نبيل يونس دمان
موسى حبيب شخصية متعددة المواهب والقابليات انجبتها القوش، كعهدها في كل الأزمنة من رجال شجعان، وتخصص في نواحي الحياة، وتعايش وعلاقات مثلى مع مكونات شعب العراق، من كل المُلل والأجناس والناطقين بلغات سامية وآرية، ذلك كان موسى المولود في البلدة التاريخية المعروفة وموقع شمالي متقدم لحماية نينوى أيام امبراطوريتها المزدهرة ثم سقطت عام ٦١٢ ق.م، ورغم ذلك خلفت أرث حضاري ليس لشعوب بلاد النهرين المتعاقبة، بل الشعوب المحيطة ومنها عيلام، فينيقيا، ومصر القديمة.
لقد تغير اسم والد موسى من حنيكا الى حبيب، لعله كان من الأسهل التعامل مع هذا الاسم الجديد في مجتمع بغداد في النصف الأول من القرن العشرين، وكان والده حنيكا زكور معروفاً في القوش، شماساً مقتدراً، ويتقن العديد من اللغات العربية، الكردية، التركية، السرياني، ويجيد القراءة والكتابة بمعظم تلك اللغات، ولذلك اتخذه الجاويش التركي لقرية القوش كاتباً ومترجماً. يروى ان احدى ربات البيوت ارسلت زوجها الى بيت الجيران، ليعير منهم مُنخُل، تلك عادة جارية في البلدة، فكل واحد يحتاج الى الاخر، يطلبون المنخل، او الغربال، او الدواء، او ادوات العمل والطبخ دون حرج ففيها المحبة وروح التعاون، والمنفعة المتبادلة.
فكر الرجل والليل قد ارخى سُدولـَه، كيف سيقطع الطريق الى بيتهم عبر زقاق ملتوي، وبدل ذلك خطرت بباله ان يعبر عن طريق السطح، حيث بإمكان الرجل ان يعبر عدة أسطح على التوالي دون الاستعانة بالسلالِم، هكذا هو نمط البناء في القوش منذ اقدم العصور، البيوت معظمها صغيرة ومتلاصقة، وعند محاولته عبور سطح داره الى بيت الجيران الذي كان من عائلة ابونا، شاءت المصادفة ان يهجم عليه كلب الدار فيعضه في فخذه، عاد الى داره وهو يضج في صراخه، دون ان تكتمل مهمته في استعارة المنخل. في اليوم التالي قدم اهله شكوى الى الجاويش، ودون التمعن والتفكير أصدر حكمه السريع، بتكفل اصحاب الكلب نفقات علاجه، ودفع اجور المصاب اليومية ريثما يشفى. اصيبت العائلة بالدوار، اذ كيف لها ان تدفع ذلك وحالتهم المالية لا تساعد على ذلك، ولكن امر الطاغية الذي نصب نفسه حاكما لا يرد.
هنا تدخل في القضية، شماس بارع هو والد موسى حبيب المدعو حنيكا زكور (مولود في القوش ٢ كانون الثاني ١٨٦٥) فانبرى يدافع عن ابن عمه، وهكذا خاطب الجاويش: لو كان الكلب قد عضّ الرجل في الزقاق او امام الدار، فالحق على صاحب الكلب، اما وقد وقع الحادث ليلاً وعلى سطح دار عائلة آمنة، فقد كان الدافع للتجاوز على دار الجيران بهدف السرقة، وقد علمتُ ان العائلة فقدت ما ادخرت من المجوهرات، وليس الشخص الذي داهمه الكلب، سوى لص تسلل وسرق حاجيات ثمينة من الدار. بهذه الافادة الحكيمة القاطعة، تغيرت وجهة نظر الجاويش لغير صالح المشتكي، ولكن تدخل الناس جعل يأمر بتسوية المشكلة بين الطرفين، فتراجع الرجل عن المطالبة بالعلاج والأجور المترتبة، وتنازلت العائلة الاخرى عما سرق منها (الحقيقة لم يسرق منها شيء) هكذا ادت براعة الشماس حنيكا الى انقاذ الأسرتين من ابتزاز الجاويش واحكامه التعسفية، يبدوا من سياق الاحداث بان الحادث وقع في حدود عام ١٩٠٥.
