أزاد خليل
كاتب وباحث سياسي سوري
“لطالما شكّل المسيحيون جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي للشرق الأوسط، حيث كانوا ولا يزالون مساهمين في بناء الحضارة والثقافة العربية والإسلامية، وبرزوا في مختلف المجالات الفكرية والاقتصادية والسياسية. لكن خلال العقود الأخيرة، تزايدت المخاوف بشأن مستقبلهم، خاصة مع صعود تيارات الإسلام السياسي التي تطرح رؤية دينية صارمة للدولة والمجتمع، ما أدى إلى تزايد الضغوط على المسيحيين، سواء من خلال القوانين التمييزية أو عبر موجات العنف التي استهدفتهم بشكل مباشر. فهل يشكل الإسلام السياسي تهديدًا حقيقيًا لوجود المسيحيين في الشرق؟
الإسلام السياسي: أيديولوجيا تُهدد التعددية الدينية
الإسلام السياسي ليس مجرد تيار فكري، بل أيديولوجيا تسعى إلى إعادة تشكيل الدولة والمجتمع وفق فهم ديني معين، وهو ما يضع الأقليات الدينية، وفي مقدمتها المسيحيون، في موقع القلق بشأن مستقبلهم. فبينما تدّعي بعض الأحزاب الإسلامية الاعتدال والتسامح، يبقى الواقع مختلفًا، حيث تؤدي القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية إلى تمييز قانوني واجتماعي ضد غير المسلمين، مما يعزز مناخ التمييز والإقصاء. وقد أظهرت التجارب في عدة دول عربية أن صعود الأحزاب الإسلامية إلى السلطة غالبًا ما يؤدي إلى تراجع الحريات الدينية، سواء عبر فرض قيود على ممارسة الشعائر أو من خلال التضييق على حرية التعبير والحقوق المدنية. ففي مصر، على سبيل المثال، شهدت فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين (2012-2013) تصاعدًا في الهجمات ضد الكنائس، بالإضافة إلى خطاب إعلامي ودعوي يُحرض ضد المسيحيين، معتبرًا إياهم “عائقًا” أمام تحقيق الدولة الإسلامية المرجوة.
أما في العراق وسوريا، فقد كان صعود الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل داعش والقاعدة بمثابة إعلان حرب على الوجود المسيحي، حيث تعرضت المدن والقرى المسيحية لحملات تطهير ديني ممنهجة، أجبرت آلاف العائلات على الفرار من موطنها التاريخي.
الجرائم ضد المسيحيين: من التمييز إلى الإبادة
على مدى العقود الماضية، تعرض المسيحيون في الشرق الأوسط لسلسلة من الجرائم والانتهاكات التي تراوحت بين التمييز الممنهج، والاستهداف المباشر من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة، وصولًا إلى حملات التهجير القسري والقتل الجماعي.
العراق: من التنوع إلى النزوح الجماعي
كان العراق، قبل عام 2003، موطنًا لمئات الآلاف من المسيحيين، الذين كانوا يشكلون جزءًا من النخبة الثقافية والاقتصادية للبلاد. لكن بعد سقوط نظام صدام حسين، وجد المسيحيون أنفسهم محاصرين بين العنف الطائفي وتصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة.
• في عام 2010، استهدف تنظيم القاعدة كنيسة “سيدة النجاة” في بغداد خلال قداس الأحد، مما أدى إلى مقتل أكثر من 50 شخصًا، في واحدة من أكثر الهجمات دموية ضد المسيحيين في العراق.
• بعد ظهور داعش في 2014، شن التنظيم حملة إبادة ضد المسيحيين في الموصل وسهل نينوى، حيث خُيِّر المسيحيون بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة المدينة، فيما تم تدمير الكنائس ونهب الممتلكات، وتم توثيق حالات استعباد جنسي للنساء المسيحيات.
• نتيجة لذلك، انخفض عدد المسيحيين في العراق من حوالي 1.5 مليون قبل الغزو الأمريكي إلى أقل من 300 ألف اليوم، في واحدة من أكبر موجات الهجرة القسرية التي تعرض لها المسيحيون في العصر الحديث.
سوريا: الحرب الأهلية واستهداف المسيحيين
مع اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2011، وجد المسيحيون أنفسهم عالقين بين النظام والمعارضة المسلحة، لكن التهديد الأكبر جاء مع صعود الجماعات الإسلامية المتشددة، التي اعتبرت المسيحيين “حلفاء للنظام”، مما جعلهم هدفًا للانتقام والهجمات العنيفة.
