الناس.
في استعراضه لنظرية ما بعد الحداثة ليوتارد والمجتمع ما بعد الحداثي" يشير "نيلز بروجر" إلى أن ليوتار أعاد تعريف ما بعد الحداثة لاحقًا ليس فقط كحقبة - أي فترة في التاريخ - بعد الحداثة، ولكن أيضًا للدلالة على طريقة حاسمة لفهم العالم الحديث. بدلاً من أن تكون فترة زمنية بعد الحداثة، فإن ما بعد الحداثة أقرب إلى موقف نقدي داخل العصر الحديث.

ما هي ما بعد الحداثة؟
باستخدام "ما بعد الحداثة" يشير المرء إلى الحالة الاجتماعية الشاملة، والتي تشمل الأنماط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بينما يشير استخدام "ما بعد الحداثة" إلى التيارات في الأدب والفن والعمارة.
غالبًا ما يتم استخدام مصطلح ما بعد الحداثة بدلاً عن التجديد، قد يكون هذا مرتبطًا بحقيقة أن الناس في العلوم الاجتماعية قد تحولوا إلى حد كبير إلى الحديث عن "الحداثة المتأخرة" بدلاً من "ما بعد الحداثة" في وصف مجتمعنا ما بعد الصناعي اليوم.

كيف تختلف ما بعد الحداثة عن الحداثة؟
وصف عالم الاجتماع البولندي البريطاني "زيجمونت باومان" ما بعد الحداثة بأنها عالم حديث نشأ وخاب أمله. حيث تتميز الحداثة بالوحدة، تتميز ما بعد الحداثة بالتشرذم والتناقضات. إذا تخيل المرء أن الحديث هو محاولة لبناء برج بابل - أي فكرة وجود حقيقة عالمية ولغة واحدة توحد البشرية - فإن ما بعد الحداثة من ناحية أخرى هي فكرة أن برج بابل هذا سقط على الارض. إن فكرة الحديث مجرد وهم محطم يعد برج بابل. وفقًا لتعريف ليوتارد لما بعد الحداثة أنها سردًا كبيرًا فقد فجأة جاذبيته وشرعيته.
يمكنك أيضًا تفسير العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة كطريقتين مختلفتين للسفر: إذا كنت تفكر في الحياة الحديثة على أنها رحلة نحو هدف ثابت - فكلما اقتربت من برج بابل كلما اقتربت من الحقيقة العالمية. وفقًا لـ "زيجمونت بومان" فإن الوجود ما بعد الحداثي هو رحلة لا نهاية لها، وتجول دون هدف ثابت. الواقع متغير ومشتت ومعقد بدون معايير موضوعية لماهية الحياة الجيدة، وبالتالي فإن الأمر متروك للفرد أن يثق في حكمه ويختار طريقه.

الخلفية والتوضيح
فكرة ما بعد الحداثة هي فكرة ما بعد البنيوية. حركة في العلوم الإنسانية والفلسفة في الستينيات مع شخصيات مشهورة مثل الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو".
متى نشأ مفهوم ما بعد الحداثة؟
بدأ المصطلح في الازدهار بالفعل في الجامعات الأمريكية في الخمسينيات - خاصة في جامعة كولومبيا في نيويورك - في محاولة لوصف المجتمع ما بعد الصناعي. استخدم عالم الاجتماع "تشارلز رايت ميلز" هذا المصطلح في سلسلة من المحاضرات في الخمسينيات من القرن الماضي، في كلية الأعمال في كوبنهاغن وأماكن أخرى كمصطلح للتمرد ضد الحداثة والكلية - أي مفهوم الوحدة.
في عام 1960 استخدم الأستاذ بجامعة هارفارد "هاري ليفين" المصطلح في مقال بعنوان "ما هي الحداثة" وبالتالي أشار إلى أنه يرى الحداثة على أنها فصل نهائي. لقد دخل العالم الآن في حالة ما بعد الحداثة. يظهر هذا من مقال حول المفهوم الذي كتبه "هانز هوج" المحاضر في علم الجمال والتواصل في جامعة آرهوس الدنمركية.
ولكن مع نشر "المعرفة ومجتمع ما بعد الحداثة" للفيلسوف الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار" في عام 1979 بدأ الناس يتحدثون حقًا عما بعد الحداثة. ومنذ ذلك الحين أصبح تعريف ليوتارد مركزيًا: الشك تجاه الروايات الكبرى.
وفقًا لـيوتارد أنه في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، دخل المجتمع الغربي عصر ما بعد الحداثة حيث تغير المجتمع من كونه صناعيًا إلى ما بعد صناعي. يتميز مجتمع ما بعد الصناعة على نطاق واسع باقتصاد تجاري تحول من الإنتاج الصناعي إلى كونه أكثر تركيزًا حول الخدمات والتجارة، بما في ذلك تداول الأسهم. من وجهة نظر ليوتارد إنها علامة على أن الليبرالية قد انتصرت على المذاهب الأخرى، ودخلت مرحلة جديدة حيث الاقتصاد الاجتماعي هو أكثر من الاستهلاك من الإنتاج.
يعتبر مفهوم ما بعد الحداثة بين المثقفين اليوم كلمة طنانة تنتمي بشكل خاص إلى الثمانينيات والتسعينيات. وهكذا استخدم عالم الاجتماع "زيجمونت باومان" مصطلح ما بعد الحداثة في العديد من أعماله، ولكن في سنواته الأخيرة استبدلها بمصطلح "الحداثة السائلة"، تمامًا كما استخدم المثقفون الآخرون بالفعل في الثمانينيات مصطلح "الحداثة المتأخرة" فيما يتعلق بوصف الحالة المجتمعية.

ما هي الخلفية النظرية لما بعد الحداثة؟
فكرة ما بعد الحداثة هي فكرة ما بعد البنيوية. كانت ما بعد البنيوية حركة في العلوم الإنسانية والفلسفة  خاصة في فرنسا في الستينيات مع شخصيات مشهورة مثل "جاك دريدا" و"ميشيل فوكو" و"رولان بارت ". تخلصت من الفكرة البنيوية القائلة بأن الهياكل الاجتماعية والنفسية واللغوية التي تسيطر بشكل غير مرئي الأفراد وتربطهم معًا في مجتمع  مستقرون وثابتون. مع ليوتارد يمكنك القول إن البنيوية هي فكرة أن هناك سردًا رائعًا لهيكله تتدخل أفكارنا في سلوكنا، وبالتالي تعمل كإطار عمل مشترك للفهم.
فيما يتعلق بهذا التعريف للبنيوية، فإن ما بعد الحداثة هي فكرة ما بعد البنيوية، لأن فضاء الفكر ما بعد الحداثي محدد بدقة من خلال التشكك في جميع المطلق والمبادئ العالمية أو الروايات الكبرى التي تساعدنا في فك تشفير العالم. وفقًا لما بعد الحداثيين لا يمكننا - كما اعتقد البنيويون - الكشف عن حقيقة الوجود البشري بعقلنا، لأنه حتى فكرة الخير والحقيقة والواقعية والمعنى يتم بناؤها وبالتالي هي غير مستقرة.
التفكيك هو مصطلح آخر وثيق الصلة بما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. كان الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا هو الذي استخدم الكلمة في الستينيات لوصف وكشف الأنظمة الثنائية في لغتنا التي تبني أفكارنا والتي هي متأصلة جدًا لدرجة أننا لم نعد نشكك فيها، على سبيل المثال الروح والمادة، ذكر وأنثى، داخلي وخارجي، معنى وعلامة إلخ.
الأنظمة الثنائية هي تسلسل هرمي للسلطة حيث يكون المصطلح الأول هو السائد. وفقًا لمقدمة "هانز هايج" للتفكيك في "مناهج الأدب" فإن التفكيك لا يعني التدمير ولا البناء، ولكنه يشير بدلاً من ذلك إلى مواجهة مع التسلسلات الهرمية للسلطة في لغتنا. المواجهة ليست ببساطة عن طريق عكس المصطلحين، لأنك ستحصل ببساطة على تسلسل هرمي جديد للسلطة، ولكن من خلال اتخاذ موقف نقدي واستجواب تجاه النظام. على سبيل المثال العلاقة بين الرجل والمرأة في نظرية الكوير.
في عام 1990 كتبت المؤيدة الأمريكية لما بعد البنيوية والنسوية "جوديث بتلر" كتاب "مشكلة بين الجنسين" حيث انتقدت الحركة النسوية لإدامة المعارضة بين الرجال والنساء من خلال رؤية الجنس البيولوجي على أنه نقطة البداية للهوية الأنثوية. وفقًا لجوديث بتلر لا ينبغي تصنيف الرجال والنساء فيما يتعلق بجنسهم البيولوجي على الإطلاق، لأنه يجبرهم تلقائيًا على هوية جنسية معينة.

ما الذي يميز الفرد والمجتمع ما بعد الحداثي؟
كتب الفيلسوف الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار" عن الفرد في مجتمع ما بعد الحداثة مشيرًا إلى أن الفرد ما بعد الحداثي يجب أن يبني هويته الخاصة: "الجميع متروك لنفسه". عندما لا يكون هناك أي سرد كبير للعالم يمكن للمرء أن يتولى زمام الأمور. عندما لا يؤمن المرء بسلطة أو أيديولوجية، عندما لا يكون هناك نموذج يحتذى به يطمح إليه، يجب على المرء أن يبدأ في إنشاء عالمه الخاص وهويته الخاصة.
وفقًا لـ "آلان ماكفارلين" فإن ما بعد الحداثة هو تقويض كل السلطات - الآباء والمعلمين والخبراء والسياسيين والسلطات الدينية - وهو ما يعني في الوقت نفسه أن الفرد ما بعد الحداثي يصبح مؤلف ذاته يكتب روايته الخاصة، ولكن أيضًا " يعتني بالأطباق المختلفة". بعبارة أخرى، يستعير الفرد ما بعد الحداثي ويبتكر هويته. يكتب ليوتارد عن هذا أن الفرد موجود في عقد مختلفة في شبكة من العلاقات. لم يعد هو أو هي بالضرورة مخلصًا لفئته، أو لهويته الوطنية، أو عائلته، أو لجنسه.
 كتبت المنظرة الأدبية الأمريكية "جوديث بتلر" في عام 1990 كتاباً بعنوان "مشكلة الجندر"  حيث تخلصت من فكرة وجود هوية تبدأ من الجنس البيولوجي. الجنس هو ما نقوم به - يجعلنا - لا علاقة له أبدًا ببيولوجيتنا.
وبالتالي فإن هوية الفرد ما بعد الحداثي ليست بالضرورة متجذرة بقوة في مجتمع ثابت أو يتعلق بمبدأ ثابت. يمكن القول إن وجود ما بعد الحداثة مجزأ وعابر وليس وحدة ثابتة. إن معرفتنا بالعالم الآن لا تأتي فقط من الراديو والصحف، ولكن أيضًا من القنوات التي لا تعد ولا تحصى لوسائل الإعلام التلفزيونية، وفي السنوات الأخيرة أيضًا من الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث لا تكون فقط متلقيًا للمعلومات، ولكن أيضًا أنت بنفسك جزءً من إنتاجه.
في حين أن القصة الإيجابية لما بعد الحداثة هي أنه يمكن للفرد أن يعتني بنفسه بحرية من تقلب الحياة، فإن الجانب المظلم لما بعد الحداثة على العكس من ذلك، هو أيضًا النسبية الساحقة والعدمية، التي تذيب كل القيم والتهدد بلا معنى.
من ناحية أخرى، تعد ما بعد الحداثة تمجيدًا للحرية المطلقة للفرد، ومن ناحية أخرى تعني المسؤولية الفردية عن خلق حياة المرء الخاصة، والتي قد تبدو بالنسبة للبعض غير قابلة للإدارة. بعبارة أخرى، يمكن أن يكون ما بعد الحداثة عبئًا قد يبدو ساحقًا على الفرد.




15
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


تشينوا أتشيبي..
الأب المؤسس للرواية الأفريقية


يعتبر العديد من النقاد "تشينوا أتشيبي" Chinua Achebe أشهر روائي أفريقي، وأكثر الكتاب الأفريقيين نفوذاً في جيله، والأب المؤسس للرواية الأفريقية. قدّمت روايته الأولى "الأشياء تتداعى" التي نشرها في عام 1958 تعارضاً مع الروايات الأوروبية عن الأفارقة، وشكلت تحدياً أيضًا للافتراضات التقليدية حول شكل ووظيفة الرواية. لقد أنشأ ابتكاره لمزيج هجين يجمع بين الأنماط الشفوية والأدبية، وإعادة تشكيله للغة الإنجليزية لنقل أصوات ومفاهيم "الإيغبو" Igbo نموذجًا وإلهامًا للروائيين الآخرين في جميع أنحاء القارة الأفريقية.
برعت كتاباته بتقديم القراء في جميع أنحاء العالم إلى الاستخدامات الإبداعية للغة والشكل، بالإضافة إلى الروايات الواقعية الداخلية للحياة والتاريخ الأفريقي الحديث. ليس فقط من خلال مساهماته الأدبية، ولكن أيضًا من خلال مناصرته للأهداف الجريئة لنيجيريا وأفريقيا، ساعد أتشيبي في إعادة تشكيل تصوّر التاريخ الأفريقي والثقافة والمكانة الأفريقية في العالم.
تُقدم الروايات الخمس والقصص القصيرة التي نشرها بين عامي 1958 و1987 سردًا لتاريخ نيجيريا المضطرب منذ بداية الحكم الاستعماري البريطاني. وأنشأت مجموعة من الشخصيات النابضة بالحياة التي تسعى بطرق مختلفة للسيطرة على تاريخها. وبصفته محررًا مؤسسًا لسلسلة كتاب "هاينمان الأفريقيين المؤثرين" influential Heinemann African writers  أشرف على نشر أكثر من مئة نص جعلت الكتابة الجيدة للأفارقة متاحة في جميع أنحاء العالم بطبعات ميسورة التكلفة.

طفولة المدرسة التبشيرية
ولد "ألبرت تشينالوموغ أتشيبي" born Albert Chinụalụmọgụ Achebe بتاريخ 16 نوفمبر 1930 في قرية "أوجيدي"  Ogidi بشرق نيجيريا، وبعد حوالي 40 عامًا من وصول المبشرين لأول مرة إلى المنطقة. أطلق عليه والديه الذين تحولوا إلى المسيحية اسم ألبرت تشينوالوموغو. في وقت لاحق وبمقال عن سيرته الذاتية بعنوان الملكة فيكتوريا ملكة إنجلترا، أخبر كيف أنه مثل الملكة فيكتوريا فقد ألبرت، لأن القومية المتنامية في نيجيريا لم تغب عن أتشيبي، فقام في الجامعة بإسقاط اسمه الإنجليزي "ألبرت" لصالح الاسم الإيغبوي "تشينوا"
كتب أن نشأته كمسيحي سمحت له بمراقبة عالمه بشكل أكثر وضوحًا. أصبحت المسافة الطفيفة عن كل ثقافة ليست انفصالًا، بل تجمعًا مثل الخطوة الخلفية الضرورية التي قد يتخذها المشاهد الحكيم من أجل رؤية اللوحة القماشية بشكل ثابت وكامل.
ومع ذلك، مُنع الأطفال في المدرسة التبشيرية المحلية من التحدث بلغة الإيغبو، وتم تشجيعهم على نبذ جميع التقاليد التي قد تكون مرتبطة بأسلوب حياة "وثني". ومع ذلك، فقد استوعب أتشيبي الحكايات الشعبية التي روتها له والدته وأخته الكبرى، وهي القصص التي وصفها بأنها "ذات جودة عميقة للسماء والغابات والأنهار".
عندما كان في الرابعة عشرة من عمره، تم إرسال أتشيبي إلى كلية الحكومة الاستعمارية المرموقة في أومواهيا، حيث كان من بين زملائه في المدرسة الشاعر "كريستوفر أوكيجبو" Christopher Okigbo صديقه المقرب. في عام 1948 حصل على منحة دراسية لدراسة الطب فيما أصبح يعرف بجامعة "إبادان" University of Ibadan ومع ذلك، بعد عامه الأول أدرك أن الكتابة هي أكثر ما تروق له، وانتقل إلى درجة علمية في الأدب الإنجليزي والدراسات الدينية والتاريخ.
على الرغم من أن مناهج اللغة الإنجليزية اتبعت عن كثب المناهج البريطانية، فقد قدم المعلمون أيضًا أعمالًا اعتبروها ذات صلة بطلابهم النيجيريين، مثل روايات "جويس كاري" Joyce Cary الأفريقية وقلب الظلام لـ "جوزيف كونراد" Joseph Conrad لكن مثل هذه الأعمال كانت تتعارض مع العقلية المتغيرة التي أحدثتها الحركات المناهضة للاستعمار في غرب إفريقيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

كاتب يروي قصة الأفارقة
كان أتشيبي من بين العديد من نجوم الأدب المستقبليين، بما في ذلك "وول سوينكا" Wole Soyinka الذي ساهم بين عامي 1948 و1952 بقصص ومقالات في مجلات طلابية ذات توجه قومي. حتى في هذه النصوص المبكرة يمكن للمرء أن يميز الصفات المميزة لأشيبي: نظرة مسلية بشكل هادئ للنخبة المتعلمة، بنية متوازنة بعناية من التناقضات، متعة في محاكاة أنماط الخطاب المختلفة، الاهتمام بريف نيجيريا والتفاعل المضطرب بين الثقافات الغربية والإيغبو، والإصرار على ما رآه قيمة الإيغبو الحاسمة للتسامح. في إحدى هذه القصص يظهر المثل المفضل له لأول مرة: "دع الصقر يجلس ودع النسر يجلس".
بحلول الوقت الذي تخرج فيه في عام 1952  قرر أتشيبي أن يكون كاتبًا يروي قصة الأفارقة والمواجهة الاستعمارية من وجهة نظر أفريقية. كان أحد دوافعه هو رواية كاري النيجيرية Cary Nigeria "مستر جونسون" Mister Johnson والتي على الرغم من الإشادة بها من قبل النقاد الإنجليز بدت له "صورة أكثر سطحية لنيجيريا وللشخصية النيجيرية". كان يعتقد: "إذا كان هذا مشهوراً، فيجب على أحد أن يحاول النظر إليه من الداخل".

ما تم التخطيط له في الأصل كرواية طويلة واحدة بدءًا من استعمار شرق نيجيريا وانتهاءً قبل الاستقلال مباشرة، تحول إلى روايتين أقصر، الأولى رواية "أشياء تتداعى" Things Fall Apart (تدور أحداثها في أواخر القرن التاسع عشر) ورواية "لم يعد من السهولة" No Longer at   Ease  (تدور أحداثها في العقد السابق لاستقلال نيجيريا).
بينما تتناول الرواية الثانية حبكة السيد جونسون وتعيد سردها - قصة كاتب نيجيري شاب يأخذ رشوة وتحاكمه الإدارة الاستعمارية وحكمت عليه – تسعى الرواية الأولى  بنجاح باهر إلى استحضار الثقافة والمجتمع السيد.
تعيد رواية الأشياء تتداعى إنشاء ثقافة شفهية ووعي مشبع بأسلوب الحياة الزراعي الودي
والمتوحش، على حد تعبير أتشيبي "إن الشعوب الأفريقية لم تسمع عن الحضارة لأول مرة من الأوروبيين". في الوقت نفسه، سعى إلى تجنب تصوير أفريقيا ما قبل الاستعمار على أنها رعوية، رافضًا استحضار الحنين إلى الشاعر والسياسي السنغالي "ليوبولد سنغور" Léopold Senghor ومدرسة الكتابة الفرانكوفونية.
يظهر بطل الرواية "أوكونكو" Okonkwo كشخصية بطولية، ولكن جامدة، يخشى خوفه من الظهور ضعيفًا أن يتصرف بقسوة تجاه زوجاته وأطفاله، وأن يشارك في التضحية بشاب رهينة من قرية أخرى. تمت مقارنة توصيفها وعالمها الريفي المغلق مع عمدة "كاستيربريدج" Casterbridge من قبل الروائي الانجليزي "توماس هاردي" Thomas Hardy الذي أعجب به أتشيبي. بيعت "أشياء تتداعى" ملايين النسخ وترجمت إلى أكثر من 50 لغة.
رواية لم يعد من السهولة  No Longer at Ease التي تدور أحداثها في نيجيريا في الخمسينيات من القرن الماضي ونُشرت عام 1960 وتتناول قصة حفيد أوكونكو، وهو موظف حكومي نيجيري شاب مثالي يعود إلى وطنه بعد الدراسة في إنجلترا، ويجد راتبه غير كافٍ لنمط حياته المتوقع، فبدأ يتقاضى الرشوة.

الجمهورية الانفصالية
أولى رحلاته إلى الخارج  كانت بصفته رئيس قسم المحادثات في خدمة البث النيجيري (NBS) حيث تم إرساله في عام 1956 في دورة تدريبية قصيرة في هيئة الإذاعة البريطانية بلندن. بالعودة إلى نيجيريا  قام بتحرير وإنتاج برامج مناقشة وقصص قصيرة للمكتب الوطني للإحصاء في "إينوجو" Enugu بشرق نيجيريا، وتعلم الكثير عن كيفية عمل الحوارات الجيدة.  التقى هناك بـ "كريستي تشينوي أوكولي" Christie Chinwe Okoli وهي طالبة جميلة ورائعة من جامعة "إبادان" Ibadan. تزوجا عام 1961 وأنجبا أربعة أطفال.
أثناء إعداده لمقال عن رد فعل النيجيريين على الحكم الاستعماري المبكر، حقق أتشيبي في قصة كاهن من الإيغبو مسجون لرفضه التعاون مع البريطانيين. مفتونًا بالحكاية وشخصية الكاهن الفخورة جعل من هذه القضية محور روايته الثالثة "سهم الله" Arrow of God التي صدرت عام 1964. يعتبر بعض النقاد أن هذا العمل أعظم إنجازات أتشيبي ببنيته المعقدة وتوصيفه، واستجوابه للفجوات بين الرغبة الذاتية والقوى الخارجية في صنع التاريخ.
تم التركيز بصورة أكثر على المخاوف التي وردت في رواية سهم الله بشكل أكثر وضوحًا في روايته الساخرة الرابعة "رجل الشعب" A Man of the People التي صدرت عام 1988. وفي الرواية يفضح الفساد وعدم مسؤولية السياسيين وناخبيهم، وتنتهي بانقلاب عسكري - كما حدث بالفعل في نيجيريا بعد الاستقلال في عام 1966 وهو الانقلاب الذي أدى إلى محاولة انفصال "بيافرا" Biafra ونشوء حرب أهلية راح ضحيتها أكثر من مليون شخص.
وبيافرا هي رسميًا جمهورية كانت دولة انفصالية معترف بها جزئيًا في غرب إفريقيا، وأعلنت الاستقلال عن نيجيريا. استر قيامها من عام 1967 حتى عام 1970. وتألفت أراضيها من المنطقة الشرقية لنيجيريا التي تقطنها أغلبية "إيغبو" Igbo.
عندما بدأت مذبحة "إغبوس" Igbos في الشمال بعد الانقلاب، كان أتشيبي يعمل في هيئة الإذاعة النيجيرية في لاغوس Lagos وحذر أتشيبي من أنه قد يكون في خطر (كان ابن عمه أحد القادة العسكريين الذين اغتيلوا)، فأخذ عائلته إلى شرق نيجيريا. أصبح مدافعًا قويًا عن استقلال بيافرا، وسافر حول العالم للحصول على الدعم.
 في رأيه، لم تكن بيافرا منطقة يمكن أن تضمن بقاء شعوب الإيغبو فحسب، بل كانت أيضًا نموذجًا مثاليًا. وفي حديثه عام 1968 أعلن: "تدافع بيافرا عن الاستقلال الحقيقي في إفريقيا، ونهاية 400 عام من الخزي والإذلال التي عانيناها في ارتباطنا بأوروبا. أعتقد أن قضيتنا صائبة وعادلة. وهذا ما يجب أن يدور الأدب حوله اليوم - الأسباب الصحيحة والعادلة".
على الرغم من أن الحرب انتهت بهزيمة الانفصاليون في قضية بيافران، إلا أن أتشيبي كان مصمماً على أن وجود شعب الإيغبو ووجهات نظره يجب أن تستمر داخل الأمة النيجيرية.

نوع جديد من الأدب
استندت مجموعته من القصائد "احذر أخي الروح" Beware Soul Brother الصادرة عام 1971، ومجلد القصص القصيرة "فتيات في الحرب وقصص أخرى"  Girls at War and Other Stories في 1972 على تجارب الحرب.
 أصبح زميلًا باحثًا أول في جامعة نيجيرية، وهي  "جامعة نيجيريا نسوكا" University of Nigeria Nsukka وفي عام 1971 أسس هو ومجموعة من الأكاديميين النيجيريين مجلة Okike  وهي مجلة مهمة للكتابة الإبداعية الأفريقية والنقاش النقدي. كما كتب عدة كتب للأطفال.
في عام 1972 قبل أتشيبي الأستاذية الزائرة في جامعة "ماساتشوستس أمهيرست" University of Massachusetts Amherst حيث قام بتدريس الأدب الأفريقي واستمر في تحرير مجلة Okike. 
على الرغم من إدانته الشديدة للعنصرية والغطرسة الإمبريالية، إلا أن سخرية أتشيبي اللطيفة، والضحك الجاهز، وبهجته في الحكايات عن تصرفات الأطفال الغريبة، هي ما يتذكره زملائه في جامعة أمهيرست.
ولم يتراجع عن الجدل في المقالات والمحاضرات والمقابلات، وأعلن الحاجة إلى الكتابة الملتزمة في السياق الأفريقي. كما وسخر من الكتّاب والنقّاد الذين وجد مواقفهم تجاه الأفارقة متعالية أو عنصرية.
شجب رواية قلب الظلام في محاضرة بجامعة ماساتشوستس، تسببت في انسحاب الكثيرين من الجمهور احتجاجًا.
عاد أتشيبي إلى نيجيريا في عام 1976 ليعمل أستاذاً للأدب في جامعة نيجيريا حيث واصل التدريس، وأصبح رئيسًا لاتحاد الكتاب النيجيريين وقام بتحرير مجلة Uwa ndi Igbo وتعني "عالم شعب الإيغبو" وهي مجلة الحياة والثقافة لشعب الإيغبو. كما انتُخب نائباً للرئيس الوطني لحزب الفداء الشعبي ونشر كتيباً سياسياً بعنوان "مشكلة نيجيريا" The Trouble With  Nigeria  في عام 1983.
لم يخلق أتشيبي نوعًا جديدًا من الروايات فحسب، بل كان أيضًا غير راغب في تكرار نفس الصيغة في رواياته، التي أقامت كل منها حوارًا مع سابقتها تقنيًا ورسميًا، وكذلك فيما يتعلق بالشخصية والأوساط الاجتماعية.
وبلغت هذه العملية ذروتها في روايته الخامسة  Anthills of the Savannahالتي صدرت عام 1987، والتي علّق فيها على أشكال وموضوعات أعماله الخاصة بالكتّاب الأفارقة الآخرين.
تشدّد الرواية على أنه لا توجد قصة واحدة للأمة، بل تتعدد الروايات، تنسج الاستمرارية بين الأشكال والتقاليد الثقافية في الماضي والحاضر، والإيغبو والإنجليزية. تم تلخيص فلسفة وبنية وجمالية Anthills of the Savannah وفي الواقع هذا يمكن ملاحظته في جميع روايات  أتشيبي. وفي الجمل الأخيرة من مقالته "حقيقة الخيال" The Truth of Fiction يقول إن "الأدب الخيالي لا يستعبد إنه يحرر عقل الإنسان. إنه الحقيقة. ليس مثل شرائع العقيدة أو اللاعقلانية في التحيز والخرافات. إنه يبدأ كمغامرة في اكتشاف الذات وينتهي بالحكمة والضمير الإنساني".

الكاتب الأفريقي العظيم
أدى حادث سيارة وقع في عام 1990 إلى إصابة أتشيبي بالشلل. عرضت عليه كلية بارد Bard College في نيويورك إمكانية التدريس هناك، وقدمت التسهيلات التي يحتاجها. وباستخدام كرسي متحرك واصل السفر وإلقاء المحاضرات في الولايات المتحدة وأحيانًا في الخارج. نُشرت محادثاته في هارفارد عام 1998 تحت عنوان "الوطن والمنفى" Home and Exile.
نُشرت محاضراته الأخيرة ومقالاته عن سيرته الذاتية في عام 2009 "تعليم طفل محمي من بريطانيا" The Education of a British-Protected Child
انتقل إلى مدينة "بروفيدنس" Providenceالمدينة المكتظة في ولاية "رود آيلاند" Rhode Island في عام 2009 بعد تعيينه أستاذًا لدراسات "أفريكانا" Africana studies في جامعة "براون" Brown University.
نشر في عام 2012 كتاب "كان هناك بلد: تاريخ شخصي لبيافرا" There Was a Country: A Personal History of Biafra والذي كرر فيه إيمانه بالمثل التي ألهمت الروح القومية في أيام شبابه. أثارت روايته للأحداث التي أدت إلى الحرب الأهلية وسلوكها وتداعياتها ردود فعل قوية من مؤيدي قضية بيافران وكذلك من المعارضين لها.
حصل أتشيبي على العديد من الجوائز وأكثر من 30 درجة دكتوراه فخرية، ولكن من بين أكثر التكريمات الذي قد يكون أكثر تقديرًا وأهمية لديه كان من المناضل الشهير "نيلسون مانديلا" Nelson Mandela الذي كتب "كان هناك كاتب اسمه تشينوا أتشيبي، وفي رواياته سقطت جدران السجن".
حصل على العديد من التكريمات من الحكومة النيجيرية، إلا أن أتشيبي رفض جائزة "قائد الجمهورية الفيدرالية" في عام 2004، بسبب إحباطه من الوضع السياسي في بلاده.
على الرغم من شهرته العالمية، لم يحصل أتشيبي على جائزة نوبل للآداب، والتي اعتبرها بعض النقّاد - وخاصة النيجيريون – أنها غير عادلة. لكن كلية بارد  Bard College أسست في عام 2005 مركز تشينوا أتشيبي من أجل إنشاء مشاريع ديناميكية لأكثر الموهوبين من جيل جديد من الكتاب والفنانين من أصل أفريقي.
توفي الكاتب الأفريقي العظيم ـ الذي يكنّى في الغرب بـ "أبو الأدب الأفريقي" بالرغم من رفضه لهذا التوصيف ـ في 21 مارس 2013 بعد مرض قصير في بوسطن بالولايات المتحدة. وصفته صحيفة نيويورك تايمز في نعيه بأنه واحد من الروائيين الأكثر قراءة في أفريقيا وأحد الأدباء الشاهقين في القارة. دفن في مسقط رأسه أوجيدي.



16
د. حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


الدين في وسائل الإعلام الدنمركية

أصبحت وسائل الإعلام مصدراً مركزياً تماماً عندما يريد الدنماركيون التعامل مع القضايا الدينية بأوسع معانيها. فيما يقتصر حضور الكنيسة وقراءة الكتاب المقدس على أقلية متواضعة من الشعب الدنمركي، بينما يستخدم الجزء الأكبر من السكان محطات التليفزيون والروايات والأفلام وشبكة الإنترنت والراديو لإشباع الاهتمامات والروحية والدينية، خارج رعاية الكنيسة الوطنية.
لم يعد الدنمركيين يحصلون على القصص العظيمة عن معركة الخير ضد الشر من الكتاب المقدس أو الكتب الدينية الأخرى، بل من الأفلام والتلفزيون والروايات وألعاب الحاسوب.
لا تقوم وسائل الإعلام بنقل نصوص حول الموضوعات الدينية فحسب، بل تنتج أيضاً مجموعة متنوعة من المواد ذات المحتوى الديني بنسب متفاوتة، والتي تتميز بالتالي بتدخل وسائل الإعلام. حيث تخضع المعلومات الواقعية ومناقشة الدين لمعايير الأخبار الصحفية، ولا يتم إنتاج الروايات الغيبية ونشرها من قبل رجال الدين، بل من قبل الإعلاميين المحترفين مثل المخرجين، وكتاب السيناريو، ومدراء الفنون، وغيرهم.
تهيمن على وسائل الإعلام الدنمركية أنواع وموضوعات الثقافة الشعبية، ونتيجة لذلك تصبح وسائل الإعلام بوتقة تنصهر فيها جميع أنواع الموضوعات الغيبية والخيالية والروحية والدينية.
صحيح أن وسائل الإعلام لديها ولع كبير بالديانات الموجودة مثل المسيحية والإسلام والبوذية وما إلى ذلك، ولهذا السبب غالباً ما تعيد المسلسلات التلفزيونية والروايات والأفلام وألعاب الحاسوب إنشاء وتفسير الزخارف الكتابية، أو استخدام الرموز والآثار من الديانات المختلفة.
 لكن وسائل الإعلام لا تهتم بالتبشير بالدين، بل تريد في المقام الأول أن تستهلك الأديان لأغراضها الخاصة. بالنسبة لوسائل الإعلام، تُعد الروايات والأيقونات والطقوس الدينية للأديان المنظمة مستودعاً واسعاً للدعائم التي يمكنهم استخدامها لإخبار قصصهم الخاصة عن الأحداث الخيالية والروحية والدينية.
 إن أفلام "إنديانا جونز" Indiana Jones والمسلسلات التليفزيونية مثل LOST وقصص هاري بوتر Harry Potter لـ"جيه كيه رولينج" J. K. Rowling ونجاحات ألعاب الحاسوب مثل World of Warcraft هي إنتاجات تستخدم العناصر الدينية بصورة كثيفة، والتي تختلط وتتحول إلى روايات أسطورية جديدة.
أظهر نشر صحيفة "يولاندس بوستن"  Jyllands-Posten للرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد "صل" عام 2005 بكل وضوح أن وسائل الإعلام يمكن أن تتحدى الأديان القائمة، تماماً كما يمكن استخدام وسائل الإعلام لتعزيز المصالح الدينية. باستخدام الهواتف المحمولة، يمكن لأتباع الدين الإسلامي ـ على سبيل المثال ـ أن يعلنوا وينسقوا مظاهرات عفوية عبر الحدود الوطنية، وكان على السلطات الدنماركية استخدام القنوات الفضائية العربية والإنترنت لممارسة الجهود الدبلوماسية على مرأى ومسمع الجمهور.
ومع ذلك، فإن أهمية الإعلام بالنسبة للدين ليست مقصورة على الإسلام. تواجه الكنيسة البروتستانتية المحلية تحدياً أيضاً بعدة طرق، بسبب الأهمية المتزايدة لوسائل الإعلام في المجتمع والثقافة. استحوذت وسائل الإعلام في عدد من المجالات على دور الكنيسة الوطنية، لكن هذه عملية حدثت على مدى فترة زمنية طويلة وبدون صراعات سياسية أو دينية كبيرة.

الوسيط
يرتبط تأثير الإعلام على الدين بعملية أكثر عمومية في الثقافة والمجتمع: الوسيط. من خلال هذا يتم فهم العملية ذات الوجهين، حيث تتطور وسائل الإعلام وتتحول إلى مؤسسة مستقلة في المجتمع، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من عمل المؤسسات الاجتماعية الأخرى.
قبل مئة عام، كانت وسائل الإعلام في الأساس أدوات لمؤسسات أخرى في المجتمع: على سبيل المثال كانت الصحافة الحزبية أداة للأحزاب السياسية، والكتب والمجلات تخدم العلم والفن والحياة الثقافية والمنظمات الدينية.
ابتداءً من فترة ما بين الحربين العالميتين فصاعداً، تطور عدد من وسائل الإعلام إلى مؤسسات ثقافية. انفصلت الصحف عن العلاقات المقيدة للأحزاب وتطورت إلى مطبعة شاملة تتميز بمواد أكثر تنوعاً مع تعددية في وجهات النظر.
 وبالمثل، حتى الثمانينيات، كانت الإذاعة والتلفزيون تدار على أساس منطق التمثيل الذي ينص على أن جميع مؤسسات المجتمع في السياسة، والثقافة، والعلوم، وما إلى ذلك لها الحق في أن يتم تمثيلها ونقلها عبر الإذاعة والتلفزيون. ونتيجة لذلك  كانت الإذاعة والتلفزيون مأهولة من قبل محترفين من العديد من المجالات المختلفة الذين نقلوا المعرفة إلى الناس في شكل شعبي.
أعاد المؤرخون التاريخ الدنماركي إلى الحياة، وعلّم المخرجون فن الفيلم، وتحدث علماء الحيوان عن الحياة في الغابات والبحيرات. في مجال الدين  تم تمثيل المسيحية من خلال البث الإعلامي (الخدمات، الولاءات، إلخ) والبرامج المنتظمة حول الوجود والدين، حيث كان اللاهوتيون والخبراء بالشؤون الدينية هم ضيوف تلك البرامج.
على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، تخلت وسائل الإعلام تدريجياً عن مهامها كمؤسسة ثقافية وأصبحت بدلاً من ذلك مؤسسة إعلامية مستقلة. وهذا يعني أن وسائل الإعلام أصبحت تخضع بشكل متزايد لسيطرة اعتباراتها واهتماماتها الذاتية وسياساتها التحريرية، حيث يكون للمتطلبات التجارية والتكنولوجية والمتطلبات النوعية المكانة المركزية. تم إعطاء الوسطاء ذوي المعرفة المتخصصة مكانتهم. وفي المقابل اكتسبت المجموعات المهنية التي لديها فهم لوسائل الإعلام تأثيراً أكبر في العمل.
 في الواقع الإعلامي الجديد، إن المعرفة بمراعاة الاختلافات بين شرائح الجمهور، وتنسيقات الأنواع، والمنصات الرقمية، وأشكال التمويل، وما إلى ذلك، هي التي تشكل منطق الإدارة الجديد. وقد أدى ذلك إلى معايير تقييم جديدة للمحتوى الإعلامي، وبالتالي  فإن نجاح البرنامج الثقافي على التلفزيون  لا يتعلق على سبيل المثال، بكونه يعكس جدول أعمال الأدب الخاص، بل حول ما إذا كان ناجحاً كبرنامج تلفزيوني، أي لديه مسرحية تناسب الوسيط التلفزيوني، وله ممثلون مناسبون للتلفزيون، ويتم مشاهدته من خلال المقاطع التي تناسب وقت البث والقناة المعنية.
تم التعرض للدين في هذه العملية أيضاً. نتيجة لذلك أصبحت وسائل الإعلام مصدراً رئيسياً للتجارب والمعلومات حول الروحانية والدين. في الوقت نفسه، تولت وسائل الإعلام عدداً من مهام الوساطة المجتمعية التي كانت في السابق تحت رعاية الكنيسة.
تساهم وسائل الإعلام في تنظيم المجتمع ومكان الانتماء، سواء كان ذلك المجتمع الوطني الكبير للإعلام التلفزيوني أو مجموعات الصداقة الأصغر للوسائط التفاعلية. تقوم وسائل الإعلام بطقوس التحولات الصغيرة للحياة اليومية وأحداث المجتمع الكبيرة. حيث كانت المؤسسات التقليدية مثل الكنيسة والمدرسة هي التي تقدم التوجيه الأخلاقي سابقاً، ولكن يلجأ الدنمركيين المعاصرين اليوم إلى وسائل الإعلام من أجل البحث عن معايير محدثة للسلوك والمواقف المناسبة. تنعكس عملية التوسط بشكل مباشر في نقص السلطة الروحية لقادة الكنيسة البروتستانتية عندما يتعين عليهم الظهور في وسائل الإعلام. لذلك لا يعتقد الدنماركيون المعاصرون على الإطلاق أن الكهنة والأساقفة يجب أن يكون لهم أي أولوية في وسائل الإعلام عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الثقافة والأخلاق. على الرغم من أنه من المفترض أن تكون هذه الموضوعات أحد أهم المجالات التي يحظى فيها ممثلو الكنيسة الوطنية بسلطة كبيرة، إلا أن الغالبية العظمى من السكان الدنماركيين اليوم تجد أن ممثلي الكنيسة ليس لهم أولوية على الآخرين في هذه المجالات.

الروحانية الجديدة
بشكل عام، يمكن القول إن المنتجات الإعلامية التي تتناول الموضوعات الدينية بمعناها الواسع والتي يتم تداولها في الدنمارك والدول الغربية الأخرى، تساهم في اتخاذ موقف أكثر فردية وتوجهاً نحو المستهلك تجاه الدين. يشكل التعامل مع الأمور الغيبية والروحية والدينية في وسائل الإعلام أكثر من مورد للتطور الذاتي الشخصي، ولا يساهم إلا إلى حد ضئيل في التدين المؤسسي.
من سمات الدين الوسيط أنه غالباً ما ينتقد الطوائف المنظمة، ولكنه في نفس الوقت حساس للإيمان الفردي. رواية وفيلم "دان براون" Dan Brown لغز دافنشي  Da Vinci puzzle  هو مثال كتابي لهذا المزيج من النقد الكنسي القوي والشهوانية الروحية. وهكذا يرى عالم اجتماع الدين "كريستوفر بارتريدج" Christopher Partridge كتاب دان براون كتعبير عن "السحر": شكل حديث من العبادة الغامضة، حيث نجد مزيجاً من نظريات المؤامرة، والروحانية المتمحورة حول الذات، وإضفاء الطابع الرومانسي على ما قبل الحداثة وعبادة "المؤنث المقدسة".
أصبح لغز دافنشي حدثاً إعلامياً عالمياً لم يكتفِ بنشر تفسير دان براون البديل للعهد الجديد فحسب، بل ولّد أيضاً سيلًا من النقد والمناقشات في شكل مناظرات وبرامج وثائقية على التلفزيون، وفيض من الكتب والمواقع الإلكترونية ذات الدحض.
النقد الموجه إلى الكتاب والفيلم لكونهما يتميزان بالأخطاء الواقعية جاء ليس فقط من الجانب الديني، ولكن أيضاً من المؤرخين وغيرهم، وبشكل عام كانت وسائل الإعلام مليئة بتقييمات استمرارية نقد الكتاب الدين والكنيسة في وقت العرض الأول للفيلم.
في ضوء ذلك، كان من المثير للاهتمام أن ننظر إلى أي مدى رفض الدنماركيون انتقادات دان براون أو وافقوا عليها. ردا على سؤال بعد حوالي شهر من العرض الأول للفيلم في الدنمارك  وجد نصف الدنماركيين (50.4٪) أن النقد كان إما صحيحاً جزئياً أو صحيحاً تماماً. ووجد 31.5٪ أن النقد خاطئ أو خاطئ جزئياً، و18.2٪ لم يعرفوا ماذا يفكرون في هذا السؤال.

لكن حلف هذا التوزيع العام للإجابات، يجد المرء تقلبات كبيرة في التقييم عند النظر إلى العقيدة الدينية للمستجيبين المعنيين. إذا كنت تؤمن بإله على الصعيد الشخصي، فستجد رفضاً كبيراً لرسالة دان براون، حيث قال 51.1٪ من هؤلاء إن النقد خاطئ أو خاطئ جزئياً.
فقط 27.8٪ من هذه المجموعة يرون أن النقد جزئياً صحيحاً أو صحيحاً تماماً. من ناحية أخرى، إن الأشخاص الذين يؤمنون بالقوة الروحية، المشككون وغير المؤمنين، هم أكثر عرضة لقبول انتقاد لغز دافنشي.
ينضم الأشخاص الذين يؤمنون بقوة روحية بشكل خاص إلى نقد أسرار دافنشي، والتي من المفترض أنه يجب رؤيتها في سياق حقيقة أن القصة ليست معادية للدين، بل على العكس تنقل رسالة روحية عن الحب مع شخص ما، والتركيز على الحسية والنسوية.
لا تخضع الأديان للنقد والمنافسة من وسائل الإعلام فحسب، بل إن الطوائف الدينية المختلفة نفسها تستخدم وسائل الإعلام للترويج لأهدافها الخاصة. بشكل عام، تشير الدراسات إلى أن استخدام الأديان المنظمة لوسائل الإعلام الجديدة لا يجلب لها الكثير من الأتباع الجدد بالإضافة إلى أولئك الذين يؤمنون بها بالفعل. من ناحية أخرى، يمكن أن يساعد استخدام الإنترنت على سبيل المثال، في تغيير العلاقة بين الكنيسة والجماعة، بحيث يكون لدى المتابع الفردي فرصة لعلاقة إيمانية فردية أكثر. تساعد كل من وسائل الإعلام الجماهيرية "الكبيرة" و "الصغيرة" التفاعلية على تغيير دور الدين في المجتمع.
 يبدو أن الاتجاه العام اليوم هو أن وسائل الإعلام تساهم في نقد الكنيسة والعبادات المنظمة، بينما تروّج لشكل روحاني فردي وموجه نحو المستهلك.


17
لماذا يخشى الغرب من الإسلام ولا يخشى من الأديان الأخرى؟

حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


شكلت قضايا الهجرة واللجوء واندماج المهاجرين المسلمين في الدول الغربية أولوية على جدول الأعمال السياسي للدول الأوروبية لعدة عقود. تطورت هذه القضية في السنوات العشرين الماضية بشكل خاص إلى مسألة التكامل المدني المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالهوية الدينية. خلال فترتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمهاجرين ذوي الخلفية الإسلامية هو المحور الأساسي للبحث الأكاديمي، ولكن مع ظهور الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، تحول الاهتمام إلى التعبئة السياسية والتجاذبات الانتخابية.
بدءًا من قضية رشدي في المملكة المتحدة وقضية الحجاب في فرنسا من عام 1989 حتى الوقت الحاضر، انتقلت الأضواء إلى شرعية وجود العلامات والدلالات الإسلامية في الأماكن العامة، مثل قواعد اللباس، والمآذن، والأطعمة الحلال، والمدارس الإسلامية.
نتيجة لذلك، تصاعد الجدل حول رؤية هذه العلامات بشكل مطرد. الجدل ليس مجرد خلاف حول وجهات النظر المتباينة. ولكن الأمر يتعلق بالاختلافات الأساسية (أو على الأقل يُنظر إليها على هذا النحو) حول المبادئ والقواعد التي تنظم الحياة المشتركة للأفراد الذين يتشاركون نفس المجتمع في نفس الفترة الزمنية. مثل هذه الاختلافات الأساسية التي تؤدي إلى مواقف حصرية أو ثنائية لا يمكن أن تتعايش في ذات الأمكنة العامة.

الإسلام والرفض المتصور للديمقراطية
يُنظر إلى الحجاب، والمساجد والمآذن على أنها رفض للقيم الديمقراطية الغربية بشكل متزايد، أو حتى أسوأ من ذلك، أصبح يُنظر لها في العديد من دول القارة الأوروبية باعتبارها تهديداً مباشراً للغرب وثقافته وهويته.
خلال حملة عام 2006 لحظر المآذن في سويسرا، أظهرت ملصقات انتخابية من اليمين، امرأة ترتدي البرقع تقف بجانب المآذن التي كانت ترتفع من العلم السويسري وتشير إلى السماء مثل الصواريخ. وصل هذا التصور عن الإسلام في المجال العام إلى الولايات المتحدة أيضاً من خلال النقاشات الجارية والخطاب حول التطرف الإسلامي في السجون، والجدل حول مسجد جراوند زيرو "Ground Zero Mosque" في بارك51/ Park5 بمدينة نيويورك.
في الدنمرك أقدم حزب الشعب اليميني على نشر ملصقات انتخابية مسيئة للإسلام أكثر من مرة. ويقوم السياسي المتطرف راسموس بالودان بحرق القرآن الكريم جهراً في الساحات العامة بحراسة قوات الأمن الدنمركية بذريعة حرية التعبير.
منذ أكتوبر/ تشرين الأول عام 2003 ومجلس الشيوخ الفرنسي والجمعية الوطنية الفرنسية منشغلان بزي المرأة المسلمة، وأصدرا العديد من التشريعات بهذا الشأن. فرضت الحكومة الفرنسية الحظر على منع ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية عام 2004.
وفرضت في أبريل 2011  حظراً على ارتداء النقاب أو البرقع، والذي تمت الموافقة عليه بأغلبية ساحقة في عام 2010 من قبل المجلس التشريعي الفرنسي. اتبعت دول أخرى مثل بلجيكا وهولندا المسار الفرنسي في عامي 2011 و2012. وفي عام 2022 تم نقاش مشروع قانون يحظر ارتداء الحجاب في المسابقات الرياضية في الجمعية الوطنية الفرنسية.


لا يتم نبذ الإشارات والدلالات الإسلامية في الخطاب العام الغربي فحسب، بل يتم التحكم فيها أيضاً وتقييدها من خلال إجراءات قانونية وإدارية متعددة في محاولة لنشر "الحضارة" أو تعديل العلامات لتناسب الثقافات السياسية الغربية.
مثال آخر يضاف إلى القائمة الطويلة من العلامات الإسلامية المنبوذة هو الختان. في يونيو 2012، قام قاض في مدينة كولونيا بألمانيا بحظر الختان على أساس أنه يسبب "ضرراً جسدياً غير قانوني. على الرغم من أن المستشارة الألمانية السابقة ميركل قد وعدت المجتمعات المسلمة واليهودية بأنه يمكنهم الاستمرار في ممارسة الختان، إلا أن الآثار القانونية لهذا الحظر لم يتم تحديدها بعد.
في الدنمرك نوقشت قضية الختان العديد من المرات في البرلمان الدنمركي، والذريعة أنه يجب أن يكون الأولاد قادرين على اتخاذ القرار بأنفسهم. وقدم مجلس الطفولة نتائج أبحاث علمية تؤكد أن الأطفال المختونين معرضون بشكل كبير للإصابة بالتوحد مقارنة بالأطفال غير المختونين.

الصراع الثقافي في الإسلام
جزء من هذا الصراع الثقافي يتم خوضه أيضاً بين المسلمين. فالتيار السلفي يعارض القيم والثقافات الغربية بشدة، ويدعو إلى العديد من الممارسات مثل الفصل بين الجنسين، ورفض المشاركة السياسية والمدنية، التي تعتبر جهوداً لتجميل وجه الغرب القبيح. هذا النوع الخاص من الإسلام هو أحد التفسيرات الأكثر وضوحًا وانتشاراً في الشرق والغرب، وبالتالي يعطي الانطباع لكل من المسلمين وغير المسلمين بأن السلفية هي الإسلام الحقيقي.
في الوقت الذي يرمز فيه البرقع إلى إنكار تام للحرية والمساواة بين الجنسين بالنسبة لمعظم الغربيين، فإنه بالنسبة للأصولية الدينية، يرمز إلى كرامة المرأة وتفانيها لقيم الأسرة، على عكس البيكيني الذي يُنظر إليه على أنه تجسيد وتدهور لجسد الأنثى وانحطاطه.
باختصار، إن الغرب الأصولي والإسلام الأصولي يقاتلان بعضهما البعض، وبذلك يعزز كل منهما الآخر. غالباً ما تستخدم معارضة "البرقع مقابل البكيني" من قبل كل من الإسلاموفوبيا والأصوليين المسلمين على حد سواء. هذا الشعور بعدم التوافق العميق يتعلق بالسياسة وأنماط الحياة والأكثر إثارة للاهتمام أجساد النساء.
إن مثل هذه التعارضات الصارخة هي بالطبع متطرفة، لكنها في نفس الوقت تعكس نهج "إما أو" الذي يقع فيه معظم الخطابات حول الإسلام حالياً في شرك الالتباس. أوضح الرئيس الألماني السابق "يواخيم غاوك" Joachim Gauck القس اللوثري الذي ترأس ألمانيا من عام 2012 إلى عام 2017 أن المسلمين يمكنهم العيش في ألمانيا، وهو بذلك قدم النسخة الأكثر اعتدالًا من هذه المعارضة الثنائية على عكس سلفه "كريستيان وولف" Christian Wulff الذي ترأس ألمانيا عام 2012 واضطر إلى الاستقالة عام 2012 بعد تهم إخلال بالواجب، والذي قال إنه لا يعتقد أن المسلمين يمكن أن يكونوا جزءًا من ألمانيا.
في الدنمرك يعتقد حزب الشعب اليميني أن الدنمرك ليست بلداً مناسباً لعيش المسلمين. ونلاحظ هجوماً على الإسلام والمسلمين من قبل الأحزاب اليمينية الآخذة في التوسع من السويد وحتى المجر.

عقلية الاستقطاب
تتمثل إحدى النتائج الرئيسية لمثل هذه العقلية الاستقطابية في إخفاء الواقع الاجتماعي للمسلمين. في الواقع، توجد فجوة مذهلة بين صورة الإسلام كما هي مبنية في الخطاب العام الثنائي، والواقع الحقيقي متعدد الأوجه للمسلمين في مختلف الدول الأوروبية.
يتطلب الأمر مراجعة منهجية ومقارنة معرفية حول السلوكيات السياسية الإسلامية والممارسات الدينية للمسلمين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
على سبيل المثال، الافتراض السائد هو أن الهويات الإسلامية المرئية في الغرب مرتبطة عكسياً بالولاءات المدنية والسياسية، في حين أن هناك أدلة تجريبية تتعارض مع مثل هذا الافتراض.
عرضت "جوسلين سيزاري" Jocelyne Cesari ـ رئيسة قسم الدين والسياسة بجامعة برمنجهام البريطانية في كتابها "لماذا يخاف الغرب من الإسلام؟ استكشاف المسلمين في الديمقراطيات الليبرالية" الصادر عن دار النشر «بالغريف ماكميلان» الأمريكية عام 2013- بيانات مباشرة من مجموعات التركيز التي نظمتها الكاتبة في باريس ولندن وبرلين وأمستردام وبوسطن بين عامي 2007 و2010. والاستنتاج الرئيسي هو أنه على الرغم من تحدي البيئة العلمانية للمسلمين، إلا أنهم لا يواجهون التناقض الذي يناقش بشكل مكثف من قبل السياسيين الغربيين والدعاة السلفيين على حد سواء. إذن لماذا يصور الإسلام كعقبة في الخطاب السياسي والإعلامي؟ من خلال معالجة هذه الفجوة المثيرة للفضول، حاولت الكاتبة أن تفهم هذا الانفصال بين ما يفعله المسلمون والبناء والخطاب السياسي "لمشكلة المسلمين". وخلال هذا الاستكشاف ظهرت الليبرالية والعلمانية على أنهما المصطلحان الرئيسيان المستخدمان لفهم الوجود الإسلامي.
عنوان الكتاب الأصلي
"Why the West fears Islam? – An Exploration of Muslims in Liberal Democracies"
تحديد سياق الليبرالية
إن "الإشكالية الإسلامية" في أوروبا ظهرت نتيجة إضفاء مصطلحات دينية وثقافية وسياسية على توطين المهاجرين في الثلاثة العقود الأخيرة. حقيقة أن المسلمين المهاجرين في أوروبا يعانون من ثلاث "مشاكل" اجتماعية رئيسية هي (الطبقية والتكامل الاقتصادي، الانتماء العرقي، والتعددية الثقافية) إضافة إلى ظهور عامل جديد يتعلق بالاهتمام بالدين الإسلامي، الذي أصبح يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه السبب الرئيسي لجميع المشاكل.
إن الثقافة في الولايات المتحدة الأمريكية لجميع القضايا السياسية المتعلقة بالمسلمين هي أكثر حداثة وتتعلق بشكل أساسي بالمخاوف الأمنية. لكن تتداخل قضايا "المهاجرين" و "المسلمين" في أوروبا الغربية، على عكس الولايات المتحدة حيث تركز نقاشات الهجرة على الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية مثل الأجور، والاستيعاب، واللغة.
تظهر نتيجة هذه التحولات الاجتماعية في التحول المروع للخطاب العام حول الإسلام في أوروبا. تتحدث شخصيات سياسية يمينية متطرفة مثل السياسي اليميني الهولندي خيرت فيلدرز Geert Wilders عن "إطفاء الأنوار فوق أوروبا" أو "البقاء المطلق للغرب".
يظهر التحول المروع للخطاب العام حول الإسلام في أوروبا جلياً في العديد من المناسبات والأمكنة وإن تعدد المتحدثون. هذا الاحتكاك والصراع بين الإسلام والغرب لا يدور فقط على هامش المجتمعات الأوروبية. في الواقع  تُظهر العديد من استطلاعات الآراء والخطابات السياسية أن تصور الإسلام كخطر على القيم السياسية الأساسية الغربية يتم تقاسمه عبر الولاءات السياسية والدول.
تحالف الليبرالية والنسوية
يمكن تعريف الحرب "الوجودية" على أنها ليبرالية تتمحور حول القيم والتي تضع نفسها ضد الاعتراف بالتنوع الديني والثقافي. على سبيل المثال، أعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في فبراير 2011 في مؤتمر ميونخ للأمن السنوي لزعماء العالم: "بصراحة، نحتاج إلى قدر أقل بكثير من التسامح السلبي في السنوات الأخيرة والليبرالية القوية الأكثر نشاطًا".
من المهم التأكيد على أن الليبرالية السياسية في الديمقراطيات الغربية لا تتعارض بالضرورة مع الاعتراف بالتعددية تاريخياً. لذلك من المتوقع تقليدياً أن تمنح الدولة الليبرالية المساواة للمواطنين من جميع الخلفيات الدينية، والثقافية، والعرقية.
في المقابل، يعتبر الخطاب الليبرالي الغربي الجديد الاعتراف بحقوق الأقليات كتهديد لحرية التعبير، وحقوق المرأة التي تعتبر من القيم الأساسية للمجتمعات الوطنية. ومن ثم فهي تدعو إلى تكامل ثقافي للوافدين الجدد. ونتيجة لذلك، فقد أوجدت تحولات مهمة للغاية في السياسة في البلدان التي تتميز عادة بالتعددية الثقافية مثل هولندا، أو المملكة المتحدة.
على سبيل المثال، فإن المشروع متعدد الثقافات للاعتراف بـ "التنوع الثقافي في سياق التسامح المتبادل" لوزير الداخلية العمالي روي جينكينز Roy Jenkins في عام 1966 يتعرض الآن لانتقادات شديدة. في الواقع  إن الإجماع السياسي الجديد هو إعطاء الأولوية للاستيعاب الثقافي القوي للقيم البريطانية على حقوق الأقليات.

علامات الهوية الأوروبية
هذا الخطاب "الاندماجي الجديد" منتشر على نطاق واسع عبر الدول الأوروبية، ومن المثير للاهتمام أنه يروج له نشطاء يساريون سابقون. أصبحت المساواة بين الجنسين ورفض السلطة الدينية، والتي كانت موضوعات يسارية أساسية للنضال في الستينيات من القرن الماضي، أصبحت علامات شرعية للهوية الأوروبية في العقد الحالي. في ظل هذه الظروف يُطلب من جميع المجموعات والأديان والأعراق والأفراد إظهار التوافق مع هذه القيم الليبرالية من أجل أن يصبحوا أعضاء شرعيين في المجتمعات الوطنية. وتخدم تسمية "المسلمون المعتدلون" أو "المسلمون الثقافيون" هذا الغرض. إنه يخلق تمييزاً يُفترض أنه لا يستند إلى الإسلام في حد ذاته، ولكن على تمسك المسلمين بالقيم الليبرالية.
اللافت للنظر أن الجماعات النسوية أصبحت فاعلة رئيسية في هذا الخطاب. كانت بعض الشخصيات النسوية شديدة بشكل خاص ضد حقوق الجماعات، وخاصة ضد أي مبادئ إسلامية يمكن أن تقوض المساواة بين الجنسين. من المثير للفضول أن هذا الخطاب النسوي يقمع النساء المسلمات الذي يزعم الدفاع عنهن. ونتيجة لذلك يتم تحويل النساء المسلمات إلى تابعات بطريقة تشبه الرؤية الاستعمارية وما بعد الاستعمار لقضية الإسلام.
يسير هذا الخطاب الاندماجي الجديد جنباً إلى جنب مع السياسات النشطة للدول لتغيير سلوكيات وهويات مواطنيها المسلمين. على سبيل المثال، ينعكس التوجه الذي تقوده الدولة للرعايا المسلمين الصالحين ذوي الهوية الإسلامية في سياسات مختلفة: اختبارات القيم وقسم الولاء للمهاجرين والمواطنين المحتملين، تجنيد "المسلمين المعتدلين" ليكونوا قدوة تحت رعاية الدولة وقادة المجتمع، القيود الرسمية وغير الرسمية على الممارسات الإسلامية التي يُنظر إليها على أنها متطرفة أو غير ليبرالية.
كل هذه السياسات يمكن تلخيصها كمحاولة لتحضير "العدو". إن مشروعاً كهذا ليس مجرد نظريات على الورق، ولكنه يترجم إلى أنظمة / وقيود سرية أو غير مرئية على الممارسات الثقافية والاجتماعية الإسلامية. ومن المثير للاهتمام أن معظم المسلمين الذين يعيشون في الغرب هم "متحضرين" بالفعل، ويحاولون إيجاد قواسم مشتركة مع المجموعة المهيمنة. ومع ذلك، يتم إسكاتهم، أو تجاهلهم، أو اختزالهم في تجسيد لأجسادهم أو لباسهم أو مآذنهم في معظم الأوقات. 

أن تكون مسلما ومواطنا
من أكثر الأمور إثارة هو الطبيعة غير الخلافية لكون المرء مسلماً ومواطناً، في حين أن هذه الثنائية الدقيقة هي التي تضع المسلمين على طرفي نقيض مع التوقعات الاجتماعية لمعظم الأوروبيين. تظهر الاستطلاعات أن المسلمين لا يرون أي تعارض بين أن يكونوا مسلمين وأن يكونوا مواطنين.
في صميم التحول الأوروبي توجد النقطة العمياء للشرعية الاجتماعية للدين التي تم إزالتها تماماً من معظم الخطاب والقيم الوطنية.
باختصار، يتطلب الاندماج الرمزي للمسلمين في المجتمعات الوطنية تغييراً جذرياً في الروايات الليبرالية والعلمانية الحالية. إنها مهمة شاقة  لكنها ليست مستحيلة.
خلال جلسات الاستماع في لجنة الكونغرس عام عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حول تطرف المسلمين، ذكر عضو الكونغرس "كيث إليسون" Keith Maurice Ellison (ديمقراطي من مينيسوتا) وهو أول مسلم يُنتخب للكونغرس في شهادته قصة "سلمان أحمد" المسعف المسلم وطالب شرطة نيويورك الذي قُتل أثناء محاولته مساعدة زملائه من سكان نيويورك في 11 سبتمبر. بالإضافة إلى ذلك صرح عضو الكونغرس "براين هيغينز" Brian Higgins وهو كاثوليكي، أن تقليد أمريكا هو "مسيحي-يهودي-إسلامي"، وليس مجرد "مسيحي-يهودي".
يمكن أن يُنظر إلى هذه المواقف على أنها لا تعني شيئاً سوى الشعور بالرضا لأصحابها، ولكن يمكن أيضاً أن تكون بمثابة تصور مسبق لكيفية استخدام المراجع التاريخية لتحقيق تكامل رمزي ومواجهة السرد السائد الذي يميل إلى تقديم الإسلام كدين غريب وغير مقبول.

الدنماركيون أيضاً يخافون من الإسلام
كلمات مثل تعدد الثقافات وتنوع الأعراق تخيف العديد من الدنماركيين. إنها قضية تدور حول إزالة بعض المصطلحات من المستويات الأكاديمية. رغم أن المسلمين يؤكدون دائماً أن الهدف ليس مجتمعاً يتم  فيه القضاء على الدنماركية كأسلوب حياة، ولكن مجتمع تتوسع فيه الدنماركية بما يمكنها من استيعاب ثقافات أخرى وأنماط مختلفة. لذلك يمكن أن تكون دنماركياً ومسلماً في ذات الوقت، بدلاً وضع المسلمين أمام خيار وحيد يساوي بين الدنماركية والمسيحية تقريباً. المسلمون يريدون الاعتراف بهم دنماركيون مسلمون، مثل الدنماركيون البوذيون، ومثل الدنماركيون اليهود، والدنماركيون السيخ.. الخ.
يخاف الدنماركيون من" إسلام الإعلام ". إنهم يساوون بين الإسلام والتطرف، ويخشون دخول أنماط وثقافة دول بعينها إلى الدنمرك، مثل تقاليد المملكة العربية السعودية أو النمط الإسلامي المتشدد القادم من الشرق الأوسط. بينما يتساءل الكثيرون من الدنمركيين عن سبب كون كل المسلمين مجرمين، ولماذا يختن جميع المسلمين بناتهم.
يمكننا في الدنمرك أن نكون مسلمين بعدة طرق مختلفة. وأن النسخة الدنماركية للإسلام آخذة في التطور. هناك مسلمون ثقافيون معظمهم من البوسنة على سبيل المثال، ومسلمون متدينون، ومسلمون أصوليون، ومسلمون عاديون وهم الغالبية.
لا يجب أن تتدخل السلطات فيه في ثقافة الناس ودينهم، إلا إذا خالفوا القانون أو فعلوا أشياءَ تسبب الإساءة للمجتمع. ومن الأهمية بمكان احترام المسلمين للقوانين والتشريعات الدنمركية، مثل المواطنين الأخرين، وألا يقدمون المفاهيم الدينية على حساب الدستور الدنماركي.
يتصادم الإسلام مع الثقافة الدنمركية في نقاط قليلة جداً. مثلاً يأكل المسلمين اللحوم الحلال فقط، والدنمركيين يعبرون ذلك إساءة إلى الأشخاص الذين يهتمون في الرفق بالحيوان. ولكن لماذا لا تتم مناقشة ظروف تربية الحيوانات ونقلها إلى المسلخ وذبحها، بدلاً من توجيه الاتهامات للمسلمين بأنهم غوغاء بلا رحمة. كما يصطدم الإسلام أيضاً بعلاقة الدنماركيين بالعري. فيما يجب على المسلم ألا يظهر نفسه بلا ملابس. ولا حتى أمام إخوته. ويمتنع المسلمين عن أكل لحم الخنزير. رغم ذلك علينا أن نكون حريصين على عدم المبالغة في تضخيم النزاعات.  في معظم المواقف والأماكن يمكن حل الأمور سلمياً.
الإشكالية الكبيرة لا تتعلق بالدين والعبادات، بل بمفاهيم الشرف والعار التي تشكل الثقافة الجماعية في الضفة الأخرى، ويجلبها اللاجئون والمهاجرون معهم من بلدانهم الإسلامية إلى الدنمارك البلد الحديث الذي يولي الفردية اهتماماً خاصاً.
على سبيل المثال تتم تنشئة الصغار في معظم الدول الإسلامية على مفاهيم إجلال الوالدين وعدم النظر في وجهيهما حين التحدث كناية عن الاحترام، بينما يطلب الدنمركيون من الفرد النظر في وجه من يخاطبه. مثال آخر: يُطلب من الأخ في بلادنا الاعتناء بإخوته والاهتمام بأحوالهم. في الدنمرك يقولون لك: لا تتدخل في شؤون غيرك. وفيما تكون قضايا مثل الاتجاه الدراسي، والعمل والزواج والسكن شأن عائلي في بلاد المسلمين، هي قضية فردية تماماً في الدنمرك. هذه بعض الأمثلة على المشكلات الاجتماعية التي يعاني منها المسلمين في الدنمرك والغرب عموماً. هناك اختلافات ثقافية ينبغي عدم تجاهلها، مثل دور الجنسين في المجتمع والعلاقة بينهما. حيث لا تتاح فرصة إكمال التعليم للفتيات في كثير من البلدان الإسلامية. ومنهن من يتم منعهن من مواصلة تعليمهن. لا نعتقد أن هذا بسبب الدين، إنما بسبب التفسير الخاطئ للدين.
يصاب الدنمركيون بالدهشة حين يقول المسلمون لهم أن نبيهم حضهم على تعليم الأولاد ركوب الخيل والسباحة والرماية، ويلاحظون أن الفتيات يمنع عليهن ممارسة تلك الرياضات لأسباب تتعلق بالدين أيضاً.
تتعارض الزيجات المرتبة والقائمة على أساس التفاهم بين العائلات المسلمة مع الثقافة الدنمركية. ويمنع الزواج القسري بقوة القوانين المرعية. تضطر الكثيرات من الفتيات المسلمات في الدنمرك والغرب عامة إلى الهرب الاختفاء ليتجنبن زواجاً مدبراً، أو بسبب رغبتهن الزواج من شخص بعينه لا توافق عليه العائلة.




18
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك


تمثيلات الصور النمطية في وسائل الإعلام

غالبًا ما تُظهر وسائل الإعلام صورة مبسطة وثابتة للأفراد والجماعات. إنها عملية تؤثر على تصور الناس لكيفية النظر والتصرف تجاه الآخرين، ومن سوء الحظ أن كثير من الأفراد يؤمنون على نحو شبه أعمى بما يرون أو يسمعون.
وسائل الإعلام لا تُكسبنا المزيد من المعرفة فقط، بل إنها تؤثر أيضاً على الطريقة التي نعتقد أننا يجب أن نكون بها كأشخاص - كيف يجب أن ننظر للأشياء، وكيف يجب أن نلبس، وكيف يجب أن نتصرف تجاه الآخرين.
لذلك تتحمل وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة فيما يتعلق بنقل المعرفة عن المجتمع بطريقة موضوعية. ومع ذلك، تساعد وسائل الإعلام أحياناً في إنشاء قوالب نمطية وتعميمات حول مجموعات مختلفة من السكان.

الصور النمطية لوسائل الإعلام
غالباً ما تحدث الصورة النمطية عندما نقوم بعمل وصف مبسط لمجموعة من الأشخاص دون مراعاة الفروق الفردية. في ضوء ذلك تستخدم وسائل الإعلام الصور النمطية لمنح القراء أو المشاهدين ملخصاً سريعاً وعاماً لشخص أو مجموعة من الأشخاص. يمكن أن يكون هذا على سبيل المثال، فيما يتعلق بعرقهم أو جنسهم أو مجموعتهم الاجتماعية. الأمر الخطير في القوالب النمطية هو أنه يجري تعميمها، ولا يعود الأشخاص الموصوفون أفرادًا بخصائص مختلفة، ولكن بدلاً من ذلك يصبحون مجرد جزء من مجموعة أكبر.

وسائل الإعلام تخلق قوالب نمطية مؤسفة
تتلقى وسائل الإعلام الكثير من الانتقادات بسبب التمثيلات النمطية. نعني بالقوالب النمطية صورة مبسطة لفرد أو مجموعة من الأشخاص الذين لديهم بعض الخصائص المشتركة. لذلك يعتقد النقاد أن الأشخاص الذين نلتقي بهم في وسائل الإعلام يظهرون كرسوم كاريكاتورية. وبهذه الطريقة يساهم الإعلام في إعطاء الناس صورة مشوهة للثقافات والأشخاص والمجموعات البشرية.
يتم انتقاد الأفلام والإعلانات التجارية والبرامج التلفزيونية لتركيزها فقط على الأشخاص المناسبين وذوي المظهر الجيد. تعرضت الصحافة وبعض المسلسلات الإجرامية لانتقادات لتصوير أصحاب البشرة السمراء، والمسلمين على وجه الخصوص، على أنهم أشرار وإرهابيون. وهذا يشكل أساساً للحديث عن التنميط.
في الصحافة الإخبارية غالباً ما توجد خصائص معينة تجعل المصدر مثيراً للاهتمام، وبالتالي فإننا نحصل بسرعة على قوالب نمطية مثل السياسيين والمجرمين والمشاهير. ولا يتم تقديم المصادر كأشخاص ذوي جوانب وخصائص مختلفة. في القصص الخيالية أيضا والأفلام الترفيهية والمسلسلات التلفزيونية، وفي كثير من الأحيان تُستخدم الشخصيات النمطية لأنها تجعل القصة أسهل في سردها.
ليس الأشخاص وحدهم من يمكن تصويرهم بنمطية. بل يمكن تبسيط العلاقات الشخصية وتنميطها، مثل العلاقة الرومانسية بين الرجل والمرأة، أو العلاقة بين الرئيس والموظف، أو العلاقة بين مدير الحالة والمستخدم، عندما يتم تصويرها في وسائل الإعلام.

أهي بهذا السوء؟
من السهل الحصول على انطباع بأن التنميط يؤثر علينا نحن البشر بطريقة سلبية للغاية. لكن هناك العديد ممن يعتقدون أنها ليست بهذا السوء. وحجتهم أن وسائل الإعلام ليست هي المكان الوحيد الذي نحصل منه على المعلومات، ونحن لا نشكل نظرتنا للعالم من خلال وسائل الإعلام فقط. وليس الأمر كأننا ببساطة "نتقبل" أو نصدق كل ما نراه. عادة لا تتغير معاييرنا وقيمنا لمجرد أننا نرى شيئاً ما في وسائل الإعلام.
لكن التأثير السلبي لوسائل الإعلام يحظى باهتمام كبير، رغم أن الطريقة التي نتواصل بها اجتماعياً عبر وسائل الإعلام يمكن أن تكون إيجابية أيضاً. على سبيل المثال، نتعلم لغات جديدة، ونعرف أشياء عن الثقافات الأخرى، ونحصل على معلومات تفيد في كيف نتوقع أن نتصرف في المواقف المختلفة.
لسنوات كان الباحثون مهتمين بالطريقة التي نتواصل بها اجتماعياً عبر وسائل الإعلام ، لكنهم لم يتفقوا إلى الآن على تقديم إجابات واضحة ومحددة. لأنه ليس من السهل تحديد دور وسائل الإعلام في تشكلنا كبشر وبأي طريقة. ذلك أن الأشخاص المختلفون يفسرون ويتأثرون بشكل مختلف عن بعضهم البعض.
سوف يتلقى ويفهم الناس الرسائل الإعلامية بشكل مختلف وبالتالي يتأثرون بشكل مختلف. ستعتمد طريقة إدراكك لما يقال وفقاً لما هو مكتوب على هويتك، ومستواك الدراسي، والخلفية الثقافية، ونوع التجارب التي لديك، وما هو رأيك في الأمر من قبل. سوف يفسر معظم الناس ما يرونه ويسمعونه بطريقة تتوافق مع الاهتمامات والمواقف التي لديهم بالفعل.
وبالتالي فإن الحملة ضد التدخين ستجعل غير المدخنين أكثر قوة في الاعتقاد بأن التدخين ضار، في حين أن المدخنين قد ينظرون إلى الحملة باعتبارها تأكيد على أن الدولة ستتحكم في خصوصيتهم. سيكون لديك حظ أفضل مع "المشككين". قد يتأثر المدخنون الذين فكروا بالفعل في الإقلاع عن التدخين لاتخاذ الإجراءات اللازمة. وهكذا نرى أن مثل هذه الحملات لا يزال من الممكن أن يكون لها تأثير.

قوالب وأفكار نمطية
كانت الصورة النمطية المنتشرة في أمريكا الشمالية هي أن الأمريكيين الأفارقة لديهم شهية غير عادية للبطيخ.
القوالب النمطية هي تمثيلات اجتماعية مشتركة. القوالب النمطية هي مسارات متعددة، ولكنها عادة ما تكون تمثيلات قوية ومبسطة وغالبًا ما تكون مبالغ فيها وسلبية. تم استخدام القوالب النمطية سابقًا بشكل مرادف لمصطلح التحيز، ولكن التحيز في علم النفس يعتبر الآن موقفاً.
يمكن أن تكون القوالب النمطية من خلال الجنسية، والعمر، والإعاقة، والجنس، والوظيفة، والجنس، والجمال، والعرق.
 تُظهر العديد من الصور النمطية أنه على سبيل المثال، يُنظر إلى الأمريكيين على أنهم ماديون، والإيطاليون عاطفيون للغاية، والسود موسيقيون للغاية، والألمان واليابانيون مجتهدون للغاية، والإنجليز محافظون جداً، واليهود طموحون وجشعون جداً، والأيرلنديون مضطربون، والصينيون موالون جداً للعائلة. أظهرت دراسة أخرى أن الألمان ينظرون إلى أنفسهم على أنهم عمال مجتهدون. كان الفرنسيون ينظرون إلى الألمان على أنهم مستبدون ويعملون بجد.
تعتبر الصورة النمطية الشائعة أن النساء ذوات الشعر الأشقر يتمتعن بمظهر جيد، ولكنهن ضعيفات الموهبة.
غالبًا ما يستخدم مصطلح الصورة النمطية بمعنى مهين حول تصور أحادي البعد لإنسان ما، أو تصوير أحادي البعد لشخص ما في رواية، أو فيلم، أو مسرحية، أو ما شابه ذلك. يعتمد التصوير أو التصور النمطي لشخص ما على سلسلة من المفاهيم المعتادة الشائعة التي يمكن أن يكون لها طابع التحيزات المعممة، ولكن يمكن أيضاً أن تكون خيالية تماماً ومبتكرة لأغراض سياسية، أو أيديولوجية، أو فكاهية، أو فنية.
كانت الصور النمطية عنصراً معتاداً في العروض المسرحية الشعبية منذ العصور القديمة، وكان نوع الفيلم الكوميدي الشعبي خاص لجميع أفراد الأسرة إلى درجة متميزة بناءً على الصور النمطية وفرحة الاعتراف في نفس الاتصال. يعتمد قدر كبير من النكات المسطحة وفكاهة الأفلام المصورة على مثل هذه الكليشيهات النمطية.
فيما يلي بعض الأمثلة النموذجية لهذه الكليشيهات:
الإسكتلندي البخيل، الشقراء الغبية، الطفل المدلل، اليهودي الجشع، موسيقى السود، الإيطالي المحب للمرح، الدنماركيون الأبرياء، السويدي الجاد، الألماني الغاضب، النرويجي المتفاخر، الفنلندي الحزين، المكسيكي الكسول.

الأقليات في الإعلام
يخلق استخدام وسائل الإعلام للتعميمات قوالب نمطية مختلفة في صورة الوسائط. يمكن أن تكون الصور النمطية إيجابية أو سلبية، لكنها غالباً ما تكون سلبية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأقليات. بعض الصور النمطية الأكثر انتشاراً في الدنمارك على سبيل المثال، حول الغجر الذين يوصفون بأنهم غير أكفاء ومعظمهم من المجرمين. هناك صورة نمطية أخرى مستخدمة على نطاق واسع وهي عن الجيل الثاني من الفتيان المهاجرين الذين يوصفون بأنهم مثيري الشغب الذين لا يريدون أن يكونوا جزءًا من المجتمع. ومن الأمثلة الأخرى الصورة النمطية للشباب الذين يشربون بكثرة والعاطلين عن العمل الذين لا يكلفون أنفسهم عناء فعل أي شيء.
في فبراير 2008، كانت هناك اضطرابات في Nørrebro في كوبنهاغن، ذات الأغلبية السكانية من المهاجرين، سارعت حينها وسائل الإعلام الدنمركية في تسميتها "أسوأ أعمال شغب مهاجرين في تاريخ الدنمارك". لكن كيف أثرت تغطية وسائل الإعلام للاضطرابات على الصورة العامة لسكان نوريبرو؟
في كثير من الأحيان تستخدم وسائل الإعلام الصور النمطية لتنشر قصصاً بشكل أكثر بساطة حتى لا تغرق في التفاصيل. لكن في أحيان أخرى تنبثق الصورة النمطية من تحيزات الصحفيون أو جهلهم. يحدث هذا على سبيل المثال، إذا وصفوا مجموعة بناءً على ما يؤمنون به عنها - وليس بناءً على ما يعرفونه. وبما أن معظم التحيزات سلبية، فإن الصور النمطية تصبح سلبية أيضاً.
ونظراً لأن وسائل الإعلام لها تأثير كبير في الدنمارك، فإن صورتها النمطية لها أيضاً تأثير كبير في المجتمع. يقال إن الصور النمطية لوسائل الإعلام معدية. عندما يشار إلى منطقة Gellerupparken في آرهوس على أنه غيتو مليء بالمجرمين الشباب، فإنه يؤثر على تصور العديد من القراء للمكان. عندما توصف منطقة لولاند بأنها جزء من أطراف الدنمارك التي يسكنها متلقو المساعدات، فإنها تعزز الصورة السلبية في أذهان الجمهور. بهذه الطريقة تساعد وسائل الإعلام في إنتاج وإعادة إنتاج الصور النمطية.
لا تميز القوالب النمطية بين الأشخاص الذين ينتمون إلى مجموعة معينة ، مثل الغجر أو المسلمين أو المثليين جنسياً: ترتبط سمات وخصائص خاصة بجميع أفراد المجموعة، دون مراعاة كيف يتصرف الأشخاص في المجموعة بشكل فردي، أو ماذا يفعلون. مثل، ما هي المواقف التي لديهم أو من أين أتوا. تعطي الصورة النمطية صورة واحدة فقط عما يعنيه أن تكون غجرياً أو مسلماً أو مثلياً.

التنميط الاجتماعي في وسائل الإعلام
من أجل إنشاء وسيلة مفهومة ومقبولة من قبل جمهور واسع، يستخدم العديد من المرسلين الصور النمطية التي من شأنها أن تثير بعض الارتباطات. بهذه الطريقة لا توفر وسائل الإعلام المعلومات والترفيه فحسب، بل تؤثر أيضاً على حياتنا من خلال تشكيل مواقفنا ومعتقداتنا. استمرار أدوار الجنسين هو مثال على الآثار الاجتماعية السلبية لاستخدام الصور النمطية. في المجتمعات التي قطعت شوطاً طويلاً فيما يتعلق بالمساواة، لا يتم تتبع الصور النمطية للجنس في وسائل الإعلام وتساعد في الحفاظ على سرعة التنمية منخفضة.
بشكل عام ، غالبًا ما يتم عرض النساء في الإعلانات لأنهن (ما زلن) يعتبرن مسؤولات عن المشتريات اليومية.  في معظم الأحيان يتم عرض الرجال في إعلانات السيارات، أو السجائر، أو منتجات الأعمال، أو الاستثمارات، بينما يتم تمثيل النساء في إعلانات مستحضرات التجميل والمنتجات المحلية. كما يتم تصويرهن في كثير من الأحيان في المنزل على عكس الرجال الذين يظهرون في الهواء الطلق. الاختلاف المهم الآخر هو ظاهرة "الوجوه" في الإعلان، والتي تتمثل في إظهار أجساد النساء بالكامل، في حين يتم تصوير الرجال من خلال لقطات مقربة لوجوههم.
يتم تخصيص أدوار مختلفة للنساء في الإعلانات. الأكثر شعبية هي ربة منزل مهووسة بإزالة البقعة من مفرش طاولة جديد أو امرأة مشكلتها الأكبر هي عدم وجود أفكار لتناول العشاء، أو تلك الفاتنة المثيرة، التي يرغب فيها الرجال التي يكون شاغلها الرئيسي الحفاظ على جمالها.
يعلن النوع الأول من النساء عن مستحضرات التجميل أو يظهرن في الإعلانات الموجهة للرجال. أما النوع الثاني فيتعلق بإظهار نمط حياة صحي من خلال ممارسة النشاط البدني، على سبيل المثال. وبالمثل نميز بين القوالب النمطية المختلفة للذكور. الصورة النمطية الأكثر وضوحاً هي "الرجل الحقيقي" حيث يتم تقديمه كرجل أعمال رياضي مع امرأة جميلة إلى جانبه، ولديه سيارة باهظة الثمن وهاتف ذكي أيضاً.
النوع الثاني من الرجال أقل شعبية، ويُظهر أن الرجال يقضون الوقت مع العائلة. نادراً ما يظهر الرجال وهم يقومون بتنظيف الرأس ـ وإذا كانوا كذلك ـ فهذه صورة ساخرة. يظهرون هنا على سبيل المثال، كخبراء يقدمون المشورة للنساء حول كيفية ترتيب الغسيل بشكل صحيح. تستفيد الإعلانات أيضاً من الصورة النمطية للصداقات الذكورية، والتي يمكن تسميتها "قصص الأصدقاء"، حيث يتم تقديم صداقات مثلية للرجال: في مباراة كرة قدم أو في حانة وبنفس المواقف والاهتمامات.

تدمير القوالب النمطية الجنسانية
حاولت بعض وكالات الإعلان الكبرى مواجهة الصور النمطية للجنسين في إعلاناتها. الإعلان الأكثر شيوعاً والأقل نمطية هو من ماركة Dove للعناية بالشعر والبشرة. إنه إعلان يستهدف النساء من جميع الأعمار وبأجسام مختلفة ويحاول التأكيد على الجمال الطبيعي بدلاً من الأشكال النمطية "المثالية".
تفضل المشاهدات عادة رؤية النساء اللواتي يمكنهن التعرف عليهن وقد أثبتت الحملة نجاحها الكبير. وبالمثل ، تولى منتجات Ajax للمنظفات المسؤولية وقام ببناء إعلان يظهر فيه الرجال الوسيمون يدخلون مجال منتجات التنظيف. ونرى مثالاً على ذلك حيث يقوم الرجل بخلع الملابس لشريكته (الأنثى) في نفس الوقت الذي يلقي فيه الملابس في الغسالة. هذا الوضع هو عكس الوضع التقليدي والأكثر نمطية للمرأة المهتمة بالنظافة والمسؤولة (والمثيرة).
لذلك فإن الإعلان هو أداة فعالة تساعد على تكوين وتشكيل مفاهيم وآراء الناس حول النوع الاجتماعي. من خلال تبسيط الرسالة. يعمل الإعلان كواحد من أكثر الأساليب شيوعاً لإقناع الجمهور بشراء منتج ما، وفي الوقت نفسه إدامة ونقل وجهة نظر نمطية للعالم.


19

حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

 
في أزمة فكر النخبة العربية

أزمة الفكر العربي الحديث أنه ظل فكراُ نخبوياً طلائعياً تؤمن به -نسبياً- العقول المثقفة المعزولة عن الناس، هذا يشمل كافة التيارات والأفكار الاشتراكية اليسارية والليبرالية والقومية وتلك الاتجاهات التي تعبر الإسلام السياسي. بالرغم من المحاولات التي أظهرتها النخبة العربية في مواجهة أسئلة التحدي الحضاري الغربي، إلا أنها أجرت مقاربات خاطئة أفضت إلى نتائج كارثية على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث اعتمدت النخبة -بمعظمها- فلسفة تؤمن بأن الإنجازات الحضارية الغربية العلمية والفكرية يعود سببها إلى الحضارة العربية الإسلامية القديمة فقط، وغاب عنها أن إعادة إحياء هذه الأفكار في الحاضنة العربية في مجتمعات ما زالت ذات صبغة عشائرية وقبلية سوف تولّد تطوراً مبتوراً وحداثة مشوهة. لقد انتكست الأفكار الماركسية بالرغم من إرثها المضيء نظرياً، ولم يستطيع "النعيم" الشيوعي النفاذ عبر أنظمة عربية متسلطة بتوجهات قبلية، يدعمها تحالف المصالح بين التجار ورأس المال وشيوخ القبائل والبيروقراطية الفاسدة، ويحميها الغرب الاستعماري، وانتهى الحال بالرفاق إما في المعتقلات أو مطاردين أمنياً، وبقيت الثروة بين أيدي قلة نخبوية التهمت كل شيء سياسي واقتصادي وثقافي، بل ابتلعت الحياة ذاتها.
وحظوظ الفكر القومي لم تكن أفضل، فوحدة الأرض واللغة والتاريخ، لم تشفع لشعارات الوحدة القومية التي أصبحت مفهوما يثير إشكالية معرفية بعد هزيمة جزيران العام 1967.
والأفكار الليبرالية ظلت نخبوية بعيدة عن الجماهير، بسبب انشغال الليبراليين بموضوع الحريات السياسية وإغفالهم المطالب الاجتماعية التي تمس الشرائح الشعبية من الناس. وكذلك الفكر الديني الذي يعاني من الركود وغياب الاجتهاد الفقهي منذ أكثر من قرن، ناهيك عن قيام الجماعات السياسية الإسلامية بتأويل النصوص الدينية لخدمة مشروعها، وفشلها في بلورة البديل المختلف القادر على إجراء مقاربات مغايرة لما هو قائم.

في الخواص والعوام
وهي تقسيمات كانت موجودة في المجتمع البابلي، حيث قسّم قانون حمورابي المجتمع إلى ثلاث طبقات، "الخواص، العوام، الأرقاء". فكان يطلق على أعضاء الطبقة الأولى "الأويلوم" وهم الأولون السادة، وأفراد الطبقة الثانية يسمون "مشكينوم" وهم المساكين حقوقهم ليست كاملة رغم أنهم من الأحرار، والطبقة الثالثة هم "وردوم" الرقيق الذين ليس لهم أية حقوق.
لا يفاجئنا أن هذا التقسيم ما زال معمولا به في غالبية الدول العربية، فما زال هناك علية القوم، وهناك خدمهم. لا زالت قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة مجرد شعارات لا قيمة لها، في مجتمعات ماضية في تغوّل واستحواذ نخبة النخبة على الثروة.
في المشهد العربي تبرز علاقة ملتبسة مربكة هي ما جمع بين النخبة ودلالاتها الثقافية "الخواص" وبين الجمهور الواسع "العوام". هذا المفهوم منح النخبة مكان الصدارة المجتمعية، ومنحها تفويضاً لإدارة شؤون العباد، حيث استسلم "العوام" لهذا القدر بتربص ينتظر ساعة الخلاص.
سيطرت النخبة "الخواص" على الثروات العربية، وعلى كافة مفاصل الدولة، ووظفت القضاء والتعليم والقطاع الصحي لمصالحها، وقامت بتحويل الجيوش والأجهزة الأمنية إلى أذرعة لها تبطش باسمها. فيما أصبح العامة الذين يشكلون حوالي 80 %من الناس، عبارة عن طوابير من الفقراء والمهمشين والجائعين.
إن الدول العربية تستحوذ على أكثر من 55 في المئة من احتياطي النفط العالمي. ومن بين الدول العشرة صاحبة أكبر احتياطي، هناك خمس دول عربية تمتلك ما مجموعه 713 مليار برميل نفط. هذه الدول هي المملكة العربية السعودية، والعراق، والكويت، والإمارات، وليبيا. بلغت عائدات دول الشرق الأوسط سنة 2017 ما مجموعه 325 مليار دولار، أي 41.3 في المئة من عائدات النفط في العالم. كان نصيب السعودية، ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، منها 133 مليار دولار.
فيما بلغت الثروات الشخصية في العالم ما مجموعه 202 تريليون دولار، بلغ نصيب العرب منها 3,2 تريليون دولار. هذه الثروات العربية تتركز بين أيادي النخبة "الخواص" التي حولت الأوطان إلى مزارع أهلية خاصة.
بينما بلغت نسبة الذين يعانون من فقر مدقع في العالم العربي 13.4 في المائة من السكان حسب آخر تقرير تنمية بشرية صادر عن الأمم المتحدة.

النخبة العربية المثقفة
أظهرت الأحداث في العالم العربي أن النخبة العربية -بمعظمها- إما أن تكون من المثقفين والمتعلمين الذين يجلسون على كافة الموائد، وهم النخبة المرتزقة التي تنحاز إلى من يحقق مصالحها، ويشتري سلعتها – المعارف ومهارات الإقناع- بأغلى ثمن، تراهم يهتفون مع الجماهير تارة، ويهللون للحاكم تارة أخرى، دون أن تعرف لهم وجهاً حقيقياً. أو أن تكون من نخبة حاشية السلطة، وهم عادة يكونون أصحاب الولاءات ويتبعون الأجهزة الأمنية، عملهم الوحيد تبييض وتلميع وجه الأنظمة.
إن النخبة المثقفة الحقيقية العربية لا نسمع صوتها، فهي متشتتة ومتفرقة، منشغلة بالشقاق النظري، ومتابعة ما يجري من خلف النوافذ. وهم في الواقع جوهر الإشكالية وأهم سبب لأزمة الفكر لاعتزالها واغترابها عن هموم الأمة، وانخراطها في معارك هامشية لا تمت بالأمراض الحقيقية التي استوطنت الجسد العربي المنهك.
فقد كشفت التطورات الملتهبة في المنطقة العربية عن جملة من الأسئلة والمفارقات المنهكة حول مكانة الجماهير الشعبية العربية وحقوقها في المواطنة والعدالة الاجتماعية، والتخلص من الاستبداد والفساد، في أولويات اهتمام النخبة العربية، في منطقة تغرق في مستنقع أزماتها التي لا تنتهي.

صورة المثقف
منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.
نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.
إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.

المثقف كما عهدناه
المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة بدءً من العقد الثاني للألفية الثالثة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد "البروسترويكا". والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.
إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.
بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟
ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.
كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.
هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

سقوط المثقف
إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي
ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة والسلام ونشر المحبة والتسامح.
وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونون عبيداً للغرب.
إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.
سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.
إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.

في اشتباك المثقف
المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.
المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.
المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.
معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.
مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.

التحدي المصيري
المقاربات الفلسفية النظرية التي تشكل واحدة من أدوات المثقف، إنما هي الحاضن للحراك الاجتماعي، لكن كل قيم العدالة والتحرر والمساواة لا يمكن إدراكها إلا في معترك الواقع المعاش، في ملامسة إشكاليات الشارع وتفهمها وتحليلها. إن المثقف الذي يؤمن بمطالب وحقوق الناس الاجتماعية والسياسية نظرياً فقط طبقاً للحتميات التاريخية ودون ممارسة فعلية، لا يكون بمقدوره القيام بالفعل النقدي الصائب للسياسي، ولن يكون نقده نقداً أخلاقياً تصحيحياً وهو بعيد عن دروب ودهاليز التجربة الميدانية، فمن دون الاشتباك لا يمكن أن ندرك ونفهم ونحلل وننقد أية تجارب اجتماعية تاريخية، وكذلك لا يمكن التحقق من أي أفكار مهما كانت سامية وجذابة دون خضوعها للامتحان الحقيقي في الواقع.
من المفارقات المضحكة المبكية في المثقف العربي، أن شهدت البلدان المتقدمة كما المتخلفة نماذج إما عكست الانحياز العضوي التام من المثقف إلى جانب الجمهور، حتى أولئك المثقفين النقديين اللا منتمين إلى شرائح اجتماعية محددة وقفوا مع كافة القيم الأخلاقية والإنسانية، ودافعوا عن حقوق البشر الأساسية وحرياتهم العامة. أو أبانت تحالف بعض المثقفين الغربيين مع السلطة، تحالف أفضى إلى بناء الدولة الغربية الحديثة بشكلها الحالي، وهو ما أدى إلى انتهاء دور المثقف العضوي في الغرب، أو أصبح دوره هامشياً، بسبب التطور الهائل التقني في مختلف القطاعات.
بيد أن المثقفون العرب ما زالوا يرزحون تحت أعباء تخلف الواقع التي تتراكم، ولا زالوا يعانون من عجزهم عن إجراء مقاربات لأسئلة النهضة والإصلاح من جهة، وتوحش الآخر الغربي من جهة أخرى. فلا هم استطاعوا الوقوف التام مع شعوبهم، حتى أولئك الذين زعموا في يوم من الأيام أنهم مثقفو الجماهير، رفضهم الشعب ولم يقبل وصايتهم. ولا هم تمكنوا من ابتداع اختراق للعلاقة مع السلطة لمصلحة قيم المواطنة وبناء دولة المؤسسات.
أزمتنا يسببها المثقف العربي -بمعظمهم- الذي يؤمن أن دوره هو تقبيل اقدام السلاطين، وتمجيد الحاكم. كارثتنا في الثنائيات المتضادة، مع هؤلاء الذين لا يرون خلاصاً إلا بنقل الفكر والحداثة الغربية، وأولئك الذين يظنون أن الكرب والضائقة التي تعيشها الأمة لا سبباً لها سوى الغرب وأطماعه ومؤامراته على المنطقة. هذه الثنائية وغيرها ما يضع الشعوب والمثقفين ومستقبل المنطقة في مأزق فكري أخلاقي حضاري، فإذا كان الغرب هو سبب جهلنا وتأخرنا، كيف يكون هو ذاته منقذنا؟ إنه تحدي مصيري يفرض إعادة تشكيل دور المثقف وتحديد وظيفته. إننا ببساطة نحتاج المثقف العضوي التنويري الذي يتمكن من إدارة الأزمات المستعرة في منطقتنا ويفككها بموضوعية وعقلانية، لا المثقف الانفعالي الذي ينتج الأزمات والحرائق.
 

20
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


المعتقدات الخاطئة للغرب حول المهاجرين

أظهرت بعض الأبحاث السابقة أن الناس في الدول الغربية عادة ما يبالغون في تقدير حجم الأقليات العرقية الأخرى. [دراسات صادرة عن جامعة هامبورغ، جامعة جورج واشنطن،  وجامعة جورج تاون، وجامعة هارفارد، وجامعة ييل].
تتنبأ نظريات التهديد بين المجموعات بأن الأغلبية من السكان، يعتبرون أن الأقليات هم الأقل تفضيلاً. يبالغ الغربيون والأمريكيون في تقدير النسبة المئوية للسكان المولودين في الخارج أو الذين يعيشون في الولايات المتحدة وأوروبا بصورة غير شرعية.
في سبع تجارب استقصائية منفصلة بعدد من الدول، على مدى أحد عشر عاماً، وجد الباحثون أن المعلومات الدقيقة لا تؤثر كثيراً على مواقف السكان الأصليين تجاه الهجرة. تستدعي هذه النتائج التساؤل عن آلية معرفية محتملة يمكنها تفسير نظرية التهديد بين المجموعات. قد تكون المفاهيم الخاطئة عن حجم مجموعات الأقليات العرقية هي نتيجة وليست سبباً، للمواقف تجاه تلك المجموعات.
كيف يشكل الناس مواقف حول القضايا ذات التأثير العرقي؟ حسب نظريات القوة أو التهديد بين المجموعات، فإن العنصر الرئيسي هو انتشار الجماعات العرقية والإثنية في البيئة الأوسع، بما في ذلك مفهوم الأمة. يزداد الشعور بالتهديد بين المجموعات الأخرى. في المقابل، يمكن لهذا التهديد المتزايد تقليل الدعم للسياسات التي تفيد هذه المجموعات، واستفزاز الإجراءات التي تهدف إلى الحد منها من قبل السلطة السياسية.
أحد الأسباب المحتملة هو أن تصورات الناس عن التركيبة العرقية في محيطهم غالباً ما تكون غير صحيحة. يميل الناس إلى المبالغة في تقدير انتشار الأقليات والمجموعات، حتى عند المستويات المنخفضة نسبياً من التجميع، مثل أعدادهم في الأحياء. علاوة على ذلك، ترتبط المفاهيم الخاطئة لأعداد ومدى انتشار المجموعات بالمواقف السياسية ذات الصلة أكثر من انتشار المجموعة الفعلي في الواقع.  وبالتالي، فإن المواقف تجاه الأقليات قد تتوقف على التصور الخاطئ بأن هذه المجموعات أكثر عددًا مما هي عليه بالفعل.
هذا يثير السؤال المقلق: ما هي عواقب تقديم معلومات صحيحة عن انتشار الأقليات في الولايات المتحدة وأوروبا؟ بالتركيز على المعلومات حول المهاجرين، يميل الناس إلى المبالغة في تقدير انتشار المهاجرين. وأولئك الذين يقدرون بدقة أكبر نسبة المهاجرين في بلادهم يوجد لديهم آراء أكثر إيجابية حول الهجرة. ومع ذلك،  فإن هذا الاكتشاف لا يمكن أن يثبت ما إذا كانت التصورات الدقيقة في الواقع هي التي تسبب المواقف.

معتقدات خاطئة
 قد يطور الناس مواقفهم حول الهجرة لأسباب أخرى، ثم يقدمون تقارير وتقديرات الانتشار والأعداد التي تبرر هذه المواقف. على سبيل المثال، قد يقوم الأشخاص الذين يعارضون الهجرة بالإبلاغ عن تقديرات أعلى لأعداد المهاجرين لأنها تبدو متسقة مع معارضة الهجرة أو لأنها تساعد في تبرير موقف حزبهم المعلن. لهذا السبب، قام باحثون بفحص عواقب تقديم المعلومات الصحيحة عن المهاجرين عبر سبعة تجارب مسحية. تقوم جميع التجارب بتعيين المستجيبين بشكل عشوائي لتلقي أو عدم تلقي معلومات دقيقة حول انتشار المهاجرين قبل الإبلاغ عن المواقف حول المهاجرين وسياسة الهجرة. وجد الباحثين أن هذه المعلومات تقلل من متوسط تقدير حجم السكان المهاجرين، مما يجعل معتقدات الناس أكثر دقة. لكن المعلومات الصحيحة لها تأثير ضئيل على المواقف حول الهجرة - بغض النظر عما إذا كانت هذه المعلومات حول عدد السكان المهاجرين على الصعيد الوطني، أو السكان المهاجرين غير المسجلين على الصعيد الوطني، أو السكان المهاجرين المحليين. ينطبق هذا النمط على الأشخاص الذين تم تصحيح تصوراتهم الخاطئة بشكل صريح، وكذلك أولئك الذين يمتلكون معلومات دقيقة. بالإضافة إلى تأثير هذه المعلومات الصحيحة غير مشروط بالتقديرات الأولية للأشخاص: حتى بين أولئك الذين يبالغون في تقدير انتشار المهاجرين بشكل كبير، فإن المعلومات الصحيحة لا تفعل ذلك ولا تؤثر على المواقف من الهجرة.
تتقاطع هذه النتيجة مع نتائج دراسات تجريبية أخرى لتصحيح المفاهيم الخاطئة لأعداد المجموعات العرقية، وتتوافق بشكل عام مع دراسة أخرى لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الهجرة على وجه التحديد. تدعم النتائج التي تم التوصل إليها فكرة أن المعلومات الصحيحة يمكن أن تغير التصورات الواقعية، ولكن ليس بالضرورة أن تغير المواقف، لأن أحد الأسباب المحتملة هو أن مواقف الناس من الهجرة تتجذر فيها ميول نفسية راسخة تمكن الناس من مقاومة بعض المعلومات التي تتحدى معتقداتهم الحالية.  النتائج التي تم التوصل إليها تستدعي أيضاً
التساؤل عن آلية معرفية محتملة تقوم عليها نظرية التهديد الجماعي.
 ترتكز هذه النظرية على أن وجود حجم مجموعة عرقية خارجية يؤدي إلى إدراك مناظر لحجمها، والذي بدوره يؤدي إلى ظهور الشعور بالتهديد من قبل الأغلبية، والدفاع المقابل من قبل المجموعة. ومع ذلك، فإن معرفة الحجم الفعلي للمجموعة لا يغير المواقف تجاه تلك المجموعة. إن هذه المواقف قد تكون لا تعتمد كثيراً على حجم المجموعة نفسها أو تصورات عن حجمها. واحد من نتائج الدراسات التي توصل إليها الباحثين يؤكد أن التصورات حول العدد الكبير من المهاجرين، قد يكون نتيجة أكثر من كونه سبباً للمواقف تجاه الهجرة.
تم إجراء خمس استطلاعات منفصلة بين عامي 2006 و2017 لمعرفة التأثير السببي للمعلومات الصحيحة حول حجم السكان المهاجرين. تضمنت التجارب أربع مجموعات مختلفة طُلب منهم ببساطة تقديم أفضل تقدير لحجم السكان المولودين في الخارج.
لقياس اتجاهات الهجرة، يتم استخدم عنصراً واحداً أو أكثر من ثلاثة عناصر. واحد يلتقط بشكل عام المواقف تجاه الهجرة القانونية: “هل تعتقد أن عدد المهاجرين من الدول الأجنبية
الذين يُسمح لهم بالقدوم إلى الولايات المتحدة للعيش يجب زيادتهم كثيراً، أو زيادتهم قليلاً، أو تبقى على حالها؟ هل انخفضت الهجرة قليلاً أم انخفضت كثيراً؟
 المقياسان الآخران يلتقطان التصورات للتهديد الاقتصادي والثقافي الذي يشكله المهاجرون: ما مدى احتمالية أن يكون المهاجرون الوافدون حالياً إلى الولايات المتحدة سيسحبون الوظائف من الأشخاص الموجودين هنا بالفعل؟  وما مدى احتمالية ذلك؟ هل ستهدد الهجرة الحالية والمستقبلية أسلوب الحياة الأمريكي؟ "

استنتاجات
يميل الأمريكيون إلى المبالغة في حجم السكان المولودين في الخارج - بقدر ما يبالغون في حجم العديد من مجموعات الأقليات - وهذه المفاهيم الخاطئة مرتبطة بآراء غير مرحبة بالهجرة. لكن تجارب المسح هذه لا تقدم أي دليل ثابت على أن معرفة الناس للمعلومات الصحيحة حول حجم السكان المهاجرين قد يغير مواقفها من للهجرة، على الرغم من أن هذه المعلومات الصحيحة قللت من تقديراتهم لأعداد المهاجرين في المتوسط. لقد كان هذا صحيح بغض النظر عما إذا كانت المعلومات قد تم تقديمها لهم ببساطة أو قد تم تصحيحها مسبقاً بشكل مباشر أو غير مباشر.
النتائج تدعم الدراسات السابقة التي تفيد أن المعلومات الواقعية حول حجم مجموعات الأقليات لا تغير المواقف حول السياسات التي تؤثر على تلك الجماعات بصورة مماثلة. في دراسة أخرى تم بحث تأثير المعلومات حول الهجرة. تبين أن تقديم المعلومات حول أعداد السكان المهاجرين جعلت الناس أقل احتمالا لتضخيم أعداد المهاجرين، لكنه لم يجعلهم أقل قلقًا بشأن الهجرة ولم يغير من تفضيلاتهم السياسية.

في النموذج الدنماركي
أظهر بحث مماثل في الدنمارك، أن الدنماركيين يبالغون في تقدير عدد المسلمين بشكل كبير، لكن الأهم هو أن موقف الدنماركيين لن يتغير تجاه المسلمين إذا تم تصحيح هذا المفهوم الخاطئ، بمعنى أنه لو تم نشر الأعداد الحقيقية للمسلمين، فلن يصبح موقف الدنماركيين أكثر قبولاً للمسلمين. هذا لأن الناس لا تشكل الآراء والمواقف على أساس الإحصاءات، بل إن العواطف والتحيزات ضد المسلمين في الدنمارك تجعل من تقدير عدد المسلمين بالنسبة لعدد السكان قضية تخمينية ترتبط بالعلاقة مع أشخاص ملموسين لأنهم يثيرون مشاعر ومواقف الدنماركيين العرقيين، أكثر مما تفعله الأرقام والإحصائيات.
توصل "راسموس تو بيدرسن" Rasmus Tue Pedersen الباحث في السياسة والإعلام في قسم العلوم السياسية بجامعة كوبنهاغن أن "نظرة الدنماركيين للمسلمين تتأثر بالوجوه وليس بالأرقام". ويضيف "لقد بالغنا في تقدير عدد المسلمين لعقود. أن تصور الدنماركيين لعدد المسلمين خاطئ تماماً"
ما الذي قد يعنيه موقف الدنماركيين تجاه المسلمين إذا تم كبح الحقائق الخاطئة؟ هل يمكن التوصل إلى طريقة للخروج من المشكلة؟
يتساءل الباحث هل يجب توظيف مئة شخص في هيئة الإحصاء الدنماركية كي نتأكد أن جميع الدنماركيين يتلقون الإحصائيات الصحيحة في صناديق البريد الخاصة بهم كل صباح؟
الباحث ذاته يجيب على سؤاله بالقول "لن يغير ذلك مواقف الناس كثيراً". يوضح أن الأمر لا يتعلق فقط بما يحدث في وسائل الإعلام.
يذهب الباحث إلى ابعد من هذا، حيث يقول إنه حتى لو ذهب السياسيون والصحفيون والباحثون إلى بيت دنماركي لإبلاغ الدنماركيين بالعدد الحقيقي للمسلمين ونسبتهم بين السكان، فلن يكون لهذا العمل التأثير الكبير.
تشير التأثيرات المتعددة لأنواع مختلفة من الوسائط إلى أن العلاقة بين التعرض للوسائط والحساب الدقيق قد يكون أكثر تعقيدًا مما يُفترض.

الحقائق لا تؤثر على المواقف
أجرى الباحث أربع تجارب اختبر فيها ما إذا كان الناس يغيرون مواقفهم تجاه الهجرة عندما يتعلمون عدد المهاجرين الموجودين بالفعل في الدنمارك.
في التجارب طلب الباحث أولاً من المشاركين تخمين عدد المهاجرين. بعد ذلك تم إخبار الأشخاص إما بالعدد الصحيح بشكل مباشر أو غير مباشر.
أخيرًا، قاس الباحث موقف الأشخاص الخاضعين للاختبار فيما إذا كان ينبغي زيادة أو تقييد عدد المهاجرين وإلى أي مدى. وجد الباحث أن تقديم معلومات دقيقة حول أعداد المهاجرين والمسلمين ليس له أي تأثير تقريباً على مواقف الناس تجاه الهجرة. حتى عندما يتم توعية الأشخاص صراحةً بأن تصورهم لعدد المهاجرين غير صحيح، فلن يكون له أي تأثير لتغيير مواقفهم.

المزيد من الإحصائيات ليس هو الحل
بناءً على نتائج الباحثين الأمريكيين وأبحاث أخرى مماثلة، يعتقد الباحث الدنماركي بيدرسن أنه لن يكون هناك تأثير كبير لوجود وسائط تهدف إلى إيصال الإحصاءات إلى السكان.
قد يكون للوسائط تأثير مختلف. ربما يكون السياسيون الذين يتفادون ذكر الأرقام أكثر حرصاً لأنهم لا يريدون المجادلة مع الأرقام الخاطئة في وسائل الإعلام.
لذلك لا يكفي تصحيح سوء فهم السكان للأرقام المجردة إذا أردنا منهم تغيير موقفهم من قضايا سياسية محددة.
يقول بيدرسن إن "الصلة بين مواقفنا السياسية وهذه الأرقام المجردة ضعيفة نوعا ما" لأن مواقفنا السياسية تتشكل بواسطة العديد من العوامل، لكن هذه الأرقام المجردة ليست شيئاً يؤثر علينا بشكل خاص.
لكن إذا لم تتشكل الآراء بناءً على الإحصائيات، كيف تتشكل؟
أستاذ العلوم السياسية بجامعة آرهوس والباحث في تكوين المواقف "مايكل بانج بيترسن" Michael Bang Petersen يقول إن طريقتنا في تشكيل المواقف تعود إلى الوقت الذي كنا نعيش فيه صيادين، عندما يتعين عليك إصدار أحكام أخلاقية حول ما إذا كان يجب استبعاد شخص ما أو تضمينه في المجموعة، لقد كان علينا التعامل مع أشخاص ملموسين.
إن طريقة اتخاذ القرارات وتكوين المواقف لا تزال بداخلنا. ما نتفاعل معه اليوم هو أيضاً الحلقات المحددة والأشخاص الذين يظهرون في القصص الإخبارية. هناك الكثير من الأمثلة حول الجدل السياسي الذي يمكّن أشخاصاً محددين خلق أو تغيير موقف الجمهور في منطقة معينة، فالدراسات تُظهر أن النقاش يؤثر بالفعل في مواقف السكان. فالأرقام المجردة مجهولة الهوية ولا تولد المشاعر.

يتعلق الأمر بالخيال
أجرى مايكل بيترسن مع زملائه عدداً من التجارب لاكتشاف كيف تؤثر الزوايا الشخصية على مواقفنا. درس أحدهم العلاقة بين الخيال والمواقف السياسية. فمن خلال أحد عشر دراسة في الدنمارك والولايات المتحدة الأمريكية، حقق الباحثون في كيفية تأثير الفروق الفردية في الخيال على تشكيل موقفنا السياسي. ركزت الدراسات على قضية سياسية حاسمة: الفوائد النقدية.
يشرح مايكل النتائج التي أظهرت أن الخيال لديه شبكة أكثر ثراءً وحيوية وتماسكاً من الأفكار حول متلقي المساعدة النقدية أكثر من متلقي الرعاية.
حيث تم تشكيل مواقف أوضح من الناس الذين يحصلون على المساعدات النقدية، فكانت ردود فعل الناس العاطفية أقوى تجاه متلقي المساعدة النقدية، لقد شعروا بغضب إذا اعتبروهم كسالى، بينما اظهروا تعاطفاً أقوى تجاه متلقي الرعاية إذا اعتبروهم أناس غير محظوظين.

نعيد سرد القصة الشخصية
في تجربة أخرى، وضع بيترسن وزملاؤه مواضيع اختبار مختلفة للعب لعبة أطفال كلاسيكية، حيث يقرأ شخص قصة ويعيد المتلقي روايتها لشخص آخر، ثم يعيد الأخير روايتها. ثم ترى ما سيحدث في النهاية. كانت القصص التي كان على الناس إعادة سردها عبارة عن مقالة إخبارية تحتوي على قصة شخصية ملموسة وبعض الإحصائيات.
في النهاية ، تمكن بيترسن وزملاؤه من معرفة أي جزء من القصة نجا من التقاليد الشفوية. كانت النتيجة واضحة. حيث إنه "عندما يعيد الناس سرد قصة إخبارية على مائدة العشاء، يمكننا أن نرى أن ما يرسمونه هو الزاوية الشخصية وليس الإحصاءات العامة" إن ما يركز عليه الناس ويبرعون في تذكره هو هذه القصص الشخصية، كما يقول أستاذ العلوم السياسية، الذي ذكر "من الواضح أن العناصر العرضية تمر عبر سلاسل النقل هذه."

متلقي إعانة البطالة الكسول عالق في الذهن
في دراسة ثالثة استأجر مايكل بيترسن ومجموعته البحثية ممثلاً ليكون بمثابة متلقي الرعاية الاجتماعية النقدية. كان على الممثل أن يتصرف إما كمتلقي بطالة كسول أو شخص سيئ الحظ يريد العودة إلى العمل. قام الباحثون بعد ذلك بقياس الموقف تجاه متلقي إعانات البطالة بين أولئك الذين تعرفوا على هذين النوعين من متلقي إعانات البطالة، وكانت النتيجة مذهلة.
يقول بيترسن: "تمكنا من تتبع التغييرات في موقف الناس تجاه إعانات البطالة لمدة تصل إلى شهر، اعتماداً على ما إذا كانوا قد تعرضوا لمتلقي إعانة البطالة الكسول أو غير المحظوظ".
بالتعاون مع مجموعته البحثية، يقوم حالياً بتحليل النتائج، لذلك لم يتم نشر التجربة بعد كمقال علمي. يشير البحث إلى حقيقة أن القصص الشخصية وليس الإحصائيات هي التي لها تأثير على تشكيل مواقفنا، ومع ذلك هذا لا يصح دائماً.

مصادر

https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=2798622
https://dataverse.harvard.edu/dataverse/jop
https://videnskab.dk/kultur-samfund/danskernes-syn-paa-muslimer-paavirkes-af-ansigter-ikke-tal




21
مؤسسة سيدة الأرض الفلسطينية في مجابهة التطبيع
كسر الحصار ومواجهة التطهير العرقي

بقلم: د. كمال الحسيني
الرئيس التنفيذي لمؤسسة سيدة الأرض


على مدار ستة عشر عاماً، ظلت مؤسسة سيدة الأرض وفية لرسالتها ورؤيتها الوطنية والثقافية والانسانية، وحفرت عميقاً اسم ومكانة فلسطين في الوجدان العربي والدولي، وحافظت على الاتصال والتواصل مع كبار الشخصيات الوطنية والقومية والدولية من السياسيين والفنانين والإعلاميين والكتّاب العرب، ورسخت معهم بناء الجبهة العربية لمواجهة التطبيع،  حيث توجت الجبهة الثقافية مكانتها المتقدمة في مسيرة نضال شعبنا نحو الحرية والاستقلال.

ان دور المثقف دور حيوي في التعبير عن الهموم القومية والوطنية والتصدي لمواجهة التحديات والمؤامرات التي تستهدف تصفية القضية المركزية دون أن ينال شعب فلسطين حقوقه العادلة والمشروعة التي أقرتها الشرعية الدولية المتمثلة بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، ومن هنا فان دور ومكانة المثقفين والفنانين العرب، وما يعبرون عنه من مواقف عبر كتاباتهم المختلفة وأعمالهم الفنية والمسرحية والدرامية من شأنها التأثير في الرأي العام وإحراج الحكومات والأنظمة العربية التي وضعت على أجنداتها موضوع التطبيع ليتم التنفيذ في اللحظة التي تقرر فيها الادارة الأمريكية لأن هذه الأنظمة العفنة فاقدة لشرعيتها وفاقدة لقرارها المستقل .
وعلى المثقفين العرب أن يستمروا في نضالهم عبر الكلمة الحرة والموقف الشجاع المنتظر منهم في هذه اللحظة التاريخية الصعبة التي يمر بها الشعب العربي، في ظل هجمة امبريالية شرسة تستهدف اعادة بناء المنظومة العربية على أسس جديدة بإفراغها من مضمونها العربي وإنهاء أي شكل من أشكال التضامن العربي المشترك وجعل كل دولة من الدول تبحث عن ذاتها في ظل تكالب المطبعين والمهرولين الذين صمتوا دهراً ونطقوا كفراً بعد سنوات من الصمت العربي المخادع .

إن أبسط معنى وأكثره مباشرة ووضحاً للتطبيع هو قبول هذا الآخر- النقيض - المحتل ضمن شروط هيمنته وإكراهاتها العسكرية المفروضة بالتفوق الذي أتاحته له راعيته الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية، والتعامل بصورة طبيعية مع مؤسساته المختلفة التي هي جزء لا ينفصل عن هذا الاحتلال، وعليه، فإن أي تعاط معها يعني القبول بشرعية هذا الكيان الاستعماري البشع. 
وهو أمر لا يمكن تحقيقه فعلياً إلا بإلغاء الرواية العربية البديهية حتى الآن، وإحلال رواية استعمارية غالبة يتوجب قبولها على أنها الصيغة الوحيدة المقبولة حتى الآن ، حتى لو لزم الأمر الاستشهاد بآيات قرآنية عن بني اسرائيل الذين قيل لهم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتبت لكم، من  دون التفريق اللازم بين إسرائيل المعاصرة بصفتها مشروعاً استعمارياً غربياً، أوروبياً بالدرجة الأولى في البداية على الأقل، وبني إسرائيل القدامى  بصفتهم "شعباً" منقرضاً بالمفهوم التاريخي، شأنهم في ذلك شأن جميع الشعوب القديمة التي أعادت إنتاج ذاتها في سلسلة لا نهائية من التحولات الثقافية واللغوية والحضارية ضمن شروط الاستمرار في المكان، وكل ذلك على أي حال يظل جدالاً  لا ضرورة له نتورط فيه بين حين وآخر، بعيداً عن المعطيات التاريخية السياسية المعاصرة التي لا تنظر إلى الكتب المقدسة بوصفها وثائق دولية يُستند إليها في اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية.

معركتنا لم تتوقف وهي مستمرة مع العدو الصهيوني، المعركة طويلة وصعبة، ولا يكفي أن نعرف معسكر الأعداء ونحدده، بل علينا فهمه أيضًا، فإن هذا الفهم يضعنا أمام حقيقة أن هذا الصراع مع المستعمِر الصهيوني هو صراع مُركّب؛ أي أن له مناحٍ عدة؛ فهو صراع عسكري وحضاري وثقافي، الخ، ولا يمكننا الاكتفاء بمواجهة العدو بالمقاومة المسلحة، بل علينا مواجهته ثقافيًا وفنيًا، الخ.

 ذلك كلّه لمواجهة ماكينة كيّ الوعي الصهيونية، ولعزل العدو في كافة الساحات التي يحاول إثبات نفسه فيها، فمعركتنا مع العدوّ الإسرائيليّ معركةٌ على كلّ الجبهات، وفي طليعتها : جبهاتُ الثقافة، والفنّ، والإعلام، والرياضة.

علينا أن نعي أنّ السبيلَ الأهمّ لمواجهة هذا التطبيع يصيب البيئةَ غيرَ المطبِّعة؛ فلولا هذه البيئة، بيئتُنا نحن، لما استسهل المطبِّعون التطبيعَ، وأهمُّ ما نفعله في هذا الصدد هو "مواجهةُ ثقافة الاستهتار أو الاستهانة بالمقاطعة، وذلك يتمّ بسردِ ما حقّقته المقاطعةُ في العالم والوطن العربيّ من إنجازات على صعيد الفنّانين والأكاديميين والطلّاب وأعضاءِ الكنائس والجمعيّات العلميّة والفِرق الرياضيّة والبلديّات وصناديقِ التقاعد وغير ذلك.

كما نواجه ثقافة الاستهتار بسرد إجراءات العدوّ ضدّ المقاطعة، ومنها: أنّ الكنيست الإسرائيليّ سنّ قانونًا لمحاربة المقاطعة؛ وأنّ وزيرَ الأمن والشؤون الاستراتيجية عُيّن مسؤولًا عن تطبيقه.

نعم، نقولها بصوت مرتفع، علينا نقدُ "ثقافة الحوار" الليبراليّة السمجة، ومن أهمّ مداميكها: التسامحُ مع (الآخر) والسلامُ معه، وكأنّ المحتلّ محضُ (آخر) وتفهّم وجهات النظر المتعددة وتفهُّم السرديّات الأخرى، وفي رأينا، أنّ قضيّة فلسطين، بشكلٍ خاصّ، لا تحتمل إلّا سرديّةً واحدة، اسمُها: حريّة كامل فلسطين وكامل الأراضي المحتلة، وهذه هي الرواية التي تعتنقها مؤسسة سيدة الأرض وهذه هي سرديتها التاريخية الفلسطينية التي لا يمكن أن تسقط في اللحظة.

بالإضافة إلى الزعم أنّ "معرفة العدوّ تستلزم الحوارَ معه"، نقول بما لا يدع مجالاً للشك بأن معرفةُ العدو ضرورةٌ من ضرورات هزيمته، لكنّ ذلك لا يستلزم الحوارَ معه، ولا "تنفيعَه" بشراء كتبه وحضورِ أفلامه مثلًا، فمعرفتُه ممكنة من دون التواصل المباشر معه ومن دون تحقيق منفعة له.

وأرى أنّ على كافة الفنانين والمثقفين العرب وكافة مؤسستنا الثقافية، أن تضطلع بمهمّة تثقيف الناس في سياسة العدوّ واقتصاده وإنتاجه الفنّيّ والثقافيّ والأدبيّ والسينمائيّ، ضمن أطرٍ موجّهة، وبنُسخٍ مقرصنة، كما أنّ على جامعاتنا أن تخصّصَ مساقاتٍ عليا لتدريس إنتاج عدوّنا على كلّ المستويات.

واذا ما تأملنا المشهد العربي بشكل منهجي وفي اطار قراءة جدية ومعمقة، نجد أن مشاريع التطبيع والهرولة والخاصرة الرخوة ما زالت حاضرة في ظل مستنقع التبعية والتتبيع التي تستهدف زج كافة الأنظمة في علاقاتها الطبيعية مع الكيان الغاصب المقام على أرض فلسطين، وعلينا أن نعي تماماً ان المثقفين هم الجبهة الشامخة وصمام الأمان في مواجهة هذا الانحطاط القائم، وعليه علينا أن نعيد الاعتبار لأولنا بالاتكاء على أنفسنا وكسر الحصار الواقع على الشعب الفلسطيني وهذه مسؤولية عربية، وهي نقطة قد نتقف وقد نختلف عليها، ألا وهي زيارة الأشقاء العرب الى فلسطين المحتلة.

ان زيارة فلسطين المحتلة تتطلب شجاعة كبيرة ممن يقوم بها من الفنانين والكتّاب والشعراء والاعلاميين العرب، وهي زيارة تنسجم مع تلك المقولة الفلسطينية الوافية : (زيارة السجين لا تعني زيارة السجان) ، بل انها زيارة تضامن ووفاء للشعب الفلسطيني المقاوم الذي ظل دائماً الجدار المجابهة للتطبيع.

 ومن هنا فإننا في حواراتنا مع الفنانين العرب، وآخرها حديثي مع الفنان الكبير علي حجار الذي يعتبر زيارة فلسطين تطبيعاً في ظل وجود الاحتلال، فغالباً ما يكون الحديث في هذا الأمر ذو شجون، ومن هناك قمنا في مؤسسة سيدة الأرض بكسر التابوهات والمواقف الجامدة والجاهزة واستقبلنا على أرض الحلم – أرض فلسطين – قامات وهامات كبيرة من الفنانين العرب، وكان آخرهم الفنان النجم أحمد بدير الذي التف حوله الالاف من ابناء شعبنا وهو يكسر الحصار عن نابلس ويمشي في أحياءها القديمة وبين عرين أسودها في حي الياسمين، وفي جنين حيث التقى بالناس الطيبين في رسالة واضحة للقاصي والداني، وكانت زيارته للحرم الإبراهيمي في الخليل كاسراً الحصار الجائر المفرض على الحرم الذي طفح البلاد موسم وصبا، الى تلك الزيارة الراسخة الحضور والهوية صلاة وحضوراً في المسجد الأقصى المبارك في عاصمتنا المحتلة لتكون هذه الزيارة بمثابة التحدي الأكبر لهذا المحتل الغاصب المدجج بالجريمة.

علينا أن نعيد الاعتبار لفلسطين ومكانتها على خارطة الفعل والتأثير بالعمل على تحدي اجراءات وسياسات الاحتلال التي تعمل على عزلنا عن محيطنا العربي، ومن هنا ورغم كل ما يقال عن زيارة فنانينا ومثقفينا العرب الى فلسطين، وجب علينا التدقيق والتمحيص وعدم التسرع في إطلاق وصمة التطبيع لأن هذه الشخصيات بزيارتها لفلسطين والتعرف على الواقع المعاش وملامسته انما هي الرسالة الأبرز التي علينا تكريسها في خطابنا المقاوم المجابه للاحتلال والعنصرية والفاشية والتطهير العرقي.

خلال الستة عشر عاماً الماضية، عملنا في مؤسسة سيدة الأرض على ترسيخ التضامن العربي والدولي مع القضية الفلسطينية، وبينينا مع المؤسسات العربية بفنانيها ومثقفيها جسوراً للتواصل وبناء الموقف الشعبي على قاعدة تثمين الجهود، حيث تجلى المواقف الشامخة في مؤتمرنا الأخير الذي حمل عنوان : (القدس في عيون الأحرار) والزيارات التي قمنا بها مع الوفود المشاركة والتي حملت رسائل مباشرة في مواجهة الاحتلال ونقلت صورة واضحة عن معاناة وصمود شعبنا وهو يدافع عن مقدساته العربية الاسلامية والمسيحية، حيث كانت لتلك الزيارة التاريخية للحرم الإبراهيمي في الخليل معانيها الكبيرة حيث يحرم العرب والمسلمون من الوصول الى أحد مقدساتهم التاريخية، ولكن وصلت الرسالة بالزخم الاعلامي وبالحضور اللافت للفنانين العرب الذين عاشوا تلك اللحظات المؤلمة والحالمة والمفتوحة على كافة الاحتمالات.

22

حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


كتاب القتلة السياسيون.. ستالين نموذجاً

أنجزت سابقاً قراءة وعرضاً لكتاب "لا يمكن الدفاع عنهم.. القتلة السياسيون" الذي صدر عن جامعة آرهوس في الدنمارك.  أستعرض تالياً معكم بعجالة واحد من فصول الكتاب الذي يتناول الزعيم البلشفي "جوزيف ستالين"

إيمان ستالين بالنظام جعله قاتلاً جماعياً
بعد أن فرض جوزيف ستالين نفسه زعيماً للاتحاد السوفيتي، بدأ في البحث عن أعداء داخليين. شعر "نيكولاي بوخارين" Nikolai Bukharin بذلك عندما انتقل من كونه حليفاً وثيقاً مقرباً من ستالين إلى ميدان الإعدام بتهمة الخيانة والإرهاب.
كثيراً ما تم تقديم تفسير للجرائم التي ارتكبها ستالين من خلال التركيز على طفولته وتربيته القاسية. حيث كان والده صانع أحذية، وفي حالة سكر دائم، وكان عنيفاً بشكل منتظم تجاه زوجته وابنه. عندما أصبح ستالين بالغاً، لم يكن لديه ثقة في زملائه الرجال وأراد الانتقام من العالم للألم الذي خلفته طفولته.
تمت مواجهة التفسير النفسي المربع لشر ستالين المزعوم بالحجة القائلة بأنه - إذا كان هذا صحيحاً - فلا بد أنه كان هناك مئات الآلاف من نفس النوع، نظراً لأن تربيته كانت نموذجية لأطفال الطبقات الدنيا، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في مدينة "غوري" التي تقع شرق جورجيا التابعة للإمبراطورية الروسية آنذاك.
إذا كنت تبحث عن تفسير للتميز، فليس هناك الكثير مما يمكن العثور عليه هنا. يمكن القول أيضاً إن ستالين ربما كان نموذجاً لعصره، وكان هناك عدة آلاف من النسخ الكربونية عن ستالين، أي الأفراد الذين لديهم ميول نفسية مماثلة.

لا يمكن الدفاع عن ستالين
لم يضف ستالين الكثير مما قاله وكتبه المنظر الثوري والماركسي "فلاديمير إيليتش لينين" Vladimir Ilyich Lenin (1870-1924) أو مما كان قد ابتكره واختبره بالفعل، ولا حتى على نطاق صغير. يتعلق الأمر بالنضال ضد "الشعب السابق" ، وهو مصطلح يطلق على النخبة القيصرية والبرجوازية القديمة، الذين كانوا يعتبرون بحكم انتمائهم الطبقي أعداء طبيعيين أو موضوعيين للسلطة السوفيتية. أخيراً، حتى الفلاحون الذين أصبحوا برجوازيين صغاراً كانوا أعداء محتملين للثورة.
في عشرينيات القرن الماضي ، بنى ستالين جهازاً ضخماً للسيطرة على المجتمع، وكان له اليد العليا في الجهاز. قام الجهاز بتقسيم المزارعين الروس إلى مجموعات، تمت إدارتها بصورة منفصلة، بحيث تسيطر الدولة عليهم وعلى الإنتاج.
تم نقل أكثر الأشخاص تمرداً في سيارات الشحن إلى المناطق الباردة وغير المأهولة، حيث تفشى معدل الوفيات المفرط، أو إلى معسكرات العمل القسري في معسكرات "غولاغ" المتنامية باستمرار، التي سُجن أو نُفي فيها ما يقارب ثمانية وعشرون مليون إنسان بين عامي 1918 و1987.  وصل جوزيف ستالين إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي في عام 1922. وفي وقت قصير، بنى جهازاً أمنياً وحزبياً وإدارياً ضخماً للدولة، يمكنه من السيطرة على الاتحاد السوفيتي وإمساك سكانه بقبضة حديدية.
كان العمل الجماعي القسري، الذي بدأ في عام 1929، هو السبب الرئيسي للمجاعة الرهيبة التي أثرت بشكل خاص على روسيا وأوكرانيا في أوائل الثلاثينيات، والتي كلفت الكثير من الناس حياتهم.
عندما أثبت ستالين نفسه في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي كطاغية شبه مطلق في الكرملين القديم للقيصر في موسكو، بدأ حرباً ضد أعدائه، وبشكل خاص في المناطق النائية.
وقد أدى ذلك إلى محاكمات صورية سيئة السمعة في موسكو لأعضاء النخبة الشيوعية، الذين تم إعدامهم لاحقاً، لضباط وجنرالات في الجيش الأحمر، وأدت إلى زيادة الإرهاب ضد السكان بشكل عام. كان ستالين العقل المدبر وراء إعدام مليون شخص صغير في السجون السوفيتية، وقد رتب لترحيل مئات الآلاف من الأشخاص العشوائيين إلى معسكرات أخرى. بلغت ذروتها في عام 1937 ومنذ ذلك الحين أطلق عليها اسم "الإرهاب العظيم".
فيما يلي يُظهر الكتاب تفكير ستالين وأفعاله تجاه أقرب الأصدقاء والحلفاء.

نيكولاي بوخارين
ولد نيكولاي بوخارين Nikolaj Bukharin عام 1888 في موسكو لأبوين يعملان في التعليم. شارك في الأنشطة الطلابية السياسية في جامعة موسكو عام 1905. انضم إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي في عام 1906. عندما بلغ العشرين من العمر كان عضوا في لجنة موسكو للحزب. تعرض للاعتقال مرات عديدة من قبل الشرطة السرية القيصرية. في عام 1911 بعد السجن بمدة وجيزة، تم نفيه إلى أونيغا في أرخانجيلسك، ولكن سرعان ما هرب إلى هانوفر ، حيث مكث هناك لمدة عام قبل ذهابه إلى كراكوف في عام 1912 وهناك اجتمع مع لينين لأول مرة. كتب سلسلة من المقالات هاجم فيها معارضي الماركسية نشرت فيما بعد عام 1924.  ثم كتب آنذاك مؤلفه "النظرية الاقتصادية عن الطبقة المرفهة التي لا تعمل" الذي ينظر إليه في الأوساط الماركسية على أنه خير تفنيد ودحض لنظريات زعيم المدرسة النمساوية.
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى اعتقلت الشرطة النمساوية بوخارين بتهمة التجسس، وطرد فيما بعد إلى سويسرا، حيث انضم إلى البلاشفة في معركتهم مع ماركسية الماركسيين الذين أيدوا الحرب تحت ذريعة "الدفاع عن الوطن الأم" وكتب في الوقت ذاته كتاباً جديداً "الامبريالية والاقتصاد العالمي" عام 1915. ثم انتقل بوخارين من سويسرا إلى السويد، فالنروج، ثم وصل عام 1916 بطريقة غير قانونية إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث التقى تروتسكي الذي كان قد طرد من فرنسا. وهناك قام بوخارين بتحرير واصدار صحيفة نوفي مير "العالم الجديد" مع ليون تروتسكي .
عندما اندلعت الثورة البلشفية عاد تروتسكي وبوخارين إلى روسيا عام 1917. أصبح عضواً المكتب الإقليمي للحزب وكان أحد الزعماء البلاشفة البارزيين في موسكو جنبا إلى جنب مع تروتسكي، ولينين، ودزيرجينسكي، وياكوف، سفيردلوف، وستالين.
 في أعقاب الثورة أصبح بوخارين رئيس تحرير صحيفة الحزب "برافدا". أيد بوخارين فكرة تروتسكي في قيام الثورة العالمية، كان دائما يختلف مع لينين في اتخاذ القرارات، ولم يلبث أن استقال من منصبة عام 1918 بعد أن اختلف مع لينين حول معاهدة "بريست - ليتوفسك". نادى بوخارين بالحرب الثورية، وعارض فكرة تقديم تنازلات لرأس المال الأجنبي من أجل تطوير الصناعة في الاتحاد السوفيتي.
بعد وفاة لينين في عام 1924، أصبح بوخارين عضوا كامل العضوية في المكتب السياسي. ظهر الصراع على السلطة بين ليون تروتسكي، وغريغوري زينوفييف، وكامينيف، وستالين. اظهر بوخارين نفسه بأنه وسطي في الحزب، لكن في الحقيقة كان قد وقف بجانب ستالين وأيد السياسة الاقتصادية الجديدة ضد المعارضة اليسارية. كان بوخارين أبو نظرية الاشتراكية في بلد واحد التي طرحها ستالين في عام 1924، الذي جادل بأن الاشتراكية ( في النظرية الماركسية، والمرحلة الانتقالية من الرأسمالية إلى الشيوعية) يمكن تطويرها في بلد واحد، حتى ولو كانت متخلفة كما روسيا .
بوخارين - من صديق إلى عدو مخيف
كان نيكولاي بوخارين حليفاً وثيقًا لستالين في القتال ضد ما يسمى بالمعارضة اليسارية، التي قادها ليف تروتسكي Lev Trotskij (1879-1940) مؤسس الجيش الأحمر، وأقرب معاوني لينين خلال الثورة البلشفية، وما تلاها أثناء بناء النظام السوفيتي. في وقت لاحق دخل تروتسكي في صراع مع ستالين لأنه كان متشككاً في موضوع نقابات العمال التي بدأ الخلاف حولها بين الرجلين قبل موت لينين، حيث أراد تروتسكي جعلها تحت سلطة الدولة، وطالب بعسكرتها، بينما رفض ستالين ذلك. تمكن ستالين بالتحالف مع زينوفييف، وكامنييف، وبوخارين، وغيرهم، من عزل أنصار تروتسكى في الحزب، وفى عام 1926 تم اعفاء تروتسكي من عضويته في المكتب السياسي بالحزب البلشفي بتهمة النشاط المعادي للحزب.
عقب حادثة اغتيال سيرغي كيروف يوم 1 كانون الأول/ديسمبر 1934، عاش الاتحاد السوفيتي على وقع بداية أحداث محاكمات موسكو والتطهير الكبير الستاليني، الذي أسفر ما بين عامي 1936 و1938 عن مقتل ما لا يقل عن 700 ألف شخص. وفي خضم هذه الفترة الدامية من التاريخ السوفيتي، اتجه جوزيف ستالين للتخلص من رفاقه القدامى الذين شارك عدد منهم بالثورة البلشفية عام 1917 وقاتلوا بجانب الجيش الأحمر في خضم الحرب الأهلية الروسية.
لذلك، في عام 1937 كان بوخارين أحد الشخصيات الرئيسية في القضية ضد ما يسمى بالمنشقين اليمينيين. انتهت القضية بإعدامه في مارس 1938. وكان رئيس الشرطة السرية ، نيكولاي ييجوف (1895-1940) يجمع الأدلة ضده وضد المتآمرين معه لفترة طويلة.

متهم بالخيانة والتخريب والارهاب
تم التعامل مع قضية بوخارين في جلسة عامة للجنة المركزية في 23 فبراير 1937. وقبل أيام قليلة أرسل بوخارين خطاباً إلى أعضاء اللجنة جاء فيه:
"لا يمكنني العيش على هذا النحو بعد الآن. لقد دحضت كل الثرثرة ضدي. أنا لست قادراً جسدياً ولا روحانياً على الحضور إلى الجلسة الكاملة، ولا أستطيع تحريك ساقي، ولا أستطيع تحمل الأجواء ولا أستطيع التحدث. في هذا الوضع غير المعتاد، قررت الإضراب عن الطعام حتى رفع الاتهامات بالخيانة والتخريب والإرهاب عن الطاولة"
إلى جانب الرسالة، أرسل ما يزيد عن مئة صفحة دحض فيها جميع الاتهامات نقطة تلو الأخرى. ووثّق أن الشهادة ضده كانت متناقضة وأنه لا يمكن أن يكون في الأماكن في الأوقات المذكورة.
كما أعرب عن عدم ثقته في الشرطة السرية، التي - كما كتب - كانت قادرة على الحصول على الشهادات "التي يحتاجونها". وأكد أخيراً أنه منذ عام 1930 كان على خلاف مع المسار السياسي لستالين والحزب الشيوعي.
لو أن بوخارين تعلّم من التاريخ شيئاً، لكان عرف أن فرصته الوحيدة للخروج من القضية بحياته ستكون الاعتراف وطلب تساهل الحزب. حتى أنه طلب ذلك من تروتسكي نفسه الذي كان في وضع مماثل في نهاية العشرينيات.
قوبلت مطالبه بالمحاكمة والدفاع بازدراء من قبل رفاقه، واعتبر إعلان الإضراب عن الطعام بمثابة استفزاز. كان الانضباط الحزبي منذ أيام لينين، يتطلب الانصياع للقرارات واللوائح التي تتخذ على مستوى أعلى، إذا لم يكن الأمر كذلك، كان يُعتبر المرء عدواً.

أيها الوغد يجب أن تصمت
افتتح جلسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي "نيكولاي يجوف" Nikolai Yezhov مفوض الشعب للشؤون الداخلية\ن ورئيس الشرطة السرية آنذاك، لذي استشهد بعدد من الشهود الذين أكدوا أن بوخارين كان أحد قادة العصابة وراء خطط لاغتيال ستالين وأعضاء آخرين من النخبة السوفيتية. لذلك اعتقد يزوف أنه يجب طرد بوخارين من اللجنة المركزية ومن الحزب. تعالى الصراخ في القاعة بأنها عقوبة متساهلة للغاية وأنه يجب إطلاق النار عليه على الفور.
في وقت لاحق ، تم إعطاء المتهم بوخارين الكلمة، وتبعه أليكسيج ريكوف (1881-1938) ـ الذي كان يشتبه في أنه متحالف معه ـ على المنصة. في الأسبوع السابق للجلسة، كان قد تم إعدام الصحفي كارل راديك (1885-1939) و14 آخرين بتهمة التخريب والتجسس لصالح ليون تروتسكي وألمانيا.
كان بوخارين قد بدأ حديثه عندما بدت أولى المقاطعات التي لا تعد ولا تحصى من القاعة: "لماذا كتبت أنك لن تلغي الإضراب عن الطعام حتى يتم رفع التهم الموجهة إليك؟"
أجاب بوخارين: "لا أريد أن أطلق النار على نفسي، لأن الناس حينها سيقولون إنني فعلت ذلك لإيذاء الحزب".
شهدت القاعة الضحك، وصرخ أحدهم: "أنت تحاول ابتزازنا!"
صرخ الضابط والسياسي كليمنت فوروشيلوف (1881-1969) مفوض الشعب للشؤون العسكرية: "أيها الوغد. يجب أن تصمت. كيف تجرؤ على الكلام هكذا!"
أجاب بوخارين: يجب أن تفهم أني لا أستطيع العيش مع هذا الأمر.
أخذ ستالين الكلمة وأجاب: "هل تعتقد أنه من السهل علينا؟"

يضحى بنفسه من أجل السلطة السوفيتية
يُظهر الحوار جوانب عديدة من الثقافة الحاكمة: أولاً وقبل كل شيء، الغضب من أن بوخارين قد كسر الانضباط الحزبي بعدم الخضوع لقرار الحزب بالإقرار بالذنب هو أمر ملموس. من الواضح أن القرار كان نهائياً، ولم تكن الحجج أو الشهود أو الحقائق مهمة بعد ذلك، ولن تُغير القرار.
عندما وجد بوخارين نفسه لاحقاً في طابور الإعدام، كتب رسالة استقالته الشهيرة إلى ستالين، ما زال ينكر بعناد جميع الاتهامات، لكنه في الوقت نفسه أظهر أنه كان على دراية كاملة بكيفية عمل النظام. واختتم بالقول إنه إذا كان موته قد يفيد القوة السوفيتية، فهو مستعد لتقديم هذه التضحية.
في اجتماع اللجنة المركزية، كان لا يزال هناك أمل في الإنقاذ، حتى لو كان ضعيفاً، وبالتالي أظهر بوخارين الانضباط الحزبي الكبير. في طابور الإعدام ذهب كل أمل، وربما عليه أن يتصرف مثل شيوعي جيد. قد تعتقد أن ستالين والرفاق الآخرين كانوا يسخرون منه، لكنهم ربما تحدثوا وذكروا ما ذكروه عن قناعة حقيقية. اقتنع ستالين بذنب بوخارين، ولم يكن من السهل عليه مواجهة الخيانة وإعدام رفيق قديم.
كان ستالين ورفاقه الآخرون يدركون أن اتخاذ القرارات الصعبة والقاسية يقع على عاتقهم. كان الأمر صعباً، لكن الضرورة الثورية طلبت منهم القيام بذلك. وستالين كان يؤمن بتحقيقات الشرطة. وكان مدركاً تماماً لما كان يحدث في أقبية الشرطة السرية. هذا واضح من مدخل آخر في الجلسة المؤلمة مع بوخارين.
ذكر ستالين أن المتهمين كانوا في كثير من الأحيان سعداء للغاية بمواجهة مع قيادة الحزب لأنها أعطتهم الفرصة لقول كل شيء. وتابع: "هذه هي الحالة النفسية التي يتعرض لها المعتقل أثناء المواجهات". ثم قيل: "أنا أعلم أن رجال الشرطة السرية يبالغون هنا وهناك، لكني لا أشك للحظة في أنهم جادون. ومع ذلك، يحدث أنهم وقعوا في الأحداث. لكن المواجهة النهائية، حيث الشهادة التي قُدمت بحضورنا تتفق تماماً مع ما قيل خلال الاستجوابات السابقة، يُقنعني أنهم يعملون بشكل صحيح وأمين".
إن كون ما قاله ستالين يشكل وجهة نظر مشتركة بين نخبة الحزب، وربما في دوائر أوسع أيضاً،  يتضح ذلك مما قاله عضو آخر في المكتب السياسي: "بوخارين يشوه التحقيق ضده، وبالتالي يسيء لهيئات التحقيق لدينا. سيعطي بوخارين الانطباع بأن اللجنة المركزية تسعى وراء دمه البريء، وأنه مستعد للتبرع به. إنه عدو فقط من يمكنه التحدث بهذه الطريقة - عدو تم القبض عليه متلبساً أيضاً، ويرفض الاعتراف بجرائمه".

عدم الإيمان بالنظام يُعتبر خطراً على النظام
دافع الماريشال "كليمنت فوروشيلوف" Kliment Voroshilov رئيس هيئة رئاسة مجلس السوفيات الأعلى، عن مفوضية الشعب للشؤون الداخلية NKVD التي تأسست في عام 1917 بجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، وكانت الوكالة مكلفة في الأصل بإجراء أعمال الشرطة العادية والإشراف على السجون ومعسكرات العمل في البلاد، قبل أن يتم تقسيمها إلى وزارة الشؤون الداخلية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية (MVD) المسؤولة عن الميليشيات الإجرامية والمرافق الإصلاحية. ولجنة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية لأمن الدولة (KGB) المسؤولة عن الشرطة السياسية، والاستخبارات المضادة، والحماية الشخصية (للقيادة) والاتصالات السرية.
قال فوروشيلوف: "لقد زرع بوخارين عدم الثقة في عمل مفوضية الشعب للشؤون الداخلية، وفي اللجنة المركزية، لأن أقسام المفوضية تعمل تحت القيادة المباشرة للجنة المركزية للحزب وسكرتيرها". وأضاف: "أنا مقتنع تماماً بأن أولئك الذين تم اعتقالهم الآن، والذين تم استجوابهم يقولون الحقيقة." وذكر مباشرة أن عدم الثقة في المفوضية يساوي عدم الثقة في ستالين.
ربما يحتوي البيان على مفتاح لفهم سلوك النخبة الحزبية آنذاك. وراء البيان يكمن مفهوم الإيمان. إما أن يكون لديك إيمان غير مشروط بهذا الديكتاتور أو لا يكون. بالطبع، فإن القيادة السياسية ومؤسسات النظام، التي تجسدت بشخص ستالين، فأصبحت أية معارضة لأي منهما، وأي’ بادرة تشير إلى عدم الإيمان بالنظام، تُعتبر خطراً أمنياً على الثورة، وعلى الحزب، والدولة.

إذا تم اتهام المرء، أصبح مذنباً
أثار رفض بوخارين اتباع الطقوس الحزبية التي كانت تتطور منذ عام 1918 غضب ستالين والشيوعيين البارزين الآخرين. باختصار، كان هذا يعني أنه بمجرد أن ينتهي بك الأمر في قفص الاتهام ، لن يكون هناك أملاً في العودة. في عهد لينين، تم اتخاذ قرارات الاجتماعات المهمة، والأحكام في قضايا المحاكم قبل الاجتماعات وإجراءات المحكمة، وتمت الموافقة عليها من قبل القيادة السياسية العليا. كان التفكير في أن المحاكم هي مؤسسات سياسية تحكم وفق المبادئ الطبقية، وبالتالي لا يوجد شيء بغيض في ترك أهم القرارات للسلطة السياسية. القيادة الحزبية هي الحاكم الفعلي والأوحد، وكل شيء آخر تصنعاً وحذلقة.

نهاية حزينة
من بين الشفعاء الذين حاولوا إنقاذ بوخارين، الأديب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل "رومان رولاند" الذي كتب إلى ستالين طالباً الرأفة، مجادلاً أن "عقلًا مثل عقل بوخارين هو كنز لبلاده". قارن موقف بوخارين بحالة الكيميائي العظيم "أنطوان لافوازييه" الذي قُتل بالمقصلة خلال الثورة الفرنسية: "نحن في فرنسا أكثر الثوار حماسة ما زلنا نحزن بشدة ونأسف لما فعلناه. أتوسل إليكم أن تبدي الرأفة .
تم إعدام بوخارين في 15 مارس 1938 في ساحة إطلاق النار في كوموناركا. على الرغم من الوعد بتجنب عائلته المحاسبة، تم إرسال زوجة بوخارين "آنا لارينا" إلى معسكر عمل، لكنها نجت لترى زوجها قد أعيد له الاعتبار رسميًا من قبل الدولة السوفيتية في عهد ميخائيل جورباتشوف في عام 1988.
قدم بوخارين العديد من المساهمات البارزة في الفكر الماركسي اللينيني، وأبرزها اقتصاديات الفترة الانتقالية (1920) وكتاباته في السجن، أرابيسك الفلسفي. بالإضافة إلى كونه عضواً مؤسسًا للأكاديمية السوفيتية للفنون والعلوم. كانت مساهماته الأساسية في الاقتصاد هي نقده لنظرية المنفعة الهامشية، وتحليله للإمبريالية، وكتاباته حول الانتقال إلى الشيوعية في الاتحاد السوفيتي. أصبحت أفكاره ، خاصة في الاقتصاد ومسألة اشتراكية السوق، ذات تأثير كبير فيما بعد في اقتصاد السوق الاشتراكي الصيني وإصلاحات دنغ شياو بينغ.




23
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


لا يمكن الدفاع عنهم.. القتلة السياسيون


صدر عن مطبعة جامعة آرهوس Aarhus Universitet في غرب الدنمارك كتاب "لا يمكن الدفاع عنه: القتلة السياسيون" De uforsvarlige: politiske massemordere باللغة الدنماركية، ويقع الكتاب في مئتين وثمانون صفحة. ساهم في تأليف الكتاب عشرون باحثاً دنماركياً، وقام بتحريره وكتابة المقدمة المؤرخ والأستاذ الجامعي الدنماركي "ميكيل ثورب" Mikkel Thorup.
يتناول الكتاب ستة عشر من أسوأ القتلة الذين ارتكبوا جرائم القتل الجماعي السياسي في تاريخ العالم، والذين لا يمكن ولا يجب الدفاع عن أفعالهم، أمثال "بول بوت" Pol Pot السكرتير السابق للحزب الشيوعي في كمبوتشيا. و"ماو تسي تونغ" Mao Zedong الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الصيني، ومؤسس جمهورية الصين الشعبية. و"أدولف هتلر" Adolf Hitler المستشار الألماني السابق، ورئيس الحزب النازي. و"جوزيف ستالين" Joseph Stalin الأمين العام للحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي السابق. و"بينيتو موسوليني" Benito Mussolini مؤسس الفاشية، والرئيس الإيطالي السابق. "أسامة بن لادن" Osama bin Laden مؤسس منظمة الوحدة الإسلامية المسلحة ـ القاعدة.
جاء في مقدمة الكتاب أن هؤلاء "الرجال الذين قتلوا وشوهوا وعذبوا وأبادوا الملايين من الناس. الأسماء وحدها تُشعرنا بالغثيان الحاد والصور التي تؤذي العين"
لقد وضعهم شرهم خارج المجتمع البشري. لكن يمكننا الدخول إلى رؤوسهم وإلقاء نظرة فاحصة على تفكيرهم السياسي والأخلاقي، وعلى ودوافعهم. لأنه، حتى لو كانت أفعالهم تجعلهم وحوشاً، فإن تصرفاتهم كانت بدوافع فكرية، سياسية، ودينية، وأخلاقية. وأفكارهم جزء من تفكير كثير من الناس. فقد كانوا أناساً عاديين. لا عباقرة ولا أغبياء. يمكن فهمهم على أنهم فاعلون سياسيون يستخدمون القسوة لجعل المثل والقيم السياسية حقيقة واقعة.
حتى لو لم يكن من الممكن الدفاع عنهم، فلا يزال يتعين علينا محاولة فهمهم. لأنه من خلال القيام بذلك، ربما يمكننا حماية أنفسنا بشكل أفضل من الاعتداءات، والقتل الجماعي السياسي في المستقبل.
إن الستة عشر من القتلة السياسيين الذين لا يمكن الدفاع عنهم، ولا شيء يجعلهم بشراً. هذا لا يجعلهم بالضرورة أشخاصاً جيدين أو أذكياء. لكن كانت لديهم علاقة بأفكار معاصريهم - وبعضهم اخترع وطور الأيديولوجيات بأنفسهم - وفهموا أنفسهم كجزء من أنظمة وتيارات فكرية مختلفة.
الكتاب لا يدعي بأي حال من الأحوال أنهم مفكرون عظماء أو مهمون. تكمن الفائدة في كيفية وضع أنفسهم كجزء من منظومة أكبر، سواء كانوا متساوين أم لا، أو يتمتعون بحجج موضوعية وحقيقية أم لا.
إنها مهمة ثقيلة وصعبة لفهم أفكارهم كجزء من تفكير أكبر، وخاصة التفكير الذي يتشارك به العديد من الأشخاص المعاصرين. من الواضح أن القتلة السياسيون غالباً ما شوهوا الأفكار التي أخذوا منها ما يمكنهم استخدامه فقط لخدمة أيديولوجيتهم وتركوا الباقي.
من الواضح أيضاً، أن المنظومات الفكرية التي كان هؤلاء جزءًا منها، لم تتأثر لا ارتفاعاً ولا انخفاضاً مع الاستخدام وإساءة الاستخدام غير المسؤول.
من المهم مناقشة كيف يمكن استخدام وإساءة استخدام الأنظمة الفكرية والأيديولوجيات المختلفة، وكيف يمكن أن يصبح الاختلاف الفكري أساساً شرعياً للوحشية.
في الدنمارك، بعد الهجوم على مقهى Krudttønden في كوبنهاغن يناير/كانون الثاني عام 2015، شهدنا سياسيين دنماركيين بارزين يقولون إن الأمر لا يتعلق بفهم أولئك الذين يهددوننا، ولكن الأمر يتعلق فقط بمقاتلتهم.
هناك قول مأثور في الدنمارك، يُستخدم غالبًا في المواقف الساخنة عندما تريد إسكات خصومك في مناظرة حيث تقول "لفهم كل شيء يعني مسامحة كل شيء".
يمكن للمرء أن يسأل عن شروط مناهضة الإرهاب إذا اختار المرء صراحة الجهل كأساس للمعرفة، ولكن الأهم من ذلك إثبات أن الفهم والتسامح هما شيئان مختلفان للغاية.
كتاب "لا يمكن الدفاع عنه" يدور حول فهم ما يبدو غير مفهوم. لا يوجد شيء في هذا عن المغفرة. لفهم كل شيء يعني فهم كل شيء. لا شيء آخر، وأعتقد أن هذه حكمة قوية أيضاً.
من خلال استعراض الكتاب لستة عشر من أسوأ القتلة الجماعيين في تاريخ العالم من خلال ستة عشر فصلاً. فإنه يركز على الأفكار والأيديولوجيات والسياقات التي دفعتهم لأفعالهم، من خلال عدم اعتبارهم رجال خارقين ولا أناس عاديين. بل من خلال فهم المعقد في تعقيده.
الكتاب ليس له هدف تكوين نظرية ولا يخطط لاشتقاق أنماط عامة عبر استحضار ستة عشر شخصاً، لكنه بشكل عام يعرض بصورة ضمنية بعض الأفكار القيمة والرائعة.
واحدة من أكثر التجارب إثارة للإعجاب عند قراءة الكتاب هي أن جميع "الأشرار" كانوا أشخاصاً عقلانيين، ولديهم نيات طيبة لخلق مجتمعات سعيدة. كلهم يريدون الأفضل. جميعهم مارسوا نوع الشر الذي أشار له الفيلسوف النرويجي "لارس الأب سفندسن" Lars Fr. H. Svendsen في كتاباته، ودعاه الشر المثالي، وهو الشر الذي يتم تنفيذه لخدمة قضية أعظم.
فائدة أخرى يقدمها الكتاب ككل، هي الإحساس بمدى صلابة وصمود تصور الناس عن الخير. يكاد يكون الخير في اللغة مجرد مفردة محددة. وأمام "الخير يقف "الشر".
غالباً ما تكون اللغة وتفكيرنا ثنائي التفرع، على الرغم من أن الحد الفاصل بين ما نسميه جيداً وما نسميه سيئاً، غالباً ما يكون شديد التفرع.
في الممارسة العملية، تعتبر القيم الإنسانية مزيجاً شديد التعقيد، وما هو منتشر من التفسيرات والقيم يعتمد على السياق الذي جاءت ضمنه. على سبيل المثال، نحن نعتبر "القومية" قيمة مشروعة وغير واضحة، ولكن إذا أشدت بها ودعوت إلى القومية، فيجب حينها أن تكون على استعداد على الفور لمشاركة القيم مع كل من هتلر، وماو، وستالين، وبول بوت، وأسامة بن لادن، فيدل كاسترو، موغابي، موسوليني وآخرون
لكن التعقيد الفعلي والسياق والخصوصية، هو بالتحديد الهدف من الكتاب. إذا غصنا في عالم القاتل الجماعي الفردي، يمكننا أن نرى مدى تعقيده وخصوصيته، ومدى كونه عادياً ـ جزئياً ـ في نفس الوقت. تخدعنا تصنيفاتنا اليومية ولغتنا، وتبسيطاتها تمنع فهم المركب البشري.
ميزة أخرى قيّمة للكتاب هي الإدراك الدقيق لطموحه في نقل الفهم. القتلة الجماعيون البالغ عددهم ستة عشر شخصاً هم جميعًا شخصيات كتبوا وطوروا مبررات لرؤيتهم للمجتمع، وأنت تفهمهم وقواهم الدافعة، كشيء آخر غير الجنون اللاعقلاني السيكوباتي عندما ترى عالمهم وما يفكرون به وما قالوه.

اغتراب الروح
كان سفاح الثورة الفرنسية "ماكسميليان روبسبير" Maximilien Robespierre يحلم بمجتمع يتمتع بالحرية والمساواة، وحق متساوٍ للجميع في المشاركة، وبالتالي أراد تمكين جميع المواطنين من خلال إعادة التوزيع الاقتصادي، وجعل الرعاية الصحية والتعليم حق للجميع. وكانت القوة الدافعة الشائعة جداً والمعروفة لدى هتلر هي التوق إلى الوطن، والتوق إلى الحياة العصرية
لذلك، مثّل الكمبودي "بول بوت" Pol Pot الكره الصارخ لمادية المدينة الكبيرة وتحويلها لكل شيء - حتى الحب - إلى سلع في السوق تُباع وتُشترى.
 المؤرخ الدنماركي "فرانك بيش لاسين" Frank Bech Lassen الذي كتب الفصل عن هتلر، يصفه على نحو ملائم بأنه "الوجودي السياسي". وهكذا يمكن فهم روبسبير وهتلر وغيرهما من القتلة الجماعيين جيداً عندما تتكشف أسبابهم المنطقية وظروف حياتهم.
في بعض الأحيان ، فيما يتعلق بالقوة الدافعة - وليس من حيث العنف والاستبداد - يمكن للمرء أن يتعاطف إلى حد ما مع "الشرير". عندما تقرأ في الفصل الخاص بأسامة بن لادن عن استخفاف الولايات المتحدة وغطرستها. القوة في الشرق الأوسط، يمكنك المشاركة بشيء من الغضب الموجه ضد الولايات المتحدة.

استخدام نموذجي
الفكرة الأساسية في كتاب "لا يمكن الدفاع عنه" هي أن الإدانة الجيدة والمثمرة، هي الإدانة التي تفهم عقلانية موضوع الإدانة. وهذا هو المكان الذي تكمن فيه ميزة الكتاب العظيمة. في الكتاب يصبح الشر غير المفهوم أكثر قابلية للفهم. لا يتم التقليل من شأن الشر، ولكن يتم ثقب ما هو خارق للبشر وغامض ومبدع في سردنا للشر.
يمكن للكتاب أن ينجح في إثبات ادعائه العام بأن الشر يمكن فهمه لأنه يكرر نفس المناورة في الفصول الستة عشر: إزالة الغموض عن الشر.
ومع ذلك ، فإن الجانب السلبي لبعض الباحثين الذين يعالجون الشخصيات، هو ضعف الفهم الشامل للفرد. معالجة الكتاب في بعض الفصول يجعل من الصعب تحقيق طموح محرره "ميكيل ثورب" الذي كتبه في مقدمة الكتاب: فهم "أفكارهم كجزء من تفكير أكبر".
بعض الأمثلة: في الفصل الخاص بلينين Lenin، لا يوجد أي شيء تقريباً حول سبب وجهة نظره الحاسمة القائلة بأن الثورة لا يمكن أن تنتظر: دراساته المكثفة عن هيجل.
في الفصل الخاص بـروبسبير Robespierre لم يُذكر الإلهام الفكري لروسو في كلمة واحدة. في الفصل الخاص بموسوليني Mussolini، لم يتضح سبب انتقاله من الاشتراكية الثورية إلى القومية الاستبدادية ومن نقد هتلر Hitler إلى احتضان هتلر.
ومع ذلك، لا ينبغي أن يحجب هذا حقيقة أن الكتاب رائع. ما لا يمكن تبريره، هو مثال نموذجي على كيف يمكن للأبحاث أن تتحدث حديثاً ذو قيمة في أهم الموضوعات العامة، وبشكل مباشر في الأسئلة الأخلاقية والسياسية العظيمة في عصرنا، حول كيفية ارتباطنا بالإرهابيين والشر السياسي.

لا يمكن مسامحتهم
إن قدرة الكتاب على التواصل الجيد والمعلومات القائمة على الأبحاث، أمر يستحق الثناء. الكتاب سهل القراءة ويستحق قراءته – على الأقل من قبل هؤلاء السياسيين الذين يحبون الوقوف على المنصة الخطابية عقب أي هجوم إرهابي، ويعتقدون أنهم يعرفون كيف يجب أن نتعامل مع الشر لنمضي بحياتنا في خدمة قضية أهم وأسمى.
ستة عشر من أسوأ القتلة السياسيين في تاريخ العالم. لا يمكننا الدفاع عنهم. لا يمكننا مسامحتهم على الإطلاق. لكن يمكننا أن نحاول أن نفهم. افهم أفكارهم ووقتهم والعالم الذي عاشوا فيه. في الكتاب ، يركز الكتاب بشدة على ما لا يمكن الدفاع عنه. الاستماع إلى ما كتبوه وقالوه وفعلوه. لأننا إذا فهمنا أفكارهم، يمكننا حماية أنفسنا من الاعتداءات والقتل الجماعي السياسي في المستقبل.

24
المنبر الحر / العولمة والاديان
« في: 22:14 06/09/2022  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


العولمة والاديان


إن أهم القوى التي تتحكم بعالمنا اليوم هما: الاقتصاد والتكنولوجيا. التكنولوجيا التي نتحدث عنها هنا هي في الأساس تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. لقد دخل العالم فترة من الاقتصاد الليبرالي العالمي، حيث المعرفة، والوصول إلى المعلومات، وإتقان وسائل الاتصال، هي عوامل حاسمة للقوة في العصر الحديث.
أصبحت العولمة القوة التي تغير العلاقة بين الأمم، والثقافات، والمنظمات، والهويات. لم تعد الثقافات والهويات، والأديان، نقطة انطلاق ترسيم الحدود الوطنية أو الإقليمية، ولكن في السياقات الجيوسياسية يمكن للمرء على سبيل المثال، أن يشعر المرء بهوية وانتماء ثقافي مع أشخاص ومجموعات في دول وقارات أخرى، يتشارك معهم اهتمامات وأفكار وعقائد معينة، أكثر مما يجمعك مع الجيران أو أبناء الوطن.
العولمة هي مصطلح لعملية تغيير متعددة الأبعاد، ومتعددة المراكز، تؤدي إلى زيادة التبادل الثقافي والاقتصادي بين مختلف المناطق والشعوب. العولمة مدفوعة بالتجارة والإنتاج والتكنولوجيا، وفي المقام الأول تكنولوجيا الاتصالات. يُمكن أن نقرأ التعريف البسيط للعولمة: كل شيء موجود في كل مكان في نفس الوقت.
من جانب آخر، نجد أن كل الناس يتأثرون بالدين، حتى لو كانوا لا يؤمنون بأي شيء على الإطلاق. الأديان لها تأثير في كل مكان. ليس فقط بين المتدينين أو في الشبكات الكنسية والروابط الإسلامية الذين يحاولون إقناع السياسيين بآراء معينة. السياسيون الدين يؤثرون على طريقة تفكير جميع الناس، وبالتالي فإن اجتماعات القمم بين القادة السياسيين على الساحة الدولية هي ـ في جزء منها ـ اجتماعات بين الأديان أيضاً.
الأديان تمتلك القوة لأنها تشكل عقولنا ببطء. على سبيل المثال: عندما يذهب الصينيون إلى العمل باجتهاد يوماً بعد يوم، فإنهم يكونوا تحت تأثير الكونفوشيوسية الصينية. عندما تؤكد المملكة العربية السعودية على أهمية الفصل بين الأجناس على سبيل المثال، فإنها تستلهم ذلك من الإسلام. وعندما تستخدم دولة مثل الدنمارك الموارد لتهيئة ظروف جيدة للموت في مأوى، فذلك لأن الدنماركيين ملهمون بالمسيحية، حيث يكون للفرد قيمة غير محدودة - حتى بعد فترة طويلة من توقفه عن إنتاج أي شيء، أي في فترة ما بعد التقاعد.
تظهر الأديان كملاذ يمكن لجميع الناس الاعتماد عليه. هناك تكمن المعرفة والثقافة والأفكار والطقوس التي يمكنك أن تأخذها. حتى الأشخاص الذين لا يعتقدون أنهم يعرفون أي شيء عن الدين يعرفون أكثر مما يعتقدون.
لطالما ارتبطت الأديان بحرية الحركة خارج الحدود الوطنية. إنها عالمية، وبالتالي فإن العولمة لا تتعلق فقط بالمال والتجارة والاقتصاد. إن الأديان تنتشر في جميع أنحاء العالم. طالما كان فكر المبشر عالمياً، وكان العالم كله مجالاً إرسالياً للمسلمين والمسيحيين. فالدين جزء لا يتجزأ من العولمة.
في فرنسا، على سبيل المثال، وقبل بضع سنوات، كان هناك الكثير من الحديث عن قضية الحجاب، حيث اعتبرت الدولة الفرنسية حجاب النساء المسلمات تحدياً دينياً غير مقبول للدولة العلمانية. الأمر ذاته تكرر في العديد من الدول الأوروبية، حيث تم مناقشة الحجاب كرمز ديني في وسائل الإعلام، وفي مناقشات السياسيين. آخر هذه التداعيات ما حصل في الدنمرك الأسبوع المنصرم، حين أوصت لجنة حكومية بحظر الحجاب في المدارس الابتدائية للفتيات المسلمات.
بالنسبة لهم يُعتبر الوشاح رمزاً دينياً لاضطهاد المرأة. بهذه الطريقة قد يعتقد البعض أن الدين والسياسة مختلطان معاً بطريقة غير مقبولة، بينما يعتقد البعض الآخر أن الأمر يتعلق بالثقافة.
من السذاجة الاعتقاد أن جميع الناس متماثلون، نحن لسنا كذلك. يعتمد سلوكنا على التيارات التي نتأثر بها. لكن لا تزال بالطبع مسؤولية الفرد الشخصية تعتمد على ما يستمده من خزان الدين والثقافة. فالدين لا يتدخل في السياسة، بل إنه موجود بالفعل في صلبها. في ذات الوقت، تتكون الهويات والثقافات والأديان الجديدة من سمات تقليدية وحديثة، تماماً كما تتميزان بسمات المحلية والإقليمية والعرقية.
تظهر أشكال جديدة من المواجهات الثقافية والصراعات الثقافية نتيجة لهذه التمزقات في جميع أنحاء العالم، وتتخذ أشكالاً معينة في أوروبا التي تشهد جهوداً سياسية مكثفة لتحديد الهويات والتاريخ الوطني بالرجوع إلى الثقافة، والدين، والعرق، والتي يُنظر إليها على أنها شيء مترابط في آن واحد، متوارث ولا يتغير، شيء أساسي يفصل "نحن" عن "هم". فيما تحاول مجموعات المهاجرين الحفاظ على ثقافتهم، وهويتهم، ودياناتهم "الأصلية" في مواجهة أوروبا الحديثة والعلمانية.

الوجوه المتعددة للعولمة
باتت العولمة المصطلح القياسي لوصف كيف تشهد البشرية في هذه السنوات زيادة فريدة من نوعها تاريخياً في حجم الترابط العالمي بين الناس والأمم. لا يتسم هذا الترابط بالتكامل السريع الحالي للاقتصاد العالمي الذي تسهله الابتكارات والنمو في الاتصالات الإلكترونية الدولية فحسب، بل يتميز أيضاً بالوعي السياسي والثقافي المتزايد للترابط العالمي للبشرية. تعود جذور عملية العولمة إلى أوروبا إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وقد انطلقت في الفترة من عام 1870 حتى الحرب العالمية الأولى. خلال هذه الفترة بدأ الجميع في أنحاء العالم يشعرون بتأثير الاقتصاد الدولي، وأنه لأول مرة في التاريخ كان من الممكن إجراء اتصال فوري بعيد المدى (تلغراف، راديو) بين الناس بدءًا من عام 1840.
العولمة هي عملية تغيير تؤثر على الدول القومية، وعلى المجتمعات المحلية والشركات الصناعية والأفراد في جميع أنحاء العالم. لذلك فالمنظمات الدينية ليست مستثناة. مثل أي وكيل اجتماعي آخر، تشارك المنظمات الدينية في العولمة وتتأثر بها. ركزت المناقشات الأكاديمية الحالية للدين والعولمة على الاتجاهات نحو التعددية الثقافية، وردود الفعل التي تثيرها المنظمات الدينية. بعضهم يتفاعل بشكل إيجابي ويقبل التعددية أو حتى يؤيدها، مثل بعض الحركات المسكونية المسيحية أو البهائيين. تؤكد مجموعات أخرى على الاختلافات ومواجهة غير المؤمنين في محاولة للحفاظ على قيمهم الخاصة من التآكل بفعل العولمة. وهم ما يطلق عليهم الحركات الأصولية المسيحية، والإسلامية، واليهودية.
يعتقد العديد من الاقتصاديين أن العولمة هي الطريق إلى الأمام لزيادة الرخاء للجميع. أن يصبح شخص ما أكثر ثراءً أمر لا جدال فيه. والعديد من أولئك الذين لا ينتمون إلى العولمة يعترضون عليها باعتبارها تدهور، حيث يرون أن العولمة تزيد من عدم المساواة.
من الناحية الاجتماعية، يمكن أن تسبب العولمة بالعديد من المشاكل. لا يتعلق الأمر فقط بعولمة سوق العمل، حيث يتم نقل الوظائف في جميع أنحاء العالم اعتماداً على ما يتم دفعه، ولكن أيضاً حول الشعور بالتشرد وانعدام الوزن في عالم يتم فيه ـ من حيث المبدأ ـ توفير جميع الفرص، ولكن حيث لا يمكن تحقيق هذه العدالة على أي حال. يتم استنزاف العقول من بلدان الجنوب عبر الهجرة إلى الشمال.
ثقافياً، يمكن تجربة العولمة كإثراء عندما تحصل على فرصة للتواصل الوثيق مع الثقافات الأخرى. من الناحية الذوقية، نحن جميعًا معولمون ومتعددو الثقافات. لكن يمكن أن تؤدي العولمة أيضاً إلى التنسيق، حيث تصبح نفس العروض التي يمكن تناولها من أي مكان في العالم. هذه الحقيقة يمكن أن تقود المرء إلى الاعتقاد بأن العولمة هي مجرد كلمة أخرى لهيمنة ثقافة معينة (غربية/ أمريكية). لهذا السبب يتحدث الناس غالباً عن امبراطورية ماكدونالدز، التي تفخر بحقيقة أنه لا يمكنك الشعور بالفرق حين تتذوق البرغر في كوبنهاغن، أو سيدني، أو سان فرانسيسكو. وبما أن التطويع المحلي هو الرفيق المخلص للعولمة ، فإن النتيجة غالباً ما تكون ثقافة مختلطة.
من الناحية السياسية، تحاول العولمة التأكيد على أن الاقتصاد الحر هو الطريقة العقلانية الوحيدة لتنظيم الاقتصاد العالمي. في الوقت الحالي، لا يبدو أن هناك أي بدائل أخرى ذات مصداقية، على الرغم من أن الأزمات المالية العالمية المستعرة خدشت الليبرالية الجامحة.
في مجتمع المعرفة العالمي، لم تعد الأرض أو العمل أو رأس المال هي القوى الإنتاجية الحاسمة، بل هي المعرفة تحديداً. أولئك الذين يستطيعون توليد المعرفة ويعرفون كيف، ويمكنهم التحرك بحرية في تدفقات المعلومات العالمية، سيكونون هم الفائزون في العولمة. وأولئك الذين لا يستطيعون، سيصبحون هم الخاسرين من العولمة.
عادة ما تنظر دول العالم الثالث إلى العولمة كتهديد بسبب تدهور ظروفها المعيشية. لأن العولمة مصحوبة ببرامج التكيف الهيكلي، فإنها تؤثر في المقام الأول على أفقر الناس. مع تجانس الثقافة وتدمير الطبيعة، يتم التعامل مع العولمة على أنها إعادة استعمار، وهذه المرة بدون احتلال عسكري. ومع ذلك، هناك أيضاً مجموعات وحركات تحاول الاستفادة من العولمة. لذلك يعملون على زيادة الوعي بالآليات التي تدفع التنمية وتمكن السكان من الاستجابة لها.
أصبح "التمكين" و "بناء القدرات" كلمات رئيسية جديدة لأعمال التنمية الملائمة التي تسعى إلى إقامة علاقات مناسبة فيما بين الناس، وبين الناس والطبيعة. بالرغم من أن أزمة المناخ تثير التساؤل عما إذا كان الأوان قد فات على هذا الكلام.
يثير انعدام الأمن لدى الناس بشأن العولمة ردود فعل عنيفة. في انتفاضة ضد العولمة، يمكن للمرء أن يحاول حماية وعزل نفسه، والتركيز على الوطني، والدم، والعرق، أو الرهان على عولمة اجتماعية بديلة من خلال الحركات الشعبية العالمية.
على المدى الطويل، يمكن أن يؤدي هذا إلى تحول في ميزان القوى. يمكن أن تتفوق الدول ذات البنية التحتية والفائض السكاني الكبير، مثل الصين والهند، على القوى العظمى القديمة الكلاسيكية التي بدأت العولمة، حيث يمكنها إنتاج السلع بتكلفة أقل. وقد شوهد هذا التأثير بالفعل في دول جنوب شرق آسيا.
هكذا تؤثر العولمة على جميع مجالات حياتنا. إنها حقيقة لا مفر منها في عصرنا. إذا لم نهتم بهذا التطور، فلا يمكننا أن نتجاهله ونتظاهر بأنه غير موجود، لأنه ببساطة موجود ولن يزول.
 هل يمكن للعولمة "معالجة" المشكلات التي تهدد حالياً مستقبل البشرية أيضاً؟ الجواب هو: لقد أظهر الاقتصاد الليبرالي، مع السوق كمحرك مركزي، مرونته الهائلة وقدرته على التعامل مع المشكلات الناشئة حديثاً. ما قد يثير القلق هو الدور الموسع الذي سيلعبه السوق. يعتبر السوق في جوهره آلية توزيع ممتازة للسلع والخدمات. لكن إذا فكرنا في السوق في شكله الأصلي، سوق القرية، فإنه يخدم أغراضاً أكثر من مجرد توزيع البضائع. كان أيضاً مكاناً للمجتمع، حيث يتم مشاركة العديد من الأشياء بخلاف البضائع.
الآن نجد مجتمعات تشتت السوق، وتفتت السياسة، وتعزز المنافسة الشرسة، وتستبعد الأشخاص الذين لا يستطيعون المنافسة بشروط السوق. وعندما تتعامل مع المشتقات المالية التي لا علاقة لها بالواقع الاقتصادي الحقيقي، فإن الأمور تسير على ما يرام. حيث كان السوق في السابق مكاناً للإدراج والمشاركة، فقد تطور الآن وأصبح مكاناً للإقصاء.
لا يمكن التغاضي عن أن إحدى نتائج العولمة هي أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء آخذة في الاتساع. وهذا ينطبق على داخل المجتمعات، وبين الشمال والجنوب. قلة هم الذين ينكرون أن العولمة لها العديد من الفوائد، ولكن المشكلة الكبرى هي أن هذه الفوائد موزعة بشكل غير متساو. لماذا ا؟ بسبب السياسات السيئة والظروف السيئة والقواعد السيئة.
إن الزيادة في الدخل الناتجة عن عولمة الأسواق هي إلى حد بعيد عبارة عن غالبية الأقلية، سواء بين الدول أو بين المجموعات السكانية. والسبب في ذلك هو ضعف سياسة الاقتصاد الكلي، حيث يتم حماية الأسواق بشكل مفرط، وحيث يتم إهمال الاستثمار في الموارد البشرية والبنية التحتية، وحيث يتم تغطية العجز الناجم عن زيادة الاستهلاك بالقروض. بالإضافة إلى ذلك، يعاني العديد من البلدان النامية أيضاً من ظروف تجارية غير عادلة. على سبيل المثال، إن هبوط أسعار السلع والديون مزيج قاتل.
يمكن القيام بشيء ما لوقف العواقب السلبية للعولمة، على سبيل المثال يمكن مراقبة حركة التجارة ورأس المال بشكل أفضل. يمكن احتواء أسوأ العواقب وتوسيع بعض شبكات الأمان من خلال الاتفاقيات الدولية، والتي من خلالها تضمن شراكة عادلة، يمكن التنازل عن الديون والاستثمار في الفقراء والشركات الصغيرة والتكنولوجيا الجديدة. بعد ذلك، يطرح السؤال: هل يمكن إدارة العولمة؟
 تم تقديم مفهوم "الحوكمة العالمية" لاقتراح إجابة محتملة للمعضلة التي تنشأ عندما تتطلب العولمة كسر الحواجز التجارية وغيرها من الحواجز، بينما تزداد التفاوتات ويكثر الظلم.
السؤال هو: بالإضافة إلى المؤسسات الديمقراطية الدولية، هل يمكن للمرء أن يتخيل نظام حكم لامركزي وتشاركي ومتعدد الأطراف، حيث على سبيل المثال، يمكن للمنظمات غير الحكومية، والأديان أن تلعب دوراً؟

العولمة والديانات التبشيرية
في ضوء البحث المستقبلي، يعتمد كل شيء على ما إذا كان الاقتصاد الليبرالي العالمي مرناً بما يكفي للتعامل مع مشكلتين حاسمتين تلوحان في الأفق: الانفجار السكاني والمشكلات البيئية.
 النمو الهائل في عدد السكان الذي أدار له العالم ظهره في القرن العشرين، هو العامل الذي حدد التطور أكثر من أي دولة أخرى. إنها خلفية الحروب والكوارث وتحركات الناس، وقد فرضت ضغطا هائلا على النظم البيئية للأرض. أدى النمو السكاني إلى أن يعيش الناس بشكل مختلف أيضاً. يعيش أكثر من نصف سكان العالم في المدن. بحثاً عن ظروف معيشية أفضل، يغادر الناس المناطق الريفية ويبحثون عن المدن، ونحقق نمواً هائلاً في المدن الكبرى التي تستوعب الفقراء في عشوائياتهم.
نظراً لأن النمو السكاني قد أثر على التنمية ككل، فقد كان أيضاً مهماً جداً فيما يتعلق بتطور الأديان. بسبب العولمة يتحرك الناس. وعندما يتحرك الناس تتحرك ثقافتهم ودينهم معهم. عندما تأتي الأديان إلى مناطق جديدة وتختلط مع الثقافات والأديان الأخرى، فإنها تتغير.
في هذه السنوات، تتجه المسيحية نحو الجنوب. في نفس الفترة تحرك الإسلام غرباً، وانتشرت الديانات الشرقية في كل مكان. في الوقت نفسه، تظهر الأرقام بوضوح أيضاً أن المسيحية آخذة في التدهور في الشمال. لا يمكنها مواكبة النمو السكاني على الإطلاق. لأن النمو السكاني في أوروبا الغربية ناتج عن الهجرة، حيث لا ينجب الأوروبيون الغربيون عدداً كافياً من الأطفال للتكاثر. كما تشهد الدول الأوروبية الأساسية مثل إنجلترا وألمانيا وفرنسا موجة هائلة من المسيحيين الذين يغادرون كنائسهم الوطنية القائمة.

عندما تتحرك الأديان ، فإنها تتغير
كقاعدة عامة، يمكن الافتراض أنه عندما تهاجر الأديان فإنها تتغير. يقدم تاريخ الإرساليات التبشيرية أمثلة على ذلك. جميع الأديان تتحور في سياقاتها المختلفة، بما ينسجم مع المحيط الذي يتم فيه الوعظ، ثبت أنها قابلة للتكيف في البيئة الجديدة، حيث تتناغم مع التغييرات نتيجة لذلك.
للظروف السياسية والاجتماعية العامة أهمية كبيرة في حياة الأديان وانتشارها. حقيقة أن الفتوحات الإسلامية في القرن السابع ميلادي ساهمت في انتشار الإسلام، وأن حقبة الاستعمار والإمبريالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قد وسعت المسحية. لذلك فإن زوال الاستعمار وضعف المواجهة مع الإمبريالية له تأثير حاسم على الأديان.
مع إنشاء الكتلة الشرقية بعد الثورة الروسية والحرب العالمية الثانية، قدم ذلك النموذج دليلاً على أنه من الممكن قمع الدين والقضاء عليه.
يمكن تفسير العديد من الظواهر التي نشهدها على الساحة الدينية هذه السنوات على أنها استجابة لتحدي العولمة. وهذا ينطبق على الحركة الدينية الجديدة والاهتمام المتزايد بالروحانية الجديدة، وهو أمر واضح بشكل خاص في أمريكا الشمالية وأوروبا. هذا ينطبق على نمو الكنائس الخمسينية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. وينطبق على حركات الإصلاح المختلفة داخل البوذية. وقبل كل شيء على نمو الأصولية داخل الأديان مثل المسيحية، واليهودية، والإسلام، والهندوسية كظواهر رجعية.
 في معظم الأديان هناك عدم ملاءمة للحداثة بطريقة ما، ليس من الصعب فهمه. عندما تعدك العولمة بالتقدم والمساواة والشمول، وبعد ذلك تواجه العكس، فإنك تبتعد عن هذا التطور، ويصبح الدين كما في كثير من الأحيان، موطناً لمشاعر أولئك الذين يشعرون بعدم الملاءمة.
ضمن الأخلاق، هناك نمو في محاولات صياغة أخلاق عالمية (أممية). يكشف هذا النمو عن نقاش حاد حول حقوق الإنسان ووضعها. يحاول آخرون صياغة أخلاق عالمية من خلال استخلاص ما قد يكون مشتركاً بين الأديان المختلفة. نظراً لأن لديك مزيجاً من الثقافات والعبادات تستوجب ورشة عمل "الأخلاقيات العالمية".
أنا مؤيد لمحاولة التأثير على التنمية، بناءً على أن العولمة حقيقة لا مفر منها. لا يعني ذلك أنك ببساطة سوف نقبل كل شيء، ولكن يجب علينا الدخول في حوار مع العولمة. مثل العديد من الأنظمة، يمكن أن تبدو أنظمة العولمة أيضاً غير قابلة للتغيير. ولكن من المهم أن نتذكر أن الأنظمة تتكون من أشخاص يمكن التأثير عليهم.

تقاطع مثمر - حرج
إن الانخراط اللاهوتي مع العولمة ومشاكلها بظني يحتمل هذه الثنائية: اللقاء المثمر/ الحرج. الهدف من نجاح النموذج هو ما إذا كان بإمكانه "معالجة" الظواهر الناتجة عن العولمة: تجزئة المجتمع، والنسبية الدينية، والفردية. إن تأثير الدين في صنع المعنى وتفسير الاشياء مهم. يمكن للمرء أن يلاحظ أن الدين أصبح ملاذاً للأشخاص الذين يريدون أساساً إدارة ظهورهم للعولمة. دور الدين في الحياة العامة آخذ في التضاؤل. تم تراجعه أكثر فأكثر نحو المجال الخاص. تستمد المسافة الحرجة وقودها من حقيقة أنه من نواحٍ عديدة يمكن اعتبار العولمة بمثابة أسطورة العصر للأديان.
العولمة هي أسطورة عصرنا، وبما أنها تعزز التطور الذي يتعارض من نواح كثيرة مع ما تمثله الأديان، يمكن اعتبارها أسطورة مضادة للأديان. أو يمكننا أن نقول العكس: الأديان هي الأسطورة المضادة للعولمة. حيث تعزز العولمة الانسجام، والتوحيد، والتمركز، تؤكد الأديان على الاختلاف والتنوع، وبالتالي فهي حركة عولمة بديلة.
هل توقفت حركة عولمة الأديان إذن؟ لا. الأديان تنمو في عدد من الأماكن، خاصة في الجنوب. في إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وآسيا. هناك تدخل الأديان في تحالفات جديدة مع شعوب أفريقية، وأمريكية لاتينية، وآسيوية، وهي شعوب تم تشكيلها دينياً بالفعل. لذلك جميع الأديان تمر بتحول تحت تأثير العولمة. تعيش الأديان نفسها في ظل حركة العولمة. لذلك لا تستطيع معاندة العالم، لكنها تستطيع التكيف مع هذا العالم.
إذا نظر المرء إلى العولمة على أنها أسطورة مضادة أو ديانة منافسة، فإن بعض الأشياء تصبح واضحة. للعولمة أيضاً عقائدها. لقد تطرقت بالفعل إلى عقيدتها الرئيسية، وهي أن النمو هو سلعة غير مشروطة. على سبيل المثال في الشكل الذي يُزعم فيه أن النمو في التجارة الدولية يعد ميزة للجميع. تقوم هذه العقيدة على افتراض حول كيفية عمل الاقتصاد، أي أن الاقتصاد يقوم على حالة توازن مستقرة. لذلك، عليك فقط السماح لها بالعناية بنفسها، وإزالة الحواجز التجارية، والسماح للسوق بالاهتمام بالتوزيع، ثم يد آدم سميث غير المرئية الشهيرة ستهتم بخلق التوازنات اللازمة وحالات التوازن، بين العرض والطلب، وبين السعر والجودة.
ولكن ماذا لو لم يكن ذلك صحيحاً، إذا لم يكن الاقتصاد مستقراً، ثم إن الاستقرار لا ينشأ من تلقاء نفسه. أكبر مشكلة يمكن أن يواجهها المرء من وجهة نظر لاهوتية، هي الجانب الكلي للعولمة. فلم يتبق شيء خارج مخالبها. الاقتصاد هو كل شيء. والإنسان هو الحيوان الاقتصادي.

ماذا يمكننا أن نستنتج؟
إذا نظرنا إلى حركتي العولمة: محاولة الأديان الوصول إلى "جميع الشعوب"، ومحاولة علم الاقتصاد والتكنولوجيا المعاصرين ربط الكرة الأرضية ببعض الهياكل العالمية، يتضح أن حركتي الأديان والعولمة يمكن اعتبارهما متنافستين. يمكن بعد ذلك أن تبرر الأديان تحارب العولمة الاقتصادية والتكنولوجية باعتبارها بدعة.
غالبًا ما يتم تصوير العولمة كما لو أنه لا توجد حدود للحوادث والمصائب التي جلبتها معها. تقوم العولمة بمهام الإرساليات الدينية، من خلال خلق مجتمعات متعددة الأديان. إنها تعمق الفجوة بين الشمال والجنوب.
يجب أن يتعلق الأمر ببناء جسر بين العالم الديني المتنوع الحي وعقلانية العالم الواسع. إن قدرة الأديان المختلفة على القيام بذلك بالتحديد ستكون حاسمة لقدرتها على البقاء.
تحقق العولمة الفكرة القديمة لوحدة البشرية، والتي تعود جذورها إلى عصر التنوير وكُشف عنها في الحداثة. هل تحتاج هذه الفكرة اليوم إلى أساس ديني من أجل البقاء؟ تشكك العولمة في الدور التاريخي الذي لعبته الأديان في تشكيل القيم الدينية التي بنيت عليها المجتمعات والمؤسسات. ويتمثل التحدي الآن في الجمع بين الشعوب والأمم والأعراق في آن واحد، بحيث يمكن أن تعزز مجتمعاً يتمتع بقدر أكبر من العدالة، وكذلك الاعتراف بهذه الشعوب والأمم والأعراق في خصوصيتهم واحترامها.
نحن نعيش على هذا الكوكب مع أشخاص يعيشون بتقاليد ثقافية ودينية مغايرة، وأنظمة اقتصادية وسياسية مختلفة، ونأمل أن نعيش معهم في سلام. وبالتعاون معهم يمكننا ضمان الحياة الجيدة، والرفاهية للكوكب والبشرية.

25
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


كتاب السارد وتوأم الروح يحصد جائزة الشيخ زايد

تم تتويج كتاب "السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع" لمؤلفه الباحث والناقد والأكاديمي المغربي الدكتور محمد الداهي، بجائزة الشيخ زايد للكتاب بدورتها السادسة عشرة، في فرع الفنون والدراسات النقدية لعام 2022.
الكتاب سبق واعتبره عدد من النقاد والمثقفون العرب، من أفضل الكتب التي صدرت في العام الماضي.
في كتابه “السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع” ـ منشورات المركز الثقافي للكتاب 2021ـ يقدم الناقد المغربي محمد الداهي جديداً ومختلفاً لأنماط الكتابات الذاتية من منظور السيميائيات الذاتية.
عمل كبير، يمكن اعتباره استمراراً إبداعياً على المستوى المعرفي، لما راكمه الكاتب من أبحاث ودراسات سابقة حول السيرة الذاتية، على سبيل المثال كتاب “شعرية السيرة الذهنية: محاولة تأصيل” الصادر عام 2000. الكتاب الذي قال عنه الناقد المغربي د. سعيد يقطين:
“إن محاولة “تأصيل” جنس أو نوع ما، أو البحث في تشكله، هي من الأعمال التي لا يمكن أن يُقدِم عليها إلا من يروم النظر في الظاهرة بعيدا عن تجلياتها العادية أو الملموسة، وهو بذلك يرمي إلى النفاذ إلى أعماقها التي تصلها بغيرها، وتنظمها جميعا في نسق شامل وجامع.
1. 2. يدخل عمل الباحث والناقد محمد الداهي في هذا النطاق، فهو يسعى إلى اقتحام مجال “نظرية الأجناس” بوعي الباحث، وحس الناقد، يركز على نوع محدد هو “السيرة الذهنية”.
ينقسم كتاب “السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع” إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول يُعنى بالعلاقة بين السيرة الذاتية والتاريخي، والقسم الثاني يتناول محكي الطفولة، والقسم الثالث يشتغل على استقصاء ما أسماه الكاتب “المنطقة البينيَّة” وهي المنطقة الملتبسة التي تفصل بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، لمقاربة ظاهرة التهجين.
الكتاب هو ثمرة جهد للكاتب استمر لما يربو عن ست سنوات متواصلة، لذلك فالكتاب يُعتبر من النوع “كامل الدسم” يعتبر من عيون الكتب، لمؤلف ثاقب النظر، وعميق الفكر
يعتبر الكاتب محمد الداهي أن ما يميز كاتب السيرة الذاتية عن الكاتب الروائي هو أن “الأول يتعهد بقول الحقيقة وباستعمال ملفوظات جدية، ويخلق مسبقًا انطباعًا في ذهن القارئ أن ما يتلقاه مطابق للواقع، في حين يعمد الثاني إلى وضع ميثاق تخييلي حتى لا بأخذ كلامه على محمل الجد”.
عمد الكاتب محمد الداهي على تحليل متنوع في الكتاب الذي تضمن نحو ثلاثين مؤلفا من السرد الشخصي، اشتملت مراحل مختلفة من تاريخ السرد الأدبي العربي، لمؤلفين مثل: “التعريف” لابن خلدون، و”أوراق” لعبد الله العروي، و”الضريح” لعبد الغني أبو العزم، و”ثمن الحرية” لعبد الهادي الشرايبي، و”ثورة المريدين” لسعيد بنسعيد العلوي، و”أنشودة الصحراء الدامية” لماء العينين ماء العينين، و”الرحلة الأصعب” لفدوى طوقان، و”فيي الطفولة” لعبد المجيد بنجلون، و”البئر الأولى” لجبرا إبراهيم جبرا، و”دليل العنفوان” و”دليل المدى” و”من قال أنا” لعبد القادر الشاوي، و”ممر الصفصاف” و”رجال ظهر المهراز” لأحمد المديني.
كتاب “السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع” رائع البيان وشاسع المعنى، بأسلوب شيّق، ولغته راقية جداً. قال عنه الناقد المغربي أحمد المديني “هي أمتن دراسة مدققة وموثقة في المحكيات الذاتية العربية الحديثة، بمنهجية تتراوح بين محمول النصوص ومنظورات الدرس النقدي الجديد، وتستجلي تمثيلات الواقع بين حقيقته وتخييل الذات، مستعملة المصطلح العالم بالرأي المركب لا الحاكم”.




26
صدور كتاب تحديات تحليل الخطاب للناقد والأكاديمي المغربي محمد الداهي


صدر مؤخرا كتاب " تحديات تحليل الخطاب" في حلة بهية وقشيبة عن دار النشر فاصلة في طنجة(2022). وهو ثمرة حوار أجراه محمد الداهي على فترات متقطعة مع صديقه الباحث الفرنسي دومنيك مانجونو شاكرا له أريحيته وصبره وتواضعه الجم. الكتاب من 133 صفحة من الحجم المتوسط. صدَّر محمد الداهي الكتاب ومهد له بتوطئة حول تلقي مؤلفات دومنيك مانجونو في العالم العربي وترجمة عيِّنة من مؤلفاته إلى اللغة العربية. فضلا عن شكره للمشرفين على دار النشر(فاصلة) الصديقين حميد عبو ورشيد خالص وللمشرف على دار النشر ( المركز الثقافي للكتاب) الصديق بسام الكردي على جهده الفني والمهني بطبع كتابيه الأخيرين ( السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع، ثم متعة الإخفاق المشروع التخييلي لعبد الله العروي) وجه تحية تقدير للفنان التشكيلي الصديق عزيز أزغاي الذي صمم لوحة الغلاف.
وفيما يلي ترجمة محمد الداهي للرسالتين المتبادلتين مؤخرا بينه وبين الباحث الفرنسي:
الصديق العزيز دومنيك مانغونو
أود أن أخبركم بصدور الكتاب الذي يعد ثمرة حوار دام بيننا زهاء أربع سنوات . لا أخفيكم أنني اكتشفت من جديد آراءكم وأطاريحكم بمعاودة قراءة رائع مؤلفاتكم، كما لا يفوتني أن أثني على جهودكم العلمية، وأنوه بواسع ثقافتكم، وسعة صدركم، وكبير تواضعكم، وفائق أناتكم وتثبتكم.
وفي انتظار جوابكم تقبلوا مني أزكى عبارات المودة وأجملها.
الصديق العزيز محمد الداهي
أشكرك جزيل الشكر على موافاتي بصورة الغلاف. ليست صورة فحسب، بل يتوارى خلفها كتابٌ حقيقي في غاية الأهمية. لم يكتب له الوجود لولا ما بذلته من جهد. أنا ممتن لك أيما امتنان لأنه من النادر أن تتاح لي فرصة التعبير عن أفكاري بطريقة مباشرة.
دومنيك ما نغونو مع فائق المحبة والتقدير
---
•   دومنيك مانغونو أستاذ فخري في جامعة الصوربون العريقة بباريس، حاصل على دكتوراه الدولة في اللسانيات من جامعة باريس 5 عام 1979. من الأسماء المرموقة في "المدرسة الفرنسية لتحليل الخطاب". من مؤلفاته: مبادئ اللسانيات لتحليل النص الأدبي(1986)، كارمين، أصول الأسطورة(1984) ، تداولية الخطاب الأدبي (1990)،سياق العمل الأدبي (1993)، المقاربة التلفظية في اللسانيات الفرنسية(1991) ، تطبيقات لسانية للنص الأدبي(1997)، مدخل إلى اللسانيات الفرنسية (2001) الخطاب الأدبي، (2004)،المفاهيم النحوية في المدارس الإعدادية والثانوية (2005)،ضد سانت بروست أو نهاية الأدب(2006)، مدخل إلى اللسانيات الفرنسية (2017). ناهيك عن دراساته في المؤلفات الجماعية ، والإشراف على الأعمال الجماعية، وتأطير البحوث والأطاريح الجماعية، والمشاركة في الندوات الدولية، والتدريس في جامعات بفرنسا أو خارجها بصفته أستاذا زائرا.
•   محمد الداهي أستاذ جامعي ، جامعة محمد الخامس ( شعبة اللغة العربية وآدابها)، الرباط، المملكة المغربية (التخصص: السميائيات، والسرديات، والكتابة عن الذات (الأدب الشخصي)، حاصل على درجة دكتوراه الدولة  في مجال السيميائيات، حاصل على جائزة المغرب للكتاب سنة 2006 في صنف الدراسات الأدبية والفنية، عن كتاب "سيميائية الكلام الروائي"، منشورات المدارس، الدار البيضاء، 2006 ، حاصل على جائزة كتارا للرواية العربية في فئة الدراسات التي تعنى بالبحث والنقد الروائي، عن مشروع الكتاب " سلطة التلفظ في الخطاب الروائي العربي"، 2020، منسق الإجازة التربوية (التعليم الثانوي التأهيلي-اللغة العربية)، منسق ماستر الدراسات السيميائية، اختيار سيميائيات اللفظ والصورة، مسنق وحدة الدكتوراه " آداب وفنون متوسطية"، عضو محكم معتمد لدى بعض الجامعات العربية لترقي الباحثين وتقويم الأبحاث المعروضة للنشر، أستاذ زائر بجامعات عربية وغربية. من مؤلفاته: سيميائية الكلام الروائي -الحقيقة الملتبسة- سيميائية السرد بحثا عن الوجود السيميائي المتجانس- صورة الأنا والآخر في السرد- شعرية السيرة الذهنية -متعة الإخفاق في المشروع التخييلي لعبد الله العروي-القلق البيداغوجي-دينامية الإقراء- مكاسب السميائيات ومشاريعها (باللغتين العربية والفرنسية)...الخ.




27
الجزء الثاني

الثقافة والهوية واللغة
ما هي حدود اللغة؟

يمكن أن تعني الحدود اللغوية أشياء كثيرة. يمكن أن تكون حدوداً بين البلدان التي يتم فيها التحدث بلغات مختلفة، ولكن يمكن أن تكون أيضًا حدوداً بين أجزاء مختلفة من الدولة حيث يتحدث المواطنون لهجات مختلفة.
على سبيل الذكر إن Sønderjysk وFunen هما لهجتان للغة الدنماركية. ومع ذلك، فإن اللهجات والحدود الواضحة بينهما آخذة في التآكل، كما يقول أستاذ اللغة "توري كريستيانسن" Tore Kristiansen وفقاً لمقال له بعنوان "وداع اللهجات" Farvel til dialekterne أن ذلك يعود جزئياً إلى حقيقة أن الشباب يتكلمون باللهجة التي تنتمي إلى المنطقة التي نشأوا فيها، بدرجة أقل وأقل. ثم تتلاشى الحدود بين اللهجات ببطء شديد. بحيث يصبح المواطنون في بلد ما، يتحدثون بصورة متزايدة اللهجة الوطنية.
تتغير الحدود بين اللغات أيضاً عندما نعتمد كلمات مستعارة باللغة الإنجليزية في اللغة الدنماركية، مثل "الكمبيوتر" computer، أو المفهوم الأحدث لـلصورة الشخصية "سيلفي" selfie. يمكن أن تساعد اللغة أيضًا في تجاوز الحدود الثقافية. إذا كنت تستطيع التحدث بالفرنسية، فمن الأسهل لك أن تسافر إلى باريس، ومن المعروف أن الفرنسيين يقبلون الشخص بدرجة أكبر عند التحدث بلغتهم الأم.
على العكس من ذلك، يمكن لمجموعة من الأشخاص أيضاً استخدام اللغة لتمييز أنفسهم بوعي عن الآخرين. على سبيل المثال الحالة في "جوتلاند الجنوبية" Sønderjylland في الدنمارك، حيث تم استخدام اللغة بنشاط في إنشاء الهوية. وفقًا للعالم اللغوي "توري كريستيانسن" فقد قام يهود الجنوب بحماية لغتهم لحماية هويتهم الثقافية، والتي تأثرت عدة مرات في التاريخ بشدة بألمانيا بعد الهزيمة في عام 1864، حيث كانت "جوتلاند الجنوبية" لعدة عقود لاحقاً جزءًا من ألمانيا. بهذه الطريقة، من خلال اللغة يبعد المرء نفسه عن "الآخرين" ويخلق هوية أقوى.

يمكن أيضاً إنشاء المسافة من خلال اللغة دون أن تكون واعياً. على سبيل المثال، هذه الحجة الواردة في مقال "اللغة تحدد حدود السياسة" Sproget sætter grænserne for politikken والتي تدور حول كيفية اختفاء المحادثة السياسية بسبب استخدام اللغة لوسائل الإعلام.
عندما يطلب الصحافيون من السياسيين دائماً، أن يكونوا ملموسين في تصريحاتهم، فإن كل الملخصات التي تكمن وراء السياسة يتم إزاحتها: الإيديولوجيا، والتفكير، والأخلاق، كما يقرأ الجدل في المقال. بهذه الطريقة يساعد استخدام لغة الصحفيين على وضع حدود لما يمكن التحدث عنه.

يمكن أن تكون الحدود في اللغة حول ما هو مقبول قوله في موقف اجتماعي معين أيضاً. عندما تكون في موقف اجتماعي أو ثقافي غريب عليك، غالباً ما تخاطر بقول شيء خاطئ أكثر من التحدث إلى صديق قديم. تمت مناقشة الثقافة وحدود ما يمكن قوله كثيراً فيما يتعلق بما يسمى أزمة الرسوم الكاريكاتورية في الدنمارك والنقاش اللاحق حول حرية التعبير. كان هناك رأيان سائدان في النقاش: يعتقد البعض أنه لا ينبغي أن يتم الحد من كلام المرء من أجل الثقافة والدين، بينما يعتقد البعض الآخر أنه يجب أن تكون هناك نبرة محترمة تجاه وجهة النظر الدينية والثقافية.

ما هي الحدود الثقافية؟
تصبح الحدود الثقافية مرئية عندما يختبر شخصان من ثقافتيهما - ربما من بلدهما أو حتى من قارتين مختلفتين - أنهما لا يستطيعان فهم بعضهما البعض على الفور. هناك أيضاً حديث عن الاختلافات الثقافية بين الأشخاص الذين يأتون من مهن أو أجزاء مختلفة من البلاد. لذلك قد يكون السبب أنهم يتحدثون نفس اللغة، لكن ثقافياً لديهم نقاط انطلاق مختلفة.
في الأماكن العامة، غالباً ما تتم مناقشة الحدود الثقافية فيما يتعلق بهجرة الأشخاص من بلدان وثقافات مختلفة بشكل ملحوظ. هذا يدفع بعض الأحزاب السياسية، وخاصة الأحزاب اليمينية ـ مثل حزب الشعب في الدنمارك - إلى رسم حدود ما يعتقدون أنه يمثل القيم والهوية العرقية الوطنية. ومن الأمثلة الملموسة في يناير 2016 عندما قرر مجلس مدينة "راندرز" Randers Kommune بقيادة حزب الشعب الدنماركي والحزب الليبرالي، أنه يجب أن تكون جميع مؤسسات الرعاية النهارية التابعة للبلدية إلزامية لتقديم الطعام المحضر من لحم الخنزير.
الفكرة خلف هذا القرار هي أن تتم الإشارة إلى عدم الخضوع لعادات المسلمين وشروطهم، حيث لا يجوز أكل لحم الخنزير وفقاً للإسلام.

يعتقد البعض الآخر أن مثل هذا الإصرار على تعريف الثقافة الدنماركية على أنها مسألة تناول أطعمة معينة وتقديمها في المؤسسات البلدية، يخلق فجوات أكبر للأشخاص الذين يرغبون في الاندماج في المجتمع، وبالتالي لا يستفيد منها أحد على الإطلاق.
كتب الفيلسوف الألماني "هانز جورج جادامر" Hans-Georg Gadamer في عام 1960 كتاب "الحقيقة والطريقة" Sandhed og metode حيث تحدث عن "اندماج الأفق" Horisontsammensmeltning. وفقًا لجادامر، فإن التحيز هو شرط لفهم الإنسان وتفسيره للعالم - فإن فهم الإنسان للعالم سيكون دائماً ملوناً بالموقف الذي يجد نفسه فيه.
 يشير مصطلح "اندماج الأفق" إلى الحركة التي تحدث عندما يواجه الناس بعضهم البعض من خلال آفاق التفاهم الخاصة بهم، ويتعرفون على أوجه التشابه والاختلاف بينهم. وصفت فلسفة جادامر في مقال "لا تفاهم دون تحيز" Ingen forståelse uden fordomme هنا يكمن فهم أن الحدود الثقافية لا يمكن تجاوزها إلا من خلال التعرف على الحدود، ولكن في نفس الوقت رؤية التشابه بين الناس عبر الثقافات.

ما هي حدود النوع والجنس؟
يعتبر الرجل والمرأة أولاً وقبل كل شيء تصنيفاً بيولوجياً للناس، لكنهما إلى حد كبير تصنيفان ثقافيان أيضاً. تاريخياً، اضطلع الرجل والمرأة بأدوار مختلفة في المنزل وفي المجتمع - وفي العديد من الثقافات لا يزال هناك تقسيم واضح للأدوار بين الرجل والمرأة. لذلك فإن الجنس يساهم بشكل كبير في خلق الهوية.

في المجتمعات الغربية، وفي الدنمارك، ساعد تحرير المرأة في الستينيات والسبعينيات بشكل خاص على تغيير أنماط دور الجنسين داخل المنزل وخارجه. وهكذا يمكن للمرء أن يتحدث عن حقيقة أن الحدود بين هوية الذكر والأنثى قد تغيرت في القرن الماضي. ولكن على الرغم من أن الدنمارك اليوم هي واحدة من أكثر البلدان مساواة في العالم، إلا أن جزءًا من سوق العمل لا يزال جنسانياً جدًا.
في السويد، كان رد فعل الناس مختلفاً تجاه الحدود وفئات الجنس، من خلال استخدام الفئة المحايدة جنسانياً "إلى" في دور الحضانة ورياض الأطفال. وجهة النظر هي أن الأطفال يمكنهم بالتالي تطوير هويتهم دون دفعهم إلى فئات جنسانية قائمة بالفعل محددة ثقافياً.
يمكن للمرء أيضًا التحدث عن التعدي على الجنس في الحالات التي يشعر فيها الناس وكأنهم جنس غير بيولوجي، أي كونهم متحولون جنسياً. يمكن للإنسان الذي هو رجل بيولوجياً، على سبيل المثال تشعر وكأنها امرأة وبالتالي تشعر براحة أكبر في ثوب أو ملابس أخرى مرتبطة تقليدياً وتاريخياً بالجنس الأنثوي.
يتم أيضاً تجاوز فئات الجنس التقليدية عندما يمارس شخصان من نفس النوع الجنس مع بعضهما البعض. كان هذا الشكل من الجنس موجوداً في جميع الأوقات وفي جميع الثقافات، ولكن كان هناك دائمًا اختلاف في المدى الذي أصبح فيه مقبولاً على نطاق واسع في المجتمع. على الرغم من قبول المثليين جنسياً في معظم الدول الأوروبية، وبالدنمارك في أجزاء كبيرة من المجتمع على قدم المساواة مع المثليين جنسياً، إلا أن العديد من الأزواج المثليين يختبرون أنه لا تزال هناك حدود لعلاقتهم، على سبيل المثال يرفض بعض الكهنة الزواج من مثليين في الكنيسة. في الثقافات الأخرى، يتم اختبار هذه الحدود بقوة أكبر، على سبيل المثال في بلد مثل روسيا يحدث تجاوز الحدود الجنسية الشخصية عندما يتعرض الأفراد للاعتداء الجنسي والاغتصاب.
عندما يجبر شخص ما شخصاً آخر على الجماع، أو يتحسس ذلك الشخص، يتم تجاوز الحدود الجنسية لأحد الطرفين وينطبق الشيء نفسه إذا تم توجيه الاتهام إلى شخص بطريقة تتجاوز حدوده الشخصية.

العلوم والتكنولوجيا   
هل من حدود لتكنولوجيا المراقبة؟
 كشفت قضية "إدوارد سنودن" Edward Snowden الموظف الأمريكي في وكالة الأمن القومي، في عام 2013 عن مجموعة واسعة من بيانات المواطنين الأمريكيين.
كيف تكون الحدود مهمة في البيئة والمناخ؟
في العلوم الطبيعية، يعمل المرء بقيم حدية عند تحديد مدى ارتفاع تركيز المواد الكيميائية التي قد يحتويها شيء ما. يمكن على سبيل المثال تكون مواد كيميائية في الطعام أو مياه الشرب أو جزيئات في الهواء الذي نتنفسه. إن السلطات العامة - وزارة البيئة والغذاء - هي التي تضع الحدود عندما يكون هناك شيء خطير على الإنسان أو على البيئة. على أساس هذه القيم الحدودية تضع السلطات القواعد والتشريعات التي يجب على الشركات الامتثال لها. وبالتالي، فإن القيم المحددة هي كمية رياضية تقيس تركيز شيء ما، وفي نفس الوقت كمية يبنيها المجتمع، والتي تضع بعض القواعد والقوانين على أساسها.
فيما يتعلق بتغير المناخ، هناك حدود لمقدار ثاني أكسيد الكربون الذي يمكن أن يتحمله المناخ. وتسمى أيضاً حدود الكواكب. في عام 2009 ظهر فيما يتعلق بمشروع بحثي عالمي كبير بعنوان "حدود الكواكب" أن بعض الحدود المناخية قد تم تجاوزها بالفعل. إنه على سبيل المثال الحد من كمية النيتروجين في الدورة البيولوجية وتدمير التنوع البيولوجي.
يعتقد الخبراء أن الإنسان قد أثر على حالة الكوكب لدرجة أنه يمكن القول الآن أننا دخلنا حقبة جيولوجية جديدة اسمها "الأنثروبوسين" antropocæn.
هناك أيضًا حديث عن أن تغير المناخ مشكلة عابرة للحدود. حتى إذا قررت إحدى الدول إطلاق كميات أقل من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، فلن يؤدي ذلك إلى إبطاء تغير المناخ إذا لم تقم الدول الأخرى أيضًا بتقليل انبعاثاتها. في اجتماع القمة المناخية COP 21 الذي انعقد بباريس في ديسمبر/كانون الأول 2015 اتفقت دول العالم على اتفاقية مناخ عالمية لضمان عدم ارتفاع درجة الحرارة أكثر من 2 درجة مئوية مقارنة بالفترة التي سبقت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. في ذاك المؤتمر قدر العلماء أن الارتفاع الحالي في درجات الحرارة هو الحد الأقصى لمقدار الحرارة التي يمكن أن يتحملها المناخ، إذا لم يكن لهذا الارتفاع عواقب غير متوقعة على حياة الإنسان على الأرض.

أين حدود المسافة التي يمكن للإنسان أن يسافر بها؟
لقد تغيرت حدود المدى الذي يمكن للإنسان أن يسافر فيه بالتوازي مع التطور التكنولوجي. ذات مرة في التاريخ، كان الشكل المعتاد للسفر هو سيراً على الأقدام أو على ظهر حصان، وكان من المستحيل تقريباً تخيل السفر حول الأرض. بعد الحرب العالمية الثانية، تغيرت الحدود بشكل جدي خلال فترة الأربعينيات، والخمسينيات، والستينيات. ـ حيث تغيرت من بين أمور أخرى ـ تكنولوجيا الكمبيوتر المتقدمة التي جعلت من الممكن للبشر دخول الفضاء. يقال إن الإنسان دخل عصر الفضاء عندما أرسل الاتحاد السوفيتي في عام 1958 سبوتنيك 1 - Sputnik 1 أول قمر صناعي في العالم - عبر الغلاف الجوي. لم يسافر الإنسان إلى الفضاء حتى عام 1961 عندما أرسل الاتحاد السوفيتي رائد الفضاء "يوري غاغارين" Jurij Gagarin إلى الفضاء.
 إن العديد من الباحثين يأملون في أن يتمكنوا في المستقبل من استخدام "الثقوب الدودية" لتصوير اختصارات لأجزاء بعيدة من الكون. لكنها مجرد تكهنات للآن. من ناحية أخرى، من المتوقع أن يتم تطور السفر مستقبلاً إلى الفضاء مع الشركات الخاصة والمستثمرين.
مهمة الفضاء الخاصة التي تلقت الكثير من التغطية الإعلامية هي Mars One التي تخطط لإرسال بشر إلى المريخ في عام 2026 في محاولة لاستعمار الكوكب.
 يرى بعض العلماء أنها فرصة مستقبلية للبشر ليتمكنوا من الخروج إلى الفضاء أو استخراج المواد الخام من الكويكبات والكواكب والأقمار الأخرى عندما/ أو في حالة نفاد هذه المواد الخام من الأرض.


إلى أين تصل حدود ما نراه؟
وفقاً لموسوعة Gyldendal The Great Dane اخترع الإنسان التلسكوب في القرن السابع عشر تقريباً. كان عالم الفلك الإيطالي "جاليلي" Galilei هو من قام بتحسين بناء التلسكوب حتى يتمكن من استخدامه في ملاحظاته الفلكية. منذ ذلك الحين، دفعت التكنولوجيا حدود المدى الذي يمكننا رؤيته. في عام 1990 أطلقت ناسا تلسكوب "هابل" Hubble-teleskopet الذي أخذ صوراً من فضاء النجوم والمجرات - بعيداً لدرجة أن ما يتم ملاحظته من خلال التلسكوب هو في الواقع صور لملايين السنين. نظراً للمسافات الكبيرة في الفضاء، يستغرق وصول الضوء - وبالتالي الصور أيضاً - وقتاً طويلاً جداً للوصول إلى مجرتنا.

لقد تحولت حدود ما يمكننا رؤيته أيضًا من حيث تكنولوجيا المراقبة. التطور التكنولوجي على سبيل المثال أدت مراقبة البيانات التي تراقب فيها السلطات أو الشركات أنشطة الأشخاص العاديين على الإنترنت أو عبر شبكة الهاتف المحمول، إلى مناقشات أخلاقية حول حدود ما يمكن أن تتحمله الدولة.
حدث على سبيل المثال فيما يتعلق بقضية "إدوارد سنودن" Edward Snowden الموظف الأمريكي في وكالة الأمن القومي ـ وكالة المخابرات الوطنيةـ الذي كشف في عام 2013 عن مجموعة واسعة النطاق من البيانات الأمريكية. يمكن القول أيضاً أن الجمع المكثف للبيانات حول النشاط البشري والحظيرة يساعد في كسر الحدود بين المجالين الخاص والعام.
تُظهر إزالة الستار، أنك لست في مجال خاص بأي حال من الأحوال لمجرد أنك تجلس بمفردك أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بك.

 
ما هي حدود الإنسان في المستقبل؟
أظهر تغير المناخ أن الأرض ليست مصدراً غير محدود للموارد، ولكن هناك حداً لمدى قدرة الإنسان على استخدام الطبيعة - وتسمى أيضاً حدود الكوكب. إذا استمر البشر في استخدام الوقود الأحفوري - النفط والفحم - من تحت الأرض، فسيكون الاحترار العالمي قوياً لدرجة أنه يمكن للمرء أن يخشى الجفاف والفيضانات، ونتيجة لذلك، المجاعة والصراعات بين البلدان.

التحدي المستقبلي الآخر هو الزيادة السكانية. يخشى البعض أنه إذا استمر النمو السكاني بمستواه الحالي، فلن يكون من الممكن في مرحلة ما إنتاج ما يكفي من الغذاء للجميع.
 إلى جانب تغير المناخ، يمكن أن يكون له عواقب لا حصر لها على البشر كنوع، ويعتقد البعض أن الخيار الوحيد لبقائنا على المدى الطويل هو الانتقال إلى الفضاء أو ربما الاكتفاء باستخراج المواد الخام من الكواكب والكويكبات الأخرى.
ينتقد عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي "برونو لاتور" Bruno Latour في كتابه "لم نكن معاصرين أبداً"1991 Nous n'avons jamais été modernes المترجم إلى اللغة الدنماركية Vi har aldrig været moderne، ينتقد العلوم الغربية لتفكيرها كثيراً في الفئات والانقسامات مثل الطبيعة مقابل الثقافة. وفقاً للفيلسوف الفرنسي، يُظهر تغير المناخ بوضوح أن الحدود بين الطبيعة والثقافة هي فجوة مصطنعة اخترعها الإنسان، لكنها غير موجودة في الممارسة. وأن العالم بدوره موجود في شبكة من المناطق المختلفة التي تتفاعل مع بعضها البعض.
إن تغير المناخ ليس فقط مشكلة محددة علمياً، ولكنه أيضاً مفهوماً حقيقياً جداً في الاقتصاد الاجتماعي عندما يكون البلد زراعياً، على سبيل المثال يتأثر بالجفاف وبالتالي عليه أن يجد شيئاً آخر يقتات به، ومكاناً آخر للعيش فيه.
 تغير المناخ هو أيضاً مفهوماً له صدى في الفن وفي مفهوم المستقبل، على سبيل المثال في قصائد بعض الشعراء، ومنهم مجموعة الشاعر الدنماركي" ثيس أورنتوفت" Theis Ørntoft بعنوان "قصائد 2014" Digte 2014، حيث يحدد الشاعر مزاج الموت العمل.

المصادر
أولاًـ المقالات:
1-   Dejevsky, Mary: Tiden er løbet fra flygtningekonventionen, Information, 2016-01-21.
2-   Nielsen, Jørgen Steen: Civilisationens succes hviler på et kort øjeblik af klim, Information, 2015-01-16.
3-   Petersson, Birgit: Teknologi styrer abortspørgsmålet, Information, 2006-11-02.
ثانياًـ الكتب
1-   Gadamer, Hans-Georg: Sandhed og metode: grundtræk af en filosofisk hermeneutik. Systime, 2004 (1960).bibliotek.dk
2-   Latour, Bruno: Vi har aldrig været moderne. Hans Reitzel, 2006 (1991). bibliotek.dk
3-   Singer, Peter: Animal liberation: a new ethics for our treatment of animals. 1976. bibliotek.dk
ثالثاًـ مواقع انترنت

1-Das virtuelle Museum
Temaside om grænser. Vimu.info.
https://www.researchgate.net/publication/342425367_Das_virtuelle_Museum_Mehr_als_nur_ein_digitaler_Informationsraum_im_Internet_Essay
2-EMU Danmarks Læringsportal: AT-2016 ”Grænser”: Begynd her!
Få inspiration til forskellige problemstillinger og introduktion til de forskellige fags teori og metoder.
https://emu.dk/
3-Videnskab.dk/Undervisning
Temaside om grænser i forbindelse med AT-forløbet 2016. Videnskab.dk har samlet artikler fra deres database, hvor man kan blive inspireret.
https://videnskab.dk/Undervisning
4-Hvor går grænsen.dk
En hjemmeside om ytringsfrihed. Her finder du bl.a. en kildeliste med forslag til, hvordan man kan diskutere dilemmaet mellem ytringsfrihed og hensynet til andre.
https://www.arbejdsmiljoweb.dk/trivsel/kraenkende-handlinger/kampagne-hvor-gaar-graensen


28
حسن العاصي
 باحث في الأنثروبولوجيا الثقافية والإعلامية


عن الحدود.. إلى أين نتجه؟
الجزء الأول

كان الموضوع الرئيسي في المدارس الثانوية الدنماركية لعام 2019 هو "الحدود" Grænser، وهو موضوع له صلة مباشرة بأزمة اللاجئين عام 2015، ويرتبط أيضاً بالنقاش حول زيادة مراقبة الحدود، وحول إلى أين يذهب موضوع الحدود، وعلاقته بالتغير المناخي، ودور العامل البشري.
تشعب النقاش حول الحدود في الدنمارك وتفرع، حيث إن هناك العديد من وجهات النظر الأخرى حول مفهوم الحدود. يمكن أن يكون نقاشاً حول الأخلاق الإنسانية والمجتمعية أيضاً، أين الخط الفاصل بين الصواب والخطأ؟ وأين حدود حرية التعبير واللغة الصحيحة في النقاش العام؟
 عادة تتعلق القضايا الأخلاقية بالحدود، لأن الحدود الأخلاقية غالباً ما يتم دفعها عندما يُحدث التطور التكنولوجي فرصاً جديدة، وإمكانيات واسعة للمراقبة أو العلاج.
على سبيل الذكر، عندما وُلد أول طفل أنبوب اختبار في الثمانينيات، اثار جدلاً حاداً حول ما إذا كان من المقبول التلاعب ببيولوجيا الإنسان، بينما يُعتبر اليوم علاجاً مقبولاً على نطاق واسع لمن ليس لديهم أطفال.

ماذا تعني كلمة "حدود"؟
إذا بحثنا في القواميس يتضح أن كلمة "حدود" لها معاني عديدة. يمكن أن يكون خط فاصل جغرافي طبيعي بين منطقة وأخرى، على سبيل المثال على شكل سلسلة جبال أو نهر، ولكن يمكن أن يكون أيضًا خطاً جغرافياً فاصل اتفقت دولتان على رسمه.
يمكن أيضًا فهم "الحدود" بشكل أكثر تجريداً، على سبيل المثال عندما نتحدث عن الانتقال من دولة إلى أخرى. داخل الأديان والثقافات، تلعب الحدود أيضاً دوراً مهماً، بما في ذلك ما يتعلق بطقوس الانتقال، على سبيل المثال إذا تجاوزت الخط الفاصل بين مرحلة الطفولة ومرحلة البلوغ.
هناك أيضًا حدود في جميع الثقافات لما يمكن قوله اجتماعياً. يمكن أن تشير الحدود أيضاً إلى الحدود بين ثقافتين - حاجز ثقافي يجعل من الصعب على شخصين فهم بعضهما البعض.
أخيرًا، يمكن أن تشير "الحدود" إلى القواعد الاجتماعية والقانونية للعبة في المجتمع، والتي تُفهم بمعنى أن هناك حدوداً لما هو صواب وما هو خطأ. يمكن أن تكون أيضًا مجموعة من القواعد التي تضع قيوداً محددة على ما هو مسموح به في سياقات معينة، على سبيل المثال كم عدد البكتيريا التي يجب أن تكون في مياه الشرب أو الاستحمام.
في اللغات الأخرى قد تكون المعاني المختلفة للمصطلح أوسع واشمل، وهذا ينطبق على اللغة الإنجليزية مثلاً، حيث توجد ثلاث كلمات مختلفة للحدود limit, border, boundary"

الفلسفة والدين 
أين الخط الفاصل بين الخير والشر حسب الفلسفة؟
تعامل العديد من الفلاسفة مع مرور الوقت مع الفلسفة الأخلاقية - عقيدة ما هو صواب وما هو خاطئ لفعله وقوله وتفكيره. وضع أحد أشهر الفلاسفة الأخلاقيين إيمانويل كانط (1724-1804) وصفة أخلاقية تنص على أنه يجب على المرء أن يعامل الآخرين كما يريد أن يعامل نفسه. بالنسبة إلى كانط، الشيء الجيد هو التصرف وفقاً لقاعدة عالمية، وهي صحيحة وصالحة لجميع الناس في جميع الأوقات. في فلسفة كانط الأخلاقية، هناك أيضاً فهم أن كل الناس لديهم قيمة في أنفسهم.
وجهة نظر أخرى تتعلق بالأخلاق هي أخلاقيات المنفعة، والتي توجد في عصر التنوير عند فيلسوف مثل جيريمي بنثام (1748-1832). في مجال أخلاقيات المنفعة يُنظر إلى الخير على أنه الذي يخلق أكبر قدر ممكن من السعادة لأكبر عدد ممكن من الناس. هذا يعني أنه لا ينبغي للمرء أن يتصرف وفقاً لما يمكن أن يقال إنه جيد عالمياً، ولكن يجب أن يتصرف المرء بعد تحقيق أكبر تأثير مفيد في أكبر عدد ممكن من الأشخاص.
ضعه في المقدمة. إذن وفقاً لمنطق نفعي، من المقبول أخلاقياً طرد الإنسان من الطوافة إذا كان ذلك يعني أن بقية المجموعة يمكنها البقاء على قيد الحياة.
هناك العديد من الفلاسفة الآخرين الذين لديهم آراء حول الأخلاق، لكن الموقفين المذكورين أعلاه يصفان منطقين مختلفين جذرياً.

أين الخط الفاصل بين الخير والشر حسب الأديان؟
لعب الدين أيضاً دوراً تقليدياً في تحديد ما هو الخير والشر، وما زال يفعل هذا لكثير من الناس. إن المسيحية على سبيل المثال، تنص على أنه يجب على المرء أن يتصرف وفقاً لمبدأ العمل الخيري، مما يعني أن على المرء واجب حب جاره، وأن أي رجل له قيمة في نفسه.
في الإسلام للإنسان أولاً وقبل كل شيء واجبات تجاه الله، والعمل الصالح إذن هو عبادة الله، ومع ذلك فإنه في الممارسة العملية والعبادات، لها أيضا أهمية فيما يتعلق بالكائنات الحية الأخرى، التي وفقاً للإسلام كلها مخلوقات الله. إذا واجه المرء اضطراراً الاختيار بين شرين، فإن الإسلام يشير إلى أن العمل الصالح هو العمل الأفضل للمجتمع والصالح العام.
في البوذية يعمل المرء مع القاعدة الأخلاقية التي تنص على أنه يجب على المرء ألا يأخذ حياة أي كائن حي. في البوذية، كل شيء له قيمة حية في حد ذاته - ليس فقط البشر، ولكن الحيوانات أيضاً.
كما تتكرر الأخلاق البوذية من قبل الفيلسوف الأخلاقي وعالم الأخلاق البيولوجية الأمريكي "بيتر سنجر" Peter Singer وبحسب مقال "عالم من عنصري الأنواع" A world of species racists A world of species racists أطلق في كتابه "تحرير الحيوانات" The Liberation of Animals (1976) وجهة النظر القائلة بأن معاملة الإنسان للحيوانات هي شكل من أشكال عنصرية الأنواع.
 عن طريق عنصرية الأنواع، يعني أن الإنسان كنوع ينسب إلى نفسه قيمة أكبر وبالتالي حقوقاً أكثر من الحيوانات. على سبيل المثال يتم التعبير عن هذه العنصرية، عندما تقوم صناعة الأدوية أو صناعة التجميل باختبار الأدوية أو مستحضرات التجميل على الحيوانات. أو عندما يذبح الإنسان الحيوانات ليأكلها. هذا الموقف الأخلاقي الفلسفي مثيراً للاهتمام أيضاً لأنه يغير المفهوم العام للتمييز بين الإنسان والحيوان.

إلى أين تذهب الحدود الأخلاقية؟
في بعض الأحيان لا يميز المرء بين الأخلاق والآداب ومعايير السلوك. لكن يمكن للمرء أن يقول إنه حيثما تكون الأخلاق تشكل عقيدة كيف ينبغي للمرء أن يتصرف وفقاً للعرف والاستخدام، يرتقي المرء بالأخلاق إلى مستوى أكثر عمومية، ويفكر فيما تقوم عليه الأخلاق.
 تنشأ المعضلات والمناقشات الأخلاقية في المجتمعات الغربية المتطورة عندما يتغير شيء ما: إذا تم تقديم سياسة جديدة، على سبيل المثال في خدمات الرعاية الاجتماعية، أو إذا كان التطور التكنولوجي يتيح علاجاً جديداً في نظام الرعاية الصحية. يتبع ذلك عادةً المشكلات الأخلاقية أو المعضلات المعيارية.
في الدنمارك على سبيل المثال، يوجد المجلس الدنماركي للأخلاقيات، الذي يقدم المشورة ويخلق نقاشاً عاماً حول المعضلات الأخلاقية المهمة التي تنشأ فيما يتعلق بالتكنولوجيا الحيوية الجديدة والهندسة الوراثية. لكن المجلس يركز أيضاً بشكل عام على القضايا الأخلاقية في الرعاية الصحية مثل القتل الرحيم النشط.
 تأسس مجلس الأخلاقيات في عام 1987 كنتيجة للنقاش الذي أعقب ولادة أول طفل أنبوب اختبار في عام 1984. لقد تجاوزت التكنولوجيا الجديدة حدود ما كان ممكناً من خلال التكنولوجيا الحيوية البحتة، وبالتالي فقد غيرت أيضاً فكرة ما هو طبيعي وغير طبيعي، ما هو صواب وما هو خطأ.
يتم أيضاً مناقشة الحدود الأخلاقية عندما ـ على سبيل المثال ـ تتم مناقشة قضية التبرع بالأعضاء وزرعها، أو الإجهاض، أو رعاية التبني، أو عقوبة الإعدام، أو القتل الرحيم النشط، متى يكون الجنين قابلاً للحياة؟ ومتى يكون من المقبول قتل حياة إنسان؟
 هل من المقبول شراء كلية جديدة من هندي فقير على الجانب الآخر من الأرض، أم أنه من المبرر أخلاقياً أن تدفع لامرأة لتحمل وتلد طفلها؟
تنشأ العديد من هذه المعضلات الأخلاقية مع تغير الحدود التكنولوجية أو الجغرافية. إن التقدم التكنولوجي والعولمة على سبيل المثال، يعني أن التبرع بالأعضاء بطريقة جديدة يصبح معضلة أخلاقية عندما يشتري أوروبي ثري كلية من آسيوي فقير. لقد تغيرت حدود ما يمكن للمرء أن يشتري بنفسه لنفسه، وهذا يثير أسئلة جديدة حول الحدود الأخلاقية لما هو صواب أو خطأ.
موضوع الساعة هو النقاش الأخلاقي حول ما إذا كان يجب أن تتاح للرجل فرصة الحصول على "إجهاض قانوني" أي حق قانوني في التخلي عن نسله البيولوجي. ظهر هذا السؤال في النقاش العام في يناير 2016 في الدنمارك حين بثت قناة التلفزيونية DR الفيلم الوثائقي "الأب اللاإرادي" Ufrivillig far
 قدم عالم الاقتصاد الاجتماعي "هنريك بلاتز" Henrik Platz اقتراحًا لـ "الإجهاض القانوني" مما يعني أنه يجب أن يكون للرجل الحق في التخلي عن أبوة الطفل حتى لا يكون ملزماً مالياً أو قانونياً بصفته أحد الوالدين للطفل. حجته القائلة بوجوب إدخال تشريع للإجهاض القانوني للرجال هو ـ من بين أمور أخرى ـ أنه سيجعل الرجال أكثر مساواة بالنساء اللواتي أتيحت لهن الفرصة منذ عام 1973 لإنهاء الحمل غير المرغوب فيه حتى الأسبوع الثاني عشر ـ وفي بعض الحالات أيضاً في وقت متقدم من الحمل.
 وانتقد آخرون الاقتراح لوضع حقوق الزوج والزوجة على الطفل، ومحاولة مساواة التخلي عن الأبوة بالإجهاض، حتى لو لم يكن الأول إجهاضاً.

الجغرافيا والمجتمع
ما هي الحدود التي أدت إلى الصراعات؟
يتم تحديد البلدان والمناطق في بعض الحالات بشكل طبيعي - إما بحكم الجغرافيا، على سبيل المثال على شكل نهر يفصل منطقتين عن بعضهما البعض - أو من خلال لغات أو لهجات مختلفة. لكن في بعض الأحيان يكون ترسيم الحدود غير واضح، وقد دارت العديد من النزاعات والحروب حول ترسيم الحدود. كان على سبيل المثال في الحرب الدنماركية الألمانية عام 1864، حيث اختلفت الدنمارك وألمانيا حول المكان الذي يجب أن تتجه فيه الحدود الدنماركية الألمانية. اعتقدت الحكومة الدنماركية أن منطقة "شليسفيغ" Slesvig يجب أن تنتمي إلى الدنمارك، وبالتالي يجب رسم الحدود بواسطة نهر "إيجديرين" Ejderen.

كما استمرت العديد من النزاعات أو تصاعدت بمجرد رسم خط "بيننا وبينهم". ومثال على ذلك الستار الحديدي إبان الحرب الباردة، حيث تم تقسيم العالم بين الدول الحرة والديمقراطية في الغرب، والدول الشيوعية في الشرق. تجلت هذه الحدود المقطوعة بشكل حاد في جدار برلين، الذي لم يقسم العائلات والأصدقاء فحسب، بل أدى أيضًا إلى تقسيم بلد بأكمله. لم يكن جداراً نشأ بشكل طبيعي من ظروف جغرافية أو ثقافية، ولكن تم بنائه على أساس أيديولوجية سياسية.

هناك ترسيم آخر هو جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل ليفصل بين السكان الأصليين الذين هم الفلسطينيين أصحاب الأرض، والمستوطنين المتدينين المتشددين، سمي السياج الأمني لتأمين السكان الإسرائيليين، لكنه في الحقيقة بُني لأسباب أيديولوجية سياسية دينية عنصرية.

الحدود الأوروبية
من الصعب أن نحدد بالضبط إلى أين ستذهب حدود أوروبا. إلى الغرب يحد أوروبا بشكل طبيعي المحيط الأطلسي، ومن الشمال المحيط المتجمد الشمالي، ومن الجنوب البحر الابيض المتوسط. ومع ذلك فإنه في الشرق لا يوجد خط جغرافي محدد بوضوح بين أوروبا وآسيا.
مع إنشاء الاتحاد الأوروبي، وخاصة مع توسع الاتحاد في القرن الحادي والعشرين، تم تحديد الحدود الأوروبية إلى حد كبير من خلال التعاون السياسي في أوروبا. يحد الاتحاد الأوروبي الآن روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا من الشرق.
تتم مناقشة دمج تركيا كدولة حدودية جنوبية شرقية، لكنها أثارت الكثير من الجدل، حيث يعتقد البعض أن ثقافة تركيا لا تتوافق مع القيم الأوروبية، أي أن غالبية سكان تركيا من المسلمين.
 ومع ذلك، كان من الشائع التفكير في تركيا الحالية كجزء من أوروبا في الماضي، وهو ما يعني رؤيتها من خلال مصطلح "رجل أوروبا المريض" والذي استخدم في الحديث عن انهيار الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر.

ما هو الدور الذي تلعبه الحدود في الاتحاد الأوروبي وحوله؟
بفضل التعاون المكثف بين دول الاتحاد الأوروبي ـ بما في ذلك اتفاقية شنغن ـ اعتاد مواطنو الاتحاد الأوروبي على التنقل بحرية عبر الحدود الوطنية، ولكن مع أزمة اللاجئين في عام 2015 زادت دول الاتحاد الأوروبي الفردية من تركيزها على مراقبة حدودها الوطنية، وقد أدخلت دول مثل الدنمارك والسويد وألمانيا والنمسا ضوابط مؤقتة على الحدود. لقد دخل العديد من اللاجئين إلى أوروبا من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ـ على سبيل المثال عبر اليونان وأبعد من ذلك عبر أوروبا ـ مما أدى بالعديد من الدول الأوروبية إلى القول إن هناك حدوداً لعدد اللاجئين الذين يمكن استقبالهم.

في يناير/كانون الثاني 2016 أقرت الدنمارك تشديداً جديداً لتشريع اللجوء. تدابير التقشف الجديدة تعني أنه أصبح تحقيق لم شمل الأسرة، والحصول على تصريح إقامة دائمة أكثر صعوبة. بالإضافة، إلى ذلك شملت تدابير التقشف في المنطقة قراراً مثيراً للجدل للغاية يفيد بوجوب مصادرة أي مبالغ بحوزة اللاجئين تبلغ أكثر من 10000 كرونة دانمركية ـ نقود أو مجوهرات ـ عند وصولهم إلى الدنمارك.
 إن الأحزاب الزرقاء والاشتراكيين الديمقراطيين هم الذين تبنوا إجراءات التقشف. حجتهم هي أن أي قيمة مالية يجب أن تساعد في تغطية النفقات المتعلقة بإقامة طالبي اللجوء. أشار منتقدو إجراءات التقشف الجديدة إلى أن الحكومة الدنماركية على تخالف شريعة حقوق الإنسان.
إن مراقبة الحدود ليست مجرد مسألة أمنية سياسية وثقافية واقتصادية، ولكنها تثير أيضاً أسئلة أخلاقية حول المسؤولية التي يتحملها المرء تجاه الأشخاص الذين ليسوا مواطنين أوروبيين، أو دنماركيين على سبيل المثال. هل يمكن تحديد المسؤولية تجاه الآخرين من خلال الحدود الوطنية والجغرافية؟
بالإضافة إلى مشكلة اللاجئين، تمت مناقشة حدود الاتحاد الأوروبي المفتوحة أيضاً فيما يتعلق بالإرهاب والجريمة العابرة للحدود. يعتقد البعض أن الحدود المفتوحة داخل الاتحاد الأوروبي أدت إلى المزيد من الجرائم في الدنمارك، وخاصة من قبل مواطني أوروبا الشرقية الذين اشتهروا بالسفر إلى البلاد لارتكاب الجريمة. وبالمقابل، يعتقد البعض الآخر أن هذه تحيزات، وأن الحدود المفتوحة على العكس من ذلك، هي ميزة كبيرة على الصعيدين الاقتصادي والثقافي للدنمارك، وبقية الدول الأوروبية.


29
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


صورة أفريقيا في الإعلام الغربي
جوع وأمراض وفساد

يظن معظم الغربيين أن القارة الأفريقية هي عيارة عن صحراء مترامية الأطراف، يقطنها شعب واحد يشترك بصفات سواد البشرة وبياض الأسنان.
 لقد ارتبطت صورة أفريقيا والإنسان الأفريقي في ذهنية الإنسان الغربي بتراثه القديم الممتلئ بثقافة التعالي والعنصرية، والإيمان بتفوق العرق الأبيض على سواه من الأعراق.
 ساهم بعض الكتاب الغربيين في ترسيخ هذه الصورة المتخيلة عن أفريقيا في عقل الغربي، ويمكن هنا أن نورد كتاب " من قلب الظلمة " للكاتب الروائي البولوني " جوزف كونراد " وكذلك الكاتب الألماني " كاي ماي " الذي كتب سلسلة من كتب المغامرات اعتمدت على الوصف الخيالي لأفريقيا، وذكر الكاتب فيها مغامرات حصلت في السودان ووصفها وصفاً دقيقاً، في حين كان هو يقبع في السجن، دون أن تتاح له فرصة زيارة أفريقيا. واللافت أن هذه الكتب ما زالت تحقق مبيعات مرتفعة في الدول الغربية.

صراع نفوذ
إن التنافس بين الدول الكبرى على المناطق الإستراتيجية والغنية، انتقل من مرحلة الصراع المسلح إلى صراع فكري وإستراتيجي حول بسط الهيمنة، وزيادة التبعية والنفوذ بأدوات العصر الحديث في توجيه الرأي العام الدولي والمحلي، ولذلك نجد كل وسيلة إعلامية ذات تمويل حكومي وتوجه دعائي لها اهتمام خاص بها، وإستراتيجية إعلامية نحو القارة الأفريقية.
نحن اليوم أمام غزو للقارة الأفريقية لا يقل في قوته وعنفوانه عن غزو الجيوش والاحتلال والسيطرة.
 إن الهيمنة الإعلامية على أفريقيا هي استمرار لتاريخ طويل من المشاريع الإعلامية، التي أطلقتها محطات إذاعية وتلفزيونية دولية، وحتى منصات إلكترونية لتوفير مواد إعلامية تستهدف المواطن الأفريقي والتأثير في جمهور وسلطات بلاده.
يتمثل الاعلام الغربي بمنظومة المحطات الفضائية التي تجعل من العنف، والجوع، والتخلف مادتها الإعلامية التي يتم نقلها عبر شبكة مراسليها في القارة الأفريقية، إضافة الى إنتاج العديد من الأفلام التي يظهر فيها الأفريقي على أنه شخص تابع ومقلد للرجل الأبيض.
 إن شركات الإنتاج السينمائي الكبرى مثل هوليود وغيرها تعودت أن تقدم الرجل الأفريقي على أنه الطرف الضعيف والعاجز في أعمالها الفنية، فضلا عن الصحافة المقروءة الذي كانت ـ وما زالت تتعاطى مع القارة الأفريقية من ذات المنطلق الذي تتعاطى معه شبكة الإعلام المرئي.

أفريقيا الحقيقية
لكن أفريقيا الحقيقية أكثر تعقيداً كثيراً من الصور التي نراها بانتظام في وسائل الإعلام الغربية، التي دائما ما تصور الجانب السلبي من القارة. فيما يحاول الإعلام الأفريقي الرد من خلال إظهار صور أكثر إيجابية وواقعية، على أمل أن يتعرف العالم على أفريقيا الحقيقة التي لا يعرفها الغرب أو يحاول تشويهها.
لطالما تعودت وسائل الإعلام الغربية على النمطية في نقل أخبارها والحديث عن القارة، ومن هنا يمارس أصحابها مهنتهم على تلك الأسس، تبعا لأهداف قد تكون معلنة، والعكس صحيح، إلا أنها – أي الأهداف- تتمحور حول إبراز صورة الغربي بأحسن حال من صورة الأفريقي.
 في معظم وسائل الإعلام الغربية، نرى في التقارير الإخبارية أن الرجل الأبيض هو الذي يقوم بتغذية الرجل الأسود، ومساعدته وتقديم العلاج له، ولن ترى في التقارير أن الأفارقة يساعدون أنفسهم أو يساعد بعضهم البعض.
أخبار الحرب الأهلية في الصومال، وكذلك الإرهاب نيجيريا الذي يستنزف مقدراتها في مواجهات عسكرية مع تنظيم بوكو حرام، ومرض إيبولا المميت يمزق سيراليون، كلها عناوين كانت تنشرها وسائل الإعلام الغربية عن أفريقيا للعالم.
 لكن ما أسباب الحرب في الصومال ومن الذي أوقدها؟ من الذين وراء جماعة بوكو حرام، ومن يمولهم؟ ما حقيقة إيبولا وكم من الدول مصابة به؟ لن تسمع أي شيء من هذا القبيل، وذلك لسبب بسيط أن كل هذه الأحداث تجري في أفريقيا.

إعلام غير حيادي
إن كون الإعلام الغربي يوفر مساحة للحرية وسقفا مرموقا لذكر الحقائق أو بعضها، ويضفي بعض الحيادية والموضوعية في طرح المواضيع لا يعني استقلاليته، فهذه الحرية تعدم تماما حين يتعلق الأمر بالتأثير على الرأي العام في نقاط ساخنة تتصل مباشرة بالسياسة الخارجية، خاصة التي تمس مصالح الدول الغربية في أفريقيا أو غيرها من القارات، ولهذا تتمتع الشعوب الغربية ببعض تلك المصداقية في الشؤون الداخلية، بينما تنعكس الصورة تماماً في الشؤون الخارجية.

الحكومات الغربية تحرص على سياسة الانفتاح والفضفضة والنقد المفتوح في إعلامها الذي يتناول القضايا الداخلية والخاصة بشعوبها، ولكن حين يتعلق الأمر بأفريقيا والسياسات الخارجية فلابد من تسييس الخبر، وتكميم الأفواه، وحجز المعلومات، ووضع أجندة خاصة.
 وكذلك فإن هذه الصحافة الغربية لا تتردد في استخدام الأسلوب الاستخباري للترويج لموقفها السياسي، وللابتزاز السياسي في آن. وقد تكرر هذا كثيرا أكثر من موضع في أفريقيا حيث جرى ابتزاز عدد من رجال السياسة إن كان في الدول الغربية نفسها، أو الضغط الذي تمارسه هذه الوسائل على صناع القرار خارج الغرب لتأمين مصالحها ومصالح من تمثلهم.

بظني أن ما يستحق النقد هو غياب الرؤية الموضوعية، وانعدام التحليل العلمي البحثي للكثير من الظواهر في القارة الأفريقية، وعدم تناولها في سياقها التاريخي والجدلي من قبل وسائل الإعلام الغربية، وتحليلها في الواقع الأفريقي ذاته.

تجارة المعلومات
إن العديد من وسائل الإعلام الغربية هدفها الأساسي ليس البحث عن الحقائق ونشرها، وإنما التجارة في المعلومات والمعطيات والخبر والصورة، لذلك هي تقوم بتقديم ما يطلبه المشاهد والقارئ، ولا تهتم كثيراً إن كانت السلعة جيدة ومفيدة، أو كانت فاسدة ومتعطنة.
ليس هذا فحسب، بل أن وسائل الإعلام نفسها في الدول الغربية سلعة مثل غيرها من السلع، يتنافس على امتلاكها تجار كبار لفرض مصالحهم السياسية أو الاقتصادية.
بل أن العديد من الديكتاتوريين في الدول النامية يشترون وسائل إعلامية في الدول الغربية، من أقنية تلفزيونية أو صحف ومجلات أو محطات إذاعية، ويقومون بتوظيف عدة مشاهير إعلاميين غربيين فيها، وذلك بهدف تلميع صورتهم الشخصية أو صورة بلادهم في أعين المشاهد والقارئ الغربي.
 خلال السنوات الأخيرة أقدم عدد من تجار الدم والحروب ومن الأثرياء الجدد خاصة من دول أوروبا الشرقية، على شراء صحف ومحطات تلفزيونية عريقة، لأهداف متعددة مثل تبييض الأموال، وحماية مصالحهم، وللتأثير على مجريات الحياة السياسية والاجتماعية.

مرادف للفقر؟
إن الصورة النمطية لإفريقيا في العقل الغربي لم تتغير كثيراً حتى الآن، فما زالت وسائل الإعلام الغربية تقدم إفريقيا في إطار لا يخرج عن ثوابتها المتوارثة وهي الفساد والتخلف والكوارث الطبيعية والفقر والجوع والأمراض، وكثير من المحطات التلفزيونية مازالت تقدم برامج بقصد الإثارة والربحية، عن عادات شرب الدم وأكل لحم البشر أو القرود لدى بعض الإثنيات الإفريقية، وإن أردا الإعلام الغربي التنوع في تناول الموضوع الإفريقي يتحدث عن انخفاض وكي ثدي القاصرات الإفريقيات، أو عن تعدد الزوجات.
إن الطريقة التي تنتجها وسائل الإعلام عن أفريقيا تدور حول صورة الأحياء الفقيرة والمرض والفساد والبطالة، صورة ضارة لقارة هي بخلاف ذلك. تُسهم القصص والحكايات الإخبارية عن أفريقيا ـ التي تغذيها معلومات أساسية صغيرة غير مكتملة ـ في تشكل حالة سلبية تعزز الصور النمطية حول "أفريقيا الفقيرة".
الإعلام الغربي غالباً ما يقدم أفريقيا وشعبها ليس أكثر من أرقام في عناوين الصحف ونشرات الأخبار اليومية، ويظهرون الأوروبيون كأناس تشعر بالتعاطف الحقيقي مع ذاك العالم. لكن هل يهتمون حقا؟ هل يرون شعب أفريقيا أناس لهم حقوق، أو يستخدمون عبارة "الأطفال الفقراء في أفريقيا" كذريعة تشعرهم بالامتنان لما لديهم من رفاهية؟ أو يشعرون بالراحة عندما يشاهدون مساهمة المنظمات الإنسانية في دولهم التي تحارب الفقر والجوع؟

أفريقيا لا نراها
الحقيقة هي أن إفريقيا هي موطن لثلاثة من أهم عشرة اقتصادات نموا في العالم. شيء ليس غريباً للغاية بالنظر إلى أن أفريقيا تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية، ونسبة عالية من الشباب بين السكان، ومع انحسار الأوبئة والأمراض، وتراجع مستويات الفقر والجوع والبطالة، واستثمار مالي متزايد باستمرار في السوق الأفريقية، فإن إفريقيا لديها القدرة على أن تصبح قوة عظمى جديدة.
من خلال تمثيل أنفسهم في خطة إعلامية، يمكن لأفريقيا أن ترسم صورتها الإخبارية الخاصة بها وإظهار الفروق الدقيقة الثقافية، والأحداث المهمة في جميع أنحاء القارة. هذا يمكن أن يجعل أفريقيا أكثر من مرادف للفقر في عيون وآذان الغرب.
إن المجتمعات الغربية بالرغم من أنها مجتمعات متحضرة متطورة، إلا أنها مجتمعات تسود فيها العزلة، والفردية، والاغتراب الاجتماعي والروحي، لذلك نجد من السهولة بمكان أن تلعب وسائل الإعلام بهذه المجتمعات دوراً بالغ الخطورة في التأثير المباشر على المتلقي، وبذلك يكون لهذه الوسائل الأدوات التي تحدد نوعية ومسار واتجاهات الوعي الجمعي لهذه الشعوب، وتعمل على إنتاج وإعادة إنتاج وعي الناس، مما يجعل من مهمة تغيير الصور النمطية عن أفريقيا أمراً غير يسير.



