المحرر موضوع: الموروث العمراني (دراسات تحليلية في الإنقاذ والإحياء في تشكيل المدن) الجزء 4 من 16  (زيارة 775 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل هاشم عبود الموسوي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 84
    • مشاهدة الملف الشخصي


الموروث العمراني
(دراسات تحليلية في الإنقاذ والإحياء في تشكيل المدن)


الجزء 4 من 16

     لقد ساهمت التنقيبات الأثرية في تأكيد ثراء تراثنا المعماري الذي يعود لما قبلي الألف الثالث قبل الميلاد. فأن أقدم أثر مشابه للتراث المعماري الذي نشاهده اليوم هو المسكن السومري في (أور) ونجد مبادئ تخطيط هذا المسكن منتشرة من أفغانستان والهند شرقاً حتى أمريكا اللاتينية غربا ومن مدن العثمانيين شمالاً (اسطنبول وسراييفو) حتى مناطق الصحراء الكبرى جنوباً. هناك تشابه وتطابق في مبدئ المخططات على مستوي الحي أو المسكن الواحد. ومع هذا فهناك خصوصية لِكُلِّ منطقة تؤكد التكييف الموقعي في كل مدينة. إنها الرمزية التي تحدد (هوية) كل مدينة حيث يمكن التعرف على المدينة من رمزها، فعمارة بغداد التراثية تتميز بمساكنها ذات الملاقف (البادكير) المفتوحة على الجهة الشمالية الغربية (الغربي) لتلقف النسيم، في حين يكون الملقف كبيراً وذا فتحات متعددة الاتجاهات في عمارة مدن الخليج العربي، وذلك بسبب تغير اتجاه الرياح يومياً (نسيم البر والبحر) والحاجة الماسة إلى كميات كبيرة من الهواء في مناخ حار ورطب. كما تتميز مساكن القاهرة بالمشربية في الطابق العلوي، وعمارة (غرادية) في الجزائر تتميز بالمئذنة المربعة الشامخة في مركز المنطقة السكنية (القصر) .
   أمام هذه التنوعات، يطرح التساؤل : لماذا إذاً هذا الإصرار على هذا النمط المتكّيف لأصل معماري واحد ؟ وكيف استمر هذا النمط طوال مئات، بل آلاف السنين مع أن أفضل وأشهر نمط معماري معروف لم يستمر لأكثر من ألف عام ؟ لاحظ أن الاستمرارية رافقها تغير للظروف الاجتماعية – الاقتصادية مع توالي حضارات ودول سيطرت على المدن نفسها. والواقع فإن العامل الوحيد، الذي لم يتغير وساهم في بقاء هذا النمط، هو المناخ الذي حدد شكل وطبيعة النسيج العمراني، وبالتالي حدد مبادئ مخطط المسكن الشرقي.
   يعتقد البعض أن النسيج العمراني المتضام لمدن التراث المعماري يعود إلى أصول إسلامية، وتسمي مدن الشرق أحياناً المدن الإسلامية في حين ذكرنا أن هذا النظام الخاص بالأحياء الشرقية أو الصحراوية عرف قبل الإسلام بمئات السنين، ثم كان بعد ذلك ملائما من الناحيتين الاجتماعية والمناخية، لطبيعة المجتمع الإسلامي، أن المناخ لم يكن العامل الوحيد المؤثر على شكل ومحتوي النسيج العمراني فالعامل الاجتماعي كان له دور فاعل في تحديد الشكل النهائي لهذه المدن، لنلاحظ مثالا على ذلك  مدينة (غدامس) الليبية الواقعة على الحدود مع الجزائر. فجراء العلاقات الاجتماعية المحافظة المتشددة، بالإضافة طبعا للعنصر المناخي، نلاحظ أن النسيج العمراني لا يوضح النسيج المتضام فحسب، بل تم أيضا اعتماد توزيع خاص للوحدة السكنية داخل الأحياء بحيث يتألف المسكن من ثلاثة مستويات: الأرضي، بمستوي الزقاق، وهو مخصص للمعيشة والاستقبال، والطابق الأرضي وهو مخصص لفضاءات النوم، في حين يكون الطابق الثاني مخصصا للمطبخ وفيه مساحات ملائمة لعمل ربة البيت لتدبير شؤون المنزل المختلفة، وبسبب تلاصق البيوت، تستطيع الإمرأة الحركة بحرية تامة في سطح دارها أو الانتقال إلى أسطح الجيران دون رقيب أو عائق ! فالسطح أصبح فضاء حركة خاصا بالنساء لا يسمح للرجال باستعماله، في حين أن الزقاق أصبح بالنتيجة فضاء خاصا بالرجال، فلا تمر النساء فيه إلا في حالات الضرورة القصوى.
