المحرر موضوع: وحي الكلمات *  (زيارة 651 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سهر العامري

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 122
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
وحي الكلمات *
« في: 19:13 16/09/2008 »

                                          وحي الكلمات *                                


سهر العامري

لم تكن أم أمين القادمة توا للعيش في بغداد قد سمعت بعدُ بكلمات مثل فخامة الملك ، أو دولة رئيس الوزراء أو معالي الوزير وغيرها من الكلمات التي صارت تسمعها من خلال جهاز مذياع يشبه صندوقا خشبيا صغيرا ، كان يلتقط تلك الكلمات من أفواه المذيعات والمذيعين العاملين في إذاعة بغداد، فهي لم تسمع في سنوات عمرها التي خلت أن أحدا قد تفوه بواحدة منها قطّ ، وذاك حين كانت تعيش في قرية صغيرة تجثو على نهر الكحلاء من الجنوب ، تلك القرية التي كانت قد سمعت بها هي كلمات مثل : الشيخ أو السركال ، أو العشيرة ، وقد كان معنى كل كلمة من هذه الكلمات واضحا في ذهنها وضوح الشمس وهي ترتقي جبهة الأفق في أهوار تلك القرية الجنوبية .
لكنها الساعة ، والحق يقال ، لم تعرف المقصود من كلمة فخامة التي نزلت آذانها للمرة الأولى ، وهي تسكن بيتا صغيرا متواضعا في حي البلديات من العاصمة ، بغداد ، ذلك البيت الذي كان زوجها قد اشتراه بعد أن توفرت له فرصة عمل في تلك المدينة حين  تصاعدت نيران آبار النفط الى الشمال منها ، وكان من جميل الصدف أن جارهم ملا عليوي الذي كان يعيش معهم في قريتهم الجنوبية قد انتقل هو الآخر للعيش في بغداد مع ابنه الذي أصبح جنديا من جنود الجيش العراقي يزاول خدمته في واحدة من كتائب مخابرات ذلك الجيش ، ولهذا فقد تحينت هي الفرصة في أن تسأله عن معاني تلك الكلمات الجديدة حال قدومه لهم في زيارة كان هو قد وعدهم بها .
لقد اعتادت أم أمين أن تسأل ملا عليوي أسئلة غريبة ، لم تخطر على بال أحد من أبناء تلك القرية أحيانا ، حتى على بال الملا عليوي نفسه ، لكنه كان حريصا على أن يجيبها عن كل سؤال تطرحه هي عليه ، ومن دون تردد أبدا ، فالعيب كل العيب في أن يعجز ملا عليوي عن جواب على سؤال امرأة ناقصة عقل ودين ، مثلما كان يردد هو ، ومن على شاكلته من الملالي .
بعض الأسئلة التي كانت تدور في ذهن أم أمين تتعلق أحيانا بالظواهر الطبيعية التي تجري من حولها ، ولكنها لم تحصل على أجوبة تعينها على تفسير تلك الظواهر ، وفي أحيان أخرى تتواضع أسئلتها تلك ، فتكون في الأغلب الأعم عن تاريخ حلول شهر رمضان ، أو عن اتجاه القبلة التي ستصلي عليه خاصة حين تكون في زورق يتوسط المياه العميقة من الهور ، وهي تزاول قص صغار نبات القصب علفا لبقراتها الثلاث ، ومع تنوع هذه الأسئلة فقد كان ملا عليوي يجب عليها برحابة صدر ، بينما كانت أم أمين تفيض على موتاه من النساء والرجال بالترحم ، وأن يمنحه الله الصحة وطول العمر .
- الله يرحم والديك - يا ملا عليوي - هل لك أن تخبرني كيف يكون الليل والنهار ؟
لم تستطع أم أمين ، رغم طيب نيتها ، أن تخيف ملا عليوي بسؤالها هذا ، فالملا رجل قادر على أن يجيب عن كل سؤال حتى لو كان هذا السؤال يتعلق بحدوث ظاهرة طبيعية أكثر تعقيدا من تلك التي يحملها سؤال أم أمين ، فهو قد اعتاد على إجابات يمتزج فيها الكذب مع قلة العقل ، وأحيانا يشوبها شيء من الفخر بنفسه في أنه قد قرأ هذا الكتاب ، وسمع تلك الرواية .
- الأرض محمولة على قرني ثور – يا أم أمين - ! فإذا نقلها على قرنه الأيسر صار اليوم ليلا ، وإذا نقلها الى قرنه الأيمن صار اليوم نهار . هذا هو الجواب ، وأبوك الذي رحمه الله !
- لكن لم تقل لي هل هناك امرأة تقدم لهذا الثور علفا ، مثلما أفعل أنا مع بقراتي عندما أغوص في أعماق الهور مع مطلع فجر كل يوم من أجل أن أجلب لهن الطري من قصب الهور كعلف يمدهن بالصحة والحياة كي أحصل على طيب حليبهن ولذيذ لبنهن ، فمن دونهن لا يمكن لنا أن نعيش حياة يحاصرنا الفقر فيها من جميع نواحيها .