في أحد الأيام بحدود عام ١٩١٦ ضرب الجاويش العثماني احمد الصقلي (سقلّي) الكاتب والمترجم المحنك حنيكا زكور على منطقة حساسة من جسمه، وبعد ايام قليلة توفي فاضطر الفقر المدقع في العائلة النزول إلى بغداد مع انتهاء الحرب العالمية الأولى ودخول البريطانيين.
ذلك كان موسى المولود في القوش عام ١٩١٤ (تضاربت الآراء حول تاريخ مولده) ونظراً لظروف الحرب العالمية الأولى وما اعقبها من مجاعة وموجات غلاء غير مسبوقة فقد تركت عائلته القوش الى بغداد وهو صغير السن مع والدته نني ألطون ابونا (مولودة في القوش بتاريخ (٥- ١١- ١٨٧٣) واخوانه اسحق، يوسف، عيسى، ومريم.
تزوجت اخته الكبيرة مريم من رجل انكليزي واستقرت في البصرة، فنزل موسى عندها وهو صبي مقبل على الحياة فاهتمت به ووضعته في مدرسة الرجاء الصالح الامريكية، هناك تعلم وتفوق في دراسته اهلته ان يجيد اللغة الإنكليزية قراءة وكتابة وتحدثاً، واغلب الظن انه تعرف ودرس مع يوسف سلمان يوسف (فهد) في تلك المدرسة. عاد الى بغداد التي هي الأخرى عاصمة المجد والسلام، فنشأ فيها يغترف من علومها وآدابها وانخرط مبكراً في الحركة الوطنية العراقية المتمثلة في الحلقات الفلسفية، ثم في حزب اليسار الذي تأسس عام ١٩٣٤ وكان موسى حبيب أحد مؤسسيه.
هناك وثيقة تاريخية نشرها الصديق كاردو كاردو مؤخرا وهي من أرشيف كفاح الأمين فيها نص الحكم الصادر بتاريخ ١٦- ٤- ١٩٣٦، والتي مجرد اطلاعي عليها منشورة، حفزتني لكتابة هذا المقال عن موسى حبيب ما أمكنني واعترف بضعف المصادر بحوزتي، ولكن افراد عائلة ابونا المتميزين قد حفظوا صفحات مشرقة عن تاريخه ولم يتوانوا في تزويدي بها، وكان صدرهم رحباً. تلك الوثيقة التي تنص على سجن موسى حبيب عام ١٩٣٦ بالسجن الشديد لمدة سنتين الى جانب الراحل زكي خيري، وكذلك حكم على ابن عمه موسى ساوا ابونا لمدة سنة مشددة في السجن، الذي كان هو الاخر يعيش في بغداد ويعمل طباخا في مستشفى السكك، وناشطاً سياسياً كبسه النظام الملكي في مهمة توزيع البيانات في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الحركة الوطنية.
كان اعتقادي بان من أوائل أبناء القوش المنخرطين في النضال ببغداد هو الطالب في كلية العلوم حبيب الياس بولا في فترة أواخر الثلاثينات، ولكن عثوري على تلك الوثيقة المصورة جعلتني اضع اسم الأستاذ حبيب بولا في المرتبة الثالثة، ولا يفوتني ذكر ان موسى حبيب، وحبيب بولا، وجرجيس توما (من بيت اخال خنوي) وحبيب يوسف اسمرو كانوا أصدقاء مقربين في تلك الفترة ويلتقون باستمرار ومع جماعات أخرى منهم الاستاذ موسى نوح سورو والمحامي عبد الرحيم إسحاق والقائد العمالي في شركة النفط الشهيد الياس حنا كوهاري، والسجين عام ١٩٤٧ في سجن الكوت مع فهد المرحوم داود دودي كوكي وأسماء أخرى يمكن للمشاركين في ادراجها، هؤلاء سلكوا الطريق المفضي الى التحرر من التبعية والنظام الملكي نحو ضياء الجمهورية الخالدة التي انبثقت صبيحة ١٤ تموز ١٩٥٨. بموازاة هذه الارتباطات والنشاطات الثورية كانت مجموعة اخرى تنتظم في البلدة القوش على ذات النهج في بغداد وممكن ذكر الاسماء التالية: ابرم عما شماشا، يوسف (تفا) حنا اسطيفانا، زورا جبو لاوو، سليمان ياقونا*.