30
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك



 الإنسانية الواقعية العظيمة عند تشيخوف

اشتهر تشيخوف بكونه كاتباً مسرحيًا، ولكنه أيضاً أستاذ في فن القصة القصيرة ويستند إلى الإنسانية الواقعية.
 "أنطون تشيخوف" Anton Chekhov (1860-1904) طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي، يُعتبر من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة، ومسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين. بدأ "تيشيخوف" الكتابة عندما كان طالباً في كلية الطب في جامعة موسكو، ولم يترك الكتابة حتى أصبح من أعظم الأدباء. استمر في مزاولة مهنة الطب. عُرف عنه قوله "إن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي".

حول الواقعية الإنسانية لأنطون تشيخوف
"خارج كل أبواب السعادة والرضا، يجب أن يكون هناك رجل يحمل مطرقة، والذي كان يذكرهم باستمرار بأن هناك أشخاصاً غير سعداء، بغض النظر عن مدى سعادتك، ستقلب الحياة جوانبها المظلمة عاجلاً أم آجلاً إلى/ وسوف تتأثرون بالمحن، والمرض، والفقر، والخسارة، وبعد ذلك لن يراك أحد أو يسمعك، تماماً كما أنك الآن لا ترى أو تسمع الآخرين"

الاقتباس أعلاه مأخوذ من الكاتب الروسي "أنطون تشيخوف" الذي تواصلت كتاباته عتبة القرن العشرين، في مجتمع روسي يتسم بالفقر والقمع السياسي والتفكير الشمولي.
صورة المؤلف كرجل بمطرقة تكسر جدار الجهل والقمع بطريقة مناسبة، لكنها أيضاً صورة تعبر عن حب الإنسانية الذي هو جزء مهم من رؤية "تشيخوف" للحياة، يجعلك تشعر بالصدق الذي يُبنى على الإنسان كما هو، وليس كما ينبغي.
تكمن موهبة "تشيخوف" الخاصة في أنه تمكن من وصف الناس بعقلانية وبإحساس مميز بتعقيدهم وتشابكهم. إنه مؤلف متحرر من إبهار السبابة الأخلاقي.

طفولة تشيخوف
ولد "أنطون تشيخوف" في يوم عيد القديس بطرس أنتوني العظيم St. Anthony (17 يناير التقويم القديم) 29 يناير 1860 في تاغانروغ Taganrog وهو ميناء على بحر آزوف Azovhavet في جنوب روسيا.
كان هو الثالث من بين ستة أطفال على قيد الحياة. كان والده "بافل يغوروفيتش تشيخوف" Pavel Yegorovich Chekhov ابن عبد سابق، وزوجته الأوكرانية من قرية أولهوفاتكا Olhovatka، محافظة فورونيج Voronezh وكان يدير محل بقالة.
 اعتبر بعض المؤرخين "بافل تشيخوف" قائد جوقة الرعية، ومسيحي أرثوذكسي متدين، وأب مسيء جسدياً، ويشكل نموذجاً لصور ابنه العديدة، التي تشكلت فيما بعد عن النفاق في كتاباته.
كانت والدة "تشيخوف" "يفغينيا موروزوفا" Morozova Yevgeniya راوية لقصص ممتازة، وقد أمتعت الأطفال بقصص عن رحلاتها مع والدها تاجر الملابس في جميع أنحاء روسيا.
يتذكر "تشيخوف": "لقد حصلنا على مواهبنا من والدنا، ولكن روحنا من والدتنا."
كان الاستبداد والكذب هو الذي أفسد شباب والدتنا. الاستبداد والأكاذيب شوهت طفولتنا لدرجة أنه من المخيف والمثير للغثيان التفكير في الأمر. أذكر الرعب والاشمئزاز الذي شعرنا به في تلك الأوقات، حيث ألقى الأب بنوبة غضبه على الوالدة أثناء العشاء، بسبب وجود الكثير من الملح في الحساء وأطلق عليها لقب الأم الحمقاء ".

التحق "تشيخوف" بمدرسة يونانية في تاغانروغ Taganrog حيث تم احتجازه لمدة عام بسبب إخفاقه في امتحان اللغة اليونانية القديمة. غنّى في دير الروم الأرثوذكس في تاغانروغ بجوقة والده. وفي رسالة من عام 1892، استخدم كلمة "معاناة" لوصف طفولته وذكر:

"عندما اعتدت أن أقف أنا وإخوتي في وسط الكنيسة ونرنّم الثلاثي "لتُعَلَى صلاتي" أو "صوت رئيس الملائكة"، نظر إلينا الجميع بعاطفة وحسد، لكن في تلك اللحظة شعرنا أننا سجناء صغار"

في عام 1876، أُعلن والد "تشيخوف" إفلاسه بعد أن أفرط في إنفاق موارده المالية على بناء منزل جديد، بعد تعرضه للخداع من قبل مقاول يُدعى "ميرونوف". Mironov
 ولتجنب السجن بسبب الديون هرب إلى موسكو، حيث ذهب ابناه الأكبر "ألكسندر ونيكولاي" Alexander، Nikolay إلى الجامعة.
عاشت الأسرة بفقر في موسكو. كانت والدة "تشيخوف" محطمة جسدياً وعاطفياً بسبب هذه التجربة. تُرك تشيخوف لبيع ممتلكات العائلة وإكمال تعليمه.
في عام 1879 أكمل "تشيخوف" دراسته وانضم إلى عائلته في موسكو بعد التحاقه بكلية الطب في آي. م.  سيتشينوف I.M. Sechenov أول كلية طبية في موسكو.

كتابات مبكرة
تولى "تشيخوف" الآن مسؤولية الأسرة بأكملها. ولدعمهم ودفع رسومه الدراسية، كان يكتب يومياً رسومات قصيرة ومضحكة ومقتطفات صغيرة من الحياة الروسية الحديثة، والعديد منها تحت أسماء مستعارة.
أكسبه إنتاجه الرائع شهرة تدريجية باعتباره كاتباً ساخراً لحياة الشوارع الروسية، وفي عام 1882 كتب لأوسكولكي Oskolk المملوكة لنيكولاي ليكين Nikolai Leykin أحد الناشرين البارزين في ذلك الوقت. كانت نبرة "تشيخوف" حينها أقسى من تلك المعروفة في أعماله الروائية اللاحقة.
في عام 1884 تأهل "تشيخوف" طبيباً، واعتبره مهنة الطب عمله الرئيسي، وجنى بعض المال منها، وعالج الفقراء مجاناً.
في عامي 1884 و1885 وجد "تشيخوف" نفسه يسعل دما، وفي عام 1886 تفاقم وضعه الصحي، لكنه لم يخبر أسرته أو أصدقائه بمرض السل الذي أصيب به.
في أوائل عام 1886 تمت دعوته للكتابة في إحدى الصحف الأكثر شهرة في سانت بطرسبرغ، نوفوي فريميا Novoye Vremya "نيو تايمز" التي يملكها ويحررها المليونير أليكسي سوفورين Alexey Suvorin الذي أصبح صديقاً مدى الحياة، وربما كان أقرب أصدقاء "تشيخوف".


الحياة والعمل
لم يكن فهم "تشيخوف" للطبائع البشرية يعود فقط إلى عمله كطبيب. بفضل عمله، سافر إلى بقاع متعددة في روسيا والتقى بأشخاص من جميع مناحي الحياة. يتم التعبير عن هذا الأمر في مؤلفاته، التي تغطي في معرض شخصياته كل شيء، من أغنى برجوازية إلى أكثر الفلاحين والفقراء هزالًا وفقراً.
بالإضافة إلى عمله طبيباً، كانت رحلته إلى جزيرة "سخالين" Sakhalin Island العقابية، التي قام بها "تشيخوف" في عام 1890 وهي التي ساعدته على إثارة سخطه الاجتماعي. هناك لاحظ الظروف الرهيبة التي تعرض لها السجناء في الجزيرة، لكنها كانت أيضاً رحلة لها عواقب جسدية وليست نفسية فقط، حيث كان عليه بعد الرحلة أن يخوض معركة متزايدة مع مرض السل الذي كان يعاني منه منذ سن مبكرة، وأدى في النهاية إلى وفاته عن عمر يناهز 44 عاماً.
جزيرة "سخالين" هي أكبر جزيرة في روسيا تقع شمال الأرخبيل الياباني في المحيط الهادئ، وهي محصورة بين بحر أوخوتسك من الشرق وبحر اليابان من الغرب. تقع قبالة خاباروفسك كراي، شمال هوكايدو في اليابان. يبلغ عدد سكان الجزيرة حوالي 500000 نسمة، غالبيتهم من الروس. بعد الحرب الروسية اليابانية عام 1905، سيطرت روسيا على الجزيرة بأكملها.
 قبل وفاته، كان المؤلف قد حقق حب حياته مع الممثلة "أولغا نيبر" Olga Knipper التي تزوجها عام 1901، وتمكن من تحقيق الاعتراف به واحداً من أهم الرموز في الأدب الروسي.

في بداية حياة "تشيخوف" كان الأدب بالنسبة له في المقام الأول وسيلة لكسب المال من أجل إتمام دراسته في كلية الطب. إن العديد مما يسمى بالنكات الفكاهية والتي كان لدى "تشيخوف" فيما بعد بعض الشكوك حولها، كانت قصصاً قصيرة مخصصة للترفيه الخفيف، ولكن في عام 1885 تلقى رسالة من المؤلف الروسي الشهير "ديمتري غريغوروفيتش" Dmitry Grigorovich الذي قرأ بحماس قصته القصيرة "الصياد" The Huntsman الذي كتبها عام 1873، ويحكي بطل القصة عن رحلة صيد للسمك في الريف قام بها مع شاب ريفي قوي البنية وكسول جدا وتحبه معظم نساء القرية.
كتب غريغوروفيتش مخاطباً "تشيخوف" أن "لديك موهبة حقيقية، موهبة تضعك في طليعة الكتاب من الجيل الجديد" كما نصحه بالتمهل والكتابة أقل والتركيز على الجودة الأدبية.
وشجعه على العمل بجدية مع موهبته. أصبحت هذه الرسالة نقطة تحول بالنسبة لتشيخوف حيث ذكر ما يلي:
"لقد تركت رسالته آثاراً عميقة في روحي. حتى الآن، تعاملت مع أعمالي الأدبية بشكل تعسفي وخفيف وطائش، لا أستطيع أن أتذكر قضاء أكثر من يوم واحد على أي من قصصي، وقد كتبتها مثل صحفي يكتب خبراً عن الحرائق، بطريقة ميكانيكية، وبشكل روتيني، دون التفكير في نفسي ولا في القارئ "
سرعان ما ابتعد تشيخوف عن الأدب كعمل روتيني، وأولى اهتماماً للأنواع الأدبية الأخرى غير القصة القصيرة والدراما، حيث أصبح سيداً لهذا النوع الأدبي، لا يزال تأثيره محسوساً حتى يومنا هذا.
عُرف "تشيخوف" أيضاً بكونه كاتبًا مسرحياً، لكن أعماله في القصة القصيرة له وزنها المتميز. وقد طور نموذجاً بسيطاً كان له تأثيراً هاماً على كتاب مثل "إرنست همنغواي" Ernest Hemingway و"ريموند كارفر" Raymond Carver.


قصة تشيخوف القصيرة. مثال: "السيدة مع الكلب"
إن الإنتاج القصصي القصير لتشيخوف مكثف للغاية، ولحسن الحظ هناك مجموعة كبيرة من قصصه مترجمة إلى الدنماركية. ومن أشهر القصص قصة "السيدة مع الكلب" التي وصفها المؤلف "فلاديمير نابوكوف" Vladimir Nabokov بأنها "واحدة من أفضل القصص المكتوبة على الإطلاق". يمكن القول بأن القصة القصيرة، التي ترجمها إلى الدنماركية الكاتب والمترجم الدنماركي "إيفان مالينوفسكي" Ivan Malinowski في عام 1958، هي خلاصة قصة "تشيخوف" القصيرة.
هنا يصادف القارئ عدداً من الموضوعات التي تم عرضها في المؤلف في أشكال مختلفة: الانقسام بين العبودية البرجوازية والحب الحر، والكآبة والشوق الذي لم يتحقق، وخداع الذات والهروب من مجتمع الطبقة العليا.
كُتبت القصة في يالطا، بعد أن انتقل "تشيخوف" إليها بناءً على نصيحة طبيبه للنقاهة بسبب المناخ الدافئ فيها، لتقدم حالته بمرض السل. تم نشرها لأول مرة في عدد ديسمبر 1899 من مجلة Russkaya Mysl "الفكر الروسي" بعنوان قصة "راسكاز" Rasskaz.
كما هو الحال في كثير من الأحيان مع "تشيخوف"، فإن القصة الأساسية نفسها بسيطة.
أثناء إقامته في منتجع صحي في جزيرة القرم، يلتقي المصرفي "دمتري غوروف" Dmitriy Gorev بالشابة الجميلة "آنا سيرجيفنا" Anna Sergeevna التي غالباً ما كان يراها على مسافة تتجول بمفردها مع كلبها.
كان الاثنان متزوجان، لكنهما يبدآن علاقة كان من المفترض أن تكون مجرد علاقة مختصرة وعابرة، ولكن سرعان ما اتضح أن "غوروف" لا يستطيع أن ينسى آنا. لذلك يبحث عنها في "سانت بطرسبرج" والنتيجة هي سلسلة لقاءات في مسقط رأسه "موسكو".
كلاهما مصمم على السعي وراء الحب، لكن النهاية تشير إلى أن الأمر ليس بهذه السهولة: "كان الأمر كما لو أن الأمر استغرق لحظة واحدة - عندها سيتم إيجاد الحل، وبعد ذلك تبدأ حياة جديدة رائعة، وأدرك كلاهما أنه لا يزال هناك طريق طويل، وأن الأمر الأكثر صعوبة وتعقيداً هو البدء أولاً ".
النهاية بانفتاحها النابض بالحياة وشوقها المميز الذي لم يتحقق، تجسد بالضبط حالة النسيان التي يجد العديد من شخصيات "تشيخوف" أنفسهم فيها. كما هو الحال عندما توصف علاقة "غوروف" بزوجته على النحو التالي: "لقد قرأتْ كثيرًا ولم تكتب "الـ" في رسائلها، لم تتصل بزوجها ديمتري، واعتبر أن شخصيتها ضيقة الأفق، وخالية من الذوق، كان يخاف منها ولا يحب أن يكون في المنزل ".

باختصار، يرسم "تشيخوف" صورة لرجل أعمق كيانه هو التظاهر. مع "غوروف" يكون الخط الفاصل بين خداع الذات والإغواء دقيقاً، وهو ما تم التأكيد عليه أيضاً في علاقته مع "آنا".
فيما يتعلق بهذا الأمر يشير "إيغيل ستيفنسن" Egail Stevenson الخبير بأعمال "تشيخوف" إلى ما يلي: "لم يتم تسجيل أي تطور في وصف مشاعرها ـ يقصد آناـ كما حدث في حالة "غوروف". ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن التحول الذي يحدث له يحدث في غيابها. إنه يقوم على مفاهيم رومانسية إلى حد ما، حيث يكون التطور العاطفي المماثل أثناء اللقاء مشروطاً بتجارب ملموسة".
 بعبارة أخرى، إن الحب الموصوف سريع الزوال والحب نفسه هو أحد أعراض الشوق وليس الإشباع الفعلي للشوق.
حيث تكافح العديد من الشخصيات الرئيسية في قصص "تشيخوف" القصيرة مع مشاكل ملموسة للغاية مثل الفقر، والإقصاء، والجوع.
يُظهر فيلم "السيدة مع الكلب" الفراغ الوجودي الكامن في ظل الحياة الميسورة التي تعيشها "آنا وغوروف" إن المجتمع سواء في شكل استغلال للفقراء، أو خداع الذات للوجود البرجوازي، هو العدو الحقيقي لتشيخوف، وكقوة موازنة لمعاناة الإنسان الذاتية، يجد المرء أوصافاً للطبيعة تلقي بصيصاً من الخلود على المعاناة الزمنية.
 يعتبر وصف الطبيعة بدقة، وهو رسمياً وديعة غير ذات أهمية، أحد أقوى المقاطع في فيلم "السيدة مع الكلب".
"يمكنك فقط رؤية يالطا من خلال ضباب الصباح، والغيوم البيضاء الثابتة التي تبحر فوق قمم الجبال. لم تتحرك أوراق الأشجار، وغناء "السيكادا" Cicadaـ حشرة الزيزـ وصوت البحر الباهت الرتيب، الذي كان يُحمل عليها، يُخبر عن الهدوء، والنوم الأبدي الذي ينتظرنا.
هذه هي الطريقة التي هدرت بها هناك، قبل حتى أن يكون هناك شيء اسمه يالطا أو أوريندا، هذه هي الطريقة التي تزمجر بها الآن، وهذه هي الطريقة التي ستزأر بها، بطريقة غبية وغير مبالية، عندما لم نعد موجودين.
وفي هذا الديمومة، هذه اللامبالاة الكاملة بحياة وموت أي إنسان، قد يكون هناك تعهد خفي بخلاصنا الأبدي، الحركة المستمرة للحياة على الأرض، الإكمال المستمر. "

يمكن القول إن وصف الطبيعة يفتح أمامنا استنتاج بديل له علاقة بوقت الحياة البشرية، والتعزية المتناقضة التي قد تكمن في هذا. حيث تظهر النهاية السعيدة، حيث (ربما) يجد الزوجان بعضهما البعض كمسلمة، فإن القصة الإنسانية محاطة بسرد أكبر، والذي يدور حول قوة الطبيعة ضد الإنشاءات البشرية الهشة في مدينتا "يالطا" و "أوريندا"، وأن هناك في هذه القوة شكلاً من أشكال التوازن الاجتماعي والأخلاقي تتساوى فيه جميع الاختلافات البشرية في نهاية المطاف.


الدراما العظيمة
تم العثور على كثافة القصص القصيرة، والقدرة على التقاط أي فارق بسيط في الكلمات، إلى جانب الفكرة الوجودية، في "دراما تشيخوف" العظيمة:
"النورس" The Seagull، و"العم فانجا" Uncle Vanja، و"ثلاث شقيقات" Three Sisters و"بستان الكرز" The Cherry Orchard. أعاد المترجم الدنماركي "إجنار توماسن" Ignar Thomassen صياغة جوهر هذه القطع بدقة غنائية:
"في هذه المسرحيات الحد الأدنى من الحركة، ليس كلام الفرد هو الأهم. هنا، على المسرح المفتوح، يتم عزف نفس اللحن الحزين، الذي يحمل رواياته، فقط بشكل أعمق وأقوى في الصوت. لم يتم العثور على تحول جدلي فعلي يدفع بالتكامل. يمكن لفن الحوار التعبيري الغريب "لتشيخوف" أن يقدم للممثلين أكبر الصعوبات. لا تعطي الحوارات أي تبادل للأسئلة والأجوبة، أو الأفكار أو الآراء، فهي مثل النغمات المنفردة التي ترن وتسقط، والتي تشير فقط إلى الحالة العقلية التي تكون فيها الشخصيات في لحظة معينة، وجميع العناصر الخلابة في العمل، لذلك يجب توجيه الشخصيات إلى وضع المتفرج في نفس الحالة. لكن خلف القليل الذي يحدث، والذي يبدو عادياً جداً، لا يزال هناك شيء يغلي على نار هادئة، والحياة الحامل بالحركة - بين الحين والآخر ـ تندلع في القبعة، في صرخة صاخبة، ومرة أخرى تستمر الاضطرابات في صمتها. ومع ذلك، عندما سقط الستار في نهاية المسرحية، على الرغم من عدم حدوث أي شيء حاسم، فقد تغير كل شيء، واضطربت الحياة، وانكسر العالم".

بنفس الطريقة التي كان فيها "تشيخوف" رائد القصة القصيرة الحديثة، وأكمل نهجه كلاً من "إرنست همنغواي" Ernest Hemingway و"ريموند كارفر" Raymond Carver، فإن أعمال "إنغمار بيرغمان" Ingmar Bergman و"صمويل بيكيت" Samuel Beckett لم يكن من الممكن تصورها أيضاً بدون الأديب الروسي، الذي تمكن من تحويل مركز الثقل الدرامي من التطور الملحمي للغة، إلى الشخصية القريبة التي ترسم الدراما اللطيفة.
وبصورة مميزة، فإن الشخصية الجانبية، الخادم "فيرس" Firs البالغ من العمر 87 عاماً، الذي يُسمح له بإنهاء أشهر مسرحية "تشيخوف" وهي "بستان الكرز" The Cherry Orchard بالمونولوج التالي:
"ما مدى السرعة التي مرت بها الحياة!.... كما لو أن المرء لم يعش على الأرض إطلاقاً ـ يبذل بعض الجهد للتكيف... سأبقى هنا...لا قوة فيك.... انتهيت منك.. انتهيت! ... آه، أنت كائن قديم ... تظل بلا حراك "

هناك ما لا نهاية لمونولوج "هاملت" Hamlet البليغ أن يكون أو لا يكون لجُمل "فيرس" Firs المكسورة، لكن الشفقة الموجودة بين السطور هي نفسها التي تم التعبير عنها صراحةً في شكسبير. يوضح استخدام الفاصل المميز بالنقاط، كيف يتم تمديد الوقت حرفياً إلى أقصى حد. إن اللغة والإنسان في طريقهما إلى الانحلال والنهاية سوداء ومأساوية مع عبارة "الكائن القديم" كخط البداية.
لحسن الحظ، لم يمت "تشيخوف" وحيداً ومعزولاً. فقد كانت محبوبته أولغا بالقرب منه. سكبت له كأساً من الشمبانيا على فراش الموت، مصاباً بمرض السل، وأفرغه بابتسامة متبوعة بالكلمات: "لقد مر وقت طويل منذ أن شربت الشمبانيا". ثم استدار ونام حتى الموت.

لماذا تقرأ تشيخوف وكيف؟
قد يسأل المرء نفسه ما الذي يجب أن يحفزه على قراءة مؤلف قد يبدو على الفور قاتماً نوعاً ما؟ والإجابة هي أن "تشيخوف" يصف الناس كما هم دون إدانتهم.
يعتمد الكثير من الكتّاب على النزعة الإنسانية وفقاً لمثالية لا يمكن الدفاع عنها، لكن "تشيخوف" يقوم على الإنسانية الواقعية.
قلة مثله لديهم بصيرة وفهم لقدرة الإنسان على الكفاح في الظاهر وفي العمق. كان الغرض من رواياته هو التنوير. حتى أنه لم يكن يفهم تصنيف كتاباته على أنها متشائمة.
من ناحية أخرى، كان يعتقد أنه من خلال إظهار الحياة كما هي فقط، سوف يتمكن المرء من تغييرها إلى السياق الإيجابي.
يشكل الأدب لغة متميزة، لديها القدرة على الحفر تحت سطح العادات والمواقف الاجتماعية، التي يمكن أن تساعد في تحجر الفرد البشري.
واحدة من أجمل قصص "تشيخوف" وإحدى قصصه المفضلة بعنوان "الطالب" the student تدور حول كيف يمكن للقصة أن تساعد في جعل الشخص يواجه ألمه بطريقة بناءة. يمكن أن تساعد قراءة "تشيخوف" في تقريبنا من الحياة. هذه العقيدة التي تتدفق في جميع أنحاء أعمال "تشيخوف" هي التي تجعل كتاباته حديثة إلى الأبد.



31
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


الحرية للأسير الشهيد.. القائد ناصر أبو حميد

شقيق لأربعة أسرى محكمون جميعهم بالسجن مدى الحياة، وشقيقهم السادس استشهد على أيدي الاحتلال. تعرض منزلهم للهدم الكلي خمس مرات. وضعه الصحي بالغ نتيجة إصابته بمرض السرطان. والدته أعلنت أنها لن تتوسل السلطات الإسرائيلية للإفراج عن ابنها، لأنه أقوى منهم ولن يُكسر، ثم تضيف: لكني أُمّ تريد رؤية نجلها، أريد أن أطمئن عليه.
مرة أخرى تتكرر جرائم القتل المنهجي التي ترتكبها إدارة السجون الصهيونية بحق الأسرى الفلسطينيين الابطال.
هذه المرة يسقط جسد الأسير الشهيد القائد الصابر "ناصر أبو حميد" بعد أن نال منه مرض السرطان، لكن روحه الأبية الشامخة لا زالت تقاوم غطرسة السجان وبطشه.
أسير فلسطيني جديد يذوي بفعل الإهمال الطبي المتعمد في سجون الاحتلال الصهيونازي، في ظل ضعف أداء السلطة فيما يتعلق بملف الأسرى الفلسطينيين، خاصة الأسرى المرضى، والمعتقلين الإداريين.

الأسير الشهيد
الأسير "ناصر أبو حميد" من مواليد مخيم النصيرات بوسط قطاع غزة في 5 أكتوبر 1972 – ومن سكان مخيم الأمعري بالقرب من مدينة رام الله بالضفة الغربية - معتقل منذ تاريخ 12 نيسان 2002، وهو أحد خمسة أشقاء حكم عليهم الاحتلال بالسجن مدى الحياة، وهم: نصر، وناصر، وشريف، ومحمد، فيما اعتقل شقيقهم إسلام عام 2018، ولهم شقيق سادس شهيد، هو عبد المنعم أبو حميد، وحرمت والدتهم زيارتهم لسنوات، وفقدوا والدهم خلال سنوات اعتقالهم، كما تعرّض منزل العائلة للهدم خمس مرات، كان آخرها في عام 2019.
تعرّض ناصر للاعتقال الأول قبل انتفاضة عام 1987، لمدة أربعة شهور، وأُعيد اعتقاله مجدداً، ثم حكم عليه بالسّجن عامين ونصف عام، وأفرج عنه ليُعاد اعتقاله للمرة الثالثة عام 1990، وحكم عليه الاحتلال بالسّجن المؤبد، وبعدما أمضى من حكمه أربع سنوات، تم الإفراج عنه في إطار المفاوضات، وأُعيد اعتقاله عام 1996.
وإبان "انتفاضة الأقصى"، انخرط أبو حميد في مقاومة الاحتلال، واعتُقل في عام 2002، وحكم عليه الاحتلال بالسّجن المؤبد سبع مرات و50 عاماً، وما زال في الأسر حتّى اليوم.


إصابته بسرطان الرئة
يرقد الأسير ناصر ـ الذي يبلغ من العمر 49 عاماً ـ على سرير المرض في مستشفى برزلاي منتظرا العلاج على أيدي أطباء مختصين للورم المنتشر على رئتيه والذي يسبب آلاما شديدة ويؤدي للتقيؤ والنقصان الحاد في الوزن وأوجاع حادة في الصدر، ويعاني من تدهور مستمر في حالته الصحية في ظل الإهمال الطبي المتعمد وما نتج عن استخدام إدارة السجون الإسرائيلية لسيارة البوسطة الحديدية في نقل الأسير والتي ضاعفت من معاناته.
اليوم ناصر غائب عن الوعي منذ بضعة أيام، وموضوع تحت أجهزة التنفس الصناعيّ بسبب معاناته من التهاب في الرئتين، ووضعه الصحي الخطر يتصاعد بشكلٍ متسارع. مع العلم أن الوضع الصحي للأسير أبو حميد بدأ بالتدهور منذ شهر آب/أغسطس الماضي، حين بدأ يعاني من آلام في صدره، قبل أن يتبين أنه مصاب بورم في الرئة، وتمت إزالة الورم مع قرابة 10 سنتم من محيطه، قبل أن يعاد نقله إلى سجن "عسقلان"، الأمر الذي أوصله إلى وضع صحي خطر، وبعد إقرار الأطباء بضرورة العلاج الكيميائي تعرّض مجدداً لمماطلة متعمدة.
إن سياسة القتل البطيء عبر الإهمال الطبيّ التي تنتهجها إدارة سجون الاحتلال بحقّ الأسرى المرضى، هي التي أوصلت الأسير أبو حميد إلى هذه المرحلة الخطرة، بهدف الانتقام منه ومن عائلته المناضلة.
وتسود حالة من التوتر الشديد تسود "سجن عسقلان"، بعدما أبلغت إدارة السجن الأسرى بالوضع الصحي خطر الموت الذي يواجهه ناصر أبو حميد.


خنساء فلسطين
والدة الأسير "ناصر أبو حميد" والذي دخل في غيبوبة جراء تدهور وضعه الصحي بشكل خطير، الملقبة "خنساء فلسطين" تخشى على حياة ابنها، وتتهم السلطات الصهيونية بتعمد تصفيته.
لكنها رغم ذلك قالت "لن أتوسل السلطات الإسرائيلية، لكني أُمّ تريد رؤية نجلها، وتقر عيني برؤيته، وتمنت على المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية الوقوف عند مسؤولياتهم لإنقاذ حياة أسير مريض بالسرطان.
كما تجهل الأم الفلسطينية "لطيفة أبو حميد" مصير نجلها الأسير "ناصر"، الذي دخل في غيبوبة بعد تلقيه جرعة من العلاج الكيماوي.
وتقول والدة أُمّ الشهيد وخمسة أسرى، والتي قضت معظم حياتها في التنقل لزيارتهم بين السجون الإسرائيلية، أن أقصى أمانيها أن تزور نجلها وتقر عينها برؤيته، وهي ممنوعة من ذلك. وتضيف أن "ناصر أصبح يتقيأ دماً، ويعاني من ضعف كبير، لا يستطيع أن يستخدم يديه في تناول الطعام أو قضاء حاجته ذاتياً، مع ورم خطير في الرئتين، وأجريت له عملية دون علمنا، ولم يسمح لنا بزيارته حتى الآن"
تتحمل سلطات الاحتلال الصهيوني المسؤولية الكاملة عن حياة الأسير ناصر أبو حميد، كما يتحمل المجتمع الدولي والإنساني المسؤولية إزاء الوضع الصحي الخطير للأسير ناصر أبو حميد، لأن الصمت الدولي ساهم في تغوّل الاحتلال الإسرائيلي على الأسرى الفلسطينيين وقتلهم.

ندعو كافة المنظمات الدولية والإنسانية التي تؤمن بالدفاع عن الانسان وحماية حقوقه من أجل توفير العلاج اللازم للأسير ناصر محمد يوسف أبو حميد الذي يقضي حكما بالسجن 7 مؤبدات إضافة إلى خمسون عاماً، والشروع فورا بتقصي الحقائق عن حالة الأسير ووضعه الصحي، والضغط على سلطات الكيان الصهيوني من أجل السماح بزيارته، وتقديم العلاج له.


الأشقاء الأسرى
 أشقاء الأسير ناصر الأربعة معتقلين أيضاً في سجون الاحتلال الإسرائيلي محكومين بالمؤبد ومدى الحياة وهم:
- الأسير شريف محمد أبو حميد ويقضي حكما بالسجن 4 مؤبدات.
- الأسير محمد أبو حميد ويقضي حكما بالسجن مؤبدين بالإضافة إلى ثلاثون عاماً.
- الأسير إسلام أبو حميد ويقضي حكما بالسجن مؤبد إضافة إلى ثماني سنوات وغرامة 14 مليون شيكل – معتقل في سجن هداريم.
- الأسير نصر أبو حميد يقضي حكما بالسجن 5 مؤبدات.
كما قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بنسف منزل العائلة عدة مرات كان آخرها في 24 / 10 / 2019 وله شقيق شهيد اسمه عبد المنعم كان قد قضى نحبه على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي في 31 / 5 / 1994 قرب بلدة الرام في شمال مدينة القدس بعد ملاحقته من قوات الاحتلال الإسرائيلي.

إسرائيل المارقة
بحسب المؤسسات الفلسطينية فأن عدد الفلسطينيين الموجودين حاليا في السجون الإسرائيلية يقدر بحوالي 6000 أسير فلسطيني. وأن من بين الأسرى 57 امرأة و300 طفل.
ويذكر في تقارير تلك المؤسسات الرسمية والحقوقية، أنه منذ 28 سبتمبر 2000 سجلت نحو (100) ألف حالة اعتقال، بينها نحو (15) ألف طفل تقل أعمارهم عن 18 عاما، و(1.500) امرأة، ونحو (70) نائباً ووزيراً سابقاً، بينما أصدرت السلطات الإسرائيلية نحو (27) ألف قرار اعتقال إداري.
وتم تسجيل نحو مليون حالة اعتقال على مدار سنين الاحتلال منذ بدايته في 1948 وتضيف المؤسسات أن السلطات الصهيونية صعدت من حملات الاعتقال منذ أكتوبر 2015، وطالت أكثر من عشرة آلاف حالة اعتقال من الضفة، كانت معظمها من القدس.
وذكر التقرير أن عدد الأسيرات الفلسطينيات وصل إلى (57) أسيرة في السجون الإسرائيلية، من بينهن (13) فتاة قاصرا.

لا زال الأسرى الفلسطينيين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل على يد المغتصب الصهيوني. ومن الغريب إن القضاء الإسرائيلي قد شرّع تعذيب المعتقلين الفلسطينيين. حيث يتعرض الأسرى والمعتقلين للتعذيب، والضغط النفسي، والمعاملة القاسية، خلال مرحلة اعتقالهم واستجوابهم، حيث تتصرف إسرائيل كدولة إرهاب مارقة فوق القانون الدولي، من خلال تشريعها قوانين لممارسة التعذيب بحق الأسرى وبأساليب محرمة دوليا وتتنافى مع اتفاقية مناهضة التعذيب والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
في مقام الاسرى الأبطال، جنرالات الصمود والإباء، النسور الشامخة، الصابرين المرابطين القابضين على القهر والألم، المتمسكين بالحياة دون احتلال. في وجود الآلاف من الأسرى الفلسطينيين البواسل، والأسيرات الماجدات، في زنازين ومعتقلات العدو الصهيوني، ننحني لهم إجلالاً، أمام رفعة صمودهم، وجليل تضحياتهم، وعظيم صبرهم وثباتهم، وجسيم معاناتهم.


تطالب "أم ناصر" والدة الأسير ناصر بحقها في معرفة المزيد عن وضع ابنها الصحي، وتقول إنها استودعت ناصر ربّ العالمين، هو أرحم به، وهو القادر على إنقاذ حياته
وبرغم ألمها وحسرتها، إلا أن أم ناصر تعبّر عن فخرها بأبنائها، لاسيما ناصر فهو عندها الرقم الصعب، كما تقول سنديانة فلسطين.

32
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


الفلسفة والأخلاق لدى تولستوي

عُرف "تولستوي" في المقام الأول ككاتب – لكن أعماله الأخلاقية والفلسفية أثرت ـ ولا تزال ـ في العالم.
وكُتب "ليف نيكولايفيتش تولستوي" (1828-1910) في قوائم المؤلفين العظام. لكن تولستوي لم يكن فناناً فحسب - بل كان أيضًا فيلسوفاً.
في الوقت الذي ترتبط فيه اليوم كلاسيكيات "الحرب والسلام" (1869) و"آنا كارنينا" (1877) معظمها باسم تولستوي، كانت أفكاره حول السلام والحياة الزهدية، والمعروفة أيضاً باسم تولستويانيزم، هي التي ألهمت المهاتما "غاندي"، حركة "الكيبوتس"، و"مارتن لوثر كينج".
ومع ذلك، فإن تلك الأفكار مرتبطة بتولستوي، ويتم التعبير عن فلسفته ليس فقط في كتاباته الأخلاقية، ولكن أيضاً في أعماله الخيالية. عندما يقرأ المرء أحد أشهر عملان، فسيكون قادراً على العثور على آثار غير مباشرة لأفكار تولستوي الفلسفية الأخلاقية.

تعد كل من "آنا كارنينا" و"الحرب والسلام" من الكتب الضخمة والثقيلة التي يعرفها الجميع، ولكن القليل منهم قرأها. الكتابان يتضمنان قصتين رائعتين وفلسفة للحياة تثير التفكير - وهو أمر ينطبق أيضاً على أجزاء أخرى من كتابات تولستوي الشاملة.

الحياة والمعيشة
ولد تولستوي عام 1828 في عزبة "جاسناجا بولانيا" كان ينتمي لعائلة نبيلة، وأصبح تولستوي مالكاً للأرض وإقطاعياً. في سن السادسة عشرة، بدأ في دراسة القانون واللغات الشرقية، لكنه فشل في الدراسة لصالح حياة أكثر استرخاءً بين الأرستقراطيين في روسيا.
في عام 1851، تخلى تولستوي عن الحياة الحلوة وانضم إلى الجيش. خلال مسيرته العسكرية نشر تولستوي كتبه الأولى، "الطفولة" عام 1852 و"سنة البنين" عام 1854، وهي ثلاثية انتهت بـ "شباب" عام 1857. لكن فترة الخدمة العسكرية قدمت أيضاً شيئاً آخر غير الإلهام الأدبي.
 في عام 1854 شارك في حرب القرم - وهي تجربة أثرت عليه بشدة. هذا هو المكان الذي يجد فيه المرء خلفية الأفكار حول مصادفة الحرب، والتي نراها في "حكايات وتصورات من سيفاستوبول" (1855-1856) وتكشفت بالكامل في الحرب والسلام.

بعد حرب القرم، استقال تولستوي من الجيش وسافر في جميع أنحاء أوروبا لبعض الوقت. في عام 1862 عاد إلى المنزل، وتزوج من "صوفيا أندريجيفنا بيرس" الأصغر منه سناً بستة عشر عاماً، واستقر في ملكية طفولته.
كتب على مدى السنوات العشر التالية روائعه، وفي نفس الوقت بدأ يدرك الأفكار التي طالما شغلته. لقد تخلص من الامتيازات التي كانت ملكاً له، وحارب من أجل تنوير الفلاحين، ومن أجل نظام أكثر عدلاً لتوزيع الأراضي.
يعتقد تولستوي أن الفلاحين صُنعوا من مادة مختلفة، وهم أفضل من الطبقة النبيلة التي ينتمي إليها هو نفسه - وجهة نظره هذه كانت واضحة في أعمال مثل "موت إيفان إيليتش" (1895) و"الزوج والعامل" (1895).

ومع ذلك، فإن موقف تولستوي لا ينطبق على الفلاحين فقط.  بل قام بانتقاد المجتمع القائم طوال حياته، ونشر قدراً كبيراً من الكتابات الأخلاقية. على الرغم من أن هذه الكتب خيبت آمال أولئك الذين كانوا يأملون في المزيد من الأعمال على غرار أسلوب "الحرب والسلام" أو "آنا كارنينا"، إلا أن كتبه المهمة زودته بالعديد من المتابعين الجدد، الذين قاموا جميعاً بالحج إلى منزله في "جاسناجا بولانجا".

لم يكن عمل تولستوي الأخلاقي والنقدي اجتماعياً بدون تكلفة، على الرغم من أن شدة هذه التكاليف لا تصمد أمام المقارنة مع أولئك الذين أصبحوا فيما بعد كتاباً روس تحت الحكم السوفيتي. في عام 1882 تم حظر "الكتاب المقدس" وفي عام 1901 تم طرد تولستوي من الكنيسة الأرثوذكسية. حدث ذلك على أساس هجوم وجهه ضد نفس الكنيسة في رواية القيامة (1899).

ومع ذلك، لم تكن هذه الهجمات على تولستوي هي التي أنهت حياته، ولكن قتلته أفكاره الأخلاقية. كان تولستوي قد عاش طويلًا كواحد من الفلاحين الذين كان يتطلع إليهم، وتنازل عن امتيازات ممتلكاته وعاش حياة فلاح زاهد، ولكن بحلول عام 1910 لم يعد هذا كافياً. أراد تولستوي أن يعيش فلسفته الزهدية في الحياة تمامًا، وبالتالي غادر منزله عن عمر يناهز 82 عاماً. بعد ذلك بوقت قصير، توفي في محطة سكة حديد تدعى Astapova.


الحرب والسلام - الحب
تبرز كل من "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا" على أنها قمم لا يمكن التغلب عليها تقريباً في السلسلة العالمية للأدب العالمي. ومع ذلك، كان استقبالهم مختلفاً جداً، حيث أنجزت "آنا كارنينا" ما حققته بضعة كتب فقط قبلها وبعدها، وهي أن تحظى بشعبية لدى كل من الكتاب المحترفين وعامة الناس، واكتسبت الحرب والسلام سمعة غير مستحقة لكونها معقدة ولا يمكن الوصول إليها.
قد يكون هذا بسبب حجم الكتاب الذي يزيد عن 1500 صفحة، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من المتفرجين (أكثر من خمسمائة) الذين يملأون الكتاب. ومع ذلك، فإن العمل ليس معقداً، وسيجد معظم الناس أنه ليس من الصعب متابعة مسار العمل أكثر من متابعة مسلسل عائلي أمريكي. ومع ذلك، إذا كان هذا يقود المرء إلى الاعتقاد بأن العمل لا يحتوي على أكثر من المسرحية الهزلية، فإن المرء مخطئ تماماً.

الحرب والسلام هي سرد ملحمي لمصير خمس عائلات خلال غزو الإمبراطور الفرنسي نابليون لروسيا. تتم متابعة العائلات لمدة تقارب. 15 عاماً، وينتقل الحدث من الحياة الأسرية للمنازل المعنية، إلى غرف نابليون، والقيصر ألكسندر، ثم إلى ساحات القتال الدموية في "بورودينو وأوسترليتز".

باستخدام أسلوبه البارز في سرد القصص، يوجه تولستوي القارئ بين الأماكن والأشخاص المختلفين، دون أن يفقد أبداً التشويق أو الانعكاس أو النظرة العامة. على طول الطريق، تم توضيح أجزاء كبيرة من فلسفة تولستوي، وخاصة أفكاره حول جوهر الحرب.

على الرغم من التخطيط الماكر والتفصيلي للجنرالات، أظهر تولستوي أن الخطط تستمر فقط طالما كانت على المكتب، لأن الفوضى والصدفة تسود في مسرح الحرب.
 صُنع نابليون على وجه الخصوص ليشعر بمفارقة تولستوي الملتهبة عندما تواجه فكرته عن سيطرته الشاملة شبه الإلهية الواقع الكارثي والفوضوي لساحة المعركة.
على الرغم من أن نابليون، كان ناجحاً في المعركة، إلا أن تولستوي يصوره على أنه أحمق، بكل بساطة - ليس بسبب أحلامه الإمبراطورية، ولكن لأنه يعاني من جنون العظمة الذي دفعه إلى الاعتقاد بأن قدراته العسكرية هي التي يضمن له الانتصار.
في جميع أنحاء الكتاب، تم اختزال رجال التاريخ العظماء إلى أناس عاديين يؤمنون عبثاً بالقدرة على التحكم في أحداث العالم، ولكن يتم الإطاحة بهم مراراً وتكراراً من خلال لعبة الصدف الكونية.
ومع ذلك، ليس فقط الرجال الكبار هم من يخضعون لهذه اللعبة، في الحرب والسلام يوصف الإنسان عموماً بأنه خاضع لمصير لا يمكن تغييره حتى من خلال خطط جيدة بما فيه الكفاية. ومع ذلك، يوضح تولستوي أيضاً كيف أن الإيمان بالإرادة الحرة ضروري لبقاء الفرد، وهو ضروري إذا كان الأمر برمته لا ينتهي بلا معنى.

رواية "الحرب والسلام" ليست مجرد رواية عن ساحات القتال والتخطيط الاستراتيجي. تحت أوصاف مشاهد الحرب، يصادف القارئ فسيفساء رائعة من مشاعر وأفكار أناس يعيشون معاً في صورة زمان وأمة.

رواية "آنا كارنينا" أبسط في هيكلها. على الرغم من أن الراوي يغير وجهة نظره باستمرار، إلا أنها تتمحور حول "آنا" وعلاقتها بزوجها "كارينين" وعشيقها "فرونسكي".
نتبع "آنا" و"فرونسكي" منذ لقائهما الأول، من خلال علاقتهما الإشكالية وحتى النهاية المأساوية، حيث تنتحر "آنا" بعد الشك في حب "فرونسكي" لفترة طويلة.

تم الترحيب بالكتاب كواحد من أعظم روايات الحب في كل العصور، ونُظر إلى "آنا" على أنها بطلة ما قبل النسوية تسعى للتغلب على معاييرها المزدوجة المعاصرة والتقليدية، من أجل تجربة حب عاطفي حقيقي.
ومع ذلك، فإن هذه القراءة ليست سوى واحدة من عدة قراءة ممكنة. "آنا كارنينا" ليست بالضرورة قصة حب رومانسية عن العواطف التي تعلق كل الخيارات الحرة. إذا تمت قراءة الرواية على أساس فلسفة الحياة التي تظهر في جوانب أخرى من تأليف تولستوي، تظهر صورة مختلفة تماماً.

تُلقي وجهة النظر المزدوجة للرواية بظلال من الشك على القراءة الرومانسية، حيث يتم تقديم كل من صورة "آنا" عن نفسها كبطلة رومانسية ووجهة نظر المؤلف الأخلاقية، والتي تُظهر "آنا" الواقعية التي لا تقع بالضرورة ضحية لمجتمع لا يفهمونها، بل يفهمونها باختياراتهم.
تتوافق هذه القراءة مع شعار الرواية: "الانتقام ملك لي" يقول الرب.

عندما تختار "آنا" الخروج عن الأسرة والصدق، فإنها تختار بنفسها النهاية المأساوية بشكل غير مباشر. الانتقام من مقدمة الكتاب المقدس يصيب "آنا" بالحزن على وضعها الذي لا يطاق والشك في حب العاشق الذي يؤدي إلى الانتحار. هكذا يمكن قراءة الرواية كرواية حب تقليدية وكرواية واقعية عن امرأة، كما قال "جاري سول مورسون" Gary Saul Morson في كتابه "أعتقد أنها جزء من رواية حب".

مثل "الحرب والسلام"، إن "آنا كارنينا" هي رواية نفسية بارعة. على الرغم من أن مصطلحات "آنا" تختلف اختلافًا جوهرياً عن مصطلحات نساء اليوم، إلا أن انقسامها بين حب العائلة والعاطفة للحبيب ليس غريباً علينا اليوم. تُشجع الرواية القارئ على اتباع نهج نقدي تجاه أسطورة الحب الشامل ومسألة الأقدار ضد الإرادة الحرة.


سوناتا كروتزر Kreutzer-sonaten   
على الرغم من أن رواية "الحرب والإسلام"، و"رواية "آنا كارنينا" هما الروايتان الوحيدتان اللتان حققتا شهرةً واسعةً، وتوزيعاً عالمياً، إلا أن تولستوي كتب أيضاً كتباً ممتازة أخرى.
على وجه الخصوص، فإن كتابه "سوناتا كروتزر" Kreutzer sonata (1890) الذي نوقش كثيراً، هي رواية مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بمناقشة مكانة "آنا كارنينا" كرواية حب.
تم تسمية Kreutzer sonata على اسم عمل بيتهوفن الموسيقي من عام 1802 والذي يحمل نفس الاسم وهو منظم كسرد إطار على متن قطار. حيث تناقش مجموعة من الركاب المتنوعين مؤسسة الزواج. خلال هذا النقاش، يروي البطل قصة رجل يدخل في زواج متسرع على أساس هوس جنسي وينتهي به الأمر بقتل زوجته في نوبة غيرة عاطفية.

أثارت الرسالة الرئيسية للرواية حول الامتناع عن ممارسة الجنس - أيضاً في إطار الزواج، عاصفة من الجدل في ذلك الوقت، ولا تزال الاتهامات المعادية للمرأة بأن المجتمع بشكل عام والنساء بشكل خاص يؤججون غرائز الرجال الجنسية عن قصد، استفزازية.

ومع ذلك، فإن رسالة الكتاب تسير جنباً إلى جنب مع الدعوة إلى الزهد والامتناع عن ممارسة الجنس. وفي المجالات الأخرى أيضاً غير الجنسية الموجودة في بقية كتابات تولستوي الأخلاقية، دفعته في النهاية إلى ترك كل من ممتلكاته وعائلته.

من أين نبدأ؟
كما ذكرنا سابقاً، فإن مؤلفات تولستوي كثيرة واسعة. ومع ذلك، هناك سبب يجعل "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا" هما الكتابان اللذان حققا شهرة عالمية. في هذه الروايات يرى المرء بوضوح ما يسمى بواقعية تولستوي ثلاثية أو رباعية الأبعاد، تماماً كما هو الحال عندما يجد المرء أكثر الشخصيات ومسارات العمل حيوية وتعقيداً.
 عندما تقرأ روائع تولستوي، فإنك تنغمس في عالم يلبي كل من احتياجاتك الأساسية للتشويق والرومانسية والمكائد، فضلاً عن مواجهة التحدي الفكري والأخلاقي. ومع ذلك، فإن بقية مؤلفات تولستوي تستحق أيضاً التعرف عليها.
 في "حكايات من سيفاستوبول"، يحصل المرء على نظرة ثاقبة لحرب القرم، والتي لم تتم رؤيتها بشكل أفضل بكثير، وفي الدراما تم التعليق على مسرحية "قوة الظلام" (كُتبت عام 1886، ولكن لم تتم تأديتها حتى عام 1895) كما في والعاطفة والقوة المدمرة للرغبة.
إذا كان المرء مهتماً بكتابات تولستوي الأخلاقية ومواجهتة للكنيسة، وانتقاده المسيحية، يمكن أن أوصي بقراءة كتب "الرب يرى الحقيقة لكنه يمهل" و"مملكة الرب داخلك" بصورة خاصة. وفيما يتعلق بمناقشة الأدب والفن العالميين، فإن الأطروحة الاستفزازية هي "ما هو الفن؟" فإنها تستحق القراءة أيضاً.
بشكل عام، إن مؤلفات تولستوي لا يمكن اختيارها من خلال تحديد موضوعات الأسئلة الأخلاقية، لأنها تحرك العقل، في حين أن فن الكتابة المثالي يثير إحساس المرء بالجمال والمتعة الجيدة.




33
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


شاعر الدنمارك العظيم هانز كريستيان اندرسن..
هل كان مثلياً؟


يجب أن تموت النساء حتى يتمكن الرجال من الإنجاب. هذا هو فحوى اثنتين من روايات الدنماركي الشهير "هانز كريستيان أندرسن" H.C. Andersen. الروايتان هما: "الرومانسية الدنماركية" 1836 OT: A Danish Romance. و"المرتجل" Improvisatoren 1835.
هذا ما ورد وفقاً لكتاب الأكاديمي الدنماركي Dag Heedes "داغ هيدي" بعنوان "إخوة القلب" Hjertebrødre.
كان "أندرسن" ينجذب إلى كل من النساء والرجال. على سبيل المثال، كتب رسائل حب متوهجة لكل من مغنية الأوبرا "جيني ليند" Jenny Lind، وإلى صديقها "إدوارد كولين" Edvard Collin.
يوثق "هيدي" في اقتباسات كاملة، كيف قللت الأبحاث الدنماركية في كثير من الأحيان من أهمية تصوير الشاعر لصداقته وعلاقاته مع الرجال. لكنه يذكر أيضاً أنه لا وجود للشذوذ الجنسي، ولا للعلاقات الجنسية المغايرة عند " أندرسن". بدلاً من ذلك، أشاد المعاصرون بمُثُل الصداقة المتوهجة، والشوق غير الجسدي بين أندرسن الأصدقاء من الرجال.
من أجل الإنصاف أضاف "هيدي" أن "اندرسن" كان شاعراً تقياً يؤمن بالحياة الآخرة، وأن معظم ممثلي العصر الذهبي يتنفسون خوفًا مماثلاً من الجسدية والطبقة الدنيا. هذا الشيء ربما كان ـ جزئياً ـ بمثابة حوف من الأمراض المعدية المستعصية مثل السل والزهري.

طفولته
ولد الشاعر والقاص الدنماركي "هانز كريستيان أندرسن" Hans Christian Andersen في 2 أبريل/نيسان عام 1805 في مدينة أودنسه بالدنمارك. لم يتزوج، ولم ينجب أطفال، وتوفي في منزل عائلة ملكيور، بتاريخ 4 أغسطس/آب عام 1875 (70 سنة) ودفن في مقبرة "أسيستنس " Assistens في مدينة كوبنهاغن.
عاش ضمن عائلة فقيرة، حيث كان والده صانع أحذية مهتماً بالكتب. غادر الأب منزله للمشاركة في الفيلق المساعد في حروب نابليون، لكنه عاد بصحة متدهورة، وتوفي بعد فترة وجيزة من عودته.  وكانت الأم تعول نفسها عبر عملها في غسيل الثياب، ثم تزوجت لاحقاً بعد وفاة الأب.
كان التعليم الأول الذي تلقاه أندرسن، أولاً في المنزل، ثم في مدرسة ابتدائية خاصة للبنين (بالدنماركية: pogeskole) وفي المدرسة الابتدائية كان أندرسن دون المستوى إلى حد ما، وكان يحتفظ بخصوصيته لنفسه. لقد قرأ كثيرًا، ولعب بالدمى والأشياء التي حركت الخيال، وأدى مسرحياته الخاصة، وكان يحلم بعظمة المستقبل.
هانز كريستيان أندرسن الذي ولد في مدينة تقع غرب كوبنهاغن، يُعتبر المعلم الدنماركي الأول في الحكاية الخيالية الأدبية التي اكتسبت قصصه شهرة واسعة. كما أنه مؤلف المسرحيات، والروايات، والقصائد، وكتب الرحلات، والعديد من السير الذاتية. في حين أن العديد من هذه الأعمال غير معروفة تقريباً خارج الدنمارك، فإن حكاياته الخيالية هي من بين الأعمال الأكثر ترجمة في كل التاريخ الأدبي.
من أهم أعماله: "حكايات خرافية"، و "تُروى للأطفال"، و"رحلة على الأقدام من قناة هولمن إلى النقطة الشرقية من أماجر في عامي 1828 و1829"

أصبح مهتما بالمسرح في سن مبكرة وأصبح له اهتمام كبير. كان يحلم بمستقبل كممثل. في عام 1819 ذهب إلى كوبنهاغن، حيث حاول الحصول على وظيفة في المسرح الملكي، لكنه فشل. كان يكسب رزقه بمساعدة متبرعين من القطاع الخاص، وفي النهاية دخل كطالب غير مدفوع الأجر في مدرسة الباليه. كان نجاحه هناك ضئيلاًن وبعد أن ظهر عدة مرات في أداء الأدوار الصغيرة، تم طرده.

حارب أندرسن ـ الذي ولد لأبوين فقراء ـ الهيكل الطبقي الصارم في عصره طوال حياته. أول مساعدة مهمة له جاءت من أحد مديري المسرح الملكي في كوبنهاغن، والذي ذهب إليه أندرسن عندما كان شاباً على أمل قبوله كممثل. جمع كولين الأموال لإرسال أندرسن إلى المدرسة. على الرغم من أن المدرسة كانت تجربة غير سعيدة لأندرسن بسبب مدير المدرسة غير اللطيف، إلا أنها مكّنته من الحصول على القبول في جامعة كوبنهاغن في عام 1828.

كان قد قدم بعض المسرحيات التي كتبها فوق خشبة المسرح الملكي، لكنها قوبلت بالرفض. طلب المساعدة من المستشار الخيري والمؤثر "جوناس كولين" Jonas Collin الذي أحبه وأصبح مؤيداً وداعماً له لسنوات عديدة. عرض كولين قضية أندرسن على الملك وقال إن المطلوب أولاً وقبل كل شيء هو التعليم المناسب.
بعد ذلك حصل أندرسن على مكان مجاني في مدرسة "سلاجيلس" Slagelses اللاتينية حيث أحرز تقدماً كبيراً. ثم انتقل مع المدير "سيمون ميسلينج" Simon Meisling إلى المدرسة في "هلسينور" Helsingör وفي النهاية إلى كوبنهاغن حيث تخرج كطالب خاص من "لودفيج كريستيان مولر" Ludvig Christian Müller.

أهم إنتاجاته الإبداعية
في عام 1822 نشر أندرسن كتابه الأول Ungdoms-Forsøg تحت الاسم المستعار Villiam Christian Walter (وهو مزيج من اسمه الخاص، ويليام شكسبير ووالتر سكوتس).
 وفي عام 1829 قناة Fodreise fra Holmens سمسم النقطة الشرقية من أماجير. حصل أيضاً على مسرحيته الأولى عندما كان يبلغ من العمر 16 عامًا عندما قدم مسرحية في المسرح الملكي عام 1829 وفي العام التالي صدرت أول مجموعة شعرية.
في العام التالي أنتج أندرسن ما يعتبر أول عمل أدبي مهم له بعنوان Fodrejse fra Holmens) Kanal til Østpynten af Amager i aarene 1828 og 1829 1829( "نزهة من قناة هولمن إلى النقطة الشرقية لجزيرة أماجر في السنوات 1828 و 1829"، قصة رائعة بأسلوب الكاتب الرومانسي الألماني "إيتا هوفمان" Etta Hoffmann. لاقى هذا العمل المنشور نجاحاً فورياً.
ثم التفت أندرسن إلى الكتابة المسرحية. بعد بعض المحاولات الفاشلة، حصل على الاعتراف حين أصدر مسرحية Mulatten (1840 (The Mulatto وهي مسرحية تصور شرور العبودية. ومع ذلك، لم يكن المسرح ليصبح مجاله، حيث ظل لفترة طويلة يُعتبر روائياً في المقام الأول. معظم رواياته هي سيرته الذاتية. من بين أشهرها المرتجل 1835 Improvisatoren.
 و"الرومانسية الدنماركية" 1836 OT: A Danish Romance. وKun en spillemand (1837 "فقط عازف الكمان"
تضمن كتاب أندرسن الأول للحكايات المغامرة الذي رواها للأطفال (1835 حكايات رويت للأطفال) قصصاً مثل "The Tinderbox" و "Little Claus and Big Claus" و "The Princess and the Pea" و " زهور ليتل إيدا ".
 دفعتان أخريان من القصص تتكونان من المجلد الأول من Eventyr (1837) اكتمل المجلد الثاني في عام 1842، وأضيف إليه Billedbog uden bilder (1840 كتاب مصور بدون صور).
ظهرت مجموعات جديدة في أعوام 1843 و1847 و1852. وتم توسيع هذا النوع في "حكايات وقصص خرافية جديدة" (1858-1872"حكايات وقصص خرافية جديدة").

فتحت هذه المجموعات آفاقاً جديدة من حيث الأسلوب والمحتوى. كان أندرسن مبتكراً حقيقياً في طريقته في سرد الحكايات، فقد استخدم مصطلحات وتركيبات اللغة المنطوقة، وبالتالي كسر التقاليد الأدبية.
بينما تُظهر بعض حكاياته إيماناً متفائلاً بالانتصار النهائي للخير والجمال (على سبيل المثال "ملكة الثلج") فإن البعض الآخر متشائم للغاية وينتهي بتعاسة.
في الواقع، أحد أسباب جاذبية أندرسن الكبيرة لكل من الأطفال والبالغين هو أنه لم يكن خائفاً من تقديم المشاعر والأفكار التي تتجاوز استيعاب الطفل الفوري، ومع ذلك ظل على اتصال بمنظور الطفل. لقد جمع بين قدراته الطبيعية في سرد القصص وقوته التخيلية العظيمة مع عناصر عالمية من الأسطورة الشعبية لإنتاج مجموعة من الحكايات الخيالية التي تتعلق بالعديد من الثقافات.

وتجدر الإشارة أيضاً، إلى أن جزءًا مما يجعل بعض الحكايات مقنعة للغاية هو ارتباط أندرسن بالمؤسف والمنبوذ. عنصر قوي في سيرته الذاتية يمر عبر حكاياته الحزينة. حيث كان طوال حياته ينظر إلى نفسه على أنه غريب، وعلى الرغم من الاعتراف العالمي الذي حصل عليه، لم يشعر أبداً بالقبول التام. لقد عانى بشدة مع بعض أقرب علاقاته الشخصية.

بدأ أندرسن في الحصول على راتب حكومي في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر مما منحه بعض الاستقرار المالي، وبدأت حكاياته الخيالية في تحقيق شعبية واسعة في أوروبا، وخاصة في ألمانيا.
من عام 1831 إلى عام 1873 أمضى أندرسن قدراً كبيراً من وقته في السفر في جميع أنحاء أوروبا وآسيا الصغرى وإفريقيا، وتم تسجيل انطباعاته في عدد من كتب السفر، ولا سيما En digters bazar (1842 A Poet's Bazaar)، I Sverrig (1851) صور السويد)، وأنا إسباني (1863 في إسبانيا).

اللقاء مع كيركيغارد
في سيرته الذاتية، Mit Livs Eventyr يقول أندرسن إنه التقى بالفيلسوف الدنماركي الشهير "سورين كيركيغارد" Søren Kierkegaard الذي أخبره أنه ينوي مراجعة كتاب أندرسن "فقط عازف الكمان" kKun en Spillman وقال كيركيغارد إنها ستكون مراجعة أكثر إنصافاً من تلك التي نُشرت سابقاً.
ولكن لأسباب غير معلومة، لم يتم إنجاز المراجعة، ولكن بدلاً من ذلك، كان هناك كتاب، وهو أول كتاب لكيركيغارد بعنوان "من ملاحظات رجل لا يزال على قيد الحياة، منشورة ضد إرادته" Ur en ännu levandes anteckningar, utgivna mot hans vilja
وهكذا أصبح كتاب كيركيغارد الأول هو أيضاً أول كتاب عن هانز أندرسن.
لم يكن كيركيغارد مغرماً بأندرسن. في رواية أندرسن، وهي سيرة ذاتية إلى حد كبير، يعتقد المؤلف أن العباقرة الذين يتلقون التشجيع والدعم يمكنهم تطوير مواهبهم، بينما مع الفنان الذي لا يحظى باهتمام تموت الموهبة. كان أندرسن في هذا الوقت بالفعل مؤلفاً مشهوراً وكان يتقاضى راتباً سنوياً من الدولة، وقد اتخذ نقطة انطلاقه للرواية في حياته الخاصة. يعتقد كيركيغارد أن أندرسن كان جاهلاً ولا يعرف ما الذي خلق العبقري.

يعتقد أستاذ الأدب، السويدي "ثور ستينستروم" Thure Stenström أنه من حيث الانطواء والانشغال الذاتي والقلق والخيال الأصلي، يجب أن يكون العبقريان "آندرسن، وكيركيغارد" قادرين على التنافس مع بعضهما البعض. ولكن بخلاف ذلك كانا مختلفين. بالمعنى الخارجي، لم يكن الأثرياء "سورين كيركيغارد" ابن أحد أغنى رجال الأعمال في الدنمارك، بل كان مغروراً، فيما كان أندرسن عصامياً، وأكثر إثارة للإعجاب.

اللقاء مع تشارلز ديكنز
زار أندرسن إنجلترا لأول مرة عام 1847 عندما زار "كونتيسة بليسينغتون" Blessington التي اجتذبت تجمعاتها مثقفي أوروبا. التقى في إحدى هذه التجمعات بالروائي والناقد البريطاني "تشارلز ديكنز" Charles Dickens الذي أعجب به ووصفه أندرسن بأنه "أعظم كاتب في عصرنا". قام ديكنز الذي أعجب بدوره بأندرسن، بزيارته في الشهر التالي. عندما اكتشف أن أندرسن لم يكن في المنزل، ترك له اثنتي عشرة نسخة من كتبه.
 نشأت مراسلات ودية بين المؤلفين وعاد أندرسن إلى إنجلترا عام 1857 لزيارة منزل ديكنز، ومكث في ضيافة ديكنزلمدة أسبوعين. قبل وصوله، تلقى ديكنز رسالة من أندرسن تفيد "لن أزعجك كثيرًا". سرعان ما ندم ديكنز على دعوته، فعندما وصل أندرسن، اتضح أنه كان ضيفاً لا يطاق، وفقيراً للغاية في اللغة الإنجليزية، وقد كان قد استعان بمترجم ليكتب رسالته.
مدد المؤلف الدنماركي، وهو رجل طويل ونحيف وأخرق إلى حد ما، إقامته مع ديكنز إلى خمسة أسابيع. اقترح عليه ديكنز بأدب أن يغادر المنزل، لكن التلميحات ربما كانت غامضة للغاية.
بعد مغادرته، كتب ديكنز على المرآة في غرفة الضيوف: "عاش هانز أندرسن في هذه الغرفة لمدة خمسة أسابيع - والتي بدت للعائلة وكأنها أبدية". بالنسبة لأندرسن، كانت الزيارة قصة تحققت، لكن بالنسبة لعائلة ديكنز كانت قصة رعب حقيقية.
 تذكرته كيت ابنة ديكنز فيما بعد بأنه "تجويف عظمي بقي إلى الأبد". بصفته غير كفء اجتماعياً، لم يفهم أندرسن أبدًا سبب عدم رد ديكنز على رسالته بعد ذلك. يعتقد الأستاذ الأيرلندي "مايكل فيتزجيرالد" Michael Fitzgerald أن عجز أندرسن الاجتماعي كان بسبب إصابته بمتلازمة "أسبرجر" Aspergers syndrom
زيارة أندرسن لديكنز موصوفة في رواية المؤلف السويدي "نيكلاس رادستروم" Niklas Rådström بعنوان "الضيف" Gästen.

أندرسن في السويد
في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، زار أندرسن السويد عدة مرات. في الأعوام 1837 و1849 و1865 زار ستوكهولم وأوبسالا. جاء إلى جوتنبرج في 24 يونيو 1837 و19 مايو 1849 و28 يوليو 1871. مستوحى من زيارته الأخيرة للسويد لمدة ثلاثة أشهر في عام 1849، كتب كتاب السفر الجميل I Sverrig عام 1851.
تعرّف أندرسن على العديد من الكتاب المعاصرين، وخاصة الكاتبة السويدية فنلندية المولد "فريدريكا بريمر" Fredrika Bremer.
 التقى بريمر وأندرسن لأول مرة خلال رحلة بالقارب من فينيرسبورج Vänersborg إلى ستوكهولم Stockholm، وزار أندرسن لاحقاً عائلة بريمر في قلعة "أورستا" Årsta. زودت بريمر أندرسن برسالة توصية إلى الفيلسوف والشاعر السويدي "إريك جوستاف جيجر" Erik Gustaf Geijer وصفته فيه أندرسن بأنه ذو مظهر غريب إلى حد ما، ولكنه بسيط وحساس ودود القلب ولطيف وطفولي ومؤلف كتب جيدة.
ومع ذلك، لم يستخدم Andersen أبداً خطاب التوصية فيما يتعلق بلقائه مع Geijer. تبادل الاثنان الرسائل لعدة عقود. وعندما زارت بريمر كوبنهاغن عام 1848، كان أندرسن هو ابنها عندما قدم أندرسن القس والكاتب السويدي "بير يوهان بوكلين" Per Johan Böklin إلى الأسقف والأكاديمي الدنماركي "هانز لاسين مارتنسن" Hans Lassen Martensen.


أندرسن والاسكندنافية
خلال رحلته إلى السويد، كان أندرسن على اتصال بالحركة الأدبية والثقافية الاسكندنافية التي ازدهرت في جامعات السويد. نتج عنها بعد ذلك بعامين قصيدة "نحن شعب واحد، أطلقنا على الاسكندنافيين" Vi er eet Folk, vi kales Skandinave وكتب أندرسن عنها "أن الأرض والناس الذين أحببتهم وبدا، كما قلت، أن حدود منزلي نمت، الآن فقط أنا فهمت بعد وقت قصير من أغنية عودتي للوطن: "نحن شعب، ندعى الاسكندنافيين".
كان أندرسن قد وعد الناشر السويدي "برنارد كرونهولم" Bernhard Cronholm بمساهمة في التقويم الشعري السويدي الدنماركي "هيرتا" Hertha. طلب كرونهولم من مؤلف "أوتو ليندبلاد" Otto Lindblad تأليف القصيدة، وتم نشرها جنباً إلى جنب مع موسيقى "ليندبلاد" Lindblads للجوقة الذكور في يناير 1840. عندما زار أندرسن لوند في وقت لاحق من ذلك العام، رحب به مطربو لوند بهذه الأغنية، وتم غنائها أيضاً في اجتماع طلاب دول الشمال في كوبنهاغن عام 1845.

أندرسن والحب
ظل أندرسن عازباً طوال حياته، على الرغم من العديد من الحب الكبير. كان مغرماً بـ "ريبورغ فويجت" Riborg Voigt، و"ماتيلدا بارك" Mathilda Barck، ولكن كان الحب الأكثر جدية مع المغنية السويدية "جيني ليند" Jenny Lind التي التقى بها لأول مرة في عام 1840 رفضت خطوبته ودعته منذ عام 1843 بـ "أخي". قد تكون قصة العندليب (1844) تكريماً لها، حيث أطلق عليها أندرسن لقب "العندليب السويدي".

هل كان مثلياً؟
الباحثون الدنماركيون، من "يلمار هيلوغ" Hjalmar Helweg 1927، إلى Elias Bredsdorff 1975 إلياس بريدسدورف التزموا الصمت بشأن معارف أندرسن وعلاقته مع المثليين، مثل راقصة الباليه "هارالد شارف" Harald Scharff و"هنريك ستامبي"Henrik Stampe، و"إدوارد كولين" Edvard Collin الابن اللاحق للراعي "جوناس كولين" Jonas Collin.
عندما كتب أندرسن "عروس البحر الصغيرة" Den lilla sjöjungfrun كان ذلك بتأثره بإدوارد كولين وحبه له.
 لا تدع مذكرات أندرسن أي مجال للشك في أنه كان منجذباً لكلا الجنسين، ولكن تم حذف هذه المقاطع من مذكراته ورسائله في الستينيات.
 تناولت رسالتان علميتان فقط في السنوات الأخيرة جاذبية أندرسن المثلية، وهما "ويلهلم فون روزن" Wilhelm von Rosen في "ألغاز الصداقة" Venskabets mysterier عام 1980، والناقد الألماني "هاينريش ديترنج" Heinrich Detering في "الروحيات البرمائيات" Åndelige amfibier عام 1991.
وفقاً لمذكرات أندرسن من عام 1840، قفز قلبه عندما قبّله إدوارد كولين على فمه: "كان إدوارد آخر شخص هناك. على فمي، أوه كان الأمر كما لو أن قلبي يريد القفز.

اعتبر "كارل جيز" Karl Giese رفيق الحياة لـ "ماغنوس هيرشفيلد" Magnus Hirschfelds أن أندرسن مثلي الجنس، ووجد انسجاماً خاصاً في روايات أندرسن حول سيرة حياته، وفي مقالة " كائنات أندرسن وأعماله" Andersens Wesen und Werke، في مجلة Der Eigene 9 (1921-22)، العدد 3 (الجزء الأول من المقال)، العدد 5 (الجزء الثاني).
"لأنني أريد أن أقول للكثيرين، ويتعلق الأمر بالكثير من الأشخاص الذين لم يقرؤوا رواياته: الرجل الذي بمغامراته أعطى لحظات رائعة للكثيرين، من خلال رواياته، لذا بصراحة للكبار إنه حقاً بالنسبة له، عالم نشعر فيه بالوحدة ويسمح لنا باستعادة الحركات الدقيقة والهادئة التي خنقها القناع الضروري للحياة ".
(ترجمة Dag Heede بواسطة Giese، مقتبسة من Hjertebrédre، ص 19)
وافق الطبيب النفسي "هجالمار هيلويج"  Hjalmar Helwegبشدة على مقال ألبرت هانسن وجميع المزاعم بأن أندرسن كان ينبغي أن يكون مثلياً.
 ومع ذلك، فهو لا يتعامل مع النظرية بشكل فعال للغاية، ولكنه بدلاً من ذلك يدور حول الاحتمال. يحاول تشخيص أندرسن كشكل من أشكال السيكوباتية psykopat: لم يمر أندرسن بتطور طبيعي وناجح. نتيجة لهذا الفشل، فهو غير آمن جنسياً وغير جذاب للمرأة.
لدرجة أن هيلويج يتخيل ما إذا كان أندرسن سيكون قادراً على مقاومة النهج المثلي في الوقت والمكان المناسبين. بشكل عام، خلص إلى أن أندرسن كان مشوهاً أو غير ناجح.
يجادل "كلاوس مورتنسن" Klaus Mortensen في كتابه في البجعة والظل Svanen og skyggen (1989) أنه يمكن تفسير علاقة أندرسن مع إدوارد كولين على أنه شوق روحي خالص.


34
أدب / نقطن الملح المتساقط
« في: 18:31 04/01/2022  »
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


نقطن الملح المتساقط

   
خرج البر من البحر
والليل من الصبح
في البدء
كان الماء والضوء
لأن التراب يرافقنا
مثلما كانت البداية للنهاية
نُصبح قبوراً متحركة
قادمين من انشطار الغبار
لننصب اضمحلالنا
على قارعة المحطات
لا عاصم لنا من الخطايا
نقرأ هزائمنا كما نشتهي
بوتيرة جنائزية
خلف صور الفوضى
ونفترش الجذع الخاوي
بوجوه شاحبة
وأقدام من حطب
لأن زاوية صراخنا
انكسرت
يتساقط الموج من رؤوسنا
نتوسّد الحقائب البالية
ترانا نقطن الملح الساقط
ما أطول الأحلام
إذ ما شرّع السرو لنا
الغابة البيضاء
هناك حيث تُلام الأجساد
من الطعنات
وحيث على عمق كتاب
تُطوى آخر قصائدنا
وتهطل علامات الميزان
لو يغيب المدّ
ويندفع الكثبان
لو أنَّ الغيمات التائهة
تتعثّر بدعاء الظمأ
نستغيث بالأشرعة
وبعيون البحر
فلا نُستغاث
نتأمل المقعد الشاغر
وفزع المكان
ننادي وجوه الطريق
ترتدي عتمتنا
لكنَّنا وحدنا ضالعون
في الأسماء الماطرة
لم يعد في كف الريح وقت
كل مردود لأصله
ينحسر النهار والضوء
تتعرى الأرض
يأوي التراب للماء
ويُفشي الموج سر العتمة



35
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك

 
أفضل كتب العام 2021
السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع

 
ضربت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم برمته، كافة مناحي الحياة، منذ مطلع مارس/آذار عام 2020، وأثرت على النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وأصابت الحياة الثقافية والأدبية بشلل شبه تام، حيث تم حظر جميع أشكال التجمع، بما فيها الندوات، والأنشطة الفنية، والأدبية، وتم إغلاق قاعات السينما، والمسارح، وصالات العرض، ومُنعت الحفلات الموسيقية، وفُرض الحجر الصحي في العديد من الدول.
هذا الانحسار العارض للثقافة، لا يعني أن الإنتاج الثقافي والأدبي قد توقف. بل أن عديد من الباحثين والكتاب العرب استغلوا فترة العزلة الصحية للتقدم في الإنتاج المعرفي والفكري.
 
صحيفة النهار العربي اللبنانية نشرت استطلاعاً بتاريخ 28-12-2021 لمواقف وآراء مجموعة من أبرز النقاد في العالم العربي، لمعرفة أهم قراءاتهم، وترشيحاتهم لأهم الكتب العربية الصادرة خلال عام 2021.
أهم النقاد المشاركين في الاستطلاع هم الفلسطيني الأردني فخري صالح، والمغربيان أحمد المديني، وهشام مشبال، والتونسي عبد الدائم السلامي، واللبناني سلمان زين الدين، والمصري يسري عبد الله.
تنوع حصاد الكتاب في عام 2021، وتعددت ترشيحات النقاد بين الكتب نقدية، والروايات، واليوميات، والقصص.
من أهم الكتب ـ إن لم يكن أهمها على الإطلاق ـ التي رشحها النقاد كأفضل الكتب التي صدرت في العام الحالي، كتاب "السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع" للباحث والناقد والأكاديمي المغربي الدكتور محمد الداهي.
                                                                         
في كتابه "السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع" ـ منشورات المركز الثقافي للكتاب 2021ـ يقدم الناقد المغربي محمد الداهي جديداً ومختلفاً لأنماط الكتابات الذاتية من منظور السيميائيات الذاتية.
 عمل كبير، يمكن اعتباره استمراراً إبداعياً على المستوى المعرفي، لما راكمه الكاتب من أبحاث ودراسات سابقة حول السيرة الذاتية، على سبيل المثال كتاب "شعرية السيرة الذهنية: محاولة تأصيل" الصادر عام 2000. الكتاب الذي قال عنه الناقد المغربي د. سعيد يقطين:
"إن محاولة "تأصيل" جنس أو نوع ما، أو البحث في تشكله، هي من الأعمال التي لا يمكن أن يُقدِم عليها إلا من يروم النظر في الظاهرة بعيدا عن تجلياتها العادية أو الملموسة، وهو بذلك يرمي إلى النفاذ إلى أعماقها التي تصلها بغيرها، وتنظمها جميعا في نسق شامل وجامع.
1. 2. يدخل عمل الباحث والناقد محمد الداهي في هذا النطاق، فهو يسعى إلى اقتحام مجال "نظرية الأجناس" بوعي الباحث، وحس الناقد، يركز على نوع محدد هو "السيرة الذهنية".
 وكتاب "الحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات" الصادر عام 2007. الذي قدم له الناقد المغربي د. عبد القادر الشاوي، ومما جاء فيه، إن "معيار الكتابة الذاتية، هو التعبير عن الذات، وفي ذلك تكمن وظيفتها التعبيرية. ويعني هذا أن صدق الكتابة الذاتية كامن في محكيها الذاتي نفسهن لا في الواقع الذاتي الذي تستنسخه كتابة. ويظهر لي ان هذه الخلاصة بالذات تتوازى ـ على نحو ما ـ مع الفصول التي يتضمنها الكتاب الهام: الحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات. فقد عنى مؤلفه محمد الداهي، الذي تفرغ للبحث في الموضوع منذ فترة طويلة، بدراسة مستويات وأبعاد القول والكتابة الذاتية على زجه العموم، بل وجعل من ذلك موضوعاً حصرياً للمعرفة الأدبية لم يألفه البحث الأدبي المنهجي في المغرب ولا في المشرق.
 
ينقسم كتاب "السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع" إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول يُعنى بالعلاقة بين السيرة الذاتية والتاريخي، والقسم الثاني يتناول محكي الطفولة، والقسم الثالث يشتغل على استقصاء ما أسماه الكاتب "المنطقة البينيَّة" وهي المنطقة الملتبسة التي تفصل بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، لمقاربة ظاهرة التهجين.
الكتاب هو ثمرة جهد للكاتب استمر لما يربو عن ست سنوات متواصلة، لذلك فالكتاب يُعتبر من النوع "كامل الدسم" يعتبر من عيون الكتب، لمؤلف ثاقب النظر، وعميق الفكر
يعتبر الكاتب محمد الداهي أن ما يميز كاتب السيرة الذاتية عن الكاتب الروائي هو أن "الأول يتعهد بقول الحقيقة وباستعمال ملفوظات جدية، ويخلق مسبقًا انطباعًا في ذهن القارئ أن ما يتلقاه مطابق للواقع، في حين يعمد الثاني إلى وضع ميثاق تخييلي حتى لا بأخذ كلامه على محمل الجد".
عمد الكاتب محمد الداهي على تحليل متنوع في الكتاب الذي تضمن نحو ثلاثين مؤلفا من السرد الشخصي، اشتملت مراحل مختلفة من تاريخ السرد الأدبي العربي، لمؤلفين مثل: "التعريف" لابن خلدون، و"أوراق" لعبد الله العروي، و"الضريح" لعبد الغني أبو العزم، و"ثمن الحرية" لعبد الهادي الشرايبي، و"ثورة المريدين" لسعيد بنسعيد العلوي، و"أنشودة الصحراء الدامية" لماء العينين ماء العينين، و"الرحلة الأصعب" لفدوى طوقان، و"فيي الطفولة" لعبد المجيد بنجلون، و"البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا، و"دليل العنفوان" و"دليل المدى" و"من قال أنا" لعبد القادر الشاوي، و"ممر الصفصاف" و"رجال ظهر المهراز" لأحمد المديني.
كتاب "السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع" رائع البيان وشاسع المعنى، بأسلوب شيّق، ولغته راقية جداً. قال عنه الناقد المغربي أحمد المديني "هي أمتن دراسة مدققة وموثقة في المحكيات الذاتية العربية الحديثة، بمنهجية تتراوح بين محمول النصوص ومنظورات الدرس النقدي الجديد، وتستجلي تمثيلات الواقع بين حقيقته وتخييل الذات، مستعملة المصطلح العالم بالرأي المركب لا الحاكم".
 

36
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


المستعمرات الدنماركية


ما هي الأراضي التي كانت مستعمرات؟
بعد أن نظرنا إلى المملكة الدنماركية بأكملها، يصبح من المهم السؤال عن أي من الأقاليم العديدة في الدولة متعددة الجنسيات كانت مستعمرات.
إذا بحثت في الموسوعة الدنماركية الكبرى، فإن المستعمرة بالمعنى الموجود في العمل الحالي هي "مفهوم غامض يغطي المستوطنات أو إنشاء مراكز تجارية خارج حدود الدولة. إذا كانت المستوطنة تقع تحت سلطة الدولة الأم الولاية القضائية على قدم المساواة مع الأجزاء الأخرى من الولاية، لن يكون هناك عادة مستعمرة رسمية ".
بالإضافة إلى ذلك، تشير الموسوعة إلى مفهوم الاستعمار، والذي تم استخدامه فيما يتعلق بتاريخ "ما يسمى بالتوسع الأوروبي". ما هو الاستعمار إذن؟
 تعرفه نفس الموسوعة على أنها "غزو دولة للأراضي خارج أراضيها وامتلاكها لها. غالباً ما يكون الغرض هو الحصول على مزايا سياسية أو اقتصادية للبلد الأم"
بهذا، يصبح الاستعمار مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإمبريالية. ومع ذلك، فإن العامل الحاسم هو الهيمنة الشكلية، في حين أن مسألة الممكن الاستغلال الاقتصادي ثانوي. وأخيراً، تُعرَّف الإمبريالية على أنها "سياسة توسع، تنطوي على هيمنة واستغلال من جانب قوة ما على قوى أو شعوب أو مناطق أخرى. قد تكون النتيجة تشكيل إمبراطوريات منظمة رسمياً، والتي توجد أمثلة عديدة عليها تاريخياً".
حتى الآن، الموسوعة الدنماركية تجعل من الممكن النظر عن كثب في أي من ممالك ودول الملك الدنماركي يمكن اعتبارها مستعمرات، وأيها لا، وماذا كانت بدلاً من ذلك. ربما كانت معظم الأراضي التي كانت تحت حكم الملك الدنماركي خارج مملكة الدنمارك الفعلية، ولكن مع استثناءات قليلة جداً، لم تكن هذه المناطق التي تم غزوها بانتظام، أو التي كانت موضوعاً للمستوطنات من قبل الجانب الدنماركي.
كانت النرويج مملكة منفصلة، حيث تم توريث التاج، لذلك حصلت النرويج والدنمارك في عام 1380 على ملك مشترك، وهو الأصغر أولوف الثاني، ابن مارجريت، الذي حكم نيابة عنها. لكن النرويج والنرويجيين والمجتمع النرويجي كانوا موجودين قبل ذلك بوقت طويل، وعلى الرغم من أن "النرويج" المولودة في الدنمارك، والتي غالباً ما تتحدث الألمانية قد استقرت في النرويج، لا يمكن وصف النرويج بأنها مستعمرة دنماركية.
بالإضافة إلى ذلك، كانت النرويج راسخة جداً ومتماسكة، والنرويجيون أعدادهم كثيرة، وعدد المولودين في الدنمارك صغير جداً، والاختلافات بين الدنماركيين والنرويجيين والمولودين في النرويج كانت واضحة جداً

العنصر الوحيد في الاستعمار هو أن اللغة المكتوبة الأكثر انتشاراً اليوم "Bokmål" هي في الواقع دنماركية مع بعض الانحرافات الإملائية. وذلك لأن طباعة الكتب تركزت في كوبنهاغن لمئات السنين. ومن هناك انتشرت كتب الترانيم والأناجيل، وفي النهاية جميع أنواع الأدب في جميع أنحاء النرويج مما أدى إلى أن حوالي ثمانين بالمائة من النرويجيين اليوم يفضلون هذا النوع من اللغة النرويجية.
في القرن التاسع عشر جرت محاولة لإنشاء لغة وطنية مكتوبة جديدة "نينورسك" على أساس لهجات جنوب غرب النرويج. ولكن لا يستخدمها اليوم سوى أقل من خُمس السكان، على الرغم من الوضع الرسمي في المدرسة والإدارة والصراع اللغوي المرير أحياناً

استحوذ الملك الدنماركي على دوقية "شليسفيغ" و"هولشتاين" من خلال الميراث والاتفاقيات مع النخب النبيلة المحلية، ولكن بصفته دوق "هولشتاين" كان الملك من حيث المبدأ تحت سيادة الإمبراطور الألماني. شكّلت "هولشتاين" مجتمعاً راسخاً، قبل وقت طويل من دخوله النظام الملكي الدنماركي في عملية ربطته بـ "شليسفيغ" أو " الجنوبية" التي كانت في الأصل جزءًا من الدنمارك، ولكن تم فصلها لاحقًا كدوقية.

كانت كلتا المقاطعتين أكثر أجزاء المملكة تطوراً اقتصادياً، مما يعني أن الدوافع الأوروبية في الحرف والزراعة والعلوم والفنون دخلت ملكية "أولدنبورغ" عبر "هولشتاين".
كانت جزر شمال الأطلسي "أيسلندا، وجزر فارو، وجرينلاند" عبارة عن ضرائب نرويجية أو دول خضعت للملك الدنماركي مع النرويج في عام 1380.

وهكذا كانت مجتمعات راسخة أمام الحكومة الدنماركية.
 كان السكان باستثناء "الإنويت" من نسل المستوطنين الاسكندنافيين، لكنهم استقروا في الجزر قبل فترة طويلة من سيطرة الملك الدنماركي. وعلى الرغم من أن الأشخاص المولودين في الدنمارك قد استقروا هناك أيضاً، إلا أنهم انوا أقلية، ومع ذلك وصفت هذه الجزر بأنها مستعمرات استيطانية دنماركية.
في "جرينلاند" تم التخلي عن الاتصال بالنرويج من قبل المستوطنين الشماليين في أواخر العصور الوسطى. حقق سكان "جرينلاند" بنجاح كبير مكانة في الأمم المتحدة على أنهم "شعوب أصلية". هناك جهود في جزر فارو لتحقيق نفس الوضع، لكنها تبدو غير ضرورية تماماً.

المستعمرات الفعلية
بدت مختلفة بالنسبة للممتلكات في الهند وأفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي. كانت موجودة في مناطق لم يكن للملك الدنماركي أي انتماء دستوري أو روابط قانونية وثقافية بها. من المنطقي هنا الحديث عن المستوطنات وإنشاء مراكز تجارية. تمت عمليات الاستحواذ جزئياً من خلال اتفاقيات مع ممثلي النخبة المحلية (الهند، إفريقيا) وجزئياً من خلال الاستيلاء على الجزر غير المأهولة (سانت توماس، سانت جان) أو عن طريق الشراء مثل (سانت كروا).

كانت المستعمرات في المناطق الاستوائية تحت سيادة الملك الدنماركي، على الرغم من أنها كانت في كثير من الأحيان بصورة غير مباشرة، حيث كانت المستعمرات تُدار أحياناً من قبل شركة خاصة رسمياً، وعلى الرغم من أن جزءًا كبيراً من سكانها الأوروبيين لم يكونوا من مواليد الدنمارك على الإطلاق.

يمكن القول إن المناطق الأخرى التي كانت تتألف من ممالك ودول الملك كانت تابعة لمملكة الدنمارك - في بعض الأحيان بشكل قانوني، وفي أحيان أخرى عبر واقع الحال أيضاً. ومع ذلك، فإن الخضوع لشخص ما لا يعني بالضرورة التعرض للاضطهاد والاستغلال المالي، على الرغم من حدوث مثل هذه العلاقات بالتأكيد.
من وجهة النظر هذه، يمكن القول إن النرويج وجزر شمال الأطلسي والدوقيات والممتلكات في المناطق الاستوائية كانت جميعها تابعة لملك الدنمارك.
لكن هذا لا يعني أنهم كانوا جميعاً مستعمرات وكان لهم نفس الوضع التبعي، لا من الناحية النظرية ولا في الجانب العملي. فيما يتعلق بالتبعية أو التفوق، كانت الحقيقة هي أن المستعمرات الاستوائية في الهند وإفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي اتخذت مكانة خاصة واضحة لا لبس فيها باعتبارها مرؤوسين وانتماء أكثر مرونة فيما يتعلق بالمناطق الأخرى للملك الدنماركي.
لم يتم تضمين المستعمرات الاستوائية شعار النبالة الكبير، بينما تم تضمين مناطق الشمال في النرويج وأيسلندا وغرينلاند وجزر فارو، حتى "جوتلاند، وأوسيل، وفهمرن، وبورنهولم" كانوا في أوقات مختلفة في شعار النبالة الوطني مع مجالها الخاص.
كان الشيء نفسه مع الكرون السويدي الثلاثة بعد فترة طويلة من تفكك اتحاد كالمار في عام 1523 كتعبير عن استمرار الملك الدنماركي في المطالبة بالعرش السويدي. علاوة على ذلك، تم تمثيل منطقة Venden بشمال ألمانيا بالإضافة إلى مناظر Holstein الطبيعية Stormarn وDitmarsken مع مجالهم الخاص في شعار النبالة الوطني، تماماً كما تم تضمين المناطق في اللقب الرسمي للملك حتى فريدريك التاسع.
لم يكن هذا هو الحال بالنسبة للمستعمرات الاستوائية. إنه يظهر أن لديهم وضعاً دستورياً خاصاً ومرؤوساً مع وضع كونهم مستعمرات فيما يتعلق بالوطن الأم. ولكن كانت هناك أشياء مشتركة مثل القانون، والواقع الاجتماعي.
 ألم يكن لتلك الأجزاء من مملكة الملك الحالية ـ التي لم تكن تشكل مملكة الدنمارك بعد ـ وضعاً وموقعاً تابعين يتوافقان مع وضع المستعمرات؟ غالباً ما تم طرح هذا الرأي في النقاش السياسي في القرنين التاسع عشر والعشرين. لم يتم سؤال السكان المحليين عما إذا كانوا يريدون الانتماء إلى ملك الدنمارك أم لا.
لكن لم يكن هذا هو السبيل للقيام بذلك في المجتمع الذي كان يهيمن عليه الأرستقراطيون في ذلك الوقت، أو في وقت لاحق في ظل الحكم الاستبدادي الملكي. كما لم يتم استجواب سكان مملكة الدنمارك، على وجه التحديد بسبب التقسيم القوي للطبقات، الذي كان يميز المجتمع في ذلك الوقت. غالباً ما يكون من غير المنطقي القول إن السكان في هذه المنطقة أو تلك كانوا تابعين أو مضطهدين، كانت الظروف مختلفة، حسب الحالة المعنية.
وبالتالي يمكن القول إن طبقة النبلاء في "هولشتاين" قبل وبعد إدخال الحكم المطلق في عام 1660 كانت لهم ظروف أكثر حرية وامتيازات أكثر من حلفائهم في مملكة الدنمارك. كان الفلاحون النرويجيون يتمتعون بظروف أكثر حرية من الفلاحين في الدنمارك، في حين أن غالبية الفلاحين في شرق "هولشتاين" كانوا أكثر حرية اجتماعياً وقانوناً من أقرانهم في مملكة الدنمارك. وبالتالي، كانت مجموعات معينة تتمتع بظروف أكثر حرية في إحدى المناطق مقارنة بالمناطق الأخرى.
ومع ذلك، يبقى السؤال هو كيف اختلفت جزر شمال الأطلسي عن المستعمرات الاستوائية وما إذا كان يمكن تسميتها بالمستعمرات. كان لإدارة آيسلندا وجزر فارو وغرينلاند عدد من أوجه التشابه مع الطريقة التي تدار بها المستعمرات.
تم تأجير الروابط بينهم وبين الدولة الأم في أوقات مختلفة من قبل عائلة خاصة، أو نقلها إلى شركة تجارية مقرها الدنمارك، أو إلى تاجر خاص واحد، أو كانت الاتصالات خاضعة لاحتكار تجاري تابع للدولة الدنماركية. وفي حالة "جرينلاند" فإن حقيقة أنه في عام 1721 لم يلتق "هانز إيجي" بشكل غير متوقع بأحفاد "النورسمان" الذين كان من المقرر أن يتحولوا إلى اللوثرية، ولكن "الإنويت" غير المسيحيين الذين استوطنوا جرينلاند كانوا مستهدفين من قبل البعثات والإرساليات الوثنية والثقافية.






37
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


الدنمارك الاستعمارية

لقد نسى الدنماركيون عواقب كونهم قوة استعمارية.
داخل الاتحاد الأوروبي، هناك عشر دول يقل عدد سكانها عن الدنمارك.


الدنمارك هي واحدة من أكثر الدول تجانسا وطنيا واجتماعيا في العالم. حتى وقت قريب كانت هذه الجملة بالطبع درساً للأطفال والكبار الدنماركيين، والعديد من الأجانب. بعد الهزيمة في عام 1864 كانت الدنمارك حتى الحرب العالمية الأولى أصغر دولة في أوروبا.
لم يعد هذا هو الحال في الواقع. في عام 2016 كانت هناك عشر دول في الاتحاد الأوروبي ذات عدد سكان أقل من الدنمارك. لكن فكرة الدنمارك كدولة صغيرة منسجمة بين الناس، والدولة، واللغة، والأمة، والكنيسة قد ترسخت. لدرجة أن الدنماركيين نسوا - أو ربما قمعوا - التاريخ الطويل كدولة متعددة اللغات، والتي تم تصنيفها من قبل بعض المؤرخين في السنوات الأخيرة على أنها إمبراطورية دنماركية، كاملة مع مستعمرات ما وراء البحار في ثلاث قارات. سواء تم فهمها على أنها إمبراطورية أم لا، كانت ملكية "أولدنبورغ" طوال فترة وجودها بين 1448 و1863 واحدة من الدول الكبرى في أوروبا.

يشير الاسم إلى البيت الملكي، الذي كان العنصر الذي يربط الدولة معاً، وبالتالي يتم اختياره هنا كاسم. سمة أخرى للدنمارك، وهي أنها تنتمي إلى مجموعة الدول اللا قومية. لكنها في الوقت نفسه كانت دولة شديدة المركزية بفضل كنيسة الدولة اللوثرية منذ الإصلاح في عام 1536. بالإضافة إلى ذلك، كانت واحدة من أكثر الدول عسكرة في أوروبا في ذلك الوقت، وذلك بسبب العدو اللدود السويد ـ حينها ـ وكذلك العداء مع فنلندا.

هذا يعني أن الدنمارك والدنماركيين لديهم تاريخ يمكنك من الاختيار بينهما بحرية إلى حد ما - أو نفشل في تذكرهما. الماضيان هما سبب امتلاك الدنمارك لنشيدان وطنيان، وهما أغنية King's Song التي الفها يوهانس إيوالد من عام 1779، والغناء المثالي لآدم أويهلينشلاغر للمناظر الطبيعية الجميلة - الدنماركية الشرقية - مع خشب الزان الأخضر بالقرب من أوسترستراند المالحة من عام 1819.
معظم الدنماركيين نسوا إلى حد كبير عواقب وجود هذه المملكة في مستعمرات حول العالم، وكذلك مشاركتهم في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. تتجلى مظاهر الاستعمار الدنماركي في العلاقة غير المحسومة مع الأجزاء المتبقية من إمبراطورية شمال الأطلسي فيما يسميه الدنماركيين بالعامية الكومنولث. في الواقع، أصبح اتحاداً فيدرالياً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يتكون من ثلاث دول هي "الدنمارك، وجزر فارو، وجرينلاند" مع بعض مهام الدولة المشتركة التي يتم التعامل معها من كوبنهاغن.

هذا أيضاً نتيجة للإرث المعقد في ذلك الوقت كقوة استعمارية إمبراطورية متعددة اللغات، والتي تم استبدالها فقط بدولة صغيرة اليوم بعد عام 1864، والتي تبعها حتى بيع جزر الهند الغربية الدنماركية في عام 1917، واستقلال آيسلندا في عام 1918، الحكم الذاتي الحقيقي لجزر فارو بعد 2005 والحكم الذاتي في جرينلاند اعتبارًا من عام 2009. إن الأمة والدولة ليسا نفس الشيء، ولا حتى في الدنمارك، ولا كانت على الإطلاق في الكومنولث.

الملكية الدنماركية
دعونا نلقي نظرة فاحصة على هذه المملكة الدنماركية، كما بدت منذ منتصف القرن السابع عشر، عندما بدأ الملك يهتم بالاستحواذ على المستعمرات والقواعد التجارية. بدأ الأمر برحلة استكشافية جريئة لكريستيان الرابع إلى شمال النرويج وفينمارك في عام 1599، والتي أمنت هذه المنطقة النائية للدولة الدنماركية النرويجية ثم للنرويج المستقلة لاحقًا. كان العنوان الرسمي للمملكة هو الملكية الدنماركية أو ملكية أولدنبورغ. وإذا تم ذكر هذه الوحدة اليوم، فعادة ما تكون تحت مصطلحات سياسية مثل النظام الملكي المزدوج، أو الدنمارك والنرويج، أو المملكتين التوأم.

ومع ذلك، فإن هذه المصطلحات المهذبة غير دقيقة تماماً. صحيح أن الدولة تألفت جغرافياً من مملكتين هما الدنمارك والنرويج، بالإضافة إلى دوقيتين من شليسفيغ وهولشتاين، وجميعها يحكمها الملك الدنماركي، والذي اكتسب قوة استبدادية بعد خسارة المناظر الطبيعية النرويجية والسكانيان إلى السويد في 1645 و1658 في 1660.

بموجب القانون الدستوري، كان الوضع معقدًا بسبب حقيقة أن هولشتاين كانت جزءًا من الإمبراطورية الألمانية الرومانية، لذلك كان الملك الدنماركي دوقًا لهولشتاين تابعاً رسمياً للإمبراطور، بينما كان دوق شليسفيغ تابعاً لنفسه كملك. أدت الانقسامات اللاحقة في الدوقات إلى مزيداً من التعقيدات، حيث ظل الملك الدنماركي في مناطق معينة شريفاً بمفرده، بينما كان الحاكم الأعلى فقط في أجزاء أخرى من النمط المعقد للحقوق في الدوقات.

بالإضافة إلى الأجزاء الأربعة الرئيسية، تكونت الحالة المركبة أيضاً من مناطق شمال الأطلسي الثلاثة، فيما يسمى بالنحل، وتتألف من أيسلندا وجزر فارو وجرينلاند، والتي أصبحت جزءًا من الدولة النرويجية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنها محكومة مباشرة من كوبنهاغن.

أخيرًا، في القرنين السابع عشر والثامن عشر استحوذ النظام الملكي الدنماركي على موقعين تجاريين في الهند، وهما Tranquebar في تاميل نادو وFrederik Nagore في مدينة Serampore في البنغال، ومناطق على الساحل الذهبي لأفريقيا التي أصبحت الآن جزءًا من غانا، وثلاثة جزر في البحر الكاريبي. والتي كانت تشكل جزر الهند الغربية الدنماركية.

بفضل هذه الإمبراطورية الاستعمارية، لعبت الدنمارك دوراً معيناً في التجارة المثلثية الأطلسية بين مركز أوروبي، وغرب إفريقيا المنتجة للعبيد، وجزر الهند الغربية التي تزرع السكر، والتي تكملها حصة في تجارة شرق آسيا.
يُنظر إلى الطابع متعدد الجنسيات للمملكة من خلال حقيقة أن أكبر المدن في الولاية في نهاية القرن الثامن عشر كانت كوبنهاغن في الدنمارك، ألتونا وكيل في هولشتاين، فلنسبورغ في شليسفيغ وبيرغن في النرويج، في حين أن المدن الساحلية شارلوت أمالي في سانت. كان توماس وسيرامبور في الهند في المرتبة الثانية والسادسة بعد كوبنهاغن، على التوالي من حيث حجم التجارة.

بالإضافة إلى عائدات الضرائب والجمارك من أجزاء المملكة، كان للدولة الدنماركية عائدات كبيرة نسبياً، والتي نشأت أساساً من جمارك أوريسند، والتي تم جمعها في الفترة من 1429 إلى 1857 من خلال أي سفينة تبحر عبره. بشكل عام، تدين الملكية بمكانتها القوية إلى الموقع عند مدخل بحر البلطيق، الذي يحرسه كرونبورغ، وبسبب هذا الموقع الجيوسياسي، مارست الملكية الدنماركية السيادة في شمال أوروبا لأكثر من أربعمائة عام حتى منتصف القرن ال 17.

وهكذا امتدت الدولة الدنماركية على الورق من نورث كيب إلى هامبورغ، وهي مسافة تقابل المسافة من هامبورغ إلى صقلية. بالإضافة إلى ذلك، ورثت إمبراطورية شمال الأطلسي الشاسعة من الإمبراطورية النرويجية في العصور الوسطى.
كان العمود الفقري العسكري والتكنولوجي والسياسي لهذه الإمبراطورية هو الأسطول الذي تأسس في عهد الملك هانز في أواخر القرن الخامس عشر. يجب أن تكون كبيرة بما يكفي لتكون قادرة على القتال في منطقة البلطيق ضد المنافس السويدي القوي بشكل متزايد ولأكثر من مئة عام ونصف، وفي نفس الوقت حماية الممتلكات الشاسعة وكذلك السفن التجارية في نهاية المطاف.
لكن في عهد كريستيان الرابع في وقت لاحق، أرهقت المملكة مواردها وعانت بين عامي 1645 و1660 سلسلة من الهزائم المهينة لمنافسة السويد. بعد ذلك، كانت السويد أقوى قوة في شمال أوروبا مع إمبراطورية واسعة على بحر البلطيق استمرت حتى نهاية حرب الشمال العظمى في عام 1721، وبعد ذلك توازنت مملكتا الشمال إلى حد كبير مع بعضهما البعض. على الرغم من خسائرها، إلا أن الدنمارك والنرويج وشليزفيغ هولشتاين لا تزال تحتل مرتبة في القرن الثامن عشر كقوة أوروبية متوسطة الحجم، لم تتجاوزها سوى القوى الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا العظمى والنمسا (إمبراطورية هابسبورغ) وروسيا وبروسيا.

إرث الإمبراطورية   
إن إرث هذا التاريخ الطويل كإمبراطورية أو "دولة متكتلة" أو "دولة مكونة إقليمياً" واضح اليوم بطرق عديدة. أولاً وقبل كل شيء في علاقة متوترة - على الأقل حتى وقت قريب - مع منطقة شمال ألمانيا، والتي تنتمي إلى الدنمارك من نواحٍ عديدة على حدٍ سواء ثقافياً، واقتصادياً، وجغرافيًا. يتكون الإرث أيضاً من علاقة ـ ليست سهلة دائماً ـ التعقيد بين الأعضاء الحاليين في مجتمع المملكة، وحتى الأجزاء السابقة من المملكة، مثل أيسلندا، وحتى النرويج في بعض الأحيان حيث يتضح أن التاريخ المشترك ـ في كثير من الأحيان ـ عبر العلاقة الوثيقة بين الشعبين.

ولكن هناك أيضاً إرثاً للإمبراطورية الاستعمارية "الحقيقية" في الهند، وغرب إفريقيا، ومنطقة البحر الكاريبي. هذا العالم الاستعماري اليوم بعيد جداً، لدرجة أن الدنماركيين المعاصرين ينظرون إلى المستعمرات القديمة ـ في الغالب ـ كوجهات حنين إلى الماضي، ويتم استثمار مبالغ طفيفة في ترميم مباني الحقبة الاستعمارية في غانا وترانكيبار وسيرامبور وجزر فيرجن الأمريكية.

مثال آخر، هو الاهتمام الكبير بإبراز وجود أسلاف ذوي بشرة داكنة، سواء كانوا عبيداً، أو شبه أحرار أو غيرهم من الأسلاف من الأراضي البعيدة، بين المتحمسين للأنساب. تم إثارة الاهتمام بشكله الجديد من خلال مسلسل تلفزيوني في أربع حلقات في يناير 2005، والذي أصبح فيما بعد كتاباً للصحفي أليكس فرانك لارسن بعنوان The Slave Family.

والنتيجة المدهشة هي أن نسبة كبيرة بشكل مذهل من الدنماركيين اليوم لديهم أسلاف سود، وربما عبيد منذ بعض الأجيال. من ناحية أخرى، غالباً ما يتم التغاضي عن أن العديد من القصور التي تعود للقرن الثامن عشر في العاصمة كوبنهاغن وحولها قد تم بناؤها ـ جزئياً ـ من دخل تجارة السكر والعبيد. الدخل من العبيد يغطي نفسه، بينما يأتي السكر من قصب السكر الذي كان يزرعه العبيد الأفارقة في جزر الهند الغربية الدنماركية.

لا تنتمي هذه "الصلة السوداء" إلى رواية الدولة الصغيرة المسالمة للتاريخ الدنماركي. من ناحية أخرى، يفخر الدنماركيون عادة بحقيقة أن سكان الإسكيمو الأصليين في جرينلاند، الإنويت، يختلطون اليوم بالمهاجرين الدنماركيين. تتأثر غرينلاند الحديثة بعمق بالثقافة الدنماركية، من عادات الأكل - الصلصة البنية والسندويشات المفتوحة - إلى المسيحية والثقافة السياسية التي تكون تقريبًا أكثر جروندتفيج من الدنمارك نفسها، فضلاً عن دولة الرفاهية ذات عقلية الرفاهية المرتبطة بها.

لا تبدو الدنمارك الرسمية أيضًا قلقة للغاية في تعاملها مع الماضي الاستعماري ولم ترغب حتى الآن في الاعتذار عن العبودية وتجارة الرقيق، كما فعلت القوى الاستعمارية الكبرى مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، وفرنسا جزئيًا. كما أنهم لم يرغبوا في تلبية مطالب سكان جزر فيرجن الأمريكية، للاعتراف بالمسؤولية عن خطايا الماضي.

بطريقة ما، تلعب الدنمارك على حصانين وتحافظ على براءة الدولة الصغيرة من وقت ما بعد عام 1864 فيما يتعلق بتاريخ الدولة الأكبر، والذي يتضمن المستعمرات، ولكن في نفس الوقت في المجتمع يبدو أنه يقترن بعبادة الحنين إلى الماضي. المستعمرات والمناطق التابعة الأخرى من الوقت السابق. أصبحت هذه البراءة واضحة بشكل خاص عندما بدأت الدنمارك في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي سياسة التنمية للعالم الثالث، والتي ستصبح في النهاية سياسة تنمية حقيقية.

لم يكن للدنمارك مصالح استعمارية مباشرة في البلدان النامية، باستثناء جرينلاند، التي اكتسبت منذ عام 1953 مكانة كجزء من الدنمارك، وبالتالي أصبحت جزءًا من السياسة الإقليمية الدنماركية. لكن اللافت للنظر، أن أول دولتين أجنبيتين اختارتهما الدنمارك كهدف لسياستها التنموية كانتا هما غانا والهند اللتان كانتا تؤويان المستعمرات الدنماركية، وإن كانت صغيرة جداً.
ربما يكون من الصعب حالياً العودة إلى البلدان التي كان فيها المرء سيداً استعمارياً، ولم تتم إدانة الدنمارك على ماضيها الاستعماري، بل على العكس من ذلك، تم الإشادة في عام 1961 بأن الدنمارك كانت رائدة في إلغاء تجارة الرقيق دون أن نتذكر أنها كانت تجارة الرقيق فقط، وليست العبودية نفسها، التي ألغيت في عام 1792 - بعد 10 سنوات فقط.

الدولة الصغيرة والشعور القومي
إن إيديولوجية وسرد الدولة الدنماركية الصغيرة، التي هي أساس التعامل الذي يبدو خالياً من الهموم مع الماضي الاستعماري، لم يتم صياغتها بشكل أوضح في أي مكان أكثر من أغنية كتبها الشاعر النرويجي كريستين برام من كوبنهاغن في عام 1820 إلى جزر الهند الغربية الدنماركية. أخيراً، نجح أصدقائه في تأمين مصدر رزق ثابت للشاعر الفقير كضابط جمارك في الجزر الثرية. ومع ذلك، توفي برام بالفعل في العام التالي ولم يتلق أي فائدة من المكتب.

لكن أغنية Grundtvig بقيا خالدة منذ ذلك الحين.
تأثر الشاعر الكاهن بشدة باستسلام النرويج عام 1814، حيث صاغ روح الخسارة وإرادة البقاء التي سادت في الحالة المتبقية بدون الجبال النرويجية، بالمواد الخام على شكل خشب، وحديد، ونحاس، وفضة.
 لم تكن الدنمارك بعد الدولة القومية المتجانسة التي كانت ستصبح عليها، ولم تكن المستعمرات قد بيعت بعد. لكن كلمات جروندفيج كانت ستصبح نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها من خلال الهزيمة في عام 1864 وبناء دولة الرفاهية العالمية في القرن العشرين - وهو ما كان سيعارضه جروندفيج
. في أغنيته العرضية صاغ Grundtvig الفهم الذاتي الدنماركي الحديث بطريقة مثالية. فهم الذات الذي أثبت منذ ذلك الحين أنه أحد أكثر المفاهيم رسوخًا على الإطلاق، والذي غالباً ما يتم الاستشهاد به في المناسبات الرسمية والخاصة حتى يومنا هذا. وهكذا تبدأ قصيدة Grundtvig في الطبعة المقدسة (والمختصرة) من كتاب الأغاني في المدرسة الشعبية العليا:

"الجبال أكثر اتساعاً على الأرض، مما يبدو عليه الجبل الواحد فقط، ولكن بكل سرور مع تلك السهول الخضراء في الشمال نشكر الدانمركيين، نحن لسنا مخلوقين للمرتفعات والرياح، كنا من الأرض لنبقى، إنها تخدمنا بشكل أفضل"
وفقًا لكتاب الأغاني نفسه، ينتهي الأمر بارتفاعات الهضبة التي أصبحت في نفس الوقت شعار دولة الرفاهية:
"الكثير من الخام الأبيض جداً والأحمر جعل الآخرين في الجبال، وبالمقابل مع الدانماركيين فإن الخبز اليومي، حيث لا يوجد أقل من ذلك في كوخ الرجل الفقير، ثم في الثروة دفعناها بعيداً، عندما يكون لدى القليل منهم الكثير، والقليل منهم يملك القليل جداً"
هنا، يتم تقديم برنامج Grundtvig بأكمله حول العلاقة بين الطبيعة واللغة والتاريخ. في جميع المجالات الثلاثة، يتم تحقيق "نحن الدنماركيين" بأعلى درجة، إذا اتخذت المقياس الصحيح - أي لنا. إنه شعور وطني يقترب من القومية، بغض النظر عن مدى ديمقراطية الفضائل، فالدنماركيين في الأغنية يمدحون أنفسهم لأنهم أدركوا ذاتهم أفضل من الآخرين.

وقد ارتبط هذا الشعور بالارتياح الذاتي - من خلال حركة الفلاحين السياسية والثقافية، Grundtvigianism - العمود الفقري للسكان وأصبح عنصراً أساسياً في الفهم الذاتي الدنماركي الخاص. يمكن للمرء أيضاً أن يقول إنها شكل من أشكال القومية التي تتجلى من خلال رفض مصطلح القومية.
يعتبر الدنماركيين أن القومية شيء قبيح، إنهم قوميون، وضمنياً، استعماريون أيضاً، بينما الدنماركيون ذوو عقلية وطنية. هذا النقص في الاعتراف بقومية المرء يمكن أن يكون له عواقب عديدة. في هذا السياق، من المهم بشكل خاص أن يقف في طريق فهم أن هذه الدنمارك الصغيرة كانت ذات يوم كبيرة، بما في ذلك المستعمرات وتجارة الرقيق.

أيسلندا والنرويج والدنمارك
ومع ذلك، فإن الشعور القومي وحركات الاستقلال غالباً ما تسير جنباً إلى جنب، وهو ما شعرت به أيضاً الدولة الدنماركية المركبة حتى بعد خسارة النرويج، وأنشأت الدوقات دولة صغيرة تزرع داخلياً تقاليدها الوطنية الخاصة.
الجزء الأول من الإمبراطورية المتبقية، نالت أيسلندا استقلالها عام 1918 بعد صراع طويل في القرن التاسع عشر. كان تسليط الضوء على هذه العملية هو إنشاء جامعة منفصلة في ريكيافيك في عام 1911، هاسكولي أولاندز.
بعد عام 1918، استمرت أيسلندا والدنمارك في اتحاد أفراد مع ملك مشترك وسياسة خارجية حتى عام 1944، عندما صوت الآيسلنديون بأغلبية ساحقة لصالح إنشاء جمهورية. حدث هذا خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الدنمارك تحت الاحتلال الألماني، ولكن بما يتفق تماماً مع معاهدة عام 1918.
أدى الاستقلال، وخاصة التسليم الطوعي تقريباً للمخطوطات الآيسلندية الأصلية من الدنمارك في الستينيات، جنباً إلى جنب مع النجاح الاقتصادي الآيسلندي، إلى حالة من المساواة والاسترخاء بين الشعبين. كان من الممكن أن تكون قصة نجاح عملية إنهاء الاستعمار، إذا كانت هناك عملية.
سيتطلب الأمر ببساطة أن أيسلندا كانت مستعمرة، لكنها لم تكن البلد على الإطلاق، على الرغم من أنه في بعض الأحيان يمكن للمرء أن يأخذ انطباعاً عن كتابات الدعاية الأيسلندية القديمة التي يميل المرء إلى وصف مواقفها بأنها مناهضة للاستعمار دون استعمار فعلي. ليس لأن الدنماركيين كانوا أفضل من القوى الاستعمارية الأخرى، ولكن لأن الدولة كانت ضعيفة للغاية والمسافات كبيرة جداً.

نفس العلاقة السعيدة مع جزء سابق من المملكة تنطبق أكثر على العلاقة مع النرويج.
 اليوم، حيث أصبحت النرويج أغنى دولة في منطقة الشمال بسبب النفط وفي غضون سنوات قليلة سيكون عدد سكانها أكبر من الدنمارك، من الصعب تخيل شعور النرويج بالدونية تجاه الدنمارك. ولكن كان هذا هو الحال حتى الستينيات، على الرغم من أنه تم التعبير عنها غالباً في شكل قومية نرويجية متقلبة أحياناً، والتي قد تضطر إلى تغطية عقدة النقص فيما يتعلق بالسويديين الناجحين اقتصادياً والقوة الاستعمارية الدنماركية القديمة مع احتكار الثقافة الجيدة المشتركة - وكذلك أفضل الطعام والبيرة.
في عام 1814، أصبحت النرويج مستقلة، وإن كانت في اتحاد مع السويد حتى عام 1905، هو الانقطاع الحاسم في تاريخ الشمال الحديث. في ضوء الإدراك المتأخر، يجب على المرء أن يعترف بأنه كان سعيداً إلى حد كبير بفصل الدنمارك والنرويج عن بعضهما البعض بطريقة تكاد تكون غير دموية، دون أن يكون هناك أي صراع بين الشعبين. لم تصبح النرويج مستقلة تماماً بموجب اتفاقية السلام في عام 1814، لكنها أصبحت كذلك على المدى الطويل بعد أكثر من تسعين عاماً من الاتحاد القسري مع السويد.
كانت حقيقة أن النضال النرويجي من أجل التحرر السياسي موجهاً ضد السويد، بينما حدث التحرر الثقافي من الدنمارك بطريقة أكثر هدوءًا طوال القرن التاسع عشر، وكان من حظ جميع الأطراف. إذا كان كل من هذين التحريرين والاستقلال الاقتصادي الموازي قد حدثا في إطار الدولة الدنماركية المتعددة الجنسيات بأكملها، فمن السهل تخيل المرارة التي كان يمكن أن يتركها النضال اليوم. ربما كانت النتيجة هي نفسها، لكن مع عداوة أو حتى كراهية بين الشعوب.
لم يكن هذا هو الحال، على العكس من ذلك، فمنذ 1814 في الدنمارك تلاشت في ضوء الهزيمة في عام 1864 إلى حد أن النرويج قد كتبت منذ فترة طويلة من التاريخ الوطني الدنماركي. حدث انحراف ولاية أولدنبورغ المركبة من القوة الأوروبية المتوسطة الحجم إلى الدولة الصغيرة العاجزة في عام 1814، على الرغم من أن الانحدار لم يتم حسمه نهائيًا حتى عام 1864.
بعد عام 1814، كان وزن السكان الناطقين بالألمانية في الدوقيات أكبر بكثير في الإمبراطورية المتبقية، والتي لم تعد أيضاً قادرة على الوصول إلى عائدات الضرائب من الدولة الغنية، تماماً كما بلغت المصاعب الاقتصادية للحرب ذروتها بإفلاس الدولة في عام 1813 والتي كانت مع ذلك، لا تزال متعددة اللغات بفضل شليسفيغ وهولشتاين وجزر شمال المحيط الأطلسي ومنطقة البحر الكاريبي.


38
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


قراءات نقدية لكتاب "وتحملني حيرتي وظنوني.. سيرة التكوين" للمفكر المغربي سعيد بنكراد


نظمت مجلة رباط الكتاب بالتعاون مع مركز تواصل الثقافات في العاصمة المغربية الرباط صباح يوم السبت 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 جلسة علمية حول كتاب" وتحملني حيرتي وظنوني" للمفكر المغربي "سعيد بنكراد" الذي صدر مؤخراً عن المركز الثقافي للكتاب.
شارك في قراءة الكتاب عدد من كبار النقّاد والباحثين والمفكرين المغاربة، وهم محمد الداهي، عبد السلام بنعبد العالي، وعبد الأحد السبتي، ومحمد الوالي، والطيب بلغازي، وجعفر عاقل، وعبد الحي المودن. وأدار الندوة احمد بوحسن.
كان من حسنات هذا اللقاء وفضائله ـ كما أشار الناقد محمد الداهي ـ انه جمع تخصصات متنوعة (الفلسفة، والسيميائيات، والتاريخ، والعلوم السياسية، والصحافة، والدراسات الثقافية، والبلاغة الجديدة) لتحليل السيرة الذاتية الفكرية لسعيد بنكراد من زوايا ومنظورات متعددة وبطريقة ممتدة او عرضانية"
اجتهد الدكتور "سعيد بنكراد" في كتابه الجديد الذي يتضمن ما يشبه سيرته الفكرية، في الإجابة على سؤال السيرة العلمية والفكرية المقتضبة والمختصرة. وجد نفسه يغوص في خلفياته الفلسفية والفكرية والابستمولوجية والأيديولوجية السياسية، من حيث لم يكن مخططاً لذلك بصورة مسبقة.
يمثل الكتاب حالة من البوح الفكري وليس الشخصي، حيث يعتمد المحطات الفكرية التي تشكل الخبرة الثقافية للكاتب الذي يدرجها ضمن السياق الإنساني.
من الجدير بالذكر أن مجلة رباط الكتاب ستتكفل مجلة بنشر مداخلات المشاركين على موقعها قريبا.





39
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك



اليسار كسب المثقفين - وخسر الفقراء

درسَ الاقتصادي الفرنسي "توماس بيكيتي" Thomas Pikettyاستطلاعات الرأي التي أجريت بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية والانتخابات البرلمانية البريطانية والانتخابات الرئاسية الفرنسية من عام 1945 إلى عام 2017. ويقدم في وثيقة بحثية جديدة شاملة تفسيرات مقنعة ومدهشة للتحولات السياسية الدراماتيكية في الانتخابات الأخيرة في الغرب.
في هذه المرحلة، أصحاب التعليم العالي، الذين غالبًا ما يكونون من ذوي الدخل المرتفع نسبياً، يصوتون بشكل أساسي للأحزاب اليسارية، بينما يصوت الأقل تعليماً والأكثر ثراءً للأحزاب اليمينية، كما يقول توماس "بيكيتي" في تقريره البحثي الجديد.
الاقتصادية الدنماركية "لوت فولك كارشولم" Lotte Folke Kaarsholm ناقشت وجهات نظر الاقتصادي الفرنسي. فيما يلي أربع نتائج رئيسية من تحليل بيكيتي:

أولاً ـ نظام فئة جديد
نتخيل أن الجناح الأيسر يمثل الفقراء، والجناح الأيمن يمثل الأغنياء. على أية حال، إن فكرة اليسار القوية هي أن اليسار يدافع عن الفقراء، بينما يدافع اليمين عن الأغنياء. لقد شكلت هذه المقولات مفاهيمنا، وشكلتنا كمواطنين وأعطتنا نظرة عالمية من التعاطف والكراهية. كثير منهم ليسوا سياسيين فحسب، بل يساريون وجوديون أيضاً، لأنهم يعتقدون أن اليسار يمثل الصغير في العالم ضد الكبير. وهكذا كان الأمر كذلك في الواقع - على الأقل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا.
لكن وفقًا للاقتصادي الفرنسي "توماس بيكيتي" لم يعد هذا هو الحال. هذا استنتاج مهم في تقريره البحثي الجديد The Brahmin-left vs The Merchant-right الذي نُشر في أواخر مارس/آذار الماضي. يشير إلى أن أصحاب التعليم العالي، الذين غالباً ما يكونون من ذوي الدخل المرتفع نسبياً، يصوتون بشكل أساسي للأحزاب اليسارية، بينما يفضل الأقل تعليماً والأكثر ثراءً التصويت للأحزاب اليمينية.

يعرّف "بيكيتي" الجناح الأيسر بأنه المجموعة الكلية للأحزاب على يسار الوسط والجناح الأيمن على أنها المجموعة الكلية للأحزاب. وهذا وفقًا لبيكيتي، هو تغيير جذري حدث على مدار أكثر من نصف قرن.
في الخمسينيات من القرن الماضي، صوتت الغالبية العظمى من المتعلمين تعليماً عالياً - وكان عددهم أقل بكثير في ذلك الوقت - لصالح الأحزاب اليمينية. أولئك الذين في النظام الطبقي، قساوسة، ومثقفين، كانوا في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية متحالفين سياسياً مع التجار.
تجمعت الطبقات العليا معاً على اليمين، وتأسس الجناح اليساري في الطبقة العاملة.
 لكن في القرن الحادي والعشرين، حصل اليسار في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة على ما يقرب من ضعف الأصوات بين ذوي التعليم العالي مثل اليمين. وبالتالي، فإن الصراع السياسي بين اليمين واليسار لا يزال صراعاً بين الفئات الاجتماعية. ليس فقط بين العمال والرأسماليين، ولكن بين النخبة التعليمية والنخبة الر سمية.
كتب بيكيتي: "الاستنتاج العام واضح، لقد انتقلنا تدريجياً من نظام حزبي قائم على الطبقة إلى ما أقترح أن نسميه نظام حزبي متعدد النخب".
وهذا وفقاً لبيكيتي، كان له عواقب سياسية وخيمة: "أعتقد أن هذا يمكن أن يسهم في تفسير تزايد عدم المساواة وعدم وجود استجابة ديمقراطية لها واختراق الشعبوية".
كان للأحزاب اليسارية الحاكمة، الديمقراطيين في الولايات المتحدة، والاشتراكيين في فرنسا، وإلى حد ما حزب العمال في بريطانيا، مصالح أخرى غير محاربة عدم المساواة الاقتصادية لأنها تمثل فئات أخرى.
وفقًا لبيكيتي، يمكن تفسير نجاح ما يسمى بالأحزاب الشعبوية جزئياً من خلال حقيقة أن الناخبين الذين ليس لديهم تعليم عالٍ ولا دخل عالٍ، كانوا بلا مأوى سياسياً ويحتجون الآن على ما يسميه النخبة التعليمية والطبقة العليا الاقتصادية.
الوضع الراهن اليوم، هو أن اليسار الحاكم يمثل القوة في نظام التعليم وقطاعات المعرفة، بينما يمثل اليمين الحاكم الأقوياء أصحاب الثروات الكبيرة. وأن الشعبويين يدّعون أنهم يقاتلون ضد كليهما، ويطلقون عليهما مجتمعين "النخبة".

ثانياً ـ الثروة من الناحية السياسية أهم من الدخل:
كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 ـ وفقًا لبيكيتي ـ أول انتخابات بعد الحرب في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، حيث حصل اليسار على أكبر عدد من الأصوات من بين 10% من أصحاب الدخول الأعلى. أولئك الذين يكسبون أكثر ما زالوا يصوتون بشكل أساسي للمحافظين في إنجلترا، ولكن في الانتخابات الرئاسية في فرنسا عام 2017، اجتذب اليساريون عددًا أكبر من الناخبين من ذوي الدخل المرتفع مقارنة باليمين، ووضعت الانتخابات بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب الاتجاه في الصدارة:
"هذه هي الأخبار الحقيقية لانتخابات عام 2016: أصبح الناخبون على المدى الطويل ديمقراطيين بالفعل في العديد من الانتخابات في الماضي، ولكن للمرة الأولى، أصبح الناخبون ذوو الدخل المرتفع ديمقراطيين أيضًا."
كان اختياراً غير مألوف لأن دونالد ترامب كان مرشحاً استثنائيًا، لكن النتيجة تؤكد وجود اتجاه عام. هناك جيل جديد من الليبراليين من أفضل الجامعات في الولايات المتحدة الذين لديهم وظائف في صناعات التكنولوجيا الجديدة، وفي وسائل الإعلام، وفي صناعة الثقافة ومجتمع الأعمال الحضري، الذين يكسبون الكثير من المال، ولكنهم يصوتون بشكل ديمقراطي. إنهم تقدميون ثقافياً، لكن مصلحتهم الاقتصادية ليست إعادة توزيع كبيرة وضرائب مرتفعة.
لا يبدو من قبيل الصدفة أن نجوم السينما وصناعة الترفيه دعموا الديمقراطيين، وأن نجوم البوب مثل ـ بيونسيه وجنيفر لوبيز ـ اصطفوا وغنوا لهيلاري كلينتون في تجمعاتها الانتخابية. إنها أيضاً نوع من سياسة الاهتمام.
لكن هذا لا يعني أن الأغنياء أصبحوا من ذوي الميول اليسارية في الولايات المتحدة. يوضح "بيكيتي" كيف صوت أصحاب الثروات الأكبر للجمهوريين.
وبالتالي فإن الازدهار هو أكثر حسما بالنسبة لسلوك الناخبين من الدخل. هذه الحقيقة البسيطة، على حد علمي، لم يتم إثباتها من خلال بحث سابق.
يتعلق هذا الاكتشاف ببحوث بيكيتي في عدم المساواة الاقتصادية. ربما كانت أهم نظرة ثاقبة حول تحفته "رأس المال" في القرن الحادي والعشرين، هي أن عدم المساواة الاقتصادية في الغرب يمكن تفسيرها كنتيجة لحقيقة أنه يمكن للمرء الآن جني أموال من الأموال، أكثر من جنيها بسبب امتلاكه العمل.


في المجتمعات ذات النمو الاقتصادي المنخفض نسبياً، كما كانت المجتمعات الغربية بشكل عام منذ عام 1975، سيكون العائد على الثروة أعلى من الدخل على العمالة.
ومن ثم فإن أولئك الذين لديهم ثروة سيكونون أغنى من أولئك الذين ليس لديهم ثروة. إنه لا يؤدي إلى عدم المساواة فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى عدم العدالة، وهو ما لا يعكس مدى مهارتك أو مقدار عملك، بل بالأحرى مقدار المال الذي لديك. إنه قطيعة دراماتيكية مع مفهومنا الكامل للعدالة.
وهكذا نشهد معركة بين ما يسميه "بيكيتي" نخبتين، ولكن أيهما يمكن أن يسميهما أيضاً طبقتان رفيعتان، حيث تتمتع إحدى الطبقات العليا بتعليم طويل ودخل مرتفع، بينما تتمتع الأخرى بدخل مرتفع وثروات كبيرة.

ثالثاًـ تصويت الأقليات
هكذا أقمنا صراعين يحددان التناقضات السياسية في فرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة: الاقتصاد والتعليم. لكن الصراع الثالث الذي هيمن على السياسة خلال الخمسين عاماً الماضية هو الهجرة وحقوق الأقليات.
هنا، الاتجاه واضح بشكل كبير في البلدان الثلاثة: الأقليات العرقية تصوت بشكل شبه حصري لليسار، في حين أن جميع الناخبين تقريباً مقتنعون بأن اليمين هو الأفضل في إغلاق الحدود والحد من الهجرة. من بين الناخبين السود في الولايات المتحدة الذين يشكلون حوالي 5٪ من الأصوات، صوت ما بين 80٪ و95٪ من عام 1964 حتى عام 2017 لصالح الديمقراطيين.
وينطبق الشيء نفسه على ما بين 55% و70% ممن يسمون باللاتينيين، الذين يشكلون ما يصل إلى 20% من الأصوات. في انتخابات رئاسية واحدة على مدى السنوات الخمسين الماضية، لم يكن للحزب الديمقراطي أغلبية بين الناخبين البيض.
المسلمون في فرنسا، الذين يشكلون الآن أيضاً 5% من الأصوات، وفي بريطانيا حيث يمثلون نفس النسبة تقريباً، يصوتون أيضاً بأغلبية كبيرة جداً للأحزاب اليسارية.
للتفسير، صرح بيكيتي أنه بالنسبة لكل من السود في الولايات المتحدة والمسلمين في بريطانيا وفرنسا، فإن وجهة النظر الراسخة هي أن "الجناح اليميني" يعارض بشكل عام السود والمسلمين والهجرة.
يتذكر بيكيتي أن الديمقراطيين في الولايات المتحدة فقدوا العديد من أصوات العمال البيض في الستينيات عندما نفذوا إصلاحات ضمنت حقوق السود. اعتبر الكثيرون الانتصارات التقدمية العظيمة بمثابة هزيمة للتضامن.
يعتقد العديد من الناخبين البيض أن السود حصلوا على حقوق ورعاية عامة على حساب أنفسهم، حيث التنوع العرقي والصراعات العرقية جعلت الأمر أكثر تعقيدًا للحفاظ على التحالف بين البيض الفقراء والفقراء السود
الفقراء الذين يجب أن تكون لهم نفس المصالح في التحليل الاقتصادي، انقسموا وأصبحوا أكثر أو أقل منذ ذلك الحين. وبما أن الديمقراطيين يمثلون الأقليات والمتعلمين تعليماً عالياً، فقد نُظر إليهم على أنهم معلمون تعليميون من الطبقة العليا يتمتعون بصواب سياسي ولم يقلقوا من تعرض الفقراء البيض لضغوط المواطنين الجدد. وهكذا أضافت الهجرة وقضية الأقليات العرقية خطاً من الصراع في السياسة، مما أضعف نظام الحزب الطبقي.
طوال السبعينيات أصبح إغلاق الحدود ووقف الهجرة، جدول أعمال مهماً للبيض ذوي الدخل المنخفض، في حين كانت الأحزاب اليسارية الحاكمة مهتمة بتأمين حقوق المهاجرين والحصول على مزايا الرعاية الاجتماعية.
اعتقد أكثر من 70% من الناخبين في المملكة المتحدة في أواخر السبعينيات أنه من المهم وقف الهجرة، وكان أكثر من 90% من الناخبين مقتنعين بأن اليمين هو الأفضل في معالجة هذه المهمة. هذا الأمر يقود إلى إدراك، حيث يبدو مثيراً للاهتمام، خاصة لأن انتصارات تاتشر - ريغان ترتبط عادةً باختراق الليبرالية الجديدة، من الممكن أن يكون للعرق الديني دور أكبر مما كنا نفترضه حتى الآن.
لقد اعتقدنا أن هيمنة الجناح اليميني في الثمانينيات كانت بسبب سياساتهم الاقتصادية. لكن بيكيتي يشير إلى أن قضية الهجرة قد تكون حاسمة حتى في ذلك الوقت. مع إعادة صياغة بسيطة: "إنه ليس الاقتصاد يا غبي"، إنها السياسة الخارجية.

رابعاً ـ أين يترك الجناح الأيسر؟
نقطة انطلاق بيكيتي يسارية. طريقته صادقة، وتحليلاته قائمة على أسس علمية، ويتحدى استنتاجاته الفرعية. وبالتالي فهو يعمل وفقاً لما يسمى "مبدأ التزييف". لكن صياغته لمشكلته يسارية: فهو يحلل سياسياً على أساس أن عدم المساواة مشكلة تحتاج إلى حل. وهو غير معني بما يعنيه فقدان الأصوات المتعلمة لليمين، لكنه يتعامل بعمق مع ما يعنيه فقدان الدخل المنخفض بالنسبة للجناح اليساري.
كان النظام الحزبي الطبقي الذي ظهر في منتصف القرن العشرين بسبب ظروف تاريخية محددة، وثبت أنه هش مع تغير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية. فبدون برنامج دولي قوي قائم على المساواة، يكون من الصعب بطبيعته على الناخبين ذوي التعليم المنخفض وذوي الدخل المنخفض داخل نفس الحزب.
السيناريو غير السار بالنسبة للجناح اليساري هو أن المعارضة بين اليسار واليمين تتحول إلى صراع بين "العولمة" و "الوطنيين". أي بين أولئك الذين يريدون حقوقاً متساوية للجميع بغض النظر عن العرق والأصل، وهم من أنصار النظام العالمي الليبرالي وحقوق الإنسان والتجارة الحرة - وأولئك الذين يريدون حدودًا مغلقة، ويطالبون بمواجهة حقوق الإنسان، ويضعون الدفاع عن المواطنين فوق الالتزام تجاه الآخرين وسوف يتحدّون ويواجهون مبدأ الحقوق المتساوية للجميع.
على الأقل هذا سيناريو ساعد دونالد ترامب في استفزازه. لكن الميل للاختيار بين التضامن مع المهاجرين واللاجئين والتضامن مع ذوي الدخل المنخفض ملحوظ بالفعل في معظم البلدان الغربية، ويبدو أن المعارضة بين النظام الليبرالي في العالم والعدالة الاجتماعية راسخة بالفعل من الناحية السياسية. لكن هذا سيناريو غير مؤكد. يمكن للمرء أيضاً أن يتخيل أن انتخاب دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون ونجاح جيريمي كوربين في بريطانيا أدى إلى فتح مساحة سياسية من الفرص حيث يمكن تشكيل تحالفات جديدة.
يفترض تحليل بيكيتي أن الناخبين يصوتون وفقاً لتصوراتهم الخاصة لمصالحهم الشخصية، ولكن دولة الرفاهية تأسست ـ على سبيل المثال ـ لأن أصحاب أعلى الدخول والتعليم الأطول أدركوا أن العدالة الاجتماعية كانت أيضًا لمصلحتهم.

أخيراً، من الحقائق أن التحالف القديم لم يكن حالة سياسية مثالية ـ على سبيل المثال ـ للنساء اللائي شهدن تقدماً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً في الفترة التي أعقبت تفكك النظام الطبقي القديم.
لطالما كانت فكرة أن اليسار يمثل الصغار والفقراء والمضطهدين في العالم مطلباً لإعادة التفكير في من هم الصغار وكيف يمكن للكبار أن يخافوا منهم إذا لم يمنحهم المساواة والحرية. لقد أصبح الأمر مختلفاً تماماً عن حقيقة أن السؤال الآن لا يُطرح على مستوى العالم فحسب، بل يجب الإجابة عليه أيضاً مع العالم بأسره.




40
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك



التماس الثقافي ـ الثقافي في الدنمارك

تركزت المناقشات العامة، والمبادرات التشريعية في الدنمارك، بشكل متزايد على القضايا الناشئة عن الاختلافات بين الثقافة الدنماركية وثقافة المهاجرين غير الغربيين ـ غالباً هم المسلمين ـ الذين جلبوا أو حافظوا على المواقف والقيم والتوجهات الحياتية لبلدانهم الاصلية، أي ما يسمى التماس الثقافي. حيث ركزت المناقشات بشكل أساسي على ثلاث مجالات فرعية، وهي اللغة، والتعليم، والدين.

احتكاك لغوي
جلب المهاجرون عدداً كبيراً من اللغات الأجنبية إلى الدنمارك. من بين الأكثر شيوعًا اللغة الصربية، الكرواتية، والتركية، والأردية، والفيتنامية، والعربية، والصومالية. يتعلم معظم الناس اللغة الدنماركية تدريجياً، لكن في نفس الوقت يلتزمون ويواصلون التحدث باللغة الأصلية.
 على سبيل المثال عن طريق أنماط المعيشة والسكن المركز، والتقاليد العائلية، والجمعيات العرقية المختلفة، والمدارس الدينية الخاصة، ووسائل الاتصال الإلكترونية، والسفر بشكل أو بآخر إلى بلد المنشأ.
لذلك من غير المعروف مدى سرعة ومدى اندماج المهاجرين اليوم، الذين يشار إليهم في هذا السياق غالبًا باسم "ثنائيي اللغة" من الناحية اللغوية، أي اعتبار اللغة الدنماركية لغتهم الأولى واستخدام اللغة الدنماركية كلغة اتصال يومية، بما في ذلك في سياقات الأسرة.
في الوقت الحاضر، الوضع السائد هو أن اللغة الأولى في المنزل هي اللغة العرقية للأقليات العرقية، أي لغتهم الأم، ولا تبدأ التنشئة الاجتماعية الحقيقية في الدنماركية للعديد من الأطفال حتى يوم بدئهم في الحضانة أو المدرسة.
يبرز السؤال من خلال حقيقة أنه لا يزال من غير الشائع بالنسبة لأطفال المهاجرين والأحفاد أن يبدأ الأطفال الدنماركيون في مؤسسات الرعاية النهارية في سن مبكرة. وبالمثل، لا يزال هناك العديد من أطفال الأقليات الذين يختار آباؤهم تسجيلهم في مدارس مجانية دينية، حيث تكون اللغة العربية ـ أو لغة أخرى لعرقية أخرى ـ هي اللغة الأولى في معظم الحالات. ومع ذلك، في كلا المجالين، يمكن تسجيل نمط حديث بين أولياء الأمور من الأقليات.
إنهم يتخذون بشكل متزايد نفس الخيارات المؤسسية والمدرسية مثل الآباء الدنماركيين. ومع ذلك، يتم تعزيز عدد من القضايا التربوية العامة في عملية التعليم والتنشئة الاجتماعية، بما في ذلك تعليم التمايز، والهوية الثقافية، وأهمية تعليم اللغة الأم، والدور العام للمدرسة في اندماج الأقليات، والعدد المتزايد لأطفال الأقليات ثنائية اللغة وثقافيًا.

سياقات طلابية غير متجانسة
 تتفاقم المشاكل بسبب الميل إلى أن تكون هناك مدارس في المناطق السكنية والمناطق الحضرية ذات الاستيطان العرقي المركّز، حيث يأتي غالبية الطلاب من عائلات مهاجرة بدون ثقل لغوي وثقافي يمكن مقارنته بأطفال الآباء الدنماركيين. والنتيجة هي في مناطق معينة، مثل Vollsmose in Odense أو Gjellerup في آرهوس، أن يسحب الآباء الدنماركيون أطفالهم من هذه المدارس، مما يعزز الميول نحو نظام التعليم الابتدائي والإعدادي المنفصل.
تم استخدام العديد من المبادرات السياسية والمناقشات والموارد في السنوات الأخيرة لإيجاد حلول لهذه المشكلة، وبالتالي كسر الإرث الاجتماعي السلبي الناتج الذي يهدد بالتأثير على الفرص التعليمية والوظيفية لأطفال الأقليات العرقية طوال الحياة.
 يتم تجربة حلول مختلفة في سياقات بلدية مختلفة. ليس من الواضح ما إذا كان هذا بسبب ذلك أم لا، ولكن في السنوات الأخيرة كان هناك اتجاه جديد بين أولياء الأمور من الأقليات، الذين يختارون بشكل متزايد وضع أطفالهم في المدارس مع غلبة الأطفال ذوي الأصول الدنماركية لتعزيز اندماجهم في نظام التعليم، ومن ثم فرصهم الوظيفية. حيث ظهرت فتيات الأقليات على وجه الخصوص كنماذج يحتذى بها في جميع أجزاء نظام التعليم، في حين أن أداء الأولاد أسوأ بكثير.

في عام 2018 أكمل 45% من الرجال المهاجرين في الدنمارك المنحدرين من أصول غير غربية، والذين تبلغ أعمارهم 30 عاماً، أكملوا التعليم المهني في سياق مؤهلات مهنية تتطلب أربع سنوات دراسية. فيما بلغت نسبة النساء لنفس الفئة 60%. وكانت النسب المقابلة لمن يبلغون من العمر ثلاثون عاماً من أصل عرقي دنماركي 72% للرجال و %79 للنساء.  بالنسبة للنساء المهاجرات، يعكس الرقم تحسنًا ملحوظًا، حيث كانت نسبة حصولهم على تأهيل مهني %44 في عام 2004.
على الرغم من ذلك، لا يزال النمط العام للتعليم الثانوي العالي والتعليم العالي هو أن عدد الشباب من المهاجرين الذين يتلقون هذه التعليم أقل بكثير من الشباب الدنماركي. وأن معدل التسرب بين شباب الأقليات ما زال أعلى.
 في عام 2018 كانت نسبة انخراط الشباب الذكور من المهاجرين غير الغربيين في التعليم، والذين تبلغ أعمارهم 22 عاماً 47%. وبلغت نسبة النساء 58 %من نفس المجموعة. في كلتا الحالتين تشكل النسب تقريبا اقل بحوالي 5% أقل من المستوى المخصص لمن يبلغون من العمر 22 عاماً من أصل عرقي دنماركي.
 ومع ذلك، فقد تقلصت الاختلافات خلال فترة خمسة عشر عاماً الماضية. وهناك أيضاً فرق واضح بين المهاجرين والأحفاد - فالأحفاد يكونون أفضل من المهاجرين الوافدين حديثاً. كما أن مشاركة كل من المهاجرين وأحفادهم موزعة بشكل غير متساوٍ في مجالات التعليم المختلفة مقارنةً بالإثنية الدنماركية. حيث يتم تمثيل الشباب من الأقليات بقوة، على سبيل المثال، في التعليم الصحي المهني والتقني، ولكن تمثيلهم أقل في العلوم الإنسانية والقانونية والاجتماعية، وهي حالة تُنسب عادةً إلى خلفياتهم الثقافية المختلفة.

العجز النسبي في الكفاءات في التعليم العام الدنماركي
بالنسبة لجميع الفئات العمرية من 16 إلى 30 عاماً هناك عدد أكبر من الأشخاص من أصل دنماركي الذين هم إما في التعليم أو في العمل مقارنة بالمهاجرين والأحفاد غير الغربيين.
 سواء بين الرجال أو النساء يوجد 82% من الأعراق الدنماركية إما موظفون أو في التعليم. الأمر نفسه ينطبق على تقريبا 64% من المهاجرين غير الغربيين و76 %من المنحدرين الغربيين. وبالتالي، فإن المنحدرين من أصل غربي ـ وخاصة النساء بنسبة 78% يقتربون من مستوى العرق الدنماركي، بينما يتخلف المهاجرون غير الغربيين كثيراً.

تعدد الأديان
تعني الهجرة من الدول غير الغربية أيضاً، أن الدنمارك اليوم يجب أن توصف بأنها مجتمع متعدد الأديان. والقضايا المتعلقة بالدين، والاعتراف بمعتقدات دينية مختلفة عن المسيحية، وإمكانيات التعايش بين الأديان المختلفة، ودور الأديان في التنشئة وفي الفضاء العام، حيث أصبح التركيز على الدين بشكل متزايد في كل من المناقشات السياسية والشعبية. كما أثارت النقاشات مسألة الدور الرسمي للكنيسة الوطنية الدنماركية والفصل بين الدولة والكنيسة.
ومع ذلك، ركزت الغالبية العظمى من المناقشات العامة ـ السياسية والإعلامية ـ على المسلمين والإسلام. لأن الإسلام لديه أتباع أكثر بكثير من ديانات الأقليات الأخرى (يقدر أن هناك أكثر من 300.000 مسلم في الدنمارك (2020)).
 ولأن الإسلام لا يعترف بالمبادئ المتعلقة بالقوانين والأحكام المدنية، ولا يهتم بالفصل بين القضايا الدينية والاجتماعية والقانونية والسياسية، ولأن المنظمات الإسلامية غالباً ما تركت بصماتها في الأماكن العامة، ولأن الإسلام قد صوّر من قبل الكثيرين منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001 على أنه أيديولوجية متطرفة وأصولية وإرهابية محتملة بطبيعتها، تحتوي على بذور الصراع الاجتماعي والسياسي، ولا يتوافق مع المجتمعات الغربية الديمقراطية.

بشكل عام، أدى ذلك إلى نقاشات في المجتمع الدنماركي، غالباً ما تكون عاطفية للغاية، حيث شعر المسلمون في كثير من الأحيان أنهم تعرضوا للكراهية (كما في حالة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة عن النبي محمد "صلعم" التي نشرتها صحيفة جيلاند بوستن المعروفة في سبتمبر/أيلول عام 2005).
 ولذلك لم يدرك الجمهور الدنماركي بشكل كافٍ الاختلافات في الدين والعبادات والممارسة الموجودة بين المسلمين - ليس أقلها المتغيرات المختلفة لما يسمى بالإسلام الأوروبي، والذي يقوم على فكرة أن الإسلام مثل الأديان الأخرى، ديناميكي ومتغير، الأمر الذي يمكنه من أن يتكيف مع معايير المجتمعات الأوروبية، ويؤثر بشكل إيجابي على تنوعها الثقافي.
في الدنمارك، أدى الافتراض الأساسي نفسه إلى تشكيل شبكة منظمة المسلمين الديمقراطيين. تم تشكيلها ردا على تصوير وسائل الإعلام للمسلمين، في أعقاب أزمة الرسم، ولعدة سنوات كان لها تأثير محدود وعدد صغير من الأعضاء. وفي السنوات الأخيرة، انخفض عدد الأعضاء بشكل كبير، حيث تعيش المنظمة اليوم في عزلة ومجهولة الهوية، ويبدو أنها محصورة بين العديد من المسلمين الذين اندمجوا بشكل متزايد في المجتمع. ومن ناحية أخرى تقف في مواجهتها المنظمات الإسلامية الأكثر تشدداً مثل حزب- التحرير.

على مستوى أكثر واقعية، كانت النقاشات تدور إلى حد كبير حول قيام المسلمين بناء المساجد، وأن لديهم عادات غذائية خاصة معترف بها في المؤسسات العامة أو الخاصة ـ الطعام الحلال ـ ولديهم مقابر للمسلمين في الدنمارك.
 في العديد من هذه السياقات المحددة، هناك تقارب وحوار مستمر بين الدولة المضيفة والأقلية المسلمة، على سبيل المثال، تم إنشاء أول مقبرة للمسلمين على الجانب الغربي من كوبنهاغن، وتم افتتاح أول مسجد معماري أصيل في الربع الشمالي الغربي من كوبنهاغن عام 2015.
 على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، لا يزال هناك نقاش عام مستمر حول حدود قبول المجتمع الدنماركي للعادات الثقافية غير الدنماركية ومدى تكيف المؤسسات العامة مع تحديات المجتمع متعدد الأعراق.

41
أدب / تغمض القصيدة عينيها
« في: 18:58 10/11/2021  »


تغمض القصيدة عينيها

حسن العاصي


حين قرأت قصيدة أول مرة
انكمش صدري خلف القميص
راودني قلبي عن الحروف
نظرت إلى وجه القصيدة
عيونها تحدٌق في الوجع العاري
حروفها تطفوا فوق فوهة الأفق
والسطور رماح تطعن الضجيج
خالَ لي حينها أن الشِعر قِدْراً أسود
تنضج فيه الطلاسم والتمائم
ظل قلبي يؤلمني مسافة موكب الرمل
في الليل كنت أسمع صراخ عصافير الماء
يأتي من وريد الريح الجاف
جهة النهر الكسيح
أستيقظ مرتعباً وحيداً كل صباح
في كل نوبة هلع تتلبس جسدي الحمّى
تصبّ أمي الرصاص السائل على الماء فوق رأسي
ترتّل العمات أوراد الطقوس الروحانية
يأبى مجنوني أن يغادرني
تقول أمي صدر ابني مثقوب
كلما بكت أصابعه
يخرج من ضلوعه نخل ورمان
لكن قلبه سيموت في كل صك منبوذ
كيف تنام القصيدة
إن لم يجد الصغار شمساً
يرمون لها نواجذهم
أو نهراً تلهو فيه مراكبهم الورقية
شجرة ربما يختبئون خلفها
لهذا ابتعت قِدْراً وقطفت الخرز الأخضر
وصرت ناسكاً
كتبت أول قصيدة
فارق التوت قلبي
يقتلني هذا الجنون ولا يهجع
كيف تستقيم القصيدة
وكلما دعا العشب أحبتنا للنوم
يفتحون لهم نوافذ الأرض خلف السور
قد بلغ الهذيان الانشطار
القصيدة تنتشي بالخواء الثقيل
تتسكع أسفل الظلال
لا معالم في الحروف
لا مكان لبساتين التين
القصيدة تغمض عينيها
تبدأ اللوعة هنا
من وهب الولادة شهقتها؟
من أسقط المواسم في فوضى اليقظة؟
محنة المرء أدغال المباهج
لا تظن رحم الماء ضرير
فهي معصية تربك وجه الغابة
خلف غيمة تفور تركت رأسي مفتوحاً
ذرفت نهري وطيوري
مزقت قصائدي وبقيت أنا مجنونها
حزيناً أهلوس بتعاويذي
أكره النوم وأستيقظ ما زلت مرتعباً
ولا زلت
كلما كتبت قصيدة يموت قلبي


42
أدب / لا يتسع النوم للأحلام
« في: 17:39 25/10/2021  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


لا يتسع النوم للأحلام

1
قلوب العشّاق تسكنها عصافير الله
يحلّقون مثل الفراشات
فوق أغصان الضوء
يرقبون مقله الفؤاد
ترقص على أوتار الهوى
أين ترحل الطيور
إذ ما أغلق العاشق ضلوعه
وعلى أية نافذة
ستشدو شجوها الأليل


2
كيف يكون قلب الأم في زحمة التراب
حين يفترش الحجر دموع الضوء
وأي قبر يتسع لقبضة من نور
هل يتحول إلى أغصان من فضة
بعد الموت
قلوب الأمهات رحمة الله وإحسانه
وهي رضاه لمن يشاء
مسافة الخلاص
قلوبهن شفاعتنا
يوم يصير الناس جُثاً
وتحت أقدامهن
يفترش الفائزون الجنة

   
3
أن تأووا إلى النوم
ثمة حفّار لزفرة البحر
عندما يدعوكم الموسم للنوم
تنامون بغفلة ولا تصحون
يفتحون لكم فوهات التراب
ويشيّعكم الوقت المتعب
لا زمن للكفن
هذا مقام الروح عائدُ للوتر
لم يبق في النبض رمق
خلّان القلب حين يرحلون
ينامون
نظل وحدنا نرتدي أصابعهم
تظل أصواتهم أهزوجة في معاصمنا
وتصبح كل جهاتهم
رماحاً في عيوننا


4
متعبون مثل خطى تائهة
غرباء تهجرهم الموانئ
للريح معهم حكاية
تغيّرهم في كل فصل
تعطيهم لون القهر
حتى بهتت ملامحهم
تكاد أن تندثر
وعيونهم تتوسّد المسافات
على قارعة الجفاف
لا تحييها زخات المطر
أرواحهم الهزيلة
أضحت مرايا مسفوحة
حين أضنتهم الشدّة
خَبّئوا في أجنحة الطيور الراحلة
أسئلة التعب


5
لا يتسع النوم للأحلام
نطفو فوق الفراغ المغلق
نضرم وجهنا للغيمة الخضراء
لا أديم لهذا الأرق
غير أن غابة الليل رمق السهد
كلما أوينا إلى النعاس
لنعتلي أشرعة الجنون
يتخشب البساط







43
أدب / يختنق ليل المدينة
« في: 21:24 16/10/2021  »
   
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك



يختنق ليل المدينة

1
في صخب النهار
يركض الأطفال
مع ألعابهم
نحو حقول الرمّان
يثرثرون
مثل غراس صغيرة
في أصيص النهار
يتحسّسون ذيل الغيمة
كسوار من مطر
تبدو أكفهم الصغيرة
بمعصم الدهشة
يتثاءب الضوء بكسل
قبل أن يرحل
يهجع تعب الصغار
لتغفو قلوبهم
كما تخلد أوراق الحبق
للنوم
على صدر الزهرة
في النهار
بحور الندى
تتوسد أوراق السنديان
في النهار
يعلن الأولاد عصيانهم
كلما رمتهم المواسم
بما تخلّفه اسفل الشروخ
وتتوارى


2
الشرفات الخالية
تجهش من وحدتها
وتقيّدها الفصول
الأبواب صاخبة شوقاً
لقبضات للراحلين
قوس ألوان النافذة
مشرّع
على قزحية الحنين
المكان قلب حزين
شراع مبعثر
ووجع
يراود الجدران الباردة
على عتبات القحل
نرقب درب الغيوم
علّها تُبرعم
وجوه الأحبة



3
تُلقي العاصفة صوتاً
في صلب الوقت
ينجب حكاية
لا تشبه الريح
ينتظم وجه الكتاب
في وعد المرآة
ساد الراوي قومه
توحّدت فيهم
فصول الاسفار
قال لهم
مزّقوا
خرافة البحر الطائر
لكتم سر
أقراط العصافير


4
أزقة المدينة
تلتحف قلقها
منذ رمادية القدر
يفتح الحنين
أبواب الخريف باكراً
بعض من زهر الريح
لي
وما بقي من السور الشرقي
للحزن بيننا
يختنق ليل المدينة
وندف صباحها
تبدي الاحتضار
خلف كل باب
تخال عيون الناس
تخرج من أنوفهم
ويساقون
من الورع للخطيئة
هذه الأوصال استحالت أوطان


5
مثلما ينتظر الصغار
صباح العيد
تنتظره أمه
كل مساء
تُباغت ريح المنايا
خلخال الطيور
من الأعلى
لا مهرب
من المرايا المغلقة
لم ترى المسافة
مكث الضباب
على عيون الصباح
كانت تناديه
من حيث لا يرى
ويراها
من حيث لا يسمع
سألت عنه شال الغرباء
قبل أن
تظهر الفوهة الخضراء
فوق صفصاف القرية
تصعد منها
فراشة الله


44
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


المواطنة والتنوع الثقافي والديمقراطية

ما هي المواطنة؟
تعني المواطنة معاملة جميع الأفراد كأعضاء متساوين في المجتمع. بعبارة أخرى، يمكنك كمواطن التمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطنون الآخرون، على سبيل المثال، من خلال المساواة في الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية، أو فرصة التصويت والترشح في الانتخابات السياسية.
يُستخدم مصطلح "مواطن" أيضًا للتعبير عن واجبات المواطنين ومشاركتهم الفعالة في الحياة السياسية والمدنية في المجتمع. تتطلب الديمقراطية النابضة بالحياة والقابلة للحياة حقوقاً متساوية - أي إمكانية المواطنة النشطة - وأن يستفيد المواطنون بالفعل من هذه الإمكانية في أن يكونوا مواطنين فاعلين.
يمكن تسمية أي شخص بالمواطن العالمي إذا كان يشعر بالمسؤولية تجاه المجتمع العالمي، ويدرك أن أفعالنا المحلية تؤثر على العالم ككل.
للمواطنة بعدين، أولاً: التكامل والمساواة في الحقوق لجميع المواطنين. ثانياً: المشاركة الفعالة للمواطنين في المجتمع.

إذاً، كيف نخلق مواطنين من الوافدين الجدد سواء كانوا مهاجرين أم لاجئين؟ ومن هم المواطنون في أوروبا؟
 في الواقع، يجب أن يكون الفرد مقيماً داخل الحدود الأوروبية بصورة شرعية، بغض النظر عن مدة الإقامة ونوعها، أو حصوله على الجنسية من عدمها. وهي قضايا قانونية تختلف معاييرها ومتطلباتها من دولة لأخرى.
بشكل عام، المقيمين الشرعيين لهم جميعا الحق في المساهمة في النقاش العام حول المجتمع، في الدول التي يعيشون فيها، بغض النظر عن الفروقات في اللغة، والدين، والجنس، ومستوى التعليم، والدخل، وما إلى ذلك.
تختلف الأحزاب الأوروبية فيما إن كانت المواطنة شيئاً يمكن اكتسابه أم لا، ولكنهم يتفقون على أنها شرطاً أساسياً للديمقراطية.
إن كانت المواطنة تبدو أنها قضية بسيط للغاية، فلماذا لا تزال موضوعاً حيوياً مطروحاً للنقاش بصفة دائمة؟
الإجابة هي أن النقاش الجاري منذ سنوات في المجتمعات الأوروبية حول المواطنة ـ لا علاقة له ـ ولا ينبغي أن يكون معيارياً وأخلاقياً في محتواه، لكنه أمراً سياسياً بامتياز.
المواطنة هي أولاً وقبل كل شيء حول تصورات المجتمع. ضمنياً في فهمنا للمواطن، هناك فهم للمجتمع الذي يكون المواطن جزءًا منه. الشيء الحاسم هنا هي الأيديولوجية الكامنة وراء تصورنا لهوية المجتمع الوطني.
 تضع الدولة القومية الـ )نحن( التي غالباً ما تحددها المنظمة السياسية المهيمنة، على أنها تحمل من الولاء المرتبط حصرياً بالأمة.
على الرغم من أن جميع الدول في أوروبا منظمة تتوافق على هذا البلد المبدأ، ومع ذلك، تختلف اختلافاً كبيراً في كيفية تعريف "نحن" و "هم" وتأهيلهم.
نماذج الجنسية الأوروبية
عند مقارنة سياسات الدول الأوروبية المختلفة فيما يتعلق بتعاملها مع الأقليات العرقية، يرى المرء أن سياسات الدول لا يمكن فصلها عن نماذج مواطني البلدان الفردية، وبالتالي الثقافات السياسية. حيث تتغلغل الثقافة السياسية الوطنية بطريقتين. حيث تعكس التشريعات فهم الدولة للمواطنة وسياستها في التأسيس.
ويظهر ذلك في تشريعات المواطنة وإجراءات التجنس والتشريعات الاجتماعية والحقوق السياسية، مثل الحق في التصويت في الانتخابات المحلية. ومن ناحية أخرى، طريقة تفكير الدول في إضفاء إشكالية على الاندماج في ثقافة سياسية وتصور معين لما هو المواطن الآخر.
 عندما تحدد الدولة نفسها، فإنها تحدد في الوقت نفسه الأدوات الممكنة للإدماج الخاص بالمهاجرين واللاجئين الى حد كبير.
بشكل عام، يمكن التمييز بين أداتين لتخصيص الحقوق. يمكنك استخدام أداة واحدة استدعاء نموذج الحكم الذاتي الجزئي للمجموعات العرقية مع الحق في التمثيل في السياقات المؤسسية والسياسية. بحيث يُنظر إلى المشاركة في هذا الفهم أولاً وقبل كل شيء كحق جماعي.
أداة أخرى هي التكامل، حيث يتم التمييز بشكل أكبر بين الحقوق في المجالين الخاص والعام، بحيث تأتي الحقوق السياسية أولاً مضمونة من خلال وصول الأفراد إلى المشاركة والمواطنة.
كلتا الأداتين تفترضان رغبة في التغلب على العوائق المباشرة وغير المباشرة أمام المشاركة.
بالنظر إلى الدول الأوروبية المختلفة، فإن النماذج هي المواطنة والتأسيس والفهم والتشريع والأدوات متنوعة.
هناك فرقاً بين تنظيم التأسيس مركزياً أو لا مركزياً، وسواء التركيز على الاندماج في المجتمع أو الاندماج في الدولة. بمعنى آخر، هناك فرقاً فيما إذا كان المرء يركز على التكامل كعلاقة بين المواطن والمواطن أو كعلاقة بين الدولة والمواطن.
في أوروبا، يمكن للمرء أن ينشئ ما لا يقل عن ثلاثة أنواع مثالية على أساس التحليلات الملموسة المختلفة بممارسات التكامل في البلدان المختلفة. يتم تنظيم التأسيس أو الاندماج في السويد وهولندا حول مجموعات الشركات ووظائفها سواء كانت تجارية أو عرقية أو دينية
أو مجموعات الجنس.
تتحقق شرعية المواطنين وحقوقهم من خلال الانتماء للجماعة. ويتم دمج المهاجرين كمواطنين بشكل جماعي من خلال المشاركة في الهياكل التي ترعاها الدولة. تركز الدولة هنا على الحقوق الاجتماعية وحقوق الرفاه المنظمة مركزيا وموجهة بشكل جماعي، حيث يتحقق التكامل في الداخل.
هذا النموذج يعتمد على دمج المجموعات في المجتمع من خلال تعريف مركزي عبر الهياكل الرسمية.
 في سويسرا وإنجلترا يجد المرء النموذج الليبرالي الذي يتم خلاله تنظيم المواطنة حوله الفرد. لا توجد هياكل أساسية رسمية تدعم أو ترعى المنظمة. في المقابل، يرتكز العمل السياسي والتنظيم على الأفراد والمنظمات ذات الصلة.
هذا يرجع إلى حقيقة أن عملية صنع القرار لا مركزية. فالسلطات المحلية تلعب دوراً فاعلاً في إعداد وتنفيذ الرعاية الاجتماعية للمواطنين. عندما لا يوجد هيئات إدارية للعمل نيابة عن المصالح الجماعية، تصبح سوق العمل الأداة الأكثر مركزية لإدماج المواطنين "الجدد" من المهاجرين، لذلك يتم دمجهم كأفراد في المجتمع دون تدخل كبير من الدولة.
يوجد نموذج ثالث في فرنسا ويعكس حالة إدارية بيروقراطية الوحدة هي السيادة وتنظم السياسة. الأفراد وأنشطتهم في هذا النموذج يخضعون ـ أو تابعون ـ للدولة كنوع من الإضافات في سياسة الدولة. بنفس الطريقة كما هو الحال في النموذج الليبرالي، هناك نقص في هياكل الأدوات التي يمكن أن تربط مجموعات المهاجرين ومصالحهم الجماعية للدولة والإدارة. هذا يعني أن المهاجرين يتم دمجهم على أنهم الأفراد في الدولة من خلال حكم دولة قوي.

سياسة التكامل المركزية الدنماركية
يجب أن يُقال أولاً وقبل كل شيء أن الدنمارك تخضع لسيطرة شديدة المركزية، حيث تقوم سياسة الاندماج والتركيز القوي على إشراك مجموعات المهاجرين في المجتمع بدلاً من الدولة.
على الرغم من وعد الحكومة الليبرالية الحالية بأن تأسيس المواطنة يمر عبر سوق العمل، بعيداً عن النموذج الليبرالي كما في إنجلترا. هذا يرجع إلى المركزية القوية في الدنمارك، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بدولة الرفاهية.
السؤال المركزي هنا، هو فيما إذا كان الحديث الكثير والنقاش الحاد بين القوى السياسية عن الحقوق والواجبات في سياسة الاندماج، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بسياسة الرفاهية الدنماركية؟
لذلك نحن في الدنمارك أولاً وقبل كل شيء ما نسعى إليه هو الاندماج في دولة الرفاهية.

المجتمع العرقي
للوهلة الأولى، لا يمكن القول إن أياً من هذه النماذج يحل مشكلة المواطنة. الكل يستثني المجموعات أو الأفراد بطريقتهم الخاصة. في الدنمارك يقوم مفهوم المجتمع القومي وفقاً إلى التجانس العرقي والثقافي، حيث يكون ولاء الأفراد ـ المواطنين ـ قائماً على "الجذور العميقة" التي تستبعد الدنماركيين غير العرقيين من مواطنيهم. يمكن للمرء أن يتحدث عن أننا في الدنمارك نعرّف المجتمع بأنه عرقي بطريقة تذكرنا بمفاهيم القومية الألمانية.
يُعرَّف المجتمع في فرنسا وهولندا وإنجلترا بأنه مجتمع سياسي، وإن كان لهذا التعريف عواقب إلى حد كبير ومختلفة على الأقليات لأنها تنظم الاندماج في السياسة المجتمعية بشكل مختلف.
في فرنسا، يتم الإدماج في شكل استيعاب، حيث على سبيل المثال، لا يوجد مكان لطالبات في المدارس يرتدين الحجاب الإسلامي.
في هولندا، هناك فهم تعددي للمجتمع يمكن انتقاده للحفاظ علي المهاجرين من هوية عرقية أصلية، في حين يمكن تعريف التأسيس باللغة الإنجليزية على أنه براغماتية، لكنها أقل جودة في دمج فقراء الموارد.

الأمر يتعلق بالسياسة
ليست الغاية هنا هي التحدث عن نموذج أو آخر، ولكن للإشارة إلى أي مستوى يمكن أن تصل المناقشة في قضية أي نوع من المواطنة نريد؟ ما هو المجتمع الواحد الذي نريده؟
 لا يتعلق الأمر هنا بالأخلاق، بل بالسياسة. جميع المناقشات السياسية في هذا السياق مهمة. المناقشات التي تمكّن جميع مواطني الدنمارك من المشاركة فيها على قدم المساواة.
وإذا حافظت القوى السياسية الدنماركية على فكرة المجتمع المتجانس عرقياً وثقافياً، ستكون لهذا الجدال نتيجتان مؤسفتان على الأقل.
أولاً: تصبح مناقشة المواطنة نقاشاً حول الأخلاق، يرتبط فقط بالمستوى الذي سيظهر فيه المواطن الصالح كونياً وأبدياً ومنفصلاً عن المجتمع. نموذج نكتشفه عندما يتعين علينا تقييم المواطنين من أصل عرقي غير دنماركي، من أجل الدنماركيون العرقيون الذين لديهم الجنسية الدنماركية تلقائيا بحكم انتمائهم العرقي وموروثهم الحضاري.
هذه الإشكالية قائمة حتى في الثقافة الدنماركية، مما يجعل من الصعوبة بمكان وضع مبادئ توجيهية مفيدة للمواطنة.
هل المواطن هو شخص لديه وظيفة؟ ماذا عن المهاجر الذي يعمل بجد منذ ثلاثون عاماً، عملاً بدنياً شاقاً في مصنع، لكنه لم يتعلم اللغة الدنماركية، وهو الآن عاطل عن العمل. هل يصبح هو فجأة غير مواطن؟
في الحقيقة لا ينبغي أن تكون المواطنة مرتبطة بالعرق أو المهارات، بل بالأسس الجمعية المشتركة.
ثانياً: من خلال عدم رغبة القوى السياسية في مناقشة الثقافة السياسية للمجتمع، فإننا نجازف بانهيار قاعدة الإجماع في المجتمع. يمكننا في الواقع أن نلاحظ أن الدنمارك لم تنجح في أن يكون جميع المواطنين في المجتمع على قدم المساواة.
يمكننا ملاحظة أن التشريعات تتضمن تميزاً ـ سواء بصورة مباشرة أو بشكل غير مباشر ـ ضد مجموعات الأقليات العرقية. على سبيل المثال القوانين التي تتعلق بلم شمل الأسرة.
كثيرة هي الأمثلة التي تجعل تصورنا المشترك للمجتمع الدنماركي القائم على أساس مبادئ الديمقراطية والمساواة أمام القانون، ينهار ويتداعى.
إذا تلاشت الثقة في هذه الأسس الجوهرية للإجماع المجتمعي، فإن بذرة الصراعات المجتمعية موجودة بصورة حقيقية وفعلية. لذلك من الضروري إجراء مناقشات سياسية واسعة حول تصميم شكل المجتمع الدنماركي، حتى نتمكن من إعادة تأسيس قاعدة إجماع مشتركة، وهي القاعدة الذي فقد الكثيرون الثقة في كونها تشكل أرضية مشتركة للبناء المجتمعي فوقها.

الديمقراطية والمواطنة
هناك تعريفات وتصورات مختلفة لماهية الديمقراطية. دار الكثير من النقاش تاريخياً، حول أي مجموعات في المجتمع يجب أن تشارك في اتخاذ القرار - على سبيل المثال، من يجب أن يكون له الحق في التصويت.
هل الديمقراطية هي إمكانية منح الأغلبية فقط حق اتخاذ القرارات؟ وما علاقة المواطنة بالديمقراطية؟ وما هو الدور الذي تلعبه قضية حقوق الناس في قدرتها التأثير على السلطة، وكيف ينعكس ذلك على الديمقراطية؟
للديمقراطية بظني أربعة أبعاد. أولاً: في كونها شكل من أشكال الحكم الديمقراطي. ثانياً: حقوق الانسان والمحاكم المستقلة. ثالثاً: المشاركة الفعالة للمواطنين في إدارة الحكم. رابعاً: الديمقراطية كقاعدة قيمية مشتركة لجميع السكان.
كلما تقاطعت واجتمعت الأبعاد الأربعة في بلد ما، كلما كان من الممكن القول بأن الدولة أكثر ديمقراطية. فالديمقراطية عملية مركبة، بقدر ما هي هدف. لذلك فهي ليست شيئاً يمكن للدولة أن تفعله بالكامل، ولكنها عملية تفاعلية متواصلة ومستمرة.

1ـ الديمقراطية كشكل من أشكال الحكم
تتعلق الديمقراطية بسكان بلد ما، بما لهم من تأثير كبير على حكم البلاد. تختلف الديمقراطية عن أشكال الحكم الأخرى، حيث لا يوجد سوى شخص واحد أو مجموعة صغيرة من الناس الذين يحكمون، دون أن تتاح للناس الفرصة للتأثير على من هم هؤلاء الناس، أو على ما يتعين عليهم أن يقرروه.
هناك طرق مختلفة يمكن أن يحكم بها السكان بلداً ما. عادة، يشمل ذلك الأشخاص الذين ينتخبون الممثلين الذين يحكمون نيابة عنهم. وهذا ما يسمى الديمقراطية غير المباشرة أو الديمقراطية التمثيلية. جزء مهم من الديمقراطية هو أن الناس يمكنهم التصويت واستبدال قادتهم من خلال انتخابات حرة ونزيهة. يُطلق على الأشخاص المنتخبين اسم القادة السياسيين. عادة ما يمثل هؤلاء السياسيون حزباً سياسياً.
يمكن البت في بعض القضايا السياسية مباشرة من خلال الاستفتاء. يسمى هذا بالديمقراطية المباشرة، ويستخدم بشكل أساسي في الحالات التي يمكن فيها الإجابة بنعم أو لا على سؤال معين، مثل نعم أم لا لعضوية الاتحاد الأوروبي. في الاستفتاء المباشر يتم منح الشعب الفرصة للتصويت على موضوع معين دون التصويت لممثلين منتخبين أو أحزاب سياسية.

2ـ حقوق الانسان والمحاكم المستقلة
تتعلق الديمقراطية بتأثير الناس في بلد ما بشكل كبير على إدارة سياسة البلاد. تعني الديمقراطية أيضاً أن الدولة تضمن في نفس الوقت حماية حقوق الإنسان الأساسية. يتم ذلك ـ من بين أمور أخرى ـ من خلال ما يسمى بسيادة القانون في البلاد مع وجود المحاكم المستقلة التي تضمن أن الحكومة لا تنتهك حقوق الشعب.
يتميز الحكم الديمقراطي بتقسيم سلطة الدولة بين هيئة تشريعية، وتنفيذية، وقضائية، أي برلمان، وحكومة، ومحاكم.
يتصف أحد المفاهيم المعيبة لتعريف الديمقراطية، على أنها حكم الأغلبية. أي أن الدولة ديمقراطية طالما أن غالبية السكان هم من يقررون السياسات العامة، مهما كانت القواعد. المشكلة في مثل هذا التعريف على سبيل المثال، إذا قررت غالبية المجتمع أن باقي السكان يجب أن يفقدوا حقوقهم الديمقراطية، مثل الحق في التصويت. على الرغم من أن هذه هي إرادة الأغلبية، لا ينبغي أن يُطلق على البلاد أنها ديمقراطية، إذا لم يعد لدى قطاعات من الناس نفس الفرص للمشاركة في الحكومة الوطنية.
في الديمقراطية التي تعمل بشكل جيد، يتم وضع السياسات واعتمادها على أساس النقاش العام. النقاش الذي يجب أن يتم في مجتمع يتمتع بصحافة حرة ومحاكم مستقلة ومجتمع مدني نشط. غالباً ما يُطلق على تعريف الديمقراطية التي تتضمن احترام حقوق الإنسان اسم الديمقراطية الليبرالية.

3ـ المشاركة الفعالة للمواطنين
تصبح الدولة أكثر ديمقراطية إذا كان الناس فيها مشاركين نشطين في الحكم السياسي للبلد. هناك العديد من الطرق لهذه المشاركة النشطةً. يمكن أن يتعلق الأمر بمتابعة المناقشات السياسية والمشاركة فيها، أو التصويت في الانتخابات، أو العضوية في المنظمات والأحزاب السياسية. يمكن للمواطنين الناشطين سياسياً أيضاً المشاركة في المناقشات والاحتفالات المجتمعية أو المشاركة في تنظيمها.
من أجل أن يكون للديمقراطية ممثلين منتخبين ديمقراطياً، يشترط أن يكون هناك مواطنون على استعداد للترشح للانتخابات وتولي مسؤولية المنصب السياسية، سواء في المنظمات أو في الأحزاب.
ترتبط المشاركة السياسية بما يسمى بالمواطنة، والتي تتعلق بإمكانيات المشاركة في الممارسة الديمقراطية، ومسؤولية المواطنين بالمشاركة الفعلية في الديمقراطية، أي أن يكون للمجتمع مواطنين فاعلين.
الحرية التنظيمية حق إنساني يمكّن من المشاركة السياسية من خلال منح المواطنين فرصة الالتحاق والانتساب للأحزاب والمنظمات السياسية. كما تمنح الحرية النقابية العمال الحق في تنظيم أنفسهم في نقابات عمالية، مما يساعد على جعل الحياة العملية أكثر ديمقراطية، فالنقابات تعتمد على عضوية الموظف والعامل، والمشاركة النشطة.
عندما تتحدث النقابات مع كل من السلطات ومنظمات أصحاب العمل حول القواعد التي يجب أن تنطبق على الحياة العملية، فإن هذا يسمى اتفاقية ثلاثية.
تشتهر الدنمارك على سبيل الذكر، بحياة ديمقراطية جيدة التنظيم - التعاون الثلاثي هو جزء من مجموعة مشتركة من القيم في الديمقراطية الدنماركية.
4ـ الديمقراطية كأساس مشترك للقيم
لكي تعمل الديمقراطية بشكل جيد، يجب أن يدعمها الشعب، ويجب اتباع واحترام المبادئ الديمقراطية. يعتمد هذا الدعم على حقيقة أن السكان المواطنين لديهم إيمان كبير، أن الديمقراطية هي أحد أهم القيم المشتركة للمجتمع.
وللتدليل على أهمية قاعدة القيم الديمقراطية في المجتمع، هو الرأي القائل بأن القادة المنتخبين ديمقراطياً هم في الأساس قادة شرعيون، على الرغم من أنهم قد يأتون من أحزاب سياسية لا يتفق المرء مع أفكارها.
المجلة الإنجليزية The Economist لديها دراسة استقصائية تسمى مؤشر الديمقراطية، والتي تقيس درجة الديمقراطية في مختلف البلدان. تقيّم الدراسة كلاً من العمليات الانتخابية، ووظائف الحكومة، وحقوق السكان، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية. تتعلق الثقافة السياسية في الديمقراطية ـ من بين أمور أخرى ـ بالديمقراطية كأساس مشترك للقيم المجتمعية.
إن ضمان التمثيل السياسي لمجموعات مختلفة في المجتمع هو أيضاً قيمة ديمقراطية مهمة. والفكرة هنا هي أن المسؤولين المنتخبين يجب أن يعكسوا آراء الناس بطريقة فعلية.

تمثيل المجموعات المختلفة في الديمقراطية
لا يتألف المجتمع من الأفراد فحسب، بل يتكون أيضاً من أنواع مختلفة من المجموعات والأعراق والأجناس والأديان والثقافات ذات الاهتمامات المتنوعة، والإمكانيات المختلفة في الوصول إلى السلطة والتأثير في المجتمع.
ما هي المجموعات التي يجب أن يكون لها حقوق خاصة، وما هي الحقوق التي يجب أن تكون قضايا سياسية.
في الدنمارك، قبل عام 1915، كان حق الشخص في التصويت يعني أن يكون رجلاً، يزيد عمره عن ثلاثون عاماً، وله دخل وممتلكات معينة. وهذا يعني أن غالبية السكان - 85٪ - لا يحق لهم التصويت.
كان يتم حجب حق التصويت والترشح عن العديد من فئات المجتمع، وبالتالي منعهم من حق اكتساب المواطنة السياسية، مثل: البغايا، الفقراء، المجانين، المجرمون، مدمني الكحول والمخدرات. المعاقين. وهو ما يعتبر اليوم فعلاً غير ديمقراطي وانتهاك لحقوق الإنسان.

تمثيل المرأة في البرلمانات المنتخبة
المساواة بين الجنسين مهمة لكل من المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان. حتى عام 1915 كانت النساء في الدنمارك مستبعدات من البرلمانات المنتخبة، والتي تعتبر اليوم تمييزية وغير ديمقراطية.
كان الحق في التصويت في دستور عام 1915 بمثابة مواجهة التمييز في التصويت - وانفراجاً في حق التصويت المتساوي والعادل للجميع. للحصول على حق التصويت اليوم، يجب أن يكون عمر الشخص خمس وعشرون عاماً، ولديه الجنسية والإقامة الدائمة في الدولة.
بالإضافة إلى حقيقة أن النساء يُعتبرن الآن مواطنات متساويات مع الرجال في الحقوق والواجبات. كان من الجديد أيضاً أن الأفراد الذين ليس لديهم منزل خاص بهم لم يعودوا يعتبرون قاصرين. وبعبارة أخرى، لم يعد رب الأسرة يمثل الأسرة بأكملها، وبالتالي فإن الحق في التصويت أصبح حقاً فردياً.
تعد الدنمارك اليوم من بين دول العالم التي تتمتع بأكبر قدر من المساواة. ومع ذلك، لا يزال معظم أعضاء البرلمان من الرجال، وبشكل عام، فإن أجور النساء في سوق العمل أقل من أجور الرجال.
أيضاً، تعتبر الديمقراطية لبنة أساسية في بناء السلام والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان في العالم.
فمنذ إنشاء مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2006 تبنى عدداً من القرارات التي تؤكد على علاقة التعزيز المتبادل بين الديمقراطية وحقوق الإنسان. يعد الافتقار إلى الديمقراطية وضعف المؤسسات وسوء الإدارة السياسية من بين الأسباب الرئيسية لانتهاكات حقوق الإنسان في الكثير من الدول.
في عام 2002 أعلنت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (التي سبقت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة) النقاط التالية كعناصر أساسية للديمقراطية وتأثيرها على المواطنة:
ـ احترام حقوق الإنسان وخاصة حرية تكوين الجمعيات والتعبير.
ـ وممارسة السلطة تتم وفقاً لقوانين البلاد
ـ إجراء انتخابات حرة ونزيهة بشكل منتظم.
ـ نظام متعدد الأحزاب مع مجتمع مدني متنوع.
ـ توزيع السلطة - والفصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ـ قضاء مستقل.
ـ جهاز دولة غير مغلق وشفاف، وخاضع للمساءلة.
ـ وسائل إعلام متنوعة وحرة ومستقلة.

مصادر
Lise Paulsen Galal, Etniske minoriteter og demokratisk deltagelse i EU-landene. Mellemfolkelidt Samvirke, 2001.

Kjersti Maria Rongen Breivega og Toril Eskeland Rangnes (red.) Demokratisk danning i skolen: Tverrfaglige empiriske studier (2019)

Janicke Heldal Stray, Demokrati på timeplanen (2011)

45
أدب / عيون عطشى للخلاص
« في: 02:22 28/03/2021  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


عيون عطشى للخلاص


خلّان الليل يتسامرون
يتوسدون ريش الدُجى
عارياً من ظله
لا يتعبون
يتأبطون مشقّتهم
يقرأون باسم الوقت الراقد
فصول البياض
كي لا تشيخ أصواتهم
على عتبات التراب
يخلعون الخطايا
يعبرون من ارتعاش الرحمة
ويبحثون في مروج الليل
عن أرائك خضراء
وصفصاف الصلاة
سلام عليهم
يزرعون أهداب الأحلام
في ضلوع المسافة
يُسبّحون بأسرار العتمة
وبأسماء السنديان العتيق
يترقبون الوقت المشروخ
ووحشة الجدران المغلقة
تحت سدرتين
يتفكرون ببحور الضوء
تمخر نحو الله
يجمعون الدعاء في حلقات الذكر
وخلف دموعهم تتقلّب الرؤى
يسجدون متعبدين
آيات الله
يرتّلون كعادتهم
لفحة الموت
ويبتهلون
لتغفو قلوب الصغار
ينتظرون انشطار القرطاس
في مدافن الطيور
ويسربلون التراتيل
ثوباً من حجر
تترصد عيونهم
اختلاجات الاحتضار
خلف نقطة العزلة
يبكون ناي الكهوف
لا أنيس لهم
سوى المزمار الحزين
في الثلث الأخير
يغسلون وجه الخزامى
من اكتظاظ الفضة
على ساق القمر
في عمق الليل شهباً
لأخاديد الأنبياء
وشفاعة للمطر
في دروب الليل
خطى تائهة
عيون عطشى للخلاص
وأكف معلقة بالسماء

46
حسن العاصي

كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

 

التنوير بين الدين والفلسفة

 

عبر التاريخ، وعلى امتداد العصور، ظهر صراعاً جدلياً بين العقل الديني والعقل الفلسفي. هذا الجدال والتناحر بين الفلسفة والدين أسهم في رقي الحضارة العربية والإسلامية، وبلوغها العصر الذهبي، حيث كان لبعض الخلفاء والولاة دوراً مهماً في رعاية الفكر والفلسفة والعلوم والآداب. كان هؤلاء يعقدون المجالس العلمية للنقاش والسجال الفكري والفلسفي والديني، في فترة شكلت الحضارة الإسلامية شعاعاً علمياً وفكرياً لكافة البشرية.

في مرحلة ما من التاريخ الإسلامي، عقب نقاش قضية "خلق القرآن" في مجالس العلم، التي بدأت في عصر الخليفة العباسي "المأمون" عام 218هـ/833م واستمرت في عهد المعتصم والواثق وانتهت مع حفيد المأمون "المتوكل" عام 247هـ/861م، اشتد الخلاف بين المتحاورين وهما المعتزلة وأهل السنة.

احتدام الجدل والخلاف بين الاتجاهين تجاوز مقياس المناظرة والنقاش نحو وضع تم فيه اللجوء إلى قمع المخالفين وسجنهم، بل وقتل بعضهم.

 حين توقف هذا الجدل غُيبت الفلسفة، وتم إغلاق باب الاجتهاد.  وبدأ الفكر العربي والإسلامي مرحلة جديدة من أهم سماتها، الأحادية والتكرار والتقليد ثم الجمود. بغياب الفلسفة أصبح الفكر العربي والإسلامي يتيماً وفقيراً، دون استفزاز وبلا فلسفة تدفعه لعدم الطمأنينة والسكون، وتجبره على النضوج والتطور.

وما أن فرضت  كلا المؤسستين الدينية والسياسية هيمنتها على المشهد، تم تكفير الفلسفة وزندقتها، وبدأ عصر التضييق على المفكرين والفلاسفة واضطهادهم وقتلهم، ثم انزلقت الدولة الإسلامية نحو قاع التناحر الديني ـ الديني، والصراعات المذهبية والفئوية التي أدت إلى ضعفها ثم انهيارها، وما أعقب ذلك من نكوص فلسفي وارتداد فكري عميق، وفشل علمي وحضاري مرعب، بسبب غياب الفلسفة، وانحسار العقل التنويري الجدلي. ثم ساد الظلام والجهل، وانتشر الهراء حتى اللحظة.

 

الانسداد التاريخي التنويري العربي

يلاحظ المرء نجاح تجربة التنوير في كثير من بقاع الأرض، في أوروبا، في الولايات المتحدة، في اليابان وسنغافورة، وفي تركيا أيضاً الدولة المسلمة، لكنها فشلت بصورة معيبة في نسختها العربية، وسقط التنوير في قعر الظلام العربي سقوطاً مدحوراً.

من أهم وأبرز أسباب فشل التنوير العربي والإسلامي غياب الانفتاح والحريات الفكرية بصورة مطلقة. في غياب الحريات والتعدد، تحضر الحقائق المطلقة دون غيرها، والفكر الواحد المطلق، والعقيدة الواحدة المطلقة. المذهب الواحد والراي الواحد واللون الواحد والذوق الواحد. ويتحكم في رقاب العباد الحزب الواحد والطائفة الواحدة والطاغي الأوحد. وبالتالي النتيجة استعصاء وانسداد فكري وتاريخي تعاني منه الأمتين الإسلامية والعربية منذ القرن الثاني عشر، بعد أن فقدنا آخر الفاتحين الفكريين العرب الفيلسوف التنويري "ابن رشد".

 

نتيجة لأسباب متعددة من بينها قمع وإقصاء المخالفين، والاستبداد الذي يكون سمة الرأي الواحد وبروز الصراعات والتناحر القبلي، بدأت تظهر الدويلات الإسلامية في المشرق العربي، والطوائف بالدولة الإسلامية في الأندلس.

ظهر الأدارسة في المغرب "788-974م" والأغالبة في شمال إفريقيا "800-909" والطولونيون في مصر "868-905م" والأيوبيون في مصر والشام والعراق "1171- 1342م" والمماليك في مصر وبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية "1250- 1517م" والمرابطون في المغرب "1060-1147م" ثم الموحدون أيضاً "1147-1269م" وغيرهم من الطوائف مثل دويلات الأندلس "قرطبة، إشبيلية، طليطلة، سرقسطة"

سقطت الدولة العباسية نتيجة الغزو المغولي قيادة "هولاكو" للعالم الإسلامي، وسقوط مدينة بغداد عام 1258م وقتل الخليفة العباسي "المعتصم بالله" مع ولديه بعد أن هرب إلى مصر.

دمر المغول بيت الحكمة في بغداد وإحراقه وإتلاف آلاف الكتب والمخطوطات لمختلف العلوم من طب وفلك وكيمياء، ودمروا المنشآت العمرانية لبغداد.

ثم قام "عثمان الأول بن أرطغرل" بتأسيس الدولة الإسلامية العثمانية عام 1299م. وبدءًا من العام 1512 اتجهت الدولة العثمانية نحو الوطن العربي في عهد السلطان سليم الأول، وفرضت حكمها على بلاد الشام والحجاز واليمن ومصر والعراق. استمرت الدولة العثمانية لغاية العام 1923م.

تم تقسيم العالم العربي كمناطق نفوذ بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى "بريطانيا، فرنسا، إيطاليا". نالت مصر استقلالها كأول دولة عربية عن الاستعمار البريطاني عام 1922 رغم أن النفوذ البريطاني ظل مهيمناً لغاية خمسينيات القرن العشرين. وفي العام 1971 نالت الإمارات العربية المتحدة هذا الاستقلال كآخر دولة.

في التاريخ الإسلامي تم إغلاق أبواب الاجتهاد من قبل الخلفاء والأمراء المسلمين، من بينهم الخليفة العباسي "المتوكل بالله" 847ـ861 م الذي اعتبر أن "ما قرره الخلف لا يرفضه السلف". وكان المتوكل قد وصل إلى الحكم بعد ثلاثة من الخلفاء بدأت معهم محنة خلق القرآن ـ المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق ـ وخلال تلك الفترة كان المعتزلة قد أصبحوا مذهباً لهم محبين ومريدين. ثم أغلقت أبواب الاجتهاد أيضاً في عصر الخليفة "المعتصم بالله" آخر الخلفاء العباسيين، حيث أعلن أنه "لا اجتهاد مع النص". هذا الإجراء مناقض لفقه الشريعة ذاتها وابديتها وتجددها على مر العصور.

إن إغلاق باب الاجتهاد قد أدى إلى موت العلوم الطبيعية، وقتل الفلسفة، وإطلاق الرصاص على العقل. فتحول الدين الإسلامي إلى مجموعة من الدراويش يعتكفون للعبادات في التكايا.

وفي معظم الفترات التاريخية كانت الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية هي السمة الغالبة على العالمين العربي والإسلامي، وكانا في عزلة عما يجري في القارة الأوروبية من تفاعلات فكرية وعلمية.

إذن كان العالمين العربي والإسلامي في حالة سبات فكري عميق، وشلل عقلي طوال ما يقرب من ثمانية قرون. لا يمكن أن يؤدي هذا الحال إلا إلى الاستعصاء المرعب الذي نعاني منه حالياً.

مع ازدياد الصراع بين الديني والفكري، تشدد الدين وأصبح أكثر تحفظاً. ثم تراجع دور الطبقة البرجوازية التجارية العربية والإسلامية، وانحسر النشاط التجاري نتيجة انتشار قطّاع الطرق، فأصبحت دروب التجارة غير آمنة، مما أسهم أيضاً في تراجع التفكير العقلاني الذي كان يمثله التجار كونهم الطبقة المتوسطة التي كانت تصدر وتستورد الأفكار، وهي التي دعمت الفرق الفلسفية العقلانية مثل المعتزلة وإخوان الصفا. إضافة إلى أن التجار المسلمين لعبوا دوراً محورياً في التبادل والتلاقح الثقافي بين المسلمين والأمم الأخرى.

 

الإصلاح المسيحي

في عام 1517 أصدر البابا "ليون العاشر" مرسوماً يتضمن غفراناً عاماً لجميع المسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كانت الغاية من المرسوم جباية الأموال اللازمة لإتمام بناء كنيسة "القديس بطرس" في روما. هذا الوضع كشف عن العديد من الأساقفة الفاسدين الذين كانوا يبيعون صكوك الغفران لحسابهم الخاص.

في ذلك الوقت كان "مارتين لوثر" استاذاً لعلوم الدين وراعياً لكنيسة "ويتبرج". لاحظ الراهب أن رعايا الكنيسة أصبحوا يقدمون له صكوك الغفران، بديلاً عن الاعتراف بخطاياهم، وإبداء الندم والتوبة كما كان يحصل عادة. وأوضح "لوثر" أن الإيمان وفعل الخير هما الشرط للغفران الإلهي، وليس شراء النعيم بالذهب.

في لحظات غضب وحماس قام "لوثر" بتاريخ 31  تشرين الأول عام 1517 بتعليق احتجاجه المكون من خمسة وتسعين بنداً على باب كنيسة "ويتبرج" داعياً الكنيسة الكاثوليكية وقف أعمال بيع الغفران.

كتب احتجاجه باللغة اللاتينية، موجهاً إلى علماء الدين لمناقشتهم حول كون غفران الخطايا يمنح لكل مسيحي يتوب ويندم دون الحاجة إلى شراء صك غفران. لكن سرعان ما تمت ترجمة الاحتجاج إلى اللغة الألمانية، وانتشر بين عامة الناس في كافة أنحاء ألمانيا، ثم في العالم المسيحي أجمع.

رفض "لوثر" الاستجابة لطلب البابا "ليون العاشر" الحضور إلى روما لمحاكمته. ورفض الأمير "فريدريك" والي مقاطعة "ساكسونيا" تسليم "الهرطقي" إلى روما. كما فشلت مساعي الرسل الذين بعثهم البابا في اقناع "لوثر" التراجع عن مواقفه.

عقب ذلك أصدر البابا في 15 حزيران عام 1520 مرسوما يقضي بحرمان لوثر من حقوقه وإحراق جميع كتبه، ما لم يسحب تعاليمه ويلتمس رحمة البابا خلال ستين يوما.

 كانت قلوب معظم الألمان مع لوثر، فأدرك أن الوقت مناسب لإعلان انسحابه من الكنيسة ومقاومة سلطتها علانية. ثم قام بحرق القانون البابوي وبعض مؤلفات الكنيسة على مرأى من الجماهير الغفيرة التي التفت حوله. ثم أعلن تمرده على سلطة البابوية واعتبر أنها ليست ذات مصدر إلهي، إنما هي سلطة دينية سياسية اقتصادية من ابتكار البشر، وطالب بحرية الفرد في الدين.

حركة الإصلاح الديني التي قادها "لوثر" قامت على أفكار محاربة الغفران، ورفض سلطة البابا المطلقة، وانتقاد شراء المناصب الدينية. بمرور الوقت أصبح أتباع البروتستانتية ـ المعارضة لسلطة البابا ـ هم الأغلبية في ألمانيا، مما دفع الكنيسة الكاثوليكية إلى إقامة محاكم التفتيش المرعبة ضد المعارضين. تولت هذه المحاكم مهمة ردع الناس عن الخروج على الكاثوليكية. هذه المحاكم قامت بإبادة الناس عبر الخنق والحرق والإغراق والإعدام شنقاً، واستخدمت أساليب تعذيب شنيعة ورهيبة. ثم انقسم العالم المسيحي إلى كاثوليك وبروتستانت.

وبعد ما يقرب من مئة عام على الإصلاح وانقسام الكنيسة، ونشوء صراع كبير بين الكاثوليك والبروتستانت، ومن أجل حقوقهم الدينية، هاجم النبلاء البروتستانت في الثالث والعشرين من أيار/مايو عام 1618  برج براغ، الذي يقطنه والي القيصر الألماني "ماتياس"  الذي سبق وأن أصدر قرارات لتقليص حقوق البروتستانت الدينية في الإمبراطورية الألمانية، وكانوا يطالبون بالحرية الدينية. هذا الفعل الثوري الذي سجله التاريخ كان بداية التمرد البروتستانتي، ثم سعى القيصر الألماني لإخماده، مما تسبب في حرب الثلاثين عاماً، وانهيار أوروبا الوسطى كاملة، وشكلت الحرب صدمة للقارة، وخلّفت ندوباً عميقة استمرت لعقود متتالية.

الحرب خلفت تسعة مليون قتيل، حيث تم القضاء على ثلث السكان الألمان، وانهارت الدولة، وأعادت الحرب البلاد إلى الخلف بعقود من الزمن، وشكلت نقطة فاصلة في وعي الناس..

مع انتهاء حرب الثلاثين عاماُ انتهت الأصولية الدينية المسيحية إلى غير عودة. ومهدت الطريق أمام ولادة عصر التنوير. انتهت فكرة الامتلاك والفهم الأحادي للدين كما كان يدعي كل فريق، وانتهت الاتهامات بالانحراف والضلالة والهرطقة والزندقة التي كان يوجهها كل طرف للآخر، تماماً كما تفعل المذاهب الإسلامية والطوائف في عصرنا الحالي. وكان الكهنة والقساوسة يحشدون المتدينين البسطاء من عامة الناس، وتهييجهم على بعضهم البعض ودفعهم لارتكاب المذابح باسم الدين، كما يفعل بعض رجال الدين المسلمين اليوم.

 

الانتقال لمرحلة العقل

بعد القرون التي عاشها الأوروبيون تحت سيطرة الكنيسة ورجال الدين الذين مارسوا ظلماً واستبداداً، حيث كان يسود الجهل والخرافات، وتحقير العلم والعلماء. في القرن السابع عشر تشكلت حركة فكرية رفعت شعار استخدام العقل مرجعاً رئيسياً للحياة بدلاً من الدين. جاء التمرد نتيجة طبيعية دموية للظلم. وظهر الفكر التحرري الذي دعا إلى إعلاء العقل والمنطق على الخرافة.

حينها تقدم عدداً من المفكرين والفلاسفة التنويريين لتفكيك العقيدة اللاهوتية المسيحية ومناقشتها علناً. وهذا ما فعله دينيس ديديرو، وفولتير، وجان جاك روسو، وهم فلاسفة ربوبيين وليسوا ملحدين. وكذلك فعل رينيه ديكارت، فرنسيس بيكون، جان بول سارتر، إيمانويل كانت، فريدريك نيتشه، جون لوك، كارل ماركس. وأسس لنشوء الرأسمالية والعلمانية فيما بعد.

هذه الفترة مهدت لقيام الثورة الفرنسية، وما تلاها من ثورات في القارة الأوروبية، وفي الولايات المتحدة، وأمريكا اللاتينية.

أُطلق على هذا العصر عدة تسميات، منها عصر الأنوار، عصر التنوير، عصر العقل. من أهم مظاهر عصر التنوير قلة عدد الصراعات والحروب الناجمة عن أسباب دينية. ثم بدء استخدام المنهج العلمي في تحليل كل الظواهر الحياتية. وتحقيق تطور كبير في العلوم الطبيعية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وتقدم العلوم الإنسانية خاصة الفلسفة. ثم ترك الجهل والخرافة وامتلاك مناهج علمية وتفكير منطقي. فتطور الأدب والمسرح والترجمة، وظهرت الصحف التي ساهمت في نقل ونشر الأفكار والعلوم والفلسفة. أيضاً انتشرت المدارس والجامعات والمكتبات، وتم تأسيس المقاهي والصالونات الثقافية. مناقشة الأفكار نجم عنه زيادة الوعي المعرفي لدى الناس. كل ذلك أسهم في تنشيط الحركة العلمية التي أنتجت قيام الثورة الصناعية في أوروبا وازدهارها.

 

الإصلاح الإسلامي بين الفلسفة والدين

في فترة كان الفكر العربي والإسلامي يعاني حالة من الانغلاق والانسداد في المشرق العربي بالقرن الثاني عشر ميلادي، حيث تم زندقة الفلسفة والحط من قدرها، ومحاربة المنطق والعلوم العقلية الأخرى، وجرى تكفير أصحابها حتى قيل "من تمنطق فقد تزندق ودمه حلال"

تصدى صاحب أهم كتب الفقه المقارن "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" الفيلسوف الأندلسي "ابن رشد" 1126ـ1198م للدفاع عن الفلسفة، وهو الرجل العالم بها والمبحر بالدين، فقال "الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها" واعتبر أن ما يجري جهلاً بالفلسفة وتجاهلاً للنصوص الدينية التي تدعو إلى إعمال العقل. ثم قام "ابن رشد" بتأليف كتاب "فصل المقال" لفض الاشتباك بين الدين والفلسفة، فاعتبر أن الحكمة هي الفلسفة، والشريعة هي الدين.

ظهرت في العهود اللاحقة محاولات تنويرية دعت للعلم والعقل من دون النزوع عن الدين. قام "محمد علي باشا" عام 1827 ببعض الإصلاحات وأرسل البعثات الطلابية إلى القارة الأوروبية. ثم الشيخ "رفاعة الطهطاوي" الذي كان منبهراً بالغرب، وحاول عام 1842 تأكيد الإيمان الديني للفلاسفة التنويريين الغربيين قياساً على فلاسفة اليونان القدماء، للترغيب فيهم. ثم ظهر "جمال الدين الافغاني" الذي حذّر من الغرب ودعا إلى تجديد الفكر الإسلامي وإنشاء حزب وطني للمسلمين عام 1871. ثم ظهر الشيخ "محمد عبده" واحداً من أبرز المحدثين في الفقه الإسلامي بالعصر الحديث، ودعا عام 1882م إلى الحريات الشخصية والسياسية.

ثم ظهرت تجربة "عبد الرحمن الكواكبي" صاحب كتاب "طبائع الاستبداد ومصاره الاستعباد" مع الإصلاح، هو الذي أسس 1897 جمعية لبحث أسباب الخفوت العربي قياساً بما تقدمت به أوروبا.

ومن خارج الإطار الديني ظهر دعاة تنويريين من المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، منهم "قاسم أمين"، "طه حسين"، "معروف الرصافي".

المفكر الفلسطيني الليبرالي "إدوارد سعيد" الذي أسس دراسات ما بعد الاستعمار ـ الكولينيالية. والمفكر السوري العلماني "صادق جلال العظم" صاحب كتاب "نقد العقل الديني"،

المفكر والفيلسوف المغربي "محمد عابد الجابري" يعد واحداً من أبرز الوجوه العلمية التي قدمت مقاربة جديدة في قراءة التراث العربي الإسلامي في العصر الحديث. وقاد الجابري مشروعاً مهماً للحفر والبحث والتقصي عن الآليات المنتجة لمضامين ونظم ومعارف الفكر والتراث الإسلامي. فيما المفكر والفيلسوف المغربي "عبد الله العروي" يؤمن بالتاريخانية مذهباً وفلسفةً ومنهجاً للتحليل، وهو بعكس الجابري ينادي بالقطيعة مع التراث العربي والإسلامي، ويتبنى الحداثة الغربية كقيمة إنسانية.

بينما آمن المفكر والفيلسوف الجزائري "محمد أركون" بالحداثة، وانتقد العقل الإسلامي بلسان فرنسي وبعقل استشراقي غربي.

ومن خارج المؤسسة الدينية نذكر المفكر السوري "جورج طرابيشي" صاحب كتاب "نظرية العقل العربي: نقد نقد العقل العربي" الذي يعتبر أنه لم توجد في الاسلام فلسفة وما كان لها أن توجد، وأن المسيحية احتضنت الفلسفة منذ بداياتها.

ولكن من سوء طالع هذه الأمة أن كافة الجهود الني بذلها الأولين تعرضت لانتكاسات على يد الطغاة العرب، والمتشددين، وانتهت مآلاتها إلى غير عودة. وحاربت الأنظمة العربية الاستبدادية الأفكار التنويرية، ولا حقت المفكرين والمثقفين الليبراليين، وفعلت كل ما من شأنه لتقهقر مشاريع التنوير، التي استعاضت عنها تلك الأنظمة البائدة بالأيديولوجيات والقهر الحزبي والسياسي.

 

 

التنوير العربي

نحج التنوير في أماكن متعددة في العالم وفشل بنسخته العربية، ولا يزال معظم العالم العربي يرزح تحت وطأة الاستبداد والجهل والخرافة، ولا يزال يحارب الأفكار الليبرالية، وخطاه متعثرة وتائهة ومتباعدة في درب التنوير. ولا يزال العرب غير قادرين على تفكيك العقائد وتحليلها من منظور إسلامي عقلاني، وهذا يحتاج إلى عقود كي يتمكن العرب التحرر من الرؤية القديمة للعالم، ومواجهة الشعوذة، والإيمان بالتفكير العقلي، وإعادة المكانة للفلسفة، لبناء مشروع تنويري عربي.

فشلت جميع الحركات والشخصيات الدينية والمحاولات التي تدعو إلى التنوير كلاً بأسلوبه. بعض هذه الحركات آمنت بالإصلاح الديني، ثم تحولت إلى حركة سياسية، لم تتمكن لأسباب أيديولوجية من بناء نظام اجتماعي واقتصادي لإحداث إصلاحات حقيقية في بنية الفكر والعقل العربي والإسلامي لقيادة نهضة عصرية حقيقية.


يفتقد العالم الإسلامي اليوم رجلاً يفعل ما قام به الفيلسوف الأندلسي التنويري "ابن رشد" في الأندلس، حين قام بترجمة وشرح أعمال أرسطو المعلم الأول، مما ساهم في زيادة تأثيره على أوروبا القرون الوسطى.

ما يعانيه العالمين العربي والإسلامي من تصاعد الطغيان والجور، واتساع رقعة الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية، وارتفاع الغلو والتطرف الديني والمذهبي، يتطلب من المفكرين والمثقفين الليبراليين ومن رجال الدين المحدثين العرب والمسلمين، العودة إلى ما قبل ثمانية قرون سابقة، لأنه طوال هذه المدة كان العقل العربي خلالها في حالة سبات وتخدير، وكانت الفلسفة في موت سريري.

نحن ما زلنا لغاية اللحظة لم نتجاوز التساؤلات عن/ حول الدين والفلسفة التي قدمها كلاً من ابن المفقع، وأبو حيان التوحيدي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، والكثيرين سواهم، وجميعهم اتهموا بالزندقة والكفر والإلحاد، وبعضهم تم حرق كتبه ومنهم من مات قتلاً.

إن المقاربة الموضوعية حالياً بيننا وبين الغرب، لا تظهر تخلف العرب والمسلمين فلسفياً وفكرياً وعلمياً وتكنولوجياً فقط، بل وتخلفاً في فهم الدين أيضاً.

إن من أهم المقومات التي تقود إلى الإصلاح والتنوير بظني هو أن نفهم الدين الإسلامي فهماً سليماً يتوافق مع العقل ولا يتصادم معه. حيث لا يمكن الحديث عن التنوير في ظل انتشار الجهل والخرافة والسحر والشعوذة وربطها بالدين في العالم العربي. وفي ضوء قيام بعض رجال الدين بتشجيع ما يسمى التدين الشعبي، ومحاربة أية أفكار إصلاحية تلجأ إلى استخدم العقل ـ الذي هو جوهر الدين الإسلامي ـ وتكفير أصحابها وزندقتهم.

فهل أصبح التنوير العربي في ذمة الماضي، وانتقل إلى جوار التاريخ؟

في الحقيقة أن التنوير لم يتجاوزنا ولم نتجاوزه، فنحن لا زلنا متأخرين فلسفياً وعقلياً وفكرياً، وما هذه الانسدادات والتخبطات والصراعات، إلا مرحلة لا بد الاكتواء بنارها من أجل مستقبل أفضل، حسب قانون "هيغل" للتقدم، فالتناقض هو جوهر جميع الظواهر والأشياء وهو منبع كل نمو. لأنه عبر الحركة والصراع الموجودتان في كل شيء يولد الجديد. لذلك فإن التنوير آت، فهو أمام العرب والمسلمين لا خلفهم.

 

 

47
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


أمير الأسرى.. وليد دقة..
المثقف المشتبك

مرة أخرى العودة إلى الكتابة المؤلمة عن قضية الأسرى الفلسطينيين الأجلاء الشرفاء العظماء في معتقلات الموت الصهيونية.
يموت السجان وأحلامهم لا تموت. رغم بشاعة السجن، وفظاعة الزنازين، وقبح السجان وفجوره، يظل الأسرى الفلسطينيون وحدهم ينتظرون بتطلع وترقب قدوم ساعة الحرية لهم وللوطن المغتصب. يزدهون بفخر مثل شعاع الأمل، يعلّمون العالم أجمع أبجديات الثبات على الحق، والصمود بوجه السياسات القميئة لسلطات الاحتلال الصهيونية، وطغيان إدارة السجون الإسرائيلية الوضيعة.

أمير الأسرى
واحداً من أهم مثقفي ومفكري الحركة الاسيرة الفلسطينية. أحد أبرز عمداء الأسرى. سادس أقدم أسير فلسطيني في الزنازين الصهيونية. أحد ثلاثين أسيراً معتقلين منذ ما قبل اتفاقيات أوسلو المذلة. واحداً من أعظم أيقونات الصمود والتحدي. من أشهر القيادات النضالية في السجون الصهيونية. تم اعتقاله  25بتاريخ  آذار/ مارس عام 1986. يبلغ من العمر الآن تسعة وخمسون عاماً. أحد اشد حالات الأسرى الفلسطينيين المرضى المصابين بالأمراض المزمنة في سجون الاحتلال.
إنه الأسير المثقف المشتبك وليد دقة من باقة الغربية بمنطقة المثلث في فلسطين المحتلة من مواليد الأول من يناير 1961، دخل السجن قبل ستة وثلاثين عاماً. محكوم بالسجن المؤبد مدى الحياة، بعد إدانته ورفاقه إبراهيم ورشدي أبو مخ وإبراهيم بيادسة بالعضوية في خليّة نفذت عملية خطف وقتل الجندي الاسرائيلي موشي تمّام في العام 1984.
مثل أي أسير فلسطيني، له حكايته وخصوصيته. وقد عُرف عن الأسير وليد دقة تحديه الشجاع لإرادة السجان الغاصب والمحتل. لم يقف سجنه أمام طموحه العلمي، إذ لم يمنعه الأسر من إكمال دراسته الجامعية، حتى حصوله على لقب ماجستير في العلوم السياسية.
 وليد تجسيد حي عن معاناة وعذابات الأسرى عموماً، وخاصة أسرى الداخل الفلسطيني الذين تم اعتقالهم ما قبل اتفاقية أوسلو البغيضة، وترفض سلطات الاحتلال الصهيونية الإفراج عنهم.
أحد أهم مثقفي ومفكري الحركة الأسيرة في فلسطين. لم تنل سنوات الأسر من عضد وليد دقة وعزيمته يوماً. إضافة إلى أنه تمكن من إكمال دراسته الجامعية، برز قائداً مقداماً في جميع نضالات وتحركات وإضرابات كل الأسرى. شخصية قيادية غير انفعالية، يجيد إدارة المعارك مع إدارة السجون الإسرائيلية. موقعه في مقدمة معارك الشرف التي يخوضها الأسرى الفلسطينيين مع السجانين الصهاينة على الدوام. مناضل محنك سياسياً، ورجل مثقف ثقافة عالية، كتب الكثير من المقالات والدراسات في سجنه، تم تهريب معظمها إلى خارج السجون ونشرت، وبعضها  تم اعتمادها أيضاً داخل السجون والمعتقلات كمواد تثقيفية للسجناء. تم تحويل نصه الذي كتبه في الأسر بعنوان "الزمن الموازي" إلى مسرحية تم تقديمها على مسرح الميدان في مدينة حيفا المحتلة، مما أربك سلطات الاحتلال، التي أخذت تبحث كيف تم تسريب النص المسرحي خارج السجن، وكيف تتجرأ فرقة مسرحية فلسطينية تحويله إلى عمل مسرحي وتقديمه للجمهور. يصف وليد دقة، في النص المسرحي حالة السجناء ونظام حياتهم في الأسر داخل الزنازين، حيث يشرح هذا الوضع بأنه عبارة عن حياة تسير في زمن موازٍ للزمن الذي يعرفه بقية الناس.
يقول وليد "أكتب حتى أتحرر من السجن على أمل أن أحرره مني"
من بين الكتب التي أصدرها رواية بعنوان "حكاية سر الزيت" تدور أحداثها حول صبي فلسطيني اسمه جود في الثانية عشرة من عمره، وعلاقته مع والده الأسير، وارتباطه بشجرة زيتون عمرها 3000 عام، وكأنه يجسد صمود الأسرى وإرادتهم، ويخاطب المحتل والعالم قائلاً: إننا هنا منذ فجر التاريخ بتاريخ.
 وكتب أخرى أبرزها "الدولة والدولتين"، "جنين تقاوم" و"صهر الوعي"، ورواية لليافعين، التي حصدت جائزة اتصالات الإمارتية لأدب اليافعين.

أغرب وأجمل عقد زواج في التاريخ الفلسطيني
الأسير النبيل وليد دقة تعرف  إلى المترجمة والمناضلة الفلسطينية، ابنة مدينة  اللدّ سناء سلامة  عام 1996 أثناء زياراتها المتكررة للسجون. ثم تزوّجا على الورق في العام 1999، وتم عقد القران في ظروفٍ بالغة التعقيد في سجن عسقلان، حيث شكل زواجهما سابقة في تاريخ الحركة الأسيرة.
 رفضت السلطات الصهيونيّة منح الزوجين فرصةَ التواصل الطبيعي لإنجاب طفل. واستمر وليد وسناء بنضالهما القانوني من دون أن يفضي إلى أية نتيجة إيجابية، نتيجة العجرفة والظلم الذي تمارسه سلطات الاحتلال، واستهتارها بالحقوق الإنسانية الطبيعية للأسرى وعموم الفلسطينيين. رفضت إدارة السجون الإسرائيلية للزوجين الاجتماع سوياً، وذلك بحجة تشكيل خطر على أمن الدولة.
لكن هذا لم يمنع من استمرارهما المحاولات، إلى أن تمكنا من إنجاب طفلتهما "ميلاد" في 3 شباط /فبراير 2020، وذلك عبر "نطفة محررة" تم تهريبها من السجن.
 ولعل هذه القصة الاستثنائية  لزواج الأسير وليد وسناء، وحكاية إنجاب ابنتهما ميلاد، تمثل انتصاراً للحياة والأمل على القهر والقمع، انتصاراً لإرادة وعزيمة الأسير وتمسكه في حقه الإنساني والسياسي والوطني، على تعسف إدارة السجون واستبدادها. تأكيداً على أن لا سنوات الأسر، ولا كافة أساليب القتل والقهر يمكن لها أن تنال من إصرار وعزيمة الأسرى العظماء ومعهم كافة الفلسطينيين بحقوقهم، على الرغم من ألم قضبان الاعتقال.

حالة وليد الصحية
بعد ستة وثلاثين عاماً أمضاها الأسير المثقف العضوي المشتبك وليد دقة في أعتى وأقذر السجون والمعتقلات الإسرائيلية، تدهورت حالته الصحية، وأصيب بعدد من الأمراض نتيجة ظروف اعتقاله، والإهمال الطبي المتعمد بحقه من قبل إدارة السجون الصهيونية. حين تم إجراء فحوصات للأسير دقة في العام 2015، تبيّن أنه يعاني من كثرة كريات الدم الحمراء "بوليتسيتيميا"، الأمر الذي يتطلب إجراء عمليات فصد بمعدل مرتين أسبوعياً وبشكلٍ منظم ودائم.
غالباً ما تقوم إدارة السجون الصهيونية بنقل الأسير الصنديد وليد دقة إلى قسم العزل الانفرادي، لأسباب واهية متعددة في كل مرة. بهدف كسر روحه المعنوية.
وهو الآن يقبع في زنازين العزل الانفرادي رغم ما يعانيه من وضعٍ صحي صعب وخطير. وفي الثاني من فبرابر الجاري، رفض دقّة تلقي العلاج من طبيب السجن احتجاجًا على عزله دون إعلامه بتفاصيل أو مدة العزل، ولعدم ملائمة العلاج في عيادة السجن.
إن سياسة العزل المُمنهجة التي تتبعها مصلحة السجون الإسرائيلية بحق الاسرى الفلسطينيين، لا تمت للإنسانية بصلة، خاصةً بحق الأسرى المرضى وأصحاب الأحكام العالية.

أم القضايا الوطنية
قضية الأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال الصهيوني تشكل أحد أهم محاور الصراع مع سلطات الاحتلال، إضافة إلى كونها قضية إنسانية مشرّفة، وتستحوذ على اهتمام كافة مكونات الشعب الفلسطيني، حيث  قضية الأسرى في عمق الوجدان النضالي والإنساني للفلسطينيين، باعتبارها قضية تمثل قيماً كفاحية في التاريخ الفلسطيني.
ينفذ العدو الإسرائيلي سياسة القتل البطيء بحق الأسرى الفلسطينيين القابعين في زنازين الاحتلال، من خلال حرمانهم من أبسط حقوقهم في العلاج وتوفير الأدوية، ومنع وصول المعقمات وأدوات التنظيف إليهم في ظل انتشار وباء كورونا، وتقوم إسرائيل بتنفيذ هذه السياسة التي تقرها جهات عليا، بشكل متعمد لممارسة أكبر ضغط ممكن على الأسرى وعلى القيادات الفلسطينية، لتفتيت إرادتهم النضالية.
على سبيل الذكر لا الحصر، فإن الأسير سامي أبو دياك فقد حياته داخل السجون الإسرائيلية وهو مكبل الأيدي والأرجل بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، حيث اشارت جميع التقارير الحقوقية إلى أنه توفى جراء الإهمال الطبي المتعمد.
 ويمارس الاحتلال الإسرائيلي نفس هذه السياسات القذرة مع باقي السجناء ويحرمهم من العلاج والأدوية، فيما الكثير من الأسرى الفلسطينيين الابطال حياتهم مهددة بالخطر بسبب الأمراض التي يعانون منها.
تواصل سلطات الاحتلال محاولتها الفاشية في التنغيص على الأسرى والتهجم على حقوقهم والتضييق عليهم، في كل تفاصيل حياتهم اليومية. في استهتار مرة أخرى بحياة الأسرى الفلسطينيين، ولا مبالاة بالقانون والأعراف الدولية أقدمت سلطات الاحتلال الصهيوني في عام 2019 على إقرار قانون لتجميد تمويل علاج الأسرى الفلسطينيين في سجونها، وأكدت أن علاج الأسرى يجب أن يكون على حسابهم. كما تسعى الحكومة الإسرائيلية لتنفيذ قانون سلب مخصصات عائلات الشهداء والأسرى، عبر خصم المخصصات من عائدات الضرائب التي يتم جبايتها لصالح السلطة الفلسطينية. وبحسب بعض المعلومات فقد تم إغلاق أكثر من 90 حساباً بنكياً لعائلات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال من قبل أحد البنوك.

حريتهم بوابة لحرية الوطن
الأسير المناضل وليد دقة من أبرز المثقفين والمؤثرين داخل السجون الصهيونية، وسياسة العزل الانفرادي سياسة للقمع والتنكيل بحق الأسرى الفلسطينيين. برز دوره النضالي كأحد كوادر الحركة الأسيرة، ومثقفيها، كما ويقوم بدورٍ هام على صعيد التعليم الأكاديمي للأسرى، ونتيجة لشخصيته القيادية المحببة، ولحضوره الفاعل بين الأسرى، فإنه ظل في دائرة استهداف إدارة السجون وأذرعها الأمنية للنيل منه ومن فكره ومكانته في الحركة الأسيرة، ومن فلسفة التفكير التي يملكها، خاصة في ظل الحراك النضالي المُستمر داخل السجون.
وأنتم تقرأون هذه الكلمات ما زال الأسير المثقف العاشق القائد المفكر وليد دقة يقبع في زنزانته بمعتقل "ريمون" الذي يعتبر واحداً من أكبر السجون الصهيونية التي تضم أسرى فلسطينيين، وأكثر المعتقلات وحشية ودموية، حيث يشهد هذا المعتقل صدامات مستمرة بين الأسرى وإدارة السجن.
وليد ينتظر أن يتحرر من السجن وهو يعلم أن الحق لا يناله إلا الأحرار، ولا يطالب به إلا الأحرار، ولا يستحقه إلا الأحرار. وأن الطغاة مهما تجبروا واستبدوا لن يتمكنوا من حجب شمس الحرية.







48
صدور ديوان "درب الأراجيح مغلق" للباحث والشاعر حسن العاصي


عن هيئة الكتاب الوطنية الدنماركية صدرت المجموعة الشعرية "درب الأراجيح مغلق" للباحث والشاعر الدنماركي من أصل فلسطيني حسن العاصي.

يعد كتاب "درب الأراجيح مغلق" الديوان الخامس في مسيرة الشاعر.

الكتاب عبارة عن نصوص شعرية نثرية. يضم سبع وثلاثون قصيدة متنوعة بين شعر التفعيلة والشعر الحديث. يقع الكتاب في 195 صفحة.  قدم للكتاب الشاعر والناقد المغربي أحمد الشيخاوي. الغلاف من تصميم مؤسسة كانفا.

من إهداء المؤلف:

من وهبَ الفصول ولادتها؟

ومن أوقع في اللحد شهقة الاندفاق؟

هنا صرير قلبي فوق التنور يفور

فمن يقبض على يقظتي قبل السقوط الأخير؟

إليهما وهما ينتظران.. أدنو

محمد وحسين العاصي

تحرسكما نمنمات النور الراقد في جوف الريح.

 

مما جاء في تقديم الكتاب:

"درب الأراجيح مغلق" جرعة ألم زائدة، ما تنفكّ تخيم على أفق الرؤى المؤثثة لعوالم المعمارية الشعرية لدى شاعرنا، وتوقظ المسكون بنُثار الذاكرة، داخل حدود توليفة تعبيرية مكمنها البوح القاهر والمتسربل بنفس ملحمي خفيض ومناوش بخلطة أيديولوجية جمالية يطبعها اختمار روحي طيفي صاقل لمرايا الماهية الموجوعة والمطعونة في قضايا المساس بقدسية البعد الهوياتي في لبوسه العروبي، حدّ اختزال القصيدة وسكبها فيه.

يشتقّ حسن العاصي معجمه الشعري، من تيارات حياتية تتقاذفها هواجس اغتراب روحي مزدوج، وتجليات ضاغطة مثلما تجرد صوغها ذاكرة المنبت، وتهمس بها الحالة النشاز في انشدادها وفلكلورية حلزونيتها والتفافها بالجذر.

قصائد تسري كأنها تدفّق معسول الأنهار الأخرى، التي هي وقف قاموس ضاربة بحفنة من ورد على خدّ مثالي يحاكي خدّ ليلانا جميعاً.

نحن إزاء كتابة جاذبة وراشقة. نصوص ترفل في الاستعارة الكلية، وتدبّج فسيفساء النعوت بتوحّد أغراضها، وانصهار بعدها الرسالي في بوتقة استنطاقات مفاهيمية تعنى بالانتماء.

توليفة كأنما تعزف على أوتار القلب، تعقد لها الذات بعضاً من قران طوباوي هامس، تختمر عبره تجربة الاغتراب ومفردات الهوية.

 

من قصائد المجموعة:

يتواطأ غيمكَ وكدري / موسم خارج الشجر/ كي نبرأ من اليباس/ يعانق الثوب مني الحجارة/

ما زلت في جنون العرائش صغيراً / لشوكها المتهدل شرفة / مكتظ بالطحالب الضريرة / وتكابدك سرة الغيوم /  حتى يشرق البحر/ ذرفت نهري وطيوري / كثيرة هي حماقاتي / أنتظر قلبي أن يكبر/ أحدثك عن وجع الحقيبة / قلبي يعاني الأرق / يعود الشجر إلى البحر/ بلا أجنحة يقع قلبي / وجهي نافذة هرمة/.

 

المؤلف في سطور:

حسن العاصي

باحث وكاتب وشاعر دنماركي من أصل فلسطيني.

باحث في قضايا اللجوء في منظمة مساعدة اللاجئين الدنماركية.

عضو  اتحاد الصحفيين الدنماركيين.

عضو  اتحاد الكتاب والمؤلفين الدنماركيين.

عضو  الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين.

عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين.
عضو اتحاد كتاب الإنترنت العرب.

عضو في جمعية الصداقة الفلسطينية الدانمركية.

عضو في لجان حق العودة .

باحث دكتوراه في علوم  الإعلام.

حاصل على ماجستير في الإعلام والصحافة. 
حاصل على بكالوريوس في الإعلام والصحافة.

دبلوم دراسات سياسية وبناء دولة.

دبلوم دراسات فلسطينية.

 

نشر مئات المقالات وعشرات الدراسات والأبحاث السياسية والفكرية والثقافية.

أصدر أربعة مجموعات شعر:

ثرثرة في كانون/ الدار البيضاء 2008

خلف البياض/ دار جزيرة الورد للنشر، القاهرة 2014

أطياف تراوغ الظمأ / مؤسسة شمس للنشر، القاهرة 2016

امرأة من زعفران / مؤسسة شمس للدراسات، القاهرة 2017

 

ـ تحت الطبع ويصدر قريباً:

كتاب الأهداف الاستراتيجية للاختراق الصهيوني للقارة السمراء.

ديوان "أغمضت الغابة عشبها".

-        تم تكريمه من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية ومؤسسة سيدة الأرض بلقب "النموذج الفلسطيني" عام 2018.

ـ فاز بالمركز الأول في مسابقة السلام العالمي عن قصيدة النثر.

ـ شارك ضمن 40 شاعر عربي في كتاب أنثولوجيا الشعر العالمي الصادر في الولايات المتحدة في ابريل/نيسان 2018.

ـ حاز على عدة جوائز:

ـ جائزة الإبداع الأدبي من مؤسسة الفكر للثقافة والإعلام/ العراق- كردستان.

ـ  درع السلام الفائز الأول بقصيدة النثر/مؤسسة الفكر للثقافة والإعلام/ العراق- كردستان.

ـ وسام الأنتلجنسيا من مؤسسة أنتلجنسيا للثقافة والفكر الحر/ تونس.

 ـ وسام العطاء الإبداعي مرتين عامي 2015- 2016/ مؤسسة الصدى للإعلام/ الولايات المتحدة.

ـ ترجمت بعض أعماله إلى اللغات الإنجليزية والدانمركية والبلغارية.

 

 

49

أحمد الشيخاوي
شاعر وناقد مغربيّ


حسن العاصي... شاعر يربّي عشق الانتماء بروح مغتربة
قراءة في ديوان "درب الأراجيح مغلق"

بعد دواوين "ثرثرة في كانون" و"أطياف تراوغ الظمأ" و"خلف البياض" و"امرأة من زعفران"، وعلى امتداد خارطة إبداعية لافتة، وبحسب المستشفّ من مجمل منجزه الشعري الجدير بالغوص فيما ورائيات اللون، وسراديب الحكي المكتظة بالبياضات المثرثرة بوجعنا العروبي، ما ينفكّ الشاعر الفلسطيني المغترب حسن العاصي يسلك دروب الإخلاص للغصن الأول، بما الكلمة أشبه بانتحار إبداعيّ لاذع، وجَلد ذاتيّ مفخّخ لملف العروبة وشتى خيوط انجذابها لأزمتها الهوياتية. دوماً هنالك في كتاباته بسط لهيمنة أصوات الدفين والغائر في الذات، من حيث النزوع إلى بلورة نيوكلاسيكية ترتقي بشعرية القصيدة، وتوجّه خطاب تلافيف القابع في اللاوعي، تستقطبه إلى انصهار كريستالي في شتّى ما يترجم ثقل وتوهّج الإحساس بالانتماء إلى حقل إنساني لامّ ميسمه اللامحدود واللانهائي في تجربة تجاذب الأضداد.

ديوان "درب الأراجيح مغلق" جرعة ألم زائدة، ما تنفكّ تخيم على أفق الرؤى المؤثثة لعوالم المعمارية الشعرية لدى صاحبنا، وتوقظ المسكون بنُثار الذاكرة، داخل حدود توليفة تعبيرية مكمنها البوح القاهر والمتسربل بنفس ملحمي خفيض ومناوش بخلطة أيديولوجية جمالية يطبعها اختمار روحي طيفي صاقل لمرايا الماهية الموجوعة والمطعونة في قضايا المساس بقدسية البعد الهوياتي في لبوسه العروبي، حدّ اختزال القصيدة وسكبها فيه.
يشتقّ حسن العاصي معجمه الشعري، من تيارات حياتية تتقاذفها هواجس اغتراب روحي مزدوج، وتجليات ضاغطة مثلما تجرد صوغها ذاكرة المنبت، وتهمس بها الحالة النشاز في انشدادها وفلكلورية حلزونيتها والتفافها بالجذر.

لذلك، طالما شكّلت وعي شاعرنا، خيوط العنفوان في ميزان القضية الفلسطينية المسطورة أو المنقوشة في بكارة البياض، تبعاً لأحرف مدادها نفحات روح مغترب يجدّف مزداناً بفروسية العاشق الغاضب الأولى بقلبه الدامي أن يخفق شعراً مشبعاً بلغة الانكسار، نكاية في حثالة من زلزلوا مضارب ليلى تحت قدميه، بما المعضلة والاستشكال اغتصاب لملامح وطن عصي نابض ورافل في أريحية عروبته المكابرة، فطوبى لنظير كهذا مجنون ملء القصيدة وحقيبة اسمها القلب يتنفّس أقصى الدرجات وأنأى الأنجم تعشّق ليلاه المكناة فلسطين.
في كتابة تستوقد بالماء، تهشّ بزئبيقة المعنى الوالج في دوامة المائيات، والذات اكتواء وملحمة طافحة بذبول الراهن وتحجّر الآني، تنهش لُحمة الأنساق، ضاربة لنا الموعد المخملي مع حكاية الالتزام بالدورة الكاملة في المقامرات الكلامية المشحونة بهديل الهامشي والمعطّل والمهجور، من خلالها تتأمّم أو تحاول ذلك، ذات الانشطار والهذيانات المحمولة على تيميتين لا ثالثة لهما، الهوية والاغتراب، وكأنما تتوسل على عجل وخارج قيود الزمن ووفق استثمار جشع لمخزون الذاكرة، وتنشد علياء كأس الاحتواء، تماما وعلى مقاس مرثاة الأمة المشروخة والمهدّدة في مزيد من ثوابتها ودعاماتها، بما السيناريوات حياكة خسيسة بتواطؤ يدشنه تمازج أيادي الخونة والغرباء، مطيح ولا شك بالمتبقيّ، ومحيل على دنو تآكلات وأعراض جانية تنذر بخراب وحطام شاهد على فصول المحذوف من حكاية انكسار وانحسار في ليلته بداية لياليه الكالحة والمغرقة في سوداوية جحيمية، تحصد دونما هوادة، بؤر الغضّ والنضر والمزهر في إنسانيتنا المهدورة أصلاً:
جنائز الغرباء
على بعد طفولة
من باحة البكاء
نعش يسترق الحياة
لكن..
درب الأراجيح مغلق.

ثم في مكان آخر يقول الشاعر:
الوجع الضاري ينبت شوكاً
على أطراف كل لحظة

قصائد تسري كأنها تدفّق معسول الأنهار الأخرى، التي هي وقف قاموس ضاربة بحفنة من ورد على خدّ مثالي يحاكي خدّ ليلانا جميعاً، ونحن نتلمّظ من جهة العطشى للبرود من نبع القصيد وسلسبيله، ثمالة أمجادنا المتراقصة أو المحجوبة والمعطّلة عنّا فيها وهي المعشوقة النموذجية على مرّ السنين وتعاقب الأجيال، والتي ما تلبث تهزمنا غضاضة ومرارة الذبيح والمغتصب عبرها فينا دونما مواربة، وهل ليلانا إلّا عروس المستحمّات وملاكهن، السّليبة فلسطين؟
تنهمر أسئلة الذات، مخلخلة واقع القضية، وناكئة للجراحات الأبلغ غطساً في أخطاء التاريخ.
وهو ديدن دأب عليه العاصي في بلورة رؤاه ونسج مواقفه المسبوكة بنورانية الخلفية، والدفع بها إلى دوائر تضيق أكثر فأكثر مع التبخّر الروحي المنساق وشعرية توبيخ العالم، اتكاء على زحزحة نظرة لم تعد قادرة على المواكبة، آثرت أن تمكث في ثوبها القشيب فيما يخص حياة النضال بالكلمة والقول الشعري الذي يتغيّا قلب المنظومة المفاهيمية المحكومة بثالوث الأنوية والغيرية والكونية.
لوحات تراوح ما بين صفحات الإشراق والذبول، الحضور والغياب، مساهمة في تلقين الخطاب الإنساني الراقي المنصف للذات في ضوء ما يتفشى من وإلى جوانيتها الرّازحة تحت نير تقاطعات هوياتية ــ اغترابية، تمنح للشعر هشاشة إضافية، لا بل تضعه فوق الحياة كدالّ على جنون إدمان الحرف بعدّه السلاح الشرعي المتاح كضرب من تكريس لثقافة لملمة المفقود وتقمّص روح المشترك وتتحسّس ريح الخلاص، وترع حيّز الحكاية المنسية وملء غاية مقدّسة يلوّن متاهاتها حضور فلسطين:

النوافذ ملّت لعبة التوقع
ستكون الرحلة طويلة
فلا داعٍ للعجلة
ستحصد حزنك
حين يصرخ عصفور الوقت

وفي مقطع آخر:
هناك
تماماً هناك
خلف ستارة الجنون
جهة أقصى المتاهة
تمور شرفات الانتظار
تتدلّى منها
وجوه الراحلين

إذاً، نحن إزاء كتابة جاذبة وراشقة بطقوسيات إعادة ترتيب الأوراق فيما يرتبط بإقامة مصالحة حقيقية تنطلق من الذات كي تشمل سائر ما حولها، على احتكاك مع أفلاك الشاعرية المدغدغة بصفاء المعجم ودفق الرؤى المشكّكة.
نصوص ترفل في الاستعارة الكلية، وتدبّج فسيفساء النعوت بتوحّد أغراضها، وانصهار بعدها الرسالي في بوتقة استنطاقات مفاهيمية تعنى بالانتماء.
توليفة كأنما تعزف على أوتار القلب، تعقد لها الذات بعضاً من قران طوباوي هامس، تختمر عبره تجربة الاغتراب ومفردات الهوية، وفقاً لسريان تيارات خطابية حماسية متصادية ودوائر اغتراف القصيدة رعشة العذرية من تلاوين استحواذ المكوّن البصري على باقي الميكانيزمات التعبيرية والدلالية الأخرى.


50
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


الأسير المرابط ماهر يونس.. أيقونة المعتقلات

الكتابة عن قضية الأسرى الفلسطينيين في زنازين الفاشية الصهيونية، تشبه تلقي اللكمات على المعدة. ما أن تبدأ بهذا العمل الشاق، حتى يعتصرك الألم. ثم لا تجد بديلاً عن الاستمرار حين تستحضر صمود هؤلاء الشامخين في وجه الغطرسة الصهيونية.
تكتب وكأنك تلوك لحمك. حين يضيق الكلام، تبحث الحروف عن وجع يشبهها، يدوّن سفر النوارس، ويجمع مفردات الوطن على الورق.
رجال يبحثون في رثاء الصمت والخذلان، عن كوة ترمم أجنحة الحرية. يغسلون زمنهم بماء التحدي، الشهداء الأحياء. وحدهم يزدهرون بوردة الأمل على قاب نصر. هم وجع الخاصرة والقلب، هم الأحرار في المعتقلات، ونحن الأسرى خارج السجون.

عميد الأسرى ماهر يونس
بعد اعتقال ابن عمه كريم يونس بأسبوعين، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقال ماهر يونس بتاريخ 18 كانون الثاني/يناير عام 1983، بتهمة قتل جندي إسرائيلي. وأصدرت المحاكم الإسرائيلية حكما بالإعدام شنقا على ماهر، برفقة كلاً من كريم وسامي يونس، بتهمة "الخيانة"، حيث إنهم يحملون الهوية الإسرائيلية الزرقاء ويعتبرهم الاحتلال مواطنين إسرائيليين، ثم صدر بعد شهر من الحكم، تعديلاً يفيد بتخفيفه من حكم الإعدام إلى السجن المؤبد. وفي أيلول/سبتمبر من عام 2012، قامت السلطات الإسرائيلية بتحديد حكم المؤبد بأنه سجن لمدة 40 عاما.
الأسير ماهر يونس الذي يبلغ من العمر 63 عاماً أمضى للآن ما يقرب من 39 عاماً في زنازين الفاشيين الصهاينة، وبهذا يكون ثاني أقدم اسير في العالم، بعد مانديلا فلسطين "نائل البرغوثي".
جرى اعتقال ماهر يونس وهو شاب بعمر 23 عاماً قبل أن يتزوج، وبهذا يكون قد أمضى أجمل سنوات حياته في المعتقل، دون أن يؤسس عائلة.
ويونس محروم حتى من رؤية أبناء أشقائه بقرار من المحكمة المركزية الإسرائيلية في مدينة الناصرة، التي رفضت أيضاً التماس سابق كان قد تقدم به يونس لرؤية والده وهو على فراش الموت، ليتوفى دون أن يراه أو يقوم بوداعه بعد سنوات من الانقطاع.
سبق وأن خاض الأسير يونس إضرابا عن الطعام لمدة 10 أيام، في 25 شباط/فبرايرا عام 2013، لتسليط الضوء على معاناة الأسرى في السجون الإسرائيلية، خصوصا أسرى الداخل الفلسطيني، الذين يُحرمون من صفقات التبادل.
ماهر يونس الأسير الطاهر الشامخ خلف القضبان، الحر الوفي، أسد المرابطين في زنازين الفاشية الصهيونية، الصابر على التنكيل والتعذيب، اعتقل شاباً بعمر الزهور، ذاب عمره لكنه رفض الانكسار، وأصر على تسديد فاتورة العز والإباء لأجل فلسطين بكل طيبة خاطر. ماهر يونس هو ورفاقه الأسرى سوف يظلون خناجراً مغروسة في خاصرة سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

أستمد القوة منه
 بعزيمة لا تلين، ومنذ 38 عاماً تقوم والدة الأسير ماهر يونس بزيارته كلما سمحت لها سلطات الاحتلال.
تقول "في يوم الزيارة، كنت أخرج فجراً واتوجه إلى سجن نفحة، قبل أن يجري نقل ماهر إلى سجن النقب، وأعود للمنزل ليلاً" هذه الرحلة الشاقة تستغرق من الوالدة ساعات طويلة وهي على كرسيها المتحرك، ورغم ذلك لم تفوت فرصة واحدة لزيارته.
وبعد أن نقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلية ماهر إلى سجن النقب الصحراوي، أصبحت الزيارة بالنسبة للوالدة الثمانينية رحلة عذاب، إلا أنها تقاوم مرضها بإصرار وإرادة وقوة تسمدها من ماهر كما تقول.
ومن منزلها ببلدة عارة في الداخل الفلسطيني، تقضي والدة الأسير ماهر يونس الحاجة أم نادر، أوقاتها في متابعة أخبار المعتقلين والأسرى، تقيم صلاتها وتتضرع لرب العالمين أن يحمي كافة الأسرى والاسيرات، ويمنحهم الصبر والعزيمة للتغلب على السجان. وتنتظر يوم إطلاق سراح ماهر وجميع الأسرى.
تقول منذ اعتقال ماهر عام 1983 ولم يظل سجن إلا ووقفت على أبوابه الحديدية، وذاقت كل صنوف الألم والقهر والحصار من أجل زيارة ابنها.
ما زالت أم نادر تنتظر عودة ماهر لأحضانها، ليغمرها الفرح بعد أن نالت منها المرض، وأقعدها فوق كرسي متحرك، ومنعتها من زيارة ماهر منذ عامين. تضيف الوالدة "حياتي ليس لها معنى دون رؤية ماهر، وما زلت أسيرة معه، حتى يتحطم قيد السجن ونجتمع دون قضبان وسجان.

الأسرى القدامى
يعرف في قاموس الحركة الاسيرة الفلسطينية أن الأسرى القدامى هم المسجونين في الفترة التي سبقت توقيع اتفاقية أوسلو التي أنتجت قيام السلطة الفلسطينية. كان الاتفاق بين السلطة وإسرائيل على إطلاق جميع الأسرى القدامى دفعة واحدة، لكن السلطات الإسرائيلية أصرت على أطلاق سراحهم على أربع دفعات، أطلقت ثلاث دفعات وامتنعت عن إطلاق آخر دفعة من الأسرى وعددهم 30 أسيراً، نصفهم من مناطق الداخل الفلسطيني. حيث كان من المفترض إطلاق سراحهم في عام 2013.
 وهم كريم يونس، وماهر يونس، وإبراهيم ورشدي أبو مخ، ووليد دقة، وإبراهيم بيادسة، وأحمد أبو جابر، وبشير الخطيب، وإبراهيم اغبارية، ومحمد اغبارية، ويحيى اغبارية، ومحمد جبارين.
وللأسرى القدامى حكايات وجع لا يبارح. معظمهم أمضى أكثر من 30 عاماً في المعتقلات. وجلهم أمضوا من عمرهم في السّجن أكثر ممّا أمضوا خارجه. ومنهم من ترك أطفاله صغارا ومنهم من كبر أبناؤه وتزوّجوا وأصبح جداً دون أن يرى أي منهم، ومن الأسرى من فقد والديه أحدهما أو كلاهما دون أن يلقي نظرة الوداع. ومنهم من نسي ملامح أصدقائه وجيرانه وأقربائه ومنهم من حُرم من زيارة الأهل.
داخل السّجون نحلت أجسادهم في ظلّ الظّروف القاسية والمعاملة غير الإنسانية والاستفزازات من جانب السجان، والقيام بحملات التفتيش والازعاج الليلية، وعزل الأسرى في الزنازين الانفرادية.
هم رجال عاهدوا الله والوطن، ونذروا أرواحهم واعمارهم رخيصة للوطن الغالي وقضيته المقدسة. هم مفخرة الشرف وإيوان المجد.

أنتم الأحرار
ماهر يونس، عميد الأسرى، أي كلمات يمكن لها أن تفيك حقك ورفاقك الأسرى، وأي مقالة تستطيع وصف تضحياتكم. ملح الأرض أنتم، عنواناً للعز والشرف والرجولة، وسوف تظل سيرتكم النضالية قناديل هدىً لمعاني الحرية والعطاء، ومشاعل حق لدرب النصر والاستفلال، ونشيداً فلسطينيا مكللاً برائحة الأرض.
رجال عظام بهمم عالية، تنحني لهم القامات، الصامدين الصابرين في زنازين النسيان وظلم السجان.
أنتم شامة على جبين فلسطين، وعنواناً واضحاً لكرامتنا، بوابة الانعتاق من الاحتلال وتحقيق حلم بناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. أنتم الأحرار في المعتقلات، ونحن الأسرى خارج السجون.
مهما كتبنا وقلنا لن نفيكم ما تستحقون أيها الأبطال، إننا نسمو بكم، ومنكم نستمد العزيمة والأمل.
ماهر يونس، الأسير الصامد الأبي المتواضع، لا يعرف المستحيل، ثابت على المبادئ والحق، لا تهز إيمانه الصعوبات وسنوات السجن. رفض الاحتلال وأعلنها صرخة في وجه الجلادين المستعمرين، وحطم قيود السجان بشموخه وثقته بعدالة قضيته. لا يقبل بغير النصر موعداً للحرية.

الشهداء الأحياء
إن حكايات 7000 أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية، مؤلمة وقصصهم مؤثرة، ومعاناتهم مع السجن مضاعفة، وصمودهم خلف القضبان مفخرة لنا. يواجهون سلطات فاشية غاشمة، إلا أنها فشلت في كسر إرادتهم، والنيل من عزيمتهم.
في العام الماضي ظل الأسير الفلسطيني وليد دقة ينادي لمدة أربعون دقيقة من خلف الزجاج العازل على والدته التي زارته في السجن دون جدوى، ثم حاول أن يتحدث معها عبر سماعة الهاتف لكنها ظلت صامتة. هذا حدث بعد انقطاع الوالدة عن الزيارة لمدة دامت ستة أعوام، فقد أصيبت الأم بمرض الزهايمر. ظل وليد ينادي والدته وهو يبكي، وهي تقف أمام الزجاج وتتساءل لماذا يقول لي الجميع هذا ابنك.. أنا لا أعرفه.
الاسيرة المحررة أحلام التميمي الذي أصيب والدها أيضاً بمرض الزهايمر، ولم يتعرف عليها، تُبكيك دوماً إن استمعت لها وهي تسرد حكايتها. تقول إنها لم تشعر بالحرية بعد إطلاق سراحها لأن الحرية بمفهومها هي الذكريات مع الأب والأم. تضيف أنه خلال مناقشتها لرسالة الماجستير تذكرها والدها لمدة ثانيتين وناداها باسم التحبب الذي كان يطلقه عليها في صغرها، تقول حينها شعرت أنني حرة.
إن تضحية الأسرى من أعظم وأنبل التضحيات، فهم الذين يضحون بحريتهم لأجل حرية شعبهم ووطنهم.
لذلك هم الوجع في قلوب الشعب الفلسطيني، الذي يبادلهم الحب وبالحب والوفاء بالوفاء، ويستمد من صمودهم العزيمة والقوة.
الحرية والإفراج العاجل عن ماهر يونس، وجميع الأسرى، وجلاء الاحتلال عن أرضنا، وتحقيق الحلم الوطني بالحرية والاستقلال. وتحرر أرضنا من الاحتلال والعدوان.
الحرية للأسرى الأحياء منهم والشهداء. حيث لا زالت إسرائيل تحتجز جثامين 253 شهيد وشهيدة في مقابر الأرقام. و28 شهيداً محتجزاً في الثلاجات، إضافة إلى 58 شهيداً مفقوداً.
إلى متى ستبقى صرخات أمهات وذوي الأسرى بلا صدى؟ وإلى متى يبقى أنين وعذابات ومعاناة الأسرى غير مسموعة؟ وإلى متى يظل العالم صامتاً عن جرائم إسرائيل؟
لك المجد أيها الشامخ ماهر يونس. المجد لجميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية. السلام والتحية لأهلك ورفاقك وكل محبيك
التحية والسلام والحرية لك عميد الأسرى ماهر يونس، والخزي والعار للطغاة الفاشيين.

 


51
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

قراءة في فساد القوى السياسية الفلسطينية..
حائط المبكى في القضية الفلسطينية


تعقدت كثيراً خيوط القضية الفلسطينية خلال الأعوام الماضية، ودخلت نفقاً قاتماً وخطيراً منذ العام 2005، حين قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والطلب من ممثله عفيف صافية مغادرة الأراضي  الأمريكية. ثم اعلان إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه عام 2006، بأن لا شريكاً فلسطينياً لإسرائيل الآن في أية مباحثات سلام قادمة.
بفضل الرعونة السياسية لبعض القيادات الفلسطينية، وصل الشعب الفلسطيني وقضيته العظيمة إلى مرحلة قد تقلب وتغرق المركب الذي يحمل مجمل الأحلام والأهداف الفلسطينية، وتضحيات الفلسطينيين منذ قرن من الزمن.
 نامت النواطير الفلسطينية عن كرومها وعنبها، واشتغلت بخلافتها فجاءت الذئاب والثعالب، وأكلت الكروم والعنب، ومن فيها، بعد أن انشغلت القيادة الفلسطينية، اختلفت وتخاصمت على من يحكم، لا على من يرسم.

واقعية الانهزام
لقد انشغلت الساحة الفلسطينية في الفترة الزمنية التاريخية ما بعد حرب العام 1973 في جدال سياسي حول قضايا مصيرية، مثل الاعتراف بالقرارين الدولي 242 و338 ومحاولة البحث عن حلول مباشرة للقضية الوطنية الفلسطينية، تكون حلولاً مرحلية، بديلاً عما هو تاريخي واستراتيجي في البرنامج الوطني لكفاح الشعب الفلسطيني.
فبرز في البيت الفلسطيني تيار تبنى ما أطلق عليه الواقعية في تحقيق أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، ونادى بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة يجري دحر الاحتلال الإسرائيلي عنها.
بعد نقاش فكري وسياسي عميق تحول إلى صراع بين مختلف قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها امتد قرابة عام، تمكن التيار الواقعي من تعزيز مواقعه في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية وداخل أطر م ت ف، وتحول من تيار كان يمثل الأقلية إلى تيار الأغلبية.
ولاحقا نجح في تحويل أفكاره من الحيز النظري داخل غرف الاجتماعات وتحويلها إلى سياسة عامة لمنظمة التحرير، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1974 برنامج "النقاط العشر”، والذي عرف في حينها “برنامج السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة"
منذ ذلك الوقت رفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هذا البرنامج في مواجهة الاتهامات التي كانت توجهه لها بأنها قيادة متطرفة وغير واقعية. واستخدمت القيادة هذا التوجه الجديد في التدليل على مرونتهم وواقعيتهم، وعلى استعدادهم المساهمة في المساعي الهادفة إلى إيجاد حلول سياسية عادلة وواقعية للصراع مع إسرائيل.
لكن جميع الأحداث اللاحقة أكدت بوضوح، أن ما كان يتم التحضير له في مطبخ السياسة الفلسطينية والعربية، لم يكن سوى طبيخ حصى، لا مرق فيه ولا آدام.

خطة الحل المرحلي
في حينها اعتقدت معظم القيادات الفلسطينية أن الظروف والأوضاع الدولية مهيأة لانبعاث الكيان الفلسطيني الجديد، وقيام السلطة الوطنية على جزء من الأرض الفلسطينية. كان ذلك التحليل يخالف وجهة نظر الشعب الفلسطيني، ويعكس قصوراً فاضحاً في رؤية معظم القوى السياسية الفلسطينية، التي لم تتمكن من توظيف مقدرات وتضحيات الشعب الفلسطيني في معركة الحرية والاستقلال. بل أصرت تلك القوى على الدخول وإدخال القضية الفلسطينية برمتها في نفق حذر من نتائجه الكارثية العديد من المفكرين الفلسطينيين وبعض القوى الأخرى. زمن أبرز نتائج هذا النهج ـ إضافة إلى تقويض أهداف وأحلام الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة ـ أنه أدى إلى هزيمة سياسية فلسطينية انتقلت بالعدوى إلى العرب، وأحدثت هذا السقوط الأخلاقي، والانحدار في القيم والمواقف تجاه عدو الفلسطينيين وعدو العرب إسرائيل.
لقد أكدت الأحداث اللاحقة ومسار الأحداث في المنطقة والعالم، أن القوى الدولية المقررة، وبخاصة قطبي الحرب الباردة حينها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لم يكونا جادين في ايجاد حلول واقعية وعادلة لقضايا المنطقة وصراعاتها المستفحلة.
وإن كل منهما كان يسعى في تلك الفترة لتوظيف الصراع العربي الإسرائيلي لتعزيز نفوذه ومواقعه في المنطقة. كما أكدت أيضا أن ظروف وأوضاع أهل المنطقة أنفسهم لم تكن ناضجة للتوصل إلى أية حلول جدية لصراعاتهم العميقة.
واتضح أن خطة الحل المرحلي كما روج لها أصحابها من القوى الفلسطينية، لم تكن إلا أداة لكبح عنفوان الشعب الفلسطيني، ووقف جموح ثورته ونضاله لتحقيق أهدافه.

