يونان هوزايا، حشرجة صوتك تناديني
غادرنا الى الأخدار السماوية قبل ايام وقبل الأوان الشاعر وكاتب القصة القصيرة والسياسي واللغوي والمهندس والوزير السابق في حكومة كردستان، الاستاذ يونان هوزايا الذي يعتبر أيضاً الابن البار لبلدة زاخو العريقة. وإضافة الى هذه المواهب كانت له خصال قلما يتصف بها رجال هذا العصر ومنها الطيبة والتواضع والإخلاص والمثابرة والصبر على المصاعب والتدّين والإيمان بالقضية. هذه الخصال هي بمثابة هالة القداسة التي يرسمها الرسامون لتحيط روؤس القديسين-- او العظماء للذين لا تستهويهم الروحانيات. كيف اعرف هذا كله عن هذا الرجل المعطاء في حياته الأرضية فالجواب اتٍ ، لاني لا اريد ان امتدح شخص في غير استحقاقه وحين ذاك أكون انفخ عبثاً في قرب مثقوب.
التقيت الراحل يونان هوزايا مرتين في شيكاغو مرة لا أتذكرها جيدا ً سوى توقيعه لكتيب له بعنوان " لخما دتخوماني/ خبز السواتر" كنت قد اشتريته من بعد محاضرة له. ومرة كان لي الشرف لنقله في سيارتي الى اجتماع كان مقرراً ، ولم يجد احد الأخوة المجتمعين غيري لان يقوم بالمهمة لكوني اسكن قريباً. كانت تلك المهمة فرصة نادرة وثمينة لي للتعرف عن كثب على شخصية يونان العظيمة والتي لا بد ان تشمل التواضع والّا فان الهالة لن تكون هناك، وهذا حقاً كان انطباعي الاول عنه، وسمة الوجه وأحاديثه كلها كانت تنطق بهذه الحقيقة. اعترف اني في عمري هذا لست من اصحاب الذاكرة القوية ولكن من الحديث الذي جرى بيننا كان إبان انتقال العراق من الديكتاتورية الى الديمقراطية التي لم يكن العراق مستعدا ً لها بعد، وأكاد اجزم التوقيت لان يونان بصوته الذي ينطقه دوماً بنبرات الحشرجة طلب مني في حينها ان اكتب عن الدستور العراقي المقترح ليكون منصفا ً لكل مكونات الشعب العراقي حيث ان العراق سوف يكون جميلاً بالموزاييك التي التي يجب ان يعكسه. هذه المناداة من قومي و وطني مخلص لازلتُ دوما ً احس بها ولا أظن اني قد وفيت العهد كاملا مثلما طلب مني ضيفي الجالس يميني في السيارة.
أتذكر أيضاً في هذه الفرصة النادرة لي لسبر أغوار المغوار يونان هوزايا انه سألني عن أهل زاخو الذين أعرفهم في شيكاغو، لقد كان وقته أضيق من ثقب الأبرة لكنه طلب مني ان اخذه الى اقرب شخص اعرفه وصدفة كان المحل الذي يملكه الشماس المحترم أدور عوديشو على اقل من ميل وهنالك التقى الاثنان وكانت فرحتهما لا توصف وخاصة ان زوجة الشماس أدور اتضح انها قريبة يونان ولكن للأسف ان التزامات الأخير حالت دون لقاء قريبته، رغم كل المناشدات من قبل الشماس للذهاب الى بيتهم القريب، ولكن أظن انه تكلم معها عبر التلفون . هكذا هي حياة الذين يحملون عاتق أمتهم على مسؤوليتهم، يضحون بالخصوصيات لأجل الأشمل والأهم.