موسى حبيب لم يكن حاملا شهادة جامعية، ولكن محدودية دراسته لم تتركه متقوقعاً في محله، بل اجتهد ذاتياً واتقن الكتابة باللغتين الإنكليزية والعربية فكانت له العديد من المؤلفات الموضوعة والمترجمة نذكر منها:
الانتخابات والأحزاب السياسية (١٩٤٧)، البساط الذهبي- حوادث العراق ١٩٤١ ترجمة ١٩٥٨، ثورة ١٤ تموز بغداد ١٩٥٩ ولدى كوركيس عواد (١٩٥٨)، السوق الاوربية المشتركة والسوق العربية الموحدة (بغداد ١٩٦٣) ولدى كوركيس عواد (١٩٦٠)، الصهيونية ومشكلة اليهود ترجمة بغداد ١٩٦٠، العراق وامريكا بعد رحلة الوصي (بغداد ١٩٤٦)، لغز الصهيونية ترجمة بغداد ١٩٤٦، هتلر يريد العالم ترجمة بغداد ١٩٤١، الهلال الفضي ترجمة بغداد ١٩٤٥، الوطن اليهودي وعلاقته بالأرض المقدسة بغداد ١٩٤٧. وهو كذلك كاتب لمقالات عديدة في الصحف التالية: جريدة البلاد، جريدة الرأي العام، جريدة الشهاب، جريدة الأهالي للجادرجي، جريدة المواطن، جريدة الاهرام القاهرية**.
في الاربعينات ترك انتماءه الى ذلك الفصيل سياسياً وبقي طوال حياته امينا على أفكاره، وانضم الى حزب الوطني الديمقراطي تحت زعامة الشخصية الوطنية كامل رفعت الجادرجي (١٨٩٧- ١٩٦٨)، ونشط في مجال الصحافة الى ان وصل مراسلاً لوكالة اسوشيتدبرس للأنباء في بغداد من ١٩٤٤- ١٩٥٦، وكذلك مراسل جريدة الأهالي في العراق للفترة من ١٩٤٤- ١٩٥٦. كان موسى حبيب فارع الطول رشيق الجسم يلبس الشفقة في راسه، تزوج من امرأة ارمنية اسمها ماركريت وتعمل ممرضة، وبعد وفاتها تزوج أخرى موصلية وكان حظه العاثر في هذه الناحية لم تنجب زوجاته الأطفال فتوقفت ذريته، ولكنها تواصلت في أولاد أخيه واحفادهم منهم غزوان فهمي ابونا ابن عم والده والذي زودني بالصورة المرفقة له والنادرة، لأنه لم يكن هاوي سحب الصور.
امتلك مطبعة اسمها (مطبعة بغداد) مقابل جامع الحيدرخانة ظل يعمل فيها زمناً طويلاً، وأخرى في شارع السعدون قرب البتاوين وكانت مكتبة للقرطاسية والعديد ممن اشتغلوا عنده واعرفهم قبل أكثر من خمسين عاماً حدثوني عن قلة مخالطاته وكان مقلّاً في حديثه عن نفسه، ولكن جذاباً في شخصيته وهو مثل تلك الشجرة المحملة بالأثمار. تحدث عنه قريباً آخراً وهو الأستاذ جبرائيل يوسف ابونا الذي يبلغ من العمر اليوم (٩٤) سنة، وهو من زودني بغلاف كتابه الأخير وبعض صفحاته المنشورة طياً.