الخطة المشؤومة
في ربيع العام 1991 أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب مبادرة يدعو فيها أطراف الصراع الفلسطينيون والعرب وإسرائيل، إلى مغادرة ميادين القتال والحروب، واعتماد طريق السلام من خلال التفاوض المباشر لحل النزاعات المزمنة في المنطقة.
وهذا ما حصل، فقد التقى العرب في مدريد، ولاحقاً التقى وفد يمثل منظمة التحرير الفلسطينية سراً مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية، وتوصلوا بعد مفاوضات عسيرة إلى اتفاق " إعلان مبادئ" حول ترتيبات حكومة ذاتية فلسطينية انتقالية، عرف هذا الاتفاق فيما بعد باتفاق أوسلو،
جوهر هذا الاتفاق بشكل أساسي هو إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة خمس سنوات، تؤدي إلى تسوية دائمة على اساس قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338.
وهكذا في أجواء احتفالية غير مسبوقة، تم التوقيع في أيلول العام 1993 على هذا الاتفاق الشهير بين الفلسطينيين وإسرائيل في العاصمة الأمريكية واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، على أن تتم مناقشة قضايا الحل النهائي بعد ثلاث سنوات وهي القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه.
غير أن هذا الاتفاق أغفل وضع جداول زمنية محددة للانسحاب الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة، كذلك سقط من الاتفاق أية آلية دولية تلزم إسرائيل لتنفيذ استحقاقاتها من الاتفاق، أنتج هذا الأمر وضعاً غريباً، فقد أغرق الجانب الفلسطيني فيما يسمى معالجة التفاصيل قبل معالجة جوهر المشكلة، وكان الاتفاق ملزماً للفلسطينيين بينما تنصلت إسرائيل من التزاماتها، الأمر الذي كرس الاحتلال بدلاً عن إزالته.
طوال الأعوام الماضية ظلت القيادة الفلسطينية تلهث بسعار خلف جزرة الحل النهائي الذي لم يتحقق من بنوده شيء، بل على العكس تماماً، تنصلت إسرائيل من كافة التزاماتها من اتفاق أوسلو وكأنه لم يكن.
إن جزء من الشعب الفلسطيني الذي اعتقد أن تشكيل السلطة أنجاز لابد من حمايته والدفع به لتحقيق إنجازات أخرى، اكتشف أن هذا الاتفاق الذي أبرم مع إسرائيل لا يعبر عن أمنه ومصالحه ولا عن أهدافه الوطنية، بل على العكس، وجد المواطن الفلسطيني نفسه أنه يعاني من سلطتين، سلطات الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية التي ألزمتها إسرائيل بالتنسيق الأمني معها ضد كافة النشطاء والمناضلين الفلسطينيين الأمر الذي أدى إلى اغتيال عشرات من خيرة أبناء شعبنا الفلسطيني، واعتقال الآلاف منهم.

من الثورة للمؤسسة
لقد أعادت السلطة الفلسطينية إنتاج نظام التنفيع الذي ورثته من منظمة التحرير الفلسطينية، وبدلاً عن المضي في بناء مؤسسات لمختلف القطاعات واعتماد مبدأ الكفاءة والجدارة، أصبحت علاقات المنفعة والمصالح الشخصية والولاءات هي السياسة المعتمدة لهيكل السلطة، وأصبحت هذه الطريقة أداة قوية وفاعلة في الاستيعاب للمنتفعين والمتسلقين والانتهازيين، ووسيلة أيضاً لإقصاء الشرفاء والمناضلين وأصحاب الكفاءة.
إن القيادة الفلسطينية أخذت تعمل على كسب ولاء الناس من خلال الحصول على مورد اقتصادي، الأمر الذي أدى إلى تضخم شديد في القطاع الحكومي العام للسلطة حيث وصل عدد موظفي السلطة حوالي 170,000 موظف تعتمد رواتبهم بشكل أساسي على المعونات الدولية، المصيبة أن 44% منهم يتبعون الأجهزة الأمنية وبالتالي يستحوذون على حوالي نصف الميزانية، بينما يا للسخرية لا يتم صرف سوى واحد في المائة على قطاع الزراعة: ساهمت هذه السياسة في مأسسة الفساد وانتشاره، وهو ما كانت إسرائيل تريده من خلال إنشاء سلطة بعد أوسلو تكون منتفعة وضعيفة تتحكم فيها إسرائيل من خلال الموارد من الموارد المالية.
تم توزيع المناصب في هيئات وإدارات السلطة على المحسوبيات والمقربين، حتى المعارضة السياسية من مستقلين ويساريين وإسلاميين لم تستثني من هذه الامتيازات، فتم دمج الآلاف منهم في مؤسسات السلطة الفلسطينية، ومنحوا مناصب في القطاع الحكومي مقابل ولائهم السياسي، وبهذا لا تختلف قوى اليسار الفلسطيني عن قوى اليمين عن القوى الإسلامية، جميعهم تشاركوا السقوط والاستنفاع.

من جهة أخرى برزت في النظام السياسي الفلسطيني في الداخل ظاهرة زواج المصلحة بين رجال الأعمال ورجال السلطة وهو الشكل الأكثر انتشاراً للفساد، يستمد قوته من تمتع النخب بالحصانة السياسية والاجتماعية والقانونية، فامتلأت الحسابات المصرفية لآلاف الفاسدين، بالمال الفاسد.
كما أن استغلال المناصب لتحقيق مكاسب شخصية وعشائرية يشكل ظاهرة واضحة في مؤسسات السلطة، إبرام صفقات مشبوهة، استخدام موارد السلطة والوزارات للأغراض الشخصية، سرقة الممتلكات الوظيفية وإهدار المال العام، حتى أن إحدى عمليات التدقيق والرقابة في بداية الألفية أثبتت أن حوالي 40% من ميزانية السلطة قد أسيء استخدامها.
إسرائيل ليست بعيدة عن هذا الفساد، بل على العكس هي تساهم في تعزيز هذا الفساد في السلطة الفلسطينية وتحسن استغلاله فيما بعد، وتحاول إشغال الرأي العام بهذا الفساد كي تصرف أنظار العالم عن الآثار المدمرة التي تلحقها سياساتها العدوانية بالبنية الاقتصادية والتنمية الفلسطينية، وما تقوم به إسرائيل من تدمير ممنهج للاقتصاد الفلسطيني.

أكبر من كبوة
لقد أدى هذا الوضع الشاذ إلى جملة من التغيرات في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها التي انحدرت إلى مستويات غير مسبوقة من الضعف والهشاشة، وتراجع الشعارات والأهداف الثورية التي طالما تغنى بها الشعب الفلسطيني وميزته عن باقي شعوب الأرض، التي استحق احترامها وتقديرها ومساندتها نتيجة لكفاحه والتضحيات التي قدمها عموم الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وجعلته يحظى بكل تلك الهالة المقدسة التي كان يعتز بها.
لكن الفلسطيني ذاته أخذ يشعر بالغضب والحزن والإحباط الشديدين، بسبب ما وصلت إليه قضيته الوطنية التي أصبحت تهمة للمناضلين، ومطية للمتسلقين الانتهازيين من الفلسطينيين أنفسهم قبل غيرهم، كما تحولت القضية إلى ميدان للمزايدات لدى البعض، وفرصة لشتم وتحقير الشعب الفلسطيني وقيادته، وتعداد محاسن إسرائيل لدى البعض الآخر، وصولاً إلى المجاهرة من قبل بعض العرب بالعلاقات الطبيعية العلنية مع بني صهيون، بل والمفاخرة.
ثمة مفارقات عجيبة تحصل في خلفية المشهد السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي يزداد حجم ومستوى التضامن الأوروبي والعالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، نشهد تراجعاً عربياً ملحوظاً على المستويين الرسمي والشعبي في التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني ودعم قضيته الوطنية، التي هي بالأساس قضية العرب الأولى وقضية عموم المسلمين.
فما الذي أوصل أهم قضية تحرر وطني في التاريخ إلى هذا المستوى البغيض الذي لا يسر أحداً ولا يدلل على عافية، ولماذا جنح بعض العرب إلى مستوى غير مسبوق من الحقد على الفلسطينيين. وهل نحن أمام واقع جديد في التعامل مع القضية الفلسطينية ، أم أنه برزت أولويات جديدة أمام الشعوب العربية، أم أنه انعكاس طبيعي لواقع الحال الفلسطيني والعربي الذي يشهد حالة متعاظمة من التردي والسقوط والانحدار على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، الأمر الذي جعل زيارة وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة " تسيبي ليفني " سراً إلى إحدى عشرة دولة عربية لتطلب منهم عدم تقديم أية تبرعات مالية إضافية للسلطة الفلسطينية، يبدو خبراً طبيعياً حين تم تسريبه، وتعاملت الدول العربية معه بصمت وتجاهل بعد أن انصاعت الحكومات العربية إلى المطالب الإسرائيلية دون خجل، وهكذا وضع الأشقاء العرب قرارهم بدعم القدس العربية بمبلغ مليار دولار في سلة النفايات العربية، ولم يكلف الأمين العام للجامعة العربية نفسه عناء تكذيب هذا الخبر حفاظاً على ماء وجه العرب .

انتكاسة مبكرة
مما لا شك فيه أن هناك أسباب ومسببات عديدة ومختلفة وراء إيصال قضية سامية وعادلة كالقضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه. إلا أنه من الصحيح أيضاً أن كل تلك الأسباب والعوامل ما كانت لتكون مؤثرة وفاعلة لولا الدور السلبي للقيادة الفلسطينية ومواقفها المتخاذلة وسعيها وراء السلطة وامتيازاتها بدلاً من تعزيز ودعم فكرة النضال والكفاح ضد المغتصب.
 وبالرغم من أننا لسنا في وارد تقييم تجربة الثورة الفلسطينية هنا، إلا أن ما نشهده اليوم من إحباطات وانهيارات وانسدادات أمام القضية الوطنية الفلسطينية لم يكن وليد المتغيرات الأخيرة التي تشهدها المنطقة، إنما هو نتيجة طبيعية وكارثية لكل السياسات التي انتهجتها القيادة الفلسطينية، والخيارات التي اقدمت عليها منذ انطلاق العمل الفلسطيني المسلح في منتصف ستينيات القرن الماضي.
إن مجمل هذه السياسات أدت فيما أدت إلى تقزيم منظمة التحرير الفلسطينية، وإضعاف العامل الفلسطيني برمته، وتحويل قضية فلسطين الوطنية إلى حائط مبكى، وظهور قيادات فلسطينية ضعيفة، وبعضها مخترق من قبل العديد من أجهزة المخابرات وخاصة الأمريكية والإسرائيلية.
أنيطت بهذه القيادات مسؤولية الحل والربط فيما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، وهم المسؤولين مسؤولية مباشرة عن تقليص الحقوق الفلسطينية وضياعها، من خلال حجم التنازلات المرعب الذي قدمته هذه القيادة الفلسطينية للجانب الإسرائيلي، بدءًا من التنازلات التي قدمت للوصول إلى اتفاقية أوسلو الملعونة، وصولا إلى كافة التنازلات التي مازالت تقدمها القيادة الفلسطينية في سبيل محافظتها على مناصبها وامتيازاتها على حساب مصالح شعبنا الفلسطيني وتضحياته، هذه التنازلات جعلت إسرائيل تتنمرد على السلطة الفلسطينية بل وتتجرأ بكل وقاحة وتطلب ويا للعجب من القيادة الفلسطينية الضعيفة الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل !!
هذه القيادة الفلسطينية التي يستقوي بعضها على شعبه وعلى الفصائل الأخرى، بالأنظمة العربية التي كانت داعماً رئيسياً لنضال الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية مالياً وسياسيا، فأصبحت الثوابت الفلسطينية والعربية تجاه الصراع مع إسرائيل تُنتهك وتُحذف بمباركة عربية استعاضت بها القيادة الفلسطينية لغبائها، عن الغطاء الشعبي الفلسطيني لتمرير سياسات التنازل والاستسلام.
 تلك الأنظمة العربية مغلولة اليد أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي. لا تريد سوى السلامة حتى لو كانت على حساب القضية الفلسطينية، لكنها تصبح شرطياً بعصا غليظة حين تستقوي بها القيادة الفلسطينية لكسر إرادة قوى المعارضة الفلسطينية الرافضة لكل سياسات السلطة التنازلية.
 هذا الاستقواء في الحقيقة -إضافة إلى عوامل أخرى- هو ما جعل الأنظمة العربية نفسها تستقوي على القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين أنفسهم، وإلى إخضاعهم إلى التجاذبات المتنافرة في السياسة العربية.

أم الكوارث
لقد سقطت القيادة الفلسطينية في مستنقع الفساد والاستنفاع، وانكشفت عورتها أمام الجميع، وكل أوراق التوت والتين لا تستطيع ستر عورات قيادة هجينة، وليدة اتفاقيات مذلة، حولت جميع الحقوق الثابتة التاريخية للشعب الفلسطيني إلى" مشاكل قابلة للتفاوض" وحولت قضية وطن محتل ومغتصب إلى خلاف على تقاسم نفوذ فيما بينها، وتتبنى سياسة التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، هي العقلية ذاتها التي تطاولت بالكلام بداية على المناضلين والأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية عام 1988 أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى تحت شعار "هجوم السلام الفلسطيني".
حيث تحول هذا الهجوم فيما بعد إلى تآمر لضرب الحركة الوطنية الفلسطينية، وقامت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية المحترمة باعتقال قيادة وكوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية، وتعاونت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لاغتيال مناضلين.
إن السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها على نفسها اساساً، هي ليست أكثر من أداة وظيفية لدى الاحتلال الإسرائيلي، قد أصبحت حاجة إسرائيلية لضرب المشروع الوطني، فاتفاقيات أوسلو التي أنجبت السلطة أنهت الحكم العسكري الإسرائيلي، لكنها لم تُنه الاحتلال نفسه.
 وبينما انشغلت السلطة بإدارة الحياة اليومية، تحول الاحتلال إلى استعمار نظيف قليل التكلفة حيث تتولى أجهزة السلطة الفلسطينية كافة الملفات القذرة، تتابع إسرائيل مصادرة الأراضي وفرض الحقائق على الأرض.
لذلك لا بد من إسقاط هذه السلطة لإنهاء عبثية مسار التفاوض مع إسرائيل الذي اثبت عقمه، ولوضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كاملة كسلطات احتلال تجاه الشعب الفلسطيني، وحتى تكف السلطة عن كونها غطاء لهذا الاحتلال.
ومن جهة أخرى وضع المجتمع الدولي والأطراف الراعية لعملية السلام أمام استحقاقاتهم الموضوعية في فشل مسار التسوية السياسية. هذا يجب أن يؤدي إلى اعتبار أن شعبنا الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال ومن حقه مقاومة هذا الاحتلال وفق المواثيق الأممية.
إسقاط السلطة سوف يعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي قزّمها رجال السلطة وجعلوها ظل عديم الفعالية تابع لهم، بعد أن قاموا بإفراغ المنظمة ومؤسساتها من دورها الوطني باعتبارها حاضنة المشروع الوطني الفلسطيني.
هذا من شأنه أن يسهم في تقوية الموقف الفلسطيني الذي أضعفه زج السلطة بالرقم الفلسطيني في مفارقات العرب السياسية، فانتقلت القضية الفلسطينية بقدسيتها من حالتها في الضمير والوجدان العربي والأممي إلى رقم ضعيف في الجامعة العربية.
هل يكفي الفلسطينيين اجتماعاً استثنائياً، أو مؤتمراً وطنياً للحوار لكي يخرجوا من هذا الاستعصاء العسير؟ لا أظن ذلك. فكل ما نسمع من خطب وشعارات ما هو غير حشو أفواه الفلسطينيين بالقش.
إن هذه القيادة الفلسطينية المتخم بعضها بالفساد السياسي والأمني والسلوكي والأخلاقي، والتي حولت القضية الفلسطينية إلى ممسحة لبعض الأنظمة العربية وسياساتهم وصفقاتهم، سوف يذكرها التاريخ على أنها قيادة متهمة ومدانة بهزيمة شعبها وقضيته الوطنية، في عالم لم تعد تعنيه كثيراً قضايا الضمير والحق والعدل، بل يلتفت إلى من يملك قوة الفعل والتأثير في مجريات التاريخ، والعرب ليسوا منهم.


52
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

الأوروبيون لا يريدون طالبي اللجوء المسلمين

إذا كنت تريد اللجوء في أوروبا، فمن الأفضل ألا تكون مسلماً.
يدعمك الأوروبيين إذا كنت قد تعرضت للتعذيب في بلدك.
السويد أكثر البلدان الأوروبية ترحيباً باللاجئين، والتشيك الأسوأ.
الدنمارك: اللجوء فقط لأولئك الذين يشبهوننا أكثر.
الأصغر سناً والأكثر تعليماً هم الأوفر حظاً.

قضيتي اللاجئين والمهاجرين الراغبين في دخول دول الاتحاد الأوروبي، تشكل تحدياً أوروبياً مشتركاً.
فقد دفعت الاضطرابات والحروب في العديد من بؤر التوتر في العالم، الملايين من الناس للفرار. والكثير منهم يلجأون إلى دول الاتحاد الأوروبي. هذا الوضع خلق قدرا كبيرا من الضغط على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي وأنتج الشعور بانعدام الأمن لدى شرائح واسعة من الشعوب. بطبيعة الحال لا توجد حلول سهلة، لكن الأمر يتطلب التعاون الأوروبي للتعامل مع هذا التحدي.
في عام 2015 دخل 1.6 مليون من اللاجئين والمهاجرين الاقتصاديين إلى أوروبا. وليس هناك ما يشير إلى أن الهجرة ستنخفض فيما يتزايد الضغط على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي خاصة في دول مثل اليونان وإيطاليا.

دفع هذا الوضع العديد من دول الاتحاد الأوروبي بما في ذلك الدنمارك، إلى إدخال ضوابط مؤقتة على الحدود. إن التعاون الذي كان يتم بين دول الاتحاد الأوروبي وفقاً لاتفاقية شنغن حول الحدود المفتوحة متعثر والتكاليف الاقتصادية أصبحت باهظة. بالرغم من أن مصلحة الاتحاد الأوروبي وكذلك الدنمارك الحفاظ على الحدود المفتوحة. لذلك، يتم العمل على قواعد جديدة يمكن أن تخفف الضغط على الحدود الداخلية، وفي الوقت نفسه يتم تشديد الرقابة على الحدود الخارجية.
وجود هذا العدد غير المسبوق من اللاجئين في دول الاتحاد الأوروبي أحدث وضعاً تفاعلت فيه العديد من المعطيات، بحيث أصبح من أهم خصائص قبول اللجوء لدى الأوروبيون هو رفضهم للمسلمين.

دراسة حديثة ترصد مواقف الأوروبيين من اللاجئين
إن الأوروبيون الآن أكثر استعدادًا لقبول اللاجئين الذين يمكنهم المساهمة في المجتمع، أو المضطهدين أو غير المسلمين.
كما يريد الأوروبيون مساعدة ضحايا التعذيب واللاجئين السياسيين، لكنهم يقولون إنهم لا يفضلون طالبي اللجوء المسلمين.
هذه من أهم النتائج التي توصلت لها دراسة جديدة خصصت لدارسة مواقف الأوروبيين من الهجرة والاستعداد لقبول طالبي اللجوء، ونُشرت في مجلة العلمية الدنماركية "علم" videnskab
على وجه التحديد، تظهر النتائج أن ميل الأوروبيين لقبول طالب اللجوء هو، في المتوسط أقل بنسبة 10.7 نقطة مئوية إذا كان مقدم الطلب مسلمًا وليس مسيحيًا.
أحد المشرفين الثلاثة على هذه الدراسة هو البروفيسور السويسري "دومينيك هانجارتنر" Dominik Hangartner استاذ العلوم السياسية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، المدير المشارك في هيئة تدريس مختبر سياسة الهجرة في جامعة "ستانفورد" Stanford University
 يقول "إذا قارنت وجهات نظر الأوروبيين بشأن مهاجر عاطل عن العمل مع مهاجر يعمل كمدرّس، فإن البطالة تعنيهم بدرجة أقل من موقفهم تجاه المهاجرين مما لو كان المهاجر مسلماً وليس مسيحياً".
"أنا معجب جدًا بالاستديو" هذه هي الطريقة التي عبر من خلالها "كيم مانيمار سونديرسكوف" Kim Manimar Sunderskov أستاذ العلوم السياسية في جامعة "آرهوس" Aarhus Universitet عن رأيه في المقالة العلمية.
لقد قرأ وأُعجب بالدراسة ولا يشك في جودة العمل الذي قام به الباحثون الثلاثة.

تفضيلات الأوروبيين لطالبي اللجوء
ثلاثة تفسيرات رئيسية لتقييم المهاجرين في الدراسة، طلب "هانجارتنر" وزملاؤه من 18000 أوروبي من 15 دولة مختلفة قبول أو رفض 180.000 ملف شخصي ملفق لطالبي اللجوء.
عندما حلل الباحثون الأرقام، اتضح أن هناك ثلاثة تفسيرات أساسية لحكم المستطلعين على طالبي اللجوء:
المساهمة الاجتماعية والاقتصادية، والأعباء، والاعتبارات الإنسانية
المواقف المعادية للمسلمين تتعلق بالإمكانيات الاجتماعية والاقتصادية بالوظائف السابقة للمتقدمين، ومهاراتهم اللغوية وكذلك أعمارهم، وبالتالي كم تبلغ المسافة بين أعمارهم إلى سن التقاعد المتوقع.
وقد تم التعبير عن الاعتبارات الإنسانية كتقييم لأساس المتقدمين للفرار.
 كان المشاركون في الدراسة أكثر استعدادًا لقبول المتقدمين الذين فروا بسبب الاضطهاد الديني أو العرقي أو الذين تعرضوا للتعذيب مقارنة بالمتقدمين المشاركين الذين تعرضوا للاضطهاد السياسي أو لم يتعرضوا للتعذيب.
البعد الثالث، المواقف المعادية للمسلمين، كان حول الموقف الديني للمتقدمين.
 هنا اتضح أنه قلل بشكل كبير من قبول المتقدمين إذا كانوا مسلمين، مقارنة بما إذا كانوا مسيحيين أو لا أدريين، أي أصحاب الرأي القائل بأنه ليس من الممكن التأكد من وجود الله.


يفضل الأوروبيون المهاجرين المسيحيين
أجرى الباحثون وراء الدراسة تحليلاً إحصائياً لاستجابات 18000 مستطلع.
 في ظل هذه العدد الكبير يمكنهم أن يعرفوا مدى اختلاف استعداد المجيبين لقبول طالب اللجوء فيما يتعلق بالخصائص التي تم فحصها، والتي يمكن أن تكون على سبيل المثال، الوظيفة والجنس والعمر وأساس الفرار والموقف الديني.
يتم حساب النتيجة في عدد النقاط المئوية لتحركات مميزة معينة من خلال رغبة المجيبين في منح طالب لجوء فيما يتعلق بفئة مرجعية.
لكل مجموعة من الخصائص، هناك فئة مرجعية ثابتة. إذا نظرنا على سبيل المثال، إلى وجهة نظر دينية فإن كلمة "مسيحي" هي الفئة المرجعية، بينما توضح الأرقام ما يعنيه إذا كان طالب اللجوء إما ملحدًا أو مسلمًا وليس مسيحيًا.
إذا كنت ملحدًا، فإن استعداد الأوروبيين لقبولك هو في المتوسط 3.7 نقطة مئوية أقل مما إذا كنت مسيحيًا.
إذا كنت مسلماً، فإن الاستعداد أقل بنسبة 10.7 نقطة مئوية في المتوسط.

لدى الأوروبيين تفضيلات مماثلة
يمكن أن يشير العدد الكبير لطالبي اللجوء الذين اتخذتهم دول مثل السويد وألمانيا إلى أن سكانها لديهم تفضيلات مختلفة لطالبي اللجوء عن السكان في البلدان التي اتخذت عددًا أقل بكثير. لكن البروفيسور "هانجارتنر" يوضح أن الأمر ليس كذلك. يقول: "لدى شعب ألمانيا والسويد نفس التفضيلات لأنواع طالبي اللجوء مثل بقية الأوروبيين. إنهم يحبون المتقدمين الذين يساهمون ماليا، وهربوا من التعذيب وليسوا مسلمين ".
وبشكل مثير للدهشة إلى حد ما، أظهرت الدراسة أن التفضيلات لأنواع معينة من طالبي اللجوء هي نفسها عبر البلدان ونوع المستجيبين وعمرهم.


اليسار أكثر خيرة تجاه المسلمين
في الدراسة، تمت ملاحظة اختلاف في مجال واحد فقط عن تفضيلات المجيبين: فالتزامهم السياسي له تأثير على موقفهم من المعتقدات الدينية لطالبي اللجوء.
في المتوسط ، كما ذكرنا، جذب هذا 10.7 نقطة مئوية في استعداد الأوروبيين لقبول المتقدم إذا كان أو كانت مسلمة مقارنة بالمسيحي. ولكن هنا يلاحظ أن الانتماء السياسي للمشاركين قد أحدث فرقا كبيرا:
فقد توافق اليساريون واليمينيون على كون أنه يحدث خرقاً لمعايير قبول اللجوء إن كنت مسلماً. وهم يرفضون طالبي اللجوء لهذا السبب فقط، بنفس المقدار الذي ابداه اليمينيون".
لكن تميز المجيبين اليساريين بموقفهم من طالبي اللجوء كونهم مسلمين مقارنة بكونهم مسيحيين قد انخفض بنسبة 6.7 نقطة مئوية. بينما بين المجيبين اليمينيين وصل إلى 14.3 نقطة مئوية.

طريقة الدراسة
تم إجراء الدراسة على أنها تجربة مسح مشترك مقترنة، حيث اضطر كل من 18000 مستجيب من 15 دولة أوروبية مختلفة إلى قبول أو رفض 10 طالبي لجوء وهميين.
وبالتالي، فإن المسح يغطي أكثر من 180.000 لمحة عن طالبي اللجوء.
وعلى وجه التحديد، تم منح كل مستجيب خمس مجموعات من ملفي المتقدمين.
من بين أمور أخرى، طلب منهم تقييم ما إذا كان يجب إعادة كل طالب لجوء أو منحه حق اللجوء.
يتألف كل ملف شخصي من تسعة أجزاء من المعلومات، بما في ذلك بلد منشأ مقدم الطلب والمهنة والجنس والعمر وأساس الهجرة والانتماء الديني.
بناءً على رفض المستجيبين وقبولهم للمتقدمين، تمكن الباحثون من حساب تأثير الخصائص المختلفة فيما يتعلق بفرصة قبولهم كمتقدمين لجوء من قبل المواطنين الأوروبيين.
قال "سونديرسكوف" في الحقيقة إنها دراسة مثيرة للإعجاب، تحتوي على العديد من النتائج المثيرة للاهتمام وتستند إلى أساس متين. وأشاد بشكل خاص بدقة الباحثين واختيارهم للطريقة. ولكن أيضا نهجهم تجاه هذه القضية الإشكالية في القارة الأوروبية.
وفيما توصلت الأبحاث الأخرى في المواقف تجاه المهاجرين إلى مواثق متباينة، لكنها في المجمل سلبية، تراوحت ما بين تردد المواطنين الأوروبيين إلى النفور. هذه الدراسة تؤكد جميع الأبحاث السابقة التي جرت خلال العقود القليلة المنصرمة، بالرغم من أنها تحاول إظهار حسن النية لدى بعض الأوروبيين تجاه طالبي اللجوء.

الطريق إلى المواقف الحقيقية
يذكر "سونديرسكوف" أن هناك سببًا للإشادة بالدراسة، وهو المنهج المستخدم الذي يجعل من الممكن الاقتراب جدًا من المواقف الحقيقية للمشاركين، على الرغم من أنه موضوع حساس للغاية.

عادة قد يكون من الصعب الكشف عن مواقف الناس الحقيقية تجاه طالبي اللجوء في استطلاع عام. على سبيل المثال، حُمل اليساريين على الكشف عن أي مواقف سلبية تجاه الهجرة. لذا إنني أظن أن هذه المشكلة تتجاوز هذه الدراسة إلى حد بعيد.
العقدة هي أنه من الأسهل جعل المستجيبين يرتبطون بصدق بمجموعة من خصائص طالبي اللجوء من الخصائص الفردية.
إذا تم سؤال الفرد في أوروبا على سبيل المثال هل يجب منح المسيحي حق اللجوء؟ وهل يمنح المسلم حق اللجوء؟ لا يحصل الإنسان السائل بالضرورة على إجابات صادقة.
إذا قلت أنه يجب أن يكون للمسيحي حق اللجوء، فمن الصعب بعد ذلك القول أنه لا يحق للمسلمين ذلك.
إن الخصائص المتعددة لملفات طالبي اللجوء تعني أن المجيبين يجيبون بصدق شديد. لذلك إن الإجابات نقترب كثيرا من وجهات نظرهم الحقيقية.

إن الأوروبيين مؤثرات اجتماعية
من بين العديد من نتائج الدراسة، هناك استنتاج مثير للاهتمام. اتضح أن الأوروبيين يقبلون أو يرفضون طالبي اللجوء على أساس تقييم يتعلق بتأثير اللاجئين على المجتمع، وبالتالي ليس على أساس تأثير اللاجئين على الأوضاع الشخصية للأوروبيين.

يجادل الباحثون بأن ما يسمونه الاعتبارات الأنانية أو الشخصية غير مهمة. وبدلاً من ذلك، أخذ المستجيبون الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية في الاعتبار. على سبيل المثال، يرفض الأوروبيون المتقدمين العاطلين عن العمل اللاجئين لأنهم يؤثرون على الاقتصاد الوطني، وليس لأننهم خائفون من فقدان وظائفهم.
بظني أن هذا الاستنتاج غير دقيق، لأنه يتعارض مع نتائج دراسات عديدة، توضح حذر الأوروبيين من إمكانية تأثير اللاجئين على وظائف العمل المتاحة. ربما في هذه الدراسة كانت الأسئلة المستخدمة عامة جدًا بحيث لا يمكن كشفها.
نظر الباحثون على سبيل المثال، إلى ما إذا كان الأشخاص ذوو التعليم العالي يرفضون طالبي اللجوء ذوي التعليم العالي إلى حد أكبر من طالبي اللجوء ذوي التعليم المنخفض، لكنهم وجدوا أن الأمر ليس كذلك
يُؤخذ هذا على أنه تعبير يفكر فيه الأوروبيون اجتماعيًا وليس أنانيًا - استنادًا إلى منطق مفاده أن المواطن المتعلم ذو الأنانية يجب أن يكون أكثر رفضًا لطالب متعلم بدرجة عالية من طالب لجوء منخفض التعليم، لأن هذا الأخير لا يشكل تهديدًا للوضع الوظيفي المتعلم.
ولكن ربما يفكر المواطنون في فئات أكثر دقة من التعليم العالي أو المتدني على سبيل المثال.
فإن كنت صحفياً أنانياً، لن ترفض بالضرورة الأطباء أو أساتذة العلوم السياسية أو المحامين، لأنك لا تخشى المنافسة المهنية من طبيب أو محامي أو أستاذ. يجب على الصحفي الأناني أن يرفض على وجه التحديد الصحافيين وليس الأشخاص ذوي التعليم العالي بشكل عام.
ومع أخذ ذلك في الاعتبار، لا أعتقد أن الدراسة يمكن لها أن تعلن لنا أن الأوروبيين مؤتمنين اجتماعيين حقاً.

أساس مشترك بين الشعوب
بحثت الدراسة أيضاً في النسبة التي سيقبلها المشاركون في الدراسة من طالبي اللجوء. وكانت النتيجة ملحوظة.
إن الفارق الصغير نسبيًا في نسبة المتقدمين الذين سيقبلهم مواطني الدول الأوروبية المختلفة مثير للاهتمام فيما يتعلق بالنقاش العام في المجتمعات الأوروبية.
في الدنمارك على سبيل المثال، ينشغل كثير من الناس في إخبار الدنماركيين عن مدى فظاعة قوانينهم وتعاملهم تجاه طالبي اللجوء. في بعض الأحيان يمكن للمتتبع الحصول على الانطباع بأننا نعيش في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين. لكن نتيجة الدراسة تؤكد أن الدنماركيين ليسوا أسوأ أو أفضل من بقية أوروبا.
أما بالنسبة لنسبة المهاجرين التي يبدو أن الأوروبيين على استعداد لقبولها، فإن الأرقام تشير إلى أن حوالي نصف جميع طالبي اللجوء يجب أن يحصلوا على اللجوء في حال تم سؤال الأوروبيين.
بالنسبة لي كباحث لدي انطباع واضح بأن الأمر ليس كذلك، وهذا ليس نقدًا للدراسة، ولكنه تحذير لما يمكن أن يتم توظيفه واستخدمه بالأرقام.

هنا يمكن لنا معرفة كيفية تأثير الخصائص المختلفة لطالبي اللجوء على متوسط استعداد الأوروبيين لقبولهم. جميع الأرقام هي تعبير عن تأثير الخصائص في النقاط المئوية.

الملحد (على عكس المسيحي) -3.7
مسلم (مقابل مسيحي) -10.7
التنظيف (مقابل العاطلين) 4.8
مزارع (مقابل العاطلين عن العمل) 5.6
محاسب (مقابل العاطلين) 8
مدرس (مقابل العاطلين) 9.2
طبيب (مقابل العاطلين) 13.4
38  سنة (مقابل 21 سنة) -0.7
62  سنة (مقابل 21 سنة) -6.7
اضطراب ما بعد الصدمة (على عكس عدم وجود صدمة) 1.3
ضحايا التعذيب (مقابل عدم التعرض) 11.2
فرد من العائلة على قيد الحياة فقط (على عكس وجود عائلة) 4
الإعاقة (مقابل عدم وجود) 2.6
هرب بسبب الاضطهاد الديني (على عكس الاضطهاد السياسي) 0.5
هرب بسبب الاضطهاد العرقي (على عكس الاضطهاد السياسي) 1
هربت بسبب الفرص الاقتصادية (على عكس الاضطهاد السياسي) -15
يتحدث لغة مكسورة (على عكس بطلاقة) -5.9
لا يتكلم اللغة على الإطلاق (على عكس الطلاقة) -11.7


هنا يمكن ملاحظة عدد طالبي اللجوء المتخيلين لكل 1000 نسمة الذين سيقبلهم سكان البلدان الأوروبية الخمسة عشر.
10,3 النمسا 
4,60 سويسرا
0,14 تشيك
3,5 دنمارك
5,9 ألمانيا 
1,2  اليونان
0,60  بريطانيا
0,30  إسبانيا
1,1 فرنسا
18  هنغاريا
1,40  إيطاليا
2,40  هولاندا
6  النروج
0,30  بولونيا
16,7  السويد

53
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

جنرال الصمود.. الأسير الفلسطيني نائل البرغوثي

"أتمنّى الاستلقاء ساعة فقط تحت شمس قريتي كوبر وفوق عشب ربيعها" هذا ما قاله الأسير الفلسطيني نائل البرغوثي لوالدته أثناء إحدى زياراتها لقليلة إليه في أحد السجون الصهيونية. لأن والدة نائل اعتادت أن تقوم بزيارة والد نائل المعتقل في سجن آخر من سجون النازيين الإسرائيليين، فيما كانت شقيقة نائل الوحيدة هي من يقوم بزيارته حين تسمح لها سلطة السجون، وبدأت بهذه المهمة منذ أن كان عمرها 14 عاماً. وكان عمر البرغوثي شقيق نائل الأكبر أيضاً معتقلاً في سجن ثالث، وكانت زوجته تزوره.
توفي والد نائل في عام 2004 دون أن يرى ابنه، وتوفيت والدته عام 2005 دون أن ترى نائل وهو يحقق حلمه في معانقة شمس الحرية. استمرت حنان البرغوثي في زيارة شقيقها في السجن، إلى أن منعتها السلطات الصهيونية من الزيارة عام 2006.
الأسير الفلسطيني نائل البرغوثي جنرال الصمود، اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلية في أبريل/نيسان عام 1978 من منزله في قرية تسمى "كوبر" تقع شرقي مدينة رام الله في الضفة الغربية، وكان عمره 19 عاماً، اتهمته إسرائيل بقتل أحد جنودها، وحكمت عليه بالسجن المؤبد إضافة إلى 18 عاماً. وبهذا يكون قد أمضى في زنازين الاحتلال الصهيوني 42 عاماً. وهو الآن في العقد السادس من العمر. ويعتبر أقدم سجين سياسي في العالم.

اعتقال بعمر مبكر
في 1972، كانت أولى محطات العمل الثوري الفعلي للبرغوثي، إذ انخرط مبكراً في التظاهرات، ونجح في إنشاء علاقات مع الشباب الثوار الذين يكبرونه سناً في جامعة بيرزيت. فمنذ أن كان صبياً صغيراً شارك جنرال الصمود الأسير نائل البرغوثي في مقاومة قوات الاحتلال والقهر الصهيونية، فكان يصعد إلى سطح منزل العائلة ويقوم برشق جنود وآليات الاحتلال بالحجارة عند مرورها. وعندما كبر كان يذهب إلى مدرسته في بلدة بيرزيت المجاورة مشياً على الأقدام، يقطع وادي القرية ويجمع الحجارة الصلبة داخل حقيبته المدرسية، حتى يرشق بها جنود لاحتلال، وكان يقول إن حجارة الوادي أقوى من أي حجارة أخرى، ولها صوت وتأثير أكبر.
كان نائل في صغره ـ ولا يزال ـ شعلة من النضال، يقود التظاهرات ودائماً ما يكون في الصفوف الأولى في مواجهة الاحتلال، حتى أطلق عليه المناضلين "أبو اللهب" نسبة إلى شخصيته القيادية الثورية، هو اللقب المؤقّت الذي لازم نائل منذ السبعينيات حتى بداية التسعينيات، وأُطلق عليه لشهرته في إشعال إطارات السيارات خلال المواجهات في مدينة بيرزيت،  وفي الأسر أطلق عليه رفاق الأسر لقب "أبو النور".
اعتقل أول مرة خلال إحدى المواجهات مع الاحتلال في الثامن عشر من ديسمبر عام 1977 وحُكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر، وعقب الإفراج عنه بـ 14 يوماً، تم اعتقاله مرة أخرى بتهمة مقاومة الاحتلال. ثم اعتقل العدو شقيقه الأكبر عمر، وابن عمه فخري البرغوثي، وحُكم على ثلاثتهم بالسجن المؤبد بتهم قتل ضابط إسرائيلي شمال رام الله، وحرق مصنع زيوت داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وتفجير مقهى في القدس المحتلة.
 داخل قاعة محاكمتهما، رفض الشقيقان وابن عمهما الاعتراف بشرعية محكمة العدو والإقرار بالذنب أو طلب الاستعطاف، فبدأ القاضي العسكري بالصراخ، وضرب بيديه على الطاولة وقال مؤبد، مؤبد، مؤبد.
على إثر صدور الحكم وقف الثلاثة وبدأوا في ترديد الأغنية الوطنية "ما بنتحول ما بنتحول يا وطني المحتل... هذي طريقنا واخترناها وعرة وبنتحمل" ثم أطلقت الحاجة فرحة البرغوثي والدة الأسرى الزغاريد فخراً بأبنائها.

خروج مؤقت
بعد أن قضى نائل 34 عاماً في السجون الإسرائيلية، أمضى آخر خمس سنوات منها دون أي زيارة من أحد أفراد عائلته، بعد وفاة والدته ووالده واعتقال شقيقه، ومنع شقيقته من الزيارة. نال البرغوثي حريته في عام 2011 في صفقة "شاليط" سميت كذلك على اسم الجندي الإسرائيلي الذي خطفته حركة حماس وبادلته ضمن صفقة مقابل إفراج إسرائيل عن 1148 أسيراً فلسطينياً من سجونها.
خرج الأسير نائل البرغوثي بعد الإفراج المؤقت عنه، فرضت قوات الاحتلال الصهيونية عليه الإقامة الجبرية في قريته، ومنع من الخروج من مدينة رام الله وقراها، وخلال هذه الفترة ظل أسيراً داخل بلدته كوبر شمال شرق رام الله، وحرم من زيارة أي بلدة أو مدينة في الضفة الغربية، وليجد والديه قد توفيا، وأن شقيقه عمر وابن شقيقه عاصم في المعتقل. أصر أن ينام على سرير والدته في منزل العائلة. ثم بعد شهر واحد من الإفراج عنه تزوج من الأسيرة المحررة "إيمان نافع" بناء على وصيه والدته، وعاشا سوياً لمدة 31 شهراً، قبل أن تقوم قوات الاحتلال باعتقاله مجدداً عام 2014 مع أكثر من 70 أسيراً محرراً، وتعيد له حكمه السابق في السجن المؤبد.
يقبع جنرال الصمود الأسير الفلسطيني نائل البرغوثي داخل زنزانة في سجن صهيوني، لا يزوره أحد سوى زوجته التي تحاول سلطات السجون منعها من الزيارة بذريعة أنها أسيرة سابقة، لذلك تضع العراقيل بهدف حرمانها من زيارة زوجها.

عاشق الحرية
إيمان نافع زوجة نائل تقول إنه منذ أن تزوجا كان نائل يخرج كل يوم من المنزل بعد صلاة الفجر، يذهب إلى الأرض فهي المقدسة بالنسبة إليه، يعتني بها ويزرعها، كان يعشق الأزهار التي تنمو في الجبال. قام بزرع أشجار البرتقال والليمون، ولم يتمكن من تذوق ثمارها.
لقد تحول نائل البرغوثي إلى أيقونة فلسطينية نضالية، تجسد صمود وإصرار الشعب الفلسطيني على انتزاع استقلاله وحريته وإقامة دولته. لم تتبدل قناعاته ولم يهتز إيمانه العميق بعدالة قضية شعبه وحقه في الحياة. بل استمر "أبو النور" كما يلقبه زملاءه الأسرى، في التبشير بالقيم النضالية، قيم التحرر من نير الاحتلال، قيم الحرية والإنسانية.

عائلة البرغوثي المناضلة
 ينتمي نائل البرغوثي إلى عائلة فلسطينية من قرية كوبر شمال رام الله قدمت الكثير من التضحيات. فالأسير المحرر "فخري البرغوثي" ابن عم نائل تم اعتقاله عام 1978 كان متزوجاً وزوجته حامل بابنه شادي، وعندما تم إطلاق سراحه بعد ربع قرن قضاها في السجون الإسرائيلية، كان قد تمّ اعتقال ابنه شادي وحكم عليه بالسجن 27 عاماً بتهمة مقاومة الاحتلال.
يقول فخري: كنت أتمنى أن يفرج عن ولدي فقد كان من الصعب عليّ أن أتركه مرتين، مرة عندما تم اعتقالي وكان جنيناً في بطن أمه، ومرة حين خرجت من المعتقل ولم أجده وهو في العشرينيات من عمره. ثم تم اعتقال ابنه الثاني "هادي البرغوثي" وخرج من المعتقل بعد خمس سنوات.
وكان فخري البرغوثي قد التقى بولديه هادي وشادي في الأسر بعد أكثر من 20 عاماً، حيث اللقاء أبكى الأسرى جميعاً.
عمر البرغوثي شقيق نائل هو أيضاً أسير سابق أمضى 26 عاماً في سجون الصهيونية النازية وتم الإفراج عنه عام 1985 ضمن صفقة تبادل، وتعرض بعد ذلك إلى اعتقالات كثيرة.
عاصف البرغوثي ابن عمر، حاول تنفيذ عملية من أجل عملية تبادل بهدف الإفراج عن عمه نائل، إلا أن العملية انكشفت واعتقل عاصف عام 2007 وحكمت عليه المحكمة الإسرائيلية 12 عاماً.
في عام 2018 اعتقلت قوات الاحتلال عاصف مرة أخرى بتهمة تنفيذ عملية إطلاق نار أدت إلى إصابة 10 إسرائيليين قرب مستعمرة "عوفرا" شرق رام الله. وبعد أسبوع قامت وحدة إسرائيلية خاصة باغتيال صالح البرغوثي شقيق عاصف بتهمة المشاركة في العملية.
ثم قامت قوات الاحتلال بهدم منزلي عاصف ومنزل والده. وحين بلغ خبر استشهاد صالح والدته قالت "إن استشهد صالح فهناك مليون صالح، وليس كل إنسان يكرّمه الله بالشهادة، ثم إن لكل منا عمر محدود (لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(
وأبناء حنان البرغوثي الثلاثة عناد وعبد الله وعمر معتقلين في سجون الاحتلال. حنان شقيقة نائل الوحيدة تقول إنه أثناء إحدى زياراتها لنائل في المعتقل سمحت سلطات الاحتلال لأحد الأطفال الصغار بالدخول عند الأسرى، فضم نائل الطفل بحرارة، حينها أحسست كم كان يتمنى أن يحتضن طفلاً له، وعندما رآني أبكي، قال لي: لا تبكي يا أختي فإن كل أطفال فلسطين أبنائي.

وجع لا يبارح
ملف الأسرى الفلسطينيين الأبطال الصامدين القابعين في زنازين السجون الإسرائيلية، من أبرز الملفات المؤلمة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني.
قضية الأسير نائل البرغوثي هي قضية نحو سبعة آلاف أسير فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بينهم أكثر من أربعمئة طفل وطفلة، أصغرهم الطفلة "ديما الواوي" ابنة الثانية عشرة، وسبعون أسيرة فلسطينية، أقدمهن "لينا الجربوني" من المناطق المحتلة عام 1948 والمعتقلة منذ أربعة عشر عاما.
من بين الأسرى ما يزيد على خمسمئة أسير يقضون أحكاما بالسجن المؤبد لمرة أو مرات عدة، وهناك أسرى تم اعتقالهم أطفالاً كبروا وهرموا في السجن. فهناك أربعين أسيراً قد مضى على اعتقالهم عشرون عاما، وسبعة عشر أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من خمسة وعشرين عاما، وسبعة أسرى مضى على اعتقالهم أكثر من ثلاثين عاما.
يوجد في المعتقلات الصهيونية سبعمئة معتقل إداري دون تهمة أو محاكمة، وستة نواب في المجـلس التشـريعي الفلسـطيني، ووزير سابق، وسبعة عشر صحافيا، ومئات من الأكاديميين والكفاءات العلمية والرياضيين.
ومما يدمي القلوب وجود قرابة ألف وسبعمئة أسير يعانون من أمراض مختلفة، بينهم مئة وثمانون أسيراً يعانون من أمراض خطيرة، وخمسة وعشرون أسيراً يعانون من مرض السرطان، بالإضافة إلى سبعين أسيراً يعانون من إعاقات جسدية ونفسية وحسية، بعضهم من فقد القدرة على الحركة، في ظل استمرار سياسة الإهمال الطبي المتعمد، الأمر الذي يفاقم من معاناتهم ويشكل خطرا على حياتهم. و30 اسيرا مدرجون على قائمة انتظار الموت. وهناك 73 أسيراً استشهدوا تحت التعذيب و75 استشهدوا نتيجة القتل العمد بعد اعتقالهم و67 استشهدوا نتيجة الاهمال الطبي.
إن إلقاء نظرة فقط على العام 2019 يكشف أرقام مرعبة عن حجم معاناة الأسرى نتيجة سياسات البطش والقمع التي تعتمدها قوات الاحتلال الفاشية، حيث استشهد العام الماضي 5 أسرى نتيجة التعذيب، ليبلغ عدد الأسرى الشهداء 222 شهيداً.
كما شهد العام الماضي قيام قوات الاحتلال باعتقال خمسة آلاف وخمسمائة معتقلاً إدارياً، بمعدل 14 حالة اعتقال يومياً. الاعتقالات شملت 1100 حالة لأسرى سابقين، واعتقال 790 طفلاً، واعتقال 152 لفلسطينيين يعانون أمراضاً مزمنة، واعتقال 120 امرأة وفتاة فلسطينية. هذه الجرائم كافة ارتكبها الاحتلال في عام 2019 فقط، فيما العالم غير المتحضر يعاني من ارتجاج دماغي، لأنه ينتصر لضحايا التمييز في مكان، ويتجاهل قتل وقهر الأبرياء في فلسطين المحتلة على يد قوات الفاشيين الجدد.

خارج الزمن
خلال فترة اعتقال نائل البرغوثي التي استمرت 42 عاماً، فقد والده ووالدته. وشقيقته ذات 12 عاماً كبرت وتزوجت وأنجبت وأصبحت جدة، ولديها ثلاثة أولاد معتقلين هم عناد وعبد الله وعمر. تقول شقيقته: كنت أحمل عمر بين ذراعي عندما كنّا نزور نائل، واليوم هو زميله في الأسر.
الحاجة فرحة البرغوثي والدة نائل لم تعرف الكلل أو الملل، وجابت غالبية سجون العدو لزيارة ابنَيها نائل وعمر، كما خاضت معظم الإضرابات خارج السجون تزامناً مع إضراب أبنائها في الداخل. قبل وفاتها بيوم واحد، انتظرها الشقيقان نائل وعمر ليسمعا صوت والدتهما في برنامج إذاعي عن الأسرى حيث قالت على الملأ "وصيتي لكم درهم شرف خير من بيت مال يا أحباب قلبي" وفي اليوم التالي توفيت بتاريخ 19/10/2005.
إن استمرار اعتقال نائل البرغوثي وزملاؤه الأسرى لمدة تزيد عن 40 عاماً، يعني أن هناك خللاً في المنظومة الدولية الإنسانية، وانهياراً في القيم الأخلاقية والحقوقية الأممية. وسقوط مرعب لشعارات الحرية والعدالة الإنسانية. سوف تظل شرعة حقوق الإنسان معتقلة ما دام البرغوثي والأسرى الفلسطينيين الآخرين معتقلين في زنازين الفاشية الصهيونية.
وما قيمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بمواده الثلاثون، إن لم تستطع الجمعية العامة للأمم المتحدة والدول الموقعة عليه من صيانة وحماية الإعلان واحترام توقيعها عليه. وما نفع اللجان والمنظمات الحقوقية الرسمية والشعبية العربية والإقليمية والدولية، إذا لم تتمكن من الضغط على الاحتلال الصهيوني لإجباره على إطلاق سراح الاسرى الفلسطينيين من معتقلاته، وهم الذين اعتقلوا وسجنوا ظلما وعدواناً، في انتهاك واضح وخطير لكافة الأعراف الدولية التي تبيح مقاومة الاحتلال أياً كان اسمه وهيئته.
ليس كافياً أن نجعل للأسرى يوماً في العام، نكيل لهم المديح عبر الخطب والمهرجانات. ليس كافياً ـ على أهميته ـ الكتابة عن/حول الاسرى في الصحف والمجلات والتحدث عنهم في وسائل الإعلام الأخرى. ليس كافياً إطلاق المناشدات الأخلاقية، فعدونا لا يقيم للأخلاق وزناً، فمشروعه الصهيوني في الأساس قام على القتل والتهجير والتدمير.
على عاتق الجميع بلا استثناء تقع المسؤولية الأخلاقية لإطلاق حملة فلسطينية وعربية ودولية للضغط على الاحتلال وإلزامه بالإفراج عن الأسير البرغوثي، وبقية الأسرى الفلسطينيين من زنازين الصهاينة، وخاصة الأسرى القدامى والمرضى وكبار السن والأطفال والأسيرات الماجدات.



54
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


أن تكون عنصرياً ضدي لأنني فلسطيني

الاستعارة من الجانب المظلم للذاكرة الفلسطينية، تظهر أنها ليست المرة الأولى، التي يجري فيها توجيه الإساءة القصدية للشعب الفلسطيني من جهات لبنانية. في العام 1992 صدرت تصريحات عنصرية من النائب "نقولا فتوش" وصف فيها المبعدين الفلسطينيين أنهم "نفايات سامة". واليوم تظل علينا جريدة الجمهورية الكتائبية برسم يشبه الإنسان الفلسطيني في لبنان بكوفيته، بفيروس كورونا، وكلاهما بلاء أصاب لبنان في عامي 1975 و2020 على التوالي. وبين هذا وذاك العديد من مظاهر العنصرية ضد الفلسطينيين، يمكن لأي متتبع للوضع اللبناني أن يرصدها. ليس أقبحها مقطع الفيديو لثلاث شقيقات لبنانيات، تعترف أحداهن وتصرح أنها تحب شاب لديه مواصفات رائعة، لكن عيبه الوحيد أنه فلسطيني".! هذه العنصرية دفعت يوماً المرحوم "شفيق الحوت" لأن يقول "يحبون فلسطين، ويكرهون الفلسطينيين". فما هي الصورة التي يريد الشعبويين اليمينيين العنصريين الجدد في لبنان، أن يكون عليها؟
الخطاب العنصري البغيض من قبل جهات لبنانية ضد فلسطين والفلسطينيين متشعب. ويبدو أنه أصبح من ضرورات الحياة السياسية والحزبية اللبنانية. حين يبرز الخلاف بين الفرقاء هناك فلابد من أن يتم استحضار الموضوع الفلسطيني وتشعبات وجود في المخيمات على الأراضي اللبنانية. صار هذا الأمر من لزوم المتاجرة بالشعارات، وسلعة حاضرة في سوق المزايدات السياسية والوطنية. إن العنصرية التي مورست على الفلسطيني بشكل خاص في لبنان أكبر من يتم استيعابها في مقال كهذا.
في المشهد العربي، يتواصل مسلسل استغلال القضية الفلسطينية، من قبل معظم الأنظمة العربية، لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع تصريحاً أو خطاباً لقائد عربي هنا، أو زعيم سياسي هناك، يؤكد خلاله على عدالة القضية الفلسطينية، والمظلومية التي وقعت على الشعب الفلسطيني المضطهد، وأن إسرائيل التي تحاصر المسجد الأقصى، وتعمل على تهويد مدينة القدس هي العدو الأول للعرب الذين لا يدخرون جهداً ولا مالاً لنصرة ودعم هذه القضية.
لكننا جميعاً نعلم أن هذه الشعارات يتم استخدامها من قبل معظم الأنظمة العربية لدغدغة مشاعر شعوبها. إذ تم توظيف القضية الفلسطينية لتنال تلك الأنظمة الشرعية من شعوبها تارة، ولقمعها وتجويعها تارة أخرى بذريعة الاستعداد لمعركة تحرير فلسطين.  وتم استخدام القضية لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية من قبل بعض الأحزاب العربية، بل حتى لجني ثروات من قبل بعض تجار الفن الذين استخدموا رمزية القضية الفلسطينية لتسويق أعمالهم وانتشارها. لكن لا العرب حاربوا، ولا فلسطين عادت لأهلها، ولا الدول العربية تطورت وتقدمت وأنجزت، ولا الشعوب العربية استعادت حريتها وإنسانيتها من الأنظمة الاستبدادية.

الراهن العربي الكسيح
لكن هل الراهن العربي في الواقع قابل لنصرة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية؟
الإجابة قطعاً لا، فالجسد العربي في حالة من الموت السريري، قلب العرب مريض ومرهق، ورأسها مصاب بالهرم، وأطرافها مشلولة.
إن قضية العرب الأولى- فلسطين- تحتاج إلى أمة حرة قادرة على التعبير وتقديم الدعم، تحتاج إلى أمة لا تلهث غالبيتها خلف رغيف الخبز، أمة قادرة أن تختار مستقبلها، أمة لا يقرر مصيرها حزب واحد ولا عشيرة واحدة ولا زعيم واحد.
تحرير فلسطين يحتاج جسد عربي معافى ومتحرر من الخوف والقمع والفساد والمرض والفقر والأمية ومن المحسوبيات والرشوة والشللية، جسد يتمتع بحرية الحركة والانتقال، يؤمن بالديمقراطية إيمان حقيقي، ويمارس تداول السلطة، ولا يعتقل معارضيه.
لقد جعلت معظم الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية مطية لتحقيق مآربها الخاصة، وجرى استخدام القضية في الخطابات الديماغوجية التي تتشدق بها بعض النظم العربية بهدف استمالة الشعوب العربية والإسلامية إلى جانبها، بل إن بعض الدول العربية تحارب دولاً عربية أخرى بسيف القضية الفلسطينية التي أصبحت مادة للمزايدات بين أطراف عربية كثيرة.
وبما أن موضوعي اليوم هو هذا المستوى من الانحدار والسقوط الأخلاقي والفكري على مستوى القيم والمثل لليمين المتطرف في لبنان الذي أظهر وجهاً بشعاً، وفاض بقذارته. سوف أحاول مساعدته في التقرب من الكائن الفلسطيني الذي يجهله.

ماذا يعني أن أكون فلسطينياً
أيها العنصري البغيض: أن أكون فلسطينياً يعني أن أعشق وطناً أعرف اسمه ولم أراه. أن أكبر وأنا لا أعلم أين سوف أكون غداً، لأنني ممنوعاً من الاستقرار ومن التفكير في المستقبل، وعلي أن أحارب نيابة عن أمة الضاد، لأني القومي العربي الأول. وأن أحارب نيابة عن جميع المسلمين، فأنا حامي الأقصى الشريف وهو تكليف خصني به رب العزة،. ثم يجب أن أقاتل نيابة عن جمع الأحرار والشرفاء في العالم، فأنا الأخ والرفيق والمناضل الأممي الأول ضد الامبريالية العالمية، وضد الاستعمار وضد العولمة.
ثم أجدهم يشيدون بي في الخطابات والمهرجات والمؤتمرات والقاعات المغلقة، ويكيلون لي المديح وينظمون قوافي الشعر في وصفي، لكنني يا حسرة حافي القدمين، فأنا الضحية الأولى في كل الأزمات.
أن أكون فلسطينياً يعني أن أرضع من ثدي أمي مع حليبها الإحساس بالقهر والظلم، وكذلك أرضع التحدي والرجولة والإصرار، وأرضع مفردات السياسة ومصطلحات الفلسفة وأسماء الأسلحة.
 وحين أصبح مراهقاً يجب علي أن أقرأ الشعر وأحفظه ثم أكتب القصائد وأكون ملماً بأنواع وبحور الشعر وأسماء كبار الشعراء.
 وحين أصبح شاباً أُعتقل، ليس مهماً أين، قد أُعتقل عند الأعداء الطبيعيين، وقد أُعتقل عند الأشقاء العرب. وكذلك ليس مهماً التهمة فهي موجودة دوماً بانتظاري لأنني فلسطيني.
حين أكون فلسطينياً أيها الأرستقراطي الكريه، فهذا يعني أنني أحفظ أسماء الشهداء منذ ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 حتى اليوم. وأن أعلم أعداد المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وفي المعتقلات العربية.
أن أكون فلسطينياً، يعني أن أكون صاحب الكوفية الفلسطينية، التي حملت منذ قرن من الزمن معاني الشرف والنضال والإباء والتضحية. وأصبحت الكوفية الفلسطينية منذ العام 1936 رمزاً للهوية الوطنية الفلسطينية، وشعاراً يلتف حوله الأصدقاء والمناصرون والمتعاطفون معها في كل بقاع الأرض.
أن أكون فلسطينياً، فهذا يعني أن أعرف أماكن وأسماء السجون والمعتقلات في العالم، وأحفظ تاريخ الثورات في العالم وأسماء قادتها وأبرز منجزاتها، بداية من ثورة سبارتاكوس حتى ثورة الجوع والتغيير في لبنان.
أن أكون فلسطينياً يعني أن أصاب بمرض اسمه الحزن يصاحبني طوال حياتي، ويلتصق أنين الحجارة بصوتي، ويفترسني الخوف من المطارات العربية، وتربكني الموانئ، لأن أيام عمري تتساقط على هذه الأرصفة محطة تلو المحطة وأظل غريباً.
يعني أن يكون لدي ذاكرة قوية بالفطرة والاكتساب. فأنا أتذكر عدد حبات رمال البحر على شواطئ فلسطين، وأتذكر صوت كل مئذنة، وأعلم موقع كل جامع من صوت الآذان. أتذكر ضحكة كل طفل في مدينتي، أماكن أفران خبز الصاج. أن أظل متذكراً أن لا عصفور لي يرابط عند نافذتي، وأن أظل أتذكر أقنعة الجلادين، وطعم الوجع، وجدران المدينة، وأذكر لون الفجر، ورائحة الموت الممتزج بالبارود.
لأنني فلسطيني، أدركت مع الوقت أهمية الأرقام والأعداد في حياتي. تحول اسمي إلى رقم في جداول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة، وتحول تاريخي كله إلى أرقام ومحطات، بدءًا من العهد الإغريقي مروراً بالانتداب البريطاني لغاية اللحظة,
 كل شيء في حياتي تحول إلى أرقام. موقع بيت جدي في فلسطين الذي يسكنه مهاجر يهودي من روسيا. كم يبلغ بالأرقام عدد أفراد أسرتي، المعتقلين والمنفيين والمفقودين والمقتولين. عدد الأيام التي أمضيتها في المعتقلات وفي المشافي وأمام أبواب أجهزة الأمن.
 عدد السنين التي عشتها في المخيم، رقم لجوئي في المنافي البعيدة. عدد المجازر والمذابح التي ارتكبها الآخرون بحق أهلي وشعبي. عدد وتواريخ المناسبات الوطنية، وعدد هزائم العرب.
وسوف يلهج لسانك بالشكر لمن اخترع الأرقام، إذ لولا وجود الأرقام لما كنت أصلا موجوداً.
يعني أنني عشت حالة من الحنين الدائم في جميع أحوالي، في صحوتي ويقظتي، إلا وتكون فلسطين حاضرة تعيش بي وأعيش بها ولا تفارقني لحظة.
هل ارغب أن تعرف أكثر عن الفلسطيني؟ حسنا سوف أخبرك.

تعرف على هذا الكائن
أن أكون فلسطينياً فهذا يعني أنه كان لي وطناً جميلاً مثل وطنك، وكان لنا بيارة وبيتاً دافئاً مثل بيتك، ولنا بستان جميل، ومكان عمل، وعائلة واقارب وأصدقاء وجيران، مثل عائلتك وجيرانك. لكن فجأة جاء أحد ما، لسبب ما، بمساعدة ودعم من جهات ما، ومنها جهات عربية شقيقة، وخيانة وتآمر ما، تم قتل نصف عائلتي، وطُرد الآخرين خارج وطني. بقي بعض الأفراد القلائل من عائلتي على قيد الحياة في وطنهم، لكنهم أصبحوا ضيوفاً ثقلاء في أرضهم.
أن أكون فلسطينياً هذا يعني أنني كنت اسير في شارع ما، في عاصمة ما، في دولة ما، ولم أكن أعلم هل سأعود إلى بيتي أم لا، خاصة إن كانت دولة عربية ما.
أنني كنت متواجداً في مطار ما، في دوله ما، غادر الجميع قاعة الوصول وخرجوا وكان أهاليهم في انتظارهم. إلا أنا بقيت في المطار لسبب ما لا أفهمه. ثم يتم اعتقالي أياماً أو أسابيعاً أو شهوراً أو أعواماً، دون أن يجرؤ أحد على السؤال عني. وقد يقتلونني داخل المعتقلات، دون أن يرتعش جفن السجان، فأنا فلسطيني. في أحسن الحالات، كان يتم احتجازي في المطار داخل غرفة قذرة، ثم يقومون بتسفيري في أقرب رحلة عائداً إلى حيث قدمت. طبعاً دون توضيح أو ذكر الأسباب، فأنت فلسطيني.
أن أكون فلسطينياً، هذا يعني أن تصبح كل الجهات رماحاً أمام عيني. أن تتدلى المشانق من أجل عنقي في معظم العواصم. أن ينمو الصقيع على شرفات المنافي التي تتقاذفني.
 أن أعود في يوم ما محمولاً فوق الأكف إلى عشب أمي. أن أرى والدي يموت في مكان ما، فوق فراش بارد، وكان لايزال يتحدث عن كروم العنب والزيتون في فلسطين، وعن أمله في العودة إليها يوماً ما.

أخيراً
لبنان الذي تغزّل بها الشاعر السوري الكبير نزار قباني. وبيروت النجمة والخيمة الأخيرة للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، ليست لبنان بوجهها القبيح الذي أظهرته اليوم. من أساء إلى الفلسطينيين في لبنان عبر الرسم الكاريكاتيري، فقد أساء إلى لبنان أولاً وإلى العلاقات الأخوية المتميزة بين الشعبين الفلسطيني واللبناني.
هذا الانزلاق الصادم من صحيفة الجمهورية اللبنانية بنشرها الرسم الاستفزازي المهين، دون أي مبرر، تبعث برسالة تحمل رمزية دنيئة تنضح بالعنصرية والكراهية، وتستفز عموم الشعب الفلسطيني، في لبنان وخارجه. ويكشف حقداً دفيناً ضد الفلسطينيين عند أصحاب هذا التيار. الذين أذكرهم وكل الذين يتطاولون على الشعب الفلسطيني، أننا الشعب الوحيد في الكون الذي انهار كل شيء من حوله، انهارت مدننا وقرانا ومخيماتنا، انهارت مقابرنا وأفراح صغارنا، ولا زلنا نأمل أن ينبت الحطب زهراً. فكيف يموت قلبنا؟


55
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقي في الدنمارك

الأقفاص البشرية.. ما بعد كورونا

يبدو أن المقاييس على وشك الانقلاب، بعد أن تم سجن البشرية في المنازل بعملية تدجين حديثة، بذريعة اتقاء بطش السيد كورونا المنتشر في كافة المدن والقرى والميادين. الخطوة القادمة هي تحرير الحيوانات المعتقلة منذ عقود في أقفاصها الباردة بسجون تسمى "حدائق الحيوانات"، المنتشرة في مختلف أماكن المعمورة، لتفسح المجال والمكان أمام الإنسان، ليدخل تلك الزنازين/الأقفاص فور خروج "الحيوانات" منها، لتحل الحدائق الخاصة بالبشر وأجناسهم وما يشبههم، ثم تأتي الحيوانات التي استعادت حريتها و"حيوانيتها" الفطرية، لتزور القاطنين الجدد، وترمي لهم حبات الفستق، وقشر الموز، والأرغفة اليابسة. ثم تبتسم وهي تلتقط الصور التذكارية مع الإنسان القابع خلف القضبان.
هذه الصورة كانت عبارة عن رؤية سريالية طريفة، لمعت في ذهني حين اصطحبت صديقاً حلّ ضيفاً علي ذات يوم إلى حديقة الحيوانات الضخمة في المدينة التي أقيم فيها. أصوات الحيوانات في الأقفاص التي تحاصرنا جعلتني في مقاربة صامتة حول صوت الإنسان، والأدوات التي طورها عبر ملايين السنين بهدف الاتصال الاجتماعي، والتعبير بالكلام عن مخاوفه وحاجاته الأساسية. في تطور كان يفترض به أن يحقق التحولات التي تجعل حياة الإنسان أكثر رفاهية وأمنا. فيما كان صديقي في تلك اللحظات منشغلاً بتمثيل دور السائح، الذي يوزع الابتسامات يميناً وشمالاً، ويلتقط عشرات الصور.
لكن تلك الأفكار التي كانت مجرد هذيان فيما مضى، هي اليوم أقرب ما تكون إلى أن تصبح واقعاً حقيقيا، بعد أن خلت الشوارع والساحات والمتنزهات من البشر، وخلت مراكز التسوق من روادها المستهلكين، بعد أن كانت تشكو الاكتظاظ، نتيجة هوس الإنسان في التملك والشراء. وبعد أن تحولت كبرى العواصم إلى مدن أشباح لا وجود لمظاهر الحياة فيها، نتيجة العزل الطبي، والحجر الصحي التي فرضته الأنظمة السياسية على المواطنين، في محاولة لاستيعاب تقدم انتشار وباء "كورونا" والسيطرة عليه.

قرود بشرية
بالعودة إلى أصوات الحيوانات، نعم تمتلك تلك الحيوانات التي وضعها البشر في الأقفاص لغة، ورغم شيوع فكرة أن الإنسان حيواناً ناطقاً، إلا أنني أرى أن الإنسان حيواناً مثل باقي الحيوانات. فقط هو مختلف عن الأرنب، تماماً مثلما تختلف البطة عن الفيل، والجمل عن الذئب. لكن الإنسان قطعاً لا يتميز عن سائر الحيوانات بالنطق. ذلك أن جميع تلك الحيوانات هي مخلوقات ناطقة. وعجزنا عن فهم وإدراك ما تقوله لا يعني أنها غير ناطقة. فالذئب حين يعوي يقول شيئاً بفهمه باقي القطيع، مثل نقنقة الدجاج، وكذلك سائر الحيوانات.
مع مرور الوقت بعد تلك الزيارة أصبحت مقتنعاً أن النطق الذي كان يظن البعض، أنه شيئاً يتميز به ابن آدم على سواه من المخلوقات، مجرد ذريعة ابتدعها البشر لإظهار قبحهم في علاقتهم مع بقية المخلوقات من حيوانات وما شابه. بل أكثر من ذلك، فقد تحول "البشر" في العصر الحديث إلى نموذج هجين عن القردة، وبتنا لا نرى ولا نسمع ولا نتكلم. وابتكرنا قرداً رابعاً لا يشعر، وخامساً لا يرحم، وسادساً متوحشاً، وفي كل يوم نبتكر قرداً جديداً.
لقد فعل الإنسان كل ما يجعله يستحق هذا المصير العبثي. عبر توحشه وتغوله وأطماعه، وقسوته غير المبررة على مر العصور. نلتفت حولنا، فنجد أطفالاً يأكل الذباب عيونهم، يذهبون إلى المدارس نصف عراة ونصف جائعين. تتنافس على طفولتهم أسواق العمالة الرخيصة، وتتلقفهم ورشات وحقول الكبار، وهم في سن اللعب والتشكل. أطفال في دول فقيرة ونامية تراهم يشيخون في فترة المراهقة، تائهون ومهمشون في الأطراف، يبتلعهم ازدحام المدن في عصر العولمة و"الحداثة". ولا أحد يدرك معاناتهم، ولا نسمع صوتاً "بشرياً ينطق نصرة لطفولتهم التي لم يتعرفوا إليها.
التهميش أصبح ظاهرة عميقة ولافتة، بالغة التأثير في الحالة الدولية وقبيحة. هي ظاهرة لا تقتصر على المجتمعات التي تعاني من مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية، بل تشمل أيضاً جميع المجتمعات والدول، سواء تلك الغنية أو الفقيرة، الدول التي تشهد صراعات أو الأخرى المستقرة نسبياً، الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية أو تلك الأقل استبداداً. وهي ظاهرة تطال تداعياتها غالبية الدول، الإقليمية منها أو الدول الأوروبية، التي يفر إليها الناس من بلادهم نتيجة تعرضهم للتمييز والقهر والجوع.
ثم مكابدة مئات الملايين من البشر في مختلف بقاع الأرض، خاصة في الدول الفقيرة ودول الجنوب والدول النامية، لتبعات الجوع والفقر والفاقة وضنك الحياة، ونسب الأمية والبطالة المرتفعة، وضعف الرعاية الصحية والاجتماعية، وازدياد التفاوت الطبقي والحضري بين أبناء القطر الواحد، واتساع الفجوة باضطراد بين الأغنياء والفقراء. يزداد الأمر قبحاً حين تغيب في هذه الدول، الحريات العامة، ويجري إعدام الديمقراطية السياسية والاجتماعية. ويتحول القضاء والمؤسسات اللاهوتية إلى دور إفتاء للزعماء السياسيين، ويصبح الإعلام أداة كذب وتلفيق وتشويه وسلاحاً ناعماً فتاكاً وعصرياً. وتسود قوانين الطوارئ بذريعة الدفاع عن الإنسان والأوطان. ويبدو الوضع كارثياً بممارسة القمع والإرهاب واعتماد سياسة تكميم الأفواه. ويتم اغتيال الكلمة الحرة الجريئة، ويتحول المثقفون إلى بوق لتمجيد الأنظمة. ومع هذا الخراب لا نسمع نطقاً.

في الحالة العربية
أجيالاً كاملة في العالم العربي تعاني فراغاً مريراً. فراغاً في الأيديولوجيات، في القيم، في الفكر، في المعتقد، في الثقافة، في العلم، في تقاليد الحرية، وفي مختلف القطاعات. فراغاً نمى واتسع حتى احتل ضمائر العباد من الخواص والعوام. ولا أحد ينطق.
أمة تعيش حالة الهزيمة الشاملة. أوطان تُسرق وتُصادر من القوى العظمى في مرحلة الاستعمار وما بعده، وفي عصر العولمة وما بعدها. عجز عربي رسمي لم تعد تغطيه لا ورقة توت ولا إبرة صنوبر. غيبوبة غير مبررة من الأحزاب والقوى الشعبية العربية، التي تُكثر من إقامة المؤتمرات وإصدار البيانات، دون أية أفعال حقيقية لها ولا لمنظمات المجتمع المدني، ولا لعموم المثقفين، لتعرية الأنظمة ووضع الحقائق أمام أعينها، فيما المرجعيات السياسية العربية مصابة بتورم في المفاصل، وبعضها يعاني الموت السريري. والمؤسسة الدينية طوعتها المنظومة السياسية وأخضعتها لمصالحها، فتحول بعض رجال الدين من دعاة إلى متآمرين. ولا أحد ينطق.
في فلسطين، إذا لا زلتم تذكرونها، والتي كنتم تقولون عنها فيما مضى أنها قضيتكم المركزية، فيها شعب كامل يُذبح منذ قرن كامل، وتحاصرهم قبائل ابناء العمومة، وصمتكم سيد المشهد.
الخراب الذي اتسع في المشهد العربي، والحطام الذي يكبر في كل يوم، والأعمدة التي تتداعى، وتهوي معها جميع معاني الإنسانية، لا نجد معها من يجرؤ على مواجهة هذا السيل الجارف، ولا حتى على الأنين. فقد سلمنا جميعاً بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فهانت علينا أنفسنا، وهانت علينا انهياراتنا وهزائمنا، وبتنا لا نسأله رد القضاء، بل اللطف به.

البشرية لا تتعلم
منذ أن وجد الإنسان، وجد التوحش والجشع والشره، وجد الاضطهاد والاستبداد، وجد التسلط والتعسف. مع الإنسان نشأت الصراعات والحروب وعرف الكون العدوانية والجور والطغيان، وما زالوا خلّاناً أصدقاء أوفياء للإنسان المعاصر. ورغم أن الظلم والقهر وغياب العدالة كانوا ولا يزالوا سبباً لحدوث الثورات الاجتماعية عبر العصور، إلا أن البشرية لا تتعلم بسهولة.
ولما كان ذاك غير ذلك، فمن الجلي أن الإنسان لا يتميز عن الحيوان بالنطق.  لكن يا ترى هل يتميز عنه بالكتابة؟ سؤال وجيه. وهل نستطيع القول إن الإنسان حيوان يكتب؟ أنا شخصيا أعرف حيوانات كثيرة امتهنت الكتابة لاستبدال الفكر بشبيهه، واستبدال المنفعة بالمفسدة، والزلال بالآسن، والفصيح بالقبيح، وتحويل جميع القيم السامية إلى سلوكيات ساقطة.
في الأمس اثناء انتظاري لشراء الطعام من المكان الوحيد بالمدينة لبيع الدجاج المشوي، التقيت مصادفة بصديق لي ينتظر مثلي للحصول على بعض الدجاج لعائلته، وجدته شاحباً يطيل النظر في الدجاجات التي تدو داخل القفص الزجاجي بلونها الذهبي.
 حين سألته السبب، أجاب دون مقدمات وبدأ يفسر لي أسباب الاضطرابات الخيالية التي بدأ يعاني منها مؤخراً، وجعلته يتصور غضب ونقمة الفراريج على البشر، وهم يشاهدون الناس تُقبل على التهام كميات كبيرة من الطيور المسكينة دون شفقة أو رحمة.
بعد قليل لاحظت أن الهواجس قد استبدت بصديقي إلى درجة أنه أصبح يتخيل أن تلك الدجاجات التي ننتظر أخذها والعودة بها للمنزل لالتهامها، قد استعادت حياتها، وشقت عصا الطاعة، وغادرت القفص، وانهالت علينا جميعاً نقراً بمناقيرها الحادة، انتقاماً لما يفعله البشر بأبناء جلدتها منذ الأزل.
وعبثاً حاولت مع الصديق لإقناعه بهشاشة وسخافة هواجسه، وذكرته بصديق قديم لنا يعشق أكل الدجاج المشوي في كل مساء. ولو أن الدجاج كان حقاً قادراً على الانتقام، لكن هو خصمها الأول لا غيره. ورغم إنه لا يزال يفتك بدجاج الكون، فما زال حياً يرزق، ويأكل الدجاج كل ليلة.
غير أن صديقي المسكين كان مقتنعاً بفداحة الجرم الذي ارتكبته أسنانه بحق الدجاج الضعيف. لذلك أخبرني أنه قرر طلب المغفرة والتوبة عن أكل تلك الطيور، لعله يكّفر عن جرائمه السابقة بحق الدجاج.
 تركني وغادر مسرعاً دون دجاج مشوي. حصلت أنا على دجاجتي، وعدت لبيتي دون شعور بالندم.

نحتاج كثيراً من الخجل
قد تكون الفلسفة التي توصل لها صديقي مفادها أن الحيوانات مخلوقات أرقى من البشر. وبظني لن يجد صعوبة في تدعيم رأيه وموقفه بالحجج والبراهين. فالحيوانات عادة تدير ظهرها للطعام حين تشبع، بعكس الإنسان الذي يسعى نحو الاستحواذ على كل شيء.
ثم هل سمعتم يوماً عن حيوان يشترط فيك أن تكون ثرياً وتمتلك منزلاً فخماً ووظيفة مجزية ليكون زوجاً لك أو صديقاً؟ لا بالطبع، فهذه سمات البشر وأخلاقهم، فالحيوانات لا تبتغي سوى المحبة من قلب يبادلها الحب.
ودون أن يدري، أعادني صديقي إلى حيث كنت قد بدأت. فيبدو أن الانقلاب في المقاييس قادم لا محالة. ذلك أن "الحيوانات" بظني غير قادرة على تحمل كل هذا الإجحاف الذي يلحق بها نتيجة وحشية البشر. لذلك فإنها سوف تتمرد عاجلاً أم آجلاً، كي تنتقم لنفسها وتحقق العدالة، وتضع الإنسان في أقفاص باردة موحشة وتحشره فيها. ثم تأتي في أوقات فراغها كي تتفرج عليه وهي ترتدي النظارات الشمسية وتحمل الكاميرات، وتطلق ضحكات فرحة.
في هذه الفترة العصيبة من عمر البشرية، وهي تواجه عدواً مجهولاً أسموه "فيروس كورونا" يبدو أنه ليس مهماً الآن ـ من وجهة نظري ـ نقاش العديد من الأفكار والرؤى والتحليلات والتخمينات والنظريات التي اجتهد أصحابها في تقديم تفسير لما يحصل. بدءًا من نظريات المؤامرة، إلى نظريات صراع القوى العظمى، ونظرية الانتقام الإلهي، وسواهم.
 لكن باعتبار أن البشر ليسوا الوحيدون الذين يعيشون مع الحيوانات في هذا الكوكب الأزرق. حيث يضم كوكب الأرض نحو 8,7 مليون كائن حي، حيواني أو نباتي. منها 6,5 مليون كائن يعيشون على اليابسة، فيما يعيش في المياه 2,2 مليون كائن، بحسب دراسة أمريكية تم نشرها في صحيفة "بلوس بيولوجي" العلمية PLOS Biology Journa وهذه الكائنات تحتاج إلى الغذاء والهواء والماء، فإن ما جرى قد يكون سلاح الطبيعة، سلاح الأرض الأم في علاقتها المتأزمة مع الإنسان المتغول، في حربها مع البشرية التي عاثت في الأرض جنوناً وفجوراً.
الدرس المهم هنا أن كثيرون من الناس في هذا العالم هم أسوأ وأقبح من المخلوقات التي نتفرج عليها داخل أقفاصها. إذ أنهم حولوا باختلالهم وقسوتهم وجشعهم، أماكن كثيرة في هذا العالم إلى حدائق حيوان. فلازال الإنسان رغم مجتمعه المدني، أكثر توحشاً من أي حيوان.





56
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدانمرك

الإغراق الإعلامي.. تصنيع الكذب والتضليل


ليس من المصادفة أن يتوافق ترتيب القوى الأكثر فاعلية مع ترتيب الدول الأقوى إعلامياً. فلم يعد الإعلام مجرد خطاب سياسي أو ثقافي، بل أصبح شريكاً رئيسياً في صناعة الأحداث العالمية. ويقوم بمتابعة تطورات هذه الأحداث والأفعال ويصحح اتجاهاتها.
بالرغم من أن العلاقة بين الحقيقة والإعلام هي علاقة جدلية تبادلية، إذ في الوقت الذي تسهم فيه الحقائق في صناعة إعلام بارز وناجح ومؤثر، فإن الإعلام يمكن بدوره أن يكشف الحقائق ويثبتها ويعززها وينشرها أو يغيرها، أو ينقلها من مكانها، أو يوظفها في سياقات غير حقيقية. إن للإعلام تلك المقدرة الكبيرة على تدوير الحقائق لتصب في مصلحة جهة أو دولة ما، من خلال التلاعب بالعقول. حتى تلك العقول المثقفة والنخبوية لا تنجو من التأثير العميق الذي يحدثه الإعلام الموجه على خيارات وأفكار ومواقف وقناعات الناس.
إن من يتوقع الحصول على الحقيقة من خلال وسائل الإعلام فإنه لا شك واهم، ذلك أن هدف وسائل الإعلام المتعددة هو إنتاج منظومات فكرية تقوم على صياغة أفكار ومفاهيم واذواق المتلقين، من خلال رسائل إعلامية وصور ورموز ومصطلحات تتكرر حتى تتحول إلى بديهيات ومسلمات في ذهن المتلقي، كي تسيطر على متطلباته من جانب، وتوظفها وتستثمرها من جانب آخر. ويمكن للإعلام أيضاً أن يكون صانعاً لنماذج بشرية ذات نفوذ مجتمعي، تقوم بالتأثير على الناس لخدمة مصالح سياسية لطرف او غيره. ووسائل الإعلام تقوم بهذا الدور بخبث شديد من خلال إظهار جزئيات وتفاصيل صغيرة بصورة مكثفة واختزالية وبسيطة في ذات الوقت، كي يسهل تسللها إلى وعي المتلقي، ومن ثم تصبح شيئاً مسلماً به موجود في العقل البشري، يصعب تفكيكه.

الناس تميل لمتابعة الأخبار الكاذبة
في دراسة أخرى أجراها البروفيسور الدنماركي "أندرياس بيركباك" Andreas Birkbak أستاذ الفلسفة في جامعة "آلبورغ" Aalborg Universitet في عام 2018
من أهم النتائج التي ذكرتها الدراسة أن معظم الناس نظراً لأن لديهم تصوراً معيناً عن قضية ما، فإنهم لا يميلون تمامًا للسماح للآراء الموضوعية بتصحيح المفاهيم، بل على العكس يقومون بمراجعة الحقائق لتتناسب مع مفاهيمهم الخاطئة. كما بينت الدراسة أن تحيز الناس لمواقف ما أو أشخاص ما أو لأي شيء يقودهم إلى تحريف المفاهيم والمواقف، بل إنهم يخلقون معلومات خاطئة، وتسوء الأمور حين يعتقد الناس أن عليهم نقل هذه المعلومات الخاطئة. فالقصص الكاذبة تنتقل بخصائص جديدة عبر وسائل الاتصال والتواصل وبين الجموع.

من جانب آخر فقد أجرى المعهد الأمريكي “ماساتشوستس” للتقنية Massachusetts Institute of Technology مؤخراً دراسة شملت حوالي 130 ألف خبراً كاذباً وإشاعة على موقع “تويتر”، وتوصلت الدراسة التي أشرف عليها باحثون متخصصون إلى أن الأخبار الزائفة تنتشر بصورة أسرع كثيراً من تلك الأخبار الحقيقية، وأن الناس يبحثون عنها وأن مستخدمي تويتر أعادوا تغريد الأخبار الكاذبة بصورة مبالغ فيها، وذلك يعود ربما إلى أن الأخبار الزائفة عادة ما تكون غير مألوفة.
اللافت في هذه الدراسة أن أكثر الأخبار الزائفة كانت حول قضايا سياسية بصورة كبيرة، ثم تلتها قضايا مرتبطة بالمال والأعمال ثانياً، ثم نلتها قضايا العلوم والترفيه، ثم الكوارث الطبيعية والإرهاب. وتوصلت الدراسة إلى أن الأخبار الزائفة والإشاعات تنتشر بصورة أسرع ست مرات من الأخبار الحقيقية. وأن نسبة المتابعين لهذه الأخبار الكاذبة أكثر بعشرة أضعاف من الذين يتابعون الأخبار الحقيقية.

الإعلام الأسود
تحول قطاع الإعلام إلى مشروع سياسي واقتصادي، وإلى صناعة للرأي العام بهدف تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وفكرية وتجارية. إن صناعة الكذب في الإعلام تزامنت مع ظهور الصحافة المطبوعة، وتطورت بتطور وسائل الإعلام. وهي صناعة على درجة عالية من الخطورة لاستهدافها العقل البشري.
إذ يمكن لوسيلة إعلامية أن تقنع المتلقين أن هناك مؤامرة كونية ضدهم من خلال البث المتكرر المدروس لبعض الفقرات والجمل الكاذبة والصور الملفقة. كما يمكن للإعلان أن يغير السلوك البشري من خلال التأثير على متطلباته ورغباته، وتبديل طرق إدراكه للوقائع والأشياء المحيطة به، من خلال وسائل متعددة تقوم بتوظيف علم النفس للتحكم بسلوك المستهلك وعاداته، وتوجيهه إلى ناحية دون أخرى.
إنه الإعلام الأسود الذي يستطيع تحويل إنسان مغمور إلى شخصية شهيرة جداً من خلال التدليس والكذب والبيانات الملفقة، وخلق وقائع مزيفة، وإيهام المتلقي بأن ما يراه أو يقرأه هو حقيقة. كما يستطيع تشويه صورة إنسان أو جهة ناجحة ومتميزة، عبر نشر الأكاذيب وإطلاق الإشاعات حولها.
الإعلام الأسود يقوم بحجب الحقائق واستبدالها بمواد يرغب بها المتلقي حتى لو كانت أشياء ساذجة. هو إعلام كيدي أيضاً يهدد الاستقرار المحلي والإقليمي في عالم تشهد صراعات متزايدة. الإعلام الأسود تستخدمه الدول، أيضاً عبر أدوات خبيثة، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، لتحويل مباراة كرة قدم إلى ميدان لتنفيس غضب الناس واحتقانهم السياسي والاجتماعي نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في بلدان تحكمها أنظمة قمعية استبدادية. ومن خلال مثل هذه السياسات الإعلامية القذرة يتم قياس سلوك المواطنين من قبل الأجهزة الأمنية عبر دارات تلفزيونية، لكي تحدد أساليب التعامل الأمني معهم لاحقاً.

صناعة المصطلحات
المصطلحات التي تستخدمها الوسائل الإعلامية المختلفة، عبارة عن كلمة، أو جملة مركزة مصنوعة بدقة ويتم اختيارها بعناية فائقة، بهدف جعلها تعبير ومرادف ملاصق لقضية أو حدث محدد، في مكان جغرافي معين، وفي فترة زمنية محددة، ويستهدف قطاع ما وفئة ما. الغاية من هذا المصطلح الإعلامي هو تسليط الضوء على حقيقة ما، أو العكس إخفاءها. ويمكن لاستعمال مصطلح محدد من قبل وسيلة إعلامية أن يسعى لتغيير ميول ومواقف فئة ما أو شعب أو أمة. كما يمكن للمصطلح أن تكون له غايات أخرى مثل التأثير على صناع قرار لكسب مواقف دولية أو إقليمية.
يستطيع المصطلح عبر استخدامه في وسائل الإعلام أن يصنع صورة نمطية عن أحد أو شيء، أو التأثير على الوعي الجمعي، بهدف السيطرة على عقول الناس، ومحاولة سلب إرادتهم، وبالتالي صناعة رأي عام يتوافق مع مصالح من يصنع هذا المصطلح ومن يسوّقه.
فصناعة المصطلحات واحدة من الأدوات الهامة التي تستخدمها وسائل الإعلام لتسويق الافكار وتمرير المعلومات بطريقة تحقق أهداف جهة ما أو دولة ما. حيث يتلقى القارئ أو المستمع أو المشاهد مصطلح ما يوسم حدث محدد أو يتم وسم قضية معينة بمصطلح ما، يصبح هذا الوسم هوية لهذه القضية وشخوصها ومكانها وزمانها، وهكذا تصبح كافة القضايا المتشابهة والتي تتناولها وسائل الإعلام موضع مقاربة لدى المتلقي بالمصطلح السابق، ويظل الناس يتذكرون هذه الحوادث والقضايا كلما تم استخدام المصطلح من قبل وسائل الإعلام. هذا هو التأثير السياسي والاجتماعي الذي تخلفه صناعة المصطلحات في الغرف المغلقة لوسائل الإعلام، التي عادة ما تكون تخدم جهة أو دولة.
تسعى وسائل الإعلام من خلال استخدام وإعادة استخدام هذه المصطلحات إلى التأثر على عقل المتلقي لتوجيه اهتماماته نحو قضية معينة، أو لجعله يتقبل فكرة كان يرفضها سابقاً ولتبديل مواقف المتلقي وافكاره يجري ربط المصطلح بواقعة ما، تجعل الإنسان يتذكر الواقعة أو الحدث كلما تكرر المصطلح في وسيلة إعلامية.
مع التطور الهائل الذي حققته تقنيات وتكنولوجيا الاتصال والتواصل ونقل المعلومات، يصبح للمصطلح تأثيراً بالغاً في منطقة تشتعل بنيران متعددة المنشأ. وبالقدر الذي تتقاطع فيه المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية إقليمياً ودولياً، فإن المصطلحات المستخدمة في وسائل الإعلام تتوالد وتتكاثر وتتباين لمواكبة تطور الأحداث.
ولا يقتصر غزو المصطلحات الجوانب السياسية، بل يمتد ليشمل كافة مناحي الحياة. فقد ابتدعت وسائل الإعلام العربية مصطلح “المثلية” بدلاً عن فعل الشذوذ الجنسي، وظهر مصطلح “التحرش الجنسي” بدلاً عن الاغتصاب، وهي مصطلحات الغاية منها تشذيب السلوك وجعله أكثر قبولاً.

التضليل الإعلامي
يهدف إلى عكس الوقائع وقلب الحقائق، ويسعى إلى توجيه عقل المتلقي من خلال استهدافه بحرب نفسية لإحداث تأثير عليه، بواسطة الترويج لمعلومات لا ترتبط بالحدث، أو باستعمال وسائل الإعلام لمفردات ومصطلحات بعينها تؤدي في نهاية المطاف إلى إصدار أحكام ما في قضية ما، أو من خلال انتقائية متحيزة تنتهجها وسيلة إعلامية ما، فتختار أن تقدم شيء للمتلقي وإخفاء اشياء أخرى.
 إنها سياسة غسيل العقول وصناعة الكذب، وهي حرب في غاية الخطورة، حيث إنها تستهدف العقل البشري والتشويش على صحة قناعاته وأفكاره، ثم تأثر عليه لتغيير موقفه بدافع من وقائع وهمية لا وجود لها، وإقناع المتلقي على أنها حقائق، وهذا الفعل بدوره يمس حقيقة الواقع الحقيقي المعاش، ويبدأ التشكيك بشأنه، حتى يصبح في وعي المتلقي -فرداً كان أم جماعة- شيئاً غير موجود.
وعادة ما تلجأ الدول إلى التضليل الإعلامي خدمة لسياساتها تجاه دولة أخرى أو تجاه المعارضة السياسية الداخلية. هي صناعة الكذب ذاتها التي تجعل من “إسرائيل” دولة صديقة لبعض العرب، وتشيطن الفلسطينيين في بعض الوسائل الإعلامية العربية، وهو التضليل الإعلامي الذي يجعل وسائل إعلامية عربية أخرى تقدم تبريرات للحرب الصهيونية على قطاع غزة، بحجة أن إسرائيل فقط تقصف مواقع حركة حماس “الإرهابية”، فيما تعتبره وسائل إعلام غربية أنه “دفاع مشروع عن النفس"
صناعة الكذب التي تؤدي مفعول السم السياسي والفكري. صناعة التضليل الإعلامي هي أخطر قطاع صناعي على الإطلاق، لأنها تتعلق بكافة عناصر الواقع الذي نعيشه، وتزييف هذا الواقع، وإعادة صناعته بمؤثرات تخدم الدولة أو الجهة التي تقف خلفه، من خلال تضخيم التفاصيل التافهة والتقليل من شأن كل ما هو مهم مفاعل، في سياقات تربك عقل المتلقي، وتفصله عن واقعه البغيض الذي عادة ما يكون سبباً في حراك جماهيري مثلاً أو سبباً في احتجاجات ومطالبات حقوقية أو سياسية. إنها عملية لعب جماعي بالعقول وتزييف وعيها.

مثقفو ورجال دين ميديا
لم تستثني حمى الإعلام وصناعة التضليل حتى المثقفين الذين وظفهم الإعلام بهدف التبرير السياسي للسلطات المتنفذة في عدد من الدول، ذلك أن بعض المثقفين قد استخدموا مقدراتهم المعرفية كسلعة تجارية خاضعة لمقتضيات السوق الإعلامي من عرض وطلب. فهم جاهزون لأي تسويق إعلامي يقوم بتبييض وتجميل جهة ما، أو تشويه وتقبيح جهة أخرى. وهنا يتحول المثقف من صانع للأفكار والتنوير، إلى صانع أيديولوجيا براغماتية تقوم على خلط الأوراق وإرباك المتلقي باستخدام خطاب تبريري لا تحليلي. ولسوء حظ هذه الأمة أنه حتى بعض رجال الدين ليسوا خارج هذا التصنيف، فيما يجب أن يكون رجال الدين ينتمون إلى شريحة المثقفين الذين تناط بهم مهمة تغيير وتحديث المجتمعات البشرية، نجد أن عدداً ليس قليلاً من رجال الدين العرب قد انخرطوا في لعبة الإعلام وصناعة الكذب وتزييف الحقائق، من خلال إصدار الفتاوي وإطلاق الخطب التي تخدم جهة دون أخرى، وتشوه صورة طرف دون آخر، عبر الاقتصار فقط على إظهار التفسير الديني الضيق الخالي من الاجتهاد لأسباب تتعلق بمصالح جهات ودول، الأمر الذي يؤدي كما هو الحال إلى انسداد فكري ثقافي ديني معرفي في الواقع العربي، لأن الخطاب الديني في منطقتنا يقوم بتكييف فقهي لكافة الظواهر حتى الاستبدادية منها، وهذا ينسحب على مجمل القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية، فعلى سبيل الذكر لا الحصر إن الصراع الفلسطيني الصهيوني ليس صراعاً دينياً، فلا الفلسطينيين يهدفون إلى إدخال اليهود في الدين الإسلامي، ولا الصهاينة ينشدون تهويد الفلسطينيين، إنما هو صراع سياسي على الأرض من أجل الوجود.
إن تحول بعض المثقفين إلى أبواق دعائية لهذه الجهة أو تلك فإنهم بذلك يساهمون في تمزيق ما ظل من الأواصر التي تجمع بين أبناء البلد الواحد، وما بين مواطني البلدان العربية فيما بينهم. مثقفي الميديا يعملون على خلط الحابل بالنابل، وإرباك المتلقي وإحداث نوع من الفوضى التي تنتشر فيها ثقافة الاستغباء، وبناء ثقافة تقوم على الظن والانفعال وليس على الوعي المعرفي.
عندما ينجح الإعلام في تحويل المفكر والمثقف ورجل الدين إلى تجار، وتتحول الأفكار والمواقف والخطابات إلى سلع تشترى وتباع، فإن هؤلاء يتحولون إلى تجار جهل وشقاء واستبداد للأمة، ذلك لإسهامهم الخطير في تكريس الواقع المريض وإعادة إنتاجه بكامل علله.

إلى اين نمضي؟
يشهد عصرنا الحالي فورة في الإغراق المعلوماتي، بحيث أصبحنا نرزح تحت وطأة كميات مرعبة من الفبركات الإعلامية، والمعلومات المضللة، والأخبار الكاذبة، والبيانات المزيفة، والصور المركبة، وحملات دعائية تضخم التافه وتسطح المهم، حملات عدائية تشوه سمعة وصورة طرف معين وتنال من أخلاقه وذمته، فيديوهات يتم تصويرها في أستوديوهات متخصصة تبث للمتلقي على أنها في ميدان معركة أو مظاهرة أو حدث ما في مكان ما. كل هذا تطالعنا به وسائل الإعلام المتعددة من مطبوعات وإذاعات وفضائيات ومنصات تواصل اجتماعي وعبر مواقع الانترنت. إنها حروب إعلامية ناعمة لا تراق بها دماء، بل يجري غسل العقول من خلالها، بأدوات تبسط أذرعها وأدواتها بطرق مختلفة ومتعددة، تربك العقل والمشهد، وتزيف الواقع، وتحدث نوعاً من الفوضى الاجتماعية والسياسية والأمنية.
الأخبار الكاذبة خطر يهدد الوحدة المجتمعية، ويغذي العنف ويزيد من الانقسامات، ويقوض السلم الاجتماعي والتعايش بين جميع المكونات العرقية والاثنية والمذهبية. هذا دفع دول مثل الاتحاد الأوروبي لإصدار حزمة من القوانين في مواجهة التأثير المتزايد لشبكات التواصل الاجتماعي.
في منطقتنا العربية التي تعاني من احتقاناً شديداً واستعصاءً متعدداً في معظم قطاعات الحياة، وتعاني من ضغوط سياسية واقتصادية كبيرة، تبرز قوى وأطراف تحاول الهيمنة على مقدرات المنطقة، ولها مصالح في إضعاف العرب. هذه القوى تمتلك وسائل إعلامية خطرة موجهة لمخاطبة المتلقي العربي، تقوم سياستها الإعلامية على الكذب وتزوير الوقائع.
في الأسابيع الماضية ومع انتشار فيروس كورونا المستحد، وتأهب دول العالم لمواجهته، وتقليل حجم الخسائر التي يحدثها في جبهات متعددة، بشرية واقتصادية وسياسية واجتماعية وفلسفية، ظهر حجم الكارثة التي تجلت في هذا الطوفان المرعب من المعلومات والأخبار الكاذبة والصور الملفقة والفيديوهات المفبركة، التي يجري تداولها وانتقالها بين الناس، في معركة شقاء حقيقي للبشرية، اختلط فيها الحابل بالنابل، وأثارت رعباً غير مسبوق وسط البشرية.
بغياب استراتيجية عربية تتصدى لهذا الغول الإعلامي وتفضحه وتعريه، وعدم وجود مؤسسات إعلامية عربية تساهم في بناء الوعي الجمعي للمتلقي العربي ليكون قادراً على التمييز بين الغث والسمين، بين الحقيقي والمزيف، يمكن لك أيها القارئ العزيز أن تتخيل القادم.




57
مغالطات حول السيرة الفكرية

د. محمد الداهي
أستاذ جامعي وأكاديمي وناقد مغربي


نشر ممدوح فرج النابي مقالا في الجريدة الالكترونية "العرب" يوم الاثنين 23 فبراير 2020 بعنوان "الكتابة الفكرية كتابة شعرية تفضح الأسرار"، وبعد أن قرأته مؤخرا تبين لي أن المقال الصحفي يتضمن جملة من المغالطات المعرفية التي يجب تصويبها حرصا على تفادي "التلويث المعلوماتي Infopollution" بسبب انتشاره على شبكة الانترنيت، وخطورته على القراء المفترضين، وخاصة الناشئة التي لا تتوافر على المناعة الكافية لمقاومته والتصدي له.

1- عنوان الإثارة
يتضح -من العنوان بالبُنط العريض- أن صاحب المقال يقتحم مجالا لا يمتلك عدته النقدية أو الشعرية المناسبة. فهو يوكل إلى السيرة الفكرية (وليس الكتابة الفكرية كما يزعم، وشتان بين المجالين!) مهمة "فضح الأسرار". في حين إنها- كما أوضحت في كتابي "شعرية السيرة الذهنية محاولة تأصيل"- تنأى عن الخوض في الأمور الشخصية أو الحميمية للمترجم له، وتستقطب أساسا كل ما يتصل بمساره التعليمي وتكوينه الثقافي والعلمي إلى أن يحقق جزءا من مطامحه في الحياة. وقد يكتشف القارئ معلومات نادرة أو قد يصادف معلومات معروفة عنه بحكم تداولها وتناقلها بين الأجيال المتعاقبة (وخير مثال على ذلك هو التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا).  وإجمالا، فالسيرة الذاتية الفكرية تهتم بالحياة الفكرية لصاحبها، وهذا ما نعاينه في كل الكتابات من هذا النوع، ويمكن -على سبيل المثال لا الحصر- أن نستشهد بقول طه حسين في حق السيرة الذاتية الفكرية لابن خلدون: "لم يقل لنا في ترجمته شيئا عن تربيته الحقيقية، بل التزم الصمت التام إزاء حداثته وحياته العائلية. على أنه عني بالإضافة إلى تعلمه، وفي الكتب التي درسها في مختلف العلوم التي كانت تدرس حينئذ في تونس"( ).

2- معلومات متقادمة ومجانبة للحقيقة
يعتمد صاحب المقال على معلومات متقادمة دون تحر أو حيطة ؛ وهذا ما جعله يقع فيما وقع فيه أهل الكهف من قبل. لا تراهن السيرة الذاتية الفكرية على "فضح الأسرار"؛ لأنها تعتمد عموما على معارف يتقاسمها الناس فيما بينهم. وليست مهمة السيرة الذاتية –كما يزعم بعض النقاد الأغمار والأغرار- مكاشفة العورات والبوح بالأسرار، ونقل الحقيقة كما هي. ففليب لوجون لا يعني بالميثاق السيرذاتي التعاقد مع الشيطان وتوقيع بنوده بالدم( ). وهذا يعني أن السارد لا يبرم مع القارئ عقدا موثقا وملزما، بل يتعهد بقول الحقيقة معتمدا جملة من القواعد التي تؤطرها الأنساق الثقافية والمواضعات الأدبية. قد يجاريه القارئ في مقاصده ومساعيه وقد يختلف معه مقترحا وضع عمله في خانة مغايرة (ما يسميه فليب لوجون بعقد القراءة). وأنبه إلى ضرورة التشديد على لفظ "التعهد" بدعوى أن كاتب السيرة الذاتية لا يزعم قول الحقيقة، بل يتعهد بقولها. وهو فعل لغوي يحتمل التصديق والجدية إن توافرت الشروط الضرورية على عكس التخييل الذاتيAutofiction  الذي يقوم على تعهد متصنع (أتعهد أمامكم بعدم قول الحقيقة، وهذا ما حذا بماري داريوسيك أن تعتبره جنسا لا يتوافر فيه معيارا الصدق والجدية)( ). وإن تعهد كاتب السيرة الذاتية بقول الحقيقة فليس هو الشخص الذي يتحدث في النص، بدعوى أن النص هو الذي ينتج السيرة الذاتية. يقول فليب لوجون للتدليل على صحة طرحه "ليست السيرة الذاتية نصا يحكيه شخص عن ذاته، بل هي نص يقوله -من خلاله- ؟؟؟"( ). وسبق له في كتابه "الميثاق؟؟ السيرذاتي 1975" أن شدد على ضرورة التمييز بين المشابهة والمطابقة. فإذ كان هناك من يرهن الكتابة السيرذاتية بوجود مشابهة بين الكاتب وقرينه (السارد/ الشخصية الرئيسة)، فإن همَّ فليب لوجون  انصب على إبراز بنود الميثاق السيرذاتي ومن ضمنها، تطابق المؤلف (الذي يحيل اسمه  على شخصية واقعية) والسارد؛ أي تطابق الهويات السردية للأطراف الثلاثة (الكاتب والسارد والشخصية الرئيسة).
علاوة على ذلك تعرضت الأيدولوجيا السيرذاتية إلى كثير من الانتقادات رغم أن أنصارها لم يكونوا سذاجا إلى درجة اعتبارها "نشرا للغسيل" أو "فضحا للأسرار، ومن بين الانتقادات الموجهة إليها صعوبة  قول الحقيقة بدعوى الرقابة التي يمارسها الكاتب على نفسه، واحترازه من إيذاء الآخرين، وتوجسه من المس بحياتهم الخاصة (مناطق الحساسية)، ولذا آثروا عليها الرواية والتخييل الذاتي لما يتيحانه من إمكانيات تعبيرية وطاقات تخييلية لقول الحقيقة دون خوف أو وجل. يقول جون بول سارتر -في هذا الصدد-: "لقد حان الوقت أخيرا لكي أقول الحقيقة، لكن لا يمكن أن  أقولها إلا في عمل تخييلي"( ).

3- مغالطة القراء
يقول صاحب المقال بلغة ركيكة ومُثبَّحة "وإن كان محمد الداهي خلط بين الأنواع التي تنتمي إلى هذا النوع وبين أخرى تندرج تحت نوع السيرة الذاتية، فأدرج "سبعون" ميخائيل نعيمة، و"رحلة جبلية رحلة صعبة لفدوى طوقان.. وهو أمر صعب، لا يمكن تقبله بسهولة؛ فمجمل هذه الأعمال تناول المسيرة الحياتية بإسهاب شديد، وهو ما لا تلتزم به السيرة الفكرية".
يبدو -من خلال هذا القول- أن صاحبنا ممدوح فرج النابي يهرف بما لا يعرف، ويصدر أحكاما على عواهنها، وينساق مع ريح أهوائه دون التحري في المصادر والمراجع التي ترد جزافا في كلامه. وقبل دحض مزاعمه ومغرباته أشير إلى أن السيرالذاتية الفكرية المذكورة أورتُدها على سبيل المثال لا الحصر كغيرها من الأمثلة عربية أكانت أم غربية، قديمة أكانت أم حديثة حرصا على استخلاص "النموذج البنائي"(Modèle structurel) الذي يمكن أن ينطبق على طبقة من النصوص تتقاسم السمات المشتركة، في حين لم يتطرق صاحب المقال بمكر أو جهل إلى الأعمال التي حللتها بصفتها عماد المتن المعتمد وقوامه، ومن ضمنها أذكر:  "المنقذ من الضلال" للغزالي، و"حي ابن يقظان" لابن طفيل، و"أنا" للعقاد، و"أوراق" لعبد الله العروي و"شارع الأميرات" لجبرا  إبراهيم جبرا. وأكتفي بمثالين دالين لتأكيد الخلط والالتباس الذي وقع فيهما صاحبنا من حيث لا يعلم.
أستشهد بداية بمقتطف من "سبعون"، يبين فيه ميخائيل نعيمة الأسباب التي جعلته يكتب في هذا اللون بالذات من الكتابة عن الذات، ويعلل أيضا ما حفزه على اعتماد "الحياة الفكرية" عوض        "الحياة الخاصة". ويتضح من خلال هذه المقدمة ومجريات الأحداث أن ميخائيل نعيمة ركز على ما يمت بصلة إلى مساره التعليمي من خلال ثلاث مراحل، وهي: من الطفولة حتى نهاية الدراسة في روسيا، ثم من هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلى حين عودته منها، ثم منذ عودته إلى الفترة التي باشر فيها كتابة سيرته الذاتية الفكرية.
"أعطيهم [القراء] من زاد قلبي وفكري، إذا ما خيل إلي أن فيه زادا صالحا لقلوبهم وأفكارهم. أما حياتي" الخاصة": من أين أرتزق، وماذا آكل وأشرب وألبس، وكيف أنام وأقوم وأعمل. ومن هم أمي وأبي وإخواني وأخواتي، وأجدادي وأعمامي وعماتي، وأخوالي وخالاتي، وخلاني وأعدائي، وكيف عاملتهم وعاملوني، وماذا كان بينهم وبين نساء أحببتهن وأحببنني، وكيف ومتى حزنت وبكيت ومتى فرحت وضحكت. أما هذه الأمور كلها، وكثير من نوعها. فما ظننت يوما أن للناس أي نفع في معرفتها لذلك أهملتها الإهمال كله في كتاباتي.. لكن فضول قرائي -وهو فضول مغفور ومشكور- يأبى الاكتفاء بمشاركتي في حياتي الفكرية، إنهم يريدون أن يعرفوا التربة التي نبتت فيها هذه الأفكار، والأجواء التي فيها تبلورت، والأسس التي تقوم عليها، والعقبات التي واجهتها وذللتها، والتي واجهتها ولم تذللها بعد. وإلى أي حد تساير حياتي أفكاري. وإلى أي حد تغايرها"( ).
تميز فدوى طوقان -في سيرتها الذاتية الفكرية ( الجزء الأول)( )- بين "مغامراتها الصغيرة" التي تهم بداية اكتشافها الحياة الخارجية، ولا تستوعب إلا صفحات معدودات، و"مغامراتها الأدبية" التي تبين من خلالها كيف تورطت وانغمرت في عشق الشعر خصوصا وحب الأدب العربي عموما.  تدور "المغامرات الصغيرة" حول وقائع بعينها عاينتها الطفلة فدوى في قلب نابلس (معاينة تأسيس الحركة القومية العربية، شعورها بالتذمر من جراء سخرية الآخرين من شحوبها المرضي، امتعاضها من موت ابنة عمها "شهيرة" بسبب داء الروماتيزم، مصاحبة علياء وأمها إلى المزارات ومقامات الأولياء والدراويش) في حين تدور "المغامرات الفكرية" التي تتقاطع مع نمو الذات ومجريات التاريخ الفلسطيني المعاصر. وفي مقدمة المغامرات التي اكترثت بها بيان العوامل التي أسعفتها على نظم الشعر، وجعلتها تندفع بكل أحاسيسها إلى ولوج مملكة الأدب الفيحاء. أكرهها أخوها يوسف على ملازمة البيت والانقطاع عن الدراسة بسبب تورطها في شبهة الحب. وجاء الفرج على يد أخيها طوقان الذي عاد إلى نابلس من الجامعة الأمريكية لممارسة التعليم، فبدأ سطر جديد في حياتها، إذ شد أخوها من أزرها، وقوى عزيمتها، وحفزها على نظم الشعر وتحسينه، وشجعها على قراءة مؤلفات سلامة موسى وعباس محمود العقاد وإبراهيم المازني. وكبر فضولها بمرور الزمن لاكتشاف عالم الشعر الرحب وخاصة ما نظمه الشعراء المحدثون، إلى أن وجدت ضالتها في شعر التفعيلة الذي دشنته نازك الملائكة، لما يتيحه من إمكانات للتحرر من القيود العروضية. وعلاوة على مواكبة الشعر ونظمه وجدت في الرواية حصيلة معرفية ثرَّة، من فكر وشعر وفلسفة وتحليل نفسي. ومن يتابع المسار الفكري لفدوى طوقان يُفاجأ بقوة شخصيتها، ومتانة طموحها، وحصافة عصاميتها لتخطي الصعاب وصعود الجبال. فلم يمنعها الحرمان من الدراسة الأكاديمية على إدمان القراءة، وتنمية قدراتها الثقافية. "أنا أقرأ فأنا موجودة. ظللت قارئة شرهة. وقد نمى هذه الشراهة حرماني من الدراسة الأكاديمية. فالإنسان الطموح يظل ينطوي على مرارة مصدرها الفراغ الذي يتركه في النفس الحرمان المبكر من المدرسة. هناك يتحول إلى (دودة الكتب)"( ). ومن أجمل اللحظات الفكرية والثقافية في حياتها ما عاشته في انجلترا (وخاصة بين أروقة جامعة أكسفورد العريقة ومدرسة سوان) في ضيافة أخيها فاروق أواخر مارس من عام 1963. وقبل مجيئها إلى أكسفورد التي قضت فيها ما ينيف على عشرة أيام تلقت من أخيها رسائل في غاية الأهمية لأنها تكشف عن انشغالاته الثقافية وعن التكليفات والأبحاث التي ينبغي له أن ينجزها في مشواره الجامعي.

4- الذات بين الوجود والإيجاد
وعندما يتناول ممدوح النابي السيرة الذاتية الفكرية لبنسالم حميش "الذات بين الوجود والإيجاد"، يكتفي بنتف منها مما يبين قصر نظره أو اكتفاءه كعادته بقراءة ما يكتب عن الكتب عوض قراءتها وهذا أحد الأسباب التي أدت في نظر نزفيتان تودورف إلى تأزيم الأدب (الأدب في خطر) بسبب تهافت أشباه القراء عليه دون دراية بمشاقه ومصاعبه وفق المثل السائر (المية تكذب الغطاس). وبالمناسبة إن القارئ الحقيقي هو من يقرأ المعلومات في مظانها ويثير نقاشا حولها لفهم الوضع الإنساني عوض أن يتحول إلى قارئ مختزل أو حسر البصر أو مرمق أو تقنوي. فصاحبنا مر مرور الكرام على صفاحات الكتاب دون أن يفهم محتوياتها، ويضعها في سياقها الطبيعي، ويتعقبها بتأن وترو. فهو مثلا لم يستوعب مرامي بنسالم حميش من مساءلة المشروع السيرذاتي في المقدمة. أهو مع دعاة الإيديولوجيا السيرذاتية أم من مناهضيها؟ أ هو ممن يبجلون الذات أم ممن يستكرهونها أو يمقتونها سيرا على نهج بليز باسكال؟  أشار صاحبنا -في لمح البصر- إلى طفولة حميش دون أن يتوقف عند ميعة المراهقة والشباب وخاصة مرحلة النضج التي استأثرت بحصة الأسد في الكتاب، لأن بنسالم حميش كان يستعجل القلم للوصول إليها حرصا منه على بيان كيف أضحى علما يشار إليه بالبنان في الفلسفة والرواية والسجلات الأدبية. يكتفي صاحبنا-لنزقه وضعف عدته النقدية والشعرية- بتلخيص العمل بشكل مبتسر ومربك عوض أن يحلله بأدوات نقدية سعيا إلى مناقشة القضايا الآتية التي تناسب خصوصيته: لماذا غلب حميش الميتاتخييل على السرد؟ ولماذا لم يتوسع في "محكي الطفولة والمراهقة" وكرس معظم الكتاب لمرحلة النضج؟ ما الأسباب التي جعلته يؤثر "النرجسية السردية" بحسب لندا هتشون Linda Hutcheon؟ ويغلب في الآن نفسه الإحالية الذاتية (Autoréférentialité) على حبك قصة محتملة الوقوع؟ ولماذا باشر كتابة سيرته الذاتية الفكرية بعد إصدار ثلاث عشرة رواية لحد الآن؟
ومما يبين أن صاحبنا يعمم الأحكام دون تحرّ، ويقرأ الكتاب -إن قرأه فعلا- على عجل، أذكر على سبيل المثال لا الحصر: يقول إن حميش يدين للعروي بالتلمذة الجامعية في حين يغفل فضل محمد عزيز الحبابي وحسن المنيعي وعبد الكبير الخطيبي وماكسيم رودنسون عليه، ويدعي أن كل المعلمين الفرنسيين كانوا عنصريين واستعماريين في حين يشيد حميش بالدور الإيجابي لبعضهم. "أما في سنة البكالوريا اللاحقة فقد اكتشفت ميولي الفلسفي بفضل أستاذين فرنسييين كوكس ولومير، إذ  كانا  يقرآن على التلاميذ إنشاءاتي للتمثيل بها والاقتداء"( ).
ويقول في نهاية مقاله كلاما غريبا يبين سجيته وطبعه من جهة واستعلائيته من جهة ثانية (التحدث بصيغة الوجوب والإلزام). "تماثل الحاجة إلى كتابة السيرة الفكرية الحاجة إلى كتابة السيرة الذاتية لما فيها من نفع للدارس والباحث معا، لكن على الكتاب أن يخففوا من نبرة الأنا، والافتخار بتخطي الصعاب، فهذه أشياء لا حاجة للتنويه بها، بقدر ما يستخلصه القارئ بنفسه، وأيضا الابتعاد عن تلخيص كتبهم، وإنما الاكتفاء باستعراض دواعي الكتابة والمناهج المستخدمة، لأنها أفيد للقارئ". فهذا الكلام وغيره يحتاج -علاوة على إعادة الصياغة حتى يستقيم المعنى- إلى مراجعة جذرية لأن صاحبنا يخوض في أشياء بنوع من العبث واللامبالاة متوهما أن كل من يكتب على الانترنيت فهو كاتب أو ناقد معتمد، وأن كل ما ينشر أمر سائغ وعملة متداولة، ويتناسى أن هناك "مؤسسة أدبية رقمية" محترمة تحرص على تمييز الجيد من الرديء، وأن مئات من المبحرين يتابعون ما ينشر بروح نقدية، ويغربلونه لاستبعاد الحسافة عنه، والاقتصار على الثمر أو حب القمح الجيد.

5- السيرة الذاتية الروائية
يشير محمود النابي-في بداية مقاله- إلى السيرة الروائية دون أن يُعرِّف بها، أو يقدم مثالا عنها، أو يوحي على الأقل بأنه يتحرك في مجالها النقدي الذي يؤطرها. يورد هذا الكلام الفضفاض الذي تلتبس فيه المفاهيم: ("رواية السيرة الذاتية"، ثم يقول في الفقرة نفسها: "رواية السيرة" دون أن يعلم أنه ينتقل من نوع أدبي إلى آخر). من جهة أخرى، يطلق الأحكام جزافا. فكل الأعمال الأدبية تتخذ الخيال-بدرجات متفاوتة- قناعا ما دامت تنقل بالوساطة اللغوية، وكم ردد رولان بارث على مسامعنا أن "اللغة لا تنسخ الواقع". وكان حريا بمحمود النابي أن يعود إلى المصادر أو المراجع التي تعني بالتعريف بهذا النوع من الكتابة عن الذات؛ أي السيرة الذاتية الروائية. ومن ضمنها الكتاب الكلاسيكي (الميثاق السيرذاتي) لفليب لوجون الذي ميز بين الرواية والسيرة الذاتية باعتمادهما على ميثاقين متباينين (الميثاق الاستيهامي والميثاق السيرذاتي)، ومؤلفات فليب كاصباريني الذي تخصص في تمييز السيرة الذاتية عن الأنواع المتاخمة لها والملتبسة بها (وفي مقدمتها التخييل الذاتية والسيرة الذاتية التخيلية، والرواية السيرذاتية)، وأحيل صاحبنا  إلى الجدول التوضيحي( ) الذي أورده الباحث نفسه لإبراز مميزات الرواية السيرذاتية، ويمكن أن أجملها فيما يلي: الهوية الاسمية للكاتب/ السارد اختيارية (جزئية في غالب الأحيان، وتامة أحيانا)، تكون باقي عمليات تحديد الهوية ضرورية، تلتبس الهوية التعاقدية أو التخييلية (محتمل الوقوع) لاتسامها بمؤشرات متناقضة.
أكتفي بهذا القدر رغم أن المقال كله يحتاج إلى مساءلة ومراجعة لتضمنه معلومات مغلوطة وانطباعات متسرعة. وليس هدفي من إثارة هذا النقاش معه التنقيص من قيمته وصيته، بل أردت أن أدعوه إلى التحلي بمزيد من المسؤولية فيما ينشره حرصا على نقل المعلومات وتحليلها بأمانة ونزاهة. فهو بهذا الصنيع قد يجني على كثير من الطلبة الأبرياء الذي يحصدون كل ما يجدونه أمامهم، وينبهرون به دون التحري في صحته وملاءمته وجدواه.

 
________________________
________________________________________
[1]- طه حسين، فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، المجموعة الكاملة، العدد الثامن (علم الاجتماع)، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ترجمة محمد عبد الله عنان، ط2، 1975، ص14.
[2]- Philippe Lejeune, écrire sa vie, éd. Méconduit, 2015, p17.
[3]- للتفصيل عد إلى ما كتبته عن طرح ماري داريوسيك (Marie Darrieussecq) في كتابي: الحقيقة الملتبسة قراءة في أشكال الكتابة عن الذات، منشورات المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص161.
[4]- Philippe Lejeune, écrire sa vie, op., cit, p17.
[5]- Interview accordée à Michel Contact, Nouvel Observateur, n°23 juin 1975.
[6]- ميخائيل نعية، سبعون حكاية عمر، ج1، مؤسسة نوفل، بيروت، ط5، 1977، ص ص9-10.
[7]- فدوى طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة، سيرة ذاتية، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط2، 2005.
[8]- المصدر نفسه، ص153.
[9]- بنسالم حميش، الوجود والإيجاد، سيرة ذاتية، المركز الثقافي للكتاب، ط1، 2019، ص19.
[10]- Philippe Gasparini, Est-il je? Roman autobiographique et autofiction; éd. Seuil,2004, p27.


58
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


الأدوية الذاتية.. العلاج بالضحك

يصرف البشر الكثير من الأموال في سعيهم للحصول على قسط من السعادة، يبحثون عنها إما عن طريق صرف الآلاف في التسوق لحيازة السلع الثمينة من سيارات وساعات وعطور وأحذية وملابس، أو عبر السفر إلى جزر متناثرة أواسط المحيطات للاستمتاع بالأجواء الساحرة، أو التنقل بين أفخم الفنادق والمطاعم والأندية والحفلات. حيث يبلغ حجم تجارة العطور حالياً لوحدها في منطقة الشرق الأوسط ما قيمته 6.2 مليار دولار سنوياً، ومن المتوقع أن يصل إلى 8.5 مليار دولار في العام 2021.
ويبلغ حجم إنفاق الشعب المصري لوحده على المخدرات لتحسين "المزاج" 140 مليار جنيه سنوياً، بحسب الدراسة التي أجراها الدكتور عادل عامر، الخبير بالمعهد العربى الأوروبى للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية في العام 2018.
لكن الإنسان يهمل الآليات والأساليب التي خلقت معه بهدف تحقيق التوازن الداخلي، وضبط الإيقاع العقلي والنفسي. إن جسم الإنسان يحتوي على ما يشبه مصنع دواء صغير، ينتج أفضل الفيتامينات والأدوية اللازمة، وفي توقيت مناسب، إذا الإنسان كان قادراً على حث وتحفيز هذه الآليات كي تقوم بدورها المكلفة به. ومن أهم هذه الوسائل والأدوية هو الضحك.
عديدة هي الدراسات التي صدرت على التوالي خلال الأعوام الماضية، التي تؤكد على أهمية الضحك في معالجة الاكتئاب وتحسين المزاج والتخفيف من الأعراض الناجمة عن المعاناة، وكذلك أثر الضحك على تعزيز الصحة العقلية والنفسية للبشر، والأهم هو قدرة الضحك على تدعيم وتقوية جهاز المناعة لدى الإنسان. وأهميته في شفاء ما قد تعجز عنه بعض الأدوية.
الضحك أيضاً هو من أهم وسائل التواصل الإنساني الاجتماعي منذ الخليقة، وهو أحد أعمق أشكال التعبير الواضح والمباشر عن مشاعر الفرح. الضحك هو أحد أهم الأسرار التي تكمن خلف سعادة البشر، ويمنحهم المقدرة على اجتياز الصعاب.
إن بضع دقائق من الضحك يومياً بصورة مستمرة تقي الإنسان من الأمراض النفسية، وتعزز بنيته الجسدية والعقلية والنفسية، وتحول بينه وبين الكثير من الضغوط والمشاق والأمراض.

الضحكة الأولى
غالباً يضحك البشر بطريقة العدوى بسبب وجود شخص يضحك، فنشاركه الضحك دون أن ندرك لماذا نضحك. ويضحك الإنسان حين يتبادل بعض العبارات مع الأخرين ويكون مبتهجاً. وقد نضحك حين نكون متوترين وفي مواقف مخجلة نضحك لكي نداري خجلنا وندافع عن عجزنا وحيرتنا.
بحسب دراسات نشرها علماء "جامعة بورتسموث" البريطانية University of Portsmouth الذين عكفوا على دراسة خصائص الضحك بين الإنسان وبقية الرئيسيات، فإن الضحكة الأولى خرجت قبل ما بين ستة وعشرة ملايين سنة، حين ضحك الجد الأول المشترك بين الإنسان والقرود وأشباه القرود.
في حين كان الضحك رد فعل اجتماعي قبل مليونين سنة، ولم يكن مرتبط بالتفكير الواعي للإنسان، لكن كان له أثر هام جداً باعتباره وسيلة تواصل اجتماعي، مما أسهم في تماسك وانسجام الأفراد فيما بينهم، وعمل على إزالة الحدود والتقارب. أيضاً الضحك كان أداة سيطرة يمتلكها قواد المجموعات البشرية كي يمارسوا سلطتهم في الداخل، وضد من هو خارجها.
العلماء البريطانيون أجروا تجارب على ثلاثة أطفال، وثلاثة صغار لكل من قرود "الشمبانزي والغوريلا والأورانجغو والبونيو والسيامانج" حيث قاموا بدغدغة الجميع ثم مقارنة الأصوات الصادرة عنهم. النتيجة أن جميع الصغار استطاعوا الضحك على الأقل لمدة ثلاث ثوان. لكن اتضح أن ضحك أطفال البشر أكثر حيوية وانتظاماً وأعلى صوتاً وأعلى زفيراً.
ومن المعلوم أنه كي يستطيع الإنسان الكلام لا بد من أن يتحكم بعملية التنفس شهيقاً وزفيراً، وهي الخاصية التي لعبت دوراً في نشوء اللغة. لذلك يعتقد العلماء أن نشوء الضحك وتطوره قد يكون أدى إلى نشوء النطق وبالتالي اللغة المنطوقة، بحسب ما تذكره البروفيسورة البريطانية "مارينا روز" Marina Ross.

نظريات الضحك
أفضل الأدوية، وأحياناً يكون الدواء الوحيد. هكذا يصف البروفيسور الدنماركي "مورتن غرونبيك" Morten Grønbæk كبير الباحثين في المعهد الوطني للصحة العامة في الدنمارك Statens Institut for Folkesundhed، في دراسة بعنوان "الصحة النفسية تتطلب تركيزاً جديداً" ونشرت في العام 2016.
 وفي دراسة أخرى صدرت عن مركز التعاون الصحي في جامعة آرهوس في الدنمارك عام 2017 بعنوان "بعنوان "الرهانات التي تعزز العمر" CENTER FOR SUNDHEDSSAMARBEJDE VED AARHUS UNIVERSITET، ثبت أن الضحك يمكن أن يكون مخدراً للألم.
وهذا ما توصلت إليه نتائج دراسة جديدة صدرت من جامعة أكسفورد على ثلاث مجموعات من البشر، الأولى كان عليها أن تشاهد برنامج مسرحي فكاهي، والثانية تنظر إلى لعبة غولف مملة، والثالثة تنظر إلى برنامج تلفزيوني عن الطبيعة.
أظهرت نتائج التجربة أن أفراد المجموعة الأولى كانت قوة تحملهم للألم الذي تعرضوا له بعد الضحك تزيد بنسبة ثلاثين مرة عن أفراد بقية المجموعات. والاستنتاج المهم هنا أن الضحك القوي مسكن للآلام. الضحك إلى درجة القهقهة يجعل الدماغ يفرز هرمونات تعمل على تخفيف الألم، بل وتعالجه وتمنح الشعور بالصحة. حيث يستطيع الضحك مقاومة التوتر والضغوط النفسية من خلال زيادة نسبة هرمون إيندورفين Endorfin. كما يؤدي إلى إنتاج هرمون النمو في الدم HGH الذي يتسبب في انخفاض مستويات هرمونات التوتر في الجسم مثل الكورتيزول والأدرينالين. وتصبح مناعة الجسم أقوى.
بعض العلماء ربط بين الضحك وتطور الإنسان الحالي، مثل عالم بيولوجيا التطور البريطاني "روبين دونبار" RobinDunbar الذي اعتبر أن هرمون الإيندورفينير الذي ينتج عن الضحك، هو الذي ساهم في عملية تطور الإنسان القديم، حيث إن الضحك يحفز مشاعر الانتماء إلى الجماعة، والرغبة في العمل المشترك، والابتعاد عن الأنانية.
إن صحت هذه الفرضية فإنها ستوضح كيف تمكنت الجماعات البشرية القديمة المتوحدة قبل مليوني عام من البقاء والنمو والتطور والتحول إلى مجموعات اجتماعية أكبر، في حين أن "النياندرتال" انقرض لأنه عاش في مجموعات أصغر. إنسان النياندرتال هو نوع آخر من البشر عاش في أوروبا قبل 30 ألف سنة. وكان يعيش جنباً إلى جنب مع الإنسان الحالي قبل أن ينقرض، لكن جيناته بقيت في أجساد البشر كما يقول العلماء. والنياندرتال كان قد تزاوج سابقاً قبل عشرات ألاف السنين مع إنسان أفريقيا أصل البشر، وحمل بعض من جيناته. إذن الضحك أنقذ الإنسان من الاندثار كما يرى بعض العلماء.
باحثون آخرون توصلوا إلى أن الضحك له أهمية اجتماعية مهمة، كما يرى خبير الأعصاب البيولوجية البروفيسور الأمريكي "روبرت بروفين" Robert Provine الذي يقول إن 80 في المئة من الضحك لا يرتبط بالفكاهة، وإنما باللعب الاجتماعي. وكان روبرت يدرس الخلايا العصبية لمدة ثماني ساعات في اليوم في مختبر بدون نوافذ عندما قام بملاحظة شديدة من شأنها أن تغير حياته، وشكل العلوم الاجتماعية، حين قال: لقد سئمت من ذلك، وقرر دراسة الضحك بدلا من ذلك، وأسهم في خلق علم الفكاهة الحديث.

الفوائد العظيمة للضحك
تقوم كثير من المشافي في الدول الأوروبية والولايات المتحدة باستخدام مهرجين لتسلية وإضحاك الأطفال المرضى والكبار والترويح عنهم، وجعل الضحك جزءًا من العلاج. من جانب آخر فقد تم إثبات أن الضحك عبارة عن عملية رياضة لمعظم أعضاء جسم الإنسان ولعضلات الوجه والرئتين والمعدة والبطن والحجاب الحاجز. لذلك تم إنشاء أندية للضحك في كثير من الدول المتقدمة.
إن للضحك فوائد صحية ونفسية وعقلية واجتماعية عظيمة. كونوا كرماء على أنفسكم وغيركم وجودوا بالضحك كي تنعموا بالمغانم. الفوائد كما ذكرها العلماء والأطباء هي:
 يعزز مناعة الجسم ويقي من الأمراض، يحسن تدفق الدورة الدموية، يزيد من قوة عضلة القلب، يجعل الإنسان ينعم بحياة سعيدة، له مفعول مدهش للمحافظة على الحالة العقلية، يمنح الإنسان طاقة هائلة من الأمل والتفاؤل، يقوم بطرد الطاقة السلبية من داخل الإنسان ومن حوله، يعالج حالات الاكتئاب والضغوط الناجمة عن العمل أو الحياة، يخفض من هرمون التوتر الضار، يساعد الجسم على التخلص من السموم، يتسبب في إفراز هرمون إندورفين في الدماغ الذي يعمل كمسكن للألم، يساعد في زيادة الأكسجين الذي يصل إلى الرئتين، يعتبر قوة رادعة لزيادة الوزن، يقوي القدرة على الإخصاب من خلال أثره في خفض هرمون الكورتيزول في الدم، يساعد على هضم الطعام عبر اهتزاز عضلات المعدة، يعزز إنتاجية العمل.

معركة البشرية مع فيروس كورونا
اليوم في معركة البشرية ضد فيروس كورونا للانتصار عليه، تسعى الحكومات إلى تقليل الخسائر للحدود الدنيا. ورغم أن إحصائيات موقع "غلوبال فير بور" الأميركي Global Firepower تشير أن حجم الإنفاق العالمي العسكري في العام 2019 قد بلغ 1700 مليار دولار، إلا أن كل ما يمتلكه العالم من أسلحة، صرف للحصول عليها المبالغ الهائلة، فهي أصبحت عديمة الجدوى، أمام عدو غير تقليدي.
 في ضوء الإغراق المعلوماتي من كل صوب وحدب، علينا أن نعود للسلوكيات الموروثة، وللأسلحة الفطرية التي تمتلكها أجسادنا، ونعمل على تحفيزها وحثها لتسترجع مقدرتها على القيام بمهامها. يجب أن ندرب أنفسنا لامتلاك القدرة على تطوير هذه السلوكيات والأسلحة. إن أدمغتنا اشبه بماكينة تعمل باستمرار للمحافظة على الصحة، ومحاولة صد مسببات الأذية.
حين يتم تهديد أجسادنا من خطر قادم مثل فيروس كورونا، فإن الضحك والقهقهة تعمل على إطلاق الآليات الدفاعية. وحين تصطدم توقعاتنا بالواقع البغيض، وحين يبدو لنا أننا أخطأنا، نحتاج تماماً إلى الفكاهة والضحك للتقليل من أثر الفشل. فالضحك يكون حافزاً على توسيع المدارك والآفاق لتحليل الحقائق بصورة أفضل لمعرفتها، وهذا في الأصل ما كانت البشرية تسعى إليه لولا أن أدمغتنا تمنحنا الضحك كمثبط للألم، ومحفزاً للاستمرار.
دعونا ننشر عدوى الضحك إلى حدود القهقهة بدلاً من نشر المعلومات الخاطئة والأكاذيب، وبث الذعر والرعب غير المبرر. فإن كان الضحك محفزاً تسبب بوجود الإنسان القديم في مجموعات اجتماعية كبيرة قبل ملايين السنين، حيث كان هذا التجمع العامل الحاسم في الانتصار للبقاء على قيد الحياة والاستمرار، وهذا لم يفعله إنسان النياندرتال المنقرض. فإننا قادرون بواسطة الضحك تعزيز أدوات مقاومة الخطر والتغلب عليه والاستمرار.


59
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


تثبيت الثابت في الواقع المتحول

إن تحرير فلسطين، هذا الشعار اللغوي الفخم، لم يكن في الحقيقة يوماً على جدول أعمال القادة العرب -باستثناءات قليلة-. ولم تكن يوماً فلسطين قضية العرب الأولى، إلا على الورق، في اجتماعات الغرف المغلقة، وفي الخطب النارية فقط. فلسطين التي تستغيث فلا تُغاث، والأقصى الذي يصرخ العون فما من سامع، والقدس التي تتوق للنجدة فلا مُلبي، والفلسطيني الصامد الصابر المعاند الثابت يترك اليوم وحيداً بلا عون ولا مدد من الأشقاء العرب. الاخوة الذين بات بعضهم يتبنى الرواية الصهيونية على حساب المصالح والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبعضهم أصبح يعتبر فلسطين وشعبها وقضيتها عبئاً يجب التخلص منه.
تتعمد معظم الدول العربية تهميش القضية الفلسطينية، وتتجاهل حقيقة أن حالة الصراع الفلسطيني الصهيوني لا يمكن بترها وعزلها عن المحيط العربي والعمق الإقليمي، فكل العواصم العربية هي في قائمة المصالح والاستهداف الصهيوني.
يخرج علينا بعض العرب كخروج جهينة في ترتيب أولوياتهم، يقول لك هذا النظام أو ذاك "نحن أولاً" لتبرير عجزهم عن نصرة فلسطين. ثم اهتدوا إلى طريق الخلاص الذي يبعد فلسطين عنهم تماماً، فزجوا بشعوبهم في صراعات داخلية ومعارك جانبية فيما بينهم، أحدثت الفوضى وقسمت المقسوم وعمقت الحالة القطرية.
وفلسطين المحتلة على مرمى حجر من الجيوش والميلشيات العربية التي تتقاتل فيما بينها باسم فلسطين، وتقتل أبناءها وهي تهتف لفلسطين، تثير الصراعات الطائفية والعرقية والإثنية باسم فلسطين، يقتلون الفلسطيني ويعتقلونه، ويريدون رصف الدرب نحو القدس بجماجم الفلسطينيين، ويزاودون عليه أيضاً باسم فلسطين.

سعيد لم يهلك
في زمن الجاهلية عاش شقيقان أحدهما يدعى سعد والأخر سعيد، خرجا ذات يوم لقتال الأعداء، غلبت الحماسة على سعيد ومن معه فسبقوا سعد إلى القتال، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين بفخ نصبه لهم الأعداء وأوقعوا بهم، مات سعيد ومن معه إلا واحداً فقط استطاع الفرار، وبينما هو يجري قابل سعد في الطريق، فقال له تلك الجملة الشهيرة التي صارت مثلًاً " انج سعد فقد هلك سعيد"، وبالفعل هرب سعد ونجا من الموت.
قيل إن أباهما خرج للبحث عنهما، فكان كلما مر به أحد لم يتبينه قال أسعدٌ أم سعيد، فمضى مثلاً للشيء غير الواضح. فلما بلغ أبوهما الحرم وجد معتمرا يطوف بالبيت وعليه ثياب ابنه سعيد فسأله فقص عليه قصته وهو يجهل أنه والد سعيد، فما كان من هذا الأخير إلا أن استل سيفه وقتله، فلما سئل أقتل في البيت الحرام؟! قال: سبق السيف العذل.
حال بعض العرب مع فلسطين وشعبها وقضيتها كحال سعد الهارب. ونحن نتابع تسابق بعض الأنظمة العربية على نقل علاقاتهم مع إسرائيل من مرحلة الزيارات السريّة والتطبيع المستتر إلى العلانية، والمشاركة في المحافل الدولية على الصعيد السياسي والاقتصادي والرياضي. ونرقب الزيارات التي قام بها مسؤولين حكوميين إسرائيليين إلى بعض العواصم العربية، تحضرنا قصة المثل العربي وتجعلنا نتساءل أسعدٌ أم سعيد، ذلك الذي استقبل في قصره "بنيامين نتنياهو" قاتل الأطفال الفلسطينيين، وذاك الذي يقف بخشوع بحضرة النشيد الوطني لمن يفترض أنهم أعداء الأمة، لذلك لم يشبّه لنا ويحق لنا وللشعوب العربية أن تسأل أسعدٌ هو أم سعيد!
الضلع الثاني من المثل العربي قولهم انج سعدٌ فقد هلك سعيد، يبدو أن معظم العرب مقتنعين كل الاقتناع أنهم "سعد" المعني بالمثل، وقد أدركوا أنهم هالكين لا محالة إن لم ينجوا بأنفسهم، فسارعوا إلى التوبة والتكفير عن ذنوب ارتكبوها خلال سبعين عاماً، بعد أن اكتشفوا أنهم قوماً ظالمون، وأن إسرائيل ضحية الفلسطينيين. وفات العرب أن سعيد الفلسطيني لم يهلك بعد، وأن سعدٌ العربي إن أراد النجاة عليه تدعيم وتقوية وإسناد شقيقه سعيد "الفلسطيني" للانتصار في معركة يخوضها نيابة عن سعدٌ ومسعودٌ وسعاد.
لكن يبدو أن سعداً لم يقرأ صفحات التاريخ، ولا يعلم شيئاً عن صلابة وبأس وثبات وصبر وجبروت الشعب الفلسطيني، وإن أراد سعداً أن يكون سعيداً وألا يكون شقياً فعليه قراءة الواقع جيداً ومنح نفسه فرصة مراجعة من تعجل التطبيع، وقديماً قالت العرب: السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
سواء نجا سعدٌ أم لم ينج، فقد سبق السيف العذل، وفعل أهل "حارديم" ما فعلوا، وانتهكوا حرمة الأقصى مثلما انتهكوا حرمة كل شيء فوق البلاد المسماة فلسطين، واعتقلوا شعبها وشجرها، والعرب لم يحركوا ساكناً ولا أثاروا ضجيجاً.
سبق السيف العذل، ضلع المثلث الثالث يعبّر عنه سعدٌ المناصر المؤازر ويخبر سعدٌ المطبع المتصالح المتساوق، إني أخشى عليكم غضب ابن أبيه، ولا فكاك لكم من مصير كالحمم، لا تملكون من أمره وأمركم شيئاً ولا عذراً، حينها يصح السيف الذي سبق العذل، إلا إن عدتم. حينها لا تلوموا أحداً، فاللوم بعد التحذير بدعة.
ضربت العرب قبل سعدٌ وبعده أمثالاً كثيرة للأخرق والأرعن، وقالت في أخبار المغفلين والحمقى أن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه. واستدرك العقلاء من العرب أن لحكاية سعد الذي ظن أنه نجا تتمة، إذ قالوا أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض.
قالت العرب قديماً أن الخائف لا يحمل معه عقله. وللأشقاء العرب الخائفين نقول: لم ولن يكون الفلسطينيون الثور الأبيض، ولن يموت هذا الشعب الذي اختار طواعية أن يقاتل ويناضل نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، وأن يحافظ على مقدساتها، ويعتبر أن هذا مكرمة له وشرفاً ينفرد به دون الآخرين، الذين يتربص بهم العدو كما يتربص بالفلسطينيين، لعل العرب يستيقظون من غفلتهم ذات حين ويعلمون أن المرء بأخيه كما قال الأجداد.

كانت وستبقى
فلسطين كانت قبل 7500 عام قبل الميلاد في جبل القفرة جنوبي الناصرة وسفح الرمل قرب طبريا. فلسطين الكنعانية كانت في العام 3000 قبل الميلاد. وكانت تحت الاحتلال اليوناني عام 332 قبل الميلاد. فلسطين كانت تحت الاحتلال الروماني في منتصف القرن السابع الميلادي. فلسطين وصل إليها عمر بن العاص حاملاً معه رسالة الإسلام العام 643 ميلادي، وتحررت فلسطين من الروم على يد خالد بن الوليد في معركة اليرموك الشهيرة. كانت فلسطين أموية في العام 661. وعباسية في العام 750. ثم دخلها الطولونيون والقرامطة. ثم احتلها الصليبيون العام 1095. وخاض صلاح الدين الأيوبي معركة حطين الشهيرة، واسترد بيت المقدس العام 1187ميلادي. وصدّ سيف الدين قطز والظاهر بيبرس الغزو المغولي على فلسطين العام 1259 ميلادي في معركة عين جالوت بعهد الدولة المملوكية. فلسطين دخلها العثمانيون العام 1516 ميلادي، مكثوا فيها أربعة قرون وخرجوا وظلت فلسطين. وهزمت مدينة عكا الفلسطينية بأسوارها حملة نابليون بونابرت العام 1799 ميلادي. فلسطين دخلها الجيش البريطاني العام 1917 ميلادي وخرج منها العام 1948، حين احتلها الصهاينة وأعلنوا فوق أراضيها دولة لهم. كان قد سبق هذا الإعلان حوالي نصف قرن من التخطيط والتنظيم والتدبير، وسوف يخرجون كما خرج غيرهم.
فلسطين التي كانت محور التقاطعات والتجاذبات والصراعات تاريخيا، سوف تظل في قلب الأحداث التي تجري مستقبلاً. فلسطين كان اسمها وسوف يظل، ولا يمكن للمنطقة أن تستقر دون حل عادل وشامل وكامل للقضية الفلسطينية، يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المسروقة، وتمكينه من إقامة دولته المستقلة فوق أرضه وعاصمتها القدس الشريف.

راهن عربي غير مؤهل للدعم
تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني أثبت أنه لا يمكن لنا مواجهة القوة الإسرائيلية بأسلوب ناعم يعتمد على قوة الحق وفضيلة الأخلاق، فالتاريخ يظهر بوضوح أن لا حقوق دون قوة تساندها. لقد وصل عجز السياسات الرسمية لمعظم الأنظمة العربية إلى مرحلة تتسابق فيها الدول العربية على الاعتراف بإسرائيل وتبادل الزيارات والوفود، وفتح قنصليات ومكاتب تجارية إسرائيلية في بعض العواصم العربية، واستقبال وفود رياضية وتجارية وثقافية إسرائيلية، وسواها من العلاقات التي كانت محرمة فيما مضى حين أعلن العرب لاءاتهم الثلاثة، لا صلح لا تفاوض لا اعتراف. ووصل إخفاق وانكسار العرب أقصاه في هذه المرحلة حيث لا وجود لأي استراتيجية عربية حول إسرائيل، لا استراتيجية مواجهة ولا استراتيجية سلام. والمرعب أن يشهد الوضع العربي انحداراً وسقوطاً وتراجعاً في الدعم لفلسطين. والذل أن يتآمر بعض الاشقاء العرب على فلسطين وقضيتها وشعبها. لقد جرى تقزيم المسألة الوطنية الفلسطينية على أنها قضية الفلسطينيين فقط، في وقت تواصل فيه إسرائيل إصدار القوانين العنصرية، ويستمر تهويد الأرض وطمس هويتها العربية، وما نخشاه هو أن تتحول فلسطين إلى أندلس جديدة فيما العرب يتفرجون، ونفقدها للأبد.
ندرك كفلسطينيين أن الواقع العربي مثقل بالأعباء والأمراض والإشكاليات والتعقيدات السياسية والاقتصادية والأمنية، ويواجه الصراعات الداخلية والتحديات الاستثنائية بفعل سياسات الاستبداد لمعظم هذه الأنظمة التي جعلت الشعوب العربية تلهث خلف لقمة العيش. هذه الأمة غير قادرة على اختيار حاضرها ومستقبلها، وهي عاجزة عن دعم القضية الفلسطينية، التي طالما جعلت منها معظم الأنظمة مطية لتحقيق المآرب على حساب مصالح الشعب الفلسطيني، وطالما رفعت هذه الأنظمة الشعارات المزيفة لتستميل شعوبها وتتاجر بالقضية الفلسطينية. لكن الأحداث تُظهر أن الشعب الفلسطيني هو من سيقوم بتخليص وتحرير الشعوب العربية من أنظمة القمع والبطش، ويُطلقها من معتقلاتها التي تسمى أوطاناً، بعد أن ينال حريته ويقيم دولته فوق أرضه.

العرب وفلسطين
يواجه الفلسطينيون الآن مرحلة شديدة الخطورة، حيث يتعرضون لأقذر المؤامرات وأفتكها وأكثرها سمية منذ قرن من الزمن، بهدف اغتيال القضية الوطنية الفلسطينية، وإماتة الحقوق الوطنية العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، ووأد حلمه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. بالرغم من أن معظم الأنظمة العربية قد وظّفت القضية الفلسطينية لغايات لا ترتبط بفلسطين لكن معظمهم تخلى عنها الآن. وفي الوقت التي اكتشفت فيه معظم الشعوب العربية بعد أكثر من سبعين عاماً على ضياع فلسطين، أن لديها هموماً تشغلها عن نصرة فلسطين وأهلها، اكتشف الشعب الفلسطيني من حُسن قدره، أن مقدرات وقوة معظم العرب على دعم وعون قضيتهم ليست أكبر من قدرتهم ومن قوة الفلسطينيين على إسناد وغوث أنفسهم. كما اكتشفوا حجم كذب ورياء معظم الأنظمة العربية الذي تسبب في إزهاق أرواح آلاف الشهداء الفلسطينيين، وأن تدخّل العرب سابقاً لم يكن تأييداً للقضية بقدر ما كان بسبب دوافع ترتبط بالعرب أنفسهم، الذي لم يخجل معظمهم من إسقاط جدار العداء لإسرائيل علناً. لذلك فقد حان وقت توقف هذا النفاق، وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية. وهنا من المهم التأكيد على أن فلسطين التي سدّدت أثماناً باهظة للحفاظ على قضيتها، لن تتراجع ولن تنكسر ولن تتخلى ولن تفرط بالحقوق وبالوحدة، ولن ترهن قرارها لأية جهة مهما بلغت قيمة الفواتير.

انحدار مرعب
أخفقت معظم الأنظمة العربية الاستبدادية في تحقيق شعاراتها المرتبطة بالوحدة والاشتراكية والاستقلال الوطني والحريات، وعجزت عن إحداث أية تنمية وتطوير في البنى الرئيسية، ولم تتمكن من إحراز مهام التقدم الاجتماعي. لكن هذه الأنظمة حققت نجاحاً لافتاً في بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية التي تخصصت وأبدعت في قمع وقهر المواطنين وسحقهم، وحلت كافة مؤسسات المجتمع المدني، وأغلقت أي إمكانية لتطور الوعي السياسي للناس، وقوّضت مفهوم المواطنة، وقضت على الحوار المجتمعي، وشجعت الولاءات العرقية والإثنية والعشائرية والمناطقية، ونشرت الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع، وسمحت للمفسدين أن يسمنوا ويتغولوا، وقامت بإعلاء المصلحة الخاصة على حساب قيم المنفعة العامة.
أقدمت هذه الأنظمة وبطانتها على تسخير مؤسسات الدولة وخيرات الوطن لخدمة مصالحهم الخاصة ومصالح الاقرباء والموالين، وفككت الروابط الوطنية والاجتماعية والأخلاقية بين مكونات المجتمع، مما أدى إلى ظهور النزعات العرقية والطائفية والقبلية والمذهبية والعشائرية البغيضة، التي فتتت الأوطان وحولتها إلى إمارات وقبائل وطوائف.
الأخطر قيام هذه الأنظمة بتليين وتطويع معظم المثقفين والمفكرين وتدجينهم، ومن لم تتمكن منهم إما زجت بهم في السجون لسنوات طويلة، وإما أنهم تمكنوا من الهرب خارج أوطانهم إلى بلدان غربية حيث حريتهم، وإما أنهم تركوا الشأن الثقافي وانعزلوا عن الحياة العامة. لم تستثني هذه الأنظمة حتى رجال الدين والمشايخ الذين قام بعضهم بإجراء تعديلات على معتقداته لتتوافق مع خطاب المرحلة.
لقد تحولت الأوطان العربية بكل ما تحتويه من بشر وحجر وثروات إلى ملكية خاصة لبعض الحكام العرب، الذين طوعوا كل شيء وحولوه إلى أداة منفعية تخدم مصلحتهم التي أصبحت فوق الوطن والمجتمع والدولة. لذلك فإن مهام التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي التي رفعتها معظم الأنظمة العربية خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين لم يتحقق منها شيء، وأن كل الأحلام التي بنتها الشعوب العربية بعد الاستقلال الشكلي، في حياة تضمن كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، قد جرى إجهاضها ووأدها مرتين في الحقيقة، مرة عن طريق الأنظمة العربية الاستبدادية التي قتلت واعتقلت كل شيء، ومرة أخرى تم هزيمة هذه الأحلام والتطلعات بواسطة الشعوب العربية نفسها التي رضيت أن تُصادر الأنظمة العربية حقها في أن تكون شعوباً حرة، وقبلت أن تكون مجرد قطيع خانع.

حضور إسرائيلي طبيعي
من أبرز سمات المرحلة الراهنة عربياً، غياب معظم الشعوب والأحزاب والقوى العربية غياباً فعلياً كاملاً عن المشهد السياسي والفعل المرتبط بفلسطين والقضية الفلسطينية، وحضور الأنظمة العربية الاستبدادية المنهزمة أمام إسرائيل، والمنتصرة على شعوبها. حضور الحكام العرب الذين يبدون ممانعة للاستجابة لأية مطالب من شعوبهم في تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية والمساواة، وإحداث بعض التحولات التي تخترق جدار التسلط والقمع والتحكم وتفضي إلى مناخات ديمقراطية، لكنهم يُظهرون الليونة والقابلية والتأييد لإقامة علاقات طبيعية "للغاية" مع الكيان الصهيوني، وعلى حساب المصالح والحقوق الفلسطينية.
غاب الجميع وحضرت إسرائيل في أكثر من عاصمة عربية، وحضر النشيد الوطني الإسرائيلي المعروف باسم "هاتكفاه" ويعني الأمل، في داخل القصور الرئاسية والمدرجات الرياضية العربية.
تواصل إسرائيل نجاحها في اختراق العواصم العربية، في وقت تمعن فيه بقتل الفلسطينيين وتهويد القدس، وتعربد في سماء العواصم العربية، وتهدد وتتوعد هذا وذاك من دول المنطقة، ومعظم العرب لا قدرة لهم ولا بأس، لا يكترثون إلى ما يجري في فلسطين، وصناع السياسة العرب وأصحاب المعالي لا يعنيهم الأمر، كأن الاعتداءات الإسرائيلية تقع في جزيرة غرينلاند وليس في الأرض العربية وأجواءها.
وإسرائيل أصبحت تتأقلم سعيدة مع وضعها الجديد كعضو مقبول ومرحب به من معظم الدول العربية، لذلك هي تعمل على تجاهل القيادة الفلسطينية، وشطب العمل الفلسطيني من حساباتها، وتتغافل عن أي حلول لصراعها مع الفلسطينيين، طالما أن علاقاتها مع معظم الأنظمة العربية والإسلامية في أحسن حال.
تماماً كما أسقط معظم العرب من حساباتهم شرط إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، والتوصل إلى حل عادل وشامل يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، كشرط مسبق لقيام تطبيع عربي وعلاقات مع الكيان الصهيوني.

تثبيت الثابت
أي مثقف أو مواطن أو مسؤول عربي أو إسلامي يرضى بتهويد القدس، ويوافق على التسليم بالأمر الواقع بوجود إسرائيل فوق كافة الأراضي الفلسطينية، دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.
وأي زعيم عربي أو إسلامي يتساوق مع الأفكار والتبريرات الإسرائيلية التي تتجاهل الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير مصيره، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين والتعويض عن ممتلكاتهم التي فقدوها. ويقبل التطبيع مع إسرائيل.
كل مفكر عربي أو إسلامي كان يدعو إلى الأفكار الليبرالية التحررية، وإلى الحداثة وقيم العدالة والاشتراكية، ولا يبدي اليوم تضامناً واضحاً معلناً مع الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الثابتة.
كل مثقف وكاتب وإعلامي وأديب يتصالح مع الإرهاب الإسرائيلي، ويداهن الاحتلال، ويتردد في الثوابت الوطنية، ويتقلّب في مواقفه من القضية الفلسطينية.
كل من يفرط بالحقوق الفلسطينية والعربية، ويبدد تضحيات من سبقونا من الشهداء والجرحى والمعتقلين، ويحاول مقايضة الحق بالباطل. وكل من يحرف معركة الأمة المركزية عن مسارها، وكل من يشتت جهد الأمة في صراعات جانبية ومعارك ثانوية.
كل زعيم أو مسؤول عربي أو إسلامي يتعامل مع فلسطين في العلن بالخطب الحماسية والتظاهرات الحاشدة والاعتصامات وحرق الأعلام والصور والإطارات، ويتعامل في السر بمزيج من المؤامرات والصفقات والتسويات والاتفاقيات والزيارات الودية والشراكات والعقود والمساعدات.
من تاجر بالقضية الفلسطينية من الأنظمة العربية ومن المعارضات، ومن اعتبر يوماً أن فلسطين أم القضايا ثم خذلها لحسابات ومصالح ترتبط به وحده، من الأحزاب والقوى العربية التي كثرت أقوالهم وانعدمت أفعالهم. من يحاول تبخيس وتجاهل نضالات شعب عظيم عرف كيف يحافظ على هويته، بالرغم من أن العالم كله وقف ضده وسعى إلى إلغائه.
من يتآمر على الشعب الفلسطيني وقضيته وقيادته من العرب والمسلمين. من يحاول تمرير صفقات مشبوهة لتصفية القضية الفلسطينية.
جميع هؤلاء معادون للشعب الفلسطيني، ويقفون ضد تطلعاته وحقوقه المشروعة، متآمرون مع العدو الوطني والقومي لفلسطين والعرب. خائنون للعهود والمواثيق مع فلسطين وأهلها ومع شعوبهم وأنفسهم، نكثوا شعاراتهم ونقضوا التزاماتهم، هم دون ضمير عربي أو إسلامي أو إنساني، لا مبادئ لهم ولا قيم، أصحاب شعارات زائفة، لا بصر لديهم ولا بصيرة، ويل لهم من شرب قد اقتراب.

نقول فهل نتعظ؟
من المعيب الفاضح أن يحتاج الشعب الفلسطيني وقيادته إلى كثير الجهد من أجل لفت أنظار الأشقاء العرب أنظمة وشعوباً إلى قضيتهم العظيمة بعد مرور حوالي سبعين عاماً على النكبة البغيضة، التي أسهمت بعض الخيانات العربية في إخراج مشاهدها بالكيفية المؤلمة التي تمت. الكارثة المبكية أنه أصبح لدينا عدداً غير قليل من العرب لا يعرفون شيئاً عن فلسطين وشعبها وقضيتها.
في ظل الظروف الراهنة عربياً والاستثنائية في الانحدار والتشرذم والسقوط الأخلاقي، والوداعة مع الاحتلال الإسرائيلي، والإذعان المهين للضغوط الأمريكية، هل نحتاج اليوم لرجل يشبه زياد بن أبيه "زياد بن عبيد الثقفي" الذي صاح في خطبة البتراء الشهيرة، حين ولاه معاوية بن أبي سفيان على البصرة التي كانت معقلاً للخارجين عن طاعة الخلافة الأموية، فصعد زياد على منبر المسجد وخطب في الناس قائلاً "إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقي الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم"، أم أن العرب اعتادت كثير القول دون أن يتعظ أحد؟

60
أدب / حان وقت السبات
« في: 23:16 26/02/2020  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


حان وقت السبات

منتصبة فوق التل البعيد
وحيدة
زاهية كحبة البلح
تنتظر طيف القمر المبتور
تمدّ صهوتها
حين تبكي الريح
لتسحب يقظة الوارثين
من عمق السبات
كلّما عرجتُ بموسم الحصاد
أحصي أطراف الصور المخبّئة
أرى الشجر الفضي بلا ساقين
تقول لي
لبثتَ بي عاماً
وأقل قليلاً
وعليَّ عامين
ويزيد كثيراً
وتظلّ هي بلا حولٍ
تقبع كالأسئلة الهرمة
تحت الأغصان الحانية
تسامر ريح السنبلة
وتتعلّم الموت
كنّا نبكي سوياً
لنلامس الصبح البعيد
ما عاد لنا بكاء
لم تعد تبصرني
ابيضّت عينيها من الحزن
وكلّما سألتها
عن الحصان الخشبي
للطواحين القديمة
تقول
لا تسأل من رمى السراب
لظمأ التراب
سائلتها العودة
كي ينتظم وجه الندى
في سنديان المرايا
قالت يا ولدي
لا مهرب من الميعاد
يعود التراب إلى عمق البحر
حين تموت اليابسة
يحلّق البخار الكبريتي
من لحاء الأرض
فوهة الوقت تتّسع
تبتلع سر المسافة
كنتُ أبكي
وأمزّق كل المراكب
في صفحة البحر
نَهَضَتْ لأوّل مرة
من خلف الحكاية
مدّتْ بأوراق الحبق
تلامس بصدرها يقظتي
كي أنام
قالت تعالَ
قد حان وقت السباتْ

61
المنبر الحر / لماذا نحب المغرب؟
« في: 18:47 13/01/2020  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

لماذا نحب المغرب؟

بحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميّز كملتقى للحضارات بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، هُيّئ للمغرب القيام بأدوار تاريخية وحضارية وثقافية وعلمية مرموقة على امتداد العصور.
فمنذ الحضارة الآشولية في العصور الحجرية القديمة، مروراً بالفترة الفينيقية في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حيث قام الفينيقيون ببناء مدن تجارية لهم على سواحل البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، بدءًا من أواسط القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فقامت مدن فينيقية كثيرة أهمها أرواد وبيروت وجبيل وصيدا وصور على المتوسط، ومدن ليكسوس (العرائش)، موغادور (الصويرة)، سلا (قرب الرباط)، إلى قيام دولة الأدارسة الإسلامية العام 788م في المغرب بعد اعتناق المغاربة الإسلام، حيث قام الشريف مولاي ادريس ابن عبد الله. إلى دولة المرابطين، دولة الموحدين، دولة المرينيين، دولة الشرفاء السعديين، إلى قيام الدولة العلوية التي أسسها محمد بن الشريف الحسني 1638م، إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي والإسباني، ثم مرحلة النضال والكفاح ضد قوات كلا الاستعمارين، ثم مرحلة الاستقلال في 2آذار 1956، صولاً إلى العصر الحديث، فإن المغرب ومنذ أن وًجد كان بوتقة تنصهر فيها الحضارات القديمة والحديثة، خصوصاً الامبراطوريات الفينيقية والرومانية القديمة، ثم مركزاً لالتقاء الحضارات الأفريقية والشرقية والأوروبية.
نحن نحب المغرب لأن الشعب المغربي منذ اعتناقه الدين الإسلامي، تحول إلى مبشر وداعية إلى وحدانية الله والرسالة المحمدية. والمغاربة اضطلعوا بهذا الدور وقاموا به على أكمل وجه، لا حباً في مكسب أو مغنم ولا طمعاً في زعامة، إنما إيماناً راسخاً أن ما يقومون به هو عمل شريف ورسالة نبيلة وعبادة لخدمة الدين وصونه وانتشاره وحمايته. ولذلك شهد المغرب نهضة دينية وعلمية أسهمت في إثراء الحركة العلمية بمطبوعات ومؤلفات لها وزنها العلمي في الميدان الديني والعلمي والثقافي. وكانت جامعة القرويين مقصداً لكل من يرغب في الحصول على العلم والمعرفة من ينابيعها.
ولأن الإسلام لم يكن ليصل ويستقر في بلدان غرب أفريقيا إلا عبر المغاربة أبناء الشمال الأفريقي عموماً والمغرب الأقصى على وجه الخصوص. فكما حمل طارق بن زياد مشعل الإسلام من يد عقبة بن نافع ووصل به إلى الضفة الأخرى من المتوسط. كذلك قام مغاربة شجعان بالتوغل في أدغال الصحراء وما وراءها إلى أن وصلوا أرض السودان الغربي.
بالرغم من تعدد المذاهب والقراءات والآراء داخل المنظومة الإسلامية والتي تعكس خصوصيات المناطق المختلفة، إلا أن هناك مبادئ وقيم مشتركة وعقائد عامة لكل المسلمين، ولكن لا شك أن الإسلام قد تأثر بالبيئة وخصوصيات الدول والمناطق التي دخلها.
لقد اختار المغاربة منذ أربعة عشر قرناً المذهب المالكي ﻤﺫﻫباً رسمياً للدولة المغربية، ﻤﻨﺫ عهد الأدارسة ل وترسيخ هذا المذهب في عهد المرابطين. ورغم معرفتهم ببقية المذاهب الأخرى، إلا أنهم استقروا على المذهب المالكي كونه يتسم بالمرونة في معالجة كثير من القضايا الشائكة والمستعصية، والسماحة والتيسير في أحكامه، والوسطية والاعتدال.
ولا زال التدين المغربي أو الإسلام في المغرب، الأكثر اعتدالا وتسامحا من غيره، قائم على الوسطية والتوازن، ورفض كافة أشكال التشدد والتطرف والعدوانية، وهو ما يعود إلى عدة عوامل من قبيل الموقع الجغرافي للمغرب وتراكماته التاريخية ولتنوعه العرقي.
وفي خطاب العرش العام 2003 ذكر جلالة الملك محمد السادس أن المغاربة "منذ أربعة عشر قرنا، ارتضى المغاربة الاسلام دينا لهم، لقيامهم على الوسطية والتسامح وتكريم الانسان والتعايش مع الغير، ونبذ العدوان والتطرف والزعامة باسم الدين".
لأن المغرب مرتبط بفلسطين وملتصق بالقدس الشريف بعمق وجداني منذ التاريخ القديم للعصر الحديث، فقد قام جلالة الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله وأحسن مثواه الذي بزيارة مدينة القدس الشريف وصلى بالمسجد الأقصى. وتعمقت أواصر العلاقات الفلسطينية المغربية في عهد جلالة الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه الذي كان له دوراً محورياً في دعم القضية الفلسطينية وقضية القدس الشريف، وترأس لجنة القدس التي يرأسها حالياً جلالة الملك محمد السادس نصره الله ورعاه الذي وضع مدينة القدس الشريف والحفاظ عليها، وكذلك دعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني في مقدمة أولوياته.
لأن المملكة المغربية تتمتع بمصداقية وحضور قوي سياسياً واقتصادياً وثقافياً ودبلوماسياً ودينياً لدى الدول والشعوب العربية، وداخل القارة الأفريقية، خاصة مع دول غرب ووسط أفريقيا. والمملكة تراهن وتعي دورها الاستراتيجي في مد جسور التواصل مع بقية الدول الأفريقية، وتسعى لإقامة شراكات مع عمقها الأفريقي تحت شعار رابح- رابح، من خلال المشاريع التنموية الكبرى، وبرامج التنمية البشرية. فقد أصبح المغرب ثالث أكبر شريك ومستثمر في أفريقيا بعد الصين والإمارات العربية المتحدة.
لأن المملكة المغربية واحدة من أهم الدول العربية الأفريقية، وكأرض خصبة للخبرات والكفاءات والمواهب التي تسعى دول العالم إلى استيرادها وتوظيفها.
لأن المغرب من أكثر الدول أمنا وأماناً واستقراراً وتصالحاً وتسامحاً وتعايشاً بين مختلف مكوناته الاجتماعية والعرقية والثقافية، ومع الآخر.
لأن الشعب المغربي أكثر الشعوب قاطبة التي تشعر معه أنك في بلدك مهما كانت جنسيتك. فهو شعب ودود وكريم ومضياف ويغمرك بالمحبة ولطف المشاعر ودفئها. في المغرب أنت دوماً مرحب بك، فالكرم والضيافة هما أسلوب حياة عند المغاربة. شعب عريق مثقف ومطلع ومتعاون ومبدع.
لأن المغرب ورغم إمكانياته المحدودة فإنه يمد يد المساعدة للآخرين وللشعوب الأخرى عبر قنوات إنسانية متعددة، لعل واحدة من أبرزها هي الوكالة المغربية للتعاون الدولي، التي توفر آلاف المنح الدراسية سنوياً لطلبة من دول مختلفة نصفهم من القارة الأفريقية.
لأن المغرب بات من بلدان المقصد على نحو متزايد للاجئين والمهاجرين، فقد تحول من بلد مصدر للهجرة، إلى بلد يستقبل أيضاً لاجئين من 38 جنسية بلغ عدد المسجلين منهم في العام 2019 حسب أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 8700 لاجئ، نصفهم من اللاجئين السوريين الهاربين من ويلات الحرب في وطنهم. إضافة إلى الآلاف من المهاجرين من بلدان عدة.
لأن المغرب العظيم أنجب عدد كبير من كبار الفلاسفة والمفكرين والعلماء في العصر الحديث لهم بصمات واضحة في مسيرة الفكر الإنساني أهمهم المفكر محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، عبد الإله بلقيز، علي أومليل، المهدي المنجرة، طه عبد الرحمن، بنسالم حميش، رجاء ناجي مكاوي، محمد عزيز لحبابي، محمد بنسعيد العلوي، محمد وقيدي والعشرات سواهم.
وعدداً من الباحثين والأكاديميين والأدباء وشعراء والفقهاء وقادة ورجال دولة ورياضيين واقتصاديين وقانونيين ومؤرخون ولغويون وسواهم الكثير من المبدعين الذين لا يتسع الحيز هنا لذكرهم جميعاً. لكن لا يمكنني الحديث عن الأكاديميين والباحثين وأساتذة التعليم العالي في المغرب دون أن أذكر فضل أستاذي الكبير الدكتور محمد الداهي رئيس تكوين فنون وآداب متوسطية في مختبر الدكتوراه التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس بالرباط.
لأن هناك علماء مغاربة أدهشوا العالم بإنجازات واكتشافات كان لها وقع كبير في مجالات بحثهم واشتغالهم. ومن أبرزهم الدكتور الفيزيائي رشيد اليزمي، وعالمة الفيزياء النووية الدكتورة كوثر حافظي، عالم الفضاء ومهندس الاتصالات كمال الودغيري، الدكتورة رجاء الشرقاوي عالمة الفيزياء النووية، عالم الأحياء الدكتور عدنان الرمال، عالمة الفلك المغربية مريم شديد وغيرهم.
لأنه يمكنك السفر وزيارة المغرب في كافة الفصول، في الربيع حيث الشمس تتألق في معظم أيام العام. في الربيع يستمتع الزائر للمغرب بدرجات حرارة ما بين 23 و26 درجة في مدينتي مراكش وأغادير. وفي الصيف بهجة السفر المنعش نحو سفوح إفران على ارتفاع 1650 متراً فوق سطح البحر. وفي فصل الشتاء المناخ معتدل على مدار العام وعلى طول الشواطئ الخلابة ة على ضفاف البحر المتوسط والمحيط. في فصل الشتاء بالمملكة المغربية يمكنك أن تستمتع بالتزلج على الجليد في مدينة إفران، وبنفس الوقت يمكنك الذهاب والسباحة في بحر أغادير. أما في الخريف فالليالي طوية وتنخفض فيه درجات الحرارة في المدن الداخلية عما هي خلال الصيف وبذلك يمكنكم التجول في المناطق الداخلية والاستمتاع بالثراء والتنوع الجغرافي والثقافي والبيئي.
لأن الطعام المغربي لذيذ وشهي وصحي ومتنوع، والحلوى المغربية الشهية والمعجنات التي غالباً ما يصاحبها الشاي المغربي بالنعناع وتقدم في المناسبات الخاصة وعند استقبال الضيوف. المطبخ المغربي يستحوذ على ترتيب الصدارة عربياً وأفريقياً، ويحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد المطبخ الفرنسي. حيث ينتج المغرب مجموعة كبيرة من الفواكه والخضراوات المتوسطية وحتى بعض الاستوائية. وينتج أيضا كميات كبيرة من الأغنام والدواجن والماشية والأسماك التي تشكل قاعدة المطبخ، إضافة إلى استخدام مجموعة واسعة من التوابل.
لأن طارق بن زياد أشهر القادة العسكريين في التاريخ الإسلامي كان مغربياً. فهو الذي دخل الأندلس أول مرة، ونسبة إلى اسمه سُمي "جبل طارق" الشهير. وهو من أكثر الشخصيَّات الوطنيَّة إجلالًا في المغرب العربي، عند العرب والأمازيغ على حدٍ سواء.
لأن ابن رشد، واسمه أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي، الذي كان واحدًا من أشهر الفلاسفة الأندلسيين في العصور الوسطى هو مغربي ولد في مدينة قرطبة الأندلسية في 14 نيسان/ أبريل 1126 وتوفي بمدينة مراكش المغربية في 10 كانون أول/ ديسمبر 1198.  ويُعتبر ابن رشد ظاهرة علمية متعددة التخصصات حيث كان طبيباً وفقيهاً وفيلسوفاً وفيزيائياً وفلكياً. ترجم فلسفة أرسطو وأفلاطون. وعلى عكس الرأي العام السائد حينذاك، اعتبر ابن رشد أن الفلسفة والدين كلاهما أدوات تمكن الإنسان من البحث ومعرفة السبيل للخلاص البشري.  وقام برد الاعتبار للفلسفة بعد أن أصابها الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، ووضع هذا الجهد في كتابه تهافت التهافت.
ولأن العالم والمُخترع والفيلسوف والشاعر أبو القاسم عباس بن فرناس كان مغربياً أندلسياً، ولد في مدينة رندة عام 810م ونشأ وتوفي في مدينة قرطبة الأندلسية عام 887م واشتهر بمحاولته الطيران، كما برع في الفلسفة والكيمياء والفلك.
لأن مسلمة المجريطي، واسمه أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي وقيل سلمة بن أحمد، أحد أهم علماء الرياضيات والكيمياء والفلك في الأندلس كان مغربياً. ولد بمدينة مجريط التي تعرف اليوم بمدريد عام 950م وتوفي عام 1007 م، وكان يُلقب بإمام الرياضيين في الأندلس. كان أول من أجرى التجارب على أكسيد الزئبق الثاني، وأول من أشار إلى قانون بقاء المادة.
ولأن أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، الذي كان واحداً من أهم وأعظم الجراحين الذين ظهروا في العالم الإسلامي كان مغربياً أندلسياً ولد في مدينة الزهراء عام 936م وعاش وتوفي في مدينة قرطبة عام 1013م. اخترع العديد من أدوات الجراحة، وكان أول من ابتكر واستخدم خيوط الجراحة الداخلية، وابتكر ملاقط الجراحة، وله إسهامات مهمة في جراحة الفك والأسنان. ويُعتبر الزهراوي طبيباً شاملاً ومن أكثر الأطباء إجادة للطب. له العديد المؤلفات التي ظلت مرجعاً علمياً أساسياً لدراسة الطب في القارة الأوروبية لغاية القرن السابع عشر.
لأن ابن حزم واسمه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الفيلسوف والفقيه والمؤرخ الأندلسي كان مغربياً. ولد في مدينة قرطبة عام 994 م وتوفي في مدينة نبيلا عام 1064 م. وهو أكبر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً بعد الطبري. كان ابن حزم ينادي بالتمسك بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة ورفض ما عدا ذلك في دين الله، ويعتبره الكثير من الباحثين أنه كان صاحب مشروع لإعادة تأسيس الفكر الإسلامي من فقه وأصول وفلسفة.
ولأن أبو عبيد البكري، واسمه أبو عبيد عبد الله بن أبي مصعب عبد العزيز بن عمر البكري، الجغرافي والموسوعي والأديب الأندلسي الذي ولد في مدينة ولبة قرب اشبيليا عام 1030 م وتوفي في مدينة قرطبة عام 1094 م كان مغربياً. وهو أكبر جغرافي أنجبته الأندلس التي كان ملوكها يتهادون كتبه.
لأن ابن الزرقالي واسمه أبو أسحاق إبراهيم بن يحيى التّجيبيّ النقّاش، الفلكي الأندلسي وأعظم راصدي الفلك في عصره كان مغربياً أندلسياً، ولد في مدينة طليطلة عام 1029 م وتوفي في مدينة اشبيليا عام 1087 م. ألهمت أعماله جيلًا من الفلكيين الإسلاميين في الأندلس، وانتشر تأثير هذه الأعمال إلى أوروبا بعد أن تُرجمت إلى العديد من اللغات الأوروبية، كما سُميت حفرة القمر أرزاشيل تيمنًا باسمه وتقديرًا له. استمدّ الزرقالي شهرته الواسعة من أعماله البارزة في مجال الفلك والجغرافيا، فهو أول من قاس طول البحر الأبيض المتوسط قياسًا دقيقًا. كما كان أوّل من حسب مسار ميل أوج الشمس بالنسبةِ للنجوم الثابتة. واخترع أنوعًا جديدًا من الأسطرلابات المعروف بالصفيحة الزرقالية والتي يشار اليه بعلم الفلك بأسطرلاب الزرقالي، وألّف جداولاً للكواكب تعرف بالجداول الطليطليّة.
ولأن الشريف الإدريسي، واسمه أبو عبد الله محمد بن محمد الإدريسي الهاشمي القرشي، مؤسس علم الجغرافيا كان مغربياً ولد في مدينة سبتة المغربية عام 1099 م وتوفي فيها عام 1165 م. استخدمت مصوراته وخرائطه في سائر كشوف عصر النهضة. قام بتحديد اتجاهات الأنهار والبحيرات والمرتفعات وحدود الدول. وبالإضافة إلى شهرته كعالم جغرافيا فقد كتب الشريف الإدريسي في التاريخ والأدب والشعر والفلسفة وعلم النبات.
لأن الفيلسوف والطبيب الألمعي الأندلسي الاشبيلي ابن زهر أبو مروان عبد الملك بن زهر، الذي ولد في اشبيليا عام 1094 م وتوفي فيها عام 1162 م كان مغربياً. وقد كان أستاذاً للفيلسوف ابن رشد. كان لأعماله الأثر الكبير والهام في تطور الطب الغربي لقرون عدة.  وهو مـن نوابغ الطب والأدب في الأندلس. ومن أعظم علماء الطفيليات.
ولأن ابن البيطار ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد، من أعظم علماء الصيدلة والنباتات الذين ظهروا في القرون الوسطى كان مغربياً أندلسياً. ولد في مدينة ملقا عام 1197 م وتوفي في مدينة دمشق عام 1248 م. تلقى علومه في اشبيليا، وترك مؤلفات عديدة مهمة أشهرها الموسوعة النباتية التي تضمنت وصف لأكثر من 1400 عقار منها 300 من صنعه. أثرى المعجم الطبي العربي الذي أصبح فيما بعد مرجعاً للطب الغربي.
لأن أبو العباس الاشبيلي واسمة أبي العباس شهاب الدين أحمد بن فرح الإشبيلي والمشهور بابن فرح، الفقيه والعالم الذي ولد في مدينة اشبيليا عام 1227 م وتوفي في مدينة دمشق عام 1300 م كان مغربياً أندلسياً. كان أستاذاً لابن البيطار. عالم مشهور بعلوم الحديث والفقه والنباتات وعلم العقاقير حتى صار المرجع في هذا المجال للعلماء في عهده، ودفعه شغف العلم والمعرفة إلى الأسفار والاتصال بشيوخه، وميله إلى تحري منابت الأعشاب وجمع أنواع النبات، إلى أن وصل مدينة دمشق التي توفي فيها.
ولأن الحسن المراكشي واسمه أبو علي الحسن بن علي بن عمر المراكشي عالم الفلك والرياضيات والجغرافيا كان مغربياً، ولد في القرن الثاني عشر ميلادي بمدينة مراكش التي توفي فيها عام 1262 م. اشتهر بصناعة الساعات الشمسية، وكان أشهر الموقتين في عصره. وضع خريطة جديدة للمغرب العربي، وصحح ما ورد من أخطاء بعض الجغرافيين القدامى، ولاسيما الخريطة التي رسمها بطليموس. وهو أول من وضع خطوط الطول ودوائر العرض على خريطة الكرة الأرضية.
لأن ابن زيدون واسمه أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومي، الشاعر والوزير الأندلسي الشهير كان مغربياً. ولد في مدينة قرطبة عام 1003 م وتوفي في مدينة اشبيليا عام 1071 م. من أبرز شعراء الأندلس المبدعين وأجملهم شعرًا وأدقهم وصفًا وأصفاهم خيالا، كما تميزت كتاباته النثرية بالجودة والبلاغة، وتعد رسائله من عيون الأدب العربي. وكان من الصفوة المرموقة في قرطبة. كان والده من فقهاء قرطبة.
لأن ابن الفرضي أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف، الذي ولد في مدينة قرطبة عام 962 م وتوفي فيها عام 1012 م كان مغربياً أندلسياً. المؤرخ والجغرافي والحافظ والأديب. من مصنفاته تاريخ علماء الأندلس، والمؤتلف والمختلف في الحديث، والمتشابه في أسماء رواة الحديث وكناهم، وأخبار شعراء الأندلس.
ولأن الطبيب والفيلسوف والشاعر الأندلسي أبو عبد الله محمد بن الحسن بن الحسين القرطبي المعروف بابن الكتاني كان مغربياً. ولد في مدينة قرطبة عام 951 م وتوفي فيها عام 1029 م. كان باحثًاً إسلامياً معروفًا وفيلسوفًا وطبيبًا ومنجمًا ورسامًا وشاعرًا. وكتب كتبًا عن المنطق والاستدلال والاستنتاج.
ولأن ابن مسرة واسمه أبو عبد الله محمد بن مسرّة الجبلي، المفكر والمتصوف والفيلسوف الأندلسي كان مغربياً. ولد في مدينة قرطبة عام 883 م وتوفي فيها عام 931 م. وبالرغم من الطعن في أفكاره واتُهم أنه يقوم بتلقين تلاميذه بدعة الاعتزال، كما قيل إنه ينشر آراءً وأفكاراً إلحادية، إلا أنه كان فيلسوفاً زاهداً وصاحب طريقة صوفية. بل يُعتبر أول شخصية صوفية محورية في تاريخ التصوف الأندلسي.
ولأن ابن طفيل وهو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد، الفيلسوف والطبيب وعالم الفلك والرياضيات والأديب الأندلسي كان مغربياً. كان رجل دولة ومن أشهر المفكرين العرب. ولد بالقرب من مدينة غرناطة عام 1105 م وتوفي في مدينة مراكش عام 1185 م. تولى مناصب وزارية وكان معاصراً للفيلسوف ابن رشد. من أشهر أعماله قصة "حي بن يقظان" عمل فلسفي حاول عبره ابن طفيل التوفيق بين الدين والفلسفة، حظي هذا العمل باهتمام الغرب منذ القرن السابع عشر وتمت ترجمة القصة إلى لغات عديدة.
ولأن ابن باجة أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ، الذي ولد في مدينة سرقسطة عام 1085 م وتوفي في مدينة فاس المغربية عام 1138، كان مغربياً ومن أبرز الفلاسفة المسلمين، اهتم بالطب والرياضيات والفلك والأدب والموسيقى، كان وزيراً وقاضياً في الدولة المرابطية. وكان ضليعاً بالفلسفة، حيث قاد ابن باجة مشروع العودة بالفلسفة إلى أصولها الأرسطية مبتعداً عن الأفلاطونية المحدثة. ومن أشهر تلاميذه ابن رشد.
 ولأن الإمام القرطبي واسمه محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح كنيته أبو عبد الله، كان مغربياً أندلسياً. ولد في مدينة قرطبة عام 1214 م وتوفي في مصر عام 1273 م. ويعتبر من كبار المفسرين وكان فقيهًا ومحدثًا ورعًا وزاهدًا متعبدًا، متواضعاً جريئاً في قول كلمته. صاحب أمانة علمية واجتهاد كثير المطالعة.
لأن أبو حيان الغرناطي وهو العلامة محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان كان مغربياً أندلسياً. ولد في غرناطة عام 1256 م وتوفي في مدينة القاهرة عام 1344 م. وكان أبو حيان أمة وحده، جامعاً للمعارف الإسلامية، ملماً باللغات الشرقية. شهر أعمال أبي حيان وأعظمها هو تفسيره الضخم البحر المحيط الذي يُعد قمة التفاسير التي عُنيت بالنحو، وليس له مثيل.
ولأن ابن الخطيب، الشاعر والأديب والمؤرخ الأندلسي كان مغربياً. ولد في مدينة لوجا عام 1313 م وتوفي في مدينة فاس المغربية عام 1374 م. واسمه محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد بن علي بن أحمد السّلماني الخطيب الشهير لسان الدين. كان علامة أندلسياً، شاعراً وفقيها ومؤرخاً وفيلسوفاً وطبيباً ورجل دولة. ترك حوالي 60 مؤلف بين مطبوع ومخطوط في الأدب والتاريخ والجغرافيا.
وجب الذكر
أنه لأسباب وعوامل دينية واقتصادية وسياسية فقد تحولت مراكز الإشعاع الحضاري العربي- الإسلامي تاريخياً من المدينة المنورة إلى دمشق ثم إلى بغداد ثم إلى الأندلس ثم إلى إسطنبول ثم إلى القاهرة ودمشق وبغداد. وفي العصر الحديث يمكننا بثقة القول إن هذه المراكز الإشعاعية الحضارية موجودة اليوم في دول المغرب العربي وخاصة في المملكة المغربية التي تشهد فيها الحركة الفكرية نمواً وتطوراً ملحوظاً، وتصاعداً في الإنتاج الفكري والإبداعي، في مناخات تشجع على ازدهار الفكر وتنشيط حركة الترجمة.
المغرب الذي يحتضن أول جامعة في التاريخ، ويضم نخبة من أبرز المفكرين والفلاسفة، ويقع في أهم بقعة جغرافية بالقارة الأفريقية، ويستقطب الملايين من السائحين سنوياً يفدون للتمتع بالمناخات الرائعة والمناظر الطبيعية الخلابة، وفيه شعب عريق عظيم، أنعم الله على هذا البلد بالأمن والأمان والقيادة الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
لهذا ولغيره الكثير، نحن نحب المغرب.

62
أدب / للساقية صوت المتوجعين
« في: 13:11 05/01/2020  »


للساقية صوت المتوجعين



حسن العاصي



1
بين سكون الدم
وصخب الجراح
يصدح الأنين
خلف الأبواب المغلقة
يقولون
 أن للساقية صوت المتوجعين
وللتراب فاتحة القيامة
لا زلتُ عند زحام الغبار
أخالطُ في تراب المسافة
أجنحة الماء


2
تتقطع الساعة الرملية
الأرصفة تتوجس الرحيل
السفر بلا مواعيد
والمحطات بلا دلالة
فلا معنى لألوان الضوء
في عتمة الانتظار
ولا نهاية لقلق العيون
صاخبة وجوه العابرين
الكل راحل
إلى رقود طويل


3
يتعرى الشجر من الحياء
يعلو صوت الخطيئة
في الغابة
تهجع الأسماء لعشب الليل
يتثاءب الوقت
العتمة لا تنام
تشتهي لون الجدار
قالوا
كان هنا يوماً
بيوتاً بلا أبواب


4
يدسّ موقد المركب
رماد السفر
بين حمرة المغيب
والموال الغافي
في غياب الحقل
فيتقاطع البحر بالبحر
يكاد ثمر الطريق
أن يفيض نوراً
على جهة القنديل
ومزامير الريح تشدو
ظمأ الرحلة

5
تطاولت الأوراق
على الأغصان
كم مسافة الموسم؟
لا بديل
عن المواويل الهجينة
لنحاول تراباً آخر
ونخلع وجه الأبجدية
يكسر سواد المفردات
أضلع الألوان
يا أبي
متى يهلك البستان؟


6
وجهان للماء
البحر هذيان
فهل عاد موج الحكاية
من ضفاف الملح
كنّا نحمي هطول الفصول
حين تقاطعت أبعاد الوقت
أضحت الأوردة
أنهاراً متحجرة
متى يفيض الصبح
حكايا على ضفاف
الغيم الأخضر؟
متى نسقط في الغيبوبة؟


63
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك



الدبلوماسي المتمرس جمال الشوبكي السفير الفلسطيني في المملكة المغربية
في الذكرى الخامسة والخمسون لانطلاقة الثورة الفلسطينية

ـ يؤكد تمسك القيادة الفلسطينية بقرارات الشرعية الدولية في مواجهة الضغوط الأمريكية.
ـ الزعيم ياسر عرفات كلما واجه أزمة ترتبط بالقضية الوطنية الفلسطينية يلتجأ لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني.
ـ جلالة الملك محمد السادس أكد على التزام المغرب ملكاً وحكومةً وشعباً بالقضية الوطنية الفلسطينية ودعمها في كافة المحافل.
ـ المغرب يمتلك أوضح موقف عربي وإسلامي فيما يتعلق بقضية القدس الشريف.

في بداية كل عام، يحتفل الشعب الفلسطيني بمختلف قواه السياسية والحزبية، وبجميع شرائحه الاجتماعية، ومعه أحرار وشرفاء ومناضلي العالم، بذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية المجيدة التي شكلت صفحة مشرّفة في تاريخ الشعب الفلسطيني. وفي هذا العام تمر هذه الذكرى والشعب الفلسطيني وقضيته يتعرضان لأخبث المؤامرات التي تستهدف الإنسان والأرض والهوية والدولة والحقوق والقدس واللاجئين، مؤامرة تسعى للنيل من الثوابت الوطنية الفلسطينية التي تعمدت بدماء الشهداء الطاهرة، وأوجاع الجرحى، ومكابدة الأسرى في السجون الإسرائيلية، وبدموع الأمهات الفلسطينيات الثكالى.
وأصل الحكاية يعود إلى شقة متواضعة بمدينة الكويت اجتمع فيها ستة مناضلين فلسطينيين أواخر العام 1957، وهم "ياسر عرفات، خليل الوزير، عادل عبد الكريم، عبد الله الدنان، يوسف عميرة، توفيق شديد" وتم خلال هذا اللقاء الإعلان عن ولادة "حركة التحرير الوطني الفلسطيني" التي سميت اختصاراً فيما بعد بحركة "فتح". وفي العام 1959 انضم للمؤسسين مناضلين آخرين أبرزهم "محمود عباس، صلاح خلف، خالد الحسن، عبد الفتاح حمود، كمال عدوان، محمد يوسف النجار". قررت الحركة البدء بالكفاح المسلح، ونفذت أول عملية لضرب شبكة المياه الإسرائيلية في 31.12.1964، ثم أعلنت الحركة عن انطلاقتها في الأول من كانون ثاني/ يناير من العام 1965، وبهذا تم اعتبار هذا التاريخ يوماً لولادة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
لقد شكلت انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة في العام 1965 منعطفاً مهماً في مسار حركة المقاومة الفلسطينية بعد النكبة التي ابتلي بها الشعب الفلسطيني العام 1948، حيث تمت إعادة الاعتبار للشخصية والهوية الوطنية الفلسطينية، ولفتت أنظار العالم أجمع إلى عدالة القضية الوطنية الفلسطينية، ومكانتها بين حركات التحرر في العالم، وكذلك جذب انتباه الرأي العام الدولي إلى المظلومية والجرائم التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.
لأهمية هذه المناسبة توجهت للقاء مع أحد رموز هذه المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني، لأسمع منه وأتناقش معه حول مآلات الوضع الفلسطيني بصورة رئيسية، وقضايا أخرى. إنه المناضل الفلسطيني والدبلوماسي القدير، والقيادي الحصيف الفطين والضليع، السفير الفلسطيني في المملكة المغربية جمال الشوبكي. استقبلني الرجل في مكتبه بمقر السفارة الفلسطينية بمدينة الرباط، وأبدى كل اهتمام وعناية للإجابة على أسئلتي، فكان هذا الحوار.

ـ سعادة السفير، ونحن على بعد أيام قليلة من الذكرى الخامسة والخمسون لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، كيف ترى حال القضية الفلسطينية اليوم بعد أكثر من نصف قرن على انطلاقة الثورة في ظل الظروف الدولية والإقليمية والعربية راهناً؟
يحي الشعب الفلسطيني وقيادته هذه الأيام الذكرى الخامسة والخمسون لانطلاقة الثورة الفلسطينية الخالدة. تمر هذه الذكرى العظيمة في فترة مصيرية وبالغة الخطورة على القضية الوطنية الفلسطينية. حيث تزداد وتيرة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويتصاعد البطش والعنف المنظم والإرهاب الممنهج الذي تمارسه قوات جيش الاحتلال والمستوطنين بحق أبناء الشعب الفلسطيني بصورة يومية، ولا تتوقف محاولات الحكومة الإسرائيلية التي تهدف إلى تهويد المقدسات الإسلامية والمعالم المسيحية. وتتوغل الإدارة الأمريكية الحالية في الاعتداء المستمر على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، سواء كان من خلال تواصلها في تقديم الدعم اللامحدود للاحتلال الإسرائيلي، أو عبر الضغوط الكبيرة التي تمارسها على القيادة الفلسطينية للقبول بخطة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" التي تسمى صفقة القرن، وتسعى من خلالها الإدارة الأمريكية لتجاوز وشطب الحقوق الوطنية الفلسطينية التاريخية في أرضه وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف العاصمة الأبدية لدولة فلسطين. كما تهدف الخطة الأمريكية إلى إلغاء حق أكثر من ثمانية ملايين لاجئ فلسطيني مشتتين حول العالم، وحرمانهم من حقهم الطبيعي المصان بقرارات الشرعية الدولية، في العودة إلى ديارهم، والتعويض عما أصابهم من ضرر مادي ومعنوي. وتسعى الخطة الأمريكية إلى تثبيت الكيانات الاستيطانية وإضفاء الشرعية عليها، وهو ما يتناقض مع قرارات الشرعية الدولية التي أدانت الاستيطان الإسرائيلي واعتبرته غير شرعي وغير قانوني.
لقد صمدت القيادة الفلسطينية بصلابة في وجه كافة المؤامرات التي تسعى للنيل من حقوق شعبنا وثوابته الوطنية الراسخة في العقيدة الكفاحية. نعم ولقد قدم الشعب الفلسطيني وثورته المعاصرة عديد التضحيات الجسيمة، وسطروا بعزيمة وإصرار شديدين ملاحم بطولية كتبت في صفحات التاريخ.
إن الشعب الفلسطيني وقيادته سيواصلان النضال لتحقيق الحلم الذي استشهد من أجله عشرات الآلاف من الفلسطينيين، حلم الحرية والاستقلال، ولن يقبلا بأية حلول تنتقص من الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة في إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف، وحل عادل لقضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية.

ـ ما الجديد المتعلق بخطة السلام الأمريكية "صفقة القرن"؟
لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من فرض رؤيتها لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وسقط مشروعها الذي كان يسعى إلى تشريع الاحتلال، وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والشعوب العربية، وبالرغم من اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل مقر سفارتها إلى المدينة المقدسة، إلا أن الضغوط التي مارستها على كثير من الدول فشلت في إقناع تلك الدول لنقل سفاراتها إلى القدس، بل أن الخطوة واجهت رفضاً قاطعاً من الشعوب العربية والإسلامية، ومن الغالبية العظمى من دول العالم. هذه الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي لم تكن حتى إسرائيل تتوقعها كهدية، حيث لم يمتلك أي رئيس أمريكي آخر الجرأة والوقاحة التي امتلكها ترامب ليعلن فجأة اعترافه بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي. إن كافة التهديدات الأمريكية والضغوط الهائلة التي تمارسها على القيادة الفلسطينية فشلت في دفع الجانب الفلسطيني للتساوق مع الخطة الأمريكية. ورغم الوعيد تارة والإغراءات تارة أخرى التي تمثلت بتعهد قدمه ترامب عام 2017 أنه سيقدم رشوة مالية للفلسطينيين تبلغ قيمتها 10 مليار دولار تدفع من أرصدة غير أمريكية، لكن الموقف الفلسطيني لم يتغير، حيث رفضت القيادة الفلسطينية والرئيس محمود عباس كافة هذه العروض.
إن الولايات المتحدة بمواقفها الأخيرة من المستوطنات، تسعى لكسر الصورة النمطية للاستيطان في العقل الغربي وتحاول ان تحدث وضعاً يصبح فيه مواجهة الاستيطان عبثاً بلا طائل.
ورغم أن هناك جهات عربية عرضت على القيادة الفلسطينية عدم التسرع في رفض الخطة الأمريكية قبل الاطلاع على تفاصيلها، والبعض عرض علينا البدء بالتطبيع لتوفير مناخات سياسية تسهم في إنجاح عملية السلام، لكن القيادة الفلسطينية رفضت بصورة قاطعة هذه الإملاءات وقاومت الضغوط وتمسكت بالحقوق الوطنية الثابتة غير قابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، التي انطلقت الثورة الفلسطينية في الأصل للحفاظ على هذه الحقوق من الضياع، ولتحقيق حلم الأجداد والآباء في العودة إلى بيوتهم وقراهم ومدنهم التي اقتلعوا منها وتم تشريدهم كلاجئين في بقاع الأرض. ونحن على ثقة لو وافقت القيادة الفلسطينية على مجرد التفكير بتلك الاقتراحات، لكانت انهارت جبهة الرفض والممانعة للخطة الأمريكية، وكان الشعب الفلسطيني وقضيته الخاسر الوحيد.

ـ هل تعتقد أنه لا زال الإجماع العربي حول خطة السلام العربية قائماً؟
القيادة الفلسطينية تعتبر مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمم العربية والإسلامية، وأصبحت جزءاً من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1515، خطاً أحمر لا يمكن التنازل عنه أو تجاوزه. لقد حاولت الإدارة الأمريكية إعادة صياغة المبادرة العربية ودمجها مع خطة السلام الأمريكية التي تهدف إلى تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، لكنها فشلت. والقيادة الفلسطينية رفضت المشاركة في كافة الورشات التي دعت إليها الإدارة الأمريكية أو "جاريد كوشنر" مستشار الرئيس الأمريكي، التي تتعلق ببحث الخطة الأمريكية المسماة "صفقة القرن". كما رفضت المشاركة في ورشة المنامة الاقتصادية التي كانت غايتها إطلاق المرحلة الأولى من خطة السلام التي وضعتها إدارة الرئيس الأمريكية دونالد ترامب بإشراف صهره كوشنر. وأكدت القيادة الفلسطينية حينها أن لا أحد يمتلك الحق ولا يستطيع إعادة صياغة المبادرة العربية نيابة عن القمم العربية والإسلامية.
كما أوضحت القيادة الفلسطينية أن السلام لن يكون بأي ثمن، والرئيس الفلسطيني محمود عباس كان قد كشف أن هدف هذه الصفقة التي ترعاها الإدارة الأمريكية هو تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، عبر إقامة إمارة في غزة وتوسيعها، والتخطيط لفصلها عن الضفة الغربية، وكذلك تهويد القدس.
بصورة عامة نحن نعتقد أن الموقف العربي الرسمي ما زال متمسكاً بالمبادرة العربية كأساس لحل الصراع مع إسرائيل، وتمكين الشعب الفلسطيني وقيادته من تحقيق الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وحل مشكلة اللاجئين بصورة عادلة وفق قرارات الشرعية الدولية.  وأشير هنا إلى أنه أثناء سعي الإدارة الأمريكية المسعور لفرض خطتها، قام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز خلال الجلسة الافتتاحية للقمة العربية التاسعة والعشرون بتاريخ  15 أبريل/نيسان العام 2018 في مدينة الظهران السعودية بتسمية القمة بقمة القدس وقال "ليعلم القاصي والداني أن فلسطين وشعبها في وجدان العرب والمسلمين".
وأعلن خادم الحرمين الشريفين عن تبرع السعودية بمبلغ 150 مليون دولار لبرنامج دعم الأوقاف الإسلامية في القدس، وبمبلغ 50 مليون دولار لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا". وأكد أن قمة القدس تشدد على مركزية القضية الفلسطينية، وعلى بطلان وعدم شرعية القرار الأميركي بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

ـ سعاد السفير هل تخبرنا كيف يمكن تقوية الموقف الفلسطيني لمواجهة كل هذه التحديات والمخاطر التي تواجه الشعب الفلسطيني وقيادته وقضيته الوطنية؟
في ظل هذه الأوضاع الدقيقة التي تحيط بالقضية الوطنية الفلسطينية، لا بديل أمام الفلسطينيين من كافة الانتماءات الحزبية والتيارات السياسية، إلا التوافق على استراتيجية سياسية وكفاحية واحدة موحّدة لكافة الجهود والامكانيات لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني، وتنظيم وترشيد نضاله ودعم موقف القيادة الفلسطينية لمواجهة هذه الحملة غير المسبوقة التي تشنها إدارة الرئيس الأمريكي ترامب لتصفية القضية الفلسطينية من خلال تقطيع خيوطها واحتكارها والتصرف بها وفق مخططاتها المتوافقة مع الرؤية الإسرائيلية. لذلك لا بد من توافق فلسطيني ـ فلسطيني أولاً، ويتم وفق ما تمليه المصلحة الوطنية، على أساس التمييز بين المصالح والشعارات الفصائلية، وبين حسابات السياسة التي تقوم بناء على معطيات دولية وإقليمية، وعلى ميزان القوى الحالي، وما تحدثه مفاعيل الصراع الفلسطيني والعربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ما ينتج عنه من تحديات تواجه القيادة الفلسطينية.
إن الانقسام الفلسطيني واحد من أهم أسباب ضعف الموقف الفلسطيني، كان أحد الأسباب التي تذرعت بها إسرائيل لعدم انخراطها بعملية سلام حقيقية مع الجانب الفلسطيني. وتسبب الانقسام بخسائر فادحة في البيت الفلسطيني، وأدى إلى الإساءة للتجربة النضالية الفلسطينية لدى العديد من الشعوب والأحزاب الداعمة للقضية الفلسطينية، وكان المستفيد الوحيد منه إسرائيل.
لذلك يجب إنهاء هذا الانقسام بشكل فعلي في أقرب أجل، وإنجاز المصالحة الفلسطينية، وأجراء الانتخابات التي تؤدي إلى تشكيل نظام سياسي فلسطيني جماعي قائم على الشراكة، يتبنى حل الدولتين على أساس قرارات الشرعية الدولية
يجب علينا اللجوء إلى كافة المحافل الدولية بدءاً من المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، وسواها. والاستمرار بفعل المقاومة الشعبية وتطويرها على أكثر من صعيد.

ـ كيف ترى مستوى التضامن العربي والأممي مع القضية الوطنية الفلسطينية، هل هو في وضعية الانحسار والتراجع أم في مرحلة تطور وتصاعد؟
 في الحقيقة يوجد قراءتين لهذا الموضوع. هناك من يقر بتراجع مستوى التضامن العربي والدولي مع القضية الفلسطينية ولأسباب متعددة. وتوجد وجهة نظر أخرى مغايرة تعتقد أن الدعم والتأييد الذي تحظى به القضية الفلسطينية في ثبات وتصاعد، خاصة في دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول الأوروبية.
فيما يتعلق بالموقف العربي فإن تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي بالقضية الوطنية الفلسطينية في الأعوام الأخيرة يعود بصورة رئيسية إلى اشتعال المنطقة العربية بعدة أزمات في عدد من الدول العربية، منها أزمات اقتصادية، وأزمات سياسية، وصراعات تحولت إلى حروب أهلية. ورغم ذلك فإن الشعوب العربية ما زالت تعتبر أن فلسطين هي قضيتها المركزية، لذلك نجدها تعلن عن مواقفها الثابتة المؤيدة لفلسطين عبر المسيرات والمظاهرات والنزول إلى الشوارع حين تلمس خطراً يتهدد القضية الفلسطينية أو يتعلق بأحد مقدساتها الدينية.
بالنسبة للموقف الأوروبي فلا يمكن الحديث عن موقف واحد، لكن موقف الاتحاد الأوروبي بصفة لا زال مع حل الدولتين ومع قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الغربية، وضد الاستيطان. لكن ما يجعل الموقف الأوروبي غير ثابت هو الضغوط الكبيرة التي تمارسها الولايات المتحدة على الدول الأوروبية بهدف دفعها للقبول بالمقترحات والخطط والرؤية الأمريكية للسلام. ثم هناك عوامل أخرى تجعل الموقف الأوروبي غير ثابت، منها صعود القوى والأحزاب اليمينية في العديد من الدول الأوروبية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ودور اللوبي اليهودي في أوروبا، والتعريف الجديد لعداء السامية الذي تشهره إسرائيل واللوبي الصهيوني في وجه الفعاليات والشخصيات المؤيدة للحقوق الفلسطينية. كل هذا يؤثر سلباً في حركة التضامن مع فلسطين.
لذلك يجب أن نقوم بتشخيص الوضع والتحديات الحالية التي تواجه التضامن مع القضية الفلسطينية في أوروبا، على كافة المستويات السياسية والثقافية والمدنية، ووضع برنامج لتطوير مستوى الأداء، وزيادة مستوى الوعي بالقضية الفلسطينية في الشارع لبناء أوسع شبكة تضامن شعبي ومدني في القارة العجوز. خاصة في وقت يحاول فيه اللوبي الإسرائيلي هناك ترهيب المؤيدين للقضية الفلسطينية وتكميم أفواه المناصرين لحرية الشعب الفلسطيني.

ـ كيف تنظر سعادة السفير للعلاقات الفلسطينية المغربية وكيف تقيمها؟
ترتبط المغرب بعلاقات تاريخية قديمة جداً مع فلسطين. حيث كان للمغرب دوراً هاماً في دعم وإسناد القضية الفلسطينية وتأييد حقوق الشعب الفلسطيني، التي يعتبرها المغرب حقوقاً ثابتة لا يمكن التنازل عنها وأهمها حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإقامة دولته المستقلة على الأرض الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف، ويناصر المغرب ملكاً وحكومةً وشعباً حق الشعب الفلسطيني الثابت في مواجهة الاحتلال لنيل الاستقلال الوطني. فنحن نعتبر أن المملكة المغربية تمتلك أوضح موقف فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
جلالة الملك الراحل، المغفور له بإذن الله الحسن الثاني، طيب الله ثراه قال "إن القدس الشريف يتبوأ المقام الرفيع من اهتمام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لارتباط هذه المدينة بعقيدتهم الدينية ولما لها من مكانة مرموقة في تاريخهم السياسي والحضاري. وهذه المدينة التي هي مهبط الرسالات السماوية وملتقى الأديان، قد جعل الله للمسلمين مسجدها الأقصى قبلتهم الأولى وحرمهم الثالث". إن هذه الكلمات شكلت وما زالت محور الموقف المغربي من فلسطين والقضية الوطنية الفلسطينية، حيث طالما اعتبر المغرب قضية القدس الشريف قضية الأمة الإسلامية الأولى وجوهر مشكلة الشرق الأوسط ولب الصراع العربي-الإسرائيلي.
ولا أدل على متانة وعمق العلاقات الفلسطينية المغربية من قيام جلالة المغفور له الملك محمد الخامس بزيارة مدينة القدس والمسجد الأقصى والصلاة فيه العام 1960.  ومن ترأس جلالة الراحل المغفور له الملك الحسن الثاني لجنة القدس التي انبثقت عن منظمة المؤتمر الإسلامي منذ مارس 1979 إلى حين وفاته رحمه الله في عام 1999، وتم اختبار جلالة الملك محمد السادس رئيساً للجنة خلفا لوالده لمواصلة دور المغرب الثابت والهام في الدفاع عن فلسطين وعن أحد الأماكن المقدسة لدى المسلمين وباقي الديانات السماوية.
وأنا أذكر أن الزعيم الراحل ياسر عرفات أبو عمار كلما تعرض لأزمة وواجه ضيقاً وشدة كان يلتجأ إلى جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني الذي كان يضع فلسطين والقضية الفلسطينية في قلب اهتماماته، وهو من قال إن "المشكل الفلسطيني قائم بين العرب والإسرائيليين، ولكن مشكلة القدس هي فوق هذا وذاك. هي مشكلة جميع المسلمين والمسيحيين واليهود أينما وجدوا. قضية القدس هي قبل كل شيء قضية مليار ومائتي مليون مسلم في جميع أنحاء العالم". وللراحل الملك الحسن الثاني الفضل الكبير في تبني منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وذلك في مؤتمر القمة العربية الثامن الذي انعقد في الرباط العاصمة المغربية في تشرين أول/أكتوبر العام 1974.
وعقب إعلان الرئيس الأمريكي ترامب قراره بنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس الشريف، واعترافه بالمدينة المقدسة عاصمة لدولة إسرائيل، شهدت العاصمة المغربية الرباط أكبر تظاهرة، حيث خرج مئات آلاف من الأشقاء المغاربة إلى الشوارع في مسيرة مليونية، حملوا خلالها صوراً لمدينة القدس والمسجد الأقصى، وشعارات "من أجل القدس ومع المقاومة، فلسطين قلب الأمة، وباب المغاربة يناديكم" واعتبروا قرار الرئيس الأمريكي قراراً طائشاً غير مسؤول، وطالبوا الدول العربية والإسلامية الرد بحزم ووضوح على القرار الأمريكي. ثم في جمعة الغضب على أثر صدور القرار، خرج عشرات آلاف من الأشقاء المغاربة في نحو ما يزيد عن سبعين مظاهرة احتجاجية، وتم تنظيم ما يزيد عن خمسين وثقة احتجاجية أمام المساجد بعد الانتهاء من صلاة الجمعة، ونظمت وقفة أمام القنصلية الأمريكية شارك فيها الأهل المغاربة بكثافة.
على المستوى الرسمي، كان هناك سلسلة من المواقف للحكومة المغربية وجلالة الملك محمد السادس حفظه الله منذ إعلان ترامب المشؤوم، كان آخرها الرسالة التي وجهها جلالته إلى العالم الإسلامي في إحتفالية تخليد الذكرى الخمسين لإنشاء منظمة التعاون الإسلامي في الرباط، حيث شدد الملك المغربي على  إستثنائية ومحورية قضية القدس، ورفض المغرب أي مساس بوضع المدينة القانوني والسياسي، وأهمية احترام الرمزية الدينية للقدس الشريف والحفاظ على هويتها الحضارية العريقة. وتضمنت رسالة جلالة الملك فقرة أكد فيها إلتزام المغرب ملكاً وحكومةً وشعباً بالقضية الفلسطينية ودعمها في كافة الميادين والمحافل وعلى مختلف الصعد وصولا لتحقيق الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة التي كفلتها الشرعية الدولية، وهو تلخيص لحقيقة الموقف المغربي المساند بشكل مطلق لشعبنا وقضيته العادلة.
ولا ننسى هنا أيضا أن وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربي السيد ناصر بوريطة قام بمقابلة سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بما فيها الولايات المتحدة الموجودين في الرباط، وذلك قبل إعلان ترامب بساعات قليله وبوجود السفير الفلسطيني، حيث قام الوزير بوريطة بتسليمهم رسالة من جلالة الملك محمد السادس طالبهم فيها الاضطلاع بمسؤولياتهم التامة للمحافظة على الوضع الحالي   لمدينة القدس، وتفادي كل ما من شأنه تأجيج الصراع في المنطقة، مشيرا إلى دعم المملكة المغربية الثابت وتضامنها المطلق مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، ومحذرا من تبعات قرار الرئيس الأمريكي وإدارته.
وأضاف السفير الفلسطيني بالقول:  الدعم المغربي لفلسطين متعدد الأوجه وعلى كافة المستويات وحين تقوم السفارة الفلسطينية بإحياء المناسبات الوطنية يشارك معها كبار الشخصيات السياسية والحكومية وكافة الأحزاب المغربية وحشود من المثقفين والمتضامنين والمواطنين المغاربة، وفي فعاليتنا الأخيرة حيث نظمنا مهرجانا سياسيا بمناسبة يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني في قاعة المكتبة الوطنية في الرباط، حضره السيد رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، وعدد من الأمناء العاميين للأحزاب، وبرلمانيين وقيادات وكوادر حزبية ونقابية مغربية.

حين سألت سعادة السفير عما تطلبه القيادة الفلسطينية من المغرب؟ أجاب:
أنا كسفير لدولة فلسطين في المملكة المغربية أشعر بأجواء المحبة الأخوية الدافئة من قبل الشعب المغربي الشقيق ومن الحكومة المغربية ومن قبل الأحزاب المغربية بجميع تياراتها الفكرية، ومن قبل منظمات المجتمع المدني والجمعيات والمؤسسات والهيئات الشعبية، وفي المقام الأول الرعاية الكريمة من قبل صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله. لذلك وقبل أي شيء أنا أتوجه بالشكر والتقدير والعرفان للملكة المغربية الشقيقة ملكاً وحكومةً وشعباً وأحزاباً لما يقدموه من دعم وتأييد كبيرين لفلسطين وللشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. ونحن نثمن عالياً هذا الدور الهام للمغرب إقليمياً ودولياً. ونتمنى أن يكون للمغرب الشقيق دوراً في القارة الأفريقية من خلال علاقاته المتميزة مع دول القارة، كي تظل فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني ومصالحه حاضرة في أجندة تلك الدول، وأن يتواصل تضامنهم الرسمي والشعبي مع القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، خاصة في ضوء الاستراتيجية الإسرائيلية لاختراق القارة الأفريقية والنفاذ إليها بقوة عبر تقديم المساعدات المالية واللوجستية لعدد من الدول الأفريقية الفقيرة.
كما نتمنى من الأحزاب المغربية التي ترتبط بعلاقات جيدة مع أحزاب أوروبية أن تضع القضية الفلسطينية وضرورة دعمها ضمن أجندتها أثناء اللقاءات التي تجريها مع تلك الأحزاب سواء بصورة ثنائية أو عبر المنتديات التي تشارك بها.
من جانبنا فإن السفارة الفلسطينية في المغرب تعمل وفق التوجيهات والتعليمات التي يصدرها الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووزارة الخارجية، وهما يؤكدان بشكل متواصلة على أهمية المحافظة على العلاقات الاستثنائية مع المملكة المغربية الشقيقة وضرورة تطويرها وتعميقها.
والقيادة المغربية لا تدخر جهداً لتعزيز هذه العلاقة، وهنا أود أن أقول لك أن عدد الوفود الفلسطينية التي زارت المغرب هذا العام بلغت 45 وفداً، وهذا يعطيك مؤشراً واضحاً على عمق هذه العلاقات. وتم الإعلان عن تأسيس لجنة مشتركة على مستوى وزراء خارجية البلدين سوف تعقد لقاءات تشاورية بصفة دورية.
ـ سألت سعادة السفير عن علاقة السفارة بالجالية الفلسطينية في المغرب؟
الجالية الفلسطينية المتواجدة والمقيمة في المملكة المغربية، جالية صغيرة نسبياً، وعلاقتها مع السفارة الفلسطينية في الرباط هي علاقة جيدة جداً. لدينا عدد قليل من رجال الأعمال أيضاً.
الجالية الفلسطينية في المغرب أنها تشعر بدفء المشاعر والمحبة والتضامن التي يبديها الأشقاء المغاربة تجاه أشقائهم الفلسطينيون، لذلك فهم يندمجون في المجتمع المغربي بكل يسر دون أية مشقة، وذلك بسبب العلاقات الأخوية العميقة والمتينة بين الشعبين. وتحرص السفارة على توجيه الدعوات لأبناء الجالية لحضور الفعاليات والمشاركة في المناسبات التي تنظمها السفارة في المناسبات الوطنية والاجتماعية والدينية.

وحول علاقة السفارة الفلسطينية مع السفارات والسفراء العرب والأجانب في الرباط؟
ذكر سعادة السفير الشوبكي أن العلاقة مع السفراء الأشقاء العرب جيدة وقال نلتقي بصورة دورية، وأثناء حضور المناسبات الوطنية الخاصة بكل دولة عربية. تظل هذه العلاقة تعكس التعاون والتنسيق التي يربطنا بالأشقاء العرب. وفيما يرتبط بالعلاقة مع السفراء الأجانب، فهي جيدة مع معظمهم، وممتازة مع البعض الآخر، ومتحركة غير مستقرة مع عدد من الدول. من جانبنا تحرص السفارة على علاقات طيبة مع جميع البعثات الدبلوماسية المعتمدة في المملكة المغربية الشقيقة. وجميع هذه البعثات باتت تعلم مقدار التضامن والاحتضان الذي يبديه المغاربة عموماً بكافة أطيافهم السياسية والاجتماعية للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وهذا الأمر يشكل ما يشبه المعيار الذي ينظم ويؤثر في علاقات هذه البعثات مع مختلف المستويات الرسمية والحزبية المغربية.

ـ ماذا عن الإعلام المغربي وتغطيته لأخبار القضية الفلسطينية ونشاطات السفارة؟
أجاب السفير الشوبكي موضحاً أن هناك إعلام رسمي ووسائل إعلامية خاصة وأخرى حزبية في المملكة، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن لي القول إن هذا الإعلام داعم ومؤيد لنضال الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه، وأن هناك رأي عام شعبي ورسمي في المملكة يناصر القضية الفلسطينية، ويعتبر أن مدينة القدس الشريف تعني المغاربة كقضية وطنية وعقائدية مغربية، وأن المدينة أحبتهم كما أحبوها، ولهم فيها حارة من أشهر حارات القدس وتجاور حائط البراق، وتعود نشأتها إلى العصر الأيوبي. فالإعلام المغربي على كافة مستوياته وأنواعه يتفاعل بصورة جادة ومسؤولة مع كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتطوراتها. كما يهتم بكافة النشاطات التي تقوم بها السفارة بصورة دورية، ويقوم بتغطية الفعاليات والنشاطات التي تقوم بها الأحزاب المغربية ومنظمات المجتمع المدني والتي ترتبط بفلسطين وقضيتها. لذلك نحن نقدر عالياً دور وسائل الإعلام في المغرب بهذا السياق.

ـ كيف ترى وتقيم العلاقة مع وكالة التعاون الدولي في المغرب؟
علاقتنا مع الوكالة وطيدة، وتشهد تطوراً ملحوظاً، ونحن نتوجه بالشكر الكبير المرفق بالتقدير للوكالة المغربية للتعاون الدولي ودورها المتميز والهام الذي تضطلع به في استقبال ومساعدة آلاف الطلاب من مختلف دول العالم لاستكمال دراستهم الجامعية والعليا في الجامعات والمعاهد ومختلف المؤسسات التعليمية في المملكة المغربية. ونتوجه بالتحية والشكر لمديرها العام سعادة السفير محمد مثقال لجهوده الكبيرة وإداراته الموفقة للوكالة. فيما يتعلق بفلسطين فإنها تحصل على 120 منحة دراسية سنوياً من قبل الوكالة للطلاب الفلسطينيين لاستكمال دراستهم في المغرب. نصفهم لدراسات الإجازة الجامعية والنصف الآخر للدراسات العليا. فالدراسة مجانية في المغرب، ويحصل الطلاب على منح نقدية دورية من الحكومة المغربية عبر وكالة التعاون. وتوفر لهم إقامات في السكن الجامعي في حدود الأماكن الشاغرة. ولا يجد الطلاب الفلسطينيين الذين يدرسون في المؤسسات التعليمية المغربية المختلفة أية صعوبات في المجتمع المغربي نتيجة محبة الشعب المغربي لأهل فلسطين، وتعلقهم الروحي والديني بمدينة القدس الشريف، مما يساعدهم على أن يصبحوا جزءًا من النسيج الاجتماعي المغربي خلال وقت قصير.

ـ في كلمته الأخيرة قال السفير الفلسطيني
في هذه الذكرى أدعو بصفتي دبلوماسي فلسطيني المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه شعبنا الفلسطيني، وأطالبه باتخاذ قرارات وإجراءات وخطوات عملية تحميه من الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، ورفع الضيم عنه المتواصل منذ حوالي ثلاثة أرباع القرن. وتمكينه من الحصول على حقوقه الوطنية التي أيدتها قرارات الشرعية الدولية.
بهذه المناسبة المجيدة أتقدم بالتحية والإجلال لأرواح شهداء الثورة الفلسطينية الذين أسهموا بدمائهم الطاهرة في استمرار وتواصل المسيرة الكفاحية للشعب الفلسطيني، ومضوا على مذبح الحرية والاستقلال. والتحية إلى مشاعل النصر ورياحين الثورة أسرانا البواسل في السجون الإسرائيلية، الذين نستمد منهم عزيمة النضال وثبات الصادقين. كما أتوجه بالتحيات لأبناء الشعب الفلسطيني في الوطن وفي المغرب وفي المنافي والشتات، على صمودهم وتمسكهم بحقهم المشروع في مقاومة الاحتلال وسياساته العدوانية.
إن الرصيد الاستراتيجي للفلسطينيين تحت الاحتلال هو وجود شعب على أرضه. هو يشكل نصف عدد السكان في فلسطين التاريخية. لولا هذا لانتهت القضية، لأن المشروع الصهيوني يريد الأرض دون السكان. لذلك أطالب بالالتفاف الفلسطيني القوي حول منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني، تحت قيادة السيد الرئيس محمود عباس، والوقوف خلفه وتقديم الدعم لمواقفه الرافضة لصفقة القرن.
كما إنني وبهذه المناسبة أتوجه بالشكر العظيم والامتنان لجلالة الملك محمد السادس لدعمه المتواصل للقضية الفلسطينية، ولإشرافه بصفة شخصية على كل ما يتعلق بفلسطين وبيت المقدس. ونشكر الحكومة المغربية وجميع الأحزاب لما يبدونه من مناصرة ودعم لنا، والشكر والتحية للشعب المغربي الشقيق العظيم الذي يظل وفياً لفلسطين وشعبها وقضيتها وقدسها.

نبذة عن السفير الفلسطيني في الرباط
جمال عبد اللطيف الشوبكي
سفير دولة فلسطين لدى المملكة المغربية
حاصل على دبلوم دراسات إقليمية من جامعة القدس عام 1997.
حاصل على بكالوريوس جغرافيا من جامعة بيروت العربية عام 1975.
سفير دولة فلسطين فوق العادة ومفوضاً لدى جمهورية مصر العربية من عام 2014 إلى غاية عام 2017. ومندوب دولة فلسطين الدائم لدى جامعة الدول العربية خلال ذات الفترة.
سفير دولة فلسطين فوق العادة ومفوضاً لدى المملكة العربية السعودية من عام 2006 إلى غاية عام 2013.
مندوب دولة فلسطين الدائم لدى منظمة التعاون الإسلامي خلال الفترة من عام 2006 لغاية عام 2013.
رئيس لجنة الانتخابات المحلية في دولة فلسطين خلال الفترة من عام 2004 لغاية عام 2006.
وزير الحكم المحلي خلال الفترة من عام 2003 لغاية عام 2005.
عضو المجلس الفلسطيني التشريعي الأول ورئيس اللجنة الاقتصادية.
عضو المجلس الثوري لحركة فتح.
عضو المجلس الوطني الفلسطيني.
يمتلك تاريخاً نضالياً مشرفاً، وأمضى سنوات عديدة في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
رجل دبلوماسي باقتدار، حكيم ولبق ومطلع ومثقف.
يتحدث إضافة إلى اللغة العربية، كلاً من اللغة الإنجليزية والعبرية بطلاقة.
متزوج ولديه ثلاث أولاد وبنت واحدة.



64
المنبر الحر / في الشرق المرعب
« في: 11:55 08/12/2019  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


في الشرق المرعب

في الشرق، يطبق القهر على حياة البشر. الأوطان أصبحت قهراً يجثم فوق صدور العباد. الحق مقهور، والفرح مقهور. الأعشاب مقهورة وكذلك القبور. وكلما كثر القهر تكبر الأوطان، وقهر بعد قهر تتسع الخيبات، وتتدحرج الأحلام خلف غبار الموت، مثل أشباح صامتة تنوح على جثث بلا عيون.
قهر يتواتر كما أزقة الخراب في مدن الرعب. قهر فاحش. أباطرة فاجرون افترشوا أرائك الحكم ديباجاً وحريراً، ووسائداً من المخمل والريش. ورعية افترشت بساط الشقاء والضنك، وأسندت ظهرها إلى أحجار اليأس والحرمان. رعية وشعوباً فقدت أكثر من ثلاثة أرباع عافيتها، ونزفت أحلامها التي حوّلها الحكام إلى طائرات ورقية يلهون بها مع أطفالهم. شعوب أدركت بعد ثلاثة أرباع القرن من الأمنيات الكبيرة والتطلعات الواسعة أن أحلامها كانت وهماً، وأن كل ما حدث قد جرى رغماً عنها، وأن كل ما يجري الآن وما سوف يكون، سيحدث أمام ناظريها، ولا شيء يحول اللحظة بينها وما يجري تمريره حتى لو استعانت بعمالقة الأساطير ومَرَدَة الخرافات.
في قصور الشرق مجون وفسق وعري، وفي الطرقات نساء نائحات. في ليلهِ تترنّح رؤوس القوم ويعلو ضجيجها، وفي الصباح تُغمد السيوف وتذوب اللغة. شرق فيه أمة قتلت ضميرها، قتلت كل شيء، وباعت كل شيء. حكّام يصولون ويجولون في الميادين مزهوين بالنياشين، يجزون أعناق العباد، لكنهم في حضرة أسيادهم يموؤون كالقطط في العراء.
لا شيء يقطع هذا القهر، لا شيء. ولا يبدو ما يبشّر. العتمة الضبابية تغلق الأفق وتمتص تفاصيل الأشياء. وهدير عربات جنود جيش الاحتلال تعلو في القرى والمدن الفلسطينة. نحيب الأمهات الثكلى في فلسطين وسورية والعراق واليمن وليبيا. عويل الأطفال الذين يتفتّح وجعهم الصامت على العتمة القتيلة والعفن المتكدّس في العواصم. لا شيء يقطع القهر سوى أصوات القهر الخالد في الشرق، وعتمة الزنازين وسواد أقبية السجون والمعتقلات، التي أصبحت أكثر من المدارس والمكتبات والحدائق، في شرق يمتلك القابلية لكل عهر ولكل قبح، سوى العافية.
قهر ينبت شوكاً مراً على أطراف كل لحظة. قهر يُظهر لحظة الهشاشة الثابتة في لوعة المواطن المحكوم بوجود غير محقق وحرية منشودة مرتفعة الثمن، كثيراً مرتفعة. قهر يقطعه صوت الإنسان الحر وابتسامته، ذاك الصعلوك في زمن البؤس. زمن تقارير الأمن وأحذية البوليس، وخنق عفوية البشر. قهر عماده مواطن عربي محتشد بالخوف والرعب من كل شيء، محتقن بالتيه والضياع والأمنيات والتطلعات. مواطن يقف في منتصف الدرب بين ألم اللحظة وأمل صغير لم يُقبل بعد، يحاول استنبات غصناً أخضر لنفسه من ذاك الحطام، يرويه بقلة الحيلة حيناً وبعض التمرد والرجاء أحياناً. مواطن يقهره الجوع والفقر والمرض والحاجة وذل الاستدانة، يقهره الخضوع والخنوع لأنظمة العهر، يقهره ضنك الحياة في العمل وفي الشارع، بل وفي الموت أيضاً.
قهر يقتحمنا بصراخ الصغار يتعلقون باللحم المشرّح لأمهات صُلبن في العواصم. أطفال آخرون يقاومون نيابة عن أمة الخمر والأمر، منهم من لامس أعناق قلوبنا، تمنى ورحل. قهر تأججه دموع صبية سمراء سالت حزناً على حمامات السلام التي ذبحها قاتل الأطفال. وسمراء أخرى كانت تهوى قطاف اللوز، لكن في زمن الذل اغتالتها رصاصة جندي مريض فمضت مثل طيف يراوغ حسرتنا. قهر يتلبّس صوت شاب يغني للوطن في مدينة عربية، بصق أحشاؤه حين نظر في عروبته مرة. قهر فاجر ينتشر مثل الفطر السام، في كل متر واحد في الشرق. لا تخطئه في ملامح فتاة جامعية، وفي خطوات معلمة، وفي ثوب ممرضة، وفي صوت أستاذ جامعي، في وجه الشهداء، في سائق تكسي، في شجر الزيتون، في النخل والزهر.
هذا الزمن ليس لهم. زمن القحط في الشرق. الأرض التي تأكل لحم أبناءها كلما كانوا على موعد مع فجر مُبَشِّر. طيورها تلد الضفادع وغيومها متخشبة تسقط الحشرات من ثناياها. أرض تنبت شوكاً حنظلاً على أطراف كل لحظة. يجوع فيها الصغار، والموت يتجول في شوارعها. أرض ضاقت بقبورها. قهر ينتشر ويتسع ويتفشّى كبقعة زيت فوق بياض الأمة المتشحة بلون الموت. الأمة التي قتلت أبناءها وأغلقت دروب الأعياد، أغلقت كل شيء.
نطوف في ممالك الشرق لا نرى سوى ركام الخشب والتراب، وطين أحمر. سوى أصوات متيبسة، وأمة تائهة ترتعش كشاة مذبوحة، تعوي في البرميل الفارغ كالطرائد الشاردة.
تبدّدت الأوهام، وكذبت الخرافات، وحان وقت الساعة الصفراء. لم يبقى سوى الأنقاض والخراب، هذه هي اللحظة رغم الخديعة والهلاك. كل ما هو أمامنا ليس أوطان، فمن يمسك إبليس العاري في كل العواصم.
ما سر هذا الخواء، وهذه العتمة في الطرقات؟ لم نعد ندري أين انتصبنا وأين انكسرنا، لأن دروبنا سقطت في غيبوبتها. بتنا نفتش عن حزن يشبهنا، وعن جزيرة شمالية لا موت فيها لشاعر تجرأ على السلطان، ولا تُنصب فيها المشانق لأعناق العشاق.
لكن ما زال لنا فوق تراب المشرق عصفورين صغيرين. طفولة بجذور تأبى الرحيل، وأحلاماً عنيدة جعلوها جراحاً تتواتر. فما زل في خطانا سفر، وفي وجعنا وعد.

 نحتاج رؤىً غير كسيحة، وأبجدية ترمم القلوب، وحروفاً لا ترتعش، فوق سطور لا تعرف الكلل. نحتاج غيماً كثيراً، وكثير من الغيث ينهمر خلاصاً قبل الجنون. فأية تفاحة أكلنا لنحصد كل هذا الحرام؟








65
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

محنة العقل العربي بين الاستبداد السياسي وسطوة التراث

مأزق العقل العربي وأزمته، وإشكاليات التراث العميقة مع الفكر العربي، كانا العنوانان الأهم والابرز خلال القرن العشرين، من خلال حوار الفكر ونفسه، وعبر التجاذب والتنافر بين عدة تيارات فكرية تأطرت في اتجاهين رئيسيين، هما السلفية والأصالة في مواجهة المعاصرة والحداثة، والتراث والشيخوخة بمواجهة التجديد والتنوير، ودعاة التعدد والمشاركة والتسامح في وجه الأفكار والسياسات التي تدعو للكراهية والمركزية والإقصاء. تم تلخيص محنة العقل العربي بثنائيات أسست لحالة جدل وسجال لم تنتهي بعد، ودفعت رواد ومفكري ومثقفي هذه التيارات إلى ميدان معركة تسببت-ولا زالت- بشقاء الأمة.
بالرغم من كافة مظاهر الحداثة في العالم العربي، إلا أنها تخفي انحداراً وسقوطاً فكرياً وثقافياً واقتصادياً مرعباً. لأن التقنيات التي يستخدمها المواطن العربي، هي أداه وظيفية منفصلة تماماً عن عقل المستخدم، لذلك هذا التفاعل لم يؤسس لتقدم حقيقي ولا لإبداع ذاتي، وتحول الوطن العربي إلى أقوام مستهلكة لإنتاج الآخر. السؤال الكبير الذي ينبثق هنا والذي طالما نردده، لماذا تقدم الآخرون وتخلف العرب؟
ما زال الفكر العربي الحديث غارق في مستنقع أزمته، بالرغم من المحاولات الجادة البحثية والنقدية والتأصيلية التي قام بها عدد من المفكرين العرب، لعل أبرزهم من وجهة نظري المشروع التحديثي النقدي الذي قاده المفكر المغربي "محمد عابد الجابري"، الذي حاول إعادة الاعتبار والمكانة للعقل العربي بعد أن هيمنت عليه الأيديولوجيات في القرن العشرين.

أزمة العقل النقدي العربي
إن التخلف والتصلب والتثاقل في البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية في العالم العربي، واللبس والاختلاط الواقع في العديد من المفاهيم أبرزها قضايا بناء الدولة والحريات العامة ومفاهيم المواطنة والديمقراطية والمشاركة في الحكم والتعددية، إضافة إلى سيادة الأنظمة الأبوية والعشائرية بفكر بدائي، والنزعة الاستبدادية الجائرة والقمع والظلم، وغياب النقد وعدم وضوح الرؤى المستقبلية، وعدم وجود مشاريع جيو استراتيجية، وإشكالية الإصلاح والتغيير والتحديث والتنمية المستدامة، جميعها-إضافة إلى عوامل أخرى- أدت إلى فشل مشروع النهوض العربي، وشكلت سداً منيعاً أمام دخول العرب إلى عصر الحداثة والتقدم حتى لو من الأبواب الجانبية.
لا بد من تفكيك الموروث العربي والإسلامي ودراسته وتحليله ثم نقده، وبهذا فقط نستطيع إعادة قراءة هذا التراث بصورة نقدية مختلفة، لا بطريقة استعراضية، لفهم ومعرفة دور هذا الموروث ومكانته في العقل والفكر العربيين.
أستاذ الفلسفة والفكر العربي الإسلامي المفكر المغربي الدكتور "محمد عابد الجابري" قاد مشروع تحليل وتأويل وتفسير التراث الإسلامي لتبيان مقدرته المعرفية في توفير نوافذ الانفتاح على الآخر، وإعادة قراءة وتحديد مفاهيم التاريخ والأيديولوجيا والهوية والاختلاف، وذلك بواسطة الأدوات النقدية للمشروع الغربي، أي قيام المشروع الفكري المغربي المعاصر بقراءة ومقاربة ماضيه وحاضره عبر المذاهب النقدية الغربية.
المؤرخ والروائي المغربي المفكر الدكتور "عبد الله العروي" يعتبر أن المرجعية الفكرية الوحيدة للبلدان غير الغربية هي فقط الفترة الممتدة من عصر النهضة التي انبثقت بإيطاليا في القرن الرابع عشر إلى الثورة الصناعية في أواسط القرن الثامن عشر، ودعا العروي إلى التسليم للفكر في سياقه وصيرورته التاريخية، والإيمان بحقيقة الأحداث التاريخية وتسلسلها. وفصل العروي بين الأصالة والتراث وخصوصية المجتمعات، واعتبر أن الاصالة تتسم بالسكون والثبات، فإن الخصوصية متحركة ومتغيرة على الدوام.
لكن الجابري الذي يختلف مع رؤية العروي، انتقد هذا المفهوم وتعامل مع التراث بصورة تجعله قريباً وتحاور معه لإخراجه بإطار معاصر. وقام بتحديد ثلاث اتجاهات فكرية للمقاربة وهي قضايا الواقع الراهن على المستويات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وثانياً التراث، وثالثاً الفكر العالمي المعاصر، ويعتبر الجابري هذه السياقات حقولاً معرفية. وأن جمود العقل في العصر الإسلامي كان نتيجة غياب العقلانية اليونانية التي تعتبر من وجهة نظره العنصر الثالث للعقل العربي، وهو أمر يتعارض مع المقاربة الدينية التي تنظر للعقل البشري على أنه عاجز عن إدراك علوم الغيب، وأن حصول الإنسان على معارف يتدبر بها شؤون الحياة لا تأتي إلا من مصدر وحيد هو الحقيقة العليا.
يميز الجابري في نظام "العرفان" بين الموقف الفردي والفكري الرافض للعالم والذي ينشد العلاقة مع الله، وبين العرفان كفلسفة للخليقة من المهد إلى اللحد. والعرفان كرؤية ميثولوجية رفدت البيان العربي بلا معقول عقلي أدى إلى أن يستقيل العقل العربي. وتساءل في تناول نقد العقل العربي عن إمكانية قيام نهضة بغير ناهض.
في القرنين الخامس والسادس الهجريين سعى عدد من المفكرين الإسلاميين العرفانيون مثل "ابن عربي" إلى تأسيس البيان العربي الإسلامي على العرفان، وبذلك مهدوا الطريق أمام تجميد العقل العربي، وصار المتصوف يهزم الفيلسوف. فيما فعل "ابن رشد" العكس في المغرب حيث بنى البيان على البرهان. وهذا ما نلمسه في الواقع الثقافي العربي الراهن، إذ لا وجود ولا أثر ومكانة للفلسفة، بينما ما زال التصوف الأكثر حضوراً. واقع يؤكد عقلانية ابن رشد وصوفية ابن سينا.

العقل العربي وسؤال الدين
معضلة العقل العربي في علاقته المربكة الملتبسة مع الدين والسياسة التي جثمت فوقه عبر قرون، وابتعاد هذا العقل عن النقد والتحليل والتفكيك، لا زالت أهم المعوقات لقيام مشروع إصلاحي نهضوي تحديثي يمتلك إمكانيات لدفع الأمة نحو التقدم والتطور.
اتسمت العلاقة ما بين العقل العربي والسلطة السياسية بالخشونة والنفور غالباً، لكن هذه القسوة من جانب السلطة السياسية في علاقتها الحذرة مع العقل العربي، لم تصل إلى درجة تعرقل الحركة الفكرية إلا بمقدار قيام الفكر بتوجيه النقد المباشر والواضح للأنظمة السياسية، أو حين -بصورة أقل- يتم توجيه النقد للمؤسسة الدينية بثوبها المتحالف مع السلطة السياسية الحاكمة.
في بداية القرن التاسع عشر بدأ احتكاك العقل العربي بصورة مباشرة مع الفكر والثقافة الغربيتين، لكن حذر الدولة العثمانية من الأفكار القادمة من أوروبا، ونتيجة الريبة التي كانت تبديها تجاه المثقفين العرب -على قلتهم- حيث كانت تجري محاولات تتريك الثقافة والفكر في الأقاليم التابعة للدولة العثمانية، كانا عاملان أعاقا أي تطور للفكر العربي. لكن في النصف الأول من القرن العشرين أمكن للعقل العربي أن يكون حركياً وأن يكون منتجاً، حيث نشطت حركة الترجمة، وتوسعت عمليات التأليف، وظهرت نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، اشتغلت بموضوع الأدب والتراث والقومية العربية. ونجحت تجربة "عباس محمود العقاد" وغيره من الرواد في مصر بالبحث والتحليل العقلي وفي تنشيط وتحفيز الأدوات العقلية دون أن يفقد العقل مكانته أمام الدين، ودون أن تُمس قداسة الدين.
الفكر العربي المعاصر أدرك الشرط الموضوعي لعلاقته مع المؤسستين السياسية والدينية، وتمكن من قراءة واقع المرحلة، فكان نقده للخطاب الديني والسياسي متوازن وعقلاني دونما شطط، وهكذا تعايش العقل العربي مع المؤسستين بمناخ ليبرالي استمر لغاية نهاية اربعينيات القرن العشرين. إن العقل الأوروبي الذي أحدث النهضة تحلل من قيد الدين وهدم سلطة الكنيسة، بينما الفكر العربي في تلك المرحلة لم يكن مشككاً، وتعامل مع الفقه باحترام كونه جزء من التكوين الفكري العقلاني العربي.
بعد القرآن الكريم والحديث الشريف، تم اعتماد العقل في الاجتهاد الفقهي، من قبل المؤسسة الدينية التقليدية في فجر الإسلام قبل أن يتم تسييسها. إن العقل العربي حين أقبل على الفلسفة الإغريقية كانت غايته ردم الفجوة الفكرية بين الدين والعقل، وحين احتك بالفكر الأوروبي الحديث كان هدفه هو وصل الجسور بين الدين والعلوم الحديثة. وهكذا فإن مشروع "ابن رشد" الفلسفي كانت غايته إثبات عدم التعارض بين الشريعة والتفكير والتحليل والتأمل. ومشروع "ابن خلدون" كان هدفه تحليل وتفكيك البنية الاجتماعية ومقاربتها.
لكن حين شرع الغرب في بناء مشروعه، كان الاجتهاد الديني في الحالة العربية قد أغلق نوافذه على نفسه وانكفأ بعد خمسة قرون من تطور الحركة الفكرية والتقدم. لقد ظن فكر المؤسسة الدينية أن لا فكر جديد ولا اجتهاد جديد ولا استنباط جديد يمكن لها أن تُقدم عليه بعد اجتهاد السلف والأجداد. توقف الاجتهاد في العقل العربي رافقه تغيرات وتحولات سياسية واجتماعية، جعلت من المؤسسة الدينية التي تم تسييسها تضيق على العقل العربي وتحاصر الفكر وتمنع النقد.
تحالفت السلطتين الدينية والسياسية لقمع العقل العربي، الذي غالباً ما كان يتراجع وينعزل طلباً للسلامة مما أوصله لحالة التصلب والجمود الفكري. وهكذا بينما كان العقل الأوروبي يحقق تطوره ويحطم القيود التي تحول بينه وبين العلوم والمعارف، كان العقل العربي في حالة من الخمول والخوف والتردد، واكتفى بالنقل والنسخ والتقليد والتكرار للموروث ولفكر السف الصالح. كان الفكر العربي منشغلاً في إذكاء روح التنافس بين الفكر ونفسه، وكان العقل العربي غارقاً في شرح وتفسير وتحليل وتفكيك المفكّك والمفسر. أي كان العقل والفكر العربيين يعيدان إنتاج نفسهما دون تحقيق أي تطور ولا تقدم، دون أي تغيير ولا تبديل، دون أي نقد أو اجتهاد. أي كانا يراوحان مكانهما فأصيبا بالوهن والضعف والتصلب.
منذ منتصف القرن العشرين واجه العقل العربي قمع السلطة السياسية الوليدة، وعانى من استبداد الأنظمة العربية التي تحررت حديثاً بعد طي صفحة الاستعمار، حيث سعت هذه السلطات إلى السيطرة على العقل العربي وقولبته، وقامت بصياغة مفاهيم الفكر بعيداً عن شرط تطوره وهو شرط الحرية. لقد نصبت الأنظمة العربية نفسها وصية على العقل العربي وتحكمت بروافد تغذيته. ضيقت عليه وطوعته لإخضاعه وإخضاع الفكر والأفراد لإرادتها ورؤيتها. أحاطته بالأجهزة الأمنية التي تعد له عدد مرات الشهيق، وأرهقته بضنك الحياة والبحث عن لقمة العيش التي تضمن حياة شبه كريمة.
في الألفية الثالثة، عصر الثورة المعلوماتية والجيل الرابع من التقنيات الحديثة، تقوم في المشهد العربي تحالفات بين المؤسستين السياسية والدينية التقليدية ضد العقل العربي، وضد حريته وحقوقه في البحث والتحليل والنقد والمقاربات والإنتاج والإبداع والتواصل مع الآخر. حان الأوان لإزالة كافة القيود المفروضة على العقل والفكر، وعلى المفكرين والمثقفين، وتلك التي تعترض عملية الإنتاج الفكري والإبداع الثقافي، إن أردنا الاستيقاظ من غيبوبتنا التي طالت.

سؤال الحرية
لا يمكن تحليل العقل الإسلامي ونقده دون قراءة وتقييم شامل لكافة مكونات الموروث في الفكر الإسلامي منذ نشأته وتطوره إلى غاية دخول العقل العربي فترة الانحدار التي تواصلت حتى القرن التاسع عشر. لذلك فإن محاولة قراءة وتفكيك وتحليل بنية العقل العربي تحرّض على إثارة أسئلة إشكالية أبرزها سؤال الحرية الذي يُعتبر المكون الأهم في قيام أية نهضة وتقدم. في الحالة العربية ما زال سؤال الحرية معلقاً دون توفر أي من شروطه المرتبطة بالحرية الفكرية واستقلال العقل العربي وتطويره وتحديثه كي يصبح عقلاً نقدياً يواجه الاستبداد واللاعقلانية والايديولوجيات الثابتة.
بالرغم من أن الإسلام قد كرّم العقل ودعا إلى استخدام العقل في القرآن الكريم، إلا أن الفكر الإسلامي بأبعاده ومفاعيله اللاهوتية مكث فوق الوعي الاجتماعي قروناً عديدة أدت إلى تراجع وانحسار دور العقل، فانفصلت الثقافة العربية عن السؤال والنقد.
مع أن علم المنطق والفلسفة قد تطورا في منتصف القرن الثامن الميلادي، واستمر هذا التقدم لغاية القرن الحادي عشر، حيث تميزت تلك الفترة انتعاشاً للفكر العقلاني العربي الذي دخل في مواجهة العقل والفلسفة الاغريقية لأول مرة.
إلا أن الفلسفة بثوبها العربي خسرت رهانها ومعركتها التاريخية في مواجهة الجهل والاستبداد والأفكار الظلامية، فعلت أصوات التكفير بدلاً عن التفكير، وشاعت الأساطير والخزعبلات وانكمشت الحقائق. تم اغتيال حرية التفكير فتوقف كل شيء مكانه وتحجر، وأصيب العقل العربي بالضمور، ثم تراجع الفكر العربي فتراجعت الأمة كاملة. لأن الفلسفة في بنيتها ومكانتها ضد الخنوع والإذعان والأوهام.
إن الحرية باعتبارها أهم وأول شرط لتحقق الذات، هي أبرز مبادئ الديمقراطية بصيغتها المعاصرة، وهي أصل الصراع في أن حرية اختيار الأفراد لنظامهم السياسي والاجتماعي، في أن يكونوا أحراراً أو عبيداً. إن الوصاية على الدين وعلى الفكر الإسلامي لدى بعض المفكرين لضبط الحرية كما هو حاصل في الراهن العربي، هو أمر يتعارض مع استخدام العقل والفكر النقدي، ويعيق النهوض والتطور، إذ لم يكن الدين يوماً يتعارض مع سعي البشر نحو تحقيق الحقوق الوضعية التي تضمن حياة كريمة للناس وترفع عنها المظالم.
لقد فشلت جهود الرواد من عصر النهضة التي بذلت لتأسيس مشروع عربي على أسس حديثة بسبب غياب العقل النقدي. ولم تتمكن النهضة من تشكيل أدواتها العقلية الخاصة، ولا هي قامت بمقاربات موضوعية مبنية على فهم سليم لتجربة العقل الغربي الذي كان قد تجاوز تراثه وتحرر من قيوده. عانى مشروع النهضة من السلطة القمعية التي كانت بمثابة معول يهدم كل بناء في اتجاه حداثي تنويري، ولذلك فإن هذا الفشل إنما يعود إلى أسباب موضوعية أسهمت في تغييب العقل النقدي، لا إلى قصور في بنية الفكر العربي.
كان رواد النهضة ينادون بالحرية ويدعون إلى سلطة العقل، ولذلك ظل سؤال الحرية كسيحاً لأنه لم يتم تحقق شرط استقلالية العقل الذي بقي خاضعاً لسلطة الأيديولوجيا السلفية، وبهذا تم خلع الفاعلية النقدية عن العقل العربي. مع غياب النقد أضاع المشروع النهضوي أحد أهم أسلحته وأدواته التي تمكنه من تحليل ومقاربة الواقع بعلمية، وأن يوظف النقد الذاتي ونقد الآخر، وكذلك النقد الفكري في عملية تحديث وتطوير الوعي الجمعي. لكن الموروث المتخشب بفهمه والمؤطر غيبياً سيطر على العقل الاجتماعي وأنتج ثقافة صوفية تمددت على حساب انحسار حركة العقل، مما أدى إلى زوال هامش الحرية. لهذا تماماً فشل المشروع النهضوي لأنه عجز عن إحداث أي تقدم علمي يدفع للنهوض والتطور، كما أخفق في الانعتاق من السيطرة التامة للموروث الذي فرض سطوته ولا زال. إن كافة الأمم التي حققت الازدهار تمكنت من ذلك بفعل طي صفحة الماضي وتجاوز القيود التي تكبل العقل والفكر.

من تفلسف قد تمنطق
كما قال العالم الفقيه المحدث "ابن الصلاح الشهرزوري" ذات واقعة أن "من تفلسف قد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق" وأعادها بعده شيخ الإسلام "ابن تيمية" في العصر العباسي حين نشطت حركة ترجمة كتب الفلسفة اليونانية. وأعتقد أن تاريخ الفلسفة وتأويل المصطلح المقترن بالمنطق والفهم الخاطئ قد تسببوا بالربط الذهني لدى البشر بين الفلسفة والكفر والعصيان وبين المنطق والإلحاد، وهو في الحقيقة موروث ثقافي لا صلة له بالمعرفة. ما وقع تاريخياً من جدال وإشكاليات إنما يعود بظني إلى الاختلاط واللبس بين الوحي والوعي والعلاقة بينهما في اتصالهما وانفصالهما. بلا شك أن الوحي قضية سماوية الهية، بينما الوعي شأن وضعي للإنسان فيه حرية الاختيار والقرار، أن ينفصل أو يتصل.
لقد وفدت الفلسفة اليونانية لبلاد العرب والإسلام في عصر خلفاء بني أمية في القرن الأول الهجري، لكنها لم تنتشر لأن السلف كانوا يتحفظون عليها. وسميت علوم الأوائل، أي الفلسفة والمنطق. وفي العصر العباسي نشطت حركة الترجمة وازدهرت، فتم نقل الفلسفة اليونانية للعربية ابتداء من عهد الخليفة المهدي حتى وصلت إلى قمتها في عصر الخليفة المأمون. واعتمد المسلمون الأوائل على فلسفة أرسطو وأفلاطون بصورة خاصة، ثم مزجوها بالعقائد الدينية فتشكل خليط فكري جديد.
من أهم أساب انتشار الفلسفة في تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي كانت سعة الأفق الفكري لدى الخلفاء العباسيين الأوائل، وشيوع ثقافة التسامح الديني والانفتاح على غير المسلمين، وهذا أتاح قيام مناظرات حوارية فكرية صقلت وتطورت القدرات العقلية للمسلمين، مما شكل دافعاً مهماً في إسهامهم بالحركة العلمية والفكرية والثقافية التي وصلت ذروتها في ذاك العصر.
لكن هناك تيارات فكرية إسلامية دعت إلى الأخذ فقط بعلوم العرب وإسقاط أي علوم أخرى وما تشتمل عليه من علوم رياضية وطبيعية وفلك وموسيقى وغيرها. الإمام "أبو حامد الغزالي" اتخذ موقفاً وسطياً واعتبر أن ليس كل علوم الأوائل ضارة، فهناك الرياضة وعلم المنطق مثلاً وهما علمان لا يتعارضان مع فلسفة العقيدة الدينية.
كان "الغزالي" كفيلسوف يتمتع بالجرأة والذكاء في مواجهة التيارات الفكرية بعصره، وقام بنقد تطرف بعض الفرق بدافع إخلاصه للإسلام. وقد اتبع في فلسفته منهجاً عقلياً يعتمد الشك والحدس الذهني. ثم تحول من الفلسفة إلى التصوف لكنه لم يهمش العقل في تصوفه، وظل العقل عنده حجة على غلاة الصوفية، فهو يؤمن أنه لا يمكن أن ينكشف للصوفي ما لا يمكن للعقل إدراكه، فالعقل هو المعيار في صدق وحقائق المعارف، أما الغيبيات فلا بد من التسليم بها ولها.
مع ذلك فإن بعض الفرق الإسلامية لم تكن راضية عن دخول أي فكر أو علوم دخيلة على الإسلام، فالعلوم عندهم هي فقط العلوم المتوارثة عن النبي "محمد ﷺ" وباستثناء ذلك فهو ليس علماً، وإنما معرفة لا تستحق التحصيل، بل أنها قد تكون معرفة ضارة تدفع بحاملها إلى الاستهانة بالدين.
إن كان "الغزالي" حاول بعقلانية التصدي لإسراف بعض الفرق المتطرفة في الإسلام التي كانت ترفض مطلقاً الفلسفة اليونانية، حتى أنه لم يستخدم مصطلح منطق كعنوان لأي من مؤلفاته الكثيرة لعدم إثارة حفيظة هذه الفرق، إلا أن المحافظين اعتبروا دراسة الفلسفة ضرباً من الزندقة، وقيل في هذا الشأن أن من تمنطق فقد تزندق. وما زال الموقف الشائع عند أئمة الفقه أن منهج البراهين التي تعود إلى فلسفة "أرسطو" خطراً على الفكر الإسلامي والعقيدة. الفقيه "الشهرزوري" اعتبر أن الفلسفة "سفه وانحلال، ومادة حيرة وضلال، وتثير الزيغ والزندقة" واعتبر المنطق مدخلاً للفلسفة ومدخل الضلال ضلال.

