ما أحلاك لو عدت كما كنت يا عاشوراء
د. صباح قيّا تاخذني الذكرى الى سنوات بعيدة ... حينما كانت بغداد أزقة ضيقة , وجمالها شارع الرشيد ، وساكنوها في الفة ومحبة . كنا صغارا ننتظر بلهفة وشوق حلول عاشوراء وبالأخص عطلة 10 محرم . لم يكن ذلك غريبا أبدا في تلك الحقبة الزمنية ، حيث كان الكل يترقب ايضا بفرحة مشتركة موعد حلول الأعياد الدينية المختلفة والمناسبات الوطنية آنذاك مثل يوم تتويج الملك , وذكرى اطلاق الرصاصة الاولى من قبل الشريف الحسين في 9 شعبان من كل عام .
كانت الجموع تحتشد منذ صباح ذلك اليوم على امتداد رصيفي شارع الرشيد لمشاهدة المواكب القادمة من منطقة السراي باتجاه الباب الشرقي . لم تكن المناسبة حكرا على مذهب او طائفة معينة بل كانت كرنفالا يحتفل بذكراها الجميع , وتقليدا اجتماعيا يساهم الكل في احيائها .... كانت المواكب تسير بمجاميع منظمة ومتباعدة عن بعضها البعض بضع خطوات ... يتقدم كل موكب حاملوا الرايات واللافتات التي تدل على جهة انتمائه ...فهذا موكب محلة الوشاش , وذلك موكب المشاهدة ، وآخر موكب المدرسة الجعفرية ، ورابع موكب الفيلية .. كان المشاركون من كافة أطياف المجتمع البغدادي .. الشيعي ... السنّي ... المسيحي والصابئي بالأخص ضمن المواكب المدرسية .. العربي .. الكردي والفيلي .. التركماني ...الأعجمي . كل مجموعة تقف بين الفينة والأخرى لتردد كلماتها المتفق عليها بلحن يمتزج فيه الحنان مع الحماس ، ثم تعبر عن مشاعرها بطريقتها المفضلة . معظمها تضرب الصدر بالكفين وهذه هي " اللطمية التقليدية ، بعضها تستخدم الزنجيل وهي الشائعة عند الفيليين والأعاجم , وأقلها تلجأ الى " الطبر بالقامة " . كان يحلو لنا – نحن الصبية المسيحيين – أن نجتمع عند المذياع لنستمع الى " مقتل الامام الحسين " بصوت المرحوم عبد الزهرة الكعبي ، منتظرين بفارغ الصبر أن يصل الى فقرة المسيحي الذي اشترى رأس عليه السلام وهو في طريقه الى الشام وقوله " عجبا من امة قتلت ابن بنت نبيها " . كنا نتفاخر ونتباهى بذلك بين أصدقائنا في المحلة من المسلمين . والحق يقال ، لم نلق من رد فعلهم غير التثمين والامتنان .
مرت السنون وتغير النظام .. ولكن لم يتغير عاشوراء بعد .. اقترح اربعة من زملائي ان نذهب سوية الى الكاظمية ليلة العاشر من محرم ( اقصد ليلة تسعة على عشرة محرم ). وبالفعل غادرنا مكتبة الكلية الطبية , بعد أن أنهينا مراجعة محاضرات ذلك اليوم , لنصلها مشيا على الأقدام بدأ من باب المعظم . أتذكر أحد زملائي شيعيا وآخر سنّيا ، ولست متأكدا من مذهب الثالث والرابع . لم تكن معرفة مذهب الطالب أو دينه على درجة من الاهمية ذلك الوقت ، بل الأهم تحديد اتجاهه السياسي , حيث كانت المشاعر الوطنية والقومية ومحاولة الكسب الى هذا الجانب أو ذاك هي السائدة . كانت تلك الليلة مكرسة ل " مراسم التشابيه " , حيث تمر المواكب بالتعاقب تحكي لنا مراحل قصة المقتل تفصيليا بتشابيه شخوصها .... لم يلتفت احد الى هيئتنا الغريبة مطلقا .. لم نشعر أننا غرباء عن تلك الجموع .. لم نسأل .. من أنتم ؟.. من أين أتيتم ؟ .. هل فيكم مسيحي أو سنّي ؟ شربنا الماء السبيل .. وتناولنا الطعام مجانا . وعدنا أدراجنا سعداء فرحين .
تعاقبت الأيام .. أطل علينا حكم جديد .. كنا ثلاثة اطباء أحداث في البصرة الفيحاء .. زميل لي والده آثوري " آشوري " وأمه كلدانية ، وآخر أعلمني بعد أكثر من سنة من لقائي به بأنه شيعي . عرض علينا بعض المعارف بان نقضي ليلة التاسع من محرم ، المعروفة عند العموم ب " ليلة الطبك " ، في شارع أبو الأسود ، حيث سيمر به موكب التطبير بالقامة ، وستكون هي السنة الأخيرة التي يسمح بها لأحياء ذكرى عاشوراء . وبالفعل أتينا مساء وقضينا الليل باكمله داخل سيارتي التي أوقفتها على الرصيف . وعند الفجر ظهرت المجموعة فجأة من عكس الاتجاه المتوقع , وذلك تمويها للشرطة التي كانت تحاصر تلك الجهة . معظم المشاركين ضمن المجموعة من الشباب و صغار السن .... الدماء تسيل من فروة روؤسهم .. أغمي على أحدهم .. نقل حالا الى الجامع القريب من موقع سيارتي ... نادى علينا احد معارفي لندخل الجامع ونشاهد الاجراءات العلاجية .. شاهدنا شيخ يمسح رأس المصاب بمسحوق اسود اللون ثم سقاه بعصير أصفر اللون .. إستفاق من غفوته وقفز كالنمر مع قامته ليلحق بأقرانه ويعود الى التطبير مجددا . عرفنا من الشيخ بأن المسحوق لعظام حيوانية تحرق ثم تطحن . أما العصير فخليط من الحمضيات مضاف اليه قليل من ماء الورد. ألكل كان يعلم من أنا والى أي دين أنتمي .. نعم فمحل خالي هناك أزوره بانتظام ...قٌدموا لنا الأمان .. شاركناهم مشربهم ومأكلهم .. استقبلونا بمودة وودعونا بمحبة .
غادرت وطني الحبيب الى بلد الضباب طلبا لمزيد من العلم وبغية نيل الشهادة العليا والحصول على الاختصاص الذي أنا اليوم حامله . رحل معي عاشوراء .. انتابني الحزن واعتصرني الالم .. حتما ساعود .. ولكن احساسي يبلغني بأن عاشوراء أيام زمان لن يعود كما كان .