في ثمانينات القرن الماضي ظل مراقباً ومضايقاً من قبل السلطة الحاكمة، نظرا لتاريخه النضالي الطويل القت تلك السلطة القبض عليه وحكمته لعدة سنوات، قضى منها بعض السنين، ونظراً لكبر سنه أطلق سراحه، وكانت التهمة او الحجة في اعتقاله بيع مطبعته الكائنة في شارع السعدون الى أحد الاخوة الاكراد، حيث نقلها الى شمال العراق، في سنة ١٩٨٤ وهو يقضي محكوميته، توفي أحد أبناء عمومته بالضابط المعروف قائد المئتين (رب تري أمّه) ياقو في جيش الليفي الذي شكلته بريطانيا استطاع احد المحامين الذي يكتب ويؤرخ في مواضيع حالياً ويعيش مغتربا في هولندا، ذلك هو الصديق يعقوب جرجيس ابونا، الذي استطاع بشطارته إخراجه من السجن في إجازة يحضر من خلالها مراسم جنازة الضابط المذكور، وما ان انتهت اعيد ثانية الى السجن.
ومن أصدقائي مع فارق العمر ادور حبيب ابونا الذي أكن له بالغ الاحترام والتقدير وعمره ناهز التسعين، فقد زرته في البيت وحدثني طويلاً عن تلك الفترة وتركيزا على أبناء عمه موسىى وساوا. عمل ادور في مطبعة موسى من يوم نزوله الى بغداد حوالي ٧٤ سنة كيف اتقن عمله بشكل جيد، ثم فوجئ يوما بمداهمة الشرطة للمطبعة، فوضعوا القيود في معصميه، فقال له موسى لا تخف وكن شجاعاً، سيق الى المعتقل وقابله نائب بهجت العطية المدعو نائل عيسى وسأله: كيف تطبع بيانات سياسية في المطبعة وعمرك لم يتعد ١٥ سنة، وكان معه في المعتقل الشهيد سعيد عيسى شاجا، عندما أفرج عنه رجع الى المطبعة. ثم حدثني كيف اعتقل موسى بحجة طبع بيانات ولم يدلهم على مكان طبعها، وأطلق سراحه فحامت الشكوك حوله عن كيف خرج من المعتقل، ولذلك ترك التنظيم وأنظم الى حزب كامل الجادرجي (استنسخت في بيته صوراً في المطبعة ارفقها طياً).
تظل صفحات كثيرة مطوية عن تاريخ هذا الرجل، وكان آخرها تركه بغداد الى عمان ليبعد نفسه عن مشاكل بغداد في ظل الحرب التي ورط الشعب فيها نظام الحزب الواحد، وبقي عدة سنوات في عمان، ثم عاد اخيراً الى بغداد حيث أسلم الروح فيها الى بارئها عام ٢٠٠٤.
الهوامش:
* هذه الأسماء سمعتها من المرحوم يونس جلو (الملقب نونكا) عام ٢٠٠٠، وكذلك سجن داود دودي كوكي مع الخالد فهد.
** هذه المعلومات عن كتبه ومقالاته استقيتها من كتاب سفر القوش الثقافي، تأليف بنيامين حداد – بغداد ٢٠٠١.
ملاحظة مهمة:
الموضوع هذا ليس خاتم المطاف، بل تتخلله ثغرات لم أستطع علاجها، ومع تفاعلكم في الملاحظات الجادة سيتكامل الموضوع الذي جذبني الى كتابته تميز موسى حبيب بل هو من أوائل الصحفيين والكتاب المعاصرين في القوش.
دليل بعض الصور وحسب الأرقام:
١- موسى حبيب الثالث من اليمين
٢- ادور حبيب ابونا في مطبعة الشعب خمسينات القرن الماضي
٣- ادور حبيب ابونا يؤدي عملاً فنياً في مطبعة الشعب

1

2

3









12
California on February 1, 2025