انحسار الفكر الفلسفي
حين تم نقل الفلسفة اليونانية وعلم المنطق على اعتبارهما تمثلان النظرة العقلانية، استخدمتا كأداة في مواجهة التيار الفكري الإسلامي اللا عقلي الذي كان سائداً، ثم انشق العقلانيين على أنفسهم، فخرج منهم فقهاء هاجموا الفلسفة، وتركوا خلفهم المعتزلة وحدهم في الميدان الذين حافظوا على منهج العقل، وبعضهم تحولوا إلى أشاعرة الذين تركوا للإيمان الصرف قسطاً وللعقل قسطاً آخر.
الإشكالية تكمن في انحسار الفلسفة والتيار العقلاني في الفكر العربي الإسلامي وتحجيم دور العقل الذي دخل إلى منطقة مظلمة، وتبدلت الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وضاق العقل كثيراً بحيث أصبح ينظر لكل فكر فلسفي على أنه كفر، ثم انحاز العقل للطوائف والمذاهب منذ القرن الحادي عشر. بعد ذلك توقف التفكير العقلاني وتوقف النقد، وتوقف كل إنتاج فكري وفلسفي جديد، ولم يتجدد أي عنصر من مكونات الفكر العربي والإسلامي، واكتفى الفكر بالنقل الذي توسع واشتد وأصبح ذا سلطة واسعة مؤثرة في بنية الفكر العربي لقرون مديدة، حيث كان الفكر العربي يعيد إنتاج نفسه دون أي تطور وإبداع وتحديث.
يعتبر الدكتور "محمد أركون" صاحب مشروع تجديد الفكر العربي أن الصوفية هي تمرين فردي للتواصل بين المؤمن وخالقه، بصورة مستقلة عن الشعائر والفرائض والعبادات التي تؤديها الجماعة. ويرى أن سلطة العقل لا تعني مطلقاً تجاوز سلطة النص بقدر ماهي قراءة ومقاربة مختلفة في ضوء المعارف والعلوم الحديثة.
إن العلوم لم تكن منفصلة عن الفلسفة عند الإغريق ولا عند العرب في القرون الوسطى، حيث أكد الفيلسوف والطبيب "ابن سينا" على ارتباط الطب بالفلسفة في كتاب "الشفاء" مثلما اعتبر الكيميائي "جابر ابن حيان" الذي وضع الأسس العلمية للكيمياء الحديثة والمعاصرة، أن الكيمياء مرتبطة بالفلسفة. كما أن القرآن الكريم قد شجع وحث على العلم وتحصيل المعرفة. حتى أن المسلمين نمت لديهم مختلف العلوم وازدهرت لدرجة أن الغرب قد بدأ ينقل هذه العلوم عن العرب والمسلمين. لكن هذا الازدهار في الحركة المعرفية العلمية توقف لأسباب ترتبط بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت بداية من القرن الثاني عشر ميلادي، ولا تعود إلى سلطة الضبط والهيمنة اللاهوتية.
وهكذا تراجع البحث العلمي ليخلو الميدان للخطاب التعبوي الأيديولوجي، الذي كلما اشتد وأصبح أقوى كلما تقلصت مكانة العقل والفكر العلمي النقدي في البنية العربية. هذا التراجع أضحى مرعباً في القرنين الأخيرين، حيث اعتمد العرب والمسلمون التصلب الأيديولوجي لمقاومة الحملات الصليبية، ثم ظهرت حركة سلفية إصلاحية في القرن التاسع عشر لكنها فشلت، لأن القطيعة مع العقل العلمي كانت قد ترسخت في الفكر العربي، ثم ظهرت الأيديولوجية القومية في القرن العشرين التي أعاقت في نضالها التحرري كل محاولة لدراسة العلوم التي ظلت ولا زالت الأقل تحليلاً من كافة جوانب التراث الإسلامي.

معركة شقاء
وهكذا استمر العقل العربي مشتتاً بين التراث والحداثة، وفي كل مرة يتم فيها محاولة إعادة قراءة التراث وفق العقل الاستبدادي يتواصل إعادة إنتاج التخلف. ورغم أن العقل العربي قد صدم بالحداثة عبر احتكاكه مع العقل الغربي في القرن التاسع عشر، إلا أن تحديث الفكر العربي ظل حبيس أطر ومفاهيم أيديولوجية، ولم يتجدد بذاته كممارسة نظرية عقلانية، لأن المثقفين العرب الذين رفعوا لواء النهضة لم ينعتقوا من قيد الأيديولوجيا، ولم يتمكنوا من صياغة فكر نقدي لهويتنا ولعلاقتنا مع الآخر. ومكث العقل العربي في صندوق الأنثروبولوجيا مما شكل حائلاً دونه والتجديد والإبداع.
بعض رواد مشروع النهضة العربية وظفوا الدين لصالح السلطة السياسة، والبعض جعل السياسة في خدمة الدين، لذلك فشل هذا المنهج في تحقيق أي إصلاح في البنية الفكرية العربية. وكانت الفلسفة مادية برهانية تقوم على الحجة والأدلة في المغرب العربي، فيما كانت الفلسفة في المشرق مثالية لاهوتية تقوم على التأمل.
نظريات ومذاهب وأفكار وفدت على المنطقة العربية من كل صوب وحدب، عبر روافد متعددة ومتنوعة ومتشابكة، دون أي تأصيل ومن غير تهيئة البيئة العربية لهذه النظريات، ولا الاشتغال على الفكر وتعديله ليكون متوافقاً مع الحالة العربية. مثل النظرية الماركسية التي نقلها اليساريون العرب، فكانت محنة العقل اليساري العربي حالة من الفصام الفكري، حيث تجد يساريين وأحزاباً يسارية لكن من دون فكر ماركسي.
العقل العربي تجاذبته المفاهيم والنظريات والأفكار المعاصرة منها والموروثة، وعانى من السلطة الدينية المتشددة، ومن الاستبداد السياسي، ومورس عليه التهميش والتضييق والإلغاء والقولبة والقهر والاعتقال بل والقتل. تمت مصادرة حقوقه في التفكير الحر المستقل وفي التحليل والنقد والإنتاج دون قيد.
إننا نحتاج عقل جديد ورؤية أخرى وقراءة هادئة ومقاربة مختلفة لتاريخنا العربي والإسلامي ولتراثنا الثري. العقل العربي يحتاج أدوات مغايرة للبحث والتحليل والدراسة. إن العقل العربي ليس عقلاً قاصراً ولا فاشلاً ولا عاجزاً بل يحتاج إلى معلمين وملهمين ونماذج متميزة عما هو سائد. ولا يحتاج العقل العربي إلى مزيد من الكراهية والطائفية والمذهبية والعرقية التي فتكت به.



مراجع:
-محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط1، 1988.
-عبد الرحمن بدوي، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ط1، 1940.
- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الانماء القومي، ط1، 1986.
-عبد الإله بلقزيز، التفكير في التكفير. نحو استراتيجيّة مواجهةٍ ثقافية، مجلة المستقبل العربي العدد 433 في آذار/ مارس 2015.


66
أدب / نئد قرينة النهار
« في: 14:32 31/10/2019  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


نئد قرينة النهار

1
لا يقوى ريش القلوب
على أرجوحة الانكسار
قد مللنا السقوط
بين أشواط الريح
أضعنا ملامح الأجنحة
محموم دربنا بالحزن
وعلى أطراف بساتيننا النائية
يذبل ورد الصباح
أمهِلونا بيدراً
بين الرمل والريح
فقط أعطونا
ملاذاً للاندحار



2
يستل الجرح المدية
من عمق النداء
يقطع صوت الألم
الهزيع الأول
من مسافة الصراخ
قد يشبه الوجد
صمت المكلوم
أو صِياحه
قد تتربص المرايا
بالذئاب
وتتحجر أجنحة السكون
لكننا
في سعي الصبح
الذي لا يهدأ
نرتشف كل ليلة
كأس الضوء وننام



3
يزاحم القمح صفرة الشحوب
إذ ما نضج الوعد
وتشظّت أورق الأفق
يتقاطر حزن الغرباء
في البيادر الشمالية
نقف فوق الأرصفة المهجورة
ونهوي
مثل دموع الحقائب
فوق ضجيج المناديل
تتوالد المراكب
والرحيل حريق
يغتال سَكينة المكان
والوقت يمتشق ظلالنا
ثم يموت



4
بلا عقارب
يسير الوقت المرتعش
فوق وجه الغبار
قوافل الريح
تعانق القناديل الحزينة
في فوضى الوصول
تسقط قامة الضوء
يستنهض الفراش
ألوان التحليق
لكن الشقاء الكامن
بين ركام الجسر
يتوالد حجارة صمّاء
تطوف حولها
دروب التعرج
ما زلنا في حيرتنا
نئد قرينة النهار





67
أدب / نستنهض ريح الخلاص
« في: 18:25 22/10/2019  »
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك


نستنهض ريح الخلاص


1
مبتورة ساقية الندى
الماء يحتجب
خلف النافورة المنكسرة
والجرار فارغة
فمن يرأب شرخ الشمس
وظمأ المروج
اشربْ إن شئت
ناصية الدرب
لا تتعجل السفر
وانتظرْ
أن يلتحف الغيم
في عريه
سخاء الماء


2
تنسل طيور التراب
من فرار الأرض
تبحث عن سكنْ
في الجبل العريض
عن كهف عصي
على ريح العصف
مفتاح الرحلة
متخم بالصدأ
وأفاع الليل
تخاتل أكمام العتمة
لا تلتفتْ
حاذر من الدرب الهش
ومن خداع الوقت
أوقدْ حصاد المُنى
حين تَرى الهديل
مصلوب
في عقارب الرؤيا


3
يلقي الوسن ضفائره
على أكتاف المساء
يغفو ليل الصغار
يفرد رجلاه
فوق فراش الجدّات
في المروج النائية
تعوي ذئاب الغابة
جوعاً
والحكاية لم تزل
كما هي
تستحضر من الوهن
عزم الوعود
ومازال الراوي
في عمق قاع السراب


4
تتعب الأحلام من أجنحتها
تكف عن التحليق
تعدو
وضوء الدروب خطاها
تنكفئ على وجهها
يعمّ السواد
فراغ أجوف حزين
تتمعّن مرايا النور
بأخاديد الشدّة
تولد من رحم الاحتراق
لحظة شروع
في مستهل التَوَجُّس


5
يحتسي الليل
حكايا السحر
من طاس الخرافة
بخُّور العتمة
يملئ رئة الليل
يشقّ الفراغ
ما تيسر من كوة للشهيق
ملعونة تلك الجرار
حد الزيف
تحت أقدام الغابة
يشرب الملح البحر
تتناثر أشلاء الليل
دهشة
وتنفرج أسارير التراب
لا زلنا نخطو
فوق المجامر
نستنهض ريح الخلاص









68
أدب / خلف النوافذ المنسية
« في: 18:23 08/10/2019  »



خلف النوافذ المنسية

حسن العاصي



1
قبل أن تدنو غابة الغرباء
بما فيه أطراف القصيدة
يحمل المسافرين جدران المنفى
يهرولون مثل مهور البراري
في سهول المحال
لا يلتفت لهم مدى
وقرب سعف الحزن الشهي
يترجلون
عن زمام الأحلام


2
لا مساحة للعربة ولا دروب
تتبعثر أرجوحة الوقت
ركّاب الحقول أطياف هاربة
تغفو على أكف النهر
الشمس البكر
وتموت آخر البذور العقيمة
قبل أن يلامس الموسم
ثوب النهار


3
منذ موت الغيم
لم يلامس الماء
عروق التراب
ينتصب رخام الموت
فوق قيظ القوم
الصغار أهلكهم الظمأ
ماتت جذوة النار
والعصافير نفقت فوق العوسج
صرخت النسوة
لا يضر الميت ألم
انطفأت قناديل القرية
قد حنث الليل
بالقسم القديم
منذ أن توسّدت الوعود
ظل الرؤى العقيمة
انكسر الفجر
تلاشى صوت الرجال
وهم يغادرون
خلف السواد


4
في البحر القريب
سكنتْ غابة الصفصاف
غثاء الموج
يعبث بضفاف الأغصان
منذ كان البستان طفلاً
يلهو
مثل حصان من خشب
ويغفو قليلاً كالصغار
فوق جسر المتعبين
كان المطر يعبر حافياً
مثل الريح الباردة
مازال الأفق المحتار
ينادي الجهات
ومازالت الأشجار
تزقزق للعصافير


5
نادته
من خلف ستارة الانكسار
خُذْ نصيبك
من سرو الملامح
قال
سأظل لك شيئاً
من وعد كامن
قالت
لا تزال في انتظاري
أحزان الغروب
قال لها بحسرة
يبتر الرحيل سهم الخطى
إن كان القوس مسافة غياب
وهي تبكي تمتمت
ما كان للصبح
ذاك الضوء الرمادي
ما زالت خلف النوافذ المنسية
تنتظره..



6
سجينٌ هذا الليل
لا شبيه لسواده
في قفص آخر
فيه عناقيد الضياء
بغير دالية
وريش المغيب سقط
من جناح الأصيل
يستدير خيل المراكب الغرقى
ليعود طحلباً أسود
يلملم سور الليل
عند نهاية الضوء
إشراقة زهر
..
ـ في هذا الليل
تضيق مسافة الحديقة
على نكهة البنفسج

69
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


محنة العقل العربي بين الاستبداد السياسي وسطوة التراث

مأزق العقل العربي وأزمته، وإشكاليات التراث العميقة مع الفكر العربي، كانا العنوانان الأهم والابرز خلال القرن العشرين، من خلال حوار الفكر ونفسه، وعبر التجاذب والتنافر بين عدة تيارات فكرية تأطرت في اتجاهين رئيسيين، هما السلفية والأصالة في مواجهة المعاصرة والحداثة، والتراث والشيخوخة بمواجهة التجديد والتنوير، ودعاة التعدد والمشاركة والتسامح في وجه الأفكار والسياسات التي تدعو للكراهية والمركزية والإقصاء. تم تلخيص محنة العقل العربي بثنائيات أسست لحالة جدل وسجال لم تنتهي بعد، ودفعت رواد ومفكري ومثقفي هذه التيارات إلى ميدان معركة تسببت-ولا زالت- بشقاء الأمة.
بالرغم من كافة مظاهر الحداثة في العالم العربي، إلا أنها تخفي انحداراً وسقوطاً فكرياً وثقافياً واقتصادياً مرعباً. لأن التقنيات التي يستخدمها المواطن العربي، هي أداه وظيفية منفصلة تماماً عن عقل المستخدم، لذلك هذا التفاعل لم يؤسس لتقدم حقيقي ولا لإبداع ذاتي، وتحول الوطن العربي إلى أقوام مستهلكة لإنتاج الآخر. السؤال الكبير الذي ينبثق هنا والذي طالما نردده، لماذا تقدم الآخرون وتخلف العرب؟
ما زال الفكر العربي الحديث غارق في مستنقع أزمته، بالرغم من المحاولات الجادة البحثية والنقدية والتأصيلية التي قام بها عدد من المفكرين العرب، لعل أبرزهم من وجهة نظري المشروع التحديثي النقدي الذي قاده المفكر المغربي "محمد عابد الجابري"، الذي حاول إعادة الاعتبار والمكانة للعقل العربي بعد أن هيمنت عليه الأيديولوجيات في القرن العشرين.

أزمة العقل النقدي العربي
إن التخلف والتصلب والتثاقل في البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية في العالم العربي، واللبس والاختلاط الواقع في العديد من المفاهيم أبرزها قضايا بناء الدولة والحريات العامة ومفاهيم المواطنة والديمقراطية والمشاركة في الحكم والتعددية، إضافة إلى سيادة الأنظمة الأبوية والعشائرية بفكر بدائي، والنزعة الاستبدادية الجائرة والقمع والظلم، وغياب النقد وعدم وضوح الرؤى المستقبلية، وعدم وجود مشاريع جيو استراتيجية، وإشكالية الإصلاح والتغيير والتحديث والتنمية المستدامة، جميعها-إضافة إلى عوامل أخرى- أدت إلى فشل مشروع النهوض العربي، وشكلت سداً منيعاً أمام دخول العرب إلى عصر الحداثة والتقدم حتى لو من الأبواب الجانبية.
لا بد من تفكيك الموروث العربي والإسلامي ودراسته وتحليله ثم نقده، وبهذا فقط نستطيع إعادة قراءة هذا التراث بصورة نقدية مختلفة، لا بطريقة استعراضية، لفهم ومعرفة دور هذا الموروث ومكانته في العقل والفكر العربيين.
أستاذ الفلسفة والفكر العربي الإسلامي المفكر المغربي الدكتور "محمد عابد الجابري" قاد مشروع تحليل وتأويل وتفسير التراث الإسلامي لتبيان مقدرته المعرفية في توفير نوافذ الانفتاح على الآخر، وإعادة قراءة وتحديد مفاهيم التاريخ والأيديولوجيا والهوية والاختلاف، وذلك بواسطة الأدوات النقدية للمشروع الغربي، أي قيام المشروع الفكري المغربي المعاصر بقراءة ومقاربة ماضيه وحاضره عبر المذاهب النقدية الغربية.
المؤرخ والروائي المغربي المفكر الدكتور "عبد الله العروي" يعتبر أن المرجعية الفكرية الوحيدة للبلدان غير الغربية هي فقط الفترة الممتدة من عصر النهضة التي انبثقت بإيطاليا في القرن الرابع عشر إلى الثورة الصناعية في أواسط القرن الثامن عشر، ودعا العروي إلى التسليم للفكر في سياقه وصيرورته التاريخية، والإيمان بحقيقة الأحداث التاريخية وتسلسلها. وفصل العروي بين الأصالة والتراث وخصوصية المجتمعات، واعتبر أن الاصالة تتسم بالسكون والثبات، فإن الخصوصية متحركة ومتغيرة على الدوام.
لكن الجابري الذي يختلف مع رؤية العروي، انتقد هذا المفهوم وتعامل مع التراث بصورة تجعله قريباً وتحاور معه لإخراجه بإطار معاصر. وقام بتحديد ثلاث اتجاهات فكرية للمقاربة وهي قضايا الواقع الراهن على المستويات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وثانياً التراث، وثالثاً الفكر العالمي المعاصر، ويعتبر الجابري هذه السياقات حقولاً معرفية. وأن جمود العقل في العصر الإسلامي كان نتيجة غياب العقلانية اليونانية التي تعتبر من وجهة نظره العنصر الثالث للعقل العربي، وهو أمر يتعارض مع المقاربة الدينية التي تنظر للعقل البشري على أنه عاجز عن إدراك علوم الغيب، وأن حصول الإنسان على معارف يتدبر بها شؤون الحياة لا تأتي إلا من مصدر وحيد هو الحقيقة العليا.
يميز الجابري في نظام "العرفان" بين الموقف الفردي والفكري الرافض للعالم والذي ينشد العلاقة مع الله، وبين العرفان كفلسفة للخليقة من المهد إلى اللحد. والعرفان كرؤية ميثولوجية رفدت البيان العربي بلا معقول عقلي أدى إلى أن يستقيل العقل العربي. وتساءل في تناول نقد العقل العربي عن إمكانية قيام نهضة بغير ناهض.
في القرنين الخامس والسادس الهجريين سعى عدد من المفكرين الإسلاميين العرفانيون مثل "ابن عربي" إلى تأسيس البيان العربي الإسلامي على العرفان، وبذلك مهدوا الطريق أمام تجميد العقل العربي، وصار المتصوف يهزم الفيلسوف. فيما فعل "ابن رشد" العكس في المغرب حيث بنى البيان على البرهان. وهذا ما نلمسه في الواقع الثقافي العربي الراهن، إذ لا وجود ولا أثر ومكانة للفلسفة، بينما ما زال التصوف الأكثر حضوراً. واقع يؤكد عقلانية ابن رشد وصوفية ابن سينا.

العقل العربي وسؤال الدين
معضلة العقل العربي في علاقته المربكة الملتبسة مع الدين والسياسة التي جثمت فوقه عبر قرون، وابتعاد هذا العقل عن النقد والتحليل والتفكيك، لا زالت أهم المعوقات لقيام مشروع إصلاحي نهضوي تحديثي يمتلك إمكانيات لدفع الأمة نحو التقدم والتطور.
اتسمت العلاقة ما بين العقل العربي والسلطة السياسية بالخشونة والنفور غالباً، لكن هذه القسوة من جانب السلطة السياسية في علاقتها الحذرة مع العقل العربي، لم تصل إلى درجة تعرقل الحركة الفكرية إلا بمقدار قيام الفكر بتوجيه النقد المباشر والواضح للأنظمة السياسية، أو حين -بصورة أقل- يتم توجيه النقد للمؤسسة الدينية بثوبها المتحالف مع السلطة السياسية الحاكمة.
في بداية القرن التاسع عشر بدأ احتكاك العقل العربي بصورة مباشرة مع الفكر والثقافة الغربيتين، لكن حذر الدولة العثمانية من الأفكار القادمة من أوروبا، ونتيجة الريبة التي كانت تبديها تجاه المثقفين العرب -على قلتهم- حيث كانت تجري محاولات تتريك الثقافة والفكر في الأقاليم التابعة للدولة العثمانية، كانا عاملان أعاقا أي تطور للفكر العربي. لكن في النصف الأول من القرن العشرين أمكن للعقل العربي أن يكون حركياً وأن يكون منتجاً، حيث نشطت حركة الترجمة، وتوسعت عمليات التأليف، وظهرت نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، اشتغلت بموضوع الأدب والتراث والقومية العربية. ونجحت تجربة "عباس محمود العقاد" وغيره من الرواد في مصر بالبحث والتحليل العقلي وفي تنشيط وتحفيز الأدوات العقلية دون أن يفقد العقل مكانته أمام الدين، ودون أن تُمس قداسة الدين.
الفكر العربي المعاصر أدرك الشرط الموضوعي لعلاقته مع المؤسستين السياسية والدينية، وتمكن من قراءة واقع المرحلة، فكان نقده للخطاب الديني والسياسي متوازن وعقلاني دونما شطط، وهكذا تعايش العقل العربي مع المؤسستين بمناخ ليبرالي استمر لغاية نهاية اربعينيات القرن العشرين. إن العقل الأوروبي الذي أحدث النهضة تحلل من قيد الدين وهدم سلطة الكنيسة، بينما الفكر العربي في تلك المرحلة لم يكن مشككاً، وتعامل مع الفقه باحترام كونه جزء من التكوين الفكري العقلاني العربي.
بعد القرآن الكريم والحديث الشريف، تم اعتماد العقل في الاجتهاد الفقهي، من قبل المؤسسة الدينية التقليدية في فجر الإسلام قبل أن يتم تسييسها. إن العقل العربي حين أقبل على الفلسفة الإغريقية كانت غايته ردم الفجوة الفكرية بين الدين والعقل، وحين احتك بالفكر الأوروبي الحديث كان هدفه هو وصل الجسور بين الدين والعلوم الحديثة. وهكذا فإن مشروع "ابن رشد" الفلسفي كانت غايته إثبات عدم التعارض بين الشريعة والتفكير والتحليل والتأمل. ومشروع "ابن خلدون" كان هدفه تحليل وتفكيك البنية الاجتماعية ومقاربتها.
لكن حين شرع الغرب في بناء مشروعه، كان الاجتهاد الديني في الحالة العربية قد أغلق نوافذه على نفسه وانكفأ بعد خمسة قرون من تطور الحركة الفكرية والتقدم. لقد ظن فكر المؤسسة الدينية أن لا فكر جديد ولا اجتهاد جديد ولا استنباط جديد يمكن لها أن تُقدم عليه بعد اجتهاد السلف والأجداد. توقف الاجتهاد في العقل العربي رافقه تغيرات وتحولات سياسية واجتماعية، جعلت من المؤسسة الدينية التي تم تسييسها تضيق على العقل العربي وتحاصر الفكر وتمنع النقد.
تحالفت السلطتين الدينية والسياسية لقمع العقل العربي، الذي غالباً ما كان يتراجع وينعزل طلباً للسلامة مما أوصله لحالة التصلب والجمود الفكري. وهكذا بينما كان العقل الأوروبي يحقق تطوره ويحطم القيود التي تحول بينه وبين العلوم والمعارف، كان العقل العربي في حالة من الخمول والخوف والتردد، واكتفى بالنقل والنسخ والتقليد والتكرار للموروث ولفكر السف الصالح. كان الفكر العربي منشغلاً في إذكاء روح التنافس بين الفكر ونفسه، وكان العقل العربي غارقاً في شرح وتفسير وتحليل وتفكيك المفكّك والمفسر. أي كان العقل والفكر العربيين يعيدان إنتاج نفسهما دون تحقيق أي تطور ولا تقدم، دون أي تغيير ولا تبديل، دون أي نقد أو اجتهاد. أي كانا يراوحان مكانهما فأصيبا بالوهن والضعف والتصلب.
منذ منتصف القرن العشرين واجه العقل العربي قمع السلطة السياسية الوليدة، وعانى من استبداد الأنظمة العربية التي تحررت حديثاً بعد طي صفحة الاستعمار، حيث سعت هذه السلطات إلى السيطرة على العقل العربي وقولبته، وقامت بصياغة مفاهيم الفكر بعيداً عن شرط تطوره وهو شرط الحرية. لقد نصبت الأنظمة العربية نفسها وصية على العقل العربي وتحكمت بروافد تغذيته. ضيقت عليه وطوعته لإخضاعه وإخضاع الفكر والأفراد لإرادتها ورؤيتها. أحاطته بالأجهزة الأمنية التي تعد له عدد مرات الشهيق، وأرهقته بضنك الحياة والبحث عن لقمة العيش التي تضمن حياة شبه كريمة.
في الألفية الثالثة، عصر الثورة المعلوماتية والجيل الرابع من التقنيات الحديثة، تقوم في المشهد العربي تحالفات بين المؤسستين السياسية والدينية التقليدية ضد العقل العربي، وضد حريته وحقوقه في البحث والتحليل والنقد والمقاربات والإنتاج والإبداع والتواصل مع الآخر. حان الأوان لإزالة كافة القيود المفروضة على العقل والفكر، وعلى المفكرين والمثقفين، وتلك التي تعترض عملية الإنتاج الفكري والإبداع الثقافي، إن أردنا الاستيقاظ من غيبوبتنا التي طالت.

سؤال الحرية
لا يمكن تحليل العقل الإسلامي ونقده دون قراءة وتقييم شامل لكافة مكونات الموروث في الفكر الإسلامي منذ نشأته وتطوره إلى غاية دخول العقل العربي فترة الانحدار التي تواصلت حتى القرن التاسع عشر. لذلك فإن محاولة قراءة وتفكيك وتحليل بنية العقل العربي تحرّض على إثارة أسئلة إشكالية أبرزها سؤال الحرية الذي يُعتبر المكون الأهم في قيام أية نهضة وتقدم. في الحالة العربية ما زال سؤال الحرية معلقاً دون توفر أي من شروطه المرتبطة بالحرية الفكرية واستقلال العقل العربي وتطويره وتحديثه كي يصبح عقلاً نقدياً يواجه الاستبداد واللاعقلانية والايديولوجيات الثابتة.
بالرغم من أن الإسلام قد كرّم العقل ودعا إلى استخدام العقل في القرآن الكريم، إلا أن الفكر الإسلامي بأبعاده ومفاعيله اللاهوتية مكث فوق الوعي الاجتماعي قروناً عديدة أدت إلى تراجع وانحسار دور العقل، فانفصلت الثقافة العربية عن السؤال والنقد.
مع أن علم المنطق والفلسفة قد تطورا في منتصف القرن الثامن الميلادي، واستمر هذا التقدم لغاية القرن الحادي عشر، حيث تميزت تلك الفترة انتعاشاً للفكر العقلاني العربي الذي دخل في مواجهة العقل والفلسفة الاغريقية لأول مرة.
إلا أن الفلسفة بثوبها العربي خسرت رهانها ومعركتها التاريخية في مواجهة الجهل والاستبداد والأفكار الظلامية، فعلت أصوات التكفير بدلاً عن التفكير، وشاعت الأساطير والخزعبلات وانكمشت الحقائق. تم اغتيال حرية التفكير فتوقف كل شيء مكانه وتحجر، وأصيب العقل العربي بالضمور، ثم تراجع الفكر العربي فتراجعت الأمة كاملة. لأن الفلسفة في بنيتها ومكانتها ضد الخنوع والإذعان والأوهام.
إن الحرية باعتبارها أهم وأول شرط لتحقق الذات، هي أبرز مبادئ الديمقراطية بصيغتها المعاصرة، وهي أصل الصراع في أن حرية اختيار الأفراد لنظامهم السياسي والاجتماعي، في أن يكونوا أحراراً أو عبيداً. إن الوصاية على الدين وعلى الفكر الإسلامي لدى بعض المفكرين لضبط الحرية كما هو حاصل في الراهن العربي، هو أمر يتعارض مع استخدام العقل والفكر النقدي، ويعيق النهوض والتطور، إذ لم يكن الدين يوماً يتعارض مع سعي البشر نحو تحقيق الحقوق الوضعية التي تضمن حياة كريمة للناس وترفع عنها المظالم.
لقد فشلت جهود الرواد من عصر النهضة التي بذلت لتأسيس مشروع عربي على أسس حديثة بسبب غياب العقل النقدي. ولم تتمكن النهضة من تشكيل أدواتها العقلية الخاصة، ولا هي قامت بمقاربات موضوعية مبنية على فهم سليم لتجربة العقل الغربي الذي كان قد تجاوز تراثه وتحرر من قيوده. عانى مشروع النهضة من السلطة القمعية التي كانت بمثابة معول يهدم كل بناء في اتجاه حداثي تنويري، ولذلك فإن هذا الفشل إنما يعود إلى أسباب موضوعية أسهمت في تغييب العقل النقدي، لا إلى قصور في بنية الفكر العربي.
كان رواد النهضة ينادون بالحرية ويدعون إلى سلطة العقل، ولذلك ظل سؤال الحرية كسيحاً لأنه لم يتم تحقق شرط استقلالية العقل الذي بقي خاضعاً لسلطة الأيديولوجيا السلفية، وبهذا تم خلع الفاعلية النقدية عن العقل العربي. مع غياب النقد أضاع المشروع النهضوي أحد أهم أسلحته وأدواته التي تمكنه من تحليل ومقاربة الواقع بعلمية، وأن يوظف النقد الذاتي ونقد الآخر، وكذلك النقد الفكري في عملية تحديث وتطوير الوعي الجمعي. لكن الموروث المتخشب بفهمه والمؤطر غيبياً سيطر على العقل الاجتماعي وأنتج ثقافة صوفية تمددت على حساب انحسار حركة العقل، مما أدى إلى زوال هامش الحرية. لهذا تماماً فشل المشروع النهضوي لأنه عجز عن إحداث أي تقدم علمي يدفع للنهوض والتطور، كما أخفق في الانعتاق من السيطرة التامة للموروث الذي فرض سطوته ولا زال. إن كافة الأمم التي حققت الازدهار تمكنت من ذلك بفعل طي صفحة الماضي وتجاوز القيود التي تكبل العقل والفكر.

من تفلسف قد تمنطق
كما قال العالم الفقيه المحدث "ابن الصلاح الشهرزوري" ذات واقعة أن "من تفلسف قد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق" وأعادها بعده شيخ الإسلام "ابن تيمية" في العصر العباسي حين نشطت حركة ترجمة كتب الفلسفة اليونانية. وأعتقد أن تاريخ الفلسفة وتأويل المصطلح المقترن بالمنطق والفهم الخاطئ قد تسببوا بالربط الذهني لدى البشر بين الفلسفة والكفر والعصيان وبين المنطق والإلحاد، وهو في الحقيقة موروث ثقافي لا صلة له بالمعرفة. ما وقع تاريخياً من جدال وإشكاليات إنما يعود بظني إلى الاختلاط واللبس بين الوحي والوعي والعلاقة بينهما في اتصالهما وانفصالهما. بلا شك أن الوحي قضية سماوية الهية، بينما الوعي شأن وضعي للإنسان فيه حرية الاختيار والقرار، أن ينفصل أو يتصل.
لقد وفدت الفلسفة اليونانية لبلاد العرب والإسلام في عصر خلفاء بني أمية في القرن الأول الهجري، لكنها لم تنتشر لأن السلف كانوا يتحفظون عليها. وسميت علوم الأوائل، أي الفلسفة والمنطق. وفي العصر العباسي نشطت حركة الترجمة وازدهرت، فتم نقل الفلسفة اليونانية للعربية ابتداء من عهد الخليفة المهدي حتى وصلت إلى قمتها في عصر الخليفة المأمون. واعتمد المسلمون الأوائل على فلسفة أرسطو وأفلاطون بصورة خاصة، ثم مزجوها بالعقائد الدينية فتشكل خليط فكري جديد.
من أهم أساب انتشار الفلسفة في تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي كانت سعة الأفق الفكري لدى الخلفاء العباسيين الأوائل، وشيوع ثقافة التسامح الديني والانفتاح على غير المسلمين، وهذا أتاح قيام مناظرات حوارية فكرية صقلت وتطورت القدرات العقلية للمسلمين، مما شكل دافعاً مهماً في إسهامهم بالحركة العلمية والفكرية والثقافية التي وصلت ذروتها في ذاك العصر.
لكن هناك تيارات فكرية إسلامية دعت إلى الأخذ فقط بعلوم العرب وإسقاط أي علوم أخرى وما تشتمل عليه من علوم رياضية وطبيعية وفلك وموسيقى وغيرها. الإمام "أبو حامد الغزالي" اتخذ موقفاً وسطياً واعتبر أن ليس كل علوم الأوائل ضارة، فهناك الرياضة وعلم المنطق مثلاً وهما علمان لا يتعارضان مع فلسفة العقيدة الدينية.
كان "الغزالي" كفيلسوف يتمتع بالجرأة والذكاء في مواجهة التيارات الفكرية بعصره، وقام بنقد تطرف بعض الفرق بدافع إخلاصه للإسلام. وقد اتبع في فلسفته منهجاً عقلياً يعتمد الشك والحدس الذهني. ثم تحول من الفلسفة إلى التصوف لكنه لم يهمش العقل في تصوفه، وظل العقل عنده حجة على غلاة الصوفية، فهو يؤمن أنه لا يمكن أن ينكشف للصوفي ما لا يمكن للعقل إدراكه، فالعقل هو المعيار في صدق وحقائق المعارف، أما الغيبيات فلا بد من التسليم بها ولها.
مع ذلك فإن بعض الفرق الإسلامية لم تكن راضية عن دخول أي فكر أو علوم دخيلة على الإسلام، فالعلوم عندهم هي فقط العلوم المتوارثة عن النبي "محمد ﷺ" وباستثناء ذلك فهو ليس علماً، وإنما معرفة لا تستحق التحصيل، بل أنها قد تكون معرفة ضارة تدفع بحاملها إلى الاستهانة بالدين.
إن كان "الغزالي" حاول بعقلانية التصدي لإسراف بعض الفرق المتطرفة في الإسلام التي كانت ترفض مطلقاً الفلسفة اليونانية، حتى أنه لم يستخدم مصطلح منطق كعنوان لأي من مؤلفاته الكثيرة لعدم إثارة حفيظة هذه الفرق، إلا أن المحافظين اعتبروا دراسة الفلسفة ضرباً من الزندقة، وقيل في هذا الشأن أن من تمنطق فقد تزندق. وما زال الموقف الشائع عند أئمة الفقه أن منهج البراهين التي تعود إلى فلسفة "أرسطو" خطراً على الفكر الإسلامي والعقيدة. الفقيه "الشهرزوري" اعتبر أن الفلسفة "سفه وانحلال، ومادة حيرة وضلال، وتثير الزيغ والزندقة" واعتبر المنطق مدخلاً للفلسفة ومدخل الضلال ضلال.

انحسار الفكر الفلسفي
حين تم نقل الفلسفة اليونانية وعلم المنطق على اعتبارهما تمثلان النظرة العقلانية، استخدمتا كأداة في مواجهة التيار الفكري الإسلامي اللا عقلي الذي كان سائداً، ثم انشق العقلانيين على أنفسهم، فخرج منهم فقهاء هاجموا الفلسفة، وتركوا خلفهم المعتزلة وحدهم في الميدان الذين حافظوا على منهج العقل، وبعضهم تحولوا إلى أشاعرة الذين تركوا للإيمان الصرف قسطاً وللعقل قسطاً آخر.
الإشكالية تكمن في انحسار الفلسفة والتيار العقلاني في الفكر العربي الإسلامي وتحجيم دور العقل الذي دخل إلى منطقة مظلمة، وتبدلت الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وضاق العقل كثيراً بحيث أصبح ينظر لكل فكر فلسفي على أنه كفر، ثم انحاز العقل للطوائف والمذاهب منذ القرن الحادي عشر. بعد ذلك توقف التفكير العقلاني وتوقف النقد، وتوقف كل إنتاج فكري وفلسفي جديد، ولم يتجدد أي عنصر من مكونات الفكر العربي والإسلامي، واكتفى الفكر بالنقل الذي توسع واشتد وأصبح ذا سلطة واسعة مؤثرة في بنية الفكر العربي لقرون مديدة، حيث كان الفكر العربي يعيد إنتاج نفسه دون أي تطور وإبداع وتحديث.
يعتبر الدكتور "محمد أركون" صاحب مشروع تجديد الفكر العربي أن الصوفية هي تمرين فردي للتواصل بين المؤمن وخالقه، بصورة مستقلة عن الشعائر والفرائض والعبادات التي تؤديها الجماعة. ويرى أن سلطة العقل لا تعني مطلقاً تجاوز سلطة النص بقدر ماهي قراءة ومقاربة مختلفة في ضوء المعارف والعلوم الحديثة.
إن العلوم لم تكن منفصلة عن الفلسفة عند الإغريق ولا عند العرب في القرون الوسطى، حيث أكد الفيلسوف والطبيب "ابن سينا" على ارتباط الطب بالفلسفة في كتاب "الشفاء" مثلما اعتبر الكيميائي "جابر ابن حيان" الذي وضع الأسس العلمية للكيمياء الحديثة والمعاصرة، أن الكيمياء مرتبطة بالفلسفة. كما أن القرآن الكريم قد شجع وحث على العلم وتحصيل المعرفة. حتى أن المسلمين نمت لديهم مختلف العلوم وازدهرت لدرجة أن الغرب قد بدأ ينقل هذه العلوم عن العرب والمسلمين. لكن هذا الازدهار في الحركة المعرفية العلمية توقف لأسباب ترتبط بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت بداية من القرن الثاني عشر ميلادي، ولا تعود إلى سلطة الضبط والهيمنة اللاهوتية.
وهكذا تراجع البحث العلمي ليخلو الميدان للخطاب التعبوي الأيديولوجي، الذي كلما اشتد وأصبح أقوى كلما تقلصت مكانة العقل والفكر العلمي النقدي في البنية العربية. هذا التراجع أضحى مرعباً في القرنين الأخيرين، حيث اعتمد العرب والمسلمون التصلب الأيديولوجي لمقاومة الحملات الصليبية، ثم ظهرت حركة سلفية إصلاحية في القرن التاسع عشر لكنها فشلت، لأن القطيعة مع العقل العلمي كانت قد ترسخت في الفكر العربي، ثم ظهرت الأيديولوجية القومية في القرن العشرين التي أعاقت في نضالها التحرري كل محاولة لدراسة العلوم التي ظلت ولا زالت الأقل تحليلاً من كافة جوانب التراث الإسلامي.

معركة شقاء
وهكذا استمر العقل العربي مشتتاً بين التراث والحداثة، وفي كل مرة يتم فيها محاولة إعادة قراءة التراث وفق العقل الاستبدادي يتواصل إعادة إنتاج التخلف. ورغم أن العقل العربي قد صدم بالحداثة عبر احتكاكه مع العقل الغربي في القرن التاسع عشر، إلا أن تحديث الفكر العربي ظل حبيس أطر ومفاهيم أيديولوجية، ولم يتجدد بذاته كممارسة نظرية عقلانية، لأن المثقفين العرب الذين رفعوا لواء النهضة لم ينعتقوا من قيد الأيديولوجيا، ولم يتمكنوا من صياغة فكر نقدي لهويتنا ولعلاقتنا مع الآخر. ومكث العقل العربي في صندوق الأنثروبولوجيا مما شكل حائلاً دونه والتجديد والإبداع.
بعض رواد مشروع النهضة العربية وظفوا الدين لصالح السلطة السياسة، والبعض جعل السياسة في خدمة الدين، لذلك فشل هذا المنهج في تحقيق أي إصلاح في البنية الفكرية العربية. وكانت الفلسفة مادية برهانية تقوم على الحجة والأدلة في المغرب العربي، فيما كانت الفلسفة في المشرق مثالية لاهوتية تقوم على التأمل.
نظريات ومذاهب وأفكار وفدت على المنطقة العربية من كل صوب وحدب، عبر روافد متعددة ومتنوعة ومتشابكة، دون أي تأصيل ومن غير تهيئة البيئة العربية لهذه النظريات، ولا الاشتغال على الفكر وتعديله ليكون متوافقاً مع الحالة العربية. مثل النظرية الماركسية التي نقلها اليساريون العرب، فكانت محنة العقل اليساري العربي حالة من الفصام الفكري، حيث تجد يساريين وأحزاباً يسارية لكن من دون فكر ماركسي.
العقل العربي تجاذبته المفاهيم والنظريات والأفكار المعاصرة منها والموروثة، وعانى من السلطة الدينية المتشددة، ومن الاستبداد السياسي، ومورس عليه التهميش والتضييق والإلغاء والقولبة والقهر والاعتقال بل والقتل. تمت مصادرة حقوقه في التفكير الحر المستقل وفي التحليل والنقد والإنتاج دون قيد.
إننا نحتاج عقل جديد ورؤية أخرى وقراءة هادئة ومقاربة مختلفة لتاريخنا العربي والإسلامي ولتراثنا الثري. العقل العربي يحتاج أدوات مغايرة للبحث والتحليل والدراسة. إن العقل العربي ليس عقلاً قاصراً ولا فاشلاً ولا عاجزاً بل يحتاج إلى معلمين وملهمين ونماذج متميزة عما هو سائد. ولا يحتاج العقل العربي إلى مزيد من الكراهية والطائفية والمذهبية والعرقية التي فتكت به.



مراجع:
-محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط1، 1988.
-عبد الرحمن بدوي، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ط1، 1940.
- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الانماء القومي، ط1، 1986.
-عبد الإله بلقزيز، التفكير في التكفير. نحو استراتيجيّة مواجهةٍ ثقافية، مجلة المستقبل العربي العدد 433 في آذار/ مارس 2015.












70
أدب / قبل أن يشيخ الليل
« في: 13:21 21/09/2019  »


قبل أن يشيخ الليل



حسن العاصي




1
يعتصر الرعد
أكمام السحاب
يستبيح الضباب
حرمة التراب
تعلن الفصول
موت المطر
تهلّل المآذن العتيقة
والجسد النحيل
يختفي بين قبور الصغار


2
انقلب القَدَرْ
ذات قسوة
الذئاب تتذمر
والقطيع انتهى رقوده
إنها الصكوك العسيرة
بلا أبواب
تعانق في سفر الطريق
نهاية الحكاية


3
تلوك المنافي
مرارة الرحيل
في صخب العربة
المتعبة
أرصفة الغياب
وجوه تتكرر
تلفظنا غرباء
كل المحطات

4
يرسم الحالمون
مساءًا أبيض
يعبروا بذور القصيدة
ليحرروا وجه الفجر
ذات قيد
باغتني الصباح
نسيت أن أنام


5
أن تتثاءب العصافير
فوق الأغصان البعيدة
لم يكن سوى
آخر مشهد
من تفاصيل الأرق
بعد منتصف النعاس
أن يجتاز طيف النافذة
برهان المطر
ويسجد الليل
فوق الغيوم المتقاطعة
فهذا لأن القصيدة
ستهب الصبح
صور الأحلام


6
لمحتُ جهة أسوار البستان

قرب الدرب العاري

عجوز تعاني المخاض

تحتمي بحطب الكروم

والعرّاف يصرخ

من يرث

خيل العربات المتخمة

والأسماء تهرب

من العشب الغزير

قالت أُقْصُصْ لنا

الشتاء الحزين

قبل أن نسمع مطر الحكاية

رقدت المرأة

تحت شجرة التوت الوحيدة

تنتظر لحظة الولادة



7
بلا ملامح

يمتص سواد المدينة

سكون الظلال

يمتد السرو فوق سور الحكاية

ويعانق الركام العروق الممتدة

حد الصراخ

تضيق مساحة القوس

وينمو الخراب

على الوتر



8
لا شيء في بساتين التين

من قتل العصافير؟

لا نهار يمخر ضفاف الريح

من شرخ خد الضوء

مرايا تخطو؟

على شفير الغياب

أشاح الماء العاري سكونه

ليغرس الحزن

على أعتاب البعيد

وجه النافذة



9
ما من شيء يتواتر

إلّا مواسم الأحلام

تتخاطر في كتاب الغيم

عروق المطر

أضاع الموسم مسار القوافل

على أطراف الحقول

وهي تمضي غجرية الطريق

دون وداع

قالت

أسرعوا في القطاف

قبل أن يشيخ الليل

71
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


الماركسية بثوبها العربي.. ديالكتيك التفسير لا التغيير
مادية النصوص


القضية الهامة الكبرى التي حظيت -ولا تزال- تحظى باهتمام المفكرين الذين يسعون لتحليل الأسباب والدوافع التي تقف خلف التحولات الكونية الكبرى خلال العقود الماضية، خاصة منذ ثمانينيات القرن العشرين، ومحاولة تلمس الإجابة على السؤال الكبير: ما هي الأحداث التي وقعت في العالم وأدت إلى هذا الطوفان العظيم من الخراب، وقدوم موجات متواترة من القتل والحروب والتدمير واستباحة كافة القيم الوضعية الإنسانية، وهذا الكم المرعب من الانتهاكات التي تُرتكب بحق الافراد والشعوب والدول؟ كيف ولماذا انهارت الدول الشيوعية؟ وماذا يعني الهرم الذي أصاب النظرية الماركسية، فيما الرأسمالية أثبتت قدرتها على التطور والتجدد؟
أسئلة مشروعة تستدرج الإجابة أسئلة أخرى أبرزها أين أصبحت النظرية الماركسية النصية الأصلية التقليدية؟ أين النظريات الماركسية الحديثة التي ظهرت خلال نصف القرن المنصرم؟ ولماذا لم يتمكن اليسار العربي من ابتكار وعي نقدي يتوافق مع المستجدات التي أحدثتها التحولات الكونية خلال الثلاثين عاماً الماضية؟ ولم يتمكن من تحديث أدواته ولا خطابه، وعجز عن الإجابة على تحديات المرحلة؟
لقد شهد العالم تغيرات نوعية كبرى في بداية تسعينيات القرن العشرين، أعقبت انهيار الشيوعية وانتهاء مرحلة الحرب الباردة، تلتها تطورات عديدة متلاحقة أحدثت نوعاً من الاصطفاف الفكري والسياسي وإعادة صياغة التحالفات لجميع القوى الكبرى الفاعلة والإقليمية وحتى القوى الهامشية غير الفاعلة.
لا شك أن أبرز هذه التطورات هو انحسار شديد في حجم ودور القوى اليسارية، وصعود الإمبراطورية الاستعمارية الأمريكية وتفردها بقيادة العالم، بحيث تمكنت القوى المحافظة اليمينية الصهيونية الجديدة أن تفرض رؤيتها على الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس "جورج بوش" الابن، التي تتلخص بضرورة التخلي عن السياسة الأمريكية الخارجية المتطهرة التي صممها وقادها الرئيس الأمريكي الأسبق "جيمي كارتر"، والبدء بتصدير الديمقراطية الأمريكية إلى دول العالم بالقوة والقسوة كما فعلت سابقاً بريطانيا العظمى في عهد "جورج الثالث"، وفعلته ألمانيا في عهد "بسمارك".

غرام النظرية
إن التحولات العالمية الكبرى التي حدثت خلال الثلاثين عاماً المنصرمة، كانت أشبه بطوفان قوي جرف في طريقه سدوداً كانت تبدو عصية. من الطبيعي إذن القيام بإعادة التفكير في كثير من المسلمات والبديهيات السابقة. لكن اليسار العربي المغرم العذري بالنظرية الماركسية دون الاهتمام لرؤية عناصرها تتحرك في أرض الواقع لم يرى تلك المتغيرات، وظل يحمل خطاباً يتضمن افكاراً بادت ومصطلحات تجاوزتها سيرورة الحياة. بهذا الموقف تحول عدد كبير من اليساريين العرب إلى خانة الرجعية لأنهم دافعوا عن نظريات فلسفية ونماذج سياسية انهارت تماماً، وتسببت للعالم ولنا حزناً وألماً واضطراباً، ولأن اليسار قدم نفسه باعتباره مشروعاً لتغيير الواقع العربي المثقل بالأزمات، مشروعاً يتضمن تحقيق الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، ويضمن الحريات العامة للناس ويخلصهم من كافة أشكال وقيود القهر والقمع، ويحقق المساواة الجنسية والعرقية.
خلاصة القول هنا أن الماركسيين العرب كانوا مثاليين وليسوا ماديين كما يدعون، ولهذا فشلوا في تبديل الواقع العربي الذي يفيض قهراً واستبداداً وجوعاً وموتاً. فشل اليسار العربي وانهزم وسقط ليس فقط لأسباب تتعلق بعجزه عن إحداث أية تحولات اجتماعية وسياسية حقيقية في البيئة العربية، لكن أيضاً لأسباب تعود أساساً لإخفاقهم في فهم واستيعاب الماركسية، وعدم مقدرتهم على إدراك جوهر وعمق فلسفتها التي تقوم على قراءة الواقع لتغييره، وليس أداة لقراءة النصوص.

ثورية النظرية
منذ ظهورها في منتصف القرن التاسع عشر ولغاية نهاية القرن العشرين، لم يشهد العالم ولادة نظرية ثورية أهم من النظرية الماركسية. والأفكار الماركسية ذاتها تبلورت تدريجياً في سجالها مع الفلسفات الأخرى، ونقد فلسفة هيغل المثالية. وهكذا صاغ ماركس مفهومه حول المادية الجدلية. ثم تحولت الماركسية إلى أيديولوجيا في الاتحاد السوفيتي السابق، حيث تعرضت للنقد من قبل تيارات يسارية أهمها تيار "فرانكفورت" الذي رفض مركزية لينين في كتاب "ما العمل". هذا التيار الذي أسسه الفيلسوفان الألمانيان "ماكس هوركهايمر" و "تيودور أدورنو" أعرض عن قانون الصراع الطبقي، وقدموا المهمشين من السود والمهاجرين كبديل عن الطبقة العاملة.
إن انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومة المعسكر الاشتراكي وفرط عقد دوله لم يكن بسبب عدوان خارجي ولا بسبب المؤامرة الخبيثة للإمبريالية، ولا حتى لمبررات التنافس في حرب النجوم التي أدت إلى إفلاس الاتحاد السوفيتي، بل انهارت الشيوعية نتيجة شيخوختها وللجمود الفكري والتصلب العقائدي الذي أنهكها. إن الشيوعية كأيديولوجية ظلت عبارة عن منظومة من الأفكار الأصولية والمحافظة جداً، فبقيت كما هي مثلما أنتجها فلاسفة القرن التاسع عشر، دون أي تطوير أو تحديث على الفكر ليتوافق مع مستجدات الحياة ذاتها. لقد رفض قادة الدول الشيوعية إجراء أي تجديد على الفكر الماركسي والشيوعي، واعتبروا أن أي تحديث أيديولوجي على المستوى النظري الفلسفي أو الفكري يعتبر تغييراُ في النظرية، وأي تغيير هو هرطقة وانحرافاً وبدعة. استمر التيار الشيوعي الأصولي السلفي بمقاومة ووأد كافة المحاولات لتجديد النظرية الماركسية، إلى أن تحجر الفكر وتصلب، وتورمت مفاصل الدولة الشيوعية مما أعاقها عن مواكبة تطورات العصر، فتخلفت وعجزت عن اللحاق بتطور الدول الغربية الرأسمالية.
النظام الاشتراكي أصابه التّيبس والجفاف الفكري الذي أدى إلى ركود اقتصادي ثم كساد مرعب أنتج تخلف تقني وتكنولوجي، كانت نتيجته العوز الاجتماعي والإفلاس السياسي، فأصبح هذا النظام عاجزاً عن تلبية احتياجات الشعوب، وفقد أسباب تماسكه وبقائه فسقط وانهارت دوله. ويجب ألا ننسى الأسباب الأخرى، وأهمها تحول دول المنظومة الاشتراكية إلى دولاً ديكتاتورية قائمة على الكبت والحكم القسري والقهري وإلغاء الحريات العامة. هذا الوضع نظرت له النخب في تلك الدول على أنه مخاض ينذر بوصول النظام الاشتراكي إلى نهايته السياسية والأخلاقية، ويؤسس لولادة نظام جديد مختلف كلياً، وهذا ما حصل.

امتحان الماركسية
لقد واجهت الماركسية امتحانات كبرى منذ ظهورها، كما تعرض اليساريون لتحديات مهمة وواجهوا أسئلة مفصلية، لم يتمكنوا من مقاربتها بعمق ولا التصدي لها ولا تقديم إجابات عنها. على سبيل الذكر فقد تعامل الماركسيين مع أزمة الكساد التي أصابت الاقتصاد العالمي في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، بخطاب نظري يؤكد حتمية تواصل تعرض الرأسمالية للأزمات المالية وهي تتضخم في مسار ينتهي باندثار وهزيمة الامبريالية. لكن ما حصل لا حقاً أن الامبريالية انتصرت وانكسرت الماركسية.
ثم امتحنت الماركسية والماركسيين في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولم يسمع لهم صوت، بل أن النظريات الغربية الرأسمالية هي التي تقدمت بمقاربات كان أبرزها نظريات "الاقتصاد الكلي" و "النظرية العامة في تشغيل العمالة والفائدة والمال" لعالم الاقتصاد البريطاني "جون ماينارد كينز"، وكذلك لنظريات عالم الاقتصاد الأمريكي "بول سامويلسون" صاحب كتاب "أسس التحليل الاقتصادي". وحين توسعت القاعدة الصناعية في دول العالم الثالث لبلورة وتطوير الطبقة العاملة صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير، وهذا كان مطلباً ماركسياً وشرطاً للقيام بالثورة، فتمت هذه العملية بواسطة دول ومؤسسات ومراكز رأسمالية غربية، وليس من قبل الأحزاب الماركسية ولا من الدول الشيوعية. حتى التجربة الاقتصادية الناجحة للصين قد تحققت بفضل اقتصاد السوق وليس بسبب قوانين الاقتصاد الماركسي المخطط.
ثم بدأت الماركسية بالانكماش والتخثر أيديولوجياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً، وتضخمت الرأسمالية وأصبحت عابرة للقارات، وتدريجياً بدأ العالم في الدخول إلى عصر العولمة. انتصرت الرأسمالية وسقطت الماركسية والشيوعية دولاً وأنظمة وتلقت النظرية قذيفة استهدفت رأسها فبدا جسدها مترنحاً. تحولت الرأسمالية من كونها إنتاجية إلى مركزية مالية أي تحولت من رأسمالية مادية إنتاجية إلى رأسمالية مالية تضخمت وتغولت وانتصرت على الرأسمال، وانهزم الطرف الإنتاجي أمام الجانب التمويلي. وبفعل العولمة خسر الوطني المحلي أمام العالمي. كل هذا حدث فيما اليساريين العرب يراقبون المشهد في حالة ذهول، ووقف المفكرين اليساريين العرب عاجزين عن تقديم إجابات واضحة تفسر هذه التحولات الهائلة في النظام الكوني، بل أن البعض منهم أصر على صواب نظرية "التطور لا رأسمالي" التي ابتدعها "ميخائيل سوسلوف" أحد زعماء الحزب الشيوعي السوفيتي. وقد قادت هذه النظرية التي تم طرحها لأسباب سياسية تتعلق ببعض الدول في العالم الثالث، وليس لأسباب نظرية وعلمية، قادت إلى رأسمالية واضحة في بعض الأنظمة العربية، وكانت طريقا للسلطة بهدف الوصول للثروة.

كش ملك
لقد تغيرت بنية المجتمعات العربية منذ ستينيات القرن العشرين، كان أبرزها الهجرة العشوائية للأرياف نحو المدن، فخسر الريف اليد الفلاحية وتدهورت الزراعة، وبذات الوقت لم تكسب الصناعة في المدينة، حيث أن القادمين غير مؤهلين للانخراط في سوق العمل المديني. ولم تبذل الأنظمة جهداً كافياً ولا رصدت ميزانيات ولا كان لديها برامج بالأساس لصهر القادمين سكانياً ودمجهم وتأهيلهم حرفياً. وكل ما حصل هو استيطان سكاني جعل من محيط المدن العربية الكبرى أحزمة بشرية ريفية من الفقر والحرمان والبؤس. تطورت المدينة وأبناءها حضارياً بصورة نسبية عبر زيادة الإنتاج وارتفاع مستوى التعليم وتطور قطاع المواصلات، وبقي الريف للأجداد وزيارات الأعياد، فيما ضواحي المدن قطنتها مجموعات سكانية ذات عصبيات مذهبية وطائفية وقبلية، تحتكم هذه الضواحي لعلاقات اقتصادية بسيطة، لذلك فإن علاقتهم مع اقتصاد المدينة لم يتخذ شكل اجتماعي وسياسي بل مذهبي وإثني. وهذا ما يفسر تحول الصراع الطبقي في بعض المدن العربية إلى صراع بين الأديان والمذاهب.
في مواجهة هذه التحولات التي أحدثت إشكاليات فكرية واجتماعية شائكة ومعقدة، كان اليسار العربي كمن يعطس في سوق الحدادين، لا يسمعهم أحد ليقول لهم يرحمكم الله. جلس اليساريين العرب يراقبون ما يجري كأنهم ينتظرون خلاصاً غيبياً أوحلاً دون السعي له، وهذا منتهى العقل الاتكالي البليد.
في الحالة العربية تتحول الأفكار الدينية والانتماءات المذهبية والطائفية إلى نماذج مقنعة للشعوب العربية، أكثر كثيراً من الأفكار اليسارية ونماذجها الفاشلة. والبائس في الأمر هنا أن كثيراً من قادة حركة اليسار العربي من الأثرياء الذين لا يقبلون إلا ارتداء الثياب الغربية المستوردة، فيما الكوادر اليسارية المزهوة بالنظرية فإنهم ينتمون إلى الطبقات المتوسطة ويعرفون عدوهم الطبقي، لكنهم يفضلون النضال المكتبي عبر رقعة الشطرنج على نضال الشارع وسط الجماهير، وبهذا فهم يقدمون الخدمات الكريمة للتيارات المذهبية والطائفية لتتمدد وتفرض رؤيتها، لذلك يتوه الجميع ويبتعدون عن المعركة الاجتماعية السياسية، متأملين أن يُصاب الأثرياء بوباء يقضي عليهم. هذا يشبه تماماً قتل الملك فوق الرقعة بلعبة الشطرنج داخل غرفة مكيّفة.

رحلة السقوط
شهدت بداية تسعينيات القرن العشرين اختتام آخر حلقة من مسلسل انهيار الماركسية مع سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك دول المنظومة الشرقية. هذا المسلسل كان قد بدأ منذ وقت مبكر، وربما منذ الصراع النظري الفكري بين قادة الحزب البلشفي. خلاف "لينين" مع "تروتسكي" حول نظرية الثورة الدائمة، وبين الأخير و "ستالين" حول قضايا متعددة. لقد ذكر المؤرخ الروسي "سوخانوف" أن ستالين كان عبارة عن بقعة رمادية باهتة في الثورة البلشفية، فيما قام تروتسكي بقيادة الانتفاضة المسلحة العام 1917، وعقب انتصار الثورة قاد الجيش الأحمر. بعد انتهاء الحرب الأهلية الروسية عام 1921 كانت البيروقراطية تشبه وحشاً بأنياب غليظة، حيث كان يوجد في الجسم الحكومي 5,9 مليون موظف في حين لم يتجاوز عدد العمال 1,3 مليون عامل. فمنذ البداية لم يكن الحزب البلشفي طليعة للطبقة العاملة، وبعد وفاة لينين حوّلت بعض التيارات داخل الحزب البلشفي، الحزب ذاته إلى أداة سياسية بيروقراطية للدولة السوفياتية.
مع انهيار الدول الشيوعية سقط اليسار العربي إلى قاع الإفلاس والتفكك وصدرت له شهادة الوفاة الرسمية. أما بداية الانحدار فتعود إلى الخلاف حول الموقف الذي اتخذته معظم الأحزاب الشيوعية العربية من القرار رقم 181 المتعلق بتقسيم فلسطين العام 1947 ومعارضة بعض القيادات والكوادر اليسارية لتأييد وموافقة الاتحاد السوفيتي عليه. في العام 1956 عقد الحزب الشيوعي السوفيتي مؤتمره العام العشرين الذي ثبت زعامة "خروشوف"، وشهد خلافات فكرية عميقة، وتم فيه انتقاد سياسة "ستالين" القمعية التي كانت تشجع عبادة الفرد والأعمال الانتقامية.
ألقت نتائج المؤتمر ظلالها على الحركة اليسارية العربية فانقسموا. ثم انشطروا مرة أخرى خلافياً إلى تيارين أحدهما سوفيتي والآخر صيني على أثر الخلافات الأيديولوجية والقومية والإقليمية والاقتصادية بين الصين والاتحاد السوفيتي، وقيام الأخير بوقف المساعدات الاقتصادية والفنية عن الصين العام 1961. فأصبح اليسار العربي مشتتاً إلى تيارات واتجاهات نظرية تروتسكية وماوية وصينية وسوفيتية وماركسية ولينينية وستالينية، ثم إن تحلل وتهتك النموذج السوفيتي أخلاقياً عمق هذا الخلاف والتشرذم، حيث وضعت أحداث المجر عام 1956 والقضاء على الحركة الإصلاحية في بولونيا العام 1956 ثم ضرب حركة بودابست عام 1958 وضعت الاتحاد السوفيتي في دائرة التساؤل عن ثوريته واشتراكيته وعدالته.
الظروف التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي أدت إلى نكوص فكري لدى كثير من اليساريين العرب، فارتدوا إلى حضن الطائفة والقبيلة والمذهب. كما أن انهيار النموذج الشيوعي في المركز تسبب في ظهور تيار يساري صخري أصولي تشبثت بالماضي بكل ما فيه ورفض الحاضر، وقامت بعض الأحزاب الشيوعية العربية بتغيير اسمها، وتبخرت من الأدبيات اليسارية مصطلحات نظرية عديدة تجاوزتها الحياة ذاتها، وتم تعديل الخطاب اليساري فصارت العدالة الاجتماعية مطلباً يسارياً بدلاً عن اشتراكية النظرية، وهو مطلب ينادي به اليمين أيضاً.
اليسار العربي لم يدرك أن الماركسية هي أولاً وقبل كل شيء منهج لقراءة وتحليل العلاقات الاجتماعية وليس أسلوباً لقراءة النصوص والكتب، لذلك فشل هذا اليسار وعجز عن بناء نموذج ماركسي واحد، رغم أنه كتيار أسهم في تثقيف شرائح من الناس، ورفع من مستوى الوعي الاجتماعي في العديد من المجتمعات العربية، وأدخل إلى ثقافتنا بعض الأفكار التنويرية.

 جدران ثقافية
الأيديولوجيات التي سادت العالم في القرن العشرين، وكانت واحدة من أبرز سماته، انتقلت دوغمائياً بصورة تقليدية بليدة للمنطقة العربية، وأحدثت انقساماً في الشعوب ثقافياً فتحول الناس إلى ملل وشيع وجماعات ومذاهب وطوائف وقبائل، بحيث أصبح تجاوز هذه الجدران التي ارتفعت بين الناس، معضلة حقيقية وأمراً في غاية الصعوبة والتعقيد.
جل هذه الأفكار انتقلت للقرن الحادي والعشرين عبر بقايا الأحزاب والتيارات السياسية والحزبية، ورغم فشلها الذريع وانحسارها ومقتلها، إلا أن هذه الأفكار والرؤى تصر على أن تظل جثة دون أن توارى التراب.
سقط المثقفون العرب وخاصة اليساريين منهم في قوالب نظرية "أوغست كونت" الوضعية التبسيطية في قراءتهم لحراك الجماهير العربية التي خرجت إلى الشوارع تطالب بحرياتها المصادرة وحقوقها في الحياة الكريمة ضمن دولة القانون والمواطنة، فأنكر المثقفين العرب اليساريين هذه الحقوق التي طالما نادوا بتحقيقها سابقاً وفاضت أدبيات أحزابهم بشعارات تتحدث عن حقوق العمال والفلاحين والمضطهدين. وقفوا في وجه الجماهير التي كانوا يدّعون أنهم يمثلون مصالحهم، ودافعوا عن أنظمة الاستبداد وعن الطغاة العرب. وإن كان لفشل الحراك العربي في إنجاز التغيير المطلوب من أسباب متعددة، فإن من بين هذه الأسباب ما يعود إلى الأسوار الأيديولوجية التي تعود إلى أنماط فكرية بادت، وإلى أدوات لقراءة الواقع لم تعد صالحة لقراءة إعلان عن إقامة حفل موسيقي، ونظريات وخطابات تحللت وتم امتحان عجزها وإخفاقها عبر تجارب شعوب ودول كانت قائمة في يوم ما.
هذا الفهم التبسيطي للواقع، والقراءة الخاطئة للتغيرات أشبه بفلسفة "كونت" الوضعية التي تتجاهل التنوع والتعدد الفكري والفلسفي والاجتماعي والاقتصادي عبر تاريخ البشرية. فالعالم عند "كونت" منقسم إلى كتلتين لا ثالث لهما، الأول تيار تفدمي وضعي، والآخر رجعي لاهوتي. ومن هذه الفلسفة توالدت افكاراً ونظريات كثيرة وضعت كل ما هو أصيل وديني ومحافظ في التصنيف الرجعي، وكل ما هو لا ديني وتنويري وحداثي اعتبر تقدمياً. فكانت التيارات اليسارية بطبيعة الحال ومنها اليسار العربي ضمن معسكر الأفكار اللا دينية، فقام اليسار باحتكار صفة التقدمية واتهم كافة خصومه الفكريين والسياسيين بالرجعية، ثم توالت مصطلحات الإقصاء التي يطلقها اليسار على من لا يتوافقون معه على أفكاره "التقدمية"، فانتشرت مصطلحات التخلف والظلامية والانهزامية وذيول الاستعمار والأصولية الخ.
قسّم هذا التصنيف الحاد والقطعي الوضعي المثقفين العرب إلى تيار تقدمي يمتلك الحقيقة والأجوبة، وتيار رجعي لا بد من التخلص منه لكي تتقدم الأمة.

نموذج قميء
ثم بعد صعود البرجوازية العسكرية التي حكمت معظم الدول العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، قامت هذه الأنظمة بمصادرة التقدمية من اليساريين وأقصتهم من المشهد وهمشتهم، وأبعدت اليمين "الرجعي" ثم زجت به في السجون، واستفردت البرجوازية بالسلطة وهيمنت على الدول والشعوب وعلى مقدرات الأوطان، هيمنت على كل شيء. وفشلت هذه الأنظمة في إنجاز أية مهام وأهداف "تقدمية" بل عجزت عن بناء دولة واستعاضت عنها بإنشاء مزارع خاصة للحكام وأولادهم وبطانتهم، كما أخفقت في توفير لقمة العيش الكريم للمواطن العربي. لقد سقطت هذه الأنظمة سياسياً وفكرياً وأخلاقياً، ومع ذلك تتواصل الكارثة بقيام المعارضين لهذه الأنظمة من تيارات يسارية "تقدمية" وأخرى يمينية وطنية أو إسلامية "رجعية" بإقصاء بعضهم البعض، وبهذا تجد الأنظمة العربية الفاشلة في اختلافهما ما يبرر بقاءها ويمنحها شرعية مزيفة تبنيها فوق رقاب العباد المضطهدين.
قدمت الرجعية العربية نموذجاً بدائياً قميئاً للحكم يشبه الحكم اللاهوتي للكنيسة في العصور الوسطى، وهكذا بدت هذه الأنظمة وكأنها تعيش خارج التاريخ. كما ظهر أصحاب الأفكار التقدمية بصورة مقيتة برفضهم تراث الشعوب العربية وسعيهم للبتر الكامل مع الماضي، وتعاملوا بعنجهية وفوقية واستكبار مع الجماهير، وأطلقوا مواقف قاطعة محددة ونهائية من كل ما يرتبط بالواقع العربي، وعاشوا في أبراج ذهنية فاضلة منفصلين عن واقعهم وعن الجماهير وما يحيط بها من تحولات اجتماعية، فكانت النتيجة قطيعة تامة بين التقدميين والرجعيين، والانفصال بينهما وبين والجماهير. الكارثة الكبرى هي انحياز اليساريين والتقدميين إلى جانب الأنظمة القهرية الاستبدادية الساقطة ضداً "بالرجعيين" يا للعجب. اختلطت الأوراق والمواقف والرؤى والتحالفات ولم يعد المواطن العربي يعلم من هو التقدمي فعلاً ومن هو الرجعي!

استبدال الوظائف
هناك نخبة يسارية كلاسيكية من الحرس القديم ما زالت متشبثة بأصول النظرية الماركسية، لا تمتلك المقدرة على رؤية المتغيرات الكونية التي حصلت خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، متشددة في مواقفها وخطابها وتقود جمهوراً ريفياً محافظاً.  وتيار حداثي الهوى، لائكي في نظرته للعالم، لديه مشروع وحيد هو إقصاء الإسلام السياسي عن المشهد في الدول العربية، وهو هنا في رفضه للآخر يسقط في قعر التطرف والتشدد الذي يدعي أنه يحارب الإسلام السياسي لأجلهما. وتيار يساري تمكنت الأنظمة من احتوائه عبر منح قيادته بعض المكاسب المالية والوظيفية. وتيار ثالث فقد هويته النظرية ويشعر بالتيه، فهو عاجز عن إعادة ارتداء ثوبه الفكري الذي رماه يعد سقوط الشيوعية لعلمه أن الله وحده يحيي العظام وهي رميم، ولا هو قادر على معايشة عصره وتحديث فكره وأدوات تحليله وخطابه، وهو أشقى التيارات في المشهد.
وكما فعل معظم السياسيين العرب الفاشلين الذين عجزوا عن إدارة شأن عام واحد بنجاح، ويخلو سجلهم من أية إنجازات، تحولوا إلى مثقفين مبتذلين سفهاء، قالوا فظهرت أفكارهم سطحية وخطابهم زائف وآراؤهم هزيلة لا تمتلك القدرة على الإقناع والمحاججة ولا على المواجهة. وهكذا فإن معظم المثقفين اليساريين الكلاسيكيين، وهم أكثر الأفراد الذين أصابهم الانكسار والإحباط، فتحولوا إلى رجال سياسة رديئين بثوب ثقافي. والبعض من المثقفين اليساريين تجده قد تحول إلى داعية لتسويق الأفكار والنظريات، بينما في حقيقة الأمر أن دور هؤلاء المثقفين هو ابتداع الأفكار وإنتاج المعرفة، وممارسة النقد التنويري وتشكيل وعي ديناميكي لدى الجماهير لتغيير واقعها.

ما ينشده
المواطن العربي المثقل بالقهر وضنك الحياة والذي لم يعد يؤمن باليسار ولا باليمين ولا بالوسط، وكل ما يحتاجه اليوم هو إطلاق الإنسان من معتقله الذي رسمت قضبانه أنظمة استبدادية، وتحرير عقله من قيود الجهل والخرافة، وتوفر المناخات الديمقراطية وتفعيل العقل وضمان حرية الفكر واستقلالية التفكير، وتشجيع الإنسان على التعلم واكتساب المعرفة وتنمية قدراته الخلاقة، وحثه على التجريب والتنقيب والبحث والابتكار والاستنباط. والأهم من كل هذا توفير فرص التعليم والعمل وضمان حقه في العلاج وإبداء الرأي وتوفير لقمة العيش التي تضمن الحياة الكريمة.




72
أدب / ضاق الشرق بالحياة
« في: 19:35 15/08/2019  »
ضاق الشرق بالحياة


حسن العاصي

1
وحدهم المنتظرين بحزنهم
يزدهون بوردة الفرح
وهم على قاب مخاض الشقاء
لتهبّ أبجديات النزوح
من خاصرة الجروح
وينكفئ شعاع الأمل
في انحناءة قزحية



2
تمرُّ بي
فراشات البحر
تحلّق نحو الغيمات المهاجرة
جهة غصن الضوء
لتمطر في درب الرحيل
لون الصبح



3
تمضي الخطى
نحو دائرة الغفوة الأخيرة
تخلع بعض دروبها
لتستريح
تدخل عتمة العمر
تصلح قدميها
وتمضي


4
يحاصر البحر موج التراب
ألتحف حيرتي
وأغفو على صدى الحزن
أغمض أرق حزني
لأنعتق من الخطايا
موجة حزينة


5
في دروب العمر
يموت وجه الأحلام
نكفنها بحرير القلوب
تبكيها عصافير الصباح
على الشرفات المطفأة
تحضنها خميلة الوادي
لتغفو حزينة


6
تعدو مرايا الوجع
في مواسم الخطايا
تبكي ساحات المدينة
صخب العمر
مثل شفق تُحار له
الضحكات الحزينة
تنحني سنابل الدهشة
وتُغلق على موجة الحقل
واحة الشقاء



7
ذات ركود
أوصد الوجع خيوط الحلم
يترجّل التعب
من صهوة الوقت
يقطف أشلاء السكون
بغيمة بين وهْمَين
ليهتدي المطر
إلى ساقية الصباح



8
ضاق الشرق بفسحة الحياة
تغازل جهاته ضفاف الموت
ألا يدل الدم على القاتل
ويستدل على القتلى بالقبور
على جناح الندى
أسرجنا غيث الموتى
ليغفو في أحضان الأرض
ونختم سحابة الغدير
من الشمس إلى المطر


73
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


اليسار حين يصبح يمينياً.. الرجعية الناعمة

فيما مضى، كان اعتناق الأفكار الماركسية أو الانتماء إلى اليسار فكراً أو تحزباً، يعني ببساطة الاقتناع والتصديق أن نظرية الاشتراكية العلمية هي المنظور الصائب الوحيد لتحليل حركة المجتمع، ودراسة التاريخ الإنساني، وفهم قوانين الصراع الطبقي لتغيير العالم نحو الأفضل. وأن انتهاء الامبريالية وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعي قضية حتمية. كانت الماركسية تعني رفض منطق اقتصاد السوق الحر. وتعني النضال ضد الامبريالية والرجعية والصهيونية، ومواجهة الطغاة والديكتاتوريات وكافة أشكال الاستبداد والتعسف. تعني الوقوف مع الفقراء والمهمشين والدفاع عن مصالحهم.  والإيمان بالجدلية المادية ومنهجها. تبني الأفكار التنويرية الحداثية ورفض التخلف الفكري والطائفي والقبلي، أي التقدمية في مواجهة الرجعية. والدعوة لاستعمال العقل ومحاربة الخرافة. وبهذا أصبح كل من يلتزم بالفكر التنويري تقدمياً، والتقدمي لا بد أن يكون يسارياً حتى لو لم ينتمي لصفوف الكادحين، بصرف النظر عن الحزب الذي ينتمي له، شيوعيا أو اشتراكيا أو عماليا. وبهذا المعيار الأيديولوجي فإن صاحب الأفكار الرجعية والمتخلفة الذي يقف في وجه الحداثة، ومن ويدافع عن الاستبداد يكون يمينياً، حتى لو انتمى لطبقة العمال والفلاحين والكادحين.
هكذا كان حال اليسار قبل عقود من الزمن. لذلك يبدو سؤالي في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عن ماهية اليسار ومن هم اليساريين، منطقياً ومشروعاً في سياق فهم وتحليل التناقضات والصراعات التي تجري في المنطقة العربية، والتحولات التي تسعى بعض القوى الوطنية والإقليمية والدولية إلى إحداثها، وما رافقها من اشتباهات والتباسات. أبرز هذه المستجدات التي أفرزتها الأحداث الجارية في العالم العربي منذ سنوات خلت، هو التحالفات الجديدة بين بعض القوى اليسارية مع القوى اليمينية، اجتماع وتلاقي مصالح اليسار واليمين، سقوط الصراع الفكري التناحري، وسقوط كافة قيم النظرية الماركسية التقليدية في قعر الانحراف والتشويه، عبر مواقف وآراء وتحالفات لأحزاب وتيارات يسارية مع اليمين الرجعي، وتلاقي مصالح اليسار التقليدي مع الطغاة وأنظمة الاستبداد العربي. هذا الأمر يضعنا أمام إشكاليات فكرية ونظرية غير مسبوقة في الحقيقة.
يسار ويمين
مصطلحان نظريان يعبران عن الانتماءات الأيديولوجية والفكرية والسياسية. أصلهما يعود إلى جلوس ممثلي الشعب في المجلس الوطني الفرنسي بصورة تدريجية على يسار رئيس المجلس أثناء مناقشة مستقبل البلاد العام 1789 بما فيها تحديد وضع الملك "لويس" السادس عشر، وكانوا يرغبون في تقليص صلاحيات الملك. فيما جلس ممثلي الاقطاع والنبلاء ورجال الكنيسة الذين يؤيدون بقاء الملك بكامل صلاحياته على يمين الرئيس. لذلك سمي الجالسون على اليسار تقدميون، والجالسون على اليمين محافظون، ومن هنا انبثقت تدريجياً وتبلورت فكرة أن كل من يريد ويطالب بمنح قدراً أكبر من الحريات للمجتمع هو يساري وتقدمي. وكل من يعارض التغيير ويريد الحفاظ على تقاليد المجتمع السائدة هو يميني محافظ.
يعكس التميز بين اليسار واليمين اختلافات أيديولوجية عميقة، هناك مفردات وافكاراً ذات طابع يساري مثل حقوق العمال والتقدم والإصلاح وإلغاء الفوارق الطبقية والتغيير الاجتماعي والسياسي والنضال الأممي. وهناك أفكار ارتبطت باليمين مثل التقاليد والقومية والاقتصاد الحر ورفض تغيير النظام السياسي والاجتماعي. ويطلق مصطلحا اليسار واليمين على تجمعات أو أحزاب أو أفراد ترتبط فيما بينها بمواقف ورؤى وأفكار وأيديولوجيات متشابهة، وما بينهما تقع القوى الوسطية التي تؤمن بالإصلاحات التدريجية للنظام.
أصبح هذان المصطلحان من أشهر المفردات في عالم الفكر والسياسة والاقتصاد، ويكفي ذكر أحدهما لتوصيف واختصار الافكار والمعتقدات والتوجهات للأفراد والجماعات والأحزاب والدول. ارتبط اليمين بحرية اقتصاد السوق وحرية الملكية والنشاط التجاري الذي يتيح النمو السريع للثروات. حين ظهرت الأفكار الماركسية والاشتراكية التصق اسم اليسار بها، على اعتبار أن الماركسية تدعو إلى إلغاء تدريجي للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وإلى إعادة توزيع الثروة الوطنية لتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية. ثم ظهرت مصطلحات جديدة ترتبط بالطيف الأيديولوجي والفكري نتيجة التشدد والتعصب الأيديولوجي والفكري وبسبب اختلاط وامتزاج الأفكار فتشكل أقصى اليسار، اليسار الراديكالي الثوري، اليسار التقدمي، يسار الوسط، واليمين ويمين الوسط وأقصى اليمين المتشدد، وعلى قمة هرم التصنيف اليساري يوجد الشيوعية، وفي قمة اليمين يوجد الفاشية والنازية.
فإن كنت من ممن يدعو إلى الحفاظ على قيم المجتمع التقليدية، ولا تمانع في وجود حكومة قوية واسعة السلطات، وكنت تدافع عن الحرية الاقتصادية الواسعة والضرائب الأقل فأنت يميني. وإن كنت مثلاً مع حرية السوق وتحديد سلطات الحكومة تصبح وسط اليمين، وإذا اعترضت أكثر تصبح وسطي.
أما إن كنت مع توسيع الحريات العامة، وإلغاء التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وسيطرة الدولة على الإنتاج تكون يسارياً. وإن كنت مع توسيع الحريات وتوزيع الحكم فأنت وسط اليسار، وإن طالبت بحريات أكثر تصبح اقصى اليسار. وإن كنت تنشد الوسطية بين دور الحكومة والقطاع الخاص فأنت وسطي تختار الطريق الثالث لا رأسمالي ولا اشتراكي.
حين نسمع في وسائل الإعلام مصلح يساري يطلق على أحد فهذا لا يعني بالضرورة أنه ماركسي، لكنه فرد يحمل أفكاراً سياسية أو ثقافية من الطيف اليساري عموماً. وإن قالوا فلاناً يمينياً فلا يجب أن يعني هذا أنه مع قيام دولة دينية ولكن مواقفه عادة تكون على يمين الطيف.
خلال فترة النصف الثاني من القرن العشرين تقلصت الفوارق بين الأفكار والبرامج اليسارية واليمينية، وضاقت الفجوة بسبب التحولات التي لمست البنية الاقتصادية والاجتماعية للدول الأوروبية وأدت إلى اتساع كبير في الطبقة الوسطى، وانعكاس هذا التحول على الخارطة السياسية. فنلاحظ إن كافة الدول الديمقراطية الغربية التي تتمتع باستقرار سياسي واقتصادي تحكمها غالباً قوى يسار الوسط أو يمين الوسط، ونادراً ما وصلت الأحزاب اليسارية المتشددة مثلاً إلى قمة السلطة، لكن السنوات الأخيرة شهدت صعود واضح لليمين المتطرف الذي وصل أو كاد للسلطة بمفرده أو عبر تحالف مع قوى يمين الوسط.

مشروعية السؤال
من البديهي طرح الأسئلة التي وثبت أمام العقل تطرق بابه بشدة، ولا زالت الأسئلة ذاتها دون إجابة برغم مرور ثلاثين عاماً على انهيار المعسكر الاشتراكي. وحتى لا نتوه كما تاه تحليل الرفاق عن المذهب، وتاه تفسير ورؤية اليساريين العرب وكل من كان يدعي أنه ينتمي للشعب والجماهير المضطهدة. فالمعركة في جوهرها ببساطة كانت ولا زالت بين الأثرياء والفقراء، بين المتجبرين والمضطهدين، بين من يملك كل شيء ومن لا يملك شيئاً. أسئلة تتمحور حول القضية الكبرى الهامة. كيف تمكنت الرأسمالية من امتلاك القدرة على الاستمرار، وماهي مكونات قوة الرأسمالية التي جعلتها تستمر وتتواصل كنظام اجتماعي وسياسي واقتصادي؟ لماذا انهارت رأسمالية الدولة في الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي؟ ما سر قوة حيوية الرأسمالية التي أتاحت لها تجديد وتحديث نفسها وأدواتها؟ هذه الأسئلة البديهية ورغم كافة المبررات التي ساقتها الحركة اليسارية إلا أنها عجزت عن تقديم تفسير علمي وإجابة واضحة لما حصل.
ليس هذا فقط. بل اثناء وبعد الأزمة المالية العالمية التي ضربت النظام المصرفي الكوني برمته في العام 2008 فقد التيار النيو ليبرالي توازنه الفكري وأضل الماركسيين الجدد رشدهم، ولم يستطيع الطرفان تقديم لا تفسير حقيقي ولا أفكاراً بديلة ولا معالجات للأزمة التي تضرر منها عشرات الملايين من المهمشين والفقراء حول العالم، أما فيما يتعلق بالماركسيين الأصوليين فقد أصابهم البكم والدوار ولم يتمكنوا من فهم ما جرى. أكثر من ذلك فإن كافة الأفكار والنظريات الاقتصادية التي تم نقاشها واعتمادها للخروج من الأزمة، هي نظريات غربية رأسمالية، ولم يرى أحد من المفكرين ضرورة ذكر كارل ماركس ونظريته الاقتصادية.
فيما يتعلق بحركة اليسار العربية فقد أصيبت بالجمود العقائدي والفكري، في منطقة عربية شهدت -وما تزال- تطورات وتغيرات نوعية وعميقة. لقد ارتبط تاريخ اليسار العربي بالأزمات منذ قبل الإعلان عن قيام "إسرائيل الصهيونية" والموقف من قرار تقسيم فلسطين الأممي رقم 181 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1947 وموافقة الاتحاد السوفيتي عليه، ورفضه من قبل الشيوعيين الفلسطينيين والعرب. تكررت الأزمات حول الموقف من الرئيس المصري الراحل "جمال عبد الناصر"، والاختلافات بالموقف من الوحدة التي تمت بين سورية ومصر في العام 1958. ثم أزمة الموقف من قضية القومية العربية. وكذلك الخلاف بالرؤية الاستراتيجية في التيار اليساري العربي حول الثورة الفلسطينية المسلحة. أزمات متعددة حول قضايا عربية ودولية مهمة، وحول قضايا داخلية فكرية ونظرية وحزبية وسياسية متعددة ومتنوعة وشائكة، أدت إلى مسلسل من الانقسامات والانشقاقات أضعفت حركة اليسار العربية.

انسحال ثقافي
 شكلت الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين الفترة الذهبية للحركة اليسارية العالمية والعربية على المستويين الفكري والسياسي، حيث تميز اليسار العربي بأنه تيار يضم المثقفين والمناضلين. لكن هذه المكانة تراجعت كثيراً في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأصيبت بضربة قاضية في بداية التسعينيات مع انهيار المعسكر الاشتراكي.
مع انحسار دور اليسار العربي وانعدام فاعليته، اهتزت صورة المثقف بصورة عامة، وتراجع حضور المثقف اليساري في المشهد العام، وتعرضت صورته للانكسار في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، وفقد المثقف اليساري بريقه وجاذبيته وقدرته على الفعل والتأثير، وذلك بسبب المستجدات السياسية دولياً والتحولات الكونية الكبرى التي هزت العالم، وأدت إلى انهيار دراماتيكي لدول المعسكر الاشتراكي، وانتصار الامبريالية على الشيوعية، وصعود تراجيدي للولايات المتحدة على قمة العالم.
هذه الأحداث والمتغيرات التي أصابت العالم والمنطقة العربية كانت مفاجئة لمعظم اليساريين العرب، حيث سار التاريخ كما لا يشتهون ولا يتوقعون ولا ينتظرون. وحصل عكس ما كان يبشّر به اليسار العربي من سقوط حتمي للرأسمالية وهزيمة الامبريالية والرجعيات العربية. اليسار العربي الذي أصابته صدمة التحولات المتسارعة -حينها- شعر بالخيبة الشديدة، وأن أفكاره قد خذلته ولم تتمكن من تحقيق تطلعاته. وصار مثل مغني ضرير ينشد لجمهور من الصم بعد أن انفض الناس عنه.
ليس المثقف اليساري وحده من تجاوزته الأحداث وأدوات العصر وعزلته، بل المثقفين عموماً غادروا مواقعهم الريادية وأصبحوا في الصفوف الخلفية، ويبدو أن المقام الجديد طاب لهم. فيما بعض المثقفين العرب تم توظيفهم من قبل الأنظمة كزينة سياسية. إن التطور السريع الهائل في وسائل الاتصالات وتقنيات المعلومات بطش بدور المثقف، ولم تعد المجتمعات تحتاج نبوءة المثقف وتوقعاته وقراءته للواقع. وحلّ التقدم العلمي في علوم الطب والجينات والفضاء والرياضيات والاقتصاد والفنون، مكان النظريات الفلسفية اليسارية التي كانت تسعى لإقامة عالم يتسم بالعدل والسعادة. وكما يتضح فإن الصناعات الدقيقة والابتكارات العلمية والأبحاث في قطاع تطوير الالكترونيات وتطبيقاتها، واقتصاد البيانات والمعلومات، هو ما يلائم العصر الحديث أكثر من الأفكار والنظريات الفلسفية والإنسانية، خاصة الحالمة منها والتي لا تمتلك أية فرصة للحياة. فيما ظل اليساريون ولا زالوا يناقشون أشكال الصراع الطبقي في كراريسهم المدرسية.

نكوص لليسار والمثقفين العرب
على رغم أن اليسار لم يكن كتلة موحدة على المستوى الفكري، إلا أن يسار اليوم عبارة عن حالة غير قابلة للتصنيف، فهو أصبح ذا تركيبة عجائبية غير متجانسة. إذ أن هناك تيارات متعددة منها التيار الماركسي اللينيني، التروتسكي، اليسار الراديكالي، اليسار الجديد، إلا أن هذه التيارات والجماعات اليسارية كانت تجمعها مفاهيم ترتبط بتحقيق العدالة الاجتماعية للبشر، وإعلاء قيم العدالة والمساواة، واحترام الحريات العامة، والإيمان بالديمقراطية وكافة المثل الإنسانية التي تحققت بفضل نضال البشرية ضد الاستغلال والظلم والجهل.
لكن أين اليساريين العرب اليوم من هذه المبادئ التي جسدت المعنى الحقيقي والفعلي للفكر اليساري؟
 في الحقيقة لا نجد إلا بقايا من المضامين الفكرية والأخلاقية اليسارية لدى من يطلقون على أنفسهم اليوم قوى اليسار العربي. فمعظم اليساريين في العالم العربي ابتعدوا بشكل واضج عن جذورهم الفكرية والنظرية. وظهر في ربع القرن الأخير تيار يساري أطلق على نفسه اليسار الجديد، هذا التيار يتبنى مفاهيم مختلطة ملتبسة وأفكار مبهمة ومعايير نظرية مزدوجة في الموقف والرؤية. وتمكن هذا اليسار بثوبه الجديد من صياغة تحالفات جديدة، وبناء علاقات مع قوى كانت تاريخياً في الموقع المعادي، وهذا يشكل نكوصاً فكرياً ونظرياً وإنسانياً وأخلاقياً لليسار العربي. حيث أن القيم والمثل والمبادئ التقليدية للتيار اليساري العربي أصبحت مذبذبة وباهتة واتخذت شكلاً هلامياً وضبابياً، وفقد هذا اليسار هويته التي كانت تميزه عن القوى الرجعية التي يصيغ معها الآن تحالفات خرجت عن أي سياق علمي وفكري وعقلاني.
اختلط في المنطقة العربية اليسار مع اليمين، الحداثة مع الفكر المحافظ، القليل من العلم والفكر مع كثير الكثير من الجهل والخرافة. امتزج الفكر المعرفي مع الانتماء القبلي والطائفي، اختلطت العلوم والفلسفة بالفكر المتشدد والتطرف. الثراء الفاحش مع الفقر والجوع، غاب التسامح والتعايش وحضر القتل والاقصاء بقوة. فيما معظم القوى اليسارية العربية تقوم بقراءة الواقع بثوب يساري ونظارة يمينية. وتنظر للمتغيرات في العالم العربي على أنها مؤامرة غربية، وتتخذ موقفاً مسانداً للطغاة العرب، وتدعم الأنظمة الاستبدادية، وتقف في وجه تطلعات الشعوب وحقوقها.
 وبذلك أسقط هذا اليسار كافة المفاهيم والمعايير التي كان يؤمن بها، وكانت لهم مرشداً في تفسير التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات البشرية. وتجاهل اليساريون العرب قوانين المادية الديالكتيكية والتاريخية، وقفزوا عن فكرة الصراع الطبقي، وتغاضوا عن الأسباب التي تقف خلف تطور المجتمع والإنسان، وتنكروا لتاريخ من النضال لأجل تحقيق العدل والمساواة ورفع الظلم عن الإنسان، بل تنكروا لأنفسهم في سبيل الحصول على بعض المكاسب السياسية أو الاقتصادية أو الشخصية من قوى وأنظمة كانت مصنفة تقليدياً في قاموس اليسار وفي المرجعيات الثورية، على أنها قوى رجعية وامبريالية.
اليسار العربي الذي عانى التهميش والاقصاء كثيراً من قبل الأنظمة العربية، وذاق اليساريين العرب حنظل الأمرين من قهر وقمع واعتقالات، هذا اليسار ذاته يقيم اليوم تحالفات سياسية مقدسة مع بعض تلك الأنظمة الطاغية وصلت لدرجة التبعية المقيتة. وصار اليسار العربي يجري تنسيقاً إعلامياً وسياسياً علنياً مع قوى رجعية وأنظمة طاغية، دون أن يتسبب ذلك بأي حرج للقوى "الثورية" التي تراجعت أولوياتها السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، واختلطت شعارات اليسار مع مواقف اليمين، وتماهى خطابه أيضاً مع الخطاب الديني الطائفي لغوياً وتأويلاً وشعاراً، ومواقفاً متواطئة مع القوى والأنظمة المعادية للشعوب ومصالحها، ومعادية للحريات العامة والخاصة.
الصمت المريب المخجل من قبل معظم اليساريين العرب على الفجور الذي أبدته أنظمة الموت العربية، وحيال التحولات في المنطقة العربية، وعدم اتخاذ موقف واضح وجلي لا لبس فيه من المستجدات والتحديات التي تواجهها الشعوب العربية التي كانت في مركز اهتمام اليسار، بدا أن اليسار العربي كمن أضل دربه وفقد هويته وأضاع رأسه، فظهر بصورة مسخية مشوهة. فبدلاً من أن يقوم بدعم ومساندة الجماهير العربية وتأييد مطالبها، وقيادة الحراك الشعبي لوضعه في مسار ديمقراطي يؤدي إلى إنهاء الأنظمة الشمولية ذات الحزب الواحد والزعيم الواحد والفكر الواحد، والانتقال إلى النظام التعددي الديمقراطي، كمقدمة لبناء الدولة الوطنية الحديثة، فقد آثر اليسار أن ينصاع للسلطة السياسية الرسمية، ويُحجم عن دوره ويتنصل من مسؤوليته مما جعله خارج السياق التاريخي والاجتماعي والأخلاقي.

أهل الكهف
كما أسلفت فقد أحدث سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفيتي إلى انقسام اليسار العربي بصورة غرائبية. تيار منهم تحالف مع الحركات الإسلامية بذريعة مناهضة الامبريالية والمشروع الاستعماري في المنطقة، ورويداً رويداً فقد هذا التيار ملامحه الفكرية والسياسية، وتماهى مع الإسلام السياسي بصورة تامة دون تحفظ. وتيار يساري عربي أخر كان معادياً بشدة بالأصل لكافة التيارات الإسلامية فتحالف مع التيارات الليبرالية الجديدة وانتقل من الماركسية إلى الليبرالية وأصبح متقلباً بأهوائه الفكرية، وبعض اليساريين أصبحوا ذيولاً للرأسمالية في يعض الدول العربية. ومع كل هذه الشقلبات لليسار العربي ظل يردد ويزعم أنه يسار ماركسي دون خجل. هذا اليسار الذي فقد فاعليته السياسية ثم فاعليته الفكرية ثم تأثيره الاجتماعي، وعانى من جفاف فكري وتصلب نظري حال دون أن يُقدم على مقاربات نقدية تُخرجه من مأزقه التاريخي.
هذا العطب الفكري الذي عانى منه اليسار العربي تسبب في تشويه هويته الأيديولوجية وملامحه النظرية، حيث فشل كمشروع عدالة اجتماعية، ولم يتمكن من التماسك إثناء وبعد التحولات الكبرى، وأخفق مرتين، مرة في مقاربته الخاطئة والقاصرة للنظرية في الواقع العربي، ومرة حين تاه وتشقلب بعد تفكك المركز ونشوء الحركات الإسلامية في المنطقة، وعدم تمكنه من إقامة علاقات وتحالفات مع هذه القوى الصاعدة بصورة لا تسيء لتاريخه، وخاصة قوى اليسار الفلسطيني واللبناني. هذه العلاقات تتناقض نظرياً مع ما يمثله مشروع اليسار ثقافياً واجتماعياً. لذلك اندثرت تجارب يسارية عديدة في العالم العربي دون عودة.
لم يسهم اليسار العربي في نقد الخطاب الديني بصورة راديكالية، باستثناء كتابات القلة من المثقفين اليساريين مثل "صادق جلال العظم". من الغريب أن يكون المفكرين العرب في العصور الإسلامية أكثر جرأة ووضوح في نقد الخطاب الديني من التيار الماركسي العربي في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
لقد غابت ومسحت الفواصل والحدود بين التيار الماركسي العربي والتيارات الليبرالية والقومية والإسلامية واختلطت أفكارهما وامتزجت رؤيتهما وتماهت خطاباتهما.  كانت الشعارات الفكرية والسياسية التي رفعها الماركسيون العرب وكتبوا عنها في القرن العشرين -ولم يتحقق منها شيئاً- تنضح بمصطلحات التحرر والحرية والتقدم والديمقراطية والاشتراكية، حقوق العمال والمرأة وحكم القانون.. الخ. بينما انتشرت في الثقافة العربية خلال القرن الحادي والعشرين مفردات الجهاد وأهل الذمة والردة وبلاد الكفر ودار الإسلام.. الخ.
كان العرب يقرأون للكواكبي والأفغاني وطه حسين وخليل السكاكيني، أصبحوا لا يقرأون سوى كتب الغيبيات وخطب رجال الدين الذين أصبحوا أبطال المشهد الثقافي – أنا لا أعترض على هذا ولست ضد الدين- لكنني أدعو إلى تفعيل العقل النقدي لدى المثقفين، وعدم انصراف عامة الناس إلى ثقافة تفسير الأحلام والتنجيم ومطبخ أم فلان، حتى لا ينتشر الجهل أكثر ويتأصل في العقل العربي وينتصر على العقل والعلم.
في هذه البيئة المشوهة غير الصحية في المجتمعات العربية، كان اليسار العربي غائياً مغيباً نائماً مثل أصحاب أهل الكهف، ولو رفع رأسه قليلاً لرأى الخراب مجسداً في أكثر من مثال. ليس اليسار فقط، بل كافة التيارات القومية والليبرالية والعلمانية والديمقراطية والتقدمية العربية كانت غائبة في هذا المشهد القتالي. ضاعت الحدود واختلطت المفاهيم والمصالح والأهداف بين كافة القوى، وفقد اليسار هويته النظرية ولم يعد هناك فرقاً بينه وبين الليبرالي واليميني إلا في الشعارات. إن اليسار الذي يتحالف مع قوى رجعية ومع أنظمة استبدادية ليس يساراً حقيقياً. واليسار الذي لا يكون مستقلاً ويرضى أن يكون ذيلاً لهذا وذاك ليس يساراً. واليسار الذي يقف في وجه الجماهير ومطالبها في تحصيل حقوقها التاريخية يساراً مزيفاً. اليسار الذي يدافع عن الطغاة وعن الديكتاتوريات هو يسار منافق منحرف انتهازي. واليسار الذي يتماهى مع مجتمعه ويمتنع عن نقد الخرافة والأفكار الجاهلة لأسباب منفعية يكون يساراً مضللاً مخادعاً مداهناً. اليسار الذي لا يُحدث أي تأثير ولا يكون له فعل في رفع الوعي لدى الجماهير ونشر المعرفة وتحديث وتنوير المجتمع ليس يساراً صادقاً.

لا لون ولا نكهة
اليسار العربي تحول إلى حالة هلامية غير متماسكة ولا متجانسة ولا متصالحة، لا لون له ولا طعم ولا رائحة. يسار تعرض للتآكل لأنه غير محصن فكرياً، وأصابته الشيخوخة قبل أن يشتد عوده، ثم وهن وتلاشى فعله، وهو الآن يتحلل قبل أن يندثر تماماً.
والأمة العربية تمر بلحظات فارقة لا تجدي فيها الأحلام الثورية ولا الاختفاء خلف الشعارات والخطابات، على أمل أن يتغير الواقع وحده. هذا لن يحصل ما لم تتسلح النخبة العربية بالشجاعة للبدء في التغيير، وإزالة السدود الفكرية والسياسية والمذهبية والطائفية بين الناس لكي تعبر الأفكار ويختار الناس منها ما يمكنهم على بناء مستقبلهم.
الجماهير العربية التي كانت دوماً وقوداً للثورات والنضال ضد المستعمر، ينتظرون أن تقوم النخب والمثقفين باجتراح الحلول للإشكاليات حتى تحظى بالاحترام لمرة واحدة في عصر لا يعترف بأية بطولة ومجد وحسب ونسب سوى مجد التقدم العلمي والازدهار والعقل والتنمية.



74
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


حكاية وطن..
الجزائر الفلسطينية وفلسطين الجزائرية



بعد عشرين عاماً على اندلاع الثورة الجزائرية المباركة التي انطلقت في 1/11/1954 وأشعل شرارتها أبطال جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي البغيض، وقف الزعيم الراحل "ياسر عرفات" في قاعة المؤتمرات التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وألقى خطاباً تاريخياً مستلهماً الدروس النضالية من التجربة الكفاحية للشعب الجزائري البطل وثورته العظيمة.
إذ أن الدبلوماسية الجزائرية نشطت في سبعينيات القرن العشرين بقيادة الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة" الذي كان يشغل منصب وزير خارجة الجزائر آنذاك، وساهمت بفعالية في قيام الأمم المتحدة بدعوة الزعيم الفلسطيني الراحل "ياسر عرفات" لإلقاء خطابه الشهير الذي قال فيه " لقد جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي … الحرب تدفع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين". وكانت هذه سابقة تاريخية لم تشهدها قاعات المنظمة الدولية من قبل، أن تدعو رئيس حركة تحرر وطني ليقف ويخاطب العالم من منبرها.
كان هذا الحدث في 13/11/1974 خلال انعقاد الدورة التاسعة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وبعد تسعة أيام من خطاب "أبو عمار" في 22/11/1974 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم "3236" المتعلق بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وفي اليوم ذاته أصدرت الجمعية العامة أيضا القرار رقم 3237 ومنحت فيه منظمة التحرير الفلسطينية صفة المراقب في الجمعية العامة.
كانت الدبلوماسية الجزائرية قد استغلت عدة عوامل كانت قائمة في تلك الفترة أحسنت توظيفها لخدمة القضية الفلسطينية وقد نجحت بذلك نجاحاً باهراً. من تلك العوامل ما صدر عن مؤتمر القمة العربي السابع الذي انعقد في العاصمة المغربية الرباط بتاريخ 26-30/10/1974، والذي اعتبر منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ثم القرارات التي كانت قد صدرت عن حركة عدم الانحياز، ومنظمة المؤتمر الإسلامي القاضية منح "م ت ف" العضوية الكاملة في المنظمتين. ولا شك أن نمو حركة التحرر الوطني الفلسطينية وتصاعد نضالها ضد إسرائيل، وكذلك اتساع رقعة الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية والمؤيدة لكفاح الشعب الفلسطيني لتحقيق أهدافه الوطنية، قد ساهما في نجاح الدبلوماسية الجزائرية على تحقيق هذا الاختراق التاريخي لصالح القضية الفلسطينية.

الثورة العظيمة
احتلت القوات الفرنسية البغيضة الجزائر العام 1830 ومارست بحق الشعب الجزائري أقسى أعمال الظلم والاضطهاد، وقامت بتأسيس المحاكم العسكرية ونصبت المشانق للثوار. استمر نضال الشعب الجزائري ضد المستعمر وتصاعد حتى بلغ أوجه في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر العام 1954 لتنطلق الثورة الجزائرية الكبرى، التي استمرت سبع سنوات ونصف من الكفاح الدامي البطولي، وتنتهي بانتصار الثوار والمجاهدين على القوات العسكرية الفرنسية، انتصار الحق على الباطل، والإرادة الحرة على عنجهيات المستعمر، ولم يكن الثمن رخيصاً، بل ثمناً باهظاً، حيث قدم الشعب الجزائري مليون ونصف المليون شهيد على مذبح التحرر والاستقلال.
إن الثورة الجزائرية العظيمة، تتبوأ مكانة مهمة ومتميزة على المستوى العالمي والتاريخي إلى جانب الثورة الأمريكية العام 1776 والثورة الفرنسية العام 1789 وكذلك الثورة البلشفية في روسيا العام 1917 والثورة الإيرانية العام 1979 والثورة المصرية العام 1952.
من الصفحات المضيئة في تاريخ الثورة الجزائرية العظيمة أنها تمكنت من إسقاط سبعة حكومات فرنسية " حكومة مونديس فرانس، وفي موللي، ثم بورجي مونوري، ثم أدكار فور، حكومة فيليكس كايار، حكومة موللي الثانية، وفليملان" بل أنها استطاعت تقويض أركان الجمهورية الفرنسية الرابعة، وألحقت الهزيمة بقوات الجيش الفرنسي المدججة بأحدث أنواع الأسلحة بعد أن أذاقته الذل على يد مناضلي الثورة.
لذلك لقد ألهمت الثورة الجزائرية كافة أحرار العالم وساهمت في تحرير دول القارة السمراء، مما جعل الزعيم الثوري الإفريقي "إميلكال كابرال" يطلق عبارته الشهيرة "إذا كانت مكة قبلة المسلمين، والفاتيكان قبلة المسيحيين، فإن الجزائر قبلة الثوار"، بهذه الكلمات لخص الزعيم الغيني صدى ومفاعيل الثوة الجزائرية التي شُدت لها الأنظار في خمسينيات القرن العشرين، وكانت المثال لجميع حركات التحرر الوطني في العالم لتحقق حريتها.
لقد شكلت الثورة الجزائرية قدوة للكثير من شعوب العالم الخاضعة تحت نير الاستعمار، وخاصة شعوب القارة الإفريقية، حيث فتحت ذراعيها أمام قادة وكوادر حركات التحرر الإفريقية وقدمت لهم التدريب والمساعدات. وقد كانت الجزائر الحاضن الثوري للعديد من أبرز القادة الأفارقة الذين خاضوا معارك التحرر في بلدانهم بدءًا بالزعيم "نيلسون مانديلا ورفيقه ديسموند توتو، توتو وجوشوان نكومو وروبيرت موغابي في زيمبابوي وسامورا ماشل في الموزمبيق وباتريس لومومبا في الكونغو واميلكال كابرال في غينيا وسام أنجوما في ناميبيا".

الجزائر وفلسطين علاقات تعمدت بدماء طاهرة
منذ القدم ارتبطت الجزائر والشعب الجزائري بفلسطين وأرضها المباركة ارتباطاً روحياً عميقاً، حيث في الوعي الجمعي الجزائري تتجذر فتوى الجزائري الإمام الإصلاحي الثوري العلامة " عبد الحميد بن باديس" الذي اعتبر أن من يحج إلى مكة لا يكتمل حجه إلا بالصلاة في المسجد الأقصى، وأضاف أن القدس مثل مكة الدفاع عنها فرض على كل مسلم.
فمنذ دخول الإسلام إليها، ارتبطت الجزائر وبلدان المغرب العربي بفلسطين تاريخياً، حيث توجد مدينة القدس، وإليها كان الجزائريون يشدون الرحال لإتمام العبادات. كما شارك الجزائريون والمغاربة عموماً في الدفاع عن بيت المقدس في جيش "نور الدين زنكي" ومن بعد في جيش "صلاح الدين الأيوبي" في حروبهم ضد الصليبيين لتحرير بيت المقدس. وقد استشهد الكثير منهم في تلك المعارك ودفنوا في القدس التي رووا أرضها بدمائهم الطاهرة.
في العهد الفاطمي قدم كثير من المغاربة والجزائريين إلى مدينة القدس – وكانوا محاربين في الجيش الفاطمي- وقاموا ببناء "حارة المغاربة" في الجهة الجنوبية من القدس بالقرب من الحرم القدسي، وأقاموا فيها، وبعد تحرير المدينة رفض العديد منهم العودة إلى ديارهم وفضلوا البقاء في المدينة المقدسة.
في العصر الحديث ومنذ وقت مبكر، حتى قبل اندلاع الثورة الجزائرية المباركة استحوذت فلسطين وقضيتها وشعبها على اهتمام الشعب الجزائري، حيث ورد في العديد من الدراسات أن أحد قادة الحركة الوطنية الجزائرية وهو "مصالي الحاج" كان قد التقى في بدايات الثلاثينيات من القرن العشرين بقادة العمل الفلسطيني، من بينهم الشيخ "أمين الحسيني" و "أحمد حلمي باشا" رئيس حكومة فلسطين لبحث تقديم الدعم لهم، وكان ذلك في العام 1931.
لم يتأخر الجزائريين ولا المغاربة عن نصرة فلسطين وأهلها وقضيتها ومدها بالسلاح والمقاتلين والمال، ونظموا حملات تعبئة وتضامن وجمع أموال لدعم الثوار الفلسطينيين، إن كان في ثورة العام 1936 أو في حرب العام 1948. وتم تأسيس "الهيئة الجزائرية لمساعدة فلسطين العربية".
الجزائريين اشتركوا بفعالية في القتال ضد الاستعمار البريطاني في فلسطين خلال الثورة الكبرى العام 1936. كما أرسلت "الهيئة العليا لإغاثة فلسطين" التي شكلها علماء الدين والوطنيين الأحرار حوالي مئات المجاهدين إلى فلسطين في العام 1948، إضافة إلى مساهمة الجزائريين المقيمين أصلاً في القدس بعشرات المعارك ضد الصهاينة.
وبعد أن نالت استقلالها قامت الجزائر بافتتاح مكتب لحركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح" ترأسه الشهيد "خليل الوزير" حيث كان هذا المكتب نافذة الحركة نحو حركات التحرر العالمية. وأخذ الشباب الفلسطيني يتوافد على الجزائر إما للتدريب العسكري، وإما للدراسة في المعاهد والجامعات الجزائرية، حيث تمكنوا من الالتقاء بوفود من دول أخرى للتعريف بالقضية الفلسطينية وأهدافها. ودفعت الجزائر بقوة لإنشاء "منظمة التحرير الفلسطينية" في القمة العربية التي عقدت في القاهرة العام 1964. ومنذ ذلك التاريخ لم تفارق القضية الفلسطينية أجندة الدبلوماسية الجزائرية، ولم توفر الجزائر جهدا يذكر في دعم الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية لا سياسياً ولا مالياً ولا دبلوماسياً ولا عسكريا بدون أي تردد. بل أن الزعيم "هواري بو مدين" قال في اختتام مؤتمر الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي انعقد في الجزائر العام    1974 "عندما انعقد مؤتمر القمة العربية الأخير في الجزائر، وضعنا كشرط أساسي لأي عمل عربي موحد في المستقبل هو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني".
قد يختلف الجزائريون فيما بينهم على قضايا متعددة سياسية أو فكرية، لكنهم يجمعون على حب فلسطين والشعب الفلسطيني، ومتفقون على دعم قضيته الوطنية حتى ينال حقوقه ويبني دولته وعاصمتها القدس الشريف التي يحملها الجزائريين في قلوبهم وفي وجدانهم الوطني والديني والإنساني أينما رحلوا وأين اقاموا. تماماً كما يتفقون على الثورة الجزائرية ورموزها ووحدة الجزائر، والتي هي من ضمن جملة الخطوط الحمر التي لا تحتمل النقاش في الشارع الجزائري. وصل حب فلسطين بالجزائريين أن قاموا بتشجيع الفريق الفلسطيني لكرة القدم خلال مباراة جمعته مع المنتخب الجزائري في العام 2016، وأي شعب حر ومحب لفلسطين يفعل هذا سوى الجزائريين؟
وهذا التضامن مع الفريق الفلسطيني ليس تشجيعاً عاطفياً عابراً، بل هو انحياز لفلسطين التي تأصل اسمها وقضيتها وقدسية أرضها في عمق الوجدان الجزائري، ليس فقط بسبب روابط العروبة والدم والعقيدة وغيرها فحسب، إنما أيضاً بسبب المظلومية التي وقعت على الجزائريين من الاستعمار الكريه، وهذا ما يحصل مع الشعب الفلسطيني. بهذا السياق وضمن الوعي الجمعي لا يمكن للجزائري أن يقبل فكرة التطبيع مع إسرائيل، وأن هذا الأمر وجهة نظر سياسية. بل أن الموقف الشعبي يكبح اية محاولة لدى بعض النخب لتطبيع ثقافي أو تجاري مع الكيان الصهيوني بحجة الحداثة، كما يحصل في العديد من الدول العربية.
لا تجد في الجزائر من يضع القضية المركزية فلسطين محل اختلاف، لا من السلطات الحاكمة ولا من المعارضة السياسية. فلسطين حاضرة بقوة في قلب الطالب الجزائري والمرأة الجزائرية، حتى الأطفال يتعلمون حب فلسطين والأقصى من ذويهم الذين يخبروهم أن لهم في تلك المدينة المقدسة المحتلة "حي المغاربة" وهو وقف تاريخي ونضالي للجزائريين.

دروس الثورة الجزائرية للثورة الفلسطينية
صنع الاشقاء الجزائريون واحدة من أعظم الثورات في العالم استمرت حوالي ثمانية أعوام، نال على أثرها الشعب الجزائري استقلاله وحريته، وانتصر على الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي امتد نحو مائة وثلاثين عاماً، حاول خلالها المستعمر طمس الهوية القومية للجزائر وتشويه عمقها الثقافي والإسلامي، بهدف تكريس التبعية السياسية والاقتصادية. تماماً كما فعل ويفعل الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني البطل.
انتصرت الثورة الجزائرية ووضعت حداً ونهايةً لواحدة من أبرز وأخطر تجارب الاستعمار، جسّد خلالها الشعب الجزائري نموذجاً للفداء والتضحية، ومثلت ثورته نقطة تحول كبيرة وفصلاً جديداً في تاريخ مقاومة الشعوب لجلاديها.
انتصرت الثورة الجزائرية المباركة على الرغم من التباين الكبير في ميزان القوى والإمكانيات والعدة والعتاد، نحن نتحدث هنا عن الفرق بين فرنسا الدولة المستعمرة ذات التاريخ الكولونيالي والمقدرات الكبيرة، وبين الجزائر التي لم تكن تمتلك إلا شعباً عظيماً لديه إرادة فولاذية، شعباً لا يقبل الهوان والظلم.
نجح الشعب الجزائري وثورته الميمونة في انتزاع الاستقلال، نتيجة الانضباط الشديد فيما يتعلق بالاختلافات الداخلية في البيت الجزائري، وسعت قيادة الثورة إلى تعزيز وحدة الصف الوطني وصولاً إلى الانتصار. ولم تنفجر الصراعات الداخلية فيما بين أجنحة الثورة رغم أنه جرت عمليات اغتيال وتصفية رفاق الدرب، ورغم جميع محاولات التآمر الداخلية والخارجية، إلا أن الثورة لم تنحرف عن هدفها الأساسي، ولم تغرق في التناقضات الثانوية وبالتالي لم تعرف مرحلة الاحتراق الذاتي. بقيت جميع فوهات البنادق موجهة نحو العدو الرئيسي وهو الاستعمار الفرنسي الكريه، وهذا أول وأهم درس استراتيجي يمكن نقله من التجربة الثورية الجزائرية لشقيقتها الفلسطينية.
الدرس الثاني هو أهمية وحدة الموقف والهدف. فقد تشكلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية في بداية العام 1955 من أبرز الأحزاب الوطنية "جمعية العلماء برئاسة الشيخ محمد البشير الابراهيمي، وجماعة مصالي الحاج، وحزب البيان برئاسة فرحات عباس، واللجنة المركزية المنشقة، وثلاثة من قادة جيش التحرير الناشىء في الجزائر وهم أحمد بن بلة، ومحمد خيضر، وحسين آيت أحمد".
هؤلاء جميعاً وقعوا على اللائحة الداخلية لجبهة التحرير الوطني والتزموا بنهج المقاومة بقيادة جيس التحرير.
ثالث الدروس الثورية التي يمكن نقلها للتجربة الفلسطينية متعلق بإدارة المفاوضات. لقد أقدمت الثورة الجزائرية على العملية التفاوضية من موقع القوة التي فرضها المجاهدين بصلابتهم في أرض المعارك، ولم تقدم الثورة على المفاوضات نتيجة ضعفها وهزيمتها، لأن العمل السياسي لا يعني بحال التفريط بالثوابت الثورية، ولا يمكن لهذا الحراك السياسي أن يتجاوز الخطوط التي حددتها الثورة.
لذلك لم تقدم الثورة الجزائرية على تنازلات استراتيجية تفرط بتضحيات الشهداء، بل رفضت فكرة توقف القتال ثم التفاوض كما اقترحت فرنسا حينذاك، بل استمرت في القتال والتفاوض كمسارين متوازيين حتى انتصرت واعترفت فرنسا باستقلال الجزائر.
اختارت الثورة الجزائرية إطلاق شرارتها الأولى في ظل ظروف مواتية، حيث كانت فرنسا ذاتها تلوك مرارة هزيمتها من ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وكانت أيضاً متورطة في حرب الهند الصينية، وكانت مصر عبد الناصر في ثورة ألهمت الشعوب العربية وأنعشت آمالهم القومية. وقد انحازت الثورة الجزائرية في صراعها ضد الاستعمار الفرنسي إلى عمقها العربي والقومي، وتمسكت بهويتها الإسلامية، ولم تنغلق على ذاتها.  انفتاح وانحياز للعمق القومي، إضافة إلى اختيار التوقيت الأمثل لبدء معركة ضد العدو، إضافة إلى وحدة الصف والهدف ووضوح الرؤية، هي أهم الاستخلاصات التي يمكن أن تشكل نقاطاً مضيئة لكل قارئ فلسطيني للثورة الجزائرية، بهدف الاستفادة والتعلم والأخذ بأسباب انتصارها، كل هذا مع إدراك السياقات التاريخية سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً للثورة الفلسطينية، ومحاولة استلهام روح الثورة الجزائرية لتجاوز حالة الإخفاق والاستعصاء التي تعيشها حركة المقاومة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة، في ظل انقسام وطني، وتشتت الجهود والمقدرات، واستنزاف الطاقات الفلسطينية، مما أدى إلى وضع شائك معقد وخطير تعيشه الساحة الفلسطينية.
أخيراً وليس آخراً، فإن الشعب الجزائري الشقيق الذي وافق على التنازل طواعية عن العديد من حقوقه في سبيل حماية الوطن خلال الثلاث عقود الماضية بعد العشرية السوداء، هذا الشعب ذاته تحرك سلمياً ورفع صوته مطالباً بإجراء إصلاحات جذرية في بنية النظام حفاظاً على الوطن أيضاً، إذ أثبت الشعب الجزائري سلميته ووعيه وحضاريته حين أعلن التصاقه بوطنه وحرصه على وحدته وإصراره على تحقيق مطالبه دون اللجوء إلى أية وسيلة عنفية، وهذا ما يشكل نموذجاً لتصحيح مسار الحراك الجماهيري في الدول العربية، ويمنح الشعب الفلسطيني فرصة لرفع صوته ضد الفاسدين والمنتفعين والمتكلسين والانتهازيين في كافة مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ودوائر السلطة الوطنية.

الجزائر تعتب على الأشقاء
يقول بعض المثقفين والسياسيين الجزائريين بعتب ومحبة، أن القيادة الفلسطينية تعلم جيداً أدق التفاصيل التي مرت بها الثورة الجزائرية، على الصعيدين العسكري والسياسي، وتجربة الثوار الكبيرة في التمرس بفن إدارة المفاوضات، حيث رفض المجاهدين الجزائريين أكثر من مرة طلب القوات الاستعمارية الفرنسية بدء مفاوضات بين الجانبين مع وقف القتال، خاصة في العام 1957 وفي العام 1959، وأصرت قيادة الثورة على إجراء مفاوضات مع استمرار القتال. لذلك لا تستطيع الجزائر حكومةً وشعباً أن تنظر بعين الرضى لسياسة المفاوضات مع العدو الصهيوني، التي اتخذتها القيادة الفلسطينية كخيار استراتيجي، ويؤلمها كثيراً ويغضبها ما يسمى "التنسيق الأمني" بين الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي، وهو أمر لا يمكن أن تسامح به الجزائر، ولا أن تفهم المبررات التي تقدم لها من قبل القيادة الفلسطينية.
الجزائر التي تعتبر القضية الفلسطينية قضية وطنية قدمت لأجلها كل غالٍ ونفيس، يحزنها كثيراً الحال الذي وصلت إليه هذه القضية، وحال الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية من انقسامات وتشرذم وضعف، أصابهم في مقتل. الأمر الذي يفسر ربما الفتور الملحوظ الذي أصاب العلاقات الجزائرية الفلسطينية خلال الأعوام الأخيرة، الأمر الذي يضع تحدياً أمام الدبلوماسية الفلسطينية لترميم جدران هذه العلاقة، ويضاعف المسؤوليات التي تضطلع بها السفارة الفلسطينية في الجزائر.
إن النهوض الثوري للشعب الفلسطيني ما زال إمكانية متاحة، فهو شعب قدم وما زال الكثير من التضحيات، ويمتلك خبرة نضالية في مواجهة المستبد الصهيوني. وحتى يتمكن الفلسطينيين من تحقيق أحلامهم في الحرية والتخلص من قبضة المحتل وبناء الدولة المستقلة، عليهم أن يحسنوا توظيف طاقاتهم البشرية والمادية والمعنوية، وكذلك الاستعانة بكل ما تمتلكه الأمة العربية ومن شأنه أن يعزز الصمود الفلسطيني. على الفلسطينيين أن يستلهموا الدروس والعبر من تجربة الثورة الجزائرية، بهدف تحويل حلم بناء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف إلى واقع.
الشعب الجزائري صنع ثورته الميمونة التي أدت إلى قيام وبناء دولة الجزائر الحديثة كما نعرفها. دولة لها ثقلها ووزنها المغاربي والعربي والإفريقي والإقليمي والعالمي.
توحد الجزائريون خلف ثورتهم وقيادتهم فكتب لهم النجاح. آمنوا بمشروعهم النهضوي دون تغريب فبنوا دولتهم. وهذا ما نأمل أن يفعله الفلسطينيين.







75




حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمرك

تقدم الحكومة المغربية كل عام أماكن تعليمية مع أو بدون منحة في المؤسسات العامة للتعليم العالي والمهني لآلاف الطلاب العرب والأفارقة ومن دول أخرى مختلفة، بدافع تعزيز وتطوير العلاقات بين المملكة المغربية والدول الشقيقة والصديقة. ولهذا الهدف تأسست الوكالة المغربية للتعاون الدولي (AMCI) في العام 1986 كواحدة من أهم الأدوات الديناميكية المرنة والفعّالة التي يعتمدها المغرب الشقيق في تنفيذ سياساته المتعلقة بالتعاون الخارجي للمملكة. وتدير الوكالة أعمالها وأنشطتها بالتعاون والتنسيق الوثيق مع وزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية، كما تقوم الوكالة بعقد شراكات مع جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية المغربية وكافة إدارات القطاع العام. وتدير الوكالة وتشرف على تطوير وتوسيع وتعميق جميع علاقات المملكة المغربية الثقافية والعلمية والتقنية والاقتصادية مع دول العالم، وخاصة التعاون بين الجنوب جنوب، وتتابع الوكالة كافة المشاريع ذات الطابع العلمي والاقتصادي والأعمال الإنسانية التي يتكفل بها المغرب تجاه دول أخرى.

تقدم الوكالة المغربية للتعاون الدولي آلاف المنح الدراسية سنوياً يستفيد منها طلاب من دول أفريقية وعربية ومن دول أخرى، حيث يستحوذ الطلبة الأفارقة على حوالي 60 في المائة من المنح، بينما يذهب ما نسبته 35 في المائة للطلاب العرب، وخمسة في المائة لطلاب من جنسيات مختلفة، وتخصص الوكالة سنوياً مئات المقاعد الدراسية للطلاب الفلسطينيين للدراسة في الجامعات والمعاهد المغربية. ويدرس حوالي 30 ألف طالب أجنبي في المؤسسات التعليمية المغربية من حوالي 70 دولة. وتوفر الوكالة حوالي ألف سرير لفائدة الطلاب الأجانب من خلال الحي الجامعي الدولي الذي تضطلع الوكالة المغربية للتعاون الدولي بإدارته، بالإضافة إلى ما يوفره المكتب الوطني للأعمال الجامعية الاجتماعية والثقافية من أسرة بمختلف الأحياء الجامعية.

وترتبط السفارة الفلسطينية في الرباط بعلاقات وطيدة مع الوكالة المغربية للتعاون الدولي، وشهدت هذه العلاقات تطوراً هاماً وملحوظاً، نتج عنه زيادة في عدد المنح المقدمة من المغرب للطلاب الفلسطينيين خلال تولي الدبلوماسي اللامع جمال الشوبكي مهامه سفيراً لدولة فلسطين في المغرب، حيث يدرس أكثر من 500 طالب فلسطيني في الجامعات والمعاهد المغربية في مختلف التخصصات. ومن المعروف أن عدداً من كبار المسؤولين والوزراء الفلسطينيين كانوا قد أكملوا دراساتهم العليا في المغرب الشقيق. وفي العام الماضي التقى السفير الشوبكي مع السفير محمد مثقال المدير العام للوكالة المغربية للتعاون، وفي حينها تناول اللقاء أهمية وسبل تعزيز وتطوير مستوى التعاون الثنائي في قطاعات التكوين وتبادل الخبرات بين الوكالة المغربية للتعاون الدولي والوكالة الفلسطينية للتعاون، وزيادة مستوى التنسيق في مجالات الطب والزراعة والبحث العلمي. وكذلك القيام بتنفيذ برامج مشتركة بين الوكالتين في القارة السمراء.

وتستقبل السفارة الفلسطينية في الرباط عبر بعثتها التعليمية ومسؤولها السابق الأستاذ محمد قديح والحالي الأستاذ قاسم الطلاب والطالبات الفلسطينيين منذ لحظة وصولهم إلى المغرب، وتتابع معهم التفاصيل المتعلقة باستكمال إجراءات تسجيلهم في الجامعات المغربية، وكذلك كافة القضايا الإدارية الأخرى من سكن وإقامة ونقل وتبديل.. الخ.

يلقى الطلاب الأجانب الذين يدرسون في المغرب الاهتمام والرعاية التامة من قبل الوكالة المغربية للتعاون الدولي، ويجد الطلاب الفلسطينيين في المغرب كرم الضيافة وحفاوة الاستقبال وطيب اللقاء الذي يتصف به الأشقاء المغاربة، وما عرف عنهم حبهم لفلسطين وشعبها وتعلقهم الروحي والديني التاريخي بمدينة القدس. وكذلك الدور الهام والمتواصل لأمير المؤمنين جلالة محمد السادس رئيس لجنة القدس في رعاية المدينة المشرفة وأهلها، وكان جلالته قد أمر بتخصيص منحة مالية لمدينة القدس خلال الشهور القليلة الماضية، وأمر بإرسال معماريين وصناع تقليديين مغاربة مهرة، لصيانة الأصالة المعمارية للمدينة وصيانة ترثها الحضاري والروحي. وهي مكرمة ملكية سامية لترميم بعض الأجزاء داخل المسجد الأقصى وفي محيطه، دعماً لصمود المقدسيين، ودفاعاً عن الوضع التاريخي لهذه المدينة، وتأكيداً على رمزيتها الدينية وهويتها الحضارية كمدينة للتعايش والتسامح بين جميع الأديان السماوية.

للوكالة المغربية للتعاون الدولي الشكر الكبير والامتنان والتقدير للدور الكبير المهم الذي تقوم به في استقبال ودعم ومساعدة الطلاب من مختلف دول العالم، وتوفر لهم كافة المستلزمات والظروف المناسبة لاستكمال دراساتهم في مختلف المؤسسات التعليمية المغربية. ولمديرها العام السفير الخلوق محمد مثقال كل الاحترام لجهوده العظيمة المهمة وإدارته الناجحة للوكالة.

للمغرب الشقيق كل الحب والوفاء لهذا العطاء المتواصل لفلسطين وشعبها وطلابها. ولأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أدامه الله ورعاه أسمى آيات التقدير والعرفان لمواقفه العربية والأفريقية والإسلامية المشرفة.


76
أدب / أبحثُ في رثاء الصمت
« في: 18:13 17/07/2019  »

حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك


أبحثُ في رثاء الصمت


1
تتلوى البيوت
حين يراودها قنديل الريح
من يمحو حكايا الوجوه
عن الجدار
يسائلنا الرثاء
من خيبة
هل عبرتم مرة
حزن المدينة؟
هل أوجعكم الموت سهواً؟
أي جنون حمل السفينة
تطفو فوق العصافير


2
يسيل غيم الوضوء
من صدر السماء
يتأهب الموتى للصلاة
كان التراب فاتحة الجثامين
الركعة الأولى
نامت الجدران قرب لوحة الأنبياء
مدّوا في السجود
مزيداً من الإيمان
نفثوا حزنهم
فوق الشموع الأخيرة
وعادوا إلى السر المعلّق
ينتظرون قيام الليل


3
تأخرت الأبواب المغلقة
وذهبت حقائب الرحيل
يخلع الانتظار من الضجر
لون العصافير
ويرسم القلق زورق السفر
على وسائد الغموض
كان اللقاء على الأبواب
تفتقد الشمس ضباب الشروق
ومفتاح الأسفار يحتضر
نتأمل مطلع القادم
الأحلام أجمل ما في العشاق



4
تلفحنا الملامح الرمادية
فنشتهي المساحات البيضاء
يختطف لون الألواح
وجع اللحظة
كأننا نولد من يقين مُحرّمْ
كم يتشابه قمح الأحلام
لكن خبز المسافات
مرايا أخرى
فكم عمر العثرات ؟
لا أحد في أعباء الغفلة
يفصل بين ضفتي الجنون


5
أبحث في رثاء الصمت
عن صدفة تنتظر
أرمّم أجنحة الجسور
وأغسل زمني ومواسمي
بالمرآة الغائبة
أكتب آخر الأسماء
بماء العيون المنكسرة
سألتها كيف نشفي الذاكرة
وتصحو الدهشة ؟
قالت
إني أشد حقلي
كي أسمعك
لملمْ فتات الوهم
واقطف من قلبك
المواعيد الفائتة
قلت لها
كم يحتاج الفراش إلى زهر
لتغفر الفصول ذنب المطر
قالت
قبل أن يغلق المصير الدائرة
هذا أعمق سر لا يعرفه أحد




6
نخلع من مواسمنا وجه الفراغ
لا جنون آخر
لتأخذنا الطفولة أحجية
هائمة في مساحة العري
مازلنا صغاراً
نشبه الوقت الراكد
على بساط الإيمان
إن أردنا لا نكبر
لدينا ما يكفي من ساقية الصباح
ذات صحراء وأدت ضلال الغيوم
نقشنا أسماء المدينة
في رسائل الغائبين
ورمينا من وجع الجدران
نافذة الرحيل



77
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


الأسيرات الفلسطينيات
حرائر فلسطين.. شموخ وعزيمة لا تلين

   
رفعت المرأة الفلسطينية اسم فلسطين عالياً، وتواجدت بفعالية في كافة الثورات والانتفاضات والتحركات الجماهيرية وفي كل مفاصل الحركة الوطنية الفلسطينية تاريخياً، وكانت في مقدمة الصفوف، واجهت رصاص وسياط الجلادين الصهاينة أعداء الحياة والإنسانية. فمنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في ستينيات القرن العشرين، ساهمت المرأة الفلسطينية في مختلف المراحل النضالية، وشاركت الرجل الفلسطيني جنباً إلى جنب وعلى قدم المساواة في الدفاع عن الأرض التي احتلها المغتصب الصهيوني. شاركت في العمليات الفدائية، وساعدت في نقل الأسلحة وتخزينها، واندفعت المرأة الفلسطينية وحملت السلاح وناضلت بجانب المقاتلين في الذود عن وطنها وكرامتها ومقدساتها. تقاسمت مع الرجل كل شيء، وشاركته حب فلسطين وعشقها الذي نمى وترعرع مع شذى التراب الطاهر. حملت الحجر وشاركت في كل الانتفاضات الوطنية ضد الاحتلال. زرعت الأرض مع الرجل وحصدتها وحدها حين يغيب شهيداً أو أسيراً. لم تتواني المرأة الفلسطينية في بذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق أهداف شعبها في الحرية والانعتاق من الاحتلال الصهيوني البغيض. قدمت حليها لشراء الأسلحة الذي حملته لتواجه المحتل. أسهمت بفعالية في تنظيم المظاهرات والمسيرات ضد سياسات الاحتلال الغاشمة. وانغمست المرأة والفتاة الفلسطينية في الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987 وكان لها دور محوري في تهيئة مناخات الانتفاضة ونجاحها، حيث أسهمن في تكوين الأطر النسائية في مختلف القطاعات. ودعمت المرأة الفلسطينية الانتفاضة الثانية العام 2000 فكان منهن الشهيدة والجريحة والأسيرة. ولم تتوانى حرائر فلسطين عن حماية المقدسات، فكن الحراس الأشداء المنتشرين في ساحات المسجد الأقصى، ورابطن على أبوابه لصونها ومنع جنود الاحتلال الصهيوني من تهويد وتقسيم الأقصى. وشاركن بقوة في انتفاضة القدس العام 2015 حيث تميزت هذه الانتفاضة بالعمليات الفردية التي قامت بها فتيات وشبان بمقتبل العمر، وسقط منهن العديدات شهيدات برصاص قوات الاحتلال، وجرح وأسر منهن العشرات، وهو ما يدلل على أن دور المرأة الفلسطينية في النضال الوطني لا حدود له في سبيل تحرير الوطن.

حرائر فلسطين
تقبع العشرات من حرائر فلسطين في سجون العدو الصهيوني، يتكدسن في زنازين قاتمة لا يدخلها ضوء ولا شعاع شمس، ضمن معتقلات كالقبور، صامدات خلف القضبان الحديدية، يقضين فترات اعتقالهن التي تستمر سنين طويلة وصلت خمسة عشر عاماً أمضتها عميدة الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الأسيرة "لينا الجربوني" بتهمة المقاومة. تذوب أعمار هؤلاء الأسيرات في الانتظار خلف زجاج الزيارة الغليظ الذي يحول دون لمس أيادي الأهل والأحبة والأبناء. يعانين في معتقلات وسجون النازيين الجدد أقسى أساليب التعذيب الجسدي والنفسي والاجتماعي التي يبتكرها السجانون الصهاينة. لكن رغم الظروف الكارثية التي تعيش بظلها الأسيرات الفلسطينيات، إلا إنهن صامدات بإرادة وعزيمة قوية صلبة لم يستطع السجان النيل منها ببشاعة تصرفاته. ولم تتمكن الأوضاع الصحية والمعيشية بالغة السوء التي تعاني منها حرائر فلسطين، ولا الإجراءات الاستفزازية والممارسات التعسفية بحقهن من كسر إرادتهن، مما أربك إدارة السجون الإسرائيلية وجعلها عاجزة أمام هذا الصمود الأسطوري للأسيرات الفلسطينيات.

معاناة متواصلة
تتعرض الأسيرات الفلسطينيات في سجون ومعتقلات الاحتلال الصهيوني إلى أسوأ وأقبح وأقذر أساليب التعذيب السادية الوحشية المخطط لها من قبل إدارة السجون الإسرائيلية وأكثرها دموية. ولا يميز السجان الصهيوني في التعذيب بين الأسرى رجلاً كان أم امرأة، لا من الناحية الجسدية ولا النفسية، فهو يتبع ذات أساليب التعذيب المهينة والشائنة مع الأسيرات والأسرى.
إضافة إلى التعذيب الجسدي الذي تتعرض له الأسيرات بصفة متواصلة مثل الضرب والركل واستعمال العنف في أثناء التحقيق، وعدم السماح لهن بالنوم وحرمانهن من الرعاية الطبية وسوء نوعية الطعام المقدم لهن، فإنهن يعانين من التعذيب النفسي بمنع الزيارات عنهن وتحريم التواصل مع ذويهن عبر الرسائل للأسيرات التي يمنع السجان عنهن الزيارة. كما تقوم إدارة السجون الإسرائيلية بحرمان الأسيرات والأسرى من الاحتفال بالمناسبات الدينية أو الوطنية، ويمنعهم حتى من مجرد إظهار مشاعر الفرحة بالعيد.
كما يقوم الجنود بمهاجمة السجون بشكل مفاجئ وهم مدججين بأسلحتهم ويرتدون ثياب القتال، وذلك بهدف إرهاب الأسيرات وتعنيفهن وتفتيش زنازينهن بصورة يتم خلالها إتلاف الأشياء الشخصية للأسيرات ومصادرة الكثير منها. وتقوم إدارة السجون الصهيونية بحظر تواصل الأسرى والأسيرات مع عالمهم خارج السجون، بمنع الزيارات عنهن بذريعة أسباب أمنية، أو بعزل الأسيرات داخل الزنازين الانفرادية لشهور طويلة، الأمر الذي يترك أثراً مؤلماً لدي السجينات نتيجة بتر علاقتهن مع محيطهن الداخلي والخارجي. وتتيح إدارة السجون الزيارة لبعض الأسيرات مرة واحدة شهرياً في بعض الأحيان، وفي معظم الأحيان مرة واحدة كل ستة أشهر للأخريات، وغالباً ما يمنعون الزيارات منعاً باتاً.
تزداد المعاناة وتكون أشد ألماً وأقسى توجعاً عند الأسيرة الأم التي تُحرم من لمس الأبناء والأهل، وإن سُمح لها بتلقي زيارة فعادة ما تكون خلف جدار زجاجي سميك لا ترى أحداً من عائلتها عبره بوضوح، تتحدث معهم عبر سماعات يقوم السجّان بالتشويش عليها ومراقبتها، فترى الأسيرة الأم الأبناء فلذات أكبادها يكبرون بعيداً عن حضنها وحنانها الذي يفتقدونه، ولا تستطيع حتى تقبيلهم.
 
الدعم والمساندة
تحتاج الأسيرات الفتيات والأمهات إلى من يساعدهن على مواجهة القلق والخشية من المستقبل، كونهن يعانين الأمرين، عذابات السجن ووجعه الجسدي والنفسي، والتصدي للضغوط المرعبة التي تحاول إدارة السجون الصهيونية فرضها على الأسيرات للنيل من إرادة المقاومة لديهن، وتعاني الأسيرات مرة أخرى بعد إطلاق السراح من صعوبة الاندماج والعودة للحياة الطبيعية والزواج وإنشاء أسرة، فهن يحتجن مننا جميعاً إلى اليد التي تساعدهن لتخطي فترة ما بعد الإفراج عنهن، وإلى من يعيد إحياء الأمل في نفوسهن، ويحمل لهن بشارة تحرير الوطن من رجس الاحتلال، وهذا أقل القليل الذي يمكن تقديمه للأسيرات الفلسطينيات بعد التحرر من قضبان السجن، فهن يحتجن الحاضنة الاجتماعية والإنسانية التي تساعدهن على استعادة كرامتهن وتشعرهن أنهن محل احترام وتقدير المجتمع الذي يكن لهن كل تعظيم وتبجيل وتوقير لتضحياتهن في سبيل عزة الوطن وكرامته. كما تحتاج الأسيرات المحررات جميع أشكال الدعم المعنوي والاجتماعي والاقتصادي لإعادة انخراطهن المجتمعي ومعالجة الآثار السيئة المتولدة عن سنوات الاعتقال.

توثيق قضايا الأسيرات
يتفنن السجانون الصهاينة في أساليب القمع والقهر والتعذيب والتنكيل بالأسيرات الفلسطينيات وتفتيشهن دون احترام لأي خصوصية للمرأة، ويقوم الجنود بمداهمة الزنازين ليلاً أثناء النوم. ويطبقون سياسة الإهمال الطبي المتعمد بحق الأسيرات اللواتي يعانين أوضاعاً صحية بالغة السوء وخطيرة، داخل معتقلات لا تراعي الحد الأدنى من متطلبات الحياة البشرية، وضمن ظروف معيشية غير إنسانية ومأساوية. فإسرائيل تقوم باعتقال الآلاف من الأسرى والأسيرات الفلسطينيون في زنازين تشبه تماماً القبور تحت الأرض، لا تدخلها الشمس، ورائحة العفونة والرطوبة في هذه السجون تصل إلى عشرات الأمتار وتزكم الأنوف، بخلاف ما تدعيه السلطات الإسرائيلية أنها تحترم القوانين الدولية والشرائع الإنسانية في السجون التي تعتقل فيها الأسرى الفلسطينيون.
والطعام الذي يقدم للأسيرات ممتلئ بالحشرات، وظروف الاعتقال تصيب الأسيرات بالعديد من الأمراض الجلدية والباطنية، والرعاية الطبية منعدمة، ولا تقدم إدارة السجون سوى "الأسبرين" دواءًا لمختلف الأمراض، كما وتتسلل الحشرات والجرذان ليلاً إلى زنازين الأسيرات، مما يفاقم الوضع الصحي والبيئي للاعتقال.
من الأهمية أن تقوم بعض الجهات والمنظمات والهيئات الفلسطينية والدولية بتوثيق قضايا الأسيرات ومعاناتهن وما يتعرضن له من عسف وظلم وتعذيب من قبل قوات الاحتلال الصهيوني وإدارة السجون، وتوثيق الانتهاكات الحقوقية والإنسانية التي تتعرض لها الأسيرات الفلسطينيات التي بلغت منحى خطيراً خلال الأعوام الأخيرة، وكذلك رصد وتسجيل شهادات الأسيرات المحررات حول أوضاع السجون والاعتقال، وحال الأسيرات وأوضاعهن، بهدف فضح سياسات الاحتلال البغيض وكشف ممارسات إدارة السجون البشعة بحق الأسيرات، وتقديم ملفات قضايا الأسيرات والانتهاكات إلى المحاكم الدولية.

المرأة الجبارة
كانت ولا زالت المرأة الفلسطينية تشكل نموذجاً نضالياً لكافة نساء العالم، تقدمت الصفوف في كافة المراحل وفي جميع المعارك الوطنية التي خاضها الشعب الفلسطيني لنيل حريته. لهذا استشهد وجرح منهن الآلاف، ولا زالت العشرات من حرائر فلسطين في السجون الإسرائيلية، تنزف جراحهن قهراً وألماً في المعتقلات الإسرائيلية. لقد قامت قوات الاحتلال الصهيونية باعتقال عشرات الآلاف من النساء والفتيات الفلسطينيات خلال مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة. ولا يزال العشرات منهن يقبعن داخل الزنازين، بينهن أسيرات قاصرات تقل أعمارهن عن 18 عاماً، وبينهن معتقلات جريحات أصيبن أثناء اعتقالهن برصاص قوات الاحتلال، وفيهن أسيرات متزوجات ولديهن أطفال وكذلك أسيرات أمهات، يتعرضن جميعهن بشكل يومي للضرب والإهانة والتنكيل والسب والشتم من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.
إن حفلة التضييق والضرب للأسيرات تبدأ منذ لحظة وصولهن إلى مراكز التحقيق، حيث يتعرضن للضرب والشبح لساعات طويلة، يتواصل التعذيب والإرهاب بعد انتهاء فترة التحقيق وانتقالهن إلى أقبية التوقيف حيث تسعى سلطات السجون إلى ابتداع كافة الطرق لإذلال الأسيرات ومحاولة المس بكرامتهن، ويتعرضن لسياسة "دق الشبابيك" صباحاً ومساء حيث يتم تفتيش زنازينهن ذات الأرضية الاسمنتية الباردة جداً في الشتاء وسيئة التهوية، ولكن حرائر فلسطين يواجهن بطش السجان الصهيوني بكل عزيمة وإيمان، ويقاومن جبروته وعنجهيته بمزيد من التصميم على الصمود والنضال لانتزاع حريتهن وحرية وطنهن وشعبهن.

درب الأحرار
تتعرض الأسيرات الفلسطينيات في السجون الإسرائيلية للتعذيب والإهانة والاضطهاد، والتهجم عليهن بالشتائم والألفاظ البذيئة ويحرمن من كافة حقوقهن، ويجري تهديدهن بالاغتصاب، وتصدر المحاكم العسكرية الإسرائيلية بحقهن أحكاماً مرتفعة، ويقوم السجانون بحرمانهن من الطعام والشراب والنوم وتكتيف الأيادي للخلف على الكرسي لساعات طويلة، والتعليق من اليدين أو القدمين، ومنعهن من استخدام المراحيض والاستحمام لفترات طويلة. حتى إن تم نقل الأسيرة إلى مركز طبي لمعالجتها- وهذا نادراً ما يحصل- بعد أن يشتد المرض عليها، تقوم الطواقم الطبية الصهيونية بالاعتداء على الأسيرات بالضرب والشتائم والبصاق وتوجيه الإهانات لهن من قبل الأطباء والممرضين الإسرائيليين ومحاولة إذلالهن وتحقيرهن، مما يتعارض مع أخلاقيات المهنة، مثلما حصل مؤخراً مع الأسيرة المقدسية "إسراء جعابيص" كما روت شقيقتها في اتصال مسجل.
إن خلف تلك القضبان الحديدية الكريهة حكايات وقصص وآهات وآلام ودموع ووجع عميق، وخلف كل قصة تفاصيل مؤلمة وهموم واسعة، موت بطيء تتقاسمه الأسيرات الفلسطينيات في معتقلات الصهاينة النازيين الذين يساومون الأسيرات حتى على تبديل ملابسهن كعقاب قوي رادع في مقابل التوقيع على اعترافات. ويعانين يومياً عذابات فوق طاقة احتمال أقوى الرجال، هناك الأسيرات الأمهات اللواتي يتحرقن شوقاً لمعانقة الأبناء والأهل دون قضبان ولا زجاج ولا جدران. في تلك الزنازين المعتمة الضيقة والباردة تقبع الأسيرات الفلسطينيات بكل شموخ وإباء يتحدين يومياً سياسات إدارة السجون وممارسات الجنود الصهاينة التي تحاول كسر أرادة المقاومة فيهن والنيل من كرامتهن.
هؤلاء الاسيرات ومعهن الأسرى الفلسطينيون هم أسرى حرية وليسوا سجناء جنائيين، ويجب أن تنطبق عليهم اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بمعاملة الأسرى والجرحى، ومنها عدم محاكمتهم أمام محاكم عسكرية. هن نجمات فلسطين، منابع العطاء لذلك يحظين باحترام وتقدير وتبجيل أبناء مجتمعهن الذين ينظرون لهن نظرة الإجلال والإكبار. هؤلاء هن حرائر فلسطين، شقائق الرجال،  الأسيرات الصامدات الحالمات بمستقبل يتمكن فيه من العيش بحرية وكرامة مع عائلاتهن في وطن حر دون وجود سجون ولا احتلال.


78
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


غسان كنفاني أية قوة امتلكت..
لهذا اغتالتك إسرائيل

"كان والدي رجلاً طيباً. يشتري لي ما أرغب به. ما زلت أحبه رغم أنه مات. حين أكبر سوف أصبح مثل أبي، وأحارب كي أعود إلى فلسطين، أرض أبي التي حدثني كثيراً عنها وعن أم سعد. رغم أنني وجدت صعوبة في تعلم اللغة العربية، إلا أنه أصبح بمقدوري الآن قراءة جميع ما كتب عن والدي. أحب أنه كان والدي، فهو كان كثير الذكاء، والناس أحبوه. سوف أساعد أمي وأختي من أجل أن لا يحزنا كثيراً، لكننا لن ننساه أبداً"
هذا ما كتبه فايز ابن الشهيد غسان كنفاني عن والده، وكان بعمر العشر سنين حين رحل غسان كنفاني المتعدد المواهب بإتقان، الذي يجيد النضال في جبهات متعددة، ابتدأها بالعمل الصحفي، ليتحول إلى مختلف أنواع الأدب، ويصبح مناضلاً ثورياً، وقائداً سياسياً فيما بعد.

غسان الإنسان
كان غسان ملتصقاً بفلسطين بصورة استثنائية فوهبها حياته. غسان الذي آمن بأن الشعب الفلسطيني يفضل الموت واقفاً على أن يخسر قضيته، وأن هذا الشعب سوف يستمر بالنضال حتى ينتصر، وأنه لن ينهزم أبداً.
كان غسان محبوباً من جميع القوى الفلسطينية، وكان يمتلك قاعدة جماهيرية واسعة، هاجر من فلسطين مع عائلته العام 1948 ولجأ إلى لبنان ودمشق التي درس فيها، وانقطع عن دراسته وسافر إلى الكويت للعمل، ثم عاد مرة أخرى إلى لبنان بعد انضمامه لحركة القوميين العرب.
وهناك في بيروت التقى مع "أنى هوفمن" الفتاة الدانمركية الجميلة التي ستصبح زوجته بعد أسابيع قليلة من اللقاء الذي جمعهما في بيروت، وكانت آني ابنة عامل نجار ومناضل مناهض للنازية. كانت قد التقت لأول مرة في حياتها مع فلسطينيين في العام 1960 اثناء مؤتمر طلابي في يوغسلافيا، حينها سمعت عن فلسطين الكثير، وقررت في العام التالي زيارة مخيمات اللجوء الفلسطينية في سورية ولبنان، وهناك تعرفت بغسان كنفاني الذي كان صحفياً شاباً يعمل في صحيفة الحرية. وأنجبا خلال الخمس سنوات بعد زواجهما طفلين هما "فايز" الذي اسماه غسان على اسم جده و"ليلى".
وفي مناسبات متعددة ذكرت أني أن غسان كنفاني كان فخوراً جداً كونه فلسطينياً، وكان يتمتع بمواهب متعددة، وكان إنساناً رائعاً يتمتع بحس المرح، وله قدرة لافتة على التعامل مع الآخرين، أيضاً كان يمتلك قلماً نقدياً لاذعاً في المقالات السياسية والاجتماعية، وكان غزير الإنتاج الكتابي والإبداعي كأنه نبع متدفق، وكان غسان زوجاً محباً وأباً صالحاً.
اغتيل غسان وهو بعمر الشباب والعطاء، ورغم ذلك ترك خلفه ثمانية عشر مؤلفاً بين الرواية والقصة والمسرحية، ومئات المقالات في صحف متعددة، حتى أنه كان يكتب تحت أسماء مستعارة، مثل "أبو متى" و"أبو فايز" و"فارس".
بعد عدة أسابيع من لقاءه وآني قال لها "هل تتزوجيني؟ أنا رجل فقير بلا مال ولا وطن، وأعمل في السياسة، وحياتي خطرة وأنا مهدد ومصاب بالسكري"

النكبة الكبرى
حين احتلت فلسطين من قبل الصهيونية في العام 1948 واقتلع أهلها وتشردوا في بقاع الأرض، كان غسان كنفاني طفلاً بعمر 12 عاماً، فخرج مع عائلته وأصبحوا جميعاً لاجئين في لبنان. قبل خروجهم أخبره والده أن الجيوش العربية سوف تدخل إلى فلسطين وسوف يتم طرد الصهاينة الدخلاء من أرض فلسطين، وأنهم سوف يعودون بعد ذلك. لكن ما حصل في الحقيقة التي التقطها غسان مبكراً أن لا الجيوش العربية تمكنت من استعادة قرية فلسطينية محتلة واحدة، ولا أحد من الشعب الفلسطيني الذي خرج من وطنه تمكن من العودة. وفي رواية "أرض البرتقال الحزين" يصف غسان وجع اللحظة، وألم الفاجعة، والقهر الذي أبكى أباه، وولدت المرارة التي ستشكل هوية كتاباته من تاريخ النكبة لغاية انطلاق المقاومة الفلسطينية المعاصرة.
عمل غسان كنفاني مدرساً في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وهو شاب صغير، كي يساعد والده على إعالة العائلة. في عمله كأستاذ يكتشف غسان عوالم الأطفال اللاجئين، الذين لم يتمكنوا من رسم أنواع معينة من الفاكهة لعدم وجودها في مخيم اللاجئين، ولأن الصغار لم يروها من قبل لأن الآباء لا يمتلكون ثمنها. وعرف أن الأطفال يخرجون من المدرسة في فترة ما بعد الظهر ليحملوا صندوقاً خشبياً فوق رؤوسهم، لبيع الكعك للمارة في الطرقات أو المقاهي أو أمام أبواب السينما، يظلون هكذا حتى ساعات الليل مقابل قروش قليلة يساعدون الأهالي.
كان هؤلاء الفلسطينيون الفقراء هم الذين قاوموا وقاتلوا من أجل ألا يتم احتلال فلسطين من الصهاينة، ومن أجل ألا تسقط فلسطين ويسقطون معها. وهاهم اليوم لاجئين في مخيمات التشرد، يصارعون ويكافحون لأجل البقاء على قيد الاستمرار.

أدب غسان كنفاني
إن الثقافة هي انعكاس للسمات الرئيسية التي تشكل وجدان وضمير الأمم، والتي تعكس أصالتها وقيمها وموروثها الفكري والعلمي والشعبي، وتشمل العقائد والفنون والآداب والأخلاق والقانون والعلوم والمعارف، وتمثل بصمة تميز أمة عن سواها. وبهذا فإن الأدب بكافة أنواع ما هو سوى انعكاساً للواقع وتفاعلاته وأحداثه، حيث أن الأدب شكل من اشكال الوعي الاجتماعي الذي يمكن اعتباره وثيقة تاريخية لحقبة ما.
بهذا المعنى إن الأدب الفلسطيني شكل دوراً توثيقياً للتاريخ الفلسطيني، خاصة الرواية التي عايشت مختلف المراحل التي مر بها الشعب الفلسطيني منذ بداية القرن العشرين، مروراً بالنكبة الكبرى عام 1948، وفترة ما بعد نكسة حزيران عام 1967، وما تلاها من أحداث، وصولاً للفترة الحالية. كما أن الرواية الفلسطينية قد عالجت كثير من القضايا الاجتماعية والوطنية والسياسية والإنسانية للشعب الفلسطيني، وأجرت مقاربات جادة مبدعة لفاجعة تشريد هذا الشعب وتهجيره ولجوئه، ومقاومته وتضحياته وهويته. حتى يصح أن نقول إن الرواية هي فلسطين، وهو ما يمكن للقارئ أن يلاحظه بوضوح في روايات غسان كنفاني، الذي اعتبر- وهو الأديب والمناضل- في كتابه "أدب المقاومة" أنه لا يمكن للكاتب والأديب والروائي أن يكتب عن فلسطين وعن المقاومة دون أن يكون جزءًا منها. وهذا يعني ببساطة أن الأدب الفلسطيني وفن الرواية مرتبطان بشكل وثيق بالتاريخ الفلسطيني، وبتاريخ الوجع والقهر والتشرد والمقاومة، منذ النكبة لغاية يومنا هذا. لكن الأدب أيضاً مرتبط بالمبدع المنتج للأدب، وبشخصيته وموقفه وأدواته، ومقدرته على قراءة الواقع واستشراف القادم. غسان كنفاني كان واحداً من أهم المبدعين الفلسطينيين الذين تمكنوا من هذه المقاربة التي أتاحت لنا أن نرى فلسطين بتفاصيلها وأصالتها وشموخها من خلال النوافذ التي شرّعها لنا غسان كنفاني، وكأننا نشاهد فلسطين للمرة الأولى، ونشاهد معها أنفسنا وآباءنا وأجدادنا.
الأدب الذي انتجه غسان كنفاني يؤرخ فترة مهمة من تاريخ الفلسطيني، ورحلة اللجوء والمنافي، رحلة التشرد والقهر، رحلة المعتقلات، والمقاومة، الذي كان غسان جزءًا منها ومشاركا فيها كلاجئ وأديب ومثقف ومقاوم صاحب رؤية وفكر وانتماء. فكتب روايتين ولم يكن عمره قد تجاوز 23 عاماً، هما "أرض البرتقال الحزين" و"رجال في الشمس".
في روايات غسان كنفاني ترى اللاجئ الفلسطيني قد خرج من إطار الأرقام الذي وضعته داخله الأمم المتحدة وهيئاتها الإنسانية، وعبر من الأوراق ليتحول إلى إنسان يحمل جرحه ومعاناته ووطنه أينما اتجه. رصدت روايات غسان تفاصل حياة الفلسطيني بكافة شرائحه، وانحاز إلى الفقراء والمضطهدين والبسطاء اختياراً واعياً فكرياً وأيديولوجياً وسياسياً. ولم يراوده الشك لحظة في قراره أن يكون ذاك المثقف العضوي المشتبك مع قضايا شعبه ووطنه.
هذا ما نستطيع أن نلمسه في جميع روايات غسان. ففي رواية "أم أسعد" يذكر غسان أن على المثقفين والمناضلين التعلم من الجماهير وتعليمها. بهذا هو يحدد موقعه الطبقي والنضالي. وفي رواية "أرض البرتقال الحزين" يصف رحلة اللجوء الموجعة إلى لبنان، التي حولت الفلسطيني -شأنها في ذلك شأن رحلة لجوء الفلسطيني إلى دول أخرى- من إنسان طبيعي يعيش في بيته ووطنه، إلى لاجئ بلا بيت وبلا وطن. ربما هذا قد يكون واحداً من أبرز سمات أدب غسان كنفاني، الذي جعلته بصورة أو بأخرى أدب التاريخ الفلسطيني.

الانحياز للفكر الثوري
شهدت خمسينيات القرن الماضي حالة ضياع للشعب الفلسطيني، الذي عاش في مخيمات اللجوء، يعاني الإحباط وتداعيات الهزيمة. في ظل هذه الأجواء سافر غسان كنفاني إلى الكويت للعمل. ومن هناك بدأت صفحة جديدة في حياته، إذ انضم لحركة القوميين العرب وبدأ نشاطه السياسي، وبدأ يكتب في الصحف عن فلسطين والنكبة، وعن أحوال اللاجئين. وفي تلك الفترة كتب روايته "رجال في الشمس" التي رصدت حالة الفقر والضياع والطحن والتهشيم للإنسان الفلسطيني، الذي تم اجتثاثه من بيته، وتركه وحده يواجه المحق وضنك الحياة.
وفي تلك المرحلة أيضاً تبلورت أفكار غسان كنفاني وحدد خياره الأيديولوجي، حيث اتجه نحو الماركسية والفكر اليساري الثوري. كما شكلت المرحلة نقطة انعطاف ليس فقط سياسياً وفكرياً ونضالياً، إنما إبداعياً أيضاً، حيث انتقل أدب غسان من حالة توصيف النكبة ورحلة اللجوء والتشرد التي اتسمت بالإحباط، إلى حالة من رفض الواقع والتمرد عليه بهدف تغييره.
شكلت هزيمة عام 1967 بداية حقبة جديدة من حياة الشعب الفلسطيني، حيث سيصبح التمرد والتحدي وانطلاقة الفعل الوطني التحرري الفلسطيني، سمات هذه المرحلة التي كانت بداية العمل الثوري. أسس غسان صحيفة "الحرية" ثم أنشأ مجلة "الهدف" التي كانت الصحيفة التي تتبع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بزعامة الدكتور جورج حبش، وظل غسان رئيس تحرير الهدف حتى استشهاده العام 1972، وكانت فترة العطاء بالنسبة لغسان الذي توزع جهده بين الكتابة في الهدف، والكتابة في الصحف اللبنانية، وبين الاجتماعات الحزبية واللقاءات السياسية، والكتابة الإبداعية.

لا تنتظروا أحداً
عبر غسان كنفاني عن حالة الوعي التي تبلورت لدى طليعة الشعب الفلسطيني بعد هزيمة 1967، وعن أهمية وضرورة استنهاض القوى لأجل بلورة فعل مقاوم يغير الواقع، في رواية "ورقة من غزة". ثم اتسمت كتاباته لاحقاً بالتمرد والحس الثوري، وقدرة غسان الفائقة على التقاط اللحظات والمنعطفات التاريخية في حياة الشعب الفلسطيني، وإعادة صياغتها، وتنقيتها من خطاب النفاق العربي الرسمي، الذي اثبت عجز الأنظمة العربية عن تحرير فلسطين، بل تسببت بضياع ما بقي منها.
في العام 1969 كان غسان عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الفصيل الفلسطيني اليساري، وناطقاً رسمياً باسمها، ورئيس تحرير مجلة الهدف. شهدت تلك الفترة سيطرة الفصائل الفلسطينية على منظمة التحرير الفلسطينية، وانطلاق الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني، وتحالف المقاومة الفلسطينية مع القوى التقدمية اللبنانية. وفي هذه الأجواء الثورية كتب غسان رواية "عائد إلى حيفا" في لحظة مهمة من حياته الثورية والأدبية. حيث أدرك غسان أن الصراع مع العدو هو صراع الوجود، صراع على الأرض والهوية والوطن. لذلك آمن غسان بالكفاح المسلح وبكافة أشكال النضال الوطني، وبذلك يكون قد امتلك الوضوح والرؤية والموقف والصلابة والجرأة التي لم يمتلكها كاتب سواه.
في رواية "أم سعد" يجدد غسان انتماءه للشعب وبهذا يقترن الفعل الثوري بالبعد الطبقي، وينتقد عقول المثقفين، ويعتبر أن الجماهير الفلسطينية في المخيمات هم الناس الفقراء الذين يدفعون ثمن النكبة والتشرد، وهم أصحاب المصلحة الحقيقية للعمل الثوري، لأنهم الأكثر تضرراً. فكانت أم سعد صرخة غسان وصوته وتعبيراً عن موقفه الثوري والأيديولوجي. وبعد أن استوعب الدرس ودفع ثمنه غالياً بات على الفلسطيني أن يقاتل وحده الآن دون أن ينتظر قدوم الجيوش العربية.

أي قوة امتلكت يا غسان
في تعليقها على عملية اغتيال غسان كنفاني قالت "غولدا مائير" التي كانت رئيسة الوزراء الصهيونية حينها " تخلصنا اليوم من لواء فكري مسلح، كان يشكل خطراً على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح". وغاب عن هذه المرأة الفاشية أن إرث غسان الأدبي وقيمه الثورية وكتاباته وافكاره ما زال الفلسطينيين يتناقلونها وهي كانت ولا زالت تشكل مصدر إلهام للأجيال الفلسطينية.
غسان كنفاني، الأديب المبدع، المثقف العضوي، المناضل الثوري، القائد المنظر، الشاب الوسيم، الأب والزوج الإنسان، الجذري الأممي، الخطيب والمتحدث، السياسي والروائي والحزبي المؤدلج، الذي كان يجيد التحدث بالإنجليزية بطلاقة. غسان صديق الفقراء ونصير المضطهدين، غسان الموثق لتاريخ فلسطين والمحلل لأحداثه، غسان المحرض الثوري. غسان كنفاني الإنسان الاستثنائي، الذي أرعب الصهاينة بالقوة التي يمتلكها. غسان تحول شهيداً وهو بعمر 36 عاماً، حين أقدمت أيادي الغدر الصهيونية "الموساد" على اغتياله بعبوة ناسفة فجرت سيارته، مع ابنة أخته لميس في بيروت بتاريخ 8/7/1972.






79
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


أسوار الأبارتهايد.. مفارقات فلسطينية جنوب أفريقية

شهدت الفترة الممتدة من منتصف السبعينيات لغاية منتصف الثمانينيات من القرن العشرين أحداثاً هامة تركت أثراً بليغاً على القضية الفلسطينية، ما تزال تداعياتها مستمرة إلى وقتنا الحاضر. من أبرز هذه الأحداث أنه في فترة لم تكن جراح خروجهم من الأردن العام 1971 قد شفيت تماماً. تم زج الفلسطينيين في الحرب الأهلية اللبنانية، بعد أن أقدمت ميليشيا الكتائب اللبنانية بإطلاق النار على حافلة كانت تقل فلسطينيين اثناء عودتهم إلى مخيم تل الزعتر، من مهرجان سياسي في مخيم شاتيلا، في العام 1975 مما أدى إلى استشهاد 27 فلسطينياً من ركاب الحافلة، في حادثة عرفت باسم "بوسطة عين الرمانة" التي شكلت شرارة اندلاع الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر عاماً.  في العام 1977 زار الرئيس المصري الراحل أنور السادات مدينة القدس المحتلة. وفي العام 1978 وقعت مصر وإسرائيل معاهدة السلام الشهيرة التي عرفت باسم "اتفاقيات كامب ديفيد". اشتعلت شرارة الحرب العراقية- الإيرانية في العام 1980 واستمرت لمدة ثماني سنوات، انشغل العرب خلالها بهذه الحرب الدموية التي استنفذت مقدرات الدولتين، وكان الخاسر منها إضافة إلى شعبي البلدين هو القضية الفلسطينية. ثم أقدمت إسرائيل على تنفيذ عدوانها الوحشي على الأراضي اللبنانية في العام 1982، وبعد حصار مدينة بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي الذي استمر لمدة ثلاثة أشهر، قاوم خلالها المقاتلون الفلسطينيون هذا العدوان ببسالة لا مثيل لها، وانتهى باتفاقية بين منظمة التحرير الفلسطينية والمبعوث الأمريكي "فيليب حبيب" قضت بخروج القوات الفلسطينية من لبنان إلى دول عربية أخرى، فكانت تونس واليمن ثالث المنافي للمقاومة الفلسطينية بعد الأردن ولبنان.
 في العام 1983 أعلن عدد من قيادة وكوادر وأعضاء حركة فتح الانشقاق عن الحركة وتأسيس ما بات يعرف لاحقاً "فتح الانتفاضة" بزعامة كل من العقيد أبو موسى، وقدري، وأبو صالح. في عمان عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته السابعة عشرة العام 1984 وكان من أبرز قراراته إعلان برنامج الجبهة الوطنية العريضة، التي ستقوم في إطار منظمة التحرير الفلسطينية لحماية وحدتها وصيانة خطها الوطني، بالتصدي لنهج الانحراف والاستسلام. وكذلك رفض قيام قيادة فلسطينية بديلة، وعدم إقامة مؤسسات موازية لمؤسسات منظمة التحرير.
نجحت القيادة الفلسطينية رغم كل العراقيل، في بدء حوار وطني الفلسطيني بدءاً من يوم 14/4/1987 في مدينة الجزائر بين الفصائل الأساسية.  تكللت جولات الحوار بعقد الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 20/4/1987 التي خرجت منها منظمة التحرير الفلسطينية موحدة وقوية ومتفقة على برنامج سياسي وتنظيمي واضح.

ما قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى
بخسارتها لقاعدتها العسكرية الرئيسية في بيروت وبقية الأراضي اللبنانية، وفقدان مؤسساتها المدنية والمالية والخدماتية، ضعفت مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، وتقلص حجم تأثيرها شعبياً وعلى الساحة الدولية. لكن هذا الأمر شكل تحدياً لفصائل المنظمة بهدف توجيه جهدهم واهتمامهم نحو الداخل الفلسطيني، في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. على اعتبار أن هذه المناطق المحتلة هي الركيزة الرئيسية للنضال ضد العدو الصهيوني، وهي كذلك العمق الجغرافي والخزان البشري. هذا أسهم بتزايد واتساع وتطوير الأنشطة الجماهيرية والثقافية والنقابية والطلابية، مما شكل التربة الثرية لاندلاع الانتفاضة الوطنية الفلسطينية الكبرى أواخر عام 1987 التي شكلت أحد أهم معالم النضال الوطني الفلسطيني.
كان هذا يتم في ظل أجواء ضاعفت إسرائيل خلالها في بناء المستوطنات، وتصاعدت حدة تهجير السكان الفلسطينيين من منازلهم، ومصادرة أراضيهم، ومنعهم من الزراعة، مما أجبر عدداً منهم للعمل لدى الإسرائيليين بأجور قليلة ومعاملة تتسم بالتمييز العنصري. كما عانى الفلسطينيين من صعوبات شديدة في التنقل والحركة بين القرى والمدن، حيث كانت القوات الإسرائيلية تحاصرهم، وتمنع عليهم السفر إلا من خلال تصاريح تمنحها لهم بشكل مسبق. إلى جانب ما كان المواطنين الفلسطينيين يتعرضون له من تفتيش مذل على الحواجز وفي المعابر. وكانت إسرائيل تخصم من أجورهم 20 بالمائة بذريعة تحسين الخدمات في الضفة والقطاع، لكن تلك الأموال كانت ترسل إلى الخزينة العامة الإسرائيلية.

الانتفاضة المجيدة
في مساء يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر العام 1987 أقدم المستوطن الصهيوني المتطرف "هرتسل بوكبزا" على قتل أربعة عمال فلسطينيين دهساً بشاحنته، كانوا يقفون على حاجز "بيت حانون" الإسرائيلي. وهم الشهيدين طالب أبو زيد 46 عاماً، وعلي إسماعيل 25 عاماً، من مخيم المغازي وسط قطاع غزة. والشهيدين عصام حمودة 29 عاماً، وشعبان نبهان 26 عاماً من جباليا البلد شمال قطاع غزة.
في الصباح التالي عم الغضب الجماهيري مخيمات جباليا والمغازي أثناء مراسم تشييع الشهداء، وانطلقت عدة مظاهرات عفوية وساخطة، تحولت سريعاً إلى مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، أدت إلى استشهاد الشاب "حاتم السيسي" فكان أول شهداء الانتفاضة المجيدة.
انتقلت المواجهات الشعبية إلى مخيم بلاطة في مدينة نابلس وإلى بقية المخيمات والقرى والبلدات والمدن الفلسطينية. شارك فيها الجميع من كل بيت وحارة وحي بالحجارة والأغنية والقلم واللوحة. في اليوم الثاني للانتفاضة استشهد الشاب "ابراهم العكليك" وعمره 17 عاماً. ثم استشهدت الشابة "سهيلة الكعبي" بعمر 19 عاماً. ثم استشهد الطفل "علي مساعد" بعمر 12 عاماً. لتشتعل فلسطين بأكملها تحت اقدام قوات الاحتلال، في مواجهات استخدم فيها الشباب الفلسطيني الحجارة ضد الجنود الصهاينة، وقتل خلالها مئات الفلسطينيين، وجرح واعتقل الآلاف. بحسب بيانات مؤسسة رعاية أسر الشهداء والأسرى، فقد استشهد في الانتفاضة الأولى 1550 فلسطينياً، وتم اعتقال 10 آلاف، وبلغ عدد الجرحى حوالي 70 ألف جريح، يعاني 40 بالمائة إعاقات دائمة، 65 بالمائة شلل أو بتر أحد الأطراف. وهناك 40 سجيناً فلسطينياً استشهدوا داخل السجون الإسرائيلية نتيجة التعذيب خلال فترة الانتفاضة.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلع لهيبها في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 1987 واستحوذت على إعجاب وتعاطف وتضامن الشعوب والدول في كافة الأرجاء، وتسببت في صدمة للعقل الغربي الذي كان يتبنى الرواية الإسرائيلية التي كشف زيفها أطفال انتفاضة الحجارة. تكسرت صورة إسرائيل "الوديعة" عبر وسئل الإعلام ومحطات التلفزة، وهي تنقل مشاهد قيام الجنود الصهاينة بتكسير عظام المتظاهرين الفلسطينيين بالهراوات والأحجار، تنفيذاً لأوامر "اسحق رابين" رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، بعد أن فوجئ بصدى الانتفاضة وشدتها. حيث أنه للمرة الاولى منذ مرور أربعين عاما على الصراع العربي الاسرائيلي، دخل السكان الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة- حوالي مليون ونصف شخص- في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. أفضت هذه الانتفاضة التي استمرت ست سنوات إلى قيام منظمة التحرير الفلسطينية بالتوقيع على اتفاقيات أوسلو في العام 1993.

سحر الانتفاضة
الانتفاضة الفلسطينية الأولى أبهرت العالم باتساعها وشموليتها ومستواها التنظيمي العالي، ونالت تضامن دول وأحزاب وقوى وشخصيات وشعوب متعددة في العالم. من أبرز ما يميز تلك الانتفاضة كونها حركة مقاومة جماهيرية شعبية غير مسلحة، شاركت فيها كافة شرائح المجتمع الفلسطيني. وبأنها كانت ذات مستوى مرتفع من الانضباطية. كما تمتعت بمقدرة هائلة على التواصل والديمومة لمدة ست سنوات رغم آلة البطش والقمع التي جابهت فيها إسرائيل جماهير الانتفاضة. ومشاركة واسعة من المرأة الفلسطينية في مجريات الانتفاضة، مما أحدث قيماً اجتماعية جديدة في المجتمع الفلسطيني المحافظ. ومن مكامن قوتها هو وجود قيادة وطنية موحدة تألفت من ممثلين عن كافة الفصائل والقوى واللجان الشعبية الفلسطينية. كان لهذه القيادة رؤية سياسية وأهداف واحدة، هي وقف الاحتلال وإنهاء الاستيطان، وبناء دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.
قامت القيادة الموحدة بتشكيل لجان شعبية متعددة ومتخصصة، ابتداء بلجان القوى الضاربة، انتهاء بلجان الزراعة، مروراً بلجان التجار والتعليم والمرأة والتموين وسواها. لعبت تلك اللجان دوراً محورياً باعتبارها الأداة التنظيمية الأساسية التي استخدمتها القيادة الموحدة للتواصل مع الجماهير. تعاظمت قوة هذه اللجان مع تصاعد الانتفاضة، وكانت واحدة من أهم ما أنجزته قيادة الانتفاضة، لأنها عكست قوة وصلابة التنظيم الداخلي للانتفاضة.
لقد تمكنت القيادة الموحدة من تجميع وتحشيد وتوحيد كافة القوى الفلسطينية، ثم بدأت في مرحلة ثانية من استثمار المواجهات الشعبية والهبات الجماهيرية العفوية، وتوظيفها لخلف حالة من النضال المنظم المبرمج، والصراع الشامل المفتوح ضد قوات الاحتلال، من أجل تحقيق أهداف الانتفاضة. واستطاعت من مد جسور التواصل المستمر مع القيادة الفلسطينية خارج فلسطين.
من أهم الدروس المستخلصة من تجربة انتفاضة الحجارة أنها ابتعدت عن مغريات الحلول البسيطة والإنجازات السريعة، وأدركت أن طريق المواجهة مع دولة العدوان شاقة ومكلفة وتحتاج صبراً وجلادة. ثم أن قيادة الانتفاضة تجنبت بوعي الدعوات لرفع السلاح وممارسة الكفاح المسلح ضد قوات الجيش الإسرائيلي، واعتمدت سياسة العنف المحدود باستخدام الحجارة والزجاجات الحارقة. وركزت على النفس الطويل الذي يضمن استمرار زخم المواجهات مع الاحتلال، وبنفس الوقت لا يرهق الجماهير أكثر مما تحتمل. كما أنها وضعت استراتيجية فك العلاقة مع مؤسسات الاحتلال، من خلال استقالة العاملين في الإدارات المدنية، ورفض دفع الضرائب، والدخول في عصيان مدني شعبي تدريجي.

مقاربة ضرورية
خاضت الجبهة الديمقراطية الموحدة في جنوب أفريقيا نضالاً جماهيرياً واسعاً وتصاعدياً ضد نظام الفصل العنصري، أدى في النهاية إلى إنهاء هذا النظام. وقد ضمت الجبهة حوالي أربعمائة منظمة وجماعة قادت النضال الجماهيري في مواجهة العدوانية المتزايدة للنظام، والتي أدت في النهاية إلى إسقاطه. في الحالة الفلسطينية كانت القيادة الموحدة للانتفاضة هي التي قادت النضال الجماهيري.
فيما كان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو القوة السياسية الرئيسية المناهضة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تقود نضال الشعب الفلسطيني. قيادة حزب المؤتمر كانت إما في المعتقلات أو في المنافي، وهذا ينطبق إلى حد كبير على قيادة الشعب الفلسطيني. قبل سقوطه بحوالي عشرة أعوام تغّول نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا كثيراً وزاد من الأفعال العنصرية والعدوانية. تماماً مثلما فعلت إسرائيل. واجه المؤتمر أزمات في الركود الجماهيري، وتغير الحال بداية من الانتفاضة الطلابية عام 1976 ومن ثم ظهور "حركة الوعي الأسود" في عام 1979. وهذا يشبه الأزمة التي عانت منها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد الخروج من بيروت والانشقاق الذي حصل في حركة فتح.
شكلت الانتفاضة الفلسطينية قيادتها الموحدة والمؤلفة من ممثلي عن كافة الفصائل والقوى والأطر الفلسطينية، وفتحت قنوات اتصال مع القيادة الفلسطينية في الخارج. في تجربة جنوب أفريقيا قادت "الجبهة الديمقراطية الموحدة" نضال الجماهير، وأقامت علاقات تنسيقية مع حزب المؤتمر، لكنها كانت مستقلة تماماً بقراراتها وإدارتها للصراع.
اعتمد المؤتمر الوطني وسيلة الكفاح المسلح شكلاً رئيسياً لنضاله ضد حكومة الفصل العنصري حتى بداية الثمانينيات. تأثير هذا الشكل النضالي كان محدوداً جداً بسبب الخلل الكبير في ميزان القوى بين الطرفين، لكن المؤتمر خاض كفاحاً مسلحاً بهدف لفت أنظار العالم وشد أزر الجماهير. في مرحلة لاحقة تراجع العمل العسكري وأصبح النضال السياسي والجماهيري هو الشكل الرئيسي. وهذا ما فعلته قيادة الانتفاضة الفلسطينية في تجنب العمل العسكري واعتماد النضال الجماهيري المتنوع.
ترك المؤتمر الوطني وقيادته في الخارج قيادة المعركة لقيادة الجبهة الديمقراطية الموحدة في الداخل، واكتفى بتنسيق المواقف والتشاور معها، دون أن يغضبه ذلك أو أن يقلل من شأن القيادة في الخارج، بل كان الجميع حريصاً على توحيد النضال وتوحيد الأهداف في القضاء على نظام الفصل العنصري وإقامة دولة مدنية ديمقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين.
في الحالة الفلسطينية تدخلت القيادة الفلسطينية في الخارج بقرارات وتوجهات القيادة الموحدة للانتفاضة، بل وصل الأمر إلى إفساد بعضهم بالمال.
ويجب أن نعلم أن العلاقة التي ربطت المؤتمر الوطني الأفريقي مع الحزب الشيوعي ومع قوى ومنظمات أخرى في جنوب أفريقيا، لم تكن خالية من الخلافات والصراعات التي وصلت حد الاقتتال الداخلي، لكن تمكن الجميع في النهاية من الاتفاق والتوحد في خضم النضال الذي أجبر نظام الأبارتهايد أخيراً على الموافقة في الدخول بمفاوضات على أساس نيل الحرية.
فلسطينياً، لم تتمكن الفصائل والقوى الفلسطينية من تحقيق الوحدة بين كافة الأطر، إلا في فترات محددة، وانتهت بخلافات سياسية أدت إلى إتعاب الانتفاضة لاحقاً، وإضعاف الموقف الفلسطيني المفاوض.
كان من أبرز أسباب نجاح المؤتمر الوطني في معركته هو ارتباط قيادته العميق مع قيادة الجبهة الديمقراطية الموحدة في داخل جنوب أفريقيا، ومع كافة القوى والحركات الجماهيرية التي شكلت أحد عوامل قوة المؤتمر، وكانت بمثابة أداة كابحة وضاغطة على القيادة حتى تظل في تناغم وانسجام مع النضال الشعبي. حتى أثناء المفاوضات مع النظام العنصري لم يتوقف الحراك الجماهيري لممارسة مزيد من الضغط لإجباره على الاستجابة للمطالب الشعبية.
بينما في الحالة الفلسطينية قامت القيادة الفلسطينية بالتسلل من خلف ظهر الجماهير، وعقدت صفقة مع الكيان الصهيوني العنصري، من دون علم قوى الانتفاضة، ودون التنسيق مع قيادتها.

تجربتان بنتائج مختلفة
تتشابه كثيراً التجربة الفلسطينية النضالية مع تجربة جنوب أفريقيا. إن الشعب الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وشعب جنوب أفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي، هما شعبين خاضا معركة تحرر وطني ضد أنظمة عنصرية كولونيالية استيطانية، أنظمة فصل عنصري متوحشة وبدائية. وتتشابه كلا التجربتين في كثير من مراحل تطور أدوات النضال والمقاومة وطبيعة ومستوى التنظيم، والمخاطر التي واجهت كلا الشعبين، والعلاقة بين الداخل والخارج أيضاً لديهما.
لكن للأسف فإن نتائج التجربتين كانت متناقضة. في تجربة المؤتمر الوطني الأفريقي تم الانتصار على نظام الأبارتهايد هناك، والقضاء نهائياً على العنصرية، واستعادت الجماهير حقوقها الطبيعية التي تم انتهاكها طوال عقود. فيما فشلت منظمة التحرير الفلسطينية في تحقيق أي إنجاز للشعب الفلسطيني، وعجزت عن التحرر من نظام الفصل العنصري الاستيطاني الكولونيالي في فلسطين.
نعم ليس من الإنصاف المقاربة بين التجربتين، لكنها مهمة جداً لإعادة قراءة كلا التجربتين بهدف استيعاب العبر. رغم أن التجربة النضالية التحررية للشعبين الفلسطيني وفي جنوب أفريقيا تتشاركان في كونهما ضد استعمار فصل عنصري وكولونيالي، إلا أن هناك تباينات سياسية وجغرافية واقتصادية وتاريخية بين التجربتين، إضافة إلى اختلاف العوامل الدولية في الحالتين، وتميزت كل منهما بسمات خاصة بها.
من الناحية الاقتصادية شكل العمال السود الذين كانوا يديرون عجلة اقتصاد النظام العنصري في جنوب أفريقيا، قوة ضغط هائلة بعد تنظيمهم من خلال الإضرابات، لدرجة سببت شللاً للاقتصاد. فيما لا يقوم الاقتصاد الإسرائيلي على قوة العمال الفلسطينيين بصورة مهمة، وحتى العمال الذين أضربوا خلال الانتفاضة، جلبت إسرائيل عمالاً أجانب مكانهم. إضافة إلى عامل آخر مهم لم يكن في صالح الفلسطينيين، وهو العامل الدولي، حيث تزامنت الانتفاضة مع مرحلة بدأ فيها الاتحاد السوفيتي الداعم لحركات التحرر، في الانهيار اقتصادياً وسياسياً، مما أخل بالتوازن ومكن الولايات المتحدة من الاستمرار في الانحياز والدعم التام المريح لإسرائيل. لكن النظام العنصري في جنوب أفريقيا لم يكن طبعاً بأهمية إسرائيل بالنسبة لأمريكا. وهي اصلاً لم تعد بحاجة له لدعمه، خاصة بعد انهيار النظام الاشتراكي، لذلك لم تمانع الولايات المتحدة من التوصل إلى تسوية بين نظام جنوب أفريقيا ونيلسون مانديلا.
في المشهد الفلسطيني فإن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قامت بتبديل برنامجها ومواقفها السياسية أكثر من مرة، وتراجعت عن شعاراتها التي بدأت معها المسيرة الثورية، حتى وصلت إلى التوقيع على اتفاقية أوسلو. لم يكن لديها برنامج واضح محدد بأهداف لا شبهة فيها. ولم تتسم علاقتها مع قيادة الانتفاضة في الداخل بالتنسيق والتكامل، بقدر ما اتسمت بفرض رؤية وقرارات الخارج على الداخل. ثم قامت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج بالالتفاف على حركة الوفد الفلسطيني المفاوض من داخل فلسطين، الذي كان يرأسه المناضل الدكتور حيدر عبد الشافي، وكان هذا الوفد يجري مباحثات في واشنطن استمرت لمدة عامين تقريباً. استقال الدكتور حيدر من الوفد في نيسان عام 1993 بسبب إصراره على رفض أية تسوية لا تنص على إزالة المستوطنات الإسرائيلية. وبدلاً من أن تقوم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية باستثمار هذا الصمود في موقف المفاوض الفلسطيني، الذي كان مدعوماً بإرادة جماهيرية شعبية على الأرض مؤيدة له، قامت القيادة الفلسطينية بفتح قناة تفاوضية خلفية تمخضت عن اتفاق أوسلو البغيض.

السؤال المعضلة
في الراهن الفلسطيني، دخلت القضية الوطنية الفلسطينية مرحلة الانسداد السياسي الحاد. كان وصول الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض قد أربك القيادة الفلسطينية، وأسهم في تعميق أزمتها السياسية من خلال تبني الإدارة الأمريكية لمشروع يفضي إلى حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، سمي "صفقة القرن" وفق تسوية يتم فيها حذف ملفي القدس وحق العودة من مفاوضات الحل النهائي. وتشويه فكرة حل الدولتين ومسخها بحيث تكون الضفة الغربية من مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي. وتحسين الوضع الاقتصادي الفلسطيني. ثم قامت الولايات المتحدة بنقل سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس. كل هذه الأحداث لاقت رفضاً فلسطينياً رسمياً وشعبياً. هذا دفع أمريكا إلى وضع ضغوط اقتصادية وسياسية ودبلوماسية شديدة على القيادة الفلسطينية، وعلى الرئيس محمود عباس الذي أعلن قطع العلاقات مع الولايات المتحدة.
إن صفقة القرن في حال انتظار حدوث تطورات في منطقة الشرق الأوسط كي تصبح قادرة على التحقق، منها الموقف الأمريكي من الملف النووي الإيراني، ومن مسار التسوية في سوريا، ومدى قدرة الإدارة على حشد موقف عربي مؤيد للصفقة، ومدى قدرة الفلسطينيين على الصمود، والوضع الإسرائيلي الانتخابي الداخلي حول إمكانية بقاء نتنياهو من عدمها.
إن الوضع السياسي الفلسطيني يعاني من حالة استعصاء سياسية شديدة. القيادة الفلسطينية ترفض-للآن- التنازل مسبقاً، ولم تقبل الاعتراف ببقاء الاحتلال في الضفة، ولم توافق على دولة فلسطينية دون حدود أو بحدود مؤقتة. وترفض أي حلول لا تؤدي إلى كيان سياسي سيادي يسمى دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس. وهذا هو جوهر الانسداد الذي تسبب في رفع الحالة الجماهيرية الفلسطينية، وأسهم في زيادة الأزمات.
هناك انسداد آخر داخلي يتسبب به الانقسام الوطني، ويتعلق بالمصالحة مع حركة حماس. مصالحة لم تكتمل رغم كافة الوساطات والتدخلات الفلسطينية والمصرية والعربية والغربية. وهذه الجهود لم تتمكن من إنهاء هذا الانقسام البغيض، ومن إخراج قطاع غزة من حالته القائمة، ووضع الغزاويين القاسي. فشلت الوساطات لأنها تصطدم بأمر جوهري ورئيسي هو مبدأ ازدواجية السلطة. هذا يعني أن تقوم السلطة الفلسطينية بتوفير الخدمات للسكان في القطاع، فيما تقوم حركة حماس بمد نفوذها الأمني. وهذا نموذج لا يمكن أن يخلق وضعاً طبيعياً في أي بقعة في العالم.
أعود للسؤال الكبير، الهام، المعضلة. إن تمكنت الانتفاضة الأولى المجيدة من إخراج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من أزمتها، وأفرجت كربها الشديد، فمن ينتشل القيادة الفلسطينية الآن من محنتها الحالية، في ظل أوضاع تعاني فيها كافة الفصائل الفلسطينية من أزمات بنيوية وقيادية وبرنامجية وجماهيرية ومالية، ضعفت معها قدرة هذه الفصائل والقوى، التي فقدت هويتها الأيديولوجية، على استنهاض حركة الجماهير الفلسطينية لمواجهة عدو صهيوني استعماري استيطاني اجتثاثي. هذا الوهن والعجز الفصائلي الذي وصل مرحلة التخاذل كان سبباً مهماً في قيام القيادة الفلسطينية على عملية إلحاق منظمة التحرير الفلسطينية بسلطة أوسلو بدلاً أن يتم العكس، وكان هذا بداية خراب البيت الفلسطيني.

الخيار الثالث مفقود
فشلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في تحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال الاستيطاني لأسباب سالفة الذكر. جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، وقدمت فرصة تاريخية للقيادة الفلسطينية في معالجة النتائج الكارثية لاتفاق أوسلو، لكن عسكرة الانتفاضة، وغياب استراتيجية موحدة، أدى إلى نتائج كارثية.
سعت حركة حماس لأن تقدم بديلاً إسلامياً عن حركة التحرر الوطني الفلسطيني وتوجهاتها، من خلال رفضهم لاتفاقية أوسلو وسياسية قيادة المنظمة. لكن الحركة أخفقت في تشكيل مشروع وطني فلسطيني جامع للجماهير الفلسطينية وقواها وفصائلها. وبظني أن واحداً من أهم أسباب هذا الفشل هو عدم إدراك قيادة حركة حماس أن مركزية المشروع الوطني الفلسطيني المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية، قضية لا تخص حركة فتح وحدها، بل هي حركة وطنية تحررية ثورية لكافة الشعب الفلسطيني.
بعد مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو ونهج المفاوضات الكارثي على شعبنا الفلسطيني، وأحد عشر عاماً على الانقسام الدامي، وفشل جميع جهود الجهود لتوحيد البيت الفلسطيني، وفي ضوء عجز ونكوص الفصائل الفلسطينية الأخرى التي تعاني من أزمات متعددة، لم يستطيع الشارع الفلسطيني من بلورة تيار نضالي وطني ثالث يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية وللمشروع الوطني الفلسطيني التحرري، ويجعل الاحتلال يدفع ثمناً باهظاً.
إن الشعب الفلسطيني يمتلك خبرة تاريخية في ابتداع وابتكار أساليب واشكال متجددة دوماً للنضال والمقاومة. ورغم كل ما تقوم به إسرائيل من بناء الجدران المرتفعة، وإنشاء الطرق الالتفافية لتحويل المناطق الفلسطينية إلى كانتونات متفرقة، إلا أن الجماهير الفلسطينية تجد دوماً طرقاً للتواصل فيما بينها لمواجهة عدوها.
في هذه المرحلة بالغة الخطورة على القضية الفلسطينية، حيث اعترفت الإدارة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتسعى لفرض حلول تقوض الحقوق الوطنية والسياسية للشعب الفلسطيني. وتمارس كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الغربية ضغوطاً غير مسبوقة على القيادة الفلسطينية، ووصلت العنجهية الصهيونية إلى ما وصلت إليه من استهتار بالقيادة الفلسطينية وبشعبنا وتضحياته، وبلغ تآمر بعض الأنظمة العربية على القضية الفلسطينية مرحلة الجزار الشريك، وأمام سقوط أوهام نهج المفاوضات السياسية، فقد حان الوقت للشعب الفلسطيني صاحب المصلحة الأساسية في الحرية لأن يقول كلمته، وأن يحدد خياراته والانطلاق في معركة جماهيرية لإسقاط نظام الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني العنصري في فلسطين.


80
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


الأطفال المنسيون.. الأسرى الفلسطينيون

بخلاف جميع دول العالم التي وقعت اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1989، حيث نصت المادة الأولى منها على "يعتبر الإنسان طفلاً ما لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره"، ينص الأمر العسكري رقم "132" الصادر عن سلطات الاحتلال الإسرائيلي في العام 1967 على أن الطفل الفلسطيني هو شخص دون سن السادسة عشرة، بالرغم من أن القانون الجزائي الإسرائيلي يعرّف الطفل لإسرائيلي بأنه شخص دون سن الثامنة عشرة. كما ويسمح هذا الأمر لسلطات الاحتلال باعتقال أطفال فلسطينيين في سن الثانية عشرة، بموجب الاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر من دون تهم محددة.
يقبع حوالي سبعة آلاف أسير فلسطيني داخل الزنازين في السجون الإسرائيلية، من بينهم أربعمائة طفلاً محكوماً عليه أو موقوف. جميع الأطفال الفلسطينيون الأسرى يعانون تماماً ما يعانيه الأسرى الكبار من ضرب وتعذيب وممارسات وحشية تنتهك حقوقهم الإنسانية، مثل الشبح المتواصل من خلال تعليق الطفل الأسير من يديه أو قدميه، وإجباره على الوقوف لساعات طويلة، وحرمانه من النوم والطعام، وتغطيس الأطفال بالماء المثلج ثم بالماء الحار جداً، وكذلك صعقهم بالكهرباء والتحرش الجنسي بهم وتهديدهم بالاغتصاب.
معظم الأطفال الفلسطينيين يتم اعتقالهم من قبل سلطات الاحتلال وفق شريعة الغاب، من قبل الجنود الإسرائيليين في الحواجز ونقاط التفتيش العسكرية المنتشرة في الشوارع، أو يجري إلقاء القبض عليهم من البيوت وانتزاعهم من وسط ذويهم. حيث يتم تعصيب عيونهم وتقييد يديهم ثم يتم وضعهم في مركبة عسكرية ويتعرضون للركل والشتائم من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي. وفي مراكز الاعتقال يجري تعذيبهم وانتزاع اعترافات منهم، والضغط عليهم للتوقيع على أوراق بلغة عبرية لا يفهمها الأطفال، وهذه الأوراق يتم اعتمادها من قبل المحاكم العسكرية الإسرائيلية، ويعتبرها القضاة دليل إدانة ضد الصغار.
يتم وضع الأطفال الفلسطينيون الأسرى في عدد من السجون الإسرائيلية التي لا تتوفر على أدنى الشروط الإنسانية، بسبب الازدحام وتسرب ماء الأمطار وانتشار الروائح الكريهة، وشيوع الأمراض ونقص الطعام وسوء نوعيته، ويعانون من انعدام النظافة ووجود الحشرات المختلفة، ويتعرضون للضرب والتعذيب، ويحرمون من العناية الطبية ومن الحق في التعليم.

ضمير الأمة الغائب
لا شك أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعتمد سياسة محددة وواضحة ومخطط لها تهدف إلى إرهاب الأطفال الفلسطينيون، ويتضح ذلك من خلال الأرقام المتزايدة في أعداد الأطفال التي يتم إلقاء القبض عليهم، ومن الأحكام العالية التي تصدرها المحاكم العسكرية الإسرائيلية بحقهم، إذ يجري إصدار أحكام تصل من عشرة إلى عشرون عاماً على كل طفل فلسطيني تثبت عليه تهمة رشق الجنود الإسرائيليون بالحجارة. كما تم توثيق حالات عديدة من قبل منظمات حقوقية فلسطينية ودولية حول قيام الجنود الإسرائيليين بخطف أطفال فلسطينيون أعمارهم دون سن الثانية عشر، وهذا الأمر بالغ الخطورة لأنه يشير إلى استهداف الجيل الفلسطيني الصغير من قبل القوات الأمنية الإسرائيلية، في محاولة لكسر إرادة الشعب الفلسطيني، واحتواء الغضب الثوري للشباب.
إن الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بما فيهم الأسرى الأطفال هم ضمير الأمة الغائب المنسي، يتجاهلهم العالم الحر الغربي الذي يخوض الحروب ويقتل الشعوب لأجل تحقيق أمن ورفاهية مواطنيه، فيما يتحول إلى كائن أبكم وأصم تجاه العدوانية الغاشمة من قبل إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، ولا يحرك ساكناً لوقف الانتهاكات المرعبة التي تمارسها الأجهزة الأمنية الصهيونية بحق المعتقلين والأسرى بصورة عامة والأطفال منهم بصفة خاصة.
إن الأثر الذي تخلفه صدمة الاعتقال وفترة السجن المريرة على الأطفال الفلسطينيين بالغ السوء وواضح المعالم على واقعهم ومستقبلهم، ذلك أنهم يعانون أكثر مما يعانيه الأسرى الكبار، بسبب طفولتهم وعدم امتلاكهم خبرات الحياة لمواجهة العدو، وضعف منظومة الدفاع ونقص أنماط التكيف في مواجهة الضغوط والألم الذي يحدثه تعذيبهم على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
لذلك يعاني غالبية الأطفال الأسرى من القلق والاكتئاب والغضب السريع وآلام متنوعة في الجسم بعد الإفراج عنهم، كما أنهم يجدون صعوبة في التوافق والتكيف الاجتماعي مع أسرهم ومحيطهم نتيجة تجربة الاعتقال البغيضة التي تعرضوا لها وجعلت في حياتهم وضعاً قبيحاً لا يطاق.

المعركة الحقيقية
على الجميع في القيادة الفلسطينية، وخاصة وزارة الخارجية وهيئة شؤون الأسرى أن يعي ويدرك عمق مسؤوليته الوطنية في التحرك لاستصدار قرارات محددة من الهيئات الدولية وأهمها الجمعية العامة للأمم المتحدة ومن محكمة العدل الدولية، للضغط على إسرائيل للإفراج عن الأسرى الأطفال فوراً، واتباع الإجراءات القانونية لملاحقة ومحاسبة مجرمي الحرب الصهاينة. وعلى كافة القوى الفلسطينية وضع خطة عمل استراتيجية وطنية للقيام بأوسع حملة تضامن دولية مع الأسرى الفلسطينيين وخاصة الأطفال، وكشف الانتهاكات التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحقهم.
ولا نغفل دور مؤسسات المجتمع المدني ومسؤوليتها في توثيق الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال الأسرى داخل السجون الإسرائيلية، تمهيداً لتقديم هذه الملفات إلى محكمة الجنايات الدولية، مرفقة بالشهادات والصور، لمحاكمة النازيين الجدد.
إن الأطفال الفلسطينيين يتعرضون لسياسة التمييز العنصري منذ ولادتهم، وما إن يصبحوا شباباً يافعين حتى يصبحوا ملاحقين من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي ترى فيهم خطراً يهدد الكيان الصهيوني الغاصب. على كافة القوى والأحزاب والفصائل والمنظمات والجمعيات والمؤسسات والشخصيات الفلسطينية أن تدرك إن من أهم المعارك التي عليهم خوضها، هي حرية هؤلاء الأطفال الأسرى لمساعدتهم على استعادة طفولتهم المسروقة، وتمكينهم من العيش بحياة طبيعية أسوة ببقية أطفال العالم.



81
أدب / ننهي احتضار الحلم
« في: 20:35 27/06/2019  »


ننهي احتضار الحلم

حسن العاصي


1
يسقط الطريق في أقدامنا
ويستيقظ الشجر
في غفلة من الصمت
تمتد أغصان التعب
قسطاً من عتمة الغياب
استعصت علينا الثمار
وأنهكتنا النهايات
قولوا لنا
كيف يضيع العمر في الرحيل


2
يلد الانتظار لهفة الحزن
على نوافذ الصبايا
قالت لي
بلا أمل تسافر أشرعتك
نسيت ترتيب الغياب
قبل عصافير الموسم
قلت
لم يعد في الرحيل
لون الحقل
قالت سأزرع في الستائر
أضلاع لقلوب الغائبين



3
لو أن اللحم الحي
خارج الرصاصة
لو نتحسّس جسد الجدران
أمهِلونا أملاً بالظمأ
حتى لا تذبل الساقية
فلا أسماء في سور الاتجاهات
والماء تاه في سراب الليل
مهلاً..
لقد أغلقنا نوفذ الجنون
في المنام
انتظرونا قليلاً
ننهي احتضار الحلم



4
انتهى العرض
أيقظتنا التفاصيل الخاثرة
كنّا ننتظر
طفولتنا أن تكبر
نخشى أن نضيع
في أوراق الفتور
وتداهمنا دهشة الألوان
ذات لوح صامت
انزوينا في ارتباك الثوب
كانت الجدة
أجمل من نهايات البياض



5
مثل بحيرة راكدة
تستلقي لوحة الطين
فوق أنفاس القصيدة
لو أن النوافذ المغلقة
تحتمل اليقظة
لو يعبث الصخب
بمساحة الإطار
أقتلع قلبي وذنوبي
أعود إلى الحلم
كي أراود الغصن في المنام
يفيض على الورق
جمال المعنى
دوماً
يصل العنقود متأخراً




6
يصدح عصفور الوداع
سفر الدروب
رأيتها دون ملامح
تشاطر الفصول
لون القطوف
تجني صور الدالية
أين أضعتها؟
نسيت ارتداء الذنوب
لكني أذكر الصمت المرتبك
حين أجهزنا على الصخب
بالموت الهادئ
قالت لم نأكل زادنا
والفخار طفح أغلال
صاحت قبل أن تمد يدها
بكوكب يطير
من يغفر للعربة
ازدحام التوابيت

82
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمارك


أعشاش التطرف الأيديولوجي والإرهاب الفكري الافتراضية..
الدانمرك نموذجاً

لغاية منتصف القرن العشرين كان التدين سموحاً يسيراً معتدلاً في العالم العربي، وكانت دول الإقليم إضافة إلى الدول العربية تجتهد لبناء مؤسسات الدولة الحديثة وفق أسس ومعايير مدنية. وشهدت تلك المرحلة انتشار التعليم بصورة نسبية، وقيام الدول العربية إرسال البعثات التعليمية إلى أوروبا. تم تأسيس الجمعيات السياسية والثقافية والعلمية والأدبية في عدد من العواصم والمدن العربية، وتوسعت حركة الطباعة والصحف والنشر. انتشرت المساجد والأندية والأحزاب السياسية، فكانت الدعوة للدين تتم عبر الموعظة الحسنة من قبل الأسرة والمجتمع، والمساجد أماكن للعبادة والعلم والتعليم، ورجال الدين كانوا يسهمون في النشاط والحراك الثقافي والسياسي. لقد كانت المنطقة العربية في ذاك الوقت تشبه بقية العالم.
في الربع الأخير من القرن العشرين ظهرت جماعات وحركات الإسلام السياسي التي رفضت ما أسمته "التغريب"، وعبّرت عن رغبتها في العودة إلى أمجاد الماضي. بعد وصول البرجوازية العسكرية إلى سدة الحكم في معظم الدول العربية وتحولها إلى أنظمة استبداد وقهر للشعوب، توسعت الحركات الإسلامية وقدمت نفسها كبديل بشعارات ملتبسة. ومع قرب انتهاء القرن العشرين أصبحت هذه القوى الإسلامية تمتلك امتداداً ونفوذاً فيما اصطلح على تسميته "الصحوة الإسلامية" حتى أصبحت الأقوى تنظيمياً بعد فشل المشروعين القومي واليساري.

فشل المشروع السياسي الإسلامي
لكن المشروع الإسلامي السياسي فشل أيضاً كبديل لأنه أخفق في إحداث مقاربات مختلفة للتراث، وفشل في قراءة الراهن العربي، ولأنه مشروع يتبنى الفكر الإقصائي ولا يقبل التعدد والمشاركة، فشعاره الشهير إما أن تكون معي أو إنك ضدي، وهذه أصبحت قاعدة فلسفة فكر الإسلام السياسي خاصة لدى الجماعات المتشددة.
أثبتت التجربة التاريخية في معظم الدول العربية أن قوى الإسلام السياسي تعاني من محدودية شعاراتهم، فهم لا يمتلكون سوى شعار وحيد يتلخص بأن الإسلام هو الحل، دون أن تتمكن هذه الجماعات من تقديم وشرح رؤية واضحة في أدبياتهم حول كيفية إخراج الأمة العربية من هذا الانسداد السياسي والفشل الاقتصادي والتمزق الاجتماعي والإخفاق العلمي الحضاري، التي كان نتيجة عقود من التسلط والاستبداد والتخبط والعشوائية والفساد الإداري والمالي في معظم الدول العربية.
لقد عجز الإسلام السياسي عن تطوير مشروع سياسي يخاطب عقول الناس، ولا يتوجه نحو غرائزهم وعواطفهم الدينية، ويكون موجهاً لجميع المواطنين وليس فقط لمناصريهم، خطاب يتبنى مشاريع تنموية لتطوير كافة قطاعات المجتمع والدولة وليس خطاباً للتعبئة والدعاية، خطاب وشعارات تدعوا إلى التسامح والمحبة والتعايش بين الأعراق والأديان والمذاهب والطوائف، ولا يدعوا إلى الكراهية والإقصاء والتناحر والصراعات الإثنية.
لم تهتم جماعات الإسلام السياسي لا بمحاربة فساد الأنظمة ولا عملت على تكريس مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان وبناء الدولة المدنية التي يتساوى فيها جميع المواطنين بالواجبات والحقوق. كل ما فعلته هذه الجماعات هي محاولتهم تغيير أنماط المجتمعات العربية والتركيز على الهوية، وأهملوا كافة القطاعات الأخرى، فوجدوا أنفسهم يعومون في بركة مغلقة أدت إلى تداعيات أمنية خطيرة وانهيارات اقتصادية، كان المواطن العربي هو أول ضحاياها.
من أبرز الأسباب التي تقف خلف الفشل السياسي لهذه الجماعات يظهر غياب الخبرة في العمل السياسي وإدارة شؤون المجتمع، فلا تكفي الشعارات وحدها لإدارة الدول. ثم بروز حالة الغرور والاستعلاء والعنجهية التي طبعت تفكير ورؤية وسلوك ومواقف قادة هذه الجماعات ومعظم كوادرها، والاستخفاف بالآخرين واستصغارهم، حيث اعتقدوا بغباء أنهم يمتلكون الحقائق المطلقة وحدهم. أيضاً من الأسباب هو نكث هؤلاء لعهودهم وشعاراتهم التي قطعوها على أنفسهم ووعدوا بها الجماهير.
ولكل من يشير إلى التجربة التركية الناجحة أقول إن تركيا دولة علمانية مدنية بدستورها وقوانينها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإن حكمها حزب سياسي ذو توجه إسلامي. علينا أن نعلم أن من أهم أسباب نجاح النموذج التركي هو إدراكهم المبكر أن إدارة الدولة شأن دنيوي تركه الله للعقل والتدبير البشري يديره بحسب الأزمنة والأمكنة. لكن ما يحث عليه الدين في شؤون الحكم هو إقامة العدل والشورى، وهي وإن كانت أمراً ثابتاً إلا أنها تتغير من عصر لآخر.

تحولات دينية خطيرة
هذا الفشل والسقوط للإسلام السياسي في الواقع الحقيقي الراهن عربياً، جعلها تلجأ إلى الإنترنت، حيث قامت جميع المنظمات وجماعات الإسلام المتشدد بتوظيف العالم الافتراضي بصورة واسعة ومعقدة، إن كان لغايات دعائية وتعبوية وتواصلية، أو لأهداف تنظيمية تشمل تحريك وإعادة هيكلة المجموعات كافة بسرعة قياسية. ثم تم تطوير هذه التكنولوجيا لتتحول إلى تقنيات قتالية تضمن سرعة وفاعلية التمويل للوجستي لهذه المنظمات. أيضاً تعتبر هذه المنصات في العالم الافتراضي خزاناً لرفد المجموعات المتطرفة بنهر لا ينضب من المقاتلين الجدد على امتداد الجغرافية الكونية، ويمكن اعتبارها كذلك أعشاش وأوكار لتبييض الأعضاء والمنتسبين الجدد وللمتعاطفين مع هذه الأفكار المتشددة والذين لا يرغبون في الانتساب الحزبي أو في مشاركة قتالية حقيقية. هذا التوظيف لمنجزات الثورة الرقمية في الغرب من قبل مجموعات سياسية ودينية متطرفة يضعنا أمام سؤال وتحدي كبير وهام حول حقيقة وطبيعة ونوعية وشكل التحولات والتغيرات التي تحدث في الدين الإسلامي وفي علاقة الدين بالمؤمنين.
إننا نعتقد أن منابع ومرجعيات الدين الإسلامي كنصوص وممارسات، أخذت تتحول من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، لذلك نستطيع القول إنه أصبح لدينا ليس فقط إسلام النصوص أو إسلام التاريخ، بل صار لدنيا أيضاً إسلام افتراضي يديره ويشرف على خطابه إسلاميون متشددون متطرفون لا يقبلون بأي نقد ولا أية ملاحظة ولا يرتضون وجود أية فكر مخالف. لذلك فقد أضحى الدين الوسطي المعتدل بكافة مقدساته وعباداته مقيداً بأيديولوجية عصبية حزبية متزمتة ينشرها رجال دين يتسلحون بفكر متصلب لا يقبل المرونة ولا السيولة ويرفض الحوار مع الآخر، قاموا بتحويل منصات التواصل الاجتماعي وبقية التطبيقات الذكية إلى ميدان قتال لخوض صراعات وحروب، بل وصل الأمر حد قيام هذه المجموعات المتطرفة في إحداث مقابر افتراضية للمجاهدين المسلمين الذين قضوا في المعارك القتالية.
المفارقة المرعبة هنا أن جميع هؤلاء الإسلاميون المتشددون قد عانوا الويلات والأمرين من استبداد بعض الأنظمة العربية، حيث جرى اقصاءهم وتهميشهم وعدم السماح لهم بالمشاركة السياسية ولا العمل العلني، وقامت هذه الأنظمة بزج هؤلاء الإسلاميون في السجون والمعتقلات لسنوات عديدة، وحين انتقل البعض منهم إلى دول غربية ديمقراطية وفرت لهم القوانين في مكانهم الجديد بعض الحرية ليقولوا ما يشاؤون، أصبحوا يمارسون الإقصاء والقمع الفكري الذي كانوا يعانون منه، وهذا دليل دامغ وبيان جازم وبرهان حاسم وحجة قاطعة على النفاق الفكري والاجتماعي والثقافي الذي تمارسه هذه الفئات والجماعات والفرق، في استخدامها الدين والتدين والشعارات الإسلامية لتحقيق مآرب سياسية ومنفعية لا علاقة لها بالإسلام والعبادات.

الدانمرك نموذجاً
كان الدفاع عن المسلمين ومصالحهم في الدانمرك مبرر تشكلها وتأسيسها، أصبح تكفير غالبية المسلمين هو معتقدها، وصار خطاب التطرف ما يميزها، ورفض وإقصاء كل من يختلف معها وسيلتها للاستمرار. إنها جماعات ومنظمات وأحزاب الإسلام السياسي المتطرف الذين باتوا يشكلون ظاهرة خطيرة تتفاقم وتستخدم خطاب الغلو والتشدد.
 "تعاونوا على البر والتقوى" و"أنت تسأل ونحن نستفيد" هذه العناوين ليست لكتب أو لبرامج تلفزيونية، بل هما اسمان لمجموعتين في برنامج التواصل والمحادثة الشهير "واتساب". المجموعتين تضمان رجال دين وأئمة متشددين وأعضاء متطرفون سلفيون معظمهم يقطنون في الدانمرك وبهما منتسبون من السويد وألمانيا واسبانيا وإيطاليا وبريطانيا والمغرب ومصر وموريتانيا ولبنان وسورية والسعودية واليمن، ويدير هاتين المجموعتين ويشرف عليمها بصورة رئيسية المتطرف الإسلامي السوري المقيم في الدانمرك المقاتل السابق في صفوف حركة الإخوان المسلمين قبل أن ينفصل عنهم ويعمل "لحسابه الخاص" "م. ا" المكنى الشيخ أبو بشار، وكذلك الشيخ المغربي "م. خ" الداعية المؤسس.
لقد تمكنت هذه المنظمات والجماعات الإسلامية المتشددة من دس أفكارها في العديد من المجتمعات العربية والغربية، واستطاعت التأثير على شريحة واسعة من الشباب في الدانمرك. فقد أسهم العالم الافتراضي ومنصات التواصل الاجتماعي في إجراء مقاربات افتراضية وتبادلها عبر شبكة الانترنت، وهو من أفضل الأسلحة التي تلجأ لها المجموعات المتطرفة، التي تقوم بتحويل العالم الافتراضي إلى منصات ومنابر لترويج أفكارها المتشددة في هذه المواقع، أو عبر التطبيقات الذكية الأخرى، وتحويل شبكة الانترنت برمتها إلى مجموعة من المنتديات الفكرية والأيديولوجية المتفرقة. يمتلك الدعاة والمشايخ والأئمة المتعصبون الكلمة الفصل في هذه المجموعات، حيث يقومون بطرح أفكارهم المتطرفة وتصوراتهم ومقارباتهم التي في مجملها تتضمن العنف والتشدد والمغالاة والشطط الفكري، ونشر الثقافة المذهبية والتشجيع على تبنى الخطاب العنصري لدى الشباب المسلم، ومحاربة الأفكار المعتدلة، وإقصاء المخالفين في الرأي.
كثير من الدراسات الاجتماعية والأمنية توصلت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الذكية الأخرى مثل برامج المحادثة، كان لها الدور الأكبر في التأثير على آلاف الشباب المسلم من مختلف البلدان، وخاصة في الدول الغربية ومنها الدانمرك، والزج بهم في محارق الإرهاب عبر خطاب الكراهية التي تتبناه هذه المجموعات، وبواسطة الأفكار المغلقة التي تخاطب عواطف الشباب وحماسهم ووجدانهم الديني، ولا تخاطب عقولهم. ولهذا السبب أقدمت عدة دول غربية قبل حوالي الشهرين على الإعلان عن ضرورة عقد قمة أوروبية تجمع القادة السياسيين ورؤساء شركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، بهدف التصدي ووقف استخدام المجموعات المتطرفة لهذه المنصات كوسيلة لترويج الفكر المتطرف والتشدد الديني كما تفعل المجموعتين سابقتا الذكر.
ومن أبرز المخاطر التي تترتب على نشاط وخطاب هذه المجموعات الإسلامية المتشددة هو ظهور خطاب يميني متشدد في الشارع الدنماركي كرد فعل على أفكار وشعارات الحركات الإسلامية التي يعتبرها اليمين الغربي تهديد للثقافة الغربية والدولة المدنية. إن الفكر الذي تروج له بعض المجموعات الإسلامية المتزمتة أدى إلى انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا في الدنمارك ودول الغرب عامة، ومنح الأحزاب اليمينية الدنماركية والأوروبية ذريعة للهجوم على المسلمين والمهاجرين، وتوظيف خوف المواطنين الغربيين المتزايد من الوفدين من دول إسلامية في العملية الانتخابية.

سياسي لا ديني
إن الخطاب الذي تحاول جماعات الإسلام السياسي فرضه وتقديمه كخطاب بديل عن خطاب النهضة والديمقراطية ودولة المواطنة والتنوير وحرية الرأي، في الواقع هو خطاب سياسي بامتياز يرتدي عباءة دينية مذهبية طائفية بغيضة. ومحاولة هذه المنظمات والمجموعات الدينية والدعاة المتشددين إظهار أنهم لا يبتغون سوى نشر الدين ومرضاة الخالق، لهو تدليس على الله قبل كل شيء وتضليل للعباد لأنهم أصحاب مشروع سياسي واضح المعالم، فهم يدعون إلى التغيير عبر النموذج السلفي المتشدد فقط من خلال تبني الأيديولوجية المتطرفة، وذلك خدمة لمصالح وأهداف جهات محددة، ولم تحاول معظم هذه الحركات خاصة الراديكالية منها أن تتبنى أفكاراً موضوعية وواقعية لتخليص الإنسان العربي من ظلم وقهر أنظمة الاستبداد العربية، ولم تنادي بالديمقراطية ولا بدولة المواطنة ولا تهتم بالنهضة الاقتصادية، ويخلو خطابها من مضامين حداثية، ذلك أن أهداف هذه الحركات والجماعات وكل اهتمامها لا يتعدى تحقيق مشروعها السياسي الديني المتمثل في إعادة إقامة دولة الخلافة الإسلامية حتى في المجتمعات الغربية، ورفض كافة الأفكار الأخرى وجميع الصيغ والأشكال لمشاريع دول وطنية أو قومية  أو ديمقراطية حديثة، إذ عكس الداعي أبو بشار هذه الفكرة بأوضح معانيها حين ذكر أن كافة الأفكار البعثية والناصرية والقومية والعلمانية واليسارية والليبرالية مكانها "تحت الأقدام".
هذا الأمر يؤكد أن هذه الجماعات توظف الدين والشعارات الإسلامية كي تحول التناقض والصراع الاجتماعي الاقتصادي إلى تناحر ديني مذهبي طائفي، وإفراغه من مضامينه الموضوعية الطبقية الاجتماعية المنطقية التي يكابدها الفرد العربي بصفة يومية، ودفعه نحو مربع الانشغال الديني الغيبي، وهي هنا تقدم خدمة للغرب الاستعماري ولرأس المال المالي العالمي الذي لا يتناقض خطابه مع خطاب هذه الجماعات حقيقة.

تسطيح ملتبس
يتسلح أصحاب الفكر الإسلامي المتشدد بحجة أن العلمانية كفكر ودولة وشعار وتطبيق وممارسة قد ظهرت ونشأت في القارة الأوروبية لأسباب تتعلق بالحروب الدينية والصراعات بين الأفكار التنويرية والكنيسة، ويرى هؤلاء أن هذا لا ينطبق على المجتمعات الإسلامية. لكن هذا التفسير والتسطيح والتبسيط الملتبس يتجاهل حقيقة أن كلا المؤسستين السياسية والدينية تسعيان للاستحواذ على السلطة. إن الوصول للحكم كان الحقيقة الوحيدة تاريخياً في كافة الامبراطوريات والدول التي قامت، وأن الاستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين، وسيادة العقل الاحتكاري الذي يقوم على الفكر الواحد والزعيم الواحد هو السبب الرئيسي في ظهور الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي، وكذلك السبب في انهيار هذه الدول والامبراطوريات.
 لقد ارتبط على الدوام الاستبداد الديني بالاستبداد السياسي. كما أن نفوذ وقوة وسلطة رجال الدين في الإسلام لم تكن أبداً أقل شأناً ولا أخف حدّة ولا أبسط سلطة من نفوذ رجال الدين في الكنيسة، كما أن الأقصاء الديني واضطهاد الملل وقتل المخالفين وحرق الفلاسفة والعلماء والقمع الفكري في التاريخ الإسلامي لم يكن أقل منه في التاريخ المسيحي.

ليس الإسلام سبباً
إن أزمة الدول العربية والإسلامية التي دفعت هؤلاء المتطرفين إلى القدوم لدول الاتحاد الأوروبي ومنها الدانمرك، ليست أزمة ناتجة عن الثقافة السياسية الإسلامية، لكنها أعراض فاجعة لمعظم الدول ذات الاقتصاديات الناشئة والتي يعيش فيها الجهل والتخلف والأمية والبطالة والفقر مع التدين الشعبي وبعض مظاهر التطور والحداثة. إن الإسلام ليس سبباً للبؤس والشقاء الذي تعيشه معظم الشعوب العربية، ولا علاقة للإسلام بالمحن المتعددة التي يعاني منها العرب والمسلمون، لكن الكارثة المرعبة في فكر وسلوك الأحزاب وقوى الإسلام السياسي المتطرف الذين يقدمون قراءات سلفية متشددة، وكأن التاريخ والتراث عبارة عن صناديق كرتونية مرصوفة فوق الرفوف، وكل ما علينا هو تنظيفها من غبار السنين قبل استخدامها.
وفيما تكيفت معظم الأنظمة العربية مع المتغيرات الدولية وأظهرت قدرة على احتواء ظاهرة الإسلام السياسي، وضبطها كحركة معارضة، بل أن بعض هذه الأنظمة نافست الحركات الإسلامية على رعاية الدين والتدين، مما بلور واحداً من عدة أسباب أدت إلى أفشال كافة مشاريع الجماعات الإسلامية، حيث أخفق الإسلام السياسي فكراً وممارسة وخطاباً في تقديم الحلول التي اتهم التيار القومي واليساري بعجزهم عن تحقيقها. عجز هو الآخر وفشل مشروعه، فانتقل بعض أعضاء هذه المنظمات إلى تشكيل مجموعات مذهبية قبلية طائفية، وتحول جهاد هذه الجماعات من أجل مجتمعها وناسها كما في السابق، إلى جهاد في أبناء مجتمعهم ذاته وتهجيره وتكفيره، كما تفعل المجموعات المتشددة في الدانمرك وأوروبا، فيما عاد قسم منهم إلى أحضان التيارات السلفية التي بقيت تراوح في مكانها، وتجمد خطابها وتوقف اجتهادها منذ مئتي عام.
هذه المجموعات لم تستطيع تجاوز النصوص التي وضعتها المؤسسة السلفية الأولى، ولم تتمكن من تطوير فكرها ولا تجديده، واقتصر نشاطها على طباعة كتيبات مواعظ وتفاسير مقتبسة من كتب الفقهاء، وعجزت حتى عن تقديم فلسفة جديدة سياسية لمفهوم الدولة الإسلامية التي تسعى لإقامتها.
على الرغم من أن الحركات الإسلامية قد ملأت فراغاً أحدثه فشل المشروعين القومي واليساري وتراجع دورهما وانحسار مكانتهما وسط الجماهير، إلا أن الإسلاميون رفعوا شعارات لا يتشارك معهم بها أحد.
إذا كان الإسلام السياسي ظهر نتيجة تطور تاريخي يرتبط بصورة شائكة بتزايد نفوذ الدولة المستبدة التي مارست الإقصاء والتهميش للجماعات الإسلامية، فإن السؤال الكبير سوف يظل عن دور الدين في الحياة العامة. ولهذا فإن الإجابة على هذا السؤال سوف تحدد مستقبل حركات الإسلام السياسي المرتبط بطريقة جدلية بالقضايا الكبيرة التي تعني الدول العربية والإسلامية وشعوبهما.

تحرك أمني أوروبي
في ظل عصر المعلوماتية أصبحت الشبكة العنكبوتية أحد أهم أسلحة الإرهاب الفكري الرقمي، حيث خدمت هذه الشبكة الجماعات المتطرفة لبث سمومها وحقدها وأفكارها المتصلبة، بحيث بلغ عدد هذه المواقع التي تروح الأيديولوجية المتشددة حوالي 4500 موقع في لألمانيا وحدها، وبضع مئات في الدانمرك.
لقد بدأت في الأعوام القليلة المنصرمة أجهزة الاستخبارات الغربية في العديد من الدول الأوروبية تركيزها على مراقبة حركات وجماعات الإسلام السياسي، ومكافحة الفكر الإسلامي المتشدد، حيث أن دول القارة تقع في مرمى نيران المتطرفين والمتشددين الإسلاميين، وأصبحت ظاهرة الإرهاب تحظى بأولوية لدى هذه الأجهزة الأمنية، خاصة بعد سلسلة الهجمات التي تعرضت لها بعض المدن الأوروبية. وأوضحت دراسة صدرت عن مكتب حماية الدستور في ألمانيا العام 2014 وهو جهاز استخباراتي أنه سوف تظل جماعات الإسلام السياسي تحت المراقبة، حتى تلك التي لا تمارس العنف، وأن السبيل الوحيد لمكافحة التشدد والتطرف والإرهاب عابر القارات هو تنسيق وتوحيد الجهود الأمنية داخل دول الاتحاد الأوروبي وخارجه. كما تُجري الحكومة الفرنسية مشاورات مع رجال دين مسلمين حول استحداث قوانين جديدة لمكافحة التطرف الفكري في صفوف بعض المسلمين المقيمين بفرنسا.
كما تواجه بريطانيا المزيد من التهديدات حيث تتزايد المخاوف الأمنية من نشاط المجموعات المتطرفة، وفي تقرير أصدرته مؤسسة "بوليس اكستغينغ" العام 2017 بعنوان "حرب الانترنت الجديدة" يتضح حجم الخطر الذي تشكله هذه الجماعات في الفضاء الالكتروني. وأشار التقرير أن بريطانيا في المرتبة الخامسة من حيث نشاط ونشر المحتويات والأفكار المتشددة في الأنترنت.
ومن المعلوم أن دول الاتحاد الأوروبي تستفيد من البيانات والمعلومات التي تحصل عليها من بريطانيا، وفق اتفاق "العيون الخمس" لتبادل المعلومات بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا.
وفي تقارير أوروبية أخرى تمت الإشارة إلى أن حوالي ثلثي الهجمات الإرهابية "76 في المئة" نفذها أفراد كانوا ضمن مجموعات تروج للفكر المتطرف عبر الانترنت. ولهذا السبب قامت الشرطة الأوروبية "يوروبول" بإنشاء مشروع "افحص الانترنت" لتبادل المعلومات حول نشاط الجماعات المتطرفة لمواجهة الفكر المتشدد التي تؤدي إلى أعمال إرهابية.
إن مواجهة خطر نفوذ التشدد والتطرف والغلو والكراهية والعنصرية في شبكة الإنترنت، من قبل كافة العقلاء والمنظمات المدنية والمؤسسات الرسمية، والذي أصبح يكتسح أفكار الشباب بواسطة خطاب دعائي ولغة تحريضية مقيتة وأساليب تدغدغ وجدانهم الديني، بات شأناً ملحاً ليس في الدانمرك وحدها، ولا في الغرب، بل في العالم أجمع، خاصة في منصات التواصل الاجتماعي.

 

83
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


أن تختلف معي..
مؤسسة سيدة الأرض نموذجاً

تعرضت مؤسسة سيدة الأرض الفلسطينية والقائمين عليها وفي مقدمتهم الدكتور كمال الحسيني لانتقادات واسعة تجاوزت أعراف وتقاليد الاختلاف، وصلت حد التهجم الشخصي المباشر لرئيس المؤسسة والعاملين فيها، واستخدمت بحفلة الشتم والقذف أقذع الألفاظ وأفحش السباب وألصقت بهم أقبح العبارات، وقيل بالمؤسسة وبالحسيني ما لم يقله الإمام مالك بالخمر. جاء ذلك عقب قيام المؤسسة بتكريم الفنانة المصرية "إلهام شاهين" بتاريخ 13.6.2019 في القاهرة، بمناسبة مرور اثنا عشر عاماً على تأسيس المؤسسة وتعزيزاً لدورها في نشر الفنون والثقافة. وفي حفل أقيم بهذه المناسبة بعنوان "يبقى الفن رسالة إنسانية وطنية. وتبقى القدس عنوان الضمير العالمي. والقاهرة ضمير الأمة العربية" تم منح الفنانة شاهين درع المؤسسة، ومنحها لقب "سفيرة سيدة الأرض" وهو ما أثار حفيظة وضغينة وحساسية ومشاعر وغضب بعض الفلسطينيين، الذين أظهروا الكثير من السخط تجاه ما اعتبروه اختياراً غير صائب من مؤسسة سيدة الأرض، واستنكروا أن تقوم المؤسسة بتكريم فنانة مثيرة للجدل مثل إلهام شاهين، التي تنقسم الآراء حولها فلسطينياً وعربياً بين مؤيد تماماً ورافض بالمطلق. وأضاف الذين هاجموا المؤسسة والمشرفين عليها أن هناك الآلاف من النساء الفلسطينيات أمهات الشهداء والأسرى لم يحظوا بهذا الشرف العظيم الذي منحته المؤسسة لشاهين، لكنهم تجاهلوا التكريم التي قامت به المؤسسة في نهاية العام 2018 حين تم تكريم خنساء فلسطين أم الشهداء "أم ناصر" ومنحها لقب سيدة الأرض، وهي المرأة الوحيدة التي نالت هذا اللقب. وتناسوا تكريم الكثير من الشهداء الفلسطينيين وأسرهم من قبل المؤسسة، بل تقصدوا التجاهل والتغاضي عن مسيرة المؤسسة الزاخرة بالعطاء.
جاء تكريم الفنانة شاهين في سياق حفل نظمته مؤسسة سيدة الأرض لإطلاق مبادرة "فنانين العرب والعالم لأجل القدس" والغريب في الأمر أن معظم وسائل الإعلام قد تجاهلت المبادرة، وسلطت الضوء على التكريم فقط دون ذكر كلمة واحدة عن المبادرة المهمة التي تسعى لاستقطاب عدد من الفنانين العرب والعالميين من أجل نصرة قضية القدس، وقد استجاب فعلاً عدد منهم للمبادرة، وذلك إيماناً من سيدة الأرض بدور الفنانين الهام والمؤثر في قطاعات واسعة من المجتمع. ثم قامت المؤسسة في اليوم التالي بتكريم الفنان المصري محمد صبحي، ولم يأت أحد على ذكر هذا الحدث، وهو ما يشير إلى تجاهل متعمد يؤكد أن دوافع الذين قادوا حملة التشهير ضد مؤسسة سيدة الأرض لم تكن كما يدعون، بل هي مجرد ذريعة للإساءة للمؤسسة والعاملين فيها والنيل من شخصهم.
إرباك متعمد
تقوم مؤسسة سيدة الأرض بصفة دورية وكتقليد في كل عام باختيار فنان عربي لتكريمه ومنحه لقب "سفير سيدة الأرض" أي أن يكون هذا الفنان الذي تم اختياره سفيراً للمؤسسة في المحافل العربية والدولية وفي الملتقيات والندوات التي تقام، بصفته شخصية عامة، وهذا تماماً ما حصل مع إلهام شاهين، إذ اختارتها المؤسسة أن تكون سفيراً لها. لكن بعض الأصوات التي ارتفع صخبها، وكذلك بعض الأقلام التي أشهرت رماحها، لم تكن بريئة تماماً. حيث تم تزييف الحقائق وقيل أن المؤسسة منحت الفنانة شاهين لقب سيدة الأرض، وهو ما نفاه القائمين على المؤسسة نفياً قاطعاً، لكن البعض الذي حركتهم الضغائن والغيرة التي أثقلت صدورهم أخرجوا سيلاً من الحقد والغل فاض وسال حتى وصل حدوداً مست حرمة القائمين على المؤسسة، وتطاولت على سمعتهم وشرفهم ومكانتهم، بل تمت الإساءة إلى رجال مخلصين أوفياء للوطن، وكذلك تم توجيه إهانة لهم ولعائلاتهم. وزاد الأمر سوءًا حين نشرت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لشاهين وهي تتوشح علم السودان على أنه علم فلسطين، فوصل الهجوم عليها وعلى المؤسسة التي كرمتها مستويات قياسية.
بغض النظر إن اتفقت أو اختلفت مع أسماء الفنانين العرب التي تقوم مؤسسة سيدة الأرض باختيارهم لتكريمهم وتقوم به بصفة دورية كل عام، فإن هذا لا يعني أنك على صواب، ولا يمنحك الحق إلا في نقد الفكر والمعتقد وانتقاد الفكرة والثقافة وتحليل الرؤية ومقاربة المبادئ والمواقف بطريقة علمية وموضوعية تخلو من الشخصنة ومن الإسقاطات المزاجية، حيث لا مبرر أخلاقي ومنطقي يفسر هذا التهجم والتعرض لكوادر المؤسسة ومسؤولها، ويعلل الإهانات والشتائم والازدراء التي وجهت لسيدة الأرض وللدكتور الحسيني.

فلسفة الاختلاف
أن تختلف معي فهذا حقك، أو أن لا أروق لك فهذا شأنك. لك كل الحق أن تكون مختلفاً عني في المظهر والجوهر، في الفكر والموقف والرؤية، في الذوق والاهتمامات، وكذلك الأمر في سائر شؤون الحياة. لكن اختلافك عني ومعي لا يجعلك على صواب، ويجعل مني مخطئاً. حقك في اختيارك الاختلاف لا يعطيك الحق أبداً أن تشتمني وتقدح وتذم وتفبرك الأحداث وتزور الوقائع وتنتقص مني. بل أن اختلافنا يجب أن يوفر فرصة كي يستفيد كلانا هن هذا الاختلاف لاكتشاف أشياء لم نكن نعلمها، ولاكتساب خبرات جديدة، ولرؤية الأمور بطريقة مختلفة.
‏ قديماً قال الفيلسوف اليوناني "سقراط" موجهاً كلامه لرجل جميل المظهر وقف يتبختر متباهياً بثوبه ويتفاخر بهندامه ومظهره، فقال له جملته الشهيرة "تكلم حتى أراك".
اليوم تعاني مجتمعاتنا العربية من انقلاب في المفاهيم وانسحال أخلاقي مريع، أصبحت معه الكلمة غير مسؤولة، والمواقف تمليها الحسابات الشخصية والتحالفات غير المبدئية، والاصطفاف شللي، واختلط الحابل بالنابل، الصالح والطالح، والشغول بالكسول.
إن المشكلة لم تكن يوماً في الاختلاف، لكن في إدارة هذا الاختلاف. ليس عيباً ولا شيئاَ غير عادياً أن يختلف معك الآخرون، لكن أن تتم شخصنة هذه الاختلافات ثم يقوم البعض بشتمك وعائلتك ويتم التشكيك في انتماءك ونبل غايتك، فهذا فعل قبيح لا يمكن أن يصدر عن إنسان عاقل ومسؤول. فالاختلاف أزلي كما هو الاجتهاد أزلي، وكذلك المبادرة والابتكار. ومن يرغب في إغلاق باب الاجتهاد والمبادرة، يرتكب خطيئة اصطناع الوفاق والاجماع المزيف اللذان لا وجود لهما.
الاختلاف جعل من بعض المبدعين والعلماء والمفكرين والأدباء والفلاسفة متميزون حيث برز كل منهم في قطاعه، فيما الآخرون الذين فضلوا السلامة والتوافق مع الأداء الجمعي طواهم النسيان. فحين ينام الكسالى المتكيفون ملء الجفون، نجد أن النشطاء يسهرون ويتدبرون ويخططون ليوم عمل شاق قادم.

ماذا بعد
أن تختلف عني ومعي فهذا شيء، والعدل والصدق والموضوعية والنزاهة في قول الأشياء وتوصيفها أمر آخر مختلف تماماً. فربما تكون فيلسوفاً متبحراً في المعارف، أو نابغة في العلوم، وقد تكون منافساً وخصماً شرساً معانداً، لكنك حين لا تكون صادقاً شريفاً ومستقيماً، وحين تفتري وتكذب وتفبرك، ولا تجد سوى الشتم والسب وسيلة لتعلن اختلافك، حينها تفقد احترامك وقيمتك ولا تصون كرامتك لأنك تقول المنكر وتدافع عنه. إن تعارض المصالح والكراهية والتعصب الأعمى والمواقف المسبقة سمات تجعل من بعض الأفراد لا يرون سوى الافتراء والنفي والاستعداء ويظنون أنهم يقبضون على الحقيقة.
من حقك ان اختلفت مع سياسة مؤسسة سيدة الأرض أو مع القائمين عليها أو مع بعضهم، أن تعلن وجهة نظرك وتدافع عن رؤيتك، لكن بشرط أن تكون موضوعياً حكيماً في إدارة اختلافك، وأن تقدم المصالح العامة على المنافع الشخصية، ودون كذب وافتراء وتزوير، دون توجيه شتائم وإهانات لأحد، دون التشكيك بانتماء ووطنية أحد.
فإن شكلت النجاحات التي حققتها مؤسسة سيدة الأرض عبر مسيرة اثنا عشر عاماً ضيقاً لبعض الفاشلين الهامدين، فإنه من الظلم والحمق جلد المؤسسة واستجرارها كي تتحمل جريرة إفلاس الأخرين.
إن الجانب الأكثر لؤماً ومكراً في طمس الصدق والإنصاف والموضوعية هو أن تقوم في إقصاء وإزالة الأسباب والمعطيات وإنكار العوامل والتغاضي عنها، وتسليط الضوء والتركيز فقط عن النتائج. علينا جميعاً أن نتعلم آداب الاختلاف وسلوكياته، وأن نصدر أحكامنا بمعايير موضوعية ونزاهة تسمو فوق رغباتنا وهوانا لربما يرتفع منسوب إنسانيتنا قليلاً.
 

84
أدب / أوردة لقلوب الجائعين
« في: 10:41 09/06/2019  »

أوردة لقلوب الجائعين

حسن العاصي



1
في منتصف الرحيل
خطىً تتنهّد
والدروب المرتجفة
تئن في نهوض
إلى الأرصفة الخشنة
في ملتقى السواقي
أجعل قلبي لك مركباً
يراودني شغب الأراجيح
أشرّع أسئلة الماء
قبل أن أعتكف المكان



2
ألا يكفيك
نومك على بساط القصب
يا مذاق الجنون المحلّى
صبحك سرمدي
وأنا هرمت
قالت ألا تعلم
لا يأتي شغف الإبحار
إلّا من رصيف الأرق



3
لم أعد أسمعك
الفضاء يكتسي السكون
من شفة الجدول
تأخر نور المساء
متى تعود؟
مازال الشفق يعانق
وجه الغياب
كيف تركتك
تبدّد أقنية الهمس؟
ارتبك الرحيل
فاعتزلت المسافة


4
تموت الفصول
فوق الرصيف العاقر
زهرة الثلج تحتسي
أوردة البياض
تعزف القصيدة
احتضار المدينة
نحمل نعش التقاسيم
خطيئة الميلاد
كأن في جنون الصقيع
يسيل شمع الذنوب
على عتبات الخطايا



5
تغسل الحقائب الباردة
زهرة الطفولة
خيوط الفراغ
تلملم رفات الوقت
وتكتب وجع الأمد
على أوردة الرمل
سور المدينة لم يمت
لكنه منذ ضباب وحسرة
أصبح لوحة صبّار
الوجوه الصغيرة رحلت منذ ندم
لكنهم يبكوها الآن
فلنحاول غياب آخر



6
الأرض تحب الصلاة
وتعب التراب ينزف
بحر السفر
رأيت في غابة الخبز
ساقية تجري
تحمل ترياق الصبح
يوغل القمح في السكون
حتى ينثر ماء الضباب
جوع المكان
للإيمان ملامح أخرى
يرتدي العشب المرتبك
أطراف الغيبوبة
يصرخ الطين
ازرعوا في أخاديد حقلي
أوردة لقلوب الجائعين


85
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


المونوفيجن الفكري.. أزمة العقل العربي

إحدى أبرز إشكاليات العقل العربي تكمن في وضعية الانسداد التام والاستعصاء التي لم تمكنه من التطور وإدراك المعاصرة والحداثة، نتيجة عجزه المزمن عن إجراء تغيير في ثقافته الموروثة منذ قرون خلت. ثقافة تجعل معتنقيها مؤمنين أنهم أخير الناس، أصحاب الرُشد والأخلاق والحق، لذلك فإن الثواب والخير يعود لهم، وإن الرذيلة والضلالة والبؤس للأخرين الأقل مكانة. إن هذا القصور الاستدلالي حول التنوع الفكري والتعدد الثقافي، جعل العقل العربي غير فطن للتطور الهائل الذي قطعته العلوم وأنهت معه عصور التقسيم جيو-ثقافي للأمم بسبب الجغرافيا، ولم يلاحظ النتائج الكارثية التي أحدثتها الصراعات والحروب والكراهية بين البشر لأسباب ترتبط بالاختلافات الثقافية، ولهذا فإن العقل العربي ظل مكبلاً غير طليق ولم يدرك منظومة القيم الإنسانية التي شكلت أساس قيام العالم الحديث.
التطور التقني الذي حققته العلوم في قطاع الاتصالات قد أسقط الجدران الجغرافية والدينية والعرقية، فبدأت تتأسس ثقافة جديدة مكونة من قيم العدالة والمساواة والحريات العامة، تحترم الفردية والخصوصية، ثقافة بلا هويات دينية أو مذهبية أو قومية، وتتجنب كافة مفاعيلها وإفرازاتها الاجتماعية والفكرية، بل تعتمد التفاعل الإنساني والهوية الأممية.
علاقة العقل العربي بالعلم مركبة وشائكة وطفولية وغالباً تبدو استعلائية تكشف عمق الجهل والتخلف، حيث تسود أفكار أن العرب سبّاقون في كل مضمار، ولديهم كل شيء خصهم الله فيه دون سواهم، في مجتمعات يسيطر عليها الفكر الغيبي والموروث الثقافي الذي يعكس سعة الفجوة العلمية والحضارية بيننا وبين الأمم التي حققت التقدم.
تفشّي الخرافات وتأصلها في عمق العقل العربي والإرث الذي يعتبره مقدساً حال دون تمكن الأدمغة العربية من أن تجد لها مكاناً في نادي الاكتشافات العلمية. كيف يتطور العقل العربي ومازال الكثيرين يؤمنون بالقدرة الخارقة لبول البعير على الشفاء من مختلف الأمراض، ويعتقدون بالسحر والحجب وإقامة الطقوس الدينية. ما زالت علاقة العقل العربي مع الآخرين ومع الحضارة العالمية، مختلطة وملتبسة يطغى عليها التوحش والسلوك الصحراوي القبلي، بالرغم من امتلاك العرب أحدث السلع التي ينتجها العلم.

فلسفة الاقصاء
الاقصاء تربوياً هو أسلوب للعقاب يتضمن إلغاء التعزيز الإيجابي لفرد أو جماعة، لفترة محددة أو بصورة نهائية. وفي اللغة فإنه الإبعاد والغاية البعيدة. والاقصاء اجتماعياً ويعرف أيضاً باسم التهميش هو الحرمان الاجتماعي والإبعاد إلى حافة المجتمع، وهو مصطلح يستخدم على نطاق واسع في أوروبا في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتم تعريفه على أنه منع الأفراد بشكل منهجي من الوصول لكافة أو بعض الحقوق والفرص والموارد المجتمعية أسوة بالآخرين.
يقول الكاتب الأمريكي "فرانك هربرت" لم يخلق الناس سواسية، وهذا أصل فساد المجتمع. ويظهر الاقصاء والتهميش في قلب كافة قضايا الصراع الاجتماعي باختلاف تسمياتها ومظاهرها وتمثلاتها.
إن العقل الاقصائي هو الذي لا يرى سوى ذاته، لا يعترف بغيره، ويتخذ مواقفه بناء على حساباته وحده، لا يهتم بالآخرين ولا يراهم. الاقصائية هي منظومة من الأفكار والسلوكيات تم تصميمها لتخدم مصالح من تمثلهم، وتعمل على إزاحة الآخرين وحرمانهم دون أي اعتبار. ولهذه الأسباب فإن العقل الاقصائي عامل طارد لكافة الجهود الجمعية، عقل ينفي حق الآخرين في الوجود، وحق الأفكار في أن يتم نقدها، وحق الممارسات في أن تخطئ أو تصيب، ولهذا فإن الاقصاء هو الشريان الخفي الذي يغذي كافة الأفكار المتطرفة والأعمال العنيفة. وبهذا يكون التشدد والتعصب هما انعكاس للأفكار الاقصائية التي تبررهما. العقل الاقصائي يمكن أن يكون عقلاً دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو عرقياً، كما قد تجد العقل الاقصائي في التيار اليساري أو اليميني أو القومي أو الليبرالي لا فرق بين عباءة وأخرى، فالاقصاء منتشر كالفطر السام.
الثقافة الاقصائية هي السبب الرئيسي خلف هذا النكوص الأخلاقي والعجز الحضاري، والاخفاق الحداثي والهزائم التي تصيب الأمتين العربية والإسلامية. العقل الاقصائي تسبب في حالة انسداد فكري واستعصاء علمي وجمود حضاري، تسبب في أسر الأمة بسجون تاريخها، فيما الأمم جميعاً كسرت قيدها وانطلقت نحو التقدم والازدهار.
لا يمكن إجراء مقاربة للعقل الاقصائي في الحالة العربية دون الإلمام بكافة الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية والتاريخية لهذه الظاهرة، لأننا كما نعلم فإن الواقع لا يمكن أن يتشكل بمعزل عن الأفكار السائدة، كما أن الفكر ذاته لا يمكن فصل منبته عن واقعه. تبدو الحقائق في سياقها التاريخي تشير إلى أن الفكر العربي بصورة عامة كان ولايزال-بمعظمه- فكراً اقصائياً بمختلف مراحل التاريخ، حيث كان فكراً حاملاً ومحملاً ايديولوجيات تدفع بطبيعتها للاقصاء، ولأنه لم يكن يقبل بوجود فكر آخر، لم يتاح لفكرين أن يتعايشا في تاريخ الفكر العربي، إذ أن وجود فكر وايديولوجية ما كان ليكون إلا بزوال الفكر الآخر، وهذا يظهر في صراع الحنابلة والمعتزلة في التاريخ الإسلامي على سبيل الذكر، هذا يعني ببساطة أن التعددية الفكرية والتنوع الثقافي صفات غائبة في تاريخ الفكر العربي.
وذلك يعود لأسباب منها أن الدولة الإسلامية العربية ثم الدولة السلطانية، فالدولة الشمولية الحديثة لم تسمح بالتعددية الفكرية لأنه ينتج عنها تنوع سياسي رأت فيه الدولة العربية الاستبدادية خطراً عليها، فلم يعرف التاريخ العربي الدولة الجامعة، دوماُ كانت الدولة قديما وحديثاً إما لهذه الفئة أو لتلك. من جهة مختلفة فإن غياب التعددية السياسية أنتج غياب التعدد الفكري، وهيمنة الفكر الأحادي والسياسة الأحادية، والحزب الواحد والزعيم الأوحد، وهكذا في دائرة مغلقة تسببت بالبؤس والشقاء للأمة العربية.
خضع العقل والفكر العربيان تاريخياً لهيمنة نمط محدد وحيد، كان ولا يزال الخروج عنه بمثابة خروج عن الجماعة يستوجب العقاب لإعادة الطاعة، لذلك نمى العقل العربي على أحادية فكرية وفلسفية وثقافية ودينية لا ثانية لها، وهنا تماماً تكمن بذور الاقصاء بوصفه سلاحاً استعمل من قبل فئات محددة للحفاظ على مصالحها التي سوف تكون مهددة فيما لو سادت التعددية بدلاً عن الأحادية.


كل فكر وعقل أحادي هو بالضرورة اقصائي في تكوينه وتمثله ومفاعيله، تنتج الأزمة حين لا يواكب الفكر التغيرات التي تحدث في البنية الاجتماعية، وبهذا حين نكون أمام بعض التعدد والتنوع الاجتماعي والعرقي والمذهبي في البلدان العربية، ويظل الفكر أحادياً، تكف قضية الاقصاء عن كونها قضية فكرية ونظرية، لتتحول وتصبح إشكالية اجتماعية حياتية تتسبب بإلحاق الضرر بكل من هو خارج المركز، وتعيق الاستفادة من مقدرات الآخرين المبعدين المهمشين المقصيين، وتؤدي بهم للانكفاء لشعورهم بالوصاية عليهم من قبل المركز، وهذا يكبح تطور المجتمع وتقدمه.

المونوفيجن العقلي
كما المونوفيجن البصري الذي يصيب عيون بعض الكبار في السن من الناس ويسميه الأطباء قصور البصر الشيخوخي، هناك مونوفيحن يصيب العقل البشري دون تحديد العمر، وهو الأحادية في النظرة وفي التفكير والرؤية، وغياب سعة الإدراك لتقبل التعدد والتنوع في الأفكار والآراء ورفض الاختلاف، وهو مرض خطير يحدث تفاعلات غير توافقية تكون نتيجتها ظهور التشدد والتطرف والتعصب والعنصرية ورفض الآخر والجمود الفكري. وهي باتت أكثر ما يعيق تقدم المجتمعات، خاصة التطرف الديني والسياسي والاجتماعي. ولم يقتصر المونوفيجن على الأفكار والايديولوجيات، بل امتد وطال العلاقات البشرية وتسبب في عدم التوافق الإنساني، وهو أشد حالات أحادية الرؤية خطراً على الأفراد والمجتمعات.
يرتبط العقل الاقصائي بنزعة عدوانية مترسبة عبر السيرورة التاريخية. وبقدر ما تكون الأفكار اقصائية وتمييزية بقدر ما تظهر تسلطها وعنفها. ويظهر التطرف الديني أعمق أشكال أحادية الرؤية وأشدها استعصاء على التغيير. فالتراتبية الاجتماعية والصراع الطبقي وتدني المستوى الاقتصادي والفقر والجهل، وكذلك الاستبداد السياسي وغياب الحريات العامة، هي أيضاً أهم أسباب التشدد والاقصاء.
التطرف الديني لا يمكن فصله في الحقيقة عن التطرف الفكري والاجتماعي، ولا يرتبط بالجنس أو العرق أو المذهب. لأن الرؤية الاقصائية واحدة نابعة من موروث متأصل في الثقافة البدائية للبشر، نظرة ميتافيزيقية تكشف ضحالة العمق المعرفي في منظومة الوعي الاجتماعي. وفكر موحش ينزع لمصادرة حقوق الآخرين المخالفين، لا يرى تحقيق ذاته إلا بنفي الآخر وعدم الاعتراف به. هو العقل المركب المبني على عدم التسليم أنه بالنسبة للأخرين أيضاً هو أخر مختلف. تتحول هذه الأفكار والسلوكيات وتصبح ثقافة تأخذ أبعاداً دينية أو عرقية أو مذهبية أو اجتماعية، ثم مع الوقت تتحول إلى هوية.

