المحرر موضوع: مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (14)  (زيارة 3625 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كمال يلدو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 563
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (14)

صحيح انهم في الملفات الرسمية (رحلوا) لكن في سجلات الناس وضمائرهم مازالوا موجودين، اولئك هم  اعضاء المجموعة المتميزة والتي نطلق عليها اسم (مربين أو مربيات) ، فيما ينسى الكثير من الذين يحتفلون بالأختصاصات الكبيرة، بأن أيّ منهم كان عليه ان يجتاز الباب قبل انطلاقته نحو الفضاء  الواسع للحياة ، اي ان يمر من تحت يد المعلم، وصولا لأكبر احلام الأنسان بالتقدم والعطاء. ان الرحلة الكبيرة والمفعمة بالتضحية   والمحبة كان لابد ان تترك بصماتها في الأبناء والأحفاد وهكذا، لكن بمنطق الناس الخيرة ، فأن لهذه النخبة الطيبة والمضحية منزلة خاصة لدى ابناء الشعب ايضا، نتشارك بها مع  أبنائهم وعوائلهم، وهذا يحق لنا ولو قليلا ، نحن الذين عرفانهم وأحببناهم!
فالذكر الطيب والدائم لهم، والشكر ابدا لعوائهم الكريمة  لما تحملوا  من اجل اثبات انسانيتهم.
*******        ********        ***********         ***********         ***********

المدرس الراحل عابد بتي عبدو
من مواليد مدينة القوش التابعة لمحافظة نينوى عام 1928 في (المحلة التحتانية) وقد اقترن بالسيدة حياة هرمز توما ولهم 3 بنات وإبنان، وما مجموعه 13 حفيد لحد الآن. وافته المنية  في مدينة ديترويت عام 1994، عن عمر ناهز ال 66 عاما.
درس الأستاذ عابد بتي  في مدارس (القوش)  ثم دخل (المدرسة الريفية لأعداد المعلمين) ، بعدها انتقل الى بغداد وأنهى  الدراسة الأعدادية وألتحق مباشرة ب (كلية الآداب / جامعة بغداد – قسـم اللغة العربية) وقد اثبت جدارة كبيرة وتفوقا في هذا الحقل، ســيجد انعكاسه لاحقا على مجمل حياة المرحوم، اذ نال شهادة البكالوريوس عام 1958 بدرجـة شــرف.
كانت  مسيرة الأستاذ  الراحل حافلة بالنشاطات الأجتماعية والثقافية والعمل الدؤوب وخدمة الكلمة، اضافة لعمله المهني الوظيفي كمدرسـا في (المتوسطة النظامية) ولاحقا ، معاونا للمدير  في (الأعدادية النظامية)،  وبنظرة فاحصة الى عمله، سيتوقف الأنسان ليسأل: كم ساعة كان يوم الأستاذ عابد بتي؟ ومن جملة ما يمكن تذكره كان:
- عضوا في المجمع العلمي العراقي
- رئيس نادي بابل الكلداني لعدة دورات
- عضو جمعية الثقافة السريانية
- رئيس تحرير مجلة (الثقافة المسيحية) لعدة سنين
- عمل طويلا في مجلة (قالا سوريايا)
- وقد برع في نظم القصائد الشعرية في اللغتين، العربية والسريانية وله منهم الكثير.
اما مسيرته المهنية والوظيفية في العراق فكانت جديرة بشخصية (لغوية) فذة في زمانه، فقد كان العديد من اللغوين وأصحاب الأختصاص يعتبره من (فطاحلة) اللغة، وقد تكون ظروف العراق السيئة هي الوحيدة التي حالت دون ان يتربع على عرش كبار اللغوين أمثال انستاس الكرملي أو مصطفي جواد وغيرهم ، وأختير كأفضل مدرس للغة العربية لسنين كثر، اما وزارة التربية فقد استثمرت طاقاته  وسخرتها في اقامة  الدورات اللغوية للكثير من منتسبي الوزارات والمعنيين بالمراسلات، من اجل ترصين لغتهم وجعلها بأعلى مستوى، هذا اضافة الى التعويل عليه (ومعه بعض الأساتذة الآخرين)  من قبل (وزارة المعارف – التربية) في وضع أسئلة الأمتحانات الوزارية للغة العربية.