• في عام 2015، قام تنظيم داعش بخطف أكثر من 250 مسيحيًا آشوريًا من قرى شمال شرق سوريا، وأعدم العشرات منهم في مقاطع مصورة، في مشهد يعيد للأذهان المجازر التاريخية ضد المسيحيين.
• في مدينة حلب، تعرضت الكنائس للقصف، واستخدمت الجماعات المسلحة المناطق المسيحية كساحات قتال، مما أدى إلى نزوح جماعي للمسيحيين إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.
• كما شهدت مناطق مثل معلولا، إحدى أقدم البلدات المسيحية الناطقة بالآرامية، اعتداءات وحملات قتل طالت رجال الدين والمدنيين على يد جماعات متطرفة.
مصر: الأقباط بين التمييز والهجمات الإرهابية
رغم أن الأقباط يمثلون أكبر أقلية مسيحية في الشرق الأوسط، إلا أنهم يعانون من تمييز مؤسسي واعتداءات متكررة على كنائسهم ومجتمعاتهم.
• شهدت مصر عشرات الهجمات الإرهابية على الكنائس منذ عام 2011، كان أبرزها تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة عام 2016، الذي أسفر عن مقتل 29 شخصًا.
• في صعيد مصر، تتكرر حالات الاعتداءات على الأقباط، سواء عبر حرق الكنائس أو الهجمات على المنازل والمتاجر المسيحية من قبل جماعات متطرفة محلية.
• رغم الإجراءات الحكومية لتعزيز الأمن، لا تزال الأوضاع متوترة، حيث يعاني الأقباط من قيود على بناء الكنائس، وغياب التمثيل العادل في المناصب الحكومية.
الإسلام السياسي المعتدل: هل هو حل أم تهديد مستتر؟
على الرغم من أن بعض الأحزاب الإسلامية تحاول الترويج لنموذج “الإسلام الديمقراطي”، إلا أن التجربة أثبتت أن هذه الحركات لا تزال غير قادرة على ضمان المساواة الكاملة لغير المسلمين. فعندما وصل حزب النهضة الإسلامي إلى السلطة في تونس، حاول طمأنة المسيحيين بأنه سيحترم الحريات الدينية، لكن القوانين لم تتغير بشكل جذري، وبقيت الأقليات تعاني من نظرة دينية تضعهم في مرتبة أدنى.
أما في تركيا، فإن حزب العدالة والتنمية، الذي قاد البلاد نحو نموذج إسلامي محافظ، قام بتضييق الخناق على المؤسسات المسيحية، وأعاد تحويل كاتدرائية “آيا صوفيا” إلى مسجد، في خطوة رمزية تعكس رؤية دينية متشددة للفضاء العام.
مستقبل المسيحيين في الشرق: خيارات صعبة
في ظل تصاعد التيارات الإسلامية وتأثيرها على السياسة والمجتمع، يواجه المسيحيون في الشرق الأوسط خيارات صعبة: إما الهجرة، أو العيش تحت وطأة التمييز، أو محاولة فرض واقع جديد من خلال المطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية.
لتحقيق مستقبل آمن ومستقر للمسيحيين في الشرق، لا بد من اتخاذ خطوات جدية، منها:
1. إصلاح التشريعات لضمان المساواة التامة بين جميع المواطنين بغض النظر عن دينهم.
2. مكافحة الخطاب الديني المتطرف وتعزيز ثقافة التعددية والتسامح.
3. توفير حماية دولية للأقليات الدينية من خلال دعم وجودهم التاريخي في بلدانهم الأصلية.
4. تعزيز مشاركة المسيحيين في الحياة السياسية وعدم الاكتفاء بدور هامشي في مجتمعاتهم.
ختاماً الإسلام السياسي، سواء في شكله المتطرف أو المعتدل، يمثل تحديًا حقيقيًا للوجود المسيحي في الشرق، إذ أن غياب الدولة المدنية الحديثة يجعل الأقليات الدينية في مواجهة مستمرة مع مشاريع الهيمنة الدينية. إذا لم تتخذ المجتمعات والحكومات خطوات جادة لضمان حقوق المسيحيين، فإن الشرق الأوسط سيخسر جزءًا أساسيًا من هويته التاريخية والثقافية، وسيتحول إلى فضاء أحادي يفتقد للتنوع الذي كان يومًا مصدر قوته وحضارته.