المخيال العربي والاقليات
المقاربات الثقافية العربية لقضية الأقليات العرقية والدينية والثقافية أخفقت كونها معالجات مبنية على الأولويات العربية، ولأن غالبية السياسيين والمثقفين العرب يقرأون الواقع العربي بتنوعه وتعدده بصورة سطحية عابرة، لا تصل إلى عمق البنية الثقافية والاجتماعية للأقليات. حيث تعامل العقل العربي- غالباً- بصورة دوغمائية واستعلائية مع المجموعات العرقية والإثنية، منطلقاً من مركزية الثقافة العربية وهامشية وتبعية الثقافات الأخرى.
يسقط المثقف العربي من حيث لا يعلم في العنصرية حين يهاجم مركزية الثقافة والفلسفة الغربيتين، وبذات الوقت يتبنى مركزية ثقافته ضد الآخر الموجود تاريخياً، وهو بهذا يضع أولى اللبنات في جدار الإقصاء القاتل كونه يعتمد أحادية الثقافة. يجب الاعتراف أن العديد من المفكرين والمثقفين العرب ومنهم الدكتور محمد عابد الجابري، مؤمنين بأن ما يسمى الثقافة العربية هي نتيجة إسهامات شعوب الوطن العربي الإسلامي منذ عصر التدوين. وبالتالي فكل ثقافات الوطن العربي هي ثقافات متفرعة من الثقافة الأم وهي الثقافة العربية، وهذا رأي فيه القول الكثير لأنه يتنكر لثقافة الأقليات ومساهماتهم في الإنتاج الثقافي والحضاري للمنطقة.
إن المخيال الثقافي المعرفي الاجتماعي التاريخي العربي الذي يعتمد الرموز السياسية والدينية والفكرية والفلسفية والعلمية كمعيار لتميزه عن الآخرين وتفوق العقل والثقافة العربية، هو تماماً ما يسترشد به العقل السياسي العربي في بناء علاقته الفوقية مع الأقليات. وتصبح هذه المخيلة وأدواتها فعلاً طارداً للآخر وليس جامعاً وموحداً على مستوى البنية والدلالات. فالرموز والقيم في المخيلة العربية قد لا تعني أبناء الأقليات بشيء بالضرورة، كما أن رموز وقيم ومخيلة الأقليات لا تشكل اهتمام معرفي بالنسبة للعرب، ومن هنا تنبع الأزمة.

الاقصاء الديني
 التكفير كمنظومة ورؤية نظرية وسلوكية لا يتعلق فقط بالحركات الدينية، بل امتدت عصبيات هذا التشدد إلى كافة المشارب الفكرية والفلسفية والثقافية والاجتماعية، وأصبح يمارسها الجميع من علمانيين ويساريين وقوميين وليبراليين، حيث سقط الجميع في قعر الإقصاء وإلغاء غيرهم والاستعلاء عليه، وتجريده من حقوقه البديهية، وحرمانه من مصادر المنفعة العامة أسوة بغيره، بل ربما قتله أيضاً. وبهذا فإن التكفير والاقصاء باتا أزمتان إشكاليتان للكثير من المجتمعات البشرية. وهي ظاهرة تستوجب البحث في جذورها وتحليلها لفهمها، وعدم الاكتفاء بالقراءات السطحية.
 تعود المنابت الأولى لهذا الفكر في التاريخ الإسلامي إلى بروز تيار الخوارج كحركة احتجاجية على الواقع السياسي، ظهرت في نهاية عهد الخليفة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وبداية عهد الخليفة الرابع علي بن ابي طالب "رضي الله عنهما"، في النصف الأول من القرن الأول الهجري. وقد خرجوا عن جماعة المسلمين أثناء عودة أمير المؤمنين "علي ابن أبي طالب" من صفين إلى الكوفة بعد التحكيم الذي حصل في القصة الشهيرة.  وكان الخوارج يتصفون بأنهم أكثر الفرق الإسلامية دفاعاً عن مواقفهم وتعصباً لمعتقدهم وآراءهم. كانوا يدعون بالبراءة والرفض للخلفاء ولحكام بني أمية، وتمسكوا بالاختيار والبيعة في الحكم. قامت الحركة بصياغة خطاب ديني سياسي، اعتمد على مفهومهم للحاكمية "إن الحكم إلا لله" لتبرير الأفعال الشنيعة.
تراجعت تيارات الإباضية والنجدات والأزارفة وسواها من فرق الخوارج، وظل العقل الاقصائي المذهبي والسياسي حاضراً بقوة في التاريخ الإسلامي والعربي.
نشوء حركات التكفير والهجرة في بعض البلدان العربية يؤكد ما سبق في أن أسباب ظهور هذه الحركات هو الاحتجاج على الواقع السياسي المأزوم، ثم نتيجة الاستبداد الفكري والسياسي وغياب الحريات الأساسية والاقصاء في العالم العربي، تشددت هذه الحركات في أفكارها وسلوكها للتعبير عن نفسها بشكل عنفي، بعد أن عانت من القهر والطرد المنظم.
لعل واحداً من أسوأ صفات الفكر الديني المتشدد الاقصائي هو الإساءة التي يتسبب بها للإسلام ذاته قبل كل شيء، نتيجة للقراءات والاجتهادات والتفسيرات الخاطئة لأصحاب هذا الفكر. فهذا الفكر لا يقدم أية مقاربات للأزمات التي تعاني منها الأمة، بل يدفع لترسيخ الانشقاقات والانقسامات والاصطفاف والطرد بذرائع دينية لا تقبل النقاش. وعليه فإن الاقصاء الديني هو أخطر أشكال الاقصاء لأنه يعتمد النصوص المقدسة ويداعب مشاعر الناس، ويعمل على إيقاظ العصبية المذهبية لديهم، ويقوم بشيطنة الآخر المختلف، ويجعل من كراهيته ومحاربته وطرده فعلاً صالحاً يُؤجر الفرد عليه. وهي ثقافة تشكل المخزون الفكري للتطرف والعنف والتهجم على أتباع المذاهب المخالفة، قائمة على التفرد بالحقيقة والرأي وتهويل النزعات الاختلافية.
لا يمكن مواجهة هذا الفكر دون بناء مجتمعات مدنية حديثة قائمة على مبادئ احترام الحقوق الرئيسية للمواطنين وحرياتهم العامة، مجتمعات قادرة على صناعة إنسان منتج فاعل ويسهم في بناء حضارة أمته عبر العقل والتفكير الابداع والعمل والإنتاج والتميز، وليس بواسطة التكفير والاقصاء.

الاقصاء الثقافي
الاقصائية صفة ملاصقة للفكر في الثقافة العربية الحافل تاريخها بقمع الحريات، وممارسة الاضطهاد والترهيب والتعذيب لكل من خرج عن الأيديولوجية وخالف الضوابط الدينية والعرفية. حيث ذاق الفلاسفة والمفكرين والمثقفين الذين أخرجوا عقلهم من الصندوق الأمرين في التاريخ العربي والإنساني. فمنذ أن تحولت الرسالة السمحة التي جاء بها الإسلام من كونها حامل للمحبة والتعايش الإنساني، إلى مركّب معقد للساعين الوصول للسلطة السياسية، أصبحت الحقائق مكونات يحتكرها أتباع طائفة دون الأخرى، وبدأت معها الانقسامات التي سببتها ثقافة الاقصاء التي لا زالت أنيابها حادة ممتدة في بنية الفكر العربي والإسلامي غالباً بذرائع متعددة.
اتسعت دوائر هذا الفكر في الراهن العربي، فأصبح المثقفين جماعات وطوائف متناحرة، والمؤسسات والأطر السياسية والثقافية والحزبية والدينية تحولت إلى مراكز استقطابية، وظهر المتشددين المتزمتين في شتى الميادين. هذا خلق صراعاً بين التيارات واصطداماً غير توافقياً بين الأفكار، أدى إلى اقصاء البعض غير المنسجم. هذا الحال أربك المشهد الثقافي برمته.
سياسة عدم وجود تكافئ الفرص، والمحسوبية والتهليل، ومحاربة كل عمل وفعل إبداعي يعتمد إعلاء سلطة العقل، ينتج عنه الاقصاء للفكر الحقيقي وأصحابه. تطور حركة الفكر العربي تتطلب الانعتاق من قيود ثقافة الاقصاء التي تكبل العقل العربي. إن الفكر التنويري الحداثي الغربي لم يكن يوماُ كتلة واحدة صماء، بل هو تعبير عن اتجاهات فكرية متعددة ومشارب فلسفية متنوعة بلغت مستوى عال من الرقي، لم تكن تصله لو اعتمدت الفكر الأحادي.

الاقصاء في الإسلام
تكاد أن تصبح ثقافة الاقصاء ورفض الآخر وعدم قبول رأيه، هوية للإنسان العربي الذي يستعدي كل من يختلف معه في الفكر. فالاقصاء احتل حيزاً واسعاً من الثقافة العربية البدوية، كان العرب تتقاتل لاختلافات غير هامة، وتتصارع القبائل لأسباب تافهة لفرض رأيها، حتى بات القتل والغزو أمراً عادياً وضرورياً في الثقافة البدوية. قتل العرب بعضهم بعضاً لعدم التوافق في الموقف وللتعارض في التفسير، ولتصرفات عادية لا تروق لبعضهم، ولأي قول أو سلوك تعتبره عقليتهم البدوية الاقصائية أنه إهانة لهم ومساس بكرامتهم وانتقاص من كبريائهم، فكان السيف والقتال لا العقل والحوار هو السبيل الوحيد لحسم الخلافات. حتى أن شهر صفر سمي بهذا الاسم لثلاث روايات أحدهما أنه يعود إلى أصفار مكة من أهلها لخروجهم والقبائل الأخرى للغزو. كما جاء في الجزء الرابع من كتاب لسان العرب لابن منظور. -قيل أيضاً أنه بسبب نهاية فصل الشتاء واصفرار أوراق الشجر، وقيل إنه إشارة إلى خلو مكة بعد موسم الحج.
جميعنا سمعنا بالحرب الشهيرة "داحس والغبراء" التي استمرت لأربعين عاماً متواصلة بين فخذين من قبيلة "غطفان" النجدية، هما "عبس" و"ذيبان" والسبب لم يكن سوى نزاع يتعلق بسباق خيل بين فرسين يسميا "داحس" التي امتلكها "قيس بن زهير" و"الغبراء" لصاحبها "حذيفة بن بدر". وهي واقعة تاريخية تعكس العقلية الخشبية الاستكبارية القاصرة عن لغة الحوار والعاجزة عن مواجهة عصبيتها. فقد كان العرب لا يؤمنون بالفكر ولا يعترفون بالثقافة، بل بصلة القربى والحسب والنسب، فحين يهب العربي لنجدة العربي فإنما بسبب الانتماء العائلي أو القبلي أو الطائفي والمذهبي، لا بسبب الوقوف مع الحق وقوة وحصافة الرأي وحكمة الموقف.
حتى بعد اعتناق الإسلام لم يطلّق العرب العقلية البدوية ولم يخرجوا من قعر الاقصاء والتعصب. كل ما حصل أنهم انتقلوا إلى نمط آخر من الاقصاء والتكفير لمن يختلف معهم في الفكر والرؤية. وهكذا كان يتم نفي أي جماعة أو أي فرد من القبيلة يكون له/م تفسير وقراءة مغايرة عما هو سائد. بحيث يتم طردهم للصحراء كي يموتوا وحدهم، اجتناباً لتمزق القبيلة. وقد يعود المخالف لحماية القبيلة إن أعلن توبته، وإلا قد يقتل لموقفه.
تبدو الثقافة التي تسببت في أزمة العقل العربي المعاصر تُغذيها موروثات تلك الحقبة البدائية، فما زال العرب يعتقدون أنهم أفضل الأمم، وكأنهم أصيبوا بالعماء جميعاً، لا أحد منهم قادر على رؤية هذا الخراب والبؤس الذي يعيشون في وسطه. ولا زال العربي المسلم غير قادر على التعامل مع الآخر المختلف إلا بوصفه عدواً أو في أفضل الأحوال غير صديق. واستمر في رفض الأفكار الأخرى التي ينظر لها على أنها طريقة لإضعاف الإسلام وهدمه. بل أن هناك بعض التيارات والجماعات الإسلامية تعتبر أن الاختلاف لا يجوز في الإسلام، وهو أمر باطل شرعاً وعقلا!
إن أصحاب هذا النهج الفكري يقدمون الإسلام على أنه دين فاشي لا يحترم العقائد الأخرى، بينما الإسلام غير ذلك تماماً. هذه الأفكار هي التي أنتجت التشدد والتطرف ثم العنف والإرهاب.
هذه العقلية التي نحصد بعضاً من حنظلها اليوم، تسببت بالمصائب التي ابتليت بها الأقوام المتعاقبة التي عانت الأمرين من حكم وفكر وأسلوب بعض الحكام المسلمين، الذين عملوا على اضطهاد وتعذيب واقصاء وقتل كل من يخالفهم في الرأي أو العقيدة حتى من أبناء المسلمين أنفسهم.
الخليفة "المتوكل" سجن رئيس بيت الحكمة في بغداد الفيلسوف "أبي يوسف إسحاق الكندي" ثم طرده وحرق مكتبته، لأنه اعتبر أن العقل جوهر التقرب إلى الله وعارضه حينها رجال الدين. وفي عصر "المنصور" اضطُهد "أبي بكر الرازي" أشهر علماء المسلمين، وأول من ابتكر خيوط الجراحة، ومكتشف الدورة الدموية، هاجمه رجال الدين المتعصبين لمواقفه واتهموه في دينه حسداً منه لمكانته، فطرد من عمله وأتلفت مخطوطات هذا الفيلسوف وتم ضربه بكتبه على رأسه حتى أصابه العمى. ما فعله السلطان "المنصور بن أبي يعقوب" سلطان الموحدين، مع الفيلسوف والعالم "ابن رشد" لا يقل بشاعة، حيث أحرقت كتبه ورمي بالإلحاد ثم تم نفيه إلى المغرب. العالم والفيلسوف الصوفي "محي الدين بن عربي" تم اضطهاده واتهامه بالزندقة فعاش بقية أيامه وحيداً في خوف. "أبي نصر الفارابي" أشهر فلاسفة المسلمين، في سعيه لبحث العلاقة بين الفلسفة اليونانية وعقائد الشريعة الإسلامية، تم اعتباره أكثر العلماء كفراً وزندقة. أيضاً لاقى الإمام "أبي حنيفة النعمان" الاضطهاد والتعذيب على يد الخليفة "المنصور" لاختلافه في فهم الإسلام، ثم تم جلده وضربه على رأسه حتى الورم، وهو شيخ عجوز في السبعين من عمره. وسواهم الكثير من العلماء المسلمين الذين تم تعذيبهم وقتلهم لأسباب ترتبط بالموقف والرأي.
هكذا تعامل الخلفاء والسلاطين المسلمين من كافة الأعراق، عثمانيين أو مماليك أو سلاجقة أو عرباً، مع رعيتهم بعقلية اقصائية متشددة تقمع كل صوت يغرد خارج السرب، وتضرب رأس كل من يفكر خارج الصندوق، بذريعة أنهم حماة الإسلام. وما الحال التي وصلنا لها في الراهن العربي المعاصر إلا فصل جديد من تاريخ العقل الاقصائي العربي بكافة تمثلاته.

خاتمة
العقل الاقصائي يناقض مكونات الحياة ذاتها في تعددها وتنوعها وثراءها. ولا يرى الوقائع إلا من طرفه المطلق الأوحد. نحتاج إلى العقل التشاوري الاجتهادي التحليلي التشاركي التسامحي بديلاً عن العقل الاحتكاري الطارد للتعايش الجالب للبؤس.
في الحالة العربية الشقية فلا اعتراف بلغة الحوار، ولا رحمة لأي مخالف في الفكر والتفسير، بل التطويع والإخضاع للفكر النقدي المتمرد، والإدانة لكل من يرتفع صوت عقله، والقمع والسجن لكل من لا يستجيب، والإرهاب والقتل لكل من يحاول تغيير الثابت. فنحن أمة لا تقبل الاختلاف، لا اختلاف الدين، ولا الهوية، ولا الرأي، ولا المذهب، ولا الطائفة. وثقافتنا هي ثقافة هدم لا ثقافة بناء، ثقافة قتل لا ثقافة حياة، ثقافة تفريق لا ثقافة توحيد، ثقافة طاردة نافية لا ثقافة جاذبة. وما زلنا نشتم الغرب العنصري الذي يحاول تسميم ثقافتنا بالتنوير والحداثة.
لن يتمكن العقل العربي من التقدم ما لم يتخلص من التميز المزيف عن سواه. سوف تظل المفاهيم المتنوعة معكوسة في العقل العربي ما لم يغير من ثقافته الموروثة ويتبنى ثقافة جديدة إنسانية، تتمكن من بناء مجتمعات حضارية متطورة، وتقضي على كافة مظاهر التخلف الاجتماعي والظلم والفقر والأمية والجهل والاستبداد المهيمن على البشر.
نحتاج إلى الكثير من المرونة الفكرية، والتمرس المعرفي، والسلاسة التواصلية، والتوازن والموضوعية، وكثير الكثير من الإنسانية.


86
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


حدائق الحيوان البشرية.. حين تغيب الإنسانية

كشفت صورة التقطت ببروكسل ونشرت عام 1958 وهزت ضمير البشرية، الوجه الذميم للغرب الاستعماري العنصري. الصورة كانت لطفلة من أصول أفريقية بعمر ثمانية أعوام، تم وضعها مع أطفال مثلها من أصحاب البشرة السوداء في أقفاص تسمى حدائق الحيوان البشرية. كما أصابت كلمات "ونستون تشرشل" الزعيم البريطاني التي نشرت العام 1992 الرأي العام الأوروبي والعالمي بالصدمة، حيث جاء في مفكرته التي كتبها حين كان وزيراً للداخلية أن "النمو الشاذ المتزايد لطبقات ضعاف العقول يشكل خطراً قومياً وعرقياً على أوروبا، ويجب وقف هذا الرافد الذي يغذي نهر الجنون".
لقد مضت عقود على مكافحة العنصرية في الولايات المتحدة وأوروبا، وعلى الرغم من صدور التشريعات والقوانين ضد التمييز العنصري، فما زلنا لليوم نرى الصدامات والحوادث والاعتداءات العنصرية في العديد من المدن الغربية. إذ أن للعنصرية جذوراً عميقة دفينة في النفوس وفي الوعي الغربي بصورة لا يمكن السيطرة عليها بشكل تام في بعض الأحيان، رغم التقدم الديمقراطي والعلمي والحضاري للغرب.
في الولايات المتحدة تشتعل حرب عنصرية بطريقة إرهابية ضد الأمريكان من أصول أفريقية، وضد القادمين من دول أمريكا اللاتينية بصورة أقل، مما يدفع للتساؤل عن أسباب تواصل سياسة التمييز العنصري في الولايات المتحدة. يجري استهداف وتهميش السود بصورة رئيسية في جميع القطاعات، ونسبة البطالة لديهم ضعف نسبتها بين البيض، ودخلهم المالي أقل بنسبة الثلث، ونسبة الفقر في أوساطهم أكثر بثلاث مرات من البيض، ونسبة الاعتقالات بينهم أكثر بأربع مرات.
إن العنصرية والكراهية والاعتداءات ضد السود في أمريكا، وضد اللاجئين والأجانب في أوروبا وضد الأعراق الأخرى غير الأوروبية، يعد انقلاباً على الديمقراطية، وارتداداً عن قيم العدالة والمساواة، ونكوصاً حضارياً وإنسانياً للمجتمعات الغربية. ورغم كل ما أنجزه الغرب من تقدم علمي وتطور في مختلف الأصعدة، لكن ما يجري من اختلالات اجتماعية وإشكاليات اقتصادية وتناحر طبقي، لا ينفصل عن الطبيعة البغيضة للرأسمالية ولا عن مجمل السياسات البرغماتية التي تتبعها.

سياسة العنصرية
العنصرية قد تكون قانونية ومحمية بالدستور، حيث يتم تحديد العلاقة وشكلها بين فئات مجتمعية معينة بالدولة من خلال الدين أو العرق أو الطائفة. نجد في بعض الدول تشريع قوانين الاختلاف المتعلقة بالحقوق والواجبات. ويجري ذكر الدين والمذهب على بطاقات الهوية الشخصية للأفراد لغايات عنصرية وفرض نمط مختلف من التعامل. كما توجد عنصرية فكرية وثقافية ترتبط بالعادات والتقاليد والأعراف في المجتمع، وهذا يظهر حين يقوم المجتمع بنبذ مجموعة من المواطنين، أو شريحة اجتماعية أو طائفة من الناس تختلف بثقافتها عن الأغلبية. وقد يكون الدافع للعنصرية أسباب فردية وشخصية، حيث يقوم فرد ما بكراهية فئة أو جماعة ما، ويبدي التصرف العنصري العدائي تجاه هذه الجماعة بناء على أسباب تتعلق به شخصياً، أو لدوافع ترتبط به.
المادة العشرون من اتفاقية حقوق الإنسان الدولية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1966 تنص على "حظر أية دعاية للحرب، وتحظر أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف". ونجد نصوصاً مشابهة في دساتير جميع الدول التي تعاقب على الكراهية والعنصرية والتحريض الديني والعرقي إن تم داخل أراضيها، ومع ذلك نجد بعض الدول تقوم ببث الكراهية وتصنع الخوف من الآخر، وتنشر التفرقة وإثارة التناحر والصراعات، في دول أخرى لغايات ما، وخلق الفوضى والعبث، ثم تساعد على ظهور متطرفين ينشرون القتل والحرق، وفي توقيت مناسب تتدخل هذه الدول لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة وحل النزاعات، بشكل يحقق لها سيطرتها ومصالحها.
الدول الغربية ذاتها التي تؤمن بحق مواطنيها في العيش بحرية وكرامة وعدالة اجتماعية، وتجتهد لتوفير الرفاهية لشعوبها، حتى لو كانت على حساب الشعوب الأخرى -الأقل أهمية ومنفعة- تقوم في سعيها للسيطرة على مقدرات الأمم ومن ضمنها الأمة العربية، على استحداث وسائل استعمارية حديثة غير تقليدية، حيث تقوم بتوظيف التكنولوجيا المتطورة وثورة البيانات في تطوير هذه الأدوات. لقد أسهمت التقنيات بإيجاد الحروب التي تستعمل القوة الناعمة كسلاح فتاك يستهدف العقول، عبر نشر الشائعات وبث الأكاذيب وتلفيق الوقائع، ضمن خطط ممنهجة مرسومة بدقة موجهة إلى شرائح اجتماعية محددة، لإشعال الفتن وإثارة النعرات الطائفية والعرقية والمذهبية، بهدف إشغال الناس عن أزماتهم وحجب رؤية ما يحدث بهدف السيطرة عليهم. ولكي تتمكن الدول الغربية وبالتعاون مع بعض الأنظمة العربية المستبدة من إحكام السيطرة على الشعوب، يقومون بتغذية الخطاب الديني والسياسي والطائفي والعرقي المتشدد لتتسع دوائر الكراهية.

أضلاع العنصرية
في بداية التسعينيات من القرن العشرين، مع انتهاء الحرب الباردة، عاد الاستعمار الغربي للمنطقة العربية مرة أخرى عبر تصدير السلع والبضائع، ثم لاحقاً عبر الاستهداف الثقافي. وفي الوقت الذي كانت فيه الدول الأوروبية تسعى جاهدة لتنفيذ سياسات الاندماج التدريجي، وتحقيق نوع من المساواة، قامت الحرب العرقية الدينية في يوغسلافيا، ثم انعطفت أوروبا من توجهها نحو دول الجنوب في شمال أفريقيا، ودول الضفة الأخرى من المتوسط، التي كانت سياسة معتمدة من قبل الاتحاد الأوروبي، وتوجهت نحو دول الشرق الأوروبي، وبدأت في سياسة إسقاط الحدود فيما بين بلدان القارة. وأخذت معها تتوافر الظروف لعودة العنصرية على شكل اصطفاف سياسي واقتصادي وثقافي.
 أبرز هذه الظروف هو التكتل فيما بين الدول الأوروبية على حساب التقارب مع الضفة الأخرى المتوسطية. لم يخصص الاتحاد الأوروبي سوى خمس مليارات يورو لتطوير وتنفيذ اتفاق برشلونة لتطوير العلاقة مع دول المتوسط، بينما صرفت أوروبا عشرات المليارات لإدماج دول أوروبا الشرقية، وذلك بسبب الفهم الضيق والنظرة الفوقية العنصرية لدول الاتحاد الأوروبي.
فتح الحدود بين دول أوروبا الغربية المتطورة ودول شرق أوروبا أحدث تفاعلاً سلبياً في المجتمع الأوروبي أدى إلى تصاعد العنصرية وتمدد الأفكار اليمينية المتشددة، التي لم تعد تقتصر على خطاب بعض الأحزاب الأوروبية العنصرية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، بل أصبح للعنصرية أبعاداً اجتماعية واقتصادية، حيث ثارت حفيظة العديد من المواطنين الغربيين على الأيادي العاملة الرخيصة القادمة من دول أوروبا الشرقية التي تسببت بفقدان الكثير من الناس لوظائفهم، وهو ما أحدث تنافساً وصراعاً وتناحراً وأجواءً من الكراهية، استغلتها الأحزاب اليمينية ووظفتها في خطاباتها الانتخابية لبث الكراهية وتحقيق نسب مرتفعة من الأصوات. وتصاعدت الحملات التي تحذر من خطر الأجانب والمهاجرين الذين يهددون قيم وهوية أوروبا، ويزاحمون أبناءها على أرزاقهم، وهو الخطاب المغذي الفعلي والحقيقي للعنصرية. إن التغيرات التي تحصل في الدول الأوروبية تعود أساساً إلى التحولات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية في تلك الدول ذاتها، فيما لا ذنب للمهاجرين واللاجئين فيها، ومن يزاحم وظائفهم هي العمالة الرخيصة القادمة من شرق أوروبا، ومن ينافس منتجاتهم وأسواقهم هم الأمريكان والصينيين.
صعود الصين كقوة اقتصادية قادرة على المنافسة، أحدث خللاً بميزان التجارة العالمي الذي كان دوماً يصب في المصلحة الأمريكية، فأصبحت الصين تزاحم أمريكا في أوروبا وأفريقيا، وهو ما اثار مشاعر الكراهية ضدهم في الغرب الذي مازال ينظر للصين باستعلاء وفوقية عنصرية.
وحتى تكتمل اضلاع المثلث التي وقفت عليه العنصرية وأظهرت أنيابها، لا بد من التذكير بالأفكار والنظريات العنصرية التي أعقبت انهيار المعسكر الاشتراكي، حيث أصبح الإسلام العدو الأيديولوجي الجديد للغرب، وخرجت علينا نظريات نهاية التاريخ وصراع الحضارات التي أشعلت حروباً وخلقت ظروفاً جديدة صار معها العربي والمسلم يثيران الريبة والخوف في الغرب، بدأت بعدها حملات الكراهية ضد المسلمين والمهاجرين، توجت بتشريع حزمة من القوانين للتضييق على الحريات، وقيام اليمين المتشدد باستثمار هذه المستجدات للإمعان في تشويه صورة الإسلام والمسلمين والعرب والمهاجرين واللاجئين في الذهنية الغربية عبر وسائل الإعلام.

العنصرية الطاغية
ما الذي جعل العنصرية والكراهية تفرض حضورها الشنيع القوي، في حين كان الاعتقاد السائد أنها دُفنت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأن العالم قد أقبل على مرحلة تتسم بالسلام والإنسانية.
ما حصل هو أن العنصرية لم تندثر في حقيقة الأمر، لكنها تراجعت بدءًا من خمسينيات القرن العشرين في أوروبا، على الصعيدين الثقافي والقانوني بفعل التشريعات والدساتير الحديثة التي تعتمد العدالة والمساواة، وظلت العنصرية تبدي ممانعة في الولايات المتحدة حتى بداية السبعينيات. وفي الوقت الذي حقق فيه الأمريكيون من أصل أفريقي تقدماً اقتصادياً وثقافياً نسبياً في الولايات المتحدة، تبين أن في الدول الأوروبية يوجد سقف لتطور الأعراق غير الأوروبية، حيث لا يمكن تصور وصول رئيس وزراء أو رئيس دولة أوروبية من أصل أجنبي غير أبيض.
العنصرية كانت واحدة من سمات فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. مرحلة انهيار الشيوعية، وسقوط الحدود الجغرافية في أوروبا، وبروز قوى دولية وإقليمية جديدة، ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وما تبعها من حروب واضطرابات وصراعات في أكثر من بقعة في العالم.
العنصرية والكراهية الغربية بسبب اللون والعرق والدين ونوع الجنس باقية وتفرض وجودها في كثير من المناسبات. وعلى سبيل المقاربة فإن السلطات الفرنسية تنظر للفرنسيين السود من "جزر الأنتيل" و"غوادلوب" كأجانب حتى اليوم بسبب لون بشرتهم، بالرغم من كونهم فرنسيين منذ حوالي أربعة قرون. وهذا يؤكد أنه على الرغم من مرور ثلاث أرباع القرن على انتهاء الحرب العالمية الثانية، والقضاء على الأفكار والأحزاب النازية والفاشية، وكتابة دساتير حديثة، لم يكن كافياً للقضاء على الفكر والسلوك العنصري وعلى ثقافة الكراهية في عدد من الدول الأوروبية. وهذا يفسر في أحد أوجه إشكالية إخفاق سياسات الاندماج الأوروبية، وانتكاس قضية المواطنة، مما جعل الأجانب واللاجئين وخاصة الأبناء الذين ولدوا في أوروبا، يشعرون بحالة مريعة من التهميش والإقصاء والتمييز العنصري.
تطل العنصرية والكراهية برأسها القبيح حيث أصبحت ظاهرة كونية بمسميات متعددة، وصل الأمر إلى مرحلة المجاهرة بصلافة عن نظريات حول تقسيم العالم إلى قسمين، الشمال ويتكون من العرق الأبيض النافع الراقي حضارياً، والجنوب البائس الأدنى عرقياً، وتمت صياغة هذه الأفكار بنظريات عن صراع الحضارات، وابتداع الحروب لأسباب عنصرية. لم تعد خافية على أحد، تلك النظرة العدائية المرعبة للأجانب في الدول الغربية، نظرة كراهية مركبة تتعدد في مستوياتها وتتدرج على أساس الوضع الاجتماعي والدين والعرق واللون ونوع الجنس. وسقطت جميع القيم الأخلاقية والدعوات للاندماج وتقريب المسافات، أمام الخطاب الإعلامي اليميني المتشدد الذي يرفع شعار "الآخرون هم سعير جهنم".
كافة القوانين والتشريعات والعقوبات التي أصدرتها الدول الغربية ضمن سعيها لمواجهة العنصرية والعقاب لمرتكبها، وجميع حملات التوعية المجتمعية للأفراد للتنبيه من مخاطرها، وابتداع أساليب متعددة لمعالجتها، واستحداث وسائل مختلفة للتبليغ عن العنصرية وتحصيل حقوق الضحايا، إلا أن هذا لم يمنع من اتساع وتمدد الكراهية والعنصرية التي اشتعل فتيل لهيبها بصورة مرعبة خلال الأعوام الماضية.
اللافت أن العنصرية والكراهية لم تعد فقط فكراً وثقافةً للأحزاب والجماعات اليمينية المتشددة، بل أصبحت أيضاً خطاباً انتخابياً للعديد من الأحزاب الأوروبية التي تروّج شعارات معادية للأجانب لحصد الأصوات. وهذا ما تؤكده الانتخابات التي حصلت في العديد من البلدان الأوروبية خلال الأعوام المنصرمة.

جرائم الكراهية
وهي الجرائم التي يتم ارتكابها على أساس ديني أو عرقي أو جنسي أو لغوي أو على أساس الجنسية أو المظهر الجسدي، أو الإعاقة أو الانتماء لحزب أو جماعة أو طبقة اجتماعية، أو على أساس لون البشرة أو نوع العمل. ويمكن للجريمة أن تأخذ شكل الاعتداء الجسدي أو اللفظي. وقد زادت هذه الجرائم التي يقوم بارتكابها متشددون وعنصريون في دول أوروبية ضد العرب والمسلمين واللاجئين بنسبة أربعمائة في المئة خلال الثلاث أعوام الماضية
في فرنسا معقل الحرية والعدالة والمساواة، تتنامى خطابات العداء للمسلمين بصورة مرعبة، خاصة بعد الهجمات الإرهابية التي ضربت العاصمة بعض المدن الفرنسية في الأعوام الماضية. انتشرت عبارات "أيها العرب اخرجوا من بلادنا" و"العرب القذرون". كما دعت زعيمة اليمين المتطرف "ماري لوبان" إلى إعادة تفعيل عقوبة الإعدام لمواجهة ما أسمته الأصولية الإسلامية. وتزايدت الهجمات ضد أفراد الجالية المسلمة هناك، وتكرر مشهد حرق المصاحف والاعتداء على الجوامع في أكثر من مدينة فرنسية.
في بريطانيا أصدرت مؤسسة حقوقية تدعى "تل ماما" تقريراً في العام 2017 تضمن تزايد مقلق في معدل حوادث الكراهية والاعتداء على المسلمين واللاجئين في عدة مدن بريطانية. وكشف التقرير الذي أعدته المؤسسة بعد دراسة استمرت ثلاث أعوام عن 1084 جريمة كراهية تضمنت اعتداءات وهجوم عنيف وتهجم على المساجد، إضافة إلى مئات الإساءات عبر شبكة الانترنت.
في اسكتلندا وقعت هجمات بدوافع عنصرية على المسلمين والعرب عقب كل عمل إرهابي كانت تتعرض له بعض المدن الأوروبية. تم تسجيل 67 جريمة كراهية خلال العام الماضي، أبرزها حريق متعمد لمركز ثقافي إسلامي، والاعتداء على صاحب متجر، وتوجيه الإساءات عبر الانترنت إلى الوزير في الحكومة الأسكتلندية حمزة يوسف.
في الولايات المتحدة معظم جرائم الكراهية تتوجه نحو الأمريكيين من أصل أفريقي، ونحو اليهود والمثليين على التوالي، إلا أن الجالية العربية تحصل على نصيبها من حملات الكراهية، وقد تصاعدت نسبة هذه الجرائم خلال الأعوام الماضية. وبحسب الإحصاءات التي يصدرها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي فقد بلغت نسبة جرائم الكراهية ضد العرب حوالي 16 في المائة من إجمالي الجرائم التي يكون سببها الرئيسي الدين والعنصرية والكراهية.
في ألمانيا شهدت بعض مقاطعاتها احتجاجات واسعة ضد الإسلام وضد اللاجئين، خاصة تلك التي نظمتها حركة "بيديغا" اليمينية المتشددة، وقد تخلل إحدى تلك المظاهرات قتل مهاجر أريتيري.

الكراهية الغربية
ظاهرة تمدد الفكر اليميني المتشدد والقومي العنصري في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، أصبحت عبئاً مقلقاً في تلك المجتمعات تستوجب مواجهتها. حيث لأسباب دينية وعرقية ومنفعية، تتصاعد في العديد من الدول الغربية خطابات وحملات الكراهية ضد الإسلام والمسلمين و العرب وضد اللاجئين والمهاجرين وضد الغجر مواطني دول شرق أوروبا الفقيرة.
بولاية "ميتشغان" في الولايات المتحدة الأمريكية قام قس في الكنيسة المعمدانية يدعى "تيري جونز" بحرق القرآن الكريم في العام 2010 تزامناً مع الذكرى التاسعة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الولايات المتحدة. تضمنت أقواله في المحكمة أن المصحف يشجع على الأعمال الإرهابية، وأصر على تمسكه بحقه في التعبير وفقاً للدستور الأمريكي. وقام أيضاً عدداً من الأمريكيين المتطرفين بحرق نسخ من كتاب القرآن الكريم أو تمزيقها للتعبير عن كراهيتهم للإسلام.
في مدينة "فينليس" الفرنسية طالب رئيس بلديتها "روبرت تشادون" بحظر الإسلام في فرنسا. واعتبر أن الحل الوحيد لمشاكل فرنسا هو حظر الدين الإسلامي.
الاب الروحي للحركة الجديدة المعادية للعرب والمسلمين في الولايات المتحدة "ديفيد هورويتز" يقود حملة كراهية شديدة لتشويه صورة العرب والسود في أمريكا. حيث يعتبر أنه لا يوجد مكان أكثر عنصرية من مجتمع السود. يقول إن في الشرق الأوسط يوجد الشر ويوجد اليمين. ويهاجم في خطاباته اليسار الراديكالي الذي لا يقل خطورة -برأيه-عن الفكر الإسلامي المتشدد.
الضيفة الأساسية في محطة "فوكس نيوز" الأمريكية من أصل لبناني "بريجيت غابريل" واحدة من أشد أعداء العرب والمسلمين في الولايات المتحدة. تتبنى خطاب وحملة كراهية متشددة حاقد على الإسلام بسبب التعصب الديني. هي ابنة أسرة مارونية من قضاء مرجعيون واسمها الحقيقي "نور سمعان" رحلت إلى إسرائيل ثم غادرت إلى أمريكا حيث أنشأت منظمة "افعل من أجل أمريكا" المناهضة للإسلام. قالت ذات مرة أن بإمكانها نسف 1400 عام من التاريخ الإسلامي خلال بضع دقائق.
رئيس ومؤسس حزب الجبهة الوطنية الفرنسية المتطرف "جان ماري لوبان" قاد عبر مسيرته السياسية-ولا زال- حملات كراهية عنصرية متشددة ضد العرب والإسلام لأسباب دينية وعرقية. ذكر مرة أنه يفضل رؤية الأبقار على رؤية العرب لذلك اشترى بيتاً في الريف. وفي تصريح عنصري آخر له قال إنه كان سوف يمارس التعذيب في الجزائر لو طُلب منه ذلك. ابنته " مارين لوبن" التي تترأس الحزب منذ العام 2011 بعد أن قامت بتنحية والدها، لا تقل عنصرية وتعصباً وتشدداً وكراهية للعرب والإسلام واللاجئين من والدها.
ومن أقصى المشرق ظهر علينا رئيس الوزراء الأسترالي السابق "توني أبوت" في مقال نشرته صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية، دعا فيه الدول الغربية لأن تعلن تفوق الثقافة الغربية على الثقافة الإسلامية، لأن الثقافات غير متساوية بحسب ما يرى. وأضاف أن الفكر الإسلامي لم يعرف يوماً حالة من الإصلاح.
رئيس الوزراء الإيطالي السابق "سليفيو بيرلسكوني" الذي تلاحقه العدالة بتهم الفساد، اعتبر أن الحضارة الإسلامية دونية وأن الحضارة الغربية تتفوق عليها. وكذلك فعل رئيس وزراء المجر الذي أطلق تحذيراً أن اللاجئين المسلمين يهددون الهوية المسيحية لأوروبا.
 تتصاعد حملات الكراهية ضد الإسلام والعرب وضد اللاجئين بصورة عامة، أثناء التحضير وخلال الحملات الانتخابية، ويجري التشديد على التعارض القائم بين الثقافة الغربية المتطورة وبين الثقافة الإسلامية، وثقافة اللاجئين البدائية. الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب" اعتبر اثناء حملته الانتخابية، أن الإسلام في أمريكا مشكلة ويجب التخلص منها. وصل الأمر به أن اتهم الرئيس السابق "باراك أوباما" بأنه ليس أمريكياً لأنه من أصول مسلمة. وما زال للآن يهدد ويتوعد بإغلاق الحدود أمام المسلمين، وفي وجه رعايا بعض الدول لأسباب عنصرية متشددة تتعلق بالكراهية.
 المترشح الرئاسي الجمهوري "بن كارسون" الطبيب المتقاعد من أصول أفريقية، ذكر أن أي مسلم لا يصلح أن يكون رئيساً للولايات المتحدة، واعتبر ذلك لا ينسجم مع الدستور الأمريكي، على الرغم من علمانية الدستور هناك. وشبّه كارسون اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب بأنهم "كلاب مسعورة". فيما يعتبر الجنرال "روبرت ديز" صاحب كتاب "الأمم المرنة" أن محاولة استرضاء المسلمين من خلال وصف الإسلام بأنه دين محب للسلام هو أمر غير حكيم.
في ألمانيا طالب "زيغمار غابرييل" نائب المستشارة الألمانية وقف تمويل المساجد من الخارج، واعتبر أن العديد من اللاجئين ومن المسلمين هم إرهابيين محتملين. فيما ذكر رئيس قائمة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في البرلمان أن المساجد في أوروبا تنشر الفكر الوهابي.
أثارت هذه التصريحات العدائية وسواها التي تحض على الكراهية، بعض ردود الفعل الغربية المعارضة، لكن ظاهرة العداء للإسلام والعرب واللاجئين تتنامى بصورة مرضية، لم تعد تنفع بكبحها، التصريحات الإيجابية الخجولة والمتواضعة من بعض الشخصيات والأطراف الأوروبية. لكن غير المفهوم والكارثي هو حالة الصمت والتجاهل واللامبالاة التي تبديها الدول العربية والاسلامية تجاه هذه الظاهرة، وكأنها لا تعنيهم بشيء، بل أحياناً يجري التعتيم على هذه الظاهرة من قبل بعض وسائل الإعلام العربية، لأسباب تعتبرها بعض الأنظمة العربية مصالح عليا!
الانتحار الجماعي
لقد شهد القرن الواحد والعشرين انتشاراً واسعاً لظاهرة الكراهية والعنصرية والعقل الإقصائي بسبب تصاعد العنف السياسي والفكري والعقائدي والمذهبي والاجتماعي، وبسبب تمدد التطرف والأفكار المتشددة، مقابل تراجع قيم التسامح والتعايش، وانحسار الأفكار التي تدعو إلى التعايش والعفو وقبول الآخر. إن كان جوهر الديمقراطية المعاصرة هو الإيمان بقيم التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف. فإن تصنيع الكراهية والخشية من الآخر أحد أبرز أدوات الجيل الرابع للتكنولوجيا والثورة المعلوماتية، وذلك عبر استخدام آليات ناعمة من خلال التحكم والتوجيه بوسائل الإعلام المتنوعة، والسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي، واختراق منظمات المجتمع المدني.
إن الحياة بطبيعتها تتطلب التعدد والتكامل والتنوع بكافة أطيافه، وهذا يتعارض من منطق الكراهية والعنصرية والإقصاء، جميعنا كبشر متساوون في كل شيء، نتوق كلنا للحقيقة -وهي نسبية بذاتها- لكن هذا الشغف لا يعني أن أحداً أو جماعة أو عرقاً يمتلك الحقيقة، فهي مقسمة بيننا، لذا كل منّا يدركها برؤيته، وهذه الرؤى جميعها تشكل الحقائق النسبية في سيرورة تاريخية. أن يدعي أحد ما أو جماعة أو عرق أو أمة ما أنها تمتلك الفلسفة والحقيقة والعقل، فهذا القول يناقض منطق التاريخ بل منطق الحياة ذاتها، ومن هنا تبدأ بذرة الاستعلاء والاقصاء والكراهية والعنصرية، لأن من يؤمن بأنه الأفضل وأنه يمتلك العقل والحقيقة يفترض أن من لا يؤمن بما آمن به فهو معاد ويجب إبعاده وتهميشه. بهذا فإن الكراهية والعنصرية كامنة في كل فكر أحادي.
حيث تجنح الممارسات الديمقراطية عن درب الحرية، تتحول إلى عشب يقتات به وحوش الكراهية. وإن أعرض الفكر عن إنسانيته وأخلاقه، يصبح ناراً تلتهم الشرق والغرب. وما لم يجري مواجهة الكراهية ومعالجة مسبباتها ودوافعها، والتصدي بحزم لكافة الأفكار والجرائم العنصرية، وترشيد الخطاب الديني والسياسي، فإن البشرية سوف تنحدر إلى مستويات متدنية وبدائية. إن البديل الطبيعي لصناعة التعايش والحياة هو الانتحار الجماعي.



87
أدب / يداهمنا وجه الفراغ
« في: 18:52 10/05/2019  »


يداهمنا وجه الفراغ



حسن العاصي




       1
رياحين المساء

تناجي غفوة الخريف

تزهر السكينة في كف الشهقة

كأن تعاريج الصمت

تولد على مهل

من رماد العمر



          2
رحلت في يقظة الامتداد

جلست مع السبات

أبحث عن مقعد يشبهنا

العربة شاغرة

والأماكن مرايا خاسرة

أدوّن سفري مع درب الريح

كي أقطف الجدار



          3
نتمايل بين حلمين

والظلال القاتمة

كأننا اجتمعنا عيون متشققة

خذ سفري وأخاديد الرحلة

خذ زمني ولهاث الخريف

نرسم المسافات

كي لا تتسع الدروب

خذ حقيبتي

قد هيأت لك يدي للسفر


              4
وحدنا في سكون العناوين

نحمل طقوس المغفرة

وظمأ الفصول

أنت هناك

تنتصبين على باب حروفي

تطالعين الوجوه العابرة

وأنا هنا في نكهة الأمسيات

أخلع وجه الطريق

أقف على مسافة الجنون

بسلام


                5
لا شيء يحلّق في درب الحزن

أشتم فيك مطر يشبهني

حين يضيق الكلام

تتوه الجدران

هربنا من يتم الدروب

لاحتمال الألوان

تدلّت المساحات المكتومة

كَتبَ الرواة

هنا ماء الضياع



         
           6
أوثقوا ضفائر الصبّار

جمعوا مفردات موتنا

وطن على ورق

ونشيد يتلاشى خذلاناً

نرحل إلى نعش الانتظار

يداهمنا وجه الفراغ

نريق وهجنا

شمساً للصلاة

فتكبر فصول المساء

هناك



         7
تزفر أورقة الشمس

في درب الريح

أطلنا لوعة المسافة

ما انزلقنا لصقيع الألوان

لم تمت زهرة البحر فينا

مازالت حكاية في أقلامنا

ومازال للخطى

قصائد حد الاشتهاء

ترانا في رتابة الحقل

نسلك نوبات الشعر

لنكتشف سر الحماقة

88
أدب / حول قصيدة النثر
« في: 07:17 25/04/2019  »


حسن العاصي

كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

 

حول قصيدة النثر

 

لم يشهد تاريخ الأدب العربي حالة من عدم التوافق بين الكاتب والناقد والمتلقي، كما أحدثت قصيدة النثر التي تسببت في انقسام المهتمين بالأدب والشعر إلى من تحمس للتجربة وأيدها، وآخرون اتخذوا منها موقفاً عدائياً.

أظن أنه السؤال الشائك، بقدر ما يبدو عليه أنه السؤال البديهي، إنما السؤال عن قصيدة النثر يثير العديد من التساؤلات عن هذا الكائن المختلط والمتناقض، الذي يتطلب الكثير من التدقيق في أشكال الشعر المتجذرة في اللغة. قصيدة النثر لا تجعلنا نتساءل عن ماهية الشعر فقط، بل تدعونا للتفكير بمكانة الشعر في اللغة. إنه السؤال المثير المربك. ربما لو تفحصنا التاريخ وأجدنا القراءة، لتكشفت لنا خبايا ربما البعض منا يجهلها، وما نجنيه من قراءة التاريخ يجعل مقاربتنا للحاضر، موضوعية أكثر وعلمية ومنهجية دون مواقف مسبقة.

لقد شهد أواخر القرن التاسع عشر تطوراً هائلاً للمجتمعات البشرية، نتيجة الثورة الصناعية والمكننة التي بدأت في القرن الثامن عشر، مما أسهم بصورة فعالة في نمو مختلف القطاعات. وشأنها شأن المكونات الأخرى، تفاعلت الثقافة مع تلك المتغيرات التاريخية، فكان من الطبيعي إحداث صيغ وأدوات معرفية تنتج الوعي والفكر والأدب أيضاً، كانعكاس للتطور في أنواع الأدب، بسياقات غير معهودة، فظهرت الرواية والمسرح والقصة، ثم قصيدة النثر التي استقبلت بالتشنج الانفعالي من قبل المتلقي العربي ومن جانب النقاد، وهذا يعود في جانب منه إلى أسباب تتعلق بالموروث الثقافي، حيث اعتمد في معظمه على قصيدة الشعر الموزونة بشطرين. فإن كان التوتر له ما يبرره وجدانياً عند المتلقي الذي لم يعتد هذا النمط من الشعر، إلا أن الاضطراب والاختلاط الذي أصاب النقاد، هو موقف مستهجن ثقافياً ومعرفياً بظني، ذلك أنه لا يمكن فصل الثقافة والأدب عن سيرورة الحياة وما يمسها من تطور وحراك دائمين.

من جانب آخر، ظهرت قصيدة النثر في ذروة الجدال بين المهتمين حول قصيدة التفعيلة وتصنيفها ودلالاتها، فبدا الأمر وكأن قصيدة النثر تعرب عن ذاتها على أنها الشكل الحديث والبديل للقصيدة، فتسببت في إحداث جدال وعراك ثقافي لم ينتهي للساعة.

ليس الصدمة فقط من أضرم النار في قش الكلاسيكيين، بل هناك جوانب أخرى لهذا الأجيج الجدلي الملتهب حول قصيدة النثر، منها ما يتعلق بالمقاربات الدينية التي أقدم عليها بعض الشعراء، ولاقت استهجاناً من أوساط ثقافية ودينية واجتماعية متعددة في أكثر من بلد عربي، حيث اتهمت قصيدة النثر في كونها تسيئ للدين، مما جعلها هدفاً لأكثر من جهة خشية تطورها ومقدرتها المس بالموروث المقدس. كما لا يمكن إغفال العامل الفكري والأيديولوجي في خلفية مشهد الجدال والتناحر بين المؤيدين لقصيدة النثر، وهم في معظمهم من الليبراليين والحداثيين الذين يسعون نحو تطور المجتمع وبنيته الثقافية وأدواته الأدبية، وبين الرافضين لها وهم غالباً من أصحاب الأفكار الكلاسيكية التقليدية والمذهب السلفي.

تطالعنا كتب التاريخ عن فن المقامات الذي مزج ما بين الشعر والنثر، ومن أشهر رواده "بديع الزمان الهمداني" وهو نمط يتضمن إيقاع لا يصل الشعر من حيث الوزن والقافية. في الحديث عن قصيدة النثر، لا يمكن تجاهل تأثير الشعر الصوفي الذي ظهر نثراً مع نشوء الإسلام ثم تطور مع ابن العربي وابن الفارض، قبل أن يصل إلى صيغته المعاصرة. ولا بد من المرور على نوع أخر من الشعر هو الرومانسي، الذي ظهر في بدايات القرن العشرين ومن أهم رواده جبران خليل جبران. ثم في خطوة نضوج الشعر النثري الرومنسي، ظهرت مجموعة أبوللو المصرية في بداية ثلاثينيات القرن العشرين، التي دشنت مرحلة ولادة قصيدة النثر التي تبلورت عند جماعة شعر السورية التي ضمت أدونيس وأنسي الحاج وسواهما، حيث بدأت قصيدة النثر تفرض نفسها كنوع أدبي جديد.

قصيدة النثر ليست نبتاً من كوكب آخر، ولا هي دخيلاً غير مألوف في الشعر العربي، بل هي نتاج تطور طبيعي لمكونات الثقافة وبنيتها وهويتها وأدواتها وآلياتها، تطور اخترق جدار الجمود والسكينة في الشعر العربي، وأحدث اهتزاز في ركود القصيدة الموروثة. تماماً كما اقتحم المسرح بعض العواصم العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كفن جديد قادم من الغرب، وشق طريقه الوعرة ثم تطور بصورته الحالية، نتيجة إصرار الرواد على اقتحام عالم جديد وغريب على الذائقة العربية التي اعتادت التبجيل والثناء على الشعراء، في عوالم تعتبر الشعر هو الفن الأرقى. إلا أن المسرح لم يناله ما نال قصيدة النثر من تقريع وتبكيت، بالرغم من أنها شكلت ثورة في اللغة والتراكيب وأوجدت فضاءات جديدة لتحليق المفردة.

 

 

قصيدة النثر هي أعمق لحظة في اللاشعور المتدفق، هي الصياغة الترويضية لأصدق حالة انفعالية بين الوعي واللا إدراك، هي التعبير الشعوري للأرق حين نضع الأنا في مواجهة العدم، وهي القناة التي تدفق باختلاجات الكاتب وتسكب في حوض المتلقي. وبهذا فإن قصيدة النثر هي صورة فوق البنفسجية للانفعالات في تعبيرها اللغوي الذي يقوم على رجّ اللغة للنفاذ من الممرات نحو دلالات جديدة تتيح للقلق وللمشاعر والأفكار والصور الرائجة أن تتحول من حالة الركود، إلى وضع لا انتظام فيه ولا ركود للأنساق، كما هو حال الفكر والمعرفة، إذ أن الرؤى والأفكار والمواقف في القصيدة النثرية تتحول إلى نمط متخيل، تساعد على ولوج كينونة مجهولة للشاعر.

الشعر بصفة عامة، وتحديداً قصيدة النثر تعتبر حاملاً للقلق الإبداعي، أكثر من الأصناف الأدبية الأخرى، لذلك تحتاج قصيدة النثر إلى أداة لرفع هذه الكم الكثير من المشاعر والاضطرابات، وهذا ما يؤديه الإيقاع الشعري من خلال كونه ينظم التنبيهات في النص بين سكون وسكون، هو حركة اللغة ومفرداتها. قصيدة النثر تعوم خارج البحور التي وضعها أبو خليل الفراهيدي، التي فرضت بنية إيقاعية سمعية وبصرية.

إن قيام القصيدة النثرية بخرق القوانين وتهشيم المقدس هو ما استثار حمية المدافعين عن القصيدة الموزونة، وهي النقطة الشائكة التي لا زالت موضع جدل بين المهتمين. هذه الإشكالية استغلها كثير من المتطفلين على الشعر الذين تسلقوا هذا الصنف الأدبي عبر نتاجهم، بذريعة أن لا قوانين هنا ولا ضوابط.

لا أفهم سبباً موضوعياً للتوتر الذي يبديه بعض شعراء قصيدة الوزن تجاه قصيدة النثر، بالرغم من إني لم أسمع مرة أحد شعراء قصيدة النثر يعتبر أن المتنبي مثلاً ليس بشاعر، ولم يرفض أحداً قصائد امرؤ القيس أو أبي تمام، لذلك لا يمكن أن تلمع صورة قصيدة الوزن على نفي قصيدة النثر.
قصيدة النثر تمردت على التراكيب اللغوية الساكنة، لتفرض صياغتها في بنى تعبيرية حديثة، لإنشاء ضجيج في الراسخ، وهنا تظهر قدرة القصيدة النثرية على استنباط لغة لها وحدها. قصيدة تبنى فيها الصورة الشعرية وتصاغ لغوياً ويتم تحميلها المعنى عبر وحدة المتناقضات التي هي أساس القصيدة النثرية، مثل قصائد محمد الماغوط " على سبيل الذكر.

وقصيدة النثر تقوم بتشظي التراكيب المألوفة، وعلى التوتر الانفعالي الذي ينقل الشحنات عبرها للمتلقي، تراعي التكثيف المرتكز على رؤية شاملة عميقة للظواهر، تمكنه من امتلاك رؤيا شفافة واضحة للأحداث، عبر إيقاع يتولد من داخل القصيدة.

إن الشعر هو الشعر مهما اختلفت الأدوات والأنماط والقوالب والأجناس، والأوزان الخليلية ليست مقدسة، وقصيدة النثر ليست بديلاً عن أي صنف أدبي آخر، وهي لا تدعي ذلك، ولا ترفض الأجناس الأخرى، فيما ترفضها قصيدة الوزن. والقصيدة النثرية شأنها شأن الأنواع الأدبية الأخرى، علق بها الكثير من المتطفلين الذين استسهلوا كتابة القصيدة النثرية، لذلك كما نقرأ رواية جيدة وأخرى سيئة، وشعراً موزوناً جميلاً وآخر قبيحاً، فإننا نرى نصاً بديعاً لقصيدة النثر، وآخر مذموماً.

في عالم يتجه نحو التطور والتغير والتحديث بسرعة مرعبة، لم تعد تجدي معها الأعراف الأدبية التقليدية السائدة، التي تظهر على أنها قاصرة وعاجزة عن تحقيق الشعرية المعاصرة، فلا بد من بروز أنماط أكثر رحابة في التعبير عن الحالة الشعرية بكسر طوق الأوزان وقفص القوافي، والخروج على ما هو مألوف وتقليدي في اللغة والشعر والصياغة والإيقاع والصورة والتأثير، فكانت قصيدة النثر التطور الطبيعي للشعر في عالم معاصر، بل أنها شكلت ثورة على الساكن والهامد في اللغة والشعر، وبظني هي من أرفع وأفخم وأعمق أشكال الكتابة الشعرية

89
المنبر الحر / حول قصيدة النثر
« في: 00:20 21/04/2019  »
.                              حول قصيدة النثر

حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


لم يشهد تاريخ الأدب العربي حالة من عدم التوافق بين الكاتب والناقد والمتلقي، كما أحدثت قصيدة النثر التي تسببت في انقسام المهتمين بالأدب والشعر إلى من تحمس للتجربة وأيدها، وآخرون اتخذوا منها موقفاً عدائياً.

أظن أنه السؤال الشائك، بقدر ما يبدو عليه أنه السؤال البديهي، إنما السؤال عن قصيدة النثر يثير العديد من التساؤلات عن هذا الكائن المختلط والمتناقض، الذي يتطلب الكثير من التدقيق في أشكال الشعر المتجذرة في اللغة. قصيدة النثر لا تجعلنا نتساءل عن ماهية الشعر فقط، بل تدعونا للتفكير بمكانة الشعر في اللغة. إنه السؤال المثير المربك. ربما لو تفحصنا التاريخ وأجدنا القراءة، لتكشفت لنا خبايا ربما البعض منا يجهلها، وما نجنيه من قراءة التاريخ يجعل مقاربتنا للحاضر، موضوعية أكثر وعلمية ومنهجية دون مواقف مسبقة.

لقد شهد أواخر القرن التاسع عشر تطوراً هائلاً للمجتمعات البشرية، نتيجة الثورة الصناعية والمكننة التي بدأت في القرن الثامن عشر، مما أسهم بصورة فعالة في نمو مختلف القطاعات. وشأنها شأن المكونات الأخرى، تفاعلت الثقافة مع تلك المتغيرات التاريخية، فكان من الطبيعي إحداث صيغ وأدوات معرفية تنتج الوعي والفكر والأدب أيضاً، كانعكاس للتطور في أنواع الأدب، بسياقات غير معهودة، فظهرت الرواية والمسرح والقصة، ثم قصيدة النثر التي استقبلت بالتشنج الانفعالي من قبل المتلقي العربي ومن جانب النقاد، وهذا يعود في جانب منه إلى أسباب تتعلق بالموروث الثقافي، حيث اعتمد في معظمه على قصيدة الشعر الموزونة بشطرين. فإن كان التوتر له ما يبرره وجدانياً عند المتلقي الذي لم يعتد هذا النمط من الشعر، إلا أن الاضطراب والاختلاط الذي أصاب النقاد، هو موقف مستهجن ثقافياً ومعرفياً بظني، ذلك أنه لا يمكن فصل الثقافة والأدب عن سيرورة الحياة وما يمسها من تطور وحراك دائمين.

من جانب آخر، ظهرت قصيدة النثر في ذروة الجدال بين المهتمين حول قصيدة التفعيلة وتصنيفها ودلالاتها، فبدا الأمر وكأن قصيدة النثر تعرب عن ذاتها على أنها الشكل الحديث والبديل للقصيدة، فتسببت في إحداث جدال وعراك ثقافي لم ينتهي للساعة.

ليس الصدمة فقط من أضرم النار في قش الكلاسيكيين، بل هناك جوانب أخرى لهذا الأجيج الجدلي الملتهب حول قصيدة النثر، منها ما يتعلق بالمقاربات الدينية التي أقدم عليها بعض الشعراء، ولاقت استهجاناً من أوساط ثقافية ودينية واجتماعية متعددة في أكثر من بلد عربي، حيث اتهمت قصيدة النثر في كونها تسيئ للدين، مما جعلها هدفاً لأكثر من جهة خشية تطورها ومقدرتها المس بالموروث المقدس. كما لا يمكن إغفال العامل الفكري والأيديولوجي في خلفية مشهد الجدال والتناحر بين المؤيدين لقصيدة النثر، وهم في معظمهم من الليبراليين والحداثيين الذين يسعون نحو تطور المجتمع وبنيته الثقافية وأدواته الأدبية، وبين الرافضين لها وهم غالباً من أصحاب الأفكار الكلاسيكية التقليدية والمذهب السلفي.

تطالعنا كتب التاريخ عن فن المقامات الذي مزج ما بين الشعر والنثر، ومن أشهر رواده "بديع الزمان الهمداني" وهو نمط يتضمن إيقاع لا يصل الشعر من حيث الوزن والقافية. في الحديث عن قصيدة النثر، لا يمكن تجاهل تأثير الشعر الصوفي الذي ظهر نثراً مع نشوء الإسلام ثم تطور مع ابن العربي وابن الفارض، قبل أن يصل إلى صيغته المعاصرة. ولا بد من المرور على نوع أخر من الشعر هو الرومانسي، الذي ظهر في بدايات القرن العشرين ومن أهم رواده جبران خليل جبران. ثم في خطوة نضوج الشعر النثري الرومنسي، ظهرت مجموعة أبوللو المصرية في بداية ثلاثينيات القرن العشرين، التي دشنت مرحلة ولادة قصيدة النثر التي تبلورت عند جماعة شعر السورية التي ضمت أدونيس وأنسي الحاج وسواهما، حيث بدأت قصيدة النثر تفرض نفسها كنوع أدبي جديد.

قصيدة النثر ليست نبتاً من كوكب آخر، ولا هي دخيلاً غير مألوف في الشعر العربي، بل هي نتاج تطور طبيعي لمكونات الثقافة وبنيتها وهويتها وأدواتها وآلياتها، تطور اخترق جدار الجمود والسكينة في الشعر العربي، وأحدث اهتزاز في ركود القصيدة الموروثة. تماماً كما اقتحم المسرح بعض العواصم العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كفن جديد قادم من الغرب، وشق طريقه الوعرة ثم تطور بصورته الحالية، نتيجة إصرار الرواد على اقتحام عالم جديد وغريب على الذائقة العربية التي اعتادت التبجيل والثناء على الشعراء، في عوالم تعتبر الشعر هو الفن الأرقى. إلا أن المسرح لم يناله ما نال قصيدة النثر من تقريع وتبكيت، بالرغم من أنها شكلت ثورة في اللغة والتراكيب وأوجدت فضاءات جديدة لتحليق المفردة.

 

 

قصيدة النثر هي أعمق لحظة في اللاشعور المتدفق، هي الصياغة الترويضية لأصدق حالة انفعالية بين الوعي واللا إدراك، هي التعبير الشعوري للأرق حين نضع الأنا في مواجهة العدم، وهي القناة التي تدفق باختلاجات الكاتب وتسكب في حوض المتلقي. وبهذا فإن قصيدة النثر هي صورة فوق البنفسجية للانفعالات في تعبيرها اللغوي الذي يقوم على رجّ اللغة للنفاذ من الممرات نحو دلالات جديدة تتيح للقلق وللمشاعر والأفكار والصور الرائجة أن تتحول من حالة الركود، إلى وضع لا انتظام فيه ولا ركود للأنساق، كما هو حال الفكر والمعرفة، إذ أن الرؤى والأفكار والمواقف في القصيدة النثرية تتحول إلى نمط متخيل، تساعد على ولوج كينونة مجهولة للشاعر.

الشعر بصفة عامة، وتحديداً قصيدة النثر تعتبر حاملاً للقلق الإبداعي، أكثر من الأصناف الأدبية الأخرى، لذلك تحتاج قصيدة النثر إلى أداة لرفع هذه الكم الكثير من المشاعر والاضطرابات، وهذا ما يؤديه الإيقاع الشعري من خلال كونه ينظم التنبيهات في النص بين سكون وسكون، هو حركة اللغة ومفرداتها. قصيدة النثر تعوم خارج البحور التي وضعها أبو خليل الفراهيدي، التي فرضت بنية إيقاعية سمعية وبصرية.

إن قيام القصيدة النثرية بخرق القوانين وتهشيم المقدس هو ما استثار حمية المدافعين عن القصيدة الموزونة، وهي النقطة الشائكة التي لا زالت موضع جدل بين المهتمين. هذه الإشكالية استغلها كثير من المتطفلين على الشعر الذين تسلقوا هذا الصنف الأدبي عبر نتاجهم، بذريعة أن لا قوانين هنا ولا ضوابط.

لا أفهم سبباً موضوعياً للتوتر الذي يبديه بعض شعراء قصيدة الوزن تجاه قصيدة النثر، بالرغم من إني لم أسمع مرة أحد شعراء قصيدة النثر يعتبر أن المتنبي مثلاً ليس بشاعر، ولم يرفض أحداً قصائد امرؤ القيس أو أبي تمام، لذلك لا يمكن أن تلمع صورة قصيدة الوزن على نفي قصيدة النثر.
قصيدة النثر تمردت على التراكيب اللغوية الساكنة، لتفرض صياغتها في بنى تعبيرية حديثة، لإنشاء ضجيج في الراسخ، وهنا تظهر قدرة القصيدة النثرية على استنباط لغة لها وحدها. قصيدة تبنى فيها الصورة الشعرية وتصاغ لغوياً ويتم تحميلها المعنى عبر وحدة المتناقضات التي هي أساس القصيدة النثرية، مثل قصائد محمد الماغوط " على سبيل الذكر.

وقصيدة النثر تقوم بتشظي التراكيب المألوفة، وعلى التوتر الانفعالي الذي ينقل الشحنات عبرها للمتلقي، تراعي التكثيف المرتكز على رؤية شاملة عميقة للظواهر، تمكنه من امتلاك رؤيا شفافة واضحة للأحداث، عبر إيقاع يتولد من داخل القصيدة.

إن الشعر هو الشعر مهما اختلفت الأدوات والأنماط والقوالب والأجناس، والأوزان الخليلية ليست مقدسة، وقصيدة النثر ليست بديلاً عن أي صنف أدبي آخر، وهي لا تدعي ذلك، ولا ترفض الأجناس الأخرى، فيما ترفضها قصيدة الوزن. والقصيدة النثرية شأنها شأن الأنواع الأدبية الأخرى، علق بها الكثير من المتطفلين الذين استسهلوا كتابة القصيدة النثرية، لذلك كما نقرأ رواية جيدة وأخرى سيئة، وشعراً موزوناً جميلاً وآخر قبيحاً، فإننا نرى نصاً بديعاً لقصيدة النثر، وآخر مذموماً.

في عالم يتجه نحو التطور والتغير والتحديث بسرعة مرعبة، لم تعد تجدي معها الأعراف الأدبية التقليدية السائدة، التي تظهر على أنها قاصرة وعاجزة عن تحقيق الشعرية المعاصرة، فلا بد من بروز أنماط أكثر رحابة في التعبير عن الحالة الشعرية بكسر طوق الأوزان وقفص القوافي، والخروج على ما هو مألوف وتقليدي في اللغة والشعر والصياغة والإيقاع والصورة والتأثير، فكانت قصيدة النثر التطور الطبيعي للشعر في عالم معاصر، بل أنها شكلت ثورة على الساكن والهامد في اللغة والشعر، وبظني هي من أرفع وأفخم وأعمق أشكال الكتابة الشعرية

 



90
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

أوطان خارج التاريخ.. جدران الكراهية

تعكس الأحداث التي تجري في المنطقة العربية وضعاً كارثياً، خاصة حالة الصراع الديني والمذهبي والعرقي، كما تعبّر عن تحولات خطيرة تحدث في مختلف القطاعات في البلدان العربية، خاصة في الجانب السياسي والاجتماعي. فعلى الرغم من أن الصراعات المذهبية والفكر التكفيري يعود إلى عصور قديمة، إلا أن تزايد أعمال العنف وتصاعد خطاب الكراهية، وسياسات التحريض والإقصاء في الأعوام الأخيرة، ينذر بقدوم ما هو أقبح، ويفرض توقفاً أمام هذه الظاهرة لتحليلها وفهمها ومقاربتها.
هذا يدلل في جانب منه، على أن التعايش العرقي والديني والاجتماعي في العالم العربي بين أبناء البلد الواحد كان هشاَ وضعيفاً، وأن العلاقة التي حكمت الغالبية مع الأقليات العرقية والدينية كانت نسقاً مضغوطاً بأنظمة مستبدة تفتقد العدالة، اتبعت سياسات الإخضاع مما أحدث فجوات اجتماعية بين المواطنين. وفي تفاعلات تاريخية محددة، ظهر أثر هذه السياسات بصورة دموية مريعة من القتل والتطهير العرقي، وانتهاك المحرمات، أدت إلى حدوث حروباً أهلية. كل ذلك تم بدفع وشحن سياسي وإعلامي، ودعم مادي ولوجستي وتوفير الغطاء من قبل أنظمة عربية ديكتاتورية، وأحزاب وجماعات عنصرية متشددة. وهو ما يفسر كل هذه الحملات من الكراهية والتحريض الديني والقومي والمذهبي عبر وسائل الإعلام، وعبر خطابات القادة السياسيين والنخب الفكرية والثقافية، ومن قبل رجال الدين.

كثير ومرعب
تغيب الإحصائيات المتعلقة بمستوى الكراهية في العالم العربي، كما تغيب البيانات حول كل شيء، إلا ما يتعلق منها بالأجهزة الأمنية التي تحرص على معرفة كمية الأوكسجين التي يستهلكها كل مواطن يومياً. لا يوجد إحصاءات في منطقة لا تتعامل-للآن- بجدية ومسؤولية مع قضايا مثل الكراهية ولا مع إحصاء الظواهر الاجتماعية عموماً.
لكن لا يخفى على أحد هذا الكم المرعب من التطرف والتشدد والتعصب الأيديولوجي الديني والمذهبي والعرقي المنتشر في المنطقة العربية، الذي أنتجته السياسات البليدة للأنظمة العربية المستبدة التي همشت المواطنين وأقصتهم عن المشاركة، وأكرهتهم على الخضوع لإملاءاتها. ووظفت أدواتها من الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام في نشر خطاب الكراهية، ورفض الأخرين بناء على معايير عرقية ودينية ومذهبية، بهدف إحداث شقاق وفتنة وتناحر تتحكم به الأنظمة وتستعمله في تحقيق مأربها. أباحت بعض الأنظمة العربية الاعتداء على معتقدات بعض الشرائح الاجتماعية أو الجماعات الدينية أو الطائفية أو الأقليات العرقية، وهذا يعني أن هناك شعوباً كاملة تشربت أفكار التكفير والإقصاء للآخرين، وتعتبر الإساءة والظلم والتنكيل وإطلاق الشتائم بحق كل المخالفين، بل وقتلهم، هو أمر طبيعي لا يجب أن يثير الاستهجان.

ظاهرة تاريخية
استفحال ظاهرة الكراهية في العالم العربي تدعو إلى الانغماس في فلسفتها وتفكيك مكوناتها، وتحليل هذه الإشكالية بتأنٍ من دون استخفاف ولا استسهال، وهي مهمة النخبة من المفكرين والمثقفين.
ظاهرة الكراهية لها جذورها التاريخية في عمق تربة التاريخ البشري. فلم تبدأ حملات الكراهية في العالم العربي، بين أبناء الأمة الواحدة أو القطر الواحد مع تطور التكنولوجيا وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كما يظن البعض، بل كل ما فعلته هذه الوسائل أنها أسقطت اقنعة الطهارة والقدسية والمثالية عن كافة الوجوه التي استعرض بها أصحابها الشرف والمروءة والمحبة. وكشفت وسائل التواصل عن أقبح مكنونات الشخصية العربية، وأبانت العديد من الظواهر السلبية المقيتة التي استوطنت الجسد العربي كالخلايا السرطانية. أخطر هذه الظواهر هو خطاب الكراهية الذي يتمدد في المنطقة العربية وينتشر مما سيتسبب بكارثة لم يعهد العرب لها مثيلاً، إن لم يتم وقف شامل وكامل لهذا الخطاب بكافة مستوياته، وكذلك معالجة مسبباته.
ما يحدث من اقتتال طائفي واصطفاف مذهبي وفرز مناطقي في الكثير من الدول العربية، ما هو إلا نتيجة طبيعية للشحن العنصري المتواصل ولحملات الكراهية والتحريض على العنف ضد الآخر، يقوم بها أفراد وجماعات ودول ترى أنها وحدها تمتلك الحقائق، وعلى الآخرين الانصياع لها والانقياد لرؤيتها دون نقاش.

سيكولوجيا الكراهية
إن مصدر كافة الشرور غير المرئي هو العقلية المعقدة المركبة لبعض الأفراد الذين يبدون في غاية الوداعة، وهو أيضاً كامن في السياسات المتبعة من بعض الأنظمة والجهات القهرية القميئة، التي تظن نفسها تحارب الإرهاب، بينما هي في حقيقة الأمر تغذيه وتسمنه. هذه العقول تمتلك وسائل وأدوات تنشأ عنها انفعالات ذهنية مفرطة تفوق مقدرة أصحابها على التصريف، فتتحول رويداً رويداً من مشاعر ناعمة وأفكار ضبابية، إلى أفكار صلبة وأيديولوجية حجرية، ثم سلوكاً عدوانياً متطرفاً.
حتى الوازع الأخلاقي والديني والمجتمعي عند هؤلاء يبدو أنه في حالة من السبات غير النشط. ويعتبر علماء النفس أن الوازع عند الأفراد ما لم يكن نشطاً اثناء مرحلة التحضير والاستعداد، فإنه يفشل في التأثير على قرار الفعل وتنفيذه. فربما تصادف إنساناً قد تلقى تربية أخلاقية من عائلته ومجتمعه، ويمتلك تفهماً ووعياً للقيم الأخلاقية وللمعايير التي تحكم ثقافة المجتمع، وتجد أنه يظهر الحنان والمودة لمن حوله، ومع ذلك قد يمارس هذا الإنسان التعذيب الشنيع والقهر على إنسان آخر، وقد يكون قاتلاً للأطفال دون التخلي عن صفاته الأخلاقية.
إن التنشيط المتكرر ذهنياً والمتواصل لفكرة إقصاء الآخرين أو العدائية نحوهم، من قبل بعض الناس تجاه البعض الآخر في محيطهم الاجتماعي، قد يؤدي إلى سلوك متهور مفرط في شدته. ربما هذا ما يفسر استعداد بعض الأفراد الذين تعرضوا إلى الإقصاء لسنوات طويلة للقتل أكثر من سواهم من الناس الطبيعيين. وهو بالطبع ما يفسر أيضاً لجوء الناس الذين اعتادوا على ثقافة العنف إلى القتل لأسباب تبدو سطحية.
إن وقوف المجتمع وهيئاته لمراقبة العنف بكافة مستوياته وتنوعه دون تدخل، بل في قبول العنف والموافقة عليه في بعض الأحيان، هو الذي يخلق الظروف الملائمة للقتلة.
إن الشبكات الذهنية والسلوكية والأخلاقية التي تربط المخلوقات البشرية فيما بينهم، هي في الواقع شبكات اجتماعية تستلهم ضوابطها من التزامنا بالمعايير التي تنص على أن ما يجعل كوننا بشراً هو ما نقول وما نفعل، فأدوارنا هي ما يحدد هويتنا.

منابت الكراهية
إن استعباد الإنسان للإنسان والحروب التي قامت، والانتهاكات التي ترتكب بصفة يومية بحق الشعوب والفقراء والمظلومين، هي نبت مسخ شرير بذرته الكراهية.
من أهم مصادر ثقافة الكراهية هو الاختلاف العرقي والمذهبي والفكري والقبلي والعقائدي والأيديولوجي. وأحياناً يشكل تضارب المصالح والسعي نحو الحصول على المنافع من مال وجاه، مصدراً وسبباً للكراهية. الغيرة والحسد سببان كافيان للكراهية، وكذلك هو غياب تكافؤ الفرص بين الناس. سيادة الاحتكار للمصالح والمكاسب والخيرات والامتيازات لفئة معينة من الناس يؤجج الكراهية. وفرض فكر واحد وموقف واحد ورؤية واحدة للأمور يجلب الكراهية. وكذلك حال قيام فئة باستغلال فئة اجتماعية أو عرقية أو دينية أخرى. الشعور بالاستعلاء والتجبر والظلم من قبل فئة تجاه فئة أخرى تشعر بالدونية والانحطاط وعدم المنفعة يفجر الكراهية. الصراع الطبقي والتباين الكبير في مستويات المعيشة بين الفقراء والأثرياء يكون سبباً للكراهية. كذلك انعدام العدالة الاجتماعية، والتي تظهر آثارها الكارثية في غياب البنية التحتية في الأماكن المهمشة. الاستبداد والطغيان إن كان من قبل الأنظمة أو إن صدر من أفراداً عاديين يعمق الإحساس بالكراهية والبغض. وفي العموم فإن كافة الأسباب التي تقف خلف الحروب والثورات يكون الكره أحد أهم الدوافع والأسباب.

فلسفة الكراهية
بلا شك أن أفكار البشر ومعتقداتهم وقناعاتهم وثقافتهم مسؤولين مسؤولية رئيسية مباشرة -وليست وحيدة-عن الطريقة التي تتكون فيها مشاعرهم وتنمو وتتبلور، حتى تشكل الأفعال التي يرتكبها الأفراد. وهكذا فإن الأفكار والأيديولوجيات التي تنطلق من مصالح معينة تجاه تحقيق غايات محددة، فإن أنجح الوسائل وأكثرها نجاعة هي التي تستخدم الكتلة الجمعية "الجماهير". إذ أن الدول والأحزاب والجماعات تلجأ إلى سلاح التضليل الإعلامي والتهييج الجماهيري والتحشيد الشعبي، وتتحكم بهذه الكتل وتسيطر عليها وتدفعها باتجاهات تختارها بدقة، ثم يصبح التطابق الثقافي والفكري سيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الخاضع والمستبد، بين الديكتاتور والقطيع. هذا تماماً ما حصل مع جميع الطغاة الذين أوصلوا شعوبهم لمرحلة إلغاء التمايز، بحيث يتم توزيع نسخة واحدة من الوعي للجميع، وهي بطبيعة الحال نسخة عقل الحاكم، وبهذا حين يصعد الحاكم إلى المنبر، فإنه ينطق بما يجول بعقل الجماهير. تماماً هذا ما فعله الزعيم النازي "أدولف هتلر" حين خاطب الألمان قائلاً إن من حميد بركات الله كره الأعداء، ولم يجد هذا القول أي غرابة لدى الجماهير الألمانية المحتشدة وهي تصفق له. وهذا ما أقدم عليه جميع الطغاة الاستبداديين وهم يجرون شعوبهم نحو المهالك.
الوجه الآخر لفلسفة الكراهية نجدها في المنافع والمصالح وفي دهاليز السياسة. عدائية استحكمت علاقة العربي بالعربي وعلاقته مع الآخر، وهي علاقة اتخذت دوماً سياق النبذ والصراع والتناحر والتعارض والتناقض والرفض والاقتتال. حروب وصراعات تحت راية الجهاد ضد الغربي الاستعماري الصليبي الكافر مرة، وباسم المذهب والخروج عن الملة واحتكار التفسير والاجتهاد ونقاء العقيدة مرة أخرى.
الطائفة ليست هوية دينية، لأن لكل دين أتباع، والطوائف ظهرت بسبب الصراعات على السلطة، لذلك فإن الحروب الطائفية الحالية هي حروب سياسية سببها التنازع على السلطة، وليس الصراع على الدين.
كل التناحر والصراعات والحروب التي أصابت المنطقة العربية وجوارها، دينية كانت أم مذهبية أم استعمارية أو عرقية، خرج منها كلا الطرفين المنتصر والمهزوم وهما محملان بالكثير من الكراهية في كل مرة. لم يذعن الخاسر لإملاءات الفائز، ولم يسامح ولم يعفو ولم يغفر ولم يستكين، بل تزايدت كراهيته وغضبه وتشددت أفكاره وتطرفت أفعاله. ومن كان النصر حليفه لم يتمكن من وضع حداً لكراهيته، بل تأصل الجشع في نفسه، وسعى نحو مزيد من الاستحواذ الذي استوجب جيوشاً متناحرة مرة أخرى.
ضمن هذه الزاوية الحادة يمكن قراءة الحروب الصليبية على المنطقة وما خلّفته من كراهية في المنطقة، وضمنها أيضاً يمكن أن نفهم الموقف من الصراع مع الكيان الصهيوني الذي أحدث واقعاً جديداً في المنطقة العربية، كانت نتائجه كارثية على الشعب الفلسطيني. هنا يمكن إسقاط كل الماضي أو نفيه أمام أحكام الحاضر والراهن العربي، حتى لا تصاب الأمة بالجمود والشلل والتقوقع في التاريخ، لكن لا يمكن بحال إسقاط ما فعلته الصهيونية من حرب إبادة ضد الفلسطينيين. يمكن التحرر من عقدة الاستعمار والانطلاق نحو المستقبل، لكن لا يمكن قراءة الحالة الفلسطينية إلا عبر الذاكرة وبواسطة استفتاء رأي التاريخ في النكبات والمآسي والمذابح التي عانى منها الفلسطينيين، وذاقوا الويلات وحنظل التشرد واللجوء، بسبب قيام الصهيونية طردهم من بلادهم.

شقاء الأمة
لعل أهم وأبسط الأسئلة في هذا السياق هي البحث عن الأسباب التي تكمن خلف شعورنا بالكراهية تجاه الآخرين. لماذا نكره؟ هل الكراهية موقف عقلي وفكري؟ كيف يتم توريث تعاليم الكراهية؟
إن من أسباب شقاء هذه الأمة أنها لم تتوقف يوماً كي تجري مراجعة لمنظومتها الفكرية، ومقاربة ونقد مذاهبها الفلسفية وخطابها الديني، بصورة علمية وحقيقية وشاملة، عبر حوار مع الذات ومع الآخر، وبين النخب الفكرية والثقافية، بكل هدوء ومسؤولية وموضوعية، بعيداً عن التشنج الفكري والتشدد الأيديولوجي والمواقف المسبقة. هذا لم يحصل، بل استهلك العرب وقتهم في البحث عما يفرقهم لا عما يوحدهم، حتى بتنا نسمع صحيات التكفير المتبادل بين المذاهب، ورُفعت شعارات البغض والغل بين الأعراق التي تعايشت بسلام عبر قرون مضت. وصلت سموم الكراهية إلى أبناء البلد الواحد وأفراد الدين والعرق والمذهب الواحد، فتحولت عموم المنطقة إلى ساحة اقتتال واسعة.
أين تكمن الينابيع التي روت بذرة الكراهية وقامت برعايتها كي تتحول إلى شجرة باسقة، التي أثمرت كل هذا الخراب والبؤس والشقاء الذي تحصده الشعوب العربية؟ الإجابة ببساطة تكمن في التاريخ والراهن العربي المثقل بالاستبداد والبؤس.
لا يمكن لفكر يؤمن بالكراهية أن يصلح للتعايش بين الناس، ولا يمكن لإنسان مشبع بالعدائية تجاه الآخرين أن يكون نزيهاً وعادلاً في مقاربته للأشياء.
الكراهية لا تُخلق مع الإنسان، بل يتم اكتسابها من البيئة الاجتماعية، وبفعل الظروف والثقافة السائدة، هي مثل أي بذرة يتم زرعها في تربة مناسبة بأي مكان، وتحمل قابلية النمو والتصلب بحسب الظروف المناخية واهتمام المزارع. ولا بد للكراهية من أسباب، لكن هذه الأسباب لم تكن يوماً أسباباً أخلاقية أو إنسانية، لكن الناس تُقدم على الكراهية بفعل هيمنة الأوهام والقناعات والأفكار والموروث على عقولهم، وهذه الأوهام تتسم بالعدائية والجنوح نحو فرض السيطرة على الآخرين والرغبة في امتلاكهم، وإخضاعهم وتدميرهم أو تحييدهم بصورة تامة.
اللافت أن علاقة العرب فيما بينهم تتسم بكثير من الكراهية في معظم الأحيان، والحقيقة لا يمكن ملاحظة هذه الظاهرة عند شعوب وأمم أخرى بهذا التشنج، حتى العرب المقيمين في الغرب غير مستثنيين من هذا التصنيف. وكراهية الشعوب العربية نحو الآخر تتجه دوماً نحو الغرب، الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، ولا يشعرون بالكراهية مع بلدان أخرى تختلف معهم في العقيدة والدين مثل اليابان أو كوريا أو الصين والهند. وهذا له ما يبرره لأن الممارسات التي قام بها الاستعمار بدء بالفرس والرومان مروراً بالصليبيين إلى الاستعمار الغربي، تركت خلفها الكثير من الذكريات المقيتة، حيث حاولوا عبر القرون إبادة الحضارة العربية وطمس اللغة والهوية. ثم ما تفعله الولايات المتحدة من تقديم دعمها الكامل غير المشروط لإسرائيل العدو الرئيسي للشعوب العربية، وسرقة خيرات الأمة وثبيت الديكتاتوريات العربية.

صناعة الكراهية
تقوم بعض الأطراف والجماعات بإشعال نار الفتنة وتأجيج الكراهية بين الدول أو بين الجماعات العرقية أو المذهبية أو الطائفية والقبلية، أو بين القوى والأحزاب السياسية، بشكل مدروس ومخطط له بعناية فائقة. ويؤشر هذا التحشيد للبغضاء المقيتة على أزمات فكرية سياسية واقتصادية واجتماعية مؤجلة الاستحقاقات.
إن الإرهاب كأيديولوجية وسلوك عدائي متطرف، يعود في الأصل إلى منظومة البيئة الاجتماعية والثقافية والفكرية التي نما فيها وترعرع المتطرفون. إن الأشخاص الإرهابيون والقتلة والكارهون والساخطون والعنصريون والمتشددون، هم أفراد أسوياء -معظمهم- ومواطنين عاديين، غير مصابين بأمراض عقلية أو نفسية، وربما لا يعانون مشاكل اجتماعية ولا أزمات اقتصادية، لكنهم متخمين بالكراهية تماماً، معبئين بالحقد والعدائية، يمتلكون شعوراً عميقاً بالقهر والظلم والتهميش، ويظهرون قدراً كبيراً من الاشمئزاز والاستعلاء نحو الآخرين.
هؤلاء الأشخاص الإرهابيون أو الممتلئون بالحقد والغضب المتشدد، يعتقدون أنهم أفضل وأهم من بقية الأفراد، لكن الآخرون ينظرون لهم على أنهم غير أسوياء، لذلك قد يكون غالباً الإرهاب هو انعكاس لحالة الفشل والغضب. أيضاً فإن جميع المواقف والسياسات والرؤى إن صدرت من أفراد أو من جماعات أو من دول، إن ذهبت إلى المبالغة القصوى في تقدير الخطأ والصواب، فإنها تقع في المحظور الفكري وتؤسس لثقافة الكراهية والإرهاب. وقد تصل هذه السلوكيات إلى مرحلة تلتبس فيها الرغبات الكامنة بالاستعلاء والتميز والمكبوتة، بذرائع مكافحة التطرف والقضاء على التشدد ونشر السلم الاجتماعي، فتصبح عملية مواجهة الإرهاب هي إرهاباً بذاتها.
صناعة الكراهية تعتمد القولية والتزوير والافتراء والاختلاق والخلط، وما أن يدخل رأس الكراهية من باب أي مجتمع حتى يمزقه ويحوله من كيان متماسك، إلى فرق وطوائف وقبائل تتناحر باسم الدين والقومية والوطنية والأيديولوجية.
يقوم المصنعون للكراهية بتلفيق الاتهامات للآخرين المستهدفين وتزييف تاريخهم. وفي العديد من الدول يُنظر إلى الأقليات على أنهم مواطنون غير موثوقين، ثم يجري تهميشهم وهو ما يخلق أجواء العدائية. ولا يضيّع هؤلاء المصنعون فرصة لكي يستغلون الشائعات ويعملون على تأويل الأقوال وإخراجها عن سياقها الأصلي، وتحميلها معان وتحريفها بما يغذي الكراهية ويحرض على العنف. ويصيغون الشعارات والخطابات التي تدعو للحذر من الآخر وتشويه صورته، وإحداث حالة انفعالية ضده تعتمد على الخلط والإرباك والتهييج. نجد دوماً من يستفيد من خطاب الكراهية، يغذي هؤلاء البغض والتحريض، ويستغلون التوترات الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية لتحقيق أهدافهم التي تعتمد على إقصاء الآخرين.

التصدي للمحرقة
مواجهة صناعة الكراهية يتم عبر معالجة قضية أوقات الفراغ لدى الشباب، وإشغالهم بأنشطة إيجابية تعود بالمنفعة عليهم وعلى المجتمع، وتحصينهم ثقافياً وتدريبهم على ممارسة النقد الفكري، وتشجيعهم على العمل التطوعي، وتلقينهم قيم التسامح والعفو وقبول الاختلاف مع الآخرين، وتعزيز الانتماء للوطن في نفوسهم، وتقوية الشعور بالمسؤولية فيهم. كما يجب توفير فرص العمل المناسبة للشباب، وتخفيض نسب التسرب من المدارس، ومعالجة قضايا البطالة والفقر، وتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة كسبيل
لا غنى عنه لمواجهة الإرهاب والعنف والأيديولوجية المتطرفة.
بلا شك، إن الحد من سيل الكراهية الجارف في المنطقة العربية وجوارها، يتطلب خططاً طارئة لمواجهة الموروث القبلي البغيض. وتعزيز قيم التضامن والاحترام والتوافق المجتمعي، ونبذ العقلية الأنانية والانتهازية والمنافقة. والقيام بإصلاحات سياسية اقتصادية واجتماعية شاملة، يشارك فيها الأفراد والهيئات والاتحادات والنقابات والمؤسسات والدولة، لتحقيق تعايش سلمي مجتمعي متكافئ ومساواة وعدالة، تُخرج الناس من بدائيتهم، وتُظهر أجمل وأنبل ما في نفوسهم.
الحل يتطلب مواجهة الاستبداد السياسي لبعض الأنظمة العربية، وبناء دولة القانون والمواطنة التي تضمن العدالة والحرية والمسائلة لجميع مكونات المجتمع، وتأسيس ثقافة ووعي مختلفين يرتكزان على استعمال العقل والعلم، والإيمان بالحوار والتعايش السلمي بين الجميع، وتجاوز الماضي التعيس، قبل قدوم المحرقة العظيمة.

وحدهم العرب مسؤولين
حتى الاستعمار الغربي ذاته سقط في الحروب والتناحر فيما بين دوله في فترات تاريخية ماضية، وخاضت دول أوروبية حروباً دينية وعالمية فيما بينها، ذهب ضحيتها ملايين البشر، وخلّفت الخراب والهلاك، واستطاعت أوروبا تجاوز كل هذه المآسي، فيما عجزنا نحن عن فعل ذلك.
في الفترات التي نقل الغرب عنا أمهات كتب العلوم والفلسفة والفلك والطب والكيمياء، وتطور وازدهر بعلومه واختراعاته، وأضاف إلى الحضارة الإنسانية منجزات متعددة، اكتفى العرب بالتوقف والنظر والرثاء والهجاء والنواح واللطم. نعم الاستعمار غير نزيه ولا بريء، لكن السؤال الكبير هنا هو لماذا نجح الغرب اصلاً في استعمارنا؟ ولماذا كانت الفاتورة باهظة جداً؟ ولماذا وكيف تمكنت أمم أخرى عانت كما عانينا من شر وسوء وفساد الاستعمار، من القفز فوق الماضي الهالك وجعله خلفها، ومضت في درب النهوض والتطور، فيما العرب لا زالوا عالقين وتائهين في دهاليز التاريخ، مكبلين بأغلال الحسب والنسب، مقيدين بأفكار ومفاهيم لم تعد تصلح حتى لتسمين العجول.
مازال البعض منا يكرر ويصرخ أننا ما زلنا ضحايا للمؤامرة الغربية والغزو الثقافي، لكن وجود الكيان الصهيوني جاثماً فوق أرض فلسطين منذ عقود طويلة يؤكد بصورة قطعية حالة العجز والهوان الرسمي العربي. لهذا فالعرب هم وحدهم المسؤولين عن سقوط ثقافتهم وانحسار دورهم.
لقد عجز العرب عن النهوض، وانهزموا من الداخل بجهلهم لا بعلم وتقدم الأخرين فقط. إن أسباب ازدهار الثقافة الغربية ليس العرق ولا الدين، لا الطائفة ولا القبيلة، إنما التفوق العلمي والإنجازات التقنية والرقي الحضاري.



91
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

قلاع الاستبداد ومطارق الفساد
 تصنيع الرعب واختلاس العقول

اختلف كتّاب ومؤرخي سيرة الحزب النازي الألماني حول المقولة، منهم من اعتبرها فقرة وردت في نص المسرحية التي كتبها الشاعر الألماني النازي "هانس يوهست" وعرضت في مدينة برلين بالذكرى الرابعة والأربعين لميلاد زعيم النازية "أدولف هتلر". منهم من نسبها إلى قائد سلاح الجو الألماني الشهير "هيرمان غورنغ" أحد أبرز مساعدي هتلر. وبعضهم يدعي أن من قالها هو وزير الدعاية النازي المعروف "جوزيف غوبلز". بل أحياناً ينسب هذا القول إلى هتلر ذاته.
إنها العبارة الشهيرة "عندما أسمع بكلمة مثقف أتحسس مسدسي".
لن نكترث بشأن من قالها، الأهم هنا أن هذه المقولة تعكس أيديولوجية تسلطية، لا تعترف بغير القوة الجائرة لتمد سطوتها وتبسط هيمنتها. هي تعبير عن التزمت والتشدد الفكري، والإسهاب في المغالاة الأيديولوجية التي قد تكون جذورها دينية أو عرقية أو مذهبية أو فكرية.
لا يمكن فصل هذه الفقرة أياً كان قائلها، باعتبارها تهديداً واضحاً ومباشراً ضد كل من يختلف عنه فكرياً ومع أيديولوجيته، عما يجري في أماكن كثيرة بهذا العالم، خاصة في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط. بالرغم من مرور ثلاث أرباع القرن على هزيمة النازية عسكرياً في الحرب العالمية الثانية، وتصفية قياداتها جسدياً في محاكمات "نورنبرغ" الشهيرة، لا تزال بعض الأنظمة العربية والشرق أوسطية تعتمد المقولة النازية. بل امتدت هذه الثقافة البغيضة إلى بعض الأحزاب والقوى والجماعات التي تستهدف الثقافة ورموزها. الفارق الوحيد أن غوبلز كان يمتشق مسدساً حول خصره، فيما القتلة الجدد لا يتورعون عن استعمال أشنع الأساليب في تصفية المفكرين والمثقفين المخالفين.
قائل تلك العبارة أدرك أن المثقف الذي يخالفه المعتقد، ويرى أن العنصرية والفاشية والدكتاتورية أعداء للقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان، يشكل خطراً يستوجب التصفية. لا يزال هذا التهديد والعنف والتدجين قائماً ومتواصلاً ضد المثقف، وضد كل من يعارض سياسات بعض الأنظمة العربية، ولم يكن المسدس سوى إشارة إلى المعنى الأوسع للوعيد والترهيب الذي تعتمده السلطة السياسية كوسيلة لمعاقبة المواطنين المخالفين ودلالة على الاضطهاد والاعتقال والتعذيب والقتل. وإن كانت النازية تحرق وتطلق النار على رؤوس الناس، فإن ما يحصل في عصر النكوص الحضاري الحالي، لا يقل بشاعة بل إنه أكثر دموية وقبحاً.

دولة القمع
تمارس كثيراً من الدول العربية، ودولاً في منطقة الشرق الأوسط، وأماكن أخرى في العالم، قدراً ما من القمع والقهر على الأفراد، وتبدو الشعوب الشرقية وكأنها تمتلك قابلية مرنة للخنوع، إذ أن معظم هذه الشعوب لا ترفض جرعات بحدود معينة من البطش والاستعباد من قبل الأنظمة القائمة، بل أكثر من ذلك، هناك أفراداً وجماعات تقبل سياسة الإخضاع من قبل الدولة وتقوم بتبريرها. الكارثة حين نعلم أن هذا القبول بالقمع لا يرتبط بمستوى التعليم المرتفع أو التخلف العلمي للمجتمع، أو الإخفاق الاقتصادي أو الفشل السياسي للسلطة، ولا حتى بالتطور العلمي، لأن هناك دولاً تمتلك نظاماً تعليمياً يشهد له ومع ذلك خضع الناس فيها للبربرية العنصرية الفاشية مثلما حصل في ألمانيا. أيضاً هناك العديد من الأنظمة الدكتاتورية القهرية استطاعت تأسيس دولاً متطورة ومتقدمة. لعل الأمر يتصل بالتجربة والذاكرة التاريخية لتلك الشعوب التي لا تمانع درجة ما من الاستبداد.

خبايا دولة الاستبداد
تلجأ الأنظمة القهرية في سعيها لبناء قلاع القمع إلى إيجاد القائد الرمز الذي تدور حوله فظاعة الاستبداد وتخشاه الجماهير، ثم تبدأ بفبركة حكايات عن حصافة وحكمة ورجاحة عقل الزعيم الألمعي الشجاع، وخدماته المبجلة للوطن، وتضحياته المشهود لها في سبيل رفعة الشعب وعزته. ويصبح الشغل الشاغل لوسائل الإعلام الحكومية والخاصة تغطية أخبار القائد الاستثنائي، ودوره التاريخي في خدمة الإنسانية. وتخصص الصحف مساحات للتمجيد بشجاعة الزعيم العظيم المقدام الذي يخشاه الأعداء ويقدره الحلفاء.
هكذا كان الحال منذ فراعنة ما قبل التاريخ ولغاية العصر الحديث. والحالات الاستثنائية القليلة التي فشلت فيها الدولة عن إيجاد رمز للقمع، أو حين تصاب صورة القائد المستبد بالشرخ لسبب من الأسباب، يلجأ النظام حينها إلى ممارسة القمع العشوائي دون أية ضوابط، في معركة ليس مع المخالفين فقط، بل مع الشعب كله، ومن هنا تبدأ مرحلة انهيار هذا النظام المتوحش وأدواته.
ثم يعمد النظام إلى ترسيخ فكرة الربط بين الحريات العامة والأمن العام، فيجري إلصاق وهم أن الحرية تعني دوماً الفوضى والخراب في عقول المواطنين، وأن من يطالبون بالحريات السياسية والفكرية هم أناس يتسببون بعدم انضباط المجتمع، وهذا يؤدي إلى أن تفقد الدولة سيطرتها على مقاليد الأمور، وبالتالي تصبح عاجزة عن توفير الأمن والأمان للناس. هذا الربط الخبيث تعتمده دول القهر عنواناً لتبرير تصرفاتها الأمنية الوحشية بحق البشر. هنا قلاع الاستبداد تستلهم في سلوكها القاعدة المقررة التي تُظهر أن الناس يمكن أن يتنازلوا عن بعض من حرياتهم العامة إذا لمسوا أن أمنهم مهدداً.
ليس فقط في الدول النامية تنجح هذه الوصفة السحرية، بل حتى في الدول المتطورة يميل الناس إلى تصديق كذب السلطة والموافقة على خيارات قهرية استبدادية ضد دولة أو جماعة أخرى، بالرغم من معرفة الناس أن هذه السلطة ذاتها التي يقبلون بعنفها قد تنقلب عليهم وحشاً ضارياً في أية لحظة. وهذا شأن تراه في دول ديمقراطية كما هو في أنظمة دكتاتورية. حين تريد السلطة -أي سلطة- تكبيل الحريات -أو بعضها- لا بد أن تُشعر مواطنيها أن أمنهم صار موضع تهديد، كي يغض الناس النظر عن طغيان السلطة الشائن.
ماذا بعد من الخبايا في جعبة قلاع الاستبداد؟ حسنا هناك الكثير بعد. إذ أن السلطة تعتمد مبدأ ربط الزعيم القائد بالدولة ويصبح كلاهما شيء واحد، وتقوم وسائل الإعلام ومناهج التعليم والمهرجانات الخطابية والمناسبات الوطنية على فكرة أن لا فرق بين الرئيس والوطن. ثم تصبح بطانة الحاكم كل واحد منهم دولة، ويتحول موظفي الدولة كل واحد منهم إلى سلطة في موقعه، فترى أن كل من يمتلك سلطة ما في نظام قمعي ما هو دولة بذاته. فمن ينتقد الموظف من الناس يعتبر انتقاده فعلاً ينتقص من النظام. ومن ينتقد صاحب سلطة في النظام يتحول إلى مخرب للدولة، ومن ينتقد أحد رموز الدولة يصبح خائناً للوطن. هكذا حال الأنظمة الشمولية الدكتاتورية التي تعمل على إحكام سطوتها على كل شيء، بحيث يصبح صعباً على المواطن والمراقب التمييز بين بطانة الحاكم وبين مؤسسات الدولة، وبين الحاكم نفسه وبين الوطن. لأن القائد الزعيم وبطانته الحاكمة المتسلطة تقوم باستثمار كافة مؤسسات الدولة لخدمة مصالحهم الخاصة.
ثم تقوم بطانة الحاكم ورموز السلطة في التحكم بالمفاصل الرئيسية المهمة للدولة، ويتغلغلون في الهيئات التنفيذية وينتشرون في كافة الدوائر الحكومية، ومع الوقت ما تلبث أن تتشكل الدولة العميقة التي تهيمن على الدولة الحقيقية وتفرض عليها رؤيتها.

استلاب العقول
تلجأ الأنظمة الجائرة إلى محاصرة وعي المواطنين واعتقال عقولهم في صناديق تحدد شكلها ومساحتها الأجهزة الأمنية عادة، بمشاركة واضعو خطط اغتصاب السلطة من بطانة الحاكم. لا تترك دول القمع للناس أية مساحة للتفكير والتحليل الحر في سياق الأخبار والمعلومات التي يتم تداولها حتى لا تتشكل لديهم قناعات أو مواقف أو رؤى تخالف الموقف الرسمي للدولة. ممنوع على الناس قبول أية رواية حول أي شيء أو أي حدث في الدولة أو خارجها، سوى رواية النظام الذي يكون حريصاً على أن يحدد طريقة نظر المواطنين للأحداث.
هذا الأسلوب الاستلابي لا يرتبط فقط بالأحداث السياسية والأمنية، بل على الذاكرة أيضاً والتاريخ، الذي ترويه الدولة القمعية بما يتناسب مع الرواية الرسمية حتى يكون منسجماً مع معطيات الحاضر. لأن المخالفين في الواقع الراهن الذي يعتبرهم النظام أعداء للوطن، يحرص أن يظهروا كأنهم أحفاد للأعداء التاريخيين.
الفاجعة أنه حتى في الدول القهرية التي لا تقيم وزنا للدين، تقوم السلطة بتحديد المعايير التي تحدد نظرة وطريقة تعامل المواطنين مع الدين والأخلاق. وهي هنا لا تهتم بالعبادات والطقوس الدينية، بقدر اهتمامها على الأثر الهام الذي يخلفه الدين على البشر اجتماعياً وسياسياً. لذا فالسلطة تسعى إلى إحداث موالين دينيين يحمدون ويشكرون فضلها على العباد، وينشرون روايتها الدينية ورؤيتها وفهمها الديني، الذي يكون انعكاساً وامتداداً للرواية السياسية للسلطة.
في سعي أنظمة القمع لتبديد المفاهيم والتصورات والقيم والمعايير لدى المواطنين، وإعادة خلق مفاهيم جديدة تافهة وسطحية، ومعايير مركبة تصبح أحكاماً مع الوقت. تحرص هذه الأنظمة على إيجاد حلفاء وأعداء دوماً، إن كان على مستوى الدول والأحزاب والجماعات والمنظمات، أو إن كان على صعيد الأفراد مواطنين كانوا أم رعايا دول أخرى من مفكرين ومثقفين ومشتغلين بالشأن العام. يتم التركيز تعبوياً وإعلامياً ونفسياً على حكاية المواطن الصالح الشريف، المواطن الغيور المخلص. ويتم رسم وتحديد ملامح وصورة هذا المواطن البار المهذب من قبل خبراء نفسانيون بكل عناية وحرص. في كل أنظمة القهر تكون صورة المواطن المستقيم هو الذي يهتم فقط بقضايا حياته الشخصية والعائلية والمعيشية، لا يهتم بأمور الشأن العام إلا إذا طلبت الدولة منه المشاركة في عمل ما. مواطن يبدي أقصى درجات التعاون مع أدوات النظام في كافة المواقع، وخاصة مع الأجهزة الأمنية التي تشجعه أن يكون عيناً يقظة على مصلحة الوطن. يكون مواطناً مدركاً أن بلاده مهددة دوماً من قبل الأعداء الداخليين والخارجيين، وأن وطنه يتعرض لمؤامرات تحيكها أطراف لا تريد الخير له، ولا بد له من أن يتبنى الحكاية الرسمية حول كل شيء، ولا يتابع إلا الإعلام الرسمي.
في مقابل هذا الصورة يوجد مواطن آخر، هو المواطن الشرير، الخبيث، الخائن، الفاسق، المخرب. ويقصد بذلك الوصف كل المواطنين العاديين الذين يحبون وطنهم، ولم يعتادوا على التطبيل والتزمير لرجال السلطة، لذلك فهم ببساطة استعصوا على النظام الذي لم يتمكن من تفتيت قناعاتهم، ولم يهز انتماءهم، ولم يستطيع قولبة أفكارهم.

دولة القتل
تعتمد الدولة الاستبدادية لفرض سطوتها على المواطنين أدوات متنوعة مركبة وشائكة، منها ترسيخ صورتها في أذهان الناس على أنها دولة قوية وصلبة ومتماسكة، دولة قادرة على حماية الأفراد والمؤسسات والوطن، وتوفير الأمان للجميع، لذلك على الناس أن تغفر للسلطة أخطائها وزلاتها مهما كانت، وأن تقبلها وتجد لها مبرراً أيضاً. لذلك يتعامل النظام مع رجال الدولة مهما صغر شأنهم باعتبارهم أفراداً أكثر أهمية من كافة المواطنين مهما كانت صفتهم الأكاديمية أو الاجتماعية.
الموظفين الحكوميين يوفرون لك الخدمات، لذلك عليك أن تقبل أنهم في مرتبة أعلى منك، ويجب ألا ترفض حصولهم على الرشوة وقيامهم باختلاس المال العام. الشرطي والعسكري ورجل الأمن هم أفراد من المجتمع، لكنهم يوفرون له الحماية ويسهرون على أمنه، لذلك عليك وعلى المجتمع أن يتعاون معهم وتخبرهم بما يقوله المخالفون. ليس هذا فحسب، بل يجب أن تتقبل أن هؤلاء الساهرين على أمنك سوف يحظون بامتيازات لن تحصل عليها أنت والآخرين، ثم بالضرورة يجب عليك أن تكون مقتنعاً أنهم يستحقون هذه الامتيازات، وأنه مطلوب منك تبريرها أمام من يعترض عليها.
عليك التسليم أن الدولة لا يمكن إخضاعها للنقد أو المحاسبة. لأن الدولة والنظام والسلطة والقانون يصبحون مع الوقت شيئاً واحداً في قلاع القهر. الدولة هي من يضع القوانين وتطلب من المواطنين احترامها وتنفيذها، وإن خالف أحد الأفراد هذه القوانين فإنه يتعرض للعقاب، أما إذا خالفت الدولة ذاتها هذه القوانين عبر أحد رجالها أو موظفيها، فإنها تقوم بذلك لضرورات الأمن والمصلحة العامة.
لا يقتصر الأمر على تبرير وتحليل الفساد المالي والإداري والرشوة والاختلاس واعتبار ذلك لزوم منفعة الوطن. بل أن الطغيان قد يصل إلى درجة القتل. هو قتل تقوم به الدول القمعية بذريعة أداء الواجب، والحفاظ على البلاد ودرء المخاطر عنها. لذلك نرى أن دول الاستبداد تقتل عدداً من البشر داخل حدودها وخارجها، أكثر كثيراً بما لا يقاس من عدد الناس الذين تقتلهم الجماعات والمنظمات الإرهابية، التي تدعي هذه الدول محاربتها.
إن ماكينة القتل ترتكز على دجل وشعوذة تجعل من اللباس الرسمي الذي يرتديه رجل الدولة إن كان عسكرياً أو شرطياً أو رجل أمن ومخابرات، بمثابة مطية للقتل. حين يقوم المواطن بارتكاب جريمة قتل فهذا فعل يستوجب المحاسبة، لكن حين تقتل الدولة القهرية عبر أحد رجالها أو أجهزتها فهي فقط تقوم بواجبها. حين يرتدي رجل الدولة زيه الرسمي لا تكون تصرفاته تحتكم للقانون، لأن إشاراته وأقواله وأفعاله هي قانوناً بذاته في أنظمة القمع.
يحظى أصحاب الثياب الرسمية داخل قلاع الاستبداد بما يشبه الحصانة الدائمة لعدم تعرضهم للمحاسبة أو المسائلة مهما فعلوا، أصابوا أم أخطأوا. وعلى الدوام هناك أعذاراً ومسوغات لتصرفاتهم تبرر ما يقومون به. هذه الصورة النمطية عن رجل الأمن ورجل السلطة يتم طبعها في عقول الناس بالدول الجائرة، إلى حدود أن البشر لم تعد تشعر بالإهانة إذا تعرضت لتصرفات أو لأفعال مشينة من قبل أصحاب الملابس الرسمية، بينما تنفعل غضباً فيما لو تعرضت لنفس الموقف من أناس عاديين. إن رغبت في رؤية الوجه الحقيقي لدولة القمع ولرجالها وأدواتها وأجهزتها الأمنية القهرية، ما عليك سوى أن تخلع الزي الرسمي عنهم، أن ترفع منهم صفة رجل الدولة، وسوف ترى أنهم ودولتهم لا يختلفون بشيء عن أية عصابة أو ما فيا أو جماعة إرهابية.

صناعة الخوف
تعمل الدكتاتوريات العسكرية أو المدنية على أحد مبادئ الفيلسوف الإيطالي المولود في عصر النهضة "نيكولو مكيافيلي" الذي حدد القاعدة الماسية "من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك، إن لم يكن بمقدورك تحقيق كليهما". لذلك فهي تقوم بصناعة هذا الخشية التي تجعل الشعوب في حالة من الخوف الدائم. هذا يتحقق عبر وسائل متعددة منها إيجاد واستدعاء أعداء للدولة من الداخل والخارج. حين يخاف الناس يكونون مستعدين لقبول قرارات تمس حرياتهم الشخصية، وأحياناً تمس حياتهم واحتياجاتهم الأساسية إن أقنعتهم السلطة بقدوم خطر يتوعدهم. وهكذا تقوم هذه الأنظمة بتمرير أخطر وأهم قراراتها وقوانينها مستغلة خوف الناس من أعداء قامت هي بصناعتهم، بهدف خلق تهديد مرعب وغير مفهوم.
تستحدث دول القهر شبكات خاصة للقمع والاعتقال والتعذيب والقتل خارج الإطار القانوني، بعيداً عن المؤسسات الرسمية. حيث يكلف النظام أحد أجهزته الأمنية بتأسيس شبكة سرية من المعتقلات، يتم فيها بصورة غير شرعية سجن العديد من الناس الذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب الوحشي، وغالباً ما يتم قتلهم بعد الحصول على معلومات منهم، ويتم في هذه السجون تنفيذ حملات إعدام جماعي لمخالفين.
وكأن كافة الأجهزة الأمنية القمعية التي تتبع دول الاستبداد لا تكفي لنشر الرعب في نفوس المواطنين، حتى تقوم هذه الدول بتأسيس جماعات شبه عسكرية ومسلحة، تناط بها مهمة ترويع البشر، ويتم تكليفها بأعمال الاغتيالات وتصفية المعارضين، تعمل بظل حصانة قانونية من الملاحقة. ثم تقوم السلطة بإنشاء جهاز أمني سري -قد تختلف التسمية من بلد لآخر- دوره أن يجعل الجميع يشعرون أنهم مراقبون. يقوم بمهام التجسس على هواتف وتحركات وأفعال المواطنين وحتى كلامهم، بذريعة الحفاظ على الأمن القومي للبلاد.
ثم تقوم هذه الأنظمة باختراق كافة الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات والهيئات والنقابات والاتحادات والأندية، تخترق كل شيء حتى جماعات رعاية الحيوان. تخترق المقاهي والحارات الشعبية ودور العبادة والمؤسسات التعليمية. الغاية أن يعلم جميع المواطنين أن كل شاردة وواردة في الدولة تحت سيطرة أجهزتها الأمنية.
تكلف دولة الاستعباد أحد أهم أجهزتها الأمنية لوضع قوائم تتضمن أسماء المشتبه بهم، من مخالفين ومعارضين وكل من وجّه انتقاداً واحداً بلحظة حمية ضد النظام. إن دخل أحدهم القائمة فلن يخرج منها مطلقاً. ولا تتفاجأ إن علمت أن هذه القوائم تضم أسماء مثقفين ومفكرين وأكاديميين بارزين. غالباً يتم منع هؤلاء الأشخاص من السفر، ويحرص النظام القمعي أن يبقيهم في حال من التوتر الدائم باعتبارهم مرشحين للاعتقال في أية لحظة.
ولكي تتمكن دول الاستبداد من إحكام الهيمنة على الناس وتصنيع الرعب، لا بد لها من السيطرة على عقول المواطنين والتحكم بها، وهذا لن يتم إلا من خلال بسط سطوتها على وسائل الإعلام وفرض روايتها الرسمية الوحيدة. إن الحقائق هي أكثر ما تخشاه أنظمة الاستبداد، لذلك لا حقيقة سوى تلك التي تصدر عن النظام. حتى الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام معرضون دوماً للاعتقال إن كانت لديهم قصة غير تلك التي يرويها النظام. حتى في دول تحظى بهامش من الديمقراطية تلجأ الدولة إلى تشريع قوانين تقيد عمل الصحافة والإعلام بذريعة ضرورات الأمن القومي.
من جانب آخر تستهدف دول القهر الرموز والشخصيات العامة المخالفة، من أكاديميين ومفكرين وفنانين ورياضيين ورؤساء أحزاب ورجال دين. والرسالة هنا جعل الأفراد يدركون أن الجميع مهدد وعرضة للاعتقال، وأن لا أحد فوق سقف مصلحة السلطة.
الأقبح من هذا هو قيام هذه الدول إلصاق تهم الخيانة والعمالة والتجسس والتخابر بكل من يخالفها ويعارض سياساتها ومواقفها ورؤيتها. الناس لا يمكن أن تتعاطف مع خائن، لذلك تبدو التهمة بمثابة الحكم بالإعدام على من تلصق به، من المعارضين السياسيين والنشطاء وسواهم.
هل تكتفي دول الطغيان بكل ما سلف؟ قطعا لا. فهي لا زالت تبتدع وتبتكر أساليباً جديدة لصناعة الخوف وتصنيع الرعب في أنظمة لا تخجل من التبجح وهي تتحدث عن سيادة القانون. لكن أليست الدولة هي من يضع القوانين؟ نعم إنها هي. وتُصيغها كما تشاء، وتخترقها كما تشاء، وتحاكم المواطنين بذات القوانين. رغم كل ذلك فإن هذه الأنظمة الجائرة تلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ، بهدف تمرير سياساتها وأية إجراءات تتخذها، وتجعل منها وضعاً مُستداماً قد يستمر لعقود.

الاستثناء العربي
في وقت تتطور فيه الأمم وتزدهر، وتنعم بالديمقراطية وتُصان حريات الشعوب العامة، ما زالت النخبة العربية من مفكرين ومثقفين منشغلين بالنقاش الذي تسبب للأمة العربية بالشقاء، لأنه جدال بين الفكر وذاته. فيما الاستبداد ينحسر في بقاع الأرض، يتمدد في أرض الخمر والأمر. الكارثة أن هذه الأمة العربية ابتليت ببعض من النخب التي لا زالت جادة في نقاش قضية حاجتنا إلى الديمقراطية، بينما الآخرون من المثقفون يتلذذون بنقاش شكلي وسطحي حول إن كان الإصلاح سوف يتحقق من داخل الدول العربية أم بفعل تدخل خارجي؟ هل يحتاج العرب إلى إصلاح الخطاب الديني أم لا؟ هل ينبغي القيام بإصلاح، أم أن الراهن العربي يحتاج تغييراً جذرياً وثورات تقلب كل شيء فوق رؤوس الأنظمة القائمة؟ هل يكون الإصلاح والتغيير جماهيرياً أم بواسطة النخب؟ من أين نبدأ في الإصلاح، من أسفل الهرم أم من رأسه؟
هكذا يتواصل النقاش وتضيع الأسئلة، ولا أحد يتصدى للمقاربات العقلانية الموضوعية العلمية المنهجية، التي تؤسس لتحول ديمقراطي في العالم العربي، ينهي عقوداً من الاستبداد.
هذا الوضع يؤشر على ما يبدو إلى حالة من التعوّد أو التآلف غير الواعي يُظهرها الناس نحو الاستبداد والقهر بكافة أنواعه ومستوياته. وهذا ما يثير السؤال الكبير: متى يحين الوقت لبتر هذا الطغيان؟ بعبارة مختلفة، هل ما زلنا نحتاج درجات محددة من القمع في بلداننا؟ هل ما يروّج له بعض المثقفين الزنادقة من أن الشعوب العربية ما زالت غير مهيئة للمفاهيم الديمقراطية صحيحاً؟ حسناً. إن تمكنت الشعوب العربية من الثورة على أنظمة الاستبداد السياسي، من يجرؤ على مس الاستبداد الديني والعقائدي والفكري، وكذلك الاستبداد الثقافي والاجتماعي الذي تمارسه جهات متعددة؟ كيف يكون الإصلاح والتغيير ولدينا بعض المثقفين الذين يدعون للديمقراطية دون الحرية، ولدينا معارضين يختزلون النظام الديمقراطي فقط في التداول السلمي للسلطة، أو في التعددية السياسية والحزبية؟
ما من أدنى شك أن غالبية الدول العربية تعتمد نموذجاً غير ديمقراطي للحكم، وأن الاستبداد هو النمط السائد في تلك الدول، على الرغم من انحسار الطغيان في عدد من مناطق العالم. هذا الاستثناء العربي البغيض يشكل انسداداً أمام موجة التحولات نحو الديمقراطية التي اكتسحت كثير من دول العالم خلال ربع قرن الأخير، في كل من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، رغم التنوع العرقي والإثني والثقافي في تلك الدول، ومنها دولاً أفريقية كانت لفترة قصيرة نسبياً تُوصف بالبدائية. لكن يا سبحان الله صمدت الأنظمة العربية العتيدة أمام كافة محاولات التغيير والتحول والإصلاح، وبقيت مقاومة لجميع الدعوات والحراك الذي ينادي بالديمقراطية والحرية. كل ما فعلته أنظمة الاستبداد العربية أنها لجأت إلى سلاح المناورة والانحناء للعاصفة وللكذب، وأشهرت سلاح الإرهاب والحفاظ على الأمن القومي، وسلامة المجتمع، حماية الأقليات العرقية، ألصقت تهم الخيانة بالمطالبين بالتغيير، أشهرت كافة أسلحتها الدينية والقومية والثقافية والاجتماعية والأمنية والإعلامية كي لا يحدث أي تحول ديمقراطي، وكي تمنع أي تغيير من الاقتراب نحو قلاع الاستبداد.
نعم نجحت -للآن- معظم الأنظمة العربية في اتقاء "شر" الإصلاح الديمقراطي، لكنني أعتقد أن شرط التغيير قائم، وإمكانية التحول هي في المرحلة الأخيرة من التبلور والنضوج. المنطقة العربية ليست استثناء في السيرورة التاريخية، وليست ذات مكونات ثابتة، ولا هي تمتلك الحصانة الفطرية المقاومة للتغيير، ولا هي كما يحلو لبعض المفكرين المتوهمين تجمعات غريزية وبدائية، لا تاريخية ولا تطورية.
إن الدول العربية عبارة عن مجتمعات شبه منغلقة ومحافظة. من أبرز سماتها الركود حد التكلس، فهي لا تتوفر على ديناميكية فكرية أو ثقافية، والعلاقة بين حركة الفكر وحركة المجتمع مصابة بالخلل. كما أن الفلسفة بثوبها العربي لم يشتغل عليها أحد، ولم تتفاعل افكارنا و-فلسفتنا- مع أفكار وفلسفة الآخرين من خارج المنطقة العربية والإسلامية، لذلك تأخرت خطانا ولم نتمكن من اللحاق بقافلة الحضارة العالمية، ووجدنا أنفسنا في عزلة استمرت عقوداً طويلة مريرة.

احتارت بهم السبل
محير أمر العرب الانتقائيون الذين يقبلون استيراد رؤوس الأموال للاستثمار في بلدانهم، ويستوردون التكنولوجيا الحديثة، السلاح، السيارات، الأدوية، الملابس والأحذية والعطور، يستوردون كل شيء حتى الأغذية، لكنهم يرفضون دخول الأفكار والمعارف والعلوم والفلسفة والنظريات إلى أوطانهم.
في المشهد العربي الراهن يتعايش بغرائبية جنباً إلى جنب كل من التخلف والتقدم، الجهل والعلم، الفوضى والنظام، التراث والمعاصرة. هذه هي سمات المرحلة الانتقالية، وهو مؤشر على اقتراب التحول، ودليل على أن القديم قد بدأ فعلاً في التغير، لكن الجديد القادم ليس متبلوراً تماماً بعد، ولا يمتلك كامل الجهوزية ليحل مكان القديم. مما يعني أن درب التطور والتقدم العربي سيكون طريقاً طويلاً وشاقاً وبطيئاً ومكلفاً.


92
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

طوفان الوباء.. صناعة الكراهية والشقاء

كصناعة السيارات والطائرات والملابس والعطور، يتم تصنيع الرأي العام والذوق العام. مثلما الثقافة صناعة والسياحة والرفاهية والازدهار صناعة. كذلك هي الكراهية.
صناعة الكراهية التي تتقنها طغمة من الديكتاتوريات والأنظمة الفاسدة والنخب الفكرية والسياسية والثقافية والدينية الكاسدة. يقومون بنشر السموم والأكاذيب، وبث الأحقاد بصورة يتم فيها التحريض وبناء منظومة الكراهية والعداء الاجتماعية على أساس قومي وعرقي وطائفي ومذهبي أو قبلي أو مناطقي. هذه الصناعة تجد لها أسواقاً تروّجها في الكثير من البلدان، وخاصة في العالم العربي المثقل بالأزمات المركبة. وهي صناعة تحظى برعاية وغطاء من بعض الأنظمة العربية المستبدة، ومن دول إقليمية تمتلك مشاريعاً جيوستراتيجية تقوم على مبدأ الانقسام في الصف العربي، وبث الكراهية والتفرقة بين الشعوب العربية وإحداث صراعات وتناحر بينها، كي تتمكن تلك الدول من تحقيق أهدافها. في ظل حالة الجهل التي ما زالت تحكم واقع كثير من المجتمعات العربية، تصبح الكراهية ناراً تستعر تحرق المجتمع وتفكك ترابطه وتثير النعرات والحروب الأهلية، تنهي أي تفاهم وتناغم مجتمعي، وتحدث الرغبة في الانتقام وتنشر ثقافة تبرير العدائية والعنف والاعتداء على الآخرين.

الكراهية في المعنى والاصطلاح
في اللغة إن الكراهية هي القبُح وأثارة الاشمئزاز والبُغض حول شيء ما. أن يكره الإنسان شيئاً هذا يعني مقتَه ولم يحبّه وأبغضه ونفَر منه. الكراهية هي أيضاً الحقد والغضب والشعور بالضغينة تجاد شخص ما. وفي الأفعال القولية التي تصدر عن دولة أو جماعة أو أفراداً وتدعو صراحة إلى الكراهية يطلق عليها "خطاب الكراهية". في حين أن كافة الجرائم التي تحركها الكراهية وتدفع مرتكبيها لفعل جرمي بسبب الكراهية أياً كانت، تسمى "جرائم الكراهية". هذه الجرائم قد ترتكب ضد أفراد أو جماعات، لأسباب الكراهية المتعلقة بالدين أو العرق أو اللغة أو الجنس أو الإعاقة العقلية أو البدنية.
تتنوع جرائم الكراهية ما بين ممارسة العنف ضد الآخر، وظهورها في صورة المضايقات والتهديدات والتسلط في المدرسة أو أماكن العمل. كما يمكن أن تأخذ الكراهية شكل لوحة أو كتاب أو نص أو ملصق أو أغنية أو فيلم، أو أي إنتاج آخر ينطوي على عناصر مهينة وتهديدية. جرائم الكراهية لا تستهدف فقط الأفراد أو الجماعات، إنما المباني العامة والخاصة أيضاً، وكذلك دور العبادة وممتلكات الأقليات.
رغم أن عدداً من الدول أصبحت دساتيرها وقوانينها العامة تتضمن تعريفات للكراهية وجرائمها، والعقوبات التي تفرض على مرتكبيها، إلا أن الكثير من الدول الأخرى، خاصة العربية، لا تزال جرائم الكراهية فيها أحد أكثر المواد القانونية إثارة للجدل والاجتهاد بين مكونات المجتمع. ونظراً للتقاطع والاختلاط الذي يقع فيه البعض بين حرية التعبير كأحد أهم الحقوق الشخصية للفرد وبين خطاب الكراهية، تحافظ الدول الديمقراطية على توازن يحمي جميع شرائح المجتمع.
كما أن جرائم الكراهية تسافر خارج الحدود، من خلال منع الفرد أو الجماعة المستهدفة من السفر، أو العودة للوطن. كل ذلك يشير بوضوح أن الشعور بالكراهية بين الناس يعتبر تهديد خطير على المجتمع برمته.

صناعة الكراهية
أهد أهم الأسلحة المستخدمة في الحروب النفسية، وأهم أدوات نظام تفكيك البنى والتماسك الاجتماعي. إن الحروب العسكرية تستهدف حياة البشر وممتلكاتهم المادية، فيما الحروب النفسية تستهدف السلوك الاجتماعي، من خلال التأثير على أفكارهم وحالتهم المعنوية. وتصنع الكراهية عبر نشر الأكاذيب وتزوير الحقائق، واختلاق الأحداث، والتلاعب بالعقول، والافتراء على الآخرين، وتزيين الباطل. وهذا يؤدي إلى توفير البيئة التي ترعى الكراهية والمعاداة ليشتد عود الضغائن، ثم تتحول الكراهية إلى أفكار وعقائد قبل أن تصبح سلوكاً عدوانياً متطرفاً. الكراهية وتغذيتها تشكل الحاضنة الملائمة للعنف والإرهاب. وللكراهية أوجه متعددة، منها ما هو اجتماعي أو ثقافي أو كراهية دينية وهي الأخطر لأن أثرها يظهر سريعاً ويفتت المجتمعات، بينما تتسبب الأزمات السياسية بكراهية اجتماعية. تظهر هذه الكراهية في الشعارات والمواقف والخطابات السياسية والدينية المتشددة التي تكون غالباً المصدر الرئيسي لنشر ثقافة الكراهية.
في صناعة الكراهية نجد نماذج ومستويات مختلفة، منها يتعلق بإشعال الصراعات والحروب بين الدول والشعوب فيما بينها، ومنها ما يرتبط بصناعة الكراهية داخل الأمة الواحدة بيد بعض الأبناء، أو داخل البلد الواحد، أو العرق الواحد، أو الدين الواحد. فقد عمدت بعض الدول الغربية الاستعمارية على تلطيخ صورة الإنسان العربي عبر وسائل الإعلام لدى شعوبها مما أحدث ما يعرف بظاهرة الإسلاموفوبيا. ثم بعد الأحداث الدامية المرعبة التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تعززت صورة العربي المتطرف القاتل في وسائل الإعلام الغربية. وهناك صناعة الكراهية داخل البلد الواحد والدين الواحد بهدف إثارة العصبيات المذهبية والقبلية، لإشعال الفتن والصراعات التي قد تصل إلى حروب أهلية.
أبرز أدوات صناعة الكراهية هي نشر الكذب والافتراءات، والتلاعب بالعقول، تزوير الحقائق، وتزييف البيانات. وهي سلاح يفتك ببنية المجتمعات ينتمي للجيل الرابع، ولا يكلف الدول مالاَ وجهداً كثيراً
لا تنمو الكراهية إلا في المجتمعات غير المستقرة، والتي تعاني من انقسامات عرقية وطائفية ومذهبية، وتغيب عنها ثقافة التنوع وقبول الآخر، ويقاسي فيها الناس من غياب الأطر والضوابط السياسية والقانونية المنظمة. ويمكن لقضية الأقليات العرقية والدينية أن تشكل مدخلاً للتوظيف السياسي لدى بعض الدول، وأن يثير كراهية كيانات ضد كيانات أخرى. كما أن للمحسوبيات والمنفعة الخاصة، والتهميش والإقصاء الذي تمارسه البطانة أن يولد الكراهية والعنف.
 
خطاب الكراهية
انتشر في الأعوام الماضية خطاب الكراهية والبغض في كثير من الأماكن حول العالم، خاصة في المنطقة العربية التي شاع في كثير من بلدانها مصطلح المجتمعات المنغلقة على الأنا الجمعية، بامتداد المناطق والطوائف والقبائل والأعراق والمذاهب والأيديولوجيات. إن التطور التكنولوجي وفي وسائل الإعلام المتنوعة أسهم بصورة كبيرة في تفشي ظاهرة وخطاب الكراهية في منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتم استقطاب شرائح وأعداد متزايدة للانضمام إلى جيوش الكراهية العصرية، متسلحين بالحقد والأفكار العنصرية والألفاظ الشوفينية، لخوض معارك الاقتتال الاجتماعي والمذهبي والعرقي في الفضاء الالكتروني الواسع. تستغل هذه الأطراف حرية التعبير التي تصونها القوانين الدولية للاعتداء على كل شيء، حتى الأديان والخالق لم يسلم من شر هؤلاء.
جميع وسائل الإعلام تتحمل مسؤولية رئيسية في بث خطاب الكراهية بصورة متواصلة على مدار الساعة للمشاهدين والمستمعين والقرّاء. تزايد الإعلام المتخصص بالبغض والكراهية، في ظل غياب شبه تام للإعلام المهني الذي يقوي الروابط الوطنية للمكونات الشعبية، ويواجه الإعلاميين الثرثارين الذين يهتكون النسيج الاجتماعي عبر التحريض الأعمى على العنف والإقصاء.
في البلدان العربية حيث تتشابك المعايير وتمتزج المصطلحات وتفتقد الضوابط، اختلط النقد بالشتم، وتصاعدت وتيرة السباب والقذف في الخطابات التي تجد استحساناً لدى شرائح اجتماعية واسعة، حيث تلهب الخطابات الشوفينية المتشددة مشاعرهم وحماسهم. هذه الحدة تعود في أحد أسبابها إلى التناحر والصراع السياسي والأيديولوجي والديني بين مختلف القوى والأحزاب والدول، يصبح معه إعلام الكراهية سلاحاً لكسب الحرب.
كافة الأطراف التي تدعم وتمول وتغذي وسائل الإعلام القائمة على نشر الكراهية، غايتهم هي تخدير الشعوب وتغييب وعيها، وإشغالها عن حالة الشقاء والبؤس التي توسم الوضع العربي الراهن. الهدف هنا هو إبقاء الشعوب العربية أحجار شطرنج وبيادق تتقاتل دون أن تغادر الرقعة، ويظل اللاعبين الرئيسيين متحكمين بمصير المنطقة.

حروب الكراهية
أقبح الحروب هي التي تقوم على الكراهية، وأكثرها وحشية هي التي ترتكب باسم الدين، وقد شهدت البشرية عدد منها. لعل ما يعنيني هنا هي المجازر والمذابح التي ارتكبتها الصهيونية وإسرائيل عبر العصابات الإرهابية، بدءًا من عصابة "هاشومير" التي تأسست عام 1909 مروراً بعصابة الهاغاناه عام 1921 وفرق "المالباخ" عام 1936 وشتيرن والأرغون وسواها، بحق الشعب الفلسطيني. ويؤكد التاريخ أن اليهود ارتكبوا في فلسطين حملات مكثفة ومخططة من العنف والإرهاب والكراهية، ذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء النساء والأطفال، وما زالت مستمرة حتى اللحظة.
في القارة الأمريكية التي وصلها المستكشف الإسباني "كريستوفر كولومبس" ارتكب المسيحيون الأوروبيون البيض جرائم إبادة وحشية بحق السكان الأصليين، حيث اعتبرت القوى الأوروبية المستعمرة أن سكان البلاد عبارة عن كائنات منحطة بالوراثة، وأقل منزلة من الإنجليز والإسبان وبقية الأوروبيين. هذه النظرة المشبعة بالكراهية والعنصرية والاستعلاء شكلت بداية حروب الإبادة التي جردت السكان الأصليين من إنسانيتهم وارتكاب المذابح الوحشية ضدهم.
هنا تماماً يُكشف زيف قيام أمريكا على قيم العدالة والمساواة والحرية، فهي دولة بنيت بواسطة أبشع أنواع الإرهاب، عن طريق إبادة عشرات ملايين من الهنود الحمر، ولا زال الإرهاب الأمريكي يصول ويجول في أماكن متعددة من العالم يبحث عن هنوداَ جدد. هنا تلتقي الولايات المتحدة مع إسرائيل التي قامت على إبادة الشعب الفلسطيني، وتواصل ارتكاب المذابح وسرقة أراضي الفلسطينيين. ويذكر قادة الكيان الصهيوني ذات المبررات والذرائع التي ساقها المهاجرون الانجليز الذين سرقوا أراضي السكان الأصليين لأمريكا واستباحوا خيراتهم وأبادوهم.
في وثيقة تضمنت شهادة سجلها كشاهد عيان المطران الإسباني "بارتولومي دي لاس كازاس" تتعلق بجرائم إبادة ارتكبها المسيحيون الأوروبيون بحق الهنود الحمر جاء فيها "كانوا يدخلون على القرى فلا يتركون طفلا ولا حاملا ولا امرأة تلد إلا ويبقرون بطونهم ويقطعون أوصالهم كما يقطعون الخراف في الحظيرة، وكانوا يراهنون على من يشق رجلا بطعنة سكين، أو يقطع رأسه أو يدلق أحشاءه بضربة سيف، كانوا ينزعون الرضع من أمهاتهم ويمسكونهم من أقدامهم ويربطون رؤوسهم بالصخور، أو يلقون بهم في الأنهار ضاحكين ساخرين". ألم تكرر إسرائيل الصهيونية هذه الجرائم بحق الفلسطينيين؟ نعم لقد فعلت.
في البوسنة والهرسك ارتكبت القوات الصربية لأسباب دينية وعرقية تتعلق بالكراهية، مجزرة ذهب ضحيتها أكثر من ثمانية آلاف مسلم بوسني مدني في العام 1995. تعتبر هذه المذبحة من أفظع المجازر التي ارتكبت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد حصلت على مرأى من جنود الفرقة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام الأممية.
الحروب الصليبية في القرون الوسطى، التي خاضتها الدول الأوروبية المسيحية ضد المشرق الإسلامي، لدوافع الكراهية الدينية، هي نموذج آخر على خطورة خطاب الكراهية. إذ قامت الحروب بعد أن ناشد البابا "أوربان الثاني" رجال الدين في الكنائس الأوروبية وأمراء أوروبا بشن حرب على المسلمين، بهدف تخليص الأرض المقدسة من سيطرتهم حتى يرضى المسيح لأن يوم القيامة قد اقترب.
أكثر الحروب الدينية بسبب الكراهية شراسة، هي الحرب التي استعرت نارها بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا خلال القرن السابع عشر واستمرت لمدة ثلاثين عاماً. أبيد في هذه الحرب التي أعلنتها الكنيسة الكاثوليكية وأسمتها الحرب المقدسة، حوالي أربعون بالمائة من البروتستانت الأوروبيون. وانتهت هذه الحرب بأوبئة ومجاعات وتدمير شامل، وتغيرت معها خارطة أوروبا السياسية والدينية.
بالرغم من شيوع واقعة إعدام الأرمن في إسطنبول من قبل السلطات التركية في العام 1915، فيما يعرف بمذابح الأرمن، فإن الكثيرين لا يعلمون شيئاً عن مذابح الأرمن ضد الأتراك. لقد ذكر الدكتور "أحمد الشرقاوي" في كتابه الذي صدر العام 2016 ويحمل عنوان "مذابح الأرمن ضد الأتراك" وتضمن العديد من الوثائق العثمانية والروسية والأمريكية أن عدد ضحايا المذابح التي ارتكبها الأرمن بلغ حوالي نصف مليون ضحية من المسلمين المدنيين الأتراك. حيث كان الصراع بين الأتراك والأرمن قد بلغ ذروته خلال الحرب العالمية الأولى، وكانت تركيا ضعيفة وتعاني من التدخل الأوروبي ومن الاحتلال الروسي في مناطق الشرق العثماني.

بذور الكراهية
منشطات ومحفزات الكراهية تبدأ من العائلة التي لا تراعي تربية الأبناء على احترام الآخر المختلف. وهناك المجتمعات المنغلقة على ذاتها والتي يسود فيها نمط ثقافي واجتماعي واحد، وتجهل حقيقة الآخرين، تكون عادة فريسة سهلة للتحريض والكراهية. وهي مجتمعات لا تقبل الجديد وتتصادم معه وترفض الاندماج معه. ولا يمكن إغفال المسؤولية التي تضطلع بها المؤسسات التعليمية في تحديد مناهج تعليمية تراعي التنوع والتعدد في مكونات المجتمع، ولا تعتمد على رأي الأغلبية فقط. والمؤسسة الدينية مسؤولة أيضاً عن هذا التدهور الأخلاقي، لأن الخطاب الديني يستدر العواطف لدى الجمهور، فإن كان متشدداً يعمل على إثارة الفوضى والفتنة والتحريض والكراهية والقتل.
التهميش والإقصاء الذي تقوم به العديد من الأنظمة الاستبدادية بشكل ممنهج، ضد أفراد وفئات في المجتمع، يشكل المناخ المناسب لتنامي خطاب الكراهية لدى المهمشين وضدهم. وتركيز وسائل الإعلام على رؤية واحدة للأمور يزيد من تسعير وحدة خطاب الكراهية. كما أن الصورة النمطية عن فئة محددة أو بلد معين، والأحكام المسبقة ضدهم نتيجة شيوع أفكار عنهم في البنية الاجتماعية وغياب المعلومات الصحيحة، يسهم في نشر الكراهية. المسؤولية هنا تقع على كاهل الدولة بكافة هيئاتها، ووسائل الإعلام، ومناهج التعليم، والمؤسسة الدينية، والناس أنفسهم الذين ينحازون لمواقف ويؤمنون بأفكار دون التفكير بها وتمحيصها.
الموروث الاجتماعي والديني والثقافي والحضاري يعتبر قيمة معرفية مهمة للأمم والشعوب، لكن القصور في الفهم السليم للتراث، والمقاربات الخاطئة له، ومحاولة النقل الميكانيكي للتجارب الماضية، يسهم في توريث الكراهية كما تورّث العقارات. أمر آخر يسهم في اتساع رقعة الكراهية، هو الصمت وموقف اللامبالاة التي تبديها جهات رسمية وأناس عاديين حول الكراهية، والتغاضي عن خطاب وجرائم الكراهية التي يتم ارتكابها بحق الآخرين، وتستثير مشاعرهم الدينية أو القومية، وتمنحهم الإحساس بالدونية والانتقاص من كرامتهم وإنسانيتهم.

توظيف تبريري للكراهية
فشلت الأنظمة العربية في إنجاز مهام ما بعد التحرر السياسي الشكلي من الاستعمار. لم تتمكن من بناء دول مدنية، ولا تحررت من التبعية الاقتصادية والسياسية، ولا استطاعت تحقيق تنمية مستدامة. وبالتالي أخفقت بصورة مريعة على كافة المستويات، وبقيت بعيدة جداً عن الحداثة والعصرنة، وظلت شعارات النهوض العربي تتردد منذ قرنين من الزمن دون نجاح يذكر. بينما الأمم والشعوب الأخرى حققت قفزات في تطورها الاقتصادي والحضاري، أبرزها اليابان، الهند، كوريا، تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ، تركيا. يعود هذا الفشل في أحد جوانبه لخطاب الكراهية العربي الموجه للغرب الاستعماري، كراهية حضارته ومعاداتها باعتبارها حضارة صليبية معادية للعرب وللمسلمين. هذا الموقف الضرير الذي يضع كل ما يتعلق بالغرب في سلة الكراهية، امتد ما يقارب قرن من الزمان، حتى طغت على خطاباتنا الفكرية والسياسية والدينية والثقافية.
وفي هذا تتشارك القوى السياسية القومية العربية مع التيار اليساري والجماعات الدينية بموقف واحد يعتمد الكراهية للغرب. ويتم تعبئة الرأي العام أن الغرب هو العدو الدائم والأبدي للعرب، الغرب المتآمر على الشعوب العربية، المتربص بهم كي ينقض عليهم حين تسنح له الفرصة، الغرب الذي أعاق الإصلاح والنهضة العربية، الغرب الذي يمنع الوحدة والتكامل بين الدول العربية، ويهيمن على مقدراتها.
نعم الغرب الاستعماري هو وحش امبريالي، يسعى لفرض سطوته على العالم والتهام موارد الأمم وإقحام العالم في حروب، ويسعى لإضعافنا ولتذويب الهوية العربية وتغريبها. ولكن ماهي مسؤولية الدول والشعوب العربية تجاه هذا التحدي؟ الإجابة ببساطة أن معظم الأنظمة العربية قد أجادت توظيف خطاب الكراهية ضد الغرب لتبرير إخفاقها وفشلها الذريع المتكرر في تحقيق ما تصبو له الشعوب العربية، من ديمقراطية وعدالة اجتماعية ومساواة وتطور اقتصادي وحياة كريمة. لذلك اعتمد خطاب هذه الأنظمة على الخلط واللبس القصدي، بين الغرب الاستعماري والغرب الحضاري الحداثي المتطور، وعلى إثارة الريبة والشك والبغض تجاه الآخر المتفوق.
خطاب الكراهية هذا نحو الغرب هو الذي حال بين العرب وبين الإفادة من العلم والعلوم الغربية، ومن العوامل التي أدت إلى تقدمه، وأسباب قدرته على تحقيق الإنجازات الحضارية والعلمية والمعرفية والتقنية، وكيف تمكن هذا الغرب من بناء نظام سياسي وإداري وحقوقي ناجح ومتطور. لم يتمكن العرب من الاستفادة من هذا الثراء الغربي كما فعلت شعوب وأمم أخرى عانت أكثر منا من الاستعباد الاستعماري.
إن الدول التي تمكنت من تحقيق استقلالها السياسي من الغرب المستعمر، وتمكنت من التطور وتحقيق التنمية كانت واعية ومدركة أهمية التفريق بين الاستعمار الغربي بوجهه الدميم، وبين الغرب الحداثة والتطور.
لا يمكن للعرب تحقيق تقدم ونهوض وحداثة إلا بالاستفادة من عوامل التقدم الغربي، والتعاطي الإيجابي مع حضارته، ونقل معارفه وعلومه وتقنياته ونظمه وحتى لغته. وعلينا الكف عن النواح واللطم، والانشغال بابتكار مفردات جديدة والتباري بالشعارات المدوية التي تملأ عقول الشباب بالغضب والكراهية ضد كل الغرب دون تمييز. يجب الانطلاق نحو صناعة نماذج عربية للتنمية والتفوق والحداثة، والدخول إلى الأسواق العالمية للمنافسة بصناعات علمية وتقنية، ومنتجات عربية تتجاوز صناعة تغليف التمور.
اليابان التي انهزمت أمام قوات الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 تغلبت على المستعمر بصناعاتها المتطورة حتى باتت تخشاها أمريكا. وهكذا فعلت الهند وكوريا وعدد آخر من الدول، إذ حولت مشاعر الكراهية ضد المستعمر إلى قوة جر هائلة نحو التقدم العلمي والحضاري. بينما ظلت الدول العربية في الخندق الأول يجترون انكسارهم وخيبتهم، ولا يتوقفون عن ترديد "نحن خير أمة أخرجت للناس".
إن امتلاك أسباب الحداثة الحقيقية يستوجب الخروج من حالة الفصام الأيديولوجي في الحالة العربية، التي أسقطت الأمة بين أطراف تتوسل الغرب وتتذيله، وبين أطراف عربية أخرى تلعن الغرب وترفع كفيها للسماء للدعاء عليه وعلى حضارته بالدمار والهلاك.

ما يمكن فعله مع الكراهية
المسؤولية يتقاسمها الجميع، لا أحد بريء هنا وخالٍ من العيوب. الدولة والهيئات والمجتمع ووسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والمؤسسات الدينية والعائلة والأفراد. كل هؤلاء يتحملون واجب التوعية وغرس مفاهيم احترام الآخرين المختلفين، وترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية والحب والتواصل الإيجابي والتعايش.
في القطاع التعليمي تبرز ضرورة تطوير المناهج الدراسية لكافة المراحل وتحديثها، والتوقف عن نمط التعليم الذي يعتمد على التلقين واستبداله بأشكال عصرية تراعي التفكير الحر واستخدام العقل والإصغاء وقبول الرأي الآخر، والحث على التفكير الإبداعي وتشجيع الطلاب على ممارسة النقد البناء، وفتح نوافذ التعدد والتنوع الثقافي أمامهم. كذلك إعادة تأهيل المدرسين والمعلمين وإكسابهم الخبرات والمعارف اللازمة للقيام بواجبهم التعليمي على أفضل وجه.
دور وسائل الإعلام الخطير، كون الكثيرون من الناس يعتمدون في تشكيل فهمهم للعالم ورؤيتهم للأمور، على ما يصلهم من معلومات وبيانات ورؤى عبر الخطابات الإعلامية، وبذلك يكون للإعلام الدور الرئيسي في إحداث الانطباعات وبلورة القناعات وتكوين الوعي المعرفي لدى المتلقي. لذلك لا بد أن يكون هدف الرسائل الإعلامية بث ثقافة التسامح والحوار والتعايش بين جميع مكونات المجتمع، ونبذ الكراهية والعنف والتشدد والعنصرية والإرهاب.
إضافة إلى التوعية، تظهر المساءلة القانونية كضرورة هامة لإغلاق الدائرة على خطاب الكراهية. إن التعريفات المحددة المرتبطة بخطاب الكراهية واعتباره جريمة، ووضع النصوص والمواد الدستورية وتشريع القوانين الملائمة، وتفعليها وتطبيق العقوبات على المخالفين يسهم بصورة فعالة في إيقاف هذا الانحدار الأخلاقي.
دعم وتنشيط وتفعيل منظمات المجتمع المدني والأندية والنقابات والاتحادات والمنظمات الجماهيرية الأخرى، كي تتمكن من القيام بدور توعوي وتنموي وتثقيفي مجتمعي هام، وخاصة في أوساط الشباب واستغلال طاقاتهم الخلاقة المبدعة، وتوظيفها بما يحقق التنمية والتطور والسلام، وتزويدهم بالفكر والمعرفة التي تؤمن بالتعايش والحوار، وترفض التشدد والكراهية.
من المهم تشجيع الباحثين والمؤسسات المعنية بهدف القيام بأبحاث ودراسات اجتماعية وفكرية علمية لرصد أفكار وخطاب وسلوك الكراهية، وتحليل الظاهرة ومقاربتها وإصدار توصيات محددة تتحول إلى خطط عمل، بهدف محاصرة الكراهية والحيلولة دون استفحالها.
مواجهة خطاب الكراهية لا تتوقف عند حدود نقده، بل تتطلب أيضاً صياغة خطاب بديل طافح بالمحبة والتآخي والتضامن. الخطاب الديني خاصة يحتاج إعادة صياغة. والنقد الموجه للخطاب الديني المتشدد ليس حرباً على الدين ذاته ولا على المؤسسة الدينية ورجالها، بل هو نقد للكراهية وللقيم التي يتضمنها، والتحذير من العواقب الكارثية الناتجة عنه. هو نقد للفهم الديني الخاطئ لدي العديد من الناس، ونقد للاجتهاد غير الصائب لدى بعض الأئمة، نقد للتفسير الذي يقوم به بشر قد يصيبون وقد يخطئون، وهؤلاء البشر لديهم رؤيتهم وقناعاتهم ومواقفهم ووجهات نظرهم تجاه العديد من القضايا، وحين يتم نقد خطابهم وتفسيرهم فإنما ننتقدهم وننتقد تفكيرهم ولا ننتقد الدين.

الطوفان العظيم
شحن العقول العربية المتعاقبة بثقافة الكراهية منذ عقود طويلة وبصورة متواترة، أفرز هذا الحال الكارثي في المشهد العربي، وأنجب أجيالاً تؤمن بالفكر المتشدد والسلوك المتطرف. ونشرت ثقافة الموت والتدمير بدلاً عن قيم الحياة والبناء والعطاء. وحولت المنطقة العربية إلى ما يشبه المسلخ الكبير، حيث يتناوب فيه الجزار والضحية الأدوار.

النخبة العربية مطالبة إجراء حوار وطني لهذا الانسداد الأخلاقي في الخطاب السياسي والديني الطائفي العنصري، ووضع استراتيجية شاملة لاستئصال داء الكراهية القميء. الإعلام الذي يروّج للكراهية يقوم بتغذية منابع التطرف والإرهاب، ويخلق الوحوش التي سوف تنهش كبد الأمة. نحتاج إلى ابتكار أساليب للوقاية من هذا الوباء، وترشيد الرسالة الإعلامية، ومراجعة الخطاب الديني، وإلى ملئ الفراغ للشباب، وتصحيح المفاهيم غير الصائبة، واعتماد لغة العقل لا العاطفة، وبناء جسور من الحب والإخاء. بخلاف ذلك سنكون مقبلون على موجات متواترة من الكراهية تؤدي إلى طوفان عظيم لن يسلم منه أحد.


93
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


السطوة الأمريكية على القوة الذكية
عالم للأثرياء

نزعة السيطرة على العالم، والاعتقاد أنهم وحدهم المهيئين لقيادة العالم، كانت وما زالت في العقيدة الأمريكية منذ الاستقلال. ظهرت هذه النزعة بوضوح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة منتصرة، فيما بقية الأطراف إما مهزومة أو منهكة اقتصاديا وعسكرياً واجتماعيا وسياسياً.
هذا الاعتقاد تدعمه القوة، فالولايات المتحدة أول من صنع أسلحة الدمار الشامل، وأول من استخدم السلاح النووي ضد اليابان، وأكثر دولة تمتلك انتشاراً للأساطيل الحربية في البحار والمحيطات، والقواعد العسكرية الثابتة في أرجاء المعمورة. أمريكا تمكنت من إنشاء صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. وأصبح دولارها العملة العالمية، وسيطرت أمريكا على الاقتصاد العالمي. أنشأت الأمم المتحدة مع الحلفاء، وأصبحت المنظمة أداة لتنفيذ السياسات الأمريكية بغطاء قانوني دولي. تغولت أمريكا أكثر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال القطبية الثنائية. أظهرت الولايات المتحدة أنيابها وتصرفت بغطرسة منفرة مع دول العالم. وحاولت أن تفرض على الجميع ثقافتها وأسلوبها. حيث بدأت مرحلة جديدة، انقسم العالم فيها بين رافض للنظام العالمي الجديد وبين مرحب به، ومنهم حاول الاستفادة من آليات العولمة وتقنياتها الحديثة بما تتضمنه من وسائل اتصال ومعلوماتية دون القبول بمضامين العولمة، لكنهم سقطوا في التبعية.
من رفض النظام الجديد رأوا في العولمة استغلالاً اقتصادياً من أمريكا والغرب، كما اعتبروا أنها عولمة علمانية تتنكر للأديان وتهدد الهوية الثقافية للشعوب المستضعفة، وهي أيضاً بمثابة غزو قومي ثقافي اقتصادي. ومن قبل بالعولمة كان من النخب الثقافية التي تأثرت بالأفكار الليبرالية ونمط الحياة الغربي.
لكن كيف تمكنت الولايات المتحدة من فرض رؤيتها على هذا العالم الشاسع؟ ربما علينا أن نعلم ماهي مصادر القوة التي تمتلكها هذه الإمبراطورية، وتمكنها من قيادة الدول الأخرى، والهيمنة على العالم.

قوة أمريكا الاقتصادية
سوف تظل الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأعظم التي تقود العالم خلال الفترة المنظورة القادمة دون منازع. فقد بلغ الناتج المحلي الأمريكي وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي لعام 2018 نحو 20,4 تريليون دولار، وتجاوز حجم اقتصادها 25,1 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي. فيما بلغ الناتج المحلي الصيني نحو 14 تريليون دولار، وبلغت مشاركتها في الاقتصاد العالمي ما نسبته 16,4 في المئة. وجاءت اليابان في المرتبة الثالثة بناتج محلي إجمالي بلغ 5,1 تريليون دولار. ألمانيا في المركز الرابع بناتج محلي بلغ 4,2 تريليون دولار. فيما احتلت بريطانيا الترتيب الخامس بناتج محلي إجمالي بلغ 2,94 تريليون دولار. سادساً حلت فرنسا بناتج بلغ 2,93 تريليون دولار. سابعاً الهند بقيمة 2,85 تريليون دولار. إيطاليا حلت ثامناً بقيمة 2,18 تريليون دولار. البرازيل تاسعاً بقيمة 2,14 تريليون دولار. وعاشراً حلت كندا بقيمة 1,8 تريليون دولار.
تبلغ قيمة إجمالي الاقتصاد العالمي حوالي 79,98 تريليون دولار. تمتلك الولايات المتحدة نحو25,1 في المئة منه، فيما تمتلك الصين نسبة 16,4 في المئة. أي أن أمريكا والصين تمتلكان حوالي 42 في المئة من الاقتصاد العالمي. ويبلغ حجم اقتصاد أكبر عشر دول 73 في المئة من الاقتصاد العالمي، أي حوالي 58,54 تريليون دولار. وأكثر من 150 دولة يبلغ حجم اقتصادها ما نسبته فقط 26,8 في المئة، أي ما قيمته 21,4 تريليون دولار.
بحسب تقارير هيئة الإحصاء الأمريكية فقد بلغ متوسط دخل الفرد في الولايات المتحدة في العام 2018 حوالي 59 ألف دولار سنوياً. بينما ذكر المكتب الوطني للإحصاء في الصين أن دخل الفرد بلغ 4033 دولار سنوياً في العام 2018. وحتى لو أجرينا تعديلاً على القوة الشرائية بين البلدين، ومراعاة التضخم الاقتصادي يظل المتوسط السنوي للأمريكي أعلى من نظيره الصيني بفارق كبير. وتتربع الولايات المتحدة على العرش العالمي بثروة مقدارها 72 تريليون دولار. بينما تمتلك الصين 22 تريليون دولار.
ثم أن الاقتصاد الأمريكي قائم على ريادة الأعمال والابتكار والخلق، وليس اقتصاداً قائماً على الاستنساخ والنقل مثل الاقتصاد الصيني، بينما نلاحظ ابتكارية أقل في الاقتصاد الياباني والأوروبي. وما زالت أمريكا تفرض هيمنتها على ست قطاعات اقتصادية مهمة وهي " الأسلحة، التكنولوجيا، الطاقة، الدواء، الغذاء، النقل". إضافة إلى امتلاكها لعدة علامات تجارية رائدة والمنتشرة حول العالم مثل "كوكاكولا، ما كدونالدز، مايكروسوفت، فيسبوك، غوغل، آبل، جنرال موتورز، شركة بوينغ" وسواها التي تدر عشرات المليارات سنوياً على الاقتصاد الأمريكي. ولا ننسى كون الدولار العملة الأساسية للتجارة العالمية، والعملة الاحتياطية لعدد كبير من الدول.

الهيمنة السياسية
تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية شبكة معقدة جداً ومتشابكة من العلاقات تجعلها ذات هيمنة ونفوذ سياسي في العديد من دول العالم، وهذا السطوة لا تعتمد فقط على القوة العسكرية للولايات المتحدة، بل على مصادر أخرى للقوة مثل وسائل الإعلام التي تمتلكها المؤسسات الأمريكية من صحف وتلفزيون وسينما وانترنت وكتب، وامتلاكها لأشهر الصحف والمجلات العالمية، وألمع الصحفيين والممثلين وأشهر البرامج التلفزيونية والتي يتابعها مئات الملايين في العالم. وتبلغ قيمة صناعة نشر الكتاب في أمريكا حوالي 31 مليار دولار سنوياً، وهي ميزانية دولة بحالها.
للولايات المتحدة نفوذاً مهماً داخل المؤسسات الاقتصادية والسياسية الدولية التي تتحكم بها، ومنها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهما يشكلان أبرز معالم السياسة الاقتصادية العالمية. ثم أن الولايات المتحدة أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، وأهم عضو في حلف الناتو. وتمتلك الأسطول الحربي الأضخم الذي يجول في المحيطات ويصول. كما أنها تمتلك مقدرة عجيبة لخلق تحالفات وتفاهمات سياسية واقتصادية بالترغيب أو الترهيب، ولديها إمكانية النفاذ إلى ميزانيات بعض الدول، من خلال المساعدات المالية، وترتبط بشبكة العديد من منظمات المجتمع المدني المنشرة في العالم. يكفي أن تدخلها في مناطق كثيرة في العالم يواجه بالصمت من قبل الكثير من الدول، واعتراض خجول من قليل الدول، وهذا بحد ذاته مؤشر بليغ على النفوذ الأمريكي.
هذا لا يعني أن الولايات المتحدة تمتلك مقدرة وقوة خرافية لا يمكن مقاومتها، ذلك أن أمريكا تواجه بعض الممانعات والتحديات من قبل الصين وروسيا وبعض الدول في أمريكا اللاتينية، لكنها إشكاليات يمكن لأمريكا السيطرة عليها بأقل قدر من الأضرار.
ثم التفوق الأمريكي الظاهر في التعليم العالي، فهي تمتلك حوالي 30 جامعة من ضمن أفضل 100 جامعة في العالم، وتمتلك 6 جامعات من بين أفضل 10 جامعات عالمية. وتتصدر القائمة في الإنفاق على الأبحاث والتطوير بالنسبة للدخل القومي حيث بلغت النسبة 2.82 في العام 2018 حسب شركة "فيسول كابيتال ليست" بملغ مقداره 563 مليار دولار سنوياً. فيما الصين بالمرتبة الثانية حيث تنفق ما مجموعه 377 مليار دولار سنوياً، وينفق الاتحاد الأوروبي 346 مليار دولار، واليابان 155 مليار دولار، ثم كوريا الجنوبية 74 مليار دولار.
ولا أظن أن على الولايات المتحدة القلق- لغاية الآن- من محاولات الصين المتواصلة الفكاك عن هذه السطوة الأمريكية، على الأقل في قارة آسيا مرحلياً، بهدف تحدي الاقتصاد الأمريكي في المستقبل. لكن من الآن ولفترة غير قصيرة من الزمن ستظل الولايات المتحدة في موقعها كأكبر قوة عسكرية واقتصادية مهيمنة على العالم، رغم صعود قوى أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي، وتصاعد نفوذ إقليمي لروسيا بسبب امتلاكها موارد الطاقة.

أمركة العالم
رغم مرور أكثر من مائة عام على خطاب الرئيس الأمريكي "ودرو ويلسون" الذي ألقاه في العام 1916 بمناسبة بداية ولايته الرئاسية الثانية، حيث ينسب إليه مقولة "أن عَلَمَ أمريكا ليس علَمهَا وحدها، بل هو عَلَم الإنسانية جمعاء" إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق، ولم يصبح علم الولايات المتحدة علماً للإنسانية، بل أصبح علماً للشر وقتل الشعوب والغطرسة ونهب خيرات الدول. صار وجهاً قبيحاً للعنصرية والتمييز لم تنجح أفلام هوليود في تجميله.
العولمة التي حاولت الولايات المتحدة من خلالها أمركة العالم، هي مشروع استعماري تحدثت أدواته مع تطور الرأسمالية وتركز رأس المال المالي، ترافق مع القفزات الهائلة التي حققها العلم في مجال التقنيات ووسائل الاتصال والتواصل التي تسببت في ثورة المعلوماتية. حاولت الولايات المتحدة نشر وتعميم نظامها وثقافتها وأسلوبها على بقية الدول. لكن هل تمتلك أمريكا حقاً نموذجاً مثالياً يقتدى به لبقية الشعوب؟ الجواب قطعاً لا، على الرغم من قوة أمريكا الاقتصادية والعسكرية. فالولايات المتحدة لم تتمكن للآن من تحقيق الوحدة والاندماج بين مكوناتها الداخلية، وتفتقد إلى جبهة داخلية متماسكة حتى لو ظهر للآخرين أن الأمر غير ذلك. فما تزال العنصرية والتمييز ضد السود والأعراق الأخرى تطل برأسها من قبة المواطن الأبيض. وغالبية المواطنين الأمريكيين يريدون انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب بدون المجمع الانتخابي. ثم إن خروج تظاهرات تطالب باستقلال ولاية كاليفورنيا، الولاية الأغنى والأكبر في أمريكا، هو من الأمور التي تعتبر خطوة متقدمة للأطراف التي تطالب بالإصلاح الأمريكي وستنعكس حتماً على النظام السياسي في البلاد. وهناك انقسامات أيديولوجية في الخطاب السياسي الأمريكي حتى داخل الحزب الواحد.
 شكل انتخاب "ترامب" صدمة للعديدين الذين ينظرون له على أنه الرئيس الأمريكي العنصري والمعادي للأديان والأجانب والكاره للنساء، ليضاعف من الإشكاليات الأمريكية الداخلية. وتعتبر مسألة حرية امتلاك المواطنين الأسلحة واحدة من أكثر القضايا التي يختلف حولها الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة الأمريكية الجمهوريين والديمقراطيين، وتستخدم هذه القضية في المزايدات الانتخابية. وبحسب بيانات موقع هيئة الإذاعة البريطانية فقد وقعت في العام 2016 ما مجموعه 14249 جريمة قتل في الولايات المتحدة، من بينها 9675 بواسطة الأسلحة النارية. ناهيك عن مشاكل القطاع الصحي والتعليمي والضريبي.
هيمنة الولايات المتحدة على العالم ما هي إلا فورة في المسار التاريخي للبشرية، فرضتها القوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية لأمريكا، لكن من الواضح أن التاريخ لم ينتهي كما توقع "فوكوياما" ومازال لديه ما يقوله. كما أن الرأسمالية الجديدة بمسميات العولمة وسواها لا تبدو أنها نماذج مؤهلة ليعتنقها الآخرون. إن ممانعة نظام العولمة ورفضه حدث ليس فقط من جانب دول الجنوب الفقير، بل من معظم الدول الغربية الذين أدركوا أن جوهر سياسة العولمة هو تحقيق المصالح الأمريكية، حتى لو تم ذلك على حساب مصالح وحياة مئات الملايين من الشعوب في الشرق والجنوب.

نظام عالمي للأغنياء
العولمة باعتبارها مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية، قد ساهم فيها الألمان واليابانيون بمدخراتهم المالية الهائلة، وشاركت فيها الشركات العملاقة متعددة الجنسية، وإن بدا مركز القرار في الولايات المتحدة.
إن المجتمع الأمريكي قائم على الانتقاء والاختيار ولا يستند على تاريخ وذاكرة حضارية، فالولايات المتحدة مكونة من مهاجرين اختاروا قصدياً أن تكون أمريكا مكاناً للعيش. هذا الوضع الفريد يعبر عن خصوصية أمريكا الذي لا يشعر المواطن فيها بأي تناقض بين الوطنية والقومية ونظام العولمة. بينما العولمة شكلت صدمة حضارية للمجتمعات البشرية التي لها تاريخ وذاكرة يشكلان عناصر مهمة في تكوينها الاجتماعي وهويتها الثقافية. فيما الشعوب الأخرى تشعر أن العولمة تسلبها هويتها، يشعر الأمريكيون أن هويتهم الحضارية تكمن في العولمة وليس في الهوية القومية، باعتبارهم كيانات سياسية مجزأة.
إن مقتل العولمة يكمن تماماً في نقطة قوتها، التي ترتكز على مبدأ إلغاء الحدود وحرية التجارة، وفي سعيها إلى إلغاء الهويات الثقافية للشعوب التي تمتلك تاريخياً ثقافيا حضارياً. فلن تقبل هذه الأمم المفهوم الجديد للهوية التي تحاول العولمة فرضه وتعميمه قسراً.
هذه العولمة بدت للكثيرين كارثة لا تبقي ولا تذر، حتى بالنسبة للغرب الذي رأى فيها هيمنة من جانب واحد، تجد من يتبناها. إن المدافعون عن نظام العولمة غالباً ما يخلطون بين التطورات العلمية في مجال تقنيات الاتصال والتواصل والثورة المعلوماتية وتطور وسائل الإعلام، وبين العولمة بأبعادها وأهدافها.
عندما حاولت دول الجنوب طرح مشروع النظام الإعلامي الجديد في منظمة اليونسكو، بهدف كسر احتكار دول الشمال لوسائل الإعلام، رفض الغرب المشروع، وانسحبت أمريكا من المنظمة ورفضت دفع حصتها المالية السنوية.
فشلت العولمة في ردم الفجوة الاقتصادية والثقافية بين دول الشمال والجنوب، والنتيجة استمرار الهيمنة الغربية وتعرض الهوية القومية للشعوب الأخرى لخطر التذويب.
في الوقت الذي تمتلك فيه الدول الغربية آليات انتشار العولمة فإنها تستثمرها لتحقيق أقصى الأرباح، فيما الدول النامية التي لا تنتمي لعصر التكنولوجيا فإنها تعيش داخل قلاع من الفقر والأمية والجوع والمرض والعنف والتخلف.
هذا الواقع الراهن باعتباره امتداداً لماضي الرأسمالية البغيضة، يدلل على مقدار الشقاء الذي تعيش وسطه البشرية في ظل العولمة الدكتاتورية والهيمنة الأمريكية. عولمة تتيح للشركات العملاقة عابرة القارات وللقوى المهيمنة على هذا العالم، أن تدوس على جماجم الفقراء، وتعبرهم عبئاً سكانياً ثقيلاً. إن الخلل القائم حالياً في التوازن الاقتصادي والاجتماعي والحياتي بين دول الشمال ودول الجنوب والشرق، وبحسب التقارير السنوية الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة، ومنظمات غير حكومية، يشير تماماً وبوضوح إلى حجم البؤس الإنساني.

ماذا عن العرب
في واقع راهن بائس، وصورة شقية عن المستقبل، وبضوء استمرار السطوة الأمريكية عبر العولمة وسواها، والتي تعني ببساطة أمركة وبسط الحلم الأمريكي على العالم، يظهر أن كافة المبررات الأخلاقية التي تسوقها أمريكا والغرب عن حقوق الإنسان والحريات العامة ومبادئ العدالة، ما هي سوى أطماع بثروات الدول الناهضة تختفي بثوب أخلاقي.
ضمن هذا المشهد ماذا بمقدور العرب أن يفعلوا؟ هل يملك العرب أن يرفضوا نظاماً جديداً للعالم يهيمن فيه قطب واحد تدور في فلكه الدول الغربية، ويحققون مصالحهم على حساب الأمم الأخرى؟ وهل تستطيع الدول العربية التملص من سطوة الشركات الضخمة متعددة الجنسيات التي تسعى نحو مراكمة أرباحها من جيوب فقراء الدول النامية؟ وماذا يفعل العرب في نظام يقبل القوي والثري ويقتل الفقير والضعيف؟ وماهي خطط العرب تجاه نظام يستخدم ببراعة فائقة وسائل الاتصال والإعلام والتقنيات الحديثة والبيانات، لشطب الهوية الثقافية والقومية للشعوب، وفرض ثقافة واحدة عليهم؟
من حق العرب الاستفادة من الإنتاج العلمي والحضاري لبقية الأمم والشعوب، كما سبق وأن استفادت أمم أخرى من إنجاز الحضارة العربية سابقاً، وهذا أمر لا جدال فيه. فجميع التقنيات الحديثة هي إنتاج الجهد الإنساني ومن حق البشرية أن تنتفع بها، بما يضمن رفاه واستقرار وأمن المجتمعات.
أن ترتبط بعلاقة مع آليات وأدوات نظام العولمة وتتعامل معها شيء، وأن تقبل مضامين العولمة كأنها قدراً عليك التسليم به شيء آخر تماماً -بظني-. لأن الأول إنتاج فكري وعلمي يسهم في تطور البشرية. أما الثاني هو يقوم على الإلغاء والإقصاء والهيمنة. إنه بمثابة غزو واعتداء امبريالي بوجه معاصر.
ومما لا شك فيه أن الأمة العربية مستهدفة في هويتها واقتصادها وأمنها وتاريخها من قبل النظام الحديث، شأنها في ذلك بقية الأمم النامية. حيث تشير التجربة الاستعمارية التاريخية إلى النتائج الكارثية التي يخلفها إخضاع دول فقيرة من قبل دول عظمى.
هذا النموذج البائس الذي يحاول الغرب فرضه علينا فشل في معالجة مشكلة البطالة وانتشار المخدرات والتلوث البيئي وغيرها في معقل العولمة. نموذج يفرض شمولية كونية وقبعة موحدة، ويحاول توحيد المظهر العالمي، إلا أنه نموذج بائس حضارياً لأنه يعتمد هيمنة القوي على الضعيف، ويلغي الحوار والتواصل الإنساني. ويقدم عالماً ينقسم إلى قسمين، ثري جداً وفقير جداً. يلغي خصوصية الدول والأمم الوطنية والقومية، وتعطيل هوياتها الثقافية، ويحاول أن تسود اللغة الإنجليزية وتتهمش اللغات القومية.

القومية والإنسانية
المفكر البريطاني الأمريكي الذي توفي في العام 2018 عن 102 عاماً "برنارد لويس" وارتبط اسمه بالمصائب التي حلت بعالمنا العربي من الاحتلال الأمريكي للعراق مروراً بالحراك الشعبي العربي الذي ابتدأ ياسميناً وجنح حنظلاً، قال عن الشعوب العربية في كتابه "الإيمان والسلطة" الذي صدر في العام 2012 "إما أن نأتي لهم بالحرية، أو نتركهم يدمروننا" وإليه نسبت الخرائط التي كشفت عنها قبل بضعة أعوام وسائل إعلام غربية تظهر فيها دول كبرى في الشرق الأوسط بما في ذلك دولاً عربية، وقد أصبحت ثلاثين جزءًا.
انحاز لويس لإسرائيل والغرب بحكم تنشئته اليهودية، ودعا دوماً للتدخل الغربي لفرض الحرية والديمقراطية على الشعوب العربية والإسلامية. وكانت أفكاره سنداً نظرياً لتيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. وتعتبر نظرية الفوضى الخلاقة لكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية السابقة أحد تجليات هذا الفكر.
 لويس هذا أول من اشتق مصطلح "الأصولية الإسلامية" وأول من ذكر فكرة "صراع الحضارات" عام 1957 قبل "صامويل هنتنغتون". كما روّج هذا المفكر لانتهاء عصر القوميات، فوضع اللبنة الأساسية في المخطط الغربي لغزو المنطقة العربية وسرقة خيراتها ونهب ثرواتها، ثم تقسيمها إلى دويلات طائفية، باسم الديمقراطية تارة، ومحاربة الإرهاب تارة أخرى.
لكنني أعتقد أن القوميات باقية، وسوف تظل ذات شخصية حية ومكونات واضحة لا تزول. إن الافراد ينتمون لقومياتهم طواعية ومستعدون للتضحية من أجلها. ولا يصح وضع القومية في مواجهة الإنسانية التي وجدت قبل وجود القومية، فالإنسانية تخلص القومية من تعصبها وانعزالها. من المهم لأنصار القومية عدم رفض النظام الجديد بالمطلق، وأظن أن على عاتقهم تهيئة المناخات الفكرية لإطلاق حوارات نظرية وإجراء مقاربات فكرية مع دعاة العولمة في الغرب. إن رفض بعض التيارات السياسية والفكرية للتعامل مع آليات وأدوات النظام الجديد بشكل تام، خاصة من قبل القوى الدينية المتشددة التي تدعي دفاعها عن الخصوصية العربية، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى مزيد من تدهور الوضع العربي، بينما خصوصية الثقافة العربية تعتمد التراث والحداثة، وترفض الانكفاء والتقوقع، كما ترفض الانصهار في بوتقة الحداثة والعولمة.
نحتاج عربياً إلى ثقافة متنورة لا ترفض الحوار والتواصل مع الآخر، ولا تنعزل عن المشهد الفكري ومواجهة الآراء والمواقف المختلفة بحجة التمسك بالهوية. لا يجب نكران أهمية التواصل الحضاري والتفاعل الثقافي مع الغرب. والخشية من استلاب هويتنا لضعف شخصيتنا القومية، لا ينبغي أن يقودنا إلى رفض وإنكار الآخر، بل على العكس يجب أن يحرض مقدراتنا ويجعلنا ندفع لتشكيل تيار يسعى لإعادة رسم استراتيجيات عربية وفق معايير العصر الحديث، لتكون قادرة على مواجهة تغول رأس المال المالي الغربي، وحتى نتمكن من توظيف التقنيات الحديثة في خدمة الإنسان العربي وتطور مجتمعه، وليس العكس.

تقتات بضعف الآخر
الإمبراطورية العظيمة في العصر الحديث، كيف امتلكت كل هذه القوة؟ بالطبع على حساب قوت الشعوب النامية وسرقة ثروتها. تتمحور العقيدة الأمريكية في أحد جوانبها حول أن تكون أمريكا مملكة كونية، مثل كائن حي ينمو باستمرار ولا يموت. يتغذى اقتصادها على اقتصاديات دول العالم النامي وثرواته، ويقوم بالقضاء على أي اقتصاد يعرض المصالح الأمريكية للخطر. مملكة تعتمد الأساليب المخابراتية الأمنية لإرغام الآخرين على فعل ما تريد، تؤمن بالعنف وتغتال الديمقراطية وإرادة الشعوب، تغتال رموز النهضة والتنمية في أي بلد ناهض. تثير النزعات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، تقوم بتدمير الدول التي تحاول بناء اقتصاد قوي بعيد عنها، وتجند وسائل الإعلام لتجميل افعالها الشنيعة وتبريرها. ترعى الانقلابات العسكرية وتؤسس جيوش المرتزقة لإسقاط حكومات.
لعل نظرة سريعة على الدراسات العديدة التي تجريها دورياً مراكز أبحاث غربية حول الحريات وحقوق الإنسان والاستبداد، تؤكد دون أي ريب أننا نعيش في عالم قميء ومرعب، لم تستطيع كافة القفزات العلمية والاكتشافات المهمة والتكنولوجيا الحديثة أن تجمل وجهه الدميم. بل يبدو أن العالم متجه نحو الانقسام إلى طرفين، أحدهما ثري، قوي، معافى، ديمقراطي، ينعم بالعلم والمعرفة. والآخر فقير، معدوم، ضعيف، مريض، مستبد، يغرق بالجهل.
لقد أجرت مؤسسة "بيرتيلسمان" الألمانية دراسة شارك إعدادها 250 خبيراً من جامعات ومراكز بحثية في جميع أنحا العالم. تمت دراسة حالة الديمقراطية والوضع الاقتصادي وأداء مؤسسات الدولة وأجهزتها في 129 دولة نامية في العالم بين الفترة الممتدة من بداية العام 2015 لغاية نهاية العام 2017. أهم ما فيها أن هناك 69 دولة غير ديمقراطية في العالم، ووجود 50 دولة تقيد الحريات السياسية، منهم 49 دولة استبدادية. وكشفت تقرير مجلة "الإيكونوميست" عن مؤشرها السنوي للديمقراطية والاستبداد لعام 2018، ويأتي ترتيب الدول العربية في تصنيف الدول أكثر استبداد رغم ما تردده الأنظمة بأنها تطبق الديمقراطية وأنها دول ترعي حقوق الإنسان وتتبع النظام المؤسسي حيث جاء ترتيب الدول العربية متذيل القائمة العالمية.
وفيما يتعلق بمؤشرات الاستعباد العالمي فإن التقرير المنشور في موقعهم على الانترنت لعام 2017 فإن من بين أكثر 10 دول استعباداً للبشر، توجد 4 دول عربية. وفي تقرير عن مؤشر الديمقراطية في العالم أنجزته مؤسسة "فريدوم هاوس" الأمريكية، فإن من بين أكثر 10 دول قمعاً للحريات في العالم يوجد 5 دول عربية.
خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، تغير وجه العالم كما لم يتغير في ثلاثة قرون. في هذا العالم المتغير المتحول المتغول، متى تفهم رؤوس الأنظمة العربية القائمة أن عليها أن تبدل من أدواتها قبل أن تبتلعهم الموجة الرابعة من الرأسمالية.


94
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


تراجيديا الثقافة العربية ولغز المثقف المزيف

منذ الخليقة برزت متطلبات الفرد واحتياجاته، وتبلورت تدريجياً بتعاقب الحضارات، ثم تعددت واتسعت وتزايدت باضطراد مع نشوء الحياة المدنية، ثم تفرعت هذه الاحتياجات وتشابكت وامتدت إلى كافة القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية، فظهرت المنفعة الشخصية وارتباطها بمصالح العائلة والقبيلة والطائفة والدولة، وأصبحت المصلحة عاملاً جوهرياً في حركة البشر وعلاقاتهم فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم والمؤسسة والسلطة من جهة أخرى.
تطورت هذه البنية تاريخياً واتخذت أبعاداً شاملة، بحيث أصبح الأفراد والجماعات في صراع لتحقيق المكاسب والحفاظ على المصالح، ثم دخلت الدولة كمؤسسة طرفاً في الصراع مع الدول الأخرى لصيانة حقوق أفراد المجتمع. وظهر داخل هذه المؤسسة الجمعية صراعاً خفياً بداية يهدف إلى تحقيق مصالح خاصة وليست عامة، ما لبثت أن برزت هذه الصراعات للعلن حين تطور المجتمع وبدأ بعملية الإنتاج التي أوجدت ثروات مالية في المجتمع، مما أثار لعاب مجموعة من الأفراد الذين تتفوق لديهم مصالحهم الشخصية والأنانية وحب الذات على القيم الأخلاقية، وبات هؤلاء الناس يشكلون مرضاً اجتماعياً وسياسياً خطيراً على المجتمع والدولة.
إنهم الانتهازيون الوصوليون الكسبة الذين حولوا بمكرهم وجشعهم الذي لا يتوقف، المجتمع وهيئاته إلى مصدر نفعي مصلحي، يتغولون إن لم تردعهم الضوابط الأخلاقية والدينية والقانونية. الانتهازية ظاهرة خطيرة في المجتمعات، تقوض تماسك الناس، وتجعلهم يفقدون القدرة على التمييز بين الحقيقة والأصيل، والزيف والخداع والادعاء، وتؤدي الانتهازية إلى تمييع المعايير وتغييب الضوابط وتسطيح المعايير، مما يجعل المجتمعات تنزلق إلى قاع لا أخلاقي.

الانتهازية مصطلح ومعنى
في قواميس اللغة فإن الشخص الانتهازي هو من يقوم باقتناص الفرص، ويستغل أي وسيلة لتحقيق المنفعة الشخصية، ويقوم باستغلال كل ظروف ممكن بطريقة غير أخلاقية لجلب المصلحة الخاصة. الانتهاز هو الاغتنام والمبادرة إلى اقتناص الفرص لجني العوائد الشخصية.
في المصطلح السياسي، الانتهازية هي السلوك الواعي الأناني الذي يهدف تحقيق المصالح، وعدم الالتفات إلى المبادئ والعواقب التي ستعود على الآخرين. إن الأفعال الانتهازية هي تصرفات نفعية بدوافع المصلحة الذاتية.
في البعد الاجتماعي فالانتهازية كظاهرة تعني أن يقدم الفرد على مواقف وتصرفات اجتماعية أو فكرية أو سياسية غير مقتنع بها، بهدف الحصول على المكاسب أو الحفاظ على مصالح محددة ذات طبيعة شخصية أو عائلية.
الانتهازيون أولئك الأفراد الذين يكونون عادة قرب أصحاب النفوذ والشهرة والسلطة والمال، يتسلقون رقاب العباد كي ينالوا ما يصبون له. عادة هم خبراء في فنون الرياء والمداهنة والتملق، لا مبدأ لهم ولا عقيدة ولا أفكار ينحازون لها، كل ما يسعون إليه هو توظيف كل ما يمكنهم لتحقيق المكاسب الشخصية بأقل الجهود والتكاليف، وما إن تتحقق مصالحهم حتى يختفون وسط الازدحام، ويبحثون عن منافع أخرى في أماكن أخرى.
تجد الانتهازيون في كل مكان، ينتشرون ويتكاثرون كالفطر السام ينتهكون القيم الاجتماعية والأخلاق الإنسانية. إنهم وباء معدي قد ينتقل للآخرين بالمخالطة، حيث إن الانتهازية تفتك بالثقة الفطرية بين أفراد المجتمع، وتجعل الناس في حالة من الحذر والتشكيك الدائمين في نية الآخرين. في القديم كانت العلاقات الإنسانية بين البشر تدوم حتى يواري الصديق صديقه التراب ويبكيه، فيما أضحينا أشباه بشر تزدحم فينا العربة، ويبدأ سفرنا بإلقاء التحية والسلام ثم التملق فالرياء ثم المغادرة بلا وداع.
الإنسان الانتهازي ذكي وحاذق يتقن التلون والخداع، يتخلى عن مواقفه بسرعة في سبيل المصلحة، فهو إنسان متعدد المواقف والأفكار، يتنكر لماضيه ولحاضره، وان اضطر حتى ينكر نفسه ليتمكن من الوصول لمبتغاه، بالرغم من ذلك هو إنسان شقي وتائه ويؤمن بالميكافيلية التي تبرر الوسائل للوصول إلى الغايات.
الفرد الانتهازي هو من يسقط في قاع الأنانية حتى ينسى أخلاقه وإنسانيته، فلا يدع فرصة إلا والتقطها بحذق واستخدمها ووظفها بمكر مستعملاً كافة مهاراته الدنيئة، لإشباع غروره ونزواته وأطماعه. الانتهازي شخص يتميز بالغدر والخيانة والتقلب وعدم الثبات، منافق كاذب أفّاك دجّال.

انتهاز الفرص والانتهازية
إقدام الإنسان على انتهاز الفرص ليس رذيلة بحد ذاته، إن كانت الغاية الوصول إلى منفعة شخصية أو عامة، بشرط ألا تكون على حساب استغلال الآخرين أو استغفالهم، ودون أن تتسبب بأية مضرة لهم، والأهم أن تتحقق المصلحة دون تنازل عن القيم والأخلاق، ودون الإساءة للمجتمع، وبدون خرق القانون العام. إن اصطياد الفرص حق لجميع الأفراد، على أن يراعي التنافس الشريف بين البشر، من غير اللجوء إلى الاحتيال والخداع، وكافة أشكال المكر والإضرار بالآخرين.
لكن الانتهازية هي صفة مذمومة ونقيصة أخلاقية ومفسدة اجتماعية. إن الإنسان الانتهازي هو ذاك الشخص الذي يتحرك ويضع الخطط في العتمة، خشية أن يلاحظه الآخرون ويكتشفون تصرفاته الدنيئة وعيوبه وغاياته القبيحة، فهو يرمي رماحه من خلف السور ويختفي بسبب طبعه الجبان، لتصيب رماح غدره الأبرياء. الانتهازي فرد لديه شعور بالنقص والدونية، فاشل لم يعرف النجاح يوماً، محبط لا يمتلك مقدرة المضي، ليس لديه كفاءة تمكنه من تحقيق غاياته بطرق اعتيادية شريفة، لذلك هو يتبع أساليب الطعن والحقد والذم والتعريض، يسلك درب النقاصة لإشباع طمعه ورغباته وجشعه، يستخدم المكر والخداع والدهاء وسيلة كي يصل إلى أهدافه، يرتدي ثوب الطيبة والعفة، ويُظهر الترفع والنزاهة، ويلجأ إلى التملق والتزلف والرياء كي يحصل على مراده، يحيك الدسائس بدهاء للانقضاض، وبمجرد تمكنه من تحقيق مصالحه، يرمي ثوب الشرف ويتحول إلى وحشٍ وغد يطعن وينهش دون رأفة.
الانتهازية آفة اجتماعية ووباء إنساني وداء عضال ينتشر مثل بقعة الزيت، ينمو ويتسع ويتعذر اجتثاثه إن وجد بيئة تحتضنه وتبرره، ثم يتضخم هذا الداء ليبدأ النهش والنخر في مفاصل المجتمع، ولا يتوقف حتى يحطم وثاق القيم والأخلاق للأفراد، ويهتك بنية وتماسك المجتمع، مما يسهل خرابه ودماره.

الانتهازية السياسية
على الدوام شكلت العلاقة مع السلطة السياسية إبحار في ثقافة جلب المنفعة لأصحابها، من نفوذ أو جاه أو مال أو منصب أو رفاهية، مما يحدث مناخاً لنمو الانتهازية التي تفتك بالمجتمعات. وإذ كان النفوذ في معظم البلاد العربية هو نفوذ الأجهزة الأمنية وأدواتها، فإن أي ارتباط بها من أي نوع ما هو إلا عمالة مدفوعة الأجر، غايتها ترميم وتجميل وجه السلطة القبيح.
المثقفين يستمدون سطوتهم من الفكر والأيديولوجيا والثقافة، والمثقفين اليساريين تحديداً، لم يعرف عنهم يوماً سعيهم خلف إغراء المال، فهم أصحاب مبادئ سامية وأهداف كبرى وقيم إنسانية، فهذه كانت ضريبة الثقافة الملتزمة بقضايا الإنسان والعدالة الاجتماعية والحريات، وابتعد هؤلاء اليساريون المثقفون فيما مضى عن كل رفاهية قد تفسد انتمائهم، لكن القيم والمبادئ لا تطعم خبزاً ولا تكسي ثوباً.
فكيف تقاطعت مواقف المثقفين اليساريين الليبراليين مع أشباه المثقفين والمشتغلين بالحقل الثقافي في الكثير من الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين؟ كيف تحالف المثقف الحداثي مع المثقف الرجعي؟ وتحالف المبدئي مع الوصولي؟
إذا كان أشباه المثقفين الانتهازيين يسعون خلف المكاسب والمنافع، فما هي الأسباب التي تدفع المثقفين الذين ادعوا انحيازهم للحق وللجماهير طوال العقود المنصرمة، لكي تلتقي مواقفهم مع أجراء الثقافة الذي يشكلون بطانة السلطة العربية؟
هل هو صراع الأيديولوجيات الذي تسبب في تحالف المثقفين الثوريين العلمانيين، مع المثقفين الانتهازيين المتلونين، وبالتالي توحّد الطرفين في جبهة واحدة لمحاربة الفكر الديني، ودعم الأنظمة التي تواجه هذا الفكر بأساليب أكثر وحشية، من تلك التي يقدم عليها من يدعي أنه يخوض معركته ضدهم وضد أفكارهم الظلامية، لكن هذه الأنظمة وفي سياق هذه "الحرب" استقطبت معظم المثقفين اليساريين والليبراليين والقوميين الفاشلين الانتهازيين، الذين تنكروا لماضيهم ولمصالح الجماهير، وأنكروا الشعارات التي رفعوها والأهداف التي كانوا يناضلون لتحقيقها.

 لغز المثقف العربي
أظهرت الألفية الثالثة أن معظم المثقفين المناضلين العرب الذين غصت بهم شوارع المدن العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهم يهتفون بشعارات العدل والحرية والمساواة، وضد الرجعيات والديكتاتوريات العربية، ليسوا أفضل حالاً من أولئك الذين يمتهنون الأديان ويتاجرون بعذابات الناس، فالثقافة عند بعض اليساريين والقوميين والليبراليين مهنة للترزق وكسب العيش، فهم لا يتورعون عن عرض مواقفهم وأفكارهم سلعاً في الأسواق الإعلامية، ولا يترددون في انخراطهم بالتجاذبات السياسية والطائفية والمذهبية والإقليمية، لمصلحة من يملأ جيوبهم بالمال ويضاعف رصيدهم في البنوك، وهم يعلمون علم اليقين أنهم بفعلهم هذا يساندون القوى التي خرجت من التاريخ، ويقفون في وجه المظلوم والمعتدى عليه والمقهور، إلى جانب الأنظمة الفاسدة والمستبدة.
أثبتت المتغيرات الدولية والإقليمية أن غالبية المثقفين العرب لا يمتلكون وعياً تاريخياً، يمكنهم من قراءة الراهن العربي، وإجراء مقاربات علمية تحليلية تستنهض المقدرات الكامنة التي من شأنها أن تكون مبشرة، في حال توظيفها لترميم الخراب وإعادة الانخراط بالإصلاح البنيوي العربي.
 في هذا الشقاء انقسم المثقفين بين من انتقل من جادة اليسار الثوري إلى اليمين الرجعي، فهو الانتهازي الوصولي الذي وضع مصالحه الذاتية فوق مصالح الجماهير. ومن آثر الصمت والانكفاء نتيجة الشعور بالعجز والاغتراب، وهو فعل مدان في التحولات الكبرى وجريرة لن يغفرها التاريخ. والقلة اليسيرة من المثقفين اختارت مقاومة الشقاء والتخلف، ومواجهة بعض الأنظمة التي تسببت بفعل سياساتها، في كل هذه الانهيارات التي يلاحظها المراقب في كل مفصل من جسد العالم العربي.
لم يعد من مهام المثقفين العرب خض جذع المجتمعات، وتحريك المفاصل المتكلسة، عبر أفكارهم التنويرية، ولا من مهامهم الآن الالتحام مع القضايا المطلبية للفقراء، والأهداف المصيرية للناس، ولا الدفاع عن المضطهدين والمظلومين، عبر إعلان المواقف والنضال لتحقيقها، ولم تعد تعني كثيراً المثقفين اليساريين قضية مواجهة الرجعيات والديكتاتوريات في العالم العربي، ولا التصدي للاستبداد الذي تتخذه معظم الأنظمة العربية سياسية معتمدة في علاقتها مع المواطنين.
لقد ولّى الزمن الذي كان فيه المثقفين المناضلين العرب يشكلون الضمير الحي اليقظ، الذي يعكس واقع وهوية المجتمعات، حين لم يكن المثقفين فيه يخشون من الاصطدام بالسلطتين السياسية والدينية، وبكل من يكرس ثقافة التجهيل. عصر مضى كان فيه المثقفين ينحتون الحجر بهدف تطوير المجتمعات العربية وترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله، والقضاء على النظام الأبوي ومجتمع القبيلة والطائفة، وترسيخ قيم ومفاهيم الحداثة، وبناء دولة المؤسسات والمواطنة.
أضحى الكثير من المثقفين العرب اليساريين شركاء لبعض الأنظمة العربية في محاربة الأفكار التنويرية الليبرالية، وشركاء في فرض سيطرة السلطات السياسية على الناس، وشركاء في تطويع وتليين الأفراد وقيادتهم وتوجيههم مثل القطعان الأنيسة، وهو ما يعزز الاستبداد الذي تشهره تلك الأنظمة، مما يطيل عمرها وعمره.

الانتهازي المثقف
عادة ما يكون المثقفين الانتهازيين أناساً على قدر من الذكاء، يتميزون بمرونة مطواعة فريدة. براغماتيين لا وجود للمبادئ في حساباتهم. يلعبون في الساحة الثقافية والسياسية بمهارة وحرفة. لا يصعب عليهم تقمص أي دور. يتلونون ويتقلبون في المواقف والرؤى والاصطفافات والمذاهب والأيديولوجيات. يمتطون أقلامهم للوصول إلى المكاسب الشخصية. يوظفون أفكارهم وثقافتهم ومهاراتهم اللغوية في مخاطبة الجماهير، وإثارة مشاعرهم وحماسهم وتوجيههم لغايات محددة.
المثقفون الانتهازيون يخططون ويتحركون وفق رؤية واضحة الملامح، استناداً إلى أيديولوجية محددة، وبالطبع هم أكثر فئة لديها إمكانية تزييف الوقائع وتزوير الحقائق، ودورهم جداً خطير من خلال خداع الناس وتضليل المؤسسة السياسية، لأنهم يفترون على الحقيقة ويشوشون الواقع، ويخلطون الحقيقة مع الوهم لأجل المصالح الشخصية.
يعبثون بمصالح المجتمع والوطن في سبيل المنفعة الذاتية. لأجل ذلك لا يتورعون عن التقلب، فمرة نراهم يساريين ومرة يمينيين، مرة ليبراليين ومرة سلفيين، مرة واقعيين وأخرى مثاليين، المهم هو تحقيق الفائدة. هم مجردون من أية مبادئ أو عقائد أو أفكار أو مذاهب أو أخلاق، يتصفون بالغدر والخيانة، وسرعان ما ينقلبون على فريقهم إن انتهت مصلحتهم. ولا تتفاجأ إن أخبرتك أن الانتهازيون -خاصة المثقفون منهم- غالباُ ما يكونون شخصيات مرموقة ذائعة الصيت، بعضهم يمتلك سلطة ونفوذاً تجعل الآخرين يتقربون منهم ويتملقون، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج الانتهازية مرة أخرى.

المثقف الجوكر
إن مواقف معظم المثقفين العرب صعدت وهبطت وتبدلت يميناً ويساراً عبر العقود الماضية، فنجد بعض المثقفين من دعموا هذا الزعيم أو ذاك وساندوه ومدحوه، ثم قاموا بالهجوم عليه في فترة مختلفة، ومنهم من تبنى الأيديولوجية الدينية أو اليسارية ثم انقلب عليها، وآخرون كانوا من أشد دعاة التنوير والديمقراطية والدفاع عن حقوق البشر، فأصبحوا يدافعون عن الديكتاتوريات العربية ويبررون استبدادها.
إنهم المثقفون الذين يؤدون دور "الجوكر" المشهور في لعبة الورق، فهو يصلح لكل الأوضاع ويتكيف مع الظروف، وهذا حال بعض المثقفين العرب الزئبقيين الحربائيين، الذين يمتلكون المقدرة على لعب دور الجوكر في الحياة السياسية والثقافية، وينتقلون بين مذهب وآخر، بين أيديولوجيا وأخرى، بين فلسفة وفلسفة، بين موقف ونقيضه. تراه مرة تقدمياً ومرة أخرى رجعياً. يدافع مرة عن مصالح الناس، ومرة يجّمل وجه الأنظمة. اللافت أن تحول المثقفين غالباً يحصل من أصحاب الأفكار اليسارية الليبرالية نحو الأفكار اليمينية المحافظة، ولم نشهد إلا نادراً تحول مثقف يميني نحو اليسار. هم هكذا لا أصالة لهم ولا يقفون على أرض صلبة، يتحولون ويدورون كيفما دارت الريح.
غالباً يكون المثقف الجوكر يعاني من عقد متعددة مركبة، يعمل على اصطناع الرصانة والشرف، وحين يشعر بالعجز الذاتي وفقدان الحيلة والمبرر، أو إن فقد جدوى الأسلوب، تراه يستخرج كل عقده وينقلب على الآخرين، يرميهم بالشتائم بصورة هستيرية، تصل نوبة الغضب لديه إلى ذروتها فيكيل السباب للأشخاص والمجتمع ويتوعدهم بالويل.
ولأن المثقف الانتهازي لا مبدأ له ولا معيار، لذلك يلجأ دوماً إلى نشر الثقافة التبريرية في الوسط الذي يعمل ويتحرك فيه، حتى يتاح له تبرير وتفسير سلوكه الوصولي.
إن كان الفرد الانتهازي عبارة عن إمّعة خاوية بعقل فارغ، همه إشباع غرائزه على حساب الرأي والفكر والموقف، لا يرى في أي مشهد سوى مصالحه، ولا يرضى عن تحقيقها بديلاً. إلا أن الأمر يصبح خطراً إن كان الانتهازي سياسياً، ومأساوياً إن كان مثقفاً، وكارثة إن كان رجل دين، حيث تصبح الانتهازية تدريجياً مكوناً ليس غريباً عن ثقافة المجتمع.
المثقفون الانتهازيون كانوا دوماً السبب خلف الانتكاسات التي أصابت الثقافة والمشهد الثقافي العربي، وهم أبطال الخراب الذي طال المجتمعات العربية، وشركاء في الهزائم التي منيت بها الأمة العربية، لأنهم لم يكونوا يوماً ينتمون للشعب، بل عملوا على تفتيت مواقف الناس وتمييعها ونشر البلبلة والتبرير، وخداع الجماهير وخيانة مصالحهم وحقوقهم، وتضييع الأهداف وخلط الأصلي بالمزيف، وتزوير الواقع وممارسة الكذب والنفاق، في مجتمعات عربية ما زالت تتفشى فيها الأمية والجهل، ويختلط على عامة الناس المقياس والمعيار.
الفاجعة حين ترى الكثير من المثقفين الانتهازيين وهم يدعون الوطنية والانتماء، ويتبجحون بالشعارات القومية ومصالح الأمة، ويتظاهرون بالوقار والحصافة والرأي السديد، ويبدون الحرص على مصالح الوطن والدولة والشعب، فيما هم أصحاب قلوب خاوية وعقول بائرة، منحرفين سريعي الانزلاق، يرمون بكل شيء في مقابل تحقيق مصالحهم. والأمر المثير أن يصل العبث درجة تدفع ببعض هؤلاء المرضى إلى كيل الاتهامات للمثقف النزيه الشريف صاحب المبادئ، وذلك بغية إحداث أجواء مائعة غائمة، وتعكير نقاء الماء ليتمكنوا من التمويه والتخفي في وسط غير واضح، ومن ثم التصيد لاقتناص المنفعة.
من سمات المثقف الجوكر الكذب ثم الكذب، على نفسه وعلى المجتمع، بحيث لم يعد يعرف سواه. وكلكم تعلمون أن الكذب رأس الخطايا وبدايتها، لذلك فإن جميع المظاهر المقيتة التي يُظهرها المثقف الانتهازي بصفة عامة إنما هي بسبب كذبه ونفاقه وغدره الذي يعتبره ذكاء وفطنة ونباهة منه، فيما هو إنسان يقوم بوضع المفاهيم الأخلاقية والقيم الإنسانية رأساً على عقب، حيث يصبح الحق باطلاً والزيف فخراً، وهنا يكمن جوهر الخطر الحقيقي لهؤلاء.

الشرق المفجوع
هناك مثل غربي يقول "من لا يكون ليبرالياً في العشرينيات من عمره يكون بلا قلب، والذي لا يصبح محافظاً في الأربعينيات يكون بلا عقل". إن الاستنتاج المصلحي من فحوى هذا المثال لا يحتاج إلى كثير من التفسير، فهو يشير إلى أن الإنسان يكون مقداماً مندفعاً صاحب مبادئ ومواقف كبرى وأحلام شاسعة، لكن إن ظل يتمسك بالأفكار الكبرى واندفاع الشباب، يكون عديم الحكمة.
هذا في الغرب حيث المجتمعات حققت الكثير في طريق الديمقراطية، ماذا عن الشرق المفجوع بالقهر والاستبداد، حين يتعمد بعض المثقفين أن يلجأ لصياغة مواقفه بلغة مواربة تحتمل التأويل والتفسير على أكثر من معنى، وبذلك يتمكنون من التملص إن تم إخضاعهم لمحاسبة أو مسائلة، أو توظيف المعنى لمصلحة تحقيق مآرب محددة، ذلك لأنهم لا يستطيعون التصريح تماماُ بأفكارهم كما هي، لأن الضوابط التي حددتها السلطة السياسية أو الدينية أو المجتمعية لا تتيح للمثقفين حرية أن يقولوا ما يؤمنون به ويكتبون ما يعتقدون. الأمر السيء هنا أنه قد تنشأ نتيجة هذه الأوضاع، شريحة من الانتهازيين تقدم على هذا الخطاب غير الواضح، وبالتالي تسهم في خلق حالة من عدم احترام الفكر لذاته، وأجواء ثقافية غير صحية تعزز الرأي الواحد وتقمع الموقف المستقل.
لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين مراجعات فكرية هامة لعدد من المفكرين العرب، الذين أجروا مقاربات ومراجعات تناولت مفهوم المثقف ونقده وأصالة دوره، وأهم هؤلاء المفكرين "إدوارد سعيد، عبد الرحمن منيف، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز، علي أومليل". وبالرغم من إيماني بأن عصر المثقف الأسطورة، المثقف الخارق القائد قد ولى بغير عودة، إلا أن الموضوعية في مقاربة الانتهازية الثقافية والأمانة المهنية، تفرض الذكر أن هناك القلة القليلة من المثقفين والمفكرين والنقّاد، الصابرين الأوفياء لأنفسهم وأوطانهم، المثقفين الملتصقين بالجماهير والمدافعين عن مصالحهم وحقوقهم، وما زالوا ملتزمين بقضايا الأمة وأهمها القضية الفلسطينية، وهم يستحقون منا كل احترام وتقدير.
ومن أبرز مهام هؤلاء المثقفين الملتزمين التصدي للمثقفين المزيفين، والتنبيه للمخاطر المترتبة عن أفعالهم التي تهدد بتفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للأمة العربية. وبظني أن المثقف الحقيقي مطالب بالوضوح والشفافية في أفكاره ومواقفه وانحيازه، ورفض المواقف الملتبسة والتعابير الملتوية.

ماذا نحتاج
منذ القدم كان المثقف صوت المجتمع الصادق وضميره اليقظ، والكثيرون منهم سددوا أثماناً فادحة لمواقفهم بدءاً من سقراط الذي أعدم بسبب أفكاره، عبوراً بقتل الشاعر الشهير الضرير "بشار بن برد العقيلي" بيتين من الشعر، وسواهم المئات من المثقفين عبر العصور بسبب انشغالهم في قضايا واقعهم.
مثلما أسهم المثقفين التنويريين الغربيين في نهضة أوروبا، وكما فعل روّاد عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر بمقاربات التجديد الديني، فإن الراهن العربي بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، يفرض تحديات جسيمة، وأسئلة مركبة كبيرة ومعقدة، تتطلب مقاربات وإجابات علمية من عقول متخصصة ومتسلحة بالمعرفة والوعي والبحث العلمي، وهذا دور ومهمة المفكرين والمثقفين العرب الأصليين.


















95
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

الإمبريالية الجديدة.. ما بعد العولمة ما بعد الحداثة


تتردد كثيراً في السنوات الأخيرة على لسان بعض المفكرين الغربيين، مصطلحات "ما بعد" ما بعد الرأسمالية، ما بعد الاستعمار، ما بعد الامبريالية، ما بعد العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد التاريخ. إن العولمة التي سعت من خلالها مراكز رؤوس الأموال الضخمة والشركات العملاقة، أن تجعل العالم أمريكياً، بحسب ما قال مرة الرئيس الأمريكي الشهير "فرانكلين روزفلت" الذي وصل إلى البيت الأبيض العام 1933 ومكث فيه 12 عاماً، في أصعب مرحلة واجهتها الولايات المتحدة، حيث شهدت الكساد الاقتصادي العظيم حينها، قبل أن يتمكن روزفلت من إحداث الإصلاحات الاقتصادية الكبيرة، هذا الرجل قال ذات مرة إن قدر العالم في النهاية هو أن يتأمرك.
السؤال الكبير: هل تمكنت العولمة من حذف الحدود والهويات وبناء عالم بلا جدران؟ الإجابة بظني نجدها في الارتدادات على ثقافة العولمة، من خلال عودة الشعوب في كثير من الأماكن، إلى جذورها القومية للدفاع عن مصالحها، فانفجرت الصراعات الإثنية والقومية والمذهبية والطائفية، التي أصبحت سمة العصر.
إذن حين يتحدثون عن مرحلة ما بعد العولمة، فهذا لا يعني أن العولمة كنظام عالمي قد أكملت وظيفتها وتطورت، بل على العكس إن ما يجري في العالم يؤكد أن العولمة شأنها شأن كافة مراحل الرأسمالية، ما هي إلا وسيلة لسرقة خيرات الدول النامية، حتى لو اضطر الغرب إلى استعمال القوة المفرطة، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان حيناً، وصيانة حقوق الأقليات حيناً، أو الدفاع عن الحلفاء ومحاربة الإرهاب أحياناً أخرى.

بذرة الرأسمالية
في الحقبة التاريخية الممتدة ما بين انهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس، وحتى القرن السادس عشر، كان الإقطاع يفرض سيطرته على ما يقارب من 95 في المئة من الأراضي في أوروبا والصين واليابان والهند. إن الرأسمالية نمت في أحشاء الإقطاع بوقت مبكر من ظهورها، حيث يذكر التاريخ انتفاضات متعددة قام بها المزارعين والعبيد ضد الإقطاع. كما يمكن آنذاك ملاحظة نشوء مراكز الإنتاج اليدوي في المدن الإقطاعية مترامية الأطراف، وكانت تضم جمعيات الحرفيين من نسّاجين وحدادين وصناع الأحذية والسيوف وسواهم، مما كان سبباً من أسباب تطور الرأسمالية لاحقاً. ترافق ذلك النشاط مع نمو مضطرد في عدد التجار واتساع رقعة تجارتهم وتنوعها.
الجشع وحب المال والرغبة في مراكمة الثروات، دفع التجار إلى بناء مدن قريبة من وسائل النقل النهرية والبحرية، مما أسهم في اتساع الأسواق الوطنية ثم العالمية، وفي زيادة الإنتاج، ونشوء شريحة من التجار الأثرياء الرأسماليين، وتراكم رأس المال بين أيدي هؤلاء أضعف الإقطاع، ولذلك كان الانتقال من شكل الإنتاج الإقطاعي مثيراً، حيث أصبح المنتج هو التاجر الرأسمالي، وانتقل الحرفيين تدريجياً إلى شريحة الأثرياء، مما أدى إلى توسيع وزيادة الإنتاج، وقاموا بتوظيف أموالهم لمضاعفة الأرباح، وبذلك يكون كبار التجار قد دفعوا مسيرة الاتجاه الرأسمالي خطوات للأمام نحو التشكل.
لأن النظام الإقطاعي كان يدافع عن بقاءه واستمراره ضد التطورات التي تحصل، كان للتاريخ رأي مختلف، حيث قامت الثورات البرجوازية ضد النظام الإقطاعي الذي كان يعيق نموها وتطورها، فأصحاب الرأسمال لم يستسلموا للقيود التي كانت الإقطاعية تفرضها على الأسواق المحلية، لأن التجار كانوا يتطلعون إلى الأسواق الخارجية. فتمت تصفية الإقطاع عبر ثورات رغم مقاومته العنيدة.
وهنا نشأ النظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والأرض. فمنذ نشأتها كنظام عالمي، والرأسمالية تسعى لأن تُخضع الكون لمتطلبات نموها، فعمدت إلى تكييف واقع الدول النامية كي تتلاءم مع شروط حركة الرأسمالية المتغيرة، وأزماتها المختلفة، بما يضمن استمراها وتضخمها. وبدأت مرحلة جديدة من الاستغلال ضحيتها هذه المرة الطبقة العاملة التي توسعت نتيجة الهجرة من الريف للمدينة، بعد أن فقد المزارعين الصغار مصدر رزقهم، فتحولوا إلى عمال في مصانع المدينة، حيث يراكم الصناعيين رأس المال، نتيجة الاستغلال البشع الذي يتعرض له العمال. الرأسمالية نفسها التي أوجدت الطبقة العاملة وجعلتها حطباً للموقد، جلبت الطبقة التي ستثور عليها لاحقاً مطالبة بحقوقها الاقتصادية والسياسية.

قبل الثورة الصناعية
شهدت فترة نهاية القرن الخامس عشر اكتشافات جغرافية يسّرت تشكل سوق عالمية، وأسهمت في نشوء الرأسمالية فيما بعد، فقد تمكن عدد من البحارة مثل "كولومبوس، كريستوفر، فاسكودي جاما" من الوصول إلى الهند، واكتشاف العالم الجديد الذي سمي القارة الأمريكية. وكان التجار الإسبان والبرتغال، الذين عانوا من الهيمنة والسيطرة التجارية التي كانت تفرضها الإمبراطورية العثمانية، قد مولوا الرحلات التي قام بها البحارة وأدت إلى هذه الاكتشافات، ثم اندفع التجار عبر أساطيل لا تتوقف إلى عرض البحار والمحيطات، وتمكن الأوروبيين من نهب خيرات المناطق المكتشفة من الذهب والفضة، وأقاموا فيها محطات تجارية، واستطاع المستوطنين البيض من فرض سيطرتهم على تلك البقاع الجغرافية بواسطة القوة والقمع للسكان المحليين، وعبر عمليات القرصنة وقتل الناس.
هكذا بدأ رأس المال التجاري الأوروبي بالسيطرة على أسواق العالم ابتداء من القرن السادس عشر الذي شهد ولادة نظام جديد في الإمبراطورية البريطانية، حيث تم تأسيس مشاريع ضخمة مثل "شركة الهند الشرقية، شركة هدسون باي، شركة البحر الجنوبي، بنك إنجلترا" وتم إنشاء العديد من الشركات المساهمة، وكان للتجار حصة مالية في الشركات الجديدة، وهكذا كانت الحركة التجارية البريطانية وانفتاحها على الأسواق الجديدة بمثابة المقدمة لظهور طبقة الرأسماليين التجاريين.
واستطاعت هذه الشركات الاحتكارية تكديس الأرباح الضخمة من خلال تجارتها، وما كونته من مراكز تجارية لم تستثني شيء من نشاطها، فعمدت على سرقة خيرات تلك البلدان، وتاجرت حتى بالبشر، الذين كان يتم اصطيادهم من أفريقيا وبيعهم لأصحاب مزارع السكر والتبغ في شمال وجنوب أمريكا وفي أوروبا. أرست تلك الشركات نمط الإنتاج الكولونيالي الذي حقق فوائض مالية للقارة الأوروبية. هذه العائدات المالية الضخمة تحققت عبر إسالة الدم والسرقة والنخاسة والخداع الذي مارسته الرأسمالية التجارية على الشعوب.

بعد الثورة الصناعية
ظهور الآلات، واختراع آلة الغزل، والتطور الهام في صناعة الأقمشة الذي ساهم فيه الإنجليزي "إدموند كارترايت" باختراعه للآلة الكهربائية لصناعة الخيوط. ثم تطورت صناعة الحديد، وتم في بداية القرن الثامن عشر البدء باستخراج المعادن بواسطة فحم الكوك بدلاً من الفحم النباتي الذي كان مستخدماً من قبل، وفي خمسينيات القرن التاسع عشر تم تطوير صناعة الصلب الذي أصبح في جوهر كافة الصناعات والأدوات والسفن والمباني. كذلك ساهم اختراع المحرك البخاري وتطويره في سبعينيات القرن الثامن عشر في اكتمال دائرة الثورة الصناعية.
الثورة الصناعية والتطور الكبير في المكننة أسهما في النمو الهائل الذي تحقق في الإنتاج الصناعي، فبدأ البحث خارج الحدود القومية للدول الرأسمالية، عن أسواق جديدة لهذه السلع الفائضة.
شهدت تلك المرحلة التفاوت الواضح غير المتكافئ بين الدول الرأسمالية الصناعية وبين المستعمرات، فبينما أسهمت الثورة الصناعية في التطور الهائل لوسائل الإنتاج، ومراكمة رأس المال في أوروبا، ظلت المستعمرات في أفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا على حالها من التخلف والفقر، ولم تتوفر فيها ظروف نشوء الصناعة والتطور الاقتصادي، نتيجة توفر فائض من السلع والبضائع الغربية الرخيصة التي نافست الإنتاج المحلي وقضت عليه، ثم تحولت هذه الدول إلى مُصدر للمواد الخام، ومستورد للمنتجات المصنعة غربياً. وبذلك تم دمج الدول التي كان اقتصادها بسيطاً لكنها مكتفية ذاتياً بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، فتحولت إلى سوق كبيرة للمنتجات الصناعية الغربية.

الاستعمار والامبريالية
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد العالم مركزية الإنتاج وبالتالي تركز رأس المال الاستعماري، وتغولت الشركات الصناعية الضخمة، فابتعلت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وانتهى عصر المنافسة، وظهرت قوة رأس المال المالي المستخدم في الصناعة، الذي تسيطر عليه البنوك التي تحالفت مع المؤسسات الصناعية الهائلة. ما حصل أنه بدأت هذه القوة المالية تبحث عن استثمارات لها خارج الحدود الوطنية تحقق لها عوائد أعلى من الداخل، بعد أن احتدم التنافس في الدول الرأسمالية الصناعية. فشهدت الفترة الممتدة من الربع الأخير للقرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الأولى، تنافساً محموماً بين الدول الصناعية الرأسمالية لتصدير رأس المال، فالتحقت المؤسسات الأمريكية والفرنسية والألمانية بالأسواق التنافسية وكسرت الاحتكار البريطاني.
وتميزت هذه المرحلة بالصراع والتنافس الطاحن بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية، بهدف اقتسام مناطق العالم. وأخذ رأس المال يبحث عن أماكن جديدة للاستثمار في إنتاج المواد الخام. هذا الصراع بين القوى الاستعمارية على المصالح وبهدف مراكمة رأس المال، والحفاظ على الاستثمارات الخارجية، أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.

الحرب العالمية الثانية
بروز ألمانيا النازية وسعيها للسيطرة على مزيد من الأسواق العالمية بقوة السلاح، يعكس في أحد جوانبه طبيعة الأزمة العميقة التي أصابت النظام العالمي الرأسمالي، والتناقض المتصاعد بين القوى الاحتكارية. وهو ما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية، التي أعقبها ظهور وتطور حركات التحرر الوطني في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، واستطاعت أن تُخرج الاستعمار وتحقق الاستقلال السياسي الشكلي، وانتهى عصر الاستعمار العسكري في المستعمرات وبدأ استعمار اقتصادي جديد، من خلال تحالف الامبريالية مع أصحاب رؤوس الأموال الزراعية والتجارية المحليين.
أدركت الرأسمالية العالمية التي تقدمت الولايات المتحدة لقيادتها بعد الحرب العالمية الثانية، أنها تحتاج إلى أنماطاً جديدة للاستغلال، وإعادة إنتاج علاقات الهيمنة، وفقاً للمتغيرات التي حدثت في العالم، هذه الأنماط هي ما جسّد مرحلة الامبريالية. اعتمدت الامبريالية الجديدة إلى إحداث علاقات خاصة مع مستعمراتها السابقة، واستخدمت المعونات الاقتصادية والقروض كسلاح لإعادة إنتاج السيطرة، ثم أقامت علاقات مع كبار الملاك والتجار والوجهاء، وكبار الموظفين والعسكريين الذين أصبحوا عبيداً للإمبريالية لاحقاً. ثم أقدمت الرأسمالية العالمية على استعمال القوة العسكرية لوقف نمو بعض البلدان النامية، والعمل على تفكيكها حتى تظل خاضعة، وقدمت المعونات البوليسية للأنظمة الديكتاتورية لقمع المعارضين لها، وأقامت قواعد عسكرية في بعض تلك البلدان. في المحصلة بقيت هذه الدول أسواقاً استهلاكية للبضائع الغربية، وقطاعاً مربحاً للاستثمارات، وتعززت تبعية الأنظمة الحاكمة للهيمنة الامبريالية.

العولمة الرأسمالية
شهد العالم مرحلة جديدة بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، من أهم معالمها التركز الشديد في رأس المال المالي، وزيادة هائلة في اتساع نشاط الشركات عابرة للقارات متعددة الجنسيات، وانهيار جدار برلين، وسقوط المعسكر الاشتراكي في بداية التسعينيات، وتداعي منظومة التحرر القومي، والانسحال المريع للبنية الأيديولوجية والفكرية للأحزاب الاشتراكية والليبرالية، والتطور الهائل الذي حققته تكنولوجيا الاتصالات والثورة الرقمية. هذه المتغيرات أوجدت واقعاً تاريخياً أخلّ بتوازنات المصالح والقوة التي كانت سائدة طوال الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأدى إلى مرحلة أحادية القطبية أو العولمة، التي مكّنت الولايات المتحدة من تسيّد المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي العالمي، على اعتبارها الطرف المنتصر الذي يمتلك الحق في تحديد نمط العلاقات الدولية وفق مفاهيم الليبرالية الجديدة.
تحررت الرأسمالية العالمية من قيود الانتشار والتوسع بسبب التطور النوعي الضخم في التقنيات وثورة المعلومات، وبسبب قيام التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة، فكان لابد من أن يترافق مع هذه المتغيرات الهامة، تطوير النظم المعرفية والسياسية والاقتصادية، التي من شأنها تعزيز سيطرة هذا النظام العالمي الجديد أحادي القطبية.
عالم جديد تفرض فيه قوة وحيدة شروطها ونمطها ورؤيتها على الجميع باسم العولمة، التي لم يتصدى لها أحد، خاصة في الدول النامية المنهزمة التابعة، التي أطاعت التوجه الجديد حفاظاً على مصالحها، واستجابت للعولمة عبر تحرير التجارة، وإعادة هيكلة الاقتصاد، وتبني نظام الخصخصة، والتكيف مع المتغيرات.
هذه العولمة ظهرت نتيجة ظروف دولية وإقليمية، وتطوراً في السيرورة التاريخية. إن العولمة هي بمثابة امتداد تاريخي وسياسي واقتصادي لتطور الرأسمالية التي لم تكف عن النمو منذ كانت جنيناً في القرن الخامس عشر، ثم ولدت في القرن الثامن عشر، ثم تحولت الرأسمالية إلى شكلها الامبريالي في نهاية القرن التاسع عشر.
لقد بلغ النظام الرأسمالي العالمي الامبريالي في مرحلة العولمة طوراً، يسعى فيه باستخدام القوة، لإعادة شعوب العالم إلى القواعد التي كانت تحكم الفترة الأولى لنشوء الرأسمالية، القواعد التدميرية التي كانت قائمة على أساس المنافسة الموحشة، التي تضمن سيطرة الأقوى على مقدرات الدول ومصير الشعوب. فالهيمنة هي التي تشكل محور نشاط المراكز الرأسمالية بثوب العولمة في الفترة المعاصرة. ويتم ضمان استمرار السيطرة واتساعها إما عبر استعمال القوة العسكرية، أو من خلال الأنظمة التابعة والخاضعة لنفوذ الغرب.
هذه هي طبيعة الرأسمالية في طور ما بعد الامبريالية. فما تحاول خلقه الامبريالية ليس نظاماً جديداً للكون، بل إن ما يجري هو امتداد طبيعي وتواصل تاريخي لتطور الرأسمالية التي تقوم بالأساس على التوسع والانتشار ومراكمة رأس المال، وتستفيد الرأسمالية الامبريالية- بثوبها الأمريكي السافر بشكل خاص، والأوروبي المحتشم بدرجة أقل- من المتغيرات الدولية لتفرض مزيداً من استبدادها المتوحش على الدول الأخرى، والضحايا الرئيسيين هنا هم الدول النامية وشعوبها.

قوم لا يحتاجون الديمقراطية
الكارثة الكبرى تراها جلية واضحة في العالم العربي، الذي لا يزال يصر أن يكون منطقة خالية من الديمقراطية ومن العولمة، حيث تبحث معظم الأنظمة العربية عن المبررات لتفسير غياب الديمقراطية وعدم حاجتهم إليها.
في مفارقة مبكية يتذرع بعض العرب بالصين التي حققت نمواً في غياب نظام ديمقراطي، نعم هذا صحيح لأن الصين طبقت سياسة رأسمالية الدولة بدلاً عن رأسمالية السوق، وهي الاستثناء الوحيد.
 لكن العرب لم يتبعوا لا النظام الصيني، ولا النظام الديمقراطي، ولا الاشتراكي، ولا الليبرالي، ولا الوسطي، ولا نظام السوق الحر. لم يتبعوا أي نظام ولا أي نظرية، وليست لديهم أية خطط استراتيجية لا اقتصادية ولا سياسية ولا أمنية ولا قومية. كل ما تفعله معظم الأنظمة العربية هو مواصلة السياسات الاستبدادية لإخضاع شعوبها، واستمرار السياسات الاقتصادية الفاشلة، التي لم تثمر إلا خراباً وخواء، ولم تستطع معظم الأنظمة العربية تحقيق نتائج واضحة على صعيد التنمية المستدامة. وهذا ليس موقفاً نظرياً، بل معطيات تستند إلى الأرقام التي لا يمكن نفيها.
حسب تقارير منظمة العمل الدولية في جنيف، التي صدرت في النصف الأول من العام 2018، فإن نسبة العاطلين عن العمل من الشباب العرب بلغت 30 في المئة، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف المتوسط العام لبطالة الشباب في العالم. أما المعدل العام للبطالة العربية فهو ضعف المعدل العام العالمي.
 وفيما يتعلق بحجم الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية في العام 2017 فقد بلغ حسب تقدير صندوق النقد الدولي 2.65 تريليون دولار، وهو ما يمثل 2.5 في المئة من الناتج العالمي، لكن أكثر من نصف هذا الناتج يأتي من دول الخليج نتيجة بيع النفط. فيما على سبيل المقاربة بلغ حجم الناتج المحلي الأمريكي 20.4 تريليون دولار، وهو ما يمثل حوالي ربع الناتج العالمي. ومفيد أن نذكر هنا أن عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية قد بلغ في العام 2017 حوالي 327 مليون مواطن. فيما يبلغ عدد السكان العرب 407 مليون مواطن.
فيما يتعلق بالأمية فقد أكدت تقارير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألسكو" في العام 2018 أن معدل الأمية في الدول العربية لا يزال مرتفعاً مقارنة مع دول العالم النامي، حيث بلغ 26 في المئة، يصل عند الإناث حوالي 50 في المئة، وترتفع هذه النسبة عند الإناث في بعض دول المنطقة إلى أكثر من 60 في المئة. فيما يبلغ المعدل العالمي 13.6.
وحسب إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فاو" العام 2017 فإن 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية، وأن نحو مائة مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر. إن أكثر من 13.6 في المئة من السكان العرب لا يجدون ما يأكلونه.
على الأبحاث العلمية تصرف الدول العربية مجتمعة معدل 0.4 في المئة من ناتجها المحلي على البحوث، فيما تصرف إسرائيل 2.6 في المئة من ناتجها على الأبحاث غير العسكرية. بينما تصل النسبة في الدول الغربية إلى 4-5 في المئة. ورغم أن العرب يشكلون حوالي من 5 في المئة من سكان العالم، إلا أن مساهمتهم في نشر الأبحاث العلمية لا يتجاوز 0.02 في المئة من النشر العالمي.

نكوص حضاري
يبدو المشهد وكأن الولايات المتحدة وبعض الغرب الأوروبي مقبلون على مرحلة ما بعد الديمقراطية الليبرالية، أو ما بعد العولمة والحداثة التي سادت المجتمع الغربي طوال العقود الماضية. مرحلة تنتشر فيها الشعبوية والاتجاهات غير الليبرالية، ويعلو صوت الأفكار اليمينية العنصرية المتشددة.
هل هذا الاستنتاج صحيحاً، أم متسرعاً؟ هل الأفكار اليمينية أصبحت تشكل القاعدة، أم إنها ما زالت استثناءات رغم حجمها وخطورتها؟  في الواقع أنه على الرغم من كون الديمقراطية لا زالت تنمو في العديد من الأماكن في هذا الكوكب خاصة في القارة الافريقية وأمريكا الجنوبية، وفي دول جنوب شرق آسيا، إلا أن الاستبداد ما زال يبسط مخالبه على أعناق الشعوب في أماكن عديدة.
هناك القليل من الديكتاتوريات في العالم تحولت إلى نظام انتخابي ديمقراطي خلال العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة، حيث الآن هناك 69 دولة غير ديمقراطية من أصل 192 دولة.
إن السياسات الحمائية الانعزالية التي تحاول إدارة الرئيس الأمريكي "ترامب" اتباعها لحماية وظائف الأمريكيين، لا تبدو أنها إجراءات واقعية بقدر ما هي خطاب ديماغوجي، إذ أن العولمة لا تعتمد فقط حرية التجارة، بل أيضاً -وهذا الأهم- على التكنولوجيا الحديثة التي مكنت شركة "أوبر" أن تصبح أكبر شركات التاكسي في العالم، رغم أنها لا تمتلك سيارة واحدة، وجعلت من شركة "أمازون" أكبر شركة للتسوق، وهي لا تمتلك متجراً واحداً.
هل نحن على أبواب مرحلة ما بعد العولمة، أم دخل العالم مرحلة من الفوضى عديمة الملامح، أم أن الأمر لا يعدو كونه إننا ما زلنا نتأقلم مع العولمة وما أفضت إليه من نتائج تظهر في جانب منها على أنها مبشرة لخدمة الإنسان المعاصر، وفي جانبها الآخر تظهر أنها مدمرة في قدرتها على النهب والقتل والإخضاع، وجعل الإنسان المعاصر يعود إلى فطرته البدائية الموحشة، في إشارة بائنة للنكوص الحضاري.







96
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


القوة الخشنة للثقافة.. الخاصية الفلسطينية

لا يمكن مقاربة إشكاليات فهم وتحليل علاقة الهوية بالتحديات المصيرية للأمم، دون تحديد أية هوية ثقافية قادرة على تجاوز هذا الانحدار الفكري والسياسي، والنكوص التاريخي والسقوط الشامل، ومن غير توضيح الاختلاط والإبهام الثقافي والمعرفي، وكيف تتمكن الثقافة من بناء أدواتها لتجاوز المأزق الراهن وإنهاء الانسداد.
في الخاصية الفلسطينية، تظهر الثقافة بمضامينها المتعددة والمتشابكة، بمقدمة جبهة المواجهة ضد المستعمر الغربي والصهيوني، الذي سعى -وما زال- إلى اجتثاث الشعب الفلسطيني من أرضه، وطمس هويته وتزييف تاريخه وتبديد ثقافته. لهذا خاضت الثقافة مواجهاتها بأسلحة الفكر والأدب والفن الذي كان المثقفين أبرز حوامل مكوناته.
التشتت هو سمة الحالة الفلسطينية بعد النكبة الكبرى، وهو ما لم يسهم في إنتاج فكري ثقافي معرفي تراكمي ضمن بيئة مترابطة موحدة.
غاب المشروع الثقافي الشامل فلسطينيا، شأن غيابه عربياً، ولم تتمكن القوى السياسية الفلسطينية من التمييز بين الإنتاج المعرفي والإبداعي، وبين العمل السياسي والحزبي، فلم تتبلور حركة ثقافية منفصلة عن الواجهة السياسية، وبذلك فقدت الثقافة مهمتها في إحداث دافع لتقدم المجتمع، وخسر المثقف الفلسطيني دوره الموضوعي في خضم الأولويات السياسية. فتداخلت السياسة بالحزبية بالثقافة، وسقط المشروع السياسي في إيجاد مقاربات ثقافية، وأصبح بعض المثقفين رجال سياسة، فلم يربح أي منهما. خسرت السياسة فكر المثقف، وخسرت الثقافة محرضها الأبرز. وفقد المثقف مكانته وملامحه
بطبيعة الحال لم يعد -بظني- للمثقف الطليعي العضوي المشتبك الدور الطليعي والمؤثر، لقد انتهب مرحلة غسان كنفاني وناجي العلي وكمال ناصر وسواهم. وهذا ما ينطبق على النخب الثقافية العربية، والفلسطينية إلى حد ما، حيث تسَلَطَ السياسي الفلسطيني الحزبي على المشهد الثقافي، فالفصائل الفلسطينية استخدمت المثقف في السياق الأيديولوجي والخطاب الحزبي، ثم في فترة الكساد الثوري أصبح المثقف الفلسطيني سلعة فائضة عن الحاجة. تماماً كما تم تدجين وتطويع المثقف والمفكر العربي الذي همشته الأنظمة العربية وقوضت مكامن قوته.
حين تغيب الثقافة تحضر السياسة والانتماءات الحزبية، ويحضر التنافس والتناحر، وهذا ما فعلته الفصائل الفلسطينية. وفي انصراف المثقفين الحقيقيين يمتلئ الميدان بالمدّعين والجهلاء، وحين تختفي الشعارات والأهداف والمهام الكبرى ينشغل الفكر بنفسه وتنقسم الثقافة على ذاتها في معركة تتسبب بشقاء الجميع.

تلازم الثقافي والسياسي
يمكننا القول إن المشروع الثقافي الفلسطيني قد تلازم مع بدء المشروع الوطني التحرري الفلسطيني في ستينيات القرن العشرين. كان أشبه بشجرة قزحية تمتد أغصانها وتتشعب وتتلون، فتضمنت الثقافة الفلسطينية الأدبيات والأفكار القومية العربية البعثية والناصرية، والأفكار الليبرالية واليسارية، وكذلك أدبيات الموروث العربي الإسلامي والمسيحي. وخلال ستة عقود الماضية تأثرت الثقافة الفلسطينية بكافة العوامل التي حكمت المشروع الوطني السياسي، نهوضاً وركوداً ونكوصاً، فكان العامل السياسي عنصراً محدداً ومقرراً لفرض مناخات ثقافية تتسق مع طبيعة المرحلة، لذلك لا يمكن التحدث هنا عن مشروع ثقافي واحد.
إن المشروع الثقافي الفلسطيني الذي انطلق مع العمل الوطني التحرري الفلسطيني ضد العدو الصهيوني، وترافق مع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، كان مشروعاً ثقافياً وطنياً شاملاً، تمكن من احتواء الكتاب والمفكرين والمثقفين والمبدعين والصحفيين والأدباء والسينمائيين والمسرحيين والتشكيليين والفنانين الفلسطينيين، وتأطيرهم باتحادات وهيئات ومراكز أبحاث ودراسات ونشر، رعت الثقافة والمثقفين، واجتهد الجميع في إطار المشروع الثقافي السياسي الوطني التحرري الأخلاقي العادل، بهدف تحقيق أحلام الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه في التحرير والعودة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وفي هذا المشروع الثقافي الفلسطيني تلازم الثقافي والسياسي جنباً إلى جنب في وحدة جدلية تكاملية ميزّت الحالة الفلسطينية عن مثيلاتها عربياً.
بعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت العام 1982 أصيب المشروع الثقافي الفلسطيني بانتكاسة، وبدأت مرحلة جديدة في المشروع الوطني الفلسطيني، حيث تم فيها إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها بما في ذلك الاتحادات والهيئات الثقافية الجامعة. وفي بداية التسعينيات من القرن العشرين دخل المشروع الوطني السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة عنوانها الأبرز اتفاقية أوسلو، وبدأت معها تتفكك روافع الثقافة الوطنية الفلسطينية وتتقوض أعمدتها التي ترتكز أساساً على الإنسان والأرض وقيم الحرية والاستقلال، وأصيب المشروع الثقافي الفلسطيني بخلل وعلل بنيوية وتم تهميشه وتحجيم دوره التاريخي، مما أدى إلى حالة بغيضة من التمزق والانقسام والضعف والتخندق بين المثقفين الفلسطينيين وبين السياسيين، وبينهم وبين أنفسهم من جهة أخرى.

ثقافة المرحلة
ولنا أن نتساءل ماذا بقي لنا من المشروع الثقافي الوطني الفلسطيني، بعد الانزياح والاخفاقات التي أصابت المشروع الوطني التحرري الفلسطيني خلال العقود الماضية؟
لقد ظهرت ثقافة أصولية إسلامية تستمد أفكارها من الماضي، وفشلت في مقارباتها التي أجرتها، لأن الماضي زمن قد ولى، ولا يمكن معالجة إشكاليات الحاضر والإجابة على أسئلته الكبيرة بأيديولوجية وأدوات اندثرت. ثقافة أصولية ملأت الفراغ الذي أحدثه تهميش مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ومن ضمنها الهيئات والاتحادات الثقافية، وتراجع المشروع الوطني السياسي من جهة أخرى. إلى جانبها يوجد ثقافة ليبرالية خجولة منزوية ونخبوية. وثقافة ما بعد اتفاقيات أوسلو التي جنحت للسلم مع الصهاينة، وروجّت لثقافة السلام معلنة انتهاء ثقافة المقاومة العنيفة، وإن تبنت ثقافة المقاومة الشعبية بين حين وآخر، أو فرضت عليها من الشارع الفلسطيني، إلا أنها في مجملها ثقافة تراهن على قدرة المفاوض الفلسطيني، وليس على بندقيته ولا على حجره. وهناك ثقافة الانقسام والتفرد والتحكم والتسلط في بعض الأوساط السياسية والثقافية. أيضاً ظهور ثقافة العنف المجتمعي، اللفظي والجسدي والرمزي واللغوي. وجود ثقافة مُعولمة غريبة عن واقعنا تسعى لإعادة بناء خطاب ثقافي جديد.  وثقافة شعبية تستمد قوتها وحيويتها وتجددها من التصاقها بالناس أنفسهم وقدرتها على التعبير عن واقعهم ومعاناتهم وتطلعاتهم. ثقافة ترفض الاحتلال وتواجه طغيانه بأدواتها البسيطة. ثقافة فلسطينية تتعدد أوجهها ما بين المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ووجه ثقافي لقطاع غزة، وثقافة فلسطينية في مدينة القدس ومناطق الجليل الأعلى، التي تجاهد وتصارع ثقافة التهويد ومحاولات تفكيك هويتهم العربية من قبل إسرائيل. ثقافة فلسطينية في الشتات متنوعة ومتعددة ومتشابكة مع محيطها ومتأثرة بالثقافة الإنسانية.

تحديات فلسطينية
تظهر التحديات التي تواجه الثقافة الفلسطينية جلية في ظل ظروف غير طبيعية تحيط بالمثقف وبمجمل الشعب الفلسطيني منذ قرن من الزمن. لعل أهم هذه التحديات الحفاظ على الهوية الفلسطينية العربية الوطنية للإنسان والأرض والمكان، وصيانة ملامح هذه الهوية في وجه المخطط الصهيوني الذي يرمي إلى تبديدها وتفتيتها وتغييرها وتهويدها. وكذلك تعزيز اللغة العربية وحمايتها، وتعميق الانتماء الوطني في مواجهة الولاءات الحزبية والدينية والمناطقية، وتوطيد أواصر التلاحم الاجتماعي بين أبناء شعبنا الفلسطيني، وإعلاء قيم التكاتف والتعاضد ونشر ثقافة التضامن، وكذلك الحرص على احترام الآخر وحقه في الاختلاف، وتحقيق مبدأ التنوع من أجل تحقيق تناغم وحدوي عبر الالتفاف حول القيم التراثية الوطنية الأصيلة باعتبارها قاسماً مشتركاً لكافة الفلسطينيين. ومن التحديات التي تواجهها الثقافة الفلسطينية أيضاً قدرتها على مواجهة المشكلات الناجمة عن التطرف والغلو بكافة أوجهه الدينية والاجتماعية والفكرية، والعنصرية والتمييز، ومعالجة القضايا التعليمية والتربوية. ودور المثقفين في بناء مشروع ثقافي فلسطيني. وكذلك دعم وترشيد دور وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي في الحفاظ على الثقافة الوطنية الأصيلة من الذوبان. كما أن من أبرز التحديات وضع خطة للإنتاج الثقافي الفلسطيني المستدام، وهي قضية في غاية الأهمية لتطوير الثقافة وتنشيطها ورفع مستوى حيويتها وأدائها، بما يكفل قيامها بواجبها ومسؤولياتها وتحقيق الأهداف المناطة بها في مواجهة ومقاربة الإشكاليات التي ما زالت تعترض درب النهوض الفلسطيني. ولابد من الاهتمام بالعلاقات مع الآخرين، وتعزيز الحوار مع كافة شرائح المجتمع الفلسطيني، وكافة القوى والأحزاب والمجموعات، وكافة التيارات السياسية الفكرية والأيديولوجية والفلسفية، وتعزيز التواصل مع الثقافة العربية، والانفتاح على الثقافات العالمية وعدم الانكفاء والانغلاق، والعمل على استكشاف آفاق للتعاون المشترك مع مكونات ثقافة الآخر الإنسانية للاستفادة منها في بناء مشروعنا الوطني والنهضوي.

 مآلات ثقافية عربية
إن كانت الثقافة العربية والمثقفين العرب قد تعرضوا عبر عقود طويلة إلى تدجين وتطويع وتهميش من قبل الأنظمة السياسية التي استحوذت على كل شيء ووضعته في خدمة مصالحها وبطانتها. فإن الثقافة الفلسطينية أيضاً والمثقفين الفلسطينيين قد نالوا نصيبهم من هذه السياسات. وإن قدر لنا المقاربة سنجد أن الثقافة العربية ابتليت بعلل متعددة وعلق بها من الدرن ما يكفي لتشويه ملامحها، فتحولت من كونها ثقافة عربية إسلامية مسيحية قومية وحدوية يسهم فيها الأقليات من سكان المنطقة، إلى ثقافة قبلية عشائرية طائفية إثنية، متشددة تقوم على القطرية والحلقية والتعصب والتشدد والتطرف والعنصرية، ثقافة مبنية على الكراهية والإقصاء والاستحواذ والإنكار.
غاب التنوع الذي كان يثري الثقافة العربية، وأصبحت إما ثقافة استبدادية قمعية قهرية تمارسها معظم الأنظمة العربية ضد شعوبها. ثقافة تشجع الانفكاك من العنصر القومي العروبي الوحدوي، الابتعاد عن كل ما يجمعها مع عناصر الثقافة والهوية العربية، والانسحاب إلى الداخل نحو ثقافة قطرية ضيقة لكل بلد عربي لوحده. وإما ثقافة دينية متشددة ومتطرفة في مفاهيمها وخطابها وسلوكها، ثقافة تعتمد الإقصاء وعدم قبول الآخر، ثقافة سلفية مفتونة بالتاريخ ومنشغلة بالتراث، تحاول إحياء الماضي وهو رميم. وإما ثقافة انتقائية ومنفعية مصلحية لا مبادئ لدى أصحابها ولا قيم أخلاقية، يسعون خلف مصالحهم الشخصية الضيقة، ويلهثون لتحقيق العز والجاه أو المنصب أو الثروة، أو حتى كف شر السلطات السياسية والأمنية عنهم. ثقافة وصولية انتهازية التف حولها الزنادقة الجدد والمنافقين كما يلتف الذباب على قطعة حلوى. وانتشرت ثقافة القتل والحرق والتدمير وقطع الرقاب، وبناء مزيد من السجون، وفرض قوانين الطوارئ أو ما يشبهها. ثقافة عدم الانتماء والهروب من الأوطان. ظهور ثقافة الاستهلاك واجتياحها كافة مناحي الحياة، حيث غيرت المفاهيم لدى الإنسان العربي وبدّلت سلوكه واتجاهاته وثقافته العامة، وأصبحت الشعوب العربية عبيداً للأسواق والمكننة والتقنيات التكنولوجية.

دور مفقود
في ضوء ما تشهده المنطقة العربية من انزلاق خطير، إننا نتساءل عن دور المثقفين والمفكرين العرب في قضايا أمتهم المصيرية، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية. وما الذي يعيق توحيد جهودهم في مختلف مواقعهم وبلدانهم، وجمع كلمتهم لتوحيد موقف الشارع العربي وتصحيح اتجاهه، وتحريض الوعي الجمعي للشعوب العربية لاتخاذ مواقف مبدئية جادة وواضحة وقطعية من أم القضايا العربية فلسطين.
المثقفون وحدهم القادرون على إحداث هذه الرابطة الواسعة التي ينخرط فيها كافة شرائح المجتمعات العربية كل بتخصصه واهتمامه، لمواجهة هذا السقوط السياسي والفكري والثقافي والوطني المريع، والتصدي لما يسمى صفقة القرن التي تعتبر الأسوأ والأخطر على القضية الفلسطينية بعد فشل مشروعي مدريد وأوسلو. هذا المشروع الأمريكي الجديد لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يشكل كارثة في ظل الوضع الفلسطيني الداخلي الذي يعاني الانقسام السياسي، ووضع عربي مفتت وإقليمي ودولي أكثر سوءًا. مما يستوجب التصدي له ولتداعياته وأبعاده السياسية والاقتصادية والأمنية.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، ألا يجدر بالمثقفين والمفكرين العرب الوقوف إلى جانب القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين، ودعم هوية هذه المدينة العربية المقدسة، ومؤازرة المقدسيين والدفاع عن حقوقهم في مدينتهم التي ضمنتها القوانين الدولية، وحماية تراثها الحضاري والإنساني وصون مقدساتها، وتنظيم حملات تضامنية حقيقية وفعلية ومستدامة مع الثقافة الفلسطينية المهددة، والضغط ما أمكن على الأنظمة العربية لتقوم بالحد الأدنى من واجبها في إسناد صمود القدس وأهلها بوسائل وأدوات متاحة لهم؟.
في هذا السياق فإن إقدام دولة الكويت الشقيقة على إطلاق اسم مدينة القدس عاصمة أبدية لفلسطين على الدورة الثالثة والأربعون لمعرض الكويت للكتاب، يشكل نموذجاً يحتذى.

استهداف وجودي
أسهم المفكرون والمثقفون الفلسطينيون بصورة لافتة في النهضة الثقافية والتعليمية في معظم الدول العربية، وقدمت أسماء فلسطينية عديدة خدمات جليلة لتطوير المشهد الثقافي والعلمي والفكري العربي، وهم كانوا ولا زالوا بمثابة رسل محبة وتآخي مع الأشقاء العرب، ولا يمكن إنكار الأثر الثقافي والعلمي والأخلاقي الذي تركوه في الدول العربية، الذي يجب توظيفه لتعميق روح التضامن والتآزر والأخوة ووحدة المصير.
فلسطين التي تعتبر منجماً ثقافياً وطنياً عربياً وتراثاً أثرياً ودينياً وإنسانياً، تستحق من المثقفين العرب ومن سواهم كل الاهتمام والدعم والمساندة، لتعزيز صمودها وثبات شعبها في وجه عمليات الاغتيال الممنهجة التي يتعرض له على يد الاحتلال الإسرائيلي، وبواسطة وكلاءها في الولايات المتحدة، حيث لأول مرة تقيم القومية اليهودية الصهيونية في البيت الأبيض بواسطة زوج ابنة الرئيس الأمريكي "كوشنير". ولأول مرة تتبنى إدارة أمريكية البرنامج السياسي الصهيوني كاملاً دون اعتراض.
لقد استهدفت إسرائيل الثقافة الفلسطينية والمثقفين الفلسطينيين منذ إنشاءها، وسعت للتخلص منهم وتحييد دورهم وتغييبهم، ودفن الثقافة الفلسطينية وحصارها ومنع تواصلها مع محيطها العربي، وكتمها عن الساحة الدولية. لذلك كان المثقفين والمفكرين الفلسطينيين على رأس قائمة الاستهداف الإسرائيلي، لإدراك الاحتلال أن هؤلاء يشكلون بثقافتهم ودورهم خطراً كبيراً، فقامت الأيادي الصهيونية السوداء باغتيال الشهداء: غسان كنفاني، وائل زعيتر، كمال ناصر، عز الدين القلق، ماجد أبو شرار، عبد الوهاب كيالي، حنا مقبل، ناجي العلي، وسواهم من شهداء الكلمة والثقافة والفكر، ومحاولة اغتيال الكاتب بسام أبو شريف، والمفكر أنيس صائغ وغيرهم.

ضمير الأمة المنفصل
تستمر المؤامرات والمخططات الإسرائيلية الساعية للقضاء على الحضارة التاريخية العريقة العربية الفلسطينية فوق أرض فلسطين، واستبدالها بأخرى غريبة وتزييف التاريخ والجغرافيا. وهنا يتضح دور المثقفين الهام جداً بنشر وتعزيز ثقافة المقاومة الشعبية في كل مدينة وقرية فلسطينية، والتصدي لفكرة الوطن البديل، وتحشيد الطاقات والجهود الفلسطينية في داخل فلسطين وخارجها، واستعادة الوحدة الوطنية وانتخاب قيادة فلسطينية تمثل جميع الفلسطينيين. 
اللافت إن الشارع الفلسطيني والعربي كان وما زال أسرع من المثقفين العرب في إعلان مواقفهم من قضايا الساعة، وكان الناس يتقدمون المثقفين والمفكرين في النزول إلى الشوارع لإبداء تضامنهم مع القضية الفلسطينية في المحطات التي صادفتها.
إن المثقفين هم صوت وضمير الأمة وأداتها الاستراتيجية، هم المعبرون عن الهوية والتاريخ والذاكرة، هم المحرك الرئيسي للشعوب وأهم فاعل ومبادر في مختلف القضايا. المثقفين الفلسطينيين وعدد من المثقفين العرب انخرطوا مبكراً في العمل الوطني النضالي الفلسطيني، وكانت لهم بصمات واضحة ومؤثرة في تاريخ القضية، وتمكنوا من وضع فلسطين في المكانة المرموقة التي تستحقها على الخارطة السياسية والثقافية العربية والعالمية.
على كاهل المثقفين العرب مهام أخرى منها مسؤولية المساهمة مع المثقفين والأدباء والمفكرين الفلسطينيين في فضح وتعرية الرواية الصهيونية التاريخية المزيفة، التي توظف منظومة إعلامية ضخمة وتساندها وسائل إعلام أمريكية وغربية، بهدف طمس الرواية الفلسطينية لأصحاب الأرض الحقيقيين، وتزوير تاريخهم وفبركة وقائع غير موجودة إلا في أذهان وأحلام الصهاينة، وبث الأكاذيب والادعاءات الباطلة، والتشكيك بالهوية العربية الفلسطينية للأماكن التاريخية والأثرية والدينية.
ومنها أيضاً ترجمة الأعمال الأدبية الفلسطينية إلى لغات عالمية متعددة، خاصة تلك التي تظهر حق الفلسطيني بأرضه، والتي تستند إلى وقائع تاريخية مثبتة، لمخاطبة الرأي العام العالمي والغربي، وتوضيح الحقائق وكشف الادعاءات الإسرائيلية بما لا يملكون، وحتى لا نظل كمن يحدث نفسه.

القوة الخشنة
الثقافة واحدة من أهم الأدوات المؤثرة للحفاظ على وجودنا ومقاومة الاحتلال الصهيوني الذي يسعى لتذويب الهوية الوطنية الفلسطينية والانتقال إلى مرحلة إنهائها.
فإن كانت ثقافة أي شعب تشكل عنصراً هاماً من هويته، فإن للثقافة الفلسطينية المحاصرة، شأنها شأن فلسطين ذاتها المحاصرة من الكيان الصهيوني ومن العرب، دوراً مضاعفاً في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية من جهة، والحفاظ على مستوى إدراك الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية وعدالتها والتفافهم حولها.
وللثقافة قدرة هامة على المقاومة التي نؤكد أن استمراها تواصلها وتعزيزها ضرورة قصوى تفرضها السياسات العدوانية العنصرية الإقصائية التي يتبعها العدو الصهيوني، الذي يهدد وجود الإنسان الفلسطيني فوق أرضه وثقافته وتاريخه وإرثه، ويحاصر كل شيء فوق الأرض في محاولة لاستحداث واقع جديد بقوة البطش والقتل والتاريخ المزيف. ويجهد هذا العدو إلى تحويل صراعه الوجودي والسياسي والوطني مع الشعب الفلسطيني إلى عناوين إنسانية هنا وهناك، بهدف تحجيم وتقزيم القضية الفلسطينية ثم شطبها، مما يستدعي استنفار الطاقات الكامنة في الشعب الفلسطيني وأمته العربية لمواجهة هذه المرحلة الخطيرة للغاية، وهنا تبرز الثقافة كأهم رافع لاستنهاض مقدرات الأمة.
من يطلع على الظروف البائسة التي يعيشه في كنفها الإنسان الفلسطيني الصابر والمحاصر والثابت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يدرك طبيعة مشقة الحياة والتوجع الذي يكابده الفلسطيني فوق أرضه وفي وطنه نتيجة الاحتلال. لذلك فإن الثقافة باعتبارها قوة ناعمة تتحول إلى قوة خشنة في النموذج الفلسطيني، وتصبح قوة ترعب العدو فلا بد من تحويلها إلى فعل مقاوم. ونشر وتطوير أدوات ثقافة المقاومة، والمقاومة الثقافية أيضاً للتصدي لثقافة الهيمنة والاحتلال. إن المقاومة الثقافية التي نشدد عليها هنا لدعم صمود الشعب الفلسطيني، واستمرارها وتواصلها، وعدم الانصياع للضغوط الصهيونية والغربية، هي ضرورة وطنية وواجباً قومياً وليست ترفاً ثقافياً كما يتصورها البعض، وليست نضالاً نخبوياً ناعماً.

