المحرر موضوع: النوارس تشدوا للفرح والسلام  (زيارة 691 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل فرات المحسن

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 336
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
النوارس تشدوا للفرح والسلام
فرات المحسن

في الحفل السابق فاضت بنا الدهشة حين طوقتنا نوارس دجلة بصدح شجنها الرائق البديع، فيا ترى ما بجعبتهن اليوم. القاعة ضجت بالجمهور.حضور كثيف بالرغم من إن جميع الطرق المحيطة بالقاعة كانت مغلقة، فاليوم هو الخامس من حزيران لعام 2010 من القرن الواحد والعشرين، هو موعد المارثون السنوي لمدينة ستوكهولم التي اعتادت خلق بديع البهجة وفعاليات الفرح لأيامها، وعافت البكائيات ونبش الماضي على بعض من يشتهي اجتراره ولوك الخيبات والتلذذ بطعم الحنظل دون سواه.
 كانت هناك ثمة قاعة فسيحة وجمهور كثيف صاخب. ترقب وتوجس في انتظار حفل جديد، موعد أخر مع نوارس دجلة. هل هي حفلة شبيهة بسابقاتها طافحة بالفرح والحبور، أم هناك شيء جديد. تقليد جديد وعدتنا به فرقة نوارس دجلة، فاليوم يشاطرها الحفل فرق غنائية أخرى، فرقة تركية وفرقتان سويديتان. إذن هناك كسر للتقاليد وسوف لا تنفرد فرقة نوارس دجلة بمجمل الحفل وعلينا أن نستعد لتذوق طعم أخر لغناء متنوع.
خرجت النوارس بألقهن ووجوههن النظرة الباسمة، مرتديات الهاشميات الموشاة بماء الذهب كأنهن أشرعة تمخر عباب بحر، بعدها تقدم المايسترو المتألق علاء مجيد. سكنت القاعة تترقب حركة يديه لتعطي شارة البدء وتدعو النوارس لتحلق في الفضاء لتمسك الزمن وتعيد تركيبه.
 يسكنني فرح غامر وأيضا كان هناك فخر يمور في الروح. أمامي رجل بكل ما يحمله من حرفية وعشق للفن ونسوة باسلات سامقات يؤكدن كل يوم أنهن فخر المرأة العراقية وروحها الوثابة، مثابرات كدودات ينشدن كلماتهن حباً بوطن يجدنه أقرب لهن من شغاف القلب، فيحتضن ربوعه وينشدن فرحه وبديع أيامه وألق عالمه الفخور بالحضارة والمنشد أبدا للحرية والمحبة والسلام. تلك المرأة التي عاشت الدهور حبيسة أبداً في قمقم لا تستطيع البتة التعبير عن نفسها وفك أسرها، ولكن في روحها هدير يسمع ضجيجه يتردد في الأفاق. في هذا الكورال الموشح بنثار من ضوع وضوء وجدت المرأة العراقية نفسها. في روحها زهو محبة، بهجة وورود بلون الشمس وسطوعها. ولذا أنشدن عذب الكلمات حبا بالسلام وشوقا للعراق.



صَمتُ لفّ القاعة
نحن نوارس دجلة... نوارس العراق.. للحب ننشّد نحن ...نغني للعراق ..لأرضنا، لمجدنا، لأرثنا، لأهلنا، أليك ياعراق......
ما عدت أسمع همس جمهور، ما عاد للمكان وجود. لملمت شتاتي وتفردي بأقصى ما استطعت فعَلقتْ عيناي وروحي هناك وراحتا تتنقلان بين يديّ المايسترو علاء مجيد ووجوه وأصوات النسوة وشاشة عريضة تدفع بي بين حواشي العراق وقلبه الفياض، تتلقفني النغمات وتسحبني لأسبح في أكوان ليس لها من حدود. طغى حفيف النخل وهسيسه، خرير الماء وموجه الدافق، أصوات النوارس وهي تتهادى مقتربة من جسر الصرافية تنادي صويحباتها عند منعطف جسر الأئمة، كل ذلك كان يأتي متهاديا ملونا مطرزا مشعا، فغبت معه، نسيت واختفى كل ما كان حولي، استحال الكون لدفق أنغام وليس سواها. عشت منفردا بين الصور والنغمات، متيم كنت ولذا فلتت دمعة دافئة لم أخجل منها بقدر ما شعرت بحرارتها وصدقها.
أكَول أنسى وتذكرني ليالينا على دجلة  ... وأكَول أرجع ويألمني ... وأخاف النار من وصلك
أحبك وأنا أريد أنساك