كان لأندلاع الحرب العراقية – الأيرانية وما آلت اليه اوضاع العراق آنذاك من انحدار نحو الأسفل سببا لدفعه للمغادرة والهجرة في العام 1982، فقصد الولايات المتحدة ، وأستقر بمدينة ديترويت، وهو لما يزل في قمة عطائه وطاقاته الأبداعية، التي صاغتها مشاركاته في العراق، وقد برع في لغة آبائه وأجداده (السريانية) كتابة ونثرا وشعرا اضافة الى اللغة المحببة عنده، العربية.ولكونه انسانا معطائا فقد نشط في ديترويت ايضا وكان،
- رئيس تحرير (مجلة الثقافة المسيحية) في المهجر لفترة غير قصيرة
- رئيس (جمعية التراث) في الأتحاد الكلداني لفترة من الزمن
- أحد اعضاء هيئة التحرير في (مجلة القيثارة) التي يصدرها السيد سلام رومايا
- كاتبا ومشاركا في معظم الصحف والمجلات التي تصدر محليا في مدينة ديترويت آنذاك، اذ كتب عن التربية، العائلة والشباب، وعن الحياة الأجتماعية في المهجر.
- محاضرا في (المجلس العربي الكلداني الأمريكي) في مواضيع تخص تهيئة الأجيال لمستقبل افضل
- مشاركا نشـطا في معظم فعاليات ونشاطات الجالية في مدينة ديترويت.
- عضوا نشطا في (جمعية فرسان كولومبس) الكاثوليكية الخيرية.

في الكتابة عن شخصية  أكاديمية وثقافية وأجتماعية مثل المرحوم عابد بتي، ستجد المئات من المستعدين للحديث عن سيرته وسجاياه وأعماله الأنسانية، ناهيك عن ابناءه وأفراد اسرته وعائلته، وحتى بلدته الغالية (القوش) ووطنه الأغلى العراق، ولكن بعض الشهادات قد تفي بالغرض السامي، اذ يقول الأستاذ نجيب سليمان جلّو:
((كان المرحوم الأستاذ عابد بتي شخصية متميزة  بهدوئها الأجتماعي وبسيرتها المستقيمة الحسنة ،المليئة بالأخلاص والمحبة للوطن والشعب ، ولمهنته التربوية التي احبها ايما حب تجلى من خلال ما كان يقدمه لطلابه والذي تجسـد بحرصه الشديد واللامتناهي، بأمل ضمان  نجاحهم ومسقبلهم. كان (ابو عامر) احد النجوم الساطعة  بعالم اللغة العربية في العراق،  وذو مواهب وقدرات عالية في اختصاصه واسلوبه في العملية التدريسية  .
نُمْ قرير العين يا استاذنا ابو عامر فقلما انجبت ْ قرانا مثلكَ نظيرا وكنت لقومكَ وطلابكَ دوماً معلماً وحكيما.))

والشهادة الأخرى من الأستاذ (المحامي مرشد كَرمو) الذي ربطته  بالراحل علاقة ثقافية ووجدانية حميمية كبيرة، اذ يروي فصلا حزينا من تجربته  ، قد لا اكون مبالغا لو قلت انه شبيه بفلم سينمائي  فيقول:
((كانت قساوة الحياة هي التي أجبرت طاقة كبيرة مثل الأستاذ عابد بتي لمغادرة العراق، ورغم بعده عنه، فقد كان حاضرا في كل نشاطاته، اما بالنسبة لأولاده الذي كان شديد التعلق بهم، فقد ظل أسير الشوق للقاء ابنه البكر عامر ،الذي بقى في العراق، وكان يرسم مشاهد الفرح في اللقاء المزعوم، ويصادف ان يشارك المرحوم في احدى حفلات الأعراس التي كان مدعوا لها هو و زوجته، وعند خروجه من البوابة، يصادف مجموعة من الشقاة (المجرمين) الذين تمكنوا من سـرقة (شنطة) زوجته، لكنه والحال هذا آثر الدفاع عنها ومقاومتهم، وكانت حصيلة ذلك ان تلقى (دفعة) قوية اسقطته على الأرض الكونكريتية، ودخل مذ حينها حالة الغيبوبة (الكوما) ولم يعد قادرا على الكلام والتمييز، ويحدث في تلك الفترة ان يقترب موعد وصول ابنه (عامر) للألتحاق بباقي افراد الأسرة، لكن ساعة اللقاء كانت أصعب ساعة على الأبن البكر الذي تأمل ان يحضن والده ويقدم له قبلة اللقاء الحارة، اذ تبدد ذلك الحلم الجميل، ووصل (عامر) الى ديترويت، وزار والده في المستشفى، وعاش تلك الساعات الحاسمة قبل ان يلفظ الراحل عابد بتي ساعاته الأخيرة، في تجلي ما بعده من تجلي لثمن الغربة الذي دفعته آلاف العوائل العراقية الأصيلة نتيجة سياسات الأنظمة الفاشلة والحكام الأكثر فشلا من انظمتهم، فقد مر ذلك المشهد ولا أحد يعلم ان كان (أبو عامر) قد علم بوصول ابنه الى بر الأمان ام لا؟)).