في أحد، 26 يناير، 2025 في 10:56 ص، كتب Azad Khalil <[email protected]>:
إلى قسم التحرير في موقع عنكاوا المحترمين،
تحية طيبة وبعد،
أتشرف بالتواصل معكم وأثمن جهودكم الكبيرة في تسليط الضوء على قضايا المسيحيين في الشرق الأوسط. أرفق مع هذه الرسالة مقالًا بعنوان ”
المسيحيون في سوريا: إرث تاريخي وحضاري تحت التهديد وخطوات دولية لحماية التنوع الديني والثقافي
والذي يتناول التحديات التي تواجه المسيحيين في سوريا، مع التركيز على دورهم التاريخي والاجتماعي وأهمية حمايتهم في ظل الأوضاع الراهنة.
أرجو منكم التفضل بمراجعة المقال ونشره عبر منصتكم القيمة إذا كان يتماشى مع سياسات النشر لديكم.
مع جزيل الشكر والتقدير،
أزاد خليل
كاتب وباحث سياسي سوري
المسيحيون في سوريا: إرث حضاري عريق
يُشكّل المسيحيون في سوريا جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني، وقد لعبوا دورًا محوريًا في تاريخ البلاد منذ اعتناق المسيحية في القرن الأول الميلادي. تعتبر سوريا واحدة من المراكز الأولى التي احتضنت المسيحية، حيث يُعتقد أن القديس بولس تحول إلى المسيحية في دمشق، ومن هنا انطلق لنشر رسالته في العالم. كما تُعد مدينة أنطاكية، الواقعة شمال سوريا، من أقدم البطريركيات المسيحية وأحد المراكز الهامة لتاريخ الكنيسة.
هذا الدور الديني تَرافق مع مساهمات سياسية وفكرية وثقافية مهمة. فالمسيحيون في سوريا، من مختلف الطوائف، أسهموا في بناء الدولة الحديثة وترسيخ مفاهيم التعايش والسلام. ومن بين الشخصيات البارزة التي لعبت دورًا تاريخيًا محوريًا نذكر فارس الخوري، السياسي البارز ورئيس الوزراء السابق، الذي جسّد بقيمه وعمله نموذجًا للقيادة الوطنية العابرة للطوائف.
مدينة معلولا: رمز الإرث المسيحي
تقع مدينة معلولا في ريف دمشق وتُعد واحدة من أبرز معاقل المسيحية في سوريا. تشتهر بكونها من الأماكن القليلة في العالم التي ما زال سكانها يتحدثون اللغة الآرامية، لغة السيد المسيح. تضم معلولا العديد من الأديرة والكنائس التاريخية مثل دير مار تقلا ودير مار سركيس، التي تعكس تاريخًا عريقًا من الروحانية والفن المعماري.
رغم كل هذا الإرث، عانت معلولا خلال الحرب السورية من هجمات الجماعات المتطرفة التي دمرت بعض المعالم التاريخية واختطفت راهبات من دير مار تقلا، ما أثار استنكارًا عالميًا. تُجسد معلولا اليوم رمزًا للتحدي والإصرار على الحفاظ على التراث المسيحي في مواجهة العنف والتطرف.
دور المسيحيين في نهضة سوريا
لعب المسيحيون دورًا كبيرًا في النهضة الثقافية والسياسية السورية خلال القرنين الماضيين. كانوا في طليعة من عملوا على تطوير التعليم والصحافة، وساهموا في تأسيس المدارس والمراكز الثقافية. يُذكر أن أول صحيفة في سوريا، وهي صحيفة “حديقة الأخبار”، أسسها رزق الله حسون، وهو مسيحي دمشقي.
في السياسة، كان المسيحيون في طليعة من دعموا الاستقلال السوري. فارس الخوري مثال بارز لهذا الالتزام الوطني؛ حيث مثّل سوريا في المحافل الدولية، وأظهر قدرة على توحيد السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.
أما في المجال الأدبي، فقد أبدع الأدباء المسيحيون مثل ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، الذين كانوا جزءًا من “الرابطة القلمية”، في إثراء الفكر العربي بأعمال أدبية وفلسفية تحمل قيم التسامح والإنسانية.
التحديات الراهنة للمسيحيين في سوريا
مع اندلاع الحرب السورية في عام 2011، واجه المسيحيون تحديات وجودية غير مسبوقة. أدى تصاعد العنف وسيطرة الجماعات المتطرفة على بعض المناطق إلى تهديد وجودهم، خاصة في المدن التي كانت تحتضن مجتمعات مسيحية كبيرة مثل حمص وحلب والرقة.