- لا تشركي - يا أم أمين - ! فإن الشرك يؤدي بك الى نار جهنم ، أما علمت أن الثور الذي تقف الأرض على قرنيه يتغذى من ضروع القدرة الربانية !
رجفت أم أمين ساعتها ، وأخذتها رعشة سرت في كل جسدها المتعب ، وندمت ندما شديدا على تماديها في أسئلة أوصلتها الى الشرك بذات الخالق مثلما يرى ملا عليوي ، ولكنها مع كل ذلك فقد طرحت ليلتها هذه على الملا نفسه سؤالا تبتغي من ورائه أن يفسر لها معاني بعض من تلك الكلمات التي يتفوه بها صندوق الخشب مثلما كانت تسمي جهاز الراديو بذلك .
لقد فهمت من جواب الملا ذاك أن الفخافة هي كلمة تعظيم لملك أو رئيس دولة يراد من ورائها تكبير صورته في أذهان الناس الذي يحكمهم رغم أنه لا يملك من أمر الحكم شيئا مهما ، وقد استند هو في شرح معنى الكلمة تلك الى ما قاله صديق لابنه كان يعمل في تنظيم سري عن الاستعمار ، وقد اعتاد صديق الابن هذا ان يزودهم ببعض من الأوراق التي تتحدث عن الوضع السياسي العام في البلاد ، وذلك لأن ملا عليوي نفسه لم يكن قد سمع هو الآخر بهذه الكلمات حين كان يعيش في القرية الجنوبية معهم .
ظلت أم أمين على شك بما قاله لها الملا ، وذلك لأنها كانت تعتقد أن تلك الكلمات ما هي إلا أسماء لنساء ، وليس شيئا آخر ، فهي لا زالت تتذكر أن جارهم زاير محسن كان قد سمى آخر بنت رزق بها باسم : دولة ، وهذا هو السبب الذي دفعها الى الريبة والشك في كل ما قاله لها ملا عليوي في زيارته الأخيرة لهم .
لم تمض ِأيام كثيرة على تلك الزيارة حتى صارت تلك الكلمات ، التي أتعبت أم أمين في البحث عن مدلولاتها ، نسيا منسيا ، فلم تعد تسمعها من الصندوق الخشبي ذاك أبدا ، وبدلا عنها فقد راح هو يردد على مسامعها كلمات جديدة أخرى مثل : الثورة ، الزعيم ، الحرية ، الجمهورية ، المسيرة الجماهيرية ، وغير ذلك من كلمات كثيرة وجديدة أخرى صارت تتقاذفها الأفواه في بغداد والمدن العراقية الأخرى .
لقد ظلت أم أمين على فهمها القديم لبعض من هذه الكلمات الجديدة ، ذلك الفهم الذي حملته معها من قريتها الصغيرة الى العاصمة ، بغداد ، فحين طلبت منها جارتها ، أم حسن ، الذهاب معها الى ساحة الميدان من أجل مشاهدة مسيرة يراد منها أن تحيي زعيم الثورة وأعضاء حكومته لبت هي تلك الدعوة على الفور ، ولهذا الغرض فقد حرصتا على الخروج مبكرا الى تلك الساحة من أجل أن تعثرا على مكان مناسب تستطيعان من خلاله رؤية الزعيم وأعضاء حكومته الذين كانت بينهم وزيرة واحدة ، هي وزيرة البلديات ، وبذلك الخروج المبكر استطاعت أم أمين وجارتها ، أم حسن ، من تحقيق تلك الأمنية حين ملأتا أعينهما بصورة الزعيم الذي كان يرفع يده عاليا في السماء ، محييا جماهير غفيرة كانت تمر من أمامه ، وهي تهتف بحياته وحياة الثورة والثوار ، ولكن أم أمين وعلى العكس من أم حسن كانت تصب نظرها على الوزيرة الواقفة الى جانبه حتى أنها حفظت تفاصيل جسمها جزءً جزءً ، ولكن مؤخرة الوزيرة البارزة كانت هي الجزء الوحيد الذي أثار انتباهها من بين تلك الأجزاء  ، ولهذا ، وحال وصولها الى البيت ، صاحت بزوجها :
- لقد رأيت مسيرة اليوم - يا أبا أمين - ! كانت لها مؤخرة عظيمة ، وبارزة !
ضحك جميع من كان في البيت خاصة وأن الأب والأولاد كانوا قد شاركوا بتلك المسيرة الجماهيرية الحاشدة ، وقد اتضح فيما بعد لأم أمين أن مسيرة ليس اسم مرأة مثلما كانت تظن قبلا ، وعلى ذلك جعلتها هذه الورطة تتحوط في تفسيرها لأية كلمة من الكلمات الجديدة التي تسمع بها من لغة بغداد الزاخرة بالمفردات التي ما طرقت سمعها من قبل . لكن المحير أن أم أمين ، وبعد سنوات طويلة ، راحت تسمع من المذياع ذاته الكلمات القديمة ذاتها ، تلك الكلمات التي ماتت بموت دولة رئيس الوزراء جرا بالحبال في شوارع بغداد وبوحشية مفرطة ، كما أنها قتلت بمقتل فخامة جلالة الملك برصاصة من ضابط متهور ، وحبست بحبس معالي الوزير هذا أو ذاك .