   نادرا ما نجد من هو ضد التراث، مع أنه ليس هناك من هو مستعد للسكن أو العمل في المبني التراثي. هل السبب هو أننا نقول ما لا نفعل ؟ أو السبب في التراث المعماري نفسه ؟ قد تتعدد الأسباب، لكن لا ريب أن التراث المعماري يتحمل المسؤولية الأساسية، فهو لم يواكب التطور الواسع الذي حدث، خاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر، بحيث فأجاتنا معضلة التراث المعماري الذي ظل منزويا وعاجزا عن توفير مستلزمات حضارية جديدة وفي مقدمتها الحاجة إلى أبنية من طراز خاص ووظائف جديدة ظهرت فجأة، مثل محطات القطارات، والطرق، والجسور، ومناطق الاستراحة، والمصانع، والمخازن ذات المساحات الكبرى، والبنوك، والمطارات، ودور السينما، والمكتبات والجامعات الحديثة، وهذه الأبنية أصبحت ضرورية لا يمكن لأي مجتمع أن يستغني عنها. والتراث بكب عمقه التاريخي، لم يكن مهيأ ليتكيف مع مثل هذه الوظائف، بل هو الواقع عاجز عن توفير حتى المسكن بالمفهوم الحديث، فقد تحول المفهوم الخاص بالسكن من الفضاء خاص للراحة إلى فضاء للراحة والعمل، وهو ما يستلزم اليوم المطالعة واستعمال الكمبيوتر والتلفزة والراديو والفيديو إضافة إلى ممارسة الأعمال المختلفة بواسطة الانترنت من خلال الثورة الرقمية وما أحدثته من سلوكيات جديدة مع العديد من الأجهزة المنزلية والكهربائية، لا يمكن توفير كل هذا في بناء يستلزم من جملة ما فناء مفتوحا وغرفا وفضاءات مباشرة على هذا الفناء .
   للإنصاف نقول إن التراث المعماري الأوروبي لم يكن أفضل من حظ تراثنا فحتى نهاية القرن التاسع عشر كان المعماريون ينهلون من تراثهم الغني في العصور الكلاسيكية، وعصر النهضة لم يكن له مصدر سوى التراث. الفرق الأساسي بين ما واجه التراث الغربي والشرقي هو أن الأول استطاع أن ينسجم مع التطور الحضاري في أوروبا، خاصة منذ القرون الوسطي. ولكن فعل هذا التراث كان قد توقف على أيدي رواد العمارة الحديثة الأوائل الذين أداروا ظهورهم للتراث كلية وتوجهوا إلى العمارة العالمية، أما تراثنا المعماري فتوقف عن التطور منذ بداية القرن الثالث عشر الميلادي، ومع مطلع القرن العشرين وصلت بوادر الحضارة الأوربية بقوة نسبيا إلى بلداننا ومعها العمارة المختلفة شكلا ومضمونا عن الواقع المعماري المحلي، وبدأ انتشار الفيلات المبنية على النمط الأوربي، وظهرت أولي الأبنية العامة الكبرى الخدمية والإدارية والعسكرية، ثم المتاحف ودور السينما والملاعب الرياضية والمستشفيات، إن بداية ظهور هذه الأبنية رافقته حملة متصاعدة ضد التراث والعمارة المحلية، وفجأة اختفت مواد البناء المحلية اللازمة وفقدت الأيدي الفنية والماهرة اللازمة للبناء المحلي، وإن وجدت فهي ذات أجور عالية جداً، والبناء المحلي بطبيعته يحتاج إلى وقت، والوقت أصبح بالتدريج مالا .
   أيعني كل هذا أن علينا أن نهمل التراث المعماري ؟ الواقع أن العمارة الحديثة القادمة لنا من أوربا قدمت حلولا عديدة لمعضلات من الصعب حلها في العمارة التراثية، لكن مضاعفات العمارة الأوربية عندنا سرعان ما تفاقمت حتى اعتبرت اليوم من مصادر ومظاهر (التلوث) على مستوي مفهوم تخطيط المدن المعاصرة. لقد ساعد على سيطرة العمارة الحديثة الدعم التكنولوجي المتطور بشكل سريع ومتصاعد مع تغيب أو غياب مواد البناء المحلية، فوق كل هذا لقد اختفت العديد من الوظائف والفضاءات الهامة التي كانت ضمن العمارة المحلية، بل عجزت العمارة الحديثة عن توفير بدائل عنها فالفناء المفتوح (الحوش) يعتبر قلب الدار، وأفضل مثال للفضاء المتعدد الاستعمالات تتم فيه كافة الفعاليات اليومية أو الموسمية أو السنوية، مثل الأفراح والاتراح، إضافة إلى أن الحوش يعتبر أفضل فضاء لربة البيت، تقضي فيه متطلباتها اليومية في الطهي أو الغسيل، لقد استبدلت الصالة بهذا الفضاء الهام أو الفناء المغلق المخصص للحركة من وإلى فضاءات الدار المختلفة، وهو بالتالي فضاء غير مريح نفسيا وجسديا. لأن معظم الفعاليات الاجتماعية عادة ما تتم في أشهر الصيف، تضطر العائلة في فعالياتها الواسعة وفي المناسبات إلى استغلال مسكن الجيران أو نصب خيمة مؤقتة خارج الدار تزعج الجيران أو المشاة. العمارة الحديثة تجاوزت أيضا المدخل المنكسر (المجاز أو السقيفة)، فأصبحت باب الدار تفتح مباشرة على الصالة مما يستدعي غلقها دائما فصارت تعرقل ليس حركة الإنسان فحسب، بل أيضا تمنع عملية التهوية الطبيعية عبر الباب. كما أصبح السطح فضاء مهملا مغبرا مرتعا للحشرات والطيور بدلا من سطح الدار الشرقية، وذلك الفضاء الحميم في أمسيات الصيف أو ساعات النهار شتاء. فهو أفضل فضاء مفتوح للمسامرة والمطالعة واللعب وتناول الطعام ونشر الغسيل والمغازلة ! هكذا تم بسرعة تجاوز الكثير من فضائل الدار الشرقية .