أمام مفترق
في الظروف الراهنة بالغة التعقيد على قضيتنا الوطنية، علينا أن نسعى نحو ثقافة ترتقي بالإنسان الفلسطيني أينما تواجد. ثقافة قادرة على التصالح مع ذاتها ومع ماضيها وحاضرها ومع الآخر، وتتضمن إمكانية بناء مستقبلها. نحتاج إلى ثقافة واعية ومتجذرة تدرك مصالح وأهداف شعبنا الوطنية والسياسية. ثقافة تمتلك المقدرة على مواكبة التطورات التكنولوجية والثورة العلمية والمعرفية والمعلوماتية. الثقافة التي تراعي التعددية والتنافس لتحقيق الريادة والأهداف الوطنية والتنموية. فالثقافة الفلسطينية اليوم أمام مفترق حقيقي ومثقلة بإشكاليات حقيقية وموضوعية متعددة وشائكة، وتحتاج إلى التجدد لتكون قادرة على التواصل مع كافة المتغيرات التاريخية. يجب التوقف عن النظر إلى الثقافة على أنها فعلاً تجميلياً، أو عمراناً سياحياً، بل علينا أن ندرك أن الثقافة هي المحرك الحقيقي لكافة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهي الحامي والحامل الأبرز للحقوق الثابتة والأهداف الوطنية الفلسطينية.



 


97
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


في تجاهل العرب لفلسطين
يا سعد.. سعيد لم يهلك بعد

إن تحرير فلسطين، هذا الشعار اللغوي الفخم، لم يكن في الحقيقة يوماً على جدول أعمال القادة العرب -باستثناءات قليلة-. ولم تكن يوماً فلسطين قضية العرب الأولى، إلا على الورق، في اجتماعات الغرف المغلقة، وفي الخطب النارية فقط. فلسطين التي تستغيث فلا تُغاث، والأقصى الذي يصرخ العون فما من سامع، والقدس التي تتوق للنجدة فلا مُلبي، والفلسطيني الصامد الصابر المعاند الثابت يترك اليوم وحيداً بلا عون ولا مدد من الأشقاء العرب. الاخوة الذين بات بعضهم يتبنى الرواية الصهيونية على حساب المصالح والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبعضهم أصبح يعتبر فلسطين وشعبها وقضيتها عبئاً يجب التخلص منه.
تتعمد معظم الدول العربية تهميش القضية الفلسطينية، وتتجاهل حقيقة أن حالة الصراع الفلسطيني الصهيوني لا يمكن بترها وعزلها عن المحيط العربي والعمق الإقليمي، فكل العواصم العربية هي في قائمة المصالح والاستهداف الصهيوني.
يخرج علينا بعض العرب كخروج جهينة في ترتيب أولوياتهم، يقول لك هذا النظام أو ذاك "نحن أولاً" لتبرير عجزهم عن نصرة فلسطين. ثم اهتدوا إلى طريق الخلاص الذي يبعد فلسطين عنهم تماماً، فزجوا بشعوبهم في صراعات داخلية ومعارك جانبية فيما بينهم، أحدثت الفوضى وقسمت المقسوم وعمقت الحالة القطرية.
وفلسطين المحتلة على مرمى حجر من الجيوش والميلشيات العربية التي تتقاتل فيما بينها باسم فلسطين، وتقتل أبناءها وهي تهتف لفلسطين، تثير الصراعات الطائفية والعرقية والإثنية باسم فلسطين، يقتلون الفلسطيني ويعتقلونه، ويريدون رصف الدرب نحو القدس بجماجم الفلسطينيين، ويزاودون عليه أيضاً باسم فلسطين.

سعيد لم يهلك
في زمن الجاهلية عاش شقيقان أحدهما يدعى سعد والأخر سعيد، خرجا ذات يوم لقتال الأعداء، غلبت الحماسة على سعيد ومن معه فسبقوا سعد إلى القتال، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين بفخ نصبه لهم الأعداء وأوقعوا بهم، مات سعيد ومن معه إلا واحداً فقط استطاع الفرار، وبينما هو يجري قابل سعد في الطريق، فقال له تلك الجملة الشهيرة التي صارت مثلًاً " انج سعد فقد هلك سعيد"، وبالفعل هرب سعد ونجا من الموت.
قيل إن أباهما خرج للبحث عنهما، فكان كلما مر به أحد لم يتبينه قال أسعدٌ أم سعيد، فمضى مثلاً للشيء غير الواضح. فلما بلغ أبوهما الحرم وجد معتمرا يطوف بالبيت وعليه ثياب ابنه سعيد فسأله فقص عليه قصته وهو يجهل أنه والد سعيد، فما كان من هذا الأخير إلا أن استل سيفه وقتله، فلما سئل أقتل في البيت الحرام؟! قال: سبق السيف العذل.
حال بعض العرب مع فلسطين وشعبها وقضيتها كحال سعد الهارب. ونحن نتابع تسابق بعض الأنظمة العربية على نقل علاقاتهم مع إسرائيل من مرحلة الزيارات السريّة والتطبيع المستتر إلى العلانية، والمشاركة في المحافل الدولية على الصعيد السياسي والاقتصادي والرياضي. ونرقب الزيارات التي قام بها مسؤولين حكوميين إسرائيليين إلى بعض العواصم العربية، تحضرنا قصة المثل العربي وتجعلنا نتساءل أسعدٌ أم سعيد، ذلك الذي استقبل في قصره "بنيامين نتنياهو" قاتل الأطفال الفلسطينيين، وذاك الذي يقف بخشوع بحضرة النشيد الوطني لمن يفترض أنهم أعداء الأمة، لذلك لم يشبّه لنا ويحق لنا وللشعوب العربية أن تسأل أسعدٌ هو أم سعيد!
الضلع الثاني من المثل العربي قولهم انج سعدٌ فقد هلك سعيد، يبدو أن معظم العرب مقتنعين كل الاقتناع أنهم "سعد" المعني بالمثل، وقد أدركوا أنهم هالكين لا محالة إن لم ينجوا بأنفسهم، فسارعوا إلى التوبة والتكفير عن ذنوب ارتكبوها خلال سبعين عاماً، بعد أن اكتشفوا أنهم قوماً ظالمون، وأن إسرائيل ضحية الفلسطينيين. وفات العرب أن سعيد الفلسطيني لم يهلك بعد، وأن سعدٌ العربي إن أراد النجاة عليه تدعيم وتقوية وإسناد شقيقه سعيد "الفلسطيني" للانتصار في معركة يخوضها نيابة عن سعدٌ ومسعودٌ وسعاد.
لكن يبدو أن سعداً لم يقرأ صفحات التاريخ، ولا يعلم شيئاً عن صلابة وبأس وثبات وصبر وجبروت الشعب الفلسطيني، وإن أراد سعداً أن يكون سعيداً وألا يكون شقياً فعليه قراءة الواقع جيداً ومنح نفسه فرصة مراجعة من تعجل التطبيع، وقديماً قالت العرب: السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
سواء نجا سعدٌ أم لم ينج، فقد سبق السيف العذل، وفعل أهل "حارديم" ما فعلوا، وانتهكوا حرمة الأقصى مثلما انتهكوا حرمة كل شيء فوق البلاد المسماة فلسطين، واعتقلوا شعبها وشجرها، والعرب لم يحركوا ساكناً ولا أثاروا ضجيجاً.
سبق السيف العذل، ضلع المثلث الثالث يعبّر عنه سعدٌ المناصر المؤازر ويخبر سعدٌ المطبع المتصالح المتساوق، إني أخشى عليكم غضب ابن أبيه، ولا فكاك لكم من مصير كالحمم، لا تملكون من أمره وأمركم شيئاً ولا عذراً، حينها يصح السيف الذي سبق العذل، إلا إن عدتم. حينها لا تلوموا أحداً، فاللوم بعد التحذير بدعة.
ضربت العرب قبل سعدٌ وبعده أمثالاً كثيرة للأخرق والأرعن، وقالت في أخبار المغفلين والحمقى أن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه. واستدرك العقلاء من العرب أن لحكاية سعد الذي ظن أنه نجا تتمة، إذ قالوا أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض.
قالت العرب قديماً أن الخائف لا يحمل معه عقله. وللأشقاء العرب الخائفين نقول: لم ولن يكون الفلسطينيون الثور الأبيض، ولن يموت هذا الشعب الذي اختار طواعية أن يقاتل ويناضل نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، وأن يحافظ على مقدساتها، ويعتبر أن هذا مكرمة له وشرفاً ينفرد به دون الآخرين، الذين يتربص بهم العدو كما يتربص بالفلسطينيين، لعل العرب يستيقظون من غفلتهم ذات حين ويعلمون أن المرء بأخيه كما قال الأجداد.

كانت وستبقى
فلسطين كانت قبل 7500 عام قبل الميلاد في جبل القفرة جنوبي الناصرة وسفح الرمل قرب طبريا. فلسطين الكنعانية كانت في العام 3000 قبل الميلاد. وكانت تحت الاحتلال اليوناني عام 332 قبل الميلاد. فلسطين كانت تحت الاحتلال الروماني في منتصف القرن السابع الميلادي. فلسطين وصل إليها عمر بن العاص حاملاً معه رسالة الإسلام العام 643 ميلادي، وتحررت فلسطين من الروم على يد خالد بن الوليد في معركة اليرموك الشهيرة. كانت فلسطين أموية في العام 661. وعباسية في العام 750. ثم دخلها الطولونيون والقرامطة. ثم احتلها الصليبيون العام 1095. وخاض صلاح الدين الأيوبي معركة حطين الشهيرة، واسترد بيت المقدس العام 1187ميلادي. وصدّ سيف الدين قطز والظاهر بيبرس الغزو المغولي على فلسطين العام 1259 ميلادي في معركة عين جالوت بعهد الدولة المملوكية. فلسطين دخلها العثمانيون العام 1516 ميلادي، مكثوا فيها أربعة قرون وخرجوا وظلت فلسطين. وهزمت مدينة عكا الفلسطينية بأسوارها حملة نابليون بونابرت العام 1799 ميلادي. فلسطين دخلها الجيش البريطاني العام 1917 ميلادي وخرج منها العام 1948، حين احتلها الصهاينة وأعلنوا فوق أراضيها دولة لهم. كان قد سبق هذا الإعلان حوالي نصف قرن من التخطيط والتنظيم والتدبير، وسوف يخرجون كما خرج غيرهم.
فلسطين التي كانت محور التقاطعات والتجاذبات والصراعات تاريخيا، سوف تظل في قلب الأحداث التي تجري مستقبلاً. فلسطين كان اسمها وسوف يظل، ولا يمكن للمنطقة أن تستقر دون حل عادل وشامل وكامل للقضية الفلسطينية، يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المسروقة، وتمكينه من إقامة دولته المستقلة فوق أرضه وعاصمتها القدس الشريف.

راهن عربي غير مؤهل للدعم
تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني أثبت أنه لا يمكن لنا مواجهة القوة الإسرائيلية بأسلوب ناعم يعتمد على قوة الحق وفضيلة الأخلاق، فالتاريخ يظهر بوضوح أن لا حقوق دون قوة تساندها. لقد وصل عجز السياسات الرسمية لمعظم الأنظمة العربية إلى مرحلة تتسابق فيها الدول العربية على الاعتراف بإسرائيل وتبادل الزيارات والوفود، وفتح قنصليات ومكاتب تجارية إسرائيلية في بعض العواصم العربية، واستقبال وفود رياضية وتجارية وثقافية إسرائيلية، وسواها من العلاقات التي كانت محرمة فيما مضى حين أعلن العرب لاءاتهم الثلاثة، لا صلح لا تفاوض لا اعتراف. ووصل إخفاق وانكسار العرب أقصاه في هذه المرحلة حيث لا وجود لأي استراتيجية عربية حول إسرائيل، لا استراتيجية مواجهة ولا استراتيجية سلام. والمرعب أن يشهد الوضع العربي انحداراً وسقوطاً وتراجعاً في الدعم لفلسطين. والذل أن يتآمر بعض الاشقاء العرب على فلسطين وقضيتها وشعبها. لقد جرى تقزيم المسألة الوطنية الفلسطينية على أنها قضية الفلسطينيين فقط، في وقت تواصل فيه إسرائيل إصدار القوانين العنصرية، ويستمر تهويد الأرض وطمس هويتها العربية، وما نخشاه هو أن تتحول فلسطين إلى أندلس جديدة فيما العرب يتفرجون، ونفقدها للأبد.
ندرك كفلسطينيين أن الواقع العربي مثقل بالأعباء والأمراض والإشكاليات والتعقيدات السياسية والاقتصادية والأمنية، ويواجه الصراعات الداخلية والتحديات الاستثنائية بفعل سياسات الاستبداد لمعظم هذه الأنظمة التي جعلت الشعوب العربية تلهث خلف لقمة العيش. هذه الأمة غير قادرة على اختيار حاضرها ومستقبلها، وهي عاجزة عن دعم القضية الفلسطينية، التي طالما جعلت منها معظم الأنظمة مطية لتحقيق المآرب على حساب مصالح الشعب الفلسطيني، وطالما رفعت هذه الأنظمة الشعارات المزيفة لتستميل شعوبها وتتاجر بالقضية الفلسطينية. لكن الأحداث تُظهر أن الشعب الفلسطيني هو من سيقوم بتخليص وتحرير الشعوب العربية من أنظمة القمع والبطش، ويُطلقها من معتقلاتها التي تسمى أوطاناً، بعد أن ينال حريته ويقيم دولته فوق أرضه.

العرب وفلسطين
يواجه الفلسطينيون الآن مرحلة شديدة الخطورة، حيث يتعرضون لأقذر المؤامرات وأفتكها وأكثرها سمية منذ قرن من الزمن، بهدف اغتيال القضية الوطنية الفلسطينية، وإماتة الحقوق الوطنية العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، ووأد حلمه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. بالرغم من أن معظم الأنظمة العربية قد وظّفت القضية الفلسطينية لغايات لا ترتبط بفلسطين لكن معظمهم تخلى عنها الآن. وفي الوقت التي اكتشفت فيه معظم الشعوب العربية بعد أكثر من سبعين عاماً على ضياع فلسطين، أن لديها هموماً تشغلها عن نصرة فلسطين وأهلها، اكتشف الشعب الفلسطيني من حُسن قدره، أن مقدرات وقوة معظم العرب على دعم وعون قضيتهم ليست أكبر من قدرتهم ومن قوة الفلسطينيين على إسناد وغوث أنفسهم. كما اكتشفوا حجم كذب ورياء معظم الأنظمة العربية الذي تسبب في إزهاق أرواح آلاف الشهداء الفلسطينيين، وأن تدخّل العرب سابقاً لم يكن تأييداً للقضية بقدر ما كان بسبب دوافع ترتبط بالعرب أنفسهم، الذي لم يخجل معظمهم من إسقاط جدار العداء لإسرائيل علناً. لذلك فقد حان وقت توقف هذا النفاق، وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية. وهنا من المهم التأكيد على أن فلسطين التي سدّدت أثماناً باهظة للحفاظ على قضيتها، لن تتراجع ولن تنكسر ولن تتخلى ولن تفرط بالحقوق وبالوحدة، ولن ترهن قرارها لأية جهة مهما بلغت قيمة الفواتير.

انحدار مرعب
أخفقت معظم الأنظمة العربية الاستبدادية في تحقيق شعاراتها المرتبطة بالوحدة والاشتراكية والاستقلال الوطني والحريات، وعجزت عن إحداث أية تنمية وتطوير في البنى الرئيسية، ولم تتمكن من إحراز مهام التقدم الاجتماعي. لكن هذه الأنظمة حققت نجاحاً لافتاً في بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية التي تخصصت وأبدعت في قمع وقهر المواطنين وسحقهم، وحلت كافة مؤسسات المجتمع المدني، وأغلقت أي إمكانية لتطور الوعي السياسي للناس، وقوّضت مفهوم المواطنة، وقضت على الحوار المجتمعي، وشجعت الولاءات العرقية والإثنية والعشائرية والمناطقية، ونشرت الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع، وسمحت للمفسدين أن يسمنوا ويتغولوا، وقامت بإعلاء المصلحة الخاصة على حساب قيم المنفعة العامة.
أقدمت هذه الأنظمة وبطانتها على تسخير مؤسسات الدولة وخيرات الوطن لخدمة مصالحهم الخاصة ومصالح الاقرباء والموالين، وفككت الروابط الوطنية والاجتماعية والأخلاقية بين مكونات المجتمع، مما أدى إلى ظهور النزعات العرقية والطائفية والقبلية والمذهبية والعشائرية البغيضة، التي فتتت الأوطان وحولتها إلى إمارات وقبائل وطوائف.
الأخطر قيام هذه الأنظمة بتليين وتطويع معظم المثقفين والمفكرين وتدجينهم، ومن لم تتمكن منهم إما زجت بهم في السجون لسنوات طويلة، وإما أنهم تمكنوا من الهرب خارج أوطانهم إلى بلدان غربية حيث حريتهم، وإما أنهم تركوا الشأن الثقافي وانعزلوا عن الحياة العامة. لم تستثني هذه الأنظمة حتى رجال الدين والمشايخ الذين قام بعضهم بإجراء تعديلات على معتقداته لتتوافق مع خطاب المرحلة.
لقد تحولت الأوطان العربية بكل ما تحتويه من بشر وحجر وثروات إلى ملكية خاصة لبعض الحكام العرب، الذين طوعوا كل شيء وحولوه إلى أداة منفعية تخدم مصلحتهم التي أصبحت فوق الوطن والمجتمع والدولة. لذلك فإن مهام التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي التي رفعتها معظم الأنظمة العربية خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين لم يتحقق منها شيء، وأن كل الأحلام التي بنتها الشعوب العربية بعد الاستقلال الشكلي، في حياة تضمن كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، قد جرى إجهاضها ووأدها مرتين في الحقيقة، مرة عن طريق الأنظمة العربية الاستبدادية التي قتلت واعتقلت كل شيء، ومرة أخرى تم هزيمة هذه الأحلام والتطلعات بواسطة الشعوب العربية نفسها التي رضيت أن تُصادر الأنظمة العربية حقها في أن تكون شعوباً حرة، وقبلت أن تكون مجرد قطيع خانع.

حضور إسرائيلي طبيعي
من أبرز سمات المرحلة الراهنة عربياً، غياب معظم الشعوب والأحزاب والقوى العربية غياباً فعلياً كاملاً عن المشهد السياسي والفعل المرتبط بفلسطين والقضية الفلسطينية، وحضور الأنظمة العربية الاستبدادية المنهزمة أمام إسرائيل، والمنتصرة على شعوبها. حضور الحكام العرب الذين يبدون ممانعة للاستجابة لأية مطالب من شعوبهم في تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية والمساواة، وإحداث بعض التحولات التي تخترق جدار التسلط والقمع والتحكم وتفضي إلى مناخات ديمقراطية، لكنهم يُظهرون الليونة والقابلية والتأييد لإقامة علاقات طبيعية "للغاية" مع الكيان الصهيوني، وعلى حساب المصالح والحقوق الفلسطينية.
غاب الجميع وحضرت إسرائيل في أكثر من عاصمة عربية، وحضر النشيد الوطني الإسرائيلي المعروف باسم "هاتكفاه" ويعني الأمل، في داخل القصور الرئاسية والمدرجات الرياضية العربية.
 تواصل إسرائيل نجاحها في اختراق العواصم العربية، في وقت تمعن فيه بقتل الفلسطينيين وتهويد القدس، وتعربد في سماء العواصم العربية، وتهدد وتتوعد هذا وذاك من دول المنطقة، ومعظم العرب لا قدرة لهم ولا بأس، لا يكترثون إلى ما يجري في فلسطين، وصناع السياسة العرب وأصحاب المعالي لا يعنيهم الأمر، كأن الاعتداءات الإسرائيلية تقع في جزيرة غرينلاند وليس في الأرض العربية وأجواءها.
وإسرائيل أصبحت تتأقلم سعيدة مع وضعها الجديد كعضو مقبول ومرحب به من معظم الدول العربية، لذلك هي تعمل على تجاهل  القيادة الفلسطينية، وشطب العمل الفلسطيني من حساباتها، وتتغافل عن أي حلول لصراعها مع الفلسطينيين، طالما أن علاقاتها مع معظم الأنظمة العربية والإسلامية في أحسن حال.
 تماماً كما أسقط معظم العرب من حساباتهم شرط إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، والتوصل إلى حل عادل وشامل يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، كشرط مسبق لقيام تطبيع عربي وعلاقات مع الكيان الصهيوني.
 
تثبيت الثابت
أي مثقف أو مواطن أو مسؤول عربي أو إسلامي يرضى بتهويد القدس، ويوافق على التسليم بالأمر الواقع بوجود إسرائيل فوق كافة الأراضي الفلسطينية، دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.
وأي زعيم عربي أو إسلامي يتساوق مع الأفكار والتبريرات الإسرائيلية التي تتجاهل الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير مصيره، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين والتعويض عن ممتلكاتهم التي فقدوها. ويقبل التطبيع مع إسرائيل.
كل مفكر عربي أو إسلامي كان يدعو إلى الأفكار الليبرالية التحررية، وإلى الحداثة وقيم العدالة والاشتراكية، ولا يبدي اليوم تضامناً واضحاً معلناً مع الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الثابتة.
كل مثقف وكاتب وإعلامي وأديب يتصالح مع الإرهاب الإسرائيلي، ويداهن الاحتلال، ويتردد في الثوابت الوطنية، ويتقلّب في مواقفه من القضية الفلسطينية.
كل من يفرط بالحقوق الفلسطينية والعربية، ويبدد تضحيات من سبقونا من الشهداء والجرحى والمعتقلين، ويحاول مقايضة الحق بالباطل. وكل من يحرف معركة الأمة المركزية عن مسارها، وكل من يشتت جهد الأمة في صراعات جانبية ومعارك ثانوية.
كل زعيم أو مسؤول عربي أو إسلامي يتعامل مع فلسطين في العلن بالخطب الحماسية والتظاهرات الحاشدة والاعتصامات وحرق الأعلام والصور والإطارات، ويتعامل في السر بمزيج من المؤامرات والصفقات والتسويات والاتفاقيات والزيارات الودية والشراكات والعقود والمساعدات.
من تاجر بالقضية الفلسطينية من الأنظمة العربية ومن المعارضات، ومن اعتبر يوماً أن فلسطين أم القضايا ثم خذلها لحسابات ومصالح ترتبط به وحده، من الأحزاب والقوى العربية التي كثرت أقوالهم وانعدمت أفعالهم. من يحاول تبخيس وتجاهل نضالات شعب عظيم عرف كيف يحافظ على هويته، بالرغم من أن العالم كله وقف ضده وسعى إلى إلغائه.
من يتآمر على الشعب الفلسطيني وقضيته وقيادته من العرب والمسلمين. من يحاول تمرير صفقات مشبوهة لتصفية القضية الفلسطينية.
جميع هؤلاء معادون للشعب الفلسطيني، ويقفون ضد تطلعاته وحقوقه المشروعة، متآمرون مع العدو الوطني والقومي لفلسطين والعرب. خائنون للعهود والمواثيق مع فلسطين وأهلها ومع شعوبهم وأنفسهم، نكثوا شعاراتهم ونقضوا التزاماتهم، هم دون ضمير عربي أو إسلامي أو إنساني، لا مبادئ لهم ولا قيم، أصحاب شعارات زائفة، لا بصر لديهم ولا بصيرة، ويل لهم من شرب قد اقتراب.

نقول فهل نتعظ؟
من المعيب الفاضح أن يحتاج الشعب الفلسطيني وقيادته إلى كثير الجهد من أجل لفت أنظار الأشقاء العرب أنظمة وشعوباً إلى قضيتهم العظيمة بعد مرور حوالي سبعين عاماً على النكبة البغيضة، التي أسهمت بعض الخيانات العربية في إخراج مشاهدها بالكيفية المؤلمة التي تمت. الكارثة المبكية أنه أصبح لدينا عدداً غير قليل من العرب لا يعرفون شيئاً عن فلسطين وشعبها وقضيتها.
في ظل الظروف الراهنة عربياً والاستثنائية في الانحدار والتشرذم والسقوط الأخلاقي، والوداعة مع الاحتلال الإسرائيلي، والإذعان المهين للضغوط الأمريكية، هل نحتاج اليوم لرجل يشبه زياد بن أبيه "زياد بن عبيد الثقفي" الذي صاح في خطبة البتراء الشهيرة، حين ولاه معاوية بن أبي سفيان على البصرة التي كانت معقلاً للخارجين عن طاعة الخلافة الأموية، فصعد زياد على منبر المسجد وخطب في الناس قائلاً "إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقي الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم"، أم أن العرب اعتادت كثير القول دون أن يتعظ أحد؟


98
أدب / ننتظر ولادة الماء
« في: 18:20 03/01/2019  »
ننتظر ولادة الماء

حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


1
غيابكِ يلد
ساعات قاحلة
تطوف في أواني زجاجية
وأمنيات تطفو
على الفراغ بكسل
كما أنتِ
تسافر الفصول
في بطافات الدهشة
ويسمو الشوق
مثل ساقية تبتسم
لخزائن المطر
لا نهاية فيكِ لورد البساتين
مثلما يراقص الثمر
إيقاع المسافر
أحلّق إليكِ
في كل الاتجاهات
أنا وأنتِ نغرد بلا أسماء
فتسقط فاكهة الجسد
تربكني المسافات العنيدة
بيني وبينكِ
يستدرجني وجهي لتفاصيل الوجد
لكن
لا شيء في ملامحكِ يشبهني


2
أحرقنا كثيراً من الصور
قبل العودة
وتأملنا اللوحة الأخيرة
قبل كتابة العهد الأول
كان الخريف غزيراً
يقطف بساط الزهر
مثل مطر غاضب
ينقر وجه الزجاج
والعمر الهزيل صور
تؤسس لوحشة الخيبات
كم هروباً لم نتعب
مازال في الغياب
لحظات نستدرجها
لعبور جسر الذاكرة


3
كبرنا
بعد أن عبرنا عتمة العمر
كومض النور
شيئاً من الفوضى
وأشياء من القلق
أحببنا الصراخ بين السطور
وعشقنا وطناً هربنا منه
حملنا معنا كتباً
وتعلقنا ببعضها
مثل صغير يشد ثوب أمه
كَتَبنا من رحلوا
نحن هناك
وقبل أن تلفظنا شهقة الحجر
نهيئ للموت أسباب الحياة


4
أحلامنا غيوم حبلى
واليقظة عشب جاف
ونحن كطيور المطر
ننتظر ولادة الماء
ماء عينيكِ يقشّر
بلابل النهار الراكد
ويبلّل مجرى الضوء
خبئيني في ثوب الليل
حكاية للموسم المرتبك



5
يلتقط رماد الوقت
بكاء الحروف
يزحف الهشيم
على شفق الحكاية
والكلمات تتشح بالسواد
يجثو الوعد
أمام التوابيت الصغيرة
لا تأتوا اليوم
ولا غداً
تيقّنوا من التشييع
قبل الميقات


6
وحيدة كانت
في قاع الجرة العتيقة
فوق ظهرها
عمر المحتضرين
قالت كيف تتحاشى الصارية
ريح النهر وعزلة الحياة
قال الراعي
الغيث الغيث
قد انقلبت الأرض
والعشب وطَأً الماء

99
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


في فقه التشريع.. تضامن أم تطبيع؟
الحج إلى رام الله

يشتد الجدل واللغط في أوساط المثقفين والسياسيين كلما قام أحدهم بزيارة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وينشغل هؤلاء في تصنيف الزيارة وتحديد إطارها ومقاربة معانيها، وينقسم المتجادلون إلى فريقين، أحدهما يضع هذه الزيارات خاصة إن كانت من قبل مؤسسات وهيئات فلسطينية في خانة التضامن مع أهلنا في فلسطين ودعم صمودهم، والأخر يعتبر هذه الزيارات تطبيعاً مع العدو الصهيوني. هذا الحوار بين الفكر والموقف ونفسه سبّب الشقاء للشعب الفلسطيني، ولم يسفر عن التوصل إلى أية نتيجة بين المتحاورين، بالرغم من أن الذرائع والمبررات التي يسوقها الطرفين تبدو منطقية وأخلاقية إلى حد بعيد.

نقاش هادئ
يجب التأكيد بداية على أن إطلاق التهم على كل من يزور الأراضي الفلسطينية المحتلة لا يفيد أحداً أياً كان الرأي والرؤية والموقف لكل منا حول السفر إلى فلسطين. ومن المؤكد أيضاً أن هذه الخطوة هي أمر إشكالي ويزيد من تعقيداتها أن معظم المؤيدين والرافضين يتخذون موقفاً متشدداً إقصائياً ضد الآخر.
 هل هي تطبيعاً أم تضامناً؟ البعض يعتبرها تطبيعاً لأنها تستوجب موافقة إسرائيلية، والأخرون ينظرون للأمر على أنه تضامن مع محاصر، وزيارة مريض في مشفى يقع ضمن سلطة احتلالية. ولأن الزيارات لم تتوقف وسوف تستمر وتتواصل، سيكون من المهم والأجدى أن يتم نقاشها بهدوء وموضوعية، وتبيان محاسن ومساوئ هذه الزيارة.
إن قيام المثقفين والأدباء العرب إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وزيارة المؤسسات الثقافية والعلمية والأكاديمية الفلسطينية، وتنظيم الفعاليات تحت العلم الفلسطيني، هو بمثابة زيارة الشقيق للشقيق والتعرف عن قرب على كتابه ومثقفيه وأدبائه وشعرائه، وكل ما يثار من لغط حول هذه الزيارات يدخل في باب العنتريات والبطولات الهلامية التي أفضت إلى هزائم لحقت بالشعب الفلسطيني طوال أكثر من سبعين عاماً.
إن الإنسان الفلسطيني المحاصر في فلسطين والصامد الثابت على أرضها، المتلهف أن يقوم الأشقاء العرب بكسر الحواجز التي تضيق عليه، هو وحده من يمتلك حق إصدار الأحكام في الوطنية من عدمها، وتثبيت شبهة التطبيع أو نفيها.
لا أحداً يمتلك حق إلصاق تهمة التطبيع مع الكيان الصهيوني، إلا الشعب الفلسطيني نفسه داخل فلسطين. إن هذه المرحلة الخطيرة تشهد صراعاً وجودياً بين الفلسطيني صاحب الأرض وبين المحتل القادم من أماكن مختلفة، صراع على هوية البشر وهوية المكان. وفيما يقوم الآخر بعمل منظم ومنتظم لتغيير هوية المكان، يبدو الفلسطينيين والعرب متشرذمين ومفتتين وعاجزين عن مواجهة هذا التحدي.

ظروف استثنائية
حين تتعرض القضية الوطنية الفلسطينية برمتها إلى تقويض دعائمها كما يحصل في هذه المرحلة بهدف إنهائها، وحين يتعرض عموم الشعب الفلسطيني إلى مؤامرة قذرة من الولايات المتحدة والغرب وبعض العرب، فإن المهمة الأولى والرئيسية للمثقفين والسياسيين ولجميع الشرفاء من أبناء الأمتين العربية والإسلامية هي إظهار التضامن مع الفلسطينيين أينما تواجدوا، خاصة في مناطق فلسطين المحتلة، ودعم صمودهم وتمسكهم بأرضهم ودفاعهم عن حقوقهم. يجب إعادة الاعتبار لقيم التعاضد والتآزر والتكاتف بين أبناء شعبنا، وهذا يتطلب إنهاء الانقسام في البيت الفلسطيني بصورة طارئة، وتوحيد كافة الطاقات والجهود لمواجهة المخاطر المترتبة عن المشاريع والخطط التصفوية التي تتم في الغرف السوداء بهدف القضاء على الحلم الفلسطيني.
إن مواجهة تحديات المرحلة لا يتطلب التمترس خلف الماضي الثوري الرومانسي، بل يجب تحويل هذا الماضي إلى أداة عمل ورافعة بهدف إعادة تشكيل الراهن الفلسطيني. وأية محاولة لإحياء القتيل هي شبيهة بالدعوة للخروج من التاريخ، ورفض الواقع بصورة عبثية للهروب إلى الأمام، وإدارة الظهر عن الواقع بكافة تحدياته. إن أصحاب هذه الرؤية يسعون للخلاص عبر الدعوة للماضي، بسبب عجز هذه القوى وفكرها عن التصدي للمهام التي تتولد من الراهن، وعدم مقدرتهم الإجابة على أسئلة الحاضر ومفاعيله بكل تعقيداته.
فمن البلاهة وقصر النظر الظن أنه بالإمكان لوي عنق التاريخ لإجباره على أن يكون كما نرغب ونتمنى، وإرغامه على الإنجاب، من دون أن يكون التاريخ في تلك اللحظة التاريخية في حالة حمل حقيقي وليس حملاً كاذباً.

فقه المقاطعة
إن كانت زيارة قطاع غزة وهي أرض فلسطينية محتلة ومحاصرة من قبل العدو الصهيوني فعلاً تضامنياً، فكيف تصبح زيارة الأرض الفلسطينية المحتلة والمحاصرة في مناطق الضفة فعلاً تطبيعياً مع إسرائيل؟
إن كان هناك توافق على الأهمية القصوى لاستمرار وصول قوافل وحملات التضامن الدولية مع قطاع غزة من أجل رفع الحصار الإسرائيلي والعربي والدولي عنها مرة واحدة وإلى الأبد. لكن مهلاً، أليست الضفة الغربية هي أيضاً محاصرة ومستباحة من قبل الكيان الصهيوني، وفي أمس الحاجة إلى حملات تضامنية داعمة لرفع الحصار عنها هي الأخرى؟ إذن كيف يعتبر القومجيون واليساريون أن الذهاب إلى قطاع غزة فعلاً تضامنياً وواجباً دينياً ومسؤولية أخلاقية وإنسانية وموقفاً قومياً يكاد يرقى إلى نيل الشهادة، بينما السفر إلى مدن الضفة الغربية المحاصرة والتي تحتاج هي أيضاً التضامن، يعتبر فعلاً تطبيعياً يثير الحساسية خاصة عند من يرتفع صراخهم وتنعدم أفعالهم.
إن كان سبب غضب بائعو الوهم أن قطاع غزة يتعرض للقصف الصهيوني الوحشي وتتم محاصرته لأن حركة حماس اتخذت خطاً مغايرا عن المسار الذي خطته السلطة الفلسطينية في الضفة، الأمر الذي استوجب التعاضد معها والتآزر مع أهلنا الصابرين في غزة، وهذا شأن يُحترم لأن الاختلاف حق مصان للآخرين ويثري البيت الفلسطيني ويغنيه ويقويه، بشرط أن يكون الوطن فوق كل الاختلافات. لكن أيها المثقفون الجذريون، ألم يتم قصف مناطق الضفة الغربية بذات الوحشية ومن قبل ذات العدو في فترات ماضية، ألم تشهد – وما زالت- ارتكاب العديد من المجازر والأعمال الوحشية من قبل الجيش الإسرائيلي، الذي ما زال للآن يستبيح كافة مدن وقرى الضفة الغربية ويهدم البيوت ويقتل الشباب والنساء والأطفال. إذن لماذا كان وما زال السفر إلى الضفة الغربية بالنسبة لكم عملاً شائناً وموقفاً انهزامياً وشبهة تطبيعية تستوجب الدرء؟ هذا لا يعني بأي حال الانتقاص من حق أهلنا في غزة علينا وعلى العالم الحر في مواصلة التضامن والضغط على الاحتلال لرفع الحصار عنها بشكل نهائي، لكن هذا يستوجب أيضاً التأكيد على أهمية أن نمتلك معياراً واحداً ومكيالاً واحداً لمفهوم التضامن الذي يفرض علينا واجباً تعاضدياً مع أهلنا في مدن الضفة الغربية المحاصرة.

القدس في السياسي والديني
إن القدس هي المدينة الوحيدة في الكون التي تتمتع بالقدسية عند أتباع جميع الديانات السماوية، وهي مدينة مفتوحة على السماء ومحط أنظار العالم. وبالرغم من أنها كانت عاصمة الثقافة العربية في العام 2009 إلا أنها لم تحظى بمكانتها التي تستحق من قبل المثقفين العرب وهيئاتهم، لا رسمياً ولا شعبياً. القدس التي قاومت أربعاً وعشرين محاولة لتدميرها على مر التاريخ، سوف تظل صامدة ومقاومة، وعلى جميع المثقفين والشرفاء من الأمتين العربية والإسلامية أن يقاوموا معها كافة محاولات تغيير هويتها.
سياسيا فإن الموقف من زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة يتباين بين دولة وأخرى، فعلى سبيل الذكر إن الحكومة التركية تشجع وتدعو المسلمين الأتراك لزيارة الحرم القدسي، وتعمل على إعادة إحياء التقليد القديم الذي يقضي بزيارة الأقصى للمعتمرين بعد زيارة مكة والمدينة. وفي هذا السياق قام رئيس مؤسسة الشؤون الدينية التركية "مهمت غورماز" قام بزيارة إلى مدينة القدس في العام 2015 وألقى خطبة الجمعة من على منبر المسجد الأقصى بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج.
السلطة الفلسطينية تشدد على ضرورة التواصل مع مدينة القدس وتدعو المسلمين من خارج فلسطين وغيرهم إلى زيارتها وهي تحت حراب الاحتلال بهدف دعم صمود وثبات المقدسيين والتأكيد على عروبة المدينة المقدسة.
الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل بزعامة الشيخ رائد صلاح، وحركة حماس، لهما موقف مختلف حيث ترفضان مبدأ الزيارة وتعتبرانها تطبيعاً مع الاحتلال الإسرائيلي، وكانت الحركتان قد رفضتا زيارة العديد من الشخصيات الإسلامية للمدينة، مثلما حصل مع زيارة مفتي مصر السابق الشيخ "علي جمعة" وزيارة الداعية الصوفي اليمني المقيم في السعودية "الحبيب الجفري".
فيما يرتبط بالموقف الديني، فإن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه الشيخ القرضاوي، كان قد أصدر فتوى بتحريم الزيارة لغير الفلسطينيين لمدينة القدس في ظل الاحتلال. منظمة التعاون الإسلامي وعلى لسان أمينها العام "إياد مدني" خلال زيارته لمدينة القدس العام 2015 دعت المسلمين إلى زيارة مدينة القدس التي أعلنت عاصمة الثقافة العربية.
الحكومة الأردنية المشرفة على الأوقاف الإسلامية في مدينة القدس أكدت على لسان وزير أوقافها "هايل داود" على أهمية زيارة المدينة المقدسة، وقال: إن كان لك أسيراً لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فهل تمتنع عن زيارته لأن ذلك يتطلب إذناً من آسره؟ وأكد أن الأردن تبذل أقصى جهودها للتيسير على من أراد زيارة المسجد الأقصى ودعم المقدسيين.
هذا الجدل والنقاش الدائر منذ زمن حول زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة والمسجد الأقصى، لم يتم حسمه بعد، ولا يبدو أنه سوف يحسم في الأجل القريب، وكل فريق يسوق لك الحجج الأخلاقية المقنعة لإثبات وجهة نظره.
حتى المقدسيين أنفسهم الذين يواجهون يومياً سياسة التهويد لمقدساتهم منقسمون حول جدوى هذه الزيارات، فمنهم من يرفضها وهناك من يرحب بها. فقد أظهر المقدسيون امتعاضاً من زيارة وزير الخارجية المصري السابق "أحمد ماهر" للمسجد الأقصى وقاموا بطرده أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فيما لاقت زيارة المسؤول التركي الصدى الإيجابي والترحيب من المقدسيين الذين احتشدوا للسلام عليه.

توريط أم
يتعامل بعض المثقفين العرب مع الدعوات التي تصلهم من مؤسسات وهيئات واتحادات فلسطينية مقرها في رام الله لزيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة، على أنها توريط في التطبيع. إن من يعتبر السفر إلى مناطق الضفة الغربية تطبيعاً مع إسرائيل، إما أن يكون صاحب رؤية مشوشة وبالتالي هو يدعم بحسن نية المخطط الإسرائيلي الذي يسعى إلى أن يكون الفلسطيني في فلسطين معزولاً ومسجوناً ومحاصراً، وأن تظل المؤسسات والهيئات الفلسطينية في حال من انعدام التواصل مع الداخل والخارج. وإما أن يكون أداة توظيفية في مشروع لضرب الوحدة الفلسطينية، أو أن يكون منحازاً للموقف المتشدد الرافض لوجود قوات الاحتلال على الأرض الفلسطينية، أو أن يكون له موقف ضد السلطة الفلسطينية لأسباب سياسية أو عقائدية أو تكتيكية، لكنها بالضرورة ليست أسباباً وطنية.
إن المثقف الحقيقي لا يحتاج إلى مؤسسات واتحادات ونقابات تحدد له معيار الوطنية من سواها، وترسم له الحدود الفاصلة بين التضامن والتطبيع. فالمثقف فلسطينياً كان أم عربياً هو ذاته يضع معاييره ويرسم حدوده الخاصة ارتباطاً برؤيته وموقفه من الصراع، وبناء على احتياجات ومتطلبات الشعب الفلسطيني القابع تحت الحصار والمكبل بالأغلال الإسرائيلية والعربية. إن السعادة التي تلمسها في الفلسطيني الذي تلقاه داخل فلسطين، ويقابلك بكل احتفاء ويشدد على أهمية تضامنك معه ومشاركتك بعض معاناته، لهو فعل لا تحدده نقابة أو اتحاد أو جهة في أي قطر عربي.
إن كسر الحصار عن الشعب الفلسطيني في فلسطين بكافة أماكن تواجده، إن كان في مناطق الجليل والشمال الفلسطيني، أو في مناطق الضفة الغربية أو في قطاع غزة، وتذويب الحواجز التي يفرضها الكيان الصهيوني على شعبنا وتحول دون تواصلهم فيما بينهم، هو ليس فقط عملاً مشروعاً، بل واجباً وطنياً وقومياً وثقافياً واجتماعياً وإنسانياً. فكيف لمثقف أو مناضل أن يمنع الوصول إلى الأسرى المحررين والأسيرات الفلسطينيات المحررات، وإلى أمهات الشهداء والأسرى، إلى الجرحى والاستماع إلى روايتهم ومعاناتهم التي لا تجد الاهتمام من وسائل الإعلام العربية.

ترف المزايدات
منذ نكسة العام 1967 حرص الفلسطينيين وأصروا على التواصل مع أهلهم وأرضهم وذاكرتهم عبر الزيارات السنوية الدائمة للأراضي المحتلة، ومنهم كان يضطر للحصول على جواز سفر أردني خاص للسفر إلى فلسطين لأن السلطات الإسرائيلية كانت تختم تلك الجوازات في المعابر الحدودية، ولم نسمع أن قال أحدهم يوماً أن هذا عملاً تطبيعياً مع العدو، فما الذي تغير حتى أصبح بعض المتكسبين يتخذون من هذا الأمر ذريعة لوسم أي زيارة للأراضي الفلسطينية المحتلة الصابرة والصامدة والمحاصرة بأنها تطبيعاً.
بعض اليساريون والقومجيون العرب وبعض المثقفين الذين يشككون في وطنية ونزاهة من يزور فلسطين، هم ببساطة يزايدون على الآخرين من خلف مكاتبهم المكيفة، ولم يكن يوماً واحداً منهم في خطوط المواجهة اليومية، التي تشهد حالة الصراع الوحيدة عربياً ما بين الشعب الفلسطيني وشبابه ونسائه وأطفاله وما بين قوات الاحتلال البغيضة. ومنهم من يرفض زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة لأنه يعتبر هذه الزيارات دعماً للسلطة الفلسطينية وسياساتها التي يتحفظون عليها.
بدلاً من الخطابات الصمّاء، على هؤلاء -والجميع أيضاً- القيام بمقاربات نقدية وعقلانية وموضوعية لهذه الزيارات، مقاربات تحرر العقل والوعي العربي من التخبط والانفعال، وتأسس لوعي وفكر مقاوم واع لا مواقف وأفعال انفعالية.
هل عدم زيارة المثقف للأراضي الفلسطينية المحتلة كافياً وحده لاعتبار هذا المثقف فدائياً ونظيفاً ومقاوماً غير مطبعاً؟ بالطبع لا.
من السهل الوقوف في منبر خطابي والدعوة إلى مقاومة التطبيع والاكتفاء بإصدار الفتاوي الثقافية والشرعية المانعة التي تحرم زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة أو تحللها، فالتحريم والتحليل بظني أمران يرتبطان بتغير الظروف والملابسات.

الشعب الطليق
لا يمتلك العرب ولا المثقفين رؤية واحدة شاملة ولا موقف موحد بشأن القضية الفلسطينية، ولا فيما يتعلق بزيارة الأراضي المحتلة، والأسوأ أننا نشهد انحداراً وتراجعاً مقيتاً مرعباً مخجلاً في معظم السياسات العربية الرسمية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وصل إلى حد تآمر بعض العرب على الفلسطينيين وعلى قضيتهم من خلال التنسيق الأمني المكشوف والعلني مع إسرائيل ضد المصالح الفلسطينية، وعبر التحامل الذي يظهره بعض المثقفين العرب على الفلسطينيين من خلال الغمز واللمز الموجه للسلطة الفلسطينية والتي لا ننكر أنها موضع انتقاد لأدائها السياسي. فلا يجب تسييس الموقف من السلطة الفلسطينية وتوظيفه ثقافياً وإسقاطه على العلاقة مع الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، والذي يؤيد في معظمه السلطة وينتقدها في ذات الوقت.
بينما تستمر إسرائيل كل يوم بإصدار القوانين العنصرية التي تهدف إلى ابتلاع ما تبقي من فلسطين وتشريد الفلسطينيين، والتأكيد على أنها لم تعد عربية، وما نخشاه هو أن تكون فلسطين أندلس جديدة نفقدها إلى الأبد.
لكن تكشف الأحداث يوماً بعد يوم أن المشروع الصهيوني فشل في احتلال فلسطين، بينما نجح في احتلال بعض الدول العربية الأخرى والسيطرة عليها، وأن الشعب الفلسطيني هو الشعب الذي يتمتع بالحرية الوجدانية النضالية، وأن غالبية الشعوب العربية أسيرة ومعتقلة في سجون تسمى أوطاناً، لذلك فإن هذه العلاقة بين العرب والفلسطينيين باتت تستوجب التصويب، فمن الظلم أن نطلب من الشعوب العربية التضامن مع القضية الفلسطينية، فلا يمكن لمريض أن يداوي سليماً معافاً ولا يمكن لسجين أن يناصر حراً.

للتضامن بقية
لا أنكر أن زيارة الأراضي المحتلة قد يبدو فعلاً ملتبساً بالغ التشابك والتعقيد بالنسبة للمثقفين العرب، ولا يمكن مقاربته بصورة سطحية وساذجة، لكن ما أنا على ثقة منه أن زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة بدعوة من جهات فلسطينية هي دعم صمود الشعب الفلسطيني الصامد في وجه كافة المحاولات لتغيير هويته وملامحها.
القضية الفلسطينية التي تمكنت مؤخراً من اختراق عدة منابر دولية، وحصلت على قرارات هامة داعمة لها، تحتاج اليوم من المثقفين العمل على تحويل إنتاجهم الإبداعي لمبادرات حقيقية من أجل الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وأن تظل فلسطين وحقوق شعبها حاضرة دوماً أمام العالم.
تقوم ثقافتنا الفلسطينية على أساس التمسك بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة والسلام العادل عبر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وليس هناك من هو أقدر من المثقف على إعادة الاعتبار للتضامن العربي مع القضية الفلسطينية وشعبها، هذا التضامن الذي بدأ ينحسر في ضوء المتغيرات التي تشهدها المنطقة التي دفعت بالدول العربية إعادة ترتيب أولوياتها، ويبدو أن فلسطين أصبحت خارج اهتمام الكثير من الدول العربية.


100
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

فينومينولوجيا شقاء الوعي..
مأزق المثقف العربي



أزمة المثقفين المنخرطين العرب ليست فقط أزمة علاقتهم بالسلطة السياسية والدينية، بل إنها في عمقها أزمة ضمير وأخلاق والتزام يولّد شقاءً أو ينتج جاهاً. فلا غرابة أن يكون المثقفين إما أهم أدوات الدفاع عن الحريات الأساسية للناس، وترميم المجتمعات التي أعطبتها الأنظمة البوليسية، أو أن يكونوا سلاحاً بالغ الخطورة بيد السلاطين، لتزييف وعي وواقع البشر وذاكرتهم وتاريخهم.
من البؤس والوحشة أن يكون الفرد تعيساً بسبب وعيه. في المناخات العربية التي ابتليت بكافة أمراض النمو، ولم تنل أية جرعة لقاح حقيقية، رغم وفرة الأطباء، تتعدد الظروف التي تضاعف شقاء المثقفين، شقاء يسببه وعيهم المعرفي، وشقاء آخر ناجم عن الإقصاء والتهميش التي تعتمده السلطة كمنهج للتعاطي مع المثقفين، وشقاء يتولّد عن قيام المثقف بالانكفاء والانعزال عن المجتمع طواعية، أو ربما يكون العزل قسرياً، حيث يدفعه تجاهل الجماهير له ونبذهم لأفكاره ومواقفه على الخلوة وترك الشأن العام، عزلة مميتة قد تتسبب بالانتحار الثقافي، وأحياناً يُرغم المثقف على الرحيل الفكري.
ليست المعضلة في السفر الثقافي، من خلال انتقال المثقف من أيديولوجيا إلى أخرى، ومن مذهب فلسفي إلى آخر، في مسيرته البحثية لاكتشاف الصواب والحقيقة، ما دام هذا الانتقال له ما يبرره فكرياً، ومبني على إعادة قراءة التجربة وتقييمها. أو إن دُ فع للانتقال قسراً، لكن المصيبة في السفر الطوعي الانتهازي، في الانتقال بهف تحقيق المنفعة الشخصية. الإشكالية المفجعة في السبات الطويل لضمير بعض المثقفين، الذي لا يصحو من غفوته إلا من خلال مقايضات خالية من المنهجية ومن الأخلاق، والطامة في وجود بعض المثقفين الذين هم أشبه بالمقاولين للأفكار والمواقف والخطابات والشعارات، عبر توظيف ذخيرتهم المعرفية واللغوية، في سوق المشتري فيه من يدفع أكثر.

خطاب تغريبي
لا يستوي المثقفين في التعريف والدور والتصنيف، فمنهم المثقف التقليدي أشبه بأجير العمل الوظيفي الثقافي، يكرر القيام بما يجيد فعله. وفيهم المثقف العضوي الذي إما أن يكون ملتصقاً بسلطة، أو مناهضاً يسعى للتغيير. وهناك بعض أشباه المثقفين الذين يتسمون بالانتهازية، فترى أحدهم قد انتحل شخصية المثقف ويتلوّن حسب مقتضيات المناسبة وشروط الولاء، ويتحول في كل مرحلة، يقوم بالتشكل حسب القالب كأنه مادة هلامية، يؤمن بأن لكل مقام مقال.
يعاني المثقف العضوي المشتبك والمساهم في الصراع لإحداث تغيير حقيقي في واقع الإنسان نحو الأفضل، من مأزق إشكالي يتجلى في مفارقة عجيبة، بين دوره الريادي في مجتمعه، وعدم إظهار التقدير والاحترام له من قبل أفراد هذا المجتمع. يظهر المأزق في حالة الإرباك التي يعاني منها رغم نبل أهدافه ورزانة رأيه وحماسه الطفولي، فالمثقف العضوي الحداثي لم يستطيع إدراك عدم جدوى فعاليته وجهوده في المجتمع الذي ينشط فيه. فحين تمارس عليه السلطة السياسية أو الدينية القمع والقهر وتحاصره وتزج به في السجن، يصاب بالإحباط والقنوط حين يلمس اللامبالاة وعدم الاهتمام من الناس الذين كان يؤمن بهم، خاصة أنه يجهد ويناضل لأجل مصالحهم ومستقبلهم، وقد يقضي السنين خلف القضبان لا يذكره أحد سوى في المناسبات الثورية، وحين يموت يخرج خلفه القلة ممن يعرفون القيمة الحقيقية لجهده وأفكاره ومواقفه، وإن كان محظوظاً يرثيه البعض في ذكرى غيابه ويتأسفون عليه.
ربما هذا المأزق بظني يعود في أحد جوانبه إلى المفاهيم المثالية التي يتصورها المثقف عن الغالبية الكبيرة من أفراد المجتمع الذين لا يمتلكون مصادر الوعي الثقافي والمعرفي التي يمتلكها المثقف ذاته، لذلك قد لا يلحظ في غمرة اندفاعه للدفاع عن مصالح الناس، أنهم ذوي ثقافة تقليدية اجتماعية، يعتبرون أنها ثقافة آمنة تجنبهم سخط السلطات السياسية والأمنية والدينية.
تبدو هذه المفارقة جلية أكثر ربما مع مثقفين الأحزاب القومية واليسارية الليبرالية، وهو ما يفسر سبب انسحال هؤلاء وفشلهم في الالتحام مع الجماهير. وفي مقابل هذا الفريق من المثقفين هناك طائفة أخرى من المثقفين التقليديين، الذين تمكنوا من التأثير على مواقف البشر وأفكارهم، لأن المثقف التقليدي تربطه بمحيطه الاجتماعي تداخلات اجتماعية وتاريخية ومكونات متوارثة. واتضح أن المثقفين التقليديين الذين يبدون كأنهم جنوداً قدامى متقاعدين، أكثر تأثيراً وفاعلية في المجتمع من المثقفين الليبراليين واليساريين، من خلال مقدرتهم على التواصل مع الجماهير، رغم أنهم مثقفين غير متنورين وعايشوا فترات زمنية مغايرة تماماً عن عصرنا، وخبروا نظماً اجتماعية وسياسية وعادات وتقاليد ومشاكل تختلف تماماً عن النظم الحديثة التي يعيشها الإنسان المعاصر، إلا أنهم يمتلكون ثقافة يصل الناس إليها بدون مشقة، ويتسلحون بمرجعيات فكرية وفلسفية يخبرها الناس، ويستخدمون رموزاً مألوفة للعامة، بعكس المثقف التنويري الذي يجعل الناس تنتقل إلى عوالم زاهية يكونوا فيها مواطنين أحراراً يتنعمون برغد الديمقراطية، لكنه بالمقابل يكون غافلاً عما يدور حوله من شقاء وضنك للحياة، وقمع وقهر تمارسه السلطة.
مأزق المثقف اليساري لجوئه إلى الأفكار والأيديولوجيا الغربية عن مجتمعه، واستعماله المصطلحات التي لا يفقهها الناس، والتي هي بالأساس مفردات مرجعيته الفلسفية التي تشكل مذهبه. بظني أن هذا الاغتراب عن الناس هو الذي جعل من الخطاب الثقافي التنويري العربي عديم الفعالية، وأحدث الأزمة الثقافية الراهنة في نهاية المطاف، والانتقال إلى مرحلة مختلفة سمتها فشل الفكر الحداثي وسطوة الأفكار الظلامية.
معظم المثقفين لا يدركون أنهم يخاطبون جماهيراً لا تعيش في قلاع الأيديولوجيا، ولا تنام على سرير الفلسفة. إن ما يظهر أنه مسلمات بديهية بالنسبة للمثقفين، ليس هو كذلك بالنسبة لعامة الناس، وإن دعوة بعض المثقفين للجماهير أن ترتقي بأفكارها إلى مستواهم المعرفي، ما هي إلا أوهاماً مريضة، ودليلاً لافتاً على اتساع الفجوة بين الأفكار والمعرفة النظرية للمثقف الليبرالي وبين أفكار مجتمعه، فجوة لا تساعد على تحقيق أي انسجام وتناغم بين الطرفين من جهة، وتعمل على تعميق أزمة المثقف من جهة أخرى. فنجد بعض المثقفين يبتعدون عن مجتمعاتهم، وبعضهم يشتمه، والبعض الآخر يتعالى عليه. إن التطور الهائل في وسائل الاتصال والثورة المعلوماتية التي أسهمت بصورة سحرية في سهولة الحصول على المعلومة، وجعلت العالم متعدد الثقافات ومتنوع الأفكار، وأثرت العقول بالمعرفة، لكنها في ذات الوقت غرّبت المثقف عن عالمه المحيط.

شقاء الوعي
من أشهر أبيات الشاعر المتنبي "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم"، هذا البيت ثري بالحكمة وهو ينطق بالمعنى ولا يحتاج تفسير.
لقد بدأ الفيلسوف الألماني "فريدريك هيغل" مشروعه الفلسفي في نقد نظرية الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" وغيرها من النظريات الفلسفية بوصفها شديدة التقييد، حيث طور ما يدعى بالتفكير الديالكتيكي أي التفكير الجدلي. ربط هيغل مفهوم "الوعي الشقي" بإحساس الفرد بالاغتراب عن نفسه ومحيطه، اغتراب يسببه العقل الجدلي التنويري للمثقف العضوي، ومقدرته على الاستبصار.
"جان بول سارتر" اعتبر أن المثقف هو ذاك الفرد الذي يسعى للقيام بواجبات لم يكلفه بها أحد، إذ أن المثقف العضوي المترابط مع قضايا الناس يشكل الضمير والوجدان المجتمعي، لكنه ضمير يشقى في سعيه الوصول لغاياته.
الأديب الروسي الشهير "فيودور دوستويفسكي" ذكر إن الإفراط في امتلاك الوعي ما هو إلا علة، علة مرضية حقيقية وتامة. وقال مرة إن العقل هو الذي يقوده، وذلك تماماً ما تسبب في ضياعه.
إن أفظع ما في القضية في نظري هو أن تفهم كل شيء، فيمكن للوعي ببساطة أن يتحول إلى مصدر للتعاسة والشقاء، ومن سخرية الاقدار هنا أن يصبح الجهل نعمة لصاحبه غالباً. فالإنسان القانع بحياته والراض عن واقعه لا تقلقه الأسئلة، ولا ينتظر إجابات، ولا يشغله البحث ولا تستنزفه الأفكار، فهو قابل بما يمنح له من حقوق. لكن الإنسان الذي يمتلك ناصية الوعي والمعرفة، فإنه مصاب بالقلق ومتوتر بالأسئلة، يبحث دون كلل عن إجابات ترضيه، متعطش للعلم والتقدم، منسحق تحت وطأة المفارقة التي تأزمه، وهي بين وعيه المعرفي الذي ينشد الأمثل، وبين واقعه الرديء.
فالوعي العميق بحقيقة الأشياء وإدراك أبعادها يتسببان بالعذاب للبشر، بحيث يبدو أن أفظع ما في القضية هو أن تفهم كل شيء. ذلك أن الفرد الواعي يمتلك نظرة شاملة، وبعداً أعمق للقضايا، وطموحاً يسعى للأفضل، ويمتلك عقلاً متفحصاً ناقداً محللاً، ووعياً يمكنه من إجراء المقاربات واقتراح البدائل. الإنسان الواعي صاحب خاصية النفاذ إلى عمق القضايا وجوهر الظواهر، يمتلك العزيمة وملكة الإقدام للمضي بحثاً عن الحقائق، ولديه الجرأة لمواجهة وتعرية كل ما هو زائف ومبتذل وسطحي.
هذا حال المثقف حيث أن كثير من المفكرين كانوا يصنفون شرائح المجتمع إلى صنفين "الخواص والعوام" ومنهم الفيلسوف وعالم الاجتماع "ابن خلدون" ووضعوا المثقفين في خانة الخواص، يمتلكون المعرفة ويفتقدون الحظ.

جلد الذات الشقية
هل يمكن أن تتحول الثقافة من وظيفتها الفكرية في تطوير العقل إلى مس يصيب المثقفين بنوبات التعاسة؟ وهل يصبح الوعي المعرفي بما يتضمنه من أفكار سامية مصدراً للشقاء؟
عانى المثقفين العرب دهراً الرهبة والخشية المستمرة من قمع وقهر السلطتين السياسية والدينية، فظلت أسئلتهم مبتورة، وبحثهم غير مكتمل، وخطاهم متعثرة، وشعاراتهم وعباراتهم مواربة ودورهم ضبابي، وعلاقتهم بالناس ملتبسة، وخطابهم مراوغ، لذلك لم يكتمل مشروعهم، وأحلامهم تم إجهاضها وبقي وليدهم يعاني من ضعف ووهن في النمو. ولأن معظم المثقفين العرب لم يتمكنوا من توجيه الانتقاد الفعال للسلطة، بسبب السياسات الاستبدادية التي اتبعتها معظم الأنظمة العربية وأدواتها الأمنية بحق المثقفين، وبالتالي لم ينجحوا في مهامهم، ولم يتبلور مشروعهم التقدمي، لجأ معظم المثقفين العرب إلى سياسة نقد الذات وجلدها بقسوة وتأنيب أنفسهم لهزائم وكوارث العرب التي لا تتوقف، وبالتالي عجزهم عن إجراء أي تغيير حقيقي في مجتمعاتهم. هذه الانتكاسات التي مني بها العرب ما هي في الواقع إلا نتيجة السياسات غير الصائبة والخيارات العشوائية التي أقدمت عليها بعض الأنظمة العربية، التي غيبت بالكامل دور الجماهير في تقرير مصيرها، ولم تتمكن من بناء دولة المؤسسات، لكن وحدهم المثقفين هم الذين نسب إليهم أبوة الهزيمة.
الراهن العربي بخيباته وبؤسه دفع الكثير من المثقفين العرب أن يخطّئوا أنفسهم ويتحملون مسؤولية الشقاء الذي حل بالأمة، وعانوا من الإحساس بالذنب، ومنهم من انتكس وانكفأ على ذاته من مجتمعه، مما أنتج حالة من الاغتراب والشقاء لدى قطاع واسع من المثقفين الذين سقطوا في جادة توبيخ أفعالهم وتقبيح فشلهم، لكن هذا النقد الذاتي للمثقفين العرب لم يكن لا علمياً ولا موضوعياً، بل كان عاطفياً انفعالياً غالباً، بدلاً عن انكبابهم على نقد السلطة وسياساتها، وتحليل مواقفها ومواجهة تسلطها، وتفكيك إشكاليات المجتمع والبحث عن مكمن العلة.
بالرغم من سياسات الإقصاء والتهميش التي تعرض لها زمناً المثقفين العرب- ومازالوا- من جانب معظم الأنظمة العربية تاريخياً، ومعاناتهم نتيجة فقدان الحرية والمناخات الديمقراطية، وانتهاك حقوقهم من السلطة، وشعورهم بالاغتراب وسحق روحهم الإبداعية، إلا أن المثقفين العرب يجدون أنفسهم مسؤولين بشكل مباشر عن إنجاز الأهداف الإنسانية السامية التي جاهدوا لتحقيقها في مجتمعهم. ويشعرون بتأنيب الضمير الأخلاقي، فيقومون بتوبيخ حالهم على ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد.
لكن في الحقيقة هل المثقفين وحدهم يتحملون مسؤولية هذا الشقاء، وهل يجب أن يسددوا أثمان الخسائر التي لا تتوقف التي مني بها العرب؟ وهم الذين ظلوا منبوذين وخارج مؤسسة صنع القرار، ولم تأخذ يوماً أية سلطة عربية مواقفهم ورؤيتهم على محمل الاحترام، بل كانوا دوماً في موضع الشك الأمني. هنا المثقف يجلد ذاته على هزائم لم يتسبب بها، والمجتمع لا يعفيه من المسؤولية، والسلطة لا تقيم له وزنا، ويبدو الأمر وكأن المثقفين قد شاركوا في جرائم الإبادة الجماعية في رواندا. هذه المفارقة تمثل الموت البطيء بالنسبة للمثقفين الذين يمارسون بحق أنفسهم رقابة ذاتية صارمة، قد تؤدي إلى الانسلاخ الإرادي عن المجتمع، بحيث لا يستطيع المثقف أن يعبر عن نفسه، ولا يتمكن من إخراج هذه الأفكار بصورة تسهم في تطور مجتمعه، حيث الإشكالية الشقية هنا أن الالتحام مع الناس يثير غضب السلطة، والتقرب من أجهزة السلطة يعني الانسلاخ عن الناس وهمومها وواقعها.
يبدأ المثقفين بالتساؤل عن أسباب هذا الوضع المربك المقلق والمشوش، فهل هم في الجبهة الصحيحة لخوض المواجهة مع أسباب التخلف والإخفاقات والانكسارات التي أصبحت سمة الأمة العربية، وما هي أسباب فشل المشروع الإصلاحي التنويري النهضوي، هل السبب في الرؤية أم في العقل أم في الوسائل، في الاستراتيجيا أم في العجز عن فهم وتحليل الراهن، هل الإشكالية في التوقيت أم في طبيعة الأهداف وتحديدها؟

مثقف مستهلك لا منتج
ظل بعض المثقفين العرب ردحاً من الوقت يكابدون مقاربة الكثير من القضايا بمفاهيم أيديولوجية عمدت إلى بتر أطراف الواقع العربي كي تلائم مقاس سرير الأفكار الأيديولوجية التي آمن بها المثقفين، وغاب عنهم أن واقع المجتمعات تتداخل فيه الكثير من العناصر والعوامل الشائكة المتعددة المتداخلة، ولا يمكن بحال أن يتم تحديده بالأيديولوجيا. والبعض منهم سقط في اعتبار الموروث أو جزءًا منه معيار أساسي لمقاربة الراهن العربي، دون الاعتبار للاختلافات المرتبطة بالسيرورة التاريخية، وتغير عاملا الزمان والمكان، مما يجعل من إعادة إحياء الماضي كما كان أمراً طوباوياً. من جانب آخر نلاحظ تأثر بعض المثقفين الكبير بالنظرة التحليلية لغالبية المستشرقين الغربيين، هذا التأثر دفع المثقفين للنقل وإجراءات المقاربات بمنظور غربي دون تفكيكه، وبأدوات غربية من دون إدراك المصالح الغربية خلفها.
لذلك تحول غالبية المثقفين العرب إلى مستهلكين للأفكار والنظريات، وليسوا منتجين لها، حيث كانوا منبهرين أمام الفلسفة الغربية وثقافتها. وأكبر الأخطاء التي لم يتوقف أمامها المثقفين العرب منذ عقود، أنهم -أو معظمهم- رغبوا بشدة في الحصول على إجابات جاهزة من تراثنا وتاريخنا، أو من التجربة الغربية، أجوبة لأسئلة الراهن وإشكالياته وانسداداته، بينما أغفلوا -عمداً أو جهلاً- أن عليهم ابتداع أجوبتهم الخاصة، وإجراء مقارباتهم من عمق التجربة في الواقع المعاش، ومراعاة النظرة الشمولية في السياق التاريخي. إن الكثير من المثقفين لم يدركوا أهمية أدوارهم التاريخية، في أن يكونوا مثقفين عضويين ملتحمين مع الواقع، وينغمسون مع هيئات المجتمع غير الرسمية المتعددة في مواجهة السلطة واستبدادها، بل أن بعضهم راهن على أن الموقع السياسي كفيل بتحقيق مشاريعه الثقافية عامتها وخاصتها، مما جعل هؤلاء البعض خارج إطار التأثير المجتمعي.
في واحدة من المفارقات التعيسة، وضع معظم المثقفين العرب أنفسهم أمام خيارات ثنائية " التراث والحاضر، العراقة والحداثة، الشيوعية والأصولية، اليمين واليسار، الأسود والأبيض، أنا والآخر، الخ" وكأن الأفكار والنظريات والتاريخ قوالب جامدة معبأة في صناديق، فإما أن تحمل هذا أو تأخذ ذاك. هذه العبثية فرضت سطوتها على المثقفين والمجتمع، وأفرزت نماذج متعددة فظهر المثقف القائد دون تكليف، المثقف الذي يمور مع حراك المجتمع كيفما كان، المثقف المتعالي على الناس، والمثقف الناقد الذي يمتلك نظرة ورؤية وموقف وملتصق بقضايا الناس، وهو الأكثر شقاء وشعوراً بالخيبة والبؤس، لأنه يرقب الانهيارات والانهزامات والكوارث التي تصيب العرب في أكثر من مفصل، ويجد نفسه مصاباً بالشلل وعاجزاً عن إيقاف هذا الخراب أو مواجهة طوفانه، وعدم مقدرته على الترميم والإصلاح، في ظروف يعاني فيها من الحصار وضنك الحياة، ويكابد من أجل لقمة العيش.
للشقاء الذي يصيب المثقفين العرب أكثر من مصدر، فإن أقدم المثقف على طرح الأسئلة الشائكة الصادمة يتم اتهامه من السلطة الدينية بالزندقة، وتتهمه السلطة السياسية بتمزيق الروابط الاجتماعية، حتى المجتمع نفسه يكيل له تهم تهديد السلام والوفاق الوطني. من جهة أخرى إن واكب السياق العام للمواقف تم اتهامه بالنفاق والمساومة وعدم المبدئية، وإن صمت تكال فوق رأسه تهم الانهزامية والانبطاحية وعدم الجذرية.
يقف المثقف العربي اليوم بلا جدار أيديولوجي، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وفشل المشروع القومي، وتشدد المشروع الإسلامي، وغياب المشروع الإصلاحي التنويري. يقف عارياً من أي حماية، معلقاً في الفراغ، بدون خطاب موضوعي، بدون إطار مجتمعي موضوعي، مذموم من السلطة السياسية، وموضع شك من السلطة الدينية، يشعر بالاغتراب عن نفسه ومحيطه، حائراً مربكاً غير واثق، يواجه مجتمعاً مأزوم مثقلاً بالخيبات، وسلطة منهزمة تسعى إما لتوظيفه أو تهميشه أو سجنه أو تصفيته.

نهاية منفرجة
من المثير أن تتحول رفاهية الوعي المعرفي إلى فعل مضني ومكابدة للضنك والشقاء، وقد تتحول إلى دافع للاغتراب وسبباً للعزلة والانكفاء ثم المنفى التعيس. فامتلاك الوعي في المجتمعات المتطورة يتم تحويله إلى طاقة بناءة تنتج الفعل الثقافي والإبداعي، وتسهم في التطور الاجتماعي، بينما يصبح الوعي في البلدان النامية سبباً للقلق والتوتر ويؤدي إلى الضيق والمشقة، وقد يتحول إلى ذريعة للاعتقال ومسوغ للموت في بعض الحالات.
في المشهد العربي لم يعد كافياً تغيير بعض السياسات المتبعة من بعض الدول، ولا حتى تغيير بعض الأنظمة القهرية، أصبح لزاماً تبديل العقول وتغيير الأفكار، وخلق وعي مختلف لدي شرائح المجتمع، وهي مسؤولية المثقفين، القيام بتفكيك منظومة المفاهيم والأفكار التي ترسخت في اذهان الناس وأعرافها وثقافتها، وربما تتسبب هذه المهمة لهم بشقاء إضافي، لأن سعي المثقفين لإحداث تغيير جدي في حياة البشر قد يبعدهم عن مواكبة الراهن لانشغالهم في مهام ذات محاصيل استراتيجية، وخاصة إن كان الراهن محتقناً بالأحداث.
حين تعتمد السلطة السياسية القوة والقهر لإدارة الشأن العام للناس، تبدأ شرائح المجتمع بالتفتت، وتأخذ الجماعات بالانسلاخ عن النظام والعودة إلى أصولها الثقافية كرد فعل تحسسي حمائي بمواجهة تنازل الدولة السياسية عن دورها الطبيعي في رعاية الجميع. ولأن السلطة انحرفت عن تأدية دورها الثقافي والمعرفي، تصبح الثقافة في هكذا ظروف شيء يشبه الترف، وتظل أفكار ونظريات لا تلامس الواقع، ويصبح المثقف أداه فائضة عن الحاجة المجتمعية لا أهمية لوجوده، ذلك أن قوة السلطة لم تعد تحتاج إلى مبررات أخلاقية وثقافية، ولا إلى مسوغات اجتماعية كي تحقق شرعيتها، لأنها استعاضت عن المثقف ودوره، بوسائل أخرى، مثل الاستبداد والقمع والأجهزة الأمنية والترويع الفكري. وبهذه الصورة تكون الثقافة الممسوسة في الجحيم العربي قد رسبت، والمثقف الشقي سقط وفشل.


101
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


عندما يبطش الاستبداد بالفلسفة
سؤال الحرية عربياً

أهمية الفلسفة تظهر أكثر لكل باحث في مسببات تقدم وتطور الأمم وعوامل حضارتها، إذ سنجد خلف هذه الإنجازات فلسفة وتفكير حر ومستقل. وهو تماماً ما يفسر أن كِلا الحضارتين الرومانية واليونانية كانتا مسبوقتين بالفكر الفلسفي المهم، ولاحقاً أدى تراجع الفلسفة والتفكير العقلي والفكر الحر إلى سقوطهما في القرن الخامس للميلاد.
الفلسفة ساهمت كذلك بفعالية في بروز الحضارة الإسلامية، خاصة في مرحلة الخلافة العباسية التي شكلت شعاعاً علمياً وفكرياً لكافة البشرية. وكان للخلفاء والولاة وعدد من الوزراء وخواص القوم دوراً هاماً في توجيه ورعاية الفكر والعلوم والآداب وتنشيطها وتطويرها. إذ كانت تعقد مجالس فكرية وأدبية وعلمية في القصور والأواوين، يتم خلالها التداول بالأدب والنقاش بالعلوم والسجال بالأفكار. وكان الأمراء والوزراء يغدقون الأموال والهبات على الشعراء والعلماء والفلاسفة. وقد اشتهر كثير من هذه المجالس لعل أبرزها مجلس الوزير "يحيى بن خالد البرمكي" حيث شهدت سجالات وحوارات حول قضايا فقهية وسياسية وعلمية واجتماعية، شارك فيها مفكرين وأدباء وأئمة.
من أبرز القضايا التي تم نقاشها في مجالس العلم قضية "خلق القرآن"، وكانت سبباً في اشتداد الخلاف بين المتحاورين الذين كانوا منقسمين إلى اتجاهين متعارضين، هما المعتزلة وأهل السنة والمحدثين. احتد الشقاق بين الجانبين وتجاوز معيار الجدل والمناظرة والنقاش إلى وضع تم فيه استعمال القهر والقمع والسجن والتصفية الجسدية.
وما إن أخذت المؤسسة السياسية والسلطة الدينية في التضييق على الفلاسفة واضطهادهم، حتى انزلقت الدولة الإسلامية نحو قاع الصراعات التي أدت إلى انهيارها، وما تلا هذا الانهيار من تراجع وارتداد فكري فلسفي علمي مرعب، حيث غاب نور العقل والفكر وسادت العتمة والجهالة وانتشر الهراء لغاية اللحظة.

الفلسفة بثياب عربية
الإهمال المتعمد عربياً  للفلسفة والإجحاف الذي لحق بها وبتفاعلاتها، أصاب التفكير الفلسفي في الراهن العربي بضربة قاضية أودت به إلى الموت الدماغي، في حالة عربية تشهد في مجملها انكساراً وفشلاً وتعثراً في كافة الميادين والمستويات، مما أوجد جدراناً مرتفعة تحول بيننا كأمة ما زالت تتلمس وتبحث عن مشروعها النهضوي، وبرنامجها الإصلاحي، وتحديد رؤيتها الاستراتيجية من جهة، وبين التحديث والتطور والتقدم العلمي والصناعي والإنساني من جهة أخرى، وتحولنا بالكامل إلى قطعان تستهلك الإنتاج الحضاري للآخرين، بدءًا من أبسط الأشياء إلى أكثرها تعقيداً.
فالعرب يتعاملون مع الفلسفة على أنها ترف فكري لا يمكنها معالجة مشكلات التنمية، ولا أن تطعم البطون الفارغة، ولا تقضي على الأمراض، ولا توفر مسكناً لمتشرد. ويقولون باستهجان إذا كان الفلاسفة أنفسهم مختلفين بشدة فيما بينهم على تعريف موحد للفلسفة ومختلفين في مذاهبها، فكيف يستطيعون مساعدة الناس في مواجهة متاعب الحياة.
ويضيف آخرون متسائلين بسطحية مفزعة عن أهمية أن يطلع الإنسان المعاصر على نظريات سقراط وافلاطون وأرسطو، وماذا يحقق إن قرأ أعمال هيجل وكانط وديكارت.
قديما كان ينظر للفلسفة على أنها أم العلوم، ثم أدى زيادة الاهتمام بدراسة الوقائع المادية نتيجة تراكم المعلومات، وضرورات تعمق البحوث كان لابد من ظهور المنهاج التجريبي الذي يدرس الأجزاء وصولاً للكل، وهذا بطبيعة الحال يناقض المنهاج الفلسفي، لذلك استقلت العلوم عن الفلسفة. ولكن التقدم العلمي الكبير والتطور الحضاري والقفزات التقنية التي حققها العالم، كشفت الحاجة للفلسفة مرة أخرى على اعتبارها عاملاً محرضاً للعقل وتنقيته من الأوهام والخرافات، وكذلك حاجة العلوم إلى دور الفلسفة لإجراء مقاربات أخلاقية للاكتشافات العلمية، والأهم ترشيد التطور العلمي وتوظيفه لخدمة المجتمعات البشرية.
بهذا المعنى هل يوجد مشروع فلسفي عربي فاعل؟ هل توجد في الأصل فلسفة عربية وإنتاج فلسفي؟
الجواب بظني لا كبيرة، فمادامت الفلسفة في الواقع العربي كاصطلاح نظري أو كمنهاج أو كقيمة، معزولة عن بقية المكونات التفاعلية المجتمعية، ومادامت السلطة السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية تحظر التفكير الفلسفي المستقل، وتعتقل حرية العقل، وتحجر عليه لمنعه من ممارسة نقداً فلسفياً، فلا يمكن الحديث لا عن إنتاج فلسفي عربي ولا عن أي مشروع فلسفي. الأدهى انتشار ثقافة سطحية تعتقد أن الفلسفة هي ممارسة قديمة لا يحتاجها عصر التقنيات. إضافة إلى نظرة البعض للفلسفة والتي يشوبها بعض السخرية والتهكم. إنهم أصحاب مفاهيم مبتذلة لا تكترث بالفكر العلمي، ولا تجد نفسها معنية بحالة التخلف الحضاري للأمة العربية. ولا شك أن لبعض الأنظمة وبعض القوى مصلحة كبرى في تعميم الظاهرة الظلامية في الواقع العربي لتواصل انتفاعها من احتكار السلطة والثروة.
وفي العالم العربي سلطة كهنوتية معطوبة تأخذ شكلاً ثيوقراطياً، تدّعي العصمة والتوكيلية، والتفرد بامتلاك الحقيقة والمعرفة، وهي الأخرى لها مصلحة في المحافظة على الوضع الثقافي السقيم والسطحي القائم، خاصة فيما يرتبط بالفلسفة على اعتبارها ضرباً من ديباجات تنظيرية ضالة، وقد يصل البعض إطلاق اتهامات بالجنون والزندقة على الفلسفة والفلاسفة.

سؤال الحرية فلسفياً
هل للحرية من بداية ونهاية؟ هل للحرية من معنى خارج الحرية ذاتها؟ هل للحرية معنى معين، وجهة محددة؟ هل يمكن الكتابة عن الحرية دون تحدي مواجهة ومقاربة هذه الأسئلة وغيرها؟ هل هي أسئلة تخص الفلسفة أم الفكر؟ من يصنع الحرية ومن ينتج بذارها؟ هل يمكن للفكر الفلسفي مقاربة هذه الأسئلة وما شاكلها دون التعمق في مفهوم الحرية ذاتها؟ كل هذه الأسئلة تضع نفسها أمام الفيلسوف والمفكر والمثقف على حد سواء، وتضعهم جميعاً في تحدي استفزازي، فإن عجزوا عن القيام بهذه المواجهة، لن يكون للحرية من معنى.
هل تختلف فعلاً الحرية التي ينشدها المواطن العربي البسيط عن الحرية التي يفاخر بها الإنسان في الغرب؟ بالطبع لا، لكن ما يريده العرب أصبح سؤالاً إشكالياُ متعباً ويتسبب بالإرباك والاختلاط لدى الباحثين. إذ لا إجماع عند العرب على تعريف مصطلح "الحرية".
ولأن العرب أهملوا الفلسفة وأسقطوها من حساباتهم، لم يتمكن للآن أحد منهم شعوباً وأنظمة، من إجراء مقاربات حقيقية فلسفية لأهم أسئلة الحرية: لماذا ينبغي على الإنسان -مطلق إنسان- أن يقوم بإطاعة إنسان آخر؟ لماذا لا يعيش الناس كما يريدون؟ هل الطاعة واجبة عليهم؟ من يطيعون وكيف؟ ما الغاية من الطاعة؟ هل يستطيع أحد ما أن يفرض الطاعة على أحد آخر؟ كيف يتم فرض الطاعة، بأي وجه، لأي هدف، لأي درجة؟
ماذا يعني أن أكون حراً؟ ما الذي تتطلبه حريتي؟ ماذا يحول بيني وبينها؟ من يحدد تصرفاتي؟ هل اتصرف وافعل ما اشاء بالطريقة التي أختارها أنا، أم أنا خاضع لجهة ما أو شخص ما يشكل مصدر السيطرة علي والتحكم بأفعالي؟ من يقرر كيف أفكر وماذا افعل، هل هي أسرتي، أم مدرستي، أم رجال الدين، أم الأجهزة البوليسية؟ هل أنا أخضع لأنظمة وقوانين دولة مؤسسات، أم لنظام استبدادي، نظام رأسمالي، اشتراكي، ليبرالي، ديمقراطي، ملكي، جمهوري؟ هل أنا اقرر مصيري وقدري وواقعي ومستقبلي أم أحد آخر؟ من يمنعني من تحديد خياري وما أريد وما لا أريد؟ هل يمتلك قوة زجر يستخدمها ضدي، وما مقدار هذه القوة؟

سؤال الحرية العربي
في قواميس اللغة فإن الحرية هي حالة يكون عليها الكائن الحي الذي لا يخضع لقهر أو غلبة، ويتصرف طبقاً لإرادته وطبيعته، خلافاً لعبوديته. وهي القدرة على التصرف بملء الإرادة والاختيار، وهي حرية التَعليم أو طلب العلم أو مناقشة بصراحة دون قيود أو تدخل.
لقد اتخذ جيل الرواد المفكرين والإصلاحيين العرب بكافة تياراتهم الليبرالية والعلمانية والسلفية موقفاً من الفكر الغربي وحداثته وحريته، تراوحت بين القبول المطلق أو الرفض المطلق وبروز تيار توفيقي. وأجرى عدد من المفكرين مقاربات مطابقة بين مصطلحي الديمقراطية الغربي والشورى الإسلامي، وبين نواب الشعب في البرلمان ومجلس العقد والحل، وبين المساواة الغربية والعدل القرآني.
ما يعنينا هنا هو الموقف من الحرية كمصطلح ومفهوم لها سياقها التاريخي والفلسفي في المسارين الغربي والعربي الإسلامي.
إن "جمال الدين الأفغاني" عارض الحرية كمصطلح، ورفض المفهوم الغربي للحرية، حيث اعتبره كمفهوم ليبرالي يدعو للحرية الدينية والفردية، مصطلحاً وشعاراً يسعى الغرب من خلفه إلى النيل من وحدة الأمة الإسلامية. واعتبر أن الحرية تقوض الوحدة الدينية التي هي أساس الوحدة السياسية، التي من شأنها مقاومة التهديد والأطماع الغربية.
لكن تلميذه "محمد عبده" وإن كان قد التزم بموقف أستاذه، إلا أنه سار في درب مختلف، حيث دافع في كتاباته عن مكانة الحرية في الإسلام، واستشهد بتسامح الإسلام والمسلمين مع غيرهم من أهل الديانات الأخرى، وتعايش المسلمين مع غيرهم من اليهود والمسيحيين في مختلف المراحل التاريخية منذ نشأة الدين الإسلامي. وأن الإسلام قد منح غير المسلمين حرية ممارسة الشعائر الدينية. وكان محمد عبده يعتبر أن الإسلام قدر الفلاسفة أكثر من بقية الأديان، حيث ذكر أن مؤسس المذهب البروتستانتي "مارتن لوثر" كان يعتبر الفيلسوف اليوناني "أرسطو" أنه دنساً وكاذباً، بينما كان علماء المسلمين يلقبون هذا الفيلسوف بالمعلم الأول، كيف لا وهو تلميذ الفيلسوف الشهير "أفلاطون" ومعلم الاسكندر الأكبر. وهذه الرؤية تبناها معظم السلفيين الإصلاحيين التنويريين من جيل محمد عبده، إذ اتسم هذا الجيل بحرصه على الهوية الإسلامية، وعدم القطيعة مع الغرب وتنويره، وهذا ما حاول بعضهم فعله من خلال مد جسور بين الفكرين والثقافتين والهويتين والمرجعيتين العربية الإسلامية والغربية.
أبرز من حاول وصل الضفتين هو الشيخ المعلم الفقيه "رفاعة الطهطاوي" أحد رموز الحداثة في عصر النهضة، الذي وظف مفهوم الاجتهاد في الدين الإسلامي لتطوير حرية التفكير، وقام بتجسيد مفهوم الحرية عبر انفتاحه على الفكر الغربي وثقافته، وكان يدعو للاقتباس من الفكر الليبرالي، حيث اعتبر ألا تعارض بينهما في المفاهيم الأساسية.
وفيما يرتبط بالمفكرين الليبراليين العرب من عصر النهضة ورؤيتهم للحريات، فقد جاهر المفكر اللبناني "فرح أنطون" بدعوته فصل الدين عن الدنيا، حيث اعتبر أن ذاك العصر هو زمن العلم والفلسفة، ويجب على كل طرف احترام مواقف وآراء ومعتقدات الطرف الآخر. وكان فرح أنطون مؤمناً أن الأديان بصفة عامة لا تقبل بالحرية ولا تعترف بها، باعتبار أن الأديان تمتلك الحقيقة، وما سواها لا يتعدى كونه ضلالاً وكفراً. من الملاحظ أن انتشار هذه المفاهيم كانت في أوساط المسيحيين العرب، الذين اعتبروا أن الحريات واحترامها لا تتم إلا استثنينا الدين من الشؤون الدنيوية والسياسية، كما فعلت أوروبا.
يمكننا القول إن المفكرين السلفيين العرب من عصر النهضة، كانوا مجتهدين وتأثروا بعض الشيء بالمفاهيم الليبرالية، لكنهم لم يهتموا بالمصطلحات الفلسفية، ولم يقوموا بإجراء مقاربات فلسفية لقيم الحرية، بل توقفوا عند حدود عدم تعارض هذه القيم الليبرالية مع الإسلام، لكنهم رفضوا اية مقاربة للحريات مع الدين، إذ ظلت الحرية بالنسبة لهم خارج الدين، فإن كانت الحرية تعني الانسلاخ عن الإسلام فهي مرفوضة.
لكن التيار الليبرالي العربي كان أكثر جرأة في معالجة الحرية بما فيها حرية الفرد في الاعتقاد باي دين يريد، وحريته في عدم الانتساب إلى أي دين.
فهل أسهم هؤلاء الرواد وأفكارهم الإصلاحية في تأسيس مفهوم الحرية في الفكر العربي أو الإسلامي في علاقاته مع قضايا العقيدة والتعدد الديني والتعايش بين الأديان والمذاهب والأيديولوجيات في العالم العربي؟ هل استطاعت الفلسفة أن تساعد العرب على بناء مجتمع مدني ديمقراطي يقبل بالاختلافات ويحترم التعدد والتنوع الديني والثقافي والسياسي؟ الإجابة بظني لا.

الحرية عند العرب المعاصرين
اهتم المفكرين والمثقفين العرب بالحرية، وانشغلوا كتابةً وبحثاً في أصلها وكيف نشأت، وما علاقتها بالفلسفة، وماهي مكانتها في القيم الفلسفية الحضارية. وفي سياق المقاربات النظرية انقسم المفكرون العرب، حيث انحاز قسم منهم إلى الفكر الغربي والثقافة الغربية وقيمها باعتبارها طريق الرقي والتقدم، فيما رفضها القسم الآخر من المفكرين الذين اعتبروا الحرية الغربية ما هي إلا نزوع الفرد تجاه غرائزه التي تتسبب في انحداره وبالتالي انحدار المجتمع برمته. وانبرى بعض المفكرين التوفيقيين ليجتهدوا في مزاوجة بين الفكرين الغربي والشرقي العربي الإسلامي.
المفكر الفلسطيني "ادوارد سعيد" تطرق كثيراً في كتبه لقضية الحرية ومفاعيلها الفلسفية، وعلاقتها بالثقافة والمثقفين الذين كتب عن دورهم الكثير، واعتبر أن الانحياز إلى الفكر التنويري لا يعني فقط أن تكون منحازاً إلى القيم والأفكار الفلسفية التنويرية، بل يعني أيضاً وهو الأهم أن تكون منتمياً إلى حرية الفرد، فكل النظريات لا تتخذ من الإنسان موضوعاً دراسياً لها إلا بهدف خدمة الفرد وقضاياه وحريته.
بالنسبة للمؤرخ المغربي "عبد الله العروي" فإن مفهوم الحرية قد غاب عن الفكر العربي، وجاء في كتابه "مفهوم الحرية" الصادر عام 1983 أن محور الحرية الغربية هو الفرد المشارك اجتماعياً، وهو مفهوم غير موجود في الفكر الإسلامي. ويميز عبد الله العروي بين حرية الروح والنفس في الفكر الإسلامي، وبين الحرية السياسية والاجتماعية في الفكر الليبرالي الغربي. ويضيف أنه رغم غياب مفهوم الحرية فلسفياً في الفكر العربي، إلا أنه موجود في الوعي والإدراك للإنسان العربي. ثم أجرى العروي مقارنة بين أقوال الفلاسفة الغربيين مثل "جون ستيوارت ميل" و "جون جاك روسو" والفلاسفة الإسلاميين مثل "الطهطاوي" و "الغزالي"، حيث توقف أمام ما قاله الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، الذي اعتبر أن المجتمعات الإسلامية غير ليبرالية، لأن نظام الحكم فيها فردي واستبدادي، ولأنها تحرم النقد والنقاش الحر.
المفكر اللبناني "ناصيف نصار" دعا إلى أهمية استئناف مشروع النهضة العربية، واعتبر أن الحرية هي المدخل الأساسي للنهضة، ويميز نصار بين الليبرالية والعولمة، وبين الحرية والأمركة، لأن سؤال الحرية سؤالاً كونياً يهم الإنسانية.
أما المفكر المصري "محمد عمارة" حذر في كتابه "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية" الصادر عام 1988 من السلفية وما أسماه النصوصية التي تنكر العقل والتفكير العقلي وتقدس النصوص، واعتبر ذلك أنه ينتج التخلف ويوهن تطلعات الأمة.
أما المغربي "علال الفاسي" أحد أعلام الحركة الإسلامية الحديثة، فقد ربط بين المسؤولية والحرية وبينها وبين حرية التفكير التي تتعلق بمقدار قيمة النقد، ومدى الإيمان بالاختلاف والتعدد.
المفكر الجزائري "محمد أركون" نظّر للعلاقة بين الحرية والعلمانية التي باعتقاده لا تقضي على الدين، إنما العلمانية تقضي على الأفكار العقائدية في المجتمع.
وقال المفكر المغربي "محمد عابد الجابري" أن لا حرية للإنسان خارج وجوده، ان يكون الإنسان حراُ هذا يعني أن يختار، وإذا لم يفعل لخوف أو قصور فهو غير حر.

في تخطي الأزمة
فشلت الفلسفة بثوبها العربي في مواجهتها التاريخية مع الأفكار الظلامية، فتراجعت حرية التفكير الفلسفي، وقتلت الحقيقة، وانتشر الاستبداد، وشاع الوهم، وحل التقليد مكان الخلق والإبداع. إن تاريخ العلم والحرية هو مواجهة بين العقل واللا عقل، بين اللاهوت والعلوم، بين منهج العلم وأدواته النقدية ومنهج الأجوبة النهائية. ولأن الفلسفة بنكهتها العربية لم تتحرر من وصاية السلطة التي حجرت عليها، فكانت النتيجة ابتعاد الفكر العربي عن مسيرة الفكر الإنساني وتطوره.
ولأنه لا منفعة في مجتمعات لا يعيش فيها الناس أحراراً، مهما بلغ شأن هذه المجتمعات، فإن معركة الحرية في العالم العربي محتدمة دون توقف منذ منتصف القرن الثامن عشر، ولم تكن معركة بين سياسية فقط، بل انتدت جبهاتها إلى كافة مفاصل الحياة الفكرية والاجتماعية والثقافية والدينية والأكاديمية.  المفزع في الأمر أنه رغم الجهود والتضحيات التي قدمها – ولا يزال- المفكرون والمثقفون، والأهم تضحيات الشعوب العربية، فإن الأزمة ما تزال جاثمة فوق تطلعات البشر، وأرى أنها في تفاقم مستمر، والدليل فقط أنظر حولك كعربي أينما كنت تعيش، في مشرق المنطقة العربية أو مغربها، لترى أن بلادنا مثقلة بالبؤس والشقاء وانعدام الحرية. ولا يمكن للعرب تجاوز هذه الأزمة دون معالجة أسبابها من خلال تفكيك الأيديولوجيات السائدة، وهز الأفكار المعرفية وشحذ الإرادة، نحتاج ليس فقط إلى فكر تنويري بل إلى ثورة فكرية تنقلب على ما هو سائد ونمطي في الراهن العربي، تبدأ في الانتقال بالخطاب الفكري والسياسي والديني والاجتماعي والثقافي من ثوبه الحالي، نحو خطاب أكثر تحديداً ووضوحاً، ولا يخشى المغامرة ولا تنقصه الجرأة في الطرق على كافة مفاصل المجتمع، خطاب لا يقفز فوق الأسئلة الكامنة والأفكار المكبوتة ولا يتجاهلها، خطاب يجلب الأسئلة من قاع القمع والتحريم إلى سطح التعبير والعلنية والإفصاح عنها، ووضعها تحت ضوء النقاش والتحليل. نحتاج إلى ذاك النوع من الخطابات التي تستبدل أدوات التحريم والتجريم والاتهامات، بأدوات الفكر والمعرفة، أدوات النور بدلاً عن أدوات الظلام، العلم بدل الجهل، استخدام العقل بدلاً عن الأوهام، الخلق والإبداع بدلاً عن النقل والاستكانة والتقليد، نحتاج إلى خطاب يحرض ويستفز العقل ليجعل منه عقلاً مفكراً حراً مستقلاً متسائلاً، لا عقلاً مذعناً خاضعاً، عقلاً قادراً على الابتكار والإنتاج الفكري والمعرفي، لا العقل الذي يستهلك ويردد.
نحتاج إلى روح ثورية في المجتمعات العربية تناهض النظم السياسية القائمة، وتدفعها للسير في درب الديمقراطية. نحتاج إلى مفكرين ومثقفين وسياسيين ورجال دين وشباب لديهم روح خلّاقة تستحدث أدوات للتعامل مع مجتمعات عربية فيها نظم معقدة للغاية بطبيعتها، نظم تضع سلامة المجتمع ووحدته واستقراره فوق كل اعتبار، مما يعقد مهمة التغيير، ويضع المزيد من العراقيل والصعوبات في طريق القوى التي تسعى للتحديث، خاصة في دول تبدي حرصاً في المحافظة على كيان الدولة بصفتها حاضنة للنظام الذي لا يمكن إيجاده إلا في مسار دولة كتعبير سياسي عن مجتمع عربي مكتظ بالتعقيدات المتعددة.
معركة الحرية تتطلب أيضاً فيما تتطلبه، ثورة في بعض القيم الاجتماعية التي تدعو أطفالنا إلى الامتثال والطاعة، واستبدالها بقيم تدفعهم للتشكيك وطرح الأسئلة، وتعليمهم على النقاش والحوار واحترام قناعاتهم منذ الصغر. استبدال مناهج ووسائل وأدوات التعليم التي تعتمد الحفظ والتلقين الغبي، بمناهج تستخدم البحث والحض على المعرفة.
ولكي نبني مجتمعاً حراً لا بد من إنشاء المزيد من مراكز البحث العلمي، وتوفير أقصى درجات الحرية الإبداعية في هذه المراكز، حتى يتمكن المبدع والباحث والمفكر والمثقف من التفكير باستقلالية، دون الخشية من عقاب السلطة السياسية أو الدينية.
لا شك أن معركة الحرية ليست سهلة حين يكون ميدانها مجتمعات لا يزال بعض مثقفيها يقفون مع الطغاة ضد الشعوب، وبعض رجال الدين فيها يقدسون الزعيم أكثر من النص الديني. مجتمعات مثقلة بالأمية والفقر والبطالة، منقسمة إلى طوائف وقبائل متناحرة متصارعة، تحارب مبدعيها ومفكريها وتقتلهم، تصدر أدمغتها وتستورد طعامها، مجتمعات لا تنتج سوى البؤس والشقاء.

وأنت ماذا تفعل
في القرن الحادي والعشرين، عادت معركة الحريات بقوة إلى الواجهة في المنطقة العربية. حيث مالت الشعوب العربية -الأكثر والاسبق وعياً من نخبها- لفطرتها، وسعت للانعتاق من استبداد النظم السياسية، عبر معركة صعبة تخشاها الأنظمة، لكنها ليست مستحيلة، ولن تتأخر بظني كما حصل في أوروبا، هذا لأن التقدم الذي حصل في قطاع الاتصالات وثورة المعلومات، أدت إلى ظهور جيل عربي بمهارات معرفية متعددة، حيث أصبحت كافة العلوم ومصادر المعرفة بين يديه، وهو جيل آخذ في التملص من كافة أشكال السلطة.
أنت أيضاً أيها القارئ ربما تخشى الحرية، لأنها ستضعك في الضوء، وتجعل الآخرين يروك ويسمعوك ويقيموك. الحرية سوف تكون امتحاناً حقيقياً لك ولجميع المثقفين، لأفكاركم ومواقفكم ومعتقداتكم. أم أنك تريد أن يخوض غيرك معركة حريتك؟ بتأخرك عن فعل شيء تجعل ثمن الحرية مرتفعاً.

102
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


الأصولية الشيطانية الغربية لتطويع الدول

في الموروث الثقافي الغربي تنتشر أسطورة "فاوست" أو ما يسمى "الصفقة الفاوستية"، حيث يعتبرون أن الشيطان هو تجسيد للتكبر والتجبر والعلو لأنه تمرد وعصى أوامر الله، ولذلك يظن الشيطان أنه مكوّن متميز عالي الشأن وسامي المقام، وعلى الجميع أن يتوسلون إليه لتحقيق رغباتهم. ووفقاً للاعتقاد الغربي فإن الشيطان يهدف إلى كسب الأتباع والمريدين، لذا يحاول إغواء بعض البشر بتحقيق ما يصبون إليه من مال ونفوذ وشهرة ومعرفة، عبر عقد يبرم بين الشيطان والشخص المتحالف معه، يقتضي أن يقدم الأخير نفسه للشيطان مقابل الخدمات الشيطانية.
في الأسطورة أن "فاوست" الذي ولد في مدينة "وتنبرغ" الألمانية كان فقيراً لكنه فائق الذكاء، درس اللاهوت وحصل على درجة الدكتوراه، ثم تحول إلى دراسة الكيمياء وكتب السحر واستحضار الأرواح وكان بارعاً، فقام باستحضار أحد الشياطين السبعة ووقع معه عقداً، يقوم الشيطان بمقتضاه تلبية كافة طلبات "فوست" مقابل أن يحصل على حياته بعد أربعة وعشرين عاماً. وهذا ما جرى، فقد نال "فاوست" كل ما أراده من مآثر وإنجازات باهرة، وكل تمناه من العلم والمعرفة. وعندما حانت الساعة جاء "ميفستوفيليس" وأخذ روحه. الدرس هنا أن الشخص الطموح الذي يعقد الصفقة الشيطانية، ويتنازل فيها عن نزاهته الأخلاقية من أجل تحقيق النفوذ والنجاح، يكون قد باع روحه للشيطان.
فإن كانت صفقة الكيميائي اليائس مع الشيطان أسطورة، فإن ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقتها مع دول العالم في الواقع هو حقيقة ساطعة، وهي الدولة العظمى التي تفرّدت بالهيمنة على العالم بعد انهيار جدار برلين التاريخي، وتفتيت دول الاتحاد السوفيتي، وانتهاء مرحلة الحرب الباردة بين حلفي الناتو ووارسو، حيث تمكنت من بسط هيمنتها على المنظومة الدولية بسبب تفوقها العسكري والاقتصادي، وبدأت مرحلة جديدة من استراتيجيات التدخل الوقح في سيادة ومصالح الدول الأخرى، التي اعتمدتها بعد الحرب العالمية الأولى لضمان مصالحها الاستراتيجية، لكن مع المتغيرات التي أربكت المشهد السياسي الدولي في بداية التسعينيات من القرن العشرين، أخذت منحى غيرت فيه الخطاب والأدوات وجغرافيا الاستهداف.
حيث أقرت سياسة التدخل في قضايا الدول الأخرى لتطويعها وتوجيهها بما يحقق المصالح الأمريكية، سواء كان التدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، عبر دعم قوى المعارضة للدولة المستهدفة، وإن لم توجد معارضة تقوم الولايات المتحدة بخلقها، أيضاً عبر ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية، واعتماد سياسة الثواب والعقاب، عبر تقديم بعض الامتيازات والمساعدات المالية المحددة، وحجبها في حال الإخفاق. وأحياناً تتدخل الولايات المتحدة بصورة مباشرة ووحشية باستخدام التدخل العسكري أو الأمني، عبر خوض حروب تحصد أرواح الملايين، أو تدبير انقلابات عسكرية أو مدنية، كما حصل في العديد من دول العالم. ولا يقف تدخل الولايات المتحدة عند حدود التوجهات السياسية للدول المستهدفة، بل بكل صلافة يطال أيضاً المناهج التعليمية والتربوية للدول المستهدفة، فيما يجب أن يتعلمه الطلاب، وفيما يجب أن يتم حذفه من الكتب.
تتباين ردود الفعل من الدول موضع الاستهداف، بين المعارضة والاحتجاج والمناهضة والتصدي لهذه التدخلات الأمريكية، حينها تصبح هذه الدول مارقة وتضعها الولايات المتحدة في محور الشر وتسعى للتخلص من الأنظمة التي تحكم هذه الدول لتطويعها بما لا يخرج عن النسق الأمريكي. فيماهناك دولاً لا تبدي امتعاضاً من هذا التدخل، بل بعض الدول ترحب وتبارك هذه التدخلات السياسية، رغبة في الحصول على المكافآت والامتيازات الأمريكية، من مساعدات مالية واقتصادية وعسكرية وسواها.

الطغيان الأمريكي
تعاقبت الإدارات الأمريكية على انتهاج سياسة براغماتية خلال فترة الحرب الباردة التي امتدت من خمسينيات القرن العشرين إلى بداية التسعينيات. وقامت تلك السياسة على عنصرين المصلحة والقوة. إن السياسات الدولية ما هي إلا صراع من أجل القوة والنفوذ، فجميع الدول تسعى للحصول على المزيد من القوة التي تحكم كافة العلاقات الدولية، هذا ما يعتقده أحد أهم أعمدة القرن العشرين في مجال دراسة السياسة الدولية "هانز يواخيم مورغنثاو" الألماني المولد الأمريكي الجنسية، الذي أرسى أسس نظرية الواقعية الكلاسيكية كمنهج في تحليل السياسات الدولية، ويعتبر كتابه "السياسة بين الأمم" مرجعية نظرية مهمة في العلاقات الدولية منذ منتصف القرن العشرين.
إنه التنافس والصراع الدولي لتحقيق القوة التي من شأنها إخضاع الآخرين، وتحقيق المنافع السياسية والاقتصادية والعسكرية. ومفهوم القوة هنا يشمل القوة العسكرية والقوة الاقتصادية وقوة الهيمنة السياسية والتوظيف الدبلوماسي.
-   عسكرياً تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية الترسانة الأضخم دولياً. بحسب دراسة نشرها موقع "غلوبال فاير بور" المتخصص بجيوش العالم، فإن حجم الميزانية الأمريكية العسكرية كانت تصل إلى 580 مليار دولار سنوياً، لكن بلغت في العام 2018 حوالي 700 مليار دولار. فيما تبلغ ميزانية الجيش الصيني على سبيل المقارنة 161 مليار دولار، أما روسيا فلا تتجاوز ميزانيتها العسكرية 50 مليار دولار، رغم أنها تعتبر دولة عظمى ومساحتها الضخمة تتطلب دفاعا ممولا ومتطورا.
كدولة نشأت على الحروب فقد ذاع صيت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لتصبح القطب الأوحد في النظام العالمي، واستطاعت أن تفرض قوتها على الدول الكبرى التي ترتبط بتاريخها الاستعماري في نهب ثروات الشعوب لتمويل ترسانتها الحربية.
-   وعلى الصعيد الاقتصادي، هيمنت الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي منذ عشرينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من تعرض اقتصادها لعدة أزمات اقتصادية عنيفة، لعل أبرزها الكساد الكبير الذي حصل في ثلاثينيات القرن العشرين، والأزمة المالية التي نتجت عن الانسداد في الرهن العقاري والمشتقات المالية في العام 2008، إلا أن الدولار الأمريكي لا زال يهيمن على سوق العملات الدولية، ويشكل الجزء الأكبر من الاحتياطيات النقدية في العالم.
ويبلغ الاقتصاد الأمريكي وفق تقارير صندوق النقد الدولي لعام 2018 ما قيمته 20,4 تريليون دولار، حيث يستحوذ على ما يقارب ربع حجم الاقتصاد العالمي. وجاءت الصين في المركز الثاني بناتج إجمالي 14 تريليون دولار، فيما اليابان بالمركز الثالث بناتج محلي بلغ 5,1 تريليون دولار، في المركز العاشر تحل كندا بناتج 1,8 تريليون دولار. بينما روسيا خارج لائحة أكبر 10 اقتصاديات عالمية إذ يبلغ الناتج المحلي الروسي 1,7 تريليون دولار.
-   سياسياً ودبلوماسياً وثقافيا وفكرياً، من الجلي أن القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة تفرض هيمنة سياسية وثقافية أيضاً. حيث تتبوأ مكانة مؤثرة، في غزارة الإنتاج الفني السينمائي والموسيقي والبرامج التلفزيونية الأمريكية، تنتشر في معظم الدول. كما أن التطور الهائل في تقنيات التواصل والاتصال والثورة الرقمية التي موطنها الولايات المتحدة، إضافة إلى الفيسبوك وتويتر وغوغل وأمازون وجميعها إنتاج أمريكي وتسهم بشكل فعال في نشر وهيمنة الثقافة والإنتاج التكنولوجي الأمريكي على الشعوب الأخرى.
يقول مدير برنامج الخريجين الإعلاميين الأمريكي الدكتور "أندرو سليباك" "نؤمن بالحلم الأمريكي الذي هو ممكن فقط في الولايات المتحدة، التي كانت ذات يوم مستعمرة بريطانية يسكنها الخارجون عن القانون والعبيد والفقراء" ويعتبر أن مدينة نيويورك تمثل القيم الأمريكية، حيث تعبر أغنية "فرانك سيناترا" بكلماتها عن هذه الثقافة حيث تعتبر أن من ينجح في أمريكا يمكنه النجاح في أي مكان في العالم.
وبالتالي تسعى الولايات المتحدة عبر الوسائل الحديثة والتكنولوجيا المتطورة وبأدوات متعددة، إلى نشر وفرض أنماط حياتية وقيم وثقافة تكرس وتدعم استراتيجياتها البعيدة.
على صعيد القوة الدبلوماسية والحضور والفاعلية في المشهد السياسي الدولي، فكل الدلائل تؤكد الحضور القوي النشط للولايات المتحدة من نهاية الحرب الباردة. تعمق هذا الحضور واتسع في حرب الخليج الثانية، واحتلال العراق، مشكلة الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الصهيوني، أزمة البوسنة في منطقة البلقان في شرق أوروبا، المشكلة في الصومال والحرب الأهلية، أزمة لوكيربي، قضية هاييتي، التدخل في أفغانستان، التواجد العسكري في سورية. وتواجدها في عدة أزمات وقضايا دولية كثيرة أخرى.
إن كافة عوامل القوة لدى الولايات المتحدة أسهمت بصورة كبيرة في تعزيز صورتها كقوة طاغية مستبدة، أتاحت لها المقدرة على التدخل في مناطق الصراع وبؤر التوتر الكونية، والعمل على تطويع واحتواء الأنظمة، ومحاربة كافة القوى والجماعات الدولية المناهضة للولايات المتحدة والمعادية لمصالحها.
وكل هذا أدى إلى قيامها باحتكار إدارة الأزمات العالمية، والتحكم بها وتوجيهها بما يضمن المصالح الأمريكية. سواء كان ذلك بالأدوات العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية، أو باستغلال الأمم المتحدة والهيئات المنبثقة عنها، وهن طريق استغلال كافة المنظمات السياسية والاقتصادية والمالية والقضائية الدولية.

الذرائع والادعاءات الأمريكية
إن النظام الكوني الذي بشر به الرئيس الأمريكي جورج بوش العالم، لم يكن سوى النظام الذي تريد الولايات المتحدة أن توظفه لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وتأكيد هيمنتها على العالم. فالتدخل الأمريكي الجائر بكافة اشكاله وأدواته قد تنامى واتسع بشكل مرعب في أرجاء المعمورة، وأظهرت الولايات المتحدة مخالب القتل والقهر والاستبداد. وتحولت الأمم المتحدة من منظمة لتحقيق السلم والأمن الدوليين والحفاظ عليهما، إلى هيئة تابعة للولايات المتحدة تناط بها مهام تنفيذ السياسات الخارجية الأمريكية القهرية ضد الدول والشعوب الأخرى. وبهذا يتم الاستخفاف بنظام الشرعية الدولية وقواعدها، ولهذا تنامت الصراعات والحروب واتسعت دائرة النزاعات في العالم بدل انحسارها.
تدعي الولايات المتحدة أنها مرجعية كونية في قضايا القيم والمبادئ والحريات، وأنها واحة للديمقراطيات المتنوعة، وراعية الخير والحق وترغب في نقل منظومة القيم هذه إلى بقية الشعوب والدول، لكنها فشلت في تقديم نموذج واحد على نجاح ديمقراطيتها خارج أسوار امبراطوريتها، فأين تحل أمريكا يحل الدمار والقتل والخراب. وهي أيضاً ترسب في كل مرة بامتحانها الأخلاقي حين يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني الصهيوني، إذ أنها لا تتردد بإظهار وجهها الامبريالي في دعم وتأييد السياسات الصهيونية الإسرائيلية بقتل الإنسان الفلسطيني والاستيلاء على أرضه، مما يجعل القوة الأمريكية الناعمة التي ترتكز على المبادئ موضع للسخرية.
أما محاولات أمريكا التدخل لتغيير المناهج التعليمية في بعض الدول، فما هي إلا شكل من أشكال الاستعمار الليبرالي قليل التكلفة والأكثر خطرا على الشعوب، فهو ببساطة يقوم على هندسة ثقافة تضمن المصالح الأمريكية، فيما سمي الدبلوماسية الثقافية التي تنشط من خلال منظمات المجتمع المدني.
بالرغم من أن الولايات المتحدة تدس أذرعها في شؤون الدول بذرائع إنسانية أو أمنية في الغالب، إلا أن الأسباب الحقيقية تكمن في المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية. وهي تقيم القواعد العسكرية، وتنشر البوارج وحاملات الطائرات تجوب المحيطات لتحقيق هذه المصالح والحفاظ على سلامة الطرق والممرات المائية لضمان تدفق النفط ومرور البضائع للأسواق الناشئة. وكذلك الحد من النفوذ الصيني والروسي، وتحجيم دور القوى الإقليمية إيران وتركيا، وحماية مصالح الربيبة المدللة إسرائيل. فأين يوجد موقع استراتيجي، وتوجد ثروات وأسواق استهلاكية، تجد الولايات المتحدة حاضرة.
وهي لا تميز في استراتيجيتها الوقحة بين الحليف والعدو، إنما تبدل الأدوات، فتلجأ إلى القوة العسكرية مع العدو، بينما تستخدم الضغوط السياسية والاقتصادية مع الحلفاء.

بيت الطاعة
منذ انهيار البرجين الشهيرين في الولايات المتحدة العام 2001 والبوارج الأمريكية وحاملا الطائرات ومشاة المارينز، ينتقلون من مكان لآخر وسط إعصار من الأحداث المتتالية، حروب وقتل ودمار وصفقات. منذ بداية الالفية الثالثة، ويبدو وكأن العالم الغربي المتحضر المتنور قد فلتت منه السيطرة على اتزانه رعباُ من أمريكا، ولا يظهر للآن أن أحداً يريد أن يتوقف لينظر بحكمة على ما يجري.
وتظهر المرحلة العليا في منظومة السيطرة والتحكم الأمريكية على العالم، عبر فرض رؤيتها الفكرية الاستراتيجية على المنظمات الدولية، لتشكل اللمسات الأخيرة لهيمنة متهددة الأذرع. ويبدو ملموساً الانحياز الضرير أو القسري خلف الثور الأمريكي المنفلت، حيث ترتعب منه العديد من الدول.
جميعها معاً تشكل صورة أمريكا عن نفسها ورؤيتها عن العالم كيف عليه أن يكون، بحيث لا يخرج عن سياق "تشيزبرغر، الكوكاكولا، سي إن، ميكروسوفت، غوغل، أمازون، وول ستريت، هوليود، واشنطن بوست، فيسبوك، بنتاغون، سي آي إيه، اف بي آي" والأنماط الأمريكية الأخرى المتعددة. فحين يفشل "الشيزبرغر" في أمركة العالم، تتدخل "سي إن وأفلام هوليود"، وإذا العالم توقف عن تصديق بطولة "رامبو" في أفلامه، حينها لا بد من تدخل البنتاغون وأدواته وأتباعه وفروعه، لإعادة الرشد لمن فقده واعياً أو لا هياً، وإلى كل من خرج عن طريق الصواب، وإعادتهم إلى بيت الطاعة، وفرض السيطرة مرة أخرى على من يتمرد.

أمريكا الفاوستية
تنظر الولايات المتحدة إلى بعض الدول على أنها مطبخ استعماري، وإلى بعض الدول على أنها أقاليم متمردة، وإلى البعض الآخر باعتبارها حديقة البيت الأبيض الخلفية التي تحتاج أعشابها إلى تشذيب.
إن سعي الولايات المتحدة للسيطرة على العالم مستعينة بقوتها الجبارة، لهو أمر تشرّعه أعراف السياسة الدولية غير المنصوص عليها في العقود، حين يرتبط الأمر بالنفوذ، لكن عندما تتحول أمريكا إلى مركّب هجين بدائي تريد إعادة العالم إلى همجيته، وتصبح محترفة لصناعة الموت والقتل، وتجعل من الحروب سبباً لوجودها، ومن الدمار مبرراً لاستمرارها، ومن الدماء والضحايا مادة للفرجة، حينها تكون الولايات المتحدة الفاوستية قد باعت روحها للشيطان كي تقوم ببناء هذا العالم كما تقرر.
حرب تجارية، وحصار اقتصادي، تدخلات عسكرية، نهب ثروات الشعوب، التدخل في كل شيء، الانسحاب الصبياني من الهيئات الدولية، ومن الاتفاقيات الموقعة مع أطراف أخرى. ألا يشير هذا السلوك إلى حالة من المراهقة تعكس تجبراً منفلتاً، كمن يقول إما أن تلعبوا حسب قوانيني ومزاجي، أو أنني سأنسحب، بل سوف أعمد إلى تخريب اللعب. وهي غالباً ما تقوم بتخريب كل شيء، سواء وافق الآخرون على اللعب أم رفضوا، فالثور التي تتلبّسه الروح الشيطانية يمضي مدمراً كل ما في طريقه، وهو يحتاج دوماً إلى الخصم الآخر، الذي بدونه يفقد الثور معنى وجوده، وكي تثبت الولايات المتحدة أنها على حق وأن الآخرين على الضلال، لابد من اختلاق عدو تقاتله لتثبت صواب نهجها.

مملكة الفوضى
في مملكة الفوضى الامبريالية الاستعمارية الاستبدادية، سوف يتجه العالم نحو الهمجية السوقية ما لم يتم مواجهة مرحلة ما بعد الامبريالية التي تمثلها الولايات المتحدة بجموحها، حيث تظهر كأنها عصابة وليس كدولة، فهي منفلتة العقال لا تحترم قانون ولا شرعية، وتبتدع أعداء وتشن الحرب عليهم وتريد أن تقود العالم لمعركة ليست بالضرورة هي معركتهم. إنها الفاشية الجديدة، جنون العظمة والغرور المريض والقوة الثملة، هي ما عليه أمريكا اليوم.
لقد اختلطت المعايير ولم يعد العالم يعرف حدود الحضارة المدنية ويميزها عن السلوك البدائي. هل في تغريدات الرئيس الأمريكي، والقرارات التي يصدرها ويتوعد بها العالم ما يشير إلى كون هذا الرجل تحكمه مفاهيم مدنية عصرية؟ وهل نجد في خطاب القوى الدينية الأصولية المتشددة الإسلامية والمسيحية على حد سواء ما يؤسس لاستحضار قديم مضى واندثر؟ وكيف يريدون منا أن نصدق الديمقراطية الغربية اليمينية الصهيونية المسيحية المتحالفة مع رأس المال المتعدد التي بموجبها أصبح "دونالد ترامب" رئيساً للولايات المتحدة، ويرغب في صفع العالم على مؤخرته لأنه لا يؤيد كما يجب سيد البيت الأبيض.
إن خلق الأعداء للولايات المتحدة ضرورة تفرضها مصالح اليمين المسيحي الصهيوني الأمريكي المتشدد ا، الذي يسعى إلى إحداث ظروفاً استثنائية تواجهها أمريكا تتيح للرئيس الأمريكي تجاوز المراسيم والأعراف والتشريعات التقليدية المعمول بها لدى أصحاب التخطيط الاستراتيجي، وهذا من شأنه تركيز سلطة القرار في عدد قليل من أعضاء الإدارة الأمريكية، واتخاذ قرارات أمنية بحيث تصبح السلوكيات البوليسية مقبولة، وتمنح الشرعية في الانقضاض على هذا العدو الخارجي، ثم منح الدول الأخرى فرصة مشاهدة القوة الأمريكية التي تبقيهم في حالة حذر وحرص لعدم إغضاب صاحب المكتب البيضاوي. تماماً هي أولى خطوات الديكتاتورية بصورتها المعاصرة، هكذا كان الفاشيين الرواد.

هل من مواجهة للغطرسة؟
إن الحديث عن استراتيجية مواجهة الصلف الأمريكي يتطلب أولاً قوى لديها الرغبة في المواجهة، ثم يتطلب وضع استراتيجية. وفي هذا السياق قد يبدو مهماً البدء بإجراء إصلاحات في بنية الأمم المتحدة وهيئاتها من أجل تفعيل دورها كمؤسسات كونية تعالج قضايا العالم، وهذا يتطلب حشد تضامني بين مختلف الدول الناشئة، التي يقع عليها وحدها مسؤولية الترفع عن المساعدات الأمريكية حتى لا تضطر لدفع المقابل.
لكن هذه الدول لن تتمكن من الاستغناء عن المساعدات الأمريكية ما لم تجري إصلاحات اقتصادية وسياسية وثقافية في بلدانها لتفويت الفرصة على القوى الاستعمارية.
ثم إن من شأن إنشاء الشراكات بين الدول النامية في الجنوب، وتعزيز التعاون فيما بينها، والانفتاح على القوى الإقليمية، وإقامة تكتلات استراتيجية، أن يحدث نوعاً من التوازن لتقليص الهيمنة والتبعية.
عربياً فإن الانقسامات التاريخية بين الأنظمة العربية وغياب أنماط العمل المشترك الفعال، جعل من منطقة الشرق الأوسط البقعة الأكثر اختراقاً في العالم. والكارثة أن الدول العربية ودول المنطقة تميل بالتزاماتها الاستراتيجية نحو القوى الخارجية الكبرى، أكثر مما تهتم بتعاونها العربي-العربي أو العربي-الإقليمي، على الرغم من امتلاك العرب لوسائل الضغط على أمريكا والغرب، مثل النفط والأرصدة المالية في البنوك الغربية وحجم التجارة الواردة للأسواق العربية. ولا زال العرب رغم عددهم الكبير في الولايات المتحدة لا يمتلكون جماعات ضغط في دوائر صنع القرار الأمريكي. لا مخرج للأنظمة العربية من تحت عباءة الغرب، إلا بوضع استراتيجية تطوير إمكانية أن يستخدمون النظام الدولي لصالح الشعوب العربية، بدلاً من أن يكونوا أدوات وألعوبة بيد هذا النظام.

ما يشبه الخاتمة
مدعومة بقوة عسكرية وميزانية حربية تزيد عن إنفاق عشرين دولة متطورة، وبصرف على البحث العلمي يفوق ما يصرفه العالم أجمع، وبمقدرة اقتصادية الأضخم كونياً، تسعى الولايات المتحدة إلى تطويع الدول والشعوب، وتريد فرض نفوذها على جميع دول العالم، الذي يبدو كأنه محكوم بقَدر الولايات المتحدة التي تسعى لأمركة الكون، سواء عبر وسائل السلم أو العنف، بالإغراء والثواب أو بالتسلط والعقاب. عبر شن الحروب والاحتلالات والقوة العسكرية والحصار الاقتصادي، وعبر التدخل الفاجر في قضايا الدول الأخرى، ومن خلال استغلال التناقضات والنزاعات بين الدول والأطراف في المناطق التي تشهد صراعات. أو بواسطة الهيمنة الناعمة عبر تصدير المنتجات الأمريكية والسلع والبضائع والعتاد الحربي والأسلحة، والتقنيات الحديثة إلى الأسواق العالمية، والسيطرة على الاقتصاد العالمي وعلى حركة التجارة العالمية خاصة في الأسواق الناشئة. ومن خلال نشر الثقافة الأمريكية وبسط السيطرة الفكرية على دول وشعوب متعددة، وتسويق أنماط الحياة الأمريكية، وإطهار تفوق النموذج الأمريكي في كل شيء، وهذا بهدف الهيمنة على العلاقات الدولية والسيطرة على الأخرين، والاستحواذ على ثروات المعمورة لخزائن الامبراطورة أمريكا.
في المشهد الحالي الكوني، نلاحظ بوضوح الصلف الأمريكي والعنجهية اليمينية المدمرة، والغرور والتجبر والتسلط الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد دول العالم، ولم ينج أحد من هذا الفجور حتى حلفاء أمريكا. ويبدو وكأن أمريكا تقود العالم -شأنها دائماً- إلى السقوط في القعر المظلم. فهي تمارس هذا الزهو بالسلطة والقوة كي تمنح -واهمة- الداخل الأمريكي الأمن والسلام. لكن غالباً ما تتحول قوة الولايات المتحدة إلى استبداد غاشم، وإلى طغيان يصل حده الأقصى، لأن أمريكا تعتقد أن الحق إلى جانبها يدعمه قوة مفرطة في استبدادها.
الولايات المتحدة لا تكتفي بأن تحقق النصر في معاركها، بل لابد من أن يكون غريمها المنهزم طرفاً شريراً وسفاح آثم مذنب. لذلك تقوم دوماً بوضع العالم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تحصل على عضوية الاتحاد الذي يضم الأخيار والطيبين والمتحضرين، الناس الصالحين والشرفاء والمطيعين، الذين يبتغون مواجهة الشر والتخلف والهمجية والعصيان. أو أن تكون خارج هذا الاتحاد مع طائفة من قطاع الطرق الفاسقين، الذين يعتمدون خطاب التشدد الديني والسياسي. وعليك أن تختار أحد المعسكرين. وهذا بذاته يعتبر استبداد أمريكي وتجبر وتعسف وشطط، أكبر واقوى من إجحاف واضطهاد القوى الأخرى التي تعتبرها الولايات المتحدة أنها دولاً مارقة وجماعات متطرفة وظلامية، وتدّعي محاربتها في أماكن متعددة من العالم.





103
أدب / قبل ميعاد الخواء
« في: 19:53 30/10/2018  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


قبل ميعاد الخواء

غرباء ختمنا التراب وأنهينا التعب
خلفنا المرايا الضريرة ابتلعت الفوانيس
والأراجيح الموحشة ضجرت الانتظار
ربما كان الصراخ أهرم من ساعة رملية
والعتمة تسيل قبل الطيور والبارود
وربما ربما كانت الغابة تموت
قالوا أيقظ الشجر ضوء القمر
كنّا نخشى ألاّ يعود الصبح
فانتظرنا طويلاً على أبواب الحزن
كي يذرف الوقت لون الفرح
نرتدي دفاتر القيامة
ونضم الغيوم في جيوبنا
ويسألنا القلم هل صَدَقْتُمْ؟
كنّا كما نذكر موتنا
محمولين فوق أحزمة الملح
وخلفنا ثمر الشتاء
بيننا وبين فيض الغياب
أوتاراً حزينة بصوت مشروخ
ننتشل من رماد الشاطئ
صور الرحيل وتقاسيم القحط
نرسم بياض الحضور
على الرمل العتيق
قد كنّا هناك
في الدروب المجدولة
خلفنا صلاة الحالمين
ونوافذ تصرخ من عسف الريح
نصنع خطى في الطريق
إلى الفراغ
فينجب الرمل زهر الماء
ويشاطر وجه السماء شجر الوجع
تشدّنا البساتين لصخب الطيور
ويعتصرنا غصن الأمنيات
تجاعيد على وجه مرآة خرساء
تسألنا سوسنة الطريق
أين أنتم؟ أين وصلتم؟
كنّا مرتبكين نبحث في جناح الصقيع
عن عصافير لا ترحل وشجر جف نحره
نخمد كالغياب في حكايات النوارس
لنتوهج في وجه البحر المكتوب
قبل ميعاد الخواء زنبقة للصباح
وحدنا الغرباء
نرسم للهذيان كوّة وللشجر أفواه
نتحدث قليلاً عن ريح الوقت
والأرصفة المشاكسة مرة
ومرة نفرّ من الاسماء
كي تولد من رحم الاحتراق
لحظة لقاء
ما زلنا نتوغّل في الأحلام
حفاة الليل
لكن رؤوسنا مقيّدة من تلافيفها
والوسائد شغف جائع
لا زلنا فوق البساط الضرير
لكننا لا ننام
هذا الجنون البليد يلتهمنا
كم بقي للمغيب؟




104
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


الزندقة الثقافية في المشهد العربي.. هكذا تسقط الأمم

مع تطور الفرد يتقدم المجتمع، وحين يتطور البشر في المجتمعات يرتقي الوعي الجمعي، ويصبح أكثر تماسكاً وتناغما، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تشذيب المجتمع من الميول والسلوك السلبي. إذن هي حركة مجتمعية واعية متفاعلة مع ذاتها في الآخر، ومع الآخر في ذاتها، في حركة مستمرة لتراكم معرفي يحقق مزيداً من الوعي. هذا المسار المتواصل ما هو إلا مساهمة الفرد في صياغة المفاهيم المجتمعية، ودفع ركب التطور والتقدم. فإن كانت إرادة الفرد تأخذه نحو سلسلة متداخلة من الأسئلة، فإن عدم الحصول على الإجابات التي يريدها قد تقف عائقاً أمام تطوره، رغم أن الإنسان كان عبر التاريخ قادراً على إعادة صياغة القيمة الوسطية في أنماط تتناسب مع مستوى الوعي ودرجة الحرية المجتمعية.
السؤال الذي لا يغيب عن كتّابنا ونقّادنا ومفكرينا: لماذا فشل مشروعنا الإصلاحي، ولماذا لا نستطيع تحقيق تقدم وتطور اقتصادياً وحضارياً؟ من كثر ترديد هذا السؤال بتنا نشك في عقولنا. إنه السؤال المقلق لجميع العرب، في ضوء الارتباط الجدلي العميق بين تطور الفرد وبين توفير مناخات ثقافية تسهم في تطوير الملكات الفردية. إذ كلما ارتقى الفرد ازدهر المجتمع، وكلما انتعشت الثقافة تحرر العقل الفردي وتنامى الوعي الجمعي. ويظل للأسئلة بريقها المعرفي الذي لا يخفت.

أسئلة حرجة
في الأوقات الحرجة نطرح الأسئلة المربكة. قد يتساءل أحدنا، هل يزندق الأدباء والمثقفين؟ الإجابة هي نعم إن بعضهم يفعلون.
فإن كان العوز ذريعة تدفع الفقير والمحتاج إلى أن يتحول لساناً للحاكم وللسلطة السياسية أو الدينية، تراه ينفث في أذن الحاكم ما يريد سماعه، ويبرر تصرفات وأفعال ومواقف الحاكم ونظامه، فما هو دافع أولئك الذين يتبوؤون مناصباً، ويديرون تجارةً وأعمالاً، ويحملون شهادات جامعية عليا، ومثقفين معروفين، لأن يسلكوا درب النفاق والمكر إن لم تكن زندقة. فإن استثنينا بعض المثقفين الذين تستغلهم الأنظمة السياسية كأبواق لها يلمعون قبحها، فالنفاق والزندقة بين بقية المثقفين يكمنان في السعي نحو الحصول على منفعة، بسبب الحسد والغيرة أو بسبب الشعور بالنقص تجاه الآخر.
إن النفاق لا يشبه الكذب بل يعيش معه ويقتات منه، والزندقة لا تشبه النفاق بل تعيش معه وتتغذى منه بحبل سري.
إن النفاق بحد ذاته هو عرض مرضي وطفح جلدي لحالة من النقص متجذرة في الكينونة البشرية، يظهر ويختفي هذا العرض لارتباطه بمقدار الثقة والمستوى التعليمي والفكري والمعرفي والإبداعي، ولعدم قدرة مثقف على الوصول إلى مكانة أدبية أو علمية التي تمكن الآخرون من الوصول إليها. أحياناً تجد النفاق والزندقة عند مثقفين كباراً ومرموقين، لكن إحساس "الأنا" لديهم مرتفعة بصورة مرضية تجعلهم لا يرغبون في أن يصل أحداً غيرهم للمكانة ذاتها، خشية من المنافسة. وهو سلوك يعبر عن حالة نقصان كامنة.
إن النفاق والكذب والزندقة مكونات محمولة طبيعية قائمة وخامدة في اللاوعي البشري، قد تظل في حالة من السبات، وقد تستيقظ في لحظة مثل تنين ينفث سموم المكر والتدليس والمداهنة، إن ما شعر الإنسان أن لا درب آخر يسلكه للدفاع عن النقص الذي يستشعره، أو لتحقيق غاية ذاتية.

سيكولوجيا النفاق
إن شيوع النفاق والزندقة يرتبطان بالفلسفة السياسية التي يتبناها الحاكم وكيفية حكمه، ونوعية الأدوات التي يعتمدها نظام السلطة في إدارة شؤون البشر، والتحديات التي تواجهها السلطة السياسية. وفي الواقع العربي نجد ثلاثة نماذج من المثقفين، فئة المسالمين الذي ينظرون للسلطة على أنها مصدر أذية والابتعاد عنها أسلم، وفئة المعارضين الذين يقفون في وجه السلطة السياسية، وينتقدون أدائها ويكشفون عيوب القصور، ويطالبون بحقوقهم وحقوق العباد. أما الفئة الثالثة فهم الزناديق المنافقون الذين يظهرون للسلطة عكس ما يكتمون، ويدلسون طمعاً في سلطة أو مال أو جاه، أو تجنباً لأذية يتوقعون حدوثها من السلطة.
ومن المنافقين من يبالغ في التمجيد لدرجة تجعل من الزعيم الحاكم الديكتاتوري شخصية كاريزمية استثنائية، يجب على الناس طاعتها والقبول بها والتسليم بأقواله وأفعاله. ونجد أمثال هؤلاء الزنادقة في كل مكان على امتداد خارطة العالم العربي، ومفاصل الدول. تجدهم في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، يكونون رؤساء تحرير صحف، ومديرو تحرير فضائيات وإذاعات، كتّاب مقالات.
 كانت نتيجة انتشار سيكولوجيا النفاق في بعض الدول العربية ظهور مثقفون مدّاحون، ومعارضون، وأُجراء ثقافة، مما جعل معظمهم يسقطون في مصيدة الاغتراب عن ذواتهم وعن الثقافة وعن الوطن. فكانت مهمة المدّاحون تنميق وتحسين الوجه القبيح للسلطة، وتقديم تبريرات للناس بعبارات مفخمة عن التجاوزات والاعتداءات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية بحق المواطنين. وأُجراء الثقافة تتسم علاقتهم بالسلطة بالحيادية واللون الرمادي، فهي مصدر رزق ومعيشة للبعض، وحالة شائكة مربكة للبعض الآخر. أما المثقفون المعارضون إما تقوقعوا على ذواتهم لدرجة الانتحار الإبداعي، أو تركوا الاوطان وهاجروا إلى بلاد أخرى.

المثقفون زنادقة العصر
الزندقة حسب التعريف الوارد في موسوعة الأديان هي "لفظ فارسي معرّب، وقد كانت تطلق في البداية على من يؤمن بالكتاب المقدس لدى الفرس "الزندافست"، ثم ما لبثت التسمية أن انتشرت منذ العصر العباسي الأول، وأطلقت على كل إنسان يتشكك في الدين، أو يجحد شيئاً مما ورد فيه، أو يتهاون في أداء عباداته أو يهزأ بها، أو يتجرأ على المعاصي والمنكرات ويعلن بها، أو يؤمن ببعض عقائد الكفر، ويسرف في العبث والمجون.
زنادقة هذا العصر يختلفون عن زنادقة العصور الإسلامية السالفة. فأولئك كانوا يكتمون "الديانة المانوية" ويظهرون الإسلام. أما زنادقة هذا العصر فإنهم يظهرون الإيمان بالديمقراطية والحريات الاساسية للبشر، وينادون بالحق في الاختلاف، لكنهم يكتمون ضيقاً من كل مخالف لأفكارهم، ويتحولون إلى اشد أعداء الحريات إن اقتربت من مصالحهم، ولديهم استعداد لوأد الديمقراطية إن تعارضت مع مفاهيمهم، يتشدقون بالدفاع عن حقوق الشعوب ومصالح الجماهير، لكن في حدود عدم تعارض هذه الشعارات مع مصالحهم الأنانية، لأنهم في لحظة واحدة ينقلبون ضد الجماهير وينحازون للطغاة.
لقد ورد في مؤلفات الصوفي أبو المواهب عبد الوهّاب بن أحمد بن علي الأنصاري" الذي ولد العام 1491 ميلادي في مصر، والمشهور بـالشعراني، تحذيراً شديداً للمظلومين من الوقوع في إثم الدعاء على الحاكم الظالم، ويبرر الشعراني تحذيره بأن الظلم الذي قد يقع على أحد إنما هو في واقع الحال يصدر عنه نفسه، وأن الحاكم الظالم إنما هو مسلط من الله بحسب أعمال البشر، فالحاكم الظالم هنا ما هو إلا سوط يتم جلد الناس به، وإن الذنب ليس طبعاً ذنب السوط، إنما الذنب والجرم يقع على من سقط في الإثم والخطيئة ووقع في المعصية، وبالتالي استحق عقاباً من رب العباد.
ومن مقولات الرجل الشهيرة- وقيل إنها مدسوسة عليه- أن العهود قد أخذت عليهم الدوران مع أهل زمانهم وينخدعون لهم، وأن نتلوّن لهم مثلما يتلونون لنا، وبذلك نأمر إخواننا أن يدوروا مع الزمان وأهله كيفما يدورون.
بعض المثقفين العرب يبدعون في الزندقة والنفاق، ويبدون كأنهم تلاميذ مخلصين لقواعد الشعراني، فهم يظهرون النفاق للحكام ما بقي الحاكم في سلطانه، فإن تم عزله أو مات فلا تعظيم له.

ازدواجية مرضية
لو صادفت مثقفاً شحاذاً أو أحداً متزلفاً وكذاباً من عامة الناس، فلن يثير هذا بك شيئاً، لأن أمثال هؤلاء موجودين في كل مكان وزمان. لكن ان ترى مثقفاً يستفيض في التنظير عن المبادئ والقيم والأخلاق، ويبهرك في حديثه حول الديمقراطية وجمالها، والحريات العامة وحسنها، ولا ينسى أن يذكرك بأهمية العقل والتفكير الحر الذي غايته هو الإنسان وتحسين ظروف حياته. ثم تتفاجأ أن تقرأ له في مطبوعة ما، من الكذب والنفاق والتدليس والخداع ما يجعل الأرض تحتك تمور، وتفكر في أن تقترح عليه أن يوقع أسفل ما كتبه باسم "عبد الله بن أبي بن سلول".
كيف نتعلم الحرية من مثقف لم يعرفها يوما، وعاش حياته عبداً لمصالحه وتطلعاته، وكيف نستلهم التمسك بالقيم والمثل، والثبات على الحق، من إنسان متأرجح لم يعهد يوماً الثبات على موقف.
في زمن "الأراجيل" انتشر النفاق والتدليس والمكر والزندقة بين الناس، والأخطر بين المثقفين، فبتنا نرى ونسمع بمناسبة أو بدونها علو صوت قصائد البلاط التي تستجدي رضى الزعيم الفذ، ومقالات التمجيد بالحكام، والمنشورات التي تبرز رجاحة عقول الحكام، وحصافة آراءهم، وحرصهم الذي لا يبيتون ليلهم بسببه على الرعية ومصالحها، وأكثر أحد يعلم أن كل هذا نفاق هم الحكام والزعماء أنفسهم.
إن هذه الظواهر المرضية، والتي ساهم الجميع في انتشارها، خاصة في الوسط الثقافي، حيث بات معظم المثقفين يظنون أن الممر الوحيد كي ينالون مبتغاهم- أياً كان- من السلاطين وسواهم، هو قصيدة غزل وتمجيد ومدح، وأن الحقوق لا يتم الحصول عليها إلا بالتملق والتلهوق، حتى أصبح هذا المنهج غير السوي من أدبيات الوظيفة والترقية، وقضاء الحاجات والتودد للمسؤولين، والتقرب من أصحاب الشأن، وصار العباد يبدعون ويتفننون في اتقان النفاق والزندقة والمخادعة، ويتنافسون في ميدانها.
إن شيوع هذه الظواهر في المجتمعات العربية تتسبب في انحدار القيم الأخلاقية، وتشويه المفاهيم المجتمعية، وتؤدي إلى خلط المعايير الإنسانية والفكرية بصورة يصعب معها انتشال البشر من هذا القاع. والخطير أن الناس تتعايش مع الزندقة ومخرجاتها ومفاعيلها برضى بليد، وصار المثقفين يعتبرون النفاق أمر بديهي، ومن ينكرها يخالف الإجماع.

زندقة احترازية
بعض المثقفين يزندق وينافق بهدف كسب المال أو المنصب أو الجاه، والبعض الآخر يلجأ لها بغية تشكيل رصيد تراكمي يستخدمه في أوقات الضيق المستقبلية. إن الزندقة والمداهنة رذيلة يمارسها المثقفون من كافة الاتجاهات والتيارات الفكرية والانتماءات الحزبية والولاءات السياسية. حيث يقدم بعض المثقفين الإسلاميين على هذا الدجل كي يطمئن الحاكم أن ليست لديه اية أطماع سياسية ولا طموحات في المنافسة، وأنه راض عن أداء السياسي وليس رافضاً لنظام الحكم، فقط حتى لا يقوم السياسي باعتقاله، أو التعرض له، وكأن حريته صدقة يستجديها من السلطان.
بعض المثقفين الليبراليين حالهم أقبح وفعلهم مذموم، حيث أنهم ينتقدون الفكر الإسلامي وينادون بالحرية الفكرية وحرية العقل، وإقصاء الوصاية اللاهوتية، ويدعون إلى التنوير والحداثة والديمقراطية، وبناء دولة المؤسسات، وحقوق المواطنة. لكنهم سياسياً وفي مواجهة الحاكم يصبحون عبيداً خاضعين، يفعلون ما يؤمرون، بل يقدمون على ما لم يطلب منهم، ويتنافسون في الزندقة والنفاق وإظهار الولاء للحاكم ونظامه السياسي، ولا يفوتون مناسبة إلا ويحضرون مع زيفهم ومكرهم وتملقهم، لأنهم عبيداً لا يعلمون عن الليبرالية شيئاً غير اسمها.
الكارثة حين يشتبك المثقف الليبرالي مع المثقف الإسلامي، يدّعي كل منهم أن السلطة السياسية تدعمه فيما يفعله، وأن الحاكم راض عنه، بل يصل الأمر أحياناً أن يقوم أحدهما الاستقواء بأجهزة السلطة على الآخر، وربما يدس له ويحاول توريطه عند الحاكم. الطامة الأكبر نراها في أن كلا الطرفين -المثقف الإسلامي والليبرالي- يساهمان بالاعتراك الفكري والمجتمعي والاقتصادي والثقافي مع بقية أفراد المجتمع، وقد يشتد هذا العراك، لكن يظل الجميع حريصاً على إبقائه ضمن الحراك الفكري والثقافي. ولكن ما أن يصل النقاش بثورة أو أخرى إلى منطقة الحاكم والسلطان، تسقط كافة المبادئ والقيم والمواقف التي كنا نعترك لأجلها منذ قليل، ويبدأ الطرفين بالنفاق والزندقة وإظهار الولاء.
إن المثقف الذي يمارس فعل التمجيد والزندقة والنفاق، أياً كان سواء ليبرالياً أو إسلامياً، يمينياً أم يسارياً، حداثياً أم محافظاً، هو جزء من منظومة الاستبداد، ولن يتمكن هكذا مثقفين من القيام ببناء مشروع ثقافي وفكري وإصلاحي نهضوي للأمة العربية. إن أمثال هؤلاء يعتبرون حالة مرضية وظاهرة تحتاج إلى علاج، لأنهم يخلقون بيئة مجتمعية ملوثة متناقضة مشوهة.
في معظم مجتمعاتنا العربية التي تحوّل فيها المواطن إلى تهمة متحركة، فهو إما إرهابي أو مأجور من السفارات الأجنبية، معارض سياسي أو عميل لدولة معادية، وصار المواطن العربي المسكين -بما فيهم المثقفين أنفسهم- متهمون في وطنيتهم وانتماءهم وولاءهم حتى يتمكنون من إثبات خلاف ذلك. ومن أجل دفع تهمة عدم الولاء وجد الناس الحل الناجع والأقل ثمناً هو الزندقة والنفاق والتدليس والكذب والإطراء.
في المؤسسات الحكومية، وفي المناسبات الوطنية- وما أكثرها- تتم تلاوة خطب الزعيم، وأشعار الوزير، ومقتبسات من كتاب القائد "كيف اكتشفنا زراعة الحمضيات" وعلى الجميع التصفيق، سواء فهموا أم لا. لا يمكن لمدير مؤسسة تعليمية أن يقيم نشاطاً مدرسياً دون المبالغة -حد الزندقة- في ذكر فضل الحاكم على الوطن، وعن ورعه وعلمه وزهده، حتى يخال لك أنه يتحدث عن شيخ الإسلام "مالك ابن أنس" أو الإمام "سفيان الثوري".

المثقف غير المزيف
هذا الراهن في العديد من الدول العربية يحتاج إلى نوع مختلف من مثقفي الزندقة، نحتاج إلى المثقف الأصيل والحقيقي والمنتج، مثقف مبصر وحر، يتحلى بالوعي والمسؤولية، ويمتلك أدوات تتناسب مع العصر، منفتح غير منغلق، صاحب فكر وموقف، مثقفاً شعبياً غير منعزل.
في واقع عربي اختلطت فيه كثير من المفاهيم وتشابكت، وظهر علينا الآلاف من الكتّاب والخبراء والمحللون وحملة الشهادات الأكاديمية العالية على شاشات التلفزة، يخرجون لنا من الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية، يقدمون أنفسهم على أنهم مثقفون. لكنهم في الواقع معظمهم مجرد ثرثارون يتقاضون أجراً من جهات تحرص على مطاردة المثقف الحقيقي. فالمثقف الأصلي ليس بالضرورة أن يحمل شهادات عليا، على سبيل الذكر لا الحصر فإن عباس محمود العقاد، وجبران خليل جبران وسواهم، لم ينالوا أي شهادة جامعية.
الأمة تحتاج إلى المثقف صاحب العقل المنفتح الجدلي، ومن يمتلك صفة استخدام عقله بشكل حر، المثقف غير المتشدد والمتعصب لأي رأي ولا لأية فكرة، المثقف المحاور، المتفهم، الذي يقبل وجود الراي الآخر، ليس لديه نظرة دونية لعامة الناس، لا يضيق صدره بالمخالفين، المثقف الذي لا يمدح ذاته ويتملق للحاكم. المثقف الذي يتعامل مع العلم والحقائق وليس مع الخزعبلات والأوهام، يحلل الأفكار وينتقدها ولا ينتقد قائلها. المثقف الذي يكشف عورات المجتمع بهدف سترها وتصحيحها، مثقف لا ينافق ولا يهادن ولا يكون انتهازياً ولا متسلقاً وصولياً، المثقف الذي يحارب الفساد ولا يحابيه. مثقف لا يفرض رأياً ولا فكراً على أحد. لا يقدم نفسه على أنه أستاذ التاريخ والفلسفة وعلم التشريح، ولا أن يكون واعظاً فجاً، وألا يكون أنانياً منغلقاً.

كيف السبيل
إن مواجهة النفاق ومكافحة الزندقة تقتضي بالضرورة تمزيق الأقنعة الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية التي يرتديها المتزندقين، وهذا يتطلب توفير أجواء من الحريات العامة، وحضّ البشر على الإفصاح بكل حرية عن أفكارهم وتحفيزهم على التعبير عن معتقداتهم وقناعاتهم، واحترام ما يقولون دون تدخل من أي طرف، ودون خشية من عقاب لاحق. والقضاء على الزندقة والنفاق لا يتم إلا في بناء دولة المواطنة الحقيقية، دولة المؤسسات التي تضمن الحقوق الرئيسية للناس بشكل عادل دون تمييز، وبناء وتعليم ثقافة الاختلاف واحترامها لدى الشعوب العربية ومن ضمنهم المثقفون. والنظر بجدية في المناهج والقوالب والأنماط التعليمية، بهدف ردم الفجوة الثقافية المجتمعية بين ما نفكر وما نقول ونفعل. ترى الأنظمة السياسية تعلم أبناءها على الصدق وعدم الكذب، وامتلاك الشجاعة والوضوح والابتعاد عن النفاق، ثم يعلقون لهم المشانق، ويزجونهم في السجون إن فعلوا ما تعلموا.
هذا حال بعض المجتمعات العربية غير السوية، مجتمعات غريبة مريبة، يسيطر عليها الكذب والخداع والنفاق، وينتشر الذين يوظفون الدين والتاريخ ومقدرات البلاد لخدمة وحماية مصالحهم الشخصية.
نحتاج إلى مناخات ثقافية وسياسية يتنفس فيها الفكر حريته ويعبر عن نفسه دون خوف أو رهبة، لنرى مثقفاً حقيقياً ناضجاً ونزيهاً وواعياً وواثقاً من ذاته ومعتقداته، قادراً على المساهمة بفعالية في إحداث تغيير جدي في هذا الواقع المشوه.
زنادقة العصر أخطر على الأمة العربية من زنادقة العصور السالفة على الخلافة الإسلامية. حيث الأقدمون لم يكن لهم أية سلطة في الدولة الإسلامية، وتأثيرهم على الناس كان لا يذكر. في حين أن الزنادقة الحاليين الذين يظهرون الوطنية والعروبة، ويجاهرون بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية والتنوير، ويكتمون فكراَ رجعياً وثقافة منغلقة، ونفساً مريضة مثقلة بالأنانية والحسد، متجردة من الأخلاق، لا يتورعون عن فعل أي شيء في سبيل الحصول على مبتغاهم وتحقيق مصالحهم، ينتشرون كالفطر الفاسد السام في كثير من مفاصل الحياة، وتأثيرهم على المجتمع والبلاد والعباد غاية في الخطورة.

افعلوا شيئاً
كل مثقف في الأمتين العربية والإسلامية يقبل بوجود إسرائيل على أرض فلسطين، هو زنديق مهما كانت صفته وثقافته.
كل مثقف ليبرالي أو إسلامي كان يدعو إلى الليبرالية التحررية ووقف مع الطغاة والأنظمة الديكتاتورية هو زنديق بامتياز.
كل مثقف يتعامل بخطابه مع التحديات المصيرية للأمة العربية بانتهازية وانهزامية وأنانية، وتفضيل المصلحة الشخصية، وإيثار السلامة، واللجوء إلى المربع الآمن، ودعوى الحيادية، أو استخدام الجمل المائعة، هو زنديق.
كل مثقف يقوم بمداهنة الظلم والقهر والاستبداد والقتل والقمع وتكميم الأفواه، وتعليق المشانق للمخالفين بحجة الحفاظ على الأوطان، ومواجهة المؤامرات الخارجية، هو زنديق.
كل مثقف متقلّب متردد في الثوابت الوطنية والأخلاقية، وكل من يقوم بإيقاد نار حروب إعلامية وسياسية في غير الميادين التي تخدم أهداف الأمة العربية، المثقف الذي يحرض على خوض حروب بالوكالة، ويقوم بإقصاء شركاء له في النضال، هو زنديق.
كل مثقف يقوم بتحويل العمل المؤسسي الثقافي والمكانة الاجتماعية، والوظيفة العمومية إلى مشروع تجاري لجني الأرباح، وتسويق البضاعة الكاسدة، ويضع نفسه في مواجهة تنافسية غير متكافئة مع المبدعين الشباب، هو زنديق.
نحتاج أن نفعل شيئاً لنعيد الأشياء إلى فطرتها، لوقف سيل التزلف والتملق والنفاق والزندقة، والخروج من حالة الازدواجية "شيزوفرينيا" المواقف والخطابات، ومواجهة حالة الفصام الفكري والاجتماعي والسياسي الشائعة في المنطقة العربية.
 لا تبنى الأوطان بالكذب والنفاق والخديعة وإظهار غير ما نكتم. الزندقة كفعل فكري ثقافي اجتماعي تدمر المجتمعات وتنحدر بها إلى قاع السقوط. ولا يمكن لمثقف منافق، أو عالم زنديق، أو مفكر مهادن، أن يساهموا في نهضة الأمة العربية ورسم ملامح مشروعها الإصلاحي، لأنهم هم أنفسهم مكون تالف يحتاج إصلاح وترميم. المضحك المبكي في هذه المهزلة الفاجعة إن كشف الزنادقة المعاصرين ليس أمراً شاقاً، إنما الصعوبة نكمن في إحصاءهم.

.


105
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

الغربة في الأوطان
المواطن العربي.. اغتراب واضطراب فاحتراب

أقدم العلّامة العربي المتصوف أبي حيان التوحيدي على حرق كتبه، بعد أن أصابه العوز وعانى من شظف العيش، وهو الأديب الفيلسوف، الخطيب الفصيح، المفكر الموسوعي، يوم ذهب يسأل المعونة من "الصاحب بن عبّاد" الوزير في الدولة "البويهية"، ومن الوزير العباسي "الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون" وعاد خائب الأمل وناقماً على عصره. حين ضاق به الحال واشتدت شكوته ولم يصغي له أحد، قام بحرق كتبه ومؤلفاته عندما بلغ الياس مبتغاه، وقال:
"الغريب الحق هو ليس الذي نأى عن وطن بني من ماء وطين وفقد أهله وأحباءه، إنما الغريب هو ذلك الإنسان الذي يعيش في وطنه غريبا"
إن الاغتراب في الأوطان يولّد أشد أنواع المشاعر الإنسانية وأكثرها ألماً لأنها تنتج عن الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المحيطة بالبشر، وتسبب لهم انهيار في منظومة العلاقات الاجتماعية واختلال في العلاقة مع الذات، مما يؤدي إلى نشوء فجوة بين الفرد وذاته، وبينه وبين الأفراد الآخرين والمجتمع. إنه الانفصام عن الذات البشرية والاستياء والتذمر، وكذلك العزلة والعداء. وهي حالة غير الغربة التي تكون قرينة سفر المرء أو هجرته من بلده إلى بلد آخر كخيار فردي ولأسباب شخصية اقتصادية كانت أو للتحصيل العلمي، للعمل أو لاكتساب العلوم والمعارف. وربما تكون الغربة عبر السفر أو الهجرة خلاصاً فردياً من الضغوط المتولدة عن الظروف والصراعات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية في بلداننا، إلا أنها تبقى شأناً وقراراً وخياراً فردياً يقدم عليه الفرد طواعية، وهي حالة غير الاغتراب التي نتحدث عنه هنا، بالرغم من تشابك الحالتين في بعض المسببات بخلفية المشهد العام لبلداننا العربية التي بسبب واقعها المقيت دفعت بهجرة حوالي 35 مليون مواطن عربي يمثلون حوالي 8 في المئة من سكان الوطن العربي. الكثير منهم أصحاب كفاءات علمية وتخصصات استراتيجية تسببت بخسارة للعرب تقدر بحوالي 200 مليار دولار وفق التقارير الصادرة عن الجامعة العربية.

الاغتراب فلسفياً
كمصطلح فلسفي فإن أول من تحدث عن الاغتراب هو الفيلسوف الألماني "جورج فريدرش هيغل" الذي اعتبر أن الاغتراب هو قيام الإنسان بنفي نفسه كفرد فاعل في المجتمع، فيتحول هو ذاته إلى موضوع، فيصاب بالاغتراب ثم ينعزل عن ذاته ثم عن محيطه. ولا تنتهي هذه الحالة إلا حين يلمس الإنسان أن ذاته الشخصية كفرد في المجتمع وموضوعه وأهدافه وأحلامه يتطابقان، وهذا الأمر يتحقق من خلال قيام الفرد في إنشاء هوية خاصة به. وأوضح هيغل أن للاغتراب طريقين أحدهما يؤدي إلى العزلة والانكفاء، والآخر يوصل إلى الإبداع والابتكار. فيما اعتبر "كارل ماركس" الذي حوّل مفهوم الاغتراب من ظاهرة فلسفية إلى فعل تاريخي، أن الوجه الأخر للاغتراب يؤدي إلى صراع طبقي ثم ثورة وتغيير. ويظن بعض الفلاسفة ومنهم "لودفيغ فورباخ" أن الدين هو الذي يسبب الاغتراب للبشر، على اعتبار أن الأديان هي حلم بالنسبة للأفكار الإنسانية ولابد من تحققها في الواقع. بينما رأى الفيلسوف وعالم النفس الألماني "إريك فروم" صاحب كتاب "الهروب من الحرية" أن غربة الانسان عن نفسه نتيجة النزعة الاستهلاكية التي تفرضها المجتمعات الصناعية المتطورة التي قفزت فيها الحداثة حيث أصبح الإنسان عبداً لما ينتجه، بدلاً أن يكون المنتج في خدمة الإنسان، وهو ما أدى إلى أن يصبح الإنسان أكثر شكاً وقلقاً وعزلة وخوفاً في مجتمع لم يعد مهتماً لبناء علاقات إنسانية طبيعية وسليمة بين أفراده.
إن مفهوم الاغتراب تتسع ضفافه لتشمل كلاً من الاغتراب السياسي والاقتصادي والثقافي والديني والاجتماعي والحقوقي والتربوي والايديولوجي والقيمي، إضافة إلى اغتراب ينتح عن التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال، واغتراب تسببه متغيرات على أنماط الحياة المعتادة، وجميعها تسبب الشعور بالعجز والإحباط لدى الإنسان، وتفصله عن مجتمعه وتدفعه للانكفاء.


اغتراب الشعوب العربية
خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، انتعشت الأفكار القومية في المنطقة العربية وتبلور مشروع قومي عربي، ورفع القوميين العرب شعار النهضة العربية في مواجهة الاستعمار الغربي والرجعيات العربية. إلا أن من سوء طالع الشعوب العربية أن هذا المشروع الذي دعا أصحابه إلى النهوض قد انتكس بداية من هزيمة حزيران العام 1967 التي كرّست الاحتلال الإسرائيلي لأراض من ثلاث دول عربية. ثم ظهرت الأفكار اليسارية والماركسية والثورية، وجدت تعبيراً عنها في الأحزاب والقوى التي سعت بصدق ورومانسية نحو تغيير الواقع لكنها فشلت في تحقيق تطلعات الناس. استفاد الإسلام السياسي من مربع الفراغ بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في بداية تسعينيات القرن العشرين، وانتهاء الحرب الباردة، ليعيد طرح مشروعه كبديل مقبول محلياً على أنقاض المشروع اليساري، إلا أنهم خلطوا الأوراق بين الدعوي والسياسي، وأثاروا أسئلة عند الشعوب أكثر مما قدموا حلولاً. ولم تستطيع معظم الأنظمة العربية أن تكون الحاضن الطبيعي لشعوبها من خلال بناء دولة القانون والمواطنة. ثم جرت محاولة تقويض المشروع الفلسطيني الذي اعتبر رأس رمح للشعوب العربية، وتم تشتيت القوة الفلسطينية في عدة دول عربية بعد خروجها من بيروت العام 1982. وتعرض الإنسان العربي لانكسار آخر حين أقدم العراق على احتلال الكويت، وقيام الغرب والولايات المتحدة باحتلال بغداد. وخلال السنوات الماضية عانت وماتزال شعوب عربية كثيرة من الاقتتال الداخلي الدموي. فوجد الإنسان العربي نفسه أمام حلقات متواترة من الانتكاسات، حتى بت لا تجد دولة عربية واحدة على علاقة طبيعية ودية مع دولة عربية أخرى، ناهيك عن انقسامات عامودية وأفقية، عرقية ومذهبية داخل كل قطر عربي على حدة، وما زالت الهزائم العربية تتوالى ليومنا هذا. فكيف لا يشعر الإنسان العربي بالاغتراب والإحباط وانقطاع الأمل.
حتى تكتمل خلفية المشهد لابد من معرفة المتغيرات التي أصابت العالم ومن ضمنه المجتمعات العربية مع تضخم عمل الشركات الاقتصادية متعددة الجنسيات، العملاقة العابرة للقارات بدءًا من أواسط الثمانينيات في القرن العشرين، والتي بدأت تسيطر على الأسواق العالمية، وتغير من الأنماط الاستهلاكية للبشر، بما يحقق لها مزيداً من الأرباح، حولت الكرة الأرضية إلى مدينة كبيرة أشاعت في جوانبها ثقافة العولمة، الأمر الذي أفضى إلى حدوث تحولات في بنية المجتمعات العربية التي تحكم معظمها أنظمة مستبدة ترتبط بمصالح متعددة مع الاستعمار الغربي، وتثقل كاهل شعوبها بضنك الحياة والتضييق عليهم بالقهر والقمع، فأصيبت الجماهير العربية بحالة من الإحباط والشعور بالعجز أمام الآخر، وشاع بين الشباب الإحساس بعدم القدرة على توفر إمكانية النهوض العربي، وعدم مقدرة الأنظمة بأدواتها الحالية على إنجاز أي تغيير وتطوير في الواقع الراهن.
من مشرق العالم العربي إلى مغربه يشعر العرب في معظم الدول بالخيبات التي لا تتوقف، ويسيطر عليهم القنوط وعدم الثقة بأنظمتهم ولا بالأحزاب السياسية ولا بالأيديولوجيات ولا بالقيادات التي فشلت طيلة عقود طويلة في إنجاز أي من مهام المشروع النهضوي العربي، وعن تحقيق أي من الأهداف التي صدّعت فيها رؤوس العباد خلال أكثر من نصف قرن. وبالرغم من أن إمكانية النهوض والتطور العربي هي إمكانية حقيقية كامنة في الحراك الاجتماعي العربي وفي حالة تطور دائم، إلا أن روافع النهوض وأدواته وبرامجه والرؤى الاستراتيجية جميعها غابت عن أصحاب المشروع الإصلاحي في العالم العربي من اليسار ومن اليمين.

فقدان الهوية
إن الإحساس بالهوية ينتج تكاملية لدى الفرد، ويعزز قدرته على التوفيق بين المتناقضات، وكذلك تمنحه إمكانية التماثل للتواصل والاستمرار. ولأنها في جوانبها تعكس علاقة المواطن بواقعه، فإن غالبية العرب لا يرون أنفسهم في هويتهم، ولا يرونها في واقعهم الراهن، بل يرون حالهم من خلال مرآة متكسّرة لا تستطيع أن تعكس الصورة الكاملة عن العرب. يعود ذلك إلى عدم الثقة بالذات نتيجة القمع والقهر الذي تتعرض له "الأنا" الفردية والجمعية، حيث أصبح الكثيرون يعتبرون أن لا معنى ولا مستقبل لهم في هذه المجتمعات التي يعيشون فيها، وهو ما جعلهم يتخلون عن القيم المجتمعية المتعددة حتى بلغ الأمر الوصول إلى ما نسميه تمييع الهوية.
القلة من الناس تمكنت من رسم ملامح إيجابية لهويتها، لكنهم تاهوا بفعل الضغط الذي تولده الظروف المحيطة بمعيشتهم وتناقضاتها. وبعض الناس اختارت لنفسها هوية سلبية، فانعزلت عن المجتمع وانكفأت على ذاتها، أو لجأت إلى ممارسة العنف كطريقة للدفاع عن ذاتهم الداخلية وحمايتها من السقوط والهزيمة، فارتدوا إلى الخلف ونبشوا في التراث وأخرجوا منه مصدات للاحتماء نتيجة عجزهم عن مواجهة واقعهم الرديء، وفشلهم في إحداث تغيير إيجابي فيه.
 حاولت الكثير من الشعوب العربية طيلة العقود الماضية أن تبحث عن هويتها وانتماءها، فانقسمت على نفسها بين من رضي بالرضوخ والانسياق، وبين من أصابهم خللاً في التوازن مع ذواتهم ومع مجتمعهم، ليعكس كلا الجانبين هوية مشوهة لا تعبر عن المكونات الأصيلة. هذا الاضطراب المجتمعي أوجد أزمة في الهوية ومكوناتها، أزمة الجزء مع الكل، وأزمة الجميع مع الأنظمة القهرية التي وظفت هذه الفوضى لتحويل قطاعات واسعة من الشرائح الاجتماعية إلى أفواه مستهلكة، وحولت الشعوب إلى جماعات عبارة عن قطعان يسهل قيادتها.

الحاضنة الملائمة
إن جاز لنا أن نسأل عن الأسباب التي تجعل المواطن العربي يشعر بالاغتراب في وطنه وبين أهله ووسط مجتمعه، فإن تعددت المسببات وتشابكت إلا أنها تتجلى بصورة واضحة في الحالة التي يعيشها الإنسان العربي بشكل يومي، فكيف لا ينتاب المواطن العربي الشعور بالاغتراب في وطنه وهو لا يكاد يجد قوت يومه، ويعاني الأمرين لأجل تعليم أبنائه، يكابد ضنك الحياة وارتفاع متزايد في تكاليف المعيشة الأساسية، يجد نفسه مطحوناً وسط حلقة مغلقة من التجاذبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. يعيش في مجتمع يعاني من نكوص فاضح في الخدمات العامة، وشيوع الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية، استفحال ظاهرة البيروقراطية الإدارية والروتين في كافة مفاصل الدولة والمجتمع.
كذلك تفشي الإرهاب الفكري والسياسي والديني، في مناخات لم يعد كافياً رفض الآخر وعدم الاستماع له، بل أصبح البعض يتبنى ثقافة الإقصاء والاستئصال وإلغاء الآخر كلياً وفعلياً. انتشار الصراعات الداخلية والمذهبية والعرقية والطائفية، وعلو قيم القبيلة والملل فوق قيم المواطنة والقانون، معاناة تسببها ثقافة الجهل والتعصب والتشدد في مجتمع لا يقيم للإنسانية اية أهمية، لا للمرأة ولا للطفل ولا للعجوز، لا إمكانية لرعاية المبدعين، ولا وجود لمراكز أبحاث حقيقية، ولا يصرف على البحث العلمي، مجتمع فاقد لكافة المعايير المرتبطة ببناء الدول، حيث يتم وضع خريجي كلية الشريعة في مراكز الطب البيطري.
إذن هي عديدة وشائكة عوامل الاغتراب ومسبباته، ومادامت مبرراته في الوطن العربي قائمة، فإن حالة التيه والضياع لدى الإنسان العربي سوف تتفاقم في ضوء مجمل الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية، وفي مقدمتها القمع والاستبداد السلطوي، القهر والكبت والإرهاب الديني والفكري والسياسي، استمرار حملات تكميم أفواه المعارضين وزجهم في السجون، غياب الحريات العامة، انعدام الحقوق المدنية والسياسية والثقافية، هزالة نظام الرعاية الصحية والاجتماعية، فشل المنظومة التعليمية كادراَ ومناهجاً ومؤسسات، الصراعات العرقية والمذهبية والطائفية، ازدياد طوابير العاطلين عن العمل، ارتفاع في مستويات نسب الفقر، سحق الطبقة المتوسطة، تفشي أجواء ومناخات الإحباط وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، عدم وجود مناخ علمي ولا حريات أكاديمية.

بلدان كسيحة
فالواقع العربي الراهن أنتجته الأنماط السياسية القائمة -في معظمها- على القهر وقمع الحريات العامة، هذا الواقع أوجد دولاً كسيحة تعاني من أزمات بنيوية منهاجية لا تعد ولا تحصى، من استمرار ارتفاع مستويات الفقر والبطالة والأمية وتفشي الجهل، إلى غياب الرعاية الصحية والاجتماعية للمواطنين الذين يعانون من التهميش، في دول تسيطر عليها أنظمة بوليسية استبدادية لا تقيم للإنسان وحقوقه أي اعتبار. هذه الظروف تحفر بعمق وتخلف ندوباً في حياة المواطن العربي المعاصر الذي يقف عاجزاً مسلوب الإرادة في مواجهة واقعه ومصيره، ليعاني بالتالي من حالة اغتراب سياسي واجتماعي وروحي وفكري، تدفعه للتساؤل عن مدى أهمية وجوده ودوره وفاعليته، ليدخل في دائرة مغلقة من القنوط والانكسار لا فرصه له بالخروج منها.
قيام معظم الأنظمة العربية بتهميش المواطنين جعل الشعوب تضيق ذرعاً وتتوقف أمام مكانتها وقيمتها ودورها في المجتمع، وتدفع الناس للتساؤل عن هويتهم، من نحن؟ ومن الآخر؟ وفي أي دول نعيش؟ وإلى أين تقودنا هذه الأنظمة المتهالكة؟
وبالرغم من عمق أزمته الإنسانية الكبيرة فأن المواطن العربي لم يفقد ثقته بالمستقبل تماماً، وهو يرفض قطعياً بقاء الأنظمة الفاسدة والمفسدة، ويرفض استمرارها في تدبير شؤونه، ونلمس إصراراً من قبل الشعوب العربية على محاولة استعادة دورهم ومكانتهم في مجتمعاتهم، وعلى إعادة تعريف هويتهم بما تعنيه من إحساس وجداني عميق، يحدد وجودهم وانتماءهم ويمنحهم الأمل، ويساعدهم على تحديد أهدافهم وتحقيقها.

امتلاك أدوات التغيير
طيلة الفترة الماضية، وعلى الدوام كانت معظم الشعوب العربية تعيش حالة من التيه والضياع والتشرذم بين السلطة الدينية التي يفرضها عليهم رجال الدين، وبين سلطة الموروث الثقافي والاجتماعي والعادات والتقاليد، وبين السلطة السياسية بكافة أدواتها ورموزها، وبين الأحزاب السياسية التقليدية أو المعارضة، وبين أحلامهم الشخصية وتطلعاتهم الفردية.
لا أحلامهم تحقق شيء منها، ولا الأنظمة أصبحت ديمقراطية، ولا الموروث الاجتماعي اندثر رغم مظاهر الحياة الحديثة، والسلطة الدينية جزء منها أصبح متطرفا ضد السلطة السياسية وضد البشر أنفسهم، والأحزاب السياسية في حالة موت سريري، وبعضها مصاب بشلل دماغي، ولم يبقى حياً فيها سوى اسمها وبعض الأدبيات الحزبية. لكن حركة التاريخ لا تتوقف، والمجتمعات البشرية لا تكف عن التفاعل بين مكوناتها، التطور يحصل حين تتوفر ظروف التغيير، حين تلتقي الإمكانية والأداة مع الإرادة والشرط الموضوعي.
لا يمكن للشعوب العربية أن تحلم وتسعى لتحقيق تطلعاتها في حياة بسيطة كريمة، لا يحتاج فيها أستاذ الجامعة إلى ذل الاستدانة، دون الارتقاء بمستوى الوعي الاجتماعي لهذه الشعوب، حتى تتمكن من امتلاك الأدوات التي تمكنها من تحقيق التعيير الذي تريديه، وتحتاج إلى حرية الإرادة وحرية الفعل، وهما شيئين غير متوفرين حالياُ في العالم العربي بظل الاستبداد السياسي القائم، وسياسات تكميم الأفواه، والقمع الذي تفرضه بعض الأنظمة العربية على شعوبها، قهر وصل إلى حلوق البشر.

تصدعات آيلة
في التراجيديا العربية يبدو المشهد مربكا وشائكاً، حيث تتفكك فيها الذات الشخصية للمواطن العربي وتغترب عن نفسها وعن محيطها، بسبب الحالة العربية في معظم الدول، حيث التراجع الكبير في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والخدمية، وانعدام المستويات الإنسانية لمعيشة لائقة للبشر. يغترب الانسان العربي لاستبداد السلطة السياسية، وتغول الأجهزة الأمنية وتطاولها على المواطنين، ضعف المؤسسات التشريعية والحقوقية، انتشار النعرات الطائفية والمذهبية والصراعات الأهلية الداخلية، وتحلل النسيج الاجتماعي.
إن كانت الهجرة الطوعية للكفاءات العلمية والمهنية العربية تتسبب بخسائر اقتصادية ومالية، وتؤثر سلباً على العملية الإنتاجية برمتها، وعلى الدخل القومي، وتعيق تحقيق الخطط التنموية، فإن الهجرة القسرية للمبدعين والمثقفين والمفكرين فإنها تفضي إلى إحداث فراغ نتيجة ضعف قابلية تشكل بدائل عنهم في الأوطان التي غادروها بسبب القمع والقهر، وهو ما سوف يؤدي إلى مزيد من التفرد والهيمنة والاستبداد الذي تمارسه السلطات السياسية في معظم الأنظمة العربية على شعوبها، ومحاولة حجبها عن اية محاولات ريادية إصلاحية تسعى للتغيير، مما يجعل هذه الشعوب فريسة للأفكار المتطرفة وللتشدد الديني والسياسي والمذهبي والعرقي.
الصدع الكبير الذي يصيب أوطاننا العربية هو الاغتراب داخلها وفيها ويؤدي إلى تفسخ الرابطة بين الفرد والمجتمع، والصدع الأكبر هو نزيف الأدمغة العربية المستمر نحو الغرب. وهنا لا نعني بهجرة العقول والمثقفين من الوطن العربي فقط حملة الشهادات الجامعية العليا من الدكتوراه والماجستير، بل نعني جميع الكفاءات والخبرات في مختلف الميادين الإنسانية والعلمية في الطب والهندسة والاقتصاد والإعلام والفنون.
 إذ يشير التقرير الإقليمي الثالث للهجرة الدولية والعربية الصادر عن جامعة الدول العربية لعام 2014 إلى أن ما يقارب من نصف الأطباء و23 بالمئة من المهندسين، و15 بالمئة من العلماء العرب هاجروا إلى دول أوروبية وإلى الولايات المتحدة وكندا.
هذا النزوح المستمر للعلماء والخبرات من المنطقة العربية سوف يوسع الهوة الحضارية والعلمية بين العرب والدول الغربية أكثر فأكثر. ويؤدي إلى تراجع مستويات التنمية في المنطقة العربية، واستمرار استيراد الخبرات الأجنبية إلى بلداننا لسد النقص الحاصل، والتكلفة الاقتصادية المالية المرتفعة التي نسددها لهم. كما أن هجرة العقول العربية سوف تتسبب كذلك في انخفاض مستويات التعليم الجامعي نتيجة النقص في المؤهلات الأكاديمية والبحثية. وتؤثر في قدرة العرب على الربط بين المستويات التعليمية والحالة الثقافية من جهة وبين متطلبات خطط التنمية من جهة أخرى.
إن الأمم التي تحترم وترعى علمائها ومفكريها وخبراتها الوطنية تكون قوية بهم، ولأننا لا نقدر ولا نكرم المثقفين والعلماء فإننا لسنا أقوياء علمياً ولا اقتصادياً ولا حضارياً. وما دامت الأسباب التي تقف خلف هجرة الناس وخاصة العقول والكفاءات العلمية من بلداننا، وفي مقدمتها الفساد السياسي، وعدم تقدير الكفاءات العلمية، ومحدودية العائد المالي لأصحاب التخصصات، وهزالة الإنفاق على البحث العلمي، وسياسة وضع العلماء في وظائف لا تتلاءم مع تخصصاتهم، فإن هذا النزيف سوف يتواصل. وما لم يتم وضع استراتيجية عربية واضحة ومحددة لمعالجة هذا الاستنزاف لأهم ثروات الأمة، فإن الأدمغة العربية العلمية سوف تجد نفسها مكرهة للهجرة بحثاً عن بيئة أرقى وأكثر حرية واستقراراً، وأجدى مالياً وأكاديمياً، دون أن تتكلف عناء النظر للخلف حيث تقبع الخطط التنموية المتعثرة، ويقف التاريخ هرماً عند أمجاد لا يمكن استعادتها.



106
أدب / بلا أجنحة يقع قلبي
« في: 18:09 04/10/2018  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

بلا أجنحة يقع قلبي

مثل كل الأشياء الموجعة
كعصافير الربيع يقطفها الغياب
تحلّق بأجنحة من فضة
لكنّها تترجّل عن شجر الموسم
إن أطفأ الصيّاد المسافة
تعدوا الغزلان الشقية
صوب واحة التعب
كلما اضطرب صوت العشب
شاقها الرمح بحافة العنق
هكذا بلا أجنحة يقع قلبي
فوق سعف الانتظار
بلحة بلحة
لا يشتهي الحياة


2
ماء النهر ينشد الصخب
يبحث في سواقي الكروم
عن الحكايات العابرة
وعن مرقد العصافير
ينقسم مرتين
جناح يعبره الرحيق
وآخر يلهث خلف الرصيف


3
كنتُ هناك
على بعد زفرة ريح
حين هطل وجه البحر
سنابل حنطة
من رأس الغيمة المثقوب
كأنني خلف مروج الخريف
يغادرني ورقي
مثلما ترحل عصافير الصنوبر
لتبرأ من اليقين


4
ونحن صغار نحتال على الأحلام
ندخل صندوق الدمى
نسرّح لون الدالية
نعطي الأماني لمن نشاء
نغفو على هسيس العنب
نستيقظ ممتلئين بالأوهام
كبرنا وضاق الثوب والصندوق
متى نصبح كروماً
تمتد عناقيداً
تظلّل درب الناطور


5
بالقرب من المروج الشرقية
أبعد كثيراً من الطيور الكسيحة
تماماً على مسافة عنقين من المصيدة
ترابض قلوب الصغار
فوق الريش المتدفق
آه لو يبدأ موسم الأراجيح
زخّات ضحك


6
ما الذي تخلّفه الأنقاض أسفل الشرخ ؟
أوطان بفوّهات خضراء
أم جراداً يحاصر الأسماك بالحصى؟
لا مخاض للنهر المتعب
ولا بصيص
هذا اليباس الغزير
أزقّة منكسرة القدر


7
ربّما ضاعت أيامنا
مثل فقاعات الصغار الملونة
وربما كنّا نروّض دروبنا المرتبكة
لكنّ الحكايات ورغم الشرفات الواسعة
نمت في الأواني الضّيقة
وما زال الطفل فينا يصرخ


107
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


العرب في أوروبا
سيكولوجيا الاغتراب.. أزمة انتماء وهوية رمادية

الاغتراب كان وما زال قضية الإنسان أينما وجد، فطالما أن هناك فجوة شاسعة بين الأحلام الفطرية للبشر وبين واقعهم، وطالما أن هناك تعارضاً واضحاً بين القيم النظرية والمثل الإنسانية وبين حقيقة السلوك البشري، وهناك خللاً في العلاقة بين الإنسان والآخرين، واضطراباً في علاقته مع ذاته، وعدم التماهي بين الفرد والمجتمع، فلا بد أن يشعر الإنسان بالاغتراب وإن تعددت المجتمعات واختلفت، وإن تعاقبت العصور كذلك تظل قضية الاغتراب السمة المشتركة لجميع الذين يعانون من وجود شيء ما يفصلهم عن واقعهم وعالمهم.
إن ظاهرة اغتراب الفرد عن محيطه لم تعد السمة التي يعاني منها فقط المبدعين من الشعراء والكتاب والفنانين، بل تحولت إلى حالة شبه عامة يكابد مفاعيلها الجميع.
في الوقت الذي تتواتر فيه الهزائم والانكسارات على امتداد العالم العربي، يتضخم معها الإحساس بالإحباط والشعور بالخيبة لدى أبناء المجتمع كافة، خاصة شريحة المثقفين والمبدعين الذين تبدأ علاقتهم مع السلطة السياسية بكل دلالاتها في التأزم، نتيجة اصطدام طاقاتهم الإبداعية ورؤيتهم وأحلامهم بواقع قاتم مستبد، مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب يعيشها المثقفين والمبدعين الذي يفضل جزء منهم الاستسلام والانكفاء على الذات.
حتى في بعض الدول الغربية التي تعاني من ظروف معيشية متردية بسبب الضائقة الاقتصادية، وتعاني كذلك من انعدام المساواة وغياب بعض الحريات في مجتمع رأسمالي، فإننا نجد الناس تميل إلى الانكفاء على أنفسها نتيجة الإحساس بالاغتراب، خاصة أولئك الذين يخفقون في تحقيق أي نوع من الانسجام والتماهي مع أعراف وثقافة وتقاليد وقوانين المجتمع، فتلجأ إلى الانعزال والانسحاب والانكفاء.
الاغتراب كمفهوم
يعود استخدام مصطلح الاغتراب منهجياً للفيلسوف الألماني "هيغل" الذي اعتبر أن الاغتراب هو قيام الفرد بنفي ذاته عن نفسه كفاعل مؤثر، فيتحول إلى مفعول به، فيكون غريباً عن محيطه، لا ينتهي هذا الاغتراب إلا حين يتماثل الإنسان بنفسه مع موضوعه وأهدافه، من خلال صنع هوية ثابتة تخصه وحده من خلال عنصر أخر "الوطن، العمل، العقيدة"، واعتبر أن للاغتراب وجهان، أحدهما سلبي يؤدي إلى الانعزال، والآخر إيجابي يوصب للإبداع.
ويستخدم مصطلح الاغتراب للدلالة على حالة ضياع الإنسان والتيه الذي يصيبه، والشعور بالغربة عن نفسه وعن المحيط الذي ينتمي إليه، وكذلك هو اغتراب الفرد عن المنظومة السياسية والاقتصادية والحقوقية والثقافية.
الاغتراب توصيف يشير إلى حالة من العجز عن تحقيق الانسان لتطلعاته، واللامبالاة التي يبديها تجاه الأحداث المحيطة، ثم الانفصال عن واقعه ومجتمعه، هذا يؤدي إلى انعزال الانسان عن الآخرين وانكفاءه على ذاته، وشعوره بالقهر ولانسحاق والطحن والتفتت، فيصاب بالتسليم والاستكانة ثم الانقياد.
يفقد الإنسان الذي يعاني الاغتراب الضوابط المعيارية التي تحكم سلوكه ومواقفه، ويعاني من الإحساس بفقدان المعنى لكل شيء، ويقطع صلته مع حركة المجتمع، ويصاب بالفكاك الثقافي، واغتراب عن وجوده الحقيقي وقيمته الروحية. ونلاحظ الطابع التشاؤمي لديه نتيجة الانغلاق والتقوقع على حاله، فيصاب باستسلام للقدر، وحالة من الإحباط الشديد يبررها أن كل شيء أصبح عبثياً بالنسبة له، وأن الإحساس بالفراغ واللا جدوى يسيطران عليه، فيستوي الموت مع الحياة من وجهة نظره بسبب الاكتئاب، ثم يجد أن لا خيار متاح أمامه سوى الرضوخ والانصياع للشرط السياسي والاجتماعي والديني.
الناس الذين يصابون باغتراب عن أنفسهم ومجتمعهم، يكرهون العمل والإنتاج ويفقدون الإبداع، خاصة الشريحة المثقفة، نتيجة الإحساس بأن مجتمعهم لا يقيم للإبداع قيمة، ولا يهتم بالطاقات الخلاقة، وأن غاية السلطة السياسية هي تحويل الإنسان إلى مجرد ماكينة تؤدي وظيفة محددة وعملاً معيناً، دون أية اعتراضات بعد أن يتم تفريغ الفرد من الجوانب الروحية وقتل شغفه.
قد يؤدي الشعور بالاغتراب إلى الانتحار خاصة لدى المبدعين الذين لا يمكنهم الانصياع ولا التكيف، كما حصل مع العديد من الأسماء في الوطن العربي أو الغرب، أذكر منهم الكاتب الأمريكي "إرنست همنغواي" الذي انتحر العام 1961، الشعر اللبناني "خليل حاوي" العام 1982، المغنية المصرية-الإيطالية "داليدا" العام 1987، الممثل الأمريكي الحائز على جائزة الأوسكار "روبن ويليامز" العام 2014، وآخرون. فيما يسعى آخرون لاستعادة مكانتهم من خلال التمرد والثورة على ما هو سائد في المجتمع.
الاغتراب كظاهرة يأتي أيضاً نتيجة جملة التحولات المجتمعية الجسيمة، والمتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية كما تلك التي تولّدت في المجتمعات العربية، بسبب السياسات القهرية الكبتية التي تنتهجها معظم الدول العربية التي تُظهر وجهاً حضارياً وسلوكاً استبدادياً.
 فالوطن العربي الذي أضحى معقلاً لفنون الاستبداد والقتل والظلم والرياء، وعنواناً للفقر والجهل والبطالة والتخلف والعنف، تسبب في إحداث شرخ بكينونة وشخصية الإنسان العربي، وسلبت منه دوره وحقوقه، فأصبح فرداً انهزامياً ومرتبكاً وتائهاً، فقد التحكم بحياته، وصار خاضعاً للقمع وإخضاع من قبل قوى سياسية واجتماعية، بدءًا من البيت والأسرة مروراً بالسلطة الدينية ورموزها، انتهاء بالسلطة السياسية ودلالاتها وأدواتها المتعددة.
هذا القهر والقمع والاستبداد الذي تتسم به غالبية النظم السياسية والاجتماعية العربية، هو أحد أهم أسباب التفكك والانحلال السياسي والاجتماعي والديني في بلادنا، ويشكل خطراً يهدد الوحدة المجتمعية، ويعيق الاتصال الحضاري والإنساني مع بيئات أخرى متنوعة.

العرب في أوروبا
العرب المقيمون في القارة الأوروبية هم كتلة غير متجانسة، لا من حيث جذورهم الجغرافية، ولا من حيث التركيبة العمرية والمدة التي قضوها في مجتمعاتهم الجديدة، ولا من حيث تحصيلهم الدراسي والعلمي أو تكوينهم المهني.
تعود هجرة العرب نحو أوروبا في العصر الحديث إلى نهاية القرن التاسع عشر، واقتصرت على المئات من دول المغرب العربي نحو فرنسا، وبأعداد اقل من المشرق العربي، وهجرة بعض أبناء اليمن والعراق وفلسطين نحو بريطانيا، وكذلك بعض الليبيين نحو إيطاليا. لكن هذا الوضع تغير تماماً مع وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم تجنيد عدد من العرب ضمن قوات الحلفاء في مواجهة القوات الألمانية النازية والفاشية الإيطالية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تدفق إلى دول لأوربية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولاندا، مئات الآلاف من الأيدي العاملة العربية، معظمهم من دول شمال افريقيا، حيث كانت هذه الدول الخارجة من حرب مدمرة تبحث عن ايادي عاملة رخيصة، لإعادة إعمار وبناء ما هدمته الحرب. ثم التحقت بهم عائلاتهم في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن الجاليات العربية كانت -بمعظمها- متماسكة في الفترات الأولى لوجودها في أوروبا ومرتبطة ببلدانها، وبالأحداث التي تعصف بالمنطقة العربية، وتقوم بتوحيد جهودها التضامنية مع القضايا العربية الكبرى وأهمها القضية الفلسطينية، إلا أن هذا الحال لم يدم طويلا.
في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، ومع اشتداد الخلافات العربية-العربية، واتساع رقعة الخلافات بين العديد من الدول العربية، تغير حال الجاليات العربية المقيمة في أوروبا، حيث انعكست عليهم هذه الخلافات، واتضح أنهم -بشكل عام- لم يهتموا بتنظيم وجودهم في البلدان المضيفة، ولم يقوموا ببناء مؤسسات ولا أطر لنشاطهم، ولا هيئات ترعى شؤونهم، وأنهم -بمعظمهم- لم يندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة، ولم يتمكنوا أيضاً من دمج نشاطهم وحراكهم المجتمعي والثقافي حراك المجتمع الآخر. ولم تهتم الجاليات العربية بالنشاط السياسي والحزبي من خلال الانخراط في عضوية الأحزاب الأوروبية، بالرغم من أن العديد منهم كان قد تمكن من الحصول على جنسية بلد الإقامة. لكن هذا الحال قد بدأ في التغير الإيجابي خلال الفترات الأخيرة نتيجة قدوم اللاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين.
لقد ألقت الخلافات العربية-العربية بثقلها على العرب في أوروبا الذين تفاعلوا مع الأحداث الجارية في بلدانهم الأصلية، مما أثار الشقاق بينهم، ووصل الأمر إلى حد الخلافات بين أبناء القطر الواحد على خلفيات إثنية ومذهبية وقبلية، مما أعاق توحيد جهود هذه الجاليات العربية في الدفاع عن مصالحها ومستقبلها في مكان إقامتها، وبالتالي أجهض كل محاولات اندماجها ومشاركتها الإيجابية.
قد وصل الخلاف إلى مستوى تدخل ومشاركة أعضاء بعض البعثات الدبلوماسية لبعض الدول العربية في أوروبا، الذين كان لهم دوراً سلبياً في إثارة بعض النعرات المذهبية والعرقية، ومحاولتها السيطرة على نشاط الجالية، واستقطاب القائمين على بعض المؤسسات إضافة إلى النشطاء، لصالح الأنظمة العربية التي تمثلها هذه البعثات.
وتم تغليب الخلافات القطرية على حساب القضايا التي تجمع العرب وما أكثرها. وجرى العزف على وتر الانتماءات الدينية والعرقية لشق صفوف الجاليات العربية في أوروبا. فانقسم القادمين من بعض الدول العربية بين عربي وكردي، وعربي وأمازيغي، بين سني وشيعي، بين موالاة ومعارضة، بين ملتزم وعلماني، بين مندمج ومتحفظ، بين من يشجع الانخراط في الحياة السياسية للبلد المضيف ومن يرفضها بالمطلق، بين من يريد أن يدفن في البلد المضيف ومن يتعجل العودة إلى وطنه الأم لكن الأبناء لا يقبلون.
كل هذه الثنائيات المتناقضة في مشهد حياة العرب بأوروبا جعلتهم معظمهم- تائهين مشتتين غير منظمين، لا يمتلكون اية رؤية استراتيجية ويفتقدون التنظيم، مما أضعف من مشاركتهم في الحياة المجتمعية، وجعل منهم ورقة ضعيفة في مهب ريح صناع السياسة الأوروبية. وربما يتغير الحال مع الجيل الثالث والرابع من المهاجرين العرب، ومع دخول عدد من الكفاءات العلمية يحملها شبان وصلوا أوروبا ضمن موجات الهجرة الحديثة.

اغتراب واضطراب
أمام تصاعد الأحزاب اليمينية القومية المتطرفة في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، واتساع رقعة الكراهية والعداء ضد العرب والمسلمين، بل وضد كل من هو من غير العرق الأبيض، من مواطني القارة الافريقية والدول الآسيوية وأولئك القادمين من أمريكا اللاتينية. هي حالة عداء عرقي وقومي وإثني، باتت تشكل خطراً على الوحدة الأوروبية وعلى كل من هو مغترب في بلدان القارة الأوروبية.
في خضم هذه المعطيات البغيضة يجد العرب القاطنين في أوروبا أنفسهم أمام وضع مربك وشائك وخطير، ويشعرون بالاستياء الشديد والغضب خاصة بين أوساط الشباب من الجيل الثاني والثالث، وأصبحوا يعانون من صعوبة في التكيف مع محيطهم، نتيجة للسياسات الخاطئة التي اعتمدتها العديد من الدول الأوربية نحوهم، مما أدى إلى تهميشهم وإقصاءهم، وعدم احترام خصوصياتهم الثقافية واللغوية والعرقية والدينية في بعض الدول الأوروبية بضغط من الأحزاب اليمينية، وكذلك فشل جميع المقاربات التي اعتمدتها أوروبا في إدماج المهاجرين بالمجتمع.
في دول جنوب ووسط وشرق أوروبا يعاني العرب وخاصة الشباب من تدني فرصهم في الحصول على عمل أو وظيفة بأربع مرات عن غيرهم، ولا يحصلون على فرص متساوية في التعليم والتعليم المهني، ويشكون من السلوك العنصري الرسمي والشعبي، ومن كراهية المجتمع لهم، ومن وفرة الوقت الضائع، يتعرضون لإقصاء اجتماعي، ولديهم ما يكفي من مشاكل العيش وصعوبة الوضع في دول متطورة وتوفر العدالة الاجتماعية لمواطنيها، لكنها تحرم المغتربين من المساواة.
سياسة التغييب والاستبعاد هذه أسقطت سياسة الاندماج، وبالتالي سقوط المغتربين في طاحونة الاغتراب، والدخول في حالة من الانعزال والتراجع، وتولّد الإحساس بالغربة في المجتمع الجديد، اغتراب قد يصل بالمرء بفعل الضغوط إلى حدود الانهيار. هذا الشعور بالاغتراب يدفع الانسان للقطيعة مع محيطه والتبرم من قيمه وثقافته، ثم الانكفاء والتقوقع ضمن جماعات عرقية أو إثنية صغيرة لكي يحافظوا على أنفسهم، هروباً من مجتمع باتوا يؤمنون أنه لا يريدهم وأنه يحاول سلبهم هويتهم وثقافتهم، ومن هنا تتوفر البيئة التي يبحث عنها الفكر المتطرف لدى الشباب.

استقطاب ديني
إن الاستقطاب الديني خلال السنوات الماضية للعرب المقيمين في أوروبا، عرقل بشكل ملحوظ اندماج هؤلاء وأبناءهم في المجتمعات الجديدة، وجعل ارتباطهم بالقضايا العربية يحدده العنصر الديني، مما أبعد أيضاً كثير من الناشطين الأوروبيين عن المشاركة بأية فعاليات تضامنية أو مظاهرات مع العرب، لأن دوافعهم للمشاركة هي دوافع إنسانية يمليها الجانب الأخلاقي لا الديني. وهذا ما شاهدنا ونشاهده باستمرار في العديد من العواصم الأوروبية، إذ لا يرغب الفاعلين الأوروبيين في المشاركة بأنشطة يتم من خلالها إقصاء المفاهيم الإنسانية ويحضر فيها الانتماء الديني بشكل جلي، لأنه يحرض الآخرين على مهاجمتهم من أتباع أديان أخرى، ويمنح اليمين المتطرف الذريعة لتصعيد خطابه المعادي للعرب والمسلمين، حيث يعتمد بعض قادة هذا اليمين خطاب التنبيه من خطر "الغزو الإسلامي" لأوروبا، يقابله خطاب آخر محافظ من جانب بعض الجهات المسلمة التي تغذي روح العداء "للصليبية واليهودية".

أزمة هوية
واقع الجاليات العربية في أوروبا الذي يفتقد لمنهجية عمل مشتركة، وسياسات الإقصاء والتهميش التي تعتمدها بعض الدول الأوروبية، أدت إلى ظهور أزمة هوية لدي الجيل الثاني والثالث من المهاجرين. فلا هم ينتمون إلى بلدان آباءهم وأجدادهم، ولا هم ينتمون إلى بلد إقامتهم، على الرغم من أن عدداً منهم قد ولد في هذه البلاد ويحملون جنسيتها ويتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة. وتستغل الأحزاب اليمينية هذه الظاهرة للقول إن المهاجرين يجدون صعوبة في الاندماج.
الواقع العربي الراهن المتأزم، والذي يعاني من انسدادات سياسية واقتصادية وثقافية، يدفع عدد من العرب للإصابة بمتلازمة الهزيمة الحضارية التي تعاني منها الأمة العربية، لأن الانكسارات التي أصبحت سمة للعرب، وكذلك التخلف والجهل والجوع والأمراض والحروب والأمية والقمع والعنف، كلها مرادفات للعرب، فأصبح الكثيرون من العرب في أوروبا يشعرون بالخجل والعار لانتسابهم للأمة العربية، حتى صار اللغة العربية وتراثنا موضع خجل من قبل البعض. إن سعي البعض للتنكر للهوية هو سلوك يهدف إلى إزاحة مسؤولية الهزيمة التي نعانيها عن كاهله، فتراه ينسلخ من هويته الحقيقية ويحاول أن يجد لنفسه هوية أخرى تعوضه عما فقده.
وأمام التجاذبات السياسية والدينية بين أفراد الجاليات العربية في أوروبا، تبرز بعض الأصوات التي تقدم تفسيراً ضيقاً ومحرفاً للنصوص الدينية وللفكر الإسلامي. الأمر الذي يمنح القوى اليمينية الأوروبية المتطرفة الحجة والذريعة لمواصلة هجومها على العرب والمسلمين، ويعطي خطابها نوعاً من المصداقية أمام مؤيديها.
ثم يظهر في المشهد سلوكاً مرعباً من بعض العرب والمسلمين لتكتمل الصورة. هذه التصرفات نتيجة متوقعة للأثر الذي تحدثه بعض المفاهيم المتطرفة لدى قسم من رجال الدين المسلمين، ونتيجة الفهم الخاطئ للعقيدة الإسلامية. فلا عجب في أن نرى سائق حافلة مسلم في إحدى المدن البريطانية، أوقف المركبة بعد أن أغلق الأبواب وأدى صلاته في الباص. ولماذا الاستغراب إن قام أحد العرب أو المسلمين في قتل أخته أو زوجته أو ابنته بدافع الحفاظ على الشرف. ثم يظهر لك إمام مسجد في بريطانيا أو فرنسا أو هولاندا، ويقوم بتحريض المهاجرين المسلمين على عدم الانقياد والانصياع لقوانين البلدان المضيفة لأنها "بلاد حرب" وقادتها من "الكفار" والمسلمين فيها يجاهدون لأجل بسط الهداية. نعم هي تصرفات محدودة لكن للأسف فإن الأثر الذي تخلفه مسيئاً جداً إعلامياً وتعبوياً.
إن سؤال التاريخ باعتباره جزء من مكونات الهوية لا يجب إسقاطه ونحن نتحدث عن اندماج العرب في المجتمعات العربية، خاصة الشباب الذين تقتضي هويتهم المزدوجة انفتاحاً على الآخر، وإحداث مقاربة متوازية تحفظ حقه في معرفة أصوله ووطن أبويه وأجداده، وتاريخه ولغته الأم. ولا تتطلب مواجهة سياسة اليمين الأوروبي -بظني- انغلاقاً من العرب وتصلباً في مواجهة الآخر. فهوية المهاجرين العرب بعمقها التاريخي والقومي هي قضية ثابتة وليست في حالة جمود، لأنها في الأصل حصيلة وخلاصة لتاريخ طويل وممتد من التجارب الثقافية والانصهار الحضاري، وكذلك المزج الإنساني، لذلك فهي عملية تفاعلية تمالك قابلية التغير والتكيف والتعايش مع الهويات الأخرى، بما يحقق الانسجام باختيارات واعية وفي سياقات تكفل التعادل والتكافؤ، مما يؤدي إلى غنى وإثراء ثقافي وإنساني للهوية.


أغلبية صامتة
تتعدد الأنماط الحياتية للعرب في أوروبا، منهم مندمج ومنسجم بالكامل مع الشروط المعيشية للبلدان التي يقيمون فيها وهم قلة قليلة، وجزء منهم يرفض ثقافة المجتمع الغربي وينعزل على نفسه وأسرته، وهناك الأغلبية التي تمارس خليطاً من هذا وذاك، تشارك مجتمعياً مرة، وتنزوي مرة أخرى. لكن يمكننا القول بوضوح إن الغالبية العظمى من الجاليات العربية في أوروبا هي غالبية صامتة، ذات موقف سلبي من المشاركة والمساهمة في الشأن العام. ربما يعود ذلك في أحد جوانبه إلى أن لا وجود لمشاركة سياسية حقيقية للمواطنين في معظم البلدان العربية التي أتى منها هؤلاء المهاجرين، وبالتالي نحن أمام ناس لا يمتلكون ثقافة ووعياً سياسياً. هناك عامل آخر خلف إحجام بعض العرب عن المشاركة السياسية في البلدان الجديدة، هو الخوف الذي حملوه في حقائبهم من بلدانهم، هذا الخوف الذي يجعلهم يظنون أن أية مشاركة لهم في الشأن العام قد تعرض وظيفتهم ومكاسبهم الاقتصادية للخطر. إضافة إلى العامل الديني الذي يساء توظيفه وشرحه ونقله وإظهاره للآخر بصورة مشوهة. هي الصورة التي تقدمها بعض الجماعات الإسلامية في بعض الدول الأوروبية بغير قصد أو معه، من خلال مشاركة العشرات من المسلمين المتشددين الذين يهتفون ويدعون للجهاد على الكفرة الصليبيين الذين يشارك الآلاف منهم في نفس المظاهرة التي نظموها دعماً للقضية الفلسطينية أو لقضايا عربية أخرى.
بالرغم من ندرة هذه المشاهد خاصة خلال السنوات الأخيرة إلا أنها تشكل عاملاً محبطاً للقوى الأوروبية المتضامنة مع القضايا العربية، وتمنح اليمين الأوروبي المتشدد مادة لتصعيد خطابه المعادي.

حصاد مر
في الحصيلة يظهر مشهد الجاليات العربية في أوروبا شائكاً ومتعثراً ومنقسماً وفوضوياً، تمزقها الانتماءات الطائفية والمذهبية والقبلية والمناطقية، وتفرقها الولاءات لهذا النظام أو الزعيم أو ذاك، مشهد يخلو من أي تأثير لأبناء الجاليات في المجتمعات الأوروبية -باستثناء حالات قليلة جداً-. هذا الوضع المختل تستغله جماعات الضغط الأخرى، خاصة اللوبي اليهودي-الصهيوني، للإساء إلى صورة الجاليات العربية.
والبعثات الدبلوماسية العربية -معظمها- تلعب دوراً سلبياً في استقطابات سياسية وحزبية تعمق الفرقة بين أبناء الجالية، وبين أبناء القطر الواحد أنفسهم.
لكن بالرغم من هذه الصورة التي لا تعبر عن عافية، لا بد من الإشارة إلى بعض التجارب الإيجابية والمشرفة لبعض أبناء الجاليات العربية في بعض الدول الأوروبية، في فرنسا وإسبانيا وهولاندا وإيطاليا وبلجيكا والدانمرك والسويد، ووصول عدد من أبناء الجاليات إلى البرلمانات ومجالس البلديات، وحتى تقلد مناصب وزارية.
إن المشهد العام للجاليات العربية في أوروبا هو انعكاس لوضع المجتمعات العربية ذاتها. إن جميع الانقسامات والخلافات والمشاحنات بين تلك الدول، تجد لها صدىً فورياً في الجاليات، وأي إنجاز حضاري وثقافي وسياسي واقتصادي يتحقق في البلدان العربية، سوف ينعكس إيجابياً على واقع المهاجرين.
من الحقائق التي يجب التذكير بها، أن المهاجرين العرب والمسلمين في الكثير من الدول الأوروبية، أصبحوا جزء مهم ومكون رئيسي من تاريخ وثقافة وحاضر هذه الدول. فقد ساهم الآلاف من المسلمين في الشمال الافريقي ببناء فرنسا حين كانت امبراطورية وحين أضحت جمهورية، ومنهم من ارتبط بثقافتها، والكثير من هذه الشعوب دفع جزء من أبناءها حياتهم في إعادة إعمار فرنسا الخارجة من الحرب العالمية الثانية لتبدو كما هي عليه الآن. وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا التي ساهم أبناء مستعمراتها السابقة من العرب والمسلمين في نهضتها. وفي ألمانيا قام العمال الأتراك بدور فعال في إعادة بناء الاقتصاد الألماني المنهار بعد الحرب، وأصبحوا مكوناً من مكونات الحياة الألمانية. لذا تبدو سياسة التخويف من المهاجرين المسلمين، التي يعتمدها اليمين الأوروبي المتطرف في خطابه الشعبوي، سياسة تتناقض مع ثقافة التعايش بين المهاجرين والأوروبيين التي كانت سائدة قبل ارتفاع صوت اليمين.
من المهم أن يدرك العرب المهاجرين في أوروبا أنهم جزء أساسي من المجتمعات الأوروبية التي يقطنونها، وأن بإمكانهم توسيع وتعزيز مشاركتها وفاعليتها في الشأن العام، من خلال استغلال المناخ الديمقراطي والبدء في الانتقال من حالة السلبية والحيادية إلى الحيوية والنشاط، والابتعاد عن الكسل، وتوظيف العامل الثقافي وليس الديني في مقاربة سياسة الاندماج بما يحقق التقارب مع ثقافة البلدان التي يعيشون فيها، وليس التنافر معها. رغم وعينا بالأثر المحبط الذي تحدثه المواقف العنصرية لبعض القوى الأوروبية تجاه المهاجرين العرب وسواهم، إلا أنه لا طريق ثالث أمام عرب أوروبا، فإما المشاركة الإيجابية وإما الانكفاء والتقوقع.





108
أدب / غروب العمر أهزوجة
« في: 21:52 18/09/2018  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمارك


غروب العمر أهزوجة


فجوة الوقت تخنق الرؤية
والوتر يتربّص النوافذ الضيقة
فكيف نراوغ هذا الدمس المرتبك
والليل المحموم يتلو فاتحة الموتى
فوق بيوت الأحياء
ألا يهدأ جموح الحياة جلجلة؟
عقيرة المدينة تغريني أدوّن موتي
لم يعد في الشجر العاري طيوراً لهذا
أبحث عن ظلال الطفولة وقلبها الشقي
عن حرّاس الفوانيس ومصائد الدروب
في الكف البعيد قبل رحيل الوقت
كان لي نهراً ولبادةً من عشب وشرفة مبتورة
إن نهض من ندى السحاب صوت المطر
انقسم الليف على ظلّه وسقط مضرجاً بأحلامه
تتلوّى الدروب الظمأى تدور كالرحى بين موتين
وما زلت أنا في ثوب الصغار زهرة على السياج
ربما يكبر الحلم حفنة من ترانيم الابتهال
ويمتد ربما بساط التيه ربيعاً مؤجلاً
لأصطفي من أخضر البساتين صوت التراب
أرتدي قدماي وأخطو آخر غيبوبة للدروب
تتوارى خلف ظلّي المتعب مسافة العربة
تئن الأبواب الصدئة من قطافها
والصرير مثل حزن يتقلّب في دار الأيتام
أن تستل نوافذ الأرض الوجوه يحدث كثيراً
وكثيراً كثيراً يجثم بياض اليقظة
فوق رحم الشقاء نبتاً يتناسل
لا يتسع العشب لضفاف الساقية
والماء المصلوب مواكب جنائزية
تعرّي المدينة أصابعها وتتجرد من نكهتها
المواسم توشك أن تنفرط
تمر البيادر ممتدة في مروجها
وزهرة الشمس تحملها عصافير الرمان
قالوا هذه الهوة لا تكتم نفحاً فلا ترتحل
أعمق سريرة هذه لا يبصرها غافل
أن تأوي الصمت ثمة حفّار للقبور يُسربِلك ثوباً من الحَصى
تمطر غابة المدافن أثواباً معلّقة في السماء
نصال بالضلوع ترتق الجهات الساجدة
أفتش في منفاي عن شغف الصبح وسفر العابرين
بعينين زاهدتين تتهافت الرحيل
ظمئي لمروجك يقشّر جوفي وقدماي لا تبارح
خذني من تعب الطريق طيراً أضناه الطواف
قبل أن يزف الغياب حقائب الغربة في بساتين الموت
قلْ لي
كيف تمضي مواسم الإخفاق بلا ملامح والسلال عاقرة
وأي سر في المآقي المولودة من عتمة الجفاف
خلف تلة الخيبات أنتظركَ شجرة توت بلا حقل
ننفطر نرجساً ويمامة لنبارح غروب العمر أهزوجة
في تكايا الدراويش أقبع مولودا متعثراً من رؤية
قد كنتَ حزني وألمي وخَدِيني وغيومي المرتبكة
كَسوْسنة وحيدة في نهر جاف تنتظر عناقاً
ألملم مسافة الاحتضار وصور القناديل وأتوسد موتك
مثل القَتامُ أتلاشى بأجنحة من سحاب
 وأعود مطراً في وجع المحراب
كي أراك في الضوء المقبل





109
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


إنتروبيا الديمقراطية الغربية..
أوهام العامة وكذب الساسة

قد تكون حلماً مستطاباً في غفوة ضنك الحياة، وربما شراباً عذباً في قيظ الاستبداد، لكنك إن استجليت حقيقتها، تدرك أنها سراباً تحسبها الشعوب ديمقراطية. إذ كلما اعتقدنا أننا ندنو من الديمقراطية، نجدها تبتعد، حتى يخيل أن إدراكها غاية محالة، ليس في بلداننا العربية فحسب، بل حتى في تلك البلدان التي ابتكرت الديمقراطية واحتضنتها. إن القول السائد في الغرب أننا نعيش عصر ازدهار الديمقراطية، هو كذبة كبيرة يصدقها الكثيرون.
هل تحتضر الديمقراطية الغربية في أوروبا، أم أنها تعاني مرضاً يتعلق بالنمو؟ سؤال بات يشغل اهتمام كثير من المفكرين الغربيين، في فترة تصاعد فيها الأفكار العنصرية والمتطرفة. إن بريق الديمقراطية اللامع في الغرب قد بدأ يخفت بدءًا من بحر البلطيق إلى البحر الادرياتيكي، لتحل مكانها نزعات ثأرية واستياء قومي مرعب يمور تحت رمال متحركة، تتيح للأفكار المتشددة موطئ القدم الذي يحتاجه.

تاريخ الديمقراطية
الديمقراطية مفهوم مشتق من كلمتين يونانيتين هما "ديموس كراتوس" تعنيان حكم الشعب. وهو تعبير يناقض مفهوم الملكية في المفاهيم اليونانية. فالديمقراطية هي مصطلح إغريقي ظهرت أولى براعمها في مدينة أثينا اليونانية القديمة. وتعني حكم الشعب للشعب وبالشعب. وردت لأول مرة في كتب "أفلاطون" حين كتب في سياق الحديث عن الدستور الذي ينظم شؤون مدينته، أن "الديموكراتيا" ليست أسلوباً للحكم، إنما هي شهوة تتيح لبعض الناس التحرر من كافة المعايير والانفلات من الضوابط. وقال الفيلسوف "أرسطو" تلميذ أفلاطون أن الديمقراطية أمر طيب طالما يتم منع الديمقراطيين من ممارستها.
الديمقراطية التي ولدت في أثينا قبل الميلاد، كانت الجمعية التشريعية تتخذ القرارات بواسطتها، بحضور كافة المواطنين، لكن فقط "الإثنيين" الذين كانوا يشكلون حوالي 18 في المائة من السكان، هم وحدهم من يمتلك الحق في التصويت، لأن "الديموكراتيا" كانت تستبعد النساء والعبيد والرجال الذين لا يمتلكون شيئاً، وكذلك كل من ينحدر من سلالة مختلطة. وحتى القرن الثامن عشر كانت الديمقراطية ملاحقة، وكافة المنشقين والمعارضين كانوا يسمون أنفسهم سراً بالديمقراطيين. هذا الحال لم يبدأ بالتغير إلا في نهاية القرن الثامن عشر مع بداية الثورتين الفرنسية والأمريكية.
تعرضت الديمقراطية لانتقادات شديدة من قبل عقول فلسفية غربية مهمة. في كتابه "الجمهورية" ذكر أفلاطون أن معلمه سقراط حين كان يحاضر في طبيعة الدولة المثالية، وفي سياق حديثه سأل صديقه وشريكه "أديمانتوس" إن كان يفضل الصعود على متن باخرة يقودها أحد الركاب، أم قبطان متدرب وخبير. بهذه الاستعارة كان سقراط يجري مقاربة مفهوم الدولة، حيث يعترض على الحكم الديمقراطي، وضرورة عدم السماح لأي كان بقيادة سفينة الدولة. واعتبر أن ليس جميع الناس يمتلكون الذكاء الذي يتيح لهم إدارة الدفة. افلاطون نفسه أشار إلى أن الديمقراطية واحدة من المراحل الأخيرة في انحدار الدولة المثالية، إذ اعتبر أنها سوف تجلب الطغاة.
أرسطو بدوره اعتقد أن الديمقراطية نسخة فاشلة من حكم الجماعة، وكان يرى أن أثينا مدينة تتداعى لأنها تبتعد عن دستورها الذي وضعه الحكيم اليوناني "سولون".
إن فكرة قابلية الديمقراطية للتصدع، كانت فكرة منتشرة بشكل واسع في التاريخ القديم. حتى الفيلسوف الفرنسي "فولتير" الذي كرس حياته في مواجهة التعصب والتطرف، ودفاعاً عن حرية التعبير والحريات العامة، كان له موقف إشكالي من الديمقراطية حين اعتبر أنها منفصلة عن مفاهيمه الليبرالية.
أصبح مصطلح الديمقراطية متداولاً بين المثقفين والمتنورين في أوروبا، وتشكل رأي عام حول مفهوم الديمقراطية وسط المفكرين رداً على تسلط الكنيسة التي كانت تمتلك سلطات كبيرة على الناس من خلال تحالفها مع الإقطاعيين.
مع ظهور علماء الطبيعة "نيوتن" و"غاليلو" في بداية عصر النهضة، وجهت لهم الكنيسة تهم الزندقة، وحرضت العامة الذين أحرقوا بعض المفكرين والعلماء وهم أحياء. في هذا الصراع تم التوصل إلى اتفاق بين الكنيسة والمفكرين المتنورين وبعض أصحاب رؤوس الأموال من أهل النفوذ، على عقيدة "فصل الدين عن الدولة". وبذلك تم تحديد دور الكنيسة بالسلطة الروحية. من هنا شقت الديمقراطية طريقها الذي كان سبباً في تغير الطبقات الحاكمة، ومهدت لسقوط عروش وممالك أوروبية وتحويلها لرموز دون سلطات فعلية "بريطانيا، السويد، هولاندا"

لماذا يقبل الغرب على الديمقراطية السيئة؟
إن الديمقراطية التي مارستها أثينا تختلف عن الديمقراطية المعاصرة. فالديمقراطية القديمة كانت فعلاً مباشراً حاداً إلى درجة لا يمكن معها تحقيق أي استقرار. وكانت ديمقراطية يحتكرها نسبة ضئيلة من السكان اللذين يمتلكون حق التصويت وكلهم من الذكور الأصليين. كانوا يجتمعون في الجمعية العامة ويتداولون الشأن العام بكل حرية في الميدان العام. ديمقراطية وفرت مناخ من الحرية في أثينا لم يتحول إلى فوضى، وديمقراطية أتاحت بعض العدالة وبعض المساواة ولكن أمام القانون، بحسب ما رواه "بيريكليس" حاكم مدينة أثينا.
الديمقراطية اليونانية أتاحت إمكانية أن شغل العديد من المواطنين العاديين اللذين تم اختيارهم عشوائياً مناصب حكومية. وقد نال الفيلسوف "سقراط" نفسه منصباً بهذه الطريقة، وهي الديمقراطية التي قتلته أيضاً، بعد أن تم إجباره على تجرع السم عقاباً على معتقداته المعرفية، وبهذا يكون "سقراط" أول رجل في التاريخ يعدم بسبب أفكاره.
انشغل سقراط بالإشكاليات التي يلقيها المواطنين غير المتعلمين في حال حصولهم على مناصب في السلطة، وهي إشكالية ما زالت تشغل عدد من المفكرين منهم عالم "الأثولوجيا " البريطاني "ريتشارد دوكينز".
ويعتبر سقراط أن في الحياة شيء واحد صالح ومفيد هو المعرفة، وهناك شر واحد هو الجهل. لذلك يعتبر أن التعليم هو أفضل رجاء للديمقراطية. ذلك أن الشعب المتعلم يستطيع مراقبة عمل السلطة وتمييز السياسي المخادع من الصادق.
في هذا السياق نذكر أن نصف السكان الأمريكيين البالغين لا يعرف معلومات مهمة واساسية عن عملية التصويت والانتخابات، كما أنهم يجهلون عمل ووظيفة كثير من دوائر ومؤسسات الدولة الأمريكية. ولكن فيما يتعلق باليونانيين القدماء كان التعليم يتعلق باللغة والمنطق والهندسة والحساب والفلك والموسيقى. هذه العلوم تحولت فيما بعد إلى أساس للتعليم اللبرالي الحديث. إن العلاقة بين الديمقراطية ومستوى التعليم علاقة جدلية تبادلية. تقوى الديمقراطية كلما زاد التعليم وانتشر وعلت قيميته ونوعيته، وتضعف الديمقراطية وتصاب بالوهن في مجتمعات ينخرها الجهل. وهذا يقودنا إلى مفهوم أن على جميع المواطنين الحصول على تعليم مناسب لكي يتمكنوا من حكم أنفسهم، حتى لا ينتهي بنا المطاف مثلما حصل في أثينا، كانت ديمقراطية في الاسم، لكن يحكمها الرعاع الجهلة في الواقع.
هذا ما تستغله الديمقراطيات الغربية التي تقوم بدعم الطغاة والديكتاتوريات في المنطقة العربية، وفي المناطق الأخرى الأكثر قهراً وجهلاً في العالم، وتساندهم سياسياً وأمنياً لقمع الشعوب. وحين يرى هذا الغرب "الديمقراطي" أن مصالحه تتعرض للخطر في هذه البلدان، سواء من قبل الشعوب المضطهدة، حينها يتنكر للديمقراطية، وإن تهددت مصالحه من أطراف في الأنظمة الاستبدادية نفسها، فإنه حينها يرفع في وجههم راية الديمقراطية "المسكينة" التي لم تُحترم، ويتم تحريك ملفات الفساد وملفات حقوق الإنسان التي تنتهك، ليتحول المواطن المقهور في دول العالم البدائي إلى مجرد أداة ضغط وابتزاز لتأمين مصالح الدول العرقية البغيضة، وحقوق شعوبها البيضاء التي وحدها جديرة أن تنعم بمكارم السيدة "ديمقراطية".

مبررات أخلاقية
لكل فرد في المجتمع الحق في ممارسة حرياته الشخصية، لكن النزوع نحو الممارسة العشوائية بحيث يتم تغليب المنافع الشخصية الفردية على مصالح الأفراد الآخرين في المجتمع، سوف يؤدي إلى تصادم أناني غرائزي بين رغبات البشر، مما يعني أن القوي يفرض جشعه على الآخرين، ويستأثر بالحقوق كافة. لذلك فرضت نظرية العقد الاجتماعي تنازل كل إنسان عن بعض حرياته إلى الدولة، التي هي بمثابة كيان ينظم الحريات ويوزع الحقوق بالعدل بين المواطنين. حينها يحصل الناس ما هو لهم بواسطة سلطة ملزمة لجميع الناس دون تمييز. هذا من شأنه أن يؤدي إلى حالة يشعر فيها الجميع أنهم محكومين وحاكمين عبر انتخاب ممثليهم في البرلمانات، وفي المساهمة بصياغة القوانين، مما يوفر الإحساس بالكرامة والاحترام لدى المواطن. تماماً هذا هو الأساس الفلسفي للديمقراطية الغربية.
فكرة الديمقراطية الغربية تقوم على مبدأ إن كانت الشعوب لا يمكنها حكم نفسها بنفسها، فلابد أن تقوم بانتخاب ممثلين عنها في السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية.

فهل يحكم الشعب؟
في الديمقراطيات الغربية، يصل الحكام فيها إلى سدة السلطة عبر الانتخابات، من خلال ترشيح من أحزابهم السياسية. فالأحزاب السياسية هي التي تقترح أسماء من طرفها ليكونوا ممثلين لهذه الأحزاب في السلطة التشريعية، وهم من يقوم الشعب بانتخابهم عبر انتخابات حرة ونزيهة ومباشرة. هذا الأمر يتم في كافة الدول الغربية بغض النظر عن شكل الحكم فيها، سواء أكان رئاسياً مثل الولايات المتحدة، أو كان حكما وزارياً مثل بريطانيا، أو نظاما مختلطاً كفرنسا. ويقولون لقد انتخب الشعب ممثليه، وأن الشعب يشارك في الحكم والسلطة.
لكن الحقيقة أن ممارسة الناس لحقها في التصويت لا تعني شيئاً حقيقياً في الواقع، لأن مراكز المال وكبار الصناعيين وأصحاب الثروات هم من يمتلك القرار الحقيقي في الدولة. وهم الذين يسيطرون على الأحزاب وعلى المجالس التشريعية وعلى النقابات والبلديات. ولا يمكن لأحد من خارج هذه المنظومة أن يشغل مقعداً في هذه الهيئات. ومن أجل أن تكتمل أكذوبة الديمقراطية يتم توظيف وسائل الإعلام هنا لتنجز مهمتها في الكذب والتزييف والتدليس، ومن سوء طالع الديمقراطية فإن أصحاب الثروات هم أنفسهم أصحاب وسائل الإعلام، وهم الذين يسيطرون على الشركات الكبرى التي تستطيع صناعة الحرب والسلام، يمكنها افتعال الحروب لتحريك العجلة الاقتصادية، ويمكنها اللعب في الاقتصاديات كما تشاء عبر تغيير أو إصدار قوانين تتعلق بالتجارة أو الضرائب. إن سيطرة رؤوس الأموال في الدول الغربية هي مصدر السلطات. والشعوب التي تظن أنها تنتخب بحريتها من اختارتهم هي شعوب واهمة، لأن الحقيقة أن من ينتخب هي القوى التي تمتلك رأس المال المتنفذ.
إنها ديمقراطية تضمن لك حرية أن تفعل ما تريد لكن ضمن القوانين التي رسم خطوطها أصحاب القوة الاقتصادية التي تسيّر القرارات، فأنت تختار بإرادتك ما حددوه هم لك.
ديمقراطية تافهة تجعل المجتمع ووسائل الإعلام منشغلة بقط تم دهسه في الطريق العام، بينما لا تلقي بالاً تجاه الآلاف الذين يموتون في أماكن متعددة في هذا العالم المجنون، ولأسباب مختلفة.
ديمقراطية مزيفة تتلاعب بها وسائل الإعلام ومراكز الأموال، وتتحكم بمسارها من داخل غرف سوداء، كي تقوم بتزييف الحقائق وخداع الشعب، وتوجيه القضايا العامة في تجاه محدد بعد أن يتم إلباسها ثوب الديمقراطية، كما حصل في العديد من الملفات الكبرى التي تم الكشف عنها. 

ديمقراطية الكذب
الديمقراطية كما أرادها المفكرون والتي تعني أن يكون الشعب مصدر السلطات، وأن يحكم نفسه بنفسه، لا وجود لها، إذا بقيت هذه الكلمات خالية من أي معنى حقيقي. إن عدم احترام المجتمعات الغربية لمفهوم الديمقراطية كما وصفها الفلاسفة، ليس هو الإشكالية الوحيدة، إنما الطامة هو الكذب والتزييف الذي تقوم به هذه الأنظمة على شعوبها كونها تدّعي أنها دولاً ديمقراطية، وأنها تحترم تطبيق الديمقراطية. إنهم يكذبون لأنهم لا يكشفون الحقيقة بأن مفهوم الديمقراطية وهم غير قابل للتطبيق كما ورد نظرياً، وأنه لا يمكن للحكم إلا أن يكون فردياً. وهذا لا يتعارض مع تشكيل هيئات استشارية لتزويد الحاكم الفرد بالبيانات والمعلومات ونصوص الدستور الذي تجعله يتخذ قرارات مفيدة وقابلة للتحقق. دور الفرد هنا أهم كثيراً من دور الجماعة، والقيادة ومركز اتخاذ القرارات لا يمكن إلا أن يكونا من صلاحية فرد واحد هو رأس السلطة السياسية. لكن هذا لا يعني بأي حال أنها سلطة ديكتاتورية، لأن الرئيس تم انتخابه عن طريق ممثلي الأمة، ويلتزم بدستور البلاد، هذا الالتزام تحميه المحكمة الدستورية العليا.

عوائق الديمقراطية
أهم العقبات التي تحول دون أن ننعم بديمقراطية حقيقية هي، وجود الحكام المستبدين الذين يحولون دون تشكل معارضة حقيقية لأنهم سوف يكون مصريهم إما السجون أو المطاردة، حكام ظالمون يفرضون رأيهم على الجميع بقوة السلطة، وتفشي آفة الفقر بين الشعوب وارتفاع مستويات البطالة، تجعل الناس تستسلم للقهر للحصول على لقمة العيش، وكذلك انتشار مستويات مرتفعة من الجهل تحول الناس إلى فريسة سهلة الانقياد للأكاذيب، ثم وسائل الإعلام التي يتم توظيفها في خداع الناس والكذب على الجمهور، وتضليل الناخبين بواسطة الدعاية المركزة، التي تقوم بغسيل أدمغة البشر وتكييفها مع الواقع.
اختفت صورة الحاكم المستبد -تقريباً- في الدول الغربية، واختفى أيضاً نموذج الرئيس "الزعيم" الذي يتمتع بالجاذبية الجماهيرية، والمقدرة الخطابية التي تلهب حماس الناس مثل " ونستون تشرشل، شارل ديغول، جون كينيدي". كما تراجعت كثيراً مستويات الفقر والجهل في الغرب خلال فترة بعد الحرب العالمية الثانية، لأسباب متعددة منها انتشار التعليم وتحسن مستوى المعيشة. مع ذلك تراجع دور المجالس النيابية في هذه البلدان، وانخفضت نسبة المشاركين في التصويت بالانتخابات، وتمادت السلطة السياسية في اتخاذ قرارات كبرى لا تحظى بدعم شعبي.

تحالفات عابرة للقارات
في سبعينيات القرن العشرين ظهرت ما باتت تعرف "الشركات متعددة الجنسيات"، شركات عملاقة يمتد إنتاجها وتسويقها ونشاطها الصناعي إلى مختلف بقاع الأرض، تمتلكها مراكز الأموال في العديد من الدول، لذلك هي ليست منسوبة لدولة بعينها. لقد تطورت هذه الشركات الضخمة تطوراً سريعاً، ونمت حركة التصنيع والتسويق فيها بحيث أصبحت تنافس في نشاطها دولاً كبرى. ماذا يعني هذا؟
يعني أن هذه الشركات العظيمة لم تعد خاضعة للسياسات الاقتصادية التي تحددها الدولة الوطنية أي دولة المنشأ، وأصبحت تهرول نحو مصالحها وتتجاهل المصلحة الوطنية، وهكذا انحسرت سلطة الدولة وتضخمت سلطة هذه الشركات، بل وصلت سلطة الشركات عابرة للقارات أن تحول العديد من الموظفين العموميين للدول الغربية وأهمهم الدبلوماسيين، إلى موظفين يحافظون على مصالح هذه الشركات. فأصبحت الدولة تضعف وهذه الشركات تقوى أكثر فأكثر، وهذا يؤدي إلى ضعف الولاء للدولة الوطنية في مواجهة تيار العولمة.
ولنا أن نتخيل ما الذي حدث للديمقراطية الغربية؟ نعم ما زال في المشهد العام أن الناس ينتخبون أعضاء المجالس التشريعية البرلمانية، ولا زالت الأحزاب السياسية تتنافس فيما بينها للفوز في الانتخابات. لكن الحقيقة التي لا يراها الناس أنه تجري حوارات ومباحثات في الغرف المغلقة بين الزعماء السياسيين وبين ممثلي الشركات الضخمة، وداخل هذه الغرف يتم اتخاذ عدة قرارات تحدد اتجاهات الأحزاب، وتتحكم بكافة خيوط اللعبة الديمقراطية.
النتيجة انخفاض واضح في نسبة المشاركين في التصويت، وغابت القضايا الخلافية الكبرى بين الأحزاب بسبب التوافقات غير المعلنة.
ثم حصل تطور آخر ترافق مع تضخم الشركات العملاقة، إذ تصاعد السلوك الاستهلاكي في المجتمعات الغربية مترافقاً مع ارتفاع مستويات الدخل، وكذلك التطور السريع في وسائل الاتصال الذي جعل التسوق أكثر سهولة. ونتيجة التنافس الشديد بين الشركات والجهات المصنعة، أصبح الشغل الشاغل لها هو توظيف البيانات التي تحصل عليها لزيادة الاستهلاك، وتراجع الاهتمام بالقضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية، الأمر الذي يجعل المواطن يقع تحت تأثير وسائل الإعلام التي توجهه نحو السلع التي تحقق الربح الأكبر للشركات، وهذا يكشف زيف الادعاء بأن للمستهلك الحق في اختيار المنتج الأفضل. وهكذا احتل هذا المستبد الجديد - الشركات العملاقة- مكان المستبد القديم.

ماذا عن الضوابط الأخلاقية
خلال السنوات الأخيرة، تبدو القارة الأوروبية للمتابعين، أكثر توتراً وقلقاً وانشغالاً بمتابعة الموجات المتتالية من الشعبوية الساخطة، ومن تصاعد خطاب الكراهية ضد الآخر، لذلك تظهر الديمقراطية الغربية في أضعف حالاتها، لأنه ببساطة يجري تفريغها من محتواها عن طريق توسع الأفكار اليمينية المتشددة.
إن التطرف في أوروبا قد أصاب اليمين واليسار على حد سواء، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، إن الحكومات القومية في بولندا وهنغاريا يهددان حكم القانون الدستوري، ونلاحظ أن الأحزاب المتطرفة من اليمين واليسار في كل من إيطاليا والنمسا واليونان وألمانيا والسويد في تصاعد. ففي الوقت الذي تشيخ فيه الديمقراطية الغربية، علينا أن نلاحظ أن عمرها لا يتجاوز ربع قرن في دول شرق أوروبا.
في استطلاع للرأي أجرته مؤخراً مؤسسة "بيو" الأمريكية للأبحاث، أظهر أن 20 في المائة من المواطنين اليونانيين والإسبان يعتقدون أن الديمقراطية التمثيلية طريقة سيئة لإدارة الحكم. فيما عبر 29 في المائة من الإيطاليين موافقتهم على وجود قائد قوي يتخذ قرارات دون تدخل السلطات التشريعية. وأن 26 في المائة من البريطانيين لديهم موقف ناعم من الحكم الفردي. وفي دراسة مختلفة أجرتها في العام 2016 مجلة الديمقراطية، قال 40 في المائة من الشباب البريطاني أن الديمقراطية لم تعد حيوية، و44 في المائة قالوا إنهم لم يصوتوا أبداً.

هل فشلت الديمقراطية الغربية؟
ألم يحكم هتلر ألمانيا النازية بانتخابات ديمقراطية؟ والفاشية الإيطالية ألم تنجب موسوليني بواسطة انتخابات ديمقراطية؟ نتنياهو الصهيوني قاتل الأطفال يحكم باسم الديمقراطية ووصل إلى سدة السلطة بواسطة انتخابات ديمقراطية كذلك!
إنها الديمقراطية الغربية التي وصفها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بأنها "فخ الحمقى". واعتبرها الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أسوأ نظام. ديمقراطية تعتمد التكييف الاجتماعي للبشر مما أوجد الغالبية الصامتة. إنها ديمقراطية الحرية والمساواة والعدالة ومنح السلطة للشعب غير المخول بممارستها أصلاً. لهذا قال عنها الفيلسوف السويسري "جان جاك روسو" أن الديمقراطية الحقيقية بمعناها الدقيق لم توجد أبداً ولن توجد أبداً.
ديمقراطية هلامية يشن الغرب باسمها الحروب على الدول النامية، ويحاول فرضها على دول أخرى. هي ذاتها الديمقراطية التي تضج بها الوسائل الإعلامية الغربية وتحاول تعميمها، في وقت يرفضها الكثير من المفكرين الغربيين وعلماء الاجتماع، وغالباً لا نسمع أصواتهم. ومن المستغرب أنه رغم فشل الديمقراطية بنموذجها الغربي، إلا أننا نجد محاولات الغرب لا تتوقف إلى نشرها وتعميمها بالترغيب أو الترهيب.
إن الديمقراطية في العصر التنويري الغربي تتشابه مع تلك الديمقراطية اليونانية. حيث كان الحكم للنبلاء في العصر الإغريقي، وأصبح الحكم للطبقة البرجوازية بعد الثورة الفرنسية، وفي كلا المرحلتين كان حق التصويت حكراً على الأحرار والملاك.
أما الديمقراطية في العصر الحديث فهي تفرض الوصاية على الشعب، لأن الأحزاب السياسية لا ثقة لها بقدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه.

ما بعد الديمقراطية
يتسم القرن الواحد والعشرين بسقوط الأيديولوجيات والنظريات، والنظام السياسي العالمي لم يعد يخضع للتصنيف المألوف، فهو لم يعد لا يسارياً ولا يمينياً ولا ديمقراطياً. إنه قرن المصالح الكبرى، حيث تتصارع فيه قوى عظمى تبحث عن آليات لتحقيق مصالحها، في ميدان يعتبر أن القوة الحقيقية هي القوة الاقتصادية التي تتمكن من الاستحواذ على الأسواق لتلبية الاحتياجات البشرية المتزايدة.
دخلت المجتمعات الغربية -بمعظمها- عصر الشعبوية ما بعد الديمقراطية، التي أظهرت الانتخابات الأخيرة التي تم تنظيمها في العديد من الدول الأوروبية خلال العامين الأخيرين، الوجه الصريح الواضح لها، إذ حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة توسعاً جماهيرياً وصعوداً انتخابياً. واعتبرت الأحزاب العنصرية أن هذا الفوز بداية ما أسماه رئيس الوزراء الهنغاري "فيكتور أوربان" بالديمقراطية غير البرلمانية، وكان يقصد فصل النظام الانتخابي عن القيم الحداثية الغربية. فيما دعت أحزاب أخرى إلى العودة للهوية المسيحية التقليدية التي كانت محور الخصوصية الأوروبية.
وهذا ما ذكره عالم الاجتماع الفرنسي "ايمانويل تود" حيث حدد خمس سمات للظرف الراهن في بلد مثل فرنسا اليوم وهي عدم اتساق الفكر والتواضع الثقافي والعدوانية والحب المرضي للمال وعدم الاستقرار العاطفي والعائلي. ويقابل هذه السمات برأيه انحسارا في الديمقراطية وخللا في التربية وفراغا روحانيا وزيادة في فقر الشرائح الشعبية.
إن عالم ما بعد الديموقراطية هو عالم تتراجع فيه السياسة لمصلحة الاقتصاد و/أو الأمن و/أو الثقافة الخاصة. إنه أيضاً عالم تتقوض فيه الأسس المعرفية للعلوم الاجتماعية، بفعل القوة الناعمة للنظام الجديد.
هل يتحول النظام السياسي العالمي، إلى نظام لا شيوعياً ولا ديمقراطياً ولا ليبرالياً ولا رأسمالياً، ويتحول الكون إلى مدن بلا أسوار؟





110
أدب / حتى أسمع مخاضك
« في: 16:35 08/09/2018  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


حتى أسمع مخاضك

صوفيّ المزاج أنا
حزين مثل شمس أضاعت حقولها
وشعائري لون الحشرجة
متأخراً يشرّع السرو الغابة البيضاء
يبشّرني بحتفي الأول
حيث يزجر مطر العابرين الأجساد الطرية
هناكَ في صَرْصَرِ العتمة المتورّمة
أخشى ألاّ تعرفني ضفاف القناديل
قد غبت طويلاً حتى نسيت الطريق
وأن يعبرني درب الصنوبر
نحو مواجع القطاف
تأبى مواسمي مع الفصول
شيء من لهاث الوقت المَوْتور
يطفو سراً فوق وميض الطواف
في رحلتي إليكَ
أفرطتُ في هزائمي كما أشتهي
حتى ذوى جريد نخلي
لم أرتدي جلد الورع
قالوا مارق فاقتلوه
فأَخْبِرني
عن هسيس الموت في لحدي
وأسفل شرخ الصلصال
قبل إطباق الثرى راحتيه
أنا العائل ما برأت من الخطايا
لكنني خُلقت شجرة توت
ملاذاً لعابر كفيف
قبل السفر رحلت قدماي
حيث كرامة الأولياء
وخلوة الأسرار خلف العتبات النائمة
في الطنين السابع
يستيقظ الدعاء على الأبواب المتوثبة
ويملأ الجدران أرق كالأديم
لا زلت أنا عند فرار الأرض
أخالط في أخاديد الضجيج
عصافير التراب تبحث عن سكن
على أبوب المطر
أزهرت السهول يمام يرتعش
تكبوا الحقول وزعتر التلال يهرول
نحو صدر الماء
منه بدأ العدم وينتهي بالهلاك
الآثام ذاكرة بلا أسفار
والسديم كحدود القهر أو أبعد
فاضت مزامير الحمل
لم يكن في جوقة المرتلين
سوى شموع بليدة بلا عقارب
تداعبها حبال القش فوق وجه الغبار
أَتلو في جوف صراخي
الصكوك العسيرة قاتمة الاشتعال
يتقاطر العويل لا يهدأ
يتجرّد موسمي من رأسه وأضلاعه
أتقلّب كبذرة الوعد وأترقب ولادتي
لا تتلكأْ
وابدأْ مع مواسم الدراويش
رقصة الريح بيدين مبتورتين
واتلُ وصايا التائبين
على رائحة الراقدين
فإن رأيت الفراشات تشيخ
لا تقرب قامة النهار
الدور تبدو من سحناتها
موحشة مثل صندوق خشبي قديم
وأنت تصطاد طيوري
لا تتعجّل فوضى الوصول
العربات متخمة والعشب محتشد
أُبصرُ خط النعش وتعب العابرون
لا أرى قبراً
ألا بيوت لنا؟
قالوا ارقدْ هناك
هذا موتك المؤقت
مثل يقظة لا شبيه لسباتها
أنتظركَ معلقاً بأحزمة الماء
لا تتأخر
فلن أتمزق
حتى أسمع مخاضك

111
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


في أزمة فكر النخبة العربية ..
خسوف المثقف العضوي

أزمة الفكر العربي الحديث أنه ظل فكراُ نخبوياً طلائعياً تؤمن به -نسبياً- العقول المثقفة المعزولة عن الناس، هذا يشمل كافة التيارات والأفكار الاشتراكية اليسارية والليبرالية والقومية وتلك الاتجاهات التي تعبر الإسلام السياسي. بالرغم من المحاولات التي أظهرتها النخبة العربية في مواجهة أسئلة التحدي الحضاري الغربي، إلا أنها أجرت مقاربات خاطئة أفضت إلى نتائج كارثية على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث اعتمدت النخبة -بمعظمها- فلسفة تؤمن بأن الإنجازات الحضارية الغربية العلمية والفكرية يعود سببها إلى الحضارة العربية الإسلامية القديمة فقط، وغاب عنها أن إعادة إحياء هذه الأفكار في الحاضنة العربية في مجتمعات ما زالت ذات صبغة عشائرية وقبلية سوف تولّد تطوراً مبتوراً وحداثة مشوهة. لقد انتكست الأفكار الماركسية بالرغم من إرثها المضيء نظرياً، ولم يستطيع "النعيم" الشيوعي النفاذ عبر أنظمة عربية متسلطة بتوجهات قبلية، يدعمها تحالف المصالح بين التجار ورأس المال وشيوخ القبائل والبيروقراطية الفاسدة، ويحميها الغرب الاستعماري، وانتهى الحال بالرفاق إما في المعتقلات أو مطاردين أمنياً، وبقيت الثروة بين أيدي قلة نخبوية التهمت كل شيء سياسي واقتصادي وثقافي، بل ابتلعت الحياة ذاتها.
وحظوظ الفكر القومي لم تكن أفضل، فوحدة الأرض واللغة والتاريخ، لم تشفع لشعارات الوحدة القومية التي أصبحت مفهوما يثير إشكالية معرفية بعد هزيمة جزيران العام 1967.
والأفكار الليبرالية ظلت نخبوية بعيدة عن الجماهير، بسبب انشغال الليبراليين بموضوع الحريات السياسية وإغفالهم المطالب الاجتماعية التي تمس الشرائح الشعبية من الناس. وكذلك الفكر الديني الذي يعاني من الركود وغياب الاجتهاد الفقهي منذ أكثر من قرن، ناهيك عن قيام الجماعات السياسية الإسلامية بتأويل النصوص الدينية لخدمة مشروعها، وفشلها في بلورة البديل المختلف القادر على إجراء مقاربات مغايرة لما هو قائم.

في الخواص والعوام
وهي تقسيمات كانت موجودة في المجتمع البابلي، حيث قسّم قانون حمورابي المجتمع إلى ثلاث طبقات، "الخواص، العوام، الأرقاء". فكان يطلق على أعضاء الطبقة الأولى "الأويلوم" وهم الأولون السادة، وأفراد الطبقة الثانية يسمون "مشكينوم" وهم المساكين حقوقهم ليست كاملة رغم أنهم من الأحرار، والطبقة الثالثة هم "وردوم" الرقيق الذين ليس لهم أية حقوق.
لا يفاجئنا أن هذا التقسيم ما زال معمولا به في غالبية الدول العربية، فما زال هناك علية القوم، وهناك خدمهم. لا زالت قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة مجرد شعارات لا قيمة لها، في مجتمعات ماضية في تغوّل واستحواذ نخبة النخبة على الثروة.
في المشهد العربي تبرز علاقة ملتبسة مربكة هي ما جمع بين النخبة ودلالاتها الثقافية "الخواص" وبين الجمهور الواسع "العوام". هذا المفهوم منح النخبة مكان الصدارة المجتمعية، ومنحها تفويضاً لإدارة شؤون العباد، حيث استسلم "العوام" لهذا القدر بتربص ينتظر ساعة الخلاص.
سيطرت النخبة "الخواص" على الثروات العربية، وعلى كافة مفاصل الدولة، ووظفت القضاء والتعليم والقطاع الصحي لمصالحها، وقامت بتحويل الجيوش والأجهزة الأمنية إلى أذرعة لها تبطش باسمها. فيما أصبح العامة الذين يشكلون حوالي 80 في المائة من الناس، عبارة عن طوابير من الفقراء والمهمشين والجائعين.
إن الدول العربية تستحوذ على أكثر من 55 في المئة من احتياطي النفط العالمي. ومن بين الدول العشرة صاحبة أكبر احتياطي، هناك خمس دول عربية تمتلك ما مجموعه 713 مليار برميل نفط. هذه الدول هي المملكة العربية السعودية والعراق والكويت والإمارات وليبيا. بلغت عائدات دول الشرق الأوسط سنة 2017 ما مجموعه 325 مليار دولار، أي 41.3 في المئة من عائدات النفط في العالم. كان نصيب السعودية، ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، منها 133 مليار دولار.
فيما بلغت الثروات الشخصية في العالم ما مجموعه 202 تريليون دولار، بلغ نصيب العرب منها 3,2 تريليون دولار. هذه الثروات العربية تتركز بين أيادي النخبة "الخواص" التي حولت الأوطان إلى مزارع أهلية خاصة.
بينما بلغت نسبة الذين يعانون من فقر مدقع في العالم العربي 13.4 في المائة من السكان حسب آخر تقرير تنمية بشرية صادر عن الأمم المتحدة.

النخبة العربية المثقفة
أظهرت الأحداث في العالم العربي أن النخبة العربية -بمعظمها- إما أن تكون من المثقفين والمتعلمين الذين يجلسون على كافة الموائد، وهم النخبة المرتزقة التي تنحاز إلى من يحقق مصالحها، ويشتري سلعتها – المعارف ومهارات الإقناع- بأغلى ثمن، تراهم يهتفون مع الجماهير تارة، ويهللون للحاكم تارة أخرى، دون أن تعرف لهم وجهاً حقيقياً. أو أن تكون من نخبة حاشية السلطة، وهم عادة يكونون أصحاب الولاءات ويتبعون الأجهزة الأمنية، عملهم الوحيد تبييض وتلميع وجه الأنظمة.
إن النخبة المثقفة الحقيقية العربية لا نسمع صوتها، فهي متشتتة ومتفرقة، منشغلة بالشقاق النظري، ومتابعة ما يجري من خلف النوافذ. وهم في الواقع جوهر الإشكالية وأهم سبب لأزمة الفكر لاعتزالها واغترابها عن هموم الأمة، وانخراطها في معارك هامشية لا تمت بالأمراض الحقيقية التي استوطنت الجسد العربي المنهك.
فقد كشفت التطورات الملتهبة في المنطقة العربية عن جملة من الأسئلة والمفارقات المنهكة حول مكانة الجماهير الشعبية العربية وحقوقها في المواطنة والعدالة الاجتماعية، والتخلص من الاستبداد والفساد، في أولويات اهتمام النخبة العربية، في منطقة تغرق في مستنقع أزماتها التي لا تنتهي.

صورة المثقف
منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.
نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.
 إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.

المثقف كما عهدناه
المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة بدءً من العقد الثاني للألفية الثالثة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد "البروسترويكا". والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.
إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.
بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟
ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.
كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.
هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

سقوط المثقف
إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي
ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة والسلام ونشر المحبة والتسامح.
وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونون عبيداً للغرب.
إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحون ويموتون في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.
سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.
إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.

في اشتباك المثقف
المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.
المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.
المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.
معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.
مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.

التحدي المصيري
المقاربات الفلسفية النظرية التي تشكل واحدة من أدوات المثقف، إنما هي الحاضن للحراك الاجتماعي، لكن كل قيم العدالة والتحرر والمساواة لا يمكن إدراكها إلا في معترك الواقع المعاش، في ملامسة إشكاليات الشارع وتفهمها وتحليلها. إن المثقف الذي يؤمن بمطالب وحقوق الناس الاجتماعية والسياسية نظرياً فقط طبقاً للحتميات التاريخية ودون ممارسة فعلية، لا يكون بمقدوره القيام بالفعل النقدي الصائب للسياسي، ولن يكون نقده نقداً أخلاقياً تصحيحياً وهو بعيد عن دروب ودهاليز التجربة الميدانية، فمن دون الاشتباك لا يمكن أن ندرك ونفهم ونحلل وننقد أية تجارب اجتماعية تاريخية، وكذلك لا يمكن التحقق من أي أفكار مهما كانت سامية وجذابة دون خضوعها للامتحان الحقيقي في الواقع.
من المفارقات المضحكة المبكية في المثقف العربي، أن شهدت البلدان المتقدمة كما المتخلفة نماذج إما عكست الانحياز العضوي التام من المثقف إلى جانب الجمهور، حتى أولئك المثقفين النقديين اللا منتمين إلى شرائح اجتماعية محددة وقفوا مع كافة القيم الأخلاقية والإنسانية، ودافعوا عن حقوق البشر الأساسية وحرياتهم العامة. أو أبانت تحالف بعض المثقفين الغربيين مع السلطة، تحالف أفضى إلى بناء الدولة الغربية الحديثة بشكلها الحالي، وهو ما أدى إلى انتهاء دور المثقف العضوي في الغرب، أو أصبح دوره هامشياً، بسبب التطور الهائل التقني في مختلف القطاعات.
 بيد أن المثقفون العرب ما زالوا يرزحون تحت أعباء تخلف الواقع التي تتراكم، ولا زالوا يعانون من عجزهم عن إجراء مقاربات لأسئلة النهضة والإصلاح من جهة، وتوحش الآخر الغربي من جهة أخرى. فلا هم استطاعوا الوقوف التام مع شعوبهم، حتى أولئك الذين زعموا في يوم من الأيام أنهم مثقفو الجماهير، رفضهم الشعب ولم يقبل وصايتهم. ولا هم تمكنوا من ابتداع اختراق للعلاقة مع السلطة لمصلحة قيم المواطنة وبناء دولة المؤسسات.
أزمتنا يسببها المثقف العربي -بمعظمهم- الذي يؤمن أن دوره هو تقبيل اقدام السلاطين، وتمجيد الحاكم. كارثتنا في الثنائيات المتضادة، مع هؤلاء الذين لا يرون خلاصاً إلا بنقل الفكر والحداثة الغربية، وأولئك الذين يظنون أن الكرب والضائقة التي تعيشها الأمة لا سبباً لها سوى الغرب وأطماعه ومؤامراته على المنطقة. هذه الثنائية وغيرها ما يضع الشعوب والمثقفين ومستقبل المنطقة في مأزق فكري أخلاقي حضاري، فإذا كان الغرب هو سبب جهلنا وتأخرنا، كيف يكون هو ذاته منقذنا؟ إنه تحدي مصيري يفرض إعادة تشكيل دور المثقف وتحديد وظيفته. إننا ببساطة نحتاج المثقف العضوي التنويري الذي يتمكن من إدارة الأزمات المستعرة في منطقتنا ويفككها بموضوعية وعقلانية، لا المثقف الانفعالي الذي ينتج الأزمات والحرائق.



112
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

 
في أزمة فكر النخبة العربية ..
خسوف المثقف العضوي

أزمة الفكر العربي الحديث أنه ظل فكراُ نخبوياً طلائعياً تؤمن به -نسبياً- العقول المثقفة المعزولة عن الناس، هذا يشمل كافة التيارات والأفكار الاشتراكية اليسارية والليبرالية والقومية وتلك الاتجاهات التي تعبر الإسلام السياسي. بالرغم من المحاولات التي أظهرتها النخبة العربية في مواجهة أسئلة التحدي الحضاري الغربي، إلا أنها أجرت مقاربات خاطئة أفضت إلى نتائج كارثية على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث اعتمدت النخبة -بمعظمها- فلسفة تؤمن بأن الإنجازات الحضارية الغربية العلمية والفكرية يعود سببها إلى الحضارة العربية الإسلامية القديمة فقط، وغاب عنها أن إعادة إحياء هذه الأفكار في الحاضنة العربية في مجتمعات ما زالت ذات صبغة عشائرية وقبلية سوف تولّد تطوراً مبتوراً وحداثة مشوهة. لقد انتكست الأفكار الماركسية بالرغم من إرثها المضيء نظرياً، ولم يستطيع "النعيم" الشيوعي النفاذ عبر أنظمة عربية متسلطة بتوجهات قبلية، يدعمها تحالف المصالح بين التجار ورأس المال وشيوخ القبائل والبيروقراطية الفاسدة، ويحميها الغرب الاستعماري، وانتهى الحال بالرفاق إما في المعتقلات أو مطاردين أمنياً، وبقيت الثروة بين أيدي قلة نخبوية التهمت كل شيء سياسي واقتصادي وثقافي، بل ابتلعت الحياة ذاتها.
وحظوظ الفكر القومي لم تكن أفضل، فوحدة الأرض واللغة والتاريخ، لم تشفع لشعارات الوحدة القومية التي أصبحت مفهوما يثير إشكالية معرفية بعد هزيمة جزيران العام 1967.
والأفكار الليبرالية ظلت نخبوية بعيدة عن الجماهير، بسبب انشغال الليبراليين بموضوع الحريات السياسية وإغفالهم المطالب الاجتماعية التي تمس الشرائح الشعبية من الناس. وكذلك الفكر الديني الذي يعاني من الركود وغياب الاجتهاد الفقهي منذ أكثر من قرن، ناهيك عن قيام الجماعات السياسية الإسلامية بتأويل النصوص الدينية لخدمة مشروعها، وفشلها في بلورة البديل المختلف القادر على إجراء مقاربات مغايرة لما هو قائم.
 