وقد تكون محاسن الصدف هي وحدها التي خدمت في خروج هذا الموضوع الى حيز النور، اذ ساعدني الأستاذ الفاضل نجيب جلّو في اللقاء مع السيد ( ثامر عابد بتي) ابن الراحل، الذي كان كريما في تزويدي بالمعلومات وبعض الصور الفوتوغرافية الجميلة عن سيرة (ابو عامر) العامرة ايضا!  لكن وبالحديث عن شخصية والده المرحوم، فأن في جعبة ثامر الكثير للقول : (( ان فكرة هجرة العراق كانت آخر ما يفكر به والدي، فقد كان معارضا لها، وسمعته كثيرا وهو يجادل بعض المعارف ، لكن ظروف العراق القاهرة والسياسات الطائشة والحرب العراقية الأيرانية وضحاياها ، جعلته يعيد النظر بتلك المفاهيم، فصار يفكر كثيرا بأبنائه وسلامتهم، وكان يخاف ان يكون مصيرهم مثل مصير ابناء جيلهم الذين سيقوا لهذه الحرب.  كان والدي شديد الصرامة معنا خاصة حينما كان الأمر متعلقا بالدراسة، فقد كان يقول بأستمرار:  ((ان التنظيم والأدارة هما اساس المستقبل في رفاهية وتقدم الأنسان))، ويحزنني ان أقول بأن لا احد من ابنائه قد اقتفى أثره او تمكن حتى من اللحاق به اصلا، فقد كان متفوقا على أقران جيله، ان كان بثقافته او حبه وأخلاصه لناسه وللوطن. لقد بقى العراق عزيزا عنده حتى الرمق الأخير!)).
*******        ********        ***********         ***********         ***********

المدرسة الراحلة أمل يوسـف ميري – قينايا
ولدت في محافظة الموصل وفي (محلة مسـكنتة) حيث تقع كنيسة مسكنتة الكلدانية، بالقرب من منطقة الساعة في شارع  نينوى عام 1939 ورحلت عن الدنيا عام 1996 في مدينة ديترويت بالولايات المتحدة، وكانت قد اقترنت بالسيد  ميخائيل قينايا، ورزقا بالسيد  بسام الذي تخرج طبيب اسنان، والسيدة بان التي تخرجت طبيبة، ولو كانت على قيد الحياة فكان سيكون لها خمسة احفاد لحد اليوم.
كانت اولى خطواتها  بعالم المعرفة في،
1- (مدرسة الراهبات الأبتدائية) في الموصل حتى العام 1947 اذ انتقلت العائلة لبغداد وأكملت مدرستها في،
2- (مدرسة الراهبات – راهبات التقدمة المركزية) في منطقة (عكد الراهبات – عكد النصارى) حيث اكملت الأبتدائية والمتوسطة فيها، وكان من نتائج دراستها ان اتقنت اللغة الفرنسية بشكل رائع، انتقلت بعدها الى،
3- (الأعدادية المركزية للبنات) حتى تخرجها وتقديمها للدراسة الجامعية في ،
4- كلية التربية / جامعة بغداد – قسـم اللغة الأنكليزية حتى تخرجها عام 1960.
لم تمض الا سنتان بعد تخرجها حتى دخلت الحياة الزوجية، لكن تعينها الأول جاء عام 1960 في،
1- (مدرسة) في مدينة بعقوبة ولمدة سنتين ثم انتقلت الى،
2- ( ثانوية القناة للبنات) في منطقة شارع فلسطين ببغداد لحوالي 10 سنوات، بعدها اضطرت للتقديم الى التقاعد     المبكر نتيجة اشتداد المرض عليها.