أبدا ما سمعت عذوبة وشدواً بهذا النهم والنشوة. هديل حمام أعادني لتلك الأغباش حيث يسجد ويبتهل قلبي لهفا بها وعليها. حارات وأزقة مدن صباي وشبابي وأغان تتشح بها مقاهي مدني القصية. شعرت إن في ذلك الإنشاد لشيء من تراتيل سماوية، قطع منثورة مبثوثة تحمل طلع النخيل وعبق روائح بساتين العراق، عصافير تركن روحها وعشقها تحت ظل شجرة مساء فاقعة الخضرة تتهدل أغصانها وتتمايل فرحة بلمة عشاقها.
لوحات من سحر كانت تومض وتضيء ما حولي وأمامي، كنت كأني محمول فوق نتف الغيم، ترتعش روحي وجدا وتنسى وجودها في تلك القاعة الواسعة. كنت وحيدا لا يشاطرني المكان غير تلك النغمات العذبة الرقراقة التي راحت تذيب روحي. لم يكن ثمة ما يبعث في السماء البعيدة الشفيفة غير صدح النوارس. صوت طيور الكون حين تجمعت لتنشد، وصور لدجلة الخير ومشاحيف تطرها، شناشيل البصرة وقبة لإمام وصليب يعتلي كنيسة وخبز تنور ووجه أمي المدور يتلفع بشيلته وشوارع مزدانة بالبشر ويد المايسترو تدوزن النغمات وحركة الكورال. لفني فرح غامر ولكن عند تلك اللحظة غل الشجن العراقي حزنه الأسطوري فشعرت بلذة بكاء محتبس.

الأسى والويل مكتوم بعيوني
وأخاف الليل يفضحها الجفوني
أسمر مغرور مغرور عذبني بغرامه

ثمة في الكون ما يشع نورا مبهرا، ضاعت معه رائحة خشب الأبواب وتراب الشارع المنقوع برذاذ الماء في أيام القيظ وأنفاس ورود وأريج ياس وروائح طلع. بدت وتبدت أمامي الشوارع كما هي. ثبتت بإحكام في رأسي، أيامي الخوالي هناك في مدني الحبيبة. أمشي وأمشي، تأسرني الألحان فأدخل حواف الأنهار، أهش النوارس لتحلق بعيدة في كبد السماء، ولكني أجدها أمامي مثل سرب بلابل ينفش زغبه الأصفر فرحا. تفرّش أمام عينيّ غابة سحرية طرية صادحة فرحة باكية موجوعة ودودة حنونة، تهدهدني مثل أم رؤوم. أغان ملتاعة شدون بها، ولكني رأيت واستحضرت فيها أجمل سنوات عمري وأزهاها فرحا وبريقا. أنوار خارقة تضيء فردوسا من حرير.

سلمت الكَلب بيدك .. طير وتاه عن وكره
دعني من مواعيدك .. كل يوم .. كل يوم ..وكَلت بكره

النسوة أمامي اشتعلن مجمرة من شجون يخالطها فرح غامر فاضت بها أرواحهن. لا يكتشف كنه هذا الخليط العجيب غير من يذوب عشقا ووجدا حين يسمع تلك الأصوات وتلك الموسيقى الشجية. تدفقن كزخات مطر تكتسح جدب الصيف وحره اللافح في أرض بلادي، دفق مفعم بسخاء قوس قزح ينثال فوق الحقول وعند عتبات الأبواب ويدور بين الأزقة منشدا يشاطر الناس غنائها وفرحها وحبها للحياة.

لذا وقف الجمهور أجلالا وعرفانا ودهشة وحبا لنوارس دجلة بعد أن قدمن عطائهن ونثرنه أجنحة فراشات طافت في سماء قاعة الحفل.

 

بدورها قدمت الفرق المشاركة الأخرى عروضها. الفرقة التركية Stockholms Turkiska Musikförening  قدمت الموسيقى التراثية التركية والغناء الجماعي والفردي الذي أمتع الجمهور. وكان كورال فرقتي God on Line    ومثلها فرقة  Consensus Gospelkör  قدما عروضهما الجميلة التي تفاعل معها وصفق لها الحضور طويلا مانحا لهم شهادة التقدير ومتعته وفرحه بمشاركتها في مهرجان نوارس دجلة. مسك الختام كان أغنية جماعية باللغة الإنكليزية شاركت فيها جميع الفرق. الأغنية كانت من كلمات الأستاذ محمود الرضا ضيف الفرقة القادم من دولة الأمارات العربية ومن ألحان الأستاذ علاء مجيد. كلمات بسيطة تتحدث عن التغيرات الخطيرة في المناخ والبيئة وتحذر من الخطر القادم وتدعو الجميع للانتباه لتداعياته وأن يعملوا من أجل إيقاف هذا الخطر. جمل بسيطة بمغزى كبير ولحن ينساب بحدة ليكون توليفة فنية متقنة تتوافق مع أحد الأهداف الذي أطلقت من أجله الحفلة.
مع ما خلفته الموسيقى والأصوات الجميلة والرقصات الرائعة للفرق الثلاث فقد بقيت راسخة في الخاطر أغاني نوارس دجلة ببهائها ونبلها وحرفيتها وفنها الذي فاح ضوع شذاه وملأ قاعة الاحتفال وكان طعما ونكهة ليس من السهل نسيانه.