في الخواص والعوام
وهي تقسيمات كانت موجودة في المجتمع البابلي، حيث قسّم قانون حمورابي المجتمع إلى ثلاث طبقات، "الخواص، العوام، الأرقاء". فكان يطلق على أعضاء الطبقة الأولى "الأويلوم" وهم الأولون السادة، وأفراد الطبقة الثانية يسمون "مشكينوم" وهم المساكين حقوقهم ليست كاملة رغم أنهم من الأحرار، والطبقة الثالثة هم "وردوم" الرقيق الذين ليس لهم أية حقوق.
لا يفاجئنا أن هذا التقسيم ما زال معمولا به في غالبية الدول العربية، فما زال هناك علية القوم، وهناك خدمهم. لا زالت قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة مجرد شعارات لا قيمة لها، في مجتمعات ماضية في تغوّل واستحواذ نخبة النخبة على الثروة.
في المشهد العربي تبرز علاقة ملتبسة مربكة هي ما جمع بين النخبة ودلالاتها الثقافية "الخواص" وبين الجمهور الواسع "العوام". هذا المفهوم منح النخبة مكان الصدارة المجتمعية، ومنحها تفويضاً لإدارة شؤون العباد، حيث استسلم "العوام" لهذا القدر بتربص ينتظر ساعة الخلاص.
سيطرت النخبة "الخواص" على الثروات العربية، وعلى كافة مفاصل الدولة، ووظفت القضاء والتعليم والقطاع الصحي لمصالحها، وقامت بتحويل الجيوش والأجهزة الأمنية إلى أذرعة لها تبطش باسمها. فيما أصبح العامة الذين يشكلون حوالي 80 في المائة من الناس، عبارة عن طوابير من الفقراء والمهمشين والجائعين.
إن الدول العربية تستحوذ على أكثر من 55 في المئة من احتياطي النفط العالمي. ومن بين الدول العشرة صاحبة أكبر احتياطي، هناك خمس دول عربية تمتلك ما مجموعه 713 مليار برميل نفط. هذه الدول هي المملكة العربية السعودية والعراق والكويت والإمارات وليبيا. بلغت عائدات دول الشرق الأوسط سنة 2017 ما مجموعه 325 مليار دولار، أي 41.3 في المئة من عائدات النفط في العالم. كان نصيب السعودية، ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، منها 133 مليار دولار.
فيما بلغت الثروات الشخصية في العالم ما مجموعه 202 تريليون دولار، بلغ نصيب العرب منها 3,2 تريليون دولار. هذه الثروات العربية تتركز بين أيادي النخبة "الخواص" التي حولت الأوطان إلى مزارع أهلية خاصة.
بينما بلغت نسبة الذين يعانون من فقر مدقع في العالم العربي 13.4 في المائة من السكان حسب آخر تقرير تنمية بشرية صادر عن الأمم المتحدة.
 
النخبة العربية المثقفة
أظهرت الأحداث في العالم العربي أن النخبة العربية -بمعظمها- إما أن تكون من المثقفين والمتعلمين الذين يجلسون على كافة الموائد، وهم النخبة المرتزقة التي تنحاز إلى من يحقق مصالحها، ويشتري سلعتها – المعارف ومهارات الإقناع- بأغلى ثمن، تراهم يهتفون مع الجماهير تارة، ويهللون للحاكم تارة أخرى، دون أن تعرف لهم وجهاً حقيقياً. أو أن تكون من نخبة حاشية السلطة، وهم عادة يكونون أصحاب الولاءات ويتبعون الأجهزة الأمنية، عملهم الوحيد تبييض وتلميع وجه الأنظمة.
إن النخبة المثقفة الحقيقية العربية لا نسمع صوتها، فهي متشتتة ومتفرقة، منشغلة بالشقاق النظري، ومتابعة ما يجري من خلف النوافذ. وهم في الواقع جوهر الإشكالية وأهم سبب لأزمة الفكر لاعتزالها واغترابها عن هموم الأمة، وانخراطها في معارك هامشية لا تمت بالأمراض الحقيقية التي استوطنت الجسد العربي المنهك.
فقد كشفت التطورات الملتهبة في المنطقة العربية عن جملة من الأسئلة والمفارقات المنهكة حول مكانة الجماهير الشعبية العربية وحقوقها في المواطنة والعدالة الاجتماعية، والتخلص من الاستبداد والفساد، في أولويات اهتمام النخبة العربية، في منطقة تغرق في مستنقع أزماتها التي لا تنتهي.
 
صورة المثقف
منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.
نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.
 إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.
 
المثقف كما عهدناه
المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة بدءً من العقد الثاني للألفية الثالثة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد "البروسترويكا". والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.
إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.
بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟
ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.
كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.
هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.
 
سقوط المثقف
إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي
ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة والسلام ونشر المحبة والتسامح.
وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونون عبيداً للغرب.
إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحون ويموتون في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.
سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.
إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.
 
في اشتباك المثقف
المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.
المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.
المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.
معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.
مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.
 
التحدي المصيري
المقاربات الفلسفية النظرية التي تشكل واحدة من أدوات المثقف، إنما هي الحاضن للحراك الاجتماعي، لكن كل قيم العدالة والتحرر والمساواة لا يمكن إدراكها إلا في معترك الواقع المعاش، في ملامسة إشكاليات الشارع وتفهمها وتحليلها. إن المثقف الذي يؤمن بمطالب وحقوق الناس الاجتماعية والسياسية نظرياً فقط طبقاً للحتميات التاريخية ودون ممارسة فعلية، لا يكون بمقدوره القيام بالفعل النقدي الصائب للسياسي، ولن يكون نقده نقداً أخلاقياً تصحيحياً وهو بعيد عن دروب ودهاليز التجربة الميدانية، فمن دون الاشتباك لا يمكن أن ندرك ونفهم ونحلل وننقد أية تجارب اجتماعية تاريخية، وكذلك لا يمكن التحقق من أي أفكار مهما كانت سامية وجذابة دون خضوعها للامتحان الحقيقي في الواقع.
من المفارقات المضحكة المبكية في المثقف العربي، أن شهدت البلدان المتقدمة كما المتخلفة نماذج إما عكست الانحياز العضوي التام من المثقف إلى جانب الجمهور، حتى أولئك المثقفين النقديين اللا منتمين إلى شرائح اجتماعية محددة وقفوا مع كافة القيم الأخلاقية والإنسانية، ودافعوا عن حقوق البشر الأساسية وحرياتهم العامة. أو أبانت تحالف بعض المثقفين الغربيين مع السلطة، تحالف أفضى إلى بناء الدولة الغربية الحديثة بشكلها الحالي، وهو ما أدى إلى انتهاء دور المثقف العضوي في الغرب، أو أصبح دوره هامشياً، بسبب التطور الهائل التقني في مختلف القطاعات.
 بيد أن المثقفون العرب ما زالوا يرزحون تحت أعباء تخلف الواقع التي تتراكم، ولا زالوا يعانون من عجزهم عن إجراء مقاربات لأسئلة النهضة والإصلاح من جهة، وتوحش الآخر الغربي من جهة أخرى. فلا هم استطاعوا الوقوف التام مع شعوبهم، حتى أولئك الذين زعموا في يوم من الأيام أنهم مثقفو الجماهير، رفضهم الشعب ولم يقبل وصايتهم. ولا هم تمكنوا من ابتداع اختراق للعلاقة مع السلطة لمصلحة قيم المواطنة وبناء دولة المؤسسات.
أزمتنا يسببها المثقف العربي -بمعظمهم- الذي يؤمن أن دوره هو تقبيل اقدام السلاطين، وتمجيد الحاكم. كارثتنا في الثنائيات المتضادة، مع هؤلاء الذين لا يرون خلاصاً إلا بنقل الفكر والحداثة الغربية، وأولئك الذين يظنون أن الكرب والضائقة التي تعيشها الأمة لا سبباً لها سوى الغرب وأطماعه ومؤامراته على المنطقة. هذه الثنائية وغيرها ما يضع الشعوب والمثقفين ومستقبل المنطقة في مأزق فكري أخلاقي حضاري، فإذا كان الغرب هو سبب جهلنا وتأخرنا، كيف يكون هو ذاته منقذنا؟ إنه تحدي مصيري يفرض إعادة تشكيل دور المثقف وتحديد وظيفته. إننا ببساطة نحتاج المثقف العضوي التنويري الذي يتمكن من إدارة الأزمات المستعرة في منطقتنا ويفككها بموضوعية وعقلانية، لا المثقف الانفعالي الذي ينتج الأزمات والحرائق.
 
 

113
أدب / يتواطأ غيمكَ وكدري
« في: 18:50 24/08/2018  »

يتواطأ غيمكَ وكدري


حسن العاصي




هكذا انتهى سخاء الماء
دخل البحر إلى الكهف آمناً
والدروب انتعلت أقدام الراحلين
منذ كان حقلاً يرقب السحاب الهزيل
كلما خرج الملح من الرمل
كنتُ شجرة كسيحة مسفوحةً
عارية الجذر
لهذا كبرتُ في درب الفراشات
ونَمَتْ قربي الحكايات في الأغصان الضيقة
لأن النهر البعيد ابتلع وجه الغيم
لم يكن بيدي بعض أمري
قالوا ارفعْ هذا السديم المندفق
اعبرْ قاع البحر
واقرأْ ما تيسّر لخمس غيوم
يخرج لك من فيض الكتاب
موسماً يتدانى لا ينتهي لا يموت
تعثرتْ أصابعي بأجفاني لذا
رحلتُ بالوقت الهادر
هجرتكَ مُرتشفاً اليباب
حيث لا جدران لا سدود لنهر الجنون
كيف الحال يا والدي؟
هل اعتدت الموت أم تحيطكَ الأبواب؟
أما زلت تبسط جناحك كلما همدَ العشب
فوق أرق الحجارة؟
وكيف تقتات وحدتك يا أبي كل عتمة
حين تغادركَ الطيور العابرة؟
ولمن تُطعم قلبك الآن؟
أتذكّر حين كنتُ أنا صغيراً
مثل مهر بريّ أعدو
وأنتَ تصيحُ وتقيّد المروج
لكنني لا أترجل عن زمام الحلم
تحاصرني بالسوط حيناً
وإغلاق العشب أحياناً
وأنا أعاند جواد حكمتكَ أشاكس الساقية
لا يلجم عجيج دهشتي سيل الحَنقَ
قالوا ابنك مجنون
كثيراً ما يقولون
للنهر الصغير صوت الحملان ولون العصافير
وكثيراً كثيراً ما كان يمتد غصني ريحاً حانية
تلامس ضفة الصبح السحيق
وأنتَ كما أنتَ منجل لطيش الصغار
كيف حالكً يا أبي
أظنكَ الآن في مجلسكَ يصغي أصحابكَ
تسرد أنتَ أسرار الأسفار ونشوة الموت
تضحك وتسوّي نظارتك
يقولون قلوب الأصفياء تظل تخفق بعد الموت
حيث لا فرار من المرايا النضرة
جزيلاً انتظرتكَ ربما دهراً لألقاك عابراً
غزير هذا الرمس وحزين
كما الأنهار تعوم وتطفو
كلما اكتظ السحاب بأطياف العابرين
يملؤني وجهكَ يلامس تعبي
يتواطأ غيمكَ وكدري نبت من علقم
يا أبي
أحدثكَ قليلاً عن شرفة هذا الضنك
أو الأرصفة الهامدة
كشجر كسيحة مسفوحة عارية الجذر
أموت عابراً كل يوم درب الليمون
وراء كل باب أخالكَ
أذرع سواد العمر
أفرّ منكَ وأنت الطريق
أطوي مسافة الصِبا
وأجدكَ خلفي تسير
أي نهر يفضي شجره إلى هذا الاختلال؟
قد أسرفتَ في سخطكَ مرة
حين كان فرسي دونما ساق
ومرة في هجركً أوغلتَ
لم أجدكَ مرة بجهش الشدة
ولا في الفصول المقيّدة
لكن برحيلكَ مكث الضباب على عيون الضحى
يدفعني الخواء لتخوم التشظي
هاكً لوني وكفّي وصوتي
ومسافة الحياة
شيّد بجوارك لي بيتاً بلا جدران
حين ينغلق الماء فوق قيظي
وتهطل التفاصيل الضريرة
آتيك ممتطياً حصاناً خشبياً
مقيماً لا عابراً
ساكناً لا ثائراً
كي يأنس قلبي من التعب



114
أدب / سوى غريب عابر
« في: 16:59 07/08/2018  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

سوى غريب عابر

خلف بياض البحر
ترقبت صوت العصافير
فاض الموج فراشات
وضجر الماء من الألوان
لا مهرب للرمل المرتبك
تعثرتُ بتقاطيع الضوء
وجذبتني مراكب الغرباء
من يقظة الحكاية
إلى هاوية السبات
سألوني عن زهرة الريح
وعن الأسماء المبعثرة
كانت طلاسم الصور تتناثر
وتمتد خراباَ ووعداً
قالوا كيف ننجو
ليس لنا سوى مصيدة مبتورة
والطيور نوافذ ضريرة
معقودة على سور المدينة
وحده مقام الصبح
ينبئ باللوز الأبيض
في أعمق عزلة سوداء
خرجتْ عيناي من أنفي
وانتفض جناح العشب الجاف
فوق أوصال الصمت
ما تعلمت الكتابة
أقدام القلم توسّدت حجر
لم أتعلم يوماً القراءة
قد ترهل المطر الكئيب
وأغلقت الغابة الوعود
من جبِّ العتمة الراقدة
صوتاً مسمارياً يصيح
أكتبْ الشفق العابر
لا تتعجل الرحيل
يلتوي عنقي قبل شفتاي
قلتُ ما أنا بخاط
لست سوى غريباً عابر
جئتُ من خلف الخزامى
ولا أعلم موعد القيامة
وصلتُ في شتاء أعمى
كان السواد يقشّر الساقية
والعجوز يصرخ
قلت لك أكتب اللوح البالي
تختمر الصور فوق الحطب
وماء الوعد يهزّ الأوراق
ياقومي لست بكاتبٍ
ما أنا سوى غريباً عابر
كنتُ صغيراً هزيلاً مبتسماً
حين كبرتُ أصبحتُ تلاً
من عشبٍ كثير
يرقص فوقه التائهون
صرخوا بضُغاء
أكتبْ ترتيل الغيم
وصفحاته الحبلى
ركلتُ بقدمي وحل الغرباء
علا صوتي مرتجفاً
لا أعرف الكتابة
قبل أن تدنو العربة
 من زحام الغبار
قضموا أصابعي
وفقؤوا عيناي
قالوا أكتب
ضحكتُ .. قالوا مجنون
لايمكنك الكتابة
ولن تستطيع
لأنك غريب عابر
أصبحتَ ميتاً


115
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

العرب والتنوير  ..خلط الزيت بالماء وشقاء الأمة

وأنت تطالع كتب التاريخ تنبهر بصفحات مشرقة من تاريخ العرب والمسلمين، تجد مراحل عاشها أجدادنا وكانت منارات في مختلف العلوم التطبيقية والإنسانية والرياضيات والموسيقى والفلك والترجمة، إنتاج معرفي علمي استعان به الغرب ونقل عنه المعارف وقطف ثمار العصر الذهبي للعرب والمسلمين، مما مكنه من شق طريقه نحو التطور والحداثة، بينما نحن أهدرنا هذه الإنجازات في غمرة الصراعات السياسية والاحتقان المذهبي والتعصب الديني والاقتتال الطائفي.

ماذا حصل؟
الأمة العربية والإسلامية دخلت العصر الظلامي حين دمّر المغول بيت الحكمة في بغداد العام 1258 ورموا أمهات المخطوطات العربية ونفائس كتب الطب والفلك والرياضيات في نهر دجلة. وقتل جيش هولاكو أكثر من 200 ألف مسلم حسب بعض التقديرات. وأفضى سقوط بغداد إلى سقوط الخلافة العباسية، بعد تدمير كافة المنشآت العمرانية الحضارية لمدينة بغداد، وقتل الخليفة المعتصم. ومازال العرب يعيشون في العصور الوسطى رغم كافة مظاهر الحياة العصرية التي تحيط بنا.
كان العرب في عصر النور فدخلوا في عصر العتمة، فيما الغرب خرج من هذه العصور الظلامية ليدخل عصر التنوير والتقدم. فقد شهدت أوروبا تحولات فكرية كبيرة في القرنين الخامس والسادس عشر نتيجة الإصلاح الديني الذي تم في النصف الأول من القرن السادس عشر، ثم بسبب الحركة النهضوية التي تمثلت في ترجمة الآداب اليونانية والرومانية، ثم الاكتشافات العلمية الكبرى التي حصلت في ذلك العصر. ثم راح فلاسفة عصر النهضة يهتمون بفلسفة أفلاطون أكثر من أرسطو من أجل تحجيم هذا الأخير الذي كانت أفكاره وفلسفته تتبناها الكنيسة المسيحية. ودخلت أوروبا العصر الحديث التنويري الذي دشّنه عصر النهضة نحو عام 1500 ومستمر حتى يومنا هذا.
فما هو هذا التنوير السحري الذي غيّر المسار التاريخي لأوروبا، ونقلها من حالٍ إلى حال.
عرف العصر الذي ظهرت فيه الأفكار الفلسفية التنويرية في فرنسا بأنه عصر الإيضاح، وفي ألمانيا سمي عصر التنوير، الذي هو في الأصل مصطلح انجليزي كان مرتبطاً بالانتلجنسيا " Enlihtenmen". وللتنوير كمصطلح فلسفي كثير من التعريفات جميعها تصب في سياق مفاده أن العلوم والثقافة والتنوير قادران على تعديل الحياة الاجتماعية، حيث تتولى العلوم المختلفة تطوير الجوانب العملية في المجتمعات، بينما الثقافة تطور المعارف والعقل والقدرة على التفكير المستقل.
الفكر التنويري يدعوا العقل للتمرد على حاله ليخرج من وضعية القصور التي تسبب له عجزاً عن الاستعمال الأمثل للعقل إلا بوصاية من آخر، وبهذا فإن الإشكالية لا توجد في العقل إنما في صاحب العقل نفسه الذي يتسم غالباً بالجبن أو الكسل أو الاتكالية، والذي يقبل بمبدأ الوصاية على عقله.
التاريخ البشري يعلّمنا أن الممالك – وربما الأمم أيضاً- تولد وتموت، مثل البشر أنفسهم، يولدون ضعفاء بلا حول ولا قوة، تشتد سواعدهم في مرحلة الشباب، ثم يُحسب لهم في مرحلة الرجولة، إلى أن ينتهي بهم العمر بالوهن والضعف والخرف في مرحلة الشيخوخة، التي نهايتها الموت الطبيعي الذي ينسجم مع صيرورة الحياة. وهناك أمم عظيمة لا تفنى. أوروبا التي نتغزل بمكانتها وديمقراطيتها وتنويرها الآن لم تخرج عن هذه القاعدة، وهي ذاتها التي كانت مستنيرة في العهد الإغريقي والروماني، ثم دخلت مرحلة الانتكاسة الفكرية في القرن الخامس، ثم عانت من العصر الظلامي بعد انهيار الحضارة الرومانية وانتشار الأفكار اللاهوتية، ولم تبدأ فيها مرحلة التنوير الحديث إلا في نهاية القرن السابع عشر في إنجلترا ثم في فرنسا وألمانيا وبقية الدول الأوروبية.

التنوير في المصطلح والمفهوم والدلالات
حين سئل الفيلسوف الألماني " إيمانويل كانت" عن التنوير قال بما معناه أن يتخلص الإنسان ومجتمعه من القصور العقلي، أي عدم المقدرة على قرارات دون موافقة الأوصياء على المجتمع، الذين يستفيدون من استمرار انتشار الخرافات والأفكار السطحية وأثرها على عامة الناس.
"كانت" نفسه كان قد أصدر عمله الشهير "نقد السبب النقي Critique of Pure Reason" في العام 1781 وهو من أهم المؤلفات في نقد الفكر الغربي، شرح خلاله "كانت" كيف يتفاعل السبب والتجارب مع الفكر والفهم.
كان "ديموكريتوس" الإغريقي " الجد الكبير لليونانيين" هو أول من قال بأهمية تحكيم العقل ونبذ الخرافات، إذ أنه شجع الناس على معرفة محاسن التشكيك بالأفكار القديمة لتحريرها من المفاهيم الوثنية لأنهم يخشون الآلهة.
التنوير كمصطلح فلسفي ظهر عبر افراد ومجموعات كحركة اجتماعية ثقافية فلسفية، تدعوا إلى استخدام العقل والمنطق في تفسير الأشياء، ونبذ الفكر الذي يعتمد على الخرافات، وكذلك رفض الوصاية على المجتمع الذي كانت تفرضه الكنيسة ورجال الدين. التنوير في اللغة هو النور والضوء، جعل الفكر متنوراً، تحرير العقل من الوهم أو الاعتقاد الخاطئ، وكذلك الإرشاد وتبيان الأمر على حقيقته.
دلالات مصطلح التنوير متعددة، أهمها تحرير العقل من أية قيود بهدف تطوير فاعليته، ومنها دلالات تشاركية مع المناهج والنظريات الفلسفية الأخرى، والتنوير هو أحد أهم الشروط لإجراء تغييرات في المجتمع لنقله من حالة التخلف والانغلاق إلى وضع يحقق فيه تقدماً حضارياً ينعكس بشكل إيجابي على واقع الناس. وهو مصطلح أكثر شمولية بدلالات معرفية ثقافية من مصطلح العقلانية الذي يمتلك دلالات معرفية.
هي العقلانية التي انتشرت في أوروبا في أواخر القون السابع عشر وخلال القرن الثامن عشر وأخرجتها من عقلية القرون الوسطى التي تهيمن عليها تعاليم الكنيسة، وأنظمة الحكم الملكي المطلق، وطبقة الإقطاعيين. والتنوير الذي حرر الإنسان الأوروبي عبر ثورات أدت إلى إقامة أنظمة حكم علمانية فيما يتعلق بموقفها من المجتمع، وهي أنظمة رأسمالية في تعاملها الاقتصادي، وهي ليبرالية في الموقف من الدولة ومؤسساتها، وبناء مجتمعات ديمقراطية. الفكر التنويري أعطى الأوروبيين درساً مهماً أن الواقع -أي واقع كان- قابل للتغيير إن توفرت الإرادة والكادر والظروف والرؤية، وأن الطبيعة – مهما كانت قاسية- يقهرها العلم والمعرفة.

ألم يعرف العرب التنوير؟
 التنوير التي كان له الفضل في إخراج أوروبا من ظلاميتها إلى عصر النور، حيث غلب العقل والمنطق الأفكار الخرافية، هذا التنوير لم يكن جديداً كلياً بظني، حيث أنه وجد كومضات قدرية تاريخياً، حيث يشهد التاريخ الإسلامي أن إخوان الصفا والمعتزلة طالبوا بتحكيم العقل وتقديمه على النقل في العصر العباسي. لكن التنوير في أوروبا والذي حصل في القرنين السابع والثامن عشر كان منظماً في حركة قوامها العلماء والفلاسفة والمثقفين، وترافق – وهذا الأهم- مع نهضة صناعية مادية ضخمة قطعت الحوار الذي كان جارياً لمصلحة التفكير العلمي ورفض الفكر اللاهوتي والخرافي والجدلي.
ولنا في تاريخنا نماذج، منذ تجربة المعتزلة الذين تناظروا مع الملحدين ومع أتباع بقية الديانات في احترام وفندوا أفكارهم بالحجة والدليل. مروراً بتجربة الأندلس وبروز مفكرين لمعوا في ميادين العلم والمعرفة "ابن رشد، ابن فرناس، ابن حزم، ابن عربي" الذين قدموا رسالة معرفية تجاوزت الدين والجنس والعرق واللون، حيث كانت رسالتهم للإنسانية جمعاء، وصولاً إلى روّاد النهضة العربية الحديثة مثل "رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التّونسي، وبطرس البستاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، وجمال الدين الافغاني، وغيرهم"، إلا أن الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت في المنطقة العربية بدءًا منتصف ثلاثينيات القرن العشرين أدت إلى كبوة المشروع النهضوي العربي، وانحسار الفكر التنويري.

التجربة التنويرية العربية الحديثة
في التجربة العربية لم يتكون تيار تنويري بمعنى المفهوم، ومعظم التنويريين العرب متمسكين في ضرورة وصل القطع التاريخي الذي يظنون أنه حصل في الماضي، قسم من التنويريين يؤمن بأن العرب لديهم تاريخ فيستشهدون بفكر المعتزلة ليعتزوا بأن الغرب ليس أفضل منا، وأظن أن هذه الإشكالية جعلت من مستقبلنا يتمترس خلفنا لأن بعض التنويريين العرب رغب في منافسة الفكر الغربي لكن بدون رؤية استشرافية، وهيّأت لظهور "التنوير الأصولي" الذي يستعين دوماً بكل ما هو قديم من أجل بناء الجديد، وكأن المثقف التنويري العربي يخشى الإبداع والمغامرة – زكي نجيب انتهى به المطاف أن ينشغل بالتراث- وكأن بعض الأسماء الحداثية لم تكن تستطيع أن يكونوا خارج إطار الفكر المحافظ – طه حسين أنكر كثير من الأشياء في الطبعة الثانية كان قد قالها في الطبعة الأولى من كتاب الشعر الجاهلي-.
حاول عدد من التنويريين العرب اختبار نظرياتهم الإصلاحية في الواقع، لكن ضمن ما هو متاح لهم، باعتبار أن أية محاولة للإصلاح الثقافي في العقلية والتركيبة النمطية سوف يعرّض جملة القيم الموروثة والمسلمات لدى المجتمع للهز البنيوي، وسوف يحتاج هذا الإصلاح إلى التصدي لكل ما يسبب الجهل والتخلف بالنقد والعمل على تقويمه وتغييره، مما يساهم في نهوض الواقع العام في هذا المجتمع أو ذاك.
العمل الإصلاحي يضرب البنية المحافظة وكل فكر جامد لا يستجيب للتطورات الطبيعية للسيرورة التاريخية. يجري هذا في إطار عمل تجديدي ابتكاري وإبداعي.

معركة شقاء
وبظني أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى فشل مشروع النهضة والإصلاح العربي هو تحول مفاهيمه وشعاراته وكوادره من الفكر البراغماتي إلى الفكر الأيديولوجي بهدف التصدي للمشروع الاستعماري الامبريالي الغربي، وذلك عبر أيديولوجية إسلامية تارة، وماركسية تارة، وقومية تارة أخرى، ثم انقسم المفكرون الإصلاحيون إلى فئة تبنت بالكامل الفكر والحضارة الغربية، وفئة أخرى رفضت بالكامل هذا الفكر، فأورثونا فشلاّ في التجربتين.
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لغاية يومنا هذا والجميع يتساءل عن أسباب انطفاء جذوة الحضارة العربية والإسلامية، وعن سبب هذا الانقلاب على تاريخنا لدى بعض النخب الفكرية العربية، والتهليل للتقليد وإشاعة الجمود الفكري والانحطاط الثقافي. والكل يبحث عن العوامل التي أدت إلى حالة من تكلس العقل العربي لدرجة تقديم استقالته من أي نشاط تفكيري. وكيف وصلنا إلى هذا الحال من الجهل والتخلف وحولنا الأمم تحقق إنجازات حضارية، وهناك من يتساءل عن عدم مقدرة القوى والأفكار التنويرية الحداثية حسم معركتها مع القوى المحافظة والأصولية.
نحن نعيد طرح هذه الأسئلة لأننا نؤمن بأن عقل الأمة لا بد أن يستعيد عافيته ورشده كي يتمكن من رسم مساراً جديداً مختلفاً كلياً بالمعنى التاريخي، ويعيد النظر في المسلمات سعياً لولادة نهضة تنويرية عربية حديثة.
ومن المفكرين العرب من يؤمن بأن المشروع التنويري العربي لم يفشل، بل تعثر وهو قادر على تجاوز عثراته، إلا أنني أظن أن الأسماء التي قادت الحراك التنويري في العالم العربي خلال القرن العشرين، وصل بها الحال إلى أن تنقسم على نفسها، تيار سلفي يؤمن بكل ما هو قديم منذ ظهور الفكر الإسلامي، ويرفض كل ما هو حداثي وعصري. وتيار تنويري يرفض كل ما هو قديم ويؤمن بالأفكار والقيم الحديثة، ويظن أن الحل هو في التمثل بالحضارة الغربية التي حققت رقياً وبنت حضارة عجزنا عنها. وبين هذين التيارين من المفكرين ضاعت الأمة وعاشت -ماتزال- في شقاء.

هل فشل المشروع التنويري العربي؟
إن بعض التنويريين العرب انشغلوا في الفكر النظري وغرقوا في التفاصيل، دون أية محاولات تطبيقية عملية لهذه الأفكار في الواقع المعاش. لقد كان المشروع التنويري العربي مشروعاً نخبوياً بالكامل، ولذلك ظل معزولاً ولم يتجذر في عمق المجتمع، وأبداً لم يتحول إلى مشروع شعبي لأنه افتقد الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية المناسبة، وظل ضمن دائرة ضيقة من المتنورين. لذلك نعم فشل التنوير في الوطن العربي، ولم تتاح للمثقفين العرب من تحويل الفكر التنويري إلى فكر جماهيري، حتى أن الفكر الاشتراكي فشل اليسار التقدمي في نقله وجعله قابلاً للحياة في مجتمعاتنا، وأظن أن التحديث والتقدم المادي في العالم العربي كان مفصولاً عن التطور العقلي، فعلى سبيل المثال قام العرب بإرسال الطلاب لتعلم العلوم المادية والتطبيقية والصناعية في الغرب، لكنهم لم يرسلوا احداً لتعلم الفلسفة، وهذا ما أدى إلى فشل مشروعهم المادي، لأنهم حاولوا -بمعرفة أو جهل- فصل العقل عن المادة.
يمتك العرب من الثروات ظاهرها وباطنها، ومن الكوادر العلمية والثقافية والاقتصادية ما يجعلهم في مكانة أفضل من الواقع الحالي، وتؤهلهم لمشاركة فاعلة ومهمة في بناء هذا العالم. لكن كما تعلمون فإن هذه الثروات في معزمها مهدورة ومبدّدة أو مقيدة، وهذا يفسر الفشل الذريع في نهضة المؤسسات الحكومية في معظم الدول العربية، هنا يظهر دور المثقفين وخاصة ذوي العقول التنويرية وثقافة قادرة على التغيير، فالإصلاح الثقافي هو حجر الاساس لأي إصلاح بنيوي شامل، وهو الذي يبني الدول ويضعها في طريق التطور الديمقراطي.
يمكن بناء العقل إما بالعودة إلى ما هو قديم لمحاولة إحياء ما يصلح من عناصر قديمة وإعادة صياغتها من جديد بشكل معاصر، بما يتلائم مع كافة المتغيرات التي أصابت العقل وبنا يتناسب مع المناخات والظروف الحالية في الواقع الراهن، والتي تختلف جذرياً عما كان عليه الحال حين لإن إنتاج هذا القديم. وإما بناء العقل من خلال العقل الحداثي الغربي، واستخلاص ما يتناسب منه مع الحال الراهن للعقل العربي، بحيث يمكن له الخروج من حالة الجمود والاستعصاء المزمن. أو من خلال الاعتماد على الإنتاج المعرفي الخالص لبناء العقل العربي، دون الاستعانة بفكر الآخرين، مع مراعاة الاحتفاظ بالعناصر والخصائص الموروثة الضرورية والتي لابد من التمسك بها لبناء عقل عربي يأخذ بالحسبان حقائق التطور والحداثة.

حالة عربية لا عقلانية
غياب الديمقراطيات العامة في الوطن العربي أتاح للعنف أن ينتشر، والعنف مظهر يؤكد غياب العقلانية في العلاقات، عدم مقدرتنا على تقبل فكرة الاختلاف لأننا نظن بامتلاك الحقيقة كاملة، وبالتالي تغيب المقدرة على إمكانية الاختبار طالما الحقيقة يمتلكها طرف ويحاول فرضها على الآخرين بالعنف. هذا يحصل في غياب شبو تام لدور المثقف العربي الحقيقي الذي يمتلك المقدرة على خدمة محيطه الاجتماعي بما يحقق تقدمه وتطوره في سياق رؤية إصلاحية، لكن حين يتحول المثقف إلى حالة هلامية تنضح نرجسية وأنانية فقل على البلاد السلام.
مناهج التعليم العربية التي تعتمد على التلقين وليس على تحريض العقل ومدارك الطلاب، هذه المناهج تقتل الإبداع والابتكار عند الطلاب العرب الذين يولدون أذكياء حتى يلتحقون بالمدرسة التي تقوم بعمليات تعليمية ترسخ الواقع العربي المقيت، بنمطية لا يمكن معها احترام فكرة الفردية والخصوصية في التعلم التي تنمي الخيال وتشجع على مقاربة علمية للتنافس بين الطلاب القائم على فكرة أنني حتى أتفوق فلابد من هزيمة الآخرين.
وظل الفكر التنويري العربي يحضر فقط في شعارات بعض المفكرين، وخطابات بعض المثقفين، وعلى شكل دراسات أكاديمية الغاية منها الحصول على درجة علمية، لكن هذا الفكر بقي مهملاً دون تطبيق ودون تجربة ومن غير توفير فرصة الاختبار.

فك اشتباك
بظني أن العرب على موعد مع الفكر التنويري الذ ي ما زال يتعثر، والحديث عن التنوير العربي يقودنا للتطرق إلى المشروع النهضوي العربي الذي غاب عن المنادين به أهمية ريط هذا المشروع بالمعرفة والعلم والعقل والتقنيات الحديثة، وعدم الاكتفاء بالتركيز فقط على العلاقة الاستهلاكية مع الغرب. إن قدرة العرب على ملامسة ملامح المشروع النهضوي الإصلاحي التنويري العربي تتوقف بشكل أساسي على حسم حالة الاشتباك القائمة بين السلفية والقيم التقليدية والنظم المحافظة، وبين قيم الحداثة والعصرنة والتطور، وهي حالة من الالتحام ما زالت قائمة ثقافياً وفكرياً وسياسياً في العديد من الدول العربية. لابد لنا من معرفة ذواتنا ومحيطنا وواقعنا بهدف إزالة كافة العقبات أمام مشروع إصلاحي عربي يحقق علاقة سليمة بين المواطن والنظام السياسي بما يضمن مشاركة المواطنين في إدارة شؤون حياتهم، ويوفر ممارسة ديمقراطية تحافظ على حقوق الناس الأساسية التي تم هدرها والتغاضي عنها طوال عقود من الحكم الاستبدادي في معظم الدول العربية، فلا سبيل إلا بالخروج من حالة الكبت السياسي، ومن وضع ثقافة الحاكم القسرية، ثقافة الاتباع والإلحاق والامتثال الجبري، ثقافة الخوف من السلطة ودفن الرؤوس في الرمال، ثقافة لا يمكن أن يكون عليه الحال أفضل مما هو عليه، الثقافة التي تشجع الأنانية والفردية وتضرب الانتماء للجماعة وللوطن. نحتاج إلى ثقافة مغايرة، ثقافة إبداعية تغييرية، ثقافة تسعى إلى تطوير القيم الأخلاقية والإنسانية، ثقافة تدعوا وتحترم حرية الاختيار، تحترم وتصون الحق في المشاركة والحق في الاختلاف دون خوف.
نحن أمام ثقافتين في الواقع العربي، ومن يمتلك سلاح العلم والمعرفة والاتصالات، من يمتلك الإنتاج الثقافي والعلمي والمعرفي، من يستطيع تطويع الأيديولوجيات في خدمة الثقافة وليس العكس، من يستطيع أن يجعل من الثقافة قيمة تخدم مصالح الناس وتطور مجتمعاتهم، من يمتلك هذا سوف يكون الطرف الرابح في معركة التجاذبات القائمة حالياً.

تفكيك الجدار هذا ما نحتاجه
المشروع التنويري العربي مازال ينتظر خلف جدار من المعيقات التي تمنع تحقيقه، وهي الجمود الفكري، والتكلس العقلي، سيطرة ثقافة النصوص وتراجع العقل التحليلي والاجتهادي إلى مراحل خطرة، أيضا من المعيقات الانغماس الفكري في التراث القديم لدرجة تقديسه وهيمنة الخرافة والاساطير على بعض العقول، وانتشار النزعات التواكلية واللا مبالاة مع تراجع مخيف للإبداع وللمبادرات الفردية، شيوع الأنانية والنرجسية لدى قطاع واسع من المثقفين العرب، تضخم بالنفاق الفكري والسياسي، وجود ثقافة تبريرية لكل شيء، انتهازية ثقافية وسياسية واجتماعية واسعة، غياب ثقافة المواطنة، لا وجود لدولة المؤسسات، وهيمنة المفاهيم والأعراف الاجتماعية والقيم العشائرية والطائفية والمذهبية على حساب القيم الوطنية والإنسانية والحضارية والقانونية، عدم تقدير الكفاءات في مختلف القطاعات، وانتشار المحسوبيات والواسطة، احتقار الإنتاج الوطني مهما علا شأنه وتقديس أي إنتاج وافد على بلادنا مهما صغر شأنه، شيوع نزعة التقليد للغرب في كل شيء دون معرفة ودراية بالثقافة الغربية، وجود ثقافة لا تحترم الموروث وتدعوا إلى تبني ثقافة الآخر دون شروط ودون مراجعة ودون احترام خصوصية واقعنا، ثقافة هيمنة القيم والأنماط الاستهلاكية وتفشي النزعات المادية والغرائزية، والأنانية المفرطة، والتحلل غير المفهوم والعشوائي من منظومة القيم المجتمعية.
نحن نحتاج إلى بناء مراكز أكاديمية ومراكز أبحاث كبيرة، لبناء المؤسسات التربوية والتعليمية الوطنية وعلى المستوى الجمعي، للبدء في بناء مشروع تنويري يقوم بتعزيز الشخصية الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية للأمة العربية، مشروع لا يستثني أحداً من مكونات المنطقة من مختلف الأعراق والطوائف والمذاهب، يساهم فيه الجميع على قدر واحد من الحقوق والواجبات، في بناء مستقبل يضمن العيش الكريم للجميع في دولة المواطنة التي لا تفرق بين أبناء الوطن الواحد.
إننا نحتاج إلى المثقفين الذين يؤمنون بالممارسة وليس الملامسة، للبدء بمشروع نهضوي عربي يعتمد النقل والعقل والعلم- بقيادة العلم-، يبني الدولة العصرية التعددية المؤسسية، والقضاء على الفكر المطلق والأيديولوجية الشاملة، معتدين على جيل عربي شاب قوي وذكي ويستعمل وسائل اتصال حديثة تطورت بشكل مرعب خلال ربع القرن الأخير. لذلك على المثقفين العرب والإصلاحيين والتنويريين الخروج من الغرف المغلقة والتخلص من والشعارات الخشبية كي يأخذوا دورهم المجتمعي الطبيعي في بدء حوار جمعي عقلاني حضاري هادئ بين جميع الأفكار لصياغة استراتيجية نهضوية جديدة، تكفل إعادة الاعتبار للعقل العربي وتوفر حياة كريمة لصاحب هذا العقل. فالدور المطلوب من المثقفين والمفكرين العرب اليوم هو لعب هذا الدور الريادي المهم في استنهاض جميع مقدرات الأمة، هذا الدور يقوم على المشاركة الحقيقية للمثقفين في التغيير، وعدم الاكتفاء برصد ومراقبة وملاحظة التطورات والمفاعيل التي تحدث في واقعنا العربي، خاصة في هذه الفترة الفارقة في تاريخ العرب، فإما نكون أو لا نكون.


116
أدب / أقطف سكون اليقظة
« في: 12:13 28/07/2018  »
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقي في الدانمرك

أقطف سكون اليقظة
 
1
في وتر أصابعي
أقطف سكون اليقظة
وأبحث عن صراخي
بخمسة أقواس
قبل أن ينزلق الغياب
إلى عمق الدروب

2
تقضم الرمال وجه الماء
وتتعثر الأشرعة
يشتد مخاض البحر
والزورق يفقد رشده
لكن وجوه العابرين
تغفو في عمق السكون

3
جوعى بلا خيل ولا طوفان
مثل اليتامى يستديم تعبهم
وخلفهم تقشر المرايا السوداء
قلب البلاد
وتنثر ملامح الضوء
على الطائرات الورقية

4
أمسكوا بالحجارة
ورجموها
ألقوا عليها صدأ الحكاية
وغواية الخوف
تواتر الناس والضرب
يتكور الجسد النحيل
يستلقي على الدماء
وجه قصيدة



5
منذ أن اشتدت
أشرعة النار
وسار موكب الحبق
صوب أقراط السواد
صرت أخشى المطر
والصبح أن يبصر
قلت أريد أن أنتظر
أن يغسل الليل صراخي
قالوا هذا ليس وجه القمر
إذا سألوك عن بحر سليمان
قل لا ماء فيه
وقل لم يمسه بشر
فإن نجا الفجر
واختزل الموسم مسافة العتمة
قل ما زال في ليلي سفر


6
يا مولاي
على ضفاف الوقت
تتلو الأغصان الثكلى
تراتيل الكتاب
يقيم الدراويش الطقوس الخضراء
وبقيتنا تطوف
حول سهم الريح المنكسر
قد كان للأحمر جبل
بسبعة بحور
لكن حين يمد النهر ظله
تقضم الغيمة رأسه
لا تبك يا مولاي
مازالت الشمس تستلقي
على البساتين
وجه رحيل
ومازالت السماء
في كل هبوط
تقفل أبوابها وتنام


117
أدب / موسم خارج الشجر
« في: 14:23 24/07/2018  »


موسم خارج الشجر


حسن العاصي

حين كان والدي شيخاً قوياً
لم أكن أعلم في فيض هبوب المطر
يذروني الفقد كالقفار
بلا ماء ولا كلأ ولا جدار
أن ساقيتي مبتورة
بقلبٍ يرقب مواسم الجفاف
وأنني كنت معلقاً من ساقي المجنونة
على درب السفر
ليس لي سوى حذاء كسيح
وفراشة ترابط قرب هامة الضوء
كنت أغفو مثل قط القرية
خلف قرميد الطاحون
حين تعلمتُ الخطو
انتصبتُ على ضفة النهر
كبتلة رمّان
تتعثّر بي فوانيس البيت
لتنجو من هلاك
تتآمر حماقتي ومكر الأشقاء
يكون نصيبي منها خيبات
تنبت صباراً فوق وسادتي
ويصبح خدي لوح تعليم
لسادة القوم
أجنحتي لم تألف ريش الأتقياء
فصرت ضالاً صغيراً منحرفاً
يستحق الجَلْد لمعصيته
لم أكن وجه والدي
فنصب لي كتاباً مقفلاً
أقرأُ فيه معلّقة الطاعة
صرتُ ألام كلما عانق
جسدي الطري السوط
ويكشف صراخي عورة القبيلة
تصبح المسافة بين الوجع والضلوع
طحالباً سوداء وأنفاً عنيداً
كنت أداوي بالأحلام ضعفي
في الغابة الكئيبة
أُطعم اصابعي لعصافير السرو
 أبحث عن وعد مغلق
كنت بسيطاً مثل الأطفال
وحزيناً مثل نوافذ الانتظار
أقام أبي الحدَّ عليَّ دهراً
لا أجنحتي أطلقتني
ولا دموعي طهرتني
لم أجد رملي
 في لون البستان ولكن
صادفني الشجن منكفئ على وجهه
حثَّ بي الخطى نحو ظمأ المروج
فما سر هذه العتمة الصغرى
ومن أين يأتي كل هذا اليباس؟
كنت مع والدي غريباً كسيحاً
في هذا الصقيع المتورّم
بقيت هنا غريباً إلا من بياض بليد
موسوماً على عزلة الحياة
تتسطّح الصور يا أبي
في المسافة بين عينيك واحتراقي
حتى يصبح الدرب رمادي البصر
لذلك هذا الحزن باقٍ
أعلّل الحزن بالحزن
ولا يترجّل قلبي
أنام ويظل مستيقظاً
ينادي في غفلة الأحلام
لا تلمني يا أبي
إذا ما ضاق غيمي
وتعثّر حقلي
أنا المنهك حد الخدر
أرنو إلى هامتك طفلاً
يحرس حلقات الضوء
أبصرُ خطّ النعش
وتعب العابرون
ولا أرى قبراً
يا أبي
من أين يبزغ الأرق؟
ولماذا تنتفض شروخ قلبي؟
وفي كل صدعٍ موطئاً لريح سوداء
هذا طيفكَ موشوم على ظلّي
يستمطر نحري متوثباً
حيث طفولتي المربكة تغتسل بالحمم
ضرير يا ربّي هذا الغيم
الرمل يطوف فيه والماء يغرق
والأحلام الصغيرة صارت
أفاعٍ بأجنحة يتعثّر الدرب بها
ما زلت أراكَ أبي في بقايا الأمس
حبلاً فاغراً حرابه يتأرجح
في كل ليلة تأتي في عتمة الوقت
تُطلق عصافير بحركَ
كيف لي أنا المنكسر بلا شاطئ
فارغاً كالعدم
أن أهدهد موجك الصاخب
لأنعتق من الخطايا
مثل نخيل الواحات
هكذا ذات عجاف
أغلق الشجر طيور التراب
وتعب البستان من عشبه
في حلكة العصف
رحل والدي إلى رقود طويل
لا زلت عند ازدحام الخطى قرب القبور
يخالط دمعي تراب المسافة
بين حنظل ضلوعي
وذاك الأفق المتدلي في الخلد
مثل قطوف لا تنتهي
أكرهكَ كنتُ وأحبكَ الآن
 وأعلم أنني واهن
وأن ليلي يختنق بقطرات تتدحرج
وغمّي لا يمضي
صرت أبكيك مرتين
ولا زال
 صباح وجهك يُبدي الاحتضار
لم يبقى يا أبي من الوقت
سوى موسم خارج الشجر
تتدلّى خطاه نحو كوة النور
كريحٍ حزينةٍ
بينها وبين سور المقبرة
موعد أغلق زمنه وظل ينتظر


118
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

اليمين الأوروبي المتعصب وسوسيولوجيا التطرف ..
هل تعود الفاشية؟

بالرغم من الانخفاض الشديد في أعداد المهاجرين واللاجئين الذين يصلون إلى إحدى بلدان الاتحاد الأوروبي خلال الشهور الأخيرة، حيث بلغت نسبة التراجع 94 في المئة عما كان الحال عليه في الأعوام الماضية وخاصة العام 2015 حين دخل حوالي مليونين لاجئ إلى دول الاتحاد كما صرح المسؤولين في البرلمان الأوروبي، إلا أن الضجة التي تثار حول ملف اللاجئين والمهاجرين لا تستكين، بل تحولت إلى قضية تجاذب سياسية بين مختلف الأحزاب الأوروبية يمينها ويسارها، وصلت إلى حد تحولها إلى أزمة باتت تهدد الوحدة الأوروبية ذاتها.
مع إن الدول الأوروبية فرضت قيوداً متشددة للحد من وصول اللاجئين إلى أراضيها بطرق غير شرعية، حيث تعتبر هذه الإجراءات هي الأشد والأكثر قسوة في تاريخ معالجة الاتحاد الأوروبي لهذه القضية، لكن هذا الملف تحول إلى مادة مثيرة لوسائل الإعلام المختلفة. ووجدت فيه الأحزاب اليمينية المتطرفة الذريعة التي تنتظرها كي توسع نفوذها وسط شرائح جديدة ومتعددة في المجتمعات الأوروبية، لأهداف انتخابية للوصول إلى البرلمانات، من خلال نشر ثقافة الخوف بين الأوروبيين من القادمين لسرقة وظائفهم، هؤلاء الوافدون من خلفيات عرقية وإثنية مختلفة وهو ما يهدد النسيج الاجتماعي ويشوه الهوية الثقافية الأوروبية كما يدعون، والمغالاة في تصوير الخطر القادم من المسلمين عبر توجيه خطاب عنصري شوفيني من قبل قادة الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا وهولندا وإيطاليا، واليونان والمجر وبولندا وبلغاريا وبلجيكا، وبصورة اقل في ألمانيا والسويد والدانمرك.
حزب الرابطة الإيطالي العنصري يدعو إلى طرد نصف مليون مهاجر غير شرعي من إيطاليا، ويرفع شعارات "لن تصبح إيطاليا مخيم اللاجئين الخاص بأوروبا" وقال زعيم الحزب "سالفيني" الذي يشغل حالياً منصب وزير داخلية إيطاليا موجهاً كلامه إلى سفن منظمات المجتمع المدني المنتشرة في المتوسط والتي تقوم بإنقاذ المهاجرين في عرض البحر أن هؤلاء المهاجرين "لن يروا إيطاليا إلا في البطاقات السياحية" ودعا إلى تشكيل رابطة أوروبية موحدة تجمع الأحزاب اليمينية العنصرية في أوروبا للدفاع عن "شعوب أوروبا وحدودها" كما قال. وبالرغم من الانتقادات التي وجهت له ولسياساته حول الهجرة أكد أنه لن يتراجع عنها.

ما هي حكاية اليمين
اثناء الثورة الفرنسية في العام 1789 وفي إحدى اجتماعات الجمعية الوطنية الفرنسية، تم استبدال الجمعية بمجلس تشريعي، فجلس الرافضين للتجديد والمؤيدين للملك والمدافعين عن الدستور على يمينه، بينما جلس على الجهة اليسرى مؤيدو الثورة والمجددون.
لكن مصطلح اليمين واليسار بمفهومه الأيديولوجي لم يظهر إلا في بداية القرن العشرين، حيث تبلورت المفاهيم السياسية وأصبحت تصاغ بطريقة ممنهجة. فأصبح اليساريين يصفون أنفسهم على أنهم "جمهوريين" وصار اليمينيين يصفون حالهم "محافظين". خلال الحرب العالمية الأولى التي بدأت في العام 1914 أصبحت جميع القوى والأحزاب الاشتراكية والجمهورية والراديكالية في الجلوس بالجهة اليسرى للمجلس التشريعي الفرنسي.
يتبنى اليمين عادة الخطاب المحافظ الذي يدعو إلى إصلاح متدرج، مع المحافظة على كل ما هو عناصر موروثة، ويؤمن اليمين أن هناك فروقات شخصية واجتماعية بين البشر، ويعتنق أفكار تحارب التجدد، وترفع شعارات حرية الأسواق والتجارة والملكية الفردية.
بينما اليسار يؤمن بمفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة، يعترف بالتقسيم الطبقي لكنه يناضل لأجل إلغائه، يدعو إلى التغيير والتجدد، وإلى وضع ضوابط لحركة الأسواق والتجارة.
اليمين ليس جميعه يميناً منسجماً، نجد اليمين إلى يمين الوسط واليمين المتطرف. يعرف عن يمين الوسط تبنيه لبعض السياسات الاجتماعية، وانفتاح محدود للتغيير في حدود ضيقة، إذ أنه ليس يميناً محافظاً بالكامل. فيما يتعلق باليمين المتطرف فإنه يغالي في خطابه الذي يعتمد في الأساس على مبادئ اليمين المحافظ.
أيضاً لليسار تصنيفات، هناك يسار الوسط الذي يتبنى بعض السياسات الليبرالية، واليسار الراديكالي الذي يؤمن بالصراع الطبقي وضرورة التغيير الجذري.
بعض المفكرين الغربيين يعتمد تصنيف الأحزاب الأوروبية إلى " شيوعية، اشتراكية، خضراء، ليبرالية، ديمقراطية مسيحية، محافظة، يمين متطرف" ارتباطاً بالموقف من ملكية وسائل الإنتاج، والموقف من الأوضاع الاجتماعية كمقياسين أساسيين. وهناك من يعتمد معايير تقسم الأحزاب بناء على موقفها من الفرد أو الجماعة، مثل " الليبرالية الفوضوية واليمين المسيحي"، إلا أن أكثر التقسيمات شيوعاً هي التي تعتمد على تصنيف اليمين واليسار والتفرعات بينهما.
اليمين المتطرف، هو ما توصف به بعض الأحزاب الأوروبية التي تتقاطع فيما بينها في عدة نقاط أهمها إظهار العداء للمهاجرين، وسعيها لوقف الهجرة إلى الدول الأوروبية، حيث أن هذه الأحزاب تعتبر ان هؤلاء المهاجرين يهددون الهوية القومية الأوروبية – وهذا الموقف يتعلق برؤية هذه الأحزاب للإسلام والمسلمين الذين لا يؤمنون بعلمانية المجتمعات الأوروبية- وكذلك يتهم هذا اليمين المهاجرين أنهم السبب الرئيسي وراء ارتفاع معدلات الجريمة وانتشار الجريمة، وأنهم يستغلون مزايا الرفاه الاجتماعي المتوفر في الدول الأوروبية دون أن يقدمون المقابل.
وتشترك هذه الأحزاب فيما بينها برفضها لسياسات الاندماج الأوروبية، وتعارض تشريع القوانين الديمقراطية الاجتماعية المدنية، وتدعوا إلى تخفيض الضرائب، والتشدد في العقوبات في مواجهة الجريمة، وهي لا تبدي اهتماماً بقضايا البيئة، ولديها موقف عدائي من الأقليات والأعراق الأخرى.

أهم الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة
 حزب الجبهة الوطنية الفرنسي:
بزعامة "مارين لوبان" ابنة مؤسس الحزب "جان ماري لوبان". الحزب تأسس العام 1972، وحقق في الانتخابات المحلية الأخيرة العام 2017 على ما نسبته 25 بالمئة من الأصوات.
حزب من أجل الحرية الهولندي:
أسسه المتطرف "جيرت فيلدرز" العام 2006 الذي أنتج فيلم "فتنة" المسيء للإسلام. حصل الحزب على 24 مقعداً برلمانياً من أصل 150 في انتخابات 2010، وله 5 مقاعد في البرلمان الأوروبي.
 الحزب الوطني الديمقراطي الألماني:
تأسس في العام 1964، وينشط في الولايات الشرقية، وفي العام 2013 تم تأسيس حزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي حصد سبعة مقاعد في البرلمان الأوروبي العام 2014. وظهرت حركة "بيجيدا" محتصر لاسم أوروبيين وطنيين ضد أسلمة الغرب.
 حزب الاستقلال البريطاني:
تأسس كحزب مناهض للاتحاد الأوروبي العام 1993 وهو معروف باسم "يوكيب". وحصل على مقعد في البرلمان البريطاني في العام 2014 ويتزعمه "نايجل فاراج".
حزب رابطة الشمال الإيطالية:
حزب سياسي إيطالي، يتطلع إلى فصل منطقة بادانيا بشمالي إيطاليا، معروف بنزعته العنصرية، وعداوته للمهاجرين. تأسس الحزب في العام 1989. معروف بعدائه الشديد للمسلمين.
الفجر الذهبي في اليونان:
حزب يوناني متطرف، اسسه " نيكولاوس ميخالولياكوس" في العام 1980، بدأ تنظيما نازيا وانتهى حزبا سياسيا له شعبية ومؤيدون. شكلت الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد أحد أسباب صعوده. وقد شن أعضاؤه ومناصروه مئات الهجمات على الأجانب في اليونان.
حزب الحرية النمساوي:
تأسس في العام 1956، له ماضي نازي، يتزعمه الفاشي "هاينز كريستيان شتراهي" المشهور بعدائه للإسلام والمسلمين، ويتبنى خطاباً نارياً ضد المهاجرين.

حزب أتاكا في بلغاريا:
أسسه "فولان سيديروف" في العام 2005. وهو حزب يميني متطرف، يعتبر أن الأقليات العرقية في بلغاريا – الأتراك، الرومز، الغجر- لا يستحقون مساواتهم مع المواطنين البلغار، ويعارض الحزب انضمام بلغاريا لحلف الناتو، وينادي بعودة الكنيسة ليكون لها دور أكبر في الحياة العامة. لديه سياسة معادية للمهاجرين.
حركة يوبيك في المجر:
وهي جماعية يمينية متطرفة تشكلت في العام 2015 في بودايست. تتبنى خطاباً عنصرياً متشدداً صريحاً ضد الهجرة وضد اللاجئين، يعادي الحزب كلاً من العرب والأفارقة والغجر، ويقول أحد زعماء الحزب "بالاش لاسلو" " يجب أن يأتي مجتمعنا العرقي أولاَ، لا توجد مساواة".
حزب المصلحة الفلاندرية في بلجيكا:
تأسس في العام 1979 ويطالب في انفصال إقليم "فلاندريا" في بلجيكا، يتمدد ويحقق نجاحات في الانتخابات البلدية. الحزب يميني قومي متعصب، يعادي اللاجئين ومعادي للإسلام والمسلمين.
وحزب اليمين الجديد في بولندا:
حزب يميني قومي عرقي تأسس العام 2016، ويطالب بولندا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، يدعو لإعادة عقوبة الإعدام، يرفع لافتات عنصرية واضحة مثل "أوروبا البيضاء" و "الدماء النقية". حزب معادي للمهاجرين وللأقليات.
حزب الأحرار في النمسا:
يرفع شعار "النمسا أولاً". حزب يميني قومي عنصري متطرف، ". تأسس العام 1956، يتبنى الحزب ايديولوجية معادية للمهاجرين وللإسلام.
حزب الشعب السلوفاكي:
تأسس العام 1991 باسم الحركة الديمقراطية لأجل سلوفاكيا، وفي العام 2014 أصبح اسمه حزب الشعب. حزب قومي يميني متطرف معادي للمهاجرين واللاجئين، يعادي الإسلام والمسلمين، يعادي الولايات المتحدة الأمريكية واليهود، يرفع شعار شهير "حتى لاجئ واحد فهو كثير". حلف الناتو يصفه بالمنظمة الإجرامية.
 

 
حزب الديمقراطيون السويديون:
تأسس الحزب في العام 1988. حزب يميني قومي اجتماعي محافظ، أسسه مجموعة من اليمينيين المتطرفين. تصاعد خطابه العنصري خلال السنوات الأخيرة. معادي لسياسة الهجرة واللجوء. يرفع شعار " فلتبقى السويد سويدية".
حزب الفنلنديون الحقيقيون
الحزب تأسس في العام 1995، وهو حزب يميني قومي محافظ، ينتقد سياسات الاتحاد الأوروبي، يدعو إلى إقامة دولة الرفاه في فنلندا، ويتبنى سياسة صارمة لتقييد أعداد اللاجئين. رغم أن شعاراته تبدو يسارية في الجوانب الاجتماعية، إلا أنه سياساً حزب قومي لا تخلو بعض مواقفه من العنصرية.
حزب الشعب الدنماركي:
تأسس الحزب في العام 1995. وبدءًا من انتخابات العام 2005 أصبح الحزب ثالث أكبر الأحزاب الدانمركية. هو حزب قومي يميني محافظ، تستند سياسته على رفض مجتمع مهاجر في الدانمرك، ولا يرى أن الدانمرك قابلة كي تتحول إلى مجتمع متعدد مثل الولايات المتحدة الأمريكية. يعادي اللاجئين والمهاجرين، ومعادي للإسلام والمسلمين، لكنه لا يعتمد خطاباً شوفينياً مثل بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية الأخرى. يعارض سياسة الاتحاد الأوروبي ويتمسك بالعملة الوطنية.

العوامل التي أدت إلى اتساع نفوذ اليمين المتطرف
شهدت الفترة التي تلت انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فراغاً أيديولوجياً عبّد الطريق أمام انتعاش أحزاب اليمين الأوروبية التي دعت بقوة إلى الخصوصية القومية الأوروبية، ومثلت الخط الراديكالي للغضب الذي ساد وسط قطاعات واسعة من المواطنين الأوروبيين، من عجر حكوماتهم حل المشاكل الاقتصادية، ومعالجة الفساد والهجرة غير الشرعية، لذلك بدأ الناس يصوتون لهذه
الأحزاب اليمينية خلال الانتخابات البلدية والبرلمانية، لأنها كانت ترفع شعارات تعكس سخط الناس.
ثم واجهت الحكومات الأوروبية الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بعجز لأدى إلى اتباع سياسات تقشف اقتصادية طالت جميع مرافق الحياة، وتراجعت الدول الأوروبية عن تمويل كثير من برامج الخدمات الاجتماعية، وتسريح عدد كبير من الموظفين العموميين، وتقليص النفقات في قطاعي التعليم والصحة. وبنتيجة الأزمة انخفضت مستويات النمو في هذه الدول إلى أدنى مستوياتها، وارتفعت نسبة البطالة ووصلت في بعض البلدان مستويات خطيرة مثل اسبانيا 24 في المئة وبطالة في اليونان بنسبة وصلت 26 في المئة، الأمر الذي نتج عنه التفريط بحقوق العمالة الوافدة إلى بلدان مثل اسبانيا وإيطاليا، وازدياد أعداد اللاجئين بصورة لم تعهدها القارة الأوروبية من قبل بسبب الأزمات المشتعلة في الجانب الأخر من المتوسط، ومناطق أخرى في العالم، تعمقت مشكلة البطالة، وارتفعت قيمة المصاريف العامة لدى هذه الحكومات بسبب تدفق اللاجئين، والنظر لهم باعتبارهم عمالة بديلة اقل تكلفة من العمال الأوروبيين، وهذا شكل حالة عامة من السخط والتذمر لدى قطاعات واسعة من الأوروبيين.
في ظني ان السبب الأهم في اتساع شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية يعود إلى استخدامها خطاباً تهويلياً يمس الجانب الأخطر في العقلية الأوروبية، وهو الجانب الثقافي الذي تحسن توظيفه لاستقطاب قطاعات واسعة ومتزايدة من الشارع الأوروبي، من خلال الترويج لمفاهيم "الخطر الإسلامي" و "أسلمة أوروبا" و "العرق الأبيض" و "أوروبا للأوروبيين" إلى الكثير من الشعارات التي تستخدمها هذه الأحزاب كفزاعة وخطر يهدد أوروبا وخصوصيتها العرقية والثقافية، التي يهدد وجودها المسلمين والفكر الإسلامي المعادي للمرأة، ويشكل حاضنة للفكر المتطرف الذي يجاهر بالعداء للثقافة الأوروبية العلمانية. هكذا ينتشر فيروس "الإسلاموفوبيا" من مدينة إلى أخرى وتنتقل العدوى من دولة إلى أخرى في الاتحاد الأوروبي، وتجد لها جسداً قابلاً لاحتضان المرض تمثله الدول الاستعمارية "بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا" الأكثر بغضاً للعرب والأفارقة وللدين الإسلامي، عداء متجذر في التاريخ الغربي منذ الحروب الصليبية.

هل مخاوف الغرب مشروعة؟
وفي واقع الحال ينتمي معظم المهاجرون المسلمون في أوروبا إلى شرائح اجتماعية فقيرة في بلدانها الأصلية، ومتدنية التعليم نسبياً خاصة الجيل الأول من المهاجرين، هذا تسبب في عدم امتلاكهم وعياً سياسياً، وغاب عنهم أهمية تنظيم أنفسهم في أطر سياسية ونقابية في مجتمعاتهم الجديدة. ثم أن المهاجرين العرب والمسلمين هم أكثر الجاليات نمواً في عدد زيادة المواليد، ويعتبر الدين الإسلامي هو الدين الأكثر انتشاراً في الغرب، وهناك عامل آخر يتمثل في التصرفات والمفاهيم المتطرفة لبعض المهاجرين واللاجئين، كل هذه العوامل ساهمت في سهولة ترويج الخطاب العنصري للأحزاب اليمينية الأوروبية التي تصور أن المهاجرين والفكر الإسلامي هما مصدر التهديد الحقيقي للقيم الأوروبية العلمانية الثقافية والقومية.
تستغل الأحزاب اليمينية في أوروبا الأوضاع الاقتصادية الصعبة للنفخ في نار العداء للمهاجرين، وتستخدم هذا الملف في الضغط على الاتحاد الأوروبي لإصدار تشريعات تحد من الهجرة، وتعتبر هذه القضية فرصتها لتعزيز أوضاعها الانتخابية على حساب الأحزاب التقليدية. هو ما دفع المستشار الألمانية "ميركل" للقول إن " ملف الهجرة وتضخيمه ونشر الخوف منه أصبح يشكل تحدياً لقيم القارة الأوروبية وتماسكها".
وتدعو ألمانيا إلى عدم المقاربات الأحادية الأمنية في معالجة المشكلة عبر إغلاق الحدود، وضرورة إجاد حلول جماعية. وتم تقديم اقتراحات لترحيل المشكلة من أوروبا إلى دول العبور في الشمال الافريقي " المغرب، ليبيا، مصر، تونس، السودان" إلا أن هذه الدول ترفض إقامة معسكرات استقبال اللاجئين في أراضيها.
نعم لأوروبا مخاوفها المشروعة من الهجرة غير الشرعية إليها، لكن لا يمكن لجميع الحلول السريعة والآنية أن تعالج مشكلة بهذا الحجم. لا بد من إجراء مقاربات تفضي إلى معالجة جذور المشكلة، وإطفاء الحرائق المشتعلة في أكثر من مكان في العالم حول القارة العجوز، ولا بد لهذه الدول الأوروبية من تحمل مسؤولياتها التاريخية كدول مستعمرة في القيام بمبادرات جدية في مناطق الكوارث والفقر لمساعدة هذه الشعوب على نهوض يغنيها عن المغامرة بأرواح أبناءها لأجل الوصول للقارة البيضاء.

ربما لن نجد يميناً ولا يساراً
إن ما يثير المخاوف أن الأحزاب الوسطية اليمينية واليسارية قد تعلن انحيازها إلى جانب الأحزاب اليمينية المتشددة إذا استمر صعودها، وإن تواصل نجاحها في تحقيق توسع واستقطاب شرائح انتخابية جديدة. الواقع الحالي يشير إلى وجود بضعة أحزاب يمينية شعبوية يمكن احتوائها والحد من تداعيات خطابها المتشدد عبر تسويات سياسية عادة تكون -للآن- لصالح أحزاب الوسط والأحزاب التقليدية التي تشكل الأغلبية الحاكمة. لكن ماذا لو زادت نسبة التطرف في الشارع الأوروبي، فإن ذلك سوف يميل لمصلحة الأحزاب المتطرفة، التي كلما حققت نجاحاً فإن هذا سوف يعني تراجعاً للأحزاب التقليدية، وهكذا سيكون الحال في منحى لا نعلم عن ماذا سيسفر.
وربما يؤدي إلى سقوط التصنيف التقليدي بين يسار ويمين، ذلك أن الكثيرين يعيدون صياغة أولوياتهم في ضوء التطورات المتسارعة الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها أوروبا في ربع القرن الأخير. إن الفاعلين في المشهد السياسي الأوروبي في السنوات الأخيرة هم القوى والأطراف والأحزاب التي تؤمن أكثر فأكثر بأفكار القومية والاعتزاز بالماضي والانغلاق والتعصب على حساب العلمانية والانفتاح والتسامح. إنه حنين إلى الماضي المثالي "نوستالجيا سياسية" تكتسح أوروبا. فمن يصنع المشهد الحاضر الأوروبي هم من الغاضبين على الأوضاع السيئة، والحانقين على النخب السياسية الحاكمة التي أصيبت بالرعب من هذا القادم، وكل انتخابات بلدية أو نيابية قادمة في أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي سوف تكون مناسبة لقياس درجة خطر هذه الأحزاب العنصرية الفاشية البغيضة.
في نتائج مسح أجرته مؤسسة "يوغوف" في العام 2016 حول مناعة المجتمعات الأوروبية ضد التطرف، وشمل 12 دولة أوروبية، نلاحظ على سبيل المثال مناعة ضعيفة لدى الفرنسيين حيث أظهر الاستطلاع ما نسبته 63 في المئة من الفرنسيين يؤيدون أفكار اليمين المتطرف. في حين كانت النسبة في بريطانيا 48 في المئة. أما في هولندا فالمناعة ليست بخير أيضاً، حيث بلغت نسبة من يدعم الأفكار اليمينية 55 في المئة.

أسئلة مبررة
كانت الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعرضت لها أوروبا على إثر الحرب العالمية الأولى السبب الرئيسي وراء وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة والفاشية والنازية إلى سدة السلطة، واتسم حكمها بالشمولية مع ازدياد النعرات القومية والإثنية في أوروبا. إذ وصل الحزب الفاشي الإيطالي إلى السلطة العام 1922 نتيجة استنزاف الاقتصاد الإيطالي خلال مشاركتها في الحرب العالمية الأولى، ووصل الحزب النازي للحكم في ألمانيا العام 1933، بسبب أزمتها الاقتصادية والمالية، حيث كانت مطالبة بدفع تعويضات كبيرة للدول التي ربحت الحرب العالمية الأولى.
ترافقت الأزمة الاقتصادية في أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، مع عدم وجود أحزاب قوية، وحاجة الناس إلى انتخاب أحزاب تعيد الاعتبار للعرق الآري في ألمانيا ولعظمة إيطاليا، وهما الفكرتان الرئيسيتان اللتان استند إليهما الحزبان النازي والفاشي.
تماماً كما نشهد اليوم من تدهور اقتصادي في العديد من البلدان الأوروبية، وانخفاض معدلات النمو، ارتفاع معدلات البطالة، ضعف أداء الأحزاب الحاكمة اليسارية واليمين الوسط، المشكلات التي يسببها التعدد الثقافي والعرقي والإثني، زيادة غير مسبوقة في أعداد اللاجئين، الإرهاب وحرص الناس على أمن مجتمعهم، تنامي العداء للمسلمين وللفكر الإسلامي. ألا يعني هذا أننا مقبلون على مرحلة جديدة من مراحل حكم اليمين المتطرف العنصري والفاشي والنازي، تماماً كما حصل عقب الحرب العالمية الأولى؟
إن حالة الاشتباك القائمة حالياً في أوروبا حول ملف الهجرة لا تخدم سوى نمو الأحزاب والحركات اليمينية العنصرية المتطرفة، واتساع رقعتها وتأثيرها وسط عامة الأوروبيين، واشتداد خطابها المعادي للمهاجرين واللاجئين، فمن يضمن عدم حدوث اصطفاف مضاد؟


119
أدب / درب الأراجيح مغلق
« في: 20:41 15/07/2018  »
        حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

          قصيدتي "درب الأراجيح مغلق" نقلها إلى البلغارية الأديب خيري حمدان                   

                                 درب الأراجيح مغلق      
1
لا فطام للغابة الحافية
من جنون المطر
يغسل خطايا الشجر
حين استيقظت عصافير الصباح
أغلق الغيم نوافذه
ونام
2
كيف للمنكسر على أعتاب الحقول
أن يقبض على أحلام موصدة
تسقط فوق البيادر
أوراق ظمأى
تذروها الريح الحزينة
3
يتدحرج صدر الحزن
في حكاية الجدة
موحش هذا الغياب
تتكور الطفلة فوق صورة الأم
مازال قلبها صغير
جداَ صغير
4
قد بلغ الاحتضار بذرة الحياة
يرشح شجر السنديان
بخار أصفر
قال لها أعينيني على الوَرَعِ
قالت
كيف نراوغ الطيف المتعرج
في نافذة الموت
ونحن عراة
أخشى أن أفقدك
5
لا شيء يختم سفر الانشطار
لا تراتيل التكوين
ولا رقص الدراويش
المدينة أغلقت الصلاة
لتتكاثر الأكفان
6
تفاصيل الحزن
ويدك المنزّهة عن أوجاعي
يقتحمان ثرثرة القصيدة
وعربة الدموع التي داهمتني
شيّعتني على أكف الصمت
6
جنائز الغرباء
على بعد طفولة
من باحة البكاء
نعش يسترق الحياة
لكن
درب الأراجيح مغلق
7
المواسم كئيبة
والحقل حزين
خلف السور تسير قوافل الجوع
يوشك المطر أن يرتبك
 




درب الأراجيح مغلق

Пътят на люлките е затворен
1
Не се отбива босата гора
от неистовия дъжд, който
измива греховете на дърветата.
Когато сутрешните врабчетата
се събуждат,
облаците заключват прозорците си
и заспиват.
2
Възможно ли е сломеният
човек,
на прага на простора,
да държи заключени сънища?
Жадни листа
падат върху градините,
печалните ветрове ги разхвърлят.
3
Преобръща се ликът на тъгата
в бабината приказка.
Това отсъствие е коварно.
Свива се момичето върху
майчината снимка,
все още сърцето й е малко,
прекалено малко!
4
Агонията достигна жизнените
семена.
Дъбът сълзеше жълта пара.
Помоли я да му помогне да
остане искрен.
Тя му отговори:
Как да надхитрим този
обърнат спектър, който
нахлува от прозореца
на смъртта,
а ние сме голи?
Страх ме е да не те изгубя.
5
Нищо не може да подпечата
паспорта на разделението.
Липсват химните на сътворението
и танците на дервишите.
Градът не е годен за молитви.
Нека да се множат саваните!
6
Детайлите на тъгата
и ръката ти, неомърсена
от моята болка,
нахлуват в същността
на стиха,
а кола със сълзи
лети срещу мен.
Изпраща ме върху дланта
на смъртта.
7
Погребенията на чужденците –
на едно разстояние от детството
и от площадката на плача.
Ковчегът открадна живота,
но...
пътят на люлките –
затворен!
8
Сезоните са отчаяни,
празненството е тъжно.
Зад оградата вървят
керваните на глада.
Дъждът, дезориентиран
е на път да се обърка!





120
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


الطغيان الأمريكي .. استذئاب للاستحواذ

مع انتهاء الحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين الرئيسيين في العالم، المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وقوتهم الضاربة "حلف الناتو" من جهة، وبين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق وجناحهم العسكري "حلف وارسو" من جهة ثانية، في بداية التسعينات من القرن الماضي، بانهيار الاتحاد السوفييتي وحصول دوله على استقلالها، إذ أصبحت دولاً بذاتها بعد أن كانت جزء من امبراطورية استمرت عقوداً. نهاية الحرب هذه أفضت إلى وضع بدأت تتشكل معه معالم الشكل الجديد للعالم ذو القطب الواحد المتمثل بالرأس الكبير وهو الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى الأكبر اقتصادياً وعسكرياً .

غواية الاستبداد
تميزت هذه الفترة وحتى نهاية ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، بالغطرسة الأمريكية والعربدة، كقوة انفلتت من عقالها، وظهرت الولايات المتحدة في صورة الدولة الزاهية التي انتصرت على الظلام، وبدا رئيسها كسيد لهذا العالم، يريد نشر وتعميم الثقافة والقيم الأمريكيتين، وتميزت الفترة أيضاً إضافة إلى كونها أضحت أحادية القطب، في غياب مبدأ الحوار بين الشعوب والدول، هذا بسبب أن سيدة العالم -الولايات المتحدة- تستطيع أن تفرض الإملاءات والشروط على الآخرين دون حوار لأنهم لا يملكون القوة التي تمكنهم من مقاومة النموذج الأمريكي، وبالتالي فإن الولايات المتحدة لم تكن تلجأ إلى الحوار إلا عندما تواجه صعوبات في تشكيل العالم كما تبتغي.
استيقظ العالم على قدر بدا وكأنه لا مفر منه، وبدأت مرحلة أمركة العالم سواء عبر وسائل الإغراء او بواسطة العنف. إما عبر تصدير السلع والمنتجات الأمريكية إلى العالم، وبالتالي الاستحواذ على الأسواق العالمية وخاصة الناشئة منها، ونشر الثقافة الأمريكية وإظهار النموذج الأمريكي الأفضل للعيش الرغيد، وبالتالي بسط السيطرة الفكرية على مناطق متعددة، وشعوب متنوعة، أو عبر الاحتلال والقوة العسكرية، فما هو مهم لدى الإدارة الأمريكية هو تحقيق النتائج، حتى لو كان عبر التدخل الوقح في شؤون الآخرين، واللعب على التناقضات بين الأطراف في المناطق الساخنة في هذا العالم، وبالتالي بسط الهيمنة على العلاقات الدولية، وتسخير مقدرات الكون لمصلحة الإمبراطورية الأمريكية .¨

عربدة التسعينيات
لقد كانت القوة العسكرية الأمريكية في التسعينات غبر مسبوقة، فالإنفاق العسكري الأمريكي كان يزيد عن إنفاق عشرين دولة متطورة، وما أنفقته على البحث العلمي يعادل إنفاق العالم كله، وهي القوة الاقتصادية الأكبر في العالم، رغم تراجع نصيبها في التجارة الدولية عمّا كان عليه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي .
وبالرغم من كل هذه القوة فشلت الولايات المتحدة في فرض إرادتها المطلقة على عالم التسعينات، ولم تنجح في تحويل عالم القطب الواحد ينصاع إلى إرادة القطب الواحد، بسبب رفض العالم تحكم قوة واحدة في شؤونه، أيضاً لأن مقياس التحكم والقيادة لم يعد ينحصر بالأساطيل، بل في مصداقية السياسة والالتزام بالقيم المشتركة بين شعوب العالم. فقد خرجت الولايات المتحدة من فترة الحرب الباردة متسلحة بأيديولوجية الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها في ذات الوقت استمرت في حصارها غير المبرر لكوبا، وتنكر واضح للحقوق الفلسطينية.
 وما أن ختم كلينتون ولايته في نهاية التسعينات، حتى كانت سياسة العولمة الاقتصادية غير العادلة التي قادها، قد أدت إلى انهيار الاقتصاد الاندونيسي، وإلى تراجع خطير في اقتصاديات دول شرق وجنوب شرق آسيا، وإلى إفلاس الأرجنتين، وتراجع متسارع في اقتصاد جميع دول أمريكا اللاتينية .
المناطق الوحيدة التي لم تتأثر نسبياً من دكتاتورية العولمة الأمريكية هي دول أوروبا الغربية، والصين التي لم تكن قد انضمت إلى منظمة التجارة العالمية، واليابان عملاق الثمانينات المرعب هوت إلى مرحلة من عدم التوازن الاقتصادي .
التسعينات حملت معها أيضاً فشل أمريكي تدلّل عليه على سبيل المثال، الانفجارات التي حصلت في منطقة البلقان، وصمود كوبا في وجه استمرار الحصار الأمريكي، وتحول الصين إلى قوة لا يستهان بها في الاقتصاد العالمي، استمرار كوريا الشمالية في برنامج التسلح وإطلاقها صاروخ تجريبي فوق اليابان، وانهيار اتفاق أوسلو ومعه انهار وهمُ تغيير وجه الشرق الأوسط الذي أطلقه الرئيس الأمريكي كلينتون .

تطرف المحافظين الجدد
ومع وصول الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض في بداية عام 2001، لم يكن أحد من أفراد طاقم الرئاسة يختلف حول ضعف الموقف الأمريكي، لكنهم كانوا منقسمين في الموقف حول الآليات التي يجب اتخاذها في معالجة هذا الضعف .
فقد ظهر صوت قوي من داخل الإدارة الأمريكية يدعو إلى انسحاب أمريكي محدود من الشأن الدولي، وصرف النظر عن مشروع العولمة، والدفاع عن المصالح الأمريكية الاقتصادية في مواجهة الإجماع العالمي، وتعزيز القدرات العسكرية الاستراتيجية لمواجهة التحديات المحتملة .
لكن هجمات الحادي عشر من أيلول-سبتمبر- عززت نفوذ أنصار الخيار الثاني، خيار الانتشار الأمريكي الإمبريالي في العالم، وفرض الإرادة الأمريكية بالقوة المجردة إن اقتضى الأمر.
وما حصل أن سياسة بوش الخارجية كانت في الحقيقة انتهت إلى اجتماع الجوانب الأسوأ في الخيارين، فأعلنت الحرب على أفغانستان عام 2001 وعلى العراق عام 2003، بذريعة مكافحة الإرهاب، واستمرت الولايات المتحدة في الاستهتار بإرادة المجتمع الدولي في مواضيع كثيرة، منها قضايا البيئة، المحكمة الجنائية الدولية، اتفاقات الحد من الأسلحة الكيمائية، وحتى فيما يتعلق بالتجارة العالمية التي صاغت قواعدها الولايات المتحدة في الأصل لم تحترمها، وأبدت الإدارة الأمريكية استهتاراً ملحوظاً بالأمم المتحدة وشرعية القرار الدولي، ومضت في استفزاز القوى العالمية بتطوير حائط الصواريخ البالستية بعيدة المدى، ونشرت عشرات الآلاف من قواتها في أماكن متعددة من العالم، وقامت باحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين، وتحكمت في مصادر العراق النفطية .
حاولت هذه السياسة في عهد الرئيس جورج بوش تحقيق ما عجزت إدارة الرئيس كلينتون عن تحقيقه خلال عقد التسعينات، وقد ظهرت مع وصول بوش الابن إلى البيت الأبيض تحولات في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، بأن اعتمد في إدارته على مجموعة من المفكرين الذين لا ينتمون إلى أي حزب لكنهم يمثلون مراكز الدراسات الاستراتيجية، فكانت حقبة بوش الابن هي المرتع والمناخ الملائم الذي احتضن أفكار - المحافظين الجدد- الذين استطاعوا السيطرة على الرئيس الأمريكي طوال فترة رئاسته، واستغلوا أحداث الحادي عشر من أيلول للترويج لنظرية الأمن القومي التي تعتمد على الاستخدام المفرط للقوة العسكرية، وفرض توجهاتهم المتطرفة على مخططي السياسة الخارجية الأمريكية، وكانت أهم ملامح هذه السياسة المتشددة إعلان الحرب على الإرهاب كأولوية للسياسة الخارجية الأمريكية، وظهر مبدأ ابتدعه المحافظين الجدد باسم "الحرب الاستباقية ضد عدو محتمل" فتم إعلان الحرب على أفغانستان عام 2001 للقضاء على حركة طالبان، وتم احتلال العراق عام 2003 بذريعة امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل، وتم تشجيع إسرائيل لشن عدوانها على لبنان عام 2006 للقضاء على حزب الله، ومن ثم أرسلت الولايات المتحدة قواتها العسكرية إلى الصومال عام 2005 لدعم أمراء الحرب ضد المحاكم الإسلامية، وفي عام 2008 سعت الإدارة الأمريكية إلى محاولة بناء درع دفاع صاروخي في بعض الدول الأوروبية المحاذية لروسيا، وأدت إلى اشتباكات دموية بين روسيا وجورجيا بشأن أبخازيا وأوستيا، واستخدمت الولايات المتحدة القوة المفرطة في أماكن متعددة، وحاولت تفعيل نظرية المؤامرة ضد أنظمة حكم في بلدان أخرى ادعت إدارة بوش أنها دول معادية لأمريكا مثل إيران وسورية والعراق وكوريا الشمالية وفنزويلا وغيرها من الدول، ومن أجل تحقيق هذه السياسة تكبدت الولايات المتحدة أعباء مالية ضخمة، وأدت إلى آثار سلبية تم إلحاقها بالاقتصاد الأمريكي، وأدت إلى أزمة مالية بدأت في العام 2008 ألحقت أضراراً بالاقتصاد العالمي، ومازالت آثارها مستمرة حتى يومنا هذا .

بيت الطاعة الأمريكي
كل هذا ينطلق من النظرة الأمريكية إلى العالم على أنه عبارة عن أقاليم متمردة يجب إعادتها إلى بيت الطاعة، واتبعت الإدارة الأمريكية الفاوستية روحها الشيطانية لتغيير العالم كما تشاء، وكان لابد من وجود الآخر الذي على خطأ تماماً، ليوحي للقطب الأوحد بجدوى وجوده، وتصرفت الولايات المتحدة كعصابة في خضم الأحداث المتلاحقة في فترة الرئيس بوش، وليس كدولة، إذ أنها انفلتت من عقالها وأصبحت خارج اي قانون، فبدلاً من الجهد الجماعي العالمي والمنظم لمكافحة الإرهاب وأسبابه، انفردت أمريكا بإعلانها وخوضها لحروب على أعداء قد لا يكونون بالضرورة أعداء حقيقيين للعالم بأسره .
السؤال المهم هنا والذي يدعو إلى التأمل هو السؤال التالي: ما الذي جعل الولايات المتحدة تفقد عقلها على أثر انهيار برجي نيويورك ؟ هل بسبب سقوط ضحايا أم أنه خدش هيبة الاستبداد؟
مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة لا تهتم بسقوط آلاف الضحايا، إذ أن القيم لا تتجزأ، فهو ذات النظام الذي قتل عشرات الآلاف في العراق وأفغانستان وغواتيمالا وتشيلي وفيتنام وبنما وجرينادا. إن دولة كهذه ليست معنية بالضحايا الذين سقطوا بسقوط برجي التجارة، إنما ما يعني هذه الدولة هو المس بهيبتها وغطرستها، وما يمثله هذا السقوط من اعتداء على الرمزية التي يعنيها هذان البرجان من جنون العظمة الأمريكية .
انتهت مرحلة جورج دبليو بوش الذي كان أكثر الرؤساء الأمريكيين تطرفاً وصلفاً على صعيد السياسة الخارجية، وأوصل العالم إلى أقصى درجات التوتر والاحتقان غير مسبوقة خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بسبب السياسات العليائية والعدوانية المخالفة للقوانين الدولية، إذ لم تعرف أمريكا والعالم كذباً ونفاقاً سياسياً كما عرفته في عهد الرئيس بوش الذي ودع البيت الأبيض بفوز الرئيس أوباما في الانتخابات الأمريكية عام 2008 على وقع الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تسببت بها إدارة بوش، وكانت إدارة أوباما بمثابة إدارة لخروج الاقتصاد الأمريكي من مغبات هذه الأزمة ووضع الخطط للحد من تداعياتها.

الادارة الهزيلة
خلال السنوات الأولى من فترة رئاسة أوباما كان يحاول أن يحقق أهداف سياسته الخارجية باعتماده بدرجة كبيرة على مبادراته الشخصية، وشعوره بأهمية عامل الوقت، إذ قام بإعداد جدولاً زمنياً لانسحاب القوات الأمريكية من العراق، وحدد بعض السياسات لإنهاء حرب الاستنزاف في أفغانستان، وحاول أوباما أن يتشارك العالم مع أفكاره خلال فترتيه الرئاسيتين، لكنه يبدو أنه اكتشف أن كافة الدول لديها أفكارها وخططها الخاصة، وحاول أن يقدم نفسه كصانع سياسات جديدة ومختلفة في علاقة الولايات المتحدة مع العالم العربي الذي استبشر بقدوم رئيس أمريكي أسود ومن أصول مسلمة ومن بيئة مختلفة عن بيئة سلفه بوش، أوباما كان عاجز عن تقديم أية دلائل للبرهنة على نيته فتح صفحة جديدة مع العرب، وفيما يتعلق بالصراع العربي -الإسرائيلي مازالت الإدارة الأمريكية تتبنى الرواية الصهيونية وتقدم لها كافة أشكال الدعم السياسي والعسكري بلا حدود .
العالم الذي واجهه الرئيس أوباما مختلف كثيراً عن ذلك الذي قبله كان حين داخل البيت الأبيض سيد آخر. فبعد كل هذا التردد والغموض والارتباك في سياسة أوباما الخارجية، بدا أن مجريات الأحداث قد خرجت عن سيطرته، فالرئيس أوباما الذي حاول خلال فترة رئاسته وضع رؤية خاصة به لسياسة داخلية وخارجية، وقارب ذلك بمهارات التواصل والخطابة، يواجه عالم فقد عقله وحروب في أكثر من مكان، ويواجه تهديدات للمصالح الأمريكية ولحلفائها في المنطقة، ويواجه أيضاً الشعب الأمريكي الذي ملَّ الحروب ونفذ صبره من التدخلات العسكرية الأمريكية في شؤون العالم، وربما أننا أمام حالة عنوانها أنه منذ الحرب العالمة الثانية يظهر شعار أن على الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها قيادة العالم غير حقيقي لا سيما في الوقت الراهن .
الولايات المتحدة في عهد أوباما لم تحقق أية اختراقات في الملفات الساخنة في السياسة الخارجية لا في منطقة الشرق الأوسط ولا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ولا في ملف إيران النووي، وفشلت في إعادة الأمن والاستقرار إلى العرق بعد انسحاب قواتها، وكذلك فشل ذريع في موقف عدم الموقف من المتغيرات المتسارعة التي تحصل في العالم العربي، كما أن خطة الخروج المنظم من أفغانستان تترنح مكانها، وشارفت روسيا على غزو أوكرانيا ولم يجرؤ أوباما على منعها، وفي الوقت الذي يظهر فيه العالم مشتعلاً في أكثر من مكان، يتابع الرئيس أوباما عطلاته لممارسة رياضة الغولف، وقيامه بالإدلاء بتصريحات صحفية والحديث عن الصراعات في العالم، فيما يظهر وهو هادئ ذو رؤية مشوشة، متردد، غير واثق، بدا وكأنه رئيس غير ملائم لهذه المرحلة .

غطرسة أمريكية ونفاق
جاء ذبح الصحفي الأمريكي على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في منتصف العام 2014، والذي جرى تصويره وتناقلته وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وشكل صدمة مروعة للشعب الأمريكي وللعالم، نقول جاء هذا الحدث ليشكل تحدياً لقوة الولايات المتحدة وصفعة قوية لهيبتها ونفوذها، حينها فقط تحركت الولايات المتحدة واستنفرت الإدارة الأمريكية طاقمها من أجل حشد تحالف واسع لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية والقضاء عليها، أفضت في النهاية إلى تشكيل ما سمي بالتحالف الدولي الذي ضم أكثر من أربعين دولة من ضمنهم ثمانية دول عربية، هذا التحالف الذي باشر أعماله الحربية بشن طائراته غارات يومية على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة في العراق وسورية .
وأصبح أوباما يطل علينا كل يوم بقامته الفارعة لينظِّر عن الإرهاب الذي يهدد مصالح الولايات المتحدة والعالم الغربي والحلفاء الإقليميين، هذا الإرهاب الذي لابد من القضاء عليه لكن الولايات المتحدة لن ترسل قوات تقاتل عن أحد، إذ أن المطلوب قيام مشاركة الجميع في دفع تكاليف فاتورة الصلف والعهر الأمريكي .
لكن أوباما وإدارته لم تشاهد قيام الكيان الصهيوني بارتكاب مجاز يندى لها جبين الإنسانية في فلسطين المحتلة، وقتل آلاف الفلسطينيين ومن بينهم مئات الأطفال والنساء، وهدم عشرات آلاف المنازل والمنشآت، ولم نسمع إدانة واحدة من هذا المجتمع الدولي الذي يسارع الآن المشاركة بحماس في ضرب تنظيم الدولة .

سيد الصفقات
أخيراً وصل السيد الجديد للبيت الأبيض، الملياردير العقاري الذي يرغب في تسويق صفقة القرن على حساب الفلسطينيين ومصالح الأمن القومي العربي. إن إدارة الرئيس الأمريكي الجديد "رونالد ترامب" القادم من الأسواق المالية ما زالت تتخبط في معالجة كثير من الملفات الساخنة حول العالم، وترامب نفسه يتبع سياسة مربكة لكنها أيضاً تستمد خطابها من الغطرسة والصلف الأمريكيين، وبرغم أنه لا يفوت فرصة لانتقاد سياسة سلفه أوباما، إلا أنه يرتكب نفس الأخطاء.
في الأزمات الحالية
ينسى الجميع أن الإشكالية الحقيقية تعود جذورها إلى أن من يبيع روحه للشيطان يأكله الشيطان في النهاية، وأن من يربي وحشاً ويسمِّنه، سوف يرتد هذا الوحش يوماً ما نحو صاحبه ليأكله بعدما يأكل جميع الخراف ولا يعود هناك حملان صغيرة للطعام.
 هذا ما حصل مع أمثلة كثيرة لعل أبرزها، تحول جنرال بنما نورييغا الطفل المدلل للمخابرات المركزية الأمريكية إلى مطلوب للعدالة، وهذا ما حصل حين تحول مقاتلو طالبان تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن من مقاتلين من أجل الحرية حين كان هذا القتال يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية، إلى مجرد إرهابيين وأشخاص مطاردين ومطلوبين للعدالة الدولية بعد أن انتهى زواج المصلحة معهم
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وسط حاملات الطائرات والبوارج الحربية الأمريكية المتجهة إلى الشرق، لم يكن أحد يريد أن يتوقف قليلاً من أجل معالجة أكثر حكمة وعدلاً، لقد فقد العالم السيطرة على توازنه لمصلحة الانصياع الكامل للإرادة الأمريكية.
في المشهد الحالي في فلسطين والعراق وسورية يتكرر الصلف الأمريكي، في قيادة العالم مرة أخرة نحو الهاوية، لأن أمريكا تعتقد أن هذه القيادة في تمثلها بالسلطة تمنحها أمناً داخلياً، لكنها تتحول إلى الاستبداد حين تشعر بتفوقها، وهذا النوع من الأنظمة نراه ينزع إلى حدود السلطة المطلقة، لأنه مقتنع أن القوة إلى جانبه وكذلك الحق، ولا يكتفي بالنصر في أي حرب، بل لابد من أن يكون الآخر الذي انتصر عليه مجرماً شريراً، هذا تماماً ما فعلته الولايات المتحدة مع جميع خصومها المفترضين، وهذا ما تفعله الآن في أماكن متعددة حول العالم في فلسطين وسورية والعراق وبقاع أخرى.
تحاول الإدارة الأمريكية والرئيس ترامب أن يضع العالم أمام خياران، إما أن تكون مع قوى حلف الناس الطيبين المتحضرين الذين يريدون محاربة التخلف والهمجية، أو أنك ستكون في حلف آخر مع فريق يتبنى التشدد الديني وخطابه متعصب يعتمد على قطع أعناق الآخرين. هذا الأمر يشكل استبداد من قبل الولايات المتحدة، لا يقل عن استبداد القوى التي تعتبرها أمريكا أنها قوى ظلامية وتريد محاربتها، فأي الاستبدادين أخطر؟


121
حسن العاصي
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك


نستولوجيا اليسار العربي..
احتضار الأيديولوجيا وأممية السقوط

كيف يكون الإنسان يسارياً؟ ما الذي يعنيه الفكر اليساري تحديداً؟ من هم أهل اليسار في الألفية الثالثة؟ ما الفرق بين اليسار المتعصب والإسلام المتشدد؟
هل اليسار العربي موجود حقاً بشكل حسي ملموس، أو بشكل رمزي، أو بصورة تاريخية أم حزبية أم أيديولوجية، أو موجود بمواقف سياسية، أم كمنظومة فكرية، أم موجود بالانتماء والتحزب؟
إن مدارس ومذاهب الفكر الفلسفي والسياسي متنوعة ومتعددة. فيما يتعلق بالفكر السياسي اليساري عامة تجد تيارات اليسار الاشتراكي، اليسار الليبرالي، الشيوعي، الماركسي اللينيني، التروتسكي، الماوي، الديني واللا ديني، اليسار الإإسلامي، اليسار المسيحي.
اليسار العربي ليس استثناءً، فهو يسار ذو طيف فكري واسع، هناك اليساري الشيوعي، الاشتراكي، القومي، الماركسي اللينيني، الماوي، يسار ديني، ملحد. وتتعدد الميول لدى اليسار العربي، فهناك أحزاب يسارية عربية وأفراد يساريون يميلون لليسار، الروسي، ومنهم يميل للصيني، لأمريكا اللاتينية، للتجربة الأفريقية. وهكذا ببساطة نلاحظ التشرذم الذهني والفكري هو سمة اليسار العربي بسبب اختلاف مرجعياته النظرية، مما أدى إلى تحوله ليسار تائه متشتت لا عمق له ولا أصالة. وهو اليسار الذي لم يجد معظم قادته ومنظروه في ثقافتنا العربية التاريخية أية عناصر قوة، وبظني هنا تكمن واحدة من أبرز الأزمات الوجودية لليسار العربي عامة. فعلي الرغم من أنه يقدم نفسه على أنه يسار عربي إلا أنه يقدم أفكاراً ونظريات غريبة تماماً، بل ومتناقضة مع الموروث الاجتماعي للشعوب العربية، وصلت إلى حد تجاهل أهم عنصر ثقافي لدى شعب المنطقة وهو الدين، مما أدى إلى عزوف الناس عن كل ما يقدمه اليسار، حيث اعتبروه قادم غريب على واقعنا.

في فقه النقد
نحن نرمي الأحجار في المياه الراكدة لتحريك ما هو آسن في مستنقع الأفكار ونسعى إلى الانعتاق من ثقافة التخلف والتقوقع إلى ثقافة التميز والإبداع والتجدد. إن دق الأبواب وطرح الأسئلة وممارسة النقد والمراجعة وسياسة فتح النوافذ أمام الرؤوس، هي ممارسات تؤدي إلى تجدد الأفكار والطاقات، وإلى تدفق الإبداع والحلول التي تشكل الممر الرئيسي للتغيير المجتمعي، وأهم أسرار التفوق والتطور.
نحن نبحث عن موضع ومفاهيم الأفكار والسلوكيات اليسارية غير المنغلقة، والتحررية التي تنحاز إلى هموم الناس البسطاء وتطلعاتهم، وتعمل إلى إيجاد حلول لمشكلاتهم، اليسار الذي يؤمن بالحرية والتطور، وعن اليساري المنفتح الذي يتبنى قيم العدالة والمساواة ويحارب الظلم، وليس عن اليسار الفوقي والنخبوي، ولا عن الأفكار اليسارية المتزمتة التي ترفض التجدد، ولا عن اليساريين الذين يقفون بجانب الطغاة ويدافعون عنهم.

موطن اليسار الجديد
معظم اليساريين العرب أصبحوا أشبه للسلفية الدينية فيما يرتبط بأسلوب فهمهم وقراءتهم للأحداث، فهم متمسكين بنظريات وشعارات فقدت كل صلتها بالواقع المعاش منذ سنين. والكثير منهم لم يكلف نفسه للآن عناء تفقد ما يجري حوله، إذ ظل أسير رؤية لم يعد يربطنا بها شيء في عالمنا المتسارع بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إن فاجعة الفكر اليساري في العالم العربي أن أحزاب هذا الفكر وقادته غاب عنهم أن مُنظري هذا الفكر الكبار في الغرب كانوا يحذرون من أن مجمل الحركة اليسارية العالمية قد بدأت تنزلق نحو مستنقع الجمود، حتى قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بوقت طويل، وحذروا كذلك من النتائج الكارثية لقيام الفكر اليساري في تكفير جميع المذاهب الفلسفية، بحجة أن الفلسفة الماركسية قد ألغت ما قبلها. وهذا تماماً ما يفعله الفكر السلفي الديني الذي يحاول فرض موروث فكري على واقع مغاير.
إذ تُعتبر الأيديولوجيا عند الفكر اليساري بمثابة مسلمة لا جدال فيها، وهي قادرة على تفسير كل شيء. بهذا تصبح الأيديولوجيا دين جديد بامتياز، فهي تتبنى فكرة مسلمات إيمانية تجمع حولها عصبية طائفية من معتنقي هذه الأفكار، وتتدعي أنها أفكاراً واقعية. وبهذه الصورة يتم تبنّي الأيديولوجية اليسارية من قبل اليساريين العرب وأحزابهم، بعد فصل الأفكار عن سياقها التاريخي.
تتمحور الفكرة اليسارية حول الفكرة الشيوعية التي تعتبر أن الطبقة العاملة هي الطبقة القائدة في المجتمع ومكلّفة عبر الفلسفة المادية بإنقاذ العالم، وأن جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية الأخرى عليها أن تتبعهم. حسناً، ألا يذكركم هذا بالفكر الفاشي الذي يؤمن بأن خلاص البشرية مرهون بالعرق الآري حصرياً، وأن جميع الأعراق الأخرى هي أعراق أدنى وعليها الخضوع لهم.
وكذلك حال أصحاب الأيديولوجية الدينية السلفية المتشددة التي تصيغ رؤيتها للعالم على أساس أنهم المنقذون للناس.
السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو: هل يمكن لليساريين العرب أن يستوعبوا الحقائق البديهية بأننا أصبحنا نعيش في عصر العولمة والتكتلات الاقتصادية عبرة للقارات، وعصر التطور السريع في التكنولوجيا ووسائل التواصل، وأنه لا يمكن مع هذا التطور التمسك بأفكار وعقلية القرن التاسع عشر، ولا حتى القرن العشرين؟ هذا ببساطة لأن الكثير من النظريات والمسلمات قد تجاوزتها التطورات التي حدثت في عمق المجتمعات البشرية. هل حقاً أصيب معظم اليساريين العرب بتصلب في الرؤية يمنعهم من قراءة كتاباً واحداً في الفكر أو الفلسفة الحديثة؟ أم أن شدّة العصبية الفكرية والأيديولوجية والحزبية جعلتهم ينغمسون فيما يظنون أنه نضال ضد الامبريالية العالمية، فيما هو في حقيقته مرض عضال اسمه " وهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء" وهو مرض لا شفاء منه كما تعلمون.
أهم الحقائق التي على اليسار العربي أن يتوقف أمامها أن هناك واقعاً جديداً فرضه طغيان العولمة وتطور وسائل الاتصالات، وأن هناك أدوات جديدة للتواصل بين البشر ومخاطبتهم أهم كثيراً من كافة الشعارات التي يرفعها هذا اليسار وأخطر، وعلى الجميع أن يتعامل مع هذه المعطيات الجديدة بما فيه اليساريين أينما وجدوا بكل وعي ومسؤولية.
من جهة أخرى على اليسار إدراك أن قضية تحقيق المهام المصيرية الكبرى للشعوب والأمم لم تعد مناطة بطبقة "البروليتاريا" وأحزابها. ومع احترامنا وتقديرنا الكبير للطبقة العاملة، إلا أن التطورات والمتغيرات التاريخية التي أصابت المجتمعات البشرية أفقدت العمال دورهم الطليعي كطبقة سوف مقدر لها أن تقود التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العالمي.
ثم من بالغ الأهمية القول بأن على ما بقي من اليسار العربي أن يقوم بمقاربات جديدة للواقع، تبدأ في طرح الأسئلة الأساسية، وإرجاع الإشكاليات إلى جذورها، ثم إعادة صياغة الأهداف والتطلعات بما يتلاءم مع التحولات التي شهدتها – وما تزال- المنطقة، والقيام بابتداع صيغ مختلفة لمقاومة الاستبداد الأيديولوجي والسياسي والديني في البلدان العربية، وانتزاع الحقوق المدنية للشعوب العربية في العيش بكرامة وحرية، وبناء مجتمعات مدنية تضمن حقوق متساوية لجميع المواطنين بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الطائفة.
وحتى نكون غير مجحفين، نقول إن هناك عدد محدود من المثقفين اليساريين معظمهم كتّاباً وأكاديميين الذين حظوا بالتقدير لأدوارهم في مسيرة ونضال الشعوب العربية لنيل حريتها وبناء الدولة المدنية.

إشكالية اليسار أم المثقفين
لكن هل هذا الحال يشير إلى أزمة المثقفين العرب، وإلى هشاشة وضعف المثقف العربي – اليساري خاصة- أم إنها فعلاً أزمة اليسار العربي الذي حاول قراءة واقع العالم العربي بمقاربات أيديولوجية مثالية وطوباوية ما بعد الاستعمارية.
غالباً اليساريين في فلسطين، لبنان، المغرب والسودان بدرجة أقل كانوا فاعلية ونشاطاً أكثر من سواهم في بقية الدول العربية، في ربما لأسباب تعود إلى الهوامش الفكرية المريحة التي يوفرها المجتمع في تلك البلدان.
وفي المقابل هناك سيل من جيش اليسار فشلوا كلياً والبعض القليل – جزئياً- في تحقيق الشعارات التي رفعوها وآمنوا بها عبر عقود طويلة، بل أن بعض اليساريين أصيب بالانهيار الفكري، ومنهم من تحول إلى العبودية التي تفرضها معظم الأنظمة السياسية العربية.
هي إشكالية مزدوجة فكرية وثقافية لا تقتصر مفاعيلها فقط على اليسار، إنما يتم تسليط الضوء على أزمة اليسار بسبب الخيبات التي أصيبت بها الجماهير نتيجة عجز هذا اليسار- في معظمه- وسقوطه فكرياً وسياسياً وأخلاقياً.
المثقف العربي مطالب باستعادة دوره التنويري التحرري ومكانته المجتمعية، بعد أن أصيبت الشعوب باليأس من واقعها السياسي، وبعد أن تدنت مكانة الثقافة وانحسر بالتالي معها دور المثقف. المثقف العربي هو الجهة الوحيدة التي يمكن لها من إعادة الروح لجسد الأمة المتخشب.

يسار ما بعد الاستعمار
اليسار ما بعد الكولونيالي الذي شكل كتاب المفكر إدوارد سعيد "الاستشراق" الأساس الفكري له، حيث تم التأسيس النظري لظهور مصطلحات "المركزية الغربية" و "غرب/شرق"، "علماني/إسلامي" وغيرها من الثنائيات كالحداثة في مواجهة التراث، وقد انتقلت هذه المقاربات إلى كافة فروع العلوم الإنسانية.
فبعد حوالي سبعة عقود من الظلم والقهر والاستبداد والتغوّل في الواقع العربي مارسته معظم الأنظمة العربية، لم يتمكن المثقفين اليساريين من فهم وإدراك ديناميكية الواقع المحلي وحركته، وعجزوا عن ملامسة المصالح الحقيقية للناس ومعرفة تطلعات شعوب المنطقة. لذلك لم يكن مفاجئاً موقف اليساريين العرب من عموم الحراك الجماهيري في الكثير من البلدان العربية، ومن التغيرات السياسية، إذ أنهم توصلوا إلى تحليل – يساري- أن ما يحصل في المنطقة هو لعبة جيو-سياسية ومؤامرة غربية امبريالية ضد مصالح المنطقة وشعوبها.
إن هذا التحليل السطحي للتفاعلات والتحولات المجتمعية في العالم العربي يضع الكثير من المثقفين -اليساريين- وسواهم بطبيعة الحال إلى جانب الديكتاتوريات العربية القمعية، بحجة أن القوى العربية المعارضة الناشئة ترتبط بالغرب الاستعماري، وأنها متآمرة مع الخارج لإلحاق الضرر بمجتمعاتها، وأياً كانت هذه المعارضات تحررية تقدمية مدنية أو كانت إسلامية وسلفية، فإن التهمة جاهزة عند هؤلاء المناضلين اليساريين لإلصاقها بكل من لا يتوافق مع الأيديولوجية التي يعتنقونها، وبهذا فهم البوق الذي يبرر للطاغية والجلاد العربي سياسة القمع والتعسف والاضطهاد والاستبداد والقهر والاعتقالات وتكميم الأفواه والقتل الذي يمارسها بحق كل معارضيه.
هذا اليسار الذي أخفق في قراءة واقعه، أخفق في تحقيق شعاراته، أخفق في علاقاته مع الجماهير، أخفق في أنجاز مهام مرحلة التحرر الوطني وأهمها قضيته الأولى فلسطين، هو اليسار العربي الذي يبرر ويجيز تدخل بعض القوى الأجنبية في الشأن العربي، ويجرم و يهاجم تدخل قوى امبريالية أخرى، هو اليسار نفسه الذي يتجاهل اليوم كافة التطورات والتغيرات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية في أكثر من مكان  بالوطن العربي، وأثبتت الأحداث أنه يسار لا يمتلك قدرة على تفسير وتحليل ما يجري في العالم ومقاربته مع الواقع العربي، مثلما غابت عنهم فهم التحولات التي حصلت – وما تزال- في أماكن أخرى مجاورة كالقارة الافريقية مثلا ومجتمعات أخرى.
واقع اليسار العربي وأحزابه وتجمعاته وأطره المختلفة يشير إلى أنهم وقعوا في فخ تلاوة التاريخ بشكل أصم وتقليدي، بدلاً من التعامل معه وفق المناهج التحليلية النقدية الحديثة، وأنهم اكتفوا بترديد خطابات وشعارات رائجة على شكل عظات، حتى تتخيل أن قائلها اجترح المستحيل.
يسار يكيل بمكيالين ولديه معايير مزدوجة تجاه قضايا المنطقة. يسار فشل في فهم التناقضات التاريخية لـلأزمة الرأسمالية المستمرة العابرة للقارات، وكذلك عجز هذا اليسار عن معالجة الانسداد التاريخي في عدد من الدول العربية القمعية القهرية والتي فاق الاستبداد فيها تأثير القوى الغربية الاستعمارية على شعوبها وعلى المنطقة.
ويمكن للمهتمين العودة إلى كتاب مهدي عامل "ماركس في استشراق إدوارد سعيد، هل القلب للشرق والعقل للغرب؟" وكذلك كتاب صادق جلال العظم "الاستشراق والاستشراق معكوساً" لدحض أفكار روّج لها بعض المفكرين اليساريين الذين يدعون إلى استلهام المعرفة من الأصول غير الغربية، متجاهلين أن المشكلة الأساسية في القوى السياسية والأنظمة الغربية التي تقف وراء هذه العلوم الاجتماعية، وليس في المعرفة بحد ذاتها ولا في فروع العلوم الغربية.

تفكيك الفكر اليساري
إن توجيهنا النقد لليسار العربي ليس الغاية منه الإساءة إلى الكثيرين من المناضلين اليساريين، ولا الغاية منه التقليل من شأن دور الفكر اليساري الذي لعب دوراً مهماً في مرحلة تاريخية معينة في إنارة العقل البشري، عبر استخدام الأساليب النقدية لتقويم الخلل المتأصل في كثير من المجتمعات العربية.
بل أن ما نقوم به هو دعوة لتفكيك بعض مكونات الفكر الفلسفي والسياسي اليساري العربي. وهذا النقد لا يعني بأي حال من الأحوال أن بقية التيارات الفكرية العربية الأخرى بخير وفي وضع نموذجي.
إن مختلف التيارات الفكرية في المنطقة العربية فشلت في إنهاء معاناة الإنسان العربي، وتحقيق تطلعاته في العدالة والحرية والعيش بكرامة دون ذل الاستدانة، ناهيك عن فشلها أيضاً في تحقيق أي إنجاز يذكر مرتبط بالأهداف الاستراتيجية الكبرى، مثل تحقيق الاكتفاء، وبناء دولة المؤسسات الحديثة، ومشروع التكامل العربي، أما عن قضية العرب الكبرى فلسطين فلم يعد أحد يتحدث عنها وعن معاناة شعبها سوى عدد قليل جداً من الأنظمة العربية، وتحولت لدى آخرين مادة للمزايدات السياسية، والبعض الآخر يجاهر دون خجل بأن القضية الفلسطينية أصبحت عبئاً على مقدرات بلده، ومنهم من يتآمر لتصفيتها.
نحن نحتاج إلى إعادة توصيف المفاهيم والمصطلحات التي تولّدت عبر علم الاجتماع اليساري، وكذلك تحليل خطاب اليساريين العرب الفكري والسياسي، ومحاولة إقناعهم أنهم ليسوا المتحدثين باسم الأمة العربية وشعوبها. ثم مباشرة النقد المعرفي للأيديولوجيات الإثنية والعقائد الغربية في الواقع العربي.

اختلط اليسار باليمين
هل تذكرون يوماً كان يوجد فيه يساريين عرباً يهتفون في شوارع العواصم العربية للحرية والعدالة ومحاربة الظلم والاضطهاد، وينادون بحكم الشعب، ويدعون إلى إسقاط أنظمة الاستبداد العربية؟
نعم هم اليساريين أنفسهم الآن تحولوا إلى ألد أعداء الشعوب العربية التي تحركت لتطالب باستعادة حقوقها وكرامتها التي أهدرتها بعض الأنظمة العربية. إن مثل هذه المفارقات لدى اليسار العربي أحزاباً وأفراداً يعني غياب المصداقية في رفع الشعارات، ويعني ازدواجية المفاهيم، وعدم وجود الرابط بين الأقوال والأفعال، وبالتالي هو نوع واضح وجلي من النفاق الفكري والسياسي، مارسه هذا اليسار العربي الخادع والمخدوع، بنفسه وعلى نفسه أولاً وعلى الجماهير العربية ثانياً عبر عقود متتالية.
غاب عن اليسار العربي مسلمة أنه لا توجد مناطق محايدة في مواجهة الظلم وإنصاف الشعوب، وتحقيق العدالة وهي جوهر الفكر اليساري. وإذا ما ظلت الديناميكية الفكرية شأناً بعيد المنال عن أصحاب هذا الفكر فإنهم سوف يتحولون رويداً رويداُ – وإنهم يتحولون- إلى صف الاستبداد المعادي لتطلعات وحقوق الجماهير العربية.
إننا نحتاج إلى غربلة الأفكار للتخلص من بعضها وتحديث الآخر، والقيام بعملية تحليل جدلي نقدية، وليس بالضرورة أن يكون هذا النقد نقداً مادياً راديكالياً يدمّر الأفكار الأخرى ويسحقها، حتى لا نكون في وضع يصبح فيه الفكر شمولياً لا شريك له. بل ما يجب هو أن يكون النقد جدلي يأخذ في الحسبان جملة المفاهيم والأفكار الأخرى السائدة في مجتمعاتنا وأبرزها موضوع الدين، وهو ما يعني قبول وتفاعل متبادل يساهم في تحقيق السلام الاجتماعي.
ربما لا نظلم أحداً بقولنا إن أزمة اليسار العربي ليست فقط أزمة بنيوية وأزمة مرجعيات، إنما أيضاً أزمة قيادات تسلقت اليسار كي تصل إلى موقع الحكم والقيادة. معظم هذه القيادات تم تلقينها بعض الأفكار وبعض المبادئ اليسارية النظرية، لذلك هم أصحاب ثقافة سطحية، وهم مصيبتنا الكبرى. إن الكثيرين من القادة اليساريين العرب لم يضيفوا شيئاً يذكر على الصعيد النظري والفكري، بل أن بعضهم قام بنقل النظريات بصورة سطحية لا تسمح بفك ألغازها، وبالتالي عدم تمكن هذه الأفكار من التكيّف مع بيئتنا الحاضنة.

كلمة ليست أخيرة
إن التحولات والتغيرات الاقتصادية والسياسية التي شهدها العالم ومن ضمنه منطقتنا العربية خلال ربع القرن الأخير، قد غيّرت طابعنا الاجتماعي وأفرزت واقعاً جديداً لا نرى فيه اليوم أي دور لليسار العربي. رغم أن الفكر اليساري فكراً ثورياً في مضمونه، ورغم أن الأحزاب اليسارية العربية والعالمية تمتلك تجربة غنية، إلا أنها لن تنجح في العودة إلى ساحة الفعل والتأثير في الأحداث ما لم تتغير بنيتها وخطابها وأدواتها.
من البلاهة بمكان الاستمرار على ذات المنهاج القديم وكأننا لا نرى الانهيارات حولنا. اليساريين العرب لا يلاحظون تأخرهم عن مواكبة العصر الراهن، هذا التأخر أخذ صفة التراكمية، الأمر الذي يعيق أية محاولات للتصويب وتصحيح المسار يوماً بعد آخر. الكارثة أن مجرد النقد كان وظل محرماً لدي الأحزاب اليسارية العربية، فهم وحدهم على صواب، والآخرون في خطأ يقبعون، على الرغم من أن الأحزاب الوحيدة التي تداعت مثل هيكل كرتوني هي الأحزاب اليسارية.
يتم في هذه المرحلة إعادة تأسيس وتقنين النظام الرأسمالي العالمي على اكتاف مليارات البشر من الطبقة الوسطى والطبقات والشعوب الفقيرة من دافعي الضرائب ليزداد الفقراء فقرا وتتغوّل الرأسمالية وازداد ثراء أكثر.
فهل يعي اليساريين حقائق العصر بأن البشرية تمر بمرحلة جديدة بعد تفكك وانهيار الاشتراكية السوفياتية، وبروز تناقضات جديدة أوجدت واقعاً جديداً غيّر وجه العالم؟ أم إننا سوف نعزي رفاق الأمس باليسار العزيز وندعو له الثبات في سؤال القبر؟



122
أدب / وصايا الدرب الأخير
« في: 20:32 03/07/2018  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


وصايا الدرب الأخير


في الوصايا الأخيرة
رمل يكتب ظمأ العشب
فوق الأبواب المغلقة
سماء تسكب خرير الدمع
في الحناجر لحظة اليقظة
أحجار المركب تحتضر
على الطرقات
والبشر تطوي ظلها
بما تيسّر من قمح
لا يبصرون ريح الكهف
مساحة الإيمان تكسر العدم
تلعق مناقير الزجاج
وتلغي سرّ الامتداد
في الدروب
 يطرق التراب مرايا اللحم
فوق النساء
يطوف العرّافون
حول البلّور الملون
يبتلع الليل أجنحة الطواحين
حين يتمسّح الصفير بالمنايا
ويسكبها ريشاً يمزق
الظل الجاف
فيتأجّج الرمل غثاء وهشيم
أنّى لنا أن نسير
حد اليابسة بالماء
يصفعنا الوهم دون مس
مثل عصا موسى
ابتلع رأس النخلة
العصافير العابرة
حين توسّلوا الغناء
كي يستدرّوا منها
ورق الريح
في وصايا الدرب الأخير
وجوه تمسك بتلابيب الرحيل
وخطى
تشخص لها قلوب نازفة

123
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


المثقف والسياسي .. وصاية أم انفلات ..
مقاربة غير متأنية

على الدوام كانت علاقة المثقفين بالسلطات السياسية تحكمها معايير مركبة وشائكة ومزدوجة وملتبسة في جوهرها وباطنها، وفي أوجهها المتباينة ومستوياتها المتعددة.
إذ أن قطاع المثقفين يشهد تنوعا قزحياً وانتماءات متعارضة. فتجد المثقف الذي يقف بجانب السلطة الحاكمة ويبرر شرعيتها، ويستميت في الدفاع عن قرارات ومواقف السلطة السياسية، ويغالي في تجميل صور الطغاة. وهناك مثقف من نوع آخر ينتقد النظام السياسي ويدافع عن مصالح الشعوب ويتبنى مطالبها. وبينهما نجد أنواع ونماذج متعددة من المثقفين، المثقف المناضل والحزبي والمحايد والمسالم والمستشار والمداهن. المثقف الموضوعي، المثقف المدجن، المثقف الحالم، المثقف المشروع، المثقف الانتهازي، المثقف النموذج.

في مفهوم المثقف
الثقافي في اللغة هو كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية ملكة النقد عند الإنسان. والمثقف في الدلالات الاصطلاحية هو ناقد اجتماعي يسعى إلى تحديد الظواهر وتحليلها ووضع تصورات لمعالجة المشكلات بهدف الوصول إلى مجتمع أفضل. إن تحديد دلالة مفهوم المثقف ما زالت موضع تباين نظراً لصعوبة حصر المفهوم وضبطه بدقة. إذا كانت غالبية التعريفات منحت صفة المثقف لكل من يشتغل في مجال الثقافة عموماً إنتاجاً ونشراً وترويجاً واستهلاكاً، خاصة بعد أن شهدت المجتمعات البشرية تطوراً كبيراً.
المثقف هو كل من ينتمي إلى شريحة أهل الفكر والمعرفة. هم المنتجين للأدب والفنون والعلوم والفلسفة، ولا يمكن حصرهم في قطاع من الكتّاب والصحفيين والعلماء والفنانين والإعلاميين. إذ يعتبر المثقفين أنهم عقول الأمم النيّرة على مدى التاريخ وضمائرها الحية. حيث يتم من خلالهم نشر الوعي في المجتمعات وبهم تتجسد معاني وقيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية. المثقفين هم أول من ينخرط في مراقبة الشأن العام ومحاولة تصويبه عبر إثارة قضايا المجتمع التي تشغل الناس وتتصل بمصائرهم على الصعيد الوطني، وهم المنشغلين أيضاً بهموم البشرية حيث يتشابك المحلي مع الإقليمي والوطني مع العالمي في هذا الكوكب الصغير.
إن تمعنت جيداً في الأدوار البليغة التي يضطلع بها المثقفون لتيقنت أنهم أصحاب سلطة فكرية وأخلاقية ومجتمعية تضعهم في مواجهات متواصلة مع أصحاب السلطة السياسية.
عبر التاريخ كانت الثقافة تعني الحكمة أو الفلسفة أو الدين أحياناً، وكان المثقفين هم الحكماء او الفلاسفة أو الأنبياء أو الأدباء. وكان الملوك والسلاطين فيما مضى يختارون لأولادهم معلمين مثقفين ومربيين يعلمونهم مختلف أنواع العلوم والفنون والآداب ليصبحوا فيما بعد قادة المستقبل.
مفهوم المثقف من التعابير الشائكة، حيث يصعب تحديد تعريف وإطار وحيد له. وقد تبلور هذا المفهوم في القرن التاسع عشر من خلال الدعوات إلى وضع تصورات مستقبلية تبشر بولادة نظام جديد في روسيا عبر مصطلح "الأنتلجنسيا" التي هي في الأصل كلمة بولندية.
 منذ ظهور هذا المصطلح -المثقف- بمعناه المنتشر أول مرة في باريس العام 1894 على أثر إصدار حكم بالنفي على ضابط فرنسي اتهم بالتجسس لصالح ألمانيا، وتدخل الرأي العام في قضيته التي أدى إلى تخفيف الحكم، منذ ذلك الحين طرأت على هذا المفهوم تغيرات كثيرة اتسعت أحياناً وضاقت أحياناً أخرى حسب المرحلة والمكان والظروف المحيطة بالمفهوم.
ذكر الدكتور محمد عابد الجابري أن المثقف إنسان يفكر ويعمل بعقله من خلال معطيات وأفكار لها مرجعية يدور فيها وينطلق من خلالها في أعماله وأفكاره.
وصاغ المفكر الإيطالي غرامشي مفهومه الشهير عن المثقف العضوي في السجن من خلال كتاب دفاتر السجن. وطرح المفكر المعروف ادوارد سعيد
أسئلته حول تعريف المثقفين إذا ما كانوا فئة بالغة الكثرة أو فئة ضئيلة العدد ومنتقون بعناية.
لكن الثابت على مر العصور ان ارتباط النظرية والأفكار بالمواقف والممارسة، ومناصرة المضطهدين والانتصار لقيم العدالة والحرية هي من أهم صفات المثقف أينما وجد.

موقع المثقف
المثقف ضمير الأمة وصوتها. إن الثقافة هي انعكاس للوعي الاجتماعي، وأحد المؤشرات المهمة على مدى تقدم وتطور المجتمعات البشرية. ولأن المثقف يساهم في التنوير من خلال إنتاجه وإبداعاته، وهو بذلك يشارك في التأثير على المجتمع وتحديد خياراته. بهذا المفهوم إن المثقف هو فاعل سياسي بامتياز.
إن كانت السياسة هي طريقة إدارة شؤون البلاد والعباد، فإن الثقافة بمعناها الشامل هي أهم محرك رئيسي للمجتمع، وهي أبرز أدوات هذه الإدارة، وبالتالي فإن المثقف لا يمكن أن يكون خارج هذه المعادلة لارتباطه الوثيق بالضمير الجمعي، ولا يمكن أن يكون لإبداع المثقف أية معان ولا اية مفاعيل إن اختار أن يكون خارج المجال الحيوي السياسي لمجتمعه، بالرغم من أن السياسي يسعى إلى أن يتكيّف المثقف والإنتاج الثقافي الإبداعي مع توجهاته خدمة لنظامه القائم.
بظني أن المثقفين في البلدان المتطورة اقتصاديا وسياسياً ينعمون برفاهية الاختيار والانخراط أكثر كثيراً من المثقفين في البلدان النامية. ثم أن المثقف المشهور أينما وجد يتحمل أعباء أكبر من بقية أقرانه مما يجعله الأكثر عرضة إلى ملاحقة الأجهزة الأمنية التابعة للسياسي، أو أن تكون هذه الشهرة بمثابة درع للمثقف يحميه من عسف السياسي في بلدان أخرى.
إن تم تهميش المثقف فهذا لأنه لم يتمكن من استنباط أدواته الثقافية التي تجعل منه قادراً على التأثير والتغيير، وربما نستطيع بسهولة إيجاد ساسة كبار ليسوا مبدعين، لكن من الصعوبة أن تجد مثقفاً عظيماً دون أن يكون سياسياً.
منذ سقراط مروراً بالجاحظ إلى ادوارد سعيد وتشومسكي وما بينهما آلاف من المبدعين الذين كانوا فاعلين في الشأن السياسي كل بأسلوبه وأدواته.
بعض المثقفين يشتبكون مع مجمل القضايا الساخنة لمجتمعاتهم، وبعضهم يفضل أن يكون خاملاً في الظل، والبعض الآخر يظن أنه حيادي، لكن لا يجب ان يصاب المثقف بوهم الحياد فيما يتعلق بالقضايا الكبرى وبمصالح الأوطان والشعوب. وأن رأيتم مثقفاً من هذا النوع فكونوا على ثقة إما أنه لا يدرك شأنه ومقدرته، أو أنه ينتظر اتضاح المسارات النهائية كي يحصل على رزقه وحصته من الكعكة. وهذا أسوأ أنواع المثقفين وهو الذي يضع رأسه في الرمال ليخرجه بعد مرور العاصفة. فما هي فائدة الإنتاج الإبداعي لهؤلاء إذ لم تكن هموم العباد والبلاد في أهم أولوياتهم؟

موقع السياسي
إن السياسة هي فن إدارة مصالح الناس والدول من خلال جلب المنفعة ودرء المضرة. السياسي يتعامل مع ذات الواقع الذي يتعامل معه الثقافي، لكن السياسي ينخرط في العمل اليومي بينما المثقف يتعامل مع الواقع والمستقبل، مع الكلي والجزئي في ذات الوقت.
 السياسي مهتم بشكل مباشر في تحويل إنتاج المثقف وتصوراته وافكاره إلى واقع معاش ما أمكن ذلك، وهنا ينخرط بعض المثقفين في النشاط السياسي المباشر، والبعض يحجم عن ذلك.
جدلية ومتلازمة وضرورية، قائمة على تبادل المنفعة، هي علاقة الثقافة بالسياسة، فلا وجود لأحدهما دون الآخر. إن كل من السياسة والثقافة يستثمران في بعضهما، فالثقافة تستثمر في السياسة بهدف تحقيق بعض المكاسب العامة، والسياسة تستثمر في الثقافة لأجل تمرير خطابات سياسية ومواقف محددة.
وكلاهما – السياسي والمثقف – يجتهدان في سعيهما للتوظيف الأكثر جدوى لقنوات العلاقة فيما بينهما. قد يتقدم أحدهما على حساب الآخر، وقد تحدث قطيعة مؤقتة بينهما.
إن المثقف يمارس دوره عبر إنتاجه الإبداعي المختلف، وعبر هذا الإنتاج فإن المثقف يعبر عن رؤيته للعالم كما يراه، وهو بهذا يكون عاكساً للواقع المعاش.
لكن دور المثقف لا يتوقف عند هذه الحدود، إذ عليه أن يقدم تفسير وتحليل فكري وفلسفي وإنساني واجتماعي للواقع، وسبل تطويره وتقدمه.
ينبغي ان نلاحظ أن هناك أداءًا سياسياً منظماً ومؤسساً ضمن أطر وأحزاب وهيئات، وفعلاً سياسياً منفلتاً حراً لا يرتبط بأية منظومة. ولا بد من التفريق بين المثقف السياسي والسياسي المثقف. إن الممارسة السياسية المنظمة تفرض رؤية الجماعة ومفاهيم الحزب بشكل مسبق، في حين أن الفعل السياسي المستقل فهو لا يتقيد بأية مواثيق حزبية. وبظني أن المثقف يكون فاعلاً بقدر ابتعاده من الحزبية وتحرره من الأيديولوجيا والمواقف والمفاهيم التي تفرضها الأحزاب السياسية عادة على أعضاءها. خاصة في الوضع العربي الذي لم يتلمس بعد دربه نحو الديمقراطية الحقيقية، إذ أن الأحزاب يضيق صدرها -على اعتبارها إطار بنيوي فكري سياسي – على الآراء المخالفة مما يؤدي إلى تقليص مساحة الحرية التي يحتاجها المثقف والمبدع للإنتاج الثقافي والفكري، ويشل من قدرتهما، ويحاصر افكارهما وخيالهما، وهم كل ما يملكانه. إذ أن ما يحصل غالباً في العالم العربي أن يقوم السياسي بإجبار المثقف على التمسك بموقف ما دون تغيير، وهذا لا يتلاءم مع دور المثقف. هناك العديد من الأمثلة لمثقفين عرباً انخرطوا في الأحزاب السياسية وتحولوا – يا سبحان الله- إلى أبواق لهذه الأحزاب. وحتى لا يساء فهمنا، نحن هنا لا ندعوا أن يبتعد المثقف تماماً عن الأحزاب، لكن عليه أن يظل محافظاً على استقلاليته وحرية تفكيره لأنهما الوسيلة الأسلم لتحريض مخيلته وذاكرته وبصيرته، ومما يمكنه من المشاركة السياسية عبر إنتاجه الإبداعي الأدبي أو الفني أو الفلسفي الذي يمكن أن يحمل المواقف السياسية في صورة مختلفة عن السياقات التي يمارس فيها السياسي نشاطه. وهكذا يمكن للمثقف أن يمتلك تلك المقدرة التي تمكنه من مقاربة الواقع بكافة مكوناته، فيظهر موقفه السياسي – عبر إنتاجه - واضحاً معبراً عن رؤية سياسية ضمن ارتباطها وتأثرها بالاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والثقافي.

الواقع العربي – حصار مر
في الواقع العربي الحدود غير واضحة بين ما هو مثقف وما هو مبدع، وعادة ما يتم دمج الجميع بصيغة المثقفين. ويتميز المثقفين العرب غالباً بسمة موسوعية وتعدد الاهتمامات وشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، الأمر الذي يؤدي أحياناً انخراط المثقف العربي في السياسة حيث يظن أن المجتمع يحميه، وأنه قادر على أن يصبح منبراً لتمرير الخطابات السياسية في ظل افتقاد معظم الدول العربية إلى مؤسسات المجتمع المدني.
لم يشهد العالم العربي ما شهدته أوروبا من تحولات اجتماعية وفكرية رافقها تغير في تحديد مفاهيم المثقف. فلم يحصل في العالم لا ثورات بورجوازية تحررية على الإقطاع والكنيسة، ولا حدثت فيه ثورات صناعية ولا علمية، ولم يشهد عصور تنويرية.
على مر العصور بقيت ثنائية المثقف والسياسي والعلاقة التي تجمعهما قضية ملتبسة ومتباينة. في الراهن العربي تأخذ هذه العلاقة أبعاداً متصادمة بشكل تصاعدي في كثير من الحالات. وما زالت إشكاليات العلاقة بين المثقف والسياسي، والحدود بينهما، وأدوات كل منهما، وموقع كل منهما ودرجة تأثيره في المجتمع قائمة، ولا زال الجدل والنقاش حولهما يستحوذ على اهتمام المنخرطين بالشأن العام، يخبو أحياناً، ليتوهج هذا الحوار الفكري بين المنشغلين بالثقافة والسياسة.
رغم أن المثقف العربي كان وما زال في معمعة حياة المجتمعات وجزء لا ينفصل من مكوناتها، بل هو – أحياناً - الجزء المتورط في العمل على إحداث تغيرات تؤدي إلى تطور المجتمعات، وهو بهذا المعنى في قلب الحراك السياسي، فيما ينظر له السياسي بارتياب على أنه خطر متوقع يقوض مصالح السياسي.
والتجربة العربية هنا تشير إلى أن معظم الساسة العرب سعوا دوماً بإصرار على إقصاء المثقف العربي من المشاركة في وضع الاستراتيجيات المختلفة للأنظمة العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وكذلك إقصاءه من المساهمة في اختيار آليات إنجاز وتحقيق تلك الاستراتيجيات، بل حتى منعه من تقييمها وإبداء الراي بشأنها. كما كان لمعظم الساسة العرب موقفاً مهيناً من المثقف العربي ومن إنتاجه الفكري، ولم نسمع في عالمنا العربي أن الساسة ومؤسساتهم قد كانت يوماُ حريصة على مشاركة المثقف والمفكر والعالم في وضع تصور حول مشروع وطني وما شابه. ونادراً ما نلاحظ وجود مفكرين ومثقفين متخصصين موجودين كمستشارين في دوائر السياسي، وإن وجدوا فهم للديكور والتزين أكثر منهم للعمل والاستشارة. وعادة ما يتعامل السياسي العربي مع المثقف بخوف وحذر وتجاهل وعدوانية قد تصل إلى سجنه وربما قتله. إذ ان معظم الساسة العرب يتمتعون بخصال منها العنجهية والغرور والتكبر والتعظم والجفاء، لا يقيمون وزناً ولا قيمة للثقافة ولا للمعرفة ولا للفكر ولا البحث العلمي إلا بمقدار ما يخدم مصالحهم ويثبت حكمهم.
لكن وجود المثقف في العملية السياسية هو وجود حتمي وليس اختيارياً، ومن العبث أن يتصور كلاُ من السياسي والمثقف وجود الأخير خارج المشهد، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى أن يفقد المثقف صفته وموقعه، وهو ما يمهد لظهور الوصوليين والانتهازيين والأشباه والأنصاف مما يحاصر الإبداع والكفاءة والنزاهة والفكر، ولنا أن نتصور الأثر المدمر لصعود الغث على حساب النافع للمجتمع.
إذا كانت الأفكار والنظريات يبتدعها الفلاسفة والمفكرين، إلا أن تحويل هذه الأفكار الخصبة إلى واقع عملي يحتاج إلى عقول سياسية عملية تحول الفكرة إلى حلول ناجعة، ذلك أن المثقفين حين يعتزمون التغيير فإنهم غالباً يحتكمون إلى الأيديولوجيا والطوباوية. لذلك عادة المثقف غير مؤهل لهذه المهمة، حيث الأفكار والنظريات تخضع لقوانين التغيير والتعديل والتحول في سياق تطورها وامتحانها في الواقع المحدد. لذلك فإن هذه الأفكار لا تكون بصيغتها الأولى حين ترتقي من مستوى لآخر، وحين تنتقل من مكان لآخر. لا يمكن تعليب وتغليف الأفكار وشحنها ونقلها من واقع إلى واقع آخر، لكن يمكن إعادة تصنيعها وإعادة إنتاجها بصيغ جديدة موائمة لواقعها الجديد. وإن تعاملنا مع الأفكار على أنها هوية ثابتة – دون النظر إلى صيرورتها وقدرتها على التحول- فإنها سوف تفشل.

في المثقف العربي
ما حصل في العالم العربي ومنذ الحملة الفرنسية العام 1789 للآن هو ظهور اتجاهات إصلاحية توفيقية انشغلت بنبش التراث أو الاستعارة من الثقافة الغربية حيناً آخر، مما أدى إلى هزالة ثقافية وولادة مدارس فكرية تقلد الغرب.
في التجربة العربية نجد مفهوم المثقف لا يتوافق تماماً مع المفهوم الأوروبي بعمق التزام "الأنتلجنسيا"، لكننا نجد مثقفين على قدر من مسؤولية الالتزام المجتمعي، ولا نتجاهل أن المثقف العربي يعاني من أنظمة سياسية في معظمها أنظمة قمعية متخلفة تحارب الوعي والثقافة.
على المثقف المساهمة بفعالية في إنتاج وتطوير وترشيد استعمال الأفكار التي تشكل ثقافة المجتمع، يحافظ على قيم وعناصر هذه الثقافة ويعمل على إيصالها وإعادة إنتاجها، ووضعها تحت مجهر السؤال والنقد والبحث.
إن عملية النقد والبحث لتطوير الصيغ هي عملية شاقة جداً تقتضي صياغة خطاب ومفاهيم مختلفة مع ما هو سائد، لكنها تظل أفكاراً تحتاج إلى شروط موضوعية للتحقق لأن المثقف يفتقد الآليات العملية التي يمتلكها السياسي. ومن هنا ضرورة عدم تبعية المثقف للسياسي التي تتناقض غالباً مع ثوابته، لكن من الأهمية قيام تعاون وتنسيق بين الجانبين من خلال أطر نقابية وثقافية مختلفة بما يحقق خدمة أهداف المجتمع.
هذه الرؤية ما زالت بعيدة المنال في الواقع العربي لأسباب متعددة لعل أهمها أن معظم القادة السياسيين العرب لا يعون دورهم التاريخي الذي يتمثل في وعي إرادة الأمة وشرط نهوضها، بل هي قيادة أفرزتها الظروف الطارئة التي مرت بها الشعوب العربية. كما أنها قيادة لا تكن للثقافة والمثقفين أي احترام وتقدير، وتعمل على إخراج المثقفين من المعركة وتحولهم إلى تفاصيل وأدوات في اللعبة السياسية.
ومعظم الرموز والعقول الفكرية والثقافية العربية لا تجد دورها في السياق المجتمعي، لذلك فهي عاجزة عن المساهمة في المشروع الحضاري العربي.
من أبرز المعيقات التي تحول دون ممارسة المثقف العربي لدوره هي نخبوية الثقافة والمثقفين والتي تشكل قطيعة بين المثقف والناس، ثانياً عدم تحديد الأولويات، فعلي سبيل الذكر لا الحصر فإنه منذ عصر النهضة قد أولى المثقفين العرب القضية الوطنية والعمق القومي والوحدة الاهتمام الأكبر على حساب القضايا الاجتماعية.
في الحياة يرتبط الفكر بالواقع المعاش ارتباط جدلي تبادلي وثيق، وهو القاعدة الرئيسية لكل معرفة، وبالتالي فإن هذا الواقع هو المكان الطبيعي الذي تمتحن فيه الأفكار عبر وحدتها مع العمل، إذا أن صيرورة العالم لا تدركها المعرفة الإنسانية إلا عبر الممارسة التاريخية. وبالتالي فإن رؤية الواقع وملامسة عناصره شرط ضروري لفهمه، وامتحان الأفكار من خلاله أهم مقومات تغييره.

هل هذه الشروط متاحة في الواقع العربي؟
لا أظن أنه من اليسير على المثقف العربي تغيير واقعه لأسباب متعددة لعل أبرزها أن معظم المثقفين العرب مازالوا يتعاملون مع أفكارهم على أنها عقائد مقدسة وكشعارات طوباوية وألواح أيديولوجية وإن شئت فلدي البعض هي مستحاثات وخطاب خشبي.
فالتطورات السريعة التي تحصل باستمرار في المشهد العالمي بعد ثورة المعلومات الكبيرة تجاوزت ثنائية المثقف والسياسي بعد أن ظهر لاعبون جدد لهم قدرة مهمة وبارزة في التغيير مثل أصحاب الشركات العملاقة " آبل، مايكروسوفت، فيسبوك، وغيرهم".
ولك أن تتساءل اليوم عمن يؤثر في الواقع أكثر، بيل جيتس ومارك زوكربيرغ وأمثالهم أو جون بول سارتر أو نعوم تشومسكي وادوارد سعيد وغيرهم من كبار المفكرين الإنسانيين؟
مازال المفكرين التقليديين – العرب منهم خاصة - يتحدثون عن الواقع بخطاب يقيني مثالي، بينما هذا الواقع ذاته لا يكف عن مفاجأتهم ويكشف هشاشة أفكارهم وأوهامهم، بينما نلاحظ أن العاملين في الوسائل والأدوات الثقافية الحديثة فإنهم يخلقون واقعاً جديداً. فهل نشهد انقلاباً في المفاهيم الثقافية والاجتماعية يؤدي إلى إعادة صياغة وتحديد المصطلحات الفلسفية؟

124
أدب / الماء المتعب من النهر
« في: 18:41 24/06/2018  »

الماء المتعب من النهر


حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك



1
هذا الليل زفير الوقت
بلا أصفاد
يتعرى من أسوار الضوء
ومن صمته
ليل يتشظّى حقلاً من سنديانة
ويقطف من صوته
وريد النهار
بين هذا الليل ومواسم الصبّار
فجر يحرق المدى
ويصلب صهوة الزمن
وبين شوارع المدينة وأسماء الصباح
حممٌ تتمدّد فوق قمر مبتور
مثل برق لا ينطفئ


2
الماء المتعب من النهر
يرتاح قليلاً من عبء الأوراق
في عبق الحقول
كأنه واحة للشقاء
يصحو التراب من غفوته
والهديل على العشب
قزحي التحليق
تُحار به المواسم
يركض الصغار مثل الغزلان
في مواسم الحزن
يكتبون دهشتهم
فوق حواف المساكب
كأنهم زنابق تنتظر عناق


3
مواعيد غابت مثل سطور بائدة
وأخرى تنتظر
قد ضجرت النوافذ الوجوه
وأحلام تتراكم كعيون مالحة
في عتمة السواقي
عظام عرّتها ريح النرجس
خلف الشواهد
قرب حدود القهر أو أبعد
قامات يغسلها الليل مرتين
تلتحف اللحد
تصلي قبل التراب
حتى يزهر الطين
ثم تنام


4
مددٌ مددْ
تفر الدروب إلى التلال
الموت يتناسل في جوف المدينة
والمقابر تبحث عن الأكفان
مدد يا رب المكان مدد
أين المفر؟
النور الراقد وجوه الطفولة
والموت عقارب تراقص العتمة
لكننا باقون يا ربي
حتى تتمزق أعناق الرجال
أو نشهق فرحاً وننفطر
بساتيناً وعصافير


5
نرتمي على لبادة الصمت
فقاعات في غبش الغابة
يسكننا القهر منذ قافية الماء
يرسم الصنوبر أوراق المطر
حفيف على ظلال بلا جسد
والقناديل تكتب الهاوية
بلا صرير
هكذا عند ساقية الدهشة
يقتلعنا المعنى
لنمضي على أرصفة الخذلان
الممتدة نحو الشراع
ننكسر لكن أجنحة قلوبنا
تنتفض ما زالت
مثل مأوى للمارقين


6
خلف الفوانيس النائمة
يحاصر الأنين الستائر
تعجن الصلاة الحزينة
دموع الغائبين
تختنق المناديل
ترتعش سدرة الوجع
بياضاً على هيكل الفراغ
ويحلق وتر العين
نحو السراب الراحل
لا ترى المسافة
لكن الدروب تحكم الإغلاق


125
الأدب والصحافة.. زواج مقدس
 قراءة في التجربة الفلسطينية

حسن العاصي
كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في الدنمرك

مند تأسيسها، ساهمت الصحافة الفلسطينية والصحافيون الفلسطينيون في تطوير الحركة الصحافية العربية وإنضاج تجربتها، كما ساهم الأدب الفلسطيني والأدباء الفلسطينيون كذلك بفعالية في إغناء الحياة الثقافية العربية وجعلها أكثر إبداعاً وجمالاً.
وكان لبواكير الأعمال في فن القصة مثل أعمال الأدباء الفلسطينيين غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبيبي، وأيضاً إبراهيم نصر الله، كان لها دور طليعي في رفد الأدب العربي بأعمال مهمة لعبت دوراً في تبلور وتطور فن القصة العربي، بل إن الأدب الفلسطيني أظهر قدرة على معالجات متميزة ومتفردة عربياً، مثل رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” للأديب إميل حبيبي.
وبالرغم من أن الشعر هو نوع الأدب الذي يفيض به النشاط الثقافي الفلسطيني أكثر من غيره من الأصناف الأدبية، وهو أمر يتميز فيه الفلسطينيون في سياق الحركة المتطورة في الأدب العربي، إلا أن المتابع للإنتاج الأدبي الفلسطيني يلاحظ تطور هذا الأدب في الرواية والقصة والنقد كما هو حال الشعر.
ومما لا شك فيه أن النكبات المتتالية التي عانى منها الشعب الفلسطيني، كان لها الأثر الواضح في مجمل الأعمال الأدبية وخاصة في مجال الشعر، الذي صوّر معاناة الفلسطينيين، وعبّر عن الذاكرة الشخصية والجماعية التي تضمنت كافة المنعطفات السياسية والاجتماعية التي تعرضوا لها، منذ نهاية القرن التاسع عشر.
كل هذا الوجع الفلسطيني شكل مادة دسمة للأدب الفلسطيني الذي تميز بكونه أدباً يحض على الشجاعة والإقدام، أدباً يدعو إلى حب الوطن وإلى مواجهة الظلم، وأدباً يفيض معاناة ويمتلئ بالأحاسيس التي تلامس مشاعر وأذواق القراء الذين يتفاعلون مع الأدب الفلسطيني ومع قضيته.
لقد ظهرت الصحافة والعمل الصحافي في فلسطين كخامس دولة عربية بعد مصر ولبنان وسورية والعراق، وهذا يمنح الصحافة الفلسطينية عراقة تاريخية ما زالت تراكم تجربتها حتى يومنا.
بالرغم من أن الصحافة الفلسطينية منذ انطلاقتها واجهت مضايقات رقابية وحصاراً من قبل السلطات العثمانية التي كانت تحكم فلسطين، حيث كانت الصحف تعتبر ناطقاً رسمياً باسم الحكومات القائمة، لذلك اعتبرت السلطات العثمانية ما تتضمنه الصحف أمراً خاصاً بها، هي وحدها تجيز وتمنع وفق أهوائها.
يعد الانتداب الذي فرضته بريطانيا على فلسطين، مرحلة جديدة للصحافة الفلسطينية التي دخلت في كوارث متتابعة من المعاناة، إذ أقدمت السلطات البريطانية على اعتماد سياسة إغلاق الصحف والتضييق عليها، والقيام باعتقال الصحافيين، والتكتم على المعلومات ومحاولة حجبها عن الصحافة، كما عانت الصحف من الرقابة الشديدة على محتوياتها، وقد استمرت هذه المعاناة طوال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين التي استمرت ما يقارب الثلاثة عقود.
إن حال الصحافة الفلسطينية بعد النكبة لم يكن في وضع أفضل، فعلى سبيل المثال عانت هذه الصحافة من الإجراءات المتشددة والرقابة المسبقة في ظل حكم الإدارة المدنية الأردنية للضفة الغربية، بالرغم من أن هذه الفترة شهدت تأسيس عدد من الصحف والمجلات الجديدة.
ورغم التوسع الذي حصل إلا أن الرقابة الحكومية فرضت على الصحف خطاً تحريرياً لا يخرج عن السياسات الحكومية، وكان مقص الرقيب يتدخل في أية مادة صحافية منشورة لا تنسجم مع الموقف الرسمي الأردني.
ولا يختلف حال الحياة الصحافية كثيراً في قطاع غزة الذي وقع تحت الحكم المصري، إذ عانت الصحافة من مشكلات كثيرة أهمها مقص الرقيب وغياب الخبرة، وعدم وجود مؤسسات إعلامية، إضافة إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب والمعقد الذي كان يعاني منه قطاع غزة.
يلاحظ في تلك الفترة وما تلاها، أن الصحافة الفلسطينية انغمست كثيراً في القضايا السياسية وقضايا التحرير، ومواجهة الخطر الصهيوني، بالإضافة إلى ذلك فقد طرأ عنصر جديد على هذه الصحف في تلك المرحلة أيضاً هو أن معظم الصحف والمجلات الفلسطينية بدأت في تخصيص قسم للثقافة فيها، حيث بدأت هذه الصحف تنشر الأعمال الشعرية والقصصية والمقالات الثقافية.
وفي فترة الاحتلال الإسرائيلي بعد العام 1967 ظلت الصحف الفلسطينية تعاني من الرقابة والتضييق، حيث قامت إسرائيل بممارسة مزيد من الضغوط النوعية التي لم تشهدها هذه الصحف، خاصة في ظل الرقابة العسكرية التي أجبرت الصحف بالحصول على موافقة مسبقة على كافة المواد المنشورة، وفي ذات الوقت استمرت هذه الصحف في مواجهة هذه الضغوط بكافة وسائلها، واستطاعت أكثر من عشرين صحيفة جديدة الحصول على تراخيص للإصدار في تلك المرحلة.
أبرز ما ميز الصحافة الفلسطينية في فترة الاحتلال الإسرائيلي، أنها صحافة ثبات ومحافظة على الوجود، ولم تكن صحافة مجابهة ومقاومة، إذ أنها انشغلت في الحفاظ على المكونات التي تحمي هوية الشعب الفلسطيني من الضياع، وعملت على تعزيز مفهوم الحقوق الوطنية في نفوس الفلسطينيين، كما أنها لعبت دوراً هاماً في فضح تصرفات الاحتلال الإسرائيلي.
التطور اللافت والمنعطف الهام الذي حصل في القضية الفلسطينية العام 1994 حين تم الإعلان عن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، هذا العنصر المستجد أوجد وقائع جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، من أهم ملامح هذا الواقع هو انتقال سلطة الحكم الإداري من إسرائيل إلى الطرف الفلسطيني، وبقاء السيادة السياسية لإسرائيل.
حاولت السلطة الفلسطينية استثمار هذا العامل الجديد، واتخذت إجراءات تمهد لبناء نواة دولة فلسطينية قادمة، فقامت بإصدار قانون المطبوعات والنشر الفلسطيني في العام 1995 وكان هذا الأمر دليلاً واضحاً على اهتمام السلطة الفلسطينية بقضايا الصحف والإعلام والأدب والنشر، وتنظيم العلاقة بينهما من جهة، وبين وسائل الإعلام والمجتمع من جهة أخرى.
وقد تميزت هذه المرحلة بنشاط زاخر وحركة صحافية وعمل ثقافي واسع بهدف إحداث تطور ونقلة مهمة للحياة الصحافية والثقافية بشكل عام، بالرغم من قلة الإمكانيات لدى الفلسطينيين قياساً بالأشقاء العرب، إلا أن حراكاً إعلامياً كان قد بدأ بتفاعل كافة القوى السياسية الفلسطينية، وكانت الصحف هي الوسيلة التي تعكس هذا التفاعل.
انتشرت الصحف والمجلات الفلسطينية في عهد السلطة، وكانت تعكس التنوع السياسي والمزيج الفكري للشعب الفلسطيني وقواه السياسية. وهنا ظهر عامل جديد، إذ أصبحت الصحف أيضاً تخضع لقوانين السلطة إضافة لخضوعها إلى نفوذ إسرائيل.
كما أن إسرائيل بقيت مستمرة في اعتماد سياسة استهداف الإعلام الفلسطيني الذي أصبح خاضعاً للسلطة الفلسطينية، لكن إسرائيل تستهدفه كما تستهدف كافة مناحي حياة الفلسطينيين.
الأبرز هو استمرار القيود الإسرائيلية التي كانت مفروضة على الصحف والصحافيين الفلسطينيين، مثل القيود على حرية الحركة، واعتقال الصحافيين وضربهم أثناء تغطية الأحداث، ومنهم من قامت إسرائيل بقتله.
فيما يرتبط بالحياة الأدبية الفلسطينية، كان الأدباء الفلسطينيون يكتبون أعمالاً لأنفسهم، ولم تكن تشغلهم في فترة بداية القرن العشرين وما قبلها، فكرة عرض أعمالهم على القراء.
ويتفق الباحثون على أن الأديب الفلسطيني يوسف الخالدي هو الوحيد بين أقرانه في تلك المرحلة من حاول نشر أعماله الأدبية، لكنه لم يتمكن من ذلك لأسباب تتعلق بظروف عمله.
بينما تمكن الأديب روحي الخالدي الذي كان ديبلوماسياً في باريس، من نشر كتابه “تاريخ علم الأدب عند العرب والافرنج” في مجلة الهلال المصرية على حلقات، بعد أن أقام علاقات صداقة مع صحافيين مصريين، الأمر الذي فتح له باب الشهرة.
وفيما بعد تمكن روحي الخالدي من نقل جزء من الثقافة الغربية إلى القارئ العربي عبر ترجمة عدد من النصوص والأعمال الغربية ونشرها في الصحف المصرية بداية ثم في صحف أخرى.
وكان روحي الخالدي من الأدباء الذين يصوغون أعمالهم بطريقة تصل إلى المتلقي بسهولة كما أن أعماله تضمنت الكثير من قيم الأصالة، ويعتبر من رواد الأدب الواقعي.
وكان لأعماله التي نشرت الأثر الواضح في صياغة مفاهيم لغوية جديدة لدى عدد كبير من الكتاب والأدباء العرب والفلسطينيين، وبدأ الأدباء يميزون بين الأصناف الأدبية الغربية بفعل جهود روحي الخالدي.
نحن نتحدث هنا عن فترة بداية القرن العشرين، حيث بدأ الأدب الفلسطيني يحبو وينمو ويتطور بشكل بطيء. ولا يمكن الحديث عن تلك الفترة دون ذكر أسماء الأدباء الرواد، وأبرزهم الشيخ يوسف النبهاني، ونخلة زريق، وخليل السكاكيني، ومحمود حمدي.
وظهر في تلك المرحلة تيار من الأدباء لم يكن معروفاً من قبل، اعتمد الشعر والنثر الذي يعالج قضايا اجتماعية واقعية، أو ما يعرف بالشعر القصصي، ولعل ديوان الشاعر “إسكندر الخوري البيتجالي” الذي أصدره العام 1919 باسم “الــزفرات” خيــر دلــيل علــى ما ذكرت.[1]
إن الشاعر البيتجالي نسبة إلى “بيت جالا” القرية التي ولد فيها، كان سبّاقاً في الدعوة إلى الشاعرية الاجتماعية، حيث قدم الشاعر نفسه العديد من الأعمال الأدبية التي عالجت بالشعر قضايا اجتماعية، وهو بذلك مهّد الطريق أمام هذا النوع من الأدب الذي بدأ يعكس المفاهيم الاجتماعية السائدة، وقيم المحبة والخير بأسلوب مختلف عما كان سائداً.
ورغم هذا فإن الإنتاج الأدبي في فلسطين كان محدوداً، لكن قيام السلطات العثمانية بإصدار دستور عام 1908 كان له أثر في تطور اللغة العربية حيث دخلت مصطلحات جديدة لم يعهدها الناس من قبل، مثل الدستور، والحرية، والقومية، والأمة، ترافق ذلك مع تبلور الطبقة الوسطى في المجتمع التي اهتمت بإصدار الصحف السياسية، وحرص بعض شرائحها الاجتماعية على تملك هذه الصحف، واتسعت دائرة القراءة وانتقلت من النخبة إلى الجمهور.
كما قامت الطبقة الوسطى بتأسيس الأندية الثقافية والاجتماعية، ما أنعش بشكل متدرج الحياة الثقافية الفلسطينية، حيث كانت هذه الصحف والأندية تعبر عن هذه الطبقة ومصالحها، عبر المقالة السياسية والأدبية، وعبر كتابة المذكرات، والمواضيع اليومية، بحيث تماهت الصحف مع واقع وتطلعات الطبقة البرجوازية.
يمكن أن نلاحظ هذا التماهي من خلال مطالعة عناوين صحف تلك الفترة، والتي تعج بمفردات من نوع: الحرب والسلم، والاقتصاد والسياسة، والبناء الاجتماعي، والإصلاح، والنهضة ودور الشعوب.. الخ، وجميعها قضايا تمثل واقع حال الطبقة الوسطى ومشاكلها.
وهكذا أصبحت هذه الطبقة تمتلك أدباء وكتّاباً يعبرون عنها، مما شجع على زيادة أعداد الصحف وبالتالي زيادة عدد المطابع، هذا من جهة، الأمر الذي أسهم في ازدياد أعداد الكتاب من جهة أخرى، ومن أبرز هؤلاء الأدباء والكتاب في تلك المرحلة العثمانية نذكر: خليل السكاكيني، وخليل بيدس.
من المعروف أن اللغة العربية تأثرت على مر التاريخ بلغات أخرى منها اليونانية والفارسية، إلا أن تأثير اللغة التركية أيام العهد العثماني ظل محدوداً ويقتصر على اللهجة المحكية بين الناس، لكن الفصحى لم تتأثر، وفي سياق الأدب الذي نتحدث عنه هنا، لم نجد أي نص باللغة التركية لأي أديب فلسطيني، ولا حتى نصاً منقولاً من التركية إلى العربية، بالرغم من أن العديد من الأدباء الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا يجيدون اللغة التركية.
لقد عرف الأدب العربي الشعر المترجم وأنواعاً مختلفة وحديثة من النثر الأدبي، وكذلك فن المقالة، والرواية والنقد، من خلال انفتاحه على الأدب الغربي الذي رفد الأدب العربي بأنواع لم يكن يعرفها العرب. وكانت الصحف والمجلات هي الوسيلة الشعبية الوحيدة لنشر الإنتاج الأدبي، وهكذا بدأ عامة الناس يتعرفون على أنماط جديدة من الأدب ومن أساليب الحياة لم تكن معروفة من قبل.
إن ظهور هذه المفاهيم الجديدة في منطقتنا قادمة من الغرب وما حملته من مفردات ألهمت الكثيرين ومن ضمنهم الأدباء، مثل التربية والتعليم، وإنشاء المدارس، وتعليم المرأة وتحررها، والحجاب والحياة المدنية، إلى ما هنالك من الشعارات والمواضيع التي كانت تزخر بها المجتمعات الغربية وصحافتها وأدبها.
اجتمعت عناصر تأسيس وانتشار الصحف، وتحسن مستوى التعليم، والتواصل والانفتاح مع الغرب، وإقامة أندية ثقافية واجتماعية، لتشكل بداية لظهور علاقات جديدة في فلسطين. فالأدباء الفلسطينيون الأوائل كانوا أناساً أكاديميين يمتلكون العلوم الأدبية وأصحاب ثقافة كبيرة، وسافروا إلى بلدان متعددة، ويتحدثون لغات أجنبية.
إن ما سبق ذكره مهّد الطريق أمام بداية تأسيس الثقافة الفلسطينية، التي شكل عمودها الفقري نشوء الصحف وانتشارها، وفتح نافذة للتبادل الثقافي والمعرفي مع الدول الغربية، ساهم في مد هذه الجسور الطلاب الفلسطينيون الذين تخرجوا من مدارس الإرساليات، أو ممن تم إيفادهم للتحصيل العلمي في الجامعات الغربية، الأمر الذي أثرى الثقافة الفلسطينية من منابع معرفية متعددة.
وتعرفت الثقافة الفلسطينية والأدباء الفلسطينيون على فنون إبداعية لم يكونوا يعرفونها مثل السينما والمسرح والتمثيل والديكور وما شابه من مفردات حديثة. كما جرت عملية بلورة للاتجاهات الأدبية السائدة بشقيها الكلاسيكية والرومانسية، وتنوع أشكال الكتابة ومناهج النقد الأدبي.
طبعا كانت الصحف هي الحاضن الطبيعي لولادة هذه الأفكار والمفاهيم الثقافية الجديدة، وكذلك كانت الصحف الجسر الذي عبرت خلاله الكثير من المصطلحات والمفردات اللغوية والأدبية والسياسية الجديدة إلى شرائح واسعة من الناس، من خلال استخدامها من قبل الأدباء والكتاب في المقالات والأبحاث والنصوص التي كانوا يكتبونها وتنشرها الصحف.
ليس هذا فقط، بل قامت الصحف والمجلات الفلسطينية بدور فعال في إحداث تغييرات في السلوك والحياة اليومية للفلسطينيين عبر ما تنشره من قصص وروايات مترجمة، وهي بذلك أسهمت في صياغة مقاربات معيارية للحداثة وللذائقة على المستويين الشخصي والعام.
أيضاً، كان للصحف الدور الهام في فتح الأبواب أمام ترجمة الأدب العالمي إلى اللغة العربية، واعتبر الأدب المترجم عنصراً من عناصر الثقافة، وواحداً من الأنماط الأدبية الحديثة التي كان لها تأثير على اللغة العربية وتطورها وعلى الحياة الأدبية الفلسطينية بشكل عام من خلال التعابير والمفردات التي جلبتها الصحف والمجلات للأدب العربي، وأدخلت هذا الأدب في طريق الحداثة.
من أهم الصحف والمجلات الفلسطينية التي قامت بهذا الدور التنويري نذكر مجلة “النفائس العصرية” لصاحبها خليل بيدس التي كانت تصدر في مدينة القدس، وكذلك مجلة “الزهرة” لمؤسسها جميل البحيري وكانت تصدر في مدينة حيفا. ([2])
ولا بد من الإشادة بالدور النشط الذي لعبه النقد الأدبي في تعزيز هذه المفاهيم الجديدة، من خلال الاستخدام المتكرر للعديد من العبارات والمفردات العربية الحديثة التي استحسنها المتلقي فأخذت تحتل مكاناً في الحياة اليومية للناس.
وقد كتب بهذا الشأن عدد من النقاد والأدباء ومنهم خليل السكاكيني، الذي دافع عن أهمية تطور اللغة، والضرورات التي تمليها المتغيرات التي تحصل في المجتمع لهذا التطور، وأشار إلى أن اللغة تحاكي التاريخ من حيث أن مفرداتها وتراكيبها تشير إلى الفترة الزمنية التي استخدمت فيها هذه التعابير، وهذا يجعل من اللغة كائناً حياً يتطور وينمو.
وكما أسلفنا فإن انعكاس هذا التطور والنمو نلمسه في الصحف الفلسطينية التي ساهمت بنشر ما هو حديث في اللغة عبر المقالات والنصوص، وبهذا ساهمت الصحافة في تطور وعي البشر أيضاً وتطور تفكيرهم ومعارفهم ونظرتهم للأشياء.
ومن أهم المجلات والصحف التي شكلت حاملاً لهذه الحداثة وتقديمها للعامة، مجلة الكرمل، والإنصاف، والترقي، والأصمعي وغيرهم.
ولعل أبرز التعابير الحديثة التي دخلت إلى عالم الصحافة حينذاك، والتي كانت تحاكي الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في تلك الفترة، القومية، والنهضة، والاستقلال، والاستبداد، والفكر الاشتراكي، والعقيدة، وحقوق الإنسان، والمساواة، والتجديد، والعديد من المفردات الأخرى التي أصبحت تستعمل في مجال الفنون الأدبية والمسرحية والإذاعية، ومصطلحات فلسفية وسياسية وحقوقية واجتماعية.
والصحف التي نشرت هذه المصطلحات منحتها أيضاً معانيها الحقيقية من خلال ربطها بالواقع المعيش، وعبر ذكر أمثلة محددة، وكذلك عبر الحرص الذي أصبح يوليه الصحافيون الفلسطينيون في استعمال هذه التراكيب الجديدة في مقالاتهم، وحرص الأدباء على استعمالها في نصوصهم وإنتاجهم الأدبي، وبهذا نستطيع القول إن الصحافة الفلسطينية ساهمت بشكل فعال في تشكيل وتبلور ما يمكن أن نسميه الثقافة الوطنية الفلسطينية، من خلال الدور الكبير الذي قامت به الصحف في نشر المعرفة، وحماية مكونات الشخصية الفلسطينية من الاندثار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الصحافة بلا شك قد احتلت موقعاً مهماً في سياق تطور اللغة العربية ورفدتها بعوامل استمرارها وتجددها كي تظل لغة نشيطة ومواكبة للتطورات المختلفة في المجتمع.
في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، اعتبرت سلطات الانتداب أن اللغة العربية هي اللغة الثالثة في فلسطين، بعد الإنجليزية والعبرية، وسخروا من العربية التي اعتبروها لغة لا تناسب المجتمعات المتطورة، وهذا ما وضع اللغة العربية في مواجهة خطر اضمحلالها وتراجعها، ومن أجل الضغط أكثر على العربية، أصدر الانتداب قراراً بضرورة المعرفة الجدية للغة الإنجليزية لكل من يرغب في تولي وظيفة من العرب.
وهنا مرة أخرى قامت الصحافة الفلسطينية بدورها في حماية اللغة العربية سواء من جانب الخطابات والمراسلات الحكومية، أو من جانب ما يمكن أن يسيء إلى اللغة العربية عبر الترجمة السيئة لكتب أو أعمال أدبية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.
وقد تصدى لمهمة الدفاع عن اللغة العربية مجموعة من الأدباء والكتاب الفلسطينيين، من خلال النقد المباشر أو تقديم نموذج للآخرين عبر الاستخدام الأمثل للعربية وكيفية توظيف اللغة في المقالات والتقارير والنصوص الأدبية.
أيضاً اهتمت الصحف الفلسطينية بنشر الأبحاث والدراسات التي قام بإعدادها عدد من الكتاب مثل السكاكيني والنشاشيبي، اللذين كانا يسافران خارج فلسطين لإلقاء المحاضرات حول اللغة العربية.
ختاماً، نستخلص من كل ما تقدم أن الصحافة الفلسطينية نشرت جميع الإنتاجات الأدبية، ووقفت إلى جانب المبدعين والأدباء والكتاب، وأسهمت بشكل قوي في نشر المفاهيم الحداثية فيما يتعلق باللغة أو بالحياة عموماً، ولها الفضل في نقل الأدب الغربي للقارئ العربي، ودورها المهم في بقاء واستمرار اللغة العربية وحمايتها وكذلك تطورها في مختلف المراحل التي مر بها الشعب الفلسطيني وصحافته وأدبه.
الهوامش:
 
[1] انظر: ديوان العرب، قسم الأدباء والكتاب الفلسطينيين، http://cutt.us/tebf4).
[2] انظر: مركز المخطوطات والوثائق الفلسطينية، http://cutt.us/nJCHi).


126


كي نبرأ من اليباس

حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


لأجل رحيلهما أبتكر للغياب مصائد للحياة



لم يعد قلبي كما كان
تعثّرت طيوري في درب الريح
تاهت ناصيتي وأصبحتُ يتيماً
ونهري أضحى عارياً
صار لي عصفورين في غابة الغرباء
كانا مثل رحيق البسمة
بلسماً لكل داء
كأنهما ساقيات الكروم
يبحثان عن العناقيد العابرة
أصبحا حزن يجثم فوق غصن الوريد
بعيد كلاهما
مثل أرجوحة غادرت ساحة العيد
وأنا في هذا الدمس الشديد
تذبل داليتي وعيناي تشتهي الجنون
وعصافير لا ترحل
نصفي ضاع هناك قرب السور
على أطراف الحجارة
حيث الشقيقات المكلومات
 يزاحمن دمعي على القبور
وعاد نصفي مسافة شاحبة
كمد يطوي خطاي
وصور تفصد وريد الحياة
لا قرار لهذا الشقاء
غزير بالحزن والانكسار
من يمتلك سر هذا الرماد؟
ومن للحجر البارد يفسر زخّات التراب؟
وحدها العَرَبة هنا ضالعة في نحري
تكتظ بالوجوه المتوقّدة في سكينتها
قد أعيا الرحيل جهاتي يا ربي
وضاق بي دربي
تراني أقبض بالبصيص الباقي
كي ينام الوقت قليلاً أو لا يستيقظ
لأنني كثيراً كثيراً أخاف
في عتمة العمر
ازدحام الغصن بالعصافير
وأخشى سقوط هامة الطريق
لعل حين يشدّني البياض ويأتي موتي
يغفو نصفي في كف أبي
ونصفي قرب أضلاع الشقيق يرقد
أقصص حزني ووحشة ثوبي
أقتسم معهما رحلتي بما أنبتت
إذ يبتلع البحر الغابة
حيث لا فراق ولا جدران
ولا طيوراً تنقسم أجنحتها
هنا أقبع وحيداً مثل نعش يخشى بياضه
يتدحرج تيهي مرتبكاً فوق الصناديق
مثل ندف الحزن يتدفق
لا ينفع فيه سبات ولا جنون
أوشك تعبي أن يصل
تعالوا نتوغل في المقبرة
كي نبرأ من اليباس
أبداً لم أكنْ أحدثكم هنا عن الموت
ولا عن وجع الفراق
هنا كنتُ أحدثكم عن والدي محمد وأخي حسين


127
أدب / أغمضت الغابة عشبها
« في: 13:26 15/04/2018  »


أغمضت الغابة عشبها


حسن العاصي


يتشقق وجه الصباح
تذوي الشمس السوداء
يطفو على الجفاف
جوع الصغار
يترصد حليب الأمهات
ولجت سدرة العين
كي ترضعني جدتي
لازالت أفواه القتلى
تلاحقني


لا شيء في رحيل الانتظار
سوى فراغ الوقت
غبار المكان
جدران باردة
ذاكرة عابرة للأزمنة
مواعيد لا نوافذ لها
ومعصية الدروب


أغمضت الغابة عشبها
خرجتْ من النهر
أقامتْ نذرها
تمدّ للشجر ما بقي من التراب
انقسمت الرؤى مثل البيان
والماء يجري حافياً
ليرشف من درب النهار
نقطة ضوء


انتهى الموكب
غراب المقابر يجوب الجسور
يكمّم عين الوقت
الضجيج المقدّد ينقسم على صوته
وخلف صور العتمة الأولى
يتحجّر الفراغ
كان الفجر يموت


ما سر تلك الروافد الحزينة
رائحة الغيم الناعم لون عينيك
اقطف غصّة البكاء
قالتها ومضت
قاب صبح أو أقصى
عبرت أرصفة الضياع
وحدك باقٍ يا وطن الموت
قهر يملك كل الأسماء
وسفر ينهش توت البساتين


في أحلامي ترقص غجرية
بخلاخل من فضة
أحجار تقضم أضلاع امرأة عجوز
وسوسنة سوداء
يُبعث من رحمها عقبان
تنهش عصافير الصباح
أحلامي ألملمها من قارعة
كتاب التاريخ


128
أدب / درب الأراجيح مغلق
« في: 21:04 22/03/2018  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


درب الأراجيح مغلق
1
لا فطام للغابة الحافية
من جنون المطر
يغسل خطايا الشجر
حين استيقظت عصافير الصباح
أغلق الغيم نوافذه
ونام

2
كيف للمنكسر على أعتاب الحقول
أن يقبض على أحلام موصدة
تسقط فوق البيادر
أوراق ظمأى
تذروها الريح الحزينة


3
يتدحرج صدر الحزن
في حكاية الجدة
موحش هذا الغياب
تتكور الطفلة فوق صورة الأم
مازال قلبها صغير
جداَ صغير


4
قد بلغ الاحتضار بذرة الحياة
يرشح شجر السنديان
بخار أصفر
قال لها أعينيني على الوَرَعِ
قالت
كيف نراوغ الطيف المتعرج
في نافذة الموت
ونحن عراة
أخشى أن أفقدك


5
لا شيء يختم سفر الانشطار
لا تراتيل التكوين
ولا رقص الدراويش
المدينة أغلقت الصلاة
لتتكاثر الأكفان


6
تفاصيل الحزن
ويدك المنزّهة عن أوجاعي
يقتحمان ثرثرة القصيدة
وعربة الدموع التي داهمتني
شيّعتني على أكف الصمت

6
جنائز الغرباء
على بعد طفولة
من باحة البكاء
نعش يسترق الحياة
لكن
درب الأراجيح مغلق


7
المواسم كئيبة
والحقل حزين
خلف السور تسير قوافل الجوع
يوشك المطر أن يرتبك

129
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


فلسطين في التجاذبات الافريقية-الإسرائيلية

هل ولّى الزمن الذي كانت فيه افريقيا صديقة فلسطين وحليفتها؟ هل تذكرون يوماً كانت فيه دول الاتحاد الافريقي تصوت ككتلة واحدة ودون تردد لصالح القضية الفلسطينية في المحافل الدولية؟ هل انشغلت دول القارة السمراء في معالجة مشاكلها الداخلية عن نصرة الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة؟
أحقاً ذهب ذاك الزمن الذي كانت القارة الإفريقية بأسرها تقريباً تُقاطع فيه إسرائيل؟
هل تراجع الاهتمام بقضايا الحق والمبادئ والقيم والعدالة الإنسانية في إفريقيا -كما هو حال بقية العالم- وحل مكانها السياسات البراغماتية التي تراعي تحقيق المصالح والمنفعة؟
وهل نجحت إسرائيل في توجيه أنظار بعض الدول الافريقية بعيداً عن القضايا العربية؟
الإجابة على تلك الأسئلة هي "نعم". هذا ما حصل خلال السنوات الماضية نتيجة جملة من الأسباب.
دعونا نفهم ما الذي حصل
في نهاية العام 2017 خاضت الدبلوماسية الفلسطينية والعربية معركة مفصلية تعلقت بمواجهة قرار الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" القاضي بنقل السفارة الأمريكية من مدينة "تل أبيب" إلى مدينة القدس الشريف. اجتمع مجلس الأمن الدولي نتيجة هذه التحركات بتاريخ 20/12/2017، في جلسة طارئة بدعوة من ثماني دول لبحث قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بشكل أحادي بالقدس عاصمة لإسرائيل. وتقدمت المجموعة العربية ممثلة بمصر مشروع قرار يطالب الولايات المتحدة بسحب اعتراف "ترامب" بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكن القرار لقي معارضة شديدة من الولايات المتحدة التي استخدمت حق النقض ضده، بالرغم من وجود قرار رقم 476 صادر عن مجلس الأمن فى 30 يونيو 1980 رفض فيها المجلس قيام إسرائيل بضم القدس الشرقية، واعتبر ذلك معوقا خطيرا أمام تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط، وقرر المجلس كذلك عدم الاعتراف بما يسمى القانون الأساسي الصادر عن الكنيست الذى اعتبر القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وأنه لاغٍ وباطل.
في اليوم التالي بتاريخ اجتمعت الجمعية العامة للأمم المتحدة في مدينة نيويورك بتاريخ 21/12/2017، لكي يتم التصويت على قرار يدعو الولايات المتحدة إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل. صوتت 128 دولة لصالح القرار ولصالح القدس، فيما اعترضت 9 دول، وامتنعت 35 دولة عن التصويت لصالح القرار الذي استبقه البيت الأبيض بالتهديد بوقف المساعدات المالية التي تقدمها الولايات المتحدة لبعض الدول إن صوتت مع القرار.
الدول التي صوتت ضد القرار وضد فلسطين هي الولايات المتحدة الأمريكية، إسرائيل غواتيمالا، هندوراس، توغو، ميكرونيزيا، ناورو، بالاو، جزر مارشال.
كما امتنعت 35 دولة عن التصويت هي: البانيا، اندورو، استراليا، جزر البهاما، باربادورس، البوسنة والهرسك، بلغاريا، الكاميرون، كولومبيا، كرواتيا، الكونغو، استونيا، فيجي، المانيا، غواتيمالا، هاييتي، هنغاريا، لاتفيا، لتوانيا، ملاوي، موناكو، منغوليا، مونتينيغرو، هولندا، بابوا غينيا الجديدة، الباراغوي، بولندا، جمهورية كوريا الجنوبية، جمهورية مولدوفا، رومانيا، روندا، ساموا، سان مارينو، سنغافورا، سلوفاكيا، سلوفينيا، مقدونيا، التوغو، تونغا، بريطانيا، فانواتو.
الدول التي وقفت بجانب الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل، هي دول صغيرة وتستفيد من المعونات الأمريكية، وبالتالي خشيت من غضب البيت الأبيض.
كان اللافت في هذه المعركة الدبلوماسية هو تصويت دولة "توجو" الافريقية ضد مشروع القرار العربي، وبالتالي ضد فلسطين والقدس الشريف. فيما قررت خمس دول أفريقية أخرى «جنوب السودان وأوغندا ورواندا والكاميرون وبنين» الامتناع عن التصويت لصالح أو ضد القرار، أى اختارت الحياد، وهو موقف غريب من دول تنتمى لقارة كثيرا ما عرفت بموقفها الواضح والمساند للقضية الفلسطينية.
إن التبدل الذي يحصل في المواقف التاريخية لبعض الدول الافريقية من إسرائيل يأتي منسجماً مع نجاح إسرائيل في الدخول بقوة إلى عمق القارة السمراء، وهي تجني ثمار هذا التدخل، فيما يستمر العرب سباتهم وكأن شيئاً لا يحدث.
الملاحظة الأخرى التي يمكن التوقف عندها فيما حدث، هو عدد الدول التي امتنعت عن التصويت وبلغ 35 دولة، وهو العدد الأكبر من الدول في المحافل الدولية، التي تقف محايدة فيما يتعلق بقرارات مرتبطة بالقضية الفلسطينية في تاريخ صراعنا مع الكيان الصهيوني منذ قيام دولة إسرائيل. هذا يتطلب من القيادة الفلسطينية أولاً ومعها العرب التوقف أمام ما حصل، وإجراء مراجعة لعلاقاتنا مع هذه الدول كي نفهم بشكل موضوعي لماذا اختارت أن تقف على الحياد في موضوع مدينة القدس، حتى لا تتحول من دول محايدة إلى دول مؤيدة لإسرائيل، إذا استمر التجاهل العربي والفلسطيني للمسببات، خاصة ما يعنينا هنا وهو الاختراق الإسرائيلي للقارة السمراء.
على الرغم من قيام الاتحاد الافريقي بإلغاء القمة التي كان من المزمع عقدها بين أفريقيا وإسرائيل في عاصمة توغو في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017، إلا أن شيئاً ما زال لم يتغير بطبيعة الحال في العلاقات الافريقية-الاسرائيلية، وما جرى في الأمم المتحدة بعد أسابيع من إلغاء القمة يدلل على أن ليس هناك أية دلالات سياسية لهذا القرار-أقله للآن- بسبب عمق الروابط التي نسجتها اسرائيل عبر عقود مع بعض الدول الافريقية.

انحسار الدور العربي في افريقيا
إن تراجع الحضور والدور العربي في القارة السمراء ولأسباب متعددة، وذلك منذ انتهاء مرحلة الحرب الباردة وظهور العولمة. بالرغم من أن عشر دول عربية تقع في افريقيا، هي (الجزائر، المغرب، مصر، وليبيا، والسودان، وتونس، وموريتانيا، وجزر القمر، وجيبوتي، والصومال). وأن حوالي 71 بالمائة من مساحة الوطن العربي تقع في افريقيا، ويعيش 68 بالمائة من العرب في القارة الافريقية، وكذلك فإن العرب يتشاطرون مع عشرات الملايين من الأفارقة الدين والثقافة والتاريخ إضافة إلى الديمغرافيا، كما عانى العرب والأفارقة كلاهما من الاستعمار الخارجي. واضيف أيضاً عاملين مشتركين أولهما أن العرب والأفارقة ما زالا تحت تأثير وهيمنة السياسات الخارجية للدول العظمى، والثاني أن كلاهما يعانيان من غياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة والمحددة لمستقبل العلاقات العربية-الافريقية، وليس هناك لدى أصحاب القرار في كلا الجانبين مقدرة على ترتيب الأولويات الضرورية للتعاون المشترك. ويرغم أن الحفاظ على الأمن الإقليمي القومي العربي والافريقي يرتبط بمستوى تطور وعمق العلاقات العربية-الافريقية، إلا أننا لا نلاحظ اهتمام لا عربي ولا افريقي بهذا الأمر، وهو ما أتاح لإسرائيل استغلال التراجع العربي عن الساحة الافريقية كي تتمدد أذرعها ضمن هذا الفراغ.
انشغل العرب بداية من العقد الأخير في القرن الماضي بمشاكلهم الداخلية، وابتعدوا رويداً رويداً عن القارة الإفريقية، القارة الجارة، القارة التي تشكل العمق الاستراتيجي للأمن القومي العربي، القارة الصاعدة التي تحتاج بعض الدول فيها إلى كل معونة ومساعدة ممكنة من دول أكثر تطوراً وثراءً، تحتاج الدعم الاقتصادي والتنموي، كما تحتاج الخبرات والمكننة في كافة القطاعات المجتمعية. وللأسف الشديد أن العرب لا يوجد لديهم استثمارات استراتيجية ولا حتى تنموية في القارة الافريقية، ولا يوجد لديهم لا برامج ولا خطط ولا حتى رؤية فيما يتعلق بالقارة السمراء. كان الدعم العربي فيما مضى لبعض الدول الافريقية على شكل منح مالية ومعونات مالية، دون التفكير في إنشاء مشاريع استراتيجية تحقق المنفعة المشتركة.
هذا الضمور الذي أصاب الوجود العربي في إفريقيا، تعاملت معه إسرائيل بذكاء شديد، واستغلته كي تقدم نفسها لدى بعض الدول الافريقية على أنها المخلص الذي سوف يقدم المساعدة والخبرة والدعم الذي تحتاجه افريقيا. فتوجهت أنظار البعض من الدول الافريقية إلى تل أبيب كوجهة بديلة عن العواصم العربية.
وهذا ما جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يعلن في شباط/فبراير 2016 أثناء الاحتفال بافتتاح “لوبي موالي لإفريقيا” داخل البرلمان الإسرائيلي أن "إسرائيل عادت إلى افريقيا، وأن افريقيا قد عادت إلى إسرائيل". فمع توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1979 بدأ جدار المقاطعة الافريقية لإسرائيل ينهار حجراً تلو الآخر. ومن المعلوم أن افريقيا قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل على أثر الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1973 تضامنا مع العرب. ومنذ ذاك الحين قام "نتنياهو" بعدة جولات في افريقيا شملت عدة دول، كما ألقى كلمة خلال القمّة الحادية والخمسين للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في حزيران/يونيو2017.
ولم تتوقف الزيارات الرسمية لبعض القادة الأفارقة إلى إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، حيث كان آخرها زيارة "بول كاغامي" رئيس رواندا في تموز/يوليو العام 2017، وكذلك زيارة "فوري غناسينغبي" رئيس توغو في آب/اغسطس من نفس العام.

الأطماع الإسرائيلية في إفريقيا
تريد إسرائيل توظيف ليس فقط الانحسار العربي عن القارة الإفريقية، بهدف التوغل في إفريقيا، إنما هي أيضاً تحاول الاستفادة من تراجع النفوذ الأمريكي والغربي في افريقيا، حتى دولة استعمارية مثل فرنسا ذات النفوذ التاريخي في القارة السمراء بدأت سطوتها تخفت. كما أن العرب منشغلون بصراعاتهم الداخلية.
إسرائيل تتنافس في افريقيا ليس مع العرب الذين لا حول لهم ولا قوة في افريقيا، إنما تتنافس مع دول عظمى مثل الصين والهند، ودول إقليمية كبرى صاعدة مثل تركيا وإيران، كل هذه الدول أصبحت تمتلك استثمارات في افريقيا تبلغ قيمتها مئات المليارات.
أهداف التغلغل الإسرائيلي في افريقيا متعددة ومتشعبة سياسية واقتصادية وأمنية ودبلوماسية. إذ تسعى إسرائيل إلى اكتساب حلفاء جدد داخل أورقة المنظمات الدولية بهدف التصدي للحملة التي تقوم بها الدبلوماسية الفلسطينية داخل هيئات الأمم المتحدة واليونسكو ومحكمة العدل الدولية، وبقية المنتديات الدولية الأخرى التي تسعى فلسطين من خلالها الحصول على العضوية الكاملة، وفضح ممارسات وجرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. كما تريد إسرائيل استعادة مقعدها كمراقب في الاتحاد الإفريقي الذي خسرته في العام 2002. في وقت تتطلع خلاله بعض الدول الافريقية إلى تنويع مصادر التسلح، والاستفادة ما أمكن من التكنولوجيا الإسرائيلية في مجالات الري ومعالجة المياه والطاقة الشمسية والزراعة ومجالات أخرة مثل التقنيات العسكرية والحرب الالكترونية، حتى لا تظل هذه الدول تعتمد بالكامل على الولايات المتحدة وأوروبا.

كيف يؤثر التقارب الإفريقي-الإسرائيلي على القضية الفلسطينية
سبق وأكدنا في أكثر من موضع أن العرب عموماً لم يستطيعوا بناء مشروع سياسي واقتصادي في القارة الافريقية، على الرغم من التاريخ الطويل لهذه العلاقات، مما مكن إسرائيل الدخول إلى القارة السمراء من الأبواب الاقتصادية والأمنية. وهذا بالطبع حصل على حساب المصالح الفلسطينية. وبالرغم من أن فلسطين عضو دائم في منظمة الوحدة الإفريقية، إلا أنه يجب القول أن العلاقات الفلسطينية-الإفريقية قد شهدت تراجعاً لأسباب موضوعية بظني، أهمها انتهاء عالم ثنائي القطبية، وقيام أشكال جديدة للعلاقات الدولية أساسها المصالح والمنفعة وليس الأيديولوجيا. المصالح هي عنوان العلاقات الافريقية-الإسرائيلية في ظل ضعف أو انعدام الإمكانيات الفلسطينية على المستوى الاقتصادي، إذ أن السلطة الفلسطينية نفسها تحصل على مساعدات ومعونات اقتصادية من عدة دول، وبالتالي لا تستطيع تقديم دعم مالي لطرف آخر.
كما أعتقد أن الدبلوماسية الفلسطينية لم تولي القارة الإفريقية الاهتمام الذي تستحقه، ظناً منها أن هذه الدول لديها موقف ثابت وداعم للقضية الفلسطينية. على السلطة الفلسطينية أن تدرك أن الوضع قد تغير منذ نهاية القرن العشرين، لذلك يجب تفعيل دور السفارات الفلسطينية في افريقيا، وعليها أن تضع الخطط الاستراتيجية مع العرب لمواجهة التمدد الإسرائيلي في القارة السمراء. إن القضية الفلسطينية تحتاج إلى حلفاء وأصدقاء دوليين، لدعم القرارات التي تصدر من المحافل الدولية والتصويت لصالح فلسطين.
مما لا شك فيه أن اتفاقيات السلام التي وقعتها بعض الدول العربية مع إسرائيل، ومحاولات دول عربية أخرى التطبيع معها، شجعت بعض الدول الإفريقية على إعادة علاقاتها مع إسرائيل، وهو السبب ذاته الذي شكل دافعاً لإسرائيل للعودة إلى افريقيا، التي تنظر لها على أنها كتلة عددية يمكن الاستفادة منها في الأمم المتحدة وهيئاتها.
ويكفي أن نذكر بعض النماذج عن الضرر الذي يسببه التقارب الإفريقي-الإسرائيلي على المصالح العربية والفلسطينية.
-في سبتمبر/أيلول العام 2015 قامت كل من توغو، رواندا، كينيا، بوروندي، بالتصويت ضد قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية يطالب إسرائيل بالانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
-قيام نيجيريا ودولة أفريقية أخرى لم نعرف من هي بالتصويت لصالح إسرائيل لشغل منصب رئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة في يونيو/حزيران العام 2016، وكانت نيجيريا في العام 2014 قد امتنعت في مجلس الأمن عن التصويت على مشروع القرار العربي الذي يدعوا إسرائيل إلى انهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية في مدة ثلاث سنوات مما أدى إلى فشل القرار. وهناك أربع دول عربية أخرى صوتت لصالح إسرائيل في قضية اللجنة القانونية، لم يتم الكشف عن أسماء هذه الدول، ونظن أن مصر واحدة منها.
-ربما القارئ لا يعلم أن هناك عدة قرارات صادرة عن مجلس الأمن وتدين إسرائيل، لكن تبني هذه القرارات وتنفيذها لم يكن جماعياً، إذ أن هناك بعض القرارات لا تلتزم فيها بعض الدول الإفريقية خشية من الغضب الإسرائيلي. في ديسمبر/كانون الأول العام 2016 تقدمت نيوزيلاندا وفنزويلا وماليزيا ومعهم السنغال بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يدين سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. نجح الاقتراح وصدر القرار رقم 2334 بعد أن اكتفت الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت. هذا الأمر أغضب إسرائيل كثيرا التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع السنغال، وأوقفت المساعدات المالية عنها، ولم تنتهي الأزمة إلا بوعد من السنغال بتأييد ضم إسرائيل كعضو مراقب في الاتحاد الإفريقي.
مفاعيل الخلافات العربية-العربية
فيما مضى كانت مصر تنظر للقارة الإفريقية على أنها واحدة من ثلاث أعمدة تقوم عليها السياسية الاستراتيجية الخارجية، إضافة إلى البعد العربي والإسلامي، قديماً كانت القاهرة محط أنظار القادة الأفارقة المناضلون لأجل تحقيق الاستقلال لبلدانهم من الاستعمار البغيض، حين كانت مصر ترتبط ارتباطاً وثيقاً بشعوب القارة، وكانت مصر تعني الكثير لإفريقيا، كقوة سياسية ومعنوية. هذا ما كان، أما ما هو حاصل الآن فإننا أمام انسحاب مصري-عربي طوعي من إفريقيا لصالح قوى أخرى منها إسرائيل التي إن واجهت استراتيجيتها في افريقيا صعوبات ومواجهة، فإن مصدرها سوف يكون من بعض الدول الإفريقية ذاتها، وليس من قبل العرب، هذا لأن ما كان يعرف بأنه "النظام العربي" منهار بفعل وأسباب عربية، و"التضامن العربي" مصاب بموت سريري نتيجة أمراض عربية، و"الأمن القومي العربي" في حالة غيبوبة بسبب نقص المناعة.
ومما يثير الحسرة والغضب أن ينتقل الخلاف العربي-العربي ومفاعيله إلى القارة الإفريقية، مما يخلف وضعاً بائساً لا يستفيد أحداً منه سوى إسرائيل، التي توظف حالة الانقسام العربي لبسط نفوذها في المنطقة.
على سبيل النموذج فإن القمة العربية-الإفريقية التي عقدت في ملابو عاصمة غينيا في العام 2016 قد فشلت بسبب الخلافات العربية-العربية، وانسحاب عدد من الدول العربية. أيضاً قيام مصر غير المفهوم بسحب مشروع قرار في نهاية العام 2016 كان قد قدم إلى أعضاء مجلس الأمن للتصويت عليه، يتضمن إدانة لإسرائيل على أنشطتها الاستيطانية ويطالبها بوقفها، وهو القرار الذي تقدمت به دولاً أخرى منهم السنغال، بعد أن سحبته مصر وصدر بالإجماع. إن الإدارة الأمريكية تقدمت لعدد من الدول العربية بخطة لإنشاء تحالف عربي-إسرائيلي للتصدي للمنظمات الإرهابية في المنطقة وللوجود الإيراني، وسوف يشمل كلاً من مصر، السعودية، الأردن، الإمارات العربية المتحدة. وسيكون لجهاز المخابرات الإسرائيلية دوراً في تقاسم المعلومات الاستخباراتية مع الدول العربية، بما يمكن الشركات العسكرية الإسرائيلية من العمل في بعض الدول العربية. فهل يمكن لهذه الدول أن تساهم في وضع استراتيجية عربية لمواجهة النفوذ الإسرائيلي في إفريقيا؟ بالطبع لا.
نموذج آخر، فقد أدت الأزمة الخليجية إلى قيام الحلف المعادي لقطر بطلب من عدد من الدول الإفريقية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، وكان أن استجابت كل من جيبوتي وإريتريا، فما كان من قطر إلا أن سحبت كتيبتها العسكرية من "جزيرة دوميرا" المتنازع عليها بين جيبوتي وإريتريا التي استغلت انسحاب القوات القطرية، فقامت باحتلال الجزيرة. وهكذا خسر العرب موقعاً مهماً في إفريقيا. والخاسر الأكبر من هذه التناحرات والصراعات العربية-العربية هي فلسطين. نحن أمام حالة من الغيبوبة السياسية، أمام وضع فقد العرب فيه المقدرة على قراءة الواقع وتمييز العناصر وإدراك مصالحهم.
ماذا بعد
إن القارة الإفريقية كانت تاريخياً كتلة حليفة لفلسطين وشديدة التعاطف مع القضية الفلسطينية، ولفلسطين تمثيل دبلوماسي في 22 دولة إفريقية. إن إلغاء أو تأجيل القمة الإفريقية-الإسرائيلية التي كان من المقرر عقدها في تشرين أول/أكتوبر العام 2017 لا يعني أن إسرائيل منيت بهزيمة، إذ أن هناك معلومات اشارت إلى أن رئيس زامبيا "إدغار لونغو" قد وافق على استضافة هذه القمة.
بالرغم من وجود جدار صد مكون من بعض الدول الإفريقية في وجه التمدد الإسرائيلي بعمق القارة الإفريقية، إلا أن الدول العربية لا تساهم في هذا النشاط بفعالية حقيقة، باستثناء جمهورية الجزائر الشقيقة التي تبذل جهوداً استثنائية لترميم الفجوات التي يمكن أن تدخل منها إسرائيل إلى إفريقيا، وهذا الموقف من القضية الفلسطينية أبداً ليس غريباً على الجزائر التي قال عنها يوماً الزعيم "هواري بومدين" في العام 1974 "إن الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" وهو شعار شكل جوهر السياسة الجزائرية تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
ونحن مقبلون على معركة المواجهة للتصدي لقرار الإدارة الأمريكية في نقل سفارة بلادهم إلى مدينة القدس، نأمل أن تبذل القيادة الفلسطينية ومعها العرب جهداً سياسياً ودبلوماسياً مغايراً عما هو حاصل، لمنع انهيار الجدار الإفريقي الذي مازال تقريباً متماسكاً، حتى لا تحذو بعض الدول الإفريقية حذو واشنطن، هذا الأمر سوف يشكل امتحاناً حقيقياً لمدى قدرة العرب ومعهم الفلسطينيون في رسم حدود لحركة الكيان الصهيوني في القارة السمراء.
إن القضية الفلسطينية تواجه خطراً مزدوجاً، الخطر الذي يمثله الكيان الصهيوني من جهة، والخطر الناجم عن الانقسامات والخلافات العربية-العربية. فهل ما زال الخطاب العام في القارة الإفريقية إلى جانب حق الشعب الفلسطيني في الحصول على الحرية والاستقلال وفي حصوله على دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف؟





130
أدب / يعانق الثوب مني الحجارة
« في: 13:44 11/03/2018  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك

يعانق الثوب مني الحجارة

لمْ أكنْ تقياً كما ينبغي لابن الشيخ
ألف صلاة ويزيد
ما كنتُ ناسكاً يشبه الإمام
يحمل طقوس المغفرة
ولا ورعاً مثل حفّار القبور
لستُ عاقلاً ولا مجنوناً
بل أنتفض في غباري
وحيداً كسوْسنة زرقاء
يوماً لمْ أمتلك أمري
كان لي بساط وعصفور
في نهري تطير الأسماك
وغابتي تلد خيولاً برأسين
شرنقة تربك وجه الشجر
ومقبرتي مرايا تتناسل
لكنّني لست ساحراً ولا مسحور
في مواكب الغيث والضيم
تفر الصناديق الخشبية نحو الجبال
خشية درب المقبرة
إن زحف الموتى نحو ضفة السّواد
معهم يسير بساطي وقلبي يمور
إن انقسم ظهر العربة
انفلت القماش البارد من سوارهِ
وفاض التراب على الأسماء
تفقأ العقارب ثدي المجرة
ويموت عصفوري مع الطيور
ليسَ سواي في جنون المسافة
عارياً من خطاي حافي الشراع
أولِ دربي شطر يقظة وأوراق مطر
لا شيء في احتشاد الثاني سوى
ثلاث هزيلات الصرير وتسع بحور
من الفصول أشتهي بساتين التين كثيراً
وجداً جداً أحبُّ عصافير الصباح
منذ أسقتْ الرّيح الجراد للعشب المحموم
لم يعد في الكروم المرتبكة ماء
جفَّ فم الشمس وشاخت الزهور
يوماً لم أكنْ زاهداً مثل بدويّ
لكنْ كانَ كفّي مائدة للجياع
وقلبي مدفأة للحفاة
غيمة مطر كنتُ للعابرين ولكل من
تسربله الخطى درباً مشطور
كنت خلف رداء الوقت أروي باكورة الحصاد
لم تمسّني يدٌ زرقاء منذ كنت صبياً
تحرسني سواعد متضرعة
يا مسك الأولياء أيّ سر فيك وكيف عبرت
حين خرج البر من البحور
خلف الضجيج الرّاقد في جوف الوحشة
أمضي نحو بساتين الله
حيث رياض النعيم أشجار العصافير
حيث تهب المنازل بساطي مسكنه
لا سواه في سلال الخطايا غفور
وصل التراب نهايته وانتهى النهار
يغادر الشجر الغابات الهرمة
يأوي الماء إلى صخره والعصفور إلى طينه
ويغفو الطريق ليستريح
ويتهيّأ المسافرون للعبور
في رحلتي إليكَ يشدني بياض الطريق
يعانق الثوب مني الحجارة
لم يكن حصاراً ولا غباراً يتشظّى
كان وعداً للصالحين والأولياء
قالوا هذا أجر الله للمأجور





131
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


قراءة أولية في العلاقات التركية-الافريقية
شراكة استراتيجية أم مناورة تكتيكية

في العام 1862 أرسل السلطان العثماني "عبد العزيز الثاني" مبعوثاً إلى افريقيا الجنوبية اسمه "أبو بكر أفندي" بهدف تعليم المسلمون هناك الدين والفقه والشريعة الاسلامية، ومن أجل فض الخلافات والاشكالات الدينية التي كانت حينذاك قد قسمت المجتمع الجنوب افريقي. وكان هذا المبعوث قد قام بتأليف كتاب في الارشاد الديني الاسلامي كتبه باللغة الهولندية خصيصاً لمسلمي جنوب افريقيا.
كان نفوذ الدولة العثمانية يمتد من البحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأحمر، مروراً بالسودان حتى الصومال، ومنطقة الشمال الإفريقي والقرن الافريقي، وهكذا فقد هيمن الباب العالي على كل من مصر ولبيبا وتونس والجزائر وإريتريا والصومال والسودان خلال الفترة الممتدة من العام 1536 لغاية العام 1912 حيث وهنت أطراف دولة الخلافة واصيبت بالضعف، ثم خرجت الدولة العثمانية مهزومة من الحرب العالمية الأولى في العام 1918 لتدخل في مرحلة احتضار استمرت لغاية العام 1922 حيث ألغى مصطفى كمال أتاتورك باني تركيا الحديثة السلطنة ثم أعلن رسمياً عن زوال دولة الخلافة العثمانية في العام 1923.
بعد انتهاء الخلافة العثمانية وتأسيس الدولة التركية الحديثة في العام 1924 بزعامة "كمال أتاتورك" تراجعت علاقات تركيا بالقارة الافريقية نتيجة الانشغال بترتيب البيت الداخلي التركي، والاهتمام ببناء مؤسسات الدولة الجديدة.
بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الفترة التي سميت "الحرب الباردة" بين قطبين ومعسكرين متناقضين، سعت تركيا للتقارب مع دول الشمال الإفريقي، لكن قيامها بالتصويت في الأمم المتحدة ضد استقلال الجزائر في العام 1956 كان "كارثة كبرى" بالنسبة للثورة الجزائرية والشعب الجزائري، الذي قدم سيلاً من الدماء قرباناً لنيل الاستقلال من المستعمر الفرنسي. وشكل صدمة للأمتين العربية والإسلامية، هذا الموقف التركي كان عقبة حقيقية في طريق قيام علاقات طبيعية مع دول شمال افريقيا.

رؤية تركية جديدة للعالم
تبدلت السياسة الخارجية التركية بعد القراءة الجديدة التي أجرتها لموقعها الإقليمي والعالمي، ولعلاقاتها مع دول المنطقة والعالم، في ظل التطور الكبير الذي شهدته البلاد بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى قمة السلطة. عكست السياسات الخارجية للدولة التركية بوجهها المختلف رؤية القيادة الجديدة على الصعيد الفكري والسياسي والاقتصادي، وتوجهها لتوظيف القفزات الاقتصادية التي حققتها في صياغة علاقات أكثر توازناً وبراغماتية مع دول العالم.
ضمن هذا السياق توجهت أنظار تركيا إلى القارة الافريقية التي دخلتها وأحدثت تغييراً جذرياً في سياستها الخارجية مع القارة. واقامت علاقات سياسة واقتصادية مع عدد من الدول فيها، بل وانجزت شراكات مع البعض الآخر.
تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي تأسس في العام 2001 بعد أن توحد المجددون من حزب الفضيلة المنحل وشكلوا الحزب الجديد الذي وصل إلى حكم البلاد بقيادة رجب طيب أردوغان في العام 2002 هي التي وضعت القارة الافريقية في سلم اهتمامات سياستها الخارجية. وهذا الاهتمام التركي بإفريقيا كان قد بدأ في العام 1998 بخلاف العهود السابقة للجمهورية التركية، إذ لم تكن إفريقيا محط أولويات في برامج الحكومات التركية السابقة.

مع وصول هذا الحزب الصاعد - العدالة والتنمية - إلى قمة الهرم السياسي في تركيا، اتخذ توجهات جديدة سياسية واقتصادية تهدف إلى تعزيز الدور التركي على الساحة الدولية. وبات حزب العدالة وقيادته الحزبية والسياسية على قناعة راسخة أن قوة أية دولة تقاس بناء على وزنها الإقليمي، وقدرتها على التأثير في السياسة الدولية، وليس فقط بناء على قوتها الداخلية وفي محيطها، بل بقدر الدور التي تحتله هذه الدولة أو تلك في العالم، على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية.
ورأت تركيا-بوجهها الجديد- أنه كي تحقق لنفسها هذا الدور فإنه عليها الوجود في الأماكن الأكثر أهمية للقوى الكبرى، وفي مقدمة هذه المناطق تظهر القارة الافريقية. وأنه على تركيا أن تبدأ ببناء الجسور الاستراتيجية بين سياستها ورؤيتها لمنطقة الشرق الأوسط وشرقي المتوسط، وبين سياستها وعلاقاتها في منطقة البلقان والقوقاز والأدرياتيك القريبة جغرافيا. ثم على تركيا أن تستكمل هذه الرؤية في التخطيط الاستراتيجي ببناء علاقات نوعية وتحديد سياسات مع دول القارة السمراء، وخاصة دول شمال افريقيا ودول وسط البحر المتوسط.

موقع إفريقيا في الاستراتيجية التركية
ترتكز الاستراتيجية التركية نحو القارة الافريقية على رؤية جديدة لمراكز تخطيط السياسات في تركيا، والتي ترى أن تركيا دولة إقليمية كبرى ولا يجب أن تكون بعيدة عن أماكن النفوذ والصراع بين القوى الكبرى في مناطق الشرق الأوسط والقارة الافريقية، وأن لا تستمر السياسة الخارجية التركية في التركيز على دول وسط آسيا ومناطق القوقاز.
لقد تشابكت هذه الرؤية التركية مع مقاربات اقتصادية وثقافية وإنسانية، بحيث تم اعتماد سياسة دبلوماسية ناعمة للدخول إلى عمق القارة السمراء، نتج عنها علاقات دبلوماسية ووجود فاعل في 47 دولة افريقية.

افتتحت تركيا أول قنصلية لها في افريقيا في العام 1956 في لاغوس، ومنذ ذاك التاريخ ولغاية نهاية الستينيات من القرن العشرين سعت تركيا إلى قيام علاقات سياسية واقتصادية بينها وبين دول القارة الافريقية، لكن هذه الجهود لم تثمر كثيراً. لكن مع بداية السبعينيات بدأت العلاقات بين الطرفين تتطور خاصة مع الدول الافريقية العربية التي تتشارك مع تركيا تعاليم الدين الإسلامي.
لا تنظر تركيا للقارة السمراء على أنها جغرافيا بعيدة منها، لأن تركيا أساساً دولة أوراسية تقع على جوار مع القارة السمراء. وقد أصبحت افريقيا المثال الحي على الانفتاح في السياسة الخارجية التركية، وهو انعكاس للرؤية الجيوسياسية لقادة تركيا. وما أسفرت عنه هذه الاستراتيجية الجديدة في نوعية العلاقات التركية-الافريقية، يعتبر كما أعتقد دليلاً على نجاح الرؤية والدبلوماسية التركية. وبظني فإن القيادة التركية تعتبر القرن الحادي والعشرين بالمعنى الاستراتيجي سياسياً واقتصادياً هو قرناً آسيوياً-افريقياً.
قامت تركيا بتعزيز مبادراتها في القطاع الإنساني وتقديم المساعدات والإغاثات والخبرات والتجهيزات في أماكن متعددة في العالم. وتنشيط منظمات المجتمع المدني التركية وتطوير دورها في مد جسور علاقات التعاون مع دول العالم، بحيث تشكل هذه المنظمات واحدة من أهم أدوات الدبلوماسية التركية التي تسعى إلى تعزيز دور تركيا في المنطقة والعالم كدولة مركزية إقليمية كبرى، تساهم بشكل فعّال في صناعة القرارات الإقليمية في مختلف المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

كيف نقرأ السياسة التركية تجاه افريقيا
أوجدت تركيا لنفسها مكاناً في افريقيا كمزاحم للقوى العظمى الدولية، ومنافس أيضاً للقوى الإقليمية إيران وإسرائيل اللتان لهما مصالح وتتصارعان في افريقيا، ولكل منهما مشروعه واستراتيجيته الخاصة في القارة السمراء.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي توقفت القيادة السياسية التركية أمام عملية مراجعة لسياساتها الخارجية، ورسمت توجهاً يعتمد الانفتاح في علاقاتها مع العالم الخارجي، بعد سنوات من الانغلاق على معالجة مشاكلها الداخلية المتأتية من الانقلابات العسكرية المتوالية التي خلقت عدم استقرار سياسي في البلاد.
تركيا ترغب في أن تستعيد حجمها الطبيعي ووزنها السياسي وثقلها التاريخي كدولة اقليمية مهمة، وقوة اقتصادية تتطور باستمرار. بدأت تركيا في تنفيذ سياستها الجديدة التي تحقق لها أسواق تجارية لتصدير منتجاتها، ولتوسيع نفوذها في أماكن مختلفة من العالم.
من هنا توجهت أنظار تركيا إلى القارة السمراء لعقد شراكات مع شعوبها المتعطشة للعلم والمعرفة وللمساعدات والخبرات المتطورة التركية، وهي القارة التي اتسمت بحالة عدم الاستقرار منذ عقود طويلة.
في العام 1998 بدأت تركيا مرحلة مختلفة في علاقتها مع القارة الافريقية، حيث أعلنت تركيا "خطة الانفتاح على افريقيا" والتي تضمنت الرؤية والبرامج التركية التي تهدف إلى فتح صفحة جديدة في علاقات وتعاون الطرفين. وفي العام 2003 أعلنت تركيا عن استراتيجيتها لتطوير العلاقات الاقتصادية مع دول الاتحاد الافريقي. ثم اعتبرت تركيا أن العام 2005 هو "عام افريقيا"، وفي نفس العام قام الرئيس "رجب طيب أردوغان" بزيارة إلى افريقيا الجنوبية، وهو أول رئيس تركي يزور بلداً افريقياً، وقد شكلت هذه الزيارة نقطة التحول الفارقة في علاقات الجانبين.
شهد الخط البياني لهذه العلاقات تصاعداً يشير إلى نموها وتطورها. في العام 2008 استضافت تركيا "قمة التعاون التركي-الافريقي" كان من أهم نتائج هذه القمة إعلان الاتحاد الافريقي أن تركيا شريكاً استراتيجياً له، ومن جهة أخرى تم منح تركيا العضوية في بنك التنمية الافريقي وصندوق التنمية الافريقي، ومن نتائج القمة أيضاً أن تصاعد مؤشر المساعدات التنموية التي قدمتها تركيا للقارة الافريقية، من خلال المشاريع والاستثمارات التي قامت بها تركيا في عدد من الدول الافريقية، وكذلك من خلال التبادل التجاري بين الطرفين.
زيارة الرئيس التركي في شهر آب العام 2011 للصومال شكلت منعطفاً تاريخياً وجيوستراتيجياً من جانب تركيا نحو القارة الافريقية. وقد اثمرت تلك الزيارة ولادة علاقات جديدة بين تركيا والبلد الذي مزقته الحروب الأهلية والاضطرابات الاجتماعية والمجاعة والجفاف.
في شهر تشرين الثاني العام 2014 عقدت القمة الافريقية - التركية الثانية في مدينة مالابو عاصمة غينيا الاستوائية.
في كانون الأول العام 2015 عقدت في إسطنبول قمة "الشراكة والتفكير الإبداعي الافريقي" وهي الدورة الأولى من "دروع الأفكار التركية-الافريقية". حضر القمة عدد كبير من الشخصيات السياسية ومن الباحثين والأكاديميين ورؤساء مراكز دراسات ووزراء سابقين وبرلمانيين من تركيا وافريقيا. بحث في المؤتمر أشكال التعاون بين الطرفين على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية.
وقامت مدينة إسطنبول بتنظيم ملتقى اقتصادي بين افريقيا وتركيا في شهر تشرين الثاني العام 2016، جمع رجال الأعمال وكبار الشخصيات الاقتصادية الافريقية والتركية. وقام مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي بإنشاء مجالس عمل مع 35 دولة افريقية لتطوير العلاقات التجارية بين الطرفين. وفي مدينة أنطاليا تم عقد اجتماع لوزراء زراعة دول الاتحاد الافريقي مع نظيرهم التركي في شهر نيسان العام 2017.
بمبادرة من جمعية "رجال الأعمال الأفروتركية" تم في أيلول العام 2016 عقدت في إسطنبول "القمة العالمية التركية-الافريقية" شارك فيها 48 دولة افريقية وأكثر من 5000 من رجال الأعمال الأتراك والأفارقة.

شارك الرئيس التركي في كانون الأول العام 2017 في قمة الاتحاد الافريقي-الأوروبي التي انعقدت في العاصمة الاسبانية مدريد، وبذلك أصبحت تركيا عنصراً مهماً في العلاقات الافريقية الأوروبية.
وبدعوة من الرئيس التركي أطلق الهلال الأحمر التركي حملة "فلتكن أنت الأمل" في العام 2017 من أجل جمع التبرعات لدول شرق افريقيا. وفي نفس العام أيضاً تم تنظيم مؤتمر "الصحة في افريقيا" حضره وزراء صحة الاتحاد الافريقي والعديد من المؤسسات الصحية التركية والافريقية، بهدف بحث المشاكل التي يعاني منها القطاع الصحي الافريقي والعمل على إيجاد حلول لها، وتقديم المساعدات والتجهيزات التركية.
في شهر أيلول العام 2017 بدأ العمل في مركز التدريب العسكري الذي أنشأته تركيا في مقديشو العاصمة الصومالية، وذلك بهدف تدريب الجنود الذين سوف يبنى منهم الجيش الوطني الصومالي.
قام الرئيس التركي بزيارات إلى القارة السمراء بلغت 32 زبارة إلى 24 دولة افريقية منذ كان رئيساً للوزراء، كان آخرها الزيارة التاريخية التي قام بها إلى جمهورية الجزائر الشقيقة في شهر شباط العام 2018، وشملت كلاً من موريتانيا والسنغال ومالي.

وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا":
الأداة التنفيذية للسياسات الخارجية التركية الأقوى، وهي ذراع تركيا في القارة السمراء، والشريان الرئيسي الذي عبره تتدفق المعونات التركية لبعض الدول في القارة. فمن هي هذه الوكالة التي تحتل مكانة مهمة التخطيط الاستراتيجي التركي المتعلق بتوسيع نفوذ تركيا.
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق العام 1991 قامت عدة دول كانت ضمن الاتحاد في وسط آسيا والقوقاز بإعلان استقلالها.
اعترفت تركيا مباشرة بهذه الدول التي ترتبط معها بروابط متعددة منها اللغة والتاريخ والثقافة والذاكرة، وهذه الدول هي كازاخستان، طاجيكستان، أوزبكستان، أذربيجان، قيرغيزستان.
تركيا التي تعتبر أن الشعب التركي وشعوب هذه الدول هم أمة واحدة تتوزع في دول متعددة، اعتبرت أن تطوير العلاقة مع هذه البلدان الناطقة بالتركية هو واحد من أهم الثوابت في السياسة التركية الخارجية.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف قامت تركيا بتأسيس "وكالة التعاون والتنسيق التركيا" في العام 1992 التي يشار لها اختصاراً "تيكا" التي سعت بداية إلى أن يعترف المجتمع الدولي بالدول الحديثة، ومن ثم قدمت مساعدات مالية وعينية لأجل أن تعين هذه الدول الشابة على بناء نفسها، ثم بدأت الوكالة في إقامة مشاريع تنموية طويلة الأجل في هذه الدول.
وهكذا مع الوقت أصبحت "تيكا" واحدة من أهم أدوات ترجمة السياسات الخارجية للدولة التركية ليس فقط مع الدول التي تتشارك معها تركيا اللغة والقيم والجغرافيا، بل امتد نشاط الوكالة ليشمل حوالي 140 بلداً حول العالم وفي القلب منهم دول الاتحاد الافريقي.
افتتحت وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" أول مكتب لها في القارة الافريقية في العام 2005 في إثيوبيا. يوجد 21 مكتباً تنسيقياً للوكالة التركية للتعاون في القارة السمراء. تدير هذه المكاتب مشاريع تنموية طويلة الأجل في عدد من الدول الافريقية لمساعدتها في الاستفادة من الخبرات التركية في قطاعات متعددة.
حققت "المؤسسة التركية للتعاون والتنمية" الكثير من المشاريع التنموية في 40 بلداً افريقياً من خلال مكاتبها التي كانت تتواجد بداية فقط في ثلاث دول هي إثيوبيا والسودان والسنغال، قبل أن تنتشر في العديد من المدن الافريقية.
فقد قدمت تركيا 3,3 مليار دولار مساعدات إغاثية في افريقيا خلال العامين 2013- 2014 مما جعلها ثالث أكبر مانح دولي للمساعدات للقارة السمراء.
ووصلت قيمة المساعدات التي قدمتها تركيا لحكومات دول الصحراء الافريقية إلى 782,7 مليون دولار في العام 2013.
ضاعفت الشركات التركية من حجم تعاملاتها مع القارة 8 أضعاف ليصل إلى 6,2 مليار دولار العام 2016.
بلغت الصادرات التركية إلى القارة الافريقية ما قيمته 159,7 مليار دولار في العام 2016 بزيادة قدرها 4 في المائة عن العام 2014 وهي تتزايد في كل عام.

تسعى كثير من دول القارة الافريقية إلى جذب الاستثمارات التركية، وبلغ عدد المشاريع الاستثمارية التركية في القارة 357 مشروعاً بقيمة تتجاوز 401 مليار
 دولار.
يوجد الان 47 سفارة تركية في القارة السمراء، ويوجد 32 سفارة لدول الاتحاد الافريقي في تركيا.

ارتفعت الصادرات الافريقية إلى تركيا من 3,3 مليار دولار العام 2003 إلى 9,7 مليار دولار العام 2016.
كما وصل حجم التبادل التجاري بين الطرفين إلى ما قيمته 25 مليار دولار العام 2016

من جهتها شركة الخطوط الجوية التركية تقوم حالياً برحلات إلى 51 مدينة في 33 بلداً افريقياً، وتقوم بجهود لزيادة عدد الخطوط لتشمل جميع دول القارة.
بجهود مشتركة بين وزارة التعليم التركية ووقف المعارف التركي، تم تنظيم مؤتمر التعليم التركي-الافريقي الأول في مدينة إسطنبول في شهر تشرين أول العام 2017.
وكانت زوجة الرئيس التركي قد رعت في العاصمة أنقرة افتتاح البيت الثقافي وسوق الأشغال اليدوية الافريقي في العام 2016.
على صعيد المنح الدراسية فقد قدمت تركيا منذ العام 1992 حتى العام 2017 ما مجموعه 8640 منحة لدراسة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، بالإضافة إلى عدد كبير من المنح المهنية والدورات المعرفية لطلاب ومهتمين أفارقة في مختلف الاختصاصات.



مستقبل العلاقات التركية-الإفريقية
العلاقات التركية-الافريقية منذ بداية الألفية الثالثة تشهد تصاعداً في خطها البياني سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً. وتطورت بشكل ملحوظ في الأعوام الماضية، في فترة برز فيها عاملان موضوعيان شجعا أنقرة أكثر على المضي في منح الملف الافريقي الأولوية التي يستحقها في السياسات التركية الخارجية، هما استمرا الاتحاد الأوروبي في وضع العراقيل تلو العراقيل في درب انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو الملف الذي أخذ من أنقرة وقتاً طويلاً. العامل الثاني هو دخول الكثير من دول الشرق الأوسط في حالة من الصراع والحروب الأهلية مزقتها. إضافة إلى ظهور خلاقات بيت تركيا وعدد من الدول الخليجية حول العديد من الملفات، كانت السبب وراء فتور العلاقات التركية الخليجية. فهل تستبدل تركيا أوروبا والشرق الأوسط، بالقارة السمراء؟ وهل تراهن إفريقيا مستقبلاً على الدولة التركية أن تكون سنداً حقيقياً لها كقوة عظمى بديلاً عن الغرب المستعمر الناهب لخيراتها؟
لا توفر القيادة التركية سبيلاً في توظيف إمكانياتها وعلاقاتها ومنظمات المجتمع المدني لتعزيز وجودها في القارة الافريقية، واحدة من أهم هذه الأدوات هي "منظمة المؤتمر الإسلامي" التي تضم 57 دولة ذات غالبية مسلمة من مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وغربها وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية ومنطقة البلقان. هذه المنظمة التي كان يرأسها التركي "أكمل الدين إحسان أوغلو" منذ العام 2005 ولغاية أواخر العام 2016 قبل أن يتسلم رئاسة المنظمة السعودي الدكتور يوسف بن أحمد العثيمين خلفه، لعبت هذه المنظمة دوراً حيوياً -بشخص رئيسها التركي- في جعل تركيا البلد الإسلامي الذي تتجه إليه الأنظار حين يتم وضع الملفات الهامة فوق طاولة حوار المنظمة. استفادت تركيا من هذه المنظمات الإقليمية في إظهار قوتها –المتأتية أصلاً من تعاظم قدرتها الاقتصادية- لبسط نفوذها عبر القوة الناعمة التي مكنتها من إقامة أفضل علاقات الشراكة الاستراتيجية مع عدد من دول القارة السمراء.
 تركيا تضع في قمة أولويات سياستها الخارجية مد جسور كثيرة تربطها مع إفريقيا، وتفتح قنوات مختلفة للتعاون بعد أن ابتعدت إفريقيا وابتعد العرب والمسلمون عن تركيا، وهي ابتعدت عنهم منذ انهيار الخلافة العثمانية.
لا شك أن بعض دول إفريقيا تحتاج المعونات والمساعدات التركية، وكذلك تحتاج إلى الخبرات التركية في مختلف القطاعات التي أثبتت نجاحها. وتركيا تحتاج إلى الأسواق الإفريقية وإلى الأصوات الإفريقية في المحافل الدولية، وكذلك إلى عقد شراكات استثمارية ذات منافع متبادلة، والأهم محاولة الاستفادة من الثروات والمقدرات الإفريقية،
البداية التركية في العلاقات الحديثة مع افريقيا كانت في العام 1998 حين أعلنت تركيا خطة التوجه نحو القارة السمراء، هذه المرحلة استمرت لغاية العام 2005 حين اعتبرت تركيا أنه عام افريقيا، ثم المرحلة الثانية في العلاقات من العام 2005 استمرت لغاية العام 2011، تعززت خلالها علاقات أنقرة مع عواصم افريقية متعددة، وحصلت تركيا على عضو مراقب في الاتحاد الافريقي العام 2005، وحليف استراتيجي في العام 2008، كما انضمت إلى البنك الافريقي للتنمية. الرحلة الثالثة من 2011 لغاية الآن. تم خلال هذه المرحلة تنظيم "المؤتمر الصومالي الثاني" العام 2012 في مدينة إسطنبول بعنوان "تجديد المستقبل الصومالي"، وشاركت فيه 57 دولة و11 منظمة إقليمية ودولية بما فيها الأمم المتحدة، تمت خلاله مناقشة قضايا مهمة جداً مثل قضايا المياه والطاقة والنزعات الانفصالية وقضايا أمنية متعلقة بوجود الجماعات المسلحة.

ماذا بعد
تركيا الجديدة التي ذاقت الأمرين من علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي التي ما زالت تغلق الباب في وجهها عضويتها للانضمام للاتحاد، بالرغم من أن أنقرة أنجزت الكثير من الإصلاحات الداخلية، وتطور اقتصادها كثيرا في الربع قرن الأخير، وارتفع مستوى الدخل فيها، وأصبحت قوة إقليمية صاعدة. تركيا هذه تجد في القارة الافريقية بديلاً موضوعياً أكثر جدوى ومنفعية من اوروبا.
لا شك أن أنقرة التي بذلت جهوداً واضحة خلال الأعوام القليلة الماضية من أجل ترسيخ علاقاتها مع الدول الافريقية وتعزيزها، سوف تسعى خلال الفترة القادمة إلى نسج علاقات تعاون جديدة وشراكات مع دول أخرى في القارة السمراء، وسوف تستكمل فتح سفارات لها في بقية الدول الافريقية التي ما زالت لا يوجد فيها سفارات، وبالمقابل فتح سفارات لبقية الدول الافريقية في أنقرة.
تركيا تعزز وجودها في القارة الافريقية وتتمدد في الوقت الذي ينسحب العرب منها، حيث أن الأعوام الأخيرة شهدت غياب عربي واضح عن المشهد الافريقي مما أضعف تأثيرهم في القارة التي وجدت دولها في تركيا البديل الأفضل والمركز الجاذب لهم.
أخيراً، إن إفريقيا القارة التي أثارت وما زالت الكثير من النقاش في القرن الواحد والعشرين، هي ساحة الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية، وهي القارة الثرية بإمكانياتها وثرواتها الخام الظاهرة والكامنة، المعادن والماء والنفط والذهب والالماس واليورانيوم والأرض الخصبة، وهي القارة المهمة في موقعها حيث تربط العالم فيما بينه، وهي القارة الغنية بتاريخها وبتعددها العرقي والاثني واللغوي والمذهبي والثقافي والمناخي، هي القارة التي تشخص عيون شعوبها نحو المستقبل بمجتمعات شابة.
إفريقيا هي القارة التي تضم دولاً استوطن فيها الفقر والجوع والأمية والفساد والأمراض والإرهاب والديون الخارجية والنزاعات المحلية والحروب الأهلية، ومزقتها التناقضات القبلية، وتطمع بسرقة خيراتها كافة القوى الكبرى.

إن ارتفاع حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول القارة الافريقية من 9 مليار دولار في العام 2005 إلى ما قيمته 15,710 مليار دولار خلال العام 2010 ليصل إلى 25 مليار دولار في العام 2016. بينما تستهدف تركيا رفع قيمة هذا التبادل ليصل إلى 50 مليار دولار خلال العشر سنين القادمة. هذه الأرقام تشير إلى أن العلاقات التركية-الافريقية ومنذ بداية الألفية الثالثة تشهد تصاعداً في خطها البياني سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً. وتطورت بشكل ملحوظ في الأعوام الماضية، في فترة برز فيها عاملان موضوعيان شجعا أنقرة أكثر على المضي في منح الملف الافريقي الأولوية التي يستحقها في السياسات التركية الخارجية، هما استمرا الاتحاد الأوروبي في وضع العراقيل تلو العراقيل في درب انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو الملف الذي أخذ من أنقرة وقتاً طويلاً. العامل الثاني هو دخول الكثير من دول الشرق الأوسط في حالة من الصراع والحروب الأهلية مزقتها. إضافة إلى ظهور خلاقات بيت تركيا وعدد من الدول الخليجية حول العديد من الملفات، كانت السبب وراء فتور العلاقات التركية الخليجية. فهل تستبدل تركيا أوروبا والشرق الأوسط، بالقارة السمراء؟ وهل تراهن إفريقيا مستقبلاً على الدولة التركية أن تكون سنداً حقيقياً لها كقوة عظمى بديلاً عن الغرب المستعمر الناهب لخيراتها؟





132
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


ما زلت في جنون العرائش صغيراً

تحت ثوبها
تخفي أمّي كيساً صغيراً من القماش
يتدلّى من عنقها
تحبس داخله أزهاراً جافة وأدعية
فيه يختلط الغار بالتسابيح والأذكار
طُهر الماء وعبق المسك تدلان عليها
يزهر الثوب في النهار صلاة للمواسم
عشق بلا مدى
ويصبح معجماً للأولياء ليلاً
تفوح منه شفاعة مستترة
وينبت على أطرافه ورد الأنبياء
هذا أعمق سرّ لا يعرفه أحد
تقول: في الكيس مئذنة ومزمار حزين
وفي قلبي أبواب المطر تحرسها الطيور
فوق أكتافها ننمو وتمتد أطرافنا
مثل الغراس بأصائص الصباح أو أبعد
وحده الريحان يتنزّه بالطفولة
تفرش أمي أضلاع صدرها مرجاً كيْ نلهو
نقفز صغاراً فوق أديم الضوء المتوثّب
نصرخ فتهرع ومعها يجري بيت الله
كُنّا كما أذكر أسفاري في بيت بلا جدران
تعلو فيه أشجار الرمّان فوق بساط العنبر
والعرائش تحرس حلقات النور
حين تُراقص النسمات عنق النرجس
أتذكر كثيراً فراشات الخمائل تحاصر النهر
كأنّ البستان الصاخب أثمله لون الماء
وكثيراً كثيراً ما كان قلبي يغفو فوق نجمة المطر
حين يبدأ موسم الحكايات زخّات قناديل 
تجلس أمي مثل قدّيس قرب دائرة الضنك
تكابد رماح الوهن
أحياناً معنا تتقاسم الضحك كأنّما
يفرّ إيقاع العقارب الرملية
في غفلة من وتر الوقت
في كل ليلة
تعدّ لنا ما استطاعت من أحلام
 تمسح أجفاننا بكيسها القماشي وتقول
ناموا آمنين
يمدّ مزمارها فِراشه على أرق التراب
وتأنس الأجساد الطرية تعبها
نغفوا مثل الحملان فوق عشب أدعيتها
وينمو من حطب أحزانها في قلوبنا
ورداً قزحياً يخفق فرحاً
نحلّق مثل عصافير الله لنرحل
صوب أهداب الفجر
حينها كنتُ أصافح خدّ الشمس جداً
وجداً جداً كنتُ أحبّ مشاكسة شعاع الماء
أخفي رأسه في سلّة النهر
وأطلقه حين يحتدم الفَراش
أمي التي تخفي تحت ثوبها كيساً قماشياً
ننام وترفع كفيها للسماء تقول:
يا رب الرّيح التائهة والخيول الساجدة
إن لي طيوراً لا ريش لها
وأرقي بازغٌ من سديم الأفق
هُم بعض بحري وبكائي
إنني أودعتهم رياضك
فلا تمتحنهم على ما لا يطيرون
هبهم يا ربي أجنحة الإيمان
في سهوة القماش اشتد ريش الطيور
أمي ما زالت تخفي كيسها تحت ثوبها
وفيه الأدعية والأعشاب
ما زالتْ كل ليلة تجثو قرب الأعشاش الفارغة
تبكي كيسها وتلقي دمعها جهات تغسل الذنوب
وأنا ضالع في المقام الماطر لا كف لي
كنت في سيل الشجر قد
أطعمت أصابعي للطيور الكسيحة
صار بيني وبين السرب لازمة
يغصّ بي من شعاعين مزمار ومئذنة
وكلّما عبرت درب الغابة غريباً
تصبح بيوت القشّ أكياساً
والأوراق الذابلة أذكاراً
رغم أنني أنام كل ليلة في الجامع القريب
تراني أبحث في عمق المروج عن سرير قماشي
ووسادة من العشب
ما زلت في جنون العرائش صغيراً
ولا زال ينبت ريش قلبي كلّما هطل المطر
أو جاعت العصافير



133
أدب / لشوكها المتهدّل شُرفة
« في: 21:36 12/02/2018  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


لشوكها المتهدّل شُرفة

في ملتقيات والدي
حيث حكايات المواسم المرتبكة
ونوافذ أضحت لاهوتاً مرتعشاً
ينام الوقت فاتحاّ ذراعيه للمتسامرين
وتختبئ خيبات الأسماء في ملامح الغيبوبة
هناك لا بحر دون فراق
ولا جدار دون غياب
يزفّ الرحيل هناك حقائب الغربة
فوق ألواح السواد الباتر
كأنها أطياف تغفوا على الرصيف
ضيوف أبي خارج المدينة منهكين
يحملون على ظهورهم جرّة احتضارهم
كأن الحياة رمقتهم ترياق الطريق
يذبلون قبل اختفاء الليل
يرفعون رؤوسهم كلّما عبرتهم كؤوس الشاي
يعدّل والدي الوسادة أسفل مرفقه
يرمي لفائف التبغ للحاضرين
يُشعل سيجارته من وقد الرّيح
يقول: ثوبنا يلفظ دربه
يتضرّع البقية إلى الله بصوت واحد
وترتفع سبّاباتهم للأعلى كأنّهم
يغادرون عتمة العمر
لا قاع لهذا السفر
هكذا الحديث يمتد به الشجن
يقول أحدهم: الأرض تحب الصلاة
بالأمس شاهدت في ثوب المطر
رأس النهر يجري
يردّ والدي: غزير هذا الخريف
يقطف سرير الزهر من فاكهة الجسد
تناولوا زادكم وتعالوا غداً
خلفنا ثمر الشتاء
تراهم قامات تومض وتنكسر
وكلّما تأرجحت الأجفان
يغفون برهة ويَصْحون
يعودون للحياة
تظلّ القصص مثل الشواطئ
تخمد نوارسها تارة
وتارة تتوهّج في بحورها
وأنا أستمع لذاك الصرير القزحي
أصدّ جراد النوم
وأختلس سريراً بين الأقدام في كل مرة
كنتُ هناكَ في الكوّة المجدولة
أبحثُ في صوت العيون الرّاكدة
عن عصافير لا ترحل
وألتقط من رماد الوقت بلابل النهار
هناكَ كنتُ أرقدُ فوق الظلال الجافة
وأحلامي الصغيرة حبلى
تنتظر استيقاظ المطر
في ملتقيات أبي
يجثم الدهر فوق الوجوه خطىً ممطرة
ينحني الصبح لكف تشقّقت بما أنبتت
تنمو وردة الخبّيزة من الركام
يولد من عشبها بعد الفجر قديساً
لضيوف أبي أجنحة تتلوى
حين يراودها قنديل الفصول
لتلك المجالس خفقات كأنها العوسج
ولشوكها المتهدّل شُرفة تتكئ على قلبي
باتت أضلاعي تعاصفني كالماء الصاخب
وتدفقني تجاعيداً على مرآة بكماء
لم أعد أذكر
 هل عبروا حزن المدينة مرة
أم أوجعهم قماش الثوب سهواً
لكن من يمحو إذا زحفوا
أخاديد الحكايات عن ملامحي
وإن شدّهم البياض
من يغفر للعربة ازدحام الصناديق؟


134
أدب / وتكابدكَ سُرّة الغيم
« في: 21:07 06/02/2018  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


وتكابدكَ سُرّة الغيم

كلّما عبرت درب المقبرة
يومض الاقحوان حد المطر
يذرف الرخام البارد ورد الرمّان
وتتهدل أغصان الصفصاف من السور
كأنَّ الفوانيس تتدلّى من السحاب
لم أفهم سر ذاك الرذاذ
لكن وجدي يفوح على الظلال
كأنني أحتسي حامض قلبي
وأنتَ هناكَ تغفو وحيداً
مسكون بنزع العتمة
لا تقصص صرير حزني
على الجدران العطشى
قد تعودتُ اقتسام وريدي لكنني
أخشى عليكَ يا أخي وأنتَ في ضريحكَ
أن يفيض عبير الساقية
ويشتد هطول العشب
وأعلم أنكَ تكابد الحساسية


2
في فراغ الأماكن
المقاعد أيضاً تضجرُ
أغيّر جهتها من ركن إلى آخر
من غرفة إلى غرفة
من موسم لموسم
ومن درب يكتم خطاه لوجوه تمطر
وأنتشل من حطب الرحيل خطىً مبتورة
هذا الضرع جاف لا خيل فيه ولا وتد
فأية جدران تبعثر الصور
وأي خواء يترصّد هذا القلب الضامر
لا تتركوا المقاعد وحدها
حتى لا تبهت ملامحها
تذكروا للمجالس أحلام مغلقة
ورحيق منسدل على شرفة الغياب


3
هكذا عندما توصد الساعة الرملية الأبواب
تخبو أضواء الخان
ويغفو تعب العمر على حد الحجر
هناك يختبئ النهار والمسافات
وتكابدك سُرّة الغيم
في الخان الكثير من السّواقي
من الزجاج الكثير وأقدام عارية
وجنون مرتعش جلده
ينفخ الغبار في الأفواه الرّامدة
وأنت تنظر إلى ملامحك المكتظة
في المرايا المنكسرة
لا تنسى أن تسدل الستار الثقيل
قبل حديث الظمأ
وتحفظ المفتاح


4
الحياة جميلة وهادئة
مثل نهر يزأر قبل الخسوف
لعلّ الأبواب لا توصد الوقت
الحبيبة غاضبة
مثل مطر منفلت ينقر الزجاج
حتى صار وجهها يطمر ظلاله
والقبيلة هائجة
كخيل ظمأى تشققت عينيها
شيخ القبيلة سجن الشجر ونفى الغابة
وأنا مرتاح كثيراً وهادئ
جداً هادئ
تماماً مثل الصندوق الخشبي لحفّار القبور


5
ما من شيء يجمعنا أنتم وأنا سوى
طاحونة عتيقة
قمح ابتلع العتمة
وحزن يقشّر مشارف البهجة
ينمو على أهداب اليقظة
بياض يمور في الظلام
حزن يشبه وتد في خيمة لاجئ
كأنه دار الأيتام
وأنتم في هذا السواد تضحكون
مثل صغير يدثّر حلم الوسادة
تمضغون حزنكم وتنامون
أبواب القيامة هنا


135
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


الاستقصاء الصحفي فن تحريري شاق وخطر

الاستقصاء في اللغة هو تقصي الأشياء إن كانت كائنات حية من بشر وحيوانات، أو من جماد. أي تتبع الأثر من لحظة التحرك للنهاية.
في الصحافة فإن الاستقصاء هو قيام الصحفي أو مجموعة من الصحفيين في إجراء عمليات البحث والتمحيص في موضوع محدد، والنظر في أعماق هذا الموضوع وتتبع كافة الخيوط ذات الصلة به. ثم العمل على معرفة الأسباب والملابسات والدوافع والأطراف المسببة. معرفة الأهداف والغايات واختيار الوقت. كذلك الوصول إلى معرفة الجهات المستفيدة وتلك المتضررة. إنها باختصار معالجة تحليلية عميقة وشاملة لقضية ما، مدعومة بالأدلة والوثائق والقرائن والصور والتسجيلات الصوتية. كل هذه الخطوات تجري بدقة عالية وشفافية ضمن منهاج مهني وموضوعي.
لا شك أن اعتماد أسلوب العمل الصحفي الاستقصائي هو أنجع وسيلة كي يصل الصحفي والإعلامي إلى الحقيقة من دون التأثر باي حال من الأحوال بالعوامل التي تتحكم بصناعة الخبر وتسويق الإعلام.
الصحافة الاستقصائية عمل شاق ودؤوب وخطِر، يهتم في متابعة الأنشطة المرتبطة بكافة مفاصل المجتمع، مثل الأداء الحكومي، تجارة الممنوعات، غسيل الأموال، الجرائم الجنائية الكبرى، قضايا البيئة، تجارة الرقيق، تجارة الأعضاء البشرية، الاغتيالات السياسية، الاعتقالات لأصحاب الرأي، الفساد السياسي، تبييض صورة أصحاب رؤوس الأموال المشبوهين، ... الخ من قضايا هامة تتعلق بالمجتمع وحياة البشر.
إجراء التحقيقات والمتابعات الصحفية الاستقصائية تحتاج إلى صحفيين وإعلاميين من ذوي الخبرة في مجال عملهم كي يتمكنوا من استخراج المعلومات الكامنة خلف أية قضية، ثم الاستفادة القصوى من أية بيانات متوفرة، والمقدرة على تحليل الوقائع واستنتاج الدوافع، للوصول إلى ربط الأحداث فيما بينها لإظهار الحقيقة.
إن الصحافة الاستقصائية مكلفة مالياً، لذلك فإنها تحتاج إلى موارد مالية كبيرة من قبل مؤسسة إعلامية أو مؤسسات المجتمع المدني، كي تتمكن من إنجاز مهمتها. الصحفي الاستقصائي أثناء أداء مهمته قد يضطر للسفر إلى دول كثيرة، أو إلى مدن متعددة في البلد الواحد، ويحتاج إلى مساعدات لوجستية، ومعدات خاصة من أجهزة تصوير وتسجيل وخلافه.
الصحافة الاستقصائية صحافة غير تقليدية، ولا تعتمد على نشر خبر، إنما تسعى لكشف ما لم يظهر وراء هذا الخبر، وأسباب إخفاء ما لم يعلن.
إذن يمكن أن نحدد الصحافة الاستقصائية على أنها نوع من التحقيقات الصحفية يعتمد على:
-   وجود مؤسسة إعلامية تتبنى قضية وتسعى للكشف عن ملابساتها.
-   التحقيق في عمق أية قضية مثارة.
-   عملية بحث وتحقيق وتنقيب طويلة وشاقة.
-   وجود صحفيين مخضرمين من أصحاب الخبرات المتطورة.
-   استعمال المهارات في ربط المعلومات، والقدرة على تحليل البيانات، إيجاد الصلة بين العناصر.
-   صحافة مستقلة لا وجود للمصالح الشخصية فيها.
-   اعتماد أساليب وطرق معينة في الصياغة والنشر.
-   وجود موارد مالية وإمكانيات لوجستية وتجهيزات فنية وإدارية.


نظرة تاريخية حول الصحافة الاستقصائية:
عرف العالم الصحافة الاستقصائية أول مرة في بداية القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال نشاط قام به عدد من الصحفيين الأمريكيين الذين سعوا إلى الكشف عن الفساد بكافة أنواعه ومحاربته، ونشر نتائج تحقيقاتهم على العامة مرفقة بالصور والوثائق. وتشكل أول اتحاد للصحفيين الاستقصائيين في أمريكا عام 1976.
أسهمت الصحافة الاستقصائية عبر تاريخها في كشف أسرار كثير من القضايا الحيوية التي تمس مصلحة المجتمع في العالم الغربي من أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وأجبرت أصحاب القرار على اتخاذ قرارات وخطوات لإجراء إصلاحات في قطاعات متعددة. بهذا تكون الصحافة الاستقصائية تلعب دورً هاماً مكافحة الفساد والجريمة المنظمة.
كان لجهود رجال الصحافة الاستقصائية الفضل الأكبر في محاربة المافيا الأمريكية منذ أربعينيات القرن العشرين والقضاء عليها، عبر متابعة وتنصت ومراقبة لرجال العصابات، وتم تقديم نتائج ذاك العمل الشاق إلى السلطات، حيث قامت الأجهزة الأمنية تحت ضغط الصحافة والراي العام في إلقاء القبض على رجال المافيا وتقديمهم للمحاكم، بعد أن كانوا متواطئين معهم.
وقد دفع عدد من الصحفيين حينذاك حياتهم ثمناً لعملهم وسعيهم إلى كشف الحقيقة.
بعد ذلك شق هذا الأسلوب في العمل الصحفي طريقه إلى أماكن متعددة في العالم. حيث باتت الصحافة الاستقصائية في هذه الأيام تعتمدها الكثير من المؤسسات الإعلامية، وهي تنمو وتتطور وتتسع وتلعب دوراً متزايداً في الكشف عن القضايا الكبرى في المجتمعات، تلك النوع من القضايا التي لا يستطيع الإعلام العادي متابعتها ومعالجتها.
إن الصحافة الاستقصائية ليست هي نفسها الصحافة المتخصصة، ولكن الصحفيون المتخصصون قد يستعينون من بعض تقنيات الصحافة الاستقصائية، لكنهما نمطان مختلفان من الصحافة. وليست هي الصحافة الناقدة، حيث أن مهمة الاستقصاء أبعد وأعمق من النقد. كما أنها ليست التغطية الإعلامية للقضايا الهامة، حتى لو كانت قضايا حيوية كبرى، مثل جرائم الفساد، والجريمة المنظمة، وخلافه.

قواعد ومعايير الصحافة الاستقصائية:
إن للصحافة الاستقصائية دوراً هاماً في التوصل للحقائق في القضايا الهامة، الكشف عن الجرائم والفضائح الكبرى وربطها بالفاعل الحقيقي. هي أيضاً طريقة لتبيان الصدق من الكذب، والتأكد من حجم القضية الحقيقي دون تضخيم أو تقزيم مقصود من قبل جهات ما. بهذا المعنى فهي وسيلة رقابية فعالة ويمكن لها أن تصنع رأي عام حول قضية ما. كما أنها تعبد الطريق أمام تدخل الأجهزة الرسمية في خطوة لاحقة.
على الصحافة الاستقصائية اعتماد مبدأ توثيق المعلومات والبيانات التي يتم الحصول عليها. وحين نشر أية تقارير مرتبطة بقضية ما، يجب أن تكون واضحة ومحددة ودقيقة وتدعّم بالأدلة والبراهين. كما لا يجوز أن تتضمن تقارير النشر أية اقتحام لخصوصية الناس، وعدم التعرض للأديان والعقائد، والحرص على عدم إثارة النعرات الطائفية والعنصرية والمذهبية.
وعدم نشر ثقافة الكراهية، والابتعاد عن استخدام المصطلحات المبتذلة، وعدم نشر الصور الفاضحة، كما يجب أن يكون واضحاً للقارئ الحدود الفاصلة بين البيانات والمعلومات وبين وجهات النظر والآراء ومواقف الصحفيين ومؤسستهم الإعلامية. كما يجب الاشارة إلى أن حق الرد مصان لجميع الأطراف المعنيين بالموضوع قيد المتابعة والنشر، وأن تحترم المؤسسة الإعلامية سرية مصادر المعلومات التي حصلت عليها.
أيضاً من المهم أن تتم متابعة قضية حقيقية وليست مفتعلة، والابتعاد عن أساليب الكذب والخداع والغش في المتابعة والكتابة. ولأن الصحافة الاستقصائية صحافة متابعة بعمق، على الصحفي الاستقصائي أن يكون يقظاً تجاه كافة التفاصيل المرتبطة بالقضية والتيقن من صحتها، ثم ربطها مع الوقائع الأخرى، وأهمية إيجاد الأدلة والقرائن، وحماية مصادر المعلومات.
الصحافة الاستقصائية لا تستطيع التنصت على اتصالات الناس، ولا الدخول إلى أملاك خاصة دون موافقة أصحابها. وعلى الصحفي الاستقصائي أن يبلغ الجهات الأمنية الرسمية في حال تعرضه للتهديد من قبل أية جهة كانت، وأن يتعامل مع التهديدات بجدية كبيرة.

العلاقة بين الصحافة الاستقصائية وصحافة التحقيق:
إن التحقيق الصحفي كما علمتنا المدارس الصحفية هو التفتيش والتنقيب في قضية ما بهدف الإحاطة بكافة الخيوط المرتبطة بها، والوصول إلى معرفة الدافع والهدف، ثم عرض هذه القضية على الجمهور كما هي مشفوعة براي الصحفي أو مؤسسته التي يعمل بها.
فالتحقيق الصحفي يستند أساساً على التقاط قضية مجتمعية معينة، وليس بالضرورة أن تكون قضية إشكالية، ربما تكون قضية إيجابية مثل إنجاز ما في ميدان ما من ميادين الحياة، ويقوم الصحفي بداية في إنجاز عملية البحث عن مصادر وعن بيانات ومعلومات متعلقة بقضيته، ويجمع الآراء والمواقف التي تتصل بها، ثم قد يحتاج إلى إجراء بعض المقابلات الشخصية مع ناس يرتبطون بموضوع التحقيق. بعد ذلك يقوم الصحفي بصياغة التحقيق من المادة الصحفية التي حصل عليها، ويقترح حلولاً لمعالجة الإشكالية موضوع التحقيق، أو بقدم اقتراحات ما ضمن تحقيقه. وعادة يرتبط التحقيق الصحفي بالوقائع المتصلة بحياتنا والتي تهم المجتمع أفراداً ومؤسسات. وفي بعض الأحيان قد يؤدي التقرير الصحفي بعد نشره إلى نقاشات وحوارات بين أفراد أو جهات رسمية وشعبية.
فيما يتعلق بالصحافة الاستقصائية فإنها صحافة تعتمد على الكشف والبحث والتحقيق، ثم التيقن من صحة البيانات والمواد التي سوف يتم نشرها، وبهذا فإن التحقيق الصحفي يكون جزءًا مهماً من الصحافة الاستقصائية التي أصبحت أداة مهمة لمكافحة الفساد والكسف عن الجرائم الكبيرة في الدول الغربية وتلك الدول التي تمتلك أنظمة سياسية ديمقراطية. كما أن الصحافة الاستقصائية هي التي تقوم بإظهار القضايا الكبرى في المجتمعات والتي عادة لا ترغب السلطة في تسليط الأضواء عليها.
التحقيق الصحفي الاستقصائي نمط صحفي يعتمد على الجمع بين جميع الفنون التحريرية الصحفية. هذا النوع من العمل الصحفي صعب ويحتاج كفاءة وخبرة من الصحفي المحرر الاستقصائي، لأن قدرة الصحفي على التقصي والتحليل والربط وإعداد التحقيق هو ما يمنح هذا التحقيق قيمته المهنية ومدى استطاعته في التأثير على المجتمع.
يتميز التقرير الصحفي الاستقصائي بأنه عمل يقوم به الصحفي من بدايته حتى نهايته. هو ليس تجميعاً لمواد وبيانات قام بها آخرون، ولا إعادة معالجة حقائق توصل لها صحفيون آخرون، بل التقرير الاستقصائي هو مادة أصيلة يقوم بإنجازها الصحفي، ويمكن إجراء مقارنات ومقاربات مع تقارير وبيانات موجودة وربط لوقائع بهدف الوصول لنتائج لم تكن معروفة سابقاً.
أيضاً التقرير الاستقصائي قد يتطلب إنجازه وقتاً طويلاً، ومن الممكن أن يشترك أكثر من صحفي في الإعداد بسبب عمق البحث الذي ربما يستدعي من الصحفي السفر إلى أماكن متعددة، وأحياناً بسبب قلة الأدلة التي يتم التوصل إليها.
في التقارير الصحفية الاستقصائية يقوم الصحفي باختراق حواجز السرية وتقتحم الأبواب المغلقة التي عادة لا يتم فتحها أمام الصحافيين العاديين الذين يحررون التقارير اليومية. الصحفي الاستقصائي لا يقبل برفض المؤسسات الرسمية والشعبية الكشف عن عملها وتقديم معلومات عنها.
ولأن الصحافة الاستقصائية صحافة تسبر أغوار مناطق وأماكن غير اعتيادية فإن حجم المخاطر مرتفع في هذا النوع من الصحافة قد يصل إلى مستوى تعريض حياة الصحفي للخطر. وإن وقع الصحفي لسبب ما في أخطاء بحثية قد يكلف هذا الأمر المؤسسة الصحفية مبالغ ضخمة.
فيما يتعلق بالعالم العربي فإن هذا النوع من الصحافة لا يستخدم كثيراً، وما زال انتشاره في أضيق الحدود، إذ أنه يواجه إشكاليات وتحديات كبيرة ومتنوعة ترتبط في غياب الوعي لدى المؤسسات الرسمية والشعبية لأهمية هذا النوع من الصحافة، والدور الذي يمكن أن تقوم به في التنمية المجتمعية، ورصد ومراقبة أداء الهيئات العامة.
كما أن غياب الحياة الديمقراطية والبرلمانية في معظم الدول العربية، ووجود توافقات سياسية وحزبية، وغياب معارضات سياسية حقيقية ما زال يشكل عائقاً أمام تطور الصحافة الاستقصائية في العالم العربي. وهناك غياب في كثير من الدول العربية للأطر والتشريعات القانونية تقوم بتنظيم حرية تداول المعلومات، وعدم وجود رؤى استراتيجية لدى الدول العربية تتعلق بآليات هذا النوع من العمل الصحفي، فضلا عن القصور القانوني والثقافي والمهني لدى العديد من الصحفيين، وعدم رغبة الكثير منهم الخوض في تجربة الصحافة الاستقصائية للمشقات والخطر الذي قد يتعرضون له أثناء إنجاز عملهم، وخشيتهم من الفشل، ومن التعرض لدعاوي قضائية. ومن المعيقات أيضاً ندرة المؤسسات الإعلامية العربية التي تدعم الصحفي وتمول عمله الاستقصائي وترصد له ميزانية للتنقل والمصاريف المختلفة. ومعارضة أصحاب مؤسسات إعلامية أو مسؤولين عن الإعلام الرسمي لنشر قضايا مثيرة للجدل في المجتمع، نتيجة الخوف من العقوبة ومن الأشخاص ذوي النفوذ السياسي والمالي، ونتيجة التهديد بالسلامة الشخصية.