ظلت أم أمين تتساءل مع نفسها : لماذا عادت تلك الكلمات من جديد ؟ هل كان المذياع محقا في العودة الى ترديدها من جديد ثانية ؟ هل أن من تطلق عليه تلك الكلمات هو جدير بحملها ، وإذا كان الأمر كذلك فعلام يكتفي بوش بكلمة رئيس وهو حاكم أكبر دولة في العالم ؟
لقد تمنت أم أمين من صميم قلبها أن تلتقي من جديد بملا عليوي ، الذي غادر هذه الحياة منذ عشر سنوات ، ، وأن تطرح عليه كل الأسئلة التي تدور في رأسها ، والتي سببت لها أرق فظيع حتى أنها كانت لا تنام في بعض من الليالي إلا عند بزوغ أول خيط من خيوط الفجر ، ولكنها في ذات ليل بهيم ، وبينما كان السؤال عن عودة تلك الكلمات الى الحياة من جديد يثقل رأسها ، غطت في بحر نوم عميق رحلت به مع حلم مفرح ، مفزع الى مكان مخيف من أرض يباب لا يوجد فيه غير جذع شجرة رُبط إليها ملا عليوي من رجل واحدة مثلما يُربط حيوان نافر ، وأحيانا كان يتدلى من رجله تلك في هاوية تطل على نيران جهنم الحامية .
فرحت أم أمين بهذا اللقاء فرحا غامرا بالقدر الذي فزعت فيه فزعا شديدا ، ذلك الفزع الذي كان سببه الحال التي كان عليها ملا عليوي ، وهو الرجل الذي أبكاها شجو صوته حين يروي مأساة الحسين في العاشر من شهر محرم كل سنة ، ومع هذا الفزع كله فقد ألقت عليه التحية ، مثلما كانت تفعل ذلك في كل مرة تلتقيه بها ، ولكنها ظلت على فزعها رغم أنه قد رد عليها التحية بصوت مهموم ، قائلا :
- لا تعجبي - يا أم أمين - من حالتي ، فهذا هو جزائي ، فلقد كنت أكذب عليكم حين أقول أن الأرض تقف على قرني ثور ، وإن الإمام علي أرجع الشمس من مغيبها الى مشرقها كي يتم حربه في معركة النهروان مع الخوارج !
- من ذا الذي قال لك أنك كنت تكذب ؟
- في ساعة الحساب قال لي منكر ونكير إنك كذبت على الله وعلى رسله والمؤمنين والناس أجمعين ، فالأرض ما وقفت على قرني ثور مثلما أذعت أنت ، إنما هي أشبه بكرة تسبح في فضاء ، كما أن الإمام علي ليس بمقدوره أن يرجع الشمس من مغيبها الى مشرقها ، فهي لا تدور إلا حول نفسها ، بينما تدور الأرض  حول نفسها فيكون الشروق والغروب ، وتدور حول الشمس فتكون الفصول .
- والآن هل لك أن تخبرني لماذا عادت كلمات الفخامة ودولة رئيس الوزراء ومعالي الوزير ، فقد صار الناس في العراق يسمعونها من الإذاعة ، والتلفزيون ، ويقرؤونها على صفحات الجرائد والمجلات ؟
- لماذا لم تسألي أخي ملا خصاف فهو لم يزل يعيش بينكم ؟
- أنت لا تعلم بأن ملا خصاف صار رئيسا للمجلس البلدي في مدينته ، وقد سمعته مرة يجب عن سؤال لمراسل محطة : CNN التلفزيونية الأمريكية عن مؤهلاته التي مكنته من أن يتبوأ ذلك المنصب ، أتعلم ماذا قال ؟
- من أين يأتيني العلم وأنا مربوط الى هذا الجذع كما ترين ؟
- لقد قال للمراسل ذاك أنه يحمل شهادة الماجستير بحب الإمام الحسين !
- يبدو أن أخي ، ملا خصاف ، سيربط معي على هذا الجذع ، ويتدلى الى سقر مثلما أتدلى أنا ، ولكنني مع كل ذلك سأقول لك قولة حق ، بعد أن حُرم عليّ الكذب هنا تحريما تماما ، هو أن عودة الكلمات تلك الى الحياة من جديد كانت بسبب من أن الذين أطلقت عليهم في المرة الأولى كانوا قد جاءوا مع فوهة المدفع البريطاني حين اجتاحت جيوش الانجليز أرض العراق ، والذين تطلق عليهم ذات الكلمات اليوم قد جاءوا على ظهور الدبابات البريطانية والأمريكية ، هذه هي الحقيقة التي لن يحاسبني أحد على قولها هنا . وثقي بما قلته لك .
= = = = = = = = = =
* قصة قصيرة