المحرر موضوع: سعاده الحياة الحقيقيه في رضاء الوالدين  (زيارة 192 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل خالد عيسى

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 349
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
سعاده الحياة الحقيقيه  في رضاء الوالدين
فكر شخصي وعائلي
 
الدكتور
خالد اندريا عيسى

 
بعد هذا العمر الطويل، تعلمت من الحياة دروسًا كثيرة، لكن الدرس الأول والأهم هو حب وطاعه الوالدين والتصاقي بهما وسيرتهما معي في الحياة؛ حيث إنني بعد فراقهما اكتشفتُ حقيقةً كبيرة وهي الدنيا تُمسي بدونهما تعيسة مظلمه ولا طعم لها. فما حنان الكون إلا بحنان الوالدين.
 
فلقد أيقنت بأن لا شيء يعدل مطلقا في هذا الوجود  وبأن محبة واحترام الوالدين ليس له حدود؛ الأول يأخذك إلى راحة الدنيا والجنة في الآخرة، والثاني يرده لك أبناؤك والمجتمع. وبقوه إنها قصة ينبغي أن نُحسن كتابتها لكي نرويَها للأبناء.
قصة الوالد
 
 الف رحمه ونور على روحه الطاهره وليرحمه الله بعظيم رحمته،
هي قصة من التضحيات الكبيره ونكران الذات. فقد ولد في كركوك من أسرة متوسطة الحال او واقعا فقيره، وأفرادها محموعه من شباب طامح للحياة والعمل، كما في جميع الأسر العراقية، لكنها اصيله ونقيه .
بدأ الوظيفة مبكرًا، موظفًا بسيطا ومبتدأ وكذلك نشيطا جدافي احدي دوائر الدوله،  لم يتنقل بين دوائر الدوله، وهو خريج متوسطه في البصره 1923 . عاصر أزمانًا مختلفة بنظمها السياسية وأحزابها المختلفة، وجرَّب الحياة العائليه والاحتماعيه في المدينة والريف، وأهلهما على مختلف دياناتهم وطوائفهم وقومياتهم وافكارهم السياسيه، وعاش أجواء العراق الحارة والباردة والرطبة، وتحديات الطبيعة الصعبة والسهلة، فخرج بحصيلةٍ حياتية عميقة في فهم الحياة والسياسة، وبمخزونٍ كبير من الحب للعراق. أتذكَّر أنه قال لي، ونحن في (قطار أبي)، كما كنت أسميه في طفولتي: الذي يرى العراق كله، ويعيش بين أهله، يزداد تعصُّبًا بعشقه، ويهيم شوقًا بأرضه، ويمرض جسدًا بحبه.
لذلك كانت حصيلة العيش معه، أنه رسَّخ قِيمَ الوطنية في الأسرة والأبناء، ورفع منسوبها إلى أعلى المستويات، مثلما رسَّخ قيم البغض للطائفية ونبذها، وأعلى من شأن الأسرة، من خلال تفاعلها مع جميع الطوائف والقوميات والأديان، وفتح لنا نوافذ الثقافة من كل الجهات، وعلَّمنا فنَّ التواضع في الأحاديث ومجالس الأسر، خاصة الفقيرة منها؛ لذلك كان يطلب من الوالدة، بحكم وظيفته ناظرًا للمحطة، زيارة بيوت العمال باستمرار، وتقديم العون لهم بدون مِنّة، وبدون خدش مشاعرهم، والتعالي عليهم.
كان والدي متعصبًا للعمل و ولزملائه، وعاشقًا لهم، ومدافعًا عن حقوقهم، وهو الأمر الذي دفعه ان يكد ويعمل لاكمال متطلبات عائلته واكمال تعليم الاولاد وتخرجهم بداية فترة شبابه. فقد قضى معظم عمره في العمل معهم؛ فعايشهم في تفاصيل الحياة اليومية، وجالسهم على موائدهم البسيطة، وصنع بنفسه لهم الشاي والطعام، ولبَّي رغباتهم وحاجاتهم الضروريه والاساسيه، وتألَّم لمعاناتهم في العمل المضنى، والفقر المعقول، وحال التعاسة التي تلتهم أيامهم ولياليهم وأسرهم.