لقد عاصرت الراحلة (ست أمل) خيرة الأساتذة والمختصين  الذين منحوها (كما غيرها) عصارة قلبهم وخبرتهم في التعليم والتدريس ومنهم: الأساتذة القادمين من المملكة المتحدة، مسـتر زبدي، مســتر ســبور، مـس إدليفر و مـس هريك، اضافة الى نخبة رائعة من العراقيين امثال: صفاء خلوصي (ترجمة)، نوري الحافظ (تربية) و عبد العزيز البسـّام (علم نفس).   كانت الصدف الجميلة هي التي جمعت الشقيق الأكبر (مالك) مع الشقيقة الأصغر منه (أمل)، في رحلة المدرس والطالب في ذات القسم الذي تخرجت منه لاحقا لتصبح مدرسة –  اللغة الأنكليزية-  ويورد الأستاذ مالك ميري بعضا من ذكرياته عن الراحلة نقلا عمن شاركوها الحياة الجامعية فيقول: (انها كانت محط انظار الطلبة والأساتذة  نظرا لجمالها الأخاذ ونصاعة بشـرتها البيضاء. وتحدثت عنها مرة استاذتها في (دار المعلمين العالية – سـاجدة الجلبي) قائلة: (كانت طالبة  ذكية فاتنة). ويحدث ان يلتحق العديد من زملائها  في دراساتهم العليا بجامعة بغداد، وتجمعهم الصدف مع (الأستاذ مالك) ليتقاسموا معه الكثير من ذكرياتهم عنها، ومن الطريف ان يذكر: (( ان طلبته كانوا يشيرون اليه ويقولون: هذا أخـو السـت أمـل! كفــوء مثلها ولكنه ليس بجمالها!!)).
إن كل من عرف (الست أمل) أجمع بأنها كانت ربـة بيت متميزة، وتمكنت بجهودها المتواصلة وبثقافتها العالية، ان توصل (ابنها وبنتها) الى بـّر واسع الأفق في حقل خدمة الأنسان والمجتمع، وضمان المستوى المعاشي الجيد، حيث تخرج كلاهما  من الحقل الطبي.
وإضافة لجمالها الأخاذ والفتان، فقد تميزت ببرائتها ونهجها الخلقي الرفيع، وعرفت ايضا بأسلوبها التعليمي الدقيق – اذ درسّت مادة اللغة الأنكليزية للصفوف الثانوية  المنتهية والمتهيئة لأمتحانات البكلوريا- وهذا ما تذكره تلميذاتها وزميلاتها من المدرسات، على ان صفاتها الشخصية لم تبتعد كثيرا من جو العائلة المفعم بالمحبة والملئ بالثقافة والعلم، خاصة  لوالدها (المعلم والشماس) يوسف ميري، ولابد من الأشارة بمكان لدور (الراهبات) في حياتها وتميزها بالمحبة، فقد كـنّ بتضحياتهـّن قدوة لها في الصبر والتقديم وخدمة الناس، ومعهن ارتبطت، ومعها بالكنيسة الكاثوليكية ارتباطا وثيقا، اذا كانت تقوم في اوقات فراغها، بتدريس مادة اللغة الأنكليزية للراهبات، على خطى والدها الذي كان يدرس الراهبات مبادي اللغة الكلدانية – السريانية ايضا.
وكما للحياة مشاويرها الحلوة مع الناس، لكن احيانا ما يكون قسما منها محزنا وبحاجة لمقاومة شــرسة ، وتشــبث عال بالحياة  والفرح، حتى يحقق الأنسان نصره (ولو بشكل مؤقت) وهذه ربما تكون القصة المختصرة لصراع الأنسانة – الراحلة – أمل من أجل البقاء! وتعود الذكريات لأحد ايام عام 1958 حينما كانت طالبة / السنة الثانية في قسم اللغة الأنكليزية، عندما داهمت الشرطة بناية المعهد، ودخلت للصفوف بحثا عن مطلوبين سياسين، وكان صفها من بين تلك الصفوف، فراعها وأرعبها منظر الشرطة المدججين بالسلاح، فلم يتمكن جسمها، او نفسيتها الرقيقة من تحمل شـدة الصدمة، فكان من نتائجها ان تصاب ب (داء السكري) الذي رافقها منذ ايام شبابها الأولى عام 1958 ولغاية ما  أتى عليها عام 1996 رغم العلاجات والتداوي والحرص الشديد لكن (38) عاما مع المرض كانت كافية لأذابة الحديد، فكيفما بالست أمل!