يونان كان له دور ريادي في تطوير أعلام الحركة الديمقراطية الآشورية وكان يعرفني من بعد لكن عن كثب --بفضل التكنولوجيا --و من خلال كتاباتي في بهرا التي كان هو لفترة رئيس تحريرها. لمدة سنتين كتبتُ أربعة وعشرين حلقة في زاوية خاصة بعنوان عزيزي الوطن، وذلك من كانون الثاني عام ٢٠٠٠ الى كانون الثاني عام ٢٠٠٢، وحين كتبتُ اخر حلقة وقررت ان تكون الأخيرة أذهلني يونان انها ليست حقاً الأخيرة وكتب هو الحلقة ٢٥ وهو رقمي المفضل، وكانت رائعة بكل معنى الكلمة وفيها علَّق على بعض مما ورد في مقالاتي وحين اقرأها الان احس ان الفقيد يونان كان حقا ً يسكن قلبي. أخذت هذه الحلقة حيز صفحة كاملة كي يعلمني ويعلم القراء أهمية الذي كتبته، اذ سطر قلمهُ الأدبي الفصيح : ( لا أشك ان معظم الذين يهتمون بالحبيبة " بهرا " قد اطلعوا على حلقة -- او اكثر -- من ما سطره يراع زميلنا الكاتب المغترب " حنا شمعون -- ابو دقلت " .. ولا أشك أيضاً انهم قد تلمسوا فداحة الجرح الذي شكله ويشكله الأغتراب .. وكذلك .. فلا بد ان " يعوا " أولئك النزيف الهائل الذي " سكبته " هذه الجراحات " بعيدا ً عن الوطن .. واه يا وطن.. )
الذي أذهلني عن شخصية يونان هوزايا انه بدأ يتعلم لغة الام حين كان في السنة الثانية من دراسته في كلية الهندسة في الموصل. بدأ من الألب بيث وفي خلال اقل من ثلاثين سنة اعتلى قمة الكتابة الأدبية باللغة السريانية، أربعة عشر مؤلفا أدبيا ً والحبل على الجرار لولا المرض اللعين ومن ثم الرحيل المبكر. قاموس "بهرا" وهو من مؤلفاته مع الشماس أندريوس يوخنا هو ملاذي كلما كتبتُ قصيدة او احتجت الى كلمة اعرفها بالعربية وأريد كتابتها بالسورث / السريانية. وماذا عن المناهج التدريسية بلغة الأم ، مشروع ما كان يكتب له النجاح لو جهود ومثابرة يونان وزملائه ، لم يفسحوا اي مجال لإجهاض هذا المشروع القومي فكلما أرادت الحكومة المحلية إنجاز المنهج في وقت محدد كان يونان في المقدمة لسهر الليالي لإنجاز المطلوب ، هكذا كان الأمر مع توفير الأقسام الداخلية والباصات كان يونان ورفاقه يستنجدون بالمغتربين والمعاضدين عاجلا ً لتوفير المال اللازم كي لا تنقطع الدراسة في المدارس السريانية ومن ثم يفشل المشروع اللغوي الذي خططت له الحركة الديمقراطية الآشورية بكل ما تملك من قدرات.
هذه هي اعمال الفقيد يونان هوزايا التي تفصح عن عمق إخلاصه لقوميته ولغته ووطنه، وبشهادة رفاقه او الذين زاملوه من أمثال توما خوشابا، يوسب شكوانا، لطيف بولا، لطيف نعمان ، إسكندر بيقاشا، نزار الديراني ، وغيرهم كثيرون ..لقد كان مدرسة للتثقيف وإنتاج الشباب الغيارى لبث الروح القومية ضمن العراق الموحد والمعروف بفسيفساء مكوناته الأثنية، وكذلك أيقظ يونان هوزايا بكتاباته الأدبية المشاعر القومية الآشورية لدى العديد من المثقفين والشعراء الذين أبعدتهم السياسية الشوفينية في العراق عن معرفتهم لحقيقة قوميتهم ، لقد كان قومياً نقياً من غير تعصب ويحترم وجهات نظر الآخرين وخياراتهم السياسية وبذا نال كل التقدير والاحترام من لدن الجميع .
رحيل يونان هوزايا وهو في قمة العطاء هو خسارة كبيرة لأمته ووطنه، وستبقى ذكراه خالدة في قلوب جميع من عرفوه او اطّلعواعلى كتاباته.
في شيكاغو كان للفقيد مكانة خاصة في قلوب ومشاعر أهلها وكلما شرفها بزيارة كانت تمتلئ القاعة بالمحبيين له والمقدّرين لأنجازته في الحقل الثقافي القومي.
نسأل الرب ان يمنحه الراحة الأبدية في الملكوت السماوي.
حنا شمعون / شيكاغو