تشير التقديرات إلى أن عدد المسيحيين في سوريا تراجع بشكل كبير بسبب الهجرة القسرية والاضطهاد. كما تعرضت الكنائس والأديرة للتدمير، مما ألقى بظلاله على التراث الثقافي والروحي الذي شكل جزءًا من هوية سوريا.
*المبادرة اليونانية لحماية المسيحيين
في مواجهة هذه التحديات، أعلنت الحكومة اليونانية عن خطة لدعم 600 كاهن أرثوذكسي يوناني في المهجر، بهدف حماية المجتمعات المسيحية في سوريا والمنطقة الأوسع. تأتي هذه الخطوة ضمن استراتيجية لتعزيز الدور اليوناني في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث أصبحت المسيحية الأرثوذكسية مهددة بسبب التحولات الجيوسياسية والصراعات الطائفية.
وفقًا لصحيفة “بروتو ثيما” اليونانية، تتضمن المبادرة توفير رواتب وتأمينات ومعاشات تقاعدية للكهنة الذين يعملون في ظروف صعبة. هذه الخطة تهدف إلى تعزيز الحضور الأرثوذكسي، خاصة في سوريا، التي أصبحت مركزًا للصراع الديني والسياسي.
البعد الجيوسياسي للمبادرة
لا تقتصر المبادرة اليونانية على البعد الديني، بل تحمل أبعادًا جيوسياسية مهمة. فهي تأتي في وقت تحاول فيه روسيا توسيع نفوذها في إفريقيا عبر الكنيسة الروسية، ما يهدد البطريركية اليونانية في الإسكندرية. كما تهدف المبادرة إلى مواجهة التحديات الناتجة عن سقوط نظام بشار الأسد وصعود الجماعات المدعومة من تركيا، التي جعلت المسيحيين أكثر عرضة للخطر.
إضافة إلى ذلك، تعكس المبادرة رغبة اليونان في تعزيز “القوة الناعمة” عبر دعم المجتمعات الأرثوذكسية في المهجر وحماية التراث الثقافي والديني.
أهمية التواجد الكنسي في المهجر
تلعب الكنيسة الأرثوذكسية دورًا محوريًا في حياة المجتمعات اليونانية والمسيحية في المهجر. فهي ليست فقط مكانًا للعبادة، بل تُعتبر مركزًا لتعليم اللغة والثقافة اليونانية وربط المغتربين بوطنهم الأم.
في سياق الحرب السورية، أصبح دور الكنيسة أكثر أهمية في توفير الدعم الروحي والمادي للمسيحيين الذين تعرضوا للتهجير والاضطهاد. وبالتالي، فإن دعم الحكومة اليونانية للكهنة الأرثوذكس يعكس التزامًا بحماية التراث المسيحي وتعزيز الصمود في وجه التحديات.
مسؤولية عالمية نحو حماية التنوع
إن التحديات التي يواجهها المسيحيون في سوريا تتطلب استجابة عالمية. يجب أن تتكاتف الجهود الدولية لتوفير الدعم والحماية لهذه المجتمعات، وضمان بقائها في أراضيها التاريخية. فالمسيحيون في سوريا ليسوا فقط جزءًا من التراث الديني، بل هم ركن أساسي في التعددية الثقافية التي تُميز الشرق الأوسط.
تُعد المبادرة اليونانية خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها ليست كافية وحدها. يجب أن تُعزز بمبادرات دولية تُركز على إعادة إعمار المناطق المتضررة، وحماية المعالم الدينية والتاريخية، ودعم الحوار بين الأديان لتعزيز التعايش والسلام.
ختاماً إرث يستحق الحماية
وهنا ندعوا الى التكاتف والوحدة وتعقل وأهمية الخطاب الوطني والحوار بين أبناء سوريا والإعتراف بأن سوريا بلد متعدد القوميات والأعراق وبتالي لا يحق لأحد أن يلغي أحد أو يعيد كتابة التاريخ كما يريد هو إن الكورد والأشوريين والسريان والأرمن وحتى العرب جميعهم أبناء سوريا و إن المسيحيين في سوريا، بتاريخهم العريق وإسهاماتهم الحضارية، يُمثلون جزءًا لا يتجزأ من الهوية السورية. حماية هذا الإرث ليست مسؤولية المسيحيين وحدهم، بل هي مسؤولية الجميع.
المبادرة اليونانية تسلط الضوء على أهمية التضامن الدولي في حماية المجتمعات المهددة. لكنها أيضًا تذكرنا بأن السلام والتعايش هما السبيل الوحيد للحفاظ على التنوع الثقافي والديني الذي يجعل من سوريا نموذجًا فريدًا للحضارة الإنسانية.