رغم مرور سنين طويلة منذ ان فارقتنا، تقول إبنتها الدكتورة بان قينايا - قاشات الا انها حاضرة دائما في حياتنا، تضئ ايامنا وتشاركنا افراحنا، مع انها لم تدرسني الا ان صديقاتي في ثانوية القناة كانوا يذكروها  بالخير دائما، ويقولون عنها بأنها متمكنة جدا من مادة اللغة الأنكليزية وأنها منحت تلميذاتها قواعد في اللغة جعلت تعلمها وأتقانها سهلا جدا، اما كأم لي، تقول ابنتها بان، فأنها كانت حنونة ومسامحة، وكانت تعطينا كثيرا ولم تجرح شعور اي منا، لكن تبقى غصة في صدري كلما تذكرتها، فقد اضطررت لمغادرة العراق انا وزوجي وقصدنا اليونان، بينما ظلت هي في العراق تتعالج من (داء السكري المزمن) ويبدو ان المرض قد اطبق عليها كثيرا، فنصح الأطباء والدي بأخذها للخارج بغية العلاج، وفعلا هذا ما تم ، اذ غادروا العراق وقصدوا ديترويت، وعلمت بأنهم ادخلوها المستشفى في اليوم الثاني لوصولها، ولم تمض 10 أيام حتى غادرتنا، يومها كان عمر ابنتي 10 أشهر ، وكم كنت اتمنى لو كانت قد حملتها بيدها ولو لمرة واحدة!
اما شقيقها الأستاذ  د.عضـيد ميري فيقول عنها: ((أملي ...أختي...ومعلمتي..." أمل " كانت شمس ألدار وألكوكب ألنوّار في سماء عائلتنا و هي من أنار لنا أبجديات كلمة "أخت" وكل ما تحمله حروفها ألثلاثة الصغيرة من أجمل وأصفى وأحلى ألمعاني ألأنسانية ، إذ كانت ألأخت ألوسطى في بيتنا ( لأختي سعاد وسهى) إنسانة رقيقة ألمشاعر رهيفة ألخواطر كثيرة ألمأثر ، على ألرغم من صراعها أليومي مع مرض ألسكري أللعين ألذي أبتليت به وعلى غير توقع في مطلع شبابها ودراستها الجامعية . و من اجمل إضافات أمل لأجواء بيتنا المتواضع كانت صفات ألمحبة والحنان وألصبر وألجدية وألصوت ألعالي ألواضح ألذي خدمها جيدا عند تدريسها اللغة الأنكليزية في مدارس ألبنات في بغداد . وأذكر  بألأخص عندها عواطف الاخوة ، وألأمومة وألقرابة التي تتعدى صلة الدم وتدعم الشعور بأنها في بحور عأئلة مؤمنة تستمد محبة يومية متدفقة مصدرها امي الحنونة ألتي أحبتها حياة ناظر ورافدها أبي ألذي أحبها أكثرا يوسف ميرى إذ كانت أمل عندهم ألنجمة ألمفضلة وألمستشارة ألمدللة وألشجيرة ألمضللة ولكنها  غابت في عمر مبكر وبدون إستئذان في مسيرة حياة لم تدم طويلا تاركة ذكريات لامعة وبصمات ناصعة في إبنها ألدكتور بسام قينايا وإبنتها ألدكتورة بان قاشات ورغم ألرحيل فهي مازالت في أفكارنا وأحلامنا وآمالنا نراها عند ألفجر ونذكرها مع ألأصيل وتبقى لنا ذكرى لاتعوض لكل التفاصيل الصغيرة ألمحببة ولكل ماهو جميل من آمال مرت في حياتنا وأصداء ترددت في دارنا )).