منذ الأيام الأولى لطفولتي شعرت بأن التعب يغمر أبي بقوة، فهو مثال التفاني والبذل والعطاء بلا مقابل. فقد كانت طبيعة وظيفته موظفا بسيطا ويعمل بصوره مستمره و شاقة ومتعبة؛ حيث يصل نهاره بليله، فلا يعرف للنوم معنى ولا راحة؛ من أجل التحكُّم بمسار عمل دائرته واكمال واجباته بدقه متناهيه.
لم يَحن ظهر أبي تلك المشاق التي كان يحملها، ولم أسمع منه، ولو لمرة واحدة، أنين التعب؛ لكن قلبي كان يؤلمني من ثقل التبِعات الملقاة عليه من ثقل متطلبات اولاده السته وامهم، وحساسية عمله وخطورته، فأي خطأ في التوقيتات يؤدي إلى عقوبته وهي قطع مبالغ من راتبه المحدود؛ مما يُسبب كارثة اقتصاديه عائليه صعبه.
أما في البيت فقد كانت شخصيته طاغية على الأسرة، فقد كان شديدًا وحريصًا في التربية، خاصة مع الأبناء: فقد كان لنا موعدٌ محددٌ للخروج من البيت والعودة إليه، وكان ذلك راجعًا لحرصه واهتمامه بدراستنا وتفوقنا فيها، بالإضافة إلى خشيته من رفاق السوء علينا. كانت عصاه جاهزةً في أي وقت لضبط مخالفاتنا وتصرفاتنا الخارجة عن تعليماته. وما أكثر تلك الأيام التي وقعت بها في مصيدة العقوبات.
ومع ذلك كان أبي أبًا رائعًا في العطاء والتضحية، وطيبًا بلا حدود، رغم سلوكه العصبي وانفعالاته القوية، ورغم أنه كان يثور بسرعة فإن ثورته هذه سرعان ما كانت كان تنطفئ بقوة الطيبة؛ لذلك كان يهرب من المواجهات المباشرة، ويحرص على الابتعاد عن المشاكل التي تؤدي إلى إثارته.
وأعترف بأنني أخذت منه حصيلة العصبية التي كنت لا أود أن أُصاب بها؛ لأنها أوقعتني بحرج متكرر مع الآخرين، وأضاعت مني فرصًا كثيرة كانت لصالحي. كما كنت سعيدًا بأنني أخذت منه الطيبة، وثقافة الاعتذار، ومواجهة الآخرين بالصراحة الشديدة، دون "لف أو دوران"، كذلك تحلَّيت بالابتعاد عن مجاملات المكر والخديعة والنفاق والانتهازية.
كان للوالد دورٌ ريادي في توسيع مداركي لفهم الحياة، وتحفيزي على أرض الواقع، قولاً وعملًا، لتحليل ما يحدث، خاصة بعد دخولي المرحلة الثانوية ومن ثم الجامعيه، والبدء بدراسة موادها الدراسية المتنوعة، وقراءة بعض الكتب في مكتبته المليئة بأدبيات الحياة والمجتمع ونشراته، والفلسفة والتاريخ والاقتصاد والروايات والقصص..
كان يستشرف المستقبل بوعي مبكر بخبرته وتجاربه التنظيمية والمهنيه والحياتية، وعندما أرى ما جرى للعراق من فواجع مختلفة، أتيقّن بأنه كان محقاً في نظرته للأحزاب العراقية التي لم تقدم للناس سوى مصالحها الذاتية، وتثويرها للأزمات والاقتتال الداخلي، وإشعالها للحروب، وتفقيرها للناس، وطوفانها للدم والكراهية.
لذلك اكتشفت وأنا في بداية تفجُّر الوعي، بأن السياسة في العراق لا تخرج إلا من عباءة المجتمع العراقي الذي يُعاني من تناقضات المكان الاجتماعي وعنفه، وتقاليده المريضة، وموروثاته التاريخية.
كذلك يُسجَّل للوالد حرصُه الشديد على الأسرة، وتلبية رغباتها، حتى في أقسى أيام العِوَز والحاجه، حيث أحدث توازنًا في متطلبات التربية، ووعياً بمتغيرات الزمن، وتقلباتها وظروفها. فقد فتح أبواب الحوار، واغلق نوافذ التعصب والرأي الواحد، وأعطى الحرية للأبناء في اختيار الفكر والوظيفة وشريكة الحياة، لكنه احتفظ بشروطه القاسية: ألا نصبح رهنًا للفكر المتعصب، أو نلبس رداء الطائفية البغيضة، وأن يكون حزينا الاول هوبيتنا الوحيد ومن ثم الوطن (العراق). رحم الله الوالد والوالده الرائعين الذين علمانني أن أكتب حروف العائله و العراق بالقلم العريض