136
أدب / مكتظ بالطحالب الضريرة
« في: 19:20 31/01/2018  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


مكتظ بالطحالب الضريرة

1
رماح داجنة
    *
وأنتَ تسحبُ رماحكَ من غابة الخبز
ازرعْ عصافيراً لقلوب الجائعين
كي ينمو على نصالك السلام
وأنتَ تحتسي صوت الشراع
افتحْ باباً لصراخ البحر
وباباً لهذا التيه الموغل
وأنا من سقط في قدمي الطريق
استعصتْ عليَّ الثمار
وأنهكتني النهايات
قُلْ لي: كيف تبدّدت رحلتي في المنام؟


2
مواعيد مؤجلة
       *
كثيراً أحبُّ ثرثرتكِ في الحربِ
تُخبئين ترياق الخوف خلف الرداء المرتبك
تقولين: في تجاعيد الضوء التالي أراكَ
في العتمة نتوغّل
والمتاريس تُواري نوافذ المدينة
الأقدام دامية حتى ينزف الرصاص
لم أرى صوتكِ
انتظرتكِ طويلاً على الشرفة المبتورة
قال حرّاس الفوانيس
في غفلة من الشرخ رحلتْ
نَسيِتْ ارتداء الملجأ


3
شيء من الخوف
        *
ولدتُ في مرج السوسن
أرضعتني العصافير العابرة
لذلك أمقت الأماكن الضيقة
تراني أضم الغيم في جيبي
وأشاطر وجه السماء لوني
طويلاً أضحك على أسوار الوحشة
أحلّق بلا أسماء ويستدرجني درب الصناديق
أغفو فوق السرو المهجور
وأرقب موكب الجنازة
في البيت الجدران كثيرة ومرتفعة
جُلّ ما أخشاه أن أصبح فزّاعة بقبّعة من الذرة
تنتصب وسط المقبرة القديمة
ولا أستطيع الضحك




4
حكاية غير حقيقية
       *
في النطقِ تأخرت كثيراً وأنا صغير
كنت أبكماً مشروخ الفم لا يدرك الكلام
دائماَ ما كان ينعقد لساني بما ينبت فيه
تجري أصابعي لآخر مزمار
ويظل لساني مكانه
قالت أمي: ابني مكتظ بالطحالب الضريرة سطره
شدوا حرفه مسافة نور منكسر كي نراه
يأبى المعنى أن يطاوعني
كانت عيوني ظمأى للحزن
كبرتُ وأصبحت صوفياً
 وضاقت الجهات على صوتي
امتطيت سدرة الاستدلال أقشر قافية النصوص
أرتل أوراد الغيم الموروث
وصار صوتي مطراً لكل عشب جاف
وجناح لكل أبكم


5
هسيس مرتبك
      *
كنتُ أصنع زوارقاً ورقية وأنا صغير
أرسم عليها أجنحة
تشبه الطيب المسافر لمقابر الخزامى
أحمّلها حبّات القمح وأدفعها
في الضفة الأخرى للساقية تلتقطها العصافير
أنا لا أخشى البحر
ولا الأسماك
لكنني جداً أخاف من المراكب الكبيرة
ولون البحر
وكثيراً كثيراً أخشى الورق
كلّما أحضرتُ القلم تموت الطيور
لم يعد من القمح ما يكفي
يقولون الأزرق لون الموت


137
أدب / ذرفت نهري وطيوري
« في: 20:23 22/01/2018  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


ذرفت نهري وطيوري

أحببت في صغري كتباً كثيرة
تعلقت ببعضها كطفل يشد ثوب أمه
عشقت أخرى وأخفيتها في ملامحي
وهربت من كتب سفكت عافيتي
حين قرأت قصيدة أول مرة
انكمش صدري خلف القميص
راودني قلبي عن الحروف
جثوت فوق شفق الحكاية
 نظرت إلى وجه القصيدة
 عيونها تحدٌق في الوجع العاري
 حروفها تطفوا فوق فوهة الأفق
 والسطور رماح تطعن الضجيج
خالَ لي حينها أن الشِعر قِدْراً أسود
تنضج فيه الطلاسم والتمائم
لحظات استدرجتني لسدرة المعنى
صرير صدري كان مثل شجر يتقلّب
ظل قلبي يؤلمني مسافة موكب الرمل
مسّني هسيس المخطوط
في الليل كنت أسمع صراخ عصافير الماء
يأتي من وريد الريح الجاف
جهة النهر الكسيح
أستيقظُ مرتعباً وحيداً كل صباح
 في كل نوبة هلع تتلبّس جسدي الحمّى
تصبّ أمي الرصاص السائل على الماء فوق رأسي
ترتّل العمات أوراد الطقوس الروحانية
يأبى مجنوني أن يغادرني
تقول أمي صدر ابني مثقوب
كلما بكت أصابعه
 يخرج من ضلوعه نخل ورمان
لكن قلبه سيموت في كل صك مولود
ظمئي لخزائن المطر يقشر عشبي
جَرّتني صارية نهري
من فيض الخشوع للصراخ المشروخ
كنت كما أذكر جنوني أضم القارب في جيبي
أشدُّ قلبي كي أسمع فاكهة السفر
وتسألني بلابل الطريق
كيف تنام القصيدة
إن لم يجد الصغار شمساً
يرمون لها نواجذهم
أو ساقية تلهو فيها مراكبهم الورقية
 شجرة ربما يختبئون خلفها
لهذا ابتعت قِدْراً وقطفت الخرز الأخضر
 وصرت ناسكاً
كتبت أول قصيدة
فارق التوت قلبي
لم أبرح لوني ولم أقرب زادي مسافة حقل
يقتلني هذا الجنون ولا يهجع
أحرقت كثيراً من الصور
وفديت قيدي بقمح عظيم
قبل أن أكتب الديوان الأول
قالوا انج بنفسك قبل أن يغتالك قلبك
لكنني يا ربي مسكون بالوجوه الحافية
كيف تستقيم القصيدة
وكلما دعا العشب أحبتنا للنوم
يفتحون لهم نوافذ الأرض خلف السور

قد بلغ الهذيان الانشطار
القصيدة تنتشي بالخواء الثقيل
تتسكع أسفل الظلال
لا معالم في الحروف
لا مكان لبساتين التين
القصيدة تغمض عينيها
تبدأ اللوعة هنا
من وهب الولادة شهقتها؟
من أسقط المواسم في فوضى اليقظة؟
محنة المرء أدغال المباهج
لا تظن رحم الماء ضرير
فهي معصية تربك وجه الغابة
لذلك هشمت قِدْري
قالوا للنذر أربعين وحياً
ما غفوت لكن العصب اختمر
بلوحتي الأخيرة كنت وحيداً
في قاع القلق
وفوق ظهري شقاء العابرين
خلف غيمة تفور تركت صدري مفتوحاً
ذرفت نهري وطيوري
مزقت قصائدي وبقيت أنا مجنونها
حزيناً أهلوس بتعاويذي
أكره النوم وأستيقظ ما زلت مرتعباً
 ولا زلت
 كلما كتبت قصيدة يموت قلبي



 

138
أدب / حتى يُشرق البحر
« في: 20:51 10/01/2018  »


حتى يُشرق البحر

حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


مزيّف كل شيء
مثل لوحة إعلانات تنطفئ ثم تضيء ببطء
تظهر صورة الدجاجة البدينة تلهو مع صيصانها
فوق المذبح الآلي للدواجن
في الداخل الدجاج معلق من الأعناق
يدخل في أقفاص تنضح بالضجيج والدفء
ويخرج في صناديق باردة ساكنة
هكذا هي الأشياء
تغرينا ببريق زائف
ما أن نقربها تُشهر نصالها
تغرس واحد في العنق وآخر في الخاصرة
مثل الأوطان
لا ترى منها سوى الأراجيح وساحات العيد
حين تكون صغيراً
تكون مثل برعم الفرح قزحيّ الساق
تغفو كبذرة الروابي في رحم الوقت
عشرون عاماً تردد النشيد الوطني كل صباح
حتى يختنق صوتك
لكن الوطن أصم بوجه متحنط
ما أن تنادي بلادك
يعلقون لك المشنقة في أقبية الموت
كل شيء مزيف
مثل الأصدقاء المخلصون
تنهل ماء عينيك كي لا تجف أكفهم
فينبتون ضوءًا مثمراً لا تطاله أصابعك
فإن جف مطرك يرتدون شجرك
يغلقون اسمك وينامون
سرهم غريب
يختارون دون فصول هجركَ
ودون فصول اختيارياً يعودون
مزيف كل شيء
قبل الحب رحل قلبي
حيث تزهر ضفافي
قالوا الهوى يناديك
هيا اعبرْ درب القناديل
أوقدتُ وميضي فتعثرتْ طيوري
تلَوّى حقلي كعشب أعياه السور
لم يكن في الخفق النازف
سوى مواعيد لا تأتي
سألت الشجر المصلوب على الوقت
أين يذهب خلاّن القلب حين يرحلون؟
قالوا يسافرون في جذر الريح بلا هوية
قلتُ متخم بالضجيج هذا الموكب
لكنني لا أسمع زاوية الصور
زيف يملأ حلوقنا بخاراً أسود
يحجب عرينا ويفور رماداً
أقسم المارة أن السمك يزحف نحو الغابة
وأن الرمل أغمض عشبه
وأنتم قد تكونون عصافير الشتاء أو أشلاء الريح
ربما زهرة ياسمين أخضر
لكنكم خطى تائهة
مثل يتيم أضاع حذاءه
ها قد أضحيت نهراً يصطفي ضفاف الغرباء
حد الجسر الأخير
ذات حقيقة
حين يضيق بي زورقي
سوف أرسم أشرعتي كما أشاء
كي يتحول الوعد طيراً مهاجراً
يمتد في السفر
أطوي رملي تحت وسادتي
ألقي رأسي فوق ناصية المتاهة
أشتهي جنوناً صادقاً يمتطي رائحة قلبي
 وأنام حتى يُشرق البحر
قطرة .. قطرة










139
أدب / سلام عليك يا قدس
« في: 20:44 07/12/2017  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


سلام عليك يا قدس


يتهادى صباح القدس
على بساط من سندس وديباج
يرقّ من ثغرها البنفسج
للعصافير حين تصدح
أزهار النارنج باكورة الصلاة
 والمآذن آيات الخالق تنسدل
 على الكروم وبساتين التين
 بالأسماء الحسنى
 وأكواب القهوة شراب البنٌ
 موٌال يعانق الشرفات العتيقة
 والخلخال أزهار الرمٌان

 على ضفاف القدس كًتب التاريخ
 وغًرست أشلاء الكون
 من هنا مر الآراميون والكنعانيون والإغريق
 وظلٌت القدس وجه طاهر
 معتٌق بفضة القمر
 القدس لسان الكون
 فيها صكٌت الأبجدية المسمارية والآرامية والسٌامية
 همس ينمو على أصابع الصوت
 وعند عتبات القدس تًنبت الكرامات
 فهي توأم الشام وشقيقة المسيح
 يحرسها الرحمن

 القدس بسبعة أبواب
 مدينة مفتوحة على السماء
 والنرجس أقراط القبّة
 تغفو عليها الملائكة
 جبل الزيتون عروس فوق هودج مخملي
 والأقصى مسمار الله في القدس
 والكنيسة مليحة حسناء بجدائل
 تمتد بين صرختين
بئر أيوب بتلات بماء يغسل الذنوب
 وجبل المكبّر صدقة جارية
كأنٌه مزمار الراعي
 ووادي قدرون سحر البيان

القدس سيدة المدائن
 حدائقها خطىً بلا تعب
 كأنها سجادة صلاة
 دروبها وسائد الروح تزيٌنها الحواري
 كأنٌها قبضة من نور
 القدس ريم القبائل وشامتها
 هي القمر العائم لحظة الغروب
 بدر أخضر
 القدسزهرة العيد براعم خمرية
 وخلف أسوارها تتمايل
 أغصان التين والتوت
مثل وتر أثملته الألحان

 كأنٌها إنجيل الفقراء
 مرصٌعة بطيور الجنة
القدس  قصيدة لا تكتمل بتفٌاح أو محراب
 هي وحدها ترسم المطر ربيعاً
 القدس عروس فاتنة بتاج من زنبق
 وقلادتها ماء القلب
 سلام على تلك الأرض ونسغها الطاهر
 وًلدت لتظل نبوءة الشرف
 وللإباء إيوان

 منذ نيٌف هاجرت أمواج القدس بحرها
 بكت النوارس
 احتضر النهار والضوء رحل
 وتجرٌعت القصيدة قبرها
 خلف أسوار الزوال
المبعدون وحدهم خطىً تائهة
 يقين يحتضر
 وأثواب معلقة في السماء
 والنساء تكابد الوجع
 ويمرٌغهن الأنين فوق خطوط الوحل
 ينامون وهن يمضغن
 الحسرة والأحزان

 خلف عباءة البياض
 تتوارى مآثر التراب المتوقٌد
 يجتث أغصان الماء
 كأنما المسجد لا عاصم له
 كالشرفات المهجورة
 عناكب بلٌلورية تنزف حمماً
 أضغطوا على الرّيح أيها المسلمون
 يدخل الملح الأسود جوقة الموتى
 أبكوا كفكم وألقوا حزنكم
 جهات للإيمان

 أضحت المدينة قلب حزين
 بضفائر من عصافير
 وشراع مبعثر يمتد جدائل من دم
 عند حافة الوقت المشروخ
 تتقشٌر الجدران في وحشة الضياء
 ويغفو الظل على وشم الماء
 عناقيد ملح تصافح الموت
 في جبٌ الظلام
 تفر الدروب تلفظ يهوه
 تسيل أسفار الذبح من الثقوب السوداء
 كالثوب الضرير يلتحفه الشيطان

140
أدب / كثيرة هي حماقاتي
« في: 21:08 28/11/2017  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


كثيرة هي حماقاتي


لا أحد ينجو في مسار الغفلة
كثيرة هي حماقاتي
تتواتر كما السيل المنفلت
موجة بكماء وأخرى أوصدت أهدابها
بدءًا من مخاض ضرير
في حقل النعناع
حين وهبتني الأقدار قلباً أخضر
يصبح ساقية إذ استيقظت الغابة
وقنديلاً إذا نامت عصافيرها
أنثر السوسن في وجه الربيع
تزحف على الفصول رائحة لا تصل
أعتلي جدران المدينة مثل قط الأسواق
تتعثّر بي عربات الباعة
أشتهي قضم الرحيل
 مثل درب أعيته الخطى 
في العيد نسيت يدي عند بائع البالونات
وأنا أبحث عن آخر خيط كان يلهو هناك
فكان نصيبي فرساً ورقياً هزيلاً ومبتسماً
عدتُ مرّة من أقدام الشاطئ دون رأس
حين أيقظتني أمي صباحاً
وجدت نورساً لا يطاوعه الرمل مكانه
قالت: ابني ابتلع البحر
ومرّة تسلّقت لوحة الأولياء
فسقط بي جسر المطر
لملم السور جسده المنهك
وتوارى في أعباء القلق
كبرتُ وكبرتْ الحماقات
صرت مرجاً من العشب
ينصبون فوقه ألعاب المواسم
ويرقص على أطرافه التائهون
صرت شيئاً من لهاث المسافة
تصرخ أصابعي ولا أعرف القراءة
وفي الشتاء السابع
أخرجتُ عيني من أنفي
حين ضمرَ الغيم الماء في هبوط الملح
تذكروا أنني حلّقت مع فراشات النار
لم يكن زهواً ولا بهجةً
ولا برعماً
كان أنيناً منسكباً وجناحاً وعراً
أكبر حماقاتي كانت في الحب
صدّقتُ ذات وهم
قالوا لي ما الحب إن لم تفيض به روحك نغماً
فرابطتُ في روضة العشق وتراً
أطعتُ مقاماته وأنهكني الهوى
حتى ذرفت قلبي
وشيّعت جنازته وحدي
أغلقتُ الانتظار وقلتُ
ما أعذب عثرات الصبا
لو أن قدري يغادرني
ويبعثني مرة أخرى غصناً من الماء
يجتث التراب المتوقّد
كنتُ خلعت قلبي ووجهي ويداي
وكتبت جنوني ونوبات اغترابي
واكتشفت سرّ الحماقة
إنما يتلاشى وقتي
 مثل ضوء خجول يفرّ بعيداً
و قوارير الرمل تتنهّد باسترخاء
يوشك الطفل أن يرتبك
فوق العشب الأبيض
حالك وجه هذا العالم أسحم
ما زال الكثير في احتدام القصيدة لم يقال
أفترش وردتي وأنام
وحماقاتي تمضي حيث عيد الله
 يهب نزق الصبيان أرجوحة

141
أدب / أنتظر قلبي أن يكبر
« في: 18:49 24/11/2017  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


أنتظر قلبي أن يكبر


بعناد باتر أمها ترفضني بشدّة
الفتاة التي أحب
تقول ابنتي غصن من أهزوجة
حسناء مليحة بجدائل تمتد بين هودجين
خدّها معتق بفضة القمر
وخلخالها من زهر الرمان
أنت شاعر أشعث بقلب صغير
وتمرك لا يؤكل
قلت خذي فرحي وساعة الشروق
 حدقة صراخي ولون نخيلي
خذي قصائدي ونكهة أصابعي
لو شئتِ ما أرقت وجهي
قالت عند عتباتنا تُقرع الكرامات
أنا أَهبُ الفصول ولادتها
لا ينفع معي مطر ولا بشر
فلا فرح لكَ ولا شجر
احترت في التأويل استشرت وسألت
أما من كوة تفضي خارج هذه المشنقة؟
قالوا بلا أمل تُبحر أشرعتكَ
كل الجهات تشهق حمماً
سيظلّ حزنك جاثماً كشرنقة فقدت أجنحتها
سألوني ما بالك والنساء تصدح
 أريم القبائل هي؟
أجبتُ بل شامتها
لا تشبهها القصائد المعلّقة
ولا جداول النرجس
هي وجه العيد العائم لحظة الغروب
منذ نيّف وسبعة مواسم
 صدفة التقيتها
امرأة ببراعم خمرية
حبّة خزامى تلاحقها البساتين
همتُ بوجدها
ونامت غيمة على نهر قلبي
في جنون التفاح سقطت
وأنا أنتظرها
ذات رمق يحترق
وأنا على بعد خسف أنتفض في وقتي المغلق
لا فرار للخطى من دربها
احتجبتْ في بهجة البياض
امتشقت الحبيبة من جوف الهاوية رمحاً
وأمعنت في خاصرتي
تقول أحبكَ يا وليفي ولكن
ينتظرني رجل آخر
وأنا أسقط تحت اللحاف آخر الليل
كل يوم لاصطياد الغفوة
يخرج قلبي من تُرعته فوق الغطاء
يرتدي برقعاً من أسلاك شائكة
 خلف السائل الأحمر يسترق النظر
بعينين تكبلهما خدوش رطبة
وأقدام تتعلّم الفطام
يبحث عن لبّادة العشب
أغطّي يقظتي وأُغمض فراشي
كي تغفو فوق الهوّة شِدّتي
لكن أرق الفراش يرميني كل ليلة
من أين يأتي كل هذا الحب؟
من أين لقلبي هذا الطفل العاشق؟
لو أن شغف الإبحار يعود
انتهى العرض
داهمتني الألوان البالية
لا تنسوا ترتيب التفاصيل الراكدة
في الخفق النازف جرحاً متوثباً
أنا وحدي وهذه الأضلاع نتلوّى
مثل قطعة وجع في سلّة ملح
 بلا سبيل بلا تمر
وبلا حبيبة
أنتظرُ قلبي أن يكبر




142
أدب / أحدثك عن وجع الحقيبة
« في: 12:53 19/11/2017  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


أحدثك عن وجع الحقيبة


لم أكن أحب معلم الرياضيات
لأنه يكْسر صور الأحبة
ويعادل أجنحة المراكب بأشرعة البجع
يدسّ جذر الريح الشارد
ثم يضع أسماء الموتى  في جداول
يبتدع نظريات بفوهات صمّاء
 تضيق على عيون الصغار
ويحمل مسطرة طويلة
تصل إلى رؤوس التلاميذ
يشرح لنا عن مثلثات
برؤوس متجردة من حقولها
أضلاعها مثل شجرة هرمة
وفمها طوابير من الجراد
كان يقيس المسافة بين الكرّاسة وتعب القلم
بوتد من رحم كسيح
ولا أحب أستاذ الجغرافيا
يرسم بحوراً لا ماء فيها
ولا أغصان حانية
يخبرنا عن مدن تعوم فوق شقائق النعمان
وعن فصول ممزقة الأسمال
تستجدي حزمة من مطر
يقول لنا حين تسقط أوراق النهر
يجن الخريف ويموت الخبز
حينها يقضم الغيم وجه النهار
لا تخافوا إن ألقت العاصفة في صلب الكثبان
قمحاً بلا قوافل
ولا مدرس العلوم العجوز
يخلط بالقارورة صوت الضوء المتربّص بالنهر
 برائحة التوت المثقوب
وفي كل مرة تختنق شرنقة الماء
كانت يده مبتورة
قال مرة لا داع للعجلة
الطحلب الأصفر سيزاحم الشمس البكر
إذا ما نضج السور
وغفى النور على كفّ الأفق
أكثر ما كرهت معلم الرسم
وهو يصوّر في الأعشاش أسماك بأجنحة
ويرسم ستائر بلا نوافذ
حين رسمت عربة نقل الموتى
وضعت فيها صناديق من التفاح الأبيض
صفعني على مؤخرة رأسي
شاهدني مرة أرسم رجلاً يصلّي
عارياً بلا ملامح
 صاح يا عبد السوء
وطردني من الحصة
أستاذ اللغة العربية كان يخيفنا
يصرخ دون مقدمات
لم يكن من حاجة لهذا المعول
هذا الحطّاب لا اسم له
ورأسه سادر بلا حول
معتقلين كنّا لا طلّاب ولا أطفال
لم يكن أبي يصدّق إني كسول
وإني لا أحب المدرسة
حين يسألني عن أسماء الأولياء
أعدّد له  أغصان المدينة
أقول الحروف مصابة بنضح من وجعها
أصبحتم تعلمون ما كان يفعل
وأنت لا تطلب مني كتابة قصائد عن الحب
ولا عن الحبيبة الوفيّة
لم أكن أبداً أتحدث عن المدرسة
ولا عن أبي
كنت أحدثك هنا فقط عن وجع الحقيبة

143
أدب / يعود الشجر إلى البحر
« في: 22:20 14/11/2017  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


يعود الشجر إلى البحر

أبداً لم يكن والدي رجلاً رومانسياً
لم نراه يحضر يوماً وردة لأمي
لكنّه يحضر الكثير من اللحم
أمّي تصنع بوفرة الخبز والكعك
تظلّ ترقب درب المدرسة
حتى لم تعد ترى المسافة
والصغار ينتظرون صباح العيد
تتوضأ أمي بالطحين وتعصر أكمام القِدِر
تمسح أشلاء النهار بأطراف ثوبها
تفرش تعبها وتصلي
وتعود إلى الصكوك العسيرة
ترتّل أورادها وتتهيّأ للظمأ
ونحن مثل كرات زجاجية صغيرة
نتدحرج بين أكياس السكّر وأقدام العمّات
وأكوام اللحم
والدي رجل ضخم البنيان والقلب والإيمان
يشبه طاحونة قديمة
يحلّق مثل أذكار الخشوع
كلّما أكل لحاء القمح نيئاَ
يطوف مثل قائد حربي
كلّما علا صوت المئذنة
ويحصي أطراف العباد
يُحبّ طهي اللحم وإطعامه
يهبُ الأسماء وريد الخبز
ويقرض كفّ اليتيم
تضيق السلال على المواسم
وتتوهّج عيون القوم
اللحم وافر
 تفيض الغِلال على المريدين
يبتسم أبي مثل وجه النهر
تمعن الأفواه في افتراس اللحم
يبتسم والدي أكثر
وكلّما تنسّم جارنا الرائحة
يأتي ليلقي التحية
والقوم لا يخرجون إلّا ويعودون
لم أرث حبّ اللحم
أورثني وحشة بأنياب
وأرق الاتجاهات
أبي لم يكن رجلاً رومانسياً
بل رجلاً شيخاً عنيداً ً
وكان يضربني كثيراً
لكنّه رجل جَوَّادٌ معطاء
بقلب يشبه ورق الورد
يُطعم كرز عينيه لمن يشاء
كان يناديني من حيث لا أرى
ويراني من حيث لا أسمع
وهكذا ظلّ هو كفاً بارداً
 على حدود الوجع
وبقيت أنا أطوي المسافات
لا يستقيم اليراع مع أنامل الراعي
يقولون حين تهرم الغابة
يعود الشجر إلى البحر
ما زلت أقف على فوهة الرمل
لا يطاوعني قاربي
لكنّني أحرّك الماء المرتبك
وأوْصد تقاطيع الشراع
كلّما سمعتُ دبيباً أو ثغاء


144
أدب / وجهي نافذة هرمة
« في: 21:45 08/11/2017  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


وجهي نافذة هرمة

ونحن صغار
كنت أصنع مصائد للضوء
أنصب المرايا الضريرة
وأستدرج الشمس للسور الكحلي
أمزّق من صلب السواد ورقة ورقة
كي يتبعني رأس النور
يستنهض قلبي ألوان الضياء
فتتراقص العتمة دون زهر يذكر
حين يمتد من الكوة الضيقة
 صوت الجناح وعداً
وتسقط قامة الضوء في الشرك
أُغلق العصافير على قلبي
أعصر ضحكتي فوق ظلّي
وأترك يدي فوق ريش التعب
كي ينضج وجهي في قوارير الوقت
الساعة تمام العتمة من كل ليلة
أتسلل خلف السور
 وأوقد مزاجي الحنطي
أُحرر الضوء وأُطلق وجهي من سباته
في الصباح أعود لأنصب الشراك
وأتحايل من جديد على الضوء
أصطاده مرة أخرى
وبنزق الصبيان أرفع مصيدتي
كي يهرب الضوء ويتلاشى
مثل كسرة ضحك ابتلعها الحزن
كنّا أطفالاً نتقاسم الطرائد وبستان التين
نُفرط في نصب المرايا
نتشارك القبور ويوحّدنا البكاء
كل شيء يعود لأصله
قادتني فطرتي إلى صفصاف القرية
لم يعد البستان كما كان
بلا حول تقبع المرايا الصدئة
في بيتي مرآة عمياء كبيرة
كثيراً كبيرة
بحجم السور الكحلي للمقبرة
لكن قلبي الآن أكثر رشداً
من الماء الخشن
كلما فتحت عليه مطري
على حين غيمة
وأمسى وجهي نافذة هرمة الدرب
يبتكر للغياب خيلاً
لتدوسني حوافر الراحلين
يا الله كم يحب المسافرين هذه القبور
مثل حَمَل صغير استيقظ متأخراً
في المرج الشرقي
دون أمه
أكبو مرتبكاً أستجدي وجهي
ينفطر صدري زهرة وعصفوراً
ولا يفلح الضوء في الانبلاج




145
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك

حركة التحرر العربية .. أسئلة التراجع والنهوض



إن تفقدت بموضوعية وأمانة فكرية دور ومكانة قوى حركة التحرر الوطني العربية خلال ما يقارب العقود الأربعة الماضية، تكشف عن إفلاس فكري وسياسي وثقافي، وعجز حتى الشلل. ولن تجد من تلك القوى منفردة ومجتمعة سوى شعارات غوغائية باهتة، لم تعد تنطلي على أي مواطن بسيط من الشارع العربي.
سوف تجد قوى وأحزاب باتت فاقدة الأهلية الوطنية في الدفاع عن مصالح الشعوب العربية، لانها أصبحت أسيرة سياسات الانظمة العربية البوليسية والثيوقراطية، ليس هذا فحسب، بل انها أصبحت جزءا من عملية التشرذم والانقسام الديني والطائفي والمذهبي في المنطقة.
 وحتى مؤتمراتها بمستوياتها المحلية والعربية، لم تعد تحمل أية دلالة بالنهوض، وانما تحمل معنى واحد يتمثل في المزيد من تصلب الشرايين الذي سوف يؤدي إلى الموت الإكلينيكي والتحنط، لانها تلوك ذات البرامج الفاشلة، وتنتج ذات القيادات، وتكرر نفس الخطاب بلغته الحطبية، تراها وهي تحاول تعيد إنتاج نفسها، أشبه بالعجوز المتصابية التي لا ينفع مع فسادها عطّار.
هذا لا يعني بالضرورة أن موت حركة التحرر العربية قدراً محتوماً، وأنه آن الأوان لإعلان وفاتها وتشييعها، ولكن كيف نستطيع إيجاد الرافعة السياسية والاقتصادية والثقافية، وبلورة مرجعية فكرية وتحويلها إلى مرجعية شعبية، تستطيع تحشيد وتوحيد جهود كافة شرائح المجتمعات العربية، ووضعها أمام التحديات الكبيرة التي تواجه العرب في الألفية الثالثة.
أن الإشكالية الأساسية في واقعنا العربي الراهن  تكمن في الفراغ، فراغ فكري ومعرفي وحضاري، إذ لا يوجد مشروع للأنظمة السياسية القائمة ولا للقوى الوطنية على حد سواء، ولا للمعارضات أيضاً التي يقتصر دورها في إعلان الرفض، ترفض ماهو قائم، وترفض اي قادم، وترفض المبادرات المختلفة.
يزداد الوضع سوءًا حين مقاربة المشكلة العربية بدخول البشرية مرحلة الثورة التكنولوجية، والموقف العربي لايزال يتراوح بين الخوف والتهميش وافتقاد الرؤية والبرنامج. كما يترافق عجزنا مع الشكل الجديد للعولمة التي من أبرز سماتها توحيد الاقتصاد والسياسة، أو ما يطلق عليه «إمبراطورية العولمة»، وهذا ما تحاول حضارات شرقية مثل الصين واليابان والهند وبعض الدول الأوروبية تطويرها وتغييرها إلى شعار «العولمة الإنسانية».
أضف إلى ذلك النظام الدولي الجديد قيد الإنشاء، إذ يطل على المنطقة العربية بصفتها «رجل العالم المريض»، الذي يهدد العالم بسبب الإرهاب والانفجارات الديمغرافية والفقر والاستبداد ويشكل خطرا على الأمن العالمي ولابد من إخضاعه وإدماجه عبر مبادرة «الشرق الأوسط الكبير»، ولن تتراجع القوى الغربية عن هذا الهدف حتى لو أخضع مشروع الادماج بالقوة عبر تحويل الحلف الأطلسي إلى شرطي العالم العربي.
لقد أثبتت كافة التطورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال أكثر من ستين عاماً، أي خلال ما بعد نيل الدول العربية استقلالها السياسي عجز الدولة - الأمة (القطرية) ونظامها الإقليمي على مواجهة التحديات الجدية، فلا قدرة لهما على بناء الدولة «الأمة» القطرية المتطابقة مع الدولة القطرية، في زمن بدأ مفهوم الدولة - الأمة ينهار، كما يفتقدا القدرة على حماية شعوبهما من مخاطر التهميش الاقتصادي والتفكك السياسي والاستعباد الاستعماري، وافتقاد القدرة على بلورة عمل عربي مشترك ومستقل قادر على فرض الإرادة العربية.
 وتطل إلى جانب ذلك أزمات المجتمع العربي القطري ومن أبرزها سلطة الاستبداد التي أدت إلى انقسام المجتمع على أسس مذهبية وطائفية وقبلية، علاوة على بروز الإسلام السياسي المنقسم ما بين شيعي وسني إضافة إلى التفتيت والتمذهبات الخطيرة غير القادرة على طرح مشروع نهضوي - وحدوي - وسياسي أضف إليها انعدام أي برنامج لتحرير الإنسان العربي وإطلاق حرياته وحقوقه وإمكاناته الإبداعية والاقتصادية، ناهيك عن الاعتراف بحقوق المرأة.
وبرز وجهان آخران للمشكلة لا يمكن القفز فوقهما، الأول غياب عنصري العقل والحرية في الاجتماع العربي والثقافة العربية والحاجة الماسة لتحرير العقل العربي عبر تضييق مساحة المقدسات والايديولوجيات المغلقة، وإطلاق عصر أنوار عربي جديد، والثانية، حال الاحباط والاكتئاب الجماعيين وخصوصا عند الشباب، ما يستوجب إحياء الأمل بالغد وبعث التفاؤل بإمكان التغيير.
نحن أحوج ما نكون إلى طرح العديد من الأسئلة التي تفتح مغاليق الواقع من أجل التفكير بإمكان تحقيق الحلم الرومانسي الواقعي للشعوب العربية في، وهي ما إذا كانت الدولة القطرية الحالية قادرة على التنمية بشكل مستقل؟ وهل هي قادرة على الدفاع عن الاجتياح وحماية الشعب؟ أو قادرة على انقاذنا من الفقر والتخلف؟ أو ستساعدنا على إمكان ولوج عصر الحداثة وما بعدها؟
كل هذه الأسئلة لا شك تدعو للتفكير بصوت عال وتتطلب تغييرا جذريا في منهجية التفكير.
إذا كان هذا حال معظم الدول العربية من البؤس والشقاء والتبعية، فما البرنامج الذي يشكل استجابة للتحديات التي تواجه أمتنا العربية وشعوب المنطقة في الألفية الثالثة، لتحقيق تطلعاتها الحالمة باشراك الأمة في الثورة التكنولوجية، ومقاومة العولمة المتوحشة، والإنتقال إلى وضع تكون فيه الأمة مؤثرة على النظام الدولي خلال لحظات تشكله الحاسمة، والخارجة من ورطة الدول - الأمم وحروبها الأهلية، والقادرة على انقاذ المجتمعات العربية من الانقسامات ما بعد الحداثة المدمرة.
هل هناك وثفة سحرية للخروج من هذا المأزق؟ بالطبع لا، لكن البدء في إيجاد حلول يكمن في إعادة ترتيب الأولويات الفكرية وأساسها السياسي، حيث تجديد الفكرة العربية وتنقيتها من الشوائب التي لحقت بها جراء الفكر القومي، الذي أثبت أنه فاشي واستبدادي ودكتاتوري وحالم وخيالي وأسطوري، وتقدير قوة الهوية العربية وتجذر وحدة المشاعر العربية، فالثورة الفكرية تتطلب ثورة في النظرية على الصعيد السياسي من دون الاضطرار إلى الاعتماد على الأسطورة أو المدمرة، وذلك اعتمادا على المجتمعات المدنية العربية إذ تكتشف الطريق إلى مواجهة الفقر والتهميش عبر الاستخدام الأمثل للطاقات والثروات العربية ووضعها في خدمة خطط التنمية والتطويرات العلمية والتكنولوجية.
 وكذلك العمل على تخطي مخاطر الحروب الأهلية ومآزق الدول القطرية العربية والانتقال إلى حال الفعل السياسي والابداع الثقافي والمساهمة الفكرية والعلمية في إنتاج النظام العالمي الجديد، وانقاذ الشعوب العربية الصغيرة منها والثروات العربية كذلك من عمليات الالحاق والهيمنة وتحويل فكرة العروبة الديمقراطية إلى نظام سياسي ديمقراطي عربي يحقق العدالة والمساواة للجميع، وإعادة صياغة قضية فلسطين بصورة جديدة وبلورة حل عربي عادل للشعب الفلسطيني خارج إطار المشروع الاستسلامي، وإعادة الاعتبار لمفاهيم الكرامة العربية والسيادة والاستقلال العربي بعيدا عن الفكر «الواقعي» الإنهزامي الداعي لقبول إملاءات القوة الامبراطورية الأميركية.
من غير تحليل علمي وموضوعي وصادق لاسباب الهزيمة ومسبباتها، وإن لم نعلم لماذا خسر القوميون والماركسيون معركة التنمية والتطور، ولماذا غابت وغيبت حركة التحرر العربي عن المشهد طوال نصف قرن، ولماذا لم تتمكن الدولة الوطنية من إنجاز مهامها في الاستقلال الاقتصادي وتحقيق التنمية لشعوبها، فإن من ذلك يعني الاستمرار في هذا الوضع الخطير المهدد للكيانات وللدول، ويؤدي إلى انفراط الوحدة القطرية وانتصار أصحاب الكيانات العصبوية، ومن شأن ذلك تحويل الدول العربية إلى كيانات طائفية ومذهبية متصارعة، وهذه الحالة السوداوية سيناريو يحمل قابلية التطبيق في عدد من الدول العربية.
سايكس بيكو جديد يتم تداول تفاصيله في الغرف السوداء، لرسم ملامح خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط لن يفلت من أذيتها أحد، ما لم تتصالح النظم السياسية مع شعوبها، و لم تشفى حركة التحرر العربية من حالة الموت السريري.


146
أدب / يؤلمني ما زال خدّي
« في: 20:36 05/11/2017  »


يؤلمني ما زال خدّي


حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


وأنا طفل
كان والدي يضربني بيديه
كلّما عانقتُ في سفر الحكاية
خلخال سندريلا
وكتابي المدرسي مغلق
يضربني حين أجري خلف حلقات الضوء
أو حين أغسلُ وجه الصباح
من اكتظاظ العسف
يضربني أكثر إن نسيتُ وجهي معلق
على النافذة
وكلّما لمستُ ذيل الصلصال المولود
معلّمي في المدرسة ضربني
حين أيقظتُ الغيوم العابرة
ورسمتُ على الجدار ساقية
وطردني
 حين أدخلتُ الغابة الكسيحة إلى الصف
خرج منها شجر شاحب بلا ساقين
ومرة جذبتُ الشاطئ المبتور
نحو مركبي الورقي
 وأغلقتُ البحر
قال لأبي ابنك مجنون
حتى أمي كانت ترميني بالحذاء
كلما صنعتُ من الوسائد خيلاً
أو تعثرت أصابعي بالعشب
كنت أنثرُ الفراشات
على مسافة القمر القريب
فتصفعني حتى ينحبس الضوء
وتتوارى عيناي كأجنحة تائهة
خالي الذي يدلّل ابنه
يضربني كلّما جدّد البيعة نفاقاً لوالدي
وكلّلما هيأتُ وقتي المرتبك
كي أمتطي ندوبي
الشرطي ضربني حين كذبتُ مرة
وقلتُ عصف الوباء بالمدينة
بالسوط مرة أخرى ضربني
لأنني صرختُ شاخ الملك
في موكب الجنائز
حين رفضتُ الصلاة أول مرة
جلدني أبي بحزامه ثم بكبل مجدول
كان والدي شيخاً
في أوقات الصيام
يرمون لي ما فاض عن بطونهم
يقولون لا يصح صيامنا لو جلست
كنتُ قزحي المزاج
ألهو مع خدود السماء
أخلدُ للنوم على صدر زهرة الحبق
وأنسى الجوع والطعام وألم الضرب
كرهتُ أبي ومعلمي وخالي
كرهت الشرطة ودرب المقابر
لكل عصا جريرة
وهذه خطيئتي
أطعمتُ توت قلبي لجارنا اليتيم
سلكتُ درب الليمون
ورحلتُ في الوقت الحامض
لم أبرأ من ذنوبي
لا زلتُ أكره الطعام
ويؤلمني ما زال خدّي



147
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


الوعد الشرير .. صهيونية خبيثة ودهاء بريطاني

حتى اللورد "آرثر حيمس بلفور" نفسه لم يكن يتوقع وهو يخط من مكتبه الأنيق في مقر وزارة الخارجية البريطانية رسالته الشهيرة الموجهة إلى  المليونير البريطاني اليهودي "ليونيل والتر روتشيلد"، في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1917 التي تضمنت وعداً من الحكومة البريطانية بأن تقوم "بإهداء" فلسطين العربية إلى الحركة الصهيونية العالمية، كي تقوم بتحقيق حلمها في إقامة وطن قومي لليهود، أن هذه الرسالة التي سميت فيما بعد "وعد بلفور" سوف تتسبب في أعظم كارثة إنسانية وسياسية في العصر الحديث، عبر اقتلاع شعب كامل من أرضه وطرده خارج وطنه، وإحلال شعب آخر مكانه تم جلبه من كل أصقاع الأرض.
رسالة غيرت وجه المنطقة مرة واحدة وإلى الأبد، ومازال الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بل وشعوب المنطقة تعاني من النتائج الكارثية لهذا الوعد.
إن أية قراءة موضوعية لمجريات الأحداث منذ بداية القرن الماضي للآن لابد وأن تقودنا إلى جملة من الاستخلاصات لعل أبرزها أن من يمتلك قوة الفعل يكون قادراً على التأثير في مجريات التاريخ، وأن من يمتلك الحق دون قوة لن يلتفت إليه أحد في عالم لا تعنيه كثيراً قضايا الضمير والعدل إن لم تتوافق مع مصالحة.
لقد استطاع المستوطنين الصهاينة الأوائل من بناء مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وعسكرية على أرض ليست أرضهم في وقت كان اليهود فيه يعانون من معاداة النازية والفاشية لهم، وكانوا مطاردين في أكثر من مكان، بينما لم يتمكن الفلسطينيين ولأسباب متعددة منها وقوعهم تحت سلطة الاحتلال البريطاني الذي كان منحازاً بالكامل للمشروع الصهيوني، وبسبب قلة الموارد الاقتصادية والعسكرية، وبفعل عجز النظام الرسمي العربي آنذاك من نصرتهم، لم يتمكنوا وحدهم من التصدي لمخطط خطير وكبير كمشروع إقامة دولة لليهود في فلسطين.
ومن الاستخلاصات الهامة أيضاً، عدم قدرة إسرائيل منذ تأسيسها للآن على إخضاع الشعب الفلسطيني ودفعه للخروج من فلسطين، وأنه رغم خوضها أربعة حروب مع العرب، وحرباً خامسة في اجتياحها لبنان العام 1982، ورغم المجازر العديدة التي ارتكبتها بحق الفلسطينيين العزّل، وسياسة القمع والتنكيل والاغتيالات والاعتقالات والحصار، لم تتمكن إسرائيل من الوقوف في وجه الإصرار الفلسطيني على نيل كافة حقوقهم السياسية والوطنية في إقامة دولتهم المستقلة، رغم استمرار الصراع لأكثر من قرن من الزمن، تعرض فيه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى جملة من المؤثرات الموضوعية فرضتها التطورات التي شهدها العالم بدء من الحرب العالمية الأولى حتى ما بعد اتفاقيات أوسلو.
ونحن نستحضر الذكرى المشؤومة لوعد بلفور، لا بد لنا من التأكيد أن لاشيء تغير، لا آنذاك ولا الآن في طبيعة الصهيونية العدوانية التي أمعنت في ذبح الفلسطينيين-وما تزال- ولا في أيديولوجيتها التي توظف من خلالها وتمزج الدين مع الأساطير، ولا في ممارساتها التي تتنكر حتى لوجود الشعب الفلسطيني، ولا في السلوك الاستعماري البريطاني الخبيث الذي كان المسبب الأول لعذابات اللاجئين منذ النكبة للآن.
كانت وما زالت الحركة الصهيونية تؤمن بثلاث كلمات "شعب الله المختار"، وكانت وما زالت السياسة الاستعمارية لبريطانيا ترفض بعنجهية أن تضطلع بمسؤوليتها الأخلاقية والقانونية والسياسية في الاعتذار لشعب فلسطين عن المأساة السياسية والإنسانية التي ألحقتها به، بل أكثر من ذلك فإن الحكومة البريطانية تشدد على دعمها "للوعد" الذي وقعه آنذاك وزير خارجيتها المحافظ آرثر جيمس بلفور، وأنها سوف تقوم بإحياء ذكرى الوعد.
صهيونية لم تستثني من فصولها الإجرامية حتى يهود العالم لإجبارهم على الهجرة إلى فلسطين، ولم يسلم من الإرهاب الصهيوني حتى المجتمع الدولي حين قامت العصابات الصهيونية باغتيال الكونت "برنادوت" المبعوث الدولي إلى فلسطين، هي ذات الدولة البغيضة التي ولدت بفعل وعد بلفور، وما زال جنودها يطلقون النار على رؤوس الأطفال الفلسطينيين حتى الساعة.
مرت مائة عام على الوعد الخبيث، والشعب الفلسطيني إن كان من بقي في وطنه، أو من تهجر قسراً في المنافي، ما زال يتجرع المآسي من كأس اللجوء والاغتراب عن أرضه ووطنه.
بعد مائة عام يظل الباطل باطلاً، إن إعلان بريطانيا نيتها الاحتفال بوعد بلفور، يعني إهانة لقيم العدالة الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان التي لايمل الغرب من التشدق بها، بل هو في الأساس إهانة للقوانين والتشريعات البريطانية نفسها ومنطومتها الحقوقية.


148

حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


بلفور الوعد الخبيث
قراءة في الانحدار الأخلاقي الغربي

حين أعلن وزير الخارجية البريطاني اللورد "آرثر جيمس بلفور" رسمياً تأييد بلاده إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وجه رسالته الشهيرة في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1917 إلى المليونير البريطاني اليهودي "ليونيل والتر روتشيلد" التي تضمنت الوعد الشرير " يسعدني كثيراً أن أبلغكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي الذي ينطوي على التعاطف مع أماني اليهود الصهيونيين التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء.
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف، وليكن مفهوماً بجلاء أنه لن يتم أي أمر من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين أو بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أي دولة أخرى.
وسأكون مديناً لكم بالعرفان إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا البلاغ "
لم تكن هذه المرة الاولى التي يذكر فيها اسم فلسطين كمكان لتوطين يهود العالم، فقد وجه القائد الفرنسي "نابليون بونابرت" نداء إلى يهود آىسيا وإفريقيا يطلب منهم الانضمام إلى حملته على بلاد الشام في العام 1799 بعد أن فشل في دخول مدينة عكا، ووعدهم أنه سوف يقوم بتوطينهم في الأراضي المقدسة.
حتّى أن بريطانيا العظمى ذاتها كانت قد فكرت في تجميع اليهود في فلسطين، في سياق مخططاتها لتفتيت الدولة العثمانية، إذ بعث وزير خارجيتها اللورد "بالمرستون" رسالة إلى سفير بريطانيا في اسطنبول العام 1840 يقول فيها " أنه إذا استقر اليهود في فلسطين، فإن ذلك سيخولنا استخدام اليهود كمخلب قط ضد العرب والدولة العثمانية"
في العام 1882 عقد بعض المسيحيين الصهاينة المرموقين اجتماعاً  لمناقشة إمكانية توطين المهاجرين من يهود اليديشية في فلسطين، بزعامة الصهيوني "هشلر" الذي ارتحل  إلى القسطنطينية حاملاً رسالة إلى السلطان العثماني من الملكة فيكتوريا تطلب فيها السماح بتوطين يهود روسيا في الأراضي المقدَّسة.
ثم عقد اجتماعاً آخر العام 1884 في ألمانيا حضره أرباب المال اليهود لدعم عملية الاستيطان في فلسطين، وكان من نتيجة ذلك أن أنشأت المستعمرات الزراعية اليهودية بدعم من الثري اليهودي الفرنسي "أدموند دي روتشيلد"، الأمر الذي ساهم في مضاعفة أعداد اليهود في فلسطين من "12000" في عام 1845 إلى "85000" في عام 1914
منذ نهاية القرن التاسع عشر دابت الحركة الصهيونية على تشجيع يهود العالم للهجرة إلى فلسطين، وأحسنت توظيف بعض الافكار المعادية لليهود التي بدأت في الظهور في عدد من الدول الأوروبية لبث الرعب وسط اليهود لدفعهم إلى الهجرة.
وكما هو معروف فقد انعقد في مدينة بازل السويسرية المؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية العام 1897 حيث صدر عن المؤتمر خطة استعمار فلسطين وتأسيس وطن قومي لليهود.
مع بداية الحرب العالمية الأولى العام 1914 قدمت بريطانيا وعداً للعرب بمساعدتهم على نيل الاستقلال إذا دخلوا الحرب بجانبها.
 وفي العام 1916 وقعت كل من فرنسا وبريطانيا اتفاقية "سايكس بيكو" التي تضمنت تقاسم النفوذ في المنطقة العربية، حيث تم وضع كل من سوريا التي كانت تضم لبنان تحت السيطرة الفرنسية، وكل من الأردن والعراق تحت السيطرة البريطانية، على أن تظل فلسطين منطقة دولية.
هذا الوضع تغير مع انعقاد مؤتمر "سان ريمو" العام 1920 في إيطاليا الذي حضره الحلفاء، إذ تقرر وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتم إرسال الصهيوني "هربر صموئيل" كأول مندوب سامي بريطاني في فلسطين.
في العام 1919 تم عقد أول مؤتمر وطني فلسطيني تم فية أدانة ورفض كامل لوعد بلفور.
وفي العام 1922 أصدرت عصبة الأمم قرارا يرسخ الأنتداب البريطاني على فلسطين، ويعمل في صالح تاسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي أغسطس 1929 وبعد سلسلة من العمليات الارهابية الصهيونية ضد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم بالقوة اهتزت مدينة القدس بفعل أول اشتباك واسع النطاق بين الفلسطينيين واليهود، وسقط في المواجهات 133 يهوديا واستشهد 116 فلسطينيا
في العام 1936 قام الفلسطينيون بإضراب عام شامل لمدة ستة أشهر احتجاجا على الإرهاب الصهيوني ومصادرة الأراضي والهجرة اليهودية.
وقام الفلسطينيين بتشكيل اللجنة العربية العليا للدفاع. وتتالت بعد ذلك المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين، وتواصلت المواجهات المسلحة غير المتكافئة بين المجاهدين الفلسطينيين والمليشيات الارهابية اليهودية المسلحة بأفضل الاسلحة.
لقد ادعت بريطانيا أنها تحاول تسوية الخلاف بين اليهود والعرب وذلك لكسب الوقت لصالح الاستيطان.
 وفي عام 1937 قدم اللورد "روبرت بيل" التقرير الذي خلصت له اللجنة التي كان يرأسها، حيث ورد في التقرير أن استمرار العمل بنظام الانتداب على فلسطين غير ممكن عمليا وأنه ليس هناك أمل في قيام كيان مشترك بين العرب واليهود. بعد تأكيد التقرير على استحالة قيام كيان مشترك لليهود والعرب، تم اقتراح تقسيم فلسطين إلى دولتين أحدهما عربية والأخرى يهودية على توضع الأماكن المقدسة تحت الإدارة الدولية.
 في سنة 1939 ومع بداية الحرب العالمية الثانية وفي محاولة لكسب مساندة العرب لها ضد المانيا أعلنت بريطانيا تقيد هجرة اليهود وعرضت منح الأستقلال للفلسطينين خلال أمد عشر سنوات.
 رفضت الحركة الصهيونية تلك المقترحات وقامت بتأسيس عصابات مسلحة جديدة للقيام بعمليات دموية ومذابح.
 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تخلت لندن عن وعودها للفلسطينيين، وعاد زعماء الحركة الصهيونية لتكثيف هجرة لليهود إلى فلسطين. بينما صعدت الحركات الصهيونية المسلحة مثل الهاجانا والأرغون والستيرن غانغ من هجماتها المسلحة.
ودخلت الولايات المتحدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية الخط الأول للدفاع عن تسريع تحويل فلسطين الى مستعمرة استيطانية لليهود.
 وبضغط من الرئيس الأمريكي ترومان أرسلت بريطانيا لجنة جديدة لدراسة الوضع. اللجنة الإنجليزية الأمريكية أوصت بالتهجير الفوري لحوالي 100,000 يهودي أوروبي لفلسطين، كما أوصت برفع القيود على بيع الأراضي الفلسطينية لليهود كما أوصت بوضع الكيان المشترك مستقبلا تحت رعاية الأمم المتحدة.
 في عام 1947 قررت بريطانيا الانسحاب من فلسطين وطلبت من الأمم المتحدة تقديم توصياتها. وهكذا عقدت أول جلسة طارئة للأمم المتحدة في 1947 وتم أقتراح مشروع تقسيم فلسطين الى دولتين فلسطينية ويهودية على أن تبقي القدس دولية.
 وقد تمت الموافقة على الأقتراح من طرف 33 عضوا مقابل رفض 13 عضوا و بدعم من الأتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وبامتناع بريطانيا عن التصويت.
رفض العرب مشروع التقسيم واندلعت الحرب العربية الاسرائيلية الاولى سنة 1948 بعد الأنسحاب البريطاني في 14 مايو/أيار. وفي اليوم التالي الموافق 15 مايو/أيار 1948 أعلن أحد قادة الحركة الصهيونية "ديفيد بن ‏جوريون" قيام إسرائيل وعودة الشعب اليهودي إلى ما أسماه أرضه التاريخية ، ونتيجة لتلك الكارثة ‏التي أطلق عليها "النكبة"، ‏قامت دولة يهودية في فلسطين تسمى دولة أسرائيل و تقرر فتح باب الهجرة لكل يهود العالم للكيان الجديد.
 في نفس اليوم قامت وحدات ضعيفة التسليح من جيوش من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق مع مقاتلين عرب آخرين والمقاتلين الفلسطينين الذين كانوا يقاتلون اليهود منذ نوفمبر/كانون الأول 1947  ببدء حرب ضد الكيان الصهيوني. وقد فشل العرب في منع قيام الكيان الصهيوني، حيث أنتهت الحرب بأربع قرارات وقف أطلاق النار من الأمم المتحدة بين اسرائيل ومصر ولبنان والأردن وسوريا ودفن قرار التقسيم. وشرد أكثر من 900 الف فلسطيني خارج وطنهم في حين شرد داخل ما لم يحتل من اراضي فلسطين مئات الالاف الاخرين.

في ذكرى مرور مائة عام على الوعد المشؤوم، يستمر تهويد القدس، والاستيطان لا يتوقف، وكذلك مصادرة الأراضي، إن جميع المجازر التي ارتكبها الصهاينة على مدى عقود، وكل ما يجري على الأرض الفلسطينية من انتهاكات يومية تقوم بها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني دون حسيب أو رقيب هو تجسيد لوعد بلفور.
لقد كشف تقرير صادر عن الإحصاء المركزي الفلسطيني، (حكومي)، في شهر مايو 2015 أن إسرائيل استولت على 85% من أراضي فلسطين التاريخية وتواصل نهب الأراضي والمقدرات الفلسطينية، ولم يتبقَ للفلسطينيين سوى حوالي 15% فقط من مساحة تلك الأراضي، معرضة هي الأخرى لخطر للتهويد  وبناء المستوطنات.
في يوم 31 ديسمبر 2014، استخدمت واشنطن، حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار عربي ينص على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بنهاية عام 2017.
إن استمرار الغرب في تبني الرواية الاسرائيلية، والانحياز لها في المحافل الدولية يعتبر تنكراً فاضحاً لحقوق الشعب الفلسطيني السياسية والوطنية والتاريخية.
ولكن ألا يمثل احتقار "تيريزا ماي" للشعب الفلسطيني، عبر دعوتها  لرئيس الحكومة الإسرائيلية "بنيامين نتنياهو" للاحتفال بذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور، انعكاساً للهيمنة والغطرسة الغربية تجاه شعوب المنطقة المستمرة منذ أكثر من قرن؟
أليس استمرار القضية الفلسطينية دون حل عادل يضمن للشعب الفلسطيني حقه في التحرر والاستقلال وغقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، بالرغم من التضحيات الجسام التي قدمها هذا الشعب، والأثمان الباهظة التي دفعها، والعذابات التي عاناها على أرضه وفي بلدان الشتات، لهو دليل قاطع على الإنحدار الأخلاقي والقيمي لكافة المنظومة الحقوقية والإنسانية التي يتشدق بها الغرب؟

إلى متى سوف تظل فلسطين والشعب الفلسطيني خارج تغطية "الإنسانية الغربية" المزعومة؟ هل مازال هناك أحد يشكك بازدواجية المعايير عند الولايات المتحدة والدول الغربية نفسها التي تعمل على تسويق الأفكار المرتبطة بحقوق الإنسان وبالحريات العامة في المنطقة، بينما هي عاجزة مازالت عن القيام بواجبها في إنصاف الشعب الفلسطيني، ورفع الحصانة عن ربيبتهم إسرائيل في المحافل الدولية كي تتم محاسبتها على جرائمها التي ارتكبتها وماتزال بحق الفلسطينيين.

149
أدب / لعثمة
« في: 19:40 10/10/2017  »
قصيدة للشاعر الدانمركي الشهير نيلس هاو
Niels Hav
ترجمها إلى العربية الكاتب والشاعر حسن العاصي


لعثمة

ألا يشبه نقر القرد بالحجر على القوقعة
هلوساتنا وصراخنا الصامت
كأن أرواحنا تاهت في صخب الحياة
للحيوانات ذكاء يحلّق بأجنحة كالعصافير
تجدهم يتحسسون إيقاع الكون بلا كلام
لا يمكن للناس تجرع الحياة بصمت
ما زال البشر يثرثرون ليعيشون
لا يمكن لهذا الضجيج أن يهدأ
ولهذا ترانا أشقياء
الحروف كالأسماك في الأعماق تعوم في الطرق الضريرة
ترى خطاها بلا هدى
وللحروف أفواه ودروب وبحور وأرصفة
للحروف ألسن تتلون بلا معنى
لأجسادنا قوافل ومرايا وأوتار تعزف بقوس المحبة
لكن كل شيء يصبح أكثر وأكثر بلا نكهة
للثعالب كهوف، ولطيور السماء أعشاش
والعقل يتذكر المساكن
في البراري الشاسعة تنتصب قلاع الهواء المجهولة
 نتكدس نحن فوق الرفوف الممتلئة
مثل قواميس بلا أسماء ولا عناوين
في كل طابق منها
فماذا نسمي هذا ؟

150
أدب / وطن من حطب
« في: 20:53 29/09/2017  »

وطن من حطب


حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


ترجمها إلى الانجليزية نزار سرطاوي
القصيدة سوف تشارك في انثولوجيا شعرية في الولايات المتحدة الامريكية في نيسان
2018

على بُعدِ رصاصة منها عثرَ على كرّاستها اليتيمة
خبَّأَ جداول ألوانها خلفَ صورِ العتمةِ
ونثرَ نكهةَ الحزنِ فوقَ بساتين عمرها
حمل قلب طفلتهِ وسلكَ درب الرياحين
كانتْ الخُطى تضجُّ بالجندِ
وشجرَ الطريقُ يصبحُ قرميداً ينكمشُ
انتهى الوطنُ وغرابُ المقابر نهشِ عنق الفرح
انتظرتْ أن يغفو النرجسَ
لتموتَ في وريدِ النهارِ
قالتْ يا أبي
هذا صوتُ روحي مثلُ صُبحٍ يحتضر
تسلَّقَ عينيها وهو يبكي
رَسمتْ سماءُ بقلبينِ وفَتَحَتْ عُشبها
والملائكةُ رقدتْ قُربَ ابتسامةِ الموتِ لتستريح
كَتبتْ وصيتُها على مرايا الحطبِ
حينَ يصبحُ الخبزُ بلا لونٍ
أُقطُفْ ريشُ الأسماء مِنْ نافذةِ النار
وهِبْ شجرَ الماءُ ألفَ حريقٍ ليطيرَ
ما زلنا ننتظر فرح أو جنون



النص باللغة الانكليزية

Ahomeland of Firewood

One bullet away from her
he found her only notebook
He hid the creeks of its colors
behind the colors of darkness
He spread the flavor of grief
on the grooves of her life
He carried the heart of his little girl
and walked on the path of basil
The track was crowded with soldiers
The road trees turning into shrinking tiles
The homeland was gone
and the graveyard crow bit the neck of joy
She waited until narcissus fell asleep
that she may die in the vein of the day
,She said, father
this is my soul’s voice like a dying morning
He climbed her eyes as he cried
She drew a sky with two hearts and opened its grass
The angels slept near the smile of death to take a rest
She wrote her will on the mirrors of firewood
When bread loses color
pick the feathers of names from the window of fire
give the water trees a thousand fires that they may fly
We are still waiting for joy or madness

151
أدب / أشرقت يقظتي بياضاً
« في: 12:03 17/09/2017  »



أشرقت يقظتي بياضاً
   
  حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


     1   
كنت أشرّع لها ربيعي
كي يمطر مدارها
ماء الهوى
ويزهر زندي موجاً أخضراً
يمتد إلى ضفاف صبحها العاري
حين أدارت مرايا الهجر
ضفائرها
أشرقت يقظتي بياضاً
في قصيدة متأخرة
والليل يسعل
رسمت على جسد الإنتظار
مواعيد لا تأتي
وأودعت في صندوق الغياب
أشياؤها المبعثرة
         
        2
أحتسي تفاصيل اشتعالها
من كؤوس الشوق
هنا
في الشمال البارد
تتثاءب أجنحة الهيام
المسافة إلى بخور رحلتها
اشتعال لحن
والوصول هدير شاطئ
وقيد جمرة

       3
من أغوى شهرزاد
في سفر الحكاية
تقشّر الحلم الأخير
شهريار على كف الضوء
يعاشر لذة الصبر
مسرور على بعد عنق
من اللوحة المشطورة
يقبض على الوقت
ونحن ننتظر قرباناً
أن يراق الدم المنذور
أو يعتصم الفجر القادم
بمحراب الموت

          4
 متدثراً أغفو بالرعشة الممتدة
بين جناح الخدّ والخصر النحيل
تطلق حقول جسدها المبلّل
عصافير الغرام
فتحلق زنابق الضوء بوجدي
ويغشاني الدوار
يبتدع الليل توابل الهوى
والعتمة تأوي مجون العشاق
أكابد شوقي متضرعاً
ولجت روض كنت أشتهي
فأشعلت أنفاسي مباهج الحسن
 انسدلت بزهوٍ على كتفي
كطيور الماء
فهدر موجي لحظة الإبحار
الصدر المتموّج ينشطر نصفين
بدر قمحي وثغر شبق
 بلا تعليل
ينتصب الزهر بوعد القوارير
هل من فرار ؟
أستمحيها دلالاً
وموتاً جميلاً
فالعاشق في روض الصبابة
يحتار
على كؤوس النار
يمتطي ممالك العسل المبارك
أو جهة الأنفاس الرطبة
يميل


152
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


الخروج من التاريخ
هل يعاني العرب استعصاءات فكرية مزمنة؟

إن أية نظرة موضوعية للواقع العربي الراهن تؤكد بما لايدع مجالاً للشك أن الأمة العربية الواحدة ذات الثقافة واللغة والهوية والجغرافيا الواحدة وذات المصير المشترك، تتصارع الآن في داخلها قوى وجماعات وكيانات، وتتمزق وحدة هذه الأمة على المستوى القومي وعلى الصعيد الوطني، ويتم تهجير ملايين من المواطنين ومنهم الكثير من الكفاءات والعقول الخبيرة، وتتعمق في المحتمع الواحد الإنقسامات الأثنية والطائفية أو حتى المناطقية في بعض الدول .
إن واقع الحال العربي يشير إلى أن هذه الأمة تتنازع فيها هويات جديدة على حساب الهوية العربية المشتركة، بعضها هويات إقليمية أو طائفية أو دينية أو عرقية، ويبدو أن الهدف هو تجريد هذه الأمة من هويتها وشخصيتها العربية والإسلامية .
في ظل هذا الحال من التفتيت والتقسيم التي تعاني منه المنطقة العربية، والتي لايبشر بالخير أبداً ويشير إلى أن المنطقة مقبلة على صراعات أكثر دموية، نقول أنه في ظل هذا الوضع بدأت تتعالى أصوات بعض المفكرين بضرورة العودة إلى دروس وعبر الماضي لنستلهم منها مايعيننا على مواجهة معضلات الحاضر، ذاك الماضي الذي كان فيه العرب والمسلمين أصحاب مكانة ونفوذ، وأصحاب فضل في تطور ونشر المعارف.
ولكن ما الذي يجعل من بعض المفكرين العرب أسرى الماضي بكل مافيه، وهم الذين يدعون إلى دراسة الماضي ومحاكاته، والتواصل الواعي مع افكار وقيم الماضي، والتمسك بالفلسفة الاجتماعية السياسية التي شكلت دعائم هذا الماضي الجميل .
ويرى هؤلاء أنه حين تتعرض الأمة إلى تقويض هذه الدعائم -كما يحصل الآن- فإن المهمة الأولى للمجتمع هي العمل على إعادة إحياء الماضي وإعادة الإعتبار إليه ليس بوصفه تراثاً ساكناً، بل باعتباره أداة عمل عصرية ورافعة حضارية لإعادة تشكيل الحاضر.

بينما يرى آخرون أن أصحاب هذا الفكر الماضوي يبالغون كثيراً في إظهار بطولات العرب وإنجازاتهم في الأزمان الغابرة، وأن الماضي الذي يراد إحياؤه ليس إلا تاريخ يقوم على التضخيم والإختلاق، وهم يرون أن العودة إلى
الماضي هو شبيه بالدعوة إلى الخروج من التاريخ، ورفض الواقع ومحاولة الهروب إلى الأمام، وهو بمثابة إدارة الظهر عن الواقع بكل تحدياته، والسعي إلى الخلاص عبر العودة إلى الماضي لعجز هذه القوى والفكر الذي يتمثلونه في التصدي للمهام التي تولدت من الحياة المعاصرة، وعدم مقدرتهم على الإجابة عن الأسئلة الراهنة التي يطرحها مفاعيل الحاضر بكافة تعقيداته وتشابكاته .
إننا نؤكد إن النظر إلى الماضي يجب أن يتم برؤية موضوعية شاملة، ذات مصداقية تتكئ على الحقائق، ذلك لأن دراسة الماضي دراسة مبنية على أسس علمية هي ضرورة أخلاقية وحضارية ومعرفية لتسليط الضوء على الهوية الوطنية والقومية ، واستخدام هذا المنهج في قراءة الماضي يجعلنا لانسقط في هوة انتقاء مايحلو لنا من التاريخ، وإهمال الصفحات الأخرى التي لا تنسجم مع أمجادنا.
لكن قبل الإستطراد في مناقشة الموضوع، دعونا نلقي نظرة تاريخية سريعة على هذا الماضي لجعله في خلفية المشهد أثناء تسليط الضوء على أهمية وقف تفتيت البلاد العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية .
لاشك في أن المنطقة العربية قد عانت لفترات طويلة وعصيبة من نير الاحتلال الأجنبي قبل ظهور الإسلام . فقد عانى سكان هذه المنطقة من ويلات الإمبراطورية الفارسية الوثنية ، والإمبراطورية الرومانية المسيحية الغربية ، ولم تستثني هذه السياسة التي اعتمدت البطش والظلم من قبل هذه الإمبراطوريات جميع سكان المنطقة، لم تستثني المسيحين العرب الذين ذاقوا الأمرين من سياسة التنكيل والتعذيب، لذلك لم يكن غريباً على سبيل المثال أن تنضم القبائل المسيحية العربية إلى جيوش الفتح الإسلامي ضد الفرس والرومان، وكذلك في فتح إسبانيا وتأسيس دولة الأندلس .
وبهذه الفتوحات الإسلامية تحرر العرب من قبضة المحتل وتم طرد الغزاة من الأرض العربية، وكذلك تم توحيج السلطة السياسية وأيضاً توحيد الأمة التي تقيم فوق هذه البقعة الجغرافية، وتم صهر جميع الإثنيات والأقليات في الحضارة العربية .

فخلال مراحل التطور التاريخي للدولة الإسلامية، تبلورت هذه الكتلة البشرية المعروفة باسم الأمة العربية، وتجانست هذه المجموعة قومياً وتآلفت وأصبح لها تاريخ واحد مشترك ولغة واحدة، الأمر الذي أثرى تراثها الثقافي والحضاري التنوع، وساهم في إنتاج ما يسمى تكوين الشخصية العربية . ولأن هذه المجموعة تسكن في بقعة جغرافية واحدة واسعة وممتدة، كان لابد من ظهور مصالح اقتصادية مشتركة، وفرض ضرورة وجود أمن قومي عربي واحد، وهذه من الأسباب الرئيسية التي أنجبت فيما بعد الشعور بالعروبة والإنتماء لهذه الأمة وأظهرت النزوع نحو الوحدة عند غالبية سكان المنطقة .
ولقد ساهمت الحضارة العربية والإسلامية مساهمة فعالة في إغناء الحضارة الإنسانية وتطورها في مجالات العلوم والفنون والآداب والدراسات المختلفة .وفي الوقت الذي وصلت فيه الأندلس في عهد حكم المسلمين إلى ذروة مجدها وعظمتها، وأصبحت قبلة للقاصدين لطلب العلم والمعرفة، كانت أوروبا غارقة في جهل مدقع وتخلف حضاري.
ووصل العطاء الفكري للعرب والمسلمين إلى ذروته في القرنين الثامن والتاسع الهجري، وبرز الكثير من العلماء العرب في الطب والجغرافيا والفكر والرياضيات والفلسفة وغيرها الذين ما زالت مؤلفاتهم تدرس في جامعات العالم .
ما الذي يجعل من بعض المفكرين العرب أسرى الماضي بكل مافيه، وهم الذين يدعون إلى دراسة الماضي ومحاكاته، والتواصل الواعي مع افكار وقيم الماضي، والتمسك بالفلسفة الاجتماعية السياسية التي شكلت دعائم هذا الماضي الجميل .
ويرى هؤلاء أنه حين تتعرض الأمة إلى تقويض هذه الدعائم -كما يحصل الآن- فإن المهمة الأولى للمجتمع هي العمل على إعادة إحياء الماضي وإعادة الإعتبار إليه ليس بوصفه تراثاً ساكناً، بل باعتباره أداة عمل عصرية ورافعة حضارية لإعادة تشكيل الحاضر.
بينما يرى آخرون أن أصحاب هذا الفكر الماضوي يبالغون كثيراً في إظهار بطولات العرب وإنجازاتهم في الأزمان الغابرة، وأن الماضي الذي يراد إحياؤه ليس إلا تاريخ يقوم على التضخيم والإختلاق، وهم يرون أن العودة إلى
الماضي هو شبيه بالدعوة إلى الخروج من التاريخ، ورفض الواقع ومحاولة الهروب إلى الأمام، وهو بمثابة إدارة الظهر عن الواقع بكل تحدياته، والسعي إلى الخلاص عبر العودة إلى الماضي لعجز هذه القوى والفكر الذي يتمثلونه في التصدي للمهام التي تولدت من الحياة المعاصرة، وعدم مقدرتهم على الإجابة عن الأسئلة الراهنة التي يطرحها مفاعيل الحاضر بكافة تعقيداته وتشابكاته .

لكن هل نحن حقاً نريد إحياء الماضي ؟ الجواب بالطبع لا نريد، فإن الماضي عبارة عن جملة من العناصر تدخل وتساهم مساهمة مباشرة في تكويننا الفكري والثقافي وفي العناصر التي تحدد شخصيتنا، الماضي شيء يدخل في الشعور واللاشعور لكل فرد، كخبرة متوارثة وليس كواقع جامد يمكن استعادته بمجرد استدعائه، إن الماضي هو تاريخ الوجود البشري كصيرورة تاريخية جماعية ممتدة في الزمان .

وأهمية “قراءة الماضي في هذا السياق أنها تساعدنا على وضع الحاضر في مكانه الصحيح . ذلك أن التاريخ يهتم بالأسباب، ومن ثم فإنه يوسع من مدى إدراكنا للعملية التاريخية، وإذ قرأناه بوعي، نظرنا إلى المشكلات التي تعكر صفو الحاضر برؤية أكثر تنظيما، لأن معرفة كيفية عمل المجتمع في الماضي- من خلال قراءة التاريخ- قد تفتح عيوننا على الإمكانات والبدائل الكامنة في الحاضر، وليس معنى هذا أن الماضي يمكن أن يجعلنا نتنبأ بالمستقبل بشكل ساذج وبسيط مثل قراءة الطالع، وبالتالي لا يمكن أن يرشد الناس عن الكيفية التي يجب أن يتصرفوا بها في حاضرهم، ولكنه قد يساعدهم على أن يتجنبوا تكرار أخطائهم. ويمكن لمجتمع اليوم أن يأخذ من ماضيه شيئاً ربما يفيد في توجيهـه وإرشاده لأن التاريخ يحمل في داخله نوعاً من الإنذار المبكر لمن يعرفون كيف ينصتون إليه أو يحسنون قراءته .

وبالتالي فإن أية عملية استحضار الماضي بشكل ميكانيكي هو أشبه بوضع العربة أمام الحضان، ويصبح قرار إرادوي بالثبات وعدم رؤية وقائع الحياة المعاصرة المتجددة والمتطورة بشكل متسارع بحيث تكاد تفلت من بين أيدينا ولانستطيع الإمساك بعناصرها وحلقاتها المهمة، لهذه الأسباب فإن اتصالنا وتواصلنا مع تاريخنا يجب بالضرورة أن يتم من خلال هذه الوقائع للحياة المعاصرة، لا أن يتم النظر إلى حاضرنا بأدوات ومفاهيم الماضي .

إن مقدرة الشعوب على التواصل والإتصال مع الحداثة ومع منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة وكافة مفردات الديمقراطية والتطور العلمي وتوفير مناخ الإبداع وعدم المس بحقوق الإنسان الأساسية، هي التي تجعل من التاريخ في تواصل وتماس مع حياتنا الراهنة، ونحن كشعوب عربية مازلنا نكافح لبناء وطن عربي موحد سليم ومعافى وقادر على المساهمة بفعالية في صنع الحضارة الإنسانية الحديثة دون تكييفات خاصة لمذهب أو لطائفة أو لعرق فيه الأفضلية عن الآخرين، وذلك من خلال التواصل والتعاون مع كافة التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية العالمية، مع أهمية التأكيد على أهمية الهوية القومية العربية الواحدة الموحدة في مواجهة الأطماع التي تحيط بجسد الأمة من كل صوب، ولمنع أية اختراقات تؤدي إلى نفكيك هذه الهوية وتجزئة المنطقة تمهيداً لتدمير شخصيتنا الاعتبارية .
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يدخل العرب إلى الألفية الثالثة بأسئلة كبيرة ومهمة، أسئلة فلسفية وجودية علمية وتاريخية ومصيرية مازالت تثقل كاهلنا من القرن الماضي ، وهي أسئلة تطرح في الحقيقة في جو من التشاؤم والنظرة السوداوية . قد تمت خلال الربع الأخير من القرن الماضي عدة مراجعات على المستويين الفلسفي والعلمي لكثير من النظريات التي كانت تساعد الإنسان على فهم أفضل للعالم وكافة الظواهر والعناصر التي تساهم في صيرورة الحضارة المعاصرة، والكثير من هذه المراجعات توصلت إلى استخلاصات مهمة اتسمت بنظرة سوداوية تشير إلى أنه لأول مرة في التاريخ تقف البشرية على شفا حفرة من التدمير الذاتي وأن استعصاءات هذه الحضارة قد تقودها إلى حتفها.

ولكن حين لا يستطيع واقعنا الراهن أن يقدم أجوبة عن الأسئلة المهمة التي يطرحها الفكر الإنساني، ويكون هذا الواقع عاجزاً عن فهم الكثير من الظواهر، فإننا لاشك نكون أمام احتمالين لا ثالث لهما، إما أن الأسئلة التي على هذا الواقع هي في الحقيقة أسئلة زائفة غير حقيقية وغير صائبة وغير منطقية، وبالتالي فإن الأسئلة الزائفة الغير حقيقية لاجواب واقعي عنها، أو أن هذا الواقع الذي نعيشه هو واقع راكد وعناصره ثابتة راسخة إلى الحد الذي تحجر فيه هذا الواقع وأصبح لايستطيع الإجابة عن أسئلتنا .
في الحقيقة إن الفكر العربي في مأزق معقد مركب لم يستطيع تجاوزه منذ أكثر من قرن ونيف من الزمان، إذ مازالت الأسئلة التي طرحها هذا الفكر هي نفسها، دون أن يستطيع تقديم إجابات علمية عليها، ومازال قادة الفكر العربي وسدنة تشكيل الراي العام مشحونين بالأسئلة دون توفر إمكانية تقديم الأجوبة الشافية، الأمر الذي يساهم في تكريس حالة الضياع والتوهان للمواطن العربي، وهو وضع شبيه بخروج المريض من عيادة الطبيب بتشخيص دون علاج.

إن أسئلة التحرر من الاستعمار، وموضوع التبعية والتخلف، النهضة والتقدم التاريخي، التجديد في الفكر وقضية الإبداع والسلفية، سؤال الحداثة وقيمها مثل الحرية والتحديث والديمقراطية والتمدن ومابعد الحداثة الخ، أسئلة العروبة والإسلام والقومية، العنف والحوار والتسامح، سؤال الأنا والآخر، أسئلة المستقبل وغيرها الكثير من الأسئلة الأساسية الوجودية، إن الكثير من هذه الأسئلة قد طرحها النهضويون العرب، ونلاحظ أنها مازالت نفسها أسئلة المعاصرين من المفكرين العرب .   
فهل هي أسئلة يقدمها الوعي العربي من خلال رؤيته للعالم وللماضي بصورة علمية وكما يجب، أم أن هذه الأسئلة هي ناتجة عن وعي إرادوي للعالم ؟ في الواقع إن القول بأن هذا الواقع راكد وراسخ بثبات ولم يتغير منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن، هو قول غير علمي وبالتالي هو يتناقض مع سيرورة حركة التاريخ الفعلية التي تعني أنه لا ركود ولا ثبات في حركة الكون المتغيرة المتجددة باستمرار، لكن للأسف لميكن في حركة التاريخ ولا في تجدده وتغيره إجابة واقعية علمية عن أسئلة المفكرين العرب في العصر الحديث، وبالتالي فإن أياً من أهداف عصر النهضة العربية لم يتحقق .

حسناً، ألايبدو الآن منطقياً إذن التحرر من أسئلة الماضي، ومن كل تلك الأسئلة التي طرحها النهضويون العرب قديماً حديثاً، ونقدم بدلاً عنها أسئلتنا المعاصرة، أسئلة مرتبطة ارتباط وثيق بأهدافنا الواقعية،فطالما أن الأسئلة القديمة لم يتم الإجابة عنها وأهدافها لم تتحقق وقد مضى عليها دهراً، خاصة في ظل هذه المتغيرات الكبيرة والجوهرية الهامة التي تشهدها المنطقة العربية، من تحولات في هذه المجتمعات تحولت في بعضها إلى صراع مسلح وحروب اهلية .،

من المهم أن نعلم أنه لايمكن تحقيق أهداف وإنجاز تطلعات تاريخية إن لم تكن أصلاً تحمل بين طياتها إمكانية حقيقية واقعية للتحقق، ومن البلاهة وقصر النظر الظن أنه بالإمكان لوي عنق التاريخ لإجباره على أن يكون كما نرغب ونتمنى من دون أن يكون التاريخ في تلك اللحظة التاريخية في حالة حمل حقيقي وليس حملاً كاذباً .
في ضوء ماتقدم نصل إلى استخلاص في غاية الأهمية، وهو أن أية إمكانية حقيقية وواقعية للتغيير في حركة التاريخ، سوف تظل ساكنة إذا لم تجد الإرادة والرافعة والأدوات واللحظة التاريخية المناسبة لنقلها من حالة السكون إلى إمكانية واقعية . إن هذا الوعي والإدراك لمنهج تحليل العلاقات بين أسئلة الفكر العربي وبين الواقع الذي نعيشه، يجعلنا ندرك الأسباب الموضوعية العلمية وراء إخفاق الأفكار التي لم تتحقق ، وماهي الأفكار التي تحمل قابلية التحقق.

وبذلك نكون أمام احتمالين، إما أن أفكارنا وأهدافنا السابقة كانت مجرد إمكانية تاريخية واقعية لكنها لم تجد الإرادة والعزيمة لتحقيقها، أو أننا كنا نمتلك الإرادة الواعية ولدينا أهداف لكن من غير إمكانيات لتحقيقها.

يدعو بعض المفكرين العرب إلى الحداثة وضرورة دخول العرب إلى عصر العولمة على سبيل المقاربة، يكون هذا البعض قد طرق الأبواب الخاطئة، إن الأبواب التي تحتاج طرقاً هي الأبواب التي تدخلنا إلى قاعة من أجل امتحان أسئلتنا التاريخية وفق منظور العصر الحديث، لمعرفة هل هي أسئلة صحيحة أم زائفة . على سبيل المثال سؤال الهوية القومية ومن نحن، وهي مسألة مطروحة بقوة من أجل نهضة عربية جديدة، وقد دخل العرب الألفية الثالثة وهم في حالة من التفكك الذي يهدد حاضر العرب ومستقبلهم، في وقت يدعو الكثيرون فيه إلى الإنخراط في النظام العالمي الجديد، من موقع المشاركة وليس التبعية، وهو ما لايستطيعه العرب قبل إنجاز وحدتهم القومية، حتى لايتم استيلابهم من قبل القوى العالمية المهيمنة على النظام العالمي الجديد، وهذا يقودنا إلى سؤال الوحدة العربية وبناء دولة عربية واحدة وقوية، انطلاقاً من وحدة اللغة والثقافة والتاريخ وإرادة العيش المشترك ومواجهة التحديات الكبرى،التي تحتم وحدة العرب في مواجهة التكتلات السياسية والااقتصادية العالمية. فهل هذا السؤال الهدف حقيقي أم زائف ؟ نحن نعتقد أنه سؤال حقيقي لأنه إمكانية واقعية، فقط تحتاج إلى إرادة سياسية لتحقيقها.

لنعرج على أسئلة الحرية والديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني، وهي الأسئلة القديمة الجديدة، فما الذي يجعلها أسئلة راهنة ؟ بالطبع إنه غياب الحريات العامة وعدم وجود مواطنة حقيقية وغياب أو ضعف منطمات المجتمع المدني.أما لماذا غابت الحرية والديمقراطية، فإن لذلك اسباب متعددة أهمها سيادة سلطة العائلة والقبيلة حتى في مؤسسات الدولة، وسيطرة الحزب الواحد وغياب تداول السلطة،وكذلك غياب ثقافة الديمقراطية عن خطاب الفكر القومي العربي بحجة أولوية الكفاح من أجل الإستقلال والوحدة، إذن غياب الحرية والديمقراطية هو غياب مزدوج سياسي في أنظمة الحكم وأيديولوجي لغيابه فكرياً كما هو واضح عن شعارات القومية العربية، التي دعمت في بعض المراحل أنظمة حكم استبدادية باسم الإشتراكية .

إن أحد أهم الأسئلة هو سؤال الدين والسياسة والعلاقة بينهما،ويكتسب هذا السؤال صفة استثنائية في ظل الظروف الراهنة التي تعصف بالأمة العربية، وكذلك عودة الفكر الديني بكافة أشكاله إلى الساحة السياسية، في ضوء تصاعد لافت للقوى والأحزاب والجماعات الإسلامية خلال السنوات الأخيرة. والموقف من العلاقة بين الدين والسياسة كان العامل الفيصل في تصنيف التبارات الفكرية، إما بتغليب أحد الطرفين على الآخر، أوبإعادة النظر في السؤال، وهي بالمناسبة علاقة إشكالية تنتمي لأكثر من حقل معرفي ديني وسياسي واجتماعي وحقوقي، ومن الصعوبة بمكان مقاربتها وفق رؤية واحدة، وكما يقول ابن رشد فإن الحكمة أخت الشريعة، ولايمكن لحق أن يضاد حقاً آخر، لكن إشكالية هذه العلاقة بين الديني والسياسي في الفكر العربي لم تستطيع أن تتجاوز البنية الفكرية للعقل العربي الإسلامي، وبالتالي حالت دون نجاح المشروع النهضوي العربي.

أيضاً من الأسئلة التي مازالت مطروحة بقوة في الفكر العربي سؤال نحن والآخر،وكذلك حوار الحضارات، كمفهوم برز بقوة في العقد الأخير من القرن الماضي ، نتيجة انتهاء الصراع الأيديولوجي العالمي مع سقوط المعسكر الشرقي، والعامل الثاني هو صعود دور الأديان في الحياة السياسية العامة ، وكذلك تطور وسائل الإتصال ماعرف بالثورة المعلوماتية .

ولكن بأي منظور نتحاور مع الآخر، أبمنظور ليبرالي؟ أم ماركسي؟ أم إسلامي؟ أم يتوجب توحيد الرؤية؟
ما لا شك فيه، أن تعدد المرجعيات داخل الدائرة العربية والإسلامية.يؤثر في مناقشة الكثير من القضايا موضوع الحوار، لاسيما المرتبط منها بالهوية.الأمر الذي يجعل الباحثين غير المسلمين يلقون صعوبات في تتبع هذه الاختلافات، لاسيما إذا كانت جوهرية وفي المنابر الدولية.فالشعور السائد لدى معظم الغربيين هو تعدد الإسلامات.
وعلى الرغم من اتفاق الخطاب العربي والإسلامي حول رفض الهيمنة الغربية على العالم، ورفض تعالي الغرب ومركزيته.وكذا رفض تشويه الإسلام ونعت الأنا-العرب والمسلمين- بشتى النعوت خاصة بالتطرف والإرهاب.فإن هذا الخطاب لا يزال مضطرباً في فهم الآخر(الغرب)وفي صياغة الأسلوب الأنجع في التعامل معه، وبالتالي التواصل معه.
في هذه اللحظات التاريخية من الواقع العربي الراهن، نجد أنفسنا أمام مشهد سياسي فكري مضطرب إلى حد كبير ويحتاج إلى قدرات تحليلية مركبة ومعقدة لفك طلاسمه، لأن تحليل هذا الواقع قد خضع لاعتبارات متباينة حد التناقض في أسبابه ودوافعه، وذلك يعود إلى غياب مزمن للعقل التحليلي، واستلاب المواطن العربي، وتخلف مراكز انتاج المعرفة في العالم العربي إن وجدت، وسياسات الاستبداد والتجهيل التي مورست بحق الإنسان عبر عقود طويلة،كل هذا ساهم في إنتاج هذه العشوائيات في الفكر العربي، وجعلت من هذا المشهد الحالي مبهم ويستعصي على تحليل المواطن العربي .

هذه الحالة لا يمكننا خلعها والتخلص منها؛ إلا إذا أعدنا قراءة الواقع والتاريخ بمنظار آخر غير الذي استخدمناه على مدى العقود الماضية وأحسنّا ترتيب أوراقنا وأعدنا اجتراح استراتيجيتنا بشكل يتوافق مع الشيء الذي يعيد لنا الثقة في المكان الذي يجب أن نحتله بين دول المعمورة.
الأسئلة التي تشكلت على مدار العقود الماضية هي نفسها التي تتردد اليوم، وهي نفسها الأسئلة التي تتعرض للواقع العربي، لماذا تردى الحال العربي ووصل الى هذا المستوى من التدني والاختلاف والتجزئة؟ لماذا لم تقم جبهة عربية واحدة إزاء ذلك الكم الهائل من التحديات التي أصبحت تهدد الهوية العرية بل الوجود العربي من أساسه، ولا نبالغ إن قلنا إن الإنسان العربي يتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى للتجريف والتشريد بهدف إنهاء وجوده كإنسان.

أخيراً، إن معرفة الأهداف الكبرى والإيمان بها من غير معرفة منهجية وأدوات تحقيق هذه الأهداف، هو استمرار لدوران الأمة في الحلقة المفرغة، ومعالجة عجز الفكر العربي عن تقديم أجوبة على أسئلة الواقع الراهن المتغير لاتكون بالعودة إلى تمجيد الماضي وأستخدام أدواته الفكرية، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى سقوط الفكر، وهو سقوط سوف يتسبب في إعادة إنتاج الشقاء الفكري مرة أخرى .

153
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك

هل تحولت القضية الفلسطينية إلى حائط مبكى؟
 قراءة في فساد السلطة

لقد انشغلت الساحة الفلسطينية في الفترة الزمنية التاريخية ما بعد حرب العام 1973  بجدال سياسي حول قضايا مصيرية مثل الاعتراف بالقرارين الدوليين242 و 338 ومحاولة البحث عن حلول مباشرة للقضية الوطنية الفلسطينية، تكون حلولاً مرحلية ،بديلاً عن ماهو تاريخي واستراتيجي في الأجندة الوطنية لكفاح الشعب الفلسطيني .
فبرز في البيت الفلسطيني تيار تبنى ما أطلق عليه الواقعية في تحقيق أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية،ونادى بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة يجري دحر الاحتلال الإسرائيلي عنها .
وبعد نقاش فكري وسياسي عميق تحول إلى صراع بين مختلف قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها امتد قرابة عام، تمكن التيار الواقعي من تعزيز مواقعه في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية وداخل أطر م ت ف، وتحول من تيار كان يمثل الأقلية إلى تيار الأغلبية.
ولاحقا نجح في تحويل أفكاره من الحيز النظري داخل غرف الاجتماعات وتحويلها إلى سياسة عامة لمنظمة التحرير، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1974 برنامج “النقاط العشر”، والذي عرف في حينها “ببرنامج السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة”
منذ ذلك الوقت رفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هذا البرنامج في مواجهة الإتهامات التي كانت توجهه لهم بأنهم متطرفين وغير واقعيين. واستخدموه في التدليل على مرونتهم وواقعيتهم، وعلى استعدادهم المساهمة في المساعي الهادفة إلى إيجاد حلول سياسية عادلة وواقعية للصراع مع إسرائيل.
وفي حينها اعتقدت قيادة م ت ف ومعظم القيادة الفلسطينية أن الظروف والأوضاع الدولية مهيأة لانبعاث الكيان الفلسطيني الجديد، وقيام السلطة الوطنية على جزء من الأرض الفلسطينية .
لقد أكدت الأحداث اللاحقة ومسار الأحداث في المنطقة والعالم ،أن القوى الدولية المقررة، وبخاصة قطبي الحرب الباردة حينها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لم يكونا جادين في ايجاد حلول واقعية وعادلة لقضايا المنطقة وصراعاتها المستفحلة.
وإن كل منهما كان يسعى في تلك الفترة لتوظيف الصراع العربي الإسرائيلي لتعزيز نفوذه ومواقعه في المنطقة. كما أكدت أيضا أن ظروف وأوضاع أهل المنطقة أنفسهم لم تكن ناضجة للتوصل إلى أية حلول جدية لصراعاتهم العميقة.
في ربيع العام 1991 أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب مبادرة يدعو فيها أطراف الصراع الفلسطينيون والعرب وإسرائيل ، إلى مغادرة ميادين القتال والحروب، واعتماد طريق السلام من خلال التفاوض المباشر لحل النزاعات المزمنة في المنطقة .
وهذا ماحصل، فقد التقى العرب في مدريد، ولاحقاً التقى وفد يمثل منظمة التحرير الفلسطينية سراً مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية، وتوصلوا بعد مفاوضات عسيرة إلى اتفاق " إعلان مبادئ" حول ترتيبات حكومة ذاتية فلسطينية انتقالية، عرف هذا الإتفاق فيما بعد باتفاق أوسلو،
جوهر هذا الإتفاق بشكل أساسي هو إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة خمس سنوات، تؤدي إلى تسوية دائمة على اساس قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338.
وهكذا في أجواء احتفالية غير مسبوقة، تم التوقيع في أيلول العام 1993 على هذا الاتفاق الشهير بين الفلسطينيين وإسرائيل في العاصمة الأمريكية واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، على أن تتم مناقشة قضايا الحل النهائي بعد ثلاث سنوات وهي القدس واالاجئين والمستوطنات والحدود والمياه .
غير أن هذا الإتفاق أغفل وضع جداول زمنية محددة للانسحاب الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة، كذلك سقط من الإتفاق أية آلية دولية تلزم إسرائيل لتنفيذ استحقاقاتها من الإتفاق، أنتج هذا الأمر وضعاً غريباً، فقد أغرق الجانب الفلسطيني في مايسمى معالجة التفاصيل قبل معالجة جوهر المشكلة، وكان الإتفاق ملزماً للفلسطينيين بينما تنصلت إسرائيل من التزاماتها، الأمر الذي كرس الإحتلال بدلاً عن إزالته .
طوال الأعوام الماضية ظل رجال السلطة الفلسطينية يلهثون بسعار خلف جزرة الحل النهائي الذي لم يتحقق من بنوده شيء، بل على العكس تماماً، تنصلت إسرائيل من كافة التزاماتها من اتفاق أوسلو وكأنه لم يكن.
إن جزء من الشعب الفلسطيني الذي اعتقد أن تشكيل السلطة أنجاز لابد من حمايته والدفع به لتحقيق إنجازات أخرى،اكتشف أن هذا الإتفاق الذي أبرم مع إسرائيل لايعبر عن أمنه ومصالحه ولا عن أهدافه الوطنية ، بل على العكس، وجد المواطن الفلسطيني نفسه أنه يعاني من سلطتين، سلطات الإحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية التي ألزمتها إسرائيل بالتنسيق الأمني معها ضد كافة النشطاء والمناضلين الفلسطينيين الأمر الذي أدى إلى اغتيال عشرات من خيرة أبناء شعبنا الفلسطيني ، واعتقال الآلاف منهم .
لقد أعادت السلطة الفلسطينية إنتاج نظام التنفيع الذي ورثته من منظمة التحرير الفلسطينية،وبدلاً عن المضي في بناء مؤسسات لمختلف القطاعات واعتماد مبدأ الكفاءة والجدارة، أصبحت علاقات المنفعة والمصالح الشخصية والولاءات هي السياسة المعتمدة لهيكل السلطة، وأصبحت هذه الطريقة أداة قوية وفاعلة في الاستيعاب للمنتفعين والمتسلقين والانتهازيين، ووسيلة أيضاً لإقصاء الشرفاء والمناضلين وأصحاب الكفاءة .

إن السلطة الفلسطينية أخذت تعمل على كسب ولاء الناس من خلال الحصول على مورد اقتصادي، الأمر الذي أدى إلى تضخم شديد في القطاع الحكومي العام للسلطة حيث وصل عدد موظفي السلطة حوالي 170,000 موظف تعتمد رواتبهم بشكل أساسي على المعونات الدولية، المصيبة أن 44 في المائة منهم يتبعون الأجهزة الأمنية وبالتالي يستحوذون على حوالي نصف الميزانية، بينما يا للسخرية لا يتم صرف سوى واحد في المائة على قطاع الزراعة ، وساهمت هذه السياسة في مأسسة الفساد وانتشاره، وهو ماكانت إسرائيل تريده من خلال إنشاء سلطة بعد أوسلو تكون منتفعة وضعيفة تتحكم فيها إسرائيل من خلال الموارد من الموارد المالية.
فتم توزيع المناصب في هيئات وإدارات السلطة على المحسوبيات والمقربين،حتى المعارضة السياسية من مستقلين ويساريين وإسلاميين لم تستثنى من هذه الامتيازات، فتم دمج الآلاف منهم في مؤسسات السلطة الفلسطينية، ومنحوا مناصب في القطاع الحكومي مقابل ولائهم السياسي .

من جهة أخرى برزت في النظام السياسي الفلسطيني في الداخل ظاهرة زواج المصلحة بين رجال الأعمال ورجال السلطة وأيبح هو الشكل الأكثر انتشاراً للفساد،يستمد قوته من تمتع النخب بالحصانة السياسية والاجتماعية والقانونية ،فامتلأت الحسابات المصرفية لآلاف الفاسدين بالمال الفاسد .
كما أن استغلال المناصب لتحقيق مكاسب شخصية وعشائرية يشكل ظاهرة واضحة في مؤسسات السلطة، إبرام صفقات مشبوهة، استخدام موارد السلطة والوزارات للأغراض الشخصية، سرقة الممتلكات الوظيفية وإهدار المال العام ، حتى أن إحدى عمليات التدقيق والرقابة في بداية الألفية أثبتت أن حوالي 40 في المائة من ميزانية السلطة قد أسيء استخدامها .
إسرائيل ليست بعيدة عن هذا الفساد، بل على العكس هي تساهم في تعزيز هذا الفساد في السلطة الفلسطينية وتحسن استغلاله فيما بعد ،وتحاول إشغال الرأي العام بهذا الفساد كي تصرف أنظار العالم عن الآثار المدمرة التي تلحقها سياساتها العدوانية بالبنية الاقتصادية والتنمية الفلسطينية، وماتقوم به إسرائيل من تدمير ممنهج للإقتصاد الفلسطيني .
لقد أدى هذا الوضع الشاذ إلى جملة من التغيرات في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها التي انحدرت إلى مستويات غير مسبوقة من الضعف والهشاشة،وتراجع الشعارات والأهداف الثورية التي طالما تغنى بها الشعب الفلسطيني وميزته عن باقي شعوب الأرض التي استحق احترامها وتقديرها ومساندتها نتيجة لكفاحه والتضحيات التي قدمها عموم الشعب الفلسطيني في طافة أماكن تواجده وجعلته يحظى بكل تلك الهالة المقدسة التي كان يعتز بها .
لكن الفلسطيني ذاته أخذ يشعر بالغضب والحزن والإحباط الشديدين بسبب ماوصلت إليه قضيته الوطنية التي أصبحت تهمة للمناضلين، ومطية للمتسلقين الانتهازيين من الفلسطينيين أنفسهم قبل غيرهم، كما تحولت القضية إلى ميدان للمزايدات لدى البعض، وفرصة لشتم وتحقير الشعب الفلسطيني وقيادته، وتعداد محاسن إسرائيل لدى البعض الآخر .
ثمة مفارقات عجيبة تحصل في خلفية المشهد السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي يزداد حجم ومستوى التضامن الأوروبي والعالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، نشهد تراجعاً عربياً ملحوظاً على المستويين الرسمي والشعبي في التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني ودعم قضيته الوطنية ، التي هي بالأساس قضية العرب الأولى وقضية عموم المسلمين .
فما الذي أوصل أهم قضية تحرر وطني في التاريخ إلى هذا المستوى الذي لايسر أحداً ولايدلل على عافية، ولماذا جنح بعض العرب إلى مستوى غير مسبوق من الحقد على الفلسطينيين، وهل نحن أمام واقع جديد في التعامل مع القضية الفلسطينية ، أم أنه برزت أولويات جديدة أمام الشعوب العربية، أم أنه انعكاس طبيعي لواقع الحال الفلسطيني والعربي الذي يشهد حالة متعاظمة من التردي والسقوط والإنحدار على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية،الأمر الذي جعل زيارة وزيرة العدل الإسرائيلية " تسيبي ليفني " سراً إلى إحدى عشرة دولة عربية لتطلب منهم عدم تقديم أية تبرعات مالية إضافية للسلطة الفلسطينية، يبدو خبراً طبيعياً حين تم تسريبه، وتعاملت الدول العربية معه بصمت وتجاهل بعد أن انصاعت الحكومات العربية إلى المطالب الإسرائيلية دون خجل،وهكذا وضع الأشقاء العرب قرارهم بدعم القدس العربية بمبلغ مليار دولار في سلة النفايات العربية، ولم يكلف الأمين العام للجامعة العربية نفسه عناء تكذيب هذا الخبر حفاظاً على ماء وجه العرب .
مما لا شك فيه أن هناك أسباب ومسببات عديدة ومختلفة وراء إيصال قضية سامية وعادلة كالقضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه، إلا أنه أيضاً كل تلك الأسباب والعوامل ماكانت لتكون مؤثرة وفاعلة لولا الدور السلبي للقيادة الفلسطينية ومواقفها المتخاذلة وسعيها وراء السلطة وامتيازاتها بدلاً من تعزيز ودعم فكرة النضال والكفاح ضد المغتصب، وبالرغم من أننا لسنا في وارد تقييم تجربة الثورة الفلسطينية ، إلا أن مانشهده اليوم من إحباطات وانهيارات وانسدادات أمام القضية الوطنية الفلسطينية لم يكن وليد المتغيرات الأخيرة التي تشهدها المنطقة، إنما هو نتيجة طبيعية وكارثية لكل السياسات التي انتهجتها القيادة الفلسطينية والخيارات التي اقدمت عليها منذ انطلاق العمل الفلسطيني المسلح في منتصف ستينيات القرن الماضي .
إن مجمل هذه السياسات أدت فيما أدت إلى تقزيم منظمة التحرير الفلسطينية، وإضعاف العامل الفلسطيني برمته، وتحويل قضية فلسطين الوطنية إلى حائط مبكى، وظهور قيادات فلسطينية ضعيفة ومخترقة من قبل العديد من أجهزة المخابرات وخاصة الأمريكية والإسرائيلية،أنيطت بهذه القيادات مسؤولية الحل والربط فيما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته،وهم المسؤولين مسؤولية مباشرة عن تقليص الحقوق الفلسطينية وضياعها، من خلال حجم التنازلات المرعب الذي قدمته هذه القيادة الفلسطينية للجانب الإسرائيلي بدءًا من التنازلات التي قدمت للوصول إلى اتفاقية أوسلو الملعونة ، وصولا إلى كافة التنازلات التي مازالت تقدمها القيادة الفلسطينية في سبيل محافظتها على مناصبها وامتيازاتها على حساب مصالح شعبنا الفلسطيني وتضحياته، هذه التنازلات جعلت إسرائيل تتنمرد على السلطة الفلسطينية بل وتتجرأ بكل وقاحة وتطلب ويا للعجب من القيادة الفلسطينية الضعيفة الإعتراف بيهودية دولة إسرايل !!
هذه القيادة التي تستقوي على شعبها وعلى الفصائل الأخرى بالأنظمة العربية التي كانت داعم رئيسي لنضال الشعب الفلسطيني ولقضيتة الوطنية مالياً وسياسيا، فأصبحت الثوابت الفلسطينية والعربية تجاه الصراع مع إسرائيل تنتهك وتحذف بمباركة عربية استعاضت بها القيادة الفلسطينية لغباءها عن الغطاء الشعبي الفلسطيني لتمرير سياسات التنازل والإستسلام،تلك الأنظمة العربية مغلولة اليد أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي لاتريد سوى السلامة حتى لو كانت على حساب القضية الفلسطينية، لكنها تصبح شرطي بعصا حين تستقوي بها السلطة الفلسطينية لكسر إرادة قوى المعارضة الفلسطينية الرافضة لكل سياسات السلطة التنازلية، هذا الإستقواء في الحقيقة -إضافة إلى عوامل أخرى- هو ماجعل الأنظمة العربية نفسها تستقوي على القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين أنفسهم، وإلى إخضاعهم إلى التجاذبات المتنافرة في السياية العربية.
لقد سقطت السلطة الفلسطينية في مستنقع الفساد والإستنفاع، وانكشفت عورتها أمام الجميع، وكل أوراق التوت والتين لاتستطيع ستر عورات سلطة هجينة، وليدة اتفاقيات مذلة،وحولت جميع الحقوق الثابتة التاريخية للشعب الفلسطيني إلى" مشاكل قابلة للنفاوض" وحولت قضية وطن محتل ومغتصب إلى خلاف على تقاسم نفوذ فيما بينها، وتتبنى سياسة التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، هي العقلية ذاتها التي تطاولت بالكلام بداية على المناضلين والأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية عام 1988 أثناء الإنتفاضة الفلسطينية الأولى تحت شعار "هجوم السلام الفلسطيني" وتحول هذا الهجوم فيما بعد إلى تآمر لضرب الحركة الوطنية الفلسطينية، وقامت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية المحترمة باعتقال قيادة وكوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية، وتعاونت مع قوات الإحتلال الإسرائيلي لاغتيال مناضلين.
إن السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها على نفسها اساساً، هي ليست أكثر من أداة وظيفية لدى الإحتلال الإسرائيلي، وقد أصبحت حاجة إسرائيلية لضرب المشروع الوطني،فاتفاقيات أوسلو التي أنجبت السلطة أنهت الحكم العسكري الإسرائيلي، لكنها لم تُنه الإحتلال نفسه، وبينما انشغلت السلطة بإدارة الحياة اليومية، تحول الإحتلال إلى استعمار نظيف قليل التكلفة حيث تتولى أجهزة السلطة الفلسطينية كافة الملفات القذرة، تتابع إسرائيل مصادرة الأراضي وفرض الحقائق على الأرض .
لذلك لا بد من إسقاط هذه السلطة لإنهاء عبثية مسار التفاوض مع إسرائيل الذي اثبت عقمه، ولوضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كاملة كسلطات احتلال تجاه الشعب الفلسطيني، وحتى تكف السلطة عن كونها غطاء لهذا الاحتلال.
ومن جهة أخرى لوضع المجتمع الدولي والأطراف الراعية لعملية السلام أمام استحقاقاتهم الموضوعية في فشل مسار التسوية السياسية، وهذا يجب أن يؤدي إلى اعتبار أن شعبنا الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال ومن حقه مقاومة هذا الاحتلال وفق المواثيق الأممية.
إسقاط السلطة سوف يعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي قزمها رجال السلطة وجعلوها ظل عديم الفعالية تابع لهم بعد أن قاموا بإفراغ المنظمة ومؤسساتها من دورها الوطني باعتبارها حاضنة المشروع الوطني الفلسطيني .
وهذا من شأنه أن يساهم في تقوية الموقف الفلسطيني الذي أضعفه زج السلطة بالرقم الفلسطيني في مفارقات العرب السياسية، فانتقلت القضية الفلسطينية بقدسيتها من حالتها في الضمير والوجدان العربي والأممي إلى رقم ضعيف في الجامعة العربية .
إن هذه السلطة المتخمة بالفساد السياسي والأمني والسلوكي والأخلاقي، التي حولت القضية الفلسطينية إلى ممسحة لبعض الأنظمة العربية وسياساتهم وصفقاتهم، سوف يذكرها التاريخ على أنها سلطة متهمة ومدانة بهزيمة شعبها وقضيته الوطنية، في عالم لم تعد تعنيه كثيراً قضايا الضمير والحق والعدل، بل يلتفت إلى من يملك قوة الفعل والتأثير في مجريات التاريخ.

154
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


الصورة النمطية لإفريقيا في الإعلام الغربي
جوع وفساد وإيدز

يظن معظم الغربيين أن القارة الإفريقية هي عيارة عن صحراء مترامية الأطراف، يقطنها شعب واحد يشترك بصفات سواد البشرة وبياض الأسنان، فقد ارتبطت صورة إفريقيا والإنسان الإفريقي في ذهنية الغربي بتراثهم القديم الممتلئ بثقافة التعالي والعنصرية والإيمان بتفوق العرق الأبيض على سواه من الأعراق، وقد ساهم بعض الكتاب الغربيين في ترسيخ هذه الصورة المتخيلة عن إفريقيا في عقل الغربي، ويمكن هنا أن نورد كتاب " من قلب الظلمة " للكاتب الروائي البولوني " جوزف كونراد " وكذلك الكاتب الألماني " كاي ماي " الذي كتب سلسلة من كتب المغامرات اعتمدت على الوصف الخيالي لإفريقيا، وذكر الكاتب فيها مغامرات حصلت في السودان ووصفها وصفاً دقيقاً وهو يقبع في  السجن، دون أن تتاح له فرصة زيارة إفريقيا، واللافت أن هذه الكتب ما زالت تحقق مبيعات مرتفعة في الدول الغربية.
إن التنافس بين الدول الكبرى على المناطق الإستراتيجية والغنية، انتقل من مرحلة الصراع المسلح  إلى صراع فكري وإستراتيجي حول بسط الهيمنة، وزيادة التبعية والنفوذ، وبأدوات العصر الحديث في توجيه الرأي العام الدولي والمحلي، ولذلك نجد كل وسيلة إعلامية ذات تمويل حكومي وتوجه دعائي لها اهتمام خاص بها وإستراتيجية إعلامية نحو القارة الأفريقية.
نحن اليوم أمام غزو للقارة الأفريقية لا يقل في قوته وعنفوانه عن غزو الجيوش والاحتلال والسيطرة، إن الهيمنة الإعلامية على أفريقيا هي استمرار لتاريخ طويل من المشاريع الإعلامية، التي أطلقتها محطات إذاعية وتلفزيونية دولية، وحتى منصات إلكترونية لتوفير مواد إعلامية تستهدف المواطن الأفريقي والتأثير في جمهور وسلطات بلاده.
يتمثل الاعلام الغربي بمنظومة المحطات الفضائية التي تجعل من العنف، والجوع، والتخلف مادتها الإعلامية التي يتم نقلها عبر شبكة مراسليها في القارة الافريقية، إضافة الى إنتاج العديد من الأفلام التي يظهر فيها الإفريقي على أنه شخص تابع ومقلد للرجل الابيض، فشركات الإنتاج السينمائي الكبرى مثل هوليود وغيرها تعودت أن تقدم الرجل الإفريقي على أنه الطرف الضعيف والعاجز في أعمالها الفنية، فضلا عن الصحافة المقروءة الذي كانت وما زالت تتعاطى مع القارة الإفريقية من ذات المنطلق الذي تتعاطى معه شبكة الإعلام المرئي.
أن إفريقيا الحقيقية أكثر تعقيداً بكثير من الصور التي نراها بانتظام في وسائل الإعلام الغربية، التي دائما ما تصور الجانب السلبي من القارة، ويحاول الإعلام الإفريقي الرد من خلال إظهار صور أكثر إيجابية وواقعية، على أمل أن يتعرف العالم على إفريقيا الحقيقة التي لا يعرفها الغرب أو يحاول تشويهها.
لطالما تعودت وسائل الإعلام الغربية على النمطية في نقل أخبارها والحديث عن القارة، ومن هنا يمارس أصحابها مهنتهم على تلك الأسس، تبعا لأهداف قد تكون معلنة والعكس صحيح، إلا أنها – أي الأهداف- تتمحور حول إبراز صورة الغربي بأحسن حال من صورة الإفريقي، ففي بعض دول ومناطق أخرى، نرى في التقارير الإخبارية أن الرجل الأبيض هو الذي يقوم بتغذية الرجل الأسود ومساعدته وتقديم العلاج له، ولن ترى في التقارير أن الأفارقة يساعدون أنفسهم أو يساعد بعضهم البعض.
إن الصومال تتألم من الحرب الأهلية ومن الإرهاب، وكذلك نيجيريا تستنزف مقدراتها في مواجهات عسكرية مع تنظيم بوكو حرام، ومرض إيبولا المميت يمزق سيراليون، كلها عناوين ينشرونها للعالم، لكن ما أسباب الحرب في الصومال ومن الذي أوقدها، من الذين وراء جماعة بوكو حرام ومن يمولهم، ما حقيقة إيبولا وكم من الدول مصابة به، فلن تسمع أي شيء من هذا القبيل، وذلك بسبب أن كل هذه الأحداث تجري في إفريقيا.
إن كون الإعلام الغربي يؤمن مساحة للحرية وسقفا مرموقا لذكر الحقائق أو بعضها، ويضفي بعض الحيادية والموضوعية في طرح المواضيع لا يعني استقلاليته، فهذه الحرية تعدم تماما حين يتعلق الأمر بالتأثير على الرأي العام في نقاط ساخنة تتصل مباشرة بالسياسة الخارجية، خاصة التي تمس مصالح الدول الغربية في إفريقيا أو غيرها من القارات، ولهذا فشعوبهم تتمتع بتلك المصداقية في الشؤون الداخلية للغرب، بينما تنعكس الصورة تماماً في الشؤون الخارجية.
فالحكومات الغربية تحرص على سياسة الانفتاح والفضفضة والنقد المفتوح في إعلامها الذي يتناول القضايا الداخلية والخاصة بشعوبها، ولكن حين يتعلق الأمر بإفريقيا والسياسات الخارجية فلابد من تحييد الخبر وتكميم الأفواه والحد من المواضيع وحجز المعلومات،  وكذلك فإن هذه الصحافة الغربية لا تتردد في استخدام الأسلوب الاستخباري للترويج لموقفها السياسي، وللابتزاز السياسي في آن، وقد تكرر هذا كثيرا أكثر من موضع في إفريقيا حيث جرى ابتزاز عدد من رجال السياسة إن كان في الدول الغربية نفسها، أو الضغط الذي تمارسه هذه الوسائل على صناع القرار خارج الغرب  لتأمين مصالحها ومصالح من تمثلهم.
بظني أن ما يستحق النقد هو غياب الرؤية الموضوعية، وانعدام التحليل العلمي البحثي للكثير من الظواهر في القارة الإفريقية، وعدم تناولها في سياقها التاريخي والجدلي من قبل وسائل الإعلام الغربية، وليس الواقع الإفريقي بحد ذاته.
إن العديد من وسائل الإعلام الغربية هدفها الأساسي ليس البحث عن الحقائق ونشرها، وإنما التجارة في المعلومات والمعطيات والخبر والصورة، لذلك هي تقوم بتقديم ما يطلبه المشاهد والقارئ، ولا تهتم كثيراً إن كانت السلعة جيدة ومفيدة، أو كانت فاسدة ومتعطنة.
ليس هذا فحسب، بل أن وسائل الإعلام نفسها في الدول الغربية سلعة مثل غيرها من السلع، يتنافس على امتلاكها تجار كبار لفرض مصالهحم السياسية أو الاقتصادية.
بل أن العديد من الديكتاتوريين في الدول النامية يشترون وسائل إعلامية في الدول الغربية، من أقنية تلفزيونية أو صحف ومجلات أو محطات إذاعية، ويقومون بتوظيف عدة مشاهير إعلاميين غربيين فيها، وذلك بهدف تلميع صورتهم الشخصية أو صورة بلادهم في أعين المشاهد والقارئ الغربي، وخلال السنوات الأخيرة أقدم عدد من تجار الدم والحروب ومن الأثرياء الجدد خاصة من دول أوروبا الشرقية، على شراء صحف ومحطات تلفزيونية عريقة، لأهداف متعددة مثل تبييض الأموال، ولحماية مصالحهم، وللتأثير على مجريات الحياة السياسية والاجتماعية.
إن المجتمعات الغربية  بالرغم من أنها مجتمعات متحضرة متطورة، إلا أنها مجتمعات تسود فيها العزلة والفردية والاغتراب الاجتماعي والروحي، ، لذلك نجد من السهولة بمكان أن تلعب وسائل الإعلام بهذه المجتمعات دوراً بالغ الخطورة في التأثير المباشر على المتلقي، وبذلك يكون لهذه الوسائل الأدوات التي تحدد نوعية ومسار واتجاهات الوعي الجمعي لهذه الشعوب، وتعمل على إنتاج وإعادة إنتاج وعي الناس.
إن الصورة النمطية لإفريقيا في العقل الغربي لم تتغير كثيراً حتى الآن، فما زالت وسائل الإعلام الغربية تقدم إفريقيا في إطار لا يخرج عن ثوابتها المتوارثة وهي الفساد والتخلف والكوارث الطبيعية والفقر والجوع والأمراض، وكثير من المحطات التلفزيونية مازالت تقدم برامج بقصد الإثارة والربحية، عن عادات شرب الدم وأكل لحم البشر أو القرود لدى بعض الإثنيات الإفريقية، وإن أردا الإعلام الغربي التنوع في تناول الموضوع الإفريقي يتحدث عن انخفاض وكي ثدي القاصرات الإفريقيات، أو عن تعدد الزوجات.

155
   حسن العاصي                                                                   
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك   
                                 
الجيوش الإفريقية تتحدث العبرية
شالوم يا فلسطين   
الجزء الثاني والأخير

والجدير بالذكر هنا أن إسرائيل استطاعت أن تبني قواعد جوية وبحرية في دول القرن الإفريقي، وبالطبع الغاية الرئيسية منها هو تهديد الأمن العربي والضغط على مصر والسودان، وقد تحولت جميع هذه القواعد إلى مراكز للتجسس على الدول العربية وعلى الدول الإفريقية نفسها، كما شكلت إسرائيل فرق عمل أمنية ومجموعات عسكرية بشكل مشترك مع عدد من الدول الإفريقية، الغاية منها هو تقوية نفوذ إسرائيل داخل الأجهزة العسكرية والأمنية الإفريقية عبر هذه المجموعات التي تضم الكثير من كبار الضباط الذين تلقوا تدريبهم في المعاهد العسكرية الإسرائيلية في إسرائيل أو تدربوا بواسطة مستشارين إسرائيليين في بلدانهم جميعهم يدينون بالولاء للمصالح الإسرائيلية ، وتربطهم علاقات مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ومعظم هؤلاء الضباط من إثيوبيا والكونغو ورواندا وزائير وساحل العاج ومن جنوب إفريقيا وإريتيريا وكينيا وأوغندا وتنزانيا.
وفد شجعت إسرائيل الأجيال الجديدة من القادة الأفارقة الذين ينتمون إلى أقليات عرقية أو مذهبية في بلدانهم، ويرتبطون بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ومنهم "مينيس زيناوي" في إثيوبيا و "أسياسي أفورقي" في إريتيريا و "جون جارانج" في دنوب السودان و "يوري موسيفيني" في أوغندا، وكل هؤلاء أصبحوا قادة بلدانهم وأصدقاء مخلصين لإسرائيل ويدافعون عن مصالحها.
إن إسرائيل ترتبط مع إريتيريا باتفاقية أمنية تم توقيعها في العام 1996، حصلت بموجبها إريتيريا على مساعدات عسكرية ضخمة، وحصلت إسرائيل على تسهيلات لتعزيز وجودها في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وأصبح لها تواجد عسكري في مضيق باب المندب.
في الصراع الذي وقع في منطقة البحيرات العظمى في العام 1994 قامت إسرائيل بتزويد كل من رواندا وبوروندي والكونغو بالأسلحة وبالمستشارين العسكريين وذلك بهدف إثارة النعرات والقلائل لتبقى هي المستفيد الوحيد والقادر على إدارة هذه الصراعات في المنطقة.
وقام جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد من خلال مكتبه في نيروبي، ومن خلال تعاون إسرائيل الأمني مع كينيا بتحريض الأخيرة على إثارة التوترات فيما يتعلق بأزمة مياه النيل مع مصر في العام 2003، وظلت إسرائيل تضغط على كينيا حتى أعلنت انسحابها من معاهدة حوض النيل الموقعة في العام 1929، وكررت إسرائيل نفس السيناريو مع أوغندا التي أعلنت أنه يجب إعادة التفاوض حول موضوع مياه النيل والوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، أو أنها سوف تنسحب من الاتفاقية كما فعلت كينيا.
وقد أصدر الدبلوماسي الإسرائيلي السابق "آريه عوديد" كتاب "إسرائيل وإفريقيا" في العام 2014 وترجمه إلى العربية الدكتور عمر زكريا المتخصص في الشؤون الإسرائيلية، وتظهر قيمة هذا الكتاب الهام من أن مؤلفه كان من الذين وضعوا خطط اختراق القارة الإفريقية من قبل إسرائيل، وساهم في عملية بناء وتعزيز العلاقات الإسرائيلية الإفريقية على مدار عقود، وكان قد بدأ عمله الدبلوماسي في أوغندا في العام 1961، وانتقل ليرعى المصالح الإسرائيلية في كينيا في سبعينيات القرن العشرين، ثم في تسعينيات القرن الماضي عمل سفيراً في سوازيلاند وكينيا، ثم عين سفير غير مقيم في لاسوتو وزامبيا وموريشيوس وجزر سيشيل، وعمل محاضراً للدراسات الإفريقية في الجامعة العبرية في القدس.
يذكر الدبلوماسي الإسرائيلي في كتابه آنف الذكر، أن إسرائيل ظلت على علاقات سرية مع الدول الإفريقية التي قطعت علاقاتها الرسمية العلنية مع إسرائيل في مراحل مختلفة خلال القرن العشرين، نتيجة للضغوط التي تعرضت لها تلك الدول الإفريقية من الأنظمة العربية، وظلت إسرائيل تعمل بكامل حريتها في تلك الدول، ويقر "عوديد" أن إسرائيل استمرت في تقديم كافة أنواع المساعدات العسكرية والأمنية للدول الإفريقية، وذكر أن إثيوبيا وإريتيريا لاحقاً كانتا مهمتان جداً لإسرائيل من أجل تأمين الطرق الملاحية للشرق الأقصى ولجنوب إفريقيا، والموانئ الموجودة في مومباسا في كينيا ودار السلام في تنزانيا هي موانئ مهمة لإسرائيل بهدف كمحطات في الطرق الملاحية، ويقول أن التواجد العسكري الإسرائيلي في إثيوبيا وأوغندا وكينيا بالغ الأهمية من الناحية الجيوسياسية لتطويق العرب.
وكان عوديد قد درس في جامعة ماكريري البريطانية في أوغندا، وقد درس معه في هذه الجامعة العديد من الزعماء الأفارقة الذين وصلوا إلى هرم القيادة السياسية والعسكرية في بلدانهم فيما بعد ومنهم "بنجامين مكابا" الرئيس التنزاني السابق، وقام الدبلوماسي السابق اثناء عمله بإرسال الكثير من الطلبة الأفارقة للدراسة في إسرائيل، وكان يختارهم بمعاونة رجال المخابرات الإسرائيلية الموساد بناء على معايير معينة أهمها مدى قدرة هؤلاء الطلبة على تبوأ مناصب قيادية في بلدانهم لاحقاً، ودرجة صداقتهم مع إسرائيل، ومن بين هؤلاء الذي أرسلهم للدراسة "يوسف لولي" الذي أصبح رئيس أوغندا بعد سقوط عيدي أمين.
وكشف عن الدور الخطير الذي لعبه الجيش الإسرائيلي وجهاز المخابرات الموساد في بعض الدول الإفريقية من خلال السفارات الإسرائيلية وبعض ملحقياتها التجارية والثقافية، بواسطة مستشارين أمنيين بلغ عددهم العشرات في كل من إثيوبيا، أوغندا، الكونغو، تنزانيا، كينيا، إريتيريا.
وكانت إسرائيل ساعدت الرئيس الأوغندي "أوبوتي" بناء على طلبه في مساعدة حصل عليها من إسرائيل لتنظيم وتدريب جيشه لمواجهة أعدائه في السودان التي كانت إسرائيل تدعم قيام كيان غير عربي في جنوبه، الاهتمام الإسرائيلي بأوغندا يأتي من كون منابع النيل الأبيض فيها، وكونها تقع جنوبي مصر والسودان الدولتين العربيتين اللتين تريد إسرائيل حصارهم والضغط عليهم، مما دفع إسرائيل إلى القيام بتدريب سلاح المشاة والمظلات والمدرعات والقوات الجوية في الجيش الأوغندي، ودربت أيضاً رجال وضباط الشرطة، وأول دبابة حصل عليها الجيش الأوغندي كانت مقدمة من إسرائيل ضمن ست دبابات، ودربت الطيارين العسكريين الأوغنديين في معهد للطيران قامت ببنائه إسرائيل في أوغندا، ثم قدمت لهم أربع طائرات تدريب ظراز "بوخانا" ولاحقاُ باعت لهم 12 طائرة من نوع "بوجا"، وفي فترة لاحقة دؤبت إسرائيل 30 طيار أوغندي في إسرائيل، ودربت معهم عشرات الفنيين لصيانة الظائرات.
ثم جاء الوقت كي تحصد إسرائيل فيه ثمار هذه المساعدات والدعم الكبير الذي حصلت عليه أوغندا التي أصبحت من الدول الإفريقية التي تمتنع عن التصويت في القضايا التي تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي في المحافل الدولية.
وعلى سبيل الذكر عارضت أوغندا مشروع قرار حول القدس في الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2003، كما امتنعت عن التصويت في قضية جدار الفصل العنصري الذي اقامته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية حين طرح اقتراح لتحويل الموضوع إلى المجكمة الدولية، وفي أكثر من مناسبة أدانت أوغندا كفاح الشعب الفلسطيني واعتبرته إرهاباً.
ودولة مثل" الرأس الأخضر" وهي عبارة عن مجموعة جزر تقع غرب إفريقيا، يصرح رئيسها" جورجي كارلوش" بعد اللقاء الذي جمعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي " بنيامين نتنياهو" على هامش اجتماع المنظمة الاقتصادية المشتركة لدول غرب إفريقيا قبل شهور قليلة، بأن دولته لن تصوت ضد إسرائيل في الأمم المتحدة من الآن فصاعداً.
واستعداداً لجولته الثالثة إلى إفريقيا، استضاف "نتنياهو" رئيس توغو "فاورا غناسينغبي" على مأدبة عشاء في منزله بالقدس الغربية، ومن اللافت ما كتبه الرئيس الإفريقي في سجل الزوار" أحلم بعودة إسرائيل إلى إفريقيا، وعودة إفريقيا إلى إسرائيل"، ورد عليه "نتنياهو" بقوله" أن توغو هي صديقة حقيقية لإسرائيل".
إن العالم من حولنا يتغير، وتتبدل معه مصالح الدول وتحالفاتها، فهل أصبحت فلسطين والقضية الفلسطينية في طي النسيان بالنسبة لمعظم الدول الإفريقية؟
فهل العرب ومن ضمنهم القيادة الفلسطينية يمتلكون القدرة والرؤية والقرار والعزيمة على تصويب وتحسين العلاقات الرسمية والشعبية بينهم وبين شعوب إفريقيا وقادتها، أم أن الأزمات العربية العربية التي لا تنتهي جعلت من العرب قوماً يفكرون خارج مصالحهم بل خارج التاريخ وخارج الجغرافيا.






156
أدب / تهت في أبجديتها
« في: 19:44 17/08/2017  »


تهت في أبجديتها

حسن العاصي


هكذا كانت حين لمحتها
حسناء تتنهد بأنفاس رطبة
تتمايل بصدر مموج منشطر نصفين
عينيها عصافير في سفر كطيور الجنة
الخد حلاوة تمطر تفاحاً
وجه قمحي يزينه ثغر خجول

أطلقت كالسهام زنابق حقولها
فحلّقت فراشات صدري
يجذبها سحر البيان
وتوثّب قلبي لهفة
كمن شاقه جفاف الظمأ
يبتغي نبع السهول

هكذا هي
غيداء أعذب من كؤوس الشهد
تروي بالغواية والدلال شاربها
ريم البساتين بأقراط من الدهشة
لأجلها تبيع الهداية بالهوى
تُقدم في وصالها ولا تهادن
يا قاتلاً يا مقتول

تطوف بحسنها ممالك الغرام
كأميرة فوق خمائل الهودج
تعبر كأنها تنصب بالرمش فخاً
يتساقط العشاق حولها صرعى
وهي في ميادين الحب
تصول بسوط الهيام وتجول


يغريني صوتها لأشتهي الثمالة
أدوّن باستفاضة يقين شوقي
فوق سجّادة الصبابة
حد التبعثر
وأترك الأنامل الضريرة تتعلم
وتشقّ دروب الوصول

نتقلّب والجهات متاهة ترتعش
تعبرني خيوط الماء كسهام إغريقية
تقول بمكر بطرف عينها
 هذا لوحك معلق من عشبه
أكتب وجدك هنا يا وليفي
واقطف ثمر الحقول

تهت في أبجديتها وأغشاني الدوار
فسقط وجهي بين القباب الندية
وغرقت عيناي في هاوية
ما عاد في الجنون متسع
غاب رشدي
لا أعلم يا ويلي إن كنت فاعلا
أو كنت المفعول



157
حسن العاصي                                                                   
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك                                     
الجيوش الإفريقية تتحدث العبرية
شالوم يا فلسطين
الجزء الأول من جزئين
يحتل الجزء العسكري والأمني الصدارة في أولويات العلاقات الإفريقية الإسرائيلية، إذ بدأت المساعدات العسكرية الإسرائيلية لبعض الدول الافريقية  حتى قبل استقلال هذه الدول، فقد قامت كل من أوغندا وغانا في العام " 1962 " بإرسال عسكريين وضباط للتدرب في إسرائيل، وبالمثل أرسلت تنزانيا مجموعة من الضباط للتدرب في المعاهد الحربية الإسرائيلية، كما دربت إسرائيل أول مجموعة من الطيارين من أثيوبيا وغانا وأوغندا، ودربت طيارين مدنيين من نيجيريا، وفي العام "1966 " أنشأت إسرائيل أول كلية حربية في غانا، حيث كان يتواجد  فيها "100 " ضابط إسرائيلي كخبير ومدرب، وتواجد في أوغندا أكبر بعثة اسرائيلية في العام " 1965 " وكان ضباط وجنود الجيش والشرطة وجهاز الاستخبارات الأوغندية يتلقون تدريبهم على يد ضباط من الجيش الاسرائيلي، وهنا من الجدير ذكره أنه حتى خلال الفترات التي تم فيها قطع العلاقات من قبل الدول الإفريقية مع إسرائيل ، لم تؤثر على مستوى هذا التعاون العسكري بين الطرفين .
 وترتبط اسرائيل بمعاهدات عسكرية وأمنية سرية مع العديد من الدول الإفريقية، تتضمن تدريب الجيوش وأجهزة الاستخبارات في تلك الدول، وذلك للحفاظ على استمرار الأنظمة الديكتاتورية في إفريقيا التي تجد فيها إسرائيل ضالتها لتحقيق أهدافها .
فعلى سبيل المثال لا الحصر، قامت إسرائيل بتوقيع معاهدة سرية للتعاون العسكري مع زائير التي طلبت مساعدة إسرائيل على أثر محاولة الانقلاب الفاشلة فيها، وقامت إسرائيل بمساعدة الجيش الليبيري في قمع التمرد على النظام، وعقدت معها صفقة عسكية بملايين الدولارات، ويقوم الخبراء الإسرائيليين بتدريب الجيش الكاميروني ، وباعت لها إسرائيل طائرات من نوع  "كفيرو عرافا "، ناهيك عن التعاون العسكري الإسرائيلي مع أثيوبيا التي تحتل موقع الصدارة في اهتمامات قادة اسرائيل كونها البلد الوحيد الغير عربي المطل على البحر الأحمر .
وعلى امتداد السنوات الماضية، إضافة إلى حصدها الأموال من النزاعات الدموية في القارة الافريقية، قامت إسرائيل بتوظيف علاقاتها المميزة مع العديد من الضباط في المؤسسات العسكرية والأمنية الإفريقية، لاختراق القارة وللحفاظ على مصالحها الاستراتيجية فيها على المدى البعيد .
وقد نقلت إسرائيل سياستها في إشعال فتيل الحروب والنزاعات، وإذكاء التناقضات المتعددة، وممارسة الخداع والابتزاز، وإثارة النعرات القومية والمذهبية، نقلت كل هذا الميراث البغيض الذي كان يشكل بالنسبة لها نهجاً منتظماً في علاقاتها مع محيطها العربي طوال عقود إلى القارة الإفريقية، ولاتتردد إسرائيل في عمل كل شيء في سبيل تحقيق أهدافها، فتراها تستغل على سبيل المثال، النزاعات الإرتيرية وحالة الفوضى الأمنية السائدة في الصومال من أجل تعزيز علاقاتها مع أثيوبيا التي قامت بالحصول على كميات كبيرة من الأسلحة الإسرائيلية بهدف تأزيم منطقة القرن الإفريقي التي تعاني بالأصل من أزمات متفجرة متعددة.
نتيجة للدعم الإسرائيلي غير المحدود يصنف الجيش الإثيوبي ثالث أهم جيش في القارة الإفريقية بعد مصر والجزائر، ويحتل الموقع 42 عالمياً، بامتلاكه 2300 دبابة، و800 مركبة، 200 صاروخ متعدد، 90 طائرة مقاتلة، 43 طائرة مروحية، بحسب الأرقام التي نشرها موقع "جلوبال باور فاير".
نعود قليلاً إلى الوراء، فبعد قيام دولة إسرائيل في العام 1948 عاشت الدولة الجديدة عزلة  مع محيطها العربي والإفريقي، هذا التهميش الذي تعرضت له إسرائيل من قبل جيرانها جعلها تستنبط أساليب جديدة لكسر هذه العزلة، فظهرت فكرة المساعدات للدول الإفريقية المجاورة الفقيرة، فبدأت إسرائيل بطرق أبواب القارة وتقدم نفسها على أنها فاعل خير، وبدأت مساعداتها تصل إلى بعض الدول الإفريقية وفي مقدمتهم إثيوبيا، ومع وصول هذه المعونات الإسرائيلية تباعاً إلى إفريقية كانت إسرائيل تنفذ إلى قلب القارة، وكان وجودها يتبلور ويتعزز في إفريقية خاصة في إثيوبيا لتصبح حليفة إسرائيل المطلة على البحر الأحمر.
في بداية الستينيات من القرن العشرين أرسلت إسرائيل عدد من المستشارين العسكريين كي تقوم بتدريب المظليين الإثيوبيين، وكذلك تدريب وحدات خاصة لمكافحة التمرد والشغب، كما قامت إسرائيل بتدريب جنود وضباط الفرقة الخامسة في الجيش الإثيوبي لمواجهة جبهة التحرير الإرتيرية.
في العام 1973 قطعت العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وإثيوبيا تضامنا مع مصر والعرب، لكن استمرت إسرائيل بإرسال قطع الغيار للطائرات والذخيرة للأسلحة أمريكية الصنع التي يملكها الجيش الإثيوبي، وكذلك استمر تواجد عدد كبير من المستشارين والخبراء العسكريين الإسرائيليين في أديس أبابا، ولم يتغير هذا الوضع حتى مع وصول الرئيس الإثيوبي ذو التوجه الماركسي "مانجستو هيلا مريام"  للسلطة في العام 1974 من القرن العشرين، لكن هذا الوضع تغير في العام 1978 حين قام الرئيس "مانجستو" بطرد جميع المستشارين الإسرائيليين من إثيوبيا على أثر انكشاف علاقة البلدين مما اعتبر خرقاً لقرارات مجلس الوحدة الإفريقية ووضع إثيوبيا في حرج شديد من الدول الإفريقية.
في العام 1983 ورغم استمرار قطع العلاقات الدبلوماسية بين إثيوبيا وإسرائيل، قامت الأخيرة بتدريب عسكري وأمني للحرس الرئاسي ولجهاز الشرطة الإثيوبي ولرجال بعض الأجهزة الأمنية ومنها المخابرات.
ثم بدأت إسرائيل في استقبال يهود الفلاشا الذين هاجروا من إثيوبيا بناء على اتفاق بين الحكومتين في العام 1985 مقابل مساعدات عسكرية تقدمها إسرائيل لأديس أبابا، ولغاية العام 1987 كانت إثيوبيا  تلقت معونات عسكرية بقيمة 85 مليون دولار مكافأة لها على السماح ليهود الفلاشا بالهجرة إلى إسرائيل، وأرسلت تل أبيب 300 مستشار وخبير أمني وعسكري إلى إثيوبيا، وقامت خلال هذه الفترة بتدريب 40 طياراً إثيوبياً في إسرائيل، في العام 1989 من القرن العشرين تم إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتم افتتاح السفارة الإسرائيلية في أديس أبابا، وقدمت إسرائيل المزيد من المساعدات العسكرية لإثيوبيا.
في العام 1990 قدمت إسرائيل حوالي 150 ألف بندقية للجيش الإثيوبي بحسب تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، وتوسعت مساعدات إسرائيل لتضم معونات صحية وأدوية، وكذلك أرسلت خبراء في مجال الري والزراعة، وفي العام 1991 قامت إسرائيل بنقل 15 ألف يهودي من الفلاشا مباشرة عبر جسرجوي من أديس أبابا إلى إسرائيل، ودفعت للرئيس الإثيوبي مبلغ 35 مليون دولار قبل أن يطيح به انقلاب شعبي ضده فهرب إلى زيمبابوي، وبحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام فإن إثيوبيا لاتبلغ ميزانيتها العسكرية سوى 0,8 في المائة، إلا أنها أصبحت ثالث أقوى جيش في القارة السمراء بفضل الدعم العسكري الإسرائيلي.
أصبح من المؤكد أن إسرائيل استطاعت وعبر برنامج المساعدات العسكرية بشكل رئيسي، والإنمائية بدرجة أقل، استطاعت أن تفسد العلاقات التاريخية بين العرب ومصر بوجه خاص وإثيوبيا، وأنها تمكنت من إخراج مصر من إثيوبيا  والحلول مكانها، وبدأ فصل جديد من فصول الضغط الإسرائيلي على مصر والسودان عبر أذرعها الإفريقية في إثيوبيا وغيرها من الدول الإفريقية.
إن التعاون العسكري وتقديم مساعدات عسكرية إلى الدول الإفريقية، وكذلك تدريب ضباط الجيش والأجهزة الأمنية الإفريقية، كان ولايزال يستحوذ على أهمية خاصة في الاستراتيجية الإسرائيلية، لتوظيف هذا الملف في ممارسة الابتزاز والضغوط والمقايضة، والأهم هو استخامه كسلاح في مواجهة الدول العربية لتهديد أمنها والضغط عليها لتغيير مواقفها في بعض الملفات، ومن أجل هذه الرؤية عملت إسرائيل على تكثيف نشاطها وتواجدها العسكري في إفريقيا، وقامت بإرسال كثير من الخبراء والمستشارين العسكريين والأمنيين الإسرائيليين إلى عدة دول إفريقية من أجل تدريبهم والإشراف عليهم، حتى أن إسرائيل قامت بتدريب كثير من الحراس الرئاسيين الذي يتولون حماية قادة ورؤساء القارة السمراء، وجلبت الآلاف من الأفارقة للدراسة والتدريب في معاهدها الحربية وكلياتها العسكرية.
ولم تكتفي إسرائيل بتقديم السلاح وتدريب الجنود والضباط، بل قامت أيضاً بنقل تجربتها في العمل مع منظمات الشباب الشبه عسكرية مثل تجربة منظمتي "الناحال" و"الجدناع" وقامت بإرسال مستشارين ومدربين إلى بعض الدول الإفريقية لتعليمهم كيفية تنظيم صفوف الشباب الإفريقي في فصائل تجمع العمل المدني والتدريب العسكري سوية.
أيضاً أرسلت إسرائيل عدداً من مدربيها للإشراف على تنظيم الخدمة العسكرية التي تفرض على الشباب الإفريقي لفترات زمنية محددة كما هو الحال في إسرائيل، وقامت أيضاً بإرسال عدد من الخبراء لتدريب قوات الشرطة في تنزانيا، ودربت قوات المظليين في الكونغو، ثم أنشأت مدرسة هناك وقدمت لجيش الكونغو أسلحة وعتاد، ثم في سيراليون أيضاً يتكرر ذات السيناريو حيث أرسلت إسرائيل خبراء عسكريين وضباط من أجل تدريب الجيش السيراليوني، ثم أنشأت لهم مدرسة عسكرية في فري تاون.


158


حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


يتيم العمة
مهداة إلى روح عمتي صالحة جنداوي


كان لي عمة صبية
تضع رأسي في حجرها
كل ليلة قبل أن تأوي للنوم
تغني بصوت خاشع حكايات الأولياء
تسافر قدماي حيث كرامة الغرباء
دون أن أغادر
أجري على ضفاف القناديل
ويطفو فوق الوميض وجهي
أصابع عمتي ترتدي شعري العبثي
تسألني عن زهرة الريح وقلق النوافذ
تقول خبئ غيومك إن اشتد جناح الصقيع
لا تمتطي أسماء الأبواب المغلقة
إن لم تمتلك مفتاح الأسفار
تكفكف دموعها وتستدرج لحظتها
ترفع رأسها وكفيها للأعلى
بصوت حزين خائف تقول
يا رب قد ضاق وجدي
وفرحي بعيد مثل الكروم خلف التلال
ما زلت أنتظر على أبواب الغيم تعباً
تخفض يديها وتحضن ٍرأسي
يعلو صوتها
يا الله هيئ لولدي فراش الإيمان
اجعل المسافات طوع صوته
ازرع في خطاه سراج اليسر
وابعد عنه جراد الدروب الضيقة
يا رب اجعله من الحالمين
كنت صغيراً مرتبكاً
كلماتها تسربلني ثوباً من الريش
عمتي الصبية كانت جميلة
غصن من فضة يخالطه زهر الجنة
 بضفائر تمتد على أجنحة الضوء
مثل فراشة الأنهار تغتسل بالمرايا
عمتي الصبية التي كانت تدعو لي وتغني
انطفأت عينيها ولم أكبر
لفظ فرحها أنفاسه في بياض الثوب
شيّع الطفل عمته يشهق حمماً
في شرخ القميص المكلوم
تكتظ ملامحها في صراخ الصغير المنكسر
حين كبرت أصبحت تلاً من الماء
أتلو ظمأ العشب من الكتاب المتقد
أركل العتبات النائمة بصوت مرتعش
فكيف يغفو صراخي في جوف الجدران النائمة
قرب لوحة الأنبياء
لو أن الوقت يا عمتي ينكفئ أو يموت
لو أرتدي ذاك الثوب العاري
 في العتمة الأخيرة أو يغادرني
ما زلت في حكاياتك طفلاً لم يكبر
ما زلت يا عمتي أرى بحور وجهك ترحل
وأنا لا زورق لي كي أنام
أوثق عيناي حول الصفصافة العتيقة
أحمل رأسي وطيفك وشيء من المواويل
تعدوا كفي صوب آخر رمق
في حزنك الأخير قبل الموت.






159
أدب / يا ثقل الوتر المفقود
« في: 18:31 10/08/2017  »



يا ثقل الوتر المفقود



حسن العاصي


1
في تلك البراري البعيدة
فقدت فراغ الأمكنة
والسفر الآتي
نوافذ مختنقة بالضياع
يتعرّى الغيم إلا من الصحو
كان الوقت كروم
تتدلّى خطى
والرؤية غواية تتناسل
حكايات عتيقة وخراب
كما أفق الإنتظار
واحتمال الرماد
تبسط أهداب هواجسها
كل غياب
للافق حالات
مثل حلم عنيد
يغفو على الشرفات
والأصيص وردة سوداء
نبضها رماد
ولافراشات تراقصها
أيها الراحلين بلا ماء بلا وجوه
لا شيئ في احتشاد الأسماء
يستدرج زهر الموت


2
أن تقبض على ضوء البحر
كي لا ينسدل من أخاديد العبور
شجر العمر
هذا الذي يدوّن يقين القلب
فوق سجّادة البصيرة
يتبعثر بين أصابعه ماء المغفرة
أن تكون ينبوعاً
يروي صلب الجذر
هذه الأشرعة فاتحة الغابة
منذورة لنور الشاطئ
أن تدرك رحيلك بمراكب غافلة
على صهوة التيه
يزاحم فيك الرمل
ارتعاش اليمّ
أشتهي أعود صدفة
لمراكب الورق
فلا رابعة
فوق قوارير نرجس الحزن
إلا وخامسة تلوّن الحلم
باحمرار الكروم


3
وقعتْ على الزهر الأخضر
لم ترى البحر
لكنها سمعتْ صدى ريش السماء
ما غفوتُ عنها في نور الوحي
لكن للنذر طقوس أربعين يوماً
وردة زرقاء غادرها الضوء
من بحر لاقاع فيه
كنتُ وجهاً حافياً
بدفتر وحيد
فهل أغمضت أحلامها طفرتها
كي توقظ عيون الرحيل
عسيرة لحظة النقاء
يعيقها بياض البريق
يوم ارتمت خلف صوت الحياة
اختمرت أبعاد الأسود
حتى تسطع الأوردة
ويوم يتسرب طيف المرارة
بطعم الحطب
يتراءى الغيث في مطر اللحظة
ناديت على المشهد المتقطع
التف خيط الاحتضار
حول عنق الذاكرة
يا ثقل الوتر المفقود
على صوتي
حين يحمل ظلي خريف الحياة
كل عام
والعصب المرابط في تقاطيع الحكاية
بخير


كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك

160
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


إفريقيا في قبضة الموساد الإسرائيلي
الجاسوسية بديل للدبلوماسية

منذ السنوات الأولى لعلاقة اسرائيل بالقارة الافريقية لعب جهاز الاستخبارات الاسرائيلي
¬-وما يزال- دوراً بالغ الأهمية في تسهيل دخول اسرائيل إلى افريقيا وفي إنشاء مراكز نفوذ لها في عدد من العواصم الافريقية، ناهيك عن العلاقات المتميزة بين الموساد والعديد من أجهزة الاستخبارات الافريقية الذين تدربوا في اسرائيل أو قام ضباط اسرائيليين في تدريبهم بأوطانهم، وتسعى إسرائيل من وراء ذلك إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية والعسكرية والسياسية، والخروج من عزلتها الدبلوماسية مع أكبر عدد ممكن من الدول الافريقية كنافذة لدخول اقتصادي أكبر .
النشاط الاستخباراتي الإسرائيلي في القارة الإفريقية قديم، ويعود إلى السنوات الأولى بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، ففي بداية الخمسينيات من القرن العشرين شكل الصهيوني " ديفد بن غوريون " فريق عمل لبحث كيفية التعامل مع البيئة المحيطة من دول عربية وافريقية، وضم هذا الفريق كبار الخبراء في الشؤون الاستراتيجية والسياسية والأمنية والدبلوماسية، ولعب الموساد منذ تلك الفترة الدور المحوري في تنفيذ السياسات الصهيونية لاحتواء القارة الافريقية وذلك عبر إرسال أكثر من خمسة آلاف خبير ومستشار في الشؤون العسكرية والأمنية والبناء والزراعة، من أجل بناء وتنظيم جيوش تلك الدول وتدريب أجهزتها الأمنية، وخاصة  في أثيوبيا وأوغندا وغينيا وغانا وجنوب السودان والكونغو وإرتيريا وجنوب افريقيا وزائير وتنزانيا، هذه الدول التي يمتلك الموساد الاسرائيلي فيها علاقات تنسيق وتعاون مع اجهزتها الاستخبارية، ومع كبار الضباط والمسؤولين الأمنيين فيها، وتقوم إسرائيل بتوظيف هذه العلاقات لمحاصرة الدول العربية والضغط عليها لأجل القبول بها كدولة جارة غير مغتصبة.
 وفي ستينيات القرن الماضي قامت إسرائيل عبر جهاز مخابراتها ببيع أسلحة وعتاد إلى الحركة الشعبية لتحرير أنغولا التي كانت تقاتل الاستعمار البرتغالي وتسعى لنيل الاستقلال، وقامت إسرائيل أيضاً بتدريب المئات من مقاتلي الحركة، لكنها عادت في بداية السبعينيات  بتزويد ودعم طرفي الصراع في أنغولا، وكانت المخابرات الإسرائيلية بالتنسيق مع المخابرات الزائيرية ترسل شحنات من الأسلحة للطرفين، ومن المهم معرفة أن أنجولا تعتبر خامس أكبر دولة منتجة للماس في العالم.
وقد كشفت تحقيقات أجرتها أجهزة مخابرات أوروبية في العام 2013 عن تورط ابنه الرئيس الأنغولي وملياردير إسرائيلي يدعى "إيهود لنيادو" في واحدة من أكبر عمليات غسل الأموال التي أعلن عنها في بلجيكا، حيث كان يجري تهريب الالماس من أنجولا إلى بلجيكا بالتعاون مع الشريك اليهودي البلجيكي "سيلفان جولدبرج" دون دفع ضرائب، وقد تدخلت أجهزة المخابرات الإسرائيلية للوصول إلى تسوية للقضية، مما يؤشر ويدعم الشبهات حول الدور القذر الذي يلعبه الموساد الإسرائيلي في الكثير من الملفات في القارة السمراء، وهذا ما كان يتم لولا التنسيق الأمني مع المخابرات الأنغولية التي كانت على علم بنشاطات ابنه الرئيس في تجارة الألماس .
لكن لماذا تقوم إسرائيل بتكليف حهاز المخابرات الإسرائيلية  بمعالجة بعض الملفات الساخنة سياسياً واقتصادياً؟
سوف نحاول هنا إجراء مقاربة تحليلية لهذا السؤال

ترتبط  منطقة حوض النيل  التي تشمل كلا السودان وجنوب السودان وإثيوبيا وإرتيريا وكينيا وأوغندا والكونغو وجنوب السودان وبوروندى ورواندا ومصر بأهمية استثنائية في الاستراتيجية الجيوسياسية الإسرائيلية ، لذلك ليس مفاجئاً أن ينشط فيها جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، الذي يتواجد في كافة القطاعات التي تشكل محاور اهتمام القيادة الإسرائيلية، في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية في دول حوض النيل، يساعد هذا العمل المخابراتي الذي تقوم به الموساد على أن تقوم إسرائيل بتحقيق أهدافها المتمثلة في القطاع الزراعي على سبيل المثال الذي أولته إسرائيل قدر كبير من الاهتمام نظراً لأنه ميدان مرتبط باستغلال مياه النيل الذي تعتبرها إسرائيل ساحة مواجهة مع مصر، وتشير تقارير وزارة الخارجية الإسرائيلية أن 46 شركة إسرائيلية تعمل في إثيوبيا في مجال الزراعة.

وفي منطقة القرن الإفريقي القريبة من اليمن التي تلتهب بحرب شنتها قوات التحالف العربي في مواجهة المد والتوسع والنفوذ الإيراني الذي أدركت إسرائيل قبل غيرها هذا الخطر الذي يمثله الوجود الإيراني في منطقة باب المندب بالغ الأهمية لها حيث أنه يشكل رئتها الاقتصادية لنقل بضائعها إلى القارة الآسيوية، لذلك عمدت إسرائيل منذ وقت مبكر أن يكون لها وجود أمني استخباراتي في هذه المنطقة من إفريقيا لتكون على علم بكل مايجري فيها، واستطاعت أن تبني علاقات متينة مع دول القرن الإفريقي، حيث عمل جهاز الموساد الإسرائيلي على إنشاء جبهة من إثيوبيا وإرتيريا وكينيا كي يتم من خلال هذا التعاون التصدي للجماعات المتطرفة في الصومال من جهة، ولمواجهة الوجود الإيراني الذي بدأ يظهر ويتمدد في تلك المنطقة التي تشهد حرباً استخباراتية بين إسرائيل من جهة وإيران من جهة ثانية.
وقد أنشأت إسرائيل قاعدة أمنية ومراكز تجسس في إرتيريا لمراقبة النشاط  الإيراني في البحر الأحمر، ومن المعروف أن إرتيريا وإسرائيل ترتبطان بمعاهدة أمنية وعسكرية تم توقيعها في العام 1996، وقدمت إريتيريا تسهيلات كبيرة لإسرائيل لتعزز وجودها الأمني في أرخبيل "داهلاك"، وبذلك تتمكن المخابرات الإسرائيلية بمساعدة المخابرات الإرتيرية بجمع معلومات عن المملكة العربية السعودية واليمن والصومال والسودان، ومراقبة الحركة الإيرانية كذلك.
والنشاط الاستخباراتي الإسرائيلي في القارة الإفريقية يعود إلى بداية قيام الدولة العبرية، حيث قامت وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك "غولدا مائير" بجهود جبارة  من أجل بناء علاقات مع الدول الإفريقية لفك عزلة إسرائيل واكتساب أصوات لصالحها في الأمم المتحدة، لذلك قامت إسرائيل بتأسيس شبكة أمنية قوية في منطقة القرن الإفريقي والساحل الشرقي،  واستند النشاط الإسرائيلي لتحقيق هذه الغايات على نشاط وزارة الخارجية التي تقوم بنشاط  دبلوماسي يقوم بمعظمه عبر عملاء للموساد الإسرائيلي، ومن جهة أخرى قامت إسرائيل بتشكيل إطار جديد أسمته " الماشاف " وهي هيئة التعاون الدولي، مهمتها التنسيق بين الإدارات الحكومية والوزارات وشركات القطاع العام والخاص الإسرائيلي بهدف اختراق القارة الإفريقية، ولم تكن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية بعيدة عن هذه الهيئة، فقد أنيطت بالموساد الإسرائيلي مهام أمنية تحت ستار التعاون، إذ تتشعب علاقات الموساد وهيئة التعاون مع كثير من المنظمات داخل وخارج إسرائيل، وقد قامت الهيئة بتأسيس المعهد الآفرو- الآسيوي، والمركز الدولي للتأهيل المعروف باسم "كرمل"، إضافة إلى أنها تصدر مجلة السلام بخمس لغات، تقوم إسرائيل بإرسال نسخ من المجلة إلى جميع الذين سبق لهم التخرج  من دورات أو دراسة أقامتها أو أشرفت عليها منطمة الماشاف.
وفيما يتعلق بالمعهد الأفرو آسيوي، فقد تم تأسيسه في العام 1960 من قبل نقابة العمال الإسرائيلية التي يطلق عليها " الهستدروت"، وكان الهدف من تأسيس المعهد هو استقبال دارسين من إفريقيا وآسيا لتأهليلهم  في القضايا الاقتصادية والتنموية والعمل النقابي، ويتم استقبال المتدربين من الدول التي أقام الهستدروت علاقات معها، وهذا أيضاً يتم بالتنسيق السري مع المخابرات الإسرائيلية التي تكون حاضرة في الوسط الذي يتدرب فيه الأفارقة والآسيويين، بصفة مدرسين أو مستشارين، وبدأ المعهد منذ بداية الستينيات من القرن الماضي في إقامة ورشات عمل  شارك فيها مئات من الأفارقة والآسيويين، ثم بدأ المعهد بتسيير دورات تدريبية متنقلة خارج إسرائيل، تجوب بعض الدول الإفريقية لإقامة دورات للطلبة الأفارقة.
وقد قامت هيئة التعاون الدولي الإسرائيلية والموساد الإسرائيلي بتأسيس جمعيات صداقة بين الدول الإفريقية إسرائيل، كذلك تم تشكيل أندية السلام في العديد من المدن الإفريقية، بهدف تلميع صورة إسرائيل وتسويقها عند الشعوب الإفريقية، وتقوم إسرائيل بتقديم الدعم المالي لهذه الجمعيات التي يديرها أصدقاء إسرائيل من الذين سبق ودرسوا فيها، تقوم هذه الأندية والجمعيات بتوفير مواد إعلامية من صحف ومجلات وكتب عن دولة إسرائيل، وتقوم بتنظيم المحاضرات ورشات العمل والمؤتمرات.
ومن خلال الدورات التدريبية التي تقيمها إسرائيل عبر منظمات وأطر وقنوات مختلفة ومتعددة وبمشاركة غير معلنة من الموساد، استطاعت إسرائيل عبر ذلك من التسلل رويداً رويداً إلى الدول الإفريقية التي كانت قد تحررت من الاستعمار حديثاً وتحتاج إلى مساعدة وتعاون في كافة المجالات خاصة الحيوية منها مثل الزراعة والتعليم والصحة، وهذا ما وجدته هذه الدول لدى إسرائيل التي استغلت حاجة الدول الإفريقية كي تجد لها مكان في القارة السمراء، مكان ما كان يمكن أن تكون فيه لولا الغياب العربي بشكل عام،  وخاصة الغياب المصري الذي كان اسمها يتردد على ألسن حركات التحرر الإفريقية.

بلغة الأرقام فإن القارة الإفريقية هي ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، تأتي في المرتبة الثانية بعد آسيا. تبلغ مساحتها 30.2 مليون كيلومتر مربع (11.7 مليون ميل مربع)، وتضم أربعة وخمسون دولة،  وتتضمن هذه المساحة الجزر المجاورة، وهي تغطي 6% من إجمالي مساحة سطح الأرض، وتشغل 20.4% من إجمالي مساحة اليابسة. ويبلغ عدد سكان أفريقيا مليار ومائتي مليون نسمة (إحصاء 2011) ، يعيشون في خمسة أقاليم، وتبلغ نسبتهم حوالي 14.8% من سكان العالم، وتمتلك القارة الإفريقية 12 في المائة من احتياطي النفط في العالم، و 10 في المائة من الغاز الطبيعي، وتمتلك 80 في المائة من البلاتين في العالم، وكذلك 40 في المائة من إنتاج الألماس، و25 في المائة من الذهب، و 27 في المائة من الكوبالت، و 9 في المائة من الحديد، وتمتلك حوالي 20 في المائة من المنغنيز والفوسفات واليورانيوم من الاحتياطي العالمي.
هذه الأرقام والمعطيات قد تفسر جانباً من أسباب التنافس بين القوى الإقليمية والقوى الكبرى للسيطرة على القارة السمراء طمعاً في خيراتها البكر، تنافس قد يتحول إلى صراع بين هذه القوى خاصة ان علمنا أن دولة مثل الصين تمتلك استثمارات في القارة الإفريقية بقيمة "250" مليار دولار، وتنوي الحكومة الصينية زيادة هذه الاستثمارات، مما يدفع بعلاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى التشنج والتوتر، لأن أمريكا تشعر بأن الاستثمارات الصينية في إفريقيا تهدد مصالحها، ثم هناك مصالح فرنسية ونفوذ قديم، وحتى تركيا دخلت على خط المنافسة في القارة السمراء ولديها استثمارات بقيمة تتجاوز ثلاثة مليارات دولار، وطبعا هناك أيضاً النشاط الاقتصادي الإيراني الذي يصدر النفط لإفريقيا ويطمع بالحصول على اليورانيوم من أجل برنامجه النووي، وبشكل عام كافة استثمارات إيران في إفريقيا مرتبطة بشكل أو آخر بالبرنامج النووي، لكن يبقى الطرف الأهم هو إسرائيل تلك الدولة الصغيرة التي قفزت من فوق رؤوس حوالي "400" مليون عربي لتصل إلى عمق القارة الإفريقية، وتستطيع أن تحقق مكاسب مهمة على الأصعدة الاقتصادية والسياسية.
بفضل جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد تمكنت إسرائيل من إنشاء عدة جسور تربطها مع العديد من الدول الإفريقية، وينشط الموساد تحت عناوين كثيرة أهمها قطاع الأعمال، حيث يستطيع رجل الأعمال أن يصل إلى حيث لايتمكن أن يصل الدبلوماسي أو العسكري، وكثيراً مايتم ذلك بالتنسيق والتعاون مع رجال أمنيين وقادة أجهزة استخبارات إفريقية من أصدقاء إسرائيل، وهذا ما يؤكده وجود ستة من قادة الموساد السابقين يعملون في إفريقيا، وهم "شبتاي شافيت" رئيس جهاز الموساد السابق الذي يعمل في القطاع الأمني في نيجيريا، وله شركة تعمل في مجال الزراعة في أنجولا، وكذلك "داني ياتوم" الرئيس السابق للموساد ويعمل في قطاع التسليح ويساهم في نشاط متعلق بالطاقة، و"رافي إيتان" كان ضابط كبير سابق في الموساد، وكان وزير الزراعة الإسرائيلي السابق، يدير شبكة من المؤسسات تعمل في المجال الأمني وفي الزراعة في أوغندا، أيضاً "حجاي هداس" مسؤول العمليات الخارجية السابق ويملك عدد من الشركات التجارية في أوغندا، وهو تاجر سلاح مشهور في إفريقيا ويعمل مستشار أمني للرئيس الأوغندي.
ونحن نتحدث عن دور الموساد الإسرائيلي في التنسيق مع الأجهزة الأمنية في العديد من الدول الإفريقية بهدف تسهيل التسلسل الإسرائيلي إلى كافة مفاصل الحياة في القارة السمراء، يجب أن نذكر أن هذا النشاط الذي يقوم به الموساد يتكامل معه نشاط آخر يقوم به أطباء وعلماء وباحثين ومدربين إسرائيليين، وحتى أعضاء في المافيا الإسرائيلية تجندهم الموساد للعمل معها، كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم جنود في خدمة دولتهم إسرائيل، واستطاعت هذه الدولة عبر خططها وأدواتها المتعددة من تحقيق العديد من المكاسب بالرغم من أن ليس لها وجود في كافة دول القارة الإفريقية، بينما العرب الذين يمتلكون علاقات مع كافة الدول الإفريقية،  وبينهم عشرة دول عربية من بين اثنتان وعشرون دولة عربية تقع في القارة الإفريقية لم يستطيعوا أن يطوروا علاقاتهم مع القارة الجارة ولا حتى أن يحافظوا على نفوذهم الذي كان قد تحقق خلال فترة ممتدة من الخمسينيات ولغاية تسعينيات القرن الماضي، بفضل جهود كبيرة دبلوماسية واقتصادية وسياسية وثقافية بذلتها سابقاً عدة دوائر عربية.


161
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


تجارة إسرائيل القذرة في إفريقيا
الماس وأسلحة ومستوطنات

تعتبر إسرائيل واحدة من أهم الدول التي تستورد الماس الخام  غير المصقول، ومن أبرز الدول أيضاً التي تصدر الماس المصقول، ويأتي معظم هذا الماس من دول إفريقية مثل جنوب إفريقيا، ليبيريا، الكونغو، ساحل العاج، وغيرها من الدول، وهذه الدول مرتبطة بشكل مباشر بقيام جماعات فيها  بارتكاب المجازر بحق المدنيين للحصول على الماس الذي تؤدي التجارة به إلى قتل عشرات الآلاف سنوياً في دول المصدر، وترتبط عمليات بيعه وتصديره  بصفقات كبيرة من الأسلحة، وصناعة الحروب الأهلية وتمويل المجموعات المتقاتلة، حتى أصبح يطلق على تجارة الماس في إفريقيا " التجارة القذرة " وسمي ماس الدم، لأنه من أجل  استخراجه وتسويقه تراق دماء آلاف من الأفارقة .
لقد كان اليهود من رواد صناعة الألماس ابتداء من العصور الوسطى، ففي الدول الأوروبية كان يحظر على اليهود العمل في مجالات عديدة، وكانت تجارة الذهب والألماس مستثناة من المنع، فتوجه للعمل بها أغلب اليهود في أوروبا، وتوسعت هذه التجارة كثيراً بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في مدينة بازل في سويسرا العام 1897 بهدف توفير مصدر مالي يساعد الحركة الصهيونية على تنفيذ مخططاتها، لذلك قام الملياردير اليهودي " إدموند روتشيلد " بإنشاء أول مصنع للألماس في مستوطنة " بتاح تيكفا " في فلسطين العام 1937، أي قبل قيام دولة إسرائيل، اشتغل في هذا المصنع خبراء ألماس يهود قدموا من بلجيكا وهولاندا للاستيطان في فلسطين.
وبعد ازدياد أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، تم تأسيس مصانع أخرى للألماس في تل أبيب، ثم تم توحيد هذه المصانع لتتحول إلى " رابطة صناعة الألماس في إسرائيل "، وازدهر عمل الرابطة بعد أن احتلت ألمانيا النازية عدد من المدن الأوروبية التي كانت تمثل مراكز لصناعة وتجارة الألماس، فتوجه جزء كبير من الألماس وتجارته إلى الرابطة، وبعد قيام دولة إسرائيل ازدهرت هذه الصناعة وانتعشت، وتم تطوير الأجهزة والآلات المستعملة في هذه الصناعة، ثم تم تحويل الرابطة لتصبح بورصة الألماس في إسرائيل، حتى وصل الأمر إلى أن منصب رئيس الاتحاد العالمي لصناعة الألماس قد شغلته عدة شخصيات إسرائيلية.
يأتي الألماس إلى إسرائيل من جهات متعددة أهمها بعض الدول الإفريقية وروسيا وكندا، وكذلك من بعض الأماكن بطرق غير مشروعة عن طريق قيام إسرائيل بتزويد بعض دول القارة الإفريقية بالسلاح والعتاد الحربي مقابل حصولها على الألماس الخام.
وتمتلك إسرائيل بورصة للألماس في مدينة "رامات جان" الاسرائيلية قرب تل أبيب، وإسرائيل تستحوذ على مكانة هامة في صناعة وصقل الألماس وغيره من الأحجار النفيسة، وذلك يعود إلى أن صناعة الألماس الإسرائيلية تستخدم أجهزة متطورة جداً، تدخل فيها تقنيات حديثة، والقطع يتم بأشعة الليزر للأحجار وتلميعها آلياً، كما يوجد في إسرائيل مندوبين يمثلون كبرى الشركات العالمية التي تعمل في مجال الألماس، لذلك فإن صناعة الألماس وتصديره من أهم الصناعات الإسرائيلية، فقد وصل عائد هذه التجارة في العام 2011 إلى حوالي 30 في المائة من إجمالي الدخل القومي، وفي العام 2014 بلغ حجم تجارة الألماس الخام والمصقول في إسرائيل 9,2 مليار دولار، وتساهم هذه الصناعة سنوياً بمبلغ مليار دولار في ميزانية وزارة الدفاع الإسرائيلية، وابتداء من العام 2012 تجري إسرائيل اختبارات جيولوجية من أجل استخراج الألماس من مناطق بالقرب من مدينة حيفا، وبحسب البيانات التي يصدرها مجلس الألماس العالمي فإن إسرائيل تصدر سنوياً ما قيمته 50 مليار دولار.
ويذهب قسم من الماس الذي تستورده إسرائيل إلى المؤسسة العسكرية من أجل التصنيع الحربي، ويعاد تصدير القسم الآخر بعد أن يجري صقله وتلميعه في مراكز خاصة لتجارة هذا الحجر الذي يعنبر من السلع الأغلى في العالم .
ويعود تميز إسرائيل في هذه التجارة إلى عوامل عديدة أهمها علاقتها مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وقدم هذه الصناعة وتوارثها بشكل تقليدي لدي الجالية اليهودية في إفريقيا، وتجاهل إسرائيل للقوانين الدولية المتعلقة بتجارة السلاح وتصديره، وهو الأمر الذي فعلته إسرائيل مع عدة دول عنصرية وفاشية في إفريقيا كانت تنهشها النزاعات والحروب الأهلية والإثنية .
الاتهام واضح ويشير إلى أن إسرائيل تقوم بسرقة الماس الإفريقي مقابل توريد الأسلحة والعتاد الحربي للأفارقة كي تغذي الصراعات والحروب الداخلية والعرقية والأثنية والمناطقية في القارة الإفريقية، وبالرغم من الإدانات التي تصدرها كثير من الهيئات والمنظمات الدولية وتوجه أساساً إلى كبار التجار الإسرائيليين، فإنه ولغاية الآن لم يقدم أي من تجار الدم كما تسميهم هذه المنظمات غلى أية محاكمة.
الغالبية العظمى من هؤلاء التجار اليهود هم من جنرالات الجيش الإسرائيلي، وضباط من جهاز المخابرات الموساد السابقين، وهم تجار سلاح يقومون بتمويل بناء عشرات المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، ويشكل هؤلاء التجار المصدر الرئيسي للسلاح بالنسبة للعديد من الدول الإفريقية، وكذلك الأمر بالنسبة للكثير من المجموعات الإفريقية المسلحة.
وعادة ما تفضل هذه الدول وتلك الجماعات السلاح الإسرائيلي على سواه نظراً لكفاءته، وأيضاً نظراً لمرونة إسرائيل في تعاملها المالي مع المشترين، حيث لا تشترط إسرائيل الحصول على أموال مقابل السلاح، لكنها تقبل بمبدأ المقايضة أياً كانت، وعادة تمنح الشركات الإسرائيلية حقوقاً للتنقيب عن الثروات الباطنية والماد الخام في هذه الدول الإفريقية.
ولأن الأسلحة التي تحصل عليها الدول الإفريقية مقابل سرقة الماس منها تستخدم في الحروب الأهلية التي يذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الناس خاصة في سيراليون والكونغو وأنغولا، فقد أطلقت الأمم المتحدة على التجارة الصهيونية للماس "تجارة الماس الدموي"، وقد اتهمت إسرائيل في العام 2009 رسمياً من قبل لجنة خبراء في الأمم المتحدة، بالتورط في تصدير الماس بطريقة غير قانونية من إفريقيا، واتهم التقرير التجار الإسرائيليين بعلاقة مباشرة بتجارة الماس الدموي، خاصة في ساح العاج وسيراليون، وبالرغم من أن مجلس الأمن الدولي قد أصدر عدة قرارات في نهاية التسعينيات من القرن العشرين، تمنع وتقيّد استيراد الماس الخام من مناطق النزاعات في القارة الإفريقية، لمنع استخدام العائدات المالية في إطالة أمد الصراعات، إلا أن العمليات التي تقوم بها الصهيونية وإسرائيل لسرقة الماس الإفريقي مازالت متواصلة.
وليس أدل على خطورة الوضع من الفترة الممتدة من العام 1997 إلى غاية العام 2003، هذه الفترة التي شهدت تصاعداً خطيراً في مؤشر الحروب الأهلية في القارة الإفريقية، كان هدف هذه الحروب هو السيطرة على مناجم الماس، وكان من سمات هذه الحروب أن الأطراف المتحاربة قامت بتجنيد الأطفال وزجهم في الصراعات، وهذا ما كان ليتم لولا تواطئ تجار السلاح الإسرائيليين الذين زودوا الأطراف المتحاربة بالسلاح والعتاد المختلف عبر سنوات الحروب، وقد شهدت هذه الحروب تورط عدد من الرؤساء الأفارقة فيها، مثل رئيس ليبيريا السابق " تشارلز تايلور " الذي أدانته محكمة دولية بتهمة تجارة الماس الدموي في العام 2004.
نتيجة لما تقدم فقد أصبحت إسرائيل مركزاً كبيراً لتجارة الماس، وقد أعلن موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية على الإنترنت، أن مجموع صادرات إسرائيل من الماس قد وصل في العام 2006 إلى ما قيمته " 13 " مليار دولار، احتلت الولايات المتحدة الأمريكية مركز الصدارة في قائمة الدول المستوردة بما يشكل "63 " في المائة من قيمة الصادرات الإسرائيلية، تليها هونغ كونغ " 14 " في المائة في سويسرا " 11 " في المائة، وباتت إسرائيل تنتج معظم الماس المصقول في العالم بنسبة تصل إلى 40 في المائة، ومازالت إسرائيل تسعى للاستيلاء على الماس الخام في عدد من الدول الإفريقية، فقد وقعت مع ليبيريا اتفاقية في العام 2007 تقضي بقيام إسرائيل إرسال خبراء لمساعدة ليبيريا في البحث عن الماس، إضافة إلى تورطها في تجارة الماس الدموي في كل من ساحل العاج وغينيا زائير وسيراليون وأفريقيا الوسطى.
 اللافت في هذا الموضوع هو العلاقة ما بين تجارة الماس القذرة وشركات السلاح الإسرائيلية من جهة، وعمليات تمويل المشاريع الاستيطانية في مدينة القدس وفي بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، يدخل في هذه العلاقة الشائكة ضباط من المخابرات الإسرائيلية – الموساد – وأبرز مثال على ذلك الملياردير الإسرائيلي " ليف ليفايف " يهودي من أصل روسي، كان ضابطاً في الجيش الإسرائيلي يعمل في إفريقيا، وهو حالياً واحد من أهم أقطاب صناعة وتجارة الماس في العالم، وكذلك هو ممول مهم للمستوطنات الإسرائيلية، ويدير " صندوق استرداد الأرض " وهي هيئة يهودية تجمع متطرفون يهود هدفهم سرقة الأراضي الفلسطينية بوسائل عنيفة.
 وحسب بيانات دائرة الماس والأحجار الكريمة والمجوهرات في وزارة الاقتصاد والصناعة الاسرائيلية للعام 2016، فإن زيادة صادرات الماس الخام بنسبة 23.1% وزيادة الواردات بنسبة 16.7، وقد بلغ حجم تصدير الماس الخام خلال العام 2016، 2,702 مليار دولار، مقابل 2,195 مليار دولار خلال العام، ما يعني زيادة بنسبة 23.1%.
كما بلغ حجم تصدير الماس المصقول خلال العام 2016، 4,675 مليار دولار، مقابل 4,993 مليار دولار خلال العام 2015، ما يعني انخفاض بنسبة 6.4%. أمّا استيراد الماس الخام خلال العام 2016، فقد بلغ 3,246 مليار دولار، مقابل 2,781 مليار دولار خلال العام 2015، أي تمّ تسجيل زيادة بنسبة 16.7%.
وبلغ حجم استيراد الماس المصقول خلال العام 2016، 3,282 مليار دولار، مقابل ما يقارب 3,482 مليار دولار خلال العام 2015، أي كان هنالك انخفاض بنسبة 5.7%.
ولأن أجزاء من الأرباح التي تحققها إسرائيل من تجارة الماس تذهب إلى المؤسسة العسكرية لدعمها " حوالي مليار دولار سنوياً " وجزء منها أيضاً يذهب إلى المستوطنات لتعزيزها، فإن إسرائيل ماضية في الاستحواذ على هذه التجارة القذرة في إفريقيا لما تحققه من أرباح ضخمة .
 

162

حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


فلسطين والعرب.. إشكالية العلاقة

قد مللنا التضامن مع قضيتكم "النجسة" !! يكفي ما قدمناه لكم على حساب تنميتنا !!
هذا تماماً ما كتبه مثقف عربي ينتمي إلى دولة عربية شقيقة، لا ينفك قادتها عن تذكيرنا بمناسبة وغير مناسبة بما قدموه للقضية الفلسطينية من تضحيات أعاقت مشاريع التنمية لديهم، وذلك رداً على المناشدات المتكررة بضرورة التحرك لنجدة المسجد الأقصى والتضامن مع القدس وأهلها المرابطين.
هل كفت فلسطين عن كونها قضية العرب؟ هل أخرج العرب فلسطين من حساباتهم؟
من يتذكر منكم القضية الفلسطينية؟
هل حقاً وصل بعض العرب إلى هذا المستوى من الانحدار والانحطاط الفكري والأخلاقي على مستوى القيم والمثل؟
منذ الخيانة الأولى، وصفقة الأسلحة الفاسدة، يقوم معظم العرب قادة وشعوب بممارسة هوايتهم اليومية في التشدق أن فلسطين والقضية الفلسطينية هي قضيتهم الأولى، وأنها مسؤولية وطنية قبل أن تكون قومية وإسلامية، ولا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع تصريحاً أو خطاباً لقائد عربي هنا، أو زعيم سياسي هناك، يؤكدون خلاله على عدالة القضية الفلسطينية، والمظلومية التي وقعت على الشعب الفلسطيني المضطهد، وأن إسرائيل التي تحاصر المسجد الأقصى، وتعمل على تهويد مدينة القدس هي العدو الأول للعرب الذين لا يدخرون جهداً ولا مالاً لنصرة ودعم هذه القضية.
لكننا جميعاً نعلم أن هذه الشعارات يتم استخدامها من قبل معظم الأنظمة العربية لدغدغة مشاعر شعوبها، وتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية من قبل بعض الأحزاب العربية، بل حتى لجني ثروات من قبل بعض تجار الفن الذين استخدموا رمزية القضية الفلسطينية لتسويق أعمالهم وانتشارها.
بالرغم من أن قتل الشعب الفلسطيني وانتهاك مقدساته لم يتوقف يوماً منذ ما قبل العام 1948، وهو العام الذي شهد قيام دولة إسرائيل، فوق الأرض الفلسطينية، وعلى حساب الشعب الفلسطيني، إلا أننا لم نرى تحركاً عربياً جاداً، إذ أن القادة العرب يكتفون فقط بالشجب والإدانة، والشعوب تشتكي القهر والعجز بسبب أنظمتها السياسية، وأنهم لا يمتلكون شيئاً للقضية الفلسطينية غير الدعاء.
تستمر فلسطين بطلب الإغاثة ولا تستغاث، ويستمر الفلسطيني بنضاله ومقاومته وعناده دون مؤازرة، ويستمر تدنيس الأقصى بأحذية جنود أقذر جيش على البسيطة، وتظل القدس تصرخ وتنتظر نجدة الأشقاء العرب دون جدوى، ورغم أن حديثهم لا يتوقف عن مقاومة إسرائيل ودعم الحقوق الفلسطينية، إلا أن بعض العرب يكتفي بترديد الأكاذيب، والبعض الآخر يوجه اتهامات الإرهاب للشرفاء الفلسطينيين ويقوم باعتقالهم وزجهم في المعتقلات، وبعض البعض بات يرى أن واجبه الأخلاقي هو الدفاع عن المدنيين الإسرائيليين من الإرهاب الفلسطيني!!
هو أمر جداً مؤسف هذا التهميش المتعمد للقضية الفلسطينية من قبل غالبية الأنظمة العربية، بذرائع وحجج واهية، أهمها الانشغال بالأوضاع الداخلية لهذه الدول التي لم تستطيع أن تحقق أية مشاريع تنموية لشعوبها، ولا هي تمكنت في الوقت ذاته من تقديم العون والدعم للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
كما يجري تصوير الأمر من قبل البعض وكأن هناك قطعاً وبتراً بين القضية الفلسطينية ومحيطها العربي وعمقها الإقليمي، بينما الحقيقة أنه لا يمكن عزل مجريات الصراع العربي الإسرائيلي عن الأوضاع الداخلية لأية دولة عربية، إذ أن جميع الأقطار العربية هي نقاط مصالح  واستهداف من قبل إسرائيل.
ثم أن غالبية العائلات الفلسطينية لها امتدادات في سورية والأردن ولبنان ومصر، بل أن هناك عائلات كاملة وقرى فلسطينية تعود أصول سكانها إلى الشمال العربي الإفريقي.
فلسطين كانت في الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر ميلادي، فلسطين كانت في معظم الصراعات التي شهدتها المنطقة خلال الخمسمائة عام الأخيرة، فلسطين كانت في وعد بلفور، وكانت في اتفاقية سايكس بيكو، وفلسطين كانت محور التقاطعات والتجاذبات والصراعات خلال المائة عام المنصرمة، وسوف تظل فلسطين في قلب الأحداث الجارية والتي سوف تحصل مستقبلاً، ولا يمكن أن تنعم هذه المنطقة بالاستقرار دون حل عادل للقضية الفلسطينية يعيد لشعبها حقوقه الوطنية المسلوبة.
بعض الأنظمة العربية رفع سابقاً شعار "نحن أولاً" لتبرير عجزه والابتعاد عن قضية الصراع العربي مع إسرائيل، ولكي يتخلص من عبء الواجب القومي في تحرير الأراضي المحتلة، والآن بتنا نسمع شعارات خطيرة مثل "الطائفة أولاً" و "اذهب أنت وربك فقاتلا" و "سلام الشجعان" الذي يفرط بثمانين بالمائة من فلسطين، كما انشغل العرب عن فلسطين بخلافاتهم فيما بينهم وزج الشعوب العربية في صراعات مفتعلة، لا يستفيد منها أحد سوى إسرائيل التي تستغل هذا الواقع العربي والفلسطيني المأزوم بالتشرذم والتفرقة والفوضى في تحقيق أهدافها الاستراتيجية على حساب المصالح العربية.
أيها العرب، إن الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في 14/5/1948 سبقه تشكيل الحركة الصهيونية العالمية بأكثر من نصف قرن، أمضت هذه الحركة أكثر من ثلاثة عقود في العمل والتخطيط وتنظيم هجرة اليهود إلى الأراضي الفلسطينية، وحصلت من بريطانيا على وعد بلفور، واستثمرت الحركة نتائج حربين عالميين لمصلحة تحقيق هدفها في إقامة إسرائيل.
فأين نحن من هذا التخطيط والتنظيم من قبل عدو يمتلك عقلية وضع خطط لمائة عام مقبلة، بينما العرب لا يمتلكون المقدرة على التخطيط لمائة يوم!
لا يستطيع العرب والفلسطينيين مواجهة القوة الإسرائيلية "حق القوة " بأسلوب ناعم يعتمد على "قوة الحق" وذلك فقط  عبر الاكتفاء بإطلاق المبادرات السياسية والدخول في مفاوضات والمراهنة على المجتمع الدولي، فالتاريخ يؤكد أن لا وجود لحقوق دون قوة تدعمها، وأن الجنوح للسلام دون قوة يؤدي إلى الانتحار، فقد كانت نتيجة هذه السياسة أن انتقل العرب من اللاءات الثلاثة المعروفة، لا صلح، لا تفاوض، لا استسلام، قبل انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في العام 1967، إلى التسابق للاعتراف والتفاوض والصلح وعقد الاتفاقيات مع إسرائيل، ووصل العجز الرسمي العربي والفلسطيني إلى أقصاه حيث غابت استراتيجية المواجهة مع إسرائيل، وغابت استراتيجيات السلام، فلا يمتلك العرب رؤية واحدة شاملة ولا موقف موحد بشأن القضية الفلسطينية، والأسوأ أننا نشهد انحداراً وتراجعاً مقيتاً مرعباً مخجلاً في معظم السياسات العربية الرسمية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وصل إلى حد تآمر بعض العرب على الفلسطينيين وعلى قضيتهم من خلال التنسيق الأمني المكشوف والعلني مع إسرائيل ضد المصالح الفلسطينية.
لقد تم تقزيم المسألة الوطنية الفلسطينية على أنها قضية تخص فقط الفلسطينيين، ثم جرى تقزيمها مرة أخرى لتظهر على أنها قضية فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم يجري مسخ المشروع الوطني الفلسطيني برمته على أنه فتح وحماس وعباس وهنية، وكأن قضيتنا أصبحت صراع سلطة بين تنظيمين.
بينما تستمر إسرائيل كل يوم بإصدار القوانين العنصرية التي تهدف إلى ابتلاع ما تبقي من فلسطين وتشريد الفلسطينيين، والتأكيد على أنها لم تعد عربية، وما نخشاه هو أن تكون  فلسطين أندلس جديدة نفقدها إلى الأبد .
لكن هل الراهن العربي في الواقع قابل لنصرة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية ؟
الإجابة قطعاً لا، فالجسد العربي في حالة من الموت السريري، قلب العرب مريض ومرهق، ورأسها مصاب بالهرم، وأطرافها مشلولة
إن قضية العرب الأولى- فلسطين- تحتاج إلى أمة حرة قادرة على التعبير وتقديم الدعم، تحتاج إلى أمة لا تلهث غالبيتها خلف رغيف الخبز، أمة قادرة أن تختار مستقبلها، أمة لا يقرر مصيرها حزب واحد ولا عشيرة واحدة ولا زعيم واحد.
تحرير فلسطين يحتاج جسد عربي معافى ومتحرر من الخوف والقمع والفساد والمرض والفقر والأمية ومن المحسوبيات والرشوة والشللية، جسد يتمتع بحرية الحركة والانتقال، يؤمن بالديمقراطية إيمان حقيقي، ويمارس تداول السلطة، ولا يعتقل معارضيه.
لقد جعلت معظم الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية مطية لتحقيق مآربها الخاصة، وجرى استخدام القضية في الخطابات الديماغوجية التي تتشدق بها بعض النظم العربية بهدف استمالة الشعوب العربية والإسلامية إلى جانبها، ومن الدول العربية من يحارب دولاً عربية أخرى بسيف القضية الفلسطينية التي أصبحت مادة للمزايدات بين أطراف عربية كثيرة.
من العار أن يجري استغلال القضية الفلسطينية التي يعتبرها العرب قضيتهم المركزية والأولى، لتحقيق طموحات وأهداف ومآرب وأطماع خاصة لهذا النظام أو ذاك على حساب الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية وعلاقاته العربية والدولية.
إن أية قراءة سريعة للواقع العربي الراهن يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك زيف الشعارات التي رفعتها بعض الأنظمة العربية والتي استمرت لعقود وهي تعلن أن تحرير فلسطين سوف يبدأ أو ينطلق أو يمر عبر هذه العاصمة العربية أو تلك، بينما تأكد أن تحرير القدس وتحرير فلسطين سوف يكون الخطوة الأولى الضرورية في طريق تحرير بعض العواصم العربية من استبداد أنظمتها ومن سطوة الاستعمار الغربي، وتكشف الأحداث يوماً بعد يوم أن المشروع الصهيوني فشل في احتلال فلسطين، بينما نجح في احتلال بعض الدول العربية الأخرى والسيطرة عليها، وأن الشعب الفلسطيني هو الشعب الذي يتمتع بالحرية الوجدانية النضالية، وأن غالبية الشعوب العربية أسيرة ومعتقلة في سجون تسمى أوطاناً، لذلك فإن هذه العلاقة بين العرب والفلسطينيين باتت تستوجب التصويب، فمن الظلم أن نطلب من الشعوب العربية  التضامن مع القضية الفلسطينية، فلا يمكن لمريض أن يداوي سليماً معافاً ولا يمكن لسجين أن يناصر حراً.












163
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


الأقليات في الوطن العربي وسؤال الهوية
قراءة على سبيل التمهيد

إن قضية الأقليات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية بشكل عام تتسم بدرجة عالية من
 الحساسية، وينظر لها رغم أهميتها على أنها مسألة خطيرة، لذلك فإن مقاربة هذا الموضوع الشائك يحتاج الكثير من الدقة والروية والموضوعية والانضباط المنهجي، خاصة في ظل المرحلة الحالية التي تشهد عولمة اقتصادية وتوحش الرأسمالية الصناعية التي حولت أربعة أخماس سكان الكون إلى مستهلكين يلهثون خلف توفير مقومات الحياة التي حددت أنماطها ديكتاتورية الاسواق العالمية، بذريعة تحقيق الديمقراطية في المجتمعات الناشئة، وتحت شعارات حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص .
إن العناصر المتشابكة والتعقيدات التاريخية في مسألة الأقليات تشكل واحدة من أهم الصعوبات أمام أي باحث يتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، ويضعه أمام تحديات وخيارات دقيقة، فإما أن تكون مع الليبرالية الجديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص، من خلال تبني براغماتية منفعية مقترنة مع دوغمائية لا تريد أن ترى إلا جانب واحد من الموضوع، وإما أن تكون في مواجهة التحديات ، وأن تكون ضد إعادة ترتيب المجتمعات البشرية بما يتوافق مع المفاهيم الجديدة التي ينتجها الاقتصاد العابر للقارات، وبذلك قد تجد نفسك متهماً بتجاهل حقوق الأقليات والتفريط بها، أو التوجس منها في الحد الأدنى.
يشهد العالم خلال العقود الأخيرة عولمة اقتصادية- تؤسس لعولمة ثقافية واجتماعية- تعتمد على مبدأ توحيد الاقتصاديات الوطنية ودمجها في الاقتصاد العالمي الذي تسيطر عليه الشركات العملاقة، المتعددة الجنسيات- عابرة للقارات- التي تسعى خلف تكديس الثروات من خلال اعتماد سياسات اقتصادية تفترس الأضعف، وأهمها الشركات الأمريكية المنفلتة من عقالها.
وتستخدم هذه الاقتصاديات الثورة الإعلامية والتقنية والتقدم الهائل الذي حصل في قطاع الاتصالات وثورة المعلومات، وتوظفها من أجل تحقيق أهداف الاحتكارات الكبرى في تفكيك وتفتيت البنى الوطنية الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتمزيق روابط الدولة الوطنية، وتقويض ركائز الهوية القومية، من خلال أساليب متعددة لعل أهمها هو محاولة إحياء الهويات ما قبل الوطنية بهدف جعلها بديلاً عن علاقات المواطنة التي هي أساس قيام الدولة الحديثة التي حلت قضية الأقليات حلاً ديمقراطياً.
ويمكن تصنيف المجتمعات البشرية  إلى ثلاثة نماذج من حيث التنوع الديني والمذهبي والقومي والعرقي واللغوي والثقافي، أولاً هي المجتمعات التي تحتوي فسيفساء ومجموعات وكيانات غير قابلة للاندماج مع بعضها البعض، وثانياً المجتمعات التي تضم مجموعات نقية من حيث العرق أو القومية أو الدين، وهي مجتمعات صافية لا وجود للأقليات فيها، وبين هذان الحدان تقع المنطقة التي تضم المجتمعات القائمة على التنوع والتعدد العرقي والديني والمذهبي وهي مجتمعات قابلة للاندماج فيما بين مكوناتها.
الدول العربية باستثناء لبنان، يقع ضمن التصنيف الثالث، فالمجتمعات العربية تتسم بالتنوع الديني والمذهبي والعرقي والقومي واللغوي والثقافي، ورغم هذا التنوع والتعدد إلا أنها مجتمعات قابلة في ذات الوقت للانصهار والاندماج فيما بينها، تظل الحالة اللبنانية  عربياً تحتاج إلى البحث عن حلول ومخرجات علمانية ديمقراطية جذرية، كي لا يظل الوضع في لبنان كالقنبلة الموقوتة تنتظر إشعال فتيلها.
لقد قطعت المجتمعات العربية خطوات مهمة في طريق الاندماج الاجتماعي والوطني لبناء دولة المواطنة الحديثة، وهذه المجتمعات كانت قد صدت كافة محاولات الاستعمار المباشر في تقسيمها إلى دويلات متناحرة، وظلت مع مرور الوقت عصية على التفتيت وحافظت على وحدتها الوطنية.
إن قيام الفكر القومي التقليدي والقوميين الجدد بتجاهل موضوع الأقليات، من خلال الهروب إلى الأمام وعجزه عن ملامسة ملامح الإشكالية، واتهام الخارج بأنه من يسبب الاضطرابات والأزمات الداخلية في بعض الدول العربية، متناسياً أن وجود الأقليات في هذه الدول أقدم من مرحلة الاستعمار، ويغيب عن هذه الأنظمة أن عدم وجود رؤية موضوعية للتعامل مع الأقليات ومع خصوصياتها هو ما يجعل من هذا الموضوع مشكلة، وأن المقاربات غير الديمقراطية هو ما يجعل من مسألة الأقليات أزمة داخلية، وهو ما يوفر عوامل انفجارها، ويمهد الطريق للتدخلات الخارجية.
نحن أمام قضية تعود جذورها التاريخية إلى مرحلة ما قبل الفتوحات الإسلامية، إن ظهور الإسلام وانتشاره انطلاقاً من شبه الجزيرة العربية لم يلغي الديانات والمذاهب التوحيدية الأخرى، بل جعل أتباع هذه الديانات في ذمة المسلمين، ذلك لأن الدين الإسلامي هو دين يقوم على التوحيد والوحدة والتعدد.
إلا أن الانشقاق الذي حصل بين صفوف المسلمين على أثر معركة "صفين" أو ما يعرف بالفتنة الكبرى في العام 37 هجرية، كان من نتيجة هذه الحرب ظهور مذاهب إسلامية جديدة تعمقت الاختلافات فيما بينها مع الوقت حتى وصلت لقضايا العقيدة ذاتها.
ثم دخل الإسلام أمم وأقوام شتى، تعرّب بعضها واحتفظ بعضها الآخر بهويته الاثنية أو اللغوية الثقافية، وضمت الدولة ثم الامبراطورية الإسلامية مللاً وديانات ومذاهب وقوميات وأعراق مختلفة ومتعددة، دخلت جميعها في النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي الإسلامي بشكل كلي أو جزئي، واستمرت حالة التعايش بين هذه المكونات عقوداً طويلة، ومع قيام دولة الخلافة العثمانية ظهرت الدولة المركزية العسكرية وبدأت قضية الاقليات بالظهور وأخذ بعض أركان دولة الخلافة في تسييس هذا الموضوع الذي تعمق أكثر مع انهيار الخلافة العثمانية وظهور النظام الرأسمالي الذي ابتدع نظام حماية الأقليات، وجاء الاستعمار الكولونيالي لتنتشر سياسة  فرق تسد.
إن مرحلة الاستعمار في العالم العربي شهدت تأثر المنطقة ببعض إنجازات الثورة البرجوازية الديمقراطية الاوروبية، ومنها قضايا حقوق الإنسان التي تم سنها في الدساتير الأوروبية، وتعامل الاستعمار مع الأقليات بصورة تظهره على أنه حامي مصالحهم و وجودهم، وفي بعض الدول حاول المستعمر دمجهم قومياً عبر تشريعات، لكن الأكثرية الإسلامية رفضت وتصدت لهذه المحاولات بسبب رفضها أساساً الاستعمار على أراضيها وبالتالي رفضها لأي سياسات يحاول فرضها عليهم، ثم أن الأكثرية المسلمة رفضت أيضاً محاولات الاستعمار في تغريب المسيحيين المشرقيين، هذا الأمر خلق نوعاً من التصادم  بين المجتمعات العربية المسلمة التقليدية، وبين الأفكار الغربية الديمقراطية، وهو ما أدى إلى تعقيد مسألة القوميات، ووضع العراقيل أمام الحلول الديمقراطية لاندماج هذه الأقليات بمجتمعاتها، وهكذا ظلت الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال السياسي دولاً تضم مجتمعات تعاني من أزمات معلقة مربكة وملفات مفتوحة لا تتوفر ظروف معالجتها وإغلاقها، وأهمها قضية الأقليات، وهكذا وجدت هذه المجتمعات أنها غير قادرة على العودة إلى نظام الذمة القديم في عهد الدولة الإسلامية، ولا هي قادرة على القيام بثورة ديمقراطية تؤسس لمعالجة جذرية سلمية وعصرية وديمقراطية لقضية الأقليات، وهذا واحد من أهم الأسباب التي جعلت من هذه الإشكالية في العالم العربي أزمة طائفية طاحنة تلخص أزمة الأمة، وتحتوي فتيلاً قد يشتعل في أية لحظة ويحرق اليابس وما بقي من الأخضر في عموم المنطقة .
لكن ما الذي جعل من موضوع الأقليات في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتضخم ويتخذ هذا القدر من الحدة القابلة للتفجر؟
بظننا أن الحقبة التي تم فيها اكتشاف البترول شكلت بداية ما أسميه سلسلة من الانتكاسات تعرضت لها عموم المنطقة حيث أعقبتها استهدافات متتالية لم تتوقف لغاية الآن من قبل القوى الاستعمارية العظمى هدفها السيطرة على ثروات المنطقة ونهبها وكذلك السيطرة على عقد المواصلات والمعابر المائية التي تضمن للدول الغربية استمرار تدفق النفط، وصول بضائعها إلى الأسواق المستهدفة.
فظهرت شعارات "حماية الأقليات" و"حقوق الأقليات" وهي شعارات تعني أن هذه الأقليات مهددة من "الأكثرية"، ويصار إلى الإشارة للأقليات بالاسم الواضح من حيث العرق والدين والمذهب واللغة والثقافة والتاريخ، ويشار أنه في المقابل توجد أكثرية كتلة واحدة كبيرة ومتجانسة تهدد الأقليات الصغيرة والضعيفة.
لكن في واقع الأمر ليس هناك أكثرية واحدة في العالم العربي، ولا يوجد اقليات ثابتة من حيث التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي، ولا يمكن تصوير الأمر على أنه لدينا اقلية تواجه أكثرية ثابتة.
إن الواقع في المنطقة يشير إلى وجود أكثريات واقليات متنوعة بتنوع المعايير والمقاييس التي يعتمدها طرف من الأطراف للتمييز فيما بين هذا التنوع، فإذا كان معيار التمييز اثني قومي كانت الأكثرية عربية والأقليات أمازيغية، وكردية وأرمينية وآشورية و سريانية وتركمانية وشركسية وشيشانية.
وإذا كان المعيار دينياً فإن الأكثرية مسلمة، والاقليات مسيحية وايزيدية والصابئة المندانيون واليهود.
أما إن كان المعيار مذهبياً فالأكثرية سنية، والأقليات درزية وعلوية وشيعية واسماعيلية.
في الوطن العربي تعدد وتنوع واختلاف وتعارض، في الوطن العربي جماعات قومية ولغوية ودينية وثقافية ومذهبية وعرقية واثنية وطوائف وطرق صوفية يوجد مسلمين ومسيحيين ويهود ويزيديين وغيرهم، لكن المهم والأهم الإيمان أنه لا وجود لتعدد وتنوع من غير وحدة، ولا وجود لاختلاف وتعارض من غير تماثل وتشابه، وهذه الرؤية تجاهلها المستشرقون وتجاهلها الغرب ويتم تجاهلها من قبل المستغربين الجدد الذين شرعوا في التقوقع داخل مجتمعاتهم وقاموا بهدم الجسور التي تربطهم مع الشرائح الاجتماعية الأخرى" الأكثرية" بدلاً من تعزيز وتقوية قنوات التواصل، وبدأوا بالتحريض ضد ما يعتبرونه الأكثرية لإثارة الفتنة بين مكونات هذه المجتمعات بهدف تمزيق أواصر ترابطها كخطوة نحو المطالبة بالانفصال.
إن حقوق الإنسان بظننا لا تستقيم دون احترام قيم الوحدة والتماثل، ولا يمكن أن تكون مفاهيم حقوق الإنسان قضايا انتقائية على الطريقة الأمريكية، لأن البشر مختلفون منذ الأزل وسوف يظلون كذلك، لكن تجمعهم الإنسانية، فمن يقول أن الأمازيغ في دول الشمال الإفريقي ليسوا فقط مختلين عن العرب، بل مختلفين حتى فيما بينهم أيضاً؟
ومن يقول أن العرب مختلفين فقط عن الأكراد على سبيل المثال، بل هم أنفسهم مختلفين كعرب فيما بينهم؟
وكذلك حال المسيحي واليهودي والآشوري والتركماني والأرمني والشيعي والعلوي، جميعهم مختلفون عن الآخرين لكنهم أيضاً مختلفين فيما بينهم بنواحي عديدة.
كل هذه الاختلافات بين ما يسمى الأكثرية والأقلية، وبين مكوناتهما هو اختلاف طبيعي وموضوعي وإنساني، لكنه يفترض المساواة أخلاقياً وقانونياً، فلولا هذه الاختلافات لما كانت هناك حاجة إلى المساواة، فالاختلاف يستدعي ويتطلب مساواة سياسية واجتماعية وحقوقية أمام سلطة القانون في دولة منية حديثة، دولة المواطنة التي ترعى جميع مكوناتها دون تمييز.
إن المساواة البشرية في الحقوق والواجبات في هذه المجتمعات لا تعني باي حال إلغاء الفروق بين مكونات المجتمع، لأن إلغاء الفروق يؤدي إلى العدم والقفز في الهواء، فالمساواة الوطنية أمام القانون هو مفهوم قائم على مبدأ تساوي جميع أنواع إطلاقاً، والعلاقة بين المساواة والاختلاف هي نفسها العلاقة بين الذات والوجود، ومن هنا فإن قضايا حقوق الإنسان برمتها يمكن مقاربتها ضمن سياق هذه المفاهيم الديمقراطية، وما حقوق الأقليات سوى غصن من الأغصان.
إن الاختلاف في الوطن العربي كما بقية العالم هو واقع موضوعي، والعبرة تكمن في إدراك الأقليات لاختلافهم بشكل علمي وحضاري وديمقراطي ضمن إطار دولة المواطنة، باعتبارهم مواطنين على ذات الدرجة من المساواة في الحقوق والواجبات مع الأكثرية، وليس باعتبارهم أقلية عرقية أو دينية،  ودون إذكاء الروح القومية والعصبية لديها، وإدراك الجماعات الأخرى لهذا الاختلاف واحترامه، والعمل سوياً من أجل تعزيز التلاحم الوطني الداخلي فيما بينهم.
إن حرمان الأقليات من حقوقها من قبل الأكثرية من شأنه أن يؤدي إلى عزلة هذه الجماعات عن المجتمع، ويولد لديها  وضدها نعرات قومية ودينية، وقد تبدأ هذه الأقلية في بناء الأسوار كي تحمي نفسها وتحاول أن تحفظ حقوقها ومصالحها، لكنها سوف تجد نفسها سجينة داخل هذه الأسوار، وهكذا تنشأ الحواجز الاجتماعية فيما بين الجماعات المكونة للمجتمعات، وتنغلق هذه الجماعات على نفسها، حينها لا يمكن أن ترى هذه الجماعات سوى مصالحها الخاصة، ولا ترى في مصالح الآخرين سوى أنها عقبات وإشكاليات يتوجب إزالتها، وهكذا تنمو مصالح ومفاهيم جديدة يصبح مع الوقت من الصعب إدماجها في المجتمعات، وهنا تبدأ الايديولوجيات المنغلقة بالظهور، وتجد من يعمل على نشرها وترويجها، وتجد العديد من الناس ممن لديه الاستعداد للقبول بها على أنها حقائق ومسلمات، متغافلين عن البديهيات التي تؤكد أن العلاقات الاجتماعية دوماً تحتوي في طياتها آليات معقدة وعناصر متعددة ومركبة، تتضمن قابليات التماثل للاندماج والوحدة، وكذلك عوامل التنافر والاقصاء، ولذلك فإن مسألة الاقليات ليست مرتبطة بكيانات منغلقة ومنعزلة، ولا بهويات ثابتة، ولا بمكونات حجرية، بل أنها ترتبط بنمط وشكل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ومستوى تطور هذه العلاقات، وكذلك بمستوى الوعي الاجتماعي والحياة المدنية في هذا المجتمع أو ذاك.
تتفاقم مسألة الاقليات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وشهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في أعمال العنف السياسي وعدم الاستقرار في هذه المجتمعات، وفي الغالب فإن أهم أسباب تفجر العنف يعود إلى فشل الأنظمة السياسية في المنطقة في إجراء مقاربات موضوعية وديمقراطية لهذه الإشكالية التاريخية، وبالتالي عجز هذه الحكومات عن تقديم حلول جذرية لهذه القضية بدلاً من المحاولات المستمرة لاحتوائها وتجاهل الأسباب الموضوعية الكامنة وراء تصاعد العنف، وهناك أسباباً أخرى متعلقة بظهور خطاب قومي متطرف ومتشدد لدي بعض قادة الأقليات يدعو إلى الانفصال عن الدولة الأم، ويتبنى العنف في مواجهة الدولة، ويحرض على عدم الاستقرارالسياسي، الأمر الذي يولد خطابات متطرفة من الجانب الأخر، وهو ما يدخل هذه المجتمعات في دائرة الفوضى والفشل.
إن الاكتفاء بالمقاربات الأمنية فقط لمعالجة قضية الأقليات، دون الالتفات إلى خلفيات ومسببات الاحتقان الاجتماعي لدى الأقليات، سوف  يؤدي إلى تراجع هذه القضية ثم إلى ظهورها مرة أخرى بشكل أزمة أشد خطراً مما كانت عليه.
إن الأقليات في هذه المنطقة جزء مهم ومكون رئيسي من هذه المجتمعات التي يفترض أن تستمد قوتها من تعددها الديني والعرقي واللغوي والثقافي، ويجب أن يكون هذا التنوع  سبباً لإثراء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإغناء لقيم المواطنة والتسامح والانفتاح، بدلاً من الانغلاق والتعصب والشعور بالدونية أو التعالي.
يحتاج الفكر القومي المشرقي عامة- بما ذلك سكان شمال إفريقيا- والعربي خاصة إلى التحرر من هاجس وعقدة المؤامرة، كي نتمكن من تأكيد الطابع الإنساني للأكثرية التي تنتمي مع الأقلية إلى الدولة الحديثة باعتبار الجميع مواطنين متساويين أمام القانون في الحقوق والواجبات، وتصان كرامة الجميع وحقوقهم الأساسية في دساتير تنظم مجتمعات متمدنة لا فضل فيها لأحد على أحد.


164
أدب / لأنني أخشى الغرق جداً
« في: 19:59 06/07/2017  »

 
لأنني أخشى الغرق جداً
 
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك


1
تسلقت سرو النوافذ
ذات جناح
لأتصفح عينيها
قبلة قبلة
في غفلة استبداد الرمش
بسطت شهقتها لي
وهنت عزيمتي
وسقطت في الإمطار
 
 
 
2
في موسم الحنّاء
تبدّت لي بحياء
خدودها متقدة
كحبة كرز جبلي
قالت
اليوم مشمس للقطاف
 
 
3
كل مساء
حين تضحك عيناها
أرى البحر
بت أخشى المساء
لأنني أخشى الغرق جداً
 
 
4
كنّا بريئين
حين امتزج صدرها بلهاثي
بعثرني العطر في العنق
قالت تتمنع
أشاعر أنت
قلت لا تثقي بالقصائد
فقط حلّي أزرار القميص
 
 
5
تأتي حبة الخوخ
فاتنة كمهجة البساتين
تسامر لحن الآهات
تثملني حلاوة العناق
هذا الوتر يعزف جموح الوصل
يسلطن ليل العشاق
كلما جن نغم الهوى
في رأد الضحى
أطلقت طقوس الغابة
ورقصت حولي جثتي


165

حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك

نظرة على العلاقات الإيرانية الإفريقية
التسلل الناعم في الأرض الخشنة
الجزء الأول

يرجع الاهتمام الإيراني بالقارة الإفريقية إلى ستينيات القرن العشرين، حيث كان نظام الشاه في إيران يلعب دور االشرطي الأمريكي في المنطقة، فارتبطت إيران بعلاقات دبلوماسية مع عدد من الدول الإفريقية. لكن بعد انتصار الثورة الإسلامية وسقوط نظام الشاه، تراجع كثيراً الاهتمام الإيراني بالقارة الإفريقية بسبب انشغال إيران بترسيخ دعائم الحكم الجديد، وانشغالها بالحرب مع العراق، لكن ما إن انتهت الحرب حتى عاد اهتمام إيران بالقارة الإفريقية مرة أخرى، وتمكنت من اختراق القارة في بداية التسعينيات من القرن العشرين، ويمكن أن نلحظ الوجود الإيراني في دول غرب إفريقيا لوجود جاليات إسلامية كبيرة في هذه الدول مما شكل بيئة مناسبة لنشر المذهب الشيعي، وكذلك في دول حوض النيل وشرق إفريقيا من أجل تطبيق نظرية " الجهاد البحري " الذي تسوق لها إيران بهدف نقل المعركة من الخليج العربي إلى منطقة القرن الإفريقي وخليج عدن وباب المندب بين إرتيريا واليمن، من خلال إنشاء قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإرتيري، من أجل حماية مصالحها في المنطقة وتعزيز نفوذها، ثم أيضاً لإيران تواجد في مناطق جنوب وشمال إفريقيا، ففي جنوب إفريقيا استفادت إيران من الأقلية المسلمة هناك القوية اقتصاديا والمتعاطفة مع الشعارات الإيرانية المعادية للصهيونية، وفي دول شمال إفريقيا التي تعتبرها إيران أماكن استهداف، فقد صار لها موطئ قدم،  خاصة في الجزائر.
لقد نجحت إيران في استغلال الفراغ الثقافي والاجتماعي، وحتى السياسي الذي أحدثه البعد العربي عن الساحة الإفريقية، للتسلل إلى القارة وذلك عبر آليات متعددة لعل أهمها توظيف شعار الثورة الإيرانية على أنها " ثورة لنصرة المستضعفين " في العالم، فلاقى هذا الشعار صدى له في عدد من دول القارة الإفريقية، حينها وجدت إيران فرصتها التاريخية للانقضاض على إفريقيا بهدف الخروج من عزلتها الدولية والإقليمية المفروضة عليها قبل توقعيها على الاتفاق النووي، و لنشر المذهب الشيعي فيها، وكذلك من أجل محاولة تصدير الثورة إلى تلك البلدان من خلال تقديم النموذج الإيراني، وممارسة نشاط استخباراتي في إفريقيا، عبر عناصر الحرس الثوري الإيراني الذين توافدوا على إفريقيا بصفة رجال أعمال ومستثمرين بهدف ضرب المصالح الأمريكية والإسرائيلية والعربية.
في العام 1991 قام الرئيس الإيراني  "السابق هاشمي رفسنجاني " بزيارة إلى السودان الذي اعتبرها دعماً لحكومة  "عمر البشير "، وقد مثلت هذه الزيارة بداية انفتاح إيراني على القارة الإفريقية، فأعقبتها زيارة أخرى لرفسنجاني عام 1996، ثم الزيارات التي قام بها  "محمد خاتمي " إلى عدد من الدول الإفريقية، ومن بعده قام " محمود أحمدي نجاد " بزيارات متعددة إلى إفريقيا، ثم قام وزير الخارجية الإيراني " محمد جواد ظريف " بعدة زيارات لدول شرق أفريقيا في العام 2014، وزيارة دول شمال إفريقيا في العام 2015، ثم قام بجولة في دول غرب إفريقيا في العام 2016.
وإن كانت السودان أول بلد إفريقي يستقبل رئيس إيراني على أراضيه، فإن شبكة إيران الإفريقية أخذت تتوسع فشملت كل من جنوب إفريقيا، كينيا، تنزانيا، زيمبابوي، أوغندا، نيجيريا، النيجر، الكاميرون، السنغال، جزر القمر، الصومال، جيبوتي، غانا .
هذا النشاط الدبلوماسي الإيراني غير المسبوق يعكس حرصاً إيرانياً في المضي على تعزيز علاقات إيران مع عدد متزايد من الدول الإفريقية، كما أسفرت هذه الزيارات عن تشكيل لجان مشتركة في جوانب متعددة بين إيران وبعض الدول الإفريقية، كما أنتجت قيام كل من إيران وهذه الدول بتوقيع على عدد المعاهدات والاتفاقيات الثنائية في مجالات مختلفة، في قطاع الري والسدود، وصناعة السيارات، والطاقة، إضافة إلى الجوانب التعليمية والثقافية .
وفي الحقيقة تختلف الدوافع الإيرانية من خلف هذا التسلل إلى إفريقيا من بلد إلى آخر، وتتنوع هذه الدوافع والأسباب ما بين سياسي وديني، وجرى تركيز الجهد الإيراني على السودان ونيجيريا بشكل لافت، فيما يتعلق بالسودان فإن اسباب إيران في توطيد العلاقة معه، فذلك يعود إلى موقع السودان ذو الأهمية الجيوستراتيجية، إذ يعتبر البوابة الشرقية لإفريقيا، وتعتبر إيران أن السودان يتشارك معها في مواجهة الضغوط الأمريكية وهو ما يفسر احتضان إيران لنظام عمر البشير في العام 1989 ذو التوجه الإسلامي وحينها اعتبرته إيران أول حليف عربي.
أما فيما يتعلق بنيجيريا فإن أكثر من نصف سكانها من المسلمين، وهي من أهم الدول المنتجة للنفط في إفريقيا، ناهيك عن وجود آلاف من أتباع المذهب الشيعي المتعاطفين مع النظام الإيراني فيها .
ولقد اتبعت إيران ما يسمى بسياسة التسلل الناعم للولوج إلى قلب القارة الإفريقية، مثل تقديم بعض المساعدات التكنولوجية في مجالات الطاقة والصناعات البتروكيماوية، أيضاً في مجال الزراعة والصحة والري، وهي القطاعات التي تحتاج دول القارة الإفريقية إلى المساعدة والدعم فيها أكثر من غيرها، وقد ساعد هذا التعاون على تحقيق نمو في المبادلات التجارية بين إيران وإفريقيا، فارتفعت قيمة الصادرات النفطية الإيرانية إلى إفريقيا من  1.3 مليار دولار عام 2003، إلى 3.6 مليارات دولار عام 2012. وتضاعف حجم الصادرات الإيرانية إلى الدول الإفريقية من 90 مليون دولار عام 2001، إلى 291 مليون دولار في العام 2008 .
هناك وسيلة أخرى استخدمها الإيرانيين للتسلل إلى إفريقيا، ألا وهي نشر المذهب الشيعي في الدول التي تضم مسلمين، يساعد إيران في تحقيق  هذا الأمر وجود عشرات آلاف الشيعة اللبنانيين الذين هاجروا في سنوات ماضية من لبنان واستقروا في دول إفريقية، وقامت إيران في بناء عدد من المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية والدينية في إفريقيا لنشر التشيع.
إضافة إلى استخدام إيران أيضاً أسلوب تقديم المساعدات العسكرية سراً غالب الأحيان إلى بعض الدول الإفريقية، فقدمت أسلحة وعتاد حربي، كما قامت بتدريب عدد من الضباط والجنود الأفارقة، وكانت إيران قد بنت أيضاً مجمع مصانع اليرموك للصناعات العسكرية في السودان والذي قامت الطائرات الإسرائيلية بقصفه عام 201.
ويمكن القول أن إيران قد استطاعت تحقيق بعض المكاسب السياسية نتيجة علاقتها مع القارة الإفريقية، ربما أهم هذه المكاسب هو مساعدة غيران على الخروج من العزلة الدولية والإقليمية، إضافة إلى تصويت الدول الإفريقية لصالحها في المحافل الدولية عدة مرات في مجالات مرتبطة بحقوق الإنسان داخل إيران والملف النووي، ومراهنة إيران على المخزون الاستراتيجي لليورانيوم لدى بعض الدول الإفريقية.
وهكذا نرى أنه في الوقت الذي غابت فيه إفريقيا عن الحسابات العربية، حضرت وبقوة في الاستراتيجية الإيرانية التي تمكنت من فتح ثلاثين سفارة لها في القارة الإفريقية وحصولها على عضو مراقب في الاتحاد الإفريقي، ويبدو أن إيران تحاكي التجربة الإسرائيلية في إفريقيا، فهي مثلها تسعى لتعزيز نفوذها في دول حوض النيل، ومحاولة السيطرة على الخليج العربي، واستغلال علاقتها مع إرتيريا الذي مكنها من تقديم الدعم للحوثيين في اليمن.
وفيما اتسم التسلل الإيراني إلى إفريقيا بالنعومة، إلا أن هناك شواهد على علاقة المخابرات الإيرانية ببعض المجموعات الإرهابية في بعض الدول الإفريقية، حيث قامت إيران بتهريب كميات ضخمة من الكوكائين ضمن حاوية تضم قطع غيار للسيارات واكتشفتها السلطات النيجيرية واعتقلت أفراد الخلية في العام 2010، ولم يعد خافيا أن الدول الإفريقية تعج برجال المخابرات الإيرانية، في حين مازالت حالة الغيبوبة العربية متواصلة، ولم يتعدى مفهوم الأنظمة العربية لمفهوم أمنها القومي أبعد من حرصها على عدم انهيار أنظمتها السياسية، بينما تتبع إيران اساليب الدول الاستعمارية التي تسعى لتوفير كافة متطلبات أمنها القومي، وهي كإسرائيل تسعى لتطويق الدول العربية وعزلها عن عمقها الإفريقي .
وتحاول القيادة الإيرانية التمركز في موضع يتوافق مع ما تراه أنه مكانتها وقدراتها وتاريخها، وهي تقرأ المتغيرات الدولية والإقليمية التي تشير إلى انحسار دور قوى كانت لغاية الأمس قوى عظمى، وتراجع ملحوظ في دور وتواجد واهتمام الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وظهور قوى جديدة دولية وإقليمية تريد إيران أن تكون بين هذه القوى الصاعدة، ومن أجل تحقيق هذا الهدف تحاول إيران أن تعوّض تجاهلها من قبل الغرب بإقامة علاقات مع الدول الضعيفة من أجل تشكيل تحالفات يكون لها وزن وأثر في الموقق الدولي، لذلك نجد إيران تسعى جاهدة من أجل تعزيز وتطوير علاقاتها مع بعض الدول الآسيوية والأمريكية الجنوبية والأهم هنا هو الساحة الأهم التي تتصارع من أجلها القوى العظمى، وهي القارة الإفريقية التي تقوم القيادة الإيرانية فيها بمزاحمة القوى الكبرى، لتعزيز تواجدها في منطقة القرن الإفريقي للضغط على دول الخليج، وكذلك مساومة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل حول عدد من ملفاتها الداخلية ومصالحها الإقليمية، حتى في دول غرب إفريقيا التي هي منطقة نفوذ أمريكي- فرنسي بامتياز، وتواجد إسرائيلي ملحوظ، إلا أن إيران وجدت لها مكان بمساعدة الجاليات اللبنانية، ومع جنوب إفريقيا حيث دعمت إيران سابقاً حزب المؤتمر الديمقراطي الذي كان يناهض نظام الفصل العنصري، فقد استطاعت إيران أن تسوّق وجهة نظرها من برنامجها النووي، بصفة عامة فإن إيران تحظى بتأييد الأنظمة الإفريقية غير المتصالحة مع الولايات المتحدة الأمريكية مثل زيمبابوي التي وضعتها أمريكا ضمن دول الطغيان.

لكن شهر العسل الإيراني مع القارة الإفريقية لم يستمر، وأضحت إيران تواجه عدة تحديات خلال السنوات الماضية نتيجة عدم الالتزام الإيراني بالوعود التي قطعتها لبعض الدول الإفريقية لتقديم المعونات الاقتصادية، وقد مارس المجتمع الدولي ضغوطاً شديدة على إيران لتقليص نفوذها في إفريقيا، فعلى سبيل المثال تم إغلاق جميع المراكز الثقافية الإيرانية في السودان الذي انخرط مع بعض الدول الإفريقية الأخرى كالمغرب مثلا، في الحرب ضمن التحالف العربي الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في اليمن الذين هم أنصار إيران ويمثلون مشروعها هناك، وأيدت كل من موريتانيا والسنغال هذه العملية العسكرية، ثم ما لبثت السودان وجزر القمر أن قامتا بقطع علاقاتهما مع إيران عقب التوتر الذي اتسم العلاقات السعودية الإيرانية بسبب الأزمة التي سببها حرق السفارة السعودية في طهران.
وقد أدركت بعض الدول الإفريقية المسلمة السنية أن هناك مخاوف جدية من المحاولات الإيرانية المستمرة لنشر المذهب الشيعي في بلدانها، كما حصل مع المغرب الذي أتهم إيران بنشر التشيع فيه، مما دفع السعودية وبعض دول الخليج إضافة إلى مصر بالتدخل لمواجهة هذا الأمر وعبر بعثات أزهرية، وإرسال العديد من الأئمة ورجال الدين من أهل السنة إلى المعاهد الدينية الإفريقية، وفتح الجامعات والمعاهد العربية أمام طلبة العلوم الشرعية من الدول الإفريقية.

166
أدب / نهر الجنون
« في: 18:25 08/06/2017  »


نهر الجنون

حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك



 وحشة الدرب حزن أعسر
ينتعل طريق الرحيل  قدمي
والأماني العتيقة  وسائد رملية
تماهت الألواح العظيمة
 في كنف الزهر الأبيض
 مع نكهة النحيب يوم الظمأ
تتمايل الأزهار أسفل الرحيل
 رماد وأفواه  فاغرة
تجثو قرب خدوش الوقت
 وسكون مصلوب على سطح الكتاب
ترى الروابي تشيخ
وتهمد الأشجار
 سألتني باضطراب
 متى تبدأ ؟
 أم  بدايتك انتظار ؟
 أجبتها
 لا يستقيم اليراع المشطور
 مع حزن الراعي
قد طويت نهري خلف الريح
ورسمت وجه المطر
فوق تعب القلم
جمعتْ دمي بكفها
 قالت امضِ
 سِحنة الليل سَكَنَتْ أطرافها
لا تغفو في قاع الصور
الحجر في أفول
 لا تعود
 حتى ترى غابة الورد
 معلّقة من جذعها
 على جدار المطر
بكتْ وأنا أمضي
لا زلت في رحيل
 ما زلتُ أحلم
 وأنتظر طوفاناً
 يقوّض سدود اليقظة
 ويُطلق نهر الجنون

167
المنبر الحر / دفاتر مريم
« في: 18:32 22/05/2017  »
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك

 
دفاتر مريم

عندما استيقظ  ذات صباح في شهر آب القائظ، كان جبينه يرشح عرقا، بدأ يتمتم بكلمات مبهمة وهو يتلوى ألما من صداع في منتصف الرأس، بعد أن كان قد قضى ليلته في صراع مع الكوابيس التي داهمت نومه ولم يتذكر منها سوى عبق رائحة السجائر حين امتص آخر سيجارة وألقى برأسه على الوسادة كي ينام.
ولم تجدي نفعا مع هذه الكوابيس جميع المحاولات لطردها، واصطف أفراد عائلته واجمين بجانب سريره لايدرون مايفعلون، بعد ان أيقظتهم صرخته المدوية منتصف الليل، الا أن والدته العجوز أصرت على تلاوة بعض سور القرآن الكريم فوق رأسه وهي تمسح جبهته براحة يدها اليمنى عساها تطرد الأرواح الشريرة التي نغّصت نوم فلذة كبدها.
كان حين استيقظ قد قرر – وهو بالمناسبة نادرا ما يستطيع التقرير في شأن من شؤون حياته – أن يحطم احتكار الكتابة الصحفية على حد تعبيره، وأن يقتحم أسوار هذه القلعة المغلقة على أصحابها وينضم إلى جنود القلم كما كان يسميهم، الذين كان يراهم يدخلون ويخرجون من الباب الرئيسي لمقر إحدى المجلات الحزبية الأسبوعية، وكان صاحبنا حريص على مراقبة مدخل البناء، يتأبطون بعض الصحف اليومية وحزما من الأوراق لا يدري مابها , ومنهم من ارتدى ثيابا بالغ في أناقتها بدرجة ملفتة، تتدلى حقائب جلدية من أكتافهم يتنافسون في اقتناء الأجمل منها، والله وحده يعلم ما بداخلها , ولم يجرؤ صاحبنا يوما على الاقتراب منهم، رغم أمنيته أن يلقي التحية على واحد منهم، أو أن يبادروه السلام  أحدهم, إلا أن شيئا من هذا لم يحصل.
وبعد طول انتظار وتردد، ارتدى صاحبنا أفضل ما لديه من ثياب وسرّح ما بقي من شعر رأسه، وكي تكتمل الأناقة أفرغ نصف زجاجة عطر رخيص فوق رأسه، وعرج إلى محل تصليح الأحذية في طريقه إلى المجلة كي يلمع حذاءه ويرتق الثقوب الجانبية فيه كي لا يلاحظها أحد، مما قد يحول دون تحقيق ما قد عزم على البدء به.
طرق باب المجلة و والتقى عددا من المسؤولين في إدارتها وفي هيئة التحرير، وأصر على أن يلتقي مسؤول قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية بشكل منفرد للتباحث معه في القضايا المصيرية التي تعصف بالأمة، ولما كان المسؤول مسافرا للمشاركة في نشاطات أحد المؤتمرات التي دعي إليها، اكتفى بلقاء النائب الذي أخبره أن لا فرصة أمامه لمقابلة السيد رئيس التحرير الذي يستشيط غضبا لأن الدعوة وصلت إلى رئيس قسمه واعتبر الأمر إهانة شخصية له، وأنه حاول عبثا أن يتصل بالقائمين على المؤتمر ليرسلوا له دعوة أخرى، بعد شعوره بالخيبة لفشل المؤامرة التي حاك خيوطها في مكتبه بمعاونة السكرتيرة لمنع رئيس قسم الدراسات من السفر.
وبعد يومين كاملين أمضاهما صاحبنا في غرفة موصدة، مكتفيا بالضروري من الغذاء والماء، وهو يفرك يديه ببعضهما، يحاول عصر رأسه والإمساك بفكرة مقالته الأولى والتي ستكون طريقه إلى مجد الصحافة يدخله من الباب الواسع، كما ستجعل منه إنسانا مشهورا وشخصا مهما وتضع اسمه بجانب كبار الكتاب.
عندما أدرك أن وحي الكتابة قد أشفق عليه وأنه قد حانت ساعة الصفر، أخذ يبحث في زوايا المنزل عن القرطاس والقلم، وبعد جهد مرير وجد القلم، وعبثا حاول العثور على القرطاس، وحين فقد الأمل من هذا البحث المضني الذي استغرق ساعتين كاملتين، بعثر خلالهما محتويات غرف المنزل، عندما استدرك أنه لم يكن في يوم بحاجة اإى القرطاس، التفت الى دفاتر شقيقته مريم وكانت لازالت طالبة ابتدائية، التقط أحد هذه الدفاتر وبدأ مشواره مع الكتابة إلى أن ملأ صفحات الدفتر الأربعين بمقالته العظيمة التي تناولت خطابا سياسيا كان قد ألقاه في حينه أحد القادة السياسيين.
استل صاحبنا القلم بيده اليمنى، وأحكم قبضته اليسرى على الدفتر المسكين و وراح يشيد ويمتدح خطاب القائد الملهم مبتدءا مقالته على النحو التالي :
قال الأخ القائد في خطابه التاريخي الذي ألقاه منذ يومين بحضور عدد كبير من ممثلي الأحزاب وحركات التحرر الصديقة وحشد غفير من جماهير شعبنا و ثم فتح مزدوج ونقل بأمانة تامة الجزء الأول من خطاب القائد، فملأ ثماني صفحات كاملة، وتبعا لأصول الكتابة الصحفية أغلق المزدوج في المقطع الأول.
وفي مستهل الصفحة التاسعة كتب صاحبنا هذه العبارة الصغيرة، ويضيف القائد الكبير، و ثم فتح مزدوج مرة أخرى ونقل حرفيا الجزء الثاني من خطاب القائد فغطى عشر صفحات كاملة، عندها أطلق زفرة تطايرت من شدتها الأوراق أمامه،  ومنح نفسه قسطا من الراحة شرب خلالها سبعة فناجين من القهوة بالتمام والكمال، وعندما طلب المزيد بإلحاح تشوبه العصبية، هرعت شقيقته مريم  إلى الجيران تستجدي بعض البن للمفكر العظيم.
بعد أن انتهى من تدخين علبة سجائر كاملة من النوع الرخيص امتصها حتى الفلتر، مسح جبهته المتعرقة واستأنف حربه الشرسة مع المقالة.
في مطلع الصفحة الثامنة عشرة تابع الصحفي الجليل ما قد بدأه وكتب : وفي مجال آخر تعرض القائد المقاتل لقضية الصراع العربي الإسرائيلي،  بما يؤكد استمرار حزبه في خوض غمار الكفاح المسلح، ثم فتح مزدوج وأورد مقاطع كاملة مطولة من خطاب القائد الفذ حتى وصل الى آخر سطر من الصفحة الأربعون من دفتر أخته مريم، كان خلالها قد حرق نصف علبة السجائر التي أرسل أخته لشرائها و وابتلع أربع حبات من مسكن الألم للسيطرة على مشاعره الجياشة التي أجّجتها كلمات القائد الحماسية ثم أغلق المزدوج، وبطح اسمه تحت المقالة وسمح لنفسه أن يضع تحت الاسم اشارة تقنية ’’ 24 أسود ’’.
بعد أن أتم إنجاز هذه الخبطة الصحفية أطلق صفرتين متواصلتين، وضم الدفتر إلى صدره كما تضم الأم البكر وليدها، وارتمى متهالكا فوق الكنبة مباعدا ما بين رجليه تاركا العنان لخياله يصور له عالم الأضواء والشهرة.
ثم استدعى زوجته وأولاده الصغار، وبصوت خطابي تغلب عليه الجدية المصطنعة طلب من زوجته أن تشرف من الآن فصاعدا على شؤون المنزل والأولاد، وأن يتم تحديد زيارات الأقارب والأصدقاء بناء على مواعيد مسبقة، وأن تطلب من الجيران التزام أقصى درجات الهدوء والسكينة، وطلب من أطفاله عدم تشغيل التلفزيون والمذياع  إلا بناء على تعليمات منه وذلك فقط للاستماع إلى نشرات الأخبار التي بات من الضروري أن يعتاد على الاستماع إليها من الآن فصاعدا لمتابعة مايجري من تطورات على الساحة الدولية، وأن ..... وأن ..، لأنه منصرف تماما منذ هذه اللحظة إلى الكتابة في القضايا المصيرية الكبرى، والتي لابد من أن يدلي بدلوه فيها بعد أن لاحظ أن زملاءه من كبار الكتاب والمفكرين لم تسعفهم قدراتهم الذهنية للإلمام بكافة جوانبها، وطلب من ابنه الكبير أن يحضر له كمية كبيرة من الأوراق البيضاء وعددا من الأقلام كالتي يستخدمها أقرانه.
فصدق المساكين ما سمعوه وبالغت الزوجة  في تطبيق تعليمات زوجها الكاتب الجاد المنصرف لمعالجة القضايا الشائكة، وتحول المنزل إلى دير مهجور، صمت مطبق، زوار قليلون يتناقصون يوما بعد يوم،  وصاحبنا المفكر عابس الوجه مقل في الكلام وكثير التدخين،  تهاجمه نوبات من السعال الشديد بين الحين والآخر، يضع يده اليسرى أعلى جبهته على طريقة القادة والمفكرين،  وفي يده اليمنى قلمه وأمامه أكوام من الدفاتر والورق تنتظر الإشادة والمدح بالخطيب، لقادة بدأ صاحبنا يتابع تحركاتهم ومهرجاناتهم حتى لا تفوته واحدة.
لعلّ الفرق الوحيد بين صاحبنا الذي كتب ذات يوم على دفتر أخته مريم  وبين العشرات من امثاله، أنه أمين ونزيه في إبداعاته، يضع الكلام الذي ليس له بين مزدوجين، فيما يتركه الآخرون حرا طليقا وينسبونه لأنفسهم ولا يخجلون .
أيها الكتبة.. من كان منكم بلا دفاتر مريم فليرجم صاحبنا بقلم . 
 

168
تحديات الأمن القومي العربي في القرن الواحد والعشرين
هل تستيقظ الأمة؟

حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك

في تسعينيات القرن العشرين حدثت عدة تطورات في عدد من البلدان أدت إلى حصول تغيرات إقليمية ودولية أثرت بشكل واضح وكبير على وجه النظام العالمي وعلى التحالفات القائمة داخله، كان من أبرز وأهم هذه المتغيرات هو انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد دول المنطومة الاشتراكية، وصعود الولايات المتحدة الأمريكية كقوة وحيدة لتحكم العالم وتؤسس النظام الدولي الجديد، ومن أهم هذه المتغيرات أيضاً سقوط النظام الإقليمي العربي، وظهور الاستراتيجية الغربية الإسرائيلية بديلاً عنه، فبرز مفهوم الشرق الأوسط الجديد، والشراكة الأوروبية المتوسطية، وتم عقد جملة من التحالفات الأمنية بين عدد من الدول محلياً وإقليمياً ودولياً، وتجلت الشراكة الأمريكية الإسرائيلية في أقوى مراحلها، وكذلك ظهر تحالف إسرائيل القوي مع كل من إثيوبيا وجنوب السودان، وفي بداية القرن الواحد والعشرين شهدت المنطقة العربية احداثاً مهمة مثل الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 مروراً بالعدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة ولبنان وصولاً إلى الاحتجاجات الشعبية والحراك الجماهيري الواسع في عدد من الدول العربية في بداية العام 2011، وكذلك استمرار تداعيات الأزمة السورية واليمينة والعراقية حتى اللحظة.
من أبرز ملامح المرحلة الماضية هو غياب استراتيجية  أمنية عربية  واحدة وواضحة ومحددة، والأخطر كان نزوع كل دولة عربية وحدها لصياغة مفهوم وعمق استراتيجي لأمنها، وبروز القطرية والحلقية أكثر فأكثر في العديد من الدول العربية نتيجة عدم قدرتها على مواكبة التطورات والمتغيرات الدولية وشعورها بالتهديد، وتم تفتيت العالم العربي إما إلى دول وحدها، أو إلى تجمعات صغيرة وتحالفات بين دولتين أو أكثر،  فبتنا نسمع أصوات أن هذه الدولة أولاً، أو تلك الدولة من الدول العربية أولاً، شعارات قاصرة عن الإدراك الحقيقي أن المخاطر تهدد الجميع في المنطقة، ولا تستطيع أية دولة ولا أي كيان وحده أن يتصدى للمخاطر التي تهدد الأمن القومي العربي وحده دون مشاركة وتعاون ووضع استراتيجية بشكل جماعي، كل هذا وفر المناخ المناسب للعديد من القوى الدولية والإقليمية في التدخل لإيجاد عمق استراتيجي لها، بما في ذلك إسرائيل التي تعتمد سياسة خلط الأوراق وتعقيد خريطة الصراع في المنطقة بما يحقق لها مكاسب سيوستراتيجية، من خلال تعميق الصراعات في المنطقة العربية حنى تظل هذه الدول منشغلة بخلافاتها مما يعيق مشروعها التنموي ويضعف من قدراتها الدفاعية، ويستنفذ قوتها العسكرية المتنامية، هذا الوضع جعل من مفهوم الأمن القومي العربي قضية تشبه الأمنية التي تستعصي على التحقق، إلى أن أصبح مفهوم غير قابل للتحقق بعد أن قام العراق باحتلال الكويت العام 1990، إذ تم نسف أحد أهم مفاصل نظرية الأمن القومي العربي، التي كانت تستند على أن التهديدات التي يواجهها العرب هي تهديدات خارجية، الامتحان الثاني الذي رسبت فيه الأنظمة العربية هو قبل وأثناء الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، إذ كشف هذا الغزو عن قصور كبير في فهم الدول العربية  لمفهوم الأمن القومي العربي، وعجزها عن وضع خطة أمنية واحدة وصياغة توجيهات استراتيجية تضمن مصالح وأمن الشعوب العربية، وكشفت تلك الفترة عن هشاشة الوضع العربي برمته وضعف التلاحم والتضامن والتعاضد الأخوي الذي كان يملئ خطابات القادة العرب، واتضح للشعوب العربية أن شعارات الأمن القومي العربي والمصالح الاستراتيجية المشتركة للعرب والتضامن بين أبناء الدين الواحد واللغة الواحدة والجغرافيا الواحدة والهوية الواحدة والمصالح الواحدة، هي فقط يافطات يرفعها القادة العرب للرد على مطالب الشعوب وتخدير مشاعرهم، فلا وجود فعلي وحقيقي لشيء اسمه نظرية الأمن القومي العربي، ولا شيء اسمه تضامن الأشقاء العرب، في حين لا يعلم المواطن العربي الذي يعاني من الضغوطات الأمنية على وجه الحقيقة ماذا تقصد الأنظمة العربية حين تتحدث عن الأمن القومي العربي، فهو ذاته المواطن المسكين الذي غالباً ما تستعمله الأنظمة السياسية العربية لحفظ الأمن والنظام داخل الحدود القطرية، بالرغم من أن المواطن العربي لم يشعر يوماً بالأمن ولا بالأمان بسبب أن الأجهزة الأمنية داخل الأنظمة العربية تقوم بمراقبة وملاحقة مواطنيها أينما كانوا.
ومن سوء طالع الشعوب العربية أن أنظمتها السياسية ومفكريها الاستراتيجيين مازالوا لم يتفقوا على مفهوم الأمن القومي العربي، إذ مازال هذا المفهوم ملتبس لدى العديد من الدول  العربية، ولايوجد تعريف واحد له لدى العرب الذين يرسمون ملامح الأمن القومي كل حسب مفهومه ومصالحه تحالفاته ورؤيته لخريطة الصراع في المنطقة، أيضاً ما زالت علاقة الأمن القومي العربي بالأمن القطري لكل دولة علاقة ضبابية غير واضحة لدى كافة الأنظمة العربية، فأين يبدأ الأمن القومي العربي بالنسبة للأنظمة وأين ينتهي، ومتى يبدأ الأمن القطري ومتى ينتهي، وكيف ومتى وأين يتم الأنحياز لأحدهم على حساب الأخر ولماذا، كل هذه المفاصل تربك العقل والفكر السياسي العربي لتجعله يظل بعيداً عن صياغة أية مقاربة واضحة محددة للأمن القومي العربي، في وقت بات فيه لكل الدول ولجميع التكلات في العالم مفاهيم واضحة المعالم لأمنها القومي.
هناك عدة تحديات تواجه الأمن القومي العربي، منها تحديات خارجية ومنها داخلية، فماهي التحديات الاستراتيجية التي تشكل تهديداً للأمن القومي العربي ؟
أولاً- وجود إسرائيل: لاشك إن أبرز تحدي يشكل خطراً على الأمة العربية هو إسرائيل، هذه الدولة التي تم زرعها في قلب العالم العربي بهدف تمزيق أوصاله والسيطرة على بقعة جغرافية مهمة جداً وذات دور سيوستراتيجي لخدمة مصالح الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص، ومن أجل ذلك خاضت إسرائيل حروب ومواجهات متعددة مع العرب، ومنذ إنشائها تبنت إسرائيل في تعاملها مع جيرانها العرب سياسة المحاصرة والتطويق ثم البتر.
ستظل إسرائيل في الأصل والبدء وفي النهاية عي العدو الرئيسي للعرب، وهي المصدر الرئيسي للخطر الذي يهدد الأمن القومي العربي، لأن في الأصل قيام إسرائيل كان يعبر عن حالة الضعف العربي ليزداد عمقاً بعد قيام هذا الكيان في المنطقة، ليصبح تهديد إسرائيل شمولي ومتواصل للآن.
ثانياً- الإنقسامات العربية: وهي قضية قديمة حديثة، أي أنها مسألة مزمنة لايبدو أن لها مقاربة علاجية في المستقبل القريب، ونحن هنا لانتحدث عن اختلاف المصالح وتباين المواقف بين الدول، فهذه الأخيرة حالة تعبر عن أعراض التشارك والتكامل والتعدد والتنوع، وهي في هذا السياق أعراض صحية لابد منها للتعافي والنمو، نحن نتحدث عن تحول التباين في الآراء من الحالة الصحية إلى الحالة المرضية، حين تنتقل من وضع الحوار الهادئ- كما يفترض- إلى وضع تتواجه فيه الأطراف بشكل ميداني عنيف، ويصبحون في حالة من العداء والخصومة التي تستعمل فيها أساليب غير مشروعة بهدف أن يصل كل طرف إلى غاياته، في عملية يختلط فيها الحق بالباطل، الاستراتيجي بالمرحلي، وتغيب فيها الضوابط القانونية، لكن الدول والتكتلات المتطورة في العالم والتي بينها العديد من التباينات في المواقف، لا تدع الاشتباك السياسي فيما بينها أن يصل إلى مرحلة القطيعة.
ثالثًاً- الديون العربية الخارجية: فقد أظهر تقرير صادر عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، أن الديون الخارجية العربية قد بلغت في العام 2016 ما قيمته "923.4" مليار دولار، وهو رقم مخيف ويتصاعد باستمرار، إذ يشكل ضعفي الديون العربية في العام 2000 حين كانت قيمة الديون "426.4" مليار دولار، وذكر التقرير أن هذه القفزة بأرقام الديون كانت بسبب نزوع العديد من الدول العربية  إلى الاقتراض وإصدار سندات دين سيادية لتمويل العجز في موازناتها بسبب الصعود المتواصل في حجم الإنفاق الحكومي.
وبطبيعة الحال فإن جميع الأزمات الاقتصادية التي تعيشها البلدان العربية، هي في الحقيقة أزمات بنيوية وهيكلية متنوعة الأبعاد، تشابكت بشكل معقد مع بروز أزمات النظام النقدي، وأزمة الطاقة، والغذاء والبطالة، كل هذه الأزمات في العالم العربي انعكست في عجز الموازنات ترافق ذلك مع الركود والتضخم، وبطئ في الإنتاج والنمو وظهور أزمة الدين العام.
رابعاً- مشكلة البطالة: وتعتبر مشكلة البطالة في العالم العربي واحدة من أهم التحديات أمام المخططين العرب الاستراتيجيين، لما تخلفه من آثار مدمرة على قطاع واسع من القوى القادرة على العمل، خاصة شريحة الشباب منهم، فتدفعهم إما للبحث عن محاولة مغادرة الأوطان إلى أماكن ودول أخرى توفر لهم فرص العمل والحياة الكريمة، بعد أن يصلوا إلى مرحلة الإحباط واليأس في إيجاد فرص العمل في الوطن الذي تعلموا فيه، وبذلك تكون الدول العربية أكبر الخاسرين خسارة مزدوجة لهؤلاء الشباب وعقولهم وقدراتهم في تطوير بلدانهم من جهة، وخسارة الأموال التي تكبدتها هذه الدول في تعليم وتأهيل شبابها في المدارس والجامعات ، وإما يلتجئون إلى طريق المخدرات والجريمة والأعمال غير الشرعية، وربما لجؤوا إلى ممارسة العنف والإرهاب بعد أن يكونوا قد شعروا بالكراهية تجاه مجتمعاتهم وأنظمتها السياسية، فيشكل ضعف الإنتماء الوطني الذي تولد لديهم نتيجة مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية بسبب البطالة، يشكل هذا مدخلاً مناسباً للجماعات المتشددة التي تستوعبهم وتضمهم إلى تنظيماتها المسلحة وتذكي روح الكراهية فيهم.
خامساً- التطرف و الإرهاب: تعاني معظم الدول العربية من اضطرابات سياسية وفكرية واجتماعية ودينية تسبب التطرف والعنف الأمر الذي أدخل الكثير من الأنظمة العربية في حالة من الفوضى والحروب والصراعات الأهلية، وقد أدت حالة الانسداد الفكري إلى انقسام الدول والمجتمعات العربية إلى عدة كيانات طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية، بحيث وصل الانحطاط الأخلاقي إلى أدنى درك مما يهدد بتفكك وتشرذم المنطقة إلى دويلات وكانتونات، والتطرف الذي يواجه العرب ليس فقط تطرفاً دينياً وإن كان هو الأبرز، لكن هناك التطرف السياسي والثقافي والاجتماعي والتطرف القومي، هذه الأشكال من التطرف تطفو فترة ثم تخفت ليظهر أحدها ويتراجع الآخر، وغالباً مايكون ذلك بسبب رد فعل على تطرف آخر، أو يكون شكلاً من أشكال الاحتجاج على الاعتدال، لذلك نجد أن التطرف والتشدد ينتشران في مجتمعات تكثر فيها مظاهر التخلف والجهل والأزمات حيث تختلط العصبية بالقبلية بالخرافة والأحكام القطعية النهائية مع الروح العدائية، وهو مناخ توفره المجتمعات العربية.
سادساً- الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي: ظهر في المنطقة العربية منذ بداية عصر  النهضة في نهاية القرن التاسع عشر، مفهوم الإصلاح السياسي والديني والثقافي، وتصدى كل من محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني لشعارات الإصلاح، وحملوا مشعل التنوير، ومن بعدهم طه حسن على سبيل المثال لا الحصر.
لكن مع سيطرة الافكار الشمولية على العقل العربي منذ تقريباً بداية النصف الثاني من القرن العشرين، تراجع مصطلح الإصلاح، لتحل مكانه مصطلحات أخرى بفعل الحاجة الملحة للتغيير الاجتماعي، مثل" الثورة والعنف الثوري" في مرحلة كانت المنطقة العربية تشهد مخاض الاستقلال عن المستعمر، واتسمت تلك المرحلة بالانقلابات العسكرية، وتم إهمال قضايا مثل الديمقراطية والحريات الأساسية  للبشر بذريعة الأولويات، فسيطرت الأفكار الشمولية على الواقع السياسي العربي بالرغم من الاختلافات في طبيعة وشكل الحكم بين دولة عربية وأخرى، لكنها في نهاية المطاف بدرجة أو أخرى تعاني من غياب الحريات والديمقراطية والمحسوبية وتغلغل الفساد، وفشل معظم الدول العربية في تحقيق النهضة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وعوضاً عن ذلك قامت بحكم الشعب بالأسلوب المخابراتي القمعي.
سابعاً- الأمن المائي العربي: وهنا في الحقيقة أن المشكلة لا تكمن فقط في قلة المياه الصالحة للشرب في الوطن العربي، بل مايزيد الأمر سوءًا هو الاستثمار السيء لهذه الموارد، والآثار المدمرة للمياه الجوفية نتيجة التلوث من مياه الصرف في المدن وكذلك التلوث بسبب النفايات الصناعية.
ويكمن جزء مهم من مشكلة نقص المياة في العالم العربي أن الجزء لأكبر من مساحة الأراضي العربية تقع في العروض المدارية الحارة والجافة، مما يسرع من عملية تبخر المياه، أيضاً تعاني المنطقة العربية من عدم وفرة في المخزون المائي، والأسوأ أن العرب يتلقون نحو 63 في المائة من المياه من خارج حدود الوطن العربي، الأمر الذي يعني أن لدينا 16 بلداً عربياً لايمتلكون ثروة مائية ويقعون تحت خط الفقر المائي العام.
ثامناً- الأمن الغذائي العربي: إن العالم العربي يعاني من فجوة غذائية  مزمنة في الفرق بين الإنتاج والطلب المتزايد عليه، حيث تعتمد الزراعة في العالم العربي بشكل رئيسي على مياه الأمطار، بحيث تبلغ المساحة المروية منها نحو 22 في المائة من إجمالي الأراضي الزراعية، كما أن نصيب الفرد العربي من المياه المخصة للري يقدر بنحو 800 متر مكعب في العام، بينما خط الفقر العالمي هو 1000 متر مكعب، وطبقاً لتقديرات الأمم المتحدة فإن نحو 60 في المائة من المياه المخصصة للري في الوطن العربي تذهب هدراً، بينما ذكر مدير المركز الدولي للبحوث الزراعية بالمناطق الجافةالمعروف"إيكاردا" أن الوطن العربي يستورد نحو 55 في المائة من احتاجاته الغذائية، بالرغم من توفر كل أسباب الزراعة من أراضي شاسعة وموارد بشرية متكدسة، ووجود التقنيات، والمياه بدرجة أقل، وبالرغم من أن 65 في المائة من السكان العرب يقطنون في الأرياف، وأن نحو 22 في المائة من قوة العمل العربية تعمل في الزراعة، إلا أن أغلب الدول العربية تستورد ملايين الأطنان من السلع الغذائية سنوياً بما قيمته مليارات الدولارات.
تاسعاً: مشكلة التعليم وتحديات العصر: إن المنظومة التعليمية في العالم العربي باتت تعاني من تضخم في المشكلات العميقة اليت علقت بها عبر العقود الماضية، إذ أن هناك مناهج تعليمية لم تمس ولم يجري عليها أي تحديث أو تطوير منذ إنشائها بعد تحقيق الاستقلال السياسي لبعض الدول العربية في منتصف القرن العشرين، وهذا أدى إلى عملية تعليمية ينتج عنها نشئ جاهل بتعليم ناقص لايتلائم مع روح العصر الذي نعيش فيه، وكثير من المعلومات التي يتلقاها الطلبة تظل علوم نظرية لاعلاقة لها بالواقع المعاش، تعتمد أسلوب التلقين وحشو المعلومات، نتج عنه تدني خطير في مستوى التعليم العربي.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه العرب يتمثل في العلم والتعليم والتعلم والحصول على المعرفة وإدراك الوعي، من أجل النهوض بواقع الأمة وتحقيق التنمية والارتقاء بالفكر العربي ليواكب الطفرة العلمية والتكنولوجية للغرب، لا أن تظل جامعاتنا تمنح شهادات دون أن تخرج متعلمين.
من المؤسف والمخجل في آن عدم وجود أية جامعة عربية أو إسلامية في قائمة أفضل 100 جامعة على مستوى العالم، في حين احتلت الجامعة العبرية في القدس في المرتبة 71، كما أن العرب ينفقون فقط 2 في المائة من الناتج القومي على التعليم والبحث العلمي، بينما تنفق الدول المتطورة نحو 10 في المائة، وهذا يبرر ويشرح جزء من انخفاض مستوى وجودة التعليم في الوطن العربي.
إن الأمن القومي العربي بمفاصله المتعددة والمتنوعة لايتحقق بقرار سياسي، ولا عبر بناء الجيوش وتكديس الأسلحة فقط، ولا من خلال مئات الأجهزة الأمنية المنتشرة في البلدان العربية، بل أن الكلمة السحرية هنا هي الإنسان، أهم سلاح وأهم أداة لتحقيق هذا الأمن القومي العربي هو الإنسان العربي، فهو الذي يشكل لبنة بناء المجتمعات والدول، ومن أجله تبنى المؤسسات والجامعات، وبدونه لا توجد أوطان تدافع عنها الأنظمة العربية، فهو الأحق بالإئتمان على هذا الأمن، لكن للأسف مازال الإنسان العربي مغيّب عن كل شيء بسبب تعرضه للقمع والاستبداد والاضطهاد والملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية في معظم الدول العربية، ويعاني من الفقر والجوع والبطالة وتدني الخدمات الصحية وتراجع في المستوى التعليمي، ويكابد ضنك المعيشة في ظل ازدياد متواصل في أسعار السلع الأساسية التي يحتاجها، وانكماش غير مبرر في نصيبه من الدخل القومي.
إن هذا الإنسان العربي الذي تتجاهل وجوده واحتياجاته وتطلعاته معظم الأنظمة العربية، يشعر بالإغتراب في وطنه الذي حوله إلى إنسان لا يملك نفسه ويشعر بالعبودية والتهميش والحرمان، وبالتالي ضعف الإنتماء الوطني والتخبط في الهوية.
إن لم يتغير حال الإنسان العربي نحو تحريره من سجنه ومن رفع القبضة الأمنية الحديدية عن عنقه، ثم فتح الأبواب أمامه للمشاركة في اتخاذ القرارات التي تهمه، وإخراجه من وضع التجاهل إلى خانة المشاركة والاحترام، وتنظيم مشاركة المواطنين في الأنشطة المجتمعية العامة لرفع سوية وعيهم الثقافي، دون هذا لايمكن للعرب الحديث عن أي أمن قومي ولا عن أي خطط لتدعيم هذا الأمن، فالإنسان الذي يعاني الضياع في وطنه لايمكنه في حال من الأحوال الدفاع لا عن وطنه ولا عن نفسه، ولايمكن لشعوب منهزمة أن تحقق الأمن لنفسها ولأوطانها، وبالتالي لايمكنها مواجهة التحديات الكبيرة والجدية التي تهدد حاضر ومستقبل وثروات الأمة العربية.
الأمن القومي العربي لايستطيع مواجهة تحدياته إلا مواطن حر يشعر بالحرية  وغير مستعبد، ويعيش في ظل نظام حر وليس عبداً لأحد، فالأوطان مثل الإنسان إن كانت تعاني من هزائم داخلية لايمكنها أن تواجه تحدياتها ولا أن تنتصر في معاركها.


صفحات: [1]