اما ابن خالتها الأستاذ فاروق سامونا فيتذكرها بقوله: ((كانت لي بمنزلة أختي الكبيرة، وعندما كنّا نزور بغداد قادمين من مدينة تلكيف، كان بيت خالتي أهم محطة آنذاك. اما عندما كبرت، فكانت تقوم بتدريسنا مادة اللغة الأنكليزية لغرض تقويتنا وتهيئتنا لأحراز اعلى الدرجات في الأمتحانات النهائية ، اذ  غالبا ما كنّا انا وشقيقها د. عضيد وأبن عمها هلال ميري. ولو اردت الحكم عليها بلا مجاملات، فقد كانت مدرسة رائعة وممتازة ، ولها الفضل بأحرازي اعلى الدرجات في درس اللغة الأنكليزية.  لقد كانت سـت أمل بأختصار شديد: جميلة الخلق والأخلاق، اطلب من الله ان ينعم عليها برحماته الواسعة)).
*******        ********        ***********         ***********         ***********

المدرس الراحل صباح يوحنان جواد
ولد في مدينة تلكيف التابعة لمحافظة نينوى عام 1944 وفي (محلة شمامي)، وقد وافته المنية عام 2014 بعد صراع مع المرض لم يمهله كثيرا. في العام 1973 اقترن بالسيدة رفاء يوسـف يلدو، وقد انجبت له بنتان وولدان، ولهم الآن 9 أحفاد.
درس الأبتدائية والمتوسطة والثانوية في مدارس مدينته العزيزة تلكيف، وعندما تخرج من الثانوية عام 1963، توجه الى بغداد  ليلتحق ب (معهد التعليم العالي) اذ تخرج منه عام 1966  مدرسا مختصا بفرع الرياضيات. عقب هذه المرحلة تقدم لغرض التعيين والتوظيف، فكانت اولى محطاته ،
1- مدرسا في احدى مدارس أربيل لمدة سنة ثم،
2- مدرسا في احدى مدارس (كويسنجق) لمدة سنتان ثم،
3- مدرسا في احدى مدارس الموصل لمدة عامان وبعدها،
4- انتدب الى (جمهورية الجزائر) مدرسا لمدة عامان حتى نهاية 1972 وبعدها،
5- مدرسا في (الموصل) من جديد ولمدة عام واحد ثم،
6- مدرسا في (ثانوية تلكيف) لمدة ثلاث سنوات حتى 1977 ثم انتقل ،
7- مدرسا في (ثانوية النضال) في بغداد لمدة عام بعدها ،
8- مدرسا في (ثانوية الزوراء) في حي الضباط ببغداد ولمدة 16 عاما، اي حتى وصوله سن التقاعد عام 1994. بعد هذه السنين الطوال، لم يرغب ان يجلس في البيت، بل عمل بالأعمال الحرة اضافة الى قيامه ب (التدريس الخصوصي) من اجل توفير وارد مالي مجزي للعائلة التي كانت تكبر وتكبر معها مستلزماتها. في العام 1998 غادر الأستاذ (صباح جواد) مدينته العزيزة، ووطنه الغالي، بحثا عن مكان أكثر وسعا  يستطيع ان يوفر فيه سقفا آمنا ولقمة هنية لعائلته الكريمة، فوصل للولايات المتحدة وتحديدا مدينة ديترويت التي ضمت جمعا طيبا من زملائه وأصدقائه ان كان من مدينة تلكيف او من منتسبي السلك التعليمي.

بعد 41 عاما من تقاسم الحياة سوية، بحلوها ومرها، بأفراحها وأنكساراتها، كان لابد من التوقف مع ذكريات السيدة  رفاء يلدو لتدلي بشئ عن الراحل (صباح جواد) زوجها وشريك حياتها طوال الأربعة عقود التي خلت فقالت: (( لم يكن سهلا عليّ ان اعقد الفة مع مفردات حياتي بعد رحيله،  وحاولت كثيرا  ان لا اصدق ماجرى، لكن الحقيقة كانت اقوى من امنياتي وأمنيات ابنائنا، ولهذا نذرت ما تبقى من عمري لأكون الأم وأب لأولادنا وبناتنا، تماما كما قام هو بهذا الدور ولما يزل شابا في مقتبل العمر حينما تحمل مسؤلية عائلته بعدما رحل والده عن هذه الدنيا. لقد كان (صباح) زوجا مثاليا رائعا ، مخلصا للعائلة وحريصا عليها، وكان محبا لنا بذات القدر الذي منحه لأهله وأصدقائه وكل من عرفه، لقد كان فياضا بالمحبة، اما اكاديميا، فأن كل ما سمعت عنه كان محط احترام وأعجاب ، اذ نقل لي العديد من زملائه التدريسين بأنه كان متميزا في تدريس مادته، وكانت نسب النجاح عنده عالية جدا، خاصة في امتحانات البكلوريا، ورغم ما كان يقال عنه من انه (شديد) مع بعض الطلاب، لكن النتائج كانت خير دليل على نجاحه، لابل ان الوزارة كانت تكرمه بطريقتها الخاصة حينما كانت (تثق) به  في وضع اسئلة البكلوريا لعدة سنوات، ناهيك عن علاقاته المتميزة مع الأساتذة الذين شاركوه التدريس، والذين مازلت اصادف بعضهم هنا في المهجر، وكانوا دائمي السؤال والأستفسار عنه. لقد كانت فترة مرضه صعبة علينا، وأستنزفتنا كثيرا، مثلما استنزفته لحوالي عامين، وكم كنت آمل ان يجتازها، لكن يبدو ان المرض قد اخذ ما تبقى عنده من طاقة، فرحل عنا،  لكني اقولها بقلب نصفه حزن ونصفه فرح، بأنه كان محاطا بمحبتنا حتى اللحظات الأخيرة، وربما هذا هو اكبر تكريم له كأب وزوج وصديق لنا جميعا)).
ولآنه كان بقلب كبير، فقد احبه من كان قريبا منه، ولم يخفوا تلك المحبة حتى بعد رحيله، فكتب عنه السيد (جونير) ابن شقيقه عصام جواد قطعة نثرية حاول فيها ترجمة مشاعره النبيلة تجاه عمه الراحل (صباح)  ويذكر فيها: ( لقد تخرج على يده  في رحلته التدريسية، آلاف الطلبة من مسيحين ومسلمين ومندائين وأيزيدين، من عرب وأكراد ومن كل القوميات، وبعد وصوله الولايات المتحدة، عمل بكل جد  وفي محال عديدة من اجل ضمان (اللقمة الشريفة) لعائلته  كما يقولون، ورغم معرفته في العام 2012 بأنه مصاب بمرض السرطان، الا انه لم يتشكى يوما، ولم يبدي انزعاجه ابدا، وتمضي الأيام سريعة، وتنقضي حوالي السنة والنصف وكان يجابهه بالصبر والقوة، وليس ادل من ذلك حضوره حفل زفاف ابنة شقيقه عصام (آشلي) والتي سبقت رحيله بعشرة ايام فقط، الا انه آثر ان يكمل الحفل حتى نهايته تقريبا، لأنه لم يكن يرغب ان يفسد فرحة ابنة شقيقه، والتي هي بمثابة ابنته ايضا).
يرحل الأستاذ (صباح جواد) ويترك عند الكثيرين لوعة، لا تقل (حقا) عن لوعة المحبين، فكل الذين عرفوه أحبوه، وماذا ينتظر الأنسان أكثر من ذلك، يقول عنه الأستاذ (صباح دلي) صديق طفولته وزميله : (( جمعتنا مدارس مدينتنا الغالية تلكيف الأبتدائية والمتوسطة، لكن لم يكن في وقتنا (عام 1963) مدرسة ثانوية، فقدمنا طلبا  لفتح ثانوية في مدينتنا، وجاء الجواب ايجابي وبشرط، اما أن يكون  الفرع (الأدبي أو العلمي) وتركت القضية لتصويت خريجي المتوسطة الذين بلغ عددهم حوالي 61، فأجتمعنا نحن التلاميذ وقررنا الأمتثال للتصويت، وفاز يومها (الفرع العلمي) وهكذا انهينا دراستنا الثانوية دون الحاجة لتحمل اعباء السفر الى الموصل أو بغداد. لقد كان صوت صباح الى جانب توجهنا العلمي! التقيته ثانية في (معهد التعليم العالي) وصرنا اقرب من الأخوة  لبعض. تخرجنا، ومضت السنون، وأفترقنا، وهاجرنا ، وعدنا وألتقينا في ديترويت أحبة على نفس العهد. كان انسانا من طراز آخر، وأنا حقيقة  افتقده كثيرا، وأشد على يد أختي العزيزة رفاء، واولاده وبناته،  وأتمنى لهم ان يحافظوا على ارث صباح في الثقافة والمحبة والمعرفة)).

كمـال يلـدو
أيلول 2014